Professional Documents
Culture Documents
38- ميريت الثقافية- فبراير 2022
38- ميريت الثقافية- فبراير 2022
فبراير 2022 38 العدد كتاب أدبي غير دوري تصدر عن دار ميريت للنشر
جدلية العالقة
بين
الفلسفة
واألدب
قدي ًما وحديثَا
M E R I T E L T H A Q A F E Y Y A
2022
العدد
دوري
غير
أدبي
كتاب
للنشر
دار ميريت
تصدر عن
فبراير
38
قواعد النشر يف «ميريت الثقافية» :
تنحاز «ميريت الثقافية» للكتابة اإلبداعية والثقافية الجادة ،التي تعبر عن فكر ورسالة التنوير ،ويسعدها أن تقبل املساهمات األدبية والثقافية
وفق املتطلبات اآلتية :
أن تكون املادة املرسلة مخصصة حصر ًيا لـ «ميريت الثقافية» ،ومل يسبق نشرها بأي وسيلة نشر أخرى.
ترسل املادة مكتوبة ومصححة عىل برنامج «وورد» ،Wordوال تُقبل األوراق املطبوعة ،أو امللفات بصيغ أخرى (مثل .)PDF
املجلة غير ملزمة بتقديم تفسير عن عدم النشر ،وميعاد النشر يخضع ألولويات املجلة وأسبقية إرسال املواد.
ترتيب املقاالت وأسماء ال ُكتَّاب يخضع العتبارات فنية خالصة ،وليس له عالقة عىل اإلطالق بأهمية املبدعين ،واملجلة تعتز بكل ُكتَّابها وقرائها.
إهداء من
القاهرة ،مصر
أحمد اللبَّـاد
املدير العام :محمد هاشم
email: miritmag@gmail.com
مدير التحرير :سارة اإلسكافي
إبداع ومبدعون
إيفالد فاجنر ..وقراءة الشعر القديم | د.مروة مختار رؤى نقدية 8 :
21رمزية العنف والدمار يف «دمية» لحسن جبقجي | د.يوسف الزدكي
40كأس «زيادة» أخير يف «حانة الست» ملحمد بركة | مختار سعد شحاته
52قطارها املسافر إىل الشمال والتمثيل الرمزي للعامل | د.عايدي عيل جمعة
78سنة أوىل ُحزن | محمد النحراوى 77للموت وجه أقل ..للبقاء | آيات القاضي
(قراءات في رواية “فاصلة بين نهرين” لغفران طحان) نون النسوة :
فاصلة بين نهرين ..دستوبيا الحرب وتهشم البشر | د.محمد سليم شوشة 110
الحياة حين ترويها رائحة جثة ..قراءة يف “ فاصلة بين نهرين” | عبد الوهاب امللوح 114
الكتابة ..تلك التي أنقذتني( ..شهادة إبداعية) | غفران طحان 119
ـــتويات
تجديد الخطاب
جامعاتنا« الحديثة» ..وأزمة تجديد الخطاب الديني | جمال عمر 126
132الرحلة الصوفية األندلسية ..بين اإلكراه والطهرانية | د.عيل كرزازي
حول العالم
محمد شكري املثير للجدل | روبين كارافكا فرنانديث -ت :عبد اللطيف شهيد 142
150عن الشعر كتجربة روحية | رايسا ماريتان -ت :عبد الرحيم نور الدين
219رباعيات مسكونة بالفلسفة ..قراءة يف كتاب السطور األربعة | د.غيضان السيد عيل
242ثالثية :الزمن /الخيال /الجدل ..يف مسرحية «صاحب الخيال” | د.رشا الفوال
الرسوم املصاحبة ملواد باب «نون النسوة»
للفنانة املصرية فاتن النواوي ()... -1951 247جدلية العالقة بين األدب والفلسفة | د.ياسر عاشور إسماعيل
الســروجي ونشــأة مدرسة التاريخ الحديث يف اإلسكندرية | د.جمال حجر شــخصيات260 :
الصور الفوتوغرافية يف بدايات األبواب،
266حسين فوزى ..فقيه العلوم والفنون واآلداب | د.فوزى الشامى
ويف ظهر الغالف للفوتوغرايف املصري
زاد محمد ()... -1998 تاريخ 271 :زوســر والهرم املدرج | د.عيل عفيفي عيل غازي
تأمل يف املوت؟ | هشام تمام الكردوسي رأي 282 :هل يجب أن تكون الحياة ً
تأمل يف الحياة ..أم ً
الشــهد والدّموع ..قراءات وشــهادات ثقافية” | عبد النّبي عبّادي كتب“ 287 :قنا بين ّ
غناء 294 :الهجرة الخارجية يف متخيل اإلنســان األمازيغي من خالل األغنية الشــعبية | بالل أيوب
4
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
ست سنوات ،ودخل بها عام ( 2هجرية) السيدة عائشة بنت أبي بكر ،زوج
بعد غزوة بدر وكان عمرها تسع سنوات، النبي محمد ىلص اهلل عليه وسلم ،من
فعن هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن عائشة: أكثر الشخصيات اإلسالمية إثارة للجدل،
“أن النبي تزوجها وهي بنت ست سنين، سواء برواياتها لألحاديث املنسوبة إىل
وأُدخلت عليه وهي بنت تسع ،ومكثت عنده النبي ،أو بأفعالها التي وردت يف كتب
تس ًعا” .أخرجه البخاري ( ،)5133ومسلم السيرة ،وأشار القرآن إىل بعضها ،منذ
( .)1422كما روى ابن ماجه ()1632 قصة زواجها وهي طفلة يف التاسعة ،حتى
-وصححه األلباني -أن عائشة قالت: مشاركتها يف الحرب ضد عيل بن أبي
«تزوجني النبي يف شوال وبنى بي يف مرورا بحادثةً طالب من فوق ظهر جملها،
شوال ،فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟”. وقسمتَّ اإلفك التي زلزلت املجتمع وقتها،
وتويف النبي يف شهر ربيع أول سنة 11 الصحابة بين مصدق ومنكر ،األمر الذي
عاما تقريبًا ،بينما عاشت
هجرية وعمرها ً 18 كان له أكبر األثر عىل املسلمين فيما بعد.
عاما وتوفيت عام 58هجرية-حتى ً 65 حسب الروايات فإن النبي -بعد وفاة
678م. زوجته األوىل خديجة بنت خويلد ،وقبل
عائشة هي الزوجة البكر الوحيدة للنبي، الهجرة بعامين -كلف «خولة بنت الحكيم»
وكانت تباهي باقي زوجاته بذلك ،لكن األهم أن تخطب له السيدة عائشة وكان عمرها
5
افتتاحية
وعن آية الرجم تلك روى ابن ماجه 625 /1 فضل أن يموت أنها كانت أقربهن إليه ،حيث َّ
والدارقطني 179 /4وأبو يعىل يف مسنده علما ،فقد
يف فراشها ،كما كانت أكثرهن ً
،64 /8والطبراني يف معجمه األوسط /8 قال الحاكم يف املستدرك“ :إن ربع أحكام
،12وابن قتيبة يف تأويل مختلف الحديث، الشريعة نقلت عن السيدة عائشة” ،وقال أبو
وأصله يف الصحيحين ،وأورده ابن حزم يف موسى األشعري (يف جامع الترمزي -كتاب
املحىل 236 /11وقال هذا حديث صحيح: الدعوات)“ :ما أشكل علينا أصحاب رسول
“حدثناأبو سلمة يحيى بن خلف ()...عن اهلل حديث قط فسألنا عائشة ،إال وجدنا
عائشةقالت“ :لقد نزلت آية الرجم ورضاعة علما”.
عندها منه ً
عشرا ،ولقد كان يف صحيفة تحت ً الكبير ينسب للسيدة عائشة مجموعة من األحاديث
سريري فلما مات رسول اهللوتشاغلنا التي تشكك يف صحة جمع القرآن عىل
بموته دخل داجن فأكلها”! صورته النهائية ،وهو أمر جلل لو صدقنا
وهناك أحاديث تنسب للسيدة عائشة عن أن ما ورد من أقوال يف الفقرة السابقة عن
النبي كان ينسى اآليات ويتذكرها بمحض علمها الذي يفوق علم كبار الصحابة،
صدفة! ففي «منحه الباري بشرح صحيح ومن أمثلة ذلك الحديث الذي أورده جالل
البخاري» ( :)5037حدثنا ربيع بن يحيى الدين السيوطي يف كتاب «اإلتقان يف علوم
رجل يقرأً ( )...عن عائشة قالت :سمع النبي القرآن» ج 2ص« :66عن عروة بن الزبير،
يف املسجد ،فقال« :يرحمه اهلل لقد أذكرني عن عائشة قالت :كانت سورة األحزاب تُقرأ
كذا وكذا ،آي ًة من سورة كذا» .حدثنا محمد يف زمن النبي مائتي آية فلما كتب عثمان
بن عبيد بن ميمون ،حدثنا عيسى ،عن املصاحف مل يقدر منها إال عىل ما هو اآلن”،
هشام ،وقال“ :أسقطتهن من سورة كذا، وهو يشير إىل أن “لجنة عثمان” مل تجمع
تابعه عيل بن مسهر ،وعبدة ،عن هشام”. القرآن كله ،بل ما استطاعت أن تصل إليه
هناك أمثلة كثيرة ال يتسع لها املقام تحدثت فقط!
فيها السيدة عائشة عن أغاليط القرآن وما يزيد األمر إرباكا أن هذا الحديث
النحوية. يتوافق مع الحديث الذي رواه عبد اهلل بن
أما فيما يخص الوحي فسأستشهد بحديثين، اإلمام أحمد يف «زوائد املسند» (،)21207
األول“ :عن عائشة :أن الحارث بن هشام وعبد الرزاق يف “املصنف” ،وابن حبان
سأل النبي :يا رسول اهلل كيف يأتيك يف “صحيحه” ،والحاكم يف “املستدرك”،
الوحي؟ فقال :أحيانا يأتيني مثل صلصلة والبيهقي يف “السنن” ،وابن حزم يف
الجرس وهو أشده عيلَّ ،فيفصم عني وقد “املحىل” ،من طريق عاصم بن بهدلة ،عن
وعيت عنه ما قال .وأحيانًا يتمثل يل امللك أبي بن كعب« :كأين تقرأ زر ،قال :قال يل ُّ
رجل فيكلمني فأعي ما يقول ..قالت عائشة: ً سورة األحزاب؟ أو كأين تعدها؟» قال :قلت
ولقد رأيته ينزل عليه الوحي يف اليوم له :ثال ًثا وسبعين آية ،فقال :قط ،لقد رأيتها
الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد وإنها لتعادل سورة البقرة ،ولقد قرأنا فيها:
عرقًا” (رواه البخاري). “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة
هذا الحديث ينفي -أو عىل األقل ال نكال من اهلل واهلل عزيز حكيم” ..ومعروف ً
يثبت -وجود عالقة مباشرة بين النبي أبي أحد أربعة أوصى النبي أن يؤخذ أن َّ
متلقي الوحي ،وجبريل عليه السالم ناقل القرآن منهم كما ورد يف البخاري“ :من
الوحي ،وهناك أحاديث أخرى تقول إنه مل ابن مسعود وأبي بن كعب ،ومعاذ بن جبل،
يلتقي جبريل إال مرتين ،وهو املدخل الذي وسامل موىل أبي حذيفة”.
6
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
الجيش ،فتناولتهما األلسنة ،وكان املتق ِّولُ استخدمه املستشرقون للتشكيك يف الوحي،
عليها عبد اهلل بن أُ َب ّي بن سلول ،وقد انقسم والقول إن الصلصلة التي كان النبي يسمعها
الناس بشأن القصة بين مصدق ومكذب. هي َع َرض ألحد األمراض.
محتارا الً ما يعنينا يف ذلك أن النبي كان الحديث الثاني ورد يف «صحيح النسائي»
يستطيع أن يحسم أمره ،فاستشار يف ( )3199وأخرجه البخاري ( ،)4788ومسلم
طالقها عليًّا وأسامة بن زيد .قال أسامة: ( ،)1464وصححه األلباني ،أن عائشة قالت:
خيرا ،وقال “أهلك يا رسول اهلل وال نعلم إال ً «كنت أغار عىل الالتي وهبن أنفسهن للنبي
عيل :ال يضيِّق اهلل عليك ،والنساء سواها فأقول :أو تهب الحرة نفسها؟! فأنزل اهلل
كثير ،وسل الجارية تصدقك” .وظل النبي عز وجل “ترجي من تشاء منهن وتؤوي
عىل حيرته حتى نزلت اآلية ( )11وما بعدها إليك من تشاء” ،قلت :واهلل! ما أرى ربك
الذين َجاءوا باإلف ِك َ “إنمن سورة النورَّ : إال يسارع لك يف هواك” ..وكأنها تشكك يف
تحسبو ُه ش ًّرا لكم بل هو ُ عصب ٌة منكم ال صحة الوحي! ويقال إنها قالت هذا يف قصة
اكتسب من اإلث ِم َ امرئ منهم ما ٍ خير لكم لك ِّلٌ زواج النبي من زينب بنت جحش ،فقد نزلت
عظيم»،
ٌ عذاب
ٌ ه
ُ ل منهم ه
ُ كبر توىل ي ِ
ذ وال وطرا زوجناكها ً آية «فلما قضى زيد منها
وفيها تبرئة للسيدة عائشة ونهاية للجدل، لكي ال يكون عىل املؤمنين حرج يف أزواج
والشاهد أنها مل تنس لعيلٍّ رأيه ،وربما أ َّثر وطرا” ،فقالت ً أدعيائهم إذا قضوا منهن
رأيه هذا عىل عالقتهما بعد ذلك حتى وفاة عائشة هذا القول حسب بعض الروايات.
عيلٍّ. بيد أن األحاديث التي نسبت إليها عن عيل
فحين وقعت الفتنة و ُقتِل عثمان ،كانت بن أبي طالب الفتة ودالة عىل الخالف الكبير
عائشة يف مكة تعتمر ،ويف طريق عودتها الذي كان بينهما ،فقد روى البخاري عن
علمت بمبايعة عيلٍّ بن أبي طالب خليفة عبيد اهلل بن عبد اهلل بن عتبة أن عائشة
للمسلمين ،فولَّت راجعة إىل مكة ،وانضمت قالت :ملا ثقل النبي واشتد به وجعه استأذن
إىل الجيش الذي قادة املبشران بالجنة: أزواجه يف أن يمرض يف بيتي ،فأ ِذ َّن له
طلحة بن عبيد اهلل والزبير بن العوام ضد فخرج النبي بين رجلين تخط رجاله يف
جيش عيلٍّ ،حيث التقيا يف معركة الجمل التي األرض ،بين عباس ورجل آخر ،قال عبيد
ورو َِي وقعت يف البصرة عام 36هجريةُ ، اهلل فأخبرت عبد اهلل بن عباس فقال :تدري
أن عائشة حين رأت غلبة جنود عيلٍّ ركبت من الرجل اآلخر؟ قلت :ال ،قال :هو عيل بن
الجمل واندفعت به وسط الجيش حتى يكفوا أبي طالب” .فلماذا ج َّهلته عائشة وهو العلم؟
عن القتال ،وقيل إن آالف املسلمين قتلوا يف هذا العداء يرجع إىل حادثة اإلفك ،وهي
هذه املوقعة. معروفة بحيث ال نحتاج إىل إعادة تفاصيلها،
هذه بعض نماذج فقط تدلل عىل إشكالية وملخصها أن السيدة عائشة صحبت النبي
شخصية السيدة عائشة بنت أبي بكر ،وعىل يف إحدى غزواته ،وحين انتهى منها ،ويف
أقوالها ومواقفها التي ال تزال موضع خالف طريق العودة ،وقف الجيش ليستريح،
جدل قولها إن رخصة حتى اآلن ،وأكثرها ً فنزلت عن هودجها تقضي حاجتها ،ويف
إرضاع الكبير مل تكن تخص سهلة بنت طريق عودتها انفرط عقدها فجمعته ،وملا
سهيل التي سألت النبي فرخصه لها ،عكس عادت وجدت القوم قد رحلوا ،فقد حملوا
موقف باقي زوجاته ،فكانت تأمر أختها أم هودجها عىل ظهر الجمل ظانين أنها به لخفة
كلثوم وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن وزنها ،ومضوا ،فنامت ،فوجدها صفوان بن
يدخل عليها من الرجال املعطل السلمي ،فحملها عىل جمله حتى لحقا
إبداع
ومبدعون
رؤى نقدية
شعر
قصة
8
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
د.مروة مختار*
إيفالد فاجنر..
وقراءة الشعر القديم
خاصا بين الشعراء القدامي
ًّ موقعا
ً الشعراء الصعاليك يشغلون
بسبب المكانة االجتماعية التي شغلوها نتيجة الصطدامهم بقيبلتهم،
فاستلزم موقفهم زحرحة معينة -على حد تعبير فاجنر -للقيم
األخالقية التي امتدحوها في الفخر ،بل المديح نادر لديهم كما يري،
وبناء على ذلك يتسم شعرهم بخصوصية التجربة ،فانفصالهم
عن القبيلة أدى إلى تراجع الفخر بالقبيلة ،وصار الفخر بالذات
هو الموضوع األول في شعر الصعاليك ،والتأكيد على انفرادها
واالستعداد لتحمل العوز من أجل االستقالل.
متخذين منها مداخل لقراءة الشعر القديم وتأويله، تحاول هذه املقاربة أن تطرح مجموعة من
ويف ضوء الوصف املتكرر لفاجنر أنه اختط لنفسه األسئلة عىل كتاب األملاني “إيفالد فاجنر” املوسوم
طريقًا يختلف عن بعض املستشرقين األملان؛ بـ“ :أسس الشعر العربي الكالسيكى /الشعر
فهل يصح قياس تجربته البحثية عىل نموذج العربي القديم” ،لعلها تصل إىل إجابات توضح
سابق وصف بالتعصب ،أم أن األمر يخضع كلية موقفه من بعض القضايا التي تعرض لها بالدراسة
للمناقشة العلمية املنهجية ال القياس عىل ما سبقه، ً
أوتفصيل يف كتابه ومنها :ما موقفه من ً
إجمال
لالنتصار له ووصفه بالحيادية ،أو أنه كان أقل رواية الشعر القديم وصحته ولغته؟ هل كانت
تعصبًا ممن سبقوه فيتم التغاضي عن مناقشته دراسته للشعر القديم شكالنية بحتة؟ هل التفت
بشكل علمي موضوعى؟ إىل السياق االجتماعي والثقايف لظهوره؟ ما موقفه
من تعدد أغراض القصيدة القديمة؟ وهل أثر تعدد
-1 أغراضها عىل ترابطها ووحدتها العضوية؟ ما
اعتمدت يف هذه املقاربة عىل الطبعة الثانية من
ُ رأيه يف القص والحوار داخلها؟ ملاذا خص شعر
ترجمة د.سعيد البحيري لكتاب إيفالد فاجنر ،وقد الصعاليك وقصيدة الرثاء بالدراسة؟ هل كان طرح
صدرت الطبعة األويل له قبل صدور الثانية بعامين إيفالد فاجنر لهذه اإلشكاالت يف شعرنا القديم
فقط( ،)1األمر الذي يوحي بأن جهد فاجنر كان مناط يختلف عما قام به الباحثون األملان أم سار عىل
اهتمام الباحثين عىل اختالف تخصصاتهم ،إال أن نهجهم؟
عملية البحث كشفت يل أن هذه املقاربة تكاد تكون دوما وأظنه قلقًا
االسئلة تعبر عن قلق يساورني ً
األويل عن منهج فاجنر يف قراءة الشعر القديم، يساور كل باحث يتشكك يف تلك املسلمات التي
ً
فصل من الكتاب وقد سبق للمترجم أن نشر دونت عن شعرنا القديم ،وما زال بعض الباحثين
مستقل يف مجلة جذور السعودية ،قبل
()2 ًّ نشرا
ً العرب األوائل واملحدثين يتناقلونها عن الغرب
9
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
يعالج خمسمائة سنة من بدايات الشعر العربي يري فاجنر -ويوافقه بعض املستشرقين -أن
حتى 100سنة بعد امليالد ،وأنه أخذ بالتقسيم نقطة التحول الحقيقية يف الشعر القديم هي نهاية
أيضا يف دراسته ،واقتراحه كان من قبل الجغرايف ً العصر األموي ال ظهور اإلسالم ،حيث تغيرت لغته
دار النشر(.)10 تدريجيًّا وأفكاره ،وظهرت فيه أشكال جديدة ،ومن
ويتوقف فاجنر أمام صحة الشعر القديم وروايته، ثم يرى أن الدراسين يف حاجة إىل تقسيم وفق
12
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
أفكار مرجليوث بعد ذلك بعام بصورة شديدة ويذكر أنها مشكلة واجهت من حاولوا أن يقدموا
التفصيل ،وبلهجة بالغية مدرسية إىل حد ما نظرة أدبية علمية خاصة بالشعر العربي القديم،
للجمهور العربي األعزل”( ،)11ويرى أن املناقشات وأوجز التصور العربي لجمعه وروايته يف مراحل،
التي ظهرت بعده أجبرته عىل التخفف منها يف طبعة بداية من إنشاد الشاعر القصيدة لنفسه ،أو أن
ثانية للكتاب يف العامل العربي ويف الغربي ،وكان يقوم الراوي بإنشادها ونقلها لألجيال التالية،
بروينلش من أشهر من نقد فكرة مرجليوث وطه ويمكن أن يكون للشاعر عدة رواة ،ومن ثم
ً
تفصيل. حسين فالراوي يمكنه أن ينقل عن أكثر من شاعر ،ويمكنه
أما عن فاجنر نفسه فإنه يصف نفسه بأنه من أن يكون راو ًيا عن قبيلة بأكملها ،ويمكن أن يتحول
أصحاب الشك املعتدل ،فال يرفض الشعر القديم الراوي نفسه إىل شاعر مثل :زهير بن أبي سلمي
بأكمله وال يقبله برمته ،ولعل رأيه هذا وضعه يف وكعب بن زهير.
مرتبة متقدمة لدي بعض الباحثين العرب ،فقد واستمرت حركة جمع الشعر وكان خلف األحمر
حظي بمدح منهم وثناء ووصف باعتداله ،وأنه وحماد الراوية وأبو عمرو بن العالء من أشهر
ينتمي ملدرسة مغايرة للمدرسة األملانية األوىل التي الرواة ،باإلضافة ملا جمعه بعض املهتمين باملسائل
عرفت بتعصبها ضد الشعر القديم والدراسات النحوية واللغوية من أبيات بوصفها شواهد دالة
العربية ،وساحأول عبر صفحات هذه املقاربة عىل قواعد بعينها دون االهتمام بمضمون القصائد.
تفنيد أفكاره الواردة يف مباحث الكتاب املختلفة ثم جاءت فكرة جمع قصائد مشهورة ،فكانت
ومناقشتها. املعلقات واملفضليات واألصمعيات وديون الحماسة،
يتوقف فاجنر ليناقش افتراض الكتابية املبكرة باإلضافة إىل جهود ابن السكيت والسكري
للشعر القديم الذي طرحه ناصر الدين األسد وصاحب األغاني يف جمع وتصنيف مادة إخبارية
وفؤاد سيزكين ،ويؤكد أن أوجه االنتحال املتعمدة حول هذه األشعار .ويف السبعينيات وجدت نظرية
تماما كالنص الشفهي،
ً ممكنة للنص املكتوب مدخل لدراسة الشعر القديم، ً الشعر الشفاهي
فالنص املكتوب قد يطوله التلف أو يفقد بالكلية ،مع ومفاداها أن املنشد عند إلقاء القصيدة شفهيًّا يعيد
االعتراف أن عدم التدوين املبكر تسبب يف فقدان صياغتها كل مرة عند اإللقاء ،ومن ثم يصبح كل
الكثير من الشعر العربي القديم الجاهيل أو األموي إلقا ٍء ً
نظما جدي ًدا لها.
أو العباسي. سنالحظ عبر الكتاب -وهو كما أسلفت الجزء األول
كنا توقفنا من قبل عند حديث فاجنر عن قرن كامل من النسخة األصلية -أن فاجنر يف أكثر من موضع
يثني عىل العصر األموي من حيث وضع الشعر أو
حركة جمعه وتوثيقه أو تطور الشعر نفسه،
وكأنه ارتبط به ويعلن عن ارتباطاته من آن
آلخر يف الجزء األول من الكتاب.
ال يري فاجنر أي غرابة فيمن يتشكك يف نشأة
تلك النصوص وصحتها وخاصة بعد مرور
قرنين أو ثالثة عىل جمعها ،وكان نولدكه
وآلفارت أول من أثارا هذا القضية ،معتبرين أن
كبيرا من هذا الشعر قد يكون موضو ًعا ً قسما
ً
ً
أو منتحل ،إىل أن قال مرجليوث بأن الشعر
القديم كله منتحل وتابعه طه حسين يف دعوته
بعد عام منها ،وقد وصف فاجنر محاولة طه
حسين وصفًا استوقفنى“ :وقد قدم طه حسين
13
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
منها :وصف املحبوبة بأنها عريقة النسب وتمتلك حاول فيه الباحثون إتقان الدراسات الفيولوجية
ثيا ًبا غالية وحليًّا ثمينة ،وعدم حاجتها إىل العمل، حول الشعر العربي القديم ،لتكون تحليالت
فضل عن رحالت الصيد املتنوعة ،فكل هذا ال ً املستشرقين أو أحكامهم عىل بعض القضايا ناجمة
يصدر إال عن وسط ارستقراطي ،فال يمكننا بأي عن وعي حقيقي بأسرار العربية ،وليستطيعوا
أيضا أن
حال أن نصفه بأنه شعر شعبي ،ويفترض ً فهم الشعر العربي القديم دون عزله عن سياقه
الفرد العادي يف القبيلة كان يتماهي معه ألنه يذوب االجتماعي الذي نشأ فيه ،ومن هنا أكد فاجنر أن
يف القبيلة من األساس ،حتى الشعراء أنفسهم مل الشعر العربي القديم إبداع خالص للعرب البدو،
تظهر فرديتهم ألنهم يمثلون الطبقة االجتماعية، وأنه أهم مصدر لحياة العرب القدامى ،وإن مل يضم
فال وجود ملوقف اجتماعي مميز لفردية الشاعر، بين دفتيه حياتهم كاملة ،ويبدو أن فاجنر كان
ويستثني فاجنر من هؤالء الشعراء الصعاليك. يبحث عن التطبيق الكامل ملقولة“ :الشعر ديوان
وأري يف رأي فاجنر وريناته يعقوبي عمومية العرب” ،فهو يأسف ألنه مل يجد تفاصيل عن
شديدة ومبالغة ،فكيف نأخد يف تأويل الشعر الحياة األسرية وتنشئة األطفال والحياة الزوجية
بظاهر لفظه أو صوره؟! وكيف نعد ما كان يسجله اإليجابية ،ووجهة نظر املرأة يف الحب ،وأرى أنه من
الشعراء يف قصائدهم مطابق لواقعهم بشكل اإلجحاف التعامل مع النص الشعري بوصفه وثيقة
حرىف؟! إن موافقة فاجنر عىل آراء ريناته تدلل عىل تاريخية.
عدم فهمه العميق ملضمون الشعر القديم وأخذه قديما ،وأن
ً يتوقف فاجنر عند الشاعر ومكانته
بظاهر عبارته ،وإن أعرب يف أكثر من موضع عىل أصل كلمة الشاعر مأخوذ من العارف ،فالشاعر
أهمية عدم نزعه من سياقه االجتماعي والثقايف، يتلقي معرفته مثل الكاهن من خالل إلهام متجاوز
لكننا يف الوقت نفسه ال نتخذه وثيقة تاريخية للبشر ،فهو متنبىء القبيلة ،ومن هنا اكتسب
تفسيرا حرفيًّا.
ً نفسرها مكانة مرموقة يف قبيلته ،فالشاعر يقدم النصائح
فضل عن معرفته بأنساب القبائلً والتنبؤات
-3 وتاريخها.
ثم يناقش رأ ًيا لريناته يعقوبي ترى فيه أن الشعر
يحاول فاجنر أن يتدرج يف كتابه من الشكل إىل العربي القديم يف جوهره محافظ ،ويخدم إرث
املضمون ،فيتوقف أمام لغة الشعر القديم وشكله، النظام القيمي واملعايير القانونية لالرستقراطية
ويري أن التعبيرات التي رويت لنا عن عصر ما القبلية ،ويبدي تأييده لها ويعدد الدالئل عىل ذلك
قبل اإلسالم يف شبه الجزيرة العربية ترجع عىل
نحو مؤكد إىل ألف عام ،ثم يختتم عرضه لبعض
ظواهر العربية الشمالية والعربية الجنوبية بهذه
العبارة“ :ويتناقض التنوع اللغوي الذي تظهره
النقوش بشكل الفت للنظر مع التوحد النسبي للغة
الشعر العربي القديم والقرآن ،وبذلك ينشأ السؤال
حول العالقة بين اللغات املنطوقة ولغة الشعر
والقرآن؟(.)12
ثم يتوقف عند اإلعراب ويوضح وجهات النظر
املختلفة لنشأته ،منها أن اللغة املستخدمة يف الشعر
القديم والقرآن الكريم مختلفة عن لغة الحياة
اليومية ،وأن اللغة اليومية كانت تسقط النهايات،
متأخرا ،وبعض اآلراء التي ذهبت
ً وأن اإلعراب نشأ
14
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
أما فاجنر فإنه يرى أن نشأة األوزان جاءت كامل يف زمن الرسول ىلص اهلل ً إىل أن اإلعراب كان
كالتاىل :األوزان األقرب للرجز تطورت يف البداية عليه وسلم ثم اختفى بتأثير األعاجم بعد الفتوحات
مثل السريع والكامل ،ثم تطور بعد ذلك الطويل اإلسالمية.
والكامل والبسيط والوافر ،أي أن األوزان العربية قديما
ً يتعرض فاجنر لالزدواجية اللغوية املوجودة
من وجهة نظره تطورت داخل العربية نفسها(،)16 يف البيئة العربية يف مقابل لغة الشعر القديم،
رغم طرح بعض املستشرقين آراء تتعلق بتأثرها ليخلص إىل أن هناك لغة للشعراء يمكن وصفها
بالعروض اليوناني مثل تكاتش ،وبصفة خاصة بأنها “لغة فنية” ،عيل أال يفهم هذا املصطلح أنه لغة
الرجز ،لكنه مل يستطع أن يدلل عىل ذلك وضرب ابتدعها شاعر أو عدة شعراء بصورة متعسفة ،ثم
أيضا من قصر التأثر أمثلة متأخرة زمنيًّا ،ومنهم ً مرارا عىل توحد لغة الشعراء يف مقابل تعدد ً يؤكد
عىل بحور معينة مثل املتقارب والخفيف والرمل اللهجات ،وهذه اللغة تعلو اللهجات ،وأنها مفهمومة
بوصفهم تأثروا باألوزان الفارسية ،وخاصة يف متجاوزة حدود اللهجات ،وأنها منحت الشعراء
العصر األموي ،رغم ورود شعر المرئ القيس أنفسهم مكانة مرموقة ،وكان الفهم العام لها
تحمل بعضها! وتوقيرها ناب ًعا من أن القرآن الكريم يوحي بهذه
يتعرض فاجنر سري ًعا لفكرة عالقة الوزن أيضا.
اللغة ً
حكما عا ًّما كعادته «أن هذا
ً بالغرض ،ويصدر قليل عند ما أطلق عليه فاجنر “اللغة أتوقف ً
املبحث ربما يصدق عىل الشعر العربي القديم متأخرا كما أسلفت
ً الفنية” ،وفاجنر ألف كتابه
الفقير يف األغراض» ،وهذا حكم سنرى أثره ممت ًّدا القول ،وقد سبقه عدد كبير من املؤلفات التي
يف مباحث تالية ،وأن هذه الفكرة يمكننا تطبيقها تحدثت عن “اللغة الفصحي املشتركة” وكيفية
عىل الرجز وربطه بأغراض محددة ،وربما ظهر نشأتها والعوامل املؤثرة فيها وسماتها ،وأن
إيثار عمر بن أبي ربيعة لألوزان القصيرة يف غزله تأثيرا يف
ً اللهجة القرشية كانت أقوى اللهجات
تمشيًا مع تلحينها للغناء(.)17 تكوين الفصحي املشتركة لظروف متعددة ،دينية
وعن مناقشته آلراء بعض املستشرقين الذين يرون وسياسية واقتصادية .فالظروف الدينية تتمثل يف
وملل وقلَّلت فرص الشعر ً أن القافية تسبب رتابة مقدسا يفد إليه الناس للحج ،وأثناء ً كون مكة مكانًا
العربي أن يكون ملحميًّا ،فاألوىل وجدت وج ًها فضل عن سفر ً ذلك تنشط حركة البيع والشراء،
آخر أن السامع يف حالة تلق وتشويق باستمرار، أهل مكة لليمن وغيرها من البالد للتجارة ،وسيادة
والثانية أن مالحم العرب كانت يف شعرهم القديم، قريش سياسيًّا عىل مكة(.)13
امللعقات وغيرها ،وال ينتقص منها مقارنتها باملالحم ومن صفات الفصحي املشتركة أنها فوق مستوى
اليونانية(.)18 العامة وال تنتمي إىل بيئة محلية بعينها ،فهي مزيج
بين هذه اللهجات ،ومل تكن لغة قريش وحدها(.)14
-4 أي أن رأيه الذي خلص إليه ورد يف مؤلفات سبقت
اسما جديدا “اللغة
مؤلفه بعقود ،بينما اختار لها ً
يف تدرج ملحوظ يتنقل فاجنر بين قضايا الشكل الفنية” ،وقد عرفت باللغة الفصحي املشتركة.
واملضمون املتعلقة بالشعر القديم ،ويناقش تصنيف يعرض فاجنر لرأي عام يف البحث األوروبي يرى
بعض املستشرقين والباحثين العرب له ما بين أن التنوع املوجود يف األوزان الشعرية العربية قد
القطعة والقصيدة ،فاألوىل تطلق عىل القصائد تطور عن فن الرجز ،الذي تطور يف األساس عن
القصيرة ،والثانية عىل القصائد الطويلة ،ويتفق السجع ،ويذكر أن هذا الرأي يتطابق مع آراء العرب
فاجنر مع أصحاب هذا التصنيف من حيث التسمية، القدامى ،لكنه يستدرك عليه أنه ال يوجد عليه أي
لكنه يختلف مع بعضهم يف أن القطعة مرتبطة أدلة أو براهين تؤكد أن ما هو بسيط /الرجز يسبق
بالغرض الشعري الواحد والقصيدة مرتبطة بتعدد ما هو معقد /البحور الشعرية عىل اختالفها(.)15
يتنقل فاجنر بين قضايا الشكل حكما عا ًّما ،فهناك قطع
ً األغراض واعتبره
والمضمون المتعلقة بالشعر القديم، أغراضا متعددة،
ً شعرية قصيرة تضمنت
باإلضافة إىل أن هناك قصائد طويلة ذات
ويناقش تصنيف بعض المستشرقين مضمون واحد كاملدح والهجاء أو الرثاء أو
والباحثين العرب له ما بين القطعة وصف الخمر.
وتاريخيًّا الدراسات املتقدمة لبعض
والقصيدة ،فاألولى تطلق على القصائد املستشرقين ذكرت أن املقطوعات ذات
القصيرة ،والثانية على القصائد الطويلة، املوضوع الواحد كانت يف أصلها قصائد
طويلة ذات غرض واحد ،وأن تعدد
ويتفق مع أصحاب هذا التصنيف من املوضوعات يف القصيدة الواحدة جاء نهاية
حيث التسمية ،لكنه يختلف في أن عن التطور امللموس يف الشعر العربي،
ومثالهم يف ذلك حماسة أبي تمام ،أما
القطعة مرتبطة بالغرض الشعري الواحد الرأي األحدث أن القصائد أحادية املوضوع
والقصيدة مرتبطة بتعدد األغراض تقدمت عىل القصائد متنوعة األغراض ،مع
استمرار وجود القصائد األحادية التي وجد
فيها بعض املبدعين حريتهم عىل حد تعبير
فاجنر!
يعرض فاجنر لتقسيم بلوخ للقصائد األحادية يف
البحث عن أي األغراض أسبق للوجود بشكل تفصيل شديد يتعارض مع عمومية تناوله لكثير
منفصل يف القصائد القصيرة /املقطوعات أحادية من املوضوعات يف كتابه ،ثم يناقش تقسيمه،
الغرض ،فمع كل فرضية ومحاولة للتصنيف من فيري بلوخ أن القصائد األحادية لها ثالثة أغراض:
قبل فاجنر -ومن سبقوه -تُكرر هذه العبارة“ :وال -1قصائد العمل أو املصاحبة للفعل -2 .قصائد
توجد أدلة أو براهين عىل هذا التصنيف أو هذا الرسالة واإلبالغ -3 .مرثيات .أدرج بلوخ تحت
الرأي” ،أعي جي ًدا أهمية االجتهاد ،لكنه يف الوقت قصائد العمل قصائد الحرب والفخر باألنساب
نفسه غير قابل للتعميم ما مل تدعمه أدلة أو براهين ومراقصة األم ألطفالها والزهو بالوالدين ،وتحت
أو عىل أقل تقدير االهتمام بغزارة العينة البحثية الرسالة واإلبالغ ض َّمن قصائد الشكر والنصر
التي تعضد وجود الظاهرة. واللوم ووصف األماكن ،واملرثيات يدخل فيها مدح
فعيل سبيل املثال يستنبط بالشير أن النسيب قد النفس والقبيلة ومسرات الصبا وفناء الحياة.
انبثق من األغاني الحزينة لحادي البعير “الحداء”، وهذا التقسيم ال يقبله فاجنر ،ويرى فيه عمومية
أما ريناته يعقوبي فترى أنه كان قصيدة مستقلة كبيرة ،وأتفق معه يف ذلك ،فتقسيمات بلوخ كلها
يف البداية ،ويرى فاجنر وج ًها لرأي يعقوبي بسبب تضمنت استثناءات تسقط مقترحه من األساس،
وجود الظاهرة يف بعض اآلداب ذات القرابة ،مثل باإلضافة إىل تداخل الغرض نفسه يف أكثر من قسم
قصيدة الحب املصرية القديمة ،ويضيف أن أبيات من األقسام املقترحة.
الحب كانت داخله يف غرض الفخر ألن الشاعر لديه ويف املقابل قام فاجنر بطرح تقسيم ثالثي ألجزاء
رغبة يف التفاخر بمغامراته العاطفية ،وهذه اآلراء القصيدة القديمة -1 :النسيب -2 .وصف البعير.
تشترك يف أنها تتحدث عن قصة حب مضى فقط، -3الجزء الختامي من القصيدة .والحقيقة أنني
ال تخلو يف بعض األحيايين من صور ماجنة عىل أختلف مع محاوالت التفكير املستمرة يف تأطير
ً
متمثل بشعر امرىء القيس. حد قول فاجنر القصيدة القديمة وأغراضها وكأنها شعائر مقدسة
يعترض فاجنر عىل وصف النسيب يف القصيدة يلتزم بها قدامي الشعراء ،وارتباط ذلك بمحاولة
16
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
املستشرقين -يف كون أوصاف الجمل تقف يف القديمة بشكل عام بأنه شعر شهواني عىل حد
الخلفية ،وأن اهتمام الشاعر بالصورة ليس يف تعبير املترجم( ،)19ألنه من التضليل أن توصف
مجموعها املتناغم ،ففي عدد كبير من سماته املميزة مقدمة القصيدة القديمة بأنها مقدمة شهوانية،
يظهر الجمل موضو ًعا مفتتا! فالبواعث مختلفة ع َّما ارتكز إليه هذا الرأي،
وقام فاجنر بتحديد مجموعة بواعث أطلق عليها
ثم انتقل إىل القسم الثالث يف تقسيمه وهو الجزء “البواعث األطرية” :يوم الفراق ،مرور القافلة،
الختامي من القصيدة ،وذكر أن مضمونه شديد مظهر أو طيف الخيال ،الشكوي أو البكاء عند
التباين ،ما بين الفخر واملدح والتهكم والتهديد األطالل.
مكررا وجهة نظره،ً واالعتذار والتحذير والحكمة، واستوقفتني نتيجة توصل إليها فاجنر يف دراسته
تماما ،وهي أن هذا التنوع ملً أختلف معه فيها للشعر القديم ،وهي أن الربط املنطقي يف القصيدة
ينضج أو يكتمل إال يف نهاية العصر األموي. القديمة بين النسيب والفخر كان أنجح ما يكون يف
التقسيم الثالثي الذي طرحه فاجنر قاده للحديث تلك القصائد التي غاب عنها وصف البعير(.)20
تفصيل عن بنية الشعر العربي القديم ،لكن مقدمته ً والسؤال هل النتيجة التي توصل فاجنر إليها جاءت
للحديث عن البنية غير منهجية وتعكس بجالء بعد مسح شامل للشعر القديم أم أنها نتيجة منبثقة
عدم وعيه وفهمه الكامل بطبيعة الشعر القديم، عن مجموعة من القصائد التي درسها؟
تأملوا معي عبارته يف افتتاحية الفصل العاشر البحث العلمي بطبيعته يرفض التعميم ،وفاجنر
من كتابه“ :تهتم الدراسات الحديثة حول بنية حائر بين محاوالت التأطير ومحاوالت التعميم يف
الشعر العربي بمشكلتين منفصلتين كل االنفصال أغلب فصول دراسته ،وكون الدراسة عامة كما
يف األصل ،فمن ناحية يدور األمر حول مسألة أسلف يف مقدمة الكتاب وكرر ذلك أكثر من مرة
تأليف أو بناء القصيدة ،أي هل تتواىل املوضوعات مبررا ملحاوالته املستمرة
ً عبر فصوله ،ال يعطيه
واألفكار املفردة تواليًا منطقيًّا؟ وإىل أي مدى تحدث الستنباط نتائج يراها حاسمة يف القضايا التي
محيطات الفقرات املوضوعية والفكرية املفردة من يناقشها.
تأثيرا إجماليًّا( .)22والسؤال هنا:
ً خالل تناسباتها يتوقف فاجنر عند القسم الثاني الذي اقترحه من
كيف نأمن لدراسة يف األدب القديم ونكيل لها ثنا ًء أقسام القصيدة وهو “وصف البعير /الناقة”،
متكررا ال ترى رب ًطا بين الشكل واملضمون من ً ويرى أن بدايات الشعر القديم كانت تنتقل من
األساس يف الشعر القديم ،وتتعجب من مناقشتهما النسيب إىل الفخر مباشرة ،وكان وصف البعير
تحت مظلة واحدة ألنها تؤمن بانفصالهما ،وهذا من وجهة نظره يف بادئ األمر موضو ًعا للفخر
ما مل يلتفت إليه املترجم نفسه ،وصاغ يف مقدمة ضمن موضوعات أخرى ،إىل أن تطور وأصبح
ترجمته الشكل العام للفصل ،ال موقف فاجنر من مستقل داخل القصيدة ،وارتباطه بالنسيب ًّ قسما
ً
املسألتين! يف بداية األمر جعله يف موضع متقدم من القصيدة،
سؤال :هل عرف العرب البناء املضموني ً ثم يطرح وانفصاله جعل ترتيبه داخل القصيدة ح ًّرا ،ثم
بداية أم أن الوزن والقافية هما الحكم يف أعمالهم يعود كعادته مستدر ًكا ما اقترحه أن هذا التقسيم
الشعرية؟ وهل للنص الشعري معنًى عميقًا أم أن الثالثي مل يتبعه أغلب الشعراء( ،)21ورغم استدراكه
النظرة السطحية تكفي للربط بين صور القصيدة؟ ينشغل ثانية يف حساب النسبة املئوية التي يشغلها
ويرى أن هذه األسئلة من أهم ما طرح عىل تقريبًا كل غرض يف القصيدة القديمة انطالقا من
موضوع بنية القصيدة القديمة. تقسيمه الثالثى!
يرى فاجنر أنه يف وقت مبكر كان من الالفت لنظر عبر فاجنر يف موضع الحق بالتفصيل عن موقفه
من اهتموا بدراسة القصيدة القديمة أنها -يف من الخيال والواقع يف صور الشعر القديم ،وهنا
الغالب -تخلو من االرتباط الداخيل ،فموضوعاتها أومأ إىل القلق الذي يعتري الدارس -ويقصد
17
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
أصليًّا انطالقًا من الظروف املجتمعية التي ال تسمح ثم ينتقل فاجنر إىل طرح سؤال آخر عن خلفية
بذلك ،وقد وصل األمر بفاجنر أنه قال “العرف املعني الظاهر السطحي للقصائد ،وهل يكمن فيها
أجبر الشاعر عىل أن يصف األشياء عىل نحو ما تشكيالت شعرية لطقوس أو أساطير أو خبرات
تطلبت ..فوجب عليه إبداء حزنه عىل رؤية آثار عامة بالحياة اإلنسانية أو حياة البدو ،ويرى أن
الحبيبة ..وأنه مل ُيقدر املمدوح لصفات فيه بل عن البنية العميقة لألدب القديم مل تحظ بدراسات
طريق استخدام صفات ثابتة بوصفه ً
مثال(،)30 كافية ،وأغلب الدراسات فيها أجريت عىل القصائد
ثم تخير رأ ًيا يعضده يف أن الشعر العربي يميل ذاتها مثل ملعقة امرئ القيس ومعلقة لبيد ،ويعمم
إىل تقديم أشخاص غير أحياء ،فأورد رأي جارثيا قوله ليشمل الباحثين العرب واملستشرقين أيضا!
جوميز يف عدم صدق الشعر العربي الذي قال عنه ويفصل القول يف قراءة كمال أبو ديب ومولر
النقاد العرب “الكذب” يف مقولتهم “أعذب الشعر وهاموري وستتكيفتش وتارتلر وهايدر لألدب
أكذبه” ،ثم يعود ليذكر لنا أن هذا الكذب مل ينتج القديم ،وعىل الرغم من كونها عينة عشوائية غير
عن نشاط خيايل ،ولكنه كان ولي ًدا لرغبة الشاعر ممثلة -بشكل كاف -للدراسات التي اهتمت باألدب
يف تكرار أنماط سابقة يجب عليه استخدامها ،وإن حكما عا ًّما
ً القديم شرقًا وغر ًبا ،انطلق مكونًا
مل تتطابق مع الحقيقة ،فتظاهروا بخبرات تتالئم معبرا عن ذلك بقوله إنها غير مقنعة ً -كعادته-
مع أعراف املجتمع ،وال أدري سر تكرار سؤاله بالنسبة له“ :وال يمكن أن تزال البقية الباقية من
عن مدى تعبير الشاعر عن أحاسيس حقيقة واقعية التجزيء التي ال تزال مالزمة للشعر العربي القديم
عموما
ً من عدمها ،فمن البديهي عدم مطابقة الفن بأن يدسها املرء يف سترة االضطرار الخاصة
للواقع ،فما بالنا بالشعر ،وانطالقًا من إيمان فاجنر بأفكار الوحدة العضوية أو األساطير والطقوس .
()28
بأن الشاعر يطبق أعرافًا واقعية عىل قصيدته يختتم من وجهة نظري إنه الرفض املطلق لفكرة الوحدة
قوله بعبارة عامة “كان البيت األول أكالشي ًها يف العضوية يف القصيدة القديمة ،وقد ظهر ذلك بجالء
جائرا يفتقد
ً حكما
ً الشعر العربي القديم” ،وأراه يف مناقشاته لآلراء السابقة ،وملقالة فان جيلدر عن
للنظرة العميقة للمقدمة الطللية للقصيدة القديمة الوحدة العضوية يف القصيدة القديمة(.)29
التي تحتوي عىل شفرات متعددة لقراءة القصيدة ينتقل فاجنر من مسلماته هذه إىل مناقشة الواقع
نفسها. والخيال يف الشعر القديم ،وقبل املناقشة يصدر
ويعرج فاجنر عىل محاوالت تصنيف الشعر قائل :يعد الشعر حكما عا ًّما يف بداية املناقشة ً
ً
العربي القديم تحت مصطلحات غربية مثل :الغنائي العربي واقعيًّا بشكل عام ،ثم يعود مستدر ًكا أنها
وامللحمي والدرامي ،ويرى أن الشعر العربي ال قضية خالفية من وجهة نظر بعض لباحثين ،وأن
يخضع ألي تصنيف منهم إىل أبعد الحدود ،فهي سبب الخالف نابع حول مفهوم كلمة الخيال.
مصطلحات مقترنة تاريخيًّا بنشأتها يف األدب ويعود مرة أخري ليدلل عىل وجهة نظره واصفًا
األوروبي ،وأن من اعتبروا الشعر العربي غنائيًّا الشعر العربي بأنه يركز عىل ما يدرك حسيًّا،
مثل :ليال وبروينلش برروا ذلك بسبب خاصية فالشاعر مل يقدم جدي ًدا إال من خالل التفاصيل،
األنا فيه ،ويف املقابل نرى ريناتة يعقوبي تنكر واصفًا أحداث صارت عرفية بالقوة ،تنقصها
إنكارا تا ًّم ،فمن وجهة نظرها
ً عليه صفة الغنائية التفصيالت فقط!
ً
أن الشاعر العربي القديم مل يفتقد أحوال أو تجرفه ً
ثم يعود مستدركا حكمه أنه ال يقصد الواقعية
أحاسيس! التاريخية ،لكن الشاعر يبدع يف محيط املسموح له،
والقصيدة القديمة من وجهة نظرها ملحمية ألنها وينطلق ليطابق بعض الصور املوجودة يف القصيدة
تصور أحدا ًثا أو تكون محض وصف ،محاولة بشكل حريف مع الواقع ،فيتوقف عند أسماء األماكن
استخالص وسائل الربط األسلوبي بين أبيات فيرى أنها قد تكون واقعية ،وقد تكون اختيرت
الوصف املمتدة من خالل التوازي والتكرار. لدواعي الوزن والقافية ،وأن اسم الحبيبة مل يكن
19
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
الهوامش:
* كلية اآلداب جامعة القاهرة فرع الخرطوم ،الجامعة األمريكية بالقاهرة.
-1أسس الشعر العربي الكالسيكي ،الشعر العربي القديم ،تأليف إيفالد فاجنر ،ترجمة وتعليق د.سعيد
البحيري ،ط مؤسسة املختار للنشر والتوزيع ،ط الثانية .2010
-2الرواية وصحة الشعر العربي القديم ،تأليف ايفالد فاجنر ،مجلة جذور ،العدد ،22عام ،2005وأصله
الفصل الثاني من كتاب فاجنر أسس الشعر الكالسيكي.
-3أسس الشعر العربي الكالسيكي ،ص.17 -10
-4نفسه ص.11 -10
-5انظر حديث د.حسن البنا عز الدين يف مقدمة ترجمته لكتاب القصيدة والسلطة ،للمستشرقة د.سوزان
سيتتكيفيتش ،املركز القومي للترجمة ،ص ،16 :7ط .2010
-6ملزيد من التفاصيالت حول هذه النقطة:
-الفن ومداهبه يف النثر العربي ،د.شوقي ضيف.
-النثر الفني يف القرن الرابع الهجري ،د.زكي مبارك.
-من حديث الشعر والنثر ،د.طه حسين.
-يف األدب الجاهيل ،د.طه حسين.
-7أسس الشعر العربي الكالسيكي ،فاجنر ص.33
-8استخدم املترجم د.البحيري وصفًا للشعر الجاهيل أنه “الشعر الوثنى” ،وهو وصف غير ذائع ىف دراستنا
النقدية الحديثة عن الشعر القديم أو الجاهيل تحدي ًدا ،نفسه ص.38
-9نفسه ص.39
-10نفسه ص.42
-11نفسه ص.53
-12نفسه ص.93
-13فصول يف فقه اللغة د.رمضان عبد التواب ،ط مكتبة الخانجي ،1994ص.80 :78
-14املرجع السابق ،بتصرف ،ص.84 :81
-15انظر :املكونات األويل للثقافة العربية ،د.عز الدين اسماعيل ،ط الخامسة ،1993ص .18 :9أبوللو للنشر
والتوزيع.
-16الشعر العربي القديم ،فاجنر ص.107
-17املرجع السابق ص.119
-18املكونات األويل للثقافة العربية ،ص.21
-19الشعر العربي القديم ،فاجنر ص.168
-20نفسه ،ص.172
-21نفسه ص.189
-22املرجع السابق ،ص.255
-23املرجع السابق ،ص.256
-24املرجع السابق ،ص.36
-25املرجع نفسه ،ص.258
-26املرجع نفسه ،ص.258
-27التناغم النصي يف املفضليات ،د.مروة مختار ط مكتبة وهبة ،2009ص ،105ص.75
-28الشعر العربي القديم ،فاجنر ،ص.275
-29بدايات النظر يف القصيدة ،فان جيلدر ،ترجمة د.عصام بهي ،مجلة فصول العدد ،2مارس .1986
-30الشعر العربي القديم ،فاجنر ص ،306بتصرف.
-31طلل عىل طلل ،د.مروة مختار ،مجلة تراث االماراتية ،أبريل .2019
21
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
د.يوسف الزدكي
(المغرب)
والشعارات والحناجر يف صمت لتفسح املجال أمام شكل الحراك العربي ،أو ما اصطلح عىل تسميته
صوت البنادق والرشاشات واملدافع والدبابات بثورات الربيع العربي ،مادة حكائية دسمة
ولتتحول الثورة السلمية إىل مواجهة مسلحة بين للسرديات العربية ،وعىل وجه التحديد جنس القصة
النظام القائم والفصائل الدينية والعرقية والطوائف ً
شكل تعبير ًّيا جدي ًدا شهد القصيرة ج ًّدا باعتبارها
املذهبية والتيارات األيديولوجية املتطرفة. تداول واس ًعا يف أوساط املبدعين يف الفن القصصي ً
من رحم هذا الحراك الدموي العنيف ،ولدت الحديث ،وبالنسبة لجيل كيبل ،فإن الحراك الشعبي
ً
تفاعل أصوات مبدعة تفاعلت مع املد الجماهيري يف البلدان العربية ينقسم إىل فئتين :األوىل متعلقة
ملتزما يف محتواه ،عميقًا يف
ً قو ًّيا ،وأنتجت أد ًبا بمصر وتونس ،اتسم بمسار ديمقراطي هادئ
رؤيته ،وبليغًا يف صوره الرمزية ،وغنيًّا بأدواته نسبيًّا ،والثانية متعلقة بسوريا واليمن ،وامتاز
دائما
خصوصا أن اإلبداع يظل ً ً الفنية والتعبيرية، بتصاعد وتيرة العنف»(.)1
وليد اللحظة ،ويف أحشائه يمتزج الخيال بالواقع، منحى
اتخذ إذن الحراك الشعبي العربي منحيينً :
والحلم باألسطورة ،ويف نهاية املطاف ،تتشكل مادة سلميًّا وحضار ًّيا يتسم باالنضباط والوعي
سردية متجانسة تحمل خاصية اإلبداع األدبي. الجماهيري الراقي ،حيث تجد الشعارات الرنانة
ومن بين هذه األصوات املغردة حبيبة زومي واألصوات الغاضبة والحناجر السخية املدوية
وحسن األشرف من املغرب ،إبراهيم العامري من مرت ًعا خصبًا لها يف ساحات االحتجاج ،وحيث
األردن وعبد الحميد سليمان من سوريا ونجالء املسيرات املليونية يف الساحات والشوارع العامة،
عزت الطيري من مصر ،وحسن جبقجي من سوريا ومنحى دمو ًّيا عنيفًا انسحبت فيه الكلمات
ً
22
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
بؤرة مركزية تتحلق حولها دالالت الحسرة والفجع الذي تفاعل مع الحالة املأساوية لإلنسان العربي يف
واألمل والضياع. سوريا ،فتفتقت ملكة البوح السردي لديه من خالل
أول ما يطالعنا عنوان األضمومة « ُد ْم َية» ،الذي أتى جنس القصة القصيرة ج ًّدا.
عبارة عن كلمة مفردة بصيغة التنكير وبماديتها أنطلق من فرضية مفادها أن القصة القصيرة ج ًّدا
الخالصة املحيلة عىل لعبة صغيرة أثيرة لدى هي أقدر األجناس السردية عىل رسم الدمار العربي
الطفالت الصغيرات ،وترمز إىل البراءة والعفوية ً
واختزال ،وإىل يف أدق جزئياته وأشدها كثافة
واالنطالق ،كما أنها مدعاة الترويح عن النفس تصويرا وكشفًا
ً أقصى الحدود والغايات وأبلغها
والتسلية واالنشراح يف عامل الطفولة السحري ،لكن للمفارقة التي يحياها الحراك العربي بفعل إكراهات
صورة الغالف تشي بمدلول مغاير حيث تصور لنا البيئة والطبيعة ،وظروف ووضعيات كل بلد عربي
أشالء مبعثرة لدمى صغيرة وهي ملقاة عىل أرض عىل حدى ،باعتبار أن هذا الجنس يميل إىل السرد
َخ ِر َبة ،يعلو أديمها التراب واألحجار املتناثرة داخل املشهدي الوامض للحراك الثوري املدمر واملفجع
ركن من أركان أحد املنازل التي يبدو عليها آثار يف سوريا ،وللتأكد من صحة هذه الفرضية،
التدمير والقصف ،ومن ثم تكسر صورة الغالف سوف أتناول موضوعة العنف والدمار عند القاص
ً
مدلول مأساو ًّيا أسود أفق انتظار القارئ حاملة السوري حسن جبقجي من خالل البحث يف بعض
للعنوان ،وبذلك تتناغم الصورة رمز ًّيا مع اللون املقومات البنائية لألضمومة مثل الشخصيات
األحمر القاني الذي اصطبغت به أحرف العنوان واألمكنة ،وسبر الخصائص الفنية السائدة مثل
(دمية) ،ومع صيغة التنكير ،مرسلة إشارات سلبية رمزية الحلم واملفارقة والحكي املشهدي من منظور
عند عتبة األضمومة للقارئ من الوهلة األوىل. ومتسائل عن مدى نجاح القاص ً وصفي تحلييل،
بعد اجتياز عتبتي العنوان وصورة الغالف، يف التوليف بين توظيف الخيال ومحاكاة الواقع
يستوقفنا اإلهداء الذي يتشكل من جملة واحدة الدموي املرير ،يف إطار إيالف منسجم ومتجانس
تش ُّك ًل مجاز ًّيا من خالل هذه العبارة املجازية: يحقق للنص السردي جماليته الفنية وفرادته
«إىل من سقى بدمه أرض الوطن» ،وهي صورة التعبيرية ،دون أن أغفل البعد الداليل لألضمومة
مجازية قائمة عىل االنزياح الداليل ،ذلك أن القاص الذي يرتبط بالتَّأويل العام للنصوص املدروسة.
اختار لغة ثانية انتقى من خاللها ملفوظات من يف البداية ينبغي اإلملاح إىل أن األحداث الدموية
مجاالت متنافرة (سقى -األرض -بالدم) ،ساعيًا املفجعة التي تشهدها سوريا منذ عشر سنوات
إىل التقريب بين عاملين :عامل الحرب (الدم) وعامل أثرا توليد ًّيا يف األضمومة ،فلم يجد القاص خلَّفت ً
توترا الطبيعة (األرض) ،فولَّد مناصا من الكتابة باعتبارها وسيلته املثىل للبوح
ًّ
ً
بين لفظتي األرض والدم للتعبير من جهة ،وأداته الفنية إلعادة
عن القيمة الرمزية لالستشهاد يف إنتاج الواقع الدموي املفجع
سبيل الوطن ،مما أكسب اإلهداء والعمل عىل صياغته من منظور
داللة قوية عىل املستوى الرمزي. الذات الساردة ،حيث يتداخل
الواقع بالخيال وتمتزج ذات
الشخصيات السارد بالحدث املأساوي،
ومن خالله تتشكل الرؤية
عىل املستوى البنائي ،تتوزع السردية عند املبدع لتنكشف
األضمومة إىل واحد وثمانين عالقته بذاته من جديد ،وبعامل
قصة قصيرة ج ًّدا ،تنتمي جميعها الخراب والدمار الذي يحيط
إىل حقل العنف والدمار تارة به من كل جانب ،فيتحول يف
وحقل الطفولة املدمرة تارة جميع نصوص األضمومة إىل
حسن جبقجي
23
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
ويف األخير ،يمسك أحدهما يد اآلخر ويصعدان معا تتوحد شخصيات األضمومة يف خاصية التنكير
إىل السماء» (قصيصة البرزخ) أو جثت تبحث عن وهذا التوحد يدل عىل أنها مهمشة ،مجهولة الهوية،
الخالص تحت جنازير الدبابات (قصيصة أشباح عابرة ،ال موطن قار لها ،وال ظل سلطة يحميها ،وال
جثة). وطن يسع أحالمها ويحتضن مأساتها ،ويبل ريق
أطفالها ويحمي عرينها ،بل ثمة قتل وسلب ودمار،
رمزية املكان إذن فهي فاقدة ملعنى وجودها ،عاجزة عن صنع
قدرها بنفسها ،كما تتوحد يف املصير املأساوي
أما املكان فله حضور رمزي قوي يف األضمومة البشع ،مجس ًدا يف املوت والفناء الناجمين عن العنف
ً
شكل مغلقًا (بيت العائلة- حيث يتلون متخذًا الدموي البشع كما يف قصيصة «آثار»:
املدارس -مخيم اليرموك -املخيم -غرفة الحطام..
بين ُ َبح َث ْت عن ابنتها َ
مفتوحا
ً ً
شكل إسمنتية -زوايا الجدار -الجامعة) أو جثت محترقة ..وأطراف بشرية مبعثرة..
(الحدائق -الشرفة -قارعة الطريق -البحر) أو وجدت دمية ابنتها وقد غطاها الغبار .
()3
ْ لكنها
شكل ضبابيًّا (وطنه -مبنى النفوس القديمة -عمق ً ومنها شخصيات أخرى ألبسها السارد لبوس
24
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
يف مكان ما ..يقبع عدة أشخاص يف مكان ضيق البئر -كل مكان -خيمتها) ،كل هذه الفضاءات ال
ج ًّدا ..ال ضوء فيه وال ماء. تحضر يف بنى النصوص ملجرد التأثيث ،بل هي
ال ينامون وال يأكلون. عنصر بنائي فاعل يسهم يف بناء الصورة املأساوية
فقط يكتبون يف ذاكرتهم عن الشبق األحمر .
()5
للحدث القصصي ،وليس ملجرد التأثيت فقط ،فيعمل
والثانية بعنوان «أمنية» ونصها: عىل تعميق إحساس الشخصيات بالحكرة والذل
كان يسكن تحت ركام جامع قديم.. واملهانة ،فالبيت األسري الذي من املفترض أن
وتحكمت أسواره منذ زمن ْ انهارت مآذنه،
ْ قد يأوي أفراد األسرة باعتباره مصدر األمن والسالم،
قريب.. يتحول يف زمن الثورة إىل مصدر للقلق والكآبة
واحترقت..
ْ والصحف قد تدن ََّس ْت وموطن للدمار ،أو لنقل أنه أضحى مقبرة لألموات
الشيء الوحيد الذي كان يتمناه أن يبقى عىل قيد ومرت ًعا لركام الجثث املنسية من خالل قصيصة
الحياة، «طيور الجنة» ،وال تنحصر سمفونية املوت يف هذه
َّ ()6
مع األحجار املحطمة . القصيصة بل تسري ألحانها الحزينة بصمت يف
نتيجة بطش النظام السوري تحول املكان إىل دمار جميع قصيصات األضمومة.
شامل واستوطن املوت يف كل شبر منه ،قاب ًعا لقد اكتشف الطيب تيزيني جدلية املوت من خالل
بأردافه البشعة ،وهو ينوء بما أوتي من أسلحة واقع العبث الذي استشرى يف بالد الشام ،ويصف
فتاكة ودبابات وصواريخ مدمرة ،ويعد السبب قائل« :ما همالفاعلين من رموز الدمار والقتل ً
يف مسخ األمكنة وتشويه املآذن ونسف العمارات ببشر يعيشون عىل بوابة الحضارة التي تمسح
وتحطيم أسوار املدينة وبواباتها األثرية ،وطمس باملدينة ،هم يعيشون خارجها ،تكاد ال تجد يف
معامل حضارة برمتها ،وإبادة شعب بأكمله ،ومن مدينة بكاملها بنا ًءا واح ًدا َسل ِ َم من التدمير ،هذه
ثم اعتبر املكان يف األضمومة مك ِّونًا بنائيًّا مه ًّما يف أنت أمام جدلية الوجود واملوت أو حالة فريدةَ ،
تشكيل الصورة الرمزية بكل عناصرها وتجلياتها العدم»(.)4
وأبعادها النفسية واالجتماعية والحضارية ،كما يعد أضمومأأأأأأأأأأ
عامل محور ًّيا يف بناء الدالالت املأساوية لألحداث، ً يف ضوء هذه الصورة البشعة للمكان يف
وبلورة القيم اإلنسانية البشعة التي خلفها دمار األضمومة ،تنكشف األبعاد النفسية واالجتماعية
األمكنة. ألبطال األضمومة ،عاكسة متانة الرباط الوجودي
لإلنسان العربي بأرضه وأرض أجداده ،رغم هول
خاصية الرمز متسمرا
ً الحرب ،ووحشية القصف ،ما يزال صام ًدا
متشبثًا باملكان ،أمنيته الوحيدة أن يبقى عىل قيد
ً
هائل عىل املستوى الفني ،استدعت األضمومة ك ًّما الحياة مع األحجار املحطمة التي تظل حاملة يف
من الرموز واإلشارات التي تأخذ شكل كلمات أحشائها تراب الوطن ،ورغم كل شيء ،فالوطن
مفردة ،مثل طائر الفينيق وهو طائر أسطوري ساكن يف قلوب وضمائر أبطال األضمومة ،لكونه
يجمع يف تكوينه بين النار واملاء ،بين الحياة واملوت، رمز الهوية والكينونة ومهد التاريخ والجغرافيا
يموت لكنه ينبعث من رماده من جديد ،يستدعي ورمز املاضي والحاضر واملستقبل ،فبعد أن فقدت
العديد من دالالت البعث والتجدد والوالدة ،فالسارد ً
حامل الشخصيات كل شيء جميل ،يظل املكان
يروي قصيصة البطل املجهول الذي يصدمه الجوع ألسمى شعور يف الحياة ،وهو الشعور املتجذر
يف طريقه ملخيم الالجئين ،لكنه كان يمني النفس وروحا لهذه األرض املعطاء، ً باالنتماء جس ًدا وقلبًا
بحفنة تراب وجرعة كرامة يحملها يف جيبه ،وهي ويبرز هذا االرتباط الوجداني والروحي باملكان من
استعارة قائمة عىل املشابهة ،مساهمة حسب تعبير خالل قصيصتين :األوىل تحمل عنوان «جرح وطن»
بول ريكور يف إيجاد التوتر عىل مستوى املنطوق، ونصها يقول:
25
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
والصواب وتجسده يف القصيصة حورية البحر، ومن هذا االستيعاب املتوتر عىل وجه التحديد
لتبددت كل الشكوك ،والهتدت الذوات املتشظية تنبجس رؤية جديدة للواقع»(.)7
إىل طريق الخالص والسلم املفقودين ،ولتحقق كما استدعى يف القصيصة رقم ( )50الجوهرة
حلم الديمقراطية املفقودة ،وذلك بالحوار (الكلمة) السوداء التي ترمز إىل التشاؤم والحسرة والعبثية،
الجاد والهادئ ،بدل االحتكام إىل العنف الدموي وهي رمز أدبي يعكس نفسية السارد املنكسرة
والتطاحن املسلح ،وقد أفضى هذا الوضع إىل ما واملتشظية يف حميَّا البحث عن الذات وعن الوطن
أعتبره نهاية االتصال ،ويعني نهاية التواصل املبني الفاقد ملعنى االستقرار واألمان ،كما أنها رمز
عىل التفاوض الهادئ الذي يقدم كل طرف تنازالت متعدد األبعاد تتحلق حوله الكلمات (البحر ،قلبي،
حججا ويجادل عن بينة دون تعصب أو ً ويقدم حرية ،ضالتي) والصور الجزئية املتضمنة يف
اندفاع مجاني أو تهور ال يراعي العواقب وال القصيصة (أبحث عن قلبي /وقفت أمام البحر
يستشرف املستقبل. ألستريح /خرجت حورية من البحر) لتشكل
لقد أكسب الرمز املركب هنا القصيصة أبعا ًدا صورة رمزية متكاملة ومنسجمة عاكسة إلحساس
ً
جاعل جمالية جديدة عملت عىل التأثير يف املتلقي املرارة والخيبة ،ومشاركة يف تعميق هذا اإلحساس
املفردات والصور قابلة للتأويل ،كما نجح يف يف أرجاء القصيصة ،لذلك تتداخل هذه الصور
توظيف فضاء البحر وهو فضاء طبيعي أثيري الرمزية لتكون صورة كلية هي صورة ذات مبعثرة
للتأمل واالعتبار وإعادة األوراق من جديد ،وهو فقدت بوصلة الحياة ،وال تزال تبحث عن نفسها
ما اصطلح عىل تسميته باالستبطان يف علم النفس وكينونتها ،ولكنها صدمت بما سمعته من حورية
الحديث ،وقد أومأ ابن سينا للتأمل الذاتي بالقول: البحر التي أومأت للذات التائهة بأن مفتاح النجاة
«وأما الشعور بالذات فإن الشاعر بما هو ،هو نفس كامن يف الكلمة ،وبدونها يظل البحث عن الحل
الذات ،فهناك هوية وال غيرية بوجه من الوجوه، ضر ًبا من الوهم والعبث.
فإنك ما مل تعرف ذاتك لن تعرف أن هذا الشعور يحمل هذا الرمز املركب كثافة رمزية ،فلو أسقطنا
من ذاتك هو ذاتك( .)8أمكن للسارد من خالل الرمز دالالت الصور واملفردات عىل الواقع املعاش يف
التعبير عن موقفه املتبصر وإبالغ رسالته السلمية سوريا ،أللفينا القلب الذي تبحث عنه الذات العاشقة
إىل كل مواطن غيور عىل بلده. ليس سوى اللحمة الوطنية املشتركة بين بني
كما تشي بقية النصوص برموز ذات إشارات الوطن ،إنه الحب والسلم والتآزر ونكران الذات،
خفية من قبيل «علبة كبريت» يف قصيصة «أحالم ولو عادت هذه الطوائف املتصارعة إىل جادة العقل
شرقية» ،الذي يكتسب داللته الرمزية يف سياق
واقع املرأة املتزوجة وما تعانيه من انفصام كيل بين
أحالمها املثالية بعيش كريم بإيجاد شقة تأويها
بمعية زوجها وأطفالها الصغار ،وبين واقعها املرير
الذي يجود عليها بغرفة ضيقة قبل الزواج وبعلبة
كبريت بعد الزواج ،وهنا تكمن املفارقة.
تبين أن عبارة «علبة الكبريت» تتجاوز داللتها
اللغوية املباشرة ،لترمز إىل فضاء جحيمي هو
عرضة لالحتراق باستمرار بنيران البنادق
والرشاشات ،كما تكتسب كلمات أخرى قيمتها
الرمزية يف ارتباطها بشخصية ملعونة يف التراث
الديني (إبليس) ،وبما ترمز إليه يف وجدان اإلنسان
العربي من حقارة وذل ومهانة وخبث وتسلط.
26
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
إن الرمز هنا يحتمل أكثر من تأويل ،فقد يرمز إىل ولفهم البعد الرمزي لهذه الشخصية ،نتوقف هنيهة
تنظيم داعش ،وباملقابل يرمز األب هنا إىل النظام عند قصيصة بعنوان «استقالة» ،هي عبارة عن
السوري الجائر الذي يجد نفسه يف مواجهة ذئب رسالة تبرئة للذمة يعلن فيها إبليس تنصله من
مفترس آخر يضاهيه وحشية وشراسة وجبروتًا، مسئولياته عما يحدث يف البالد العربية من قتل
َ
مالذ ليىل ومن ثم يصبح هذا الكائن الجديد ونهب وإحراق وسلب للممتلكات وتجويع وإبادة،
وملجأها املحتمل ،فهو يحتضنها ويعبئها ويجندها وإبليس هنا رمز للشر القابع يف النفس البشرية،
وحزاما ناسفًا يف عملية
ً لتصبح قنبلة موقوتة وقد يرمز إىل دولة بعينها مشهود لها بتسليح
انتحارية هو من يضع آخر ملساتها. الحراك الشعبي ومد الثوار بالعتاد الحربي ،وهي
وقد يتوسل السارد بالطيور ليشكل من خاللها نفسها التي تستنكر العنف الدموي وتدينه يف
رؤيته السردية ويؤصل ملوقفه الوجودي املحافل الدولية ،لذلك فإن استدعاء حكاية إبليس
واإلنساني من الحياة واملوت والفناء والخلود، له شحنة رمزية قوية ومؤثرة تزيد من تعميق
فطيور الجنة رمز ألطفال سوريا الذين يصعدون إحساس السارد واملتلقي بازدواجية املواقف
إىل السماء بصحبة أبطال قصصهم ،ولعل السارد وفداحة الفعل املضاد ،موظفًا التراث الديني
قد استوحاها من املشهد اإلعالمي وبالتحديد من مستلهما قصة إبليس الواردة يف القرآن الكريم ملا ً
التسمية الخاصة بإحدى قنوات األطفال الفضائية، غوى أهل الشرك ،وزين لهم الكفر والعصيان ،فلما
والغاية من هذا التوظيف الرمزي إعادة إنتاج كفروا قال اهلل تعاىل عىل لسانه« :إِنِّي َبرِئٌ ِم َّما
التسمية «طيور الجنة» ومنحها بع ًدا أسطور ًّيا يمزج ت ُْش ِر ُك َ
ون».
بين ما هو واقعي (ارتدى األطفال أجمل مالبسهم.. ورموز مرتبطة بالحيوان ،حيث استدعى لفظة
واستمعوا لحكايات الجدة ..يف الصباح ،كانت «الذئب» لتعميق اإلحساس باالستهتار والعبثية
الطائرات تسقط براميل الظالم عىل منازلهم )..وما والدونية وسط عامل فوضوي فقد معنى الحياة،
هو عجائبي (بينما األطفال يصعدون إىل السماء وانهارت بداخله القيم املثالية العليا ،لتحل قيم
صحبة أبطال قصصهم)(.)10 وحشية متصلبة يجسدها استدعاء هذا الرمز يف
ومحاولة منه لتكييف حراك الثورة مع أجواء قصيصة «ليىل والذئب» ،حيث تبدو املفارقة عجيبة
األضمومة ،بادر السارد إىل استدعاء أسطورة انطالقًا من العنوان الذي يجمع بين مكونين غير
شهريار يف قصيصة «ورطة» بعد أن علق بذهنه متجانسين نحو ًّيا وصرفيًّا ودالليًّا ،فليىل اسم علم
منظر املدن الحاملة وهي تتحدث لغة الصمت، مؤنث ينتمي إىل النوع البشري ،بخالف مكون
وتصارع املوت كل دقيقة وكل ثانية ،يقول السارد: «الذئب» الذي ينتمي إىل النوع الحيواني ،لكن
«يف مدينة األحالم مل يجد شهريار من يجلس معه.. املتأمل ألحداث القصيصة سوف يالحظ أن ثمة ألفة
مل يجد أح ًدا سوى سيفه األسود»(.)11 تولدت بين ليىل ،الفتاة رمز اللطف والوداعة ،وبين
ينتصب املوت يف ُح َميَّا الصمت ليجثو بكل ثقله عىل الذئب رمز الوحشية واالفتراس (قررت أن تقضي
املدينة الحاملة قبل اندالع شرارة الثورة ،بيد أن عمرها مع صديقها الجديد «الذئب») ،وهذا يشكل
استدعاء أسطورة شهريار وهو يشير يف حكايات قمة املفارقة التي تعد من خاصيات القصة القصيرة
ألف ليلة وليلة إىل امللك الجبار الذي بطش بضحاياه ج ًّدا.
من النساء ،وغياب شهرزاد يف القصيصة له بعد يفتح استدعاء مفردة «الذئب» املجال أمام املتلقي
رمزي قوي ،إذ هي املعادل الرمزي للشعب الذي للتأويل ،يف ضوء تجربته الحياتية وما يراكمه من
تح َّول إىل كائن أخرس بفعل إقبار صوته الثوري أخبار الواقع وتفاصيل الحرب واإلرهاب يف العاملين
الصداح ،فتحول إىل آلة قمعية صرفة. العربي والغربي ،فالسارد يحكي أن «ليىل قررت
ويف أرموزة «مونديال عاملي» التي تحتوي عىل كم أن تقضي عمرها مع صديقها الجديد (الذئب)» !
()9
هائل من الرموز واإلشارات الدالة ،يتحول املونديال عسى أن ينقذها من أبيها .ح
27
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
هذا الجنس السردي القصير ج ًّدا ،يف إطار إيالف عىل العموم ،فقد شكل العنف والدمار موضوعة
منسجم ومتجانس يحقق للنص السردي جماليته البحث يف هذا املقال النقدي ،بد ًءا بعتبة العنوان
الفنية وفرادته التعبيرية ،دون أن أهمل البعد الداليل «دمية» التي سطرت أحرفها بلون أحمر غامق،
لألضمومة الذي ال يتوارى مختفيًا وراء الحلم منظرا
ً ومرورا بصورة الغالف الذي يستدعي ً
والرمز واملجاز واألسطورة واملفارقة ،حيث يتشكل رهيبًا لبقايا دمية أجزاؤها متناثرة داخل أحد
عىل نار هادئة وعن طريق لغة شفافة تمزج بين البيوت السكنية املنهارة ،وانتها ًء باملتن الحكائي
الوضوح والسهولة والخفة والرشاقة ،وقد وفق الذي استطاع القاص حسن جبقجي إفراغ مادة
قصصية طازجة يف قالب جنس قصصي حديث
الكاتب يف مغامرته السردية املحفوفة باملخاطر
وهو جنس القصة القصيرة ج ًّدا ،من خالل ثيمة
والصعوبات ،ممتطيًا صهوة الكتابة القصصية
العنف والصراع املسلح بين فصائل الثورة ،توقفنا
مفضل ركوبً الجريئة يف موضوعها وأسلوبها، مليًّا عند لحظات وامضة من الحكي املشهدي
صهوة السرد الوامض أو الخاطف الذي يعتمد صورا مرئية لجثث وموتى يصور خاللها السارد
ً
التكثيف واالختزال والحذف واملفارقة يف قالب وشهداء وأطفال مشردين ونساء ثكىل ،وقد تبدى
رمزي متميز. جليًّا أن العنف هو السمفونية التي تعزفها جوقة
تأسيسا عىل ما سبق ،يتبين أن القصة القصيرةً الثوار يف كل شبر من أرض سوريا ،وتسري يف كل
ج ًّدا هي أقدر األجناس السردية عىل االستماع إىل جزء من أجزاء البالد ،حتى أضحى الخبز اليومي
نبض واقع الحراك الثوري بكل تفاصيله وجزئياته، الذي تتغذى منه األرواح الثائرة ،ويعد االستشهاد
وتستطيع بالتايل استشراف توقعات القراء والنقاد أسمى تجليات املوت يف أعين الثورة ،ومن ضحاياه
والباحثين يف زمن االتصال اإللكتروني واالنفجار الطفولة املغتصبة التي تئن يف صمت ،وشكلت
املعريف والسرعة القياسية يف ترويج املعلومة، الدمى املبعثرة عىل صورة الغالف بؤرة األضمومة
ويف عصر األكلة الخفيفة واالنتشار الواسع التي تتحلق حولها دالالت العبث والظلم والقهر
للحواسيب املحمولة والهواتف النقالة ،ويمكنها والهمجية والرعونة والتسلط يف أقصى مراحله.
بالتايل االستجابة لتطلعات فئة عريضة من القراء حاولت مالمسة األبعاد الرمزية للعنف ُ من جهتي،
والدمار يف أضمومة حسن جبقجي «دمية» ،من
واملتتبعين العتمادها عىل السرد الوامض والحكي
منظور وصفي تحلييل ،وذلك بالوقوف عند بعض
املشهدي واللقطة الخاطفة والتكثيف واالختزال،
املقومات البنائية لألضمومة مثل الشخصيات
وهي مقومات تناسب التكوين النفسي واالجتماعي واألمكنة ،ورصد املقومات الرمزية السائدة مثل
والثقايف واألدبي لجيل القرن الواحد والعشرين، رمزية الحلم واملفارقة والحكي املشهدي ،وكلها
جيل الوسائط اإللكترونية بامتياز ،كما أنها تعتمد ميكانيزمات توسل بها السارد من أجل التوليف
تقنيات املفارقة والفراغ الدال مما يجعلها أكثر بين الخيال املنتج والواقع املأساوي املدمر يف
مالئمة إلبداع نصوص سردية قادرة عىل اختراق وتصويرا وإبدا ًعا كاشفًا عن
ً سوريا محاكا ًة
الواقع املعاش وتشريحه ،وتصيد لحظات وامضة حيثيات اللحظة الوامضة بشكل دقيق ،مما ولدَّ
تختزل الزمان واملكان والحدث والشخوص ألقًا متجد ًدا للقصيصات كي تفصح عن قدرات
32
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
الهوامش:
« -1جرعة ديمقراطية ملصر» ،مقال ،7 ،العدد ،86ديسمبر .2014
-2مقدمة أضمومة «دمية».9 ،
-3دمية.35 ،
-4الدولة السورية ..دولة ملفات؟ مقال ،31 ،مجلة رهانات ،العدد .36 ،2016
-5دمية.46 ،
-6شياء ،نفس املرجع.
-7نظرية التأويل ،الخطاب وفائض املعنى.114 ،
نقل عن كتاب «ابن سينا والنفس اإلنسانية».154 ، -8التعليقاتً ،148 ،
-9دمية.52 ،
-10دمية.55 ،
-11دمية.57 ،
-12نظرية التأويل ،الخطاب وفائض املعنى.108 ،
« -13الحلم يف القصة القصيرة السعودية» ،مقال ،املجلة العربية ،العدد ،488رمضان ،1438يونيو .2017
-14أحالم شرقية.47 ،
مجرة ،العدد 13خريف .2008 َّ « -15جمالية ق ق ج ًّدا ،مالمح يف التشكل» ،مقال ،82 ،مجلة
-16دمية.55 ،
«زخَّ ة ويبتدئُ الشتاء» مقال ،مجلة َم َج َّرة ،العدد 13خريف .2008
« -17املاكرو تخييل يف مجموعة َ
-18استقبال النص عند العرب.230 ،
بيبليوغرافيا البحث:
مجرة ،العدد 13خريف .2008 َّ -1براهمة سلمى« :جمالية ق ق ج ،مالمح يف التشكل» ،مقال 82 ،مجلة
«زخَّ ة ويبتدئُ الشتاء» ،مقال ،مجلة َم َج َّرة ،العدد 13خريف
-2بوطيب كمال :املاكرو تخييل يف مجموعة َ
.2008
-3الدولة السورية دولة ملفات؟ مقال ،31 ،مجلة رهانات ،العدد ،36 ،2016تيزيني طيب.
-4جبقجي حسن :دمية ،مكتبة سلمى الثقافية ،تطوان ،طبعة .2016
-5ريكور بول :نظرية التأويل ،الخطاب وفائض املعنى ،ترجمة سعيد الغانمي ،املركز الثقايف العربي ،الطبعة
الثانية.2006 .
ومل حسن عثمان :ابن سينا والنفس اإلنسانية ،مؤسسة الرسالة ،بيروت، -6عرقوسي محمد غير حسن َّ
لبنان ،الطبعة األوىل .1982
-7قوراية آمال :جرعة ديمقراطية ملصر ،مقال) ،7 ،العدد ،86ديسمبر .2014
-8الحلم يف القصة القصيرة السعودية ،مقال ،املجلة العربية ،العدد ،488رمضان ،1438يونيو ،2017
مبرك تهاني.
-9املبارك محمد :استقبال النص عند العرب ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،الطبعة األوىل.1999 ،
33
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
يكن ليصل إليها ،إال بمساعدة ذلك املبدع. اإلحالة يف سياق ما ،هي التي يعتمد عليها القارئ
واإلحالة املقامية عند الشاعر محمد الشحات، يف معرفة املقام ،وهذا هو الدور األساسي الذي
جاءت بإسناد املقام يف السياق ،إىل مفردة تنوب يعول عليها فيه ،خاصة يف الدرس النحوي ،الذي
عن الذات يف التعبير ،وذلك بمفارقة تلك املفردة ً
ألفاظا بعينها تقوم بهذا الدور ،ولكننا نتجاوز يحدد
ملعناها الذهني من خالل سياق بالغي ،يعيد تشكيل هذه الوظيفة باعتبار أنها آلية طبيعية ،يف املقام الذي
معناها عند املتلقي ،الذي يقوم بدوره بالربط بين نرغب من خالله يف توصيل رسالة متداولة ،تندرج
تلك املفردة يف ثوبها الجديد ،وبين الذات الشاعرة. تحت الرسائل التي يتعامل بها املحيط االجتماعي،
تلك التي تستدرج ذلك املتلقي معها إىل بؤرة يف تواصل األفراد فيما بينهم ،يف حياتهم اليومية،
شعورية واحدة ،من خالل االنطالق من املعنى وهي بالتايل موجودة يف كل كالم .فيصبح من
الذهني ،إىل املعنى الجديد ،الذي تقوم عليه العملية الضرورة أن نتجاوز ذلك املقام الطبيعي املعتاد،
اإلبداعية ،بجعل املحال إليه يف مركز املعنى ،من حين نتعامل مع اإلحالة املقامية يف النص األدبي،
خالل سياق استعاري قام املبدع بتشكيله؛ ليعبر خاصة وأنها تؤدي وظيفة جمالية ،تزيد من تأثير
عن عالقته املختلفة باملوجودات من حوله .وهو ما النص ،وتغيِّر من الوجهة املعنوية للسياق ،لتتجاوز
يسمح بمساحة فضفاضة من التأويل ،التي ربما الدور الوظيفي للغة الكالم ،إىل املستوى الشعوري،
تذهب باملتلقي إىل وجهة تختلف عن الوجهة التي الذي يرغب قائله يف إثارة الغرائبية والدهشة يف
أرادها املبدع ،لكنها يف النهاية تدور يف فلكها ،وال ذهن املتلقي ،بهدف زيادة انفعاله ،من خالل تشكيل
تماما .بما يعني أن النص يصبحً تنفصل عنها إحاالت غير معتادة ،تأخذ اللغة إىل مستوى رأسي
دائرة من املعاني التي تتحرك حول بؤرة شعورية يعلو بها إىل آفاق جديدة ،غير ذلك املستوى األفقى
واحدة ،لكنها تضيق وتتسع تب ًعا ألفق املتلقي. املمتد أمام أي أحد ،وهذا البناء الجديد الذي يرتفع
وهو ما يعني نجاح النص يف جعل املتلقي شريكاً باللغة ،هو ذاته البناء الذي يجعل من املبدع كيانًا
أساسيًّا يف عملية إنتاج املعنى ،كما يعني أن النص بار ًزا يف محيطه االجتماعي ،حين يقف عىل ما قام
نجح يف أن تكون له سيرورة ،تبقى ببقاء معاني هو بنفسه برفعه .لكنه يترك للمتلقي الوسائل التي
النص مفتوحة لكل تأويل؛ حيث يبقى مقام اإلنشاد تشده إىل املرتفع ذاته ،فيشاركه الحالة التي هو
صالحا للقياس عليه يف املقامات املشابهة له ،خارج
ً عليها ،دون أن ينازعه يف تفرده الذي وصل إليه،
املرحلة الزمنية التي قام فيها املبدع بإنشاء النص. بنظرته الثاقبة إىل األشياء من حوله .حيث قام من
وتنقسم اإلحاالت يف شعر محمد الشحات إىل خالل هذه النظرة بوضع مسمياتها يف سياقات
قسمين: جديدة ،أخذت بيد القارئ إىل مناطق شعورية ،مل
إحالة داخلية :وهي
بإحالة الذات إىل
أجزائها املكونة لها.
إحالة خارجية:
بإحالة الذات إىل ما
يحيط بها.
أوال :اإلحالة
الداخلية للمقام
ويف هذا النوع يقوم
الشاعر بإحالة مقام
35
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
هي كلمة وجه ،والذي هو مكون من مكونات الذات، اإلنشاد بالدوران حول الذات ،وذلك بتوظيف
لكنه قام بفصله عن الضميرين إذ مل يسنده إىل األجزاء الحسية ،أو املعنوية املكونة لها ،حيث
فضل عن تنكيره ،وكأنه وجه ً مخاطب أو متكلم، ينطلق من ذاته إىل آفاق أرحب من املعاني ،التي
جديد ،فوجئ به الشاعر يف تلك اللحظة ،التي تحمل تجعل الذات الشاعرة ،ملتصقة بعملية التلقي،
لقاء خاصا ،ليؤيد هذا االندماج ،الذي يدعمه فعل فيكون املتلقي يف دائرة واحدة مع الشاعر ،ليشاركه
الت َب ُّدل ،الذي تسببت فيه االرتجافة ،فجاء التبدل اللحظة ذاتها ،التي دفعت الشاعر إىل اإلنشاد،
عىل املستويين اللفظي واملعنوي ،ليصبح هذا الوجه خاصة عندما يتعامل مع ذاته من خالل كاف
الذي تال َقى بصدر األم نائبًا عن الذات ،يف التعبير الخطاب ،وكأنه ينظر إىل مرآة تجسد هذا املقام،
عن تلك اللحظة الخاصة ،التي جاشت بها مشاعر فتنقله من الداخل إىل الخارج ،فتصبح مكونات
داخلية ،تمثلت يف الفعل “هزني” املترتب عىل الفعل الجسد الشاخصة يف تلك املرآة ،هي ذاتها مالمح
ظه َرت هذه املشاعر عىل الوجه، أن َ“ارتميت” ،فكان ْ الروح التي تقف خلف هذه اللحظة الشعورية ،التي
ذلك الوجه الذي صار يف دائرة رؤية األم داخل يدور حولها النص .فتسمح للمتلقي أن يشارك
النص من ناحية ،ويف دائرة رؤية املتلقي خارج الشاعر اللحظة التي ينظر فيها إىل مرآته ،أو بمعنى
النص من ناحية أخرى. آخر إىل ذاته.
فتصبح الذات الشاعرة ،والتي تمثلها الياء يف يقول الشاعر محمد الشحات يف قصيدته“ ،ثالثية
“هزني” ،يف منطقة تقع بين االرتماء والوجه ،لف ًظا العشق والغربة” ،من ديوان “سيعود من بلد
ومعنى .فمن ناحية اللفظ ،إذ هي بينهما يف ترتيب بعيد”:
البناء اللفظي للجمل ،وبينهما يف ترتيب املعنى ،وهنا ارتميت بصدر أمك
َ حين
يكون البناء متحالفًا يف تشكيله البصري مع السياق هزني وجه تبدل يف ارتجافته
الذي أراده الشاعر. تبلور واستدار
ويف قصيدة “التملص من وجهي” ،من ديوان ..
“محاوالت ال أعرف نهايتها”: فحملت شوقي
وكنت أحاول واختبأت لكي أداري غيرتي
أن أتملص من حال وجهي وتركت ملمسها
حين أطل به عىل أطراف كفي
نحو قافلة املفلتين من الحزن ورميتها بعيون شوقي
وأحاول أن أبتهج آه
حيث يستهل النص بالفعل “أتملص” ،الذي تقوم ما أقسى مدارات اشتياقي
به الذات ،ولكنه يحيل هذا الفعل مباشرة إىل الوجه، كلما ال مست وجهك
خالصا ،لكنه ينقله
ً مقاما ذاتيًّا
ً فيجعل من املقام وانفطرت محبة
من داخل ذاته ،إىل مكون من مكوناتها ،فذاته تطل، ونزعت من نبرات حنجرتي
ولكن من خالل الوجه ،الذي ينتسب إليها ،بإضافته حبال الصوت
إىل ياء املتكلم ،فينوب الوجه عن صاحبه يف التعامل كي ال أحيطك خلسة
مع أولئك املفلتين من الحزن ،يف محاولة لالبتهاج. بمزاهر الكلمات
ويف الديوان ذاته يف قصيدة “حانت لحظة قل يا فتى:
صحوك” ،تأتي اإلحالة الداخلية بد ًءا من العنوان، هل كان يعصرك الحنين
فكاف الخطاب يف العنوان ،يوجه الشاعر من خاللها إن ياء املتكلم يف “هزني” ،هي ذاتها تاء املخاطب
املقام إىل الذات مباشرة ،ثم ينتقل من العنوان إىل أيضا ،كاف الخطاب يف “ارتميت” ،وهي ً
َ يف الفعل
أجزائها ،التي تعبر عن مقام ،يحاول من خالله لفظة “أمك” ،وقد أحال الضميرين إىل كلمة واحدة
36
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
إن اإلحالة الداخلية للمقام يف هذا النص ،بتوزيع الثورة عىل تلك الذات ،من خالل توظيف أجزائها
الخطاب عىل أجزاء الذات ،أسهمت يف تقديم نص املكونة لها:
ذي بنية مثالية ،جعلت من األفعال ،التي راوح فيها حانت لحظة صحوك
الشاعر بين األمر واملضارعة ،ترتفع بلغة النص فانفض ما قد علق بصوتك
ارتفا ًعا له ما يبرره ،ليرسو يف نهايته عىل ذروة من أسوار الخوف
اإلنشاد بقوله“ :فقد حان الوقت”. وجاهد
وقد يتعامل الشاعر مع هذا املقام بتوظيف هاء كي ال تسقط يف لغة ال تعرفها
بدل من كاف الخطاب ،كنوع من التمويه، الغيبةً ، اآلن تغادر ما قد علق بوجهك
قاسما مشتر ًكا
ً الذي يجعل من أجزاء تلك الذات، ً
طويل من خوف ظل يزاحمك
عا ًّما بينه وبين املتلقي ،من ذلك ما جاء يف قصيدته فإذا ما رواغك
“سأفتح بابي ألخرج”: فحاول أن تسقطه
كان يحلو له وافتح عينيك
أن يمارس وحدته فقد ضاق الوقت
ثم ال يستحي وحاول أن تبقي منتب ًها
أن يغلق أبوابه كيف ستفرغ ما ضاق بصدرك
وهو يجلس منزو ًيا كيف تحاول أن تحيا
بينما كان ينظر فإذا ما انطفأ املصباح
وجه أبيه عىل حائط فجاهد
منذ أن حطه فوقه أن توقد ما يجعلك تواصل رحالتك
فال زال يحمل يف عينه إنه يجعل ذاته يف مقام املخاطب ،من خالل كاف
فوق ما كان يحمله من سؤال الخطاب التي تتكرر ،بإضافتها إىل املكونات
ملاذا يقاوم فرحته “ص ْحوك”“ ،صوتك”“ ،وجهك”، الحسية؛ َ
وهو يخفي تقاسيمه “عينيك”“ ،صدرك” ،ثم تأتي لفظة “رحالتك”،
ثم يضفي عىل وجهه فضل عنً لتعبر عن الحركة الكلية لهذه األجزاء،
بعض ما كان يحزنه الـ”أنت” املضمرة بعد األفعال “تسقط”“ ،تعرفها”،
إن الوجه ،والعين ،والتقاسيم ،والوحدة ،والحزن، “تفرغ”“ ،تبقى” ،تحاول”“ ،تحيا”“ ،تغادر”،
وغيرها من املكونات الحسية واملعنوية الواردة واألفعال التي ظهرت فيها تلك الـ”أنت” ،من خالل
يف النص ،تختلط يف مراميها بين األب وبين ذلك كاف الخطاب“ ،يزاحمك”“ ،راوغك”“ ،يجعلك”،
االبن ،الذي ينظر إىل صورته ،وكأن الذات تتوزع ويحيط ذلك كله بأفعال األمر التي يستثير من
من خالل هاء الغيبة بينهما ،ليصبح غياب األب هو خاللها تلك املكونات الحسية ،املتمثلة يف الصوت
غياب لالبن ،وهو ما يجعل تلك التفاصيل الحسية والوجه والعينين والصدر .ومن هذه األفعال:
قاسما مشتر ًكا بينهما من ناحية ،وبينهما وبين ً “انفض”“ ،جاهد”“ ،حاول”“ ،افتح” ،وهو ما
املتلقي من ناحية أخرى ،لتأتي جملة التساؤل: يؤدي إىل تلك اللحظة املضيئة يف هذا املقطع من
“ملاذا يقاوم فرحته وهو يخفي تقاسيمه” ،جملة النص املتمثل يف قوله“ :أن توقد ما يجعلك تواصل
مفصلية ينطلق من خاللها النص ،ليصل إىل الجزء رحالتك” ،وهي التي ت ُْسلِم ً
حتما إىل النتيجة
الذي تفصح فيه الذات عن نفسها: النهائية التي يختتم بها النص:
كنت أظن بأني سأملك صوتي فابدأ كي ال تهدأ بعض الشيء
وضعت
ُ فضاع الغناء وأعلن صحوتك
وما كان يل أن أغادر بيتي فقد حان الوقت
37
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
يالحظ أن الشاعر يف هذا النوع من إحاالته ،غالبًا فصورة األب املقيدة يف إطارها ،والتي حطت عىل
يقوم بإحالة املعنوي إىل املحسوس ،أو العكس، الحائط ،فرضت قيو ًدا معنوية ،نفى من خاللها
ويستخدم آليات لفظية يكررها يف كل مرة ،خاصة الشاعر عن ذاته أية مبررات تدفعه ملغادرة البيت،
عندما يقوم بما يسمى بااللتفات ،حيث يلتفت من والذي أضافه إىل ياء املتكلم ،لتصبح هذه الياء
ياء املتكلم ،وهي األلصق يف معناها بالذات ،إىل معادل موضوعيًّا لصورة األب ،التي صارت ً
هاء الغيبة ،أو كاف الخطاب التي تأتي مضافة إىل حبيسة الحائط .وهو ما يدفع الشاعر للتساؤل مرة
مثل ،إىلجزء حسي من تلك الذات ،حيث يضيفهاً ، أخرى:
الوجه ،أو إىل اليد ،أو إىل الكف ،أو الصدر ،أو ما إىل فهل تظن الطيور
ذلك من املكونات الحسية للجسد ،الذي يمثل ا َملعين بأن الفضاء الفسيح لها؟
أو الوعاء املنظور أو املرئي ،أو املحسوس ،حيث وهو تساؤل ينتقل بالشاعر من هيئته ،إىل هيئة
تظهر الذات الكامنة أمام العين ،فيصبح الجانب أخرى ،جمع فيها كل مكونات جسده وروحه يف
شاخصا ،متجس ًدا ،خاصة وأن ً الشعوري املتخيل تلك الطيور ،التي أحال ظنه الشخصي إليها.
هذه املكونات املحسوسة ،تقوم بدور الناقل لتلك دائما ما
يف مثل هذه القصائد وغيرها نجد الشاعر ً
املشاعر املضمرة ،يف املقام الذي تعايشه يف املواقف يوظف أجزاء الذات الحسية يف التعبير عن مقام
املختلفة .وغالبًا ما يستهل نصوصه بما هو مضاف اإلنشاد؛ لالنطالق من خاللها إىل رؤيته الخاصة
إىل ياء املتكلم ،يف أول عبارة من عبارات النص ،ثم بالعامل الذي يحيط بها ،فهو يندمج بالعامل ،والعامل
ينتقل مباشرة يف العبارة التالية إىل كاف الخطاب، يندمج به ،من خالل دائرة تبدو ضيقة يف ألفاظها،
أو هاء الغيبة ،مؤك ًدا عىل أن الذات ما هي إال إطار لكنها متسعة قي معانيها ومراميها.
كيل ،توزعت داخله أجزاؤها. يتكرر األمر نفسه يف بعض قصائد دواوينه.
من ذلك قصيدة“ :أنا ..ووجهي” ،من ديوان
ثان ًيا :اإلحالة الخارجية للمقام “محاوالت ال أعرف نهايتها” .والقصائد“ :ثالثية”،
يف هذا النوع من اإلحالة يقوم الشاعر بنقل رؤيته، “إطاللة”“ ،انقسام” ،ارتحال”“ ،خوف” ،من
والتي هي رؤية شعورية يف املقام األول ،تنبع ديوان “مكاشفة”“ .مصالحة”“ ،خماسية للحياة”،
من الذات الشاعرة ،من خالل إحالة هذه الذات إىل “الخوف عىل النهر” ،من ديوان “مالمح ظيل”.
مفردات تحيط بها ،وتقع يف منطقة خارج تكوينها، “غريب يلقاه غريب”“ ،عودة االبن إىل أحضان
حيث تنوب هذه املكونات عنها يف نقل املعنى أبيه”“ ،اذكرني إذا ما غبت” ،من ديوان “سيعود
املقصود ،بصورة تتحول فيها هذه املفردات إىل من بلد بعيد”.
رموز ،تتسع مراميها ،تب ًعا لعملية التأويل .فهي
وإن كانت ليست من أجزاء الذات ،إال أنها تتحالف
معها من خالل السياق االستعاري ،فتصبح هي
والذات شيئًا واح ًدا.
من ذلك ما جاء يف قصيدته “حوار الظل” ،من
ديوانه “محاوالت ال أعرف نهايتها”:
البنايات واقفة
وظل البنايات
تأخذه الشمس
تمضي به
وتسكنه مع برزخها
38
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
تأريخ الروائي..
كأس «زيادة» أخير
في «حانة الست» لمحمد بركة
كأسا أخي ًرا في حانة الست يمكن
زاد محمد بركة عبر سرده ال ُمتخيل ً
وضعه إلى جانب كاسات الهوى والعشق الموسومة باسم «الست»،
حين راح يحكي لنا العديد من حكايات التاريخ المسكوت عنه في
سيرة أم كلثوم الذاتية ،متطر ًقا إلى زوايا شديدة الحساسية قد يراها
محبوها تجن ًيا أو مبالغة تشوه النموذج الذي عليه يعكفون ،لكن
الجديد فيما قدمه المؤلف هنا من الحكايات المسكوت عنها ،أنها جاءت
كلها خالل عملية التفكيك تلك بهدف إعادة البناء اإلنساني المجرد
لشخصية أم كلثوم.
الروائي النابه ،الذي ال غنى له عن التراث اإلنساني يقترب تعريف التاريخ -يف بعض تعريفاته-
ومادته ،وال عن كل املنتوج اإلنساني ،ويشترك من تعريف التراث ،حين يجعل البعض من كل
مع املؤرخ يف كونهما يقتربان من الحدث اإلنساني املنتوجات البشرية صورة من صور التاريخ
بشكل ما ،إما واقعي أو ُمتخيل ،ويتقاطعان عند أو الحدث التاريخي ،وهو ما يؤكده ذلك التزايد
طرح األسئلة حول الحدث الواحد ،خاصة حين املضطرد يف الوعي اإلنساني بكل ما يحدث من
يكون املحكي هو سيرة حياة لشخصية من مفردات حوله أو فيما حدث من وقائع تاريخية ،ويتسع
التراث األصيل أو الالحق. ربما ليشمل ما يتوقعه حدو ًثا مستقبليًّا ،وهو ما
يختلف اآلن عمل الروائي عن املؤرخ يف إطالقه يجعل كل ما تنتجه الحياة البشرية بكل مناحيها
عنان املتخيل واألسئلة ،فهو أكثر حرية حين يبدأ املختلفة مادة ثرية للسؤال التاريخي الذي يشغل
ببناء سرده املتخيل من بناء املؤرخ ،وهو ما يفتح فكر املؤرخ ،بل ويجب عليه أن ينتبه إليه بالسؤال
عقل الروائي عىل أسئلة ال يجوز للمؤرخ طرحها، والتحليل .وقريبًا من عمل املؤرخ يكون عمل
41
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
تصدير شخصية «الست» ،وهو ما أقلق مضجع ُمتخيل؟! أشك أنهم فعلوا ،لكن يقيني أن هؤالء،
كل «الكلثوميين» ،وحرك املاء يف بركة نشوتهم وهم ُكثر ،إنما ال يملكون ملكة الجرأة عىل تفكيك
فمثل من منهم سيقبل ما يقوله عىل ً بصوتها، املقدس ،يف كل شيء من الخالق وانتهاء بكل ما
لسانها: مرورا بالوجود البشري وكل ما ُينتج ،فهؤالء
ً خلق،
«نعم ،أحببت النساء ح ًّبا رقي ًقا ناع ًما له ملمس الساكنة أرواحهم عىل الدوام ،ممن ال يطمحون
الحرير ،ولكنه ليس ذلك الحب الحريري امللهم لعيش الحياة والخيال أحد أهم مقوماتها ،ال
لقصيدة «شريرة» ..يل أكثر من صورة وأنا ُيدركون أن ما يقدمه الروائيون مثل محمد بركة
أتبادل قبالت يف الفم مع بعض االسيدات .أكون يصب يف صالح «صنمهم املقدس» لكن بشكل ُّ
غال ًبا يف االستراحة وتأتيني إحدى املعجبات فمثل يقول عىل لسانها« :كنت ً مغاير مل يتعودوه،
يف الكواليس لتمنحني شي ًئا حا ًّرا من روحها. وسأبقى سيدة غنائكم الذي صار من بعدي
تبادلت القبالت الفمو َّية ،شديدة العذوبة ،مع غري ًبا يثير بضحكاته الهستيرية الصاخبة
سيدات تحت سمع وبصر الصحافة». املزيد من األسى».
أشار املؤلف يف هذا العمل الروائي منذ البداية ففي حانة الست ،كل ما قدمه محمد بركة من
إىل مهمته ،وهي ابنة خياله املحض ،لينبه هؤالء السرد املتخيل ،ينتهي يف مآله إىل احترام تلك الذات
وأن ما كتبه
األصوليين يف محبتهم ألم كلثومَّ ، «املقدسة» لدى البعض لشخصية أم كلثوم ،لكنه
مل يكن إال أمينًا يف نقله من خياله كما تراءت إليه فعلها بآلية مغايرة ملا اعتادوه من التيه يف ظالل
سيدتهم وكوكبهم ال ُّد ِّري الذي ال يسمحون أن يناله ووهم قدسية الشخصية التراثية التي ال يجوز
أي نقيصة ،لكنهم مل ينتبهوا، من سمات البشر ُّ املساس بها.
وقرروا أن يحملوا عىل املؤلف وخياله ،وكأنهم مل
يفهموا هذا املقطع: ماذا فعل محمد بركة؟
ً ً
«ال تقلق .لستَ باحثا ولن تكون مؤرخا يعيد
كتب محمد بركه ما أماله خيال الروائي عليه،
كتابة سيرتي .لن تنساق وراء شائعات
مل يكتب سيرة ذاتية تاريخية أو فنية ،إنما قدم
تطاردني أو تفاهات تسعى للنيل مني .سأطلعك
ً
عمل روائيًّا بالدرجة األوىل عبر تقنية الفالش
عىل ك ِّل شيء جوهري .سأهبك خالصة حكاياتي
باك والروائي العليم أو تقنية األصوات املتعددة،
دون أن يخالف منطق الرواية سر ًدا أو ً
عقل ،لكن
الصادم هو زاوية الرؤية يف عمله ،إذ قرر أن
ينظر نحو «كوكب الشرق» من زاويته الخاصة
كروائي وصحفي ال من زاوية «مجاذيب
صادما لكل من دخل
ً الست» ،فقدم سر ًدا
عتبات القراءة للرواية معتم ًدا عىل قدسية هذه
الشخصية الغنائية يف تاريخ مصر والعامل
العربي الحديث ،وأخذ يفكك هذه السردية
املقدسة بذكاء الروائي ،لينهدم هذا الصرح
العظيم يف عقول محبي «أم كلثوم»ُ ،ثم يعكف
من جديد عليه ليعيد بناءه حسب ما أماله خياله
ورؤيته السردية لتفاصيل الحكاية ،والتي ربما
كان منها ما هو سري يف حياتها ،أو ما مل
ُيعلن مهابة الخدش لهذا «التابوه» املعتمد يف
أشار المؤلف إلى مهمته ،وهي ابنة وعطر مواقفي ،وقع قطرات الغضب
خياله المحض ،لينبه هؤالء األصوليين والحرمان ،الغيرة واالنتقام ،مضا ًفا إليها
لعبة الست ،وهي ترتطم داخل كهفي
في محبتهم ألم كلثومَّ ،
وأن ما كتبه البعيد السري .سأحدد مساحة الهامش
لم يكن إال أمينًا في نقله من خياله وآفاق املتن ،سحر املقدمة وشجن الختام.
سأكون املؤلفة الحقيقية ،ويكفيك شر ًفا أن
كما تراءت إليه سيدتهم وكوكبهم تكون يدي التي أكتب بها .لن تفعل شي ًئا
الد ِّري الذي ال يسمحون أن يناله
ُّ سوى اإلنصات لهمساتي وتدوين ما أمليه
عليك».
أي نقيصة ،لكنهم
من سمات البشر ُّ نفى صراحة عن نفسه أن يكون مؤ ِّرخً ا يعيد
لم ينتبهوا ،وقرروا أن يحملوا على كتابة سيرتها الذاتية ،بل طوال العمل ُيطل
مذكرا القاريء بقانون القراءةً الروائي بخياله
المؤلف وخياله. لعمله وكأنه يقولُ :هنا عم ٌل روائي ُمتخيل
ال تاريخي وغير خاضع ألحكام السرد
التاريخي أو الشفاهي حتى عن كوكبكم
القاري حين يصل نهاية العمل ليكون هو القاضي العظيمة ،لكن هيهات ،فمن قرأ بوعي وانفتاح عقل
املنوط بإطالق الحكم عىل هذه الشخصية. واصل إىل ما أراد بركة من عمله ،بينما منغلق
الرؤية واألفق من ُعباد النموذج يأبون الوعي.
ملاذا تعمد املؤلف تجريد أم كلثوم؟ جلس محمد بركة الروائي يف حضرة «الديكتاتورة»
أم كلثوم ،يستمع إليها ،ويتدخل وقتما تحتم سؤال
أوضحت ،أن مؤلف حانة الست ،حاول تفكيك هذه يف عقل الروائي ،عسى أن يهدهد قلق األسئلة يف
األسطورة ،إىل الدرجة التي وصلت إىل ح ِّد الهدم بال الروائي الذي يبحث عن رؤية جديدة ُيقدمها،
الكامل قبل أن ُيعيد البناء من جديد ،وأراد أن كثيرا عبر صفحات ً ً
سجال فيما بينهما لذلك سنجد
يأخذ القاريء معه إىل بدايات التكوين وإرهاصات الرواية التي زادت عن 280ورقة ،مل يكن خاللها
النشأة األوىل بكل عفويتها وطبيعتها ،لذلك لجأ لين الطبع مع هذه املطربة الكبيرة بكل عشاقها
إىل اعتماد البطلة أم كلثوم عىل حكيها الذاتي ،وأن وبما صنعت من أسطورة حول نفسها قامت ببناء
تجرد نفسها بنفسها ،بشكل يصل إىل ما ُيشبه صرحها أو ساعدت عشاقها يف ذلك البناء ،لذلك
ثقافة االعتراف الكاثوليكية ،فلكي تكون نقيًّا وطاهر فطوال العمل وأنت تقرأ تشعر بهذه العالقة النفسية
األسطورة ،عليك أن تعترف بالحقيقة املجردة، بين املؤلف وأم كلثوم ،فتارة يتركها تسترسل يف
لذا تحدثت بمكنون الروح البشرية الطبيعية يف األحداث ،وتارة يتحكم هو يف إيقاع وزمن األحداث
النهاية ،فهي امرأة يف داخلها تحمل ما تحمل كل دون مراعاة ملنطق تسلسها الزمني ،وما بين هذا
نساء األرض .تقول أم كلثوم يف سردها« :همست وذاك ،أعلن محمد بركة عن رفضه لهذا التقديس
لنفسي وأنا أتلمس خطواتي األوىل عىل طريق املطلق واالنسحاق أمام سطوة كوكب الشرق بال
الغيرة منتشية باكتشايف السالح األنثوي األكثر أسباب منطقية ،إنما ودون انتباهها بذاتها داخل
فت ًكا :الدموع». الرواية راح ُيعيدها إىل إطارها ،لكن بألوان مختلفة
وألجل هذا التفكيك ،قرر املؤلف اعتماد لغو هذه املرة ،ألوان فيها من الحياد والعدالة الكثير
الحوار باملستوى الدارج من اللغة العامية يف بعي ًدا عن املبالغات والتقديس الهائل الزائف يف
غالب الحوارات التي اشتملت عليها الرواية ،وإىل قاض ال يحكم، األصل ،إذ تجده يف مرات وكأنه ٍ
لغة ثالثة أحيانًا ليضمن توريط القارئ فيما يقرأ إنما جلس يف جلسة استماع أوىل بعدها سيحيل
44
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
الشخصيات يف بعض املقاطع حسب السياق الزمني فيضرب سمعه من هذه املستويات اللغوية التي
قلت اللهجة العامية
واالجتماعي ،بل وفرضت كما ُ ستربطه بواقع الحكاية املُتخيلة كما يود املؤلف،
يف حوارات العمل الروائي كله. وليضمن حيوية يف سرده ،رغم خطورة استخدام
هكذا تمثالت يف استخدام حوار العامية واللغة
كأس «زيادة» أخير يف حانة الست نص عربي فصيح وجزل يف كثير من الثالثة وسط ٍّ
األحيان ،وهو ما ُيحسب للعمل عىل خالف الغالب
أخيرا يف
ً زاد محمد بركة عبر سرده املُتخيل ً
كأسا من األعمال التي تشعر فيها بالفجوة بين الحوار
حانة الست يمكن وضعه إىل جانب كاسات الهوى واملتن إذا ما اختلفا يف مستوى لغتيهما.
والعشق املوسومة باسم «الست» ،حين راح يحكي
لنا العديد من حكايات التاريخ املسكوت عنه يف لغة حانة الست
سيرة أم كلثوم الذاتية ،متطرقًا إىل زوايا شديدة
الحساسية قد يراها محبوها تجنيًا أو مبالغة تشوه أشرنا إىل اعتماد املؤلف ألكثر من مستوى لغوي
النموذج الذي عليه يعكفون ،لكن الجديد فيما داخل العمل ،وهو أمر أثرى عمله ،خاصة أن املتن
قدمه املؤلف هنا من الحكايات املسكوت عنها ،أنها السردي للرواية بطولها يمكن أن نالحظ فيها هذه
جاءت كلها خالل عملية التفكيك تلك بهدف إعادة النقالت بين مستويات املتن الفصيح ذاته ،معتم ًدا
البناء اإلنساني املجرد لشخصية أم كلثوم ،والتي عىل مفردات خاصة يف بعض األحيان بزمن الحكاية
يمكن أن نفهم من خالله أن أم كلثوم امرأة أدركت املتخيلة ،وجامعة بين هذا الزمن وبين زمن السرد
ذاته اآلني وقت كتابة العمل ،وهو ما نجح فيه
موهبتها فأحسنت إدارتها ،ورضخت مرات للريح،
بركة باقتدار قد يكون مرجعه كونه صحفيًّا مارس
وواجهت بجسارة حوادث شخصية خاصة كان
الصحافة لسنوات طويلة ،وصار مدر ًكا لتوقيت
يمكن أن تنهيها لألبد ،وهكذا قدمها بركة كنموذج
االنتقال بين مستويات اللغة داخل متن النص
والشر ،الحسن
َّ إنساني يحمل يف داخله الخير
الواحد املكتوب.
والقبيح ،الجمال والتشوه ،وذلك كله مل يمنعها
مر
مل يقع محمد بركة يف فخِّ اللغة وديباجتها ،إنما َّ
من إدراك موهبتها والعمل عليها ،وكأنها رسالة
يسيرا يناسب شخصيات الرواية ً عليها م ًّرا لينًا
يطرحها الكاتب لكل صاحب موهبة ،أن يكون بغير افتعال ،فجاءت الكلمات عىل لسان أبطال
إنسانًا مجر ًدا قبل أن يكون موهو ًبا ،فتلك أوىل العمل طبيعية ويف سياقها التاريخي واالجتماعي،
اللبنات يف بناء األسطورة الشخصية. دون مخالفة ملنطق عقل ما يقوله هؤالء األبطال،
عبر 57مقط ًعا سرد ًّيا جاءت حانة الست ،بها نفورا من اللغة املستخدمة فمثل لن ترى غراب ًة أو ً
ً
الكثير والكثير مما انفرد به الصحفي قبل الروائي، ً
«سروال يف سياق الحكي وسط النص حين يقول
ومنها ما هو معاين ً
قبل مثل عالقتها بالدولة فضفاضا»« ،أعتى الرجال»« ،صفعة السادة»، ً
وخاصة إبان الحكم الناصري وعالقتها الخاصة «املكائد الصغيرة»« ،تروق يل تلك الحفاوة»،
بجمال عبد الناصر ،والتي ال يتسع املقام للحديث «مستودع سره ومحط ثقته»« ،ترويعي»« ،ليقضي
عنها ،وكلها مقاطع سردية شيقة غير مملة ،ستتابع مفعول»« ،انتفخ غروره» ..إلخ ،من ً أمرا كان اهلل ً
فيها عزيزي القاريء بلهفة ملعرفة املزيد ،لكن انتبه عبارات ومفردات يمكن اعتبارها لغة كالسيكية
فأنت مع بركة ستشارك يف هدم هذا الصرح، يف السرد الروائي ،إال أن بركة أحسن استخدامها
قبل أن تعيدا م ًعا بناءه من جديد ومن زوايا رؤية يف سياق سرده ،فلم تكن نشا ًزا عىل لغة الكاتب
مختلفة ع ّما اعتمدها «مجاذيب الست» ،وهم ُكثر، الصحفي ابن األلفية الثالثة ،وال عىل لغة الرواية
بدليل قائمة املراجع التي تصدرت نهاية هذه الطبعة التي ُكتبت ال شك قبل ثالث سنوات ،فلغة الرواية
من «حانة الست» أخذت من عصرنة املؤلف ،ومزجتها بجزالة حديث
45
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
أسطرة الغواية
في غواية األسطورة
المفكر الناقد والباحث ناجح المعموري حين يتصدى إلى ما في الشرق
من حضارات فإنه يرصدها بعين الخبير ،العارف بما يشتبك منها مع
األساطير ،ومنها ما ينفتح عليها بما يخلق من أجواء ساحرة برائحة
التاريخ متناغمة مع ﺁفاق المستقبل ،فالمعموري «حاول رصد التحوالت
الثقافية في فكر حضارات الشرق القديمة متصد ًيا إلى تقديم قراءات عن
فضل عن األساطير والمالحم في مختلف ً السرديات الساللية الكبرى..
حقبات التاريخ الالحقة ..وانزياحات تلك األساطير في مجمل منظوماتنا
الثقافية واالجتماعية.
عىل املوروث الشعبي ،واألساطير ،واملحاور األدبية أن يكتب األديب واملؤرخ أحمد الناجي عن املفكر
والنقدية واملثيولوجية ،ولن أقول انتهاء إىل االشتغال والباحث البارز ناجح املعموري ،ذلك يعني أن
الفكري ،فأنا عىل يقين أننا بانتظار اْن يطالعنا يستحضر املشهد الثقايف ألكثر من نصف قرن ،وأن
املعموري باملائز من األعمال ،فهو لن يكف عن التفكير يتبين القامات الشامخة التي أرست قواعد رصينة
بإغناء املشهد الثقايف بما يبتكره من إبداع فريد. لإلبداع ،ويف طليعتها املعموري بسعة اطالعه ،وتنوع
وكتاب (ناجح املعموري غواية األسطورة وسحر منتجه اإلبداعي.
الكالم) لألديب واملؤرخ أحمد الناجي ،النافذة األكثر حرص الناجي عىل البحث والتقصي يف كتابه (ناجح
اتسا ًعا ،وقد استحضرها كي يطل منها القارئ املعموري غواية األسطورة وسحر الكالم) لتشخيص
عىل فضاءات سيرة مبدع فريد يف عطائه األدبي العتبات األوىل لتشكيل قامة إبداع مميزة ،وبيان البيئة
واإلنساني ،فضاءات لها خصوصيتها ،منها ما منحى أسطور ًّيا يف عرضها ،وتحليل التي أخذت ً
احتضن املعموري ،وأخرى ما أطلق منها أسراب مسميات أبرز مثاباتها ،قرية (عنانة) التي احتضنت
حمائم إبداعه ،أسرا ًبا هي بعض ما اجترحته مخيلته املعموري حيث يشير الناجي إىل أن «هناك من يذهب
الفطرية إلبهار املتلقي بأسطرة غوايته التي تناولها إىل أن تسميتها مستمدة من اسم اإللهة السومرية
الناجي ،عبر ثمانية فصول. (أنانا) وهي إلهة الحب والجمال والخصب» (ص)16
قليل عند مفردة (غواية) التي تصدرت ولنتوقف ً وإىل رأيين ﺁخرين يتعلقان بالتاريخ اإلسالمي.
عنوان الكتاب .قال تعاىل «والشعراء يتبعهم الغاوون»، ح ًّقا إنها لجرأة ،اْن يتصدى الناجي للخوض يف
أيضا
قيل يف تفسيره :الغاوون الشياطين ،وقيل ً مسيرة املفكر والباحث ناجح املعموري الذي اشتغل
الغاوون من الناس ،وقال جلت قدرته «قال فبما عىل أكثر من محور ما يجعله موسوعيًّا بار ًزا يف
أغويتي ألقعدن لهم صراطك املستقيم» ،قيل فيه املشهد الثقايف العراقي والعربي ،بد ًءا من االشتغال
46
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
يف الحلة سعدي علوش الذي أخذ بيدي وقدم يل كل قوالن ،قال بعضهم :فبما أضللتني ،وقال بعضهم:
ما يمتلك من الخيارات التي ال تزال قابعة يف داخيل، *
فبما دعوتني إىل شيء غويت»
ً
نشاطا وأحيانًا أتعامل معها باعتبارها ذاكرة تمتلك وبحسب معتقدات الجاهليين ،للشاعر شيطان من
ويقظة وحيوية ..كما يقف ناجح بإجالل عند عدد ﺁخر الجن ،هو الذي يلهمه الشعر ،وعىل وفق ذلك فالغواية
من أساتذته ..فيشير إىل مدرس الرسم الفنان الراحل يف األسطورة تعني دعوة الجتراح ما فيها وسبر
سلمان الحمداني والشاعر التقدمي مدرس الكيمياء أغوارها.
عدنان عبد الكريم الظاهر وحسين صالح واألستاذ خص الناجي (النشأة والتكوين) أول فصول كتابه
حمد مدرس الفيزياء»( .ص)67 عناية فائقة دقيقة ،قل نظيرها ،ملا لتلك النشأة وذلك
ويف إعدادية الحلة ،حظي املعموري برعاية «مدرسي التكوين من إرهاصات بمولد من سيكون له شأن
اللغة العربية :محمد عيل الدويجي ،وعبد الرزاق كبير ومكانة رصينة يف املشهد الثقايف« .ولعل أبرز
عبد الواحد ،وخليل العاني ،ومما يذكر عنهم دورهم محطات ناجح التكوينية يف مرحلة الطفولة ،هي جدته
املشترك يف الرعاية والتشجيع من خالل توجيهات (والدة أمه) ..تزورهم بفترات متباعدة ..كانت تضفي
سديدة ..وال يفوت املعموري أن يشير إىل بعض عىل البيت أجواء ساحرة ..بحكاياتها التي المست
األساتذة الذين كان لهم وقع يف نفسه :األستاذ عزيز عقله وروحه ..عززت لديه الشعور بالثقة واألمان
كمونة مدرس االجتماعيات واألستاذ صادق الصائغ حينما تصحبه إىل دنيا شديدة الغنى يف ما ترويه من
مدرس االقتصاد واألستاذ هادي الخفاجي مدرس سرديات ،لقد كانت ح ًّقا بمثابة شبابيك تقوم الجدة
كثيرا من
اإلنجليزية ..أما نزعة األدب فقد أخذت ً بفتحها ،ويقوم ناجح بالتلصص منها عىل عوامل
اهتمام طالب الثانوية ووقته ،صارت تأسره ،تشاغله أخرى ..صار يحلم بالبقاء وسطها ،فهو الذي يبجلها
وتشغله ،وزاد ولعه بالقراءة ،ازداد اقترا ًبا من مكتبة بقوله :صارت جدتي أ ًّما يل ومعلمة»( .ص)50 -49
ناظم البكري ،ومن ثم يف القراءة تجاوز حدود املكان». ثمة شخصية لها هي األخرى أثرها يف تكوينه الثقايف
(ص)72 «االستاذ ناظم البكري ابن عمته -هو معلمه وذاكرته
ويف أعقاب ثورة 14تموز كان عىل املعموري أن كما ذكر يف مخطوطة (نهر الطفولة) -أول من فتح
يتواصل مع معطياتها «اتجه إىل العمل السياسي عينيه عىل القراءة ..كانت لدية مكتبة من روايات
بمحض إرادته مشدو ًدا إىل حلمه ومناره اليوتوبي عربية ومترجمة وكتب سياسية ..مل يبخل يف توجيهه
وابتدأ مشوار اإلحساس بالذات عبر الخوض يف فضل عن رفقة دفعته إىل اكتشاف ً واالهتمام به..
مترجما إحدى رغباته إىل واقع ،منتميًا
ً غمار السياسة ما حوله ،ومعرفة قدراته واملثابرة عىل تنمية مواهبه
إىل صفوف الحزب الشيوعي وصقلها»( .ص)58
وقد نشط يف خلية مكونة من ويف مرحلة الدراسة املتوسطة
بعض أبناء قرية عنانة يقودها -يف متوسطة الحلة للبنين-
الشخصية الوطنية املعروفة اشتركت أكثر من شخصية
األستاذ حافظ ياسين عبود يف تكوين املعموري ،مديرها
البراك ..ومل تدم أفراح الثورة األستاذ عبد الحسين حبانة.
حيث ُن ِكب البلد بانقالب .احمر وجد فيه «الرعاية األبوية
وجه العراق ،واختلط الدم واملعاملة اإلنسانية وأسلوبه
بالدمع يف معظم أرجاء العراق» التربوي»( .ص)65
(ص .)75 -74وطال املعموري ويتحدث املعموري عن
ما طال غالبية املناضلين من شخصية ثانية« :ال يمكنني
اعتقال وحصار كان لهما األثر إال أن أشير إىل أثر أستاذي
البالغ يف صالبته وثباته عىل ومعلمي الشخصية الكاريزمية
أحمد ناجى
47
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
ً
فضل عن فاعليته يف ما كتبه املبدأ،
الحقًا.
لالشتغال عىل املوروث الشعبي
أكثر من عتبة ،ولعل أبرز تلك
العتبات (البسروكية) يف مدينة
الكوت حين صدر أمر تعيينه
معلما يف مدرسة البادية مع
ً
زميله فخري جبار البكري حيث
انهمك املعموري «بشوق جارف
بمعرفة تراثهم وعقائدهم..
ومأثوراتهم الشعبية وطقوسهم،
صار يتتبع ويلتقط كل ما يحوم
حوله من املوروثات الشفاهية
كاألمثال الشعبية واألبوذيات
والدارميات وأغاني األطفال
وألعابهم يف الريف ،يتقصى
حنا بطاطو علي الوردي فاضل ثامر
كل ما يتعلق بها من قصص
وحكايات وأساطير»( .ص )90تلك البيئة الغنية
و(الوشم عند الريفيات يف الحلة) و(العادات والتقاليد
باملوروث الشعبي ،بما فيها من محفزات ملا يف صدر
يف الحلة) و(الذئب يف الفلكلور العراقي)»( .ص-93
املعموري من مخزون بكر جدير بأن يترجم إىل إبداع،
)94
فضل عن شخصية (كمبر) الفريدة «بذكائها الفطري ً
واملعموري ذلك الشغوف باالغتراف مما يف بطون
وبصيرتها النيرة ..والقريحة املتدفقة ..تختزن ك ًّما
الكتب لترسيخ قناعته الفكرية وترصينها يطرح لنا ً
هائل من املوروثات الشعبية ،ومقدرة بارعة يف فهم
رأ ًيا يف الكتاب« :أدركُ أن املكتبة تعيش يف دورة حياة..
معاني األبوذية واستيعاب دالالت أحداثها»( .ص)91
تنمو وتكبر وتشيخ .وتوقًا إىل إنعاش املكتبة -يقول إن حرص املعموري عىل حفظ تلك املوروثات
الناجي -قام ناجح سنة 2009بتجديد وترصين أعز وتوظيفها إبدا ًعا إىل جانب توثيقها يتجسد يف ما يقوله
األشياء إىل نفسه ..وإهداء نصف مقتنياته من الكتب مبكرا بقراءة املوروثات الشعبية املعموري «ابتدأت
ً
إىل مكتبة كلية اآلداب يف جامعة بابل»( .ص)96 -95 وتدوينها ونشرت عد ًدا من دراساتي يف مجلة التراث
يتناول الناجي يف الفصل الثالث ،االشتغال األدبي الشعبي ..عن توثيقات املتداول الشفاهي الخاص
لدى املعموري ،ذلك الكريم يف عطائه ،الكريم يف باملورثات الشعبية ،لكنها بذرة االنشغال والتفكير
إبداعه الذي غ َّطى أكثر من ميدان ،فيذكر أن «يف أحد عن ينابيعها ،وعن القوة الثقافية التي أهلتها للبقاء
أعداد جريدة كل شيء األسبوعية الصادرة أواخر والتواصل ،وتطور هذا االهتمام إىل البحث والقراءة
1964ثالث قصائد شعبية لكل من الشعراء الشباب يف األسطورة التي استفدت منها يف كتابة نصوص
ضياء طالب حيدر وناجح املعموري وموفق محمد». عاما»( .ص)93 قصصية نشرتها خالل عشرين ً
(ص)98 تمت اإلشارة سابقًا إىل مخطوطة املعموري (نهر
إن نشأة وتكوين املعموري وبيئته التي يرى فيها ما الطفولة) ،ويف ميدان املوروث الشعبي له أكثر من
تثيره للكتابة من خالل تقصي الواقع االجتماعي وما مخطوطة «األمثال الشعبية ،الحيوان يف الفولكلور
يفرضه ذلك الواقع من سطوة التحريض عىل الكتابة العراقي ،واأللعاب الشعبية يف الحلة ..وله (األلغاز
جعلته يتبنى األدب الواقعي «كان مهت ًّما بالدرجة الشعبية يف ريف لواء الحلة) و(النذور يف الحلة)
48
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
صدور جريدة طريق الشعب انتقل -الظاهر -إىل األوىل باألبعاد االجتماعية للشخصيات وصلتها
بغداد وشغل سكرتارية التحرير فيها ،فاستلم الشهيد بالواقع بكونها مستلة منه ومعبرة عنه ..نحو إدراك
قاسم محمد حمزة مسؤولية منطقة الفرات األوسط. نوع من التكامل االنعكاسي بين الواقع والنص
أما املكتب الصحفي للجنة املحلية يف بابل فقد تسنم فسعى بمقدرة إبداعية إىل توظيف خصيصة التكامل
مسؤولية قيادته عدد من األدباء خالل السنوات وصول إىل محو الفواصل بين الخيال والواقع». ً هذا
الست من عمل صحافة الحزب بصورة علنية منهم (ص)99
الناقد قاسم أمين خليل والشاعر شريف الزمييل كذلك وللمعموري مجموعة مشتركة (الشمس يف الجهة
األديب والناقد ناجح املعموري»( .ص)109 اليسرى) وال يخفى ما يشير إليه عنوان املجموعة التي
ومن أبرز أنشطته الصحفية عمود يوم األحد يف أصدرها باالشتراك مع األدباء جهاد مجيد ومحمد
الصفحة األخيرة تحت عنوان (أجراس هادئة) أحمد العيل وفاضل الربيعي.
«ويجدر بنا القول إن األجراس التي كان ناجح يقرعها ً
فضل وللوضع السياسي املتردي أثره عىل العراقيين
صاخبة مجلجلة ..ويعود إىل مواصلة كتابة عمود عن املبدعين ممن امتلكوا مواهب تم تكريسها لترجمة
يف جريدة الجنائن الحلية بعنوان (أجراس الجنائن) ما ﺁمنوا به إىل أفكار «عاش أديبنا املعموري فيما بعد
وإن كان بصورة غير منتظمة إال أنه بذلك يستعيد االنقالب ببضعة أعوام منقط ًعا عن تنظيمه يف صفوف
(أجراس) طريق الشعب»( .ص)112 الحزب الشيوعي ،والحقيقة التي يجب أال تغيب عن
واملعموري شجاع يف قراراته ،مل يتردد يف تجسيد البال أنه كان انقطا ًعا ال قطيعة ..ألن ميوله تأسست
ما يقرأه من ﺁراء وما يطلع عليه من مواقف يف األدب عىل أساس فكري وثيق ومبنية عىل مرتكزات راسخة
والفن والحياة ،واق ًعا حيًّا ما دام يفجر ما يف داخله ومتينة ،فكان قريبًا من الشيوعيين وأنشطتهم».
من هواجس تغيير الوقع ،السيما «ما يراه القاص (ص)106 -105
والناقد األيرلندي فرانك أوكونور حينما قام بمقارنة وألن الثقافة سلوك ،مل يبخل املعموري بتوظيف
مستفيضة بين فنون األدب ،فنجده ينظر إىل فن إمكاناته وطاقاته اإلبداعية يف ميدان العمل الجماهيري
القصة عىل أنها تمثل صوت الفرد ،يف حين يرى أن بـ»االنفتاح عىل فعاليات الثقافة الجماهيرية ،ويفيدنا
فن الرواية ،صوت املجتمع»( .ص)114 موضحا بأنه ُكلف بتلك املهمة مع الفنان
ً ناجح
ويف ضوء املقارنة بين صوت الفرد وصوت املجتمع أحمد عبد السادة ..بالتعاون مع بقية املبدعين من
ينحاز املعموري بوعيه وتفرده اإلنساني إىل املجتمع، الشيوعيين ومنهم الشاعر سعدي علوش والشاعر
وبعد ان نامت قصة (النهر) يف أدراج مجلة (األقالم) عبد الرزاق مبارك والشاعر موفق محمد والفنان مجيد
سحبها منها «ولكنها تنامت يف مخيلته ..ابتدأ حميد والفنانة ماجدولين حنا والشاعر شريف الزمييل
باالستفهام ،مل ال تولد عىل شكل رواية؟ َو ِس َعت والشاعر ناهض الخياط والناقد قاسم عبد األمير
التأمالت ،واستجابت املخيلة ،وتكاملت األفكار.. عجام والقاص والفنان حامد الهيتي ..وغيرهم ممن
فاض النهر ملا امتزج صوت ناجح بصوت الناس، أسهموا يف تحريك األجواء الثقافية ليس عىل مستوى
كبر فضاء السرد وأفصحت األيام عن صدور روايته املحافظة فحسب ،بل حتى يف بقية مدن الفرات
األوىل (النهر) سنة 1978عن وزارة الثقافة العراقية». األوسط»( .ص)108
(ص )116وضمن منشورات الوزارة صدرت له ً
واستكمال ملسيرة العمل الجماهيري فقد تنوعت
روايتان أخريان (شرق السدة شرق البصرة) سنة أساليب عمل املعموري يف استثمار قلمه النابض
1984و(مدينة البحر) سنة .1989 لترجمة ما يتدفق يف صدره من رغبة صادقة يف
ً
يبقى املفكر الباحث ناجح املعموري مشغول بما معالجة ذلك الواقع املتردي حيث «تصدى ناجح إىل
يتدفق يف مخيلته من رؤى ومثابات يتطلع من خاللها مهام العمل الصحفي عىل نطاق تنظيمات الحزب
إىل منتج له خصائص من شأنها أن تجذر تكوينه الشيوعي .توىل رضا الظاهر يف البداية مسؤولية
املثيولوجي ،يسعى إليه بما لديه من موروث شعبي املكتب الصحفي يف منطقة الفرات األوسط ..وبعد
49
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
إن املفكر املبدع ناجح املعموري وقد تنوعت اشتغاالته ولتحسن وضعه املادي بعد عودته ُّ املكتبات املحلية،
وما أسفر عنها من أعمال هي حصيلة أكثر من من األردن «أوىف بوعده البنه البكر (وهب) حيث م َّكنه
نصف قرن استثمرها يف ترصين قامة ثقافية لها من ماد ًّيا من استئجار شقة ..وشراء جهاز استنساخ
الوعي الثقايف والقدرة الفائقة عىل البحث والتقصي من النوع الحديث ..وباشر بعملية استنساخ الكتب».
يف جذور اإلبداع عبر رؤى مميزة ،جسدها يف (ص)170
بحوث ميدانية ضمت اشتغاله امليثولوجي فكانت «يف وال تخفى خطورة ما يقوم به املعموري وولده وهب،
طليعة الدراسات العربية الحديثة التي عنيت بناحية ولكنها تهون من أجل تأمين ما يترقبه املثقفون
التشابك القائم بين ميثولوجيات الشرق (العراقية التقدميون من زاد ثقايف بعينه ضمن ما يقومان
واملصرية والكنعانية) ..واستجالء العالقة املتداخلة به م ًعا لكسر الحصار الثقايف« .صار ناجح يشعر
مع النصوص التوارتية املولدة ..إن مشروع املعموري بالفخر حين يرى الكتب تتسرب من بين يدي ولده إىل
املعريف قد تشكل بمرور الزمن ..باملثابرة عىل الحرث الشارع الثقايف مدر ًكا حاجة املجتمع لكتب بعينها عىل
يف أرض بكر»( .ص)213 شاكلة طباعة أعداد كبيرة من ديوان الشاعر موفق
وللمعموري يف الدراسات امليثولوجية 16مؤلفًا يمكن محمد (عبد يئيل) ،وكتب حنا بطاطو ومؤلفات عيل
الرجوع إليها يف الصفحتين (« )215 ،214دون أن الوردي ومذكرات الجواهري»( .ص)171
نغفل عن التذكير بأن محتويات بعض الكتب متشابكة إن ما يراه املعموري عند تناول األسطورة عبر عتبات
تشتمل عىل مواضيع متعددة تندرج ضمن أكثر من املأثورات الشعبية ورموزها وتقصي مدلوالتها وأثرها
أول ملحمة كلكامش ،ثانيًا النصوص محور ،وهي ً فيما هو منتج عىل الساحة األدبية وما يرافقه من
التوارتية ،ثالثا الجنس» (ص )233وهذا ما سأتركه تشخيص ما هو مستلهم من تلك املوروثات وما هو
للقارئ لالطالع عليه ألني عىل يقين أن اإلشارة إليه فعل مغاير يهدف إىل بيان رموزه ودالالته.
بإيجاز ال تفسده فحسب ،بل تحرم القارئ من متعة واألسطورة لدى املعموري «مغامرة الشعوب األوىل
مرافقة املعموري يف اشتغاالته النقدية يف الدراسات يف إنتاجها لنصوصها املسجلة لعقائدها وطقوسها
امليثولوجية .واملحاور الثالثة ضمن الصفحات من ومزاوالتها السحرية بوصفها تبد ًيا للمخيال اإلنساني
الذي استطاع به إنتاج رموزه وأنماطه األصلية األوىل،
تلك الرموز واملجازات التي فتحت ﺁفاقًا لإلبداع،
وحصرا الفن والشعر»( .ص)185 ً
وللمعموري عالقة فريدة مع األسطورة ،فبالرغم من
اشتغاله عىل الكشف عن متونها وتقصي ما يتميز
منها فيما يبدعه األدباء والفنانون وهو العامل والعارف
خباياها وأسرارها فهي تبهره بسطوتها حيث يقول
«تثير األسطورة دهشتي وأنا أكتشفها يف األنواع
األدبية والفنون :الشعر /السرد /التشكيل /النحت/
ً
متورطا ودائما ما أجد نفسي
ً الفوتوغرافيا ..إلخ،
يف البحث عنها والركض وراءها يف املرايا املختلفة،
طويل بذلك ،فصدر يل أكثر من كتاب يف هذا ً وانشغلت
املجال»( .ص)193
أجل لقد أصدر املعموري 17كتا ًبا -يمكن الرجوع
فضل عن العديد ً إليها يف الصفحات ،195 ،194 ،193
من املخطوطات ،واملقاالت املنشورة يف الصحف
واملجالت العراقية والعربية.
51
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
تدخل يف املجاالت الثقافية واملعرفية كلها ومل ت ُعد ص 233إىل ص.262
تعني النص فقط ..هي ثقافة عامة وشاملة وإن العقل بعد تلك الجولة املمتعة التي اصطحبنا فيها الباحث
البشري اآلن يوظفها وسيستمر بفعل ذلك مبد ًعا واملؤرخ أحمد الناجي عبر فصوله السبعة املاضية
ومطورا لها»( .ص)268 -267 ً ليصل بنا إىل عتبة الفصل األخير (االشتغال الفكري)
للمفكر والباحث ناجح املعموري من البحوث يف فيشير إىل «أن املعموري عميق الفهم ،غزير االنتاج،
ميادين إبداعه ما هو جدير بالتناول بحثًا ودراسة مثابر عىل متابعة كل ما يتعلق بالشأن الثقايف ..يويل
الستقصاء اشتغاله عىل املرويات وما يرى فيها من عناية فائقة بتقديم قراءات تناول فيها عدي ًدا من
وجهة نظر ال نقدية فحسب وإنما يعمل عىل كشف الظواهر الثقافية ،باإلضافة إىل بعض الكتب املعنية
أصولها امليثولوجية وأصداء تلك األصول .و»يرصد بشؤون الثقافة والفكر املرتبطة بالعلوم اإلنسانية،
الناقد فاضل ثامر بعين العارف بأدق تفاصيل املنجز كاملثيولوجيا والسوسيولجيا»( .ص)265
األدبي والثقايف العراقي تجليات بصمات املعموري واملفكر الناقد والباحث ناجح املعموري حين يتصدى
املتمايزة والواضحة يف مجال الدراسات البحثية إىل ما يف الشرق من حضارات فإنه يرصدها بعين
والقراءات النقدية فهو يقول :هذا الجهد البحثي الخبير ،العارف بما يشتبك منها مع األساطير ،ومنها
والنقدي لألستاذ ناجح املعموري يف حفرياته املعرفية ما ينفتح عليها بما يخلق من أجواء ساحرة برائحة
الجريئة يواجه بشجاعة ومسؤولية قضايا خطيرة التاريخ متناغمة مع ﺁفاق املستقبل ،فاملعموري «حاول
كرستها (املرويات الكبرى) عبر التاريخ منها عالقة رصد التحوالت الثقافية يف فكر حضارات الشرق
املقدس بالعادي ،ومكانة الجسد يف ثقافتنا ..والسعي القديمة متصد ًيا إىل تقديم قراءات عن السرديات
الكتشاف األصول امليثولوجية واملعرفية يف مظاهر فضل عن األساطير واملالحم يف ً الساللية الكبرى..
حياتنا املعاصرة»( .ص)273 مختلف حقبات التاريخ الالحقة ..وانزياحات تلك
يا لها من جوالت ممتعة وغنية مع الباحث واملؤرخ األساطير يف مجمل منظوماتنا الثقافية واالجتماعية..
أحمد الناجي من مجرة إىل أخرى يف فضاءات حريصا عىل بيان ذلك التعالق
ً لذلك نرى املعموري
مع الفكر األسطوري ..حيث يقول :إن األسطورة اآلن
املعموري واشتغاالته ،بلغة صافية صفاء روحه
صلبة املتوثبة لخدمة محبوبته الكلمة الطيبة بعزيمة ُ
وهو يتابع ببراعة وصبر ثمانين كتا ًبا وأكثر من
فضل عن العديد من املجالت العراقية ً مئة صحيفة
والعربية وشبكة املعلومات الدولية واملقابالت مع
مجاييل املعموري ..أنجز مشروعه هذا عينًا مبصرة
لإلبداع ولبنة رصينة يف صرح املكتبة العربية بدقة
متناهية تحاكي نبض قلبه الذي شغفه البحث الجاد،
فضل عن براعة يف تبويب فصوله ،وربان ذلك كله ً
ذاكرته التي مل تغفل ما لقامة املفكر والباحث البارز
ناجح املعموري من إسهام فاعل يف إغناء املشهد
الثقايف مجس ًدا بذلك قيمة إنسانية عليا متمثلة بالوفاء
لرموز عراق الحضارات واالمجاد
____________
* لسان العرب ،لإلمام العالمة ابن منظور ،املجلد
السادس (ص.)702
52
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
ومن هنا تظهر ثيمة الرحلة بوضوح من خالل هذا تقع رواية «قطارها املسافر إىل الشمال» للروائي
العنوان ،ومن املعروف أن ثيمة الرحلة يعتبرها املصري إسماعيل األسواني يف 127صفحة ،وهي
يونج من النماذج األصلية التي تمتلك رصيدها رواية منشورة يف الدار العاملية للنشر والتورزيع
الرمزي الكبير يف الالشعور الجمعي. الطبعة األوىل عام .2021
والرحلة هنا هي رحلة األنثى ،وهنا تلتمع يف ذهن يتكون العنوان يف كلماته الظاهرة من خمس كلمات،
املتلقي صورة الحبيب الذي تفارقه حبيبته وترحل وهذه الكلمات الظاهرة ال تنهض وحدها بتكوين
عبر القطار إىل الشمال ،ويطل يف البنية العميقة جملة ،وإنما يحتاج األمر إىل تدخل املتلقي من أجل
التراسل مع رواية الطيب صالح موسم الهجرة إىل إنتاج جملة مفيدة ،ومن املالحظ أن هذا العنوان
الشمال ،كما تطل يف البنية العميقة صورة القطار به أربعة أسماء ،وحرف جر ،فاالسم األول وهو
الراحل بالحبيبة عبر أفالم سينمائية لها رصيدها قطار يشير إىل وسيلة عصرية من وسائل السفر
يف الوجدان الجماعي. املعروفة ،واالسم الثاني وهو الضمير يشير إىل
ومن هنا فإن القارئ يدخل إىل عامل النص ولديه األنثى ،ويتفاعل مع االسم األول الذي ينتمى إىل
أفق توقع ملا يدور يف داخله وذلك من خالل اكتناز عنصر الذكورة رغم جماديته ،واالسم الثالث وهو
العنوان لهذا الزخم الداليل املتنوع. املسافر اسم فاعل ومن املعروف ان اسم الفاعل
فإذا غادرنا العنوان لندخل إىل عامل الرواية فإننا ينهض يف داللته بدور الفعل بما يمثله من حركة،
نجدها تتكون من عشر كتل سردية ،كل كتلة منها واالسم الخامس الشمال يدل عىل الجهة.
53
إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
غاية الصحة وهي محبة لزوجها األثيوبي عاشقة سوداني ،وهناك تخوف لدى والدها من أخذها إىل
له ،تركت زوجها املصري حين علمت بأنه عىل قيد السودان فتكون ابنته غريبة عنه ،كما أن إيجابيتها
الحياة ومل يمت يف الحرب .وتركت ابنتها مع أبيها تبدو يف تصميمها عىل السفر إىل أثيوبيا -رغم
ورحلت. القالقل فيها -حتى ترى أمها التي تركتها وهي ابنة
وهي نموذج لحالة الصعود والهبوط التي يعيشها ثالث سنوات فقط وال تكاد تذكرها.
اإلنسان عبر حياته ،فمرة نراها يف القاع تعاني وتبدو إيجابيتها يف نجاحها يف تعليم األطفال.
املطاردة وشظف العيش ،ومرة نراها يف القمة أما شخصية والدها فهو نموذج لإلنسان املصري
زوجة لوزير وأم لضابط كبير يف الجيش ،ومرة املتعلم يف هذه الفترة ،والذي يمتلك شخصية قوية
أخرى يتم القبض عىل زوجها وابنها .وهي إىل حد كبير ،فإذا دخل بيته سكت ضجيج األبناء
شخصية لديها القدرة عىل اتخاذ القرار ،حتى وإن فورا ،وله هيبة يحرص عليها يف نفوس أبنائه. ً
كان قرارها سيعود بالسلب عىل ابنتها ذات الثالثة وهو يمتلك رزانة يف السلوك واألخالق ،ويبدو
أعوام. حريصا عىل توفير سبل العيش ً محاف ًظا عىل بيته
أما عن طبيعة املكان ودوره البنائي يف هذه الرواية الكريمة لهم ،متاب ًعا لألحداث السياسية والثقافية،
فإننا نرى الدور الفاعل للمكان بصورة واضحة، ومع ذلك ال ينسى نفسه ،فعندما رأى نفسه بعي ًدا
وال يخفى دوره البطويل يف الرواية وأثره الكبير معلما يف السودان، ً عن زوجته وأوالده ،وهو يعمل
عىل الشخصيات وحركة الحدث .ونستطيع أن نرى تزوج دون علمهم من أثيوبية ،وأنجب منها ابنته
التحقق املكاني عبر كتلة مكانية كبيرة ومتعددة، فاطمة بطلة هذه الرواية ،ومل يلجأ لسبل الحرام يف
ولكنها يف معظمها مرتبطة بنهر النيل ،سواء يف العالقة.
مصر أم يف السودان أم يف إثيوبيا .وهنا يبدو أثره وتبدو صحته عىل مدار الرواية حسنة ما عدا الفترة
الكبير يف بث داللة الوحدة والتنوع بين الشعوب األخيرة من حياته ،حيث مات بسبب حساسيته
الثالثة التي عاشت حوله وتقاسمت خيره. املفرطة حينما غادرت ابنته مع زوجها دون علمه،
كبيرا من الحكي
ً محورا
ً يأخذ املكان يف السودان شعورا رهيبًا بأن سلطته كأب عىل أبنائه ً فشعر
أيضا ويقل عنهما املكان يف أثيوبيا .لقد
ويف مصر ً كظيما .وقد أخذت هذهً قد انهارت ،فمات حزينًا
بدا املكان يف السودان هو املحور الجامع يف كثير الشخصية الكثير من الكتل السردية ،ولكنها مل
من األحيان ،فقد اشتبكت عىل أرضه ،شخصيات تستمر حتى نهاية الرواية ،فقد مات قبل نهايتها
من الدول الثالث .واملكان يف الرواية دائما ينتمي بكثير .وهي شخصية مصرية خالصة.
لعنصر اليابس ،وغالبا ما يرتبط باملدن ،فمدينة وهناك شخصية ميهاري أم فاطمة األثيوبية ،وهي
الخرطوم كان لها تجليات سردية شخصية أثيوبية خالصة
واضحة ،وهي مدينة سودانية ولكنها ذهبت إىل السودان
كبيرة تقع عىل نهر النيل بفرعيه: بسبب القالقل يف أثيوبيا
النيل األبيض والنيل األزرق. واشتعال الحروب الطاحنة
وتظهر يف هذه الرواية باعتبارها كتلفيها ،وهي مل تأخذ ً
مكانًا جام ًعا لشخصيات مختلفة، كثيرة من السرد ،ولكنها
وليس بالضرورة أن تكون هذه كانت موجودة بصورة ما من
الشخصيات تنتمي للسودان فقط، خالل شخصية ابنتها ،حيث
وإنما تجمع شخصيات محورية دائما ما تطل بجملة
كانت ً
أيضا ،بل إن
من مصر وأثيوبيا ً هنا أو جملة هناك ،لتذكرنا
الشخصية املحورية فيها ،وهي دائما بأن فاطمة أمها أثيوبية.
ً
شخصية فاطمة ،ليست سودانية، وتبدو مالمحها الجسدية يف
يبدو المكان أيضا في هذه الرواية
وإنما أبوها مصري وأمها أثيوبية ومتزوجة
ملي ًئا بالخصوبة ،فهو مكان ينتمي
عىل التوايل من شخصيتين سودانيتين،
إلى األرض الطينية الخصبة التي وأوالدها بالتايل ينتمون ألب سوداني وأم
مصرية.
شكلها نهر النيل على مدار القرون.
ومن املالحظ أن العالقة بين املصري
وهو في الغالب مكان آمن ،في كثيرا ،وإنما هجرت
ً واألثيوبية مل تستمر
ميهاري األثيوبية زوجها املصري تاركة له
السودان ومصر ،ولكنه غير آمن في
ابنته وهي ذات ثالثة أعوام فقط ،يف حين
أثيوبيا ،فمعظم السرد الذي يتفاعل استمرت العالقة الزوجية بين السوداني
واملصرية ،وهي وإن كانت قد انقطعت مع
مع المكان في أثيوبيا يكشف عن
الزوج األول فإنها ما لبثت أن اتصلت مرة
حروب وقالقل ،تصل إلى الذروة حيث ثانية بصورة أقوى مع زوج سوداني آخر.
وال يخفى اإلسقاط يف هذه العالقة عىل الواقع
مشاهد القتل والترويع.
املعاصر ،يف إشارة إىل متانة وقوة الرابطة
بين مصر من ناحية والسودان من ناحية
أخرى ،يف حين نجد هذه العالقة مقطوعة بين
سدة الحكم من خالل ثورة يوليو 1952وما تبعه
مصر من ناحية وأثيوبيا من ناحية أخرى ،وقد كان
من قلق بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب،
التصوير الرمزي يف هذه الرواية ذا داللة ،فحين
ولكن يف النهاية ال يصل ذلك إىل مشاهد دامية.
ذهبت فاطمة املصرية مصطحبة زوجها السوداني
ومن هنا فقد كان السرد كاشفا عن طبيعة الرقعة
إىل أمها األثيوبية قامت األم بقطع العالقة خوفًا من
املكانية التي يتفاعل معها ،حيث بدت خصوصية كل إحداث قلق لزوجها وعائلته الثرية .ذلك عىل الرغم
رقعة سواء يف السودان أم يف مصر أم يف أثيوبيا. من حبها الشديد البنتها.
أما عن البنية الزمنية يف هذه الرواية «قطارها وهنا يتم استدعاء ما يحدث يف اللحظة الراهنة من
املسافر إىل الشمال» للروائي املصري إسماعيل حرص مصر والسودان عىل مل الشمل مع جارتهما
األسواني؛ فإن أهم ما يميزها هو استحضار أثيوبيا يف قضية سد النهضة األثيوبي ،واإلصرار
املاضي ،حيث نجد السارد وهو يف الرواية ابن الكبير من أثيوبيا عىل قطع كل الصالت والحلول
الشخصية املحورية (فاطمة) يستحضر املاضي من بالطرق السلمية رغم صلة الجوار والقربى.
خالل استحضار ضمير املخاطب يف حالته الفردية ويبدو املكان أيضا يف هذه الرواية مليئًا بالخصوبة،
«أنت» ،ويقص من خالل ذلك االستحضار ِ األنثوية فهو مكان ينتمي إىل األرض الطينية الخصبة التي
ما حدث يف املاضي. شكلها نهر النيل عىل مدار القرون .وهو يف الغالب
وقد كان السرد املتتابع هو املهيمن يف الغالب ،ولكن مكان آمن ،يف السودان ومصر ،ولكنه غير آمن يف
هناك السرد العرضي ،حيث يبدأ مع شخصية أثيوبيا ،فمعظم السرد الذي يتفاعل مع املكان يف
فاطمة منذ ما قبل مولدها ،ملقيًا الضوء عىل أثيوبيا يكشف عن حروب وقالقل ،تصل إىل الذروة
شخصية والدها وتركه ألسرته وسفره يف رحلة حيث مشاهد القتل والترويع.
علمية إىل السودان من أجل التحسين املادي رغم وإذا كانت الكتل السردية املتفاعلة مع املكان يف
عدم حاجته الضرورية لذلك .ولقائه بميهاري مصر ال تخلو من قلق أحيانًا؛ فإن هذا القلق يف
األثيوبية وطفلها وزواجه منها وإنجابه لفاطمة .ثم املنطقة املأمونة وال يصل إىل فزع مشاهد القتل
تتابع السرد حتى زواج فاطمة وإنجابها وغربتها والترويع .وقد رصد السرد بعض هذا القلق يف
عاما متصلة ،ثم عودتها بأبنائها يف السودان ثالثين ً مصر عىل نحو ما نجد من تصويرها للصراع عىل
56
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
حيث نجد ارتدادات واضحة عىل نحو ما نجده يف ملصر يف القطار املسافر من السودان ملصر لتحضر
العودة بالذاكرة إىل الوراء من الشخصية املحورية فرح ابنة أختها ،ثم سفر ابنها يف النهاية يف القطار
فاطمة ،لتتذكر بعض األحداث مع زوجها األول ،كما وعودته إىل السودان.
أن االستباقات الزمنية لها حضورها الواضح عىل ومن هنا فإن الزمن الخارجي قد استمر عبر
مرورا باالبنة
ً سنوات طويلة ج ًّدا فقد بدأ مع الجد
نحو ما نجده يف شخصية والد فاطمة حينما تركته
فاطمة التي أخذت أكبر نصيب من الكتل السردية،
زوجته األثيوبية ميهاري وتركت له ابنتها منه ،فبدأ
كبيرا ،ومن هنا فإن
ً منتهيًا بالحفيد الذي بلغ سنًّا
يفكر يف كيفية إخبار زوجته املصرية وأسرته يف هذه الرواية تتفاعل زمنيًّا مع ثالثة أجيال متصلة.
مصر عن هذه الطفلة الصغيرة السمراء. ولذا نرى إشارات سردية تدل عىل أننا يف عصر
ومن هنا فإن طول الفترة الزمنية التي يغطيها امللكية ،حيث مصر والسودان وحدة واحدة يعمل
السارد بسرده واتساع الرقعة املكانية قد يكون املصريون يف السودان ويعمل السودانيون يف
مرشحا أكثر لتضخم الرواية ،ولكننا نجد اكتنا ًزا
ً مصر بغير تفرقة ،وقطار واحد يشق طريقه عبر
واضحا يف كتلتها السردية ،حيث يستغرق كل ذلك الدولتين ،ونجد إشارات سردية تدل عىل عصر
ً
127صفحة فقط مع بنط كتابي كبير ج ًّدا وفراغات ثورة يوليو وانفصال مصر عن السودان بسبب
صراع جمال عبد الناصر عىل الحكم مع محمد
كثيرة ،مما يشير بوضوح إىل قفزات زمنية كبيرة
نجيب .حيث كانت أم محمد نجيب سودانية وأبوه
ينهض الحذف باإلشارة إليها. مصري ،فأراد جمال عبد الناصر حسب الرواية
وهنا عىل القارئ أن يحفز قواه القرائية لينهض التخلص من السودان الذي يقف هواه مع محمد
بملء هذه الفجوات الزمنية الواضحة ،ولكن ال نجيب لينفرد هو بحكم مصر.
يوجد قارئ واحد يف الرواية ،وإنما عدد كبير ج ًّدا كما نجد إشارات سردية إىل ما بعد فترة حكم
من القراء املختلفين ،ومن هنا فإن لكل قارئ بالتايل جمال عبد الناصر.
طريقته يف ملء هذه الفجوات ،وبالتايل تصبح هذه وإذا كان السرد التتابعي الدياكروني هو املهيمن
الرواية روايات بقدر عدد قرائها. أيضا،
فإن السرد التزامني السينكروني ال نعدمه ً
حيث يقطع السارد التسلسل الزمني للسرد ليلقي
وقد أسهمت هذه البنية الزمنية مع البنية املكانية يف
الضوء عىل ميهاري األثيوبية وحياتها مع زوجها
الرواية يف حالة من التشويق ال يخطئها املتلقي
األثيوبي وأوالدها منه بعي ًدا عن املركز السردي
للشخصية املحورية (فاطمة) وعاملها الحكائي ،وهذا
------ التزامن بطبيعة الحال له صلة وثيقة بمركز الحكاية
* أستاذ األدب والنقد ،كلية اإلعالم جامعة أكتوبر السردي.
للعلوم الحديثة واآلداب. كما أن الزمن الداخيل ال نعدمه يف هذه الرواية،
57
58
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
صالح بوسريف
(المغرب)
األو ِد َ
يسا، س إ َل ٍه َق ِدي ٍم.
إيج َة ن َْي َز ٌك َس َق َط ِم ْن َك ْأ ِ
َب ْح ُر َ
ِه َي َب ْح ُر َ
إيج َة،
ات عىل ْأموا ِه األو ْق َيان ِ
ُوس، َق ْب َل َأ ْن ت َْطفُو ُ
الحو ِر َي ُ َْ
ل َي ُك ْن ُهنَا،
يـ َن ال ِّطي ِن وا َملا ِء. يس ُي ُ ِ لِ َي ْب َقى أو ِد ْ ل َي ُك ْن ُهنَاااالِ َك.
َْ
وس َعالقًا َب ْ
احا،
ص َب ً َ يك ْت ِم ْن ِعنَبِ َك ْر َم ٍة،َخ ْم َرة ِح َ
إيج َة.
َ ِ
ر ح ب
َ ْ ِ
اف َ
ف ِ
ض لَ ع
َ يتِ وهقَ
َ ُ َْ ب ر أش
ْ الو ُع َ
ول، َت اآللِ َه ُة ت َْر َعى ُ ِف ِظل ِّ َها َكان ِ
ات ِم ْن ن َْو ِم َها.ض الغَ ا َب ُ َق ْب َل ْ
أن َت ْن َه َ
يم ٍة ت َْب ُدو ال َق ْه َو ُة ىف لِ َسا ِني،
ِم ْث ُل َخ ْم َر ٍة َق ِد َ
اليو ِد يف َع ْين ََّي َر َوا ِئ ُح ُ إيج َة،
السف َُن ِف َب ْح ِر َ َم ْن َأ ْر َسى ُّ
ت َْس َت ِمي ُل َس ْم ِعي، يح ِف َما ِئ ِه،َم ْن َن َث َر ال ِّر َ
س ال َب ْح َر ِم ْن َش َر ِك
ِل َرى َك ْي َف اآللِ َه ُة َما َت َزالُ ت َْح ُر ُ يح ِف ا َملاء. َو َم ْن َرأى َأ َّن ْ
األشر َِع َة ِه َي َم ْن َت ْنف ُُخ ال ِّر َ
ات. الحو ِر َي ِ
ُ
يل:ِق َ
إيج َة َب ْ
يـ َن َي َد َّي َهاااا َ َام،أن َين َ إ َل ٌه َشر َِب َق ْب َل ْ
َك ِظ ِّل َك ْر َم ٍة، ِم ْن َع ْين َْي ِه َف َ
اض ا َملا ُء،
ار َها َس َق َط ْت ِف ا َملا ِء ِث َم ُ ل َي ْب ِك،َْ
وسي َقى ِف َحثِّ اآللِ َه ِة َع َل ال ِغنَا ِء. لِت َْش َر َع املُ ِ ض ِح َك، َ
ِس َاد ِت ِه.
ِس ت َُحل ِّ ُق َف ْوقَ و َ َو ُه َو َي َرى الن ََّوار َ
إيج َة ن ٌ
َاي، َ
َم ْن نَفخَ ِف َما ِئهِ، إيج َة َل ْي َس َن ْه ًرا،
َب ْح ُر َ
أصل ِ ِه
َرأى َك ْي َف ال ِغنَا ُء ِف ْ إيج َة ن َْولٌ،
َب ْح ُر َ
59
إبداع ومبدعون
شعــر
الوقت مناسب الستبدال املوسيقى ،استعد للرقص، ضع موسيقى مناسب ًة واقرأ ،ال تبذل جه ًدا يف
أو ضع موسيقى جنائزية. االختيار .و ّفر الجهد لشيء آخر ال أعرف ما هو.
كل موسيقى ستكون صالحة ،وال تسأل مل!
وردة يف خصلة شعر .ال تقل إنني فاجأتك ،تعرف
أن البنات مل يعدن يضعن الورد يف شعورهن. ٌ
سقف امرأة تهبط ال َد َر َجَ .د َر ٌج يتدىل من السقف.
مل يعد لديهن شعور! مل يعد لديهن شعر .مل يعد يلعب لعبة االختفاء ،كنا نسمي هذه اللعبة «عسكر
صالحا للورد! مل تعد الوردات صالحة
ً شعرهن وحراميه» ،عىل «الحرامي» أن يختبيء وعىل العسكر
صالحا ...سوفً لشعر البنات .مل يعد شعر البنات إيجاده .السقف يختفي عندما يظهر العسكر ،فماذا
أتركك تهذي هكذا ،وتخلط بين الشَّ عر والشعور ،بين يفعل اللصوص؟
الشِّ عر والشَّ عر ...أعرف أنك لن تنجح يف استكمال
لعبة االحتماالت ،تحتاج السباحة يف البحر إىل رئتين
غيّر املوسيقى اآلن ،أو أعد تشغيلها من الدقيقة
قويتين وكفين مفلطحتين وفخذين عضليتين .غيِّر
الخامسة والعشرين ،ال تبذل أي جهد يف األمر ،وفر
املوسيقى اآلن ،غيِّر املوسيقى وال تتفلسف.
الجهد الختفا ٍء ربما نُضطر له.
رجل بكتفي حصان ،وأذن مدالة بال رأس.
سيدة يف نافذة قطار .قطار يتلوى يف محطة .محطة
هذه تحتاج إىل موسيقى لبيكاسو .ال تتثاقف .أعرف تنتظر وصول القطار ،أو مغادرته .متى تتخذ
أن بيكاسو كان مجرد رسام ،يعجز عن صنع نغمة املحطات قرارات مهمة؟
واحدة ،ولكنني اآلن لن أرضى سوى بسيمفونية
وضعها بيكاسو قبل رحيله بسبع وعشرين ساعة، -مثل -فتقرر أنها لن تنتظر ،تصرخً مبكرا
ً تصحو
زاره مالكُ املوت ،كان وحي ًدا يف مرسمه ،يشعر يف وجه القطار املقبل فيتوقف بعي ًدا عنها ويمنحها
بالضعف وقلة الحيلة ،يسترجع كل رسوماته بعض الوقت للتجمل .ترفض استقبال الركاب عىل
ويتمنى لو يبادلها بمقطوعة موسيقية وحيدة يؤلفها أرصفتها وتمنحهم تأشيرات لجوء إىل الحدائق
ويبثها كل ما هرب منه يف األلوان .لكن بيكاسو مل الخلفية يف الجوار .تلعب دور القطار ملرة .تشترط
يمت .أعني ..مل يزره مالكُ املوت ،أقصد مل يحدث نوعية األحذية التي ال تتوقف عن فرك ظهرها.
هذا األمر. تضع عوازل يف أذنيها وتستغرق يف مشاهدة
املاتش إىل جوار القط العجوز يف الكافيه .تستمتع
إذن سوف أنتظر حدوثه ،سأنتظر كامرأة تهبط برائحة عطر السيدة يف نافذة القطار .السيدة تنتظر
الدرج ،كسيدة يف نافذة قطار ،كوردة يف خصلة القطار ،القطار ال يعبأ باملحطة ،املحطة ال تعرف
شعر .كرجل بكتفي حصان .كأذن مدالة بال رأس. كيف تتخذ القرار.
61
إبداع ومبدعون
شعــر
أحمد نبوي
الجحيم
سارتر سارتر
عنصري بما يكفي
ٌّ أنت واهم يا صديقي ٌ أنت
جحيما لك
ً لتراني ليس اآلخرون هم الجحيم
أما أنا فال أراك كذلك جحيما لك
ً واهم أنت حين تراني ٌ
أنت ي ٌد يل هب أني لست موجو ًدا
ساق لك
ٌ وأنا هل تشعر بالنشوة بمفردك
أرى فيك ما ينقصني إن وجودي ليس تهدي ًدا لك
ولدي ما تعجز عن إدراكه بنفسك ووجودك بالنسبة يل ليس كذلك
أناني
ٌّ لكن ألنك
تظن أنك لو أخذت ما بيدي
تتصور أنني أحجب عنك
ستحقق الغاية والكمال
ما تعجز عن تحقيقه بنفسك
لن تستطيع أن تكون كل شي ٍء يا صديقي واهم يا صديقيٌ أنت
فقير ولو امتلكت كل شيء أنت بدوني فلوال وجودي ما تحقق ذلك
ٌ
وأنا بدونك كذلك فلنتبادل األدوار إذن
أنت أعرج تحتاج إىل أن تتكئ عىل كتفي ضع نفسك مكاني
وأنا عاج ٌز أحتاج إىل يدك لتعينني وضعني مكانك
سارتر يا صديقي وانظر بدق ٍة وتمع ٍن
يدي ممدود ٌة لك هل ترى الجحيم جي ًدا
فهل مددت يدك لنمضي م ًعا َّ ***
62
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
حسونة فتحي
دروب
سالم الشبانه
حفريات في الريح
وح
الر ِ ِ
النصف األسو ِد من ُّ سطوع
ِ ويف
وضعتُها تحت حذائي،
الضلوع
ِ تفاقم ْت بين
َ وكأن قسو ًة
أفلت َْت من صدري
أمام عظا ِمها املُهشَّ م ِة،
تفارق الحياة.
ُ أمام صراخا ِتها وهي
تفاح
ٍ اشتهيت حديق َة ُ ربما
يف كل رك ٍن من العا ِ
مل،
الشيطان يف أُذُني،
ُ همس
َ وربما
ملمس األبدانِ
َ اعتقدت أن
ُ وربما
ِ
الظلمة َسوا ٌء؛ يف ُ
نسيت أن لهدايا اإلل ِه ُ ولكني
مذاقًا استثنائيًّا.
هناك يف البعي ِد ٌ
عين ترنو نحوي
تحتضر،
ُ دموعها جي ًدا وهي
َ ُ
أعرف
هناك ذراعان مفتوحتان
أتوق إليها
ُ وقبل ٌة
مازالت بقاياها يف فمي.
66
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
حسني منصور
نصوص
شمس المولى
ذات مساء
منى العاصي
(فلسطين -سويسرا)
قصيدتان
عاصم عوض
جسد
َ
أسماؤُ ها تَخ َفى عىل َف ِمه أم قد ُتغَ يِّ ُر ُه َمال ِم ُحها؟ وصد ٌة األبواب ُم َ َ افتح َ
يل ْ
فاض ُحها وم َجا ُز َم ْن َم َّس ْت ُه ِ َ هيم -عىل أصا ِب ِعه- ِظ ًّل َي ُ وأنت فا ِت ُح َها َ ء
ُ السما هذي
وطن
ٌ ِ
عمى ِبه َ
وكأنَّه أ َ وارحها وحا ت َُج ِّس ُدها َج ُ ُر ً اي عنا َق ُه ص َد َ وامن َْح َ
صا ُترِيه غ ًدا مطار ُِحها َو َع ً س َن ٌة أحالمه ِ َ كم أوقدت وأنا ِميل ي ًدا َيه ِذي ُمصا ِف ُح َها
بيضا ُء ال َش ٌّر تُكا ِب ُد ُه يقات ُي َجا ِم ُحها والشيب ِم ٌ ُ فرد ٌة للح ِّب ُم َ َلَّا َي ُك ْن ُ
والحرب َخنسا ٌء جوا ِن ُحها كال ّطي ِر يف املعنى وأجنح ٌة الحب شار ُِحها َّ َأل َقى عليها
ُ
َ
َبترا ُء كم أبلت وكم َفتَكت! َ َ ورائحهاُ يف البد ِء غاديها املآسي وهي طا ِمح ٌة ِ ِمث ُل
كثيرا ذاك راب ُِحها َخ ِس ٌر قسى ما ُي َر ِّه ُب ُه خشى و َأ َ َي َ و َثرا ُه ُسلوانًا ُيطا ِم ُحها
ً
ُفص ُح عن ضاللتِها َعجما ُء ت ِ شيب األماني وهو قار ُِحها ُ فس َرى نفس ُه َ اص َمت ُه ُ إ ْذ َخ َ
لِ ُي َعل ِّ َم األسما َء ُمتَّ ِق ًدا طرق ٍة ُيصالِ ُحها ِب َد ٍم و ِم َ
عميا ُء تَهديها َمذاب ُِحها
تَسبِيه ما تَسبِي مدا ِئ ُحها ال َيق َت ِفيها َيق َت ِفي َج َب ًل
الصحرا ُء شاعر ٌة (ع ْر َوةُ) َّ يا ُ كم ناق ٍة ِمن َشد ِو ِه َخ َر َجت عن خطو ِة الراعي ُينا ِف ُحها
ِ
حسنا ُء ال تَغفو َقرائ ُحها
غار عا ِق ُرها وصالِ ُحها َف َأ َ آثار ُه تَخ َفى عىل قلقٍ ُ
نشر ٌِح األلوان ُم َ َ ِف ال تَعر ُ استراح ْت يف حشاشتِه وقد ِ
لك َّن َن ْزفًا فيه فاض ُحها ِ
َ
واض ُحها يف َوجهِها الشمسي ِ ِ َ ٍ ِ
كم معجزات ال ُيقاد ُحها! يف األرض كم تبدو مدائ ُن ُه
اإلنسان َوردتُها َ ِفال تَعر ُ َأل َقت به يف َي ِّمه َي ُده ألى بما َيهوا ُه سا ِئ ُحها َم َ
ِ
َنصر الباغي شرائ ُحها ِ ال ت ُ ِظ ًّل َث ً يرى ِمن السلوانِ تذكر ًة
قيل ال ُي َماز ُِحها َح َ
و َق َفت عىل أطاللِها ُلغ ٌة ص َر َخت َلّا َه َوى يف نورِهَ : ِ
أيامها األول نَواض ُحها َ ُ ُ
عرى ُمبار ُِح َها َعرىكما َي َ ت َ َفديك ظلما ِئي وصا ِئ ُحها ت َ ِ
كم َج َّر َح املرآ َة ُمن َتظ ًرا! ِ
يمت ََها فاحملْ إىل الصحرا ِء َغ َ يح؟ كأ ّنها لغ ٌة ص ُ َمن َذا َي ِ والحزن يف َعيني ِه جار ُِحها ُ
ت َْر ِث الثَّ َرى َأ َب ًدا نَوا ِئ ُحها ين ُيسا ِف ُحها َعليا ُء ال ِط ٌ َأ َع َدى عىل أطالله ٌ
زمن؟ ِ
71
إبداع ومبدعون
شعــر
أوس حسن
(العراق)
قصيدتان
نصوص
آيات القاضي
(سورية)
محمد النحراوى
وقلبي مفيش وال مرة مصيبة تح َّوق فيه اتناشر شهر يا حاج سعيد
وببرر قسوة قلبي لنفسي بإن القلب معتَّق ُحزن ماصعبش عليك الدار اليل ميتمها غيابك
وفيه اليل مكفيه ماصعبش عليك الحزن يف صوت أحبابك
اتناشر شهر ولسه القلب معلق شارته السودة
كان نفسي تاخدني بإيدك نطلب بنت الناس ولسه أنا عيل قاعد يبكي لوحده يف ُركن األوضة
كان نفسي تشوفني الحاجة اليل اتمنيتها يف وسط ماصعبش عليك قفالن الورشة ودق شاكوشك
الناس كان أول مرة أشوف العجز مالكني
كان نفسي أبوس عىل رجلك.. ملا ملحتك ماشي برجلك ناحية موتك
وقت ما يبقي نجاحي مجمع كل الناس وأنا ماقدرتش أحوشك
كان نفسي ..ونفسي ..ونفسي ..ونفسي ..بس
خالص عمرك ما شكيت من ضيق الحال
كان ستر اهلل صبارة ونظرة عينك لقمة حالل
اتناشر شهر كانت ملة كل عيلتنا معاك
من يوم ما مشيت باكتب لِك كل ما قلمي يقول يا تشبه «بكره العيد يا عيال”
كتابة
كل ما أملي يقول يا كآبة اتناشر شهر وواحد صاحبك ليلة امبارح رن عليك
وأنا بكتب ليك دلوقتي يف ذكرى فراقنا األوىل “ايه يا عم الحاج ازيك فين أراضيك”
قال يعني أنا ناسي بإنك ُمت يا بابا ..وأنا أرد وأقول
الحزن يف خطي ماصعبش عليك وال مره ُ باهلل ما تخربش جرح يف قلبي اهلل يرضيك
طب شوف يا سي بابا
أنا جاى أزورك بكره وقبل ما أزورك أقول َلك واهلل يا بابا املوت مابقاش بيخض
َشرطي وبقرأ كل دقيقة حوادث ،موت وكورونا وحرق
أنا عاوز أصعب مره عليك بيوت
79
80
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
سمير المنزالوى
تشابه
وصل إىل نهاية الشارع امللتف حول خصر البلدة اآلن يؤدى فهمي مبيض املحارة ،فقرته الفكاهية
كالحزام. متقمصا دور رئيس املدينة يف مولد النبي. ً السنوية،
توقف ليلقى خطابه السنوي ومن ثم تنتهى الفقرة. يرتدى بذلة وربطة عنق ،ويسير حوله شباب
صعد فوق مقعد وصاح: مدججون ببنادق خشبية.
-فهمت مشاكلكم ،وتأملت من أجلكم .كل شيء ثمة شخص يحمل كاميرا ويهرول أمامه.
سيتغير إىل األفضل ،و.. عيناه املليئتان بالبهجة ترمقان النسوة يف الشرفات،
صوت غاضب كالنمر يزأر يف الزحام: ثم تهبطان إىل الحشد املحيط به .تتحرك يمناه
-أنت كاذب ولص. وهبوطا .ابتسامته تبرز فمه الواسع ً صعو ًدا
اقترب الشاب حتى المس كتفه .قفزت كلماته حارة وأسنانه األمامية املصبوغة بالتبغ!
تشوى وجهه: نريد وظائف لألوالد.
كفى نهبًا وفسا ًدا ،رائحتك تزكم األنوف. يشير بطرف سبابته:
-حاضر.
أراد أن يحول املوقف إىل مزحة ،فابتسم وقال املياه سيئة ،وال توجد مجارى.
هادئًا: يعاود اإلشارة:
-نادوا عىل والده ليؤدبه ،وإال فإنني سأتوىل ذلك. -حاضر.
الحراس مل يكن لهم دراية بمثل هذا املوقف ال أحد يضحك ،أو يسخر.
الطارئ. يتوقف أمام تل من القمامة ،تمرح فيه القوارض
تجمدوا كأنهم يف لوحة .امتألت وجوههم بغيوم والذباب:
بلهاء .الحشد امللتف فقد ألسنته .كذلك النسوة يف -أين رئيس القرية؟
الشرفات. يجذب أقرب الواقفين ،يوبخه بنبرة عالية:
هجم الشاب عىل فهمي وأطبق يديه عىل رقبته، -أنت فاشل ،اترك مكتبك من اليوم.
جره إىل األرض.حاول أن يقاوم ،لكن النمر الرهيب َّ تصفيق حاد يرج املكان:
وجم الجميع كأنهم موتى ،مل تعد العيون ترى -عاش فهمي حبيب القرية.
سوى شبحين يتقاتالن ،ويتمرغان يف التراب. يل ِّوح بيده سعي ًدا.
81
إبداع ومبدعون
قصــة
حجاج أدول
الكاميرا الكاشفة
-2 -1
يف الداخل أحد الحراس يتابع شاشة الكاميرا التي يتسلل الرجل مقتر ًبا من الباب الخشبي املفتوح ،ال
تراقب الباب ،ينادي عىل زميله ضاح ًكا ليأتي يريد أن يزعج الكلب الرابض أمام الباب ،فالكلب
ويتابع ما يشاهده ،يتابعان م ًعا ..رجل ضخم ضخم شرس ،وقد أحس به يرفع رأسه وينظر إليه
شرس يقف أمام الباب ،وكلب اقترب ليتسلل شذرا ،يقترب الرجل بزاوية ليتفادى الكلب ،قام
ً
ويدخل من الباب ،الحارس وزميله يتابعان ..يقترب الكلب متحف ًزا وزام وهو يستعرض أسنانه ونابيه،
الكلب بزاوية ،الرجل يواجه الكلب ويشيح له أن ً
مفتعل الثبات ومالمحه تعطي الثقة يتقدم الرجل
ً
شمال ويمينًا مص ًّرا عىل دخول يبتعد ،الكلب يحاور والوقار ،يظن أنه بهذا سيرهب الكلب ويبعده عن
الباب ،الرجل ينفخ نفسه ويزوم ،ويشيح بيديه، الباب ،الكلب مل يبتعد ،وأصر عىل منع الرجل من
ويركل بساقه يف الهواء ليبعد الكلب ،والكلب يزوم الدخول ،الرجل يشيح بذراعيه ويركل بساقه يف
ويستعرض أسنانه ،ونابيه مهد ًدا ،يحاول الكلب الهواء ليخيف الكلب ،الكلب تقهقر خطوة ثم عاد
مجد ًدا والرجل مستمر يف التشويح بذراعه وساقه، خطوة لألمام ،يف هذه العودة نبح نباح الغضب
الكلب ينبح غاضبًا والرجل يسبه غاضبًا. والتهديد ،يتكرر األمر أكثر من مرة ،ال الرجل
ال الكلب انسحب وال الرجل ترك إصراره عن املنع، انسحب وال الكلب ترك إصراره عن املنع ،والباب
والباب الخشبي مفتوح. الخشبي مفتوح.
82
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
سعيد سالم
المتباعدون
لو مل يكن مقصو ًدا .اهلل الرحيم ال يمكن أن يؤذي يف بداية الفزع من الوباء باعد أنور بين مقاعد املقهى
عباده .استلب الفيروس من املشايخ والكهنة دورهم مرارا باإلذاعة
ً طبقًا لإلجراءات االحترازية التي ترددت
وأحط من شأنهم .يقولون إن اهلل يعاقب عباده عىل والتلفزيون .مل يعد الرواد يتصافحون .اكتفوا للتحية
كثرة ذنوبهم .يبررون قولهم بأن الفيروس مل يترك بإشارات األيدي عن بعد .انفضت موائد الطاولة
بل ًدا يف العامل دون أن يصيبه ولو بدرجات متفاوتة. والكوتشينة والدومينو ومنع تدخين الشيشة .هجر
اهلل عدل عادل فكيف يعاقب شعوب األرض الفقيرة كثير من الرواد املقهى بعد أن أصبح طعمها ماسخً ا
مثلما يعاقب الشعوب الغنية التي تعيش يف رخاء وأصبح أصحابها يشتكون بمرارة من نقص الغلة.
ووفرة عىل استنزاف خيرات الشعوب األخرى؟ بعد مرور عام عىل ظهور الوباء ورغم عدم اختفائه إال
تعيش عاطفتا األمومة واألبوة مأساة كبري خوفًا أن املصافحة باليد قد عادت ،وأصبحت مقاعد املقهى
عىل األوالد واألحفاد .األوالد واألحفاد يعيشون يف متقاربة وكثر امللتفون حول العبي الطاولة والشطرنج
رعب خوفًا عىل أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم .أحدث وكأن شيئًا غير عادي مل يحدث .من حق كلمة التباعد
التواجد الجماعي اإلجباري يف البيت شيئًا من أن تحصل عىل لقب كلمة القرن الحادي والعشرين.
التقارب والتفاهم بين أفراد األسرة .تبين للبعض مل تستخدم هذه الكلمة قبل ظهور الكورونا النتفاء
أنه مل يكن يعرف شيئًا عن البعض اآلخر الذي هو وجود املبرر .أن تتباعد يعني أن تكون بعي ًدا بجسدك
من دمه ولحمه وصهره ونسبه .كوارث اإلنترنت عن اآلخرين كإجراء صحي حتمي .الذي حدث أن
واملوبايل واألجهزة اإللكترونية التي دعمت التباعد التباعد بين الناس قد تجاوز الجسد إىل الروح ،حين
وسهلت االتصال ،تحولت إىل أدوات حتمية للتواصل ساد الخوف من املوت وسادت الكآبة وعم االكتئاب
واملعرفة مل يعد هناك غنًى عنها .النافع أصبح ضا ًّرا والشعور بال جدوى أي شيء.
والضار أصبح ناف ًعا .فلسفات القرن التاسع عشر أن أصيل الجمعة يف مسجد عيل بن أبي طالب بسموحة
والقرن العشرين مل تفلح يف العثور عىل تفسير لحال وأنا نائم يف فندق بالنرويج ،أو أصليها يف بحري
اإلنسان يف ظل هذه األزمة املفاجئة وال ملوقفه من بمسجد املرسي أبو العباس من ستوكهومل ،فاألمران
الكون والحياة .الصالة تحت حصار الفيروس جعلت يتساويان عند متأمل دؤوب ممل مثيل .هل خاف
أمرا حتميًّا .التأمل يف معني الحياة االقتراب من اهلل ً الناس من املوت أكثر من خوفهم من واهب الحياة؟
واملوت صار وجبة ذهنية تتكرر خمس مرات يف اليوم أن تأخذ باألسباب خير من أن تركن إىل اليأس
عند املسلمين وعد ًدا آخر عند اليهود واملسيحيين. وتستسلم له فتموت حيًّا .كيف أعيش ويف ذات الوقت
امللحدون ليس لديهم سوي تفسيرات علمية عاجزة عن ال ألقي بنفسي إىل التهلكة .أصبحت الحياة يف مجملها
التوصل إىل وسيلة ناجعة للقضاء عىل الفيروس .ثبت مجموعة من التبريرات املتناقضة .تأكد لإلنسان أنه
من تأميل لحالهم أنهم أضعف املخلوقات يف مواجهة إشكالية اإلنسان .ثقلت لفظة الحب عىل األلسنة .مل
الجائحة عقليًّا ونفسيًّا. يوما مقولة األنبا كيرلس أن يف البعد جفوة حتىأنس ً
83
إبداع ومبدعون
قصــة
كثيرا
الكون األبدية .دول البترول الخليجية ال تهتم ً كاد امللل يقتلني وأنا معتقل يف بيتي لعدة أشهر
عموما فقد شهدت منظمة األوبك للدول ً بهذا األمر. متتالية .أتابع يف قلق أخبار انتشار الوباء يف بالدي
املصدرة للبترول يف أواخر عام 2020حالة من ويف العامل .أعداد املصابين .أعداد املوتى ومن بينهم
الفوضى بعد التراجع الحاد يف أسعار النفط حتى شقيقي .أعداد الذين تم شفاؤهم ومن بينهم أعز
وصل سعره يف إحدى شركات الخام األمريكية إىل صديقاتي مشمش .تيبست مفاصيل وازداد وزني
رقما قياسيًّا يف االنخفاض مل ً
مسجل ً ما دون الصفر من طول الجلوس والرقاد ومشاهدة التلفزيون
يعرفه العامل من قبل. واجترار أنباء النكسات والحروب العربية ،واغتصاب
لكل هذه األسباب املقرفة أشعلت سيجارة ممعنًا يف الضحكات من أفالم األبيض واألسود القديمة ،خاصة
شرودي الدائم الذي ازداد وتضخم من بعد الكورونا، حين يضحك عبد الوهاب ً
قائل ها ها ها يف آلية
حتى أنني اعتدته بل أدمنته بالفعل. قاتلة ال تمت إىل الضحك بصلة .نزلت مرات قليلة
اقترب مني كهل أشعث ذو لحية متسخة وعينين خالل األشهر املاضية .مرة ذهبت فيها إىل حجازي
زائغتين .ال يرتدي الكمامة الواقية .ربما مل يسمع بالعطارين إلصالح عودي العتيق .هو رجل يحتكر
عنها .ربما ال يدري شيئًا عن الوباء من أصله كما هذه املهنة املنقرضة .أسعاره خرافية لكن ال بديل عنه
يوحي شكله بذلك .تغطي جلبابه املمزق سترة بالية فهو شديد املهارة .املرة الثانية كانت الستالم العود
يستعصي لونها عىل الوصف .يضع يف قدميه مزقتين بعد إصالحه .مرة أخرى نزلت لشراء ساندوتشات
جلديتين ال تمت معاملهما بصلة إىل عامل األحذية .يف طعمية من هوليوود بوليفار يف لوس انجيلوس
البداية شعرت لوهلة بالتقزز من هيئته .خشيت أن بوالية كاليفورنيا الساحرة .عدت يف دقائق إىل البيت
يجلس بجواري فيصيبني منه مكروه .رأيته يحمل مرتد ًيا كمامتي التي كتمت أنفاسي .صاحب املحل
املاليين من فيروسات الكورونا بداخله وخارجه .كنت عراقي شديد البخل يميل إىل الحديث يف السياسة
واثقًا أنه مات من قبل ،لكني مل أعرف كيف عاد إىل ويستخسر إضافة قطعة إضافية من الخيار املخلل إىل
الحياة ليسقط بحطامه اإلنساني فوق مشاعري ،قاط ًعا الساندوتش.
عيلَّ مجال التأمل الشارد الذي جئت هنا من أجل قررت النزول إىل مقهى سيدي جابر الكائنة بجوار
ممارسته .بعد ذلك شعرت نحوه بمزيج من اإلشفاق املسجد دون أن تواتيني الجرأة عىل مجرد التفكير يف
والتعاطف ،مل يخل من رغبة دفينة يف استطالع خبيئة صالة املغرب باملسجد خوفًا من املوت .ما املوت؟ قلت
أمره ضمن جوالتي الستطالع طباع البشر يف فترة أصليها يف البيت ً
أول ثم أنزل .مل أستطع االنتظار.
الكمون اتقاء لشر الفيروس. نزلت قبل األذان .سحبت مقع ًدا إىل مكان بعيد عن
مل أستبعد أن أكون مكانه يف يوم من األيام دون مدخل املقهى مراعاة للتباعد القطراني ،ورغبة يف
الدخول يف تفاصيل ال أهمية لها .تمنيت أن يختار التأمل الذي أصبح عميل الوحيد وشغيل الشاغل يف
مقعده بالقرب مني .أحكمت الكمامة فوق أنفي وفمي، هذه الحياة املخيفة التي أصبحت قائمة عىل الرعب .هل
أما الشرود املمنهج فاستعادته ميسورة بعد ذلك حرصا عىل التباعد؟ً توقف الناس عن ممارسة الجنس
ألنني كذاب .فوجئت به يجلس أمامي عىل األرض ثم ما معنى أن يتباعد زوجان؟ هل فترت الرغبة الجنسية
يقوم فجأة يف نفس اللحظة ويسحب مقع ًدا ليجلس عند الرجال أم عند النساء أم عندهم جميعا؟ يقول
ً
متأمل يف براءة عليه بجواري مباشرة .نظر إ َّ
يل البعض إنها ازدادت كما ثبت من قبل أنها ازدادت
شاخصا
ً متوحشة ،ثم يف ملح البصر تحول عنِّي خالل الحروب وأثناء الغارات وتحت قصف القنابل
ببصره نحو الشجرة الكبيرة شديدة االخضرار والصواريخ يف جو من اإلظالم التام .اإلحصائيات مل
القابعة أمام املسجد .كانت السماء تموج بمصهور من تجب عن هذه األسئلة .ما موقف الحب من الفيروس
األلوان الداكنة الجميلة املؤذنة بالغروب .سأله أنور وما موقف الفيروس من الحب؟ سؤال ال تجيب
بجفاء: عنه إال شالالت سويسرا وال تعرف سره إال جبال
-نعم؟! األلب ساعة الغروب حين تنسكب يف السماء ألوان
84
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
-شاي
-الفلوس!
مخرجا من كل جيب
ً راح يعبث يف ثقوبه املهترئة
قطعة معدنية من فئة الجنيه أو نصفه .ألقاها يف يد
أنور بذات البراءة ً
قائل:
-كل ما معي ..هه.
نظر أنور يف يأس إىل العملتين .قيمتهما دون ثمن
متمتما
ً املشروب .وضعهما يف جيبه بصبر نافد
لنفسه بكلمات غامضة أعتقد أنها كانت استعانة باهلل
عىل الصبر .بهدوء أصدر إليه األوامر األربعة اآلتية
بتحديد قاطع:
-أقعد هنا .ال تتحرك من مكانك .اشرب الشاي،
وامش عىل طول.
لكثرة ترددي عىل هذا املقهى قبل الجائحة تبين يل أن
الصبر والصمت هما السمتان األساسيتان لشخصية
أنور التي تذكرنى -ولست أعرف ملاذا -بالجمل
العربي ذي السنامين وهو يحرك فكيه مجت ًّرا دهشته
من البشر .لست أدري كيف يمكنه بغير التحيل بهاتين
الصفتين أن يتحمل التعايش اليومي مع زبائن من
بينهم املجاذيب واللصوص واملتسولين واملتشردين
أيضا من هم مثيل من عباد اهلل والبلطجية .من بينهم ً
الهامشيين الذين ال يراهم املجتمع -حين يقتضي
األمر فقط -إال من خالل عين مجهرية ذات قوة
تكبيرية عظمي.
جاء أنور بالصينية وعليها كوب الشاي وبه امللعقة
وبجواره كوب من املاء املثلج .أعجبني أنور أن عامله
يف مساواة مع أي زبون عادي .رحت أرقب صاحبنا
بطرف عيني وهو يقلب السكر يف كوب الشاي بسرعة
شديدة جعلت ما يقرب من ثلث الكوب ينسكب عىل
الصينية .كنت عىل ثقة من أن ما يحدث يف العامل كله
كثيرا بقدر ما
-مثلما يحدث أمامي اآلن -ال يعنيني ً
َّ
يعنيني الخوف من الفيروس القاتل .نظر إيل فجأة
ليسألني بنبرة من يعرف اإلجابة:
-املاء يكمل الناقص؟
هززت رأسي مؤي ًدا وقرون استشعاري يف ذروة
يقظتها دون أن يتبدد شرودي املرهون برغبتي يف
التأمل .أضاف املاء يف رعونة فامتألت كوب الشاي
عن آخرها وفاضت من جديد دون أي اهتمام من
يوما عىل االنفجار
جانبه ،وكانت مرارتي قد أوشكت ً
85
إبداع ومبدعون
قصــة
أن أتحرر من مالبسي الخارجية والداخلية أبدأ يف تساقط معظمهما يف كوب الشاي .وضع الورقة ببقية
التحرر من جلدي ولحمي وعظمي .أتحول إىل روح محتوياتها يف جيبه من جديد.
شاردة تستوعب الكون بما يحوي من أسرار. -كم عمرك يا حسن؟
وقفت امرأة ممسكة بمالءتها لتخفي بها جانبًا من -أربعة.
وجهها .عندما ملحها أنور أسرع نحوها باهتمام. -تقصد أربعة وخمسين؟
همست يف أذنه بكلمات من املؤكد أنها كانت جا َّدة. -أربعة.
هز رأسه عالمة قرب نفاد صبره ،ثم أخرج من جيبه -أتسكن هنا يف سيدي جابر؟
عدة جنيهات أعطاها لها فانصرفت راضية .خمنت أنها يل تارة وإىل قليل عن جلسته .راح ينظر إ َّ استدار ً
كثيرا.
زوجته رغم أن ما يحدث من حويل ال يعنيني ً لدي
األفق الدموي البعيد تارة أخرى .بذلت أقصي ما َّ
االستغراق يف ال شيء ال يفرق بين الصمت والضجيج من جهد حتى أتوصل إىل أي خيط يجمع بين شتات
حتى حين أطفو من حين آلخر إىل أي شيء ،فإن حبل جمله املتتابعة كطلقات الرصاص:
التأمل ال ينقطع ،ويظل الحال هو الحال .كل شيء “ -ضابط كبير .رتبة .جسمه يشبه البغل .البنت
صحيح يف مكانه الخطأ. سقطت من القطار .ضرب نار .نزلت يف املطار.
حامل رغيف الكفتة .وضعه أمام حسن ً جاء أنور أعطوني علقة كلب يف جامع .مايل أنا بالناس .قلت لها
وانصرف يف حيادية بجموده املعتاد .انتظرت أن اقعدي يف البيت يا بنت الكلب .مل تسمع الكالم .دمه
ينقض حسن عىل الرغيف فيلتهمه بشراهة ،لكنه أهمله ساح قدامي .خمسة وعشرين سنة .مظاهرة خمسين
وكأنه مل يره عىل اإلطالق. مليون .يا جاه النبي .أنا آكل الحديد .هو حر .أنا
-كل يا حسن. يلزمني أعيش .غني مبسوط وارث شحات هو حر.
-لكن كله إال الظلم .أنا كسرت دماغه قراقيش. ربك كريم منه هلل .منكم هلل ياكفرة!”.
-يا ساتر. العامل الفوضوي الذي يأتي فيه جنود من آخر الدنيا
-رموني يف السجن .ياما قلت لها اقعدي يف البيت. ليحتلوا بل ًدا آخر ثم يشنقون رئيسه ثم يعودون إىل
-لألسف مل تسمع كالمك. بالدهم بدون حساب ،هو نفس العامل الذي جعل
-نسوان يعني مصايب .إنت فاهم .هه؟! لو كان حسن يقول هذا الكالم .حين أشركني يف تحمل
عندي منها عيل كان شوى يل لحمة. مسئوليته -حسبما اعتقدت بعد فضفضته الغامضة-
ً -
فعل. أشعلت له سيجارة متمنيًا البتسامتي أن تتحرر من
-قلت لك مقاسي أربعة وبيتي مفتوح لكل فقير. برزخها .أدخل أكثر من نصف السيجارة يف فمه.
-ربنا يبارك لك. سال لعابه عىل ورقها .راح يسحب أنفاسها يف تواصل
-حتى خوفو كان فاتح مكتبه للشعب. شره حتى سقط نصفها عىل األرض .التقطه ووضعه
-هو خوفو كان عنده مكتب يا ابو عيل؟ يف كوب الشاي .أخذ يقلب ما تبقي يف الكوب من ماء
-آه يا كالب يا أوالد الجزمة. وشاي وطعمية وتبغ محترق وغير محترق .ألقى
كان أنور يف تلك اللحظات مثيل األعيل يف حيادي بالنصف املتبقي عىل األرض وظل يدهسه بقوة ملدة
التاريخي ،أما انشغال قلبي بين الحيرة والغضب طويلة.
واالستسالم واألمل فقد أوكلته إىل رب القلوب. ابتهاجا بهدف كروي شاهدوه ً فجأة صاح رواد املقهى
انشقت األرض فجاة عن صبي وسيم ال يزيد عمره عىل شاشة التلفزيون الذي يتصدر موق ًعا علو ًّيا
عن عشرة سنوات .ال ينم ملبسه عن فقر أو حاجة. باملقهى ،بينما انبعث من الراديو -املجاور له -صوت
انقض عىل املائدة وخطف الرغيف قبل أن يلمسه بلووري متوهج ملنشدة دينية شعبية تغنى:
حسن .طبائع البشر الذين يحتلون كل مساحات “عمرانة يا بوابة واصحابك طيبين”
اهتمامي تطاردني بإلحاح وأنا ال أشكو من الزائدة “راحوا يزوروا النبي ورجعوا ساملين”
الدودية .جرى بسرعة يف اتجاه املسجد مختفيًا بين أعمق لحظات التأمل هي تلك التي أعيشها عار ًيا .بعد
87
إبداع ومبدعون
قصــة
أعىل أثناء مرور جنازة أمام املقهى .عقولهم تائهة دهاليزه ،ويف نيويورك تم دفن نحو مليون من جثث
يف مناطق مختلفة تقع بين القارات السبع بعي ًدا عن املوتى الذين مل يطالب بهم أحد يف مقابر جماعية ال
جاذبية األرض .فجأة قطع أبو جابر حواره مع أنور تحمل عالمات ،يف جزيرة هارت املخصصة لدفن
الذي اندفع مسر ًعا يطارد الصبي .بدت الدهشة الفقراء واملجهولين .تكررت ظاهرة املقابر الجماعية
الشديدة عىل وجه حسن الذي كان يتأمل ما يحدث يف مدينة قم اإليرانية رغم ادعاء الحكومة بأن مراسم
وكأنه ال شأن له به وال يعنيه يف شيء .طمأنته ً الدفن اإلسالمية أجريت عىل املوتي .يف إحدى القرى
قائل:
املصرية امتنع األهايل عن تشييع جنازة رجل مات
-وال يهمك يا ابو عيل .أجيب لك ساندوتش غيره
بالكورونا ودفنه يف بداية الجائحة ،وقد حمل جوزيف
ً
حال. ستالين ووزير خارجيته عىل أكتافهما النعش الذي
بدأ الراديو يذيع تعليقًا عىل نشرة أخبار الكورونا. كان يحمل رفات العبقري مكسيم جوركي وأنا مل
لجأت بعض دول أوروبا إىل استغالل مالعب الهوكي أجرب -ولو ملرة واحدة -أن أساهم يف حمل جثمان
الجليدية لحفظ الجثامين بها قبل دفنها .أصبح الوضع أي ميت ،كما مل أجرب محاولة الفهم الصحيح للفرق
مأساو ًّيا يف إيطاليا وإسبانيا .صورت وسائل التواصل بين الحياة واملوت يف عامل يسوده العبث .بدأ أهايل
االجتماعي مقاطع فيديو لجثث ملقاة يف الشوارع يف املوتى املصابين بالكورونا يتهاونون بشأن الجنازات.
أنحاء األكوادور وظهرت الجثث عىل جوانب الطرقات يف املستقبل لن تكون هناك جنازات .عىل امليت أن
باملستشفيات والشوارع وعيل الشواطىء ويف مقالب يدفن نفسه هر ًبا من طبائع الخلق .حضرت جنازة
القمامة .اإلنسان .البشر .الناس .البنو آدميين. موظف صديق يدعى أشرف .يف صوان العزاء سمعت
تركت مئات الجثث لعدة أيام يف املخازن والشوارع زميلين له يتحاوران بصوت خفيض .يبدو أنهما كانا
يحترمان حرمة املوت:
واملنتزهات العامة ملفوفة بالبالستيك األسود لعجز
-الحمد هلل .أصبحت درجته اآلن شاغرة.
املقابر عن التلبية وانهيار القطاعات الصحية ،وعاد
-لقد طال انتظاري لها من زمان.
أنور إىل املقهى بعد أن عجز عن اإلمساك بالفتى. -لكني أحق بها منك.
سارع بتغيير مؤشر املحطة بعصبية .ظهر الصبي -كيف وأنا األقدم؟!
مرة أخرى يف أقصى امليدان يجري مسر ًعا وهو -العبرة بالكفاءة وليست باألقدمية.
يقضم الرغيف بشراهة متحد ًيا الجميع وقال حسن ختم املقرئ تالوته وبدأ يرتجل خطبة وعظية
بهدوء شديد: تقليدية يرددها يف املآتم التي يحضرها ،فتلقى
-امللك فاروق كان يحب اللحمة. القبول واالستحسان من املعزين .يهزون أدمغتهم
ثم وقف محر ًكا يديه بقبضتين مضمومتين هاتفًا: دليل عىل تصديق ما يقال حتى لو مل ويسارا ً
ً يمينًا
-يعيش جمال عبد الناصر. يصدقوه .استبد به الحماس يف لحظة عال بها صوته
وكان أبو جابر يصيح يف وجه ابنه السمين الخائف وراح يصيح صارخً ا:
-أين أنت اآلن يا أشرف؟ أين أنت اآلن يا أشرف؟
دائما من ال شيء:
ً خر ساق ًطا من مقعده عىل األرض .مات.. وعيل الفور َّ
-اشتغل يا جبان يا ابن الحمار.
وعندما ذهبت إىل صوان النساء ألصطحب زوجتي
بينما كان حسن يهمس مح ِّد ًثا كائنات هالمية ال يراها وهي الصديقة الحميمة لزوجة الراحل .سمعتها تسأل
أحد سواه: زوجتى:
-كل سنة وانتم طيبين. -ما هي إجراءات الحصول عىل امليراث؟
ثم قام متسل ِّ ًل يف صمت إىل الشجرة .تمدد تحتها عىل وكان أبو جابر واقفًا يؤنب أنور ألنه تأخر يف إحضار
األرض .وضع نعليه املهترئتين تحت رأسه وأعطي تعميرة معسل ،وأنور ينظر إليه بال عينين ويستمع
ظهره للكون. اليه بال أذنين .وقف الجميع شاهرين سباباتهم إىل
88
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
خالد إسماعيل
معاش مبكر
األول ،وحياتك كلها ،ليتخذك وسيلة من وسائل العيال ،ال سياسة وال قرف ،عمري ضاع عىل قلة
تحقيق مشروعه وحلمه السياسى ،مل يكن له فايدة.
حلم سياسي نبيل ،كان حلمه يتلخص يف السلطة -املعاش هينقص للنص..
والزعامة ،وكل الشعارات التي رفعها يف مراحل -نعوضه بحاجة تانية ،ممكن بالقرشين بتوع
حياته املختلفة ،كان الهدف منها السلطة والزعامة، مكافأة نهاية الخدمة نفتح كشك أو نعمل مشروع
وكان والدك -هو نفسه والده -هو الضحية األوىل صغير ،حتى أبيع دره مشوي لو لزم األمر ،املهم
لهذا الحلم ،سيطر عىل عقل والدك بالكذب والوهم، أربي عيايل.
فصدق أن ولده األكبر كامل يجالس الحكام
ويحاربهم أحيانًا ،ألنه يدافع عن الحق والعدل، -2
ووالدكما الحاج يوسف حج بيت اهلل ،بعد أن باع
طاهرا، ربع فدان أرض ،ألنه يريد أن يلقي اهلل أنت -اآلن -أرمل متقاعد ،تعول أربعة أوالد
ً
مغسول من ذنوب الدنيا ،وهو الذي رفض التحاق ً يدرسون يف االبتدائى واإلعدادي ،أيتام يتأملون
«كامل» بكلية الشرطة: بموت أمهم ،منذ أن ماتت مل تزرهم خالتهم نجاة،
-ابني أنا ما ينفعش يشتم الناس ويهين كرامتهم، وال خالهم جمال ،الوحيدة التي تزور بيتك -أختك
شوف لك شغالنة غير دي. لواحظ -زوجة زميلك يف املصنع والحزب الرفيق
وبحث كامل عن طريق بديلة توصله إىل السلطة، عوض الفوىل ،الذي استقال من املصنع والتحق
عضوا يف تنظيم الطليعة العربية الذي يرعاه فأصبح بورشة ميكانيكا سيارات ،وك َّون ثروة سمحت
ً
عبد الناصر داخل تنظيم «االتحاد االشتراكى»، له بأن يكون شري ًكا فيها بالثلث ،ولواحظ أختك
ونجح يف انتخابات اتحاد الطلبة بكلية الحقوق الصغرى ،أنت الذي توليت كل أمورها بعد موت
-جامعة عين شمس -وانضم للحزب الشيوعي والدكما ،ونمت بينكما محبة أخوية قوية.
املصري منذ تأسيسه يف منتصف السبعينيات من قبل موت صباح قال لك الدكتورعزيز صدقي
القرن املاضي ،وأصبح عضو اللجنة املركزية ،ثم -أستاذ جراحة املخ واألعصاب -بكلية طب
انقلب عىل القيادة ،وخرج من الحزب ،وجلس مع القصرالعيني:
ضابط أمن الدولة املكلف بمكافحة الشيوعية يف -املدام يلزمها جراحة مستعجلة ،الغضروف ممكن
الصعيد وقال له: يسبب لها شلل.
-أنا بطلت شيوعية ،ارموا بياضكم! -والجراحة دي يا دكتور تتكلف كام؟
فقال له الضابط: -عشرين ألف جنيه ،وأجرة إيدي عشرة آالف ،ده
-جهز نفسك ،هتسافر مرافق مع املدام ،هيه مراعاة لظروفك ،إنما يف ظروف تانية أجرة إيدي
هتروح مدرسة إنجليزي ثانوي بنات يف أبو ظبى، عشرين ألف ،غير تكاليف أوضة العمليات.
وانت هناك شوف نفسك ،وهنساعدك. وعاشت صباح عامين مشلولة ،راقدة عىل السرير
وتمت الصفقة ،وأنت ما زلت تناضل يف مصنع وأنت تخدمها ،وتحملها إىل دورة املياه فتقضي
األسمدة مع الرفاق ،وسرعان ما انهار الحزب كله، حاجتهاوتحملها -نظيفة -إىل سريرها ،وتغسل
وانهار البيت الكبير ،االتحاد السوفييتي ،أول وطن املواعين وتطبخ ،وتشوف طلبات العيال ،وأنت
اشتراكي عىل األرض ،أقامه لينين يف ضوء تعاليم راض وصابر رغم مرض صباح ،وكنت تقول
ماركس وأنجلس ،وكان املفترض أن تتحول الدنيا لنفسك «املهم نفسها يف البيت ،وقعدتها وسطينا»،
كلها إىل االشتراكية ،وماركس يحذر :االشتراكية أو كان وجودها يشعرك باألمان ،وكنت تقول:
البربرية. -صباح أم عيايل ،بنت حالل ،أشيلها جوه عيني،
وجدت نفسك عار ًيا ،وقعت القطيعة بينك وبين زي ما شالتني زمان.
كامل ،ألنه أرادك مثله صديقًا ألمن النظام الحاكم، ملا أفسد أخوك -األكبر -كامل مشرع خطوبتك
90
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
91
إبداع ومبدعون
قصــة
-3
-أنت غبي.
نعم ،أنت غبي ،والدليل موجود يف حياتك نفسها،
هل تذكر اليوم الذي كان فيه أخواك كامل وعاطف
يتحاوران يف األوضة الغربية يف بيتكم العائيل يف
البلد؟
دعما لرأيه،
فجأة -يومها -قلت كلمة اعتبرها كامل ً
ً
قرشا وأعطاه لك فقام وأخرج من جيب قميصه
باسما:
ً وقال
-شاطر ج ًّدا ،روح اشتري حالوة وهيص.
زائرا
ً واعتدت الفلوس من كامل ،كلما جاء
العائلة ،نظرت إليه نظرة سؤال ،يخرج بعدها
الجنيه ويعطيه لك ،واعتدت هذا األمر ،
ألن والدك -فقير -يعمل يف األرض لتأكلوا -أنت
وإخوتك -وتتعلموا يف املدارس ،وكان والدك يوفر
الضروريات يف البيت مثل الدقيق والسكر والشاي
والسمن ،ويرى اللقمة أهم من الترف ،ومصروف
األطفال ترف ،والعيل يتراضى بأي حاجة ،ثم
حصلت عىل شهادة دبلوم الصنايع ،وقدم كامل
العرض الذي أسال لعابك:
-هنعينك يف شركة مصر لألسمدة ،وتبقي معانا.
وكلمة «معانا» تحولت إىل تبعية مطلقة ،هو الذي
يقضي ويحكم وأنت تنفذ ،سيطرعليك سيطرة تامة،
عضوا يف الحزبً باسم «روح الرفاق» ،وأصبحت
الشيوعي معه ،وعشت سنوات تعتبره صاحب
فضل وتدين له بالوالء القلبي والعقيل ،حتي جاء
اليوم الذي لقيت فيه عبد اهلل هالل -الرفيق القيادي
92
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
التي دبرها لك يف البلد فشلت ،وكان هدفه من يف الحزب الشيوعي املصري -وقلت له:
ورائها أن تتزوج سلوى ابنة رضوان عكاشة -أنا حاولت أتجوز من النوبة ،وأخويا كامل
رفيقه يف الحزب وذراعه اليمني التي يبطش بها رفض!
-أخوك رفض عشان فيه قيادات من النوبة
ويعتمد عليه يف االنتخابات البرملانية ،واملؤتمرات
شيوعيين كانوا ضده ملا حاول يعمل انقسام يف
الجماهيرية للحزب ،ودخلت بيت الرفيق رضوان الحزب ويبقي هوه السكرتيرالعام.
وخرجت مصدوما -كان مبررك للخروج أخالقيا- -بس هوه قال يل حاجة تانية ،قال يل إن النوبة
وقلت ما معناه إن بيت الرفيق رضوان به فوضي والصعايدة هويتين مختلفتين ،وده هيكون له
تجعله ال يصلح ألن يتزوج الرجل منه ويعيش آمنا أثرعىل هوية األوالد.
-يعني إيه هوية األوالد!
عىل سمعته وعرضه ،وكانت جلسة الطالق -طالق
-يعني الولد أبوه صعيدى له عادات ،واألم نوبية
سلوي -يف دوارالعمدة ،وهي القشة التي قطعت لها عادات ممكن تكون متناقضة مع عادات الوالد،
ما تبقى من عالقة بينك وبين كامل ،وفيها جلستما وده يخيل عنده اضطراب ،يبقى مش عارف هوه
متجاورين عىل الدكة للمرة األخيرة ،وجاء العمدة صعيدي وال هوه نوبي؟
واملأذون والشاهدان ،وجاء والدها ووقف بعي ًدا عن -الحكاية دي مقدورعليها ،يعني اليل اتجوز
املجلس وقال بصوت متأمل: روسية وال كندية ما عندوش خوف عىل هوية
عياله؟!
-حسبي اهلل ونعم الوكيل.
-يعني ..هيه الحكاية انتهت كده ،رغم إن البنت
بعد عامين قضيتهما عاق ًدا قرانك ،وملا رأيت منها كانت كويسة وبتحبني وجميلة ،وأهلها ناس طيبين.
ومن أمها ما غير قلبك ،قررت الطالق ،وقرر كامل -أخوك لعب بيك سياسة من غيرما تحس ،هوه
أن يشن عليك الحرب يف البلد: كان أيام خطوبتك بيخوض معركة الحزب ،وكان
-صايع ومش بتاع جواز ،والعمري أحضرله عاوز ياخد معاه منطقة الصعيد والنوبة ،وخاف
من وجودك هناك مع األعداء ،وخاف منك لتعرف
جواز تاني وال طالق.
حقيقته وتاريخه منهم ،راح قال لك إيه «نبوظ
وتزوجت صباح عطية ،شقيقة الرفيق مجدي عطية، القصة كلها ونبعده عن النوبة».
وانهار كل شىء ،وبقيت وحي ًدا ،تعول أربعة أطفال، وملا قررت الزواج من صباح كانت الخيوط قد
وتعيش عيشة األرمل. تقطعت بينك وبين كامل ،وكانت «الجوازة التانية»
93
إبداع ومبدعون
قصــة
صاحب الكرامة
ذات املبسم السكري ،والقوام اللدن املشرب بحمرة “اهلل يا دايم ،هو الدايم ،وال دايم غير اهلل»..
العز. يرج القلوب ،يستجلب آخرين يسيرون يف الهتاف ُّ
مكسور .ال
ٌ زجاج
ٌ سور بيت العمدة عا ٍل ،ويعلوه املوكب ،يتسارع ذوو األكتاف األوسع واألعىل يف
البوابات عىل مصراعيها إال يف الليايل التي كان ُ تُفتح َّ
وتخف حركتُه. حمل النعش؛ ليرتفع أكثر،
الولوج
ُ ُيقيمها يف مولد النبي ،وطهور أحد أوالده. يمرون اآلن عىل بيت جدي ،أُجبر املوكب عىل
استراتيجيات متقن ٍة منِّي ومن
ٍ إىل حديقته ،وعمل التراب باللعابِ
ُ ً
ضئيل يختلط الوقوف؛ أراني هناك
أبناء حارتي لسرقة املانجو من أشجارها ،والرجوع السائ ِل عىل ذقني ،أطارد الدجاج واإلو َّز بعصا
بها ساملين من نباح «عسكر» ،والتخفي من الغفر «م ْحلب» طو ُلها يفوقني بثالثة أضعاف .أصبت أكبر َ
انتصار ال تعادله إال سرقة قطفة من شه ِد َ
مبسم ٌ إوزة يف رأسها؛ فخرجت نسوان الدار يصرخن
رفعت رأسي للبوابة الخشبية التي علَّق ْتني ُ جميلة. مستفهما“ :هو اليلً ليعاجِ لنَها بالسكين .يأكل جدي
عيون عسكر الحمرا ُء ،التي رصدت تخلُّفي ُ عليها جاب داغها؟!”.
خلف صوامع الغلَّة.، َ عن زفَّة املولد ،والتواري تضحك أمي وهي تقول“ :بالهنا والشفا يا حاج”.
من،
الس ُيتساقط منه َّ ُ آكل رغيفًا ساخنًا بالسكر ثم انكمشت ابتسامتُها حتى كادت شفتاها تختفيان
يدي .لوهل ٍة أحسست متحس ًسا جميل َة ،وألويها بين َِّّ حينما ر َّد:
أنني أمتلكها ،وأمتلك املنزل ،والبهائم والغفر؛ حتى “ما تفرحيش به قوي ده ابن موت”.
هبشني عسكر و(مرمغني) يف التراب! ظل للصمت. طويل ج ًّدا حتى صرت ًّ
ً إال أنني عشت
ِخ ْل ُت ُه سيسلب روحي ،ويق ِّطع أوصايل .علقني
َّ مررنا جمي ًعا من البوابة الخشبية الكبيرة التي
تماما اآلن -عار ًيا إال ً العمدة عىل البوابة -هي فوقي تفص ُل البيوت عن الغيطان ،إال العمدة واألعيان
من سروا ٍل داخيلٍّ ،جسدي مدهون بالعسل ،مل يقو الذين حاولوا تقليد الباشا صاحب العزبة املجاورة
عمي عىل إنزايل .زمجر جدي وهو يقول للعمدة: وس َّوروها
بعد الثورة؛ فبنوا بيوتهم وسط الغيطانَ ،
“يستاهل؛ عيل ابن كلب قليل الحيا”. تكف عن ٍ
بأسالك ،وأطلقوا فيها كال ًبا سودا َء ال ُّ
ثم ركن إىل العارضة يبكيني مطمئنًا إياي: النباح ،أشرسها «عسكر» كلب العمدة أبو «جميلة»
94
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
مي َّ
عطاف
(سورية)
الهاربة
تركت البيجاما التي تلتصق بجسدي يف النهار كما ألقصاها ..كم يحتاج منا الضحك لعضالت..
يف الليل. هل سمة املرونة للعضالت كي يكون االبتسام
مل يحتويني ال ُهنا حيث كنت ببيت خالتي ،وال والضحك تلقائيًّا وسطحيًّا وكاذ ًبا.
ال ُهناك يف بيت أهيل حيث أنا ..مل تستطع هنا وال هل حقيقة هم يضحكون أم يقومون بفعل رياضي
هناك م ِّدي بدم سيَّار بالحياة كأن أقوم بفعل فقط .وعدت للمرة التي ضحكت مع عادل ،بدأ
بسيط :أن أشلح ثيابي. الضحك من قلبي ،شعرت كيف سكب نبيذًا يف دمي
قرارا بسي ًطا بارتداء أو خلع ثيابي فذاك ً كي أتخذ وصل عقيل فسكر وأمر حبايل الصوتية بالرقص..
فعل يقوم به غيري دون تفكير ،لكنه يسلبني جه ًدا نعم ترقص الحبال الصوتية عند الضحك.
مترد ًدا بين دفتي العبث ،جسدي شبه خامد للحد تذكرت ضحكتي وتعجبت :كنت أضحك؟!
الذي يجعل من غسيل وجهي ً
عمل متعبًا. فتحت الباب وخرجت هاربة للمرة الثالثة.
أتمدد عىل السرير الذي بدأت أش ّم به رائحة عطنة، قارسا ،أحنيت ظهري ً يف الخارج كان البرد
تلك هي رائحة الزمن عىل الجسد الخامل. ووضعت يدي يف جيبي ،أردت الحفاظ عىل طاقتي
أحاول إنزال قدمي عن السرير ،تلك املسافة بين ألصل البيت ..سرت يف الشارع الذي يحوي عمود
السرير واألرض تبدو كنواس يعيش حالة تردده.. إنارة وحيد ..شعرت بوحدته الباردة ..قلَّة من
إنزال قدمي يحتاج لكم من األفكار واألسئلة الناس يف الشارع ورائحة الشواء تترك يف معدتي
املحتارة التي تميل بأجوبتها لبقائي يف سري ٍر هو شعورا بالغثيان ..تذكرت أني منذ البارحة مل ً
تلل من كثبان رملية تسحبني بكتلتي إىل الغرق أتناول شيئًا سوى قطعة شوكوال صغيرة مركونة
بالرمل. لسبب مل أعد أتذكره يف درج الكومودينو ..اشتد
الغرق بالرمل هو من أوجه املوت األكثر عذا ًبا.. البرد وتحركت نسمات جعلت جسدي جليدي القلب
أمومي ،حتى ٌّ الغرق باملاء يبدو طر ًّيا ،للماء بعد والقالب ،والتهيت بفكرة واحدة هي لعن نفسي
سلسا إىل ً وأنت تغرق يسقي جسدك ويتسرب طول الطريق عىل قراري بالخروج والسهر معهم.
رئتيك ،وقد تفتح عينيك فال أمل وال عماء ،وأما حين اتصلت خالتي البارحة وطلبت مني وع ًدا
الغرق بالرمل ففي كل محاولة شهيق تختنق باملجيء ألكون معهم يف رأس السنة مل أستطع
وتجرحك حبيبات الرمل ،حبيبات تسد فتحات التملص من محبتها ،ألن خالتي تلك امرأة تعرف
أنفك ..فمك ..طعم الرمل عىل لسانك شبيه بجفاف متى تحب وكيف ،وتملك نظرة تخبرك بها أنها
أيامك التي انسلت ،تبتلع الرمل فتزيد من إحساسك كثيرا ألنها امرأة تُركت عىل ً بجانبك ،ال بل هي تحب
بالغثيان ،تسعل لتنجي رئتيك فتسحب يف شهيقك ً
طويل. هامش الحب
ك ًّما أكبر ..أن تفتح عينيك تلك مغامرة ال تفكر بها، وافقت تحت ضغط حبها واعتقادي أنني سأرتاح
حبيبات الرمل عىل بللور عينيك له وقع مشرط. مما كان ينهش بي ككلب مسعور؛ إنه الضجر.
غريب أنهم مل يستخدموها يف املعتقالت والسجون الضجر ذاك األمل املجوف الذي مهما حاولت
كأكثر األدوات عذا ًبا. مرهمته يزداد إفراغه ملعنى األشياء واألشخاص
سرير رميل يغوص بي بكثبان الذكريات. وكل شيء ،وأما صوته كما لو أنه نحيب يف حالة
«غروب» ،االسم الذي أطلقه عيلَّ والدي ظنا منهم
ًّ إعالن طوارئ دائمة يقشعر بدنك بتوتر يقظ
أني سأمارس رومانسيتي عند مشهد يسحر ومستمر.
األخرين ،لكنه مل يمدني سوى بالحزن ،يف الصغر يف الطريق قلت «هناك» ،أي يف البيت ،سأخلد
كان سطح البناية بيتًا يضم كل الجيران ،يصعدونه فيلما ما .وحين دخلت الـ»هناك»، للنوم ،أو أشاهد ً
عصرا لنيل قسط من البرودة يف يوم حار ،كنت ً أصابني الحزن والحنين ،تذكرت عادل ،ونعق يف
أجلس يف زاوية ال أتحرك منها ،وعند غروب داخيل ألف غراب ..أشتاقك يا عادل ..أشتاقك.
الشمس تنهال الجمل إعجا ًبا برحيل الشمس الذي دخلت غرفتي ،جلست عىل طرف السرير حيث
98
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
أتمدد اآلن عىل سريري وأنظر عيون الذبابة التي مبكرا صوت سيارة بيضاء يف حلمي ،كان ً أيقظني
قتلت الوقت وأزيز الذبابة ينال ُ مألت السقف، صوتها جنائز ًّيا وكان قلبي يخبط بقوة يف صدري
مني ويجتاحني الضجر؛ يحتل مساحتي ومساحة مر يومان لدرجة سمعت ارتطام وتينه بأضلعي ،ثم َّ
املكان ..كل املكان. ومل أسمع صوت عادل ..ثم يوم آخر وتمكن مني
أتعب يف محاوالتي للنوم ،فينال مني األرق كخردة القلق واألرق الذي يعرف كيف يتمادى بضوضائه
بالية ،ال نفع يف جسدي امللقي عىل السرير ..أزيز ذات املهماز فوق القلب.
الذبابة ضجر كثيف ..ضجر من العمر والناس.. عرفت أنه أصيب أثناء التدريب وأن يمينه بات
من البيت ..النوم ..اليقظة ..الحزن ..الوطن ..الدنيا.. مشو ًها ويده بترت ،هكذا أخبرتني أخته ،أقمت
القلق ..النسيم ..الجيران ..الطرق ..النهار ..الغربة.. لوحدي جنازته املسبقة ،ثم تركت لحزني أن
الليل ..األغاني ..األبواب ..الزحمة ..العطش.. يتبعها.
السير ..التبول ..األفكار ..األمل ..التوقف ..البرد.. كنت واثقة مما سيخطر يف باله ،وكانت فرصة من
الصمت ..الكالم ..الصباح ..األرق ..عيوني.. أبواب متاحة وواسعة ،قالت يل أخته إنه سقط ً
ليل
جسدي ..الصوت ..املاء ..السارية يف دمي.. من الطابق السابع يف املشفى ،أغلقت هاتفي الخلوي
الحركة ..الوجوه ..وقلبي ..ضجرت من قلبي.. وضعت سماعات األذن ثم استمعت ألغنية (My
أسهو من التعب فيوقظني الضجر األليم ج ًّدا، )body is a cageبأعىل صوت ،وكررتها ،كانت
من أغانيه املفضلة.
ممس ًكا قلبي بقبضته ويعصره ،تلك طريقته الرتيبة
ً مل أبك ومل تذرف عيني دمعة واحدة ،فقد اعتاد
مجال وأنا يف اإليقاظ ..أليم ومباغت ال يترك يل
بكائي أن يكون لحنين مموه أو لسبب مجهول،
املتكومة عىل وجهي املنزوع الرغبة ..ال يتركني إال
تعبأت بالحزن لفراق عادل لكني مل أبك ..بل
حين يتأكد أني عىل شفا موت أو جنون.
اكتفيت بلملمة ذكراه وألصقت صوره عىل حيطان
قبضته األخرى تعتصر عقيل ،يشردني ويغ ّربني
الذاكرة ،ورحت أقضي وقتي بمشاهدتها ،ث َّم دخلت
فتخرج شرائط العمر واألفكار ..النوايا ..الرغبة.. دهاليز ومتاهات مل أالحظها ً
قبل ،وهكذا هربت
املستقبل ..املاضي ..الحاضر ..القصص ..الحب..
للمرة الثانية.
الوالدة ..الفقدان ..الهزيمة ..تخرج من بين أصابعه. حاولت أمي أن تبثَّ حنانها مما زاد يف أملي
عيني عىل مصراعيهما كأني مل أنم َّ قبضتان تفتح والحزن ..مل أكن الفتاة التي ترغب بها أمي ،فلم
منذ عمر طويل ،عيناي مفتوحتان عىل السقف.. أجالسها لنشرب القهوة عىل كالم عادي ،الكالم
السقف املشوب بألف عين ،ألف ثقب أسود لدي
الذي يجري بين أم وابنتها والذي مل يكن َّ
يمتصني ..يفتتني ..ويسحب فتاتي. القدرة ألقوم به ،وأما أبي فكنت أرى يف عينيه
ً
تنسيل، ينسلني
يحولني لكرة خيوط متشابكة ثم ّ كالما يعتقد أنه هامشي فيخجل من البوح به.. ً
ليسحب خي ًطا تنسحب معه الروح ،تنفلت إرادتي وليته باح.
مني ،إنها طوع الضجر األليم .جسدي يغادرني ،ال ٍ
ت ََحول الناس واألشياء أليد تل ِّوح يل ،واجتررت
قدمي
َّ سلطة يل عليه ،فسلطة الضجر فتاكةُ ..ينهض حنينًا غريبًا ،ال بل حبًّا لكل ما حويل حتى لو أساء
من السرير ثم يسوقني ..فأخدم رغبته ،كأن يجعل يل ،كنت أشعر أن ودا ًعا ما يقيم حده عيلَّ ويضفي
بيدي سكينًا ،أو ك ًّما من مبيد حشري ،ويضحك طاب ًعا مختلفًا عىل كل شيء ،فالشارع الذي أسير
ساخرا :كم حشرة تعادلين بهذه الجرعة. ً غض إحساس سرير ٍّ َ عليه يهبني وهو يودعني
ثم يتفنن باملراوغة أكثر فيش ُّل قدرتي عىل القيام مريح ،والعمود تحول لجسد يعانقني ،والشجرة
بحمل السكين أو اجتراع املبيد ..يأخذ اإلرادة يف مدخل البناية تبتسم يل وتهز أوراقها ودا ًعا،
والعزم الذي أحتاجه ألوقف نزف املوت املتتابع، حتى فك ابنة خالتي التمساحي وضحكتها أثارت
بأن أمتلك خياري وأموت مرة واحدة ..واحدة فقط. اضطرا ًبا ما لكني ما كرهتها.
102
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
أحمد شرقي
(المغرب)
خب ٌر حصري
“ -وهل سنموت هنا؟ أظن أننا سافرنا عبر الزمن.. يف تلك النقطة الحدودية ،مل يكن ألملنا يف نزول
عدنا إىل املاضي! ال إنتر ِنت يف هذا املطار ،وال شبكة بو ْسعنا فعل شيء، الخبر السار حدود .ومل يكن ُ
سافر ْت بنا
َ آمل لو
اتصاالت! ماذا يجري؟ كنت ُ سوى تجزئة الوقت؛ عبر الدردشة ،أو البوح أحيانًا،
تلك الطائرة امللعونة إىل املستقبل!» ..قال املخرج حتى يأتي ذلك الخبر ،وننال حريتنا من جديد ،بعد
السينمائي بلُغة موليير ،والدموع تنهمر من عينيه فقدانها لخمسة أيام.
-مل أقتنع بأدائه املبا َلغ فيه ،ومل أتأثر بخطابه:- كان عدد املسافرين تسعين تقريبًا ،قادمين من بقاع
مختلفة من العامل ،انقسموا بتلقائية إىل مجموعات،
واخترت البقاء وراء
َ « -من األفضل أنك ال تمثل،
حسب النوع والسن ودوائر االهتمامات ..لكن
الكاميرا» ..تمت َْمت.
مجموعتنا كانت استثناء؛ إذ ضمت أربعة أشخاص
اختلفت أعمارهم وتوجهاتهم ،لكن حلمهم واحد:
رجل سبعيني مغربي ،قال إنه رئيس تحرير يف
جريدة غراء ،وشاب مخرج سينمائي ،يتلعثم يف
النطق بالعربية ،صرح يل بأنه فرنسي مغربي،
نادرا ،وسيدة تبدو يف
ً لكنه ال يزور املغرب إال
مالمحها األمريكية الالتينية
ُ األربعينيات من عمرها،
تؤلف بين الجمال والصرامة ،ال تتكلم ..تطلق
ابتسامة لطيفة من حين آلخر فقط ،وهي تقرأ كتا ًبا
ملاريو بارغاس يوسا ،عنوانه «حرب نهاية العامل».
مل تكن خائفة ،وكأن ما يقع أمر معتاد .كانت تشبه
كثيرا .ثم أنا ..طالب أدرس الصيدلة ً جينفر لوبيز
يف أوكرانيا ،وجئت عىل متن الطائرة القادمة من
كييف عبر إسطنبول .كانت تلك زيارتي األوىل
للمغرب ،بعد غياب دام قرابة عام.
أُغلقت الحدود فجأة .ال نحن داخلون ،وال نحن
عائدون .أغلقت ونحن يف السماء .مل يكن لنا علم
بذلك القرار ،الذي كان بدافع االحتراز ،واجتناب
وروني جديد إىل البالد -مل أعرف دخول متحور ُك ُ
حينها حتى اسمهَ -وفق كالم شرطي كان هناك..
ً
مسؤول عن التواصل معنا.
103
إبداع ومبدعون
قصــة
االنسجام معه ،ومجاراة إيقاعه ،فما كان له إال أن اِنتفض السبعيني العجوز من مكانه ،موج ًها َسبابته
ينذرني بنبرة غاضبة: املرتجفة نحو وجهي:
« -يف املرة القادمة ،ستغادر قاعة االجتماع يا ابني، « -أنت ..أيها الصحفي املتدرب ،هل من أخبار
بل ستغادر مقر هذه الجريدة العتيدة إىل األبد، جديدة؟ أ لن ننشر شيئًا اليوم؟
سيكون ذلك أحسن لك ،ولنا». أجبته:
يل ،وكتمنا ضحكات نظرت إىل املُ ْخرج ،ونظر إ َّ .Pas de nouvelles, bonnes nouvelles -
توترا .أما القارئة األربعينيةً قد تزيد الوضع ً
محاول أن ألطف ثم ترجمت عبارتي إىل العربية،
الهادئة ،فال يبدو أنها تفهم لهجتنا املغربية ،تكتفي الجو ،بعدما أيقنت أنه يعاني الزهايمر :كما يقول
بابتسامتها أو هز رأسها ..وحتى عنوان كتابها الفرنسيون« :ال أخبار ..أخبار جيدة» ،لتنثال عيلَّ
باإلسبانية ،كان حر ًّيا بها أن تقرأ يف ظروفنا تلك عباراته املستنكرة ،وقليل من السب املهموس من
«مائة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز. ِقبل السيد الرئيس.
قال الشاب السينمائي ،الذي رغم تشخيصه ُكتب عيلَّ ،كما ُكتب عىل املخرج وجينفر لوبير
الرديء ،أظهر موهبة فذة يف الكتابة؛ كتاب ِة الصامتة من قبيل ،أن أو َبخ ،لكني أستحق؛ فأنا
السيناريو: مجرد صحفي متدرب مندفع .الصحفي الحقيقي،
“ -مل تعلن منظمة الصحة العاملية عن شيء؛ من منظور ذلك الكهل ،هو الذي ُينتج الخبر ِم ْن ال
ألن فيروس كورونا انقرض إىل األبد ،هو وكل شيء.
متحوراته .كما أن الحروب انتهت منذ زمن ،وكل “ -نعم سيدي ،حتى عدم وقوع أي حادث
النزاعات بين بلدان العامل تبخرت ،القديم منها ً
محاول خبرا» ..صرحت بثقة، أو مستجِ د يع ُّد ً
والجديد ،الكبير والصغير .فُتحت الحدود ،وألغيت
وتآخ.
ٍ التأشيرات .أما األفراد فيعيشون يف رخاء
حتى السجون أُغلقت يف العامل بأسره ..وكل ذلك
نشرناه يف أعداد الجريدة السابقة َسيدي الرئيس!».
استغرب الرجل السبعيني ،الذي أمضى أربعة عقود
من عمره يف رصد األخبار وتحريرها وإذاعتها:
-ال قرارات اليوم وال بالغات! ال مباريات وال
منافسات رياضية! ال تصريحات وال إصدارات
وال مسرحيات وال أفالم! ال جديد يف حالة الطقس!
فعل صحفيون؟ ما يقع غير معقول! هل أنتم ً
ولنفترض أن البالد راكدة ،بل خارج الزمان
واملكان ،هل دول العامل األخرى نائمة؟
متضامنًا ،قاطعنا الشرطي نفسه ،وكان شا ًّبا أنيقًا،
محترم:
َ تنِم طريقة كالمه عن مستوى ثقايف
-بلدان أوروبا ،وبلدان أمريكا الالتينية ..أغلقت
حدودها هي األخرى ذها ًبا وإيا ًبا؛ وبالتايل ال
ُي ْمكنكم ولوج التراب املغربي ،كما أنه ال يمكنكم
الرجوع إىل حيث أتيتُم ،بل يلزم انتظار التعليمات».
وجه حينها رئيس التحرير ع َّكا ًزا ،كان بيده ،نحوي،
وقال آ ِم ًرا:
أنت ،د ِّون بسرعة ..إنه خبر حصري. َ -
104
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
أسامة حمدوش
(المغرب)
رماد الذاكرة
ال تقوى عىل أن تضمها كتب التاريخ ،فالتاريخ ال مل أصدق نفسي يف هذا الوضع النتن ،طفح الكيل
نثرا ،يكتب سر ًدا وحكيًا
شعرا لكن يكتب ًً يكتب وكرهت ذاتي وعذبتها غير ما مرة عىل طريقها
بتفصايل تجاعيد الذاكرة. املنحرف بمنعرجات األنا النرجسية والعناد
فما أقسى مرارة اللحظات التي تهيمن عىل مهجة ً
رجل مشرقيًّا أبيًّا وكرامتي تعلو األبي ،كنت
مصطفى ،رجل مثقف مفكر شاعر أديب يحسب فوق جميع االعتبارات ،وها أنذا اليوم صرت
له ألف حساب يف املجامع الثقافية واألدبية ،لكن دون قيمة وال شرف ،وبخت نفسي عىل عدم
واآلن بعد مروره بمرحلة مخيبة أضحت بضعة وعيها بأفعالها ،لعنتها عىل االهتمام الخاطئ
أشهر معدودات تنخر عباب جسده وروحه ،وما بأناس ال يستحقون كل هذه التهاليل والزغاريد
أصعب أن يصل الطموح يف رجل إىل توهان ،وما املقيتة ،كانت الجنازة كبيرة وامليت فأر ،كل هذا
أصعب أن تتالعب بك عناكب وثعابين الزمان كما يقع بداخيل املعذب يف لحظات الشؤم واالختيار
تتالعب الخمرة بالسكران. اللعين ،يف لحظات الضعف ال ينبغي للمرء أن
يصير املرء يف لحظات هواجس العواطف حاله ينسى تاريخه املجيد وماضيه التليد.
مخيبة لآلمال تدعو للرأفة والعناق والقرب بدا واع بلعبة الزمن النتن ،يهمه لطاملا كان مصطفى ٍ
البعد القاتل ،يتالعب به الحنين بعبثية الالواقع مستقبله أكثر من كومة مقززة من بشر يمرون
والالمنطق مثلما يتالعب الريح بوريقات عىل الذاكرة الصغيرة ويتركون بصيص لحظات
105
إبداع ومبدعون
قصــة
روال عبيد
(سورية)
يبوا
ُص ُاس ٌق ِب َن َبأٍ َف َت َبيَّنُوا َأ ْن ت ِ
آمنُوا إ ِْن َجا َء ُك ْم َف ِ ين َ الَّ ِذ َ أثار براز الكلب عىل السلم الرخامي األبيض يف
ُصب ُِحوا َع َل َما َف َع ْلت ُْم نَا ِد ِمين». َق ْو ًما ب َِج َها َل ٍة َفت ْ مدخل عمارة قديمة وعريقة حفيظة سكان العمارة
وعاتبهم عىل استخدامهم لفظ «كلب الدور السادس» وفجر طاقة غضبهم املكتوم .فأخذوا يتبادلون
ألنه ال يليق بأخالقهم وبعشرة العمر التي تعود االتهامات والشتائم عىل جروب الواتس آب الخاص
إىل خمسينيات القرن املاضي .فبعض السكان من بهم .فلم تكن هذه هي املرة األوىل التي يتبرز فيها
الجيل القديم الذي ما زال عىل قيد الحياة .والبعض كلب عىل درجات السلم ويثير اشمئزازهم .ففي
اآلخر ورثوا عن عائالتهم الشقق مثل أبنائهم كثيرا .أحيانًا عىل عتبات ً اآلونة األخيرة تكرر هذا
وأحفادهم .فردوا عليه برسالة اعتذار .بعد ذلك شققهم وأحيانًا أخرى داخل املصعد .وألن هناك
أخذت الرسائل تتالحق ،فساكن يقول: كلبين يف العمارة ال غير ،أحدهما لساكن يف الدور
-مصيرنا نالقي طريقة ونعرف هو مين. السادس يدعى الباشمهندس عبد العظيم ،واآلخر
وآخر يعلق: لشابة تسكن مع جدتها يف الدور الثاني تدعى
-طيب وعرفنا ..إيه اليل بإيدنا نعمله؟ تهاني ،فكان من الصعب معرفة براز أي كلب
ويتدخل ساكن آخر ويقول: فيهما .فالباشمهندس عبد العظيم نفى نفيًا قاط ًعا أن
-نخليه عىل األقل يشيل وسخ كلبه بنفسه وإن يكون لكلبه أي عالقة بهذا ،ومن جانبها نفت تهاني
كررها نطلب منه يمشيه. أن يكون لكلبها عالقة باملوضوع .وكتبت جدتها
ويستشيط غضب الباشمهندس ويهدد السكان تفيدة هانم مدافعة عنها وعن كلبها يف رسالة عىل
ً
قائل: صباحا ومسا ًء من ً الواتس آب أن تهاني تأخذ كلبها
-طيب إيه رأيكم بقى إن اليل هيقرب من كلبي كل يوم يف نزهة لقضاء حاجته .وأكد عىل كالمها
هافرمه فرم. األستاذ عاصم الشاعر الرقيق الذي يسكن يف الدور
وترد تفيدة هانم: األرضي ويطل شباكه عىل الشارع .فإذًا ال بد أن
-حضرتك واخد املوضوع شخصي ليه؟ يكون هذا براز كلب الدور السادس .وما إن قرأ
وتجيبها دولت هانم: الباشمهندس عبد العظيم هذه الرسالة حتى رد
-ما هو اليل عىل رأسو بطحة يحسس عليها. برسالة أخرى مستشه ًدا باآلية القرآنيةَ « :يا َأ ُّي َها
107
إبداع ومبدعون
قصــة
شائعة ارتباطه بها مرد ًدا اآلية القرآنية الكريمة: وهكذا احتدت املناقشة من جديد إىل أن تدخل أمين
اس ٌق ِب َن َبأٍ َف َت َبيَّنُوا
آمنُوا إ ِْن َجا َء ُك ْم َف ِين َ « َيا َأ ُّي َها الَّ ِذ َ صندوق العمارة وكتب رسالة ذكرهم فيه بحديث
ُصب ُِحوا َع َل َما َف َع ْلت ُْم يبوا َق ْو ًما ب َِج َها َل ٍة َفت ْ ُص ُ َأ ْن ت ِ رسول اهلل ىلص اهلل عليه وسلم:
نَا ِد ِمين». وخير
ُ ِ
خير ُهم لصاحبه، خير األصحابِ ِعن َد اهلل ُ
ُ -
وأصر عىل أنه يعتبرها بمثابة ابنته وأنه مسؤول خير ُهم أجار. ِ
الجيرانِ عند اهلل ُ
عنها إىل أن «يفتكره ربه» .إال أن تصرفاته كانت فصلوا عىل النبي وهدأت النفوس مج َّد ًدا.
تشي بعكس ذلك .فمرة يرسلها إىل عيادة طبيب وفجأة دخل األستاذ الجامعي املتقاعد د.محمود
من سكان العمارة ويطلب منه إجراء فحوصات عبد املقصود عىل الجروب وأدىل بدلوه .فاقترح
كاملة لها يف املستشفى الذي يعمل به ألن معدتها تركيب كاميرات مراقبة يف مدخل العمارة واملصعد.
تؤملها .ومرة يزور األستاذ عاصم ملناقشة مشكلة ويف الحقيقة مل يكن اقتراحه جدي ًدا .فمنذ مدة وهو
مواسير املنور املهترئة التي تحتاج إىل استبدال يقوم بزيارات مكوكية للسكان إلقناعهم بتركيب
وفجأة يغير مجرى الحديث إىل أحالم ويبث له قلقه كاميرات مراقبة ،لكن السكان كانوا يرفضون
عليها .فيخبره بأنه عندما اتصل بها يف الصباح اقتراحه .ويف الواقع مل يكن هناك أي سبب مقنع
وجد صوتها خافتًا ومرهقًا إىل درجة أنه طلب منها لرفض اقتراح تركيب كاميرات مراقبة إال ألنه جاء
فحصا ملعاينة مستوى السكر يف ً أن تذهب وتجري من الدكتور محمود عبد املقصود .فكما يقول املثل
الدم فربما كانت مصابة بمرض السكر دون علمها. «اليل اتلسع من الشوربة ينفخ يف الزبادي» .فلم
وبعد قليل يعرض عليه خدماتها من تنظيف وشراء يفق السكان بعد من املصيبة التي ابتىل فيها العمارة
حاجيات .ثم يسأله فجأة إن كان يعرف أن لها أختًا عندما كان أمينًا عىل الصندوق.
توأما؟ فيرد عليه األستاذ عاصم بهدوئه املعتاد: ً فذات يوم استيقظ سكان العمارة ليجدوا امرأة
-ال واهلل. اسمها أحالم تطرق أبواب شققهم وتخبرهم أنها
فيجيبه بحماس: ابنة البواب األسبق .وأنها ولدت يف هذه العمارة.
-لو رأيتهما يف الشارع تمشيان لن تفرق بينهما. وأنها انتقلت للعيش يف البدروم مع أبنائها الثالثة.
ويسترسل يف وصف طولهما الفارع وعرضهما ثم أخذت تعرض عليهم خدماتها .وعندما سألوا عم
وقوة بنيتهما الجسدية .ثم يشتكي له من أبنائها. حسين عمن أتى بها ،أخبرهم أنه عاد من إجازته
نائما وكلما وجد فابنها الكبير يقضي معظم وقته ً وفوجىء بها وقد كسرت قفيل غرفتين يف البدروم
عمل يداوم عليه عدة أيام ثم يتوقف .أما ولداها له ً واستولت عليهما باألمر الواقع .فطالبوا د.محمود
اآلخران فمهما حاول مساعدتهما يف الدراسة فورا وطردها من البدروم. عبد املقصود بالتدخل ً
فال فائدة ترجى منهما .ثم أخذ يصف له كيف لكنهم فوجئوا به يدافع عنها .وأخبرهم أن والدها
تعاقب أوالدها عند تقصيرهم يف الدراسة :تقف رجل طيبًا .وأنه يعرفها منذ ً البواب األسبق كان
عىل الكنبة وبيدها كرباج توقعهم به ضر ًبا .امرأة أن كانت طفلة تلعب يف املدخل .وأنها انفصلت
شديدة البأس تستطيع أن تعتمد عليها صدقني. مؤخرا .ورفض أخوها بواب ً عن زوجها البلطجي
وأخذ يخبره أنه يف حال تعرض ألي مكروه ،مهما العمارة األخرى عىل ناصية الشارع استقبالها
فرضا لو حاول أحد السطو عىل شقته، ً كان نوعه، مع أوالدها وهي ال تستطيع التخيل عنهم فلم
فما عليه إال أن يصرخ من طرقة املنور ،يا أحالم، يكن أمامها إال هذه الطريقة .وأعلن أنه سيتبناها
وستكون أحالم أمام باب الشقة وهي تمسك املجرم وسيتوىل شؤونها ما دام حيًّا .وعندما حاولوا بعد
من «زمارة رقبته». ذلك طردها بقوة القانون أظهرت لهم عقد إيجار
لكن األستاذ عاصم مل يكن متعاطفًا معها عىل رسمي .وسرعان ما سرت شائعة بين السكان عن
اإلطالق ،خاصة بعد أن طرقت بابه يف أحد األيام زواجه من أحالم عرفيًّا بعد أن تركت زوجته الشقة
وطلبت منه بحدة أن يتوقف عن وضع الطعام وانتقلت للعيش مع ابنتها .وعىل الرغم من أنه كذب
108
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
بعضهم بضرورة تركيب كاميرات املراقبة. للقطط ألنها ال تريد قط ًطا يف العمارة ،فهي تتبول
ووجدوا فيها نو ًعا من الردع ملن تسول له نفسه يف املنور وتتصارع عىل السالمل الخلفية مصدرة
السطو عىل الشقق أو توسيخ العمارة .أما البعض أصواتًا مزعجة .وعىل الرغم من أنه تجاهل األمر إال
اآلخر فقد رأى فيها انتها ًكا للخصوصية العامة. أنه الحظ أن القطط بدأت تختفي .وساورته الشكوك
فاألستاذ عاصم الذي يسكن يف الدور األول كان يف أنها كانت تدس السم لها يف الطعام .كما كان
صوتها األجش العايل ليل نهار وهي تصرخ يف
قلقًا من أن تكشف الكاميرا وجه السيدة التي كانت
وجه أبنائها يضرب عىل أعصابه .وأصوات أبنائها
تتردد عليه .أما املحامي عزت األمير فقد كان قلقًا
وهم يتقاذفون السباب بألفاظ خادشة للحياء
بسبب االجتماعات التي كان يعقدها دور ًّيا لرموز يثير اشمئزازه .هذا باإلضافة إىل شغلهم املدخل
املعارضة .ودولت هانم ومفيدة هانم وتهاني الرخامي الواسع بلعبهم باالسكوتر وما تصدره
كن قلقات بشأن مؤخراتهن .فماذا لو تلصص من أصوات مزعجة وإرباك للمارة خاصة من كبار
األرمل العجوز الذي يسكن يف الدور السابع عىل السن .كما شعر السكان باستياء شديد منها عندما
مؤخراتهن كما كان يفعل عندما كانت إحداهن حاولت قطع عيش الزبال املسكين الذي أمضى
تمشي يف الشارع وتلتفت وراءها لتجده يتبعها. عمره يف خدمة العمارة .وأخبرتهم أنه رجل «معفن»
وماذا عن الشاب األعزب الذي ورث الشقة عن جده ال يفقه يف النظافة .وأخذت تجمع القمامة ً
بدل
وجدته يف الدور السادس وهدده جاره ذو امليول عنه .وبدأت تنظف طرقات املطابخ املطلة عىل املنور
األصولية بإحضار شرطة اآلداب إذا عاد واستقبل دون إذن منهم .ومل تتوقف إال بعد أن تجاهلوها
أي سيدة يف شقته .كما أثار تركيب الكاميرات ومل يعرضوا عليها أي مقابل مادي .أما عم حسين
فقد كان لها باملرصاد .فما إن يراها تطرق باب
أسئلة مهمة أخرى .فمن هو الشخص الذي
أحدهم وتعرض عليه شراء حاجياته حتى تجده
سيضعون ثقتهم فيه لتفريغ املحتوى واالطالع
يقف وراءها يراقبها .وما إن تغيب حتى يطرق باب
عليه؟ الساكن من جديد ويحذره من التعامل معها.
ويف النهاية أجمع أغلبية السكان عىل تركيب -إياك ..ست مش كويسة أب ًدا.
ً
شرطا واح ًدا كاميرات املراقبة .ولكنهم وضعوا ومل يكن يحتاج إىل شرح عبارته الغامضة تلك،
وهو أال يطلع أحد عىل املضمون إال األستاذ عاصم فالكل بات يعرف ماذا يقصد بكالمه .خاصة بعد أن
الشاعر الرقيق وأمين الصندوق الجديد عند سرت شائعة بين السكان بأن زوجة د.محمود عبد
الضرورة فقط. املقصود كانت قد أطلعت عم حسين عىل صورة من
بدل من أن تعلو الفرحة وجه د.محمود عبد وهكذا ً العقد العريف قبل أن تترك الشقة.
متكدرا .فقد خاب أمله منً املقصود ،جلس بينهم وكان آخر شيء أثار غضب السكان الشديد
وراء تركيب الكاميرات .فكل غرضه كان التلصص منها هو تلك الزينة التي علقتها يف مدخل العمارة
عىل الداخل والخارج إىل البدروم بعد أن رأى أحالم بمناسبة حلول شهر رمضان .فعندما رأتها دولت
هانم سألتها بحدة:
تقف عند البقال أسفل العمارة تثرثر مع الشاب
-من سمح لك بتزيين املدخل؟
الذي يعمل يف توصيل الطلبات إىل املنازل ،وسمع
فأجابتها وهي تضحك:
قهقهاتها املجلجلة تشق فضاء الشارع ،فثارت -أنا «أصيل بحب الفرفشة”.
غيرته عليها ومل يعد يغفو له جفن وهو يتخيل فردت عليها دولت هانم بوجه صارم:
ليل ،وأحالم الشاب يتسلل إىل غرفتها يف البدروم ً -طيب من فضلك نزليها ،إحنا مش يف حارة بلدي
تفتح له الباب وتأخذه بين ذراعيها وتنهال عليه هنا.
بقبالتها الحارة. بعد مناقشة طويلة بين سكان العمارة ،اقتنع
نون
النسـوة
(قراءات في رواية "فاصلة بين
نهرين" لغفران طحان)
110
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
نورس الكاتب املسلم الذي كان ينتظره مستقبل يمثل خطاب رواية «فاصلة بين نهرين» للروائية
كبير يف عامل األدب ،الذي يمرض هو اآلخر نفسيًّا السورية غفران طحان خطا ًبا سرد ًّيا ثر ًّيا عىل
بمرض مختلف ،ولكنه عىل املستوى األكثر عمقًا املستويين الجمايل والداليل ،فهي رواية حافلة
نجده قريبًا من حالة سوسنة ،فيكون املرضان بالرمز وتبدو مشحونة برسالة كثيفة وذات ثقل
متعلقين أو مرتبطين رمز ًّيا بحالة من إنكار الواقع إنساني ،ويبدو أن وراء هذا الخطاب هم إنساني
أو الفترة الراهنة والرغبة يف االنسحاب من الحياة. ضاغط عىل ذهن منتج الخطاب ومنشئه .وتمثل
يبدو نورس وكأنه ال يشعر من العامل بشيء غير نموذجا لدستوبيا الحرب ومقاربة أثرها ،وتهشم ً
رائحته السيئة الدالة عىل العنف والقتل والغدر، اإلنسان بها وتفتته ،مقاربة سردية غنية ومشوقة.
ومن الطريف أن أثر الحرب يف كثير من األحيان ال يف هذه الرواية التي تقارب نموذجين إنسانيين
يأتي بصورة مباشرة أو بشكل صاخب وإلحاح، -هما شخصيتا سوسنة ونورس -نجد أبعا ًدا
بل يأتي عبر عملية من الترميز واإليحاء والداللة رمزية مهمة ،يف تشكيل ورصد أثر الحرب عىل
غير املباشرة ،وهذا األمر يمنح الخطاب السردي اإلنسان السوري مهما اختلف النوع أو الدين،
قيمة مضاعفة ملا يسهم به يف مد املتلقي بمحفزات ولهذا فإن الشخصيتين بتنوعهما عىل مستوى
التأويل والشراكة يف إنتاج الداللة ،وهي متعة عقلية شامل ،ويجعلهما أقرب ً الدين والنوع يجعل األثر
وذهنية قائمة بذاتها. ألن يكونا معبرين عىل النسيج االجتماعي بشكل
دائما إىل
نورس الرافض لروائح العامل ،والالجئ ً كامل ،فلم يسلم أو يفلت من هذه اآلثار املدمرة
املواد العطرية املصنعة ليغطي عىل زخم الروائح مرضا
ً أحد .سوسنة الفتاة املسيحية التي تعاني
السيئة والعفن الذي يسيطر عىل العامل ،هو نفسيًّا هي نتاج الحرب ،حالة من اإلنكار واالنفصام
باألساس شخصية مريضة بإنكار الواقع ،فهذا والنسيان والهرب من الواقع؛ توازي ما لدى
111
نون النسوة
فهي التقت والده وأحبته وتكون هذا الجنين يف الكره العميق املتجذر يف نفسه لرفض العامل هو
رحمها تحت القصف وأحداث الحرب .ولكن الحمل باألساس تمرد لحواسه ورغبة يف اإلنكار والهروب
املعلق أو املستمر لسنوات عىل املستوى النفسي له من هذا العامل ،ال يقبل بروائح العامل أو ال يجد فيها
دالالت أخرى واحتماالت تأويلية مختلفة ،فيمكن إال العفن والفساد ،فالعامل كله هو هذه الحالة من
أن يكون األمل املعلق يف حياة سوية ،األمل يف التردي يف العفونة التي لها جذور عميقة لديه ،بدأت
السالم والرغبة يف استعادة املاضي واستعادة مع الغدر بالجمل صابر الذي ذبحه جده ،وتعمقت
العيش السوي والطبيعي .األمل املؤجل يف أن ترجع مع الحرب ،ومن الطريف أو الجميل يف الرواية أن
الحياة إىل طبيعتها أو إىل ما قبل الحرب. تكون معاناة نورس مضاعفة بأن يتم إثقال كاهله
يف الرواية جزء رمزي مهم كذلك يرتبط بنسق دائما بهذه الجثة املتوهمة ،لتضاعف من معاناته ً
ثابت يربط بين الشخصيتين ،وهو املتمثل يف غياب عىل املستوى النفسي وتمنح السرد أسباب التطور
حلقة األب أو ضعفها أو انهيارها ،أو أن يكون الدرامي ومحركاته الذاتية ،بأن يكون البطل يف
األب -وهو املرحلة الوسيطة بين الجد واالبن -هو ورطة أكبر من ورطة الرائحة العفنة ،بأن يحتاج
مرضا وأملًا وغيا ًبا ،وهذا
ً الحلقة األضعف أو األكثر فوق ذلك إىل حيلة للتخلص بها من الجثة التي
دال عىل إشكاليات مرحلة الحرب ،فإذا كان األجداد تضاعف العفونة وتضطره للمعطرات ،وتجعله
يدلون عىل املاضي والتاريخ العربي بشكل عام، عصفورا يف
ً يعيش طوال أحداث الرواية كما لو كان
فإن األب هو هذه املرحلة الراهنة التي تهيمن عليها شراك صائد محترف يحاصره جي ًدا ويحكم عليه
الحرب ومظاهر التهدم والخراب والضعف ،يف حين الفخ.
يكون األبناء أو الجيل الحايل من األبناء دالين عىل إن ما تعيشه الشخصيتان الرئيستان ليتشابه يف
شكل طريفًاً املستقبل .وهكذا فإن الرواية تطرح املستوى األكثر عمقًا ،ويصبح له القيمة الداللية
من التعبير عن التاريخ بطريقة رمزية ،فتشير إىل ذاتها ،ذلك ألنهما يعانيان باختالف يف نمط املرض
ازدهار التاريخ العربي وهذا املاضي املجيد وفق من حالة إنكار للواقع ،والحمل املعلق -أو الحمل
منطق الخطاب الروائي ورؤيته ،يف حين يهيمن النفسي املعلق -لدى شخصية سوسنة هو دال عىل
الضعف واالنهيار عىل الحاضر ،أما املستقبل فإنه رفض الخروج إىل العامل يف قراءة من القراءات،
نتيجة لهذا الحاضر ،فليس يف املستقبل إال هذه واحتمال من احتماالت التأويل ،فكأنها باألساس
الحالة النفسية املتردية التي يقع فيها األبناء من ترفض خروج جنينها للعامل وهو بهذه الصورة،
التخبط والتوهم والضعف واملرض النفسي وتهشم هي باألساس ال تملك جنينًا ،بل هي حالة مرضية
ذواتهم ،بما يجعل األفق مسدو ًدا أو ضبابيًّا وغير من التوهم الذي تصعب معالجته ويجاريها فيه من
واضح املعامل ،فال نعرف حولها حتى الطبيب نفسه ،يف حين
هل يمكن الخالص من هذه أن الطب النفسي يقول إن مجاراة
األمراض النفسية واستعادة املريض ليست هي العالج ،بل هو
صحتهم؛ أم أن حاالتهم تعميق للمرض ويزيد فيه .لكن هذا
ستتفاقم وستزداد سو ًءا؟ الحمل املعلق عىل املستوى التأوييل
وهو السؤال الذي تنفتح والداليل داخل النص السردي هو
عليه داللة الخطاب ،وتظل نوع من التمرد عىل الواقع ،ورفض
هكذا أمام إسهامات املتلقين الخروج إليه ،فكأن األم تخاف
وحسب رؤيتهم وتصوراتهم عىل ابنها من وحشية العامل
الخاصة. وقسوة الحرب وعنفها ،وبخاصة
والدليل عىل أن املاضي مجيد وأنه نتاج حالة من الحب أو
وعفي ،ومما يؤكد
ٌّ وقوي العشق الذي ولد يف فترة الحرب،
112
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
مأساوية.
يف الرواية بعدان آخران مهمان ،أحدهما يتمثل يف
توظيف التكنولوجيا ووسائل التواصل االجتماعي
عىل نحو جيد يحقق عد ًدا من األهداف والقيم
الجمالية املهمة ،مثل توسيع عامل الرواية وجعله
يخرج أحيانًا عن نطاق الشخصيتين وهيمنتهما
إىل عامل األصدقاء االفتراضيين ولغتهم وخلفياتهم
وأدوارهم وطريقتهم يف العيش والتفكير ،فكأننا
أمام عاملين ،أحدهما خاص ومنغلق عىل ذاته وهو
عامل كل من نورس وسوسنة ،وعامل آخر أكثر
انفتاحا وفيه قدر من البالدة والجمود والحياة
ً
الطبيعية وهو عامل أصدقاء الفيس بوك ،وهؤالء
األصدقاء االفتراضيين الذين ما زالوا يعيشون
حياتهم بشكل أقرب إىل الطبيعي ،وهم مؤشر عىل
استمرار الحياة بأي شكل وبأي صورة برغم
الحرب ،هذه الخلفية أو الجوقة الجماعية التي كونها
الخطاب السردي عىل أساس من هؤالء األصدقاء
االفتراضيين ،وعىل أساس من عامل الفيس بوك،
هم املمثل لحركة الحياة وحيويتها ،واملمثل لصالبة
الزمن وأنه يمر بأي ثمن وبأي كيفية ومهما كانت
الخسائر ،وأنه إذا كان هناك من يعاني من الحرب
ويتهشم وينهار بسببها ويعيش حياة مأساوية؛
فإن هناك كذلك من ستمضي به الحياة وسيستمر
عىل النسق الطبيعي ،فيكون الزواج واألكل والشرب
والتناسل والبناء يف كل األحوال ،والنمطان يتم
قياس أحدهما بالنسبة لآلخر ،أي أن كل اتجاه هو
باألساس يوضح اآلخر ويبرزه.
أما البعد الجمايل اآلخر فهو ذاك املرتبط بتوظيف
النصوص العابرة أو وضعيات وتوظيفات التناص
يف هذا الخطاب السردي ،فنجد أن الرواية حافلة
بعدد من النصوص األخرى التي تستقر يف هذا
املتن السردي ،بعضها نصوص شعرية وبعضها
محاورات أدبية ومراسالت عىل الفيس بوك
وبعضها كتب وروايات أخرى ،وكلها تصبح جز ًءا
إضافيًّا يف نسيج الرواية وعاملها ،وتدل عىل التنوع
الثقايف واملعريف لهذا الخطاب الروائي ،وتدل عىل
انفتاحه وثراثه
114
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
هذه القبلة التي جعلت منها امرأة حبىل ،حبلت من دائما محل نفور الشم عنده ،هذه الحاسة التي ظلت ً
قبلة وهي اآلن يف عامها الخامس« :فجأة تحىل فمي عند الفالسفة وجموع املفكرين ،عىل اعتبار أنها ميزة
بنكهة قبلتنا األوىل ،تلك القبلة التي أصابني بدوار حيوانية ،لكن بعض الفالسفة من مثل باشالر أفرد
( )..نكهتها اآلن تذوب يف فمي كقطعة حلوى ().. خاصا يف كتابه «شاعرية أحالم اليقظة»، ًّ اهتماما
ً لها
يتسرب سكرها بهدوء ..الطعم كامل اآلن ،سكر كما تحدث عنها لوبروتون يف كتابه «انتروبولوجبا
يتوازن بملح خفيف» (ص.)85 الجسد والحداثة» ،عىل اعتبار أنها إحدى محفزات
كل واحد من الشخصيتين عالق يف بدايته األوىل، تشكيل الشخصية؛ وأهم عالماتها إنها مصدر
هذه البداية النكبة ،نورس عالق يف رائحة اللحم للخوف ،فال غرابة أن يعيش نورس يف هذه الرواية
الكريهة التي شمها بالسوق صحبة جدته ،وسوسنة الرعب من خالل ما يشمه ،حتى إن بناء شخصيته
عالقة يف رائحة قبلتها األوىل مع آدم .إنها هذه ارتكز عىل الخوف من الروائح الكريهة «الرائحة
الندبات التي أصابت الروح وشكلت مسيرة حياة الكريهة تجرحك من الداخل ،تجعل معدتك يف حرب
كل واحد منهما بشكل متوازي ،يجمعهما التشرد معلنة ضدك ،تذكرك بكل املآسي التي مررت بها،
العاطفي والبؤس االجتماعي وتجمعهما حلب. تذكرك بأول خيانة ،بأول خوف ،بأول خيبة ،بأول
هي الحرب يف داخل كل منهما زادت من إيقاد موت عشت تفاصيله»( .ص )11بل ومن ذلك رائحة
فتائلها ،الحرب يف الخارج ،هذه الحرب املخدوعة الجثة التي عثر عليها ذات صباح عند عتبة بيته.
التي اشعلها وهم الحريات املغدورة ،فلم تكن حلب ومشكلة هذا الرجل أنه كان هو نفسه رائحته ،رغم
يف حاجة إىل حرب لتصبح جنة ،هي يف حاجة إىل ما يعيش فيه من غموض ضبابي ،األمر أشبه هنا
فن لتكون حلب ،وهذا ما كان يسعى إليه نورس بغرونوي كما يصفه سوسكيند يف رواية العطر
من خالل كتاباته وتسعى له سوسنه من خالل قائل« :كان الضباب رائحته هو رائحة غرنوي، ً
مشاركاتها يف األنشطة املدنية ،لقد زادت هذه رائحته الخاصة كانت الضباب ،والغريب يف األمر
الحرب من إيقاد حرب داخلية يعاني منها كل من أن غرنوي الذي عرف أن هذه رائحته مل يتمكن
حلما من شمها ،كان بوسعه أن يغرق يف ذاته كي ال
وه ًما كان يف األصل ً نورس وسوسنه ،وغذت ْ
ثم تحول إىل كابوس ،جثة يحملها كل شخص يف يشم أي شيء آخر ،ولكن دون جدوي» .اما نورس
أحشائه وصار يقرف من رائحتها ،وكل ما يف األمر قائل« :كانت الرائحة تمسفهو يتحدث عن نفسه ً
أن الروائية هنا تخوض حر ًبا ضد جثة الرواية بما كل كل جزء يف جسدي وكأنها تحولت إىل كائن
فعله فيها االكاديميون والجامعيون واملنظرون، بألف إصبع ،كل األصابع تمتد نحوي وتخزني»
(ص .)17لكن
نورس ال يشبه
غرونوي ،فهو
أشبه بسوسنة
التي تعيش
نفس الخوف
بنكهة أخرى،
غير أنها تتقدم
فيه وتواجهه،
فهي دأبت عىل
أن تشم رائحة
القبلة األوىل
املُ َّرة من فم آدم،
117
نون النسوة
السرد املعلقة التي جعلت القارىء يلهث وراء سير هؤالء الح َّطابون يف الغابات البكر والنجارون لخشب
األحداث املتناسلة من الحدث األول ،هذه األحداث التي الصباحات التي يقتنصها الندى.
نجحت الكاتبة يف تحويلها إىل أحداث رئيسية متعلقة
بمسيرة عائلتين حلبيتين من ديانتين مختلفتين :اإلسالم مدارج السرد املعلقة
ً
وصول إىل جيل واملسيحية ،ومنطلقة من األجداد األوائل
اليوم ونظرته للحياة والوجود .فتعود لألصول األوىل تتمرد غفران طحان عىل األشكال الحكائية املعتادة
لالستقرار يف حلب عاصمة الخالفة الحمدانية وثاني برغبة اإلطاحة بالنموذج السردي املألوف وما تأسس
املدن السورية بعد دمشق ،واملدينة املفتاح فيما يدور من عليه من نظريات وقوانين هي أشبه بالدساتير القائمة،
حرب مخدوعة يف سوريا اآلن ،ومن تلك اإلرادة األوىل تنشر بوليسها ومخابراتها من أجل التدقيق يف درجة
للتعمير واالستقرار يف حلب إىل اإلرادة الالإرادية للفرار االنضباط لتعاليم السرد التي وضعها املنظرون ،لقد
منها ،بما أنها أصبحت محرق ًة وخرا ًبا. رمت غفران طحان عرض الحائط بكل هذا وانصرفت
توصلت غفران الطحان لسرد كل هذه املسيرة بلغة نحو الكتابة متحررة من كل قيد ،وإذا بها تعمد إىل
شعرية مكثفة ،معولة عىل قدرات شخوصها الذين هم يف تطريز عىل غاية من البساطة والهشاشة ،أو هكذا سوف
األصل فنانون يعيشون يف هذا الوجود بشكل فني؛ غير يبدو يف ظاهره من خالل مخطط هيكيل غير متداخل
أنهم وجدوا أنفسهم يف مواجهة واقع مأسوي ،هو يف وأبعد ما يكون عن التعقيد ،فالرواية قائمة عىل واقعة
الحقيقة جثة حاولت هذه الرواية أن تعيد لها الحياة واحدة يف ظرف زمني ال يتجاوز األربع وعشرين ساعة
(كما هو شأن يولسيوس لجويس) ،وهناك شخصيتان
يتداوالن عىل سرد هذه الواقعة الوحيدة ،كل واحد
منهما حسب منظوره :نورس من جهة وسوسنة من
جهة أخرى .أما املكان فال يكاد يتجاوز حلب القديمة؛
فعنوان «فاصلة بين نهرين» هو العنوان األجدر لهذا
العمل األدبي ،فهو بالفعل فاصلة صغيرة ج ًّدا من
حياة شخصين عمدت الكاتبة إىل تحويلها إىل
لقطة زوم من خالل حدث عرضي أال وهو العثور
عىل جثة ملقاة عند باب الشقة ،هذا هو الحدث
النواة ،غير أن األمر لن يتوقف هنا ،فلقد استثمرت
غفران طحان عدة موتيفات أخرى لتوسيع شبكة
روايتها فقامت بتوظيف الحلم ،التداعيات،
الهذيان ،القصيدة الشعرية ،االسترجاع بكل
أنواعه ،واألهم من كل هذا أنها وظفت تطبيقات
منصات التواصل االجتماعي بشكل ذكي لدفع
السرد وتعميق مجراه ،فلجأت الستعمال
محرك األخبار الرئيسي للفايسبوك،
وتطبيق املراسلة فيه ،كما عولت عىل تطبيق
اليوتيوب كأداة حكائية تخدم مسارات
القص ،واالستعانة طب ًعا بتقنيات الهاتف
الذكي وما يمكن أن توفره من إمكانات يف
توسيع دائرة الحكي؛ تقترح غفران طحان
إذًا عدة سردية مغايرة ،وقد أثبتت جدارة
يف توظيفها ارتقت ملرتبة الجرأة ،مستعملة
تماما ،فهي بمثابة مدارج
أدوات مختلفة ً
118
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
119
نون النسوة
غفران طحان
(سورية)
نصوص النثر ،وضمنتها يف كتاب «حلم يغفو عىل بدأت بالنَّشر يف الجرائد املحليَّة ،ومن ث َّم يف املواقع
مطر» صدر عن دار أرواد للنشر والتوزيع عام ،2015 تعرفت إىل عدد كبير من األدباء اإللكترونية ،حيث َّ
كان استراح ًة ُلغو َّي ًة يسكنها الشعر ،وإن كنت أنفيه عن الذين ق َّدموا يل الدعم الكبير ،تحدي ًدا ال ّروائية السور َّية
نفسي. نشرت مجموعتي ُ الكبيرة (إبتسام تريسي) وكان أن
اليومي
ِّ ورغم كل ضغوطات الحرب ،وتفاصيل الوجع القصصيَّة األوىل «كحل ٍم أبيض» يف دار تالة للنشر
أثابر عىل القراءة كفع ِل
الذي عشناه يف حلب ،كنت ُ رواجا بين
ً يف دمشق عام ،2009القت املجموعة
مقاومة ال أملك غيره ،أقرأ كما أتنفَّس ،وأكتب بهدوء األصدقاء يف مختلف أنحاء الوطن العربي .وفوجئت
وحذر ،أستعين بأساتذتي لتقييم ما أكتب كالدكتور وضعت
ُ ببعض التعليقات التي أسقطتني من العل ِّو الذي
والقاص املغربي
ّ الشاعر سعد الدين كليب ،والدكتور نفسي فيه ،فقد أشار الكثيرون إىل أنني أكتب بلغة
عبد العزيز غوردو ،والشاعر والقاص الفلسطيني السرد ،وتغرق يف وأن قصصي تبتعد عن َّ شاعر َّيةَّ ،
األستاذ خالد الجبور ،كانوا رعا ًة يل ،ال يبخلون عيلَّ قصصا حاملة ،بعيدة عن الواقع، ً اللغة ،وأنني أكتب
باملشورة ،ويدعمون تجربتي بكثير من النقد والتَّوجيه، متمسك ًة برأيي ،واثقة م َّما أكتب. ِّ ولكنني كنت
حقيقي يف تجربتي ٍّ وكانت الحرب السور َّية نقطة تح ُّو ٍل
واإلشادة حين أستحقُّ .
قطعت ذلك الحلم الذي أصعد نحوه، ْ مع الكتابة ،حيث
وحلَّت الحرب كثيمة أساسيَّة يف تجربتي األدبية،
عشت الحرب ُ السواد. وأعادتني إىل واق ٍع ُمغرِق يف َّ
وكان ال ب َّد لها من ذلك ،هي اللئيمة التي ال تترك لنا
بك ِّل تفاصيلها ،عشت النزوح ،العتمة ،العطش ،الخوف،
فرص ًة للتنفُّس خارجها ،وكانت تجربتي القصصية
املوت الذي بات حديثًا يوميًّا ،الغربة التي احتلَّت
الثالثة «أزرق ..رمادي» الصادرة عن سلسلة اإلبداع
الوطن ،وبدأت الكتابة تعني يل شيئًا آخر ،صارت
العربي يف الهيئة املصرية للكتاب عام ،2020وكانت وحبل يش ُّدني ،وأمانًا ً سقفًا يحميني ،وحائ ًطا يسندني،
املجموعة نقلة نوعية يف أسلوبي القصصي ،وتجربة يقيني من ارتكاب حماقة ما.
أعت ُّز بها ،غير أنَّها مل تلقَ ما تستحقُّه من الحضور عدلت عن عادتي يف ممارسة الكتابة كفعل ولكنني
ُ
كونَها صدرت يف عام منحوس ،العام الذي تزاحمت يومي ،صار األمر يقتصر عىل بعض املنشورات عىل ٍّ
فيه املصائب ،واحت َّل فيه فايروس كورونا الحضور القصة ،فكانت َّ كتابة ام أ بوك، الفيس عىل صفحتي
َّ
األقوى ،املوت الذي جاء يف لون جديد ،مل نشعر نحن تحتاج منِّي الكثير من التأنِّي واملراجعة والتعب.
السور ِّيين بغرابة يف حضوره ،بل كان تجرب ًة جديدة يف عام 2014أصدرت مجموعتي القصصية الثانية
يخصني» عن دار نون 4للنشر يف حلب، ُّ «عامل آخر
والتي تن َّوعت بين
قصص قديمة
وقصص من واقع
الحرب ،والتي
بدأت فيها أتخفَّف ُ
من اللغة ،وأنحو
السرد بشكلٍ نحو َّ
أكبر ،وأمضي
باتجاه الواقع.
ولك َّن اللغة كانت
تلح عيلَّ ،تسرقني ُّ
نحو الشعر مجد ًدا،
فأنقذت بعض
123
نون النسوة
جمال عمر
جامعاتنا« الحديثة»..
وأزمة تجديد الخطاب الديني
الغربي وتحديه الحضاري ملذهب اإلمام أحمد بن حنبل. فكان رد الفعل هو نوع من التمرد
مباشر وواضح ،وجاثم من لكن ابن عبد الوهاب ،تحالف عىل التقليد املذهبي ،الذي أصبحت
خالل السيطرة الغربية املباشرة مع األمير لكي يتم فرض هذه فيه مذاهب املسلمين يف الفقه
وغير املباشرة عبر النفوذ التصورات بالقوة ،فيتم االستقرار ويف املعتقدات ،هي بمثابة قالع،
الغربي ،وعبر عمليات االحتالل بالعودة إىل «الشريعة» وعقوباتها، يدافع عنها أتباعها ضد مذاهب
العسكري املباشر ،بل وتجىل بقوة أمير حازم ،يحارب البدعة املسلمين األخرى ،وأصبح التقليد
عجز اإلجابات املبثوثة يف كتب الدينية بقوة السيف .فكان داخل املذهب الواحد ألئمة املذهب،
التراث ومقاالت وآراء السلف التعدي عىل العتبات الشيعية بمثابة دين ُيتدين به ،فتجمدت
أمام خطر الحداثة وفتنتها ،وأمام وعىل أضرحة ومقامات الصوفية، املذاهب فكر ًّيا .فكانت ردود الفعل
التحدي الثقايف للتيارات الفكرية فالدليل النصي من املرويات هي مواجهة هذا التجمد بمحاربة
الغربية؛ فكان تيار اإلصالح املنسوبة للنبي تعكس طبيعة «البدع» التي دخلت عىل الدين،
تيارا يحاول
الديني بكل روافدهً ، الحياة البدوية يف الحجاز يف وبالعودة إىل الدين «األصيل» دين
مقاومة جمود التقليد ،بالعودة القرن السابع امليالدي ،والتي مل ما قبل املذاهب ،التي أصبحت
أيضا ،مثلإىل السلف الصالح ً كثيرا عن الحياة يف نجد
ً تختلف هي ذاتها الدين ..والعودة إىل
سابقه ،ولكن السلف هنا كان يف القرن الثامن عشر. األدلة النصية املباشرة من
السلف وقت تأسيس العلوم يف لذلك فربما لطبيعة الحياة الثقافية نصوص ومن مرويات منسوبة
أيضا وليسثقافات املسلمين ً وتراثها يف الهند الذي يختلف للنبي ومنسوبة للصحابة
سلف الصحابة والتابعين عن الحياة يف نجد ،كان رد فعل وللتابعين ،الذين هم األجدر
وتابعيهم فقط .ولكن هذا التيار شاه ويل اهلل الدهلوي (-1703 عىل فهم الرسالة .والتخلص
أيضا حاول تحديث الفكر الديني ً 1762م) عىل التحدي مختلف؛ من كل القواعد الفكرية وتراتب
عند املسلمين ،تحديثًا يواكب حيث كان يشيع التصوف ويشيع األدلة وتراكيبها التي وضعتها
العصر .ويف نفس الوقت يقاوم املذهب الحنفي ،وتوجد أديان مذاهب املسلمين ،فخلقت «بد ًعا”
خطر االستعمار الغربي ،سواء أخرى غير األديان املنصوص وحرفت يف دين اهلل،َّ و”ضالالت”
عليها يف املصحف .ورغم أن دين الفطرة ،ببساطته ،التي كان
مقاومة سياسية ،عبر السعي
الدهلوي اختصر اإلسالم يف عليها النبي وصحابته وتابعيهم،
لوحدة املسلمين سياسيًّا ،سنة
“الشريعة” كما فعل ابن عبد عبر رفض قواعد التفكير الفقهي
وشيعة ،كما سعى السيد جمال
الوهاب ،ونظر إليها كأداة ضبط املذهبية ،واستخدام “فقه الدليل”،
الدين الحسيني األفغاني (-1838
وربط ملواجهة التفكك االجتماعي، النصي املباشر.
،)1897أو عبر مقاومة التقليد
ومحاربة التغيرات االجتماعية عىل فحاول محمد بن عبد الوهاب
والغرب عبر التربية والتعليم
أنها «البدع» ،بل واعتماده كذلك ()1206 /1791 -1115 /1703
وتحديث الفكر وتقديم فهم
عىل النصوص مباشرة ،فإن هذه التواصل مع الجذر القديم الذي
جديد للنصوص القديمة يتوافق
الجهود يف القرن الثامن عشر كان يتمرد عىل املذهبية ،سواء
مع منتجات العلوم األوروبية
والنصف األول من القرن التاسع من نصوصية اإلمام أحمد بن
الحديثة ،مثل محمد عبده عشر مل يظهر لها بصورة كبيرة حنبل (/855 -164 /780
( )1905 -1849وأحمد خان يف خطر تحدي الحداثة الغربية بعد، ، )241والتأسيس الفكري
الهند (.)1898 -18017 فكانت عودة ألصول بمحاربة والعقيدي الذي قام به اإلمام ابن
«البدعة». تيمية (/1328 -661/1263
-2-
يف النصف الثاني من القرن )728وتلميذه ابن قيم الجوزية
نتيجة الهتمام تيار اإلصالح التاسع عشر؛ أصبح الخطر (،)751 /1350 -691 /1292
128
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
دينية تدافع عن دين أو عن مؤسسة ال تقتصر عىل املسلمين الديني بالتعليم والتربية ،ونتيجة
مذهب أو عن معتقدات طائفة فقط ،بل تكون جامعة ،وطنية، لشبه الفشل يف تحديث مؤسسات
دينية ،مثل مدارسنا الدينية جامعة يكون غايتها العلم ،مثل التعليم الدينية التقليدية مثل
التراثية ،فإن مدارس أوروبا مدارس أوروبا وجامعاتها .ورغم التعليم يف الجامع األزهر ،أن
استطاعت الحداثة أن تتولد من أن جامعات أوروبا والغرب كان االتجاه إلنشاء مؤسسات
داخلها ،فانتقلت هذه املدارس ،من العريقة ،كانت يف ذاتها مدارس تعليمية حديثة ،تواكب العصر،
الدفاع عن دين أو عن معتقدات
طائفة ما ضد الطوائف األخرى
وضد األديان األخرى ،إىل أن
تُصبح دراسة الدين بها دراسة
من أجل الفهم واالستيعاب ،بل
ومل يعد الدين فيها هو مصدر
املعرفة ومورد العلوم ،بل أصبح
الدين ذاته موضو ًعا للمعرفة
ومادة للبحث النقدي ،وليس
مجرد جدل وسجال دفا ًعا عن
العقيدة الصحيحة ضد خصومها
من األديان األخرى واملعتقدات جامعة األزهر
الباطلة.
أقول رغم أن الحداثة هي فعل
تجاوز من داخل هذه املؤسسات
الدينية ،التراثية ،الغربية ،فإن
التحديث عندنا ،تقريبًا ترك القديم
عىل حاله ،ومل يحاول تحديثه،
مسارا مواز ًيا،
ً وأقام بجواره
مسارا ننقل من خالله تجربة ً
التحديث األوروبية ،نقل نموذج
كامل ،سابق ،ننقله عىل الجاهز،
لتصبح الحركة يف وعينا حركة جامعة الزيتونة
بين متجاورين؛ القديم املوروث
والحديث املنقول ،ويصبح
التحديث عبارة عن نقل وتقليد.
وبالرغم من أن الحداثة هي يف
لبها حركة ضد التقليد ،فإن
التحديث عندنا أصبح تقلي ًدا،
مما جعل حركتنا تصير تحديثاً
بال حداثة ،وتجديدنا عبارة عن
تجاور بين بنيتين تُكبل كل منهما
حركة األخرى .فتقريبًا مل تتكون
جامعة القرويين
129
تجديد الخطاب
واقعنا؛ بدون الدرس العلمي اإلفراط وذاك التفريط .ويحذره ملدارسنا الدينية التقليدية يف القرن
النقدي ألصولها ذاتها ،فستظل من الباطنية اإلسماعيلية ،ليخرج العشرين؛ وتحولت من مجرد
حركتنا حركة يف املحل .فكيف الطالب بعد املحاضرات ليتنزّه جامع ،أو حوزة تقليدية ،ألن
لنا أن نجدد يف فهم نصوص يف حديقة أغاخان بجوار األزهر تصبح جامع وجامعة ومرجعيات
املصحف ،دون التعرض لطبقات التي بنتها مؤسسة أغاخان دينية .بإنشاء كليات «ألصول
التصورات واملعتقدات املنسوجة الشيعية اإلسماعيلية املعاصرة. الدين» أو «للشريعة والقانون»
حول القرآن عبر العصور ،من هذا التجاور تجده يف البلد الذي أو للغة العربية .ظلت البنية
ق ِدمه أو حدوثه ،ومن عالقة وينص عىل مذهبه جعفريُ ، التقليدية القديمة كما هي ،وتم
اهلل بالعامل ،وطبيعة الوحي؟ املذهب الفقهي ذاته يف دستور طالء سطحها بزركشات ونقوش
ومن عالقة اللغة بتصوراتنا عن البالد .ويف البلد الذي مذهبه حديثة .فحين تم إنشاء كليات
أنفسنا وعن الوجود وعن نشأة إباضي .وإن كانت الحاجة يف عملية تطبيقية بها ،لدراسة الطب
وأصل اللغة ،وكيف تعمل ،وهل مجال القوانين جعلت الخروج عن والهندسة والزراعة ..إلخ .حيث
هي مواضعة من البشر وكائن أسر مذهب فقهي واحد ،وفرضت تجاورت ثالث أبنية تُكبل كل منها
األخذ بمذهب مقارن أو عدم ُقصيها ،فيدخل أستاذاألخرى ،وت ِ
حي يعكس تصورات الجماعات
البشرية ،أم هي أصل سابق التقيد بمذهب واحد يف التقنين، ليحاضر ويشرح حتمية قانون ُ
أو الخروج عن ذلك بالتركيز عىل الحركة بين األجسام ،من خالل
من اهلل والعالقة فيها بين اللفظ
«مقاصد الشريعة» وعىل «املصالح عالقات سببية بين الظواهر،
واملعنى عالقة أوقفها اهلل؟ أو
املرعية» ،فإن املعتقدات وأصولها ويدخل بعده أستاذ يشرح مذاهب
كيف نُج ِّذر فكرة القانون ،أو
ظلت ساحة يتم االقتراب منها الفلسفة الحديثة وأهمية الفلسفة
املسؤولية الفردية وفكرة الحقوق
عىل استحياء بدرس علمي نقدي واملنطق .ليدخل أستاذ «العقيدة»
املدنية ،دون التعرض ،لفاعلية
ال ينطلق من الدفاع عن مذهب أو «التوحيد» ليلغي ما قاله
اإلنسان وقدرته عىل خلق أفعاله
ضد املذاهب األخرى ،بل ينطلق األستاذان السابقان ،ويقول إنه ال
مسؤول عنها؟ كيف نبني ً ليصبح
من فهم معتقدات اآلخرين حسب موجود سوى اهلل ،وال فاعل يف
علم عن الكون وعن الحياة فيه أو منطقها ومنطقهم ،وليس ملجرد الكون سوى اهلل ،وأنه ليس هناك
عن اإلنسان ،أو علوم يف االجتماع إصدار حكم قيمي عليها بالصحة عالقة بين سبب ومسبب ،بل هي
البشري أو يف السياسة ،عىل بنية أو الضالل ،بل لالستيعاب عالقة نسبية عىل سبيل ما تعودنا
من التصورات ليس لإلنسان فيها والتمثل ثم التجاوز لها معرفيًّا. عليه ،لكن املسبب هو اهلل.
فاعلية ،وليس لظواهر الكون فيها إن قرن ونصف من عمليات ثم يدخل أستاذ آخر بعده
قانون أو حتمية سوى الفاعلية التجديد الفقهي ومن اإلصالح ويشرح مذهب املعتزلة والشيعة
اإللهية التي ليس لح ِّدها حدود، الديني ،وقرن من إنشاء جامعات الجعفرية واإلباضية والشيعة
ولو حتى من داخلها؟ فهل يمكن «مدنية حديثة» ،وما يقرب من الزيدية كمذاهب لفرق مسلمين،
أن يكون مرور أربعة عشر قرنًا قرن من عمليات تحديث للمدارس وأستاذ الفكر الفلسفي الحديث
عىل مقتل اإلمام وعىل تحزب واملعاهد الدينية التراثية ،بل يتحدث عن الوجودية والوضعية
األحزاب مناسبة إلعادة النظر يف وما يقرب من قرن من مساعي املنطقية والبنيوية ..إلخ ،ويدخل
هذه األبنية وتصوراتها وأصولها، التقريب بين مذاهب املسلمين. أستاذ التوحيد ليقول لهذا الطالب
وكونها تصورات الهوتية أكثر ومثلها من جهود للحوار بين إن كل هذه فرق شاذة وضالة
ما هي تصورات مبنية عىل أسس األديان .كل هذه الجهود ضعيفة ومنحرفة ،عن دين الوسطية الذي
علمية ومعرفية؟ الثمار وقليلة النتاج ،وأتصور كان عليه النبي والصحابة ،وعليه
واهلل أعىل وأعلم ثمارا تؤثر يف
ً أنها لن تُثمر األمة ،ومن املهم مواجهة هذا
132
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
د.علي كرزازي
(المغرب)
ً
انفصال :قدر نفيًا أو اقتال ًعا أو
اإلقامة يف غير مكان واحد كانت
تمليه املنافسات ودسائس الفقهاء
وسخط الحكام ،لنهتبل الفرصة
ولنرافق متصوفينا يف تناقالتهم/
رحالتهم املادية والرمزية
(الروحية).
ولتكن البداية مع الحق بن سبعين
أحد زعماء الطائفة الشوذية
يف األندلس ،لننصت إىل محمد
مفتاح وهو يصور شريط تنقالته
عبر األمطار ،بين األمكنة وعبر
املسافات ،يقول« :وقد حتم
هذا الهجوم [هجوم الفقهاء] أن
يهاجر زعماء الطائفة الشوذية
من األندلس إىل بالد أخرى لنشر
علي زيعور علي سامي النشار فاطمة طحطح
مذهبهم والعيش يف أمان بين
تالمذتهم ،ولكن هيهات ،فقد كانت
الهند مشركون يعبدون كل شيء تأسره البينات فلحق باملشرق، تسبقهم شهرتهم .فابن سبعين
حتى النبات والحيوان»(.)3 ومر يف طريقه بمصر فتابعوه قبل أن يفارق األندلس سنة
رحيل يف رحيل ،ذلك هو قدر ابن محرضين إىل أن استقر به املقام 640هـ كان قد اشتهر بتآليفه
سبعين الذي تم التضييق عليه، يف مكة»(.)2 ومنها «بد العارف» و»الرسالة
ولسنا ندري إن كان انتحر كما غير أن حال ابن سبعين يف الفقيرية» ،وهكذا ما كاد يستقر
تذهب إىل ذلك معظم الروايات، مكة مل يكن أحسن من حاله يف يف سبتة ويجمع تالمذته حوله
أم أن املنية وافته بشكل طبيعي، األندلس أو املغرب أو مصر ،إذ وينتشر ذكره ويتزوج امرأة
موسرة أقامت له زاوية ،ويتصل
أما تلميذ ابن سبعين أبو الحسن إن جماعة الفقهاء تألبت ضده
بالسلطة ويجيب عن املسائل
الششتري فالظاهر أن مسار وناصبته العداء مما دفعه إىل
العقلية ،إال وبدأ الفقهاء يكيدون
رحلته مل يخضع لهجوم الفقهاء التفكير يف الهجرة إىل بالد الهند،
له متهمين إياه بالتفلسف وستره
وتعنيفهم كما هو الحال بالنسبة ذلك ما يطلعنا عليه شاهد من
بالتصوف ،فاستجاب ابن
ألستاذه ،وإن كان قد صحبه يف الفقهاء« :فإن قول االتحادية خالص إىل وشايتهم فشد ابن
الكثير من تنقالته ،ثم قام منفر ًدا (ومنهم ابن سبعين) يجمع كل سبعين رحاله إىل بجاية فاجتمع
برحالت خاصة مع جماعة من شرك يف العامل ،وهم ال يوحدون عليه خلق الناس ليستفيدوا منه
مريديه ،وربما كان هذا التساهل اهلل سبحانه وتعاىل ،وإنما ويقتدوا به ،ثم ما لبث أن استأنف
معه يعزى إىل كونه -بحسب يوحدون القدر املشترك بينه وبين مسيره صوب تونس فاستقر
املقري -أقرب إىل التصوف املخلوقات ،فهم بربهم يعدلون، فيها فترة ،فتصدى له الفقيه
السني منه إىل تصوف الوحدة ولهذا حدث الثقة أن ابن سبعين السكوني واتهمه بالزندقة «فتنمر
الذي يمثله أستاذه(.)4 كان يريد الذهاب إىل الهند ،وقال له املشيخة من أهل الفتيا وحملة
وإذا كان من الصعوبة بمكان إن أرض اإلسالم ال تسعه ألن السنة وسخطوا حالته وخشي أن
134
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
األندلس. كان يتحصل له مما يحرثه أتباعه تحديد رحالت الششتري -كما
نترك الرحلة املادية بندوبها له يف أراضيهم»(.)8 يذهب إىل ذلك محقق ديوانه عيل
وشجونها لنرحل مع متصوفتنا تختلف دوافع الرحلة الختالف سامي النشار -فمما الشك فيه
بالخطاب ويف الخطاب ،حيث التجارب الحياتية لدى املتصوفة، أنه زار مكناس وفاس( ،)5كما زار
السفر مكون هو ما يجعل من وإن كانت هذه الدوافع تعود قابس وعاش يف رباطها مدة من
الرحلة (نسغ) الرؤية للوجود يف مجملها إىل طبيعة املجتمع الزمن ..ثم ذهب إىل مالقا ومنها
واملوجودات ،ويف هذا الصدد األندلسي -غداة انهيار الحضارة إىل طرابلس حيث عاش مدة من
يطالعنا ابن خاتمة بهذه األبيات العربية اإلسالمية يف الغرب الزمن كذلك ،وبعدها رحل إىل
من قصيدة طويلة له خمس بها اإلسالمي ،-ولعل من أبرزها القاهرة حيث أقام معتكفًا بالجامع
قصيدة الشيخ شهاب الدين بن الدوافع السياسية التي جعلت األزهر وتردد عىل كثير من
أبي عبد اهلل بن الخيمي ،جاء السلطة املركزية تشجع الفقهاء األديرة بمصر والشام(.)6
فيها: السنيين ،وتناوئ املتصوفة ذوي ومن نماذج الرحلة الصوفية
مايل وما لفؤاد إن أرضه عسا امليول الشيعية ،وذلك لتأمين األندلسية نجد الرحلة الحجية
وخاطر كلما غربته أنسا استمراريتها يف الحكم. التي تضارع تجربة الجهاد،
ومستند التجربتين م ًعا رؤية
ومدمع كلما كفكفته انبجسا ويف ظل هذه املناخات املحافظة
واحدة تجعل من الحج جها ًدا
يا صاحبي قد عدمت املسعدين ما كانت لتقبل بعض أفكار
«ملن استطاع إليه سبيال» ،خاصة
فساعدني عىل وصبي ال ،مسك هؤالء املتصوفة ،خاصة ذوي
أن مكابدة مشاق الطريق ووعثاء
الوصب! النزوع الفلسفي ،من مثل القول
السفر هي معاناة للنفس والجسد،
يا حاذي العيس رفقًا يف السرى بالحلول واالتحاد ،وهي األفكار
بل إن طبيعة الظرف السياسي
بهم التي تخالف الشريعة يف بعض
الذي مرت به األندلس ،ربما
هم بقايا جسوم فوق مثلهم األحكام( ،)9وهي كذلك األفكار جعلت من الصوفية أبرز من
أيضا وقاك اهلل من أمل
وأنت ً التي قادت املتصوف ابن سبعين يقوم «بالتحريض عىل املشاركة
باهلل إن جئت كثبانًا بذي سلم إىل شن هجوم مضاد عىل الفقهاء فيه»( .)7ومن هنا كان القصد إىل
قف بي عليها وقل يل :هذه الكثب! واألشاعرة واملتصوفة (السنيين)، الحج مناسبة للحث عىل الجهاد،
ولتنزلن بي لديها ال ضللت سرى كما قادته إىل الرحيل عن تلك كانت حالة أبي مروان عبد
امللك بن إبراهيم بن بشر القيسي
اليحاسني من والية املرية (املتويف
سنة 667ﻫ) الذي «كان من
مذهبه السياحة يف األرض ليتصل
بالشيوخ والسالطين ،وهكذا
زار املشرق واملغرب عدة مرات
ومتصل ببعض سالطين ً حاجا
ًّ
املغرب ،ليحثهم عىل الجهاد يف
األندلس .وحينما كان يرجع إىل
سكناه باألندلس يقيم مجالس
ً
احتفال ذا الذكر ويحتفل بالعيد
أبهة ،يحضره الناس من غرناطة
واملغرب ،معتم ًدا عىل كسبه الذي
135
تجديد الخطاب
واإلقصاء ،فيما هي تشكل ثابتًا به املالحة واعتزت به الرتب(.)10 وسر برحيل وذرني أندب األثرا
ومؤشرا أسلوبيًّا يتردد
ً دالليًّا هي تغريبة يف الزمان واملكان أعفر الخد بين الترب منكسرا
بكثرة يف شعر ابن خاتمة ،وهي تترجم عاطفة دينية قوية ،ووج ًدا ليقضي الخد يف أجراعها وطرا
(أي تيمة التخلف) ال تختلف عن مجلل بالشوق والحنين، ً اضافيَّ ً من ترابها ويؤدي بعض ما يجب
إشكالية الذنب /الغفران لدى ابن إنها إسراء صويف ينتقل الشاعر يا صاح والقلب ال يصحو لالئمة
الخطيب(.)13 عبره من األندلس إىل املشرق باهلل إن ملت من نجد إىل سمة
وال تنتهي رحلة ابن خاتمة عند معرجا عىل محطات مأهولةً عارض صباها لتشفين بنا سمة
هذا ،من مكان إىل مكان ومن مقام بالقدسية والرمزية« :ذي السلم»، ومل إىل البان من شرقي كاظمة
إىل مقام ،نداؤه متواصل عبر «نجد» و»كاظمة». فيل إىل البان من شرقيها طرب
أعطاف القصيدة يفجر لواعجه يقرر الشاعر يف مستهل قصيدته فأي مغنى زكت يف الطيب تربته
املحمومة وأشواقه الحرى امللتهبة أن الوصب والحزن عجما عوده تحدو النفوس للقياه محبته
التي تعكسها املقاطع الطويلة وأنهكاه ،فهو مسكون بحب بارئه وتزجر اللحظ عن مرآه رهبتة
ألساليب النداء (يا صاحبي، مشوق إىل االتصال به: ً
منزل تحميه هيبته أكرم به
يا حاذي العيس ،يا صاح ،إيه حاضرا سره عندي ،ويف، ً يا عني وأنواره ،ال السمر والقضب
خلييل) وأفعال األمر املسترسلة ومعي
إيه خلييل بوذي فيك ،ال نبذا
(ساعدني -قف بي -قل يل -سر أغير ذكرك أميل أم سواه أعي
شم ذا البريق وخذ بي حيث ما
برحيل -ذرني -عارض صباها- تاهلل ما راق عيني حسن مرتبع
أخذا
قل أي مغنى -شم ذا البريق). وال طمعت ملرأى أو ملستمع
وحاذه فهو من آمالنا بحذا
مما سبق نستنتج أن رحلة ابن ()11
إال ملعنى إىل علياك ينتسب
ومل يمينا ملغنى تهتدي بشذا
خاتمة نتجت عن هذا اإلحساس إن من شأن هذا الحب وذلك
نسيمه الرطب إن ضلت بك النجب
باالغتراب األصيل ،ومن ثم نفهم الشوق أن يدفعا به إىل الوقوف
إلحاحه عىل العودة إىل األصل عىل األطالل ،وهي هنا الكثب (قف فازت نفوس قبيل العيس قد
من خالل تعلقه بالتراب ،وال بي عليها وقل يل :هذه الكثب)، ظعنت
غرو فإن مثل هذا اإلحساس لكنها ليست قط ًعا كثب الشاعر وشاهدت حسن من تشتاقه ودنت
«يخترق وجود الصويف وحياته، الجاهيل ،وإنما هي املقامات أحبب لقلبي بمثولها لقد أمنت
كما أن اإلحساس باالنفصام هو التي ينزلها العارفون باهلل يف ففيه عاهدت قدما حب من حسنت
الذي يفسر ارتباط حركة الرحلة سيرهم إىل ما يتناهى من علمهم
بحركة الحب والعشق اإللهي» ،
()14
بمعبودهم( .)12ولعل ما يزكي هذا
أساسا يف هذا املغنى
ً املتجسدة التفسير (التأويل) قوله« :سر
النوراني الذي «تحدو النفوس برحيل وذرني أندب األثرا»« ،أعفر
للقياه محبته» ،له الهيبة والرهبة الخد بين الترب منكسرا» ،ترى مل
والهداية والحسن( ،)15وقد فاز من هذا الذل واالنكسار؟
كان سبَّاقًا إىل ارتياده وغشيانه الراجح أن الشاعر يندب
والدنو منه: األطالل ويبكي ما بقي منها
فازت نفوس قبيل العيس قد من آثار العارفين ،حيث مل يكن
ظعنت له قدم فيما نزلوا فيه ،وبرأي
وشاهدت حسن من تشتاقه ودنت الباحثة فاطمة طحطح فإن تيمة
أحبب لقلبي بمثواها لقد أمنت التخلف عن ركب الحجيج تولد
فيه عاهدت قد ما حب من حسنت شعورا باإلبعاد
ً لدى الشاعر
136
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
يكتب تاريخ الذات فيما هو يرتاد املنزلة التي وصل إليها من العلم أبواب يقدم لنا شخصية رسول
جغرافية الروح ليضع اليد عىل والكشف فرضت وضعه تحت التوفيق الذي يحضرالسالك بدنيًّا
تالوين اغتراب روحي ،جعل محك السؤال واملسألة ليختبر يف وعمليًّا وعقائد ًّيا لخوض تجربة
الصويف /الوايل ينفصل عن اإلشارات النبوية(.)25 املعراج ،كما يضطلع بمرافقته يف
تاريخه الفعيل ليتحد باملطلق أخيرا عما جناه ابنً قد نتساءل السموات السبع ،أما يف القسم
عربي من رحلته هاته ىف األكوان الثاني فيروي قصته يف السماوات
اإللهي ،حيث تنمحي تناقضات
العلية ،لنجد الجواب لديه يف السبع حيث كان يلتقي يف كل
الواقع وإكراهاته ،بذا نفهم كون
مكان آخر من فتوحاته املكية، سماء سر روحانية أحد األنبياء،
«الوالية» هي حرفيًّا القرب ،لكن وحاصل هذه اللقاءات استزادة
حيث يثبت أنه انتهى به األمر
هذا القرب مزدوج :القرب من السالك يف العلم وتنعمه بالتعيين
إىل سدرة املنتهى ،وكانت له
اهلل بحيث ال يكون الوايل وليًّا الوالئي والسيادة ،وإضافة
البشرى بأنه «محمدي املقام من
أيضا من بالكامل إال إذا كان قريبًا ً ورثة جمعية محمد (ص) .فإنه السيادة للوالية (سيد األولياء)،
الخلق .ابن عربي يماهي اإلنسان ىلص اهلل عليه وسلم آخر مرسل إضافة إىل تعرفه عىل الغاية
الكامل بالشجرة التي «أصلها وآخر من إليه تنزل ،أتاه اهلل من املعراج الصويف ،وكذا عىل
ثابت وفرعها يف السماء» (القرآن جوامع الكلم ،وخصه بست مل مقام محمد ىلص اهلل عليه وسلم
.)24 :14إن الويل بما هو علوي يخص بها رسول أمة من األمم، وفضله عىل سائر األنبياء.
ودنيوي يف اآلن نفسه ،يصل فعم برسالته لعموم ست جهاته، بعد السبع الطباق يصل السالك
األعىل باألسفل ،الحق بالخلق فمن أي جهة جئت مل تجد إال إىل سدرة املنتهى فيترقى إىل املإل
نور محمد ينفهق عليك ،فما أخذ األعىل بعد أن يفد عىل حضرة
تماما كالحقيقة املحمدية التي هو ً
أحد إال منه ،وال أخبر رسول الكرسي حيث قطب الشريعة،
وارثها .إنه برزخ بين بحرين.
إال عنه ،فعندما حصل يل ذلك: الذي سيزود السالك بوصية
وإذا كان ضامنًا للنظام الكوني جامعة لكل الوصايا التي عكستها
وراعيًا له ،وبالتايل أداة للرعاية قلت :حسبي حسبي ..قد مأل
أركاني فما وسعني مكاني وأزال قصص األنبياء يف حياتهم .بعد
اإللهية ،فإن وظيفته كيفما كانت كل هذا املطاف يستكمل السالك
عني به إمكاني ،فحصلت يف هذا
رتبته يف السلم املساري هي بد ًءا تعليمه وترقيه من خالل ولوجه
اإلسراء معاني األسماء كلها،
أداة الرحمة التي «وسعت كل الحضرات الخمس :قاب قوسين
فرأيتها ترجع إىل مسمى واحد
شيء» (قرآن .)27(»)156 :7 أو أدنى اللوح األعىل الرياح
وعين واحدة ،فكان ذلك املسمى
مالك األمر إذن أن رحلة ابن وصلصلة الجرس وأوحى.
مشهودي وتلك العين وجودي،
عربي الروحية جاءت لتتجاوز وبالوصول إىل هذه الحضرة
فما كانت رحلتي إال يفَّ ،وداللتي
االنحراف الذي يمثله الواقع األخيرة يتم تعريف السالك
إال عيلَّ»(.)26
بصراعاته ،سلطاته ،وتناقضاته بنفسه ،أي باإلنسان ومكانته
خاتمة: يف الكون [مناجاة التشريف]،
ومن ثمة فال محيد لنا من اعتبار
وبنعم اهلل عز وجل عىل اإلنسان
هذه الرحلة عتبة أساسية تنقلنا الحمد هلل الذي تتم بنعمه السالك [مناجاة املنة] ،وبأسرار
من االغتراب يف بعده املكاني/ الصالحات.. مبادئ السور ،وبعلو مقام محمد
الجغرايف ،إىل االغتراب يف بعده هكذا إذن حملنا معه الشيخ األكبر (ص) عىل كل مقام [مناجاة الدرة
الوجودي املعريف ،وال جرم أنها ومعه الصوفيون األندلسيون البيضاء].
كانت بالفعل حلقة وصل بين عىل أجنحة الصحبة وعىل هجعة أما القسم األخير فيفرده ابن
النمطين املتكاملين من الحواس يف سفر إسراري، عربي المتحان السالك ،بحيث إن
139
تجديد الخطاب
الهوامش:
-1كانت الرحلة أو السفر عند العرب مرادفين لطلب العلم خاصة يف القرون األوىل للهجرة.
-2د.مفتاح ،محمد ،الخطاب الصويف مقاربة وظيفية ،الطبعة 1977 /1مكتبة الرشاد املغرب ،ص ،280 -279للتوسع
أكثر يمكن العودة إىل املصادر التالية :املقصد للبادسي ص ،62عنوان الدارية للغبريني ص ،140 -139ابن خلدون،
تاريخ العبر ،دوسالن ج 2ص .416والتفتازاني يف كتابه ،ابن سبعين وفلسفته الصوفية ،دار الكتاب اللبناني ،الطبعة/ 1
1973بيروت.
نقل عن التفتازاني ،ابن سبعين ،مرجع سابق ص.59 -58 -3ابن تيمية ،مجموعة الوسائل واملسائل ،ج 1صً 182
-4املقري نفح الطيب ،الجزء ،2تحقيق إحسان عباس ،بيروت دار صادر ،1968ص.141 -334
-5الغبريني ،عنوان الدراية ،تحقيق عادل نويهض ،بيروت 1979 ،ص.140 -139
-6الغبريني ،املرجع السابق ،نفس الصفحة.
-7مفتاح ،محمد ،الخطاب الصويف مرجع سابق ص.190
-8املرجع السابق ص ،192وانظر كذلك قشتايل ،محمد ،تحفة املغترب ببالد املغرب ملن له من اإلخوان يف كرامات
الشيخ أبي مروان -نشر الجرنجا ،1974 .الجزء األول ص.53
-9مفتاح ،محمد ،املرجع السابق ،ص.238
-10ديوان ابن خاتمة األنصاري ،حققه وقدم له د.محمد رضوان الداية ( ،)1972 -1392ص.31-9
-11املرجع نفسه ،نفس الصفحات.
-12محيي الدين ،ابن عربي ،ترجمان األشواق ،مرجع سابق ص.71
-13طحطح ،فاطمة :الغربة والحنين يف الشعر األندلسي ،مرجع سابق ،ص 312و 328و.333
-14عبد الحق ،منصف ،الكتابة والتجربة الصوفية ،مرجع سابق .ص.365
-15هي صفات متعلقة بالذات اإللهية.
=-16 Chodkiewicz Michel ,le seau des saints, prophétie et Sainte dans la doctrine d’ibn arabi, Ed
Gallimard,France p:181.
-17 Michel chodkiewicz, op. cit p: 181.
-18يعرف التهناوي السفر عند الصوفية بـ»توجه القلب إىل الحق» ،كشاف اصطالحات الصوفية ،الجزء الثالث
ص.161
-19محيي الدين ،ابن عربي :رسالة األنوار فيما يفتح لصاحب الخلوة من األسرار ،مخطوط بدار الكتب تحت رقم ()9
نقل عن جودة نصر ،عاطف :يف الرمز الشعري م.س ص.185 مجاميع ورقة ً ،208 -207
-20عن سياحة ابن العربي يف املكان انظر د.الحكيم ،سعاد ،يف تقديمها لكتاب ابن العربي ،اإلسرا إىل مقام األسرى،
دار ندرة للطباعة والنشر ،ط ،1988 /1ص.14-13
-21زيعور ،عيل :األنا األعىل يف الذات العربية :البطل يف التصوف واألنثروبولوجيا والفنون واألحالم ،مجلة الباحث،
عدد 8السنة ،1979 -2ص.82 -81
.182-Michel, op.cit.p181 Chodkiewicz -22
-23محيي الدين ،ابن عربي ،اإلسرا إىل مقام األسرى ،تحقيق وشرح د.الحكيم ،سعاد ،مرجع سابق ،ص.530
ليل من املسجد الحرام إىل املسجد األقصى الذي باركنا -24يقول تعاىل يف سورة اإلسراء« :سبحان الذي أسرى بعبده ً
حولة لنريه من آياتنا ،إنه هو السميع العليم» ،سورة اإلسراء آية .3يف إسرائه ركب الرسول (ص) البراق وهو دابة
تعادل سرعتها سرعة الضوء ،واشتقاق اسمه يشير إىل البرق ،انظر الحكيم ،سعاد ،تقديم كتاب اإلسرا ،مرجع سابق
ص.21
-25اعتمدت يف تركيب هذا املختصر لتفاصيل رحلة ابن عربي عىل التحليل الذي أوردته د.الحكيم ،سعاد ،يف تقديمها
لكتاب ابن عربي ،اإلسراء إىل مقام األسرى ،مرجع سابق ص .41 -35للتوسع أكثر يمكن العودة للكتاب نفسه.
-26محيي الدين ،ابن عربي :الفتوحات امللكية ،الجزء الثالث ،مرجع سابق .ص.350
.121-120 :Michel chodkiewicz, op. cit.p -27
140
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
المراجع والمصادر:
أ -بالعربية:
-1عيل الشنتريني ،ابن بسام ،الذخيرة يف محاسن أهل الجزيرة ،القسم األول تحقيق .إحسان عباس ،الدار
العربية للكتاب ،ليبيا تونس .1975
-2محيي الدين ،ابن عربي :الفتوحات املكية ،الجزء الثالث ،دار صادر بيروت ،ب.ت.
-3محيي الدين ،ابن عربي :اإلسرا إىل مقام األسرى ،تقديم د.سعاد الحكيم ،الطبعة 1دار ندرة للطباعة
والنشر.1988 ،
-4محيي الدين ،ابن عربي :رسالة األنوار فيما يفتح لصاحب الخلوة من األسرار ،مخطوط بدار الكتب تحت
رقم ( )9مجاميع ورقة .208 /207
-5محيي الدين ،ابن عربي ،ترجمان األشواق الطبعة الثانية ،دار صادر بيروت .2003
-6أحمد بن عيل ،ابن خاتمة ،ديوان ابن خاتمة األنصاري ،حققه وقدم له د.محمد رضوان الداية (1392هـ-
1972م).
-7أبو الوفا الغنيمي ،التفتازاني :ابن سبعين وفلسفته الصوفية ،دار الكتاب اللبناني ،الطبعة 1بيروت .1973
-8أحمد ابوالعباس ،الغبريني :عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء يف املائة السابعة ببجاية ،تحقيق عادل
نويهض ،بيروت.1979 ،
-9عنان ،عبد اهلل :عصر املرابطين واملوحدين باألندلس ،الطبعة األوىل ،مطبعة التأليف والترجمة والنشر،
القاهرة .1964
-10طحطح ،فاطمة :الغربة والحنين يف الشعر األندلسي ،ط 1مطبعة النجاح الجديدة البيضاء .1993
-11أحمد بن محمد ،املقري :نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب ،الجزء األول تحقيق إحسان عباس ،دار
صادر بيروت .1968
-12قشتايل ،محمد ،تحفة املغترب ببالد املغرب ملن له من اإلخوان يف كرامات الشيخ أبي مروان ،الجزء األول
نشر الجرنجا .1974
-13د.مفتاح ،محمد :الخطاب الصويف :مقاربة وظيفية ،الطبعة 1مكتبة الرشاد البيضاء .1977
-14عبد الحق ،منصف :الكتابة والتجربة الصوفية :ابن عربي نموذجا ،ط 1منشورات عكاظ الرباط .1988
-15عبد الحق منصف ،أبعاد التجربة الصوفية :الحب -اإلنصات ،الحكاية ،أفريقيا الشرق البيضاء ،الطبعة
األوىل .2007
ب -بالفرنسية:
Chodkiewich’ Michel ,le Seau des Saints, Prophétie et Sainteté dans la doctrine d’Ibn
Arabi, Ed= Gallimard, France.
ت -مجالت:
مجلة الباحث ،عدد 8السنة .1979 ،2
ث -مواقع الكترونية:
ديمتري افييريتوس ،حكيم املشرق واملغرب :مقدمة لدراسة حياة الشيخ األكبر وعقيدته ،ص 3ضمن موقع:
معابرmaaber@scs-net.org :
حول العالم
محمد شكري المثير للجدل
عن الشعر كتجربة روحية
سأعطيك سب ًبا للبكاء
142
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
مناسبات عديدة ،والتي تناولت عىل النقيض من االستبداد كانت إسبانيا وفرنسا
الشاي والعصير يف املقاهي الحكومي املفترض املوجود تديران املغرب .أمضى فترات
-ليس فقط يف مقهى الحافا،- يف الواليات املتحدة أو اململكة دائما
طويلة يف طنجة ويقول ً
لقد زرت األسواق والشواطئ املتحدة أو فرنسا .من األفضل إن املدينة التي طاملا تحدثنا
ومحالت الحلويات واملكتبات أال تتحدث إسبانيًّا ،يف املغرب عنها ال عالقة لها باملدينة
-وليس فقط مكتبة األعمدة كانت هناك حرية أكبر مما
التي يعرفها .وكان هؤالء
،-Des Colonnesوالنادي كانت عليه يف وطننا «العظيم
املنحدرون من بلدان أخرى
السينمائي -نقطة التقاء مع والحر» ،مما تسبَّب يف هجرة
متحمسين ألن يكونوا جز ًءا
األصدقاء املقيمين -وحي ستهان به من اإلسبان
ُ عدد ال ُي
مارشان ،حيث عاش والداي. إىل هناك ألسباب سياسية أو من خيال واقعي بعي ًدا كل
كانت املثالية املستشرقة اقتصادية .هكذا كانت حالة البعد عن الحياة اليومية
مفتونة بقصص مثل دعوة والِداي ،هناك تز َّوجا وأنجبا للغالبية العظمى من سكانها
جيرترود شتاين( )¹بول ولديهما األ َّولين ،كانت والِدتي األصليين .ما ت َّمت قراءته
بولز( )2للقيام برحلته األوىل تقول إن أسعد أيام حياتها وسماعه ح َّو َلها إىل نوع من
إىل املدينة التي ح َّل بها، كانت يف بلد املغرب. الجنة الثقافية حيث تدفَّقت
ليصبح املُ َضيِّف بمدينة أعتقد أن هذا جعلني أركز عىل الحريات ،مما ساهم يف
طينجيس القديمة لل ُكتاب املدينة التي سافرت إليها يف بيع الكيف يف أكشاك التبغ،
143
حول العالم
والشاعر الغنائي ألوركسترا أكثر إعجا ًبا وأخذ مسافة واملوسيقيين وجميع من
موندراغون وأوركسترا عن البقية ،وخاصة كيث انقطعت بهم السبل :ترومان
غلوتاماتو يي يي -للفرقة أيضا أن ريتشاردز( .)19حاولت ً كابوتي( ،)3ألن غينسبرغ(،)4
األخيرة كان ينتمي شقيقه أفهم لون لوحات ديالكروا(،)20 جاك كيرواك( ،)5جونا بارنز(،)6
أوخينيو .استمر التقليد بيكون( ،)21ماتيس( )22أو فان باتريشيا هايسميث(،)7
من قبل كتّاب مثل خافيير ريسلبيرغي( ،)23ولوحات صامويل بيكيت( ،)8فرجينيا
فالينزويال ،ماريا دويناس، ماريانو فورتوني(،)24 وولف( ،)9غريغوري
أنطونيو لوزانو ،كلوتي جوزو، أنطونيو فوينتس( ،)25جوسيب كورسو( ،)10جان جينيه(،)11
ليوبولدو سيبالوس ،خافيير تابيرو( ،)26فرانسيسكو تينيسي ويليامز( ،)12مارغريت
روكا فيسنتي -فرانكيرا، إيتورينو( )27أو خوسيه يورسينار( ،)13أو ويليام
بابلو سيريزال أو الشاعر هيرنانديز( ،)28وبعض هذه بوروز( ،)14وال تتعلق فقط
الطنجيي فريد عثمان -بنتريا اللوحات ت َّم إنجازها عىل بالجيل «بيت» ( ،)Beatكذلك
راموس ،الذين يمكننا ربطهم، شرفات فندق فوينتس؛ عىل الباراغوياني أوغوستو روا
كما تقول روسيو روخاس- طاوالتها الرخامية حيث باستوس( ،)15والنيكاراغوي
ماركوس ،يف إطار أدب ثانوي يمكنك اليوم التمتع بمشاهدة روبن داريو( ،)16والكوبي
باملعنى الذي أطلقه جيل مباريات دوري كرة القدم أليخو كاربنتييه( ،)17أو الرسام
دولوز وفيليكس غوتاري عىل اإلسباني وأنت جالس أمامها. التشييل كالوديو برافومن
املصطلح يف مقال كافكا« ،إنه كما كان شأن املسرح الكبير بين آخرين كثيرين ،ساروا
ليس أد ًبا بلغة ثانوية ،ولكنه لثيرفانتيس ،حيث بدأ خوانيتو يف شوارعها ،بعضهم كان
أدب كتبته أقلية داخل لغة فالديراما( )29يف تشكيل قبل الكاتب األمريكي بول
رئيسية». مسرحية «املُهاجر» وعرضها حاضرا يف
ً بولز .الجميع كان
الكاتبان الطنجويان اللذان أثارا مر
أمام مئات املنفيين ،وقد َّ املدينة ولكن القليل ربط الصلة
إعجابي هما أنخيل فاسكيز عىل خشبة ذلك املسرح بعض حضور
ٌ بالسكان األصليين.
،Ángel Vázquezالذي غير الفنانين األكثر شهرة يف فترة مع اآلخر وبدونه ،شيء من
اسمه الحقيقي من أنطونيو إىل ما بين الحربين العامليتين مثل ذلك يتكرر اآلن.
أنخيل ليبدو كمصارع ثيران، بالدويف ،مانويل ديل ريال أو
وهو مؤلف رواية «الحياة املغنيين األكثر شهرة ألغنيتنا ما وراء جيل «بيت»
الكلبة لخوانيتا ناربوني»، الشعبية.
إحدى أفضل رواياتنا يف األدب هو أفضل طريقة فت عىل قصة متشك ًكاَّ ،
تعر ُ
النصف الثاني من القرن لالقتراب من املدينة .كتابات بريان جونز ،الذي ُطرد
()18
املاضي .ومحمد شكري. وكلمات بيو باروخا ،إميليو من اململكة املتحدة لتعاطي
نشرت األستاذة روسيو سانز دي سوتو ،رامون املخدرات واملشاركة يف حفالت
روخاس ماركوس (Rocío بوينافينتورا ،كارمن الفوريت، جماعية ملمارسة الجنس،
( )Rojas-Marcosمن مواليد خوان جويتيسولو .كتابات وعالقته مع املوسيقيين
مؤخرا دراسة ً إشبيلية)1979 ، هارو ،األب إدواردو هارو ملوسيقى جهجوكة ،Jajouka
صغيرة ومثير ًة لالهتمام، تسغلن مدير صحيفة وهي قرية يصعب العثور
«محمد شكري» (دار نشر «إسبانيا دي طنجة» ،وابنه عليها والتي اكتشفناها يف
زوت) ،عن الكاتب املولود يف إدواردو هارو إيبارس، اآلونة األخيرة عن طريق
بني شيكر ،وهي بلدة ريفية مرجع ثقافة البوب ،املؤلف، صديقنا «موحا» .جونز أصبح
144
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
الدويل عندما ترجم كتابه مصطدما بمجتمع أبوي مثلً تبعد بضعة كيلومترات عن
األول ،الخبز العاري ،فيما املجتمع املغربي .باحتكاكه مليلية والناظور.
بعد أعاد تسميته إىل الخبز مع الغجر واألندلسيين من وهي من أعظم الباحثين
الحايف بنا ًء عىل اقتراح خوان تطوان ،تعلم اإلسبانية مما بأعمال عن املدينة وأدبها
«كنت أترجمها ُ جويتيسولو. سمح له يف النهاية بترجمة مثل «طنجة .املدينة الدولية»
يف رأسي من العربية إىل لوركا إىل العربية ،اإلخوة (« ،)2009طنجة ،الوطن
اإلسبانية وكنت أمليها عليه. ماتشادو ،سوزانا مارش، الثاني ( ،»)2018كما ساهمت
كان بول ،الذي كان يجيد بيكير ،أليكساندر ،البورديتا، أيضا بقصص يف مختارات ً
اإلسبانية جي ًدا ،أفضل مني، سياليا ..عبّر عن نفسه باللغة مثل «كوكب اسمه طنجة»،
يكتبها باإلسبانية ثم يترجمها العربية الشعبية ،مازِجا «متآمرو طنجة» ((ُ ،2014
إىل اإلنجليزية .مرحبًا ،مورو اللهجتين الدارجة والريفية ( )2019و»حكايات من
وأمريكي يف طنجة يتفاهمان مع اللغة اإلسبانية ،واالبتعاد كتاب» ( )2020الحائزة عىل
باإلسبانية» ،كان قد علق يف عن اللغة العربية الصرفة جائزة مانويل ألكانتارا للشعر
مقابلة مع خافيير فالينزويال التي يستخدمها معظم الكتاب، ( ،)2020نشرت يف نفس
Javier Valenzuelaعىل جاعل أهم مواضيعه :البؤس، ً العام مجموعة قصائد مأهولة
صفحات امللحق الثقايف بابليا القسوة ،االغتصاب ،الدعارة، بالكلمات ،وبصوت مرجعي ال
« :Babeliaيعتبرونني كاتبًا الشذوذ الجنسي ،االعتداء غنى عن قراءته.
إباحيًا يف العامل العربي ألنني الجنسي عىل األطفال ،الكحول، فيما يقرب من مائة صفحة
أتحدث عن الجنس .لكني املخدرات ،الجوع ،الجريمة،.. تغوص بنا بين ردهات حياة ُ
أحاول إعطاء بعض القيم يف مواضيع جعلت النخب املثقَّفة كاتب تعلم القراءة والكتابة يف
كتبي» .ما هي القيم؟ يسأله تُن ِك ُر عليه ذلك -يجب غسل سن العشرينُ .يخبرنا فريد
فالينزويالُ ،يجيب شكري« :أنا املالبس القذرة داخل املنزل- عثمان بنتريا راموس Farid
ملتزم اجتماعيًّا .أنا أميل إىل األمر الذي مل يمنعه من أن Othman-Bentria Ramos
الدفاع عن الطبقات املهمشة ُيصبح الكاتب املغربي األكثر عن ابن مدينة الصفيح هذا
واملنسية واملسحوقة .أنا لست إثارة للجدل واملعترف به، الذي كان يعرفه عندما كان
سبارتاكوس ،لكنني أؤمن ُمبتع ًدا من الحياة الدنيوية طفل« :كانت عمتي آسيا توفر ً
أن كل الناس لديهم كرامة الفاتنة .عىل القوائم السوداء، له أحيانًا مأوى عندما كان
يجب احترامها .عىل الرغم من كما سلمان رشدي. والده يتسكع معه وتناو ُل ُه
عدم حصولهم عىل فرص يف ستمر ع َّدة سنوات قبل أن ُم ْؤ َن ًة عندما ترا ُه جائ ًعا .قصة
الحياة» ،الحياة املعقَّدة دفعته ُيمكن اقتناء نصوصه من طويلة مع املزيد من العوامل،
إىل دخول مستشفى األمراض املكتبات املحلية .فقد خضعت ذكريات غامضة لطفل يبلغ من
النفسية عدة مرات. للرقابة يف دول مثل مصر، العمر أربع سنوات» .مل يتحمل
يف حديث مع روخاس إيران آيات اهلل وضعوها شكري عنف الشارع فحسب،
ماركوس ،أخبرتنا أن شكري عىل القائمة السوداء ُرفقة أيضا العنف األبوي ،حيث بل ً
كان ُيسائل عن كل شيء كتب سلمان رشدي .خالفات أساءت والدته معاملته وكذلك
صحيحا
ً «لألسف ال يزال هذا عديدة سادت النقاشات عىل مصرعه يف َ شقيقه الذي شهد
أو حتى أسوأ ،عىل الرغم من نصوصه مثل تلك التي نشأت رعب عىل يد والده ،الهارب من
أن ذلك يبدو صعب التصديق. َّ عىل تعليقاته عىل بول بولز، الجيش االستعماري اإلسباني،
ببساطة إنه ألمر ُمدهش ،أن الذي يدين له باالعتراف الذي لطاملا أنكره واستنكره،
145
حول العالم
من األدب الوجودي ،كما األدبية ،من أشهر قصائده تمحورت ثقافة «البيّت» عىل
تُحاول التشكيك يف األخالق. قصيدة «عواء». تجربة أشكال جديدة للجنس،
-5جان لويس «جاك» كيروك خالل حياتها؛ أُطلق عليها لقب اهتمام بالديانات الشرقية،
شاعرة القلق من قبل الروائي Jack Kerouac؛ ولد يف 12 رفض االقتصاد املادي ،رفض
غراهام غرين. من مارس 21 -1922من التمجيد وغيرها من وسائل
-8صامويل باركىل بيكيت شاعرا
ً أكتوبر .1969كان التعبير املعاصر.
Samuel Beckett كاتب وكاتبًا روائيًّا أمريكيًّاُ .يعتبر -3كان ترومان جارسيا
محطم التقاليد األدبية ،كما أنه أيرلندي ,كاتب مسرحي، كابوتي Truman Capote
باإلضافة إىل أنه كان ناق ًدا ُيعد ،إىل جانب كل من ويليام ( 30سبتمبر 25 –1924
شاعرا (ولد يف فوكس ً إس بوروز وألين جينسبيرج ،أدبيًّا و أغسطس ،)1984املولود
روك ،دبلن يف 13أبريل عام رائد من رواد مجموعة جيل باسم ترومان ستريكفوس
-1906تويف يف باريس يف «بيت». بيرسونس ،روائيًّا أمريكيًّا،
22ديسمبر .)1989كان من -6كانت جونا بارنز Djuna وكاتبًا للقصص القصيرة،
أحد الكتاب املشهورين يف 12( Barnesيونيو -1892 وكاتبًا للسيناريو ،وكاتبًا
القرن العشرين .كما أنه يعتبر 18يونيو )1982فنانة، وممثل .أُشيد
ً مسرحيًّا
من أهم الحداثيين ألنه كان ورسامة ،وصحافية ،وكاتبة بالعديد من أعماله التي شملت
يسير عىل نهج وخطى جيمس أمريكية ،ربما كان أكثر ما القصص القصيرة والروايات
جويس. اشتهرت به هو روايتها واملسرحيات واعتُبرت من
-9أداالين فيرجينيا وولف نايتوود ( ،)1936التي الكالسيكيات األدبية ،شملت
(باإلنجليزيةVirginia : تعد كالسيكية لفئة الخيال أعماله الرواية القصيرة
السحاقي وعمل مهم من أعمال )Woolf ( 25يناير -1882 ُّ اإلفطار عند تيفاني ()1958
28مارس )1941كاتبة األدب الحداثي. ورواية الجريمة الحقيقية بدم
إنجليزية ،تعتبر من أيقونات -7باتريشيا هايسميث بارد ( ،)1966التي وصفها
(ولدت األدب الحديث للقرن العشرين ُ Patricia Highsmith كابوتي بأنها «رواية غير
ومن أوائل من استخدم تيار يف 19يناير /كانون الثاني خيالية» .اقتُبست أعماله يف
الوعي كطريقة للسرد .يف -1921وتُوفيت يف 4فبراير ً
وعمل فيلما
أكثر من ً 20
سبعينيات القرن املاضي، من العام ،)1995هي روائية دراميًّا تليفزيونيًّا.
أصبحت وولف أحد أهم أمريكية وكاتبة قصص -4ألن غينسبرغ Allen
الركائز التي استندت إليها قصيرة .اشتهرت باتريشيا Ginsberg ( 3يونيو -1926
حركة النقد األدبي النسوي، يف مجال الكتابة من خالل 5إبريل )1997شاعر أمريكي
تخصصها يف الرعب واإلثارة وأصبحت أعمالها مشهورة عرف عنه معارضته الشديدة
النفسية بما يف ذلك سلسلة من عىل نطاق واسع وكثر الحديث للنزعة العسكرية واملادية
خمس روايات بطلها شخصية عنها كونها ألهمت الحركات والقمع الجنسي ،كان قيادي
توم ريبيل .كتبت باتريشيا 22النسوية ،وهذا مجال جديد مل بارز يف Beat Generation
تخضه وولف من قبل. رواية والعديد من القصص وهم مجموعة من الكتاب
-10غريغوري كورسو القصيرة طوال حياتها واملثقفين األمريكيين الشباب
26( Gregory Corsoمارس املهنية ،كما عملت عىل كتابة الذين اشتهروا بالدفاع عن
،1930نيويورك يف الواليات سيناريو أكثر من عشرين الحريات الشخصية يف فترة
املتحدة 17 -يناير ،2001 فيلم .تستمد كتاباتها نفوذها الخمسينات من خالل أعمالهم
148
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
أدىل بها بعد رحلته من املغرب. 28أكتوبر 28 -1909ابريل كثيرا كونه كوبيًّا طوال حياته. ً
-25أنطونيو فونتيس رساما رمز ًّيا
ً )1992كان وقد كان كثير السفر ،خاص ًة
Antonio Fuentesطنجة بريطانيًّا من األصل األيرلندي إىل فرنسا وجنوب أمريكا
( )1995 -1905رسام. املولد .كان معروفًا ملواقفه واملكسيك ،حيث قابل أبرز
-26چوسيپ تاپيرو بارو الجريئة االنفعالية والصور أعضاء مجتمع الثقافة والفن
Josep Tapiróرسام الخام .كان صاحب األرقام األمريكي الالتيني.
إسباني ،من مواليد يوم 7 املستخرجة يف الرسم ،وعادة -18برايان جونز Brian
فبراير 1836ىف ريوس ,مات ما تكون معزولة يف الزجاج )1969 –1942( Jonesهو
ىف 4اكتوبر طنجة .1913 أو الفوالذ املقاوم واألقفاص عازف قيثارة ،وموسيقي،
-27فرانسيسكو إيتورينو الهندسية والخلفيات. وكاتب أغاني ،وملحن ،وقائد
غونزاليس Francisco -22هنري ماتيس Henri فرقة ،وعازف عىل عدة آالت،
( Iturrinoسانتاندير9 ، Matisseعاش ما بين من اململكة املتحدة ،ولد يف
سبتمبر Cagnes- -1864 رسام ( )1954 -1869هو ّ عضوا يف
ً شلتنهام ،وكان
فرنسي .من كبار أساتذة الرولينج ستون ،تويف عن عمر
،sur-Merفرنسا 20 ،يونيو
املدرسة الوحشية ،fauvisme عاما ،بسبب غرق. يناهز ً 27
رساما إسبانيًّا
ً )1924كان
تفوق يف أعماله عىل أقرانه، -19كيث ريتشاردز Keith
مشهورا.
ً استعمل تدريجات واسعة من Rمواليد 18ديسمبر ichards
-28أوزي هيرنانديز مونيوز
األلوان املنتظمة ،يف رسوماته 1943يف كنت ،إنجلترا ،هو
José Hernández Muñoz
اإلهليجية (كانت ُت ْعنى بالشكل مغني وممثل وكاتب غنائي
(طنجة 5 ،يناير -1944 العام للمواضيع ،مهملة وموسيقي ومغن مؤلف
ملقة 20 ،نوفمبر ،)2013 التفاصيل الدقيقة) ،يعتبر من ومنتج أسطوانات إنجليزي،
رساما وفنانًا تشكيليًّا
ً كان أبرز الفنانين التشكيليين يف بدأ مسيرته الفنية عام .1960
وعضوا يف األكاديمية
ً إسبانيًّا، القرن العشرين. كما أنه من الفائزين بجوائز
امللكية للفنون الجميلة يف سان -23ثيو فان ريسيلبيرغ Van إيفور نوفيلو .تزوج وأنجب
فرناندو منذ عام .1989 23( Rysselbergheتشرين كيم ،اعتزل يف بداية القرن
-29چوانيتو ڤالديراما الثاني 14 -1862كانون العشرين ،أنشأ فرقة موسيقية
Juanito Valderrama األول ،)1929رسام بلجيكي تتألف من أربعة أفراد وأكمل
(خايين -1916إشبيلية من املدرسة الفنية النقطية، معهم مسيرته املهنية.
،)2004ممثل ومغنى من دورا محور ًّيا يف
وقد لعب ً -20أوجين ديالكروا
إسبانيا. املشهد الفني األوروبي يف ( Eugène Delacroixولد
مطلع القرن العشرين. 26أبريل -1798وتويف يف
المرجع: -24ماريا نو فورتوني 13أغسطس ،)1863رسام
Mariano Fortuny (-1838 فرنسي من رواد املدرسة
https://www.vozpopuli.com/
،)1874هو رسام كاتلوني، الرومانسية الفرنسية .له
altavoz/cultura/mohamed-
chukri-lando-oculto-tanger.
يعرف باإلسم االيطايل ماريانو العديد من اللوحات الفنية
html?fbclid=IwAR1eFpDqfu- فورتوني .لوحاته عرفت املحفوظة يف متحف اللوفر
-wwywjTo1Il3tyoV8Ga7wEe كبيرا .صنف ماريانو نجاحا ً
ً وغيره.
mGRXIK0UssGUPMRGtkUX فورتوني ضمن الرسامين -21فرانسيس بيكون
wl5ng املستشرقين عبر لوحاته التي Francis Bacon (مولود
150
رايسا ماريتان
عن الشعر
كتجربة روحية
ترجمة :
التقديم
ولدت الكاتبة والفيلسوفة
والشاعرة الصوفية رايسا
اعتنقا الكاثوليكية سنة )1973 -1882( tainالذي ماريتا ن �Raïssa Ma
.1906 نشأ يف عائلة بورجوازية ،)1960 -1883( ritain
تميزت حياة الزوجين بروتستانتية فرنسية ،والذي واسمها العائيل قبل الزواج
ماريتان بالثراء الفكري سترتبط به -إىل أن وافتها أومانسوف ،يف عائلة يهودية
وباإلسهام املتفرد يف االنتاج املنية -سنة .1960عاش روسية هاجرت إىل باريس
الثقايف الفرنسي لفترة ما الزوج أزمة روحية كادت (فرنسا) سنة 1893هر ًبا
قبل الحرب العاملية الثانية؛ أن تودي بهما إىل املوت من الالسامية وبحثًا عن
وكان البيت العائيل عبارة انتحارا ،مما اضطرهما إىل
ً االستقرار ومن أجل ضمان
عن صالون أدبي يرتاده جل األخذ بنصيحة شارل بيغي مستقبل جيد لبنتيها .هناك،
مثقفي العاصمة الفرنسية .يف وحضور دروس هنري وبعد التحاقها بجامعة
كتابها «الصداقات الكبيرة»، برغسون يف كوليج دو السوربون إلتمام دراستها،
تحكي رايسا عن ذلك فرانس .وبعد التعرف إىل التقت رايسا بالشاب جاك
الفوران الثقايف وعن بحثها ليون بلوا وتحت تأثيره، ماريتا ن �jacque mari
151
حول العالم
النص المترجم
كل من يرغب يف معرفة
أعماق الفكر ،أو إذا أردنا،
جاك ماريتان تشارلس بودلير بول إيلوار
معرفة روحانية الكائن ،يبدأ
أخرى). يتم بواسطة خشوع جميع بالدخول إىل ذاته .وسيلتقي
وهكذا يبدو الشعر يل كثمرة الحواس ،مهما كان هار ًبا؛ أيضا يف داخلية
الشعر ً
اتصال للفكر بالواقع املتعذر إنه الشرط األول للتصور الحياة ،والتفكير ،والوعي،
الوصف يف ذاته ،وبينبوعه، الشعري؛ يتعلق األمر مقدرا له أن يلتقيه.
ً إذا كان
الذي هو يف الحقيقة اإلله هنا بخشوع منفعل مثل والسيما إذا كان من الشعراء
عينه ،يف حركة محبة تقوده الطمأنينة التي يتحدث عنها الذين ينبلج فيهم اإلبداع
صور لجماله .أمل
إىل خلق َ املتصوفة ،وليس بتركيز الشعري -االنفعال ،الحدس
يقل بوكاشيو إن «الشعر إرادي ونشيط (املطلوب املُ َك َّون -وليس من ضجة
الهوت»؟ إنه عىل أية حال أيضا ،ولكن يف لحظات
ً الخيال املتواصلة ،ولكن
مبحث وجود ،ألنه يستمد من الخشوع يف الصمت
ً
اصيل ،من منشأه ،إذا كان األكثر تجري ًدا من األشكال
الينابيع امللغزة للوجود .هنا والعبارات ،حينما يبلغ
تنعقد املعرفة الشعرية حيث الصمت درجة عليا من العمق
يقترن الشاعر بتفرد األشياء. والصفاء.
انغمر الشاعر يف نهر الفكر يوجد ينبوع الشعر ،بحسب
املوجود تحت نشاطنا رأيي ،مثل ينبوع كل حدس
االعتيادي بأكمله ،لقد أحس خالق ،يف تجربة معينة يمكن
باالتصال بهذا الواقع الغريب تسميتها «معرفة» غامضة
عن الص َيغ ،يف هذا الخشوع وعذبة ،بعذوبة مكتملة
النادر والخصب ،والذي الروحية ،ألن كل شيء يف
ينبغي استحقاقه بكيفية ما، هذه األعماق روح وحياة.
والذي يخرج منه منعشً ا يف ويعرف الشاعر أن ولوجها
152
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
بذلك يشبهون القديسين. من الحياة .بحكم مسبق، هذا وذاك ،إن مل يكن بين
ومن الضروري إذن أن ُي َحل أو باستحالة واقعية ،ال اإلله والشعر ،فعىل األقل
التناقض الظاهري .فحيث يعرف الفنانون والشعراء، بين متطلبات هذا وذاك.
تتواجه الحقيقة والحرية أو ال يودون معرفة سوى إنهم يتعرفون ،بشكل
كعدوتين لبعضهما البعض، ما يفعلونه ،أو باألحرى عام ،إىل الينبوع اإللهي
يتعاىل نداء عىل اإلحسان ما ُيفعل فيهم :انفعالهم، ملواهبهم .ويقول الشعراء
تسمعه القداسة .يوجد ِثقل تصور املنجزة فيهم ،عملهم، واملوسيقيون« :فيك كل
محبة وقداسة يف مكان ما، تعبيرهم .لو كان بوسعهم الينابيع( .»)1لكنهم ينظرون
يضيف إىل الخير الزمني بفعل التواضع قبول واقعية إىل متطلبات شريعة اإلله
خيرا ذا قيمة أبدية ،ينقذ
ً العامل املوضوعي للكائنات كمعيق لحريتهم اإلبداعية،
جمال هذا العامل الذي يمر، والقوانين التي وضعها خالق وإىل طاعة هذه الشريعة
ويعيد شراء الجمال الذي أيضا، الشعراء يف الوجود ً كعملية بتر .إنهم ال يعرفون
خلقه الشعراء ،وينتزعه ممن لكان من املمكن أن تُكشف أن هذه الشريعة روحية؛
يستغل حقوقه عىل كل جمال لهم من دون شك ،حقول وبالتايل هي ُمح ِّررة من
مخلوق ،ألنه أمير هذا العامل. جديدة وعديدة من الجمال. حريتنا الشخصية« .إن
يف الحقيقة ،ما من شيء سيصبحون حينئذ -البعض الذين يؤمنون باملسيح ،هم
جميل ُيخلق من دون محبة. منهم ،األعظم -ملهمين خاضعون لشريعة اإلله
َيخلق الفنان خلقًا يستر ُّده حقيقيين ،أنبياء هذا العامل، كمثل خضوعهم لنور يف
املقدس من الشيطان ،الذي وستزيد التجربة الروحية طريق الحرية(« .»)2فإننا
غالبًا ما كان قد ساهم يف للحقيقة اإللهية ،وس ُتنَا ِغم نعلم أن الناموس روحي،
خلقه بمنحه للشاعر تجربة وستُنير فيهم التجربة يقول القديس بولس ،وأما
عن العامل ،وعن «األباطيل»، الروحية للحالة الشعرية. أنا فجسدي مبيع تحت
وعن املالذ .ولكن ال وجود يرى الفنان -يف حالته الخطية( .»)3كان بودلير
لخير ،ولجمال ،ولكينونة، كثيرا
ً الخامة -نفسه أقل أيضا،
يعرف ذلك (ورامبو ً
ما مل ُترِد وتستطع العناية مما يرى ملحد يف حالته من دون شك) ،ولقد قبل
إنقاذه ،إذا ما اصطففنا عىل الخامة نفسه .ومع ذلك تماما جميع التمزقات التي ً
األقل يف طابور املذنبين، فإنه من الضروري أن تحضرها معرفة من هذا
وإذا ما اعترفنا عىل األقل يمنح اإلله مكانًا ،يف الحياة القبيل معها ،والتواضع الذي
بمسؤوليتنا عن دم املسيح األخروية الخالدة ،للمتصفين تأمر به.
وعن شهيد األولياء منهم بحسن النية ،والذين كان بودلير يقبل بعامل
تناقضا
ً يعتقدون أن هناك الحقيقة املوضوعية ،التي مل
هوامش: ال يمكن التغلب عليه بين تكن تشكل فضيحة بالنسبة
متطلبات الفن ومتطلبات نادرا لدىً له .أمسى ذلك
* نيويورك 21 ،نوفمبر .1941 اإلله .من الواجب أن يحصل فناني عصرنا؛ فسماء العامل
* نشر يف مجلة فونتين،
مارس -أبريل .1942 الجمال ،الذين ال
عمال َ امليتافيزيقي النضرة ،يف
-1مزمور ( 7 ،87اإلنجيل). يظنون استبعاد اإلله برفض نظرهم ،شبيهة بصحراء
-2جاك ماريتان« ،فكر القديس شريعته ،عىل أجرهم، كئيبة .بالنسبة لهم ،يشبه
بولس».
-3رسالة بولس الرسول إىل عىل األقل أولئك الذين ال التعاطي مع موضوع دائم
أهل رومية ( 14 ،7اإلنجيل). يحصلون عليه يف الدنيا ،وهم من حيث ماهيته ،الخروج
154
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
ترجمة :
أحمد ضحية
(السودان)
تمتنع من البكاء كل يوم. بمقاسين صغيرين ج ًّدا، قابلت ماريا عندما كانت
أكثر األشياء تفاهة ..تلك فكانت ثيابي تضغط عىل يف الصف الخامس ..تلك
األشياء التي ال تهم أ ًّيا منا، لفائف الدهون املتس ِّربة ،عىل الفتاة النحيلة ،التي تحزم
تجعلها تبكي! كما لو كانت بنطال الجينز الضيق. دائما ،سندوتشات لها أمها ً
روحها ضعيفة ونحيلة مثل يف ذلك العام؛ كنت جائعة «السالمي» لغدائها.
جسدها! طوال الوقت .ال بد أن هذا عندما تخطر ماريا عىل بايل
يف البداية ،كانت تحاول هو السبب ،يف أنه كان من اليوم ،ال أفكر سوى يف
إخفاء بكائها ،بوضع وجهها السهل عيلَّ أن أالحظ عظام شرائح السالمي ،املحشوة
الالمع أسفل درجها .وكنت ماريا الحادة ،وهي تبرز من داخل لفافة القيصر املتينة..
أنا والتلميذات الجالسات خالل القميص األبيض؛ ذي مجرد تجشؤ السالمي؛ بدون
بالقرب منها ،ندفع أدراجنا األكمام القصي ّرة ،وحزام خس أو طماطم أو ُجبن!
قربها ونسألها: الخصر الجلدي األسود كان هذا؛ عندما كانت أمي
«ماريا ،ما الخطب؟ ملاذا السميك ،الذي يشد سروالها. تضرب بطني ،لتذكرني
تبكين؟». ويجعلها تبدو صغيرة عىل بامتصاصها!
فكانت تهمهم شيئًا ما ،كأن أكثر من نحو. عندما أعود بذاكرتي اىل
مل تستطع العثور عىل املبراة. مل يكن هناك أحد يتح ّرش الخلف ،أتذكر عندما كانت
«أعتقد أنها مجرد مبراة»، بـ»ماريا» .ومع ذلك ،مل أمي تشتري يل ثيابي،
155
حول العالم
الرقيق عليها كذيل حصان! َّ ملعب كرة السلة ،فأرسلني لكنني مل أقل ذلك بصوت
ثم فكرت يف عودة لونا السيد ساندفورد إىل بدل من ذلك ،كنت عا ٍلً .
صديقتي املفضلة ،وعائلتها املمرضة إلسعايف. أسألها:
إىل البرازيل؛ ألنهم مل يكن بعد ذلك اليوم ،مل أكن مطالبة «ما هو شكلها؟».
لديهم حق اإلقامة ..لقد باملشاركة يف أي نشاط مل ثم أتج َّول يف أرجاء الفصل،
غادروا دون أن يقولوا ودا ًعا! أرغب فيه .ربما ألن ماريا متظاهر ًة بالبحث عن املبراة
ضغطت بعد ذلك عىل مشغل أخذت تبكي طوال الوقت، الضائعة .لكن األمر مل يكن
األقراص املضغوطة الخاص ومل يرغب السيد ساندفورد دائما متعلقًا بمبراة..
ً
بي ،بحثًا عن أغنية (املتطفل) يف التعامل مع أي دراما! بعض األسباب غير املعروفة
ألالنيس موريسيت .وفقط أيضا بالجلوس فسمح ملاريا ً ُ لنا جمي ًعا ،هي ما تجعل
للحظة وجيزة ،شعرت برغبة عىل املدرجات. ماريا تتراجع ،إىل ذلك
جارفة يف البكاء ،تحتبس يف معظم األيام كنا نجلس يف املكان القصي يف عقلها،
يف صدري ،وتشق طريقها صمت ،ونشاهد بقية الفصل حيث تنبع الدموع الغزيرة
إىل حلقي .قبل أن أتمكن من يلعبون الهوكي ،أو الكرة وتتدفق بح ِّرية .كان الجميع
السيطرة عليها لفترة كافية نادرا ما
ً الطائرة باملكنسة. يجتمعون حولها ،مثل سانتا
تحول دون أن تنطلق! ثم الرغم من أنني تحدثنا .عىل ُّ ماريا مادري دي ديوس!
تخيلت والدتي تقف أمامي، يف ذلك األسبوع ،كنت أجدها إذا مل تبكي ماريا بحلول
جميلة ،رشيقة وقوية، تح ِّدق يف وجهي ،وكأنها وقت الغداء ،كنت أنتظر
وسمعت صوتها فوق رأسي: تبحث عن شيء ما. بفارغ الصبر أن تبدأ .كانت
«ما الذي يبكيك؟» ..سأعطيك عندما عدت إىل املنزل ،أردت دموعها هي املسدس املضيء،
سببًا! أن أخبر الجميع عن ماريا، الذي يجعل كل شيء آخر
وكيف كانت تبكي كل يوم باهتًا .فعندما مر أسبوعان
*** بسبب أو بدون سبب عىل دون أن تبكي ماريا ،شعر
اإلطالق ،أو ألسبابٍ تافهة. أفراد عاملنا الطفويل بعدم
يف اليوم التايل سألتني لكن والداي كانا يصرخان، االرتياح!
ماريا عما إذا كنت أرغب يف وهما يتابعان بشغف مرة ،أخذت نفس املبراة ذات َّ
الحضور ،كنت أعلم أنني مجريات مباراة ،ومل تكن من درجها ،ولففتها بورقة
يجب أن أذهب إليها ،إذ كان أختي موجودة .لذلك جلست فضفاضة ،ثم رميتها يف سلة
يقتلني الفضول ،ملعرفة ما عىل سريري ،وتساءلت املهمالت .وعندما اكتشفت
الذي تريد أن تقوله يل. من أين تأتي دموع ماريا، ماريا فقدانها أخذت تبكي،
كانت ماريا تعيش يف الطابق وكيف تلوح يف األفق ،وهي فأخذت أتساءل« :ما الذي
األعىل ..فوق متجر الحيوانات تتدفق عىل وجهها الصغير كان سيحدث ،إذا أخذت شيئًا
األليفة املحيل يف قلب (ايرون بال نهاية .أردت أن أعرف أكثر أهمية ،كدفتر الدروس،
بوند ،نواك) ،عىل طول قطاع إحساسها ،هل كانت تشعر أو مقلمة قلم الرصاص،
تجاري مزدحم ،يضم مطاعم بأنها أخف وزنًا؟ أوشطيرة السالمي .كم كانت
املأكوالت البحرية واملخابز فكرت يف كل األشياء املحزنة ستبكي إذن؟».
البرتغالية. التي أعرفها ،مثل وفاة جدتي يف وقت سابق من ذلك العام،
كان املكان يحتوي عىل عىل سرير املوت :بشرتها كنت أنزف من خالل شورت
مظلة زرقاء؛ والفتة خشبية املصفرة التي ينزلق شعرها َّ رياضي أثناء الجري ،حول
156
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
اإلنسان قد يصغر عن إدراك يشك فيها ،وهذا أكبر دليل التي تدل عىل املعاني من
عىل أنه مل يكن شا ًّكا عيل اليقين يف بعض األمور غير تفاوت وال فضول .هذا
اإلطالق وال سفسطائيًّا ،
()8
لقصور عقله ،فيقول: التأثير يف نفسه مقبول لوال
ويرى طه حسين أن أبا ولقد صغرت عن اليقين أن يؤدي مع طول الزمان إىل
العالء قد خالف مذهب بخاطر ..ما كاد يبلغ حفرة الغموض واإلبهام ،فما زال
السفسطائيين ،ألنهم إال نباطا الشاعر يتخير اللفظ الدقيق
يتهمون العقل ويشكون وينتقد طه حسين من ظن للداللة عىل املعنى الدقيق
فيه ،فال يؤمنون به وال بأبي العالء أنه يريد نفي حتى تكثر يف شعره األلغاز.
يعتمدون عليه ،وإذ هو يرى الحقائق ،فلو فطنوا ملغزى أيضا من الداللة عىل
وال بد ً
رأي الفالسفة النظريين الرجل لعرفوا أنه ال يعمم أن درس العلوم الفلسفية قد
من اليونان واملسلمين يف الشك إال يف مسائل الغيب، أوجد يف الشعر إصالحات
فأما عامل الشهادة فال يبسط االعتماد عىل العقل خاصة. علمية وأسماء مل يكن له
وإذا أردت إثبات ذلك، أبو العالء ظل الشك عليه، بها عهد من قبل ،كالجوهر
فاللزوميات ناطقة به أكثر فمن ذلك قوله: والعرض وغير ذلك مما
من مرة كذلك ،ويقول أما اليقين فال يقين وإنما يفيض به شعر املتنبي وابن
بمعرض رده عيل الباطنية: أقصي اجتهادي أن أظن العميد وغيرهم(.)6
إماما
يرتجي الناس أن يقوم ً
()7
وأحدسا
ناطق يف الكتيبة الخرساء وال يري أبو العالء الخبر املعرفة والشك عند
كذب الظن ال إمام سوي أصل من أصول االستدالل ً ابي العالء املعري
العقل العقيل ،فقد خالف عامة
مشيرا يف صبحه واملساءً املتكلمين يف ذلك ،فإنهم يتمثل البعد املعريف عند
فإذا ما أطعته جلب الرحمة يجعلون الخبر الصادق املعري يف العديد من مصادر
()9
عند املسير واإلرساء أصل من أصول العلم، ً املعرفة ،منها الحس والظن
ويتحدث طه حسين عن فالشرائع والديانات تقوم والشك واليقين ،والحدس
علم الكالم فيقول :إنه تكلف عىل اإلخبار ،وقد نص والعقل ،أي أنه ذو نزعه
مالءمة الدين وموافقته أبو العالء عىل خالفه مع أفالطونية يف معرفته ويف
والزود عنه .ومن علماء السفسطائيين ،فقال: البحث عن عامل املثل،
الكالم :األشعري والجبائي وقال أناس ما األمر حقيقة فاملعري جعل من املثل
واإلسفرايني والباقالني فهل اثبتوا أن ال شقاء وال األخالقية املثل العليا يف عامله
وغيرهم ،وقد زها علم الكالم نعم املعريف.
قبل أن تزهو الفلسفة ونقل فنحن وهم يف مزعم فاختالف املعرفة واإلنكار
الفلسفة مل ينشئه ،بل قواه وتشاجر عىل النفس ليس له مصدر إال
ويعلم رب الناس أكذبنا زعما وغير شكله ،وقد أنتجت تأثرها بالحياة املادية ،يقول
هذه الصورة من الفلسفة ومهما يكن من شيء أبو العالء يف الشك:
الدينية نتيجتها الطبيعية فإن ألبي العالء آراء إنما نحن يف ضالل وتعليل
من االنقسام واالفتراق -كما يعرض طه حسين، فإن كنت ذا يقين فهاته
واختالف الرأي وتباين وكما رصدناها من خالل ولحب الصحيح آثرت الروم
أشعاره -ثابتة استقر عليها األهواء ،ونظرة يف كتاب امللل انتساب الفتي إىل أمهاته.
والنحل للشهرستاني تبين حياته كلها مل ينكرها ومل ويؤكد أبو العالء أن
163
الملف الثقـافي
أمثال ابن رشد ،الذين استقر العقل هي تلك املزية التي عدد الفرق التي أنتجها علم
رأيهم بأن العامل قديم ومل ترفع من شأن اإلنسان. الكالم للمسلمين ،ولو أن
يزل موجو ًدا مع اهلل سبحانه وقدمت املعتزلة النظر العقيل نتيجة الكالم وقفت عند هذا
ً
معلول له غير متأخر وتعايل يف القضايا ال ِّدينية استنا ًدا الحد لهان احتمالها ،لكنها
عنه ،وتقدم الباري كتقدم إىل االستدالل املنطقي، تجاوزته إىل السيطرة عىل
العلة عىل املعلول وهو تقدم وليس مجرد االستناد إىل الحياة العملية ففعلت باألمة
بالذات والرتبة ال بالزمان، النُّصوص ،فأجازوا ما األفاعيل(.)10
وبهذا تعرف أنه يرى قدم يوافق العقل ،ورفضوا ما لكن هل ينتمي أبو العالء
املادة وخلودها ،وال يرى خالفه ،وجعلوا العقل أول املعري إىل مذهب ما؟ يجيب
رأي املتكلمين من املسلمين األدلة الشَّ رعية ،واعتمدوا طه حسين بالنفي ،فلم
يف حدوث األجسام وتركيبها يف االستدالل لعقائدهم عىل يتخذ املعري لنظره الفلسفي
من األجزاء التي ال تتجزأ(.)14 القضايا العقلية(.)12 مذهبًا محد ًدا ،فال ينتمي
والفالسفة يختلفون يف يقول أبو العالء عن املعتزلة: إىل أهل السنة ،وال مذهب
تعريف الزمان .أما املعري، ومعتزيل مل أوافقه ساعة.. السفسطائيين وأهل الشك،
فيعرفه بقوله :إنه كون أقول له يف اللفظ :دينك أول وال مذهب املعتزلة ،فهو
يشتمل أقل جزء منه عىل أريد به من جزلة الظهر مل ال يؤمن إال بالعقل وحده
عامة املوجودات .بذلك أرد.. فخالف بهذا أهل السنة،
عرفه يف رسالة الغفران ويف من الجزل يف األقوال تلوي ألنهم يقدمون النص عىل
اللزوميات فقال: ()13
وتجزل العقل ،وخالف مذهب املعتزلة
ومولد هذي الشمس أعياك هنا يشدد أبو العالء عىل ألنهم عىل تقديمهم للعقل
حده عدم موافقته للمعتزلة، يتخذون الشرع لنظرهم
وخبر لب أنه متقادم ويتهمهم بأنهم يتعاملون مع ً
ودليل يعتزون به ً
أصل
وأيسر كون تحت كل عامل النصوص باجتزالها ولوي ويلجأون إليه .وهذا غريب
()11
فالهالل املنيف والبدر الفرقد عن أن يوصف بالسكون وال يثبته ،وأنه إن اعترف
أو بالحركة ،فالسكون عجز والصبح والثري واملاء به يف كتبه فإنما يفعل ذلك
والحركة عرض وكالهما فانظر كيف بسط القدرة ابتغاء مرضاة الناس واتقاء
محال ،وقد نص أبو اإللهية سخطهم ،عىل قاعدته من
العالءعىل ذلك فقال: عىل العامل ومل يستثن شيئًا اصطناع التقية والحرص عىل
أما تري الشهب يف أفالكها أيضا يف القدرة ويقول ً االحتياط ،ذلك شيء يمكن
انتقلت اإللهية: أن يدل البيت عليه ،لكن روح
بقدرة من مليك غير منتقل انفرد اهلل بسلطانه فما له أبي العالء يف حياته املادية
ويري طه حسين أنه من يف كل حال كفاء وفيما كتب ينفيه ،فال يجب
العسير أن نثبت موافقة هذا فما خفي قدرته عنكم أن يفهم من هذا البيت إال
الرأي أو مخالفته للمتكلمين، وهل لها عن ذي رشاد أن الرجل يجهل كنه اإلله
غموضا شدي ًداً ألنه غامض ()21
خفاء؟ وحقيقته ،وال يستطيع أن
فهم ال يستطيعون أن يقولوا وألبي العالء بيت يف يحدده تحدي ًدا منطقيًّا ،وأنه
الوحدانية يعرضه طه حسين إن اهلل منتقل ،إذ االنتقال يخشى أن يقول ذلك ألن
ال يحتمل الشك وال التأويل ،يحتاج إىل حيز ،والحيز عىل عامة الناس ال يستطيعون أن
اهلل محال ،واالنتقال حركة، وهو قوله: يفقهوا معزى هذا القول ،وال
والحركة عرض ،واألعراض بوحدانية العالم دنا أن يفرقوا بين من ال يعرف
ال تقوم بذات اهلل ،وليس فذرني أقطع األيام وحدي اهلل ،ومن ال يعرف حقيقته،
يصح أن يقال إن اهلل ساكن، ويقول حين يعرض لألمر فما يدرك هو أثار تشير إىل
فالسكون عجز ،والعجز عليه بالعزلة: وجوده وتدل عىل ثبوته،
محال ،وألن هذا الخالق يف توحد فإن اهلل ربك واحد فأما حقيقته فقد انقطعت
نفسه ال يمكن أن يصدر عن وال ترغبن يف عشرة بيننا وبينها األسباب(.)20
سكون مطلق ،وكأن الحرص الرؤساء وعىل ذلك ال بأس عىل أبي
عن تنزيه اهلل عز وجل فأنت تري أن أبا العالء العالء -من وجهة نظر طه
إسالمي النزعة ،يوناني فيما عن هذه األوصاف اللغوية حسين -أن يعلن جهله
القاصرة هو الذي جعل أثبت هلل من القدرة الشاملة حقيقة اهلل ما دام أعلن علمه
قاصرا.
ً والوحدة املطلقة ،وهو كذلك مذهب املتكلمين بوجوده ،غير أن من الحق
فقد تضاربت الفرق فيما أثبت له من الحكمة يف علينا البحث يف األوصاف
اإلسالمية بين رفض البيت الذي يقول فيه: التي أسندها أبو العالء إىل
الص َفات الحسية وبالتايل حكيما
ً أثبت يل خالقًا اهلل بعد أن أثبت وجوده،
تأويلها ،وبين قبول هذه ()22
ولست من معشر نفاه لنعرف نزعته الفلسفية؟
الصفات ورفض تأويلها، أيضا:
ويقول ً فأول ما يلقانا به أبو العالء
إذا قوم مل يعبدوا اهلل وحده وقد خرجت بعض الفرق من ذلك إثباته القدرة العامة
كاملعتزلة بهذه الصفات عن بنصح فإنا منهم برءاء الشاملة هلل ،وهو مقدار يتفق
مدلولها الحسي؛ ألن هذه ويفارق أبو العالء املسلمين عليه املسلمون والفالسفة،
الفرقة أخضعت النص للعقل، ويوافق اليونانيين يف بل وعامة أهل الديانات،
وإن تعارضا فاألولوية إثبات أن اهلل ساكن غير ويقول يف ذلك:
لديهم للعقل ،وأهم من
()23
متحرك وال منتقل ،فأما للمليك املذكرات عبيد
الص َفات
يمثل رفض تلك ِّ املسلمون فينزهون اإلله وكذلك املؤنثات إماء
167
الملف الثقـافي
فخرج أبو العالء من هذه لزم األول ،فباضطرار :إما طاليس عىل أن اهلل فعل
املعركة إسالمي النزعة يف أن يمر ذلك إىل غير نهاية، محض ،أي أنه ليس شيئًا
الحقيقة وفقه الكالم يونانيها أو ننزل أن هنا متحر ًكا ال كان قوة فصار ً
فعل؛ ألن
أيضا ،فهل شذ أبو العالء عن ً أصل وال من شأنه ً يتحرك هذا يقتضي التغير والتغير
()27
املسلمين يف أمور محددة؟ أن يتحرك ال بالذات وال عليه محال .فلم يبق بد من
ومل يستطع أبو العالء أن بالعرض(.)26 القول بأنه فعل محض ،وهو
يتصور وجو ًدا خارج الزمان ال شك يف أن الحركة التي يساوي القول بأنه حركة
واملكان ،فجزم أن اهلل يف نفاها أبو العالء عن اهلل إنما محضة ،والحركة ال توصف
زمان ومكان ،وزعم أن من هي الحركة املادية ،بدليل أنه بالحركة ،ألن وصف الشيء
خالف ذلك ليس له عقل ،ويف قد أثبتها للكواكب ونفاها عن بنفسه ضروري العبث ،وإذا
مناظرا املسلمين
ً ذلك يقول اهلل فقال: كان حركة محضة ،مل يلزم
وعامة املتدينين من أتباع أما تري الشهب انتقلت أرسطو طاليس أن يكون
الرسل: بقدرة من مليك غير منتقل سكونًا وال ساكنًا ،فال يلزم
قالوا لنا خالق قديم والشهب إنما تنتقل من العجز ،ومل يلزمه البحث
قلنا صدقتم كذا نقول حيز إىل حيز ،وهذا االنتقال عن مصدر ما يف العامل من
زعمتموه بال زمان محال عىل اهلل من غير شك، الحركة ،فاهلل هو مصدرها
وال مكان أال فقولوا فلم يبق ريب يف أن أبا إذ هو الحركة يف نفسها.
هذا كالم له خبئ العالء موافق ألرسطو أتم ونالحظ أنه ال يريد بالحركة
()28
معناه ليست لنا عقول املوافقة ،فهل هو مع ذلك إال الفعل املحض ،أي التحقق
فهذا الكالم يستظرفه موافق للمسلمين؟ مل ينص الثابت يف الخارج ،ومن هنا
األديب والشاعر لرقة لفظه املسلمون عىل شيء من ال ترد عىل أرسطو طاليس
ودقة ما فيه من السخرية هذا؛ ألنهم ال يعترفون بهذه تلك االعتراضات السابقة،
–عىل حد تعبير طه حسين- الحركة التي يراها أرسطو فلنبحث عن بيت أبي العالء
،لكنه ال يناسب املتكلم وال يعرفون إال الحركة لنعرف أيدل عىل أنه فقه
ويتعارض مع التنزيه؛ ألنه املادية ،فإذا التمسنا موافقة الحركة كما فقهها أرسطو؟
يصف اهلل يف ظاهره بما أبي العالء للمسلمين يف هذا ويري ابن رشد أن هذا
ال بالئم فقه الدين وأصول األمر فإنما نلتمس موافقة الدليل يقوم عىل مسلمة وهي
الكالم .غير أننا ال نستطيع فقهه الكالمي ملا اتفقوا أن كل حركة ال بد لها من
إن نمر بهذه األبيات دون أن عليه من تنزيه ،وذلك شيء محرك ،وأن املتحركات ال
نفقهها كما فعل الذين كفروا ال شك فيه ،فإن املتكلمين بد أن تنتهي إىل محرك أول
بها أبا العالء .والحقيقة أن مهما يكثر بينهم الجدال ال وهو اهلل ،يري ابن رشد:
الرجل مل يكن مشب ًها وال ينكرون أن اهلل موجود يف أننا متى أنزلنا هذا املحرك
مجسما ،ويف أقواله ما يدلً الخارج أي أنه فعل ،وهو ما األقصى للعامل ،يحرك
عىل أنه ال يشك يف اهلل وبأنه يقوله أبو العالء وأرسطو تارة وال يحرك أخرى ،لزم
حسن الرأي فيه(.)29 طاليس .واملعتزلة خاصة ضرورة أن يكون هناك
ويف معرض حديثه عن ينفون الصفات ويقولون إن محرك أقدم منه ،فال يكون
الزمان رأى أبو العالء –كما اهلل عين ذاته ،فهو وجود املحرك األول ،فإن فرضنا
يؤكد طه حسين -يف الزمان محض ،وذلك عين ما يقوله أيضا هذا الثاني يحرك تارة ً
معنى ربما ضاقت اللغة أبو العالء وأرسطو طاليس. وال يحرك أخرى ،لزم ما
شمول القدرة يقتضي أال يكون في هذا
عن التعبير عنه ،فالزمان
العالم شيء إال إذا تعلقت به قدرة اهلل،
موجود عنده قبل الفلك إن
فإذا فعل اإلنسان شي ًئا فإما أن يكون صح أن يسبق الفلك بوجود،
فهو يري قدمه وإنما يريد
مختا ًرا فيه أو غير مختار؛ فإن يكن مختا ًرا
بالزمان مجرد االستمرار
فهذا الفعل واجب ،وإن لم تتعلق به ذي الصورة الواحدة الذي
ال ينقسم إىل ليل وال نهار
قدرة اهلل وهو باطل؛ ألنه يهدم أصل
وال يقاس بشهر وال عام،
القدرة ،وإن يكن غير مختار فهو الجبر استمرارا ال نستطيع
ً يريد
أن نفسره إال بأنه ظروف
الذي ال شك فيه .إذن الدين والفلسفة
يحتوي عىل كل موجود
يتظاهران إثبات الجبر وإقامة األدلة عليه حتى الليل والنهار اللذين
نسميهما نحن زمانًا ،وهذا
الزمان الذي ذهب إليه أبو
العالء ال يستطيع أن يشك
فيه إنسان ،بل إن اعتقاده
اهلل خارج العامل ،إذ ليس فانظر إليه كيف مل يقس جزء من مكونات العقل
للعامل عنده خارج ،فاهلل وجود اهلل بمضي أو اإلنساني ،فإنك ال تستطيع
موجود يف العامل ،والعامل ()30
استقبال أن تتصور وجو ًدا أو ثبوتًا
مكانه ،لكن هذا ال يجعل ويف سياق متصل بفكرة إال إذا تصورت فيه البقاء
واالستمرار بالوقت ،وهذا
املعري مشب ًها؛ ألنه مل الزمان رأي طه حسين :أن
الرأي يف الزمان هو ما
يفسر املكان بالحيز فيلزمه أبا العالء ال يريد باملكان
رآه جون استيوارت مل
أن اهلل جسم ،ومل يقل معنى من املعاني الضيقة
الفيلسوف اإلنجليزي وأثبت
بانحصار العامل فيلزم أن اهلل التي ذكرها املتكلمون
قدمه وأنه ال أول له .فإذا
محصور ،إنما قال بعامل ال والفالسفة ،فاملكان عند
فهمنا الزمان بهذا املعنى مل
يتناهى ،وبمكان ال يتناهى. هؤالء ال يمكن أن يتجاوز نستطع نفي مقارنته لوجود
وال يجد طه حسين مبررات العامل ،ومن ثم اختلفوا يف اهلل ،فنفي هذه املقارنة نفي
النتقاد املعري يف هذه إمكان الخالء يف هذا العامل للوجود نفسه ،إذ الوجود
املسألة ،فإذا فهمنا املكان واستحالته ،واتفقوا عىل يف نفسه استمرار وهذا
والزمان كما فهمهما أبو إمكانه خارجه ،وقد عرف االستمرار هو الذي يسميه
بأسا من
العالء مل نر عليه ً طه حسين أن أبا العالء أبو العالء زمانًا .ويدلك
أن يعتقد أن اهلل مقارنًا لهما، يرى عدم تناهي األبعاد، عىل أن الزمان الذي ذكره
وال يجب أن يتهم رجل قال ً
داخل فهو ال يري للعامل أبو العالء يف هذه األبيات
ذلك بالكفر ،فإنه مل يقصر وخارجا كما زعم املتكلمون ً ليس هو الزمان الذي يفهمه
يف تنزيه اهلل ،وإنما يجب والفالسفة ،وإذا مل يكن املتكلمون من قول أبي العالء
أن يناقش فيما ذهب إليه للعامل عند أبي العالء حد يف قصيدة أخرى:
من رأيه الخاص يف الزمان وال نهاية فال شك يف أنه ال واهلل أكبر ال يدنو القياس له
واملكان ،فإن صح له الرأي يستطيع ان يتصور وجود وال يجوز عليه كان أو صارا
170
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
فإذا فعل اإلنسان شيئًا فإما هذا االختيار إما أن يكون صحت عقيدته وإن مل يصح
مختارا فيه أو غير
ً أن يكون ً
متصل بما قبله ،أو بما فقد أخطأ يف تصوره .فقد
مختارا فهذا
ً مختار؛ فإن يكن بعده اتصال العلة باملعلول ترك طه حسين األمر للنقاش
الفعل واجب ،وإن مل تتعلق والنتيجة باملقدمة. حول آراء املعري ،ويرفض
به قدرة اهلل وهو باطل؛ والبحث يف مشكلة الجبر اتهامات البعض له ،فقد
ألنه يهدم أصل القدرة، يكمن يف محاولة فهم تعلم طه حسين من الغرب
وإن يكن غير مختار فهو املعنى امليتافيزيقي للمشكلة الحوار ،تعلمه من سقراط
الجبر الذي ال شك فيه .إذن وعالقته بالوجود اإلنساني، وأفالطون وغيرهما ،فأصبح
الدين والفلسفة يتظاهران من حيث أن هناك مشكلة يمتلك أدوات الحوار ،وال
إثبات الجبر وإقامة األدلة كبيرة بين الحرية ومشكلة يتعصب للرأي.
عليه ،فإذا بحثنا عىل الحياة الفعل اإلنساني .واملشكلة ٍ
وقد ذكر يف بيت قدم اهلل
العملية وال سيما بالقياس يمكن وضعها يف السؤال وقدم الزمان م ًعا فقال:
إىل أبي العالء عرفنا أنها اآلتي :إذا كانت اإلرادة خالق ال يشك فيه قديم
أيضا(.)33تنتج الجبر ً اإلنسانية حرة مطلقة فكيف وزمان عىل األنام تقادم
ويقسم طه حسين الجبر نفسر العالقة بين املشيئة فجعلهما قديمين لكنه
إىل :ما يتعلق باألشخاص، اإللهية واملشيئة اإلنسانية ()31
فضل التنزيه
ما يتعلق بالجماعات، من جانب أن املشيئة اإللهية
فأحوالك الخاصة وظروفك غالبة عىل املشيئة اإلنسانية الجبر عند أبي العالء
التي تكتنفك محدثة كانت إال إذا اتفقتا ،فمن البديهي
أم قديمة تحدد لك طريقك أن يتساءل املرء :كيف يتسق الجبر هو أن تنسب الفعل
يف الحياة ،وكذلك األحوال الجبر مع التكليف والثواب للرب دون العبد ،وهو
التي تكتنف الجماعات والعقاب ،فإن ذلك يتناىف مع مذهب قديم عند الفالسفة
والفرد والجماعة ال يملكان مفهوم العدل اإللهي(.)32 وكثير من أهل الديانات،
لهذه الظروف واألحوال وشمول القدرة يقتضي أال فاالختيار ال يتفق مع القول
ً
تبديل(.)34 يكون يف هذا العامل شيء بأن هذا العامل مبني يف
يقول أبو العالء: إال إذا تعلقت به قدرة اهلل، حركاته االجتماعية والفردية
لإلنسان وغير اإلنسان
عىل العلل
واألسباب،
وأن كل شيء
يف هذه الحياة
نتيجة شيء
قبله ومقدمة
لشيء بعده،
ويف هذه
الحالة ال يكون
لالختيار
موضع يف هذا
العامل ،ذلك أن
171
الملف الثقـافي
اللزوميات ينطقان به ويدالن ولقد وجدت لهذا القول يف إن كان من فعل الكبائر
شواهدا عليه ،فقد نص يف مقدمة مجبرا
ً
ونهاني دونه الورع اللزوميات عىل أنه مل يؤلف ()35
فعقابه ظلم عىل ما يفعله
فزاد يف هذه األبيات عىل مختارا ،وإنما
ً هذا الكتاب واهلل إذا خلق املعادن عاملًا
إثبات الجبر أمرين أحدهما ألفه بقضاء ال يعرف كنهه، إن الحداد البيض منها تجعل
وقد ذكر الجبر يف اللزوميات نفي التكليف ،واآلخر أن فانظر كيف جعل عقاب
يرى الجبر ويؤمن به وإنما أكثر من مائتي مره ،يثبته ظلما حين صاحب الكبيرة ً
ويناضل عنه ويبسط سلطانه الورع ينهاه عنه ويقول: أثبت الجبر ،وقد ذهب يف
ما باختياري ميالدي وال عىل الحياة العملية لألفراد بيت آخر إىل أن اإلنسان ال
هرمي والجماعات .فمن قوله يف مدحا فهو يستحق ذ ًّما وال ً
وال حياتي فهل يل بعد تخيير الجبر: مجبر:
وال إقامة إال عن يدي قدر املرء يقدم دنياه عىل خطر أمرا
ال تمدحن وال تذمن ً
بالكره منه وينآها عىل سخط وال مسير إذ مل يقض فينا فغير مقصر كمقصر
تسييرا إثما إىل إثم فيلبسهيخيط ً فكما أجبر اإلنسان عىل
كأن مفرقه بالشيب مل يخط والعقل زين ولكن فوقه قدر أن يحسن ويسيء ،أجبر
فما له يف ابتغاء الرزق فاإلنسان عنده يدخل الدنيا عىل أن يحمد الحسن ويذم
()37
تأثيرا كار ًها ويخرج منها كار ًها، القبيح ،ويتصور هذا
ولو خير ما اختار أن يعيش. حسن وهذا قبيح .ويبرر
البعث عند أبي العالء يقول أبو العالء: طه حسين آراء املعري يف
املعري وإذا كنت باهلل املهيمن واثقًا الجبر وبأن اإلنسان مجبر
فسلم إليه األمر يف اللفظ عىل أفعاله ،فيقول :بأن
الفالسفة اإللهيون من واللحظ طائفة األحوال التي اكتنفت
اليونان ينكرون حشر فانظر إليه كيف جعل اهلل الحياة املادية واملعنوية
األجساد ،وال يؤمنون ببعث يدبر مقادير تصيب ما ألبي العالء اضطرته إىل
األرواح كما نفهمه نحن من تصيبه بقدر ،وعن حركتها أن يتصور الجبر بالصورة
الدين ،ولكنهم يقولون بخلود التي أثبت لها املصادفة التي قدمناها ،وأن يتخذ
الروح ،وإنها تنتقل بعد املوت يسعد قوم ويشقي آخرون منه اعتراضات عىل التكليف
إىل عاملها العقيل ،وموقف أيضا:
ويقول ً ً
سبيل تجعل لخصومه
املعري يف البعث موقف غير خرجت إىل ذي الدار كرها عليه(.)36
ثابت -كما يراه طه حسين- ورحلتي إىل غيرها بالرغم أال ترى معي أن يف هذا
فتارة يقف موقف الشك واهلل شاهد نقد للمعتزلة التي قالت
فيقول: إن روح أبي العالء يف أن الحسن والقبح ذاتيان،
يا مرحبا باملوت من منتظر الفلسفة اإللهية جبري ال ودعت إىل حرية اإلرادة،
إن كان ثم تعارف وتالق يعرف االختيار يقول: وهذا ما جعل املعري ينتقدها
قالت معاشر كل عاجز ضرع وتارة يجزم بموقف كثيرا
ً بشدة بل وال يذكرها
ما للخالئق ال بطء وال سرع أفالطون يف الروح فيقول: عند ذكره للمتكلمين.
مدبرون فال عتب إذا خطئوا وإن صدأت أرواحنا يف وكما أظهرت آراء أبي العالء
أجسامنا عىل املسيء وال حمد إذا يف الفلسفة اإللهية الجبر؛
يوما أن يعاودها
فيوشك ً برعوا فإن حياته املادية وشعره يف
172
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
اإلسكندر األعظم
176
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
الهوامش:
Mohammad Fawwaz Ghannam, Critical Issues of Al-Maarri in “Resalat-el-Ghofran, -1
’(Letter of Forgiveness) International Journal of Business and Social Science, Al-Balqa
.2011 ,September ,10 .No ,5 .Applied, Vol
-2راجع :أحمد سيد النجار ،بين املعتزلة وليبنتز ،ترجمة وتقديم :عبد الرشيد محمودى ،األهرام اليومي،
29أكتوبر .2014
-3طه حسين ،ذكرى أبي العالء املعري ،القاهرة ،مكتبة الهالل ،عني بنشره وتصحيحه :إبراهيم زيدان،
الطبعة الثانية 1915 ،ص.101
-4طه حسين ،بين بين ،القاهرة ،مؤسسة هنداوي للنشر .2012 ،ص.25
-5حول عالقة الفلسفة باألدب راجع :بيار مشيري ،بم يفكر األدب (تطبيقات يف الفلسفة األدبية) ،ترجمة:
جوزيف شريم ،مراجعة ،بسام بركة ،بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية ،الطبعة األوىل ،2009 ،ص.25
وأيضا راجع:
ً -6طه حسين ،ذكري أبي العالء ،ص99 ،98
D9%-1912/http://www.mandaeanunion.org/ar/views/item
-7طه حسين ،املرجع السابق ،ص.322 :318
-8طه حسين :املرجع السابق ،ص.323
-9طه حسين ،ذكري أبي العالء ،ص.322 :318
-10املرجع السابق ،ص.89 ،88
-11السابق ،ص 318وما بعدها ،وحول علم الكالم وعوامل نشأته راجع :د.فيصل عون ،علم الكالم
ومدارسه ،دار الثقافة للنشر ،الطبعة الثانية ،1976 ،ص 38وما بعدها.
-12القاضي عبد الجبار ،فضل االعتزال وطبقات املعتزلة ،تحقيق فؤاد سيد ،تونس ،الدار التونسية للنشر،
وأيضا :الجاحظ ،البيان والتبيين ،تحقيق :عبد السالم هارون ،القاهرة ،مكتبة الخانجي،
ً ،1974ص،139
الطبعة الثالثة ،الجزء األول ،ص.170
-13أبو العالء املعري ،شرح اللزوميات ،تحقيق :سيد حامد وأخرون ،إشراف ومراجعة :حسين نصار،
الجزء الثاني ،الهيئة العامة للكتاب ،2008 ،ص.398
-14طه حسين ،املرجع السابق ،ص ،329والغزايل :تهافت الفالسفة ،دار الكتاب العلمية ،بيروت ،لبنان،
،2000ص.52
-15طه حسين ،املرجع السابق ،ص.313 :329
-16املرجع السابق ،ص.332 :331
-17محمد العريبي ،ابن رشد وفالسفة اإلسالم من خالل فصل املقال وتهافت التهافت ،بيروت ،دار الفكر
اللبناني ،الطبعة الثانية ،1992 ،ص.63
-18شرح اللزوميات ،الجزء األول ،ص.388
-19راجع :الشهرستاني ،امللل والنحل ،تحقيق :عبد العزيز محمد الوكيل ،الجزء االثالث ،مؤسسة الحلبي،
وأيضا الشهرستاني ،نهاية اإلقدام ،تحقيق :الفرد جيوم ،بيروت ،دار املعرفة ،1975 ،ص.7 ً ،1961ص،28
-20طه حسين ،ذكري أبي العالء ،ص.339 ،338
-21املرجع السابق ،ص.340
أيضا :شرح اللزوميات ،الجزء األول ،ص ،57وما بعدها. -22املرجع السابق ،ص ،341وراجع ً
-23فخر الدين الرازي ،أساس التقديس ،تحقيق :طه عبد الرؤوف ،مكتبة الكليات األزهرية ،1981 ،ص،59
.60
177
الملف الثقـافي
دائما ،فهناك عين اإلنسان الذي يهمه أمر دنيا املوجودة ً الضوابط أو القيود عىل
أخرى ال تقتنع إال بأن «تبدي الغد أو بعد الغد ،كما يتوقع نوع التفكير الذي استخدمه
املساوئ» .
()6
أن تكون ،أو كما يحبها هو أينشتين من أجل تطبيقه
كان هذا التوافق واالنسجام أن تكون ،ينبغي تب ًعا لذلك يف مجال الفيزياء ،وقد فعل
هو الذي دعانا إىل تصديق أن يضع الخيال يف الكفة ذلك نيلزبور ،ثم التفكير
نيوتن وقوانينه ،تلك القوانين الراجحة من ميزانه ،وهذه بالصور التي تستحث
استنتاجا عن
ً التي مل تكن قضية ال يجرؤ كثيرون من بوساطة رياضيات العناصر
تجربة باملعنى الصحيح، الناظرين يف املستقبل عىل الذرية الفرعية كما فعل
التكهن بها؛ وذلك ألن الخيال فكان نجاحها ال ألنها تتبع هایزنبرج(.)3
العامل املادي ،ولكنها تحدث ما زال يف نظرهم موضع النظرية العلمية ما مل يمكن
عن عامل يماثل يف األساس ريبة وشك كما أنه مناف التحقق منها يف املعمل تصبح
عاملنا ،وكان هذا النجاح كذلك للمنطق إذ ال يعتمد عليه، موض ًعا للتشكك ،ومن ثم
هو الذي وهبنا ثقتنا بأصل وليس من املستطاع فهمه، يمكن التخيل عنها وهجرها،
ولذا فال مكان له عند التكهن النظرية ،جزيئات دقيقة وهذا ما حدث عبر تاريخ
يخضع كل منها للقوانين املبني عىل العقل ،إال إذا العلم ،وعبر نظرية النسبية
التي بنى عليها نيوتن فكرته، روضنا الخيال كما نروض وأيضا حدث هذا ً وتاريخها،
هذا الفرض األويل ،بل هذا النمر وحملناه عىل الوثوب مع نظرية لورينتز -أينشتين
اإليمان بالجزيء الدقيق، حتى ينفذ من األطواق ،أو عندما تناقضت مع بيانات
وضعناه کالوقود يف خزان كان له من النتائج املهمة يف كوفمان ،فبينما أصيب
تكييف وسائلنا وفلسفتنا السيارة حتى ال تكف آلتها كوفمان بالذعر ،فإن أينشتين
ملا وراء الطبيعة منذ ذلك عن الدوران(.)5 استمر يف تجاربه من أجل
الحين(.)7 لكن الخيال ما مل يخضع الوصول إىل التعميم لنظريته
كان فارادی واح ًدا من لنظام خاص كما يحذرنا حول النسبية(.)4
أعظم العلماء يف عصره ،بل زاخرا
ً بفردج فإنه قد يكون إن ملكة الخيال هذه التي
ربما يف كل العصور ،وقد باألخطار ،فالخيال الخصب ينعم بها اإلنسان لها قوتها
كان أسلوب تفكيره أشبه أيضا منالخالق ال بد له ً التي جعلت اإلنسان وقد
بالشعراء منه بالعلماء ،وكما قوة أخرى تحدث التوازن حفزته ثمار طاقاته الخالقة،
هي الحال يف الشعر الجيد، معه ،أال وهي قوة النقد يبدأ يف تغيير موقفه حيال
فإن الصورة االستعارية والحكم والتحليل ،وهذا أمر التسليم بمصير محتوم ،فلم
البسيطة تشرق وتنير تماما بطبيعة الحال ً مختلف تعد القوي الغيبية النائبة
كبيرا من ً بطريقة جديدة عد ًدا عن أن نقول إن الخيال عن الناس سلطان عىل حياة
الحقائق غير املترابطة ظاهر ًّيا يحتاج إىل القيود والقمع هذا الجيل أو األجيال املقبلة
أو سطحيًّا ،وقد استخدم والكبت ،فالخيال يحتاج إىل كذلك ،وباملثل انقضی
دائما داخل املعمل تجسيد ،وإبطاء خاص لحركة فارادي ً سلطان قوانين التاريخ
أو خارجه خياله البصري رفرفة أجنحته الطليقة ،فهو وتقلبات الحظ وأهواؤه ،وإنما
القوی کی يمزج بين الخبرة ال بد له يف النهاية من أن يتحكم يف هذه الحياة رؤى
يهبط عىل األرض وينظر إليه ،الواقعية والتجربة املعملية، اإلنسان نفسه التي تتراءى
ولن تكون «عين الرضا» التي ويشكل من ذلك كله نماذج أمامه ..وسواء أكان رضيًا أم
هي «عن كل عيب كليلة» هي أصيلة للواقع يف عقله ،يف ال فإن املستقبل يبدأ يف ذهن
180
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
ذوي االهتمامات املتشعبة ،أو والعلماء الصغار والكبار عين عقله ،أي خياله ،وقد
كانوا يدرسون موضوعات أيضا(.)9
ً كثيرا بما إذا
ً معني
ٍّ كان غير
مختلفة عن املوضوع الذي األمر نفسه بالنسبة كانت هذه النماذج ال تتفق
وكثيرا
ً أصل.ً تخصصوا فيه للشعوب ،فهي ال يكون لها مع أي أفكار علمية مقبولة
ما تكون األصالة يف االهتداء كيان ،وال تكون لها قيمة يف عصره ،ومع ذلك فقد
إلی ارتباطات أو أوجه شبه إال بقدرتها عىل االختراع، كانت هذه النماذج العقلية
بين شيئين أو فكرتين أو ونحن نجد يف تاريخ كل أمة خصوصا
ً املتخيلة عن الواقع،
أكثر مل تكن تعرف بينهما أية فترات من الركود والخمول، ما يتعلق منها بفكرة املجال
عالقة من قبل. ليس فيها ابتكار أو اختراع، الكهرومغناطيسي ،هي التي
من املفيد أحيانًا يف البحث وهذا هو «شتاء الشعوب»، قدمت األساس الجوهري
عن أفكار مبتكرة ،التخيل ولكنَّا من الناحية األخرى للنظريات املهمة األخرى
عن التفكير املوجه املقيد نجد «ربيع الشعوب» يف خصوصا لدىً التالية له،
الذي نادى به «دیوی»، تلك الفترة التي تظهر فيها جيمس كالرك ماكسويل
وإطالق العنان لشطحات األفكار املبتكرة واالختراعات وألبرت أينشتين(.)8
الخيال أي «للسرحان» .وقد املبدعة(.)10 وتتمثل ملكة بالعقل العليا
قالت «هاردنج» Harding يمكن القول إنه كلما ازدادت لدي بوانكاريه يف هذه القدرة
إن جميع املفكرين الخالقين ذخيرتنا من املعرفة ،ازداد عىل التفكير الذي يجمع بين
حاملون ،وعرفت االستغراق احتمال تمخض أذهاننا املكونين الجمايل والعقيل
يف األحالم بهذه الكلمات(:)11 عن مجموعات مهمة من ويركب بينهما بطرائق
عن هذا الخيال ،يقول األفكار ،هذا إذا تساوت خاصة مثمرة ومنتجة ،ويرى
«تندول» ( Tyndollفيزيائي الظروف األخرى .باإلضافة بوانكاريه أنه من خالل العلم
إيرلندی )۱۸۹۳ -۱۸۲۰ إىل ذلك ،فإن احتمال ظهور والفن فقط تكون «الحضارة
بأنه املهندس الذي يصمم االرتباطات املبتكرة يف ذات قيمة».
النظرية الفيزيائية مستعينًا ميدان ما ،يزداد إذا توافرت يف «العلم والفرض» كتب
بما تنقله املالحظات معلومات واسعة تمتد إىل بوانکاریه بانفعال كبير
والتجارب الدقيقة ،واستطرد فروع املعرفة املتعلقة بهذا عن مساعي العلماء إىل
قائل عن أهمية الخيال يف ً امليدان ،بل إىل الفروع تمثيل الطبيعة وتجسيد
العلم :كان انتقال «نيوتن» أيضا ،وهذا
البعيدة عنه ً البساطة والتناسق والوحدة
من تفاحة ساقطة إىل قمر مصداق لقول تايلور E.L. الخاصة باألسس التي تقوم
عمل من أعمال ساقطً ، « :Taylorيزداد احتمال عليها .وأننا نستطيع خالل
الخيال املتأهب ،ومن بين ظهور االرتباطات الجديدة وسائل مماثلة أن نشكل
الحقائق الكيميائية استطاع واألفكار املبتكرة إذا توافرت معرفة دقيقة منظمة ،ومن
خيال «دولتون» البنَّاء أن ذخيرة متنوعة من الذكريات بين ذلك تلك األحاسيس
يشيد النظرية الذرية ،وقد والخبرات ،عما لو كانت الكثيرة التي تنهمر علينا يف
منحت الطبيعة «السير الذخيرة املوجودة كلها من كل لحظة ،إننا ال بد من أن
همفری دايف» (فيزيائي و نوع واحد». نذهب نحو تكوين فروض
كيميائي إنجليزي -۱۷۷۸ الواقع أن العلماء الذين خاصة عن عمارة العقل أو
)۱۸۲۹موهبة تخيلية أسهموا يف العلم إسهامات تكوينه املعماري .وهذه هي
غريزية ،أما «فراداي» مهمة مبتكرة ،كانوا غالبًا من الحساسية التي تلهم الفنانين
181
الملف الثقـافي
هي االستلقاء يف الفراش، من املقاطعة -أو أي مؤثر يراها أغلب العلماء موصلة
ولذلك يتعمد بعضهم التفكير محول لالنتباه :كاملناقشات إىل الحدس(:)24
يف املشكلة قبل الذهاب الطريفة التي تصل إىل مجال (أ) إن أهم شرط مبدئي هو
للنوم ،والبعض اآلخر قبل السمع ،والضوضاء املفاجئة التفكير يف املشكلة والوقائع
النهوض يف الصباح ،وهناك الصاخبة. ً
طويل إىل املتعلقة بها وقتًا
مجموعة ثالثة من الناس تجد (د) ويجد أغلب الناس أن درجة تشبع الذهن بها .وال
تأثيرا مفي ًدا،
ً يف املوسيقى احتمال وقوع الحدس يزداد بد أن يكون هناك اهتمام
ولكن مما يجدر ذكره أن أثناء الفترات التي يبدو كبير بها ورغبة صادقة يف
ضئيل ج ًّدا من الناسً عد ًدا املرء فيها بال عمل ،وقد حلها ،وأن ينشغل بها الذهن
هم الذين يعتقدون أنهم تخىل عن املشكلة مؤقتًا، الواعي بضعة أيام حتى
يتلقون أي عون من التدخين وذلك عقب فترات من العمل يهيئ الذهن شبه الواعي
أو القهوة أو املشروبات املركز بها؛ ويرى البعض لالنشغال بها بعد ذلك.
الروحية ،كذلك قد يساعد ظهورا أن أكثر األوقات وطبيعي أنه كلما ازدادت
ً
االتجاه الذهني املتفائل عىل ذهنيًّا :كالتنزه يف األرياف، صلة الوقائع التي يتدبرها
حدوث الحدس. واالستحمام ،والحالقة، الذهن ،ازدادت فرص
(هـ) ومما يحفز إيجابية وأثناء الذهاب إىل العمل الوصول إىل نتيجة.
عىل النشاط الذهنی ،وجود والعودة منه .ويحتمل (ب) ومن الشروط املهمة،
نوع من االتصال الذهني أن يكون ذلك راج ًعا إىل التحرر من املشكالت أو
باآلخرين ،مثل -۱ :املناقشة أن املرء يتحرر -يف هذه االهتمامات األخرى التي
مع زميل أو شخص غير الظروف -مما يشتت الذهن تشغل الذهن ،خاصة القلق
متخصص -۲ .كتابة تقرير املتعلق بالشئون الخاصة.
أو يقطع حبل التفكير ،وإىل
عن البحث ،أو إلقاء حديث وقد أشار «بالت وبيكر» إىل
أن الذهن الواعي ال يكون
عنه -۳ .قراءة املقاالت ً هذين الشرطين التمهيديين،
منشغل لدرجة تعوق ظهور
العلمية ،بما فيها املعارضة فقاال:
أي شيء مهم نابع من
آلراء الباحث ،بل إن «مهما بلغت دقة استخدامك
الذهن شبه الواعي .ويجد
قراءة املقاالت التي تتناول لتفكيرك الواعي يف عملك
آخرون أن أنسب الظروف
موضوعات ليست لها أية أثناء ساعات العمل املقررة،
عالقة باملشكلة ،قد تؤدي إىل فليس لك أن تتوقع من
استيعاب الفكرة الكامنة من الحدس الكثير إذا مل تكن
وراء طريقة تطبيقية أو مبدأ فعل يف ذلك العمل منغمسا ً
ً
ما ،ثم ظهورها ثانية عىل بدرجة تكفي لعودة ذهنك
هيئة حدس متعلق بعمل املرء شبه الواعي إليه يف كل
ذاته. مناسبة ،أو إذا كانت لديك
(و) وبعد أن تناولنا الوسائل إلحاحا
ً مشكالت أخرى أكثر
الذهنية الفنية الالزمة لدرجة أن تضيع مشکالتك
للحصول عىل الحدس بطريقة العملية يف زحمتها».
متعمدة ،تبقى أمامنا نقطة (ج) ومن الظروف املالئمة
عملية أخرى مهمة .فمن األخرى ،التحرر من
التجارب املألوفة أن األفكار املقاطعة -حتى الخوف
تصبح المصادفة -بوصفها تصو ًرا موضوع ًّيا- كثيرا ما تختفي الجديدة
ً
أداة ثورية لفهم طبيعة النظرية العلمية يف خالل حوايل دقيقة من
ظهورها إذا مل يبذل جه ًدا
وصياغتها وتطويرها ،فال ينبغي المرور القتناصها ،وذلك بتركيز
االهتمام عليها وقتًا يكفي
عليها مرو ًرا عاب ًرا دون اإلشارة إلى هذه
لتثبيتها يف الذاكرة .ومن
الوظيفة ،والتي ال تخالف المنطق ،بل إنها األساليب النافعة الشائعة
االستعمال ،أن يعتاد املرء
تسير وفق ما يقتضيه ،وإن كان المنطق االحتفاظ بورقة وقلم،
الفطري السليم ،أي أن العالم ال يرتب لها وتدوين األفكار الجديدة حاملا
تومض يف الذهن .ويقال
استنباطات بعينها يستنبط منها قوانين إن «توماس إديسون» كان
معتا ًدا عىل تدوين كل فكرة
المصادفة أو نظرياتها ،بل هي تأتي ً
أول
تطرأ عىل ذهنه ،مهما بدا
من تفاهتها وقت ظهورها.
ولقد استخدم الشعراء
واملوسيقيون بدورهم هذه
إىل صياغة النظرية العلمية «إخراجها من ذهنك» بأقل كثيرا ،ويتجىل يفً الوسيلة
وتطويرها؟ قدر ممكن من قطع حبل مذكرات «ليوناردو دفنشي»
بمعنی :هل القوانين التفكير يف العمل الرئيس. مثل حي الستخدامها يف
الصارمة ،والنظريات العلمية ذلك ألن التركيز الفكري الفنون .وملا كانت األفكار
بنظامها املنطقي هي التي يتطلب عدم تشتت الذهن التي تأتي املرء يف نومه
حکما تحكم هذا العامل باحتفاظه بأفكار تكمن عىل معرضة بوجه خاص
ً
حافة الشعور. للنسيان ،فإن بعض علماء
تا ًّما ،بحيث يكون كل من
النفس والعلماء يحتفظون
مأمورا
ً فيه خاض ًعا لهما
-3املصادفة دائما بورقة وقلم؛ بجوارهم ً
بأمرهما؟ أم هناك دور مهم
أيضا يف وهذه الطريقة تفيد ً
تقوم به املصادفة يف نظام ثمة حقيقة ال بد من ذكرها، اقتناص األفكار التي تأتي
هذا العامل؟(.)25 وهي تطبيع النظرية العلمية قبل الذهاب للنوم أو أثناء
هناك رأي ينادي أصحابه بطابع املنطق ،حيث إن صباحا. االستلقاء يف الفراش
ً
«بأن الجدران الخارجية املنطق يسيطر عىل النظرية وينبغي تدوين األفكار التي
لقلعة املنطق تبدو كالبنيان العلمية من ألفها إىل يائها، كثيرا عندما تظهر عند تأتي
ً
دائما،
املرصوص كعهدنا به ً وقد يجوز لنا مع شيوع هذه حافة الوعي أثناء القراءة،
ولكن يف مركز هذه القلعة السمة وبروز هذا الطابع أن أو الكتابة ،أو أي عمل ذهني
الحصينة من التفكير املنطقي نتساءل ،أليس يف النظرية آخر ال تستحب فيه املقاطعة،
نجد كل شيء يسير عىل غير العلمية شيء سوى ذلك ويجري ذلك بأسرع وقت
هدى(.)26 النظام املنطقي القاسي؟ أمل ممكن وبطريقة تقريبية.
هناك بالفعل ظواهر تخضع تمثل املصادفة Accident وهذا ال يحفظها من الضياع
لهذه املصادفة ،ظواهر تنتج دورا يف التوصل-مثلً -ً فحسب ،بل يفيد كذلك يف
186
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
وآخر األمثلة التي «باالنو -بوشيتس» عن تدخل شيء جديد يف
نستشهد بها لبيان ،balano- Posthitis النسق املستقر ،ظواهر
دور املصادفة يف وهو مرض مزمن ،ظن جديدة مختلفة عن كل ما
الكشف العلمي کان أنه غير قابل للشفاء إال سبقها.
يف عام ،1889ويف بعملية جراحية جذرية ،وقد رأينا أن نقوم بذكر بعض
مدينة «شتراسبورج» أرسلت األغنام املصابة من األمثلة التي يمكن أن
حين استأصل «فون الريف إىل املعمل للفحص، تجيب عن هذا التساؤل:
ميرنج» von Mering وبلغت به الدهشة مبلغًا وتبين الدور الذي تمثله
و»منكوفسکي» عندما برئت جمعيها تلقائيًّا املصادفة يف الكشف العلمي
Minkowskiالطبيبان بعد وصولها بأيام قالئل، والنظريات العلمية ،بل ويف
األملانيان ،بنكرياس أحد وقد تبادر إىل ذهنه أن حياتنا اليومية ،مما ينبئ
الكالب جراحيًّا كجزء الحاالت املرضية التي بأن املنطق وحده ال يكفی.
من دراسة وظيفته أرسلت مل تكن حاالت يف عام 1822تصادف أن
الهضمية ،وفيما بعد الحظ نمطية ،ولكن متابعة وضع الفيزيائي الدانمارکی
أحد مساعدی املعمل الفحص بينت أن الصوم « أورستد» - Oeristedيف
أن أسرا ًبا من الشباب الذي فرضته األغنام عىل نهاية إحدى محاضراته-
قد انجذبت نحو بول نفسها لنقلها إىل بيئة غريبة متصل من طرفيه ً سل ًكا
الكلب الذي أجريت له أبرأها من مرضها ،وعىل بخلية فولتية فوق إبرة
هذه العملية ،فلفت نظر ذلك وجد أن هذا املرض ممغنطة ويف وضع موا ٍز
«منکوفسكی» إىل هذه الذي خضع لكثير من ألوان لها ،وكان قد تعمد يف بادئ
الظاهرة فقام بتحليل هذا العالج يمكن عالجه يف األمر أن يمسك بالسلك
البول ،ووجد أنه يحتوي معظم الحاالت بالصوم عن يف وضع رأسي بالنسبة
عىل السكر ،وقد أدت هذه الطعام بضعة أيام(.)28 لإلبرة فلم يحدث شيء،
الحادثة إىل تفهم مرض وأمثلة أخرى عديدة لو ولكنه دهش إذ رأى اإلبرة
السكر وعالجه بعد ذلك أيضا -عىل أخذنا منها ً تغير وضعها ،حين أمسك
«باألنسولين»(.)30 سبيل املثال -التغيرات بالسلك -مصادفة -يف
ينقلنا الدكتور «عيل الفجائية الطارئة عن وضع أفقي موا ٍز لها.
مشرفة» بعد ذلك إىل الكروموسومات والجينات، وبديهة حاضرة عكس
القوانين العلمية نفسها، تلك التغيرات املسماة التيار ،فوجد أن اإلبرة
فذكر أن بعض هذه طفرات ،لوحظ أنها تتضمن انحرفت يف االتجاه املضاد،
القوانين ناشئ عن عنصرا من املصادفة،
ً وبهذا اكتشفت العالقة
املصادفة ،واملثل عىل ذلك وكذلك حين يخضع بين الكهرباء واملغناطيسية
قانون «بويل» و»ماريوت» الحامض النووي لتعديل بطريقة الصدفة املحضة،
للغازات ،وهو القانون ما يف بيئة بعينها نتيجة ومهد الطريق أمام
القائل بأن حاصل ضرب الصطدام كمية كبيرة من «فرادای» الختراع املولد
الحجم Xضغط كمية الطاقة بالجزء الحساس الكهربائي(.)27
محدودة من الغاز = ثابت، من الجينة ،فهذا معناه أن املثال الثاني لــ»بفردج»
فكلما ازداد الضغط قل الرسالة التي كان يحملها مرضاً حين كان يتقصی
الحجم ،وكلما ازداد الحجم أيضا(.)29
قد تعدلت ً تناسليًّا يف األغنام يسمى
187
الملف الثقـافي
البساطة Simplicity
بوصفها خاصية أساسية
من خصائص النظرية
دائما إىل
العلمية ،فهي تسعى ً
التبسيط.
ليس املقصود بالبساطة
سهولة الفهم بالنسبة
للنظريات العلمية ،ولكن
تحديدها بأقل عدد ممكن من
متضمناتها( .)45أي أن سهولة
أمرا ذاتيًّا يختلفالفهم يعد ً
من شخص إىل آخر ،ومن
ثم ،فال يعد معنًى للبساطة،
وإنما تتمثل البساطة يف
أن تتضمن النظرية عد ًدا
قليل من التصورات العلمية ً
موتسارت كارل همبل كارل بوبر
والبديهيات ترد إليها كل
التصورات والبديهيات
«مانکس» (وهو نوع من باإلضافة إىل التناقض
األخرى ،وأن تكون هذه
القطط ليس له ذيول) فإننا الواضح الكامن يف النظرية
التصورات والبديهيات
نضطر إىل وضع قضية القديمة ،والذي مل نستطع
مترابطة يتولد بعضها
أكثر تركيبًا مثل قولنا: التخلص منه بكل الطرق
عن بعض ،وأن تتضمن
«كل القطط لها ذيول ما املمكنة ،وتعزى قوة النظرية أيضا عد ًدا ً
قليل النظرية ً
عدا قطط مانكس»(.)48 الجديدة إىل البساطة والدقة من الفروض والقوانين ترد
أما «هنري بوانكاريه» التي حلت بها من املشكالت إليها كل الفروض والقوانين
فيؤكد أن مبدأ االختيار مع استخدام فروض األخرى ،وال بد أن تكون هذه
بين النظريات هو اختيار منطقية قليلة»(.)47 الفروض مترابطة ويتولد
أبسط االصطالحات يذهب «رسل» إىل أن أيضا .
()46
بعضها عن بعض ً
املمكنة ،ولقد ميز بين عىل العامل أن يقبل أبسط عىل الرغم من أهمية سمة
الواقع املفرط يف التعقيد القضايا عىل أنها قضية البساطة بوصفها خاصية من
من جهة ،وبين النظريات علمية ،وال يقبل قضية أكثر خصائص النظريات العلمية،
العلمية البسيطة التي تركيبًا إال إذا ظهرت وقائع إال أن العلماء اختلفوا يف
تفرضها عقولنا عليه من جديدة تشير إىل عدم كفاية مفاهيمهم منها ،ولنر اآلن
الجهة األخرى ،فليست القضية البسيطة ،ويضرب نماذج هذه املفاهيم ،فقد
الطبيعة هي البسيطة ،
(**) مثال عىل ذلك بقوله: ً ذهب «أينشتين» يف نص مهم
بل نظرياتنا التي تفرضها «إننا مل نر ق ًّطا بال ذيل»، يعلق فيه عىل نظرية النسبية
عليها هي البسيطة ،وقد فإن أبسط القضايا التي إىل تأكيد الرأي التايل« :إن
وصف» بوانكاریه» نضعها هي« ،كل القطط لها الضرورة هي التي أدت
نظرية «نيوتن» بالسهولة، ذيول» ،لكننا إذا رأينا قطط إىل نشوء نظرية النسبية،
190
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
ً
قبول(.)54 األكثر ً
ارتباطا وثنيًّا بین بينما وصف حركة الكواكب
يتحمس «فيليب فرانك» البساطة والقابلية للتكذيب بأنها معقدة ،وهذا معناه أن
لخاصية البساطة ،فيرى واملحتوى التجريبي، نظرية «نيوتن» قد عکست
أنه إذا مل يكن هناك فالنظرية تكون أكثر تفسيرا مبس ًطا لهذه
ً
تبسيط .فلن يكون هناك الظواهر الطبيعية .
()49
بساطة إذا كان لها محتوی
علم ،وإذا قال امرؤ إنه كان بوانكاريه نفسه
تجريبي أكبر ،وإذا كان
ال يريد معادالت ،وإن ما يعتقد يف وجود ملكات
يمكن تكذيبها ،أي يجب
يريده هو مجرد الحقائق وقدرات إبداعية مشتركة
تفضيل النظريات األكثر
كلها ،فإنه يكون ساعيًا بين الفنانين والعلماء،
بساطة من األقل بساطة،
فقط إىل الخطوة التمهيدية ويف إحدى كتاباته
ألنها تمدنا بمعلومات أكثر،
للعلم ،ال إىل العلم نفسه. االستنبطانية الشهيرة يف
وألن محتواها التجريبي
وكثيرا ما يتهم العامل
ً العام ۱۹۰۸تحدث عن
أكبر ،وألنها أكثر خضو ًعا
بأنه يفرط يف التبسيط، وجود تلك الحساسية
لالختبار ،ومثل «بوبر»
وهذا صحيح ،فليس الجمالية الخاصة لدى علماء
لذلك بنظرية «أينشتين»
هناك علم دون إفراط يف الرياضيات ،التي تقوم
التبسيط ،ومهمة العامل العامة يف النسبية التي
بالدور الخاص باملنخل
أن يجد معادالت بسيطة، رآها أكثر بساطة من
الناعم ،والتي تفرز مكونات
ويرى البعض أن العامل ال نظرية امليكانيكا عند التفكير وال تبقى منها إال
يساعدنا عىل فهم أي شيء «نیوتن» ،فاألوىل تتضمن عىل تركيبات قليلة تتسم
ألنه يفرط يف تبسيط كل وفروضا أقل
ً تصورات أقل بكونها «متناغمة منسجمة»،
شيء(.)55 وتستوعب مضمونًا أكبر و»جميلة»(.)50
ثم يتساءل «فرانك» :من من الوقائع(***)(.)52 أيضا إىل موقف انظر ً
الذي يعرف طريقة أخرى أما «همبل» فيخالف هذا بوانكاريه من الجمال« :إن
لفهم األشياء املعقدة غير الرأي عند «بوبر» ،إذ يرى العامل ال يدرس الطبيعة
اإلفراط يف تبسيطها؟ أن املحتوى األكبر ليس ألنها مفيدة ،بل يدرسها
قائل بأنه عندما ويستطرد ً مرتب ًطا بالبساطة األكثر، ألنه يسر بها وألنها جميلة،
ينتهي العامل من وضع فأحيانًا ما ينظر إىل نظرية وأنا ال أتحدث هنا بالطبع
معادلة بسيطة ،عليه أن «نيوتن» يف الجاذبية عىل عن الجمال الذي يدغدغ
يستنبط منها وقائع قابلة أنها أبسط من كثير من الحواس ،جمال الخواص
للمالحظة ،ثم عليه أن النظريات التي ال عالقة واملظاهر ،فرغم أنني
يدقق هذه النتائج ليرى لها بالنطاق املحدود الذي -شاكر عبد الحميد -ال
ما إذا كانت متفقة مع تتضمنه النظرية(.)53 أسقط قيمة هذا الجمال
هذه املالحظات ،ومن ثم، باإلضافة آلراء «همبل» إال أنه ال عالقة له بالعلم،
فإن مهمة العامل تتألف بصدد مبدأ البساطة يرى إنما أعني بالجمال هذا
من ثالث خطوات :وضع أنه إذا كان هناك نظريتان الجمال العميق الذي يوجد
املبادئ ،استخراج نتائج متفقتان يف املعطيات نفسها، يف التوازن بين األجزاء،
منطقية منها بغية استنباط وليستا مختلفتين يف أيه والذي ال يتفهمه إال الذكاء
أخيرا
ً وقائع بشأنها ،ثم ناحية موافقة لتأييدهما، الخالص»(.)51
التدقيق العلمي لهذه كانت النظرية األبسط هي يرى «بوبر» أن هناك
يتحمس "فيليب فرانك" لخاصية البساطة،
فيرى أنه إذا لم يكن هناك تبسيط .فلن
يكون هناك علم ،وإذا قال امرؤ إنه ال يريد
معادالت ،وإن ما يريده هو مجرد الحقائق
كلها ،فإنه يكون ساع ًيا فقط إلى الخطوة
التمهيدية للعلم ،ال إلى العلم نفسه.
وكثي ًرا ما يتهم العالم بأنه يفرط في
التبسيط ،وهذا صحيح ،فليس هناك علم
دون إفراط في التبسيط ،ومهمة العالم أن
يجد معادالت بسيطة
هيرمان منكوفسكي هنري بوانكاريه
الوقائع املالحظة(.)56
قد يفضل البعض النظرية
يشكالن من غير شك رياضيات متقدمة ج ًّدا يف ألن معادالتها البسيطة
صورة تتجىل فيها النزعات بناء هذا الكون»(.)58 تتيح حساب النتائج عىل
الجمالية ،فإن رجال العلم بوحي من أفكار «أينشتنين» نحو أسهل وأسرع ،إنها
-كما ذكرنا ت ًّوا -يف أصبح «ديراك» يهتم -أكثر اقتصادية ألنها توفر الوقت
معرض مفاضلتهم بين من أي فيزيائي آخر- والجهد ،والبعض اآلخر
نظريتين منطويتين عىل بالجمال الرياضي بوصفه يفضلها ألسباب جمالية،
القدر نفسه من الحقيقة، سمة أساسية من سمات إذ إن النظريات البسيطة
يختارون النظرية األبسط، الطبيعة ،وكدليل يستهدي ً
وجمال ،فكثير أكثر روعة
إن البساطة يف أعماقها به يف أبحاثه« :إن النظرية من العلماء الرياضيين
معيار جمايل( .)60كما يؤكد ذات الجمال الرياضي يتحمسون لنظرية «أينشتين»
«سوليفان». أقرب إىل الصحة من نظرية يف الجاذبية ألن معادالتها
لكن «فرانك» ينكر هذه غير أنيقة ولو كانت هذه عىل درجة فائقة من البساطة
األسباب التي من أجلها تنسجم مع بعض النتائج والجمال الرياضي(.)57
تفضل النظرية البسيطة، التجريبية»(.)59 بهذا املفهوم نفسه كان
ويعتقد بعوامل أخرى، يبدو جليًّا أنه إذا كان «ديراك» يفضل النظريات
فيشرح لنا أنه إذا درسنا العنصر الجمايل أكثر برو ًزا الجميلة عىل تلك املدعمة
النظريات التي كانت يف علوم الرياضيات ،فإن بالوقائع ،ولكنها غير أنيقة،
موضع تفضيل بسبب علوم الفيزياء ال تفتقر فالوقائع -كما قال -تتغير
بساطتها ،لوجدنا أن إليه بكل تأكيد .إن البحث باستمرار ،وقال أيضا« :إن
السبب القاطع لقبولها مل عن قوانين عامة والسعي اإلله رياضي من الدرجة
يكن سببًا اقتصاد ًّيا أو إليجاد نظریات شاملة األوىل ،وقد استخدام
192
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
اإلمكان(.)68 إىل بعض يف أقل عدد منها، جماليًّا ،بل ما يسمى غالبًا
ً
إجمال ،فإن البساطة ويف هذا االتجاه تبسيط «ديناميكية النظريات»،
وتعميم يف الوقت نفسه، أي أن النظرية التي كانت
عىل الرغم من اإلجماع
لقد توصل «ماکسويل» موضع تفضيل هي النظرية
عىل أهميتها البالغة ،إال إىل نظرية موحدة تفسر التي أثبتت أنها تجعل العلم
أن العلماء مل يتفقوا عىل ظواهر الضوء والكهرباء أكثر ديناميكية ،أي أقدر
معايير وأسس واضحة واملغناطيس ،وكان عىل التوغل إىل مجاالت
للنظرية األبسط ،إنهم «أينشتين» يأمل يف العثور مجهولة(.)61
عىل نظرية تجمع بين عىل الرغم من كل
أجمعوا عىل أن العلم يسعى
نظرية «ماكسويل» من االختالفات بين العلماء
دائما إىل التبسيط ،وهذاً ناحية ،ونظريته النسبية من عند توضیح مقاصدهم
املعنى يقره «هميل» حين ناحية أخرى ،وأطلق عىل ملبدأ البساطة ،إال أنهم
قال بأنه عىل الرغم من أن هذه النظرية اسم املجال اتفقوا عىل أنها خاصية
املوحد( .)65وطريقة اختزال جوهرية للنظرية العلمية،
البساطة مطلب عزيز يف
النظريات هذه إىل نظرية بل تعد کالبديهة بالنسبة
العلم ،إال أنه من الصعوبة واحدة تتسم بالبساطة عبر لها ،فما النظريات العلمية
أن تقرر محكات واضحة عنها «نیوتن» بقوله« :بأن إال تبسيطات شديدة
للبساطة باملعنى الدقيق، الطبيعة ترضى بالبساطة، للواقع( .)62وكما يتطلب
وال أن نبرر األولوية وهذا الذي دعا إليه أيضا منطقية ووضوح البديهيات
كيل Killحين نادي بأن أيضا من املنظريتطلب ً
املمنوحة للنظريات األكثر دائما تسير نحو الطبيعة ً أن يضع نظريته يف أبسط
بساطة ،وبالطبع ال بد ألي املنهج األبسط واألعظم وأقل ما يمكن من البديهيات
محك للبساطة أن يكون ً
ونشاطا(.)66 سرعة والتصورات املتاحة له،
موضوعيًّا ،ألنها ليست انطالقًا من أن الطبيعة ويكون اختياره بين األبسط
تقنع بالبساطة ،يمكن قائما
واألعقد من النظريات ً
مجرد حدس أو سهولة
اعتبار نظرية «كوبرنيكس» عىل درجة أسسها املنطقية،
حفظ أو تذكر للنظرية، يف مركزية الشمس ومن باإلضافة إىل ما يلزم عنها
ولذا تتباين من شخص حولها كواكبها أكثر بساطة من نتائج( .)63إن النظرية
آلخر( .)69وبالرغم من من نظرية «بطلميوس» األعقد ال تقدم نتائج
يف مركزية األرض ،فهذه متوافقة مع الوقائع بشكل
ذلك ،فإن البساطة ذات أثر
النظرية األخيرة نسق أفضل من نتائج النظرية
فاعل يف تطوير النظريات معقد من دوائر متقاطعة األبسط ،وعىل هذا األساس
العلمية وتجريدها ،وعليه epicyclesوبأنصاف فإن النظرية األبسط يمكن
تكون النظرية بسيطة أقطار غير متساوية .
()67
اعتبارها عىل نحو ما حالة
ولكنها رائعة وانقالبية، ومن البديهي أن النظرية خاصة للنظرية األعقد
البسيطة تكون أقرب إىل وليست مخالفة لها .لذا،
()64
وهي جملية وجمالها يف
الصدق من املعقدة ،ألنها فإن العلم يف جميع األحوال
بساطتها ،فأهم عناصر أكثر مالءمة مع أنماط يتجه نحو التبسيط ،أي
الجمال ،البساطة كثيرة من الوقائع قدر نحو ضم النظريات بعضها
193
الملف الثقـافي
الهوامش:
1- Hamelin’s T. Silverman.R. Instrument and Imagination New Jersey Prime termism
press, 1995. P3.
نقل عن شاكر عبد الحميد :الخيال ،من الكهف إىل الواقع االفتراضي ،عامل املعرفة ( ،)360الكويت،2009 ، ً
ص.285
-2شاكر عبد الحميد :مرجع سابق ،ص.۲۸۹
.P221 .1986 ,Wiler. A; Imagery in scientific thought. wormlike. The MT press -3
نقال عن املرجع السابق ،ص.۲۸۷
-4شاكر عبد الحميد :مرجع سابق ،ص.۹۷
-5روبرت بونل :الخيال واملستقبل ،ترجمة محمد جمال الدين الغندي ،مجلة ديوجين ،العدد األول ،السنة
األوىل ،تصدر عن مجلة رسالة اليونسكو ،۱۹۷۰ ،ص.24
-6شاكر عبد الحميد :مرجع سابق ،ص.303
-7برونوفسكي :العلم والبداهة ،ترجمة أحمد عماد الدين أبو النصر ،دار النهضة ،القاهرة ،1961 ،ص.78
-8املرجع نفسه ،ص.۳۰۸
-9شاكر عبد الحميد :مرجع سابق ،ص.312
-10املرجع نفسه ،ص.6
-11بيفردج :فن البحث العلمي ،ترجمة زكريا فهمي ،دار النهضة العربية ،القاهرة ،1963 ،ص.86
-12عادل عوض :منطق النظرية العلمية املعاصرة ،وعالقتها بالواقع التجريبي ،دار الوفاء ،االسكندرية،
،2016ص.۲۸۸
13- George. W., The Scientist in Action, Unwin Brothers Limited, London, 1956, P227.
-14فؤاد زكريا :التفكير العلمي ،ص.308
-15ماهر عبد القادر :فلسفة العلوم ،جــ 7امليثودولوجيا (علم املناهج) ،دار النهضة العربية ،بيروت ،ط،1
،1997ص.110
-16بيفردج :فن البحث العلمي ،ص.۱۱۹
-17املرجع نفسه ،ص.112
-18املرجع نفسه.
-19املرجع نفسه.
-20بيفردج :فن البحث العلمي ،مرجع سابق ،ص.123
-21آينشتين :أفكار وأراء ،ترجمة رمسيس شحاتة ،سلسلة العلم للجميع ،الهيئة العامة للكتاب ،القاهرة،
،1986ص.10
22- Holton, G.; What. Precisely, is thinking? Einstein’s Amwer, in Franch, A.F. Einstein: A
Centerany Volume, Harvard in Press Massachusetts, U.S.A. 1979, P. 160.
23- Serena Nicoli, The Role of intuitions in Philosophical Methodology, Published by
Springer Nature, London, 2016, P.8.
-24بيفردج :فن البحث العلمي ،مرجع سابق ،ص.130 :129
-25کینیت جـ دنباي :الزمان واملصادقة ،ترجمة فؤاد کامل ،مجد «ديوجين» صادرة عن مجلة رسالة
اليونيسكو ،مرکز مطبوعات اليونيسكو ،العدد ،31نوفمبر 1975يناير ،1976ص.70
-26صمويل رابورت وهلين رايت :العلم معنى وطريقة ،ترجمة محمد أحمد بنونه ،مراجعة كامل منصور،
194
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
األفكار بالفعل .وهكذا ،مل 1934بعنوان «محاكمة به ،وتفعل ما تقوله ح ًّقا؛ وقد
يكن هناك متنفس ألفكار امرأة» ،لكن النجاح الساحق كانت تريد أن يكون الجميع
راند سوى يف األعمال التي جاء مع إعادة عرضها يف مثلها يف ذلك األمر.
كانت تكتبها وتحاول أن العام التايل عىل مسرح كان أكبر نجاح مسرحي
تنشرها بعي ًدا عن هوليوود. برودواي تحت اسم «ليلة حققته راند هو مسرحيتها
كتبت راند يف عام 1937 ْ 16يناير» ،فكانت خطوة البوليسية «ليلة 16يناير»
«نوفيال» خيالية بعنوان كبيرة عىل طريق نقل آين ،16th Night of January
«أنشودة» Anthem راند ألفكارها الفلسفية إىل والتي كتبتها متأثرة بحادثة
-نشرتها يف العام التايل الجمهور عبر أعمال أدبية. انتحار أحد رجال األعمال
يف إنجلترا وليس الواليات واصلت راند يف تلك الفترة الكبار ،والذي رأت أن الناس
املتحدة -تهاجم النزعة مساعيها الفلسفية ملواجهة ناجحا
ً كانت تنتقده ألنه كان
الجماعية ومحاولة طمس التيار السائد يف الواليات ومتفوقًا ،وهو ما رأته
الهوية الفردية لإلنسان، املتحدة ،والعديد من البدان احتقارا
ً تصرفًا يحمل داخله
ُّ
حيث تخيلت عاملًا ديستوبيًّا األخرى ،الذي يدعم الفكر للتفوق والنجاح واإلنجاز
يف املستقبل تختفي فيه الجماعي Collectivism البشري ،وهي األشياء التي
من اللغة كلمة «أنا» لتحل القائل بتضحية اإلنسان تُجلَّها راند أشد اإلجالل،
محلها كلمة «نحن» ،حيث بفرديته وحريته يف سبيل فقد أرادت لإلنسان أن
يصبح األفراد مجرد أرقام املجتمع ،وتقديم املصلحة يسعى لتحقيق ذاته ،وإنجاز
مسلسلة داخل مجتمع العامة عىل مصلحة الفرد طموحاته ،وممارسته حريته
يتحكم يف كل حياتهم، الشخصية .كانت هذه وفرديته يف الحياة ألقصى
وعندما يتمرد بطل الرواية األفكار تثير اشمئزاز راند، حد ممكن .كانت مسرحية
ً
محاول أن عىل هذا الواقع فهي نفسها األفكار التي راند تتحدث عن امرأة متهمة
يعيش فرديته بأن يفكر هربت منها يف بلدها األم، بقتل رجل أعمال مشهور،
ويحب ويناقش ويبحث، وظلت تحاربها طيلة حياتها. وتجري أحداث املسرحية
تقوم السلطات بمطاردته، كانت فترة الثالثينيات يف قاعة املحكمة؛ وكعهدها
فيفر هار ًبا بعي ًدا عن هذا من القرن العشرين يف يف استغالل األعمال األدبية
الواليات املتحدة ُمشبَّعة لتوصيل رسالتها الفلسفية،
بالفكر الشمويل والقيم قامت بابتكار تقنية مسرحية
الجماعية ،حتى أنهم كانوا جديدة ،حيث كان يتم اختيار
يطلقون عىل فترة الثالثينيات بعض األشخاص من وسط
«ال ِعقد األحمر» ِ َلا شهدته جمهور املسرحية ليجلسوا
من قوة وانتشار األفكار عىل مقاعد املُحلَّفين كل ليلة،
الشيوعية القادمة من االتحاد الحكم عىل املتهمة ويصدروا ُ
السوفييتي .كانت هوليوود يف نهاية العرض .وجعلت
يف ذلك الوقت ال تسمح للمسرحية نهايتين ،إحداهما
بظهور أي عمل فني يهاجم تحصل فيها املتهمة عىل
األفكار الشيوعية ،فمعظم البراءة ،واألخرى تحصل
أصحاب االستوديوهات فيها عىل اإلدانة .بدأ عرض
هناك كانوا يعتنقون تلك املسرحية يف هوليوود عام
199
الملف الثقـافي
واسعة .وقامت شركة منذ الصغر وتعتبرها رم ًزا الثانية ،وظهور االتحاد
«وارنر برازر» بشراء حق لإلنجاز البشري) ،لكنه السوفييتي كقوة خطيرة عىل
تحويل الرواية إىل فيلم يواجه عقبات خارجية تتمثل الساحة الدولية ،بدأ الخوف
مقابل 50ألف دوالر، فيمن حوله ممن يقدسون من الشيوعية يزداد يف
باإلضافة لكتابة راند االتباع والتقليد ،ويستنكرون الواليات املتحدة ،وأصبحت
لسيناريو وحوار الفيلم االستقاللية واإلبداع .لقد أفكار آين راند املناهضة
الذي صدر بالفعل عام وضعت راند عىل لسان هذا للفكر الجماعي ،واستبداد
.1949 البطل املثايل كل أفكارها الدولة ،واملناصرة لفردية
كانت راند يف تلك الفترة قد الفلسفية ،وجعلته ً
مثال اإلنسان وعقله وحريته،
بلغت ذروة تألقها الفكري، واقعيًّا لإلنسان الذي تريد قبول واستحسانًاً تلقى
وأصبحت قادرة عىل نقل من الجميع أن يكونوا مثله من الجميع .كانت آين راند
أفكارها الفلسفية العميقة يف نزاهته ،وقوة ُحجته، قد انتهت يف تلك الفترة
بشكل كامل عبر أرقى ودفاعه عن حريته ،وفرديته، من روايتها الطويلة التالية
صور التعبير األدبي .وكان وعقله .قالت آين راند« :إن والتي كانت تكشف فيها عن
ُشغلها الشاغل أن تنشر موضوع رواية املنبع هو أفكارها يف فلسفة األخالق.
وعيًا عا ًّما بأهمية وقيمة الفردية يف مواجهة الجماعية، كانت راند من املؤيدين
أن يفخر اإلنسان بذاته ليس يف مجال السياسة ،بل لألنانية األخالقية ،فهي
وعقله وإنجازه الشخصي، داخل روح اإلنسان». ترى أن إنجازات اإلنسان
وهو ما يتوافق مع املبدأ وإبداعاته هي نتيجة تقديره
األمريكي الدستوري بحق عانت راند -كالعادة -وهي لذاته ،وحبه لها ،وتقديمه
كل إنسان يف السعي نحو تحاول نشر هذه الرواية، لنفسه ومصلحته الذاتية
تحقيق سعادته .لقد كانت ناشرا
ً فقد رفضها اثنا عشر عىل اآلخرين ومصلحتهم،
تؤمن بأن سعي اإلنسان ملا تحتويه من أفكار فلسفية وأن هذه األنانية واالعتزاز َّ
نحو تحقيق سعادته هو صعبة ،كما أن راند رفضت دوما هي
ً كانت بالنفس
أكثر األمور أهمية يف حياته، من جانبها أن تغير يف الحافز األعىل للبشر كي
حيث مفهوم السعي نحو روايتها كلمة واحدة ،لكنها ينتجوا ويبدعوا ويحققوا
السعادة يعني عند راند أخيرا استطاعت نشرها بعد ً اإلنجازات.
«حق اإلنسان يف تحديد أن تحمس للرواية محرر قدمت راند يف
أهدافه وقيمه الخاصة ثم بإحدى دور النشر جازف روايتها «املنبع» The
تحقيقها ،إن السعادة تعني بالدخول يف صدام مع رئيس Fountainheadالرجل
حالة الوعي التي تتحقق من الدار الذي كان يرفض نشر املثايل من وجهة نظرها،
إنجاز اإلنسان لتلك القيم، الرواية .ظهرت الرواية للنور اإلنسان النموذجي الذي
فالسعادة ال تعني مجرد عام ،1943وبيع منها يف يعتز بذاته ،وابداعه،
لحظات اللذة ،بل هي شعور عام واحد مئة ألف نسخة، ويرفض أي تدخل خارجي
عميق ،خا ٍل من الذنب، وخالل عامين فقط ،ودون من املجتمع أو الدولة يف
وعقالني ،بتقدير الذات، دعاية قوية ،وصلت الرواية اختياراته وحياته .كان بطل
وفخر املرء بما أنجزه ،إنها إىل قائمة األكثر مبي ًعا وظلت مهندسا معمار ًّيا
ً روايتها
تعني التمتع بالحياة ،وهو يف هذه القائمة لثالث سنوات السحب يصمم ناطحات ُ
ما ال يمكن أن يتحقق إال متتالية ،وحققت لراند شهرة (التي كانت راند منبهرة بها
ْ
كتبت راند في عام " 1937نوفيال" خيالية
بعنوان "أنشودة" - Anthemنشرتها في
العام التالي في إنجلترا وليس الواليات
المتحدة -تهاجم النزعة الجماعية
ومحاولة طمس الهوية الفردية
عالما ديستوب ًّيا في
ً لإلنسان ،حيث تخيلت
المستقبل تختفي فيه من اللغة كلمة
"أنا" لتحل محلها كلمة "نحن" ،حيث
يصبح األفراد مجرد أرقام مسلسلة داخل
مجتمع يتحكم في كل حياتهم سيسيل ديميل
وكاملة ملا يمكن أن يكون األنانية» (،)1964 لساعات طويلة دون انقطاع،
عليه اإلنسان ،وما ينبغي و»الرأسمالية :املبدأ املجهول» وظلت تعد مسوداتها
أن يكون عليه .فعندما (1966م) ،و»مدخل إىل وتنقحها عىل مدار اثني عشر
ودخلت عامل
ُ بدأت الكتابة،
ُ االبستمولوجيا املوضوعية» عاما حتى أخذت شكلها ً
وشرعت يف دراسة األدب، ( .)1967وغيرها من النهائي .قامت بالتعاقد مع
ُ
اكتشفت أنني الفلسفة، املؤلفات الفكرية التي كانت إحدى دور النشر الكبرى
ُ
تتوسع فيها يف شرح لنشر وتوزيع الرواية مقابل
كنت يف خالف عميق مع ُ
فلسفتها. مقدما،
ً 50ألف دوالر
جميع الفلسفات القائمة ،ال
كانت راند تعرف طريقها وصدرت الرواية بالفعل
سيما فيما يتعلق بقواعدها عام 1957لتصعد يف خالل
منذ البداية ،ومل يكن
األخالقية؛ لذلك ،كان عيلَّ أيام إىل قائمة األكثر مبي ًعا،
استخدامها لألدب يف توصيل
أن أُؤسس تفكيري الخاص، فلسفتها محض صدفة ،بل وتظل ضمن القائمة عىل
وأن أضع نسقي الفلسفي عن قناعة وإصرار ،فقد مدار اثنين وعشرين أسبو ًعا
املميز من أجل اكتشاف أدركت أنه أفضل وسيلة متتاب ًعا ،لتحقق عىل مدار
وتقديم نمط األفكار لنشر فلسفتها وتقريبها من سنوات مبيعات كبيرة ج ًّدا
والفرضيات التي تجعل الجمهور .عندما ُسئلت راند بلغت حتى عام 2019تسعة
اإلنسان النموذجي ممكنًا، يف أحد لقاءاتها التلفزيونية ماليين نسخة ،وتُترجم
وتبيان أي نوع من القناعات إن كانت تعتبر إىل أكثر من ثالثين لغة،
عام ْ 1961
نفسها روائية يف املقام األول ليس من بينها اللغة العربية
سوف يؤدي إىل شخصية
لألسف.
اإلنسان املثايل». أم فيلسوفة ،كان ردها« :أنا
كانت هذه الرواية هي آخر
إن النموذج الذي قدمته آين كالهما ،ولنفس السبب؛ فأنا
عمل أدبي كبير آلين راند،
راند للمفكر والفيلسوف اهتمامي وهديف الرئيسي،
فقد تفرغت من بعدها
الذي يطرح أفكاره املركبة سواء يف مجال األدب أو يف
لكتابة املؤلفات الفكرية ،فقد
يف صورة أعمال أدبية مجال الفلسفة هو تعريف
أصبحت أفكارها مفهومة
وتقديم صورة اإلنسان
شعبية مل يكن األول ،ولن للجميع بفضل أعمالها
املثايل ..صورة محددة،
يكون األخير؛ فقد ظل األدب األدبية ،وأصبح من املمكن
-وسيبقى -وسيلة حيوية، عرض
وأداة طيِّعة ،لتوصيل تلك
األفكار ،وبناء املجتمعات. األفكار
إنه القوة الناعمة التي تُشكل بشكل
أكاديمي
حياتنا ،وتجعلنا عىل ما نحن
بحت.
عليه اليوم عبر تغيير عقولنا
فنشرت
وطريقة تفكيرنا. «إىل
املثقفين
------- الجدد»
ُ
* باحث يف فلسفة (،)1961
السياسة ومترجم. و»فضيلة
203
الملف الثقـافي
الفيلسوف اإلنجليزي بريان من تخصص يف كتابة والحيرة التي انتابته ،بعد
ماجي Bryan Mageeمع أعمال بعيدة عن الفلسفة، نهاية الدراسة ،بين املضي
مواطنته األديبة والفيلسوفة لكنه فعل ذلك ،عىل سبيل يف طريق الفلسفة أو طريق
آيريس مردوخ Iris االستثناء ،يف بعض األعمال األدب ،وحسمه للموقف
Murdochحول عالقة مثل يوسف السباعي باختيار األدب ،الروائي
الفلسفة باألدب .وقد بثه الذي اشتهر بالروايات بخاصة ،للتعبير عن أفكاره
التلفزيون البريطاني يف الرومانسية ،لكنه كتب ثالث الفلسفية واالجتماعية
قناته الثقافية عام ،١٩٧٨ روايات فلسفية بامتياز، والسياسية.
وهو متاح عىل موقع هي :السقا مات ،أرض ويمكننا أن نضيف ،من وجهة
«اليوتيوب» ،وسنعتمد يف النفاق ،نائب عزرائيل. نظرنا وخالفًا ملا هو شائع،
مقالنا عىل الترجمة التي والحقيقة أن عالقة الفلسفة كثيرا من أعمال إحسان عبد ً
قامت بها الكاتبة والناقدة كثيرا عىل
ً باألدب تعتمد القدوس التي تتناول قضايا
األردنية لطفية الدليمي عالقة التفكير بالخيال، ذات طابع فلسفي حتي
تحت عنوان «نزهة فلسفية فالذين يعتمدون عىل املنطق العاطفية واالجتماعية منها،
يف غابة األدب» وصدرت وحدهم هم الذين يكتبون وتختلف روايات عبد القدوس
عن دار املدي عام .٢٠١٨ فلسفة خالصة مثل أرسطو عن أعمال الحكيم ومحفوظ
وكانط وهيجل ،والذين يف أنها ال تطرح أسئلة
استقالل الفلسفة يعتمدون عىل الخيال فلسفية عىل األصالة ،لكنها
عن األدب خالصا،
ً وحده يكتبون أد ًبا تحيل الوقائع الرومانسية
وبين االثنين يوجد طريق واالجتماعية والسياسية
ينطلق بريان ماجي ،يف ثالث يجمع بين الفلسفة إىل أسئلة فلسفية .وغالبًا
حواره مع آيريس مردوخ، واألدب ،وينتهجه هؤالء ما يكون التساؤل داخل
من مقدمة أساسية ،يف حكم الذين يفكرون بالخيال الكاتب بينما تأتي الرواية
املسلّمة ،تميز بين الفلسفة أو يتخيلون بالتفكير ،أي بمثابة اإلجابة عنه ،فرواية
واألدب باعتبارهما حقلين الذين يجمعون بين العقل «الوسادة الخالية» تحاول أن
معرفيين مختلفين ،وتحدي ًدا والعاطفة ،ويعبّرون عن تجيب عن سؤال الحب األول،
ال تنتمي الفلسفة إىل الطابع اإلنساني يف كليته، هل هو حقيقة أم وهم؟
األدب ،أي أنه بأي حال من الذهنية والشعورية ،سواء ورواية «الطريق املسدود»
األحوال ال تعتبر الفلسفة أكانوا من الفالسفة أو تحاول أن تجيب عن حقيقة
نو ًعا من األدب ،فيقول: األدباء. الشر يف اإلنسان ،هل يولد
«إن نوعية الكتابة الفلسفية وألن الجدل حول العالقة شريرا أم أن املجتمع ً اإلنسان
وأهميتها تكمن يف اعتبارات بين الفلسفة واألدب ال هو الذي يجعله كذلك؟ كما
أبعد من القيمتين األدبية ينتهي ،بالرغم من مرور تجيب رواية «يف بيتنا رجل»
والجمالية ،وإذا ما كان السنوات ،فإن السؤال عن معني الوطنية ،وكيف
الفيلسوف -أي فيلسوف- مطروحا بصدد ً سيظل أن اإلنسان العادي الذي
يج ِّود يف طريقة كتابته، طبيعة هذه العالقة .ويف ال تشغله قضايا السياسة
فتلك مزية تحسب له هذا السياق ،سنحاول يف دورا وطنيًّا يمكنه أن يلعب ً
بالتأكيد ،وستجعله عىل قدر هذا املقال أن نستدعي مه ًّما إذا دعته الضرورة
كبير من الغواية التي تدفع لقاء حوار ًّيا مه ًّما أجراه إىل ذلك .وهناك من األدباء
205
الملف الثقـافي
للقارئ لكي ال يتيح هذا األمر وبطرق مختلفة، كانوا يجمعون بين كونهم
له إعادة تشكيل العمل ولكن الفلسفة يف نهاية عظاما
ً مفكرين وكونهم كتَّا ًبا
الفلسفي كيفما تقوده األمر تمتاز بصوتها الصلب ينتهجون أسلو ًبا أكثر توظيفًا
رغباته» (ص.)٢٣ الواضح غير املشخصن للدالالت األدبية.
ويف سياق محاوالت وال يمكن أن نتوقع انقالب وفيما يبدو فإن ممارسة
مردوخ املتكررة لفصل الحال ملا هو معاكس لهذه مردوخ للفلسفة بنحو
الفلسفي عن األدبي، الخصائص الراسخة يف أكاديمي هو ما جعلها أميل
وتحقيق استقاللية تامة الكتابة الفلسفية» (ص.)٢٣ للطرح املوضوعي حين
للفلسفة ،تعبر فوق كل وبالرغم من اعترافها معالجتها لعالقة الفلسفة
الفرص التي من املمكن أن بوجود فالسفة كبار، باألدب ،فهي تقترب بالفلسفة
مزجا بين املجالين،
تحقق ً مثل هيوم وفيتجنشتاين، من جانب العلم أكثر من
خاصة إذا كان هذا املزج قاموا بدمج ذواتهم يف جانب األدب ،وإن كانت تظل
سيفقد الفلسفة شيئًا من كتاباتهم الفلسفية ،إال أنها حريصة عىل تحقيق نوع من
خصوصيتها ويكسبها تصر عىل تجريد الفلسفة االستقاللية لها ،ما جعلها
شيئًا من األدب ،فتقول: من الذاتية حتي ال تترك تبتعد عن كل ما هو عاطفي
«قد يحصل يف أحايين للقارئ الفرصة إلسقاط وذاتي يف الكتابة الفلسفية،
قليلة للغاية أن يكون عمل ذاته وإعادة تشكيل النص يؤكد ذلك عباراتها الصريحة
فلسفي ما ً
عمل فنيًّا يف حسبما يريد ،فتقول: اآلتية« :الكتابة الفلسفية
الوقت ذاته مثلما هو الحال «الكاتب األدبي يترك قاص ًدا شكل من أشكال ً ليست
يف الندوة األفالطونية مساحة من الحرية للقارئ التعبير الذاتي ،بل هي تنطوي
,Symposiumغير أن مثل خاصا له لكي تكون ملعبًا عىل كبح منضبط للصوت
ًّ
هذه األعمال تبقي حاالت يستطيع فيها إعادة تشكيل الذاتي ،بعض الفالسفة
استثنائية غير قياسية، يطيب لهم الحفاظ عىل نوع
رؤيته الشخصية بشأن
والحق أننا ال يمكن أن
ما يقرأ ،أما الفيلسوف فال من الحضور الشخصي يف
نقرأ الندوة األفالطونية ً
يمكن (واألصح أن أقول ال فمثل يفعل كل أعمالهم،
ونفهم متبنياتها الفلسفية
ينبغي) أن يترك أية مساحة من هيوم وفيتجنشتاين
إال بمعونة اإلرشاد الذي
تجود به األعمال الفلسفية
األخرى ألفالطون»
(ص.)٢٤
وال يعني موقف مردوخ
الصلب ،والذي يبدو
وكأنه محاولة دفاعية عن
الفلسفة ضد األدب ،أنها
منحازة لألوىل عىل حساب
األخير .فقد مارست
كال النوعين من الكتابة،
الفلسفية واألدبية ،وحققت
نجاحات ذات اعتبار يف
208
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
موضو ًعا للتناول الفلسفي، تختلف جوهر ًّيا عن الحقلين ،ولكنها ،كما أملحنا
والشيء نفسه يمكن أن العبارات الفنية ،ويف هذا من قبل ،ترصد العالقة
يقال عندما تكون الفلسفة املعني تقول مردوخ« :إن بنحو عقالني موضوعي،
موضو ًعا للتعبير األدبي. األدب مماثل للفلسفة يف ومن املنطلق نفسه تنتصر
ويمكن أن نطلق عىل الحالة شأن كون االثنين فعاليتين لألدب عىل الفلسفة عندما
األويل «األدب يف الفلسفة» تبتغيان الكشف عن تقول« :أظن أن من املمتع
وصورتها «فلسفة الفن»، الحقيقة ،لكن بالطبع تبقى أكثر هو أن يكون املرء فنَّانًا
كما يمكن أن نطلق عىل الفلسفة فعالية تجريدية بدل أن يغدو فيلسوفًا .يمكن
الحالة األخيرة «الفلسفة يف مكتنفة باالستطرادات النظر إىل األدب باعتباره
األدب» ونموذجها «األدب واملباشرة واالبتعاد عن وسيلة منضبطة ومدربة
الوجودي». املسالك االلتفافية ،أما اللغة لرفع منسوب املشاعر لدي
األدبية فيكتنفها غموض القارئ ..وبالنسبة يل أري
-1األدب يف الفلسفة دوما ،وحتى كيفي محبب ً من املناسب تضمين إثارة
واضحا
ً كالما
ً ما يبدو فيها املشاعر يف صلب تعريف
يف الحقيقة أن تاريخ إنما هو جزء من هيكل الفن الحقيقي عىل الرغم من
الفلسفة ميلء باألفكار تخييل محكوم بقواعد عدم إمكانية اعتبار كل تجربة
التي تناولت الفن ،واألدب شكلية محددة» (ص.)٣٦ غنية حادثة مترعة باملشاعر
باعتباره أحد تجليات وإذا كان السعي نحو بلوغ القوية» (ص.)٣٣
الفن ،يف مبحث أصيل الحقيقة يعد واح ًدا من
ومتخصص هو «علم النقاط الهامة التي يلتقي سمات مشتركة بين
الجمال» أو «اإلستطيقا»، عندها كل من الفلسفة الفلسفة واألدب
وبالرغم من أن املصطلح واألدب ،فإن سعي كل
يرجع إىل األملاني منهما تجاه اآلخر يعد من بالرغم من الرؤية االنفصالية
بومجارتن الذي أطلقه يف نقاط االلتقاء التي ال تقل. التي تقدمها مردوخ لعالقة
القرن الثامن عشر يف كتابه فسعي الفلسفة تجاه األدب الفلسفة باألدب ،تظل هناك
الذي يحمل االسم نفسه، إنما يعني جعل األدب سمات مشتركة ونقاط التقاء
بين املجالين ال يمكن إغفالها،
ولعل أبرز هذه النقاط هو
مسألة الحقيقة .فبالرغم من
اختالفاتهما املميزة ،فهما يف
النهاية ،فيما تري مردوخ،
فعاليتان تسعيان للبحث عن
الحقيقة والكشف عنها ،األدب
يقوم عىل رؤية منظمة تنطوي
عىل االستكشاف والتصنيف
والتحديد والتشخيص،
والفلسفة هي فعالية تعتمد
أيضا ،ولكن
عىل الخيال ً
عباراتها التي تسعى لبلوغها
209
الملف الثقـافي
املادية .واآلخر ،هو اإلدراك (هسرل) من هذه يهدف إليه ُ املعرفة الحقيقة للعامل من
الحدسي املاهوي :ويتمثل الفلسفة هو “صياغة صور خالل تحليلنا للذات التي
يف أفعال الوعي ،وقصدياته الظواهر من خالل إضفاء ترى األشياء ،وليس من
املتوالية ليست منفصلة عن املعاني والدالالت وهى خالل تحليلنا لألشياء كما
الوعي فهي نسيجه ،وبذلك مراتب االلتقاء بين الوعي هى خارج الذات ،أي أن
يولد الوعي املاهوي ،وتكون واألشياء الكائنة خارجه” .
()4
اإلنسان عند تحليله لظاهرة
الظاهرة (املوضوع أ ًّيا كان نستنتج من ذلك أن الوعي ما يجب أن يركز عىل الظاهرة
مثل الحجر) قد صارت له دور مهم ىف تحديد معنى بما أنها بنية دالة تعلقت ىف
ظاهرية (الحجر يصبح الظاهرة ويساعد ىف فهمها، شعوره ،وهذه الداللة هى
حجر ًّيا) أي تجلبه بعد أن إذ إن الظاهرة كشيء هي املعنى أو املعرفة الحقيقة
خلعت الذات عليه املعنى عبارة عن عامل معطى للوعي لها .وهذه املعرفة نشأت
بعد رحلة طويلة من أفعال الذي يستغله ىف تجاربه من خالل العالقة الشعورية
القصد والحدوس ومل يقف الخاصة ويصبح كل شيء الخالصة بين الذات والظاهرة
فحسب عىل مجرد إدراكه خارج عن هذا الوعي ال تماما أية معطيات
مستبعد ًة ً
حسيًّا(.)6 قيمة له .وتصبح الفعالية
سابقة .وبالتايل ال تسعى
وهذا ما تركز عليه النظرية الفلسفية الفينومينولوجية
الفينومينولوجيا إىل تفسير
الظاهراتية للفن ،فهي تركز هى اكتشاف املضامين
العامل عبر البحث عن شروطه
عىل تفاعل الذات باملوضوع الخاصة ملا هو حاضر يف
املمكنة بل هى تُعنى بتشكيل
مما يصعب الفصل بينهما، الوعي؛ ألنها تنطوي عىل
التجربة عىل أساس أنها أول
ملا هو موجود بينهما من أمرين مهمين هما :إثبات
لقاء وجودي بين الوعي
صلة قائمة ،وأن املعنى هو وجود الظاهرة ،بما ينضاف
ما نستخلصه من خالل هذا إليها من معنى ،عن طريق والعامل .فالظاهرة بالنسبة
التفاعل والتواصل بين هذين صلتها بالشعور الخالص, لـ(هسرل) ليست ىف حاجة ُ
العنصرين .وهو ما ينطبق واألهمية األخرى هي إثبات إىل تأويل بل هي أحكام
عىل العالقة بين القارئ وجود الذات الفاهمة عن معينة تفرض نفسها علينا
والنص ،إذ يحدث بينهما طريق جعل الفهم ينطوي فال نستطيع مقاومتها .فما
تفاعل تأوييل تحقيقي من عىل داللة مضاعفة .ويف
أجل الوصول إىل الداللة هذه الحالة يبرز لنا الوعي
وبناء املعنى. كنشاط منتج للمعنى من
(هسرل) وقد تطورت آراء ُ خالل املراحل الوجودية
وأفكاره الفلسفية وتحولت والتجارب املعاشة التي
إىل نظرية نقدية عىل يد يمارسها يف نشاطه
مجموعة من الفالسفة الداليل(.)5
واملفكرين الذين أتوا من (هسرل) بين لذلك يميز ُ
بعده ،وعىل رأسهم تلميذه نوعين من اإلدراك هما:
البولندي (رومان إنجاردن) اإلدراك الحدسي التجريبي:
الذي طبق آراء أستاذه عىل وهو الوعي باملوضوع
دراسة العمل األدبي إذ رأى الفردي كمعطى أصيل
أن «األعمال األدبية مالئمة يدرك أساس خصوصيته
214
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
ولكى نفهم العمل األدبي موضوعية ،عىل أساس أنه تماما للتناول الظاهراتى ألن
ً
فهما جي ًدا يجب أن نكون
ً نابع من الشعور الخالص، الشعور الذي يعمل عىل نحو
مهتمين بفهم هذه العناصر مما يجعل املعنى مرتب ًطا مقصود ضروري إلظهارها
الثالثة؛ ألن الفهم -لدى لديه بلحظة وجودية ،وال ىف عامل الوجود ،وال ينبغي
إنجاردن -عبارة عن إدراك يؤثر عىل الظاهرة أي شيء أن ينشغل النقد بالعمل
مادة املوضوع ىف العمل من خارجها ،مما ُيعيل من األدبي بوصفه موضو ًعا
األدبي عبر القيام بفعل دور الذات ىف إدراك املعنى. وال بالقارئ بوصفه ذاتًا بل
عقيل يحقق هذا اإلدراك .
()11 كما أنه يعتقد أن معرفة بحقيقة أن العمل ال وجود
األشياء ىف العامل الطبيعي له إال بوصفه موضو ًعا
-2مفهوم القصدية: غير مقتصرة عىل املاهيات يعرض عىل الشعور” .
()7
يشير إىل أن ثمة ترابط بين العمل األدبي يتضمن ثالثة وهذا يعني أن املعنى قائم
املوضوع والذات ،فليس مظاهر وجودية :املظهر عىل الفهم ونابع من الذات
ثمة موضوع دون ذات ،وال العقيل ،وهو األفعال املبدعة القارئه ،وهذا ما يطلق عليه
ذات دون موضوع .فالفهم التي يقوم بها وعي اإلنسان. (التعايل) أي أن املعنى
الذي يبرز ىف الشعور واملادة املحسوسة للنص، (هسرل) -خالصة -لدى ُ
املحض هو ما يبني املعرفة أي العالمات عىل الورق. الفهم الفردى .ولعل هذا ما
باملوضوع ،ومن ثم أصبح واملفاهيم املثالية أو الفكر. جعله ينظر إىل املعنى نظرة
215
الملف الثقـافي
ليعرف القارئ ما تقصده ىف تحقيق العمل األدبي عبر ملا كانت هذه الصياغات
ذاته .والقارئ ىف كل مرة عملية ملء مواقع الالحسم، اللغوية ترتد إىل أفعال الكاتب
-أثناء قراءته -يعود إىل ألن القارئ يتفاعل مع العمل األصلية ،فإن إنجاردن يسلم
ينابيع معرفته الحادة ،إىل األدبي بطرق شتى وعىل بأن املوضوعات القصدية
مستويات شتى ،وبالتايل الخالصة املستمدة تتخذ
ما يعمل ىف داخله ،كوسيلة
فإن خبرة الذات القارئه مصدرها النهائي من هذه
فهم للتشكالت الثقافية األفعال(.)18
وتجاربها السابقة هى التي
األكثر بع ًدا منه ،فهو يصنع ستساعدها عىل هذه العملية. ولكي يتم فهم العمل األدبي
التأريخ الجمايل األدبي، ويشير (إنجاردن) إىل هذه يجب أن يتم فهم وحدات
وليس هذا التأريخ معرفة العملية بوصفها عملية املعنى السابقة (الجوانب
معينة ،بل إنه التنبه الذي إضفاء العيانية ،إذ يعتقد أن أول ،التي ينشأ التخطيطية) ً
ال يدعنا ننسى منبع كل القارئ يستطيع أن يميز بين عبر فهمها عدد ال نهائي من
معرفة. البنية التحتية والعمل املدرك مواقع الالحسم ،وال تُمأل هذه
من أجل أن يفصل الشيء املواقع إال بالنشاط اإلدراكي
إن القراءة الظاهراتية
الجمايل عن األشياء التي للذات القارئة .فعبارات العمل
تكشف لنا الحركة التي
يصنعها اإلنسان ،لذا تمثل األدبي لن تقول لنا كل شيء
بها نحقق عوامل الحقائق ً
عامل عملية إضفاء العيانية داخل العمل ولن تحقق كل
ودائرية العمل األدبي الذي رئيسا لفهم العمل األدبي األشياء التي توجد بالعمل ،بل
ً
بات -بمعنى ما -كل ما عنده .ولعل هذا ما يدفع سنجد مواضع من الالحسم
يخطر ىف الذهن من معانٍ الباحث إىل أن يقرر أنه ال تتميز باإلبهام تحتاج إىل
ٍ
ودالالت تتفق مع تأويله. القارئ وال النص ،يستطيع تدخل من القارئ ليزيل هذا
ومن ثم تصبح عملية الفهم أحدهما أن يحدد املعنى اإلبهام ليصل إىل املعنى.
عملية مشتركة بين ما املوجود ىف العمل الفني ،بل ويميز (إنجاردن) بين نوعين
عملية الوصول للمعنى عملية من مواقع الالحسم ينطوي
ُيمنح من النص ،أي إدراك
مشتركة بينهما ،فالنص عليهما العمل األدبي :أولهما
العالمات والدوال املكونة
يزود القارئ بالحدود التي يمكن إزالته أثناء القراءة من
للنص ،وما تمنحه الذات يعمل القارئ فيها خياله، خالل إسقاطات النص التي
القارئة ،عن طريق فهم والقارئ يستخدم خياله تطرح حش ًدا من االحتماالت
املقروء وتشغيل املعلومات لإلحاطة بهذه الحدود وسد التي بها يمكن ملء مواقع
املخزنة يف الذاكرة من مواقع الالحسم النصية من الالحسم .واآلخر ،يكون
تجارب سابقة وإعمال أجل الوصول للمعنى. النص صامتًا إزاءه ،حيث ال
الخيال ىف سد مواقع وبذلك تصبح عملية القراءة يشير إىل أية احتماالت أو
الالحسم .فيصبح العمل ىف النقد الظاهراتي عملية إمكانات يمكن بها ملء مواقع
تملك ،فالقارئ يكتسب الالحسم أو إكمالها ،وهكذا
األدبي نتاج عامل يف وعي
املعنى من دالالت مل تكن دائما مواقع ىف العملتبقى ً
القارئ ،ويصبح املعنى ما موجودة لديه ،عبر عملية األدبي تعيّنها التام يكون
ينتجه القارئ من العمل تماما عىل القارئ .
الوعي واإلدراك التي يمر بها متوقفًا ً
()19
األدبي ،ال ما يضعه املؤلف أثناء القراءة ،فالعمل األدبي وبذلك يكون (إنجاردن) قد
يف عمله ال يعبر فقط عن نفسه ،بل دورا إيجابيًّا
أعطى للقارئ ً
218
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
الهوامش:
-1مليكة دحامينة :هيرمنيوطيقا النص األدبي يف الفكر الغربي املعاصر ،اتحاد الكتاب العرب ،دمشق ،سلسلة
الدراسات األدبية ،العدد( ،2008 ،)10صـ.36
-2ناظم عودة خضر :األصول املعرفية لنظرية التلقي ،دار الشروق ،عمان ،األردن ،ط ،1997 ،1صـ.110
,Terry Eagleton: Literary Theory: An Introducation, Oxford, Basil Blackwell, England -3
.68 p ,1983
-4محمد شوقى الزين :تأويالت وتفكيكات ،املركز الثقايف العربي ،بيروت -الدار البيضاء ،طـ،2002 ،1
صـ.50
-5ناظم عودة خضر :األصول املعرفية لنظرية التلقي ،صــ79ـ
-6ينظر ،محمد شوقى الزين :تأويالت وتفكيكات ،صـ .31ووفاء إبراهيم :هامش صــ ،72من كتاب
النقد الثقايف (تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية) ،لـ(آرثر إيزابرجر) ،املجلس األعىل للثقافة ،املشروع القومي
للترجمة ،العدد( ،)603القاهرة ،ط2003 ،1م.
-7ك .م .نيوتن :نظرية األدب ىف القرن العشرين ،ترجمة :عيسى عيل العاكوب ،مركز عين للدراسات
والبحوث الإنسانية واالجتماعية ،القاهرة ،ط ،1996 ،1صــ.77
-8ناظم عودة خضر :األصول املعرفية لنظرية التلقي ،صــ.75
-9السابق ،صـ.78
-10بشرى موسى صالح :نظرية التلقي (أصول وتطبيقات) ،املركز الثقايف العربي ،بيروت -الدار البيضاء،
طـ ،2001 ،1صـ.34
-11ك .م .نيوتن :نظرية األدب يف القرن العشرين ،ترجمة :عيسى عيل العاكوب ،مركز عين للدراسات
والبحوث اإلنسانية واالجتماعية ،القاهرة ،ط ،1996 ،1صــ.83
.Terry Eagleton: Literary Theory, p 70 -12
-13ناظم عودة خضر :األصول املعرفية لنظرية التلقي ،صــ.80
-14السابق ،صـ 81وما بعدها.
-15للمزيد حول طبقات العمل األدبي عند إنجاردن ينظر ،سامي إسماعيل :علم الجمال األدبي عند رومان
إنجاردن ،الهيئة العامة القصور الثقافة ،سلسلة كتابات نقدية ،القاهرة ،عدد( ،1998 ،)80صـ-103
صـ.175
-16بشرى موسى صالح :نظرية التلقي ،صـ.87
-17ميجان الرويىل وسعيد البازغى :دليل الناقد األدبي ،املركز الثقايف العربي ،بيروت -الدار البيضاء ،طـ،3
،2002صـ.321
-18ناظم عودة خضر :األصول املعرفية لنظرية التلقي ،صــ.87
-19السابق ،صــ.90
219
الملف الثقـافي
معبرا عن
ً فيقول الجزار لها”( .)5عن هذه الفكرة ثم ينتقل بنا إىل فكرة أخرى
هذه الفكرة يف رباعية رائعة، الفلسفية يقول صاحب كتاب تتغلغل يف ثنايا الفلسفة منذ
تعبر عن االختالف -وربما السطور األربعة: أرسطو وهي فكرة القوة
التناقض -بين ما يتطلبه شرب الحليب ونام والفعل ،فالشيء -أي شيء-
الفؤاد الذي يمثل الجانب الرضيع الذي يف املهد عند أرسطو له وجود بالقوة
الروحي ،وما يتطلبه البدن شرب الحليب ونام لألبد ووجود بالفعل ،فالبذرة
الذي يمثل الجانب املادي الشيخ الذي يف داخله شجرة بالقوة ،وعندما
من ثنائية اإلنسان: الرضيع(.)6 تُزرع وتنمو وتصبح شجرة
غلت بها عنها
ُش ُ ثم ال تبرح الفلسفة اليونانية فهي حينذاك تصبح شجرة
معشوقتان تسكنان الفؤاد تلقي بظاللها عىل رباعيات بالفعل ،فالفكرة يف طور
والجسد كتاب السطور األربعة التكوين هي فكرة بالقوة،
أغضبت
ُ أرضيت واحد ًة
ُ إن فتتجىل يف فكرة الثنائية ،التي وعندما تكتمل وتصبح
األخرى ترى أن اإلنسان مكون من ملموسا يف الواقع
ً شيئًا
اشتقت
ُ أتيت إحداهن
وإن ُ عنصرين اثنين أو من ثنائية تكون حينذاك فكرة بالفعل.
للثانية األوىل .
()8
متعارضة هي الروح والبدن، ويف ذلك يقول الفيلسوف
222
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
كتابه: عبثية الكون يبحث الوجودي التي ت َُرد الكثرة املشاهدة يف
ملا لزمت األدب والصمت عن العقل واملنطق ،ويف وسط العامل إىل خالق واحد يعتني
جاءت هي ،جلست واستوت األساطير يبحث عن الحق، بها وال يزال ،فاهلل تعاىل خلف
ويف خضم الدمار يبحث عن كل كثرة وهو واحد أحد ،فنجد
الوجه يف الوجه والعينان يف
طوق النجاة .وبصفة عامة صاحب كتاب السطور األربعة
العينين تسيطر النزعة الوجودية عىل يقول:
حل البهاء وانتفى كل معظم أعمال حمدي الجزار، تعددت األسباب واملوت واحد
()20
بغض وإن تجلت بصورة واضحة ميتة واحدة وحيوانات كثر
وهكذا تمتزج الفلسفة مع جلية يف روايته األثيرة تفردت البصمة والكتابة
“لذات سرية”( .)17فيقول: والنقش
األدب يف فلك كتاب السطور
يقدرون املراتب واملناصب ()14
وخلف كل كثر ٍة واحد
ً
شكل األربعة ،لتقدم لنا يصفُّون يف الخانات الغني ثم ينتقل بنا صاحب الرباعيات
لزاما علينا أن
فري ًدا كان ً والبائس إىل رحاب الفلسفة الحديثة،
ً
طويل ،حتى نتوقف عنده يمسكون الريح ويخطون وإىل عصورها التنويرية التي
نتمكن من فك طالسمه األقدار باتت تنشد إعمال العقل عىل
()18
وما ملكوا من أمرهم شيئًا أوسع نطاق ،فأخذت فلسفة
وفض غموضه ،والحقيقة
لتظل رباعيات الجزار شعارا للتنوير فحواهً التنوير
أن من يقف عىل تلك مسكونة بالفلسفة ،حيث “كن جريئًا يف استعمال
الرباعيات املسطورة يف ذلك تقود الفلسفة صاحب عقلك” .وهنا يقود الفيلسوف
الكتاب من املمكن أن يالحظ الرباعيات وتسيطر عليه النرويجي باروخ اسبينوزا
أن الكاتب يريد أن يلحق حتى يصل إىل الفلسفة حملة شعواء عىل املعجزة
بركب الفالسفة والصوفية، املعاصرة ،فيطالعنا بفلسفة بمعناها الشائع ،فاملعجزة لديه
الوجه وجه للفيلسوف ليست هي خوارق العادات،
يقف عند األسئلة الكبرى
الفرنسي املعاصر ايمانويل لكنها حوادث طبيعية تقع طبقًا
ً
محاول اإلجابة عليها ،فيقدم ليفيناس ،والذي أكد يف لقوانين طبيعية نجهل أسبابها
لنا أسئلة أخرى تزيد من فلسفته التي يمكن أن نطلق حتى اآلن ،وتقدم العلم كفيل
ظمئنا نحو الحقيقة التي عليها باملعنى العام «فلسفة بمعرفتها( .)15وبناء عىل هذا
ال تجيء أب ًدا .فيحصر الوجه» ،والتي تنص عىل الفهم للمعجزة ،فليس غريبًا
أن النظر إىل اآلخر يمنعني عىل أي ُم َّد ٍع أن يدعي أنَّه
الكاتب نفسه يف مجال
من إيذائه بأي صورة من صاحب معجزة طاملا جهل
الهموم الفلسفية الكبرى نظرا لقداسة الناس األسباب الطبيعية لها،
صور اإليذاء ً
وأسئلتها الكونية التي ال الوجه ،وألن الوجه الذي هو ويعبر الجزار عن ذلك يف
تنتهي ..إنها ح ًّقا لذة الحيرة مرآة الروح ينطق بأن اآلخر رباعية تقول:
التي بحث عنها الجزار يحتوى اإلنسانية كلها ،مما الدعي
ُّ صدقَ هذا َ
ً يشعرني بمسئوليتي عنه، يسعى كذبابة ،يتطفل ويأكل
طويل ،ووجدناها معه يف
بل إنه عندما تلتقي الوجوه يشرب ثم يمشي ويصيح:
هذا السفر امللغز ج ًّدا ،ويف ببعضها ينتفي كل ُبغض .
()19 ()16
أنا املعجزة
هذه الرباعيات املسكونة فيقول الجزار من خالل تمثل كما تظهر الروح الوجودية بين
بالفلسفة هذا املعنى الليفيناسي يف التشاؤم واألمل ،ففي وسط
225
الملف الثقـافي
الهوامش:
* أستاذ الفلسفة الحديثة املساعد بكلية اآلداب جامعة بني سويف.
-1يحيي حقي :مقدمة رباعيات صالح جاهين ،القاهرة ،مكتبة األسرة ،الهيئة املصرية العامة للكتاب،1996 ،
ص.11 -10
-2حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة -الرواية الكاملة ،القاهرة ،نفرو للنشر والتوزيع ،الطبعة األوىل
،2013رباعية رقم ( )1ص.7
-3ملزيد من التفصيالت حول هذه النظرية يمكن الرجوع إىل يحيى هويدي ،محاضرات يف الفلسفة ،القاهرة،
مكتبة النهضة املصرية ،1966 ،ص.169 -155
-4حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )109ص.266
-5ابن رشد :تلخيص ما بعد الطبيعة ،تحقيق د.عثمان أمين ،القاهرة ،1958 ،ص.90
-6حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )221ص.118
-7ملزيد من التفصيالت يمكن الرجوع إىل :غيضان السيد عيل :الفلسفة الطبيعية واإللهية -النفس والعقل
عند ابن باجة وابن رشد ،بيروت ،دار التنوير.2009 ،
-8حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )289ص.152
-9حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )121ص.68
-10حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )2ص.8
-11حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )229ص.122
-12حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )0ص.415
-13حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )271ص.143
-14حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )371ص.397
-15سبينوزا :رسالة يف الالهوت والسياسة ،ترجمة حسن حنفي ومراجعة فؤاد زكريا ،بيروت ،دار التنوير،
ط ،2005 ،1ص.215
-16حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )112ص.63
-17راجع :غيضان السيد عيل :لذات سرية وعودة األدب الوجودي ،مجلة أدب ونقد ،العدد 284أبريل
،2009ص.94 -89
-18حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )380ص.197
-19ايمانويل لفيناس ،التحديد الفلسفي لفكرة الثقافة ،مجلة أوراق فلسفية العدد ،2007 ،17ص.82 -81
-20حمدي الجزار :كتاب السطور األربعة ،رباعية رقم ( )314ص.164
226
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
خيبة الفلسفة أو عدم املسلمون إشفاقًا عىل األمانة العربي مشوش الفكر تختلط
فاعليتها عندنا. ثم غلبهم الحنين من يدري؟ عليه الرؤى والتصورات.
والعروي إذ يجعل السارد لعل رأس البالء العودة بعد ويضع محفوظ عىل لسان
متكلما بضمير املتكلمين ً الهجرة»(.)5 الشخصية املتفلسفة زهير
فللتدليل عىل تمكن السارد وإكثار السارد من استعمال كامل محاججات منطقية
من جذب قارئه إىل ضمير الخطاب املمزوج تصدم القارئ أخالقيًّا
منطقة الفكر ،وإشراكه بفعل املباصرة (انظر)، أن الناس أوغاد ال «اعتقد َّ
يف التفلسف معه «مل واملداومة عىل فعل التحاور خالق لهم ،وأنه من الخير
يعد يف اإلمكان تغيير أي بـ(قال وقلت) ،دالئل لهم أن يعترفوا بذلك ،وأن
ظاهرا أو
ً شيء يف حياتنا واضحة عىل بعدية فكرية يقيموا حياتهم املشتركة عىل
باطنًا ،ننظر للموت ونحن تسحب السرد إىل منطقة دعامة من ذلك االعتراف،
أموات ..نرتبط بالحياة «انظر إليها معك، ْ الفلسفة وعىل ذلك تصبح املشكلة
متباطئين وننسلخ عنها الصمت الطويل والكلمات األخالقية الجديدة هي:
مسرعين.)7(». الغامضة ،إنها تعلم أنك كيف تكفل الصالح العام
وألن الفوضى أو الكابوس يوما من األيام: ستتساءل ً والسعادة البشرية يف مجتمع
ظاهرة ونظرية «كأنها كيف اإلياب بعد الضياع؟ من األوغاد والسفلة؟»(،)3
أن تصوغ قوانين تستطيع ْ كيف إنقاذ الفؤاد من أو تصدمه تاريخيًّا «مهما
مشتركة تربط أنواع األباطيل؟ تقول :إن دموع يكن األمر فال يمكن تجاهل
الظواهر»( ،)8صارت قضية الخصومات والتصالح املرحلة التي قطعها اإلنسان
شائكة من قضايا الفلسفة ما يمأل أيامنا وليالينا ال من الغابة إىل القمر»(.)4
ما بعد الكولونيالية .ولها شيء؟ أقول :كل شيء هو وللرواية العربية استماالتها
انعكاساتها إما يف شكل ال شيء ،تقول :حياة مليئة الخاصة لقارئ يعيش يف ظل
تعبيرات مقتضبة هي وبعدها الفراغ؟ أقول :حياة مرحلة ما بعد كولونيالية
بمثابة تأمالت تتداعى مليئة وهي فراغ كنت أظنك مل تعد الفكرة االستشراقية
بعفوية أو قصدية عىل فكرا ..اعتقد اعتقا ًدا
أعمق ً هي املعضلة؛ بل املعضلة
لسان سارد ذاتي يفكر يف راسخً ا أننا نحن أبناء يف ما بعد هذه الفكرة مما
الوجود ،أو بمونولوجات الصحارى ال نتطلع إىل ما تضمنته طروحات إدوارد
هو فوق اإلمكان ،إن اهلل سعيد عن الشخصية الروائية
أراد لنا اليسر»(.)6 التي تكابد التشظي هوي ًة
وال يخفى أن عبد اهلل ووعيًا وهي تعيش عىل
العروي مفكر عربي الهامش تابعة ذليلة .ومن
مرموق ،له طروحات انعكاسات هذه الطروحات
مهمة يف الفكر والتاريخ ما نجده يف رواية (اليتيم)
والعقل ،وما كتابته للرواية لعبد اهلل العروي التي نظرت
إال إليمانه أنها قادرة عىل إىل الهجرة ذها ًبا وإيا ًبا
ردم الهوة بين الفيلسوف فوجدتها عبارة عن تشظٍّ
والقارئ العادي ،رغبة يف وفنا ٍء «الهجرة رمز النفس
تذليل خصوصية الفلسفة اإلنسانية قرارها فناؤها.
ونخبويتها اللتين هما سبب بدأ اإلسالم مهاجرا ..هاجر
229
الملف الثقـافي
الطبع يهوى من يكسر الثقافية؛ فإنه ينجز الرسالة السارد آثار ميزوبوتاميا
ثقالته وتقاليده ويقض ً
ومتسائل «ماذا متوجسا
ً الباقية ،فيرى كيف تتشابك
مضجعه ،لهذا أعدكم أن لو أن أساتذة لجنة التقييم متفكرا فيها «أتابع
ً العصور
التاريخ سيعقلني»(،)18 بنواياي فسفهواَ شككوا ببصري ..سور املعبد,
واصفًا املؤرخين الذين جهودي كلها؟» ،
()17 وبالتحديد عىل حد تشابك
كتبوا عنه كابن خلكان واملفارقة أن اللص حكيم، بقاياه مع تكملته الحديثة
وابن كثير وابن تفري كإشارة إىل أن الهامش التي شابهت القديمة فال
بردي وابن الصابئ وابن مثقف وواع تدبر الحياة تتمايزان إال باملظهر؛ قتامة
القالنسي وابن إياس فعرف حقيقتها. األوىل أكسبتها مظهر قدمها
ويحيى بن سعيد اإلنطاكي ومحكي التاريخ يف رواية ونصاعة الثانية أكسبتها
ساخرا
ً بآكيل لحم امليت، (مجنون الحكم) لسامل حداثتها أيبقى هذا التمايز
مما كتبوه ً
قائل« :ولو حميش انعكاس واضح أب ًدا؟ أم أن الزمن سيساوي
عرف هؤالء املتقولون لفلسفة هايدن وايت ،متخذًا لونيهما فتضيع حقيقة زمن
كنه التاريخ بما هو تاريخ من سيرة الحاكم بأمر اهلل البنائين ,بل حقيقتهما كلها،
تصنعه سلطات السيف موضو ًعا لتفنيد موثوقية تنطمس ..كما انطمست
وإحجام الشدائد واآلالم التاريخ .والرواية سيرة حقائق كثيرة يف كل
ألدركوا أن من طبع ذاتية بطلها أبو عيل منصور العصور؟»(.)16
السياسة االستبداد» .
()19
الحاكم بأمر اهلل الذي هو وينتقد السارد يف رواية
واملفارقة أن الحاكم يدعو مجنون الحكم ،الذي يحمله (كائن الظل) إلسماعيل
املحكومين إىل املعارضة جنونه عىل الكشف عن فهد إسماعيل مركزية
التاريخ الرسمي الذي ليس
والرفض والتشكيك(.)20 خفايا مل يذكرها التاريخ
يف شريعته توثيق األدب
وهذا التوظيف للمتخيل الرسمي الذي حكى عن
الشعبي كالسير الشعبية
أيضا عند التاريخي نجده ً استبداده وغروره فقط،
واملالحم املتداولة عىل أساس
رشيد بو جدرة يف روايته فيقول« :التاريخ ال يذكر
أنها هامش مهمل .لذا ينقلب
(الحلزون العنيد) التي إال من قاوم اعوجاجه
السارد -الذي هو طالب
فيها يوظف حد ًثا مختلقًا، باعوجاج مضاد ،إنه فاسد
دراسات عليا-
عىل هذه املركزية
عبر كتابة
موضوع رسالته
يف الهامش
املسكوت عنه،
املتمثل باللص
حمدون بن
حمدي حرامي
بغداد .وعىل
الرغم من علمه
أن ذلك ما ال
تقبله املؤسسة
231
الملف الثقـافي
اإلحاالت:
-1املرايا ،نجيب محفوظ ،دار الشروق ،ط ،2012 ،4ص.11
-2املرايا ،ص.18
-3الرواية ،ص.63
-4الرواية ،ص.102
-5اليتيم رواية ،عبد اهلل العروي ،املركز الثقايف العربي ،املغرب ،ط ،2001 ،1ص.159
-6الرواية ،ص.20
-7الرواية ،ص.21
-8نظرية الفوضى علم الالمتوقع ،ص.18
-9اليتيم رواية ،ص.57
-10العالمة رواية ،بنسامل حميش ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة ،ط ،2003 ،1ص.37
-11اليتيم رواية ،ص.59
-12يف حضرة العنقاء والخل الويف ،رواية ،إسماعيل فهد اسماعيل ،الدار العربية للعلوم ناشرون ،بيروت،
ط ،2013 ،1ص.24
-13عامل بال خرائط رواية ،جبرا إبراهيم جبرا ،عبد الرحمن منيف ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت ،ط ،1992 ،2ص.44
-14الرواية ،ص.174
-15اليتيم رواية ،ص.11
-16أزمنة الدم ،رواية ،جهاد مجيد ،دار الرافدين للنشر والتوزيع ،بيروت ،2016 ،ص.17
-17كائن الظل ،إسماعيل فهد إسماعيل ،دار الهالل ،القاهرة ،1999 ،ص.10
-18مجنون الحكم ،رواية ،سامل حميش ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة ،1998 ،ص .15وللروائي
أبحاث يف الفكر الفلسفي والبحث التاريخي.
-19الرواية ،ص.17
-20ينظر :الرواية ،ص.23
-21الحلزون العنيد ،رواية ،رشيد بو جدرة ،ترجمة هشام القروي ،املؤسسة الوطنية لالتصال والنشر،
الجزائر ،ط ،2002 ،5ص .31وقد درس بو جدرة الفلسفة حتى سنة 1972وأعماله مترجمة إىل أكثر من 12
لغة.
-22سيدات زحل ،ص.109
-23حريق األخيلة رواية ،إدوار الخراط ،دار املستقبل بالفجالة واإلسكندرية ،ط ،1994 ،1ص.27
233
الملف الثقـافي
الفلسفة والرواية..
قراءة في رواية الحمار الذهبي ابوليوس المادوري
وأزمة الهوية الذهبي ألبوليوس من
الروايات األوىل يف تاريخ
تضعنا هوية مؤلف األدب الروائي ،حيث
الرواية «لوكيوس سجلت هاجس اإلنسان، َّ
أبوليوس» أمام ورحلته الفطرية يف البحث
استشكاالت عديدة لهوية عن الهوية ،وعلة انتقائنا
الجزائري ،ولسكان ّ
ملؤشرِين: لهذه العينة راجع
خصوصا
ً شمال أفريقيا تأكيد صاحب الرواية نفسه
يف العهد الروماني ،إذ عىل هويته املداورشية،
تص ِّور الرواية شخصية والتي تربطه بمكان الوالدة،
الجزائري أو املغاربي ِّ
واملؤشر الثاني لالختيار
وهو يعيش حالة التحول،
عائد إىل الرواية نفسها،
والتأرجح الشخصي،
والتي تبدأ باإلشارة اىل
والبحث عن الذات،
تح ُّوالت الهوية ،والهوية يف
فهو شخص ومواطن
نظر لوكيوس غير مرتبطة
روماني ،عىل قاعدة
بالفردية البيولوجية،
التبعية االستعمارية
أو االنتماءات الثقافية،
التي كانت فيها الجزائر
واإلثنية ،بل مرتبطة
لإلمبراطورية الرومانية،
ومداورشي (جزائر ًّيا) بالجوهر الذي هو العقل،
مول ًدا ،وقرطاجي ثقاف ًة، فاملؤشرات الثانوية يف
فكرا ،يقول الهوية تؤسس للشخصية
وإغريقي ً
أندريه جوليان« :يتع َّذر املادية ،التي هي باألصل
أن نعرف بالضبط هل إن متعلقة بالوجه الحيواني،
كتاب أفريقيا ينحدرون الالمعقول يف الشخصية
من معمرين رومان، اإلنسانية ،أ َّما العنصر
وأغلب الظن أن أكثرهم الكريم يف الهوية ،والذي
كانوا من البربر املتأثرين يكون الصفة الذهبية يف
بالحضارة الرومانية الحمار ،هو العقل املستنير
الذين عبروا يف لغة بوحي املقدس ،فإنسانية
الفاتحين عما كانت اللغة اإلنسان عند لوكيوس ال
الليبية والبونيقية عاجزة بالتحرر من
ُّ تتحقق إال
عن دونه(.)1 هوية الحمار ،واالستنارة
يرفض البعض من بنور العقل الذهبي
املفكرين العرب ،املغاربة (الوسطية) النور الذي د.شريف الدين بن دوبه*
ادعاء شارل أندريه يم ِّكنه من إدراك ذاته،
(الجزائر)
جوليان القائل بعجز ومعرفة غيره ،وهو النور
اللغة الليبية عن استيعاب املستنير بكونية اإلنسان.
234
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
األوىل كأس معلِّم الصبيان «توقف يف مدينة أويا» الفكر ،واملعاني العلمية،
ته ِّذب الفكر ،والثانية وهي «املدينة التي تحمل واألدبية ،مثل األستاذ
وهي كأس معلِّم الخطابة اليوم اسم طرابلس الغرب، عباس الجراري( )2الذي
تمده بلسان الفصاحة. عاصمة ليبيا الحالية. يرى أن التاريخ احتفظ
إنما يقتصر معظم الناس كانت أويا واحدة من املدن بأسماء غير قليل من
عىل االنتهال من هذين الثالث إىل جانب سبراتا األدباء والفالسفة وعلماء
الكأسين ..أما أنا فإني ولبتس ماكانا التي شكلت الدين الذين تخرجوا يف هذا
أصبت من كؤوس أخرى ما عرف بتريبوليتانيا التعليم من مختلف أقطار
سقيتها بأثينا ،وهي كأس القديمة [.]TRIPOLIS,TRIPOLITANIA الشمال األفريقي ،وعبَّروا
الشعر ذات التخيالت ومن املعتقد أن الفينيقيين بالالتينية يف الغالب ألنها
املفتنة البارعة ،وكأس هم الذين أسسوها .لكن كانت لغة الفاتح املستعمر،
الهندسة ذات الوضوح الرومان حكموها من وليس ألن اللغة الوطنية
الناصع ،وكاس املوسيقى 146ق.م حتى 450م. كانت قاصرة(.)3
العذبة املذاق ،وكاس الجدل ثم بعد ذلك دخلت تحت
املحفوفة بشيء من الجد سيطرة الوندال (ق5م) االنتماء الجغرايف
والوقار ،والسيما منها وبعدها تحت تحت سيطرة واملدني
كأس الفلسفة الكونية البيزنطيين [ق6م] ،إىل
الشاملة التي ال سبيل أن دخلها العرب عام أبوليوس أو أفوالي يكون
الستنفادها ،والتي هي 645م»(.)4 ِّ
بمؤشر املولد، جزائر ًّيا
لشاربها رحيق»(.)5 إذ يعرف باسم أبوليوس
يعتبر أبوليوس أن التربية، االنتماء الثقايف املداورشي نسبة إىل
والتعليم األويل يبدأ مع مداورش أو مداور ،والتي
معلِّم الصبيان ،فهو الذي املالحظة األولية لشخصية ولد فيها حوايل 124أو
يضع األرضية القاعدية أبوليوس الثقافية تظهر من 125بعد امليالد «وقد كان
للفكر ،وإذا استنطقنا النص خالل اسمه ،فهو الفيلسوف موقعها عىل الحدود بين
فإننا نجد الكأس األوىل املادوري األفالطوني، غيتوليا نسبة إىل قبيلة
التي نهل منها أبوليوس فثقافته القاعدية تبدأ يف جدالة ونوميديا ،وتونسيا
توجهه العلمي ،وحبَّه مادور ،كانتماء جغرايف، أو «قرطاجيا» باملكانة
للحقيقة ،كان يف مادور مع وثقايف مح َّدد بمعامل ،ثم العلمية ،وبالحضور
معلمه األول ،فهو املوجه َّ
يتجل تتبلور بالكوني الذي العلمي واألدبي؛ إذ برزت
األول للفكر ،فمستقبل املرء يف الفلسفة ،يقول« :قال الشخصية األدبية من خالل
يكون معه ،فالتعليم يف أحد الحكماء يف حديثه عن النبوغ يف فن الخطابة،
الصغر كالنقش يف الحجر، آداب املائدة :الكأس األوىل أيضا
كما تشرفت تونس ً
أيضا إىل معلم ويشير ً للعطش ،والثانية للمرح، بمؤشر الوفاة ،حيث
الخطابة الذي يق ِّوم اللسان، والثالثة للمتعة ،والرابعة استقر يف ثراها ،إذ تويف
ويمنح املتعلم فصاحة يف للجنون ..ويمكن أن نقول يف تونس حوايل .170كما
اللسان ،ومن املعلوم أن عكس ذلك يف حديثنا عن أيضا االدعاء
يحق لليبيا ً
مفكرا مميَّ ًزا،
َ أبوليوس كان الكأس التي تجود بها ربات باملشاركة يف تركيب هويته
فصيحا ،وهي ً وخطيبًا الفنون ،والعلوم ..الكأس عىل قاعدة االستقرار
235
الملف الثقـافي
الحمار الذهبي يف جنس من املنتوج الفني أمام واملعايير يف تقييم النص
الروايات األنوية ،أي ضرورة املحاكاة واالتباع. األدبي.
النص الذي يتحدث فيه أما العائق الرئيس يف وقد كانت هذه الذاتية
الكاتب داخل املتن بصيغة الدراسات النقدية واألدبية، بمصاديقها الفردية أو
املتكلم ،حيث يظهر التقاطع فهو الوعي الذي يكمن وراء الجماعية أس التراجع
بين الرواية و شخصية كل حكم أو توصيف للنص؛ والتأخر الذي حايث النمو
أبوليوس يف كثير من ألن شرطية املتلقي ،وموقفه والتطور يف داخل الحقل
اللحاظ ،مما حدا البعض القيمي من العمل الفني األدبي ،فمحاكاة البحث يف
من النقاد إىل القول بأن معلما
ً مؤشرا أو
ً يكون النص لدراسة اإلنسان،
الشخصية املركزية يف من املعامل املؤسسة لعاملية تضع البحث والباحث يف
الرواية ليست إال شخصية أو إنسانية األثر الفني، قفص الوعي املزدوج؛ إذ
الكاتب نفسه ،والفقرة فإقصاء األذن أو العين من يتخفى كجوهر داخل النص،
التالية من الكتاب الثاني مقاييس اإلبداع هو إلغاء ويتماهى معه ،لدرجة يصبح
تشير إىل الداللة« :ذكر للفن ككل ،أما التجيل الخفي بديل عن الكاتب ،أي ً النص
يل أشياء كانت عجيبة أيضا عند للوعي ،فيظهر ً إعالنًا عن نهاية أو موت
ومتنوعة إىل حد ما ،فتنبَّأ الباحث يف النص ،إذ يقف الكاتب.
يل حينًا بأنني سأصبح عائقًا أمام املوضوعية يف كمؤسسة ،أو
َّ النص
شخصية شهيرة بارزة، الحكم ،ويف دقة النتائج، كمخاض للكاتب يضع
وتنبأ يل حينًا آخر بأن وما يؤ ِّكد ذلك نزعة التقزيم األصل النصي ،أو الفكرة
حادثة كبيرة وقصة غريبة األوروبية للنص العربي الجوهرية التي كانت تشكل
يل وأنِّي سأقوم بتأليف أو اإلسالمي ،أو النص املاهية األولية للنص املبدع
كتاب أكون أنا نفسي املفارق لروح الغرب ،والتي أمام محك املؤسسة اللغوية،
محوره»(.)8 اكتسحت الفكر العربي يف تلك املؤسسة املقننة ،من
من خالل النص يتجىل مرجعياته التقييمية للنص، خالل نظامها الصريف،
التداخل القائم بين فكانت النتيجة النزوع والنحوي ،والسيمانطيقي
شخصية الراوية، نحو التقزيم داخل النص Sémantiqueبخاصة ،حين
وشخصية املؤلِّف فهي العربي ،والذي يعكس ملزما
ً يجد املؤلِّف نفسه
إذن تعبير صادق عن مظهر العنصرية الفكرية باقتفاء وتكييف املعاني
تجارب املؤلِّف الذاتية، أسست لها الحداثة التي َّ املركزية للجنين اإلبداعي
فالثقافة القائمة آنذاك، الغربية ،والتي مل تترعرع مع عامل غريب عن طبيعته،
قاسما
ً والتي كانت إال عند البعض من أنصاف والذي قد يكون مولِّ ًدا له يف
مشتر ًكا بين أبناء املنطقة التوجهات ُّ األدباء ،وكانت صيغة السلب؛ أي يف وضعية
يف التربية نتاج تاريخي املذهبية املرجعية املؤدلجة الحرمان الذي يؤدي دور
وحضاري لحضارات يتحرك يف فضاء َّ للفكر الذي املح ِّرك للعمل الفني؛ الحاجة
وثقافات متع ِّددة رومانية، إسالمي ،فكان الخالف أم االختراع ،فلمسة املؤلف
وإغريقية ،ومصرية. واالختالف يف مسألة هي املدخل لألهلية اإلنسانية
وتتض َّمن نصوص العالقة القائمة بين الهو َّية ولإلبداع الفني؛ ألن قوة
كثيرا
ً لوكيوس أو أفوالي والنص. وقسرية املنظومة االجتماعية
من املضامين الثورية، كما يمكن إدراج رواية كلغة أو كثقافة تضع العموم
يمكن إدراج رواية الحمار الذهبي التي يعتز فيها بأصله،
وثقافته املداورية ،أو اللوبية
في جنس الروايات األنوية ،أي كما يتفق عىل تسميتها
النص الذي يتحدث فيه الكاتب البعض ،ففي الدفاع ،ويف
الحمار الذهبي تتجىل روح
داخل المتن بصيغة المتكلم ،حيث املقاومة للهيمنة الرومانية،
يظهر التقاطع بين الرواية و والفخر بأصالته ،ففي دفاع
تماما
ً صبراتة نجده يفخر
شخصية أبوليوس في كثير من بأن أصله ليبي بمعنى قديم
اللحاظ ،مما حدا البعض من النقاد يف شمال أفريقيا ،ويتحدى
العامل الروماني ،ويقارن
إلى القول بأن الشخصية المركزية نفسه بكبار املشهورين
في الرواية ليست إال شخصية يف العامل الذين كانوا
عظماء عصره ،ويدافع
الكاتب نفسه عن معتقداته ،وذلك بعد
رفضه للديانة الرومانية،
وانطالقه يف البحث عن
ذاتيته الشرقية ،ويعتبر
الضيقة ،ولكنه رغم ذلك عىل شاطئ البحر مناش ًدا
التنويه بإزيس وأوزيريس
عنصرا ذهبيًّا هو
ً يتضمن القمر (الذي يرمز إىل
املعبودين املصريين
العقل ،أو النور اإللهي، إيزيس ر َّبة القمر واألمومة
القديمين اللذين يمثِّالن
والتحول الذي كان يأمل عند الفراعنة) تمنحه عبر التح ِّدي الديني والثقايف يف
أن يصل إليه لوكيوس ألطافها توجيهات ،ومق ِّدمات العامل الروماني.
والتحرر من
ُّ هو الطيران، لحريته التي كان يأمل يف ويبدو أن البطل يف الرواية
عامل األرض ،والتشاوج بلوغها ديانة إيزيس هو معني بفن السحر ،حيث
مع الفلسفة ،أو الحكمة، شكل من أشكال الخالص، اهتماما يضمر يف الباطن
ً
فالبومة عند الرومان الخالص األبدي من خطايا باإليزيسية التي ينتهي
رمز الحكمة ،فاستخدام تجاربه السابقة بما فيها إليها كديانة وأسلوب
لوكيوس البومة يف املطلب تحصيله املعريف؟ حياة ،فتح َّول لوكيوس
من التحويل دالة عىل وتأخذ أزمة الهوية عند إىل حمار ،يقابله تح ُّوله
الرغبة يف السمو إىل عامل منحىلوكيوس يف الرواية ً املوازي من كائن مولع
الفكر ،والروح ،حيث ينأى أخالقيًّا ،فالطبيعة البشرية بالسفر واملخاطرة واملتعة
عن الناس ويهاجر إىل ميالة نحو املحظور ،فهي واالكتشاف ،إىل عابد
عامل املثل بعي ًدا عن عامل بالتعبير القرآني أ َّمارة إيزيس ،من مغامر إىل
الفساد ،والخسة البشرية. بالسوء ،وهذا راجع لطبيعة كاهن ،فالرواية تتح َّدد
كما يمكن أن تكون البومة التركيبة التي جبل عليها من خالل نهايتها ،وحمل
رم ًزا للكائن الذي اختلطت الجسد ،فهو بحاجاته يشد الحمار لتمثال إيزيس
فيه الرغبة اإلنسانية اإلنسان مع عامل الحاجيات مق ِّدمة للولوج يف عامل النقاء
الشريرة يف معرفة الحيوية ،والضرورات والطهارة ،فتجربته التأملية
238
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
الذي نحت االسم وفقًا املعريف للرواية متعدد، الحية الخاضعة لجبروته،
ملعايير قيمية وأخالقية، ومتن ِّوع ،حيث تختلط ويدفعها إىل الشبق ،وجانب
فهو الرجل الحر أو النبيل الحقيقة فيها بالخيال، إلهي سام :فينوس السماوية
فحضور األسطورة كفن التي بيدها العشق الراقي
يف لغة الطوارق األمازيغية
إيهامي ،وأسلوب مبدع يف النبيل ،ويقتصر تأثيرها عىل
القديمة ،فتنميطه يف
تشويق القارئ ،والتاريخ، البشر بل الجدي واملضني،
ثقافة معينة ،وتدجينه وفن النحت ،والرسم، يحبب لصنف العشاق
وفقًا ملؤسسات سلطوية والجغرافيا ،والطبخ، الخاص به الفضائل بجمال
محددة ،مسألة مرفوضة والنبات ،والفلسفة ،وعلم العفة املميزة له(.)13
يف الالشعور الجمعي اللغة والشعر واألديان،
لألمازيغ ،واللطيف يف فكانت تع ُّد ًدا مبد ًعا داخل خاتمة
موحد عزز من ِّ فضاء
الشخصية األمازيغية قبول
الهوية النوعية لنص يصعب تصنيف رواية
اآلخر ،والقدرة الرهيبة الحمار الذهبي ،وإدراجها
الرواية.
يف التعايش معه ،وتكشف كما عبرت الرواية عن ضمن جنس معريف ،وأدبي
أيضا عن األصول الرواية ً رحلة البحث عن الهوية عند معين ،فهي تند عىل كل
املشرقية لثقافة األمازيغ األمازيغي يف شمال أفريقيا، تحديد وتعيين ،فاملحتوى
الهوامش:
* مؤسسة االنتماء :جامعة سعيدة ،د.موالي الطاهر.
-1شارل أندريه جوليان ،تاريخ أفريقيا الشمالية ،تر محمد مزايل ،البشير بن سالمة ،الدار التونسية للنشر 1969
ص.252
-2أديب ،ومؤرخ مغربي ولد يف 1937بالرباط ،له مؤلفات عديدة :خطاب املنهج ،منشورات السفير مكناس ،1990
ثقافة الصحراء ،دار الثقافة ،الدار البيضاء .1978 ،وحدة املغرب املذهبية من خالل التاريخ ،الدار البيضاء ،الجمعية
املغربية للتضامن اإلسالمي.1986 ،
-3عباس الجراري ،األدب املغربي من خالل ظواهره وقضاياه ،الجزء األول ،ط ،2مكتبة املعارف ،الرباط ص.29
-4عبد السالم بن ميس ،مرجع سابق ،ص.48
-5فتحي التريكي ،وآخرون ،الفلسفة يف تونس ،فالسفة قرطاج ،مخبر الفيالب تونس 2010ص.43
-6لوكيوس أبوليوس ،الحمار الذهبي ،ترجمة :عمار الجالصي ،2000 ،ص.7
-7فتحي التريكي ،وآخرون ،الفلسفة يف تونس ،مرجع سابق ص.44
-8لوكيوس أبوليوس ،الحمار الذهبي ترجمة أبو العيد دودو ،منشورات االختالف الجزائر ،2001ص.79
-9اسماعيل غزايل ،مكر الكتابة ،هوامش حول رواية الحمار الذهبي ،جريدة االتحاد 03ابريل ،2014الرابط:
http://www.alittihad.ae/details.php?id=29026&y=2014&article=full
-10املرجع نفسه.
-11لوكيوس أبوليوس ،الحمار الذهبي ،مرجع سابق ،ص.236
-12لوكيوس أبوليوس ،املرجع نفسه ،ص.43
-13لوكيوس أبوليوس ،املرافعة ،ترجمة عمار الجالصي ،ص .19
242
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
ومدفأة عىل الطراز يتعارض اسمه مع حاله، املتلقي ثانيًا ،حيث يقول:
الروسي ،ولوحة تشكيلية سوى رأيه الذي يتلخص «ذلك الخيال الذي ظهر يف
تحاكي األوان القاتمة يف قوله« :ال يوجد يف القرن مقاطع الفيديو ليس يل،
للفنان «بول سيزان» الذي أموت ألف مرة أهون عيلَّ من
الواحد والعشرين تقاليد
مهد لنظرية الفن التجريدي الوقوف يف موقف مشبوه
تتعارض وحرية الفرد،
كهذا» ،لندرك أن «سعيد» هو
الحديث. احترام الحرية هو أساس
الشخصية الحاملة إلرادة
ثم جعلنا بعد عرض احترامنا للقانون» ،ومل
القوة ،التي تنزع به نحو
حواراته مع أصدقاء يزعم -أى الكاتب -إدانته
املخاطرة ،والبحث عن املتعة
طفولته« :ثابت» ،و»زكريا» بهتانًا ،ومل ُيحرض املتلقي من خالل نظرته إىل الداخل
نقرر إىل أى منهم نميل عىل ذلك ،إنما مد إىل وصف وليس إىل قيم وأخالقيات
نفسيًّا ،ونتجه عقليًّا، معيشته التي تجلت يف املجتمع ،فاملعرفة الحقيقية
فـ»ثابت» يميل إىل مفاهيم تفاصيل املكان ،فعرض هى معرفة الشىء من
العقل امليتافيزيقي، علينا آثار (املوت النفسي)، الداخل( ،)2يحدثنا الكاتب
و»زكريا» ال يعرف الفشل؛ ومظاهر (العزلة) ،فالغرفة من خالل شخصية البطل
ألنه ُيق ِّدر العواقب ،أما التي يسكن فيها مستطيلة، الرئيسي ،عن املعرفة التي قد
«سعيد» فيرى أن املسار مطلية باللون األصفر ،الذي تكون معبرة عن شخصية
الفلسفي السقراطي أدى يذهب بنا مباشرة للوحة اإلنسان الحقيقية ،فـ»سعيد»
إىل اقصاء املخيلة ،واختزال البيت األصفر ،يؤكد ذلك اتسم بخيال مبتكر ،قادر
العواطف اإلنسانية لصالح وجود الحذاء الذي يشبه عىل تصنيف املعلومات
الجدل العقيل الذي يرفضه، إىل حد قريب حذاء «فان واختيار بعضها ،ليؤلف منها
لذا يوجه طعناته مباشرة جوخ» ،الذي ُيعد من رواد صورا جديدة تجعل الحياة ً
إىل (الجدل) وأخالقيات املدرسة االنطباعية ،وسرير أكثر متعة ،فنراه يجمع
املجتمع .من خالل ذلك متهالك يوحي بالبؤس يف شخصيته بين صفات
الحوار بين األصدقاء الذي وصل إليه صاحبه، السخرية من مجاورة فندق
ُيع ِّرج بنا الكاتب إىل مفهوم وآلة موسيقية كالسيكية، العاهرات عندما يقول« :ال
الجمال ،ومقاربة «هيجل»: يمكن عمل أى شىء بجانب
«إن أردأ فكرة تخترق فندق عمومي يصدح طول
فكر إنسان أفضل وأرفع الليل بضحك العاهرات»
من أعظم إنتاج للطبيعة»، وصفات الكمال املثايل ،الذي
ليستدل املتلقي من خالل ُيتخيل وال يتحقق من خالل
الفصل األول عىل خطورة رغبته يف العودة إىل حياة
(اإلمالء الثقايف) واملالحقة الريف ،ففي املشهد الثاني
األدبية التي نعدها ضاغطة من الفصل األول ،يخاطب
عىل األدباء يف العامل نفسه من خالل (املونولوج
العربي ،يقول «ثابت»: الذهني) عما سيحدث لو ترك
«هل تعلم أن بعض أدعياء املدينة ورحل إىل الريف.
األدب وصلت بهم الوقاحة مل يذكر لنا الكاتب من
أنهم دعوا إىل شطب اسمك أسباب بؤس «سعيد» الذي
حسن املغربي
244
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
فلن يتم الرهان عليها مرة الزمن النفسي لشخصيات كانت السلوكيات الجدلية
ثانية». «سعيد» و»سارة» ال يكون تقابل بالرفض« -إذ ال وجود
إال من خالل الوجدان ملعايير ثابتة للفضيلة ،وليس
خاتمة: والخبرة ،هذا اإلدراك الذي هناك شريعة أخالقية أبدية،
أيضا كثير من تكتنفه ً فالغنسان مخلوق ديناميكي
«الخيال قد يموت ،لكنه اإلشكاالت؛ ألن الواقع ُيقر الزمني» ،هنا ينطلق املتلقي
ال يعرف الهرب». بما هو عقالني فقط ،اتضح من خالل قدرته عىل تحويل
وهل هناك موت أكثر ذلك يف الديالوج الذي دار الفهم وتذوق النص ،إىل
من عزلة الكاتب عن قيم بين «سعيد» وصديقه واقع يتفاعل فيه (الذاتي)
مجتمعه ،التي ينظر إليها «زكريا»: مع (املوضوعي) عبر
كأوثان معرفية وأخالقية، سعيد« :لو فرضنا أن اإليحاء ،أو اإلثارة ،أو تحرير
مختزنه يف أذهان ونفوس إنسانًا حالته صعبة ج ًّدا، العواطف من (املنطقية
الناس لحين الحاجة ويحتاج إىل إجراء عملية الزمنية) -التي يمكننا
إليها ،نحن أمام مسرحية جراحية يف مصحتك ،ماذا ً
اشكال فلسفيًّا- اعتبارها
تعرض مفاهيمها يف شكل تفعل؟». فـ»صاحب الخيال» الذي
استعاري تخيييل ،اتسمت زكريا« :إذا كانت نسبة اتسم بالغموض يتفق وعديد
بالتفاصيل املكانية التي نجاحها ضئيلة ال أقوم من التصورات الفلسفية
أعطت للزمن النفسي بها». العصية عىل الفهم ،إذ إن
ً
شكل مرئيًّا، للشخصيات سعيد « :تتركه يموت؟». محاولة أصدقاء الطفولة
ذلك الزمن الذي جاء زكريا« :ف ْل َي ُم ْت .وما اشتقاق زمن يعكس النسق
معبرا عن االنطباعات
ً عالقتي! املهم بالنسبة يل االجتماعي السائد من الزمن
العاطفية التي سيطرت السمعة ،أراهن عليها ،نحن النفسي للبطل الرئيسي
أيضا عىل املتلقي عند قراءة ً األطباء مثل الخيل التي «سعيد»؛ بدت محاولة بائسة
النَص ،ليصبح ذاتيًّا ،ربما إذا خسرت السباق مرة، محكومة بالفشل؛ ألن إدراك
246
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
قيمة يف حد ذاته يمكننا والجدل واالنغالق ،فهو يرجع ذلك بشكل أوضح
اعتبار هذا الدمج من «يؤمن بأن قيمة البشر إىل شخصية «سعيد» الذي
الصياغات اإلبداعية املقلقة، ال تكمن يف قوة أفعالهم تبنى فكرة التجربة الذاتية
التي تحول النص األدبي التدميرية ،وإنما يف قوة القائمة عىل ذلك الوعى
إىل صيغة تداولية ،تصف شعورهم بالخجل»، باللحظة التي يوجد بها،
وتأول من أجل التمثل كما اتسمت شخصيته بينما جاء (الزمن الدرامي)
التاريخي القيمي ،اعتما ًدا بـ(الصيرورة) التي هى يف املسرحية جام ًعا للحدث
عىل اشاراته الذهنية ،ربما غريزة اللعب ،واملتعة دون الرئيسي ،والشخصيات،
يمكننا اعتبار هذا األسلوب توقف ،وعبر الكاتب عن والعناصر البصرية املكانية،
يف الكتابة راج ًعا إىل كيمياء شخصية «ثابت» باعتبارها فهو الزمن الحقيقي الضاغط
الخيال التي تنظر إىل أقرب إىل أفكار «بارمنيدس» عىل الشخصيات ،والبنية
اللغة كمجموعة شحنات يف الثبات الذي يختزل الزمنية يف خطاب الكاتب،
معزولة يمكن لألسلوب حركية الحياة يف قواعدها ورسالته ارتبطت بالكيفية
أن يدمجها للتفاعل مع الجافة ،وعن مخيلة «سارة» التي أدار بها الديالوجات
بعضها البعض()4؛ وألن التي اتسمت بالتناقض الجدلية الخاصة التي تدور
النص املسرحي محل والقدرة عىل تغيير األقنعة حول الحدث الرئيسي داخل
القراءة ،قادر عىل تشكيل تب ًعا ألدوار الحياة. النَص.
(الخيال الوصفي) املكثف لغة املسرحية التي تقاطعت املكان هو سيد الواقعية
من خالل استثارة وعى -كنص أدبي -مع عدد يف البنية النصية للحدث،
من املفاهيم الفلسفية ،مثل واملشاهد تُعد من تجليات
املتلقي ،فقد نجح الكاتب
مفهوم (الزمن) ،و(الخيال)، واقعية النسق املكاني،
يف إنتاج الداللة األدبية منه
و(الجدل) ،تم من خاللها وانعكاس لحاضر
محاول اإلجابة عن تساؤل ً
دمج األمثال الشعبية يف الشخصيات العياني باعتباره
هام أال وهو :هل يقترن
الديالوج بين الشخصيات، ناتجا عن األنساق االجتماعيةً
الخيال بالتصور املثايل
ذلك الدمج الذي كانت له القيمية ،ربما ساهم ذلك يف
لقيم املجتمع؟
وجاهته ،التي عكست لنا حال االنسياب السردي الذي
الهوامش: حرص الكاتب عىل الربط أتاح للمتلقي التنقل داخل
-1فريديريك نيتشة (،)2010 بين (اإلشكالية املعرفية) النَّص كأنه مكان مرتبط
«غسق األوثان ،أو كيف نتعاطى يف لغة أصدقاء الطفولة، ديناميًّا بالحدث الرئيسي
الفلسفة قر ًعا باملطرقة» ،ترجمة: وأصالة الفكر كإشكالية وحركية الشخصيات
عيل مصباح ،بيروت.
-2أدونيس (د.ت)« ،الصوفية أبدية فرضتها عىل الجميع وانفعاالتها النفسية.
والسوريالية» ،ط ،3دار الساقي، األنساق القيمية ،كأن اعتمد الكاتب عىل (الخيال
بيروت. املحاكاة يف ذكر األمثال االستعاري) الذي تجىل يف
-3هيجل (« ،)1988املدخل
إىل علم الجمال ،فكرة الجمال»،
الشعبية نقطة التقاء التشبيهات ،مثل حذاء «فان
ترجمة جورج طرابيشي ،دار شخصيات املسرحية، جوخ» ،ووجه «سارة» الذي
الطليعة ،بيروت. فإذا باملتلقي يتأمل صور ال يمكن أن يقارن إال بوجه
-4عبد السالم املسدي املجتمع املختزنة يف ضبع ،شخصية «سعيد»
(« ،)1982األسلوبية
واألسلوب» ،ط ،2الدار العربية أذهانهم ،فعندما يكون أيضا اعتمدت عىل اللغةً
للكتاب ،طرابلس ،ليبيا. النص األدبي املسرحي االستعارية املقاومة للمنطق
247
الملف الثقـافي
إنتاج تفكير فلسفي ،هما إىل نقلها إىل مستوى الفلسفية يقتضي اعتبار
وجهان إلشكالية واحدة، معرفة أكثر عمومية وأكثر األوىل مرتبطة بشروط
هي إشكالية العالقة بين وضوحا.
ً الحياة اإلنسانية ،بينما تنفتح
الفلسفة واألدب. يف هذه االتجاه إذن يصبح الثانية عىل قضايا أخرى
عالقة اللغة بالفكر. األدب بمثابة مستكشف من قبيل الطبيعة ،والوجود،
عالقة الخيايل بالواقعي. ملجاالت غامضة يف نظر والعلم.
عالقة األسطورة بالعلم. العقل ،فيصبح التناول إذن التمايز بين األدب
فالفلسفة واألدب محصورا يف
ً الفلسفي لها والفلسفة قائم عىل أساس
تنافسا شديد ً يتنافسان تنظيمها عقالنيًّا ،داخل اختالف طرق معالجة
الوطأة ،إذ يدعي كل بنيات مفاهيمية مجردة. ومقاربة نفس املواضيع،
حقل أنه يستغرق اآلخر، وعىل اعتبار أننا نقيم وبالتايل اختالف أساليب بناء
ويهيمن عىل حقيقته اختالفًا مهما كان نوعه بين عالقات هذه املواضيع مع
ويتجاوزه تجاو ًزا .فاألدب الفلسفة واألدب ،فالنتيجة املنطق والتجريد من جهة،
يروم أن يرد الفلسفة إىل إذن هي أنه من وجهة نظر ومع املعيش واملتخيل من
حقيقتها األدبية ،أي إىل الفلسفة يطرح سؤال يتعلق جهة أخرى.
نصا منمجرد كونها ًّ بمعرفة مدى حاجة الفكر فالفلسفة تسعى إىل الغوص
النصوص ،يف حين أن للشكل األدبي ،ومن وجهة قدر اإلمكان يف نسيج
الفلسفة تسعى إىل رد نظر األدب يطرح السؤال التجربة اإلنسانية من أجل
األدب إىل تنويع تعبيري إىل أي حد يفكر األدب، فهم بنيتها ،وإعادة تشكيلها.
تمسك هي بحقيقته وهل هو بحاجة من أجل كما أنه إذا كان األدب يمنح
النهائية ،أي بمعناه األخير. ذلك التخاذ شكل حجاجي نفسه حرية التخيل ،فإن ذلك
وتعود فكرة التضاد بين خاص باملجاالت النظرية؟ ال يتم بشكل اعتباطي ،ولكنه
الفلسفة واألدب إىل عهد إن التساؤل حول مدى يستهدف الغوص بشكل
اإلغريق ،حيث رفض حاجة الفلسفة لإلجراءات أعمق يف بنيات التجربة من
الفيلسوف أفالطون وجود والطرق األدبية؛ وفيما أجل إبراز املظاهر التي تنفلت
الفن والشعر والشعراء قادرا عىل إذا كان األدب من املالحظة املباشرة.
ً
يف مدينته ،بحجة أن ضمن هذا اإلطار يمكن
عموما والشعر ً الفن تصور عالقة تعاون بين
خصوصا يقومان عىل ً الفلسفة واألدب ،يلعب فيه
مفهوم املحاكاة ،واتخذ هذا األخير دور املستكشف
مفهوما
ً مفهوم املحاكاة بالنسبة للفلسفة ،ألنه
دونيًّا ألنه يحاكي العامل يجعلها أكثر استعدا ًدا
الحسي ،والشعر عنده ِّ لإلحساس ببعض الظواهر
إيهام بالحقيقة ،بينما األساسية يف تجربتنا
الفلسفة ترتبط بالعلم أي اإلنسانية ،والتي ال تزال
بالحقيقة(.)1 مستعصية عىل املعالجة
فأخذ مفهوم األدب العقالنية ،وباملقابل فإن
قياسا عىل
ً مفهوما دونيًّا
ً الفلسفة من خالل انكبابها
هذا املفهوم الذي بقي عىل هذه الظواهر تسعى
249
الملف الثقـافي
الديانات القديمة ،وال يجد لها حاوره : زمن النبي مائتي آية ،فلما كتب
إجابة ترضى املعتقد والعقل يف سمير درويش عثمان املصاحف مل يقدر منها إال
اآلن ذاته ،فهو أحد الباحثين يف عىل ما هو اآلن» ،وهو ما أكده
املخطوطات القديمة ،ينتمي إىل حديث آخر رواه عبد اهلل بن
معهد إنارة األملاني ،الذي يقدم امتد عىل طول خريطة الجزيرة اإلمام أحمد يف «زوائد املسند»،
اجتهادات مهمة يف هذا املبحث، العربية وشمال أفريقيا ،وراح أبي بنوورد يف كتب أخرى ،عن ّ
برنامجا مه ًّما ُيبثُّ عىل
ً كما أن له الحفَّاظ
ضحيته اآلالف ،ومنهم ُ كعب« :كأين تقرأ سورة األحزاب؟
موقع youtubeاسمه «التاريخ بحسب الروايات التراثية نفسها. أو كأين تعدها؟» قال :قلت له:
املبكر لإلسالم» Early History لكن لحسن حظنا أن العلم تطور ثال ًثا وسبعين آية ،فقال :قط ،لقد
،of Islamيشرح فيه ما توصل يف املائة سنة األخيرة بشكل كبير رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة،
إليه هو نفسه ،وما توصل إليه ج ًّدا ،وتطورت أدوات الرؤية ولقد قرأنا فيها« :الشيخ والشيخة
العلماء حول هذه األمور: والقياس ،وتوفر عىل دراسة إذا زنيا فارجموهما البتة ً
نكال من
النصوص املقدسة للديانات اهلل واهلل عزيز حكيم».
* يف ظل عدم وجود القديمة كلها علماء يف اآلثار هذه األخبار املنقولة ال يؤيدها
واللغات والجغرافيا واملخطوطات أي وجود مادي من آثار أو
أي آثار قديمة تدل عىل
والتاريخ والجيولوجيا ..إلخ، مخطوطات ،كما أن اللغة العربية
الوجود املادي الفعيل تعمل عىل قدم وساق ملحاولة كانت وليدة ،ومختلطة بلغات
لألنبياء اإلبراهيميين إخضاع تلك النصوص للعلم قديمة مثل الساسانية واآلرامية
جميعًا ،ويف ظل اطالعك واختبار مدى صحتها ومطابقتها والعبرية ،وكذلك كان الخط
وفحصك للمخطوطات لقواعد املعرفة ،وانعكاساتها هزيل ،حروف متشابهة ً العربي
يف الكتب القديمة التي أنتجتها الرسم دون تنقيط أو تشكيل
القديمة ،سواء عندنا أو
الحضارات املختلفة ،يف الشرق وحروف مد ،ما يجعل (الرسم)
عند غيرنا ،كم نسبة ثقتك والغرب .فإذ أخذنا اسم «محمد» ُينطق بأكثر من نطق ،وبالتايل
يف حقيقية هذا التاريخ عىل سبيل املثال ،سنجد جهود بأكثر من معنى ..وهذا ليس
املنقول إلينا؟ حثيثة ملعرفة بدايات ظهوره يف كالمي ،بل كالم اللغويين العرب
املخطوطات من جهة ،ومعناه القدماء أنفسهم الذين طوروا
-حاول علماء اآلثار يف عصرنا يف اللغات املتداخلة وقتها ،وملاذا الخط العربي.
الحايل العثور عىل آثار مادية مل يكن هذا االسم معروفًا هذا االختالف يف الرسم والنطق
قديمة تدل عىل وجود أنبياء قبل اإلسالم؟ فهناك من ينكر -إىل جانب تغير معاني كثير
الكتاب املقدس ،فلم يوفقوا يف هذه تماما ،وهناك من يقول ً وجوده من الكلمات بمرور الزمن ،وهذا
نظرا ألن الروايةاملهمة الصعبةً ، شخصا فقط تس ُّموا به،
ً إن 15 طبيعي -يضعنا أمام إشكالية
كبيرا من
ً الشفهية أخذت حي ًزا وأنهم تسموا به عندما سمعوا ما يجب أن نأخذه وما يجب أن
الزمن يف نقل قصص األنبياء، من الكهان أن نبيًّا سيبعث بهذا نهمله من التراث ،ما نصدقه من
قبل أن تجد طريقها نحو التوثيق االسم! خصوصا
ً روايات وما نكذبه،
بعد أجيال عديدة ،وربما حتى لهذه األسباب ذهبت لألستاذ كثيرا من املرويات ً أننا نعرف أن
قرون عديدة ،وللخروج من هذه محمد ملسيح ،خبير املخطوطات خضعت لتقلبات السياسة يف
اإلشكالية رأى بعض الباحثين املغربي املعروف ،وطرحت القرون الثالثة األوىل ،وبالصراع
املؤمنين بهذه القصص كحقيقة عليه مجموعة من األسئلة التي بين األمويين والعباسيين
تاريخية الخوض يف تجربة البحث تؤرق أي باحث يف موضوع والفاطميين ،هذا الصراع الذي
254
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
سبيل املثال يف كتاب تاريخ اختراعها ..السؤال هنا: جارفينكل ،Yosef Garfinkel
هرقل للمؤرخ األرميني سيبيوس هل ُذكرت كلمة «محمد» مل يقبلوا بهذه الطريقة يف البحث
Sebeosالذي تويف سنة ٦٤٥م، األثري املبنية عىل منظور إما
ووثيقة ثانية باللغة السريانية كاسم أم كصفة؟ وما
«التأكيد أو الرفض» ،وينصح
موجودة يف املتحف البريطاني داللة ذلك يف الحالتين؟ فينكلستاين أصحاب هذا النهج
تحت رقم ()14461 ADD MS بالقول« :يجب قراءة التقاليد
-عندما ننظر لسيرة شخصية
دخول الطيايا (العرب) ،وكلمة الكتابية عىل خلفية زمن تكوينها،
محمد يف الرواية اإلسالمية،
«موحمد» -بالواو -تتحدث عن وأيديولوجية املؤلفين» ،ويقول
نجد عليها العديد من التساؤالت
فتح حمص سنة ٩٤٧بالتاريخ أرين« :معظم علماء اآلثار
واالختالفات والتضارب يف
السلوقي أو اإلغريقي الذي يوافق اإلسرائيليين مل يعودوا يف مأزق
سنة ٦٣٦م. األقوال ،وتصبح هذه الرواية
أيديولوجي الستخدام أبحاثهم
وبالتايل فمحمد شخصية تاريخية محل شك كبير خاصة عند
إلثبات األيديولوجيات الوطنية.
حقيقية لكنها ليست كما صورها ظهورها فجأة يف بداية العصر
https//:www.timesofisrael.
لنا العصر العباسي يف السير العباسي ،وتوسعها كلما مرت
com/toi-asks-the-
والروايات التي يعرفها معظم األزمنة!
experts-what-are-the-
املسلمين! بالنسبة لنقل كلمة واآلن عند العودة إىل املخطوطات
most-important-finds-of-
«محمد» من طرف هذه الوثائق القديمة بلغات مختلفة تعود
israeli-archaeology/
األجنبية التي تعود لفترة ظهور للبدايات األوىل لظهور اإلسالم،
إذًا من خالل ما تقدم يمكن القول
اإلسالم ،مل تكن حاسمة يف ذكر يتبين غياب تام لهذه التفاصيل بوجود مدرستين :األوىل تتبع
هل هي صفة أم اسم ،لكن من واملرويات ،بل بالعكس ،نجد منهج وجود مفاهيم مسبقة يف
خالل شهادات أخرى كعبارة تماما عما قدمتهً معلومات مختلفة الكتاب املقدس لتأكيدها وإثبات
«ظهر نبي بين السارسين» السردية اإلسالمية بعد قرن تاريخها ،واملدرسة الثانية تتبع
يف مخطوطة دكترينا جكوبي ونصف من هذه األحداث ،مما منهج النقد العلمي تجاه النص
Doctrina Jacobiتعود لسنة جعل بعض الباحثين -خاصة املقدس ،وتتوخى الحذر من
٦٣٤م؛ تفيد أن اسمه مل يكن من معهد إنارة األملاني Inârah االنسياق وراء األيديولوجية
معروفًا ،وكذلك يف رسائل الذي أنتمي إليه -يشكك يف السائدة ،وأنا شخصيًّا أميل
بطريرك الكنيسة الشرقية املوروث اإلسالمي برمته ،وعىل لهذا الطريق األخير يف دراستي
يشوعياب الثالث املتوىف سنة رأسهم البروفيسور كارل هانس وأبحاثي لتاريخ اإلسالم املبكر،
٦٥٩م ܝܫܘܥܝܗܒ ܬܠܬܝܐ أوليخ Karl-Heinz Ohlig؛ والقول عىل سبيل املثال بعدم
وشمعون مطران رواردشير فعند مناقشة نقش قبة الصخرة وجود مكة الحالية يف التاريخ قبل
يتضح أن هذا النبي نعت حسب تبين للبروفيسور كرسيتوف اإلسالم.
هذه الرسائل بـ»الغاوي»ً ،
بدل لكسنبير غ �Christoph Luxen
من «محمد» ،وهذا إن دل عىل ( bergاسم مستعار) من خالل * بعض املخطوطات
شيء ،فإنما يدل عىل أن كلمة الفحص الفيلولوجي لكلمة األجنبية القديمة تذكر
اسما ،كما«محمد» صفة وليست ً «محمد» وجدها تعني« :ممجد
«محمد» ،مما يقطع
كانت عبارة «عبد اهلل معاوية» يف ومبجل» ،وهي صفة تعود حسب
نقش حمامات جدارا Gadara نص نقش قبة الصحرة ليسوع بوجوده املادي ،وينفي كل
بالجوالن يف سوريا ،وتعني املسيح «عيسى بن مريم» ،فكلمة االجتهادات التي تشير إىل
«خادم الرب معاوية» وليس اسمه محمد أو «محمت» مذكورة عىل كونه شخصية وهمية تم
256
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
هي «قراءات شاذة» ،وهذا إن بقراءات مختلفة أللفاظ تشكل صرا ًعا بين مدرستين
دل عىل شيء فإنما يدل عىل أن أخرى تبدلت نتيجة عدم مختلفتين؛ مدرسة املتخصصين
هذه القراءات هي فقط اجتهاد يف علم املخطوطات الذين يرون
وجود التنقيط ..هذه
من القراء ،وبنفس املنطق (منطق ً
متداول يف أنه كان مصحفًا
االجتهاد) يمكن قراءة هذا النص االختالفات تحيلنا إىل الفترة األوىل لظهور اإلسالم
تحت قواعد علمية جديدة تخص تاريخ إسالمي مختلف إىل أن حكم عليه بالطمس،
مادة الفيلولوجيا ،هذه املادة التي عن السردية السائدة ..هل واملدرسة الثانية؛ وكل أصحابها
أعطت قراءة جديدة للقرآن تعيد هناك تصور كامل لتاريخ من املؤمنين بوحدانية النص
قراءته لزمان ظهوره ،فتتضح القرآني خوفًا من نعت القرآن
بديل ولسردية بديلة؟
بهذه القراءة الجديدة الكثير من بالتحريف وعىل رأسهم األستاذة
املقاطع الغامضة التي اختلف هل يعمل الباحثون عىل التونسية أسماء هاليل! وبالتايل
املفسرون يف تفسيرها عىل العديد اكتشاف ونشر هذه هذا الطرس بحسب رأيهم مل يكن
من األقول ،رغم إيمانهم بأنه السردية البديلة؟ وإىل أين سوى وسيلة لتدريب الطالب
قرآن عربي مبين ،أي واضح ال وصلوا؟ عىل كتابة القرآن ،متناسين -أي
غموض فيه! أصحاب هذه املدرسة ،أو ناسين-
طب ًعا الدراسات الفيلولوجية -النص القرآني الذي بين أيدينا أن التدريبات عىل كتابة القرآن
للقرآن ما زالت يف بداياتها، اآلن يف أصله ومخطوطاته القديمة مل تكن عىل الرقاع لغالء ثمنها
وتحتاج لتضافر الجهود بين مل يكن فيه تنقيط أو عالمات وندرة وجودها ،يف ظل وجود
الباحثين واملتخصصين يف هذه اإلعراب أو الهمزة أو ألف امل َّد ألواح الخشب الرخيصة التي ما
املادة للوقوف نسبيًّا عىل القراءة نظرا لبدائية خطه ،مما نتج
ً قائما لهذا الغرض
زال استعمالها ً
الصحيحة لهذا النص ،وبالتايل عن ذلك وجود قراءات مختلفة إىل يومنا هذا يف املدارس العتيقة!
تحديد التشريع واألحكام يف عديدة اع ُترِف بسبع قراءات، وكذلك يتناسون أو ينسون
ظل املفهوم اللغوي الذي يريده منذ بداية األمر ،وتنتمي لخمس قولهم بأن القرآن كان محفوظاً
النص القرآني ،وليس ما توصل مدارس يف دمشق ومكة واملدينة يف الصدور ،يف حين كان هؤالء
إليه علماء اإلسالم من أمور قد والكوفة والبصرة ،ثم أضيفت الطالب تحت إشراف شيخ ومعلم
تماما عما كانتً تكون مختلفة ثالث قراءات أخرى لتصبح عشر يعلمهم القراءة وكتابة القرآن،
عليه األمور يف عصر ظهوره، قراءات رسمية للقرآن ،ثم أضاف ولهذا السبب أميل للمنهج العلمي
فلو أخذنا -عىل سبيل املثال ال اإلمام البنا الدمياطي املتوىف سنة
الصارم كما رأينا يف الجواب عىل
الحصر -سورة املسد بحسب ١١١٧هـ أربع قراءات أخرى ،ومل
السؤال األول ،فيجب عىل الباحث
علم الفيلولوجيا ،سنجد السورة يتوقف العدد يف القراءات املختلفة
وضع اإليمان واأليديولوجية
بأكملها تتحدث عن البخل وتذم إىل هذا الحد ،فقد ظهرت خمسون
جانبًا لدراسة مثل هذه النصوص
صاحبه ،وتنبهه ملا قد يؤول إليه قراءة مختلفة بحسب ابن مجاهد،
الدينية بطريقة علمية ال مكان
أمره من مؤامرات يف الدنيا من وألف وأربعمائة وتسعة وخمسين
للعاطفة فيها.
أقرب الناس إليه قبل اآلخرة، رواية وطريقة بحسب الهذيل،
لكن تفسير علماء اإلسالم لهذه مما اضطر علماء اإلسالم إىل * التفسيرات التي تقدمها
السورة ذهب بعي ًدا ليجعل أحد وضع فتوى بعدم االجتهاد يف
أعمام الرسول وزوجته يف زاوية ضم املزيد من القراءات للقراءات ملعاني بعض األلفاظ
السب من اهلل لهما ،تكرره ألسنة الرسمية ،واعتبروا كل القراءات الواردة يف القرآن من
املسلمين عند كل صالة إىل يوم ما بعد القراءات األربع عشرة، ناحية ،واالقتراحات
259
ثقافات وفنون
حوار
السروجي ونشأة
مدرسة التاريخ الحديث د.جمال حجر
في اإلسكندرية
،modernityأي االنتقال من ألول مرة بمناهج «أكاديمية»؛ يعد قسم التاريخ بكلية اآلداب
حال قديم إىل حال جديد ،وقد فقد كانت قراءة التاريخ من قبل جامعة اإلسكندرية ثاني أقدم
شكل هذا التوجه نحو الحداثة شأن الهواة واألدباء من خارج األقسام الجامعية لتدريس التاريخ
نمط الحياة يف النصف الثاني املؤسسات األكاديمية؛ إذ مل يكن طبقًا للمناهج «األكاديمية» ،يف
من القرن ،19فقبل عهد محمد يف مصر كلها يف الخمسينيات ثاني أقدم كلية لآلداب يف مصر.
عيل كانت كتابة التاريخ تسير من أساتذة التاريخ «األكاديميين» فقد تأسست يف عام 1938
طبقًا ملنهج الحوليات التقليدي سوى محمد شفيق غربال تحت رعاية جامعة فؤاد األول
الذي يعتمد خط الزمن سياقًا (تلميذ توينبي) ،وحسن عثمان
(القاهرة) ،أي قبل إنشاء جامعة
تُسرد عليه األحداث ،ويف عهده (خريج روما) ،وأحمد عزت عبد
فاروق األول (اإلسكندرية) عام
صارت دراسة التاريخ الحديث الكريم (تلميذ غربال) ،وأحمد
.1942وقتها مل تكن كوادر
واملعاصر جز ًءا من حركة النهضة عبد الرحيم مصطفى (تلميذ
الكلية العلمية قد تأسست ،وكان
العامة التي اضطلع بها مؤسس عبد الكريم) وجميعهم بالقاهرة،
ومحمد مصطفى صفوت (خريج التدريس يف القسم ،والكلية بصفة
مصر الحديثة .ويف غياب مدرسة
أكاديمية تكتب تاريخ محمد عيل، ليفربول ولندن) وتلميذه محمد عامة ،مسؤولية جامعة فؤاد
اعتمد الرجل عىل األجانب ،إىل محمود السروجي باإلسكندرية. األول ،التي كان عليها أن تزود
أن وضع الجبرتي بصمته عىل هؤالء هم املؤسسون األوائل الكلية باألساتذة من املصريين
هذه «املرحلة االنتقالية بالتجديد للمدرسة األكاديمية الوطنية يف واألجانب .إىل أن تحملت جامعة
يف منهج الكتابة التاريخية، التاريخ الحديث. فاروق األول هذه املسؤولية
فطبق أصول «املنهج التحلييل» فكيف تشكلت دراسة التاريخ بإعداد كوادرها تدريجيًّا .فكيف
للوقوف عىل الهدف من دراسة الحديث واملعاصر يف مصر يف تم ذلك.
املاضي وفهمه ،وطرح األسئلة الفضاء األكاديمي؟ مع نشأة الجامعة يف اإلسكندرية
حول أسباب األحداث واتجاهاتها دعونا نتخذ من عهد محمد عيل يف أجواء الحرب العاملية الثانية،
ونتائجها ،فأحدث بذلك ثورة يف نقطة انطالق ملرحلة الحداثة بدأت عملية تدريس التاريخ
261
ثقافات وفنون
شخصيات
املنهج.
وتوفر عىل دراسة التاريخ
الحديث بعد الجبرتي كوكبة من
«الهواة» ذوي امليول الوطنية
ومنهم :رفاعة الطهطاوي (-1801
،)1873وعيل مبارك (-1823
،)1893وأمين سامي (-1857
،)1941وإسماعيل سرهنك
( ،)1924 -1854ومصطفى
كامل ( ،)1908 -1874ومحمد
فريد ( .)1919 -1868حملت هذه
الكوكبة مسؤولية التأريخ لألسرة
العلوية ،ومع تذبذب كتاباتهم
بين التاريخ الحويل والتاريخ
بالتحليل .وأكد جمال الدين
محمد شفيق غربال علي باشا مبارك عبد الرحمن الجبرتي
الشيال عىل أهمية التحوالت التي
أجرتها هذه الكوكبة يف مناهج
(األوىل) ،ومحمد صبري ،الذي كتخصص أدبيُ ،ي َد َّرس يف الكتابة التاريخية.
درس يف السربون ثم عاد عام الجامعة األهلية التي أُنشئت عام وبدأ عهد محمد عيل يؤتي ثماره؛
،1924ومحمد شفيق غربال، ،1908ويف الجامعة املصرية التي ففي عهد إسماعيل ،تأسست
الذي درس يف لندن ،وتتلمذ عىل نشأت عىل أكتافها عام ،1925 الكتبخانة الخديوية عىل يدي عيل
يدي توينبي ،ثم عاد عام ،1925 ويف كلية اآلداب باإلسكندرية مبارك باشا عام ،1870وأُنشئت
ومحمد مصطفى صفوت الذي التي تفرعت منها عام ،1938 مكتبة البلدية باإلسكندرية،
درس يف ليفربول ولندن ،ثم عاد افتتحت دار العلوم ،وأُدرج
والتي صارت نواة جامعة فاروق
فيها تدريس التاريخ كتخصص
يف مطلع األربعينيات .نقل هؤالء األول باإلسكندرية عام .1942
أكاديمي ،برز فيه محمد عبده عام
األربعة أسس املناهج األوروبية ومع إنشاء هذه املؤسسات
.1878ثم أُنشئت مدرسة املعلمين
الحديثة يف دراسة التاريخ التعليمية العليا ،حدث تطور
العليا يف عام ،1880وتخرج
الحديث ،وصبوا اهتمامهم عىل جوهري يف مناهج دراسة التاريخ
فيها محمد شفيق غربال ،ومحمد
التاريخ الوطني .وكان هذا توج ًها الحديث؛ فقد ظهر جيل جديد من رفعت ،ومحمد فؤاد شكري،
جدي ًدا يف دراسة التاريخ الحديث. «املؤرخين املصريين األكاديميين» واستكملوا دراساتهم يف أوروبا،
هكذا كانت البداية الحقيقية يف املؤسسين للمدرسة الوطنية، وسارت مدرسة املعلمين بعد
التاريخ الوطني بالقاهرة مع واملتأثرين بالحركة الوطنية ،التي ذلك طريقًا تمهيدية ملن يرغب يف
محمد شفيق غربال ،أول مصري أفرزتها ثورة ،1919فطالبوا االلتحاق بالجامعات األوروبية،
يشغل وظيفة أستاذ التاريخ بتمصير تدريس التاريخ يف شوطا نحو الحداثة يفً التي قطعت
الحديث بالجامعة املصرية. الجامعة بعد ضمها إىل وزارة مناهج دراسات التاريخ.
وكان محمد مصطفى صفوت، املعارف عام .1925ومنهم :محمد وما إن وصلنا إىل النصف األول
تلميذ غربال يف مرحلة الليسانس رفعت ،الذي درس يف ليفربول من القرن العشرين حتى صار
وخريج الجامعة املصرية، ثم عاد قبل نهاية الحرب العاملية للتاريخ الحديث شأن مستقل
262
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
وتعلم التاريخ الحديث عىل يديه. غزيرُ ،عين يف جامعة فؤاد األول أول أستاذ يف التاريخ الحديث
وحين تخرج يف الكلية عام 1946 بالقاهرة عام ،1942ثم نُقل إىل واملعاصر يف اإلسكندرية؛ فبعد
يف أعقاب الحرب العاملية الثانية، كلية اآلداب باإلسكندرية مع حصوله عىل الليسانس عام
كان أول دفعته ،فقاده طموحه افتتاح جامعة فاروق األول يف ،1933حصل عىل دبلوم معهد
وتميزه إىل مواصلة املسيرة العام نفسه ،ليكون حجر األساس التربية العايل عام ،1935ثم
العلمية ،فالتحق بالدراسات الذي سيقوم عليه تخصص حصل عىل املاجستير من ليفربول
العليا ،بينما كان يعمل أمينًا ملكتبة التاريخ الحديث بها. عام ،1937ثم الدكتوراه من لندن
الكلية .وحصل عىل املاجستير، يف تلك الظروف التي جاءت عام .1939وخالل فترة وجوده
عىل يدي صفوت يف عام ،1950 بصفوت إىل اإلسكندرية عام بإنجلترا ط َّوف باألرشيفات
مدرسا مساع ًدا بقسم
ً وعين
ُ ،1942التحق الطالب محمد البريطانية والفرنسية واألملانية.
التاريخ .وواصل مشواره فحصل محمود السروجي بكلية اآلداب وحين عاد إىل الوطن مزو ًدا بعلم
عىل الدكتوراه يف عام 1955
تحت إشراف صفوت نفسه، جامعة اإلسكندرية
لذكراه»( .انتهى االقتباس) وأثيوبيا يف القرن التاسع عشر». الثاني من مدرسة التاريخ
ويف عام 1967وجد السروجي ويعكس الكتاب العالقات املتوترة الوطنية األكاديمية يف القاهرة
الفرصة مناسبة لنشر رسالته بين البلدين وما نتج عنها من واإلسكندرية.
للدكتوراه ،فقد شهد هذا العام صدامات عسكرية .وخرج هذا وبعد أن تناولنا نشأة املدرسة
انكسار الجيش املصري يف الكتاب يتصدره تقديم كتبه الوطنية األكاديمية يف التاريخ
الحرب العربية اإلسرائيلية ،فدفع األستاذ محمد شفيق غربال، الحديث وموقع السروجي منها،
برسالته إىل دار املعارف املصرية، فكان باكورة أعمال السروجي نستعرض فيما ييل مسيرة
فنشرتها تحت العنوان نفسه. املنشورة .يقول غربال يف التقديم الرجل األكاديمية لنرى كيف
وقد كنت من املحظوظين الذين «دعاني الدكتور السروجي ألن تأثر بالرواد األوائل .وأول ما
درسوا هذا الكتاب عىل يديه يف يكون يل نصيب يف الكتاب ،بعد يلفت االنتباه ،أن السروجي التقط
مرحلة الليسانس .واآلن أتساءل أن كان يل نصيب يف مناقشة اهتمام الرواد ومن سبقوهم
عن مغزى توقيت النشر ،الذي الرسالة الكبرى (يقصد رسالة بعصر محمد عيل وأسرته ،فأعد
عاما ،هل كانتأخر اثني عشر ً الدكتوراه) ..وأني إذا ما ذكرت رسالته للماجستير عام 1950
أستاذنا يرفض الهزيمة أو النكسة مترحما
ً تلك املناقشة ،ذكرت عن «عصر إسماعيل» ،الذي كان
يف داخله ،فدفع بكتابه دفا ًعا عن زميل شارك فيها ،هو الدكتور ً امتدا ًدا لعصر النهضة الحديثة،
الجيش املصري؟ أم أنه أراد أن محمد مصطفى صفوت ،تلميذي التي بدأت مع محمد عيل .ثم
ُيص ِّدر إحساسه برفض الهزيمة ثم زمييل ..وصفوت هو صاحب أعد رسالته للدكتوراه يف عام
إىل طالبه ،كي يخرجنا من تلك الفضل عىل صاحب هذا الكتاب، 1955عن «الجيش املصري
الحالة البائسة التي انتابتنا جمي ًعا كان أستاذه ومرشده وصديقه، يف القرن التاسع عشر» .ويف
ونحن نتجرع مرارتها؟ هل أراد أخطها لهذا التقديم، واألسطر التي ُ عام 1960استخرج جز ًءا منها
أستاذنا السروجي أن يحدثنا كان هو أوىل بذلك مني ،فلتكن للنشر ،وطوره ووضعه تحت
يف محاضراته عن عظمة الجيش وإكراما
ً أيضا عرفانًا بفضله
ً عنوان« :العالقات بين مصر
264
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
ُكتبت بلغة عربية متداخلة مع ويف سبيل تحقيق هذه الدراسة املصري يف قوته وفتوحاته،
اللغة التركية ،بخط يد رديء، اعتمد السروجي عىل ما أُتيح له لينسينا ما لحق به من هزيمة،
ميلء باألخطاء النحوية واللغوية، من مادة أرشيفية أصيلة ،من وما لحق بنا من انكسار؟ وقُدر
فال هي عربية سليمة وال تركية وثائق عربية وتركية وفرنسية لهذا الكتاب أن يعاد نشره يف عام
صحيحة ،وإنما هي تمثل مرحلة وأمريكية محفوظة يف دار الوثائق 2012يف أعقاب أحداث يناير
انتقال ،وتدل داللة واضحة التاريخية القومية ،واض ًعا نصب 2011ودور الجيش يف تحمل
عىل روح العصر .وقد حرص عينيه ما كتبه غربال عن الجيش املسؤولية فيها.
السروجي يف اقتباساته عىل أن دفترا من دفاترً املصري من «أن لقد سار السروجي يف اختياره
يكتب النصوص بعيوبها اللغوية املحفوظات يدلنا عىل أرزاق الجند التاريخ العسكري ميدانًا لدراساته
مصححا ما فيها من
ً كما هي، وطعامهم ولباسهم ،لهو وثيقة سيرا عىل نهج ً التي تألق فيها
عيوب يف الشروح التي يقدمها يف لها خطرها ،وال ُيستطاع كتابة الزعيم الوطني محمد فريد،
الهوامش. تاريخ الجيش املصري إال بها الذي وضع يف عام 1890كتا ًبا
ويلفت االنتباه أن السروجي وبمثيالتها». تحت عنوان« :البهجة التوفيقية
أهدى الكتاب إىل« :جنودنا وحين ولج السروجي إىل حيث يف تاريخ مؤسس العائلة
البواسل الذين جادوا بأرواحهم أشار األستاذ غربال يف دار الخديوية» ،وهو أول عمل يف
فدا ًء لهذا الوطن وإعال ًء لكلمة الوثائق القومية ،وجد تنو ًعا التاريخ ملحمد فريد ،مأل به فراغًا
الحق ،وإىل شهدائنا الذين بذلوا وتشعبًا معق ًدا من الدفاتر وامللفات يف التاريخ العسكري لعصر
فكانوا ً
مثل يف السخاء ،وإىل التي تغطي مختلف نواحي الحياة محمد عيل وحروبه الخارجية،
أبطالنا املغمورين ،وإىل الجندي يف املجتمع املصري ،وكان عليه وتطور املسألة الشرقية حتى
معاهدة لندن .1840وجاء تناول
املجهول» .هذا التصنيف الرباعي أن يستخلص منها ما يخدم
مكمل ملا بدأه محمد ً السروجي
لجنودنا الذين خاضوا املعارك موضوعه ،فركز اهتمامه عىل
فريد ومختلفًا عنه موضوعيًّا
يكشف عن حس مرهف عند دفاتر أوامر الجهادية ،وهي
تكرارا له عىل أية ً ومنهجيًّا ،وليس
الرجل ،وإدراك وطني عايل ملفات املراسالت املتبادلة بين
حال.
املستوى ،ومشاعر إنسانية ديوان الجهادية وفروعه ووحدات
ويف دراسة السروجي عن الجيش
فياضة. الجيش املختلفة» .وقد رصد
املصري ،حدد لنفسه هدفًا
ومل يتناول السروجي الحروب مؤرخنا أن هذه املراسالت قد
وضوحا
ً واضحا
ً
ال يشوبه شك،
فقد حدد الزمان
بالنصف الثاني
من القرن 19م
ليسد ثغرة من
ثغرات تاريخ
مصر الحديث.
وحدد املوضوع
بدراسة الجيش
البري دون غيره
من فروع (قوات)
الجيش املختلفة.
265
ثقافات وفنون
شخصيات
حسين فوزي..
فقيه العلوم د.فوزي الشامى
والفنون واآلداب
مدينة أبردين بأسكتلندا ،بعد أن جريدة األهرام بكل شغف ،وإن اإلعدادية ،ويف إحدى الليايل عندما
تخرج من كلية الزراعة بجامعة كان يصعب عيلَّ فهمها إىل ح ٍد ما كنت أستذكر دروسي ،كنت
القاهرة ،وهو من املهتمين باألدب آنذاك ،وكم تمنيت بشدة لقاء هذا أُدير مؤشر الراديو بين محطات
واملسرح واملوسيقي والفنون الرجل املتفرد صانع االستنارة يف اإلذاعة كعادتي يف كل مساء بال
والثقافة عامة ،ويف حقيقة األمر يوم ما. هدف محدد ،ربما ألجد نشرة
أنني تعلمت منه الكثير يف كل مل تتحقق أمنية لقائي به إال إخبارية أو تمثيلية أو أغنية أو
هذه املجاالت آنذاك ،وهو من بعد سنوات طويلة حينما كان متحججا
ً غير ذلك ألستمع إليها،
مريدي ومحبي حسين فوزي، عىل رأس املرافقين ألوركسترا بأن هذا سيلطف من عناء ومشقة
وكنت أغار منه حيث كان يالزم الكونسرفتوار يف رحلته إىل عملية مذاكرة الدروس الثقيلة عىل
حسين فوزي ألوقات أكثر مني، فيينا ،ثم أبردين بأسكتالندا وأخيرا توقفت عن ً قلبي ونفسي،
مشغول يف تدريبات ً حيث كنت للمشاركة يف مهرجانات للشباب، البحث ،واستقر املؤشر مصادفة
األوركسترا التي مل أستطع وكنت ضمن أعضاء األوركسترا، عند موجه البرنامج الثاني،
الزوغان منها بسبب الرقابة وانتهزتها فرصة فكنت طوال أيام حيث كان يأتي منها صوت
املشددة من أستاذتنا الجليلة الرحلة أراقبه وأتحين الفُرص رجل يتحدث حول شيء ما عن
الدكتورة سمحة أمين الخويل ألتحدث معه ،وكان يحادثني يف املوسيقي ،ال أعرف ما هو ،ومل
عميدة الكونسرفتوار آنذاك.
بساطة العلماء ،حتى أنه كسر
أيضا ،ولكنأُدرك الحديث عنه ً
بلغت بساطة حسين فوزي معنا ما جذب سمعي إليه ،هو أسلوبه
بذلك حواجز املركز والسن
أنه حدثني وصديقي إسماعيل الشيق يف الحديث ،فكان يتحدث
كما كان يفعل مع كل الشباب،
عن ذكرياته مع رفيقه وصديقه اللغة العربية الفصحي ممزوجة
مفسحا املجال لعالقات إنسانية ً
املقرب املحبب إىل قلبه ،توفيق بلغة عامية راقية تتسم بروح
وفنية يعتز بها كل من كان
الحكيم ،فقد كانا من ُكتاب جريدة الفكاهة والدعابة.
يتقرب إليه.
األهرام يف نفس الوقت ،وكنت كان اسم املتحدث حسين فوزي،
ً
محظوظا ج ًّدا يف هذه الرحلة مل أكن أغتنم فرص لقائه
عرفت ذلك يف نهاية الحلقة ،وملا
بالتعرف إليه عن قرب وبشكل مل بمفردي ،ولكن كان يالزمني جذبني بشدة طريقة وأسلوب
يكن يف الحسبان. فيها صديق العمر الناقد الفني حديثه الشيق الذي مل أفهم منه
وحالفني الحظ مرة آخرى يف إسماعيل عز الدين الذي كان شيئًا ،وصوته الذي ُيشعرك
أن ألتقي به ونلتقي به جمي ًعا يدرس وقتها السياحة ويقيم يف أللفة والطيبة واملودة ،وكأنك با ُ
يف أمسية لالحتفال بالنجاح تعرفة من زمن بعيد ،بدأت متابعة
الذي حققه األوركسترا يف برنامجه ،وتوالت لقاءاتي معه
رحلته ،كما حضره األستاذة عبر أثير اإلذاعة ،ومل تكن هذه
الدكتورة عائشة صبري عميدة اللقاءات مصادفه كاملرة األوىل،
كلية التربية املوسيقية آنذاك ولكنها أصبحت لقاءات متعمدة
والفنان املوسيقار مدحت عاصم، وعادة ملحة عندي ،فمن خالل
وبطبيعة الحال د.سمحة الخويل أحاديثه وتفسيراته وشروحاته
والفنان جمال عبد الرحيم وأمين يف الفنون والثقافة فتح أمامي
املعهد األستاذ فهمي منصور، بعد عناء الفهم نافذة عىل عامل
وأعضاء هيئة التدريس والطالب، عبقري فسيح وجديد ميلء
وقد أسعدني أن تطلب مني بالسحر والتأمل والخيال ،ثم
د.سمحة أن ألقي كلمة ترحيب أبو بكر خيرت بدأت أتابع مقاالته األسبوعية يف
269
ثقافات وفنون
شخصيات
قامت وزارة الثقافة باستقدام ويف أكتوبر 1959فتح معهد معهد كونسرفتوار لتخريج
عميد له هو املؤلف املوسيقي الكونسرفتوار أبوابه يف فيلال موسيقيين مصريين بارعين يف
اإليطايل شيزاري نورديو ،الذي صغيرة بالزمالك (مقر وزارة كل جوانب الفنون املوسيقية رف ًعا
تم تكليفه بتحديد املشاكل التي الثقافة الحاىل) ،ودعي للتدريس ملستوى التخصص املوسيقي،
واجهها املعهد يف سنوات اإلنشاء، به عدد كبير من املشتغلين ودف ًعا للحياة املوسيقية املصرية
واقتراح الحلول لها يف ضوء باملوسيقي يف القاهرة من إىل آفاق أوسع وأرحب ،وهنا جاء
خبرته التعليمية ليحقق املعهد جنسيات مختلفة ،وظلت سمة تكليف وزير الثقافة يف ذلك الحين
أهداف إنشائه. العاملية يف أساتذته غالب ًة عىل هيئة د.ثروت عكاشة لوكيلها األول
وكان من بين ما اقترحه هو التدريس ،شأنه يف ذلك شأن د.حسين فوزي بتشيكل لجنة
االستعانه بعدد من الخبراء أغلب معاهد الكونسرفتوار يف فنية لتدارس مشروع اإلنشاء.
األجانب لالرتقاء بالعملية الخارج. واجتمعت اللجنة يف مبني دار
التعليمية باملعهد ،ولهذا ففي أنشئ للمعهد مبني كبير من األوبرا املصرية التي احترقت
النصف الثاني من الستينيات سبعة طوابق وملحق به قاعة سنة ،1971وكان أعضاؤها
كلف د.ثروت عكاشة وزير للموسيقي يف مبني مستقل (قاعة كل من مدير دار األوبر يف ذلك
الثقافة ،د.حسين فوزي بالسفر سيد درويش) ،وكان يصل الحين محمود النحاس وبييرو
إىل االتحاد السوفييتي الختيار بينهما ممر خاص داخيل ،إال أنه جوارينو مدير كونسرفتوار
تم الفصل بينهما فيما بعد وتم اإلسكندرية (وهو معهد صغير
العميد املناسب الذي يتمكن من
غلق هذا املمر .صمم هذه األبنية خاص) ود.برجيت شيفر األملانية
القيام بهذه املهمة ،فوقع اختياره
معمار ًّيا أبو بكر خيرت وأشرف عميدة معهد التربية املوسيقية
عىل د.إيراكيل بريد زي أستاذ
عىل تنفيذها ،حيث كان إىل جانب (كلية التربية املوسيقية حاليًا)،
الفيولينه الجورجي والحاصل
مهندسا
ً التأليف املوسيقي يعمل ود.سمحه الخويل واملؤلف
عىل لقب (فنان الشعب) ،وهو
معمار ًّيا ،كما أشرف عىل بناء املوسيقي جمال عبد الرحيم
الذي تويل عمادة املعهد من 1967
املعهد العايل للباليه واملعهد العايل العائدان من بعثتيهما بالخارج،
وحتى ،1972واستقدم عد ًدا من للسينما .ثم انتقل الكونسرفتوار والصاغ صالح عبدون املسؤل
الخبراء الروس ،وبهذه الخطوة إىل هذا املقر الجديد يف سبتمبر بوزارة الثقافة ،واملؤلف املوسيقي
الكبيرة بدأ الكونسرفتوار يقترب 1962حيث كان تعداد طلبته د.أبو بكر خيرت وغيرهم ،وقامت
من األنماط واملستويات الغربية حينذاك حوايل سبعين طالبة اللجنة بدراسة املشروع وإعداد
ملثل هذه املعاهد املتخصصة، وطالب. تقرير رفعته إىل د.ثروت عكاشة
وأخذ يحقق نجاحات طوال ويف أكتوبر عام 1963تخرجت الذي ساند املشروع بكل قوة،
مشواره. أول دفعه يف املعهد ،ويف نفس حيث ترجم التقرير عىل الفور
ظل حسين فوزي منذ إنشاء العام تويف أبو بكر خيرت ،وهنا بحماسه املشهود إىل قرار أصدره
أكاديمية الفنون ،خاصة ُعهد إىل الدكتور حسين فوزي الزعيم جمال عبد الناصر ،رئيس
الكونسرفتوار ،حتى وفاته عام باإلشراف عىل املعهد ،لكنه الجمهورية يف أواخر شهر
1988يرقب مساره وتطوره احتراما
ً اعتذر يف تواضع كبير أغسطس عام ،1959بإنشاء
دائما
وتقدمه بعناية كبيرة ،فهو ً للتخصص ،إال أنه َقبِل فقط مهمة املعهد القومي العايل للموسيقى
كان الراعي واملوجه ،بل األب التوجيه من بعيد ،واختار له «الكونسرفتوار» ،وكلفت الوزارة
الروحي للكونسرفتوار ،فتحية مديرا مؤقتًا من بين األساتذة
ً د.أبو بكر خيرت املؤلف املوسيقي
لذكري هذا الرجل الرائد صاحب األجانب فيه وهو أستاذ البيانو واملهندس املعماري بعمادته ،فكان
الصنائع السبع اإليطايل فينشنزو كارو ،إىل أن أول عميد له.
271
ثقافات وفنون
تاريخ
زوسر..
والهرم المدرج د.علي عفيفي
علي غازي
ملوك األسرة األوىل من نظم بعد أن اجتهد طول مدة حكمه عرفنا يف املقال األول كيف
وقوانين إلدارة املقاطعات والدفاع يف وضع األنظمة التي يتم بها استطاع امللك (مينا )Meniتوحيد
عن وحدتها ،وظل فراعينها إدارة البالد وتأمينها ،والتي قطري مصر :الشمايل (الدلتا)
يتناقلون السلطة يف سالم ،دون تضمن لها التقدم دون الرجوع والجنوبي (الصعيد) يف وحدة
أن يحدث من األحداث الجسام ،ما إىل الفرقة واالنقسام ،وسار عىل سياسية واحدة ،هذه الوحدة
يعكر صفو األيام ،إىل أن استقر نفس الدرب خلفاؤه الفراعين بدأت نتائجها تظهر عىل مصر،
حكم مصر يف يد الفرعون (خع يف حكم البالد ،فقاموا بتحصين إذ عمها الخير والرخاء ،وشهدت
سخموري) الذي مكث عىل عرش عاصمتهم التي كانت تتعرض أول حضارة عرفها تاريخ
عاما قبل أن
البالد خمسة عشر ً لغارات بعض قبائل الصحراء البشرية ،هذه الحضارة ،وهذا
ويسلم
ُينهي حكم األسرة الثانيةُ ، الغربية الرحل ،وعملوا عىل إبعاد التقدم ،بدأت آثارهما تظهر يف
البالد من بعده -وقد استتبت خطرهم عن كافة أرجاء مصر، عصر الدولة القديمة ،الذي بلغت
فيها األحوال ،وازدهرت عىل وظلوا يواصلون ما بدأه فرعون فيه وحدة البالد تمامها ،ورسمت
أرضها كل صور الحياة -إىل مصر األول من تنظيم القوانين مصر خالله الخطوط الرئيسة
خلفه امللك (زوسر) ،الذي عده وأساليب اإلدارة التي تتم بها ملعتقداتها الدينية ،ونفذت كذلك
املؤرخون من أقوى امللوك الذين السيطرة عىل املقاطعات ،والقضاء تقنية الفنون والعمارة والكتابة
مؤسسا األسرة
ً حكموا مصر، التام عىل التفكير يف أي محاولة بشكل كامل ،كما تميز ببناء
الثالثة. لالنقسام ،وتفتيت وحدة أبناء األهرامات ،حتى عرف هذا العهد
و(زوسر) ،Zoserوتعني املقدس، النيل. (بعصر بناة األهرام العظام) ،منذ
أو (نثر رخت) وتعني األكثر وخلف (مينا) عىل حكم مصر من بداية األسرة الثالثة (-2780
قداسة من جماعة األرباب ،وهذا أسرته سبعة من امللوك استمروا 2680ق.م) ،ومؤسسها امللك
هو االسم الذي اشتهر به ،واشتق يف الحكم ما يقرب من مائتين زوسر موضوع قصتنا لهذا
من اسمه األصيل (جسر) بمعنى عاما ،وجاءت بعد أسرة وعشرين ً الجزء .وهرمه املدرج الذي صممه
املق ّدس .وهو الفرعون األول يف (مينا) أسرة أخرى جلس أبناؤها املهندس العبقري (إيمحوتب) عىل
األسرة الثالثة الفرعونية ،ظهر عىل عرش مصر ما يقرب من هيئة ست مصاطب كأول وأقدم
اسمه يف بردية (تورين) باللون مائتي عام أخرى ،هدأت فيها بناء حجري ضخم عرفه التاريخ.
األحمر ،تمي ًزا له عن باقي ملوك األحوال ،وتقدمت خاللها البالد رحل (مينا) بعد أن ترك مصر
الدولة القديمة؛ ربما ألهميته. بعدما أكمل ملو ُكها ما وضعه خالية من التمزق والفوضى،
272
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
حصن حدود مصر ،وجعل يف كل ملك الوجه البحري) ،ويتم فيها عاما،
امتدت فترة حكمة ملدة ً 29
منها فرقة من فرق هذا الجيش، تتويج الفرعون بتاج مملكة الدلتا يؤكدها ضخامة أعماله اإلنشائية
كما اعتنى بأعمال الزراعة األحمر ،ثم جاء من قام بدق التي قام بها.
والصناعة ،واستخراج املعادن أحد األوتاد يف األرض ،ثم قام واتخذ (زوسر) من (منف) ،التي
واألحجار الكريمة كالنحاس بزراعة نبات اللوتس عىل أحد وضع حجر أساسها امللك (مينا)،
والفيروز من شبه جزيرة سيناء، جانبيه ،كرمز للوادي ،ونبات عاصمة له ،كما قام باستخراج
ولهذا فقد عده املؤرخون ضمن البردي عىل الجانب اآلخر ،كرمز النحاس من سيناء ،األمر الذي
أعظم الفراعنة الذين حكموا مصر للدلتا ،وبعدها قام امللك (زوسر) أمن له ثروة كبيرة مكنته من
وأخلصوا لها العمل لكي تبدو بالقبض عىل هذا الوتد كرمز القيام بأعمال إنشائية ضخمة،
تحضرا .ويعيش
ً أكثر رقيًا وأعظم وتعبيرا
ً التحاد مملكتي البالد، ساعدته عىل توطيد دعائم الوحدة
أبناؤها يف أمن وسالم ،وخير عن حرصه الشديد عىل املحافظة عىل أسس ثابتة بعد القضاء عىل
ونماء. عىل هذه الوحدة ،ثم اقتاده الكهنة ثورات الدلتا التي ظهرت يف عصر
إىل معبد اآللهة يف مدينة (منف) األسرة الثانية ،كما أهلته لتوسيع
العبقري إيمحوتب لتقديم القرابين ،واستكمال دولته جنو ًبا بعد أن بسط نفوذه
مراسم االحتفال بها ،وبعد انتهاء عىل النوبيين ومد حدود البالد إىل
حكاية الهرم املدرج ،أعظم بناء يف االحتفال خرج (زوسر) لتحية ما بعد الجندل األول يف الجنوب.
التاريخ ،حكاية جميلة نعرف من شعبه الذي اصطف عىل جانبي غير أنه مما الشك فيه أن أعظم
خاللها كيف كان أجدادنا الطريق من املعبد إىل القصر منجزات (زوسر) هو هرمه
القدماء يقدرون العلم امللكي ،حيث يبدأ يف مباشرة املدرج يف سقارة ،الذي كان يطل
شئون الحكم ،وإدارة كافة شئون عىل مدينة (منف) العظمى ،ويمثل
البالد. أقدم أثر كبير الحجم قائم بذاته
وكان أول قرار اتخذه (زوسر) ومشيد من الحجر ،وأول مقبرة
تأليف جيش قوي ليتمكن به من ملكية ُبني جزؤها العلوي من كتل
املحافظة عىل استقرار األمور يف األحجار .وليس هناك شك يف
الداخل ،وتأمين البالد من أن امللك (زوسر) قد ُدفن يف هذا
أي خطر خارجي ،ثم الهرم املدرج .وقد جعل ذلك امللك
(زوسر) حيًّا يف ذاكرة املصريين
قرونًا طويلة حتى نهاية التاريخ
املصري القديم.
ومتمت ًعا بنفوذ كبير يف القصر دينية عميقة ،ولهذا ربما تركت والعلماء ،وكيف كانوا يعهدون
امللكي ،وشغل أكبر وظيفة دينية كبيرا يف حياته .وهكذا ولد ً تأثيرا
ً باألمور العظيمة الكبيرة إىل
يف البالد بصفته كبير كهنة عين ونشأ (إيمحوتب) كواحد من أبناء املتخصصين واملتعلمين ،حيث
شمس .وإليه ينسب النشيد الشعب ،وعاش حياة شاقة ،إىل أن ال ُيذكر هرم (زوسر) املدرج
الجنائزي “اترك الهموم واذكر تزوج من (نفرو– نبت) الجميلة بسقارة -وتسمى (سقارة)
األفراح حتى يأتي اليوم الذي الغنية ،فوفرت له جز ًءا من ترف نسبه إىل املعبود (سوكر) معبود
تسافر فيه إىل أرض الصمت”. الحياة ،وساعدته –باإلضافة إىل الجبانة عند املصريين القدماء-
وتمضي القرون ،ويزداد عبقريته الفذة ومواهبه العظيمة– ويذكر املهندس والطبيب إال ُ
احتراما لهذا العصامي ً املصريون عىل أن يتبوأ مكانة عظيمة يف (إيمحوتب )Imhotepصاحب
العظيم ،ويتردد اسمه يف الدولة قصر الفرعون (زوسر) إىل الفضل يف تصميمه ،كأعظم
الوسطى ،فيمجدون فيه املثل أن يصبح أمينًا ألختام الوجه شخصية يف التاريخ.
األعىل للعبقرية ،والتعمق يف وناظرا
ً البحري ،واألول بعد امللك، واملهندس (إيمحوتب) ،ومعنى
العلوم ،وجعله املتعلمون يف الدولة ومشرفًا عىل إدارة القصر امللكي اسمه القادم يف سالم ،ولد عىل
الحديثة عىل رأس أهل الحكمة العايل ،وكبير كهنة مدينة (أيونو)، األرجح يف بلدة (الجبلين) شمايل
والتعاليم واملوعظة ،وواح ًدا عين شمس الحالية ،صاحبة إسنا بمحافظة قنا ،كان والده
من رعاتهم ،ملا له من الفضل الشهرة الفكرية القديمة ،ومسجل مديرا لألعمال
ً (كا– نفر) يعمل
الكبير عىل الطب املصري ،األمر الحوليات ،وكبير مستشاري يف الوجه القبيل والبحري ،وكانت
الذي جعل األجيال التالية تعبده امللك (زوسر) ،ورئيس النحاتين، أمه (خردو– عنخ) من املهتمات
وتتخذه إل ًها للعلم ،ومنشئ ورئيس املثالين (ناحتي التماثيل)، بتربية وتعليم أبنائها عىل ثقافة
علومها وفنونها ،ومن ثم فقد واملشرف عىل املدينة الهرمية،
استحبوا أن يسكبوا قطرات من وكبير الكهنة املرتلين للملك
املاء من األواني الصغيرة املتصلة (زوسر) وكبير كتاب اإلله.
بمعابدهم مع التمتمة باسمه تبر ًكا ومن كثرة ألقابه وتعددها
وتكريما ،وليست قربانًا من
ً به، وتنوعها نجد داللة واضحة عىل
عابد ،كلما هموا بأمر خطير .وزاد أنه كان مرتب ًطا كل االرتباط
تقدير املصريين للعبقري العظيم بالنشاط الفني يف عصره،
إىل درجة التأليه ،واعتباره ابنًا
لإلله (بتاح) ،وشبهوه بإله العلم
والحكمة (تحوت).
ويف القرن السابع قبل امليالد ،زاد
اتصال املصريين باإلغريق ،الذين
وقفوا عىل كتابات (إيمحوتب)
يف علوم الطب ،وأبوا أن يصدقوا
أن مثل هذا النابغة يمكن أن
بشرا كسائر البشر ،وإنما ً يكون
هو إله ،ومن ثم فقد اعتبروه
نظرا لقوةر ًّبا للطب والشفاءً ،
معرفته يف الطب ،ونجاحه يف
الشفاء بمعجزات ،وشبهوه
274
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
حياته الدنيا .وكان امللك (زوسر) السعادة والفرحة كل أبناء شعبه، الحبوب مل تعد وفيرة ،البذور
قد بنى مقبرته األوىل عىل شكل فقادهم (زوسر) يف حمالت جفت ،كل شيء يملكه الفرد
مصطبة كبيرة الحجم من الطوب لتوسيع ملكه حتى سيناء ،وبالد ليأكله أصبح بكميات مثيرة
اللبن إىل الجنوب من قرية (بيت النوبة وحطم الليبيين وسجل للشفقة ،كل شخص حرم
خالف) الحالية عىل مقربة من كل هذه االنتصارات ،إال أنه رغم حصاده .ال يمكن ألي شخص
(أبيدوس). ذلك ظل يشعر أنه مل يخلد ذكراه أن يمشي أكثر؛ قلوب كبار السن
وقد أراد وزيره املهندس مثلما فعل جده األكبر امللك (مينا) حزينة وسيقانهم انحنت متى
(إيمحوتب) بناء مقبرة مميزة عندما وحد مصر يف دولة واحدة. جلسوا عىل األرض ،وأيديهم
للملك (زوسر) ،وأراد لها من وكانت املقابر عىل هيئة حفرة أخفت بعي ًدا .حتى خدم املعابد
الفخامة ما يميزها عن غيرها، صغيرة تحفر يف رمال الصحراء، يذهبون ،املعابد أغلقت واملالجئ
فظل ذلك املهندس العامل الكبير أو حجرة ضيقة تنحت يف صخور غ ّطيت بالغبار .باختصار ،كل
كثيرا كيف يرد الجميل
ً يفكر الجبال ،ومل يكن ما يعلوها يزيد شيء يف الوجود أصيب”.
لسيده الذي حقق ملصر النماء
عن كومة من الحصى ،أو لوحة فجاءه الرد من (خنوم) حسب
والخير ،وحفظ شعبها وحدودها
تحمل اسم صاحب املقبرة ،إال النقش“ :أنا سأجعل النيل يرتفع
بأن صد هجمات األعداء الغزاة
تطورا
ً أن هذه املقابر تطورت لك .لن تكون هناك سنوات أكثر
املعتدين عنها ،وأخذ كل ليلة
كبيرا خالل حكم األسرتين األوىل ً عندما يخفق الغمر يف تغطية
يخرج إىل الفضاء الرحب يناجي
والثانية ،فشيد املعماريون أعىل أي منطقة من األرض .الزهور
السماء راجيًا أن يحقق ما مل
موضع الدفن عد ًدا من الحجرات ستورق ،وتنحني جذوعها تحت
يحققه غيره ،إىل أن هداه تفكيره
إىل أن يخلِّد مليكه بإنشاء مقبرة تحوي كل ما يوضع لخدمة وزن غبار الطلع” ،وحققت مصر
ذات طابع خاص ،مقبرة تخلده املتوىف ،ويزداد عدد الحجرات نهضة جديدة ،وعاش أبناء النيل
بين الخالدين العظام ،وتجعله كلما ازداد ما كان يملكه املتوىف يف يف باقي عهده يف رخاء ،وعمت
وبحق فرعون مصر العظيمة.
ذات مساء مظلم يف ليلة مل يبد
فيها القمر ضيا ًء بينما يجلس
امللك (زوسر) عىل عرشه يفكر
فيما فعل ،واملعارك التي انتصر
فيها ،والتي فاقت كل أسالفه
وأجداده ،لكنه رغم
ذلك يشعر أنه
ما خلد ذكراه،
فاجأه مهندسه
بكامل شخصيته ،وتعيش فيه يف األعياد واملواسم القرابين، ما كانوا ينتفعون به يف حياتهم
إىل األبد ،وتنهض مع الجسد وهذه األبواب ليست أبوا ًبا اليومية ،معتقدين أنهم سينتفعون
يوم البعث ،وكان الجسد يموت حقيقية ولكنها تبنى عىل شكل به ثانية يف حياتهم بعد البعث،
ولكن الروح تحيا إىل األبد، الباب ،يتم حفره يف حجر الجانب فقد تصور املصريون اآلخرة
ولهذا أراد املصريون تخليد الغربي من املزار .وتكون ُحجرة عىل غرار الحياة الدنيا ،مما يدل
الجسم بتحنيطه ليعيش إىل األبد، دائما خلفه .وبذلك تتمكن الدفن ً عىل حبهم للدنيا وتعلقهم بها،
حتى تجده الروح وتخلد فيه، روح امليت التي تسكن يف موميائه عىل عكس الفكرة السائدة لدى
وألجل املحافظة عليه وضعوه من اختراق هذا الباب ،والدخول بعض الباحثين أنهم كرهوا الحياة
يف مقابر محصنة تباعد بينه إىل املزار لالشتراك مع األهل وأحبوا املوت .وسبق أن ذُكر
وبين اللصوص وتمنعهم من واألصدقاء يف االحتفاالت والتمتع أن املصريين اعتقدوا أن امللك
الوصول إليه ،كما عمدوا إىل بقربهم ،وكان أجدادنا يدعون هذه هو الوسيط بين الناس واآللهة،
بناء هذه املقابر أو حفرها يف الروح (الكا). وأن النعم األخروية شأنها شأن
الجهات الجافة أو الجبلية؛ لكي وحكاية (الكا) هذه أن أجدادنا النعم الدنيوية كلها يف يده ورهن
تكون بعيدة عن الرطوبة .وكان كانوا يعتقدون أن جسم اإلنسان مشيئته ،ومن هنا أصبح أهم
القرين أو (الكا) يالزم املكان الذي مكون من جملة أجزاء ،لكل جزء مظهر لرضاء امللك عىل أحد أتباعه
وضعت فيه الجثة يف حجرة الدفن منها وظيفته الخاصة .وأهم هذه يتمثل يف هبة جنائزية سواء
يف املقبرة ،ومل يكن يغادرها إال األجزاء :الجسم ،وهو الجزء كانت مقبرة أو جز ًءا من مقبرة أو
عن طريق الباب الوهمي ليدخل الظاهر املنظور .و(البا) ،وهي ً
تمثال ،أو با ًبا وهميًّا ،أو غير ذلك
إىل املزار. الروح السماوية التي صوروها من الهبات الجنائزية.
وتم االحتياط لفناء الجسد بأي عىل شكل طائر له رأس إنسان وقد تصور املصريون أن (البا)
سبب من األسباب .فصنعوا وهي تغادر الجسد بعد املوت إىل تتردد عىل املقبرة من آن آلخر
التماثيل ،ووضعوها يف املقبرة السماء حيث تسكن يف النجوم، لتزور الجسد ،ويمكن أن نسميها
بدل من الجسد لتحل فيها (الكا) ً ثم تعود إىل زيارة الجسم بين آن النفس ،التي تخيلها املصريون
إذا ما ُسرِق أو فني ،أو اختفى وآخر .و(الكا) أو (القرين) وهو يف شكل طائر أو بجسم طائر
منعما
ً ألي سبب ما حتى يحيا أهم هذه األجزاء .وهو الروح ورأس إنسان ،تطير بعد موت
يف قبره .وأكثروا من صناعة املادية التي تولد مع اإلنسان، صاحبها إىل طبقات الجو ،ولكي
هذه التماثيل ألنها كلما كثرت وتكبر مثله ،وال تموت بموته ،بل تعيش هذه الروح وال يتطرق
تأكدوا من خلود روحهم إىل تظل قريبة من جثمانه وتحوم إليها الفناء كان عىل أهل امليت أن
األبد ،وسميت هذه التماثيل صنعت من حول املقبرة ،وقد ُ يضعوا املأكل واملشرب يف قبره؛
بتماثيل (الكا) .وكانت توضع يف مادة خفيفة ال تُرى ،مثل األثير لكي تتغذى هذه الروح وال تموت
أماكن خاصة بها عرفت فيما بعد أو الهواء ،وتكون صورة مطابقة ألنها أمينة مخلصة للجسد تبقى
باسم (السراديب) وهي حجرة تماما .فكان قرين ً لشكل صاحبها معه وتجلس بجواره ،وكان امليت
صغيرة مشيدة من جهاتها األربع طفل ،وقرين الشيخ شيخً ا، الطفل ً عب ًدا لألحياء ،فإذا ما تأخر أهله
ومسقوفة ،وليس بها منفذ غير بل كان قرين األعور أعور ،وقرين يف تقديم القرابين واملأكوالت
ثقب صغير يمكن زائر املصطبة األعمى أعمى. واملشروبات لروحه تعذبت
من أن يرى التمثال منه ،وهذا ومل يكن األجداد املصريون تلك الروح وماتت جو ًعا ،ولهذا
الثقب يحفر يف الجدار الخارجي يعتقدون أن املوت هو نهاية فقد جعل املصريون القدماء يف
للسرداب ،ويختلف ارتفاعه من الحياة؛ ألن (الكا) تحل بعد املوت مقابرهم مزارات تتضمن أبوا ًبا
سطح أرض الحجرة باختالف يف الجسد وتأخذ شكله وتحتفظ وهمية يحمل إليها األهل واألقارب
279
ثقافات وفنون
تاريخ
العجل أبيس كان يحيا يف الحياة الدنيا. حجم التمثال ،فإذا كان التمثال
وتشير هذه النصوص إىل ما صغيرا حفر يف أسفل الجدار ،وإذاً
يعتبر اإلله (أبيس) الذي ُيمثل يستفيده امليت أو روحه يف كان مرتف ًعا ثقب يف أعىل الجدار،
يف شكل عجل ،رم ًزا لإلخصاب، حياته األخرى من املأكوالت بحيث يمكن للناظر أن يراه كله،
كان له معبد عظيم يف مدينة واملشروبات التي تقدم إليه بعد وأحيانًا يكون يف السرداب عدة
(منف) ،يعبد فيه وتقدم إليه موته .ومن أهم مظاهر هذه تماثيل ،فيكون عدد الثقوب بقدر
القرابين ،حيث كان إله هذه النصوص أنها ترينا كيف كان عدد التماثيل ،ويضاف إىل ذلك أن
املدينة .وعندما يموت كان يحنط هذا الثقب كان من وظائفه إيصال
امللوك ال يذكرون املوت .فال يذكر
ويحتفل بدفنه كما يحنط امللوكُ ، البخور لتمثال املتوىف.
يف كتاباتهم أنه مات ،بل ُيد َّون أنه
عظيما مهيبًا يف جنازة
ً ً
احتفال
صعد إىل السماء .أما املوت فكان متون األهرام
رسمية وسط جمع من عباده
يف اعتقادهم هو املوت األزيل ،وهو
الذين كانوا ُيحضرون له الهدايا
ما يصيب الروح إذا فقدت الجسم هي أقدم كتابات دينية ُعرفت.
ويدفن يف من كافة أرجاء اململكةُ ، أو التماثيل التي صنعت لها. وقد نقشها الفنانون بالكتابة
مقبرة خاصة به .واقترن باإلله التصويرية الهيروغليفية ،فخرجت
(بتاح) رب سقارة وصار الرمز معجزة فنية بنقشها املتقن ودقة
املادي له ،وروحه املباركة ،ثم التفاصيل يف صورها البشرية
استعار ذلك الثور قرص الشمس والحيوانية ،وألوانها املمتعة التي
من (رع) وحمله بين قرنيه، ما زالت محتفظة بجمالها رغم
وبعد ذلك اندمج يف (أوزيريس) مرور القرون الكثيرة عليها.
وأصبح ابنًا له ،وتك ّون منهما إله وزخرفوا معها سقف حجرة
الدفن بأشكال النجوم حتى بدا
كأنه سماء تظلل جثة الفرعون
وتحتويها.
ومتون األهرام التي تم تأليفها
يف عهود سابقة قبل أيام األسرة
الثالثة ،لكنها مل تدون إال يف هرم
(زوسر) ،هي كتابات معقدة ظهر
يف ثناياها عادات غريبة كانت
العجل أبيس متبعة يف عصر ما قبل األسرات.
وتتلخص يف أنها تصور حياة
امللك الدنيوية ،فتصور امللك
وأمامه الحراس يفسحون له
الطريق ،ثم تصور امللك صاع ًدا
بعد موته إىل السماء ،إما عىل
شكل طائر ،وإما صاع ًدا بسلم،
وقد استقبلته آلهة السماء ،وحيته،
وأجلسته بينها حيث يعيش معها
عيشة ممتعة يف حقول النعيم كما
280
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
مشتر ًكا ،ورابطة بين اإلغريق الصخر ،مع حجرات للدفن تُفتح جنائزي.
واملصريين .ولقد رأى اإلغريق أن عىل كال الجانبين ،وفيها كانت وبمجرد أن يموت أبيس يعود
(سرابيس) يمثل (اسكليبيوس) توضع توابيت تلك العجول فيولد من جديد ،فيبحث الكهنة
إله الشفاء ،كما أن (زيوس) املقدسة. يف الحقول ،ويفحصون القطعان
يمثل (آمون) كبير اآللهة .لكن للعثور عىل ذلك اإلله الذي يمكن
(سرابيس) يف نظر املصريين السرابيوم التعرف عليه بعالمات خاصة
بشكل عام مل يكن سوى صورة مميزة فوق جلده األبيض حتى
من (أوزيريس) الذي كان يتجسد هو مقبرة العجول (أبيس) .وكلمة يكون إل ًها ،فيجب أن تكون أمه
عىل هيئة العجل (أبيس). (سرابيوم )Serapeumمعناها بقرة مل تلد غيره .وكان أجدادنا
ويبلغ طول ممرات (السرابيوم) يف اليونانية مقر اإلله (سرابيس)، املصريون يعتقدون أن البرق
مترا .أما طول ذلك اإلله اليوناني الذي جعله ينزل من السماء فوق هذه البقرة
حوايل ً 380
املمر الرئيسي فيبلغ حوايل البطاملة واإلغريق يف مصر إل ًها فتحمل من فورها بهذا العجل
وتلده ،كما يجب أن يكون لونه
متون األهرام
أبيض ،تتوسط جبهته بقعة مربعة
سوداء ،أما ذيله فيجب أن يكون
ذا خصلتين من الشعر ،وعىل
لسانه رسم لجعل (جعران) .فإذا
ما توافرت كل هذه الشروط يف
أحد العجول ،يحل الفرح محل
الحزن ،ويتوج العجل اإللهي يف
الحظيرة املقدسة يف (منف) ويتم
سحبه إىل املعبد يف احتفال عظيم،
حيث يعيش مع أمه ،تحيط به
اإلناث من األبقار.
وعبادة هذا الحيوان يف (منف)
و(سقارة) ترجع إىل عهد قديم
ج ًّدا يف التاريخ املصري ،حيث
حجرة الدفن
وجدت مقابر يف (منف) يرجع
تاريخها إىل بداية التاريخ
املصري .ويف الدولة الحديثة
قام املصريون بإنشاء مقابر
خاصة لهذا العجل ،ففي منتصف
حكم األسرة الثامنة عشر كانت
العجول تدفن يف مقبرة منفصلة
تُحفر يف باطن األرض ،ويشيدون
مزارا عىل سطح األرض. ً فوقها
أما يف الفترة التي تلتها فقد تم
وضع تصميم مختلف للمقبرة.
فحفر ممر تحت األرض يف
281
ثقافات وفنون
تاريخ
واستخدموا العطور يف تنظيف وفاة زوسر 200متر .وقد وجد داخل هذه
الجثمان وإكسابه رائحة مقبولة، املقبرة حوايل 24تابوتًا ،ما زال
ولكن عمليات التحنيط نفسها تويف امللك (زوسر) بعد رحلة عشرون منها يف أماكنها إىل
ظلت وما زالت س ًّرا من األسرار طويلة مع املرض ،تار ًكا مصر صنع من قطعة اآلن ،كل تابوت ُ
تحضرا،
ً تطورا ،وأعظم
ً أكثر
ال يعلمه إال كبار الكهنة املحنطين، واحدة من الجرانيت األسود أو
وجعلها زاخرة باألمن والسالم،
وقاموا بلف الجسم بالعديد من األحمر أو البازلت أو من الحجر
وشيد املدن األكثر اتسا ًعا
طبقات القماش ،وبتغطية الوجه الجيري الصلب .متوسط أطوال
بمنازلها املنتظمة املشيدة من
بقناعه ،ويف احتفال جنائزي مهيب هذه التوابيت يبلغ أربعة أمتار
اللبن واألخشاب ،ومخازن الغالل
نقل جسد الفرعون املتوىف إىل طول ،وعرضها متران ونصف، ً
العظيمة ،وحظائر املاشية املمتدة،
الهرم املدرج ،ووضعه الكهنة يف وارتفاعها أقل من أربعة أمتار،
اخضرارا بما
ً واملزارع األكثر
حجرة الدفن التي شيدت من حجر حوت من صنوف املزروعات، كما أن متوسط وزن الواحد
الجرانيت الوردي بعمق يصل وازدادت مدينة الجدار األبيض منها حوايل 65طنًّا ،ويزن أثقلها
مترا تحت سطح ألكثر من ً 30 وإبهارا (منف) يف عهده عجبًا حوايل سبعين طنًّا.
ً
األرض ،ليوضع يف التابوت امللكي بروعة جمالها وجمال صور أقيم (للسرابيوم) معبد بالجبانة،
الخاص به ،وسط تراتيل وترانيم الحياة فيها ،ولهذا فقد أحبه وتم عمل طريق اصطفت عىل
الكهنة ،ودموع الشعب ،وعدد املصريون حبًّا ج ًّما ،وحزنوا عليه جانبيه الكباش يوصل إىل املقبرة.
كبير ،يتجاوز الخمسين ألفًا ،من كثيرا.
ً حزنًا وعىل ذلك فإن (السرابيوم) هو
األواني ،جيدة الصنع ،املصنوعة وقام كهنة معبد (منف) بتحنيط آخر مرحلة من مراحل عبادة
من املرمر والكريستال ،وغيرها جسده بالتخلص من السوائل هذا العجل الذي كان العثور عليه
من األحجار ،وأغلقوا عليه األبواب، واألعضاء الرخوة يف جسده ،ماعدا بصفاته املعروفة يعد معجزة من
وسدوا جميع الطرق واملمرات القلب ،ليحفظوا له تماسكه بعد املعجزات .ولهذا كانوا يحتفلون
الداخلية املوصلة لتلك الحجرة إجراء بعض العمليات الخاصة، عظيما.
ً ً
احتفال عند العثور عليه
املصادر واملراجع:
-1أسامة حسن :مصر الفرعونية( ،القاهرة :دار األمل للنشر والتوزيع.)1998 ،
-2جورج بوزنر (وآخرون) :معجم الحضارات املصرية القديمة ،ترجمة أمين سالمة ،مراجعة سيد توفيق( ،القاهرة:
الهيئة املصرية العامة للكتاب.)1996 ،
-3سليم حسن :مصر القديمة ،الجزء الثاني( ،القاهرة :الهيئة املصرية العامة للكتاب.)1992 ،
-4سمير أديب :تاريخ وحضارة مصر القديمة( ،القاهرة.)1997 :
-5عبد الرحمن الرافعي :تاريخ الحركة القومية يف مصر القديمة من فجر التاريخ إىل الفتح العربي( ،القاهرة :دار
املعارف.)1989 ،
-6عبد املنعم عبد الحليم سيد :حضارة مصر الفرعونية( ،اإلسكندرية :دار املعرفة الجامعية.)1999 ،
-7محمد بيومي مهران :مصر ،الجزء الثاني :منذ قيام امللكية حتى قيام الدولة الحديثة( ،اإلسكندرية :دار املعرفة
الجامعية.)1996 ،
-8ول ديورانت :قصة الحضارة ،املجلد األول :نشأة الحضارة والشرق األدنى( ،القاهرة :الهيئة املصرية العامة
للكتاب.)2001 ،
9- Bob Brier: The History of Ancient Egypt, Part 1, (North Carolina: The Teaching Company,
1999).
10- Margaret R. Bunson: Encyclopedia of Ancient Egypt, Revised Edition, (U.S.A.: Facts on File,
2002).
282
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
أم ً
تأمل في الموت؟ الكردوسي*
يموت؛ حتى األمراء» .فطلب منه غوتاما بوذا والذي كان ُيدعى عندما سبق وجودنا ماهيتنا؛
عىل الفور أن يرجعه إىل قصره. يف الثالثة عقود األوىل من حياته سبق ماهيتنا اختياراتنا لتشكيل
وبالعودة بدأ يفكر يف كل ما رآه باألمير سيدهارثا ،Siddhartha وجودنا وفرض ماهيتنا .نسعى
ً
متسائل :ما فائدة أن أكون للتو ذلك األمير الذي عاش حياة إلكمال صورنا عبر الحياة التي
مل ًكا عىل الجميع مع العيش يف شاعرية خلف جدران قصر والده نعيشها ،نتفكر فيها ونتأملها
ظل الخوف الرهيب الذي يعيشه الشاسع .كان األمير سيدهارثا يف تفاصيلها الوجودية .نتفاعل
الجميع من املوت؟ وقرر األمير، محبو ًبا من الجميع ،وتزوج من مع من سبق وجوده ماهيته
من أجل الجميع وليس من أجل أميرة جميلة ،وأنجبا ول ًدا ،وكانت ومن سبق ماهيته وجوده ،لكن
نفسه فقط ،أنه سيكرس حياته أسرته سعيدة .لكن طوال العقود سرعان ما نصطدم بحقيقة واقعة
الكتشاف كيف يمكن لجميع الثالثة األوىل من حياته مل يخرج ال محالة تربك ذلك التأمل الذي
البشر تجاوز الوالدة واملوت. األمير مرة واحدة من بوابات كنا نعيشه من جانب واحد ،أال
هذه القصة لألمير سيدهارثا القصر إىل املدينة ،ويف يو ٍم ما وهو التأمل يف الحياة ،فيتضح
وللسؤال الذي سأله ،ليس فيها طلب من سائقه املخلص أن لنا الجانب املظلم اآلخر املوازي
فقط من التعاليم والدهشة حول يقوده عبر مدينة والده العظيمة، لهذا التأمل ،وهو التأمل يف املوت.
وجود املوت ،بل سؤال فيه من وللمرة األوىل عىل اإلطالق رأى دائما
ولطاملا يصبح التساؤل ً
أيضا كلماالشجاعة حينها واآلن ً األمير جثة ،كان هذا املنظر بديهية تُنتج إما من الدهشة أو
نتساءله؛ ألنه برغم التطور التي صدمة مروعة له .وتساءل يف ظهور تضاد بين مسألتين ،فقد
وصلت إليه البشرية واألنظمة نفسه «هل سيحدث يل ما حدث يتساءل املرء هل يجب أن تكون
الحضارية التي نعيشها والتي لذلك الرجل؟» فسأل سائقه :هل ً
تأمل يف ً
تأمل يف الحياة أم الحياة
تجعلنا نتفكر أكثر يف حياتنا ،فإن أيضا؟ وأجابه سائقه عىل سأموت ً املوت؟
وجود حتمية املوت يف حياة كل الفور« :نعم جاللة امللك ،الجميع تحكي القصة الشهيرة عن
283
ثقافات وفنون
رأى
يكون عىل أحد حالين :إما أن سقراط الرجل املؤمن لها زاويتان؛ شخص ،وملرة واحدة فقط ،تفتح
عدما وال يكون له إحساس يصبح ً أوال زاوية التأمل يف الحياة بحيث لنا محاولة من التأمل حوله .ويف
بأي شيء كان ،وإما ،بحسب ما تحياها بمسلك أخالقي .وثانيًا املقابل الحياة التي يعيشها كل
يقال ،أنه يحدث تحول وهجرة زاوية االستعداد للموت من خالل أيضا محاولةشخص تفتح له ً
للنفس من هذا املكان إىل مكان التأمل األول ،مع أن سقراط كان من التأمل حولها .لكن أيهما
آخر .وإذا كان املوت هو عدم يدعي عدم معرفته املوت ،ال سيما أكثر طغيانًا عىل تأمالت الفرد يف
اإلحساس بأي شيء كما هو وأن هذا كان جز ًءا من تعاليمه وجوده؟
الحال يف النوم عندما ينام املرء وهو (ال أعرف) .ورؤية سقراط دائما
سقراط ،هو املثال األول ً
وال يرى أي شيء وال حتى يف هذه تتجيل بوضوح من خالل عندما نفتح حديثًا عن فلسفة
الحلم ،فلكم سيكون املوت مكسبًا حياة الفضيلة املرجوة لديه ،ألن املوت ،انفتاحه حول ما يخبئه
مدهشً ا ،وإني ألعتقد أنه إذا كان عدم اتباع تلك الفضيلة معناه أن املوت ال ُيحسب له فقط كوسيلة
ألحد أن يختار بين تلك الليلة يلتقي اإلنسان بالشر ،والتقاء ملنع الخوف من احتمال املوت،
التي ينام فيها بدون أن يرى أي اإلنسان باملوت عند سقراط أيضا انفتاحه عىل املوت لكي لكنه ً
حلم؛ والليايل واأليام األخرى أفضل بكثير من التقائه بالشر. يبدو وكأنه حالة جذابة ومرغوبة،
من حياته نفسها ،وإذا كان عليه، يقول سقراط بعد صدور الحكم ونهاية مثالية ومستحقة لحياة
بعد املقارنة مع تلك الليلة ،أن بإعدامه: مكرسة للفضيلة( .)1يقول سقراط
يقول بعد الفحص كم من األيام «إننا لسنا عىل حق يف رأينا حينما يف محاورة أوطفيرون أو الدفاع:
والليايل عاشها يف حياته هو نعتقد أن املوت شر .وعندي أن «ربما قال يل البعض أال تخجل يا
نفسه وكانت أفضل وأمتع من هناك برهانًا قو ًّيا عىل ذلك ..امليت سقراط من انشغالك بهذا النوع
تلك الليلة ،إن أي شخص عادي، من الحياة الذي بسببه يمكن
بل امللك الكبير نفسه ،سيجد أنه اليوم أن تموت؟ عىل هذا سأرد
يسهل عدها باملقارنة مع بقية بكلمة الحق التالية :أنت مل تصب،
األيام والليايل .فإذا كان هذا هو أيها الصاحب إن كنت
املوت ،فإني أقول إنه يعد كسبًا، تعتقد أنه واجب عىل
حيث إن كل زمان ال يبدو أطول رجل ذي قيمة مهما
من ليلة واحدة .من جهة أخرى، ضؤلت أن يحسب
فإذا كان املوت رحلة خارجية حساب إمكان أن
من هذا املكان إىل مكان آخر يحيا أو أن يموت،
يكون فيه كل املوتى ،إذا إنما عليه أن يعتبر
صحيحا ما يقال،
ً كان شيئًا واح ًدا يف سلوكه
فأي خير أكبر من هذا وهو إن كان يسلك
يمكن أن يتصور أيها ً ً
عادل أم ظاملا ،وإن سلو ًكا
املواطنون القضاة ،ذلك كان عمله عمل رجل فاضل
أنه إذا كان الواصل أم شرير»( .)2بذلك يرى
إىل هاديس يتخلص سقراط أن اإلنسان الذي
من هؤالء القضاة يحيا حياة فاضلة وعادلة
املزعومين ليجد قضاة سقراط
وأخالقية تؤهله هذه
حقيقيين ..وأنا من الحياة الستقبال املوت
جانبي أرغب دون خوف .فنظرة
284
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
هذا أن ما يقض مضجع اإلنسان الشر؛ فهو يفعل ما هو صالح يف املوت مرات عديدة إذا كان هذا
إنما تلك اإلمكانيات التي تجعله ألنه شيء صالح عن طريق صحيحا»( .)3وهذه زاوية أخرى ً
نهبا -يف كل حين -لعوارض إرشاد العقل وليس عن طريق من تأمالت سقراط حول املسألة،
املرض ،والفشل ،والشقاء، كبح الخوف ،فاإلنسان يف حياته وهي أن اإلنسان ينشد الحقيقة،
واملوت»(.)6 يسعى لنيل السعادة وليس وهو مل يكن عىل يقين منها يف
هذه العوارض ال تنفي تعرض لتفادي الحزن؛ ألن العيش وفقًا حياته ،فهو يأمل إنشادها فيما
لتفادي الحزن والشر وغيره ً
بدل بعد املوت .وبذلك فاملوت لديه
اإلنسان الحر لها يف حياته،
من السعي وراء الفرح والخير ليس ش ًّرا ،ألنك تدرك من خالله
سيموت اإلنسان الحر بالطبع
يسلب العيش يف الحياة وفقًا الحقيقة النهائية ،وأن أفضل شيء
ويشقى ويمرض ،وهذا جزء من
للطبيعة اإلنسانية ،ويضرب إلدراك الحقيقة هو تأملها.
الطبيعة ،فاإلنسان ليس بمنأى اسبينوزا ً
مثال عىل ذلك: إذا انتقلنا إىل نقطة أخرى يف
عن التغييرات التي تحدث من «الرجل املريض ،من خشية املوت، العصر الحديث حول نفس
خالل األسباب الخارجية .عىل يأكل ما ينفره ،بينما يستمتع املسألة نجد فيلسوفًا كان يتطرق
الرجل السليم بطعامه ،وبهذه دائما لتحديد هذا التأمل؛ وهو ً
الطريقة يتمتع بالحياة أفضل مما اسبينوزا ،الذي برغم تأثره
لو كان يخشى املوت ويريد بفالسفة الرواقية وكتابات
تجنبه بشكل دائم»(.)5 سينيكا الذين رأوا أن الحياة تأمل
واسبينوزا يف سبيل مسارا مختلفًا ج ًّدا
ً يف املوت ،اتخذ
تأمله الحياة فقط، عن سقراط وغيره من الكتابات
وفقط ال غير ،يسلب من الفلسفية القديمة .فوجهة نظره
اإلنسان ظاهرة من أهم أن الطريقة الصحيحة والعقالنية
الظواهر الطبيعية لإلنسان؛ للتعامل مع املوت -سواء كان
الخوف« .فالحياة ليست، املوت غير الطبيعي أو املوت
دائما ،سلسلة من املباهج
ً الطبيعي يف حد ذاته -هو عدم
واملسرات ،بل هي سلسلة التفكير فيه عىل اإلطالق ،فهو
أيضا من املخاوف واملخاطر، ً يرى أن« :اإلنسان الحر ،أي الذي
فإننا لنعلم أن علماء النفس يعيش وفقًا إلمالء العقل وحده ،ال
يضعون الخوف عىل رأس يجب أن يقوده الخوف ،بل يرغب
قائمة االنفعاالت األصلية يف الخير بشكل مباشر طاملا يحيا،
التي نلتقي بها لدى املولود أي يعمل ويحيا ويحفظ كيانه
الصغير .وإذا كان اإلنسان من أساس السعي وراء حياته
هو املوجود الذي ال يكاد الخاصة .ولذا فهو ال يجب أن
يكف عن البحث عن األمن، يفكر يف املوت عىل اإلطالق .وبدلً
فما ذلك إال ألن حياته مهددة من ذلك ،حكمته يجب أن تكون
يف كل لحظة بالعديد من ً
تأمل يف الحياة»(.)4
األخطار :أخطار تهدده من ألن الشخص الحر يف نظر
الخارج من جانب اآلخرين، اسبينوزا يسعى بطبيعته ومن
وأخطار تهدده من الداخل منطلق عقالنيته ومشاعره إىل
من ِقبل ذاته نفسها .ومعنى االرتماء يف أحضان الخير ال
غوتاما بودا
285
ثقافات وفنون
رأى
الحر جي ًدا كما يف فكر اسبينوزا. الرغم من أنه يتمتع بقوة أكبر
وإنكار خلود الروح الناتج عن من الكائنات األخرى ملقاومة
البعد الديني والسياسي عند التأثيرات السلبية وذلك بفضل
اسبينوزا كان تقريبًا عادة ترافقه عقالنيته وعواطفه ،إال أن بعض
يف كل كتاباته ،فقد عبر عن هذه التغييرات يف نهاية املطاف سوف
الرؤية عندما قال: تطغى عىل محاوالته وتؤدي إىل
«إن عقيدة خلود الروح قد زوال جسده وبالتايل عقله.
تكون أخطر األفكار الالعقالنية «فالقوة التي يثابر بها اإلنسان
التي تشجعها السلطات الدينية عىل الوجود محدودة ،وتتفوق
وحلفاؤها ألتباعهم .فاإليمان عليها بقوة األسباب الخارجية.
بالنفس الخالدة يقود بال هوادة يعرف الشخص الحر جي ًدا
إىل حياة تحكمها أهواء األمل أنه ميت ال محالة .عىل عكس
والخوف :األمل يف املكافأة األبدية الشخص الذي يسترشد بالخوف
اسبينوزا
يف الجنة والخوف من العقاب والعواطف األخرى ،فالشخص
األبدي يف الجحيم .يمكن أن تكون تأمل يف املوت هي الحقيقة الحر ال يستهلكه هذا الفكر؛ فهو
هذه املشاعر حول مصير روح النهائية املرتبطة بالخلود األبدي، مهووسا باملوت .واحتمالية ً ليس
املرء يف عامل ما قادم؛ قوية للغاية أو الحقيقة الحقيقية باملعنى املوت لديه ال تحدد كيف
وتهيمن عىل حياتنا العقالنية .أي األفالطوني .وهذه الغاية تجعلك يتصرف ،وبالتأكيد ال تدفعه إىل
شخص سيفعل أي شيء ،أي تتمكن من الخروج من الحياة االنخراط يف أي طقوس خرافية
شيء! لكسب تلك املكافأة اإللهية عن اقتناع وباستعداد تام لهذا من املفترض إما أن تمنع موته أو
وتجنب العقاب اإللهي .ولتحقيق الخروج طاملا ينتظرنا شيء أغىل تضمن أن يتبعه نوع من النعيم
ذلك يقول الكهنة والخطباء وأثمن ،وهذا ما اتخذته أغلب الخالد .اإلنسان الحر ال يخاف
والحاخامات إنهم يعرفون االتجاهات امليتافيزيقية ،سواء املوت ،وال يحزنه التفكير فيه ،وال
بالضبط ما يجب عىل املرء أن قديما أو حديثًا .أما اسبينوزا
ً حتى ألنه يعلم أن شيئًا أفضل
يفعله لتحقيق النتيجة األبدية فالغاية من أن تكون الحياة تأملً ينتظره يف حياة ما ،بل ألن املوت
املنشودة .نتيجة هذا املزيج القابل يف الحياة هي أن الغاية بالفعل ال يلفت انتباهه .إنه مشغول ج ًّدا
لالشتعال من اليأس بين القوم معك اآلن؛ حريتك وفضيلتك. يف تقدير الحياة التي يقودها
العاديين واملعتقدات الخرافية، وربما هذا ناتج عن بعد سياسي والتمتع بالحب الفكري الخالص
والخداع الذي يرتكبه رجال الدين وديني عند اسبينوزا ،ألنه مثل الذي هو تتويج إلنجازاته .تتجه
هو طاعة خاضعة من قبل األول األبيقوريين ال يرى خلو ًدا بعد عيون الشخص الحر إىل الجائزة،
لألخير .يلقي الناس بأنفسهم املوت ،فهو ينكر وجود الذات والجائزة موجودة معه بالفعل:
تحت رحمة الوزراء ،ويسمحون الخالدة بعد املوت ،أو كما يصف حريته وفضيلته»(.)7
لهم بإمالء سلوكهم وإدارة األبيقوريين املسألة بأن املوت، ونقطة املفارقة هنا بين اسبينوزا
حياتهم وحتى نظامهم السياسي. أفظع الشرور ،لكنه ليس شيئًا أيضا تتمثل وسقراط ومخالفيه ً
والنتيجة ليست مجرد عبودية بالنسبة لنا ،ألننا عندما نكون يف الغاية النهائية يف اتجاه تأمل
نفسية للعواطف ،حيث ال توجه أحياء ،ال نحس باملوت ،وعندما ً
تأمل كل منهما ،سواء الحياة
الرغبة العقل بل مشاعر األمل نكون أمواتًا ،فإننا ال نحس ً
يف الحياة نفسها أو تأمل يف
أيضا عبوديةوالخوف ،بل هي ً بالحياة .هذا الدرس األبيقوري املوت .فسقراط الذي يرى أن
اجتماعية وسياسية» .
()8
القديم شيء يفهمه الشخص الغاية النهائية من أن الحياة
286
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
يف النهاية ..الحياة واقع نعيشه، طريق العدم ،وأن الحياة نفسها وهذه النظرة االسبينوزية مل تكن
وتفكيرنا فيها أو يف املوت هو موت مستمر ،ألننا ال نكف يف أيضا عن بعض من قبل بعيدة ً
ما يوحي لنا بأننا عىل قمة هذا كل لحظة عن بناء موتنا ،ولكننا األديان عند بعض الفرق الدينية
الواقع ،وأن اإلرادة وحدها -مع ذلك -ال نملك سوى املضي أو الزهاد ،حيث كانت أهم مطلب
هي التي تنزع ذلك املنزع لتلك يف مشاغلنا وحياتنا العادية، لديهم من مطالب العبادة؛ العبادة
التأمالت؛ تلك اإلرادة التي من وكأن ليس ثمة موت ينتظرنا من أجل املحبة وليس طم ًعا يف
خاللها نستطيع أن نتأمل الحياة يف خاتمة املطاف! ونحن نختبر ثواب أو خوفًا من عقاب إلهي ،مع
واملوت م ًعا كوجهين لعملة واحدة، -يف تجربتنا الزمنية -ال وجود الحفاظ عىل طبيعة النفس الخالدة
إذا قلبتها لن تجد إال الوجه اآلخر، ما مل يعد له وجود ،وال وجود بعد املوت .وبالتايل كانت لديهم
ما مل يوجد بعد .ال نكاد نصدق ً
تأمل يف نفس النظرة يف أن الحياة
إرادة يقبلها الوجهان ،الحياة
أن يكون نسيج حياتنا هو هذا الحياة قبل املوت .لكن اآلن سواء
واملوت ،إرادة الخير يف حد ذاته،
الالوجود املثلث! وآية ذلك أن كانت الطريقة الصحيحة للعيش
كما يطلق عليه كانط ،أي اإلرادة ً
حياتنا -يف نظرنا -ملء كثيف تأمل يف الحياة أو إن إن كانت
التي يتم تحفيزها ألداء (أو متسق متماسك ،وكأنما هي كل ً
كانت تأمل يف املوت ،هل تنطبق
االمتناع عن) فعل لسبب وحيد، ال موضع فيه للعدم أو الالشيء.. كل طريقة عىل كل شخص؟ أي:
هو أن الواجب األخالقي يأمر ومعنى هذا أن مخاطرة الحياة قد هل الطريقة الصحيحة لهذا التأمل
بذلك ،وأن يجعل اإلنسان حياته تجيء فتطيح بالخوف من املوت، هي الطريقة الصحيحة للمعيشة
تأمل يف الحياة أو يف املوت ،يف ً عىل شرط أن يعرف املوجود لدى الجميع؟!
النهاية لهما غاية واحدة تجلت البشري كيف يركز الوجود يف الحق أننا نعلم علم اليقين
عند سقراط يف أن يحيا اإلنسان الحاضر ،وكيف ينظر إىل الزمانية أن املوت معانق للحياة ،وأن
ً
عادل، يف كال الحالتين خيِّ ًرا، عىل أنها طريقتنا الخاصة يف النبضات األوىل لقلب الوليد هي
وفاضلً الحياة(.)9 يف الوقت ذاته خطواته األوىل عىل
هامش:
* كاتب وباحث أكاديمي يف الفلسفة والعلوم اإلنسانية.
مراجع املقال:
1- Nadler, Steven: Think Least of Death, Princeton University Press, United States of
America, 2020, p.174.
-2أفالطون :محاكمة سقراط (محاورات أوطيفرون ،الدفاع ،أقريطون) ،ترجمة وتقديم :عزت قرني ،دار
قباء للطباعة والنشر والتوزيع ،الطبعة الثانية ،2001 ،ص.119
-3أفالطون :محاكمة سقراط (محاورات أوطيفرون ،الدفاع ،أقريطون) ،املرجع السابق ،ص.135
.Nadler, Steven: Think Least of Death, op. cit. p175 -4
.176.op. cit. loc. Cit. p -5
-6زكريا إبراهيم :مشكلة الحياة ،دار مصر للطباعة ،ص.133
.177-176.Nadler, Steven: Think Least of Death, op. cit. pp -7
.180-179.op. cit. loc. Cit. pp -8
-9زكريا إبراهيم :مشكلة الحياة ،املرجع نفسه ،ص .173-172
287
ثقافات وفنون
كتب
قراءة في كتاب
أشرف البوالقي.. عبد النّبي
«قنا بين ّ
الشهد وال ّدموع.. ع ّبادي
صفحته بفيسبوك تحت هاشتاج ومعانيها ،والتي يغفلها املتطلع إىل لكن مر َّدها إىل أن هناك أنوا ًعا
#آخر_ماقاله_املمثل ،كانت تلك فلكلورا
ً الثقافة الشعبية بوصفها ُمختلفة من املث ّقفين ،ال تستطي ُع
الكتابات يف ُمجملها تعرية لل ّذات ليس أكثر( .)4وهو املث ّقف «الوطني» أن تنفي عن أي واح ٍد منهم لفظة
ومواجهة حاسمة مع تناقضاتها الغيور ج ًّدا عىل ُلغته العربية. «املث ّقف» ،بينما تستطي ُع أن تُلحق
مع نفسها أو مع الواقع ،لقد وقد أستطي ُع أن أطلق عىل البوالقي بلفظة «املثقف» الصفة التي ّ
تؤطر
استخدم بوعي نفس فكرة التط ُّهر لفظة «املثقف القلِق» الذي ال دوره ،ألنني ال ُيمكنني أن أتفق
األرسطي بصعود املمثل إىل خشبة يتوقَّف عن نقد كل شيء ،حتَّى مع جاك لوكوف فيما ذهب إليه
املسرح لتُعرض لنا معاناته التي تسلم من نقده .وقد ُ ذاتُه ال من أن املثقف هو ك ُّل ُمشتغ ٍل
ً
وصول يتخفف منها شيئًا فشيئًا البعض نقد الذات نو ًعا ُ يعتبر
ُ إنتاجا وتوزي ًعاً بالعمل الثقايف
لالعتراف ،أو يوغ ُل فيها شيئًا من التشهير لكنني قد أراه نو ًعا ّ وتنشي ًطا( ،)3بل واعتراضي عىل
فشيئًا حتى الهالك وإال فلما ْ
مل من التطهير أو التط ُّهر بمفهومه هذا التعريف أنه نظر لتعريف
يختر البوالقي أي عنوانٍ آخر لهذا األرسطي ،catharsisوهو ما املثقف كتعريف ذي طبقات ،نواتُه
الهاشتاج ،حتى وإن كان قد ارتبط قد ُيخالفني فيه املتخصصون املبدعون والفالسفة وهذا صحيح
حسهعنده بوقائع فعليَّة ،لكن َّ يف املسرح وال ِّدراما الذين رأوا -يف رأيي -لكنّه ض ّم إليهم دائرة
النقدي لل َّذات جعل من الهاشتاج انحصارا يف األداء
ً يف املصطلح أوسع من الفنانين والصحفيين
أحد تجليَّات نقد الذات واآلخر، املسرحي الذ ي يعالج عاطفتي واملُحامين واملُعلمين وخالفه ،وهذا
والسؤال حول جدوى الكتابة ويع ِّرض البطل الشفقة والخوفُ ، مما ال أجدني متفقًا معه .وهو ما
ُمجد ًدا. لجرعات متنامية من األمل تدفعه يف رآه من قب ُل املف ّكر اإليطايل أنطوني
وبالعودة إىل مفهوم «املثقف القلق» النِّهاية لالعتراف ،وهو ما ُيش ّكل جرامشي عندما تساءل :هل
الذي أطلقه عىل البوالقي مع لقبي يعتبر نفسه تنفيسا للمتل ِّقي الذي املثقفون طبقة اجتماعية واحدة؟
ُ ً
«املثقف املوضوعي» و»املثقف ُ
ُمعادل واقعيًّا لذلك البطل املتخيَّل. ً أم أن كل طبقة اجتماعية لها
الوطني» ،فذلك مفهوم أطلقه فما عالقة ذلك بنقد الذات لدى مثق ّفوها؟ وهذا ما يؤ ّكد ما أرمي
الباحث خالد الحروب يف كتابه البوالقي؟ وما ارتباط ذلك باملفهوم اعتبرت البوالقي ُمثقفًا ُ إليه عندما
«املثقف القلِق ضد مثقف اليقين». الدرامي للتط ُّهر؟ ُمتع ِّد ًدا .فهو بتعبير «غرامشي»
ينادي هذا الكتاب بضرورة كبيرا من لقد نشر البوالقي عد ًدا عضوي» بالتحامه بقضايا ٌّ ٌ
«مثقف
ً
مواجهة مثقف اليقين باملثقف القصائد والنثريات مؤخَّ ًرا عبر مجتمعه وبيئته والجماهير التي
القلق ،وهو يف نظري «أشرف يعيش بينها ،وهو «مث ّق ٌف
البوالقي» الذي ال يلين وال حيث يبرز املثقف يل» ُ جما ّ
يستكين إىل أيديولوجية أو عقيدة الجمايل ،باحثًا عن مظاهر
فكرية ،وال يستسلم إىل قناعة الجمال ،يف الثقافة الشعبية
نهائية .إن مقاربة صوت وصورة األصيلة (كتابه «أشكال
املثقف يف الحقبة الحالية يأتي يف وتجليات العدودة يف صعيد
طليعة املهام املطروحة عىل املثقف نموذجا) ،فتلك الثقافة ً مصر»
القلق ،الذي يفترض فيه أن يتسلح بمختلف تعبيراتها وأشكالها،
بالحس النقدي ،وبهاجس املساءلة من أمثال وشم وخط
وأخالقيات الحوار واملساجلة، وخرافة ،تحمل يف طياتها عدة
ونقد كل األفكار ،واالنقضاض عىل أبعاد جمالية ،وهي األبعاد
ركودها ،حتى لو كانت أفكاره هو ذاتها التي يسعى املثقف
نفسه .والحال أن هذا القلق الفكري الجمايل إىل إبراز قيمتها
علي جعفر ّ
العلق
289
ثقافات وفنون
كتب
األنفس واألقالم! يقول ص:48 املقولة الرابعة :غياب مرتين وثالث مرات ،يف حين عقد
«هناك أندية أدب كاملة ال توجد األنثى: مرة واحدة يتيمة يف قنا يف مايو
بها أنثى واحدة تمارس الكتابة، 2018دورة الشاعر الراحل عبد
وهناك أسما ُء إناث مثبتة يف يف عام 2020أصدر البوالقي الناصر عالم!».
تحضر وال
ُ القوائم لكنها ال كتابه «عذابات األنثى ..أسئلة وهذه مقولة حقيقية بالتواريخ
تُشارك ،ويمكنني أن أستعرض الذات وتناقضات الواقع ..قراءات والوقائع لكن تفسيرها كما ذكر
اآلن عد ًدا من األسماء التي كانت نقدية يف إبداع املرأة» وهو كتاب
الكتاب أن املؤتمرات والقائمين
تُشارك يف مدينة قنا ،بعضها نقدي يف إبداع ابتهال الشايب
توقَّف عن الكتابة ،وبعضها سافر وسعاد سليمان وزينب سعيد عليها يهتمون باملُدن الساحلية أو
وانتقل بعي ًدا ،وبعضها يكتب يف ورجاء عبد الحكيم وأمل عبده مثل ضمانًا السياحية كاألقصر ً
صمت وهدوء ،وبعضها انصرف ٍ وهدى سعيد وتقى املرسي وسناء لتلبية الدعوات ووجود فندقة
تحف ًظا عىل املشهد وممارساته، مصطفى ،ولسنا يف مناسبة عرض وغيرها من األعذار واملُبررات
لكن يجمع بينهما اآلن أسماء لذلك الكتاب لك َّن عذاباتهن التي وهذا يطرح أمامنا إشكالية تسليع
غائبة ،كانت تتواجد وتحضر ظهرت يف إبداعه َّن وبعضه َّن من اإلبداع ،فالدولة ممثلة يف وزارة
وتشارك ،لكنها اختفت اآلن، قنا امت َّدت وما تزال تمت ُّد باتساع الثقافة تضع املؤتمرات كقيمة
منها (سحر رمضان ،هدى عبد نفسر
السهل أن ِّ اإلقليم .ومن َّ ً
أشواطا ملحافظات قطعتٍ ُمضافة
املنعم ،هناء عابدين ،غنية عبد غياب األنثى بشكل كبير إال فيما يف الحضور والتنمية وبالتايل
الرحمن ،أمل هاشم ،هدى السبع، ندر عن الفعل اإلبداعي الثقايف
تُمعن يف إقصاء املُقصى وهجران
كريمة عبد القادر ،لييل رفاعي، بأن نعزوه إىل التقاليد والعادات
االجتماعية ،فاملُفترض يف املرأة قنا املحافظة التي يجدر بها أن
مي منصور) وأخريات ..ورغم
املُبدعة إن كانت ُمثقفة أن تقوم سنوي باسم أمل ّ مؤتمر
ٌ ُيقام بها
أن الكالم هنا عن مدينة قنا ،يف
بدورها يف مواجهة تلك العادات حصرا وهذا مما ً مثل وليس دنقل ً
استدعاء أسماء الغائبات ،إال
أنه عىل مستوى املحافظة كلها واألمر
ُ والتقاليد إن كانت خاطئة، الكتاب وهذا مما ُيحزن ُ أشار إليه
تبقى أمامنا ثالث أديبات ال يزلن طب ًعا ليس بهذه السهولة وال ُيمكن الفؤاد ويسلب طاقة اإلبداع م َّمن ُ
حتى لحظتنا هذه قابضات عىل التصدي له بين عشية وضحاها الرمق األخير يتمسكون بها حتى َّ َّ
جمر الكتاب وجمر التواصل يمكن تدبيره بليل ،لكننا ال
ُ وال يف قنا.
بالحضور واملشاركة ،األوىل تيارا إبداعيًّا نسو ًّيا
نشعر أن ُهناك ً
ُ أال ترون أنه يج ُدر بنا أن نعقد
سناء مصطفى من فقط ،والثانية يموج يف قنا إال املحاوالت الفردية مؤتمرا سنو ًّيا باسم عبد الجواد
وتحضر بشق وتنشر تكتب التي ً
رجاء عبد الحكيم الفويل من أبو ُ ُ ُ خفاجي الذي سقط يف
تشت ،واألخيرة مها جمال ،من معرض الكتاب منذ عامين
مدينة قنا ،وإن كانت األخيرة مصا ًبا بجلطة وهو يحاول أن
أقلّهن نشاطا ومشاركة ،ولكل ِ
يحتف يحتفي ب ُكتُبه التي مل
واحدة منهن أكثر من ثالثة كتب
بها أحد إال القليل حتى من
إبداعية». ِقنا ِ
نفسها؟
ولع ّل من أسباب غياب املرأة
-يف رأيي -إىل جانب بعض وأعتق ُد أن صرخة البوالقي
املمارسات التي قد تن ِّفر بعض حول نُدرة املؤتمرات الثقافية
اإلناث من الحضور للندوات الدورية بقنا صادقة وموجعة
والصورة الذهنية الراسخة وهي عالية ومدوية بحجم
عن الشعراء واملُبدعين (وهي التجاهل الذي تواجهه
مش َّوهة يف قطاعات كبيرة من املحافظة.
خالد الحروب
293
ثقافات وفنون
كتب
نموذجا)
ً (الريف المغربي
أوروبا ،وتعميرها من جديد. باإلضافة إىل ذلك كانت هناك عرف اإلنسان األمازيغي
ومل تقتصر هذه الهجرة عىل هجرات فردية مصلحية من بمنطقة الريف الهجرة منذ
اإلنسان األمازيغي العادي فقط، مثل ،إذ كانت هذه أجل التجارة ً القدم ،وذلك لعدة أسباب منها
بل أصبحت ه َّم معظم الفنانين الهجرة قبل القرن العشرين تتم الجفاف ،واالستعمار ،والحروب،
الريفيين ،فغادروا منطقة الريف بواسطة نقل العمال من بوسكور والتهميش ،واألزمات االقتصادية
مهاجرين إىل الضفة األخرى وتاوسرت وباديس إىل وهران التي عرفها تاريخ املغرب ،فهجرة
بطرق متنوعة ومختلفة ،إما بحثًا بالجزائر ،أو إىل سبتة ومارتيل الريفيين كانت لظروف قاسية،
عن الحرية واألمن واالستقرار، خصوصا ،حيث كان أغلبهم ممن ً أيضا من أسبابها
والتي نجد ً
يتقنون ِح َرفًا يدوية(.)1 الهجرة اإلجبارية ،إذ يف سنة
وإما رغبة يف الحصول عىل العمل،
هاته األسباب وغيرها دفعت 1898قام املخزن املغربي بتشريد
أو الستكمال الدراسة وتحصيل
الكثير من الريفيين يف القرن أحد قبائل الريف األوسط ،وهي
سبل املعرفة .وبال شك فإن
العشرين للهجرة شرقًا إىل قبيلة بقيوة ،ألنه اعتبر سكانها
الفنان األمازيغي املعروف بتشبثه جبال الجزائر ،وغر ًبا داخل من املزعجين له ،حيث ظلت خالية
بأرضه وهويته الثقافية جعل مدن املغرب (تطوان -طنجة- من السكان ملدة طويلة .وإىل
من األغنية وسيلة للتعبير عن شفشاون -القصر الكبير -فاس- جانب هذا التهجير الجماعي كان
أحاسيسه ومشاعره تجاه وطنه، مكناس ،)…-أو الهجرة نحو هناك تهجير فردي ألشخاص
فمن خالل عرضنا هذا سنحاول أوروبا منذ سنوات الثالثينيات حكمت عليهم القبيلة حسب عرفها
أن نعرض أهم األغاني التي من القرن املاضي؛ للمشاركة بمغادرة الدوار لجرم اقترفوه،
جعلت من الهجرة موضو ًعا لها، يف الحرب األهلية اإلسبانية ،أو فيضطروا إىل طلب اللجوء
خصوصا الهجرة الخارجية.
ً بعد الحرب العاملية الثانية لبناء (امزاوك).
295
ثقافات وفنون
غناء
زمن تيدي اينو سوينت مارا. مدينة الناضور ولد سنة ،1959
(استغلوا مجهوداتي كلها). وتأثر منذ صغره بـ»امذيازن».
ثمشومتا نلغروبيث ذكور اينو استكمل دراسته الثانوية يف
ثغزا( .هاته الغربة تركت يف قلبي ثانوية محمد بن عبد الكريم
أثرا عميقًا).
ً الخطابي بالناضور كما درس
سنسغ سادوا رقندرت دكدفر د الفلسفة بجامعة محمد بن عبد
كنزار( .أبيت الليايل تحت القنطرة اهلل بفاس .أصدر أول ديوان له
يف الثلج والبرد). سنة 1994بعنوان ‹›زي رادجاغ
يا حسرا خ بنادم يتمنزا( .يا نء ثمورت غاروعرا و جنا›› من
حسرتاه عىل اإلنسان صار يباع أعماق األرض إىل أعايل السماء.
مجموعة أياون
ويشترى). فمن أغانيه الخالدة أغنية «هاجاغ
هنا الشاعر يتحدث عن ثامرت إينو تلعغ غا بارا ..هاجرت
الصعوبات التي واجهته أثناء موطني ورحت بعي ًدا» ،التي
انتقاله من بلد ألخر ،وكذا املعاناة تحكي عن أسباب هجرة اإلنسان
واالستغالل الذي تعرض له يف األمازيغي ومعاناته يف الغربة.
غربته ،وأن قيمة اإلنسان تفتقد وهنا نعرض لكلمات األمازيغية
عند تخليه عن بالده وموطنه مع ترجمة تقريبية:
األصيل. أودارغ اذسوغ ثوزا خايف ثرا.
قارغاس مارمي اربي غاجغ (رغبت يف الشرب جف عني املاء).
ثيمورا نبارا( .أقول متى يا إلهي مين زريغ تيفقاع من زريغ
أرحل من هاته البلدان). نتامارا( .كم قاسيت من أمل كم جوهان نوري
اذ عقبغ غا ثمارت اينو سييري قاسيت من معاناة).
اينو ذا زيرار( .أعود إىل موطني افقوسن د كور أرينايي حال.
مرفوع الرأس). (الهموم يف القلب جعلوني يف
ماني ثدجا ثفوشت دو جنا ذا حالة سيئة).
زيزا( .أين هي الشمس والسماء يتضح من خالل الكلمات التالية
الزرقاء). أن الوليد ميمون كان يتحدث عن
هاجاغ ثامرت إينو تلعغ غا بارا. الحالة املزرية التي كان يعيشها
(هاجرت موطني ورحت بعي ًدا). اإلنسان األمازيغي يف بالده قبل
الفنان يتمنى الرجوع إىل موطنه الهجرة ،وكذا أسباب هجرته التي
كر ًما مرفوع
األصيل معز ًزا ُم َّ هي املشاكل والهموم التي عاشها. الوليد ميمون
الرأس ،فبالده التي من شدة هاجارغ ثامرت اينو اتلعغ غا بارا.
اشتياقه لها يصف لنا الفنان (هاجرت موطني ورحت بعي ًدا).
مناظرها الطبيعية الخالبة. زويغ سبع ربحار نيغاس أدفغ
-2مجموعة أياون: رهنا( .قطعت سبع بحور بحثًا
مجموعة «أياون» هي من عن االستقرار).
املجموعات الغنائية األمازيغية زي لكنسا غا وا أريمت اينو
القديمة واملعروفة يف الريف، ثنوا( .من شعب إىل آخر جسدي
تتطرق للعديد من املواضيع تهالك).
297
ثقافات وفنون
غناء
ويار( .عىل قارب الظالم سمع إينو( .رغم سفري فاألمر ليس املهمة كالتشبث بالثقافة والهوية
فرحل). بيدي). األمازيغية ،كما ناقشت قضايا
ثغاربوت ن طرا اينقربن غ مش غاكغ أشم توغ يما ثمزي اجتماعية عديدة ،والتي من بينها
وعرور( .قارب الظالم الذي أنقل إينو( .كيف أنساك وهناك أمي ظاهرة الهجرة ،وهذا ما نستشفه
علو ظهره). وطفولتي). يف العديد من األغاني التي أطلقتها
إنطالقا من هاته الكلمات التي نش دايم إضحشغ جيغ ريمارث املجموعة .سنحاول االشتغال عل
تعكس لنا نو ًعا آخر من الهجرة إينو( .أنا فيك يا أرضي ضحكت نموذجين ،األول بعنوان «أزول
بالريف ،وهي الهجرة السرية وتركت بصمتي). ثمارت إينو( ..سالم عىل أرضي)»
بقوارب املوت ،التي يعبر عنها تعكس لنا الكلمات السابقة تشبث والثاني تحت عنوان «ثاغاربوت ن
الفنان بقارب الظالم الذي يحمل املهاجر بذكرياته الجميلة يف طرام( ..قارب الظالم)».
فوقه األطفال والشباب والشيوخ، أرض الريف ،وكذا حرقته عىل
ويتساءل الفنان هنا عن سكان رغما عنه ،حيث عائلته التي تركها ً األغنية مع ترجمة
الريف الذين غادروا وتركوا وصل به األمر ملخاطبة األرض تقريبية:
وطنهم وأراضيهم. لكي تزوره ،وهذا ما يؤكد لهفته
-3األغاني الشبابية: الكبيرة و اشتياقه لها. أزول أزول أزول ثمارت إينو.
من البديهي أن ظاهرة الهجرة األغنية الثانية هي بعنوان (مرحبًا مرحبًا مرحبًا بالدي).
مل تكن وليدة اللحظة ومل تنطلق «ثغاربوت ن طرام (قارب يا ثامرت ايتاسن غا ميد ن وور
من فراغ ،وإنما كانت امتدا ًدا الظالم)» ،وفيما يأتي الكلمات مع إينو( .يا بالدي القريبة إىل قلبي).
لتيارات هجروية داخلية عرفها ترجمة تقريبية: نش ميم إ تراغان زي تمارت
املجتمع املغربي قبل نظام الحماية ثغاربوت نطرام مين دام يتغير ن إذرا وسينو( .أنا ابنك
أثارا بينة عىل
بعقود ،فتركت ً ثمزي امي ذاس ثكيد رغرور. الذي يناديك من أرض الجبال
التطورات املتالحقة للهجرة (قارب الظالم ماهذا ملاذا ِ
قمت والضباب).
الحديثة وانسجمت يف سياقها بإغراء الطفولة). ذاديها ذ كليمان ذ رغروبيت اينو.
التاريخي( ،)6فرغم مرور السنين ما ذ رغمام اشم يذرين ما ثيشرا (هاهنا يف أملانيا يف غربتي).
ال زالت منطقة الريف تعرف و ثكار( .هل السحب التي غطت ِك شم اذايي شن رحنونيت اينو.
هجرة الكثير من الناس ،خاصة أم آثار الرحيل). (أنت التي أخذتي حناني).
الشباب الذي يجد فيها الحل نيغ ثني ثيمضرين ايثسيد ك وحشخشم ثيكجادايي ثودساد
األمثل يف ظل الواقع املزري الذي بحرور( .أم هي القبور التي غا ربار اينو( .اشتقت لك وأنت
يعيشه ،واملعاناة التي يعانيها حملتي يف أحضانك). بعيدة عني لكن ِك قريبة لذهني).
بسبب تفشي ظاهرة البطالة، ماني ثكيد روروف أريف توغا من خالل هذا املقطع الغنائي
ويظهر ذلك جليًّا من خالل العديد يشار( .أينهم اآلالف؟ الريف كان تتضح قيمة الوطن واألرض يف
من األغاني التي تعبر عن حلم ممتلئًا). قلب اإلنسان األمازيغي بصفة
الهجرة ،وأخرى تحاول التطرق ثرا غيد ماغا ايروح خران زايم عامة ،والريفي بالخصوص ،فرغم
إىل هاته الظاهرة قصد إقناع (ناديت ملاذا ذهب بسببك ِ ردشور. هجرته إال أنه مل يستطع نسيان
الشباب بالعدول عنها ،وهذا ما تركوا أحيائهم). بالده.
يستشف من أغنية الشاب الصاعد قدور ثوغا يقيم ذي ذمرث خو وضايي مارا ثخسذ وضايي
جوهان نوري الذي يحكي عن بدور( .قدور –اسم عامل -كان ِ
أردت ثمارت اينو( .تعايل إذا
قصص واقعية ألناس هاجروا جالسا فوق صخرة عىل األرض). ً تعايل يا أرضي).
من الريف إبان الثورة السورية، خ ثغاربوت ن طرام يسرا وشاي وخا نش أويارغ ودجي ذاراي
298
العـدد 38
فبراير ٢٠٢2
يشير هنا الفنان الشاب جوهان السوريين ،واغتنام الفرصة متنكرين كالجئين سوريين نحو
إىل مشاركة املرأة أو الفتاة للتخفي يف صفة الجئ من أجل البالد األوروبية ،هاته الهجرات
األمازيغية يف هاته الهجرات، تحقيق حلم الهجرة إىل خارج عموما والريفً التي كلفت املغرب
رغم ما يعرف ثقافيًّا أن الفتاة الوطن. خاصة فقدان العديد من الشباب،
األمازيغية مل تكن لتخرج من وين ذيها يويار يسمح وايني اهلل و هنا نعرض للكلمات األمازيغية
البيت ،واليوم ها هي تهاجر رفقة يعاون( .ذاك الذي هناك رحل مع ترجمة تقريبية:
مجموعة من الشباب. بدون وداع). ثاروا ناريف إينو مين ذاوم
يجا إحنجارن نس ترون خاص ايخاسن( .أبناء ريفي ما الذي
خاتمة إيمطاون( .ترك أطفاله يذرفون ينقصكم).
عليه الدموع). أبريد ن تركيا كنيو يسبوهرين.
إن األغنية األمازيغية من الفنون اريف اينو يخرا مارا هاجرن. (طريق تركيا أصابتكم بالجنون).
التي شدت إليها -أكثر من (ريفي مهجور بالكامل فالكل قد كنييو واثسينام مين ذيني
غيرها -انتباه الجمهور الواسع، تركه). ايتوقعن( .أنتم ال تعرفون ما الذي
حيث تدل القرائن التاريخية عىل قيمن اوسورا جارسن تمعاشرن. يحصل هناك).
مدى افتنان اإلنسان األمازيغي (بقي فيه الشيوخ فقط يعيشون كارن ذي رغوابي مساكن
بفن الغناء منذ القدم ،وبالتايل فيما بينهم). سنوسن فاقن( .يعيشون يف
فهي تعكس العديد من القضايا هنا يعبر الفنان عن القصص الغابات ال يستطيعون النوم).
املجتمعية األمازيغية بصفة عامة، الواقعية التي تعبر عن هذا النوع ثاروا ناريف إينو توغاكنيو ذا
والريفية بصفة خاصة ،والتي من الهجرة ،ويعطي ً
مثال لألب حسن( .أبناء ريفي كنتم هنا
من بينها الهجرة ،هاته الظاهرة الذي هاجر دون إخبار أسرته أحسن).
املستمرة سواء الشرعية منها أو تار ًكا بذلك وراءه أوالده ،كما وسيند إسورين إيكنيو يسفلسن.
غير الشرعية ،ففي ظل األزمات يصف لنا حالة الريف بعد هاته (جاء السوريون ففقدتم عقولكم).
االقتصادية واالجتماعية التي الهجرات املتتالية ،إذ أصبح فارغًا يتساءل الفنان األمازيغي الشاب
تعيشها منطقة الريف ،فإن من الشباب الذين هم نبض عن سبب هجرة الشباب إىل الديار
هجرة الشباب إىل خارج الوطن املجتمع. األوروبية يف الفترة الحالية،
أصبحت من األمور املقلقة ،إذ لها ورا شم أوثشما اينو تاريند مؤك ًدا عىل أن العيش بالريف
انعكاسات سلبية عىل البالد تتجىل كيدسن إخفنم( .حتى ِ
أنت أهون وأحسن ،وأن من يسلك
يف فقدان اليد العاملة الشبابية، يا أختي أصبحت منهم أي طريق تركيا غير الشرعية يعاني
وكذا خسارة العديد من األدمغة املهاجرون). الويالت جراء الظروف القاسية
واملواهب التي يمكن احتضانها ثجيد مسكينة يمام تنيخسيس التي يعيشها أثناء مغامرته هاته،
واالهتمام بها لتشكل فيما بعد (تركت أم ِك تبكي بحرقة
ِ قبارنم. ويرجع سبب هاته الهجرات
النواة األساسية للمجتمع أمامك) .
()7
إىل تأثر اإلنسان الريفي بهجرة
299
ثقافات وفنون
غناء
الهوامش:
-1املفتوحي أحمد بوقرب ،منطقة الحسيمة عبر التاريخ «مساهمتها يف بناء الحضارة املغربية» ،ج ،1هوية املجال
وارتباطه بالوطن وعالقاته باألخر ،ط ،1مطبعة الخليج العربي ،تطوان املغرب ،2013 ،ص.258
-2املوسوعة العربية العاملية ،ط ،2اململكة العربية السعودية :مؤسسة أعمال املوسوعة للنشر والتوزيع ،1999 ،صفحة
.73
-3ابن منظور ،لسان العرب ،مجلد ،2د:ت ،القاهرة ،داراملعارف ،ص.1304
-4محمد نورالدين أفاية« ،يف بعض أنماط املتخيل» ،مجلة الثقافة الشعبية ،عدد ،8ص.13
-5بوشتى ذكي ،محمد املسعودي ،الغزل يف األغنية األمازيغية ،منشورات املعهد امللكي للثقافة األمازيغية ،مركز
الدراسات األدبية والفنية واإلنتاج السمعي البصري ،دراسات وأبحاث رقم ،2املعارف الجديدة ،الرباط ،صص-12 -11
.15
-6أحمد أغالل ،الدواعي التاريخية واالجتماعية للهجرة املغربية ،مطبوعات أكاديمية اململكة املغربية سلسلة الندوات
«هجرة املغاربة إىل الخارج» ،الناظور ،1999ص.51
-7أغنية (أبريد ن تركيا) للفنان الشاب والصاعد جوهان نوري نشرت سنة .2016
القائمة البيبليوغرافية:
املراجع:
-املفتوحي أحمد بوقرب ،منطقة الحسيمة عبر التاريخ «مساهمتها يف بناء الحضارة املغربية» ،ج ،1هوية املجال
وارتباطه بالوطن وعالقاته باألخر ،ط ،1مطبعة الخليج العربي ،تطوان املغرب.
-املوسوعة العربية العاملية ،ط ،2اململكة العربية السعودية :مؤسسة أعمال املوسوعة للنشر والتوزيع.9991 ،
-ابن منظور ،لسان العرب ،مجلد ،2د:ت ،القاهرة ،داراملعارف.
-محمد نورالدين أفايا« ،يف بعض أنماط املتخيل» ،مجلة الثقافة الشعبية.
-بوشتى ذكي ،محمد املسعودي ،الغزل يف األغنية األمازيغية ،منشورات املعهد امللكي للثقافة األمازيغية ،مركز
الدراسات األدبية والفنية واإلنتاج السمعي البصري ،دراسات وأبحاث رقم ،2املعارف الجديدة ،الرباط.
-أحمد أغالل ،الدواعي التاريخية واالجتماعية للهجرة املغربية ،مطبوعات أكاديمية اململكة املغربية سلسلة الندوات
«هجرة املغاربة إىل الخارج» ،الناظور .9991
األغاني املعتمدة:
-أغنية الوليد ميمون «هاجاغ ثامرت إينو تلعغ غا بارا ..هاجرت موطني ورحت بعي ًدا».
-مجوعة «أياون» األغنية األوىل بعنوان «أزول ثمارت إينو( ..سالم عىل أرضي)» ،والثانية تحت عنوان «ثاغاربوت ن
طرام( ..قارب الظالم)».
-جوهان نوري أغنية «أبريد ن تركيا( ..طريق تركيا)» نشرت سنة .6102
إضاءات حول
ديوان
«قبالت مستعارة»