You are on page 1of 302

‫‪MERIT EL THAQAFEYYA‬‬

‫فبراير ‪2022‬‬ ‫‪38‬‬ ‫العدد‬ ‫كتاب أدبي غير دوري‬ ‫تصدر عن دار ميريت للنشر‬

‫الهجرة الخارجية‬ ‫السيدة عائشة‬ ‫قراءات في‬


‫في متخيل‬ ‫أكثر نساء المسلمين‬ ‫رواية “فاصلة‬
‫اإلنسان األمازيغي‬ ‫إثارة للجدل‬ ‫بين نهرين»‬

‫جامعاتنا «الحديثة» وأزمة تجديد الخطاب‬

‫جدلية العالقة‬
‫بين‬
‫الفلسفة‬
‫واألدب‬
‫قدي ًما وحديثَا‬
‫‪M‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪R‬‬ ‫‪I‬‬ ‫‪T‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪L‬‬ ‫‪T‬‬ ‫‪H‬‬ ‫‪A‬‬ ‫‪Q‬‬ ‫‪A‬‬ ‫‪F‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪Y‬‬ ‫‪Y‬‬ ‫‪A‬‬

‫‪2022‬‬
‫العدد‬
‫دوري‬
‫غير‬
‫أدبي‬
‫كتاب‬
‫للنشر‬
‫دار ميريت‬
‫تصدر عن‬

‫فبراير‬
‫‪38‬‬
‫قواعد النشر يف «ميريت الثقافية» ‪:‬‬
‫تنحاز «ميريت الثقافية» للكتابة اإلبداعية والثقافية الجادة‪ ،‬التي تعبر عن فكر ورسالة التنوير‪ ،‬ويسعدها أن تقبل املساهمات األدبية والثقافية‬
‫وفق املتطلبات اآلتية ‪:‬‬
‫أن تكون املادة املرسلة مخصصة حصر ًيا لـ «ميريت الثقافية»‪ ،‬ومل يسبق نشرها بأي وسيلة نشر أخرى‪.‬‬
‫ترسل املادة مكتوبة ومصححة عىل برنامج «وورد» ‪ ،Word‬وال تُقبل األوراق املطبوعة‪ ،‬أو امللفات بصيغ أخرى (مثل ‪.)PDF‬‬
‫املجلة غير ملزمة بتقديم تفسير عن عدم النشر‪ ،‬وميعاد النشر يخضع ألولويات املجلة وأسبقية إرسال املواد‪.‬‬
‫ترتيب املقاالت وأسماء ال ُكتَّاب يخضع العتبارات فنية خالصة‪ ،‬وليس له عالقة عىل اإلطالق بأهمية املبدعين‪ ،‬واملجلة تعتز بكل ُكتَّابها وقرائها‪.‬‬
‫إهداء من‬

‫القاهرة ‪ ،‬مصر‬
‫أحمد اللبَّـاد‬
‫املدير العام‪ :‬محمد هاشم‬

‫املاكيت الرئيسي والتصميم‬


‫التنفيذ الفني ‪ :‬إسالم يونس‬

‫‪email: miritmag@gmail.com‬‬
‫مدير التحرير ‪ :‬سارة اإلسكافي‬

‫املواد املنشورة باملجلة تعبر عن آراء ُكتَّابها‪،‬‬


‫وال تعبر بالضرورة عن رأي القائمين عليها‪.‬‬
‫رئيس التحرير ‪ :‬سمير درويش‬

‫املراسالت ‪ :‬دار ميريت للنشر ‪ ٣٢ ،‬شارع صبري أبو علم ‪،‬‬


‫نائب رئيس التحرير ‪ :‬عادل سميح‬
‫المحــــــ‬
‫افتتاحية‬
‫‪ 4‬السيدة عائشة بنت أبي بكر‪ ..‬أكثر نساء املسلمين إثارة للجدل حتى يومنا هذا! | رئيس التحرير‬

‫إبداع ومبدعون‬
‫إيفالد فاجنر‪ ..‬وقراءة الشعر القديم | د‪.‬مروة مختار‬ ‫رؤى نقدية ‪8 :‬‬
‫‪ 21‬رمزية العنف والدمار يف «دمية» لحسن جبقجي | د‪.‬يوسف الزدكي‬

‫‪ 33‬إحاالت املقام يف شعر محمد الشحات | د‪.‬أبو زيد بيومي‬

‫‪ 40‬كأس «زيادة» أخير يف «حانة الست» ملحمد بركة | مختار سعد شحاته‬

‫‪ 45‬أسطرة الغواية يف غواية األسطورة | شريف هاشم الزمييل‬

‫‪ 52‬قطارها املسافر إىل الشمال والتمثيل الرمزي للعامل | د‪.‬عايدي عيل جمعة‬

‫قطا ٌر يف منتصف البحر | صالح بوسريف‬ ‫‪58‬‬ ‫شعر ‪:‬‬


‫الجحيم | أحمد نبوي‬ ‫‪61‬‬ ‫أذن مدالة بال رأس | وليد عالء الدين‬ ‫‪60‬‬
‫‪ 63‬حفريات يف الريح | سامل الشبانه‬ ‫‪ 62‬دروب | حسونة فتحي‬

‫‪ 66‬نصوص | حسني منصور‬ ‫‪ 64‬عينٌ ترنو من بعيد | كمال أبو النور‬

‫‪ 69‬قصيدتان | منى العاصي‬ ‫‪ 68‬ذات مساء | شمس املوىل‬

‫‪ 71‬قصيدتان | أوس حسن‬ ‫جسد | عاصم عوض‬ ‫َ‬ ‫‪70‬‬


‫‪ 76‬نصوص | رشيد طالبي علوي‬ ‫‪ 72‬مقامات العشق والتوبة | عامر شحاته عامر‬

‫‪ 78‬سنة أوىل ُحزن | محمد النحراوى‬ ‫‪ 77‬للموت وجه أقل‪ ..‬للبقاء | آيات القاضي‬

‫تشابه | سمير املنزالوي‬ ‫‪80‬‬ ‫قصة ‪:‬‬


‫املتباعدون | سعيد سامل‬ ‫‪ 81‬الكاميرا الكاشفة | حجاج أدول ‪82‬‬
‫‪ 93‬صاحب الكرامة | هبة اهلل أحمد‬ ‫‪ 88‬معاش مبكر | خالد إسماعيل‬

‫‪ 102‬خب ٌر حصري | أحمد شرقي‬ ‫‪ 96‬الهاربة | مي ع َّطاف‬

‫‪ 106‬عجوز ضاعت أحالمه | روال عبيد‬ ‫‪ 104‬رماد الذاكرة | أسامة حمدوش‬

‫(قراءات في رواية “فاصلة بين نهرين” لغفران طحان)‬ ‫نون النسوة ‪:‬‬
‫فاصلة بين نهرين‪ ..‬دستوبيا الحرب وتهشم البشر | د‪.‬محمد سليم شوشة‬ ‫‪110‬‬
‫الحياة حين ترويها رائحة جثة‪ ..‬قراءة يف “ فاصلة بين نهرين” | عبد الوهاب امللوح‬ ‫‪114‬‬
‫الكتابة‪ ..‬تلك التي أنقذتني‪( ..‬شهادة إبداعية) | غفران طحان‬ ‫‪119‬‬
‫ـــتويات‬
‫تجديد الخطاب‬
‫جامعاتنا‪« ‬الحديثة»‪ ..‬وأزمة تجديد الخطاب الديني |‪ ‬جمال عمر‬ ‫‪126‬‬
‫‪ 132‬الرحلة الصوفية األندلسية‪ ..‬بين اإلكراه والطهرانية | د‪.‬عيل كرزازي‬

‫حول العالم‬
‫محمد شكري املثير للجدل | روبين كارافكا فرنانديث‪ -‬ت‪ :‬عبد اللطيف شهيد‬ ‫‪142‬‬
‫‪ 150‬عن الشعر كتجربة روحية | رايسا ماريتان‪ -‬ت‪ :‬عبد الرحيم نور الدين‬

‫‪ 154‬سأعطيك سببًا للبكاء | آنيل لوبيز‪ -‬ت‪ :‬أحمد ضحية‬

‫الملف الثقافي ‪( :‬جدلية العالقة بين الفلسفة واألدب)‬


‫فلسفة األدب عند أبي العالء املعري | د‪.‬سامية سالم‬ ‫‪160‬‬
‫‪ 178‬أدبيات التنظير العلمي | د‪.‬عادل عوض‬

‫‪ 196‬آين راند‪..‬عندما تتكلم الفلسفة بلسان األدب | د‪.‬حمدي مهران‬


‫الرسوم الداخلية املصاحبة ملواد باب «إبداع‬
‫ومبدعون» للفنان العراقي ضياء العزاوي‬
‫‪ 203‬آيريس مردوخ بين الفلسفة واألدب | د‪.‬ماهر عبد املحسن‬
‫(‪)... -1939‬‬
‫‪ 212‬القاريء والقراءة يف الفكر الفينومينولوجي | د‪.‬معتز سالمة‬

‫‪ 219‬رباعيات مسكونة بالفلسفة‪ ..‬قراءة يف كتاب السطور األربعة | د‪.‬غيضان السيد عيل‬

‫‪ 226‬الرواية العربية واستماالت الفلسفة | د‪.‬نادية هناوي‬

‫‪ 233‬الفلسفة والرواية‪ ..‬قراءة يف رواية الحمار الذهبي | د‪.‬شريف الدين بن دوبه‬

‫‪ 242‬ثالثية‪ :‬الزمن‪ /‬الخيال‪ /‬الجدل‪ ..‬يف مسرحية «صاحب الخيال” | د‪.‬رشا الفوال‬
‫الرسوم املصاحبة ملواد باب «نون النسوة»‬
‫للفنانة املصرية فاتن النواوي (‪)... -1951‬‬ ‫‪ 247‬جدلية العالقة بين األدب والفلسفة | د‪.‬ياسر عاشور إسماعيل‬

‫ثقافات وفنون ‪:‬‬


‫محمد ملســيح‪ :‬اختلف املفســرون حول تفسير ما َغ ُمض يف القرآن‪ ،‬رغم‬ ‫حوار‪252 :‬‬
‫قولهم إنه نزل بلسان عربي مبين‪ ،‬أو واضح كل الوضوح! | سمير درويش‬

‫الســروجي ونشــأة مدرسة التاريخ الحديث يف اإلسكندرية | د‪.‬جمال حجر‬ ‫شــخصيات‪260 :‬‬
‫الصور الفوتوغرافية يف بدايات األبواب‪،‬‬
‫‪ 266‬حسين فوزى‪ ..‬فقيه العلوم والفنون واآلداب | د‪.‬فوزى الشامى‬
‫ويف ظهر الغالف للفوتوغرايف املصري‬
‫زاد محمد (‪)... -1998‬‬ ‫تاريخ‪ 271 :‬زوســر والهرم املدرج | د‪.‬عيل عفيفي عيل غازي‬

‫تأمل يف املوت؟ | هشام تمام الكردوسي‬ ‫رأي‪ 282 :‬هل يجب أن تكون الحياة ً‬
‫تأمل يف الحياة‪ ..‬أم ً‬

‫الشــهد والدّموع‪ ..‬قراءات وشــهادات ثقافية” | عبد النّبي عبّادي‬ ‫كتب‪“ 287 :‬قنا بين ّ‬

‫غناء‪ 294 :‬الهجرة الخارجية يف متخيل اإلنســان األمازيغي من خالل األغنية الشــعبية | بالل أيوب‬
‫‪4‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫هذه بعض نماذج فقط تدلل‬ ‫افتتاحية‬


‫على إشكالية شخصية السيدة‬
‫عائشة بنت أبي بكر‪ ،‬وعلى أقوالها‬
‫ومواقفها التي ال تزال موضع خالف‬
‫حتى اآلن‪ ،‬وأكثرها ً‬
‫جدل قولها إن‬
‫رخصة إرضاع الكبير لم تكن تخص‬ ‫سمير درويش‬
‫رئيس التحرير‬
‫سهلة بنت سهيل التي سألت‬
‫النبي فرخصه لها‪ ،‬عكس موقف‬ ‫السيدة عائشة‪..‬‬
‫باقي زوجاته‪ ،‬فكانت تأمر أختها أم‬
‫كلثوم وبنات أخيها أن يرضعن من‬
‫أكثر نساء المسلمين إثارة‬
‫أحبت أن يدخل عليها من الرجال!‬
‫للجدل حتى يومنا هذا!‬

‫ست سنوات‪ ،‬ودخل بها عام (‪ 2‬هجرية)‬ ‫السيدة عائشة بنت أبي بكر‪ ،‬زوج‬
‫بعد غزوة بدر وكان عمرها تسع سنوات‪،‬‬ ‫النبي محمد ىلص اهلل عليه وسلم‪ ،‬من‬
‫فعن هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عائشة‪:‬‬ ‫أكثر الشخصيات اإلسالمية إثارة للجدل‪،‬‬
‫“أن النبي تزوجها وهي بنت ست سنين‪،‬‬ ‫سواء برواياتها لألحاديث املنسوبة إىل‬
‫وأُدخلت عليه وهي بنت تسع‪ ،‬ومكثت عنده‬ ‫النبي‪ ،‬أو بأفعالها التي وردت يف كتب‬
‫تس ًعا”‪ .‬أخرجه البخاري (‪ ،)5133‬ومسلم‬ ‫السيرة‪ ،‬وأشار القرآن إىل بعضها‪ ،‬منذ‬
‫(‪ .)1422‬كما روى ابن ماجه (‪)1632‬‬ ‫قصة زواجها وهي طفلة يف التاسعة‪ ،‬حتى‬
‫‪-‬وصححه األلباني‪ -‬أن عائشة قالت‪:‬‬ ‫مشاركتها يف الحرب ضد عيل بن أبي‬
‫«تزوجني النبي يف شوال وبنى بي يف‬ ‫مرورا بحادثة‬‫ً‬ ‫طالب من فوق ظهر جملها‪،‬‬
‫شوال‪ ،‬فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟”‪.‬‬ ‫وقسمت‬‫َّ‬ ‫اإلفك التي زلزلت املجتمع وقتها‪،‬‬
‫وتويف النبي يف شهر ربيع أول سنة ‪11‬‬ ‫الصحابة بين مصدق ومنكر‪ ،‬األمر الذي‬
‫عاما تقريبًا‪ ،‬بينما عاشت‬
‫هجرية وعمرها ‪ً 18‬‬ ‫كان له أكبر األثر عىل املسلمين فيما بعد‪.‬‬
‫عاما وتوفيت عام ‪ 58‬هجرية‪-‬‬‫حتى ‪ً 65‬‬ ‫حسب الروايات فإن النبي ‪-‬بعد وفاة‬
‫‪678‬م‪.‬‬ ‫زوجته األوىل خديجة بنت خويلد‪ ،‬وقبل‬
‫عائشة هي الزوجة البكر الوحيدة للنبي‪،‬‬ ‫الهجرة بعامين‪ -‬كلف «خولة بنت الحكيم»‬
‫وكانت تباهي باقي زوجاته بذلك‪ ،‬لكن األهم‬ ‫أن تخطب له السيدة عائشة وكان عمرها‬
‫‪5‬‬
‫افتتاحية‬

‫وعن آية الرجم تلك روى ابن ماجه ‪625 /1‬‬ ‫فضل أن يموت‬ ‫أنها كانت أقربهن إليه‪ ،‬حيث َّ‬
‫والدارقطني ‪ 179 /4‬وأبو يعىل يف مسنده‬ ‫علما‪ ،‬فقد‬
‫يف فراشها‪ ،‬كما كانت أكثرهن ً‬
‫‪ ،64 /8‬والطبراني يف معجمه األوسط ‪/8‬‬ ‫قال الحاكم يف املستدرك‪“ :‬إن ربع أحكام‬
‫‪ ،12‬وابن قتيبة يف تأويل مختلف الحديث‪،‬‬ ‫الشريعة نقلت عن السيدة عائشة”‪ ،‬وقال أبو‬
‫وأصله يف الصحيحين‪ ،‬وأورده ابن حزم يف‬ ‫موسى األشعري (يف جامع الترمزي‪ -‬كتاب‬
‫املحىل ‪ 236 /11‬وقال هذا حديث صحيح‪:‬‬ ‫الدعوات)‪“ :‬ما أشكل علينا أصحاب رسول‬
‫“حدثنا‏‏أبو سلمة يحيى بن خلف (‪)...‬‏عن‬ ‫اهلل حديث قط فسألنا عائشة‪ ،‬إال وجدنا‬
‫‏عائشة‏قالت‪“ :‬لقد نزلت آية الرجم ورضاعة‬ ‫علما”‪.‬‬
‫عندها منه ً‬
‫عشرا‪ ،‬ولقد كان يف صحيفة تحت‬ ‫ً‬ ‫الكبير‬ ‫ينسب للسيدة عائشة مجموعة من األحاديث‬
‫سريري فلما مات رسول اهلل‏وتشاغلنا‬ ‫التي تشكك يف صحة جمع القرآن عىل‬
‫بموته دخل‏ ‏داجن‏ ‏فأكلها”!‬ ‫صورته النهائية‪ ،‬وهو أمر جلل لو صدقنا‬
‫وهناك أحاديث تنسب للسيدة عائشة عن أن‬ ‫ما ورد من أقوال يف الفقرة السابقة عن‬
‫النبي كان ينسى اآليات ويتذكرها بمحض‬ ‫علمها الذي يفوق علم كبار الصحابة‪،‬‬
‫صدفة! ففي «منحه الباري بشرح صحيح‬ ‫ومن أمثلة ذلك الحديث الذي أورده جالل‬
‫البخاري» (‪ :)5037‬حدثنا ربيع بن يحيى‬ ‫الدين السيوطي يف كتاب «اإلتقان يف علوم‬
‫رجل يقرأ‬‫ً‬ ‫(‪ )...‬عن عائشة قالت‪ :‬سمع النبي‬ ‫القرآن» ج‪ 2‬ص‪« :66‬عن عروة بن الزبير‪،‬‬
‫يف املسجد‪ ،‬فقال‪« :‬يرحمه اهلل لقد أذكرني‬ ‫عن عائشة قالت‪ :‬كانت‪ ‬سورة األحزاب‪ ‬تُقرأ‬
‫كذا وكذا‪ ،‬آي ًة من سورة كذا»‪ .‬حدثنا محمد‬ ‫يف زمن‪ ‬النبي مائتي آية فلما كتب عثمان‬
‫بن عبيد بن ميمون‪ ،‬حدثنا عيسى‪ ،‬عن‬ ‫املصاحف مل يقدر منها إال عىل ما هو اآلن”‪،‬‬
‫هشام‪ ،‬وقال‪“ :‬أسقطتهن من سورة كذا‪،‬‬ ‫وهو يشير إىل أن “لجنة عثمان” مل تجمع‬
‫تابعه عيل بن مسهر‪ ،‬وعبدة‪ ،‬عن هشام”‪.‬‬ ‫القرآن كله‪ ،‬بل ما استطاعت أن تصل إليه‬
‫هناك أمثلة كثيرة ال يتسع لها املقام تحدثت‬ ‫فقط!‬
‫فيها السيدة عائشة عن أغاليط القرآن‬ ‫وما يزيد األمر إرباكا أن هذا الحديث‬
‫النحوية‪.‬‬ ‫يتوافق مع الحديث الذي رواه عبد اهلل بن‬
‫أما فيما يخص الوحي فسأستشهد بحديثين‪،‬‬ ‫اإلمام أحمد يف «زوائد املسند» (‪،)21207‬‬
‫األول‪“ :‬عن عائشة‪ :‬أن الحارث بن هشام‬ ‫وعبد الرزاق يف “املصنف”‪ ،‬وابن حبان‬
‫سأل النبي‪ :‬يا رسول اهلل كيف يأتيك‬ ‫يف “صحيحه”‪ ،‬والحاكم يف “املستدرك”‪،‬‬
‫الوحي؟ فقال‪ :‬أحيانا يأتيني مثل صلصلة‬ ‫والبيهقي يف “السنن”‪ ،‬وابن حزم يف‬
‫الجرس وهو أشده عيلَّ‪ ،‬فيفصم عني وقد‬ ‫“املحىل”‪ ،‬من طريق عاصم بن بهدلة‪ ،‬عن‬
‫وعيت عنه ما قال‪ .‬وأحيانًا يتمثل يل امللك‬ ‫أبي بن كعب‪« :‬كأين تقرأ‬ ‫زر‪ ،‬قال‪ :‬قال يل ُّ‬
‫رجل فيكلمني فأعي ما يقول‪ ..‬قالت عائشة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫سورة األحزاب؟ أو كأين تعدها؟» قال‪ :‬قلت‬
‫ولقد رأيته ينزل عليه الوحي يف اليوم‬ ‫له‪ :‬ثال ًثا وسبعين آية‪ ،‬فقال‪ :‬قط‪ ،‬لقد رأيتها‬
‫الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد‬ ‫وإنها لتعادل سورة البقرة‪ ،‬ولقد قرأنا فيها‪:‬‬
‫عرقًا” (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫“الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة‬
‫هذا الحديث ينفي ‪-‬أو عىل األقل ال‬ ‫نكال من اهلل واهلل عزيز حكيم”‪ ..‬ومعروف‬ ‫ً‬
‫يثبت‪ -‬وجود عالقة مباشرة بين النبي‬ ‫أبي أحد أربعة أوصى النبي أن يؤخذ‬ ‫أن َّ‬
‫متلقي الوحي‪ ،‬وجبريل عليه السالم ناقل‬ ‫القرآن منهم كما ورد يف البخاري‪“ :‬من‬
‫الوحي‪ ،‬وهناك أحاديث أخرى تقول إنه مل‬ ‫ابن مسعود وأبي بن كعب‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪،‬‬
‫يلتقي جبريل إال مرتين‪ ،‬وهو املدخل الذي‬ ‫وسامل موىل أبي حذيفة”‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الجيش‪ ،‬فتناولتهما األلسنة‪ ،‬وكان املتق ِّولُ‬ ‫استخدمه املستشرقون للتشكيك يف الوحي‪،‬‬
‫عليها عبد اهلل بن أُ َب ّي بن سلول‪ ،‬وقد انقسم‬ ‫والقول إن الصلصلة التي كان النبي يسمعها‬
‫الناس بشأن القصة بين مصدق ومكذب‪.‬‬ ‫هي َع َرض ألحد األمراض‪.‬‬
‫محتارا ال‬‫ً‬ ‫ما يعنينا يف ذلك أن النبي كان‬ ‫الحديث الثاني ورد يف «صحيح النسائي»‬
‫يستطيع أن يحسم أمره‪ ،‬فاستشار يف‬ ‫(‪ )3199‬وأخرجه البخاري (‪ ،)4788‬ومسلم‬
‫طالقها عليًّا وأسامة بن زيد‪ .‬قال أسامة‪:‬‬ ‫(‪ ،)1464‬وصححه األلباني‪ ،‬أن عائشة قالت‪:‬‬
‫خيرا‪ ،‬وقال‬ ‫“أهلك يا رسول اهلل وال نعلم إال ً‬ ‫«كنت أغار عىل الالتي وهبن أنفسهن للنبي‬
‫عيل‪ :‬ال يضيِّق اهلل عليك‪ ،‬والنساء سواها‬ ‫فأقول‪ :‬أو تهب الحرة نفسها؟! فأنزل اهلل‬
‫كثير‪ ،‬وسل الجارية تصدقك”‪ .‬وظل النبي‬ ‫عز وجل “ترجي من تشاء منهن وتؤوي‬
‫عىل حيرته حتى نزلت اآلية (‪ )11‬وما بعدها‬ ‫إليك من تشاء”‪ ،‬قلت‪ :‬واهلل! ما أرى ربك‬
‫الذين َجاءوا باإلف ِك‬ ‫َ‬ ‫“إن‬‫من سورة النور‪َّ :‬‬ ‫إال يسارع لك يف هواك”‪ ..‬وكأنها تشكك يف‬
‫تحسبو ُه ش ًّرا لكم بل هو‬ ‫ُ‬ ‫عصب ٌة منكم ال‬ ‫صحة الوحي! ويقال إنها قالت هذا يف قصة‬
‫اكتسب من اإلث ِم‬ ‫َ‬ ‫امرئ منهم ما‬ ‫ٍ‬ ‫خير لكم لك ِّل‬‫ٌ‬ ‫زواج النبي من زينب بنت جحش‪ ،‬فقد نزلت‬
‫عظيم»‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عذاب‬
‫ٌ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫منهم‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫كبر‬ ‫توىل‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ذ‬ ‫وال‬ ‫وطرا زوجناكها‬ ‫ً‬ ‫آية «فلما قضى زيد منها‬
‫وفيها تبرئة للسيدة عائشة ونهاية للجدل‪،‬‬ ‫لكي ال يكون عىل املؤمنين حرج يف أزواج‬
‫والشاهد أنها مل تنس لعيلٍّ رأيه‪ ،‬وربما أ َّثر‬ ‫وطرا”‪ ،‬فقالت‬ ‫ً‬ ‫أدعيائهم إذا قضوا منهن‬
‫رأيه هذا عىل عالقتهما بعد ذلك حتى وفاة‬ ‫عائشة هذا القول حسب بعض الروايات‪.‬‬
‫عيلٍّ‪.‬‬ ‫بيد أن األحاديث التي نسبت إليها عن عيل‬
‫فحين وقعت الفتنة و ُقتِل عثمان‪ ،‬كانت‬ ‫بن أبي طالب الفتة ودالة عىل الخالف الكبير‬
‫عائشة يف مكة تعتمر‪ ،‬ويف طريق عودتها‬ ‫الذي كان بينهما‪ ،‬فقد روى البخاري عن‬
‫علمت بمبايعة عيلٍّ بن أبي طالب خليفة‬ ‫عبيد اهلل بن عبد اهلل بن عتبة أن عائشة‬
‫للمسلمين‪ ،‬فولَّت راجعة إىل مكة‪ ،‬وانضمت‬ ‫قالت‪ :‬ملا ثقل النبي واشتد به وجعه استأذن‬
‫إىل الجيش الذي قادة املبشران بالجنة‪:‬‬ ‫أزواجه يف أن يمرض يف بيتي‪ ،‬فأ ِذ َّن له‬
‫طلحة بن عبيد اهلل والزبير بن العوام ضد‬ ‫فخرج النبي بين رجلين تخط رجاله يف‬
‫جيش عيلٍّ‪ ،‬حيث التقيا يف معركة الجمل التي‬ ‫األرض‪ ،‬بين عباس ورجل آخر‪ ،‬قال عبيد‬
‫ورو َِي‬ ‫وقعت يف البصرة عام ‪ 36‬هجرية‪ُ ،‬‬ ‫اهلل فأخبرت عبد اهلل بن عباس فقال‪ :‬تدري‬
‫أن عائشة حين رأت غلبة جنود عيلٍّ ركبت‬ ‫من الرجل اآلخر؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬هو عيل بن‬
‫الجمل واندفعت به وسط الجيش حتى يكفوا‬ ‫أبي طالب”‪ .‬فلماذا ج َّهلته عائشة وهو العلم؟‬
‫عن القتال‪ ،‬وقيل إن آالف املسلمين قتلوا يف‬ ‫هذا العداء يرجع إىل حادثة اإلفك‪ ،‬وهي‬
‫هذه املوقعة‪.‬‬ ‫معروفة بحيث ال نحتاج إىل إعادة تفاصيلها‪،‬‬
‫هذه بعض نماذج فقط تدلل عىل إشكالية‬ ‫وملخصها أن السيدة عائشة صحبت النبي‬
‫شخصية السيدة عائشة بنت أبي بكر‪ ،‬وعىل‬ ‫يف إحدى غزواته‪ ،‬وحين انتهى منها‪ ،‬ويف‬
‫أقوالها ومواقفها التي ال تزال موضع خالف‬ ‫طريق العودة‪ ،‬وقف الجيش ليستريح‪،‬‬
‫جدل قولها إن رخصة‬ ‫حتى اآلن‪ ،‬وأكثرها ً‬ ‫فنزلت عن هودجها تقضي حاجتها‪ ،‬ويف‬
‫إرضاع الكبير مل تكن تخص سهلة بنت‬ ‫طريق عودتها انفرط عقدها فجمعته‪ ،‬وملا‬
‫سهيل التي سألت النبي فرخصه لها‪ ،‬عكس‬ ‫عادت وجدت القوم قد رحلوا‪ ،‬فقد حملوا‬
‫موقف باقي زوجاته‪ ،‬فكانت تأمر أختها أم‬ ‫هودجها عىل ظهر الجمل ظانين أنها به لخفة‬
‫كلثوم وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن‬ ‫وزنها‪ ،‬ومضوا‪ ،‬فنامت‪ ،‬فوجدها صفوان بن‬
‫يدخل عليها من الرجال‬ ‫املعطل السلمي‪ ،‬فحملها عىل جمله حتى لحقا‬
‫إبداع‬
‫ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬
‫شعر‬
‫قصة‬
‫‪8‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫د‪.‬مروة مختار*‬

‫إيفالد فاجنر‪..‬‬
‫وقراءة الشعر القديم‬
‫خاصا بين الشعراء القدامي‬
‫ًّ‬ ‫موقعا‬
‫ً‬ ‫الشعراء الصعاليك يشغلون‬
‫بسبب المكانة االجتماعية التي شغلوها نتيجة الصطدامهم بقيبلتهم‪،‬‬
‫فاستلزم موقفهم زحرحة معينة ‪-‬على حد تعبير فاجنر‪ -‬للقيم‬
‫األخالقية التي امتدحوها في الفخر‪ ،‬بل المديح نادر لديهم كما يري‪،‬‬
‫وبناء على ذلك يتسم شعرهم بخصوصية التجربة‪ ،‬فانفصالهم‬
‫عن القبيلة أدى إلى تراجع الفخر بالقبيلة‪ ،‬وصار الفخر بالذات‬
‫هو الموضوع األول في شعر الصعاليك‪ ،‬والتأكيد على انفرادها‬
‫واالستعداد لتحمل العوز من أجل االستقالل‪.‬‬

‫متخذين منها مداخل لقراءة الشعر القديم وتأويله‪،‬‬ ‫تحاول هذه املقاربة أن تطرح مجموعة من‬
‫ويف ضوء الوصف املتكرر لفاجنر أنه اختط لنفسه‬ ‫األسئلة عىل كتاب األملاني “إيفالد فاجنر” املوسوم‬
‫طريقًا يختلف عن بعض املستشرقين األملان؛‬ ‫بـ‪“ :‬أسس الشعر العربي الكالسيكى‪ /‬الشعر‬
‫فهل يصح قياس تجربته البحثية عىل نموذج‬ ‫العربي القديم”‪ ،‬لعلها تصل إىل إجابات توضح‬
‫سابق وصف بالتعصب‪ ،‬أم أن األمر يخضع كلية‬ ‫موقفه من بعض القضايا التي تعرض لها بالدراسة‬
‫للمناقشة العلمية املنهجية ال القياس عىل ما سبقه‪،‬‬ ‫ً‬
‫أوتفصيل يف كتابه ومنها‪ :‬ما موقفه من‬ ‫ً‬
‫إجمال‬
‫لالنتصار له ووصفه بالحيادية‪ ،‬أو أنه كان أقل‬ ‫رواية الشعر القديم وصحته ولغته؟ هل كانت‬
‫تعصبًا ممن سبقوه فيتم التغاضي عن مناقشته‬ ‫دراسته للشعر القديم شكالنية بحتة؟ هل التفت‬
‫بشكل علمي موضوعى؟‬ ‫إىل السياق االجتماعي والثقايف لظهوره؟ ما موقفه‬
‫من تعدد أغراض القصيدة القديمة؟ وهل أثر تعدد‬
‫‪-1‬‬ ‫أغراضها عىل ترابطها ووحدتها العضوية؟ ما‬
‫اعتمدت يف هذه املقاربة عىل الطبعة الثانية من‬
‫ُ‬ ‫رأيه يف القص والحوار داخلها؟ ملاذا خص شعر‬
‫ترجمة د‪.‬سعيد البحيري لكتاب إيفالد فاجنر‪ ،‬وقد‬ ‫الصعاليك وقصيدة الرثاء بالدراسة؟ هل كان طرح‬
‫صدرت الطبعة األويل له قبل صدور الثانية بعامين‬ ‫إيفالد فاجنر لهذه اإلشكاالت يف شعرنا القديم‬
‫فقط(‪ ،)1‬األمر الذي يوحي بأن جهد فاجنر كان مناط‬ ‫يختلف عما قام به الباحثون األملان أم سار عىل‬
‫اهتمام الباحثين عىل اختالف تخصصاتهم‪ ،‬إال أن‬ ‫نهجهم؟‬
‫عملية البحث كشفت يل أن هذه املقاربة تكاد تكون‬ ‫دوما وأظنه قلقًا‬
‫االسئلة تعبر عن قلق يساورني ً‬
‫األويل عن منهج فاجنر يف قراءة الشعر القديم‪،‬‬ ‫يساور كل باحث يتشكك يف تلك املسلمات التي‬
‫ً‬
‫فصل من الكتاب‬ ‫وقد سبق للمترجم أن نشر‬ ‫دونت عن شعرنا القديم‪ ،‬وما زال بعض الباحثين‬
‫مستقل يف مجلة جذور السعودية ‪ ،‬قبل‬
‫(‪)2‬‬ ‫ًّ‬ ‫نشرا‬
‫ً‬ ‫العرب األوائل واملحدثين يتناقلونها عن الغرب‬
‫‪9‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫نشر الكتاب نفسه ألول مرة عام‬


‫‪.2008‬‬
‫يطرح علينا املترجم عنوانين‬
‫للكتاب يبدو الثاني منه كأنه‬
‫توضيحي للكلمة األخيرة يف‬
‫العنوان األول‪ ،‬وإن ُكتِب الثاني‬
‫بخط بارز‪ ،‬وكأنه العنوان‬
‫الرئيس‪ :‬أسس الشعر العربي‬
‫الكالسيكى‪ /‬الشعر العربي‬
‫القديم‪ ،‬وبالرجوع إىل أصل‬
‫الكتاب سنجده يحمل الشق‬
‫األول فقط وهو‪ :‬أسس الشعر‬
‫العربي الكالسيكي‪ ،‬وال أدري‬
‫حتى اآلن سبب هذا التردد‬
‫الذي وقع فيه مترجم الكتاب‪،‬‬
‫ألن هناك احتمالية واضحة‬
‫تيودور نولدكه‬ ‫السير وليم جونز‬ ‫السير وليم موير‬
‫أن يحمل هذا التردد رسالة‬
‫مراحل زمنية ممتدة‪ ،‬وتغليب املوضوعية والحياد‬ ‫سلبية إىل املتلقي‪ ،‬وقد شاع استخدام وصف الشعر‬
‫ما أمكن ذلك يف معالجة القضايا التي اهتم بطرحها‬ ‫بـ”الكالسيكى” يف بدايات الكتاب عبر املقدمة‬
‫للمناقشة‪ ،‬وعدم االكتفاء بآراء املستشرقين فيها‪،‬‬ ‫وفصوله األوىل‪ ،‬وسرعان ما آثر املترجم وصف‬
‫“الشعر القديم” عبر فصوله املختلفة(‪ .)3‬ترجم‬
‫بل األخذ بآراء النقاد العرب القدامي واملحدثين‬
‫الدكتور سعيد البحيري الجزء األول فقط من كتاب‬
‫يف االعتبار‪ ،‬وهو ما يدل بوضوح عىل تحوله عن‬
‫فاجنر الذي نشر يف أملانيا عام ‪ 1987‬وقدمه إىل‬
‫نهج كثير من املستشرقين ومعرفة واسعة بأهم‬
‫القارىء العربي بوصفه أحدث إصدارات املدرسة‬
‫ما ألف من دراسات جادة حول الشعر العربى”(‪،)4‬‬
‫األملانية املعنية باالستشراق بشكل عام والشعر‬
‫فهل ما ذكره املترجم صحيح؟ هل فاجنر ‪-‬وهو‬
‫العربي القديم بشكل خاص‪ ،‬وأثني عىل جهده فيه‬
‫مستشرق حديث‪ -‬اختلف عن مدرسة االستشراق‬ ‫ووضعه يف مصاف أبحاث ريناته يعقوبي‪ ،‬وقال إن‬
‫األملانية القديمة؟ هل غلَّب املوضوعية يف عمله كما‬ ‫عمل فاجنر نال استحسانه فقرر نقله إىل العربية!‬
‫وصفه املترجم؟ وكيف أفاد من املصادر العربية‬ ‫وذكر كل من املترجم واملؤلف أن الجزء األول‬
‫قديما وحديثًا؟ هل ما قدمه أضاف‬ ‫ً‬ ‫والغربية‬ ‫‪-‬ونحن بصدده اآلن‪ -‬يتناول الشعر العربي القديم‬
‫لجهود املستشرقين ح ًّقا؟ وهل اختياره آللية املسح‬ ‫الجاهيل وصدر اإلسالم‪ ،‬أما الجزء الثاني فيتناول‬
‫العام للموضوعات أو تناولها بشكل إجمايل أضر‬ ‫العصر األموي والعصر العباسي‪ ،‬ورأى املترجم يف‬
‫بفكرته التي من أجلها ألف هذا الكتاب أم أفادها؟‬ ‫مقدمته أن فاجنر مل يهدف إىل وضع مؤلف شامل‬
‫أم أنه كان بمثابة فرصة عملية للقارىء العربي‬ ‫يستقصي فيه كل املبدعين ولكنه توقف عند بعض‬
‫أن يكتشف منهجه ورؤيته لقضايا الشعر القديم‬ ‫القضايا ليديل بدلوه فيها‪ ،‬وأن مؤلَّف فاجنر يتميز‬
‫املتشابكة وقياس مدي توظيفه الفعيل ملعرفته‬ ‫بخصوصيات محددة منها‪“ :‬اختياره أن يسير‬
‫املوسوعية توظيفًا نقد ًّيا منهجيًّا وعلمية مدارسته‬ ‫التأريخ وفق ترتيب زمني محدد صرح به منذ‬
‫لقضاياه املختلفة؟ وكيف أثر تناوله لقضية بعينها‬ ‫البداية‪ ،‬واختياره أن يتتبع بعض األنساق الشكلية‬
‫عىل مختلف قضايا الشعر القديم؟‬ ‫واملضمونية يف الشعر خاصة‪ ،‬ويرصد تطورها عبر‬
‫‪10‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫نصنف ما عرف بسجع الكهان وفن الخطابة(‪،)6‬‬ ‫‪-2‬‬


‫أشكال مختلفة وجديدة‬ ‫ً‬ ‫األدق أن تكون استحدثت‬
‫ناتجة عن تغير العصور وأماكن الخالفة اإلسالمية‬ ‫حاول فاجنر بداية أن يبرز للقارىء العربي‬
‫واتصالها بحضارات مختلفة‪ ،‬أما كون الشعر‬ ‫جسرا‬
‫ً‬ ‫والغربي موقفه من الشعر القديم ليبني‬
‫القديم يعتمد عىل الخرافة واألساطير فهذا حكم‬ ‫آمنًا بينه وبين املتلقي‪ ،‬عبر مناقشة بعض‬
‫فيه تعميم بالغ يتنايف ومنهجية البحث العلمي‪،‬‬ ‫جدل يف كتابات‬ ‫املوضوعات الشائكة التي أثارت ً‬
‫وكونه يفتقد إىل الشكل الدرامي امللحمي ذلك ألن‬ ‫بعض املستشرقين السابقين عليه‪ ،‬لكنه ‪-‬يف الوقت‬
‫فاجنر يقارنه بما ُق ِّدم يف التراث اليوناني‪ ،‬ويكرر‬ ‫نفسه‪ -‬استهل نقاشه املجمل بعبارات افتتاحية‬
‫ما طرحه بعض املستشرقين قبله وتم الرد عليهم‪،‬‬ ‫الثنين من املستشرقين اللذين ُو ِ‬
‫ص َفا من قبل‬
‫ويفترض أنه ينتمي إىل مدرسة أملانية حديثة‪ ،‬وإن‬ ‫الباحثين العرب بأنهما من أكثر املستشرقين‬
‫أراد اإلنصاف لعاد إىل املجموعات الشعرية القديمة‬ ‫تعصبًا بشهادة مؤلفاتهم وهما‪ :‬السير وليم موير‬ ‫ُّ‬
‫التي يكثر فيها القصائد الطويلة‪ ،‬ويتلمس بنفسه‬ ‫االسكتلندي األصل‪ ،‬واألملاني تيودور نولدكه‪ ،‬هذا‬
‫النزعة الدرامية يف قصائدها‪ ،‬ومنها املفضليات عىل‬ ‫االستهالل قد يثير عالمات استفهام لدي املتلقي‬
‫سبيل املثال‪ ،‬وما عالقة تحريم املوسيقي وتطور فن‬ ‫لن يتعرف عىل أجوبتها إال من بعد القراءة املتأنية‬
‫العمارة بكون الشعر أسبق من النثر‪ ،‬أو أنه خير‬ ‫ألطروحة فاجنر‪ ،‬وتفكيك خطابه الذي أدرج من‬
‫ممثل للثقافة العربية القديمة؟!‬ ‫قبل أكثر من باحث عربي تحت عبارات تفيد أنه‬
‫الحقيقة أن افتتاحية الكتاب ومنهجية مناقشة بعض‬ ‫من املستشرقين الذين أفادوا العربية‪ ،‬وانتقلوا من‬
‫اآلراء يف فصوله األوىل تجعلنا نتحرى التأني يف‬ ‫جهة التعصب املوجودة يف االستشراق القديم إىل‬
‫تلقي قابل ما يصدر عنه من أحكام‪.‬‬ ‫جيل أحدث‬ ‫الحيادية واملوضوعية بوصفه يمثل ً‬
‫ويف مقابل أن الشعر العربي القديم هو اإلبداع‬ ‫مقرونًا بشكل مستمر إىل ريناته يعقوبي كما‬
‫العربي املحض؛ يري فاجنر أن األوربيين مل‬ ‫أسلفت(‪.)5‬‬
‫يقاسموا العرب تقديرهم للشعر‪ ،‬مما أثر بالسلب‬ ‫يستهل فاجنر كتابه بالحديث عن تاريخ البحث‬
‫عىل تاريخ البحث لديهم‪ ،‬وقد بدأ االهتمام به بعد‬ ‫والوضع البحثي يف الشعر القديم‪ ،‬وأبرز تفهمه أن‬
‫تحرير عصر النهضة الدراسات الشرقية من‬ ‫الشعر القديم هو قمة ثقافة العرب‪ ،‬معد ًدا األسباب‬
‫قيود الالهوت‪ ،‬فعرفت الترجمات الشرقية طريقها‬ ‫التي أدت إىل ذلك‪ ،‬لكنه يعرضها لنا يف شكل‬
‫للجمهور الغربي وأثرت فيه‪ ،‬ويضرب بعض األمثلة‬ ‫نتائج مسلم بها يف بداية الفصل األول من كتابه‪،‬‬
‫مثل أثر املعلقات التي ترجمها السير وليم جونز يف‬ ‫ومنها‪ :‬أن النثر األدبي لدي العرب مل يتشكل إال يف‬
‫فضل عن ترجمات فريدريش روكرت الذي‬ ‫ً‬ ‫جوته‪،‬‬ ‫العصر العباسي املبكر‪ ،‬وأن الشعر القديم يفتقد إىل‬
‫وصفت ترجماته بأنها استطاعت أن تنقل جوهر‬ ‫النزعة امللحمية‪ /‬الدرامية‪ ،‬وأنه اعتمد عىل الخرافة‬
‫الشعر الشرقي بإدراك وسيطرة متفردة إىل أبيات‬ ‫واألساطير‪ ،‬وأن التصارع الذي ظهر لتحريم الرسم‬
‫أملانية‪.‬‬ ‫والتصوير قد حال بين العرب والتقدم يف هذه‬
‫يؤكد فاجنر أنه حدث تحول كبير يف منهج الدراسة‬ ‫الفنون‪ ،‬ورغم ذلك برعوا يف فن العمارة ومارسوا‬
‫بعد ذلك‪ ،‬ألنه تطلب معايير فيلولوجية شديدة‬ ‫حريتهم لوقوعهم تحت تأثير أجنبي‪ ،‬أما الشعر‬
‫صحيحا‪ ،‬وباألحرى‬
‫ً‬ ‫فهما‬
‫الصرامة لفهم الشعر ً‬ ‫فهو إنتاجهم األصيل‪.‬‬
‫أيضا‬
‫دراسة املحيط التاريخي واالجتماعي والثقايف ً‬ ‫بالفعل الشعر العربي القديم إنتاج أصيل للعرب‪،‬‬
‫الذي نشأت فيه القصائد‪ ،‬ودون ذلك يظل الباحث‬ ‫لكن ما عالقة ذلك بما طرحه فاجنر من أسباب أدت‬
‫بعي ًدا عن الفهم الحقيقي للشعر العربي القديم‪ ،‬وأن‬ ‫الزدهاره؟!‬
‫أيضا‬
‫إنجاز هذه املادة استغرق قرنًا تقريبًا‪ ،‬وذكر ً‬ ‫فالنثر العربي فن قديم ومستقل‪ ،‬وال صحة لقول‬
‫عىل لسان بعض املستشرقين منهم بلوخ وجورج‬ ‫فاجنر إنه مل يتشكل إال يف العصر العباسي‪ ،‬وأين‬
‫‪11‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫ياكوب أن الحكم عىل الشعر‬


‫العربي بأنه ال يناسب الذوق‬
‫الغربي مل يرد غير معلل‪،‬‬
‫“فالواقع أن الشعر العربي فيه‬
‫خصوصيات اعتدنا أن نحكم‬
‫حكما سلبيًّا”(‪.)7‬‬
‫ً‬ ‫عليها‬
‫ورغم ذلك يعدد فاجنر بعض‬
‫األسماء التي قد نختلف مع‬
‫طرحها أو نتفق‪ ،‬ويذكر أنها‬
‫أسهمت يف ظهور حركة نقدية‬
‫خاصة بالشعر القديم‪ ،‬مثل ما‬
‫كتبه‪ :‬بروينلش وجرونباوم‬
‫وتالميذه‪ ،‬وترجمة ريتر‬
‫ألسرار البالغة لعبد القاهر‬
‫الجرجاني‪ ،‬ويف السنوات‬
‫ال‪،‬خيرة ‪-‬فترة السبعينيات‬
‫ريجيس بالشير‬ ‫جوته‬ ‫جارثيا جوميز‬
‫وبدايات الثمانينيات‪ -‬أعمال‬
‫فان جلدر وريناته يعقوبي وكمال أبو ديب وغيرهم‬
‫وجهات نظر أدبية ال سياسية أو دينية‪ ،‬وأوافقه‬ ‫حول الشعر القديم وبنية القصيدة‪.‬‬
‫الرأي يف الشق الثاني من اقتراحه‪ ،‬ومن هذا املنطلق‬ ‫يتعرض فاجنر إىل اآللية التي اتبعها العرب يف‬
‫اعتمد فاجنر عىل تقسيم بالشير الذي قدمه يف‬ ‫تقسيم عصور الشعر بداية من الجاهيل ثم صدر‬
‫خمس نقاط عام ‪ ،)9(1966‬ويضيف إىل تقسيم‬ ‫اإلسالم‪ ،‬ومجموعة الشعراء املخضرمين الذين‬
‫بالشير ظهور طبقة املوايل غير العرب ونشأة‬ ‫شهدوا العصرين‪ ،‬وجاء التقسيم مرتب ًطا بحدث‬
‫البديع‪.‬‬ ‫تاريخي عظيم هو ظهور النبي محمد صيل اهلل عليه‬
‫ويرى أن أي تغير ملموس عىل األدب أو الشعر قد‬ ‫وسلم‪ ،‬ورأى أن الشعراء رتبوا يف هذا التقسيم‬
‫بطريقة غير مرضية من وجهة نظره‪ ،‬ثم جاء‬
‫عاما عىل األقل‪ ،‬وأن‬
‫يستغرق من ثالثين إىل أربعين ً‬ ‫بعد ذلك التقسيم وفق األسر الحاكمة األموية‬
‫أخصب الفترات بالدراسة هي الفترات االنتقالية‪،‬‬
‫والعباسية واملخضرمين الذين شهدوا الدولتين‪،‬‬
‫مثال بدراسة ريناته يعقوبي لنموذج مثل‬ ‫ويضرب ً‬
‫ويرى أن مصطلح املحدثين أهم مصطلح يف هذه‬
‫ممثل للغزل الحجازي يف العصر‬ ‫ً‬ ‫أبي ذؤيب الهذيل‬
‫املرحلة‪ ،‬ألنه يعبر عن التجديد الذي استحدثه بعض‬
‫األموي‪.‬‬ ‫الشعراء يف هذه الفترة عىل مستوى املوضوعات‬
‫من وجهة نظر فاجنر أن كلمة “الكالسيكي” كان‬ ‫واستخدامهم لوسائل بالغية جديدة‪ ،‬وأضيف إىل‬
‫استعمالها نسبيًّا‪ ،‬واختلف التحديد الدقيق املراد‬ ‫نظرا الختالف‬
‫رأيه تخلصهم من املقدمة الطللية‪ً ،‬‬
‫منها من مستشرق إىل آخر‪ ،‬وأنه قصد بها أن‬ ‫طبيعة املدن والحياة عنها يف العصر الجاهىل ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬

‫يعالج خمسمائة سنة من بدايات الشعر العربي‬ ‫يري فاجنر ‪-‬ويوافقه بعض املستشرقين‪ -‬أن‬
‫حتى ‪ 100‬سنة بعد امليالد‪ ،‬وأنه أخذ بالتقسيم‬ ‫نقطة التحول الحقيقية يف الشعر القديم هي نهاية‬
‫أيضا يف دراسته‪ ،‬واقتراحه كان من قبل‬ ‫الجغرايف ً‬ ‫العصر األموي ال ظهور اإلسالم‪ ،‬حيث تغيرت لغته‬
‫دار النشر(‪.)10‬‬ ‫تدريجيًّا وأفكاره‪ ،‬وظهرت فيه أشكال جديدة‪ ،‬ومن‬
‫ويتوقف فاجنر أمام صحة الشعر القديم وروايته‪،‬‬ ‫ثم يرى أن الدراسين يف حاجة إىل تقسيم وفق‬
‫‪12‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أفكار مرجليوث بعد ذلك بعام بصورة شديدة‬ ‫ويذكر أنها مشكلة واجهت من حاولوا أن يقدموا‬
‫التفصيل‪ ،‬وبلهجة بالغية مدرسية إىل حد ما‬ ‫نظرة أدبية علمية خاصة بالشعر العربي القديم‪،‬‬
‫للجمهور العربي األعزل”(‪ ،)11‬ويرى أن املناقشات‬ ‫وأوجز التصور العربي لجمعه وروايته يف مراحل‪،‬‬
‫التي ظهرت بعده أجبرته عىل التخفف منها يف طبعة‬ ‫بداية من إنشاد الشاعر القصيدة لنفسه‪ ،‬أو أن‬
‫ثانية للكتاب يف العامل العربي ويف الغربي‪ ،‬وكان‬ ‫يقوم الراوي بإنشادها ونقلها لألجيال التالية‪،‬‬
‫بروينلش من أشهر من نقد فكرة مرجليوث وطه‬ ‫ويمكن أن يكون للشاعر عدة رواة‪ ،‬ومن ثم‬
‫ً‬
‫تفصيل‪.‬‬ ‫حسين‬ ‫فالراوي يمكنه أن ينقل عن أكثر من شاعر‪ ،‬ويمكنه‬
‫أما عن فاجنر نفسه فإنه يصف نفسه بأنه من‬ ‫أن يكون راو ًيا عن قبيلة بأكملها‪ ،‬ويمكن أن يتحول‬
‫أصحاب الشك املعتدل‪ ،‬فال يرفض الشعر القديم‬ ‫الراوي نفسه إىل شاعر مثل‪ :‬زهير بن أبي سلمي‬
‫بأكمله وال يقبله برمته‪ ،‬ولعل رأيه هذا وضعه يف‬ ‫وكعب بن زهير‪.‬‬
‫مرتبة متقدمة لدي بعض الباحثين العرب‪ ،‬فقد‬ ‫واستمرت حركة جمع الشعر وكان خلف األحمر‬
‫حظي بمدح منهم وثناء ووصف باعتداله‪ ،‬وأنه‬ ‫وحماد الراوية وأبو عمرو بن العالء من أشهر‬
‫ينتمي ملدرسة مغايرة للمدرسة األملانية األوىل التي‬ ‫الرواة‪ ،‬باإلضافة ملا جمعه بعض املهتمين باملسائل‬
‫عرفت بتعصبها ضد الشعر القديم والدراسات‬ ‫النحوية واللغوية من أبيات بوصفها شواهد دالة‬
‫العربية‪ ،‬وساحأول عبر صفحات هذه املقاربة‬ ‫عىل قواعد بعينها دون االهتمام بمضمون القصائد‪.‬‬
‫تفنيد أفكاره الواردة يف مباحث الكتاب املختلفة‬ ‫ثم جاءت فكرة جمع قصائد مشهورة‪ ،‬فكانت‬
‫ومناقشتها‪.‬‬ ‫املعلقات واملفضليات واألصمعيات وديون الحماسة‪،‬‬
‫يتوقف فاجنر ليناقش افتراض الكتابية املبكرة‬ ‫باإلضافة إىل جهود ابن السكيت والسكري‬
‫للشعر القديم الذي طرحه ناصر الدين األسد‬ ‫وصاحب األغاني يف جمع وتصنيف مادة إخبارية‬
‫وفؤاد سيزكين‪ ،‬ويؤكد أن أوجه االنتحال املتعمدة‬ ‫حول هذه األشعار‪ .‬ويف السبعينيات وجدت نظرية‬
‫تماما كالنص الشفهي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ممكنة للنص املكتوب‬ ‫مدخل لدراسة الشعر القديم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الشعر الشفاهي‬
‫فالنص املكتوب قد يطوله التلف أو يفقد بالكلية‪ ،‬مع‬ ‫ومفاداها أن املنشد عند إلقاء القصيدة شفهيًّا يعيد‬
‫االعتراف أن عدم التدوين املبكر تسبب يف فقدان‬ ‫صياغتها كل مرة عند اإللقاء‪ ،‬ومن ثم يصبح كل‬
‫الكثير من الشعر العربي القديم الجاهيل أو األموي‬ ‫إلقا ٍء ً‬
‫نظما جدي ًدا لها‪.‬‬
‫أو العباسي‪.‬‬ ‫سنالحظ عبر الكتاب ‪-‬وهو كما أسلفت الجزء األول‬
‫كنا توقفنا من قبل عند حديث فاجنر عن قرن كامل‬ ‫من النسخة األصلية‪ -‬أن فاجنر يف أكثر من موضع‬
‫يثني عىل العصر األموي من حيث وضع الشعر أو‬
‫حركة جمعه وتوثيقه أو تطور الشعر نفسه‪،‬‬
‫وكأنه ارتبط به ويعلن عن ارتباطاته من آن‬
‫آلخر يف الجزء األول من الكتاب‪.‬‬
‫ال يري فاجنر أي غرابة فيمن يتشكك يف نشأة‬
‫تلك النصوص وصحتها وخاصة بعد مرور‬
‫قرنين أو ثالثة عىل جمعها‪ ،‬وكان نولدكه‬
‫وآلفارت أول من أثارا هذا القضية‪ ،‬معتبرين أن‬
‫كبيرا من هذا الشعر قد يكون موضو ًعا‬ ‫ً‬ ‫قسما‬
‫ً‬
‫ً‬
‫أو منتحل‪ ،‬إىل أن قال مرجليوث بأن الشعر‬
‫القديم كله منتحل وتابعه طه حسين يف دعوته‬
‫بعد عام منها‪ ،‬وقد وصف فاجنر محاولة طه‬
‫حسين وصفًا استوقفنى‪“ :‬وقد قدم طه حسين‬
‫‪13‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫منها‪ :‬وصف املحبوبة بأنها عريقة النسب وتمتلك‬ ‫حاول فيه الباحثون إتقان الدراسات الفيولوجية‬
‫ثيا ًبا غالية وحليًّا ثمينة‪ ،‬وعدم حاجتها إىل العمل‪،‬‬ ‫حول الشعر العربي القديم‪ ،‬لتكون تحليالت‬
‫فضل عن رحالت الصيد املتنوعة‪ ،‬فكل هذا ال‬ ‫ً‬ ‫املستشرقين أو أحكامهم عىل بعض القضايا ناجمة‬
‫يصدر إال عن وسط ارستقراطي‪ ،‬فال يمكننا بأي‬ ‫عن وعي حقيقي بأسرار العربية‪ ،‬وليستطيعوا‬
‫أيضا أن‬
‫حال أن نصفه بأنه شعر شعبي‪ ،‬ويفترض ً‬ ‫فهم الشعر العربي القديم دون عزله عن سياقه‬
‫الفرد العادي يف القبيلة كان يتماهي معه ألنه يذوب‬ ‫االجتماعي الذي نشأ فيه‪ ،‬ومن هنا أكد فاجنر أن‬
‫يف القبيلة من األساس‪ ،‬حتى الشعراء أنفسهم مل‬ ‫الشعر العربي القديم إبداع خالص للعرب البدو‪،‬‬
‫تظهر فرديتهم ألنهم يمثلون الطبقة االجتماعية‪،‬‬ ‫وأنه أهم مصدر لحياة العرب القدامى‪ ،‬وإن مل يضم‬
‫فال وجود ملوقف اجتماعي مميز لفردية الشاعر‪،‬‬ ‫بين دفتيه حياتهم كاملة‪ ،‬ويبدو أن فاجنر كان‬
‫ويستثني فاجنر من هؤالء الشعراء الصعاليك‪.‬‬ ‫يبحث عن التطبيق الكامل ملقولة‪“ :‬الشعر ديوان‬
‫وأري يف رأي فاجنر وريناته يعقوبي عمومية‬ ‫العرب”‪ ،‬فهو يأسف ألنه مل يجد تفاصيل عن‬
‫شديدة ومبالغة‪ ،‬فكيف نأخد يف تأويل الشعر‬ ‫الحياة األسرية وتنشئة األطفال والحياة الزوجية‬
‫بظاهر لفظه أو صوره؟! وكيف نعد ما كان يسجله‬ ‫اإليجابية‪ ،‬ووجهة نظر املرأة يف الحب‪ ،‬وأرى أنه من‬
‫الشعراء يف قصائدهم مطابق لواقعهم بشكل‬ ‫اإلجحاف التعامل مع النص الشعري بوصفه وثيقة‬
‫حرىف؟! إن موافقة فاجنر عىل آراء ريناته تدلل عىل‬ ‫تاريخية‪.‬‬
‫عدم فهمه العميق ملضمون الشعر القديم وأخذه‬ ‫قديما‪ ،‬وأن‬
‫ً‬ ‫يتوقف فاجنر عند الشاعر ومكانته‬
‫بظاهر عبارته‪ ،‬وإن أعرب يف أكثر من موضع عىل‬ ‫أصل كلمة الشاعر مأخوذ من العارف‪ ،‬فالشاعر‬
‫أهمية عدم نزعه من سياقه االجتماعي والثقايف‪،‬‬ ‫يتلقي معرفته مثل الكاهن من خالل إلهام متجاوز‬
‫لكننا يف الوقت نفسه ال نتخذه وثيقة تاريخية‬ ‫للبشر‪ ،‬فهو متنبىء القبيلة‪ ،‬ومن هنا اكتسب‬
‫تفسيرا حرفيًّا‪.‬‬
‫ً‬ ‫نفسرها‬ ‫مكانة مرموقة يف قبيلته‪ ،‬فالشاعر يقدم النصائح‬
‫فضل عن معرفته بأنساب القبائل‬‫ً‬ ‫والتنبؤات‬
‫‪-3‬‬ ‫وتاريخها‪.‬‬
‫ثم يناقش رأ ًيا لريناته يعقوبي ترى فيه أن الشعر‬
‫يحاول فاجنر أن يتدرج يف كتابه من الشكل إىل‬ ‫العربي القديم يف جوهره محافظ‪ ،‬ويخدم إرث‬
‫املضمون‪ ،‬فيتوقف أمام لغة الشعر القديم وشكله‪،‬‬ ‫النظام القيمي واملعايير القانونية لالرستقراطية‬
‫ويري أن التعبيرات التي رويت لنا عن عصر ما‬ ‫القبلية‪ ،‬ويبدي تأييده لها ويعدد الدالئل عىل ذلك‬
‫قبل اإلسالم يف شبه الجزيرة العربية ترجع عىل‬
‫نحو مؤكد إىل ألف عام‪ ،‬ثم يختتم عرضه لبعض‬
‫ظواهر العربية الشمالية والعربية الجنوبية بهذه‬
‫العبارة‪“ :‬ويتناقض التنوع اللغوي الذي تظهره‬
‫النقوش بشكل الفت للنظر مع التوحد النسبي للغة‬
‫الشعر العربي القديم والقرآن‪ ،‬وبذلك ينشأ السؤال‬
‫حول العالقة بين اللغات املنطوقة ولغة الشعر‬
‫والقرآن؟(‪.)12‬‬
‫ثم يتوقف عند اإلعراب ويوضح وجهات النظر‬
‫املختلفة لنشأته‪ ،‬منها أن اللغة املستخدمة يف الشعر‬
‫القديم والقرآن الكريم مختلفة عن لغة الحياة‬
‫اليومية‪ ،‬وأن اللغة اليومية كانت تسقط النهايات‪،‬‬
‫متأخرا‪ ،‬وبعض اآلراء التي ذهبت‬
‫ً‬ ‫وأن اإلعراب نشأ‬
‫‪14‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أما فاجنر فإنه يرى أن نشأة األوزان جاءت‬ ‫كامل يف زمن الرسول ىلص اهلل‬ ‫ً‬ ‫إىل أن اإلعراب كان‬
‫كالتاىل‪ :‬األوزان األقرب للرجز تطورت يف البداية‬ ‫عليه وسلم ثم اختفى بتأثير األعاجم بعد الفتوحات‬
‫مثل السريع والكامل‪ ،‬ثم تطور بعد ذلك الطويل‬ ‫اإلسالمية‪.‬‬
‫والكامل والبسيط والوافر‪ ،‬أي أن األوزان العربية‬ ‫قديما‬
‫ً‬ ‫يتعرض فاجنر لالزدواجية اللغوية املوجودة‬
‫من وجهة نظره تطورت داخل العربية نفسها(‪،)16‬‬ ‫يف البيئة العربية يف مقابل لغة الشعر القديم‪،‬‬
‫رغم طرح بعض املستشرقين آراء تتعلق بتأثرها‬ ‫ليخلص إىل أن هناك لغة للشعراء يمكن وصفها‬
‫بالعروض اليوناني مثل تكاتش‪ ،‬وبصفة خاصة‬ ‫بأنها “لغة فنية”‪ ،‬عيل أال يفهم هذا املصطلح أنه لغة‬
‫الرجز‪ ،‬لكنه مل يستطع أن يدلل عىل ذلك وضرب‬ ‫ابتدعها شاعر أو عدة شعراء بصورة متعسفة‪ ،‬ثم‬
‫أيضا من قصر التأثر‬ ‫أمثلة متأخرة زمنيًّا‪ ،‬ومنهم ً‬ ‫مرارا عىل توحد لغة الشعراء يف مقابل تعدد‬ ‫ً‬ ‫يؤكد‬
‫عىل بحور معينة مثل املتقارب والخفيف والرمل‬ ‫اللهجات‪ ،‬وهذه اللغة تعلو اللهجات‪ ،‬وأنها مفهمومة‬
‫بوصفهم تأثروا باألوزان الفارسية‪ ،‬وخاصة يف‬ ‫متجاوزة حدود اللهجات‪ ،‬وأنها منحت الشعراء‬
‫العصر األموي‪ ،‬رغم ورود شعر المرئ القيس‬ ‫أنفسهم مكانة مرموقة‪ ،‬وكان الفهم العام لها‬
‫تحمل بعضها!‬ ‫وتوقيرها ناب ًعا من أن القرآن الكريم يوحي بهذه‬
‫يتعرض فاجنر سري ًعا لفكرة عالقة الوزن‬ ‫أيضا‪.‬‬
‫اللغة ً‬
‫حكما عا ًّما كعادته «أن هذا‬
‫ً‬ ‫بالغرض‪ ،‬ويصدر‬ ‫قليل عند ما أطلق عليه فاجنر “اللغة‬ ‫أتوقف ً‬
‫املبحث ربما يصدق عىل الشعر العربي القديم‬ ‫متأخرا كما أسلفت‬
‫ً‬ ‫الفنية”‪ ،‬وفاجنر ألف كتابه‬
‫الفقير يف األغراض»‪ ،‬وهذا حكم سنرى أثره ممت ًّدا‬ ‫القول‪ ،‬وقد سبقه عدد كبير من املؤلفات التي‬
‫يف مباحث تالية‪ ،‬وأن هذه الفكرة يمكننا تطبيقها‬ ‫تحدثت عن “اللغة الفصحي املشتركة” وكيفية‬
‫عىل الرجز وربطه بأغراض محددة‪ ،‬وربما ظهر‬ ‫نشأتها والعوامل املؤثرة فيها وسماتها‪ ،‬وأن‬
‫إيثار عمر بن أبي ربيعة لألوزان القصيرة يف غزله‬ ‫تأثيرا يف‬
‫ً‬ ‫اللهجة القرشية كانت أقوى اللهجات‬
‫تمشيًا مع تلحينها للغناء(‪.)17‬‬ ‫تكوين الفصحي املشتركة لظروف متعددة‪ ،‬دينية‬
‫وعن مناقشته آلراء بعض املستشرقين الذين يرون‬ ‫وسياسية واقتصادية‪ .‬فالظروف الدينية تتمثل يف‬
‫وملل وقلَّلت فرص الشعر‬ ‫ً‬ ‫أن القافية تسبب رتابة‬ ‫مقدسا يفد إليه الناس للحج‪ ،‬وأثناء‬ ‫ً‬ ‫كون مكة مكانًا‬
‫العربي أن يكون ملحميًّا‪ ،‬فاألوىل وجدت وج ًها‬ ‫فضل عن سفر‬ ‫ً‬ ‫ذلك تنشط حركة البيع والشراء‪،‬‬
‫آخر أن السامع يف حالة تلق وتشويق باستمرار‪،‬‬ ‫أهل مكة لليمن وغيرها من البالد للتجارة‪ ،‬وسيادة‬
‫والثانية أن مالحم العرب كانت يف شعرهم القديم‪،‬‬ ‫قريش سياسيًّا عىل مكة(‪.)13‬‬
‫امللعقات وغيرها‪ ،‬وال ينتقص منها مقارنتها باملالحم‬ ‫ومن صفات الفصحي املشتركة أنها فوق مستوى‬
‫اليونانية(‪.)18‬‬ ‫العامة وال تنتمي إىل بيئة محلية بعينها‪ ،‬فهي مزيج‬
‫بين هذه اللهجات‪ ،‬ومل تكن لغة قريش وحدها(‪.)14‬‬
‫‪-4‬‬ ‫أي أن رأيه الذي خلص إليه ورد يف مؤلفات سبقت‬
‫اسما جديدا “اللغة‬
‫مؤلفه بعقود‪ ،‬بينما اختار لها ً‬
‫يف تدرج ملحوظ يتنقل فاجنر بين قضايا الشكل‬ ‫الفنية”‪ ،‬وقد عرفت باللغة الفصحي املشتركة‪.‬‬
‫واملضمون املتعلقة بالشعر القديم‪ ،‬ويناقش تصنيف‬ ‫يعرض فاجنر لرأي عام يف البحث األوروبي يرى‬
‫بعض املستشرقين والباحثين العرب له ما بين‬ ‫أن التنوع املوجود يف األوزان الشعرية العربية قد‬
‫القطعة والقصيدة‪ ،‬فاألوىل تطلق عىل القصائد‬ ‫تطور عن فن الرجز‪ ،‬الذي تطور يف األساس عن‬
‫القصيرة‪ ،‬والثانية عىل القصائد الطويلة‪ ،‬ويتفق‬ ‫السجع‪ ،‬ويذكر أن هذا الرأي يتطابق مع آراء العرب‬
‫فاجنر مع أصحاب هذا التصنيف من حيث التسمية‪،‬‬ ‫القدامى‪ ،‬لكنه يستدرك عليه أنه ال يوجد عليه أي‬
‫لكنه يختلف مع بعضهم يف أن القطعة مرتبطة‬ ‫أدلة أو براهين تؤكد أن ما هو بسيط‪ /‬الرجز يسبق‬
‫بالغرض الشعري الواحد والقصيدة مرتبطة بتعدد‬ ‫ما هو معقد‪ /‬البحور الشعرية عىل اختالفها(‪.)15‬‬
‫يتنقل فاجنر بين قضايا الشكل‬ ‫حكما عا ًّما‪ ،‬فهناك قطع‬
‫ً‬ ‫األغراض واعتبره‬
‫والمضمون المتعلقة بالشعر القديم‪،‬‬ ‫أغراضا متعددة‪،‬‬
‫ً‬ ‫شعرية قصيرة تضمنت‬
‫باإلضافة إىل أن هناك قصائد طويلة ذات‬
‫ويناقش تصنيف بعض المستشرقين‬ ‫مضمون واحد كاملدح والهجاء أو الرثاء أو‬
‫والباحثين العرب له ما بين القطعة‬ ‫وصف الخمر‪.‬‬
‫وتاريخيًّا الدراسات املتقدمة لبعض‬
‫والقصيدة‪ ،‬فاألولى تطلق على القصائد‬ ‫املستشرقين ذكرت أن املقطوعات ذات‬
‫القصيرة‪ ،‬والثانية على القصائد الطويلة‪،‬‬ ‫املوضوع الواحد كانت يف أصلها قصائد‬
‫طويلة ذات غرض واحد‪ ،‬وأن تعدد‬
‫ويتفق مع أصحاب هذا التصنيف من‬ ‫املوضوعات يف القصيدة الواحدة جاء نهاية‬
‫حيث التسمية‪ ،‬لكنه يختلف في أن‬ ‫عن التطور امللموس يف الشعر العربي‪،‬‬
‫ومثالهم يف ذلك حماسة أبي تمام‪ ،‬أما‬
‫القطعة مرتبطة بالغرض الشعري الواحد‬ ‫الرأي األحدث أن القصائد أحادية املوضوع‬
‫والقصيدة مرتبطة بتعدد األغراض‬ ‫تقدمت عىل القصائد متنوعة األغراض‪ ،‬مع‬
‫استمرار وجود القصائد األحادية التي وجد‬
‫فيها بعض املبدعين حريتهم عىل حد تعبير‬
‫فاجنر!‬
‫يعرض فاجنر لتقسيم بلوخ للقصائد األحادية يف‬
‫البحث عن أي األغراض أسبق للوجود بشكل‬ ‫تفصيل شديد يتعارض مع عمومية تناوله لكثير‬
‫منفصل يف القصائد القصيرة‪ /‬املقطوعات أحادية‬ ‫من املوضوعات يف كتابه‪ ،‬ثم يناقش تقسيمه‪،‬‬
‫الغرض‪ ،‬فمع كل فرضية ومحاولة للتصنيف من‬ ‫فيري بلوخ أن القصائد األحادية لها ثالثة أغراض‪:‬‬
‫قبل فاجنر ‪-‬ومن سبقوه‪ -‬تُكرر هذه العبارة‪“ :‬وال‬ ‫‪ -1‬قصائد العمل أو املصاحبة للفعل‪ -2 .‬قصائد‬
‫توجد أدلة أو براهين عىل هذا التصنيف أو هذا‬ ‫الرسالة واإلبالغ‪ -3 .‬مرثيات‪ .‬أدرج بلوخ تحت‬
‫الرأي”‪ ،‬أعي جي ًدا أهمية االجتهاد‪ ،‬لكنه يف الوقت‬ ‫قصائد العمل قصائد الحرب والفخر باألنساب‬
‫نفسه غير قابل للتعميم ما مل تدعمه أدلة أو براهين‬ ‫ومراقصة األم ألطفالها والزهو بالوالدين‪ ،‬وتحت‬
‫أو عىل أقل تقدير االهتمام بغزارة العينة البحثية‬ ‫الرسالة واإلبالغ ض َّمن قصائد الشكر والنصر‬
‫التي تعضد وجود الظاهرة‪.‬‬ ‫واللوم ووصف األماكن‪ ،‬واملرثيات يدخل فيها مدح‬
‫فعيل سبيل املثال يستنبط بالشير أن النسيب قد‬ ‫النفس والقبيلة ومسرات الصبا وفناء الحياة‪.‬‬
‫انبثق من األغاني الحزينة لحادي البعير “الحداء”‪،‬‬ ‫وهذا التقسيم ال يقبله فاجنر‪ ،‬ويرى فيه عمومية‬
‫أما ريناته يعقوبي فترى أنه كان قصيدة مستقلة‬ ‫كبيرة‪ ،‬وأتفق معه يف ذلك‪ ،‬فتقسيمات بلوخ كلها‬
‫يف البداية‪ ،‬ويرى فاجنر وج ًها لرأي يعقوبي بسبب‬ ‫تضمنت استثناءات تسقط مقترحه من األساس‪،‬‬
‫وجود الظاهرة يف بعض اآلداب ذات القرابة‪ ،‬مثل‬ ‫باإلضافة إىل تداخل الغرض نفسه يف أكثر من قسم‬
‫قصيدة الحب املصرية القديمة‪ ،‬ويضيف أن أبيات‬ ‫من األقسام املقترحة‪.‬‬
‫الحب كانت داخله يف غرض الفخر ألن الشاعر لديه‬ ‫ويف املقابل قام فاجنر بطرح تقسيم ثالثي ألجزاء‬
‫رغبة يف التفاخر بمغامراته العاطفية‪ ،‬وهذه اآلراء‬ ‫القصيدة القديمة‪ -1 :‬النسيب‪ -2 .‬وصف البعير‪.‬‬
‫تشترك يف أنها تتحدث عن قصة حب مضى فقط‪،‬‬ ‫‪ -3‬الجزء الختامي من القصيدة‪ .‬والحقيقة أنني‬
‫ال تخلو يف بعض األحيايين من صور ماجنة عىل‬ ‫أختلف مع محاوالت التفكير املستمرة يف تأطير‬
‫ً‬
‫متمثل بشعر امرىء القيس‪.‬‬ ‫حد قول فاجنر‬ ‫القصيدة القديمة وأغراضها وكأنها شعائر مقدسة‬
‫يعترض فاجنر عىل وصف النسيب يف القصيدة‬ ‫يلتزم بها قدامي الشعراء‪ ،‬وارتباط ذلك بمحاولة‬
‫‪16‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫املستشرقين‪ -‬يف كون أوصاف الجمل تقف يف‬ ‫القديمة بشكل عام بأنه شعر شهواني عىل حد‬
‫الخلفية‪ ،‬وأن اهتمام الشاعر بالصورة ليس يف‬ ‫تعبير املترجم(‪ ،)19‬ألنه من التضليل أن توصف‬
‫مجموعها املتناغم‪ ،‬ففي عدد كبير من سماته املميزة‬ ‫مقدمة القصيدة القديمة بأنها مقدمة شهوانية‪،‬‬
‫يظهر الجمل موضو ًعا مفتتا!‬ ‫فالبواعث مختلفة ع َّما ارتكز إليه هذا الرأي‪،‬‬
‫وقام فاجنر بتحديد مجموعة بواعث أطلق عليها‬
‫ثم انتقل إىل القسم الثالث يف تقسيمه وهو الجزء‬ ‫“البواعث األطرية”‪ :‬يوم الفراق‪ ،‬مرور القافلة‪،‬‬
‫الختامي من القصيدة‪ ،‬وذكر أن مضمونه شديد‬ ‫مظهر أو طيف الخيال‪ ،‬الشكوي أو البكاء عند‬
‫التباين‪ ،‬ما بين الفخر واملدح والتهكم والتهديد‬ ‫األطالل‪.‬‬
‫مكررا وجهة نظره‪،‬‬‫ً‬ ‫واالعتذار والتحذير والحكمة‪،‬‬ ‫واستوقفتني نتيجة توصل إليها فاجنر يف دراسته‬
‫تماما‪ ،‬وهي أن هذا التنوع مل‬‫ً‬ ‫أختلف معه فيها‬ ‫للشعر القديم‪ ،‬وهي أن الربط املنطقي يف القصيدة‬
‫ينضج أو يكتمل إال يف نهاية العصر األموي‪.‬‬ ‫القديمة بين النسيب والفخر كان أنجح ما يكون يف‬
‫التقسيم الثالثي الذي طرحه فاجنر قاده للحديث‬ ‫تلك القصائد التي غاب عنها وصف البعير(‪.)20‬‬
‫تفصيل عن بنية الشعر العربي القديم‪ ،‬لكن مقدمته‬ ‫ً‬ ‫والسؤال هل النتيجة التي توصل فاجنر إليها جاءت‬
‫للحديث عن البنية غير منهجية وتعكس بجالء‬ ‫بعد مسح شامل للشعر القديم أم أنها نتيجة منبثقة‬
‫عدم وعيه وفهمه الكامل بطبيعة الشعر القديم‪،‬‬ ‫عن مجموعة من القصائد التي درسها؟‬
‫تأملوا معي عبارته يف افتتاحية الفصل العاشر‬ ‫البحث العلمي بطبيعته يرفض التعميم‪ ،‬وفاجنر‬
‫من كتابه‪“ :‬تهتم الدراسات الحديثة حول بنية‬ ‫حائر بين محاوالت التأطير ومحاوالت التعميم يف‬
‫الشعر العربي بمشكلتين منفصلتين كل االنفصال‬ ‫أغلب فصول دراسته‪ ،‬وكون الدراسة عامة كما‬
‫يف األصل‪ ،‬فمن ناحية يدور األمر حول مسألة‬ ‫أسلف يف مقدمة الكتاب وكرر ذلك أكثر من مرة‬
‫تأليف أو بناء القصيدة‪ ،‬أي هل تتواىل املوضوعات‬ ‫مبررا ملحاوالته املستمرة‬
‫ً‬ ‫عبر فصوله‪ ،‬ال يعطيه‬
‫واألفكار املفردة تواليًا منطقيًّا؟ وإىل أي مدى تحدث‬ ‫الستنباط نتائج يراها حاسمة يف القضايا التي‬
‫محيطات الفقرات املوضوعية والفكرية املفردة من‬ ‫يناقشها‪.‬‬
‫تأثيرا إجماليًّا(‪ .)22‬والسؤال هنا‪:‬‬
‫ً‬ ‫خالل تناسباتها‬ ‫يتوقف فاجنر عند القسم الثاني الذي اقترحه من‬
‫كيف نأمن لدراسة يف األدب القديم ونكيل لها ثنا ًء‬ ‫أقسام القصيدة وهو “وصف البعير‪ /‬الناقة”‪،‬‬
‫متكررا ال ترى رب ًطا بين الشكل واملضمون من‬ ‫ً‬ ‫ويرى أن بدايات الشعر القديم كانت تنتقل من‬
‫األساس يف الشعر القديم‪ ،‬وتتعجب من مناقشتهما‬ ‫النسيب إىل الفخر مباشرة‪ ،‬وكان وصف البعير‬
‫تحت مظلة واحدة ألنها تؤمن بانفصالهما‪ ،‬وهذا‬ ‫من وجهة نظره يف بادئ األمر موضو ًعا للفخر‬
‫ما مل يلتفت إليه املترجم نفسه‪ ،‬وصاغ يف مقدمة‬ ‫ضمن موضوعات أخرى‪ ،‬إىل أن تطور وأصبح‬
‫ترجمته الشكل العام للفصل‪ ،‬ال موقف فاجنر من‬ ‫مستقل داخل القصيدة‪ ،‬وارتباطه بالنسيب‬ ‫ًّ‬ ‫قسما‬
‫ً‬
‫املسألتين!‬ ‫يف بداية األمر جعله يف موضع متقدم من القصيدة‪،‬‬
‫سؤال‪ :‬هل عرف العرب البناء املضموني‬ ‫ً‬ ‫ثم يطرح‬ ‫وانفصاله جعل ترتيبه داخل القصيدة ح ًّرا‪ ،‬ثم‬
‫بداية أم أن الوزن والقافية هما الحكم يف أعمالهم‬ ‫يعود كعادته مستدر ًكا ما اقترحه أن هذا التقسيم‬
‫الشعرية؟ وهل للنص الشعري معنًى عميقًا أم أن‬ ‫الثالثي مل يتبعه أغلب الشعراء(‪ ،)21‬ورغم استدراكه‬
‫النظرة السطحية تكفي للربط بين صور القصيدة؟‬ ‫ينشغل ثانية يف حساب النسبة املئوية التي يشغلها‬
‫ويرى أن هذه األسئلة من أهم ما طرح عىل‬ ‫تقريبًا كل غرض يف القصيدة القديمة انطالقا من‬
‫موضوع بنية القصيدة القديمة‪.‬‬ ‫تقسيمه الثالثى!‬
‫يرى فاجنر أنه يف وقت مبكر كان من الالفت لنظر‬ ‫عبر فاجنر يف موضع الحق بالتفصيل عن موقفه‬
‫من اهتموا بدراسة القصيدة القديمة أنها ‪-‬يف‬ ‫من الخيال والواقع يف صور الشعر القديم‪ ،‬وهنا‬
‫الغالب‪ -‬تخلو من االرتباط الداخيل‪ ،‬فموضوعاتها‬ ‫أومأ إىل القلق الذي يعتري الدارس ‪-‬ويقصد‬
‫‪17‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫املختلفة ليس بينها رابط واضح‪،‬‬


‫توجد متجاورة بال تعليل‬
‫داخىل أو رابط منطقي‪،‬‬
‫فيستطيع املرء أن يترجم‬
‫كل بيت بمفرده وأال يفهم‬
‫القصيدة ككل!‬
‫ومن أصحاب هذا الرأي‬
‫ت‪.‬كوالسكي الذي تحدث‬
‫عن البنية الجزئية للشعر‬
‫العربي القديم‪ ،‬حتي وصف‬
‫توايل صور القصيدة القديمة‬
‫باالضطراب‪ ،‬وأن الشاعر‬
‫رغم قدرته عىل الوصف افتقد‬
‫إىل الشكل اللغوي املناسب‬
‫الذي يؤلف بين تلك النظرات‬
‫الجزئية‪ ،‬فبدت لنا رخاوة‬
‫ماري كاثرين بيتسون‬ ‫كمال أبو ديب‬ ‫فريدريش روكرت‬
‫التأليف عىل حد تعبيره ‪.‬‬
‫(‪)22‬‬

‫ما يستدعي النظر أن فاجنر نفسه يف فصل سابق‬


‫إمكانات الفهم املطروحة من الناحية النظرية‪ ،‬إننا‬
‫أورد رأي العقاد ‪-‬بعد أن نعته بالكاتب العربي‬
‫يجب علينا أن نستكمل األدوات حتى نربط األقوال‬
‫املشهور‪ -‬يف الدراسات التي تتهم القصيدة القديمة‬
‫بعضها ببعض(‪.)26‬‬
‫بالتفكك العضوي والنظرة الجزئية أنها دراسات‬
‫كيف أفهم هذه العبارة التي تبدأ بحكم عام عىل‬
‫ناجمة عن قصور يف فهم طبيعة العربية وأسرارها‪،‬‬
‫أدوات الربط يف العربية التي خصص لها مؤلفات‬
‫وأنها تعزل النصوص عن واقعها الثقايف‪ ،‬وذكر‬
‫تعرف بحروف املعاني(‪ ،)27‬ثم نعت صور القصيدة‬ ‫أن رأي العقاد وغيره من الباحثين العرب وبعض‬
‫بالتناقض والتفكك‪ ،‬ثم استدارك ذلك عىل القارىء‬ ‫املستشرقين كانت من البواعث عىل إعادة النظر يف‬
‫العربي‪ ،‬ثم اتهام حركة الترجمة بالتقصير؟!‬ ‫دراسات األدب القديم(‪ ،)24‬لكنه عمليًّا يثبت عكس‬
‫يعود فاجنر للقول إن بعض الشعراء قد حققوا هذا‬ ‫ذلك يف أغلب معالجاته لقضايا الشعر القديم‪.‬‬
‫الترابط عن طريق التضمين وعن طريق التكرار‬ ‫وال أدري كيف يمكنني قبول مثل هذا الحكم التايل‬
‫والبنية املتوازية‪ ،‬وعن طريق استخدام الجمل‬ ‫عن العربية‪ ،‬ويف الوقت نفسه أطمئن ملا يصدر عنه‬
‫الطويلة لتخطي حدود البيت إىل عدة أبيات يف‬ ‫من تحليالت وآراء خاصة بقضايا الشعر القديم‬
‫وحدة فكرية مثل‪ :‬بحث بعض الوسائل التركبيبة‬ ‫بشكل عام وترابط القصيدة‪“ :‬إن فقر اللغة العربية‬
‫يف خمس ملعقات ‪ M.C Bateson‬ذو الرمة وأبو‬ ‫القديمة يف األدوات التي تعدل أوجه الربط النحوي‬
‫أيضا الترابط الداخيل‬‫ذؤيب الهذيل‪ ،‬وقد لكنها أكدت ً‬ ‫إن‪ ،‬مع إن‪ ،‬لكن‪ ،‬بل‪ ،..‬يجعالن األفكار‬ ‫مثل‪ :‬ح ًّقا‪َّ ،‬‬
‫داخل الغرض أكثر منه بين صور القصيدة‪ ،‬ثم‬ ‫تبدو لنا قد وضعت متجاورة بشكل مفاجىء يف‬
‫ركزت عىل الصرف وحركة الروي‪.‬‬ ‫الغالب‪ ،‬أو حتى يناقض بعضها بعضا(‪ .)25‬ثم‬
‫ويعرض فاجنر رأيه بشكل واضح فيرى أن الشاعر‬ ‫قائل‪“ :‬والقارئ العربي قادر هنا ‪-‬فيما‬ ‫استدرك ً‬
‫العربي القديم مل يستخدم الوسائل الفنية الصوتية‬ ‫يبدو‪ -‬عىل أن يحقق إنجا ًزا إدراكيًّا أعىل ممانحقق‪،‬‬
‫إال عيل نحو مقتصد للغاية‪ ،‬وأنها أدني من كونها‬ ‫وأن يضع األقوال يف عالقة صحيحة بعضها‬
‫وسائل تركيبية أسلوبية يف الشعر القديم!‬ ‫مع بعض‪ ،‬حيث يعنيه بداهة العرف عند اختيار‬
‫‪18‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أصليًّا انطالقًا من الظروف املجتمعية التي ال تسمح‬ ‫ثم ينتقل فاجنر إىل طرح سؤال آخر عن خلفية‬
‫بذلك‪ ،‬وقد وصل األمر بفاجنر أنه قال “العرف‬ ‫املعني الظاهر السطحي للقصائد‪ ،‬وهل يكمن فيها‬
‫أجبر الشاعر عىل أن يصف األشياء عىل نحو ما‬ ‫تشكيالت شعرية لطقوس أو أساطير أو خبرات‬
‫تطلبت‪ ..‬فوجب عليه إبداء حزنه عىل رؤية آثار‬ ‫عامة بالحياة اإلنسانية أو حياة البدو‪ ،‬ويرى أن‬
‫الحبيبة‪ ..‬وأنه مل ُيقدر املمدوح لصفات فيه بل عن‬ ‫البنية العميقة لألدب القديم مل تحظ بدراسات‬
‫طريق استخدام صفات ثابتة بوصفه ً‬
‫مثال(‪،)30‬‬ ‫كافية‪ ،‬وأغلب الدراسات فيها أجريت عىل القصائد‬
‫ثم تخير رأ ًيا يعضده يف أن الشعر العربي يميل‬ ‫ذاتها مثل ملعقة امرئ القيس ومعلقة لبيد‪ ،‬ويعمم‬
‫إىل تقديم أشخاص غير أحياء‪ ،‬فأورد رأي جارثيا‬ ‫قوله ليشمل الباحثين العرب واملستشرقين أيضا!‬
‫جوميز يف عدم صدق الشعر العربي الذي قال عنه‬ ‫ويفصل القول يف قراءة كمال أبو ديب ومولر‬
‫النقاد العرب “الكذب” يف مقولتهم “أعذب الشعر‬ ‫وهاموري وستتكيفتش وتارتلر وهايدر لألدب‬
‫أكذبه”‪ ،‬ثم يعود ليذكر لنا أن هذا الكذب مل ينتج‬ ‫القديم‪ ،‬وعىل الرغم من كونها عينة عشوائية غير‬
‫عن نشاط خيايل‪ ،‬ولكنه كان ولي ًدا لرغبة الشاعر‬ ‫ممثلة ‪-‬بشكل كاف‪ -‬للدراسات التي اهتمت باألدب‬
‫يف تكرار أنماط سابقة يجب عليه استخدامها‪ ،‬وإن‬ ‫حكما عا ًّما‬
‫ً‬ ‫القديم شرقًا وغر ًبا‪ ،‬انطلق مكونًا‬
‫مل تتطابق مع الحقيقة‪ ،‬فتظاهروا بخبرات تتالئم‬ ‫معبرا عن ذلك بقوله إنها غير مقنعة‬ ‫ً‬ ‫‪-‬كعادته‪-‬‬
‫مع أعراف املجتمع‪ ،‬وال أدري سر تكرار سؤاله‬ ‫بالنسبة له‪“ :‬وال يمكن أن تزال البقية الباقية من‬
‫عن مدى تعبير الشاعر عن أحاسيس حقيقة واقعية‬ ‫التجزيء التي ال تزال مالزمة للشعر العربي القديم‬
‫عموما‬
‫ً‬ ‫من عدمها‪ ،‬فمن البديهي عدم مطابقة الفن‬ ‫بأن يدسها املرء يف سترة االضطرار الخاصة‬
‫للواقع‪ ،‬فما بالنا بالشعر‪ ،‬وانطالقًا من إيمان فاجنر‬ ‫بأفكار الوحدة العضوية أو األساطير والطقوس ‪.‬‬
‫(‪)28‬‬

‫بأن الشاعر يطبق أعرافًا واقعية عىل قصيدته يختتم‬ ‫من وجهة نظري إنه الرفض املطلق لفكرة الوحدة‬
‫قوله بعبارة عامة “كان البيت األول أكالشي ًها يف‬ ‫العضوية يف القصيدة القديمة‪ ،‬وقد ظهر ذلك بجالء‬
‫جائرا يفتقد‬
‫ً‬ ‫حكما‬
‫ً‬ ‫الشعر العربي القديم”‪ ،‬وأراه‬ ‫يف مناقشاته لآلراء السابقة‪ ،‬وملقالة فان جيلدر عن‬
‫للنظرة العميقة للمقدمة الطللية للقصيدة القديمة‬ ‫الوحدة العضوية يف القصيدة القديمة(‪.)29‬‬
‫التي تحتوي عىل شفرات متعددة لقراءة القصيدة‬ ‫ينتقل فاجنر من مسلماته هذه إىل مناقشة الواقع‬
‫نفسها‪.‬‬ ‫والخيال يف الشعر القديم‪ ،‬وقبل املناقشة يصدر‬
‫ويعرج فاجنر عىل محاوالت تصنيف الشعر‬ ‫قائل‪ :‬يعد الشعر‬ ‫حكما عا ًّما يف بداية املناقشة ً‬
‫ً‬
‫العربي القديم تحت مصطلحات غربية مثل‪ :‬الغنائي‬ ‫العربي واقعيًّا بشكل عام‪ ،‬ثم يعود مستدر ًكا أنها‬
‫وامللحمي والدرامي‪ ،‬ويرى أن الشعر العربي ال‬ ‫قضية خالفية من وجهة نظر بعض لباحثين‪ ،‬وأن‬
‫يخضع ألي تصنيف منهم إىل أبعد الحدود‪ ،‬فهي‬ ‫سبب الخالف نابع حول مفهوم كلمة الخيال‪.‬‬
‫مصطلحات مقترنة تاريخيًّا بنشأتها يف األدب‬ ‫ويعود مرة أخري ليدلل عىل وجهة نظره واصفًا‬
‫األوروبي‪ ،‬وأن من اعتبروا الشعر العربي غنائيًّا‬ ‫الشعر العربي بأنه يركز عىل ما يدرك حسيًّا‪،‬‬
‫مثل‪ :‬ليال وبروينلش برروا ذلك بسبب خاصية‬ ‫فالشاعر مل يقدم جدي ًدا إال من خالل التفاصيل‪،‬‬
‫األنا فيه‪ ،‬ويف املقابل نرى ريناتة يعقوبي تنكر‬ ‫واصفًا أحداث صارت عرفية بالقوة‪ ،‬تنقصها‬
‫إنكارا تا ًّم‪ ،‬فمن وجهة نظرها‬
‫ً‬ ‫عليه صفة الغنائية‬ ‫التفصيالت فقط!‬
‫ً‬
‫أن الشاعر العربي القديم مل يفتقد أحوال أو تجرفه‬ ‫ً‬
‫ثم يعود مستدركا حكمه أنه ال يقصد الواقعية‬
‫أحاسيس!‬ ‫التاريخية‪ ،‬لكن الشاعر يبدع يف محيط املسموح له‪،‬‬
‫والقصيدة القديمة من وجهة نظرها ملحمية ألنها‬ ‫وينطلق ليطابق بعض الصور املوجودة يف القصيدة‬
‫تصور أحدا ًثا أو تكون محض وصف‪ ،‬محاولة‬ ‫بشكل حريف مع الواقع‪ ،‬فيتوقف عند أسماء األماكن‬
‫استخالص وسائل الربط األسلوبي بين أبيات‬ ‫فيرى أنها قد تكون واقعية‪ ،‬وقد تكون اختيرت‬
‫الوصف املمتدة من خالل التوازي والتكرار‪.‬‬ ‫لدواعي الوزن والقافية‪ ،‬وأن اسم الحبيبة مل يكن‬
‫‪19‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫يري فاجنر أن القصيدة القديمة ‪-‬وخاصة الرثاء‪-‬‬


‫كان بها إرهاصات الستيعاب مادة خارجية للقص‪،‬‬
‫باإلضافة إىل الفخر والهجاء‪ ،‬لكنه يعتب عىل‬
‫الشعراء أنهم مل يكونوا قادرين بشكل كامل عىل‬
‫بناء قصصهم‪ ،‬فاملعلومات التي تقدم يف القصيدة‬
‫ليست مسلسلة أو كاملة‪ ،‬ويستشهد عىل رأيه بعدد‬
‫من القصائد!‬
‫فهل مطلوب من الشعر أن يكون وثيقة تاريخية‬
‫تدلل عىل أيام العرب القدماء؟ أظن أن اإلجابة‬
‫بالنفي‪.‬‬
‫يري فاجنر أن الحكي والقص زاد يف الشعر القديم‬
‫يف العصر األموي بشكل خاص‪ ،‬وعىل يد عمر‬
‫بن أبى ربيعة‪ ،‬وأن الحوار يف القصيدة القديمة‬
‫أيضا يف العصر األموي‪ ،‬وظهر‬ ‫حظي بازدهار ً‬
‫جليًّا يف قصائد عمر بن أبي ربيعة‪ ،‬ويعرض لرأي‬
‫ناصر الدين األسد‬ ‫مرجليوث‬ ‫تفسيرا نفسيًّا‪،‬‬
‫ً‬ ‫فان جيلدر الذي يري يف الحوار‬
‫حوارا مع ذاته يستحضر‬
‫ً‬ ‫دوما يقيم‬
‫فالشاعر ً‬
‫فيه املحبوبة أو الالئمة أو الصاحبين أو األطالل‪.‬‬
‫إىل الحيوانات‪ ،‬فقد شعر معها بمشاركة املصير‬ ‫دوما للعصر األموي‬ ‫والغريب أن فاجنر ينتصر ً‬
‫واإلحساس نفسه نحو الغول والجن حيث سكنهم‬ ‫ويركز استشهاداته عليه وينطلق منه ليحاكم‬
‫الصحراء‪ ،‬ومن حيث الشكل يرى فاجنر أن أغلب‬ ‫القصيدة الجاهلية!‬
‫قصائد الصعاليك أحادية املوضوع‪ ،‬تغيب القافية‬
‫املصرعة عن بيتها األول(‪.)32‬‬ ‫‪-5‬‬
‫ثم ينتقل فاجنر للحديث عن قصائد الرثاء‪ /‬املراثي‬
‫مرد ًدا رأي جولد تسيهر أنه بدأ بمنطوقات سجع‬ ‫أفرد فاجنر فصلين كاملين للحديث عن شعر‬
‫خروجا عىل‬
‫ً‬ ‫الصعاليك وشعر الرثاء بوصفهما‬
‫موجزة تطورت إىل الرجز‪ ،‬ثم استخدمت أوزانًا‬
‫التقاليد النمطية املتبعة ‪-‬عىل حد وصفه‪ ،-‬فالشعراء‬
‫أخرى‪ ،‬وبدأ بمقطوعة تطورت إىل قصيدة أحادية‬
‫خاصا بين الشعراء‬
‫ًّ‬ ‫الصعاليك يشغلون موق ًعا‬
‫الغرض‪ ،‬وانعكس الغرض عىل املضمون‪ ،‬فلم تكتف‬
‫القدامي بسبب املكانة االجتماعية التي شغلوها‬
‫أيضا نفي‬‫بالفخر بالصفات الحسنة إنما تضمنت ً‬ ‫نتيجة الصطدامهم بقيبلتهم‪ ،‬فاستلزم موقفهم‬
‫كل قبيح عنه‪ ،‬وكثرت يف قوله الشاعرات مثل‬ ‫زحرحة معينة ‪-‬عىل حد تعبير فاجنر‪ -‬للقيم‬
‫الخنساء‪ ،‬وازدهر عىل يد الشعراء الهذليين‪.‬‬ ‫األخالقية التي امتدحوها يف الفخر‪ ،‬بل املديح نادر‬
‫ويري فاجنر أن شعر الرثاء قد اتسع يف فترات‬ ‫لديهم كما يري‪ ،‬وبناء عىل ذلك يتسم شعرهم‬
‫متأخرة ليشمل الشعر الديني للشيعة‪ ،‬ومرثية‬ ‫بخصوصية التجربة‪ ،‬فانفصالهم عن القبيلة أدى‬
‫الخليفة عثمان بن عفان‪.‬‬ ‫إىل تراجع الفخر بالقبيلة‪ ،‬وصار الفخر بالذات‬
‫تعامل فاجنر مع الغرضين بوصفهما خارجين‬ ‫هو املوضوع األول يف شعر الصعاليك‪ ،‬والتأكيد‬
‫عن األعراف التي يرى أن الشعراء أجبروا عليها‬ ‫عىل انفرادها واالستعداد لتحمل العوز من أجل‬
‫فمارسوها بغير إحساس حقيقي‪ ،‬ملتزمين النمطية‬ ‫االستقالل‪ ،‬ونتج عن ذلك تجنب املجتمع عقد صلة‬
‫التي يراها معهودة يف القصيدة القديمة‬ ‫به‪ ،‬فيتجه الشاعر املطرود من الجماعة اإلنسانية‬
‫‪20‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫* كلية اآلداب جامعة القاهرة فرع الخرطوم‪ ،‬الجامعة األمريكية بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ -1‬أسس الشعر العربي الكالسيكي‪ ،‬الشعر العربي القديم‪ ،‬تأليف إيفالد فاجنر‪ ،‬ترجمة وتعليق د‪.‬سعيد‬
‫البحيري‪ ،‬ط مؤسسة املختار للنشر والتوزيع‪ ،‬ط الثانية ‪.2010‬‬
‫‪ -2‬الرواية وصحة الشعر العربي القديم‪ ،‬تأليف ايفالد فاجنر‪ ،‬مجلة جذور‪ ،‬العدد ‪ ،22‬عام ‪ ،2005‬وأصله‬
‫الفصل الثاني من كتاب فاجنر أسس الشعر الكالسيكي‪.‬‬
‫‪ -3‬أسس الشعر العربي الكالسيكي‪ ،‬ص‪.17 -10‬‬
‫‪ -4‬نفسه ص‪.11 -10‬‬
‫‪ -5‬انظر حديث د‪.‬حسن البنا عز الدين يف مقدمة ترجمته لكتاب القصيدة والسلطة‪ ،‬للمستشرقة د‪.‬سوزان‬
‫سيتتكيفيتش‪ ،‬املركز القومي للترجمة‪ ،‬ص‪ ،16 :7‬ط ‪.2010‬‬
‫‪ -6‬ملزيد من التفاصيالت حول هذه النقطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفن ومداهبه يف النثر العربي‪ ،‬د‪.‬شوقي ضيف‪.‬‬
‫‪ -‬النثر الفني يف القرن الرابع الهجري‪ ،‬د‪.‬زكي مبارك‪.‬‬
‫‪ -‬من حديث الشعر والنثر‪ ،‬د‪.‬طه حسين‪.‬‬
‫‪ -‬يف األدب الجاهيل‪ ،‬د‪.‬طه حسين‪.‬‬
‫‪ -7‬أسس الشعر العربي الكالسيكي‪ ،‬فاجنر ص‪.33‬‬
‫‪ -8‬استخدم املترجم د‪.‬البحيري وصفًا للشعر الجاهيل أنه “الشعر الوثنى”‪ ،‬وهو وصف غير ذائع ىف دراستنا‬
‫النقدية الحديثة عن الشعر القديم أو الجاهيل تحدي ًدا‪ ،‬نفسه ص‪.38‬‬
‫‪ -9‬نفسه ص‪.39‬‬
‫‪ -10‬نفسه ص‪.42‬‬
‫‪ -11‬نفسه ص‪.53‬‬
‫‪ -12‬نفسه ص‪.93‬‬
‫‪ -13‬فصول يف فقه اللغة د‪.‬رمضان عبد التواب‪ ،‬ط مكتبة الخانجي ‪ ،1994‬ص‪.80 :78‬‬
‫‪ -14‬املرجع السابق‪ ،‬بتصرف‪ ،‬ص‪.84 :81‬‬
‫‪ -15‬انظر‪ :‬املكونات األويل للثقافة العربية‪ ،‬د‪.‬عز الدين اسماعيل‪ ،‬ط الخامسة ‪ ،1993‬ص‪ .18 :9‬أبوللو للنشر‬
‫والتوزيع‪.‬‬
‫‪ -16‬الشعر العربي القديم‪ ،‬فاجنر ص‪.107‬‬
‫‪ -17‬املرجع السابق ص‪.119‬‬
‫‪ -18‬املكونات األويل للثقافة العربية‪ ،‬ص‪.21‬‬
‫‪ -19‬الشعر العربي القديم‪ ،‬فاجنر ص‪.168‬‬
‫‪ -20‬نفسه‪ ،‬ص‪.172‬‬
‫‪ -21‬نفسه ص‪.189‬‬
‫‪ -22‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.255‬‬
‫‪ -23‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.256‬‬
‫‪ -24‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.36‬‬
‫‪ -25‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.258‬‬
‫‪ -26‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.258‬‬
‫‪ -27‬التناغم النصي يف املفضليات‪ ،‬د‪.‬مروة مختار ط مكتبة وهبة ‪ ،2009‬ص‪ ،105‬ص‪.75‬‬
‫‪ -28‬الشعر العربي القديم‪ ،‬فاجنر‪ ،‬ص‪.275‬‬
‫‪ -29‬بدايات النظر يف القصيدة‪ ،‬فان جيلدر‪ ،‬ترجمة د‪.‬عصام بهي‪ ،‬مجلة فصول العدد ‪ ،2‬مارس ‪.1986‬‬
‫‪ -30‬الشعر العربي القديم‪ ،‬فاجنر ص‪ ،306‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ -31‬طلل عىل طلل‪ ،‬د‪.‬مروة مختار‪ ،‬مجلة تراث االماراتية‪ ،‬أبريل ‪.2019‬‬
‫‪21‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫د‪.‬يوسف الزدكي‬
‫(المغرب)‬

‫رمزية العنف والدمار في أدب الثورات‪..‬‬


‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫مجموعة «دمية» لحسن جبقجي‬
‫القصة القصيرة ج ًّدا هي أقدر األجناس السردية على االستماع إلى‬
‫نبض واقع الحراك الثوري بكل تفاصيله وجزئياته‪ ،‬وتستطيع بالتالي‬
‫استشراف توقعات القراء والنقاد والباحثين في زمن االتصال اإللكتروني‬
‫واالنفجار المعرفي والسرعة القياسية في ترويج المعلومة‪ ،‬وفي عصر‬
‫األكلة الخفيفة واالنتشار الواسع للحواسيب المحمولة والهواتف النقالة‪،‬‬
‫ويمكنها بالتالي االستجابة لتطلعات فئة عريضة من القراء والمتتبعين‬
‫العتمادها على السرد الوامض والحكي المشهدي واللقطة الخاطفة‬
‫والتكثيف واالختزال‪.‬‬

‫والشعارات والحناجر يف صمت لتفسح املجال أمام‬ ‫شكل الحراك العربي‪ ،‬أو ما اصطلح عىل تسميته‬
‫صوت البنادق والرشاشات واملدافع والدبابات‬ ‫بثورات الربيع العربي‪ ،‬مادة حكائية دسمة‬
‫ولتتحول الثورة السلمية إىل مواجهة مسلحة بين‬ ‫للسرديات العربية‪ ،‬وعىل وجه التحديد جنس القصة‬
‫النظام القائم والفصائل الدينية والعرقية والطوائف‬ ‫ً‬
‫شكل تعبير ًّيا جدي ًدا شهد‬ ‫القصيرة ج ًّدا باعتبارها‬
‫املذهبية والتيارات األيديولوجية املتطرفة‪.‬‬ ‫تداول واس ًعا يف أوساط املبدعين يف الفن القصصي‬ ‫ً‬
‫من رحم هذا الحراك الدموي العنيف‪ ،‬ولدت‬ ‫الحديث‪ ،‬وبالنسبة لجيل كيبل‪ ،‬فإن الحراك الشعبي‬
‫ً‬
‫تفاعل‬ ‫أصوات مبدعة تفاعلت مع املد الجماهيري‬ ‫يف البلدان العربية ينقسم إىل فئتين‪ :‬األوىل متعلقة‬
‫ملتزما يف محتواه‪ ،‬عميقًا يف‬
‫ً‬ ‫قو ًّيا‪ ،‬وأنتجت أد ًبا‬ ‫بمصر وتونس‪ ،‬اتسم بمسار ديمقراطي هادئ‬
‫رؤيته‪ ،‬وبليغًا يف صوره الرمزية‪ ،‬وغنيًّا بأدواته‬ ‫نسبيًّا‪ ،‬والثانية متعلقة بسوريا واليمن‪ ،‬وامتاز‬
‫دائما‬
‫خصوصا أن اإلبداع يظل ً‬ ‫ً‬ ‫الفنية والتعبيرية‪،‬‬ ‫بتصاعد وتيرة العنف»(‪.)1‬‬
‫وليد اللحظة‪ ،‬ويف أحشائه يمتزج الخيال بالواقع‪،‬‬ ‫منحى‬
‫اتخذ إذن الحراك الشعبي العربي منحيين‪ً :‬‬
‫والحلم باألسطورة‪ ،‬ويف نهاية املطاف‪ ،‬تتشكل مادة‬ ‫سلميًّا وحضار ًّيا يتسم باالنضباط والوعي‬
‫سردية متجانسة تحمل خاصية اإلبداع األدبي‪.‬‬ ‫الجماهيري الراقي‪ ،‬حيث تجد الشعارات الرنانة‬
‫ومن بين هذه األصوات املغردة حبيبة زومي‬ ‫واألصوات الغاضبة والحناجر السخية املدوية‬
‫وحسن األشرف من املغرب‪ ،‬إبراهيم العامري من‬ ‫مرت ًعا خصبًا لها يف ساحات االحتجاج‪ ،‬وحيث‬
‫األردن وعبد الحميد سليمان من سوريا ونجالء‬ ‫املسيرات املليونية يف الساحات والشوارع العامة‪،‬‬
‫عزت الطيري من مصر‪ ،‬وحسن جبقجي من سوريا‬ ‫ومنحى دمو ًّيا عنيفًا انسحبت فيه الكلمات‬
‫ً‬
‫‪22‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫بؤرة مركزية تتحلق حولها دالالت الحسرة والفجع‬ ‫الذي تفاعل مع الحالة املأساوية لإلنسان العربي يف‬
‫واألمل والضياع‪.‬‬ ‫سوريا‪ ،‬فتفتقت ملكة البوح السردي لديه من خالل‬
‫أول ما يطالعنا عنوان األضمومة « ُد ْم َية»‪ ،‬الذي أتى‬ ‫جنس القصة القصيرة ج ًّدا‪.‬‬
‫عبارة عن كلمة مفردة بصيغة التنكير وبماديتها‬ ‫أنطلق من فرضية مفادها أن القصة القصيرة ج ًّدا‬
‫الخالصة املحيلة عىل لعبة صغيرة أثيرة لدى‬ ‫هي أقدر األجناس السردية عىل رسم الدمار العربي‬
‫الطفالت الصغيرات‪ ،‬وترمز إىل البراءة والعفوية‬ ‫ً‬
‫واختزال‪ ،‬وإىل‬ ‫يف أدق جزئياته وأشدها كثافة‬
‫واالنطالق‪ ،‬كما أنها مدعاة الترويح عن النفس‬ ‫تصويرا وكشفًا‬
‫ً‬ ‫أقصى الحدود والغايات وأبلغها‬
‫والتسلية واالنشراح يف عامل الطفولة السحري‪ ،‬لكن‬ ‫للمفارقة التي يحياها الحراك العربي بفعل إكراهات‬
‫صورة الغالف تشي بمدلول مغاير حيث تصور لنا‬ ‫البيئة والطبيعة‪ ،‬وظروف ووضعيات كل بلد عربي‬
‫أشالء مبعثرة لدمى صغيرة وهي ملقاة عىل أرض‬ ‫عىل حدى‪ ،‬باعتبار أن هذا الجنس يميل إىل السرد‬
‫َخ ِر َبة‪ ،‬يعلو أديمها التراب واألحجار املتناثرة داخل‬ ‫املشهدي الوامض للحراك الثوري املدمر واملفجع‬
‫ركن من أركان أحد املنازل التي يبدو عليها آثار‬ ‫يف سوريا‪ ،‬وللتأكد من صحة هذه الفرضية‪،‬‬
‫التدمير والقصف‪ ،‬ومن ثم تكسر صورة الغالف‬ ‫سوف أتناول موضوعة العنف والدمار عند القاص‬
‫ً‬
‫مدلول مأساو ًّيا أسود‬ ‫أفق انتظار القارئ حاملة‬ ‫السوري حسن جبقجي من خالل البحث يف بعض‬
‫للعنوان‪ ،‬وبذلك تتناغم الصورة رمز ًّيا مع اللون‬ ‫املقومات البنائية لألضمومة مثل الشخصيات‬
‫األحمر القاني الذي اصطبغت به أحرف العنوان‬ ‫واألمكنة‪ ،‬وسبر الخصائص الفنية السائدة مثل‬
‫(دمية)‪ ،‬ومع صيغة التنكير‪ ،‬مرسلة إشارات سلبية‬ ‫رمزية الحلم واملفارقة والحكي املشهدي من منظور‬
‫عند عتبة األضمومة للقارئ من الوهلة األوىل‪.‬‬ ‫ومتسائل عن مدى نجاح القاص‬ ‫ً‬ ‫وصفي تحلييل‪،‬‬
‫بعد اجتياز عتبتي العنوان وصورة الغالف‪،‬‬ ‫يف التوليف بين توظيف الخيال ومحاكاة الواقع‬
‫يستوقفنا اإلهداء الذي يتشكل من جملة واحدة‬ ‫الدموي املرير‪ ،‬يف إطار إيالف منسجم ومتجانس‬
‫تش ُّك ًل مجاز ًّيا من خالل هذه العبارة املجازية‪:‬‬ ‫يحقق للنص السردي جماليته الفنية وفرادته‬
‫«إىل من سقى بدمه أرض الوطن»‪ ،‬وهي صورة‬ ‫التعبيرية‪ ،‬دون أن أغفل البعد الداليل لألضمومة‬
‫مجازية قائمة عىل االنزياح الداليل‪ ،‬ذلك أن القاص‬ ‫الذي يرتبط بالتَّأويل العام للنصوص املدروسة‪.‬‬
‫اختار لغة ثانية انتقى من خاللها ملفوظات من‬ ‫يف البداية ينبغي اإلملاح إىل أن األحداث الدموية‬
‫مجاالت متنافرة (سقى‪ -‬األرض‪ -‬بالدم)‪ ،‬ساعيًا‬ ‫املفجعة التي تشهدها سوريا منذ عشر سنوات‬
‫إىل التقريب بين عاملين‪ :‬عامل الحرب (الدم) وعامل‬ ‫أثرا توليد ًّيا يف األضمومة‪ ،‬فلم يجد القاص‬ ‫خلَّفت ً‬
‫توترا‬ ‫الطبيعة (األرض)‪ ،‬فولَّد‬ ‫مناصا من الكتابة باعتبارها وسيلته املثىل للبوح‬
‫ًّ‬
‫ً‬
‫بين لفظتي األرض والدم للتعبير‬ ‫من جهة‪ ،‬وأداته الفنية إلعادة‬
‫عن القيمة الرمزية لالستشهاد يف‬ ‫إنتاج الواقع الدموي املفجع‬
‫سبيل الوطن‪ ،‬مما أكسب اإلهداء‬ ‫والعمل عىل صياغته من منظور‬
‫داللة قوية عىل املستوى الرمزي‪.‬‬ ‫الذات الساردة‪ ،‬حيث يتداخل‬
‫الواقع بالخيال وتمتزج ذات‬
‫الشخصيات‬ ‫السارد بالحدث املأساوي‪،‬‬
‫ومن خالله تتشكل الرؤية‬
‫عىل املستوى البنائي‪ ،‬تتوزع‬ ‫السردية عند املبدع لتنكشف‬
‫األضمومة إىل واحد وثمانين‬ ‫عالقته بذاته من جديد‪ ،‬وبعامل‬
‫قصة قصيرة ج ًّدا‪ ،‬تنتمي جميعها‬ ‫الخراب والدمار الذي يحيط‬
‫إىل حقل العنف والدمار تارة‬ ‫به من كل جانب‪ ،‬فيتحول يف‬
‫وحقل الطفولة املدمرة تارة‬ ‫جميع نصوص األضمومة إىل‬
‫حسن جبقجي‬
‫‪23‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫أخرى‪ ،‬ويف مضمارها تتحرك‬


‫الشخصيات عىل مسرح‬
‫األحداث يف صراع مرير مع‬
‫املوت‪ ،‬حيث يلمس القارئ‬
‫لألضمومة أن الشخوص‬
‫مستلهمة من واقع الثورة‬
‫املسلح‪ ،‬وبصفتها جز ًءا ال‬
‫يتجزأ منه فقد جسدت بشاعة‬
‫املشاهد الحربية‪ ،‬وأول ما‬
‫يستوقفنا شخصية الطفلة‪،‬‬
‫ولها حضور قوي يف الرواية‬
‫اسما أو‬
‫وإن كانت ال تحمل ً‬
‫لقبًا ُيع ِّرفان بها‪ ،‬باستثناء‬
‫القصيصتين املوسومتين «ميغ‬
‫‪ »23‬و»ليىل والذئب» اللتين‬
‫وسمهما السارد باسم ليىل‪،‬‬
‫الطيب تيزيني‬ ‫بول ريكور‬ ‫جميل حمداوي‬
‫ولذلك يصادف القارئ وهو‬
‫يتجول يف أروقة األضمومة شخصيات نكرة‪ ،‬وهذا‬
‫املوت وأضفى عليها حركية وبعثها من جديد حينما‬
‫التنكير مل يأت عفو ًّيا فال توجد يف السرد كتابة‬
‫أدخلها عامل األحياء‪ ،‬فهي تفتح قبورها وتذهب إىل‬ ‫بيضاء‪ ،‬ويف هذا الصدد يالحظ جميل حمداوي‬
‫أقرب مركز انتخابي وتصوت بدماء سوداء وتعود‬ ‫أن معظم قصيصات مجموعة (دمية) لحسن‬
‫لقبورها (قصيصة انتصار)‪ ،‬أو أموات تتحاور فيما‬ ‫جبقجي توظف شخصيات نكرة‪ ،‬بدون أسماء‬
‫بينها فيسأل األول صديقه‪:‬‬ ‫َع َلمية شخوصية أو عاملية‪ ،‬بمعنى أن العوامل أو‬
‫هل صحيح أنك ميت؟‬ ‫الفواعل الرئيسية أو الثانوية أو العابرة يف النص‬
‫يجيب الثاني‪:‬‬ ‫علما معرفًا يميز‬
‫اسما هوياتيًّا يحددها‪ ،‬أو ً‬‫ال تحمل ً‬
‫نعم أنا ميت‪.‬‬ ‫مواصفاتها ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ويف األخير‪ ،‬يمسك أحدهما يد اآلخر ويصعدان معا‬ ‫تتوحد شخصيات األضمومة يف خاصية التنكير‬
‫إىل السماء» (قصيصة البرزخ) أو جثت تبحث عن‬ ‫وهذا التوحد يدل عىل أنها مهمشة‪ ،‬مجهولة الهوية‪،‬‬
‫الخالص تحت جنازير الدبابات (قصيصة أشباح‬ ‫عابرة‪ ،‬ال موطن قار لها‪ ،‬وال ظل سلطة يحميها‪ ،‬وال‬
‫جثة)‪.‬‬ ‫وطن يسع أحالمها ويحتضن مأساتها‪ ،‬ويبل ريق‬
‫أطفالها ويحمي عرينها‪ ،‬بل ثمة قتل وسلب ودمار‪،‬‬
‫رمزية املكان‬ ‫إذن فهي فاقدة ملعنى وجودها‪ ،‬عاجزة عن صنع‬
‫قدرها بنفسها‪ ،‬كما تتوحد يف املصير املأساوي‬
‫أما املكان فله حضور رمزي قوي يف األضمومة‬ ‫البشع‪ ،‬مجس ًدا يف املوت والفناء الناجمين عن العنف‬
‫ً‬
‫شكل مغلقًا (بيت العائلة‪-‬‬ ‫حيث يتلون متخذًا‬ ‫الدموي البشع كما يف قصيصة «آثار»‪:‬‬
‫املدارس‪ -‬مخيم اليرموك‪ -‬املخيم‪ -‬غرفة‬ ‫الحطام‪..‬‬
‫بين ُ‬ ‫َبح َث ْت عن ابنتها َ‬
‫مفتوحا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شكل‬ ‫إسمنتية‪ -‬زوايا الجدار‪ -‬الجامعة) أو‬ ‫جثت محترقة‪ ..‬وأطراف بشرية مبعثرة‪..‬‬
‫(الحدائق‪ -‬الشرفة‪ -‬قارعة الطريق‪ -‬البحر) أو‬ ‫وجدت دمية ابنتها وقد غطاها الغبار ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ْ‬ ‫لكنها‬
‫شكل ضبابيًّا (وطنه‪ -‬مبنى النفوس القديمة‪ -‬عمق‬ ‫ً‬ ‫ومنها شخصيات أخرى ألبسها السارد لبوس‬
‫‪24‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫يف مكان ما‪ ..‬يقبع عدة أشخاص يف مكان ضيق‬ ‫البئر‪ -‬كل مكان‪ -‬خيمتها)‪ ،‬كل هذه الفضاءات ال‬
‫ج ًّدا‪ ..‬ال ضوء فيه وال ماء‪.‬‬ ‫تحضر يف بنى النصوص ملجرد التأثيث‪ ،‬بل هي‬
‫ال ينامون وال يأكلون‪.‬‬ ‫عنصر بنائي فاعل يسهم يف بناء الصورة املأساوية‬
‫فقط يكتبون يف ذاكرتهم عن الشبق األحمر ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫للحدث القصصي‪ ،‬وليس ملجرد التأثيت فقط‪ ،‬فيعمل‬
‫والثانية بعنوان «أمنية» ونصها‪:‬‬ ‫عىل تعميق إحساس الشخصيات بالحكرة والذل‬
‫كان يسكن تحت ركام جامع قديم‪..‬‬ ‫واملهانة‪ ،‬فالبيت األسري الذي من املفترض أن‬
‫وتحكمت أسواره منذ زمن‬ ‫ْ‬ ‫انهارت مآذنه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫قد‬ ‫يأوي أفراد األسرة باعتباره مصدر األمن والسالم‪،‬‬
‫قريب‪..‬‬ ‫يتحول يف زمن الثورة إىل مصدر للقلق والكآبة‬
‫واحترقت‪..‬‬
‫ْ‬ ‫والصحف قد تدن ََّس ْت‬ ‫وموطن للدمار‪ ،‬أو لنقل أنه أضحى مقبرة لألموات‬
‫الشيء الوحيد الذي كان يتمناه أن يبقى عىل قيد‬ ‫ومرت ًعا لركام الجثث املنسية من خالل قصيصة‬
‫الحياة‪،‬‬ ‫«طيور الجنة»‪ ،‬وال تنحصر سمفونية املوت يف هذه‬
‫َّ (‪)6‬‬
‫مع األحجار املحطمة ‪.‬‬ ‫القصيصة بل تسري ألحانها الحزينة بصمت يف‬
‫نتيجة بطش النظام السوري تحول املكان إىل دمار‬ ‫جميع قصيصات األضمومة‪.‬‬
‫شامل واستوطن املوت يف كل شبر منه‪ ،‬قاب ًعا‬ ‫لقد اكتشف الطيب تيزيني جدلية املوت من خالل‬
‫بأردافه البشعة‪ ،‬وهو ينوء بما أوتي من أسلحة‬ ‫واقع العبث الذي استشرى يف بالد الشام‪ ،‬ويصف‬
‫فتاكة ودبابات وصواريخ مدمرة‪ ،‬ويعد السبب‬ ‫قائل‪« :‬ما هم‬‫الفاعلين من رموز الدمار والقتل ً‬
‫يف مسخ األمكنة وتشويه املآذن ونسف العمارات‬ ‫ببشر يعيشون عىل بوابة الحضارة التي تمسح‬
‫وتحطيم أسوار املدينة وبواباتها األثرية‪ ،‬وطمس‬ ‫باملدينة‪ ،‬هم يعيشون خارجها‪ ،‬تكاد ال تجد يف‬
‫معامل حضارة برمتها‪ ،‬وإبادة شعب بأكمله‪ ،‬ومن‬ ‫مدينة بكاملها بنا ًءا واح ًدا َسل ِ َم من التدمير‪ ،‬هذه‬
‫ثم اعتبر املكان يف األضمومة مك ِّونًا بنائيًّا مه ًّما يف‬ ‫أنت أمام جدلية الوجود واملوت أو‬ ‫حالة فريدة‪َ ،‬‬
‫تشكيل الصورة الرمزية بكل عناصرها وتجلياتها‬ ‫العدم»(‪.)4‬‬
‫وأبعادها النفسية واالجتماعية والحضارية‪ ،‬كما يعد‬ ‫أضمومأأأأأأأأأأ‬
‫عامل محور ًّيا يف بناء الدالالت املأساوية لألحداث‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يف ضوء هذه الصورة البشعة للمكان يف‬
‫وبلورة القيم اإلنسانية البشعة التي خلفها دمار‬ ‫األضمومة‪ ،‬تنكشف األبعاد النفسية واالجتماعية‬
‫األمكنة‪.‬‬ ‫ألبطال األضمومة‪ ،‬عاكسة متانة الرباط الوجودي‬
‫لإلنسان العربي بأرضه وأرض أجداده‪ ،‬رغم هول‬
‫خاصية الرمز‬ ‫متسمرا‬
‫ً‬ ‫الحرب‪ ،‬ووحشية القصف‪ ،‬ما يزال صام ًدا‬
‫متشبثًا باملكان‪ ،‬أمنيته الوحيدة أن يبقى عىل قيد‬
‫ً‬
‫هائل‬ ‫عىل املستوى الفني‪ ،‬استدعت األضمومة ك ًّما‬ ‫الحياة مع األحجار املحطمة التي تظل حاملة يف‬
‫من الرموز واإلشارات التي تأخذ شكل كلمات‬ ‫أحشائها تراب الوطن‪ ،‬ورغم كل شيء‪ ،‬فالوطن‬
‫مفردة‪ ،‬مثل طائر الفينيق وهو طائر أسطوري‬ ‫ساكن يف قلوب وضمائر أبطال األضمومة‪ ،‬لكونه‬
‫يجمع يف تكوينه بين النار واملاء‪ ،‬بين الحياة واملوت‪،‬‬ ‫رمز الهوية والكينونة ومهد التاريخ والجغرافيا‬
‫يموت لكنه ينبعث من رماده من جديد‪ ،‬يستدعي‬ ‫ورمز املاضي والحاضر واملستقبل‪ ،‬فبعد أن فقدت‬
‫العديد من دالالت البعث والتجدد والوالدة‪ ،‬فالسارد‬ ‫ً‬
‫حامل‬ ‫الشخصيات كل شيء جميل‪ ،‬يظل املكان‬
‫يروي قصيصة البطل املجهول الذي يصدمه الجوع‬ ‫ألسمى شعور يف الحياة‪ ،‬وهو الشعور املتجذر‬
‫يف طريقه ملخيم الالجئين‪ ،‬لكنه كان يمني النفس‬ ‫وروحا لهذه األرض املعطاء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫باالنتماء جس ًدا وقلبًا‬
‫بحفنة تراب وجرعة كرامة يحملها يف جيبه‪ ،‬وهي‬ ‫ويبرز هذا االرتباط الوجداني والروحي باملكان من‬
‫استعارة قائمة عىل املشابهة‪ ،‬مساهمة حسب تعبير‬ ‫خالل قصيصتين‪ :‬األوىل تحمل عنوان «جرح وطن»‬
‫بول ريكور يف إيجاد التوتر عىل مستوى املنطوق‪،‬‬ ‫ونصها يقول‪:‬‬
‫‪25‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫والصواب وتجسده يف القصيصة حورية البحر‪،‬‬ ‫ومن هذا االستيعاب املتوتر عىل وجه التحديد‬
‫لتبددت كل الشكوك‪ ،‬والهتدت الذوات املتشظية‬ ‫تنبجس رؤية جديدة للواقع»(‪.)7‬‬
‫إىل طريق الخالص والسلم املفقودين‪ ،‬ولتحقق‬ ‫كما استدعى يف القصيصة رقم (‪ )50‬الجوهرة‬
‫حلم الديمقراطية املفقودة‪ ،‬وذلك بالحوار (الكلمة)‬ ‫السوداء التي ترمز إىل التشاؤم والحسرة والعبثية‪،‬‬
‫الجاد والهادئ‪ ،‬بدل االحتكام إىل العنف الدموي‬ ‫وهي رمز أدبي يعكس نفسية السارد املنكسرة‬
‫والتطاحن املسلح‪ ،‬وقد أفضى هذا الوضع إىل ما‬ ‫واملتشظية يف حميَّا البحث عن الذات وعن الوطن‬
‫أعتبره نهاية االتصال‪ ،‬ويعني نهاية التواصل املبني‬ ‫الفاقد ملعنى االستقرار واألمان‪ ،‬كما أنها رمز‬
‫عىل التفاوض الهادئ الذي يقدم كل طرف تنازالت‬ ‫متعدد األبعاد تتحلق حوله الكلمات (البحر‪ ،‬قلبي‪،‬‬
‫حججا ويجادل عن بينة دون تعصب أو‬ ‫ً‬ ‫ويقدم‬ ‫حرية‪ ،‬ضالتي) والصور الجزئية املتضمنة يف‬
‫اندفاع مجاني أو تهور ال يراعي العواقب وال‬ ‫القصيصة (أبحث عن قلبي‪ /‬وقفت أمام البحر‬
‫يستشرف املستقبل‪.‬‬ ‫ألستريح‪ /‬خرجت حورية من البحر) لتشكل‬
‫لقد أكسب الرمز املركب هنا القصيصة أبعا ًدا‬ ‫صورة رمزية متكاملة ومنسجمة عاكسة إلحساس‬
‫ً‬
‫جاعل‬ ‫جمالية جديدة عملت عىل التأثير يف املتلقي‬ ‫املرارة والخيبة‪ ،‬ومشاركة يف تعميق هذا اإلحساس‬
‫املفردات والصور قابلة للتأويل‪ ،‬كما نجح يف‬ ‫يف أرجاء القصيصة‪ ،‬لذلك تتداخل هذه الصور‬
‫توظيف فضاء البحر وهو فضاء طبيعي أثيري‬ ‫الرمزية لتكون صورة كلية هي صورة ذات مبعثرة‬
‫للتأمل واالعتبار وإعادة األوراق من جديد‪ ،‬وهو‬ ‫فقدت بوصلة الحياة‪ ،‬وال تزال تبحث عن نفسها‬
‫ما اصطلح عىل تسميته باالستبطان يف علم النفس‬ ‫وكينونتها‪ ،‬ولكنها صدمت بما سمعته من حورية‬
‫الحديث‪ ،‬وقد أومأ ابن سينا للتأمل الذاتي بالقول‪:‬‬ ‫البحر التي أومأت للذات التائهة بأن مفتاح النجاة‬
‫«وأما الشعور بالذات فإن الشاعر بما هو‪ ،‬هو نفس‬ ‫كامن يف الكلمة‪ ،‬وبدونها يظل البحث عن الحل‬
‫الذات‪ ،‬فهناك هوية وال غيرية بوجه من الوجوه‪،‬‬ ‫ضر ًبا من الوهم والعبث‪.‬‬
‫فإنك ما مل تعرف ذاتك لن تعرف أن هذا الشعور‬ ‫يحمل هذا الرمز املركب كثافة رمزية‪ ،‬فلو أسقطنا‬
‫من ذاتك هو ذاتك(‪ .)8‬أمكن للسارد من خالل الرمز‬ ‫دالالت الصور واملفردات عىل الواقع املعاش يف‬
‫التعبير عن موقفه املتبصر وإبالغ رسالته السلمية‬ ‫سوريا‪ ،‬أللفينا القلب الذي تبحث عنه الذات العاشقة‬
‫إىل كل مواطن غيور عىل بلده‪.‬‬ ‫ليس سوى اللحمة الوطنية املشتركة بين بني‬
‫كما تشي بقية النصوص برموز ذات إشارات‬ ‫الوطن‪ ،‬إنه الحب والسلم والتآزر ونكران الذات‪،‬‬
‫خفية من قبيل «علبة كبريت» يف قصيصة «أحالم‬ ‫ولو عادت هذه الطوائف املتصارعة إىل جادة العقل‬
‫شرقية»‪ ،‬الذي يكتسب داللته الرمزية يف سياق‬
‫واقع املرأة املتزوجة وما تعانيه من انفصام كيل بين‬
‫أحالمها املثالية بعيش كريم بإيجاد شقة تأويها‬
‫بمعية زوجها وأطفالها الصغار‪ ،‬وبين واقعها املرير‬
‫الذي يجود عليها بغرفة ضيقة قبل الزواج وبعلبة‬
‫كبريت بعد الزواج‪ ،‬وهنا تكمن املفارقة‪.‬‬
‫تبين أن عبارة «علبة الكبريت» تتجاوز داللتها‬
‫اللغوية املباشرة‪ ،‬لترمز إىل فضاء جحيمي هو‬
‫عرضة لالحتراق باستمرار بنيران البنادق‬
‫والرشاشات‪ ،‬كما تكتسب كلمات أخرى قيمتها‬
‫الرمزية يف ارتباطها بشخصية ملعونة يف التراث‬
‫الديني (إبليس)‪ ،‬وبما ترمز إليه يف وجدان اإلنسان‬
‫العربي من حقارة وذل ومهانة وخبث وتسلط‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫إن الرمز هنا يحتمل أكثر من تأويل‪ ،‬فقد يرمز إىل‬ ‫ولفهم البعد الرمزي لهذه الشخصية‪ ،‬نتوقف هنيهة‬
‫تنظيم داعش‪ ،‬وباملقابل يرمز األب هنا إىل النظام‬ ‫عند قصيصة بعنوان «استقالة»‪ ،‬هي عبارة عن‬
‫السوري الجائر الذي يجد نفسه يف مواجهة ذئب‬ ‫رسالة تبرئة للذمة يعلن فيها إبليس تنصله من‬
‫مفترس آخر يضاهيه وحشية وشراسة وجبروتًا‪،‬‬ ‫مسئولياته عما يحدث يف البالد العربية من قتل‬
‫َ‬
‫مالذ ليىل‬ ‫ومن ثم يصبح هذا الكائن الجديد‬ ‫ونهب وإحراق وسلب للممتلكات وتجويع وإبادة‪،‬‬
‫وملجأها املحتمل‪ ،‬فهو يحتضنها ويعبئها ويجندها‬ ‫وإبليس هنا رمز للشر القابع يف النفس البشرية‪،‬‬
‫وحزاما ناسفًا يف عملية‬
‫ً‬ ‫لتصبح قنبلة موقوتة‬ ‫وقد يرمز إىل دولة بعينها مشهود لها بتسليح‬
‫انتحارية هو من يضع آخر ملساتها‪.‬‬ ‫الحراك الشعبي ومد الثوار بالعتاد الحربي‪ ،‬وهي‬
‫وقد يتوسل السارد بالطيور ليشكل من خاللها‬ ‫نفسها التي تستنكر العنف الدموي وتدينه يف‬
‫رؤيته السردية ويؤصل ملوقفه الوجودي‬ ‫املحافل الدولية‪ ،‬لذلك فإن استدعاء حكاية إبليس‬
‫واإلنساني من الحياة واملوت والفناء والخلود‪،‬‬ ‫له شحنة رمزية قوية ومؤثرة تزيد من تعميق‬
‫فطيور الجنة رمز ألطفال سوريا الذين يصعدون‬ ‫إحساس السارد واملتلقي بازدواجية املواقف‬
‫إىل السماء بصحبة أبطال قصصهم‪ ،‬ولعل السارد‬ ‫وفداحة الفعل املضاد‪ ،‬موظفًا التراث الديني‬
‫قد استوحاها من املشهد اإلعالمي وبالتحديد من‬ ‫مستلهما قصة إبليس الواردة يف القرآن الكريم ملا‬ ‫ً‬
‫التسمية الخاصة بإحدى قنوات األطفال الفضائية‪،‬‬ ‫غوى أهل الشرك‪ ،‬وزين لهم الكفر والعصيان‪ ،‬فلما‬
‫والغاية من هذا التوظيف الرمزي إعادة إنتاج‬ ‫كفروا قال اهلل تعاىل عىل لسانه‪« :‬إِنِّي َبرِئٌ ِم َّما‬
‫التسمية «طيور الجنة» ومنحها بع ًدا أسطور ًّيا يمزج‬ ‫ت ُْش ِر ُك َ‬
‫ون»‪.‬‬
‫بين ما هو واقعي (ارتدى األطفال أجمل مالبسهم‪..‬‬ ‫ورموز مرتبطة بالحيوان‪ ،‬حيث استدعى لفظة‬
‫واستمعوا لحكايات الجدة‪ ..‬يف الصباح‪ ،‬كانت‬ ‫«الذئب» لتعميق اإلحساس باالستهتار والعبثية‬
‫الطائرات تسقط براميل الظالم عىل منازلهم‪ )..‬وما‬ ‫والدونية وسط عامل فوضوي فقد معنى الحياة‪،‬‬
‫هو عجائبي (بينما األطفال يصعدون إىل السماء‬ ‫وانهارت بداخله القيم املثالية العليا‪ ،‬لتحل قيم‬
‫صحبة أبطال قصصهم)(‪.)10‬‬ ‫وحشية متصلبة يجسدها استدعاء هذا الرمز يف‬
‫ومحاولة منه لتكييف حراك الثورة مع أجواء‬ ‫قصيصة «ليىل والذئب»‪ ،‬حيث تبدو املفارقة عجيبة‬
‫األضمومة‪ ،‬بادر السارد إىل استدعاء أسطورة‬ ‫انطالقًا من العنوان الذي يجمع بين مكونين غير‬
‫شهريار يف قصيصة «ورطة» بعد أن علق بذهنه‬ ‫متجانسين نحو ًّيا وصرفيًّا ودالليًّا‪ ،‬فليىل اسم علم‬
‫منظر املدن الحاملة وهي تتحدث لغة الصمت‪،‬‬ ‫مؤنث ينتمي إىل النوع البشري‪ ،‬بخالف مكون‬
‫وتصارع املوت كل دقيقة وكل ثانية‪ ،‬يقول السارد‪:‬‬ ‫«الذئب» الذي ينتمي إىل النوع الحيواني‪ ،‬لكن‬
‫«يف مدينة األحالم مل يجد شهريار من يجلس معه‪..‬‬ ‫املتأمل ألحداث القصيصة سوف يالحظ أن ثمة ألفة‬
‫مل يجد أح ًدا سوى سيفه األسود»(‪.)11‬‬ ‫تولدت بين ليىل‪ ،‬الفتاة رمز اللطف والوداعة‪ ،‬وبين‬
‫ينتصب املوت يف ُح َميَّا الصمت ليجثو بكل ثقله عىل‬ ‫الذئب رمز الوحشية واالفتراس (قررت أن تقضي‬
‫املدينة الحاملة قبل اندالع شرارة الثورة‪ ،‬بيد أن‬ ‫عمرها مع صديقها الجديد «الذئب»)‪ ،‬وهذا يشكل‬
‫استدعاء أسطورة شهريار وهو يشير يف حكايات‬ ‫قمة املفارقة التي تعد من خاصيات القصة القصيرة‬
‫ألف ليلة وليلة إىل امللك الجبار الذي بطش بضحاياه‬ ‫ج ًّدا‪.‬‬
‫من النساء‪ ،‬وغياب شهرزاد يف القصيصة له بعد‬ ‫يفتح استدعاء مفردة «الذئب» املجال أمام املتلقي‬
‫رمزي قوي‪ ،‬إذ هي املعادل الرمزي للشعب الذي‬ ‫للتأويل‪ ،‬يف ضوء تجربته الحياتية وما يراكمه من‬
‫تح َّول إىل كائن أخرس بفعل إقبار صوته الثوري‬ ‫أخبار الواقع وتفاصيل الحرب واإلرهاب يف العاملين‬
‫الصداح‪ ،‬فتحول إىل آلة قمعية صرفة‪.‬‬ ‫العربي والغربي‪ ،‬فالسارد يحكي أن «ليىل قررت‬
‫ويف أرموزة «مونديال عاملي» التي تحتوي عىل كم‬ ‫أن تقضي عمرها مع صديقها الجديد (الذئب)» !‬
‫(‪)9‬‬

‫هائل من الرموز واإلشارات الدالة‪ ،‬يتحول املونديال‬ ‫عسى أن ينقذها من أبيها‪ .‬ح‬
‫‪27‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫إىل رمز للمنتظم الدويل واألمم‬


‫املتحدة‪ ،‬والهدف يرمز للمنازل‬
‫التي تصاب بوابل من القذائف‬
‫النارية التي تسددها مدفعيات‬
‫النظام الجائر يف حق شعب‬
‫أعزل‪ ،‬والجمهور رمز للدول‬
‫العربية والعامل بأسره وهو‬
‫يتابع فصول الحكاية الدموية‪،‬‬
‫ويشاهد بأم عينيه فصول‬
‫حرب ضروس وتفاصيل قتل‬
‫بشع وضراوة قصف جنوني‪،‬‬
‫ولكنه يظل صامتًا وال يتحرك‬
‫مثل شيطان أخرس‪.‬‬
‫كل هذه الرموز واإلشارات‬
‫تشكل املعادل الرمزي للواقع‬
‫جيل كيبل‬ ‫سلمى براهمة‬ ‫عبد العاطي الزياني‬ ‫املفترض‪ ،‬وتمتلك يف ذاتها‬
‫شحنة داللية قوية‪ ،‬فالرموز‬
‫يف نظر بول ريكور «تمد جذورها يف أصقاع الحياة‬
‫ككل‪ ،‬وتشير تهاني مبرك إىل أن أكبر داللة دارت‬ ‫والشعور والعامل املتينة‪ ،‬وألن لها ثباتًا استثنائيًّا‪،‬‬
‫عليها األحالم األدبية يف موضوع البحث كانت‬ ‫فإنها تفضي بنا إىل التفكير بأن الرمز ال يموت‪،‬‬
‫تصوير املشكالت‪ ،‬كما ميزت نفس الباحثة بين‬ ‫بل يتحول فقط(‪ ،)12‬لذلك تستطيع القصة القصيرة‬
‫ثالث دالالت للحلم وهي التعويض وتصوير‬ ‫ج ًّدا استيعاب كل هذا الكم الهائل من األدوات‬
‫املشكالت‪ ،‬واستشراف املستقبل‪ ،‬فوظيفة التعويض‬ ‫الفنية واإلبداعية من خالل اعتمادها عىل خاصيات‬
‫حسب الباحثة هي التنفيس عن الشخصيات‪،‬‬ ‫التكثيف واالختزال والتلميح واإلشارة‪ ،‬بغية النفاذ‬
‫ووظيفة تصوير املشكالت هي الكشف عن مشكلة‬ ‫إىل عمق الوجدان العربي ومالمسة أدق تفاصيل‬
‫الشخصية‪ ،‬ووظيفة استشراف املستقبل هي تزويد‬ ‫الحدث الذي يتحول إىل لحظات خاطفة ومشاهد‬
‫الشخصية برؤية ثاقبة عن املستقبل وتهيئتها ملا هو‬ ‫مختزلة ومكثفة‪ ،‬مما يضفي عىل املنجز القصصي‬
‫متوقع(‪ ،)13‬ويف هذا اإلطار‪ ،‬تتوزع أحالم األضمومة‬ ‫للقاص حسن جبقجي فرادة يف اإلبداع وألقًا يف‬
‫إىل أحالم ما قبل الثورة وأحالم الثورة‪.‬‬ ‫البوح وخصوصية يف التعبير الرمزي واألسطوري‪.‬‬
‫يف قصيصة بعنوان «أحالم قبل الثورة» كانت‬
‫نفسية البطل هادئة منطلقة متحررة من أي قيد‬ ‫رمزية الحلم‬
‫مادي أو معنوي‪ ،‬مثل الشخصية املستشرفة‬
‫للمستقبل‪ ،‬متوسلة بتقنية التداعي الحر‪ ،‬حيث‬ ‫يعد الحلم بمثابة تقنية سردية يلجأ إليها السارد‬
‫يستدعي السارد ذاكرة الفتى الصغير وتخيالت‬ ‫باعتباره نافذة استشرافية للمستقبل‪ ،‬وال يهمنا‬
‫اللحظات الطفولة الجميلة الحاملة‪ ،‬من خالل املسدس‬ ‫من إطاللتنا عىل هذه النافذة تركيبة الحلم وبنيته‬
‫املائي والطائرة الورقية‪ ،‬ولكن تأتي لحظة التحول‬ ‫الداللية داخل األضمومة بقدر ما يهمنا لغة السرد‬
‫املفاجئ للحظات الحلم‪ ،‬وتحدث عملية القلب للحلم‬ ‫التي أطرت الحلم يف سياق أدبي معين‪ ،‬واملقصود‬
‫إىل كابوس‪ .‬ويف قصيصة «أحالم مشروعة» يؤدي‬ ‫هنا بالتحديد الحلم األدبي املشحون بالتخيالت‬
‫الحلم وظيفة التعويض عن الواقع املتردي والتنفيس‬ ‫واإلشارات والصور اإليحائية املتصلة باألضمومة‬
‫‪28‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الحكي املشهدي‬ ‫عن الشخصية التي ماتت وأضحت جثة جامدة‪،‬‬


‫وبقيت مع ذلك أحالمها تتجول يف املدينة القديمة‪.‬‬
‫الحكي املشهدي يف تعريف سلمى براهمة (املغرب)‬ ‫إن لغة السارد يف النص الحلمي جد مكثفة‪ ،‬وتتخللها‬
‫يعني «السرد بعين الكاميرا الذي تناسب إىل‬ ‫جمل فعلية مرتبة دون فواصل‪ ،‬ومختومة بنقط‬
‫حدود قصوى مع عوامل الطفولة»(‪.)15‬‬ ‫الحذف مما يضفي االنسيابية عىل الحكي‪ ،‬ومن‬
‫يسير السرد يف أضمومة «دمية» لحسن جبقجي‬ ‫أمثلة ذلك قصيصة «أحالم شرقية» ونصها‪:‬‬
‫مواز ًيا مع حركات األبطال وصخبهم وردود فعلهم‬ ‫رضت عىل نفسها يف غرفة ضيقة‪ ..‬وسادة بيضاء‪،‬‬ ‫ْ‬
‫داخل الحكاية‪ ،‬فعىل صعيد التصوير الفني‪ ،‬عمد‬ ‫(أخيرا ستصبح حرة)‬ ‫حين دق باب بيتها‬
‫َس َّراد ا ُ‬ ‫ً‬
‫تصويرا‬
‫ً‬ ‫ألضمومة إىل تصوير املشاهد‬ ‫حملها عريسها من غرفة ضيقة إىل علبة كبريت» ‪.‬‬
‫(‪)14‬‬
‫دقيقًا‪ ،‬عبر املزاوجة بين الوصف املرئي املكثف‬
‫يصطبغ الحلم هنا بصبغة املفارقة عبر توظيف‬
‫لألحداث‪ ،‬والتصوير النفسي للحاالت واملشاهد‬
‫رمزي مكثف لكلمة مضافة «علبة كبريت»‪،‬‬
‫الدرامية‪ ،‬عىل شاكلة رسام اللوحات التشكيلية أو‬ ‫فيندمغ الخيال بالحلم‪ ،‬وتتولد الدهشة من حلم َّ‬
‫ول‬
‫مصور اللقطات السينمائية‪ ،‬حيث تسهم العين يف‬
‫(املاضي)‪ ،‬ووظيفته التعويض عن مرحلة تاريخية‬
‫التقاط املشهد وتتبع جزئياته وتفاصيله‪ ،‬واكتشاف‬
‫مزهرة ومفعمة بالفرح والغبطة والحياة‪ ،‬يعم‬
‫شخوصه من الناحيتين الخارجية والداخلية مما‬
‫السالم واألمن البيت‪ ،‬ويف اآلن نفسه التنفيس عن‬
‫يضفي عىل املشهد ألقا تعبير ًّيا وجاذبية تصويرية‬
‫الشخصية الساردة وملء فراغات النفس والروح‬
‫نافذة‪ً .‬‬ ‫ملواجهة آثار حرب مدمرة من خالل قصيصات‬
‫كثيرا إىل التوصيف املشهدي‬‫ً‬ ‫إن السارد يميل‬
‫(حلم)‪( /‬حلم أميرة)‪( /‬أحالم طفولية)‪ ،‬أو حلم‬
‫للقطات الوامضة املهملة‪ ،‬مما يفسر هيمنة الجمل‬
‫الوصفية‪ ،‬ففي قصيصة «صور» يرتسم الحكي‬ ‫آني تسري أحداثه عىل الحاضر ووظيفته تصوير‬
‫املقطعي عبر أربعة مشاهد درامية ندرجها عىل‬ ‫الشخصيات املحطمة نفسيًّا وهي تصارع الغربة‪،‬‬
‫التوايل‪:‬‬ ‫وترثي حاضرها املؤمل من خالل قصيصة (حلم‬
‫املشهد األول‪ :‬خروج األب يبحث عن كسرة خبز‬ ‫جدي)‪ ،‬إذ يلتقي السارد بجده يف الحلم وينسج معه‬
‫يسد رمق أهل بيته‪.‬‬ ‫حوارا خياليًّا تطبعه الدهشة واملفارقة والفراغ الدال‪.‬‬ ‫ً‬
‫املشهد الثاني‪ :‬جثث ملقاة عىل أطراف الطرق‪..‬‬ ‫أو حلم يستشرف املستقبل بحسرة‪ ،‬ووظيفته تهيئة‬
‫جثث أخرى ملقاة يف الحاوية‪ ..‬بينما األوساخ‬ ‫الشخصية نفسيًّا للتحكم يف الواقع والسيطرة عليه‬
‫منتشرة يف كل مكان‪.‬‬ ‫أمل يف غد أفضل‪ ،‬بمعنى أن السارد يتغيَّا من وراء‬ ‫ً‬
‫املشهد الثالث‪ :‬السوق مزدحم‪ ..‬العيون جائعة‪،‬‬ ‫استدعاء الحلم تزويد البطل بشحنة نفسية قوية‬
‫واألسعار مرتفعة‪.‬‬ ‫تدفع به إىل التجدد داخليًّا‪ ،‬ومقاومة عوامل اإلحباط‬
‫املشهد الرابع‪ :‬الباب مغلق بإحكام‪ ..‬ال ماء‪ ،‬وال‬ ‫والتشظي يف بنية املجتمع السوري‪ .‬ونلمس هذا‬
‫كهرباء‪ ..‬األم وأطفالها ينتظرون‪.‬‬ ‫االستشراف يف قصيصة بعنوان «طفل بال أجنحة»‪،‬‬
‫يتضافر السرد والوصف يف املشاهد األربعة‬ ‫التي يتمنى من خاللها طفل صغير بأن يسكن كوكبًا‬
‫مازجا بين حسية املكان ونسبية الزمان وتقلبات‬ ‫ً‬ ‫ليس فيه بشر‪ ،‬وهذا التمني يولد الدهشة والغرابة‬
‫الوجدان‪ ،‬ومأساة اإلنسان السوري يف ظل واقع‬ ‫يف مخيلة املتلقي لقيامه عىل خاصية املفارقة‪.‬‬
‫الجوع والدمار‪ ،‬فاملشهد األول يسرد حدث الخروج‬ ‫لهذه األسباب مل يتوان السارد يف االحتفاء‬
‫للبحث عن كسرة خبز‪ ،‬واملشاهد الثالثة املتبقية‬ ‫بالحلم األدبي واستدعائه يف سياقات سردية‬
‫تبنى عىل الوصف الخارجي لألشياء واألمكنة‪،‬‬ ‫صورا رمزية حاملة تخاطب ذاكرة‬ ‫ً‬ ‫راسما‬
‫ً‬ ‫مختلفة‪،‬‬
‫كما تبنى عىل الوصف الداخيل بواسطة التوظيف‬ ‫الشخصيات بواسطة التداعي الحر واإليحاء‬
‫املجازي لبعض العبارات (العيون جائعة) وهو‬ ‫والتكثيف‪.‬‬
‫س َّراد‬
‫على صعيد التصوير الفني‪ ،‬عمد َ‬ ‫توصيف سيكولوجي خفي يتجسد يف‬
‫عيون الناس‪ ،‬حيث الجوع صفة معنوية‬
‫ُ‬
‫األضمومة إلى تصوير المشاهد تصوي ًرا‬
‫أسندها السارد للعيون عىل سبيل‬
‫ً‬
‫دقيقا‪ ،‬عبر المزاوجة بين الوصف المرئي‬ ‫التجريد‪.‬‬
‫كما يتجسد الحكي املشهدي يف قصيصة‬
‫المكثف لألحداث‪ ،‬والتصوير النفسي‬ ‫أخرى بعنوان «الذكريات املفقودة»‪،‬‬
‫وتتفرع إىل صورتين لغويتين‪:‬‬
‫للحاالت والمشاهد الدرامية‪ ،‬على شاكلة‬
‫الصورة األوىل‪ :‬التقت نظراتهما يف‬
‫رسام اللوحات التشكيلية أو مصور‬ ‫الجسر املعلق‪ ،‬من حينها وعدها أن يبقى‬
‫حبيبها إىل األبد‪.‬‬
‫اللقطات السينمائية‪ ،‬حيث تسهم‬ ‫الصورة الثانية‪ :‬عادت إىل ذكرياتها‬
‫األوىل وحيدة‪ ،‬حطام الجسر املعلق‬
‫العين في التقاط المشهد وتتبع‬
‫بين الفرات واألرض‪ ..‬تشتاق لحكايات‬
‫جزئياته وتفاصيله‪ ،‬واكتشاف شخوصه‬ ‫الهواء(‪.)16‬‬
‫الصورتان م ًعا تعرضان شخصيتين‬
‫من الناحيتين الخارجية والداخلية‬ ‫متحابتين‪ ،‬عبارة عن مزيج من الواقع‬
‫والخيال‪ ،‬من الحقيقة والوهم‪ ،‬من‬
‫املاضي املشرق والحاضر املظلم‪ ،‬لذلك‬
‫يسري التشظي حتى عىل مستوى الزمان «عادت‬
‫ومدهش‪ ،‬وهذا التفسير ينطبق عىل بدايات نهايات‬
‫وحيدة إىل ذكرياتها»‪ ،‬وعىل مستوى املكان «حطام‬
‫القصيصات ونهايتها‪ ،‬ويعرفها الدكتور عبد العاطي‬
‫الجسر املعلق بين الفرات واألرض»‪ ،‬ولذلك تعاني‬
‫الزياني بأنها «ورطة مثيرة تشكك يف اليقينيات‬
‫الشخصيتان من حالة فصام حادة تجعلهما‬
‫وتعاكس املألوف»(‪.)17‬‬
‫مشدودتان للماضي بشوق وحنين‪ ،‬ومحاصرتان‬
‫ففي قصيصة «ليىل والذئب»‪ ،‬تبرز املفارقة صارخة‬
‫يف وحدتهما القاتلة حيث تبخر حلم الحبيب ومل‬
‫يف العنوان‪ ،‬حيث تتبدى املجانسة بين املتضادين‬
‫يعد سوى حكاية وهم وخيال‪ ،‬وقد وظف السارد‬
‫وجنسا مستحيلة‪ ،‬إذ ال محل‬‫ً‬ ‫ماهي ًة وتكوينًا‬
‫تقنية االسترجاع إلثراء املشهد العاطفي واستكمال‬
‫لوجود ائتالف أو مؤانسة بين النوعين‪ :‬اإلنساني‬
‫الصورة الكلية التي تعمق إحساس الشخصيتين‬
‫والحيواني‪ ،‬أي بين ليىل والذئب مما يضفي شحنة‬
‫بعبثية الواقع وال جدوى الحياة‪ ،‬وتظل الذكريات‬
‫رمزية قوية عىل مسار السرد‪ ،‬ويولد االندهاش‬
‫املفقودة مجرد بلسم لجروح الحاضر وشروخه‪،‬‬
‫لدى املتلقي بفعل التوتر الداخيل الذي يحدثه الجمع‬
‫ومن ثمة يتبدى للقارئ بأن الحكي املشهدي تقنية‬
‫بين كائنين متضادين‪ :‬ليىل بأنوثة الفتاة ولطفها‬
‫سردية مهمة يف تجلية اللحظة الوامضة‪.‬‬
‫وإنسانيتها‪ ،‬والذئب بفظاظته ورعونته ووحشيته‪،‬‬
‫وهذه قمة التناقض الذي يعد سمة فنية بارزة يف‬ ‫خاصية املفارقة‬
‫األضمومة‪.‬‬
‫العالقة بين ليىل والذئب عالقة ضدية متعارضة‬ ‫تعد املفارقة خاصية جمالية تكسب النص القصصي‬
‫عىل املستوى البيولوجي‪ ،‬ونرمز لها باملعادلتين‬ ‫الدهشة واالنبهار‪ ،‬وتفضح العيوب املجتمعية‬
‫التاليتين‪:‬‬ ‫مبرزة أوجه التناقضات املمكنة بين جالدي الثورة‬
‫ليىل‪ :‬إنسان ‪ +‬عاقل‪.‬‬ ‫وضحاياها‪ ،‬ومن ثم فهي تقنية أسلوبية تتجاوز‬
‫الذئب‪ :‬حيوان ‪ -‬عاقل‪.‬‬ ‫حدود املنطق واأللفة لتنفتح عىل كل ما هو غريب‬
‫‪30‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫«أشياء مبعثرة» (املسرح يعج باألشياء املكسرة)‪.‬‬ ‫إذن ليىل ‪ #‬الذئب‪.‬‬


‫وقد تتحول النهاية إىل مفارقة تثير دهشة‬ ‫تخرق املفارقة قانون العالقات بين الوحدات‬
‫القارئ‪ ،‬وعادة ما تكسر أفق توقع القارئ بعد‬ ‫املعجمية وتخلق نسقًا دالليًّا غريبًا ومتفر ًدا‪َ ،‬أ َّولُ‬
‫تشكل الحبكة ومرور السارد إىل الحل‪ ،‬ونلمس‬ ‫مستوى فيه تَآ ُل ُف ليىل مع الذئب الذي يوحي‬
‫توظيفها بكثافة يف األضمومة‪ ،‬ففي قصيصة‬ ‫بتآلف غير متوقع بين قوى البناء عىل ساحة‬
‫«اإلدمان» تتمنى أسرة السارد لو يبقى حاسوب‬ ‫املواجهة وقوى الهدم والتدمير‪ ،‬ويوحي إىل‬
‫معطل (جنوح إىل السلبية)‪ ،‬ويف قصيصة‬ ‫ً‬ ‫السارد‬ ‫هشاشة الكائن البشري وقابليته للتطويع واالبتالع‬
‫«البرزخ» يمسك السارد بيد صديقه ويصعدان إىل‬ ‫واالحتواء فكر ًّيا وأيديولوجيًّا‪.‬‬
‫السماء (هروب من الواقع ونكوص سلبي وتخيل‬ ‫املستوى الثاني أن ليىل وجدت أمها ماتت‪ ،‬وهذا‬
‫عن مبادئ الثورة)‪ ،‬ويف قصيصة «بقايا بيت»‪،‬‬ ‫معطى سردي مقبول وال يستدعي دهشة املتلقي‪.‬‬
‫يبحث الزوج عن طفلته وزوجته دون جدوى‪ ،‬ويف‬ ‫املستوى الثالث‪ :‬قرار ليىل تقضية بقية عمرها‬
‫قلما ومحبرة ومن خاللها يرسل‬ ‫برفقة صديقها الجديد الذئب‪ ،‬وتبدو هنا املفارقة‬
‫نهاية املطاف يجد ً‬
‫السارد إشارة طفيفة للقارئ مفادها أن البقاء‬ ‫صارخة حيث تعاكس ليىل منطق الطبيعة وتخرق‬
‫للكلمة وما سواها عرضة لالندثار والفناء‪ ،‬ويف‬ ‫ناموسها من خالل نسجها لعالقة صداقة مع‬
‫ذئب‪ ،‬ويف هذ الصدد‪ ،‬يرى الدكتور محمد املبارك‬
‫العثور عىل املحبرة إشارة منه إىل التراث والتاريخ‬
‫أصل‪ ،‬فقد‬ ‫ً‬ ‫أن «الكلمات مل تعد تنبئ بما وجدت له‬
‫والثقافة وهي عناصر كتبت بمداد الفخر واالعتزاز‬
‫أضفى التركيب عليها سمة جديدة فأصبح معناها‬
‫عىل مدى قرون طويلة‪ ،‬وصمودها يف وجه حملة‬
‫مغايرا ملعناها الجديد دون أن تفقد يف‬ ‫ً‬ ‫القاموسي‬
‫اإلبادة التي تشنها القوى املدمرة تكريس ملقولة‬
‫الوقت نفسه صلتها الوطيدة به‪ ..‬مثل الصانع الذي‬
‫«البقاء لألجدر»‪ ،‬ويف قصيصة «بابا نويل»‪ ،‬يختم‬
‫ح َّور املادة األصلية وغيَّرها فاختلفت اختالفًا بيِّنًا‬
‫السارد بحدث طارئ مفاده أن بابا نويل اعتقل‬
‫يف الشكل والصورة‪ ،‬لكن أصل املادة ظل ثابتًا‪،‬‬
‫بتهمة اإلرهاب‪ ،‬ويف هذه الحالة فهو مورط‪،‬‬ ‫بل إن هذا األصل قد انسجم مع الشكل الجديد‬
‫والنهاية مفتوحة عىل كل االحتماالت املمكنة‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬
‫أصل‬ ‫مكونًا ائتالفه من خالل بنية التناقض القائمة‬
‫وراء استدعاء املفارقة هنا استدعاء لتناقضات‬ ‫بين املادة املصنوعة والصورة الجديدة»(‪ .)18‬ولعل‬
‫الواقع الثوري املشتعل حيث تختلط األوراق‬ ‫السارد سعى من خالل هذه االئتالف بين املعنى‬
‫ومتهما‪ ،‬طالبًا لثأر أو‬
‫ً‬ ‫ويصبح الجميع قاضيًا‬ ‫القاموسي للذئب ومعناه الجديد يف الجملة إىل‬
‫مطلو ًبا من أجل جنحة مل يرتكبها‪ ،‬فتتحول الثورة‬ ‫رسم صورة مأساوية للواقع املعاش بكل مفارقاته‬
‫إىل محاكمة عمياء لكل الكائنات وكل املخلوقات‬ ‫وتناقضاته‪ ،‬مكثفًا هذه الصورة برموز وإشارات‬
‫التي تدب عىل األرض السورية‪ ،‬إذ الكل متورط‬ ‫(ليىل‪ -‬الذئب‪ -‬الصديق الجديد‪ -‬أبيها)‪ ،‬حتى‬
‫شريرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫متهما خيِّ ًرا كان أم‬
‫ً‬ ‫يف لعبتها بريئًا كان أم‬ ‫يدفع القارئ للتأمل مليًّا يف خيوط اللعبة املكشوفة‪،‬‬
‫حتى الدمى والقطط لحقها أذى الثورة فاكتوت‬ ‫ويشركه يف فك لغزها بغاية توريطه يف استكناه‬
‫بنيرانها يف صمت‪.‬‬ ‫خلفياتها واستيعاب حقيقة ما يجري‪ ،‬فآثر توظيف‬
‫إن املفارقة هنا تتلون بلون املأساة والتأسي‪،‬‬ ‫املفارقة املعضودة بالرمز واإليحاء‪.‬‬
‫فتضفي عىل األضمومة مسحة فنية مائزة بفعل ما‬ ‫وقد تشمل املفارقة بداية القصيصة كما يف‬
‫تحدثه النهاية املفارقة من دهشة وتوجس وقلق‬ ‫قصيصة «شهيد» (يف عرسه ارتدى بذلته‬
‫وجودي وشك يف جدوى الفعل الثوري املدمر الذي‬ ‫الحمراء)‪ ،‬وقصيصة «أمنية» (كان يسكن تحت‬
‫مآله إبادة شعب أعزل‪.‬‬ ‫ركام جامع قديم‪ ،)..‬وقصيصة «نظرات» (يف تلك‬
‫البالد‪ ..‬يوجد فقط الشهداء‪ ،)..‬وقصيصة «»أنا‪»..‬‬
‫تركيب واستنتاج‬ ‫(مل تعد السنونو تطير يف السماء‪ ،)..‬وقصيصة‬
‫‪31‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫هذا الجنس السردي القصير ج ًّدا‪ ،‬يف إطار إيالف‬ ‫عىل العموم‪ ،‬فقد شكل العنف والدمار موضوعة‬
‫منسجم ومتجانس يحقق للنص السردي جماليته‬ ‫البحث يف هذا املقال النقدي‪ ،‬بد ًءا بعتبة العنوان‬
‫الفنية وفرادته التعبيرية‪ ،‬دون أن أهمل البعد الداليل‬ ‫«دمية» التي سطرت أحرفها بلون أحمر غامق‪،‬‬
‫لألضمومة الذي ال يتوارى مختفيًا وراء الحلم‬ ‫منظرا‬
‫ً‬ ‫ومرورا بصورة الغالف الذي يستدعي‬ ‫ً‬
‫والرمز واملجاز واألسطورة واملفارقة‪ ،‬حيث يتشكل‬ ‫رهيبًا لبقايا دمية أجزاؤها متناثرة داخل أحد‬
‫عىل نار هادئة وعن طريق لغة شفافة تمزج بين‬ ‫البيوت السكنية املنهارة‪ ،‬وانتها ًء باملتن الحكائي‬
‫الوضوح والسهولة والخفة والرشاقة‪ ،‬وقد وفق‬ ‫الذي استطاع القاص حسن جبقجي إفراغ مادة‬
‫قصصية طازجة يف قالب جنس قصصي حديث‬
‫الكاتب يف مغامرته السردية املحفوفة باملخاطر‬
‫وهو جنس القصة القصيرة ج ًّدا‪ ،‬من خالل ثيمة‬
‫والصعوبات‪ ،‬ممتطيًا صهوة الكتابة القصصية‬
‫العنف والصراع املسلح بين فصائل الثورة‪ ،‬توقفنا‬
‫مفضل ركوب‬‫ً‬ ‫الجريئة يف موضوعها وأسلوبها‪،‬‬ ‫مليًّا عند لحظات وامضة من الحكي املشهدي‬
‫صهوة السرد الوامض أو الخاطف الذي يعتمد‬ ‫صورا مرئية لجثث وموتى‬ ‫يصور خاللها السارد‬
‫ً‬
‫التكثيف واالختزال والحذف واملفارقة يف قالب‬ ‫وشهداء وأطفال مشردين ونساء ثكىل‪ ،‬وقد تبدى‬
‫رمزي متميز‪.‬‬ ‫جليًّا أن العنف هو السمفونية التي تعزفها جوقة‬
‫تأسيسا عىل ما سبق‪ ،‬يتبين أن القصة القصيرة‬‫ً‬ ‫الثوار يف كل شبر من أرض سوريا‪ ،‬وتسري يف كل‬
‫ج ًّدا هي أقدر األجناس السردية عىل االستماع إىل‬ ‫جزء من أجزاء البالد‪ ،‬حتى أضحى الخبز اليومي‬
‫نبض واقع الحراك الثوري بكل تفاصيله وجزئياته‪،‬‬ ‫الذي تتغذى منه األرواح الثائرة‪ ،‬ويعد االستشهاد‬
‫وتستطيع بالتايل استشراف توقعات القراء والنقاد‬ ‫أسمى تجليات املوت يف أعين الثورة‪ ،‬ومن ضحاياه‬
‫والباحثين يف زمن االتصال اإللكتروني واالنفجار‬ ‫الطفولة املغتصبة التي تئن يف صمت‪ ،‬وشكلت‬
‫املعريف والسرعة القياسية يف ترويج املعلومة‪،‬‬ ‫الدمى املبعثرة عىل صورة الغالف بؤرة األضمومة‬
‫ويف عصر األكلة الخفيفة واالنتشار الواسع‬ ‫التي تتحلق حولها دالالت العبث والظلم والقهر‬
‫للحواسيب املحمولة والهواتف النقالة‪ ،‬ويمكنها‬ ‫والهمجية والرعونة والتسلط يف أقصى مراحله‪.‬‬
‫بالتايل االستجابة لتطلعات فئة عريضة من القراء‬ ‫حاولت مالمسة األبعاد الرمزية للعنف‬ ‫ُ‬ ‫من جهتي‪،‬‬
‫والدمار يف أضمومة حسن جبقجي «دمية»‪ ،‬من‬
‫واملتتبعين العتمادها عىل السرد الوامض والحكي‬
‫منظور وصفي تحلييل‪ ،‬وذلك بالوقوف عند بعض‬
‫املشهدي واللقطة الخاطفة والتكثيف واالختزال‪،‬‬
‫املقومات البنائية لألضمومة مثل الشخصيات‬
‫وهي مقومات تناسب التكوين النفسي واالجتماعي‬ ‫واألمكنة‪ ،‬ورصد املقومات الرمزية السائدة مثل‬
‫والثقايف واألدبي لجيل القرن الواحد والعشرين‪،‬‬ ‫رمزية الحلم واملفارقة والحكي املشهدي‪ ،‬وكلها‬
‫جيل الوسائط اإللكترونية بامتياز‪ ،‬كما أنها تعتمد‬ ‫ميكانيزمات توسل بها السارد من أجل التوليف‬
‫تقنيات املفارقة والفراغ الدال مما يجعلها أكثر‬ ‫بين الخيال املنتج والواقع املأساوي املدمر يف‬
‫مالئمة إلبداع نصوص سردية قادرة عىل اختراق‬ ‫وتصويرا وإبدا ًعا كاشفًا عن‬
‫ً‬ ‫سوريا محاكا ًة‬
‫الواقع املعاش وتشريحه‪ ،‬وتصيد لحظات وامضة‬ ‫حيثيات اللحظة الوامضة بشكل دقيق‪ ،‬مما ولدَّ‬
‫تختزل الزمان واملكان والحدث والشخوص‬ ‫ألقًا متجد ًدا للقصيصات كي تفصح عن قدرات‬
‫‪32‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪« -1‬جرعة ديمقراطية ملصر»‪ ،‬مقال‪ ،7 ،‬العدد ‪ ،86‬ديسمبر ‪.2014‬‬
‫‪ -2‬مقدمة أضمومة «دمية»‪.9 ،‬‬
‫‪ -3‬دمية‪.35 ،‬‬
‫‪ -4‬الدولة السورية‪ ..‬دولة ملفات؟ مقال‪ ،31 ،‬مجلة رهانات‪ ،‬العدد ‪.36 ،2016‬‬
‫‪ -5‬دمية‪.46 ،‬‬
‫‪ -6‬شياء‪ ،‬نفس املرجع‪.‬‬
‫‪ -7‬نظرية التأويل‪ ،‬الخطاب وفائض املعنى‪.114 ،‬‬
‫نقل عن كتاب «ابن سينا والنفس اإلنسانية»‪.154 ،‬‬ ‫‪ -8‬التعليقات‪ً ،148 ،‬‬
‫‪ -9‬دمية‪.52 ،‬‬
‫‪ -10‬دمية‪.55 ،‬‬
‫‪ -11‬دمية‪.57 ،‬‬
‫‪ -12‬نظرية التأويل‪ ،‬الخطاب وفائض املعنى‪.108 ،‬‬
‫‪« -13‬الحلم يف القصة القصيرة السعودية»‪ ،‬مقال‪ ،‬املجلة العربية‪ ،‬العدد ‪ ،488‬رمضان ‪ ،1438‬يونيو ‪.2017‬‬
‫‪ -14‬أحالم شرقية‪.47 ،‬‬
‫مجرة‪ ،‬العدد ‪ 13‬خريف ‪.2008‬‬ ‫َّ‬ ‫‪« -15‬جمالية ق ق ج ًّدا‪ ،‬مالمح يف التشكل»‪ ،‬مقال‪ ،82 ،‬مجلة‬
‫‪ -16‬دمية‪.55 ،‬‬
‫«زخَّ ة ويبتدئُ الشتاء» مقال‪ ،‬مجلة َم َج َّرة‪ ،‬العدد ‪ 13‬خريف ‪.2008‬‬
‫‪« -17‬املاكرو تخييل يف مجموعة َ‬
‫‪ -18‬استقبال النص عند العرب‪.230 ،‬‬

‫بيبليوغرافيا البحث‪:‬‬
‫مجرة‪ ،‬العدد ‪ 13‬خريف ‪.2008‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ -1‬براهمة سلمى‪« :‬جمالية ق ق ج‪ ،‬مالمح يف التشكل»‪ ،‬مقال‪ 82 ،‬مجلة‬
‫«زخَّ ة ويبتدئُ الشتاء»‪ ،‬مقال‪ ،‬مجلة َم َج َّرة‪ ،‬العدد ‪ 13‬خريف‬
‫‪ -2‬بوطيب كمال‪ :‬املاكرو تخييل يف مجموعة َ‬
‫‪.2008‬‬
‫‪ -3‬الدولة السورية دولة ملفات؟ مقال‪ ،31 ،‬مجلة رهانات‪ ،‬العدد ‪ ،36 ،2016‬تيزيني طيب‪.‬‬
‫‪ -4‬جبقجي حسن‪ :‬دمية‪ ،‬مكتبة سلمى الثقافية‪ ،‬تطوان‪ ،‬طبعة ‪.2016‬‬
‫‪ -5‬ريكور بول‪ :‬نظرية التأويل‪ ،‬الخطاب وفائض املعنى‪ ،‬ترجمة سعيد الغانمي‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪.2006 .‬‬
‫ومل حسن عثمان‪ :‬ابن سينا والنفس اإلنسانية‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪ -6‬عرقوسي محمد غير حسن َّ‬
‫لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1982‬‬
‫‪ -7‬قوراية آمال‪ :‬جرعة ديمقراطية ملصر‪ ،‬مقال)‪ ،7 ،‬العدد ‪ ،86‬ديسمبر ‪.2014‬‬
‫‪ -8‬الحلم يف القصة القصيرة السعودية‪ ،‬مقال‪ ،‬املجلة العربية‪ ،‬العدد ‪ ،488‬رمضان ‪ ،1438‬يونيو ‪،2017‬‬
‫مبرك تهاني‪.‬‬
‫‪ -9‬املبارك محمد‪ :‬استقبال النص عند العرب‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬الطبعة األوىل‪.1999 ،‬‬
‫‪33‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫د‪.‬أبو زيد بيومي‬

‫إحاالت المقام ‪..‬‬


‫في شعر محمد الشحات‬
‫الذات حاضرة في كل مقام‪ ،‬بمكوناتها الحسية كالوجه‪ ،‬واليد‪ ،‬والصدر‪،‬‬
‫والعين‪ ..‬إلخ‪ ،‬أو بمكوناتها المعنوية كالفرح‪ ،‬والحزن‪ ،‬والبكاء‪،‬‬
‫والضحك‪ ،‬والشوق‪ ،‬والحنين‪ ..‬إلخ‪ .‬أو فيما قدمه من نصوص‪ ،‬جاء فيها‬
‫الرمز ليلقي بظالله على المعاني‪ ،‬لكننا رغم ذلك دائ ًما ما نجد الذات‬
‫الشاعر حاضرة في كل مقام‪ ،‬ليس فقط ألن النص الشعري هو في‬
‫النهاية تعبير عنها‪ ،‬ولكن ألن الشاعر وظف كل العناصر التي تنتمي‬
‫إليها‪ ،‬أو تلقي بظاللها عليها‪ ،‬توظي ًفا فن ًّيا‪ ،‬أسهم بصورة كبيرة في ترابط‬
‫أجزاء النص‪.‬‬

‫املحادثة‪ .‬ويقال‪َ :‬ح َّو َل َم ْجرى النَّ ْهرِ‪َ :‬غيَّ َر ات َِّج َ‬


‫اه ُه‬ ‫تعد اإلحالة وسيلة من الوسائل اللغوية التي‬
‫آخ َر َح َّو َل ات َِّج َ‬
‫اه ُه(‪.)1‬‬ ‫لِ َي ُ‬
‫ص َّب ِف َم ْجرى َ‬ ‫تستعمل يف كل سياق كالمي‪ ،‬ذلك السياق الذي‬
‫وعليه فإن تحويل مجري الكالم‪ ،‬هو تغيير اتجاهه؛‬ ‫يتم من خالله نقل معنى ما‪ ،‬باستخدام بعض‬
‫ليصب يف معنى آخر‪ ،‬وال سيما املعنى االستعاري‪،‬‬ ‫األلفاظ‪ ،‬التي تحيله إىل متعلق سابق‪ ،‬أو الحق‪ .‬هذا‬
‫وهو نوع من استغالل الطاقة الكامنة يف األلفاظ‪،‬‬ ‫عىل املستوى السطحي لسياقات الكالم‪ ،‬التي تقوم‬
‫بوضعها يف سياقات توسع من معانيها ودالالتها‪،‬‬ ‫بتوصيل املعنى بصورة مباشرة‪ .‬إال أن األمر يأخذ‬
‫لنقل حالة شعورية معينة‪ ،‬تلك الحالة ال تتمكن‬ ‫أبعا ًدا أخرى‪ ،‬حين تتجاوز اإلحالة ذلك املستوى‬
‫األلفاظ من نقلها‪ ،‬إن لزمت معناها الذهني‪.‬‬ ‫اللغوي الطبيعي‪ ،‬عندما تعبر عن مقامات‪ ،‬تكون‬
‫واصطالحا‪ ،‬تعرف اإلحالة بأنها إحالة بعض‬ ‫ً‬ ‫فيها اللغة أداة لتوصيل مشاعر معينة‪ ،‬إلثارة‬
‫األسماء إىل غير ما تشير إليه يف الواقع اللغوي ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫انفعال ما عند املتلقي‪ ،‬وهي وظيفة‪ ،‬تظهر أكثر‬
‫ويف النحو‪ :‬اإلحالة هي بعض األلفاظ التي تحيل إىل‬ ‫ما تظهر‪ ،‬يف السياقات الواردة يف النصوص التي‬
‫سياق سابق عليها‪ ،‬أو تا ٍل لها‪.‬‬ ‫تنتمي إىل نوع من أنواع اإلبداع األدبي‪ ،‬وال سيما‬
‫وعليه فإن اإلحالة كما يقسمها البعض؛ إحالة نصية‬ ‫الشعر‪.‬‬
‫(نحوية)‪ ،‬وإحالة مقامية (تتعلق باملعنى األدبي‪،‬‬ ‫وأح َ‬
‫ال‬ ‫أح َ‬
‫ال الشي َء‪ :‬نقله‪َ .‬‬ ‫واإلحالة لغ ًة؛ يقال‪َ :‬‬
‫خاصة يف صورته االستعارية)‪.‬‬ ‫العمل إىل فالنٍ ‪َ :‬‬
‫ناطه به‪.‬‬ ‫َ‬
‫وال تنفصل اإلحالة النصية‪ ،‬بمفهومها النحوي‪ ،‬عن‬ ‫واإلحالة‪ :‬استعمال كلمة أو عبارة‪ ،‬تشير إىل‬
‫اإلحالة املقامية‪ ،‬خاصة وأن األلفاظ التي تقوم بدور‬ ‫كلمة أخرى‪ ،‬أو عبارة أخرى سابقة يف النص‪ ،‬أو‬
‫‪34‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫يكن ليصل إليها‪ ،‬إال بمساعدة ذلك املبدع‪.‬‬ ‫اإلحالة يف سياق ما‪ ،‬هي التي يعتمد عليها القارئ‬
‫واإلحالة املقامية عند الشاعر محمد الشحات‪،‬‬ ‫يف معرفة املقام‪ ،‬وهذا هو الدور األساسي الذي‬
‫جاءت بإسناد املقام يف السياق‪ ،‬إىل مفردة تنوب‬ ‫يعول عليها فيه‪ ،‬خاصة يف الدرس النحوي‪ ،‬الذي‬
‫عن الذات يف التعبير‪ ،‬وذلك بمفارقة تلك املفردة‬ ‫ً‬
‫ألفاظا بعينها تقوم بهذا الدور‪ ،‬ولكننا نتجاوز‬ ‫يحدد‬
‫ملعناها الذهني من خالل سياق بالغي‪ ،‬يعيد تشكيل‬ ‫هذه الوظيفة باعتبار أنها آلية طبيعية‪ ،‬يف املقام الذي‬
‫معناها عند املتلقي‪ ،‬الذي يقوم بدوره بالربط بين‬ ‫نرغب من خالله يف توصيل رسالة متداولة‪ ،‬تندرج‬
‫تلك املفردة يف ثوبها الجديد‪ ،‬وبين الذات الشاعرة‪.‬‬ ‫تحت الرسائل التي يتعامل بها املحيط االجتماعي‪،‬‬
‫تلك التي تستدرج ذلك املتلقي معها إىل بؤرة‬ ‫يف تواصل األفراد فيما بينهم‪ ،‬يف حياتهم اليومية‪،‬‬
‫شعورية واحدة‪ ،‬من خالل االنطالق من املعنى‬ ‫وهي بالتايل موجودة يف كل كالم‪ .‬فيصبح من‬
‫الذهني‪ ،‬إىل املعنى الجديد‪ ،‬الذي تقوم عليه العملية‬ ‫الضرورة أن نتجاوز ذلك املقام الطبيعي املعتاد‪،‬‬
‫اإلبداعية‪ ،‬بجعل املحال إليه يف مركز املعنى‪ ،‬من‬ ‫حين نتعامل مع اإلحالة املقامية يف النص األدبي‪،‬‬
‫خالل سياق استعاري قام املبدع بتشكيله؛ ليعبر‬ ‫خاصة وأنها تؤدي وظيفة جمالية‪ ،‬تزيد من تأثير‬
‫عن عالقته املختلفة باملوجودات من حوله‪ .‬وهو ما‬ ‫النص‪ ،‬وتغيِّر من الوجهة املعنوية للسياق‪ ،‬لتتجاوز‬
‫يسمح بمساحة فضفاضة من التأويل‪ ،‬التي ربما‬ ‫الدور الوظيفي للغة الكالم‪ ،‬إىل املستوى الشعوري‪،‬‬
‫تذهب باملتلقي إىل وجهة تختلف عن الوجهة التي‬ ‫الذي يرغب قائله يف إثارة الغرائبية والدهشة يف‬
‫أرادها املبدع‪ ،‬لكنها يف النهاية تدور يف فلكها‪ ،‬وال‬ ‫ذهن املتلقي‪ ،‬بهدف زيادة انفعاله‪ ،‬من خالل تشكيل‬
‫تماما‪ .‬بما يعني أن النص يصبح‬‫ً‬ ‫تنفصل عنها‬ ‫إحاالت غير معتادة‪ ،‬تأخذ اللغة إىل مستوى رأسي‬
‫دائرة من املعاني التي تتحرك حول بؤرة شعورية‬ ‫يعلو بها إىل آفاق جديدة‪ ،‬غير ذلك املستوى األفقى‬
‫واحدة‪ ،‬لكنها تضيق وتتسع تب ًعا ألفق املتلقي‪.‬‬ ‫املمتد أمام أي أحد‪ ،‬وهذا البناء الجديد الذي يرتفع‬
‫وهو ما يعني نجاح النص يف جعل املتلقي شريكاً‬ ‫باللغة‪ ،‬هو ذاته البناء الذي يجعل من املبدع كيانًا‬
‫أساسيًّا يف عملية إنتاج املعنى‪ ،‬كما يعني أن النص‬ ‫بار ًزا يف محيطه االجتماعي‪ ،‬حين يقف عىل ما قام‬
‫نجح يف أن تكون له سيرورة‪ ،‬تبقى ببقاء معاني‬ ‫هو بنفسه برفعه‪ .‬لكنه يترك للمتلقي الوسائل التي‬
‫النص مفتوحة لكل تأويل؛ حيث يبقى مقام اإلنشاد‬ ‫تشده إىل املرتفع ذاته‪ ،‬فيشاركه الحالة التي هو‬
‫صالحا للقياس عليه يف املقامات املشابهة له‪ ،‬خارج‬
‫ً‬ ‫عليها‪ ،‬دون أن ينازعه يف تفرده الذي وصل إليه‪،‬‬
‫املرحلة الزمنية التي قام فيها املبدع بإنشاء النص‪.‬‬ ‫بنظرته الثاقبة إىل األشياء من حوله‪ .‬حيث قام من‬
‫وتنقسم اإلحاالت يف شعر محمد الشحات إىل‬ ‫خالل هذه النظرة بوضع مسمياتها يف سياقات‬
‫قسمين‪:‬‬ ‫جديدة‪ ،‬أخذت بيد القارئ إىل مناطق شعورية‪ ،‬مل‬
‫إحالة داخلية‪ :‬وهي‬
‫بإحالة الذات إىل‬
‫أجزائها املكونة لها‪.‬‬
‫إحالة خارجية‪:‬‬
‫بإحالة الذات إىل ما‬
‫يحيط بها‪.‬‬

‫أوال‪ :‬اإلحالة‬
‫الداخلية للمقام‬
‫ويف هذا النوع يقوم‬
‫الشاعر بإحالة مقام‬
‫‪35‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫هي كلمة وجه‪ ،‬والذي هو مكون من مكونات الذات‪،‬‬ ‫اإلنشاد بالدوران حول الذات‪ ،‬وذلك بتوظيف‬
‫لكنه قام بفصله عن الضميرين إذ مل يسنده إىل‬ ‫األجزاء الحسية‪ ،‬أو املعنوية املكونة لها‪ ،‬حيث‬
‫فضل عن تنكيره‪ ،‬وكأنه وجه‬ ‫ً‬ ‫مخاطب أو متكلم‪،‬‬ ‫ينطلق من ذاته إىل آفاق أرحب من املعاني‪ ،‬التي‬
‫جديد‪ ،‬فوجئ به الشاعر يف تلك اللحظة‪ ،‬التي تحمل‬ ‫تجعل الذات الشاعرة‪ ،‬ملتصقة بعملية التلقي‪،‬‬
‫لقاء خاصا‪ ،‬ليؤيد هذا االندماج‪ ،‬الذي يدعمه فعل‬ ‫فيكون املتلقي يف دائرة واحدة مع الشاعر‪ ،‬ليشاركه‬
‫الت َب ُّدل‪ ،‬الذي تسببت فيه االرتجافة‪ ،‬فجاء التبدل‬ ‫اللحظة ذاتها‪ ،‬التي دفعت الشاعر إىل اإلنشاد‪،‬‬
‫عىل املستويين اللفظي واملعنوي‪ ،‬ليصبح هذا الوجه‬ ‫خاصة عندما يتعامل مع ذاته من خالل كاف‬
‫الذي تال َقى بصدر األم نائبًا عن الذات‪ ،‬يف التعبير‬ ‫الخطاب‪ ،‬وكأنه ينظر إىل مرآة تجسد هذا املقام‪،‬‬
‫عن تلك اللحظة الخاصة‪ ،‬التي جاشت بها مشاعر‬ ‫فتنقله من الداخل إىل الخارج‪ ،‬فتصبح مكونات‬
‫داخلية‪ ،‬تمثلت يف الفعل “هزني” املترتب عىل الفعل‬ ‫الجسد الشاخصة يف تلك املرآة‪ ،‬هي ذاتها مالمح‬
‫ظه َرت هذه املشاعر عىل الوجه‪،‬‬ ‫أن َ‬‫“ارتميت”‪ ،‬فكان ْ‬ ‫الروح التي تقف خلف هذه اللحظة الشعورية‪ ،‬التي‬
‫ذلك الوجه الذي صار يف دائرة رؤية األم داخل‬ ‫يدور حولها النص‪ .‬فتسمح للمتلقي أن يشارك‬
‫النص من ناحية‪ ،‬ويف دائرة رؤية املتلقي خارج‬ ‫الشاعر اللحظة التي ينظر فيها إىل مرآته‪ ،‬أو بمعنى‬
‫النص من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫آخر إىل ذاته‪.‬‬
‫فتصبح الذات الشاعرة‪ ،‬والتي تمثلها الياء يف‬ ‫يقول الشاعر محمد الشحات يف قصيدته‪“ ،‬ثالثية‬
‫“هزني”‪ ،‬يف منطقة تقع بين االرتماء والوجه‪ ،‬لف ًظا‬ ‫العشق والغربة”‪ ،‬من ديوان “سيعود من بلد‬
‫ومعنى‪ .‬فمن ناحية اللفظ‪ ،‬إذ هي بينهما يف ترتيب‬ ‫بعيد”‪:‬‬
‫البناء اللفظي للجمل‪ ،‬وبينهما يف ترتيب املعنى‪ ،‬وهنا‬ ‫ارتميت بصدر أمك‬
‫َ‬ ‫حين‬
‫يكون البناء متحالفًا يف تشكيله البصري مع السياق‬ ‫هزني وجه تبدل يف ارتجافته‬
‫الذي أراده الشاعر‪.‬‬ ‫تبلور واستدار‬
‫ويف قصيدة “التملص من وجهي”‪ ،‬من ديوان‬ ‫‪..‬‬
‫“محاوالت ال أعرف نهايتها”‪:‬‬ ‫فحملت شوقي‬
‫وكنت أحاول‬ ‫واختبأت لكي أداري غيرتي‬
‫أن أتملص من حال وجهي‬ ‫وتركت ملمسها‬
‫حين أطل به‬ ‫عىل أطراف كفي‬
‫نحو قافلة املفلتين من الحزن‬ ‫ورميتها بعيون شوقي‬
‫وأحاول أن أبتهج‬ ‫آه‬
‫حيث يستهل النص بالفعل “أتملص”‪ ،‬الذي تقوم‬ ‫ما أقسى مدارات اشتياقي‬
‫به الذات‪ ،‬ولكنه يحيل هذا الفعل مباشرة إىل الوجه‪،‬‬ ‫كلما ال مست وجهك‬
‫خالصا‪ ،‬لكنه ينقله‬
‫ً‬ ‫مقاما ذاتيًّا‬
‫ً‬ ‫فيجعل من املقام‬ ‫وانفطرت محبة‬
‫من داخل ذاته‪ ،‬إىل مكون من مكوناتها‪ ،‬فذاته تطل‪،‬‬ ‫ونزعت من نبرات حنجرتي‬
‫ولكن من خالل الوجه‪ ،‬الذي ينتسب إليها‪ ،‬بإضافته‬ ‫حبال الصوت‬
‫إىل ياء املتكلم‪ ،‬فينوب الوجه عن صاحبه يف التعامل‬ ‫كي ال أحيطك خلسة‬
‫مع أولئك املفلتين من الحزن‪ ،‬يف محاولة لالبتهاج‪.‬‬ ‫بمزاهر الكلمات‬
‫ويف الديوان ذاته يف قصيدة “حانت لحظة‬ ‫قل يا فتى‪:‬‬
‫صحوك”‪ ،‬تأتي اإلحالة الداخلية بد ًءا من العنوان‪،‬‬ ‫هل كان يعصرك الحنين‬
‫فكاف الخطاب يف العنوان‪ ،‬يوجه الشاعر من خاللها‬ ‫إن ياء املتكلم يف “هزني”‪ ،‬هي ذاتها تاء املخاطب‬
‫املقام إىل الذات مباشرة‪ ،‬ثم ينتقل من العنوان إىل‬ ‫أيضا‪ ،‬كاف الخطاب يف‬ ‫“ارتميت”‪ ،‬وهي ً‬
‫َ‬ ‫يف الفعل‬
‫أجزائها‪ ،‬التي تعبر عن مقام‪ ،‬يحاول من خالله‬ ‫لفظة “أمك”‪ ،‬وقد أحال الضميرين إىل كلمة واحدة‬
‫‪36‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫إن اإلحالة الداخلية للمقام يف هذا النص‪ ،‬بتوزيع‬ ‫الثورة عىل تلك الذات‪ ،‬من خالل توظيف أجزائها‬
‫الخطاب عىل أجزاء الذات‪ ،‬أسهمت يف تقديم نص‬ ‫املكونة لها‪:‬‬
‫ذي بنية مثالية‪ ،‬جعلت من األفعال‪ ،‬التي راوح فيها‬ ‫حانت لحظة صحوك‬
‫الشاعر بين األمر واملضارعة‪ ،‬ترتفع بلغة النص‬ ‫فانفض ما قد علق بصوتك‬
‫ارتفا ًعا له ما يبرره‪ ،‬ليرسو يف نهايته عىل ذروة‬ ‫من أسوار الخوف‬
‫اإلنشاد بقوله‪“ :‬فقد حان الوقت”‪.‬‬ ‫وجاهد‬
‫وقد يتعامل الشاعر مع هذا املقام بتوظيف هاء‬ ‫كي ال تسقط يف لغة ال تعرفها‬
‫بدل من كاف الخطاب‪ ،‬كنوع من التمويه‪،‬‬ ‫الغيبة‪ً ،‬‬ ‫اآلن تغادر ما قد علق بوجهك‬
‫قاسما مشتر ًكا‬
‫ً‬ ‫الذي يجعل من أجزاء تلك الذات‪،‬‬ ‫ً‬
‫طويل‬ ‫من خوف ظل يزاحمك‬
‫عا ًّما بينه وبين املتلقي‪ ،‬من ذلك ما جاء يف قصيدته‬ ‫فإذا ما رواغك‬
‫“سأفتح بابي ألخرج”‪:‬‬ ‫فحاول أن تسقطه‬
‫كان يحلو له‬ ‫وافتح عينيك‬
‫أن يمارس وحدته‬ ‫فقد ضاق الوقت‬
‫ثم ال يستحي‬ ‫وحاول أن تبقي منتب ًها‬
‫أن يغلق أبوابه‬ ‫كيف ستفرغ ما ضاق بصدرك‬
‫وهو يجلس منزو ًيا‬ ‫كيف تحاول أن تحيا‬
‫بينما كان ينظر‬ ‫فإذا ما انطفأ املصباح‬
‫وجه أبيه عىل حائط‬ ‫فجاهد‬
‫منذ أن حطه فوقه‬ ‫أن توقد ما يجعلك تواصل رحالتك‬
‫فال زال يحمل يف عينه‬ ‫إنه يجعل ذاته يف مقام املخاطب‪ ،‬من خالل كاف‬
‫فوق ما كان يحمله من سؤال‬ ‫الخطاب التي تتكرر‪ ،‬بإضافتها إىل املكونات‬
‫ملاذا يقاوم فرحته‬ ‫“ص ْحوك”‪“ ،‬صوتك”‪“ ،‬وجهك”‪،‬‬ ‫الحسية؛ َ‬
‫وهو يخفي تقاسيمه‬ ‫“عينيك”‪“ ،‬صدرك”‪ ،‬ثم تأتي لفظة “رحالتك”‪،‬‬
‫ثم يضفي عىل وجهه‬ ‫فضل عن‬‫ً‬ ‫لتعبر عن الحركة الكلية لهذه األجزاء‪،‬‬
‫بعض ما كان يحزنه‬ ‫الـ”أنت” املضمرة بعد األفعال “تسقط”‪“ ،‬تعرفها”‪،‬‬
‫إن الوجه‪ ،‬والعين‪ ،‬والتقاسيم‪ ،‬والوحدة‪ ،‬والحزن‪،‬‬ ‫“تفرغ”‪“ ،‬تبقى”‪ ،‬تحاول”‪“ ،‬تحيا”‪“ ،‬تغادر”‪،‬‬
‫وغيرها من املكونات الحسية واملعنوية الواردة‬ ‫واألفعال التي ظهرت فيها تلك الـ”أنت”‪ ،‬من خالل‬
‫يف النص‪ ،‬تختلط يف مراميها بين األب وبين ذلك‬ ‫كاف الخطاب‪“ ،‬يزاحمك”‪“ ،‬راوغك”‪“ ،‬يجعلك”‪،‬‬
‫االبن‪ ،‬الذي ينظر إىل صورته‪ ،‬وكأن الذات تتوزع‬ ‫ويحيط ذلك كله بأفعال األمر التي يستثير من‬
‫من خالل هاء الغيبة بينهما‪ ،‬ليصبح غياب األب هو‬ ‫خاللها تلك املكونات الحسية‪ ،‬املتمثلة يف الصوت‬
‫غياب لالبن‪ ،‬وهو ما يجعل تلك التفاصيل الحسية‬ ‫والوجه والعينين والصدر‪ .‬ومن هذه األفعال‪:‬‬
‫قاسما مشتر ًكا بينهما من ناحية‪ ،‬وبينهما وبين‬ ‫ً‬ ‫“انفض”‪“ ،‬جاهد”‪“ ،‬حاول”‪“ ،‬افتح”‪ ،‬وهو ما‬
‫املتلقي من ناحية أخرى‪ ،‬لتأتي جملة التساؤل‪:‬‬ ‫يؤدي إىل تلك اللحظة املضيئة يف هذا املقطع من‬
‫“ملاذا يقاوم فرحته وهو يخفي تقاسيمه”‪ ،‬جملة‬ ‫النص املتمثل يف قوله‪“ :‬أن توقد ما يجعلك تواصل‬
‫مفصلية ينطلق من خاللها النص‪ ،‬ليصل إىل الجزء‬ ‫رحالتك”‪ ،‬وهي التي ت ُْسلِم ً‬
‫حتما إىل النتيجة‬
‫الذي تفصح فيه الذات عن نفسها‪:‬‬ ‫النهائية التي يختتم بها النص‪:‬‬
‫كنت أظن بأني سأملك صوتي‬ ‫فابدأ كي ال تهدأ بعض الشيء‬
‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫فضاع الغناء‬ ‫وأعلن صحوتك‬
‫وما كان يل أن أغادر بيتي‬ ‫فقد حان الوقت‬
‫‪37‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫يالحظ أن الشاعر يف هذا النوع من إحاالته‪ ،‬غالبًا‬ ‫فصورة األب املقيدة يف إطارها‪ ،‬والتي حطت عىل‬
‫يقوم بإحالة املعنوي إىل املحسوس‪ ،‬أو العكس‪،‬‬ ‫الحائط‪ ،‬فرضت قيو ًدا معنوية‪ ،‬نفى من خاللها‬
‫ويستخدم آليات لفظية يكررها يف كل مرة‪ ،‬خاصة‬ ‫الشاعر عن ذاته أية مبررات تدفعه ملغادرة البيت‪،‬‬
‫عندما يقوم بما يسمى بااللتفات‪ ،‬حيث يلتفت من‬ ‫والذي أضافه إىل ياء املتكلم‪ ،‬لتصبح هذه الياء‬
‫ياء املتكلم‪ ،‬وهي األلصق يف معناها بالذات‪ ،‬إىل‬ ‫معادل موضوعيًّا لصورة األب‪ ،‬التي صارت‬ ‫ً‬
‫هاء الغيبة‪ ،‬أو كاف الخطاب التي تأتي مضافة إىل‬ ‫حبيسة الحائط‪ .‬وهو ما يدفع الشاعر للتساؤل مرة‬
‫مثل‪ ،‬إىل‬‫جزء حسي من تلك الذات‪ ،‬حيث يضيفها‪ً ،‬‬ ‫أخرى‪:‬‬
‫الوجه‪ ،‬أو إىل اليد‪ ،‬أو إىل الكف‪ ،‬أو الصدر‪ ،‬أو ما إىل‬ ‫فهل تظن الطيور‬
‫ذلك من املكونات الحسية للجسد‪ ،‬الذي يمثل ا َملعين‬ ‫بأن الفضاء الفسيح لها؟‬
‫أو الوعاء املنظور أو املرئي‪ ،‬أو املحسوس‪ ،‬حيث‬ ‫وهو تساؤل ينتقل بالشاعر من هيئته‪ ،‬إىل هيئة‬
‫تظهر الذات الكامنة أمام العين‪ ،‬فيصبح الجانب‬ ‫أخرى‪ ،‬جمع فيها كل مكونات جسده وروحه يف‬
‫شاخصا‪ ،‬متجس ًدا‪ ،‬خاصة وأن‬ ‫ً‬ ‫الشعوري املتخيل‬ ‫تلك الطيور‪ ،‬التي أحال ظنه الشخصي إليها‪.‬‬
‫هذه املكونات املحسوسة‪ ،‬تقوم بدور الناقل لتلك‬ ‫دائما ما‬
‫يف مثل هذه القصائد وغيرها نجد الشاعر ً‬
‫املشاعر املضمرة‪ ،‬يف املقام الذي تعايشه يف املواقف‬ ‫يوظف أجزاء الذات الحسية يف التعبير عن مقام‬
‫املختلفة‪ .‬وغالبًا ما يستهل نصوصه بما هو مضاف‬ ‫اإلنشاد؛ لالنطالق من خاللها إىل رؤيته الخاصة‬
‫إىل ياء املتكلم‪ ،‬يف أول عبارة من عبارات النص‪ ،‬ثم‬ ‫بالعامل الذي يحيط بها‪ ،‬فهو يندمج بالعامل‪ ،‬والعامل‬
‫ينتقل مباشرة يف العبارة التالية إىل كاف الخطاب‪،‬‬ ‫يندمج به‪ ،‬من خالل دائرة تبدو ضيقة يف ألفاظها‪،‬‬
‫أو هاء الغيبة‪ ،‬مؤك ًدا عىل أن الذات ما هي إال إطار‬ ‫لكنها متسعة قي معانيها ومراميها‪.‬‬
‫كيل‪ ،‬توزعت داخله أجزاؤها‪.‬‬ ‫يتكرر األمر نفسه يف بعض قصائد دواوينه‪.‬‬
‫من ذلك قصيدة‪“ :‬أنا‪ ..‬ووجهي”‪ ،‬من ديوان‬
‫ثان ًيا‪ :‬اإلحالة الخارجية للمقام‬ ‫“محاوالت ال أعرف نهايتها”‪ .‬والقصائد‪“ :‬ثالثية”‪،‬‬
‫يف هذا النوع من اإلحالة يقوم الشاعر بنقل رؤيته‪،‬‬ ‫“إطاللة”‪“ ،‬انقسام”‪ ،‬ارتحال”‪“ ،‬خوف”‪ ،‬من‬
‫والتي هي رؤية شعورية يف املقام األول‪ ،‬تنبع‬ ‫ديوان “مكاشفة”‪“ .‬مصالحة”‪“ ،‬خماسية للحياة”‪،‬‬
‫من الذات الشاعرة‪ ،‬من خالل إحالة هذه الذات إىل‬ ‫“الخوف عىل النهر”‪ ،‬من ديوان “مالمح ظيل”‪.‬‬
‫مفردات تحيط بها‪ ،‬وتقع يف منطقة خارج تكوينها‪،‬‬ ‫“غريب يلقاه غريب”‪“ ،‬عودة االبن إىل أحضان‬
‫حيث تنوب هذه املكونات عنها يف نقل املعنى‬ ‫أبيه”‪“ ،‬اذكرني إذا ما غبت”‪ ،‬من ديوان “سيعود‬
‫املقصود‪ ،‬بصورة تتحول فيها هذه املفردات إىل‬ ‫من بلد بعيد”‪.‬‬
‫رموز‪ ،‬تتسع مراميها‪ ،‬تب ًعا لعملية التأويل‪ .‬فهي‬
‫وإن كانت ليست من أجزاء الذات‪ ،‬إال أنها تتحالف‬
‫معها من خالل السياق االستعاري‪ ،‬فتصبح هي‬
‫والذات شيئًا واح ًدا‪.‬‬
‫من ذلك ما جاء يف قصيدته “حوار الظل”‪ ،‬من‬
‫ديوانه “محاوالت ال أعرف نهايتها”‪:‬‬
‫البنايات واقفة‬
‫وظل البنايات‬
‫تأخذه الشمس‬
‫تمضي به‬
‫وتسكنه مع برزخها‬
‫‪38‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫ثم تأتي به‬


‫وال يستوي طولها‬
‫وما زاد ما زادها‬
‫فقد تستوي كل تلك البنايات‬
‫يف برزخ واحد‬
‫قبل أن تستفيق الشمس‬
‫تفرش أثوابها‬
‫وتبقى البنايات واقفة هكذا‬
‫عىل حالها‬
‫إنها رؤية فلسفية‪ ،‬أحالت الذات إىل شمس‪ ،‬سكنت‬
‫يف مرحلة من مراحل دورانها‪ ،‬بين البنايات يف‬
‫برزخ واحد‪ ،‬حيث قام هذا البرزخ بإخفاء حقيقة‬
‫مستغل سكون تلك الشمس‪ ،‬لكن‬ ‫ًّ‬ ‫تلك البنايات‪،‬‬
‫الشمس‪ /‬الذات‪ ،‬حين استفاقت تغيرت رؤيتها لهذا‬
‫املحيط‪ ،‬والذي يتمثل يف البنايات‪ /‬اآلخرين‪ ،‬فصار‬
‫متحول‪ ،‬من وجهة نظر الذات‪ /‬الشمس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الثابت‬
‫رغم إصرار اآلخر عىل ثباته‪ .‬فاإلحالة املقامية هنا‪،‬‬
‫جعلت من األشياء رمو ًزا‪ ،‬تلقي بظاللها عىل الواقع‪،‬‬
‫تماما كما فعلت الشمس حين كشفت من خالل‬ ‫ً‬
‫استفاقتها‪ ،‬حقيقة البنايات‪ ،‬وحجمها الطبيعي يف‬
‫عامل الواقع‪ ،‬وكأن الشاعر أراد أن يوحي لكل من‬
‫أرد أن يتوصل إىل الحقيقة‪ ،‬أن يبتعد عن برزخه‬
‫الجامد‪ ،‬ليرى األشياء عىل حقيقتها‪.‬‬
‫وقد يبدأ الشاعر نصه بإحالة مقامية خارجية‪ ،‬ثم‬
‫ينتقل منها إىل إحاالته الداخلية‪ ،‬ليكشف يف النص‬
‫ذاته عن البعد الرمزي لألشياء من حوله‪ ،‬الذي‬
‫ساقه يف بداية النص‪ ،‬ويميط عنه لثام هذه الرمزية‪،‬‬
‫وكأنه يميط اللثام عن ذاته التي كانت يف بداية‬
‫النص تختبئ خلف تلك االشياء‪ ،‬من ذلك ما جاء يف‬
‫قصيدة “التدرج يف لغة القول” من ديوان محاوالت‬
‫ال أعرف نهايتها”‪:‬‬
‫الشوارع خاوية‬
‫وهي مل ترتق‬
‫كي أغوص بها‬
‫والعمائر نائمة‬
‫كي أحن لها‬
‫ويل طفلة‬
‫مل تزل تتدحرج يف لغة القول‬
‫وهي تحاورني‬
‫‪39‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫“وقفة” من ديوان “مكاشفة”‪“ .‬محاورات لظل‬ ‫ثم تسألني‪”..‬‬


‫يرفض أن يتركه”‪“ ،‬متى تورق شجيراتي”‪ ،‬من‬ ‫لقد م َّهد الشاعر لالنتقال من اإلحالة املقامية‬
‫ديوان “سيعود من بلد بعيد”‪.‬‬ ‫الخارجية‪ ،‬إىل اإلحالة املقامية الداخلية بد ًءا من‬
‫ويعد ديوان مكاشفة األكثر التصاقًا بالذات‪ ،‬سواء‬ ‫عنوان النص‪“ :‬التدرج يف لغة القول”‪ ،‬والذي جاء‬
‫عىل مستوى اإلحالة الداخلية‪ ،‬أو اإلحالة الخارجية‬ ‫السياق بعده ليؤكد عىل هذا التدرج‪ .‬حيث انتقل‬
‫التي تندمج باإلحالة الداخلية‪ .‬أما ديوان “متى‬ ‫الشاعر من مكونات تقع خارج الذات‪ ،‬إىل ما هو‬
‫ينتهي”‪ ،‬فهو الذي وردت فيه النصوص التي يحيل‬ ‫منها‪ ،‬فالشوارع والعمائر‪ ،‬رمزان خارجيَّان‪ ،‬اكتسبا‬
‫فيها الشاعر مفردات الوجود‪ ،‬بصورة أكثر من‬ ‫رمزيتهما من الخواء والنوم اللذين وصفهما بهما‪،‬‬
‫غيره من الدواوين‪.‬‬ ‫ثم قام بتوزيع بعض العبارات التي تحالفت مع‬
‫ولكن سواء فيما قدمه الشاعر من نصوص‪،‬‬ ‫عنوان النص يف التمهيد لهذا التحول‪ ،‬فالعبارتان‬
‫“كي أغوص بها”‪ ،‬و “كي أحن إليها”‪ ،‬بيَّنت موقفه‬
‫أحال فيها املقام إىل العناصر الداخلية للذات‪ ،‬أو‬
‫من العناصر املحيطة به‪ .‬ثم جاءت عبارة “ثم‬
‫نصوص أحال فيها الذات إىل عناصر خارجية‪،‬‬
‫تسأيل”‪ ،‬والتي أسندها يف السياق إىل طفلة وصفها‬
‫لها بعدها الرمزي‪ ،‬نجد أن الذات حاضرة يف كل‬
‫بأنها له‪ ،‬إىل ضرورة التخيل عن تلك الرمزية‪،‬‬
‫مقام‪ ،‬بمكوناتها الحسية كالوجه‪ ،‬واليد‪ ،‬والصدر‪،‬‬
‫التي يصعب عليها فهمها كطفلة‪ ،‬فجعل من سياق‬
‫والعين‪ ..‬إلخ‪ ،‬أو بمكوناتها املعنوية كالفرح‪،‬‬ ‫سؤالها نقطة مفصلية تبرر فنيًّا لهذا االنتقال‪،‬‬
‫والحزن‪ ،‬والبكاء‪ ،‬والضحك‪ ،‬والشوق‪ ،‬والحنين‪..‬‬ ‫فيصبح طبيعيًّا أن تأتي كلمات مثل‪“ :‬صوتي”‪،‬‬
‫إلخ‪ .‬أو فيما قدمه من نصوص‪ ،‬جاء فيها الرمز‬ ‫“رحييل”‪“ ،‬دمي”‪“ ،‬عشته”‪“ ،‬يسكنني”‪“ ،‬أخت ِفي”‪،‬‬
‫دائما ما‬
‫ليلقي بظالله عىل املعاني‪ ،‬لكننا رغم ذلك ً‬ ‫“ترجلت”‪“ ،‬أقلب”‪ ،‬وكلها ألفاظ أسندها الشاعر‬ ‫ُ‬
‫نجد الذات الشاعر حاضرة يف كل مقام‪ ،‬ليس فقط‬ ‫اندماجا بينها‬
‫ً‬ ‫ليصنع‬ ‫ذاته‪.‬‬ ‫إىل‬ ‫تنتمي‬ ‫ضمائر‬ ‫إىل‬
‫ألن النص الشعري هو يف النهاية تعبير عنها‪ ،‬ولكن‬ ‫وبين رمزية العمائر والشوراع التي جاءت يف مطلع‬
‫ألن الشاعر وظف كل العناصر التي تنتمي إليها‪،‬‬ ‫النص‪.‬‬
‫أو تلقي بظاللها عليها‪ ،‬توظيفًا فنيًّا‪ ،‬أسهم بصورة‬ ‫ونالحظ أن اإلحالة املقامية الخارجية عند الشاعر‪،‬‬
‫كبيرة يف ترابط أجزاء النص‪ ،‬سواء فيما يتعلق‬ ‫غالبًا ما تأتي يف سياق‪ ،‬يجعل من األشياء املحيطة‬
‫ببنيته‪ ،‬أو فيما يتعلق بالحالة الشعورية التي ينقلها‬ ‫به رمو ًزا لها اسقاطات‪ ،‬تلقي بظاللها عىل حالته‬
‫إىل املتلقي‬ ‫الشعورية‪ ،‬إما بجعل هذه الرموز تقوم بمفردها‬
‫كامل‪ ،‬أو بمراوحة املعنى‬ ‫ً‬ ‫بتوصيل معنى النص‬
‫هوامش‪:‬‬ ‫بينها وبين ما هو من مكونات الذات‪.‬‬
‫ومن النصوص التي يقوم فيها الرمز وحده‬
‫ال”‪“ ،‬أحال”‪ :‬يف باب (الحاء مع الواو‬‫“ح َ‬
‫‪ -1‬انظر‪ :‬مادة َ‬
‫والالم)‪ ،‬يف معاجم اللغة‪.‬‬ ‫بالوظيفة املعنوية داخل النص‪“ :‬زهو”‪“ ،‬وطن”‬
‫‪ -2‬ملعرفة املزيد مما جاء يف تعريف اإلحالة اصطالحا‪،‬‬ ‫من ديوان “مكاشفة”‪ .‬ومنها قصائد‪“ :‬مالمح من‬
‫انظر‪:‬‬ ‫رحلة مل تنته”‪“ ،‬الهروب من الحلم”‪“ ،‬محاولة لفك‬
‫‪ -‬د‪.‬أحمد عفيفي‪“ ،‬اإلحالة يف نحو النص”‪( ،‬دار العلوم‪،‬‬ ‫اللوغارتمات”‪ ،‬من ديوان “مالمح ظيل”‪ .‬وأيضا‬
‫جامعة القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪ -‬د‪.‬داليا أحمد موسى‪“ ،‬اإلحالة يف شعر أدونيس”‪،‬‬ ‫قصيدة‪“ :‬قسوة املوانئ”‪ ،‬من ديوان “سيعود‬
‫(دار التنوير‪.)2010 ،‬‬ ‫من بلد بعيد”‪ .‬وقصائد‪“ :‬الساحر”‪“ ،‬السيرك”‪،‬‬
‫‪ -‬هناء ربيع أحمد‪ ،‬اإلحالة ودورها يف تماسك النص‬ ‫“وقفات عىل خشبة املسرح”‪ ،‬من ديوان “متى‬
‫الشعري”‪( ،‬مجلة كلية اآلداب‪ ،‬جامعة املنصورة‪ ،‬العدد‬
‫ينتهي”‪.‬‬
‫التاسع واألربعون‪ ،‬أغسطس ‪.)2011‬‬
‫‪ -‬رسمية الدوسري‪“ ،‬اإلحالة وأثرها يف النص”‪( ،‬مجلة‬ ‫أما تلك التي تختلط فيها الذات بما هو من خارجها‪،‬‬
‫كلية اللغة العربية‪ ،‬إيتاي البارود‪ ،‬مجلد ‪ ،33‬العدد ‪.)6‬‬ ‫منها‪“ :‬مغادرة”‪“ ،‬ثالثية”‪ ،‬مكاشفة”‪“ ،‬الحمائم”‪،‬‬
‫‪40‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫مختار سعد شحاته‬

‫تأريخ الروائي‪..‬‬
‫كأس «زيادة» أخير‬
‫في «حانة الست» لمحمد بركة‬
‫كأسا أخي ًرا في حانة الست يمكن‬
‫زاد محمد بركة عبر سرده ال ُمتخيل ً‬
‫وضعه إلى جانب كاسات الهوى والعشق الموسومة باسم «الست»‪،‬‬
‫حين راح يحكي لنا العديد من حكايات التاريخ المسكوت عنه في‬
‫سيرة أم كلثوم الذاتية‪ ،‬متطر ًقا إلى زوايا شديدة الحساسية قد يراها‬
‫محبوها تجن ًيا أو مبالغة تشوه النموذج الذي عليه يعكفون‪ ،‬لكن‬
‫الجديد فيما قدمه المؤلف هنا من الحكايات المسكوت عنها‪ ،‬أنها جاءت‬
‫كلها خالل عملية التفكيك تلك بهدف إعادة البناء اإلنساني المجرد‬
‫لشخصية أم كلثوم‪.‬‬

‫الروائي النابه‪ ،‬الذي ال غنى له عن التراث اإلنساني‬ ‫يقترب تعريف التاريخ ‪-‬يف بعض تعريفاته‪-‬‬
‫ومادته‪ ،‬وال عن كل املنتوج اإلنساني‪ ،‬ويشترك‬ ‫من تعريف التراث‪ ،‬حين يجعل البعض من كل‬
‫مع املؤرخ يف كونهما يقتربان من الحدث اإلنساني‬ ‫املنتوجات البشرية صورة من صور التاريخ‬
‫بشكل ما‪ ،‬إما واقعي أو ُمتخيل‪ ،‬ويتقاطعان عند‬ ‫أو الحدث التاريخي‪ ،‬وهو ما يؤكده ذلك التزايد‬
‫طرح األسئلة حول الحدث الواحد‪ ،‬خاصة حين‬ ‫املضطرد يف الوعي اإلنساني بكل ما يحدث من‬
‫يكون املحكي هو سيرة حياة لشخصية من مفردات‬ ‫حوله أو فيما حدث من وقائع تاريخية‪ ،‬ويتسع‬
‫التراث األصيل أو الالحق‪.‬‬ ‫ربما ليشمل ما يتوقعه حدو ًثا مستقبليًّا‪ ،‬وهو ما‬
‫يختلف اآلن عمل الروائي عن املؤرخ يف إطالقه‬ ‫يجعل كل ما تنتجه الحياة البشرية بكل مناحيها‬
‫عنان املتخيل واألسئلة‪ ،‬فهو أكثر حرية حين يبدأ‬ ‫املختلفة مادة ثرية للسؤال التاريخي الذي يشغل‬
‫ببناء سرده املتخيل من بناء املؤرخ‪ ،‬وهو ما يفتح‬ ‫فكر املؤرخ‪ ،‬بل ويجب عليه أن ينتبه إليه بالسؤال‬
‫عقل الروائي عىل أسئلة ال يجوز للمؤرخ طرحها‪،‬‬ ‫والتحليل‪ .‬وقريبًا من عمل املؤرخ يكون عمل‬
‫‪41‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫إذ يكون السؤال األعظم‪ :‬ماذا لو مل تكن تلك هي‬


‫السيرة الحقيقية؟ ماذا لو ُز ِّيف هذا التأريخ؟ ماذا‬
‫لو ت َّم محاباة تلك الشخصية؟ األمر الذي يدفعه‬
‫إىل طرح جديد حول ما يكتب‪ ،‬ال يثق يف أي شيء‬
‫إال خياله وموهبته‪ ،‬وهو ما يورده موارد التهلكة‬
‫يف بعض األحيان‪ ،‬خاصة حين يتصادم ذلك مع‬
‫سدنة التراث أو من جعلوا من أنفسهم حماة‬
‫معبده‪ ،‬ووقفوا أنفسهم للدفاع عن تقديسه‪ ،‬وما‬
‫هي إال أيام بعد أن يطرح الروائي سرديته املتخيلة‬
‫تلك‪ ،‬والتي يحاول فيها تقديم صورة غير مقدسة‬
‫لتلك الشخصيات التراثية أو التاريخية‪ ،‬إال وهاجت‬
‫الدنيا وال تقعد من هؤالء ممن يظنون أنفسهم‬
‫أصحاب التراث املخولين وحدهم بحراسته وسدنة‬
‫معابده‪.‬‬

‫وليد عالء الدين‬ ‫محمد بركة‬


‫أن تكسر صن ًما‬
‫مثل‪ ،‬أن تكتب حد ًثا تاريخيًّا بشكل‬ ‫تخيل معي ً‬
‫فعلت قبل‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫فمثل جرب –كما‬ ‫التقديس عند هؤالء‪،‬‬ ‫فمثل تقول إن املصريين قاموا بغزو‬ ‫ً‬ ‫ُمتخيل‪،‬‬
‫سنوات‪ -‬واكتب رأ ًيا مخالفًا يف أدب نجيب محفوظ‬ ‫قريش وأسسوا حضارة الفراعنة هناك! ستقوم‬
‫أو شعر أدونيس‪ ،‬ستقوم ال ُدنيا‪ ،‬وستكون جريمتك‬ ‫الدنيا ولن تقعد تاريخيًّا‪ ،‬وكذلك حسب منطق سرد‬
‫الوحيدة أن لك رأ ًيا يحمل وجاهة أو منطقًا مخالفًا‬ ‫التراث البشري للمنطقة‪ ،‬هذا أمر مغلوط بالطبع‪،‬‬
‫ملا درج عليه اعتقاد هؤالء‪.‬‬ ‫لكن من وجهة نظر الرواية هو أمر ال غبار عليه‪،‬‬
‫يمكن أن ينفتخ الخيال عىل أكثر من الواقع التراثي‬
‫العصابة عن العين‬
‫حانة الست وإزالة ُ‬ ‫صادما‪ ،‬ما دام السرد ابن الخيال‪ ،‬ولكن‬ ‫ً‬ ‫بما يكون‬
‫التاريخ ابن الحقيقة‪ ،‬وما يحدث من لغط وثورة‬
‫قدم الروائي والكاتب املصري محمد بركة‪ ،‬سر ًدا‬ ‫وعبَّاد أصنامه إنهم ال يعون الفرق‬‫سدنة التراث ُ‬
‫متخيل جدي ًدا حول شخصية أم كلثوم‪ ،‬الشخصية‬ ‫ً‬
‫بين السردين؛ التاريخي والروائي‪ ،‬فيقعون يف جهل‬
‫الغنائية التي صارت تراثية بشكل ما أو بحكم‬ ‫دامغ‪ ،‬فشتان بين ما يكتبه املؤرخ وبين ما يكتبه‬
‫كثيرا عىل باب‬‫ً‬ ‫التقادم املطرد يف الزمن‪ ،‬ومل يتوقف‬ ‫مثال لذلك يف رواية «كيميا» لوليد‬ ‫الروائي‪ ،‬ولنأخذ ً‬
‫القداسة التي ُخعلت عىل «كوكب الشرق»‪ ،‬وقرر أن‬ ‫عالء الدين والصادرة يف ‪ 2019‬عن دار الشروق‬
‫لـ»الست» ال تخضع إال‬
‫ّ‬ ‫ُيقدم سيرة ذاتية متخيلة‬ ‫ً‬
‫متخيل لكنه‬ ‫بالقاهرة‪ ،‬قدم الروائي سر ًدا روائيًّا‬
‫ملنطق واحد‪ ،‬هو منطق الخيال‪ ،‬ال منطق التاريخ‪،‬‬ ‫مخالف للسرد التاريخي‪ ،‬وهو ما أغضب بعض‬
‫وهو ما ألهب عقول «دراويش أم كلثوم» بالنار‪،‬‬ ‫مجاذيب جالل الدين الرومي والتبريزي‪ ،‬يف حين‬
‫قدسا‬
‫بل وكأن الروائي يف عمله املاتع ذلك دنَّس ً‬ ‫مل ُيدركا حقيقة ما قدمته رواية «كيميا»‪ ،‬وهاج‬
‫من األقداس‪ ،‬وصرخوا يف وجهه‪« :‬كيف تجرؤ‬ ‫وماج البعض‪ ،‬ألن الرواية طالت من تقديسهم‬
‫عىل املساس بقدسية صنمنا الذي عكفنا عليه؟!»‪.‬‬ ‫للرومي والتبريزي‪ ،‬وكشفت وج ًها آخر مل يجرؤْ‬
‫هل حاول هؤالء قبل الهجوم قراءة العمل؟ أو هل‬ ‫عليه هؤالء‪ ،‬واألمر مثله يف النقد األدبي واألكاديمية‬
‫عرفوا أول قاعدة عند قراءة الرواية‪ ،‬وإنها عمل‬ ‫األدبية حين تنتقد أو تقول رأ ًيا يخالف هالة‬
‫‪42‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫تصدير شخصية «الست»‪ ،‬وهو ما أقلق مضجع‬ ‫ُمتخيل؟! أشك أنهم فعلوا‪ ،‬لكن يقيني أن هؤالء‪،‬‬
‫كل «الكلثوميين»‪ ،‬وحرك املاء يف بركة نشوتهم‬ ‫وهم ُكثر‪ ،‬إنما ال يملكون ملكة الجرأة عىل تفكيك‬
‫فمثل من منهم سيقبل ما يقوله عىل‬ ‫ً‬ ‫بصوتها‪،‬‬ ‫املقدس‪ ،‬يف كل شيء من الخالق وانتهاء بكل ما‬
‫لسانها‪:‬‬ ‫مرورا بالوجود البشري وكل ما ُينتج‪ ،‬فهؤالء‬
‫ً‬ ‫خلق‪،‬‬
‫«نعم‪ ،‬أحببت النساء ح ًّبا رقي ًقا ناع ًما له ملمس‬ ‫الساكنة أرواحهم عىل الدوام‪ ،‬ممن ال يطمحون‬
‫الحرير‪ ،‬ولكنه ليس ذلك الحب الحريري امللهم‬ ‫لعيش الحياة والخيال أحد أهم مقوماتها‪ ،‬ال‬
‫لقصيدة «شريرة»‪ ..‬يل أكثر من صورة وأنا‬ ‫ُيدركون أن ما يقدمه الروائيون مثل محمد بركة‬
‫أتبادل قبالت يف الفم مع بعض االسيدات‪ .‬أكون‬ ‫يصب يف صالح «صنمهم املقدس» لكن بشكل‬ ‫ُّ‬
‫غال ًبا يف االستراحة وتأتيني إحدى املعجبات‬ ‫فمثل يقول عىل لسانها‪« :‬كنت‬ ‫ً‬ ‫مغاير مل يتعودوه‪،‬‬
‫يف الكواليس لتمنحني شي ًئا حا ًّرا من روحها‪.‬‬ ‫وسأبقى سيدة غنائكم الذي صار من بعدي‬
‫تبادلت القبالت الفمو َّية‪ ،‬شديدة العذوبة‪ ،‬مع‬ ‫غري ًبا يثير بضحكاته الهستيرية الصاخبة‬
‫سيدات تحت سمع وبصر الصحافة»‪.‬‬ ‫املزيد من األسى»‪.‬‬
‫أشار املؤلف يف هذا العمل الروائي منذ البداية‬ ‫ففي حانة الست‪ ،‬كل ما قدمه محمد بركة من‬
‫إىل مهمته‪ ،‬وهي ابنة خياله املحض‪ ،‬لينبه هؤالء‬ ‫السرد املتخيل‪ ،‬ينتهي يف مآله إىل احترام تلك الذات‬
‫وأن ما كتبه‬
‫األصوليين يف محبتهم ألم كلثوم‪َّ ،‬‬ ‫«املقدسة» لدى البعض لشخصية أم كلثوم‪ ،‬لكنه‬
‫مل يكن إال أمينًا يف نقله من خياله كما تراءت إليه‬ ‫فعلها بآلية مغايرة ملا اعتادوه من التيه يف ظالل‬
‫سيدتهم وكوكبهم ال ُّد ِّري الذي ال يسمحون أن يناله‬ ‫ووهم قدسية الشخصية التراثية التي ال يجوز‬
‫أي نقيصة‪ ،‬لكنهم مل ينتبهوا‪،‬‬ ‫من سمات البشر ُّ‬ ‫املساس بها‪.‬‬
‫وقرروا أن يحملوا عىل املؤلف وخياله‪ ،‬وكأنهم مل‬
‫يفهموا هذا املقطع‪:‬‬ ‫ماذا فعل محمد بركة؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫«ال تقلق‪ .‬لستَ باحثا ولن تكون مؤرخا يعيد‬
‫كتب محمد بركه ما أماله خيال الروائي عليه‪،‬‬
‫كتابة سيرتي‪ .‬لن تنساق وراء شائعات‬
‫مل يكتب سيرة ذاتية تاريخية أو فنية‪ ،‬إنما قدم‬
‫تطاردني أو تفاهات تسعى للنيل مني‪ .‬سأطلعك‬
‫ً‬
‫عمل روائيًّا بالدرجة األوىل عبر تقنية الفالش‬
‫عىل ك ِّل شيء جوهري‪ .‬سأهبك خالصة حكاياتي‬
‫باك والروائي العليم أو تقنية األصوات املتعددة‪،‬‬
‫دون أن يخالف منطق الرواية سر ًدا أو ً‬
‫عقل‪ ،‬لكن‬
‫الصادم هو زاوية الرؤية يف عمله‪ ،‬إذ قرر أن‬
‫ينظر نحو «كوكب الشرق» من زاويته الخاصة‬
‫كروائي وصحفي ال من زاوية «مجاذيب‬
‫صادما لكل من دخل‬
‫ً‬ ‫الست»‪ ،‬فقدم سر ًدا‬
‫عتبات القراءة للرواية معتم ًدا عىل قدسية هذه‬
‫الشخصية الغنائية يف تاريخ مصر والعامل‬
‫العربي الحديث‪ ،‬وأخذ يفكك هذه السردية‬
‫املقدسة بذكاء الروائي‪ ،‬لينهدم هذا الصرح‬
‫العظيم يف عقول محبي «أم كلثوم»‪ُ ،‬ثم يعكف‬
‫من جديد عليه ليعيد بناءه حسب ما أماله خياله‬
‫ورؤيته السردية لتفاصيل الحكاية‪ ،‬والتي ربما‬
‫كان منها ما هو سري يف حياتها‪ ،‬أو ما مل‬
‫ُيعلن مهابة الخدش لهذا «التابوه» املعتمد يف‬
‫أشار المؤلف إلى مهمته‪ ،‬وهي ابنة‬ ‫وعطر مواقفي‪ ،‬وقع قطرات الغضب‬
‫خياله المحض‪ ،‬لينبه هؤالء األصوليين‬ ‫والحرمان‪ ،‬الغيرة واالنتقام‪ ،‬مضا ًفا إليها‬
‫لعبة الست‪ ،‬وهي ترتطم داخل كهفي‬
‫في محبتهم ألم كلثوم‪َّ ،‬‬
‫وأن ما كتبه‬ ‫البعيد السري‪ .‬سأحدد مساحة الهامش‬
‫لم يكن إال أمينًا في نقله من خياله‬ ‫وآفاق املتن‪ ،‬سحر املقدمة وشجن الختام‪.‬‬
‫سأكون املؤلفة الحقيقية‪ ،‬ويكفيك شر ًفا أن‬
‫كما تراءت إليه سيدتهم وكوكبهم‬ ‫تكون يدي التي أكتب بها‪ .‬لن تفعل شي ًئا‬
‫الد ِّري الذي ال يسمحون أن يناله‬
‫ُّ‬ ‫سوى اإلنصات لهمساتي وتدوين ما أمليه‬
‫عليك»‪.‬‬
‫أي نقيصة‪ ،‬لكنهم‬
‫من سمات البشر ُّ‬ ‫نفى صراحة عن نفسه أن يكون مؤ ِّرخً ا يعيد‬
‫لم ينتبهوا‪ ،‬وقرروا أن يحملوا على‬ ‫كتابة سيرتها الذاتية‪ ،‬بل طوال العمل ُيطل‬
‫مذكرا القاريء بقانون القراءة‬‫ً‬ ‫الروائي بخياله‬
‫المؤلف وخياله‪.‬‬ ‫لعمله وكأنه يقول‪ُ :‬هنا عم ٌل روائي ُمتخيل‬
‫ال تاريخي وغير خاضع ألحكام السرد‬
‫التاريخي أو الشفاهي حتى عن كوكبكم‬
‫القاري حين يصل نهاية العمل ليكون هو القاضي‬ ‫العظيمة‪ ،‬لكن هيهات‪ ،‬فمن قرأ بوعي وانفتاح عقل‬
‫املنوط بإطالق الحكم عىل هذه الشخصية‪.‬‬ ‫واصل إىل ما أراد بركة من عمله‪ ،‬بينما منغلق‬
‫الرؤية واألفق من ُعباد النموذج يأبون الوعي‪.‬‬
‫ملاذا تعمد املؤلف تجريد أم كلثوم؟‬ ‫جلس محمد بركة الروائي يف حضرة «الديكتاتورة»‬
‫أم كلثوم‪ ،‬يستمع إليها‪ ،‬ويتدخل وقتما تحتم سؤال‬
‫أوضحت‪ ،‬أن مؤلف حانة الست‪ ،‬حاول تفكيك هذه‬ ‫يف عقل الروائي‪ ،‬عسى أن يهدهد قلق األسئلة يف‬
‫األسطورة‪ ،‬إىل الدرجة التي وصلت إىل ح ِّد الهدم‬ ‫بال الروائي الذي يبحث عن رؤية جديدة ُيقدمها‪،‬‬
‫الكامل قبل أن ُيعيد البناء من جديد‪ ،‬وأراد أن‬ ‫كثيرا عبر صفحات‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سجال فيما بينهما‬ ‫لذلك سنجد‬
‫يأخذ القاريء معه إىل بدايات التكوين وإرهاصات‬ ‫الرواية التي زادت عن ‪ 280‬ورقة‪ ،‬مل يكن خاللها‬
‫النشأة األوىل بكل عفويتها وطبيعتها‪ ،‬لذلك لجأ‬ ‫لين الطبع مع هذه املطربة الكبيرة بكل عشاقها‬
‫إىل اعتماد البطلة أم كلثوم عىل حكيها الذاتي‪ ،‬وأن‬ ‫وبما صنعت من أسطورة حول نفسها قامت ببناء‬
‫تجرد نفسها بنفسها‪ ،‬بشكل يصل إىل ما ُيشبه‬ ‫صرحها أو ساعدت عشاقها يف ذلك البناء‪ ،‬لذلك‬
‫ثقافة االعتراف الكاثوليكية‪ ،‬فلكي تكون نقيًّا وطاهر‬ ‫فطوال العمل وأنت تقرأ تشعر بهذه العالقة النفسية‬
‫األسطورة‪ ،‬عليك أن تعترف بالحقيقة املجردة‪،‬‬ ‫بين املؤلف وأم كلثوم‪ ،‬فتارة يتركها تسترسل يف‬
‫لذا تحدثت بمكنون الروح البشرية الطبيعية يف‬ ‫األحداث‪ ،‬وتارة يتحكم هو يف إيقاع وزمن األحداث‬
‫النهاية‪ ،‬فهي امرأة يف داخلها تحمل ما تحمل كل‬ ‫دون مراعاة ملنطق تسلسها الزمني‪ ،‬وما بين هذا‬
‫نساء األرض‪ .‬تقول أم كلثوم يف سردها‪« :‬همست‬ ‫وذاك‪ ،‬أعلن محمد بركة عن رفضه لهذا التقديس‬
‫لنفسي وأنا أتلمس خطواتي األوىل عىل طريق‬ ‫املطلق واالنسحاق أمام سطوة كوكب الشرق بال‬
‫الغيرة منتشية باكتشايف السالح األنثوي األكثر‬ ‫أسباب منطقية‪ ،‬إنما ودون انتباهها بذاتها داخل‬
‫فت ًكا‪ :‬الدموع»‪.‬‬ ‫الرواية راح ُيعيدها إىل إطارها‪ ،‬لكن بألوان مختلفة‬
‫وألجل هذا التفكيك‪ ،‬قرر املؤلف اعتماد لغو‬ ‫هذه املرة‪ ،‬ألوان فيها من الحياد والعدالة الكثير‬
‫الحوار باملستوى الدارج من اللغة العامية يف‬ ‫بعي ًدا عن املبالغات والتقديس الهائل الزائف يف‬
‫غالب الحوارات التي اشتملت عليها الرواية‪ ،‬وإىل‬ ‫قاض ال يحكم‪،‬‬ ‫األصل‪ ،‬إذ تجده يف مرات وكأنه ٍ‬
‫لغة ثالثة أحيانًا ليضمن توريط القارئ فيما يقرأ‬ ‫إنما جلس يف جلسة استماع أوىل بعدها سيحيل‬
‫‪44‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الشخصيات يف بعض املقاطع حسب السياق الزمني‬ ‫فيضرب سمعه من هذه املستويات اللغوية التي‬
‫قلت اللهجة العامية‬
‫واالجتماعي‪ ،‬بل وفرضت كما ُ‬ ‫ستربطه بواقع الحكاية املُتخيلة كما يود املؤلف‪،‬‬
‫يف حوارات العمل الروائي كله‪.‬‬ ‫وليضمن حيوية يف سرده‪ ،‬رغم خطورة استخدام‬
‫هكذا تمثالت يف استخدام حوار العامية واللغة‬
‫كأس «زيادة» أخير يف حانة الست‬ ‫نص عربي فصيح وجزل يف كثير من‬ ‫الثالثة وسط ٍّ‬
‫األحيان‪ ،‬وهو ما ُيحسب للعمل عىل خالف الغالب‬
‫أخيرا يف‬
‫ً‬ ‫زاد محمد بركة عبر سرده املُتخيل ً‬
‫كأسا‬ ‫من األعمال التي تشعر فيها بالفجوة بين الحوار‬
‫حانة الست يمكن وضعه إىل جانب كاسات الهوى‬ ‫واملتن إذا ما اختلفا يف مستوى لغتيهما‪.‬‬
‫والعشق املوسومة باسم «الست»‪ ،‬حين راح يحكي‬
‫لنا العديد من حكايات التاريخ املسكوت عنه يف‬ ‫لغة حانة الست‬
‫سيرة أم كلثوم الذاتية‪ ،‬متطرقًا إىل زوايا شديدة‬
‫الحساسية قد يراها محبوها تجنيًا أو مبالغة تشوه‬ ‫أشرنا إىل اعتماد املؤلف ألكثر من مستوى لغوي‬
‫النموذج الذي عليه يعكفون‪ ،‬لكن الجديد فيما‬ ‫داخل العمل‪ ،‬وهو أمر أثرى عمله‪ ،‬خاصة أن املتن‬
‫قدمه املؤلف هنا من الحكايات املسكوت عنها‪ ،‬أنها‬ ‫السردي للرواية بطولها يمكن أن نالحظ فيها هذه‬
‫جاءت كلها خالل عملية التفكيك تلك بهدف إعادة‬ ‫النقالت بين مستويات املتن الفصيح ذاته‪ ،‬معتم ًدا‬
‫البناء اإلنساني املجرد لشخصية أم كلثوم‪ ،‬والتي‬ ‫عىل مفردات خاصة يف بعض األحيان بزمن الحكاية‬
‫يمكن أن نفهم من خالله أن أم كلثوم امرأة أدركت‬ ‫املتخيلة‪ ،‬وجامعة بين هذا الزمن وبين زمن السرد‬
‫ذاته اآلني وقت كتابة العمل‪ ،‬وهو ما نجح فيه‬
‫موهبتها فأحسنت إدارتها‪ ،‬ورضخت مرات للريح‪،‬‬
‫بركة باقتدار قد يكون مرجعه كونه صحفيًّا مارس‬
‫وواجهت بجسارة حوادث شخصية خاصة كان‬
‫الصحافة لسنوات طويلة‪ ،‬وصار مدر ًكا لتوقيت‬
‫يمكن أن تنهيها لألبد‪ ،‬وهكذا قدمها بركة كنموذج‬
‫االنتقال بين مستويات اللغة داخل متن النص‬
‫والشر‪ ،‬الحسن‬
‫َّ‬ ‫إنساني يحمل يف داخله الخير‬
‫الواحد املكتوب‪.‬‬
‫والقبيح‪ ،‬الجمال والتشوه‪ ،‬وذلك كله مل يمنعها‬
‫مر‬
‫مل يقع محمد بركة يف فخِّ اللغة وديباجتها‪ ،‬إنما َّ‬
‫من إدراك موهبتها والعمل عليها‪ ،‬وكأنها رسالة‬
‫يسيرا يناسب شخصيات الرواية‬ ‫ً‬ ‫عليها م ًّرا لينًا‬
‫يطرحها الكاتب لكل صاحب موهبة‪ ،‬أن يكون‬ ‫بغير افتعال‪ ،‬فجاءت الكلمات عىل لسان أبطال‬
‫إنسانًا مجر ًدا قبل أن يكون موهو ًبا‪ ،‬فتلك أوىل‬ ‫العمل طبيعية ويف سياقها التاريخي واالجتماعي‪،‬‬
‫اللبنات يف بناء األسطورة الشخصية‪.‬‬ ‫دون مخالفة ملنطق عقل ما يقوله هؤالء األبطال‪،‬‬
‫عبر ‪ 57‬مقط ًعا سرد ًّيا جاءت حانة الست‪ ،‬بها‬ ‫نفورا من اللغة املستخدمة‬ ‫فمثل لن ترى غراب ًة أو‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫الكثير والكثير مما انفرد به الصحفي قبل الروائي‪،‬‬ ‫ً‬
‫«سروال‬ ‫يف سياق الحكي وسط النص حين يقول‬
‫ومنها ما هو معاين ً‬
‫قبل مثل عالقتها بالدولة‬ ‫فضفاضا»‪« ،‬أعتى الرجال»‪« ،‬صفعة السادة»‪،‬‬ ‫ً‬
‫وخاصة إبان الحكم الناصري وعالقتها الخاصة‬ ‫«املكائد الصغيرة»‪« ،‬تروق يل تلك الحفاوة»‪،‬‬
‫بجمال عبد الناصر‪ ،‬والتي ال يتسع املقام للحديث‬ ‫«مستودع سره ومحط ثقته»‪« ،‬ترويعي»‪« ،‬ليقضي‬
‫عنها‪ ،‬وكلها مقاطع سردية شيقة غير مملة‪ ،‬ستتابع‬ ‫مفعول»‪« ،‬انتفخ غروره»‪ ..‬إلخ‪ ،‬من‬ ‫ً‬ ‫أمرا كان‬ ‫اهلل ً‬
‫فيها عزيزي القاريء بلهفة ملعرفة املزيد‪ ،‬لكن انتبه‬ ‫عبارات ومفردات يمكن اعتبارها لغة كالسيكية‬
‫فأنت مع بركة ستشارك يف هدم هذا الصرح‪،‬‬ ‫يف السرد الروائي‪ ،‬إال أن بركة أحسن استخدامها‬
‫قبل أن تعيدا م ًعا بناءه من جديد ومن زوايا رؤية‬ ‫يف سياق سرده‪ ،‬فلم تكن نشا ًزا عىل لغة الكاتب‬
‫مختلفة ع ّما اعتمدها «مجاذيب الست»‪ ،‬وهم ُكثر‪،‬‬ ‫الصحفي ابن األلفية الثالثة‪ ،‬وال عىل لغة الرواية‬
‫بدليل قائمة املراجع التي تصدرت نهاية هذه الطبعة‬ ‫التي ُكتبت ال شك قبل ثالث سنوات‪ ،‬فلغة الرواية‬
‫من «حانة الست»‬ ‫أخذت من عصرنة املؤلف‪ ،‬ومزجتها بجزالة حديث‬
‫‪45‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫شريف هاشم الزميلي‬


‫(العراق)‬

‫أسطرة الغواية‬
‫في غواية األسطورة‬
‫المفكر الناقد والباحث ناجح المعموري حين يتصدى إلى ما في الشرق‬
‫من حضارات فإنه يرصدها بعين الخبير‪ ،‬العارف بما يشتبك منها مع‬
‫األساطير‪ ،‬ومنها ما ينفتح عليها بما يخلق من أجواء ساحرة برائحة‬
‫التاريخ متناغمة مع ﺁفاق المستقبل‪ ،‬فالمعموري «حاول رصد التحوالت‬
‫الثقافية في فكر حضارات الشرق القديمة متصد ًيا إلى تقديم قراءات عن‬
‫فضل عن األساطير والمالحم في مختلف‬ ‫ً‬ ‫السرديات الساللية الكبرى‪..‬‬
‫حقبات التاريخ الالحقة‪ ..‬وانزياحات تلك األساطير في مجمل منظوماتنا‬
‫الثقافية واالجتماعية‪.‬‬

‫عىل املوروث الشعبي‪ ،‬واألساطير‪ ،‬واملحاور األدبية‬ ‫أن يكتب األديب واملؤرخ أحمد الناجي عن املفكر‬
‫والنقدية واملثيولوجية‪ ،‬ولن أقول انتهاء إىل االشتغال‬ ‫والباحث البارز ناجح املعموري‪ ،‬ذلك يعني أن‬
‫الفكري‪ ،‬فأنا عىل يقين أننا بانتظار اْن يطالعنا‬ ‫يستحضر املشهد الثقايف ألكثر من نصف قرن‪ ،‬وأن‬
‫املعموري باملائز من األعمال‪ ،‬فهو لن يكف عن التفكير‬ ‫يتبين القامات الشامخة التي أرست قواعد رصينة‬
‫بإغناء املشهد الثقايف بما يبتكره من إبداع فريد‪.‬‬ ‫لإلبداع‪ ،‬ويف طليعتها املعموري بسعة اطالعه‪ ،‬وتنوع‬
‫وكتاب (ناجح املعموري غواية األسطورة وسحر‬ ‫منتجه اإلبداعي‪.‬‬
‫الكالم) لألديب واملؤرخ أحمد الناجي‪ ،‬النافذة األكثر‬ ‫حرص الناجي عىل البحث والتقصي يف كتابه (ناجح‬
‫اتسا ًعا‪ ،‬وقد استحضرها كي يطل منها القارئ‬ ‫املعموري غواية األسطورة وسحر الكالم) لتشخيص‬
‫عىل فضاءات سيرة مبدع فريد يف عطائه األدبي‬ ‫العتبات األوىل لتشكيل قامة إبداع مميزة‪ ،‬وبيان البيئة‬
‫واإلنساني‪ ،‬فضاءات لها خصوصيتها‪ ،‬منها ما‬ ‫منحى أسطور ًّيا يف عرضها‪ ،‬وتحليل‬ ‫التي أخذت ً‬
‫احتضن املعموري‪ ،‬وأخرى ما أطلق منها أسراب‬ ‫مسميات أبرز مثاباتها‪ ،‬قرية (عنانة) التي احتضنت‬
‫حمائم إبداعه‪ ،‬أسرا ًبا هي بعض ما اجترحته مخيلته‬ ‫املعموري حيث يشير الناجي إىل أن «هناك من يذهب‬
‫الفطرية إلبهار املتلقي بأسطرة غوايته التي تناولها‬ ‫إىل أن تسميتها مستمدة من اسم اإللهة السومرية‬
‫الناجي‪ ،‬عبر ثمانية فصول‪.‬‬ ‫(أنانا) وهي إلهة الحب والجمال والخصب» (ص‪)16‬‬
‫قليل عند مفردة (غواية) التي تصدرت‬ ‫ولنتوقف ً‬ ‫وإىل رأيين ﺁخرين يتعلقان بالتاريخ اإلسالمي‪.‬‬
‫عنوان الكتاب‪ .‬قال تعاىل «والشعراء يتبعهم الغاوون»‪،‬‬ ‫ح ًّقا إنها لجرأة‪ ،‬اْن يتصدى الناجي للخوض يف‬
‫أيضا‬
‫قيل يف تفسيره‪ :‬الغاوون الشياطين‪ ،‬وقيل ً‬ ‫مسيرة املفكر والباحث ناجح املعموري الذي اشتغل‬
‫الغاوون من الناس‪ ،‬وقال جلت قدرته «قال فبما‬ ‫عىل أكثر من محور ما يجعله موسوعيًّا بار ًزا يف‬
‫أغويتي ألقعدن لهم صراطك املستقيم»‪ ،‬قيل فيه‬ ‫املشهد الثقايف العراقي والعربي‪ ،‬بد ًءا من االشتغال‬
‫‪46‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫يف الحلة سعدي علوش الذي أخذ بيدي وقدم يل كل‬ ‫قوالن‪ ،‬قال بعضهم‪ :‬فبما أضللتني‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫ما يمتلك من الخيارات التي ال تزال قابعة يف داخيل‪،‬‬ ‫*‬
‫فبما دعوتني إىل شيء غويت»‬
‫ً‬
‫نشاطا‬ ‫وأحيانًا أتعامل معها باعتبارها ذاكرة تمتلك‬ ‫وبحسب معتقدات الجاهليين‪ ،‬للشاعر شيطان من‬
‫ويقظة وحيوية‪ ..‬كما يقف ناجح بإجالل عند عدد ﺁخر‬ ‫الجن‪ ،‬هو الذي يلهمه الشعر‪ ،‬وعىل وفق ذلك فالغواية‬
‫من أساتذته‪ ..‬فيشير إىل مدرس الرسم الفنان الراحل‬ ‫يف األسطورة تعني دعوة الجتراح ما فيها وسبر‬
‫سلمان الحمداني والشاعر التقدمي مدرس الكيمياء‬ ‫أغوارها‪.‬‬
‫عدنان عبد الكريم الظاهر وحسين صالح واألستاذ‬ ‫خص الناجي (النشأة والتكوين) أول فصول كتابه‬
‫حمد مدرس الفيزياء»‪( .‬ص‪)67‬‬ ‫عناية فائقة دقيقة‪ ،‬قل نظيرها‪ ،‬ملا لتلك النشأة وذلك‬
‫ويف إعدادية الحلة‪ ،‬حظي املعموري برعاية «مدرسي‬ ‫التكوين من إرهاصات بمولد من سيكون له شأن‬
‫اللغة العربية‪ :‬محمد عيل الدويجي‪ ،‬وعبد الرزاق‬ ‫كبير ومكانة رصينة يف املشهد الثقايف‪« .‬ولعل أبرز‬
‫عبد الواحد‪ ،‬وخليل العاني‪ ،‬ومما يذكر عنهم دورهم‬ ‫محطات ناجح التكوينية يف مرحلة الطفولة‪ ،‬هي جدته‬
‫املشترك يف الرعاية والتشجيع من خالل توجيهات‬ ‫(والدة أمه)‪ ..‬تزورهم بفترات متباعدة‪ ..‬كانت تضفي‬
‫سديدة‪ ..‬وال يفوت املعموري أن يشير إىل بعض‬ ‫عىل البيت أجواء ساحرة‪ ..‬بحكاياتها التي المست‬
‫األساتذة الذين كان لهم وقع يف نفسه‪ :‬األستاذ عزيز‬ ‫عقله وروحه‪ ..‬عززت لديه الشعور بالثقة واألمان‬
‫كمونة مدرس االجتماعيات واألستاذ صادق الصائغ‬ ‫حينما تصحبه إىل دنيا شديدة الغنى يف ما ترويه من‬
‫مدرس االقتصاد واألستاذ هادي الخفاجي مدرس‬ ‫سرديات‪ ،‬لقد كانت ح ًّقا بمثابة شبابيك تقوم الجدة‬
‫كثيرا من‬
‫اإلنجليزية‪ ..‬أما نزعة األدب فقد أخذت ً‬ ‫بفتحها‪ ،‬ويقوم ناجح بالتلصص منها عىل عوامل‬
‫اهتمام طالب الثانوية ووقته‪ ،‬صارت تأسره‪ ،‬تشاغله‬ ‫أخرى‪ ..‬صار يحلم بالبقاء وسطها‪ ،‬فهو الذي يبجلها‬
‫وتشغله‪ ،‬وزاد ولعه بالقراءة‪ ،‬ازداد اقترا ًبا من مكتبة‬ ‫بقوله‪ :‬صارت جدتي أ ًّما يل ومعلمة»‪( .‬ص‪)50 -49‬‬
‫ناظم البكري‪ ،‬ومن ثم يف القراءة تجاوز حدود املكان»‪.‬‬ ‫ثمة شخصية لها هي األخرى أثرها يف تكوينه الثقايف‬
‫(ص‪)72‬‬ ‫«االستاذ ناظم البكري ابن عمته ‪-‬هو معلمه وذاكرته‬
‫ويف أعقاب ثورة ‪ 14‬تموز كان عىل املعموري أن‬ ‫كما ذكر يف مخطوطة (نهر الطفولة)‪ -‬أول من فتح‬
‫يتواصل مع معطياتها «اتجه إىل العمل السياسي‬ ‫عينيه عىل القراءة‪ ..‬كانت لدية مكتبة من روايات‬
‫بمحض إرادته مشدو ًدا إىل حلمه ومناره اليوتوبي‬ ‫عربية ومترجمة وكتب سياسية‪ ..‬مل يبخل يف توجيهه‬
‫وابتدأ مشوار اإلحساس بالذات عبر الخوض يف‬ ‫فضل عن رفقة دفعته إىل اكتشاف‬ ‫ً‬ ‫واالهتمام به‪..‬‬
‫مترجما إحدى رغباته إىل واقع‪ ،‬منتميًا‬
‫ً‬ ‫غمار السياسة‬ ‫ما حوله‪ ،‬ومعرفة قدراته واملثابرة عىل تنمية مواهبه‬
‫إىل صفوف الحزب الشيوعي‬ ‫وصقلها»‪( .‬ص‪)58‬‬
‫وقد نشط يف خلية مكونة من‬ ‫ويف مرحلة الدراسة املتوسطة‬
‫بعض أبناء قرية عنانة يقودها‬ ‫‪-‬يف متوسطة الحلة للبنين‪-‬‬
‫الشخصية الوطنية املعروفة‬ ‫اشتركت أكثر من شخصية‬
‫األستاذ حافظ ياسين عبود‬ ‫يف تكوين املعموري‪ ،‬مديرها‬
‫البراك‪ ..‬ومل تدم أفراح الثورة‬ ‫األستاذ عبد الحسين حبانة‪.‬‬
‫حيث ُن ِكب البلد بانقالب‪ .‬احمر‬ ‫وجد فيه «الرعاية األبوية‬
‫وجه العراق‪ ،‬واختلط الدم‬ ‫واملعاملة اإلنسانية وأسلوبه‬
‫بالدمع يف معظم أرجاء العراق»‬ ‫التربوي»‪( .‬ص‪)65‬‬
‫(ص‪ .)75 -74‬وطال املعموري‬ ‫ويتحدث املعموري عن‬
‫ما طال غالبية املناضلين من‬ ‫شخصية ثانية‪« :‬ال يمكنني‬
‫اعتقال وحصار كان لهما األثر‬ ‫إال أن أشير إىل أثر أستاذي‬
‫البالغ يف صالبته وثباته عىل‬ ‫ومعلمي الشخصية الكاريزمية‬
‫أحمد ناجى‬
‫‪47‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫ً‬
‫فضل عن فاعليته يف ما كتبه‬ ‫املبدأ‪،‬‬
‫الحقًا‪.‬‬
‫لالشتغال عىل املوروث الشعبي‬
‫أكثر من عتبة‪ ،‬ولعل أبرز تلك‬
‫العتبات (البسروكية) يف مدينة‬
‫الكوت حين صدر أمر تعيينه‬
‫معلما يف مدرسة البادية مع‬
‫ً‬
‫زميله فخري جبار البكري حيث‬
‫انهمك املعموري «بشوق جارف‬
‫بمعرفة تراثهم وعقائدهم‪..‬‬
‫ومأثوراتهم الشعبية وطقوسهم‪،‬‬
‫صار يتتبع ويلتقط كل ما يحوم‬
‫حوله من املوروثات الشفاهية‬
‫كاألمثال الشعبية واألبوذيات‬
‫والدارميات وأغاني األطفال‬
‫وألعابهم يف الريف‪ ،‬يتقصى‬
‫حنا بطاطو‬ ‫علي الوردي‬ ‫فاضل ثامر‬
‫كل ما يتعلق بها من قصص‬
‫وحكايات وأساطير»‪( .‬ص‪ )90‬تلك البيئة الغنية‬
‫و(الوشم عند الريفيات يف الحلة) و(العادات والتقاليد‬
‫باملوروث الشعبي‪ ،‬بما فيها من محفزات ملا يف صدر‬
‫يف الحلة) و(الذئب يف الفلكلور العراقي)»‪( .‬ص‪-93‬‬
‫املعموري من مخزون بكر جدير بأن يترجم إىل إبداع‪،‬‬
‫‪)94‬‬
‫فضل عن شخصية (كمبر) الفريدة «بذكائها الفطري‬ ‫ً‬
‫واملعموري ذلك الشغوف باالغتراف مما يف بطون‬
‫وبصيرتها النيرة‪ ..‬والقريحة املتدفقة‪ ..‬تختزن ك ًّما‬
‫الكتب لترسيخ قناعته الفكرية وترصينها يطرح لنا‬ ‫ً‬
‫هائل من املوروثات الشعبية‪ ،‬ومقدرة بارعة يف فهم‬
‫رأ ًيا يف الكتاب‪« :‬أدركُ أن املكتبة تعيش يف دورة حياة‪..‬‬
‫معاني األبوذية واستيعاب دالالت أحداثها»‪( .‬ص‪)91‬‬
‫تنمو وتكبر وتشيخ‪ .‬وتوقًا إىل إنعاش املكتبة ‪-‬يقول‬ ‫إن حرص املعموري عىل حفظ تلك املوروثات‬
‫الناجي‪ -‬قام ناجح سنة ‪ 2009‬بتجديد وترصين أعز‬ ‫وتوظيفها إبدا ًعا إىل جانب توثيقها يتجسد يف ما يقوله‬
‫األشياء إىل نفسه‪ ..‬وإهداء نصف مقتنياته من الكتب‬ ‫مبكرا بقراءة املوروثات الشعبية‬ ‫املعموري «ابتدأت‬
‫ً‬
‫إىل مكتبة كلية اآلداب يف جامعة بابل»‪( .‬ص‪)96 -95‬‬ ‫وتدوينها ونشرت عد ًدا من دراساتي يف مجلة التراث‬
‫يتناول الناجي يف الفصل الثالث‪ ،‬االشتغال األدبي‬ ‫الشعبي‪ ..‬عن توثيقات املتداول الشفاهي الخاص‬
‫لدى املعموري‪ ،‬ذلك الكريم يف عطائه‪ ،‬الكريم يف‬ ‫باملورثات الشعبية‪ ،‬لكنها بذرة االنشغال والتفكير‬
‫إبداعه الذي غ َّطى أكثر من ميدان‪ ،‬فيذكر أن «يف أحد‬ ‫عن ينابيعها‪ ،‬وعن القوة الثقافية التي أهلتها للبقاء‬
‫أعداد جريدة كل شيء األسبوعية الصادرة أواخر‬ ‫والتواصل‪ ،‬وتطور هذا االهتمام إىل البحث والقراءة‬
‫‪ 1964‬ثالث قصائد شعبية لكل من الشعراء الشباب‬ ‫يف األسطورة التي استفدت منها يف كتابة نصوص‬
‫ضياء طالب حيدر وناجح املعموري وموفق محمد»‪.‬‬ ‫عاما»‪( .‬ص‪)93‬‬ ‫قصصية نشرتها خالل عشرين ً‬
‫(ص‪)98‬‬ ‫تمت اإلشارة سابقًا إىل مخطوطة املعموري (نهر‬
‫إن نشأة وتكوين املعموري وبيئته التي يرى فيها ما‬ ‫الطفولة)‪ ،‬ويف ميدان املوروث الشعبي له أكثر من‬
‫تثيره للكتابة من خالل تقصي الواقع االجتماعي وما‬ ‫مخطوطة «األمثال الشعبية‪ ،‬الحيوان يف الفولكلور‬
‫يفرضه ذلك الواقع من سطوة التحريض عىل الكتابة‬ ‫العراقي‪ ،‬واأللعاب الشعبية يف الحلة‪ ..‬وله (األلغاز‬
‫جعلته يتبنى األدب الواقعي «كان مهت ًّما بالدرجة‬ ‫الشعبية يف ريف لواء الحلة) و(النذور يف الحلة)‬
‫‪48‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫صدور جريدة طريق الشعب انتقل ‪-‬الظاهر‪ -‬إىل‬ ‫األوىل باألبعاد االجتماعية للشخصيات وصلتها‬
‫بغداد وشغل سكرتارية التحرير فيها‪ ،‬فاستلم الشهيد‬ ‫بالواقع بكونها مستلة منه ومعبرة عنه‪ ..‬نحو إدراك‬
‫قاسم محمد حمزة مسؤولية منطقة الفرات األوسط‪.‬‬ ‫نوع من التكامل االنعكاسي بين الواقع والنص‬
‫أما املكتب الصحفي للجنة املحلية يف بابل فقد تسنم‬ ‫فسعى بمقدرة إبداعية إىل توظيف خصيصة التكامل‬
‫مسؤولية قيادته عدد من األدباء خالل السنوات‬ ‫وصول إىل محو الفواصل بين الخيال والواقع»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫هذا‬
‫الست من عمل صحافة الحزب بصورة علنية منهم‬ ‫(ص‪)99‬‬
‫الناقد قاسم أمين خليل والشاعر شريف الزمييل كذلك‬ ‫وللمعموري مجموعة مشتركة (الشمس يف الجهة‬
‫األديب والناقد ناجح املعموري»‪( .‬ص‪)109‬‬ ‫اليسرى) وال يخفى ما يشير إليه عنوان املجموعة التي‬
‫ومن أبرز أنشطته الصحفية عمود يوم األحد يف‬ ‫أصدرها باالشتراك مع األدباء جهاد مجيد ومحمد‬
‫الصفحة األخيرة تحت عنوان (أجراس هادئة)‬ ‫أحمد العيل وفاضل الربيعي‪.‬‬
‫«ويجدر بنا القول إن األجراس التي كان ناجح يقرعها‬ ‫ً‬
‫فضل‬ ‫وللوضع السياسي املتردي أثره عىل العراقيين‬
‫صاخبة مجلجلة‪ ..‬ويعود إىل مواصلة كتابة عمود‬ ‫عن املبدعين ممن امتلكوا مواهب تم تكريسها لترجمة‬
‫يف جريدة الجنائن الحلية بعنوان (أجراس الجنائن)‬ ‫ما ﺁمنوا به إىل أفكار «عاش أديبنا املعموري فيما بعد‬
‫وإن كان بصورة غير منتظمة إال أنه بذلك يستعيد‬ ‫االنقالب ببضعة أعوام منقط ًعا عن تنظيمه يف صفوف‬
‫(أجراس) طريق الشعب»‪( .‬ص‪)112‬‬ ‫الحزب الشيوعي‪ ،‬والحقيقة التي يجب أال تغيب عن‬
‫واملعموري شجاع يف قراراته‪ ،‬مل يتردد يف تجسيد‬ ‫البال أنه كان انقطا ًعا ال قطيعة‪ ..‬ألن ميوله تأسست‬
‫ما يقرأه من ﺁراء وما يطلع عليه من مواقف يف األدب‬ ‫عىل أساس فكري وثيق ومبنية عىل مرتكزات راسخة‬
‫والفن والحياة‪ ،‬واق ًعا حيًّا ما دام يفجر ما يف داخله‬ ‫ومتينة‪ ،‬فكان قريبًا من الشيوعيين وأنشطتهم»‪.‬‬
‫من هواجس تغيير الوقع‪ ،‬السيما «ما يراه القاص‬ ‫(ص‪)106 -105‬‬
‫والناقد األيرلندي فرانك أوكونور حينما قام بمقارنة‬ ‫وألن الثقافة سلوك‪ ،‬مل يبخل املعموري بتوظيف‬
‫مستفيضة بين فنون األدب‪ ،‬فنجده ينظر إىل فن‬ ‫إمكاناته وطاقاته اإلبداعية يف ميدان العمل الجماهيري‬
‫القصة عىل أنها تمثل صوت الفرد‪ ،‬يف حين يرى أن‬ ‫بـ»االنفتاح عىل فعاليات الثقافة الجماهيرية‪ ،‬ويفيدنا‬
‫فن الرواية‪ ،‬صوت املجتمع»‪( .‬ص‪)114‬‬ ‫موضحا بأنه ُكلف بتلك املهمة مع الفنان‬
‫ً‬ ‫ناجح‬
‫ويف ضوء املقارنة بين صوت الفرد وصوت املجتمع‬ ‫أحمد عبد السادة‪ ..‬بالتعاون مع بقية املبدعين من‬
‫ينحاز املعموري بوعيه وتفرده اإلنساني إىل املجتمع‪،‬‬ ‫الشيوعيين ومنهم الشاعر سعدي علوش والشاعر‬
‫وبعد ان نامت قصة (النهر) يف أدراج مجلة (األقالم)‬ ‫عبد الرزاق مبارك والشاعر موفق محمد والفنان مجيد‬
‫سحبها منها «ولكنها تنامت يف مخيلته‪ ..‬ابتدأ‬ ‫حميد والفنانة ماجدولين حنا والشاعر شريف الزمييل‬
‫باالستفهام‪ ،‬مل ال تولد عىل شكل رواية؟ َو ِس َعت‬ ‫والشاعر ناهض الخياط والناقد قاسم عبد األمير‬
‫التأمالت‪ ،‬واستجابت املخيلة‪ ،‬وتكاملت األفكار‪..‬‬ ‫عجام والقاص والفنان حامد الهيتي‪ ..‬وغيرهم ممن‬
‫فاض النهر ملا امتزج صوت ناجح بصوت الناس‪،‬‬ ‫أسهموا يف تحريك األجواء الثقافية ليس عىل مستوى‬
‫كبر فضاء السرد وأفصحت األيام عن صدور روايته‬ ‫املحافظة فحسب‪ ،‬بل حتى يف بقية مدن الفرات‬
‫األوىل (النهر) سنة ‪ 1978‬عن وزارة الثقافة العراقية»‪.‬‬ ‫األوسط»‪( .‬ص‪)108‬‬
‫(ص‪ )116‬وضمن منشورات الوزارة صدرت له‬ ‫ً‬
‫واستكمال ملسيرة العمل الجماهيري فقد تنوعت‬
‫روايتان أخريان (شرق السدة شرق البصرة) سنة‬ ‫أساليب عمل املعموري يف استثمار قلمه النابض‬
‫‪ 1984‬و(مدينة البحر) سنة ‪.1989‬‬ ‫لترجمة ما يتدفق يف صدره من رغبة صادقة يف‬
‫ً‬
‫يبقى املفكر الباحث ناجح املعموري مشغول بما‬ ‫معالجة ذلك الواقع املتردي حيث «تصدى ناجح إىل‬
‫يتدفق يف مخيلته من رؤى ومثابات يتطلع من خاللها‬ ‫مهام العمل الصحفي عىل نطاق تنظيمات الحزب‬
‫إىل منتج له خصائص من شأنها أن تجذر تكوينه‬ ‫الشيوعي‪ .‬توىل رضا الظاهر يف البداية مسؤولية‬
‫املثيولوجي‪ ،‬يسعى إليه بما لديه من موروث شعبي‬ ‫املكتب الصحفي يف منطقة الفرات األوسط‪ ..‬وبعد‬
‫‪49‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫يمكن االشتغال عليه من خالل ما‬


‫بينهما من قواسم مشتركة‪،‬‬
‫«ألن املوروثات الشعبية تمثل‬
‫يف الحقيقة منج ًزا للغائبين‬
‫من البشر‪ ،‬فيها شيء من‬
‫الالمعقول‪ ،‬كما أنها ال تخلو من‬
‫الالمنطقي وبذلك فإنها ذات‬
‫خصائص تقترب من العتبات‬
‫البدئية واألساطير»‪( .‬ص‪)133‬‬
‫إن ما يفكر فيه املعموري وما‬
‫يسعى إليه الجتراح أسطورة‬
‫خاصة به‪ ،‬وما يبتكره من رموز‬
‫ودالالت إلغناء واقع يتناغم‬
‫مع األسطورة‪ ،‬هو أسطرة‬
‫الواقع بما لديه من قدرة عجيبة‬
‫أنضجتها معارفه التي حرص‬
‫فرانك أوكونور‬ ‫محمد مهدي الجواهري‬ ‫موفق محمد‬
‫عىل أن تكون مختبره الخاص‪،‬‬
‫يعالج فيه ما يرى أنه يضيف إىل منجزه اإلبداعي‪،‬‬
‫غرائبي وظريف‪ ،‬نقرأ ونكتب وسط جهنم عراقية‪،‬‬ ‫فضل عما يضيفه هو إىل املكتبة العربية من أطاريح‬ ‫ً‬
‫مختلفة عن جهنمات مجاورة‪ .‬هذا إصرار من أجل‬ ‫من شأنها أن تدعو إىل التفكير يف الواقع املعاصر‬
‫الهوية الحقيقية التي تحاول قوى العدوان تشويهها‬ ‫وقراءته عىل وفق مؤشرات املعموري التي تبرز يف‬
‫وتلويثها‪ ،‬وسندافع عن مكان هو الرحم لكل أحالمنا‬ ‫حيويته‪ ،‬وتعاظم همته وغزارة ما ينتجه يف ميدان‬
‫وطموحاتنا‪ ،‬مكان نلوذ به منه‪ ،‬ونحتمي بقوة الشعر‬ ‫البحث األسطوري‪ ،‬الذي يرى فيه ضالته برغم ما فيه‬
‫الكامنه فيه حتى يتحقق لنا الخالص»‪( .‬ص‪)165‬‬ ‫وخطيرا‬
‫ً‬ ‫حكيما‬
‫ً‬ ‫قرارا‬
‫من تعقيد وهو القائل «اتخذت ً‬
‫ليس هذا هو حلم املعموري فحسب‪ ،‬بل له أحالمه‬ ‫بأن ابتعد بالكامل عن كتابة الرواية ألني اكتشفت‬
‫التي تنعش الثقافة يف بلد أصبح الكتاب الجريء‬ ‫املتعة التي توفرها املعرفة للباحث إذا استطاع أن‬
‫محظورا‪ ،‬وهذا ما دعاه إىل السفر إىل األردن‪،‬‬
‫ً‬ ‫فيه‬ ‫يمسك بخيوط ما ينوي التسلل إليه‪ ،‬وعملية التسلل‬
‫«فال غرابة إذا ما لفت ناجح النظر إىل سعة ثقافتة‬ ‫إىل األسطورة عملية معقدة»‪( .‬ص‪)151‬‬
‫املتفتحة وفرض حضوره املتمايز يف قاعة محاضرات‬ ‫ما الذي يكمن وراء رغبة املعموري يف التسلل إىل‬
‫محاضرا‪ ..‬بما يضفي عليها‬
‫ً‬ ‫سواء كان مستم ًعا أو‬ ‫األسطورة؟ وهو الحامل أب ًدا ‪-‬وكأنه يجسد مقولة‬
‫من تعقيبات ونقاشات حوارية وجدل بطريقة جذابة‬ ‫لينين‪ :‬الحياة بحاجة إىل إنسان حامل‪ -‬الحامل‬
‫‪-‬وهو القائل‪ :-‬تحولت إىل محاضر يف جاليري الفينيق‬ ‫بمستقبل أفضل وللمثقف بشكل خاص لوعيه بما‬
‫عن (املسكوت عنه يف ملحمة جلجامش) وتميزت تلك‬ ‫ألقالم املثقفين من دور يف تعميق الوعي‪ ،‬وتبصير‬
‫األمسية بزحمة املكان واستقطاب كثير من العراقيين‬ ‫اآلخرين بقوة اإلبداع‪ ،‬وما له من دور يف ترصين‬
‫الوافدين إىل عمان صيفًا واملوجودين فيها‪ ،‬وكانت‬ ‫وحدة املناهضين لكل ما ينال من إنسانية العراقي‪،‬‬
‫املحاضرة عاصفة غطتها الصحف األردنية بعد ثالثة‬ ‫يفت ذلك يف عضده وهو يصرخ فيهم‪« :‬سنظل‬ ‫مل ُّ‬
‫أيام»‪( .‬ص‪)168‬‬ ‫نكتب ونحلم ولن نتعطل عن الحلم‪ ،‬ألن إنسانيتنا‬
‫أدرك املعموري ما للكتاب من دور يف تعزيز الوعي‬ ‫تنتهي يف اللحظة التي تموت فيها ذاكرتنا‪ ،‬وتنطفئ‬
‫الثقايف‪ ،‬السيما التنويري منها‪ ،‬مما يتعذر توفيره يف‬ ‫تماما أحالمنا‪ ،‬نحن نعيش اآلن ولكن بصعوبة وتعب‬ ‫ً‬
‫‪50‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫إن املفكر املبدع ناجح املعموري وقد تنوعت اشتغاالته‬ ‫ولتحسن وضعه املادي بعد عودته‬ ‫ُّ‬ ‫املكتبات املحلية‪،‬‬
‫وما أسفر عنها من أعمال هي حصيلة أكثر من‬ ‫من األردن «أوىف بوعده البنه البكر (وهب) حيث م َّكنه‬
‫نصف قرن استثمرها يف ترصين قامة ثقافية لها من‬ ‫ماد ًّيا من استئجار شقة‪ ..‬وشراء جهاز استنساخ‬
‫الوعي الثقايف والقدرة الفائقة عىل البحث والتقصي‬ ‫من النوع الحديث‪ ..‬وباشر بعملية استنساخ الكتب»‪.‬‬
‫يف جذور اإلبداع عبر رؤى مميزة‪ ،‬جسدها يف‬ ‫(ص‪)170‬‬
‫بحوث ميدانية ضمت اشتغاله امليثولوجي فكانت «يف‬ ‫وال تخفى خطورة ما يقوم به املعموري وولده وهب‪،‬‬
‫طليعة الدراسات العربية الحديثة التي عنيت بناحية‬ ‫ولكنها تهون من أجل تأمين ما يترقبه املثقفون‬
‫التشابك القائم بين ميثولوجيات الشرق (العراقية‬ ‫التقدميون من زاد ثقايف بعينه ضمن ما يقومان‬
‫واملصرية والكنعانية)‪ ..‬واستجالء العالقة املتداخلة‬ ‫به م ًعا لكسر الحصار الثقايف‪« .‬صار ناجح يشعر‬
‫مع النصوص التوارتية املولدة‪ ..‬إن مشروع املعموري‬ ‫بالفخر حين يرى الكتب تتسرب من بين يدي ولده إىل‬
‫املعريف قد تشكل بمرور الزمن‪ ..‬باملثابرة عىل الحرث‬ ‫الشارع الثقايف مدر ًكا حاجة املجتمع لكتب بعينها عىل‬
‫يف أرض بكر»‪( .‬ص‪)213‬‬ ‫شاكلة طباعة أعداد كبيرة من ديوان الشاعر موفق‬
‫وللمعموري يف الدراسات امليثولوجية ‪ 16‬مؤلفًا يمكن‬ ‫محمد (عبد يئيل)‪ ،‬وكتب حنا بطاطو ومؤلفات عيل‬
‫الرجوع إليها يف الصفحتين (‪« )215 ،214‬دون أن‬ ‫الوردي ومذكرات الجواهري»‪( .‬ص‪)171‬‬
‫نغفل عن التذكير بأن محتويات بعض الكتب متشابكة‬ ‫إن ما يراه املعموري عند تناول األسطورة عبر عتبات‬
‫تشتمل عىل مواضيع متعددة تندرج ضمن أكثر من‬ ‫املأثورات الشعبية ورموزها وتقصي مدلوالتها وأثرها‬
‫أول ملحمة كلكامش‪ ،‬ثانيًا النصوص‬ ‫محور‪ ،‬وهي ً‬ ‫فيما هو منتج عىل الساحة األدبية وما يرافقه من‬
‫التوارتية‪ ،‬ثالثا الجنس» (ص‪ )233‬وهذا ما سأتركه‬ ‫تشخيص ما هو مستلهم من تلك املوروثات وما هو‬
‫للقارئ لالطالع عليه ألني عىل يقين أن اإلشارة إليه‬ ‫فعل مغاير يهدف إىل بيان رموزه ودالالته‪.‬‬
‫بإيجاز ال تفسده فحسب‪ ،‬بل تحرم القارئ من متعة‬ ‫واألسطورة لدى املعموري «مغامرة الشعوب األوىل‬
‫مرافقة املعموري يف اشتغاالته النقدية يف الدراسات‬ ‫يف إنتاجها لنصوصها املسجلة لعقائدها وطقوسها‬
‫امليثولوجية‪ .‬واملحاور الثالثة ضمن الصفحات من‬ ‫ومزاوالتها السحرية بوصفها تبد ًيا للمخيال اإلنساني‬
‫الذي استطاع به إنتاج رموزه وأنماطه األصلية األوىل‪،‬‬
‫تلك الرموز واملجازات التي فتحت ﺁفاقًا لإلبداع‪،‬‬
‫وحصرا الفن والشعر»‪( .‬ص‪)185‬‬ ‫ً‬
‫وللمعموري عالقة فريدة مع األسطورة‪ ،‬فبالرغم من‬
‫اشتغاله عىل الكشف عن متونها وتقصي ما يتميز‬
‫منها فيما يبدعه األدباء والفنانون وهو العامل والعارف‬
‫خباياها وأسرارها فهي تبهره بسطوتها حيث يقول‬
‫«تثير األسطورة دهشتي وأنا أكتشفها يف األنواع‬
‫األدبية والفنون‪ :‬الشعر‪ /‬السرد‪ /‬التشكيل‪ /‬النحت‪/‬‬
‫ً‬
‫متورطا‬ ‫ودائما ما أجد نفسي‬
‫ً‬ ‫الفوتوغرافيا‪ ..‬إلخ‪،‬‬
‫يف البحث عنها والركض وراءها يف املرايا املختلفة‪،‬‬
‫طويل بذلك‪ ،‬فصدر يل أكثر من كتاب يف هذا‬ ‫ً‬ ‫وانشغلت‬
‫املجال»‪( .‬ص‪)193‬‬
‫أجل لقد أصدر املعموري ‪ 17‬كتا ًبا ‪-‬يمكن الرجوع‬
‫فضل عن العديد‬ ‫ً‬ ‫إليها يف الصفحات ‪،195 ،194 ،193‬‬
‫من املخطوطات‪ ،‬واملقاالت املنشورة يف الصحف‬
‫واملجالت العراقية والعربية‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫تدخل يف املجاالت الثقافية واملعرفية كلها ومل ت ُعد‬ ‫ص‪ 233‬إىل ص‪.262‬‬
‫تعني النص فقط‪ ..‬هي ثقافة عامة وشاملة وإن العقل‬ ‫بعد تلك الجولة املمتعة التي اصطحبنا فيها الباحث‬
‫البشري اآلن يوظفها وسيستمر بفعل ذلك مبد ًعا‬ ‫واملؤرخ أحمد الناجي عبر فصوله السبعة املاضية‬
‫ومطورا لها»‪( .‬ص‪)268 -267‬‬ ‫ً‬ ‫ليصل بنا إىل عتبة الفصل األخير (االشتغال الفكري)‬
‫للمفكر والباحث ناجح املعموري من البحوث يف‬ ‫فيشير إىل «أن املعموري عميق الفهم‪ ،‬غزير االنتاج‪،‬‬
‫ميادين إبداعه ما هو جدير بالتناول بحثًا ودراسة‬ ‫مثابر عىل متابعة كل ما يتعلق بالشأن الثقايف‪ ..‬يويل‬
‫الستقصاء اشتغاله عىل املرويات وما يرى فيها من‬ ‫عناية فائقة بتقديم قراءات تناول فيها عدي ًدا من‬
‫وجهة نظر ال نقدية فحسب وإنما يعمل عىل كشف‬ ‫الظواهر الثقافية‪ ،‬باإلضافة إىل بعض الكتب املعنية‬
‫أصولها امليثولوجية وأصداء تلك األصول‪ .‬و»يرصد‬ ‫بشؤون الثقافة والفكر املرتبطة بالعلوم اإلنسانية‪،‬‬
‫الناقد فاضل ثامر بعين العارف بأدق تفاصيل املنجز‬ ‫كاملثيولوجيا والسوسيولجيا»‪( .‬ص‪)265‬‬
‫األدبي والثقايف العراقي تجليات بصمات املعموري‬ ‫واملفكر الناقد والباحث ناجح املعموري حين يتصدى‬
‫املتمايزة والواضحة يف مجال الدراسات البحثية‬ ‫إىل ما يف الشرق من حضارات فإنه يرصدها بعين‬
‫والقراءات النقدية فهو يقول‪ :‬هذا الجهد البحثي‬ ‫الخبير‪ ،‬العارف بما يشتبك منها مع األساطير‪ ،‬ومنها‬
‫والنقدي لألستاذ ناجح املعموري يف حفرياته املعرفية‬ ‫ما ينفتح عليها بما يخلق من أجواء ساحرة برائحة‬
‫الجريئة يواجه بشجاعة ومسؤولية قضايا خطيرة‬ ‫التاريخ متناغمة مع ﺁفاق املستقبل‪ ،‬فاملعموري «حاول‬
‫كرستها (املرويات الكبرى) عبر التاريخ منها عالقة‬ ‫رصد التحوالت الثقافية يف فكر حضارات الشرق‬
‫املقدس بالعادي‪ ،‬ومكانة الجسد يف ثقافتنا‪ ..‬والسعي‬ ‫القديمة متصد ًيا إىل تقديم قراءات عن السرديات‬
‫الكتشاف األصول امليثولوجية واملعرفية يف مظاهر‬ ‫فضل عن األساطير واملالحم يف‬ ‫ً‬ ‫الساللية الكبرى‪..‬‬
‫حياتنا املعاصرة»‪( .‬ص‪)273‬‬ ‫مختلف حقبات التاريخ الالحقة‪ ..‬وانزياحات تلك‬
‫يا لها من جوالت ممتعة وغنية مع الباحث واملؤرخ‬ ‫األساطير يف مجمل منظوماتنا الثقافية واالجتماعية‪..‬‬
‫أحمد الناجي من مجرة إىل أخرى يف فضاءات‬ ‫حريصا عىل بيان ذلك التعالق‬
‫ً‬ ‫لذلك نرى املعموري‬
‫مع الفكر األسطوري‪ ..‬حيث يقول‪ :‬إن األسطورة اآلن‬
‫املعموري واشتغاالته‪ ،‬بلغة صافية صفاء روحه‬
‫صلبة‬ ‫املتوثبة لخدمة محبوبته الكلمة الطيبة بعزيمة ُ‬
‫وهو يتابع ببراعة وصبر ثمانين كتا ًبا وأكثر من‬
‫فضل عن العديد من املجالت العراقية‬ ‫ً‬ ‫مئة صحيفة‬
‫والعربية وشبكة املعلومات الدولية واملقابالت مع‬
‫مجاييل املعموري‪ ..‬أنجز مشروعه هذا عينًا مبصرة‬
‫لإلبداع ولبنة رصينة يف صرح املكتبة العربية بدقة‬
‫متناهية تحاكي نبض قلبه الذي شغفه البحث الجاد‪،‬‬
‫فضل عن براعة يف تبويب فصوله‪ ،‬وربان ذلك كله‬ ‫ً‬
‫ذاكرته التي مل تغفل ما لقامة املفكر والباحث البارز‬
‫ناجح املعموري من إسهام فاعل يف إغناء املشهد‬
‫الثقايف مجس ًدا بذلك قيمة إنسانية عليا متمثلة بالوفاء‬
‫لرموز عراق الحضارات واالمجاد‬

‫____________‬
‫* لسان العرب‪ ،‬لإلمام العالمة ابن منظور‪ ،‬املجلد‬
‫السادس (ص‪.)702‬‬
‫‪52‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫د‪.‬عايدي علي جمعة‬

‫«قطارها المسافر إلى الشمال»‪..‬‬


‫والتمثيل الرمزي للعالم‬
‫طول الفترة الزمنية التي يغطيها السارد واتساع الرقعة المكانية قد يكون‬
‫مرشحا أكثر لتضخم الرواية‪ ،‬ولكننا نجد اكتنازًا في كتلتها السردية‪ ،‬حيث‬‫ً‬
‫يستغرق كل ذلك ‪ 127‬صفحة مع بنط كتابي كبير وفراغات كثيرة‪ ،‬مما‬
‫يشير إلى قفزات زمنية ينهض الحذف باإلشارة إليها‪ .‬وهنا على القارئ أن‬
‫يحفز قواه القرائية لينهض بملء هذه الفجوات‪ ،‬ولكن ال يوجد قارئ واحد‬
‫في الرواية‪ ،‬وإنما عدد كبير ج ًّدا من القراء المختلفين‪ ،‬ولكل قارئ بالتالي‬
‫طريقته في ملء الفجوات‪.‬‬

‫ومن هنا تظهر ثيمة الرحلة بوضوح من خالل هذا‬ ‫تقع رواية «قطارها املسافر إىل الشمال» للروائي‬
‫العنوان‪ ،‬ومن املعروف أن ثيمة الرحلة يعتبرها‬ ‫املصري إسماعيل األسواني يف ‪ 127‬صفحة‪ ،‬وهي‬
‫يونج من النماذج األصلية التي تمتلك رصيدها‬ ‫رواية منشورة يف الدار العاملية للنشر والتورزيع‬
‫الرمزي الكبير يف الالشعور الجمعي‪.‬‬ ‫الطبعة األوىل عام ‪.2021‬‬
‫والرحلة هنا هي رحلة األنثى‪ ،‬وهنا تلتمع يف ذهن‬ ‫يتكون العنوان يف كلماته الظاهرة من خمس كلمات‪،‬‬
‫املتلقي صورة الحبيب الذي تفارقه حبيبته وترحل‬ ‫وهذه الكلمات الظاهرة ال تنهض وحدها بتكوين‬
‫عبر القطار إىل الشمال‪ ،‬ويطل يف البنية العميقة‬ ‫جملة‪ ،‬وإنما يحتاج األمر إىل تدخل املتلقي من أجل‬
‫التراسل مع رواية الطيب صالح موسم الهجرة إىل‬ ‫إنتاج جملة مفيدة‪ ،‬ومن املالحظ أن هذا العنوان‬
‫الشمال‪ ،‬كما تطل يف البنية العميقة صورة القطار‬ ‫به أربعة أسماء‪ ،‬وحرف جر‪ ،‬فاالسم األول وهو‬
‫الراحل بالحبيبة عبر أفالم سينمائية لها رصيدها‬ ‫قطار يشير إىل وسيلة عصرية من وسائل السفر‬
‫يف الوجدان الجماعي‪.‬‬ ‫املعروفة‪ ،‬واالسم الثاني وهو الضمير يشير إىل‬
‫ومن هنا فإن القارئ يدخل إىل عامل النص ولديه‬ ‫األنثى‪ ،‬ويتفاعل مع االسم األول الذي ينتمى إىل‬
‫أفق توقع ملا يدور يف داخله وذلك من خالل اكتناز‬ ‫عنصر الذكورة رغم جماديته‪ ،‬واالسم الثالث وهو‬
‫العنوان لهذا الزخم الداليل املتنوع‪.‬‬ ‫املسافر اسم فاعل ومن املعروف ان اسم الفاعل‬
‫فإذا غادرنا العنوان لندخل إىل عامل الرواية فإننا‬ ‫ينهض يف داللته بدور الفعل بما يمثله من حركة‪،‬‬
‫نجدها تتكون من عشر كتل سردية‪ ،‬كل كتلة منها‬ ‫واالسم الخامس الشمال يدل عىل الجهة‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫لها رقم بجانبه عنوان لها‪ ،‬ومن خالل هذه الكتل‬


‫يتشكل عاملها‪ ،‬فنجد أن بنيتها الكبرى تتحدد من‬
‫خالل سارد بالضمير األول (أنا) يستحضر يف‬
‫بنيته النصية مسرودة لها‪ ،‬وتظهر عالقة متينة‬
‫بينهما هي عالقة االبن بأمه‪ ،‬حيث نجد هذا االبن‬
‫يحكي باألساس قصة أمه‪ ،‬وإشكالية وجودها يف‬
‫هذا العامل‪.‬‬
‫ونتبين أن هذه األم اسمها فاطمة ولدت ألب‬
‫مصري كان من أسرة ميسورة ولكنه يعمل‬
‫بالتعليم‪ ،‬ويترك بلده وأسرته ليرحل إىل الجنوب‬
‫يف السودان ويلتقي بأثيوبية لها طفل صغير كانت‬
‫تعمل بالتمريض ويتزوجها رغم عدم معرفته‬
‫بلغتها‪ ،‬وينجب منها فاطمة‪ ،‬ولكنها تترك ابنتها‬
‫منه وترحل بعد معرفتها بأن زوجها األول مل يمت‬
‫يف الحرب كما كانت تظن‪ ،‬وإنما عاد إىل وطنه يف‬
‫أثيوبيا بعد انهزام اإليطاليين يف الحرب‪ ،‬وأنه يبحث‬
‫كارل جوستاف يونج‬ ‫الطيب صالح‬
‫عنها‪ ،‬فرجعت عىل الفور له ومل تخبره بزواجها من‬
‫غيره وإنجابها بنتًا‪ ،‬وتعيش معه يف بحبوحة من‬
‫من زوج أختها يف مصر يدعوها لحضور فرح‬ ‫العيش‪.‬‬
‫ابنته‪ ،‬فتسافر مصطحبة أوالدها وتلتقي بعائلتها يف‬ ‫يعود األب بابنته الطفلة ذات الثالث سنوات‬
‫كثيرا‪ ،‬وذلك عبر القطار الذي‬
‫ً‬ ‫مصر بعد فراق طال‬ ‫التي تحمل سمرة وجه أمها‪ ،‬فتربيها زوجته مع‬
‫ً‬
‫شمال‪.‬‬ ‫يتجه من السودان جنو ًبا إىل مصر‬ ‫أوالدها منه وتتفوق يف الدراسة وتصبح آية من‬
‫ويتعرف ابنها من خالل الفيس بوك عىل جروب‬ ‫مهندسا‬
‫ً‬ ‫آيات الجمال‪ ،‬وتتزوج من سوداني يعمل‬
‫الباشكاتب الذي يضم عائلته‪ ،‬ويفاجأ بمدى‬ ‫زراعيًّا يف مصر‪ ،‬ويشترط عليه أبوها عدم مغادرته‬
‫األواصر العائلية التي تجمع عائلة واحدة تعيش يف‬ ‫مصر‪ ،‬وتنجب منه ابنًا ينهض بعبء السرد يف هذه‬
‫مصر والسودان وأثيوبيا‪.‬‬ ‫الرواية‪.‬‬
‫تتجسد الشخصية املحورية يف هذه الرواية من‬ ‫ولكن ثورة ‪ 23‬يوليو عام ‪ 1952‬تفصل السودان‬
‫خالل شخصية فاطمة التي تنتمي ألب مصري وأم‬ ‫عن مصر مما يضطر الزوج لترك عمله ويعود‬
‫أثيوبية وتتزوج من شخصيتين سودانيتين وتنجب‬ ‫مصطحبًا زوجته املحبة إىل السودان‪ ،‬وهناك تفتر‬
‫ً‬
‫أطفال‪.‬‬ ‫منهما‬ ‫عواطفه ناحيتها ويتم الطالق‪ ،‬فتتزوج من زميل‬
‫أخذت هذه الشخصية الكثير من الكتل السردية يف‬ ‫لها يف التدريس الذي تقوم به‪ ،‬وتكتشف أن لها‬
‫الرواية‪ .‬وسار السرد معها منذ ما قبل طفولتها‬ ‫أ ًّما أثيوبية وصل زوجها إىل درجة وزير‪ ،‬ولها‬
‫وحتى تقدمها يف العمر‪ ،‬وتبدو مالمحها الجسدية‬ ‫أخوة من األم لهم مناصب رفيعة يف بالدهم‪ ،‬ولكن‬
‫عبر السرد وهي آية صارخة من آيات الجمال رغم‬ ‫الثورة يف أثيوبيا تطيح باإلمبراطور وأعوانه‪،‬‬
‫نابضا باملفاتن‪،‬‬
‫ً‬ ‫سمرتها الداكنة‪ ،‬ويبدو جسدها‬ ‫فتسافر مع زوجها إليها وتتعرف عىل أمها‪ ،‬ولكن‬
‫كما تتميز هذه الشخصية بالذكاء والفصاحة‪ ،‬وهي‬ ‫أمها تطلب منها كتمان األمر ألنها مل تخبر أسرتها‬
‫شخصية إيجابية لديها القدرة عىل اتخاذ القرار‪،‬‬ ‫بأن لها بنتًا من أب مصري اسمها فاطمة‪ ،‬وتفاجأ‬
‫فقد استطاعت إقناع والدها باملوافقة عىل ارتباطها‬ ‫أيضا‪.‬‬
‫فاطمة بأن لها أختًا أثيوبية اسمها فاطمة ً‬
‫باملهندس الزراعي حمد اهلل عىل الرغم من أنه‬ ‫عاما تصلها دعوة‬ ‫وبعد غربتها يف السودان ثالثين ً‬
‫‪54‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫غاية الصحة وهي محبة لزوجها األثيوبي عاشقة‬ ‫سوداني‪ ،‬وهناك تخوف لدى والدها من أخذها إىل‬
‫له‪ ،‬تركت زوجها املصري حين علمت بأنه عىل قيد‬ ‫السودان فتكون ابنته غريبة عنه‪ ،‬كما أن إيجابيتها‬
‫الحياة ومل يمت يف الحرب‪ .‬وتركت ابنتها مع أبيها‬ ‫تبدو يف تصميمها عىل السفر إىل أثيوبيا ‪-‬رغم‬
‫ورحلت‪.‬‬ ‫القالقل فيها‪ -‬حتى ترى أمها التي تركتها وهي ابنة‬
‫وهي نموذج لحالة الصعود والهبوط التي يعيشها‬ ‫ثالث سنوات فقط وال تكاد تذكرها‪.‬‬
‫اإلنسان عبر حياته‪ ،‬فمرة نراها يف القاع تعاني‬ ‫وتبدو إيجابيتها يف نجاحها يف تعليم األطفال‪.‬‬
‫املطاردة وشظف العيش‪ ،‬ومرة نراها يف القمة‬ ‫أما شخصية والدها فهو نموذج لإلنسان املصري‬
‫زوجة لوزير وأم لضابط كبير يف الجيش‪ ،‬ومرة‬ ‫املتعلم يف هذه الفترة‪ ،‬والذي يمتلك شخصية قوية‬
‫أخرى يتم القبض عىل زوجها وابنها‪ .‬وهي‬ ‫إىل حد كبير‪ ،‬فإذا دخل بيته سكت ضجيج األبناء‬
‫شخصية لديها القدرة عىل اتخاذ القرار‪ ،‬حتى وإن‬ ‫فورا‪ ،‬وله هيبة يحرص عليها يف نفوس أبنائه‪.‬‬ ‫ً‬
‫كان قرارها سيعود بالسلب عىل ابنتها ذات الثالثة‬ ‫وهو يمتلك رزانة يف السلوك واألخالق‪ ،‬ويبدو‬
‫أعوام‪.‬‬ ‫حريصا عىل توفير سبل العيش‬ ‫ً‬ ‫محاف ًظا عىل بيته‬
‫أما عن طبيعة املكان ودوره البنائي يف هذه الرواية‬ ‫الكريمة لهم‪ ،‬متاب ًعا لألحداث السياسية والثقافية‪،‬‬
‫فإننا نرى الدور الفاعل للمكان بصورة واضحة‪،‬‬ ‫ومع ذلك ال ينسى نفسه‪ ،‬فعندما رأى نفسه بعي ًدا‬
‫وال يخفى دوره البطويل يف الرواية وأثره الكبير‬ ‫معلما يف السودان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عن زوجته وأوالده‪ ،‬وهو يعمل‬
‫عىل الشخصيات وحركة الحدث‪ .‬ونستطيع أن نرى‬ ‫تزوج دون علمهم من أثيوبية‪ ،‬وأنجب منها ابنته‬
‫التحقق املكاني عبر كتلة مكانية كبيرة ومتعددة‪،‬‬ ‫فاطمة بطلة هذه الرواية‪ ،‬ومل يلجأ لسبل الحرام يف‬
‫ولكنها يف معظمها مرتبطة بنهر النيل‪ ،‬سواء يف‬ ‫العالقة‪.‬‬
‫مصر أم يف السودان أم يف إثيوبيا‪ .‬وهنا يبدو أثره‬ ‫وتبدو صحته عىل مدار الرواية حسنة ما عدا الفترة‬
‫الكبير يف بث داللة الوحدة والتنوع بين الشعوب‬ ‫األخيرة من حياته‪ ،‬حيث مات بسبب حساسيته‬
‫الثالثة التي عاشت حوله وتقاسمت خيره‪.‬‬ ‫املفرطة حينما غادرت ابنته مع زوجها دون علمه‪،‬‬
‫كبيرا من الحكي‬
‫ً‬ ‫محورا‬
‫ً‬ ‫يأخذ املكان يف السودان‬ ‫شعورا رهيبًا بأن سلطته كأب عىل أبنائه‬ ‫ً‬ ‫فشعر‬
‫أيضا ويقل عنهما املكان يف أثيوبيا‪ .‬لقد‬
‫ويف مصر ً‬ ‫كظيما‪ .‬وقد أخذت هذه‬‫ً‬ ‫قد انهارت‪ ،‬فمات حزينًا‬
‫بدا املكان يف السودان هو املحور الجامع يف كثير‬ ‫الشخصية الكثير من الكتل السردية‪ ،‬ولكنها مل‬
‫من األحيان‪ ،‬فقد اشتبكت عىل أرضه‪ ،‬شخصيات‬ ‫تستمر حتى نهاية الرواية‪ ،‬فقد مات قبل نهايتها‬
‫من الدول الثالث‪ .‬واملكان يف الرواية دائما ينتمي‬ ‫بكثير‪ .‬وهي شخصية مصرية خالصة‪.‬‬
‫لعنصر اليابس‪ ،‬وغالبا ما يرتبط باملدن‪ ،‬فمدينة‬ ‫وهناك شخصية ميهاري أم فاطمة األثيوبية‪ ،‬وهي‬
‫الخرطوم كان لها تجليات سردية‬ ‫شخصية أثيوبية خالصة‬
‫واضحة‪ ،‬وهي مدينة سودانية‬ ‫ولكنها ذهبت إىل السودان‬
‫كبيرة تقع عىل نهر النيل بفرعيه‪:‬‬ ‫بسبب القالقل يف أثيوبيا‬
‫النيل األبيض والنيل األزرق‪.‬‬ ‫واشتعال الحروب الطاحنة‬
‫وتظهر يف هذه الرواية باعتبارها‬ ‫كتل‬‫فيها‪ ،‬وهي مل تأخذ ً‬
‫مكانًا جام ًعا لشخصيات مختلفة‪،‬‬ ‫كثيرة من السرد‪ ،‬ولكنها‬
‫وليس بالضرورة أن تكون هذه‬ ‫كانت موجودة بصورة ما من‬
‫الشخصيات تنتمي للسودان فقط‪،‬‬ ‫خالل شخصية ابنتها‪ ،‬حيث‬
‫وإنما تجمع شخصيات محورية‬ ‫دائما ما تطل بجملة‬
‫كانت ً‬
‫أيضا‪ ،‬بل إن‬
‫من مصر وأثيوبيا ً‬ ‫هنا أو جملة هناك‪ ،‬لتذكرنا‬
‫الشخصية املحورية فيها‪ ،‬وهي‬ ‫دائما بأن فاطمة أمها أثيوبية‪.‬‬
‫ً‬
‫شخصية فاطمة‪ ،‬ليست سودانية‪،‬‬ ‫وتبدو مالمحها الجسدية يف‬
‫يبدو المكان أيضا في هذه الرواية‬
‫وإنما أبوها مصري وأمها أثيوبية ومتزوجة‬
‫ملي ًئا بالخصوبة‪ ،‬فهو مكان ينتمي‬
‫عىل التوايل من شخصيتين سودانيتين‪،‬‬
‫إلى األرض الطينية الخصبة التي‬ ‫وأوالدها بالتايل ينتمون ألب سوداني وأم‬
‫مصرية‪.‬‬
‫شكلها نهر النيل على مدار القرون‪.‬‬
‫ومن املالحظ أن العالقة بين املصري‬
‫وهو في الغالب مكان آمن‪ ،‬في‬ ‫كثيرا‪ ،‬وإنما هجرت‬
‫ً‬ ‫واألثيوبية مل تستمر‬
‫ميهاري األثيوبية زوجها املصري تاركة له‬
‫السودان ومصر‪ ،‬ولكنه غير آمن في‬
‫ابنته وهي ذات ثالثة أعوام فقط‪ ،‬يف حين‬
‫أثيوبيا‪ ،‬فمعظم السرد الذي يتفاعل‬ ‫استمرت العالقة الزوجية بين السوداني‬
‫واملصرية‪ ،‬وهي وإن كانت قد انقطعت مع‬
‫مع المكان في أثيوبيا يكشف عن‬
‫الزوج األول فإنها ما لبثت أن اتصلت مرة‬
‫حروب وقالقل‪ ،‬تصل إلى الذروة حيث‬ ‫ثانية بصورة أقوى مع زوج سوداني آخر‪.‬‬
‫وال يخفى اإلسقاط يف هذه العالقة عىل الواقع‬
‫مشاهد القتل والترويع‪.‬‬
‫املعاصر‪ ،‬يف إشارة إىل متانة وقوة الرابطة‬
‫بين مصر من ناحية والسودان من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬يف حين نجد هذه العالقة مقطوعة بين‬
‫سدة الحكم من خالل ثورة يوليو ‪ 1952‬وما تبعه‬
‫مصر من ناحية وأثيوبيا من ناحية أخرى‪ ،‬وقد كان‬
‫من قلق بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب‪،‬‬
‫التصوير الرمزي يف هذه الرواية ذا داللة‪ ،‬فحين‬
‫ولكن يف النهاية ال يصل ذلك إىل مشاهد دامية‪.‬‬
‫ذهبت فاطمة املصرية مصطحبة زوجها السوداني‬
‫ومن هنا فقد كان السرد كاشفا عن طبيعة الرقعة‬
‫إىل أمها األثيوبية قامت األم بقطع العالقة خوفًا من‬
‫املكانية التي يتفاعل معها‪ ،‬حيث بدت خصوصية كل‬ ‫إحداث قلق لزوجها وعائلته الثرية‪ .‬ذلك عىل الرغم‬
‫رقعة سواء يف السودان أم يف مصر أم يف أثيوبيا‪.‬‬ ‫من حبها الشديد البنتها‪.‬‬
‫أما عن البنية الزمنية يف هذه الرواية «قطارها‬ ‫وهنا يتم استدعاء ما يحدث يف اللحظة الراهنة من‬
‫املسافر إىل الشمال» للروائي املصري إسماعيل‬ ‫حرص مصر والسودان عىل مل الشمل مع جارتهما‬
‫األسواني؛ فإن أهم ما يميزها هو استحضار‬ ‫أثيوبيا يف قضية سد النهضة األثيوبي‪ ،‬واإلصرار‬
‫املاضي‪ ،‬حيث نجد السارد وهو يف الرواية ابن‬ ‫الكبير من أثيوبيا عىل قطع كل الصالت والحلول‬
‫الشخصية املحورية (فاطمة) يستحضر املاضي من‬ ‫بالطرق السلمية رغم صلة الجوار والقربى‪.‬‬
‫خالل استحضار ضمير املخاطب يف حالته الفردية‬ ‫ويبدو املكان أيضا يف هذه الرواية مليئًا بالخصوبة‪،‬‬
‫«أنت»‪ ،‬ويقص من خالل ذلك االستحضار‬ ‫ِ‬ ‫األنثوية‬ ‫فهو مكان ينتمي إىل األرض الطينية الخصبة التي‬
‫ما حدث يف املاضي‪.‬‬ ‫شكلها نهر النيل عىل مدار القرون‪ .‬وهو يف الغالب‬
‫وقد كان السرد املتتابع هو املهيمن يف الغالب‪ ،‬ولكن‬ ‫مكان آمن‪ ،‬يف السودان ومصر‪ ،‬ولكنه غير آمن يف‬
‫هناك السرد العرضي‪ ،‬حيث يبدأ مع شخصية‬ ‫أثيوبيا‪ ،‬فمعظم السرد الذي يتفاعل مع املكان يف‬
‫فاطمة منذ ما قبل مولدها‪ ،‬ملقيًا الضوء عىل‬ ‫أثيوبيا يكشف عن حروب وقالقل‪ ،‬تصل إىل الذروة‬
‫شخصية والدها وتركه ألسرته وسفره يف رحلة‬ ‫حيث مشاهد القتل والترويع‪.‬‬
‫علمية إىل السودان من أجل التحسين املادي رغم‬ ‫وإذا كانت الكتل السردية املتفاعلة مع املكان يف‬
‫عدم حاجته الضرورية لذلك‪ .‬ولقائه بميهاري‬ ‫مصر ال تخلو من قلق أحيانًا؛ فإن هذا القلق يف‬
‫األثيوبية وطفلها وزواجه منها وإنجابه لفاطمة‪ .‬ثم‬ ‫املنطقة املأمونة وال يصل إىل فزع مشاهد القتل‬
‫تتابع السرد حتى زواج فاطمة وإنجابها وغربتها‬ ‫والترويع‪ .‬وقد رصد السرد بعض هذا القلق يف‬
‫عاما متصلة‪ ،‬ثم عودتها بأبنائها‬ ‫يف السودان ثالثين ً‬ ‫مصر عىل نحو ما نجد من تصويرها للصراع عىل‬
‫‪56‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫حيث نجد ارتدادات واضحة عىل نحو ما نجده يف‬ ‫ملصر يف القطار املسافر من السودان ملصر لتحضر‬
‫العودة بالذاكرة إىل الوراء من الشخصية املحورية‬ ‫فرح ابنة أختها‪ ،‬ثم سفر ابنها يف النهاية يف القطار‬
‫فاطمة‪ ،‬لتتذكر بعض األحداث مع زوجها األول‪ ،‬كما‬ ‫وعودته إىل السودان‪.‬‬
‫أن االستباقات الزمنية لها حضورها الواضح عىل‬ ‫ومن هنا فإن الزمن الخارجي قد استمر عبر‬
‫مرورا باالبنة‬
‫ً‬ ‫سنوات طويلة ج ًّدا فقد بدأ مع الجد‬
‫نحو ما نجده يف شخصية والد فاطمة حينما تركته‬
‫فاطمة التي أخذت أكبر نصيب من الكتل السردية‪،‬‬
‫زوجته األثيوبية ميهاري وتركت له ابنتها منه‪ ،‬فبدأ‬
‫كبيرا‪ ،‬ومن هنا فإن‬
‫ً‬ ‫منتهيًا بالحفيد الذي بلغ سنًّا‬
‫يفكر يف كيفية إخبار زوجته املصرية وأسرته يف‬ ‫هذه الرواية تتفاعل زمنيًّا مع ثالثة أجيال متصلة‪.‬‬
‫مصر عن هذه الطفلة الصغيرة السمراء‪.‬‬ ‫ولذا نرى إشارات سردية تدل عىل أننا يف عصر‬
‫ومن هنا فإن طول الفترة الزمنية التي يغطيها‬ ‫امللكية‪ ،‬حيث مصر والسودان وحدة واحدة يعمل‬
‫السارد بسرده واتساع الرقعة املكانية قد يكون‬ ‫املصريون يف السودان ويعمل السودانيون يف‬
‫مرشحا أكثر لتضخم الرواية‪ ،‬ولكننا نجد اكتنا ًزا‬
‫ً‬ ‫مصر بغير تفرقة‪ ،‬وقطار واحد يشق طريقه عبر‬
‫واضحا يف كتلتها السردية‪ ،‬حيث يستغرق كل ذلك‬ ‫الدولتين‪ ،‬ونجد إشارات سردية تدل عىل عصر‬
‫ً‬
‫‪ 127‬صفحة فقط مع بنط كتابي كبير ج ًّدا وفراغات‬ ‫ثورة يوليو وانفصال مصر عن السودان بسبب‬
‫صراع جمال عبد الناصر عىل الحكم مع محمد‬
‫كثيرة‪ ،‬مما يشير بوضوح إىل قفزات زمنية كبيرة‬
‫نجيب‪ .‬حيث كانت أم محمد نجيب سودانية وأبوه‬
‫ينهض الحذف باإلشارة إليها‪.‬‬ ‫مصري‪ ،‬فأراد جمال عبد الناصر حسب الرواية‬
‫وهنا عىل القارئ أن يحفز قواه القرائية لينهض‬ ‫التخلص من السودان الذي يقف هواه مع محمد‬
‫بملء هذه الفجوات الزمنية الواضحة‪ ،‬ولكن ال‬ ‫نجيب لينفرد هو بحكم مصر‪.‬‬
‫يوجد قارئ واحد يف الرواية‪ ،‬وإنما عدد كبير ج ًّدا‬ ‫كما نجد إشارات سردية إىل ما بعد فترة حكم‬
‫من القراء املختلفين‪ ،‬ومن هنا فإن لكل قارئ بالتايل‬ ‫جمال عبد الناصر‪.‬‬
‫طريقته يف ملء هذه الفجوات‪ ،‬وبالتايل تصبح هذه‬ ‫وإذا كان السرد التتابعي الدياكروني هو املهيمن‬
‫الرواية روايات بقدر عدد قرائها‪.‬‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫فإن السرد التزامني السينكروني ال نعدمه ً‬
‫حيث يقطع السارد التسلسل الزمني للسرد ليلقي‬
‫وقد أسهمت هذه البنية الزمنية مع البنية املكانية يف‬
‫الضوء عىل ميهاري األثيوبية وحياتها مع زوجها‬
‫الرواية يف حالة من التشويق ال يخطئها املتلقي‬
‫األثيوبي وأوالدها منه بعي ًدا عن املركز السردي‬
‫للشخصية املحورية (فاطمة) وعاملها الحكائي‪ ،‬وهذا‬
‫‪------‬‬ ‫التزامن بطبيعة الحال له صلة وثيقة بمركز الحكاية‬
‫* أستاذ األدب والنقد‪ ،‬كلية اإلعالم جامعة أكتوبر‬ ‫السردي‪.‬‬
‫للعلوم الحديثة واآلداب‪.‬‬ ‫كما أن الزمن الداخيل ال نعدمه يف هذه الرواية‪،‬‬
57
‫‪58‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫صالح بوسريف‬
‫(المغرب)‬

‫ِقطا ٌر في ُم ْن َت َصف ال َب ْحر‬

‫يك ْت ُك ُّل ُس ُرود ُهو ِم َ‬


‫ير‪.‬‬ ‫عل َس َدا ُه ِح َ‬
‫َ‬ ‫[‪]I‬‬

‫األو ِد َ‬
‫يسا‪،‬‬ ‫س إ َل ٍه َق ِدي ٍم‪.‬‬
‫إيج َة ن َْي َز ٌك َس َق َط ِم ْن َك ْأ ِ‬
‫َب ْح ُر َ‬
‫ِه َي َب ْح ُر َ‬
‫إيج َة‪،‬‬
‫ات عىل ْأموا ِه األو ْق َيان ِ‬
‫ُوس‪،‬‬ ‫َق ْب َل َأ ْن ت َْطفُو ُ‬
‫الحو ِر َي ُ‬ ‫َْ‬
‫ل َي ُك ْن ُهنَا‪،‬‬
‫يـ َن ال ِّطي ِن وا َملا ِء‪.‬‬ ‫يس ُي ُ ِ‬ ‫لِ َي ْب َقى أو ِد ْ‬ ‫ل َي ُك ْن ُهنَاااالِ َك‪.‬‬
‫َْ‬
‫وس َعالقًا َب ْ‬

‫احا‪،‬‬
‫ص َب ً‬ ‫َ‬ ‫يك ْت ِم ْن ِعنَبِ َك ْر َم ٍة‪،‬‬‫َخ ْم َرة ِح َ‬
‫إيج َة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ح‬ ‫ب‬
‫َ ْ‬ ‫ِ‬
‫اف‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ِ‬
‫ض‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ي‬‫ت‬‫ِ‬ ‫و‬‫ه‬‫ق‬‫َ‬
‫َ ُ َْ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫أش‬
‫ْ‬ ‫الو ُع َ‬
‫ول‪،‬‬ ‫َت اآللِ َه ُة ت َْر َعى ُ‬ ‫ِف ِظل ِّ َها َكان ِ‬
‫ات ِم ْن ن َْو ِم َها‪.‬‬‫ض الغَ ا َب ُ‬ ‫َق ْب َل ْ‬
‫أن َت ْن َه َ‬
‫يم ٍة ت َْب ُدو ال َق ْه َو ُة ىف لِ َسا ِني‪،‬‬
‫ِم ْث ُل َخ ْم َر ٍة َق ِد َ‬
‫اليو ِد يف َع ْين ََّي‬ ‫َر َوا ِئ ُح ُ‬ ‫إيج َة‪،‬‬
‫السف َُن ِف َب ْح ِر َ‬ ‫َم ْن َأ ْر َسى ُّ‬
‫ت َْس َت ِمي ُل َس ْم ِعي‪،‬‬ ‫يح ِف َما ِئ ِه‪،‬‬‫َم ْن َن َث َر ال ِّر َ‬
‫س ال َب ْح َر ِم ْن َش َر ِك‬
‫ِل َرى َك ْي َف اآللِ َه ُة َما َت َزالُ ت َْح ُر ُ‬ ‫يح ِف ا َملاء‪.‬‬ ‫َو َم ْن َرأى َأ َّن ْ‬
‫األشر َِع َة ِه َي َم ْن َت ْنف ُُخ ال ِّر َ‬
‫ات‪.‬‬ ‫الحو ِر َي ِ‬
‫ُ‬
‫يل‪:‬‬‫ِق َ‬
‫إيج َة َب ْ‬
‫يـ َن َي َد َّي‬ ‫َهاااا َ‬ ‫َام‪،‬‬‫أن َين َ‬ ‫إ َل ٌه َشر َِب َق ْب َل ْ‬
‫َك ِظ ِّل َك ْر َم ٍة‪،‬‬ ‫ِم ْن َع ْين َْي ِه َف َ‬
‫اض ا َملا ُء‪،‬‬
‫ار َها َس َق َط ْت ِف ا َملا ِء‬ ‫ِث َم ُ‬ ‫ل َي ْب ِك‪،‬‬‫َْ‬
‫وسي َقى ِف َحثِّ اآللِ َه ِة َع َل ال ِغنَا ِء‪.‬‬ ‫لِت َْش َر َع املُ ِ‬ ‫ض ِح َك‪،‬‬ ‫َ‬
‫ِس َاد ِت ِه‪.‬‬
‫ِس ت َُحل ِّ ُق َف ْوقَ و َ‬ ‫َو ُه َو َي َرى الن ََّوار َ‬
‫إيج َة ن ٌ‬
‫َاي‪،‬‬ ‫َ‬
‫َم ْن نَفخَ ِف َما ِئه‪ِ،‬‬ ‫إيج َة َل ْي َس َن ْه ًرا‪،‬‬
‫َب ْح ُر َ‬
‫أصل ِ ِه‬
‫َرأى َك ْي َف ال ِغنَا ُء ِف ْ‬ ‫إيج َة ن َْول‪ٌ،‬‬
‫َب ْح ُر َ‬
‫‪59‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫وس‪،‬‬ ‫يس ُي ُ‬ ‫أو ِد ْ‬ ‫األس ُط َ‬


‫ورةُ‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫َتقُولُ‬ ‫َك َ‬
‫ان َه َوا ًء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫يهة َملك ُمحارِبٍ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِب َب ِد َ‬
‫إيج َة‪،‬‬
‫أن ال َّط ْم َي ِف َ‬ ‫أ ْد َر َك َّ‬ ‫ُه َو ا َملا ُء‪،‬‬
‫َس َي ْعلُو َع َل ا َملا ِء‪.‬‬ ‫السف ُُن ا َملا َء‪.‬‬
‫ِيح ُّ‬
‫أن ت َْس َتب َ‬ ‫َق ْب َل ْ‬

‫ال َب ْح ُر َب َدا َياب َِس ًة‪.‬‬ ‫[‪]II‬‬


‫إيج َة‪،‬‬
‫ِف َ‬
‫َل ْي َس َ‬
‫إيج َة‪،‬‬
‫ِ‬
‫ُوس م ْن َز َب ٍد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َب ْعض َما َبق َي م َن األو ْق َيان ِ‬ ‫َْ‬
‫ل َت ُك ِن ال َق َوار ُِب َت ْنزِلُ ا َملا َء‪.‬‬

‫إيج َة‪،‬‬ ‫السف ُُن‪،‬‬


‫ل ت ََس ْع ُه ُم ُّ‬ ‫ون َ ْ‬ ‫املُ َحار ُِب َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َم َّر م ْن‬ ‫وس ِح َ‬ ‫يس ُي ُ‬ ‫أو ِد ْ‬
‫أس َم ُع ُه‪:‬‬
‫َ ْ‬‫ير‬ ‫م‬ ‫إز‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫يف‬ ‫ِ‬
‫ص‬ ‫ر‬‫ِم ْ َ‬
‫ن‬
‫الاااح‪،‬‬
‫ااااص ُ‬ ‫‪ -‬ق ُْم َي َ‬ ‫ُهنَا‪،‬‬
‫ِ‬
‫ت ََو َّك ْأ َع َل َمائي‬ ‫َع َل‬ ‫َف‬‫ل َي ُك ِن ال َّط ْو ُق ا ْلت َّ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫س الغَ َرقَ ِف ُز ْر َقتي‪،‬‬ ‫ا ْل َت ِم ِ‬ ‫َس ْه ِم ِه‪.‬‬
‫ُك ُّل َم ْن َغرقُوا ن ََج ْوا‪.‬‬
‫ال َق َوار ُِب التِي َج َاز َف ِت‬
‫‪َ -:‬م ْن َكل َّ َمنِي‪،‬‬ ‫اآللِ َه ُة ب َِم َجا ِد ِف َها‬
‫إيج َة‬
‫اف َ‬ ‫ض َف ِ‬ ‫َم ْن َع َر َف أ َّننِي َع َل ِ‬ ‫ا ْنت ََك َس ْت‪.‬‬
‫اح َأ ْش َر ُب َقـ ْه َو ِتي‪،‬‬ ‫ص َب ٍ‬ ‫ُك َّل َ‬
‫َو‬
‫َاب الل َّ ْي ِل والن ََّهارِ»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أق َْرأ «كت َ‬

‫إيج َة‪ِ ،‬ع ْن ِدي‪َ ،‬ك َ‬


‫ان‬ ‫أن َ‬ ‫س َّ‬ ‫أن َي ْح َد َ‬ ‫َم ْن َج ُرؤَ ْ‬
‫للمحا ِرب َ‬
‫ِين‪،‬‬ ‫َم ْس ًرى ُ‬
‫َو‬ ‫ ‬
‫ِ‬
‫يرتي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ َّننِي َوأنَا َأ ْكت ُُب َما َت َبقَّى م ْن س َ‬
‫ُك ْن ُت َسا َي ْر ُت ال َب ْح َر‪،‬‬
‫أضا ِهي ال َياب َِس َة‪،‬‬ ‫ِب ِه َ‬
‫وس عالِقًا ِف‬ ‫حتَّى ال َي ْب َقى أو ِد ْ‬
‫يس ُي ُ‬
‫أنْخَ ابِ اآللِ َه ِة‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫* مقطع من عمل شعري هو نص واحد متواصل‪،‬‬
‫كتبت جز ًءا مه ًّما منه عىل ضفاف بحر إيجة بمدينة‬ ‫ُ‬
‫إزمير التركية‪ ،‬عىل الحدود مع اليونان‪ .‬البحر الذي‬
‫قطعتُه يف رحلة استكشاف‪ ،‬واستعادة ملا كان عاشه‬
‫أوديسيوس فيه من حصار‪ ،‬كان ضمن األوقيانوس‬
‫الذي وجد نفسه عال ًقا فيه‪ ،‬لعقد من الزمن‪ ،‬كعقاب‬
‫من اآللهة له‪ ،‬قبل أن يجد طريقه إىل إيثاكا‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫وليد عالء الدين‬

‫أذن مدالة بال رأس‬

‫الوقت مناسب الستبدال املوسيقى‪ ،‬استعد للرقص‪،‬‬ ‫ضع موسيقى مناسب ًة واقرأ‪ ،‬ال تبذل جه ًدا يف‬
‫أو ضع موسيقى جنائزية‪.‬‬ ‫االختيار‪ .‬و ّفر الجهد لشيء آخر ال أعرف ما هو‪.‬‬
‫كل موسيقى ستكون صالحة‪ ،‬وال تسأل مل!‬
‫وردة يف خصلة شعر‪ .‬ال تقل إنني فاجأتك‪ ،‬تعرف‬
‫أن البنات مل يعدن يضعن الورد يف شعورهن‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫سقف‬ ‫امرأة تهبط ال َد َر َج‪َ .‬د َر ٌج يتدىل من السقف‪.‬‬
‫مل يعد لديهن شعور! مل يعد لديهن شعر‪ .‬مل يعد‬ ‫يلعب لعبة االختفاء‪ ،‬كنا نسمي هذه اللعبة «عسكر‬
‫صالحا للورد! مل تعد الوردات صالحة‬
‫ً‬ ‫شعرهن‬ ‫وحراميه»‪ ،‬عىل «الحرامي» أن يختبيء وعىل العسكر‬
‫صالحا‪ ...‬سوف‬‫ً‬ ‫لشعر البنات‪ .‬مل يعد شعر البنات‬ ‫إيجاده‪ .‬السقف يختفي عندما يظهر العسكر‪ ،‬فماذا‬
‫أتركك تهذي هكذا‪ ،‬وتخلط بين الشَّ عر والشعور‪ ،‬بين‬ ‫يفعل اللصوص؟‬
‫الشِّ عر والشَّ عر‪ ...‬أعرف أنك لن تنجح يف استكمال‬
‫لعبة االحتماالت‪ ،‬تحتاج السباحة يف البحر إىل رئتين‬
‫غيّر املوسيقى اآلن‪ ،‬أو أعد تشغيلها من الدقيقة‬
‫قويتين وكفين مفلطحتين وفخذين عضليتين‪ .‬غيِّر‬
‫الخامسة والعشرين‪ ،‬ال تبذل أي جهد يف األمر‪ ،‬وفر‬
‫املوسيقى اآلن‪ ،‬غيِّر املوسيقى وال تتفلسف‪.‬‬
‫الجهد الختفا ٍء ربما نُضطر له‪.‬‬
‫رجل بكتفي حصان‪ ،‬وأذن مدالة بال رأس‪.‬‬
‫سيدة يف نافذة قطار‪ .‬قطار يتلوى يف محطة‪ .‬محطة‬
‫هذه تحتاج إىل موسيقى لبيكاسو‪ .‬ال تتثاقف‪ .‬أعرف‬ ‫تنتظر وصول القطار‪ ،‬أو مغادرته‪ .‬متى تتخذ‬
‫أن بيكاسو كان مجرد رسام‪ ،‬يعجز عن صنع نغمة‬ ‫املحطات قرارات مهمة؟‬
‫واحدة‪ ،‬ولكنني اآلن لن أرضى سوى بسيمفونية‬
‫وضعها بيكاسو قبل رحيله بسبع وعشرين ساعة‪،‬‬ ‫‪-‬مثل‪ -‬فتقرر أنها لن تنتظر‪ ،‬تصرخ‬‫ً‬ ‫مبكرا‬
‫ً‬ ‫تصحو‬
‫زاره مالكُ املوت‪ ،‬كان وحي ًدا يف مرسمه‪ ،‬يشعر‬ ‫يف وجه القطار املقبل فيتوقف بعي ًدا عنها ويمنحها‬
‫بالضعف وقلة الحيلة‪ ،‬يسترجع كل رسوماته‬ ‫بعض الوقت للتجمل‪ .‬ترفض استقبال الركاب عىل‬
‫ويتمنى لو يبادلها بمقطوعة موسيقية وحيدة يؤلفها‬ ‫أرصفتها وتمنحهم تأشيرات لجوء إىل الحدائق‬
‫ويبثها كل ما هرب منه يف األلوان‪ .‬لكن بيكاسو مل‬ ‫الخلفية يف الجوار‪ .‬تلعب دور القطار ملرة‪ .‬تشترط‬
‫يمت‪ .‬أعني‪ ..‬مل يزره مالكُ املوت‪ ،‬أقصد مل يحدث‬ ‫نوعية األحذية التي ال تتوقف عن فرك ظهرها‪.‬‬
‫هذا األمر‪.‬‬ ‫تضع عوازل يف أذنيها وتستغرق يف مشاهدة‬
‫املاتش إىل جوار القط العجوز يف الكافيه‪ .‬تستمتع‬
‫إذن سوف أنتظر حدوثه‪ ،‬سأنتظر كامرأة تهبط‬ ‫برائحة عطر السيدة يف نافذة القطار‪ .‬السيدة تنتظر‬
‫الدرج‪ ،‬كسيدة يف نافذة قطار‪ ،‬كوردة يف خصلة‬ ‫القطار‪ ،‬القطار ال يعبأ باملحطة‪ ،‬املحطة ال تعرف‬
‫شعر‪ .‬كرجل بكتفي حصان‪ .‬كأذن مدالة بال رأس‪.‬‬ ‫كيف تتخذ القرار‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫أحمد نبوي‬

‫الجحيم‬

‫سارتر‬ ‫سارتر‬
‫عنصري بما يكفي‬
‫ٌّ‬ ‫أنت‬ ‫واهم يا صديقي‬ ‫ٌ‬ ‫أنت‬
‫جحيما لك‬
‫ً‬ ‫لتراني‬ ‫ليس اآلخرون هم الجحيم‬
‫أما أنا فال أراك كذلك‬ ‫جحيما لك‬
‫ً‬ ‫واهم أنت حين تراني‬ ‫ٌ‬
‫أنت ي ٌد يل‬ ‫هب أني لست موجو ًدا‬
‫ساق لك‬
‫ٌ‬ ‫وأنا‬ ‫هل تشعر بالنشوة بمفردك‬
‫أرى فيك ما ينقصني‬ ‫إن وجودي ليس تهدي ًدا لك‬
‫ولدي ما تعجز عن إدراكه بنفسك‬ ‫ووجودك بالنسبة يل ليس كذلك‬
‫أناني‬
‫ٌّ‬ ‫لكن ألنك‬
‫تظن أنك لو أخذت ما بيدي‬
‫تتصور أنني أحجب عنك‬
‫ستحقق الغاية والكمال‬
‫ما تعجز عن تحقيقه بنفسك‬
‫لن تستطيع أن تكون كل شي ٍء يا صديقي‬ ‫واهم يا صديقي‬‫ٌ‬ ‫أنت‬
‫فقير ولو امتلكت كل شيء‬ ‫أنت بدوني‬ ‫فلوال وجودي ما تحقق ذلك‬
‫ٌ‬
‫وأنا بدونك كذلك‬ ‫فلنتبادل األدوار إذن‬
‫أنت أعرج تحتاج إىل أن تتكئ عىل كتفي‬ ‫ضع نفسك مكاني‬
‫وأنا عاج ٌز أحتاج إىل يدك لتعينني‬ ‫وضعني مكانك‬
‫سارتر يا صديقي‬ ‫وانظر بدق ٍة وتمع ٍن‬
‫يدي ممدود ٌة لك‬ ‫هل ترى الجحيم جي ًدا‬
‫فهل مددت يدك لنمضي م ًعا‬ ‫َّ‬ ‫***‬
‫‪62‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫حسونة فتحي‬

‫دروب‬

‫ممثِّل ًة يف فيلم‪« :‬امرأ ٌة لطيفة»‬ ‫يف طريق املستقبل سأسلك َ‬


‫درب أمي‬
‫مت بالذهاب إىل أوروبا‪.‬‬ ‫فحلُ ُ‬ ‫األيام‪،‬‬
‫َ‬ ‫أُ ُ‬
‫هادن‬
‫وأُوزع الحب بمقادير مختلفة‪،‬‬
‫رت؛ تمنيت أن تعشقني سمرا ُء ناعمة‬ ‫كب ُ‬‫ُ‬ ‫وعيلَّ أن أسلك درو ًبا مل يسلكها أبي‬
‫فاشتَهاني رجل‬ ‫أجرب كل الخمور؛‬
‫ً‬
‫رجل؛‬ ‫قلت‪ :‬لن أطأ‬ ‫أطارد النساء بال تحفظ‪..‬‬
‫أشفقت عليه حين بكى‬
‫وانص َر َف‪،‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مغشوشا‬ ‫خمرا‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫كأس شرب ُت ُه‪ ،‬كان‬ ‫لك َّن َ‬
‫أول‬
‫فحطمت أسنانه‬
‫ُ‬ ‫قال آخر‪ :‬أنا موجب؛‬ ‫فكاد يقتلني‬
‫َ‬
‫وبعد شهور‬ ‫وأول امرأ ٍة أعجبتني كانت أجنبي ًة‬
‫َ‬
‫مالكما محترفًا‬
‫ً‬ ‫صرت‬
‫ُ‬
‫رت؛‬
‫كب ُ‬‫ُ‬
‫وقرب شاطئ بعيد‬
‫جاءتني أوروبا بكل ما فيها‬
‫وكرياضي ممشوق القوام اشتهتني األوروبيات‬ ‫ٍّ‬
‫مل أستجب لواحدة منهن‬
‫قرأت إنهن ال يستخدمن الشاطف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فقد‬

‫لكن أبي فعل هذا؛‬


‫أتقن اللكم دون مد ِّربٍ وهشَّ م أسنانًا كثير ًة‬
‫َ‬
‫فأحبه الرجال‪ ،‬وعشقته نسو ُة املدينة‬

‫رت؛ واختطفتني امرأة بيضاء القلب والبشرة‬ ‫كب ُ‬


‫ُ‬
‫واحتلني أوال ٌد وأحفا ٌد‬
‫وها أنا ذا أُناهز الستين‬
‫دون أن أكمل أي َة مسيرة‬
‫ودون أن أفعل‬
‫ما مل يفعله أبي‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫سالم الشبانه‬

‫حفريات في الريح‬

‫عقارب ميتة‬ ‫أبواب‬


‫نقيس أيامنا بالضياء والظل‪ ،‬ال نملك ساعات‬ ‫علقة مفاتيح‪ ،‬عىل‬‫مفتاحا يف جيبي أو يف َّ‬
‫ً‬ ‫ال أحمل‬
‫تلتف حول معاصمنا‪ ،‬فال حاجة بنا لعقارب تلدغ‬ ‫علقة فضية أنيقة أهدتها يل امرأة‬‫رغم أنني أملك َّ‬
‫قلوبنا‪ ،‬كنا نخاف من عقارب الرمل والحيطان‬ ‫دائما ما أضيع املفاتيح التي أحملها‪،‬‬
‫جميلة تحبني‪ً .‬‬
‫الطينية‪ ،‬فلم نعلق ساعة تذكرنا بأن أعمارنا‬ ‫أو أنساها‪ :‬عيل املقهى‪ ،‬يف سيارات األجرة‪ ،‬أو يف‬
‫تركض خلف عقاربها‪ ،‬زماننا العضوي نقيسه‬ ‫العمل‪ .‬عشت يف بيت بال باب‪ ،‬وال مفاتيح؛ سوى‬
‫بظاللنا النحيلة تحت الشمس‪ ،‬وخيالنا الذي‬ ‫أجولة من الكتان تخاط وتعلق بمسمارين يف حلق‬
‫يرافقنا تحت ضوء قمر شاحب‪.‬‬ ‫الباب العلوي‪ ،‬فماذا نصنع بمفاتيح بال أبواب تغلق‬
‫للصباح تحية‪ ،‬للضحى وجوهنا يف ظل الجدران‬ ‫عىل ال شيء! أنا رجل بال أدراج‪ ،‬وال أبواب ليغلقها‬
‫والكالم‪ ،‬للظهر قيلولة تحت األشجار العالية يف‬ ‫يف وجه اآلخر‪.‬‬
‫أي بيت‪ ،‬للعصر تحية‪ ،‬حين نطارد العصافير‬ ‫ال أحب األبواب املغلقة‪ ،‬الجدران العالية بال مبرر‪،‬‬
‫والحمام البري بالفخاخ‪ ،‬وللمغرب كائناته التي‬ ‫وأجراس األبواب املزعجة كصراخ الفئران املذعورة؛‬
‫تطلع من الظالم‪ ،‬نتحلق عىل األرض الرملية‬ ‫عندما كنا ندخل بيتا نصفق بأيدينا وننادي‬
‫نمضغ الخبز والبيض املشوي يف النار‪ ،‬ونشرب‬ ‫بأصواتنا التي تصلنا بمن نزورهم‪ ،‬يكون الصوت‬
‫لبن العنز التي نحلبها بمهارة كالكبار‪.‬‬ ‫اإلنساني هو املصافحة األوىل‪ .‬أتوجس املدن‪،‬‬
‫يربكني الزمن امليكانيكي‪ ،‬مل أحمل ساعة حول‬ ‫املباني التي تعلو يف الفضاء كالخوازيق‪ ،‬وتنغلق عىل‬
‫معصمي‪ ،‬وال عىل جدار بيتي‪ ،‬أقيس الوقت‬ ‫التوجس والخوف من اآلخر‪ ،‬أرهب السالمل التي‬
‫بحركة النهار والليل اللذين يشبهان جرذين‬ ‫تصعد وتنزل‪ ،‬واملصاعد التي تقتات الهواء الشحيح‪.‬‬
‫هائلين يقضمان فرع العمر فوق فوهة بئر‪،‬‬ ‫كانت بيوتنا مفتوحة عيل السماء‪ ،‬واألرض الرملية‬
‫أستطيع أن أتماهى مع أمثولة الجرذين وأتخيلهما‬ ‫صيفًا وشتا ًء‪ ،‬العنزة تشاركنا وصغارها النوم‬
‫يف حركتهما الدائبة التي قرأتها يف كتاب عن البئر‬ ‫يف الغرفة خوفًا عليهم من البرد‪ ،‬فنتسىل يف الليل‬
‫والجرذين والفرع وخلية النحيل والحية يف قاع‬ ‫الطويل بثغاء الجديان والسخالت الصغيرة‪ .‬كيف‬
‫البئر‪ ،‬لكنني أتوجس من العقارب الصماء التي‬ ‫مفتاحا ليغلق األبواب عيل‬
‫ً‬ ‫لرجل مثىل أن يحمل‬
‫بال روح حيوانية‪.‬‬ ‫رئتيه!‬
‫‪64‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫كمال أبو النور‬

‫عين ترنو من بعيد‬

‫ومل تُغ َلق عليهما حجر ٌة‬ ‫(‪)1‬‬


‫وطيورا‬
‫ً‬ ‫أشجارا‬
‫ً‬ ‫لكنهما أنجبا‬
‫وأنهارا‬ ‫وبحارا‬ ‫الحجر للشجرة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫يقول‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وشياطين‬
‫َ‬ ‫وأنبيا َء‬ ‫مئات السنين‬ ‫ِ‬ ‫من ُذ‬
‫الشي ُء الوحيد الذي يفعال ِن ِه‬ ‫وأنا أرق ُد تحت قدمي ِك‪،‬‬
‫أنّ السما َء كلما اشتا َقت إىل األرض‬ ‫لت!‬‫ال أعرف كم طائ ٍر قبَّ ِ‬
‫سيل من ُلعابِها‬ ‫ً‬ ‫تركت‬‫َ‬ ‫وال كم طائ ٍر تم َّدد فوق صدر ِِك!‬
‫األرض بغزار ٍة‬ ‫ِ‬ ‫ينطلق نحو ف ِم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫صرخت‬ ‫وال كم صرخ ٍة‬
‫ِ‬
‫األرض‬ ‫أحيانًا تصرخُ السما ُء يف أذنِ‬ ‫لحظات الوصال!‬ ‫ِ‬ ‫أثناء‬
‫ظهرها للسماء‬ ‫األرض َ‬ ‫ُ‬ ‫تدير‬‫ُ‬ ‫عندما‬ ‫مل تنتبهي ولو ملر ٍة‬
‫وأحيانًا تقذفُها بالحجارةِ‬ ‫اختالج قلبي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫إىل‬
‫األرض عينيها‬ ‫ُ‬ ‫تغلق‬
‫ُ‬ ‫عندما‬
‫ً‬
‫طويل‬ ‫وتنام‬
‫ُ‬ ‫سقطت ك ُّل أسنا ِن ِك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫اآلن وقد‬
‫صدر ِك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وتج َّع َد‬
‫ذات مر ٍة سيلتقيانِ‬ ‫َ‬ ‫الخرس‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وأصا َبك‬
‫أوالد ُهما؛‬
‫َ‬ ‫ويقتالن‬ ‫أصبحت وحيدة بال عاشقٍ‬ ‫ِ‬
‫من أجل قبل ٍة واحد ٍة‬ ‫ٍ‬
‫قارس‪،‬‬ ‫ال تصلحين إال كغذا ٍء لشتا ٍء‬
‫ويموتان يف الحال‬ ‫وأنا كما أنا‬
‫أوالد ُهما سيولدون من جديدٍ‬
‫َ‬ ‫لك ّن‬ ‫يرغب أن يظ َّل هكذا‬ ‫ُ‬ ‫عاشق‬
‫ٌ‬
‫آخر وأ ٍّم أخرى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َألبٍ‬ ‫ماكثًا بين قدميك‪ِ،‬‬
‫يحلم بحريقٍ يض ُّمنا م ًعا‬ ‫ُ‬
‫(‪)3‬‬ ‫ٍ‬
‫يف موقد واحد‪.‬‬

‫سقط ْت تفاح ٌة من السما ِء‬


‫َ‬ ‫(‪)2‬‬
‫يف فمي‪،‬‬
‫كلما أكلتُها‬ ‫األرض من قب ُل‬
‫ِ‬ ‫مل تلتقِ السما ُء مع‬
‫عادت كما كانت مر ًة أخرى‪.‬‬ ‫مل يتعانقا‬
‫‪65‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫وح‬
‫الر ِ‬ ‫ِ‬
‫النصف األسو ِد من ُّ‬ ‫سطوع‬
‫ِ‬ ‫ويف‬
‫وضعتُها تحت حذائي‪،‬‬
‫الضلوع‬
‫ِ‬ ‫تفاقم ْت بين‬
‫َ‬ ‫وكأن قسو ًة‬
‫أفلت َْت من صدري‬
‫أمام عظا ِمها املُهشَّ م ِة‪،‬‬
‫تفارق الحياة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أمام صراخا ِتها وهي‬

‫تفاح‬
‫ٍ‬ ‫اشتهيت حديق َة‬ ‫ُ‬ ‫ربما‬
‫يف كل رك ٍن من العا ِ‬
‫مل‪،‬‬
‫الشيطان يف أُذُني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫همس‬
‫َ‬ ‫وربما‬
‫ملمس األبدانِ‬
‫َ‬ ‫اعتقدت أن‬
‫ُ‬ ‫وربما‬
‫ِ‬
‫الظلمة َسوا ٌء؛‬ ‫يف ُ‬
‫نسيت أن لهدايا اإلل ِه‬ ‫ُ‬ ‫ولكني‬
‫مذاقًا استثنائيًّا‪.‬‬

‫يف الحقيق ِة‬


‫هي مل تغادر الحيا َة‬
‫غادرتني‪،‬‬
‫َ‬ ‫الحياة هي التي‬
‫وصرت وج ًعا‬‫ُ‬
‫صاصة‪ٍ..‬‬ ‫يبحث عن َر َ‬‫ُ‬

‫هناك يف البعي ِد ٌ‬
‫عين ترنو نحوي‬
‫تحتضر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫دموعها جي ًدا وهي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أعرف‬
‫هناك ذراعان مفتوحتان‬
‫أتوق إليها‬
‫ُ‬ ‫وقبل ٌة‬
‫مازالت بقاياها يف فمي‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫حسني منصور‬

‫نصوص‬

‫‪-3‬‬ ‫أن َ َل َح ْت َظ ْهرِى‪..‬‬ ‫بع َد ْ‬


‫َعا ِر ًيا َت َما ًما‬
‫َ‬
‫وحدك‪..‬‬
‫َخ َر َج ْت ِب َكا ِم ِل َج َس ِد َها‬
‫تخرج من رئة البحر‬
‫قلبك ُم ْب َت ٌّل‪..‬‬
‫اب‪..‬‬‫ص َف َق ِت ال َب َ‬ ‫َ‬
‫َو َقا َل ْت‪..‬‬
‫بمسائين يتيمين‪،‬‬
‫وبعض مالئكة‪،‬‬ ‫صلُ ُح ُ‬
‫للح ْب‬ ‫َأن َْت َل َت ْ‬
‫وقصيدة‬
‫‪-2‬‬
‫‪-4‬‬ ‫الروح ناضجة‪..‬‬
‫ربما غيم ٌة تمر‬ ‫بما يكفى‪..‬‬
‫تفتح للمواعي ِد نافذ ًة‬ ‫للموت مرتين‬
‫جالسا‪..‬‬
‫ً‬ ‫ما زال‬ ‫حين أقابل وجهي‬
‫ىف حضرة البحرِ‪..‬‬ ‫ىف املرآة محتش ًدا‪..‬‬
‫ليس معه‪..‬‬ ‫بالتجاعيد‬
‫ٍ‬
‫وقت‪..‬‬ ‫سوى‬ ‫ومرةً‪..‬‬
‫ينثره عىل‪..‬‬ ‫البار‪..‬‬
‫حين أدخل َ‬
‫مقاعد االنتظار‬ ‫وحي ًدا‬
‫ش‪..‬‬ ‫أفتِّ ُ‬
‫‪-5‬‬
‫ىف وجوه امليتين‬
‫سأصافح وجهى القديم‬ ‫عن ٍ‬
‫ميت سعيد‬
‫كما مل أصافحه من قبل‬
‫‪67‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫وهنَّ‪..‬‬ ‫مبتس ًما للمارة بوجدان مفتوح‬


‫ينشرن نهودهن‪..‬‬ ‫أقبل البحر‪..‬‬
‫عىل شرفات الحنين‬ ‫والشوارع الخلفية‬
‫وكل األكف التي باتت متعبة‪،‬‬
‫‪-8‬‬ ‫وألتقط صورةً‪..‬‬
‫ِ‬
‫لعينيك الجميلتين‬
‫كل شى ٍء معتقل‬ ‫رغم حزنهما األنيق‬
‫فقط‪..‬‬
‫ظلك الحر‬ ‫‪-6‬‬
‫يسامر‪..‬‬ ‫منذ عابرينَ كثيرينَ ‪..‬‬
‫الليل‪،‬‬ ‫عىل دمى‪،‬‬
‫والبحر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تكشف ُع ْر َي َها‪..‬‬ ‫وامرأ ٍة‬
‫واملقاهى الخاوية‬ ‫ىف حضر ِة البحرِ‪،‬‬
‫صرت محتش ًدا‪..‬‬
‫‪-9‬‬ ‫بالغي ِم‪،‬‬
‫والرما ِد‪،‬‬
‫ِ َل َاذا َدا ِئ ًما‪..‬‬ ‫واألسئلة‬
‫َأ ِجي ُء َب ْع َد َشار َِع ْي ِن‬
‫ِم ْن ُب َكاء؟‬ ‫‪-7‬‬
‫َأ ْح ِم ُل ا َمل َ‬
‫وت‬ ‫ميت‪..‬‬
‫ٌ‬
‫احتِ َفالِي ٍة‪..‬‬
‫ىف ْ‬ ‫من ال يقرأ‪..‬‬
‫ﻻ َتلِيقُ ِب َح َياة؟!‬ ‫وجع البنات‬
‫‪68‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫شمس المولى‬

‫ذات مساء‬

‫كان الغروب عىل خالف طباعه‬


‫غيوم‬
‫ْ‬ ‫هواجس أو‬
‫َ‬ ‫حيث السما ُء بال‬
‫هوا يف أن يحيد إىل البعي ْد‬ ‫أو طائ ٍر ُيبدي ً‬
‫حتى الضجيج عىل حيا ٍء كان َيهدر نحونا‬
‫والنهر يعبر يف رصانت ِه‬ ‫ُ‬
‫كما لو ك ُل شي ٍء مسرف يف دورهِ‬
‫ألرى عيونك جي ًدا‬
‫عينان صفراوان متعبتان‬
‫تعكسن الحقول إذا يحين قطافها‬
‫وتزغن نحو املوت ثم تعدن‬
‫كنت أراك تبحث عن كال ٍم أو سؤا ٍل أو أفول‬
‫اهتماما كاذ ًبا لزماننا ومكاننا ولكل ما‬ ‫ً‬ ‫تبدي‬
‫قلنا وما سنقول‬
‫شاردة خواطرك التي أكلت عصاك‬
‫تجاوزت بطء الليايل فوق ظهرك‬
‫أو حنينك للصديق وللحبيبة والحياة‬
‫اآلن تتبع سرب نمل نحو منزله‬
‫تعيد َف َراش ًة للحقل‬
‫أو للنار تدفعها‪ ،‬سيان‬
‫اآلن ال شي ٌء يه ُّم ولن تعود من الزمان‬
‫أما أنا عينان المعتان مثل عيون ذئب يف جنون‬
‫االنتظار‬
‫ويدي عىل ساقي تح ِّرضها‬
‫فنترك ما تبقى من ُركام‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫منى العاصي‬
‫(فلسطين‪ -‬سويسرا)‬

‫قصيدتان‬

‫كما يشاء الظالم‬ ‫هواء مالح يهوي‬


‫ساكن‪ ،‬غير مكترث‬ ‫لو كان عديم الشبهة هذا العواء‬
‫عىل يديه لون التبغ يزهر‬ ‫لقلت‬
‫وبين صمته والبكاء‬ ‫هذه أسماء صالحة للمرايا‬
‫خطوة‬ ‫وأرخيت نظرة‬
‫يف حضن الفراغ‬
‫تستدرج النافذة‬
‫أو إىل أبعد‬
‫إىل صباح ال يصل‬
‫وعرفت عن ظهر قلب‬
‫من ريبة الستائر‬ ‫خطاي‬
‫تأوي مالمحه إليه‬ ‫نامة ومل تنتبه‬
‫ويوشك من رجفة يخرج من نفسه‬ ‫أي احتمال‬
‫ما كان للوقت التباس‬ ‫إذ ما يرسم الظل رجفة‬
‫أن حربه بين الجسد والرماد‬ ‫بين املسار واملغفرة‬
‫وأن أبوا ًبا مواربة تنشد‬ ‫كـأنك أوسع من مهل‬
‫للوداع‬ ‫ومن خفَّة‬
‫وأحيانًا‬ ‫ماض إىل اندالعك يف التردد‬ ‫ٍ‬
‫من ك َّوة يف املسافة تعبر‬
‫للنباح‬
‫أكنت ح ًّقا عىل العتبة‬
‫هذا منامك يا صاحبي‬
‫مستن ًدا اىل التلفُّت؟‬
‫إذ تلمس ظنك‬ ‫لو تركت مما بقي شيء‬
‫مل يكن وحي ًدا يف العتمة‬ ‫بين الصيحة واهتزازها‬
‫نبتته الوحيدة‬ ‫ألضأت نواياي‬
‫يف الزاوية‬ ‫يل ظيل‬‫وشددت ا َّ‬
‫ذابلة‬ ‫ليتسع الفراغ‬
‫‪70‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫عاصم عوض‬

‫جسد‬
‫َ‬

‫أسماؤُ ها تَخ َفى عىل َف ِمه‬ ‫أم قد ُتغَ يِّ ُر ُه َمال ِم ُحها؟‬ ‫وصد ٌة‬ ‫األبواب ُم َ‬ ‫َ‬ ‫افتح َ‬
‫يل‬ ‫ْ‬
‫فاض ُحها‬ ‫وم َجا ُز َم ْن َم َّس ْت ُه ِ‬ ‫َ‬ ‫هيم ‪-‬عىل أصا ِب ِعه‪-‬‬ ‫ِظ ًّل َي ُ‬ ‫وأنت فا ِت ُح َها‬ ‫َ‬ ‫ء‬
‫ُ‬ ‫السما‬ ‫هذي‬
‫وطن‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫عمى ِبه‬ ‫َ‬
‫وكأنَّه أ َ‬ ‫وارحها‬ ‫وحا ت َُج ِّس ُدها َج ُ‬ ‫ُر ً‬ ‫اي عنا َق ُه‬ ‫ص َد َ‬ ‫وامن َْح َ‬
‫صا ُترِيه غ ًدا مطار ُِحها‬ ‫َو َع ً‬ ‫س َن ٌة‬ ‫أحالمه ِ‬ ‫َ‬ ‫كم أوقدت‬ ‫وأنا ِميل ي ًدا َيه ِذي ُمصا ِف ُح َها‬
‫بيضا ُء ال َش ٌّر تُكا ِب ُد ُه‬ ‫يقات ُي َجا ِم ُحها‬ ‫والشيب ِم ٌ‬ ‫ُ‬ ‫فرد ٌة‬ ‫للح ِّب ُم َ‬ ‫َلَّا َي ُك ْن ُ‬
‫والحرب َخنسا ٌء جوا ِن ُحها‬ ‫كال ّطي ِر يف املعنى وأجنح ٌة‬ ‫الحب شار ُِحها‬ ‫َّ‬ ‫َأل َقى عليها‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫َبترا ُء كم أبلت وكم َفتَكت!‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ورائحها‬‫ُ‬ ‫يف البد ِء غاديها‬ ‫املآسي وهي طا ِمح ٌة‬ ‫ِ‬ ‫ِمث ُل‬
‫كثيرا ذاك راب ُِحها‬ ‫َخ ِس ٌر‬ ‫قسى ما ُي َر ِّه ُب ُه‬ ‫خشى و َأ َ‬ ‫َي َ‬ ‫و َثرا ُه ُسلوانًا ُيطا ِم ُحها‬
‫ً‬
‫ُفص ُح عن ضاللتِها‬ ‫َعجما ُء ت ِ‬ ‫شيب األماني وهو قار ُِحها‬ ‫ُ‬ ‫فس َرى‬ ‫نفس ُه َ‬ ‫اص َمت ُه ُ‬ ‫إ ْذ َخ َ‬
‫لِ ُي َعل ِّ َم األسما َء ُمتَّ ِق ًدا‬ ‫طرق ٍة ُيصالِ ُحها‬ ‫ِب َد ٍم و ِم َ‬
‫عميا ُء تَهديها َمذاب ُِحها‬
‫تَسبِيه ما تَسبِي مدا ِئ ُحها‬ ‫ال َيق َت ِفيها َيق َت ِفي َج َب ًل‬
‫الصحرا ُء شاعر ٌة‬ ‫(ع ْر َوةُ) َّ‬ ‫يا ُ‬ ‫كم ناق ٍة ِمن َشد ِو ِه َخ َر َجت‬ ‫عن خطو ِة الراعي ُينا ِف ُحها‬
‫ِ‬
‫حسنا ُء ال تَغفو َقرائ ُحها‬
‫غار عا ِق ُرها وصالِ ُحها‬ ‫َف َأ َ‬ ‫آثار ُه تَخ َفى عىل قلقٍ‬ ‫ُ‬
‫نشر ٌِح‬ ‫األلوان ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ِف‬ ‫ال تَعر ُ‬ ‫استراح ْت يف حشاشتِه‬ ‫وقد‬ ‫ِ‬
‫لك َّن َن ْزفًا فيه فاض ُحها‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫واض ُحها‬ ‫يف َوجهِها الشمسي ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫كم معجزات ال ُيقاد ُحها!‬ ‫يف األرض كم تبدو مدائ ُن ُه‬
‫اإلنسان َوردتُها‬ ‫َ‬ ‫ِف‬‫ال تَعر ُ‬ ‫َأل َقت به يف َي ِّمه َي ُده‬ ‫ألى بما َيهوا ُه سا ِئ ُحها‬ ‫َم َ‬
‫ِ‬
‫َنصر الباغي شرائ ُحها‬ ‫ِ‬ ‫ال ت ُ‬ ‫ِظ ًّل َث ً‬ ‫يرى ِمن السلوانِ تذكر ًة‬
‫قيل ال ُي َماز ُِحها‬ ‫َح َ‬
‫‏و َق َفت عىل أطاللِها‏ ُلغ ٌة‬ ‫ص َر َخت‬ ‫َلّا َه َوى يف نورِه‪َ :‬‬ ‫ِ‬
‫أيامها األول نَواض ُحها‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عرى ُمبار ُِح َها‬ ‫َعرى‏كما َي َ‬ ‫ت َ‬ ‫َفديك ظلما ِئي وصا ِئ ُحها‬ ‫ت َ‬ ‫ِ‬
‫كم َج َّر َح املرآ َة ُمن َتظ ًرا!‬ ‫ِ‬
‫يمت ََها‬ ‫‏فاحملْ إىل الصحرا ِء َغ َ‬ ‫يح؟ كأ ّنها لغ ٌة‬ ‫ص ُ‬ ‫َمن َذا َي ِ‬ ‫والحزن يف َعيني ِه جار ُِحها‬ ‫ُ‬
‫‏ت َْر ِث الثَّ َرى َأ َب ًدا نَوا ِئ ُحها‬ ‫ين ُيسا ِف ُحها‬ ‫َعليا ُء ال ِط ٌ‬ ‫َأ َع َدى عىل أطالله ٌ‬
‫زمن؟‬ ‫ِ‬
‫‪71‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫أوس حسن‬
‫(العراق)‬

‫قصيدتان‬

‫مفارقات بسيطة ج ًّدا‬ ‫تحت سماء قديمة‬


‫حاضرا أبد ًّيا‬
‫ً‬ ‫هناك عشنا‬
‫‪-1‬‬
‫وتنفسنا أضواء املدينة‬
‫ال وقت للعائلة واألصدقاء‪..‬‬ ‫كنا مالئكة أشقياء‪ ..‬وأعمارنا كأعمار اآللهة‪.‬‬
‫وال للحبيبات الخائبات‪..‬‬ ‫أين كل هذا اآلن؟‬
‫املزيد من الحب يعني الكثير من الخسارات‬ ‫األسرار الحارسة‪ .‬والعشب الذي كان ينبت يف‬
‫والدموع‬ ‫قلوبنا؟‬
‫يعني أن يفقد العامل توازنه‬ ‫أين ذهبت تلك القهقات واألوجاع الصغيرة‬
‫فإما أن تدور املعادلة أو تستقيم األرض؟‬ ‫والعيون التي تنبض باملحبة واألسى؟‬
‫‪-2‬‬
‫لون الكآبة يبعثر مالمحك بين الصور‬
‫أيها الحب‪..‬‬
‫وتطاردك الكلمات التي انقرضت يف لسانك‬
‫يا نشيد القرى يف الصباحات الجبلية‪..‬‬ ‫بيدين مبتورتين‪..‬‬
‫ويا خفق الجناح املكسور يف الريح‬ ‫كنت تسبح يف نقطة دم قفزت من سكين الذاكرة‬
‫أحب الوردة التي تبصق يف وجه الريح‬ ‫ومل تغرق‪..‬‬
‫وأكره الورد يف قصائد الحاملين‬ ‫كنت تمشي عىل حبل معلق بين الغيوم‪..‬‬
‫‪-3‬‬ ‫ومل تسقط‪..‬‬
‫الذين يكرهونك بصدق‪ ..‬جعلوك صام ًدا حتى اآلن‬ ‫رغم الريح التي اقتلعت عظامك‪..‬‬
‫مل تسقط‬
‫يوما ما‪ ..‬ستحرث الهواء بحثًا عن عدو قديم‬
‫مازلت تراهم‪ ..‬تحت سماء قديمة‪ ..‬وشمس أقل‬
‫‪-4‬‬ ‫حمرة من اآلن‬
‫من أعطاك مفاتيح البحر؟‬ ‫ليس الغياب موج ًعا وال قاسيًا‬
‫من وهبك سماء بال نجوم؟‬ ‫الغياب هو أنك ما زلت تمضي هناك‪..‬‬
‫من أشعل الليل‪ ..‬لتموت الفكرة من البرد؟‬ ‫وتمضي هنا‬
‫فال «هنا» لك‪ ..‬وال «هناك»‬
‫‪-5‬‬ ‫الغياب‪ ..‬أصوات ترتطم برأسك‬
‫أيها اإلله الغجري العجوز‪ ..‬مل يعد إبليس وحي ًدا‬ ‫ثم وجوه تنظر من داخلك بخواء مرعب‬
‫كل املالئكة تمردت عليك اآلن‬ ‫دائما‪..‬‬
‫وأنت وحدك الذي يتكرر ً‬
‫فإما أن تطفىء الجحيم‬ ‫ً‬
‫وحدك الذي تشيخ‪ ..‬ثم تعود طفل‪ ..‬ثم تشيخ‪..‬‬
‫أو تلقي بنفسك يف الهاوية‬ ‫وحدك الذي ترتعد خلف انعكاسك الغريب‪..‬‬
‫‪72‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫عامر شحاته عامر‬

‫مقامات العشق والتوبة‬

‫وطيفك حط عىل خطوي‬ ‫مقام العشق األوالني‬


‫وأنا طالع أصيل الفجر‬
‫فصلّيته تمان ركعات‬ ‫أنا املجرور بحرف العطف والعلّة‬
‫وإسمك مر عىل عمري‬ ‫أنا املطروح آلخر إسم ف األسماء‬
‫فنساني زكاة الفطر‬ ‫أنا الخارج من الذلّة‬
‫ّ‬
‫إذا رب املشاهد شاء‬
‫ونساني وقوف عرفات‬ ‫ّ‬
‫أنا حدوتة األلفين‬
‫فزرت السيدة زينب وسانت تريز‬
‫وإنت الباء‬
‫خدتني النظرة ف البراويز‬
‫أنا العين اليل خافت من ضياء الشمس‬
‫وغصن زتونك إتب ّدل تالت وردات‬
‫أنا املر اليل داق األمس‬
‫قريت الفاتحه ينصرني عىل قلبي‬
‫وطعمه ‪-‬اليوم‪ -‬صبح ماضي‬
‫وشمعة‬
‫أنا املكشوف بدون ضلّة‬
‫ألجل يهديني طريق الطهر والفرحات‬ ‫فسامحي اليل اشتكى خوفه‬
‫ومرمغ ف املرار جوفه‬
‫وأنا العاشق‬ ‫أنا االسم اليل ما ّ‬
‫يل‬
‫متبسم بدون م أخجل‬‫ّ‬ ‫بطهر حياك‬ ‫أنا املدبوح ف آخر إسم م األسماء‬
‫ومش ف العشق مستعجل‬ ‫ّ‬
‫متعشم‬ ‫ياخدني الدرب‬
‫قريت سفرك وك ّملته بقد سمع‬ ‫وادوب من حبك املبهم‬
‫وملّا الغصن قد دمع‬ ‫بحبي لستنا نفيسة‬
‫مليت ك ّفى غسلت القلب والل ّمات‬ ‫وطهر السيدة مريم‬
‫آمنت بكل تفاصيلك‬ ‫يتوب قلبي من التوبة‬
‫أنا املطوي بحرف بطرف منديلك‬ ‫أنا الىل نهايتي مكتوبة‬
‫أنا املحروم تصيل يل‬ ‫وقلبي ع الغرام مرغم‬
‫وأصيل لك‬
‫‪73‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫وشيخي خط مغفرتي بصمدية‬ ‫مقام العشق و ّدانى لبسمة عين‬


‫ومعوذتين‬ ‫فيسبيني‬
‫خجل سارح عىل الخ ّدين‬
‫مقام العشق التاني‬ ‫بتتسحب ّترسيني عىل التسكين‬ ‫ّ‬ ‫وملسة إيد‬
‫وأنا املجروح بدون س ّكين‬
‫هايم ف حبك م انتهاش عشقي‬
‫«النجار» هوايا ف د ّبة الرجلين‬ ‫ّ‬ ‫أنا‬
‫مستنّي ضمة لقا‬
‫متسحب عىل قلبي‬ ‫ّ‬ ‫وكحل هواك‬
‫وجع الضلوع بيلم‬
‫مستنّي نظرة رضا يستقيم الهم‬ ‫ورعشة خوف بتسبق خطوة الل ّمة‬
‫متوقفة كل الساعات ما تهم‬ ‫يناديني ثبات الحضن والض ّمة‬
‫لسه ما مات‬ ‫فنط ّمن أنا وقلبي‬
‫م أملكشي غير وجعي الىل ّ‬
‫الهمهمات يف العشق توب مشقوق‬ ‫واشوفك نجم بين ّور سواد العين‬
‫والتهتهة ف التوبة ش ّد الطوق‬ ‫لسه ما جاله أنبيا‬ ‫أنا الدين اليل ّ‬
‫مستني إيه؟!‬ ‫أنا املقتول بدون د ّية‬
‫مستنّي دم؟!‬ ‫هواك مع ّدي شيء ّ‬
‫يف‬
‫أخرج بصوتك مجلجل وانت مش ح تموت‬ ‫يا جذع النخله ليه تسبي حوا ّ‬
‫ىل!‬
‫عصيانك اليل ابتدى ما تخلصوش بسكوت‬ ‫ال القي طبيب يداويني من العلّة‬
‫وال دمعة تضحك عليك‬ ‫وال شبعان يالقيني من الذلّة‬
‫وال كلمة سهتانه‬ ‫رغيفي كل همساتك‬
‫إمسك حبال قلبك‬ ‫وسكتاتك‬
‫الذنب دا ذنبك‬ ‫حمام بيحط ع الغيّة‬
‫ص ّدقت ليه الكالم من ض ّمة التسكين‬ ‫ورحت البونا يرقيني من الغ ّمة‬
‫الحرف حرفين ولع‬ ‫ومل تنفع مطانياتي‬
‫والقولة دفيانة‬ ‫أنا اآلتي بكل مواجع الذ ّمة‬
‫‪74‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫محسوبة كل الخطاوي‬ ‫بردان وتوب الدلع حالف عىل التمكين‬


‫ف العمر مكتوبة‬ ‫غ ّطى بكالمك عطفك املمسوس‬
‫ما بين مقام ومقام قلبي عرفته رقيق‬ ‫مهووس برمش اتغرس من أول التكوين‬
‫خدلك طريق يسكنك يف الضيقة والتضييق‬ ‫موت‪ ،‬بس حاسب باللوع تنضر‬
‫قطب املباهج أمر‬ ‫يدبل شجر مهجتك‬
‫قلبي يكون له رفيق‬ ‫والفروع تصفر‬
‫فتّحت عيني عليك‬ ‫مش كنت حالف ع الوجع يخضر؟!‬
‫صبح الغرام سيدي‬ ‫إيه اليل صابك وانت ف الجا ّية‬
‫هويت جمال طلعتك‬ ‫هي الحاجات ر ّوحت!!‬ ‫ّ‬
‫وغرسته بوريدي‬ ‫وإنت اليل غاوي فر‬
‫مدد يا ساندة املواجع‬ ‫لوح الوصايا تقل عىل كتفك املايل‬
‫بالذكر والحلقة‬ ‫حتّى صليبك زهق من رواح الصوت‬
‫وكل زتقة بمدد‬ ‫موت‬
‫وجع الوله خنقة‬ ‫بس إوعاك ‪-‬بالهداوة‪ -‬تموت‬
‫حلليني من عشقها‬ ‫وجع البحيرة مداك‬
‫قالت يل مش بايدي‬ ‫من غير صخب ع ّداك‬
‫لو تقتله‪ ..‬يهواك‬
‫متحد ّدة فيكي الجهات األربعة بح ّدة‬ ‫جلجل بسيف العداوة وارجع اتحايل‬
‫وكل م اعشق شمالك‬ ‫شبك امللل يسكنك‬
‫ريح الجنوب ر ّدة‬ ‫تشبط بخيط الوهن‬
‫وإنتي الىل طلّة عيونك للفراق وحدة‬ ‫تبكي عىل ليالك‬
‫خلّصت فيك الحاجات‬ ‫ليىل عشان اليل كان‬
‫الصبر وإخواته‬ ‫هجرت موات دنياك‬
‫واليل تعب م اليل فات‬
‫بكراه عىل السندة‬ ‫كسر عضام جوفك‬ ‫سحب املدد ع الجسد ّ‬
‫الش ّدة طاطت جناحها‬ ‫شوفك مع ّدي السدد‬
‫للفتحه والش ّدة‬ ‫هد بهواك خوفك‬
‫ودخلني وجع اللقا‬ ‫ما تميلش لىل انطبع بالزيف عىل كفوفك‬
‫عضيت عىل إيدي‬ ‫ّ‬ ‫رسمك لوحده اترسم بالريشة واأللوان‬
‫بانت حدود دنيتك وعلّتك ح تبان‬
‫كحلة عيونك فرح بيبدد التوبة‬ ‫أسمر بطعم البيوت متبعترة صفوفك‬
‫الوعد ليل اتوعد واكتوى جنبه‬ ‫درعك بتقوى الحنين‬
‫كان ذنبه إنه انتشى من ضحكة مكتوبة‬ ‫مش ّرعة سيوفك‬
‫بايت أسير ضحكتك‬ ‫إجدل خيوط العشم عىل توبك اليل مات‬
‫ملّا شبك قلبه‬ ‫خ ّطي العتب مبتهج ومش ّرع البسمات‬
‫هات القمر من رموشه لجل محبوبتك‬
‫ضرب الجرس فاحترس‬ ‫فاضت غيطان ضحكتك‬
‫زحف التقى ش ّده‬ ‫تحيي هوى اللمات‬
‫م قفلش بابه عليه فاستزاد وجده‬ ‫ز ّفة طلوع فجرك بتهل بالتوبة‬
‫‪75‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫فاتخبَّى من خوفه‬ ‫من طهر مريم وتوبها عف بسالمه‬


‫كتب عىل كفوفه‪:‬‬ ‫حتّى ف كالمه‬
‫أنا اليل حب‬ ‫وجع الهوى مداريه‬
‫فمات!‬ ‫شل الغرام ي ّده‬

‫مقام العشق التالت‬ ‫الدمع طفطف ضفايره‬


‫ع الكتف ساند أسى‬
‫من سحبة الرمش آمن باليل سواها‬ ‫كل الىل كان ما اتنسى‬
‫ج ّمع ورود الجناين وصبّه عىل عودها‬ ‫من قد ق ّده الصنايعي بنقاوة‬
‫عصر حمار الشقايق وزرعه ف خدودها‬ ‫نحت حروفه بطراوة فاستزان عوده‬
‫سبحانه خلق الرموش متنمقة بشوقه‬ ‫حكم عيلَّ الولع أتر ّوى بخدوده‬
‫وعيون تشق الجبال‬ ‫وملا جيت أستزيده قاليل بهداوه‬
‫بنظرة معشوقة‬
‫كل الدروب نسيت من خطوة أساميها‬ ‫بينى وبينك خط العشق مين زاله‬
‫ح ّطت قدم عىل أرض قلبي ومل تسأل‬ ‫ما بين محمد وعيسى عض الشوق ومل زاله‬
‫إخضر لون الولع وخضاره يتسلسل‬ ‫قفلت كل البيبان سرسب هواك بحري‬
‫إنس َّل بين الحشايا‬ ‫صبّحت بدري وليل الهجر مل زاله‬
‫والحسن قد زانه‬
‫من كتر خويف طويت ف الجب عنوانه‬ ‫بينى وبينك دار متسكره بيبانه‬
‫يضوى الجبين كاللجين عىل قلب متس ّطر‬ ‫وسور حديد مفتري سالسيله بيبانه‬
‫وأدوق شفايفك ‪-‬مرغم‪ -‬ف املنام أسكر‬ ‫ومقام مض ّوي املكان باملسك والعنبر‬
‫والفجر يهبط عيلَّ ويع ِّدي قرآنه‬ ‫حكم املدد أعشقه وأشواقى بيبانه‬
‫سبَّحت باسم الىل قد زادك وسبحانه‬
‫ط َّهرت عيني بنظرة شوف محياكي‬ ‫وملّا آن األوان عطر املقام نادى‬
‫وبكايا ك ّمل صالته بالدعوة والتوبة‬ ‫مشبوك بطرف الهوى‬
‫سجاني‬ ‫ندهة نداكى ف وداني بتجن ّ‬ ‫والعشق بزيادة‬
‫يزيد عىل اليل ابتىل بالصد من تاني‬ ‫مين ح ُّبه ر ُّبه اكتواه بالعشق والهجران‬
‫مكتوبة كل الحاجات بين الصدى والصوت‬ ‫ساهد قليل املنام‬
‫تعيش حاجات ميّتة إال دبيب قلبي‬ ‫لوم الزمان ه ُّده‬
‫يفوت هواكي عليه يستحيل جاني‬ ‫د ُّلونى ع الىل طعم بالصبر مين ر ّده؟‬
‫مقتول ومجني عليه من نظرة لعنيكي‬ ‫رفضنى قلبى الرهيف ملَّا انتوىت توبة‬
‫العشق فيكي قدر‬ ‫شبِّك حبال و ُّده والعودة مكتوبة‬
‫فيه اللوع والسهر‬ ‫أرجع وأذل الجسد ال زاد وال ميّه‬
‫قلبك يفوق الحجر‬ ‫وركعتين ف الهوى والركعتين ميّة‬
‫من قربي ينساني‬ ‫وإيدي تشبك بإيد تتشد ف غواها‬
‫خشوا‬‫الجنّه للطيبين من غير حساب ّ‬ ‫وأنا اليل صابني اليل كان‬
‫ّ‬
‫واتغشوا‬ ‫واليل بقلبه اتحشر ف العشق‬ ‫ما عرفت يل نوبة‬
‫الجنّه ليل صبر عىل صد فاق شوقه‬ ‫ونوبة من فرحته ف القلب خبَّاها‬
‫خلنى أعيش تاني‬ ‫هايم ف حب الىل َّ‬ ‫فضحه لهف نظرته ليل خطف جوفه‬
‫‪76‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫رشيد طالبي علوي‬


‫(المغرب)‬

‫نصوص‬

‫أحتفظ بمالبس اهترأت‬ ‫البيت‬


‫بأقالم جف مدادها‬
‫البيت الذي غادرناه‬
‫بقصاصات جرائد‬
‫بقي هناك خلفنا‬
‫نوارة محنطة يف دفتر قديم‬ ‫مل نلتفت وراءنا‬
‫صور غامت بعد أن جدد الزمن مياه نهره‬ ‫مل نترك أعضاءنا‬
‫النهر الذي يجرف دون رحمة أيامنا إىل مصبه‬ ‫أنفاسنا‬
‫األخير‪.‬‬ ‫أخذنا كل شيء‬
‫كنا قساة وبال ندم‬
‫ال حنين يقرع جدران القلب‬
‫نباح‬ ‫مل نحمل تذكارات‬
‫مل نذرف دمو ًعا‬
‫وتهاجمك الذكريات من حيث ال تدري‪..‬‬ ‫أخذنا كل شيء‬
‫مثل الكالب التي باغتتنا حين دخلنا «ملكية خاصة»‬ ‫فقط أصواتنا التي بقيت‬
‫دون أن ندري ‪-‬كنا قد ابتعدنا عن حدود املدينة‬ ‫والكالم الذي تخلصنا منه كأكياس القمامة‬
‫كثيرا‪ -‬نباحها املرعب أخرج صاحبة األرض من‬ ‫ظل يتردد بين الغرف الفارغة‪.‬‬
‫ً‬
‫منزلها‪ ،‬لكن املاكرة مل تحرك ساكنًا وهي تشاهد‬
‫الخوف يرسم مالمحه عىل وجوهنا املتوسلة‪.‬‬ ‫عن الزمن‬
‫ذلك الحادث مل يكن نهاية القصة‪ ،‬إذ كانت تنتظرنا‬
‫ليلة بيضاء امتدت طويلة حتى بدايات فجر اليوم‬ ‫أيقظت الخادمة «بروست» من نوم متأخر‪ ،‬ثم‬
‫التايل‪.‬‬ ‫قدمت له قطعة «املادلين» مع الشاي‪.‬‬
‫ما إن تذوق أول قضمة حتى انهمرت عليه‬
‫‪.....‬‬
‫الذكريات مثل شالل‬
‫‪.....‬‬ ‫طب ًعا أنا ال أشبه هذا الباحث عن زمنه الضائع‬
‫يوما ربيعيًّا بدأ بوليمة يف غرفة صديق‪ ،‬جمعت‬
‫كان ً‬ ‫يف شيء‪ ،‬لكنني مثله أهوى مطاردة الوحش‬
‫رفقة تقطعت بينها حبال التواصل بعد كل السنوات‬ ‫األسطوري هذا رغبة يف استعادة لحظات تركت‬
‫التي تناثرت مثل حبات سبحة عتيقة‪.‬‬ ‫ً‬
‫خدشا يف الروح‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعــر‬

‫آيات القاضي‬
‫(سورية)‬

‫للموت وجه أقل‪ ..‬للبقاء‬

‫مسا ٌء زاه ٌد‬


‫موسيقى خفيفة كالسماء‬
‫نوافذ مضيئة‬
‫وصلوات‪..‬‬
‫هكذا هي مساءات ديسمبر يف هذه املدينة املتعبة‬
‫‪/‬‬
‫انعكاس أشجار امليالد‬
‫عىل مالمح عاش َقين‬
‫خيال إله يلهو‬
‫‪/‬‬
‫املكان هنا ناضج بمواسم الحب والقمح والفقد‬
‫والخيبات‬
‫تتوازى املتناقضات عىل كف تتسول الحياة‬
‫لتستبقي األثر‬
‫للموت وجه أقل‪ ..‬للبقاء‬
‫‪/‬‬
‫كلنا مهزومون أمام الذاكرة‬
‫األرصفة التي حفرت ُخطا الالهثين إىل انعتاقهم‬
‫املقاهي العتيقة وهي تخمر أحاديث من رحلوا‬
‫يف أغنيات الشتاء الطويلة‬
‫عازفو الغيتار يف األزقة الضيقة‬
‫وهم يرتقون البعد بموسيقى تعصر الزمن عند‬
‫مشهد وحيد‬
‫مشهد أخير‬
‫قبل افتراق الوجوه عن مالمحها‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫محمد النحراوى‬

‫سنة أولى ُحزن‬

‫وقلبي مفيش وال مرة مصيبة تح َّوق فيه‬ ‫اتناشر شهر يا حاج سعيد‬
‫وببرر قسوة قلبي لنفسي بإن القلب معتَّق ُحزن‬ ‫ماصعبش عليك الدار اليل ميتمها غيابك‬
‫وفيه اليل مكفيه‬ ‫ماصعبش عليك الحزن يف صوت أحبابك‬
‫اتناشر شهر ولسه القلب معلق شارته السودة‬
‫كان نفسي تاخدني بإيدك نطلب بنت الناس‬ ‫ولسه أنا عيل قاعد يبكي لوحده يف ُركن األوضة‬
‫كان نفسي تشوفني الحاجة اليل اتمنيتها يف وسط‬ ‫ماصعبش عليك قفالن الورشة ودق شاكوشك‬
‫الناس‬ ‫كان أول مرة أشوف العجز مالكني‬
‫كان نفسي أبوس عىل رجلك‪..‬‬ ‫ملا ملحتك ماشي برجلك ناحية موتك‬
‫وقت ما يبقي نجاحي مجمع كل الناس‬ ‫وأنا ماقدرتش أحوشك‬
‫كان نفسي‪ ..‬ونفسي‪ ..‬ونفسي‪ ..‬ونفسي‪ ..‬بس‬
‫خالص‬ ‫عمرك ما شكيت من ضيق الحال‬
‫كان ستر اهلل صبارة ونظرة عينك لقمة حالل‬
‫اتناشر شهر‬ ‫كانت ملة كل عيلتنا معاك‬
‫من يوم ما مشيت باكتب لِك كل ما قلمي يقول يا‬ ‫تشبه «بكره العيد يا عيال”‬
‫كتابة‬
‫كل ما أملي يقول يا كآبة‬ ‫اتناشر شهر وواحد صاحبك ليلة امبارح رن عليك‬
‫وأنا بكتب ليك دلوقتي يف ذكرى فراقنا األوىل‬ ‫“ايه يا عم الحاج ازيك فين أراضيك”‬
‫قال يعني أنا ناسي بإنك ُمت يا بابا‬ ‫‪..‬وأنا أرد وأقول‬
‫الحزن يف خطي‬ ‫ماصعبش عليك وال مره ُ‬ ‫باهلل ما تخربش جرح يف قلبي اهلل يرضيك‬
‫طب شوف يا سي بابا‬
‫أنا جاى أزورك بكره وقبل ما أزورك أقول َلك‬ ‫واهلل يا بابا املوت مابقاش بيخض‬
‫َشرطي‬ ‫وبقرأ كل دقيقة حوادث‪ ،‬موت وكورونا وحرق‬
‫أنا عاوز أصعب مره عليك‬ ‫بيوت‬
79
‫‪80‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫سمير المنزالوى‬

‫تشابه‬

‫وصل إىل نهاية الشارع امللتف حول خصر البلدة‬ ‫اآلن يؤدى فهمي مبيض املحارة‪ ،‬فقرته الفكاهية‬
‫كالحزام‪.‬‬ ‫متقمصا دور رئيس املدينة يف مولد النبي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫السنوية‪،‬‬
‫توقف ليلقى خطابه السنوي ومن ثم تنتهى الفقرة‪.‬‬ ‫يرتدى بذلة وربطة عنق‪ ،‬ويسير حوله شباب‬
‫صعد فوق مقعد وصاح‪:‬‬ ‫مدججون ببنادق خشبية‪.‬‬
‫‪ -‬فهمت مشاكلكم‪ ،‬وتأملت من أجلكم‪ .‬كل شيء‬ ‫ثمة شخص يحمل كاميرا ويهرول أمامه‪.‬‬
‫سيتغير إىل األفضل‪ ،‬و‪..‬‬ ‫عيناه املليئتان بالبهجة ترمقان النسوة يف الشرفات‪،‬‬
‫صوت غاضب كالنمر يزأر يف الزحام‪:‬‬ ‫ثم تهبطان إىل الحشد املحيط به‪ .‬تتحرك يمناه‬
‫‪ -‬أنت كاذب ولص‪.‬‬ ‫وهبوطا‪ .‬ابتسامته تبرز فمه الواسع‬ ‫ً‬ ‫صعو ًدا‬
‫اقترب الشاب حتى المس كتفه‪ .‬قفزت كلماته حارة‬ ‫وأسنانه األمامية املصبوغة بالتبغ!‬
‫تشوى وجهه‪:‬‬ ‫نريد وظائف لألوالد‪.‬‬
‫كفى نهبًا وفسا ًدا‪ ،‬رائحتك تزكم األنوف‪.‬‬ ‫يشير بطرف سبابته‪:‬‬
‫‪ -‬حاضر‪.‬‬
‫أراد أن يحول املوقف إىل مزحة‪ ،‬فابتسم وقال‬ ‫املياه سيئة‪ ،‬وال توجد مجارى‪.‬‬
‫هادئًا‪:‬‬ ‫يعاود اإلشارة‪:‬‬
‫‪ -‬نادوا عىل والده ليؤدبه‪ ،‬وإال فإنني سأتوىل ذلك‪.‬‬ ‫‪ -‬حاضر‪.‬‬
‫الحراس مل يكن لهم دراية بمثل هذا املوقف‬ ‫ال أحد يضحك‪ ،‬أو يسخر‪.‬‬
‫الطارئ‪.‬‬ ‫يتوقف أمام تل من القمامة‪ ،‬تمرح فيه القوارض‬
‫تجمدوا كأنهم يف لوحة‪ .‬امتألت وجوههم بغيوم‬ ‫والذباب‪:‬‬
‫بلهاء‪ .‬الحشد امللتف فقد ألسنته‪ .‬كذلك النسوة يف‬ ‫‪ -‬أين رئيس القرية؟‬
‫الشرفات‪.‬‬ ‫يجذب أقرب الواقفين‪ ،‬يوبخه بنبرة عالية‪:‬‬
‫هجم الشاب عىل فهمي وأطبق يديه عىل رقبته‪،‬‬ ‫‪ -‬أنت فاشل‪ ،‬اترك مكتبك من اليوم‪.‬‬
‫جره إىل األرض‪.‬‬‫حاول أن يقاوم‪ ،‬لكن النمر الرهيب َّ‬ ‫تصفيق حاد يرج املكان‪:‬‬
‫وجم الجميع كأنهم موتى‪ ،‬مل تعد العيون ترى‬ ‫‪ -‬عاش فهمي حبيب القرية‪.‬‬
‫سوى شبحين يتقاتالن‪ ،‬ويتمرغان يف التراب‪.‬‬ ‫يل ِّوح بيده سعي ًدا‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫حجاج أدول‬

‫الكاميرا الكاشفة‬

‫‪-2‬‬ ‫‪-1‬‬
‫يف الداخل أحد الحراس يتابع شاشة الكاميرا التي‬ ‫يتسلل الرجل مقتر ًبا من الباب الخشبي املفتوح‪ ،‬ال‬
‫تراقب الباب‪ ،‬ينادي عىل زميله ضاح ًكا ليأتي‬ ‫يريد أن يزعج الكلب الرابض أمام الباب‪ ،‬فالكلب‬
‫ويتابع ما يشاهده‪ ،‬يتابعان م ًعا‪ ..‬رجل ضخم‬ ‫ضخم شرس‪ ،‬وقد أحس به يرفع رأسه وينظر إليه‬
‫شرس يقف أمام الباب‪ ،‬وكلب اقترب ليتسلل‬ ‫شذرا‪ ،‬يقترب الرجل بزاوية ليتفادى الكلب‪ ،‬قام‬
‫ً‬
‫ويدخل من الباب‪ ،‬الحارس وزميله يتابعان‪ ..‬يقترب‬ ‫الكلب متحف ًزا وزام وهو يستعرض أسنانه ونابيه‪،‬‬
‫الكلب بزاوية‪ ،‬الرجل يواجه الكلب ويشيح له أن‬ ‫ً‬
‫مفتعل الثبات ومالمحه تعطي الثقة‬ ‫يتقدم الرجل‬
‫ً‬
‫شمال ويمينًا مص ًّرا عىل دخول‬ ‫يبتعد‪ ،‬الكلب يحاور‬ ‫والوقار‪ ،‬يظن أنه بهذا سيرهب الكلب ويبعده عن‬
‫الباب‪ ،‬الرجل ينفخ نفسه ويزوم‪ ،‬ويشيح بيديه‪،‬‬ ‫الباب‪ ،‬الكلب مل يبتعد‪ ،‬وأصر عىل منع الرجل من‬
‫ويركل بساقه يف الهواء ليبعد الكلب‪ ،‬والكلب يزوم‬ ‫الدخول‪ ،‬الرجل يشيح بذراعيه ويركل بساقه يف‬
‫ويستعرض أسنانه‪ ،‬ونابيه مهد ًدا‪ ،‬يحاول الكلب‬ ‫الهواء ليخيف الكلب‪ ،‬الكلب تقهقر خطوة ثم عاد‬
‫مجد ًدا والرجل مستمر يف التشويح بذراعه وساقه‪،‬‬ ‫خطوة لألمام‪ ،‬يف هذه العودة نبح نباح الغضب‬
‫الكلب ينبح غاضبًا والرجل يسبه غاضبًا‪.‬‬ ‫والتهديد‪ ،‬يتكرر األمر أكثر من مرة‪ ،‬ال الرجل‬
‫ال الكلب انسحب وال الرجل ترك إصراره عن املنع‪،‬‬ ‫انسحب وال الكلب ترك إصراره عن املنع‪ ،‬والباب‬
‫والباب الخشبي مفتوح‪.‬‬ ‫الخشبي مفتوح‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫سعيد سالم‬

‫المتباعدون‬

‫لو مل يكن مقصو ًدا‪ .‬اهلل الرحيم ال يمكن أن يؤذي‬ ‫يف بداية الفزع من الوباء باعد أنور بين مقاعد املقهى‬
‫عباده‪ .‬استلب الفيروس من املشايخ والكهنة دورهم‬ ‫مرارا باإلذاعة‬
‫ً‬ ‫طبقًا لإلجراءات االحترازية التي ترددت‬
‫وأحط من شأنهم‪ .‬يقولون إن اهلل يعاقب عباده عىل‬ ‫والتلفزيون‪ .‬مل يعد الرواد يتصافحون‪ .‬اكتفوا للتحية‬
‫كثرة ذنوبهم‪ .‬يبررون قولهم بأن الفيروس مل يترك‬ ‫بإشارات األيدي عن بعد‪ .‬انفضت موائد الطاولة‬
‫بل ًدا يف العامل دون أن يصيبه ولو بدرجات متفاوتة‪.‬‬ ‫والكوتشينة والدومينو ومنع تدخين الشيشة‪ .‬هجر‬
‫اهلل عدل عادل فكيف يعاقب شعوب األرض الفقيرة‬ ‫كثير من الرواد املقهى بعد أن أصبح طعمها ماسخً ا‬
‫مثلما يعاقب الشعوب الغنية التي تعيش يف رخاء‬ ‫وأصبح أصحابها يشتكون بمرارة من نقص الغلة‪.‬‬
‫ووفرة عىل استنزاف خيرات الشعوب األخرى؟‬ ‫بعد مرور عام عىل ظهور الوباء ورغم عدم اختفائه إال‬
‫تعيش عاطفتا األمومة واألبوة مأساة كبري خوفًا‬ ‫أن املصافحة باليد قد عادت‪ ،‬وأصبحت مقاعد املقهى‬
‫عىل األوالد واألحفاد‪ .‬األوالد واألحفاد يعيشون يف‬ ‫متقاربة وكثر امللتفون حول العبي الطاولة والشطرنج‬
‫رعب خوفًا عىل أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم‪ .‬أحدث‬ ‫وكأن شيئًا غير عادي مل يحدث‪ .‬من حق كلمة التباعد‬
‫التواجد الجماعي اإلجباري يف البيت شيئًا من‬ ‫أن تحصل عىل لقب كلمة القرن الحادي والعشرين‪.‬‬
‫التقارب والتفاهم بين أفراد األسرة‪ .‬تبين للبعض‬ ‫مل تستخدم هذه الكلمة قبل ظهور الكورونا النتفاء‬
‫أنه مل يكن يعرف شيئًا عن البعض اآلخر الذي هو‬ ‫وجود املبرر‪ .‬أن تتباعد يعني أن تكون بعي ًدا بجسدك‬
‫من دمه ولحمه وصهره ونسبه‪ .‬كوارث اإلنترنت‬ ‫عن اآلخرين كإجراء صحي حتمي‪ .‬الذي حدث أن‬
‫واملوبايل واألجهزة اإللكترونية التي دعمت التباعد‬ ‫التباعد بين الناس قد تجاوز الجسد إىل الروح‪ ،‬حين‬
‫وسهلت االتصال‪ ،‬تحولت إىل أدوات حتمية للتواصل‬ ‫ساد الخوف من املوت وسادت الكآبة وعم االكتئاب‬
‫واملعرفة مل يعد هناك غنًى عنها‪ .‬النافع أصبح ضا ًّرا‬ ‫والشعور بال جدوى أي شيء‪.‬‬
‫والضار أصبح ناف ًعا‪ .‬فلسفات القرن التاسع عشر‬ ‫أن أصيل الجمعة يف مسجد عيل بن أبي طالب بسموحة‬
‫والقرن العشرين مل تفلح يف العثور عىل تفسير لحال‬ ‫وأنا نائم يف فندق بالنرويج‪ ،‬أو أصليها يف بحري‬
‫اإلنسان يف ظل هذه األزمة املفاجئة وال ملوقفه من‬ ‫بمسجد املرسي أبو العباس من ستوكهومل‪ ،‬فاألمران‬
‫الكون والحياة‪ .‬الصالة تحت حصار الفيروس جعلت‬ ‫يتساويان عند متأمل دؤوب ممل مثيل‪ .‬هل خاف‬
‫أمرا حتميًّا‪ .‬التأمل يف معني الحياة‬ ‫االقتراب من اهلل ً‬ ‫الناس من املوت أكثر من خوفهم من واهب الحياة؟‬
‫واملوت صار وجبة ذهنية تتكرر خمس مرات يف اليوم‬ ‫أن تأخذ باألسباب خير من أن تركن إىل اليأس‬
‫عند املسلمين وعد ًدا آخر عند اليهود واملسيحيين‪.‬‬ ‫وتستسلم له فتموت حيًّا‪ .‬كيف أعيش ويف ذات الوقت‬
‫امللحدون ليس لديهم سوي تفسيرات علمية عاجزة عن‬ ‫ال ألقي بنفسي إىل التهلكة‪ .‬أصبحت الحياة يف مجملها‬
‫التوصل إىل وسيلة ناجعة للقضاء عىل الفيروس‪ .‬ثبت‬ ‫مجموعة من التبريرات املتناقضة‪ .‬تأكد لإلنسان أنه‬
‫من تأميل لحالهم أنهم أضعف املخلوقات يف مواجهة‬ ‫إشكالية اإلنسان‪ .‬ثقلت لفظة الحب عىل األلسنة‪ .‬مل‬
‫الجائحة عقليًّا ونفسيًّا‪.‬‬ ‫يوما مقولة األنبا كيرلس أن يف البعد جفوة حتى‬‫أنس ً‬
‫‪83‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫كثيرا‬
‫الكون األبدية‪ .‬دول البترول الخليجية ال تهتم ً‬ ‫كاد امللل يقتلني وأنا معتقل يف بيتي لعدة أشهر‬
‫عموما فقد شهدت منظمة األوبك للدول‬ ‫ً‬ ‫بهذا األمر‪.‬‬ ‫متتالية‪ .‬أتابع يف قلق أخبار انتشار الوباء يف بالدي‬
‫املصدرة للبترول يف أواخر عام ‪ 2020‬حالة من‬ ‫ويف العامل‪ .‬أعداد املصابين‪ .‬أعداد املوتى ومن بينهم‬
‫الفوضى بعد التراجع الحاد يف أسعار النفط حتى‬ ‫شقيقي‪ .‬أعداد الذين تم شفاؤهم ومن بينهم أعز‬
‫وصل سعره يف إحدى شركات الخام األمريكية إىل‬ ‫صديقاتي مشمش‪ .‬تيبست مفاصيل وازداد وزني‬
‫رقما قياسيًّا يف االنخفاض مل‬ ‫ً‬
‫مسجل ً‬ ‫ما دون الصفر‬ ‫من طول الجلوس والرقاد ومشاهدة التلفزيون‬
‫يعرفه العامل من قبل‪.‬‬ ‫واجترار أنباء النكسات والحروب العربية‪ ،‬واغتصاب‬
‫لكل هذه األسباب املقرفة أشعلت سيجارة ممعنًا يف‬ ‫الضحكات من أفالم األبيض واألسود القديمة‪ ،‬خاصة‬
‫شرودي الدائم الذي ازداد وتضخم من بعد الكورونا‪،‬‬ ‫حين يضحك عبد الوهاب ً‬
‫قائل ها ها ها يف آلية‬
‫حتى أنني اعتدته بل أدمنته بالفعل‪.‬‬ ‫قاتلة ال تمت إىل الضحك بصلة‪ .‬نزلت مرات قليلة‬
‫اقترب مني كهل أشعث ذو لحية متسخة وعينين‬ ‫خالل األشهر املاضية‪ .‬مرة ذهبت فيها إىل حجازي‬
‫زائغتين‪ .‬ال يرتدي الكمامة الواقية‪ .‬ربما مل يسمع‬ ‫بالعطارين إلصالح عودي العتيق‪ .‬هو رجل يحتكر‬
‫عنها‪ .‬ربما ال يدري شيئًا عن الوباء من أصله كما‬ ‫هذه املهنة املنقرضة‪ .‬أسعاره خرافية لكن ال بديل عنه‬
‫يوحي شكله بذلك‪ .‬تغطي جلبابه املمزق سترة بالية‬ ‫فهو شديد املهارة‪ .‬املرة الثانية كانت الستالم العود‬
‫يستعصي لونها عىل الوصف‪ .‬يضع يف قدميه مزقتين‬ ‫بعد إصالحه‪ .‬مرة أخرى نزلت لشراء ساندوتشات‬
‫جلديتين ال تمت معاملهما بصلة إىل عامل األحذية‪ .‬يف‬ ‫طعمية من هوليوود بوليفار يف لوس انجيلوس‬
‫البداية شعرت لوهلة بالتقزز من هيئته‪ .‬خشيت أن‬ ‫بوالية كاليفورنيا الساحرة‪ .‬عدت يف دقائق إىل البيت‬
‫يجلس بجواري فيصيبني منه مكروه‪ .‬رأيته يحمل‬ ‫مرتد ًيا كمامتي التي كتمت أنفاسي‪ .‬صاحب املحل‬
‫املاليين من فيروسات الكورونا بداخله وخارجه‪ .‬كنت‬ ‫عراقي شديد البخل يميل إىل الحديث يف السياسة‬
‫واثقًا أنه مات من قبل‪ ،‬لكني مل أعرف كيف عاد إىل‬ ‫ويستخسر إضافة قطعة إضافية من الخيار املخلل إىل‬
‫الحياة ليسقط بحطامه اإلنساني فوق مشاعري‪ ،‬قاط ًعا‬ ‫الساندوتش‪.‬‬
‫عيلَّ مجال التأمل الشارد الذي جئت هنا من أجل‬ ‫قررت النزول إىل مقهى سيدي جابر الكائنة بجوار‬
‫ممارسته‪ .‬بعد ذلك شعرت نحوه بمزيج من اإلشفاق‬ ‫املسجد دون أن تواتيني الجرأة عىل مجرد التفكير يف‬
‫والتعاطف‪ ،‬مل يخل من رغبة دفينة يف استطالع خبيئة‬ ‫صالة املغرب باملسجد خوفًا من املوت‪ .‬ما املوت؟ قلت‬
‫أمره ضمن جوالتي الستطالع طباع البشر يف فترة‬ ‫أصليها يف البيت ً‬
‫أول ثم أنزل‪ .‬مل أستطع االنتظار‪.‬‬
‫الكمون اتقاء لشر الفيروس‪.‬‬ ‫نزلت قبل األذان‪ .‬سحبت مقع ًدا إىل مكان بعيد عن‬
‫مل أستبعد أن أكون مكانه يف يوم من األيام دون‬ ‫مدخل املقهى مراعاة للتباعد القطراني‪ ،‬ورغبة يف‬
‫الدخول يف تفاصيل ال أهمية لها‪ .‬تمنيت أن يختار‬ ‫التأمل الذي أصبح عميل الوحيد وشغيل الشاغل يف‬
‫مقعده بالقرب مني‪ .‬أحكمت الكمامة فوق أنفي وفمي‪،‬‬ ‫هذه الحياة املخيفة التي أصبحت قائمة عىل الرعب‪ .‬هل‬
‫أما الشرود املمنهج فاستعادته ميسورة بعد ذلك‬ ‫حرصا عىل التباعد؟‬‫ً‬ ‫توقف الناس عن ممارسة الجنس‬
‫ألنني كذاب‪ .‬فوجئت به يجلس أمامي عىل األرض ثم‬ ‫ما معنى أن يتباعد زوجان؟ هل فترت الرغبة الجنسية‬
‫يقوم فجأة يف نفس اللحظة ويسحب مقع ًدا ليجلس‬ ‫عند الرجال أم عند النساء أم عندهم جميعا؟ يقول‬
‫ً‬
‫متأمل يف براءة‬ ‫عليه بجواري مباشرة‪ .‬نظر إ َّ‬
‫يل‬ ‫البعض إنها ازدادت كما ثبت من قبل أنها ازدادت‬
‫شاخصا‬
‫ً‬ ‫متوحشة‪ ،‬ثم يف ملح البصر تحول عنِّي‬ ‫خالل الحروب وأثناء الغارات وتحت قصف القنابل‬
‫ببصره نحو الشجرة الكبيرة شديدة االخضرار‬ ‫والصواريخ يف جو من اإلظالم التام‪ .‬اإلحصائيات مل‬
‫القابعة أمام املسجد‪ .‬كانت السماء تموج بمصهور من‬ ‫تجب عن هذه األسئلة‪ .‬ما موقف الحب من الفيروس‬
‫األلوان الداكنة الجميلة املؤذنة بالغروب‪ .‬سأله أنور‬ ‫وما موقف الفيروس من الحب؟ سؤال ال تجيب‬
‫بجفاء‪:‬‬ ‫عنه إال شالالت سويسرا وال تعرف سره إال جبال‬
‫‪ -‬نعم؟!‬ ‫األلب ساعة الغروب حين تنسكب يف السماء ألوان‬
‫‪84‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫‪ -‬شاي‬
‫‪ -‬الفلوس!‬
‫مخرجا من كل جيب‬
‫ً‬ ‫راح يعبث يف ثقوبه املهترئة‬
‫قطعة معدنية من فئة الجنيه أو نصفه‪ .‬ألقاها يف يد‬
‫أنور بذات البراءة ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬كل ما معي‪ ..‬هه‪.‬‬
‫نظر أنور يف يأس إىل العملتين‪ .‬قيمتهما دون ثمن‬
‫متمتما‬
‫ً‬ ‫املشروب‪ .‬وضعهما يف جيبه بصبر نافد‬
‫لنفسه بكلمات غامضة أعتقد أنها كانت استعانة باهلل‬
‫عىل الصبر‪ .‬بهدوء أصدر إليه األوامر األربعة اآلتية‬
‫بتحديد قاطع‪:‬‬
‫‪ -‬أقعد هنا‪ .‬ال تتحرك من مكانك‪ .‬اشرب الشاي‪،‬‬
‫وامش عىل طول‪.‬‬
‫لكثرة ترددي عىل هذا املقهى قبل الجائحة تبين يل أن‬
‫الصبر والصمت هما السمتان األساسيتان لشخصية‬
‫أنور التي تذكرنى ‪-‬ولست أعرف ملاذا‪ -‬بالجمل‬
‫العربي ذي السنامين وهو يحرك فكيه مجت ًّرا دهشته‬
‫من البشر‪ .‬لست أدري كيف يمكنه بغير التحيل بهاتين‬
‫الصفتين أن يتحمل التعايش اليومي مع زبائن من‬
‫بينهم املجاذيب واللصوص واملتسولين واملتشردين‬
‫أيضا من هم مثيل من عباد اهلل‬ ‫والبلطجية‪ .‬من بينهم ً‬
‫الهامشيين الذين ال يراهم املجتمع ‪-‬حين يقتضي‬
‫األمر فقط‪ -‬إال من خالل عين مجهرية ذات قوة‬
‫تكبيرية عظمي‪.‬‬
‫جاء أنور بالصينية وعليها كوب الشاي وبه امللعقة‬
‫وبجواره كوب من املاء املثلج‪ .‬أعجبني أنور أن عامله‬
‫يف مساواة مع أي زبون عادي‪ .‬رحت أرقب صاحبنا‬
‫بطرف عيني وهو يقلب السكر يف كوب الشاي بسرعة‬
‫شديدة جعلت ما يقرب من ثلث الكوب ينسكب عىل‬
‫الصينية‪ .‬كنت عىل ثقة من أن ما يحدث يف العامل كله‬
‫كثيرا بقدر ما‬
‫‪-‬مثلما يحدث أمامي اآلن‪ -‬ال يعنيني ً‬
‫َّ‬
‫يعنيني الخوف من الفيروس القاتل‪ .‬نظر إيل فجأة‬
‫ليسألني بنبرة من يعرف اإلجابة‪:‬‬
‫‪ -‬املاء يكمل الناقص؟‬
‫هززت رأسي مؤي ًدا وقرون استشعاري يف ذروة‬
‫يقظتها دون أن يتبدد شرودي املرهون برغبتي يف‬
‫التأمل‪ .‬أضاف املاء يف رعونة فامتألت كوب الشاي‬
‫عن آخرها وفاضت من جديد دون أي اهتمام من‬
‫يوما عىل االنفجار‬
‫جانبه‪ ،‬وكانت مرارتي قد أوشكت ً‬
‫‪85‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫حين فشل الطب يف عالجي لوال أن استعنت باإللهام‬


‫واالستغناء والتأمل الشارد‪ .‬بدأ يشرب محلول الشاي‬
‫املخفف مع إصراره عىل بقاء امللعقة بداخل الكوب أثناء‬
‫يل فجأة وقال كمن ينبهني إىل حدث‬ ‫الشرب‪ .‬التفت إ َّ‬
‫خطير‪:‬‬
‫‪ -‬اللحمة‪.‬‬
‫‪ -‬مالها اللحمة؟!‬
‫‪ -‬يوزعونها يف عيد الضحية‪.‬‬
‫‪ -‬آه‪ ..‬كل سنة وانت طيب‪.‬‬
‫كانت رائحة الشواء منبعثة من الرصيف املقابل‬
‫للمقهى ككل يوم‪ .‬عربة صغيرة عليها موقد فحم يقف‬
‫أمامه شاب سمين لدرجة االستدارة الكروية الكاملة‪.‬‬
‫يقوم وحده بالعمل كله‪ .‬خوف شديد مجهول الهوية‬
‫آخذ بمالمحه وأنفاسه وحركاته‪ ،‬حتى وهو يتفحص‬
‫من تحت عينيه باهتمام خفي مؤخرات النساء الالتي‬
‫يعبرن الطريق‪.‬‬
‫بجوار العربة يجلس أبو جابر‪ .‬ال يفارق مقعده اال‬
‫للتبول باملقهى‪ .‬ترتسم عىل وجهه عالمات هم وسخط‬
‫يوما منذ اعتدت الجلوس عىل‬ ‫وغضب مل تنحسر عنه ً‬
‫هذا املقهى‪ ،‬حتى بعد أن أخذ جرعتي املصل الواقي‬
‫من الكورونا وأصبح عىل يقين من أن الفيروس لن‬
‫يصيبه‪ .‬عمله الوحيد هو أن يتسلم الفلوس من جابر‬
‫الذي يحاسب الزبائن ويوقد الفحم ويقطع اللحم‬
‫ويزنه ويشويه ويضعه يف األرغفة الفينو وفوقه‬
‫الطحينة والسلطة‪.‬‬
‫‪ -‬أيووووووه‪ ..‬أنا أموت يف اللحمة‪ .‬مقاس رجيل‬
‫أربعة‪ .‬أالقي عندك مداس؟‬
‫‪ -‬أنت رجل طيب يا‪ ..‬ما اسمك؟‬
‫‪ -‬اسمي حسن وحياة النبي‪.‬‬
‫مستفسرا‬
‫ً‬ ‫ناديت أنور‪ .‬أعطيته عدة جنيهات‪ .‬نظر إ َّ‬
‫يل‬
‫دون أن يتكلم‪:‬‬
‫‪ -‬هات له رغيف لحم من عند جابر‪.‬‬
‫ما إن استدار أنور حتى صاح حسن بلهجة عسكرية‬
‫آمرا أنور‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هات كفتة!‬
‫‪ -‬حاضر‪.‬‬
‫غامضا ش َّدني إىل‬‫ً‬ ‫راح يتأملني بعينين تفيضان شجنًا‬
‫ماض سحيق‪ .‬أخرج من جيبه ورقة متهالكة بها بقايا‬ ‫ٍ‬
‫أقراص طعمية غير متماسكة‪ ،‬قضم منها قضمتين‬
‫‪86‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أن أتحرر من مالبسي الخارجية والداخلية أبدأ يف‬ ‫تساقط معظمهما يف كوب الشاي‪ .‬وضع الورقة ببقية‬
‫التحرر من جلدي ولحمي وعظمي‪ .‬أتحول إىل روح‬ ‫محتوياتها يف جيبه من جديد‪.‬‬
‫شاردة تستوعب الكون بما يحوي من أسرار‪.‬‬ ‫‪ -‬كم عمرك يا حسن؟‬
‫وقفت امرأة ممسكة بمالءتها لتخفي بها جانبًا من‬ ‫‪ -‬أربعة‪.‬‬
‫وجهها‪ .‬عندما ملحها أنور أسرع نحوها باهتمام‪.‬‬ ‫‪ -‬تقصد أربعة وخمسين؟‬
‫همست يف أذنه بكلمات من املؤكد أنها كانت جا َّدة‪.‬‬ ‫‪ -‬أربعة‪.‬‬
‫هز رأسه عالمة قرب نفاد صبره‪ ،‬ثم أخرج من جيبه‬ ‫‪ -‬أتسكن هنا يف سيدي جابر؟‬
‫عدة جنيهات أعطاها لها فانصرفت راضية‪ .‬خمنت أنها‬ ‫يل تارة وإىل‬ ‫قليل عن جلسته‪ .‬راح ينظر إ َّ‬ ‫استدار ً‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫زوجته رغم أن ما يحدث من حويل ال يعنيني ً‬ ‫لدي‬
‫األفق الدموي البعيد تارة أخرى‪ .‬بذلت أقصي ما َّ‬
‫االستغراق يف ال شيء ال يفرق بين الصمت والضجيج‬ ‫من جهد حتى أتوصل إىل أي خيط يجمع بين شتات‬
‫حتى حين أطفو من حين آلخر إىل أي شيء‪ ،‬فإن حبل‬ ‫جمله املتتابعة كطلقات الرصاص‪:‬‬
‫التأمل ال ينقطع‪ ،‬ويظل الحال هو الحال‪ .‬كل شيء‬ ‫‪“ -‬ضابط كبير‪ .‬رتبة‪ .‬جسمه يشبه البغل‪ .‬البنت‬
‫صحيح يف مكانه الخطأ‪.‬‬ ‫سقطت من القطار‪ .‬ضرب نار‪ .‬نزلت يف املطار‪.‬‬
‫حامل رغيف الكفتة‪ .‬وضعه أمام حسن‬ ‫ً‬ ‫جاء أنور‬ ‫أعطوني علقة كلب يف جامع‪ .‬مايل أنا بالناس‪ .‬قلت لها‬
‫وانصرف يف حيادية بجموده املعتاد‪ .‬انتظرت أن‬ ‫اقعدي يف البيت يا بنت الكلب‪ .‬مل تسمع الكالم‪ .‬دمه‬
‫ينقض حسن عىل الرغيف فيلتهمه بشراهة‪ ،‬لكنه أهمله‬ ‫ساح قدامي‪ .‬خمسة وعشرين سنة‪ .‬مظاهرة خمسين‬
‫وكأنه مل يره عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫مليون‪ .‬يا جاه النبي‪ .‬أنا آكل الحديد‪ .‬هو حر‪ .‬أنا‬
‫‪ -‬كل يا حسن‪.‬‬ ‫يلزمني أعيش‪ .‬غني مبسوط وارث شحات هو حر‪.‬‬
‫‪ -‬لكن كله إال الظلم‪ .‬أنا كسرت دماغه قراقيش‪.‬‬ ‫ربك كريم منه هلل‪ .‬منكم هلل ياكفرة!”‪.‬‬
‫‪ -‬يا ساتر‪.‬‬ ‫العامل الفوضوي الذي يأتي فيه جنود من آخر الدنيا‬
‫‪ -‬رموني يف السجن‪ .‬ياما قلت لها اقعدي يف البيت‪.‬‬ ‫ليحتلوا بل ًدا آخر ثم يشنقون رئيسه ثم يعودون إىل‬
‫‪ -‬لألسف مل تسمع كالمك‪.‬‬ ‫بالدهم بدون حساب‪ ،‬هو نفس العامل الذي جعل‬
‫‪ -‬نسوان يعني مصايب‪ .‬إنت فاهم‪ .‬هه؟! لو كان‬ ‫حسن يقول هذا الكالم‪ .‬حين أشركني يف تحمل‬
‫عندي منها عيل كان شوى يل لحمة‪.‬‬ ‫مسئوليته ‪-‬حسبما اعتقدت بعد فضفضته الغامضة‪-‬‬
‫‪ً -‬‬
‫فعل‪.‬‬ ‫أشعلت له سيجارة متمنيًا البتسامتي أن تتحرر من‬
‫‪ -‬قلت لك مقاسي أربعة وبيتي مفتوح لكل فقير‪.‬‬ ‫برزخها‪ .‬أدخل أكثر من نصف السيجارة يف فمه‪.‬‬
‫‪ -‬ربنا يبارك لك‪.‬‬ ‫سال لعابه عىل ورقها‪ .‬راح يسحب أنفاسها يف تواصل‬
‫‪ -‬حتى خوفو كان فاتح مكتبه للشعب‪.‬‬ ‫شره حتى سقط نصفها عىل األرض‪ .‬التقطه ووضعه‬
‫‪ -‬هو خوفو كان عنده مكتب يا ابو عيل؟‬ ‫يف كوب الشاي‪ .‬أخذ يقلب ما تبقي يف الكوب من ماء‬
‫‪ -‬آه يا كالب يا أوالد الجزمة‪.‬‬ ‫وشاي وطعمية وتبغ محترق وغير محترق‪ .‬ألقى‬
‫كان أنور يف تلك اللحظات مثيل األعيل يف حيادي‬ ‫بالنصف املتبقي عىل األرض وظل يدهسه بقوة ملدة‬
‫التاريخي‪ ،‬أما انشغال قلبي بين الحيرة والغضب‬ ‫طويلة‪.‬‬
‫واالستسالم واألمل فقد أوكلته إىل رب القلوب‪.‬‬ ‫ابتهاجا بهدف كروي شاهدوه‬ ‫ً‬ ‫فجأة صاح رواد املقهى‬
‫انشقت األرض فجاة عن صبي وسيم ال يزيد عمره‬ ‫عىل شاشة التلفزيون الذي يتصدر موق ًعا علو ًّيا‬
‫عن عشرة سنوات‪ .‬ال ينم ملبسه عن فقر أو حاجة‪.‬‬ ‫باملقهى‪ ،‬بينما انبعث من الراديو ‪-‬املجاور له‪ -‬صوت‬
‫انقض عىل املائدة وخطف الرغيف قبل أن يلمسه‬ ‫بلووري متوهج ملنشدة دينية شعبية تغنى‪:‬‬
‫حسن‪ .‬طبائع البشر الذين يحتلون كل مساحات‬ ‫“عمرانة يا بوابة واصحابك طيبين”‬
‫اهتمامي تطاردني بإلحاح وأنا ال أشكو من الزائدة‬ ‫“راحوا يزوروا النبي ورجعوا ساملين”‬
‫الدودية‪ .‬جرى بسرعة يف اتجاه املسجد مختفيًا بين‬ ‫أعمق لحظات التأمل هي تلك التي أعيشها عار ًيا‪ .‬بعد‬
‫‪87‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫أعىل أثناء مرور جنازة أمام املقهى‪ .‬عقولهم تائهة‬ ‫دهاليزه‪ ،‬ويف نيويورك تم دفن نحو مليون من جثث‬
‫يف مناطق مختلفة تقع بين القارات السبع بعي ًدا عن‬ ‫املوتى الذين مل يطالب بهم أحد يف مقابر جماعية ال‬
‫جاذبية األرض‪ .‬فجأة قطع أبو جابر حواره مع أنور‬ ‫تحمل عالمات‪ ،‬يف جزيرة هارت املخصصة لدفن‬
‫الذي اندفع مسر ًعا يطارد الصبي‪ .‬بدت الدهشة‬ ‫الفقراء واملجهولين‪ .‬تكررت ظاهرة املقابر الجماعية‬
‫الشديدة عىل وجه حسن الذي كان يتأمل ما يحدث‬ ‫يف مدينة قم اإليرانية رغم ادعاء الحكومة بأن مراسم‬
‫وكأنه ال شأن له به وال يعنيه يف شيء‪ .‬طمأنته ً‬ ‫الدفن اإلسالمية أجريت عىل املوتي‪ .‬يف إحدى القرى‬
‫قائل‪:‬‬
‫املصرية امتنع األهايل عن تشييع جنازة رجل مات‬
‫‪ -‬وال يهمك يا ابو عيل‪ .‬أجيب لك ساندوتش غيره‬
‫بالكورونا ودفنه يف بداية الجائحة‪ ،‬وقد حمل جوزيف‬
‫ً‬
‫حال‪.‬‬ ‫ستالين ووزير خارجيته عىل أكتافهما النعش الذي‬
‫بدأ الراديو يذيع تعليقًا عىل نشرة أخبار الكورونا‪.‬‬ ‫كان يحمل رفات العبقري مكسيم جوركي وأنا مل‬
‫لجأت بعض دول أوروبا إىل استغالل مالعب الهوكي‬ ‫أجرب ‪-‬ولو ملرة واحدة‪ -‬أن أساهم يف حمل جثمان‬
‫الجليدية لحفظ الجثامين بها قبل دفنها‪ .‬أصبح الوضع‬ ‫أي ميت‪ ،‬كما مل أجرب محاولة الفهم الصحيح للفرق‬
‫مأساو ًّيا يف إيطاليا وإسبانيا‪ .‬صورت وسائل التواصل‬ ‫بين الحياة واملوت يف عامل يسوده العبث‪ .‬بدأ أهايل‬
‫االجتماعي مقاطع فيديو لجثث ملقاة يف الشوارع يف‬ ‫املوتى املصابين بالكورونا يتهاونون بشأن الجنازات‪.‬‬
‫أنحاء األكوادور وظهرت الجثث عىل جوانب الطرقات‬ ‫يف املستقبل لن تكون هناك جنازات‪ .‬عىل امليت أن‬
‫باملستشفيات والشوارع وعيل الشواطىء ويف مقالب‬ ‫يدفن نفسه هر ًبا من طبائع الخلق‪ .‬حضرت جنازة‬
‫القمامة‪ .‬اإلنسان‪ .‬البشر‪ .‬الناس‪ .‬البنو آدميين‪.‬‬ ‫موظف صديق يدعى أشرف‪ .‬يف صوان العزاء سمعت‬
‫تركت مئات الجثث لعدة أيام يف املخازن والشوارع‬ ‫زميلين له يتحاوران بصوت خفيض‪ .‬يبدو أنهما كانا‬
‫يحترمان حرمة املوت‪:‬‬
‫واملنتزهات العامة ملفوفة بالبالستيك األسود لعجز‬
‫‪ -‬الحمد هلل‪ .‬أصبحت درجته اآلن شاغرة‪.‬‬
‫املقابر عن التلبية وانهيار القطاعات الصحية‪ ،‬وعاد‬
‫‪ -‬لقد طال انتظاري لها من زمان‪.‬‬
‫أنور إىل املقهى بعد أن عجز عن اإلمساك بالفتى‪.‬‬ ‫‪ -‬لكني أحق بها منك‪.‬‬
‫سارع بتغيير مؤشر املحطة بعصبية‪ .‬ظهر الصبي‬ ‫‪ -‬كيف وأنا األقدم؟!‬
‫مرة أخرى يف أقصى امليدان يجري مسر ًعا وهو‬ ‫‪ -‬العبرة بالكفاءة وليست باألقدمية‪.‬‬
‫يقضم الرغيف بشراهة متحد ًيا الجميع وقال حسن‬ ‫ختم املقرئ تالوته وبدأ يرتجل خطبة وعظية‬
‫بهدوء شديد‪:‬‬ ‫تقليدية يرددها يف املآتم التي يحضرها‪ ،‬فتلقى‬
‫‪ -‬امللك فاروق كان يحب اللحمة‪.‬‬ ‫القبول واالستحسان من املعزين‪ .‬يهزون أدمغتهم‬
‫ثم وقف محر ًكا يديه بقبضتين مضمومتين هاتفًا‪:‬‬ ‫دليل عىل تصديق ما يقال حتى لو مل‬ ‫ويسارا ً‬
‫ً‬ ‫يمينًا‬
‫‪ -‬يعيش جمال عبد الناصر‪.‬‬ ‫يصدقوه‪ .‬استبد به الحماس يف لحظة عال بها صوته‬
‫وكان أبو جابر يصيح يف وجه ابنه السمين الخائف‬ ‫وراح يصيح صارخً ا‪:‬‬
‫‪ -‬أين أنت اآلن يا أشرف؟ أين أنت اآلن يا أشرف؟‬
‫دائما من ال شيء‪:‬‬
‫ً‬ ‫خر ساق ًطا من مقعده عىل األرض‪ .‬مات‪..‬‬ ‫وعيل الفور َّ‬
‫‪ -‬اشتغل يا جبان يا ابن الحمار‪.‬‬
‫وعندما ذهبت إىل صوان النساء ألصطحب زوجتي‬
‫بينما كان حسن يهمس مح ِّد ًثا كائنات هالمية ال يراها‬ ‫وهي الصديقة الحميمة لزوجة الراحل‪ .‬سمعتها تسأل‬
‫أحد سواه‪:‬‬ ‫زوجتى‪:‬‬
‫‪ -‬كل سنة وانتم طيبين‪.‬‬ ‫‪ -‬ما هي إجراءات الحصول عىل امليراث؟‬
‫ثم قام متسل ِّ ًل يف صمت إىل الشجرة‪ .‬تمدد تحتها عىل‬ ‫وكان أبو جابر واقفًا يؤنب أنور ألنه تأخر يف إحضار‬
‫األرض‪ .‬وضع نعليه املهترئتين تحت رأسه وأعطي‬ ‫تعميرة معسل‪ ،‬وأنور ينظر إليه بال عينين ويستمع‬
‫ظهره للكون‪.‬‬ ‫اليه بال أذنين‪ .‬وقف الجميع شاهرين سباباتهم إىل‬
‫‪88‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫خالد إسماعيل‬

‫معاش مبكر‬

‫خمس سنوات تُس َّمي األسطي حمدى‪ ،‬ويف مجتمع‬ ‫‪-1‬‬


‫املصنع شركة مصر لألسمدة‪ ،‬كنت العامل النقابي‬
‫املناضل‪ ،‬املنظم يف حزب شيوعي سري‪.‬‬ ‫‪ ..‬أنت تعاني من آالم البروستاتا‪ ،‬وتصحو يف‬
‫يوم أن تقدمت بطلب املعاش املبكر‪ ،‬عاتبك الرفيق‬ ‫الليلة الواحدة عدة مرات لتتبول‪ ،‬وتعاني من آالم‬
‫نعيم‪:‬‬ ‫الكحة املصحوبة بالبلغم والدم‪ ،‬شعيرات دموية‬
‫‪ -‬كده إنت بتخون الطبقة العاملة‪ ،‬كده بتمسح‬ ‫تنفجر مع كل كحة‪ ،‬وأنت فعلت هذا بنفسك‪ ،‬كنت‬
‫تاريخك كله‪ ،‬بعدما كنت بطل‪ ..‬هتبقي مسخة!‬ ‫يف سنوات املراهقة تخوض حر ًبا ضد والدك‪ ،‬كان‬
‫لكنك كنت قد ضعفت‪ ،‬واهتز إيمانك باملاركسية‬ ‫يحاول منعك من اإلدمان عىل التدخين‪ ،‬ويحكي‬
‫اللينينية‪ ،‬والنضال ضد «البرجوازية العميلة»‬ ‫لك عن الخراب والضرر الذي أصاب حياته بسبب‬
‫والكومبرادور‪ ،‬بعد أن انفجر الحزب الشيوعي الذي‬ ‫إصرارا‪ ،‬حتى أصبحت‬
‫ً‬ ‫التدخين‪ ،‬وأنت تزداد‬
‫عضوا فيه‪ ،‬وكان نضالك داخل املصنع مرتب ًطا‬ ‫ً‬ ‫كنت‬ ‫تدخن ستين سيجارة يف اليوم الواحد‪ ،‬وعرفت‬
‫بانتمائك الحزبي‪ ،‬كنت تخاطب العمال بخطابك‬ ‫طريق الخمر والبانجو والحشيش‪ ،‬واآلن‪ ،‬هجرت‬
‫الحزبي‪ ،‬وتسعي لبناء خاليا الحزب داخل املصنع‪،‬‬ ‫مرغما‪ ،‬وتعيش كهولة قاسية‪ ،‬حصلت‬ ‫ً‬ ‫الكيوف‬
‫ونجحت يف بناء أربع خاليا‪ ،‬كانت تهز اإلدارة‪ ،‬كلما‬ ‫عىل املعاش املبكر‪ ،‬وأصبح دخلك الشهري ال يكفي‬
‫وقع احتجاج عمايل‪ ،‬خاليا‪ ،‬أنت الذي اخترت رفاقها‬ ‫احتياجاتك‪ ،‬وأوالدك األربعة‪ ،‬ال يذوقون اللحم إال‬
‫ورجالها‪ ،‬وعلمتهم قوة املنهج العلمي‪ ،‬وإيمان‬ ‫نادرا‪ ،‬ويف أسابيع كثيرة‪ ،‬تعيش ‪-‬أنت وهم‪ -‬عىل‬ ‫ً‬
‫العامل بالطبقة التي ينتمي إليها‪ ،‬كل هذا النضال‬ ‫هياكل صدور الدجاج‪ ،‬والفول والطعمية‪ ،‬وفلوس‬
‫ضاع يف الهواء بعد االنقسام الذي دمر الحزب‪،‬‬ ‫‪-‬الدكان‪ -‬الذي فتحته يف غرفة الجلوس يف شقتك‪،‬‬
‫وتزامن الخراب الحزبي مع انهيار صحة زوجتك‬ ‫مستفي ًدا بكونها يف الدوراألرضي‪ ،‬قليلة ج ًّدا‪،‬‬
‫صباح عطية‪ ،‬شقيقة الرفيق مجدي عطية‪ ،‬كنت يف‬ ‫وسكان العمارة والعمارات املجاورة يشترون‬
‫اجتماع حزبي يف بيته‪ ،‬ورأيتها‪ ،‬وأبديت إعجابك‬ ‫بضاعتك من باب الذوق واملساعدة‪ ،‬وأنت أصبحت‬
‫بها‪ ،‬وتم الزواج عىل أرضية النضال‪ ،‬وهي ساعدتك‬ ‫كسير النبرة‪ ،‬تخاطب الجميع باألدب واالحترام‪،‬‬
‫كثيرا‪ ،‬لتظل العامل املناضل‪ ،‬الذي يلتف العمال‬
‫ً‬ ‫وتجامل الكل‪ ،‬وتصيل صلواتك يف املسجد‪ ،‬والناس‬
‫حوله يف األزمات‪.‬‬ ‫يف الحي ينادونك الحاج حمدى‪ ،‬وأصبحت ترتدي‬
‫انهيار صحة صباح‪ ،‬أفسد حياتك الخاصة‪ ،‬وانهيار‬ ‫الجلباب السعودي األبيض‪ ،‬وتضع عىل رأسك‬
‫الحزب شوش تفكيرك وأضعف روحك‪ ،‬وقررت‬ ‫الشال األبيض‪ ،‬والسواك واملصحف الصغير‪ ،‬يف‬
‫لنفسك‪:‬‬ ‫جيبك العلوي‪ ،‬والسنة النبوية ‪-‬القولية والفعلية‪-‬‬
‫‪ -‬أحسن حاجة أسوي معاشي وأتفرغ لتربية‬ ‫صارت منهجك ودستورك يف الحياة‪ ،‬وكنت قبل‬
‫‪89‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫األول‪ ،‬وحياتك كلها‪ ،‬ليتخذك وسيلة من وسائل‬ ‫العيال‪ ،‬ال سياسة وال قرف‪ ،‬عمري ضاع عىل قلة‬
‫تحقيق مشروعه وحلمه السياسى‪ ،‬مل يكن له‬ ‫فايدة‪.‬‬
‫حلم سياسي نبيل‪ ،‬كان حلمه يتلخص يف السلطة‬ ‫‪ -‬املعاش هينقص للنص‪..‬‬
‫والزعامة‪ ،‬وكل الشعارات التي رفعها يف مراحل‬ ‫‪ -‬نعوضه بحاجة تانية‪ ،‬ممكن بالقرشين بتوع‬
‫حياته املختلفة‪ ،‬كان الهدف منها السلطة والزعامة‪،‬‬ ‫مكافأة نهاية الخدمة نفتح كشك أو نعمل مشروع‬
‫وكان والدك ‪-‬هو نفسه والده‪ -‬هو الضحية األوىل‬ ‫صغير‪ ،‬حتى أبيع دره مشوي لو لزم األمر‪ ،‬املهم‬
‫لهذا الحلم‪ ،‬سيطر عىل عقل والدك بالكذب والوهم‪،‬‬ ‫أربي عيايل‪.‬‬
‫فصدق أن ولده األكبر كامل يجالس الحكام‬
‫ويحاربهم أحيانًا‪ ،‬ألنه يدافع عن الحق والعدل‪،‬‬ ‫‪-2‬‬
‫ووالدكما الحاج يوسف حج بيت اهلل‪ ،‬بعد أن باع‬
‫طاهرا‪،‬‬ ‫ربع فدان أرض‪ ،‬ألنه يريد أن يلقي اهلل‬ ‫أنت ‪-‬اآلن‪ -‬أرمل متقاعد‪ ،‬تعول أربعة أوالد‬
‫ً‬
‫مغسول من ذنوب الدنيا‪ ،‬وهو الذي رفض التحاق‬ ‫ً‬ ‫يدرسون يف االبتدائى واإلعدادي‪ ،‬أيتام يتأملون‬
‫«كامل» بكلية الشرطة‪:‬‬ ‫بموت أمهم‪ ،‬منذ أن ماتت مل تزرهم خالتهم نجاة‪،‬‬
‫‪ -‬ابني أنا ما ينفعش يشتم الناس ويهين كرامتهم‪،‬‬ ‫وال خالهم جمال‪ ،‬الوحيدة التي تزور بيتك ‪-‬أختك‬
‫شوف لك شغالنة غير دي‪.‬‬ ‫لواحظ‪ -‬زوجة زميلك يف املصنع والحزب الرفيق‬
‫وبحث كامل عن طريق بديلة توصله إىل السلطة‪،‬‬ ‫عوض الفوىل‪ ،‬الذي استقال من املصنع والتحق‬
‫عضوا يف تنظيم الطليعة العربية الذي يرعاه‬ ‫فأصبح‬ ‫بورشة ميكانيكا سيارات‪ ،‬وك َّون ثروة سمحت‬
‫ً‬
‫عبد الناصر داخل تنظيم «االتحاد االشتراكى»‪،‬‬ ‫له بأن يكون شري ًكا فيها بالثلث‪ ،‬ولواحظ أختك‬
‫ونجح يف انتخابات اتحاد الطلبة بكلية الحقوق‬ ‫الصغرى‪ ،‬أنت الذي توليت كل أمورها بعد موت‬
‫‪-‬جامعة عين شمس‪ -‬وانضم للحزب الشيوعي‬ ‫والدكما‪ ،‬ونمت بينكما محبة أخوية قوية‪.‬‬
‫املصري منذ تأسيسه يف منتصف السبعينيات من‬ ‫قبل موت صباح قال لك الدكتورعزيز صدقي‬
‫القرن املاضي‪ ،‬وأصبح عضو اللجنة املركزية‪ ،‬ثم‬ ‫‪-‬أستاذ جراحة املخ واألعصاب‪ -‬بكلية طب‬
‫انقلب عىل القيادة‪ ،‬وخرج من الحزب‪ ،‬وجلس مع‬ ‫القصرالعيني‪:‬‬
‫ضابط أمن الدولة املكلف بمكافحة الشيوعية يف‬ ‫‪ -‬املدام يلزمها جراحة مستعجلة‪ ،‬الغضروف ممكن‬
‫الصعيد وقال له‪:‬‬ ‫يسبب لها شلل‪.‬‬
‫‪ -‬أنا بطلت شيوعية‪ ،‬ارموا بياضكم!‬ ‫‪ -‬والجراحة دي يا دكتور تتكلف كام؟‬
‫فقال له الضابط‪:‬‬ ‫‪ -‬عشرين ألف جنيه‪ ،‬وأجرة إيدي عشرة آالف‪ ،‬ده‬
‫‪ -‬جهز نفسك‪ ،‬هتسافر مرافق مع املدام‪ ،‬هيه‬ ‫مراعاة لظروفك‪ ،‬إنما يف ظروف تانية أجرة إيدي‬
‫هتروح مدرسة إنجليزي ثانوي بنات يف أبو ظبى‪،‬‬ ‫عشرين ألف‪ ،‬غير تكاليف أوضة العمليات‪.‬‬
‫وانت هناك شوف نفسك‪ ،‬وهنساعدك‪.‬‬ ‫وعاشت صباح عامين مشلولة‪ ،‬راقدة عىل السرير‬
‫وتمت الصفقة‪ ،‬وأنت ما زلت تناضل يف مصنع‬ ‫وأنت تخدمها‪ ،‬وتحملها إىل دورة املياه فتقضي‬
‫األسمدة مع الرفاق‪ ،‬وسرعان ما انهار الحزب كله‪،‬‬ ‫حاجتهاوتحملها ‪-‬نظيفة‪ -‬إىل سريرها‪ ،‬وتغسل‬
‫وانهار البيت الكبير‪ ،‬االتحاد السوفييتي‪ ،‬أول وطن‬ ‫املواعين وتطبخ‪ ،‬وتشوف طلبات العيال‪ ،‬وأنت‬
‫اشتراكي عىل األرض‪ ،‬أقامه لينين يف ضوء تعاليم‬ ‫راض وصابر رغم مرض صباح‪ ،‬وكنت تقول‬
‫ماركس وأنجلس‪ ،‬وكان املفترض أن تتحول الدنيا‬ ‫لنفسك «املهم نفسها يف البيت‪ ،‬وقعدتها وسطينا»‪،‬‬
‫كلها إىل االشتراكية‪ ،‬وماركس يحذر‪ :‬االشتراكية أو‬ ‫كان وجودها يشعرك باألمان‪ ،‬وكنت تقول‪:‬‬
‫البربرية‪.‬‬ ‫‪ -‬صباح أم عيايل‪ ،‬بنت حالل‪ ،‬أشيلها جوه عيني‪،‬‬
‫وجدت نفسك عار ًيا‪ ،‬وقعت القطيعة بينك وبين‬ ‫زي ما شالتني زمان‪.‬‬
‫كامل‪ ،‬ألنه أرادك مثله صديقًا ألمن النظام الحاكم‪،‬‬ ‫ملا أفسد أخوك ‪-‬األكبر‪ -‬كامل مشرع خطوبتك‬
‫‪90‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬
‫‪91‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫وأنت رفضت أن تكون املخبر عميل األمن‪ ،‬وكامل‬


‫انكشفت أوراقه أمام عينيك‪ ،‬وقال لك الرفيق عبد‬
‫اهلل هالل عضو قيادة الحزب الشيوعي املصرى‬
‫وصاحب الثقل النضايل يف األوساط اليسارية‪:‬‬
‫‪ -‬أخوك كامل ده عيل انتهازى طول عمره‪ ،‬وأنا‬
‫هاقول لك تاريخه كله‪ ،‬عيل أصفر تربية شعراوي‬
‫جمعة وزير الداخلية يف عهد عبد الناصر‪ ،‬وبتوع‬
‫املباحث همه اليل فتحوا له سكة اليسار‪ ،‬اختراق‬
‫يعني‪ ،‬وآدي األيام أثبتت إنه انتهازى‪ ،‬وال عمره‬
‫كان مناضل حقيقي‪.‬‬

‫‪-3‬‬
‫‪ -‬أنت غبي‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬أنت غبي‪ ،‬والدليل موجود يف حياتك نفسها‪،‬‬
‫هل تذكر اليوم الذي كان فيه أخواك كامل وعاطف‬
‫يتحاوران يف األوضة الغربية يف بيتكم العائيل يف‬
‫البلد؟‬
‫دعما لرأيه‪،‬‬
‫فجأة ‪-‬يومها‪ -‬قلت كلمة اعتبرها كامل ً‬
‫ً‬
‫قرشا وأعطاه لك‬ ‫فقام وأخرج من جيب قميصه‬
‫باسما‪:‬‬
‫ً‬ ‫وقال‬
‫‪ -‬شاطر ج ًّدا‪ ،‬روح اشتري حالوة وهيص‪.‬‬
‫زائرا‬
‫ً‬ ‫واعتدت الفلوس من كامل‪ ،‬كلما جاء‬
‫العائلة‪ ،‬نظرت إليه نظرة سؤال‪ ،‬يخرج بعدها‬
‫الجنيه ويعطيه لك‪ ،‬واعتدت هذا األمر‪ ،‬‬
‫ألن والدك ‪-‬فقير‪ -‬يعمل يف األرض لتأكلوا ‪-‬أنت‬
‫وإخوتك‪ -‬وتتعلموا يف املدارس‪ ،‬وكان والدك يوفر‬
‫الضروريات يف البيت مثل الدقيق والسكر والشاي‬
‫والسمن‪ ،‬ويرى اللقمة أهم من الترف‪ ،‬ومصروف‬
‫األطفال ترف‪ ،‬والعيل يتراضى بأي حاجة‪ ،‬ثم‬
‫حصلت عىل شهادة دبلوم الصنايع‪ ،‬وقدم كامل‬
‫العرض الذي أسال لعابك‪:‬‬
‫‪ -‬هنعينك يف شركة مصر لألسمدة‪ ،‬وتبقي معانا‪.‬‬
‫وكلمة «معانا» تحولت إىل تبعية مطلقة‪ ،‬هو الذي‬
‫يقضي ويحكم وأنت تنفذ‪ ،‬سيطرعليك سيطرة تامة‪،‬‬
‫عضوا يف الحزب‬‫ً‬ ‫باسم «روح الرفاق»‪ ،‬وأصبحت‬
‫الشيوعي معه‪ ،‬وعشت سنوات تعتبره صاحب‬
‫فضل وتدين له بالوالء القلبي والعقيل‪ ،‬حتي جاء‬
‫اليوم الذي لقيت فيه عبد اهلل هالل ‪-‬الرفيق القيادي‬
‫‪92‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫التي دبرها لك يف البلد فشلت‪ ،‬وكان هدفه من‬ ‫يف الحزب الشيوعي املصري‪ -‬وقلت له‪:‬‬
‫ورائها أن تتزوج سلوى ابنة رضوان عكاشة‬ ‫‪ -‬أنا حاولت أتجوز من النوبة‪ ،‬وأخويا كامل‬
‫رفيقه يف الحزب وذراعه اليمني التي يبطش بها‬ ‫رفض!‬
‫‪ -‬أخوك رفض عشان فيه قيادات من النوبة‬
‫ويعتمد عليه يف االنتخابات البرملانية‪ ،‬واملؤتمرات‬
‫شيوعيين كانوا ضده ملا حاول يعمل انقسام يف‬
‫الجماهيرية للحزب‪ ،‬ودخلت بيت الرفيق رضوان‬ ‫الحزب ويبقي هوه السكرتيرالعام‪.‬‬
‫وخرجت مصدوما ‪ -‬كان مبررك للخروج أخالقيا‪-‬‬ ‫‪ -‬بس هوه قال يل حاجة تانية‪ ،‬قال يل إن النوبة‬
‫وقلت ما معناه إن بيت الرفيق رضوان به فوضي‬ ‫والصعايدة هويتين مختلفتين‪ ،‬وده هيكون له‬
‫تجعله ال يصلح ألن يتزوج الرجل منه ويعيش آمنا‬ ‫أثرعىل هوية األوالد‪.‬‬
‫‪ -‬يعني إيه هوية األوالد!‬
‫عىل سمعته وعرضه‪ ،‬وكانت جلسة الطالق ‪-‬طالق‬
‫‪ -‬يعني الولد أبوه صعيدى له عادات‪ ،‬واألم نوبية‬
‫سلوي‪ -‬يف دوارالعمدة‪ ،‬وهي القشة التي قطعت‬ ‫لها عادات ممكن تكون متناقضة مع عادات الوالد‪،‬‬
‫ما تبقى من عالقة بينك وبين كامل‪ ،‬وفيها جلستما‬ ‫وده يخيل عنده اضطراب‪ ،‬يبقى مش عارف هوه‬
‫متجاورين عىل الدكة للمرة األخيرة‪ ،‬وجاء العمدة‬ ‫صعيدي وال هوه نوبي؟‬
‫واملأذون والشاهدان‪ ،‬وجاء والدها ووقف بعي ًدا عن‬ ‫‪ -‬الحكاية دي مقدورعليها‪ ،‬يعني اليل اتجوز‬
‫املجلس وقال بصوت متأمل‪:‬‬ ‫روسية وال كندية ما عندوش خوف عىل هوية‬
‫عياله؟!‬
‫‪ -‬حسبي اهلل ونعم الوكيل‪.‬‬
‫‪ -‬يعني‪ ..‬هيه الحكاية انتهت كده‪ ،‬رغم إن البنت‬
‫بعد عامين قضيتهما عاق ًدا قرانك‪ ،‬وملا رأيت منها‬ ‫كانت كويسة وبتحبني وجميلة‪ ،‬وأهلها ناس طيبين‪.‬‬
‫ومن أمها ما غير قلبك‪ ،‬قررت الطالق‪ ،‬وقرر كامل‬ ‫‪ -‬أخوك لعب بيك سياسة من غيرما تحس‪ ،‬هوه‬
‫أن يشن عليك الحرب يف البلد‪:‬‬ ‫كان أيام خطوبتك بيخوض معركة الحزب‪ ،‬وكان‬
‫‪ -‬صايع ومش بتاع جواز‪ ،‬والعمري أحضرله‬ ‫عاوز ياخد معاه منطقة الصعيد والنوبة‪ ،‬وخاف‬
‫من وجودك هناك مع األعداء‪ ،‬وخاف منك لتعرف‬
‫جواز تاني وال طالق‪.‬‬
‫حقيقته وتاريخه منهم‪ ،‬راح قال لك إيه «نبوظ‬
‫وتزوجت صباح عطية‪ ،‬شقيقة الرفيق مجدي عطية‪،‬‬ ‫القصة كلها ونبعده عن النوبة»‪.‬‬
‫وانهار كل شىء‪ ،‬وبقيت وحي ًدا‪ ،‬تعول أربعة أطفال‪،‬‬ ‫وملا قررت الزواج من صباح كانت الخيوط قد‬
‫وتعيش عيشة األرمل‪.‬‬ ‫تقطعت بينك وبين كامل‪ ،‬وكانت «الجوازة التانية»‬
‫‪93‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫هبة اهلل أحمد‬

‫صاحب الكرامة‬

‫ذات املبسم السكري‪ ،‬والقوام اللدن املشرب بحمرة‬ ‫“اهلل يا دايم‪ ،‬هو الدايم‪ ،‬وال دايم غير اهلل»‪..‬‬
‫العز‪.‬‬ ‫يرج القلوب‪ ،‬يستجلب آخرين يسيرون يف‬ ‫الهتاف ُّ‬
‫مكسور‪ .‬ال‬
‫ٌ‬ ‫زجاج‬
‫ٌ‬ ‫سور بيت العمدة عا ٍل‪ ،‬ويعلوه‬ ‫املوكب‪ ،‬يتسارع ذوو األكتاف األوسع واألعىل يف‬
‫البوابات عىل مصراعيها إال يف الليايل التي كان‬ ‫ُ‬ ‫تُفتح‬ ‫َّ‬
‫وتخف حركتُه‪.‬‬ ‫حمل النعش؛ ليرتفع أكثر‪،‬‬
‫الولوج‬
‫ُ‬ ‫ُيقيمها يف مولد النبي‪ ،‬وطهور أحد أوالده‪.‬‬ ‫يمرون اآلن عىل بيت جدي‪ ،‬أُجبر املوكب عىل‬
‫استراتيجيات متقن ٍة منِّي ومن‬
‫ٍ‬ ‫إىل حديقته‪ ،‬وعمل‬ ‫التراب باللعابِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ضئيل يختلط‬ ‫الوقوف؛ أراني هناك‬
‫أبناء حارتي لسرقة املانجو من أشجارها‪ ،‬والرجوع‬ ‫السائ ِل عىل ذقني‪ ،‬أطارد الدجاج واإلو َّز بعصا‬
‫بها ساملين من نباح «عسكر»‪ ،‬والتخفي من الغفر‬ ‫«م ْحلب» طو ُلها يفوقني بثالثة أضعاف‪ .‬أصبت أكبر‬ ‫َ‬
‫انتصار ال تعادله إال سرقة قطفة من شه ِد َ‬
‫مبسم‬ ‫ٌ‬ ‫إوزة يف رأسها؛ فخرجت نسوان الدار يصرخن‬
‫رفعت رأسي للبوابة الخشبية التي علَّق ْتني‬ ‫ُ‬ ‫جميلة‪.‬‬ ‫مستفهما‪“ :‬هو اليل‬‫ً‬ ‫ليعاجِ لنَها بالسكين‪ .‬يأكل جدي‬
‫عيون عسكر الحمرا ُء‪ ،‬التي رصدت تخلُّفي‬ ‫ُ‬ ‫عليها‬ ‫جاب داغها؟!”‪.‬‬
‫خلف صوامع الغلَّة‪.،‬‬ ‫َ‬ ‫عن زفَّة املولد‪ ،‬والتواري‬ ‫تضحك أمي وهي تقول‪“ :‬بالهنا والشفا يا حاج”‪.‬‬
‫من‪،‬‬
‫الس ُ‬‫يتساقط منه َّ‬ ‫ُ‬ ‫آكل رغيفًا ساخنًا بالسكر‬ ‫ثم انكمشت ابتسامتُها حتى كادت شفتاها تختفيان‬
‫يدي‪ .‬لوهل ٍة أحسست‬ ‫متحس ًسا جميل َة‪ ،‬وألويها بين َّ‬‫ِّ‬ ‫حينما ر َّد‪:‬‬
‫أنني أمتلكها‪ ،‬وأمتلك املنزل‪ ،‬والبهائم والغفر؛ حتى‬ ‫“ما تفرحيش به قوي ده ابن موت”‪.‬‬
‫هبشني عسكر و(مرمغني) يف التراب!‬ ‫ظل للصمت‪.‬‬ ‫طويل ج ًّدا حتى صرت ًّ‬
‫ً‬ ‫إال أنني عشت‬
‫ِخ ْل ُت ُه سيسلب روحي‪ ،‬ويق ِّطع أوصايل‪ .‬علقني‬
‫َّ‬ ‫مررنا جمي ًعا من البوابة الخشبية الكبيرة التي‬
‫تماما اآلن‪ -‬عار ًيا إال‬ ‫ً‬ ‫العمدة عىل البوابة ‪-‬هي فوقي‬ ‫تفص ُل البيوت عن الغيطان‪ ،‬إال العمدة واألعيان‬
‫من سروا ٍل داخيلٍّ‪ ،‬جسدي مدهون بالعسل‪ ،‬مل يقو‬ ‫الذين حاولوا تقليد الباشا صاحب العزبة املجاورة‬
‫عمي عىل إنزايل‪ .‬زمجر جدي وهو يقول للعمدة‪:‬‬ ‫وس َّوروها‬
‫بعد الثورة؛ فبنوا بيوتهم وسط الغيطان‪َ ،‬‬
‫“يستاهل؛ عيل ابن كلب قليل الحيا”‪.‬‬ ‫تكف عن‬ ‫ٍ‬
‫بأسالك‪ ،‬وأطلقوا فيها كال ًبا سودا َء ال ُّ‬
‫ثم ركن إىل العارضة يبكيني مطمئنًا إياي‪:‬‬ ‫النباح‪ ،‬أشرسها «عسكر» كلب العمدة أبو «جميلة»‬
‫‪94‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫بترطن”‪.‬‬ ‫“س ُأنزلك الفجر”‪.‬‬


‫ما زلت أذكر رائحتها التي تشبه‬ ‫حضر العيال ليصبِّروني‪ ،‬تسلَّقوا بعضهم البعض‬
‫الفلفل األسود‪ ،‬وأنفاسها الالفحة قبل‬ ‫ذراعي بحبا ٍل عىل عارضة‬ ‫َّ‬ ‫حتى وصلوا إ َّ‬
‫يل‪ ،‬ثبَّتوا‬
‫سفري بيوم‪ ،‬وهي تعض أذني بقسوة‬ ‫البوابة العلوية‪ ،‬همس يل مرقص سعيد‪:‬‬
‫استلذذتها‪:‬‬ ‫أنت اآلن كمسيح‪ُ ..‬بلْ عليهم جمي ًعا!‬
‫“هتلف الدنيا ومش هتنسى عباسة‪،‬‬ ‫ثم تواروا يصفقون يل كلما ُبلت عىل املارة‪ ،‬وعىل‬
‫وهشوفك آخر شوفة يف الرحلة”‪.‬‬ ‫املتوجهين لصالة العشاء بالجامع الكبير‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫رحلة طويلة يا عباسة‪ ،‬وما زلت عينك‬ ‫ذراعي يؤملانني‬
‫َّ‬ ‫أن‬ ‫إال‬ ‫ضحكي‬ ‫من‬ ‫النعش‬ ‫يرتج‬
‫ُّ‬
‫تخترقني‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬وبي حاجة ال أعرف منبعها للتبول بغزارة!‬
‫ذقت‬
‫همت يف أقاصي األرض وأدناها‪ُ ،‬‬ ‫استأنف املوكب مسيره‪ ،‬وأنا أنقل بصري بين‬
‫من النساء ما أتخمني حد امللل‪ ،‬مل‬ ‫كثيرا؛ فجهلتها كما‬ ‫ً‬ ‫البيوت التي اختلفت مالمحها‬
‫تشبه رائحتها ً‬
‫قليل غير «ألوما»‪،‬‬ ‫جهلت ساكنيها‪ ،‬إال أنني اآلن استوقفتني عيناها‬
‫تلك األبنوسية الكينية الفارعة‪ ،‬ذات‬ ‫الخضراوان املحاطتان بإفريز من كحل‪ ،‬تهدل‬
‫القلب املستأسد والنظرة البرية‪ ،‬عملنا‬ ‫حاجباها لكنها ما زالت تخترقني‪..‬‬
‫يف املستشفى امليداني يف تشاد‪،‬‬ ‫أطل َّ ْت «عبَّاسة» عىل املوكب من شرفة بناية مكونة‬
‫التابع للمفوضية األفريقية‬ ‫من خمسة أدوار‪.‬‬
‫لشئون الالجئين‪ .‬كانت دائمة‬ ‫نعم هي «عباسة»؛ نظراتها النفَّاذة نفسها‪ ،‬وكفها‬
‫االرتعاد؛ خوفًا من هجوم وشيك‬ ‫تحسستني عندما اشت َّد ْت بي‬ ‫َّ‬ ‫املوشومة؛ تلك التي‬
‫من املتمردين‪ ،‬أو عند خوارها حينما‬ ‫الحمى‪ ،‬ومل تفلح أدوية أو وصفات يف تهدئتها‪ ،‬فلم‬
‫تبلغ لذتها‪ ،‬إال أن عباسة مل ُيخلق‬ ‫تجد أمي غير «عباسة» الغجرية؛ فبجعبتها دواء لكل‬
‫مثلها يف البالد‪.‬‬ ‫داء‪ .‬مل تكف (عبَّاسة) عن التمتمة وهى تطلب من‬
‫تعالت التكبيرات‬‫ْ‬ ‫هربت من العينين امللتهمتين‪،‬‬ ‫سطل ماء بارد‪ ،‬وتضع بعض الحبوب يف فمي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أمي‬
‫حينما أجبرت الركب عىل الهرولة‪.‬‬ ‫وتتحسسني‪ .‬ظللت عىل هذه الحال‬ ‫َّ‬ ‫وتبلل يدها باملاء‬
‫ال أعرف مل أتذكر النساء اآلن؟!‬ ‫ليل ًة بأكملها‪ .‬هدأت الحمى‪ ،‬وانتابتني حمى من نوع‬
‫عيون عباسة‪ ،‬وسكر جميلة وخوار ألوما!‬ ‫آخر؛ ضحكت وهى تهمس يف أذني «وسخ صغير»!‬
‫وبويل عىل املصلين!‬ ‫انكمشت يف نفسي‪ ،‬إال أن يديها تابعتا رحلتهما عىل‬
‫أين عميل الطيب الذي أستحضره فيهيئ يل‬ ‫جسدي؛ بلي ٍن تارة‪ ،‬وبشدة تارة أخرى‪ .‬خدشت‬
‫مكانًا يليق بي؟!‬ ‫القشرة الخشنة التي تغطي طفولتي‪ ،‬ومل تتراجع‬
‫ألست‬
‫ُ‬ ‫أيضا هنا يدعون يل ‪-‬حم ًدا هلل‪-‬‬ ‫أبنائي ً‬ ‫ففضتها بين يديها‪ ،‬وهي تضحك‬ ‫َّ‬ ‫حتى قشَّ رتها‪..‬‬
‫كـ(مسيح) كما قال مرقص سعيد‪ ،‬الذي يبكيني‬ ‫وتغمز يل‪ ،‬وأمي تدعو لها بالصحة والرزق الوفير!‬
‫بكل املحبة التي تسكن املروج الخضراء بقلبه؟!‬ ‫رأيتها بعد ذلك بأسبوع يف صحن الدار تقرأ‬
‫عاما‪ ،‬وص َّدقته؛ فهو ال يكذب‬ ‫قالها منذ خمسين ً‬ ‫(ع َدل) أختي‪،‬‬ ‫الفنجان ألمي‪ ،‬وتبشرها بقرب َ‬
‫آالما‪،‬‬
‫أب ًدا‪ .‬طفت األرض كمسيح لليباب‪ ،‬خففت ً‬ ‫وبسخاء الزرع هذا العام‪ ..‬نادتني قائلة‪“ :‬تعاىل‬
‫وبحثت عن الخالص ألرواحهم‪ ،‬مسحت عىل‬ ‫أشوف لك بختك”‪.‬‬
‫رؤوس باكية بنفس اللين‪ ،‬الذي مسحت به أعناقًا‬ ‫فرد ْت ِمنديلها ورمله بين ساقيها املمدودة‪ ،‬ورصت‬ ‫َ‬
‫ونهو ًدا سمراء وشقراء‪ ،‬آمنت أن إطعام اآلخرين‬ ‫ودعها بعدما همست له‪ .‬مل تشغلني غمغمتها؛ إنما‬ ‫َ‬
‫املحبة ال يقل قداسة عن إطعامهم (االفخارسيتا)‪،‬‬ ‫تصببت‬
‫ُ‬ ‫كفوفها املوشومة وعيناها املخترقتان‪ ،‬حتى‬
‫أدين ب ِمسوحي ملرقص‪ ..‬و(أنجا مابيندو)؛ فهي‬ ‫غمزت وهي تقول‪“ :‬عمرك طويل‬ ‫ْ‬ ‫عرقًا وتصلَّبت‪،‬‬
‫كومة من الطيبة املختلطة بالكثير من اللحم‪،‬‬ ‫ورزقك واسع بس مش هنا‪ ،‬يف بالد بعيد؛ ناسها‬
‫‪95‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫يف القيالة بس”‪ ،‬وانصرف غاضبًا‪.‬‬ ‫والحكايات املشبعة بالتوابل‪،‬‬


‫درت حول منزله سبع دورات حافيًا يف عز الحر؛‬ ‫تطرز وحشة الليل بنعناع‬
‫ليصالحني أو يعاركني‪ ،‬وعندما جحرت ساقي‪،‬‬ ‫الكالم‪ ،‬عيونها أشبه بعيون‬
‫عارجا مشفقًا‪“ :‬ليه يا‬
‫ً‬ ‫وصرخت متأو ًها؛ خرج‬ ‫دوما‪.‬‬
‫ذئبة تفتقد صغارها ً‬
‫حبيبي سبعة لفات؟ هو سبوع أمك؟!”‪.‬‬ ‫سمعت أنها انشقَّت عن‬
‫اقترب املوكب من الجبَّانة‪ ،‬أرى هناك أمي معلقة‬ ‫املتمردين الذين انضمت إليهم‬
‫يف الهواء فوق «التربة» بحوايل ‪ 3‬أمتار بطرحتها‬ ‫الغضب عىل‬
‫ُ‬ ‫بعدما اشتد بها‬
‫البيضاء التي اعتادت لفَّها عىل رأسها بعد عودتها‬ ‫حبيبها «باال كوابينا» حينما‬
‫انقطعت رسائله إليها‪ ،‬واستمرت‬
‫من الحج‪ ،‬وبجوارها جدي بقامته الفارعة ونظرته‬
‫بإرسال رسائل الحب‪ ،‬ثم الشوق‪،‬‬
‫الصلبة‪ ،‬وعمي أحمد برأسه الصغيرة وجسده‬
‫فالغضب‪ ،‬ثم الوعيد‪ ،‬فقررت ً‬
‫بدل‬
‫الضخم املحاط بعباءة صوفية فاخرة‪ ،‬ورجل ربعة‬
‫من شحذ الرسائل شحذ السالح‪،‬‬
‫يل بترقب‪ ،‬ماس ًكا يد أمي‪ ،‬قد يكون أبي‪.‬‬ ‫ينظر إ َّ‬
‫والسير مع املقاتلين‪ ،‬لتأديب قبيلته‪،‬‬
‫ال أستطيع تمييز مالمحه جي ًدا؛ فلم أره قط‪ ،‬لكنهم‬ ‫إال أن الوصول هزمها‪ ،‬حينما‬
‫جمي ًعا عابسو الوجوه‪.‬‬ ‫وجدت أن مكتب بريد بلدته سكنته‬
‫باهلل لن أحتمل توبيخكم‪.‬‬ ‫الغربان بعد قصفه‪ ،‬ومل تعرف‬
‫تعاتبني أمي‪“ :‬روحت وقولت عدوا يل يا وله‪ ..‬ما‬ ‫ألي جماعة مسلحة انض َّم «كوابينا»‪.‬‬
‫صدقت دفنت أمك‪ ،‬وما بتيجي تزورها!”‪.‬‬ ‫فزعت حينما وضعت يدها عىل كتفي‬
‫يط ِّوح جدي رأسه‪ ،‬وبنفس النظرة النارية‪ ،‬والنبرات‬ ‫للمرة األوىل‪:‬‬
‫الحازمة‪:‬‬ ‫الليل ليس ودو ًدا يا عزيزي؛‬
‫وغربت ورجعت‪.”..‬‬ ‫شرقت َّ‬ ‫“لفيت الدنيا‪َّ ،‬‬ ‫فهو يزيد بقع العتمة يف روحك‬
‫حتى أبي الذي مل أعرف؛ الناي يرق الحتضان‬ ‫إن كنت وحي ًدا‪ ،‬ال تهرب من‬
‫ثقوبه التي تحن لجذوعه الخاوية‪:‬‬ ‫دائما‬
‫خرائبك بالصمت؛ افعل ً‬
‫“تعال يا ولدي‪.”..‬‬ ‫شيئًا صائبًا‪.‬‬
‫حاولت التملص من الجميع‪ ،‬وف َّك أطرايف املربوطة‬ ‫ُ‬ ‫استفهمت‪ :‬وما هو؟!‬‫ُ‬
‫بعناية‪ ..‬فلم أستطع!‬ ‫قالت‪ :‬ساعد الناس باملسح عىل‬
‫أوجاعهم‪ ..‬وساعد نفسك بالرقص‪ ،‬وأال‬
‫سجن يف جحر مظلم تحت األرض‪ ،‬ت َُس ُّد‬ ‫ال أريد أن أُ َ‬
‫تكون وحي ًدا‪.‬‬
‫منافذه بأسمنت أسود‪.‬‬
‫نحيب «بحر الزين» الذي‬ ‫ُ‬ ‫نزعني من أفكاري‬
‫عاما أنني كـ مسيح؛‬ ‫قال يل مرقص منذ خمسين ً‬ ‫يقبض عىل ذراع «مرقص» بنفس الوجه الطفويل‪،‬‬
‫واملسيح مل يدفن!‬
‫عاما‪ ،‬ونظرة مقدودة من أرغفة‬ ‫وإن تع َّدى الستين ً‬
‫أتملص من الركب؛ فيهت ُّز النعش‪ ،‬واهتزازه يستف ُّز‬ ‫الرحمة‪ ،‬جسده يرتج يف الجالبية البيضاء‪ ،‬بخطوة‬
‫حماسة الركب‪.‬‬ ‫طفيف من كسر قديم يف ساقه‪ ،‬الذي مدها‬ ‫ٌ‬ ‫عرج‬
‫بها ٌ‬
‫كمخلص‪“ :‬اهلل أكبر‪ ..‬صاحب الكرامة‬ ‫صاح رجل ُ‬ ‫قائل‪“ :‬جبسها يل‪ ..‬وال هتعمل عيلَّ‬ ‫يوما ً‬
‫أمامي ً‬
‫عاوز يتدفن جنب سيدنا غرب النيل!”‪.‬‬ ‫دكتور وتطلب كشف األول؟!”‪.‬‬
‫تعالت التكبيرات‪ ،‬صاح َبتها زغاريد عبَّاسة التى‬ ‫أجبته‪ :‬أني دكتور عليه وعىل «اليل يتشدد له» لكني‬
‫تشبه صرخة محاربة أمازيغية‪.‬‬ ‫متخصص (طب مناطق حارة)‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬نعم أنا كصاحب الكرامة أريد الدفن بجوار‬ ‫أحمر كعربة إطفاء (سرينتها مجلجلة)‪“ :‬انت بتتريأ‬ ‫َّ‬
‫النيل «دفنة ترد الروح»!‬ ‫عيلَّ‪ ..‬يعني مش هتكشف عيل إال يف الصيف ويمكن‬
‫َّ‬
‫‪96‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫مي َّ‬
‫عطاف‬
‫(سورية)‬

‫الهاربة‬

‫كان والدي يراقبني وأخي بيده هاتفه الخلوي‬ ‫أيضا؟‬


‫ما الذي أتى بي إىل هنا ً‬
‫ويتحدث مع أبناء خالتي األخرى‪ ،‬وأمي يف حضرة‬ ‫هل بإمكاني احتمال الساعات القادمات يف هذا‬
‫نساء العائلة بد ًءا من جدتي إىل صاحبة الفك‬ ‫الهرج من الثرثرة والضحك الصاخب ألجل كلمة‬
‫التمساحي وأوالدهم‪.‬‬ ‫تافهة تُقال‪ ،‬أألن الحدث رأس السنة وعامليًّا فُرض‬
‫نهضت‪ ..‬ساد الصمت‪ ،‬مل تقل أمي كلمة بانتظار‬ ‫كيوم للفرح وعىل الناس أن تكون سعيدة لذا وجب‬
‫أن يسألني أبي‪ ،‬لكنه لن يفعلها‪ ،‬وربما عرف أني‬ ‫عليهم ألقل حركة أن يضحكوا‪.‬‬
‫تجاوزت حالة االحترام وأني سأخيب طلبه فقال‪:‬‬ ‫كان صوت ابنة خالتي أكثر ما أثار توتري‪ ،‬فبحركة‬
‫معليش خليها تروح‪.‬‬ ‫آلية تفتح فمها الكبير لدرجة أشعر أنها سليلة‬
‫لكن خايل تدخل كعادته السمجة وحضوره الثقيل‬ ‫ً‬
‫كامل للوراء‬ ‫التماسيح‪ ،‬إذ كانت تقلب رأسها‬
‫فقال‪ :‬خايل وين بدك تروحي لحالك وبراس السنة‪،‬‬ ‫ويبقى ف ُّكها السفيل ثابتًا‪ ..‬أو كأنها دمية مهيأة لهذا‬
‫فيه السكرانين والرصاص‪.‬‬ ‫العرض املضحك مع صوت الضحك الذي يخرج من‬
‫تماما‪ :‬أريد البيت‪.‬‬
‫ً‬ ‫اكتفيت بجملة واحدة أعنيها‬ ‫حدود الحنجرة فقط‪.‬‬
‫مل يكن بيت خالتي بعي ًدا عن بيتنا‪ ،‬سمعت همسات‬ ‫مل تكن وحدها يف الضحك والهرج لكنها كانت‬
‫وهسهسات‪ ،‬ففي حالتي هذه أصبح قادرة عىل‬ ‫األكثر صخبًا بينهم‪ ،‬ذاك الصخب الذي أشعر بأني‬
‫سماع دبيب النمل‪.‬‬ ‫داخل إعصار ما زال يقتلع كل ما بطريقه‪ ،‬ويف كل‬
‫وصل ألذني كلمة وقحة‪ ..‬من مكان وقويف للباب‬ ‫لحظة أرتطم بشيء جديد ينتزعه‪.‬‬
‫ثالثة أمتار‪ ،‬فقط أردت تجاوزها بأقل الخسائر‬ ‫نال مني التعب وفكرت بالذهاب ألحد قريب‪،‬‬
‫تماما ما سيقولونه عني وربما هم عىل‬ ‫ً‬ ‫وأنا أدرك‬ ‫فحضرت صورة عادل كزوبعة أخرى شعرت أني‬
‫صواب‪« ..‬املجنونة‪ ،‬ملاذا أتت إذا بدها تروح من أول‬ ‫سأنهار‪ُ ..‬وجب عيلَّ الخروج ً‬
‫حال‪.‬‬
‫السهرة»‪.‬‬ ‫مل أتيت إىل هنا؟‬‫َ‬
‫«ما فيها إال ما تنكد علينا»‪.‬‬ ‫دون ان أقول كلمة‪ ..‬نهضت بصعوبة وسرت‬
‫هم يعتبرون أنني أخرج من باب النكد عليهم‪ ،‬لكنهم‬ ‫يف الكوريدور وما زالت ضحكاتهم والضوضاء‬
‫ال يعلمون حجم النكد والتنكيل الذي يمارسونه عيلَّ‬ ‫تالحقني كدودة علق تمتص مني الطاقة‪ ،‬دخلت‬
‫بضجيجهم هذا‪.‬‬ ‫غرفة ابنة خالتي حملت الجاكيت‪ ،‬ارتديته ببطء‪،‬‬
‫كان بإمكاني قول كذبة ما‪ ،‬لكن الكذب يحتاج‬ ‫عدت للصالون‪ ،‬انتبهت يل خالتي صاحبة الدعوة‬
‫مقدرة افتقدها‪.‬‬ ‫كي نسهر رأس السنة عندها‪ ،‬فقالت‪ :‬بردانة‬
‫قالت أمي‪ :‬ماما حاكينا بس وصلتي عالبيت‪.‬‬ ‫حبيبتي؟‬
‫مل أجب‪ .‬كنت مشغولة بحجم شد العضالت التي‬ ‫اقتراحا بأن ترفع حرارة املدفأة‬
‫ً‬ ‫مل أنتظر منها‬
‫تبدو يف ابتسامة ابن خايل‪ ..‬عضالت مشدودة‬ ‫فقلت‪ :‬خالتي أنا طالعة‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫تركت البيجاما التي تلتصق بجسدي يف النهار كما‬ ‫ألقصاها‪ ..‬كم يحتاج منا الضحك لعضالت‪..‬‬
‫يف الليل‪.‬‬ ‫هل سمة املرونة للعضالت كي يكون االبتسام‬
‫مل يحتويني ال ُهنا حيث كنت ببيت خالتي‪ ،‬وال‬ ‫والضحك تلقائيًّا وسطحيًّا وكاذ ًبا‪.‬‬
‫ال ُهناك يف بيت أهيل حيث أنا‪ ..‬مل تستطع هنا وال‬ ‫هل حقيقة هم يضحكون أم يقومون بفعل رياضي‬
‫هناك م ِّدي بدم سيَّار بالحياة كأن أقوم بفعل‬ ‫فقط‪ .‬وعدت للمرة التي ضحكت مع عادل‪ ،‬بدأ‬
‫بسيط‪ :‬أن أشلح ثيابي‪.‬‬ ‫الضحك من قلبي‪ ،‬شعرت كيف سكب نبيذًا يف دمي‬
‫قرارا بسي ًطا بارتداء أو خلع ثيابي فذاك‬ ‫ً‬ ‫كي أتخذ‬ ‫وصل عقيل فسكر وأمر حبايل الصوتية بالرقص‪..‬‬
‫فعل يقوم به غيري دون تفكير‪ ،‬لكنه يسلبني جه ًدا‬ ‫نعم ترقص الحبال الصوتية عند الضحك‪.‬‬
‫مترد ًدا بين دفتي العبث‪ ،‬جسدي شبه خامد للحد‬ ‫تذكرت ضحكتي وتعجبت‪ :‬كنت أضحك؟!‬
‫الذي يجعل من غسيل وجهي ً‬
‫عمل متعبًا‪.‬‬ ‫فتحت الباب وخرجت هاربة للمرة الثالثة‪.‬‬
‫أتمدد عىل السرير الذي بدأت أش ّم به رائحة عطنة‪،‬‬ ‫قارسا‪ ،‬أحنيت ظهري‬ ‫ً‬ ‫يف الخارج كان البرد‬
‫تلك هي رائحة الزمن عىل الجسد الخامل‪.‬‬ ‫ووضعت يدي يف جيبي‪ ،‬أردت الحفاظ عىل طاقتي‬
‫أحاول إنزال قدمي عن السرير‪ ،‬تلك املسافة بين‬ ‫ألصل البيت‪ ..‬سرت يف الشارع الذي يحوي عمود‬
‫السرير واألرض تبدو كنواس يعيش حالة تردده‪..‬‬ ‫إنارة وحيد‪ ..‬شعرت بوحدته الباردة‪ ..‬قلَّة من‬
‫إنزال قدمي يحتاج لكم من األفكار واألسئلة‬ ‫الناس يف الشارع ورائحة الشواء تترك يف معدتي‬
‫املحتارة التي تميل بأجوبتها لبقائي يف سري ٍر هو‬ ‫شعورا بالغثيان‪ ..‬تذكرت أني منذ البارحة مل‬ ‫ً‬
‫تلل من كثبان رملية تسحبني بكتلتي إىل الغرق‬ ‫أتناول شيئًا سوى قطعة شوكوال صغيرة مركونة‬
‫بالرمل‪.‬‬ ‫لسبب مل أعد أتذكره يف درج الكومودينو‪ ..‬اشتد‬
‫الغرق بالرمل هو من أوجه املوت األكثر عذا ًبا‪..‬‬ ‫البرد وتحركت نسمات جعلت جسدي جليدي القلب‬
‫أمومي‪ ،‬حتى‬ ‫ٌّ‬ ‫الغرق باملاء يبدو طر ًّيا‪ ،‬للماء بعد‬ ‫والقالب‪ ،‬والتهيت بفكرة واحدة هي لعن نفسي‬
‫سلسا إىل‬ ‫ً‬ ‫وأنت تغرق يسقي جسدك ويتسرب‬ ‫طول الطريق عىل قراري بالخروج والسهر معهم‪.‬‬
‫رئتيك‪ ،‬وقد تفتح عينيك فال أمل وال عماء‪ ،‬وأما‬ ‫حين اتصلت خالتي البارحة وطلبت مني وع ًدا‬
‫الغرق بالرمل ففي كل محاولة شهيق تختنق‬ ‫باملجيء ألكون معهم يف رأس السنة مل أستطع‬
‫وتجرحك حبيبات الرمل‪ ،‬حبيبات تسد فتحات‬ ‫التملص من محبتها‪ ،‬ألن خالتي تلك امرأة تعرف‬
‫أنفك‪ ..‬فمك‪ ..‬طعم الرمل عىل لسانك شبيه بجفاف‬ ‫متى تحب وكيف‪ ،‬وتملك نظرة تخبرك بها أنها‬
‫أيامك التي انسلت‪ ،‬تبتلع الرمل فتزيد من إحساسك‬ ‫كثيرا ألنها امرأة تُركت عىل‬ ‫ً‬ ‫بجانبك‪ ،‬ال بل هي تحب‬
‫بالغثيان‪ ،‬تسعل لتنجي رئتيك فتسحب يف شهيقك‬ ‫ً‬
‫طويل‪.‬‬ ‫هامش الحب‬
‫ك ًّما أكبر‪ ..‬أن تفتح عينيك تلك مغامرة ال تفكر بها‪،‬‬ ‫وافقت تحت ضغط حبها واعتقادي أنني سأرتاح‬
‫حبيبات الرمل عىل بللور عينيك له وقع مشرط‪.‬‬ ‫مما كان ينهش بي ككلب مسعور؛ إنه الضجر‪.‬‬
‫غريب أنهم مل يستخدموها يف املعتقالت والسجون‬ ‫الضجر ذاك األمل املجوف الذي مهما حاولت‬
‫كأكثر األدوات عذا ًبا‪.‬‬ ‫مرهمته يزداد إفراغه ملعنى األشياء واألشخاص‬
‫سرير رميل يغوص بي بكثبان الذكريات‪.‬‬ ‫وكل شيء‪ ،‬وأما صوته كما لو أنه نحيب يف حالة‬
‫«غروب»‪ ،‬االسم الذي أطلقه عيلَّ والدي ظنا منهم‬
‫ًّ‬ ‫إعالن طوارئ دائمة يقشعر بدنك بتوتر يقظ‬
‫أني سأمارس رومانسيتي عند مشهد يسحر‬ ‫ومستمر‪.‬‬
‫األخرين‪ ،‬لكنه مل يمدني سوى بالحزن‪ ،‬يف الصغر‬ ‫يف الطريق قلت «هناك»‪ ،‬أي يف البيت‪ ،‬سأخلد‬
‫كان سطح البناية بيتًا يضم كل الجيران‪ ،‬يصعدونه‬ ‫فيلما ما‪ .‬وحين دخلت الـ»هناك»‪،‬‬ ‫للنوم‪ ،‬أو أشاهد ً‬
‫عصرا لنيل قسط من البرودة يف يوم حار‪ ،‬كنت‬ ‫ً‬ ‫أصابني الحزن والحنين‪ ،‬تذكرت عادل‪ ،‬ونعق يف‬
‫أجلس يف زاوية ال أتحرك منها‪ ،‬وعند غروب‬ ‫داخيل ألف غراب‪ ..‬أشتاقك يا عادل‪ ..‬أشتاقك‪.‬‬
‫الشمس تنهال الجمل إعجا ًبا برحيل الشمس الذي‬ ‫دخلت غرفتي‪ ،‬جلست عىل طرف السرير حيث‬
‫‪98‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫كان يسحبني معه فأشعر بانقباض يف جذعي‪،‬‬


‫تفسيرا سوى ألن من‬ ‫ً‬ ‫ورغبة بالبكاء مل أجد لها‬
‫اسمي نصيب دائم الغروب والفقد‪.‬‬
‫مل يفارقني إحساس املسافات البعيدة بيني وبين‬
‫أهيل كأننا من عاملين مختلفين‪ ،‬مل يفهوا لغتي‪ ،‬ولو‬
‫رغب أحدهم بفهمي لترجم كالمي خطأً‪.‬‬
‫كان والدي بسي ًطا ال يتدخل بتربيتنا‪ ،‬ال أذكر أنه‬
‫كالما توجيهيًّا كما يفعل اآلباء‪ ،‬وال أذكر‬ ‫ً‬ ‫قال يل‬
‫سؤال‪ ،‬مذ وعيت وجدته‬ ‫ً‬ ‫يوما‬
‫أني حدثته أو سألته ً‬
‫مرتاحا يف هوامشه فلم أستطع االقتراب منه‪.‬‬ ‫ً‬
‫أمي كأبي يف هامشها‪ ،‬وبسيطة للحد الذي قد‬
‫تستغلها جارتنا لتنظيف بيتها بحجة الصبحية‪.‬‬
‫وجد أهيل يف إنطوائي راحة لهم‪ ،‬ال بل مدحوا‬
‫انطوائي وأعطوه اسم الفتاة العاقلة‪.‬‬
‫سابقًا كنت أجد ضالتي يف الرسم‪ ،‬فأرسم‬
‫أشكال وشخصيات حادة املالمح منكسرة الزوايا‬ ‫ً‬
‫منفلتة من حجمها العادي‪ ،‬كأن أرسم عينًا يتبعها‬
‫جسدها‪ ..‬أرسم األشكال‪ ..‬أجدها تمسني‪ ،‬ثم‬
‫أكرهها حين تنظر يل ببالهة وترتبط يف لحظتها‪..‬‬
‫وأنا التي أود االنعتاق من اللحظة والزمن‪ ،‬فكل‬
‫وقت حاضر هو عبء بانتظار وقت آخر سأعيش‬
‫به شعور املؤقت‪ ،‬فيصيبني امللل وأهرب من وقت‬
‫إىل الوقت الذي أرغب بالراحة فال أجدها‪ ..‬ضجر‬
‫من البيت‪ ..‬الجدار‪ ..‬قبضة الباب‪ ..‬الشارع‪ ..‬رفاق‬
‫املدرسة‪ ..‬األفالم‪ ..‬أهيل‪ ..‬فيروز‪ ..‬حديث املدرس‪..‬‬
‫الطريق التي تحت قدمي‪ ..‬السقف فوق رأسي‪..‬‬
‫الفالفل‪.‬‬
‫يزن برأسي كدبور لعين هو‬ ‫الشعور الوحيد الذي ُّ‬
‫سؤال أشبه بقنبلة تتشظى‬ ‫ً‬ ‫الحزن‪ ،‬يغرس يف قلبي‬
‫يف راسي ثم قلبي‪ ،‬فتحيلني لخرقة بالية ب َّكاءة‬
‫عديمة الشعور ألي معنى للحياة‪ ..‬سؤال «وماذا‬
‫بعد؟»‪.‬‬
‫حلما غريبًا وقد‬‫كنت يف العاشرة حين رأيت ً‬
‫أرعبني‪ ..‬رأيت أني قتلت الوقت ودفنته يف مستنفع‬
‫قريب من مدينة عظيمة‪ ،‬كائن وحيد شاهدني وأنا‬
‫أدفن الوقت‪ ،‬ذبابة بعيونها الكثيرة‪ ،‬كلما فقأت لها‬
‫عينًا تنبت مكانها أخرى‪ ..‬مل أستطع القضاء عليها‬
‫وعرفت أنها ستالحقني ما حييت‪ ..‬لكن ما جرى‬
‫بقتيل للوقت أن اختلت موازين املدينة‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫مل يعد هناك مواقيت للشروق والغروب‪ ،‬وال الليل‬


‫والنهار‪ ،‬وال أعمار الناس‪ ،‬فكل شيء كان يأخذ‬
‫شكل السيالن‪ ..‬عجوز يصغر‪ ..‬امرأة حامل تلد‬
‫رجل‪ ..‬غابة تشيخ‪ ..‬جسر مقعر‪ ..‬ثم توقف كل‬ ‫ً‬
‫شيء وراح يبتلع نفسه‪ ،‬وعيون الذبابة تكبر‬
‫وتكبر‪ ..‬وتالحقني كوحش مرعب وأنا أهرب وكأن‬
‫ذلك هروبي األول‪.‬‬
‫كابوسا‪ ..‬قالت ال تروه‬
‫ً‬ ‫قلت يومها ألمي إني رأيت‬
‫يا ابنتي‪ :‬بل قويل ثالث مرات «تف من تمي تف»‪..‬‬
‫ثم اسحبي هواء جملتك واطمريها يف التراب‪.‬‬
‫مل أفهم يومها واحتجت حضنها‪ ،‬غفوت بقربها‪،‬‬
‫ليل وجدتني يف‬ ‫وحين انتفض جسدي من الخوف ً‬
‫غرفتي وحيدة يف سريري‪ .‬يبدو أن والدي حملني‬
‫يف نومي للسرير ونام جنب والدتي‪ ،‬قلت وقتها‬
‫أيضا رأى ذبابة كبيرة‪.‬‬
‫بحزن إن والدي ً‬
‫راحت لعنة الوقت الذي دفنته تالحقني بأعين ذبابة‬
‫وبضجيج أزيزها‪ ،‬لعنة بلبوس الضجر وامللل‪ ،‬فلم‬
‫أكن أحتمل األصوات‪ ،‬وأي مكان هو ضجة لحين‬
‫عودتي لغرفتي‪ ،‬أغلق باب الغرفة ثم يسود صمت‬
‫له ضجة من نوع آخر‪ ..‬ضجة السؤال «ماذا بعد؟»‪.‬‬
‫وكبرت رداءات الغربة التي لبستها‪ ..‬كنت‬‫ْ‬ ‫كبرت‬
‫ُ‬
‫أبكي من املطر والشمس والرياح واألعاصير‪ ،‬يف‬
‫السماء الصافية وتحت شجرة الصنوبر قرب‬
‫بيت جدي‪ ..‬كم لجأت إليها وكلمتها يف مراهقتي‬
‫وأخبرتها أنها زيارتي األخيرة لها‪ ..‬ثم أبرر‬
‫أن معلمة الديانة روت‬ ‫وجودي معها ثانية وثالثة َّ‬
‫كافرا لو قتلت نفسك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لنا عذابات القبر‪ ،‬وأنك تموت‬
‫وأخبرت شجرة الصنوبر‪ ،‬مل أكُ أنا من يدفعني‬
‫للغياب‪ ،‬إنه سؤال لعنة الوقت «ماذا بعد؟»‪.‬‬
‫كثيرا وأنا أنكسر بثقل عباءات الضجر‬ ‫ً‬ ‫كبرت‬
‫والغربة من كل شيء‪ ،‬أمي وأبي وأخي كانوا عونًا‬
‫متعبًا وكنت باملقابل عبئًا عليهم‪ ..‬تعتقد أمي أنها‬
‫تنتشلني من مليل فتبدأ بكالم يتحول لقرقعة يف‬
‫معركة‪ ..‬وأما أبي فكان صمته وقرقعة أمي حال‬
‫واحدة‪ ..‬يف حين كان أخي قريبًا يل يف دفتر العائلة‬
‫فقط‪.‬‬
‫التهيت عن ضجري والغربة بالدراسة‪ ..‬درست‬
‫معهد هندسة وكان مناسبًا يل ألني اقضي ساعات‬
‫يف غرفتي ولوحدي أنشغل يف تحبير املخططات‬
‫‪100‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أجد صعوبة وأحتاج طاقة للبوح وللمشاعر وللحب‪،‬‬ ‫والرسوم‪.‬‬


‫ورغم ذلك تمكن منَّا وم َّدنا بطاقة غريبة‪ ،‬فلم يعد‬ ‫يف املعهد تعرفت عىل عادل‪ ،‬كان مثيل يجلس وحي ًدا‬
‫النهوض من السرير عقبة عند جسدي‪ ..‬وكذلك‬ ‫يف املقعد األخير يف زاوية القاعة‪ ،‬شاب أبيض‬
‫بعضا من أحمر‬ ‫ً‬ ‫حمامي ولباسي‪ ،‬ال بل كنت أضع‬ ‫البشرة متوسط القامة نحيف يرتدي نظارة‪ ،‬ما‬
‫الشفاه عىل شفتي وخدي‪.‬‬ ‫يميزه قفلة حواجبه وكثافتها‪ ،‬وألن عددنا يف املعهد‬
‫لدب‬
‫مسرورا ِّ‬ ‫ً‬ ‫فرحت أمي‪ ،‬حتى حياد والدي كان‬ ‫علمين ك ٌّل يجلس يف‬ ‫قليل‪ ..‬كنا كعمودين ّ‬ ‫كان ً‬
‫الحياة بي‪ ،‬لكنهم مل يسألوني‪ ،‬وليتهم سألوا‪..‬‬ ‫زاوية يف آخر القاعة‪ ،‬واآلخرون كتلة متجمعة يف‬
‫مسه جناحي فراشة يف القلب‪.‬‬ ‫وشعرت كمن ّ‬ ‫الصفوف األوىل‪.‬‬
‫عادل‪ ..‬وعادل يف‬ ‫ً‬ ‫مرت سنة ونصف بدا غروبي‬ ‫كان صوته مترد ًدا‪ .‬عرفت ذلك من املرة األوىل الذي‬
‫غروبي‪ ،‬رغم أننا شهدنا الغروب م ًعا مرات قليلة‬ ‫ذكر اسمه عادل حين طلب منا الدكتور تسجيل‬
‫خارج املدينة‪ ،‬لكنها بدت معه ويدي بيده أليفة‪ ..‬لكن‬ ‫الحضور‪ ..‬قال «عادل»‪ ،‬وكأنه متردد بذكر العدل‬
‫حين أعود لغرفتي أبكي من الغروب وعىل يدينا‪.‬‬ ‫يف اسمه‪.‬‬
‫كان الوقت خا ٍل من املستقبل بغياب عادل‬ ‫حين طلب دكتور مادة اإلنشاءات أن نقوم ببحث‬
‫وبحضوره‪ ،‬كنت أشعر أني قد أخطو عىل عتبته لو‬ ‫ً‬
‫زميل أو زميلة ومل‬ ‫مشترك مع زميل‪ ..‬ك ٌّل اختار‬
‫خطوة واحدة‪.‬‬ ‫يتبق سوانا‪ ..‬مل يطلبنا أحد للعمل معه‪ ،‬فجمع‬
‫مل يل ِغ الوقت لعنته خالل وجود عادل لكنه وضعها‬ ‫دكتور املادة اسمينا غروب وعادل يف بحث واحد‪.‬‬
‫رف قريب‪ ،‬يم ُّد يده إليها وقت يشاء‪.‬‬ ‫عىل ٍّ‬ ‫ال أعلم ماهية القدر‪ ..‬هل هو عقل مدبر لغاية ما‪..‬‬
‫أنهينا سنتي الدراسة وكان عليه أن يقوم بخدمة‬ ‫ولكن ما الغاية؟‬
‫الع َلم‪ ..‬خدمة الوطن‪.‬‬
‫َ‬ ‫ما غاية القدر يف أن يلقي وحيدة ضجرة يف حضن‬
‫قد يكون مفهوم الوطن ضرورة لشخص غير‬ ‫وحيد ضجر‪ ،‬حين التقينا للمرة األوىل يف املكتبة‪،‬‬
‫ولدي فكان‬‫َّ‬ ‫مصاب بلعنة الوقت‪ ،‬أما لدى عادل‬ ‫أنفقنا بضع كلمات وأخذنا اللوازم مناصفة ثم قال‪:‬‬
‫أشبه برفاهية ال نفهمها أو ال تعنينا‪.‬‬ ‫أين سنقوم بالبحث؟‬
‫إن كان الوقت الذي نعيشه يف مكان محدد وبين‬ ‫مل أُتعب نفسي يف التفكير بذلك‪ ،‬بل ركزت نظري‬
‫شعورا‬
‫ً‬ ‫أشخاص‪ ،‬وتبادلنا مع املكان واألشخاص‬ ‫يف حولة الحسن التي تعطي لوجهه غرابة‪ ..‬أجبت‪:‬‬
‫لغوا بالنسبة لنا‬ ‫ما‪ ..‬هو الوطن؛ فكل ما جاء ً‬ ‫ال أعرف‪.‬‬
‫نحن الضجرون‪ .‬إذ نضجر من وقتنا معهم ومع‬ ‫اقترح مكتبة الهندسة يف الجامعة‪ ،‬وقد نبقى لوقت‬
‫املكان واألشياء‪ ..‬ال بل يصبح العيش بحد ذاته أملًا‬ ‫متأخر‪.‬‬
‫ً‬
‫متواصل نتمنى لو نرتاح منه‪.‬‬ ‫كنت مهتمة بإنهاء املشروع خالل وقت قصير‪..‬‬
‫و ّدعني عادل ملتحقًا بقطعته العسكرية يف محافظة‬ ‫نجتمع يف أوقات محددة‪ ،‬ننجز بعض العمل ثم ٌّ‬
‫كل‬
‫كثيرا‪ ..‬مل يلتفت فعرفت أن قلبه‬ ‫ً‬ ‫أخرى‪ ،‬ناداه قلبي‬ ‫يسير يف طريقه‪ ،‬مع أن طريقنا واحد لوصول كل‬
‫ينادي يل‪.‬‬ ‫منا لبيته‪.‬‬
‫مل نكن نسرف يف قول املشاعر كما يفعل املحبون‪،‬‬ ‫حدث أن سألني مرة بعد أن انتهينا‪ :‬يبدو طريقنا‬
‫لكن الكلمة التي تقال تولد صادقة وعميقة بعملية‬ ‫واحد؟‬
‫قيصيرية‪ ،‬أن نسرف يف املشاعر الجياشة فذاك‬ ‫قلت‪ :‬يبدو ذلك‪.‬‬
‫اختالل يسحب منا طاقة تعادلها‪.‬‬ ‫رغم أني قلتها بحياد عاطفي لكن ما حدث بعد ذلك‬
‫ً‬
‫م ّرت ثالثة أشهر عىل غيابه‪ ،‬نتحدث جمل مختصرة‬ ‫أن سلكنا طريقًا واح ًدا‪ ،‬لسبب قدري تحدث كل منا‬
‫كثيفة مركزة‪ ..‬من جانبي أغلق الهاتف املحمول‬ ‫عن ثقل الجذب إىل دواخلنا‪ ،‬كان يتحدث عني كنت‬
‫وأبكي‪ ،‬أشتاق صوته‪ ،‬يخنقني املكان دونه‪ ،‬تنسحب‬ ‫اتحدث عنه‪.‬‬
‫الروح إليه‪.‬‬ ‫الحب فعل شاق‪ .‬هكذا بدا يل يف البداية وأنا التي‬
‫‪101‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫أتمدد اآلن عىل سريري وأنظر عيون الذبابة التي‬ ‫مبكرا صوت سيارة بيضاء يف حلمي‪ ،‬كان‬ ‫ً‬ ‫أيقظني‬
‫قتلت الوقت وأزيز الذبابة ينال‬ ‫ُ‬ ‫مألت السقف‪،‬‬ ‫صوتها جنائز ًّيا وكان قلبي يخبط بقوة يف صدري‬
‫مني ويجتاحني الضجر؛ يحتل مساحتي ومساحة‬ ‫مر يومان‬ ‫لدرجة سمعت ارتطام وتينه بأضلعي‪ ،‬ثم َّ‬
‫املكان‪ ..‬كل املكان‪.‬‬ ‫ومل أسمع صوت عادل‪ ..‬ثم يوم آخر وتمكن مني‬
‫أتعب يف محاوالتي للنوم‪ ،‬فينال مني األرق كخردة‬ ‫القلق واألرق الذي يعرف كيف يتمادى بضوضائه‬
‫بالية‪ ،‬ال نفع يف جسدي امللقي عىل السرير‪ ..‬أزيز‬ ‫ذات املهماز فوق القلب‪.‬‬
‫الذبابة ضجر كثيف‪ ..‬ضجر من العمر والناس‪..‬‬ ‫عرفت أنه أصيب أثناء التدريب وأن يمينه بات‬
‫من البيت‪ ..‬النوم‪ ..‬اليقظة‪ ..‬الحزن‪ ..‬الوطن‪ ..‬الدنيا‪..‬‬ ‫مشو ًها ويده بترت‪ ،‬هكذا أخبرتني أخته‪ ،‬أقمت‬
‫القلق‪ ..‬النسيم‪ ..‬الجيران‪ ..‬الطرق‪ ..‬النهار‪ ..‬الغربة‪..‬‬ ‫لوحدي جنازته املسبقة‪ ،‬ثم تركت لحزني أن‬
‫الليل‪ ..‬األغاني‪ ..‬األبواب‪ ..‬الزحمة‪ ..‬العطش‪..‬‬ ‫يتبعها‪.‬‬
‫السير‪ ..‬التبول‪ ..‬األفكار‪ ..‬األمل‪ ..‬التوقف‪ ..‬البرد‪..‬‬ ‫كنت واثقة مما سيخطر يف باله‪ ،‬وكانت فرصة من‬
‫الصمت‪ ..‬الكالم‪ ..‬الصباح‪ ..‬األرق‪ ..‬عيوني‪..‬‬ ‫أبواب متاحة وواسعة‪ ،‬قالت يل أخته إنه سقط ً‬
‫ليل‬
‫جسدي‪ ..‬الصوت‪ ..‬املاء‪ ..‬السارية يف دمي‪..‬‬ ‫من الطابق السابع يف املشفى‪ ،‬أغلقت هاتفي الخلوي‬
‫الحركة‪ ..‬الوجوه‪ ..‬وقلبي‪ ..‬ضجرت من قلبي‪..‬‬ ‫وضعت سماعات األذن ثم استمعت ألغنية (‪My‬‬
‫أسهو من التعب فيوقظني الضجر األليم ج ًّدا‪،‬‬ ‫‪ )body is a cage‬بأعىل صوت‪ ،‬وكررتها‪ ،‬كانت‬
‫من أغانيه املفضلة‪.‬‬
‫ممس ًكا قلبي بقبضته ويعصره‪ ،‬تلك طريقته الرتيبة‬
‫ً‬ ‫مل أبك ومل تذرف عيني دمعة واحدة‪ ،‬فقد اعتاد‬
‫مجال وأنا‬ ‫يف اإليقاظ‪ ..‬أليم ومباغت ال يترك يل‬
‫بكائي أن يكون لحنين مموه أو لسبب مجهول‪،‬‬
‫املتكومة عىل وجهي املنزوع الرغبة‪ ..‬ال يتركني إال‬
‫تعبأت بالحزن لفراق عادل لكني مل أبك‪ ..‬بل‬
‫حين يتأكد أني عىل شفا موت أو جنون‪.‬‬
‫اكتفيت بلملمة ذكراه وألصقت صوره عىل حيطان‬
‫قبضته األخرى تعتصر عقيل‪ ،‬يشردني ويغ ّربني‬
‫الذاكرة‪ ،‬ورحت أقضي وقتي بمشاهدتها‪ ،‬ث َّم دخلت‬
‫فتخرج شرائط العمر واألفكار‪ ..‬النوايا‪ ..‬الرغبة‪..‬‬ ‫دهاليز ومتاهات مل أالحظها ً‬
‫قبل‪ ،‬وهكذا هربت‬
‫املستقبل‪ ..‬املاضي‪ ..‬الحاضر‪ ..‬القصص‪ ..‬الحب‪..‬‬
‫للمرة الثانية‪.‬‬
‫الوالدة‪ ..‬الفقدان‪ ..‬الهزيمة‪ ..‬تخرج من بين أصابعه‪.‬‬ ‫حاولت أمي أن تبثَّ حنانها مما زاد يف أملي‬
‫عيني عىل مصراعيهما كأني مل أنم‬ ‫َّ‬ ‫قبضتان تفتح‬ ‫والحزن‪ ..‬مل أكن الفتاة التي ترغب بها أمي‪ ،‬فلم‬
‫منذ عمر طويل‪ ،‬عيناي مفتوحتان عىل السقف‪..‬‬ ‫أجالسها لنشرب القهوة عىل كالم عادي‪ ،‬الكالم‬
‫السقف املشوب بألف عين‪ ،‬ألف ثقب أسود‬ ‫لدي‬
‫الذي يجري بين أم وابنتها والذي مل يكن َّ‬
‫يمتصني‪ ..‬يفتتني‪ ..‬ويسحب فتاتي‪.‬‬ ‫القدرة ألقوم به‪ ،‬وأما أبي فكنت أرى يف عينيه‬
‫ً‬
‫تنسيل‪،‬‬ ‫ينسلني‬
‫يحولني لكرة خيوط متشابكة ثم ّ‬ ‫كالما يعتقد أنه هامشي فيخجل من البوح به‪..‬‬ ‫ً‬
‫ليسحب خي ًطا تنسحب معه الروح‪ ،‬تنفلت إرادتي‬ ‫وليته باح‪.‬‬
‫مني‪ ،‬إنها طوع الضجر األليم‪ .‬جسدي يغادرني‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬
‫ت ََحول الناس واألشياء أليد تل ِّوح يل‪ ،‬واجتررت‬
‫قدمي‬
‫َّ‬ ‫سلطة يل عليه‪ ،‬فسلطة الضجر فتاكة‪ُ ..‬ينهض‬ ‫حنينًا غريبًا‪ ،‬ال بل حبًّا لكل ما حويل حتى لو أساء‬
‫من السرير ثم يسوقني‪ ..‬فأخدم رغبته‪ ،‬كأن يجعل‬ ‫يل‪ ،‬كنت أشعر أن ودا ًعا ما يقيم حده عيلَّ ويضفي‬
‫بيدي سكينًا‪ ،‬أو ك ًّما من مبيد حشري‪ ،‬ويضحك‬ ‫طاب ًعا مختلفًا عىل كل شيء‪ ،‬فالشارع الذي أسير‬
‫ساخرا‪ :‬كم حشرة تعادلين بهذه الجرعة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫غض‬ ‫إحساس سرير ٍّ‬ ‫َ‬ ‫عليه يهبني وهو يودعني‬
‫ثم يتفنن باملراوغة أكثر فيش ُّل قدرتي عىل القيام‬ ‫مريح‪ ،‬والعمود تحول لجسد يعانقني‪ ،‬والشجرة‬
‫بحمل السكين أو اجتراع املبيد‪ ..‬يأخذ اإلرادة‬ ‫يف مدخل البناية تبتسم يل وتهز أوراقها ودا ًعا‪،‬‬
‫والعزم الذي أحتاجه ألوقف نزف املوت املتتابع‪،‬‬ ‫حتى فك ابنة خالتي التمساحي وضحكتها أثارت‬
‫بأن أمتلك خياري وأموت مرة واحدة‪ ..‬واحدة فقط‪.‬‬ ‫اضطرا ًبا ما لكني ما كرهتها‪.‬‬
‫‪102‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أحمد شرقي‬
‫(المغرب)‬

‫خب ٌر حصري‬

‫‪“ -‬وهل سنموت هنا؟ أظن أننا سافرنا عبر الزمن‪..‬‬ ‫يف تلك النقطة الحدودية‪ ،‬مل يكن ألملنا يف نزول‬
‫عدنا إىل املاضي! ال إنتر ِنت يف هذا املطار‪ ،‬وال شبكة‬ ‫بو ْسعنا فعل شيء‪،‬‬ ‫الخبر السار حدود‪ .‬ومل يكن ُ‬
‫سافر ْت بنا‬
‫َ‬ ‫آمل لو‬
‫اتصاالت! ماذا يجري؟ كنت ُ‬ ‫سوى تجزئة الوقت؛ عبر الدردشة‪ ،‬أو البوح أحيانًا‪،‬‬
‫تلك الطائرة امللعونة إىل املستقبل!»‪ ..‬قال املخرج‬ ‫حتى يأتي ذلك الخبر‪ ،‬وننال حريتنا من جديد‪ ،‬بعد‬
‫السينمائي بلُغة موليير‪ ،‬والدموع تنهمر من عينيه‬ ‫فقدانها لخمسة أيام‪.‬‬
‫‪-‬مل أقتنع بأدائه املبا َلغ فيه‪ ،‬ومل أتأثر بخطابه‪:-‬‬ ‫كان عدد املسافرين تسعين تقريبًا‪ ،‬قادمين من بقاع‬
‫مختلفة من العامل‪ ،‬انقسموا بتلقائية إىل مجموعات‪،‬‬
‫واخترت البقاء وراء‬
‫َ‬ ‫‪« -‬من األفضل أنك ال تمثل‪،‬‬
‫حسب النوع والسن ودوائر االهتمامات‪ ..‬لكن‬
‫الكاميرا»‪ ..‬تمت َْمت‪.‬‬
‫مجموعتنا كانت استثناء؛ إذ ضمت أربعة أشخاص‬
‫اختلفت أعمارهم وتوجهاتهم‪ ،‬لكن حلمهم واحد‪:‬‬
‫رجل سبعيني مغربي‪ ،‬قال إنه رئيس تحرير يف‬
‫جريدة غراء‪ ،‬وشاب مخرج سينمائي‪ ،‬يتلعثم يف‬
‫النطق بالعربية‪ ،‬صرح يل بأنه فرنسي مغربي‪،‬‬
‫نادرا‪ ،‬وسيدة تبدو يف‬
‫ً‬ ‫لكنه ال يزور املغرب إال‬
‫مالمحها األمريكية الالتينية‬
‫ُ‬ ‫األربعينيات من عمرها‪،‬‬
‫تؤلف بين الجمال والصرامة‪ ،‬ال تتكلم‪ ..‬تطلق‬
‫ابتسامة لطيفة من حين آلخر فقط‪ ،‬وهي تقرأ كتا ًبا‬
‫ملاريو بارغاس يوسا‪ ،‬عنوانه «حرب نهاية العامل»‪.‬‬
‫مل تكن خائفة‪ ،‬وكأن ما يقع أمر معتاد‪ .‬كانت تشبه‬
‫كثيرا‪ .‬ثم أنا‪ ..‬طالب أدرس الصيدلة‬ ‫ً‬ ‫جينفر لوبيز‬
‫يف أوكرانيا‪ ،‬وجئت عىل متن الطائرة القادمة من‬
‫كييف عبر إسطنبول‪ .‬كانت تلك زيارتي األوىل‬
‫للمغرب‪ ،‬بعد غياب دام قرابة عام‪.‬‬
‫‪ ‬أُغلقت الحدود فجأة‪ .‬ال نحن داخلون‪ ،‬وال نحن‬
‫عائدون‪ .‬أغلقت ونحن يف السماء‪ .‬مل يكن لنا علم‬
‫بذلك القرار‪ ،‬الذي كان بدافع االحتراز‪ ،‬واجتناب‬
‫وروني جديد إىل البالد ‪-‬مل أعرف‬ ‫دخول متحور ُك ُ‬
‫حينها حتى اسمه‪َ -‬وفق كالم شرطي كان هناك‪..‬‬
‫ً‬
‫مسؤول عن التواصل معنا‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫االنسجام معه‪ ،‬ومجاراة إيقاعه‪ ،‬فما كان له إال أن‬ ‫اِنتفض السبعيني العجوز من مكانه‪ ،‬موج ًها َسبابته‬
‫ينذرني بنبرة غاضبة‪:‬‬ ‫املرتجفة نحو وجهي‪:‬‬
‫‪« -‬يف املرة القادمة‪ ،‬ستغادر قاعة االجتماع يا ابني‪،‬‬ ‫‪« -‬أنت‪ ..‬أيها الصحفي املتدرب‪ ،‬هل من أخبار‬
‫بل ستغادر مقر هذه الجريدة العتيدة إىل األبد‪،‬‬ ‫جديدة؟ أ لن ننشر شيئًا اليوم؟‬
‫سيكون ذلك أحسن لك‪ ،‬ولنا»‪.‬‬ ‫أجبته‪:‬‬
‫يل‪ ،‬وكتمنا ضحكات‬ ‫نظرت إىل املُ ْخرج‪ ،‬ونظر إ َّ‬ ‫‪.Pas de nouvelles, bonnes nouvelles -‬‬
‫توترا‪ .‬أما القارئة األربعينية‬‫ً‬ ‫قد تزيد الوضع‬ ‫ً‬
‫محاول أن ألطف‬ ‫ثم ترجمت عبارتي إىل العربية‪،‬‬
‫الهادئة‪ ،‬فال يبدو أنها تفهم لهجتنا املغربية‪ ،‬تكتفي‬ ‫الجو‪ ،‬بعدما أيقنت أنه يعاني الزهايمر‪ :‬كما يقول‬
‫بابتسامتها أو هز رأسها‪ ..‬وحتى عنوان كتابها‬ ‫الفرنسيون‪« :‬ال أخبار‪ ..‬أخبار جيدة»‪ ،‬لتنثال عيلَّ‬
‫باإلسبانية‪ ،‬كان حر ًّيا بها أن تقرأ يف ظروفنا تلك‬ ‫عباراته املستنكرة‪ ،‬وقليل من السب املهموس من‬
‫«مائة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز‪.‬‬ ‫ِقبل السيد الرئيس‪.‬‬
‫قال الشاب السينمائي‪ ،‬الذي رغم تشخيصه‬ ‫ُكتب عيلَّ‪ ،‬كما ُكتب عىل املخرج وجينفر لوبير‬
‫الرديء‪ ،‬أظهر موهبة فذة يف الكتابة؛ كتاب ِة‬ ‫الصامتة من قبيل‪ ،‬أن أو َبخ‪ ،‬لكني أستحق؛ فأنا‬
‫السيناريو‪:‬‬ ‫مجرد صحفي متدرب مندفع‪ .‬الصحفي الحقيقي‪،‬‬
‫‪“ -‬مل تعلن منظمة الصحة العاملية عن شيء؛‬ ‫من منظور ذلك الكهل‪ ،‬هو الذي ُينتج الخبر ِم ْن ال‬
‫ألن فيروس كورونا انقرض إىل األبد‪ ،‬هو وكل‬ ‫شيء‪.‬‬
‫متحوراته‪ .‬كما أن الحروب انتهت منذ زمن‪ ،‬وكل‬ ‫‪“ -‬نعم سيدي‪ ،‬حتى عدم وقوع أي حادث‬
‫النزاعات بين بلدان العامل تبخرت‪ ،‬القديم منها‬ ‫ً‬
‫محاول‬ ‫خبرا»‪ ..‬صرحت بثقة‪،‬‬ ‫أو مستجِ د يع ُّد ً‬
‫والجديد‪ ،‬الكبير والصغير‪ .‬فُتحت الحدود‪ ،‬وألغيت‬
‫وتآخ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫التأشيرات‪ .‬أما األفراد فيعيشون يف رخاء‬
‫حتى السجون أُغلقت يف العامل بأسره‪ ..‬وكل ذلك‬
‫نشرناه يف أعداد الجريدة السابقة َسيدي الرئيس!»‪.‬‬
‫استغرب الرجل السبعيني‪ ،‬الذي أمضى أربعة عقود‬
‫من عمره يف رصد األخبار وتحريرها وإذاعتها‪:‬‬
‫‪ -‬ال قرارات اليوم وال بالغات! ال مباريات وال‬
‫منافسات رياضية! ال تصريحات وال إصدارات‬
‫وال مسرحيات وال أفالم! ال جديد يف حالة الطقس!‬
‫فعل صحفيون؟‬ ‫ما يقع غير معقول! هل أنتم ً‬
‫ولنفترض أن البالد راكدة‪ ،‬بل خارج الزمان‬
‫واملكان‪ ،‬هل دول العامل األخرى نائمة؟‬
‫متضامنًا‪ ،‬قاطعنا الشرطي نفسه‪ ،‬وكان شا ًّبا أنيقًا‪،‬‬
‫محترم‪:‬‬
‫َ‬ ‫تنِم طريقة كالمه عن مستوى ثقايف‬
‫‪ -‬بلدان أوروبا‪ ،‬وبلدان أمريكا الالتينية‪ ..‬أغلقت‬
‫حدودها هي األخرى ذها ًبا وإيا ًبا؛ وبالتايل ال‬
‫ُي ْمكنكم ولوج التراب املغربي‪ ،‬كما أنه ال يمكنكم‬
‫الرجوع إىل حيث أتيتُم‪ ،‬بل يلزم انتظار التعليمات»‪.‬‬
‫وجه حينها رئيس التحرير ع َّكا ًزا‪ ،‬كان بيده‪ ،‬نحوي‪،‬‬
‫وقال آ ِم ًرا‪:‬‬
‫أنت‪ ،‬د ِّون بسرعة‪ ..‬إنه خبر حصري‪.‬‬ ‫‪َ -‬‬
‫‪104‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أسامة حمدوش‬
‫(المغرب)‬

‫رماد الذاكرة‬

‫ال تقوى عىل أن تضمها كتب التاريخ‪ ،‬فالتاريخ ال‬ ‫مل أصدق نفسي يف هذا الوضع النتن‪ ،‬طفح الكيل‬
‫نثرا‪ ،‬يكتب سر ًدا وحكيًا‬
‫شعرا لكن يكتب ً‬‫ً‬ ‫يكتب‬ ‫وكرهت ذاتي وعذبتها غير ما مرة عىل طريقها‬
‫بتفصايل تجاعيد الذاكرة‪.‬‬ ‫املنحرف بمنعرجات األنا النرجسية والعناد‬
‫فما أقسى مرارة اللحظات التي تهيمن عىل مهجة‬ ‫ً‬
‫رجل مشرقيًّا أبيًّا وكرامتي تعلو‬ ‫األبي‪ ،‬كنت‬
‫مصطفى‪ ،‬رجل مثقف مفكر شاعر أديب يحسب‬ ‫فوق جميع االعتبارات‪ ،‬وها أنذا اليوم صرت‬
‫له ألف حساب يف املجامع الثقافية واألدبية‪ ،‬لكن‬ ‫دون قيمة وال شرف‪ ،‬وبخت نفسي عىل عدم‬
‫واآلن بعد مروره بمرحلة مخيبة أضحت بضعة‬ ‫وعيها بأفعالها‪ ،‬لعنتها عىل االهتمام الخاطئ‬
‫أشهر معدودات تنخر عباب جسده وروحه‪ ،‬وما‬ ‫بأناس ال يستحقون كل هذه التهاليل والزغاريد‬
‫أصعب أن يصل الطموح يف رجل إىل توهان‪ ،‬وما‬ ‫املقيتة‪ ،‬كانت الجنازة كبيرة وامليت فأر‪ ،‬كل هذا‬
‫أصعب أن تتالعب بك عناكب وثعابين الزمان كما‬ ‫يقع بداخيل املعذب يف لحظات الشؤم واالختيار‬
‫تتالعب الخمرة بالسكران‪.‬‬ ‫اللعين‪ ،‬يف لحظات الضعف ال ينبغي للمرء أن‬
‫يصير املرء يف لحظات هواجس العواطف حاله‬ ‫ينسى تاريخه املجيد وماضيه التليد‪.‬‬
‫مخيبة لآلمال تدعو للرأفة والعناق والقرب بدا‬ ‫واع بلعبة الزمن النتن‪ ،‬يهمه‬ ‫لطاملا كان مصطفى ٍ‬
‫البعد القاتل‪ ،‬يتالعب به الحنين بعبثية الالواقع‬ ‫مستقبله أكثر من كومة مقززة من بشر يمرون‬
‫والالمنطق مثلما يتالعب الريح بوريقات‬ ‫عىل الذاكرة الصغيرة ويتركون بصيص لحظات‬
‫‪105‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫ملح دم وعناق أرواح وكمال لنصفك القلق‬


‫املقرف‪.‬‬
‫سر وحدك إن استطعت فلن تجني سوى غربة‬
‫خانقة‪ ،‬ال الشتاء شتاء وال الصيف صيف وال‬
‫الربيع ربيع غير ربيعكما أنت وريم‪ ،‬املرأة‬
‫العنيدة املجنونة التي أبت إال أن تحول األفراح‬
‫إىل أتراح‪ ،‬االستقرار إىل فوضى الحواس‬
‫والعواطف‪ ،‬آه كم أكن لك من صراخ عاطفي‬
‫واعترافات الذت للصمت املقرف‪ ،‬وما‬
‫أصعب القمع والطالق العاطفي بيننا يا‬
‫ريم‪.‬‬
‫يا حبيبة الروح رغم الفراق ويا عشيقتي‬
‫وجنيتي الزائرة يل يف الفراش يف أنصاف‬
‫الليل واملزعجة لقيلولتي‪ ..‬أحببتك أكثر‬
‫مما ينبغي‪ ..‬آه كم تحول نار حبي لك إىل‬
‫رماد الذاكرة‪ ،‬وآه كم هي صعبة وحارقة‬
‫أالعيب الذاكرة يف مخيلة العشاق‪ ،‬األلفة ليست‬
‫هي الغرابة‪ ،‬والحفاظ عىل مسافات البعد تحمي‬
‫اإلنسان من جنون وجنوح وتمرد الذاكرة‪.‬‬
‫يعتريك الخوف يف طريقك إىل الغد وتخشى‬
‫أن تتحول إىل خراب ودمار مزمجر‪ ،‬يا لها من‬
‫األشجار فتطير وتحط دون مقام وال مستقر‪،‬‬
‫ذاكرة شقية ومخاتلة ماكرة خادعة مثل خدعة‬ ‫القضاء عىل الذاكرة يعني من بين ما يعني حفر‬
‫الزمن لنا‪ ،‬إذا طلبوا منك أن تعانق الذاكرة‬ ‫قبر ولطم تفاصيلها بالتراب لتنسى وتختفي‬
‫فستختار النجاح فيما أخفقت فيه ولن تطالب‬ ‫وكأن شيئًا مل يكن‪ ..‬وكأن شيئًا مل يكن‪.‬‬
‫بمطالب مادية‪ ،‬ألن الذاكرة أعنف من املادة‬ ‫اإلنسان قرار وقضية ورهان عىل النجاح ال‬
‫وأقرب ما تكون إىل الروح والفؤاد‪ ،‬وسلطة‬ ‫الفشل‪ ،‬والحب قرار ومسؤولية ومصير جحيمي‬
‫الذاكرة علينا رغم تغيير األحبة بمن هم أفضل‬ ‫يخطوه الفرد ويقبض عليه إىل ما النهاية من‬
‫منهم يف تفاصيل معينة تظل قاتلة ومعذبة‪ ،‬إذ‬ ‫االحتماالت‪ ،‬قد يجمعك حلم مقرف مع من‬
‫تخليت عنهم ويفرقك مع من تخلوا عنك‪ ،‬هذه‬
‫قد يزورك طيف حبيبتك األوىل وأنت يف فراش‬
‫هي أالعيب الزمن العربي املر واآلسن‪ ،‬خذ كوب‬
‫العشق مع امرأتك التي اخترتها ليجمعك معها‬
‫قهوة مر ارتشفه وأصمت‪ ،‬أنت ترى بأم عينيك‬
‫سقف واحد‪ ،‬وهل تكون هذه خيانة للذاكرة أم أن‬ ‫كبيرا أكبر من خيبات عواطفك ومشاعرك‪،‬‬ ‫واق ًعا‬
‫ً‬
‫اإلنسان جزء من ماضيه اللعين واملقرف؟‬ ‫ولكنك تأبى إال أن تصرخ بالظلم الذي تعرضت‬
‫مل نفترق نحن يا ريم لكننا لن نلتقي رغم وخز‬ ‫له‪ ،‬الخبز قبل العاطفة‪ ،‬لكن الخبز وحده تح ٍّد‬
‫الذاكرة النتنة‪.‬‬ ‫صعب وال تبتلعه اإلنسانية دون رفاق‪ ،‬فالرفاق‬
‫‪106‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫روال عبيد‬
‫(سورية)‬

‫عجوز ضاعت أحالمه‬

‫يبوا‬
‫ُص ُ‬‫اس ٌق ِب َن َبأٍ َف َت َبيَّنُوا َأ ْن ت ِ‬
‫آمنُوا إ ِْن َجا َء ُك ْم َف ِ‬ ‫ين َ‬ ‫الَّ ِذ َ‬ ‫أثار براز الكلب عىل السلم الرخامي األبيض يف‬
‫ُصب ُِحوا َع َل َما َف َع ْلت ُْم نَا ِد ِمين»‪.‬‬ ‫َق ْو ًما ب َِج َها َل ٍة َفت ْ‬ ‫مدخل عمارة قديمة وعريقة حفيظة سكان العمارة‬
‫وعاتبهم عىل استخدامهم لفظ «كلب الدور السادس»‬ ‫وفجر طاقة غضبهم املكتوم‪ .‬فأخذوا يتبادلون‬
‫ألنه ال يليق بأخالقهم وبعشرة العمر التي تعود‬ ‫االتهامات والشتائم عىل جروب الواتس آب الخاص‬
‫إىل خمسينيات القرن املاضي‪ .‬فبعض السكان من‬ ‫بهم‪ .‬فلم تكن هذه هي املرة األوىل التي يتبرز فيها‬
‫الجيل القديم الذي ما زال عىل قيد الحياة‪ .‬والبعض‬ ‫كلب عىل درجات السلم ويثير اشمئزازهم‪ .‬ففي‬
‫اآلخر ورثوا عن عائالتهم الشقق مثل أبنائهم‬ ‫كثيرا‪ .‬أحيانًا عىل عتبات‬ ‫ً‬ ‫اآلونة األخيرة تكرر هذا‬
‫وأحفادهم‪ .‬فردوا عليه برسالة اعتذار‪ .‬بعد ذلك‬ ‫شققهم وأحيانًا أخرى داخل املصعد‪ .‬وألن هناك‬
‫أخذت الرسائل تتالحق‪ ،‬فساكن يقول‪:‬‬ ‫كلبين يف العمارة ال غير‪ ،‬أحدهما لساكن يف الدور‬
‫‪ -‬مصيرنا نالقي طريقة ونعرف هو مين‪.‬‬ ‫السادس يدعى الباشمهندس عبد العظيم‪ ،‬واآلخر‬
‫وآخر يعلق‪:‬‬ ‫لشابة تسكن مع جدتها يف الدور الثاني تدعى‬
‫‪ -‬طيب وعرفنا‪ ..‬إيه اليل بإيدنا نعمله؟‬ ‫تهاني‪ ،‬فكان من الصعب معرفة براز أي كلب‬
‫ويتدخل ساكن آخر ويقول‪:‬‬ ‫فيهما‪ .‬فالباشمهندس عبد العظيم نفى نفيًا قاط ًعا أن‬
‫‪ -‬نخليه عىل األقل يشيل وسخ كلبه بنفسه وإن‬ ‫يكون لكلبه أي عالقة بهذا‪ ،‬ومن جانبها نفت تهاني‬
‫كررها نطلب منه يمشيه‪.‬‬ ‫أن يكون لكلبها عالقة باملوضوع‪ .‬وكتبت جدتها‬
‫ويستشيط غضب الباشمهندس ويهدد السكان‬ ‫تفيدة هانم مدافعة عنها وعن كلبها يف رسالة عىل‬
‫ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫صباحا ومسا ًء من‬ ‫ً‬ ‫الواتس آب أن تهاني تأخذ كلبها‬
‫‪ -‬طيب إيه رأيكم بقى إن اليل هيقرب من كلبي‬ ‫كل يوم يف نزهة لقضاء حاجته‪ .‬وأكد عىل كالمها‬
‫هافرمه فرم‪.‬‬ ‫األستاذ عاصم الشاعر الرقيق الذي يسكن يف الدور‬
‫وترد تفيدة هانم‪:‬‬ ‫األرضي ويطل شباكه عىل الشارع‪ .‬فإذًا ال بد أن‬
‫‪ -‬حضرتك واخد املوضوع شخصي ليه؟‬ ‫يكون هذا براز كلب الدور السادس‪ .‬وما إن قرأ‬
‫وتجيبها دولت هانم‪:‬‬ ‫الباشمهندس عبد العظيم هذه الرسالة حتى رد‬
‫‪ -‬ما هو اليل عىل رأسو بطحة يحسس عليها‪.‬‬ ‫برسالة أخرى مستشه ًدا باآلية القرآنية‪َ « :‬يا َأ ُّي َها‬
‫‪107‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫شائعة ارتباطه بها مرد ًدا اآلية القرآنية الكريمة‪:‬‬ ‫وهكذا احتدت املناقشة من جديد إىل أن تدخل أمين‬
‫اس ٌق ِب َن َبأٍ َف َت َبيَّنُوا‬
‫آمنُوا إ ِْن َجا َء ُك ْم َف ِ‬‫ين َ‬ ‫« َيا َأ ُّي َها الَّ ِذ َ‬ ‫صندوق العمارة وكتب رسالة ذكرهم فيه بحديث‬
‫ُصب ُِحوا َع َل َما َف َع ْلت ُْم‬ ‫يبوا َق ْو ًما ب َِج َها َل ٍة َفت ْ‬ ‫ُص ُ‬ ‫َأ ْن ت ِ‬ ‫رسول اهلل ىلص اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫نَا ِد ِمين»‪.‬‬ ‫وخير‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫خير ُهم لصاحبه‪،‬‬ ‫خير األصحابِ ِعن َد اهلل ُ‬
‫‪ُ -‬‬
‫وأصر عىل أنه يعتبرها بمثابة ابنته وأنه مسؤول‬ ‫خير ُهم أجار‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الجيرانِ عند اهلل ُ‬
‫عنها إىل أن «يفتكره ربه»‪ .‬إال أن تصرفاته كانت‬ ‫فصلوا عىل النبي وهدأت النفوس مج َّد ًدا‪.‬‬
‫تشي بعكس ذلك‪ .‬فمرة يرسلها إىل عيادة طبيب‬ ‫وفجأة دخل األستاذ الجامعي املتقاعد د‪.‬محمود‬
‫من سكان العمارة ويطلب منه إجراء فحوصات‬ ‫عبد املقصود عىل الجروب وأدىل بدلوه‪ .‬فاقترح‬
‫كاملة لها يف املستشفى الذي يعمل به ألن معدتها‬ ‫تركيب كاميرات مراقبة يف مدخل العمارة واملصعد‪.‬‬
‫تؤملها‪ .‬ومرة يزور األستاذ عاصم ملناقشة مشكلة‬ ‫ويف الحقيقة مل يكن اقتراحه جدي ًدا‪ .‬فمنذ مدة وهو‬
‫مواسير املنور املهترئة التي تحتاج إىل استبدال‬ ‫يقوم بزيارات مكوكية للسكان إلقناعهم بتركيب‬
‫وفجأة يغير مجرى الحديث إىل أحالم ويبث له قلقه‬ ‫كاميرات مراقبة‪ ،‬لكن السكان كانوا يرفضون‬
‫عليها‪ .‬فيخبره بأنه عندما اتصل بها يف الصباح‬ ‫اقتراحه‪ .‬ويف الواقع مل يكن هناك أي سبب مقنع‬
‫وجد صوتها خافتًا ومرهقًا إىل درجة أنه طلب منها‬ ‫لرفض اقتراح تركيب كاميرات مراقبة إال ألنه جاء‬
‫فحصا ملعاينة مستوى السكر يف‬ ‫ً‬ ‫أن تذهب وتجري‬ ‫من الدكتور محمود عبد املقصود‪ .‬فكما يقول املثل‬
‫الدم فربما كانت مصابة بمرض السكر دون علمها‪.‬‬ ‫«اليل اتلسع من الشوربة ينفخ يف الزبادي»‪ .‬فلم‬
‫وبعد قليل يعرض عليه خدماتها من تنظيف وشراء‬ ‫يفق السكان بعد من املصيبة التي ابتىل فيها العمارة‬
‫حاجيات‪ .‬ثم يسأله فجأة إن كان يعرف أن لها أختًا‬ ‫عندما كان أمينًا عىل الصندوق‪.‬‬
‫توأما؟ فيرد عليه األستاذ عاصم بهدوئه املعتاد‪:‬‬ ‫ً‬ ‫فذات يوم استيقظ سكان العمارة ليجدوا امرأة‬
‫‪ -‬ال واهلل‪.‬‬ ‫اسمها أحالم تطرق أبواب شققهم وتخبرهم أنها‬
‫فيجيبه بحماس‪:‬‬ ‫ابنة البواب األسبق‪ .‬وأنها ولدت يف هذه العمارة‪.‬‬
‫‪ -‬لو رأيتهما يف الشارع تمشيان لن تفرق بينهما‪.‬‬ ‫وأنها انتقلت للعيش يف البدروم مع أبنائها الثالثة‪.‬‬
‫ويسترسل يف وصف طولهما الفارع وعرضهما‬ ‫ثم أخذت تعرض عليهم خدماتها‪ .‬وعندما سألوا عم‬
‫وقوة بنيتهما الجسدية‪ .‬ثم يشتكي له من أبنائها‪.‬‬ ‫حسين عمن أتى بها‪ ،‬أخبرهم أنه عاد من إجازته‬
‫نائما وكلما وجد‬ ‫فابنها الكبير يقضي معظم وقته ً‬ ‫وفوجىء بها وقد كسرت قفيل غرفتين يف البدروم‬
‫عمل يداوم عليه عدة أيام ثم يتوقف‪ .‬أما ولداها‬ ‫له ً‬ ‫واستولت عليهما باألمر الواقع‪ .‬فطالبوا د‪.‬محمود‬
‫اآلخران فمهما حاول مساعدتهما يف الدراسة‬ ‫فورا وطردها من البدروم‪.‬‬ ‫عبد املقصود بالتدخل ً‬
‫فال فائدة ترجى منهما‪ .‬ثم أخذ يصف له كيف‬ ‫لكنهم فوجئوا به يدافع عنها‪ .‬وأخبرهم أن والدها‬
‫تعاقب أوالدها عند تقصيرهم يف الدراسة‪ :‬تقف‬ ‫رجل طيبًا‪ .‬وأنه يعرفها منذ‬ ‫ً‬ ‫البواب األسبق كان‬
‫عىل الكنبة وبيدها كرباج توقعهم به ضر ًبا‪ .‬امرأة‬ ‫أن كانت طفلة تلعب يف املدخل‪ .‬وأنها انفصلت‬
‫شديدة البأس تستطيع أن تعتمد عليها صدقني‪.‬‬ ‫مؤخرا‪ .‬ورفض أخوها بواب‬ ‫ً‬ ‫عن زوجها البلطجي‬
‫وأخذ يخبره أنه يف حال تعرض ألي مكروه‪ ،‬مهما‬ ‫العمارة األخرى عىل ناصية الشارع استقبالها‬
‫فرضا لو حاول أحد السطو عىل شقته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان نوعه‪،‬‬ ‫مع أوالدها وهي ال تستطيع التخيل عنهم فلم‬
‫فما عليه إال أن يصرخ من طرقة املنور‪ ،‬يا أحالم‪،‬‬ ‫يكن أمامها إال هذه الطريقة‪ .‬وأعلن أنه سيتبناها‬
‫وستكون أحالم أمام باب الشقة وهي تمسك املجرم‬ ‫وسيتوىل شؤونها ما دام حيًّا‪ .‬وعندما حاولوا بعد‬
‫من «زمارة رقبته»‪.‬‬ ‫ذلك طردها بقوة القانون أظهرت لهم عقد إيجار‬
‫لكن األستاذ عاصم مل يكن متعاطفًا معها عىل‬ ‫رسمي‪ .‬وسرعان ما سرت شائعة بين السكان عن‬
‫اإلطالق‪ ،‬خاصة بعد أن طرقت بابه يف أحد األيام‬ ‫زواجه من أحالم عرفيًّا بعد أن تركت زوجته الشقة‬
‫وطلبت منه بحدة أن يتوقف عن وضع الطعام‬ ‫وانتقلت للعيش مع ابنتها‪ .‬وعىل الرغم من أنه كذب‬
‫‪108‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫بعضهم بضرورة تركيب كاميرات املراقبة‪.‬‬ ‫للقطط ألنها ال تريد قط ًطا يف العمارة‪ ،‬فهي تتبول‬
‫ووجدوا فيها نو ًعا من الردع ملن تسول له نفسه‬ ‫يف املنور وتتصارع عىل السالمل الخلفية مصدرة‬
‫السطو عىل الشقق أو توسيخ العمارة‪ .‬أما البعض‬ ‫أصواتًا مزعجة‪ .‬وعىل الرغم من أنه تجاهل األمر إال‬
‫اآلخر فقد رأى فيها انتها ًكا للخصوصية العامة‪.‬‬ ‫أنه الحظ أن القطط بدأت تختفي‪ .‬وساورته الشكوك‬
‫فاألستاذ عاصم الذي يسكن يف الدور األول كان‬ ‫يف أنها كانت تدس السم لها يف الطعام‪ .‬كما كان‬
‫صوتها األجش العايل ليل نهار وهي تصرخ يف‬
‫قلقًا من أن تكشف الكاميرا وجه السيدة التي كانت‬
‫وجه أبنائها يضرب عىل أعصابه‪ .‬وأصوات أبنائها‬
‫تتردد عليه‪ .‬أما املحامي عزت األمير فقد كان قلقًا‬
‫وهم يتقاذفون السباب بألفاظ خادشة للحياء‬
‫بسبب االجتماعات التي كان يعقدها دور ًّيا لرموز‬ ‫يثير اشمئزازه‪ .‬هذا باإلضافة إىل شغلهم املدخل‬
‫املعارضة‪ .‬ودولت هانم ومفيدة هانم وتهاني‬ ‫الرخامي الواسع بلعبهم باالسكوتر وما تصدره‬
‫كن قلقات بشأن مؤخراتهن‪ .‬فماذا لو تلصص‬ ‫من أصوات مزعجة وإرباك للمارة خاصة من كبار‬
‫األرمل العجوز الذي يسكن يف الدور السابع عىل‬ ‫السن‪ .‬كما شعر السكان باستياء شديد منها عندما‬
‫مؤخراتهن كما كان يفعل عندما كانت إحداهن‬ ‫حاولت قطع عيش الزبال املسكين الذي أمضى‬
‫تمشي يف الشارع وتلتفت وراءها لتجده يتبعها‪.‬‬ ‫عمره يف خدمة العمارة‪ .‬وأخبرتهم أنه رجل «معفن»‬
‫وماذا عن الشاب األعزب الذي ورث الشقة عن جده‬ ‫ال يفقه يف النظافة‪ .‬وأخذت تجمع القمامة ً‬
‫بدل‬
‫وجدته يف الدور السادس وهدده جاره ذو امليول‬ ‫عنه‪ .‬وبدأت تنظف طرقات املطابخ املطلة عىل املنور‬
‫األصولية بإحضار شرطة اآلداب إذا عاد واستقبل‬ ‫دون إذن منهم‪ .‬ومل تتوقف إال بعد أن تجاهلوها‬
‫أي سيدة يف شقته‪ .‬كما أثار تركيب الكاميرات‬ ‫ومل يعرضوا عليها أي مقابل مادي‪ .‬أما عم حسين‬
‫فقد كان لها باملرصاد‪ .‬فما إن يراها تطرق باب‬
‫أسئلة مهمة أخرى‪ .‬فمن هو الشخص الذي‬
‫أحدهم وتعرض عليه شراء حاجياته حتى تجده‬
‫سيضعون ثقتهم فيه لتفريغ املحتوى واالطالع‬
‫يقف وراءها يراقبها‪ .‬وما إن تغيب حتى يطرق باب‬
‫عليه؟‬ ‫الساكن من جديد ويحذره من التعامل معها‪.‬‬
‫ويف النهاية أجمع أغلبية السكان عىل تركيب‬ ‫‪ -‬إياك‪ ..‬ست مش كويسة أب ًدا‪.‬‬
‫ً‬
‫شرطا واح ًدا‬ ‫كاميرات املراقبة‪ .‬ولكنهم وضعوا‬ ‫ومل يكن يحتاج إىل شرح عبارته الغامضة تلك‪،‬‬
‫وهو أال يطلع أحد عىل املضمون إال األستاذ عاصم‬ ‫فالكل بات يعرف ماذا يقصد بكالمه‪ .‬خاصة بعد أن‬
‫الشاعر الرقيق وأمين الصندوق الجديد عند‬ ‫سرت شائعة بين السكان بأن زوجة د‪.‬محمود عبد‬
‫الضرورة فقط‪.‬‬ ‫املقصود كانت قد أطلعت عم حسين عىل صورة من‬
‫بدل من أن تعلو الفرحة وجه د‪.‬محمود عبد‬ ‫وهكذا ً‬ ‫العقد العريف قبل أن تترك الشقة‪.‬‬
‫متكدرا‪ .‬فقد خاب أمله من‬‫ً‬ ‫املقصود‪ ،‬جلس بينهم‬ ‫وكان آخر شيء أثار غضب السكان الشديد‬
‫وراء تركيب الكاميرات‪ .‬فكل غرضه كان التلصص‬ ‫منها هو تلك الزينة التي علقتها يف مدخل العمارة‬
‫عىل الداخل والخارج إىل البدروم بعد أن رأى أحالم‬ ‫بمناسبة حلول شهر رمضان‪ .‬فعندما رأتها دولت‬
‫هانم سألتها بحدة‪:‬‬
‫تقف عند البقال أسفل العمارة تثرثر مع الشاب‬
‫‪ -‬من سمح لك بتزيين املدخل؟‬
‫الذي يعمل يف توصيل الطلبات إىل املنازل‪ ،‬وسمع‬
‫فأجابتها وهي تضحك‪:‬‬
‫قهقهاتها املجلجلة تشق فضاء الشارع‪ ،‬فثارت‬ ‫‪ -‬أنا «أصيل بحب الفرفشة”‪.‬‬
‫غيرته عليها ومل يعد يغفو له جفن وهو يتخيل‬ ‫فردت عليها دولت هانم بوجه صارم‪:‬‬
‫ليل‪ ،‬وأحالم‬ ‫الشاب يتسلل إىل غرفتها يف البدروم ً‬ ‫‪ -‬طيب من فضلك نزليها‪ ،‬إحنا مش يف حارة بلدي‬
‫تفتح له الباب وتأخذه بين ذراعيها وتنهال عليه‬ ‫هنا‪.‬‬
‫بقبالتها الحارة‪.‬‬ ‫بعد مناقشة طويلة بين سكان العمارة‪ ،‬اقتنع‬
‫نون‬
‫النسـوة‬
‫(قراءات في رواية "فاصلة بين‬
‫نهرين" لغفران طحان)‬
‫‪110‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫د‪.‬محمد سليم شوشة‬

‫فاصلة بين نهرين‪..‬‬


‫دستوبيا الحرب وتهشم البشر‬

‫نورس الكاتب املسلم الذي كان ينتظره مستقبل‬ ‫يمثل خطاب رواية «فاصلة بين نهرين» للروائية‬
‫كبير يف عامل األدب‪ ،‬الذي يمرض هو اآلخر نفسيًّا‬ ‫السورية غفران طحان خطا ًبا سرد ًّيا ثر ًّيا عىل‬
‫بمرض مختلف‪ ،‬ولكنه عىل املستوى األكثر عمقًا‬ ‫املستويين الجمايل والداليل‪ ،‬فهي رواية حافلة‬
‫نجده قريبًا من حالة سوسنة‪ ،‬فيكون املرضان‬ ‫بالرمز وتبدو مشحونة برسالة كثيفة وذات ثقل‬
‫متعلقين أو مرتبطين رمز ًّيا بحالة من إنكار الواقع‬ ‫إنساني‪ ،‬ويبدو أن وراء هذا الخطاب هم إنساني‬
‫أو الفترة الراهنة والرغبة يف االنسحاب من الحياة‪.‬‬ ‫ضاغط عىل ذهن منتج الخطاب ومنشئه‪ .‬وتمثل‬
‫يبدو نورس وكأنه ال يشعر من العامل بشيء غير‬ ‫نموذجا لدستوبيا الحرب ومقاربة أثرها‪ ،‬وتهشم‬ ‫ً‬
‫رائحته السيئة الدالة عىل العنف والقتل والغدر‪،‬‬ ‫اإلنسان بها وتفتته‪ ،‬مقاربة سردية غنية ومشوقة‪.‬‬
‫ومن الطريف أن أثر الحرب يف كثير من األحيان ال‬ ‫يف هذه الرواية التي تقارب نموذجين إنسانيين‬
‫يأتي بصورة مباشرة أو بشكل صاخب وإلحاح‪،‬‬ ‫‪-‬هما شخصيتا سوسنة ونورس‪ -‬نجد أبعا ًدا‬
‫بل يأتي عبر عملية من الترميز واإليحاء والداللة‬ ‫رمزية مهمة‪ ،‬يف تشكيل ورصد أثر الحرب عىل‬
‫غير املباشرة‪ ،‬وهذا األمر يمنح الخطاب السردي‬ ‫اإلنسان السوري مهما اختلف النوع أو الدين‪،‬‬
‫قيمة مضاعفة ملا يسهم به يف مد املتلقي بمحفزات‬ ‫ولهذا فإن الشخصيتين بتنوعهما عىل مستوى‬
‫التأويل والشراكة يف إنتاج الداللة‪ ،‬وهي متعة عقلية‬ ‫شامل‪ ،‬ويجعلهما أقرب‬ ‫ً‬ ‫الدين والنوع يجعل األثر‬
‫وذهنية قائمة بذاتها‪.‬‬ ‫ألن يكونا معبرين عىل النسيج االجتماعي بشكل‬
‫دائما إىل‬
‫نورس الرافض لروائح العامل‪ ،‬والالجئ ً‬ ‫كامل‪ ،‬فلم يسلم أو يفلت من هذه اآلثار املدمرة‬
‫املواد العطرية املصنعة ليغطي عىل زخم الروائح‬ ‫مرضا‬
‫ً‬ ‫أحد‪ .‬سوسنة الفتاة املسيحية التي تعاني‬
‫السيئة والعفن الذي يسيطر عىل العامل‪ ،‬هو‬ ‫نفسيًّا هي نتاج الحرب‪ ،‬حالة من اإلنكار واالنفصام‬
‫باألساس شخصية مريضة بإنكار الواقع‪ ،‬فهذا‬ ‫والنسيان والهرب من الواقع؛ توازي ما لدى‬
‫‪111‬‬
‫نون النسوة‬

‫فهي التقت والده وأحبته وتكون هذا الجنين يف‬ ‫الكره العميق املتجذر يف نفسه لرفض العامل هو‬
‫رحمها تحت القصف وأحداث الحرب‪ .‬ولكن الحمل‬ ‫باألساس تمرد لحواسه ورغبة يف اإلنكار والهروب‬
‫املعلق أو املستمر لسنوات عىل املستوى النفسي له‬ ‫من هذا العامل‪ ،‬ال يقبل بروائح العامل أو ال يجد فيها‬
‫دالالت أخرى واحتماالت تأويلية مختلفة‪ ،‬فيمكن‬ ‫إال العفن والفساد‪ ،‬فالعامل كله هو هذه الحالة من‬
‫أن يكون األمل املعلق يف حياة سوية‪ ،‬األمل يف‬ ‫التردي يف العفونة التي لها جذور عميقة لديه‪ ،‬بدأت‬
‫السالم والرغبة يف استعادة املاضي واستعادة‬ ‫مع الغدر بالجمل صابر الذي ذبحه جده‪ ،‬وتعمقت‬
‫العيش السوي والطبيعي‪ .‬األمل املؤجل يف أن ترجع‬ ‫مع الحرب‪ ،‬ومن الطريف أو الجميل يف الرواية أن‬
‫الحياة إىل طبيعتها أو إىل ما قبل الحرب‪.‬‬ ‫تكون معاناة نورس مضاعفة بأن يتم إثقال كاهله‬
‫يف الرواية جزء رمزي مهم كذلك يرتبط بنسق‬ ‫دائما بهذه الجثة املتوهمة‪ ،‬لتضاعف من معاناته‬ ‫ً‬
‫ثابت يربط بين الشخصيتين‪ ،‬وهو املتمثل يف غياب‬ ‫عىل املستوى النفسي وتمنح السرد أسباب التطور‬
‫حلقة األب أو ضعفها أو انهيارها‪ ،‬أو أن يكون‬ ‫الدرامي ومحركاته الذاتية‪ ،‬بأن يكون البطل يف‬
‫األب ‪-‬وهو املرحلة الوسيطة بين الجد واالبن‪ -‬هو‬ ‫ورطة أكبر من ورطة الرائحة العفنة‪ ،‬بأن يحتاج‬
‫مرضا وأملًا وغيا ًبا‪ ،‬وهذا‬
‫ً‬ ‫الحلقة األضعف أو األكثر‬ ‫فوق ذلك إىل حيلة للتخلص بها من الجثة التي‬
‫دال عىل إشكاليات مرحلة الحرب‪ ،‬فإذا كان األجداد‬ ‫تضاعف العفونة وتضطره للمعطرات‪ ،‬وتجعله‬
‫يدلون عىل املاضي والتاريخ العربي بشكل عام‪،‬‬ ‫عصفورا يف‬
‫ً‬ ‫يعيش طوال أحداث الرواية كما لو كان‬
‫فإن األب هو هذه املرحلة الراهنة التي تهيمن عليها‬ ‫شراك صائد محترف يحاصره جي ًدا ويحكم عليه‬
‫الحرب ومظاهر التهدم والخراب والضعف‪ ،‬يف حين‬ ‫الفخ‪.‬‬
‫يكون األبناء أو الجيل الحايل من األبناء دالين عىل‬ ‫إن ما تعيشه الشخصيتان الرئيستان ليتشابه يف‬
‫شكل طريفًا‬‫ً‬ ‫املستقبل‪ .‬وهكذا فإن الرواية تطرح‬ ‫املستوى األكثر عمقًا‪ ،‬ويصبح له القيمة الداللية‬
‫من التعبير عن التاريخ بطريقة رمزية‪ ،‬فتشير إىل‬ ‫ذاتها‪ ،‬ذلك ألنهما يعانيان باختالف يف نمط املرض‬
‫ازدهار التاريخ العربي وهذا املاضي املجيد وفق‬ ‫من حالة إنكار للواقع‪ ،‬والحمل املعلق ‪-‬أو الحمل‬
‫منطق الخطاب الروائي ورؤيته‪ ،‬يف حين يهيمن‬ ‫النفسي املعلق‪ -‬لدى شخصية سوسنة هو دال عىل‬
‫الضعف واالنهيار عىل الحاضر‪ ،‬أما املستقبل فإنه‬ ‫رفض الخروج إىل العامل يف قراءة من القراءات‪،‬‬
‫نتيجة لهذا الحاضر‪ ،‬فليس يف املستقبل إال هذه‬ ‫واحتمال من احتماالت التأويل‪ ،‬فكأنها باألساس‬
‫الحالة النفسية املتردية التي يقع فيها األبناء من‬ ‫ترفض خروج جنينها للعامل وهو بهذه الصورة‪،‬‬
‫التخبط والتوهم والضعف واملرض النفسي وتهشم‬ ‫هي باألساس ال تملك جنينًا‪ ،‬بل هي حالة مرضية‬
‫ذواتهم‪ ،‬بما يجعل األفق مسدو ًدا أو ضبابيًّا وغير‬ ‫من التوهم الذي تصعب معالجته ويجاريها فيه من‬
‫واضح املعامل‪ ،‬فال نعرف‬ ‫حولها حتى الطبيب نفسه‪ ،‬يف حين‬
‫هل يمكن الخالص من هذه‬ ‫أن الطب النفسي يقول إن مجاراة‬
‫األمراض النفسية واستعادة‬ ‫املريض ليست هي العالج‪ ،‬بل هو‬
‫صحتهم؛ أم أن حاالتهم‬ ‫تعميق للمرض ويزيد فيه‪ .‬لكن هذا‬
‫ستتفاقم وستزداد سو ًءا؟‬ ‫الحمل املعلق عىل املستوى التأوييل‬
‫وهو السؤال الذي تنفتح‬ ‫والداليل داخل النص السردي هو‬
‫عليه داللة الخطاب‪ ،‬وتظل‬ ‫نوع من التمرد عىل الواقع‪ ،‬ورفض‬
‫هكذا أمام إسهامات املتلقين‬ ‫الخروج إليه‪ ،‬فكأن األم تخاف‬
‫وحسب رؤيتهم وتصوراتهم‬ ‫عىل ابنها من وحشية العامل‬
‫الخاصة‪.‬‬ ‫وقسوة الحرب وعنفها‪ ،‬وبخاصة‬
‫والدليل عىل أن املاضي مجيد‬ ‫وأنه نتاج حالة من الحب أو‬
‫وعفي‪ ،‬ومما يؤكد‬
‫ٌّ‬ ‫وقوي‬ ‫العشق الذي ولد يف فترة الحرب‪،‬‬
‫‪112‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫هذا االحتمال وهذه القراءة التأويلية لنسق األجداد‬


‫واآلباء واألبناء؛ أن هذا ثابت يف الشخصيتين‬
‫األساسيتين أو بطيل هذه الرواية سوسنة ونورس‪،‬‬
‫فهي مات أبوها وكانت يتيمة وأمها تبدو سلبية أو‬
‫عاجزة أمام مشاكلها‪ ،‬واألمر ذاته بالنسبة لنورس‬
‫مريضا وهو يعجز عن أن يحمله أو‬ ‫ً‬ ‫الذي كان أبوه‬
‫يعاونه يف مرضه‪ ،‬يف حين ظل الجد هو القادر عىل‬
‫حمل هذا األب املريض ويعينه يف احتياجاته‪ ،‬وإذا‬
‫كان األب يعيش بعد الجد فهي حياة كعدمها‪ ،‬وليس‬
‫مريضا وعاج ًزا يحتاج لآلخرين‬
‫ً‬ ‫لها قيمة ألنه عاش‬
‫وبخاصة الجد الذي بقي يملك القوة والقدرة حتى‬
‫النهاية‪ ،‬واألمر ذاته بالنسبة للجدة التي كانت أكثر‬
‫قدرة عىل العطاء من األم‪ .‬ومما يؤكد هذا التأويل‬
‫‪-‬أو يدعمه كذلك‪ -‬هو األوصاف التي وصف بها‬
‫بيت الجد من االزدهار واالتساع والجمال وكثرة‬
‫األشجار والورود واألزهار وغيرها من عالمات‬
‫متهدما‪ ،‬أو البيت‬
‫ً‬ ‫الجمال‪ .‬يف حين يبقى الواقع‬
‫الجديد تهيمن عليه الروائح السيئة والعفونة‪،‬‬
‫وكثير من مظاهر التهدم مثل الحمام الذي يسرب‬
‫ويسبب له مشكلة مع جارته األرمينية أو الجيران‬
‫املتطفلين أو الحشريين الذين يفرضون أنفسهم‬
‫وقوانينهم ومنطقهم عليه وغيرها من العالمات‪،‬‬
‫فكأن هذا البيت القديم للجد هو ماضي الحضارة‬
‫العربية واإلسالمية وماضي العرب الذي كان‬
‫مزدهرا‪ ،‬يف حين ليس يف حاضرهم غير القصف‬ ‫ً‬
‫والقتل والتخريب واالزدحام يف طوابير مصلحة‬
‫الهجرة والجوازات والغرق يف البحر‪ ،‬وهي عالمات‬
‫حاضرة بقوة يف خطاب الرواية بما يصل بها إىل‬
‫درجة اإللحاح‪ ،‬ولكنها متوزعة بشكل هندسي جيد‬
‫يف الفضاء السردي بما يجعلها ملتحمة بعناصر‬
‫حياتية أخرى‪ ،‬فيكون الناتج تك ُّون نسيج إنساني‬
‫واجتماعي كامل وفيه قدر من التشويق واملتعة‪،‬‬
‫وال يمضي عىل مسار واحد من وصف الحرب‬
‫والخراب‪ ،‬بل يحاول أن يجمع بين ما هو طبيعي‬
‫من التفاصيل الحياتية مع ما هو استثنائي أو‬
‫طارئ من إشكاليات‪ ،‬فيكون يف السرد ً‬
‫مثل ما‬
‫يرتبط بالتنظيف والطعام والخروج وتصفح الفيس‬
‫بوك وكتابة األشعار‪ ،‬كما يكون ما هو عكس ذلك‬
‫من املرض والخوف والقتل وغيرها من أحداث‬
‫‪113‬‬
‫نون النسوة‬

‫مأساوية‪.‬‬
‫يف الرواية بعدان آخران مهمان‪ ،‬أحدهما يتمثل يف‬
‫توظيف التكنولوجيا ووسائل التواصل االجتماعي‬
‫عىل نحو جيد يحقق عد ًدا من األهداف والقيم‬
‫الجمالية املهمة‪ ،‬مثل توسيع عامل الرواية وجعله‬
‫يخرج أحيانًا عن نطاق الشخصيتين وهيمنتهما‬
‫إىل عامل األصدقاء االفتراضيين ولغتهم وخلفياتهم‬
‫وأدوارهم وطريقتهم يف العيش والتفكير‪ ،‬فكأننا‬
‫أمام عاملين‪ ،‬أحدهما خاص ومنغلق عىل ذاته وهو‬
‫عامل كل من نورس وسوسنة‪ ،‬وعامل آخر أكثر‬
‫انفتاحا وفيه قدر من البالدة والجمود والحياة‬
‫ً‬
‫الطبيعية وهو عامل أصدقاء الفيس بوك‪ ،‬وهؤالء‬
‫األصدقاء االفتراضيين الذين ما زالوا يعيشون‬
‫حياتهم بشكل أقرب إىل الطبيعي‪ ،‬وهم مؤشر عىل‬
‫استمرار الحياة بأي شكل وبأي صورة برغم‬
‫الحرب‪ ،‬هذه الخلفية أو الجوقة الجماعية التي كونها‬
‫الخطاب السردي عىل أساس من هؤالء األصدقاء‬
‫االفتراضيين‪ ،‬وعىل أساس من عامل الفيس بوك‪،‬‬
‫هم املمثل لحركة الحياة وحيويتها‪ ،‬واملمثل لصالبة‬
‫الزمن وأنه يمر بأي ثمن وبأي كيفية ومهما كانت‬
‫الخسائر‪ ،‬وأنه إذا كان هناك من يعاني من الحرب‬
‫ويتهشم وينهار بسببها ويعيش حياة مأساوية؛‬
‫فإن هناك كذلك من ستمضي به الحياة وسيستمر‬
‫عىل النسق الطبيعي‪ ،‬فيكون الزواج واألكل والشرب‬
‫والتناسل والبناء يف كل األحوال‪ ،‬والنمطان يتم‬
‫قياس أحدهما بالنسبة لآلخر‪ ،‬أي أن كل اتجاه هو‬
‫باألساس يوضح اآلخر ويبرزه‪.‬‬
‫أما البعد الجمايل اآلخر فهو ذاك املرتبط بتوظيف‬
‫النصوص العابرة أو وضعيات وتوظيفات التناص‬
‫يف هذا الخطاب السردي‪ ،‬فنجد أن الرواية حافلة‬
‫بعدد من النصوص األخرى التي تستقر يف هذا‬
‫املتن السردي‪ ،‬بعضها نصوص شعرية وبعضها‬
‫محاورات أدبية ومراسالت عىل الفيس بوك‬
‫وبعضها كتب وروايات أخرى‪ ،‬وكلها تصبح جز ًءا‬
‫إضافيًّا يف نسيج الرواية وعاملها‪ ،‬وتدل عىل التنوع‬
‫الثقايف واملعريف لهذا الخطاب الروائي‪ ،‬وتدل عىل‬
‫انفتاحه وثراثه‬
‫‪114‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫عبد الوهاب الملوح‬


‫(تونس)‬

‫الحياة حين ترويها رائحة جثة‪..‬‬


‫حول رواية «فاصلة بين نهرين»‬
‫لغفران الطحان‬
‫سردية التوازي‬
‫تكمن مشكلة نورس يف حاسة الشم عنده التي‬
‫صارت تتحكم فيه وتحدد طبائع شخصيته‪ ،‬حتى‬
‫أضحت حياته رهينة الرائحة التي يشمها‪ ،‬وهو يف‬
‫هذا ال يشبه يف شيء جان باتيست غرونوي رغم‬
‫نادرا ما‬
‫أن االثنين يتمتعان بهذه الخصيصة التي ً‬
‫يمتلكها اإلنسان‪ ،‬بما أنها محسوبة للحيوان‪ ،‬ولئن‬
‫كان غرونوي يرصد العبق الجذاب والعطر‬
‫املثير الذي يسكر الجسد ومنه تنتشي الروح‪،‬‬
‫واستطاع أن يوظف هذه امللكة فيه لصالحه‬
‫فاستثمرها وربح منها الكثير‪ ،‬فنورس‬
‫يف رواية «فاصلة بين نهرين» وقع‬
‫ضحية حاسة الشم‪ ،‬فهي التي شكلت‬
‫لديه أسلوب شخصيته‪ ،‬وبالتايل خططت‬
‫لحياته‪ ،‬ناهيك أنها حاسة ال تتأثر اال‬
‫بالروائح الزنخة املقرفة‪ ،‬الروائح النتنه‬
‫التي جعلت من حياة هذا الرجل حياة‬
‫نتنه يف مجملها‪ ،‬وهو ما شعر به هو‬
‫نفسه‪ ،‬مما جعل قرفه من ذاته يتعاظم‬
‫بشكل وبتضاعف من سيئ نحو األسوأ‪،‬‬
‫‪115‬‬
‫نون النسوة‬

‫حتى أنه فقد الثقة بكل شيء‬


‫من حوله بما يف ذلك ذاته‬
‫الحاضرة وأقرب الناس إليه‪،‬‬
‫سوسنة صديقته الحميمية‬
‫التي ترفده بتواجدها افتراضيًّا‪،‬‬
‫مما حولها إىل جدار صد حوله‬
‫وداخله‪.‬‬
‫غير أن سوسنة مشكلتها أكبر‬
‫هول من نورس‪ ،‬فهي‬ ‫وأشد ً‬
‫ترفض اإلقامة يف الحاضر‬
‫وتتمسك بالتوغل يف جغرافيا‬
‫ذاكرتها‪ ،‬مصرة عىل البقاء‬
‫هناك حيث انتهى مستقبلها مع‬
‫آدم يف املاضي‪ .‬وهو ما جعل‬
‫هذه الرواية تقوم عىل قطبين‪،‬‬
‫ألفونس دي المارتين‬ ‫شكسبير‬ ‫غاستون باشالر‬
‫لئن بدا يف الظاهر متباعدين‬
‫متوازييين مثل سكة الحديد‪،‬‬
‫غير أنهما ملتحمتان لدرجة االنصهار‪ ،‬بما يحدد هذه‬
‫الزمن‪ ،‬ففي ظرف يوم واحد هو الزمن الفعيل لوقائع‬ ‫املعادلة‪ :‬ذاكرة الرائحة‪ /‬رائحة الذاكرة‪.‬‬
‫الرواية استطاعت الساردة أن تحكي عن حلب‬ ‫ً‬
‫فصل توزعت‬ ‫لقد جاءت هذه الرواية يف ‪21‬‬
‫والحرب يف حلب‪ ،‬تكشف مآسيها‪ ،‬واستطاعت يف‬ ‫بين صوتين بالتناوب فيما بينهما‪ :‬صوت‬
‫كبسولة وقت مضغوطة أن تكشف جمال هذه البقعة‬ ‫نورس وصوت سوسنه‪ ،‬ولكل واحد من هاتين‬
‫من األرض التي ذكرها شكسبير يف مسرحية مكبث‬ ‫الشخصيتين عامله الخاص وحياته الذاتيه املختلفة‬
‫ومسرحية عطيل‪ ،‬وزارها المارتين وكتب عنها‪،‬‬ ‫عن اآلخر‪ ،‬شيء واحد يجمعهما هو مدينة حلب‬
‫واستطاعت أن تقول إنها أقوى من الحرب‪ .‬فهل هذا‬ ‫قبل وأثناء وبعد الحرب‪ ،‬لكن ما يجمعهما أكثر‬
‫فقط ما أرادت أن تقوله الرواية؟ طب ًعا ال!‬ ‫ويوثق العالقة بينهما هو الفيسبوك الذي من خالله‬
‫يتواصالن م ًعا‪ ،‬بحيث إن كل فصل من فصول‬
‫أبجديات الرائحة‬ ‫الرواية ينتهي بتواصل بينهما عىل الفيسبوك‬
‫ومختلف منصاته‪ ،‬سواء املنصة اإلخبارية العمومية‬
‫ينشأ الخوف مع اإلنسان‪ ،‬وشيئًا فشيئًا يصبح‬ ‫أو منصة الرسائل أو اليوتوب‪ ،‬فالبناء السردي فيها‬
‫غريزة عنده‪ ،‬ثم يتحول إىل مقدس بما يفترض‬ ‫انبني عىل نسق التوازي السردي البسيط ج ًّدا‪ ،‬كما‬
‫طقوسا متشددة‪ ،‬هي باألحرى مجموعة من‬ ‫ً‬ ‫له‬ ‫لو أنه حوار ديوال بين نورس وسوسنه‪ ،‬فصل‬
‫شخصا عن آخر‪ ،‬وتحدد لكل فرد‬ ‫ً‬ ‫السلوكيات تميز‬ ‫مخصص له وآخر مخصص لسوسنه؛ خطان‬
‫سمات خوفه وتجعله مختلفًا‪ ،‬فكل الكائنات تخاف‪،‬‬ ‫متوازيان‪ :‬الجثة والحمل‪ ،‬الذاكرة والحاضر‪ ،‬الرائحة‬
‫غير أن لكل واحد أسلوبه املنفرد يف الخوف‪ ،‬الخوف‬ ‫وصورتها‪ ،‬الحكاية وظاللها‪ ،‬حلب والتاريخ‪ ،‬نورس‬
‫ذلك الشريان السباتي الذي ال يمكن التكهن متى‬ ‫وسوسنه؛ وكما ابتدأت الرواية من نورس والجثة‬
‫يتدفق يف الداخل‪ ،‬ولئن اختلفت مصادر هذا الخوف‬ ‫انتهت بنورس جثة‪ ،‬خ َّطان متوازيان يتباعدان‪،‬‬
‫من كائن آلخر فلن يختلف اثنان أن الرائحة هي أهم‬ ‫يتواجهان‪ ،‬يتقاطعان ومن خاللها يتغذى السرد‬
‫املصادر بالنسبة للحيوان الذي يتميز بقوة حاسة‬ ‫وقاهرا‬
‫ً‬ ‫يف اتجاه األمام مغالبًا الشرط اإلنساني‬
‫‪116‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫هذه القبلة التي جعلت منها امرأة حبىل‪ ،‬حبلت من‬ ‫دائما محل نفور‬ ‫الشم عنده‪ ،‬هذه الحاسة التي ظلت ً‬
‫قبلة وهي اآلن يف عامها الخامس‪« :‬فجأة تحىل فمي‬ ‫عند الفالسفة وجموع املفكرين‪ ،‬عىل اعتبار أنها ميزة‬
‫بنكهة قبلتنا األوىل‪ ،‬تلك القبلة التي أصابني بدوار‬ ‫حيوانية‪ ،‬لكن بعض الفالسفة من مثل باشالر أفرد‬
‫(‪ )..‬نكهتها اآلن تذوب يف فمي كقطعة حلوى (‪)..‬‬ ‫خاصا يف كتابه «شاعرية أحالم اليقظة»‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫اهتماما‬
‫ً‬ ‫لها‬
‫يتسرب سكرها بهدوء‪ ..‬الطعم كامل اآلن‪ ،‬سكر‬ ‫كما تحدث عنها لوبروتون يف كتابه «انتروبولوجبا‬
‫يتوازن بملح خفيف» (ص‪.)85‬‬ ‫الجسد والحداثة»‪ ،‬عىل اعتبار أنها إحدى محفزات‬
‫كل واحد من الشخصيتين عالق يف بدايته األوىل‪،‬‬ ‫تشكيل الشخصية؛ وأهم عالماتها إنها مصدر‬
‫هذه البداية النكبة‪ ،‬نورس عالق يف رائحة اللحم‬ ‫للخوف‪ ،‬فال غرابة أن يعيش نورس يف هذه الرواية‬
‫الكريهة التي شمها بالسوق صحبة جدته‪ ،‬وسوسنة‬ ‫الرعب من خالل ما يشمه‪ ،‬حتى إن بناء شخصيته‬
‫عالقة يف رائحة قبلتها األوىل مع آدم‪ .‬إنها هذه‬ ‫ارتكز عىل الخوف من الروائح الكريهة «الرائحة‬
‫الندبات التي أصابت الروح وشكلت مسيرة حياة‬ ‫الكريهة تجرحك من الداخل‪ ،‬تجعل معدتك يف حرب‬
‫كل واحد منهما بشكل متوازي‪ ،‬يجمعهما التشرد‬ ‫معلنة ضدك‪ ،‬تذكرك بكل املآسي التي مررت بها‪،‬‬
‫العاطفي والبؤس االجتماعي وتجمعهما حلب‪.‬‬ ‫تذكرك بأول خيانة‪ ،‬بأول خوف‪ ،‬بأول خيبة‪ ،‬بأول‬
‫هي الحرب يف داخل كل منهما زادت من إيقاد‬ ‫موت عشت تفاصيله»‪( .‬ص‪ )11‬بل ومن ذلك رائحة‬
‫فتائلها‪ ،‬الحرب يف الخارج‪ ،‬هذه الحرب املخدوعة‬ ‫الجثة التي عثر عليها ذات صباح عند عتبة بيته‪.‬‬
‫التي اشعلها وهم الحريات املغدورة‪ ،‬فلم تكن حلب‬ ‫ومشكلة هذا الرجل أنه كان هو نفسه رائحته‪ ،‬رغم‬
‫يف حاجة إىل حرب لتصبح جنة‪ ،‬هي يف حاجة إىل‬ ‫ما يعيش فيه من غموض ضبابي‪ ،‬األمر أشبه هنا‬
‫فن لتكون حلب‪ ،‬وهذا ما كان يسعى إليه نورس‬ ‫بغرونوي كما يصفه سوسكيند يف رواية العطر‬
‫من خالل كتاباته وتسعى له سوسنه من خالل‬ ‫قائل‪« :‬كان الضباب رائحته هو رائحة غرنوي‪،‬‬ ‫ً‬
‫مشاركاتها يف األنشطة املدنية‪ ،‬لقد زادت هذه‬ ‫رائحته الخاصة كانت الضباب‪ ،‬والغريب يف األمر‬
‫الحرب من إيقاد حرب داخلية يعاني منها كل من‬ ‫أن غرنوي الذي عرف أن هذه رائحته مل يتمكن‬
‫حلما‬ ‫من شمها‪ ،‬كان بوسعه أن يغرق يف ذاته كي ال‬
‫وه ًما كان يف األصل ً‬ ‫نورس وسوسنه‪ ،‬وغذت ْ‬
‫ثم تحول إىل كابوس‪ ،‬جثة يحملها كل شخص يف‬ ‫يشم أي شيء آخر‪ ،‬ولكن دون جدوي»‪ .‬اما نورس‬
‫أحشائه وصار يقرف من رائحتها‪ ،‬وكل ما يف األمر‬ ‫قائل‪« :‬كانت الرائحة تمس‬‫فهو يتحدث عن نفسه ً‬
‫أن الروائية هنا تخوض حر ًبا ضد جثة الرواية بما‬ ‫كل كل جزء يف جسدي وكأنها تحولت إىل كائن‬
‫فعله فيها االكاديميون والجامعيون واملنظرون‪،‬‬ ‫بألف إصبع‪ ،‬كل األصابع تمتد نحوي وتخزني»‬
‫(ص‪ .)17‬لكن‬
‫نورس ال يشبه‬
‫غرونوي‪ ،‬فهو‬
‫أشبه بسوسنة‬
‫التي تعيش‬
‫نفس الخوف‬
‫بنكهة أخرى‪،‬‬
‫غير أنها تتقدم‬
‫فيه وتواجهه‪،‬‬
‫فهي دأبت عىل‬
‫أن تشم رائحة‬
‫القبلة األوىل‬
‫املُ َّرة من فم آدم‪،‬‬
‫‪117‬‬
‫نون النسوة‬

‫السرد املعلقة التي جعلت القارىء يلهث وراء سير‬ ‫هؤالء الح َّطابون يف الغابات البكر والنجارون لخشب‬
‫األحداث املتناسلة من الحدث األول‪ ،‬هذه األحداث التي‬ ‫الصباحات التي يقتنصها الندى‪.‬‬
‫نجحت الكاتبة يف تحويلها إىل أحداث رئيسية متعلقة‬
‫بمسيرة عائلتين حلبيتين من ديانتين مختلفتين‪ :‬اإلسالم‬ ‫مدارج السرد املعلقة‬
‫ً‬
‫وصول إىل جيل‬ ‫واملسيحية‪ ،‬ومنطلقة من األجداد األوائل‬
‫اليوم ونظرته للحياة والوجود‪ .‬فتعود لألصول األوىل‬ ‫تتمرد غفران طحان عىل األشكال الحكائية املعتادة‬
‫لالستقرار يف حلب عاصمة الخالفة الحمدانية وثاني‬ ‫برغبة اإلطاحة بالنموذج السردي املألوف وما تأسس‬
‫املدن السورية بعد دمشق‪ ،‬واملدينة املفتاح فيما يدور من‬ ‫عليه من نظريات وقوانين هي أشبه بالدساتير القائمة‪،‬‬
‫حرب مخدوعة يف سوريا اآلن‪ ،‬ومن تلك اإلرادة األوىل‬ ‫تنشر بوليسها ومخابراتها من أجل التدقيق يف درجة‬
‫للتعمير واالستقرار يف حلب إىل اإلرادة الالإرادية للفرار‬ ‫االنضباط لتعاليم السرد التي وضعها املنظرون‪ ،‬لقد‬
‫منها‪ ،‬بما أنها أصبحت محرق ًة وخرا ًبا‪.‬‬ ‫رمت غفران طحان عرض الحائط بكل هذا وانصرفت‬
‫توصلت غفران الطحان لسرد كل هذه املسيرة بلغة‬ ‫نحو الكتابة متحررة من كل قيد‪ ،‬وإذا بها تعمد إىل‬
‫شعرية مكثفة‪ ،‬معولة عىل قدرات شخوصها الذين هم يف‬ ‫تطريز عىل غاية من البساطة والهشاشة‪ ،‬أو هكذا سوف‬
‫األصل فنانون يعيشون يف هذا الوجود بشكل فني؛ غير‬ ‫يبدو يف ظاهره من خالل مخطط هيكيل غير متداخل‬
‫أنهم وجدوا أنفسهم يف مواجهة واقع مأسوي‪ ،‬هو يف‬ ‫وأبعد ما يكون عن التعقيد‪ ،‬فالرواية قائمة عىل واقعة‬
‫الحقيقة جثة حاولت هذه الرواية أن تعيد لها الحياة‬ ‫واحدة يف ظرف زمني ال يتجاوز األربع وعشرين ساعة‬
‫(كما هو شأن يولسيوس لجويس)‪ ،‬وهناك شخصيتان‬
‫يتداوالن عىل سرد هذه الواقعة الوحيدة‪ ،‬كل واحد‬
‫منهما حسب منظوره‪ :‬نورس من جهة وسوسنة من‬
‫جهة أخرى‪ .‬أما املكان فال يكاد يتجاوز حلب القديمة؛‬
‫فعنوان «فاصلة بين نهرين» هو العنوان األجدر لهذا‬
‫العمل األدبي‪ ،‬فهو بالفعل فاصلة صغيرة ج ًّدا من‬
‫حياة شخصين عمدت الكاتبة إىل تحويلها إىل‬
‫لقطة زوم من خالل حدث عرضي أال وهو العثور‬
‫عىل جثة ملقاة عند باب الشقة‪ ،‬هذا هو الحدث‬
‫النواة‪ ،‬غير أن األمر لن يتوقف هنا‪ ،‬فلقد استثمرت‬
‫غفران طحان عدة موتيفات أخرى لتوسيع شبكة‬
‫روايتها فقامت بتوظيف الحلم‪ ،‬التداعيات‪،‬‬
‫الهذيان‪ ،‬القصيدة الشعرية‪ ،‬االسترجاع بكل‬
‫أنواعه‪ ،‬واألهم من كل هذا أنها وظفت تطبيقات‬
‫منصات التواصل االجتماعي بشكل ذكي لدفع‬
‫السرد وتعميق مجراه‪ ،‬فلجأت الستعمال‬
‫محرك األخبار الرئيسي للفايسبوك‪،‬‬
‫وتطبيق املراسلة فيه‪ ،‬كما عولت عىل تطبيق‬
‫اليوتيوب كأداة حكائية تخدم مسارات‬
‫القص‪ ،‬واالستعانة طب ًعا بتقنيات الهاتف‬
‫الذكي وما يمكن أن توفره من إمكانات يف‬
‫توسيع دائرة الحكي؛ تقترح غفران طحان‬
‫إذًا عدة سردية مغايرة‪ ،‬وقد أثبتت جدارة‬
‫يف توظيفها ارتقت ملرتبة الجرأة‪ ،‬مستعملة‬
‫تماما‪ ،‬فهي بمثابة مدارج‬
‫أدوات مختلفة ً‬
‫‪118‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬
‫‪119‬‬
‫نون النسوة‬

‫غفران طحان‬
‫(سورية)‬

‫الكتابة‪ ..‬تلك التي أنقذتني‪..‬‬


‫(شهادة إبداعية)‬
‫لقص حكاياتي املجنونة عىل إخوتي الذين كانوا‬ ‫ً‬
‫مجال ِّ‬ ‫عندما كنت صغيرة كنت ألزم ج َّدتي التي كانت‬
‫يضحكون منِّي حين أتلعثم‪ ،‬أو أحاول تقليد صوت‬ ‫تجعل من سهراتنا حفل ًة من خيال‪ ،‬كانت حكاياتها ال‬
‫تصر عىل أنَّني خليفتها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الوحش‪ .‬ولك َّن ج َّدتي كانت‬ ‫أن‬
‫تتكرر‪ ،‬إال َّ‬‫أن بعض الحكايات كانت َّ‬ ‫تنتهي‪ ،‬ومع َّ‬
‫تحكي يل القصص يف الليل عندما أنام بالقرب منها‪،‬‬ ‫تتصرف‬
‫َّ‬ ‫ج َّدتي كانت قادرة عىل جعل الشخصيات‬
‫ألحكيها أنا إلخوتي‪ .‬أتقنت ف َّن اإللقاء ومسرحة‬ ‫بشك ٍل ُمغاير ع َّما كانت عليه يف حكاية الليلة السابقة‪،‬‬
‫دائما أخترع نهاية أخرى للقصص‪،‬‬ ‫الحكايات‪ ،‬وكنت ً‬ ‫كنت أفتح عقيل وقلبي لك ِّل هذه الحكايات‪ ،‬وقبل النوم‬
‫تضحك جدتي وهي تسعل‪ ،‬وتقول‪ :‬ليست هذه هي‬ ‫أصوغ للشخصيَّات عوامل جديدة‪ ،‬أذكر أنني جعلت‬
‫النهاية أيتها الشقيَّة‪.‬‬ ‫لـ»أحمد الكسالن» أجنحة تجعله يؤ ِّدي ك َّل ما يريده‬
‫يف املرحلة اإلعداد َّية كان األمر مختلفًا‪ ،‬فلم تعد تلك‬ ‫أي جهد‪.‬‬
‫من دون أن يبذل َّ‬
‫القصص تجعلني من الطالبات املميَّزات‪ ،‬كانت الفتيات‬ ‫أقصها عىل‬
‫رحت أستخدم هذه املوهبة يف حكايات ُّ‬
‫الحب‪ ،‬وأنا ال أملك أن‬ ‫ِّ‬ ‫من حويل مشغوالت بقصص‬ ‫األصدقاء‪ ،‬صرت أحكي بيقين ال َل ْب َس فيه عن قز ٍم‬
‫أصوغ حكاية كهذه‪ ،‬كنت أرتجف حين يتح َّدثن أمامي‬ ‫يشاركني غرفتي‪ ،‬أحكي يومياته وتفاصيل حياته‪ ،‬ال‬
‫عن عالقاته َّن‪ .‬بل إنني كنت أشعر بأنني أخسره َّن‬ ‫قزما ومل أتح َّدث عن ق َّطة‬ ‫مل جعلت من شريكي ً‬ ‫أعرف َ‬
‫مع تلك القصص‪ ،‬رحت أنغمس يف الرسم‪ ،‬هوايتي‬ ‫أي حيوان يمكن تربيته‪ .‬بنت جيراننا نقضت‬ ‫أو عن ِّ‬
‫األخرى‪ ،‬وأبدع يف ما َّدة التعبير‪ ،‬كانت مواضيعي‬ ‫قصصي كلَّها حين أخبرت زميالتي يف املدرسة أنني‬
‫دوما‪ ،‬تعلِّقها عىل‬
‫َمثار إعجاب معلِّمة اللغة العربية ً‬ ‫أسكن يف بيت صغير‪ ،‬وأنني أنام مع إخوتي الخمسة‬
‫الصف‪ ،‬وتطلب من الطالبات تقليدي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لوحة اإلبداع يف‬ ‫يف غرفة واحدة‪ ،‬وأننا ال نملك حتى تلفا ًزا‪ ،‬وأنني أكذب‬
‫ولكنني كنت أتلعثم‪ ،‬وأرتجف‪ ،‬ويضيع صوتي حين‬ ‫يف ك ِّل ما أقوله!‬
‫تطلب مني قراءة املوضوع أمام الصديقات‪ ،‬وكأنَّني مع‬ ‫أحب حكايات قزم ِك حتى‬ ‫صديقة واحدة فقط قالت يل‪ُّ :‬‬
‫ابتعادي عن اختراع الحكايات فقدت مهارتي يف اإللقاء‪.‬‬ ‫أستمر يف خ ْلق حكايات‬‫ُّ‬ ‫ولو كانت كذ ًبا‪ .‬وكنت معها‬
‫دوما‪ ،‬بد ًءا من‬
‫عالي ً‬ ‫القراءة كانت التفصيل الذي رافق َ‬ ‫صديقي القزم‪« :‬فرفور»‪.‬‬
‫قصص املكتبة الخضراء التي كنت أحفظها وأحكيها‬ ‫أذكر أنني أخبرت ج َّدتي بما حدث‪ ،‬فأفسحت يل‬
‫‪120‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫دوما‪ .‬تعايل س ُأميل عليك ماذا‬


‫الجميلة كما تفعلين ً‬ ‫مرورا بالقصص اإلسالمية التي كانت تصلنا‬ ‫ً‬ ‫إلخوتي‪،‬‬
‫خطك أجمل من خ ِّطي‪ ،‬وتتقنين صوغ‬ ‫تكتبين‪ُّ ،‬‬ ‫كهدايا من املعلِّمات يف املدرسة‪ ،‬أو القصص التي‬
‫العبارات‪ .‬ث َّم أضافت ساخرة‪ :‬فوائد كتب الحقيبة!‬ ‫كنت أستعيرها من بيت صديق والدي‪ ،‬أو من مكتبة‬
‫وعيت يف السادسة عشرة من عمري أنني أستطيع‬ ‫املدرسة‪ .‬ولك َّن هدي ًة جميلة حلَّت يف منزلنا‪ ،‬جعلت من‬
‫أن أح ِّول ك َّل تلك الحكايات التي تدور يف رأسي إىل‬ ‫أيامي مل َّونة بتفاصيل مدهشة‪ ،‬حين حمل زوج عمتي‬
‫قصص جميلة كتلك التي قرأتها‪ ،‬وأنني أستطيع أن‬ ‫حقيب ًة كبيرة ممتلئة بالكتب إىل بيتنا‪ ،‬وقال ألبي‪« :‬هذه‬
‫بالرسم‪ ،‬وأنني أمتلك‬ ‫أقول فيها ك َّل ما مل أستطع قوله َّ‬ ‫نتعرف إىل الكتب‪ ،‬وننتقي منها‬ ‫لألوالد»‪ .‬حينها رحنا َّ‬
‫لغة جيدة‪ ،‬ومخزونًا معرفيًّا ال بأس به‪ ،‬فكتب الحقيبة‬ ‫ما يه ُّمنا‪ ،‬قلت إلخوتي‪« :‬سأقرؤها كلَّها»‪ ،‬سخروا‬
‫تشهد يل‪ ،‬بل إنني مدينة ألوراقها الصفراء بالكثير‪.‬‬ ‫مني‪ ،‬وقالوا‪ :‬كم أنت م َّدعية!‬
‫دفترا‬
‫ً‬ ‫اشتريت بمصرويف الذي كنت أ َّدخره منذ سنة‬ ‫وبدأت بالقراءة‪ ،‬كان العمل األول الذي قرأته هو رواية‬
‫أقالما جميلة‪ ،‬وألوانًا غير تلك التي‬
‫ً‬ ‫بأوراقٍ مل َّونة‪،‬‬ ‫(البؤساء) لفيكتور هوجو‪ ،‬الرواية بأجزائها الثالثة‬
‫يشتريها لنا والدي ك َّل عام‪ ،‬والتي كنت أسرقها من‬ ‫أخذت مني أسبو ًعا واح ًدا‪ ،‬أنا ابنة الثانية عشرة‪،‬‬
‫إخوتي هي ودفاتر الرسم‪ ،‬ألرسم ما يحلو يل‪ .‬يف ذلك‬ ‫عشت مع جان فالجان تفاصيل البؤس كلِّها‪ ،‬تعاطفت‬
‫العام‪ ،‬تركت لهم دفاترهم وألوانهم‪ ،‬وانشغلت بدفتري‬ ‫معه‪ ،‬وبكيت من أجله‪ ،‬ورحت أصوغ يف خيايل لعامله‬
‫الجديد‪ ،‬وتجربتي الجديدة‪.‬‬ ‫احتماالت تتالقى يف أحيان كثيرة مع ما كتبه الروائي‪،‬‬
‫أ َّول قصة كتبتها كانت عن القزم فرفور‪ ،‬ذلك الذي‬ ‫أراه يف نومي‪ ،‬أجالسه حين تنقطع الكهرباء‪ ،‬وأتخيَّل‬
‫القصة عبارة‬
‫رافقني عندما كنت صغيرة‪ ،‬كانت َّ‬ ‫كفيه الكبيرين الحانيين‪ ،‬وعالقته بـ»كوزيت»‪ ،‬ونهايته‬
‫عن رسالة َأرسلها يل من الصين‪ ،‬يخبرني فيها أنَّه‬ ‫التي جعلتني أبكي أليام‪ ،‬كنت قد وعدته بأنني سأجعل‬
‫وك َّون أسرته‪ ،‬وأنَّه يستع ُّد مع عائلته لزيارتي‪،‬‬ ‫تز َّوج َ‬ ‫له نهاية أخرى‪ ،‬نهاية سعيدة‪ ،‬ولكنني عندما كبرت‪،‬‬
‫القصة لج َّدتي قالت‪ :‬هؤالء قوم يأجوج‬ ‫عندما قرأت َّ‬ ‫أن النهايات السعيدة نهايات‬ ‫وبدأت بالكتابة‪ ،‬عرفت َّ‬
‫ومأجوج‪ ..‬بقصتك هذه تجعلين يوم القيامة يقترب!‬ ‫سخيفة‪ ،‬وال تليق بشخصية عظيمة كـ»جان فالجان»‪.‬‬
‫ارتجف قلبي‪ ،‬ورحت أتذ َّكر كتاب أهوال يوم القيامة‬ ‫أكملت قراءة كتب الحقيبة الكبيرة كلَّها خالل أربعة‬
‫وقررت‬ ‫الذي كان من ضمن ما قرأته من كتب الحقيبة‪َّ ،‬‬ ‫مرات‪ ،‬ألفهمه‬ ‫أعوام‪ ،‬كنت أقرأ ك َّل كتاب ثالث أو أربع َّ‬
‫القصة كلَّها‪ ،‬وألغي وجود القزم فرفور من‬ ‫أن أحرق َّ‬ ‫كتاب ِف ْك ٍر أو فلسفة أو تاريخ‪ ،‬وألعيد تفاصيله‬ ‫إن كان َ‬
‫رأسي‪ ،‬م َّزقت الورقة بهدوء من الدفتر امللون‪ ،‬ورميت‬ ‫الجميلة إن كان رواية‪ .‬أذكر أنني بعد أن أنهيت قراءة‬
‫بها يف املدفأة‪ ،‬ولك َّن تفاصيل زيارة القزم ملنزلنا مع‬ ‫ِّ‬
‫تحضر‬ ‫كتاب (األمير) ذهبت ألختي الكبيرة التي كانت‬
‫لزفافها‪ ،‬وقلت‬
‫لها‪ :‬لقد قرأتها‬
‫كلَّها! قالت‪:‬‬
‫ماذا قرأت؟ قلت‬
‫حقيبة الكتب‪،‬‬
‫ضحكت وقالت‪:‬‬
‫وما ه ِّمي بكتبك!‬
‫تعايل واكتبي‬
‫يل رسالة‬
‫جديدة وجميلة‬
‫لخطيبي‪،‬‬
‫وز َّينيها‬
‫بالرسوم‬
‫‪121‬‬
‫نون النسوة‬

‫فرحت‬ ‫أوالده مل تكن تفارقني‪ُ ،‬‬


‫أكتبها يف آخر ورقة من دفتر‬
‫اللغة العربية‪ ،‬وأم ِّزقها بعد أن‬
‫أقرأها لنفسي‪ ،‬أثني عيلَّ‪ ،‬ث َّم‬
‫أرمي بها يف املدفأة‪ .‬الحظت‬
‫أن حجم‬ ‫معلِّمة اللغة العربية َّ‬
‫دفتري يصغر‪ ،‬وأنني أتل َّهى‬
‫خالل الحصة بكتابة أشياء‬
‫أخرى غير متَّصلة بالدرس‪،‬‬
‫الصف‪ ،‬ومل‬ ‫ِّ‬ ‫فأنَّبتني أمام طالبات‬
‫تعد تهت ُّم بما أكتبه من مواضيع‪.‬‬
‫تركت الكتابة بعد هذه الحادثة‪،‬‬
‫وعدت لالهتمام بدروسي‪،‬‬
‫وبدأت بكتابة املواضيع املتعلِّقة‬
‫بالشعر العربي القديم‪ ،‬وقد‬
‫فيكتور هيجو‬ ‫سعد الدين كليب‬ ‫خالد الجبور‬
‫سحرني عمرو بن كلثوم‪،‬‬
‫والشنفرى‪ ،‬رحت أح ِّدث ج َّدتي‬
‫عنهما‪ ،‬وأحكي قصص سيَّد تغلب الذي قتل مل ًكا ألنَّه‬
‫أعدت‬
‫ُ‬ ‫خفت أكثر‪ ،‬وقلت لها‪ :‬ال أعرف‪ .‬ولكنني يف الليل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أن البطلة‬ ‫َّ‬ ‫وكيف‬ ‫ُها‪،‬‬
‫ت‬ ‫كتب‬ ‫كيف‬ ‫رت‬ ‫َّ‬
‫ك‬ ‫وتذ‬ ‫القصة‪،‬‬ ‫قراءة‬
‫تمرد عىل قومه‪،‬‬ ‫أساء أل ِّم ِه‪ ،‬وسيرة الصعلوك الذي َّ‬
‫كانت يف خيايل منذ زمن‪.‬‬
‫قصة‬ ‫وكالهما ش َّكال ما َّد ًة لخيايل أحكي ك َّل يوم عنهما َّ‬
‫جديدة‪.‬‬
‫وتجرأت باإلفصاح عن اسمي‬ ‫َّ‬ ‫ملرات‪،‬‬
‫رت التجربة َّ‬ ‫كر ُ‬‫َّ‬ ‫عدت إىل الكتابة مع دخويل الجامعة‪ ،‬ورحت أكتب‬
‫ً‬
‫أمام الصديقات واألصدقاء‪ ،‬وأمام ج َّدتي أول‪ ،‬ج ّدتي‬
‫النص عىل ورقة‬ ‫َّ‬ ‫الشعر بداية‪ ،‬ولكنني كنت أكتب‬
‫التي صفَّقت يل‪ ،‬وقالت‪« :‬قلت سابقًا بأنَّك ستكونين‬ ‫«إن أعجبني أنقله إىل الدفتر املل َّون الذي‬ ‫بيضاء‪ ،‬أقول‪ْ :‬‬
‫خليف ًة يل‪ ،‬بل ستتفوقين عيلَّ»‪.‬‬ ‫أي‬
‫قصة القزم»‪ ،‬ولكنني مل أنقل َّ‬ ‫مل أكتب فيه شيئًا بعد َّ‬
‫ولكنني ورغم ازدياد ثقتي بنفسي‪ ،‬و َت َم ُّكني من أدوات‬ ‫قصيدة إليه‪ ،‬كلُّها كانت بالنسبة يل ثرثرة ال قيمة لها‪.‬‬
‫أي مكان‪،‬‬ ‫أتجرأ عىل نشر قصة واحدة يف ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الكتابة‪ ،‬مل‬ ‫قصة‬‫يوما‪ ،‬وفتحت الدفتر املل َّون‪ ،‬وكتب َّ‬ ‫تجرأت ً‬ ‫إىل أن َّ‬
‫بل إنني رفضت املشاركة يف أمسيات الجامعة‪ ،‬كنت‬ ‫بدفقة واحدة‪ ،‬وكأنني كنت أسكبها سكبًا‪ ،‬مل أرفع‬
‫أبتعد عن ك ِّل من يؤ ِّكد أنني كاتبة‪ ،‬أؤ ِّكد لصديقاتي‪،‬‬ ‫رأسي لنصف ساعة‪ ،‬ومل أُر ِْح يدي‪ .‬خمس صفحات‬
‫أكتب لك َّن فقط‪.‬‬ ‫ممتلئات بحبر أزرق يأخذ شكل كلمات عىل املتن‪،‬‬
‫تماما‬
‫القصة األوىل التي رضيت عنها ً‬ ‫حتى منحت َّ‬ ‫ويرشح ببقع كبيرة عىل الهوامش‪ .‬أغلقت الدفتر بعد‬
‫جواز عبور إىل أحد أساتذتي يف الجامعة‪ ،‬أثنى عيل‪َّ،‬‬ ‫أن فرغت‪ ،‬وخبَّأته بعي ًدا عني‪ ،‬ونمت من دون أن‬
‫وبدأت أثق بنفسي أكثر‪ ،‬وأثابر عىل القراءة والكتابة‬ ‫ُ‬ ‫أي شخصية من الشخصيات التي أب ِّدل لها‬ ‫تحضر ُّ‬
‫هاجس يسرقني من‬ ‫ٍ‬ ‫بشك ٍل غزير‪ ،‬تح َّو ِ‬
‫لت الكتابة إىل‬ ‫مصائرها كل يوم إىل خيايل‪.‬‬ ‫َّ‬
‫دراستي‪ ،‬من أهيل‪ ،‬من أصدقائي‪ ،‬رحت أتعامل مع‬ ‫بت‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫القصة‪ ،‬أص ُ‬ ‫يف الصباح فتحت الدفتر‪ ،‬وقرأت َّ‬
‫الناس من حويل كشخصيات يف قصصي‪ ،‬وأرسم له َّن‬ ‫القصة‬
‫بصدمة‪ ،‬وخشيت أنني لست الكاتبة‪ ،‬قرأت َّ‬
‫املارة والباعة‪،‬‬ ‫املصائر املتع ِّددة‪ ،‬كنت أنهمك بمراقبة َّ‬ ‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫أي جريدة تقرئين؟!‬ ‫لج َّدتي‪ ،‬فقالت‪ :‬من ِّ‬
‫واألطفال‪ ،‬وأكتب بغزارة‪ ،‬وكأنني أع ِّوض ما فاتني من‬ ‫قرأت‬
‫ُ‬ ‫القصة من مكان ما!‬ ‫نقلت َّ‬ ‫بالخوف‪ ،‬تراني ُ‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫وقت‪ ،‬أقول‪ :‬تأخَّ رت‪ ..‬تأخَّ رت ً‬ ‫قصة جميلة‪ ،‬من الكاتبة؟‬ ‫القصة لصديقة يل‪ ،‬فقالت‪َّ :‬‬ ‫َّ‬
‫‪122‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫نصوص النثر‪ ،‬وضمنتها يف كتاب «حلم يغفو عىل‬ ‫بدأت بالنَّشر يف الجرائد املحليَّة‪ ،‬ومن ث َّم يف املواقع‬
‫مطر» صدر عن دار أرواد للنشر والتوزيع عام ‪،2015‬‬ ‫تعرفت إىل عدد كبير من األدباء‬ ‫اإللكترونية‪ ،‬حيث َّ‬
‫كان استراح ًة ُلغو َّي ًة يسكنها الشعر‪ ،‬وإن كنت أنفيه عن‬ ‫الذين ق َّدموا يل الدعم الكبير‪ ،‬تحدي ًدا ال ّروائية السور َّية‬
‫نفسي‪.‬‬ ‫نشرت مجموعتي‬ ‫ُ‬ ‫الكبيرة (إبتسام تريسي) وكان أن‬
‫اليومي‬
‫ِّ‬ ‫ورغم كل ضغوطات الحرب‪ ،‬وتفاصيل الوجع‬ ‫القصصيَّة األوىل «كحل ٍم أبيض» يف دار تالة للنشر‬
‫أثابر عىل القراءة كفع ِل‬
‫الذي عشناه يف حلب‪ ،‬كنت ُ‬ ‫رواجا بين‬
‫ً‬ ‫يف دمشق عام ‪ ،2009‬القت املجموعة‬
‫مقاومة ال أملك غيره‪ ،‬أقرأ كما أتنفَّس‪ ،‬وأكتب بهدوء‬ ‫األصدقاء يف مختلف أنحاء الوطن العربي‪ .‬وفوجئت‬
‫وحذر‪ ،‬أستعين بأساتذتي لتقييم ما أكتب كالدكتور‬ ‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫ببعض التعليقات التي أسقطتني من العل ِّو الذي‬
‫والقاص املغربي‬
‫ّ‬ ‫الشاعر سعد الدين كليب‪ ،‬والدكتور‬ ‫نفسي فيه‪ ،‬فقد أشار الكثيرون إىل أنني أكتب بلغة‬
‫عبد العزيز غوردو‪ ،‬والشاعر والقاص الفلسطيني‬ ‫السرد‪ ،‬وتغرق يف‬ ‫وأن قصصي تبتعد عن َّ‬ ‫شاعر َّية‪َّ ،‬‬
‫األستاذ خالد الجبور‪ ،‬كانوا رعا ًة يل‪ ،‬ال يبخلون عيلَّ‬ ‫قصصا حاملة‪ ،‬بعيدة عن الواقع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اللغة‪ ،‬وأنني أكتب‬
‫باملشورة‪ ،‬ويدعمون تجربتي بكثير من النقد والتَّوجيه‪،‬‬ ‫متمسك ًة برأيي‪ ،‬واثقة م َّما أكتب‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ولكنني كنت‬
‫حقيقي يف تجربتي‬ ‫ٍّ‬ ‫وكانت الحرب السور َّية نقطة تح ُّو ٍل‬
‫واإلشادة حين أستحقُّ ‪.‬‬
‫قطعت ذلك الحلم الذي أصعد نحوه‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫مع الكتابة‪ ،‬حيث‬
‫وحلَّت الحرب كثيمة أساسيَّة يف تجربتي األدبية‪،‬‬
‫عشت الحرب‬ ‫ُ‬ ‫السواد‪.‬‬ ‫وأعادتني إىل واق ٍع ُمغرِق يف َّ‬
‫وكان ال ب َّد لها من ذلك‪ ،‬هي اللئيمة التي ال تترك لنا‬
‫بك ِّل تفاصيلها‪ ،‬عشت النزوح‪ ،‬العتمة‪ ،‬العطش‪ ،‬الخوف‪،‬‬
‫فرص ًة للتنفُّس خارجها‪ ،‬وكانت تجربتي القصصية‬
‫املوت الذي بات حديثًا يوميًّا‪ ،‬الغربة التي احتلَّت‬
‫الثالثة «أزرق‪ ..‬رمادي» الصادرة عن سلسلة اإلبداع‬
‫الوطن‪ ،‬وبدأت الكتابة تعني يل شيئًا آخر‪ ،‬صارت‬
‫العربي يف الهيئة املصرية للكتاب عام ‪ ،2020‬وكانت‬ ‫وحبل يش ُّدني‪ ،‬وأمانًا‬ ‫ً‬ ‫سقفًا يحميني‪ ،‬وحائ ًطا يسندني‪،‬‬
‫املجموعة نقلة نوعية يف أسلوبي القصصي‪ ،‬وتجربة‬ ‫يقيني من ارتكاب حماقة ما‪.‬‬
‫أعت ُّز بها‪ ،‬غير أنَّها مل تلقَ ما تستحقُّه من الحضور‬ ‫عدلت عن عادتي يف ممارسة الكتابة كفعل‬ ‫ولكنني‬
‫ُ‬
‫كونَها صدرت يف عام منحوس‪ ،‬العام الذي تزاحمت‬ ‫يومي‪ ،‬صار األمر يقتصر عىل بعض املنشورات عىل‬ ‫ٍّ‬
‫فيه املصائب‪ ،‬واحت َّل فيه فايروس كورونا الحضور‬ ‫القصة‪ ،‬فكانت‬ ‫َّ‬ ‫كتابة‬ ‫ا‬‫م‬ ‫أ‬ ‫بوك‪،‬‬ ‫الفيس‬ ‫عىل‬ ‫صفحتي‬
‫َّ‬
‫األقوى‪ ،‬املوت الذي جاء يف لون جديد‪ ،‬مل نشعر نحن‬ ‫تحتاج منِّي الكثير من التأنِّي واملراجعة والتعب‪.‬‬
‫السور ِّيين بغرابة يف حضوره‪ ،‬بل كان تجرب ًة جديدة‬ ‫يف عام ‪ 2014‬أصدرت مجموعتي القصصية الثانية‬
‫يخصني» عن دار نون‪ 4‬للنشر يف حلب‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫«عامل آخر‬
‫والتي تن َّوعت بين‬
‫قصص قديمة‬
‫وقصص من واقع‬
‫الحرب‪ ،‬والتي‬
‫بدأت فيها أتخفَّف‬ ‫ُ‬
‫من اللغة‪ ،‬وأنحو‬
‫السرد بشكلٍ‬ ‫نحو َّ‬
‫أكبر‪ ،‬وأمضي‬
‫باتجاه الواقع‪.‬‬
‫ولك َّن اللغة كانت‬
‫تلح عيلَّ‪ ،‬تسرقني‬ ‫ُّ‬
‫نحو الشعر مجد ًدا‪،‬‬
‫فأنقذت بعض‬
‫‪123‬‬
‫نون النسوة‬

‫نطلق عليها اسم «املوت األبيض»‪ ،‬املوت الذي ال تتدخَّ ل‬


‫فيه الحرب‪.‬‬
‫دخلت عامل الكتابة‬ ‫ُ‬ ‫الصحي‪،‬‬‫ِّ‬ ‫خالل فترة الحجر‬
‫الروائيَّة‪ ،‬وكانت تجربتي األوىل املكتملة رواية «فاصلة‬
‫بين نهرين» التي صدرت عن دار موزاييك للدراسات‬
‫والنشر يف تركيا عام ‪.2021‬‬
‫وكنت‬
‫ُ‬ ‫وعدت نفسي بالتزام الكتابة القصصيَّة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت قد‬
‫أشعر بالغبن حين يسألني األصدقاء بعد ك ِّل إصدار‬
‫وكأن ك َّل ما‬ ‫َّ‬ ‫قصصي جديد‪« :‬متى ستكتبين رواية؟»‬
‫األدبي الوحيد‬ ‫ُّ‬ ‫وكأن الرواية هي النوع‬ ‫َّ‬ ‫كتبته ال شيء!‬
‫املقروء يف هذه البالد‪.‬‬
‫القصة سيكتب ال ِّرواية بك ِّل‬ ‫بأن من يكتب َّ‬ ‫كنت أؤكد َّ‬
‫فالقصة هي األصل‪ ،‬وكنت بيني وبين نفسي‬ ‫َّ‬ ‫سهولة‪،‬‬
‫سع عشرة تجربة للكتابة ال ِّروائية‪ ،‬وكلُّها مل‬ ‫أحاول‪ِ ،‬ت َ‬
‫تنجح لسبب ما‪ ،‬يف معظمها كان السبب عدم اقتناعي‬
‫بالفكرة‪ ،‬ويف بعضها كان السبب أخطاء تقنية فادحة‪،‬‬
‫إبتسام تريسي‬ ‫عبد العزيز غوردو‬
‫دت الكتابة عىل الحاسب‪ ،‬مل أعد أكتب عىل‬ ‫فبعد أن تع َّو ُ‬
‫الورق‪ ،‬بل إنني فقدت تلك املهارة‪.‬‬
‫الصحي‪ ،‬والخوف العاملي من ذلك‬ ‫ِّ‬ ‫خالل فترة الحجر‬
‫رقيب عىل ك ِّل جملة زائدة‪ ،‬فحذفت الكثير‪ ،‬وجاءت‬ ‫املوت القادم‪ ،‬جعلنا نص ِّدق الخوف‪ ،‬ونلتزم البيت‪،‬‬
‫الرواية قصيرة يف ‪ 160‬صفحة‪.‬‬ ‫قررت استغاللها يف الكتابة‪،‬‬ ‫تجربة جديدة بالنسبة يل‪َّ ،‬‬
‫إن الشخصيات‬ ‫القص بالتوازي‪ ،‬بل َّ‬ ‫ِّ‬ ‫مل أترك َ‬
‫عال‬ ‫وأمام الحاسب ظهرت شخصيَّة نورس‪ ،‬تلك الشخصيَّة‬
‫القصصية كانت تحتفل يف رأسي‪ ،‬وتثير الفوضى حتى‬ ‫التي كانت تزورني منذ سنوات‪ ،‬فأتح َّدث إليها‪،‬‬
‫فأصدرت يف العام نفسه مجموعتي القصصية‬ ‫ُ‬ ‫أكتبها‪،‬‬ ‫املرة‬
‫وأحاورها‪ ،‬ث َّم أعيد دفْنها يف عمق الذاكرة‪ ،‬هذه َّ‬
‫الرابعة «ضو ٌء يف الشرفة» عن دار نرد للنشر والتوزيع‬ ‫بصوت مرتفع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كان نورس أكثر ق َّوة‪ ،‬وأعلن عن نفسه‬
‫يف أملانيا‪.‬‬ ‫وقرر أن يظهر يف قالب جديد‪ ،‬وتجربة سرد َّية جديدة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫زلت أحتفظ بدفتري املل َّون يف مكتبي‪ ،‬الدفتر الذي‬ ‫ما ُ‬ ‫وكانت الرواية من اختياره‪.‬‬
‫قصة القزم‬
‫القصة األوىل تظهر فيه‪َّ ،‬‬ ‫ما زالت م َزق َّ‬‫ِ‬ ‫ألزمت نفسي بالكتابة‬ ‫ُ‬ ‫للمرة األوىل منذ سنوات طويلة‬
‫قص ًة لألطفال‪ ،‬وأعده‬ ‫يلح عيلَّ لكي أكت َبه َّ‬ ‫الذي ما زال ُّ‬ ‫اليومية‪ ،‬ح َّددت لنفسي موع ًدا بعد صالة الفجر‪،‬‬
‫يوما‪ .‬تمتلئ صفحات الدفتر بالقصص التي‬ ‫بأن أفعل ً‬ ‫ورحت أص ِّدق ك َّل ما يخبرني به نورس وصديقته‬
‫تحظ بكتابٍ آخر لتولد فيه‪ ،‬حيث تنام مطمئنَّة هناك‪،‬‬ ‫مل َ‬ ‫سوسنة‪ ،‬رحت أعمل معهما‪ ،‬بل لديهما‪ ،‬أخبر العامل‬
‫أعود إليها بين حين وآخر‪ ،‬وأخبرها بأنني القارئة‬ ‫بقصتهما‪ ،‬وهما يعيثان خرا ًبا يف عقيل‪ ،‬ك ُّل شيء يف‬ ‫َّ‬
‫املخلصة لها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حو َر حولهما‪ ،‬وخالل أربعة أشهر كانا يحتلن‬ ‫عاملي َت َم َ‬
‫مدين ٌة بالشُّ كر لج َّدتي ولك ِّل قصصها التي كانت أ َّول‬ ‫تفكيري بشكل كامل‪ ،‬حتى انتهيت من كتابة الرواية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫درجة أصعد عليها ألصل‪ ،‬مدين ٌة لل َقزم الذي رافق‬ ‫واستراح ك ٌّل منهما عىل طريقته‪ ،‬أو ربما عىل طريقتي‪.‬‬
‫حكاياتي‪ ،‬مدين ٌة لحقيبة الكتب املمتلئة‪ ،‬لك ِّل كتاب قرأتُه‪،‬‬ ‫ملرات‪ ،‬وقرأها األساتذة واألصدقاء‪ ،‬وقد‬ ‫قرأت ال ِّرواية َّ‬ ‫ُ‬
‫مت منه‪ ،‬مدين ٌة للكتابة التي أنقذتني وما‬ ‫وك ِّل كاتب تعل َّ ُ‬ ‫التزمت بالنصائح واملالحظات‪ ،‬قبل أن أدفع بها راضية‬ ‫ُ‬
‫للشخصيات التي تسرقني مني‪ ،‬وتعيدني إ َّ‬
‫يل‬ ‫زالت‪ّ ،‬‬ ‫حاولت فيها‬ ‫ُ‬ ‫عن تجربتي األوىل يف عامل الرواية‪ ،‬تجربة‬
‫(غفران) جديدة‬ ‫مقص‬‫َّ‬ ‫تجنُّب االستطراد والحشو‪ ،‬تجربة كنت معها‬
‫‪124‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬
‫تجديد‬
‫الخطاب‬
‫جامعاتنا "الحديثة"‪ | ..‬جمال عمر‬
‫الرحلة الصوفية األندلسية‪ | ..‬د‪.‬علي كرزازي‬
‫‪126‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫جمال عمر‬

‫جامعاتنا‪« ‬الحديثة»‪..‬‬
‫وأزمة تجديد الخطاب الديني‬

‫بل وجافة‪ ،‬استطاع ويستطيع‬ ‫واالختالف الوحيد هو «حداثة»‬ ‫‪-1-‬‬


‫خطاب التقليد أن ُيهمشها‪،‬‬ ‫وسائل وأدوات وساحات‬
‫ويحتويها‪ .‬فما هي أزمة خطاب‬ ‫الصراعات بل الخناقات‪ .‬وبعد‬ ‫مر ألف وأربعمائة عام هجري‬
‫أو خطابات التجديد الديني عند‬ ‫ما يزيد عن قرنين تقريبًا من‬ ‫عىل مقتل اإلمام عيل بن أبي‬
‫املسلمين؟ وبالتحديد‪ :‬ملاذا فشلت‬ ‫محاوالت التجديد الديني بأشكاله‬ ‫طالب (‪ 23 /599‬قبل الهجرة‪-  ‬‬
‫جامعتنا «الحديثة» يف تحويل‬ ‫ومراحله التقليدية يف القرن الثامن‬ ‫‪ 40 /661‬هجري)‪ .‬ومن ينظر‬
‫الدين كموضوع للفهم والدرس‬ ‫عشر‪ ،‬أو يف أشكاله الناتجة‬ ‫إىل ساحات صراعات املسلمين‬
‫العلمي‪ ،‬يتجاوز هذه الصراعات‬ ‫عن تحديات غزوات الحداثة‬ ‫اآلن‪ ،‬يتصور أن هذه القرون مل‬
‫والسجاالت بين فرق ومذاهب‬ ‫الغربية العسكرية‪ ،‬أو تحدياتها‬ ‫تغير شيئًا تقريبًا‪ ،‬وكأن الزمن‬
‫املسلمين؟‬ ‫االجتماعية والثقافية والسياسية‪،‬‬ ‫ال يتحرك‪ ،‬أو بتعبير أدق‪ ،‬وكأن‬
‫كانت حركات التجديد يف القرن‬ ‫خالل القرن ونصف املاضيين‪ .‬بل‬ ‫زمن وعي املسلمين بالتاريخ‬
‫الثامن عشر‪ ،‬هي رد فعل عىل‬ ‫وبعد ما يزيد عن قرن تقريبًا من‬ ‫ويف التاريخ ووقائعه مل تتحرك‪،‬‬
‫التغيرات التي شهدتها مجتمعات‬ ‫تعليم وجامعات «مدنية» «حديثة»‬ ‫فيتصارع املتصارعون عىل نفس‬
‫املسلمين من ضعف وتفكك‬ ‫يف بالد املسلمين‪ ،‬ما زالت ثمار‬ ‫املسائل وتقريبًا نفس القضايا‪،‬‬
‫اجتماعي يف القرون السابقة‪،‬‬ ‫هذا التجديد ضعيفة وجزئية‪،‬‬ ‫بل وبنفس الحجج املاضية‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫الغربي وتحديه الحضاري‬ ‫ملذهب اإلمام أحمد بن حنبل‪.‬‬ ‫فكان رد الفعل هو نوع من التمرد‬
‫مباشر وواضح‪ ،‬وجاثم من‬ ‫لكن ابن عبد الوهاب‪ ،‬تحالف‬ ‫عىل التقليد املذهبي‪ ،‬الذي أصبحت‬
‫خالل السيطرة الغربية املباشرة‬ ‫مع األمير لكي يتم فرض هذه‬ ‫فيه مذاهب املسلمين يف الفقه‬
‫وغير املباشرة عبر النفوذ‬ ‫التصورات بالقوة‪ ،‬فيتم االستقرار‬ ‫ويف املعتقدات‪ ،‬هي بمثابة قالع‪،‬‬
‫الغربي‪ ،‬وعبر عمليات االحتالل‬ ‫بالعودة إىل «الشريعة» وعقوباتها‪،‬‬ ‫يدافع عنها أتباعها ضد مذاهب‬
‫العسكري املباشر‪ ،‬بل وتجىل‬ ‫بقوة أمير حازم‪ ،‬يحارب البدعة‬ ‫املسلمين األخرى‪ ،‬وأصبح التقليد‬
‫عجز اإلجابات املبثوثة يف كتب‬ ‫الدينية بقوة السيف‪ .‬فكان‬ ‫داخل املذهب الواحد ألئمة املذهب‪،‬‬
‫التراث ومقاالت وآراء السلف‬ ‫التعدي عىل العتبات الشيعية‬ ‫بمثابة دين ُيتدين به‪ ،‬فتجمدت‬
‫أمام خطر الحداثة وفتنتها‪ ،‬وأمام‬ ‫وعىل أضرحة ومقامات الصوفية‪،‬‬ ‫املذاهب فكر ًّيا‪ .‬فكانت ردود الفعل‬
‫التحدي الثقايف للتيارات الفكرية‬ ‫فالدليل النصي من املرويات‬ ‫هي مواجهة هذا التجمد بمحاربة‬
‫الغربية؛ فكان تيار اإلصالح‬ ‫املنسوبة للنبي تعكس طبيعة‬ ‫«البدع» التي دخلت عىل الدين‪،‬‬
‫تيارا يحاول‬
‫الديني بكل روافده‪ً ،‬‬ ‫الحياة البدوية يف الحجاز يف‬ ‫وبالعودة إىل الدين «األصيل» دين‬
‫مقاومة جمود التقليد‪ ،‬بالعودة‬ ‫القرن السابع امليالدي‪ ،‬والتي مل‬ ‫ما قبل املذاهب‪ ،‬التي أصبحت‬
‫أيضا‪ ،‬مثل‬‫إىل السلف الصالح ً‬ ‫كثيرا عن الحياة يف نجد‬
‫ً‬ ‫تختلف‬ ‫هي ذاتها الدين‪ ..‬والعودة إىل‬
‫سابقه‪ ،‬ولكن السلف هنا كان‬ ‫يف القرن الثامن عشر‪.‬‬ ‫األدلة النصية املباشرة من‬
‫السلف وقت تأسيس العلوم يف‬ ‫لذلك فربما لطبيعة الحياة الثقافية‬ ‫نصوص ومن مرويات منسوبة‬
‫أيضا وليس‬‫ثقافات املسلمين ً‬ ‫وتراثها يف الهند الذي يختلف‬ ‫للنبي ومنسوبة للصحابة‬
‫سلف الصحابة والتابعين‬ ‫عن الحياة يف نجد‪ ،‬كان رد فعل‬ ‫وللتابعين‪ ،‬الذين هم األجدر‬
‫وتابعيهم فقط‪ .‬ولكن هذا التيار‬ ‫شاه ويل اهلل الدهلوي (‪-1703‬‬ ‫عىل فهم الرسالة‪ .‬والتخلص‬
‫أيضا حاول تحديث الفكر الديني‬ ‫ً‬ ‫‪1762‬م) عىل التحدي مختلف؛‬ ‫من كل القواعد الفكرية وتراتب‬
‫عند املسلمين‪ ،‬تحديثًا يواكب‬ ‫حيث كان يشيع التصوف ويشيع‬ ‫األدلة وتراكيبها التي وضعتها‬
‫العصر‪ .‬ويف نفس الوقت يقاوم‬ ‫املذهب الحنفي‪ ،‬وتوجد أديان‬ ‫مذاهب املسلمين‪ ،‬فخلقت «بد ًعا”‬
‫خطر االستعمار الغربي‪ ،‬سواء‬ ‫أخرى غير األديان املنصوص‬ ‫وحرفت يف دين اهلل‪،‬‬‫َّ‬ ‫و”ضالالت”‬
‫عليها يف املصحف‪ .‬ورغم أن‬ ‫دين الفطرة‪ ،‬ببساطته‪ ،‬التي كان‬
‫مقاومة سياسية‪ ،‬عبر السعي‬
‫الدهلوي اختصر اإلسالم يف‬ ‫عليها النبي وصحابته وتابعيهم‪،‬‬
‫لوحدة املسلمين سياسيًّا‪ ،‬سنة‬
‫“الشريعة” كما فعل ابن عبد‬ ‫عبر رفض قواعد التفكير الفقهي‬
‫وشيعة‪ ،‬كما سعى السيد جمال‬
‫الوهاب‪ ،‬ونظر إليها كأداة ضبط‬ ‫املذهبية‪ ،‬واستخدام “فقه الدليل”‪،‬‬
‫الدين الحسيني األفغاني (‪-1838‬‬
‫وربط ملواجهة التفكك االجتماعي‪،‬‬ ‫النصي املباشر‪.‬‬
‫‪ ،)1897‬أو عبر مقاومة التقليد‬
‫ومحاربة التغيرات االجتماعية عىل‬ ‫فحاول محمد بن عبد الوهاب‬
‫والغرب عبر التربية والتعليم‬
‫أنها «البدع»‪ ،‬بل واعتماده كذلك‬ ‫(‪)1206 /1791 -1115 /1703‬‬
‫وتحديث الفكر وتقديم فهم‬
‫عىل النصوص مباشرة‪ ،‬فإن هذه‬ ‫التواصل مع الجذر القديم الذي‬
‫جديد للنصوص القديمة يتوافق‬
‫الجهود يف القرن الثامن عشر‬ ‫كان يتمرد عىل املذهبية‪ ،‬سواء‬
‫مع منتجات العلوم األوروبية‬
‫والنصف األول من القرن التاسع‬ ‫من نصوصية اإلمام أحمد بن‬
‫الحديثة‪ ،‬مثل محمد عبده‬ ‫عشر مل يظهر لها بصورة كبيرة‬ ‫حنبل (‪/855 -164 /780‬‬
‫(‪ )1905 -1849‬وأحمد خان يف‬ ‫خطر تحدي الحداثة الغربية بعد‪،‬‬ ‫‪ ، )241‬والتأسيس الفكري‬
‫الهند (‪.)1898 -18017‬‬ ‫فكانت عودة ألصول بمحاربة‬ ‫والعقيدي الذي قام به اإلمام ابن‬
‫«البدعة»‪.‬‬ ‫تيمية (‪/1328 -661/1263‬‬
‫‪-2-‬‬
‫يف النصف الثاني من القرن‬ ‫‪ )728‬وتلميذه ابن قيم الجوزية‬
‫نتيجة الهتمام تيار اإلصالح‬ ‫التاسع عشر؛ أصبح الخطر‬ ‫(‪،)751 /1350 -691 /1292‬‬
‫‪128‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫دينية تدافع عن دين أو عن‬ ‫مؤسسة ال تقتصر عىل املسلمين‬ ‫الديني بالتعليم والتربية‪ ،‬ونتيجة‬
‫مذهب أو عن معتقدات طائفة‬ ‫فقط‪ ،‬بل تكون جامعة‪ ،‬وطنية‪،‬‬ ‫لشبه الفشل يف تحديث مؤسسات‬
‫دينية‪ ،‬مثل مدارسنا الدينية‬ ‫جامعة يكون غايتها العلم‪ ،‬مثل‬ ‫التعليم الدينية التقليدية مثل‬
‫التراثية‪  ،‬فإن مدارس أوروبا‬ ‫مدارس أوروبا وجامعاتها‪ .‬ورغم‬ ‫التعليم يف الجامع األزهر‪ ،‬أن‬
‫استطاعت الحداثة أن تتولد من‬ ‫أن جامعات أوروبا والغرب‬ ‫كان االتجاه إلنشاء مؤسسات‬
‫داخلها‪ ،‬فانتقلت هذه املدارس‪ ،‬من‬ ‫العريقة‪ ،‬كانت يف ذاتها مدارس‬ ‫تعليمية حديثة‪ ،‬تواكب العصر‪،‬‬
‫الدفاع عن دين أو عن معتقدات‬
‫طائفة ما ضد الطوائف األخرى‬
‫وضد األديان األخرى‪ ،‬إىل أن‬
‫تُصبح دراسة الدين بها دراسة‬
‫من أجل الفهم واالستيعاب‪ ،‬بل‬
‫ومل يعد الدين فيها هو مصدر‬
‫املعرفة ومورد العلوم‪ ،‬بل أصبح‬
‫الدين ذاته موضو ًعا للمعرفة‬
‫ومادة للبحث النقدي‪ ،‬وليس‬
‫مجرد جدل وسجال دفا ًعا عن‬
‫العقيدة الصحيحة ضد خصومها‬
‫من األديان األخرى واملعتقدات‬ ‫جامعة األزهر‬
‫الباطلة‪.‬‬
‫أقول رغم أن الحداثة هي فعل‬
‫تجاوز من داخل هذه املؤسسات‬
‫الدينية‪ ،‬التراثية‪ ،‬الغربية‪ ،‬فإن‬
‫التحديث عندنا‪ ،‬تقريبًا ترك القديم‬
‫عىل حاله‪ ،‬ومل يحاول تحديثه‪،‬‬
‫مسارا مواز ًيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وأقام بجواره‬
‫مسارا ننقل من خالله تجربة‬ ‫ً‬
‫التحديث األوروبية‪ ،‬نقل نموذج‬
‫كامل‪ ،‬سابق‪ ،‬ننقله عىل الجاهز‪،‬‬
‫لتصبح الحركة يف وعينا حركة‬ ‫جامعة الزيتونة‬
‫بين متجاورين؛ القديم املوروث‬
‫والحديث املنقول‪ ،‬ويصبح‬
‫التحديث عبارة عن نقل وتقليد‪.‬‬
‫وبالرغم من أن الحداثة هي يف‬
‫لبها حركة ضد التقليد‪ ،‬فإن‬
‫التحديث عندنا أصبح تقلي ًدا‪،‬‬
‫مما جعل حركتنا تصير تحديثاً‬
‫بال حداثة‪ ،‬وتجديدنا عبارة عن‬
‫تجاور بين بنيتين تُكبل كل منهما‬
‫حركة األخرى‪ .‬فتقريبًا مل تتكون‬
‫جامعة القرويين‬
‫‪129‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫حركة يف الوعي‪ ،‬ومل يحدث يف‬


‫مدارسنا التراثية أو الحديثة‬
‫التجاوز املعريف الذي حدث داخل‬
‫مدارس الغرب الدينية‪ ،‬ليجعلها‬
‫جامعات حديثة‪ ،‬عبر «قتل القديم‬
‫ودرسا» لتجاوزه من داخله‬‫ً‬ ‫فهما‬
‫ً‬
‫وتجليه داخل وعينا العام‪.‬‬
‫فإذا كانت مدارسنا الدينية‬
‫التقليدية يف الزيتونة بتونس‬
‫أو األزهر بمصر أو القرويين‬
‫باملغرب‪ ،‬أو يف النجف بالعراق‪،‬‬
‫أو يف قم بإيران وغيرها عبر بالد‬
‫املسلمين؛ مدارس قامت لنشر‬
‫مذهب معين يف املعتقدات أو يف‬
‫الفقه والدفاع عنه‪ ،‬عىل أنه مذهب‬
‫أهل الحق‪ ،‬وأنه الدين الصحيح يف‬
‫شاه ويل اهلل الدهلوي‬ ‫جمال الدين األفغاني‬ ‫أحمد خان‬
‫املعتقدات‪ ،‬بل وللدفاع عن مذهب‬
‫فقهي معين كاملالكية يف بالد‬
‫ركز تيار اإلصالح الديني عىل‬ ‫الغزو الثقايف لتيارات التفكير‬
‫مغرب العرب‪ ،‬أو كاإلسماعيلية‬
‫مسائل الفقه يف املعامالت‪،‬‬ ‫الغربية‪ ،‬مثل الليبرالية والعلمانية‬
‫يف األزهر بمصر يف نشأته‪ ،‬ثم‬
‫أو بتعبير تراثي قد ركز عىل‬ ‫والديمقراطية‪ ،‬واملاركسية‬
‫تحويله إىل األشعرية يف العقيدة‬
‫«الفروع» وليس «األصول»‪ .‬هذا‬ ‫والبنيوية‪ ،‬والوجودية‪...‬إلخ‪،‬‬
‫والشافعية واملالكية يف الفقه‪ ،‬ثم‬
‫االستحياء الذي وصل إىل حد‬ ‫والتي تعاملت معها مدارسنا‬
‫دخل املذهب الحنفي يف الفقه مع‬
‫التجنب أحيانًا يف مراجعة ونقد‬ ‫الدينية التقليدية عىل أنها مجرد‬ ‫االحتالل العثماني‪ .‬مثل املذهب‬
‫األصول الفكرية التي تقوم عليها‬ ‫صور أخرى من انحرافات فرق‬ ‫اإلمامي الجعفري يف الفقه‬
‫املذهبية ذاتها‪ ،‬والتركيز فقط عىل‬ ‫املسلمين التراثية‪ ،‬التي ستتعدى‬ ‫والعقيدة يف النجف وقُم‪ .‬فكل‬
‫التجديد يف الفروع‪ ،‬ويف املسائل‬ ‫السبعين فرقة كلها يف النار إال‬ ‫مدرسة من هذه املدارس كانت‬
‫العملية املباشرة ويف أحيان كثيرة‬ ‫فرقة واحدة هي الفرقة الناجية‪.‬‬ ‫تدافع وتجادل دفا ًعا عن مذهب‬
‫الجزئية‪ ،‬عبر ثنائية «الثابت‬ ‫بل بدأت تكون أيديولوجية‬ ‫ضد املذاهب األخرى‪ .‬وال زالت‬
‫واملتغير» أو «الشريعة والفقه»‬ ‫«إسالمية» يف مواجهة هذه‬ ‫مع كل املسوح التي وضعتها‬
‫أو «الدين والفكر الديني» أو‬ ‫التيارات الغربية «الغازية»؛ لتكون‬ ‫لتدريس املذاهب األخرى‪ ،‬فهي‬
‫«املنهج واملسائل» أو «األصالة‬ ‫«األسلمة» يف مواجهة «التغريب»‪.‬‬ ‫تدرسها لكي تثبت وتجادل أن‬
‫واملعاصرة»‪ ..‬إلخ هذه الثنائيات‪،‬‬ ‫كان لتركيز تيار اإلصالح الديني‬ ‫تعاليمها هي؛ تمثل دين الحق‬
‫ومحاولة التوفيق بينها عبر مجرد‬ ‫عىل التوفيق عبر التجاور بين‬ ‫ودين الوسطية‪ ،‬ضد اآلراء‬
‫التجاور بين العناصر‪ ،‬أفضى‬ ‫وخصوصا يف‬
‫ً‬ ‫ومنتجاتها‪،‬‬
‫الحداثة ُ‬ ‫واألفكار واملعتقدات «الشاذة»‬
‫مع كل هزيمة أو تراجع يشهده‬ ‫مجال علوم دراسة الكون والحياة‬ ‫أو «املنحرفة» أو «الضالة» التي‬
‫الواقع إىل مجرد تلفيق‪ ،‬يستطيع‬ ‫عليه‪ ،‬وكذلك مع فكرة النظم‬ ‫تمثلها املذاهب األخرى‪ .‬وأضافت‬
‫تيار السلفية الذي يحسم التلفيق‬ ‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫االجتماعية الحديثة‪،‬‬ ‫هذه املدارس يف العصر الحديث‬
‫بالتقوقع داخل أن الدين ثابت‬ ‫القانون والنظم السياسية‪ ،‬أن‬ ‫الدفاع عن مذاهبها هذه‪ ،‬ضد‬
‫نتيجة الهتمام تيار اإلصالح الديني‬
‫بالتعليم والتربية‪ ،‬ونتيجة لشبه‬
‫الفشل في تحديث مؤسسات التعليم‬
‫الدينية التقليدية مثل التعليم‬
‫في الجامع األزهر‪ ،‬أن كان االتجاه‬
‫إلنشاء مؤسسات تعليمية حديثة‪،‬‬
‫تواكب العصر‪ ،‬مؤسسة ال تقتصر على‬
‫المسلمين فقط‪ ،‬بل تكون جامعة‪،‬‬
‫وطنية‪ ،‬جامعة يكون غايتها العلم‪،‬‬
‫محمد بن عبد الوهاب‬ ‫مثل مدارس أوروبا وجامعاتها‪.‬‬
‫الجامعة ‪-‬ولو عىل الهامش‪ -‬ملس‬
‫هذه األصول نقد ًّيا‪ ،‬كانت قضايا‬
‫االلتهاب بالجامعة‪ ،‬وكانت املعارك‬
‫الفكرية‪ .‬بل إن الجامعة كانت‬ ‫تحديثية من أعىل السلطة‪ ،‬دوافع‬ ‫واحد ال متغير فيه‪ ،‬وعىل الواقع‬
‫تدرس التراث ‪-‬حتى الفكري‬ ‫أرادت أن تنقل ثمار الحداثة‬ ‫أن يخضع لهذا الثابت ويخضع‬
‫والتاريخي منه‪ -‬باالحتفاء‬ ‫املادية من نظم دولة تضبط‬ ‫بالقوة الجبرية‪ ،‬وأن كل تغير هو‬
‫به احتفاء أقرب إىل التمجيد‪،‬‬ ‫حركة املجتمع‪ ،‬فأضافت للتجاور‬ ‫انحراف عن «صحيح الدين»‪،‬‬
‫وكان االتجاه النقدي فيها عىل‬ ‫الفكري بين املتباينات نو ًعا من‬ ‫كما كان عليه النبي والصحابة‬
‫استحياء‪ ،‬وإن كانت قد تجلت يف‬ ‫الجبر والفرض بالقوة للحداثة‪،‬‬ ‫والتابعون‪ ،‬قبل أن يتلوث بما‬
‫مجاالت التراث اللغوي والفقهي‬ ‫والتي كان املورد الجبري اآلخر‬ ‫عند الفرس والهنود واليونان‬
‫قليل‪ ،‬ففي مجال الفكر الديني‬ ‫ً‬ ‫لها هو حداثة آتية عىل ظهر‬ ‫من القدماء وبما عند الغربيين‬
‫‪-‬وخصوصا املعتقدات‪ -‬تكاد‬ ‫بارجة حربية غازية من مستعمر‪.‬‬ ‫وغزوهم الثقايف يف عصورنا‬
‫ً‬
‫تكون الرؤية النقدية ال تُرى‬ ‫فكان حضور التراث بشكل‬ ‫الحديثة‪.‬‬
‫تماما‪ .‬بل أصبحت هذه الجامعات‬ ‫ً‬ ‫عام والديني منه بشكل خاص‬
‫مع توسعها ُمنتجة لدوجما‬ ‫وحضور السياسة وحضور‬ ‫‪-3-‬‬
‫التصورات القديمة عىل أنها‬ ‫اآلخر‪ ،‬كموضوعات تُدرس علميًّا‬ ‫قامت جامعتنا «الحديثة» عىل‬
‫«املعلوم من الدين بالضرورة»‪،‬‬ ‫داخل هذه املدارس‪ ،‬هي نقاط‬ ‫هذه الثنائية املتجاورة بين القديم‬
‫ومدافعة عن «دين الوسطية» ضد‬ ‫التهاب‪ ،‬تنفجر بين حين وآخر‪.‬‬ ‫رسخ من تأثيرها‬ ‫والحديث‪ ،‬لكن ّ‬
‫املف ِّرطين واملُفرِطين‪ .‬مثلها مثل‬ ‫جامعتنا «املدنية الحديثة» مل‬ ‫أن هذا التحديث قام عىل نقل‬
‫مدارسنا الدينية التقليدية‪ ،‬بل‬ ‫تستطع أن تتجاوز حالة العجز‬ ‫النموذج السابق الجاهز‪ ،‬سواء‬
‫وبصورة أكثر تش ُّد ًدا‪ ،‬كمحاولة‬ ‫التي كان عليها تيار اإلصالح‬ ‫نقل عن اآلخر األوروبي أو‬‫كان ً‬
‫إلثبات أنها مدارس ليست ضد‬ ‫الديني بتركيزه عىل الفروع‬ ‫نقل عن أسالفنا‪ .‬األمر الثاني أن‬‫ً‬
‫الدين‪.‬‬ ‫وتعامله عىل استحياء مع‬ ‫جامعتنا الحديثة يف غالبها قامت‬
‫وحين تمت عمليات التحديث‬ ‫األصول‪ ،‬ويف كل مرة حاولت‬ ‫كمؤسسات يف أغلبها بدوافع‬
‫‪131‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫واقعنا؛ بدون الدرس العلمي‬ ‫اإلفراط وذاك التفريط‪ .‬ويحذره‬ ‫ملدارسنا الدينية التقليدية يف القرن‬
‫النقدي ألصولها ذاتها‪ ،‬فستظل‬ ‫من الباطنية اإلسماعيلية‪ ،‬ليخرج‬ ‫العشرين؛ وتحولت من مجرد‬
‫حركتنا حركة يف املحل‪ .‬فكيف‬ ‫الطالب بعد املحاضرات ليتنزّه‬ ‫جامع‪ ،‬أو حوزة تقليدية‪ ،‬ألن‬
‫لنا أن نجدد يف فهم نصوص‬ ‫يف حديقة أغاخان بجوار األزهر‬ ‫تصبح جامع وجامعة ومرجعيات‬
‫املصحف‪ ،‬دون التعرض لطبقات‬ ‫التي بنتها مؤسسة أغاخان‬ ‫دينية‪ .‬بإنشاء كليات «ألصول‬
‫التصورات واملعتقدات املنسوجة‬ ‫الشيعية اإلسماعيلية املعاصرة‪.‬‬ ‫الدين» أو «للشريعة والقانون»‬
‫حول القرآن عبر العصور‪ ،‬من‬ ‫هذا التجاور تجده يف البلد الذي‬ ‫أو للغة العربية‪ .‬ظلت البنية‬
‫ق ِدمه أو حدوثه‪ ،‬ومن عالقة‬ ‫وينص عىل‬ ‫مذهبه جعفري‪ُ ،‬‬ ‫التقليدية القديمة كما هي‪ ،‬وتم‬
‫اهلل بالعامل‪ ،‬وطبيعة الوحي؟‬ ‫املذهب الفقهي ذاته يف دستور‬ ‫طالء سطحها بزركشات ونقوش‬
‫ومن عالقة اللغة بتصوراتنا عن‬ ‫البالد‪ .‬ويف البلد الذي مذهبه‬ ‫حديثة‪ .‬فحين تم إنشاء كليات‬
‫أنفسنا وعن الوجود وعن نشأة‬ ‫إباضي‪ .‬وإن كانت الحاجة يف‬ ‫عملية تطبيقية بها‪ ،‬لدراسة الطب‬
‫وأصل اللغة‪ ،‬وكيف تعمل‪ ،‬وهل‬ ‫مجال القوانين جعلت الخروج عن‬ ‫والهندسة والزراعة‪ ..‬إلخ‪ .‬حيث‬
‫هي مواضعة من البشر وكائن‬ ‫أسر مذهب فقهي واحد‪ ،‬وفرضت‬ ‫تجاورت ثالث أبنية تُكبل كل منها‬
‫األخذ بمذهب مقارن أو عدم‬ ‫ُقصيها‪ ،‬فيدخل أستاذ‬‫األخرى‪ ،‬وت ِ‬
‫حي يعكس تصورات الجماعات‬
‫البشرية‪ ،‬أم هي أصل سابق‬ ‫التقيد بمذهب واحد يف التقنين‪،‬‬ ‫ليحاضر ويشرح حتمية قانون‬ ‫ُ‬
‫أو الخروج عن ذلك بالتركيز عىل‬ ‫الحركة بين األجسام‪ ،‬من خالل‬
‫من اهلل والعالقة فيها بين اللفظ‬
‫«مقاصد الشريعة» وعىل «املصالح‬ ‫عالقات سببية بين الظواهر‪،‬‬
‫واملعنى عالقة أوقفها اهلل؟ أو‬
‫املرعية»‪ ،‬فإن املعتقدات وأصولها‬ ‫ويدخل بعده أستاذ يشرح مذاهب‬
‫كيف نُج ِّذر فكرة القانون‪ ،‬أو‬
‫ظلت ساحة يتم االقتراب منها‬ ‫الفلسفة الحديثة وأهمية الفلسفة‬
‫املسؤولية الفردية وفكرة الحقوق‬
‫عىل استحياء بدرس علمي نقدي‬ ‫واملنطق‪ .‬ليدخل أستاذ «العقيدة»‬
‫املدنية‪ ،‬دون التعرض‪ ،‬لفاعلية‬
‫ال ينطلق من الدفاع عن مذهب‬ ‫أو «التوحيد» ليلغي ما قاله‬
‫اإلنسان وقدرته عىل خلق أفعاله‬
‫ضد املذاهب األخرى‪ ،‬بل ينطلق‬ ‫األستاذان السابقان‪ ،‬ويقول إنه ال‬
‫مسؤول عنها؟ كيف نبني‬ ‫ً‬ ‫ليصبح‬
‫من فهم معتقدات اآلخرين حسب‬ ‫موجود سوى اهلل‪ ،‬وال فاعل يف‬
‫علم عن الكون وعن الحياة فيه أو‬ ‫منطقها ومنطقهم‪ ،‬وليس ملجرد‬ ‫الكون سوى اهلل‪ ،‬وأنه ليس هناك‬
‫عن اإلنسان‪ ،‬أو علوم يف االجتماع‬ ‫إصدار حكم قيمي عليها بالصحة‬ ‫عالقة بين سبب ومسبب‪ ،‬بل هي‬
‫البشري أو يف السياسة‪ ،‬عىل بنية‬ ‫أو الضالل‪ ،‬بل لالستيعاب‬ ‫عالقة نسبية عىل سبيل ما تعودنا‬
‫من التصورات ليس لإلنسان فيها‬ ‫والتمثل ثم التجاوز لها معرفيًّا‪.‬‬ ‫عليه‪ ،‬لكن املسبب هو اهلل‪.‬‬
‫فاعلية‪ ،‬وليس لظواهر الكون فيها‬ ‫إن قرن ونصف من عمليات‬ ‫ثم يدخل أستاذ آخر بعده‬
‫قانون أو حتمية سوى الفاعلية‬ ‫التجديد الفقهي ومن اإلصالح‬ ‫ويشرح مذهب املعتزلة والشيعة‬
‫اإللهية التي ليس لح ِّدها حدود‪،‬‬ ‫الديني‪ ،‬وقرن من إنشاء جامعات‬ ‫الجعفرية واإلباضية والشيعة‬
‫ولو حتى من داخلها؟ فهل يمكن‬ ‫«مدنية حديثة»‪ ،‬وما يقرب من‬ ‫الزيدية كمذاهب لفرق مسلمين‪،‬‬
‫أن يكون مرور أربعة عشر قرنًا‬ ‫قرن من عمليات تحديث للمدارس‬ ‫وأستاذ الفكر الفلسفي الحديث‬
‫عىل مقتل اإلمام وعىل تحزب‬ ‫واملعاهد الدينية التراثية‪ ،‬بل‬ ‫يتحدث عن الوجودية والوضعية‬
‫األحزاب مناسبة إلعادة النظر يف‬ ‫وما يقرب من قرن من مساعي‬ ‫املنطقية والبنيوية‪ ..‬إلخ‪ ،‬ويدخل‬
‫هذه األبنية وتصوراتها وأصولها‪،‬‬ ‫التقريب بين مذاهب املسلمين‪.‬‬ ‫أستاذ التوحيد ليقول لهذا الطالب‬
‫وكونها تصورات الهوتية أكثر‬ ‫ومثلها من جهود للحوار بين‬ ‫إن كل هذه فرق شاذة وضالة‬
‫ما هي تصورات مبنية عىل أسس‬ ‫األديان‪ .‬كل هذه الجهود ضعيفة‬ ‫ومنحرفة‪ ،‬عن دين الوسطية الذي‬
‫علمية ومعرفية؟‬ ‫الثمار وقليلة النتاج‪ ،‬وأتصور‬ ‫كان عليه النبي والصحابة‪ ،‬وعليه‬
‫واهلل أعىل وأعلم‬ ‫ثمارا تؤثر يف‬
‫ً‬ ‫أنها‪  ‬لن تُثمر‬ ‫األمة‪ ،‬ومن املهم مواجهة هذا‬
‫‪132‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫د‪.‬علي كرزازي‬
‫(المغرب)‬

‫الرحلة الصوفية األندلسية‪..‬‬


‫بين اإلكراه والطهرانية‬

‫حركة مادية يف الزمان واملكان‪،‬‬ ‫عربي خاصة‪ -‬تالزم الرحلة‬ ‫الملخص‪:‬‬


‫لكنها قد تجاوز هذه الداللة‬ ‫املكانية بالرحلة الروحية‪ ،‬وهذه‬
‫تحضر الرحلة يف تجربة‬
‫السابقة لتأخذ معنًى «أليغور ًّيا»‬ ‫األخيرة هي مجىل سعيه الصويف‬
‫الصويف األندلسي كملمح‬
‫يرادف املوت أو الشهادة أو حتى‬ ‫لالتصال باملطلق الثابت الخالد‬
‫أساسي تغذيه إكراهات الواقع‬
‫السفر باملعنى الصويف ‪-‬كما‬ ‫الذي يتجاوز الواقع بكل ما يعرفه‬
‫السوسيوثقايف للمجتمع العربي‬
‫سنرى الحقًا‪ -‬الذي قد يتسامى‬ ‫من صراع وقلق وتوتر‪.‬‬
‫اإلسالمي باألندلس‪ ،‬كما تحكمه‬
‫بروحانية أكثر إشعا ًعا ليسمى‬ ‫الكلمات املفاتيح‪ :‬الرحلة‪-‬‬
‫رؤية معرفية فنية مؤسسة عىل‬
‫«معراجا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫التصوف‪ -‬األندلس‪ -‬االغتراب‪-‬‬
‫االغتراب‪ ،‬وهاهنا نكون بإزاء‬
‫الرحلة إذن سمة ثابتة يف سيرة‬ ‫االنفصال‪ -‬الحنين‪ -‬االتصال‪.‬‬
‫نوعين من الرحالت‪ :‬رحلة فعلية‬
‫العديد من املتصوفة األندلسيين‪،‬‬ ‫وأخرى مجازية حيث يتداخل‬
‫ترسم تفاصيلها النية والقصد‬
‫***‬
‫الواقعي بالروحي لتؤسس الرحلة‬
‫أحيانا(‪ ،)1‬ألن تكوين الصويف كان‬ ‫تتلبس الرحلة بالعديد من املفاهيم‬ ‫الغتراب وجودي وانفصام نفسي‬
‫يفرض ذلك‪ ،‬وقد تتحكم فيها‬ ‫التي تقوم مقامها مثل‪ :‬السفر‬ ‫يتواشج فيه األرضي بالسماوي‪،‬‬
‫تهجيرا أو‬
‫ً‬ ‫عوامل أخرى لتصبح‬ ‫والسياحة‪ ،‬وبهذا املعنى تكون‬ ‫تواشج ال يخفي ‪ -‬يف حالة ابن‬
‫‪133‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫ً‬
‫انفصال‪ :‬قدر‬ ‫نفيًا أو اقتال ًعا أو‬
‫اإلقامة يف غير مكان واحد كانت‬
‫تمليه املنافسات ودسائس الفقهاء‬
‫وسخط الحكام‪ ،‬لنهتبل الفرصة‬
‫ولنرافق متصوفينا يف تناقالتهم‪/‬‬
‫رحالتهم املادية والرمزية‬
‫(الروحية)‪.‬‬
‫ولتكن البداية مع الحق بن سبعين‬
‫أحد زعماء الطائفة الشوذية‬
‫يف األندلس‪ ،‬لننصت إىل محمد‬
‫مفتاح وهو يصور شريط تنقالته‬
‫عبر األمطار‪ ،‬بين األمكنة وعبر‬
‫املسافات‪ ،‬يقول‪« :‬وقد حتم‬
‫هذا الهجوم [هجوم الفقهاء] أن‬
‫يهاجر زعماء الطائفة الشوذية‬
‫من األندلس إىل بالد أخرى لنشر‬
‫علي زيعور‬ ‫علي سامي النشار‬ ‫فاطمة طحطح‬
‫مذهبهم والعيش يف أمان بين‬
‫تالمذتهم‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬فقد كانت‬
‫الهند مشركون يعبدون كل شيء‬ ‫تأسره البينات فلحق باملشرق‪،‬‬ ‫تسبقهم شهرتهم‪ .‬فابن سبعين‬
‫حتى النبات والحيوان»(‪.)3‬‬ ‫ومر يف طريقه بمصر فتابعوه‬ ‫قبل أن يفارق األندلس سنة‬
‫رحيل يف رحيل‪ ،‬ذلك هو قدر ابن‬ ‫محرضين إىل أن استقر به املقام‬ ‫‪640‬هـ كان قد اشتهر بتآليفه‬
‫سبعين الذي تم التضييق عليه‪،‬‬ ‫يف مكة»(‪.)2‬‬ ‫ومنها «بد العارف» و»الرسالة‬
‫ولسنا ندري إن كان انتحر كما‬ ‫غير أن حال ابن سبعين يف‬ ‫الفقيرية»‪ ،‬وهكذا ما كاد يستقر‬
‫تذهب إىل ذلك معظم الروايات‪،‬‬ ‫مكة مل يكن أحسن من حاله يف‬ ‫يف سبتة ويجمع تالمذته حوله‬
‫أم أن املنية وافته بشكل طبيعي‪،‬‬ ‫األندلس أو املغرب أو مصر‪ ،‬إذ‬ ‫وينتشر ذكره ويتزوج امرأة‬
‫موسرة أقامت له زاوية‪ ،‬ويتصل‬
‫أما تلميذ ابن سبعين أبو الحسن‬ ‫إن جماعة الفقهاء تألبت ضده‬
‫بالسلطة ويجيب عن املسائل‬
‫الششتري فالظاهر أن مسار‬ ‫وناصبته العداء مما دفعه إىل‬
‫العقلية‪ ،‬إال وبدأ الفقهاء يكيدون‬
‫رحلته مل يخضع لهجوم الفقهاء‬ ‫التفكير يف الهجرة إىل بالد الهند‪،‬‬
‫له متهمين إياه بالتفلسف وستره‬
‫وتعنيفهم كما هو الحال بالنسبة‬ ‫ذلك ما يطلعنا عليه شاهد من‬
‫بالتصوف‪ ،‬فاستجاب ابن‬
‫ألستاذه‪ ،‬وإن كان قد صحبه يف‬ ‫الفقهاء‪« :‬فإن قول االتحادية‬ ‫خالص إىل وشايتهم فشد ابن‬
‫الكثير من تنقالته‪ ،‬ثم قام منفر ًدا‬ ‫(ومنهم ابن سبعين) يجمع كل‬ ‫سبعين رحاله إىل بجاية فاجتمع‬
‫برحالت خاصة مع جماعة من‬ ‫شرك يف العامل‪ ،‬وهم ال يوحدون‬ ‫عليه خلق الناس ليستفيدوا منه‬
‫مريديه‪ ،‬وربما كان هذا التساهل‬ ‫اهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬وإنما‬ ‫ويقتدوا به‪ ،‬ثم ما لبث أن استأنف‬
‫معه يعزى إىل كونه ‪-‬بحسب‬ ‫يوحدون القدر املشترك بينه وبين‬ ‫مسيره صوب تونس فاستقر‬
‫املقري‪ -‬أقرب إىل التصوف‬ ‫املخلوقات‪ ،‬فهم بربهم يعدلون‪،‬‬ ‫فيها فترة‪ ،‬فتصدى له الفقيه‬
‫السني منه إىل تصوف الوحدة‬ ‫ولهذا حدث الثقة أن ابن سبعين‬ ‫السكوني واتهمه بالزندقة «فتنمر‬
‫الذي يمثله أستاذه(‪.)4‬‬ ‫كان يريد الذهاب إىل الهند‪ ،‬وقال‬ ‫له املشيخة من أهل الفتيا وحملة‬
‫وإذا كان من الصعوبة بمكان‬ ‫إن أرض اإلسالم ال تسعه ألن‬ ‫السنة وسخطوا حالته وخشي أن‬
‫‪134‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫األندلس‪.‬‬ ‫كان يتحصل له مما يحرثه أتباعه‬ ‫تحديد رحالت الششتري ‪-‬كما‬
‫نترك الرحلة املادية بندوبها‬ ‫له يف أراضيهم»(‪.)8‬‬ ‫يذهب إىل ذلك محقق ديوانه عيل‬
‫وشجونها لنرحل مع متصوفتنا‬ ‫تختلف دوافع الرحلة الختالف‬ ‫سامي النشار‪ -‬فمما الشك فيه‬
‫بالخطاب ويف الخطاب‪ ،‬حيث‬ ‫التجارب الحياتية لدى املتصوفة‪،‬‬ ‫أنه زار مكناس وفاس(‪ ،)5‬كما زار‬
‫السفر مكون هو ما يجعل من‬ ‫وإن كانت هذه الدوافع تعود‬ ‫قابس وعاش يف رباطها مدة من‬
‫الرحلة (نسغ) الرؤية للوجود‬ ‫يف مجملها إىل طبيعة املجتمع‬ ‫الزمن‪ ..‬ثم ذهب إىل مالقا ومنها‬
‫واملوجودات‪ ،‬ويف هذا الصدد‬ ‫األندلسي ‪-‬غداة انهيار الحضارة‬ ‫إىل طرابلس حيث عاش مدة من‬
‫يطالعنا ابن خاتمة بهذه األبيات‬ ‫العربية اإلسالمية يف الغرب‬ ‫الزمن كذلك‪ ،‬وبعدها رحل إىل‬
‫من قصيدة طويلة له خمس بها‬ ‫اإلسالمي‪ ،-‬ولعل من أبرزها‬ ‫القاهرة حيث أقام معتكفًا بالجامع‬
‫قصيدة الشيخ شهاب الدين بن‬ ‫الدوافع السياسية التي جعلت‬ ‫األزهر وتردد عىل كثير من‬
‫أبي عبد اهلل بن الخيمي‪ ،‬جاء‬ ‫السلطة املركزية تشجع الفقهاء‬ ‫األديرة بمصر والشام(‪.)6‬‬
‫فيها‪:‬‬ ‫السنيين‪ ،‬وتناوئ املتصوفة ذوي‬ ‫ومن نماذج الرحلة الصوفية‬
‫مايل وما لفؤاد إن أرضه عسا‬ ‫امليول الشيعية‪ ،‬وذلك لتأمين‬ ‫األندلسية نجد الرحلة الحجية‬
‫وخاطر كلما غربته أنسا‬ ‫استمراريتها يف الحكم‪.‬‬ ‫التي تضارع تجربة الجهاد‪،‬‬
‫ومستند التجربتين م ًعا رؤية‬
‫ومدمع كلما كفكفته انبجسا‬ ‫ويف ظل هذه املناخات املحافظة‬
‫واحدة تجعل من الحج جها ًدا‬
‫يا صاحبي قد عدمت املسعدين‬ ‫ما كانت لتقبل بعض أفكار‬
‫«ملن استطاع إليه سبيال»‪ ،‬خاصة‬
‫فساعدني عىل وصبي ال‪ ،‬مسك‬ ‫هؤالء املتصوفة‪ ،‬خاصة ذوي‬
‫أن مكابدة مشاق الطريق ووعثاء‬
‫الوصب!‬ ‫النزوع الفلسفي‪ ،‬من مثل القول‬
‫السفر هي معاناة للنفس والجسد‪،‬‬
‫يا حاذي العيس رفقًا يف السرى‬ ‫بالحلول واالتحاد‪ ،‬وهي األفكار‬
‫بل إن طبيعة الظرف السياسي‬
‫بهم‬ ‫التي تخالف الشريعة يف بعض‬
‫الذي مرت به األندلس‪ ،‬ربما‬
‫هم بقايا جسوم فوق مثلهم‬ ‫األحكام(‪ ،)9‬وهي كذلك األفكار‬ ‫جعلت من الصوفية أبرز من‬
‫أيضا وقاك اهلل من أمل‬
‫وأنت ً‬ ‫التي قادت املتصوف ابن سبعين‬ ‫يقوم «بالتحريض عىل املشاركة‬
‫باهلل إن جئت كثبانًا بذي سلم‬ ‫إىل شن هجوم مضاد عىل الفقهاء‬ ‫فيه»(‪ .)7‬ومن هنا كان القصد إىل‬
‫قف بي عليها وقل يل‪ :‬هذه الكثب!‬ ‫واألشاعرة واملتصوفة (السنيين)‪،‬‬ ‫الحج مناسبة للحث عىل الجهاد‪،‬‬
‫ولتنزلن بي لديها ال ضللت سرى‬ ‫كما قادته إىل الرحيل عن‬ ‫تلك كانت حالة أبي مروان عبد‬
‫امللك بن إبراهيم بن بشر القيسي‬
‫اليحاسني من والية املرية (املتويف‬
‫سنة ‪667‬ﻫ) الذي «كان من‬
‫مذهبه السياحة يف األرض ليتصل‬
‫بالشيوخ والسالطين‪ ،‬وهكذا‬
‫زار املشرق واملغرب عدة مرات‬
‫ومتصل ببعض سالطين‬ ‫ً‬ ‫حاجا‬
‫ًّ‬
‫املغرب‪ ،‬ليحثهم عىل الجهاد يف‬
‫األندلس‪ .‬وحينما كان يرجع إىل‬
‫سكناه باألندلس يقيم مجالس‬
‫ً‬
‫احتفال ذا‬ ‫الذكر ويحتفل بالعيد‬
‫أبهة‪ ،‬يحضره الناس من غرناطة‬
‫واملغرب‪ ،‬معتم ًدا عىل كسبه الذي‬
‫‪135‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫واإلقصاء‪ ،‬فيما هي تشكل ثابتًا‬ ‫به املالحة واعتزت به الرتب(‪.)10‬‬ ‫وسر برحيل وذرني أندب األثرا‬
‫ومؤشرا أسلوبيًّا يتردد‬
‫ً‬ ‫دالليًّا‬ ‫هي تغريبة يف الزمان واملكان‬ ‫أعفر الخد بين الترب منكسرا‬
‫بكثرة يف شعر ابن خاتمة‪ ،‬وهي‬ ‫تترجم عاطفة دينية قوية‪ ،‬ووج ًدا‬ ‫ليقضي الخد يف أجراعها وطرا‬
‫(أي تيمة التخلف) ال تختلف عن‬ ‫مجلل بالشوق والحنين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اضا‬‫فيَّ ً‬ ‫من ترابها ويؤدي بعض ما يجب‬
‫إشكالية الذنب‪ /‬الغفران لدى ابن‬ ‫إنها إسراء صويف ينتقل الشاعر‬ ‫يا صاح والقلب ال يصحو لالئمة‬
‫الخطيب(‪.)13‬‬ ‫عبره من األندلس إىل املشرق‬ ‫باهلل إن ملت من نجد إىل سمة‬
‫وال تنتهي رحلة ابن خاتمة عند‬ ‫معرجا عىل محطات مأهولة‬‫ً‬ ‫عارض صباها لتشفين بنا سمة‬
‫هذا‪ ،‬من مكان إىل مكان ومن مقام‬ ‫بالقدسية والرمزية‪« :‬ذي السلم»‪،‬‬ ‫ومل إىل البان من شرقي كاظمة‬
‫إىل مقام‪ ،‬نداؤه متواصل عبر‬ ‫«نجد» و»كاظمة»‪.‬‬ ‫فيل إىل البان من شرقيها طرب‬
‫أعطاف القصيدة يفجر لواعجه‬ ‫يقرر الشاعر يف مستهل قصيدته‬ ‫فأي مغنى زكت يف الطيب تربته‬
‫املحمومة وأشواقه الحرى امللتهبة‬ ‫أن الوصب والحزن عجما عوده‬ ‫تحدو النفوس للقياه محبته‬
‫التي تعكسها املقاطع الطويلة‬ ‫وأنهكاه‪ ،‬فهو مسكون بحب بارئه‬ ‫وتزجر اللحظ عن مرآه رهبتة‬
‫ألساليب النداء (يا صاحبي‪،‬‬ ‫مشوق إىل االتصال به‪:‬‬ ‫ً‬
‫منزل تحميه هيبته‬ ‫أكرم به‬
‫يا حاذي العيس‪ ،‬يا صاح‪ ،‬إيه‬ ‫حاضرا سره عندي‪ ،‬ويف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يا‬ ‫عني وأنواره‪ ،‬ال السمر والقضب‬
‫خلييل) وأفعال األمر املسترسلة‬ ‫ومعي‬
‫إيه خلييل بوذي فيك‪ ،‬ال نبذا‬
‫(ساعدني‪ -‬قف بي‪ -‬قل يل‪ -‬سر‬ ‫أغير ذكرك أميل أم سواه أعي‬
‫شم ذا البريق وخذ بي حيث ما‬
‫برحيل‪ -‬ذرني‪ -‬عارض صباها‪-‬‬ ‫تاهلل ما راق عيني حسن مرتبع‬
‫أخذا‬
‫قل أي مغنى‪ -‬شم ذا البريق)‪.‬‬ ‫وال طمعت ملرأى أو ملستمع‬
‫وحاذه فهو من آمالنا بحذا‬
‫مما سبق نستنتج أن رحلة ابن‬ ‫(‪)11‬‬
‫إال ملعنى إىل علياك ينتسب‬
‫ومل يمينا ملغنى تهتدي بشذا‬
‫خاتمة نتجت عن هذا اإلحساس‬ ‫إن من شأن هذا الحب وذلك‬
‫نسيمه الرطب إن ضلت بك النجب‬
‫باالغتراب األصيل‪ ،‬ومن ثم نفهم‬ ‫الشوق أن يدفعا به إىل الوقوف‬
‫إلحاحه عىل العودة إىل األصل‬ ‫عىل األطالل‪ ،‬وهي هنا الكثب (قف‬ ‫فازت نفوس قبيل العيس قد‬
‫من خالل تعلقه بالتراب‪ ،‬وال‬ ‫بي عليها وقل يل‪ :‬هذه الكثب)‪،‬‬ ‫ظعنت‬
‫غرو فإن مثل هذا اإلحساس‬ ‫لكنها ليست قط ًعا كثب الشاعر‬ ‫وشاهدت حسن من تشتاقه ودنت‬
‫«يخترق وجود الصويف وحياته‪،‬‬ ‫الجاهيل‪ ،‬وإنما هي املقامات‬ ‫أحبب لقلبي بمثولها لقد أمنت‬
‫كما أن اإلحساس باالنفصام هو‬ ‫التي ينزلها العارفون باهلل يف‬ ‫ففيه عاهدت قدما حب من حسنت‬
‫الذي يفسر ارتباط حركة الرحلة‬ ‫سيرهم إىل ما يتناهى من علمهم‬
‫بحركة الحب والعشق اإللهي» ‪،‬‬
‫(‪)14‬‬
‫بمعبودهم(‪ .)12‬ولعل ما يزكي هذا‬
‫أساسا يف هذا املغنى‬
‫ً‬ ‫املتجسدة‬ ‫التفسير (التأويل) قوله‪« :‬سر‬
‫النوراني الذي «تحدو النفوس‬ ‫برحيل وذرني أندب األثرا»‪« ،‬أعفر‬
‫للقياه محبته»‪ ،‬له الهيبة والرهبة‬ ‫الخد بين الترب منكسرا»‪ ،‬ترى مل‬
‫والهداية والحسن(‪ ،)15‬وقد فاز من‬ ‫هذا الذل واالنكسار؟‬
‫كان سبَّاقًا إىل ارتياده وغشيانه‬ ‫الراجح أن الشاعر يندب‬
‫والدنو منه‪:‬‬ ‫األطالل ويبكي ما بقي منها‬
‫فازت نفوس قبيل العيس قد‬ ‫من آثار العارفين‪ ،‬حيث مل يكن‬
‫ظعنت‬ ‫له قدم فيما نزلوا فيه‪ ،‬وبرأي‬
‫وشاهدت حسن من تشتاقه ودنت‬ ‫الباحثة فاطمة طحطح فإن تيمة‬
‫أحبب لقلبي بمثواها لقد أمنت‬ ‫التخلف عن ركب الحجيج تولد‬
‫فيه عاهدت قد ما حب من حسنت‬ ‫شعورا باإلبعاد‬
‫ً‬ ‫لدى الشاعر‬
‫‪136‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫خلوتك حتى تعرف أين مقامك‬ ‫به املالحة واعتزت به الرتب‬


‫وقوتك من سلطان الوهم‪،‬‬ ‫مقام القرب من الحبيب هو‬
‫وعليك بالرياضة قبل الخلوة‬ ‫أقصى ما تأمله نفس الشاعر‬
‫والرياضة عبارة عن تهذيب‬ ‫التي استبدت بها مقارع االكتئاب‬
‫األخالق وترك الرعونة وترك‬ ‫وأسجاف االغتراب‪ ،‬لتجعلها‬
‫األذى‪ ..‬فإذا اعتزلت عن الخلق‬ ‫تتخلف عن ركب العارفين‬
‫فاحذر من قصدهم إليك مع‬ ‫املتصلين باملنازل العلية‪.‬‬
‫إقبالهم عليك‪ ..‬وتحفظ عن طريق‬ ‫أخيرا عند ابن‬
‫ً‬ ‫نحط الرحال‬
‫الخياالت الفاسدة أن تشغلك عن‬ ‫عربي‪ ،‬رحالة مبرز يف العامل‬
‫الذكر‪ ،‬وتحفظ عن غذاك وجهدك‬ ‫الرمزي‪ ،‬بالكشوفات املعرفية‬
‫دسما‪ ،‬ولكن من غير‬ ‫ً‬ ‫أن يكون‬ ‫صاغ سؤال الوجود‪ ،‬معه بلغت‬
‫حيوان‪ ،‬واحذر من الشبع ومن‬ ‫الرحلة أقصى مدارج الروحانية‪،‬‬
‫الجوع املفرط والزم طريق اعتدال‬ ‫ما دامت «الوالية هي ‪-‬بد ًءا‪-‬‬
‫املزاج‪ ..‬وليكن عقدك عند دخولك‬ ‫ودائما غير‬
‫ً‬ ‫ثمرة بحث شخصي‬
‫إىل خلوتك أن اهلل عز وجل ليس‬ ‫مسبوق‪{ :‬لكل جعلنا منكم شرعة‬
‫كمثله شيء‪ ..‬وال تطلب منه يف‬ ‫ومنهاجا}»(‪.)16‬‬
‫ً‬
‫خلوتك وال تعلق الهمة بغيره‪،‬‬ ‫من هذا املنطلق يقرر ابن عربي يف‬
‫واشتغل بالذكر حتى يدفع عنك‬ ‫أماكن متفرقة من فتوحاته عدم‬
‫عامل الخيال ويتجىل لك عامل‬ ‫تكرارية التجيل ‪ ،Théophanie‬فال‬
‫املعاني املجردة عن املادة» ‪.‬‬
‫(‪)19‬‬
‫الكائنات وال األشياء وال األحداث‬
‫هذه الوظيفة التطهيرية التي‬ ‫تتكرر مطلقًا(‪.)17‬‬
‫تضطلع بها الخلوة‪ ،‬هي ما‬ ‫من عتبات الرحلة العزلة والخلوة‪،‬‬
‫يهيئ الصويف لهذه الرحلة‪/‬‬ ‫وهذه األخيرة ضرورية للسالك‬
‫السياحة(‪ .)20‬نعم هي سياحة‬ ‫حتى يقطع العالئق التي تشغل‬
‫روحية متسامية بالكشف ويف‬ ‫القلب عن التوجه إىل حضرة‬
‫الكشف‪ ،‬نقول مع عيل زيعور‬ ‫القدس‪ ،‬فيختار العزلة ويؤثر‬
‫«لكل بطل هجرة هي انتقال إىل‬ ‫الوحدة‪ .‬وقد وضع الصوفية‬
‫ماض وعن‬ ‫ٍ‬ ‫أسمى وانقطاع عن‬ ‫ً‬
‫وشروطا منها‬ ‫للخلوة آدا ًبا‬
‫واقع إىل أمنيات وحياة أفضل‪،‬‬ ‫«إخالص النية بقطع مادة الرياء‬
‫فهجرته تجديد للحياة وبعث‬ ‫والسمعة واستئذان الشيخ ما‬
‫لقوى‪ ،‬إنها ترك الشهوات وتفجير‬ ‫دام يف حجر التربية‪ ،‬وتعود‬
‫الطاقات وترك اللذائذ الدنيوية‪،‬‬ ‫السهر والجوع والذكر ومالزمة‬
‫وبحث انتهى ببلوغ للحقيقة‬ ‫الوضوء‪ ،‬وأال يعلق همته‬
‫بمعنى أول وبكشف للذات‬ ‫بالكرامات‪ ،‬وأن يالزم صورة‬
‫الداخلية بمعنى آخر»(‪.)21‬‬ ‫شيخه بين عينيه‪ ،‬وأن ينفي‬
‫الحظ ميشيل شودكويش أن‬ ‫الخواطر ألنها تفرق القلب عن‬
‫ابن عربي عرض لتفاصيل‬ ‫الجمعية الحاصلة بالذكر»(‪.)18‬‬
‫هذه الرحلة الروحية املتمثلة يف‬ ‫أما الشيخ األكبر فيعرف الخلوة‬
‫املعراج الصويف يف ثالثة من‬ ‫كالتايل‪« :‬فاهلل اهلل‪ ،‬ال تدخل‬ ‫محيي الدين ابن عربي‬
‫ما نفيده من كالم ابن عربي‬
‫هو أن معراجه روحي معنوي ذو‬
‫مقصد روحاني مقدس‪ ،‬اختص‬
‫أساسا بأسرار إلهية ومعان‬
‫ً‬
‫عرفانية‪ ،‬وهو أخي ًرا مختصر رحلة‬
‫من العالم الكوني إلى العالم‬
‫المختص بروحانية المالئكة‪ ،‬وما‬
‫يؤسس اختالفه عن المعراج‬
‫محمد مفتاح‬
‫النبوي هو مفارقته للحس‬

‫كتبه‪ ،‬يتعلق األمر بالفصل الثاني‬


‫والثالث من الفتوحات املكية‪،‬‬
‫بالعلم وال باملال‪.‬‬ ‫خلفية للمعارج الصوفية هو‬ ‫وكتاب رسالة األنوار‪ ،‬إضافة إىل‬
‫وهذا معراج أرواح الوارثين سنن‬ ‫املعراج النبوي‪ ،‬الشيء الذي‬ ‫كتاب اإلسرا إىل مقام األسرى‬
‫النبيين واملرسلين‪[ ،‬وهو] معراج‬ ‫يفسر استعارة الصوفية أللفاظه‬ ‫(أو كتاب املعراج)‪ ،‬ومن جانبنا‬
‫أرواح‪ ،‬ال أشباح‪ ،‬وإسراء أسرار‪،‬‬ ‫ومفرداته‪ ،‬إضافة إىل حبول‬ ‫سنقتصر عىل الكتاب األخير يف‬
‫ال أسوار‪ ،‬ورؤية جنان‪ ،‬ال عيان‪،‬‬ ‫رؤاهم املنامية بمعارج حملتهم‬ ‫التعرف عىل مدارج هذا السفر‬
‫وسلوك معرفة ذوق وتحقيق‪،‬‬ ‫إىل السموات السبع‪ ،‬ومن هؤالء‬ ‫املسار‪ Initiatique ‬الذي مهما‬
‫ال سلوك مسافة وطريق‪ ،‬إىل‬ ‫ابن عربي الذي يقول يف مقدمة‬ ‫كانت استثناءاته‪ ،‬فإن له مراحل‬
‫سماوات معنى ال مغنى»(‪.)23‬‬ ‫معراجه‪ /‬رحلته‪« :‬أما بعد‪،‬‬ ‫ومخاطر ذات طبيعة وتوزيع‬
‫ما نفيده من كالم ابن عربي هو‬ ‫فإني قصدت معاشر الصوفية‪،‬‬ ‫خاضعين لنموذج‪ ،‬ويف غياب هذا‬
‫أن معراجه روحي معنوي ذو‬ ‫أهل املعارج العقلية واملقامات‬ ‫النموذج لن يكون ملفهوم «الزعيم‬
‫مقصد روحاني مقدس‪ ،‬اختص‬ ‫الروحانية واألسرار اإللهية‬ ‫الروحي» أي معنى‪.‬‬
‫أساسا بأسرار إلهية ومعان‬
‫ً‬ ‫واملراتب العلية القدسية‪ ،‬يف هذا‬ ‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫إن هذا املنحى املثايل غذى‬
‫أخيرا مختصر‬
‫ً‬ ‫عرفانية‪ ،‬وهو‬ ‫الكتاب‪ ،‬املنمق األبواب‪ ،‬املترجم‬ ‫من االتجاهات التي تشكل جز ًءا‬
‫رحلة من العامل الكوني إىل العامل‬ ‫بكتاب‪ ،‬اإلسرا إىل األسرى‪،‬‬ ‫من قمم األدب الصويف [‪ ]..‬يف‬
‫املختص بروحانية املالئكة‪ ،‬وما‬ ‫اختصار ترتيب الرحلة من العامل‬ ‫اإلسالم يمثل معراج النبي مرج ًعا‬
‫يؤسس اختالفه عن املعراج‬ ‫الكوني إىل املوقف األزيل‪.‬‬ ‫أكبر‪ ،‬إنه يتقدم غالبًا كوصف‬
‫النبوي هو مفارقته للحس ‪.‬‬
‫(‪)24‬‬
‫وبينت فيه كيف ينكشف الباب‬ ‫رمزي لحركة الترقي‪ .‬إن تيمة‬
‫هكذا يروي ابن عربي تفاصيل‬ ‫بتجريد األثواب ألويل البصائر‬ ‫الترقي هذه‪ ،‬املعتبرة كصورة‬
‫مغامرته الروحية‪ /‬رحلته املنامية‬ ‫واأللباب‪ ،‬وإظهار األمر العجاب‪،‬‬ ‫للمطاف الذي يقود إىل الوالية‬
‫إىل السماوات السبع فما فوقها‬ ‫باإلسراء إىل رفع الحجاب‪،‬‬ ‫هي ما سنعثر عليه لدى ابن‬
‫عىل لسان السالك الذي هو عينه‪،‬‬ ‫وأسماء بعض املقامات إىل مقام‪،‬‬ ‫عربي»(‪.)22‬‬
‫إذ يف القسم األول املتضمن لستة‬ ‫«ما ال يقال» وال يمكن ظهوره‬ ‫ال شك أن املعيار الذي يشكل‬
‫‪138‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫يكتب تاريخ الذات فيما هو يرتاد‬ ‫املنزلة التي وصل إليها من العلم‬ ‫أبواب يقدم لنا شخصية رسول‬
‫جغرافية الروح ليضع اليد عىل‬ ‫والكشف فرضت وضعه تحت‬ ‫التوفيق الذي يحضرالسالك بدنيًّا‬
‫تالوين اغتراب روحي‪ ،‬جعل‬ ‫محك السؤال واملسألة ليختبر يف‬ ‫وعمليًّا وعقائد ًّيا لخوض تجربة‬
‫الصويف‪ /‬الوايل ينفصل عن‬ ‫اإلشارات النبوية(‪.)25‬‬ ‫املعراج‪ ،‬كما يضطلع بمرافقته يف‬
‫تاريخه الفعيل ليتحد باملطلق‬ ‫أخيرا عما جناه ابن‬‫ً‬ ‫قد نتساءل‬ ‫السموات السبع‪ ،‬أما يف القسم‬
‫عربي من رحلته هاته ىف األكوان‬ ‫الثاني فيروي قصته يف السماوات‬
‫اإللهي‪ ،‬حيث تنمحي تناقضات‬
‫العلية‪ ،‬لنجد الجواب لديه يف‬ ‫السبع حيث كان يلتقي يف كل‬
‫الواقع وإكراهاته‪ ،‬بذا نفهم كون‬
‫مكان آخر من فتوحاته املكية‪،‬‬ ‫سماء سر روحانية أحد األنبياء‪،‬‬
‫«الوالية» هي حرفيًّا القرب‪ ،‬لكن‬ ‫وحاصل هذه اللقاءات استزادة‬
‫حيث يثبت أنه انتهى به األمر‬
‫هذا القرب مزدوج‪ :‬القرب من‬ ‫السالك يف العلم وتنعمه بالتعيين‬
‫إىل سدرة املنتهى‪ ،‬وكانت له‬
‫اهلل بحيث ال يكون الوايل وليًّا‬ ‫الوالئي والسيادة‪ ،‬وإضافة‬
‫البشرى بأنه «محمدي املقام من‬
‫أيضا من‬ ‫بالكامل إال إذا كان قريبًا ً‬ ‫ورثة جمعية محمد (ص)‪ .‬فإنه‬ ‫السيادة للوالية (سيد األولياء)‪،‬‬
‫الخلق‪ .‬ابن عربي يماهي اإلنسان‬ ‫ىلص اهلل عليه وسلم آخر مرسل‬ ‫إضافة إىل تعرفه عىل الغاية‬
‫الكامل بالشجرة التي «أصلها‬ ‫وآخر من إليه تنزل‪ ،‬أتاه اهلل‬ ‫من املعراج الصويف‪ ،‬وكذا عىل‬
‫ثابت وفرعها يف السماء» (القرآن‬ ‫جوامع الكلم‪ ،‬وخصه بست مل‬ ‫مقام محمد ىلص اهلل عليه وسلم‬
‫‪ .)24 :14‬إن الويل بما هو علوي‬ ‫يخص بها رسول أمة من األمم‪،‬‬ ‫وفضله عىل سائر األنبياء‪.‬‬
‫ودنيوي يف اآلن نفسه‪ ،‬يصل‬ ‫فعم برسالته لعموم ست جهاته‪،‬‬ ‫بعد السبع الطباق يصل السالك‬
‫األعىل باألسفل‪ ،‬الحق بالخلق‬ ‫فمن أي جهة جئت مل تجد إال‬ ‫إىل سدرة املنتهى فيترقى إىل املإل‬
‫نور محمد ينفهق عليك‪ ،‬فما أخذ‬ ‫األعىل بعد أن يفد عىل حضرة‬
‫تماما كالحقيقة املحمدية التي هو‬ ‫ً‬
‫أحد إال منه‪ ،‬وال أخبر رسول‬ ‫الكرسي حيث قطب الشريعة‪،‬‬
‫وارثها‪ .‬إنه برزخ بين بحرين‪.‬‬
‫إال عنه‪ ،‬فعندما حصل يل ذلك‪:‬‬ ‫الذي سيزود السالك بوصية‬
‫وإذا كان ضامنًا للنظام الكوني‬ ‫جامعة لكل الوصايا التي عكستها‬
‫وراعيًا له‪ ،‬وبالتايل أداة للرعاية‬ ‫قلت‪ :‬حسبي حسبي‪ ..‬قد مأل‬
‫أركاني فما وسعني مكاني وأزال‬ ‫قصص األنبياء يف حياتهم‪ .‬بعد‬
‫اإللهية‪ ،‬فإن وظيفته كيفما كانت‬ ‫كل هذا املطاف يستكمل السالك‬
‫عني به إمكاني‪ ،‬فحصلت يف هذا‬
‫رتبته يف السلم املساري هي بد ًءا‬ ‫تعليمه وترقيه من خالل ولوجه‬
‫اإلسراء معاني األسماء كلها‪،‬‬
‫أداة الرحمة التي «وسعت كل‬ ‫الحضرات الخمس‪ :‬قاب قوسين‬
‫فرأيتها ترجع إىل مسمى واحد‬
‫شيء» (قرآن ‪.)27(»)156 :7‬‬ ‫أو أدنى اللوح األعىل الرياح‬
‫وعين واحدة‪ ،‬فكان ذلك املسمى‬
‫مالك األمر إذن أن رحلة ابن‬ ‫وصلصلة الجرس وأوحى‪.‬‬
‫مشهودي وتلك العين وجودي‪،‬‬
‫عربي الروحية جاءت لتتجاوز‬ ‫وبالوصول إىل هذه الحضرة‬
‫فما كانت رحلتي إال يفَّ‪ ،‬وداللتي‬
‫االنحراف الذي يمثله الواقع‬ ‫األخيرة يتم تعريف السالك‬
‫إال عيلَّ»(‪.)26‬‬
‫بصراعاته‪ ،‬سلطاته‪ ،‬وتناقضاته‬ ‫بنفسه‪ ،‬أي باإلنسان ومكانته‬
‫خاتمة‪:‬‬ ‫يف الكون [مناجاة التشريف]‪،‬‬
‫ومن ثمة فال محيد لنا من اعتبار‬
‫وبنعم اهلل عز وجل عىل اإلنسان‬
‫هذه الرحلة عتبة أساسية تنقلنا‬ ‫الحمد هلل الذي تتم بنعمه‬ ‫السالك [مناجاة املنة]‪ ،‬وبأسرار‬
‫من االغتراب يف بعده املكاني‪/‬‬ ‫الصالحات‪..‬‬ ‫مبادئ السور‪ ،‬وبعلو مقام محمد‬
‫الجغرايف‪ ،‬إىل االغتراب يف بعده‬ ‫هكذا إذن حملنا معه الشيخ األكبر‬ ‫(ص) عىل كل مقام [مناجاة الدرة‬
‫الوجودي املعريف‪ ،‬وال جرم أنها‬ ‫ومعه الصوفيون األندلسيون‬ ‫البيضاء]‪.‬‬
‫كانت بالفعل حلقة وصل بين‬ ‫عىل أجنحة الصحبة وعىل هجعة‬ ‫أما القسم األخير فيفرده ابن‬
‫النمطين املتكاملين‬ ‫من الحواس يف سفر إسراري‪،‬‬ ‫عربي المتحان السالك‪ ،‬بحيث إن‬
‫‪139‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬كانت الرحلة أو السفر عند العرب مرادفين لطلب العلم خاصة يف القرون األوىل للهجرة‪.‬‬
‫‪ -2‬د‪.‬مفتاح‪ ،‬محمد‪ ،‬الخطاب الصويف مقاربة وظيفية‪ ،‬الطبعة ‪ 1977 /1‬مكتبة الرشاد املغرب‪ ،‬ص‪ ،280 -279‬للتوسع‬
‫أكثر يمكن العودة إىل املصادر التالية‪ :‬املقصد للبادسي ص‪ ،62‬عنوان الدارية للغبريني ص‪ ،140 -139‬ابن خلدون‪،‬‬
‫تاريخ العبر‪ ،‬دوسالن ج‪ 2‬ص‪ .416‬والتفتازاني يف كتابه‪ ،‬ابن سبعين وفلسفته الصوفية‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬الطبعة‪/ 1‬‬
‫‪ 1973‬بيروت‪.‬‬
‫نقل عن التفتازاني‪ ،‬ابن سبعين‪ ،‬مرجع سابق ص‪.59 -58‬‬ ‫‪ -3‬ابن تيمية‪ ،‬مجموعة الوسائل واملسائل‪ ،‬ج‪ 1‬ص‪ً 182‬‬
‫‪ -4‬املقري نفح الطيب‪ ،‬الجزء ‪ ،2‬تحقيق إحسان عباس‪ ،‬بيروت دار صادر ‪ ،1968‬ص‪.141 -334‬‬
‫‪ -5‬الغبريني‪ ،‬عنوان الدراية‪ ،‬تحقيق عادل نويهض‪ ،‬بيروت‪ 1979 ،‬ص‪.140 -139‬‬
‫‪ -6‬الغبريني‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪ -7‬مفتاح‪ ،‬محمد‪ ،‬الخطاب الصويف مرجع سابق ص‪.190‬‬
‫‪ -8‬املرجع السابق ص‪ ،192‬وانظر كذلك قشتايل‪ ،‬محمد‪ ،‬تحفة املغترب ببالد املغرب ملن له من اإلخوان يف كرامات‬
‫الشيخ أبي مروان‪ -‬نشر الجرنجا‪ ،1974 .‬الجزء األول ص‪.53‬‬
‫‪ -9‬مفتاح‪ ،‬محمد‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.238‬‬
‫‪ -10‬ديوان ابن خاتمة األنصاري‪ ،‬حققه وقدم له د‪.‬محمد رضوان الداية (‪ ،)1972 -1392‬ص‪.31-9‬‬
‫‪ -11‬املرجع نفسه‪ ،‬نفس الصفحات‪.‬‬
‫‪ -12‬محيي الدين‪ ،‬ابن عربي‪ ،‬ترجمان األشواق‪ ،‬مرجع سابق ص‪.71‬‬
‫‪ -13‬طحطح‪ ،‬فاطمة‪ :‬الغربة والحنين يف الشعر األندلسي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 312‬و‪ 328‬و‪.333‬‬
‫‪ -14‬عبد الحق‪ ،‬منصف‪ ،‬الكتابة والتجربة الصوفية‪ ،‬مرجع سابق‪ .‬ص‪.365‬‬
‫‪ -15‬هي صفات متعلقة بالذات اإللهية‪.‬‬
‫=‪-16 Chodkiewicz Michel ,le seau des saints, prophétie et Sainte dans la doctrine d’ibn arabi, Ed‬‬
‫‪Gallimard,France p:181.‬‬
‫‪-17 Michel chodkiewicz, op. cit p: 181.‬‬
‫‪ -18‬يعرف التهناوي السفر عند الصوفية بـ»توجه القلب إىل الحق»‪ ،‬كشاف اصطالحات الصوفية‪ ،‬الجزء الثالث‬
‫ص‪.161‬‬
‫‪ -19‬محيي الدين‪ ،‬ابن عربي‪ :‬رسالة األنوار فيما يفتح لصاحب الخلوة من األسرار‪ ،‬مخطوط بدار الكتب تحت رقم (‪)9‬‬
‫نقل عن جودة نصر‪ ،‬عاطف‪ :‬يف الرمز الشعري م‪.‬س ص‪.185‬‬ ‫مجاميع ورقة ‪ً ،208 -207‬‬
‫‪ -20‬عن سياحة ابن العربي يف املكان انظر د‪.‬الحكيم‪ ،‬سعاد‪ ،‬يف تقديمها لكتاب ابن العربي‪ ،‬اإلسرا إىل مقام األسرى‪،‬‬
‫دار ندرة للطباعة والنشر‪ ،‬ط ‪ ،1988 /1‬ص‪.14-13‬‬
‫‪ -21‬زيعور‪ ،‬عيل‪ :‬األنا األعىل يف الذات العربية‪ :‬البطل يف التصوف واألنثروبولوجيا والفنون واألحالم‪ ،‬مجلة الباحث‪،‬‬
‫عدد‪ 8‬السنة ‪ ،1979 -2‬ص‪.82 -81‬‬
‫‪.182-Michel, op.cit.p181 Chodkiewicz -22‬‬
‫‪ -23‬محيي الدين‪ ،‬ابن عربي‪ ،‬اإلسرا إىل مقام األسرى‪ ،‬تحقيق وشرح د‪.‬الحكيم‪ ،‬سعاد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.530‬‬
‫ليل من املسجد الحرام إىل املسجد األقصى الذي باركنا‬ ‫‪ -24‬يقول تعاىل يف سورة اإلسراء‪« :‬سبحان الذي أسرى بعبده ً‬
‫حولة لنريه من آياتنا‪ ،‬إنه هو السميع العليم»‪ ،‬سورة اإلسراء آية ‪ .3‬يف إسرائه ركب الرسول (ص) البراق وهو دابة‬
‫تعادل سرعتها سرعة الضوء‪ ،‬واشتقاق اسمه يشير إىل البرق‪ ،‬انظر الحكيم‪ ،‬سعاد‪ ،‬تقديم كتاب اإلسرا‪ ،‬مرجع سابق‬
‫ص‪.21‬‬
‫‪ -25‬اعتمدت يف تركيب هذا املختصر لتفاصيل رحلة ابن عربي عىل التحليل الذي أوردته د‪.‬الحكيم‪ ،‬سعاد‪ ،‬يف تقديمها‬
‫لكتاب ابن عربي‪ ،‬اإلسراء إىل مقام األسرى‪ ،‬مرجع سابق ص‪ .41 -35‬للتوسع أكثر يمكن العودة للكتاب نفسه‪.‬‬
‫‪ -26‬محيي الدين‪ ،‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات امللكية‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مرجع سابق‪ .‬ص‪.350‬‬
‫‪.121-120 :Michel chodkiewicz, op. cit.p -27‬‬
‫‪140‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫المراجع والمصادر‪:‬‬
‫أ‪ -‬بالعربية‪:‬‬
‫‪-1‬عيل الشنتريني‪ ،‬ابن بسام‪ ،‬الذخيرة يف محاسن أهل الجزيرة‪ ،‬القسم األول تحقيق‪ .‬إحسان عباس‪ ،‬الدار‬
‫العربية للكتاب‪ ،‬ليبيا تونس ‪.1975‬‬
‫‪ -2‬محيي الدين‪ ،‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬دار صادر بيروت‪ ،‬ب‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -3‬محيي الدين‪ ،‬ابن عربي‪ :‬اإلسرا إىل مقام األسرى‪ ،‬تقديم د‪.‬سعاد الحكيم‪ ،‬الطبعة ‪ 1‬دار ندرة للطباعة‬
‫والنشر‪.1988 ،‬‬
‫‪ -4‬محيي الدين‪ ،‬ابن عربي‪ :‬رسالة األنوار فيما يفتح لصاحب الخلوة من األسرار‪ ،‬مخطوط بدار الكتب تحت‬
‫رقم (‪ )9‬مجاميع ورقة ‪.208 /207‬‬
‫‪ -5‬محيي الدين‪ ،‬ابن عربي‪ ،‬ترجمان األشواق الطبعة الثانية‪ ،‬دار صادر بيروت ‪.2003‬‬
‫‪ -6‬أحمد بن عيل‪ ،‬ابن خاتمة‪ ،‬ديوان ابن خاتمة األنصاري‪ ،‬حققه وقدم له د‪.‬محمد رضوان الداية (‪1392‬هـ‪-‬‬
‫‪1972‬م)‪.‬‬
‫‪ -7‬أبو الوفا الغنيمي‪ ،‬التفتازاني‪ :‬ابن سبعين وفلسفته الصوفية‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬الطبعة ‪ 1‬بيروت ‪.1973‬‬
‫‪ -8‬أحمد ابوالعباس‪ ،‬الغبريني‪ :‬عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء يف املائة السابعة ببجاية‪ ،‬تحقيق عادل‬
‫نويهض‪ ،‬بيروت‪.1979 ،‬‬
‫‪ -9‬عنان‪ ،‬عبد اهلل‪ :‬عصر املرابطين واملوحدين باألندلس‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬مطبعة التأليف والترجمة والنشر‪،‬‬
‫القاهرة ‪.1964‬‬
‫‪ -10‬طحطح‪ ،‬فاطمة‪ :‬الغربة والحنين يف الشعر األندلسي‪ ،‬ط ‪ 1‬مطبعة النجاح الجديدة البيضاء ‪.1993‬‬
‫‪ -11‬أحمد بن محمد‪ ،‬املقري‪ :‬نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب‪ ،‬الجزء األول تحقيق إحسان عباس‪ ،‬دار‬
‫صادر بيروت ‪.1968‬‬
‫‪ -12‬قشتايل‪ ،‬محمد‪ ،‬تحفة املغترب ببالد املغرب ملن له من اإلخوان يف كرامات الشيخ أبي مروان‪ ،‬الجزء األول‬
‫نشر الجرنجا ‪.1974‬‬
‫‪ -13‬د‪.‬مفتاح‪ ،‬محمد‪ :‬الخطاب الصويف‪ :‬مقاربة وظيفية‪ ،‬الطبعة ‪ 1‬مكتبة الرشاد البيضاء ‪.1977‬‬
‫‪ -14‬عبد الحق‪ ،‬منصف‪ :‬الكتابة والتجربة الصوفية‪ :‬ابن عربي نموذجا‪ ،‬ط ‪ 1‬منشورات عكاظ الرباط ‪.1988‬‬
‫‪ -15‬عبد الحق منصف‪ ،‬أبعاد التجربة الصوفية‪ :‬الحب‪ -‬اإلنصات‪ ،‬الحكاية‪ ،‬أفريقيا الشرق البيضاء‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل ‪.2007‬‬

‫ب‪ -‬بالفرنسية‪:‬‬
‫‪Chodkiewich’ Michel ,le Seau des Saints, Prophétie et Sainteté dans la doctrine d’Ibn‬‬
‫‪Arabi, Ed= Gallimard, France.‬‬
‫ت‪ -‬مجالت‪:‬‬
‫مجلة الباحث‪ ،‬عدد ‪ 8‬السنة ‪.1979 ،2‬‬
‫ث‪ -‬مواقع الكترونية‪:‬‬
‫ديمتري افييريتوس‪ ،‬حكيم املشرق واملغرب‪ :‬مقدمة لدراسة حياة الشيخ األكبر وعقيدته‪ ،‬ص ‪ 3‬ضمن موقع‪:‬‬
‫معابر‪maaber@scs-net.org :‬‬
‫حول العالم‬
‫محمد شكري المثير للجدل‬
‫عن الشعر كتجربة روحية‬
‫سأعطيك سب ًبا للبكاء‬
‫‪142‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫روبين كارافكا فرنانديث‬

‫محمد شكري المثير للجدل والجانب الخفي لمدينة طنجة‬


‫بمناسبة صدور كتاب «محمد شكري»‬
‫للكاتبة اإلسبانية روسيو روخاس‪ -‬ماركوس‬
‫ترجمة ‪:‬‬

‫عبد اللطيف شهيد‬


‫(المغرب‪ -‬إسبانيا)‬

‫مناسبات عديدة‪ ،‬والتي تناولت‬ ‫عىل النقيض من االستبداد‬ ‫كانت إسبانيا وفرنسا‬
‫الشاي والعصير يف املقاهي‬ ‫الحكومي املفترض املوجود‬ ‫تديران املغرب‪ .‬أمضى فترات‬
‫‪-‬ليس فقط يف مقهى الحافا‪،-‬‬ ‫يف الواليات املتحدة أو اململكة‬ ‫دائما‬
‫طويلة يف طنجة ويقول ً‬
‫لقد زرت األسواق والشواطئ‬ ‫املتحدة أو فرنسا‪ .‬من األفضل‬ ‫إن املدينة التي طاملا تحدثنا‬
‫ومحالت الحلويات واملكتبات‬ ‫أال تتحدث إسبانيًّا‪ ،‬يف املغرب‬ ‫عنها ال عالقة لها باملدينة‬
‫‪-‬وليس فقط مكتبة األعمدة‬ ‫كانت هناك حرية أكبر مما‬
‫التي يعرفها‪ .‬وكان هؤالء‬
‫‪ ،-Des Colonnes‬والنادي‬ ‫كانت عليه يف وطننا «العظيم‬
‫املنحدرون من بلدان أخرى‬
‫السينمائي ‪-‬نقطة التقاء مع‬ ‫والحر»‪ ،‬مما تسبَّب يف هجرة‬
‫متحمسين ألن يكونوا جز ًءا‬
‫األصدقاء املقيمين‪ -‬وحي‬ ‫ستهان به من اإلسبان‬
‫ُ‬ ‫عدد ال ُي‬
‫مارشان‪ ،‬حيث عاش والداي‪.‬‬ ‫إىل هناك ألسباب سياسية أو‬ ‫من خيال واقعي بعي ًدا كل‬
‫كانت املثالية املستشرقة‬ ‫اقتصادية‪ .‬هكذا كانت حالة‬ ‫البعد عن الحياة اليومية‬
‫مفتونة بقصص مثل دعوة‬ ‫والِداي‪ ،‬هناك تز َّوجا وأنجبا‬ ‫للغالبية العظمى من سكانها‬
‫جيرترود شتاين(‪ )¹‬بول‬ ‫ولديهما األ َّولين‪ ،‬كانت والِدتي‬ ‫األصليين‪ .‬ما ت َّمت قراءته‬
‫بولز(‪ )2‬للقيام برحلته األوىل‬ ‫تقول إن أسعد أيام حياتها‬ ‫وسماعه ح َّو َلها إىل نوع من‬
‫إىل املدينة التي ح َّل بها‪،‬‬ ‫كانت يف بلد املغرب‪.‬‬ ‫الجنة الثقافية حيث تدفَّقت‬
‫ليصبح املُ َضيِّف بمدينة‬ ‫أعتقد أن هذا جعلني أركز عىل‬ ‫الحريات‪ ،‬مما ساهم يف‬
‫طينجيس القديمة لل ُكتاب‬ ‫املدينة التي سافرت إليها يف‬ ‫بيع الكيف يف أكشاك التبغ‪،‬‬
‫‪143‬‬
‫حول العالم‬

‫والشاعر الغنائي ألوركسترا‬ ‫أكثر إعجا ًبا وأخذ مسافة‬ ‫واملوسيقيين وجميع من‬
‫موندراغون وأوركسترا‬ ‫عن البقية‪ ،‬وخاصة كيث‬ ‫انقطعت بهم السبل‪ :‬ترومان‬
‫غلوتاماتو يي يي‪ -‬للفرقة‬ ‫أيضا أن‬ ‫ريتشاردز(‪ .)19‬حاولت ً‬ ‫كابوتي(‪ ،)3‬ألن غينسبرغ(‪،)4‬‬
‫األخيرة كان ينتمي شقيقه‬ ‫أفهم لون لوحات ديالكروا(‪،)20‬‬ ‫جاك كيرواك(‪ ،)5‬جونا بارنز(‪،)6‬‬
‫أوخينيو‪ .‬استمر التقليد‬ ‫بيكون(‪ ،)21‬ماتيس(‪ )22‬أو فان‬ ‫باتريشيا هايسميث(‪،)7‬‬
‫من قبل كتّاب مثل خافيير‬ ‫ريسلبيرغي(‪ ،)23‬ولوحات‬ ‫صامويل بيكيت(‪ ،)8‬فرجينيا‬
‫فالينزويال‪ ،‬ماريا دويناس‪،‬‬ ‫ماريانو فورتوني(‪،)24‬‬ ‫وولف(‪ ،)9‬غريغوري‬
‫أنطونيو لوزانو‪ ،‬كلوتي جوزو‪،‬‬ ‫أنطونيو فوينتس(‪ ،)25‬جوسيب‬ ‫كورسو(‪ ،)10‬جان جينيه(‪،)11‬‬
‫ليوبولدو سيبالوس‪ ،‬خافيير‬ ‫تابيرو(‪ ،)26‬فرانسيسكو‬ ‫تينيسي ويليامز(‪ ،)12‬مارغريت‬
‫روكا فيسنتي‪ -‬فرانكيرا‪،‬‬ ‫إيتورينو(‪ )27‬أو خوسيه‬ ‫يورسينار(‪ ،)13‬أو ويليام‬
‫بابلو سيريزال أو الشاعر‬ ‫هيرنانديز(‪ ،)28‬وبعض هذه‬ ‫بوروز(‪ ،)14‬وال تتعلق فقط‬
‫الطنجيي فريد عثمان‪ -‬بنتريا‬ ‫اللوحات ت َّم إنجازها عىل‬ ‫بالجيل «بيت» (‪ ،)Beat‬كذلك‬
‫راموس‪ ،‬الذين يمكننا ربطهم‪،‬‬ ‫شرفات فندق فوينتس؛ عىل‬ ‫الباراغوياني أوغوستو روا‬
‫كما تقول روسيو روخاس‪-‬‬ ‫طاوالتها الرخامية حيث‬ ‫باستوس(‪ ،)15‬والنيكاراغوي‬
‫ماركوس‪ ،‬يف إطار أدب ثانوي‬ ‫يمكنك اليوم التمتع بمشاهدة‬ ‫روبن داريو(‪ ،)16‬والكوبي‬
‫باملعنى الذي أطلقه جيل‬ ‫مباريات دوري كرة القدم‬ ‫أليخو كاربنتييه(‪ ،)17‬أو الرسام‬
‫دولوز وفيليكس غوتاري عىل‬ ‫اإلسباني وأنت جالس أمامها‪.‬‬ ‫التشييل كالوديو برافومن‬
‫املصطلح يف مقال كافكا‪« ،‬إنه‬ ‫كما كان شأن املسرح الكبير‬ ‫بين آخرين كثيرين‪ ،‬ساروا‬
‫ليس أد ًبا بلغة ثانوية‪ ،‬ولكنه‬ ‫لثيرفانتيس‪ ،‬حيث بدأ خوانيتو‬ ‫يف شوارعها‪ ،‬بعضهم كان‬
‫أدب كتبته أقلية داخل لغة‬ ‫فالديراما(‪ )29‬يف تشكيل‬ ‫قبل الكاتب األمريكي بول‬
‫رئيسية»‪.‬‬ ‫مسرحية «املُهاجر» وعرضها‬ ‫حاضرا يف‬
‫ً‬ ‫بولز‪ .‬الجميع كان‬
‫الكاتبان الطنجويان اللذان أثارا‬ ‫مر‬
‫أمام مئات املنفيين‪ ،‬وقد َّ‬ ‫املدينة ولكن القليل ربط الصلة‬
‫إعجابي هما أنخيل فاسكيز‬ ‫عىل خشبة ذلك املسرح بعض‬ ‫حضور‬
‫ٌ‬ ‫بالسكان األصليين‪.‬‬
‫‪ ،Ángel Vázquez‬الذي غير‬ ‫الفنانين األكثر شهرة يف فترة‬ ‫مع اآلخر وبدونه‪ ،‬شيء من‬
‫اسمه الحقيقي من أنطونيو إىل‬ ‫ما بين الحربين العامليتين مثل‬ ‫ذلك يتكرر اآلن‪.‬‬
‫أنخيل ليبدو كمصارع ثيران‪،‬‬ ‫بالدويف‪ ،‬مانويل ديل ريال أو‬
‫وهو مؤلف رواية «الحياة‬ ‫املغنيين األكثر شهرة ألغنيتنا‬ ‫ما وراء جيل «بيت»‬
‫الكلبة لخوانيتا ناربوني»‪،‬‬ ‫الشعبية‪.‬‬
‫إحدى أفضل رواياتنا يف‬ ‫األدب هو أفضل طريقة‬ ‫فت عىل قصة‬ ‫متشك ًكا‪َّ ،‬‬
‫تعر ُ‬
‫النصف الثاني من القرن‬ ‫لالقتراب من املدينة‪ .‬كتابات‬ ‫بريان جونز ‪ ،‬الذي ُطرد‬
‫(‪)18‬‬

‫املاضي‪ .‬ومحمد شكري‪.‬‬ ‫وكلمات بيو باروخا‪ ،‬إميليو‬ ‫من اململكة املتحدة لتعاطي‬
‫نشرت األستاذة روسيو‬ ‫سانز دي سوتو‪ ،‬رامون‬ ‫املخدرات واملشاركة يف حفالت‬
‫روخاس ماركوس (‪Rocío‬‬ ‫بوينافينتورا‪ ،‬كارمن الفوريت‪،‬‬ ‫جماعية ملمارسة الجنس‪،‬‬
‫‪( )Rojas-Marcos‬من مواليد‬ ‫خوان جويتيسولو‪ .‬كتابات‬ ‫وعالقته مع املوسيقيين‬
‫مؤخرا دراسة‬ ‫ً‬ ‫إشبيلية‪)1979 ،‬‬ ‫هارو‪ ،‬األب إدواردو هارو‬ ‫ملوسيقى جهجوكة ‪،Jajouka‬‬
‫صغيرة ومثير ًة لالهتمام‪،‬‬ ‫تسغلن مدير صحيفة‬ ‫وهي قرية يصعب العثور‬
‫«محمد شكري» (دار نشر‬ ‫«إسبانيا دي طنجة»‪ ،‬وابنه‬ ‫عليها والتي اكتشفناها يف‬
‫زوت)‪ ،‬عن الكاتب املولود يف‬ ‫إدواردو هارو إيبارس‪،‬‬ ‫اآلونة األخيرة عن طريق‬
‫بني شيكر‪ ،‬وهي بلدة ريفية‬ ‫مرجع ثقافة البوب‪ ،‬املؤلف‪،‬‬ ‫صديقنا «موحا»‪ .‬جونز أصبح‬
‫‪144‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الدويل عندما ترجم كتابه‬ ‫مصطدما بمجتمع أبوي مثل‬‫ً‬ ‫تبعد بضعة كيلومترات عن‬
‫األول‪ ،‬الخبز العاري‪ ،‬فيما‬ ‫املجتمع املغربي‪ .‬باحتكاكه‬ ‫مليلية والناظور‪.‬‬
‫بعد أعاد تسميته إىل الخبز‬ ‫مع الغجر واألندلسيين من‬ ‫وهي من أعظم الباحثين‬
‫الحايف بنا ًء عىل اقتراح خوان‬ ‫تطوان‪ ،‬تعلم اإلسبانية مما‬ ‫بأعمال عن املدينة وأدبها‬
‫«كنت أترجمها‬ ‫ُ‬ ‫جويتيسولو‪.‬‬ ‫سمح له يف النهاية بترجمة‬ ‫مثل «طنجة‪ .‬املدينة الدولية»‬
‫يف رأسي من العربية إىل‬ ‫لوركا إىل العربية‪ ،‬اإلخوة‬ ‫(‪« ،)2009‬طنجة‪ ،‬الوطن‬
‫اإلسبانية وكنت أمليها عليه‪.‬‬ ‫ماتشادو‪ ،‬سوزانا مارش‪،‬‬ ‫الثاني (‪ ،»)2018‬كما ساهمت‬
‫كان بول‪ ،‬الذي كان يجيد‬ ‫بيكير‪ ،‬أليكساندر‪ ،‬البورديتا‪،‬‬ ‫أيضا بقصص يف مختارات‬ ‫ً‬
‫اإلسبانية جي ًدا‪ ،‬أفضل مني‪،‬‬ ‫سياليا‪ ..‬عبّر عن نفسه باللغة‬ ‫مثل «كوكب اسمه طنجة»‪،‬‬
‫يكتبها باإلسبانية ثم يترجمها‬ ‫العربية الشعبية‪ ،‬مازِجا‬ ‫«متآمرو طنجة»‬ ‫((‪ُ ،2014‬‬
‫إىل اإلنجليزية‪ .‬مرحبًا‪ ،‬مورو‬ ‫اللهجتين الدارجة والريفية‬ ‫(‪ )2019‬و»حكايات من‬
‫وأمريكي يف طنجة يتفاهمان‬ ‫مع اللغة اإلسبانية‪ ،‬واالبتعاد‬ ‫كتاب» (‪ )2020‬الحائزة عىل‬
‫باإلسبانية»‪ ،‬كان قد علق يف‬ ‫عن اللغة العربية الصرفة‬ ‫جائزة مانويل ألكانتارا للشعر‬
‫مقابلة مع خافيير فالينزويال‬ ‫التي يستخدمها معظم الكتاب‪،‬‬ ‫(‪ ،)2020‬نشرت يف نفس‬
‫‪ Javier Valenzuela‬عىل‬ ‫جاعل أهم مواضيعه‪ :‬البؤس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫العام مجموعة قصائد مأهولة‬
‫صفحات امللحق الثقايف بابليا‬ ‫القسوة‪ ،‬االغتصاب‪ ،‬الدعارة‪،‬‬ ‫بالكلمات‪ ،‬وبصوت مرجعي ال‬
‫‪« :Babelia‬يعتبرونني كاتبًا‬ ‫الشذوذ الجنسي‪ ،‬االعتداء‬ ‫غنى عن قراءته‪.‬‬
‫إباحيًا يف العامل العربي ألنني‬ ‫الجنسي عىل األطفال‪ ،‬الكحول‪،‬‬ ‫فيما يقرب من مائة صفحة‬
‫أتحدث عن الجنس‪ .‬لكني‬ ‫املخدرات‪ ،‬الجوع‪ ،‬الجريمة‪،..‬‬ ‫تغوص بنا بين ردهات حياة‬ ‫ُ‬
‫أحاول إعطاء بعض القيم يف‬ ‫مواضيع جعلت النخب املثقَّفة‬ ‫كاتب تعلم القراءة والكتابة يف‬
‫كتبي»‪ .‬ما هي القيم؟ يسأله‬ ‫تُن ِك ُر عليه ذلك ‪-‬يجب غسل‬ ‫سن العشرين‪ُ .‬يخبرنا فريد‬
‫فالينزويال‪ُ ،‬يجيب شكري‪« :‬أنا‬ ‫املالبس القذرة داخل املنزل‪-‬‬ ‫عثمان بنتريا راموس ‪Farid‬‬
‫ملتزم اجتماعيًّا‪ .‬أنا أميل إىل‬ ‫األمر الذي مل يمنعه من أن‬ ‫‪Othman-Bentria Ramos‬‬
‫الدفاع عن الطبقات املهمشة‬ ‫ُيصبح الكاتب املغربي األكثر‬ ‫عن ابن مدينة الصفيح هذا‬
‫واملنسية واملسحوقة‪ .‬أنا لست‬ ‫إثارة للجدل واملعترف به‪،‬‬ ‫الذي كان يعرفه عندما كان‬
‫سبارتاكوس‪ ،‬لكنني أؤمن‬ ‫ُمبتع ًدا من الحياة الدنيوية‬ ‫طفل‪« :‬كانت عمتي آسيا توفر‬ ‫ً‬
‫أن كل الناس لديهم كرامة‬ ‫الفاتنة‪ .‬عىل القوائم السوداء‪،‬‬ ‫له أحيانًا مأوى عندما كان‬
‫يجب احترامها‪ .‬عىل الرغم من‬ ‫كما سلمان رشدي‪.‬‬ ‫والده يتسكع معه وتناو ُل ُه‬
‫عدم حصولهم عىل فرص يف‬ ‫ستمر ع َّدة سنوات قبل أن‬ ‫ُم ْؤ َن ًة عندما ترا ُه جائ ًعا‪ .‬قصة‬
‫الحياة»‪ ،‬الحياة املعقَّدة دفعته‬ ‫ُيمكن اقتناء نصوصه من‬ ‫طويلة مع املزيد من العوامل‪،‬‬
‫إىل دخول مستشفى األمراض‬ ‫املكتبات املحلية‪ .‬فقد خضعت‬ ‫ذكريات غامضة لطفل يبلغ من‬
‫النفسية عدة مرات‪.‬‬ ‫للرقابة يف دول مثل مصر‪،‬‬ ‫العمر أربع سنوات»‪ .‬مل يتحمل‬
‫يف حديث مع روخاس‬ ‫إيران آيات اهلل وضعوها‬ ‫شكري عنف الشارع فحسب‪،‬‬
‫ماركوس‪ ،‬أخبرتنا أن شكري‬ ‫عىل القائمة السوداء ُرفقة‬ ‫أيضا العنف األبوي‪ ،‬حيث‬ ‫بل ً‬
‫كان ُيسائل عن كل شيء‬ ‫كتب سلمان رشدي‪ .‬خالفات‬ ‫أساءت والدته معاملته وكذلك‬
‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫«لألسف ال يزال هذا‬ ‫عديدة سادت النقاشات عىل‬ ‫مصرعه يف‬ ‫َ‬ ‫شقيقه الذي شهد‬
‫أو حتى أسوأ‪ ،‬عىل الرغم من‬ ‫نصوصه مثل تلك التي نشأت‬ ‫رعب عىل يد والده‪ ،‬الهارب من‬
‫أن ذلك يبدو صعب التصديق‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫عىل تعليقاته عىل بول بولز‪،‬‬ ‫الجيش االستعماري اإلسباني‪،‬‬
‫ببساطة إنه ألمر ُمدهش‪ ،‬أن‬ ‫الذي يدين له باالعتراف‬ ‫الذي لطاملا أنكره واستنكره‪،‬‬
‫‪145‬‬
‫حول العالم‬

‫يتغلب طوال حياته عىل لحظات‬


‫من العنف املستوطن الرهيب‪،‬‬
‫كما لو كان شيئًا مألوفًا‪.‬‬
‫لسوء الحظ‪ ،‬هذا ما جعله‬
‫كاتبًا عامليًّا أصبحت له قدرة‬
‫عىل سرد القصص الوحشية‬
‫بدون دراما‪ .‬كما قال خوان‬
‫جويتيسولو يف مقدمة اإلصدار‬
‫األول من الخبز العاري آنذاك‪،‬‬
‫فإن ما يخبرنا به شكري ليس‬
‫مغربيًّا حصر ًّيا‪ ،‬لألسف يحدث‬
‫يف أجزاء كثيرة من العامل‪.‬‬
‫وهذا ما يجعله عامليًّا‪ ،‬ولألسف‬
‫أيضا ال يزال يحدث ذلك حتى‬ ‫ً‬
‫يومنا هذا يف عام ‪ ،2021‬إن‬
‫محمد شكري‬ ‫روسيو روخاس ماركوس‬ ‫روبين كارافكا فرنانديث‬
‫هذا العنف أو هذا الجوع ال‬
‫يزال حقيقة واقعة»‪ .‬كما أظهره‬
‫جزء كبير من الكتاب األجانب‪.‬‬
‫بالنسبة لعثمان بنتريا‪،‬‬ ‫منفتح ومتسامح ومتنوع‬
‫«شكري هو قصة جزء من‬ ‫وتعددي‪ ..‬عىل عكس الواقع‬
‫بقايا االستعمار‬
‫طنجة‪ ،‬إىل حد كبير هو حركة‬ ‫املغربي الذي يبدو أكثر تعقي ًدا‬
‫«البيت»‪ .‬بينما كان التركيز‬ ‫وتسلُّ ًطا وتجان ًُسا؟ «ال أعرف‬ ‫ُيقال إن الكتاب الذين شاركوا‬
‫عىل املفاضلة بين االستشراق‬ ‫أمرا تاف ًها‪،‬‬
‫ما إذا كان هذا ً‬ ‫تلك اللحظات قدموا مالحظات‬
‫والواقعية السحرية‪ ،‬كان‬ ‫أعتقد أنه مثايل إىل حد ما‪،‬‬ ‫لبعضهم البعض‪« :‬بدون‬
‫شكري يروي وراء الكواليس‪،‬‬ ‫وقراءة شكري تُظهر لنا الوجه‬ ‫شك‪ ،‬يحتاج بعضهم البعض‬
‫بأن التهميش ضروري لحلم‬ ‫األكثر قسوة لتلك املدينة التي‬ ‫ملواصلة العيش والكتابة‪.‬‬
‫اآلخرين‪ ،‬وخيبة األمل بعد‬ ‫انفتاحا‬
‫ً‬ ‫كانت بالفعل األكثر‬ ‫حسنًا‪ ،‬ربما يكون غويتيسولو‬
‫االستقالل التي بلغت ذروتها‬ ‫وتعددية يف البالد‪ ،‬والتي ال‬ ‫هو الشخص الذي يخرج من‬
‫سنوات التسعينيات»‪ ،‬مضيفًا‬ ‫تزال كذلك يف بعض الجوانب‪.‬‬ ‫تلك السلسلة‪ .‬لقد جاء إىل‬
‫أنه «من الغريب‪ ،‬عىل ما يبدو‬ ‫دائما‬
‫املدن التي بها موانئ هي ً‬ ‫طنجة ليؤلف كتاب «مطالبة‬
‫أنه بعد شكري‪ ،‬إذا مل تكن‬ ‫أماكن عبور وتبادل‪ ،‬لكن يجب‬ ‫الكونت دون خوليان»‪ ،‬لقد‬
‫فقيرا‪ ،‬مدمنًا عىل‬
‫ملعونًا‪ً ،‬‬ ‫إضافة خصوصية طنجة‪:‬‬ ‫كان بالفعل يف مجال آخر‪،‬‬
‫الكحول‪ ،‬مضطر ًبا‪ ،‬قاسيًا‬ ‫الحقبة الدولية‪ .‬من الواضح‬ ‫ولكن بال شك‪ ،‬يمكنني القول‬
‫وخائب األمل يف حياتك‪ ،‬فأنت‬ ‫أنه مل يكن كل شيء نبيذًا و‬ ‫بأن شغفه األنثروبولوجي‬
‫تكذب أو ال تستحق ذلك‪ .‬يف‬ ‫ورو ًدا‪ ،‬ولكن لألسف عانى‬ ‫للمغرب الذي مل يغادر مرة‬
‫النهاية‪ ،‬نمط املسح الثقايف‬ ‫الكثير من السكان حياة مماثلة‬ ‫أخرى أب ًدا‪ ،‬جعله قريبًا ج ًّدا‬
‫نفسه‪ ،‬يعيد بقايا االستعمار»‪.‬‬ ‫لحياة شكري‪ .‬لكن عىل الرغم‬ ‫من هؤالء املؤلفين»‪ .‬أتساءل ما‬
‫وقد كتب شكري معلقًا عىل‬ ‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫من ذلك‪ ،‬ال تزال طنجة‬ ‫إذا كان هناك بعض التقليل من‬
‫عالقة حميمة «العامل ينهار‬ ‫استثنائيًّا ملفهوم املدينة»‪.‬‬ ‫أهمية إظهار طنجة كمجتمع‬
‫‪146‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫فيتزجيرالد‪ ،‬وسنكلير لويس‪،‬‬ ‫ونحن نتبادل الحب»‪ .‬بفضل‬


‫وعزرا باوند‪ ،‬وشيروود‬ ‫دار نشر ‪،Cabaret Voltaire‬‬
‫أندرسون‪ ،‬وهنري ماتيس‪.‬‬ ‫في حديث مع‬ ‫يمكننا الوصول إىل معظم‬
‫‪ -2‬فريدريك بول بولز‬ ‫روخاس ماركوس‪،‬‬ ‫أعمال املؤلف الذي كان‬
‫‪ 30( Paul Bowles‬ديسمبر‬ ‫أخبرتنا أن شكري‬ ‫بشكل دائم عىل الحافة‪ ،‬عىل‬
‫‪ 18 -1910‬نوفمبر ‪)1999‬‬ ‫حافة الهاوية‪ .‬تقول روخاس‬
‫هو مؤلف ومترجم أمريكي‬ ‫كان ُيسائل عن‬ ‫ماركوس‪ ،‬التي ركزت يف‬
‫مغترب‪ ،‬قضى معظم حياته‬ ‫كل شيء "لألسف‬ ‫مقالتها بشكل فريد عىل حقيقة‬
‫يف املغرب‪ ،‬حيث استقر منذ‬ ‫أن األدب كان شغف هذا‬
‫ال يزال هذا‬
‫سنة ‪ 1947‬بطنجة‪ ،‬ولحقته‬ ‫الريفي‪ ،‬فقد أنقذ حياته‪« :‬كان‬
‫زوجته جين بولز عام ‪،1948‬‬ ‫صحيحا أو حتى‬
‫ً‬ ‫بحاجة إىل البقاء وهذا يعني‬
‫وباستثناء سنوات الخمسينات‬ ‫أسوأ‪ ،‬على الرغم‬ ‫العيش خارج كل األعراف‬
‫القرن املاضي حيث كان‬ ‫األخالقية»‪ .‬لقد كافح ليكون‬
‫من َّ‬
‫أن ذلك يبدو‬
‫يقضي فصل الشتاء يف سري‬ ‫نهما‪ ،‬عىل الرغم‬
‫كاتبًا وقارئًا ً‬
‫النكا (املعروفة آنذاك باسم‬ ‫صعب التصديق‪.‬‬ ‫من أنه استغرق وقتًا لتعلم‬
‫عاما‬
‫سيالن)‪ ،‬فقد قضى ‪ً 52‬‬ ‫ببساطة إنه‬ ‫القراءة والكتابة‪ ،‬إال أنه التهم‪،‬‬
‫املتبقية من حياته يف طنجة‪.‬‬ ‫كما روى هو نفسه‪ ،‬أكثر من‬
‫ألمر ُمدهش‪ ،‬أن‬
‫جيل «بيّت» ‪Beat‬‬ ‫أربعة آالف كتاب‪ .‬بال شك‬
‫‪Generation‬‏ هي حركة‬ ‫يتغلب طوال‬ ‫رجل مجنون باألدب‪.‬‬
‫أدبية أُنتِ َجت من مجموعة‬ ‫حياته على‬
‫من ال ُكتّاب األمريكيين والتي‬ ‫***‬
‫لحظات من العنف‬
‫أثرت كتاباتهم بالثقافة يف‬
‫المستوطن‬ ‫‪ -1‬جيرترود شتاين‬
‫الواليات املتحدة األمريكية‬
‫‪Gertrude Stein‬‏ (‪ 3‬فبراير‬
‫بعد الحرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫الرهيب‬
‫‪ 27 –1874‬يوليو ‪)1946‬‬
‫روائية أمريكية‪ ،‬وشاعرة‪،‬‬
‫ومؤلفة مسرحيات‪ ،‬وهاوية‬
‫جمع تحف فنية‪ُ .‬ولدت يف‬
‫حي غرب أليني يف بيترسبرغ‪،‬‬
‫ونشأت يف أوكالند‪،‬‬
‫كاليفورنيا‪ .‬انتقلت شتاين‬
‫بعدها إىل باريس يف عام‬
‫‪ ،1903‬وقضت ما تبقى من‬
‫حياتها يف فرنسا‪ .‬استضافت‬
‫شتاين صالونًا أدبيًّا يف‬
‫باريس حيث اجتمع رواد‬
‫الحداثة يف األدب والفنون‬
‫مثل بابلو بيكاسو‪ ،‬وإرنست‬
‫همينغوي‪ ،‬وفرنسيس سكوت‬
‫‪147‬‬
‫حول العالم‬

‫من األدب الوجودي‪ ،‬كما‬ ‫األدبية‪ ،‬من أشهر قصائده‬ ‫تمحورت ثقافة «البيّت» عىل‬
‫تُحاول التشكيك يف األخالق‪.‬‬ ‫قصيدة «عواء»‪.‬‬ ‫تجربة أشكال جديدة للجنس‪،‬‬
‫‪ -5‬جان لويس «جاك» كيروك خالل حياتها؛ أُطلق عليها لقب‬ ‫اهتمام بالديانات الشرقية‪،‬‬
‫شاعرة القلق من قبل الروائي‬ ‫‪Jack Kerouac‬؛ ولد يف ‪12‬‬ ‫رفض االقتصاد املادي‪ ،‬رفض‬
‫غراهام غرين‪.‬‬ ‫من مارس ‪ 21 -1922‬من‬ ‫التمجيد وغيرها من وسائل‬
‫‪ -8‬صامويل باركىل بيكيت‬ ‫شاعرا‬
‫ً‬ ‫أكتوبر ‪ .1969‬كان‬ ‫التعبير املعاصر‪.‬‬
‫‪Samuel Beckett‬‏ كاتب‬ ‫وكاتبًا روائيًّا أمريكيًّا‪ُ .‬يعتبر‬ ‫‪ -3‬كان ترومان جارسيا‬
‫محطم التقاليد األدبية‪ ،‬كما أنه أيرلندي‪ ,‬كاتب مسرحي‪،‬‬ ‫كابوتي ‪Truman Capote‬‬
‫باإلضافة إىل أنه كان ناق ًدا‬ ‫ُيعد‪ ،‬إىل جانب كل من ويليام‬ ‫(‪ 30‬سبتمبر ‪25 –1924‬‬
‫شاعرا (ولد يف فوكس‬ ‫ً‬ ‫إس بوروز وألين جينسبيرج‪ ،‬أدبيًّا و‬ ‫أغسطس ‪ ،)1984‬املولود‬
‫روك‪ ،‬دبلن يف ‪ 13‬أبريل عام‬ ‫رائد من رواد مجموعة جيل‬ ‫باسم ترومان ستريكفوس‬
‫‪ -1906‬تويف يف باريس يف‬ ‫«بيت»‪.‬‬ ‫بيرسونس‪ ،‬روائيًّا أمريكيًّا‪،‬‬
‫‪ 22‬ديسمبر ‪ .)1989‬كان من‬ ‫‪ -6‬كانت جونا بارنز ‪Djuna‬‬ ‫وكاتبًا للقصص القصيرة‪،‬‬
‫أحد الكتاب املشهورين يف‬ ‫‪ 12( Barnes‬يونيو ‪-1892‬‬ ‫وكاتبًا للسيناريو‪ ،‬وكاتبًا‬
‫القرن العشرين‪ .‬كما أنه يعتبر‬ ‫‪ 18‬يونيو ‪ )1982‬فنانة‪،‬‬ ‫وممثل‪ .‬أُشيد‬
‫ً‬ ‫مسرحيًّا‬
‫من أهم الحداثيين ألنه كان‬ ‫ورسامة‪ ،‬وصحافية‪ ،‬وكاتبة‬ ‫بالعديد من أعماله التي شملت‬
‫يسير عىل نهج وخطى جيمس‬ ‫أمريكية‪ ،‬ربما كان أكثر ما‬ ‫القصص القصيرة والروايات‬
‫جويس‪.‬‬ ‫اشتهرت به هو روايتها‬ ‫واملسرحيات واعتُبرت من‬
‫‪ -9‬أداالين فيرجينيا وولف‬ ‫نايتوود (‪ ،)1936‬التي‬ ‫الكالسيكيات األدبية‪ ،‬شملت‬
‫(باإلنجليزية‪Virginia :‬‬ ‫تعد كالسيكية لفئة الخيال‬ ‫أعماله الرواية القصيرة‬
‫السحاقي وعمل مهم من أعمال ‪)Woolf‬‏ (‪ 25‬يناير ‪-1882‬‬ ‫ُّ‬ ‫اإلفطار عند تيفاني (‪)1958‬‬
‫‪ 28‬مارس ‪ )1941‬كاتبة‬ ‫األدب الحداثي‪.‬‬ ‫ورواية الجريمة الحقيقية بدم‬
‫إنجليزية‪ ،‬تعتبر من أيقونات‬ ‫‪ -7‬باتريشيا هايسميث‬ ‫بارد (‪ ،)1966‬التي وصفها‬
‫(ولدت األدب الحديث للقرن العشرين‬ ‫‪ُ Patricia Highsmith‬‬ ‫كابوتي بأنها «رواية غير‬
‫ومن أوائل من استخدم تيار‬ ‫يف ‪ 19‬يناير‪ /‬كانون الثاني‬ ‫خيالية»‪ .‬اقتُبست أعماله يف‬
‫الوعي كطريقة للسرد‪ .‬يف‬ ‫‪ -1921‬وتُوفيت يف ‪ 4‬فبراير‬ ‫ً‬
‫وعمل‬ ‫فيلما‬
‫أكثر من ‪ً 20‬‬
‫سبعينيات القرن املاضي‪،‬‬ ‫من العام ‪ ،)1995‬هي روائية‬ ‫دراميًّا تليفزيونيًّا‪.‬‬
‫أصبحت وولف أحد أهم‬ ‫أمريكية وكاتبة قصص‬ ‫‪ -4‬ألن غينسبرغ ‪Allen‬‬
‫الركائز التي استندت إليها‬ ‫قصيرة‪ .‬اشتهرت باتريشيا‬ ‫‪Ginsberg‬‏ (‪ 3‬يونيو ‪-1926‬‬
‫حركة النقد األدبي النسوي‪،‬‬ ‫يف مجال الكتابة من خالل‬ ‫‪ 5‬إبريل ‪ )1997‬شاعر أمريكي‬
‫تخصصها يف الرعب واإلثارة وأصبحت أعمالها مشهورة‬ ‫عرف عنه معارضته الشديدة‬
‫النفسية بما يف ذلك سلسلة من عىل نطاق واسع وكثر الحديث‬ ‫للنزعة العسكرية واملادية‬
‫خمس روايات بطلها شخصية عنها كونها ألهمت الحركات‬ ‫والقمع الجنسي‪ ،‬كان قيادي‬
‫توم ريبيل‪ .‬كتبت باتريشيا ‪ 22‬النسوية‪ ،‬وهذا مجال جديد مل‬ ‫بارز يف ‪Beat Generation‬‬
‫تخضه وولف من قبل‪.‬‬ ‫رواية والعديد من القصص‬ ‫وهم مجموعة من الكتاب‬
‫‪ -10‬غريغوري كورسو‬ ‫القصيرة طوال حياتها‬ ‫واملثقفين األمريكيين الشباب‬
‫‪ 26( Gregory Corso‬مارس‬ ‫املهنية‪ ،‬كما عملت عىل كتابة‬ ‫الذين اشتهروا بالدفاع عن‬
‫‪ ،1930‬نيويورك يف الواليات‬ ‫سيناريو أكثر من عشرين‬ ‫الحريات الشخصية يف فترة‬
‫املتحدة‪ 17 -‬يناير ‪،2001‬‬ ‫فيلم‪ .‬تستمد كتاباتها نفوذها‬ ‫الخمسينات من خالل أعمالهم‬
‫‪148‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫(‪ 13‬يونيو ‪ 26 -1917‬أبريل‬ ‫الدراما األمريكية يف القرن‬ ‫روبينسدل يف الواليات‬


‫‪ )2005‬هو روائي وقاص‬ ‫العشرين‪.‬‬ ‫املتحدة)؛ كاتب‪ ،‬شاعر وروائي‬
‫باراغوائي‪ .‬خاض يف مراهقته‬ ‫‪ -13‬مارجريت يورسنار‬ ‫أمريكي‪.‬‬
‫حرب تشاكو‪ ،‬التي نشبت بين‬ ‫‪Marguerite Yourcenar‬‬ ‫‪ -11‬جان جينيه بالفرنسية‬
‫باراغواي وبوليفيا بين عامي‬ ‫ولدت يف ‪ 8‬يونيو ‪1903‬‬ ‫‪ Jean Genet‬شاعر وروائي‬
‫‪ 1932‬و‪ ،1935‬وعمل الحقًا‬ ‫ببروكسل وتوفت يف ‪17‬‬ ‫وكاتب مسرحي فرنسي‬
‫بالصحافة وكتابة السيناريو‪،‬‬ ‫ديسمبر ‪ 1987‬ببار هاربور‬ ‫شهير‪ ،‬ولد يف ‪ 19‬ديسمبر‬
‫كما عمل بالتدريس يف‬ ‫يف جمهورية مين بالواليات‬ ‫‪ 1910‬يف باريس‪ ،‬وتويف بها‬
‫الجامعة‪.‬‬ ‫املتحدة‪ ،‬وهى كاتبة فرنسية‬ ‫يف ‪ 15‬أبريل ‪ .1986‬تميز جان‬
‫‪ -16‬فيليكس روبين جارثيا‬ ‫حملت الجنسية األمريكية‬ ‫جينيه يف مؤلفاته بأسلوب‬
‫سارميينتو ‪Félix Rubén‬‬ ‫يف عام ‪ .1947‬كاتبة رواية‬ ‫مميز وغني‪ ،‬حيث واجه يف‬
‫‪ G‬ولد‬‫‪ arcía Sarmiento‬‏‬ ‫وأقصوصة وسيرة ذاتية‪.‬‬ ‫أعماله قضايا اإلنسان أمام‬
‫أيضا شاعرة‪ ،‬ومترجمة‪ ،‬يف ميتابا‪ ،‬التي تسمى اآلن‬ ‫وهى ً‬ ‫الشر واألمل والشبقية من‬
‫مدينة دارييو‪ ،‬يف ‪ 18‬من يناير‬ ‫وكاتبة مقالة‪ ،‬وناقدة أدبية‪.‬‬ ‫خالل شخصياته الخيالية‬
‫من عام ‪ ،1867‬وتويف يف‬ ‫‪ -14‬كان ويليام سيوارد‬ ‫التي تحمل تناقضات من‬
‫ليون يف نيكاراغوا يف ‪ 6‬من‬ ‫بوروز الثاني‪William‬‬ ‫خالل تصرفاتها وانفعاالته‬
‫فبراير من عام ‪ .1916‬وهو‬ ‫‪ 5( Burrough‬فبراير‬ ‫ومشاعرها داخل عوامل‬
‫شاعر نيكاراغواني‪ ،‬وهو‬ ‫‪ 2 -1914‬أغسطس ‪)1997‬‬ ‫«جحيمية» يبدع خيال الكاتب‬
‫املمثل الرئيسي للتيار األدبى‬ ‫كاتبًا أمريكيًّا وفنانًا بصر ًّيا‬ ‫يف وصفها‪ .‬كان آخر كتاب‬
‫ومؤلف ما بعد حداثة رئيسي الحديث يف اللغة اإلسبانية‪.‬‬ ‫ألفه «سجين الحب»‪ ،‬وقد نشر‬
‫ظهر تأثير روبين دارييو بقو ٍة‬ ‫وأحد الشخصيات الرئيسية‬ ‫بعد وفاته‪ .‬ترجمت بعض‬
‫يف كتابة الشعر اإلسباني يف‬ ‫التي انتمت لجيل «البيت»‪.‬‬ ‫أعماله للعربية ومنها «شعرية‬
‫ويطلق عليه‬ ‫القرن العشرين‪ُ .‬‬ ‫أثرت مؤلفات ما بعد الحداثة‬ ‫التمرد»‪ ،‬ترجمة الدكتور‬
‫أمير األدب اإلسباني أو األب‬ ‫لبوروز عىل الثقافة الشعبية‬ ‫مالك سلمان‪ .‬ويف الخامس‬
‫الروحي للشعر اإلسباني‬ ‫واألدب‪ .‬كتب بوروز ثماني‬ ‫عشر من أبريل تويف يف غرفة‬
‫عشرة رواية عادية وقصيرة‪ ،‬الحديث‪.‬‬ ‫صغيرة بفندق باريسي حيث‬
‫وست مجموعات من القصص ‪ -17‬أليخو كاربنتيير ‪Alejo‬‬ ‫كان يصحح مسودات الكتاب‪،‬‬
‫القصيرة‪ ،‬وأربع مجموعات من ‪ 26( Carpentier‬من ديسمبر‬ ‫ودفن يف بلدة العرائش‬
‫املقاالت‪ .‬عاش يف جميع أنحاء ‪ 24 -1904‬من أبريل‬ ‫املغربية‪ ،‬مقابل البحر يف البلد‬
‫‪ )1980‬هو روائي وكاتب‬ ‫مكسيكو سيتي تقريبًا ولندن‬ ‫الذي أحبه وعاشر أهله‪.‬‬
‫مقاالت ومؤلف موسيقى‬ ‫وباريس ومنطقة طنجة‬ ‫‪ -12‬توماس النير ويليامز‬
‫كوبي الجنسية‪ ،‬وقد تأثر‬ ‫الدولية باملغرب‪ ،‬تميزت‬ ‫الثالث ‪Tennessee Williams‬‏‬
‫كبيرا باألدب األمريكي‬‫تأثيرا ً‬
‫ً‬ ‫أيضا بموضوعات‬ ‫أعماله ً‬ ‫املعروف باسمه األدبي‬
‫الالتيني يف الفترة األشهر يف‬ ‫تناولت الروحانية والسحر‬ ‫تينيسي ويليامز (‪ 26‬مارس‬
‫تاريخه‪ ،‬وهي فترة «الطفرة»‪.‬‬ ‫والتنجيم؛ وهذا ما شغل‬ ‫‪ 25 -1911‬فبراير ‪،)1983‬‬
‫ُولد كاربنتيير يف لوزان‪،‬‬ ‫دائما سواء يف الخيال‬ ‫بوروز ً‬ ‫كان كاتبًا مسرحيًّا أمريكيًّا‪،‬‬
‫سويسرا‪ ،‬وترعرع يف هافانا‪،‬‬ ‫أو يف الحياة الواقعية‪.‬‬ ‫ويعد إىل جانب نظيريه يوجين‬
‫يف كوبا؛ وبالرغم من ميالده‬ ‫‪ -15‬أوغستو روا باستوس‬ ‫أونيل وأرثر ميلر ضمن أهم‬
‫يف أوروبا‪ ،‬إال أنه كان يعتز‬ ‫‪Augusto Roa Bastos‬‬ ‫ثالثة كتّاب للمسرحيات يف‬
‫‪149‬‬
‫حول العالم‬

‫أدىل بها بعد رحلته من املغرب‪.‬‬ ‫‪ 28‬أكتوبر ‪ 28 -1909‬ابريل‬ ‫كثيرا كونه كوبيًّا طوال حياته‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪ -25‬أنطونيو فونتيس‬ ‫رساما رمز ًّيا‬
‫ً‬ ‫‪ )1992‬كان‬ ‫وقد كان كثير السفر‪ ،‬خاص ًة‬
‫‪ Antonio Fuentes‬طنجة‬ ‫بريطانيًّا من األصل األيرلندي‬ ‫إىل فرنسا وجنوب أمريكا‬
‫(‪ )1995 -1905‬رسام‪.‬‬ ‫املولد‪ .‬كان معروفًا ملواقفه‬ ‫واملكسيك‪ ،‬حيث قابل أبرز‬
‫‪ -26‬چوسيپ تاپيرو بارو‬ ‫الجريئة االنفعالية والصور‬ ‫أعضاء مجتمع الثقافة والفن‬
‫‪ Josep Tapiró‬رسام‬ ‫الخام‪ .‬كان صاحب األرقام‬ ‫األمريكي الالتيني‪.‬‬
‫إسباني‪ ،‬من مواليد يوم ‪7‬‬ ‫املستخرجة يف الرسم‪ ،‬وعادة‬ ‫‪ -18‬برايان جونز ‪Brian‬‬
‫فبراير ‪ 1836‬ىف ريوس‪ ,‬مات‬ ‫ما تكون معزولة يف الزجاج‬ ‫‪ )1969 –1942( Jones‬هو‬
‫ىف ‪ 4‬اكتوبر طنجة ‪.1913‬‬ ‫أو الفوالذ املقاوم واألقفاص‬ ‫عازف قيثارة‪ ،‬وموسيقي‪،‬‬
‫‪ -27‬فرانسيسكو إيتورينو‬ ‫الهندسية والخلفيات‪.‬‬ ‫وكاتب أغاني‪ ،‬وملحن‪ ،‬وقائد‬
‫غونزاليس ‪Francisco‬‬ ‫‪ -22‬هنري ماتيس ‪Henri‬‬ ‫فرقة‪ ،‬وعازف عىل عدة آالت‪،‬‬
‫‪( Iturrino‬سانتاندير‪9 ،‬‬ ‫‪ Matisse‬عاش ما بين‬ ‫من اململكة املتحدة‪ ،‬ولد يف‬
‫سبتمبر ‪Cagnes- -1864‬‬ ‫رسام‬ ‫(‪ )1954 -1869‬هو ّ‬ ‫عضوا يف‬
‫ً‬ ‫شلتنهام‪ ،‬وكان‬
‫فرنسي‪ .‬من كبار أساتذة‬ ‫الرولينج ستون‪ ،‬تويف عن عمر‬
‫‪ ،sur-Mer‬فرنسا‪ 20 ،‬يونيو‬
‫املدرسة الوحشية ‪،fauvisme‬‬ ‫عاما‪ ،‬بسبب غرق‪.‬‬ ‫يناهز ‪ً 27‬‬
‫رساما إسبانيًّا‬
‫ً‬ ‫‪ )1924‬كان‬
‫تفوق يف أعماله عىل أقرانه‪،‬‬ ‫‪ -19‬كيث ريتشاردز ‪Keith‬‬
‫مشهورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫استعمل تدريجات واسعة من‬ ‫‪ R‬مواليد ‪ 18‬ديسمبر‬ ‫‪ ichards‬‏‬
‫‪ -28‬أوزي هيرنانديز مونيوز‬
‫األلوان املنتظمة‪ ،‬يف رسوماته‬ ‫‪ 1943‬يف كنت‪ ،‬إنجلترا‪ ،‬هو‬
‫‪José Hernández Muñoz‬‬
‫اإلهليجية (كانت ُت ْعنى بالشكل‬ ‫مغني وممثل وكاتب غنائي‬
‫(طنجة‪ 5 ،‬يناير ‪-1944‬‬ ‫العام للمواضيع‪ ،‬مهملة‬ ‫وموسيقي ومغن مؤلف‬
‫ملقة‪ 20 ،‬نوفمبر ‪،)2013‬‬ ‫التفاصيل الدقيقة)‪ ،‬يعتبر من‬ ‫ومنتج أسطوانات إنجليزي‪،‬‬
‫رساما وفنانًا تشكيليًّا‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫أبرز الفنانين التشكيليين يف‬ ‫بدأ مسيرته الفنية عام ‪.1960‬‬
‫وعضوا يف األكاديمية‬
‫ً‬ ‫إسبانيًّا‪،‬‬ ‫القرن العشرين‪.‬‬ ‫كما أنه من الفائزين بجوائز‬
‫امللكية للفنون الجميلة يف سان‬ ‫‪ -23‬ثيو فان ريسيلبيرغ ‪Van‬‬ ‫إيفور نوفيلو‪ .‬تزوج وأنجب‬
‫فرناندو منذ عام ‪.1989‬‬ ‫‪ 23( Rysselberghe‬تشرين‬ ‫كيم‪ ،‬اعتزل يف بداية القرن‬
‫‪ -29‬چوانيتو ڤالديراما‬ ‫الثاني ‪ 14 -1862‬كانون‬ ‫العشرين‪ ،‬أنشأ فرقة موسيقية‬
‫‪Juanito Valderrama‬‬ ‫األول ‪ ،)1929‬رسام بلجيكي‬ ‫تتألف من أربعة أفراد وأكمل‬
‫(خايين ‪ -1916‬إشبيلية‬ ‫من املدرسة الفنية النقطية‪،‬‬ ‫معهم مسيرته املهنية‪.‬‬
‫‪ ،)2004‬ممثل ومغنى من‬ ‫دورا محور ًّيا يف‬
‫وقد لعب ً‬ ‫‪ -20‬أوجين ديالكروا‬
‫إسبانيا‪.‬‬ ‫املشهد الفني األوروبي يف‬ ‫‪( Eugène Delacroix‬ولد‬
‫مطلع القرن العشرين‪.‬‬ ‫‪ 26‬أبريل ‪ -1798‬وتويف يف‬
‫المرجع‪:‬‬ ‫‪ -24‬ماريا نو فورتوني‬ ‫‪ 13‬أغسطس ‪ ،)1863‬رسام‬
‫‪Mariano Fortuny‬‏ (‪-1838‬‬ ‫فرنسي من رواد املدرسة‬
‫‪https://www.vozpopuli.com/‬‬
‫‪ ،)1874‬هو رسام كاتلوني‪،‬‬ ‫الرومانسية الفرنسية‪ .‬له‬
‫‪altavoz/cultura/mohamed-‬‬
‫‪chukri-lando-oculto-tanger.‬‬
‫يعرف باإلسم االيطايل ماريانو‬ ‫العديد من اللوحات الفنية‬
‫‪html?fbclid=IwAR1eFpDqfu-‬‬ ‫فورتوني‪ .‬لوحاته عرفت‬ ‫املحفوظة يف متحف اللوفر‬
‫‪-wwywjTo1Il3tyoV8Ga7wEe‬‬ ‫كبيرا‪ .‬صنف ماريانو‬ ‫نجاحا ً‬
‫ً‬ ‫وغيره‪.‬‬
‫‪mGRXIK0UssGUPMRGtkUX‬‬ ‫فورتوني ضمن الرسامين‬ ‫‪ -21‬فرانسيس بيكون‬
‫‪wl5ng‬‬ ‫املستشرقين عبر لوحاته التي‬ ‫‪Francis Bacon‬‏ (مولود‬
‫‪150‬‬
‫رايسا ماريتان‬

‫عن الشعر‬
‫كتجربة روحية‬

‫ترجمة ‪:‬‬

‫عبد الرحيم نور الدين‬


‫(المغرب)‬

‫التقديم‬
‫ولدت الكاتبة والفيلسوفة‬
‫والشاعرة الصوفية رايسا‬
‫اعتنقا الكاثوليكية سنة‬ ‫‪ )1973 -1882( tain‬الذي‬ ‫ماريتا ن �‪Raïssa Ma‬‬
‫‪.1906‬‬ ‫نشأ يف عائلة بورجوازية‬ ‫‪،)1960 -1883( ritain‬‬
‫تميزت حياة الزوجين‬ ‫بروتستانتية فرنسية‪ ،‬والذي‬ ‫واسمها العائيل قبل الزواج‬
‫ماريتان بالثراء الفكري‬ ‫سترتبط به ‪-‬إىل أن وافتها‬ ‫أومانسوف‪ ،‬يف عائلة يهودية‬
‫وباإلسهام املتفرد يف االنتاج‬ ‫املنية‪ -‬سنة ‪ .1960‬عاش‬ ‫روسية هاجرت إىل باريس‬
‫الثقايف الفرنسي لفترة ما‬ ‫الزوج أزمة روحية كادت‬ ‫(فرنسا) سنة ‪ 1893‬هر ًبا‬
‫قبل الحرب العاملية الثانية؛‬ ‫أن تودي بهما إىل املوت‬ ‫من الالسامية وبحثًا عن‬
‫وكان البيت العائيل عبارة‬ ‫انتحارا‪ ،‬مما اضطرهما إىل‬
‫ً‬ ‫االستقرار ومن أجل ضمان‬
‫عن صالون أدبي يرتاده جل‬ ‫األخذ بنصيحة شارل بيغي‬ ‫مستقبل جيد لبنتيها‪ .‬هناك‪،‬‬
‫مثقفي العاصمة الفرنسية‪ .‬يف‬ ‫وحضور دروس هنري‬ ‫وبعد التحاقها بجامعة‬
‫كتابها «الصداقات الكبيرة»‪،‬‬ ‫برغسون يف كوليج دو‬ ‫السوربون إلتمام دراستها‪،‬‬
‫تحكي رايسا عن ذلك‬ ‫فرانس‪ .‬وبعد التعرف إىل‬ ‫التقت رايسا بالشاب جاك‬
‫الفوران الثقايف وعن بحثها‬ ‫ليون بلوا وتحت تأثيره‪،‬‬ ‫ماريتا ن �‪jacque mari‬‬
‫‪151‬‬
‫حول العالم‬

‫الدائم عن الحقيقة‪ .‬ومن‬


‫بين كتبها األخرى‪ ،‬تجدر‬
‫اإلشارة إىل «مارك شاغال»‬
‫(‪ ،)1943‬و»ليون بلوا»‬
‫(‪ ،)1947‬و»أمير هذا العامل»‬
‫(‪ ،)1925‬و»الحياة محكية»‬
‫(‪ ،)1935‬و»رسالة ليل»‬
‫(‪ ،)1939‬و»مالك املدرسة أو‬
‫حكي القديس أوغسطين إىل‬
‫األطفال» (‪ ،)1957‬و»يوميات‬
‫رايسه» (‪.)1962‬‬

‫النص المترجم‬
‫كل من يرغب يف معرفة‬
‫أعماق الفكر‪ ،‬أو إذا أردنا‪،‬‬
‫جاك ماريتان‬ ‫تشارلس بودلير‬ ‫بول إيلوار‬
‫معرفة روحانية الكائن‪ ،‬يبدأ‬
‫أخرى)‪.‬‬ ‫يتم بواسطة خشوع جميع‬ ‫بالدخول إىل ذاته‪ .‬وسيلتقي‬
‫وهكذا يبدو الشعر يل كثمرة‬ ‫الحواس‪ ،‬مهما كان هار ًبا؛‬ ‫أيضا يف داخلية‬
‫الشعر ً‬
‫اتصال للفكر بالواقع املتعذر‬ ‫إنه الشرط األول للتصور‬ ‫الحياة‪ ،‬والتفكير‪ ،‬والوعي‪،‬‬
‫الوصف يف ذاته‪ ،‬وبينبوعه‪،‬‬ ‫الشعري؛ يتعلق األمر‬ ‫مقدرا له أن يلتقيه‪.‬‬
‫ً‬ ‫إذا كان‬
‫الذي هو يف الحقيقة اإلله‬ ‫هنا بخشوع منفعل مثل‬ ‫والسيما إذا كان من الشعراء‬
‫عينه‪ ،‬يف حركة محبة تقوده‬ ‫الطمأنينة التي يتحدث عنها‬ ‫الذين ينبلج فيهم اإلبداع‬
‫صور لجماله‪ .‬أمل‬
‫إىل خلق َ‬ ‫املتصوفة‪ ،‬وليس بتركيز‬ ‫الشعري ‪-‬االنفعال‪ ،‬الحدس‬
‫يقل بوكاشيو إن «الشعر‬ ‫إرادي ونشيط (املطلوب‬ ‫املُ َك َّون‪ -‬وليس من ضجة‬
‫الهوت»؟ إنه عىل أية حال‬ ‫أيضا‪ ،‬ولكن يف لحظات‬
‫ً‬ ‫الخيال املتواصلة‪ ،‬ولكن‬
‫مبحث وجود‪ ،‬ألنه يستمد‬ ‫من الخشوع يف الصمت‬
‫ً‬
‫اصيل‪ ،‬من‬ ‫منشأه‪ ،‬إذا كان‬ ‫األكثر تجري ًدا من األشكال‬
‫الينابيع امللغزة للوجود‪ .‬هنا‬ ‫والعبارات‪ ،‬حينما يبلغ‬
‫تنعقد املعرفة الشعرية حيث‬ ‫الصمت درجة عليا من العمق‬
‫يقترن الشاعر بتفرد األشياء‪.‬‬ ‫والصفاء‪.‬‬
‫انغمر الشاعر يف نهر الفكر‬ ‫يوجد ينبوع الشعر‪ ،‬بحسب‬
‫املوجود تحت نشاطنا‬ ‫رأيي‪ ،‬مثل ينبوع كل حدس‬
‫االعتيادي بأكمله‪ ،‬لقد أحس‬ ‫خالق‪ ،‬يف تجربة معينة يمكن‬
‫باالتصال بهذا الواقع الغريب‬ ‫تسميتها «معرفة» غامضة‬
‫عن الص َيغ‪ ،‬يف هذا الخشوع‬ ‫وعذبة‪ ،‬بعذوبة مكتملة‬
‫النادر والخصب‪ ،‬والذي‬ ‫الروحية‪ ،‬ألن كل شيء يف‬
‫ينبغي استحقاقه بكيفية ما‪،‬‬ ‫هذه األعماق روح وحياة‪.‬‬
‫والذي يخرج منه منعشً ا يف‬ ‫ويعرف الشاعر أن ولوجها‬
‫‪152‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫ملكاته‪ ،‬ومغتنيًا باملواهب‪.‬‬


‫ال يختلط هذا الغطس يف‬
‫األعماق الروحية مع التوكل‬
‫البسيط عىل آلية الخيال‬
‫التي ال تهبط سوى إىل‬
‫الطبقة الفرويدية للذاكرة‬
‫الفيزيولوجية‪ ،‬والتي هي يف‬
‫ذاتها مصدر لفظي ٍة خالصة‪.‬‬
‫نعثر فيها عىل صور‪ ،‬ولكن‬
‫ال نعثر أب ًدا عىل اكتشاف‬
‫حقيقي‪ .‬يمكننا قول ذلك‬
‫اآلن‪ ،‬مل يكن الشعر ولن‬
‫يكون أبدا ُم َج َّد ًدا باآللية‪،‬‬
‫وبمؤازرة الكلمات فقط‪.‬‬
‫مثل هو شاعر كبير‬ ‫إ ِ ْل َوار ً‬
‫بالرغم من بعض الوصفات‬
‫والنظريات مسبقة التصور‪،‬‬
‫وليس بسببها‪.‬‬
‫إن الشاعر الذي يكتفي‬
‫بنهج فن الشفاء الفرويدي‪،‬‬
‫وبالخشوع املزعوم الذي‬
‫ٍ‬
‫محض‬ ‫ليس سوى تخ ًّل‬
‫وبسيط عن الذات‪ ،‬ال يجري‬
‫اتصال سوى مع «الجاهز‬ ‫ً‬
‫تماما»‪ ،‬وال يلج‪ ،‬بالتعريف‪،‬‬ ‫ً‬
‫إال منطقة الذكريات املقيدة‬
‫يف الالشعور ك ُع َقد أفاعي‬
‫وكصدمات نفسية‪ .‬أن‬
‫من يحبونه‪.‬‬ ‫إن الخشوع الحقيقي‬
‫يقوم عامل النفس والطبيب‬
‫اإلله‪ .‬الشعر‪ .‬نشاط داخيل‬ ‫والخصب هو الهبة األوىل‬
‫النفساني باكتشافات‪ ،‬فنحن‬
‫مستقيم وخالص مطلقًا‪،‬‬ ‫التي تُمنح للشاعر‪ ،‬وهو‬
‫ال نرى أهمية ذلك بالنسبة‬
‫يذهب إىل هذا وذاك‪ ،‬يذهب‪،‬‬ ‫أيضا استعداد طبيعي لديه‬ ‫ً‬ ‫ُوضح اآللية إىل‬ ‫للشعر‪ .‬أن ت ِّ‬
‫أحيانًا‪ ،‬من هذا إىل ذاك‪ .‬يظهر‬ ‫يجب تنميته‪ .‬يرغب الشاعر‬ ‫حد معين الخيال اللفظي‪،‬‬
‫الخشوع الرباني بوضوح‬ ‫يف هذا الدخول إىل الذات‪،‬‬ ‫فذلك ال يكفي لتبرير النهج‬
‫يف مزامير‪ -‬وتَكتشف‬ ‫ويسعى إىل املواظبة عليه‪.‬‬ ‫الذي تترتب عنه إضافة‬
‫طمأنين ُة الشاع ِر اإلل َه يف‬ ‫وكما أن اإلله يجذب نحوه‬ ‫إىل ذلك عواقب ضارة‪ ،‬ألن‬
‫بعض األحيان‪ .‬ولكن يف‬ ‫من يتطلعون إليه‪ ،‬فإن الشعر‬ ‫اآللية تفك ما قاده التركيز‬
‫غالب األحيان يقيم الشعراء‬ ‫كذلك ينتظر أولئك الذين‬ ‫والخشوع إىل وحدة الحياة‪،‬‬
‫تعارضا بين‬
‫ً‬ ‫والفنانون‬ ‫يبحثون عنه‪ ،‬ويتقدم للقاء‬ ‫وإىل خلق شكل جديد‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫حول العالم‬

‫بذلك يشبهون القديسين‪.‬‬ ‫من الحياة‪ .‬بحكم مسبق‪،‬‬ ‫هذا وذاك‪ ،‬إن مل يكن بين‬
‫ومن الضروري إذن أن ُي َحل‬ ‫أو باستحالة واقعية‪ ،‬ال‬ ‫اإلله والشعر‪ ،‬فعىل األقل‬
‫التناقض الظاهري‪ .‬فحيث‬ ‫يعرف الفنانون والشعراء‪،‬‬ ‫بين متطلبات هذا وذاك‪.‬‬
‫تتواجه الحقيقة والحرية‬ ‫أو ال يودون معرفة سوى‬ ‫إنهم يتعرفون‪ ،‬بشكل‬
‫كعدوتين لبعضهما البعض‪،‬‬ ‫ما يفعلونه‪ ،‬أو باألحرى‬ ‫عام‪ ،‬إىل الينبوع اإللهي‬
‫يتعاىل نداء عىل اإلحسان‬ ‫ما ُيفعل فيهم‪ :‬انفعالهم‪،‬‬ ‫ملواهبهم‪ .‬ويقول الشعراء‬
‫تسمعه القداسة‪ .‬يوجد ِثقل‬ ‫تصور املنجزة فيهم‪ ،‬عملهم‪،‬‬ ‫واملوسيقيون‪« :‬فيك كل‬
‫محبة وقداسة يف مكان ما‪،‬‬ ‫تعبيرهم‪ .‬لو كان بوسعهم‬ ‫الينابيع(‪ .»)1‬لكنهم ينظرون‬
‫يضيف إىل الخير الزمني‬ ‫بفعل التواضع قبول واقعية‬ ‫إىل متطلبات شريعة اإلله‬
‫خيرا ذا قيمة أبدية‪ ،‬ينقذ‬
‫ً‬ ‫العامل املوضوعي للكائنات‬ ‫كمعيق لحريتهم اإلبداعية‪،‬‬
‫جمال هذا العامل الذي يمر‪،‬‬ ‫والقوانين التي وضعها خالق‬ ‫وإىل طاعة هذه الشريعة‬
‫ويعيد شراء الجمال الذي‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫الشعراء يف الوجود ً‬ ‫كعملية بتر‪ .‬إنهم ال يعرفون‬
‫خلقه الشعراء‪ ،‬وينتزعه ممن‬ ‫لكان من املمكن أن تُكشف‬ ‫أن هذه الشريعة روحية؛‬
‫يستغل حقوقه عىل كل جمال‬ ‫لهم من دون شك‪ ،‬حقول‬ ‫وبالتايل هي ُمح ِّررة من‬
‫مخلوق‪ ،‬ألنه أمير هذا العامل‪.‬‬ ‫جديدة وعديدة من الجمال‪.‬‬ ‫حريتنا الشخصية‪« .‬إن‬
‫يف الحقيقة‪ ،‬ما من شيء‬ ‫سيصبحون حينئذ ‪-‬البعض‬ ‫الذين يؤمنون باملسيح‪ ،‬هم‬
‫جميل ُيخلق من دون محبة‪.‬‬ ‫منهم‪ ،‬األعظم‪ -‬ملهمين‬ ‫خاضعون لشريعة اإلله‬
‫َيخلق الفنان خلقًا يستر ُّده‬ ‫حقيقيين‪ ،‬أنبياء هذا العامل‪،‬‬ ‫كمثل خضوعهم لنور يف‬
‫املقدس من الشيطان‪ ،‬الذي‬ ‫وستزيد التجربة الروحية‬ ‫طريق الحرية(‪« .»)2‬فإننا‬
‫غالبًا ما كان قد ساهم يف‬ ‫للحقيقة اإللهية‪ ،‬وس ُتنَا ِغم‬ ‫نعلم أن الناموس روحي‪،‬‬
‫خلقه بمنحه للشاعر تجربة‬ ‫وستُنير فيهم التجربة‬ ‫يقول القديس بولس‪ ،‬وأما‬
‫عن العامل‪ ،‬وعن «األباطيل»‪،‬‬ ‫الروحية للحالة الشعرية‪.‬‬ ‫أنا فجسدي مبيع تحت‬
‫وعن املالذ‪ .‬ولكن ال وجود‬ ‫يرى الفنان ‪-‬يف حالته‬ ‫الخطية(‪ .»)3‬كان بودلير‬
‫لخير‪ ،‬ولجمال‪ ،‬ولكينونة‪،‬‬ ‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫الخامة‪ -‬نفسه أقل‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫يعرف ذلك (ورامبو ً‬
‫ما مل ُترِد وتستطع العناية‬ ‫مما يرى ملحد يف حالته‬ ‫من دون شك)‪ ،‬ولقد قبل‬
‫إنقاذه‪ ،‬إذا ما اصطففنا عىل‬ ‫الخامة نفسه‪ .‬ومع ذلك‬ ‫تماما جميع التمزقات التي‬ ‫ً‬
‫األقل يف طابور املذنبين‪،‬‬ ‫فإنه من الضروري أن‬ ‫تحضرها معرفة من هذا‬
‫وإذا ما اعترفنا عىل األقل‬ ‫يمنح اإلله مكانًا‪ ،‬يف الحياة‬ ‫القبيل معها‪ ،‬والتواضع الذي‬
‫بمسؤوليتنا عن دم املسيح‬ ‫األخروية الخالدة‪ ،‬للمتصفين‬ ‫تأمر به‪.‬‬
‫وعن شهيد األولياء‬ ‫منهم بحسن النية‪ ،‬والذين‬ ‫كان بودلير يقبل بعامل‬
‫تناقضا‬
‫ً‬ ‫يعتقدون أن هناك‬ ‫الحقيقة املوضوعية‪ ،‬التي مل‬
‫هوامش‪:‬‬ ‫ال يمكن التغلب عليه بين‬ ‫تكن تشكل فضيحة بالنسبة‬
‫متطلبات الفن ومتطلبات‬ ‫نادرا لدى‬‫ً‬ ‫له‪ .‬أمسى ذلك‬
‫* نيويورك‪ 21 ،‬نوفمبر ‪.1941‬‬ ‫اإلله‪ .‬من الواجب أن يحصل‬ ‫فناني عصرنا؛ فسماء العامل‬
‫* نشر يف مجلة فونتين‪،‬‬
‫مارس‪ -‬أبريل ‪.1942‬‬ ‫الجمال‪ ،‬الذين ال‬
‫عمال َ‬ ‫امليتافيزيقي النضرة‪ ،‬يف‬
‫‪ -1‬مزمور ‪( 7 ،87‬اإلنجيل)‪.‬‬ ‫يظنون استبعاد اإلله برفض‬ ‫نظرهم‪ ،‬شبيهة بصحراء‬
‫‪ -2‬جاك ماريتان‪« ،‬فكر القديس‬ ‫شريعته‪ ،‬عىل أجرهم‪،‬‬ ‫كئيبة‪ .‬بالنسبة لهم‪ ،‬يشبه‬
‫بولس»‪.‬‬
‫‪ -3‬رسالة بولس الرسول إىل‬ ‫عىل األقل أولئك الذين ال‬ ‫التعاطي مع موضوع دائم‬
‫أهل رومية ‪( 14 ،7‬اإلنجيل)‪.‬‬ ‫يحصلون عليه يف الدنيا‪ ،‬وهم‬ ‫من حيث ماهيته‪ ،‬الخروج‬
‫‪154‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫آنيل لوبيز ‪*Annell Loopez‬‬

‫سأعطيك سب ًبا للبكاء**‬

‫ترجمة ‪:‬‬

‫أحمد ضحية‬
‫(السودان)‬

‫تمتنع من البكاء كل يوم‪.‬‬ ‫بمقاسين صغيرين ج ًّدا‪،‬‬ ‫قابلت ماريا عندما كانت‬
‫أكثر األشياء تفاهة‪ ..‬تلك‬ ‫فكانت ثيابي تضغط عىل‬ ‫يف الصف الخامس‪ ..‬تلك‬
‫األشياء التي ال تهم أ ًّيا منا‪،‬‬ ‫لفائف الدهون املتس ِّربة‪ ،‬عىل‬ ‫الفتاة النحيلة‪ ،‬التي تحزم‬
‫تجعلها تبكي! كما لو كانت‬ ‫بنطال الجينز الضيق‪.‬‬ ‫دائما‪ ،‬سندوتشات‬ ‫لها أمها ً‬
‫روحها ضعيفة ونحيلة مثل‬ ‫يف ذلك العام؛ كنت جائعة‬ ‫«السالمي» لغدائها‪.‬‬
‫جسدها!‬ ‫طوال الوقت‪ .‬ال بد أن هذا‬ ‫عندما تخطر ماريا عىل بايل‬
‫يف البداية‪ ،‬كانت تحاول‬ ‫هو السبب‪ ،‬يف أنه كان من‬ ‫اليوم‪ ،‬ال أفكر سوى يف‬
‫إخفاء بكائها‪ ،‬بوضع وجهها‬ ‫السهل عيلَّ أن أالحظ عظام‬ ‫شرائح السالمي‪ ،‬املحشوة‬
‫الالمع أسفل درجها‪ .‬وكنت‬ ‫ماريا الحادة‪ ،‬وهي تبرز من‬ ‫داخل لفافة القيصر املتينة‪..‬‬
‫أنا والتلميذات الجالسات‬ ‫خالل القميص األبيض؛ ذي‬ ‫مجرد تجشؤ السالمي؛ بدون‬
‫بالقرب منها‪ ،‬ندفع أدراجنا‬ ‫األكمام القصي ّرة‪ ،‬وحزام‬ ‫خس أو طماطم أو ُجبن!‬
‫قربها ونسألها‪:‬‬ ‫الخصر الجلدي األسود‬ ‫كان هذا؛ عندما كانت أمي‬
‫«ماريا‪ ،‬ما الخطب؟ ملاذا‬ ‫السميك‪ ،‬الذي يشد سروالها‪.‬‬ ‫تضرب بطني‪ ،‬لتذكرني‬
‫تبكين؟»‪.‬‬ ‫ويجعلها تبدو صغيرة عىل‬ ‫بامتصاصها!‬
‫فكانت تهمهم شيئًا ما‪ ،‬كأن‬ ‫أكثر من نحو‪.‬‬ ‫عندما أعود بذاكرتي اىل‬
‫مل تستطع العثور عىل املبراة‪.‬‬ ‫مل يكن هناك أحد يتح ّرش‬ ‫الخلف‪ ،‬أتذكر عندما كانت‬
‫«أعتقد أنها مجرد مبراة»‪،‬‬ ‫بـ»ماريا»‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مل‬ ‫أمي تشتري يل ثيابي‪،‬‬
‫‪155‬‬
‫حول العالم‬

‫الرقيق عليها كذيل حصان!‬ ‫َّ‬ ‫ملعب كرة السلة‪ ،‬فأرسلني‬ ‫لكنني مل أقل ذلك بصوت‬
‫ثم فكرت يف عودة لونا‬ ‫السيد ساندفورد إىل‬ ‫بدل من ذلك‪ ،‬كنت‬ ‫عا ٍل‪ً .‬‬
‫صديقتي املفضلة‪ ،‬وعائلتها‬ ‫املمرضة إلسعايف‪.‬‬ ‫أسألها‪:‬‬
‫إىل البرازيل؛ ألنهم مل يكن‬ ‫بعد ذلك اليوم‪ ،‬مل أكن مطالبة‬ ‫«ما هو شكلها؟»‪.‬‬
‫لديهم حق اإلقامة‪ ..‬لقد‬ ‫باملشاركة يف أي نشاط مل‬ ‫ثم أتج َّول يف أرجاء الفصل‪،‬‬
‫غادروا دون أن يقولوا ودا ًعا!‬ ‫أرغب فيه‪ .‬ربما ألن ماريا‬ ‫متظاهر ًة بالبحث عن املبراة‬
‫ضغطت بعد ذلك عىل مشغل‬ ‫أخذت تبكي طوال الوقت‪،‬‬ ‫الضائعة‪ .‬لكن األمر مل يكن‬
‫األقراص املضغوطة الخاص‬ ‫ومل يرغب السيد ساندفورد‬ ‫دائما متعلقًا بمبراة‪..‬‬
‫ً‬
‫بي‪ ،‬بحثًا عن أغنية (املتطفل)‬ ‫يف التعامل مع أي دراما!‬ ‫بعض األسباب غير املعروفة‬
‫ألالنيس موريسيت‪ .‬وفقط‬ ‫أيضا بالجلوس‬ ‫فسمح ملاريا ً‬ ‫ُ‬ ‫لنا جمي ًعا‪ ،‬هي ما تجعل‬
‫للحظة وجيزة‪ ،‬شعرت برغبة‬ ‫عىل املدرجات‪.‬‬ ‫ماريا تتراجع‪ ،‬إىل ذلك‬
‫جارفة يف البكاء‪ ،‬تحتبس‬ ‫يف معظم األيام كنا نجلس يف‬ ‫املكان القصي يف عقلها‪،‬‬
‫يف صدري‪ ،‬وتشق طريقها‬ ‫صمت‪ ،‬ونشاهد بقية الفصل‬ ‫حيث تنبع الدموع الغزيرة‬
‫إىل حلقي‪ .‬قبل أن أتمكن من‬ ‫يلعبون الهوكي‪ ،‬أو الكرة‬ ‫وتتدفق بح ِّرية‪ .‬كان الجميع‬
‫السيطرة عليها لفترة كافية‬ ‫نادرا ما‬
‫ً‬ ‫الطائرة باملكنسة‪.‬‬ ‫يجتمعون حولها‪ ،‬مثل سانتا‬
‫تحول دون أن تنطلق! ثم‬ ‫الرغم من أنني‬ ‫تحدثنا‪ .‬عىل ُّ‬ ‫ماريا مادري دي ديوس!‬
‫تخيلت والدتي تقف أمامي‪،‬‬ ‫يف ذلك األسبوع‪ ،‬كنت أجدها‬ ‫إذا مل تبكي ماريا بحلول‬
‫جميلة‪ ،‬رشيقة وقوية‪،‬‬ ‫تح ِّدق يف وجهي‪ ،‬وكأنها‬ ‫وقت الغداء‪ ،‬كنت أنتظر‬
‫وسمعت صوتها فوق رأسي‪:‬‬ ‫تبحث عن شيء ما‪.‬‬ ‫بفارغ الصبر أن تبدأ‪ .‬كانت‬
‫«ما الذي يبكيك؟»‪ ..‬سأعطيك‬ ‫عندما عدت إىل املنزل‪ ،‬أردت‬ ‫دموعها هي املسدس املضيء‪،‬‬
‫سببًا!‬ ‫أن أخبر الجميع عن ماريا‪،‬‬ ‫الذي يجعل كل شيء آخر‬
‫وكيف كانت تبكي كل يوم‬ ‫باهتًا‪ .‬فعندما مر أسبوعان‬
‫***‬ ‫بسبب أو بدون سبب عىل‬ ‫دون أن تبكي ماريا‪ ،‬شعر‬
‫اإلطالق‪ ،‬أو ألسبابٍ تافهة‪.‬‬ ‫أفراد عاملنا الطفويل بعدم‬
‫يف اليوم التايل سألتني‬ ‫لكن والداي كانا يصرخان‪،‬‬ ‫االرتياح!‬
‫ماريا عما إذا كنت أرغب يف‬ ‫وهما يتابعان بشغف‬ ‫مرة‪ ،‬أخذت نفس املبراة‬ ‫ذات َّ‬
‫الحضور‪ ،‬كنت أعلم أنني‬ ‫مجريات مباراة‪ ،‬ومل تكن‬ ‫من درجها‪ ،‬ولففتها بورقة‬
‫يجب أن أذهب إليها‪ ،‬إذ كان‬ ‫أختي موجودة‪ .‬لذلك جلست‬ ‫فضفاضة‪ ،‬ثم رميتها يف سلة‬
‫يقتلني الفضول‪ ،‬ملعرفة ما‬ ‫عىل سريري‪ ،‬وتساءلت‬ ‫املهمالت‪ .‬وعندما اكتشفت‬
‫الذي تريد أن تقوله يل‪.‬‬ ‫من أين تأتي دموع ماريا‪،‬‬ ‫ماريا فقدانها أخذت تبكي‪،‬‬
‫كانت ماريا تعيش يف الطابق‬ ‫وكيف تلوح يف األفق‪ ،‬وهي‬ ‫فأخذت أتساءل‪« :‬ما الذي‬
‫األعىل‪ ..‬فوق متجر الحيوانات‬ ‫تتدفق عىل وجهها الصغير‬ ‫كان سيحدث‪ ،‬إذا أخذت شيئًا‬
‫األليفة املحيل يف قلب (ايرون‬ ‫بال نهاية‪ .‬أردت أن أعرف‬ ‫أكثر أهمية‪ ،‬كدفتر الدروس‪،‬‬
‫بوند‪ ،‬نواك)‪ ،‬عىل طول قطاع‬ ‫إحساسها‪ ،‬هل كانت تشعر‬ ‫أو مقلمة قلم الرصاص‪،‬‬
‫تجاري مزدحم‪ ،‬يضم مطاعم‬ ‫بأنها أخف وزنًا؟‬ ‫أوشطيرة السالمي‪ .‬كم كانت‬
‫املأكوالت البحرية واملخابز‬ ‫فكرت يف كل األشياء املحزنة‬ ‫ستبكي إذن؟»‪.‬‬
‫البرتغالية‪.‬‬ ‫التي أعرفها‪ ،‬مثل وفاة جدتي‬ ‫يف وقت سابق من ذلك العام‪،‬‬
‫كان املكان يحتوي عىل‬ ‫عىل سرير املوت‪ :‬بشرتها‬ ‫كنت أنزف من خالل شورت‬
‫مظلة زرقاء؛ والفتة خشبية‬ ‫املصفرة التي ينزلق شعرها‬ ‫َّ‬ ‫رياضي أثناء الجري‪ ،‬حول‬
‫‪156‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫«سأفرجها عىل املكان»‪.‬‬ ‫مزينة بالجراء املرسومة‬


‫«هل تريدين مساعدتي يف‬ ‫يدو ًّيا والقطط والثعابين‬
‫إطعام الثعابين؟»‪.‬‬ ‫والببغاوات‪ ،‬مثل الرسوم‬
‫سألتني املرأة؛ فأومأت‬ ‫التوضيحية يف كتاب التلوين‪.‬‬
‫برأسي وتركتها تسحبني‬ ‫لسنوات‪ ،‬كنت أسير بجوار‬
‫عىل طول القاعة‪ .‬إىل جانب‬ ‫هذا املتجر‪ ،‬وأتوقف عند‬
‫فيلم أناكوندا‪ ..‬الثعبان‬ ‫النافذة الزجاجية؛ أللقي‬
‫الوحيد الذي رأيته عىل‬ ‫نظرة عىل الحيوان؛ الذي‬
‫اإلطالق‪ ،‬هو ثعبان الحديقة‬ ‫سيعرضونه يف ذلك‬
‫الذي شاهدته‪ ،‬عندما طاردته‬ ‫األسبوع‪ ،‬دون معرفة‬
‫جدتي باملكنسة‪ .‬كان ذلك يف‬ ‫األشخاص؛ الذين يعيشون‬
‫منزلها يف الرومانا قبل عام‪،‬‬ ‫يف األعىل‪.‬‬
‫قبل أن تمرض لدرجة أنها مل‬ ‫كان متجر الحيوانات األليفة‬
‫تعد قادرة عىل الكنس‪.‬‬ ‫مضا ًء بشكل ساطع ورائحته‬
‫يف الغرفة الخلفية‪ ،‬استدارت‬ ‫مثل كيس طعام‪ .‬كانت‬
‫ماريا‪ ،‬وأفلتت يدي وهي‬ ‫هناك أقفاص مكدسة مقابل‬
‫تحدق بي‪ ..‬باغتتني‪:‬‬ ‫كل جدار‪ .‬وكانت األرانب‬
‫«ملاذا تأخذين أشيائي؟»‪.‬‬ ‫والكالب والقطط تحدق يف‬
‫تحت أضواء الفلورسنت‪،‬‬ ‫اتجاهي بقلق وحزن!‬
‫بدت عيناها بنية غامقة‪..‬‬ ‫قالت ماريا‪:‬‬
‫داكنة للغاية‪ ..‬أجبتها‪:‬‬ ‫«تعال من هذا الطريق»‪.‬‬
‫«أعلم أنها لك»‪.‬‬ ‫كانت ترتدي وزرة الدنيم‬
‫سؤالها جعلني أتوقف‬ ‫الفضفاضة‪ ،‬فخطر ببايل‬
‫للحظات؛ قبل أن أقترب‬ ‫أنني مل أرها قط؛ بدون‬
‫من قفص أحد الثعابين‪،‬‬ ‫ال ِّزي املدرسي‪ .‬اآلن يف تلك‬
‫الذي كان مليئًا بالصخور‬ ‫املالبس العادية‪ ،‬بدت عادية‬
‫واألصداف والنباتات‬ ‫مثل أي شخص آخر‪.‬‬
‫الصناعية والعصي‪ ..‬غابة‬ ‫عند التسجيل‪ ،‬نظرت إ َّ‬
‫يل‬
‫مطيرة مؤقتة‪ .‬نقرت ماريا‬ ‫سيدة تتفحصني من أعىل‬
‫بأظافرها عىل ال ُّزجاج‪،‬‬ ‫ألسفل قبل أن تل ِّوح يل‪.‬‬
‫وغرست يدها بالداخل‪،‬‬ ‫ظهرت ابتسامتها بال أسنان‪،‬‬
‫لإلمساك بعصا‪ ،‬الستخدامها‬ ‫واختفت من عىل وجهها‪،‬‬
‫يف فتح الغطاء!‬ ‫حتى قبل أن أقول «مرحبًا»‪.‬‬
‫فك الثعبان جسده وانزلق‬ ‫اتكأت عىل املنضدة ونظرت‬ ‫ْ‬
‫وحرك رأسه ببطء‬ ‫َّ‬ ‫عىل اللوح‪،‬‬ ‫يف اتجاهنا‪ .‬قبل أن تسأل‬
‫شاهدت ماريا بصمت‬ ‫ُ‬ ‫نحونا‪.‬‬ ‫ماريا باإلسبانية‪:‬‬
‫وهي تمرر أصابعها عىل‬ ‫«ماذا هناك؟»‪.‬‬
‫جلده‪ ،‬سألتني‪:‬‬ ‫واصلت ماريا املشي وهي‬
‫«هل تريدين ملسه؟ يبدو‬ ‫تمسك يدي بتلقائية وترد‪:‬‬
‫‪157‬‬
‫حول العالم‬

‫الثعبان‪ ..‬ثم سمعت أضعف‬ ‫كحقيبة يد أو حذاء»‪.‬‬


‫صرير‪ ،‬قبل أن تحرك ماريا‬ ‫هززت رأسي‪ .‬مل تكن لدي‬
‫العصا وتغلق الغطاء‪ .‬وهي‬ ‫الشجاعة للمسه! حملت‬
‫تقول‪« :‬ال تلمسي قذارتي»‪.‬‬ ‫ماريا الثعبان‪ ،‬وخطت خطوة‬
‫بالرغبة‬
‫لحظتها؛ شعرت َّ‬ ‫نحوي‪ .‬ثم علقت ذراعيها يف‬
‫مرة أخرى‪،‬‬ ‫نفسها يف البكاء َّ‬ ‫الهواء‪ ،‬كما لو كانت تنتظر‬
‫تورم حلقي‪ .‬اندلعت مني‬ ‫أن ينضم إليها شريك يف‬
‫أشهر من الحزن املضغوط‬ ‫رقصة‪ .‬شبكت سبابتيها‬
‫مثل املاء يف السخان‪..‬‬ ‫ببعضها البعض؛ ثم دارت‬
‫ركضت من املتجر باتجاه‬ ‫ببطء‪ .‬األفعى معلقة هناك‬
‫ماريسكيرا‪..‬‬ ‫بال حراك‪ .‬فقط رأسها‬
‫كان النَّاس الذين يأكلون يف‬ ‫منح ٍن ألعىل‪ ،‬مثل حرف إس‬
‫الخارج يحدقون بي‪ ،‬لكنني‬ ‫باإلنجليزي‪.‬‬
‫الركض‪ .‬خمسة‪،‬‬ ‫واصلت َّ‬ ‫أعادت وضع الثعبان داخل‬
‫ستة‪ ،‬سبعة شوارع أسفل‬ ‫القفص وهي تقول‪:‬‬
‫ً‬
‫وصول إىل‬ ‫شارع نياجرا‪،‬‬ ‫«تشبث»‪.‬‬
‫منزيل‪.‬‬ ‫ثم توجهت إىل خزانة املؤن‪.‬‬
‫توقفت عند ال َّزاوية وصدري‬ ‫وقفت هناك وشاهدت الثعبان‬
‫الالهث يصعد وينخفض‪،‬‬ ‫مرة أخرى يف امللف‬ ‫يلتف َّ‬
‫من الشهيق وال َّزفير‪ .‬عددت‬ ‫املخصص له‪ .‬وعندما عادت‬
‫إىل عشرة‪ .‬كانت سيارة‬ ‫ماريا‪ ،‬كانت تحمل شيئًا يف‬
‫أمي متوقفة يف الخارج أمام‬ ‫يديها‪ ..‬قالت‪:‬‬
‫منزلنا‪ ،‬فوجهت ذراعي إىل‬ ‫«سترغبين يف رؤية هذا»‪.‬‬
‫وجهي‪ ،‬ومسحته بالجزء‬ ‫ثم رفعت يديها إىل صدري‪،‬‬
‫الخلفي من كمي‬ ‫وفتحتهما بما يكفي؛ لتكشف‬
‫عن الحركة الضبابية لشيء‬
‫هامش‪:‬‬ ‫أبيض؛ يتلوى يف الداخل‪.‬‬
‫«ال أريد أن أرى هذا»‪.‬‬
‫* آنيل لوبيز مهاجرة‬
‫دومينيكية‪ .‬وصلت إىل‬ ‫وأمسكت الفأر من‬
‫ْ‬ ‫نظرت إ َّ‬
‫يل‬ ‫ْ‬
‫نهائيات منحة تينا هاوس‬ ‫ذيله‪ ..‬ثم قالت‪:‬‬
‫الدراسية‪ ،‬وقد نُشرت أعمالها‬ ‫«يتوجب عليك رؤيته»‪.‬‬
‫يف مراجعات ميتشيغان‬ ‫ثم أسقطت الفار يف قفص‬
‫الفصلية وهوبارت و ذا بينش‬ ‫الثعبان مثل السوط‪ .‬صر‬
‫ومجالت ودوريات أخرى‪.‬‬ ‫الثعبان أسنانه‪ ،‬وأمسك‬
‫آنيل هي محرر أدب مساعد‬
‫يف مراجعات نيو أورليانز‪.‬‬ ‫بالفأر الذي كان يحاول‬
‫تعمل اآلن عىل مجموعة من‬ ‫الجري‪ ،‬ثم لف نفسه حول‬
‫القصص القصيرة الجديدة‪.‬‬ ‫جسده‪ .‬شدد قبضته حتى‬
‫** نشرت بأميركان شورت‬ ‫توقفت أقدام الفأر عن الركل‪،‬‬
‫فيكشن ‪ ٣‬أغسطس ‪.٢٠٢١‬‬ ‫وعلق ذيله عىل جانب جسد‬
‫‪158‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬
‫الملف‬
‫الثقـافي‬
‫(جدلية العالقة‬
‫بين الفلسفة واألدب)‬
‫‪160‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫والشك‪ .‬ويعد املعري ‪-‬فيما‬ ‫استخدم أبو العالء‬


‫يري طه حسين‪ -‬ناق ًدا يمزج‬ ‫املعري (ت ‪449‬ه) األسلوب‬
‫النقد بالسخرية‪ ،‬والسخرية‬ ‫الشعري أو التمثييل؛ لعرض‬
‫محببة عند طه حسين‪،‬‬ ‫أفكاره الفلسفية‪ ،‬فالشعر‬
‫مثلما كانت عند املعري‪ ،‬فقد‬ ‫يمتلك القدرة عىل خلق تأثير‬
‫استخدم طه حسين السخرية‬ ‫جمايل بسبب الطاقة املوحية‬
‫عندما وصف مشايخه‬ ‫التي يمدنا بها‪ ،‬وبخاصة‬
‫ومعلميه يف بعض مؤلفاته‪،‬‬ ‫الشعر العميق مثل شعر‬
‫وبخاصة كتابه األيام‪.‬‬ ‫املعري(‪.)1‬‬
‫يجمع أبو العالء بين رؤية‬ ‫والشعر يف جانب منه‬
‫الشاعر‪ ،‬اإلنسان‪ ،‬وبين‬ ‫فلسفة؛ ألنه يرتبط بها‪،‬‬
‫الناقد الفيلسوف‪ .‬لقد فكر‬ ‫ففي املقالة الخامسة من‬
‫بطريقة ناقدة ناضجة‪،‬‬ ‫كتاب طه حسين الذي بدأ‬
‫وأدرك وظيفة الشعر‪ .‬وال‬ ‫تأليفاته األدبية والنقدية به‬
‫تزال رسالة الغفران تنبثق‬ ‫(ذكري أبي العالء) يخلص‬
‫من النبع الذي ال ينضب‬ ‫طه حسين للفلسفة العالئية‬
‫عنده‪ ،‬إنها مادة غنية ألولئك‬ ‫ً‬
‫تفصيل فيعرج‬ ‫ويفصل فيها‬
‫اهتماما متأنيًا‬
‫ً‬ ‫الذين يعطون‬ ‫عىل مصادرها وأصولها‪ ،‬ثم‬
‫ويتألقون بمواهبهم الطبيعية‪.‬‬ ‫أنواعها من فلسفة طبيعية‬
‫د‪.‬سامية سالم‬ ‫وألن الشبيه يدرك الشبيه‪،‬‬ ‫ورياضية وإلهية‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وجد طه‬ ‫وأبو العالء هو الشاعر‬

‫فلسفة األدب عند‬


‫حسين يف‬ ‫الحكيم الفيلسوف الذي‬
‫أبي العالء‬ ‫تصارع يف شعره مع املسائل‬
‫مرآة له يرى‬ ‫الكالمية والكونية(‪ .)2‬أما‬
‫نفسه فيها‪ ،‬أو‬ ‫أصل التجربة الفلسفية عنده‪،‬‬
‫قرينًا ينبغي‬ ‫فيرجع يف أساسه إىل عوامل‬
‫عليه مالزمته‪.‬‬ ‫كامنة يف الطبيعة اإلنسانية‬
‫واشترك أبو العالء املعري‬ ‫له‪ ،‬كالدهشة والشك والقلق‪،‬‬
‫مع طه حسين يف استخدام‬ ‫باإلضافة إىل تاريخ الفلسفة‬
‫منهج الشك يف النقد‪،‬‬ ‫ذاته‪ .‬وأبو العالء جدير‬
‫واشتهر التلميذ بـقضية‬ ‫بصفة فيلسوف‪ ،‬فهو الوحيد‬
‫انتحال الشعر الجاهيل‪ ،‬فقد‬ ‫بين أقرانه الذي درس‬
‫اكتشف طه حسين بأن هناك‬ ‫العلوم اإللهية والطبيعية‬
‫دالالت قوية تشير إىل أن‬ ‫درسا عميقًا وسعي‬ ‫ً‬ ‫والخلقية‬
‫الشعر الجاهيل تمت كتابته‬ ‫إىل تكوين آراء عن الحياه‬
‫بعد اإلسالم‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫والطبيعة واإلنسان‪.‬‬
‫التزييف واالنتحال‪ ،‬وهاجمه‬ ‫امتازت فلسفة املعري‬
‫الكثيرون نتيجة لهذه اآلراء‪،‬‬ ‫بعناصر فلسفية عديدة‪ ،‬منها‬
‫وطعنوا فيها‪ ،‬بل ويف دينه‬ ‫عناصر سلبية‪ ،‬كالتشاؤم‬
‫‪161‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫ويتصور طه حسين أن‬ ‫أيضا‪.‬‬


‫ً‬
‫اتجاه أبي العالء نحو‬ ‫عرض طه حسين لحياة‬
‫التفلسف معناه أنه مل يكتف‬ ‫الفيلسوف العربي أبي‬
‫بالنظر إىل األشياء بشكل‬ ‫العالء املعري‪ ،‬ولشعره‬
‫سطحي‪ ،‬وإنما بحث يف‬ ‫ونثره وفكره وبيئته والحياة‬
‫ماهيتها وأصولها وعالقة‬ ‫السياسية يف عصره‪ ،‬وشغف‬
‫بعضها ببعض يف إطار‬ ‫بكتاباته مما جعل منه‬
‫إحساس مزيج من الدهشة‬ ‫باحثًا‪ ،‬ومؤ ِّرخً ا‪ ،‬ومحل ِّ ًل‪،‬‬
‫والتعجب‪ ،‬فالدهشة والتعجب‬ ‫وشارحا لكل آرائه وأشعاره‬ ‫أبو العالء‬
‫ً‬
‫المعري‬
‫هما ما يحمالن اإلنسان عىل‬ ‫وفلسفته‪.‬‬
‫التفلسف‪ ،‬إذ يدفعانه إىل‬ ‫واستنبط من شعر أبي العالء‬
‫البحث والتساؤل‪.‬‬ ‫الفلسفة‪ ،‬فأبو العالء ‪-‬يف‬
‫إن إعادة قراءة بعض‬ ‫تصور طه حسين‪ -‬أسس‬
‫النصوص األدبية يف ضوء‬ ‫الشعر الفلسفي‪ ،‬فمن الذي‬
‫الفلسفة –كما فعل طه حسين‬ ‫يستطيع أن يدلنا عىل ديوان‬
‫بنصوص املعري‪ -‬يجب أال‬ ‫أنشئ ال لغرض إال لشرح‬
‫يكون يف أي حال لجعلها‬ ‫الحقائق الفلسفية وحدها يف‬
‫تفصح عن معنى خفي‬ ‫العصور اإلسالمية األوىل إىل‬
‫يلخص توجهها الفكري‪،‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أواخر القرن الرابع؟‬
‫بل إليضاح بنيتها املتعددة‬ ‫وال يخلو أمر أبي العالء‬
‫التي تحتمل‪ ،‬لكونها متعددة‪،‬‬ ‫من غرابة‬

‫أبي العالء المعري‬


‫طرائق متمايزة يف املقاربة‪،‬‬ ‫‪-‬فيما يرى طه‬
‫فالخطاب األدبي الصرف‬ ‫حسين‪ -‬فقد‬
‫كالخطاب الفلسفي الصرف‬ ‫خاض طريق‬
‫غير موجود‪ ،‬وال توجد إال‬ ‫الفلسفة التي مل‬
‫خطابات ممتزجة‪ ،‬فالفلسفي‬ ‫يتعود الشعراء‬
‫يدخل يف النصوص األدبية‬ ‫أن يطرقوها وال‬
‫عىل مستويات متعددة(‪.)5‬‬ ‫أن يخضعوها للنظم(‪.)4‬‬
‫وانتشار العلوم الفلسفية‬ ‫أشاد طه حسين بدور‬
‫وحرص الشعراء عىل درسها‬ ‫الفلسفة يف تعميق الشعر‪،‬‬
‫قد أ َّثرا يف لفظ الشعر –برأي‬ ‫فالنظرة الفلسفية املتداخلة يف‬
‫طه حسين‪ -‬وأكسباه صيغة‬ ‫الشكل األدبي والتي يزداد‬
‫أقرب إىل االقتصاد وأبعد عن‬ ‫تشبع األديب بها ‪-‬يف بعض‬
‫الفضول‪ ،‬بحيث يكون اللفظ‬ ‫األحيان‪ -‬والتي تتجاوز‬
‫عىل قدر ما قصد أن يدل به‬ ‫الواقع وتسمو عليه وتطرح‬
‫عليه من املعني‪ ،‬أي يكون‬ ‫عىل نفسها املسائل الخالدة‬
‫أكثر دقة‪ ،‬كأن صناعة املنطق‬ ‫التي تتناول جوهر األشياء؛‬
‫قد ملكت مزاج الشعراء‬ ‫تجعل هذه الكتابات األدبية‬
‫فألزمتهم أن يتخيروا األلفاظ‬ ‫مادة للدراسة والتحليل‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫اإلنسان قد يصغر عن إدراك يشك فيها‪ ،‬وهذا أكبر دليل‬ ‫التي تدل عىل املعاني من‬
‫عىل أنه مل يكن شا ًّكا عيل‬ ‫اليقين يف بعض األمور‬ ‫غير تفاوت وال فضول‪ .‬هذا‬
‫اإلطالق وال سفسطائيًّا ‪،‬‬
‫(‪)8‬‬
‫لقصور عقله‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫التأثير يف نفسه مقبول لوال‬
‫ويرى طه حسين أن أبا‬ ‫ولقد صغرت عن اليقين‬ ‫أن يؤدي مع طول الزمان إىل‬
‫العالء قد خالف مذهب‬ ‫بخاطر‪ ..‬ما كاد يبلغ حفرة‬ ‫الغموض واإلبهام‪ ،‬فما زال‬
‫السفسطائيين‪ ،‬ألنهم‬ ‫إال نباطا‬ ‫الشاعر يتخير اللفظ الدقيق‬
‫يتهمون العقل ويشكون‬ ‫وينتقد طه حسين من ظن‬ ‫للداللة عىل املعنى الدقيق‬
‫فيه‪ ،‬فال يؤمنون به وال‬ ‫بأبي العالء أنه يريد نفي‬ ‫حتى تكثر يف شعره األلغاز‪.‬‬
‫يعتمدون عليه‪ ،‬وإذ هو يرى‬ ‫الحقائق‪ ،‬فلو فطنوا ملغزى‬ ‫أيضا من الداللة عىل‬
‫وال بد ً‬
‫رأي الفالسفة النظريين‬ ‫الرجل لعرفوا أنه ال يعمم‬ ‫أن درس العلوم الفلسفية قد‬
‫من اليونان واملسلمين يف‬ ‫الشك إال يف مسائل الغيب‪،‬‬ ‫أوجد يف الشعر إصالحات‬
‫فأما عامل الشهادة فال يبسط االعتماد عىل العقل خاصة‪.‬‬ ‫علمية وأسماء مل يكن له‬
‫وإذا أردت إثبات ذلك‪،‬‬ ‫أبو العالء ظل الشك عليه‪،‬‬ ‫بها عهد من قبل‪ ،‬كالجوهر‬
‫فاللزوميات ناطقة به أكثر‬ ‫فمن ذلك قوله‪:‬‬ ‫والعرض وغير ذلك مما‬
‫من مرة كذلك‪ ،‬ويقول‬ ‫أما اليقين فال يقين وإنما‬ ‫يفيض به شعر املتنبي وابن‬
‫بمعرض رده عيل الباطنية‪:‬‬ ‫أقصي اجتهادي أن أظن‬ ‫العميد وغيرهم(‪.)6‬‬
‫إماما‬
‫يرتجي الناس أن يقوم ً‬
‫(‪)7‬‬
‫وأحدسا‬
‫ناطق يف الكتيبة الخرساء‬ ‫وال يري أبو العالء الخبر‬ ‫املعرفة والشك عند‬
‫كذب الظن ال إمام سوي‬ ‫أصل من أصول االستدالل‬ ‫ً‬ ‫ابي العالء املعري‬
‫العقل‬ ‫العقيل‪ ،‬فقد خالف عامة‬
‫مشيرا يف صبحه واملساء‬‫ً‬ ‫املتكلمين يف ذلك‪ ،‬فإنهم‬ ‫يتمثل البعد املعريف عند‬
‫فإذا ما أطعته جلب الرحمة‬ ‫يجعلون الخبر الصادق‬ ‫املعري يف العديد من مصادر‬
‫(‪)9‬‬
‫عند املسير واإلرساء‬ ‫أصل من أصول العلم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫املعرفة‪ ،‬منها الحس والظن‬
‫ويتحدث طه حسين عن‬ ‫فالشرائع والديانات تقوم‬ ‫والشك واليقين‪ ،‬والحدس‬
‫علم الكالم فيقول‪ :‬إنه تكلف‬ ‫عىل اإلخبار‪ ،‬وقد نص‬ ‫والعقل‪ ،‬أي أنه ذو نزعه‬
‫مالءمة الدين وموافقته‬ ‫أبو العالء عىل خالفه مع‬ ‫أفالطونية يف معرفته ويف‬
‫والزود عنه‪ .‬ومن علماء‬ ‫السفسطائيين‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫البحث عن عامل املثل‪،‬‬
‫الكالم‪ :‬األشعري والجبائي‬ ‫وقال أناس ما األمر حقيقة‬ ‫فاملعري جعل من املثل‬
‫واإلسفرايني والباقالني‬ ‫فهل اثبتوا أن ال شقاء وال‬ ‫األخالقية املثل العليا يف عامله‬
‫وغيرهم‪ ،‬وقد زها علم الكالم‬ ‫نعم‬ ‫املعريف‪.‬‬
‫قبل أن تزهو الفلسفة ونقل‬ ‫فنحن وهم يف مزعم‬ ‫فاختالف املعرفة واإلنكار‬
‫الفلسفة مل ينشئه‪ ،‬بل قواه‬ ‫وتشاجر‬ ‫عىل النفس ليس له مصدر إال‬
‫ويعلم رب الناس أكذبنا زعما وغير شكله‪ ،‬وقد أنتجت‬ ‫تأثرها بالحياة املادية‪ ،‬يقول‬
‫هذه الصورة من الفلسفة‬ ‫ومهما يكن من شيء‬ ‫أبو العالء يف الشك‪:‬‬
‫الدينية نتيجتها الطبيعية‬ ‫فإن ألبي العالء آراء‬ ‫إنما نحن يف ضالل وتعليل‬
‫من االنقسام واالفتراق‬ ‫‪-‬كما يعرض طه حسين‪،‬‬ ‫فإن كنت ذا يقين فهاته‬
‫واختالف الرأي وتباين‬ ‫وكما رصدناها من خالل‬ ‫ولحب الصحيح آثرت الروم‬
‫أشعاره‪ -‬ثابتة استقر عليها األهواء‪ ،‬ونظرة يف كتاب امللل‬ ‫انتساب الفتي إىل أمهاته‪.‬‬
‫والنحل للشهرستاني تبين‬ ‫حياته كلها مل ينكرها ومل‬ ‫ويؤكد أبو العالء أن‬
‫‪163‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫أمثال ابن رشد‪ ،‬الذين استقر‬ ‫العقل هي تلك املزية التي‬ ‫عدد الفرق التي أنتجها علم‬
‫رأيهم بأن العامل قديم ومل‬ ‫ترفع من شأن اإلنسان‪.‬‬ ‫الكالم للمسلمين‪ ،‬ولو أن‬
‫يزل موجو ًدا مع اهلل سبحانه‬ ‫وقدمت املعتزلة النظر العقيل‬ ‫نتيجة الكالم وقفت عند هذا‬
‫ً‬
‫معلول له غير متأخر‬ ‫وتعايل‬ ‫يف القضايا ال ِّدينية استنا ًدا‬ ‫الحد لهان احتمالها‪ ،‬لكنها‬
‫عنه‪ ،‬وتقدم الباري كتقدم‬ ‫إىل االستدالل املنطقي‪،‬‬ ‫تجاوزته إىل السيطرة عىل‬
‫العلة عىل املعلول وهو تقدم‬ ‫وليس مجرد االستناد إىل‬ ‫الحياة العملية ففعلت باألمة‬
‫بالذات والرتبة ال بالزمان‪،‬‬ ‫النُّصوص‪ ،‬فأجازوا ما‬ ‫األفاعيل(‪.)10‬‬
‫وبهذا تعرف أنه يرى قدم‬ ‫يوافق العقل‪ ،‬ورفضوا ما‬ ‫لكن هل ينتمي أبو العالء‬
‫املادة وخلودها‪ ،‬وال يرى‬ ‫خالفه‪ ،‬وجعلوا العقل أول‬ ‫املعري إىل مذهب ما؟ يجيب‬
‫رأي املتكلمين من املسلمين‬ ‫األدلة الشَّ رعية‪ ،‬واعتمدوا‬ ‫طه حسين بالنفي‪ ،‬فلم‬
‫يف حدوث األجسام وتركيبها‬ ‫يف االستدالل لعقائدهم عىل‬ ‫يتخذ املعري لنظره الفلسفي‬
‫من األجزاء التي ال تتجزأ(‪.)14‬‬ ‫القضايا العقلية(‪.)12‬‬ ‫مذهبًا محد ًدا‪ ،‬فال ينتمي‬
‫والفالسفة يختلفون يف‬ ‫يقول أبو العالء عن املعتزلة‪:‬‬ ‫إىل أهل السنة‪ ،‬وال مذهب‬
‫تعريف الزمان‪ .‬أما املعري‪،‬‬ ‫ومعتزيل مل أوافقه ساعة‪..‬‬ ‫السفسطائيين وأهل الشك‪،‬‬
‫فيعرفه بقوله‪ :‬إنه كون‬ ‫أقول له يف اللفظ‪ :‬دينك أول‬ ‫وال مذهب املعتزلة‪ ،‬فهو‬
‫يشتمل أقل جزء منه عىل‬ ‫أريد به من جزلة الظهر مل‬ ‫ال يؤمن إال بالعقل وحده‬
‫عامة املوجودات‪ .‬بذلك‬ ‫أرد‪..‬‬ ‫فخالف بهذا أهل السنة‪،‬‬
‫عرفه يف رسالة الغفران ويف‬ ‫من الجزل يف األقوال تلوي‬ ‫ألنهم يقدمون النص عىل‬
‫اللزوميات فقال‪:‬‬ ‫(‪)13‬‬
‫وتجزل‬ ‫العقل‪ ،‬وخالف مذهب املعتزلة‬
‫ومولد هذي الشمس أعياك‬ ‫هنا يشدد أبو العالء عىل‬ ‫ألنهم عىل تقديمهم للعقل‬
‫حده‬ ‫عدم موافقته للمعتزلة‪،‬‬ ‫يتخذون الشرع لنظرهم‬
‫وخبر لب أنه متقادم‬ ‫ويتهمهم بأنهم يتعاملون مع‬ ‫ً‬
‫ودليل يعتزون به‬ ‫ً‬
‫أصل‬
‫وأيسر كون تحت كل عامل‬ ‫النصوص باجتزالها ولوي‬ ‫ويلجأون إليه ‪ .‬وهذا غريب‬
‫(‪)11‬‬

‫وال تدرك األكوان جرد‬ ‫عنقها‪.‬‬ ‫ج ًّدا من املعري –فيما نرى‪-‬‬


‫صالدم‬ ‫ألن املعتزلة تمسكوا بالعقل‬
‫فالزمان بهذا التعريف ليس‬ ‫الفلسفة الطبيعية عند‬ ‫حتى قيل عنهم إنهم بهذا قد‬
‫حركة الفلك بل هم أعم منها‪،‬‬ ‫أبي العالء‬ ‫طغوا عىل النص الديني‪ ،‬ومل‬
‫وملا فهم املعري الزمان هذا‬ ‫يعلق طه حسين عىل نقد أبي‬
‫الفهم مل يستطع أن يتصور‬ ‫بحث املعري يف اللزوميات‬ ‫العالء للمعتزلة‪.‬‬
‫اإلله يف غير زمان‪.‬‬ ‫عن املادة والزمان واملكان‬ ‫برغم أن املعتزلة اعتمدت‬
‫ويري أبو العالء قدم الزمان‬ ‫وتناهي اإلبعاد‪ ،‬ومن رأيه‬ ‫عىل العقل يف جميع أبحاثها‪،‬‬
‫كما يري قدم املادة‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫أن األجسام تتكون من مادة‬ ‫واألدلة عند املعتزلة‪ ،‬أولها‬
‫نزول كما زال أباؤنا‬ ‫قديمة خالدة وصور تختلف‬ ‫داللة العقل‪ ،‬ألنه يميز بين‬
‫ويبقي الزمان عىل ما ترى‬ ‫عليها‪ ،‬فقد قال‪:‬‬ ‫الحسن والقبيح‪ ،‬واهلل عندهم‬
‫وقد عرف أبو العالء املكان‬ ‫أليت ال ينفك جسمي يف أذي‬ ‫ل يخاطب إال أهل العقل‪ ،‬أما‬ ‫َْ‬
‫فقال‪:‬‬ ‫حتي ال يعود إىل قديم‬ ‫الشَّ رع فهو املتمم لشريعة‬
‫أما املكان فثابت ال ينطوي‬ ‫العنصر‬ ‫العقل‪ ،‬فإذا بدا تناقض‬
‫(‪)15‬‬
‫لكن زمانك ذاهب ال يثبت‬ ‫فاملادة القديمة عند أبي‬ ‫لجأت إىل تأويل الوحي بما‬
‫وال يؤمن أبو العالء بما اتفق‬ ‫العالء عىل غرار الفالسفة‬ ‫يوافق حكم العقل‪ ،‬فشريعة‬
‫‪164‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫عليه املتكلمون من انحصار‬


‫العامل وتناهيه‪ ،‬وذلك أن‬
‫املتكلمين حين سلكوا يف‬
‫إثبات اإلله طريق حدوث‬
‫العامل وأنه مسبوق بالعدم؛‬
‫اضطروا إىل أن يقولوا‬
‫بانحصار الزمان وغيره من‬
‫املوجودات‪ ،‬فقالوا بتناهي‬
‫الزمان واملكان وما اشتمال‬
‫عليه‪ .‬أما أبو العالء فإنه ملا‬
‫سلك مسلك الفالسفة وقال‬
‫بقدم املادة والزمان واملكان‬
‫مل يلزمه القول بتناهي‬
‫األبعاد‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫لو طار جبريل بقية عمره‬
‫من الدهر ما استطاع‬
‫الخروج من الدهر‬
‫يقول طه حسين‪ :‬فأنت‬
‫ترى من هذا أن أبا العالء‬
‫استمد فلسفته الطبيعية من‬
‫فالسفة اليونان‪ ،‬فوافقهم يف‬
‫العناصر وقدمها‪ ،‬والزمان‬
‫واملكان وخلودهما وأنهما‬
‫غير متناهيين(‪ .)16‬فالعامل‬
‫عند أرسطو كما عند أبي‬
‫العالء قديم ال يتأخر وجوده‬
‫عن اهلل بالزمان‪ ،‬وهذا ما‬
‫يجعل املادة قديمة‪ ،‬وهذا هو‬
‫حال الصورة والحركة فهما‬
‫قديمتان‪ ،‬وكل ما يحدث يف‬
‫الوجود ما هو إال خروج من‬
‫حالة القوة إىل حالة الفعل‪،‬‬
‫عن طريق الحركة‪ ،‬فاهلل له‬
‫صفة التحريك وهو املحرك‬
‫وغاية كل املوجودات(‪.)17‬‬
‫خالق ال َيمتري العقلُ أ َّن ُه‬
‫ٌ‬ ‫لنا‬
‫الحديث‬
‫ُ‬ ‫قديم َفما هذا‬
‫ٌ‬
‫َّ (‪)18‬‬
‫املول ُد ‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫اهلل واجب الوجود بذاته‪،‬‬ ‫الفلسفة اإللهية عند‬


‫وأنه لهذه املوجودات علة‬ ‫أبي العالء‬
‫وأن هذه املوجودات مالزمة‬
‫له كما يالزم املعلول علته‪،‬‬ ‫البعد امليتافيزيقي يتمثل‬
‫ومن هنا كان قولهم بقدم‬ ‫بوجود اهلل عند املعري‪،‬‬
‫العامل‪ .‬فإنهم إذ أثبتوا أن‬ ‫وهو الذي يمثل الوجود‬
‫اهلل واجب بذاته لزمهم أنه‬ ‫األزيل األبدي الثابت‪ ،‬فاهلل‬
‫أزل‪ ،‬وإذا أثبتوا أن‬ ‫موجود ً‬ ‫هو املحرك الذي ال يتحرك‪.‬‬
‫األشياء صدرت عنه صدور‬ ‫والواجب ضروري الوجود‬
‫املعلول عن علته لزمهم القول‬ ‫بحيث لو قدر عدمه لزم‬
‫بقدم األشياء‪ .‬إذ كان املعلول‬ ‫منه محال‪ ،‬واملمكن ما ال‬
‫مقارنًا للعلة يف الوجود‬ ‫ضروري يف وجوده وال‬
‫الخارجي‪ ،‬وإن تأخر عنها‬ ‫عدمه‪ ،‬والعامل بما فيه من‬
‫يف تصور العقل‪ .‬ويدافع طه‬ ‫الجواهر العقلية واألجسام‬
‫حسين عن رأي الفالسفة‬ ‫الحسية واألعراض القائمة‬
‫يف قدم العامل‪ ،‬فلم يكن رأي‬ ‫بها قدرناه متناهيًا وغير‬
‫الفالسفة يف قدم العامل‬ ‫متنا ٍه‪ ،‬وكذلك لو قدرنا أنه‬
‫متناقضا‬
‫ً‬ ‫ووجود اهلل لديه‬ ‫شخص واحد أو أشخاص‬
‫وال مضطر ًبا‪ .‬وإذا كان أبو‬ ‫وأنواع كثيرة إما أن يكون‬
‫العالء قد سلك طريقهم يف‬ ‫ضروري الوجود أو‬
‫الفلسفة الطبيعة والرياضية‬ ‫ضروري العدم وذلك محال؛‬
‫أيضا طريقهم يف‬ ‫فهو سلك ً‬ ‫ألن أجزاءه متغيرة األحوال‬
‫الفلسفة اإللهية‪ ،‬فأثبت اهلل‬ ‫عيانًا‪ ،‬وضروري الوجود‬
‫وأقر به‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫عىل كل حال ال يتغير بحال‪.‬‬
‫حكيما‬
‫ً‬ ‫أثبت يل خالقًا‬ ‫فوجه تركيب البرهان منه‬
‫ولست من معشر نفاه‬ ‫أن نقول كل متغير أو متكثر‬
‫واللزوميات ممتلئة فيما‬ ‫فهو ممكن الوجود باعتبار‬
‫قال أبو العالء يف إثبات‬ ‫ذاته‪ ،‬وكل ممكن الوجود‬
‫اهلل وتمجيده ووصفه بما‬ ‫باعتبار ذاته فوجوده بإيجاد‬
‫ينبغي أن يوصف من صفات‬ ‫غيره‪ ،‬فكل متغير أو متكثر‬
‫الكمال‪ ،‬وليس يف اللزوميات‬ ‫فوجوده بإيجاد غيره‪،‬‬
‫إنكار هلل وإنما فيها بيت‬ ‫وأيضا فإن الكل متركب من‬ ‫ً‬
‫واحد يحتاج إىل البحث وهو‬ ‫اآلحاد‪ ،‬واآلحاد إذا كان كل‬
‫قوله‪:‬‬ ‫واحد منها ممكن الوجود‬
‫وأما اإلله فأني لست مدركه‬ ‫فالكل واجب أن يكون ممكن‬
‫فاحذر لجيلك فوق األرض‬ ‫الوجود‪ ،‬وكل ممكن فهو‬
‫سخاطا‬ ‫باعتبار ذاته ممكن أن يوجد‬
‫ربما كان ظاهر هذا البيت‬ ‫وممكن أال يوجد(‪.)19‬‬
‫أن أبا العالء ال يعرف اإلله‬ ‫يري فالسفة اليونان أن‬ ‫أرسطو طاليس‬
‫‪166‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫فالهالل املنيف والبدر الفرقد عن أن يوصف بالسكون‬ ‫وال يثبته‪ ،‬وأنه إن اعترف‬
‫أو بالحركة‪ ،‬فالسكون عجز‬ ‫والصبح والثري واملاء‬ ‫به يف كتبه فإنما يفعل ذلك‬
‫والحركة عرض وكالهما‬ ‫فانظر كيف بسط القدرة‬ ‫ابتغاء مرضاة الناس واتقاء‬
‫محال‪ ،‬وقد نص أبو‬ ‫اإللهية‬ ‫سخطهم‪ ،‬عىل قاعدته من‬
‫العالءعىل ذلك فقال‪:‬‬ ‫عىل العامل ومل يستثن شيئًا‬ ‫اصطناع التقية والحرص عىل‬
‫أما تري الشهب يف أفالكها‬ ‫أيضا يف القدرة‬ ‫ويقول ً‬ ‫االحتياط‪ ،‬ذلك شيء يمكن‬
‫انتقلت‬ ‫اإللهية‪:‬‬ ‫أن يدل البيت عليه‪ ،‬لكن روح‬
‫بقدرة من مليك غير منتقل‬ ‫انفرد اهلل بسلطانه فما له‬ ‫أبي العالء يف حياته املادية‬
‫ويري طه حسين أنه من‬ ‫يف كل حال كفاء‬ ‫وفيما كتب ينفيه‪ ،‬فال يجب‬
‫العسير أن نثبت موافقة هذا‬ ‫فما خفي قدرته عنكم‬ ‫أن يفهم من هذا البيت إال‬
‫الرأي أو مخالفته للمتكلمين‪،‬‬ ‫وهل لها عن ذي رشاد‬ ‫أن الرجل يجهل كنه اإلله‬
‫غموضا شدي ًدا‬‫ً‬ ‫ألنه غامض‬ ‫(‪)21‬‬
‫خفاء؟‬ ‫وحقيقته‪ ،‬وال يستطيع أن‬
‫فهم ال يستطيعون أن يقولوا‬ ‫وألبي العالء بيت يف‬ ‫يحدده تحدي ًدا منطقيًّا‪ ،‬وأنه‬
‫الوحدانية يعرضه طه حسين إن اهلل منتقل‪ ،‬إذ االنتقال‬ ‫يخشى أن يقول ذلك ألن‬
‫ال يحتمل الشك وال التأويل‪ ،‬يحتاج إىل حيز‪ ،‬والحيز عىل‬ ‫عامة الناس ال يستطيعون أن‬
‫اهلل محال‪ ،‬واالنتقال حركة‪،‬‬ ‫وهو قوله‪:‬‬ ‫يفقهوا معزى هذا القول‪ ،‬وال‬
‫والحركة عرض‪ ،‬واألعراض‬ ‫بوحدانية العالم دنا‬ ‫أن يفرقوا بين من ال يعرف‬
‫ال تقوم بذات اهلل‪ ،‬وليس‬ ‫فذرني أقطع األيام وحدي‬ ‫اهلل‪ ،‬ومن ال يعرف حقيقته‪،‬‬
‫يصح أن يقال إن اهلل ساكن‪،‬‬ ‫ويقول حين يعرض لألمر‬ ‫فما يدرك هو أثار تشير إىل‬
‫فالسكون عجز‪ ،‬والعجز عليه‬ ‫بالعزلة‪:‬‬ ‫وجوده وتدل عىل ثبوته‪،‬‬
‫محال‪ ،‬وألن هذا الخالق يف‬ ‫توحد فإن اهلل ربك واحد‬ ‫فأما حقيقته فقد انقطعت‬
‫نفسه ال يمكن أن يصدر عن‬ ‫وال ترغبن يف عشرة‬ ‫بيننا وبينها األسباب(‪.)20‬‬
‫سكون مطلق‪ ،‬وكأن الحرص‬ ‫الرؤساء‬ ‫وعىل ذلك ال بأس عىل أبي‬
‫عن تنزيه اهلل عز وجل‬ ‫فأنت تري أن أبا العالء‬ ‫العالء ‪-‬من وجهة نظر طه‬
‫إسالمي النزعة‪ ،‬يوناني فيما عن هذه األوصاف اللغوية‬ ‫حسين‪ -‬أن يعلن جهله‬
‫القاصرة هو الذي جعل‬ ‫أثبت هلل من القدرة الشاملة‬ ‫حقيقة اهلل ما دام أعلن علمه‬
‫قاصرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫والوحدة املطلقة‪ ،‬وهو كذلك مذهب املتكلمين‬ ‫بوجوده‪ ،‬غير أن من الحق‬
‫فقد تضاربت الفرق‬ ‫فيما أثبت له من الحكمة يف‬ ‫علينا البحث يف األوصاف‬
‫اإلسالمية بين رفض‬ ‫البيت الذي يقول فيه‪:‬‬ ‫التي أسندها أبو العالء إىل‬
‫الص َفات الحسية وبالتايل‬ ‫حكيما‬
‫ً‬ ‫أثبت يل خالقًا‬ ‫اهلل بعد أن أثبت وجوده‪،‬‬
‫تأويلها‪ ،‬وبين قبول هذه‬ ‫(‪)22‬‬
‫ولست من معشر نفاه‬ ‫لنعرف نزعته الفلسفية؟‬
‫الصفات ورفض تأويلها‪،‬‬ ‫أيضا‪:‬‬
‫ويقول ً‬ ‫فأول ما يلقانا به أبو العالء‬
‫إذا قوم مل يعبدوا اهلل وحده وقد خرجت بعض الفرق‬ ‫من ذلك إثباته القدرة العامة‬
‫كاملعتزلة بهذه الصفات عن‬ ‫بنصح فإنا منهم برءاء‬ ‫الشاملة هلل‪ ،‬وهو مقدار يتفق‬
‫مدلولها الحسي؛ ألن هذه‬ ‫ويفارق أبو العالء املسلمين‬ ‫عليه املسلمون والفالسفة‪،‬‬
‫الفرقة أخضعت النص للعقل‪،‬‬ ‫ويوافق اليونانيين يف‬ ‫بل وعامة أهل الديانات‪،‬‬
‫وإن تعارضا فاألولوية‬ ‫إثبات أن اهلل ساكن غير‬ ‫ويقول يف ذلك‪:‬‬
‫لديهم للعقل ‪ ،‬وأهم من‬
‫(‪)23‬‬
‫متحرك وال منتقل‪ ،‬فأما‬ ‫للمليك املذكرات عبيد‬
‫الص َفات‬
‫يمثل رفض تلك ِّ‬ ‫املسلمون فينزهون اإلله‬ ‫وكذلك املؤنثات إماء‬
‫‪167‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫الح ِّسية من األشاعرة‪ :‬فخر‬ ‫ِ‬


‫الدين الرازي (ت ‪606‬هـ)‬
‫فقد اعتنى بإقامة البراهين‬
‫العقلية والنقلية عىل استحالة‬
‫وصف اهلل تعاىل بما يستلزم‬
‫الجسمية‪ ،‬فاالستواء بالنسبة‬
‫له قهر الباري واستيالؤه‪،‬‬
‫ونزوله بره وعطاؤه‪،‬‬
‫ومجيئه حكمه وقضاؤه‪،‬‬
‫ووجهه وجوده‪ ،‬وعينه‬
‫حفظه‪ ،‬وعونه اجتباؤه‪،‬‬
‫وضحكه عفوه‪ ،‬ويده إنعامه‪،‬‬
‫وإكرامه اصطفاؤه(‪.)24‬‬
‫أما املعري فقد نص عىل‬
‫السكون كأرسطو‪ ،‬فينبغي‬
‫أن يجد من االعتراضات‬
‫طه حسين‬ ‫جون استيوارت مل‬
‫ما ورد عىل املعلم األول‬
‫من فالسفة اليونان حين‬
‫آخر‪ ،‬فإن العامل متحرك من زمانين يف مكانين‪ ،‬وبعبارة‬ ‫نفى الحركة عن اهلل‪ ،‬فإن‬
‫أوضح‪ :‬هي االنتقال من حيز‬ ‫غير شك‪ ،‬فمن أين له هذه‬ ‫العلة األوىل إذا كانت ساكنة‬
‫الحركة؟ وال يمكن أن تكون إىل حيز يف آنين مختلفين‪،‬‬ ‫سكونًا مطلقًا مل يكن أن‬
‫فال شك أن هذه الحركة‬ ‫من اهلل؛ ألنه غير متحرك‬ ‫يصدر عنها العامل‪ ،‬إذ‬
‫منفية عن اهلل‪ ،‬ألنها لو ثبتت‬ ‫وفاقد الشيء ال يعطيه‪ ،‬وال‬ ‫إصدار العامل عىل مذهب‬
‫له ألخضعته للزمان واملكان‪،‬‬ ‫يمكن أن تكون من ذات‬ ‫الفالسفة عامة‪ ،‬وأرسطو‬
‫جسما‪ ،‬فأصبح‬‫ً‬ ‫ولجعلته‬ ‫العامل‪ ،‬إذ ليس يف العامل‬ ‫طاليس خاصة ليس إال‬
‫شيء إال وهو مستند إىل اهلل‪ ،‬ممكنًا وهو واجب‪.‬‬ ‫إصدار معلول عن علة‪ ،‬وهذا‬
‫فلم يبقَ ملذهب أرسطو قيمة الثاني من معنى الحركة‬ ‫اإلصدار حركة من غير شك‪،‬‬
‫أمرا‬
‫منطقية‪ ،‬مما اضطر تالميذه كون ما هو بالقوة ً‬ ‫فإن زعم أرسطو طاليس‬
‫أن يعدلوا عن مذهبه‪ ،‬فمنهم فعليًّا‪ ،‬والشك يف أن هذا ال‬ ‫أن العامل مل يزل وإن ليس‬
‫يقتضي حي ًزا وال جسمية‪،‬‬ ‫من ترك اإللهيات جملة‪،‬‬ ‫بين وجوده وبين وجود اهلل‬
‫ثم ال يقتضي زمانًا باملعنى‬ ‫ومنهم من ذهب مذهب‬ ‫ترتيب ذهني وال خارجي‪،‬‬
‫الهنود وفيثاغورس يف وحدة الذي يفهم من هذا اللفظ‪،‬‬ ‫لزمه القول بتعدد الواجب‪،‬‬
‫وهو حركة الفلك‪ ،‬ومن‬ ‫الوجود(‪.)25‬‬ ‫وهو محال‪ ،‬وأن اإلله مل‬
‫الواضح أن ذات اهلل ال‬ ‫لكن ما معنى الحركة التي‬ ‫يوجد العامل وإنما وجد‬
‫يصح أن تتصف بهذه‬ ‫نفاها أرسطو وأبو العالء‬ ‫العامل وحده‪ ،‬وإذن ما عمل‬
‫الحركة ألنها مل تكن قوة‬ ‫عن ذات اهلل ونحن نعلم‬ ‫هذا اإلله؟ وما قيمته؟ كل‬
‫ً‬
‫فصارت فعل‪ ،‬إنما هي‬ ‫أن للحركة يف رأي أرسطو‬ ‫هذه االعتراضات وردت عىل‬
‫مخرجة األشياء من القوة‬ ‫معنيين متباينين‪ :‬أحدهما‬ ‫أرسطو طاليس فلم يستطع‬
‫الحركة املادية وهي الكون يف إىل الفعل‪ .‬وقد نص أرسطو‬ ‫اعتراضا‬
‫ً‬ ‫لها ر ًّدا‪ .‬عىل أن هنا‬
‫‪168‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫فخرج أبو العالء من هذه‬ ‫لزم األول‪ ،‬فباضطرار‪ :‬إما‬ ‫طاليس عىل أن اهلل فعل‬
‫املعركة إسالمي النزعة يف‬ ‫أن يمر ذلك إىل غير نهاية‪،‬‬ ‫محض‪ ،‬أي أنه ليس شيئًا‬
‫الحقيقة وفقه الكالم يونانيها‬ ‫أو ننزل أن هنا متحر ًكا ال‬ ‫كان قوة فصار ً‬
‫فعل؛ ألن‬
‫أيضا‪ ،‬فهل شذ أبو العالء عن‬ ‫ً‬ ‫أصل وال من شأنه‬ ‫ً‬ ‫يتحرك‬ ‫هذا يقتضي التغير والتغير‬
‫(‪)27‬‬
‫املسلمين يف أمور محددة؟‬ ‫أن يتحرك ال بالذات وال‬ ‫عليه محال‪ .‬فلم يبق بد من‬
‫ومل يستطع أبو العالء أن‬ ‫بالعرض(‪.)26‬‬ ‫القول بأنه فعل محض‪ ،‬وهو‬
‫يتصور وجو ًدا خارج الزمان‬ ‫ال شك يف أن الحركة التي‬ ‫يساوي القول بأنه حركة‬
‫واملكان‪ ،‬فجزم أن اهلل يف‬ ‫نفاها أبو العالء عن اهلل إنما‬ ‫محضة‪ ،‬والحركة ال توصف‬
‫زمان ومكان‪ ،‬وزعم أن من‬ ‫هي الحركة املادية‪ ،‬بدليل أنه‬ ‫بالحركة‪ ،‬ألن وصف الشيء‬
‫خالف ذلك ليس له عقل‪ ،‬ويف‬ ‫قد أثبتها للكواكب ونفاها عن‬ ‫بنفسه ضروري العبث‪ ،‬وإذا‬
‫مناظرا املسلمين‬
‫ً‬ ‫ذلك يقول‬ ‫اهلل فقال‪:‬‬ ‫كان حركة محضة‪ ،‬مل يلزم‬
‫وعامة املتدينين من أتباع‬ ‫أما تري الشهب انتقلت‬ ‫أرسطو طاليس أن يكون‬
‫الرسل‪:‬‬ ‫بقدرة من مليك غير منتقل‬ ‫سكونًا وال ساكنًا‪ ،‬فال يلزم‬
‫قالوا لنا خالق قديم‬ ‫والشهب إنما تنتقل من‬ ‫العجز‪ ،‬ومل يلزمه البحث‬
‫قلنا صدقتم كذا نقول‬ ‫حيز إىل حيز‪ ،‬وهذا االنتقال‬ ‫عن مصدر ما يف العامل من‬
‫زعمتموه بال زمان‬ ‫محال عىل اهلل من غير شك‪،‬‬ ‫الحركة‪ ،‬فاهلل هو مصدرها‬
‫وال مكان أال فقولوا‬ ‫فلم يبق ريب يف أن أبا‬ ‫إذ هو الحركة يف نفسها‪.‬‬
‫هذا كالم له خبئ‬ ‫العالء موافق ألرسطو أتم‬ ‫ونالحظ أنه ال يريد بالحركة‬
‫(‪)28‬‬
‫معناه ليست لنا عقول‬ ‫املوافقة‪ ،‬فهل هو مع ذلك‬ ‫إال الفعل املحض‪ ،‬أي التحقق‬
‫فهذا الكالم يستظرفه‬ ‫موافق للمسلمين؟ مل ينص‬ ‫الثابت يف الخارج‪ ،‬ومن هنا‬
‫األديب والشاعر لرقة لفظه‬ ‫املسلمون عىل شيء من‬ ‫ال ترد عىل أرسطو طاليس‬
‫ودقة ما فيه من السخرية‬ ‫هذا؛ ألنهم ال يعترفون بهذه‬ ‫تلك االعتراضات السابقة‪،‬‬
‫–عىل حد تعبير طه حسين‪-‬‬ ‫الحركة التي يراها أرسطو‬ ‫فلنبحث عن بيت أبي العالء‬
‫‪ ،‬لكنه ال يناسب املتكلم‬ ‫وال يعرفون إال الحركة‬ ‫لنعرف أيدل عىل أنه فقه‬
‫ويتعارض مع التنزيه؛ ألنه‬ ‫املادية‪ ،‬فإذا التمسنا موافقة‬ ‫الحركة كما فقهها أرسطو؟‬
‫يصف اهلل يف ظاهره بما‬ ‫أبي العالء للمسلمين يف هذا‬ ‫ويري ابن رشد أن هذا‬
‫ال بالئم فقه الدين وأصول‬ ‫األمر فإنما نلتمس موافقة‬ ‫الدليل يقوم عىل مسلمة وهي‬
‫الكالم‪ .‬غير أننا ال نستطيع‬ ‫فقهه الكالمي ملا اتفقوا‬ ‫أن كل حركة ال بد لها من‬
‫إن نمر بهذه األبيات دون أن‬ ‫عليه من تنزيه‪ ،‬وذلك شيء‬ ‫محرك‪ ،‬وأن املتحركات ال‬
‫نفقهها كما فعل الذين كفروا‬ ‫ال شك فيه‪ ،‬فإن املتكلمين‬ ‫بد أن تنتهي إىل محرك أول‬
‫بها أبا العالء‪ .‬والحقيقة أن‬ ‫مهما يكثر بينهم الجدال ال‬ ‫وهو اهلل‪ ،‬يري ابن رشد‪:‬‬
‫الرجل مل يكن مشب ًها وال‬ ‫ينكرون أن اهلل موجود يف‬ ‫أننا متى أنزلنا هذا املحرك‬
‫مجسما‪ ،‬ويف أقواله ما يدل‬‫ً‬ ‫الخارج أي أنه فعل‪ ،‬وهو ما‬ ‫األقصى للعامل‪ ،‬يحرك‬
‫عىل أنه ال يشك يف اهلل وبأنه‬ ‫يقوله أبو العالء وأرسطو‬ ‫تارة وال يحرك أخرى‪ ،‬لزم‬
‫حسن الرأي فيه(‪.)29‬‬ ‫طاليس‪ .‬واملعتزلة خاصة‬ ‫ضرورة أن يكون هناك‬
‫ويف معرض حديثه عن‬ ‫ينفون الصفات ويقولون إن‬ ‫محرك أقدم منه‪ ،‬فال يكون‬
‫الزمان رأى أبو العالء –كما‬ ‫اهلل عين ذاته‪ ،‬فهو وجود‬ ‫املحرك األول‪ ،‬فإن فرضنا‬
‫يؤكد طه حسين‪ -‬يف الزمان‬ ‫محض‪ ،‬وذلك عين ما يقوله‬ ‫أيضا هذا الثاني يحرك تارة‬ ‫ً‬
‫معنى ربما ضاقت اللغة‬ ‫أبو العالء وأرسطو طاليس‪.‬‬ ‫وال يحرك أخرى‪ ،‬لزم ما‬
‫شمول القدرة يقتضي أال يكون في هذا‬
‫عن التعبير عنه‪ ،‬فالزمان‬
‫العالم شيء إال إذا تعلقت به قدرة اهلل‪،‬‬
‫موجود عنده قبل الفلك إن‬
‫فإذا فعل اإلنسان شي ًئا فإما أن يكون‬ ‫صح أن يسبق الفلك بوجود‪،‬‬
‫فهو يري قدمه وإنما يريد‬
‫مختا ًرا فيه أو غير مختار؛ فإن يكن مختا ًرا‬
‫بالزمان مجرد االستمرار‬
‫فهذا الفعل واجب‪ ،‬وإن لم تتعلق به‬ ‫ذي الصورة الواحدة الذي‬
‫ال ينقسم إىل ليل وال نهار‬
‫قدرة اهلل وهو باطل؛ ألنه يهدم أصل‬
‫وال يقاس بشهر وال عام‪،‬‬
‫القدرة‪ ،‬وإن يكن غير مختار فهو الجبر‬ ‫استمرارا ال نستطيع‬
‫ً‬ ‫يريد‬
‫أن نفسره إال بأنه ظروف‬
‫الذي ال شك فيه‪ .‬إذن الدين والفلسفة‬
‫يحتوي عىل كل موجود‬
‫يتظاهران إثبات الجبر وإقامة األدلة عليه‬ ‫حتى الليل والنهار اللذين‬
‫نسميهما نحن زمانًا‪ ،‬وهذا‬
‫الزمان الذي ذهب إليه أبو‬
‫العالء ال يستطيع أن يشك‬
‫فيه إنسان‪ ،‬بل إن اعتقاده‬
‫اهلل خارج العامل‪ ،‬إذ ليس‬ ‫فانظر إليه كيف مل يقس‬ ‫جزء من مكونات العقل‬
‫للعامل عنده خارج‪ ،‬فاهلل‬ ‫وجود اهلل بمضي أو‬ ‫اإلنساني‪ ،‬فإنك ال تستطيع‬
‫موجود يف العامل‪ ،‬والعامل‬ ‫(‪)30‬‬
‫استقبال‬ ‫أن تتصور وجو ًدا أو ثبوتًا‬
‫مكانه‪ ،‬لكن هذا ال يجعل‬ ‫ويف سياق متصل بفكرة‬ ‫إال إذا تصورت فيه البقاء‬
‫واالستمرار بالوقت‪ ،‬وهذا‬
‫املعري مشب ًها؛ ألنه مل‬ ‫الزمان رأي طه حسين‪ :‬أن‬
‫الرأي يف الزمان هو ما‬
‫يفسر املكان بالحيز فيلزمه‬ ‫أبا العالء ال يريد باملكان‬
‫رآه جون استيوارت مل‬
‫أن اهلل جسم‪ ،‬ومل يقل‬ ‫معنى من املعاني الضيقة‬
‫الفيلسوف اإلنجليزي وأثبت‬
‫بانحصار العامل فيلزم أن اهلل‬ ‫التي ذكرها املتكلمون‬
‫قدمه وأنه ال أول له‪ .‬فإذا‬
‫محصور‪ ،‬إنما قال بعامل ال‬ ‫والفالسفة‪ ،‬فاملكان عند‬
‫فهمنا الزمان بهذا املعنى مل‬
‫يتناهى‪ ،‬وبمكان ال يتناهى‪.‬‬ ‫هؤالء ال يمكن أن يتجاوز‬ ‫نستطع نفي مقارنته لوجود‬
‫وال يجد طه حسين مبررات‬ ‫العامل‪ ،‬ومن ثم اختلفوا يف‬ ‫اهلل‪ ،‬فنفي هذه املقارنة نفي‬
‫النتقاد املعري يف هذه‬ ‫إمكان الخالء يف هذا العامل‬ ‫للوجود نفسه‪ ،‬إذ الوجود‬
‫املسألة‪ ،‬فإذا فهمنا املكان‬ ‫واستحالته‪ ،‬واتفقوا عىل‬ ‫يف نفسه استمرار وهذا‬
‫والزمان كما فهمهما أبو‬ ‫إمكانه خارجه‪ ،‬وقد عرف‬ ‫االستمرار هو الذي يسميه‬
‫بأسا من‬
‫العالء مل نر عليه ً‬ ‫طه حسين أن أبا العالء‬ ‫أبو العالء زمانًا‪ .‬ويدلك‬
‫أن يعتقد أن اهلل مقارنًا لهما‪،‬‬ ‫يرى عدم تناهي األبعاد‪،‬‬ ‫عىل أن الزمان الذي ذكره‬
‫وال يجب أن يتهم رجل قال‬ ‫ً‬
‫داخل‬ ‫فهو ال يري للعامل‬ ‫أبو العالء يف هذه األبيات‬
‫ذلك بالكفر‪ ،‬فإنه مل يقصر‬ ‫وخارجا كما زعم املتكلمون‬ ‫ً‬ ‫ليس هو الزمان الذي يفهمه‬
‫يف تنزيه اهلل‪ ،‬وإنما يجب‬ ‫والفالسفة‪ ،‬وإذا مل يكن‬ ‫املتكلمون من قول أبي العالء‬
‫أن يناقش فيما ذهب إليه‬ ‫للعامل عند أبي العالء حد‬ ‫يف قصيدة أخرى‪:‬‬
‫من رأيه الخاص يف الزمان‬ ‫وال نهاية فال شك يف أنه ال‬ ‫واهلل أكبر ال يدنو القياس له‬
‫واملكان‪ ،‬فإن صح له الرأي‬ ‫يستطيع ان يتصور وجود‬ ‫وال يجوز عليه كان أو صارا‬
‫‪170‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫فإذا فعل اإلنسان شيئًا فإما‬ ‫هذا االختيار إما أن يكون‬ ‫صحت عقيدته وإن مل يصح‬
‫مختارا فيه أو غير‬
‫ً‬ ‫أن يكون‬ ‫ً‬
‫متصل بما قبله‪ ،‬أو بما‬ ‫فقد أخطأ يف تصوره‪ .‬فقد‬
‫مختارا فهذا‬
‫ً‬ ‫مختار؛ فإن يكن‬ ‫بعده اتصال العلة باملعلول‬ ‫ترك طه حسين األمر للنقاش‬
‫الفعل واجب‪ ،‬وإن مل تتعلق‬ ‫والنتيجة باملقدمة‪.‬‬ ‫حول آراء املعري‪ ،‬ويرفض‬
‫به قدرة اهلل وهو باطل؛‬ ‫والبحث يف مشكلة الجبر‬ ‫اتهامات البعض له‪ ،‬فقد‬
‫ألنه يهدم أصل القدرة‪،‬‬ ‫يكمن يف محاولة فهم‬ ‫تعلم طه حسين من الغرب‬
‫وإن يكن غير مختار فهو‬ ‫املعنى امليتافيزيقي للمشكلة‬ ‫الحوار‪ ،‬تعلمه من سقراط‬
‫الجبر الذي ال شك فيه‪ .‬إذن‬ ‫وعالقته بالوجود اإلنساني‪،‬‬ ‫وأفالطون وغيرهما‪ ،‬فأصبح‬
‫الدين والفلسفة يتظاهران‬ ‫من حيث أن هناك مشكلة‬ ‫يمتلك أدوات الحوار‪ ،‬وال‬
‫إثبات الجبر وإقامة األدلة‬ ‫كبيرة بين الحرية ومشكلة‬ ‫يتعصب للرأي‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬فإذا بحثنا عىل الحياة‬ ‫الفعل اإلنساني‪ .‬واملشكلة‬ ‫ٍ‬
‫وقد ذكر يف بيت قدم اهلل‬
‫العملية وال سيما بالقياس‬ ‫يمكن وضعها يف السؤال‬ ‫وقدم الزمان م ًعا فقال‪:‬‬
‫إىل أبي العالء عرفنا أنها‬ ‫اآلتي‪ :‬إذا كانت اإلرادة‬ ‫خالق ال يشك فيه قديم‬
‫أيضا(‪.)33‬‬‫تنتج الجبر ً‬ ‫اإلنسانية حرة مطلقة فكيف‬ ‫وزمان عىل األنام تقادم‬
‫ويقسم طه حسين الجبر‬ ‫نفسر العالقة بين املشيئة‬ ‫فجعلهما قديمين لكنه‬
‫إىل‪ :‬ما يتعلق باألشخاص‪،‬‬ ‫اإللهية واملشيئة اإلنسانية‬ ‫(‪)31‬‬
‫فضل التنزيه‬
‫ما يتعلق بالجماعات‪،‬‬ ‫من جانب أن املشيئة اإللهية‬
‫فأحوالك الخاصة وظروفك‬ ‫غالبة عىل املشيئة اإلنسانية‬ ‫الجبر عند أبي العالء‬
‫التي تكتنفك محدثة كانت‬ ‫إال إذا اتفقتا‪ ،‬فمن البديهي‬
‫أم قديمة تحدد لك طريقك‬ ‫أن يتساءل املرء‪ :‬كيف يتسق‬ ‫الجبر هو أن تنسب الفعل‬
‫يف الحياة‪ ،‬وكذلك األحوال‬ ‫الجبر مع التكليف والثواب‬ ‫للرب دون العبد‪ ،‬وهو‬
‫التي تكتنف الجماعات‬ ‫والعقاب‪ ،‬فإن ذلك يتناىف مع‬ ‫مذهب قديم عند الفالسفة‬
‫والفرد والجماعة ال يملكان‬ ‫مفهوم العدل اإللهي(‪.)32‬‬ ‫وكثير من أهل الديانات‪،‬‬
‫لهذه الظروف واألحوال‬ ‫وشمول القدرة يقتضي أال‬ ‫فاالختيار ال يتفق مع القول‬
‫ً‬
‫تبديل(‪.)34‬‬ ‫يكون يف هذا العامل شيء‬ ‫بأن هذا العامل مبني يف‬
‫يقول أبو العالء‪:‬‬ ‫إال إذا تعلقت به قدرة اهلل‪،‬‬ ‫حركاته االجتماعية والفردية‬
‫لإلنسان وغير اإلنسان‬
‫عىل العلل‬
‫واألسباب‪،‬‬
‫وأن كل شيء‬
‫يف هذه الحياة‬
‫نتيجة شيء‬
‫قبله ومقدمة‬
‫لشيء بعده‪،‬‬
‫ويف هذه‬
‫الحالة ال يكون‬
‫لالختيار‬
‫موضع يف هذا‬
‫العامل‪ ،‬ذلك أن‬
‫‪171‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫اللزوميات ينطقان به ويدالن ولقد وجدت لهذا القول يف‬ ‫إن كان من فعل الكبائر‬
‫شواهدا‬ ‫عليه‪ ،‬فقد نص يف مقدمة‬ ‫مجبرا‬
‫ً‬
‫ونهاني دونه الورع‬ ‫اللزوميات عىل أنه مل يؤلف‬ ‫(‪)35‬‬
‫فعقابه ظلم عىل ما يفعله‬
‫فزاد يف هذه األبيات عىل‬ ‫مختارا‪ ،‬وإنما‬
‫ً‬ ‫هذا الكتاب‬ ‫واهلل إذا خلق املعادن عاملًا‬
‫إثبات الجبر أمرين أحدهما‬ ‫ألفه بقضاء ال يعرف كنهه‪،‬‬ ‫إن الحداد البيض منها تجعل‬
‫وقد ذكر الجبر يف اللزوميات نفي التكليف‪ ،‬واآلخر أن‬ ‫فانظر كيف جعل عقاب‬
‫يرى الجبر ويؤمن به وإنما‬ ‫أكثر من مائتي مره‪ ،‬يثبته‬ ‫ظلما حين‬ ‫صاحب الكبيرة ً‬
‫ويناضل عنه ويبسط سلطانه الورع ينهاه عنه ويقول‪:‬‬ ‫أثبت الجبر‪ ،‬وقد ذهب يف‬
‫ما باختياري ميالدي وال‬ ‫عىل الحياة العملية لألفراد‬ ‫بيت آخر إىل أن اإلنسان ال‬
‫هرمي‬ ‫والجماعات‪ .‬فمن قوله يف‬ ‫مدحا فهو‬ ‫يستحق ذ ًّما وال ً‬
‫وال حياتي فهل يل بعد تخيير‬ ‫الجبر‪:‬‬ ‫مجبر‪:‬‬
‫وال إقامة إال عن يدي قدر‬ ‫املرء يقدم دنياه عىل خطر‬ ‫أمرا‬
‫ال تمدحن وال تذمن ً‬
‫بالكره منه وينآها عىل سخط وال مسير إذ مل يقض‬ ‫فينا فغير مقصر كمقصر‬
‫تسييرا‬ ‫إثما إىل إثم فيلبسه‬‫يخيط ً‬ ‫فكما أجبر اإلنسان عىل‬
‫كأن مفرقه بالشيب مل يخط والعقل زين ولكن فوقه قدر‬ ‫أن يحسن ويسيء‪ ،‬أجبر‬
‫فما له يف ابتغاء الرزق‬ ‫فاإلنسان عنده يدخل الدنيا‬ ‫عىل أن يحمد الحسن ويذم‬
‫(‪)37‬‬
‫تأثيرا‬ ‫كار ًها ويخرج منها كار ًها‪،‬‬ ‫القبيح‪ ،‬ويتصور هذا‬
‫ولو خير ما اختار أن يعيش‪.‬‬ ‫حسن وهذا قبيح‪ .‬ويبرر‬
‫البعث عند أبي العالء‬ ‫يقول أبو العالء‪:‬‬ ‫طه حسين آراء املعري يف‬
‫املعري‬ ‫وإذا كنت باهلل املهيمن واثقًا‬ ‫الجبر وبأن اإلنسان مجبر‬
‫فسلم إليه األمر يف اللفظ‬ ‫عىل أفعاله‪ ،‬فيقول‪ :‬بأن‬
‫الفالسفة اإللهيون من‬ ‫واللحظ‬ ‫طائفة األحوال التي اكتنفت‬
‫اليونان ينكرون حشر‬ ‫فانظر إليه كيف جعل اهلل‬ ‫الحياة املادية واملعنوية‬
‫األجساد‪ ،‬وال يؤمنون ببعث‬ ‫يدبر مقادير تصيب ما‬ ‫ألبي العالء اضطرته إىل‬
‫األرواح كما نفهمه نحن من‬ ‫تصيبه بقدر‪ ،‬وعن حركتها‬ ‫أن يتصور الجبر بالصورة‬
‫الدين‪ ،‬ولكنهم يقولون بخلود‬ ‫التي أثبت لها املصادفة‬ ‫التي قدمناها‪ ،‬وأن يتخذ‬
‫الروح‪ ،‬وإنها تنتقل بعد املوت‬ ‫يسعد قوم ويشقي آخرون‬ ‫منه اعتراضات عىل التكليف‬
‫إىل عاملها العقيل‪ ،‬وموقف‬ ‫أيضا‪:‬‬
‫ويقول ً‬ ‫ً‬
‫سبيل‬ ‫تجعل لخصومه‬
‫املعري يف البعث موقف غير‬ ‫خرجت إىل ذي الدار كرها‬ ‫عليه(‪.)36‬‬
‫ثابت ‪-‬كما يراه طه حسين‪-‬‬ ‫ورحلتي إىل غيرها بالرغم‬ ‫أال ترى معي أن يف هذا‬
‫فتارة يقف موقف الشك‬ ‫واهلل شاهد‬ ‫نقد للمعتزلة التي قالت‬
‫فيقول‪:‬‬ ‫إن روح أبي العالء يف‬ ‫أن الحسن والقبح ذاتيان‪،‬‬
‫يا مرحبا باملوت من منتظر‬ ‫الفلسفة اإللهية جبري ال‬ ‫ودعت إىل حرية اإلرادة‪،‬‬
‫إن كان ثم تعارف وتالق‬ ‫يعرف االختيار يقول‪:‬‬ ‫وهذا ما جعل املعري ينتقدها‬
‫قالت معاشر كل عاجز ضرع وتارة يجزم بموقف‬ ‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫بشدة بل وال يذكرها‬
‫ما للخالئق ال بطء وال سرع أفالطون يف الروح فيقول‪:‬‬ ‫عند ذكره للمتكلمين‪.‬‬
‫مدبرون فال عتب إذا خطئوا وإن صدأت أرواحنا يف‬ ‫وكما أظهرت آراء أبي العالء‬
‫أجسامنا‬ ‫عىل املسيء وال حمد إذا‬ ‫يف الفلسفة اإللهية الجبر؛‬
‫يوما أن يعاودها‬
‫فيوشك ً‬ ‫برعوا‬ ‫فإن حياته املادية وشعره يف‬
‫‪172‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫نكذب العقل يف تصديق‬ ‫وقد ظهر مذهب وحدة‬ ‫الصقل‬


‫كاذبهم‬ ‫واضحا عند‬
‫ً‬ ‫الوجود‬ ‫ويعود إىل الشك فيقول‪:‬‬
‫والعقل أوىل باكرام وتصديق‬ ‫اليونانيين يف الفلسفة‬ ‫وعييت باألرواح أني تسلك‬
‫فشاور العقل واترك غيره‬ ‫الرواقية‪ ،‬الذين نشأت‬ ‫أما الجسوم فللتراب مآلها‬
‫هدرا‬
‫ً‬ ‫فلسفتهم ملا فشلت فلسفة‬ ‫ومهما يكن شك أبي العالء‬
‫فالعقل خير مشير ضمه‬ ‫أفالطون وأرسطو طاليس‬ ‫يف البعث فإنه ال يرتاب يف‬
‫النادي‬ ‫يف تحقيق الصلة بين العامل‬ ‫قدرة اهلل عليه فيقول‪:‬‬
‫وموجده‪ ،‬فزعموا أن ليس يف أما لكم بني الدنيا عقول‬ ‫وقدرة اهلل حق ليس يعجزها‬
‫تصد عن التنافس والتعادي‬ ‫الوجود إال قوة واحدة ذات‬ ‫حشر لجسم وال بعث‬
‫فهذان البيتان ال يدعان‬ ‫وجهة‪ ،‬أحدهما عقل صرف‬ ‫(‪)38‬‬
‫ألموات‬
‫ش ًّكا يف أن أبا العالء ما كان‬ ‫به الحركة واآلخر صورة‬ ‫«إن الروح الفلسفي ألبي‬
‫تظهر فيها هذه الحركة‪ ،‬وعىل يرضي بغير العقل‪ ،‬وقد‬ ‫العالء يف الطبيعيات‬
‫هذا فاملوجود وموجده شيء ذم األشعري فيمن ذمه من‬ ‫والرياضيات يوناني خالص‪،‬‬
‫املتكلمين يف رسالة الغفران‬ ‫واحد يف نفسه وإن اختلف‬ ‫وأنه يف اإللهيات يوناني‬
‫كثيرا‪ ،‬وإسالمي ً‬
‫قليل‪ ،‬فهذا‬
‫يف االعتبار‪ .‬قالوا وهذه القوة فقال‪ :‬واألشعري إذا كشف‬ ‫ً‬
‫متحركة وعن حركتها تنشأ ظهر نمى تلعنه األرض‬ ‫الروح الفلسفي يثبت لنا أن‬
‫هذه الظالل املختلفة التي‬ ‫أبا العالء إن مل يكن أنكر‬
‫الراكدة والسماء‪ .‬وأبو العالء‬
‫نسميها الخليقة‪ ،‬قالوا‪ :‬وإذا‬ ‫إنكارا تا ًّما‪ ،‬فقد شك‬
‫ً‬ ‫البعث‬
‫‪-‬كما يصفه طه حسين‪ -‬وإن‬
‫كانت هذه الحركة واحدة‬ ‫فيه ش ًّكا شدي ًدا» ‪.‬‬
‫(‪)39‬‬
‫يتخذ العقل إمامه يف البحث‬
‫فال شك أنها تعود بين حين‬ ‫ويشرح طه حسين صورة‬
‫عن األشياء‪ ،‬مل يستطع أن‬
‫وحين إىل جوهرها‪ ،‬أي أن‬ ‫ثالثة للفلسفة عند املسلمين‬
‫ينتحل له العصمة‪ ،‬وال أن‬
‫هذه الظالل املختلفة تعود إىل‬ ‫يمثلها القرن الرابع‪ ،‬ويتبرم‬
‫يزعم قدرته عىل اإليصال‬
‫أصلها األول فال يكون بينها‬ ‫بها أبو العالء‪ ،‬وهي فلسفة‬
‫إىل اليقين املطلق‪ ،‬بل حفظ‬ ‫اختالف‪ ،‬ثم ترجع بعد ذلك‬ ‫املتصوفة‪ .‬والوهم يف هذه‬
‫للشك حقه يف الدخول عىل‬ ‫إىل اختالفها بمقتضى هذه‬ ‫الفلسفة كما يراه حسين‬
‫ما أثبته العقل‪ ،‬وعلل ذلك‬ ‫الحركة الدائمة‪ ،‬فما يزال‬ ‫قديم‪ ،‬فأكثر الناس يراها‬
‫بأن العقل ليس يف نفسه‬ ‫العامل يف افتراق واتصال‬ ‫غل ًّوا يف الدين واجتها ًدا يف‬
‫مستقل عن الحياة‬‫ً‬ ‫جوهرا‬
‫ً‬ ‫أب ًدا(‪.)40‬‬ ‫تقديس اهلل ويرفعون سندها‬
‫ً‬
‫استقالل تا ًّما‪ ،‬بل هو‬ ‫املادية‬ ‫و»التصوف ليس مذهبًا‬ ‫حتى يصلون به إىل عصر‬
‫بها متأثر ولها خاضع‪ ،‬ومن‬ ‫خالصا‪ ،‬إنما هو‬‫ً‬ ‫اسالميًّا‬ ‫النبي وأصحابه‪ .‬والحق أن‬
‫هنا اختلفت أحكامه فأثبت‬ ‫مذهب هندي أخذ صبغة‬ ‫تحليل التصوف االسالمي‬
‫الشيء ونفاه وأوجبه ثم‬ ‫الفلسفة اليونانية عند‬ ‫غير يسير لكثرة ما فيه‬
‫الرواقيين واإلسكندريين‪ ،‬ثم سلبه‪ .‬ويف ذلك يقول‪:‬‬ ‫من تركيب وامتزاج‪ ،‬لكننا‬
‫ويعتري النفس إنكار‬ ‫اخذ الصبغة اإلسالمية يف‬ ‫نشير إىل العناصر األوىل‬
‫أيام بني عباس»(‪ .)41‬وقد ذم ومعرفة‬ ‫التي تتألف منها الفلسفة‬
‫وكل معني له نفي‬ ‫أبو العالء أهل الدين فقال‬ ‫الصوفية عند املسلمين‪ ،‬فأول‬
‫(‪)42‬‬
‫وإيجاب‬ ‫فيهم‪:‬‬ ‫هذه العناصر وأقدمها عنصر‬
‫أما لكم بني الدنيا عقول‬ ‫تستروا بأمور ديانتهم‬ ‫فلسفي يوناني هو وحدة‬
‫تصد عن التنافس والتعادي‬ ‫وإنما دينهم دين الزناديق‬ ‫الوجود‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫مرحلة تاريخية‪ ،‬ويف تأصيل‬ ‫كيدها‬ ‫فكر أبي العالء‬


‫سلطة الحاكم الدنيوية‪،‬‬ ‫وعدوا مصالحها وهم‬ ‫السياسي‬
‫مرفوض من جانب املعري‪،‬‬ ‫أجراؤها‬
‫فقد كان االرتباط قو ًّيا بين‬ ‫ومن هنا نعلم أن أبا العالء ال‬ ‫رصد طه حسين مناهضة‬
‫ال ِّدين وبين املمارسات‬ ‫يرى امللك وال وراثته وإنما‬ ‫أبي العالء الفساد السياسي‪،‬‬
‫السياسية عبر التاريخ‬ ‫ِّ‬ ‫يرى التشاور والديمقراطية‪،‬‬ ‫فقد انتقد السلطة‪ ،‬فالحكام‬
‫اإلنساني‪ ،‬ثم حدث تطور‬ ‫كما يراها الجمهوريون‪،‬‬ ‫يف عصره ‪-‬كما كان يراهم‪-‬‬
‫لدرجة االنفصال التام يف‬ ‫فأما سخطه عىل القدماء‬ ‫جماعة فوضى ورذيلة‪،‬‬
‫بعض املجتمعات(‪.)45‬‬ ‫واملحدثين من امللوك فكثير‬ ‫يتبعون هواهم ويقهرون‬
‫ويرى أبو العالء أن البعد عن‬ ‫يف اللزوميات(‪:)44‬‬ ‫ظلما وينعمون‬‫الرعية ً‬
‫الحكام أفضل‪ ،‬يقول يف ذلك‪:‬‬ ‫قالوا سيملكنا إمام عادل‬ ‫بخيرات البالد‪ .‬وكانت‬
‫توحد فإن اهلل ربك واحد‬ ‫يرمي أعادينا بسهم صارد‬ ‫للمعري آراء سياسية بها‬
‫وال ترغبن يف عشرة‬ ‫واألرض موطن شره‬ ‫الكثير من الجرأة‪ ،‬عرضها‬
‫(‪)46‬‬
‫الرؤساء‬ ‫وضغائن‬ ‫يف مؤلفاته وكتب عنها‬
‫فهنا يري أن يؤثر اإلنسان‬ ‫ما أسمحت بسرور يوم فارد‬ ‫طه حسين‪ ،‬فأبو العالء‬
‫العزلة إن كان راغبًا يف‬ ‫وقد انتقد أبو العالء السلطة‬ ‫ينكر امللك ووراثته يف عهد‬
‫الكمال‪ ،‬فالوحدة أقصي‬ ‫السياسية واستغنى عنها‪،‬‬ ‫يسيطر فيه النظام امللكي‬
‫صفات اهلل‪ ،‬والعزلة‬ ‫ويعجب طه حسين بوعي‬ ‫االستبدادي‪.‬‬
‫أفضل من معاشرة امللوك‬ ‫املعري الفلسفي األخاذ‪،‬‬ ‫ويهاجم أبو العالء الحكام يف‬
‫والصعاليك والعامة(‪:)47‬‬ ‫ووقف أبو العالء من السلطة‬ ‫عهد االستبداد ويقول فيهم‪:‬‬
‫تذال كراسي امللوك وطاملا‬ ‫الدينية موقفًا ناق ًدا‪ ،‬فانتقد‬ ‫يريد رعية أن يسجدوا له‬
‫غدت وهي تحمي بالعوايل‬ ‫الدين كأيديولوجيا وشعائر‪،‬‬ ‫ومن شر البرية رب ملك‪..‬‬
‫(‪)48‬‬
‫مروجها‬ ‫وندد ببعض رجال الدين‪،‬‬ ‫امللك يفنى وال يبقى ملالكه‬
‫ويشيد أبو العالء بالعقل‬ ‫فهو قد وصل إىل قناعة تامة‬ ‫أودى ابن عاد وأودى نسره‬
‫ويعترف بسلطانه‪ ،‬وهذا‬ ‫بأن الفساد سار يف جميع‬ ‫(‪)43‬‬
‫لبد‬
‫ما يشيد به طه حسين‪،‬‬ ‫األمم بسبب التدين األعمى‬ ‫وسخط أبو العالء عىل‬
‫فقد أعجب باعتزاز املعري‬ ‫والتمسك برداء الدين يف‬ ‫ما رأى وما قرأ من ظلم‬
‫بالعقل‪ ،‬فهو أعز ما وهب‬ ‫اتباع نهج الظلم واالستبداد‪،‬‬ ‫امللوك واألمراء ما دعاه إىل‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهو الهادي‬ ‫وأن الكذب عامل مشترك‬ ‫التفكير يف مصدر السلطة‬
‫للمعارف‪ ،‬فال حاجة للناس‬ ‫بين جميع األديان‪ .‬وهذا ما‬ ‫التي أتيحت لهم‪ ،‬فلم ير لها‬
‫إىل إمام معصوم كما يدعي‬ ‫أورده يف لزومياته املتكررة‬ ‫مصدرا إال األمة التي مكنت‬‫ً‬
‫الشيعة‪ ،‬فالعقل كفيل ببيان‬ ‫حول أصول الدين والعقائد‬ ‫حكامها ليقوموا بمصالحها‬
‫ذلك‪ ،‬قال أبو العالء‪:‬‬ ‫والعبادات والشعائر وعن‬ ‫العامة‪ ،‬فأي تجاوز لهذه‬
‫خذوا يف سبيل العقل تهدوا‬ ‫اإلله‪.‬‬ ‫القاعدة يقع فيه الحكام كافٍ‬
‫بهديه‬ ‫وموضوع توظيف الدين‬ ‫ملقتهم والوقوف ضدهم‪،‬‬
‫وال يرجون بغير املهيمن راج‬ ‫لصالح السياسة قديم‪،‬‬ ‫وفيه يقول‪:‬‬
‫وال تطفئوا نور املليك فإنه‬ ‫واستخدام السلطة الدينية‬ ‫مل املقام فكم أعاشر أمة‬
‫ممتع كل من حجى‬ ‫كقناع وغطاء ملنظومة من‬ ‫أمرت بغير صالحها أمراؤها‬
‫(‪)49‬‬
‫بسراج‬ ‫املصالح املتعددة يف كل‬ ‫ظلموا الرعية واستجاروا‬
‫‪174‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫التحرر من املفاهيم الراسخة‬ ‫والتأثير‪.‬‬ ‫ويعتقد أبو العالء أن إصالح‬


‫لدينا‪ ،‬وبخاصة فيما يختص‬ ‫ومن استقرائنا لحقائق‬ ‫الناس والحياة السياسية ال‬
‫هذه الدراسة تتضح النتائج بالتراث‪ ،‬فنحن بحاجة‬ ‫يجري إال من خالل العقل‪،‬‬
‫إىل قراءة متجددة للتراث‬ ‫التالية‪:‬‬ ‫فهو غير مقتنع بتأثير النقل‬
‫‪ -‬الحرية هي الهدف األسمى اإلسالمي العربي‪.‬‬ ‫يف اإلصالح‪ ،‬فبالعقل يمكن‬
‫‪ -‬وقع أبو العالء املعري‬ ‫يف فكر طه حسين‪ ،‬وهي‬ ‫التصدي للظلم السائد‪،‬‬
‫يف تناقض مل يشر إليه‬ ‫دائما بالرفض‬‫التي ترتبط ً‬ ‫فاألوطان هي الباقية‪.‬‬
‫طه حسين‪ ،‬عندما صرح‬ ‫واملعارضة‪ ،‬ولذلك عندما‬ ‫أيضا‪:‬‬
‫ويقول أبو العالء ً‬
‫بالجبر ووقف يف ذات الوقت‬ ‫ضاق عىل طه حسين‬ ‫صر‪ ،‬يف‬‫َت ْتوى امللوكُ ‪ ،‬و ِم ٌ‬
‫ضد االستبداد السياسي‪،‬‬ ‫األزهر‪ ،‬بحث عن مجال‬ ‫تغيّرهم‬
‫ومن املعروف منذ العصر‬ ‫أوسع ملمارسة حرية الفكر‬ ‫واألحسا ُء‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ص ٌر عىل العهد‪،‬‬ ‫ِم ْ‬
‫األموي يف التاريخ اإلسالمي‬ ‫خارج أسواره إىل الحياة‬ ‫أحسا ُء‬
‫الثقافية األكثر رحابة‪ ،‬حيث أن مذهب الجبر صناعة‬ ‫وهذا البيت قصد به‬
‫حكام الدولة األموية حتى‬ ‫مؤسسات الرأي واملجتمع‬ ‫املعري‪ :‬أن امللوك والرؤساء‬
‫ال يحاسب الناس األمراء‬ ‫املدني‪.‬‬ ‫يتتابعون ويفنون ويبقى‬
‫عىل أفعالهم وممارساتهم‬ ‫‪ -‬عالقة الحرية بالسياسة‬ ‫الوطن ال يتغير وال يتبدل‪،‬‬
‫القهرية‪ ،‬وال يقتصر هذا‬ ‫‪-‬عند طه حسين– وطيدة‬ ‫فالبالد أبقى من امللك‬
‫بالطبع وقد جاءت السياسة عىل الدولة األموية‪ ،‬فتاريخ‬ ‫وامللوك‪ ،‬فمصر ستبقي‬
‫املسلمين به شواهد كثيرة‬ ‫بعد الفلسفة‪ ،‬لتلعب دورها‬ ‫مصر‪ ،‬واألحساء (مدينة يف‬
‫يف بناء الفكر اإلنساني ‪-‬كما عىل توظيف مذهب الجبر‬ ‫البحرين) ستبقى كما هي ال‬
‫لصالح الطغاه من امللوك‬ ‫وضع ترتيبها طه حسين–‪،‬‬ ‫يغيرها شيء تتابع عليهما‬
‫والحكام عىل أن هذا مل يلفت‬ ‫ويف نظره أكثر وأهم رجال‬ ‫الحكام لكن البالد أبقي ‪.‬‬
‫(‪)50‬‬

‫أثرا يف نظر طه حسين الداعم ً‬


‫دائما‬ ‫السياسة الذين تركوا ً‬
‫لفكرة الحرية‪ ،‬ومل نر انتقاده‬ ‫ذلك هو اإلسكندر األعظم‪،‬‬ ‫خاتمة‬
‫الذي ترامت مستعمراته من للمعري يف هذه الجزئية‪.‬‬
‫أوروبا إىل آسيا‪ ،‬و كما كان ‪ -‬مل تكن ألبي العالء‬ ‫يقول طه‪ ‬حسين‪ :‬إنما نحن‬
‫كتابات فلسفية مستقلة‬ ‫اإلسكندر رجل حرب كان‬ ‫عبيد اللحظات ال نملكها وال‬
‫عن الشعر‪ ،‬فقد استخلص‬ ‫أيضا‪.‬‬
‫رجل فكر ً‬ ‫نستطيع تصديها وال‪ ‬ادعاءها‬
‫طه حسين فلسفته من‬ ‫‪ -‬فكرة الحرية التي روج‬ ‫وال ردها عنا حين تقبل‬
‫خالل شعره‪ ،‬واستنبط‬ ‫لها طه حسين ضرورية‬ ‫علينا‪ ،‬لذلك ال بد أن ننتقل‬
‫اآلراء الفلسفية الخاصة به‬ ‫لألدب وللفلسفة وللعلوم‬ ‫من طور إىل طور‪ .‬دعوة هي‬
‫وصاغها ووضعها يف قالب‬ ‫كلها‪ ،‬وهي املمارسة التي‬ ‫إذن إىل التطور والنهوض‬
‫يماثل النظريات الفلسفية‬ ‫رآها طه حسين ضرورية‬ ‫واالنتقال من مرحلة إىل‬
‫لإلبداع حتى ولو انقلبت إىل اليونانية واإلسالمية‪ ،‬فنحن‬ ‫أخرى‪ ،‬فال بد من االستعداد‬
‫فوضى‪ ،‬فالفوضى يف األدب مل نشهد كتابات فلسفية‬ ‫والتهيئة العقلية للعلم‪ ،‬فهذا‬
‫خالصة للمعري‪ ،‬وال نملك‬ ‫ال تدل عىل شيء إال عىل أن‬ ‫يأخذنا إىل العقالنية وهي‬
‫ملخصا لفلسفته عىل‬ ‫ً‬ ‫حتى‬ ‫املواهب تزدهر كلما وجدت‬ ‫النزعة املالزمة للحرية‪،‬‬
‫الخلص‪ .‬أما‬‫َّ‬ ‫غرار الفالسفة ُ‬ ‫يف مناخ أكثر حرية‪ .‬ويف‬ ‫تتبادل معها الوضع واملكانة‪،‬‬
‫حقيقة األمر نحن بحاجة إىل ما جاء يف اللزوميات (أكثر‬ ‫كما تتبادل معها التأثر‬
‫‪175‬‬
‫وديكارت يف دائرة‬ ‫تعبيرا عن‬
‫ً‬ ‫أعمال املعري‬
‫املشتغلين بالفكر‬ ‫الرؤى الفلسفية الخاصة به)‬
‫العربي الحـديث أو‬ ‫فقد جاء من خالل أشعاره‪،‬‬
‫املعاصر‪ ،‬وأغلـب‬ ‫وليست فلسفة ممنهجة‬
‫الذين اهتموا‬ ‫نثرية كما عند كل الفالسفة‪.‬‬
‫باالتجاهات‬ ‫‪ -‬توافق كل من طه حسين‬
‫الفلسفية عىل‬ ‫واملعري يف أن كالهما مل‬
‫الساحة العربية‪،‬‬ ‫يكن فيلسوفًا يتخذ من‬
‫من ُذ نهاية القرن‬ ‫الفلسفة صناعة خالصة له‪،‬‬
‫التاسع عشر‪،‬‬ ‫لكن امتزج عندهما األدب‬
‫إلـى منتصف‬ ‫بالفلسفة‪ ،‬فطرحا العديد من‬
‫القرن العشرين‪،‬‬ ‫القضايا الفلسفية يف قالب‬
‫أقرب إلـى األدب‪،‬‬ ‫أدبي‪ ،‬وربما تفوق أبو العالء‬
‫والـصحافة‪،‬‬ ‫يف هذا األمر؛ أي يف طرح‬
‫واإلصـالح‬ ‫النظريات الفلسفية التي‬
‫السياسي‬ ‫ظهرت يف جل مؤلفاته التي‬
‫ظهرت فيها اآلراء الفلسفية‬
‫وضوحا‪ ،‬األمر‬‫ً‬ ‫بشكل أكثر‬
‫الذي مل يتخذ الوضوح‬
‫نفسه عند طه حسين‪ ،‬لكن‬
‫دراسة طه حسين العميقة‬
‫للفلسفة جعلته يتمكن من‬
‫وضع أشعار وآراء املعري‬
‫يف قالبها الفلسفي‪ ،‬وضمها‬
‫إىل النظريات التي تستهدفها‬
‫وتحتويها‪ ،‬سواء أكانت‬
‫يف الفلسفة اليونانية أو‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ -‬الفلسفة التي أعجب بها‬
‫طه حسين‪ ،‬وتوحد معها‬
‫أبو العالء‪ ،‬وليس غيرها‪،‬‬
‫الوحيدة من بين العلوم‬
‫التي يمكنها أن تحدث هزة‬
‫يف الوعي إلنجاز التقدم‬
‫املنشود‪ ،‬داخل دائرة الوعي‬
‫اإلصالحي‪ ،‬لكننا قد ال‬
‫نجانب الصواب إذا ما‬
‫قلنا إننا ال نعثر علـى مـا‬
‫يماثـل صـورة أرسـطو‬

‫اإلسكندر األعظم‬
‫‪176‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪Mohammad Fawwaz Ghannam, Critical Issues of Al-Maarri in “Resalat-el-Ghofran, -1‬‬
‫’‪(Letter of Forgiveness) International Journal of Business and Social Science, Al-Balqa‬‬
‫‪.2011 ,September ,10 .No ,5 .Applied, Vol‬‬
‫‪ -2‬راجع‪ :‬أحمد سيد النجار‪ ،‬بين املعتزلة وليبنتز‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬عبد الرشيد محمودى‪ ،‬األهرام اليومي‪،‬‬
‫‪ 29‬أكتوبر ‪.2014‬‬
‫‪ -3‬طه حسين‪ ،‬ذكرى أبي العالء املعري‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الهالل‪ ،‬عني بنشره وتصحيحه‪ :‬إبراهيم زيدان‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ 1915 ،‬ص‪.101‬‬
‫‪ -4‬طه حسين‪ ،‬بين بين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مؤسسة هنداوي للنشر‪ .2012 ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ -5‬حول عالقة الفلسفة باألدب راجع‪ :‬بيار مشيري‪ ،‬بم يفكر األدب (تطبيقات يف الفلسفة األدبية)‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫جوزيف شريم‪ ،‬مراجعة‪ ،‬بسام بركة‪ ،‬بيروت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2009 ،‬ص‪.25‬‬
‫وأيضا راجع‪:‬‬
‫ً‬ ‫‪ -6‬طه حسين‪ ،‬ذكري أبي العالء‪ ،‬ص‪99 ،98‬‬
‫‪D9%-1912/http://www.mandaeanunion.org/ar/views/item‬‬
‫‪ -7‬طه حسين‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.322 :318‬‬
‫‪ -8‬طه حسين‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.323‬‬
‫‪ -9‬طه حسين‪ ،‬ذكري أبي العالء‪ ،‬ص‪.322 :318‬‬
‫‪ -10‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.89 ،88‬‬
‫‪ -11‬السابق‪ ،‬ص‪ 318‬وما بعدها‪ ،‬وحول علم الكالم وعوامل نشأته راجع‪ :‬د‪.‬فيصل عون‪ ،‬علم الكالم‬
‫ومدارسه‪ ،‬دار الثقافة للنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1976 ،‬ص‪ 38‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -12‬القاضي عبد الجبار‪ ،‬فضل االعتزال وطبقات املعتزلة‪ ،‬تحقيق فؤاد سيد‪ ،‬تونس‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪،‬‬
‫وأيضا‪ :‬الجاحظ‪ ،‬البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم هارون‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الخانجي‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪ ،1974‬ص‪،139‬‬
‫الطبعة الثالثة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.170‬‬
‫‪ -13‬أبو العالء املعري‪ ،‬شرح اللزوميات‪ ،‬تحقيق‪ :‬سيد حامد وأخرون‪ ،‬إشراف ومراجعة‪ :‬حسين نصار‪،‬‬
‫الجزء الثاني‪ ،‬الهيئة العامة للكتاب‪ ،2008 ،‬ص‪.398‬‬
‫‪ -14‬طه حسين‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪ ،329‬والغزايل‪ :‬تهافت الفالسفة‪ ،‬دار الكتاب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫‪ ،2000‬ص‪.52‬‬
‫‪ -15‬طه حسين‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.313 :329‬‬
‫‪ -16‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.332 :331‬‬
‫‪ -17‬محمد العريبي‪ ،‬ابن رشد وفالسفة اإلسالم من خالل فصل املقال وتهافت التهافت‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الفكر‬
‫اللبناني‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1992 ،‬ص‪.63‬‬
‫‪ -18‬شرح اللزوميات‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.388‬‬
‫‪ -19‬راجع‪ :‬الشهرستاني‪ ،‬امللل والنحل‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد العزيز محمد الوكيل‪ ،‬الجزء االثالث‪ ،‬مؤسسة الحلبي‪،‬‬
‫وأيضا الشهرستاني‪ ،‬نهاية اإلقدام‪ ،‬تحقيق‪ :‬الفرد جيوم‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار املعرفة‪ ،1975 ،‬ص‪.7‬‬ ‫ً‬ ‫‪ ،1961‬ص‪،28‬‬
‫‪ -20‬طه حسين‪ ،‬ذكري أبي العالء‪ ،‬ص‪.339 ،338‬‬
‫‪ -21‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.340‬‬
‫أيضا‪ :‬شرح اللزوميات‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪ ،57‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪ -22‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪ ،341‬وراجع ً‬
‫‪ -23‬فخر الدين الرازي‪ ،‬أساس التقديس‪ ،‬تحقيق‪ :‬طه عبد الرؤوف‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية‪ ،1981 ،‬ص‪،59‬‬
‫‪.60‬‬
‫‪177‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫‪ -24‬راجع‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.92‬‬


‫‪ -25‬ذكري أبي العالء ص‪.343 ،342‬‬
‫‪ -26‬راجع‪ :‬ابن رشد‪ ،‬السماع الطبيعي‪ ،‬ضمن رسائل ابن رشد‪ .‬حيدر آباد‪ ،‬الدكن‪ ،1947 ،‬ص‪،32 ،31‬‬
‫وراجع‪ :‬فاتن محمد سايس‪ ،‬تصور العامل عند ابن رشد‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬كلية العلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة‬
‫دمشق‪ ،2007 -2006 ،‬ص‪ ،152‬وذكري أبي العالء‪ ،‬ص‪ 343‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -27‬راجع‪ :‬طه حسين‪ ،‬ذكري أبي العالء ص‪.345 ،344‬‬
‫‪ -28‬راجع‪ :‬شرح اللزوميات‪ ،‬الحزء الثاني‪ ،‬ص‪.410‬‬
‫‪ -29‬ذكري أبي العالء ص‪.346‬‬
‫‪ -30‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.347 ،346‬‬
‫‪ -31‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.349 ،348‬‬
‫‪ -32‬د‪.‬أشرف حافظ‪ :‬الجبر واالختيار يف الفكر اإلسالمي‪ ،‬منشورات دار النخلة‪ ،1999 ،‬ص‪ 13‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -33‬ذكري أبي العالء ص‪.352 ،351‬‬
‫‪ -34‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.353‬‬
‫‪ -35‬شرح اللزوميات‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‪.414‬‬
‫‪ -36‬ذكري أبي العالء ص‪.355‬‬
‫‪ -37‬السابق‪ ،‬ص‪ ،351 ،350‬وشرح اللزوميات‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‪ 414‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -38‬ذكري أبي العالء‪ ،‬ص‪.351 ،350‬‬
‫‪ -39‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.369‬‬
‫‪ -40‬السابق‪ ،‬ص‪.390 ،389‬‬
‫‪ -41‬السابق‪ ،‬ص‪.392‬‬
‫‪ -42‬السابق‪ ،‬ص‪ ،322 ،318‬وشرح اللزوميات‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‪.11 ،4‬‬
‫‪ -43‬شرح اللزوميات‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪ ،404‬والجزء الثاني‪ ،‬ص‪.421‬‬
‫‪ -44‬ذكري أبي العالء ص‪ ،380 ،379‬وراجع‪ :‬شرح اللزوميات‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.66‬‬
‫‪ -45‬د‪.‬نبيل عبد الفتاح‪ ،‬سياسيات األديان‪ ،‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪ ،2003 ،‬ص‪.21‬‬
‫‪ -46‬شرح اللزوميات‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.76‬‬
‫‪ -47‬طه حسين وإبراهيم اإلبياري‪ ،‬شرح لزوم ما ال يلزم‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬د‪.‬ت‪،‬‬
‫ص‪.150‬‬
‫‪ -48‬شرح اللزوميات‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.309‬‬
‫‪ -49‬راجع‪ :‬شرح اللزوميات‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.320‬‬
‫‪ -50‬طه حسين وإبراهيم اإلبياري‪ ،‬شرح لزوم ما يلزم‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص‪.81‬‬
‫‪178‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أمامه ويف عقله‪ ،‬يف ملحات‬ ‫تمهيد‬

‫أدبيات التنظير العلمي‬


‫بصرية سريعة تومض‬
‫أمامه وتختفي‪ ،‬ثم تومض‬ ‫هناك خصائص للنظريات‬
‫وتختفي‪ ،‬كما أن بوانكاريه‬ ‫العلمية وبيان للسمات‬
‫قد تحدث عام ‪ 1904‬عن‬ ‫التي تميزها‪ ،‬بمعنى أن ثمة‬
‫الحاجة امللحة إىل التفكير‬ ‫خصائص تميز بنا النظرية‬
‫خالل الصور‪ ،‬كذلك كان‬ ‫العلمية‪ ،‬ويجب أن تتوافر‬
‫تفكير أينشتين العلمي يحدث‬ ‫فيها لكي تمثل أفضل ما‬
‫يف شكل بصري‪ ،‬ثم تكون‬ ‫لدينا من نظريات‪ ،‬وقد‬
‫عملية البحث الشاقة عن‬ ‫اختلف العلماء يف تحديد‬
‫الكلمات والرموز واملعادالت‬ ‫الخاصية التي تأتي أو ال‬
‫هي املرحلة الثانية(‪.)2‬‬ ‫والخاصية التي تليها‪ ،‬كما‬
‫دورا‬
‫أدى التفكير بالصور ً‬ ‫اختلفوا يف درجة تركيزهم‬
‫جوهر ًّيا يف وصول أينشتين‬ ‫عىل أهمية خاصية بعينها‬
‫إىل األمور األساسية‬ ‫دون أخرى‪ ،‬ومن بين‬
‫لنظرياته املتعلقة بالنسبية‬ ‫أهم هذه الخصائص ثمة‬
‫الخاصة عام ‪ ،۱۹۰5‬ثم‬ ‫خصائص جمالية‪ ،‬أدبية‬
‫النسبية العامة عام ‪،۱۹۱5‬‬ ‫للنظريات العلمية‪ ،‬نذكر منها‬
‫وقد مهدت التغيرات غير‬ ‫عىل سبيل املثال‪ :‬الخيال‪،‬‬
‫املتوقعة التي أحدثتها هاتان‬ ‫الحدس‪ ،‬املصادفة‪ ،‬البساطة‬
‫النظريتان الطريق يف الفيزياء‬ ‫والجمال‪.‬‬
‫لقفزات علمية مدهشة أخرى‬
‫عام ‪ ۱۹۲۰‬قام بها فيرنر‬ ‫‪ -1‬الخيال‬ ‫د‪.‬عادل عوض‬
‫هايزنبرج حول فيزياء‬
‫الذرة وميكانيكا الكم‪ ،‬وقد‬ ‫يعتمد الخيال عىل التفكير‬
‫أنجر هذا العامل صياغاته‬ ‫بالصورة‪ ،‬والصورة قد‬
‫ومعادالته بطرائق أخرى‬ ‫تكون بصرية أو سمعية أو‬
‫جديدة يف التفكير البصري‪.‬‬ ‫ملسية‪ ..‬إلخ‪ ،‬هكذا وجدنا‬
‫ليست هناك طريقة واحدة يف‬ ‫قادرا خالل خياله‬‫ً‬ ‫موتسارت‬
‫التفكير البصري‪ ،‬فالطرائق‬ ‫البصري عىل سماع بعض‬
‫تتعدد وتتنوع‪ ،‬وتتحول‪،‬‬ ‫سيمفونياته الجديدة قبل‬
‫وقد حدثت هذه التحوالت‪،‬‬ ‫أن يكتبها عىل نحو يماثل‬
‫كما يشير أرثر ميللر من‬ ‫تماما حالتها بعد اكتمالها ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ً‬
‫التفكير البصری الحسی‬ ‫وقد قيل كذلك عن عامل‬
‫لدي بوانكاريه إىل التفكير‬ ‫الرياضيات الفرنسي الشهير‬
‫البصري خالل موضوعات‬ ‫هنري بوانكاريه‪ ،‬إن الصور‬
‫فعل من‬‫سبق أن أدركت ً‬ ‫الحسية التي كانت تتوهج‬
‫قبل‪ ،‬كما هي الحال لدي‬ ‫يف عقله جعلته يشعر بوجود‬
‫أينشتين‪ ،‬إىل وضع بعض‬ ‫البراهين الرياضية تظهر‬
‫‪179‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫دائما‪ ،‬فهناك عين‬ ‫اإلنسان الذي يهمه أمر دنيا املوجودة ً‬ ‫الضوابط أو القيود عىل‬
‫أخرى ال تقتنع إال بأن «تبدي‬ ‫الغد أو بعد الغد‪ ،‬كما يتوقع‬ ‫نوع التفكير الذي استخدمه‬
‫املساوئ» ‪.‬‬
‫(‪)6‬‬
‫أن تكون‪ ،‬أو كما يحبها هو‬ ‫أينشتين من أجل تطبيقه‬
‫كان هذا التوافق واالنسجام‬ ‫أن تكون‪ ،‬ينبغي تب ًعا لذلك‬ ‫يف مجال الفيزياء‪ ،‬وقد فعل‬
‫هو الذي دعانا إىل تصديق‬ ‫أن يضع الخيال يف الكفة‬ ‫ذلك نيلزبور‪ ،‬ثم التفكير‬
‫نيوتن وقوانينه‪ ،‬تلك القوانين‬ ‫الراجحة من ميزانه‪ ،‬وهذه‬ ‫بالصور التي تستحث‬
‫استنتاجا عن‬
‫ً‬ ‫التي مل تكن‬ ‫قضية ال يجرؤ كثيرون من‬ ‫بوساطة رياضيات العناصر‬
‫تجربة باملعنى الصحيح‪،‬‬ ‫الناظرين يف املستقبل عىل‬ ‫الذرية الفرعية كما فعل‬
‫التكهن بها؛ وذلك ألن الخيال فكان نجاحها ال ألنها تتبع‬ ‫هایزنبرج(‪.)3‬‬
‫العامل املادي‪ ،‬ولكنها تحدث‬ ‫ما زال يف نظرهم موضع‬ ‫النظرية العلمية ما مل يمكن‬
‫عن عامل يماثل يف األساس‬ ‫ريبة وشك كما أنه مناف‬ ‫التحقق منها يف املعمل تصبح‬
‫عاملنا‪ ،‬وكان هذا النجاح كذلك‬ ‫للمنطق إذ ال يعتمد عليه‪،‬‬ ‫موض ًعا للتشكك‪ ،‬ومن ثم‬
‫هو الذي وهبنا ثقتنا بأصل‬ ‫وليس من املستطاع فهمه‪،‬‬ ‫يمكن التخيل عنها وهجرها‪،‬‬
‫ولذا فال مكان له عند التكهن النظرية‪ ،‬جزيئات دقيقة‬ ‫وهذا ما حدث عبر تاريخ‬
‫يخضع كل منها للقوانين‬ ‫املبني عىل العقل‪ ،‬إال إذا‬ ‫العلم‪ ،‬وعبر نظرية النسبية‬
‫التي بنى عليها نيوتن فكرته‪،‬‬ ‫روضنا الخيال كما نروض‬ ‫وأيضا حدث هذا‬ ‫ً‬ ‫وتاريخها‪،‬‬
‫هذا الفرض األويل‪ ،‬بل هذا‬ ‫النمر وحملناه عىل الوثوب‬ ‫مع نظرية لورينتز‪ -‬أينشتين‬
‫اإليمان بالجزيء الدقيق‪،‬‬ ‫حتى ينفذ من األطواق‪ ،‬أو‬ ‫عندما تناقضت مع بيانات‬
‫وضعناه کالوقود يف خزان كان له من النتائج املهمة يف‬ ‫كوفمان‪ ،‬فبينما أصيب‬
‫تكييف وسائلنا وفلسفتنا‬ ‫السيارة حتى ال تكف آلتها‬ ‫كوفمان بالذعر‪ ،‬فإن أينشتين‬
‫ملا وراء الطبيعة منذ ذلك‬ ‫عن الدوران(‪.)5‬‬ ‫استمر يف تجاربه من أجل‬
‫الحين(‪.)7‬‬ ‫لكن الخيال ما مل يخضع‬ ‫الوصول إىل التعميم لنظريته‬
‫كان فارادی واح ًدا من‬ ‫لنظام خاص كما يحذرنا‬ ‫حول النسبية(‪.)4‬‬
‫أعظم العلماء يف عصره‪ ،‬بل‬ ‫زاخرا‬
‫ً‬ ‫بفردج فإنه قد يكون‬ ‫إن ملكة الخيال هذه التي‬
‫ربما يف كل العصور‪ ،‬وقد‬ ‫باألخطار‪ ،‬فالخيال الخصب‬ ‫ينعم بها اإلنسان لها قوتها‬
‫كان أسلوب تفكيره أشبه‬ ‫أيضا من‬‫الخالق ال بد له ً‬ ‫التي جعلت اإلنسان وقد‬
‫بالشعراء منه بالعلماء‪ ،‬وكما‬ ‫قوة أخرى تحدث التوازن‬ ‫حفزته ثمار طاقاته الخالقة‪،‬‬
‫هي الحال يف الشعر الجيد‪،‬‬ ‫معه‪ ،‬أال وهي قوة النقد‬ ‫يبدأ يف تغيير موقفه حيال‬
‫فإن الصورة االستعارية‬ ‫والحكم والتحليل‪ ،‬وهذا أمر‬ ‫التسليم بمصير محتوم‪ ،‬فلم‬
‫البسيطة تشرق وتنير‬ ‫تماما بطبيعة الحال‬ ‫ً‬ ‫مختلف‬ ‫تعد القوي الغيبية النائبة‬
‫كبيرا من‬ ‫ً‬ ‫بطريقة جديدة عد ًدا‬ ‫عن أن نقول إن الخيال‬ ‫عن الناس سلطان عىل حياة‬
‫الحقائق غير املترابطة ظاهر ًّيا‬ ‫يحتاج إىل القيود والقمع‬ ‫هذا الجيل أو األجيال املقبلة‬
‫أو سطحيًّا‪ ،‬وقد استخدم‬ ‫والكبت‪ ،‬فالخيال يحتاج إىل‬ ‫كذلك‪ ،‬وباملثل انقضی‬
‫دائما داخل املعمل‬ ‫تجسيد‪ ،‬وإبطاء خاص لحركة فارادي ً‬ ‫سلطان قوانين التاريخ‬
‫أو خارجه خياله البصري‬ ‫رفرفة أجنحته الطليقة‪ ،‬فهو‬ ‫وتقلبات الحظ وأهواؤه‪ ،‬وإنما‬
‫القوی کی يمزج بين الخبرة‬ ‫ال بد له يف النهاية من أن‬ ‫يتحكم يف هذه الحياة رؤى‬
‫يهبط عىل األرض وينظر إليه‪ ،‬الواقعية والتجربة املعملية‪،‬‬ ‫اإلنسان نفسه التي تتراءى‬
‫ولن تكون «عين الرضا» التي ويشكل من ذلك كله نماذج‬ ‫أمامه‪ ..‬وسواء أكان رضيًا أم‬
‫هي «عن كل عيب كليلة» هي أصيلة للواقع يف عقله‪ ،‬يف‬ ‫ال فإن املستقبل يبدأ يف ذهن‬
‫‪180‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫ذوي االهتمامات املتشعبة‪ ،‬أو‬ ‫والعلماء الصغار والكبار‬ ‫عين عقله‪ ،‬أي خياله‪ ،‬وقد‬
‫كانوا يدرسون موضوعات‬ ‫أيضا(‪.)9‬‬
‫ً‬ ‫كثيرا بما إذا‬
‫ً‬ ‫معني‬
‫ٍّ‬ ‫كان غير‬
‫مختلفة عن املوضوع الذي‬ ‫األمر نفسه بالنسبة‬ ‫كانت هذه النماذج ال تتفق‬
‫وكثيرا‬
‫ً‬ ‫أصل‪.‬‬‫ً‬ ‫تخصصوا فيه‬ ‫للشعوب‪ ،‬فهي ال يكون لها‬ ‫مع أي أفكار علمية مقبولة‬
‫ما تكون األصالة يف االهتداء‬ ‫كيان‪ ،‬وال تكون لها قيمة‬ ‫يف عصره‪ ،‬ومع ذلك فقد‬
‫إلی ارتباطات أو أوجه شبه‬ ‫إال بقدرتها عىل االختراع‪،‬‬ ‫كانت هذه النماذج العقلية‬
‫بين شيئين أو فكرتين أو‬ ‫ونحن نجد يف تاريخ كل أمة‬ ‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫املتخيلة عن الواقع‪،‬‬
‫أكثر مل تكن تعرف بينهما أية‬ ‫فترات من الركود والخمول‪،‬‬ ‫ما يتعلق منها بفكرة املجال‬
‫عالقة من قبل‪.‬‬ ‫ليس فيها ابتكار أو اختراع‪،‬‬ ‫الكهرومغناطيسي‪ ،‬هي التي‬
‫من املفيد أحيانًا يف البحث‬ ‫وهذا هو «شتاء الشعوب»‪،‬‬ ‫قدمت األساس الجوهري‬
‫عن أفكار مبتكرة‪ ،‬التخيل‬ ‫ولكنَّا من الناحية األخرى‬ ‫للنظريات املهمة األخرى‬
‫عن التفكير املوجه املقيد‬ ‫نجد «ربيع الشعوب» يف‬ ‫خصوصا لدى‬‫ً‬ ‫التالية له‪،‬‬
‫الذي نادى به «دیوی»‪،‬‬ ‫تلك الفترة التي تظهر فيها‬ ‫جيمس كالرك ماكسويل‬
‫وإطالق العنان لشطحات‬ ‫األفكار املبتكرة واالختراعات‬ ‫وألبرت أينشتين(‪.)8‬‬
‫الخيال أي «للسرحان»‪ .‬وقد‬ ‫املبدعة(‪.)10‬‬ ‫وتتمثل ملكة بالعقل العليا‬
‫قالت «هاردنج» ‪Harding‬‬ ‫يمكن القول إنه كلما ازدادت‬ ‫لدي بوانكاريه يف هذه القدرة‬
‫إن جميع املفكرين الخالقين‬ ‫ذخيرتنا من املعرفة‪ ،‬ازداد‬ ‫عىل التفكير الذي يجمع بين‬
‫حاملون‪ ،‬وعرفت االستغراق‬ ‫احتمال تمخض أذهاننا‬ ‫املكونين الجمايل والعقيل‬
‫يف األحالم بهذه الكلمات(‪:)11‬‬ ‫عن مجموعات مهمة من‬ ‫ويركب بينهما بطرائق‬
‫عن هذا الخيال‪ ،‬يقول‬ ‫األفكار‪ ،‬هذا إذا تساوت‬ ‫خاصة مثمرة ومنتجة‪ ،‬ويرى‬
‫«تندول» ‪( Tyndoll‬فيزيائي‬ ‫الظروف األخرى‪ .‬باإلضافة‬ ‫بوانكاريه أنه من خالل العلم‬
‫إيرلندی ‪)۱۸۹۳ -۱۸۲۰‬‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬فإن احتمال ظهور‬ ‫والفن فقط تكون «الحضارة‬
‫بأنه املهندس الذي يصمم‬ ‫االرتباطات املبتكرة يف‬ ‫ذات قيمة»‪.‬‬
‫النظرية الفيزيائية مستعينًا‬ ‫ميدان ما‪ ،‬يزداد إذا توافرت‬ ‫يف «العلم والفرض» كتب‬
‫بما تنقله املالحظات‬ ‫معلومات واسعة تمتد إىل‬ ‫بوانکاریه بانفعال كبير‬
‫والتجارب الدقيقة‪ ،‬واستطرد‬ ‫فروع املعرفة املتعلقة بهذا‬ ‫عن مساعي العلماء إىل‬
‫قائل عن أهمية الخيال يف‬ ‫ً‬ ‫امليدان‪ ،‬بل إىل الفروع‬ ‫تمثيل الطبيعة وتجسيد‬
‫العلم‪ :‬كان انتقال «نيوتن»‬ ‫أيضا‪ ،‬وهذا‬
‫البعيدة عنه ً‬ ‫البساطة والتناسق والوحدة‬
‫من تفاحة ساقطة إىل قمر‬ ‫مصداق لقول تايلور ‪E.L.‬‬ ‫الخاصة باألسس التي تقوم‬
‫عمل من أعمال‬ ‫ساقط‪ً ،‬‬ ‫‪« :Taylor‬يزداد احتمال‬ ‫عليها‪ .‬وأننا نستطيع خالل‬
‫الخيال املتأهب‪ ،‬ومن بين‬ ‫ظهور االرتباطات الجديدة‬ ‫وسائل مماثلة أن نشكل‬
‫الحقائق الكيميائية استطاع‬ ‫واألفكار املبتكرة إذا توافرت‬ ‫معرفة دقيقة منظمة‪ ،‬ومن‬
‫خيال «دولتون» البنَّاء أن‬ ‫ذخيرة متنوعة من الذكريات‬ ‫بين ذلك تلك األحاسيس‬
‫يشيد النظرية الذرية‪ ،‬وقد‬ ‫والخبرات‪ ،‬عما لو كانت‬ ‫الكثيرة التي تنهمر علينا يف‬
‫منحت الطبيعة «السير‬ ‫الذخيرة املوجودة كلها من‬ ‫كل لحظة‪ ،‬إننا ال بد من أن‬
‫همفری دايف» (فيزيائي و‬ ‫نوع واحد»‪.‬‬ ‫نذهب نحو تكوين فروض‬
‫كيميائي إنجليزي ‪-۱۷۷۸‬‬ ‫الواقع أن العلماء الذين‬ ‫خاصة عن عمارة العقل أو‬
‫‪ )۱۸۲۹‬موهبة تخيلية‬ ‫أسهموا يف العلم إسهامات‬ ‫تكوينه املعماري‪ .‬وهذه هي‬
‫غريزية‪ ،‬أما «فراداي»‬ ‫مهمة مبتكرة‪ ،‬كانوا غالبًا من‬ ‫الحساسية التي تلهم الفنانين‬
‫‪181‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫فقد مارس هذه املوهبة‬


‫عىل الدوام‪ ،‬فكانت سابقة‬
‫ومصاحبة ومرشدة لجميع‬
‫تجاربه‪ ،‬وترجع قدرته‬
‫وخصوبته ‪-‬بوصفه مكتشفًا‬
‫إىل حد كبير‪ -‬إىل القوة‬
‫الدافعة للخيال(‪.)12‬‬
‫إىل كل هذا الحد يسهم‬
‫الخيال يف الكشف العلمي‬
‫والنظريات العلمية‪ ،‬مما دفع‬
‫العامل الفيزيائي إىل القول‬
‫بأن االستخدام املبدع للتخيل‬
‫ليس فقط مصدر كل إلهام يف‬
‫أيضا‬
‫الشعر والفن‪ ،‬بل يكون ً‬
‫االكتشاف يف العلم‪ ،‬وهو‬
‫بالفعل يوفر الدفعة األوىل‬
‫برتراند رسل‬ ‫ألبرت أينشتين‬ ‫أرثر ميللر‬
‫لكل تطور وتقدم(‪.)13‬‬
‫فاملنبع الذى ينبثق منه‬
‫أن الخيال التركيبي للفنان‬ ‫تتخطى الظواهر الالمالحظة‪،‬‬
‫الكشف العلمي الجديد‬
‫يمكنه أن يدخل يف صورة‬ ‫ً‬
‫مجهول‬ ‫وتقتحم عاملًا كان‬
‫والعمل الفني الجديد واحد‪،‬‬
‫تأليفات وتركيبات متناقلة‬ ‫حتى ذلك الحين‪ ،‬وهو يف‬
‫وإن الجذور األوىل والعميقة‬
‫ال تلتزم بالواقع‪ ،‬لكن العامل‬ ‫تجاوزه للواقع املالحظ‬
‫للعلم الفن واحدة‪ ،‬ومن ثم‪،‬‬
‫ال يقبل الفروض التي تأتي‬ ‫يحتاج إىل كل ذرة من قدرته‬ ‫فإن العامل الذي ينمي يف‬
‫متناقضة مع حالة األشياء أو‬ ‫التخيلية‪ ،‬فال عجب إذن حين‬ ‫نفسه حاسة التذوق الفني أو‬
‫الوقائع الخارجية(‪.)15‬‬ ‫يقترب أقطاب العلم من الفن‬ ‫األدبي‪ ،‬إنما يرجع يف الواقع‬
‫وبصفة عامة‪ ،‬فإنه عند‬ ‫اقترا ًبا شدي ًدا يف طريقة‬ ‫إىل الجذور األصلية ملصدر‬
‫صياغة النظريات العلمية‪،‬‬ ‫إبداعهم ويف أبحاثهم عىل‬ ‫اإلبداع يف اإلنسان‪ ،‬وربما‬
‫فإن ذلك يتطلب استخدام‬ ‫استكشاف املجهول(‪.)14‬‬ ‫كانت رعايته مللكة الخيال‬
‫الخيال والتخمين والحدس‪،‬‬ ‫وثمة نقطة مهمة‪ ،‬وهي أن‬ ‫يف ذهنه سببًا من أسباب‬
‫أيضا قوى دافعة‬ ‫والذي يمثل ً‬ ‫الوظيفة التركيبية لخيال‬ ‫إبداعه يف العلم‪ ،‬وبخاصة‬
‫لكل اكتشاف علمي‪.‬‬ ‫العامل تختلف من الشك‬ ‫ألن النظريات العلمية الكبرى‬
‫املوجود لدى الفنان‪ ،‬ألن أول‬ ‫تحتاج إىل قدر كبير من‬
‫‪ -2‬الحدس‬ ‫ما يتسم به خيال العامل أنه‬ ‫الخيال حتى تخرج بصورتها‬
‫علني‪ ،‬وأنه منطق ال يمكن أن‬ ‫املتناسقة املترابطة‪ .‬صحيح‬
‫قد يحاول املرء حل مشكلة‬ ‫ينحرف بصاحبه عن وضع‬ ‫أن العامل يظل يالحظ ويراقب‬
‫ما ويشعر بأن الطريق أمامه‬ ‫األشياء وصوره وقوانين‬ ‫ويسجل الظواهر ويجري‬
‫مسدود‪ ،‬وأنه ال جدوى من‬ ‫حركتها‪ ،‬أما خيال الفنان فال‬ ‫التجارب عليها‪ ،‬ولكنه حين‬
‫مواصلة البحث عن حل؛ ألنه‬ ‫يتقيد باملنطق والواقع‪ ،‬بل إنه‬ ‫يبدع نظريته العامة يقوم‬
‫ال يستطيع إحراز أي تقدم‪،‬‬ ‫يأتي ضد املنطق‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫بتلك «القفزة» املشهورة التي‬
‫‪182‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫واالنتصار(‪.)19‬‬ ‫و(السكون)‪ ،‬حيث يعتقد‬ ‫عىل اإلطالق‪ ،‬عىل طريق‬


‫نحن نعتقد أننا يف‬ ‫املرء أنه عالق يف خبرات‬ ‫حل هذه املشكلة‪ .‬ودون‬
‫استدالالتنا مل نعد نعتمد‬ ‫املاضي‪ ،‬وعندئذ يحدث‬ ‫مقدمات‪ ،‬وفجأة‪ ،‬تسطع‬
‫عىل الحدس‪ .‬سيقول لنا‬ ‫فجأة اكتشاف أسلوب‬ ‫يف ذهنه فكرة‪ ،‬وتتضح‬
‫الفالسفة إن هذا مجرد‬ ‫جديد إلعادة عرض املشكلة‬ ‫تماما‪ ،‬ويصبح‬ ‫ً‬ ‫أمامه الرؤية‬
‫وهم‪ ،‬فاملنطق الخالص‬ ‫والتعامل معها‪ ،‬ومن ثم‬ ‫حل املشكلة ً‬
‫ماثل أمام‬
‫وحده ال يمكن أن يقودنا‬ ‫يؤدي هذا األسلوب الجديد‬ ‫عينيه مباشرة‪ .‬إن طفرة‬
‫سوى إىل تحصیالت‬ ‫إىل طريق مختلف للحل مل‬ ‫الحدس مرضية للغاية‬
‫حاصل‪ ،‬إنه ال يستطيع أن‬ ‫يكن ممكنًا‪ ،‬قبل اآلن‪ ،‬التنبؤ‬ ‫وأكثر إنجا ًزا‪ ،‬ولكن هل‬
‫يخلق جدي ًدا‪ ،‬وباالعتماد‬ ‫به‪ .‬وهناك زعم بأنه ليس‬ ‫تختلف هذه الرؤية الثاقبة‬
‫عليه وحده ال يمكن أن‬ ‫بنا حاجة ملعرفة معينة أو‬ ‫أو الحدس النافذ عن عملية‬
‫يقوم علم من العلوم‪.‬‬ ‫خبرات خاصة للحصول‬ ‫التفكير التحلييل العادية‬
‫الحدس ليس مبنيًّا‬ ‫عىل الحدس أو هذه «الرؤية‬ ‫دوما ‪.‬‬
‫(‪)16‬‬
‫والتي نمارسها ً‬
‫عىل شهادة الحواس‪،‬‬ ‫املباشرة» يف املوقف املُشكل‬ ‫يف التفكير التحلييل العادي‪،‬‬
‫وبالضرورة‪ ،‬فالحواس‬ ‫الذي يواجهنا(‪.)18‬‬ ‫غالبًا ما يلجأ املرء إىل‬
‫ال تلبث أن تصبح عاجزة‬ ‫يف الحقيقة‪ ،‬فإنه يجب عىل‬ ‫التحليل املشكلة التي‬
‫وبسرعة‪ .‬وعىل سبيل‬ ‫املرء أن يبتعد ً‬
‫قليل عن‬ ‫تعترضه‪ ،‬اعتما ًدا عىل ما‬
‫املثال فإننا ال نستطيع‬ ‫الخبرات السابقة‪ ،‬وأن يطلق‬ ‫لديه من معرفة وخبرة‪.‬‬
‫تصور مضلع ذي مائة‬ ‫العنان للعقل لينطلق بحرية‬ ‫ويتم حل املشكلة‪ ،‬يف هذا‬
‫ضلع عىل الرغم من أننا‬ ‫ودون قيود تعوق هذا‬ ‫السياق‪ ،‬خطوة خطوة‪ .‬وقد‬
‫نستدل بواسطة الحدس‬ ‫االنطالق‪.‬‬ ‫ينجح املرء يف اكتشاف‬
‫عىل املضلعات عىل العموم‪،‬‬ ‫عىل الرغم من ذلك‪ ،‬فإن‬ ‫مشكلة مشابهة كان قد‬
‫وهي تشمل املضلع ذا‬ ‫الدراسات التجريبية قد‬ ‫نجح يف حلها من قبل‪،‬‬
‫املائة ضلع كحالة خاصة‬ ‫أوضحت أن «الحدس»‬ ‫فيقوم بتطبيق الحل السابق‬
‫منها‪.‬‬ ‫هو‪ ،‬بالفعل‪ ،‬نتيجة للتفكير‬ ‫نفسه‪ ،‬ویری‪ ،‬بعد ذلك‪،‬‬
‫ظاهرة الحدس مألوفة لدى‬ ‫التحلييل العادي‪ .‬فإن إعادة‬ ‫ما إذا كان سينجح يف حل‬
‫أغلب العلماء‪ ،‬ولكن ليس‬ ‫تنظيم املشكلة قد ينتج عن‬ ‫املشكلة أم ال‪ .‬وهنا ال مكان‬
‫جميعهم‪ ،‬فمن بين العلماء‬ ‫محاوالت غير ناجحة يف‬ ‫وال دور للحدس أو الرؤية‬
‫الذين أجابوا عن استخبار‬ ‫حل املشكلة‪ ،‬مما يؤدي بنا‬ ‫املباشرة(‪.)17‬‬
‫«بالت» و»بيكر»‪ ،‬ذكر‬ ‫إىل استحضار معلومات‬ ‫يعتقد بعض علماء النفس‪،‬‬
‫ثالثة وثالثون يف املائة أن‬ ‫جديدة يف أثناء عملية‬ ‫أن مفهوم الحدس‪ ،‬يؤدي‬
‫«كثيرا» ما يفيدهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحدس‬ ‫التفكير التي يمارسها املرء‪.‬‬ ‫دورا معينًا يف عملية‬
‫ً‬
‫وخمسة وخمسون يف‬ ‫وهذه املعلومات الجديدة‬ ‫التفكير اإلبداعي والخالق‪،‬‬
‫املائة أنه يفيدهم «أحيانًا»‪،‬‬ ‫يمكن أن تسهم يف بناء‬ ‫وأن هذه العملية الحدسية‬
‫بينما ذكر سبعة عشر‬ ‫منظور مختلف ومغایر‬ ‫تماما عن التفكير‬
‫ً‬ ‫تختلف‬
‫يف املائة أنه «ال يفيدهم»‪.‬‬ ‫كليًّا يف إيجاد حل للمشكلة‪،‬‬ ‫التحلیلی‪ ،‬فهم يعتقدون‬
‫ومن املعروف أيضا‬ ‫والتي هي نتاج خبرة «اآله»‬ ‫أن الحدس يعد نتيجة‬
‫‪-‬وفقًا لبعض التحقيقات‬ ‫‪ ،Aha‬وهي الخبرة التي‬ ‫إلعادة بناء املشكلة‪ ،‬بعد‬
‫األخری‪ -‬أن بعض الناس‬ ‫تعكس الدهشة واالنبهار‬ ‫فترة من عدم التقدم‬
‫‪183‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫ال يأتيهم الحدس أب ًدا ‪-‬يف‬


‫حدود ما يعرفون‪ -‬أو أنه ال‬
‫تأتيهم حدوس ذات قيمة عىل‬
‫أية حال‪ ،‬فهم ال يدركون ما‬
‫هو الحدس‪ ،‬ويعتقدون أنهم‬
‫ال يستمدون إفكارهم إال من‬
‫التفكير الواعي‪ ،‬وقد تكون‬
‫بعض آرائهم هذه مبنية عىل‬
‫كاف لطريقة عمل‬ ‫اختبار غير ٍ‬
‫أذهانهم(‪.)20‬‬
‫لقد اعتمد الحدس لدى‬
‫أينشتين عىل سعي خاص‬
‫لديه من أجل الوصول‬
‫إىل تعميمات معينة‪ ،‬تعتمد‬
‫بدورها عىل قدرته عىل‬
‫اإلحساس والحدس‪ ،‬وكذلك‬
‫علي مشرفة‬ ‫شاكر عبد الحميد‬ ‫بول ديراك‬
‫فرضا أو‬
‫ً‬ ‫عىل متى يطرح‬
‫االستقالل املنطقي للمفهوم‬ ‫الدرجات الثالث للمعرفة‪.‬‬ ‫مسلمة‪ ،‬ويف عام ‪1895‬‬
‫عن خبرات العقل‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬
‫معمل قط‪،‬‬ ‫ح ًّقا إنه مل يدخل‬ ‫استطاع توسيع مبدأ‬
‫إن استخدام التجريد أو‬ ‫رغم أنه استفاد بالطبع من‬ ‫النسبية لدى نيوتن‪ ،‬وقام‬
‫بتجارب ذهنية استخدم‬
‫الحس ربما تجعلها تبدو‬ ‫مالحظات سابقة كتجربة‬
‫فيها الحدس‪ ،‬وكذلك اعتقاده‬
‫كما لو أن هناك اعتما ًدا‬ ‫«ميكلسون ومورلی»‪،‬‬
‫يف أهمية التفكير البصري‪،‬‬
‫منطقيًا»(‪.)22‬‬ ‫وتحقيق «هرتز» ملجاالت‬
‫ويف فكرة كانط حول النسق‬
‫يف مدخل استانفورد حول‬ ‫«ماكسويل»‪.‬‬
‫والتنظيم بوصفهما وسائل‬
‫موسوعة الفلسفة‪ ،‬حول‬ ‫ربما يتمنى الفرد أن يكون‬
‫للوصول إىل االستبصارات‬
‫«الحدس» فإن باست‬ ‫أينشتين قد استخدم‬ ‫الخاصة به‪ ،‬التي قام بعد‬
‫يالحظ أن علماء النفس‬ ‫فكرة أكثر ثباتًا من فكرة‬ ‫ذلك بالتحقق منها والتحقيق‬
‫والفالسفة ذوي امليول‬ ‫الحدس املحفوفة باملخاطر‪.‬‬ ‫لها بأن انتقل من التفكير‬
‫الطبيعية كانوا يميلون إىل‬ ‫لكنه مل ير أي طريق آخر‪.‬‬ ‫االجتراري أو التهويمي‬
‫عزو أو نسبة مسببات‬ ‫لقد رفض استخدام كلمة‬ ‫(‪ Autistic (A‬إىل التفكير‬
‫مرضية خاصة‪ -‬كانوا‬ ‫التجريد کی يشخص‬ ‫الواقعی (‪R). hinking‬‬
‫يميلون إىل األحكام‬ ‫االنتقال من مالحظة الطيور‬ ‫‪ )(Realistic‬كما يشير بعض‬
‫البديهية‪ :‬الحدس هي‬ ‫السوداء املفردة إىل مفهوم‬ ‫العلماء أمثال بيتر ماكيلر(‪.)21‬‬
‫اعتقاد ال يتم استنتاجه من‬ ‫«املادي»‪ ،‬أو االرتباط‬ ‫مل يكن اكتشاف أينشتين‬
‫بعض االعتقادات األخرى‬ ‫ألي خبرة عقلية باملفهوم‬ ‫للنسبية سوى قفزة حدسية‬
‫واع(‪.)23‬‬
‫بشكل ٍ‬ ‫املتماثل‪ .‬لقد رفضها بدقة‬ ‫مباشرة‪ ،‬يسبقها بعث‬
‫من املفيد أن نلم ونعرض‬ ‫وذلك ألنه كما قال‪« :‬ال‬ ‫حسی‪ ،‬ويتبعها استدالل‬
‫بالطريقة املنظمة التي‬ ‫أعتبرها مبررة أن أحجب‬ ‫عقلی‪ ،‬مما يؤكد أهمية‬
‫‪184‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫هي االستلقاء يف الفراش‪،‬‬ ‫من املقاطعة‪ -‬أو أي مؤثر‬ ‫يراها أغلب العلماء موصلة‬
‫ولذلك يتعمد بعضهم التفكير‬ ‫محول لالنتباه‪ :‬كاملناقشات‬ ‫إىل الحدس(‪:)24‬‬
‫يف املشكلة قبل الذهاب‬ ‫الطريفة التي تصل إىل مجال‬ ‫(أ) إن أهم شرط مبدئي هو‬
‫للنوم‪ ،‬والبعض اآلخر قبل‬ ‫السمع‪ ،‬والضوضاء املفاجئة‬ ‫التفكير يف املشكلة والوقائع‬
‫النهوض يف الصباح‪ ،‬وهناك‬ ‫الصاخبة‪.‬‬ ‫ً‬
‫طويل إىل‬ ‫املتعلقة بها وقتًا‬
‫مجموعة ثالثة من الناس تجد‬ ‫(د) ويجد أغلب الناس أن‬ ‫درجة تشبع الذهن بها‪ .‬وال‬
‫تأثيرا مفي ًدا‪،‬‬
‫ً‬ ‫يف املوسيقى‬ ‫احتمال وقوع الحدس يزداد‬ ‫بد أن يكون هناك اهتمام‬
‫ولكن مما يجدر ذكره أن‬ ‫أثناء الفترات التي يبدو‬ ‫كبير بها ورغبة صادقة يف‬
‫ضئيل ج ًّدا من الناس‬‫ً‬ ‫عد ًدا‬ ‫املرء فيها بال عمل‪ ،‬وقد‬ ‫حلها‪ ،‬وأن ينشغل بها الذهن‬
‫هم الذين يعتقدون أنهم‬ ‫تخىل عن املشكلة مؤقتًا‪،‬‬ ‫الواعي بضعة أيام حتى‬
‫يتلقون أي عون من التدخين‬ ‫وذلك عقب فترات من العمل‬ ‫يهيئ الذهن شبه الواعي‬
‫أو القهوة أو املشروبات‬ ‫املركز بها؛ ويرى البعض‬ ‫لالنشغال بها بعد ذلك‪.‬‬
‫الروحية‪ ،‬كذلك قد يساعد‬ ‫ظهورا‬ ‫أن أكثر األوقات‬ ‫وطبيعي أنه كلما ازدادت‬
‫ً‬
‫االتجاه الذهني املتفائل عىل‬ ‫ذهنيًّا‪ :‬كالتنزه يف األرياف‪،‬‬ ‫صلة الوقائع التي يتدبرها‬
‫حدوث الحدس‪.‬‬ ‫واالستحمام‪ ،‬والحالقة‪،‬‬ ‫الذهن‪ ،‬ازدادت فرص‬
‫(هـ) ومما يحفز إيجابية‬ ‫وأثناء الذهاب إىل العمل‬ ‫الوصول إىل نتيجة‪.‬‬
‫عىل النشاط الذهنی‪ ،‬وجود‬ ‫والعودة منه‪ .‬ويحتمل‬ ‫(ب) ومن الشروط املهمة‪،‬‬
‫نوع من االتصال الذهني‬ ‫أن يكون ذلك راج ًعا إىل‬ ‫التحرر من املشكالت أو‬
‫باآلخرين‪ ،‬مثل‪ -۱ :‬املناقشة‬ ‫أن املرء يتحرر ‪-‬يف هذه‬ ‫االهتمامات األخرى التي‬
‫مع زميل أو شخص غير‬ ‫الظروف‪ -‬مما يشتت الذهن‬ ‫تشغل الذهن‪ ،‬خاصة القلق‬
‫متخصص‪ -۲ .‬كتابة تقرير‬ ‫املتعلق بالشئون الخاصة‪.‬‬
‫أو يقطع حبل التفكير‪ ،‬وإىل‬
‫عن البحث‪ ،‬أو إلقاء حديث‬ ‫وقد أشار «بالت وبيكر» إىل‬
‫أن الذهن الواعي ال يكون‬
‫عنه‪ -۳ .‬قراءة املقاالت‬ ‫ً‬ ‫هذين الشرطين التمهيديين‪،‬‬
‫منشغل لدرجة تعوق ظهور‬
‫العلمية‪ ،‬بما فيها املعارضة‬ ‫فقاال‪:‬‬
‫أي شيء مهم نابع من‬
‫آلراء الباحث‪ ،‬بل إن‬ ‫«مهما بلغت دقة استخدامك‬
‫الذهن شبه الواعي‪ .‬ويجد‬
‫قراءة املقاالت التي تتناول‬ ‫لتفكيرك الواعي يف عملك‬
‫آخرون أن أنسب الظروف‬
‫موضوعات ليست لها أية‬ ‫أثناء ساعات العمل املقررة‪،‬‬
‫عالقة باملشكلة‪ ،‬قد تؤدي إىل‬ ‫فليس لك أن تتوقع من‬
‫استيعاب الفكرة الكامنة من‬ ‫الحدس الكثير إذا مل تكن‬
‫وراء طريقة تطبيقية أو مبدأ‬ ‫فعل يف ذلك العمل‬ ‫منغمسا ً‬
‫ً‬
‫ما‪ ،‬ثم ظهورها ثانية عىل‬ ‫بدرجة تكفي لعودة ذهنك‬
‫هيئة حدس متعلق بعمل املرء‬ ‫شبه الواعي إليه يف كل‬
‫ذاته‪.‬‬ ‫مناسبة‪ ،‬أو إذا كانت لديك‬
‫(و) وبعد أن تناولنا الوسائل‬ ‫إلحاحا‬
‫ً‬ ‫مشكالت أخرى أكثر‬
‫الذهنية الفنية الالزمة‬ ‫لدرجة أن تضيع مشکالتك‬
‫للحصول عىل الحدس بطريقة‬ ‫العملية يف زحمتها»‪.‬‬
‫متعمدة‪ ،‬تبقى أمامنا نقطة‬ ‫(ج) ومن الظروف املالئمة‬
‫عملية أخرى مهمة‪ .‬فمن‬ ‫األخرى‪ ،‬التحرر من‬
‫التجارب املألوفة أن األفكار‬ ‫املقاطعة ‪-‬حتى الخوف‬
‫تصبح المصادفة ‪-‬بوصفها تصو ًرا موضوع ًّيا‪-‬‬ ‫كثيرا ما تختفي‬ ‫الجديدة‬
‫ً‬
‫أداة ثورية لفهم طبيعة النظرية العلمية‬ ‫يف خالل حوايل دقيقة من‬
‫ظهورها إذا مل يبذل جه ًدا‬
‫وصياغتها وتطويرها‪ ،‬فال ينبغي المرور‬ ‫القتناصها‪ ،‬وذلك بتركيز‬
‫االهتمام عليها وقتًا يكفي‬
‫عليها مرو ًرا عاب ًرا دون اإلشارة إلى هذه‬
‫لتثبيتها يف الذاكرة‪ .‬ومن‬
‫الوظيفة‪ ،‬والتي ال تخالف المنطق‪ ،‬بل إنها‬ ‫األساليب النافعة الشائعة‬
‫االستعمال‪ ،‬أن يعتاد املرء‬
‫تسير وفق ما يقتضيه‪ ،‬وإن كان المنطق‬ ‫االحتفاظ بورقة وقلم‪،‬‬
‫الفطري السليم‪ ،‬أي أن العالم ال يرتب لها‬ ‫وتدوين األفكار الجديدة حاملا‬
‫تومض يف الذهن‪ .‬ويقال‬
‫استنباطات بعينها يستنبط منها قوانين‬ ‫إن «توماس إديسون» كان‬
‫معتا ًدا عىل تدوين كل فكرة‬
‫المصادفة أو نظرياتها‪ ،‬بل هي تأتي ً‬
‫أول‬
‫تطرأ عىل ذهنه‪ ،‬مهما بدا‬
‫من تفاهتها وقت ظهورها‪.‬‬
‫ولقد استخدم الشعراء‬
‫واملوسيقيون بدورهم هذه‬
‫إىل صياغة النظرية العلمية‬ ‫«إخراجها من ذهنك» بأقل‬ ‫كثيرا‪ ،‬ويتجىل يف‬‫ً‬ ‫الوسيلة‬
‫وتطويرها؟‬ ‫قدر ممكن من قطع حبل‬ ‫مذكرات «ليوناردو دفنشي»‬
‫بمعنی‪ :‬هل القوانين‬ ‫التفكير يف العمل الرئيس‪.‬‬ ‫مثل حي الستخدامها يف‬
‫الصارمة‪ ،‬والنظريات العلمية‬ ‫ذلك ألن التركيز الفكري‬ ‫الفنون‪ .‬وملا كانت األفكار‬
‫بنظامها املنطقي هي التي‬ ‫يتطلب عدم تشتت الذهن‬ ‫التي تأتي املرء يف نومه‬
‫حکما‬ ‫تحكم هذا العامل‬ ‫باحتفاظه بأفكار تكمن عىل‬ ‫معرضة بوجه خاص‬
‫ً‬
‫حافة الشعور‪.‬‬ ‫للنسيان‪ ،‬فإن بعض علماء‬
‫تا ًّما‪ ،‬بحيث يكون كل من‬
‫النفس والعلماء يحتفظون‬
‫مأمورا‬
‫ً‬ ‫فيه خاض ًعا لهما‬
‫‪ -3‬املصادفة‬ ‫دائما بورقة وقلم؛‬ ‫بجوارهم ً‬
‫بأمرهما؟ أم هناك دور مهم‬
‫أيضا يف‬ ‫وهذه الطريقة تفيد ً‬
‫تقوم به املصادفة يف نظام‬ ‫ثمة حقيقة ال بد من ذكرها‪،‬‬ ‫اقتناص األفكار التي تأتي‬
‫هذا العامل؟(‪.)25‬‬ ‫وهي تطبيع النظرية العلمية‬ ‫قبل الذهاب للنوم أو أثناء‬
‫هناك رأي ينادي أصحابه‬ ‫بطابع املنطق‪ ،‬حيث إن‬ ‫صباحا‪.‬‬ ‫االستلقاء يف الفراش‬
‫ً‬
‫«بأن الجدران الخارجية‬ ‫املنطق يسيطر عىل النظرية‬ ‫وينبغي تدوين األفكار التي‬
‫لقلعة املنطق تبدو كالبنيان‬ ‫العلمية من ألفها إىل يائها‪،‬‬ ‫كثيرا عندما تظهر عند‬ ‫تأتي‬
‫ً‬
‫دائما‪،‬‬
‫املرصوص كعهدنا به ً‬ ‫وقد يجوز لنا مع شيوع هذه‬ ‫حافة الوعي أثناء القراءة‪،‬‬
‫ولكن يف مركز هذه القلعة‬ ‫السمة وبروز هذا الطابع أن‬ ‫أو الكتابة‪ ،‬أو أي عمل ذهني‬
‫الحصينة من التفكير املنطقي‬ ‫نتساءل‪ ،‬أليس يف النظرية‬ ‫آخر ال تستحب فيه املقاطعة‪،‬‬
‫نجد كل شيء يسير عىل غير‬ ‫العلمية شيء سوى ذلك‬ ‫ويجري ذلك بأسرع وقت‬
‫هدى(‪.)26‬‬ ‫النظام املنطقي القاسي؟ أمل‬ ‫ممكن وبطريقة تقريبية‪.‬‬
‫هناك بالفعل ظواهر تخضع‬ ‫تمثل املصادفة ‪Accident‬‬ ‫وهذا ال يحفظها من الضياع‬
‫لهذه املصادفة‪ ،‬ظواهر تنتج‬ ‫دورا يف التوصل‬‫‪-‬مثل‪ً -‬‬‫ً‬ ‫فحسب‪ ،‬بل يفيد كذلك يف‬
‫‪186‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫وآخر األمثلة التي‬ ‫«باالنو‪ -‬بوشيتس»‬ ‫عن تدخل شيء جديد يف‬
‫نستشهد بها لبيان‬ ‫‪،balano- Posthitis‬‬ ‫النسق املستقر‪ ،‬ظواهر‬
‫دور املصادفة يف‬ ‫وهو مرض مزمن‪ ،‬ظن‬ ‫جديدة مختلفة عن كل ما‬
‫الكشف العلمي کان‬ ‫أنه غير قابل للشفاء إال‬ ‫سبقها‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،1889‬ويف‬ ‫بعملية جراحية جذرية‪ ،‬وقد‬ ‫رأينا أن نقوم بذكر بعض‬
‫مدينة «شتراسبورج»‬ ‫أرسلت األغنام املصابة من‬ ‫األمثلة التي يمكن أن‬
‫حين استأصل «فون‬ ‫الريف إىل املعمل للفحص‪،‬‬ ‫تجيب عن هذا التساؤل‪:‬‬
‫ميرنج» ‪von Mering‬‬ ‫وبلغت به الدهشة مبلغًا‬ ‫وتبين الدور الذي تمثله‬
‫و»منكوفسکي»‬ ‫عندما برئت جمعيها تلقائيًّا‬ ‫املصادفة يف الكشف العلمي‬
‫‪ Minkowski‬الطبيبان‬ ‫بعد وصولها بأيام قالئل‪،‬‬ ‫والنظريات العلمية‪ ،‬بل ويف‬
‫األملانيان‪ ،‬بنكرياس أحد‬ ‫وقد تبادر إىل ذهنه أن‬ ‫حياتنا اليومية‪ ،‬مما ينبئ‬
‫الكالب جراحيًّا كجزء‬ ‫الحاالت املرضية التي‬ ‫بأن املنطق وحده ال يكفی‪.‬‬
‫من دراسة وظيفته‬ ‫أرسلت مل تكن حاالت‬ ‫يف عام ‪ 1822‬تصادف أن‬
‫الهضمية‪ ،‬وفيما بعد الحظ‬ ‫نمطية‪ ،‬ولكن متابعة‬ ‫وضع الفيزيائي الدانمارکی‬
‫أحد مساعدی املعمل‬ ‫الفحص بينت أن الصوم‬ ‫« أورستد» ‪- Oeristed‬يف‬
‫أن أسرا ًبا من الشباب‬ ‫الذي فرضته األغنام عىل‬ ‫نهاية إحدى محاضراته‪-‬‬
‫قد انجذبت نحو بول‬ ‫نفسها لنقلها إىل بيئة غريبة‬ ‫متصل من طرفيه‬ ‫ً‬ ‫سل ًكا‬
‫الكلب الذي أجريت له‬ ‫أبرأها من مرضها‪ ،‬وعىل‬ ‫بخلية فولتية فوق إبرة‬
‫هذه العملية‪ ،‬فلفت نظر‬ ‫ذلك وجد أن هذا املرض‬ ‫ممغنطة ويف وضع موا ٍز‬
‫«منکوفسكی» إىل هذه‬ ‫الذي خضع لكثير من ألوان‬ ‫لها‪ ،‬وكان قد تعمد يف بادئ‬
‫الظاهرة فقام بتحليل هذا‬ ‫العالج يمكن عالجه يف‬ ‫األمر أن يمسك بالسلك‬
‫البول‪ ،‬ووجد أنه يحتوي‬ ‫معظم الحاالت بالصوم عن‬ ‫يف وضع رأسي بالنسبة‬
‫عىل السكر‪ ،‬وقد أدت هذه‬ ‫الطعام بضعة أيام(‪.)28‬‬ ‫لإلبرة فلم يحدث شيء‪،‬‬
‫الحادثة إىل تفهم مرض‬ ‫وأمثلة أخرى عديدة لو‬ ‫ولكنه دهش إذ رأى اإلبرة‬
‫السكر وعالجه بعد ذلك‬ ‫أيضا ‪-‬عىل‬ ‫أخذنا منها ً‬ ‫تغير وضعها‪ ،‬حين أمسك‬
‫«باألنسولين»(‪.)30‬‬ ‫سبيل املثال‪ -‬التغيرات‬ ‫بالسلك ‪-‬مصادفة‪ -‬يف‬
‫ينقلنا الدكتور «عيل‬ ‫الفجائية الطارئة عن‬ ‫وضع أفقي موا ٍز لها‪.‬‬
‫مشرفة» بعد ذلك إىل‬ ‫الكروموسومات والجينات‪،‬‬ ‫وبديهة حاضرة عكس‬
‫القوانين العلمية نفسها‪،‬‬ ‫تلك التغيرات املسماة‬ ‫التيار‪ ،‬فوجد أن اإلبرة‬
‫فذكر أن بعض هذه‬ ‫طفرات‪ ،‬لوحظ أنها تتضمن‬ ‫انحرفت يف االتجاه املضاد‪،‬‬
‫القوانين ناشئ عن‬ ‫عنصرا من املصادفة‪،‬‬
‫ً‬ ‫وبهذا اكتشفت العالقة‬
‫املصادفة‪ ،‬واملثل عىل ذلك‬ ‫وكذلك حين يخضع‬ ‫بين الكهرباء واملغناطيسية‬
‫قانون «بويل» و»ماريوت»‬ ‫الحامض النووي لتعديل‬ ‫بطريقة الصدفة املحضة‪،‬‬
‫للغازات‪ ،‬وهو القانون‬ ‫ما يف بيئة بعينها نتيجة‬ ‫ومهد الطريق أمام‬
‫القائل بأن حاصل ضرب‬ ‫الصطدام كمية كبيرة من‬ ‫«فرادای» الختراع املولد‬
‫الحجم ‪ X‬ضغط كمية‬ ‫الطاقة بالجزء الحساس‬ ‫الكهربائي(‪.)27‬‬
‫محدودة من الغاز = ثابت‪،‬‬ ‫من الجينة‪ ،‬فهذا معناه أن‬ ‫املثال الثاني لــ»بفردج»‬
‫فكلما ازداد الضغط قل‬ ‫الرسالة التي كان يحملها‬ ‫مرضا‬‫ً‬ ‫حين كان يتقصی‬
‫الحجم‪ ،‬وكلما ازداد الحجم‬ ‫أيضا(‪.)29‬‬
‫قد تعدلت ً‬ ‫تناسليًّا يف األغنام يسمى‬
‫‪187‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫قل الضغط‪ ،‬والغاز مؤلف‬


‫من عدد هائل من الجزيئات‬
‫يف اضطراب مستمر‪ ،‬وقد‬
‫أمكن البرهنة عىل أن قانون‬
‫«بویل» و»ماريوت» إن‬
‫هو إال نتيجة الزمة‪ ،‬لتحكم‬
‫تحكما تا ًّما يف‬
‫ً‬ ‫املصادفة‬
‫حركات هذه الجزيئات‪،‬‬
‫فاالنتظام الظاهري يف‬
‫مجموع هذا العدد الهائل‬
‫من الجزيئات نتيجة النعدام‬
‫النظام يف حركة كل جزيء‬
‫عىل حده(‪.)31‬‬
‫من واقع هذه األمثلة‬
‫وغيرها(*)‪ ،‬نصل إىل الدور‬
‫املهم الذي تمثله املصادفة‬
‫فيليب فرانك‬ ‫فيرنر هايزنبرج‬ ‫فون ميرنج‬
‫يف االكتشافات العلمية‬
‫النهائي للقوانين العلمية‪،‬‬ ‫ثورية مستحدثة‪ ،‬تدعم‬ ‫ويف حياتنا اليومية‪ ،‬وهذا‬
‫ومن ثم الحتمية املطلقة‪،‬‬ ‫بها النظرية العلمية نفسها‬ ‫يدل بصورة واضحة عىل‬
‫فمثل‪ ،‬يلزم عن نظرية‬‫ً‬ ‫وتخلص بها مما كان يعوق‬ ‫أن املنطق وحده ال يكفي‪،‬‬
‫الكوانتم وخاصة مبدأ‬ ‫تطورها(‪ ،)34‬وقد توجد‬ ‫ألن أغلب االكتشافات‬
‫«الالتحديد» أنه ال يمكن‬ ‫املصادفة يف الطبيعة وجو ًدا‬ ‫البيولوجية والطبية قد عثر‬
‫عليها عىل غير توقع‪ ،‬أو كان‬
‫التنبؤ بصورة دقيقة بكل‬ ‫وتحققًا موضوعيًّا‪ ،‬وتوجد‬
‫فيها عىل األقل عنصر من‬
‫ما سوف يحدث لإللكترون‬ ‫أساسا‬
‫ً‬ ‫يف الفيزياء اليوم‬
‫عناصر املصادفة‪ ،‬وبخاصة‬
‫داخل الذرة من حركات‬ ‫ترتكز عليه يف مواجهاتها‬
‫االكتشافات االنقالبية املهمة‬
‫وإشعاع وتغير مواضعه‪،‬‬ ‫العلمية الجديدة‪ ،‬وتوجد يف‬
‫والثورية(‪ ،)32‬أو بمعنى‬
‫كما ترى هذه النظرية أن‬ ‫خروجا عىل‬
‫ً‬ ‫املنهج العلمي‬
‫آخر‪ ،‬أصبح باإلمكان أن‬
‫هناك حوادث يف الكون‬ ‫قاعدة التحديد امليكانیکی‬ ‫نرى كيفية تحكم قوانين‬
‫تحدث صدفة‪ .‬ومن الجدير‬ ‫الفردي والتحليل‬ ‫املصادفة ونظرياتها يف‬
‫بالذكر أن ما يحدث صدفة‬ ‫االنعزايل(‪.)35‬‬ ‫مجال واسع من تجارب‬
‫أول األمر ثم يصبح هذا‬ ‫أيضا يف‬
‫كان للحتمية ً‬ ‫اإلنسان يف الطبيعة‬
‫الحدوث مطر ًدا‪ ،‬فيدعو‬ ‫نظريات الفيزياء الكالسيكية‬ ‫واملجتمع(‪.)33‬‬
‫إىل اكتشاف القانون أو‬ ‫السيادة املطلقة‪ ،‬حيث‬ ‫لكن املصادفة ال تتعارض‬
‫اختراع النظرية‪ ،‬أو أن‬ ‫كان يظن أن كل الظواهر‬ ‫مع االنتظام والدورية‪ ،‬وال‬
‫كل شيء يخضع للقوانين‬ ‫كبيرها وصغيرها تحكمها‬ ‫تخالف السببية والضرورة‪،‬‬
‫أول األمر‪ ،‬لكن تنشأ بين‬ ‫قوانين صارمة(‪ .)36‬إال أن‬ ‫وإن كانت تجعل لالنتظام‬
‫حين وآخر حوادث تخضع‬ ‫اكتشافات القرن العشرين‬ ‫والسببية والضرورة‬
‫لقوانين بعينها‪ ،‬فتتم‬ ‫العلمية قضت عىل اليقين‬ ‫وقيما‬
‫ً‬ ‫مدلوالت جديدة‬
‫‪188‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫كانت الفيزياء الحديثة‬ ‫قيمتها يف العلم؟ ال يكون‬ ‫دراستها من جديد الكتشاف‬


‫قد أوغلت يف املوضوعية‬ ‫الجواب سوى أن املصادفة‬ ‫قوانينها‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وذلك يفسر‬
‫واشتد اقترابها من الوقائع‬ ‫التي تواجه العلماء يف‬ ‫ما بالكون من تنوع وتباين‬
‫الخارجية وازدادت‬ ‫دراستهم للطبيعة ليست‬ ‫وجدة وتطور(‪.)37‬‬
‫مالمستها لها‪ ،‬فذلك‬ ‫ح ًّدا لعجزهم‪ ،‬وليست كلمة‬ ‫يبدو أن املصادفة نهاية‬
‫ألنها تتخذ من املصادفة‬ ‫يخفون بها جهلهم ‪-‬بحيث‬ ‫لعصر كانت تسود فيه‬
‫موضوعها ومن حساب‬ ‫يحملون عليها ما يعجزون‬ ‫التصورات السيكولوجية‬
‫االحتماالت منهجها‪ .‬كما‬ ‫ً‬
‫إسقاطا‬ ‫عن تعليله‪ -‬وال‬ ‫واالجتماعية جوانب متعددة‬
‫يرى املتحمسون لعنصر‬ ‫نفسيًّا إلرادتهم النفسية‪،‬‬ ‫من البناء الفيزيائي النظري‪،‬‬
‫املصادفة‪.‬‬ ‫كما أنها ليست برهانًا عىل‬ ‫وبداية عصر جدید من‬
‫إىل كل هذا الحد تصبح‬ ‫قصور أجهزتهم العلمية ‪.‬‬
‫(‪)41‬‬
‫تماما‬
‫ً‬ ‫املوضوعية الخالصة‬
‫املصادفة ‪-‬بوصفها‬ ‫وال تعني عجز العقل‬ ‫من سيطرة األسطورة‬
‫تصورا موضوعيًّا‪-‬‬
‫ً‬ ‫اإلنساني عن السيطرة عىل‬ ‫والالهوت واالنعكاسات‬
‫أداة ثورية لفهم طبيعة‬ ‫الواقع الخارجي سيطرة‬ ‫النفسية واالجتماعية واملثالية‬
‫النظرية العلمية وصياغتها‬ ‫نظرية وعملية عىل السواء‪،‬‬ ‫الذهنية‪ ،‬فإذا كانت القوانين‬
‫وتطويرها‪ ،‬فال ينبغي‬ ‫بل عىل العكس من ذلك‪،‬‬ ‫امليكانيكية التقليدية تحدي ًدا‬
‫عابرا‬
‫ً‬ ‫مرورا‬
‫ً‬ ‫املرور عليها‬ ‫فالعقل اإلنساني يستطيع‬ ‫إنسانيًّا للطبيعة الخارجية‪،‬‬
‫دون اإلشارة إىل هذه‬ ‫خالل معرفته بقوانين‬ ‫فإن القوانين اإلحصائية‬
‫الوظيفة‪ ،‬والتي ال تخالف‬ ‫املصادفة وصياغته لها أن‬ ‫تعد تحدي ًدا فيزيائيًّا للعقل‬
‫املنطق‪ ،‬بل إنها تسير‬ ‫يحقق سيطرته‪.‬‬ ‫اإلنساني(‪.)38‬‬
‫وفق ما يقتضيه‪ ،‬وإن كان‬ ‫نعود إىل التصور‬ ‫إن قوانين املصادفة‬
‫املنطق الفطري السليم‪،‬‬ ‫املوضوعي للمصادفة‪،‬‬ ‫ونظرياتها قد تبدو للوهلة‬
‫أي أن العامل ال يرتب لها‬ ‫حيث ال يقف عند تفسير‬ ‫األوىل عىل أنها ال رابط لها‪،‬‬
‫استنباطات بعينها يستنبط‬ ‫تفسیرا خاليًا من‬‫ً‬ ‫الواقع‬ ‫ولكن يمكن وضعها يف شكل‬
‫منها قوانين املصادفة أو‬ ‫الظالل الالهوتية والغائية‬ ‫قاطع كقوانين السببية(‪.)39‬‬
‫نظرياتها‪ ،‬بل هي تأتي‬ ‫وامليكانيكية‪ ،‬بل هو يف‬ ‫بل إن القوانين السيبية‬
‫أول‪ ،‬ثم بعد ذلك يقوم‬‫ً‬ ‫الوقت نفسه أساس لتحديد‬ ‫ما هي إال تجمعات هذه‬
‫العامل بتفسير ما تتضمنه‬ ‫املفهومات والتصورات‬ ‫القوانين‪ ،‬ويرجع النجاح‬
‫من وقائع علمية وتأويله‬ ‫الخاصة بالنظرية العلمية‪،‬‬ ‫الذي صادفته إىل أنها‬
‫وفق قواعد املنطق(‪.)43‬‬ ‫ولهذا فله ‪-‬إىل جانب‬ ‫تقریبات لتلك الحاالت؛ حيث‬
‫أهميته املوضوعية يف‬ ‫تضافرت قوانين املصادفة‬
‫‪ -4‬البساطة‬ ‫االستبصار بالواقع‪ ،-‬أهمية‬ ‫لتعطي احتماالت واسعة‪،‬‬
‫والجمال‬ ‫منهجية يف فهم النظرية‬ ‫فهی ‪-‬قوانين ونظريات‬
‫العلمية وتعميقها(‪.)42‬‬ ‫املصادفة‪ -‬أقل شيو ًعا ولكنها‬
‫البسيط يف اصطالح‬ ‫ولذا‪ ،‬فقد استطاع العلم‬ ‫صارمة(‪ .)40‬يعني هذا أن‬
‫الفالسفة الشيء الذي ال‬ ‫أن يدخل املصادفة يف‬ ‫قوانين املصادفة تجمع بين‬
‫جزء له‪ ،‬كالوحدة والنقطة‬ ‫حججه وأحكامه‪ ،‬بعد أن‬ ‫مبدأ املصادفة ومبدأ السببية‪.‬‬
‫ويقابله لفظ املركب(‪.)44‬‬ ‫أيدت النظرة املوضوعية‬ ‫لكن هل عدم شیوعها‬
‫ويهمنا هنا تحديد مصطلح‬ ‫وابتعدت عن الذاتية‪ ،‬فإذا‬ ‫يعني أنها أمر شاذ يقلل من‬
‫‪189‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫البساطة ‪Simplicity‬‬
‫بوصفها خاصية أساسية‬
‫من خصائص النظرية‬
‫دائما إىل‬
‫العلمية‪ ،‬فهي تسعى ً‬
‫التبسيط‪.‬‬
‫ليس املقصود بالبساطة‬
‫سهولة الفهم بالنسبة‬
‫للنظريات العلمية‪ ،‬ولكن‬
‫تحديدها بأقل عدد ممكن من‬
‫متضمناتها(‪ .)45‬أي أن سهولة‬
‫أمرا ذاتيًّا يختلف‬‫الفهم يعد ً‬
‫من شخص إىل آخر‪ ،‬ومن‬
‫ثم‪ ،‬فال يعد معنًى للبساطة‪،‬‬
‫وإنما تتمثل البساطة يف‬
‫أن تتضمن النظرية عد ًدا‬
‫قليل من التصورات العلمية‬ ‫ً‬
‫موتسارت‬ ‫كارل همبل‬ ‫كارل بوبر‬
‫والبديهيات ترد إليها كل‬
‫التصورات والبديهيات‬
‫«مانکس» (وهو نوع من‬ ‫باإلضافة إىل التناقض‬
‫األخرى‪ ،‬وأن تكون هذه‬
‫القطط ليس له ذيول) فإننا‬ ‫الواضح الكامن يف النظرية‬
‫التصورات والبديهيات‬
‫نضطر إىل وضع قضية‬ ‫القديمة‪ ،‬والذي مل نستطع‬
‫مترابطة يتولد بعضها‬
‫أكثر تركيبًا مثل قولنا‪:‬‬ ‫التخلص منه بكل الطرق‬
‫عن بعض‪ ،‬وأن تتضمن‬
‫«كل القطط لها ذيول ما‬ ‫املمكنة‪ ،‬وتعزى قوة النظرية‬ ‫أيضا عد ًدا ً‬
‫قليل‬ ‫النظرية ً‬
‫عدا قطط مانكس»(‪.)48‬‬ ‫الجديدة إىل البساطة والدقة‬ ‫من الفروض والقوانين ترد‬
‫أما «هنري بوانكاريه»‬ ‫التي حلت بها من املشكالت‬ ‫إليها كل الفروض والقوانين‬
‫فيؤكد أن مبدأ االختيار‬ ‫مع استخدام فروض‬ ‫األخرى‪ ،‬وال بد أن تكون هذه‬
‫بين النظريات هو اختيار‬ ‫منطقية قليلة»(‪.)47‬‬ ‫الفروض مترابطة ويتولد‬
‫أبسط االصطالحات‬ ‫يذهب «رسل» إىل أن‬ ‫أيضا ‪.‬‬
‫(‪)46‬‬
‫بعضها عن بعض ً‬
‫املمكنة‪ ،‬ولقد ميز بين‬ ‫عىل العامل أن يقبل أبسط‬ ‫عىل الرغم من أهمية سمة‬
‫الواقع املفرط يف التعقيد‬ ‫القضايا عىل أنها قضية‬ ‫البساطة بوصفها خاصية من‬
‫من جهة‪ ،‬وبين النظريات‬ ‫علمية‪ ،‬وال يقبل قضية أكثر‬ ‫خصائص النظريات العلمية‪،‬‬
‫العلمية البسيطة التي‬ ‫تركيبًا إال إذا ظهرت وقائع‬ ‫إال أن العلماء اختلفوا يف‬
‫تفرضها عقولنا عليه من‬ ‫جديدة تشير إىل عدم كفاية‬ ‫مفاهيمهم منها‪ ،‬ولنر اآلن‬
‫الجهة األخرى‪ ،‬فليست‬ ‫القضية البسيطة‪ ،‬ويضرب‬ ‫نماذج هذه املفاهيم‪ ،‬فقد‬
‫الطبيعة هي البسيطة ‪،‬‬
‫(**)‬ ‫مثال عىل ذلك بقوله‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ذهب «أينشتين» يف نص مهم‬
‫بل نظرياتنا التي تفرضها‬ ‫«إننا مل نر ق ًّطا بال ذيل»‪،‬‬ ‫يعلق فيه عىل نظرية النسبية‬
‫عليها هي البسيطة‪ ،‬وقد‬ ‫فإن أبسط القضايا التي‬ ‫إىل تأكيد الرأي التايل‪« :‬إن‬
‫وصف» بوانكاریه»‬ ‫نضعها هي‪« ،‬كل القطط لها‬ ‫الضرورة هي التي أدت‬
‫نظرية «نيوتن» بالسهولة‪،‬‬ ‫ذيول»‪ ،‬لكننا إذا رأينا قطط‬ ‫إىل نشوء نظرية النسبية‪،‬‬
‫‪190‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫ً‬
‫قبول(‪.)54‬‬ ‫األكثر‬ ‫ً‬
‫ارتباطا وثنيًّا بین‬ ‫بينما وصف حركة الكواكب‬
‫يتحمس «فيليب فرانك»‬ ‫البساطة والقابلية للتكذيب‬ ‫بأنها معقدة‪ ،‬وهذا معناه أن‬
‫لخاصية البساطة‪ ،‬فيرى‬ ‫واملحتوى التجريبي‪،‬‬ ‫نظرية «نيوتن» قد عکست‬
‫أنه إذا مل يكن هناك‬ ‫فالنظرية تكون أكثر‬ ‫تفسيرا مبس ًطا لهذه‬
‫ً‬
‫تبسيط‪ .‬فلن يكون هناك‬ ‫الظواهر الطبيعية ‪.‬‬
‫(‪)49‬‬
‫بساطة إذا كان لها محتوی‬
‫علم‪ ،‬وإذا قال امرؤ إنه‬ ‫كان بوانكاريه نفسه‬
‫تجريبي أكبر‪ ،‬وإذا كان‬
‫ال يريد معادالت‪ ،‬وإن ما‬ ‫يعتقد يف وجود ملكات‬
‫يمكن تكذيبها‪ ،‬أي يجب‬
‫يريده هو مجرد الحقائق‬ ‫وقدرات إبداعية مشتركة‬
‫تفضيل النظريات األكثر‬
‫كلها‪ ،‬فإنه يكون ساعيًا‬ ‫بين الفنانين والعلماء‪،‬‬
‫بساطة من األقل بساطة‪،‬‬
‫فقط إىل الخطوة التمهيدية‬ ‫ويف إحدى كتاباته‬
‫ألنها تمدنا بمعلومات أكثر‪،‬‬
‫للعلم‪ ،‬ال إىل العلم نفسه‪.‬‬ ‫االستنبطانية الشهيرة يف‬
‫وألن محتواها التجريبي‬
‫وكثيرا ما يتهم العامل‬
‫ً‬ ‫العام ‪ ۱۹۰۸‬تحدث عن‬
‫أكبر‪ ،‬وألنها أكثر خضو ًعا‬
‫بأنه يفرط يف التبسيط‪،‬‬ ‫وجود تلك الحساسية‬
‫لالختبار‪ ،‬ومثل «بوبر»‬
‫وهذا صحيح‪ ،‬فليس‬ ‫الجمالية الخاصة لدى علماء‬
‫لذلك بنظرية «أينشتين»‬
‫هناك علم دون إفراط يف‬ ‫الرياضيات‪ ،‬التي تقوم‬
‫التبسيط‪ ،‬ومهمة العامل‬ ‫العامة يف النسبية التي‬
‫بالدور الخاص باملنخل‬
‫أن يجد معادالت بسيطة‪،‬‬ ‫رآها أكثر بساطة من‬
‫الناعم‪ ،‬والتي تفرز مكونات‬
‫ويرى البعض أن العامل ال‬ ‫نظرية امليكانيكا عند‬ ‫التفكير وال تبقى منها إال‬
‫يساعدنا عىل فهم أي شيء‬ ‫«نیوتن»‪ ،‬فاألوىل تتضمن‬ ‫عىل تركيبات قليلة تتسم‬
‫ألنه يفرط يف تبسيط كل‬ ‫وفروضا أقل‬
‫ً‬ ‫تصورات أقل‬ ‫بكونها «متناغمة منسجمة»‪،‬‬
‫شيء(‪.)55‬‬ ‫وتستوعب مضمونًا أكبر‬ ‫و»جميلة»(‪.)50‬‬
‫ثم يتساءل «فرانك»‪ :‬من‬ ‫من الوقائع(***)(‪.)52‬‬ ‫أيضا إىل موقف‬ ‫انظر ً‬
‫الذي يعرف طريقة أخرى‬ ‫أما «همبل» فيخالف هذا‬ ‫بوانكاريه من الجمال‪« :‬إن‬
‫لفهم األشياء املعقدة غير‬ ‫الرأي عند «بوبر»‪ ،‬إذ يرى‬ ‫العامل ال يدرس الطبيعة‬
‫اإلفراط يف تبسيطها؟‬ ‫أن املحتوى األكبر ليس‬ ‫ألنها مفيدة‪ ،‬بل يدرسها‬
‫قائل بأنه عندما‬ ‫ويستطرد ً‬ ‫مرتب ًطا بالبساطة األكثر‪،‬‬ ‫ألنه يسر بها وألنها جميلة‪،‬‬
‫ينتهي العامل من وضع‬ ‫فأحيانًا ما ينظر إىل نظرية‬ ‫وأنا ال أتحدث هنا بالطبع‬
‫معادلة بسيطة‪ ،‬عليه أن‬ ‫«نيوتن» يف الجاذبية عىل‬ ‫عن الجمال الذي يدغدغ‬
‫يستنبط منها وقائع قابلة‬ ‫أنها أبسط من كثير من‬ ‫الحواس‪ ،‬جمال الخواص‬
‫للمالحظة‪ ،‬ثم عليه أن‬ ‫النظريات التي ال عالقة‬ ‫واملظاهر‪ ،‬فرغم أنني‬
‫يدقق هذه النتائج ليرى‬ ‫لها بالنطاق املحدود الذي‬ ‫‪-‬شاكر عبد الحميد‪ -‬ال‬
‫ما إذا كانت متفقة مع‬ ‫تتضمنه النظرية(‪.)53‬‬ ‫أسقط قيمة هذا الجمال‬
‫هذه املالحظات‪ ،‬ومن ثم‪،‬‬ ‫باإلضافة آلراء «همبل»‬ ‫إال أنه ال عالقة له بالعلم‪،‬‬
‫فإن مهمة العامل تتألف‬ ‫بصدد مبدأ البساطة يرى‬ ‫إنما أعني بالجمال هذا‬
‫من ثالث خطوات‪ :‬وضع‬ ‫أنه إذا كان هناك نظريتان‬ ‫الجمال العميق الذي يوجد‬
‫املبادئ‪ ،‬استخراج نتائج‬ ‫متفقتان يف املعطيات نفسها‪،‬‬ ‫يف التوازن بين األجزاء‪،‬‬
‫منطقية منها بغية استنباط‬ ‫وليستا مختلفتين يف أيه‬ ‫والذي ال يتفهمه إال الذكاء‬
‫أخيرا‬
‫ً‬ ‫وقائع بشأنها‪ ،‬ثم‬ ‫ناحية موافقة لتأييدهما‪،‬‬ ‫الخالص»(‪.)51‬‬
‫التدقيق العلمي لهذه‬ ‫كانت النظرية األبسط هي‬ ‫يرى «بوبر» أن هناك‬
‫يتحمس "فيليب فرانك" لخاصية البساطة‪،‬‬
‫فيرى أنه إذا لم يكن هناك تبسيط‪ .‬فلن‬
‫يكون هناك علم‪ ،‬وإذا قال امرؤ إنه ال يريد‬
‫معادالت‪ ،‬وإن ما يريده هو مجرد الحقائق‬
‫كلها‪ ،‬فإنه يكون ساع ًيا فقط إلى الخطوة‬
‫التمهيدية للعلم‪ ،‬ال إلى العلم نفسه‪.‬‬
‫وكثي ًرا ما يتهم العالم بأنه يفرط في‬
‫التبسيط‪ ،‬وهذا صحيح‪ ،‬فليس هناك علم‬
‫دون إفراط في التبسيط‪ ،‬ومهمة العالم أن‬
‫يجد معادالت بسيطة‬
‫هيرمان منكوفسكي‬ ‫هنري بوانكاريه‬

‫الوقائع املالحظة(‪.)56‬‬
‫قد يفضل البعض النظرية‬
‫يشكالن من غير شك‬ ‫رياضيات متقدمة ج ًّدا يف‬ ‫ألن معادالتها البسيطة‬
‫صورة تتجىل فيها النزعات‬ ‫بناء هذا الكون»(‪.)58‬‬ ‫تتيح حساب النتائج عىل‬
‫الجمالية‪ ،‬فإن رجال العلم‬ ‫بوحي من أفكار «أينشتنين»‬ ‫نحو أسهل وأسرع‪ ،‬إنها‬
‫‪-‬كما ذكرنا ت ًّوا‪ -‬يف‬ ‫أصبح «ديراك» يهتم ‪-‬أكثر‬ ‫اقتصادية ألنها توفر الوقت‬
‫معرض مفاضلتهم بين‬ ‫من أي فيزيائي آخر‪-‬‬ ‫والجهد‪ ،‬والبعض اآلخر‬
‫نظريتين منطويتين عىل‬ ‫بالجمال الرياضي بوصفه‬ ‫يفضلها ألسباب جمالية‪،‬‬
‫القدر نفسه من الحقيقة‪،‬‬ ‫سمة أساسية من سمات‬ ‫إذ إن النظريات البسيطة‬
‫يختارون النظرية األبسط‪،‬‬ ‫الطبيعة‪ ،‬وكدليل يستهدي‬ ‫ً‬
‫وجمال‪ ،‬فكثير‬ ‫أكثر روعة‬
‫إن البساطة يف أعماقها‬ ‫به يف أبحاثه‪« :‬إن النظرية‬ ‫من العلماء الرياضيين‬
‫معيار جمايل(‪ .)60‬كما يؤكد‬ ‫ذات الجمال الرياضي‬ ‫يتحمسون لنظرية «أينشتين»‬
‫«سوليفان»‪.‬‬ ‫أقرب إىل الصحة من نظرية‬ ‫يف الجاذبية ألن معادالتها‬
‫لكن «فرانك» ينكر هذه‬ ‫غير أنيقة ولو كانت هذه‬ ‫عىل درجة فائقة من البساطة‬
‫األسباب التي من أجلها‬ ‫تنسجم مع بعض النتائج‬ ‫والجمال الرياضي(‪.)57‬‬
‫تفضل النظرية البسيطة‪،‬‬ ‫التجريبية»(‪.)59‬‬ ‫بهذا املفهوم نفسه كان‬
‫ويعتقد بعوامل أخرى‪،‬‬ ‫يبدو جليًّا أنه إذا كان‬ ‫«ديراك» يفضل النظريات‬
‫فيشرح لنا أنه إذا درسنا‬ ‫العنصر الجمايل أكثر برو ًزا‬ ‫الجميلة عىل تلك املدعمة‬
‫النظريات التي كانت‬ ‫يف علوم الرياضيات‪ ،‬فإن‬ ‫بالوقائع‪ ،‬ولكنها غير أنيقة‪،‬‬
‫موضع تفضيل بسبب‬ ‫علوم الفيزياء ال تفتقر‬ ‫فالوقائع ‪-‬كما قال‪ -‬تتغير‬
‫بساطتها‪ ،‬لوجدنا أن‬ ‫إليه بكل تأكيد‪ .‬إن البحث‬ ‫باستمرار‪ ،‬وقال أيضا‪« :‬إن‬
‫السبب القاطع لقبولها مل‬ ‫عن قوانين عامة والسعي‬ ‫اإلله رياضي من الدرجة‬
‫يكن سببًا اقتصاد ًّيا أو‬ ‫إليجاد نظریات شاملة‬ ‫األوىل‪ ،‬وقد استخدام‬
‫‪192‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫اإلمكان(‪.)68‬‬ ‫إىل بعض يف أقل عدد منها‪،‬‬ ‫جماليًّا‪ ،‬بل ما يسمى غالبًا‬
‫ً‬
‫إجمال‪ ،‬فإن البساطة‬ ‫ويف هذا االتجاه تبسيط‬ ‫«ديناميكية النظريات»‪،‬‬
‫وتعميم يف الوقت نفسه‪،‬‬ ‫أي أن النظرية التي كانت‬
‫عىل الرغم من اإلجماع‬
‫لقد توصل «ماکسويل»‬ ‫موضع تفضيل هي النظرية‬
‫عىل أهميتها البالغة‪ ،‬إال‬ ‫إىل نظرية موحدة تفسر‬ ‫التي أثبتت أنها تجعل العلم‬
‫أن العلماء مل يتفقوا عىل‬ ‫ظواهر الضوء والكهرباء‬ ‫أكثر ديناميكية‪ ،‬أي أقدر‬
‫معايير وأسس واضحة‬ ‫واملغناطيس‪ ،‬وكان‬ ‫عىل التوغل إىل مجاالت‬
‫للنظرية األبسط‪ ،‬إنهم‬ ‫«أينشتين» يأمل يف العثور‬ ‫مجهولة(‪.)61‬‬
‫عىل نظرية تجمع بين‬ ‫عىل الرغم من كل‬
‫أجمعوا عىل أن العلم يسعى‬
‫نظرية «ماكسويل» من‬ ‫االختالفات بين العلماء‬
‫دائما إىل التبسيط‪ ،‬وهذا‬‫ً‬ ‫ناحية‪ ،‬ونظريته النسبية من‬ ‫عند توضیح مقاصدهم‬
‫املعنى يقره «هميل» حين‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬وأطلق عىل‬ ‫ملبدأ البساطة‪ ،‬إال أنهم‬
‫قال بأنه عىل الرغم من أن‬ ‫هذه النظرية اسم املجال‬ ‫اتفقوا عىل أنها خاصية‬
‫املوحد(‪ .)65‬وطريقة اختزال‬ ‫جوهرية للنظرية العلمية‪،‬‬
‫البساطة مطلب عزيز يف‬
‫النظريات هذه إىل نظرية‬ ‫بل تعد کالبديهة بالنسبة‬
‫العلم‪ ،‬إال أنه من الصعوبة‬ ‫واحدة تتسم بالبساطة عبر‬ ‫لها‪ ،‬فما النظريات العلمية‬
‫أن تقرر محكات واضحة‬ ‫عنها «نیوتن» بقوله‪« :‬بأن‬ ‫إال تبسيطات شديدة‬
‫للبساطة باملعنى الدقيق‪،‬‬ ‫الطبيعة ترضى بالبساطة‪،‬‬ ‫للواقع(‪ .)62‬وكما يتطلب‬
‫وال أن نبرر األولوية‬ ‫وهذا الذي دعا إليه أيضا‬ ‫منطقية ووضوح البديهيات‬
‫كيل ‪ Kill‬حين نادي بأن‬ ‫أيضا من املنظر‬‫يتطلب ً‬
‫املمنوحة للنظريات األكثر‬ ‫دائما تسير نحو‬ ‫الطبيعة ً‬ ‫أن يضع نظريته يف أبسط‬
‫بساطة‪ ،‬وبالطبع ال بد ألي‬ ‫املنهج األبسط واألعظم‬ ‫وأقل ما يمكن من البديهيات‬
‫محك للبساطة أن يكون‬ ‫ً‬
‫ونشاطا(‪.)66‬‬ ‫سرعة‬ ‫والتصورات املتاحة له‪،‬‬
‫موضوعيًّا‪ ،‬ألنها ليست‬ ‫انطالقًا من أن الطبيعة‬ ‫ويكون اختياره بين األبسط‬
‫تقنع بالبساطة‪ ،‬يمكن‬ ‫قائما‬
‫واألعقد من النظريات ً‬
‫مجرد حدس أو سهولة‬
‫اعتبار نظرية «كوبرنيكس»‬ ‫عىل درجة أسسها املنطقية‪،‬‬
‫حفظ أو تذكر للنظرية‪،‬‬ ‫يف مركزية الشمس ومن‬ ‫باإلضافة إىل ما يلزم عنها‬
‫ولذا تتباين من شخص‬ ‫حولها كواكبها أكثر بساطة‬ ‫من نتائج(‪ .)63‬إن النظرية‬
‫آلخر(‪ .)69‬وبالرغم من‬ ‫من نظرية «بطلميوس»‬ ‫األعقد ال تقدم نتائج‬
‫يف مركزية األرض‪ ،‬فهذه‬ ‫متوافقة مع الوقائع بشكل‬
‫ذلك‪ ،‬فإن البساطة ذات أثر‬
‫النظرية األخيرة نسق‬ ‫أفضل من نتائج النظرية‬
‫فاعل يف تطوير النظريات‬ ‫معقد من دوائر متقاطعة‬ ‫األبسط‪ ،‬وعىل هذا األساس‬
‫العلمية وتجريدها‪ ،‬وعليه‬ ‫‪ epicycles‬وبأنصاف‬ ‫فإن النظرية األبسط يمكن‬
‫تكون النظرية بسيطة‬ ‫أقطار غير متساوية ‪.‬‬
‫(‪)67‬‬
‫اعتبارها عىل نحو ما حالة‬
‫ولكنها رائعة وانقالبية‪،‬‬ ‫ومن البديهي أن النظرية‬ ‫خاصة للنظرية األعقد‬
‫البسيطة تكون أقرب إىل‬ ‫وليست مخالفة لها ‪ .‬لذا‪،‬‬
‫(‪)64‬‬
‫وهي جملية وجمالها يف‬
‫الصدق من املعقدة‪ ،‬ألنها‬ ‫فإن العلم يف جميع األحوال‬
‫بساطتها‪ ،‬فأهم عناصر‬ ‫أكثر مالءمة مع أنماط‬ ‫يتجه نحو التبسيط‪ ،‬أي‬
‫الجمال‪ ،‬البساطة‬ ‫كثيرة من الوقائع قدر‬ ‫نحو ضم النظريات بعضها‬
‫‪193‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪1- Hamelin’s T. Silverman.R. Instrument and Imagination New Jersey Prime termism‬‬
‫‪press, 1995. P3.‬‬
‫نقل عن شاكر عبد الحميد‪ :‬الخيال‪ ،‬من الكهف إىل الواقع االفتراضي‪ ،‬عامل املعرفة (‪ ،)360‬الكويت‪،2009 ،‬‬ ‫ً‬
‫ص‪.285‬‬
‫‪ -2‬شاكر عبد الحميد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.۲۸۹‬‬
‫‪.P221 .1986 ,Wiler. A; Imagery in scientific thought. wormlike. The MT press -3‬‬
‫نقال عن املرجع السابق‪ ،‬ص‪.۲۸۷‬‬
‫‪ -4‬شاكر عبد الحميد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.۹۷‬‬
‫‪ -5‬روبرت بونل‪ :‬الخيال واملستقبل‪ ،‬ترجمة محمد جمال الدين الغندي‪ ،‬مجلة ديوجين‪ ،‬العدد األول‪ ،‬السنة‬
‫األوىل‪ ،‬تصدر عن مجلة رسالة اليونسكو‪ ،۱۹۷۰ ،‬ص‪.24‬‬
‫‪ -6‬شاكر عبد الحميد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.303‬‬
‫‪ -7‬برونوفسكي‪ :‬العلم والبداهة‪ ،‬ترجمة أحمد عماد الدين أبو النصر‪ ،‬دار النهضة‪ ،‬القاهرة‪ ،1961 ،‬ص‪.78‬‬
‫‪ -8‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.۳۰۸‬‬
‫‪ -9‬شاكر عبد الحميد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.312‬‬
‫‪ -10‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.6‬‬
‫‪ -11‬بيفردج‪ :‬فن البحث العلمي‪ ،‬ترجمة زكريا فهمي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،1963 ،‬ص‪.86‬‬
‫‪ -12‬عادل عوض‪ :‬منطق النظرية العلمية املعاصرة‪ ،‬وعالقتها بالواقع التجريبي‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬االسكندرية‪،‬‬
‫‪ ،2016‬ص‪.۲۸۸‬‬
‫‪13- George. W., The Scientist in Action, Unwin Brothers Limited, London, 1956, P227.‬‬
‫‪ -14‬فؤاد زكريا‪ :‬التفكير العلمي‪ ،‬ص‪.308‬‬
‫‪ -15‬ماهر عبد القادر‪ :‬فلسفة العلوم‪ ،‬جــ‪ 7‬امليثودولوجيا (علم املناهج)‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،1997‬ص‪.110‬‬
‫‪ -16‬بيفردج‪ :‬فن البحث العلمي‪ ،‬ص‪.۱۱۹‬‬
‫‪ -17‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.112‬‬
‫‪ -18‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ -19‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ -20‬بيفردج‪ :‬فن البحث العلمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.123‬‬
‫‪ -21‬آينشتين‪ :‬أفكار وأراء‪ ،‬ترجمة رمسيس شحاتة‪ ،‬سلسلة العلم للجميع‪ ،‬الهيئة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ ،1986‬ص‪.10‬‬
‫‪22- Holton, G.; What. Precisely, is thinking? Einstein’s Amwer, in Franch, A.F. Einstein: A‬‬
‫‪Centerany Volume, Harvard in Press Massachusetts, U.S.A. 1979, P. 160.‬‬
‫‪23- Serena Nicoli, The Role of intuitions in Philosophical Methodology, Published by‬‬
‫‪Springer Nature, London, 2016, P.8.‬‬
‫‪ -24‬بيفردج‪ :‬فن البحث العلمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.130 :129‬‬
‫‪ -25‬کینیت جـ دنباي‪ :‬الزمان واملصادقة‪ ،‬ترجمة فؤاد کامل‪ ،‬مجد «ديوجين» صادرة عن مجلة رسالة‬
‫اليونيسكو‪ ،‬مرکز مطبوعات اليونيسكو‪ ،‬العدد ‪ ،31‬نوفمبر ‪ 1975‬يناير ‪ ،1976‬ص‪.70‬‬
‫‪ -26‬صمويل رابورت وهلين رايت‪ :‬العلم معنى وطريقة‪ ،‬ترجمة محمد أحمد بنونه‪ ،‬مراجعة كامل منصور‪،‬‬
‫‪194‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫األنجلو املصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،1968 ،‬ص‪.105‬‬


‫‪ -27‬بيفردج‪ :‬فن البحث العلمي‪ ،‬ص‪.252‬‬
‫‪ -28‬صمويل رابورت‪ :‬العلم معنى وطريقة‪ ،‬ص‪.228‬‬
‫‪ -29‬دنباي‪ :‬الزمان واملصادفة‪ ،‬ص‪.70‬‬
‫‪ -30‬بيفردج‪ :‬فن البحث العلمي‪ ،‬ص‪.53‬‬
‫‪ -31‬محمد محمد الجوادی‪ :‬مشرقة بين الذرة والدروة‪ ،‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،1980 ،‬ص‪.7‬‬
‫(∗) ملزيد من األمثلة انظر يف ذلك‪ :‬بفردج‪ :‬فن البحث العلمي‪ ،‬الفصل الثالث والرابع والثامن‪ ،‬وأيضا تذييل‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫‪ -32‬صمويل رابورت‪ :‬السلم معنی وطريقة‪ ،‬ص‪.229‬‬
‫‪ -33‬برونوفسکی‪ :‬العلم والبداهة‪ ،‬ص‪.174‬‬
‫‪ -34‬محمود أمين العامل‪ :‬فلسفة املصادفة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1970 ،‬ص‪.316‬‬
‫‪ -35‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.312‬‬
‫‪ -36‬لویس دی بروليه‪ :‬الفيزياء وامليكروفيزياء‪ ،‬ترجمة رمسيس شحاته‪ ،‬األلف كتاب (‪ ،)634‬مؤسسة‬
‫سجل العرب‪ ،‬القاهرة‪ ،1967 ،‬ص‪.219‬‬
‫‪ -37‬محمود زیدان‪« :‬مادة صدفة‪ -‬مصادفة»‪ ،‬املوسوعة ‪ 1‬الفلسفية العربية‪( ،‬م‪ ،)1‬ص‪.533‬‬
‫‪ -38‬محمود أمين العامل‪ :‬فلسفة املصادفة‪ ،‬ص‪.316‬‬
‫‪ -39‬برونوفسکی‪ :‬العلم والبداهة‪ ،‬ص‪.140‬‬
‫‪ -40‬املرجع نفسه واملوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ -41‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.315‬‬
‫‪ -42‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.336‬‬
‫‪ -43‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.317‬‬
‫‪ -44‬جميل صليبا‪ :‬املعجم الفسلفی‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬جا بيروت‪ ،1973 ،‬ص‪.209‬‬
‫‪45- Hospers, J., An Introduction To Philosophical Analysis, Rout Ledge, 1992, P. 156.‬‬
‫‪ -46‬محمود زیدان‪ :‬مناهج البحث يف العلوم الطبيعية املعاصرة‪ ،‬دار املعرفة الجامعية‪ ،‬االسكندرية‪،1990 ،‬‬
‫ص‪.97‬‬
‫‪ -47‬أينشتين‪ ،‬وليوبولد أنفلد‪ :‬تطور علم الطبيعة‪ ،‬ترجمة عبد املقصود الفادي‪ ،‬عطية عبد السالم عاشور‪،‬‬
‫األنجلو املصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،1959 ،‬ص‪.141‬‬
‫‪ -48‬محمد قاسم‪ :‬برتراند رسل‪ ،‬االستقراء ومصادرات البحث العلمي‪ ،‬دار املعرفة الجامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬
‫‪ ،1993‬ص‪.88 ،87‬‬
‫(**) خالفا لرأی «هیدیكی بوكار» رائد التفاعالت النووية الشديدة‪ ،‬القائل بأن الطبيعة بسيطة يف‬
‫جوهرها‪ ،‬الفكرة هوليس‪ ،‬كراف‪ :‬بول ديراك وجمال الفيزياء‪ -‬مجلة العلوم‪ ،‬املجلد ‪ ،11‬العددان ‪،9 ،8‬‬
‫مؤسسة الكويت للتقدم العلمي‪ ،‬الكويت‪ ،‬أغسطس وسبتمبر‪ ،1995 ،‬ص‪.18‬‬
‫‪ -49‬محمد فرحات عمر‪ :‬طبيعة القانون العلمی‪ ،‬الدار القومية للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،1966 ،‬ص‪.214‬‬
‫‪ -50‬برونوفسكي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.312‬‬
‫‪ -51‬لويس رولبرت‪ :‬طبيعة العلم غير الطبيعية‪ ،‬ترجمة سمير حنا صادق‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ ،2001‬ص‪.40‬‬
‫تماما نواجه وجهة نظر ال تجد يف النظرية النسبية خاصية البساطة مقارنة‬ ‫ً‬ ‫(***) خالفًا لهذا الرأي‬
‫بنظرية «نیوتن»‪ ،‬فعىل الرغم من أن نظرية «أینشتین» تالئم أنماط أكثر من الوقائع من نظرية «نيوتن»‪،‬‬
‫ً‬
‫شمول‪ ،‬إال أنها تفتقر إىل البساطة‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫أي أنها أكثر‬
‫‪195‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫‪George, W., The Scientist In Action, p241.‬‬


‫‪ -52‬كارل بوبر‪ :‬منطق الكشف العلمی‪ ،‬ترجمة ماهر عبد القادر‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪،1986 ،‬‬
‫ص‪.155‬‬
‫وأيضا‪ :‬يمني الخويل‪ :‬فلسفة بوبر‪ ،‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،1989 ،‬ص‪.424 ،422‬‬
‫ً‬
‫‪ -53‬كارل همبل‪ :‬فلسفة العلوم الطبيعية‪ ،‬ترجمة محمد جالل موسى‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬القاهرة‪،1976 ،‬‬
‫ص‪.67‬‬
‫‪ -54‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.61‬‬
‫‪ -55‬فيليب فرانك‪ :‬فلسفة العلم‪ ،‬الصلة بين الفلسفة والعلم‪ ،‬ترجمة عىل ناصف‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات‪،‬‬
‫بيروت‪ ،1983 ،‬ص‪.67‬‬
‫‪ -56‬املرجع نفسه واملوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ -57‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.423‬‬
‫‪ -58‬هولیس‪ ،‬کراف‪ :‬بول ديراك وجمال الفيزياء‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪ -59‬املرجع نفسه واملوضع نفسه‪.‬‬
‫‪ -60‬سوليفان‪ :‬قيمة العلم‪ ،‬الدار العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،1972 ،‬ص‪.35‬‬
‫‪ -61‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.421‬‬
‫‪ -62‬يمني الخويل‪ ،‬فلسفه بوبر‪ ،‬ص‪.422‬‬
‫‪63- George W.: The Scientist in Action, P241.‬‬
‫‪64- Nagel, E, The Structure of Science, Harcaust Barce & World, Inc., N.Y., 1961, P134.‬‬
‫‪ -65‬همبل‪ :‬فلسفة العلوم الطبيعية‪ ،‬ص‪.190‬‬
‫‪66- George, W., The Scientist in Action, p241.‬‬
‫‪ -67‬محمود زیدان‪ :‬مناهج البحث يف العلوم الطبيعية املعاصرة‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫‪68- George, W., The Scientist in Action, p241.‬‬
‫‪ -69‬همبل‪ :‬فلسفة العلوم الطبيعية‪ ،‬ص‪.62‬‬
‫‪196‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫السياسية واالجتماعية‬ ‫عندما‬

‫آين راند‪..‬عندما تتكلم الفلسفة بلسان األدب‬


‫بلغت الطفلة‬
‫ْ‬
‫والدينية التي تتحكم يف‬ ‫الروسية أليسا روزنباوم‪،‬‬
‫حياتهم يعود إىل عدم‬ ‫أو كما سيعرفها العامل بعد‬
‫تقديرهم لذواتهم وعقولهم‪،‬‬ ‫ذلك باسم آين راند‪ ،‬عامها‬
‫مما يسهل عىل الغير أن‬ ‫التاسع كانت قد حسمت‬
‫يتحكموا فيهم‪.‬‬ ‫أمرها بأن تكون كاتبة‪،‬‬
‫مل تكن أفكار راند تناسب‬ ‫وقالت إن كل ما فعلته بعد‬
‫البلد الذي كانت تعيش‬ ‫ذلك يف حياتها كان لتحقيق‬
‫آين راند‬
‫فيه؛ فقد قامت الثورة‬ ‫هذا الهدف‪ .‬لكن ما مل تكن‬
‫البلشفية وهي ال تزال‬
‫ُ‬ ‫تعرفه آين راند وقتها أنها‬
‫تلميذة باملدرسة‪ ،‬وتحولت‬ ‫كانت ستصبح أكثر من‬
‫روسيا إىل الشيوعية‬ ‫مجرد كاتبة؛ فهي الفيلسوفة‬
‫وأصبحت الحريات شبه‬ ‫الشهيرة‪ ،‬واألديبة الالمعة‪،‬‬
‫معدومة‪ ،‬وعندما التحقت‬ ‫وكاتبة السيناريو التي عملت‬
‫بالجامعة كان تعبيرها‬ ‫يف قلب أكبر صناعة للسينما‬
‫عن أفكارها املدافعة عن‬ ‫يف العامل‪« ..‬هوليوود»‪.‬‬
‫الحرية‪ ،‬ورفض تكريس‬ ‫كانت‪ ،‬وال تزال‪ ،‬آين راند‬
‫الفرد لحياته يف سبيل‬ ‫(‪ )1982 -1905‬تمثل أحد‬
‫أقطاب الفكر التحرري أو‬
‫الليبرتاري يف العامل‪ ،‬وهي‬
‫مؤسسة الفلسفة املوضوعية‬
‫‪ ،Objectivism‬وقد بدأت يف‬
‫املجاهرة بأفكارها الفلسفية‬
‫منذ حداثة سنها‪ ،‬فقد كانت‬
‫ُمجد يف فكرها اإلنسان‪،‬‬‫ت ِّ‬
‫وحريته‪ ،‬وفرديته‪ ،‬يف‬
‫مواجهة العامل‪ ،‬وتعتبر العقل‬
‫هو أداة اإلنسان الوحيدة‬
‫التي ينبغي أن تتحكم يف‬
‫حياته‪ .‬وبالتايل فقد رفضت‬
‫كل القوى الغيبية‪ ،‬أو املظاهر‬
‫الصوفية‪ ،‬التي يسمح كثير‬
‫من الناس أن تتحكم يف‬
‫مصائرهم أو أفعالهم؛ وهو‬
‫ما جعلها تقرر يف سن الثانية‬
‫عشرة أن تكون ُملحدة‪.‬‬
‫كانت ترى أن انسياق الناس‬
‫وراء ادعاءات املؤسسات‬ ‫د‪.‬حمدي مهران*‬
‫‪197‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫كل إنسان مؤمن بأفكار‬ ‫لها يف أرض الحرية‪ .‬ولعل‬ ‫خطرا‬


‫ً‬ ‫مجد الدولة‪ ،‬يشكل‬
‫عليه أن ُيطبقها يف حياته‬ ‫أصعب ما كانت تواجهه‬ ‫داهما عليها وعىل أسرتها؛‬
‫ً‬
‫اليومية‪ .‬فكان األدب‬ ‫هناك كفتاة تحلم بأن تكون‬ ‫فهاجرت إىل الواليات املتحدة‬
‫وسيلتها لتوصيل رسالتها‬ ‫كاتبة هو أنها مل تكن تجيد‬ ‫بعد انتهائها من الجامعة‬
‫ألكبر عدد ممكن من‬ ‫اللغة اإلنجليزية‪ ،‬وبالطبع‬ ‫يف سن الواحدة والعشرين‬
‫الناس‪ .‬فهي مل تكن تسعى‬ ‫مل يكن األمريكيون يقرأون‬ ‫لتكون هذه الخطوة بداية‬
‫لنيل إعجاب املفكرين‪ ،‬وال‬ ‫لزاما عليها‬‫الروسية‪ ،‬فأصبح ً‬ ‫طريقها نحو الشهرة‪.‬‬
‫تصفيق املثقفين‪ ،‬بل أرادت‬ ‫أن تُق ِّوي لغتها اإلنجليزية‬ ‫لقد اختارت الواليات املتحدة‬
‫مزاج‬
‫ٍ‬ ‫أن تتحول أفكارها إىل‬ ‫كي تتمكن من التعبير عن‬ ‫ألنها كانت تؤمن بأنه البلد‬
‫شعبي‪ ،‬ومبدأ إنساني عام‪.‬‬ ‫أفكارها بوضوح‪.‬‬ ‫الذي سيكون لديها فيه‬
‫كانت من أوائل أعمالها‬ ‫أول يف كتابة‬ ‫بدأت راند ً‬ ‫الحرية يف أن تكتب ما تشاء‪،‬‬
‫مسرحية بعنوان «مبدأ»‬ ‫القصص القصيرة‪ ،‬وبعض‬ ‫وأن تمارس قناعاتها‬
‫أصل كقصة‬ ‫ً‬ ‫‪ ،Ideal‬كتبتها‬ ‫سيناريوهات األفالم‬ ‫الفلسفية يف حياتها‬
‫ثم حولتها الحقًا ملسرحية‬ ‫الصامتة لتعزيز لغتها‬ ‫اليومية دون خوف أو‬
‫عام ‪ ،1936‬وهي تُناقش‬ ‫اإلنجليزية‪ ،‬وحصلت عىل‬ ‫قلق؛ ولهذا فقد تحملت‬
‫مدى صدق الناس يف تطبيق‬ ‫وظيفة كاتبة سيناريو مبتدئة‬ ‫كافة الصعوبات التي‬
‫ُمثلهم العليا أو مبادئهم يف‬ ‫يف ستوديو املخرج سيسيل‬ ‫واجهتها يف سبيل‬
‫حياتهم عبر موقف خيايل‬ ‫ديميل (‪.)1959 -1881‬‬ ‫غرس جذور جديدة‬
‫يصور ُممثلة شهيرة تصبح‬ ‫وبعد فترة من التمرس يف‬
‫متهمة بجريمة قتل‪ ،‬وتحاول‬ ‫الكتابة للسينما أصبحت‬
‫أن تلجأ إىل بعض معجبيها‬ ‫شغوفة بالكتابة املسرحية‪،‬‬
‫لتختبئ عندهم‪ ،‬لكنها تُفاجأ‬ ‫ولعل السبب يف ذلك يعود‬
‫بأن َمن كانوا يرسلون‬ ‫أن النصوص املسرحية‬ ‫إىل َّ‬
‫لها خطابات اإلعجاب‪،‬‬ ‫سينفَّذ بالفعل عىل‬ ‫تمثل أد ًبا ُ‬
‫ويدعون حبهم الشديد لها‪،‬‬ ‫خشبة املسرح‪ ،‬وسيحضره‬
‫واستعدادهم للتضحية بأي‬ ‫الجمهور ويتأثر به بشكل‬
‫شيء من أجلها‪ ،‬قد تخلوا‬ ‫مباشر‪ ،‬وهو بالضبط ما‬
‫عنها واح ًدا تلو اآلخر عندما‬ ‫كانت راند تتمناه‪ ،‬وقد كانت‬
‫أمس الحاجة إىل‬
‫كانت يف ِّ‬ ‫أعمالها املسرحية جمي ًعا‬
‫مساعدتهم! بل وحاول‬ ‫تعبر عن أفكارها الفلسفية‬
‫بعضهم أن يستغل موقفها‬ ‫ونظرتها للحياة‪.‬‬
‫لتحقيق مكاسب شخصية‪.‬‬ ‫مل تحاول راند يف ذلك الوقت‬
‫إنه عمل يعبر عن استنكار‬ ‫أن تقدم أفكارها الفلسفية‬
‫راند لحالة النفاق االجتماعي‬ ‫يف مؤلفات فكرية‪ ،‬بل إنها‬
‫املهيمنة يف عصرنا‪ ،‬لقد‬ ‫كانت تغضب إن طلب منها‬
‫كانت راند ‪-‬بحسب كالم‬ ‫أحد ذلك‪ .‬كانت ترى األدب‬
‫تالميذها وأصدقائها‪-‬‬ ‫وسيلة عظيمة لتوصيل‬
‫تعيش أفكارها وفلسفتها يف‬ ‫أفكارها‪ ،‬فقد كانت مقتنعة‬
‫حياتها‪ ،‬فهي تقول ما تؤمن‬ ‫بأن الفلسفة تُعاش‪ ،‬وأن‬
‫‪198‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫األفكار بالفعل‪ .‬وهكذا‪ ،‬مل‬ ‫‪ 1934‬بعنوان «محاكمة‬ ‫به‪ ،‬وتفعل ما تقوله ح ًّقا؛ وقد‬
‫يكن هناك متنفس ألفكار‬ ‫امرأة»‪ ،‬لكن النجاح الساحق‬ ‫كانت تريد أن يكون الجميع‬
‫راند سوى يف األعمال التي‬ ‫جاء مع إعادة عرضها يف‬ ‫مثلها يف ذلك األمر‪.‬‬
‫كانت تكتبها وتحاول أن‬ ‫العام التايل عىل مسرح‬ ‫كان أكبر نجاح مسرحي‬
‫تنشرها بعي ًدا عن هوليوود‪.‬‬ ‫برودواي تحت اسم «ليلة‬ ‫حققته راند هو مسرحيتها‬
‫كتبت راند يف عام ‪1937‬‬ ‫ْ‬ ‫‪ 16‬يناير»‪ ،‬فكانت خطوة‬ ‫البوليسية «ليلة ‪ 16‬يناير»‬
‫«نوفيال» خيالية بعنوان‬ ‫كبيرة عىل طريق نقل آين‬ ‫‪،16th Night of January‬‬
‫«أنشودة» ‪Anthem‬‬ ‫راند ألفكارها الفلسفية إىل‬ ‫والتي كتبتها متأثرة بحادثة‬
‫‪-‬نشرتها يف العام التايل‬ ‫الجمهور عبر أعمال أدبية‪.‬‬ ‫انتحار أحد رجال األعمال‬
‫يف إنجلترا وليس الواليات‬ ‫واصلت راند يف تلك الفترة‬ ‫الكبار‪ ،‬والذي رأت أن الناس‬
‫املتحدة‪ -‬تهاجم النزعة‬ ‫مساعيها الفلسفية ملواجهة‬ ‫ناجحا‬
‫ً‬ ‫كانت تنتقده ألنه كان‬
‫الجماعية ومحاولة طمس‬ ‫التيار السائد يف الواليات‬ ‫ومتفوقًا‪ ،‬وهو ما رأته‬
‫الهوية الفردية لإلنسان‪،‬‬ ‫املتحدة‪ ،‬والعديد من البدان‬ ‫احتقارا‬
‫ً‬ ‫تصرفًا يحمل داخله‬
‫ُّ‬
‫حيث تخيلت عاملًا ديستوبيًّا‬ ‫األخرى‪ ،‬الذي يدعم الفكر‬ ‫للتفوق والنجاح واإلنجاز‬
‫يف املستقبل تختفي فيه‬ ‫الجماعي ‪Collectivism‬‬ ‫البشري‪ ،‬وهي األشياء التي‬
‫من اللغة كلمة «أنا» لتحل‬ ‫القائل بتضحية اإلنسان‬ ‫تُجلَّها راند أشد اإلجالل‪،‬‬
‫محلها كلمة «نحن»‪ ،‬حيث‬ ‫بفرديته وحريته يف سبيل‬ ‫فقد أرادت لإلنسان أن‬
‫يصبح األفراد مجرد أرقام‬ ‫املجتمع‪ ،‬وتقديم املصلحة‬ ‫يسعى لتحقيق ذاته‪ ،‬وإنجاز‬
‫مسلسلة داخل مجتمع‬ ‫العامة عىل مصلحة الفرد‬ ‫طموحاته‪ ،‬وممارسته حريته‬
‫يتحكم يف كل حياتهم‪،‬‬ ‫الشخصية‪ .‬كانت هذه‬ ‫وفرديته يف الحياة ألقصى‬
‫وعندما يتمرد بطل الرواية‬ ‫األفكار تثير اشمئزاز راند‪،‬‬ ‫حد ممكن‪ .‬كانت مسرحية‬
‫ً‬
‫محاول أن‬ ‫عىل هذا الواقع‬ ‫فهي نفسها األفكار التي‬ ‫راند تتحدث عن امرأة متهمة‬
‫يعيش فرديته بأن يفكر‬ ‫هربت منها يف بلدها األم‪،‬‬ ‫بقتل رجل أعمال مشهور‪،‬‬
‫ويحب ويناقش ويبحث‪،‬‬ ‫وظلت تحاربها طيلة حياتها‪.‬‬ ‫وتجري أحداث املسرحية‬
‫تقوم السلطات بمطاردته‪،‬‬ ‫كانت فترة الثالثينيات‬ ‫يف قاعة املحكمة؛ وكعهدها‬
‫فيفر هار ًبا بعي ًدا عن هذا‬ ‫من القرن العشرين يف‬ ‫يف استغالل األعمال األدبية‬
‫الواليات املتحدة ُمشبَّعة‬ ‫لتوصيل رسالتها الفلسفية‪،‬‬
‫بالفكر الشمويل والقيم‬ ‫قامت بابتكار تقنية مسرحية‬
‫الجماعية‪ ،‬حتى أنهم كانوا‬ ‫جديدة‪ ،‬حيث كان يتم اختيار‬
‫يطلقون عىل فترة الثالثينيات‬ ‫بعض األشخاص من وسط‬
‫«ال ِعقد األحمر» ِ َلا شهدته‬ ‫جمهور املسرحية ليجلسوا‬
‫من قوة وانتشار األفكار‬ ‫عىل مقاعد املُحلَّفين كل ليلة‪،‬‬
‫الشيوعية القادمة من االتحاد‬ ‫الحكم عىل املتهمة‬ ‫ويصدروا ُ‬
‫السوفييتي‪ .‬كانت هوليوود‬ ‫يف نهاية العرض‪ .‬وجعلت‬
‫يف ذلك الوقت ال تسمح‬ ‫للمسرحية نهايتين‪ ،‬إحداهما‬
‫بظهور أي عمل فني يهاجم‬ ‫تحصل فيها املتهمة عىل‬
‫األفكار الشيوعية‪ ،‬فمعظم‬ ‫البراءة‪ ،‬واألخرى تحصل‬
‫أصحاب االستوديوهات‬ ‫فيها عىل اإلدانة‪ .‬بدأ عرض‬
‫هناك كانوا يعتنقون تلك‬ ‫املسرحية يف هوليوود عام‬
‫‪199‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫روسيا السوفييتية‪ ،‬أو‬ ‫تخيل األمريكيين عن قيمهم‬ ‫املجتمع البائس ليعيش‬


‫أملانيا النازية‪ ،‬أو أمريكا‬ ‫ومثلهم العليا التي أسسوا‬‫ُ‬ ‫مؤسسا‬
‫ً‬ ‫حريته مع حبيبته‬
‫االشتراكية»‪.‬‬ ‫دولتهم عليها‪ ،‬ومناصرتهم‬ ‫عاملًا جدي ًدا يكتشف فيه مرة‬
‫كانت أحداث الرواية‬ ‫لألفكار اليسارية القادمة من‬ ‫أخرى كلمة «أنا»‪ .‬لقد كان‬
‫تتعلق بثالثة شباب (امرأة‬ ‫االتحاد السوفييتي‪ ،‬كانت‬ ‫العمل أنشودة تمجد فردية‬
‫مصيرا‬
‫ً‬ ‫ورجلين) يواجهون‬ ‫تحاول أن تقدم صرخة‬ ‫اإلنسان وذاته العقالنية‬
‫مظلما بسبب األوضاع‬‫ً‬ ‫الحر‬
‫تحذير لهذا املجتمع ُ‬ ‫املفكرة‪ ،‬وتهاجم وتسخر من‬
‫داخل االتحاد السوفييتي‪،‬‬ ‫من خطورة تبني هذا الفكر‬ ‫غباء الجماعية ووحشيتها‪.‬‬
‫فيعيش أحدهم حياة مخزية‪،‬‬ ‫الظالمي القاتل للحرية‬ ‫بالطبع مل تستطع راند أن‬
‫وينتحر الثاني‪ ،‬بينما تموت‬ ‫واملنتهك لفردية اإلنسان‪،‬‬ ‫تنشر العمل يف الواليات‬
‫البطلة بطلق ناري من جنود‬ ‫فقد كانت تؤمن أن هناك‬ ‫املتحدة وقتها‪ ،‬فلم يكن املزاج‬
‫حرس الحدود وهي تحاول‬ ‫مكان يف داخل كل إنسان‬ ‫العام يقبل مثل هذه األفكار‪،‬‬
‫الفرار من البالد‪ .‬عانت‬ ‫منا ال يجوز للعامل أن يلمسه‬ ‫لكنه نُشر بعد ذلك عام‬
‫راند صعوبات شديدة يف‬ ‫أو يصل إليه‪ ،‬فهو ِملك‬ ‫‪ 1946‬عندما حققت أعمال‬
‫نشر الرواية يف الواليات‬ ‫لإلنسان وحده‪ ،‬وال يتحكم‬ ‫راند التالية مبيعات كبيرة‪.‬‬
‫املتحدة‪ ،‬فقد كان املد‬ ‫فيه سوى اإلنسان بمفرده‪.‬‬ ‫شعرت راند يف تلك الفترة‬
‫الشيوعي هناك يمنع ظهور‬ ‫كتبت راند واصفة روايتها‬ ‫أنها باتت قادرة لغو ًّيا عىل‬
‫مثل هذه األعمال‪ ،‬فكانت‬ ‫«نحن األحياء» قائلة‪« :‬إنها‬ ‫إنجاز عمل روائي طويل‬
‫تتلقى الرفض من ناشر‬ ‫ليست رواية عن روسيا‬ ‫تكشف فيه عن أفكارها‬
‫تلو اآلخر‪ ،‬لكنها استطاعت‬ ‫السوفييتية‪ ،‬إنها رواية عن‬ ‫الفلسفية‪ ،‬فعكفت عىل‬
‫أخيرا عام ‪ ،1936‬إال‬ ‫ً‬ ‫نشرها‬ ‫اإلنسان يف مواجهة الدولة‪،‬‬ ‫كتابة روايتها األوىل «نحن‬
‫أن دار النشر مل تقم بعمل‬ ‫وموضوعها األساسي هو‬ ‫األحياء» ‪We the Living‬‬
‫الدعاية الكافية للعمل خشية‬ ‫ُحرمة الحياة البشرية‪..‬‬ ‫التي تدور أحداثها داخل‬
‫إثارة غضب الوسط الثقايف‬ ‫إنها قصة الديكتاتورية‪ ،‬أي‬ ‫جدران روسيا السوفييتية‪،‬‬
‫املؤيد للتوجهات الشيوعية؛‬ ‫ديكتاتورية‪ ..‬يف أي مكان‪،‬‬ ‫تعبيرا أدبيًّا عن‬
‫ً‬ ‫كانت الرواية‬
‫لكن ذلك مل يمنع الرواية‬ ‫ويف أي زمان‪ ،‬سواء أكانت‬ ‫استياء راند وصدمتها من‬
‫من حصد إعجاب الجمهور‬
‫العادي تدريجيًّا‪ ،‬ونفدت‬
‫طبعتها األوىل بالكامل‪ ،‬كما‬
‫تُرجمت إىل اإليطالية عام‬
‫‪ ،1937‬وتحولت إىل فيلم‬
‫سينمائي إيطايل ناجح‪ ،‬غير‬
‫أن الحكومة الفاشية قامت‬
‫بمصاردته ومنع عرضه‬
‫بطلب من الحكومة األملانية‬
‫التي رأت فيه معارضة‬
‫صريحة للفاشية وليس‬
‫الشيوعية فقط‪.‬‬
‫مع نشوب الحرب العاملية‬
‫‪200‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫واسعة‪ .‬وقامت شركة‬ ‫منذ الصغر وتعتبرها رم ًزا‬ ‫الثانية‪ ،‬وظهور االتحاد‬
‫«وارنر برازر» بشراء حق‬ ‫لإلنجاز البشري)‪ ،‬لكنه‬ ‫السوفييتي كقوة خطيرة عىل‬
‫تحويل الرواية إىل فيلم‬ ‫يواجه عقبات خارجية تتمثل‬ ‫الساحة الدولية‪ ،‬بدأ الخوف‬
‫مقابل ‪ 50‬ألف دوالر‪،‬‬ ‫فيمن حوله ممن يقدسون‬ ‫من الشيوعية يزداد يف‬
‫باإلضافة لكتابة راند‬ ‫االتباع والتقليد‪ ،‬ويستنكرون‬ ‫الواليات املتحدة‪ ،‬وأصبحت‬
‫لسيناريو وحوار الفيلم‬ ‫االستقاللية واإلبداع‪ .‬لقد‬ ‫أفكار آين راند املناهضة‬
‫الذي صدر بالفعل عام‬ ‫وضعت راند عىل لسان هذا‬ ‫للفكر الجماعي‪ ،‬واستبداد‬
‫‪.1949‬‬ ‫البطل املثايل كل أفكارها‬ ‫الدولة‪ ،‬واملناصرة لفردية‬
‫كانت راند يف تلك الفترة قد‬ ‫الفلسفية‪ ،‬وجعلته ً‬
‫مثال‬ ‫اإلنسان وعقله وحريته‪،‬‬
‫بلغت ذروة تألقها الفكري‪،‬‬ ‫واقعيًّا لإلنسان الذي تريد‬ ‫قبول واستحسانًا‬‫ً‬ ‫تلقى‬
‫وأصبحت قادرة عىل نقل‬ ‫من الجميع أن يكونوا مثله‬ ‫من الجميع‪ .‬كانت آين راند‬
‫أفكارها الفلسفية العميقة‬ ‫يف نزاهته‪ ،‬وقوة ُحجته‪،‬‬ ‫قد انتهت يف تلك الفترة‬
‫بشكل كامل عبر أرقى‬ ‫ودفاعه عن حريته‪ ،‬وفرديته‪،‬‬ ‫من روايتها الطويلة التالية‬
‫صور التعبير األدبي‪ .‬وكان‬ ‫وعقله‪ .‬قالت آين راند‪« :‬إن‬ ‫والتي كانت تكشف فيها عن‬
‫ُشغلها الشاغل أن تنشر‬ ‫موضوع رواية املنبع هو‬ ‫أفكارها يف فلسفة األخالق‪.‬‬
‫وعيًا عا ًّما بأهمية وقيمة‬ ‫الفردية يف مواجهة الجماعية‪،‬‬ ‫كانت راند من املؤيدين‬
‫أن يفخر اإلنسان بذاته‬ ‫ليس يف مجال السياسة‪ ،‬بل‬ ‫لألنانية األخالقية‪ ،‬فهي‬
‫وعقله وإنجازه الشخصي‪،‬‬ ‫داخل روح اإلنسان»‪.‬‬ ‫ترى أن إنجازات اإلنسان‬
‫وهو ما يتوافق مع املبدأ‬ ‫وإبداعاته هي نتيجة تقديره‬
‫األمريكي الدستوري بحق‬ ‫عانت راند ‪-‬كالعادة‪ -‬وهي‬ ‫لذاته‪ ،‬وحبه لها‪ ،‬وتقديمه‬
‫كل إنسان يف السعي نحو‬ ‫تحاول نشر هذه الرواية‪،‬‬ ‫لنفسه ومصلحته الذاتية‬
‫تحقيق سعادته‪ .‬لقد كانت‬ ‫ناشرا‬
‫ً‬ ‫فقد رفضها اثنا عشر‬ ‫عىل اآلخرين ومصلحتهم‪،‬‬
‫تؤمن بأن سعي اإلنسان‬ ‫ملا تحتويه من أفكار فلسفية‬ ‫وأن هذه األنانية واالعتزاز‬ ‫َّ‬
‫نحو تحقيق سعادته هو‬ ‫صعبة‪ ،‬كما أن راند رفضت‬ ‫دوما هي‬
‫ً‬ ‫كانت‬ ‫بالنفس‬
‫أكثر األمور أهمية يف حياته‪،‬‬ ‫من جانبها أن تغير يف‬ ‫الحافز األعىل للبشر كي‬
‫حيث مفهوم السعي نحو‬ ‫روايتها كلمة واحدة‪ ،‬لكنها‬ ‫ينتجوا ويبدعوا ويحققوا‬
‫السعادة يعني عند راند‬ ‫أخيرا استطاعت نشرها بعد‬ ‫ً‬ ‫اإلنجازات‪.‬‬
‫«حق اإلنسان يف تحديد‬ ‫أن تحمس للرواية محرر‬ ‫قدمت راند يف‬
‫أهدافه وقيمه الخاصة ثم‬ ‫بإحدى دور النشر جازف‬ ‫روايتها «املنبع» ‪The‬‬
‫تحقيقها‪ ،‬إن السعادة تعني‬ ‫بالدخول يف صدام مع رئيس‬ ‫‪ Fountainhead‬الرجل‬
‫حالة الوعي التي تتحقق من‬ ‫الدار الذي كان يرفض نشر‬ ‫املثايل من وجهة نظرها‪،‬‬
‫إنجاز اإلنسان لتلك القيم‪،‬‬ ‫الرواية‪ .‬ظهرت الرواية للنور‬ ‫اإلنسان النموذجي الذي‬
‫فالسعادة ال تعني مجرد‬ ‫عام ‪ ،1943‬وبيع منها يف‬ ‫يعتز بذاته‪ ،‬وابداعه‪،‬‬
‫لحظات اللذة‪ ،‬بل هي شعور‬ ‫عام واحد مئة ألف نسخة‪،‬‬ ‫ويرفض أي تدخل خارجي‬
‫عميق‪ ،‬خا ٍل من الذنب‪،‬‬ ‫وخالل عامين فقط‪ ،‬ودون‬ ‫من املجتمع أو الدولة يف‬
‫وعقالني‪ ،‬بتقدير الذات‪،‬‬ ‫دعاية قوية‪ ،‬وصلت الرواية‬ ‫اختياراته وحياته‪ .‬كان بطل‬
‫وفخر املرء بما أنجزه‪ ،‬إنها‬ ‫إىل قائمة األكثر مبي ًعا وظلت‬ ‫مهندسا معمار ًّيا‬
‫ً‬ ‫روايتها‬
‫تعني التمتع بالحياة‪ ،‬وهو‬ ‫يف هذه القائمة لثالث سنوات‬ ‫السحب‬ ‫يصمم ناطحات ُ‬
‫ما ال يمكن أن يتحقق إال‬ ‫متتالية‪ ،‬وحققت لراند شهرة‬ ‫(التي كانت راند منبهرة بها‬
‫ْ‬
‫كتبت راند في عام ‪" 1937‬نوفيال" خيالية‬
‫بعنوان "أنشودة" ‪- Anthem‬نشرتها في‬
‫العام التالي في إنجلترا وليس الواليات‬
‫المتحدة‪ -‬تهاجم النزعة الجماعية‬
‫ومحاولة طمس الهوية الفردية‬
‫عالما ديستوب ًّيا في‬
‫ً‬ ‫لإلنسان‪ ،‬حيث تخيلت‬
‫المستقبل تختفي فيه من اللغة كلمة‬
‫"أنا" لتحل محلها كلمة "نحن"‪ ،‬حيث‬
‫يصبح األفراد مجرد أرقام مسلسلة داخل‬
‫مجتمع يتحكم في كل حياتهم‬ ‫سيسيل ديميل‬

‫إلنسانٍ عقالني صاحب‬


‫قواعد أخالقية عقالنية»‪.‬‬
‫اإلنتاج واإلبداع‪ .‬كيف‬ ‫يف الواقع‪ ،‬إن من يعظون‬
‫لقد حاولت راند أكثر من‬
‫سيكون حال العامل بدون‬ ‫غيرهم ُهم أكثر فئة تتعاطف‬ ‫مرة يف مختلف أعمالها‬
‫أصحاب العقول الحرة‬ ‫مع األشرار‪ ،‬والفاشلين‪،‬‬ ‫األدبية أن تؤكد عىل فكرة‬
‫املستقلة املبدعة؟ لقد شبَّهت‬ ‫والكذابين‪ ،‬والغشاشين‪،‬‬ ‫عداء الفكر الجماعي لنجاح‬
‫راند أصحاب العقول املبدعة‬ ‫وستجد فجأة جميع الضعفاء‬ ‫اإلنسان املستقل املعتز بذاته‬
‫بذلك اإلله األغريقي الشهير‬ ‫يحوزون نو ًعا من القيمة‪،‬‬ ‫وفرديته‪ ،‬حيث كانت ترى‬
‫الذي يحمل قُبة السماء‬ ‫بينما يتعرض أي شخص‬ ‫أن املجتمع يريد من املرء أن‬
‫عىل كاهله‪ ،‬وتساءلت ماذا‬ ‫ناجح للهجوم من اآلخرين‬ ‫يضحي بنفسه وطموحاته‬
‫لو قرر أن يتململ تار ًكا‬ ‫ملجرد أنه ناجح»‪.‬‬ ‫وأحالمه يف خدمة الجماعة‪،‬‬
‫عمله هذا؟! إنها النهاية‬ ‫لهذا السبب‪ ،‬قامت راند‬ ‫تماما‪،‬‬
‫وهو ما كانت ترفضه ً‬
‫لكل العامل‪ ،‬فالعامل بدون‬ ‫يف روايتها األشهر «أطلس‬ ‫وبالتايل كانت ترى األنانية‬
‫أصحاب العقول املبدعة‬ ‫متملمالً» ‪Atlas Shrugged‬‬ ‫صحيحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫األخالقية ً‬
‫عمل‬
‫مصيره الهالك‪.‬‬ ‫بتمجيد اإلنجاز الفردي‬ ‫واملصدر األساسي لكل‬
‫لقد مثلت هذه الرواية ذروة‬ ‫البشري‪ ،‬وتسليط الضوء‬ ‫إنجاز بشري‪ .‬تقول راند‪:‬‬
‫فكر آين راند الفلسفي‪،‬‬ ‫عىل قيمة العقول املُبدعة‬ ‫نجاحا يف أي‬
‫ً‬ ‫«إذا حققت‬
‫إنها معالجة أدبية ملذهبها‬ ‫يف حياة الناس‪ ،‬من خالل‬ ‫نشاط عقالني‪ ،‬فهذه تعد‬
‫املوضوعي‪ ،‬ودفاعها عن‬ ‫فكرة خيالية تتصور العقول‬ ‫فضيلة كبيرة‪ ،‬وبسببها‬
‫الرأسمالية الصناعية‪،‬‬ ‫املبدعة وأصحاب اإلنجاز‬ ‫سوف يهاجمك الناس‪ ،‬ألنك‬
‫ومحاولة إلبراز وتوضيح‬ ‫واإلنتاج قد أضربوا عن‬ ‫استغللت قدراتك‪ ،‬وعملت‬
‫أهمية ودور «العقل» يف‬ ‫العمل‪ ،‬وتركوا الجمل بما‬ ‫بجِ د‪ ،‬وكنت ثابتًا عىل املبدأ‪،‬‬
‫حياة البشر‪ .‬كانت تجلس‬ ‫حمل لكل هؤالء الذين‬ ‫وصاحب طموح‪ .‬سيحاولون‬
‫تكتب يف روايتها هذه‬ ‫يسعون لتقييد حريتهم يف‬ ‫جعلك تشعر بالذنب لذلك‪.‬‬
‫‪202‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫وكاملة ملا يمكن أن يكون‬ ‫األنانية» (‪،)1964‬‬ ‫لساعات طويلة دون انقطاع‪،‬‬
‫عليه اإلنسان‪ ،‬وما ينبغي‬ ‫و»الرأسمالية‪ :‬املبدأ املجهول»‬ ‫وظلت تعد مسوداتها‬
‫أن يكون عليه‪ .‬فعندما‬ ‫(‪1966‬م)‪ ،‬و»مدخل إىل‬ ‫وتنقحها عىل مدار اثني عشر‬
‫ودخلت عامل‬
‫ُ‬ ‫بدأت الكتابة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫االبستمولوجيا املوضوعية»‬ ‫عاما حتى أخذت شكلها‬ ‫ً‬
‫وشرعت يف دراسة‬ ‫األدب‪،‬‬ ‫(‪ .)1967‬وغيرها من‬ ‫النهائي‪ .‬قامت بالتعاقد مع‬
‫ُ‬
‫اكتشفت أنني‬ ‫الفلسفة‪،‬‬ ‫املؤلفات الفكرية التي كانت‬ ‫إحدى دور النشر الكبرى‬
‫ُ‬
‫تتوسع فيها يف شرح‬ ‫لنشر وتوزيع الرواية مقابل‬
‫كنت يف خالف عميق مع‬ ‫ُ‬
‫فلسفتها‪.‬‬ ‫مقدما‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪ 50‬ألف دوالر‬
‫جميع الفلسفات القائمة‪ ،‬ال‬
‫كانت راند تعرف طريقها‬ ‫وصدرت الرواية بالفعل‬
‫سيما فيما يتعلق بقواعدها‬ ‫عام ‪ 1957‬لتصعد يف خالل‬
‫منذ البداية‪ ،‬ومل يكن‬
‫األخالقية؛ لذلك‪ ،‬كان عيلَّ‬ ‫أيام إىل قائمة األكثر مبي ًعا‪،‬‬
‫استخدامها لألدب يف توصيل‬
‫أن أُؤسس تفكيري الخاص‪،‬‬ ‫فلسفتها محض صدفة‪ ،‬بل‬ ‫وتظل ضمن القائمة عىل‬
‫وأن أضع نسقي الفلسفي‬ ‫عن قناعة وإصرار‪ ،‬فقد‬ ‫مدار اثنين وعشرين أسبو ًعا‬
‫املميز من أجل اكتشاف‬ ‫أدركت أنه أفضل وسيلة‬ ‫متتاب ًعا‪ ،‬لتحقق عىل مدار‬
‫وتقديم نمط األفكار‬ ‫لنشر فلسفتها وتقريبها من‬ ‫سنوات مبيعات كبيرة ج ًّدا‬
‫والفرضيات التي تجعل‬ ‫الجمهور‪ .‬عندما ُسئلت راند‬ ‫بلغت حتى عام ‪ 2019‬تسعة‬
‫اإلنسان النموذجي ممكنًا‪،‬‬ ‫يف أحد لقاءاتها التلفزيونية‬ ‫ماليين نسخة‪ ،‬وتُترجم‬
‫وتبيان أي نوع من القناعات‬ ‫إن كانت تعتبر‬ ‫إىل أكثر من ثالثين لغة‪،‬‬
‫عام ‪ْ 1961‬‬
‫نفسها روائية يف املقام األول‬ ‫ليس من بينها اللغة العربية‬
‫سوف يؤدي إىل شخصية‬
‫لألسف‪.‬‬
‫اإلنسان املثايل»‪.‬‬ ‫أم فيلسوفة‪ ،‬كان ردها‪« :‬أنا‬
‫كانت هذه الرواية هي آخر‬
‫إن النموذج الذي قدمته آين‬ ‫كالهما‪ ،‬ولنفس السبب؛ فأنا‬
‫عمل أدبي كبير آلين راند‪،‬‬
‫راند للمفكر والفيلسوف‬ ‫اهتمامي وهديف الرئيسي‪،‬‬
‫فقد تفرغت من بعدها‬
‫الذي يطرح أفكاره املركبة‬ ‫سواء يف مجال األدب أو يف‬
‫لكتابة املؤلفات الفكرية‪ ،‬فقد‬
‫يف صورة أعمال أدبية‬ ‫مجال الفلسفة هو تعريف‬
‫أصبحت أفكارها مفهومة‬
‫وتقديم صورة اإلنسان‬
‫شعبية مل يكن األول‪ ،‬ولن‬ ‫للجميع بفضل أعمالها‬
‫املثايل‪ ..‬صورة محددة‪،‬‬
‫يكون األخير؛ فقد ظل األدب‬ ‫األدبية‪ ،‬وأصبح من املمكن‬
‫‪-‬وسيبقى‪ -‬وسيلة حيوية‪،‬‬ ‫عرض‬
‫وأداة طيِّعة‪ ،‬لتوصيل‬ ‫تلك‬
‫األفكار‪ ،‬وبناء املجتمعات‪.‬‬ ‫األفكار‬
‫إنه القوة الناعمة التي تُشكل‬ ‫بشكل‬
‫أكاديمي‬
‫حياتنا‪ ،‬وتجعلنا عىل ما نحن‬
‫بحت‪.‬‬
‫عليه اليوم عبر تغيير عقولنا‬
‫فنشرت‬
‫وطريقة تفكيرنا‪.‬‬ ‫«إىل‬
‫املثقفين‬
‫‪-------‬‬ ‫الجدد»‬
‫ُ‬
‫* باحث يف فلسفة‬ ‫(‪،)1961‬‬
‫السياسة ومترجم‪.‬‬ ‫و»فضيلة‬
‫‪203‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫عن طريق األدب والفن‬ ‫عالقة الفلسفة باألدب‬

‫آيريس مردوخ بين الفلسفة واألدب‬


‫ال عن طريق الفلسفة أو‬ ‫وثيقة ج ًّدا وال يحتاج‬
‫العلم‪ ،‬فقبل العلماء اخترع‬ ‫املراقب إىل كثير عناء للتثبت‬
‫دافنشي (الرسام) الطائرة‪،‬‬ ‫من هذه الحقيقة التي تصل‬
‫واخترع جول فيرن‬ ‫يف موثوقيتها إىل درجة‬
‫(الروائي) الغواصة‪ ،‬ول ِّقب‬ ‫البداهة‪ .‬فتاريخ الفلسفة‬
‫األخير بمخترع القرن‬ ‫وتاريخ األدب كالهما‬
‫العشرين لكثرة تنبؤاته‬ ‫يؤكدان وجود تلك الصلة‬
‫العلمية التي تحققت فيما‬ ‫بينهما‪ ،‬إضافة إىل املمارسة‬
‫بعد‪ .‬وميلتون (الشاعر)‬ ‫الفعلية من قبل الفالسفة‬
‫هو الذي كتب «الفردوس‬ ‫واألدباء التي يتداخل‬
‫املفقود» ودانتي (الشاعر)‬ ‫فيها‪ ،‬يف كثير من األحيان‪،‬‬
‫هو الذي كتب «الكوميديا‬ ‫الفلسفي باألدبي‪.‬‬
‫اإللهية» وألدوس هكسيل‬ ‫فقد صاغ أفالطون فلسفته‬
‫(الروائي) هو الذي كتب‬ ‫يف شكل أدبي (املحاورات)‬
‫«عامل رائع جديد»‪.‬‬ ‫بالرغم من أنه‪ ،‬وللمفارقة‪،‬‬
‫وهناك فالسفة كتبوا أد ًبا‬ ‫من أوائل الفالسفة الذين‬
‫مثل سارتر وسيمون دي‬ ‫عملوا عىل الفصل بين‬
‫بوفوار‪ ،‬وأدباء ضمنوا‬ ‫الفلسفة واألدب‪ ،‬ليس‬
‫أفكارا فلسفية‬
‫ً‬ ‫أعمالهم‬ ‫هذا فحسب‪ ،‬لكنه طرد‬
‫مثل ألبير كامو وميالن‬ ‫الشعراء من مدينته الفاضلة‬
‫كونديرا وباولو كويلو‪ .‬كما‬ ‫باعتبارهم يف مرتبة أقل‬
‫أن هناك فالسفة عبّروا عن‬ ‫من الفالسفة‪ ،‬وال يملكون‬
‫فلسفاتهم بأسلوب أدبي‬ ‫القدرة نفسها عىل بلوغ‬
‫مثل كيركجارد ونيتشه‬ ‫الحقيقة‪ .‬فالشعر عند‬
‫وزكي نجيب محمود‪ .‬ويف‬ ‫أفالطون يقف عىل مسافتين‬
‫الثقافة العربية كتب توفيق‬ ‫من العامل الحقيقي (عامل‬
‫الحكيم املسرح الذهني‬ ‫املثل) ويمثل خطابه صورة‬
‫ومسرح الالمعقول وشغل‬ ‫الصورة (الواقع) أو نسخة‬
‫بقضايا العدل والحرية‬ ‫ثانية لنسخة أويل‪.‬‬
‫والزمن كما يف «إيزيس»‬ ‫والحقيقة أن فكرة عامل املثل‬
‫و»نهر الجنون» و»أهل‬ ‫نفسها تقوم عىل الخيال ال‬ ‫د‪.‬ماهر عبد المحسن‬
‫الكهف»‪ ،‬كما كتب نجيب‬ ‫املنطق‪ ،‬واألدب‪ ،‬بهذا املعني‬
‫محفوظ روايات عديدة‬ ‫هو األكثر قدرة عىل بلوغها‬
‫ذات طابع فلسفي واضح‬ ‫من الفلسفة‪ ،‬وأي يوتوبيا‬
‫مثل « الطريق» و»الشحاذ»‬ ‫يبحث عنها اإلنسان تنتمي‬
‫و»قلب الليل»‪ ،‬وربما كانت‬ ‫إىل الخيال وتجد تحققها يف‬
‫هذه األعمال ناتجه عن‬ ‫األدب‪ ،‬حتي الخيال العلمي‬
‫دراسته األكاديمية للفلسفة‬ ‫يتم التعبير عنه‪ ،‬يف الغالب‪،‬‬
‫‪204‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الفيلسوف اإلنجليزي بريان‬ ‫من تخصص يف كتابة‬ ‫والحيرة التي انتابته‪ ،‬بعد‬
‫ماجي ‪ Bryan Magee‬مع‬ ‫أعمال بعيدة عن الفلسفة‪،‬‬ ‫نهاية الدراسة‪ ،‬بين املضي‬
‫مواطنته األديبة والفيلسوفة‬ ‫لكنه فعل ذلك‪ ،‬عىل سبيل‬ ‫يف طريق الفلسفة أو طريق‬
‫آيريس مردوخ ‪Iris‬‬ ‫االستثناء‪ ،‬يف بعض األعمال‬ ‫األدب‪ ،‬وحسمه للموقف‬
‫‪ Murdoch‬حول عالقة‬ ‫مثل يوسف السباعي‬ ‫باختيار األدب‪ ،‬الروائي‬
‫الفلسفة باألدب‪ .‬وقد بثه‬ ‫الذي اشتهر بالروايات‬ ‫بخاصة‪ ،‬للتعبير عن أفكاره‬
‫التلفزيون البريطاني يف‬ ‫الرومانسية‪ ،‬لكنه كتب ثالث‬ ‫الفلسفية واالجتماعية‬
‫قناته الثقافية عام ‪،١٩٧٨‬‬ ‫روايات فلسفية بامتياز‪،‬‬ ‫والسياسية‪.‬‬
‫وهو متاح عىل موقع‬ ‫هي‪ :‬السقا مات‪ ،‬أرض‬ ‫ويمكننا أن نضيف‪ ،‬من وجهة‬
‫«اليوتيوب»‪ ،‬وسنعتمد يف‬ ‫النفاق‪ ،‬نائب عزرائيل‪.‬‬ ‫نظرنا وخالفًا ملا هو شائع‪،‬‬
‫مقالنا عىل الترجمة التي‬ ‫والحقيقة أن عالقة الفلسفة‬ ‫كثيرا من أعمال إحسان عبد‬ ‫ً‬
‫قامت بها الكاتبة والناقدة‬ ‫كثيرا عىل‬
‫ً‬ ‫باألدب تعتمد‬ ‫القدوس التي تتناول قضايا‬
‫األردنية لطفية الدليمي‬ ‫عالقة التفكير بالخيال‪،‬‬ ‫ذات طابع فلسفي حتي‬
‫تحت عنوان «نزهة فلسفية‬ ‫فالذين يعتمدون عىل املنطق‬ ‫العاطفية واالجتماعية منها‪،‬‬
‫يف غابة األدب» وصدرت‬ ‫وحدهم هم الذين يكتبون‬ ‫وتختلف روايات عبد القدوس‬
‫عن دار املدي عام ‪.٢٠١٨‬‬ ‫فلسفة خالصة مثل أرسطو‬ ‫عن أعمال الحكيم ومحفوظ‬
‫وكانط وهيجل‪ ،‬والذين‬ ‫يف أنها ال تطرح أسئلة‬
‫استقالل الفلسفة‬ ‫يعتمدون عىل الخيال‬ ‫فلسفية عىل األصالة‪ ،‬لكنها‬
‫عن األدب‬ ‫خالصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وحده يكتبون أد ًبا‬ ‫تحيل الوقائع الرومانسية‬
‫وبين االثنين يوجد طريق‬ ‫واالجتماعية والسياسية‬
‫ينطلق بريان ماجي‪ ،‬يف‬ ‫ثالث يجمع بين الفلسفة‬ ‫إىل أسئلة فلسفية‪ .‬وغالبًا‬
‫حواره مع آيريس مردوخ‪،‬‬ ‫واألدب‪ ،‬وينتهجه هؤالء‬ ‫ما يكون التساؤل داخل‬
‫من مقدمة أساسية‪ ،‬يف حكم‬ ‫الذين يفكرون بالخيال‬ ‫الكاتب بينما تأتي الرواية‬
‫املسلّمة‪ ،‬تميز بين الفلسفة‬ ‫أو يتخيلون بالتفكير‪ ،‬أي‬ ‫بمثابة اإلجابة عنه‪ ،‬فرواية‬
‫واألدب باعتبارهما حقلين‬ ‫الذين يجمعون بين العقل‬ ‫«الوسادة الخالية» تحاول أن‬
‫معرفيين مختلفين‪ ،‬وتحدي ًدا‬ ‫والعاطفة‪ ،‬ويعبّرون عن‬ ‫تجيب عن سؤال الحب األول‪،‬‬
‫ال تنتمي الفلسفة إىل‬ ‫الطابع اإلنساني يف كليته‪،‬‬ ‫هل هو حقيقة أم وهم؟‬
‫األدب‪ ،‬أي أنه بأي حال من‬ ‫الذهنية والشعورية‪ ،‬سواء‬ ‫ورواية «الطريق املسدود»‬
‫األحوال ال تعتبر الفلسفة‬ ‫أكانوا من الفالسفة أو‬ ‫تحاول أن تجيب عن حقيقة‬
‫نو ًعا من األدب‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫األدباء‪.‬‬ ‫الشر يف اإلنسان‪ ،‬هل يولد‬
‫«إن نوعية الكتابة الفلسفية‬ ‫وألن الجدل حول العالقة‬ ‫شريرا أم أن املجتمع‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان‬
‫وأهميتها تكمن يف اعتبارات‬ ‫بين الفلسفة واألدب ال‬ ‫هو الذي يجعله كذلك؟ كما‬
‫أبعد من القيمتين األدبية‬ ‫ينتهي‪ ،‬بالرغم من مرور‬ ‫تجيب رواية «يف بيتنا رجل»‬
‫والجمالية‪ ،‬وإذا ما كان‬ ‫السنوات‪ ،‬فإن السؤال‬ ‫عن معني الوطنية‪ ،‬وكيف‬
‫الفيلسوف ‪-‬أي فيلسوف‪-‬‬ ‫مطروحا بصدد‬ ‫ً‬ ‫سيظل‬ ‫أن اإلنسان العادي الذي‬
‫يج ِّود يف طريقة كتابته‪،‬‬ ‫طبيعة هذه العالقة‪ .‬ويف‬ ‫ال تشغله قضايا السياسة‬
‫فتلك مزية تحسب له‬ ‫هذا السياق‪ ،‬سنحاول يف‬ ‫دورا وطنيًّا‬ ‫يمكنه أن يلعب ً‬
‫بالتأكيد‪ ،‬وستجعله عىل قدر‬ ‫هذا املقال أن نستدعي‬ ‫مه ًّما إذا دعته الضرورة‬
‫كبير من الغواية التي تدفع‬ ‫لقاء حوار ًّيا مه ًّما أجراه‬ ‫إىل ذلك‪ .‬وهناك من األدباء‬
‫‪205‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫اآلخرين لدراسته‪ ،‬غير أن‬


‫الكتابة الفاتنة لن تجعل منه‬
‫فيلسوفًا أفضل» (ص‪.)٢٠‬‬
‫يبدو كالم ماجي وجي ًها ج ًّدا‪،‬‬
‫خاصة إذا نظرنا إىل املسألة‬
‫من الجهة األخرى‪ ،‬فاألديب‬
‫أفكارا‬
‫ً‬ ‫الذي يض ِّمن أعماله‬
‫فلسفية ربما يكون أكثر عمقًا‬
‫ويدفع النقاد إىل إعادة قراءته‬
‫للكشف عن األبعاد األخرى‬
‫الكامنة يف العمل‪ ،‬غير أن ذلك‬
‫لن يجعل منه أديبًا أفضل‪.‬‬
‫وتؤكد مردوخ عىل املعني‬
‫نفسه موضحة ملاذا تختلف‬
‫الفلسفة عن األدب‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫«الفلسفة تبتغي التوضيح‬
‫ألكساند بومجارتن‬ ‫ألدوس هكسلي‬ ‫آيريس مردوخ‬
‫واالستفاضة يف كشف‬
‫الدقائق الجوهرية لألمور‪،‬‬
‫الكثير من األمور‪ ،‬أما‬ ‫ومختلفي امليول واألمزجة‪.‬‬ ‫وهي تحدد ومن ث َّم تحاول‬
‫أمرا واح ًدا‬
‫الفلسفة فتفعل ً‬ ‫ويأتي التسامح من الهدف‬ ‫حل بعض أعقد املعضالت‬
‫فحسب» (املوضع نفسه)‪.‬‬ ‫من القراءة‪ ،‬فقارئ‪ ،‬الفلسفة‬ ‫اإلشكالية املعقدة‪ ،‬وبناء‬
‫غير أن سؤال املتعة‬ ‫صاحب التخصص الدقيق‬ ‫عىل هذا األمر ينبغي للكتابة‬
‫بالنسبة للنشاط الفلسفي‬ ‫غالبًا‪ ،‬يبغي من قراءته‬ ‫الفلسفية أن تخدم هذا الهدف‬
‫مطروحا‪ ،‬فهناك قطاع‬ ‫ً‬ ‫يظل‬ ‫الدراسة والبحث من أجل‬ ‫بكفاءة‪ ،‬ويمكن يف هذا السياق‬
‫ال ُيستهان به من القراء‬ ‫الوصول إىل نتائج صحيحة‬ ‫القول إن الكتابة الفلسفية‬
‫املثقفين ومحبي املعرفة‬ ‫ودقيقة وفقًا للمعايير‬ ‫السيئة لن تكون فلسفة عىل‬
‫يلجأون إىل الكتب الفلسفية‬ ‫األكاديمية‪ ،‬أما قارئ األدب‪،‬‬ ‫اإلطالق‪ ،‬يف حين العمل الفني‬
‫إلشباع رغباتهم املعرفية‬ ‫حتى املتخصص منه‪،‬‬ ‫السيئ يمكن أن يعد فنًّا يف‬
‫ونهمهم الفكري‪ ،‬وهم يف‬ ‫يهدف إىل املتعة والبهجة‬ ‫نهاية املطاف» (ص‪.)٢١‬‬
‫الحقيقة ما كانوا سيقدمون‬ ‫يف املقام األول‪ ،‬وبهذا‬ ‫فوظيفة الفلسفة تختلف‬
‫عىل مثل هذه الخطوة لوال‬ ‫املعني يمكن أن تدخل يف‬ ‫عن وظيفة األدب‪ ،‬كما‬
‫أنهم يستشعرون شيئًا من‬ ‫الصنعة األدبية بعض الحيل‬ ‫أن الفلسفة تخاطب نخبة‬
‫اللذة أو البهجة املتحصلة‬ ‫اللغوية واألجواء اإليهامية‬ ‫من املتخصصين الذين ال‬
‫من قراءة هذا النمط من‬ ‫املقصودة من أجل تحقيق‬ ‫يتسامحون يف قبول األخطاء‬
‫التأليف‪.‬‬ ‫هذا املطلب اإلنساني ذي‬ ‫والتجاوزات‪ ،‬ويطبقون‬
‫فما هي طبيعة هذه املتعة‬ ‫امللحة‪ .‬وتلخص‬
‫الضرورة َّ‬ ‫يف قراءاتهم معايير دقيقة‬
‫التي يجدها القارئ يف‬ ‫مردوخ هذا املعنى يف جملة‬ ‫ومنضبطة‪ ،‬بينما ال يحدث‬
‫الفلسفة وال تشبه تلك‬ ‫قصيرة معبرة عندما تقول‪:‬‬ ‫األمر نفسه مع جمهور‬
‫التي يوفرها األدب لقرائه؟‬ ‫«األدب يوفر املتعة ويفعل‬ ‫األدب من متعددي املشارب‬
‫‪206‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫يتضح ذلك من العبارة‬ ‫فتقول مردوخ‪« :‬وهنا‬ ‫تجيبنا مردوخ قائلة‪:‬‬


‫منحى‬
‫التالية التي تتخذ ً‬ ‫يتوجب عىل الفيلسوف أن‬ ‫«الفلسفة ليست فعالية‬
‫أخالقيًّا‪ ،‬وكأنها عظة دينية‬ ‫يقاوم الفنان الذي بداخله‬ ‫ممتعة عىل نحو دقيق ملفردة‬
‫أو ميثاق للشرف‪« :‬ينبغي‬ ‫ويتجاوز السعي وراء‬ ‫املتعة املتداولة‪ ،‬لكنها يمكن‬
‫عىل الفيلسوف املتمرس‬ ‫اإلجابات التي تروم طلب‬ ‫أن تكون باعثة عىل الراحة‬
‫يف صنعته الفلسفية أن‬ ‫الراحة‪ ،‬ألن الفيلسوف يف‬ ‫طاملا أنها ‪-‬كما األدب‪-‬‬
‫يحاول توضيح مقاصده‬ ‫كل األحوال يعمل بدافع‬ ‫تسعي الستخالص الشكل‬
‫بالضبط وأن يتجنب‬ ‫السعي وراء الحقيقة ويروم‬ ‫والنظام من لجة الفوضى‬
‫التفخيمات البالغية الطنانة‬ ‫اإلمساك باملعضلة التي‬ ‫والتشويش املقترن بتلك‬
‫غير املجدية‪ ..‬ينبغي عىل‬ ‫يواجهها بدل التخفيف‬ ‫الفوضى» (ص‪.)٢٧‬‬
‫الفيلسوف يف كل األحوال‬ ‫من غلوائها‪ ،‬وهذا املسعي‬ ‫لكن الراحة التي تتحدث‬
‫‪-‬كما أظن‪ -‬أن يتحدث‬ ‫الفلسفي ال يتوافق بالتأكيد‬ ‫عنها مردوخ ال تستمر‪ ،‬أو‬
‫بصوت محدد بارد واضح‬ ‫مع ما يحصل يف الفن‬ ‫أنها ليست راحة خالصة‬
‫يمكن تمييزه متى ما وجد‬ ‫األدبي» (ص‪.)٢٨‬‬ ‫ونهائية‪ ،‬ألن الفيلسوف‬
‫نفسه يتصدى ملعالجة‬ ‫وتضع مردوخ تميي ًزا آخر‬ ‫يبقي ميَّ ًال اللتزام جانب‬
‫واحدة من املعضالت‬ ‫بين الفلسفة واألدب من‬ ‫الشك والحذر فيما يتعلق‬
‫الجوهرية يف عمله‬ ‫جهة اللغة‪ ،‬فالكتابة األدبية‬ ‫بالدوافع الجمالية‪ ،‬كما يظل‬
‫الفلسفي» (ص‪.)٢٢‬‬ ‫تأتي محملة بالدالالت‬ ‫محتف ًظا بالحس النقدي‬
‫ووفقا لهذا التحديد‬ ‫الفنية‪ ،‬واللغة يف الرواية‬ ‫تجاه الجانب الغرائزي الذي‬
‫الصارم ملا ينبغي أن‬ ‫تُستخدم بطريقة مراوغة‬ ‫يؤجج الخيال ويبقيه نش ًطا‪،‬‬
‫يقوم به الفيلسوف أثناء‬ ‫للغاية وفقًا لطبيعة العمل‬ ‫خالفًا للفنان أو األديب الذي‬
‫معالجته لقضاياه الفكرية؛‬ ‫الروائي‪ ،‬وهذا يعني أن‬ ‫ينبغي عليه أن يحتفظ بصلة‬
‫ليس ثمة أسلوب أدبي‬ ‫وثيقة مع عقله الالواعي‬
‫تستبعد مردوخ أسماء‬
‫وحيد متفرد أو مثايل‬ ‫الذي يوفر له القوة الدافعة‬
‫كبيرة يف عامل الفلسفة‬
‫بالرغم من وجود كتابة‬ ‫إلنجاز األعمال الفنية‬
‫من ميدان التفلسف مثل‬
‫يمكن أن توصف بكونها‬ ‫واألدبية العظيمة‪.‬‬
‫نيتشه وكيركجارد‪ ،‬ألنهم‬
‫جيدة أو سيئة‪ .‬ويف املقابل‪،‬‬ ‫وبالرغم من توافر‬
‫تعلن عن قناعتها بوجود‬ ‫العقل الالواعي يف عمل‬
‫أسلوب فلسفي مثايل متفرد‬ ‫الفيلسوف‪ ،‬وبالرغم من‬
‫يمتلك خصائصه املعلومة‬ ‫أن ذلك يم ِّكن الفلسفة‬
‫يف الوضوح والصرامة‬ ‫كبيرا‬
‫ً‬ ‫من أن تكون عونًا‬
‫والبعيد عن األالعيب‬ ‫يف التخفيف من ضراوة‬
‫اللغوية‪ .‬إن مردوخ تميل إىل‬ ‫مخاوفنا‪ ،‬إال أن الفيلسوف‬
‫فصل األدبي عن الفلسفي‪،‬‬ ‫الذي يروم الحقيقة‪ ،‬خالفًا‬
‫وتحقيق نوع من الثبات‬ ‫للفنان‪ ،‬يأبى إال أن يزعزع‬
‫والتحديد لهذا األخير‬ ‫ذلك االستقرار الذي يمكن‬
‫قادرا عىل‬
‫ً‬ ‫بحيث يكون‬ ‫أن يستشعره القارئ‪،‬‬
‫أداء وظيفته التي تختلف‬ ‫بدل من ذلك عىل‬ ‫ويعمل ً‬
‫جذر ًّيا عن وظيفة األدب‪.‬‬ ‫إثارة شكوكه ومخاوفه‪.‬‬
‫‪207‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫للقارئ لكي ال يتيح‬ ‫هذا األمر وبطرق مختلفة‪،‬‬ ‫كانوا يجمعون بين كونهم‬
‫له إعادة تشكيل العمل‬ ‫ولكن الفلسفة يف نهاية‬ ‫عظاما‬
‫ً‬ ‫مفكرين وكونهم كتَّا ًبا‬
‫الفلسفي كيفما تقوده‬ ‫األمر تمتاز بصوتها الصلب‬ ‫ينتهجون أسلو ًبا أكثر توظيفًا‬
‫رغباته» (ص‪.)٢٣‬‬ ‫الواضح غير املشخصن‬ ‫للدالالت األدبية‪.‬‬
‫ويف سياق محاوالت‬ ‫وال يمكن أن نتوقع انقالب‬ ‫وفيما يبدو فإن ممارسة‬
‫مردوخ املتكررة لفصل‬ ‫الحال ملا هو معاكس لهذه‬ ‫مردوخ للفلسفة بنحو‬
‫الفلسفي عن األدبي‪،‬‬ ‫الخصائص الراسخة يف‬ ‫أكاديمي هو ما جعلها أميل‬
‫وتحقيق استقاللية تامة‬ ‫الكتابة الفلسفية» (ص‪.)٢٣‬‬ ‫للطرح املوضوعي حين‬
‫للفلسفة‪ ،‬تعبر فوق كل‬ ‫وبالرغم من اعترافها‬ ‫معالجتها لعالقة الفلسفة‬
‫الفرص التي من املمكن أن‬ ‫بوجود فالسفة كبار‪،‬‬ ‫باألدب‪ ،‬فهي تقترب بالفلسفة‬
‫مزجا بين املجالين‪،‬‬
‫تحقق ً‬ ‫مثل هيوم وفيتجنشتاين‪،‬‬ ‫من جانب العلم أكثر من‬
‫خاصة إذا كان هذا املزج‬ ‫قاموا بدمج ذواتهم يف‬ ‫جانب األدب‪ ،‬وإن كانت تظل‬
‫سيفقد الفلسفة شيئًا من‬ ‫كتاباتهم الفلسفية‪ ،‬إال أنها‬ ‫حريصة عىل تحقيق نوع من‬
‫خصوصيتها ويكسبها‬ ‫تصر عىل تجريد الفلسفة‬ ‫االستقاللية لها‪ ،‬ما جعلها‬
‫شيئًا من األدب‪ ،‬فتقول‪:‬‬ ‫من الذاتية حتي ال تترك‬ ‫تبتعد عن كل ما هو عاطفي‬
‫«قد يحصل يف أحايين‬ ‫للقارئ الفرصة إلسقاط‬ ‫وذاتي يف الكتابة الفلسفية‪،‬‬
‫قليلة للغاية أن يكون عمل‬ ‫ذاته وإعادة تشكيل النص‬ ‫يؤكد ذلك عباراتها الصريحة‬
‫فلسفي ما ً‬
‫عمل فنيًّا يف‬ ‫حسبما يريد‪ ،‬فتقول‪:‬‬ ‫اآلتية‪« :‬الكتابة الفلسفية‬
‫الوقت ذاته مثلما هو الحال‬ ‫«الكاتب األدبي يترك قاص ًدا‬ ‫شكل من أشكال‬ ‫ً‬ ‫ليست‬
‫يف الندوة األفالطونية‬ ‫مساحة من الحرية للقارئ‬ ‫التعبير الذاتي‪ ،‬بل هي تنطوي‬
‫‪ ,Symposium‬غير أن مثل‬ ‫خاصا له‬ ‫لكي تكون ملعبًا‬ ‫عىل كبح منضبط للصوت‬
‫ًّ‬
‫هذه األعمال تبقي حاالت‬ ‫يستطيع فيها إعادة تشكيل‬ ‫الذاتي‪ ،‬بعض الفالسفة‬
‫استثنائية غير قياسية‪،‬‬ ‫يطيب لهم الحفاظ عىل نوع‬
‫رؤيته الشخصية بشأن‬
‫والحق أننا ال يمكن أن‬
‫ما يقرأ‪ ،‬أما الفيلسوف فال‬ ‫من الحضور الشخصي يف‬
‫نقرأ الندوة األفالطونية‬ ‫ً‬
‫يمكن (واألصح أن أقول ال‬ ‫فمثل يفعل كل‬ ‫أعمالهم‪،‬‬
‫ونفهم متبنياتها الفلسفية‬
‫ينبغي) أن يترك أية مساحة‬ ‫من هيوم وفيتجنشتاين‬
‫إال بمعونة اإلرشاد الذي‬
‫تجود به األعمال الفلسفية‬
‫األخرى ألفالطون»‬
‫(ص‪.)٢٤‬‬
‫وال يعني موقف مردوخ‬
‫الصلب‪ ،‬والذي يبدو‬
‫وكأنه محاولة دفاعية عن‬
‫الفلسفة ضد األدب‪ ،‬أنها‬
‫منحازة لألوىل عىل حساب‬
‫األخير‪ .‬فقد مارست‬
‫كال النوعين من الكتابة‪،‬‬
‫الفلسفية واألدبية‪ ،‬وحققت‬
‫نجاحات ذات اعتبار يف‬
‫‪208‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫موضو ًعا للتناول الفلسفي‪،‬‬ ‫تختلف جوهر ًّيا عن‬ ‫الحقلين‪ ،‬ولكنها‪ ،‬كما أملحنا‬
‫والشيء نفسه يمكن أن‬ ‫العبارات الفنية‪ ،‬ويف هذا‬ ‫من قبل‪ ،‬ترصد العالقة‬
‫يقال عندما تكون الفلسفة‬ ‫املعني تقول مردوخ‪« :‬إن‬ ‫بنحو عقالني موضوعي‪،‬‬
‫موضو ًعا للتعبير األدبي‪.‬‬ ‫األدب مماثل للفلسفة يف‬ ‫ومن املنطلق نفسه تنتصر‬
‫ويمكن أن نطلق عىل الحالة‬ ‫شأن كون االثنين فعاليتين‬ ‫لألدب عىل الفلسفة عندما‬
‫األويل «األدب يف الفلسفة»‬ ‫تبتغيان الكشف عن‬ ‫تقول‪« :‬أظن أن من املمتع‬
‫وصورتها «فلسفة الفن»‪،‬‬ ‫الحقيقة‪ ،‬لكن بالطبع تبقى‬ ‫أكثر هو أن يكون املرء فنَّانًا‬
‫كما يمكن أن نطلق عىل‬ ‫الفلسفة فعالية تجريدية‬ ‫بدل أن يغدو فيلسوفًا‪ .‬يمكن‬
‫الحالة األخيرة «الفلسفة يف‬ ‫مكتنفة باالستطرادات‬ ‫النظر إىل األدب باعتباره‬
‫األدب» ونموذجها «األدب‬ ‫واملباشرة واالبتعاد عن‬ ‫وسيلة منضبطة ومدربة‬
‫الوجودي»‪.‬‬ ‫املسالك االلتفافية‪ ،‬أما اللغة‬ ‫لرفع منسوب املشاعر لدي‬
‫األدبية فيكتنفها غموض‬ ‫القارئ‪ ..‬وبالنسبة يل أري‬
‫‪ -1‬األدب يف الفلسفة‬ ‫دوما‪ ،‬وحتى‬ ‫كيفي محبب ً‬ ‫من املناسب تضمين إثارة‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫كالما‬
‫ً‬ ‫ما يبدو فيها‬ ‫املشاعر يف صلب تعريف‬
‫يف الحقيقة أن تاريخ‬ ‫إنما هو جزء من هيكل‬ ‫الفن الحقيقي عىل الرغم من‬
‫الفلسفة ميلء باألفكار‬ ‫تخييل محكوم بقواعد‬ ‫عدم إمكانية اعتبار كل تجربة‬
‫التي تناولت الفن‪ ،‬واألدب‬ ‫شكلية محددة» (ص‪.)٣٦‬‬ ‫غنية حادثة مترعة باملشاعر‬
‫باعتباره أحد تجليات‬ ‫وإذا كان السعي نحو بلوغ‬ ‫القوية» (ص‪.)٣٣‬‬
‫الفن‪ ،‬يف مبحث أصيل‬ ‫الحقيقة يعد واح ًدا من‬
‫ومتخصص هو «علم‬ ‫النقاط الهامة التي يلتقي‬ ‫سمات مشتركة بين‬
‫الجمال» أو «اإلستطيقا»‪،‬‬ ‫عندها كل من الفلسفة‬ ‫الفلسفة واألدب‬
‫وبالرغم من أن املصطلح‬ ‫واألدب‪ ،‬فإن سعي كل‬
‫يرجع إىل األملاني‬ ‫منهما تجاه اآلخر يعد من‬ ‫بالرغم من الرؤية االنفصالية‬
‫بومجارتن الذي أطلقه يف‬ ‫نقاط االلتقاء التي ال تقل‪.‬‬ ‫التي تقدمها مردوخ لعالقة‬
‫القرن الثامن عشر يف كتابه‬ ‫فسعي الفلسفة تجاه األدب‬ ‫الفلسفة باألدب‪ ،‬تظل هناك‬
‫الذي يحمل االسم نفسه‪،‬‬ ‫إنما يعني جعل األدب‬ ‫سمات مشتركة ونقاط التقاء‬
‫بين املجالين ال يمكن إغفالها‪،‬‬
‫ولعل أبرز هذه النقاط هو‬
‫مسألة الحقيقة‪ .‬فبالرغم من‬
‫اختالفاتهما املميزة‪ ،‬فهما يف‬
‫النهاية‪ ،‬فيما تري مردوخ‪،‬‬
‫فعاليتان تسعيان للبحث عن‬
‫الحقيقة والكشف عنها‪ ،‬األدب‬
‫يقوم عىل رؤية منظمة تنطوي‬
‫عىل االستكشاف والتصنيف‬
‫والتحديد والتشخيص‪،‬‬
‫والفلسفة هي فعالية تعتمد‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن‬
‫عىل الخيال ً‬
‫عباراتها التي تسعى لبلوغها‬
‫‪209‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫إال أن الكتابات الفلسفية حول‬


‫الفن مل تتوقف سواء قبل‬
‫هذا التاريخ أو بعده‪ ،‬ولعل‬
‫أبرز النظريات الفلسفية التي‬
‫قيلت يف الفن قبل بومجارتن‪،‬‬
‫كانت ما قدمه أرسطو يف‬
‫«فن الشعر» وكانط يف «نقد‬
‫ملكة الحكم» وهيجل يف‬
‫«علم الجمال وفلسفة الفن»‪.‬‬
‫واملالحظ أن نظرة هؤالء‪،‬‬
‫الفلسفية‪ ،‬وأمثالهم مل تأت‬
‫ممجدة للفن‪ ،‬ألنها مل تأت يف‬
‫سياق احتفائهم بالفن يف حد‬
‫ذاته وإنما بوصفه جز ًءا من‬
‫فلسفاتهم العامة يف األخالق‬
‫وامليتافيزيقا‪ .‬ويف هذا السياق‬
‫ليوناردو دافنشي‬ ‫لودفيج فيتجنشتاين‬ ‫إحسان عبد القدوس‬
‫تؤكد مردوخ عىل هذا املعني‬
‫الحقيقي‪ ،‬كما تقترح هذه‬ ‫باعتبارها مفاهيم عقالنية‬ ‫قائلة‪« :‬إن الفالسفة يف‬
‫الرؤية مقاربة يكون الفن‬ ‫كونية أو مصادر للتنوير‪.‬‬ ‫مجملهم مل يكتبوا الكثير‬
‫أمرا بالغ العمومية‬ ‫من الكتابات الرفيعة بشأن‬
‫الجيد ً‬ ‫غير أن شوبنهاور نجح‬
‫وبالغ الخصوصية يف اآلن‬ ‫رأسا عىل‬ ‫إطراء الفن بعامة‪ ،‬وربما‬
‫يف قلب املسألة ً‬
‫نفسه‪ .‬وتعبِّر مردوخ عن‬ ‫عقب بأن أعاد االرتباط‬ ‫يعود السبب يف أحد جزئياته‬
‫املكانة املتميزة لشوبنهاور‬ ‫لكونهم اعتبروا الفن مسألة‬
‫بين الفكر والفن‪ ،‬ومنح هذا‬
‫ثانوية فرعية صغيرة يتوجب‬
‫بين الفالسفة التي تناولوا‬ ‫األخير القدرة عىل حمل‬
‫عليهم تطبيقها داخل إطار‬
‫موضوع الفن قائلة‪« :‬يبدو‬ ‫األفكار ونقلها إىل اآلخرين‪،‬‬
‫نظريتهم العامة يف امليتافيزيقا‬
‫شوبنهاور حالة استثنائية‬ ‫فاألفكار عند شوبنهاور‬
‫أو األخالق» (ص‪.)٤٢‬‬
‫مميزة بين الفالسفة من‬ ‫أشكال إدراكية يمكن‬
‫وتستثني مردوخ شوبنهاور‬
‫حيث عشقه وتقديره‬ ‫تحسسها جزئيًّا يف الطبيعة‪،‬‬ ‫من هؤالء الفالسفة‪ ،‬ألنه‬
‫الواضحين للفن‪ ،‬وأري‬ ‫وأن خيال الفنان يسعي‬ ‫قدم رؤية مختلفة ترفع‬
‫أن الكثير من التنظير‬ ‫للكشف عنها‪.‬‬ ‫من شأن الفن‪ ،‬ومضي يف‬
‫الفلسفي بشأن موضوعة‬ ‫تثمن مردوخ رؤية‬ ‫رؤيته يف اتجاه معاكس‬
‫الرؤية الفلسفية للفن‬ ‫شوبنهاور باعتبارها رؤية‬ ‫لرؤية أفالطون‪ .‬فقد كان‬
‫هي مجادالت مفتقرة إىل‬ ‫جذابة وسامية املقام تجاه‬ ‫أفالطون يميز بين الفن‬
‫الخيال وتقتصر عىل وضع‬ ‫الفن ألنها تصور الفن‬ ‫باعتباره وسيلة ملنح املتعة‬
‫رؤية محدودة ألحدهما‬ ‫بهيئة مسعى أخالقي‬ ‫الذهنية الجزء الذاتي األحمق‬
‫يف مقابل رؤية محدودة‬ ‫وذهني رفيع شبيه باملسعى‬ ‫من الروح اإلنسانية‪ ،‬وبين‬
‫لآلخر‪ ،‬وغالبًا ما يكتنف‬ ‫الفلسفي من حيث محاولة‬ ‫األفكار التي تتعامل مع‬
‫تلك املجاالت تساؤالت‬ ‫كشف النقاب عن العامل‬ ‫نبل من الروح‬ ‫الجزء األكثر ً‬
‫ال يعني موقف مردوخ الصلب‪ ،‬والذي‬
‫قدر االرتقاء الفلسفي الذي‬
‫قد يظفرون بتحقيقه ‪-‬هذا‬ ‫يبدو وكأنه محاولة دفاعية عن‬
‫لو ظفروا ح ًّقا‪ -‬غالبًا ما‬
‫الفلسفة ضد األدب‪ ،‬أنها منحازة‬
‫متصاغرا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ضئيل‬ ‫يكون‬
‫باملقارنة مع الفالسفة‬ ‫لألولى على حساب األخير‪ .‬فقد مارست‬
‫املتمرسين» (ص‪.)٥٠‬‬ ‫كال النوعين من الكتابة‪ ،‬الفلسفية‬
‫وتص ِّرح مردوخ دون‬
‫مواربة بعدم ترحيبها‬ ‫واألدبية‪ ،‬وحققت نجاحات ذات اعتبار‬
‫بأي دور يمكن أن ُينسب‬ ‫في الحقلين‪ ،‬ولكنها‪ ،‬كما ألمحنا‬
‫للفلسفة يف األعمال األدبية‪،‬‬
‫وبهذا املعني ترفض ما‬ ‫من قبل‪ ،‬ترصد العالقة بنحو عقالني‬
‫ُيشاع بين الناس من‬ ‫موضوعي‪ ،‬ومن المنطلق نفسه تنتصر‬
‫وجود فلسفة لتولستوى‬
‫أو برنارد شو‪ ،‬فكالهما‬ ‫لألدب على الفلسفة‬
‫كاتب عظيم‪ ،‬لكن بغير أن‬
‫تُنسب ألعمالهما أفكار‬
‫فلسفية عظيمة‪ .‬وتصل‬ ‫هذا النوع من ال ُكتَّاب أنه‬ ‫سقيمة ال تنتهي من قبيل‪ :‬هل‬
‫مردوخ يف صراحتها‬ ‫مارس الكتابة الفلسفية‬ ‫الفن من أجل الفن أم من أجل‬
‫وصدق قولها أن تنفي‬ ‫أكاديميًّا ومارس الكتابة‬ ‫املجتمع؟» (ص‪.)٤٤‬‬
‫عن أعمالها األدبية هذا‬ ‫األدبية اإلبداعية يف الوقت‬
‫الدور الفلسفي بالرغم من‬ ‫ذاته‪ .‬والحقيقة أن مردوخ‬ ‫‪ -2‬الفلسفة يف األدب‬
‫املشروعية التي تستمدها‬ ‫ال تعترف بأهمية وجود‬
‫من خبرتها األكاديمية‪،‬‬ ‫األفكار الفلسفية يف األدب‪،‬‬ ‫كما لألدب حضور يف‬
‫فتقول‪« :‬الحق أنني أشعر‬ ‫وتنكر عىل األديب مهما‬ ‫الفلسفة فإن للفلسفة حضور‬
‫برعب قاتل يتملكني متى‬ ‫كانت براعته وقدرته‬ ‫يف األدب‪ ،‬واملسألة هنا‬
‫ما فكرت بإقحام األفكار‬ ‫األدبية أن يحاول تقديم‬ ‫تختلف من جهة الكاتب‪،‬‬
‫الفلسفية يف رواياتي‪ .‬قد‬ ‫رؤية فلسفية متكاملة من‬ ‫فحلول األدب يف الفلسفة‬
‫يحصل أحيانًا أن أشير‬ ‫خالل عمله الروائي‪ ،‬ألن‬ ‫يجيء بواسطة الفيلسوف‪،‬‬
‫محض إشارة فحسب إىل‬ ‫ذلك سيضر باألدب ولن‬ ‫وحلول الفلسفة يف األدب‬
‫الفلسفة يف بعض مواضع‬ ‫كثيرا إىل الفلسفة‪،‬‬‫ً‬ ‫يضيف‬ ‫يجيء عن طريق األديب‪،‬‬
‫رواياتي بسبب املصادفة‬ ‫فمازالت مردوخ تميز بين‬ ‫ولعل الحالة النموذجية‬
‫التي جعلتني عىل شيء‬ ‫الكتابة الفلسفية االحترافية‬ ‫يف هذا السياق هي التي‬
‫من دراية باملوضوعات‬ ‫وبين األدب ذي املضمون‬ ‫تحققت يف بعض الفالسفة‬
‫الفلسفية التي تتناغم مع‬ ‫الفلسفي‪ ،‬فتقول‪:‬‬ ‫الوجوديين مثل سارتر‬
‫سياق تلك املواضع يف‬ ‫«من املؤكد أن يتفاعل‬ ‫وسيمون دي بوفوار‪ ،‬كما‬
‫رواياتي‪ ،‬واألمر سيان‬ ‫ال ُكتَّاب مع اآلراء السائدة يف‬ ‫يمكن أن نجدها عند البعض‬
‫لو كنت أعرف شيئًا عن‬ ‫عصورهم‪ ،‬وقد يبلغ األمر‬ ‫من الفالسفة األدباء من‬
‫مثل»‬‫السفن الشراعية ً‬ ‫مبلغ رغبتهم يف إحداث‬ ‫غير الوجوديين مثل آيريس‬
‫(ص‪.)٥٢‬‬ ‫انعطافات فلسفية مؤثرة‪،‬‬ ‫مردوخ نفسها‪ .‬وتأتي أهمية‬
‫‪211‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫وبالرغم من ذلك تستثني‬


‫مردوخ سارتر وروايته‬
‫«الغثيان» وتعتبره حالة‬
‫شديدة الخصوصية‪ ،‬فروايته‬
‫املشار إليها تعتبر الرواية‬
‫الفلسفية الوحيدة التي حازت‬
‫عىل إعجابها بشكل كبير‪،‬‬
‫ألنها تحكي عن أفكار مثيرة‬
‫بشأن املصادفة والضمير‪،‬‬
‫لكنها برغم جودتها الفلسفية‬
‫تبقي ً‬
‫عمل فنيًّا لسنا يف‬
‫حاجة ملحة لقراءته بقصد‬
‫حيازة معرفة أفضل بنظريات‬
‫سارتر التي عرضها يف‬
‫أعماله الفلسفية الخالصة‪.‬‬
‫وتعزي مردوخ السبب يف‬
‫لطفية الدليمي‬ ‫جول فيرن‬ ‫بريان ماجي‬
‫فرادة التجربة السارترية‬
‫إىل وجود إحساس سردي‬
‫الصراعات الداكنة بين‬ ‫الوقت نفسه تمنح األدب‬ ‫احترايف بشأن فلسفته‬
‫الخير والشر يف الحياة‬ ‫دورا آخر يمكن أن يميزه‬‫ً‬ ‫املبكرة‪ ،‬حيث يحتشد كتاب‬
‫البشرية» (ص‪.)٥٤‬‬ ‫عن الفلسفة‪ ،‬وهو دور‬ ‫سارتر «الوجود والعدم»‬
‫ويف النهاية يمكننا القول‬ ‫يذهب باألدب إىل أبعد مما‬ ‫بالصور والحوارات‪.‬‬
‫يمكن أن تصل إليه الفلسفة‪،‬‬ ‫وهنا يتخذ ماجي (املحاور)‬
‫إن اإلشكاليات التي تثيرها‬
‫وليس أدل عىل ذلك من هذه‬ ‫نموذج سارتر كمناسبة‬
‫آراء آيريس مردوخ حول‬
‫الكلمات املعبرة‪« :‬عندما‬ ‫لإلفصاح عن رأيه املعارض‬
‫عالقة الفلسفة باألدب‬ ‫نتساءل عن موضوع‬ ‫لرأي مردوخ‪ ،‬ليتساءل عن‬
‫يمكن أن تُحل إذا ما فهمنا‬ ‫رواية فإننا يف حقيقة األمر‬ ‫مدى إمكانية تكرار تجربة‬
‫الفلسفة بنحو أوسع‪،‬‬ ‫نتساءل عن شيء أعمق من‬ ‫سارتر الثرية‪ ،‬خاصة يف‬
‫بحيث تتجاوز املعني‬ ‫محض األفكار املجردة‪ :‬ما‬ ‫ظل وجود روايات عظيمة‬
‫األكاديمي‪ ،‬وتحوز القدرة‬ ‫الذي ابتغاه بروست‪ ،‬وملاذا‬ ‫وظفت األفكار الفلسفية‪ ،‬ال‬
‫عىل التغلغل يف كافة مناحي‬ ‫ال نكتفي بقراءة برجسون‬ ‫كمحض موضوع مثل سائر‬
‫الحياة‪ ،‬الواقعية والخيالية‪.‬‬ ‫دوما موضوع‬ ‫وحسب؟ ثمة ً‬ ‫املوضوعات‪ ،‬بل كجسم‬
‫أخالقي الطابع يف الرواية‬ ‫أصيل يف هيكل العمل الفني‪.‬‬
‫وبهذا املعني يصير األدب‬
‫يتجاوز عامل األفكار‬ ‫والحقيقة أن مردوخ عندما‬
‫شكل من أشكال الحضور‬ ‫ً‬
‫املجردة‪ ،‬وكل األعمال‬ ‫ترفض إقحام الفلسفة يف‬
‫الذي تتجيل فيه الحكمة‬ ‫الروائية الجيدة تقوم عىل‬ ‫األدب‪ ،‬فهي تقوم بذلك‬
‫الفلسفية بكافة صورها‪،‬‬ ‫هياكل تنطوي عىل أسرار‬ ‫لصالح كال املجالين الفلسفي‬
‫امليتافيزيقية واألخالقية‬ ‫غامضة بشأن الشهوانيات‬ ‫واألدبي‪ ،‬فهي تريد أن تحفظ‬
‫واملعرفية والجمالية‬ ‫املتصارعة‪ ،‬إىل جانب تلك‬ ‫للفلسفة خصوصيتها ويف‬
‫‪212‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الظاهرة‪phenomene :‬‬ ‫يع ُّد املهتمون بالدراسات‬

‫القاريء والقراءة في الفكر الفينومينولوجي‬


‫والعلم‪ logos :‬ويعني هذا‬ ‫الفكرية أو بتاريخ األدب‬
‫أن الفينومينولوجيا هي‬ ‫الحرب العاملية األوىل‬
‫علم دراسة الظواهر(‪ .)1‬وقد‬ ‫واحدة من أقوى العوامل‬
‫أسس هذا العلم الفليسوف‬ ‫املؤثرة التي أدت إىل زعزعة‬
‫األملاني (إدموند ُهسرل)‪،‬‬ ‫الثقة بكل األسس الفكرية‬
‫وهو علم ينظر إىل األشياء‬ ‫واألدبية السابقة عليها‪،‬‬
‫عىل أنها ظواهر تبدو‬ ‫مما أدى إىل ظهور الكثير‬
‫للشعور‪ .‬فالظاهرة كما‬ ‫من النزعات التجديدية يف‬
‫(هسرل) هى “ما‬ ‫يراها ُ‬ ‫الفكر واألدب‪ .‬وفيما يتعلق‬
‫يعيشه الشعور ويحياه‬ ‫باألساس الفلسفي لعملية‬
‫مطروحا‬
‫ً‬ ‫ال ما يوجد‬ ‫قراءة النصوص األدبية‬
‫غافل”(‪ .)2‬ومن ثم أصبحت‬ ‫ً‬ ‫وفهمها ‪-‬وهو موضوع‬
‫الفلسفة الفينومينولوجية‬ ‫هذه الدراسة‪ ،-‬فإن بزوغ‬
‫عبارة عن الفلسفة التي‬ ‫ما عرف بالفينومنيولوجيا‬
‫تعالج «الوقائع جميعها‬ ‫ش َّكل األساس الفكري‬
‫بوصفها (ظاهرات)‬ ‫للكثير من مدارس قراءة‬
‫محضة‪ ،‬تب ًعا لظهورها‬ ‫النصوص األدبية وتأويلها‪.‬‬
‫أو مظاهرها ىف عقلنا» ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫لذا فإن الباحث لن يكون‬
‫والظاهرات التي ُعني بها‬ ‫مبالغًا إذا قال إن الفلسفة‬
‫(هسرل) هى عبارة عن‬ ‫ُ‬ ‫الفينومينولوجية تع ُّد نقطة‬
‫نظام من الجواهر الشاملة‪،‬‬ ‫االنطالق الحقيقية لكل‬
‫وهو يسعى إىل أن يكتشف‬ ‫النظريات املعنية بعملية‬
‫ما هو ثابت ىف هذا النظام‬ ‫القراءة بحيث يصبح من‬
‫وال يمكن تغييره‪ .‬فما يبدو‬ ‫الصعوبة بمكان فهم تلك‬
‫للمعرفة الفينومينولوجية‬ ‫النظريات‪ ،‬أو استيعاب‬
‫هو الجواهر الشاملة‬ ‫تشديدها عىل الدور الحيوي‬
‫لألشياء؛ لذلك لكي نفهم‬ ‫للقارئ يف تشكيل معنى‬
‫فهما جي ًدا يجب‬‫أية ظاهرة ً‬ ‫النص‪ ،‬بمعزل عن املعالجة‬
‫أول ما هو‬ ‫علينا أن نفهم ً‬ ‫الظاهراتية التي انتقلت إىل‬
‫جوهري وثابت فيها‪ .‬أي أن‬ ‫مجال النقد األدبي فأثرته‬
‫الفينومينولوجية تسعى إىل‬ ‫بمقوالتها وأصبحت أهم‬
‫العودة إىل األشياء امللموسة‬ ‫مرجع اعتمدت عليه نظريات‬
‫وليس ما هو خيايل‪ ،‬أو‬ ‫القراءة‪.‬‬
‫(هسرل) ىف‬ ‫كما يقول ُ‬ ‫ولكي نفهم ما تعنيه كلمة‬
‫شعاره الشهير‪“ :‬العودة إىل‬ ‫فينومينولوجيا‪ ،‬علينا أن‬
‫األشياء ذاتها”‪.‬‬ ‫نعود إىل أصلها االشتقاقي‬
‫(هسرل) أننا‬‫ويرى ُ‬ ‫يف الثقافة اليونانية‪ .‬وعىل‬
‫نستطيع أن نصل إىل‬ ‫هذا فهي تنقسم إىل قسمين‪:‬‬ ‫د‪.‬معتز سالمة‬
‫‪213‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫املادية‪ .‬واآلخر‪ ،‬هو اإلدراك‬ ‫(هسرل) من هذه‬ ‫يهدف إليه ُ‬ ‫املعرفة الحقيقة للعامل من‬
‫الحدسي املاهوي‪ :‬ويتمثل‬ ‫الفلسفة هو “صياغة صور‬ ‫خالل تحليلنا للذات التي‬
‫يف أفعال الوعي‪ ،‬وقصدياته‬ ‫الظواهر من خالل إضفاء‬ ‫ترى األشياء‪ ،‬وليس من‬
‫املتوالية ليست منفصلة عن‬ ‫املعاني والدالالت وهى‬ ‫خالل تحليلنا لألشياء كما‬
‫الوعي فهي نسيجه‪ ،‬وبذلك‬ ‫مراتب االلتقاء بين الوعي‬ ‫هى خارج الذات‪ ،‬أي أن‬
‫يولد الوعي املاهوي‪ ،‬وتكون‬ ‫واألشياء الكائنة خارجه” ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫اإلنسان عند تحليله لظاهرة‬
‫الظاهرة (املوضوع أ ًّيا كان‬ ‫نستنتج من ذلك أن الوعي‬ ‫ما يجب أن يركز عىل الظاهرة‬
‫مثل الحجر) قد صارت‬ ‫له دور مهم ىف تحديد معنى‬ ‫بما أنها بنية دالة تعلقت ىف‬
‫ظاهرية (الحجر يصبح‬ ‫الظاهرة ويساعد ىف فهمها‪،‬‬ ‫شعوره‪ ،‬وهذه الداللة هى‬
‫حجر ًّيا) أي تجلبه بعد أن‬ ‫إذ إن الظاهرة كشيء هي‬ ‫املعنى أو املعرفة الحقيقة‬
‫خلعت الذات عليه املعنى‬ ‫عبارة عن عامل معطى للوعي‬ ‫لها‪ .‬وهذه املعرفة نشأت‬
‫بعد رحلة طويلة من أفعال‬ ‫الذي يستغله ىف تجاربه‬ ‫من خالل العالقة الشعورية‬
‫القصد والحدوس ومل يقف‬ ‫الخاصة ويصبح كل شيء‬ ‫الخالصة بين الذات والظاهرة‬
‫فحسب عىل مجرد إدراكه‬ ‫خارج عن هذا الوعي ال‬ ‫تماما أية معطيات‬
‫مستبعد ًة ً‬
‫حسيًّا(‪.)6‬‬ ‫قيمة له‪ .‬وتصبح الفعالية‬
‫سابقة‪ .‬وبالتايل ال تسعى‬
‫وهذا ما تركز عليه النظرية‬ ‫الفلسفية الفينومينولوجية‬
‫الفينومينولوجيا إىل تفسير‬
‫الظاهراتية للفن‪ ،‬فهي تركز‬ ‫هى اكتشاف املضامين‬
‫العامل عبر البحث عن شروطه‬
‫عىل تفاعل الذات باملوضوع‬ ‫الخاصة ملا هو حاضر يف‬
‫املمكنة بل هى تُعنى بتشكيل‬
‫مما يصعب الفصل بينهما‪،‬‬ ‫الوعي؛ ألنها تنطوي عىل‬
‫التجربة عىل أساس أنها أول‬
‫ملا هو موجود بينهما من‬ ‫أمرين مهمين هما‪ :‬إثبات‬
‫لقاء وجودي بين الوعي‬
‫صلة قائمة‪ ،‬وأن املعنى هو‬ ‫وجود الظاهرة‪ ،‬بما ينضاف‬
‫ما نستخلصه من خالل هذا‬ ‫إليها من معنى‪ ،‬عن طريق‬ ‫والعامل‪ .‬فالظاهرة بالنسبة‬
‫التفاعل والتواصل بين هذين‬ ‫صلتها بالشعور الخالص‪,‬‬ ‫لـ(هسرل) ليست ىف حاجة‬ ‫ُ‬
‫العنصرين‪ .‬وهو ما ينطبق‬ ‫واألهمية األخرى هي إثبات‬ ‫إىل تأويل بل هي أحكام‬
‫عىل العالقة بين القارئ‬ ‫وجود الذات الفاهمة عن‬ ‫معينة تفرض نفسها علينا‬
‫والنص‪ ،‬إذ يحدث بينهما‬ ‫طريق جعل الفهم ينطوي‬ ‫فال نستطيع مقاومتها‪ .‬فما‬
‫تفاعل تأوييل تحقيقي من‬ ‫عىل داللة مضاعفة‪ .‬ويف‬
‫أجل الوصول إىل الداللة‬ ‫هذه الحالة يبرز لنا الوعي‬
‫وبناء املعنى‪.‬‬ ‫كنشاط منتج للمعنى من‬
‫(هسرل)‬ ‫وقد تطورت آراء ُ‬ ‫خالل املراحل الوجودية‬
‫وأفكاره الفلسفية وتحولت‬ ‫والتجارب املعاشة التي‬
‫إىل نظرية نقدية عىل يد‬ ‫يمارسها يف نشاطه‬
‫مجموعة من الفالسفة‬ ‫الداليل(‪.)5‬‬
‫واملفكرين الذين أتوا من‬ ‫(هسرل) بين‬ ‫لذلك يميز ُ‬
‫بعده‪ ،‬وعىل رأسهم تلميذه‬ ‫نوعين من اإلدراك هما‪:‬‬
‫البولندي (رومان إنجاردن)‬ ‫اإلدراك الحدسي التجريبي‪:‬‬
‫الذي طبق آراء أستاذه عىل‬ ‫وهو الوعي باملوضوع‬
‫دراسة العمل األدبي إذ رأى‬ ‫الفردي كمعطى أصيل‬
‫أن «األعمال األدبية مالئمة‬ ‫يدرك أساس خصوصيته‬
‫‪214‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫ولكى نفهم العمل األدبي‬ ‫موضوعية‪ ،‬عىل أساس أنه‬ ‫تماما للتناول الظاهراتى ألن‬
‫ً‬
‫فهما جي ًدا يجب أن نكون‬
‫ً‬ ‫نابع من الشعور الخالص‪،‬‬ ‫الشعور الذي يعمل عىل نحو‬
‫مهتمين بفهم هذه العناصر‬ ‫مما يجعل املعنى مرتب ًطا‬ ‫مقصود ضروري إلظهارها‬
‫الثالثة؛ ألن الفهم ‪-‬لدى‬ ‫لديه بلحظة وجودية‪ ،‬وال‬ ‫ىف عامل الوجود‪ ،‬وال ينبغي‬
‫إنجاردن‪ -‬عبارة عن إدراك‬ ‫يؤثر عىل الظاهرة أي شيء‬ ‫أن ينشغل النقد بالعمل‬
‫مادة املوضوع ىف العمل‬ ‫من خارجها‪ ،‬مما ُيعيل من‬ ‫األدبي بوصفه موضو ًعا‬
‫األدبي عبر القيام بفعل‬ ‫دور الذات ىف إدراك املعنى‪.‬‬ ‫وال بالقارئ بوصفه ذاتًا بل‬
‫عقيل يحقق هذا اإلدراك ‪.‬‬
‫(‪)11‬‬ ‫كما أنه يعتقد أن معرفة‬ ‫بحقيقة أن العمل ال وجود‬
‫األشياء ىف العامل الطبيعي‬ ‫له إال بوصفه موضو ًعا‬
‫‪ -2‬مفهوم القصدية‪:‬‬ ‫غير مقتصرة عىل املاهيات‬ ‫يعرض عىل الشعور” ‪.‬‬
‫(‪)7‬‬

‫املوضوعية التي ىف األشياء‬ ‫ومن خالل األفكار التي‬


‫إن املعنى بالنسبة‬ ‫ذاتها‪ ،‬أو التي تكونت بفعل‬ ‫طورها (إنجاردن) استفاد‬
‫لـ(هسرل) ال يتكون ىف‬
‫ُ‬ ‫التجربة‪ ،‬بل إن هذه املعرفة‬ ‫منظرو نظريات القراءة‬
‫التجربة أو الحسابات‬ ‫تدرج الشعور‪ ،‬أي فعل‬ ‫ىف بحثهم عن التفاعل بين‬
‫العقلية‪ ،‬بل هو موضوع‬ ‫اإلدراك مع موضوعه ىف‬ ‫النص والقارئ‪ ،‬لذلك سوف‬
‫قصدي‪ ،‬يتكون من خالل‬ ‫عملية تضايف(‪.)9‬‬ ‫نستعرض اآلن أبرز املفاهيم‬
‫الفهم الذاتي والشعور‬ ‫بينما نجد أن (إنجاردن)‬ ‫الظاهراتية التي استفاد منها‬
‫القصدي اآلني بإزائه‪.‬‬ ‫يختلف مع أستاذه ىف‬ ‫هؤالء املنظرون‪:‬‬
‫حيث ال يمكن النظر إىل‬ ‫تعريف التعايل‪ ،‬إذ يرى أن‬
‫املوضوعات كأشياء‬ ‫الظاهرة «تنطوي باستمرار‬ ‫‪ -1‬مفهوم التعايل‪:‬‬
‫ىف ذاتها وإنما كأشياء‬ ‫عىل بنيتين‪ :‬ثابتة ويسميها‬
‫يفترضها‪ ،‬أو يقصدها‬ ‫(نمطية) وهى أساس الفهم‪،‬‬ ‫ُيع ُّد مفهوم التعايل‬
‫الوعي‪ ،‬وكل وعي هو‬ ‫وأخرى متغيرة يسميها‬ ‫واح ًدا من أبرز مفاهيم‬
‫وعي بشيء ما‪ ،‬ووعيي‬ ‫(مادية) وهى تشكل‬ ‫الفينومينولوجيا‪ ،‬فهو‬
‫ليس مجرد تسجيل منفعل‬ ‫األساس األسلوبي للعمل‬ ‫مركز هذه الفلسفة‪ ،‬ويقصد‬
‫للعامل‪ ،‬وإنما هو يؤسسه‬ ‫األدبي‪ ،‬واملعنى هو حصيلة‬ ‫(هسرل) “أن املعنى‬ ‫به ُ‬
‫عىل نحو فاعل أو يقصده‬ ‫للتفاعل بين بنية العمل‬ ‫املوضوعي ينشأ بعد أن‬
‫(‪ .)12‬وهذا ما دعاه إىل‬ ‫األدبي وفعل الفهم»(‪.)10‬‬ ‫محضا‬
‫ً‬ ‫تكون الظاهرة معنى‬
‫أن يجعل شعار فلسفته‬ ‫وكذلك حرص (إنجاردن)‬ ‫ىف الشعور‪ ،‬أي بعد االرتداد‬
‫«العودة إىل األشياء ذاتها»‪.‬‬ ‫عىل أن يبرز املعنى ىف عالقته‬ ‫من عامل املحسوسات‬
‫بعبارة أخرى إن مفهوم‬ ‫التفاعلية بين الذات والعمل‬ ‫الخارجية املادية إىل عامل‬
‫(هسرل)‬ ‫(القصدية) عند ُ‬ ‫األدبي‪ ،‬وخاصة أنه يرى أن‬ ‫الشعور الداخيل الخالص» ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬

‫يشير إىل أن ثمة ترابط بين‬ ‫العمل األدبي يتضمن ثالثة‬ ‫وهذا يعني أن املعنى قائم‬
‫املوضوع والذات‪ ،‬فليس‬ ‫مظاهر وجودية‪ :‬املظهر‬ ‫عىل الفهم ونابع من الذات‬
‫ثمة موضوع دون ذات‪ ،‬وال‬ ‫العقيل‪ ،‬وهو األفعال املبدعة‬ ‫القارئه‪ ،‬وهذا ما يطلق عليه‬
‫ذات دون موضوع‪ .‬فالفهم‬ ‫التي يقوم بها وعي اإلنسان‪.‬‬ ‫(التعايل) أي أن املعنى‬
‫الذي يبرز ىف الشعور‬ ‫واملادة املحسوسة للنص‪،‬‬ ‫(هسرل)‪ -‬خالصة‬ ‫‪-‬لدى ُ‬
‫املحض هو ما يبني املعرفة‬ ‫أي العالمات عىل الورق‪.‬‬ ‫الفهم الفردى‪ .‬ولعل هذا ما‬
‫باملوضوع‪ ،‬ومن ثم أصبح‬ ‫واملفاهيم املثالية أو الفكر‪.‬‬ ‫جعله ينظر إىل املعنى نظرة‬
‫‪215‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫الفهم مشار ًكا ىف إنتاج‬


‫معنى الظواهر‪ .‬ولعل الشيء‬
‫األساسي ىف تحديد مفهوم‬
‫القصدية هو “أن الشعور‬
‫ال يستحوذ عىل التصورات‬
‫العقلية لكي يحيلها إىل‬
‫موضوعات‪ ،‬بل ينعطف نحو‬
‫األشياء من أجل معرفتها‬
‫بمقتضى ما لديه من حركة‬
‫قصدية»(‪.)13‬‬
‫وقام (إنجاردن) بتطوير‬
‫أيضا‪ ،‬وإجراء‬ ‫هذا املفهوم‪ً ،‬‬
‫بعض التعديالت عليه‪ ،‬فقد‬
‫كان أكثر موضوعية من‬
‫(هسرل) الذي نحا‬ ‫أستاذه ُ‬
‫رومان إنجاردن‬ ‫إدموند هُ سرل‬ ‫بالقصدية نحو املثالية‪،‬‬
‫إذ الحظ (إنجاردن) أن‬
‫مفهوم القصدية ينطبق‬
‫إىل عاملين أحدهما قائم ىف‬ ‫يتم عىل هذا األساس‪ ،‬أي‬ ‫أكثر ما ينطبق عىل العمل‬
‫العمل نفسه‪ ،‬واآلخر يوجد‬ ‫باعتبار أن بنيته التي تشكل‬ ‫األدبي وحده‪ ،‬وليس عىل‬
‫خارجه‪ ،‬وهو القارئ‪ .‬وقد‬ ‫تحديداته املادية والصورية‪،‬‬ ‫املوضوعات الطبيعية‬
‫قام (إنجاردن) بتحديد‬ ‫تكون مقصودة وليس لها‬ ‫والواقعية؛ ألن العمل األدبي‬
‫أربع طبقات تتكون منها‬ ‫وجود مستقل عن هذا‬ ‫يعتمد يف فهمه عىل فعل من‬
‫البنية األساسية للعمل‬ ‫القصد(‪.)14‬‬ ‫أفعال الوعي‪ ،‬فبالرغم من‬
‫أن املؤلف هو الذي كتبه‬
‫األدبي‪ ،‬وهى‪:‬‬ ‫ويرى (إنجاردن) أنه لكي‬
‫وأخرجه للحياة‪ ،‬فإن وجوده‬
‫‪ -1‬طبقة الصوتيات‪:‬‬ ‫يتحقق مفهوم القصدية‬
‫يعتمد عىل كل من عامل‬
‫وتشتمل عىل املادة‬ ‫يجب أن ننظر إىل العمل‬
‫اإلشارات اللفظية الواقعي‬
‫الخام لألدب (صوتيات‬ ‫األدبي عىل أنه مجموعة‬
‫الذي يضع النص‪ ،‬واملعنى‬
‫الكلمة) وتلك التشكيالت‬ ‫طبقات‪ ،‬وهذه الطبقات‬ ‫املثال الذي يمكن استخراجه‬
‫الفونتيكية التي تبنى‬ ‫تُش ِّكل بنيته‪ ،‬ولكي نصل إىل‬ ‫من عبارات املؤلف كليهما‬
‫عليها‪ .‬وداخل هذه الطبقة‬ ‫هذه البنية يجب أن نستخدم‬ ‫معا‪ .‬فـ(إنجاردن) يركز عىل‬
‫نكتشف تأثيرات جمالية‬ ‫اإلدراك؛ ألن طبقات العمل‬ ‫بنية العمل األدبي املثالية‪،‬‬
‫معينة كالسجع واإليقاع؛‬ ‫األدبي ترتبط مع بعضها‬ ‫فهو يعتقد أن العمل األدبي‬
‫ألن وظيفة هذه الطبقة‬ ‫بعالقات من جهة‪ ،‬وترتبط‬ ‫بوصفه موضو ًعا قصد ًّيا‬
‫توفير اإلطار الخارجي‬ ‫أيضا بعالقات مع قارئه من‬ ‫ً‬ ‫نتاجا‬
‫خالصا إنما يكون ً‬ ‫ً‬
‫الثابت الذي يدعم الطبقات‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬وبذلك يصبح‬ ‫قصد ًّيا للنشاط الفني وأن‬
‫األخرى‪ ،‬أو أنها تع ُّد التعبير‬ ‫إدراك الظاهرة األدبية عبر‬ ‫فهم أسلوب وجوده وتعيين‬
‫الخارجي لبقية الطبقات‪.‬‬ ‫قصدية (إنجاردن) يحتاج‬ ‫بنيته لدى متلقيه إنما‬
‫‪ -3‬مواقع الالحسم‬ ‫يرى إنجاردن أنه لكي يتحقق مفهوم القصدية‬
‫أو مواضع الالتحديد‪:‬‬ ‫يجب أن ننظر إلى العمل األدبي على أنه‬
‫يوضح (إنجاردن) ىف كتابه‬ ‫مجموعة طبقات ُت ِّ‬
‫شكل بنيته‪ ،‬ولكي نصل إلى‬
‫(إدراك العمل األدبي) أن‬ ‫هذه البنية يجب أن نستخدم اإلدراك؛ ألن طبقات‬
‫العمل األدبي يقوم عىل‬
‫“أفعال قصدية من قبل‬ ‫العمل األدبي ترتبط مع بعضها بعالقات من‬
‫مؤلفه تجعل من املمكن‬ ‫جهة‪ ،‬وترتبط ً‬
‫أيضا بعالقات مع قارئه من جهة‬
‫للقارئ أن يعايشه‪ ،‬من قبل‬
‫مؤلفه‪ ،‬عبر التجربة القرائية‬ ‫أخرى‪ ،‬وبذلك يصبح إدراك الظاهرة األدبية عبر‬
‫بين املؤلف والقارئ‪ .‬ذلك‬ ‫قصدية (إنجاردن) يحتاج إلى عاملين أحدهما‬
‫ً‬
‫كامل‬ ‫أن النص ال يأتي‬
‫من مؤلفه‪ ،‬بل هو مشروع‬ ‫قائم فى العمل نفسه‪ ،‬واآلخر يوجد خارجه‪ ،‬وهو‬
‫داليل جمايل يكتمل بالقراءة‬ ‫القارئ‬
‫النشطة التي تمأل ما يف‬
‫النص من فراغات»(‪.)17‬‬
‫وبذلك يميز (إنجاردن)‬
‫بين نوعين من وحدات‬ ‫والتي عن طريقها يمكن‬ ‫‪ -2‬طبقة وحدات املعنى‪:‬‬
‫املعنى التي تحدد العمل‬ ‫الوصول إىل أفضل فهم‬ ‫وتضم كل وحدات املعنى‬
‫األدبي هما‪ :‬املوضوعات‬ ‫ملقومات املخطط‪ ،‬وذلك إذا‬ ‫ٍ‬
‫كلمات أم ً‬
‫جمل‬ ‫سواء كانت‬
‫القصدية الخالصة األصلية‬ ‫ما نظرنا إليها بوصفها‬ ‫وحدات مكونة من جمل‬ ‫ٍ‬ ‫أم‬
‫ىف العمل التي يضعها‬ ‫الهيكل أو البنية التخطيطية‬ ‫عديدة‪ .‬وتع ُّد هذه الطبقة‬
‫املؤلف ىف عمله بطريقة‬ ‫لكل وجه عيني من وجوه‬ ‫من أهم طبقات العمل ألنها‬
‫واعية عيانية‪ .‬واملوضوعات‬ ‫الشيء‪ .‬وتحتوي هذه الطبقة‬ ‫تقوم بصياغة العمل ككل‪،‬‬
‫القصدية الخالصة املبتكرة‬ ‫عىل الحاجات واألشخاص‬ ‫ألنها تحدد الطبقات األخرى‬
‫التي تستمد وجودها‬ ‫والحدوثات واألفعال التي‬ ‫عن طريق تزويدها باملعنى‪،‬‬
‫من الذات القارئه‪ ،‬وهذه‬ ‫يؤديها األشخاص‪ ،‬وتحتوي‬ ‫فتمكنها من أن توجد‪.‬‬
‫املوضوعات تكون غير‬ ‫كذلك عىل األشياء الواقعية‬ ‫‪ -3‬طبقة املوضوعات املتمثلة‪:‬‬
‫محددة وتكون ممتلئة‬ ‫واألشياء غير الواقعية(‪.)15‬‬ ‫هى ما أطلق عليها (إنجاردن)‬
‫بشكل تام ىف الصياغة‬ ‫وبالتايل أصبحت القراءة‬ ‫مقومات املخطط‪ ،‬وهى ذات‬
‫اللغوية للنص األدبي‪،‬‬ ‫لدى (إنجاردن) هي القدرة‬ ‫وظيفة رئيسة إذ إنها تمهد‬
‫دائما صياغة‬ ‫والتي تكون ً‬ ‫عىل مزاولة النشاط اإلدراكي‬ ‫بظهور الطبقة الرابعة التي‬
‫تخطيطية للموضوعات‬ ‫القادر عىل استيعاب هذه‬ ‫ترتبط بها مباشرة‪ .‬ويؤكد‬
‫القصدية‪ ،‬تتحدد وتمتلئ‬ ‫الطبقات ىف وعي القارئ‪،‬‬ ‫(إنجاردن) أن املوضوعات‬
‫من خالل قصدية القارئ‬ ‫وبذلك تتخلص عملية‬ ‫املتمثلة يف العمل األدبي هي‬
‫الذي يوهب املعنى والداللة‬ ‫اإلدراك من التأثيرية‬ ‫موضوعات قصدية نقية‬
‫لتلك الجوانب التخطيطية‬ ‫واالنطباعية بمحاورتها‬ ‫مشتقة ومعروضة بواسطة‬
‫يف الصياغة اللغوية يف‬ ‫بنية النص واالستجابة لها‬ ‫وحدات املعنى‪.‬‬
‫بنية العمل األدبي‪ .‬ولكن‬ ‫استجابة فهمية واعية(‪.)16‬‬ ‫‪ -4‬طبقة املظاهر التخطيطية‪:‬‬
‫‪217‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫ليعرف القارئ ما تقصده‬ ‫ىف تحقيق العمل األدبي عبر‬ ‫ملا كانت هذه الصياغات‬
‫ذاته‪ .‬والقارئ ىف كل مرة‬ ‫عملية ملء مواقع الالحسم‪،‬‬ ‫اللغوية ترتد إىل أفعال الكاتب‬
‫‪-‬أثناء قراءته‪ -‬يعود إىل‬ ‫ألن القارئ يتفاعل مع العمل‬ ‫األصلية‪ ،‬فإن إنجاردن يسلم‬
‫ينابيع معرفته الحادة‪ ،‬إىل‬ ‫األدبي بطرق شتى وعىل‬ ‫بأن املوضوعات القصدية‬
‫مستويات شتى‪ ،‬وبالتايل‬ ‫الخالصة املستمدة تتخذ‬
‫ما يعمل ىف داخله‪ ،‬كوسيلة‬
‫فإن خبرة الذات القارئه‬ ‫مصدرها النهائي من هذه‬
‫فهم للتشكالت الثقافية‬ ‫األفعال(‪.)18‬‬
‫وتجاربها السابقة هى التي‬
‫األكثر بع ًدا منه‪ ،‬فهو يصنع‬ ‫ستساعدها عىل هذه العملية‪.‬‬ ‫ولكي يتم فهم العمل األدبي‬
‫التأريخ الجمايل األدبي‪،‬‬ ‫ويشير (إنجاردن) إىل هذه‬ ‫يجب أن يتم فهم وحدات‬
‫وليس هذا التأريخ معرفة‬ ‫العملية بوصفها عملية‬ ‫املعنى السابقة (الجوانب‬
‫معينة‪ ،‬بل إنه التنبه الذي‬ ‫إضفاء العيانية‪ ،‬إذ يعتقد أن‬ ‫أول‪ ،‬التي ينشأ‬ ‫التخطيطية) ً‬
‫ال يدعنا ننسى منبع كل‬ ‫القارئ يستطيع أن يميز بين‬ ‫عبر فهمها عدد ال نهائي من‬
‫معرفة‪.‬‬ ‫البنية التحتية والعمل املدرك‬ ‫مواقع الالحسم‪ ،‬وال تُمأل هذه‬
‫من أجل أن يفصل الشيء‬ ‫املواقع إال بالنشاط اإلدراكي‬
‫إن القراءة الظاهراتية‬
‫الجمايل عن األشياء التي‬ ‫للذات القارئة‪ .‬فعبارات العمل‬
‫تكشف لنا الحركة التي‬
‫يصنعها اإلنسان‪ ،‬لذا تمثل‬ ‫األدبي لن تقول لنا كل شيء‬
‫بها نحقق عوامل الحقائق‬ ‫ً‬
‫عامل‬ ‫عملية إضفاء العيانية‬ ‫داخل العمل ولن تحقق كل‬
‫ودائرية العمل األدبي الذي‬ ‫رئيسا لفهم العمل األدبي‬ ‫األشياء التي توجد بالعمل‪ ،‬بل‬
‫ً‬
‫بات ‪-‬بمعنى ما‪ -‬كل ما‬ ‫عنده‪ .‬ولعل هذا ما يدفع‬ ‫سنجد مواضع من الالحسم‬
‫يخطر ىف الذهن من معانٍ‬ ‫الباحث إىل أن يقرر أنه ال‬ ‫تتميز باإلبهام تحتاج إىل‬
‫ٍ‬
‫ودالالت تتفق مع تأويله‪.‬‬ ‫القارئ وال النص‪ ،‬يستطيع‬ ‫تدخل من القارئ ليزيل هذا‬
‫ومن ثم تصبح عملية الفهم‬ ‫أحدهما أن يحدد املعنى‬ ‫اإلبهام ليصل إىل املعنى‪.‬‬
‫عملية مشتركة بين ما‬ ‫املوجود ىف العمل الفني‪ ،‬بل‬ ‫ويميز (إنجاردن) بين نوعين‬
‫عملية الوصول للمعنى عملية‬ ‫من مواقع الالحسم ينطوي‬
‫ُيمنح من النص‪ ،‬أي إدراك‬
‫مشتركة بينهما‪ ،‬فالنص‬ ‫عليهما العمل األدبي‪ :‬أولهما‬
‫العالمات والدوال املكونة‬
‫يزود القارئ بالحدود التي‬ ‫يمكن إزالته أثناء القراءة من‬
‫للنص‪ ،‬وما تمنحه الذات‬ ‫يعمل القارئ فيها خياله‪،‬‬ ‫خالل إسقاطات النص التي‬
‫القارئة‪ ،‬عن طريق فهم‬ ‫والقارئ يستخدم خياله‬ ‫تطرح حش ًدا من االحتماالت‬
‫املقروء وتشغيل املعلومات‬ ‫لإلحاطة بهذه الحدود وسد‬ ‫التي بها يمكن ملء مواقع‬
‫املخزنة يف الذاكرة من‬ ‫مواقع الالحسم النصية من‬ ‫الالحسم‪ .‬واآلخر‪ ،‬يكون‬
‫تجارب سابقة وإعمال‬ ‫أجل الوصول للمعنى‪.‬‬ ‫النص صامتًا إزاءه‪ ،‬حيث ال‬
‫الخيال ىف سد مواقع‬ ‫وبذلك تصبح عملية القراءة‬ ‫يشير إىل أية احتماالت أو‬
‫الالحسم‪ .‬فيصبح العمل‬ ‫ىف النقد الظاهراتي عملية‬ ‫إمكانات يمكن بها ملء مواقع‬
‫تملك‪ ،‬فالقارئ يكتسب‬ ‫الالحسم أو إكمالها‪ ،‬وهكذا‬
‫األدبي نتاج عامل يف وعي‬
‫املعنى من دالالت مل تكن‬ ‫دائما مواقع ىف العمل‬‫تبقى ً‬
‫القارئ‪ ،‬ويصبح املعنى ما‬ ‫موجودة لديه‪ ،‬عبر عملية‬ ‫األدبي تعيّنها التام يكون‬
‫ينتجه القارئ من العمل‬ ‫تماما عىل القارئ ‪.‬‬
‫الوعي واإلدراك التي يمر بها‬ ‫متوقفًا ً‬
‫(‪)19‬‬

‫األدبي‪ ،‬ال ما يضعه املؤلف‬ ‫أثناء القراءة‪ ،‬فالعمل األدبي‬ ‫وبذلك يكون (إنجاردن) قد‬
‫يف عمله‬ ‫ال يعبر فقط عن نفسه‪ ،‬بل‬ ‫دورا إيجابيًّا‬
‫أعطى للقارئ ً‬
‫‪218‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬مليكة دحامينة‪ :‬هيرمنيوطيقا النص األدبي يف الفكر الغربي املعاصر‪ ،‬اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سلسلة‬
‫الدراسات األدبية‪ ،‬العدد(‪ ،2008 ،)10‬صـ‪.36‬‬
‫‪ -2‬ناظم عودة خضر‪ :‬األصول املعرفية لنظرية التلقي‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬صـ‪.110‬‬
‫‪,Terry Eagleton: Literary Theory: An Introducation, Oxford, Basil Blackwell, England -3‬‬
‫‪.68 p ,1983‬‬
‫‪ -4‬محمد شوقى الزين‪ :‬تأويالت وتفكيكات‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬بيروت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬طـ‪،2002 ،1‬‬
‫صـ‪.50‬‬
‫‪ -5‬ناظم عودة خضر‪ :‬األصول املعرفية لنظرية التلقي‪ ،‬صــ‪79‬ـ‬
‫‪ -6‬ينظر‪ ،‬محمد شوقى الزين‪ :‬تأويالت وتفكيكات‪ ،‬صـ‪ .31‬ووفاء إبراهيم‪ :‬هامش صــ‪ ،72‬من كتاب‬
‫النقد الثقايف (تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية)‪ ،‬لـ(آرثر إيزابرجر)‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬املشروع القومي‬
‫للترجمة‪ ،‬العدد(‪ ،)603‬القاهرة‪ ،‬ط‪2003 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -7‬ك‪ .‬م‪ .‬نيوتن‪ :‬نظرية األدب ىف القرن العشرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى عيل العاكوب‪ ،‬مركز عين للدراسات‬
‫والبحوث الإنسانية واالجتماعية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1‬صــ‪.77‬‬
‫‪ -8‬ناظم عودة خضر‪ :‬األصول املعرفية لنظرية التلقي‪ ،‬صــ‪.75‬‬
‫‪ -9‬السابق‪ ،‬صـ‪.78‬‬
‫‪ -10‬بشرى موسى صالح‪ :‬نظرية التلقي (أصول وتطبيقات)‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬بيروت‪ -‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫طـ‪ ،2001 ،1‬صـ‪.34‬‬
‫‪ -11‬ك‪ .‬م‪ .‬نيوتن‪ :‬نظرية األدب يف القرن العشرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬عيسى عيل العاكوب‪ ،‬مركز عين للدراسات‬
‫والبحوث اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1‬صــ‪.83‬‬
‫‪.Terry Eagleton: Literary Theory, p 70 -12‬‬
‫‪ -13‬ناظم عودة خضر‪ :‬األصول املعرفية لنظرية التلقي‪ ،‬صــ‪.80‬‬
‫‪ -14‬السابق‪ ،‬صـ‪ 81‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -15‬للمزيد حول طبقات العمل األدبي عند إنجاردن ينظر‪ ،‬سامي إسماعيل‪ :‬علم الجمال األدبي عند رومان‬
‫إنجاردن‪ ،‬الهيئة العامة القصور الثقافة‪ ،‬سلسلة كتابات نقدية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬عدد(‪ ،1998 ،)80‬صـ‪-103‬‬
‫صـ‪.175‬‬
‫‪ -16‬بشرى موسى صالح‪ :‬نظرية التلقي‪ ،‬صـ‪.87‬‬
‫‪ -17‬ميجان الرويىل وسعيد البازغى‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬بيروت‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬طـ‪،3‬‬
‫‪ ،2002‬صـ‪.321‬‬
‫‪ -18‬ناظم عودة خضر‪ :‬األصول املعرفية لنظرية التلقي‪ ،‬صــ‪.87‬‬
‫‪ -19‬السابق‪ ،‬صــ‪.90‬‬
‫‪219‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫جمي ًعا من منجم واحد‪.‬‬ ‫إنَّ رباعيات كتاب السطور‬

‫رباعيات مسكونة بالفلسفة‪..‬‬


‫قراءة في كتاب السطور األربعة لحمدي‬
‫ورباعيات الجزار ليست‬ ‫األربعة (الذي صدر يف‬
‫نو ًعا لجنس تندرج تحته‪،‬‬ ‫طبعته األوىل عن دار نفرو‬
‫فال هي تشبه رباعيات‬ ‫بالقاهرة‪ )2013 ،‬هي‬
‫الخيام وال رباعيات صالح‬ ‫قالب جديد اختاره الروائي‬
‫جاهين؛ اللهم إال إذا قلنا‬ ‫“حمدي الجزار” ليعرض‬
‫إن ثالثتها تنبئ عن إقبال‬ ‫علينا روايته الكاملة يف‬
‫شديد عىل الحياة وإكبار‬ ‫ومضات متألقة‪ ،‬ال يستطيع‬
‫لها وتعلق بها‪ ،‬كما تُنبئ يف‬ ‫القارئ للوهلة األوىل أو‬
‫الوقت ذاته عن االستهانة‬ ‫الثانية سبر أغوارها وال‬
‫بهذه الحياة واحتقارها‪.‬‬ ‫معرفة مقصودها‪ ،‬كما أن‬
‫كما تلتقي السطور األربعة‬ ‫تكرار القراءة السريعة‬
‫للجزار مع رباعيات الخيام‬ ‫ألبياتها ال يجعلها تبوح‬
‫يف أنها تغرقك يف بحار‬ ‫بأسرار مكنوناتها‪ .‬فهي‬
‫الحيرة ولذتها‪ ،‬فكما يقول‬ ‫أشبه بهمهمات صويف يف‬
‫يحيي حقي عن رباعيات‬ ‫مقام الكشف والحضور‪.‬‬
‫الخيام ولذة أسرار حيرتها‪:‬‬ ‫قد يستطيع القارئ أن يعي‬
‫“إن كانت الحيرة مؤملة‬ ‫معنى املفردات لكنه يعجز‬
‫فليس هناك لذة تفوق لذة‬ ‫الجمل كاملة‬‫عن فهم ُمرادات ُ‬
‫هذه الحيرة التي يلقيك‬ ‫فور القراءة‪.‬‬
‫عمر الخيام يف أحضانها‬ ‫والرباعيات هي أفضل‬
‫أو بين مخالبها‪ ،‬ذلك ألنها‬ ‫القوالب الكتابية للتعبير عن‬
‫ليست ناجمة من أنك تجد‬ ‫املشاعر غير املنظمة واملرتبة‬
‫نفسك يف فراغ من حوله‬ ‫يف تتابع منطقي‪ ،‬وكأنها‬
‫فراغ‪ ،‬بل ألنك يف قلب‬ ‫تعبر عن سرد لحلم ليلة‬
‫دوامة تدور من حولك ال‬ ‫شتاء طويلة ينتقل بنا بين‬
‫تعرف أين رأسها من ذيلها‪،‬‬ ‫وقائع غير منتظمة وأماكن‬
‫هذا هو عين الخدر الذي‬ ‫غير متتاخمة‪ .‬فكتاب السطور‬
‫يحبه الكبار الذين يركبون‬ ‫األربعة يحتوي عىل (‪)826‬‬
‫الجزار‬

‫أرجوحة الصغار”(‪ .)1‬األمر‬ ‫رباعية يف روايتين وخاتمة‪،‬‬


‫نفسه يتملك قارئ السطور‬ ‫تحتوى الرواية األوىل عىل‬
‫األربعة الذي يجد نفسه بين‬ ‫أربعمائة رباعية‪ ،‬تزيدها‬ ‫د‪.‬غيضان‬
‫َّ‬

‫الحيرة املؤملة ثم ال يلبث‬ ‫الرواية األخرى برباعية‬


‫طويل حتى يشعر بلذة‬ ‫ً‬ ‫واحدة‪ ،‬بينما ت ُْشغَ ل الخاتمة‬
‫السيد علي*‬
‫الحيرة وقد باتت تسري يف‬ ‫بخمس وعشرين رباعية‪،‬‬
‫جسده وروحه م ًعا‪.‬‬ ‫وهي يف مجملها أشبه بعقد‬
‫وبنا ًء عليه يمكننا القول إن‬ ‫ماسي جميل تنسلك فيه‬
‫رباعيات الجزار مختلفة‬ ‫حبات من أحجار كريمة‬
‫تماما عن كل صور‬ ‫ً‬ ‫مختلفة التكوين استخرجت‬
‫‪220‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الكثرة يف الواحد‬ ‫أخرى‪ ،‬يعاني الحيرة يف‬ ‫الرباعيات السابقة؛ فالرباعيات‬


‫والواحد كثرة(‪.)2‬‬ ‫الغالب األعم‪.‬‬ ‫عند الخيام وجاهين مقطوعات‬
‫ومع هذه االفتتاحية نجد‬ ‫ولذلك مل يكن غريبًا أن‬ ‫شعرية من أربعة أبيات تدور‬
‫أنفسنا يف ثنايا “نظرية‬ ‫تمتلئ السطور األربعة‬ ‫حول موضوع معين‪ ،‬وتك ِّون‬
‫الفيض”‪ ،‬وهى نظرية‬ ‫بالحضور الفلسفي الطاغي‬ ‫فكرة تامة‪ ،‬وفيها إ َّما أن تتفق‬
‫يونانية قديمة ق َّدمها‬ ‫نتيجة لتأثر الجزار بالفلسفة‬ ‫قافية الشطرين األول والثاني‬
‫أفلوطين‪ ،‬ذلك الفيلسوف‬ ‫التي درسها يف جامعة‬ ‫مع الرابع‪ ،‬أو أن تتفق جميع‬
‫املصري املولد الذي استقر‬ ‫القاهرة‪ ،‬ومل يستطع التخلص‬ ‫الشطور األربعة يف القافية‪ ،‬أ َّما‬
‫يف روما‪ ،‬لكيفية صدور‬ ‫منها‪ ،‬فطغت عىل رواياته‬ ‫رباعيات الجزار فمن املمكن أال‬
‫املوجودات الكثيرة عن اهلل‬ ‫املختلفة‪ .‬إذ يتجىل فيها‬ ‫يتفق أي شطر فيها من حيث‬
‫الواحد‪ ،‬حيث ال يصدر عن‬ ‫الحضور الفلسفي من شتى‬ ‫القافية مع اآلخر‪ ،‬وهذا هو‬
‫الواحد إال واحد مثله‪ ،‬ألنه‬ ‫أصقاع الفلسفة وأنواعها‪،‬‬ ‫الغالب األعم منها‪ .‬كما تختلف‬
‫اعتقد أن صدور الكثرة‬ ‫ومن كافة عصورها املختلفة؛‬ ‫أيضا عن فن الواو الذي‬‫ً‬
‫عن الواحد توجب يف الذات‬ ‫اليونانية والهيلنستية‬ ‫ينتشر بصعيد مصر‪ ،‬والذي‬
‫وتغيرا‪،‬‬ ‫الخالقة تعد ًدا‬ ‫والعربية اإلسالمية‬ ‫يتكون من أربعة شطور يوجد‬
‫ً‬
‫وهو ما ين ِّزه عنه أفلوطين‬ ‫والوسطى املسيحية والحديثة‬ ‫فيها جناس تام بين الشطر‬
‫األول والثالث وجناس تام‬
‫الخالق الواحد األوحد املطلق‬ ‫واملعاصرة‪ ،‬فهي أشبه‬
‫آخر بين الشطر الثاني والرابع‬
‫الالمتناهي‪ ،‬فرأى أن الواحد‬ ‫بصالة إكليل لعاشق وعابد‬
‫لتعطي يف النهاية فكرة تامة‪.‬‬
‫يشاهد ذاته‪ ،‬وينتج عن هذا‬ ‫يف محراب الفلسفة‪.‬‬
‫إن رباعيات السطور األربعة‬
‫انبثاق األقنوم الثاني وهو‬ ‫فإذا وقفنا عند املفتتح ومع‬
‫ح ًّقا بدعة جديدة ابتدعها‬
‫العقل‪ ،‬وهو أقل ً‬
‫كمال منه‬ ‫أوىل رباعيات السطور‬
‫الجزار ليعبر بها عن حيرته‬
‫رغم أنه يشبهه من حيث‬ ‫األربعة وجدناه يقول‪:‬‬
‫الفلسفية‪ ،‬ويقدم فيها خالصة‬
‫الوحدة‪ ،‬لكنه يف اآلن نفسه‬ ‫الواحد يف الكثرة‬
‫تأمالته عن الكينونة والوجود‬
‫يقبل الكثرة‪ ،‬وعندما يتأمل‬ ‫والكثرة واحد‬
‫واإلنسان والقدر واملصير‬
‫والجبر واالختيار‪ ،‬عن الحب‬
‫والعشق اإللهي‪ ،‬عن ثنائية‬
‫الروح والجسد‪ ،‬وعن وحدة‬
‫الوجود وفلسفة اإلنسان‪،‬‬
‫الحسن والقبح‪،‬‬ ‫عن جماليات ُ‬
‫وفلسفة الوجه يف محاولة منه‬
‫للوصول إىل معرفة الحقيقة‪.‬‬
‫فنراه يف أكثر األحيان تار ًكا‬
‫أفكاره الحائرة ليد املجهول‪،‬‬
‫وكأنه فيلسوف حقيقي ما‬
‫زال يف فترة التأمالت تجتاحه‬
‫الحدوس الصوفية والعقلية‪،‬‬
‫مقبل عىل الحياة‬ ‫مبتهجا ً‬
‫ً‬ ‫فنراه‬
‫ً‬
‫تارةً‪ ،‬حزينًا محبطا تار ًة‬
‫‪221‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫هذا العقل ذاته يصدر عنه‬


‫أقنوم ثالث وهو النفس‪،‬‬
‫أي النفس الكلية‪ ،‬أو نفس‬
‫العامل التي ينشأ عنها املكان‬
‫والزمان‪ ..‬ولكن هذا العامل‬
‫املتكثر بكله وكلكله يف تأمل‬
‫صامت لذلك الواحد الذي‬
‫صدر منه وعنه ومشتاق إليه‬
‫وإىل العودة إليه من جديد‪،‬‬
‫األمر الذي ير ُّد الكثرة إىل‬
‫الواحد‪ ،‬والواحد إىل الكثرة‪،‬‬
‫كما تقول الرباعية يف تأثر‬
‫واضح بفلسفة أفلوطين يف‬
‫القول بنظرية الفيض‪ ،‬والتي‬
‫تأثر بها من فالسفة اإلسالم‬
‫كل من الفارابي وابن سينا‬
‫يحيي حقي‬ ‫باروخ اسبينوزا‬ ‫ايمانويل ليفيناس‬
‫ورفضها ابن رشد(‪.)3‬‬
‫ويؤكد هذا املعنى من اشتياق‬
‫الروح خالد باق أزيل‪ ،‬أما‬ ‫األندلسي ابن رشد‪ ،‬وهو‬ ‫املوجودات وعشقها للواحد‬
‫البدن فهو فاسد فان آني‪،‬‬ ‫من أعظم ُش َّراح الفلسفة‬ ‫قوله‪:‬‬
‫يفسد بموت اإلنسان‪ ،‬وقد‬ ‫األرسطية عىل وجه العموم‪:‬‬ ‫لك من العشاق واح ٌد‬ ‫َ‬
‫شغلت هذه الثنائية تاريخ‬ ‫“وذلك أن الفعل هو كمال‬ ‫لك من العشاق ٌ‬
‫ألف‬ ‫َ‬
‫الفلسفة كله منذ أرسطو‬ ‫القوة‪ ،‬والذي من أجله وجدت‬ ‫الواح ُد ٌ‬
‫ألف‬
‫وحتى أيامنا الحالية(‪.)7‬‬ ‫القوة‪ ،‬وهو السبب الغائي‬ ‫ُ‬
‫واأللف واح ٌد ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫معبرا عن‬
‫ً‬ ‫فيقول الجزار‬ ‫لها”(‪ .)5‬عن هذه الفكرة‬ ‫ثم ينتقل بنا إىل فكرة أخرى‬
‫هذه الفكرة يف رباعية رائعة‪،‬‬ ‫الفلسفية يقول صاحب كتاب‬ ‫تتغلغل يف ثنايا الفلسفة منذ‬
‫تعبر عن االختالف ‪-‬وربما‬ ‫السطور األربعة‪:‬‬ ‫أرسطو وهي فكرة القوة‬
‫التناقض‪ -‬بين ما يتطلبه‬ ‫شرب الحليب ونام‬ ‫والفعل‪ ،‬فالشيء ‪-‬أي شيء‪-‬‬
‫الفؤاد الذي يمثل الجانب‬ ‫الرضيع الذي يف املهد‬ ‫عند أرسطو له وجود بالقوة‬
‫الروحي‪ ،‬وما يتطلبه البدن‬ ‫شرب الحليب ونام لألبد‬ ‫ووجود بالفعل‪ ،‬فالبذرة‬
‫الذي يمثل الجانب املادي‬ ‫الشيخ الذي يف داخله‬ ‫شجرة بالقوة‪ ،‬وعندما‬
‫من ثنائية اإلنسان‪:‬‬ ‫الرضيع(‪.)6‬‬ ‫تُزرع وتنمو وتصبح شجرة‬
‫غلت بها عنها‬
‫ُش ُ‬ ‫ثم ال تبرح الفلسفة اليونانية‬ ‫فهي حينذاك تصبح شجرة‬
‫معشوقتان تسكنان الفؤاد‬ ‫تلقي بظاللها عىل رباعيات‬ ‫بالفعل‪ ،‬فالفكرة يف طور‬
‫والجسد‬ ‫كتاب السطور األربعة‬ ‫التكوين هي فكرة بالقوة‪،‬‬
‫أغضبت‬
‫ُ‬ ‫أرضيت واحد ًة‬
‫ُ‬ ‫إن‬ ‫فتتجىل يف فكرة الثنائية‪ ،‬التي‬ ‫وعندما تكتمل وتصبح‬
‫األخرى‬ ‫ترى أن اإلنسان مكون من‬ ‫ملموسا يف الواقع‬
‫ً‬ ‫شيئًا‬
‫اشتقت‬
‫ُ‬ ‫أتيت إحداهن‬
‫وإن ُ‬ ‫عنصرين اثنين أو من ثنائية‬ ‫تكون حينذاك فكرة بالفعل‪.‬‬
‫للثانية األوىل ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬
‫متعارضة هي الروح والبدن‪،‬‬ ‫ويف ذلك يقول الفيلسوف‬
‫‪222‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫ثم قبل أن ننتقل من الفلسفة‬


‫اليونانية ومن عصرها‬
‫الهللينستي إىل الفلسفة‬
‫اإلسالمية العربية‪ ،‬نتوقف عند‬
‫تأمل رائع‪ ،‬يعبر عنه الجزار‬
‫يف أبهى رباعية حين يتأمل‬
‫املصير اإلنساني يف وقفة‬
‫فلسفية تأخذك إىل لحظة تأمل‬
‫مبهرة‪ ،‬تجعلك تعيد النظر يف‬
‫ماضيك‪ ،‬وتفكر بقناعة حكيم‬
‫يف لحظاتك املستقبلية‪ ،‬حيث‬
‫يقول‪:‬‬
‫أنت ذا ترى‬
‫وها َ‬
‫كومة العظام والثرى‬
‫ُ‬
‫والخوف؟‬ ‫َ‬
‫مل الوج ُل‬
‫(‪)9‬‬
‫وقد كنتها‪ ..‬من قبل أن تَرى‬
‫ويف خضم الفلسفة اإلسالمية‬
‫وخاصة يف لحظات تجليها يف‬
‫مجال التصوف‪ ،‬التي تبحث‬
‫عن الحقيقة اإللهية التي تتعاىل‬
‫عن املشاهدة بالعين التي‬
‫ينبغي لها أن تشهد‪ ،‬وللكون‬
‫أثر يف حياة املشاهد‪ ،‬فإذا فني‬
‫ما مل يكن‪ ،‬وهو فانٍ ‪ ،‬ويبقى‬
‫من مل يزل وهو باق‪ ،‬حينئذ‬
‫تطلع شمس البرهان إلدراك‬
‫العيان‪ ،‬فيقع التنزه املطلق‬
‫املحقق يف الجمال املطلق‪ ،‬وذلك‬
‫عين الجمع والوجود‪ ،‬ومقام‬
‫السكون والجمود‪ ..‬ولكن‬
‫هذا املقام ليس سهل البلوغ‪،‬‬
‫وال يبلغه إال من وقف وطال‬
‫وقوفه بالباب طالبًا‪ .‬فيقول‬
‫معبرا‬
‫ً‬ ‫صاحب السطور األربعة‬
‫عن ذلك‪:‬‬
‫يا وييل من خروجي‪ ،‬ووقويف‬
‫الحسين بن منصور الحالج‬
‫لدى الباب‬
‫أصبو إليكم‪ ،‬وبيني وبينكم‬
‫حجاب‬
‫في خضم الفلسفة اإلسالمية وخاصة‬
‫في لحظات تجليها في مجال التصوف‪،‬‬
‫التي تبحث عن الحقيقة اإللهية التي‬
‫تتعالى عن المشاهدة بالعين التي‬
‫ينبغي لها أن تشهد‪ ،‬وللكون أثر في‬
‫حياة المشاهد‪ ،‬فإذا فني ما لم يكن‪،‬‬
‫فان‪ ،‬ويبقى من لم يزل وهو باق‪،‬‬
‫وهو ٍ‬
‫حينئذ تطلع شمس البرهان إلدراك‬
‫العيان‪ ،‬فيقع التنزه المطلق المحقق‬
‫حمدي الجزار‬
‫في الجمال المطلق‪ ،‬وذلك عين الجمع‬
‫أنت قد خذلتني‪،‬‬‫كنت ِ‬‫إن ِ‬
‫والوجود‪ ،‬ومقام السكون والجمود‬
‫وخذلتني‪ ،‬ونسيتني‬
‫فإنني لن أبارح وقفتي‬
‫بالباب(‪.)10‬‬
‫عىل هذا املشهد من لسان‬ ‫اهلل‪ ،‬وينكشف عنه حجاب‬ ‫فهو يف ذلك ينشد صاحب‬
‫صاحبه املتحقق به‪ ،‬وهو‬ ‫ويبصر ما ال‬ ‫الجهالة‪ ،‬فيرى ُ‬ ‫امللكوت الذي ال شريك له وال‬
‫مل يذقه ربما قال‪“ :‬أنا من‬ ‫يبصره اآلخرون‪ .‬ويف ذلك‬ ‫ند‪ ،‬يسبح له كل من خلق‪،‬‬
‫أهوى ومن أهوى أنا”‪ ،‬كما‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫ويشتاق لرؤيته كل من وعى‪،‬‬
‫قال الحالج فكان مصيره‬ ‫عقدت الصلة مع املجهول‬ ‫صاحب الحكم يف العامل‬
‫القتل؛ ألن العامة رأت يف‬ ‫وأحسنت العقد‬ ‫العلوي والسفيل‪ ،‬وهو خالق‬
‫خروجا عن أحكام‬ ‫ً‬ ‫دعوته‬ ‫غفلت عن كل ضباب األرض‬ ‫األكوان‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫وخطرا‬
‫ً‬ ‫السنة والجماعة‬ ‫(‪)12‬‬
‫فظهر يل ما رأيت‬ ‫معت أطراف كل شيء يف‬ ‫ُج ْ‬
‫عىل املؤمنين‪ ..‬أما صاحب‬ ‫وتسيطر الروح الصوفية‬ ‫قبض ٍة‬
‫السطور األربعة فيأخذ عليه‬ ‫عىل الرباعيات بشكل عام‪،‬‬ ‫ومدت فصارت كونًا‬ ‫ُ‬
‫إفشائه السر الصويف إىل‬ ‫وال يخلو من ذلك إشاراته‬ ‫وقيل له‪ :‬كن‬
‫عامة الناس وهم ال يدرون‬ ‫إىل مصير من ذهب مذهبه‪،‬‬ ‫فكان(‪.)11‬‬
‫ومل يتذوقوا‪ ،‬فمن ذاق‬ ‫وهو بذلك يقصد الحسين بن‬ ‫وعن الكشف الصويف تتحدث‬
‫عرف‪ ،‬ومن عرف اغترف‪،‬‬ ‫منصور الحالج املتصوف‬ ‫السطور األربعة املسكونة‬
‫فيقول يف رباعية مثيرة‪:‬‬ ‫املقتول‪ ،‬وكيف قُتل سنة‬ ‫بالفلسفة‪ ،‬فالكشف الصويف ال‬
‫َ‬
‫بقولك “أنا”‬ ‫أشعلت املعارك‬ ‫‪922‬هـ؛ ألنه صرح بما ال‬ ‫يكون إال بانقطاع الصويف عن‬
‫قُتل املاليين لقولك “أنا”‬ ‫بد أن ُيستر عن أكثر الخلق‪،‬‬ ‫األغيار‪ ،‬أي عن كل ما هو غير‬
‫ويف البدء والختام‬ ‫ملا فيه من العلو‪ ،‬فغوره‬ ‫اهلل من املوجودات‪ ،‬وينشغل‬
‫(‪)13‬‬
‫قُتل الذي قال “أنا”‬ ‫بعيد‪ ،‬والتلف فيه قريب‪ ،‬فإن‬ ‫باملجاهدات والعبادات ليخلص‬
‫وال يمكن أن نتجاهل نظرية‬ ‫من ال معرفة له بالحقائق‬ ‫القلب من كل ما يشغله‬
‫“وحدة الوجود” الرشدية‬ ‫وال بامتداد الرقائق ويقف‬ ‫سوى اهلل‪ ،‬وحينئ ٍذ يرى بنور‬
‫‪224‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫كتابه‪:‬‬ ‫عبثية الكون يبحث الوجودي‬ ‫التي ت َُرد الكثرة املشاهدة يف‬
‫ملا لزمت األدب والصمت‬ ‫عن العقل واملنطق‪ ،‬ويف وسط‬ ‫العامل إىل خالق واحد يعتني‬
‫جاءت هي‪ ،‬جلست واستوت‬ ‫األساطير يبحث عن الحق‪،‬‬ ‫بها وال يزال‪ ،‬فاهلل تعاىل خلف‬
‫ويف خضم الدمار يبحث عن‬ ‫كل كثرة وهو واحد أحد‪ ،‬فنجد‬
‫الوجه يف الوجه والعينان يف‬
‫طوق النجاة‪ .‬وبصفة عامة‬ ‫صاحب كتاب السطور األربعة‬
‫العينين‬ ‫تسيطر النزعة الوجودية عىل‬ ‫يقول‪:‬‬
‫حل البهاء وانتفى كل‬ ‫معظم أعمال حمدي الجزار‪،‬‬ ‫تعددت األسباب واملوت واحد‬
‫(‪)20‬‬
‫بغض‬ ‫وإن تجلت بصورة واضحة‬ ‫ميتة واحدة وحيوانات كثر‬
‫وهكذا تمتزج الفلسفة مع‬ ‫جلية يف روايته األثيرة‬ ‫تفردت البصمة والكتابة‬
‫“لذات سرية”(‪ .)17‬فيقول‪:‬‬ ‫والنقش‬
‫األدب يف فلك كتاب السطور‬
‫يقدرون املراتب واملناصب‬ ‫(‪)14‬‬
‫وخلف كل كثر ٍة واحد‬
‫ً‬
‫شكل‬ ‫األربعة‪ ،‬لتقدم لنا‬ ‫يصفُّون يف الخانات الغني‬ ‫ثم ينتقل بنا صاحب الرباعيات‬
‫لزاما علينا أن‬
‫فري ًدا كان ً‬ ‫والبائس‬ ‫إىل رحاب الفلسفة الحديثة‪،‬‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬حتى‬ ‫نتوقف عنده‬ ‫يمسكون الريح ويخطون‬ ‫وإىل عصورها التنويرية التي‬
‫نتمكن من فك طالسمه‬ ‫األقدار‬ ‫باتت تنشد إعمال العقل عىل‬
‫(‪)18‬‬
‫وما ملكوا من أمرهم شيئًا‬ ‫أوسع نطاق‪ ،‬فأخذت فلسفة‬
‫وفض غموضه‪ ،‬والحقيقة‬
‫لتظل رباعيات الجزار‬ ‫شعارا للتنوير فحواه‬‫ً‬ ‫التنوير‬
‫أن من يقف عىل تلك‬ ‫مسكونة بالفلسفة‪ ،‬حيث‬ ‫“كن جريئًا يف استعمال‬
‫الرباعيات املسطورة يف ذلك‬ ‫تقود الفلسفة صاحب‬ ‫عقلك”‪ .‬وهنا يقود الفيلسوف‬
‫الكتاب من املمكن أن يالحظ‬ ‫الرباعيات وتسيطر عليه‬ ‫النرويجي باروخ اسبينوزا‬
‫أن الكاتب يريد أن يلحق‬ ‫حتى يصل إىل الفلسفة‬ ‫حملة شعواء عىل املعجزة‬
‫بركب الفالسفة والصوفية‪،‬‬ ‫املعاصرة‪ ،‬فيطالعنا بفلسفة‬ ‫بمعناها الشائع‪ ،‬فاملعجزة لديه‬
‫الوجه وجه للفيلسوف‬ ‫ليست هي خوارق العادات‪،‬‬
‫يقف عند األسئلة الكبرى‬
‫الفرنسي املعاصر ايمانويل‬ ‫لكنها حوادث طبيعية تقع طبقًا‬
‫ً‬
‫محاول اإلجابة عليها‪ ،‬فيقدم‬ ‫ليفيناس‪ ،‬والذي أكد يف‬ ‫لقوانين طبيعية نجهل أسبابها‬
‫لنا أسئلة أخرى تزيد من‬ ‫فلسفته التي يمكن أن نطلق‬ ‫حتى اآلن‪ ،‬وتقدم العلم كفيل‬
‫ظمئنا نحو الحقيقة التي‬ ‫عليها باملعنى العام «فلسفة‬ ‫بمعرفتها(‪ .)15‬وبناء عىل هذا‬
‫ال تجيء أب ًدا‪ .‬فيحصر‬ ‫الوجه»‪ ،‬والتي تنص عىل‬ ‫الفهم للمعجزة‪ ،‬فليس غريبًا‬
‫أن النظر إىل اآلخر يمنعني‬ ‫عىل أي ُم َّد ٍع أن يدعي أنَّه‬
‫الكاتب نفسه يف مجال‬
‫من إيذائه بأي صورة من‬ ‫صاحب معجزة طاملا جهل‬
‫الهموم الفلسفية الكبرى‬ ‫نظرا لقداسة‬ ‫الناس األسباب الطبيعية لها‪،‬‬
‫صور اإليذاء ً‬
‫وأسئلتها الكونية التي ال‬ ‫الوجه‪ ،‬وألن الوجه الذي هو‬ ‫ويعبر الجزار عن ذلك يف‬
‫تنتهي‪ ..‬إنها ح ًّقا لذة الحيرة‬ ‫مرآة الروح ينطق بأن اآلخر‬ ‫رباعية تقول‪:‬‬
‫التي بحث عنها الجزار‬ ‫يحتوى اإلنسانية كلها‪ ،‬مما‬ ‫الدعي‬
‫ُّ‬ ‫صدقَ هذا‬ ‫َ‬
‫ً‬ ‫يشعرني بمسئوليتي عنه‪،‬‬ ‫يسعى كذبابة‪ ،‬يتطفل ويأكل‬
‫طويل‪ ،‬ووجدناها معه يف‬
‫بل إنه عندما تلتقي الوجوه‬ ‫يشرب ثم يمشي ويصيح‪:‬‬
‫هذا السفر امللغز ج ًّدا‪ ،‬ويف‬ ‫ببعضها ينتفي كل ُبغض ‪.‬‬
‫(‪)19‬‬ ‫(‪)16‬‬
‫أنا املعجزة‬
‫هذه الرباعيات املسكونة‬ ‫فيقول الجزار من خالل تمثل‬ ‫كما تظهر الروح الوجودية بين‬
‫بالفلسفة‬ ‫هذا املعنى الليفيناسي يف‬ ‫التشاؤم واألمل‪ ،‬ففي وسط‬
‫‪225‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫* أستاذ الفلسفة الحديثة املساعد بكلية اآلداب جامعة بني سويف‪.‬‬
‫‪ -1‬يحيي حقي‪ :‬مقدمة رباعيات صالح جاهين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األسرة‪ ،‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪،1996 ،‬‬
‫ص‪.11 -10‬‬
‫‪ -2‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ -‬الرواية الكاملة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬نفرو للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪ ،2013‬رباعية رقم (‪ )1‬ص‪.7‬‬
‫‪ -3‬ملزيد من التفصيالت حول هذه النظرية يمكن الرجوع إىل يحيى هويدي‪ ،‬محاضرات يف الفلسفة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مكتبة النهضة املصرية‪ ،1966 ،‬ص‪.169 -155‬‬
‫‪ -4‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )109‬ص‪.266‬‬
‫‪ -5‬ابن رشد‪ :‬تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق د‪.‬عثمان أمين‪ ،‬القاهرة‪ ،1958 ،‬ص‪.90‬‬
‫‪ -6‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )221‬ص‪.118‬‬
‫‪ -7‬ملزيد من التفصيالت يمكن الرجوع إىل‪ :‬غيضان السيد عيل‪ :‬الفلسفة الطبيعية واإللهية‪ -‬النفس والعقل‬
‫عند ابن باجة وابن رشد‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار التنوير‪.2009 ،‬‬
‫‪ -8‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )289‬ص‪.152‬‬
‫‪ -9‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )121‬ص‪.68‬‬
‫‪ -10‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )2‬ص‪.8‬‬
‫‪ -11‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )229‬ص‪.122‬‬
‫‪ -12‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )0‬ص‪.415‬‬
‫‪ -13‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )271‬ص‪.143‬‬
‫‪ -14‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )371‬ص‪.397‬‬
‫‪ -15‬سبينوزا‪ :‬رسالة يف الالهوت والسياسة‪ ،‬ترجمة حسن حنفي ومراجعة فؤاد زكريا‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار التنوير‪،‬‬
‫ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.215‬‬
‫‪ -16‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )112‬ص‪.63‬‬
‫‪ -17‬راجع‪ :‬غيضان السيد عيل‪ :‬لذات سرية وعودة األدب الوجودي‪ ،‬مجلة أدب ونقد‪ ،‬العدد ‪ 284‬أبريل‬
‫‪ ،2009‬ص‪.94 -89‬‬
‫‪ -18‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )380‬ص‪.197‬‬
‫‪ -19‬ايمانويل لفيناس‪ ،‬التحديد الفلسفي لفكرة الثقافة‪ ،‬مجلة أوراق فلسفية العدد ‪ ،2007 ،17‬ص‪.82 -81‬‬
‫‪ -20‬حمدي الجزار‪ :‬كتاب السطور األربعة‪ ،‬رباعية رقم (‪ )314‬ص‪.164‬‬
‫‪226‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫موضوعيًّا للتصوير يف‬ ‫ال شك َّ‬

‫الرواية العربية واستماالت الفلسفة‬


‫أن الرواية هي‬
‫سبيل قلب الواقع وتفكيكه‬ ‫الجنس األدبي األكثر شب ًها‬
‫من دون التجاوز عىل‬ ‫بالحياة‪ .‬وهي منذ نشأتها‬
‫الخطوط الحمر للفكر‪ ،‬أو‬ ‫تُعنى بتمثيل الفكر فيها‪،‬‬
‫التخيل عن بعض الثوابت‬ ‫معبرة عن رؤية كاتبها‬
‫أو املسلمات‪.‬‬ ‫التأملية يف الحياة أ ًّيا كان‬
‫ويبقى هذا التوجه يف‬ ‫معمارها السردي‪ .‬ولقد‬
‫الرواية العربية محدو ًدا‬ ‫درس النقد العربي املعاصر‬
‫واضحا منذ‬
‫ً‬ ‫وإن كان‬ ‫كثيرا من املوضوعات التي‬ ‫ً‬
‫منتصف القرن العشرين‪.‬‬ ‫اهتمت بها الرواية العربية‪،‬‬
‫والسبب ال قصدية‬ ‫لكنه مل يعط للفلسفة يف‬
‫الروائي يف تطعيم السرد‬ ‫عالقتها املباشرة بالرواية‬
‫بالفلسفة‪ ،‬إذ غالبا ما تأتي‬
‫اهتماما مناسبًا‪ .‬وهو‬‫ً‬
‫الفكرة الفلسفية عرضية‪،‬‬
‫املوضوع الذي يحتل‬
‫يختزلها عىل لسان إحدى‬
‫األولوية يف النقد ما بعد‬
‫ً‬
‫اختزال فيه‬ ‫الشخصيات‬
‫الحداثي الذي صار هو‬
‫كثير من الترميز وقليل من‬
‫نفسه فلسف ًة أو موصوفًا‬
‫التجريد‪.‬‬
‫بأنه نقد فلسفي بعدي‪.‬‬
‫ولقد تعرضت الرواية‬
‫واملتتبع للفلسفة الغربية‬
‫العربية لهزات فكرية عنيفة‬
‫أن لها تأثيرات مهمة‬ ‫سيجد َّ‬
‫سببتها إخفاقات السياسة‬
‫وفشل استراتيجيات‬ ‫عىل املثقف العربي والسيما‬
‫راسميها‪ ،‬التي بسببها‬ ‫الكاتب الروائي الذي وجد‬
‫انهارت املشاريع التحررية‬ ‫يف بعض طروحاتها مادة‬
‫والتطلعات الوحدوية‬ ‫خصبة‪ ،‬ال للكتابة السردية‬
‫واإلرهاصات النهضوية‪،‬‬ ‫املغايرة للمعتاد فحسب؛ بل‬
‫بد ًءا من نكبة فلسطين‬ ‫أيضا الذي‬ ‫للتجريب الفني ً‬
‫فنكسة حزيران وانتهاء‬ ‫يجسد الكاتب أفكاره‬ ‫ِّ‬ ‫به‬
‫بحروب الالجدوى يف‬ ‫بطريقة حرة ونقية من‬
‫استرداد أراضينا املحتلة‪.‬‬ ‫شوائب التوجه السياسي‬
‫ومل يكن بوسع الروائي‬ ‫وانحيازات االنتماء‬
‫العربي التعبير عن صدمته‬ ‫األيديولوجي ومظاهر‬
‫سوى بروايات فيها للفكر‬ ‫الوعظ واإلرشاد‪.‬‬ ‫د‪.‬نادية هناوي‬
‫دور جديد يتعدى النظر‬ ‫ولقد مارس بعض‬
‫(العراق)‬
‫للواقع برمزية إىل إعادة‬ ‫الروائيين العرب ‪-‬والسيما‬
‫النظر بواقعية جديدة فيها‬ ‫أولئك الذين تخصصوا‬
‫بعض التجريد والتمنطق‬ ‫بالفلسفة‪ ،-‬تجريد الفكر من‬
‫الفكريين‪.‬‬ ‫الترميز والتغريب والتشيؤ‬
‫والروائي العربي إذ‬ ‫ً‬
‫معادل‬ ‫جاعلين من التأمل‬
‫‪227‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫يعترض أو يشخِّ ص أو‬


‫يعلن أو يستشرف فألنه‬
‫راغب يف اإلسهام يف إعادة‬
‫رسم خارطة املآل العربي‬
‫القادم كمثقف عضوي يحمل‬
‫رسالة كتلك التي حملها‬
‫روائيو املرحلتين الكالسيكية‬
‫والحداثية‪ ،‬لكن بأدوات‬
‫جديدة تقف الفلسفة ما بعد‬
‫الكولونيالية يف مقدمتها‪.‬‬
‫ويف مقدمة من ظهر لديه‬
‫اهتمام فلسفي نجيب محفوظ‬
‫يف رواياته الستينية التي‬
‫حفلت بطابع فكري أكثر منه‬
‫يحض القارئ عىل‬ ‫ُّ‬ ‫رمزي‬
‫التأمل‪ ،‬ويدفعه إىل املشاركة‬
‫إدوارد سعيد‬ ‫إسماعيل فهد إسماعيل‬ ‫جبرا إبراهيم جبرا‬
‫الفكرية مع الشخصية التي‬
‫يؤرقها فكرها وطريقة‬
‫البؤرة التي منها ينطلق‬ ‫شخصياته الحيوية فلسفية‬ ‫رؤيتها للحياة‪ .‬وسبب براعة‬
‫التشظي باألساس‪ .‬وهذا‬ ‫مثل الدكتور إبراهيم‬ ‫محفوظ هو قدرته التي‬
‫ما أراده نجيب من قارئه‬ ‫عقل وزهير كامل ورضا‬ ‫عضدها تخصصه يف الفلسفة‬
‫وهو يواجهه بأفكار‬ ‫حمادة وماهر عبد الكريم‬ ‫مازجا بين السرد والفلسفة‬ ‫ً‬
‫محفزة‪ ،‬كتوكيده أن ال‬ ‫وسامل جبر‪ ،‬هذا ً‬
‫أول‪،‬‬ ‫مزجا جماليًّا محببًا يعيدنا‬ ‫ً‬
‫فرق بين تعايل فلسفة عند‬ ‫وثانيًا الخروج عىل القالب‬ ‫إىل جذور الفكر الفلسفي يف‬
‫الفئات املثقفة النخبوبة‬ ‫التقليدي للرواية تار ًكا‬ ‫تبلوره السردي كمحاورات‬
‫وبين فلسفة الفئات‬ ‫العمل بال تجنيس‪ ،‬وثالثًا‬ ‫تخييلية وتأمالت حكائية منذ‬
‫املتنورة الشعبية‪ ،‬ألنهما ال‬ ‫الجمع بين سرد املذكرات‬ ‫الفالسفة األوائل الذين كانت‬
‫تفضيان إال إىل «مناقشات‬ ‫والقصة القصيرة‪ ،‬فكل‬ ‫املوسوعية سمتهم‪ ،‬والحكائية‬
‫متفلسفة ال تخلو من تثبيط‬ ‫قصة منفصلة عن األخرى‬ ‫وسيلتهم‪ ،‬مما خلفه سقراط‬
‫للهمم وتخييب لآلمال أو‬ ‫خاصا بها‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫وتحمل عنوانًا‬ ‫وأفالطون والفارابي وابن‬
‫انفعال مضطرم سرعان ما‬ ‫وترتبط هذه القصص‬ ‫سينا وغيرهم‪.‬‬
‫دما»(‪.)1‬‬
‫يسيل ً‬ ‫بخيوط منها صوت السارد‬ ‫وإذا كانت بعض الصراعات‬
‫وكثيرا ما حاول محفوظ‬ ‫ً‬ ‫الذاتي‪ ،‬مع تكرار حادثة أو‬ ‫الفلسفية واملسائل الفكرية‬
‫أن العرب‬ ‫توصيل فكرة َّ‬ ‫مقولة أو اسم يتداعى عىل‬ ‫والتمثيل لها منعكسة‬
‫غير ميالين إىل شمولية‬ ‫لسانه هنا أو هناك‪.‬‬ ‫بوضوح عىل روايات‬
‫وأن القليل ج ًّدا‬
‫التفكر‪َّ ،‬‬ ‫ومعلوم أن الرواية ما بعد‬ ‫محفوظ؛ فإن انعكاس الفكر‬
‫منهم «يتمتع بعقل‬ ‫الكولونيالية رواية متشظية‬ ‫ما بعد الكولونيايل بدا‬
‫فلسفي‪ ،‬بالنظرة الشاملة‬ ‫يحتل فيها القارئ موق ًعا‬ ‫واضحا عليه يف (املرايا) ومن‬‫ً‬
‫لألشياء»(‪ ،)2‬وهو ما يجعل‬ ‫مركز ًّيا‪ ،‬بينما الفكر هو‬ ‫دالئل هذا االنعكاس أن أكثر‬
‫‪228‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫خيبة الفلسفة أو عدم‬ ‫املسلمون إشفاقًا عىل األمانة‬ ‫العربي مشوش الفكر تختلط‬
‫فاعليتها عندنا‪.‬‬ ‫ثم غلبهم الحنين من يدري؟‬ ‫عليه الرؤى والتصورات‪.‬‬
‫والعروي إذ يجعل السارد‬ ‫لعل رأس البالء العودة بعد‬ ‫ويضع محفوظ عىل لسان‬
‫متكلما بضمير املتكلمين‬ ‫ً‬ ‫الهجرة»(‪.)5‬‬ ‫الشخصية املتفلسفة زهير‬
‫فللتدليل عىل تمكن السارد‬ ‫وإكثار السارد من استعمال‬ ‫كامل محاججات منطقية‬
‫من جذب قارئه إىل‬ ‫ضمير الخطاب املمزوج‬ ‫تصدم القارئ أخالقيًّا‬
‫منطقة الفكر‪ ،‬وإشراكه‬ ‫بفعل املباصرة (انظر)‪،‬‬ ‫أن الناس أوغاد ال‬ ‫«اعتقد َّ‬
‫يف التفلسف معه «مل‬ ‫واملداومة عىل فعل التحاور‬ ‫خالق لهم‪ ،‬وأنه من الخير‬
‫يعد يف اإلمكان تغيير أي‬ ‫بـ(قال وقلت)‪ ،‬دالئل‬ ‫لهم أن يعترفوا بذلك‪ ،‬وأن‬
‫ظاهرا أو‬
‫ً‬ ‫شيء يف حياتنا‬ ‫واضحة عىل بعدية فكرية‬ ‫يقيموا حياتهم املشتركة عىل‬
‫باطنًا‪ ،‬ننظر للموت ونحن‬ ‫تسحب السرد إىل منطقة‬ ‫دعامة من ذلك االعتراف‪،‬‬
‫أموات‪ ..‬نرتبط بالحياة‬ ‫«انظر إليها معك‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الفلسفة‬ ‫وعىل ذلك تصبح املشكلة‬
‫متباطئين وننسلخ عنها‬ ‫الصمت الطويل والكلمات‬ ‫األخالقية الجديدة هي‪:‬‬
‫مسرعين‪.)7(».‬‬ ‫الغامضة‪ ،‬إنها تعلم أنك‬ ‫كيف تكفل الصالح العام‬
‫وألن الفوضى أو الكابوس‬ ‫يوما من األيام‪:‬‬ ‫ستتساءل ً‬ ‫والسعادة البشرية يف مجتمع‬
‫ظاهرة ونظرية «كأنها‬ ‫كيف اإلياب بعد الضياع؟‬ ‫من األوغاد والسفلة؟»(‪،)3‬‬
‫أن تصوغ قوانين‬ ‫تستطيع ْ‬ ‫كيف إنقاذ الفؤاد من‬ ‫أو تصدمه تاريخيًّا «مهما‬
‫مشتركة تربط أنواع‬ ‫األباطيل؟ تقول‪ :‬إن دموع‬ ‫يكن األمر فال يمكن تجاهل‬
‫الظواهر»(‪ ،)8‬صارت قضية‬ ‫الخصومات والتصالح‬ ‫املرحلة التي قطعها اإلنسان‬
‫شائكة من قضايا الفلسفة‬ ‫ما يمأل أيامنا وليالينا ال‬ ‫من الغابة إىل القمر»(‪.)4‬‬
‫ما بعد الكولونيالية‪ .‬ولها‬ ‫شيء؟ أقول‪ :‬كل شيء هو‬ ‫وللرواية العربية استماالتها‬
‫انعكاساتها إما يف شكل‬ ‫ال شيء‪ ،‬تقول‪ :‬حياة مليئة‬ ‫الخاصة لقارئ يعيش يف ظل‬
‫تعبيرات مقتضبة هي‬ ‫وبعدها الفراغ؟ أقول‪ :‬حياة‬ ‫مرحلة ما بعد كولونيالية‬
‫بمثابة تأمالت تتداعى‬ ‫مليئة وهي فراغ كنت أظنك‬ ‫مل تعد الفكرة االستشراقية‬
‫بعفوية أو قصدية عىل‬ ‫فكرا‪ ..‬اعتقد اعتقا ًدا‬
‫أعمق ً‬ ‫هي املعضلة؛ بل املعضلة‬
‫لسان سارد ذاتي يفكر يف‬ ‫راسخً ا أننا نحن أبناء‬ ‫يف ما بعد هذه الفكرة مما‬
‫الوجود‪ ،‬أو بمونولوجات‬ ‫الصحارى ال نتطلع إىل ما‬ ‫تضمنته طروحات إدوارد‬
‫هو فوق اإلمكان‪ ،‬إن اهلل‬ ‫سعيد عن الشخصية الروائية‬
‫أراد لنا اليسر»(‪.)6‬‬ ‫التي تكابد التشظي هوي ًة‬
‫وال يخفى أن عبد اهلل‬ ‫ووعيًا وهي تعيش عىل‬
‫العروي مفكر عربي‬ ‫الهامش تابعة ذليلة‪ .‬ومن‬
‫مرموق‪ ،‬له طروحات‬ ‫انعكاسات هذه الطروحات‬
‫مهمة يف الفكر والتاريخ‬ ‫ما نجده يف رواية (اليتيم)‬
‫والعقل‪ ،‬وما كتابته للرواية‬ ‫لعبد اهلل العروي التي نظرت‬
‫إال إليمانه أنها قادرة عىل‬ ‫إىل الهجرة ذها ًبا وإيا ًبا‬
‫ردم الهوة بين الفيلسوف‬ ‫فوجدتها عبارة عن تشظٍّ‬
‫والقارئ العادي‪ ،‬رغبة يف‬ ‫وفنا ٍء «الهجرة رمز النفس‬
‫تذليل خصوصية الفلسفة‬ ‫اإلنسانية قرارها فناؤها‪.‬‬
‫ونخبويتها اللتين هما سبب‬ ‫بدأ اإلسالم مهاجرا‪ ..‬هاجر‬
‫‪229‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫وتماثيلكم؟»(‪.)14‬‬ ‫واألزباد؟»(‪.)10‬‬ ‫داخلية ينغمس عبرها‬


‫ويمارس السارد يف رواية‬ ‫وتحاول الرواية استقطاب‬ ‫ً‬
‫متأمل‬ ‫الفرد يف الطبيعة‬
‫(اليتيم) دور الفيلسوف‬ ‫القارئ نحو التفكر يف‬ ‫«أن‬
‫لها بطريقة تجريدية ْ‬
‫الدريدي الذي يريد دحض‬ ‫مسائل مجردة وبروح‬ ‫َص َف دقيق ًة حركات‬‫ن ِ‬
‫العقل أو االنفصال عنه‪،‬‬ ‫فلسفية‪« ،‬الكاتب هائم يف‬ ‫الضياء إذ يصير‪ ،‬واملرأة‬
‫غائصا يف بوهيمية خاصة‬ ‫ً‬ ‫أحزانه أين نقطة االرتكاز؟‬ ‫إذ تعجن‪ ،‬والطير إذ يطير‪،‬‬
‫تتنكر للحقائق العلمية‪،‬‬ ‫أين خير األدب؟ كلنا‬ ‫والجندي إذ ُيطلق النار‪..‬‬
‫مستعرضا ثقافته الفلسفية‬ ‫ً‬ ‫يتيم»(‪ .)11‬والرأس هي‬ ‫نضع مقابل كل حركة‬
‫محذرا من طوفان سيفكك‬ ‫ً‬ ‫موضع التفكر وموضوعه‬ ‫الكلمة املناسبة والذهن‬
‫كل شيء‪« ،‬قتلكم الشك‬ ‫الذي يصدم االنسان‬ ‫فارغ‪ ..‬لكن لألسف ذهننا‬
‫ألنكم تعلمتم شذرات من‬ ‫ويحيره‪« :‬شاغلني سؤال‬ ‫دائما ميلء باألفكار وكلماتنا‬ ‫ً‬
‫الفيزياء والكيمياء‪ ..‬لكن‬ ‫حاد ما زال يجول داخل‬ ‫مشحونة باألغراض»(‪،)9‬‬
‫أسألوا أساتذة الفلسفة عن‬ ‫رأسي‪ ،‬أيهما مرهون‬ ‫أو بحوارات خارجية فيها‬
‫منبع القوانين الطبيعية‪،‬‬ ‫باآلخر‪ ،‬وثيقة تملك بيت أم‬ ‫سائل ومجيب‪ ،‬كما يف‬
‫الحواس أم العقل‪ ،‬الطبيعة‬ ‫وثيقة انتماء لوطن؟!»(‪.)12‬‬ ‫ّ‬
‫(العلمة) لسامل‬ ‫رواية‬
‫أم االنسان‪ ،‬اسألوهم‬ ‫ولفلسفة جاك دريدا‬ ‫حميش التي فيها يطلب‬
‫عن نظرية كانط ونظرية‬ ‫التفكيكية أثر يف الرواية‬ ‫حمو الحيحي من معلمه‬
‫الرازي إن انطلق من عقل‬ ‫العربية‪ ،‬ويتضح هذا األثر‬ ‫العالمة ابن خلدون تعليل‬
‫غير العقل الحايل‪ ،‬عقل‬ ‫يف النزوع نحو التمرد‬ ‫بعض املسائل‪ ،‬ومنها‬
‫السماء السابعة‪ ،‬بل من‬ ‫تقويضا للمعنى أو الشكل‬ ‫ً‬ ‫مسألة العمق‪ ،‬فيرد املعلم‬
‫عقل السماء األوىل القريبة‬ ‫أو كليهما‪ ،‬ورغبة يف قلب‬ ‫‪-‬وسجله‬
‫ِّ‬ ‫«جوابي يا حمو‬
‫من الباري من عقل فعال‬ ‫رأسا عىل عقب‪،‬‬ ‫املسلمات ً‬ ‫إن شئت‪ -‬قد فكرت فيه‬
‫متعال صقيل واع بذاته‬ ‫بعضا منه يف‬ ‫ً‬ ‫وهو ما نجد‬ ‫ً‬
‫طويل فلم أجد‬ ‫من قبل‬
‫فينقلب كل شيء‪ :‬املاضي‬ ‫رواية (عامل بال خرائط)‬ ‫فحواه إال يف كون العمق‪..‬‬
‫إىل مستقبل‪ ،‬الحديد إىل‬ ‫التي فيها يصبح الهامش‬ ‫هو الذي يجنح بي إليه‬
‫ذهب‪ ،‬األسفل إىل فوق‪،‬‬ ‫ً‬
‫بديل‬ ‫الذي هو (الجنون)‬ ‫ويجذبني‪ ،‬ولواله أو بدونه‬
‫الثقل إىل خفة»(‪ ،)15‬يف‬ ‫عن املركز الذي هو (العقل)‪.‬‬ ‫ماذا يبقى غير املسطحات‬
‫أن السارد يريد‬ ‫إشارة إىل َّ‬ ‫والرواية أشبه بسيرة ذاتية‬
‫أن يكون أفالطونًا جدي ًدا‪.‬‬ ‫يعاني صاحبها جنونًا‬
‫وللجدل الزماني حول‬ ‫يدفعه إىل البحث عن مدينة‬
‫التاريخ وجدلية كتابته من‬ ‫من الوهم‪ ،‬فيها يستطيع‬
‫وجهة نظر مؤرخ و َّثق ما‬ ‫بشرا وأحدا ًثا‬‫ً‬ ‫أن يخترع‬
‫هو مركزي وأهمل ما هو‬ ‫ويعطي لهؤالء البشر أسماء‬
‫غير مركزي‪ ،‬ودور السرد‬ ‫ومالمح‪ ،‬ويجعلهم يتكلمون‬
‫يف الكشف عن هذا املهمل‬ ‫ويفكرون ويحلمون «أن‬
‫وغير املركزي‪ ،‬دالالته‬ ‫أجعل األحداث تعني موقفًا‬
‫عىل الرواية العربية ومنها‬ ‫وتقدم فكرة»(‪« ،)13‬مسكينة‬
‫رواية (أزمنة الدم) لجهاد‬ ‫أمتكم إن أنتم عجزتم عن‬
‫مجيد‪ ،‬التي فيها يتأمل‬ ‫التعبير عن هذا يف صوركم‬
‫‪230‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الطبع يهوى من يكسر‬ ‫الثقافية؛ فإنه ينجز الرسالة‬ ‫السارد آثار ميزوبوتاميا‬
‫ثقالته وتقاليده ويقض‬ ‫ً‬
‫ومتسائل «ماذا‬ ‫متوجسا‬
‫ً‬ ‫الباقية‪ ،‬فيرى كيف تتشابك‬
‫مضجعه‪ ،‬لهذا أعدكم أن‬ ‫لو أن أساتذة لجنة التقييم‬ ‫متفكرا فيها «أتابع‬
‫ً‬ ‫العصور‬
‫التاريخ سيعقلني»(‪،)18‬‬ ‫بنواياي فسفهوا‬‫َ‬ ‫شككوا‬ ‫ببصري‪ ..‬سور املعبد‪,‬‬
‫واصفًا املؤرخين الذين‬ ‫جهودي كلها؟» ‪،‬‬
‫(‪)17‬‬ ‫وبالتحديد عىل حد تشابك‬
‫كتبوا عنه كابن خلكان‬ ‫واملفارقة أن اللص حكيم‪،‬‬ ‫بقاياه مع تكملته الحديثة‬
‫وابن كثير وابن تفري‬ ‫كإشارة إىل أن الهامش‬ ‫التي شابهت القديمة فال‬
‫بردي وابن الصابئ وابن‬ ‫مثقف وواع تدبر الحياة‬ ‫تتمايزان إال باملظهر؛ قتامة‬
‫القالنسي وابن إياس‬ ‫فعرف حقيقتها‪.‬‬ ‫األوىل أكسبتها مظهر قدمها‬
‫ويحيى بن سعيد اإلنطاكي‬ ‫ومحكي التاريخ يف رواية‬ ‫ونصاعة الثانية أكسبتها‬
‫ساخرا‬
‫ً‬ ‫بآكيل لحم امليت‪،‬‬ ‫(مجنون الحكم) لسامل‬ ‫حداثتها أيبقى هذا التمايز‬
‫مما كتبوه ً‬
‫قائل‪« :‬ولو‬ ‫حميش انعكاس واضح‬ ‫أب ًدا؟ أم أن الزمن سيساوي‬
‫عرف هؤالء املتقولون‬ ‫لفلسفة هايدن وايت‪ ،‬متخذًا‬ ‫لونيهما فتضيع حقيقة زمن‬
‫كنه التاريخ بما هو تاريخ‬ ‫من سيرة الحاكم بأمر اهلل‬ ‫البنائين‪ ,‬بل حقيقتهما كلها‪،‬‬
‫تصنعه سلطات السيف‬ ‫موضو ًعا لتفنيد موثوقية‬ ‫تنطمس‪ ..‬كما انطمست‬
‫وإحجام الشدائد واآلالم‬ ‫التاريخ‪ .‬والرواية سيرة‬ ‫حقائق كثيرة يف كل‬
‫ألدركوا أن من طبع‬ ‫ذاتية بطلها أبو عيل منصور‬ ‫العصور؟»(‪.)16‬‬
‫السياسة االستبداد» ‪.‬‬
‫(‪)19‬‬
‫الحاكم بأمر اهلل الذي هو‬ ‫وينتقد السارد يف رواية‬
‫واملفارقة أن الحاكم يدعو‬ ‫مجنون الحكم‪ ،‬الذي يحمله‬ ‫(كائن الظل) إلسماعيل‬
‫املحكومين إىل املعارضة‬ ‫جنونه عىل الكشف عن‬ ‫فهد إسماعيل مركزية‬
‫التاريخ الرسمي الذي ليس‬
‫والرفض والتشكيك(‪.)20‬‬ ‫خفايا مل يذكرها التاريخ‬
‫يف شريعته توثيق األدب‬
‫وهذا التوظيف للمتخيل‬ ‫الرسمي الذي حكى عن‬
‫الشعبي كالسير الشعبية‬
‫أيضا عند‬ ‫التاريخي نجده ً‬ ‫استبداده وغروره فقط‪،‬‬
‫واملالحم املتداولة عىل أساس‬
‫رشيد بو جدرة يف روايته‬ ‫فيقول‪« :‬التاريخ ال يذكر‬
‫أنها هامش مهمل‪ .‬لذا ينقلب‬
‫(الحلزون العنيد) التي‬ ‫إال من قاوم اعوجاجه‬
‫السارد ‪-‬الذي هو طالب‬
‫فيها يوظف حد ًثا مختلقًا‪،‬‬ ‫باعوجاج مضاد‪ ،‬إنه فاسد‬
‫دراسات عليا‪-‬‬
‫عىل هذه املركزية‬
‫عبر كتابة‬
‫موضوع رسالته‬
‫يف الهامش‬
‫املسكوت عنه‪،‬‬
‫املتمثل باللص‬
‫حمدون بن‬
‫حمدي حرامي‬
‫بغداد‪ .‬وعىل‬
‫الرغم من علمه‬
‫أن ذلك ما ال‬
‫تقبله املؤسسة‬
‫‪231‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫يشير فيه إىل مدينة عراقية‬


‫مل تذكر يف التاريخ الرسمي‬
‫‪-‬عىل ما يبدو‪ -‬وهي من‬
‫صنع خيال بورخس «إنني‬
‫أفهم سكان مدينة أقبر‬
‫العراقية الذين أقاموا يف‬
‫القرن السابع الهجري دولة‬
‫حرموا‬‫مستقلة الكيان‪ ،‬لقد َّ‬
‫املرايا وامتنعوا عن التناسل‬
‫ألن يف ذلك مضاعفة لعدد‬
‫البشر يجب االحتراز من‬
‫أيضا»(‪.)21‬‬
‫املرايا ً‬
‫بهذا االختالق التاريخي‬
‫ينتقد السارد البيروقراطية‬
‫وروتين التكاثر واالستهالك‬
‫سامل حميش‬ ‫عبد اهلل العروي‬ ‫من خالل شخصية املوظف‬
‫الذي همه القضاء عىل‬
‫«التاريخ ال يدحض قلت‪:‬‬ ‫منهم أال يتعبوا رؤوسهم‬ ‫الجرذان وتناسلها الرهيب‪،‬‬
‫بل مخادع ال أعرف‬ ‫بالتفكير ووضع إجابات‬ ‫يف إشارة رمزية إىل‬
‫التاريخ وأنا أقول ‪1941‬‬ ‫عديمة املعنى لكل سؤال‪.‬‬ ‫الشعوب التي كثافة سكانها‬
‫و‪ 1984‬و‪ ،1945‬ليست‬ ‫ومن حكم اإلمبراطور‬ ‫وبال عىل مقدراتها‪ .‬ومن‬
‫هذه إال منارات تضيء‬ ‫الشهيرة «السكوت مقدس‬ ‫أيضا ما توظفه‬ ‫االختالق ً‬
‫بحرا بال شاطئ وال‬ ‫ً‬ ‫والنطق مدنس والرؤية‬ ‫لطفية الدليمي يف روايتها‬
‫مرسى‪ .‬تيه املوج بال‬ ‫إثم والشم محظور والفكر‬ ‫(سيدات زحل) بحكاية‬
‫نهاية ليس فيه مسار‪..‬‬ ‫كفر والسؤال زوال والحلم‬ ‫حرم‬
‫اإلمبراطور الذي َّ‬
‫فأين التاريخ؟ وأين‬ ‫خيانة»(‪ ،)22‬فهذه الحكاية‬ ‫عىل الناس األسئلة وطلب‬
‫الحزن املوهوم؟»(‪،)23‬‬ ‫مختلقة لكنها مفلسفة‬
‫وبهذا يكون للفلسفة ما‬ ‫بطريقة ترميزية مفادها أن‬
‫بعد التاريخية األثر املهم‬ ‫السلطات بأنواعها وعىل‬
‫يف توجيه الرواية نحو‬ ‫مر التاريخ هي التي قيدت‬
‫وقائع وشخصيات عرفها‬ ‫عقولنا وحالت دون شيوع‬
‫التاريخ الرسمي‪ ،‬لتقوم‬ ‫التفلسف بيننا‪.‬‬
‫هي بإعادة كتابة تاريخ‬ ‫وتس ِّفه رواية (حريق‬
‫جديد هو متخيل لكنه‬ ‫األخيلة) الدوار الخراط‬
‫متفكر‪ ،‬يتأمل املسكوت عنه‬ ‫مصداقية التاريخ الرسمي‬
‫متبص ًرا يف خفاياه‬
‫ِّ‬ ‫تاريخيًّا‬ ‫وتدحض وثائقيته مستجلبة‬
‫يف شكل (رواية التاريخ)‬ ‫آراء تتماشى مع فلسفة‬
‫وليس رواية تاريخية‬ ‫هايدن وايت للتاريخ‪،‬‬
‫‪232‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫اإلحاالت‪:‬‬
‫‪ -1‬املرايا‪ ،‬نجيب محفوظ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط ‪ ،2012 ،4‬ص‪.11‬‬
‫‪ -2‬املرايا‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪ -3‬الرواية‪ ،‬ص‪.63‬‬
‫‪ -4‬الرواية‪ ،‬ص‪.102‬‬
‫‪ -5‬اليتيم رواية‪ ،‬عبد اهلل العروي‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص‪.159‬‬
‫‪ -6‬الرواية‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫‪ -7‬الرواية‪ ،‬ص‪.21‬‬
‫‪ -8‬نظرية الفوضى علم الالمتوقع‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪ -9‬اليتيم رواية‪ ،‬ص‪.57‬‬
‫‪ -10‬العالمة رواية‪ ،‬بنسامل حميش‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2003 ،1‬ص‪.37‬‬
‫‪ -11‬اليتيم رواية‪ ،‬ص‪.59‬‬
‫‪ -12‬يف حضرة العنقاء والخل الويف‪ ،‬رواية‪ ،‬إسماعيل فهد اسماعيل‪ ،‬الدار العربية للعلوم ناشرون‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪ ،2013 ،1‬ص‪.24‬‬
‫‪ -13‬عامل بال خرائط رواية‪ ،‬جبرا إبراهيم جبرا‪ ،‬عبد الرحمن منيف‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪ ،1992 ،2‬ص‪.44‬‬
‫‪ -14‬الرواية‪ ،‬ص‪.174‬‬
‫‪ -15‬اليتيم رواية‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪ -16‬أزمنة الدم‪ ،‬رواية‪ ،‬جهاد مجيد‪ ،‬دار الرافدين للنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،2016 ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ -17‬كائن الظل‪ ،‬إسماعيل فهد إسماعيل‪ ،‬دار الهالل‪ ،‬القاهرة‪ ،1999 ،‬ص‪.10‬‬
‫‪ -18‬مجنون الحكم‪ ،‬رواية‪ ،‬سامل حميش‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،1998 ،‬ص‪ .15‬وللروائي‬
‫أبحاث يف الفكر الفلسفي والبحث التاريخي‪.‬‬
‫‪ -19‬الرواية‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ -20‬ينظر‪ :‬الرواية‪ ،‬ص‪.23‬‬
‫‪ -21‬الحلزون العنيد‪ ،‬رواية‪ ،‬رشيد بو جدرة‪ ،‬ترجمة هشام القروي‪ ،‬املؤسسة الوطنية لالتصال والنشر‪،‬‬
‫الجزائر‪ ،‬ط‪ ،2002 ،5‬ص‪ .31‬وقد درس بو جدرة الفلسفة حتى سنة ‪ 1972‬وأعماله مترجمة إىل أكثر من ‪12‬‬
‫لغة‪.‬‬
‫‪ -22‬سيدات زحل‪ ،‬ص‪.109‬‬
‫‪ -23‬حريق األخيلة رواية‪ ،‬إدوار الخراط‪ ،‬دار املستقبل بالفجالة واإلسكندرية‪ ،‬ط‪ ،1994 ،1‬ص‪.27‬‬
‫‪233‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫لوكيوس أبوليوس‬ ‫تعتبر رواية الحمار‬

‫الفلسفة والرواية‪..‬‬
‫قراءة في رواية الحمار الذهبي ابوليوس المادوري‬
‫وأزمة الهوية‬ ‫الذهبي ألبوليوس من‬
‫الروايات األوىل يف تاريخ‬
‫تضعنا هوية مؤلف‬ ‫األدب الروائي‪ ،‬حيث‬
‫الرواية «لوكيوس‬ ‫سجلت هاجس اإلنسان‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أبوليوس» أمام‬ ‫ورحلته الفطرية يف البحث‬
‫استشكاالت عديدة لهوية‬ ‫عن الهوية‪ ،‬وعلة انتقائنا‬
‫الجزائري‪ ،‬ولسكان‬ ‫ّ‬
‫ملؤشرِين‪:‬‬ ‫لهذه العينة راجع‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫شمال أفريقيا‬ ‫تأكيد صاحب الرواية نفسه‬
‫يف العهد الروماني‪ ،‬إذ‬ ‫عىل هويته املداورشية‪،‬‬
‫تص ِّور الرواية شخصية‬ ‫والتي تربطه بمكان الوالدة‪،‬‬
‫الجزائري أو املغاربي‬ ‫ِّ‬
‫واملؤشر الثاني لالختيار‬
‫وهو يعيش حالة التحول‪،‬‬
‫عائد إىل الرواية نفسها‪،‬‬
‫والتأرجح الشخصي‪،‬‬
‫والتي تبدأ باإلشارة اىل‬
‫والبحث عن الذات‪،‬‬
‫تح ُّوالت الهوية‪ ،‬والهوية يف‬
‫فهو شخص ومواطن‬
‫نظر لوكيوس غير مرتبطة‬
‫روماني‪ ،‬عىل قاعدة‬
‫بالفردية البيولوجية‪،‬‬
‫التبعية االستعمارية‬
‫أو االنتماءات الثقافية‪،‬‬
‫التي كانت فيها الجزائر‬
‫واإلثنية‪ ،‬بل مرتبطة‬
‫لإلمبراطورية الرومانية‪،‬‬
‫ومداورشي (جزائر ًّيا)‬ ‫بالجوهر الذي هو العقل‪،‬‬
‫مول ًدا‪ ،‬وقرطاجي ثقاف ًة‪،‬‬ ‫فاملؤشرات الثانوية يف‬
‫فكرا‪ ،‬يقول‬ ‫الهوية تؤسس للشخصية‬
‫وإغريقي ً‬
‫أندريه جوليان‪« :‬يتع َّذر‬ ‫املادية‪ ،‬التي هي باألصل‬
‫أن نعرف بالضبط هل إن‬ ‫متعلقة بالوجه الحيواني‪،‬‬
‫كتاب أفريقيا ينحدرون‬ ‫الالمعقول يف الشخصية‬
‫من معمرين رومان‪،‬‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬أ َّما العنصر‬
‫وأغلب الظن أن أكثرهم‬ ‫الكريم يف الهوية‪ ،‬والذي‬
‫كانوا من البربر املتأثرين‬ ‫يكون الصفة الذهبية يف‬
‫بالحضارة الرومانية‬ ‫الحمار‪ ،‬هو العقل املستنير‬
‫الذين عبروا يف لغة‬ ‫بوحي املقدس‪ ،‬فإنسانية‬
‫الفاتحين عما كانت اللغة‬ ‫اإلنسان عند لوكيوس ال‬
‫الليبية والبونيقية عاجزة‬ ‫بالتحرر من‬
‫ُّ‬ ‫تتحقق إال‬
‫عن دونه(‪.)1‬‬ ‫هوية الحمار‪ ،‬واالستنارة‬
‫يرفض البعض من‬ ‫بنور العقل الذهبي‬
‫املفكرين العرب‪ ،‬املغاربة‬ ‫(الوسطية) النور الذي‬ ‫د‪.‬شريف الدين بن دوبه*‬
‫ادعاء شارل أندريه‬ ‫يم ِّكنه من إدراك ذاته‪،‬‬
‫(الجزائر)‬
‫جوليان القائل بعجز‬ ‫ومعرفة غيره‪ ،‬وهو النور‬
‫اللغة الليبية عن استيعاب‬ ‫املستنير بكونية اإلنسان‪.‬‬
‫‪234‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫األوىل كأس معلِّم الصبيان‬ ‫«توقف يف مدينة أويا»‬ ‫الفكر‪ ،‬واملعاني العلمية‪،‬‬
‫ته ِّذب الفكر‪ ،‬والثانية‬ ‫وهي «املدينة التي تحمل‬ ‫واألدبية‪ ،‬مثل األستاذ‬
‫وهي كأس معلِّم الخطابة‬ ‫اليوم اسم طرابلس الغرب‪،‬‬ ‫عباس الجراري(‪ )2‬الذي‬
‫تمده بلسان الفصاحة‪.‬‬ ‫عاصمة ليبيا الحالية‪.‬‬ ‫يرى أن التاريخ احتفظ‬
‫إنما يقتصر معظم الناس‬ ‫كانت أويا واحدة من املدن‬ ‫بأسماء غير قليل من‬
‫عىل االنتهال من هذين‬ ‫الثالث إىل جانب سبراتا‬ ‫األدباء والفالسفة وعلماء‬
‫الكأسين‪ ..‬أما أنا فإني‬ ‫ولبتس ماكانا التي شكلت‬ ‫الدين الذين تخرجوا يف هذا‬
‫أصبت من كؤوس أخرى‬ ‫ما عرف بتريبوليتانيا‬ ‫التعليم من مختلف أقطار‬
‫سقيتها بأثينا‪ ،‬وهي كأس‬ ‫القديمة [‪.]TRIPOLIS,TRIPOLITANIA‬‬ ‫الشمال األفريقي‪ ،‬وعبَّروا‬
‫الشعر ذات التخيالت‬ ‫ومن املعتقد أن الفينيقيين‬ ‫بالالتينية يف الغالب ألنها‬
‫املفتنة البارعة‪ ،‬وكأس‬ ‫هم الذين أسسوها‪ .‬لكن‬ ‫كانت لغة الفاتح املستعمر‪،‬‬
‫الهندسة ذات الوضوح‬ ‫الرومان حكموها من‬ ‫وليس ألن اللغة الوطنية‬
‫الناصع‪ ،‬وكاس املوسيقى‬ ‫‪ 146‬ق‪.‬م حتى ‪450‬م‪.‬‬ ‫كانت قاصرة(‪.)3‬‬
‫العذبة املذاق‪ ،‬وكاس الجدل‬ ‫ثم بعد ذلك دخلت تحت‬
‫املحفوفة بشيء من الجد‬ ‫سيطرة الوندال (ق‪5‬م)‬ ‫االنتماء الجغرايف‬
‫والوقار‪ ،‬والسيما منها‬ ‫وبعدها تحت تحت سيطرة‬ ‫واملدني‬
‫كأس الفلسفة الكونية‬ ‫البيزنطيين [ق‪6‬م]‪ ،‬إىل‬
‫الشاملة التي ال سبيل‬ ‫أن دخلها العرب عام‬ ‫أبوليوس أو أفوالي يكون‬
‫الستنفادها‪ ،‬والتي هي‬ ‫‪645‬م»(‪.)4‬‬ ‫ِّ‬
‫بمؤشر املولد‪،‬‬ ‫جزائر ًّيا‬
‫لشاربها رحيق»(‪.)5‬‬ ‫إذ يعرف باسم أبوليوس‬
‫يعتبر أبوليوس أن التربية‪،‬‬ ‫االنتماء الثقايف‬ ‫املداورشي نسبة إىل‬
‫والتعليم األويل يبدأ مع‬ ‫مداورش أو مداور‪ ،‬والتي‬
‫معلِّم الصبيان‪ ،‬فهو الذي‬ ‫املالحظة األولية لشخصية‬ ‫ولد فيها حوايل ‪ 124‬أو‬
‫يضع األرضية القاعدية‬ ‫أبوليوس الثقافية تظهر من‬ ‫‪ 125‬بعد امليالد «وقد كان‬
‫للفكر‪ ،‬وإذا استنطقنا النص‬ ‫خالل اسمه‪ ،‬فهو الفيلسوف‬ ‫موقعها عىل الحدود بين‬
‫فإننا نجد الكأس األوىل‬ ‫املادوري األفالطوني‪،‬‬ ‫غيتوليا نسبة إىل قبيلة‬
‫التي نهل منها أبوليوس‬ ‫فثقافته القاعدية تبدأ يف‬ ‫جدالة ونوميديا‪ ،‬وتونسيا‬
‫توجهه العلمي‪ ،‬وحبَّه‬ ‫مادور‪ ،‬كانتماء جغرايف‪،‬‬ ‫أو «قرطاجيا» باملكانة‬
‫للحقيقة‪ ،‬كان يف مادور مع‬ ‫وثقايف مح َّدد بمعامل‪ ،‬ثم‬ ‫العلمية‪ ،‬وبالحضور‬
‫معلمه األول‪ ،‬فهو املوجه‬ ‫َّ‬
‫يتجل‬ ‫تتبلور بالكوني الذي‬ ‫العلمي واألدبي؛ إذ برزت‬
‫األول للفكر‪ ،‬فمستقبل املرء‬ ‫يف الفلسفة‪ ،‬يقول‪« :‬قال‬ ‫الشخصية األدبية من خالل‬
‫يكون معه‪ ،‬فالتعليم يف‬ ‫أحد الحكماء يف حديثه عن‬ ‫النبوغ يف فن الخطابة‪،‬‬
‫الصغر كالنقش يف الحجر‪،‬‬ ‫آداب املائدة‪ :‬الكأس األوىل‬ ‫أيضا‬
‫كما تشرفت تونس ً‬
‫أيضا إىل معلم‬ ‫ويشير ً‬ ‫للعطش‪ ،‬والثانية للمرح‪،‬‬ ‫بمؤشر الوفاة‪ ،‬حيث‬
‫الخطابة الذي يق ِّوم اللسان‪،‬‬ ‫والثالثة للمتعة‪ ،‬والرابعة‬ ‫استقر يف ثراها‪ ،‬إذ تويف‬
‫ويمنح املتعلم فصاحة يف‬ ‫للجنون‪ ..‬ويمكن أن نقول‬ ‫يف تونس حوايل ‪ .170‬كما‬
‫اللسان‪ ،‬ومن املعلوم أن‬ ‫عكس ذلك يف حديثنا عن‬ ‫أيضا االدعاء‬
‫يحق لليبيا ً‬
‫مفكرا مميَّ ًزا‪،‬‬
‫َ‬ ‫أبوليوس كان‬ ‫الكأس التي تجود بها ربات‬ ‫باملشاركة يف تركيب هويته‬
‫فصيحا‪ ،‬وهي‬ ‫ً‬ ‫وخطيبًا‬ ‫الفنون‪ ،‬والعلوم‪ ..‬الكأس‬ ‫عىل قاعدة االستقرار‬
‫‪235‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫امللكات التي اكتملت ونضجت‬


‫عنده من خالل التربية‪،‬‬
‫والتنشئة يف محيطه الثقايف‬
‫األول مادور وقرطاج‪.‬‬
‫ويف النص إشارة من‬
‫أبوليوس إىل الوافد عىل‬
‫ثقافته األصيلة املادورية‪،‬‬
‫والقرطاجية‪ ،‬وهو اليونان‪:‬‬
‫أثينا‪ ،‬وفيها نهل من كأس‬
‫الشعر الذي بلور‪ ،‬وفجر‬
‫ملكة الخيال عند أبوليوس‪،‬‬
‫فالصور الفنية وليدة‬
‫الخيال الشعري‪ ،‬ويف النص‬
‫الشعري اإلغريقي مادة خام‬
‫ألبوليوس يف تكييف‪ ،‬وتليين‬
‫عباس الجراري‬ ‫شارل أندريه جوليان‬ ‫النص األبوليوسي‪ ،‬ونجد‬
‫يف الرواية (الحمار الذهبي)‬
‫استثمارا لقضايا إغريقية‬
‫ً‬
‫النص وإشكالية‬ ‫فيلسوفًا استطاع بحكمته‪،‬‬
‫بأسلوب يمزج فيه بين‬
‫الهوية‬ ‫وملكاته املميزة هضم تلك‬
‫الثقافة األمازيغية‪ ،‬والثقافة‬
‫املعطيات العلمية والفلسفية‪،‬‬ ‫الهيلنتسية‪ ،‬فاألسلوب‬
‫تتقاطع مساءلة النص‬ ‫وإبداع فلسفة خاصة به‪:‬‬ ‫امليليسي الذي يشير إليه‬
‫تب ًعا للمرجعية املعيارية‬ ‫«وبالفعل فإن امبيدوقل‬ ‫إبليوس يف البداية هو فن‬
‫مع األشكلة اإلنسانية‬ ‫ينظم القصائد وأفالطون‬ ‫إغريقي‪ ،‬يقول عمار الجالصي‬
‫لقضية الهوية يف كثير من‬ ‫يكتب املحاورات‪ ،‬وسقراط‬ ‫عىل هامش ترجمته للكتاب‪:‬‬
‫اللحاظ أو الحيثيات‪ ،‬والتي‬ ‫«النمط امليليتي لون أدبي يقوم‬
‫يضع األناشيد‪ ،‬وإبيكارمس‬
‫تتصدرها زئبقية املخاض‬ ‫عىل جمع قصص تحتوي‬
‫يصنف مشاهد التمثيل‬
‫البحثي؛ ألن التباين بين‬ ‫عىل إثارة جنسية عادة نشأ‬
‫اإليماني و[إكسينوفين]‬
‫املدارس واالتجاهات‬ ‫يف مدينة ميليتوس يف القرن‬
‫يؤلِّف القصص التاريخية‬
‫أصبح موضوعة وبديهية‬ ‫الثاني قبل امليالد»(‪.)6‬‬
‫يف فكر املتل ِّقي‪ ،‬وإذا‬ ‫و[قراتاس] يصنع األهاجي‬
‫وإضافة إىل امللكة الشعرية‬
‫كانت مؤشرات الهوية‬ ‫أما صاحبكم أبوليوس فهو‬
‫تعرف أبوليوس يف أثينا عىل‬
‫ومقاييسها يف م ٍّد وجزر‬ ‫يجمع كل هذه األصناف‬
‫الهندسة وعلوم الرياضيات‪،‬‬
‫بين علماء السياسة‬ ‫ويتعامل مع ربات الفنون‬ ‫فهي علم الوضوح والبداهة‪،‬‬
‫واالجتماع‪ ،‬فكذلك الشأن‬ ‫التسع فيوفيها حق قدرها‬ ‫أسسها‬ ‫وعىل املوسيقى التي َّ‬
‫بالنسبة إىل أصالة النص‪،‬‬ ‫سو ًّيا‪ ..‬ألن الفضل يف كل‬ ‫فيثاغورس بمعية تالمذته‪..‬‬
‫كانت وما زالت بين‬ ‫عمل صالح إنما يعود إىل‬ ‫أيضا استقاه من‬ ‫وفن الجدل ً‬
‫مدارس النقد األدبي تطرح‬ ‫الجهد‪ ،‬أما النجاح فهو رهين‬ ‫اإلغريق‪ ..‬ولكن أبوليوس مل‬
‫آفاقًا جديدة من االعتبارات‬ ‫الحظ»(‪.)7‬‬ ‫مفكرا أو عاملًا مجت ًّرا‪ ،‬بل‬
‫ً‬ ‫يكن‬
‫‪236‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الحمار الذهبي يف جنس‬ ‫من املنتوج الفني أمام‬ ‫واملعايير يف تقييم النص‬
‫الروايات األنوية‪ ،‬أي‬ ‫ضرورة املحاكاة واالتباع‪.‬‬ ‫األدبي‪.‬‬
‫النص الذي يتحدث فيه‬ ‫أما العائق الرئيس يف‬ ‫وقد كانت هذه الذاتية‬
‫الكاتب داخل املتن بصيغة‬ ‫الدراسات النقدية واألدبية‪،‬‬ ‫بمصاديقها الفردية أو‬
‫املتكلم‪ ،‬حيث يظهر التقاطع‬ ‫فهو الوعي الذي يكمن وراء‬ ‫الجماعية أس التراجع‬
‫بين الرواية و شخصية‬ ‫كل حكم أو توصيف للنص؛‬ ‫والتأخر الذي حايث النمو‬
‫أبوليوس يف كثير من‬ ‫ألن شرطية املتلقي‪ ،‬وموقفه‬ ‫والتطور يف داخل الحقل‬
‫اللحاظ‪ ،‬مما حدا البعض‬ ‫القيمي من العمل الفني‬ ‫األدبي‪ ،‬فمحاكاة البحث يف‬
‫من النقاد إىل القول بأن‬ ‫معلما‬
‫ً‬ ‫مؤشرا أو‬
‫ً‬ ‫يكون‬ ‫النص لدراسة اإلنسان‪،‬‬
‫الشخصية املركزية يف‬ ‫من املعامل املؤسسة لعاملية‬ ‫تضع البحث والباحث يف‬
‫الرواية ليست إال شخصية‬ ‫أو إنسانية األثر الفني‪،‬‬ ‫قفص الوعي املزدوج؛ إذ‬
‫الكاتب نفسه‪ ،‬والفقرة‬ ‫فإقصاء األذن أو العين من‬ ‫يتخفى كجوهر داخل النص‪،‬‬
‫التالية من الكتاب الثاني‬ ‫مقاييس اإلبداع هو إلغاء‬ ‫ويتماهى معه‪ ،‬لدرجة يصبح‬
‫تشير إىل الداللة‪« :‬ذكر‬ ‫للفن ككل‪ ،‬أما التجيل الخفي‬ ‫بديل عن الكاتب‪ ،‬أي‬ ‫ً‬ ‫النص‬
‫يل أشياء كانت عجيبة‬ ‫أيضا عند‬ ‫للوعي‪ ،‬فيظهر ً‬ ‫إعالنًا عن نهاية أو موت‬
‫ومتنوعة إىل حد ما‪ ،‬فتنبَّأ‬ ‫الباحث يف النص‪ ،‬إذ يقف‬ ‫الكاتب‪.‬‬
‫يل حينًا بأنني سأصبح‬ ‫عائقًا أمام املوضوعية يف‬ ‫كمؤسسة‪ ،‬أو‬
‫َّ‬ ‫النص‬
‫شخصية شهيرة بارزة‪،‬‬ ‫الحكم‪ ،‬ويف دقة النتائج‪،‬‬ ‫كمخاض للكاتب يضع‬
‫وتنبأ يل حينًا آخر بأن‬ ‫وما يؤ ِّكد ذلك نزعة التقزيم‬ ‫األصل النصي‪ ،‬أو الفكرة‬
‫حادثة كبيرة وقصة غريبة‬ ‫األوروبية للنص العربي‬ ‫الجوهرية التي كانت تشكل‬
‫يل وأنِّي سأقوم بتأليف‬ ‫أو اإلسالمي‪ ،‬أو النص‬ ‫املاهية األولية للنص املبدع‬
‫كتاب أكون أنا نفسي‬ ‫املفارق لروح الغرب‪ ،‬والتي‬ ‫أمام محك املؤسسة اللغوية‪،‬‬
‫محوره»(‪.)8‬‬ ‫اكتسحت الفكر العربي يف‬ ‫تلك املؤسسة املقننة‪ ،‬من‬
‫من خالل النص يتجىل‬ ‫مرجعياته التقييمية للنص‪،‬‬ ‫خالل نظامها الصريف‪،‬‬
‫التداخل القائم بين‬ ‫فكانت النتيجة النزوع‬ ‫والنحوي‪ ،‬والسيمانطيقي‬
‫شخصية الراوية‪،‬‬ ‫نحو التقزيم داخل النص‬ ‫‪ Sémantique‬بخاصة‪ ،‬حين‬
‫وشخصية املؤلِّف فهي‬ ‫العربي‪ ،‬والذي يعكس‬ ‫ملزما‬
‫ً‬ ‫يجد املؤلِّف نفسه‬
‫إذن تعبير صادق عن‬ ‫مظهر العنصرية الفكرية‬ ‫باقتفاء وتكييف املعاني‬
‫تجارب املؤلِّف الذاتية‪،‬‬ ‫أسست لها الحداثة‬ ‫التي َّ‬ ‫املركزية للجنين اإلبداعي‬
‫فالثقافة القائمة آنذاك‪،‬‬ ‫الغربية‪ ،‬والتي مل تترعرع‬ ‫مع عامل غريب عن طبيعته‪،‬‬
‫قاسما‬
‫ً‬ ‫والتي كانت‬ ‫إال عند البعض من أنصاف‬ ‫والذي قد يكون مولِّ ًدا له يف‬
‫مشتر ًكا بين أبناء املنطقة‬ ‫التوجهات‬ ‫ُّ‬ ‫األدباء‪ ،‬وكانت‬ ‫صيغة السلب؛ أي يف وضعية‬
‫يف التربية نتاج تاريخي‬ ‫املذهبية املرجعية املؤدلجة‬ ‫الحرمان الذي يؤدي دور‬
‫وحضاري لحضارات‬ ‫يتحرك يف فضاء‬ ‫َّ‬ ‫للفكر الذي‬ ‫املح ِّرك للعمل الفني؛ الحاجة‬
‫وثقافات متع ِّددة رومانية‪،‬‬ ‫إسالمي‪ ،‬فكان الخالف‬ ‫أم االختراع‪ ،‬فلمسة املؤلف‬
‫وإغريقية‪ ،‬ومصرية‪.‬‬ ‫واالختالف يف مسألة‬ ‫هي املدخل لألهلية اإلنسانية‬
‫وتتض َّمن نصوص‬ ‫العالقة القائمة بين الهو َّية‬ ‫ولإلبداع الفني؛ ألن قوة‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫لوكيوس أو أفوالي‬ ‫والنص‪.‬‬ ‫وقسرية املنظومة االجتماعية‬
‫من املضامين الثورية‪،‬‬ ‫كما يمكن إدراج رواية‬ ‫كلغة أو كثقافة تضع العموم‬
‫يمكن إدراج رواية الحمار الذهبي‬ ‫التي يعتز فيها بأصله‪،‬‬
‫وثقافته املداورية‪ ،‬أو اللوبية‬
‫في جنس الروايات األنوية‪ ،‬أي‬ ‫كما يتفق عىل تسميتها‬
‫النص الذي يتحدث فيه الكاتب‬ ‫البعض‪ ،‬ففي الدفاع‪ ،‬ويف‬
‫الحمار الذهبي تتجىل روح‬
‫داخل المتن بصيغة المتكلم‪ ،‬حيث‬ ‫املقاومة للهيمنة الرومانية‪،‬‬
‫يظهر التقاطع بين الرواية و‬ ‫والفخر بأصالته‪ ،‬ففي دفاع‬
‫تماما‬
‫ً‬ ‫صبراتة نجده يفخر‬
‫شخصية أبوليوس في كثير من‬ ‫بأن أصله ليبي بمعنى قديم‬
‫اللحاظ‪ ،‬مما حدا البعض من النقاد‬ ‫يف شمال أفريقيا‪ ،‬ويتحدى‬
‫العامل الروماني‪ ،‬ويقارن‬
‫إلى القول بأن الشخصية المركزية‬ ‫نفسه بكبار املشهورين‬
‫في الرواية ليست إال شخصية‬ ‫يف العامل الذين كانوا‬
‫عظماء عصره‪ ،‬ويدافع‬
‫الكاتب نفسه‬ ‫عن معتقداته‪ ،‬وذلك بعد‬
‫رفضه للديانة الرومانية‪،‬‬
‫وانطالقه يف البحث عن‬
‫ذاتيته الشرقية‪ ،‬ويعتبر‬
‫الضيقة‪ ،‬ولكنه رغم ذلك‬ ‫عىل شاطئ البحر مناش ًدا‬
‫التنويه بإزيس وأوزيريس‬
‫عنصرا ذهبيًّا هو‬
‫ً‬ ‫يتضمن‬ ‫القمر (الذي يرمز إىل‬
‫املعبودين املصريين‬
‫العقل‪ ،‬أو النور اإللهي‪،‬‬ ‫إيزيس ر َّبة القمر واألمومة‬
‫القديمين اللذين يمثِّالن‬
‫والتحول الذي كان يأمل‬ ‫عند الفراعنة) تمنحه عبر‬ ‫التح ِّدي الديني والثقايف يف‬
‫أن يصل إليه لوكيوس‬ ‫ألطافها توجيهات‪ ،‬ومق ِّدمات‬ ‫العامل الروماني‪.‬‬
‫والتحرر من‬
‫ُّ‬ ‫هو الطيران‪،‬‬ ‫لحريته التي كان يأمل يف‬ ‫ويبدو أن البطل يف الرواية‬
‫عامل األرض‪ ،‬والتشاوج‬ ‫بلوغها ديانة إيزيس هو‬ ‫معني بفن السحر‪ ،‬حيث‬
‫مع الفلسفة‪ ،‬أو الحكمة‪،‬‬ ‫شكل من أشكال الخالص‪،‬‬ ‫اهتماما‬ ‫يضمر يف الباطن‬
‫ً‬
‫فالبومة عند الرومان‬ ‫الخالص األبدي من خطايا‬ ‫باإليزيسية التي ينتهي‬
‫رمز الحكمة‪ ،‬فاستخدام‬ ‫تجاربه السابقة بما فيها‬ ‫إليها كديانة وأسلوب‬
‫لوكيوس البومة يف املطلب‬ ‫تحصيله املعريف؟‬ ‫حياة‪ ،‬فتح َّول لوكيوس‬
‫من التحويل دالة عىل‬ ‫وتأخذ أزمة الهوية عند‬ ‫إىل حمار‪ ،‬يقابله تح ُّوله‬
‫الرغبة يف السمو إىل عامل‬ ‫منحى‬‫لوكيوس يف الرواية ً‬ ‫املوازي من كائن مولع‬
‫الفكر‪ ،‬والروح‪ ،‬حيث ينأى‬ ‫أخالقيًّا‪ ،‬فالطبيعة البشرية‬ ‫بالسفر واملخاطرة واملتعة‬
‫عن الناس ويهاجر إىل‬ ‫ميالة نحو املحظور‪ ،‬فهي‬ ‫واالكتشاف‪ ،‬إىل عابد‬
‫عامل املثل بعي ًدا عن عامل‬ ‫بالتعبير القرآني أ َّمارة‬ ‫إيزيس‪ ،‬من مغامر إىل‬
‫الفساد‪ ،‬والخسة البشرية‪.‬‬ ‫بالسوء‪ ،‬وهذا راجع لطبيعة‬ ‫كاهن‪ ،‬فالرواية تتح َّدد‬
‫كما يمكن أن تكون البومة‬ ‫التركيبة التي جبل عليها‬ ‫من خالل نهايتها‪ ،‬وحمل‬
‫رم ًزا للكائن الذي اختلطت‬ ‫الجسد‪ ،‬فهو بحاجاته يشد‬ ‫الحمار لتمثال إيزيس‬
‫فيه الرغبة اإلنسانية‬ ‫اإلنسان مع عامل الحاجيات‬ ‫مق ِّدمة للولوج يف عامل النقاء‬
‫الشريرة يف معرفة‬ ‫الحيوية‪ ،‬والضرورات‬ ‫والطهارة‪ ،‬فتجربته التأملية‬
‫‪238‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫األشياء»(‪.)10‬‬ ‫الحيواني‪ ،‬الذي سجله‬ ‫األسرار الكفيلة بالتحكم يف‬


‫يش ّكل االنحراف عن سقف‬ ‫التراث الديني يف صيغة‬ ‫البشر‪ ،‬فاختيار الساحرة‬
‫القيم‪ ،‬ومنظومة األخالق‬ ‫العقاب الذي يسلط عىل‬ ‫للبومة كطائر‪ ،‬يوحي بالداللة‬
‫خلل يف‬ ‫عند أبوليوس ً‬ ‫املنحرفين‪ ،‬واملجرمين‪،‬‬ ‫التي تستبطنها رمزية البومة‪،‬‬
‫ومدخل لالغتراب‬ ‫ً‬ ‫الهوية‪،‬‬ ‫فاالنحراف عن الخط‬ ‫فالبومة يف املعتقد األمازيغي‬
‫عن الهوية‪ ،‬فالتح ُّول‬ ‫القيمي‪ ،‬األخالقي يع ِّرض‬ ‫[تاووكت باألمازيغية]‬
‫خروج عىل القاعدة‬ ‫صاحبه للعقوبة‪.‬‬ ‫طائر يرمز للشر‪ ،‬وهي يف‬
‫[‪ ،]énorme‬فبمجرد‬ ‫والتقاطع املوجود بين‬ ‫اعتقادهم شيطان مجسد يف‬
‫خروج الكائن عن معايير‬ ‫اسم املؤلف‪ ،‬واسم البطل‬ ‫جسم الطائر‪.‬‬
‫اإلنسانية الكلية‪ ،‬يكون‬ ‫داللة عىل تطابق بين‬ ‫يجسد «طموح لوكيوس‬ ‫ِّ‬ ‫كما‬
‫أهل للعقاب الذي يكون يف‬ ‫ً‬ ‫الشخصيتين لدرجة تذوب‬ ‫نسرا‪ ..‬حلم اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ليصير‬
‫املسخ إىل كائن آخر بمح ِّدد‬ ‫شخصية املؤلف يف البطل‪،‬‬ ‫العمودي‪ ،‬املتطلع منذ‬
‫إنساني الذي هو الوعي‪،‬‬ ‫أو إىل االشتراك القائم‬ ‫بدء الخليقة إىل التحليق‬
‫ويف الرواية يعيش الوعي‬ ‫بين بني البشر يف النزوع‬ ‫والطيران‪ ،‬واملشدود إىل‬
‫غربته بوجوده يف جسد‬ ‫نحو الشر‪ ،‬فإعالن الراوي‬ ‫الغموض السماوي‪ ،‬بغية‬
‫غريب عنه‪ ،‬وجزء منه يف‬ ‫أو السارد عن االسم‬ ‫استكشاف املجهول الكامن‬
‫نفس الوقت‪ ،‬والذي يكون‬ ‫كثيرا من‬
‫ً‬ ‫لوكيوس يحمل‬ ‫يف األعىل (النسر هو رسول‬
‫أقسى أشكال العقاب الذي‬ ‫الدالالت‪« ،‬فالتماهي مع‬ ‫جوبتير إله الرعد كما يتردد‬
‫يتعرض له الوعي‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫اسم الكاتب ذاته‪ :‬لوكيوس‪.‬‬ ‫يف بعض فصول الرواية)‪.‬‬
‫املوجه من‬‫َّ‬ ‫الخطاب‬ ‫ويف‬ ‫إيهاميَّة النص بواقعية املتن‬ ‫فتشاء قدرية الحكاية‬
‫طرف إيزيس ألبوليوس‪،‬‬ ‫الحكائي‪ ،‬وحقيقة حدوثه‬ ‫الكاريكاتورية أن يلتصق‬
‫والذي تتجىل فيه الحكمة‬ ‫بالفعل‪ ،‬يروم بها الكاتب‬ ‫باألرض أكثر مما كان عليه‬
‫املتعالية‪ ،‬حكمة الشرق‪،‬‬ ‫السحرية‬ ‫ح ًّرا يتمتع بخفة كإنسان‪،‬‬
‫تعزيز الفكرة ِّ‬
‫وروحيته‪ ،‬التي تضع‬ ‫لق َّوة ما هو العقالني وال‬ ‫بتحوله إىل بهيمة‪ :‬حمار‪.‬‬
‫الخلق الحسن مطلبًا يف‬ ‫منطقي كنمط قائم يف‬ ‫وهذا االرتداد من ميزة‬
‫تربيتها‪ ،‬ويف النموذج‬ ‫تفسير الظواهر وقراءة‬ ‫طائر إىل دونية حمار يعزز‬
‫حكمة االرتهان لتجربة ما‬
‫هو أرضي واستكشاف‬
‫الوجود اإلنساني من خالل‬
‫تقمص جسم حيوان‪ .‬غير‬
‫أن الحيوان هنا الذي يمثِّله‬
‫الحمار ال يزال يحتفظ بقيمة‬
‫إنسانية هي عقل لوكيوس‬
‫الذي مل يتعرض للمسخ‬
‫والتحول»(‪.)9‬‬
‫الحقيقة التي تتداخل مع‬
‫اليومي‪ ،‬تكمن يف الالمتوقع‪،‬‬
‫وتحول لوكسيوس إىل‬
‫حمار تعبير عن فكرة املسخ‬
‫‪239‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫للعقاب‪ ،‬واملسخ‪ ،‬يقول‬ ‫الشبقية‪ ،‬وانفعاالته‬ ‫املطلوب من املواطن‪ ،‬والذي‬


‫أرسطومنيس واصفًا‬ ‫الضالة‪ ،‬بيد أن النجاة‬ ‫ما نصه‪« :‬ها أنت يا لوكيوس‬
‫سقراط‪« :‬وحق اإلله‪،‬‬ ‫يف الرواية لن تتحقَّق‬ ‫أخيرا إىل مرفأ‬
‫ً‬ ‫قد وصلت‬
‫أنك لتستحق أن يحدث‬ ‫سوى عن طريق املحن‬ ‫السالم ومعبد الرحمة ومل‬
‫لك أسوأ‪ ،‬إن كان هناك‬ ‫واالبتالءات واالختبارات‬ ‫تستفد يف أي مكان من نسبك‬
‫ما هو أسوأ‪ ،‬مما حدث‬ ‫املضنية واالستعانة بالتوبة‬ ‫وال من مركزك عىل األقل أو‬
‫لك‪ ،‬ألنك اندفعت وراء‬ ‫واسترضاء اآللهة‪.‬‬ ‫من ثقافتك الرائعة نفسها‪.‬‬
‫شهواتك‪ ،‬وانقدت المرأة‬ ‫ويف الحكاية الفرعية األوىل‬ ‫وإنما وقعت يف فترة الشباب‬
‫بغي‪ ،‬و تخلَّيت عن زوجتك‬ ‫من التحوالت يبدأ أبوليوس‬ ‫الفج بين أحضان اللذة‬
‫وأطفالك»(‪.)12‬‬ ‫يف سرد التح ُّول األول الذي‬ ‫الوضيعة وقد كان لك الجزاء‬
‫ونجد يف قصة النفس‬ ‫استهله بسقراط فيلسوف‬ ‫السيئ عىل فضولك الذي مل‬
‫مع فينوس دالالت‬ ‫العقل‪ ،‬واملفكر الذي ثار‬ ‫يكون يف محله‪ ،‬وكيفما كان‬
‫متعارضة‪ ،‬ومتعاكسة‪،‬‬ ‫عىل املدرسة السفسطائية‪،‬‬ ‫األمر فقد قادك القدر األعمى‬
‫فقداسة اإللهة فينوس‪،‬‬ ‫والتي ينتمي إليها لوكيوس‬ ‫يف لحظة الخطر املحدق‬
‫وتعاليها استثمرته‪ ،‬يف‬ ‫أيضا‬‫فلسفيًّا‪ ،‬فسقراط ً‬ ‫والعذاب إىل هذه السعادة‬
‫تعذيب النفس [بسيشي]‬ ‫مل تشفع له مكانته‬ ‫الدينية»(‪.)11‬‬
‫وتسليطها العقاب عليها‪،‬‬ ‫العلمية‪ ،‬ومقامه الفلسفي‬ ‫فإقامة لوسيوس عالقات‬
‫يتعارض مع طبيعة‬ ‫أن يحافظ عىل هويته‪،‬‬ ‫جنسية غير شرعية مع‬
‫فينوس املتعالية والرامزة‬ ‫وتوازنه عندما ينحرف‬ ‫خادمة مضيفه ميلون‪ ،‬وراء‬
‫لقيم الحب واإلخاء‪ ،‬ويبدو‬ ‫عن القاعدة األخالقية‪ ،‬إذ‬ ‫املسخ إىل حمار‪ .‬ولن يعود‬
‫أن الفيلسوف لوكيوس‬ ‫يشبهه لوكيوس يف الرواية‬ ‫البطل إىل حالته البشرية إال‬
‫يرغب يف اإلشارة إىل‬ ‫باملتسول الذي يستجدي‬ ‫بعد التوبة والدعاء باسم‬
‫طبيعة فينوس الرومانية‬ ‫الناس‪ ،‬ولو عدنا اىل تاريخ‬ ‫اآللهة والتخلص من نوازعه‬
‫العدوانية ملريديها بعكس‬ ‫سقراط لوجدنا أن التس ُّكع‬ ‫اإليروسية وانفعاالته‬
‫فينوس الشرقية عنوان‬ ‫يف الشوارع‪ ،‬وإهمال‬ ‫البشرية العدوانية وتدخل‬
‫املحبة‪.‬‬ ‫الواجبات األسرية‪ ،‬من‬ ‫املنقذة إيزيس‪.‬‬
‫ونجد يف املرافعة إشارة إىل‬ ‫املعلومات التي نجدها يف‬ ‫لذلك يشيد الكاتب بإيزيس‬
‫الطبيعة املزدوجة لإللهة‬ ‫سيرة الفيلسوف سقراط‪،‬‬ ‫اإللهة املخلِّصة وبالديانة‬
‫فينوس‪ ،‬فيقول‪« :‬فينوس‪:‬‬ ‫جسد‬
‫ولعل نيتشه الذي َّ‬ ‫الشرقية‪ ،‬ويف نفس الوقت‬
‫ذات طبيعة مزدوجة‪،‬‬ ‫الروح األبولونية يف مقابل‬ ‫يسفه بالديانات الرومانية‬
‫يحكم كل جانب منها نوع‬ ‫الروح الديونيسيوسية‪.‬‬ ‫وانحطاطها األخالقي عن‬
‫األلفة اآلالف الخاص به‪:‬‬ ‫الوضعية التي أصبح‬ ‫وصفه لبعض العادات‬
‫جانب سوقي مبتذل يحكم‬ ‫فيها سقراط مناقضة‬ ‫والتقاليد السائدة يف عصره‬
‫حب العامة‪ ،‬ال النفوس‬ ‫تماما للنموذج الذي كان‬ ‫ً‬ ‫وهجوها نق ًدا وتسفي ًها‪ .‬وقد‬
‫البشرية فقط بل كذلك‬ ‫يعبر عنه‪ ،‬فهو نموذج‬ ‫آل هذا التح ُّول الفانطاستيكي‬
‫البهائم‪ ،‬داجنها وبريها‬ ‫الحكيم الذي يجسد‬ ‫إىل معنى رمزي يجسد‬
‫(متوحشها)‪ ،‬ويجمع يف‬ ‫بفكره‪ ،‬وسلوكه اللوغوس‪،‬‬ ‫انحطاط اإلنسان ونزوله‬
‫عناقه الوحشي بقوة عاتية‬ ‫وبانحرافه عن سقف‬ ‫إىل مرتبة الحيوان حينما‬
‫عنيفة أجساد الكائنات‬ ‫الحكمة والعقل يكون أهلً‬ ‫يستسلم لغرائزه وأهوائه‬
‫‪240‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الذي نحت االسم وفقًا‬ ‫املعريف للرواية متعدد‪،‬‬ ‫الحية الخاضعة لجبروته‪،‬‬
‫ملعايير قيمية وأخالقية‪،‬‬ ‫ومتن ِّوع‪ ،‬حيث تختلط‬ ‫ويدفعها إىل الشبق‪ ،‬وجانب‬
‫فهو الرجل الحر أو النبيل‬ ‫الحقيقة فيها بالخيال‪،‬‬ ‫إلهي سام‪ :‬فينوس السماوية‬
‫فحضور األسطورة كفن‬ ‫التي بيدها العشق الراقي‬
‫يف لغة الطوارق األمازيغية‬
‫إيهامي‪ ،‬وأسلوب مبدع يف‬ ‫النبيل‪ ،‬ويقتصر تأثيرها عىل‬
‫القديمة‪ ،‬فتنميطه يف‬
‫تشويق القارئ‪ ،‬والتاريخ‪،‬‬ ‫البشر بل الجدي واملضني‪،‬‬
‫ثقافة معينة‪ ،‬وتدجينه‬ ‫وفن النحت‪ ،‬والرسم‪،‬‬ ‫يحبب لصنف العشاق‬
‫وفقًا ملؤسسات سلطوية‬ ‫والجغرافيا‪ ،‬والطبخ‪،‬‬ ‫الخاص به الفضائل بجمال‬
‫محددة‪ ،‬مسألة مرفوضة‬ ‫والنبات‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬وعلم‬ ‫العفة املميزة له(‪.)13‬‬
‫يف الالشعور الجمعي‬ ‫اللغة والشعر واألديان‪،‬‬
‫لألمازيغ‪ ،‬واللطيف يف‬ ‫فكانت تع ُّد ًدا مبد ًعا داخل‬ ‫خاتمة‬
‫موحد عزز من‬ ‫ِّ‬ ‫فضاء‬
‫الشخصية األمازيغية قبول‬
‫الهوية النوعية لنص‬ ‫يصعب تصنيف رواية‬
‫اآلخر‪ ،‬والقدرة الرهيبة‬ ‫الحمار الذهبي‪ ،‬وإدراجها‬
‫الرواية‪.‬‬
‫يف التعايش معه‪ ،‬وتكشف‬ ‫كما عبرت الرواية عن‬ ‫ضمن جنس معريف‪ ،‬وأدبي‬
‫أيضا عن األصول‬ ‫الرواية ً‬ ‫رحلة البحث عن الهوية عند‬ ‫معين‪ ،‬فهي تند عىل كل‬
‫املشرقية لثقافة األمازيغ‬ ‫األمازيغي يف شمال أفريقيا‪،‬‬ ‫تحديد وتعيين‪ ،‬فاملحتوى‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫* مؤسسة االنتماء‪ :‬جامعة سعيدة‪ ،‬د‪.‬موالي الطاهر‪.‬‬
‫‪ -1‬شارل أندريه جوليان‪ ،‬تاريخ أفريقيا الشمالية‪ ،‬تر محمد مزايل‪ ،‬البشير بن سالمة‪ ،‬الدار التونسية للنشر ‪1969‬‬
‫ص‪.252‬‬
‫‪ -2‬أديب‪ ،‬ومؤرخ مغربي ولد يف ‪ 1937‬بالرباط‪ ،‬له مؤلفات عديدة‪ :‬خطاب املنهج‪ ،‬منشورات السفير مكناس ‪،1990‬‬
‫ثقافة الصحراء‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدار البيضاء‪ .1978 ،‬وحدة املغرب املذهبية من خالل التاريخ‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الجمعية‬
‫املغربية للتضامن اإلسالمي‪.1986 ،‬‬
‫‪ -3‬عباس الجراري‪ ،‬األدب املغربي من خالل ظواهره وقضاياه‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ط ‪ ،2‬مكتبة املعارف‪ ،‬الرباط ص‪.29‬‬
‫‪ -4‬عبد السالم بن ميس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.48‬‬
‫‪ -5‬فتحي التريكي‪ ،‬وآخرون‪ ،‬الفلسفة يف تونس‪ ،‬فالسفة قرطاج‪ ،‬مخبر الفيالب تونس ‪ 2010‬ص‪.43‬‬
‫‪ -6‬لوكيوس أبوليوس‪ ،‬الحمار الذهبي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عمار الجالصي‪ ،2000 ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ -7‬فتحي التريكي‪ ،‬وآخرون‪ ،‬الفلسفة يف تونس‪ ،‬مرجع سابق ص‪.44‬‬
‫‪ -8‬لوكيوس أبوليوس‪ ،‬الحمار الذهبي ترجمة أبو العيد دودو‪ ،‬منشورات االختالف الجزائر ‪ ،2001‬ص‪.79‬‬
‫‪ -9‬اسماعيل غزايل‪ ،‬مكر الكتابة‪ ،‬هوامش حول رواية الحمار الذهبي‪ ،‬جريدة االتحاد ‪ 03‬ابريل ‪ ،2014‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.alittihad.ae/details.php?id=29026&y=2014&article=full‬‬
‫‪ -10‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ -11‬لوكيوس أبوليوس‪ ،‬الحمار الذهبي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.236‬‬
‫‪ -12‬لوكيوس أبوليوس‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪ -13‬لوكيوس أبوليوس‪ ،‬املرافعة‪ ،‬ترجمة عمار الجالصي‪ ،‬ص‪ .19‬‬
‫‪242‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫أغلب الصحف املحلية‬ ‫بين الكتابة املسرحية‬

‫الحدث المعرفي التأويلي وثالثية‪ :‬الزمن‪ /‬الخيال‪ /‬الجدل‪..‬‬


‫في مسرحية «صاحب الخيال» قراءة أدبية من منظور نفسي‬
‫التابعة للحكومة‪ ،‬أكدت أن‬ ‫والعلوم اإلنسانية تقاطعات‬
‫خيال الرجل الذي ظهر يف‬ ‫عديدة‪ ،‬بوصفها كاشفة‬
‫مقطع الفيديو هو خيال‬ ‫لصيرورة املجتمعات‪،‬‬
‫«سعيد» البطل الرئيسي‪،‬‬ ‫وموضحة للسياقات‬
‫نتناول املسرحية بالقراءة‪،‬‬ ‫النفسية وما تحمله من‬
‫وفقًا للمنهج النفسي يف‬ ‫صراعات فكرية خارجية‬
‫النقد من خالل املحاور‬ ‫بين فرد وآخر‪ ،‬أو صراعات‬
‫التالية‪:‬‬ ‫داخلية بين الفرد وذاته‪،‬‬
‫مسرحية‪« :‬صاحب الخيال»‬
‫ً‬
‫أول‪ :‬وظيفة الخيال‬ ‫الصادرة عام ‪ 2021‬للكاتب‬
‫املعرفية كأداة نقد‬ ‫الليبي‪ :‬حسن أبو بكر‬
‫املغربي‪ ،‬عن دار‪ :‬الجابر‬
‫«كل ما يحتاج إىل تبرئة‬ ‫للطباعة والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫ليس بذي قيمة»(‪.)1‬‬ ‫تتألف من ثالثة فصول‪،‬‬
‫منذ أن طرد «أفالطون»‬ ‫يحتوي كل فصل عىل‬
‫الشعراء من مدينته‬ ‫خمسة مشاهد درامية‪،‬‬
‫الفاضلة املتخيلة‪ ،‬توترت‬ ‫شخصيات املسرحية‪ ،‬تم‬
‫العالقة التي تربط الخيال‬ ‫تقسيمهم إىل شخصيات‬
‫بالفلسفة‪ ،‬ليبدأ الحقل‬ ‫رئيسية وشخصيات‬
‫املعريف املحافظ عىل ُبعده‬ ‫ثانوية‪ ،‬الشخصيات‬
‫البرهاني‪ ،‬من خالل نفى‬ ‫الرئيسية‪ :‬أصدقاء الطفولة‬
‫ذلك االرتباط‪ ،‬وتظهر‬ ‫«سعيد» الكاتب الصحفي‪،‬‬
‫اتجاهات اهتمت بتجديد‬ ‫«ثابت» الفنان الساذج‪،‬‬
‫الخطاب حول القيم‪،‬‬ ‫و»زكريا» طبيب الجراحة‪،‬‬
‫واعتبار الخيال له وظيفة‬ ‫و»سارة» الصحافية‬
‫معرفية كأداة نقد‪ ،‬عىل‬ ‫العانس‪ ،‬و»صاحب الخيال»‪.‬‬
‫اعتبار أن هناك أهمية‬ ‫والشخصيات الثانوية‪:‬‬
‫قصوى يف التفلسف‬ ‫«مروة» خالة» سارة»‬
‫باألسطورة من خالل‬ ‫امرأة عجوز‪ ،‬سمينة البدن‪،‬‬
‫ِ‬
‫والشعر كما يف‬ ‫االستعارة‬ ‫تعمل خياطة‪« ،‬البواب»‪،‬‬
‫فلسفة «نيتشة»‪ ،‬من خالل‬ ‫و»الضابط»‪ ،‬الحدث‬
‫ذلك يمكننا الولوج إىل عامل‬ ‫الرئيسي يف املسرحية يدور‬
‫النَّص‪ ،‬الذي لجأ الكاتب‬ ‫حول‪« :‬انتشار مقاطع فيديو‬
‫فيه إىل الخيال ليتمكن من‬ ‫عىل (اليوتيوب) شاهدها‬
‫تصوير عاطفة شخصية‬ ‫ماليين من الناس‪ ..‬تظهر‬
‫املسرحية الرئيسية‬ ‫فيها إحدى الصحافيات‬
‫«سعيد» ً‬
‫أول‪ ،‬ثم إثارة‬ ‫ترقص عارية‪ ،‬وتمارس‬
‫التعاطف معه يف نفس‬ ‫الجنس مع أحد األشخاص‪،‬‬
‫د‪.‬رشا الفوال‬
‫‪243‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫ومدفأة عىل الطراز‬ ‫يتعارض اسمه مع حاله‪،‬‬ ‫املتلقي ثانيًا‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫الروسي‪ ،‬ولوحة تشكيلية‬ ‫سوى رأيه الذي يتلخص‬ ‫«ذلك الخيال الذي ظهر يف‬
‫تحاكي األوان القاتمة‬ ‫يف قوله‪« :‬ال يوجد يف القرن‬ ‫مقاطع الفيديو ليس يل‪،‬‬
‫للفنان «بول سيزان» الذي‬ ‫أموت ألف مرة أهون عيلَّ من‬
‫الواحد والعشرين تقاليد‬
‫مهد لنظرية الفن التجريدي‬ ‫الوقوف يف موقف مشبوه‬
‫تتعارض وحرية الفرد‪،‬‬
‫كهذا»‪ ،‬لندرك أن «سعيد» هو‬
‫الحديث‪.‬‬ ‫احترام الحرية هو أساس‬
‫الشخصية الحاملة إلرادة‬
‫ثم جعلنا بعد عرض‬ ‫احترامنا للقانون»‪ ،‬ومل‬
‫القوة‪ ،‬التي تنزع به نحو‬
‫حواراته مع أصدقاء‬ ‫يزعم ‪-‬أى الكاتب‪ -‬إدانته‬
‫املخاطرة‪ ،‬والبحث عن املتعة‬
‫طفولته‪« :‬ثابت»‪ ،‬و»زكريا»‬ ‫بهتانًا‪ ،‬ومل ُيحرض املتلقي‬ ‫من خالل نظرته إىل الداخل‬
‫نقرر إىل أى منهم نميل‬ ‫عىل ذلك‪ ،‬إنما مد إىل وصف‬ ‫وليس إىل قيم وأخالقيات‬
‫نفسيًّا‪ ،‬ونتجه عقليًّا‪،‬‬ ‫معيشته التي تجلت يف‬ ‫املجتمع‪ ،‬فاملعرفة الحقيقية‬
‫فـ»ثابت» يميل إىل مفاهيم‬ ‫تفاصيل املكان‪ ،‬فعرض‬ ‫هى معرفة الشىء من‬
‫العقل امليتافيزيقي‪،‬‬ ‫علينا آثار (املوت النفسي)‪،‬‬ ‫الداخل(‪ ،)2‬يحدثنا الكاتب‬
‫و»زكريا» ال يعرف الفشل؛‬ ‫ومظاهر (العزلة)‪ ،‬فالغرفة‬ ‫من خالل شخصية البطل‬
‫ألنه ُيق ِّدر العواقب‪ ،‬أما‬ ‫التي يسكن فيها مستطيلة‪،‬‬ ‫الرئيسي‪ ،‬عن املعرفة التي قد‬
‫«سعيد» فيرى أن املسار‬ ‫مطلية باللون األصفر‪ ،‬الذي‬ ‫تكون معبرة عن شخصية‬
‫الفلسفي السقراطي أدى‬ ‫يذهب بنا مباشرة للوحة‬ ‫اإلنسان الحقيقية‪ ،‬فـ»سعيد»‬
‫إىل اقصاء املخيلة‪ ،‬واختزال‬ ‫البيت األصفر‪ ،‬يؤكد ذلك‬ ‫اتسم بخيال مبتكر‪ ،‬قادر‬
‫العواطف اإلنسانية لصالح‬ ‫وجود الحذاء الذي يشبه‬ ‫عىل تصنيف املعلومات‬
‫الجدل العقيل الذي يرفضه‪،‬‬ ‫إىل حد قريب حذاء «فان‬ ‫واختيار بعضها‪ ،‬ليؤلف منها‬
‫لذا يوجه طعناته مباشرة‬ ‫جوخ»‪ ،‬الذي ُيعد من رواد‬ ‫صورا جديدة تجعل الحياة‬ ‫ً‬
‫إىل (الجدل) وأخالقيات‬ ‫املدرسة االنطباعية‪ ،‬وسرير‬ ‫أكثر متعة‪ ،‬فنراه يجمع‬
‫املجتمع‪ .‬من خالل ذلك‬ ‫متهالك يوحي بالبؤس‬ ‫يف شخصيته بين صفات‬
‫الحوار بين األصدقاء‬ ‫الذي وصل إليه صاحبه‪،‬‬ ‫السخرية من مجاورة فندق‬
‫ُيع ِّرج بنا الكاتب إىل مفهوم‬ ‫وآلة موسيقية كالسيكية‪،‬‬ ‫العاهرات عندما يقول‪« :‬ال‬
‫الجمال‪ ،‬ومقاربة «هيجل»‪:‬‬ ‫يمكن عمل أى شىء بجانب‬
‫«إن أردأ فكرة تخترق‬ ‫فندق عمومي يصدح طول‬
‫فكر إنسان أفضل وأرفع‬ ‫الليل بضحك العاهرات»‬
‫من أعظم إنتاج للطبيعة»‪،‬‬ ‫وصفات الكمال املثايل‪ ،‬الذي‬
‫ليستدل املتلقي من خالل‬ ‫ُيتخيل وال يتحقق من خالل‬
‫الفصل األول عىل خطورة‬ ‫رغبته يف العودة إىل حياة‬
‫(اإلمالء الثقايف) واملالحقة‬ ‫الريف‪ ،‬ففي املشهد الثاني‬
‫األدبية التي نعدها ضاغطة‬ ‫من الفصل األول‪ ،‬يخاطب‬
‫عىل األدباء يف العامل‬ ‫نفسه من خالل (املونولوج‬
‫العربي‪ ،‬يقول «ثابت»‪:‬‬ ‫الذهني) عما سيحدث لو ترك‬
‫«هل تعلم أن بعض أدعياء‬ ‫املدينة ورحل إىل الريف‪.‬‬
‫األدب وصلت بهم الوقاحة‬ ‫مل يذكر لنا الكاتب من‬
‫أنهم دعوا إىل شطب اسمك‬ ‫أسباب بؤس «سعيد» الذي‬
‫حسن املغربي‬
‫‪244‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫لوحة الحذاء لفان جوخ‬ ‫من قائمة األدباء‪ ،‬وطالبوا‬


‫بمحاكمتك علنًا وسط‬
‫امليادين؟ قل يل ماذا سيكون‬
‫موقفك حينئذ؟»‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬إرادة الخلق‬


‫وقلب القيم‬
‫«الفكرة والتمثيل يتطابقان‬
‫يف الفن األكثر رق ًيا عىل‬
‫نحو موافق للحقيقة» ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫عىل افتراض أن وظيفة‬


‫(الخيال التصويري) يف‬
‫املسرحية‪ ،‬تتلخص يف وقوف‬
‫الكاتب عند (املوصوف)‬
‫لوحة البيت األصفر لفان جوخ‬
‫للتعبير عن قيمته الروحية‪،‬‬
‫فبقوة (الخيال) يمكننا‬
‫الغوص إىل ما وراء املاضي‪،‬‬
‫ماضي الشخصيات‪ ،‬ومن‬
‫خالل عين الكاتب الواصف‬
‫نتمكن من فهم دوافع‬
‫الشخصيات‪ ،‬التي أزالت‬
‫سذاجتنا وكشفت أسرار‬
‫املجتمع وعهره‪ ،‬تلك األسرار‬
‫التي عبرت عنها الصحافية‬
‫«سارة»‪ ،‬التي فاتها قطار‬
‫أكدت لها أن العار أطول‬ ‫فتاة يف وقتنا هذا مل تمر‬
‫الزواج‪ ،‬والتي مارست الحب‬
‫(البعد‬
‫من العمر؛ وألن ُ‬ ‫بتجارب عاطفية‪ ،‬ولو كانت‬
‫مع «سعيد» أكثر من مرة‪،‬‬
‫الخيايل) هو القادر عىل‬ ‫عبر مواقع اإلنترنت عىل‬
‫فحين ننظر إىل شخصيتها‪،‬‬
‫إدراك اندفاعات اإلنسان‬ ‫سبيل التسلية وتضييع‬ ‫يمكننا تصور بيئتها غير‬
‫االنفعالية‪ ،‬فإقصاء الخيال‬ ‫الوقت»‪ ،‬وال نستطيع مطلقًا‬ ‫املُسعفة‪ ،‬والتي تمثل أساس‬
‫يعد اقصا ًء للجسد بالنسبة‬ ‫الفصل بين نزعتها الطامحة‬ ‫ُسخريتها من الواقع الذي ال‬
‫لـ»سارة»؛ وألن (املخيلة)‬ ‫وسخريتها‪ ،‬إذ قام الكاتب‬ ‫تدركه الخالة «مروة» عندما‬
‫تمجد األمل‪ ،‬املتعة‪،‬‬ ‫بكشف عاطفتها ورغبتها‬ ‫حدثتها عن العفة‪ ،‬فتقول‪« :‬ال‬
‫اإلحساس بالخوف‪ ،‬املوت‪،‬‬ ‫يف الزواج واالستقرار‪،‬‬ ‫ألومك‪ ،‬فأنت ال تدرين بما‬
‫كان اعتراض «سعيد» عىل‬ ‫عندما تقول بنبرة كبرياء‪:‬‬ ‫يحدث بالخارج‪ ،‬العفة التي‬
‫«سقراط» ‪-‬الذي تدهور‬ ‫«من هذه الناحية ال تقلقي‪،‬‬ ‫تتحدثين عنها ال توجد إال‬
‫معه الذوق اإلغريقي‬ ‫سأتزوج‪ ،‬أنا واثقة من‬ ‫يف خيال العجائز‪ ،‬وأستطيع‬
‫لصالح الجدل‪ ،‬إذ إنه قبله‬ ‫ذلك»‪ ،‬ر ًّدا عىل خالتها التي‬ ‫أن أجزم أنه ليس هناك أية‬
‫على افتراض أن وظيفة (الخيال‬
‫التصويري) في المسرحية‪ ،‬تتلخص‬
‫في وقوف الكاتب عند (الموصوف)‬
‫للتعبير عن قيمته الروحية‪ ،‬فبقوة‬
‫(الخيال) يمكننا الغوص إلى ما وراء‬
‫الماضي‪ ،‬ماضي الشخصيات‪ ،‬ومن خالل‬
‫عين الكاتب الواصف نتمكن من فهم‬
‫دوافع الشخصيات‪ ،‬التي أزالت سذاجتنا‬
‫وكشفت أسرار المجتمع وعهره‬
‫بول سيزان‬

‫فلن يتم الرهان عليها مرة‬ ‫الزمن النفسي لشخصيات‬ ‫كانت السلوكيات الجدلية‬
‫ثانية»‪.‬‬ ‫«سعيد» و»سارة» ال يكون‬ ‫تقابل بالرفض‪« -‬إذ ال وجود‬
‫إال من خالل الوجدان‬ ‫ملعايير ثابتة للفضيلة‪ ،‬وليس‬
‫خاتمة‪:‬‬ ‫والخبرة‪ ،‬هذا اإلدراك الذي‬ ‫هناك شريعة أخالقية أبدية‪،‬‬
‫أيضا كثير من‬ ‫تكتنفه ً‬ ‫فالغنسان مخلوق ديناميكي‬
‫«الخيال قد يموت‪ ،‬لكنه‬ ‫اإلشكاالت؛ ألن الواقع ُيقر‬ ‫الزمني»‪ ،‬هنا ينطلق املتلقي‬
‫ال يعرف الهرب»‪.‬‬ ‫بما هو عقالني فقط‪ ،‬اتضح‬ ‫من خالل قدرته عىل تحويل‬
‫وهل هناك موت أكثر‬ ‫ذلك يف الديالوج الذي دار‬ ‫الفهم وتذوق النص‪ ،‬إىل‬
‫من عزلة الكاتب عن قيم‬ ‫بين «سعيد» وصديقه‬ ‫واقع يتفاعل فيه (الذاتي)‬
‫مجتمعه‪ ،‬التي ينظر إليها‬ ‫«زكريا»‪:‬‬ ‫مع (املوضوعي) عبر‬
‫كأوثان معرفية وأخالقية‪،‬‬ ‫سعيد‪« :‬لو فرضنا أن‬ ‫اإليحاء‪ ،‬أو اإلثارة‪ ،‬أو تحرير‬
‫مختزنه يف أذهان ونفوس‬ ‫إنسانًا حالته صعبة ج ًّدا‪،‬‬ ‫العواطف من (املنطقية‬
‫الناس لحين الحاجة‬ ‫ويحتاج إىل إجراء عملية‬ ‫الزمنية) ‪-‬التي يمكننا‬
‫إليها‪ ،‬نحن أمام مسرحية‬ ‫جراحية يف مصحتك‪ ،‬ماذا‬ ‫ً‬
‫اشكال فلسفيًّا‪-‬‬ ‫اعتبارها‬
‫تعرض مفاهيمها يف شكل‬ ‫تفعل؟»‪.‬‬ ‫فـ»صاحب الخيال» الذي‬
‫استعاري تخيييل‪ ،‬اتسمت‬ ‫زكريا‪« :‬إذا كانت نسبة‬ ‫اتسم بالغموض يتفق وعديد‬
‫بالتفاصيل املكانية التي‬ ‫نجاحها ضئيلة ال أقوم‬ ‫من التصورات الفلسفية‬
‫أعطت للزمن النفسي‬ ‫بها»‪.‬‬ ‫العصية عىل الفهم‪ ،‬إذ إن‬
‫ً‬
‫شكل مرئيًّا‪،‬‬ ‫للشخصيات‬ ‫سعيد‪ « :‬تتركه يموت؟»‪.‬‬ ‫محاولة أصدقاء الطفولة‬
‫ذلك الزمن الذي جاء‬ ‫زكريا‪« :‬ف ْل َي ُم ْت‪ .‬وما‬ ‫اشتقاق زمن يعكس النسق‬
‫معبرا عن االنطباعات‬
‫ً‬ ‫عالقتي! املهم بالنسبة يل‬ ‫االجتماعي السائد من الزمن‬
‫العاطفية التي سيطرت‬ ‫السمعة‪ ،‬أراهن عليها‪ ،‬نحن‬ ‫النفسي للبطل الرئيسي‬
‫أيضا عىل املتلقي عند قراءة‬ ‫ً‬ ‫األطباء مثل الخيل التي‬ ‫«سعيد»؛ بدت محاولة بائسة‬
‫النَص‪ ،‬ليصبح ذاتيًّا‪ ،‬ربما‬ ‫إذا خسرت السباق مرة‪،‬‬ ‫محكومة بالفشل؛ ألن إدراك‬
‫‪246‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫قيمة يف حد ذاته يمكننا‬ ‫والجدل واالنغالق‪ ،‬فهو‬ ‫يرجع ذلك بشكل أوضح‬
‫اعتبار هذا الدمج من‬ ‫«يؤمن بأن قيمة البشر‬ ‫إىل شخصية «سعيد» الذي‬
‫الصياغات اإلبداعية املقلقة‪،‬‬ ‫ال تكمن يف قوة أفعالهم‬ ‫تبنى فكرة التجربة الذاتية‬
‫التي تحول النص األدبي‬ ‫التدميرية‪ ،‬وإنما يف قوة‬ ‫القائمة عىل ذلك الوعى‬
‫إىل صيغة تداولية‪ ،‬تصف‬ ‫شعورهم بالخجل»‪،‬‬ ‫باللحظة التي يوجد بها‪،‬‬
‫وتأول من أجل التمثل‬ ‫كما اتسمت شخصيته‬ ‫بينما جاء (الزمن الدرامي)‬
‫التاريخي القيمي‪ ،‬اعتما ًدا‬ ‫بـ(الصيرورة) التي هى‬ ‫يف املسرحية جام ًعا للحدث‬
‫عىل اشاراته الذهنية‪ ،‬ربما‬ ‫غريزة اللعب‪ ،‬واملتعة دون‬ ‫الرئيسي‪ ،‬والشخصيات‪،‬‬
‫يمكننا اعتبار هذا األسلوب‬ ‫توقف‪ ،‬وعبر الكاتب عن‬ ‫والعناصر البصرية املكانية‪،‬‬
‫يف الكتابة راج ًعا إىل كيمياء‬ ‫شخصية «ثابت» باعتبارها‬ ‫فهو الزمن الحقيقي الضاغط‬
‫الخيال التي تنظر إىل‬ ‫أقرب إىل أفكار «بارمنيدس»‬ ‫عىل الشخصيات‪ ،‬والبنية‬
‫اللغة كمجموعة شحنات‬ ‫يف الثبات الذي يختزل‬ ‫الزمنية يف خطاب الكاتب‪،‬‬
‫معزولة يمكن لألسلوب‬ ‫حركية الحياة يف قواعدها‬ ‫ورسالته ارتبطت بالكيفية‬
‫أن يدمجها للتفاعل مع‬ ‫الجافة‪ ،‬وعن مخيلة «سارة»‬ ‫التي أدار بها الديالوجات‬
‫بعضها البعض(‪)4‬؛ وألن‬ ‫التي اتسمت بالتناقض‬ ‫الجدلية الخاصة التي تدور‬
‫النص املسرحي محل‬ ‫والقدرة عىل تغيير األقنعة‬ ‫حول الحدث الرئيسي داخل‬
‫القراءة‪ ،‬قادر عىل تشكيل‬ ‫تب ًعا ألدوار الحياة‪.‬‬ ‫النَص‪.‬‬
‫(الخيال الوصفي) املكثف‬ ‫لغة املسرحية التي تقاطعت‬ ‫املكان هو سيد الواقعية‬
‫من خالل استثارة وعى‬ ‫‪-‬كنص أدبي‪ -‬مع عدد‬ ‫يف البنية النصية للحدث‪،‬‬
‫من املفاهيم الفلسفية‪ ،‬مثل‬ ‫واملشاهد تُعد من تجليات‬
‫املتلقي‪ ،‬فقد نجح الكاتب‬
‫مفهوم (الزمن)‪ ،‬و(الخيال)‪،‬‬ ‫واقعية النسق املكاني‪،‬‬
‫يف إنتاج الداللة األدبية منه‬
‫و(الجدل)‪ ،‬تم من خاللها‬ ‫وانعكاس لحاضر‬
‫محاول اإلجابة عن تساؤل‬ ‫ً‬
‫دمج األمثال الشعبية يف‬ ‫الشخصيات العياني باعتباره‬
‫هام أال وهو‪ :‬هل يقترن‬
‫الديالوج بين الشخصيات‪،‬‬ ‫ناتجا عن األنساق االجتماعية‬‫ً‬
‫الخيال بالتصور املثايل‬
‫ذلك الدمج الذي كانت له‬ ‫القيمية‪ ،‬ربما ساهم ذلك يف‬
‫لقيم املجتمع؟‬
‫وجاهته‪ ،‬التي عكست لنا‬ ‫حال االنسياب السردي الذي‬
‫الهوامش‪:‬‬ ‫حرص الكاتب عىل الربط‬ ‫أتاح للمتلقي التنقل داخل‬
‫‪ -1‬فريديريك نيتشة (‪،)2010‬‬ ‫بين (اإلشكالية املعرفية)‬ ‫النَّص كأنه مكان مرتبط‬
‫«غسق األوثان‪ ،‬أو كيف نتعاطى‬ ‫يف لغة أصدقاء الطفولة‪،‬‬ ‫ديناميًّا بالحدث الرئيسي‬
‫الفلسفة قر ًعا باملطرقة»‪ ،‬ترجمة‪:‬‬ ‫وأصالة الفكر كإشكالية‬ ‫وحركية الشخصيات‬
‫عيل مصباح‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -2‬أدونيس (د‪.‬ت)‪« ،‬الصوفية‬ ‫أبدية فرضتها عىل الجميع‬ ‫وانفعاالتها النفسية‪.‬‬
‫والسوريالية»‪ ،‬ط‪ ،3‬دار الساقي‪،‬‬ ‫األنساق القيمية‪ ،‬كأن‬ ‫اعتمد الكاتب عىل (الخيال‬
‫بيروت‪.‬‬ ‫املحاكاة يف ذكر األمثال‬ ‫االستعاري) الذي تجىل يف‬
‫‪ -3‬هيجل (‪« ،)1988‬املدخل‬
‫إىل علم الجمال‪ ،‬فكرة الجمال»‪،‬‬
‫الشعبية نقطة التقاء‬ ‫التشبيهات‪ ،‬مثل حذاء «فان‬
‫ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬دار‬ ‫شخصيات املسرحية‪،‬‬ ‫جوخ»‪ ،‬ووجه «سارة» الذي‬
‫الطليعة‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫فإذا باملتلقي يتأمل صور‬ ‫ال يمكن أن يقارن إال بوجه‬
‫‪ -4‬عبد السالم املسدي‬ ‫املجتمع املختزنة يف‬ ‫ضبع‪ ،‬شخصية «سعيد»‬
‫(‪« ،)1982‬األسلوبية‬
‫واألسلوب»‪ ،‬ط‪ ،2‬الدار العربية‬ ‫أذهانهم‪ ،‬فعندما يكون‬ ‫أيضا اعتمدت عىل اللغة‬‫ً‬
‫للكتاب‪ ،‬طرابلس‪ ،‬ليبيا‪.‬‬ ‫النص األدبي املسرحي‬ ‫االستعارية املقاومة للمنطق‬
‫‪247‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫ال يجعل املادة الحسية‬ ‫العالقة بين األدب‬

‫جدلية العالقة بين األدب والفلسفة‬


‫لتفكيرها ال تتدخل يف‬ ‫والفلسفة هي بمثابة عالقة‬
‫تنظيم صورة الفكر‪ ،‬أو يف‬ ‫بين ملكتين مختلفتين‪:‬‬
‫تنظيم التعبير‪ .‬بهذا القدر‬ ‫العقل بالنسبة للفلسفة‪،‬‬
‫ويف هذا االتجاه سيجد‬ ‫والتخييل بالنسبة لألدب‪،‬‬
‫الفيلسوف نفسه يف هذه‬ ‫والتمايز بين امللكتين تبرره‬
‫الحدود كاتبًا‪ ،‬يلجأ مؤقتًا‬ ‫الغاية املستهدفة من كل‬
‫إىل الصور األدبية‪ ،‬حين‬ ‫منهما‪ .‬فإذا كانت الفلسفة‬
‫تعوزه الوسيلة للتعبير‬ ‫منذورة للبحث والتعبير‬
‫بواسطة حدود مجردة‬ ‫عن الحقائق‪ ،‬فإن األدب‬
‫ودقيقة عن الحقائق التي‬ ‫من جهته مخصص إلمتاع‬
‫يرغب يف استخالصها‬ ‫الفكر والتأثير يف القارئ‪.‬‬
‫من التجربة املعيشة‪ ،‬ومع‬
‫وما دامت الحقيقة من‬
‫ذلك نتوقع منه أن يتخلص‬
‫طبيعة نظرية ومجردة‪،‬‬
‫من هذه اللحظة ليتقدم‬
‫وعىل أساس أن العقل هو‬
‫ويقترب أكثر من الخطاب‬
‫ملكة للتجريد واستنباط‬
‫العقالني املجرد‪.‬‬
‫الحقائق املجردة‪ ،‬يبدو إذن‬
‫إن ثقافتنا تميل إىل إبراز‬
‫أن كل ما له عالقة باملشاعر‬
‫االختالف بين األدب‬
‫والخيال يبقى غريبًا عنه‪.‬‬
‫والفلسفة‪ ،‬بوصفه اختالفًا‬
‫وباملقابل يعتبر التخييل‬
‫بين نمطين من التفكير‪،‬‬
‫أحدهما مرتبط بالعاطفة‬ ‫بوصفه حركة مشخصة‬
‫والتخييل‪ ،‬وال عالقة‬ ‫لإلحساسات‪ ،‬هو األنسب‬
‫لتحقيق التأثير العاطفي‬
‫له بالتجريد العقالني‪،‬‬ ‫د‪.‬ياسر عاشور‬
‫والثاني مرتبط بالعقل‪،‬‬ ‫املنشود يف األدب‪ ،‬وبالتايل‬
‫ومنذور لصفاء التجريد‬ ‫فإن أي لجوء للتجريد‬ ‫إسماعيل‬
‫والصور املنطقية‪،‬‬ ‫سيؤدي إىل إبعاد الفكر‬
‫عدوا للتخييل‬ ‫عن العاطفة‪ ،‬ويجعله أكثر‬
‫وبالتايل ً‬
‫واإلحساسات‪.‬‬ ‫برودة وصالبة‪ ،‬ويقلل‬
‫إذا حاولنا اعتبار هذا‬ ‫‪-‬بالتايل‪ -‬من التأثير الذي‬
‫التمييز واالختالف‬ ‫تستهدفه األعمال األدبية‪.‬‬
‫حقيقيًّا‪ ،‬فإن هذا يعني إما‬ ‫صحيح أنه ال يمكن إنكار‬
‫أن الحقيقة عىل مستوى‬ ‫وإلغاء ملكة التفكير يف‬
‫األدب والفلسفة أساسها‬ ‫مجال األدب‪ ،‬وال الغوص‬
‫االختالف‪ ،‬وإما أنها‬ ‫يف عامل الذات بالنسبة‬
‫مشتركة‪ ،‬ولكن معالجتها‬ ‫للفلسفة‪ ،‬ولكننا نتوقع من‬
‫تتم بطريقتين مختلفتين‪،‬‬ ‫الفلسفة التي تهتم باملعيش‬
‫وبذلك فإن التمييز بين‬ ‫أن تقوم بذلك بغاية تقديم‬
‫الحقيقة األدبية والحقيقة‬ ‫تفسير عقالني‪ ،‬بشكل‬
‫‪248‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫إنتاج تفكير فلسفي‪ ،‬هما‬ ‫إىل نقلها إىل مستوى‬ ‫الفلسفية يقتضي اعتبار‬
‫وجهان إلشكالية واحدة‪،‬‬ ‫معرفة أكثر عمومية وأكثر‬ ‫األوىل مرتبطة بشروط‬
‫هي إشكالية العالقة بين‬ ‫وضوحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الحياة اإلنسانية‪ ،‬بينما تنفتح‬
‫الفلسفة واألدب‪.‬‬ ‫يف هذه االتجاه إذن يصبح‬ ‫الثانية عىل قضايا أخرى‬
‫عالقة اللغة بالفكر‪.‬‬ ‫األدب بمثابة مستكشف‬ ‫من قبيل الطبيعة‪ ،‬والوجود‪،‬‬
‫عالقة الخيايل بالواقعي‪.‬‬ ‫ملجاالت غامضة يف نظر‬ ‫والعلم‪.‬‬
‫عالقة األسطورة بالعلم‪.‬‬ ‫العقل‪ ،‬فيصبح التناول‬ ‫إذن التمايز بين األدب‬
‫فالفلسفة واألدب‬ ‫محصورا يف‬
‫ً‬ ‫الفلسفي لها‬ ‫والفلسفة قائم عىل أساس‬
‫تنافسا شديد‬ ‫ً‬ ‫يتنافسان‬ ‫تنظيمها عقالنيًّا‪ ،‬داخل‬ ‫اختالف طرق معالجة‬
‫الوطأة‪ ،‬إذ يدعي كل‬ ‫بنيات مفاهيمية مجردة‪.‬‬ ‫ومقاربة نفس املواضيع‪،‬‬
‫حقل أنه يستغرق اآلخر‪،‬‬ ‫وعىل اعتبار أننا نقيم‬ ‫وبالتايل اختالف أساليب بناء‬
‫ويهيمن عىل حقيقته‬ ‫اختالفًا مهما كان نوعه بين‬ ‫عالقات هذه املواضيع مع‬
‫ويتجاوزه تجاو ًزا‪ .‬فاألدب‬ ‫الفلسفة واألدب‪ ،‬فالنتيجة‬ ‫املنطق والتجريد من جهة‪،‬‬
‫يروم أن يرد الفلسفة إىل‬ ‫إذن هي أنه من وجهة نظر‬ ‫ومع املعيش واملتخيل من‬
‫حقيقتها األدبية‪ ،‬أي إىل‬ ‫الفلسفة يطرح سؤال يتعلق‬ ‫جهة أخرى‪.‬‬
‫نصا من‬‫مجرد كونها ًّ‬ ‫بمعرفة مدى حاجة الفكر‬ ‫فالفلسفة تسعى إىل الغوص‬
‫النصوص‪ ،‬يف حين أن‬ ‫للشكل األدبي‪ ،‬ومن وجهة‬ ‫قدر اإلمكان يف نسيج‬
‫الفلسفة تسعى إىل رد‬ ‫نظر األدب يطرح السؤال‬ ‫التجربة اإلنسانية من أجل‬
‫األدب إىل تنويع تعبيري‬ ‫إىل أي حد يفكر األدب‪،‬‬ ‫فهم بنيتها‪ ،‬وإعادة تشكيلها‪.‬‬
‫تمسك هي بحقيقته‬ ‫وهل هو بحاجة من أجل‬ ‫كما أنه إذا كان األدب يمنح‬
‫النهائية‪ ،‬أي بمعناه األخير‪.‬‬ ‫ذلك التخاذ شكل حجاجي‬ ‫نفسه حرية التخيل‪ ،‬فإن ذلك‬
‫وتعود فكرة التضاد بين‬ ‫خاص باملجاالت النظرية؟‬ ‫ال يتم بشكل اعتباطي‪ ،‬ولكنه‬
‫الفلسفة واألدب إىل عهد‬ ‫إن التساؤل حول مدى‬ ‫يستهدف الغوص بشكل‬
‫اإلغريق‪ ،‬حيث رفض‬ ‫حاجة الفلسفة لإلجراءات‬ ‫أعمق يف بنيات التجربة من‬
‫الفيلسوف أفالطون وجود‬ ‫والطرق األدبية؛ وفيما‬ ‫أجل إبراز املظاهر التي تنفلت‬
‫الفن والشعر والشعراء‬ ‫قادرا عىل‬ ‫إذا كان األدب‬ ‫من املالحظة املباشرة‪.‬‬
‫ً‬
‫يف مدينته‪ ،‬بحجة أن‬ ‫ضمن هذا اإلطار يمكن‬
‫عموما والشعر‬ ‫ً‬ ‫الفن‬ ‫تصور عالقة تعاون بين‬
‫خصوصا يقومان عىل‬ ‫ً‬ ‫الفلسفة واألدب‪ ،‬يلعب فيه‬
‫مفهوم املحاكاة‪ ،‬واتخذ‬ ‫هذا األخير دور املستكشف‬
‫مفهوما‬
‫ً‬ ‫مفهوم املحاكاة‬ ‫بالنسبة للفلسفة‪ ،‬ألنه‬
‫دونيًّا ألنه يحاكي العامل‬ ‫يجعلها أكثر استعدا ًدا‬
‫الحسي‪ ،‬والشعر عنده‬ ‫ِّ‬ ‫لإلحساس ببعض الظواهر‬
‫إيهام بالحقيقة‪ ،‬بينما‬ ‫األساسية يف تجربتنا‬
‫الفلسفة ترتبط بالعلم أي‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬والتي ال تزال‬
‫بالحقيقة(‪.)1‬‬ ‫مستعصية عىل املعالجة‬
‫فأخذ مفهوم األدب‬ ‫العقالنية‪ ،‬وباملقابل فإن‬
‫قياسا عىل‬
‫ً‬ ‫مفهوما دونيًّا‬
‫ً‬ ‫الفلسفة من خالل انكبابها‬
‫هذا املفهوم الذي بقي‬ ‫عىل هذه الظواهر تسعى‬
‫‪249‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫تأثيره يف الفكر اإلنساني‬


‫لفترة زمنية طويلة‪.‬‬
‫من جهة أخرى رأى‬
‫الفالسفة املسلمون الشعر‬
‫وسيلة من وسائل توصيل‬
‫رؤاهم الفلسفية عبر القوالب‬
‫الشعرية‪ ،‬فأخذ املنظور إىل‬
‫الشعر وجهة مختلفة‪ ،‬حيث‬
‫وظفوا األفكار والرؤى‬
‫الفلسفية‪ ،‬فالجاحظ ً‬
‫مثل‬
‫كان يعرض أفكار املعتزلة‬
‫يف قالب شعري‪ ،‬و ُل ِّق َب أبو‬
‫حيان التوحيدي بأديب‬
‫الفالسفة وفيلسوف األدباء‪،‬‬
‫واشتهر أبو العتاهية يف‬
‫طه عبد الرحمن‬ ‫سهيل إدريس‬ ‫جان بول سارتر‬ ‫شعره بإثارة قضايا فلسفية‬
‫عميقة منها قوله‪:‬‬
‫لكل شيء معدن وجوهر‬
‫روائي يف عمله العظيم‬ ‫هنا أبو العالء املع ّري‬ ‫وأوسط وأصغر وأكبر‬
‫«هكذا تكلم زرادشت»‪،‬‬ ‫واملتنبّي وأبو ت ّمام‪ ،‬الذين‬ ‫وكل شيء الحق بجوهره‬
‫وجان بول سارتر يف‬ ‫زخرت نتاجاتهم الشعر ّية‬ ‫أصغره متصل بأكبره‬
‫رواية «الغثيان» التي‬ ‫بألوانٍ من الفلسفة‬ ‫من لك باملحض؟ وكل ممتزج‬
‫ترجمها إىل العربية سهيل‬ ‫وضروبٍ من ِ‬
‫الحكمة‬ ‫وساوس يف الفكر منك تعتلج‬
‫إدريس‪.‬‬ ‫وأنواع من املعرفة الفلسفيّة‬ ‫لكل إنسان طبيعتان‬
‫ِ‬
‫أما يف «الفكر املُعاصر‬ ‫والحياتيّة امله ّمة‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫خير وشر وهما ضدان‬
‫مل ي ُعد األدب يتض ّمن‬ ‫وقد قدم كثير من املفكرين‬ ‫يف حين أنه قد تأثر األدب‬
‫تأمالت فلسفيّة‪ ،‬ومل‬ ‫الفالسفة مفاهيمهم‬ ‫بالرؤى الفلسفية عىل م ِّر‬
‫ت ُعد الفلسفة تأخذ صيغًا‬ ‫الفلسفية يف أسلوب ممزوج‬ ‫العصور‪ ،‬كما استعمل‬
‫أدبيّة‪ ،‬بل اندمج األدب‬ ‫بين أسلوب السرد واللغة‬ ‫الفالسفة بعض األجناس‬
‫ووحدا صفوفهما‬ ‫َّ‬ ‫بالفلسفة‬ ‫الشاعرية‪ ،‬خاصة يف فلسفة‬ ‫األدبية للتعبير عن نظرياتهم‬
‫لف متين إلعالن‬ ‫يف ِح ٍ‬ ‫ما بعد الحداثة التي اعتنت‬ ‫الفلسفية‪ ،‬كما تمثل يف‬
‫كرامة اإلنسان‪ ،‬وكان أ ّول‬ ‫باألدب بصورة خاصة‪،‬‬ ‫محاورات سقراط مع‬
‫مظهر من هذا اللِّقاء ما‬ ‫ذلك أنها فلسفة قامت عىل‬ ‫تالميذه‪ ،‬ويف غيره من‬
‫كشفت عنه فلسفة هنري‬ ‫االنتفاض عىل كثير من‬ ‫األعمال الفلسفية التي‬
‫برجسون» (اللّقاء بين‬ ‫املعايير العقالنية الصارمة‬ ‫اتخذت من األجناس األدبية‬
‫األدب والفلسفة يف الفكر‬ ‫التي يوليها املنهج الفلسفي‬ ‫حقلها املعريف‪.‬‬
‫املُعاصر‪ ،‬دعوة الحقّ ‪،‬‬ ‫خاصا‪ ،‬ومثال عىل‬ ‫ًّ‬ ‫اهتماما‬
‫ً‬ ‫ويف الجانب اآلخر ث ّمة أدباء‬
‫العددان!‪ 08‬و‪.)109‬‬ ‫ذلك فردريك نيتشه الذي‬ ‫تض َّمنت نصوصهم معاني‬
‫فنرى مثال الفيلسوف‬ ‫قدم فلسفته بصورة سرد‬ ‫وأفكارا فلسفيّة جليّة‪ ،‬نذكر‬ ‫ً‬
‫‪250‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫رسم الحدود الفاصلة‬ ‫يحظى بالقسم األكبر من‬


‫بين ما هو أدبي وما هو‬ ‫البيان اإلشاري‪.‬‬
‫فلسفي‪ .‬كما نالحظ ذلك‬ ‫كما يقدم املفكر إدوارد‬
‫مثل من خالل أعمال‬ ‫ً‬ ‫إطارا لحركة نقل‬ ‫ً‬ ‫سعيد‬
‫مونتيني ‪،Montaigne‬‬ ‫النظريات واألفكار وتداولها‬
‫وروسو‪ ،‬وكير كجارد‬ ‫يف دراسته القيمة «عندما‬
‫ونيتشه‪.‬‬ ‫تسافر النظرية»‪ ،‬وهو إطار‬
‫ويف الختام‪..‬‬ ‫مك ّون من أربع مراحل‬
‫إن خطوط‬ ‫ُيمكننا القول َّ‬ ‫يمكن تلخيصها كالتايل‪:‬‬
‫التماس اإلبداعيَّة تتقارب‬ ‫أول‪ :‬مجموعة الظروف‬ ‫ً‬
‫وتتباعد بين األدب‬ ‫األصلية التي رافقت ميالد‬
‫والفلسفة بحسب قدرة‬ ‫فكرة ودخولها ميدان‬
‫الكا ِتب وإمكاناته الفكر َّية‬ ‫الخطاب‪ .‬وثانيًا‪ :‬املسافة‬
‫واألدبيَّة عىل مزج األدب‬ ‫املمر الذي‬ ‫املقطوعة أو‬
‫ُّ‬
‫بالفلسفة أو الفلسفة‬ ‫تجتازه الفكرة عبر ضغط‬
‫باألدب‪ ،‬أو بتعبير آخر عىل‬ ‫السياقات املختلفة خالل‬ ‫هنري برجسون‬ ‫فردريك نيتشه‬
‫كتابة الفلسفة بلغة أدبيّة‬
‫انتقالها من نقطة معيّنة إىل‬
‫وكتابة األدب بمضامين‬
‫زمان ومكان تصبح فيهما‬
‫فلسفيّة‪.‬‬ ‫املغربي طه عبد ال ّرحمن‬
‫واضحة البروز‪ ،‬وثالثًا‬
‫قسمين‪:‬‬ ‫َ‬ ‫يقسم اللّغة إىل‬ ‫ِّ‬
‫الهوامش‪:‬‬ ‫شروط القبول وأشكال‬
‫األ ّول هو الكالم العباري‬
‫املقاومة يف البيئة الجديدة‪،‬‬
‫* محاضر الفلسفة‬
‫والثاني هو الكالم اإلشاري‪،‬‬
‫وأخيرا تغيير الفكرة املكيّفة‬ ‫ً‬
‫وتاريخ العلوم‪.‬‬ ‫كالما ِعبار ًّيا‬
‫ً‬ ‫ُمعتب ًِرا الفلسفة‬
‫أو املدمجة جزئيًّا أو كليًّا‬
‫‪ -1‬أفالطون‪ :‬الجمهورية‪.‬‬ ‫كالما إشار ًّيا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واألدب‬
‫وفق استعماالتها الجديدة‬
‫ترجمة فؤاد زكريا‪ ،‬الهيئة‬ ‫وعليه «فإنّ كل من الفلسفة‬ ‫ًّ‬
‫املصرية للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫وموقعها الجديد يف مكان‬
‫وزمان جديدين»(‪.)3‬‬ ‫واألدب يختلفان فيما بينهما‬
‫سنة ‪ ،1985‬ص‪.534‬‬
‫‪ -2‬سعدية أحمد مصطفى‪.‬‬ ‫وعىل هذا النسق نجد‬ ‫بمقدار نصيب ك ٍّل منهما‬
‫البقاء والفناء يف شعر أبو‬ ‫أن الفيلسوف واألديب‬ ‫القسمين البيانيَّين‬ ‫َ‬ ‫من ه َذين‬
‫العتاهية‪ .‬دار املنهل‪ ،‬عمان‪،‬‬ ‫يتجاوران ويلتقيان‬ ‫تعارضين‪ :‬العبارة‬ ‫َ‬ ‫املُ‬
‫سنة ‪ .2011‬ص‪.52‬‬ ‫يف غالب األحيان‪ ،‬ذلك‬ ‫واإلشارة أو ق ّوة العقل وق ّوة‬
‫‪ -3‬إدوارد‪ ،‬سعيد‪ .‬عندما‬ ‫التخيّل»‪ ،‬وهنا ال يذهب طه‬
‫تسافر النظرية‪ .‬ترجمة‪:‬‬ ‫أن الفيلسوف يواجه‬
‫مصطفى سعيد‪ .‬مجلة‬ ‫بالضرورة مشكالت أدبية‪،‬‬ ‫عبد ال ّرحمن إىل الفصل بين‬
‫الحكمة‪ ،‬املغرب‪ ،‬يوليو‬ ‫مثلما أن األديب يأنس يف‬ ‫فصل تا ًّما‪ ،‬بل‬‫ً‬ ‫األسلو َبين‬
‫‪ ،1986‬ع ‪ ،2‬ص‪-139‬‬ ‫نفسه القدرة عىل لعب دور‬ ‫يشير إىل أنّ كل من الفلسفة‬‫ًّ‬
‫نقل عن محمد أحمد‬ ‫‪ً .140‬‬ ‫املفكر‪ ،‬فيجد نفسه غارقًا يف‬ ‫واألدب يشتمالن عىل ه َذين‬
‫اليانكي‪ .‬قراءة التفكيك‬ ‫وعين من البيان م ًعا‪ّ ،‬إل‬
‫قضايا الفلسفة‪.‬‬ ‫النّ َ‬
‫يف الفكر النقدي العربي‪.‬‬
‫املؤسسة العربية للدراسات‬ ‫فالفلسفة تقدم نفسها عىل‬ ‫أ ّنه وبينما تنال الفلسفة‬
‫والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬سنة‬ ‫شكل نصوص‪ ،‬تجعلنا‬ ‫قسما أكبر من البيان‬ ‫ً‬
‫‪ ،2005‬ص‪.55‬‬ ‫أحيانًا نجد صعوبة يف‬ ‫فإن السرد األدبي‬ ‫العباري‪َّ ،‬‬
‫ثقافــات‬
‫وفنون‬
‫حوار‬
‫شخصيات‬
‫تاريخ‬
‫رأي‬
‫كتب‬
‫غناء‬
‫‪252‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫خبير المخطوطات محمد لمسيح‪:‬‬


‫اختلف المفسرون حول تفسير‬
‫ما َغ ُمض في القرآن‪ ،‬رغم قولهم‬
‫إنه نزل بلسان عربي مبين‪،‬‬
‫أو واضح كل الوضوح!‬

‫التاريخ اإلسالمي كله‪،‬‬


‫والعقيدة اإلسالمية كلها‪ ،‬انتقلت‬
‫لنا عبر روايات شفهية‪ ،‬أسلوب‬
‫«العنعنة» املعروف‪ ،‬يف رواية‬
‫األحاديث واألخبار واألفعال‬
‫ووصف املعارك الكبرى‪ ..‬حتى‬
‫إن القرآن ذاته ‪-‬النص األول‬
‫واألكبر يف العقيدة‪ُ -‬جمع من‬
‫صدور الرجال وتم تدوينه بعد‬
‫وفاة النبي‪ ،‬وهي طريقة ليست‬
‫تماما‪ ،‬فليس ثمة‬
‫ً‬ ‫محكمة مغلقة‬
‫دليل عىل جمع كل القرآن‪ ،‬بل إن‬
‫هناك أحاديث منسوبة للسيدة‬
‫الحفَّاظ تنفي‬
‫عائشة ولكبار ُ‬
‫جمعه بالكامل‪ ،‬مثل الحديث الذي‬
‫أورده جالل الدين السيوطي يف‬
‫كتاب «اإلتقان يف علوم القرآن»‬
‫ج‪ 2‬ص‪« :66‬عن عائشة قالت‪:‬‬
‫كانت‪ ‬سورة األحزاب‪ ‬تُقرأ يف‬
‫‪253‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫حوار‬

‫الديانات القديمة‪ ،‬وال يجد لها‬ ‫حاوره ‪:‬‬ ‫زمن‪ ‬النبي مائتي آية‪ ،‬فلما كتب‬
‫إجابة ترضى املعتقد والعقل يف‬ ‫سمير درويش‬ ‫عثمان املصاحف مل يقدر منها إال‬
‫اآلن ذاته‪ ،‬فهو أحد الباحثين يف‬ ‫عىل ما هو اآلن»‪ ،‬وهو ما أكده‬
‫املخطوطات القديمة‪ ،‬ينتمي إىل‬ ‫حديث آخر رواه عبد اهلل بن‬
‫معهد إنارة األملاني‪ ،‬الذي يقدم‬ ‫امتد عىل طول خريطة الجزيرة‬ ‫اإلمام أحمد يف «زوائد املسند»‪،‬‬
‫اجتهادات مهمة يف هذا املبحث‪،‬‬ ‫العربية وشمال أفريقيا‪ ،‬وراح‬ ‫أبي بن‬‫وورد يف كتب أخرى‪ ،‬عن ّ‬
‫برنامجا مه ًّما ُيبثُّ عىل‬
‫ً‬ ‫كما أن له‬ ‫الحفَّاظ‬
‫ضحيته اآلالف‪ ،‬ومنهم ُ‬ ‫كعب‪« :‬كأين تقرأ سورة األحزاب؟‬
‫موقع ‪ youtube‬اسمه «التاريخ‬ ‫بحسب الروايات التراثية نفسها‪.‬‬ ‫أو كأين تعدها؟» قال‪ :‬قلت له‪:‬‬
‫املبكر لإلسالم» ‪Early History‬‬ ‫لكن لحسن حظنا أن العلم تطور‬ ‫ثال ًثا وسبعين آية‪ ،‬فقال‪ :‬قط‪ ،‬لقد‬
‫‪ ،of Islam‬يشرح فيه ما توصل‬ ‫يف املائة سنة األخيرة بشكل كبير‬ ‫رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة‪،‬‬
‫إليه هو نفسه‪ ،‬وما توصل إليه‬ ‫ج ًّدا‪ ،‬وتطورت أدوات الرؤية‬ ‫ولقد قرأنا فيها‪« :‬الشيخ والشيخة‬
‫العلماء حول هذه األمور‪:‬‬ ‫والقياس‪ ،‬وتوفر عىل دراسة‬ ‫إذا زنيا فارجموهما البتة ً‬
‫نكال من‬
‫النصوص املقدسة للديانات‬ ‫اهلل واهلل عزيز حكيم»‪.‬‬
‫* يف ظل عدم وجود‬ ‫القديمة كلها علماء يف اآلثار‬ ‫هذه األخبار املنقولة ال يؤيدها‬
‫واللغات والجغرافيا واملخطوطات‬ ‫أي وجود مادي من آثار أو‬
‫أي آثار قديمة تدل عىل‬
‫والتاريخ والجيولوجيا‪ ..‬إلخ‪،‬‬ ‫مخطوطات‪ ،‬كما أن اللغة العربية‬
‫الوجود املادي الفعيل‬ ‫تعمل عىل قدم وساق ملحاولة‬ ‫كانت وليدة‪ ،‬ومختلطة بلغات‬
‫لألنبياء اإلبراهيميين‬ ‫إخضاع تلك النصوص للعلم‬ ‫قديمة مثل الساسانية واآلرامية‬
‫جميعًا‪ ،‬ويف ظل اطالعك‬ ‫واختبار مدى صحتها ومطابقتها‬ ‫والعبرية‪ ،‬وكذلك كان الخط‬
‫وفحصك للمخطوطات‬ ‫لقواعد املعرفة‪ ،‬وانعكاساتها‬ ‫هزيل‪ ،‬حروف متشابهة‬ ‫ً‬ ‫العربي‬
‫يف الكتب القديمة التي أنتجتها‬ ‫الرسم دون تنقيط أو تشكيل‬
‫القديمة‪ ،‬سواء عندنا أو‬
‫الحضارات املختلفة‪ ،‬يف الشرق‬ ‫وحروف مد‪ ،‬ما يجعل (الرسم)‬
‫عند غيرنا‪ ،‬كم نسبة ثقتك‬ ‫والغرب‪ .‬فإذ أخذنا اسم «محمد»‬ ‫ُينطق بأكثر من نطق‪ ،‬وبالتايل‬
‫يف حقيقية هذا التاريخ‬ ‫عىل سبيل املثال‪ ،‬سنجد جهود‬ ‫بأكثر من معنى‪ ..‬وهذا ليس‬
‫املنقول إلينا؟‬ ‫حثيثة ملعرفة بدايات ظهوره يف‬ ‫كالمي‪ ،‬بل كالم اللغويين العرب‬
‫املخطوطات من جهة‪ ،‬ومعناه‬ ‫القدماء أنفسهم الذين طوروا‬
‫‪ -‬حاول علماء اآلثار يف عصرنا‬ ‫يف اللغات املتداخلة وقتها‪ ،‬وملاذا‬ ‫الخط العربي‪.‬‬
‫الحايل العثور عىل آثار مادية‬ ‫مل يكن هذا االسم معروفًا‬ ‫هذا االختالف يف الرسم والنطق‬
‫قديمة تدل عىل وجود أنبياء‬ ‫قبل اإلسالم؟ فهناك من ينكر‬ ‫‪-‬إىل جانب تغير معاني كثير‬
‫الكتاب املقدس‪ ،‬فلم يوفقوا يف هذه‬ ‫تماما‪ ،‬وهناك من يقول‬ ‫ً‬ ‫وجوده‬ ‫من الكلمات بمرور الزمن‪ ،‬وهذا‬
‫نظرا ألن الرواية‬‫املهمة الصعبة‪ً ،‬‬ ‫شخصا فقط تس ُّموا به‪،‬‬
‫ً‬ ‫إن ‪15‬‬ ‫طبيعي‪ -‬يضعنا أمام إشكالية‬
‫كبيرا من‬
‫ً‬ ‫الشفهية أخذت حي ًزا‬ ‫وأنهم تسموا به عندما سمعوا‬ ‫ما يجب أن نأخذه وما يجب أن‬
‫الزمن يف نقل قصص األنبياء‪،‬‬ ‫من الكهان أن نبيًّا سيبعث بهذا‬ ‫نهمله من التراث‪ ،‬ما نصدقه من‬
‫قبل أن تجد طريقها نحو التوثيق‬ ‫االسم!‬ ‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫روايات وما نكذبه‪،‬‬
‫بعد أجيال عديدة‪ ،‬وربما حتى‬ ‫لهذه األسباب ذهبت لألستاذ‬ ‫كثيرا من املرويات‬ ‫ً‬ ‫أننا نعرف أن‬
‫قرون عديدة‪ ،‬وللخروج من هذه‬ ‫محمد ملسيح‪ ،‬خبير املخطوطات‬ ‫خضعت لتقلبات السياسة يف‬
‫اإلشكالية رأى بعض الباحثين‬ ‫املغربي املعروف‪ ،‬وطرحت‬ ‫القرون الثالثة األوىل‪ ،‬وبالصراع‬
‫املؤمنين بهذه القصص كحقيقة‬ ‫عليه مجموعة من األسئلة التي‬ ‫بين األمويين والعباسيين‬
‫تاريخية الخوض يف تجربة البحث‬ ‫تؤرق أي باحث يف موضوع‬ ‫والفاطميين‪ ،‬هذا الصراع الذي‬
‫‪254‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫عن آثار مادية قديمة تدل عىل‬ ‫نقوش الشمعدان العبري‬


‫الوجود الفعيل لهؤالء األنبياء يف‬
‫التاريخ‪ ،‬ومحاولة منهم لتغطية‬
‫«فشل» علماء اآلثار بحسب‬
‫تقديرهم‪ ،‬فاعتمدوا اعتما ًدا كليًّا‬
‫عىل الكتاب املقدس كمرشد‬
‫للوصول إىل حقيقة األمر‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال ال الحصر‪ ،‬نجد‬
‫الطبيب السويدي لينرت مولير‬
‫‪ Dr Lennart Möller‬إلثبات‬
‫قصة سفر الخروج‪ ،‬قام بنفسه‬
‫بالتنقيب والبحث عن آثار قصة‬
‫خروج بني إسرائيل من مصر‬
‫يف صحراء سيناء والبحر األحمر‬
‫واملناطق املجاورة‪ ،‬وقد نجح يف‬
‫العثور عىل عظام بشرية وعظام‬ ‫نقش حمامات جدارا‬
‫للخيول يف قعر البحر األحمر‪،‬‬
‫كذلك أشكال دائرية من املرجان‪،‬‬
‫واعتبرها بقايا عجالت املركبات‬
‫الحربية عند غرق جيش فرعون‬
‫أثناء العبور‪ ،‬كما عثر عىل نقوش‬
‫للشمعدان العبري «مينوراه»‬
‫ְמנֹורָ ה عىل بعض الصخور‪،‬‬
‫وآثار تظهر تقديم ذبائح حيوانية‪،‬‬
‫ووجود فعيل ألنواع األشجار‬
‫التي صنع منها تابوت العهد‪،‬‬
‫وأماكن تواجد املياه والنباتات‬
‫والحيوانات التي ذكرت يف هذه‬
‫القصة‪ ،‬فجمع كل هذه املعطيات‪،‬‬
‫وألف كتا ًبا بعنوان ‪The Exodus‬‬
‫‪ Case‬قضية الخروج «اكتشافات‬
‫جديدة لتاريخية الخروج»‪.‬‬
‫لكن معظم علماء اآلثار‬
‫اإلسرائيليين املحترفين وغيرهم‪،‬‬ ‫أرين ماير‬
‫وعىل رأسهم عامل اآلثار‬
‫اإلسرائييل البروفيسور إسرائيل‬
‫فينكلستاين ‪،Israel Finkelstein‬‬
‫والبروفيسور أرين ماير‪Aren‬‬
‫‪ Maeir‬والبروفيسور يوسف‬
‫‪255‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫حوار‬

‫سبيل املثال يف كتاب تاريخ‬ ‫اختراعها‪ ..‬السؤال هنا‪:‬‬ ‫جارفينكل ‪،Yosef Garfinkel‬‬
‫هرقل للمؤرخ األرميني سيبيوس‬ ‫هل ُذكرت كلمة «محمد»‬ ‫مل يقبلوا بهذه الطريقة يف البحث‬
‫‪ Sebeos‬الذي تويف سنة ‪٦٤٥‬م‪،‬‬ ‫األثري املبنية عىل منظور إما‬
‫ووثيقة ثانية باللغة السريانية‬ ‫كاسم أم كصفة؟ وما‬
‫«التأكيد أو الرفض»‪ ،‬وينصح‬
‫موجودة يف املتحف البريطاني‬ ‫داللة ذلك يف الحالتين؟‬ ‫فينكلستاين أصحاب هذا النهج‬
‫تحت رقم (‪)14461 ADD MS‬‬ ‫بالقول‪« :‬يجب قراءة التقاليد‬
‫‪ -‬عندما ننظر لسيرة شخصية‬
‫دخول الطيايا (العرب)‪ ،‬وكلمة‬ ‫الكتابية عىل خلفية زمن تكوينها‪،‬‬
‫محمد يف الرواية اإلسالمية‪،‬‬
‫«موحمد» ‪-‬بالواو‪ -‬تتحدث عن‬ ‫وأيديولوجية املؤلفين»‪ ،‬ويقول‬
‫نجد عليها العديد من التساؤالت‬
‫فتح حمص سنة ‪ ٩٤٧‬بالتاريخ‬ ‫أرين‪« :‬معظم علماء اآلثار‬
‫واالختالفات والتضارب يف‬
‫السلوقي أو اإلغريقي الذي يوافق‬ ‫اإلسرائيليين مل يعودوا يف مأزق‬
‫سنة ‪٦٣٦‬م‪.‬‬ ‫األقوال‪ ،‬وتصبح هذه الرواية‬
‫أيديولوجي الستخدام أبحاثهم‬
‫وبالتايل فمحمد شخصية تاريخية‬ ‫محل شك كبير خاصة عند‬
‫إلثبات األيديولوجيات الوطنية‪.‬‬
‫حقيقية لكنها ليست كما صورها‬ ‫ظهورها فجأة يف بداية العصر‬
‫‪https//:www.timesofisrael.‬‬
‫لنا العصر العباسي يف السير‬ ‫العباسي‪ ،‬وتوسعها كلما مرت‬
‫‪com/toi-asks-the-‬‬
‫والروايات التي يعرفها معظم‬ ‫األزمنة!‬
‫‪experts-what-are-the-‬‬
‫املسلمين! بالنسبة لنقل كلمة‬ ‫واآلن عند العودة إىل املخطوطات‬
‫‪most-important-finds-of-‬‬
‫«محمد» من طرف هذه الوثائق‬ ‫القديمة بلغات مختلفة تعود‬
‫‪israeli-archaeology/‬‬
‫األجنبية التي تعود لفترة ظهور‬ ‫للبدايات األوىل لظهور اإلسالم‪،‬‬
‫إذًا من خالل ما تقدم يمكن القول‬
‫اإلسالم‪ ،‬مل تكن حاسمة يف ذكر‬ ‫يتبين غياب تام لهذه التفاصيل‬ ‫بوجود مدرستين‪ :‬األوىل تتبع‬
‫هل هي صفة أم اسم‪ ،‬لكن من‬ ‫واملرويات‪ ،‬بل بالعكس‪ ،‬نجد‬ ‫منهج وجود مفاهيم مسبقة يف‬
‫خالل شهادات أخرى كعبارة‬ ‫تماما عما قدمته‬‫ً‬ ‫معلومات مختلفة‬ ‫الكتاب املقدس لتأكيدها وإثبات‬
‫«ظهر نبي بين السارسين»‬ ‫السردية اإلسالمية بعد قرن‬ ‫تاريخها‪ ،‬واملدرسة الثانية تتبع‬
‫يف مخطوطة دكترينا جكوبي‬ ‫ونصف من هذه األحداث‪ ،‬مما‬ ‫منهج النقد العلمي تجاه النص‬
‫‪ Doctrina Jacobi‬تعود لسنة‬ ‫جعل بعض الباحثين ‪-‬خاصة‬ ‫املقدس‪ ،‬وتتوخى الحذر من‬
‫‪٦٣٤‬م؛ تفيد أن اسمه مل يكن‬ ‫من معهد إنارة األملاني ‪Inârah‬‬ ‫االنسياق وراء األيديولوجية‬
‫معروفًا‪ ،‬وكذلك يف رسائل‬ ‫الذي أنتمي إليه‪ -‬يشكك يف‬ ‫السائدة‪ ،‬وأنا شخصيًّا أميل‬
‫بطريرك الكنيسة الشرقية‬ ‫املوروث اإلسالمي برمته‪ ،‬وعىل‬ ‫لهذا الطريق األخير يف دراستي‬
‫يشوعياب الثالث املتوىف سنة‬ ‫رأسهم البروفيسور كارل هانس‬ ‫وأبحاثي لتاريخ اإلسالم املبكر‪،‬‬
‫‪٦٥٩‬م ܝܫܘܥܝܗܒ ܬܠܬܝܐ‬ ‫أوليخ ‪Karl-Heinz Ohlig‬؛‬ ‫والقول عىل سبيل املثال بعدم‬
‫وشمعون مطران رواردشير‬ ‫فعند مناقشة نقش قبة الصخرة‬ ‫وجود مكة الحالية يف التاريخ قبل‬
‫يتضح أن هذا النبي نعت حسب‬ ‫تبين للبروفيسور كرسيتوف‬ ‫اإلسالم‪.‬‬
‫هذه الرسائل بـ»الغاوي»‪ً ،‬‬
‫بدل‬ ‫لكسنبير غ �‪Christoph Luxen‬‬
‫من «محمد»‪ ،‬وهذا إن دل عىل‬ ‫‪( berg‬اسم مستعار) من خالل‬ ‫* بعض املخطوطات‬
‫شيء‪ ،‬فإنما يدل عىل أن كلمة‬ ‫الفحص الفيلولوجي لكلمة‬ ‫األجنبية القديمة تذكر‬
‫اسما‪ ،‬كما‬‫«محمد» صفة وليست ً‬ ‫«محمد» وجدها تعني‪« :‬ممجد‬
‫«محمد»‪ ،‬مما يقطع‬
‫كانت عبارة «عبد اهلل معاوية» يف‬ ‫ومبجل»‪ ،‬وهي صفة تعود حسب‬
‫نقش حمامات جدارا ‪Gadara‬‬ ‫نص نقش قبة الصحرة ليسوع‬ ‫بوجوده املادي‪ ،‬وينفي كل‬
‫بالجوالن يف سوريا‪ ،‬وتعني‬ ‫املسيح «عيسى بن مريم»‪ ،‬فكلمة‬ ‫االجتهادات التي تشير إىل‬
‫«خادم الرب معاوية» وليس اسمه‬ ‫محمد أو «محمت» مذكورة عىل‬ ‫كونه شخصية وهمية تم‬
‫‪256‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫محم ًدا عاش يف املنطقة العربية‬ ‫صب ِِح َ‬


‫ين‬ ‫ون َع َل ْيهِم ُّم ْ‬ ‫«وإ ِ َّن ُك ْم َلت َُم ُّر َ‬
‫َ‬ ‫عبد اهلل‪.‬‬
‫البترائية ‪ ،Arabia Petraea‬التي‬ ‫ون»‪ ،‬كما أن‬ ‫َوبِالل َّ ْي ِل َأ َف َل َت ْعقلُ َ‬
‫ِ‬
‫تضم صحراء سيناء وشمال‬ ‫القرآن يخاطب قبيلة الرسول‬ ‫* هل تعتقد يف صحة‬
‫السعودية واألردن‪ ،‬لتقليل هامش‬ ‫محمد يف سورة الواقعة (‪٦٣‬‬ ‫نظرية «دان جيبسون»‬
‫الوقوع يف الخطأ‪ ،‬وربما ولد‬ ‫ون‪َ  ‬أ َأنت ُْم‬
‫و‪َ « :)٦٤‬أ َف َر َأ ْيتُم َّما ت َْح ُر ُث َ‬ ‫من أن «محمد» ولد يف‬
‫يف العراق وطرد من هناك كما‬ ‫ون»‪ ،‬أو‬ ‫َت ْز َر ُعو َن ُه َأ ْم ن َْح ُن ال َّزار ُِع َ‬
‫يف سورة املؤمنون (‪ )١٩‬قوله‪:‬‬
‫البتراء ثم هاجر إىل‬
‫جاء يف رسالة شمعون مطران‬
‫رواردشير‪.‬‬ ‫َّات ِّمن ن َِّخي ٍل‬ ‫نش ْأنَا َل ُكم ِب ِه َجن ٍ‬ ‫« َف َأ َ‬ ‫املدينة؛ فبدأ وجوده يف‬
‫ير ٌة‬‫يها َف َوا ِك ُه َكثِ َ‬ ‫َو َأ ْعنَابٍ لَّ ُك ْم ِف َ‬ ‫الحجاز منذ الهجرة؟ إن‬
‫* كيف يمكنك تقييم‬ ‫ون»‪ ..‬وهذا يعني أن‬ ‫َو ِم ْن َها َت ْأ ُكلُ َ‬ ‫كان ذلك فنحن أمام آثار‬
‫«اللخبطة» التاريخية‬ ‫مجتمع الرسول محمد مجتمع‬ ‫حقيقية تدل عليه نف ًيا ملا‬
‫زراعي‪ ،‬بخالف جغرافية مكة‬
‫يف التداخل بين كون‬ ‫ورد يف السؤال األول عن‬
‫الحالية التي تقل فيها نسبة‬
‫اإلسالم رسالة سماوية‬ ‫تساقط األمطار وانعدام إمكانية‬ ‫انتفاء أية عالمات عىل‬
‫تصحيحا‬
‫ً‬ ‫جديدة‪ ،‬وكونه‬ ‫الزراعة والفالحة‪ ،‬بينما البتراء‬ ‫وجوده‪ .‬كيف ترى األمر؟‬
‫للتعاليم املسيحية؟ هذه‬ ‫كانت تعتمد عىل طرق السقي منذ‬
‫وجود مملكة األنباط التي انتهت‬ ‫‪ -‬نظرية دان جيبسون ‪Dan‬‬
‫اللخبطة التي تبدو من‬ ‫‪ Gibson‬ذهبت يف طرحها إىل‬
‫يف بداية القرن الثاني امليالدي‪،‬‬
‫تفسيرك ملعنى كلمة‬ ‫تحديد جغرافية مكة الحقيقية‬
‫وكذلك كانت املركز التجاري‬
‫«محمد» يف اآلرامية من‬ ‫للقوافل بامتياز يف العصور‬ ‫بمدينة البتراء‪ ،‬وهذه النظرية‬
‫ناحية‪ ،‬ووجود رموز‬ ‫الغابرة‪.‬‬ ‫مل تطرح إمكانية الوقوع يف‬
‫الخطأ! بل أعطت البديل الحقيقي‬
‫مسيحية عىل العمالت يف‬ ‫لكن يبقى تحديد مسقط رأس‬
‫الرسول «محمد» حسب رأيي‬ ‫ملكة الحالية يف إطار غياب تام‬
‫عهد معاوية؟ وإن كان‬ ‫لتاريخيتها قبل اإلسالم‪ ،‬واعتمد‬
‫محيرا لغياب األدلة املادية‬ ‫ً‬ ‫لغ ًزا‬
‫التداخل موجود‪ ..‬كيف‬ ‫جيبسون يف طرحه من جهة عىل‬
‫عىل ذلك‪ ،‬ولهذا السبب أقول بحذر‬
‫تفسر نزول كتاب كبير‬ ‫شديد قابل للوقوع يف خطأ‪ :‬إن‬ ‫جغرافية النص القرآني‪ ،‬ومن‬
‫هو القرآن الكريم؟‬ ‫جهة أخرى عىل بعض املعلومات‬
‫من الرواية اإلسالمية التي تخدم‬
‫‪ -‬عندما ننظر للوثائق التاريخية‬ ‫نظريته! وهي نفس الطريقة‬
‫التي كانت شاه ًدا عىل ظهور‬ ‫التي أنكرها معظم علماء اآلثار‬
‫اإلسالم يف القرن السابع امليالدي‬ ‫املعاصرين كما رأينا يف السؤال‬
‫باختالف أصحابها ولغاتها‬ ‫األول‪.‬‬
‫وأماكنها‪ ،‬ال نجد أي ذكر لعقيدة‬ ‫نعم قد تكون البتراء هي مسقط‬
‫جديدة اسمها اإلسالم‪ ،‬وظهور‬ ‫رأس الرسول محمد لكونها داخل‬
‫نبي بين العرب كما جاء يف‬ ‫املساحة الجغرافية املوجود يف‬
‫مخطوطة دكترينا جكوب ليس‬ ‫النص القرآني؛ ولقربها من البحر‬
‫معناه ظهور لديانة جديدة‪،‬‬ ‫امليت يف أغوار األردن؛ منطقة‬
‫بل نجد إشارة لظهور هرطقة‬ ‫سدوم وعمورة أهل لوط‪ ،‬وذلك‬
‫مسيحية نصرانية انشقت عن‬ ‫يف سورة الصافات (‪ ١٣٧‬و‪:)١٣٨‬‬
‫‪257‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫حوار‬

‫الكنيسة الشرقية عىل يد «غاوي»‪،‬‬


‫بشهادة رسالة شمعون مطران‬
‫رواردشير يف عهد يشوعياب‬
‫الثالث‪ ،‬ومعظم أتباع هذا‬
‫«الغاوي» من األحناف‪ ،‬وبالتايل‬
‫ال غرابة يف وجود مقاطع يف‬
‫القرآن تتحدث عن والدة املسيح‬
‫ومعجزاته وصلبه وغيرها‬
‫من األمور التي ال يؤمن بها‬
‫اليهود‪ ،‬وال أتباع ديانات غير‬
‫النصرانية‪ ،‬وجود صليب عىل‬
‫نقش حمامات جدارا ‪Gadara‬‬
‫تعود لحكم معاوية‪ ،‬والصلبان‬
‫عىل العمالت العربية يف عصره‬
‫يمكن اعتبارها تقلي ًدا للعمالت‬
‫يوسف جارفينكل‬ ‫كارل هانس أوليخ‬ ‫دان جيبسون‬ ‫البيزنطية‪ ،‬لكن وجودها إىل عصر‬
‫عبد امللك بن مروان يف نهاية‬
‫القرن السابع امليالدي‪ ،‬يؤكد‬
‫صنعاء‪ ،‬مل تحاول السلطات‬ ‫يف اليمن اآلن يتم إخفاؤها‬
‫اليمينة إخفاءها عن الباحثين‪،‬‬ ‫نظرية عدم وجود ديانة جديدة‬
‫بالكامل كي ال يطلع‬ ‫أتى بها نبي العرب‪ ،‬أما القرآن‬
‫هي فقط يف غير متناول‬
‫الدارسون والباحثون‬ ‫فما هو سوى كتاب ليتورجيا‬
‫نظرا لوجود نص‬ ‫األخصائيين ً‬
‫سفيل ممسوح يظهر تحت األشعة‬
‫عليها‪ً ..‬‬
‫أول هل تعتقد يف‬ ‫للصلوات بلسان عربي من‬
‫فوق البنفسجية ‪،Ultraviolet‬‬ ‫وجود هذه النسخة ً‬
‫فعل؟‬ ‫كتب القراءات والفصول التي‬
‫تماما للنص‬ ‫وهذا النص مغاير‬ ‫وثان ًيا‪ :‬يف تحليلك ما الذي‬ ‫كانت موجودة عىل الساحة منذ‬
‫ً‬
‫القرآني الذي بين أيدينا‪ ،‬فيه‬ ‫القرن الخامس امليالدي‪ ،‬وتسمى‬
‫يمكن أن يخاف منه مالكو‬ ‫باللغة الالتينية ‪lectionárius‬‬
‫زيادة ونقصان ومرادفات لكلمات‬
‫النسخة؟ مع الوضع يف‬ ‫أو ‪،Lectionarium‬وباللغة‬
‫يف القرآن‪ ،‬واختالف يف ترتيب‬
‫السور وغيرها‪ ،‬يمكن اعتباره‬ ‫االعتبار أن «الخوف»‬ ‫السريانية قريانا «ܩܪܝܢܐ»‪،‬‬
‫من املصاحف التي حكم عليها‬ ‫يشير إىل أنهم «يدركون»‬ ‫نظر ا لوجود مقاطع من الكتاب‬ ‫ً‬
‫باإلتالف والحرق يف عهد الخليفة‬ ‫األمر‪ ،‬فهل تعتقد أنهم‬ ‫املقدس يف النص القرآني‪،‬‬
‫عثمان بن عفان‪ ،‬أو عصر الحجاج‬ ‫فيكفي أن نجد ذكر ما يناهز‬
‫يدركون بالفعل؟‬
‫بن يوسف الثقفي يف عهد الخليفة‬ ‫‪ 137‬مقط ًعا من قصة موسى‬
‫عبد امللك بن مروان‪ ،‬فالسلطات‬ ‫‪ -‬مل أذكر أب ًدا أن نسخة مصحف‬ ‫وحده‪ ،‬لنقول بدون تردد‬
‫اليمنية تدرك قيمة وأهمية طرس‬ ‫عثمان موجودة باليمن‪ ،‬ربما‬ ‫فعل كتاب القراءات‬ ‫إنه كان ً‬
‫صنعاء وال تعرضه عىل كل من‬ ‫تقصد أقدم مخطوطة للقرآن يف‬ ‫والفصول بلسان عربي مبين‪.‬‬
‫أراد دراسته إال يف نطاق ضيق‬ ‫العامل طرس صنعاء ‪DAM01-‬‬
‫للغاية خاصة يف السنين األخيرة‪.‬‬ ‫‪ 27.1‬توجد بالعاصمة اليمنية‬ ‫* ذكرت أن نسخة من‬
‫والزالت دراسة هذا الطرس‬ ‫صنعاء‪ ،‬ولهذا سميت بمخطوطة‬ ‫مصحف عثمان موجودة‬
‫‪258‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫هي «قراءات شاذة»‪ ،‬وهذا إن‬ ‫بقراءات مختلفة أللفاظ‬ ‫تشكل صرا ًعا بين مدرستين‬
‫دل عىل شيء فإنما يدل عىل أن‬ ‫أخرى تبدلت نتيجة عدم‬ ‫مختلفتين؛ مدرسة املتخصصين‬
‫هذه القراءات هي فقط اجتهاد‬ ‫يف علم املخطوطات الذين يرون‬
‫وجود التنقيط‪ ..‬هذه‬
‫من القراء‪ ،‬وبنفس املنطق (منطق‬ ‫ً‬
‫متداول يف‬ ‫أنه كان مصحفًا‬
‫االجتهاد) يمكن قراءة هذا النص‬ ‫االختالفات تحيلنا إىل‬ ‫الفترة األوىل لظهور اإلسالم‬
‫تحت قواعد علمية جديدة تخص‬ ‫تاريخ إسالمي مختلف‬ ‫إىل أن حكم عليه بالطمس‪،‬‬
‫مادة الفيلولوجيا‪ ،‬هذه املادة التي‬ ‫عن السردية السائدة‪ ..‬هل‬ ‫واملدرسة الثانية؛ وكل أصحابها‬
‫أعطت قراءة جديدة للقرآن تعيد‬ ‫هناك تصور كامل لتاريخ‬ ‫من املؤمنين بوحدانية النص‬
‫قراءته لزمان ظهوره‪ ،‬فتتضح‬ ‫القرآني خوفًا من نعت القرآن‬
‫بديل ولسردية بديلة؟‬
‫بهذه القراءة الجديدة الكثير من‬ ‫بالتحريف وعىل رأسهم األستاذة‬
‫املقاطع الغامضة التي اختلف‬ ‫هل يعمل الباحثون عىل‬ ‫التونسية أسماء هاليل! وبالتايل‬
‫املفسرون يف تفسيرها عىل العديد‬ ‫اكتشاف ونشر هذه‬ ‫هذا الطرس بحسب رأيهم مل يكن‬
‫من األقول‪ ،‬رغم إيمانهم بأنه‬ ‫السردية البديلة؟ وإىل أين‬ ‫سوى وسيلة لتدريب الطالب‬
‫قرآن عربي مبين‪ ،‬أي واضح ال‬ ‫وصلوا؟‬ ‫عىل كتابة القرآن‪ ،‬متناسين ‪-‬أي‬
‫غموض فيه!‬ ‫أصحاب هذه املدرسة‪ ،‬أو ناسين‪-‬‬
‫طب ًعا الدراسات الفيلولوجية‬ ‫‪ -‬النص القرآني الذي بين أيدينا‬ ‫أن التدريبات عىل كتابة القرآن‬
‫للقرآن ما زالت يف بداياتها‪،‬‬ ‫اآلن يف أصله ومخطوطاته القديمة‬ ‫مل تكن عىل الرقاع لغالء ثمنها‬
‫وتحتاج لتضافر الجهود بين‬ ‫مل يكن فيه تنقيط أو عالمات‬ ‫وندرة وجودها‪ ،‬يف ظل وجود‬
‫الباحثين واملتخصصين يف هذه‬ ‫اإلعراب أو الهمزة أو ألف امل َّد‬ ‫ألواح الخشب الرخيصة التي ما‬
‫املادة للوقوف نسبيًّا عىل القراءة‬ ‫نظرا لبدائية خطه‪ ،‬مما نتج‬
‫ً‬ ‫قائما لهذا الغرض‬
‫زال استعمالها ً‬
‫الصحيحة لهذا النص‪ ،‬وبالتايل‬ ‫عن ذلك وجود قراءات مختلفة‬ ‫إىل يومنا هذا يف املدارس العتيقة!‬
‫تحديد التشريع واألحكام يف‬ ‫عديدة اع ُترِف بسبع قراءات‪،‬‬ ‫وكذلك يتناسون أو ينسون‬
‫ظل املفهوم اللغوي الذي يريده‬ ‫منذ بداية األمر‪ ،‬وتنتمي لخمس‬ ‫قولهم بأن القرآن كان محفوظاً‬
‫النص القرآني‪ ،‬وليس ما توصل‬ ‫مدارس يف دمشق ومكة واملدينة‬ ‫يف الصدور‪ ،‬يف حين كان هؤالء‬
‫إليه علماء اإلسالم من أمور قد‬ ‫والكوفة والبصرة‪ ،‬ثم أضيفت‬ ‫الطالب تحت إشراف شيخ ومعلم‬
‫تماما عما كانت‬‫ً‬ ‫تكون مختلفة‬ ‫ثالث قراءات أخرى لتصبح عشر‬ ‫يعلمهم القراءة وكتابة القرآن‪،‬‬
‫عليه األمور يف عصر ظهوره‪،‬‬ ‫قراءات رسمية للقرآن‪ ،‬ثم أضاف‬ ‫ولهذا السبب أميل للمنهج العلمي‬
‫فلو أخذنا ‪-‬عىل سبيل املثال ال‬ ‫اإلمام البنا الدمياطي املتوىف سنة‬
‫الصارم كما رأينا يف الجواب عىل‬
‫الحصر‪ -‬سورة املسد بحسب‬ ‫‪١١١٧‬هـ أربع قراءات أخرى‪ ،‬ومل‬
‫السؤال األول‪ ،‬فيجب عىل الباحث‬
‫علم الفيلولوجيا‪ ،‬سنجد السورة‬ ‫يتوقف العدد يف القراءات املختلفة‬
‫وضع اإليمان واأليديولوجية‬
‫بأكملها تتحدث عن البخل وتذم‬ ‫إىل هذا الحد‪ ،‬فقد ظهرت خمسون‬
‫جانبًا لدراسة مثل هذه النصوص‬
‫صاحبه‪ ،‬وتنبهه ملا قد يؤول إليه‬ ‫قراءة مختلفة بحسب ابن مجاهد‪،‬‬
‫الدينية بطريقة علمية ال مكان‬
‫أمره من مؤامرات يف الدنيا من‬ ‫وألف وأربعمائة وتسعة وخمسين‬
‫للعاطفة فيها‪.‬‬
‫أقرب الناس إليه قبل اآلخرة‪،‬‬ ‫رواية وطريقة بحسب الهذيل‪،‬‬
‫لكن تفسير علماء اإلسالم لهذه‬ ‫مما اضطر علماء اإلسالم إىل‬ ‫* التفسيرات التي تقدمها‬
‫السورة ذهب بعي ًدا ليجعل أحد‬ ‫وضع فتوى بعدم االجتهاد يف‬
‫أعمام الرسول وزوجته يف زاوية‬ ‫ضم املزيد من القراءات للقراءات‬ ‫ملعاني بعض األلفاظ‬
‫السب من اهلل لهما‪ ،‬تكرره ألسنة‬ ‫الرسمية‪ ،‬واعتبروا كل القراءات‬ ‫الواردة يف القرآن من‬
‫املسلمين عند كل صالة إىل يوم‬ ‫ما بعد القراءات األربع عشرة‪،‬‬ ‫ناحية‪ ،‬واالقتراحات‬
‫‪259‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫حوار‬

‫القيامة! وإذا ما عرفنا وقت‬


‫وسبب ظهور مثل هذه التفسيرات‬
‫يف عصر الخليفة أبو جعفر‬
‫املنصور العباسي‪ ،‬وما كان يحمله‬
‫من عداء لعمه عبد اهلل بن عيل‪،‬‬
‫لبطل العجب!‬

‫* يف بداية ظهورك يف‬


‫برنامج وقناة صندوق‬
‫اإلسالم لحامد عبد الصمد‬
‫ً‬
‫متحفظا إىل حد‬ ‫كنت‬
‫كبير‪ ،‬بحيث تقول ما‬
‫تعتقد دون أن تعلق أو‬
‫تشارك حامد يف تعليقاته‬
‫لينرت مولير‬ ‫إسرائيل فينكلستاين‬ ‫املعروفة‪ ،‬التي تنطلق من‬
‫نفي وجود رسالة اإلسالم‬
‫الرد به عىل ما أقدم هو السب‬ ‫نظرا لعدم‬
‫كبير كما تفضلت‪ً ،‬‬ ‫أساسا‪ ،‬ومن نفي الديانات‬ ‫ً‬
‫والشتم‪ ،‬وهذا النوع من ردود‬ ‫معرفتي بردة الفعل عىل مثل هذه‬ ‫عمو ًما‪ ..‬لكنك يف قناتك‬
‫الفعل مقدور عليه مادام مل يصل‬ ‫التصريحات الخطيرة‪ ،‬التي هي‬ ‫وبرنامجك «التاريخ املبكر‬
‫لحد األذى الجسدي‪ ،‬بل بالعكس‬ ‫يف الغالب ما تكون عنيفة‪ ،‬وقد‬
‫هناك تشجيعات كثيرة تأتي من‬ ‫تودي بصاحبها إىل الهالك‪ ،‬لكن‬
‫لإلسالم»‪ ،‬ويف أحاديثك‬
‫كل االتجاهات مصاحبة بالشكر‬ ‫اتضح يل األمر فيما بعد عند‬ ‫املتعددة أصبحت أكثر‬
‫واالمتنان‪ ،‬وهكذا يف برنامج‬ ‫مناقشة بعض أفراد عائلتي عىل‬ ‫جرأة‪ ،‬وتتحدث صراحة‬
‫«التاريخ املبكر لإلسالم» أصبحت‬ ‫ما قدمته للجمهور من معطيات‬ ‫ً‬
‫دليل‬ ‫عن نفي ما ال تجد‬
‫أكثر جرأة يف طرح الفرضيات‬ ‫تاريخية ولغوية مبنية عىل أسس‬ ‫عليه‪ ..‬ما الذي حدث بين‬
‫واألبحاث املثيرة للجدل‪ ،‬وأنا أعلم‬ ‫علمية صارمة‪ ،‬ليس الهدف منها‬
‫األمرين وغير وجهتك؟‬
‫أن هذه املعطيات الجديدة تحفز‬ ‫تحطيم عقيدة املسلمين‪ ،‬وإنما‬
‫عىل املزيد من البحث ودراسة‬ ‫رمي حجر املعرفة يف بركة التقليد‬ ‫‪ -‬يف بداية ظهوري عىل وسائل‬
‫املوروث الديني والثقايف لبلداننا‬ ‫الراكدة منذ أكثر من ألف سنة‪،‬‬ ‫التواصل االجتماعي خاصة مع‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وبدأنا نرى بصيص‬ ‫وما دمت يف إطار علمي صرف‬ ‫األستاذ حامد عبد الصمد الذي‬
‫األمل عند األجيال القادمة‪ ،‬ألنها‬ ‫دون تجريح أو هجوم عىل‬ ‫كان له الفضل هو والدكتور‬
‫لن تخضع لهيمنة رجال الدين‬ ‫مشاعر املسلمين‪ ،‬فنقاش مثل هذه‬ ‫هارون سعيد إبراهيم وبعض‬
‫والخرافات التي مألوا بها عقول‬ ‫املعطيات الجديدة مقبول ومرحب‬ ‫األصدقاء عىل مشاركة الجمهور‬
‫أجيال وأجيال من املسلمين‪،‬‬ ‫به يف أروقة البحث العلمي‪ ،‬وحتى‬ ‫الناطق باللغة العربية‪ ،‬بهذه‬
‫والكلمة األخيرة سوف تكون‬ ‫بين املثقفين أنفسهم‪ ،‬فلم أتعرض‬ ‫األبحاث غير املعروفة من علم‬
‫للعلم‪ ،‬وال سيادة فوق سيادة‬ ‫ألي مضايقات وال تهديدات من‬ ‫املخطوطات والتاريخ املبكر‬
‫العقل واملعرفة‬ ‫طرف الخصوم‪ ،‬فأقصى ما يمكن‬ ‫لإلسالم‪ ،‬كنت متحف ًظا إىل حد‬
‫‪260‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫السروجي ونشأة‬
‫مدرسة التاريخ الحديث‬ ‫د‪.‬جمال حجر‬

‫في اإلسكندرية‬

‫‪ ،modernity‬أي االنتقال من‬ ‫ألول مرة بمناهج «أكاديمية»؛‬ ‫يعد قسم التاريخ بكلية اآلداب‬
‫حال قديم إىل حال جديد‪ ،‬وقد‬ ‫فقد كانت قراءة التاريخ من قبل‬ ‫جامعة اإلسكندرية ثاني أقدم‬
‫شكل هذا التوجه نحو الحداثة‬ ‫شأن الهواة واألدباء من خارج‬ ‫األقسام الجامعية لتدريس التاريخ‬
‫نمط الحياة يف النصف الثاني‬ ‫املؤسسات األكاديمية؛ إذ مل يكن‬ ‫طبقًا للمناهج «األكاديمية»‪ ،‬يف‬
‫من القرن ‪ ،19‬فقبل عهد محمد‬ ‫يف مصر كلها يف الخمسينيات‬ ‫ثاني أقدم كلية لآلداب يف مصر‪.‬‬
‫عيل كانت كتابة التاريخ تسير‬ ‫من أساتذة التاريخ «األكاديميين»‬ ‫فقد تأسست يف عام ‪1938‬‬
‫طبقًا ملنهج الحوليات التقليدي‬ ‫سوى محمد شفيق غربال‬ ‫تحت رعاية جامعة فؤاد األول‬
‫الذي يعتمد خط الزمن سياقًا‬ ‫(تلميذ توينبي)‪ ،‬وحسن عثمان‬
‫(القاهرة)‪ ،‬أي قبل إنشاء جامعة‬
‫تُسرد عليه األحداث‪ ،‬ويف عهده‬ ‫(خريج روما)‪ ،‬وأحمد عزت عبد‬
‫فاروق األول (اإلسكندرية) عام‬
‫صارت دراسة التاريخ الحديث‬ ‫الكريم (تلميذ غربال)‪ ،‬وأحمد‬
‫‪ .1942‬وقتها مل تكن كوادر‬
‫واملعاصر جز ًءا من حركة النهضة‬ ‫عبد الرحيم مصطفى (تلميذ‬
‫الكلية العلمية قد تأسست‪ ،‬وكان‬
‫العامة التي اضطلع بها مؤسس‬ ‫عبد الكريم) وجميعهم بالقاهرة‪،‬‬
‫ومحمد مصطفى صفوت (خريج‬ ‫التدريس يف القسم‪ ،‬والكلية بصفة‬
‫مصر الحديثة‪ .‬ويف غياب مدرسة‬
‫أكاديمية تكتب تاريخ محمد عيل‪،‬‬ ‫ليفربول ولندن) وتلميذه محمد‬ ‫عامة‪ ،‬مسؤولية جامعة فؤاد‬
‫اعتمد الرجل عىل األجانب‪ ،‬إىل‬ ‫محمود السروجي باإلسكندرية‪.‬‬ ‫األول‪ ،‬التي كان عليها أن تزود‬
‫أن وضع الجبرتي بصمته عىل‬ ‫هؤالء هم املؤسسون األوائل‬ ‫الكلية باألساتذة من املصريين‬
‫هذه «املرحلة االنتقالية بالتجديد‬ ‫للمدرسة األكاديمية الوطنية يف‬ ‫واألجانب‪ .‬إىل أن تحملت جامعة‬
‫يف منهج الكتابة التاريخية‪،‬‬ ‫التاريخ الحديث‪.‬‬ ‫فاروق األول هذه املسؤولية‬
‫فطبق أصول «املنهج التحلييل»‬ ‫فكيف تشكلت دراسة التاريخ‬ ‫بإعداد كوادرها تدريجيًّا‪ .‬فكيف‬
‫للوقوف عىل الهدف من دراسة‬ ‫الحديث واملعاصر يف مصر يف‬ ‫تم ذلك‪.‬‬
‫املاضي وفهمه‪ ،‬وطرح األسئلة‬ ‫الفضاء األكاديمي؟‬ ‫مع نشأة الجامعة يف اإلسكندرية‬
‫حول أسباب األحداث واتجاهاتها‬ ‫دعونا نتخذ من عهد محمد عيل‬ ‫يف أجواء الحرب العاملية الثانية‪،‬‬
‫ونتائجها‪ ،‬فأحدث بذلك ثورة يف‬ ‫نقطة انطالق ملرحلة الحداثة‬ ‫بدأت عملية تدريس التاريخ‬
‫‪261‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫شخصيات‬

‫املنهج‪.‬‬
‫وتوفر عىل دراسة التاريخ‬
‫الحديث بعد الجبرتي كوكبة من‬
‫«الهواة» ذوي امليول الوطنية‬
‫ومنهم‪ :‬رفاعة الطهطاوي (‪-1801‬‬
‫‪ ،)1873‬وعيل مبارك (‪-1823‬‬
‫‪ ،)1893‬وأمين سامي (‪-1857‬‬
‫‪ ،)1941‬وإسماعيل سرهنك‬
‫(‪ ،)1924 -1854‬ومصطفى‬
‫كامل (‪ ،)1908 -1874‬ومحمد‬
‫فريد (‪ .)1919 -1868‬حملت هذه‬
‫الكوكبة مسؤولية التأريخ لألسرة‬
‫العلوية‪ ،‬ومع تذبذب كتاباتهم‬
‫بين التاريخ الحويل والتاريخ‬
‫بالتحليل‪ .‬وأكد جمال الدين‬
‫محمد شفيق غربال‬ ‫علي باشا مبارك‬ ‫عبد الرحمن الجبرتي‬
‫الشيال عىل أهمية التحوالت التي‬
‫أجرتها هذه الكوكبة يف مناهج‬
‫(األوىل)‪ ،‬ومحمد صبري‪ ،‬الذي‬ ‫كتخصص أدبي‪ُ ،‬ي َد َّرس يف‬ ‫الكتابة التاريخية‪.‬‬
‫درس يف السربون ثم عاد عام‬ ‫الجامعة األهلية التي أُنشئت عام‬ ‫وبدأ عهد محمد عيل يؤتي ثماره؛‬
‫‪ ،1924‬ومحمد شفيق غربال‪،‬‬ ‫‪ ،1908‬ويف الجامعة املصرية التي‬ ‫ففي عهد إسماعيل‪ ،‬تأسست‬
‫الذي درس يف لندن‪ ،‬وتتلمذ عىل‬ ‫نشأت عىل أكتافها عام ‪،1925‬‬ ‫الكتبخانة الخديوية عىل يدي عيل‬
‫يدي توينبي‪ ،‬ثم عاد عام ‪،1925‬‬ ‫ويف كلية اآلداب باإلسكندرية‬ ‫مبارك باشا عام ‪ ،1870‬وأُنشئت‬
‫ومحمد مصطفى صفوت الذي‬ ‫التي تفرعت منها عام ‪،1938‬‬ ‫مكتبة البلدية باإلسكندرية‪،‬‬
‫درس يف ليفربول ولندن‪ ،‬ثم عاد‬ ‫افتتحت دار العلوم‪ ،‬وأُدرج‬
‫والتي صارت نواة جامعة فاروق‬
‫فيها تدريس التاريخ كتخصص‬
‫يف مطلع األربعينيات‪ .‬نقل هؤالء‬ ‫األول باإلسكندرية عام ‪.1942‬‬
‫أكاديمي‪ ،‬برز فيه محمد عبده عام‬
‫األربعة أسس املناهج األوروبية‬ ‫ومع إنشاء هذه املؤسسات‬
‫‪ .1878‬ثم أُنشئت مدرسة املعلمين‬
‫الحديثة يف دراسة التاريخ‬ ‫التعليمية العليا‪ ،‬حدث تطور‬
‫العليا يف عام ‪ ،1880‬وتخرج‬
‫الحديث‪ ،‬وصبوا اهتمامهم عىل‬ ‫جوهري يف مناهج دراسة التاريخ‬
‫فيها محمد شفيق غربال‪ ،‬ومحمد‬
‫التاريخ الوطني‪ .‬وكان هذا توج ًها‬ ‫الحديث؛ فقد ظهر جيل جديد من‬ ‫رفعت‪ ،‬ومحمد فؤاد شكري‪،‬‬
‫جدي ًدا يف دراسة التاريخ الحديث‪.‬‬ ‫«املؤرخين املصريين األكاديميين»‬ ‫واستكملوا دراساتهم يف أوروبا‪،‬‬
‫هكذا كانت البداية الحقيقية يف‬ ‫املؤسسين للمدرسة الوطنية‪،‬‬ ‫وسارت مدرسة املعلمين بعد‬
‫التاريخ الوطني بالقاهرة مع‬ ‫واملتأثرين بالحركة الوطنية‪ ،‬التي‬ ‫ذلك طريقًا تمهيدية ملن يرغب يف‬
‫محمد شفيق غربال‪ ،‬أول مصري‬ ‫أفرزتها ثورة ‪ ،1919‬فطالبوا‬ ‫االلتحاق بالجامعات األوروبية‪،‬‬
‫يشغل وظيفة أستاذ التاريخ‬ ‫بتمصير تدريس التاريخ يف‬ ‫شوطا نحو الحداثة يف‬‫ً‬ ‫التي قطعت‬
‫الحديث بالجامعة املصرية‪.‬‬ ‫الجامعة بعد ضمها إىل وزارة‬ ‫مناهج دراسات التاريخ‪.‬‬
‫وكان محمد مصطفى صفوت‪،‬‬ ‫املعارف عام ‪ .1925‬ومنهم‪ :‬محمد‬ ‫وما إن وصلنا إىل النصف األول‬
‫تلميذ غربال يف مرحلة الليسانس‬ ‫رفعت‪ ،‬الذي درس يف ليفربول‬ ‫من القرن العشرين حتى صار‬
‫وخريج الجامعة املصرية‪،‬‬ ‫ثم عاد قبل نهاية الحرب العاملية‬ ‫للتاريخ الحديث شأن مستقل‬
‫‪262‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫وتعلم التاريخ الحديث عىل يديه‪.‬‬ ‫غزير‪ُ ،‬عين يف جامعة فؤاد األول‬ ‫أول أستاذ يف التاريخ الحديث‬
‫وحين تخرج يف الكلية عام ‪1946‬‬ ‫بالقاهرة عام ‪ ،1942‬ثم نُقل إىل‬ ‫واملعاصر يف اإلسكندرية؛ فبعد‬
‫يف أعقاب الحرب العاملية الثانية‪،‬‬ ‫كلية اآلداب باإلسكندرية مع‬ ‫حصوله عىل الليسانس عام‬
‫كان أول دفعته‪ ،‬فقاده طموحه‬ ‫افتتاح جامعة فاروق األول يف‬ ‫‪ ،1933‬حصل عىل دبلوم معهد‬
‫وتميزه إىل مواصلة املسيرة‬ ‫العام نفسه‪ ،‬ليكون حجر األساس‬ ‫التربية العايل عام ‪ ،1935‬ثم‬
‫العلمية‪ ،‬فالتحق بالدراسات‬ ‫الذي سيقوم عليه تخصص‬ ‫حصل عىل املاجستير من ليفربول‬
‫العليا‪ ،‬بينما كان يعمل أمينًا ملكتبة‬ ‫التاريخ الحديث بها‪.‬‬ ‫عام ‪ ،1937‬ثم الدكتوراه من لندن‬
‫الكلية‪ .‬وحصل عىل املاجستير‪،‬‬ ‫يف تلك الظروف التي جاءت‬ ‫عام ‪ .1939‬وخالل فترة وجوده‬
‫عىل يدي صفوت يف عام ‪،1950‬‬ ‫بصفوت إىل اإلسكندرية عام‬ ‫بإنجلترا ط َّوف باألرشيفات‬
‫مدرسا مساع ًدا بقسم‬
‫ً‬ ‫وعين‬
‫ُ‬ ‫‪ ،1942‬التحق الطالب محمد‬ ‫البريطانية والفرنسية واألملانية‪.‬‬
‫التاريخ‪ .‬وواصل مشواره فحصل‬ ‫محمود السروجي بكلية اآلداب‬ ‫وحين عاد إىل الوطن مزو ًدا بعلم‬
‫عىل الدكتوراه يف عام ‪1955‬‬
‫تحت إشراف صفوت نفسه‪،‬‬ ‫جامعة اإلسكندرية‬

‫وهو األستاذ املصري الوحيد يف‬


‫التخصص‪ ،‬وأحد أقطاب الرعيل‬
‫األول‪ ،‬الذي حمل املسؤولية‬
‫األكاديمية كاملة عىل أكتافه يف‬
‫بناء هذا الصرح األكاديمي‪.‬‬
‫ً‬
‫زميل ألستاذه‪.‬‬ ‫وصار التلميذ‬
‫ً‬
‫طويل‪،‬‬ ‫ومن أسف أن ذلك مل يدم‬
‫فقد تُويف األستاذ يف عام ‪1960‬‬
‫عاما‪،‬‬
‫عن عمر يناهز الخمسين ً‬
‫تار ًكا كامل املسؤولية عىل تلميذه‬
‫الوحيد يف اإلسكندرية ليواصل‬
‫املسيرة‪ ،‬فكان السروجي بذلك‬
‫أول أعضاء جيل الخمسينيات‪،‬‬ ‫مكتبة البلدية باإلسكندرية‬
‫واملؤسس الحقيقي ملدرسة‬
‫التاريخ الحديث يف اإلسكندرية‪.‬‬
‫وبينما صار السروجي وحده‬
‫يف اإلسكندرية‪ ،‬حرص عىل‬
‫التواصل مع تالميذ غربال يف‬
‫القاهرة‪ ،‬ومنهم‪ :‬أحمد عزت عبد‬
‫الكريم‪ ،‬وعبد العزيز الشناوي‪،‬‬
‫وأحمد الحتة‪ ،‬وأحمد عبد الرحيم‬
‫مصطفى‪ ،‬واألخير حصل عىل‬
‫الدكتوراه يف العام نفسه الذي‬
‫حصل فيه السروجي عليها‬
‫(‪ .)1955‬هذه الكوكبة من‬
‫أقران السروجي‪ ،‬شكلوا الجيل‬
‫سار السروجي في اختياره التاريخ‬
‫ً‬
‫ميدانا لدراساته التي تألق‬ ‫العسكري‬
‫فيها سي ًرا على نهج الزعيم الوطني‬
‫محمد فريد‪ ،‬الذي وضع في عام ‪1890‬‬
‫كتابا تحت عنوان‪" :‬البهجة التوفيقية في‬
‫ً‬
‫تاريخ مؤسس العائلة الخديوية"‪ ،‬وهو‬
‫أول عمل في التاريخ لمحمد فريد‪ ،‬مأل به‬
‫ً‬
‫فراغا في التاريخ العسكري لعصر محمد‬
‫علي وحروبه الخارجية‪ ،‬وتطور المسألة‬
‫الشرقية حتى معاهدة لندن ‪1840‬‬
‫مصطفى كامل‬

‫لذكراه»‪( .‬انتهى االقتباس)‬ ‫وأثيوبيا يف القرن التاسع عشر»‪.‬‬ ‫الثاني من مدرسة التاريخ‬
‫ويف عام ‪ 1967‬وجد السروجي‬ ‫ويعكس الكتاب العالقات املتوترة‬ ‫الوطنية األكاديمية يف القاهرة‬
‫الفرصة مناسبة لنشر رسالته‬ ‫بين البلدين وما نتج عنها من‬ ‫واإلسكندرية‪.‬‬
‫للدكتوراه‪ ،‬فقد شهد هذا العام‬ ‫صدامات عسكرية‪ .‬وخرج هذا‬ ‫وبعد أن تناولنا نشأة املدرسة‬
‫انكسار الجيش املصري يف‬ ‫الكتاب يتصدره تقديم كتبه‬ ‫الوطنية األكاديمية يف التاريخ‬
‫الحرب العربية اإلسرائيلية‪ ،‬فدفع‬ ‫األستاذ محمد شفيق غربال‪،‬‬ ‫الحديث وموقع السروجي منها‪،‬‬
‫برسالته إىل دار املعارف املصرية‪،‬‬ ‫فكان باكورة أعمال السروجي‬ ‫نستعرض فيما ييل مسيرة‬
‫فنشرتها تحت العنوان نفسه‪.‬‬ ‫املنشورة‪ .‬يقول غربال يف التقديم‬ ‫الرجل األكاديمية لنرى كيف‬
‫وقد كنت من املحظوظين الذين‬ ‫«دعاني الدكتور السروجي ألن‬ ‫تأثر بالرواد األوائل‪ .‬وأول ما‬
‫درسوا هذا الكتاب عىل يديه يف‬ ‫يكون يل نصيب يف الكتاب‪ ،‬بعد‬ ‫يلفت االنتباه‪ ،‬أن السروجي التقط‬
‫مرحلة الليسانس‪ .‬واآلن أتساءل‬ ‫أن كان يل نصيب يف مناقشة‬ ‫اهتمام الرواد ومن سبقوهم‬
‫عن مغزى توقيت النشر‪ ،‬الذي‬ ‫الرسالة الكبرى (يقصد رسالة‬ ‫بعصر محمد عيل وأسرته‪ ،‬فأعد‬
‫عاما‪ ،‬هل كان‬‫تأخر اثني عشر ً‬ ‫الدكتوراه)‪ ..‬وأني إذا ما ذكرت‬ ‫رسالته للماجستير عام ‪1950‬‬
‫أستاذنا يرفض الهزيمة أو النكسة‬ ‫مترحما‬
‫ً‬ ‫تلك املناقشة‪ ،‬ذكرت‬ ‫عن «عصر إسماعيل»‪ ،‬الذي كان‬
‫يف داخله‪ ،‬فدفع بكتابه دفا ًعا عن‬ ‫زميل شارك فيها‪ ،‬هو الدكتور‬ ‫ً‬ ‫امتدا ًدا لعصر النهضة الحديثة‪،‬‬
‫الجيش املصري؟ أم أنه أراد أن‬ ‫محمد مصطفى صفوت‪ ،‬تلميذي‬ ‫التي بدأت مع محمد عيل‪ .‬ثم‬
‫ُيص ِّدر إحساسه برفض الهزيمة‬ ‫ثم زمييل‪ ..‬وصفوت هو صاحب‬ ‫أعد رسالته للدكتوراه يف عام‬
‫إىل طالبه‪ ،‬كي يخرجنا من تلك‬ ‫الفضل عىل صاحب هذا الكتاب‪،‬‬ ‫‪ 1955‬عن «الجيش املصري‬
‫الحالة البائسة التي انتابتنا جمي ًعا‬ ‫كان أستاذه ومرشده وصديقه‪،‬‬ ‫يف القرن التاسع عشر»‪ .‬ويف‬
‫ونحن نتجرع مرارتها؟ هل أراد‬ ‫أخطها لهذا التقديم‪،‬‬ ‫واألسطر التي ُ‬ ‫عام ‪ 1960‬استخرج جز ًءا منها‬
‫أستاذنا السروجي أن يحدثنا‬ ‫كان هو أوىل بذلك مني‪ ،‬فلتكن‬ ‫للنشر‪ ،‬وطوره ووضعه تحت‬
‫يف محاضراته عن عظمة الجيش‬ ‫وإكراما‬
‫ً‬ ‫أيضا عرفانًا بفضله‬
‫ً‬ ‫عنوان‪« :‬العالقات بين مصر‬
‫‪264‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫ُكتبت بلغة عربية متداخلة مع‬ ‫ويف سبيل تحقيق هذه الدراسة‬ ‫املصري يف قوته وفتوحاته‪،‬‬
‫اللغة التركية‪ ،‬بخط يد رديء‪،‬‬ ‫اعتمد السروجي عىل ما أُتيح له‬ ‫لينسينا ما لحق به من هزيمة‪،‬‬
‫ميلء باألخطاء النحوية واللغوية‪،‬‬ ‫من مادة أرشيفية أصيلة‪ ،‬من‬ ‫وما لحق بنا من انكسار؟ وقُدر‬
‫فال هي عربية سليمة وال تركية‬ ‫وثائق عربية وتركية وفرنسية‬ ‫لهذا الكتاب أن يعاد نشره يف عام‬
‫صحيحة‪ ،‬وإنما هي تمثل مرحلة‬ ‫وأمريكية محفوظة يف دار الوثائق‬ ‫‪ 2012‬يف أعقاب أحداث يناير‬
‫انتقال‪ ،‬وتدل داللة واضحة‬ ‫التاريخية القومية‪ ،‬واض ًعا نصب‬ ‫‪ 2011‬ودور الجيش يف تحمل‬
‫عىل روح العصر‪ .‬وقد حرص‬ ‫عينيه ما كتبه غربال عن الجيش‬ ‫املسؤولية فيها‪.‬‬
‫السروجي يف اقتباساته عىل أن‬ ‫دفترا من دفاتر‬‫ً‬ ‫املصري من «أن‬ ‫لقد سار السروجي يف اختياره‬
‫يكتب النصوص بعيوبها اللغوية‬ ‫املحفوظات يدلنا عىل أرزاق الجند‬ ‫التاريخ العسكري ميدانًا لدراساته‬
‫مصححا ما فيها من‬
‫ً‬ ‫كما هي‪،‬‬ ‫وطعامهم ولباسهم‪ ،‬لهو وثيقة‬ ‫سيرا عىل نهج‬ ‫ً‬ ‫التي تألق فيها‬
‫عيوب يف الشروح التي يقدمها يف‬ ‫لها خطرها‪ ،‬وال ُيستطاع كتابة‬ ‫الزعيم الوطني محمد فريد‪،‬‬
‫الهوامش‪.‬‬ ‫تاريخ الجيش املصري إال بها‬ ‫الذي وضع يف عام ‪ 1890‬كتا ًبا‬
‫ويلفت االنتباه أن السروجي‬ ‫وبمثيالتها»‪.‬‬ ‫تحت عنوان‪« :‬البهجة التوفيقية‬
‫أهدى الكتاب إىل‪« :‬جنودنا‬ ‫وحين ولج السروجي إىل حيث‬ ‫يف تاريخ مؤسس العائلة‬
‫البواسل الذين جادوا بأرواحهم‬ ‫أشار األستاذ غربال يف دار‬ ‫الخديوية»‪ ،‬وهو أول عمل يف‬
‫فدا ًء لهذا الوطن وإعال ًء لكلمة‬ ‫الوثائق القومية‪ ،‬وجد تنو ًعا‬ ‫التاريخ ملحمد فريد‪ ،‬مأل به فراغًا‬
‫الحق‪ ،‬وإىل شهدائنا الذين بذلوا‬ ‫وتشعبًا معق ًدا من الدفاتر وامللفات‬ ‫يف التاريخ العسكري لعصر‬
‫فكانوا ً‬
‫مثل يف السخاء‪ ،‬وإىل‬ ‫التي تغطي مختلف نواحي الحياة‬ ‫محمد عيل وحروبه الخارجية‪،‬‬
‫أبطالنا املغمورين‪ ،‬وإىل الجندي‬ ‫يف املجتمع املصري‪ ،‬وكان عليه‬ ‫وتطور املسألة الشرقية حتى‬
‫معاهدة لندن ‪ .1840‬وجاء تناول‬
‫املجهول»‪ .‬هذا التصنيف الرباعي‬ ‫أن يستخلص منها ما يخدم‬
‫مكمل ملا بدأه محمد‬ ‫ً‬ ‫السروجي‬
‫لجنودنا الذين خاضوا املعارك‬ ‫موضوعه‪ ،‬فركز اهتمامه عىل‬
‫فريد ومختلفًا عنه موضوعيًّا‬
‫يكشف عن حس مرهف عند‬ ‫دفاتر أوامر الجهادية‪ ،‬وهي‬
‫تكرارا له عىل أية‬ ‫ً‬ ‫ومنهجيًّا‪ ،‬وليس‬
‫الرجل‪ ،‬وإدراك وطني عايل‬ ‫ملفات املراسالت املتبادلة بين‬
‫حال‪.‬‬
‫املستوى‪ ،‬ومشاعر إنسانية‬ ‫ديوان الجهادية وفروعه ووحدات‬
‫ويف دراسة السروجي عن الجيش‬
‫فياضة‪.‬‬ ‫الجيش املختلفة»‪ .‬وقد رصد‬
‫املصري‪ ،‬حدد لنفسه هدفًا‬
‫ومل يتناول السروجي الحروب‬ ‫مؤرخنا أن هذه املراسالت قد‬
‫وضوحا‬
‫ً‬ ‫واضحا‬
‫ً‬
‫ال يشوبه شك‪،‬‬
‫فقد حدد الزمان‬
‫بالنصف الثاني‬
‫من القرن ‪19‬م‬
‫ليسد ثغرة من‬
‫ثغرات تاريخ‬
‫مصر الحديث‪.‬‬
‫وحدد املوضوع‬
‫بدراسة الجيش‬
‫البري دون غيره‬
‫من فروع (قوات)‬
‫الجيش املختلفة‪.‬‬
‫‪265‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫شخصيات‬

‫التي خاضها الجيش املصري يف‬


‫رسالته للدكتوراه‪ ،‬ألنه كان يعد‬
‫لدراستها كتا ًبا آخر‪ ،‬صدر يف‬
‫عام ‪ ،1966‬تحت عنوان‪“ :‬مصر‬
‫واملسألة الشرقية يف النصف‬
‫الثاني من القرن ‪19‬م”‪ ،‬تناول‬
‫فيه دور الجيش املصري يف‬
‫الحروب الخارجية التي خاضتها‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬واستقى‬
‫معلوماته من الوثائق العربية‬
‫والتركية والبريطانية والفرنسية‬
‫واألمريكية والنمساوية‪ .‬وكان‬
‫تيارا‬
‫موضوع “املسألة الشرقية” ً‬
‫عا ًّما يف الكتابة التاريخية‪ ،‬كتب‬
‫فيه الغربيون والشرقيون عىل‬
‫محمد محمود السروجي‬ ‫جمال الدين الشيال‬ ‫أرنولد توينبي‬
‫حد سواء للتعبير عن الصراع‬
‫األوروبي عىل الدولة العثمانية‬
‫وتوابعها‪ ،‬وانعكاسات ذلك عىل‬
‫وكلمة مفتاحية دالة عىل الرجل‬ ‫التي تشكلت من مزيج أوروبي‪-‬‬ ‫مصر‪ .‬وقد تأثر السروجي بمن‬
‫ومكانته‪ ،‬يعرفه املشتغلون‬ ‫وطني يف املنهج يف كل من القاهرة‬ ‫سبقوه يف هذا االتجاه‪ ،‬وأولهم‬
‫بالبحث يف التاريخ يف داخل‬ ‫واإلسكندرية‪.‬‬ ‫يف مصر مصطفى كامل الذي‬
‫الوطن وخارجه‪ ،‬ويرددون اسمه‬ ‫ويف هذه املرحلة املبكرة‪ ،‬مل‬ ‫وضع كتا ًبا عام ‪ 1898‬تحت‬
‫للم ِكين وعنوانًا للمكان‪ ،‬إذ‬
‫َس ْمتًا َ‬ ‫يتعرض السروجي للبحرية‬ ‫عنوان «املسألة الشرقية»‪ ،‬ومن‬
‫يكفي أن تنطق باسم السروجي‬ ‫املصرية‪ ،‬ألنه كان ُيخطط ألن‬ ‫األكاديميين محمد شفيق غربال‪،‬‬
‫يف أي محفل أكاديمي وعىل أي‬ ‫تكون ميدانًا لدراسة مستقلة‬ ‫الذي أعد كتا ًبا عن «بداية املسألة‬
‫مستوى بين أساتذة التاريخ‪ ،‬أو‬ ‫الحقة‪ .‬وبالفعل جرى التنسيق‬ ‫املصرية»‪ ،‬ومن بعده محمد‬
‫بين جامعة اإلسكندرية والقوات‬ ‫صبري السربوني الذي كتب‬
‫الباحثين فيه‪ ،‬أو طالبه‪ ،‬لتعرف‬
‫البحرية‪ ،‬وبمقتضاه أنجز‬ ‫عن «مصر واملسألة الشرقية»‪،‬‬
‫أنك صدد رجل مهد لنا الطريق‪،‬‬
‫السروجي موضوع‪« :‬تاريخ‬ ‫ومحمد مصطفى صفوت الذي‬
‫ولديه رصيد واسع من الخبرة‪،‬‬
‫البحرية املصرية يف العصر‬ ‫كتب عن «املسألة الشرقية‬
‫احتضنته جامعة اإلسكندرية منذ‬
‫الحديث»‪ ،‬يف عام ‪ .1974‬وهكذا‬ ‫ومؤتمر باريس»‪.‬‬
‫اليوم األول لنشأتها حتى وافته‬ ‫قدم السروجي قوة مصر‬ ‫ويؤكد هذا أن توجهات السروجي‬
‫سفيرا لها يف‬
‫ً‬ ‫املنية‪ ،‬وأرسلته‬ ‫العسكرية عىل صفحات ناصعة‬ ‫الوطنية يف التاريخ كانت تسير‬
‫الجامعات حديثة النشأة ليقدم لها‬ ‫البياض يف البر والبحر داخل‬ ‫عىل نهج املؤسسين األوائل‪،‬‬
‫من خبرته يف التأسيس والبناء‪،‬‬ ‫حدود الوطن وخارجه‪.‬‬ ‫فالتواصل مع كل من غربال‬
‫كما فعل يف اململكة العربية‬ ‫صار «السروجي» يف عام ‪1971‬‬ ‫مستمرا‪ ،‬وهذا‬
‫ً‬ ‫وصفوت كان‬
‫السعودية وليبيا‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬ ‫أستاذ كرسي التاريخ الحديث‬ ‫ما يجسد استخدامنا ملصطلح‬
‫للم ْب َت ِدي وإن أجاد‬
‫ويبقى «الفضل ُ‬ ‫واملعاصر يف جامعة اإلسكندرية‪،‬‬ ‫«املدرسة األكاديمية املصرية» يف‬
‫املقْتَدِي»‬ ‫وأصبح اسم علم واسم شهرة‪،‬‬ ‫الكتابة التاريخية‪ ،‬وهي املدرسة‬
‫‪266‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫حسين فوزي‪..‬‬
‫فقيه العلوم‬ ‫د‪.‬فوزي الشامى‬

‫والفنون واآلداب‬

‫«إن مل تكن السيمفونية التاسعة‬


‫هائل عن البهجة‪ ،‬ودعوة‬ ‫ً‬ ‫تعبيرا‬
‫ً‬
‫لإلنسانية أن تَرفع رأسها لتُسبح‬
‫الخالق يف عاله وتحمده عىل‬
‫عطاياه‪ ،‬أليست هي السيمفونية‬
‫التي تهزج يف حركتها الكورالية‬
‫(الجزء الغنائى) بأهازيج اإلخاء‬
‫والسالم‪ ،‬وتدعو املاليين إىل‬
‫املحبة والوئام‪ ،‬عىل لسان الشاعر‬
‫شيللر يف قصيدته‪ ..‬إىل الفرح»‪.‬‬
‫إنها كلمات حسين فوزي يف‬
‫كتابه بعنوان «بيتهوفن»‪ ،‬وهو‬
‫مؤلف تلك السمفونية‪ ،‬الذي‬
‫َأطلق عليه يف مطلع كتابه هذا‪،‬‬
‫الذي صدر عام ‪ ،1971‬وسط‬
‫مؤلفاته من السندباديات «سيد‬
‫املوسيقيين»‪.‬‬
‫حسين فوزي‪ ،‬فقيه العلوم‬
‫والفنون واآلداب‪ ،‬إىل جانب أنه‬
‫أستاذ يف علوم البحار وأديب‬
‫وكاتب بارع‪ ،‬فهو فنان موسيقي‬
‫ممارس ومتعمق‪ ،‬ومفكر فريد‪،‬‬
‫له دور كبير يف توجيه الثقاقه‬
‫العربية واملصرية ألكثر من ثلثي‬
‫قرن‪ ،‬كانت مليئة بالصراعات‬
‫‪267‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫شخصيات‬

‫مديرا لها عام‬‫ً‬ ‫ملدير الجامعة‪ ،‬ثم‬ ‫واألحداث والتغييرات والتطورات‬


‫رئيسا للمجمع‬ ‫ً‬ ‫‪ ،1945‬كما انتخب‬ ‫التاريخية الكبيرة يف مصر‬
‫العلمي املصري عام ‪.1968‬‬ ‫واملنطقة العربية والعامل أجمع‪،‬‬
‫إىل جانب هذا كله‪ ،‬فإن حسين‬ ‫ولدوره الكبير يف مجال الثقافة‬
‫فوزي‪ ،‬بصفته أديب وكاتب‬ ‫فقد ُمنح جائزة الدولة التقديرية‬
‫متمكن‪ ،‬فقد تميز أسلوبه بروح‬ ‫عام ‪ 1966‬من الرئيس جمال عبد‬
‫الفكاهة حتى يف تناوله ألعقد‬ ‫الناصر‪.‬‬
‫املوضوعات‪ ،‬وهو ما تشهد به‬ ‫حسين فوزي من مواليد حي‬
‫كتبه يف تاريخ الحضارة أو‬ ‫الحسين العريق عام ‪ ،1900‬العام‬
‫املوسيقى ومقاالته املنشورة‬ ‫الذي أصدر فيه الزعيم مصطفي‬
‫بجريدة األهرام طوال ثالث‬ ‫كامل العدد األول من جريدة‬
‫مصدرا‬
‫ً‬ ‫حقب‪ ،‬والتي ستبقى‬ ‫اللواء‪ ،‬وتم فيه تسيير أول قطار‬
‫للمعرفة يف الحياة العلمية‬ ‫بين القاهرة والخرطوم‪ ،‬وكلها‬
‫والثقافية بشكل عام واملوسيقية‬ ‫توفيق الحكيم‬ ‫إمدادات حضارية‪ ،‬وكانت والدته‬
‫بشكل خاص‪ ،‬كما أنه بحكم‬ ‫علما‪ ،‬ثم ً‬ ‫يف حضن اآلثار اإلسالمية‪،‬‬
‫عمل يف‬ ‫ومارسها ً‬
‫دراسته الخاصة والهواية‬ ‫فتربت أذنه عىل سماع اآلذان‬
‫رحالته الشهيرة‪ ،‬منها أنه كان‬
‫واالستماع الدائم واالطالع‬ ‫والتواشيح واالبتهاالت الدينية‪،‬‬
‫ضمن الرحلة العلمية للسفينة‬ ‫تبر ًكا بسيدنا‬
‫املتبحر واملمارسة العملية يف‬ ‫ولعل اسمه جاء ُّ‬
‫عزف الفيولينة «الكمان»‪ ،‬فنان‬ ‫(مباحث) التي طافت املحيط‬ ‫الحسين‪ ،‬ورغم هذا فقد تأثر‬
‫متعمق يف العلوم املوسيقية‪ ،‬يملك‬ ‫الهندي‪.‬‬ ‫حسين فوزي بالثقافة والحضارة‬
‫رؤية موسيقية خاصة ال يتمتع‬ ‫ترأس معهد علوم البحار‬ ‫كثيرا‪ ،‬رغم انغماس‬
‫ً‬ ‫الغربية‬
‫بها كثيرون من املتخصصين‪.‬‬ ‫ً‬
‫وكيل‬ ‫باإلسكندرية‪ ،‬كما كان‬ ‫أسرته يف تقاليدها بعي ًدا عن أية‬
‫الخمسينيات والستينيات من‬ ‫ملصلحة املصايد بعد عودته‬ ‫تقاليد أوروبية‪.‬‬
‫القرن املاضي مل تكن فترة‬ ‫من بعثته بالخارج لدراسة‬ ‫ربما مل تُنجب مصر من أبناء‬
‫صحوة سياسية فحسب‪ ،‬بل‬ ‫علوم األحياء املائية‪ ،‬ثم أصبح‬ ‫طبقتها املتوسطة البسيطة‬
‫كانت انتفاضة ثقافية حقيقية‬ ‫أول عميد لكلية العلوم بجامعة‬ ‫الكثيرين من أمثال حسين فوزي‪،‬‬
‫يف شتَّى مجاالتها من أدب‬ ‫اإلسكندرية عام ‪ ،1942‬فنائبًا‬ ‫فهو نموذج فريد من نوعه‪ ،‬لتعدد‬
‫وفنون ومعرفة‪ ،‬أطلقتها ثورة‬ ‫صنائعة يف مجاالت متباينة هامة‬
‫‪ 23‬يوليو ‪ ،1952‬وكان وراء‬ ‫يف صنع األمم‪ ،‬وكما يقولون هو‬
‫هذه االنتفاضة نخبة من حاميل‬ ‫صاحب سبع صنائع‪ ،‬ذلك لتعدد‬
‫شعلتها‪ ،‬كان حسين فوزي يف‬ ‫دراساته‪ ،‬ففي طفولته تعلم يف‬
‫مقدمتهم‪ ،‬فله دور بارز ما زلنا‬ ‫ُكتَاب الشيخ سليمان جاويش‬
‫نشهد تأثيره العميق‪ ،‬فهو أول‬ ‫بباب الشعرية‪ ،‬ويف شبابه‬
‫من طالب يف أعقاب ثورة يوليو‪،‬‬ ‫حصل عىل بكالوريوس الطب‪،‬‬
‫بإنشاء املجلس األعىل للفنون‬ ‫ثم ليسانس العلوم يف جامعة‬
‫واآلداب والعلوم االجتماعية‪ ،‬ويف‬ ‫السوربون‪ ،‬فدبلوم الدراسات‬
‫نفس الوقت َدعا إلنشاء أكاديمية‬ ‫العليا يف علوم األحياء املائية يف‬
‫متخصصة يف الفنون‪.‬‬ ‫جامعة تولوز‪ ،‬فأصبح أستاذًا‬
‫حينما كنت تلميذًا يف املدرسة‬ ‫درسها‬‫يف علوم البحار‪ ،‬التي َّ‬
‫‪268‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫مدينة أبردين بأسكتلندا‪ ،‬بعد أن‬ ‫جريدة األهرام بكل شغف‪ ،‬وإن‬ ‫اإلعدادية‪ ،‬ويف إحدى الليايل عندما‬
‫تخرج من كلية الزراعة بجامعة‬ ‫كان يصعب عيلَّ فهمها إىل ح ٍد ما‬ ‫كنت أستذكر دروسي‪ ،‬كنت‬
‫القاهرة‪ ،‬وهو من املهتمين باألدب‬ ‫آنذاك‪ ،‬وكم تمنيت بشدة لقاء هذا‬ ‫أُدير مؤشر الراديو بين محطات‬
‫واملسرح واملوسيقي والفنون‬ ‫الرجل املتفرد صانع االستنارة يف‬ ‫اإلذاعة كعادتي يف كل مساء بال‬
‫والثقافة عامة‪ ،‬ويف حقيقة األمر‬ ‫يوم ما‪.‬‬ ‫هدف محدد‪ ،‬ربما ألجد نشرة‬
‫أنني تعلمت منه الكثير يف كل‬ ‫مل تتحقق أمنية لقائي به إال‬ ‫إخبارية أو تمثيلية أو أغنية أو‬
‫هذه املجاالت آنذاك‪ ،‬وهو من‬ ‫بعد سنوات طويلة حينما كان‬ ‫متحججا‬
‫ً‬ ‫غير ذلك ألستمع إليها‪،‬‬
‫مريدي ومحبي حسين فوزي‪،‬‬ ‫عىل رأس املرافقين ألوركسترا‬ ‫بأن هذا سيلطف من عناء ومشقة‬
‫وكنت أغار منه حيث كان يالزم‬ ‫الكونسرفتوار يف رحلته إىل‬ ‫عملية مذاكرة الدروس الثقيلة عىل‬
‫حسين فوزي ألوقات أكثر مني‪،‬‬ ‫فيينا‪ ،‬ثم أبردين بأسكتالندا‬ ‫وأخيرا توقفت عن‬ ‫ً‬ ‫قلبي ونفسي‪،‬‬
‫مشغول يف تدريبات‬ ‫ً‬ ‫حيث كنت‬ ‫للمشاركة يف مهرجانات للشباب‪،‬‬ ‫البحث‪ ،‬واستقر املؤشر مصادفة‬
‫األوركسترا التي مل أستطع‬ ‫وكنت ضمن أعضاء األوركسترا‪،‬‬ ‫عند موجه البرنامج الثاني‪،‬‬
‫الزوغان منها بسبب الرقابة‬ ‫وانتهزتها فرصة فكنت طوال أيام‬ ‫حيث كان يأتي منها صوت‬
‫املشددة من أستاذتنا الجليلة‬ ‫الرحلة أراقبه وأتحين الفُرص‬ ‫رجل يتحدث حول شيء ما عن‬
‫الدكتورة سمحة أمين الخويل‬ ‫ألتحدث معه‪ ،‬وكان يحادثني يف‬ ‫املوسيقي‪ ،‬ال أعرف ما هو‪ ،‬ومل‬
‫عميدة الكونسرفتوار آنذاك‪.‬‬
‫بساطة العلماء‪ ،‬حتى أنه كسر‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن‬‫أُدرك الحديث عنه ً‬
‫بلغت بساطة حسين فوزي معنا‬ ‫ما جذب سمعي إليه‪ ،‬هو أسلوبه‬
‫بذلك حواجز املركز والسن‬
‫أنه حدثني وصديقي إسماعيل‬ ‫الشيق يف الحديث‪ ،‬فكان يتحدث‬
‫كما كان يفعل مع كل الشباب‪،‬‬
‫عن ذكرياته مع رفيقه وصديقه‬ ‫اللغة العربية الفصحي ممزوجة‬
‫مفسحا املجال لعالقات إنسانية‬ ‫ً‬
‫املقرب املحبب إىل قلبه‪ ،‬توفيق‬ ‫بلغة عامية راقية تتسم بروح‬
‫وفنية يعتز بها كل من كان‬
‫الحكيم‪ ،‬فقد كانا من ُكتاب جريدة‬ ‫الفكاهة والدعابة‪.‬‬
‫يتقرب إليه‪.‬‬
‫األهرام يف نفس الوقت‪ ،‬وكنت‬ ‫كان اسم املتحدث حسين فوزي‪،‬‬
‫ً‬
‫محظوظا ج ًّدا يف هذه الرحلة‬ ‫مل أكن أغتنم فرص لقائه‬
‫عرفت ذلك يف نهاية الحلقة‪ ،‬وملا‬
‫بالتعرف إليه عن قرب وبشكل مل‬ ‫بمفردي‪ ،‬ولكن كان يالزمني‬ ‫جذبني بشدة طريقة وأسلوب‬
‫يكن يف الحسبان‪.‬‬ ‫فيها صديق العمر الناقد الفني‬ ‫حديثه الشيق الذي مل أفهم منه‬
‫وحالفني الحظ مرة آخرى يف‬ ‫إسماعيل عز الدين الذي كان‬ ‫شيئًا‪ ،‬وصوته الذي ُيشعرك‬
‫أن ألتقي به ونلتقي به جمي ًعا‬ ‫يدرس وقتها السياحة ويقيم يف‬ ‫أللفة والطيبة واملودة‪ ،‬وكأنك‬ ‫با ُ‬
‫يف أمسية لالحتفال بالنجاح‬ ‫تعرفة من زمن بعيد‪ ،‬بدأت متابعة‬
‫الذي حققه األوركسترا يف‬ ‫برنامجه‪ ،‬وتوالت لقاءاتي معه‬
‫رحلته‪ ،‬كما حضره األستاذة‬ ‫عبر أثير اإلذاعة‪ ،‬ومل تكن هذه‬
‫الدكتورة عائشة صبري عميدة‬ ‫اللقاءات مصادفه كاملرة األوىل‪،‬‬
‫كلية التربية املوسيقية آنذاك‬ ‫ولكنها أصبحت لقاءات متعمدة‬
‫والفنان املوسيقار مدحت عاصم‪،‬‬ ‫وعادة ملحة عندي‪ ،‬فمن خالل‬
‫وبطبيعة الحال د‪.‬سمحة الخويل‬ ‫أحاديثه وتفسيراته وشروحاته‬
‫والفنان جمال عبد الرحيم وأمين‬ ‫يف الفنون والثقافة فتح أمامي‬
‫املعهد األستاذ فهمي منصور‪،‬‬ ‫بعد عناء الفهم نافذة عىل عامل‬
‫وأعضاء هيئة التدريس والطالب‪،‬‬ ‫عبقري فسيح وجديد ميلء‬
‫وقد أسعدني أن تطلب مني‬ ‫بالسحر والتأمل والخيال‪ ،‬ثم‬
‫د‪.‬سمحة أن ألقي كلمة ترحيب‬ ‫أبو بكر خيرت‬ ‫بدأت أتابع مقاالته األسبوعية يف‬
‫‪269‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫شخصيات‬

‫بالضيوف نياب ًة عن زمالئي‬


‫طالب الكونسرفتوار‪.‬‬
‫هناك جوانب عديدة يف حياة‬
‫حسين فوزي مليئة بالجهد‬
‫والعطاء‪ ،‬الذي مل يكن يف‬
‫دورا تطوعيًّا‬
‫صياغة رسمية بل ً‬
‫توجيهيًّا بشكل عام خاصة يف‬
‫مجال تعليم الفنون‪ ،‬نبع من‬
‫خالل أمرين‪ ،‬أولهما‪ :‬إيمانه‬
‫بأن التعليم املتخصص ضرورة‬
‫ملحة ملجتمعنا‪ ،‬ولذلك كان من‬
‫أوائل من دعوا إىل إنشاء أكاديمة‬
‫للفنون يف مصر‪ .‬وثانيهما‪ :‬دوره‬
‫وجهوده يف تأسيس وتنظيم‬
‫وتوجيه التعليم املوسيقي‬
‫مدحت عاصم‬ ‫سمحة أمين الخولي‬ ‫ثروت عكاشة‬
‫املتخصص وتشجيع املواهب‬
‫الشابة‪ .‬وملعرفته الواسعة بنظم‬
‫املعاهد القليلة األجنبية الخاصة‬ ‫مهمته تخريج املعلمات املؤهالت‬ ‫واتجاهات التعليم املوسيقي‬
‫التي تهتم فقط بتعليم العزف‪.‬‬ ‫لتدريس التربية املوسيقية يف‬ ‫يف كثير من دول العامل املتقدم‬
‫مل يكن حسين فوزي يحلم وحده‬ ‫مدارس التعليم العام‪ ،‬والذي‬ ‫يف الشرق والغرب‪ ،‬وكان له‬
‫أيضا منذ‬
‫بذلك‪ ،‬بل إنه ظهر ً‬ ‫ُس ِّمي فيما بعد بمعهد التربية‬ ‫دور كبير وأساسي يف التمهيد‬
‫أوائل الخمسينيات ومع ثورة‬ ‫املوسيقية العربية‪ ،‬وهو الذي‬ ‫إلنشاء الكونسرفتوار يف أواخر‬
‫‪ 1952‬شعور عام لدى املسؤلين‬ ‫يتوىل تخريج العازفين واملغنين‬ ‫الخمسينيات‪ ،‬إىل جانب ما كان‬
‫واملهتمين بالحاجة امللحة إلنشاء‬ ‫وامللحنين يف مجال املوسيقى‬ ‫قائما من املعاهد منذ الثالثينيات‪.‬‬‫ً‬
‫مثل هذا املعهد‪.‬‬ ‫وجدير بالذكر هنا أن نعود إىل‬
‫العربية التقليدية يف مصر وسائر‬
‫الوراء لنتذكر أنه عندما ُعقد‬
‫وألن حسين فوزي كان من‬ ‫أنحاء الوطن العربي‪ ،‬ثم تحول‬
‫املؤتمر األول للموسيقي العربية‬
‫القالئل أصحاب الرؤية املستقبلية‬ ‫بعد ذلك إىل معهد عايل للموسيقي‬
‫عام ‪ 1932‬بالقاهرة‪ ،‬عاصره‬
‫املتطلعين لثقافه قومية عالية‬ ‫العربية وتم ضمه إىل معاهد‬
‫حدث كبير األهمية يعتبر من‬
‫تماما‬
‫ً‬ ‫املستوى‪ ،‬فقد كان يدري‬ ‫أكاديمية الفنون فيما بعد‪.‬‬ ‫أبرز وأهم معامل تطور التعليم‬
‫وبكل الوعي ما يمثله هذا النوع‬ ‫إىل جانب إيمانه برساله املعاهد‬ ‫يف مصر‪ ،‬ففي الثالثينيات بدأ‬
‫املتخصص من التعليم املوسيقي‬ ‫املوسيقية القائمة‪ ،‬كان حسين‬ ‫إدخال التعليم املوسيقي (مادة‬
‫من قيم فنية كبيرة سوف تنعكس‬ ‫فوزي يحلُم بيوم يري يف مصر‬ ‫املوسيقى) يف مدارسنا ضمن‬
‫عىل مجمل الحياة املوسيقية ويف‬ ‫معه ًدا رفيع املستوي ُيخرج‬ ‫مناهج التربية والتعليم يف شكل‬
‫شتي جوانبها‪ ،‬لذلك كان إيمانه‬ ‫كفاءات عىل أعىل املستويات يف‬ ‫نماذج أوروربية مع شيء من‬
‫قو ًّيا بإنشاء الكونسرفتتوار‪.‬‬ ‫األداء املوسيقي عزفًا وغنا ًء‪،‬‬ ‫املالءمة للبيئة املصرية‪ ،‬مما‬
‫يف الخمسينيات أصدرت لجنة‬ ‫وكذلك يف مجال التأليف والقيادة‬ ‫اقتضى إنشاء معاهد متخصصة‪،‬‬
‫املوسيقى باملجلس األعيل لرعاية‬ ‫والنقد املوسيقي والعلوم‬ ‫فتم إنشاء اثنين‪ ،‬األول‪ :‬معهد‬
‫الفنون واألداب توصية بإنشاء‬ ‫أيضا‪ ،‬ليحل محل‬ ‫املوسيقية ً‬ ‫معلمات املوسيقي والذي كانت‬
‫‪270‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫قامت وزارة الثقافة باستقدام‬ ‫ويف أكتوبر ‪ 1959‬فتح معهد‬ ‫معهد كونسرفتوار لتخريج‬
‫عميد له هو املؤلف املوسيقي‬ ‫الكونسرفتوار أبوابه يف فيلال‬ ‫موسيقيين مصريين بارعين يف‬
‫اإليطايل شيزاري نورديو‪ ،‬الذي‬ ‫صغيرة بالزمالك (مقر وزارة‬ ‫كل جوانب الفنون املوسيقية رف ًعا‬
‫تم تكليفه بتحديد املشاكل التي‬ ‫الثقافة الحاىل)‪ ،‬ودعي للتدريس‬ ‫ملستوى التخصص املوسيقي‪،‬‬
‫واجهها املعهد يف سنوات اإلنشاء‪،‬‬ ‫به عدد كبير من املشتغلين‬ ‫ودف ًعا للحياة املوسيقية املصرية‬
‫واقتراح الحلول لها يف ضوء‬ ‫باملوسيقي يف القاهرة من‬ ‫إىل آفاق أوسع وأرحب‪ ،‬وهنا جاء‬
‫خبرته التعليمية ليحقق املعهد‬ ‫جنسيات مختلفة‪ ،‬وظلت سمة‬ ‫تكليف وزير الثقافة يف ذلك الحين‬
‫أهداف إنشائه‪.‬‬ ‫العاملية يف أساتذته غالب ًة عىل هيئة‬ ‫د‪.‬ثروت عكاشة لوكيلها األول‬
‫وكان من بين ما اقترحه هو‬ ‫التدريس‪ ،‬شأنه يف ذلك شأن‬ ‫د‪.‬حسين فوزي بتشيكل لجنة‬
‫االستعانه بعدد من الخبراء‬ ‫أغلب معاهد الكونسرفتوار يف‬ ‫فنية لتدارس مشروع اإلنشاء‪.‬‬
‫األجانب لالرتقاء بالعملية‬ ‫الخارج‪.‬‬ ‫واجتمعت اللجنة يف مبني دار‬
‫التعليمية باملعهد‪ ،‬ولهذا ففي‬ ‫أنشئ للمعهد مبني كبير من‬ ‫األوبرا املصرية التي احترقت‬
‫النصف الثاني من الستينيات‬ ‫سبعة طوابق وملحق به قاعة‬ ‫سنة ‪ ،1971‬وكان أعضاؤها‬
‫كلف د‪.‬ثروت عكاشة وزير‬ ‫للموسيقي يف مبني مستقل (قاعة‬ ‫كل من مدير دار األوبر يف ذلك‬
‫الثقافة‪ ،‬د‪.‬حسين فوزي بالسفر‬ ‫سيد درويش)‪ ،‬وكان يصل‬ ‫الحين محمود النحاس وبييرو‬
‫إىل االتحاد السوفييتي الختيار‬ ‫بينهما ممر خاص داخيل‪ ،‬إال أنه‬ ‫جوارينو مدير كونسرفتوار‬
‫تم الفصل بينهما فيما بعد وتم‬ ‫اإلسكندرية (وهو معهد صغير‬
‫العميد املناسب الذي يتمكن من‬
‫غلق هذا املمر‪ .‬صمم هذه األبنية‬ ‫خاص) ود‪.‬برجيت شيفر األملانية‬
‫القيام بهذه املهمة‪ ،‬فوقع اختياره‬
‫معمار ًّيا أبو بكر خيرت وأشرف‬ ‫عميدة معهد التربية املوسيقية‬
‫عىل د‪.‬إيراكيل بريد زي أستاذ‬
‫عىل تنفيذها‪ ،‬حيث كان إىل جانب‬ ‫(كلية التربية املوسيقية حاليًا)‪،‬‬
‫الفيولينه الجورجي والحاصل‬
‫مهندسا‬
‫ً‬ ‫التأليف املوسيقي يعمل‬ ‫ود‪.‬سمحه الخويل واملؤلف‬
‫عىل لقب (فنان الشعب)‪ ،‬وهو‬
‫معمار ًّيا‪ ،‬كما أشرف عىل بناء‬ ‫املوسيقي جمال عبد الرحيم‬
‫الذي تويل عمادة املعهد من ‪1967‬‬
‫املعهد العايل للباليه واملعهد العايل‬ ‫العائدان من بعثتيهما بالخارج‪،‬‬
‫وحتى ‪ ،1972‬واستقدم عد ًدا من‬ ‫للسينما‪ .‬ثم انتقل الكونسرفتوار‬ ‫والصاغ صالح عبدون املسؤل‬
‫الخبراء الروس‪ ،‬وبهذه الخطوة‬ ‫إىل هذا املقر الجديد يف سبتمبر‬ ‫بوزارة الثقافة‪ ،‬واملؤلف املوسيقي‬
‫الكبيرة بدأ الكونسرفتوار يقترب‬ ‫‪ 1962‬حيث كان تعداد طلبته‬ ‫د‪.‬أبو بكر خيرت وغيرهم‪ ،‬وقامت‬
‫من األنماط واملستويات الغربية‬ ‫حينذاك حوايل سبعين طالبة‬ ‫اللجنة بدراسة املشروع وإعداد‬
‫ملثل هذه املعاهد املتخصصة‪،‬‬ ‫وطالب‪.‬‬ ‫تقرير رفعته إىل د‪.‬ثروت عكاشة‬
‫وأخذ يحقق نجاحات طوال‬ ‫ويف أكتوبر عام ‪ 1963‬تخرجت‬ ‫الذي ساند املشروع بكل قوة‪،‬‬
‫مشواره‪.‬‬ ‫أول دفعه يف املعهد‪ ،‬ويف نفس‬ ‫حيث ترجم التقرير عىل الفور‬
‫ظل حسين فوزي منذ إنشاء‬ ‫العام تويف أبو بكر خيرت‪ ،‬وهنا‬ ‫بحماسه املشهود إىل قرار أصدره‬
‫أكاديمية الفنون‪ ،‬خاصة‬ ‫ُعهد إىل الدكتور حسين فوزي‬ ‫الزعيم جمال عبد الناصر‪ ،‬رئيس‬
‫الكونسرفتوار‪ ،‬حتى وفاته عام‬ ‫باإلشراف عىل املعهد‪ ،‬لكنه‬ ‫الجمهورية يف أواخر شهر‬
‫‪ 1988‬يرقب مساره وتطوره‬ ‫احتراما‬
‫ً‬ ‫اعتذر يف تواضع كبير‬ ‫أغسطس عام ‪ ،1959‬بإنشاء‬
‫دائما‬
‫وتقدمه بعناية كبيرة‪ ،‬فهو ً‬ ‫للتخصص‪ ،‬إال أنه َقبِل فقط مهمة‬ ‫املعهد القومي العايل للموسيقى‬
‫كان الراعي واملوجه‪ ،‬بل األب‬ ‫التوجيه من بعيد‪ ،‬واختار له‬ ‫«الكونسرفتوار»‪ ،‬وكلفت الوزارة‬
‫الروحي للكونسرفتوار‪ ،‬فتحية‬ ‫مديرا مؤقتًا من بين األساتذة‬
‫ً‬ ‫د‪.‬أبو بكر خيرت املؤلف املوسيقي‬
‫لذكري هذا الرجل الرائد صاحب‬ ‫األجانب فيه وهو أستاذ البيانو‬ ‫واملهندس املعماري بعمادته‪ ،‬فكان‬
‫الصنائع السبع‬ ‫اإليطايل فينشنزو كارو‪ ،‬إىل أن‬ ‫أول عميد له‪.‬‬
‫‪271‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫زوسر‪..‬‬
‫والهرم المدرج‬ ‫د‪.‬علي عفيفي‬
‫علي غازي‬

‫ملوك األسرة األوىل من نظم‬ ‫بعد أن اجتهد طول مدة حكمه‬ ‫عرفنا يف املقال األول كيف‬
‫وقوانين إلدارة املقاطعات والدفاع‬ ‫يف وضع األنظمة التي يتم بها‬ ‫استطاع امللك (مينا ‪ )Meni‬توحيد‬
‫عن وحدتها‪ ،‬وظل فراعينها‬ ‫إدارة البالد وتأمينها‪ ،‬والتي‬ ‫قطري مصر‪ :‬الشمايل (الدلتا)‬
‫يتناقلون السلطة يف سالم‪ ،‬دون‬ ‫تضمن لها التقدم دون الرجوع‬ ‫والجنوبي (الصعيد) يف وحدة‬
‫أن يحدث من األحداث الجسام‪ ،‬ما‬ ‫إىل الفرقة واالنقسام‪ ،‬وسار عىل‬ ‫سياسية واحدة‪ ،‬هذه الوحدة‬
‫يعكر صفو األيام‪ ،‬إىل أن استقر‬ ‫نفس الدرب خلفاؤه الفراعين‬ ‫بدأت نتائجها تظهر عىل مصر‪،‬‬
‫حكم مصر يف يد الفرعون (خع‬ ‫يف حكم البالد‪ ،‬فقاموا بتحصين‬ ‫إذ عمها الخير والرخاء‪ ،‬وشهدت‬
‫سخموري) الذي مكث عىل عرش‬ ‫عاصمتهم التي كانت تتعرض‬ ‫أول حضارة عرفها تاريخ‬
‫عاما قبل أن‬
‫البالد خمسة عشر ً‬ ‫لغارات بعض قبائل الصحراء‬ ‫البشرية‪ ،‬هذه الحضارة‪ ،‬وهذا‬
‫ويسلم‬
‫ُينهي حكم األسرة الثانية‪ُ ،‬‬ ‫الغربية الرحل‪ ،‬وعملوا عىل إبعاد‬ ‫التقدم‪ ،‬بدأت آثارهما تظهر يف‬
‫البالد من بعده ‪-‬وقد استتبت‬ ‫خطرهم عن كافة أرجاء مصر‪،‬‬ ‫عصر الدولة القديمة‪ ،‬الذي بلغت‬
‫فيها األحوال‪ ،‬وازدهرت عىل‬ ‫وظلوا يواصلون ما بدأه فرعون‬ ‫فيه وحدة البالد تمامها‪ ،‬ورسمت‬
‫أرضها كل صور الحياة‪ -‬إىل‬ ‫مصر األول من تنظيم القوانين‬ ‫مصر خالله الخطوط الرئيسة‬
‫خلفه امللك (زوسر)‪ ،‬الذي عده‬ ‫وأساليب اإلدارة التي تتم بها‬ ‫ملعتقداتها الدينية‪ ،‬ونفذت كذلك‬
‫املؤرخون من أقوى امللوك الذين‬ ‫السيطرة عىل املقاطعات‪ ،‬والقضاء‬ ‫تقنية الفنون والعمارة والكتابة‬
‫مؤسسا األسرة‬
‫ً‬ ‫حكموا مصر‪،‬‬ ‫التام عىل التفكير يف أي محاولة‬ ‫بشكل كامل‪ ،‬كما تميز ببناء‬
‫الثالثة‪.‬‬ ‫لالنقسام‪ ،‬وتفتيت وحدة أبناء‬ ‫األهرامات‪ ،‬حتى عرف هذا العهد‬
‫و(زوسر) ‪ ،Zoser‬وتعني املقدس‪،‬‬ ‫النيل‪.‬‬ ‫(بعصر بناة األهرام العظام)‪ ،‬منذ‬
‫أو (نثر رخت) وتعني األكثر‬ ‫وخلف (مينا) عىل حكم مصر من‬ ‫بداية األسرة الثالثة (‪-2780‬‬
‫قداسة من جماعة األرباب‪ ،‬وهذا‬ ‫أسرته سبعة من امللوك استمروا‬ ‫‪ 2680‬ق‪.‬م)‪ ،‬ومؤسسها امللك‬
‫هو االسم الذي اشتهر به‪ ،‬واشتق‬ ‫يف الحكم ما يقرب من مائتين‬ ‫زوسر موضوع قصتنا لهذا‬
‫من اسمه األصيل (جسر) بمعنى‬ ‫عاما‪ ،‬وجاءت بعد أسرة‬ ‫وعشرين ً‬ ‫الجزء‪ .‬وهرمه املدرج الذي صممه‬
‫املق ّدس‪ .‬وهو الفرعون األول يف‬ ‫(مينا) أسرة أخرى جلس أبناؤها‬ ‫املهندس العبقري (إيمحوتب) عىل‬
‫األسرة الثالثة الفرعونية‪ ،‬ظهر‬ ‫عىل عرش مصر ما يقرب من‬ ‫هيئة ست مصاطب كأول وأقدم‬
‫اسمه يف بردية (تورين) باللون‬ ‫مائتي عام أخرى‪ ،‬هدأت فيها‬ ‫بناء حجري ضخم عرفه التاريخ‪.‬‬
‫األحمر‪ ،‬تمي ًزا له عن باقي ملوك‬ ‫األحوال‪ ،‬وتقدمت خاللها البالد‬ ‫رحل (مينا) بعد أن ترك مصر‬
‫الدولة القديمة؛ ربما ألهميته‪.‬‬ ‫بعدما أكمل ملو ُكها ما وضعه‬ ‫خالية من التمزق والفوضى‪،‬‬
‫‪272‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫حصن حدود مصر‪ ،‬وجعل يف كل‬ ‫ملك الوجه البحري)‪ ،‬ويتم فيها‬ ‫عاما‪،‬‬
‫امتدت فترة حكمة ملدة ‪ً 29‬‬
‫منها فرقة من فرق هذا الجيش‪،‬‬ ‫تتويج الفرعون بتاج مملكة الدلتا‬ ‫يؤكدها ضخامة أعماله اإلنشائية‬
‫كما اعتنى بأعمال الزراعة‬ ‫األحمر‪ ،‬ثم جاء من قام بدق‬ ‫التي قام بها‪.‬‬
‫والصناعة‪ ،‬واستخراج املعادن‬ ‫أحد األوتاد يف األرض‪ ،‬ثم قام‬ ‫واتخذ (زوسر) من (منف)‪ ،‬التي‬
‫واألحجار الكريمة كالنحاس‬ ‫بزراعة نبات اللوتس عىل أحد‬ ‫وضع حجر أساسها امللك (مينا)‪،‬‬
‫والفيروز من شبه جزيرة سيناء‪،‬‬ ‫جانبيه‪ ،‬كرمز للوادي‪ ،‬ونبات‬ ‫عاصمة له‪ ،‬كما قام باستخراج‬
‫ولهذا فقد عده املؤرخون ضمن‬ ‫البردي عىل الجانب اآلخر‪ ،‬كرمز‬ ‫النحاس من سيناء‪ ،‬األمر الذي‬
‫أعظم الفراعنة الذين حكموا مصر‬ ‫للدلتا‪ ،‬وبعدها قام امللك (زوسر)‬ ‫أمن له ثروة كبيرة مكنته من‬
‫وأخلصوا لها العمل لكي تبدو‬ ‫بالقبض عىل هذا الوتد كرمز‬ ‫القيام بأعمال إنشائية ضخمة‪،‬‬
‫تحضرا‪ .‬ويعيش‬
‫ً‬ ‫أكثر رقيًا وأعظم‬ ‫وتعبيرا‬
‫ً‬ ‫التحاد مملكتي البالد‪،‬‬ ‫ساعدته عىل توطيد دعائم الوحدة‬
‫أبناؤها يف أمن وسالم‪ ،‬وخير‬ ‫عن حرصه الشديد عىل املحافظة‬ ‫عىل أسس ثابتة بعد القضاء عىل‬
‫ونماء‪.‬‬ ‫عىل هذه الوحدة‪ ،‬ثم اقتاده الكهنة‬ ‫ثورات الدلتا التي ظهرت يف عصر‬
‫إىل معبد اآللهة يف مدينة (منف)‬ ‫األسرة الثانية‪ ،‬كما أهلته لتوسيع‬
‫العبقري إيمحوتب‬ ‫لتقديم القرابين‪ ،‬واستكمال‬ ‫دولته جنو ًبا بعد أن بسط نفوذه‬
‫مراسم االحتفال بها‪ ،‬وبعد انتهاء‬ ‫عىل النوبيين ومد حدود البالد إىل‬
‫حكاية الهرم املدرج‪ ،‬أعظم بناء يف‬ ‫االحتفال خرج (زوسر) لتحية‬ ‫ما بعد الجندل األول يف الجنوب‪.‬‬
‫التاريخ‪ ،‬حكاية جميلة نعرف من‬ ‫شعبه الذي اصطف عىل جانبي‬ ‫غير أنه مما الشك فيه أن أعظم‬
‫خاللها كيف كان أجدادنا‬ ‫الطريق من املعبد إىل القصر‬ ‫منجزات (زوسر) هو هرمه‬
‫القدماء يقدرون العلم‬ ‫امللكي‪ ،‬حيث يبدأ يف مباشرة‬ ‫املدرج يف سقارة‪ ،‬الذي كان يطل‬
‫شئون الحكم‪ ،‬وإدارة كافة شئون‬ ‫عىل مدينة (منف) العظمى‪ ،‬ويمثل‬
‫البالد‪.‬‬ ‫أقدم أثر كبير الحجم قائم بذاته‬
‫وكان أول قرار اتخذه (زوسر)‬ ‫ومشيد من الحجر‪ ،‬وأول مقبرة‬
‫تأليف جيش قوي ليتمكن به من‬ ‫ملكية ُبني جزؤها العلوي من كتل‬
‫املحافظة عىل استقرار األمور يف‬ ‫األحجار‪ .‬وليس هناك شك يف‬
‫الداخل‪ ،‬وتأمين البالد من‬ ‫أن امللك (زوسر) قد ُدفن يف هذا‬
‫أي خطر خارجي‪ ،‬ثم‬ ‫الهرم املدرج‪ .‬وقد جعل ذلك امللك‬
‫(زوسر) حيًّا يف ذاكرة املصريين‬
‫قرونًا طويلة حتى نهاية التاريخ‬
‫املصري القديم‪.‬‬

‫هرم زوسر‬ ‫تتويج زوسر‬


‫استهل امللك (زوسر) حكمه‬
‫باحتفال عظيم‪ ،‬عىل غرار ما كان‬
‫متب ًعا‪ ،‬لتتويجه مل ًكا عىل مصر‪،‬‬
‫افتتح هذا االحتفال بما أطلقوا‬
‫عليه (طلعة ملك الوجه القبيل)‪،‬‬
‫وفيه يتوج الفرعون بتاج مملكة‬
‫الصعيد األبيض‪ ،‬ثم تكون (طلعة‬
‫‪273‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫ومتمت ًعا بنفوذ كبير يف القصر‬ ‫دينية عميقة‪ ،‬ولهذا ربما تركت‬ ‫والعلماء‪ ،‬وكيف كانوا يعهدون‬
‫امللكي‪ ،‬وشغل أكبر وظيفة دينية‬ ‫كبيرا يف حياته‪ .‬وهكذا ولد‬ ‫ً‬ ‫تأثيرا‬
‫ً‬ ‫باألمور العظيمة الكبيرة إىل‬
‫يف البالد بصفته كبير كهنة عين‬ ‫ونشأ (إيمحوتب) كواحد من أبناء‬ ‫املتخصصين واملتعلمين‪ ،‬حيث‬
‫شمس‪ .‬وإليه ينسب النشيد‬ ‫الشعب‪ ،‬وعاش حياة شاقة‪ ،‬إىل أن‬ ‫ال ُيذكر هرم (زوسر) املدرج‬
‫الجنائزي “اترك الهموم واذكر‬ ‫تزوج من (نفرو– نبت) الجميلة‬ ‫بسقارة ‪-‬وتسمى (سقارة)‬
‫األفراح حتى يأتي اليوم الذي‬ ‫الغنية‪ ،‬فوفرت له جز ًءا من ترف‬ ‫نسبه إىل املعبود (سوكر) معبود‬
‫تسافر فيه إىل أرض الصمت”‪.‬‬ ‫الحياة‪ ،‬وساعدته –باإلضافة إىل‬ ‫الجبانة عند املصريين القدماء‪-‬‬
‫وتمضي القرون‪ ،‬ويزداد‬ ‫عبقريته الفذة ومواهبه العظيمة–‬ ‫ويذكر املهندس والطبيب‬ ‫إال ُ‬
‫احتراما لهذا العصامي‬ ‫ً‬ ‫املصريون‬ ‫عىل أن يتبوأ مكانة عظيمة يف‬ ‫(إيمحوتب ‪ )Imhotep‬صاحب‬
‫العظيم‪ ،‬ويتردد اسمه يف الدولة‬ ‫قصر الفرعون (زوسر) إىل‬ ‫الفضل يف تصميمه‪ ،‬كأعظم‬
‫الوسطى‪ ،‬فيمجدون فيه املثل‬ ‫أن يصبح أمينًا ألختام الوجه‬ ‫شخصية يف التاريخ‪.‬‬
‫األعىل للعبقرية‪ ،‬والتعمق يف‬ ‫وناظرا‬
‫ً‬ ‫البحري‪ ،‬واألول بعد امللك‪،‬‬ ‫واملهندس (إيمحوتب)‪ ،‬ومعنى‬
‫العلوم‪ ،‬وجعله املتعلمون يف الدولة‬ ‫ومشرفًا عىل إدارة القصر امللكي‬ ‫اسمه القادم يف سالم‪ ،‬ولد عىل‬
‫الحديثة عىل رأس أهل الحكمة‬ ‫العايل‪ ،‬وكبير كهنة مدينة (أيونو)‪،‬‬ ‫األرجح يف بلدة (الجبلين) شمايل‬
‫والتعاليم واملوعظة‪ ،‬وواح ًدا‬ ‫عين شمس الحالية‪ ،‬صاحبة‬ ‫إسنا بمحافظة قنا‪ ،‬كان والده‬
‫من رعاتهم‪ ،‬ملا له من الفضل‬ ‫الشهرة الفكرية القديمة‪ ،‬ومسجل‬ ‫مديرا لألعمال‬
‫ً‬ ‫(كا– نفر) يعمل‬
‫الكبير عىل الطب املصري‪ ،‬األمر‬ ‫الحوليات‪ ،‬وكبير مستشاري‬ ‫يف الوجه القبيل والبحري‪ ،‬وكانت‬
‫الذي جعل األجيال التالية تعبده‬ ‫امللك (زوسر)‪ ،‬ورئيس النحاتين‪،‬‬ ‫أمه (خردو– عنخ) من املهتمات‬
‫وتتخذه إل ًها للعلم‪ ،‬ومنشئ‬ ‫ورئيس املثالين (ناحتي التماثيل)‪،‬‬ ‫بتربية وتعليم أبنائها عىل ثقافة‬
‫علومها وفنونها‪ ،‬ومن ثم فقد‬ ‫واملشرف عىل املدينة الهرمية‪،‬‬
‫استحبوا أن يسكبوا قطرات من‬ ‫وكبير الكهنة املرتلين للملك‬
‫املاء من األواني الصغيرة املتصلة‬ ‫(زوسر) وكبير كتاب اإلله‪.‬‬
‫بمعابدهم مع التمتمة باسمه تبر ًكا‬ ‫ومن كثرة ألقابه وتعددها‬
‫وتكريما‪ ،‬وليست قربانًا من‬
‫ً‬ ‫به‪،‬‬ ‫وتنوعها نجد داللة واضحة عىل‬
‫عابد‪ ،‬كلما هموا بأمر خطير‪ .‬وزاد‬ ‫أنه كان مرتب ًطا كل االرتباط‬
‫تقدير املصريين للعبقري العظيم‬ ‫بالنشاط الفني يف عصره‪،‬‬
‫إىل درجة التأليه‪ ،‬واعتباره ابنًا‬
‫لإلله (بتاح)‪ ،‬وشبهوه بإله العلم‬
‫والحكمة (تحوت)‪.‬‬
‫ويف القرن السابع قبل امليالد‪ ،‬زاد‬
‫اتصال املصريين باإلغريق‪ ،‬الذين‬
‫وقفوا عىل كتابات (إيمحوتب)‬
‫يف علوم الطب‪ ،‬وأبوا أن يصدقوا‬
‫أن مثل هذا النابغة يمكن أن‬
‫بشرا كسائر البشر‪ ،‬وإنما‬ ‫ً‬ ‫يكون‬
‫هو إله‪ ،‬ومن ثم فقد اعتبروه‬
‫نظرا لقوة‬‫ر ًّبا للطب والشفاء‪ً ،‬‬
‫معرفته يف الطب‪ ،‬ونجاحه يف‬
‫الشفاء بمعجزات‪ ،‬وشبهوه‬
‫‪274‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الهرم املدرج‬ ‫تمثال قو ًّيا من الحجر‬‫ً‬ ‫كذلك‬ ‫باملعبود اإلغريقي (اسكلبيوس)‬


‫(لزوسر) نفسه طمس الدهر‬ ‫راعى الطب والحكمة‪ ،‬وعبدوه‬
‫هرم سقارة املدرج‪ ،‬أقدم بناء‬ ‫بعض معامله التفصيلية‪ ،‬ولكنه‬ ‫باسم (هرمس)‪ ،‬ولعل هذا يعني‬
‫حجري معروف‪ ،‬والقبر امللكي‬ ‫يكشف عن وجه ذي نظرات حادة‬ ‫أن املجد يف مصر الفرعونية مل‬
‫األول يف التاريخ‪ ،‬بني بين عامي‬ ‫ثاقبة وعقل مفكر‪.‬‬ ‫يقتصر عىل الفراعين وحدهم‪،‬‬
‫(‪2717 -2737‬ق‪.‬م)‪ .‬يقع يف‬ ‫هذا التمثال الذي عثر عليه يف‬ ‫وإنما كان لبعض األفراد نصيب‬
‫(سقارة) جنوب الجيزة‪ ،‬ص ّمم‬ ‫حجرة ضيقة تعرف باسم‬ ‫منه يزيد عىل نصيب الفراعين‬
‫يف األصل ليكون مقبرة للفرعون‬ ‫السرداب‪ ،‬وتقع شمال شرق‬ ‫أحيانًا‪.‬‬
‫(زوسر)‪ ،‬عىل هيئة ست مصاطب‬ ‫املجموعة الجنائزية للملك‬ ‫وقد تخلد (إيمحوتب) من‬
‫فوق نفق ينحدر إىل حجرة‬ ‫(زوسر) بسقارة‪ ،‬يعد أقدم‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬حيث كان أول‬
‫مترا‪،‬‬
‫الدفن‪ ،‬قاعدته طولها ‪ً 140‬‬ ‫ما عرف من التماثيل بالحجم‬ ‫من استخدم الحجر يف البناء‬
‫مترا‪ ،‬أما ارتفاعه‬
‫وعرضها ‪ً 118‬‬ ‫الطبيعي يف مصر‪ ،‬وهو يمثل‬ ‫ألول مرة‪ ،‬وذلك يف بناء مقبرة‬
‫الذي يتكون من ست درجات‬ ‫جالسا عىل‬
‫ً‬ ‫امللك (زوسر)‬ ‫الفرعون (زوسر) وتوابعها‪،‬‬
‫مترا‪ ،‬وكل درجة‬ ‫فهو حوايل ‪ً 60‬‬ ‫العرش‪ ،‬وقد غطى جسده رداء‬ ‫وكذلك االنتقال من شكل املصطبة‬
‫أو مصطبة تقل عن التي تحتها‬ ‫احتفايل‪ ،‬وكان التمثال مكس ًّوا‬ ‫املستطيلة إىل هيئة الهرم املدرج‪،‬‬
‫حوايل مترين‪ ،‬وارتفاع أول‬ ‫بطبقة من مالط أبيض ثم لون‪،‬‬ ‫الذي تحول إىل الهرم الكامل بعد‬
‫مصطبة حوايل عشرة أمتار‪ .‬األمر‬ ‫أما العينان الغائرتان فكانتا‬ ‫ذلك‪ ،‬فعد وبحق منشئ فن املعمار‬
‫الذي يجعله وبحق من العجائب‬ ‫يوما ما مرصعتين‪ ،‬ويتخذ امللك‬ ‫ً‬ ‫بدل من مباني‬ ‫الحجري الجميل‪ً ،‬‬
‫املعمارية للعصور القديمة‪.‬‬ ‫مستعارا أسود يعلوه‬‫ً‬ ‫ا‬ ‫شعر‬
‫ً‬ ‫العصور القديمة املكونة من اآلجر‬
‫وقصة هذا الهرم ترجع إىل صباح‬ ‫فضل عن‬ ‫ً‬ ‫لباس الرأس امللكي‪،‬‬ ‫والخشب‪.‬‬
‫غائم جلس فيه امللك (زوسر)‬ ‫اللحية املستعارة‪ .‬وقد نقش‬ ‫وتقول األسطورة املصرية إن‬
‫عىل عرشه مكتئبًا حزينًا‪ ،‬معتق ًدا‬ ‫السطح األمامي من القاعدة بنص‬ ‫أول بناء من الحجر قد أقيم‬
‫غضب اإلله عليه بسبب سنوات‬ ‫هيروغليفي دقيق ينطق عن أسماء‬ ‫بإشرافه‪ ،‬وإنه هو الذي وضع‬
‫الجفاف السبع التي سادت عهده‬ ‫وألقاب ملك مصر العليا والسفىل‬ ‫تصميم أقدم مبنى مصري قائم‬
‫بسبب نقص فيضان النيل‪،‬‬ ‫وهو (نثر رخت)‪.‬‬ ‫حتى هذه األيام‪ ،‬وهو هرم سقارة‬
‫دون أن يكون هناك أمل يف‬ ‫ومهما قلنا عن نبوغ وعبقرية‬ ‫املدرج‪ ،‬الذي ظل لعدة قرون‬
‫زوال تلك الغمة وانكشاف تلك‬ ‫(إيمحوتب) فيجب أال ننسى‬ ‫الطراز املتبع يف تشييد املقابر يف‬
‫الكربة‪ ،‬وبينما هو شارد الذهن‬ ‫أنه لو مل يجد من يقدره ويشد‬ ‫الدولة القديمة‪ ،‬وكذلك هو الذي‬
‫إذ دخل عليه كاهن اإلله (خنوم)‬ ‫أزره ويدفع به إىل األمام؛ لضاع‬ ‫وضع تصميم مجموعة (زوسر)‬
‫معبود الشالل‪ ،‬وطلب منه تقديم‬ ‫ذلك النبوغ س ًدى‪ ،‬فلو مل يكن‬ ‫الجنائزية وأعمدتها الجميلة‬
‫القرابين ملعبوده فسيأتيه بالفرج‪،‬‬ ‫عظيما واسع التفكير؛ ملا‬ ‫ً‬ ‫(زوسر)‬ ‫الشبيهة بزهرة اللوتس‪ ،‬وجدرانها‬
‫والفيضان الوفير‪ ،‬والخصب‬ ‫تمكن (إيمحوتب) من تحقيق كل‬ ‫املكسوة بالحجر الجيري‪.‬‬
‫والنماء؛ ألنه هو الذي يأتي بالنيل‬ ‫ما حققه‪ ،‬ولهذا فقد منحه امللك‬ ‫وتمثل مجموعة (زوسر)‬
‫الطيب والنيل الرديء‪ ،‬فما كان‬ ‫(زوسر) من التكريم أن كتب‬ ‫الجنائزية بداية الفن املصري يف‬
‫من امللك (زوسر) إال أن أسرع إىل‬ ‫اسمه عىل قاعدة تمثاله امللكي‬ ‫العصور التاريخية‪ ،‬فنجد األعمدة‬
‫ً‬
‫مبتهل إليه‬ ‫معبده يقدم قرابينه‬ ‫املوجود حاليًا باملتحف املصري‬ ‫األسطوانية املنقوشة‪ ،‬كما نجد‬
‫بالدعاء ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫يف سابقه مل تتكرر يف التاريخ‬ ‫نقوشا بارزة تفيض واقعية‬ ‫ً‬ ‫فيها‬
‫“قلبي كان يف ضيق مؤمل‪ ،‬ألن‬ ‫املصري القديم أن يكتب اسم‬ ‫وفخارا‬
‫ً‬ ‫وحيوية وزخرفًا أخضر‬
‫النيل مل يفض لسبع سنوات‪.‬‬ ‫شخص عادى عىل تمثال امللك‪.‬‬ ‫ملونًا مطليًّا بطبقة زجاجية‪ ،‬ونجد‬
‫‪275‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫حياته الدنيا‪ .‬وكان امللك (زوسر)‬ ‫السعادة والفرحة كل أبناء شعبه‪،‬‬ ‫الحبوب مل تعد وفيرة‪ ،‬البذور‬
‫قد بنى مقبرته األوىل عىل شكل‬ ‫فقادهم (زوسر) يف حمالت‬ ‫جفت‪ ،‬كل شيء يملكه الفرد‬
‫مصطبة كبيرة الحجم من الطوب‬ ‫لتوسيع ملكه حتى سيناء‪ ،‬وبالد‬ ‫ليأكله أصبح بكميات مثيرة‬
‫اللبن إىل الجنوب من قرية (بيت‬ ‫النوبة وحطم الليبيين وسجل‬ ‫للشفقة‪ ،‬كل شخص حرم‬
‫خالف) الحالية عىل مقربة من‬ ‫كل هذه االنتصارات‪ ،‬إال أنه رغم‬ ‫حصاده‪ .‬ال يمكن ألي شخص‬
‫(أبيدوس)‪.‬‬ ‫ذلك ظل يشعر أنه مل يخلد ذكراه‬ ‫أن يمشي أكثر؛ قلوب كبار السن‬
‫وقد أراد وزيره املهندس‬ ‫مثلما فعل جده األكبر امللك (مينا)‬ ‫حزينة وسيقانهم انحنت متى‬
‫(إيمحوتب) بناء مقبرة مميزة‬ ‫عندما وحد مصر يف دولة واحدة‪.‬‬ ‫جلسوا عىل األرض‪ ،‬وأيديهم‬
‫للملك (زوسر)‪ ،‬وأراد لها من‬ ‫وكانت املقابر عىل هيئة حفرة‬ ‫أخفت بعي ًدا‪ .‬حتى خدم املعابد‬
‫الفخامة ما يميزها عن غيرها‪،‬‬ ‫صغيرة تحفر يف رمال الصحراء‪،‬‬ ‫يذهبون‪ ،‬املعابد أغلقت واملالجئ‬
‫فظل ذلك املهندس العامل الكبير‬ ‫أو حجرة ضيقة تنحت يف صخور‬ ‫غ ّطيت بالغبار‪ .‬باختصار‪ ،‬كل‬
‫كثيرا كيف يرد الجميل‬
‫ً‬ ‫يفكر‬ ‫الجبال‪ ،‬ومل يكن ما يعلوها يزيد‬ ‫شيء يف الوجود أصيب”‪.‬‬
‫لسيده الذي حقق ملصر النماء‬
‫عن كومة من الحصى‪ ،‬أو لوحة‬ ‫فجاءه الرد من (خنوم) حسب‬
‫والخير‪ ،‬وحفظ شعبها وحدودها‬
‫تحمل اسم صاحب املقبرة‪ ،‬إال‬ ‫النقش‪“ :‬أنا سأجعل النيل يرتفع‬
‫بأن صد هجمات األعداء الغزاة‬
‫تطورا‬
‫ً‬ ‫أن هذه املقابر تطورت‬ ‫لك‪ .‬لن تكون هناك سنوات أكثر‬
‫املعتدين عنها‪ ،‬وأخذ كل ليلة‬
‫كبيرا خالل حكم األسرتين األوىل‬ ‫ً‬ ‫عندما يخفق الغمر يف تغطية‬
‫يخرج إىل الفضاء الرحب يناجي‬
‫والثانية‪ ،‬فشيد املعماريون أعىل‬ ‫أي منطقة من األرض‪ .‬الزهور‬
‫السماء راجيًا أن يحقق ما مل‬
‫موضع الدفن عد ًدا من الحجرات‬ ‫ستورق‪ ،‬وتنحني جذوعها تحت‬
‫يحققه غيره‪ ،‬إىل أن هداه تفكيره‬
‫إىل أن يخلِّد مليكه بإنشاء مقبرة‬ ‫تحوي كل ما يوضع لخدمة‬ ‫وزن غبار الطلع”‪ ،‬وحققت مصر‬
‫ذات طابع خاص‪ ،‬مقبرة تخلده‬ ‫املتوىف‪ ،‬ويزداد عدد الحجرات‬ ‫نهضة جديدة‪ ،‬وعاش أبناء النيل‬
‫بين الخالدين العظام‪ ،‬وتجعله‬ ‫كلما ازداد ما كان يملكه املتوىف يف‬ ‫يف باقي عهده يف رخاء‪ ،‬وعمت‬
‫وبحق فرعون مصر العظيمة‪.‬‬
‫ذات مساء مظلم يف ليلة مل يبد‬
‫فيها القمر ضيا ًء بينما يجلس‬
‫امللك (زوسر) عىل عرشه يفكر‬
‫فيما فعل‪ ،‬واملعارك التي انتصر‬
‫فيها‪ ،‬والتي فاقت كل أسالفه‬
‫وأجداده‪ ،‬لكنه رغم‬
‫ذلك يشعر أنه‬
‫ما خلد ذكراه‪،‬‬
‫فاجأه مهندسه‬

‫إيمحوتب‬ ‫معبد سرابيوم سقارة‬


‫‪276‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫امللك إىل السماء‪ ،‬لالتحاد بإله‬ ‫متأثرا‬


‫ً‬ ‫ويبدو أن (إيمحوتب) كان‬ ‫(إيمحوتب) باقتحام خلوته‪،‬‬
‫الشمس‪.‬‬ ‫بأفكار دينية معينة‪ ،‬تتفق والعقائد‬ ‫وعرض عليه فكرته‪ ،‬فما كان من‬
‫واملصاطب أبنية مستطيلة الشكل‬ ‫الدينية والتصورات الجنائزية‬ ‫امللك إال أن جند له العمال واآلالت‬
‫لها يف العادة واجهة يتوسطها‬ ‫وأمده باألموال واملراكب وأرفقه‬
‫عن حياة امللك يف اآلخرة‪ ،‬جعلته‬
‫باب املقبرة الذي يؤدي إىل حجرة‬ ‫بالجنود لحراسته‪ ،‬وأرسله‬
‫متسعة يقال لها املزار‪ .‬وهي‬ ‫يحول املصطبة إىل هرم مدرج‪،‬‬ ‫إىل بالد الصعيد والنوبة لقطع‬
‫حجرة استقبال كان يجتمع فيها‬ ‫ربما بهدف تمثيل فكرة صعود‬ ‫األحجار‪ ،‬التي تختلف أوزانها‬
‫أقارب املتوىف‪ ،‬وأصدقاؤه الكهنة‪،‬‬ ‫ما بين ‪ 4‬طن و‪ 16‬طن‪ ،‬وغاب‬
‫ليحتفلوا بتقديم القرابين يف‬ ‫شهورا كثيرة مرت‬ ‫ً‬ ‫(إيمحوتب)‬
‫األعياد واملواسم‪.‬‬ ‫عىل امللك (زوسر) كأنها سنوات‬
‫ومدخل الهرم كاملعتاد من الناحية‬ ‫منتظرا عودة وزيره وعامله‬ ‫ً‬ ‫طويلة‬
‫الشمالية يقع أسفل الدرجة األوىل‬ ‫العبقري ليحقق حلمه ويخلد ذكره‬
‫منه‪ ،‬ويحتوي الهرم من الداخل‬ ‫يف عامل التاريخ القديم‪ ،‬بفكرته‬
‫عىل عدة ممرات‪ ،‬وكثير من‬ ‫الرائعة التي اهتدى إليها‪.‬‬
‫الدهاليز‪ ،‬وغرف متعددة ُكسيت‬ ‫ذات صباح بينما يرقب امللك‬
‫بعض حوائطها بالخزف األزرق‬ ‫(زوسر) قرص الشمس يف‬
‫واألخضر‪ ،‬حيث تمت كسوة‬ ‫رحلة الشروق ليوم جديد ميلء‬
‫بعض الجدران بقراميد صغيرة‬ ‫باألحداث‪ ،‬إذا بالحاجب يخبره‬
‫محدبة من القيشاني األزرق‪،‬‬ ‫بوصول موكب املهندس العبقري‬
‫كل منها يف جدارها بثقبين‬ ‫ثبتوا ًّ‬ ‫الكبير من صعيد مصر البعيد‪،‬‬
‫صغيرين يمر فيهما خيط من‬ ‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫فتهللت أساريره وفرح‬
‫كل منها‬ ‫ورصوا ًّ‬‫ُّ‬ ‫الكتان أو الجلد‪،‬‬ ‫وسر عندما شاهد املوكب يخترق‬
‫إىل جوار األخرى‪ ،‬لكي يقلدوا‬ ‫شوارع (منف) وتجر األفيال‬
‫بها هيئة الحصير الفاخر املجدول‬ ‫الزحافات التي تحمل القطع‬
‫الذي كانوا يتخذونه يف البيوت‬ ‫الصخرية الضخمة التي أحضرها‬
‫ستارا وزينة‪ .‬كما وجد به دهليز‬ ‫ً‬ ‫لبناء مقبرته الفريدة يف نوعها‪،‬‬
‫آخر ُم َز َّين بمثل تلك اللوحات‪ ،‬وبه‬ ‫والتي ستعد أول مقبرة تبنى من‬
‫ً‬
‫نقوشا‬ ‫ثالثة أبواب وهمية تحتوي‬ ‫الصخور الشديدة‪.‬‬
‫للملك (زوسر)‪.‬‬ ‫بعد شهور بدأ يظهر شكل املبنى‬
‫وقد مر بناء الهرم املدرج بعدة‬ ‫الذي أخذ شكل املصطبة الكبيرة‪،‬‬
‫مراحل‪ ،‬كانت املرحلة األوىل بناء‬ ‫واستخدم أحجار الجرانيت‬
‫مصطبة مربعة‪ ،‬تواجه جوانبها‬ ‫الوردي يف بناء حجرة الدفن تحت‬
‫الجهات األربعة األصلية‪ ،‬ويبلغ‬ ‫سطح األرض أسفل املصطبة‪،‬‬
‫طول كل ضلع منها حوايل ‪63‬‬ ‫فلما استحسن امللك (زوسر) هذه‬
‫مترا‪ ،‬وارتفاعها ثمانية أمتار‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫الفكرة عدل مهندسه من تصميمه‬
‫أضاف (إيمحوتب) إىل املصطبة‬ ‫وارتفع بمصطبة أخرى فوقها‬
‫مباني أخرى‪ ،‬عرضها ثالثة‬ ‫َ‬ ‫األوىل‬ ‫ثم ثالثه حتى وصل إىل ست‬
‫أمتار‪ ،‬يف كل جوانب املصطبة‪،‬‬ ‫درجات كانت كلها مكسوة من‬
‫وشمل التعديل الثاني إضافة‬ ‫الخارج بالحجر الجيري األبيض‪.‬‬
‫الملك زوسر‬
‫مر بناء الهرم المدرج بعدة مراحل‪ ،‬كانت‬ ‫تسعة أمتار من الناحية الشرقية‬
‫المرحلة األولى بناء مصطبة مربعة‪ ،‬تواجه‬ ‫منها‪ ،‬ومن ثم تحول شكل‬
‫املصطبة إىل املستطيل‪ ،‬ثم سرعان‬
‫جوانبها الجهات األربعة األصلية‪ ،‬ويبلغ طول‬ ‫ما أضيفت ثالثة أمتار أخرى‬
‫كل ضلع منها حوالي ‪ 63‬مت ًرا‪ ،‬وارتفاعها‬ ‫إىل كل الجوانب‪ ،‬وهكذا أصبحت‬
‫املصطبة األصلية وكل ما أضيف‬
‫ثمانية أمتار‪ ،‬ثم أضاف (إيمحوتب) إلى‬ ‫إليها‪ ،‬هي املصطبة األوىل لهرم‬
‫مباني أخرى‪ ،‬عرضها ثالثة‬
‫َ‬ ‫المصطبة األولى‬ ‫مدرج مكون من أربع مصاطب‬
‫مشيدة واحدة فوق األخرى‪ ،‬ثم‬
‫أمتار‪ ،‬في كل جوانب المصطبة‪ ،‬وشمل‬ ‫زاد (إيمحوتب) عدد املصاطب من‬
‫التعديل الثاني إضافة تسعة أمتار من‬ ‫أربعة إىل ست‪ ،‬مستعينًا عىل ذلك‬
‫بإضافة مبانٍ من كل الجهات‪،‬‬
‫الناحية الشرقية منها‪ ،‬ومن ثم تحول شكل‬ ‫األمر الذي يجعل الهرم عبارة عن‬
‫المصطبة إلى المستطيل‬ ‫إضافات متتالية جانبية‪ ،‬ترتكز‬
‫عىل سابقتها‪ ،‬ولهذا يعتبر طراز‬
‫جديد يبرز املقبرة امللكية أحسن‬
‫ما تكون فوق الهضبة الشاسعة‪،‬‬
‫ليزيد من أثرها الجميل يف النفس‪.‬‬
‫ستة أمتار‪ ،‬وكان يكسوه الحجر‬ ‫يكسوها حجر جيري جيد‪ ،‬وهي‬ ‫ومن الجدير بالذكر أن الهرم‬
‫الجيري األبيض األملس‪ ،‬وكانت‬ ‫يف مجموعها تدل عىل مهارة‬ ‫الذي يعد مكان الدفن للملك‬
‫تعلوه بعض ثعابين الكوبرا‬ ‫يف التخطيط والبناء‪ ،‬وقد ذهب‬ ‫يرتبط بمجموعه من العناصر‬
‫كزخرفة منحوتة يف الصخر‪،‬‬ ‫رأي إىل أن الغرض منها تيسير‬ ‫املعمارية األخرى‪ ،‬والتي تمثل‬
‫ولكن مل يبق من هذا السور إال‬ ‫وظيفة امللك كملك يف الحياة‬ ‫مجموعه جنائزية للملك املتوىف‪،‬‬
‫قطعة صغيرة‪.‬‬ ‫اآلخرة‪ ،‬فقد ساد االعتقاد لدى‬ ‫أيضا ‪-‬إىل جانب الهرم‬ ‫تشمل ً‬
‫املصريين القدماء أن امللك كما‬ ‫املدرج‪ -‬بيت للشمال وآخر‬
‫الكا والبا‬ ‫أنه هو الوسيط الدنيوي لتحقيق‬ ‫للجنوب‪ ،‬باعتبار أن ملك مصر‬
‫الخير من إمكانيات الطبيعة يف‬ ‫هو ملك للشمال والجنوب م ًعا‪،‬‬
‫اعتقد املصريون منذ أقدم‬ ‫أيضا الوسيط‬ ‫الحياة الدنيا‪ ،‬فهو ً‬ ‫ومعبد اليوبيل (العيد الثالثيني)‪،‬‬
‫عهودهم يف أن حياتهم يف الدنيا‬ ‫األخروي لتحقيق الخير من آلهة‬ ‫والجوسق امللكي‪ ،‬وتشمل معبد‬
‫ما هي إال طريق لحياة أخرى‬ ‫هذه الطبيعة يف الحياة األخرى‪.‬‬ ‫لتقديم القرابين للملك املتوىف‪،‬‬
‫دائمة يبعثون إليها بعد املوت‪،‬‬ ‫فأصبح امللك مصدر كل شيء‬ ‫ومعبد جنائزي إلقامة الطقوس‬
‫ويحاسبون فيها عىل أعمالهم‬ ‫تماما كما هو‬
‫ً‬ ‫يف الحياة األخرى‪،‬‬ ‫الدينية ومراسم الدفن‪ ،‬ويوجد‬
‫يف حياتهم األوىل‪ ،‬ولعل هذه‬ ‫مصدر كل شيء يف الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫كذلك حجرة بجوار الهرم تسمى‬
‫العقيدة القوية لديهم هي السبب‬ ‫وعموما فإن هرم سقارة يقع‬
‫ً‬ ‫حجرة السرداب‪ ،‬بها تمثال من‬
‫فيما يتمتع به هؤالء املصريون‬ ‫وسط مجموعة معمارية ضخمة‬ ‫الحجر الجيري للملك (زوسر)‪،‬‬
‫من تسامح وحب للسالم‪ ،‬وهي‬ ‫مساحتها كلها حوايل ‪ 150‬ألف‬ ‫هذا التمثال يكون بمثابة الدليل‬
‫أيضا التي جعلتهم يبالغون يف‬
‫ً‬ ‫متر مربع‪ ،‬يحيط بها سور ضخم‬ ‫للروح حتى تتعرف عىل الجسد‬
‫االهتمام بمقابرهم إىل الحد الذي‬ ‫يبلغ ارتفاعه نحو عشرة أمتار‪.‬‬ ‫مره أخرى‪ ،‬وتحيط بها مباني‬
‫يضعون فيه مع موتاهم جميع‬ ‫وسمكه يصل أحيانًا لحوايل‬ ‫تحتوي عىل مخازن عديدة‪ ،‬كان‬
‫‪278‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫بكامل شخصيته‪ ،‬وتعيش فيه‬ ‫يف األعياد واملواسم القرابين‪،‬‬ ‫ما كانوا ينتفعون به يف حياتهم‬
‫إىل األبد‪ ،‬وتنهض مع الجسد‬ ‫وهذه األبواب ليست أبوا ًبا‬ ‫اليومية‪ ،‬معتقدين أنهم سينتفعون‬
‫يوم البعث‪ ،‬وكان الجسد يموت‬ ‫حقيقية ولكنها تبنى عىل شكل‬ ‫به ثانية يف حياتهم بعد البعث‪،‬‬
‫ولكن الروح تحيا إىل األبد‪،‬‬ ‫الباب‪ ،‬يتم حفره يف حجر الجانب‬ ‫فقد تصور املصريون اآلخرة‬
‫ولهذا أراد املصريون تخليد‬ ‫الغربي من املزار‪ .‬وتكون ُحجرة‬ ‫عىل غرار الحياة الدنيا‪ ،‬مما يدل‬
‫الجسم بتحنيطه ليعيش إىل األبد‪،‬‬ ‫دائما خلفه‪ .‬وبذلك تتمكن‬ ‫الدفن ً‬ ‫عىل حبهم للدنيا وتعلقهم بها‪،‬‬
‫حتى تجده الروح وتخلد فيه‪،‬‬ ‫روح امليت التي تسكن يف موميائه‬ ‫عىل عكس الفكرة السائدة لدى‬
‫وألجل املحافظة عليه وضعوه‬ ‫من اختراق هذا الباب‪ ،‬والدخول‬ ‫بعض الباحثين أنهم كرهوا الحياة‬
‫يف مقابر محصنة تباعد بينه‬ ‫إىل املزار لالشتراك مع األهل‬ ‫وأحبوا املوت‪ .‬وسبق أن ذُكر‬
‫وبين اللصوص وتمنعهم من‬ ‫واألصدقاء يف االحتفاالت والتمتع‬ ‫أن املصريين اعتقدوا أن امللك‬
‫الوصول إليه‪ ،‬كما عمدوا إىل‬ ‫بقربهم‪ ،‬وكان أجدادنا يدعون هذه‬ ‫هو الوسيط بين الناس واآللهة‪،‬‬
‫بناء هذه املقابر أو حفرها يف‬ ‫الروح (الكا)‪.‬‬ ‫وأن النعم األخروية شأنها شأن‬
‫الجهات الجافة أو الجبلية؛ لكي‬ ‫وحكاية (الكا) هذه أن أجدادنا‬ ‫النعم الدنيوية كلها يف يده ورهن‬
‫تكون بعيدة عن الرطوبة‪ .‬وكان‬ ‫كانوا يعتقدون أن جسم اإلنسان‬ ‫مشيئته‪ ،‬ومن هنا أصبح أهم‬
‫القرين أو (الكا) يالزم املكان الذي‬ ‫مكون من جملة أجزاء‪ ،‬لكل جزء‬ ‫مظهر لرضاء امللك عىل أحد أتباعه‬
‫وضعت فيه الجثة يف حجرة الدفن‬ ‫منها وظيفته الخاصة‪ .‬وأهم هذه‬ ‫يتمثل يف هبة جنائزية سواء‬
‫يف املقبرة‪ ،‬ومل يكن يغادرها إال‬ ‫األجزاء‪ :‬الجسم‪ ،‬وهو الجزء‬ ‫كانت مقبرة أو جز ًءا من مقبرة أو‬
‫عن طريق الباب الوهمي ليدخل‬ ‫الظاهر املنظور‪ .‬و(البا)‪ ،‬وهي‬ ‫ً‬
‫تمثال‪ ،‬أو با ًبا وهميًّا‪ ،‬أو غير ذلك‬
‫إىل املزار‪.‬‬ ‫الروح السماوية التي صوروها‬ ‫من الهبات الجنائزية‪.‬‬
‫وتم االحتياط لفناء الجسد بأي‬ ‫عىل شكل طائر له رأس إنسان‬ ‫وقد تصور املصريون أن (البا)‬
‫سبب من األسباب‪ .‬فصنعوا‬ ‫وهي تغادر الجسد بعد املوت إىل‬ ‫تتردد عىل املقبرة من آن آلخر‬
‫التماثيل‪ ،‬ووضعوها يف املقبرة‬ ‫السماء حيث تسكن يف النجوم‪،‬‬ ‫لتزور الجسد‪ ،‬ويمكن أن نسميها‬
‫بدل من الجسد‬ ‫لتحل فيها (الكا) ً‬ ‫ثم تعود إىل زيارة الجسم بين آن‬ ‫النفس‪ ،‬التي تخيلها املصريون‬
‫إذا ما ُسرِق أو فني‪ ،‬أو اختفى‬ ‫وآخر‪ .‬و(الكا) أو (القرين) وهو‬ ‫يف شكل طائر أو بجسم طائر‬
‫منعما‬
‫ً‬ ‫ألي سبب ما حتى يحيا‬ ‫أهم هذه األجزاء‪ .‬وهو الروح‬ ‫ورأس إنسان‪ ،‬تطير بعد موت‬
‫يف قبره‪ .‬وأكثروا من صناعة‬ ‫املادية التي تولد مع اإلنسان‪،‬‬ ‫صاحبها إىل طبقات الجو‪ ،‬ولكي‬
‫هذه التماثيل ألنها كلما كثرت‬ ‫وتكبر مثله‪ ،‬وال تموت بموته‪ ،‬بل‬ ‫تعيش هذه الروح وال يتطرق‬
‫تأكدوا من خلود روحهم إىل‬ ‫تظل قريبة من جثمانه وتحوم‬ ‫إليها الفناء كان عىل أهل امليت أن‬
‫األبد‪ ،‬وسميت هذه التماثيل‬ ‫صنعت من‬ ‫حول املقبرة‪ ،‬وقد ُ‬ ‫يضعوا املأكل واملشرب يف قبره؛‬
‫بتماثيل (الكا)‪ .‬وكانت توضع يف‬ ‫مادة خفيفة ال تُرى‪ ،‬مثل األثير‬ ‫لكي تتغذى هذه الروح وال تموت‬
‫أماكن خاصة بها عرفت فيما بعد‬ ‫أو الهواء‪ ،‬وتكون صورة مطابقة‬ ‫ألنها أمينة مخلصة للجسد تبقى‬
‫باسم (السراديب) وهي حجرة‬ ‫تماما‪ .‬فكان قرين‬ ‫ً‬ ‫لشكل صاحبها‬ ‫معه وتجلس بجواره‪ ،‬وكان امليت‬
‫صغيرة مشيدة من جهاتها األربع‬ ‫طفل‪ ،‬وقرين الشيخ شيخً ا‪،‬‬ ‫الطفل ً‬ ‫عب ًدا لألحياء‪ ،‬فإذا ما تأخر أهله‬
‫ومسقوفة‪ ،‬وليس بها منفذ غير‬ ‫بل كان قرين األعور أعور‪ ،‬وقرين‬ ‫يف تقديم القرابين واملأكوالت‬
‫ثقب صغير يمكن زائر املصطبة‬ ‫األعمى أعمى‪.‬‬ ‫واملشروبات لروحه تعذبت‬
‫من أن يرى التمثال منه‪ ،‬وهذا‬ ‫ومل يكن األجداد املصريون‬ ‫تلك الروح وماتت جو ًعا‪ ،‬ولهذا‬
‫الثقب يحفر يف الجدار الخارجي‬ ‫يعتقدون أن املوت هو نهاية‬ ‫فقد جعل املصريون القدماء يف‬
‫للسرداب‪ ،‬ويختلف ارتفاعه من‬ ‫الحياة؛ ألن (الكا) تحل بعد املوت‬ ‫مقابرهم مزارات تتضمن أبوا ًبا‬
‫سطح أرض الحجرة باختالف‬ ‫يف الجسد وتأخذ شكله وتحتفظ‬ ‫وهمية يحمل إليها األهل واألقارب‬
‫‪279‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫العجل أبيس‬ ‫كان يحيا يف الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫حجم التمثال‪ ،‬فإذا كان التمثال‬
‫وتشير هذه النصوص إىل ما‬ ‫صغيرا حفر يف أسفل الجدار‪ ،‬وإذا‬‫ً‬
‫يعتبر اإلله (أبيس) الذي ُيمثل‬ ‫يستفيده امليت أو روحه يف‬ ‫كان مرتف ًعا ثقب يف أعىل الجدار‪،‬‬
‫يف شكل عجل‪ ،‬رم ًزا لإلخصاب‪،‬‬ ‫حياته األخرى من املأكوالت‬ ‫بحيث يمكن للناظر أن يراه كله‪،‬‬
‫كان له معبد عظيم يف مدينة‬ ‫واملشروبات التي تقدم إليه بعد‬ ‫وأحيانًا يكون يف السرداب عدة‬
‫(منف)‪ ،‬يعبد فيه وتقدم إليه‬ ‫موته‪ .‬ومن أهم مظاهر هذه‬ ‫تماثيل‪ ،‬فيكون عدد الثقوب بقدر‬
‫القرابين‪ ،‬حيث كان إله هذه‬ ‫النصوص أنها ترينا كيف كان‬ ‫عدد التماثيل‪ ،‬ويضاف إىل ذلك أن‬
‫املدينة‪ .‬وعندما يموت كان يحنط‬ ‫هذا الثقب كان من وظائفه إيصال‬
‫امللوك ال يذكرون املوت‪ .‬فال يذكر‬
‫ويحتفل بدفنه‬ ‫كما يحنط امللوك‪ُ ،‬‬ ‫البخور لتمثال املتوىف‪.‬‬
‫يف كتاباتهم أنه مات‪ ،‬بل ُيد َّون أنه‬
‫عظيما مهيبًا يف جنازة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫احتفال‬
‫صعد إىل السماء‪ .‬أما املوت فكان‬ ‫متون األهرام‬
‫رسمية وسط جمع من عباده‬
‫يف اعتقادهم هو املوت األزيل‪ ،‬وهو‬
‫الذين كانوا ُيحضرون له الهدايا‬
‫ما يصيب الروح إذا فقدت الجسم‬ ‫هي أقدم كتابات دينية ُعرفت‪.‬‬
‫ويدفن يف‬ ‫من كافة أرجاء اململكة‪ُ ،‬‬ ‫أو التماثيل التي صنعت لها‪.‬‬ ‫وقد نقشها الفنانون بالكتابة‬
‫مقبرة خاصة به‪ .‬واقترن باإلله‬ ‫التصويرية الهيروغليفية‪ ،‬فخرجت‬
‫(بتاح) رب سقارة وصار الرمز‬ ‫معجزة فنية بنقشها املتقن ودقة‬
‫املادي له‪ ،‬وروحه املباركة‪ ،‬ثم‬ ‫التفاصيل يف صورها البشرية‬
‫استعار ذلك الثور قرص الشمس‬ ‫والحيوانية‪ ،‬وألوانها املمتعة التي‬
‫من (رع) وحمله بين قرنيه‪،‬‬ ‫ما زالت محتفظة بجمالها رغم‬
‫وبعد ذلك اندمج يف (أوزيريس)‬ ‫مرور القرون الكثيرة عليها‪.‬‬
‫وأصبح ابنًا له‪ ،‬وتك ّون منهما إله‬ ‫وزخرفوا معها سقف حجرة‬
‫الدفن بأشكال النجوم حتى بدا‬
‫كأنه سماء تظلل جثة الفرعون‬
‫وتحتويها‪.‬‬
‫ومتون األهرام التي تم تأليفها‬
‫يف عهود سابقة قبل أيام األسرة‬
‫الثالثة‪ ،‬لكنها مل تدون إال يف هرم‬
‫(زوسر)‪ ،‬هي كتابات معقدة ظهر‬
‫يف ثناياها عادات غريبة كانت‬
‫العجل أبيس‬ ‫متبعة يف عصر ما قبل األسرات‪.‬‬
‫وتتلخص يف أنها تصور حياة‬
‫امللك الدنيوية‪ ،‬فتصور امللك‬
‫وأمامه الحراس يفسحون له‬
‫الطريق‪ ،‬ثم تصور امللك صاع ًدا‬
‫بعد موته إىل السماء‪ ،‬إما عىل‬
‫شكل طائر‪ ،‬وإما صاع ًدا بسلم‪،‬‬
‫وقد استقبلته آلهة السماء‪ ،‬وحيته‪،‬‬
‫وأجلسته بينها حيث يعيش معها‬
‫عيشة ممتعة يف حقول النعيم كما‬
‫‪280‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫مشتر ًكا‪ ،‬ورابطة بين اإلغريق‬ ‫الصخر‪ ،‬مع حجرات للدفن تُفتح‬ ‫جنائزي‪.‬‬
‫واملصريين‪ .‬ولقد رأى اإلغريق أن‬ ‫عىل كال الجانبين‪ ،‬وفيها كانت‬ ‫وبمجرد أن يموت أبيس يعود‬
‫(سرابيس) يمثل (اسكليبيوس)‬ ‫توضع توابيت تلك العجول‬ ‫فيولد من جديد‪ ،‬فيبحث الكهنة‬
‫إله الشفاء‪ ،‬كما أن (زيوس)‬ ‫املقدسة‪.‬‬ ‫يف الحقول‪ ،‬ويفحصون القطعان‬
‫يمثل (آمون) كبير اآللهة‪ .‬لكن‬ ‫للعثور عىل ذلك اإلله الذي يمكن‬
‫(سرابيس) يف نظر املصريين‬ ‫السرابيوم‬ ‫التعرف عليه بعالمات خاصة‬
‫بشكل عام مل يكن سوى صورة‬ ‫مميزة فوق جلده األبيض حتى‬
‫من (أوزيريس) الذي كان يتجسد‬ ‫هو مقبرة العجول (أبيس)‪ .‬وكلمة‬ ‫يكون إل ًها‪ ،‬فيجب أن تكون أمه‬
‫عىل هيئة العجل (أبيس)‪.‬‬ ‫(سرابيوم ‪ )Serapeum‬معناها‬ ‫بقرة مل تلد غيره‪ .‬وكان أجدادنا‬
‫ويبلغ طول ممرات (السرابيوم)‬ ‫يف اليونانية مقر اإلله (سرابيس)‪،‬‬ ‫املصريون يعتقدون أن البرق‬
‫مترا‪ .‬أما طول‬ ‫ذلك اإلله اليوناني الذي جعله‬ ‫ينزل من السماء فوق هذه البقرة‬
‫حوايل ‪ً 380‬‬
‫املمر الرئيسي فيبلغ حوايل‬ ‫البطاملة واإلغريق يف مصر إل ًها‬ ‫فتحمل من فورها بهذا العجل‬
‫وتلده‪ ،‬كما يجب أن يكون لونه‬
‫متون األهرام‬
‫أبيض‪ ،‬تتوسط جبهته بقعة مربعة‬
‫سوداء‪ ،‬أما ذيله فيجب أن يكون‬
‫ذا خصلتين من الشعر‪ ،‬وعىل‬
‫لسانه رسم لجعل (جعران)‪ .‬فإذا‬
‫ما توافرت كل هذه الشروط يف‬
‫أحد العجول‪ ،‬يحل الفرح محل‬
‫الحزن‪ ،‬ويتوج العجل اإللهي يف‬
‫الحظيرة املقدسة يف (منف) ويتم‬
‫سحبه إىل املعبد يف احتفال عظيم‪،‬‬
‫حيث يعيش مع أمه‪ ،‬تحيط به‬
‫اإلناث من األبقار‪.‬‬
‫وعبادة هذا الحيوان يف (منف)‬
‫و(سقارة) ترجع إىل عهد قديم‬
‫ج ًّدا يف التاريخ املصري‪ ،‬حيث‬
‫حجرة الدفن‬
‫وجدت مقابر يف (منف) يرجع‬
‫تاريخها إىل بداية التاريخ‬
‫املصري‪ .‬ويف الدولة الحديثة‬
‫قام املصريون بإنشاء مقابر‬
‫خاصة لهذا العجل‪ ،‬ففي منتصف‬
‫حكم األسرة الثامنة عشر كانت‬
‫العجول تدفن يف مقبرة منفصلة‬
‫تُحفر يف باطن األرض‪ ،‬ويشيدون‬
‫مزارا عىل سطح األرض‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فوقها‬
‫أما يف الفترة التي تلتها فقد تم‬
‫وضع تصميم مختلف للمقبرة‪.‬‬
‫فحفر ممر تحت األرض يف‬
‫‪281‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫واستخدموا العطور يف تنظيف‬ ‫وفاة زوسر‬ ‫‪ 200‬متر‪ .‬وقد وجد داخل هذه‬
‫الجثمان وإكسابه رائحة مقبولة‪،‬‬ ‫املقبرة حوايل ‪ 24‬تابوتًا‪ ،‬ما زال‬
‫ولكن عمليات التحنيط نفسها‬ ‫تويف امللك (زوسر) بعد رحلة‬ ‫عشرون منها يف أماكنها إىل‬
‫ظلت وما زالت س ًّرا من األسرار‬ ‫طويلة مع املرض‪ ،‬تار ًكا مصر‬ ‫صنع من قطعة‬ ‫اآلن‪ ،‬كل تابوت ُ‬
‫تحضرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫تطورا‪ ،‬وأعظم‬
‫ً‬ ‫أكثر‬
‫ال يعلمه إال كبار الكهنة املحنطين‪،‬‬ ‫واحدة من الجرانيت األسود أو‬
‫وجعلها زاخرة باألمن والسالم‪،‬‬
‫وقاموا بلف الجسم بالعديد من‬ ‫األحمر أو البازلت أو من الحجر‬
‫وشيد املدن األكثر اتسا ًعا‬
‫طبقات القماش‪ ،‬وبتغطية الوجه‬ ‫الجيري الصلب‪ .‬متوسط أطوال‬
‫بمنازلها املنتظمة املشيدة من‬
‫بقناعه‪ ،‬ويف احتفال جنائزي مهيب‬ ‫هذه التوابيت يبلغ أربعة أمتار‬
‫اللبن واألخشاب‪ ،‬ومخازن الغالل‬
‫نقل جسد الفرعون املتوىف إىل‬ ‫طول‪ ،‬وعرضها متران ونصف‪،‬‬ ‫ً‬
‫العظيمة‪ ،‬وحظائر املاشية املمتدة‪،‬‬
‫الهرم املدرج‪ ،‬ووضعه الكهنة يف‬ ‫وارتفاعها أقل من أربعة أمتار‪،‬‬
‫اخضرارا بما‬
‫ً‬ ‫واملزارع األكثر‬
‫حجرة الدفن التي شيدت من حجر‬ ‫حوت من صنوف املزروعات‪،‬‬ ‫كما أن متوسط وزن الواحد‬
‫الجرانيت الوردي بعمق يصل‬ ‫وازدادت مدينة الجدار األبيض‬ ‫منها حوايل ‪ 65‬طنًّا‪ ،‬ويزن أثقلها‬
‫مترا تحت سطح‬ ‫ألكثر من ‪ً 30‬‬ ‫وإبهارا‬ ‫(منف) يف عهده عجبًا‬ ‫حوايل سبعين طنًّا‪.‬‬
‫ً‬
‫األرض‪ ،‬ليوضع يف التابوت امللكي‬ ‫بروعة جمالها وجمال صور‬ ‫أقيم (للسرابيوم) معبد بالجبانة‪،‬‬
‫الخاص به‪ ،‬وسط تراتيل وترانيم‬ ‫الحياة فيها‪ ،‬ولهذا فقد أحبه‬ ‫وتم عمل طريق اصطفت عىل‬
‫الكهنة‪ ،‬ودموع الشعب‪ ،‬وعدد‬ ‫املصريون حبًّا ج ًّما‪ ،‬وحزنوا عليه‬ ‫جانبيه الكباش يوصل إىل املقبرة‪.‬‬
‫كبير‪ ،‬يتجاوز الخمسين ألفًا‪ ،‬من‬ ‫كثيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حزنًا‬ ‫وعىل ذلك فإن (السرابيوم) هو‬
‫األواني‪ ،‬جيدة الصنع‪ ،‬املصنوعة‬ ‫وقام كهنة معبد (منف) بتحنيط‬ ‫آخر مرحلة من مراحل عبادة‬
‫من املرمر والكريستال‪ ،‬وغيرها‬ ‫جسده بالتخلص من السوائل‬ ‫هذا العجل الذي كان العثور عليه‬
‫من األحجار‪ ،‬وأغلقوا عليه األبواب‪،‬‬ ‫واألعضاء الرخوة يف جسده‪ ،‬ماعدا‬ ‫بصفاته املعروفة يعد معجزة من‬
‫وسدوا جميع الطرق واملمرات‬ ‫القلب‪ ،‬ليحفظوا له تماسكه بعد‬ ‫املعجزات‪ .‬ولهذا كانوا يحتفلون‬
‫الداخلية املوصلة لتلك الحجرة‬ ‫إجراء بعض العمليات الخاصة‪،‬‬ ‫عظيما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫احتفال‬ ‫عند العثور عليه‬

‫املصادر واملراجع‪:‬‬
‫‪ -1‬أسامة حسن‪ :‬مصر الفرعونية‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار األمل للنشر والتوزيع‪.)1998 ،‬‬
‫‪ -2‬جورج بوزنر (وآخرون)‪ :‬معجم الحضارات املصرية القديمة‪ ،‬ترجمة أمين سالمة‪ ،‬مراجعة سيد توفيق‪( ،‬القاهرة‪:‬‬
‫الهيئة املصرية العامة للكتاب‪.)1996 ،‬‬
‫‪ -3‬سليم حسن‪ :‬مصر القديمة‪ ،‬الجزء الثاني‪( ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪.)1992 ،‬‬
‫‪ -4‬سمير أديب‪ :‬تاريخ وحضارة مصر القديمة‪( ،‬القاهرة‪.)1997 :‬‬
‫‪ -5‬عبد الرحمن الرافعي‪ :‬تاريخ الحركة القومية يف مصر القديمة من فجر التاريخ إىل الفتح العربي‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫املعارف‪.)1989 ،‬‬
‫‪ -6‬عبد املنعم عبد الحليم سيد‪ :‬حضارة مصر الفرعونية‪( ،‬اإلسكندرية‪ :‬دار املعرفة الجامعية‪.)1999 ،‬‬
‫‪ -7‬محمد بيومي مهران‪ :‬مصر‪ ،‬الجزء الثاني‪ :‬منذ قيام امللكية حتى قيام الدولة الحديثة‪( ،‬اإلسكندرية‪ :‬دار املعرفة‬
‫الجامعية‪.)1996 ،‬‬
‫‪ -8‬ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة‪ ،‬املجلد األول‪ :‬نشأة الحضارة والشرق األدنى‪( ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية العامة‬
‫للكتاب‪.)2001 ،‬‬
‫‪9- Bob Brier: The History of Ancient Egypt, Part 1, (North Carolina: The Teaching Company,‬‬
‫‪1999).‬‬
‫‪10- Margaret R. Bunson: Encyclopedia of Ancient Egypt, Revised Edition, (U.S.A.: Facts on File,‬‬
‫‪2002).‬‬
‫‪282‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫هل يجب أن تكون‬


‫الحياة ً‬
‫تأمل في الحياة‪..‬‬ ‫هشام تمام‬

‫أم ً‬
‫تأمل في الموت؟‬ ‫الكردوسي*‬

‫يموت؛ حتى األمراء»‪ .‬فطلب منه‬ ‫غوتاما بوذا والذي كان ُيدعى‬ ‫عندما سبق وجودنا ماهيتنا؛‬
‫عىل الفور أن يرجعه إىل قصره‪.‬‬ ‫يف الثالثة عقود األوىل من حياته‬ ‫سبق ماهيتنا اختياراتنا لتشكيل‬
‫وبالعودة بدأ يفكر يف كل ما رآه‬ ‫باألمير سيدهارثا ‪،Siddhartha‬‬ ‫وجودنا وفرض ماهيتنا‪ .‬نسعى‬
‫ً‬
‫متسائل‪ :‬ما فائدة أن أكون‬ ‫للتو‬ ‫ذلك األمير الذي عاش حياة‬ ‫إلكمال صورنا عبر الحياة التي‬
‫مل ًكا عىل الجميع مع العيش يف‬ ‫شاعرية خلف جدران قصر والده‬ ‫نعيشها‪ ،‬نتفكر فيها ونتأملها‬
‫ظل الخوف الرهيب الذي يعيشه‬ ‫الشاسع‪ .‬كان األمير سيدهارثا‬ ‫يف تفاصيلها الوجودية‪ .‬نتفاعل‬
‫الجميع من املوت؟ وقرر األمير‪،‬‬ ‫محبو ًبا من الجميع‪ ،‬وتزوج من‬ ‫مع من سبق وجوده ماهيته‬
‫من أجل الجميع وليس من أجل‬ ‫أميرة جميلة‪ ،‬وأنجبا ول ًدا‪ ،‬وكانت‬ ‫ومن سبق ماهيته وجوده‪ ،‬لكن‬
‫نفسه فقط‪ ،‬أنه سيكرس حياته‬ ‫أسرته سعيدة‪ .‬لكن طوال العقود‬ ‫سرعان ما نصطدم بحقيقة واقعة‬
‫الكتشاف كيف يمكن لجميع‬ ‫الثالثة األوىل من حياته مل يخرج‬ ‫ال محالة تربك ذلك التأمل الذي‬
‫البشر تجاوز الوالدة واملوت‪.‬‬ ‫األمير مرة واحدة من بوابات‬ ‫كنا نعيشه من جانب واحد‪ ،‬أال‬
‫هذه القصة لألمير سيدهارثا‬ ‫القصر إىل املدينة‪ ،‬ويف يو ٍم ما‬ ‫وهو التأمل يف الحياة‪ ،‬فيتضح‬
‫وللسؤال الذي سأله‪ ،‬ليس فيها‬ ‫طلب من سائقه املخلص أن‬ ‫لنا الجانب املظلم اآلخر املوازي‬
‫فقط من التعاليم والدهشة حول‬ ‫يقوده عبر مدينة والده العظيمة‪،‬‬ ‫لهذا التأمل‪ ،‬وهو التأمل يف املوت‪.‬‬
‫وجود املوت‪ ،‬بل سؤال فيه من‬ ‫وللمرة األوىل عىل اإلطالق رأى‬ ‫دائما‬
‫ولطاملا يصبح التساؤل ً‬
‫أيضا كلما‬‫الشجاعة حينها واآلن ً‬ ‫األمير جثة‪ ،‬كان هذا املنظر‬ ‫بديهية تُنتج إما من الدهشة أو‬
‫نتساءله؛ ألنه برغم التطور التي‬ ‫صدمة مروعة له‪ .‬وتساءل يف‬ ‫ظهور تضاد بين مسألتين‪ ،‬فقد‬
‫وصلت إليه البشرية واألنظمة‬ ‫نفسه «هل سيحدث يل ما حدث‬ ‫يتساءل املرء هل يجب أن تكون‬
‫الحضارية التي نعيشها والتي‬ ‫لذلك الرجل؟» فسأل سائقه‪ :‬هل‬ ‫ً‬
‫تأمل يف‬ ‫ً‬
‫تأمل يف الحياة أم‬ ‫الحياة‬
‫تجعلنا نتفكر أكثر يف حياتنا‪ ،‬فإن‬ ‫أيضا؟ وأجابه سائقه عىل‬ ‫سأموت ً‬ ‫املوت؟‬
‫وجود حتمية املوت يف حياة كل‬ ‫الفور‪« :‬نعم جاللة امللك‪ ،‬الجميع‬ ‫تحكي القصة الشهيرة عن‬
‫‪283‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫رأى‬

‫يكون عىل أحد حالين‪ :‬إما أن‬ ‫سقراط الرجل املؤمن لها زاويتان؛‬ ‫شخص‪ ،‬وملرة واحدة فقط‪ ،‬تفتح‬
‫عدما وال يكون له إحساس‬ ‫يصبح ً‬ ‫أوال زاوية التأمل يف الحياة بحيث‬ ‫لنا محاولة من التأمل حوله‪ .‬ويف‬
‫بأي شيء كان‪ ،‬وإما‪ ،‬بحسب ما‬ ‫تحياها بمسلك أخالقي‪ .‬وثانيًا‬ ‫املقابل الحياة التي يعيشها كل‬
‫يقال‪ ،‬أنه يحدث تحول وهجرة‬ ‫زاوية االستعداد للموت من خالل‬ ‫أيضا محاولة‬‫شخص تفتح له ً‬
‫للنفس من هذا املكان إىل مكان‬ ‫التأمل األول‪ ،‬مع أن سقراط كان‬ ‫من التأمل حولها‪ .‬لكن أيهما‬
‫آخر‪ .‬وإذا كان املوت هو عدم‬ ‫يدعي عدم معرفته املوت‪ ،‬ال سيما‬ ‫أكثر طغيانًا عىل تأمالت الفرد يف‬
‫اإلحساس بأي شيء كما هو‬ ‫وأن هذا كان جز ًءا من تعاليمه‬ ‫وجوده؟‬
‫الحال يف النوم عندما ينام املرء‬ ‫وهو (ال أعرف)‪ .‬ورؤية سقراط‬ ‫دائما‬
‫سقراط‪ ،‬هو املثال األول ً‬
‫وال يرى أي شيء وال حتى يف‬ ‫هذه تتجيل بوضوح من خالل‬ ‫عندما نفتح حديثًا عن فلسفة‬
‫الحلم‪ ،‬فلكم سيكون املوت مكسبًا‬ ‫حياة الفضيلة املرجوة لديه‪ ،‬ألن‬ ‫املوت‪ ،‬انفتاحه حول ما يخبئه‬
‫مدهشً ا‪ ،‬وإني ألعتقد أنه إذا كان‬ ‫عدم اتباع تلك الفضيلة معناه أن‬ ‫املوت ال ُيحسب له فقط كوسيلة‬
‫ألحد أن يختار بين تلك الليلة‬ ‫يلتقي اإلنسان بالشر‪ ،‬والتقاء‬ ‫ملنع الخوف من احتمال املوت‪،‬‬
‫التي ينام فيها بدون أن يرى أي‬ ‫اإلنسان باملوت عند سقراط‬ ‫أيضا انفتاحه عىل املوت لكي‬ ‫لكنه ً‬
‫حلم؛ والليايل واأليام األخرى‬ ‫أفضل بكثير من التقائه بالشر‪.‬‬ ‫يبدو وكأنه حالة جذابة ومرغوبة‪،‬‬
‫من حياته نفسها‪ ،‬وإذا كان عليه‪،‬‬ ‫يقول سقراط بعد صدور الحكم‬ ‫ونهاية مثالية ومستحقة لحياة‬
‫بعد املقارنة مع تلك الليلة‪ ،‬أن‬ ‫بإعدامه‪:‬‬ ‫مكرسة للفضيلة(‪ .)1‬يقول سقراط‬
‫يقول بعد الفحص كم من األيام‬ ‫«إننا لسنا عىل حق يف رأينا حينما‬ ‫يف محاورة أوطفيرون أو الدفاع‪:‬‬
‫والليايل عاشها يف حياته هو‬ ‫نعتقد أن املوت شر‪ .‬وعندي أن‬ ‫«ربما قال يل البعض أال تخجل يا‬
‫نفسه وكانت أفضل وأمتع من‬ ‫هناك برهانًا قو ًّيا عىل ذلك‪ ..‬امليت‬ ‫سقراط من انشغالك بهذا النوع‬
‫تلك الليلة‪ ،‬إن أي شخص عادي‪،‬‬ ‫من الحياة الذي بسببه يمكن‬
‫بل امللك الكبير نفسه‪ ،‬سيجد أنه‬ ‫اليوم أن تموت؟ عىل هذا سأرد‬
‫يسهل عدها باملقارنة مع بقية‬ ‫بكلمة الحق التالية‪ :‬أنت مل تصب‪،‬‬
‫األيام والليايل‪ .‬فإذا كان هذا هو‬ ‫أيها الصاحب إن كنت‬
‫املوت‪ ،‬فإني أقول إنه يعد كسبًا‪،‬‬ ‫تعتقد أنه واجب عىل‬
‫حيث إن كل زمان ال يبدو أطول‬ ‫رجل ذي قيمة مهما‬
‫من ليلة واحدة‪ .‬من جهة أخرى‪،‬‬ ‫ضؤلت أن يحسب‬
‫فإذا كان املوت رحلة خارجية‬ ‫حساب إمكان أن‬
‫من هذا املكان إىل مكان آخر‬ ‫يحيا أو أن يموت‪،‬‬
‫يكون فيه كل املوتى‪ ،‬إذا‬ ‫إنما عليه أن يعتبر‬
‫صحيحا ما يقال‪،‬‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫شيئًا واح ًدا يف سلوكه‬
‫فأي خير أكبر من هذا‬ ‫وهو إن كان يسلك‬
‫يمكن أن يتصور أيها‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عادل أم ظاملا‪ ،‬وإن‬ ‫سلو ًكا‬
‫املواطنون القضاة‪ ،‬ذلك‬ ‫كان عمله عمل رجل فاضل‬
‫أنه إذا كان الواصل‬ ‫أم شرير»(‪ .)2‬بذلك يرى‬
‫إىل هاديس يتخلص‬ ‫سقراط أن اإلنسان الذي‬
‫من هؤالء القضاة‬ ‫يحيا حياة فاضلة وعادلة‬
‫املزعومين ليجد قضاة‬ ‫سقراط‬
‫وأخالقية تؤهله هذه‬
‫حقيقيين‪ ..‬وأنا من‬ ‫الحياة الستقبال املوت‬
‫جانبي أرغب‬ ‫دون خوف‪ .‬فنظرة‬
‫‪284‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫هذا أن ما يقض مضجع اإلنسان‬ ‫الشر؛ فهو يفعل ما هو صالح‬ ‫يف املوت مرات عديدة إذا كان هذا‬
‫إنما تلك اإلمكانيات التي تجعله‬ ‫ألنه شيء صالح عن طريق‬ ‫صحيحا»(‪ .)3‬وهذه زاوية أخرى‬ ‫ً‬
‫نهبا ‪-‬يف كل حين‪ -‬لعوارض‬ ‫إرشاد العقل وليس عن طريق‬ ‫من تأمالت سقراط حول املسألة‪،‬‬
‫املرض‪ ،‬والفشل‪ ،‬والشقاء‪،‬‬ ‫كبح الخوف‪ ،‬فاإلنسان يف حياته‬ ‫وهي أن اإلنسان ينشد الحقيقة‪،‬‬
‫واملوت»(‪.)6‬‬ ‫يسعى لنيل السعادة وليس‬ ‫وهو مل يكن عىل يقين منها يف‬
‫هذه العوارض ال تنفي تعرض‬ ‫لتفادي الحزن؛ ألن العيش وفقًا‬ ‫حياته‪ ،‬فهو يأمل إنشادها فيما‬
‫لتفادي الحزن والشر وغيره ً‬
‫بدل‬ ‫بعد املوت‪ .‬وبذلك فاملوت لديه‬
‫اإلنسان الحر لها يف حياته‪،‬‬
‫من السعي وراء الفرح والخير‬ ‫ليس ش ًّرا‪ ،‬ألنك تدرك من خالله‬
‫سيموت اإلنسان الحر بالطبع‬
‫يسلب العيش يف الحياة وفقًا‬ ‫الحقيقة النهائية‪ ،‬وأن أفضل شيء‬
‫ويشقى ويمرض‪ ،‬وهذا جزء من‬
‫للطبيعة اإلنسانية‪ ،‬ويضرب‬ ‫إلدراك الحقيقة هو تأملها‪.‬‬
‫الطبيعة‪ ،‬فاإلنسان ليس بمنأى‬ ‫اسبينوزا ً‬
‫مثال عىل ذلك‪:‬‬ ‫إذا انتقلنا إىل نقطة أخرى يف‬
‫عن التغييرات التي تحدث من‬ ‫«الرجل املريض‪ ،‬من خشية املوت‪،‬‬ ‫العصر الحديث حول نفس‬
‫خالل األسباب الخارجية‪ .‬عىل‬ ‫يأكل ما ينفره‪ ،‬بينما يستمتع‬ ‫املسألة نجد فيلسوفًا كان يتطرق‬
‫الرجل السليم بطعامه‪ ،‬وبهذه‬ ‫دائما لتحديد هذا التأمل؛ وهو‬ ‫ً‬
‫الطريقة يتمتع بالحياة أفضل مما‬ ‫اسبينوزا‪ ،‬الذي برغم تأثره‬
‫لو كان يخشى املوت ويريد‬ ‫بفالسفة الرواقية وكتابات‬
‫تجنبه بشكل دائم»(‪.)5‬‬ ‫سينيكا الذين رأوا أن الحياة تأمل‬
‫واسبينوزا يف سبيل‬ ‫مسارا مختلفًا ج ًّدا‬
‫ً‬ ‫يف املوت‪ ،‬اتخذ‬
‫تأمله الحياة فقط‪،‬‬ ‫عن سقراط وغيره من الكتابات‬
‫وفقط ال غير‪ ،‬يسلب من‬ ‫الفلسفية القديمة‪ .‬فوجهة نظره‬
‫اإلنسان ظاهرة من أهم‬ ‫أن الطريقة الصحيحة والعقالنية‬
‫الظواهر الطبيعية لإلنسان؛‬ ‫للتعامل مع املوت ‪-‬سواء كان‬
‫الخوف‪« .‬فالحياة ليست‪،‬‬ ‫املوت غير الطبيعي أو املوت‬
‫دائما‪ ،‬سلسلة من املباهج‬
‫ً‬ ‫الطبيعي يف حد ذاته‪ -‬هو عدم‬
‫واملسرات‪ ،‬بل هي سلسلة‬ ‫التفكير فيه عىل اإلطالق‪ ،‬فهو‬
‫أيضا من املخاوف واملخاطر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يرى أن‪« :‬اإلنسان الحر‪ ،‬أي الذي‬
‫فإننا لنعلم أن علماء النفس‬ ‫يعيش وفقًا إلمالء العقل وحده‪ ،‬ال‬
‫يضعون الخوف عىل رأس‬ ‫يجب أن يقوده الخوف‪ ،‬بل يرغب‬
‫قائمة االنفعاالت األصلية‬ ‫يف الخير بشكل مباشر طاملا يحيا‪،‬‬
‫التي نلتقي بها لدى املولود‬ ‫أي يعمل ويحيا ويحفظ كيانه‬
‫الصغير‪ .‬وإذا كان اإلنسان‬ ‫من أساس السعي وراء حياته‬
‫هو املوجود الذي ال يكاد‬ ‫الخاصة‪ .‬ولذا فهو ال يجب أن‬
‫يكف عن البحث عن األمن‪،‬‬ ‫يفكر يف املوت عىل اإلطالق‪ .‬وبدلً‬
‫فما ذلك إال ألن حياته مهددة‬ ‫من ذلك‪ ،‬حكمته يجب أن تكون‬
‫يف كل لحظة بالعديد من‬ ‫ً‬
‫تأمل يف الحياة»(‪.)4‬‬
‫األخطار‪ :‬أخطار تهدده من‬ ‫ألن الشخص الحر يف نظر‬
‫الخارج من جانب اآلخرين‪،‬‬ ‫اسبينوزا يسعى بطبيعته ومن‬
‫وأخطار تهدده من الداخل‬ ‫منطلق عقالنيته ومشاعره إىل‬
‫من ِقبل ذاته نفسها‪ .‬ومعنى‬ ‫االرتماء يف أحضان الخير ال‬
‫غوتاما بودا‬
‫‪285‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫رأى‬

‫الحر جي ًدا كما يف فكر اسبينوزا‪.‬‬ ‫الرغم من أنه يتمتع بقوة أكبر‬
‫وإنكار خلود الروح الناتج عن‬ ‫من الكائنات األخرى ملقاومة‬
‫البعد الديني والسياسي عند‬ ‫التأثيرات السلبية وذلك بفضل‬
‫اسبينوزا كان تقريبًا عادة ترافقه‬ ‫عقالنيته وعواطفه‪ ،‬إال أن بعض‬
‫يف كل كتاباته‪ ،‬فقد عبر عن هذه‬ ‫التغييرات يف نهاية املطاف سوف‬
‫الرؤية عندما قال‪:‬‬ ‫تطغى عىل محاوالته وتؤدي إىل‬
‫«إن عقيدة خلود الروح قد‬ ‫زوال جسده وبالتايل عقله‪.‬‬
‫تكون أخطر األفكار الالعقالنية‬ ‫«فالقوة التي يثابر بها اإلنسان‬
‫التي تشجعها السلطات الدينية‬ ‫عىل الوجود محدودة‪ ،‬وتتفوق‬
‫وحلفاؤها ألتباعهم‪ .‬فاإليمان‬ ‫عليها بقوة األسباب الخارجية‪.‬‬
‫بالنفس الخالدة يقود بال هوادة‬ ‫يعرف الشخص الحر جي ًدا‬
‫إىل حياة تحكمها أهواء األمل‬ ‫أنه ميت ال محالة‪ .‬عىل عكس‬
‫والخوف‪ :‬األمل يف املكافأة األبدية‬ ‫الشخص الذي يسترشد بالخوف‬
‫اسبينوزا‬
‫يف الجنة والخوف من العقاب‬ ‫والعواطف األخرى‪ ،‬فالشخص‬
‫األبدي يف الجحيم‪ .‬يمكن أن تكون‬ ‫تأمل يف املوت هي الحقيقة‬ ‫الحر ال يستهلكه هذا الفكر؛ فهو‬
‫هذه املشاعر حول مصير روح‬ ‫النهائية املرتبطة بالخلود األبدي‪،‬‬ ‫مهووسا باملوت‪ .‬واحتمالية‬ ‫ً‬ ‫ليس‬
‫املرء يف عامل ما قادم؛ قوية للغاية‬ ‫أو الحقيقة الحقيقية باملعنى‬ ‫املوت لديه ال تحدد كيف‬
‫وتهيمن عىل حياتنا العقالنية‪ .‬أي‬ ‫األفالطوني‪ .‬وهذه الغاية تجعلك‬ ‫يتصرف‪ ،‬وبالتأكيد ال تدفعه إىل‬
‫شخص سيفعل أي شيء‪ ،‬أي‬ ‫تتمكن من الخروج من الحياة‬ ‫االنخراط يف أي طقوس خرافية‬
‫شيء! لكسب تلك املكافأة اإللهية‬ ‫عن اقتناع وباستعداد تام لهذا‬ ‫من املفترض إما أن تمنع موته أو‬
‫وتجنب العقاب اإللهي‪ .‬ولتحقيق‬ ‫الخروج طاملا ينتظرنا شيء أغىل‬ ‫تضمن أن يتبعه نوع من النعيم‬
‫ذلك يقول الكهنة والخطباء‬ ‫وأثمن‪ ،‬وهذا ما اتخذته أغلب‬ ‫الخالد‪ .‬اإلنسان الحر ال يخاف‬
‫والحاخامات إنهم يعرفون‬ ‫االتجاهات امليتافيزيقية‪ ،‬سواء‬ ‫املوت‪ ،‬وال يحزنه التفكير فيه‪ ،‬وال‬
‫بالضبط ما يجب عىل املرء أن‬ ‫قديما أو حديثًا‪ .‬أما اسبينوزا‬
‫ً‬ ‫حتى ألنه يعلم أن شيئًا أفضل‬
‫يفعله لتحقيق النتيجة األبدية‬ ‫فالغاية من أن تكون الحياة تأملً‬ ‫ينتظره يف حياة ما‪ ،‬بل ألن املوت‬
‫املنشودة‪ .‬نتيجة هذا املزيج القابل‬ ‫يف الحياة هي أن الغاية بالفعل‬ ‫ال يلفت انتباهه‪ .‬إنه مشغول ج ًّدا‬
‫لالشتعال من اليأس بين القوم‬ ‫معك اآلن؛ حريتك وفضيلتك‪.‬‬ ‫يف تقدير الحياة التي يقودها‬
‫العاديين واملعتقدات الخرافية‪،‬‬ ‫وربما هذا ناتج عن بعد سياسي‬ ‫والتمتع بالحب الفكري الخالص‬
‫والخداع الذي يرتكبه رجال الدين‬ ‫وديني عند اسبينوزا‪ ،‬ألنه مثل‬ ‫الذي هو تتويج إلنجازاته‪ .‬تتجه‬
‫هو طاعة خاضعة من قبل األول‬ ‫األبيقوريين ال يرى خلو ًدا بعد‬ ‫عيون الشخص الحر إىل الجائزة‪،‬‬
‫لألخير‪ .‬يلقي الناس بأنفسهم‬ ‫املوت‪ ،‬فهو ينكر وجود الذات‬ ‫والجائزة موجودة معه بالفعل‪:‬‬
‫تحت رحمة الوزراء‪ ،‬ويسمحون‬ ‫الخالدة بعد املوت‪ ،‬أو كما يصف‬ ‫حريته وفضيلته»(‪.)7‬‬
‫لهم بإمالء سلوكهم وإدارة‬ ‫األبيقوريين املسألة بأن املوت‪،‬‬ ‫ونقطة املفارقة هنا بين اسبينوزا‬
‫حياتهم وحتى نظامهم السياسي‪.‬‬ ‫أفظع الشرور‪ ،‬لكنه ليس شيئًا‬ ‫أيضا تتمثل‬ ‫وسقراط ومخالفيه ً‬
‫والنتيجة ليست مجرد عبودية‬ ‫بالنسبة لنا‪ ،‬ألننا عندما نكون‬ ‫يف الغاية النهائية يف اتجاه تأمل‬
‫نفسية للعواطف‪ ،‬حيث ال توجه‬ ‫أحياء‪ ،‬ال نحس باملوت‪ ،‬وعندما‬ ‫ً‬
‫تأمل‬ ‫كل منهما‪ ،‬سواء الحياة‬
‫الرغبة العقل بل مشاعر األمل‬ ‫نكون أمواتًا‪ ،‬فإننا ال نحس‬ ‫ً‬
‫يف الحياة نفسها أو تأمل يف‬
‫أيضا عبودية‬‫والخوف‪ ،‬بل هي ً‬ ‫بالحياة‪ .‬هذا الدرس األبيقوري‬ ‫املوت‪ .‬فسقراط الذي يرى أن‬
‫اجتماعية وسياسية» ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬
‫القديم شيء يفهمه الشخص‬ ‫الغاية النهائية من أن الحياة‬
‫‪286‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫يف النهاية‪ ..‬الحياة واقع نعيشه‪،‬‬ ‫طريق العدم‪ ،‬وأن الحياة نفسها‬ ‫وهذه النظرة االسبينوزية مل تكن‬
‫وتفكيرنا فيها أو يف املوت هو‬ ‫موت مستمر‪ ،‬ألننا ال نكف يف‬ ‫أيضا عن بعض‬ ‫من قبل بعيدة ً‬
‫ما يوحي لنا بأننا عىل قمة هذا‬ ‫كل لحظة عن بناء موتنا‪ ،‬ولكننا‬ ‫األديان عند بعض الفرق الدينية‬
‫الواقع‪ ،‬وأن اإلرادة وحدها‬ ‫‪-‬مع ذلك‪ -‬ال نملك سوى املضي‬ ‫أو الزهاد‪ ،‬حيث كانت أهم مطلب‬
‫هي التي تنزع ذلك املنزع لتلك‬ ‫يف مشاغلنا وحياتنا العادية‪،‬‬ ‫لديهم من مطالب العبادة؛ العبادة‬
‫التأمالت؛ تلك اإلرادة التي من‬ ‫وكأن ليس ثمة موت ينتظرنا‬ ‫من أجل املحبة وليس طم ًعا يف‬
‫خاللها نستطيع أن نتأمل الحياة‬ ‫يف خاتمة املطاف! ونحن نختبر‬ ‫ثواب أو خوفًا من عقاب إلهي‪ ،‬مع‬
‫واملوت م ًعا كوجهين لعملة واحدة‪،‬‬ ‫‪-‬يف تجربتنا الزمنية‪ -‬ال وجود‬ ‫الحفاظ عىل طبيعة النفس الخالدة‬
‫إذا قلبتها لن تجد إال الوجه اآلخر‪،‬‬ ‫ما مل يعد له وجود‪ ،‬وال وجود‬ ‫بعد املوت‪ .‬وبالتايل كانت لديهم‬
‫ما مل يوجد بعد‪ .‬ال نكاد نصدق‬ ‫ً‬
‫تأمل يف‬ ‫نفس النظرة يف أن الحياة‬
‫إرادة يقبلها الوجهان‪ ،‬الحياة‬
‫أن يكون نسيج حياتنا هو هذا‬ ‫الحياة قبل املوت‪ .‬لكن اآلن سواء‬
‫واملوت‪ ،‬إرادة الخير يف حد ذاته‪،‬‬
‫الالوجود املثلث! وآية ذلك أن‬ ‫كانت الطريقة الصحيحة للعيش‬
‫كما يطلق عليه كانط‪ ،‬أي اإلرادة‬ ‫ً‬
‫حياتنا ‪-‬يف نظرنا‪ -‬ملء كثيف‬ ‫تأمل يف الحياة أو إن‬ ‫إن كانت‬
‫التي يتم تحفيزها ألداء (أو‬ ‫متسق متماسك‪ ،‬وكأنما هي كل‬ ‫ً‬
‫كانت تأمل يف املوت‪ ،‬هل تنطبق‬
‫االمتناع عن) فعل لسبب وحيد‪،‬‬ ‫ال موضع فيه للعدم أو الالشيء‪..‬‬ ‫كل طريقة عىل كل شخص؟ أي‪:‬‬
‫هو أن الواجب األخالقي يأمر‬ ‫ومعنى هذا أن مخاطرة الحياة قد‬ ‫هل الطريقة الصحيحة لهذا التأمل‬
‫بذلك‪ ،‬وأن يجعل اإلنسان حياته‬ ‫تجيء فتطيح بالخوف من املوت‪،‬‬ ‫هي الطريقة الصحيحة للمعيشة‬
‫تأمل يف الحياة أو يف املوت‪ ،‬يف‬ ‫ً‬ ‫عىل شرط أن يعرف املوجود‬ ‫لدى الجميع؟!‬
‫النهاية لهما غاية واحدة تجلت‬ ‫البشري كيف يركز الوجود يف‬ ‫الحق أننا نعلم علم اليقين‬
‫عند سقراط يف أن يحيا اإلنسان‬ ‫الحاضر‪ ،‬وكيف ينظر إىل الزمانية‬ ‫أن املوت معانق للحياة‪ ،‬وأن‬
‫ً‬
‫عادل‪،‬‬ ‫يف كال الحالتين خيِّ ًرا‪،‬‬ ‫عىل أنها طريقتنا الخاصة يف‬ ‫النبضات األوىل لقلب الوليد هي‬
‫وفاضلً‬ ‫الحياة(‪.)9‬‬ ‫يف الوقت ذاته خطواته األوىل عىل‬

‫هامش‪:‬‬
‫* كاتب وباحث أكاديمي يف الفلسفة والعلوم اإلنسانية‪.‬‬

‫مراجع املقال‪:‬‬
‫‪1- Nadler, Steven: Think Least of Death, Princeton University Press, United States of‬‬
‫‪America, 2020, p.174.‬‬
‫‪ -2‬أفالطون‪ :‬محاكمة سقراط (محاورات أوطيفرون‪ ،‬الدفاع‪ ،‬أقريطون)‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬عزت قرني‪ ،‬دار‬
‫قباء للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2001 ،‬ص‪.119‬‬
‫‪ -3‬أفالطون‪ :‬محاكمة سقراط (محاورات أوطيفرون‪ ،‬الدفاع‪ ،‬أقريطون)‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.135‬‬
‫‪.Nadler, Steven: Think Least of Death, op. cit. p175 -4‬‬
‫‪.176.op. cit. loc. Cit. p -5‬‬
‫‪ -6‬زكريا إبراهيم‪ :‬مشكلة الحياة‪ ،‬دار مصر للطباعة‪ ،‬ص‪.133‬‬
‫‪.177-176.Nadler, Steven: Think Least of Death, op. cit. pp -7‬‬
‫‪.180-179.op. cit. loc. Cit. pp -8‬‬
‫‪ -9‬زكريا إبراهيم‪ :‬مشكلة الحياة‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.173-172‬‬
‫‪287‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫قراءة في كتاب‬
‫أشرف البوالقي‪..‬‬ ‫عبد النّبي‬
‫«قنا بين ّ‬
‫الشهد وال ّدموع‪..‬‬ ‫ع ّبادي‬

‫قراءات وشهادات ثقافية»‬


‫عليه وهو سؤال «املُث ّقف‪ ،‬ماهيت ُه‬ ‫زحام الكتابة بمفهومها العام‪ ،‬لكن‬ ‫شاعر ُمعاصر‪ -‬يف‬ ‫ٌ‬ ‫سخر‬ ‫ْ‬
‫مل ُي ّ‬
‫ودور ُه وموقعه من السياق‬ ‫إيمانه بأن االحتفاظ بـ»حساسية‬ ‫شعرا وسر ًدا ونق ًدا‬ ‫ً‬ ‫رأيي‪ -‬قلمه‬
‫االجتماعي والتّاريخي واألدبي‪.‬‬ ‫مكن أن يكون إال‬
‫الكتابة» ال ُي ُ‬ ‫لالشتباك مع قضايا الثقافة يف‬
‫وقد نحتاج ُهنا أن نُذ ِّكر أنفسنا‬ ‫بمزي ٍد من الكتابة والكتابة كما‬ ‫الشاعر أشرف‬ ‫مصر كما فعل ّ‬
‫ببعض املُسلّمات‪ ،‬ومنها أن ليس‬ ‫يدفعه وعيه الحاد بقضايا املجتمع‬ ‫البوالقي‪ ،‬وقد كان اشتباكه مع‬
‫بدع ُمث ّقف وإن كانت الثقافة‬ ‫كل ُم ٍ‬ ‫املصري ومشكالته إىل التع ّرض‬ ‫قضايا الثقافة ُمرك ًزا يف ُمستويين‬
‫شرط من شروط اإلبداع‪ ،‬وليس‬ ‫ٌ‬ ‫لها إيمانًا بأن تفكيك مثل هذه‬ ‫ُهما؛ «قضايا الفعل الثقايف»‬
‫ك ّل ُمتعلِّم ُمث ّقف إال إن رأينا أثر‬ ‫القضايا وتحليل أسبابها ُبغية‬ ‫السائدة» التي‬ ‫وقضايا «الثقافة ّ‬
‫ذلك التَّعليم يف تط ّور وعي املُتعلّم‪،‬‬ ‫اقتراح حلول أو اجتهادات قد‬ ‫كثيرا من الفعل الثقايف يف‬ ‫ً‬ ‫تحكم‬
‫ُ‬
‫أكاديمي ُمث ّقف‬
‫ّ‬ ‫كما أنه ليس ك ّل‬ ‫يكون هو ه ّمه األول واألوىل‬ ‫بالدنا‪ .‬والواقع أن االختالف مع‬
‫بالضرورة إذ تبدو عقلية كثير من‬ ‫ّ‬ ‫خاص ًة وأن ُمجتمعاتنا ال يبدو أنها‬ ‫َّ‬ ‫البوالقي فيما يطرح أو بالطريقة‬
‫أقرب إىل‬
‫ُ‬ ‫األكاديميين و»ثقافتهم»‬ ‫تسير يف ركاب الحضارة اإلنسانية‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ومقبول‬ ‫أمر وار ٌد‬
‫التي يطرحه بها ٌ‬
‫ّ‬
‫املوظفين»!‬ ‫«ثقافة‬ ‫ح ّرة طليقة‪ ،‬لكنها تسير ويف‬ ‫لديه ولدى املُتابع املُنصف‪ ،‬لكنني‬
‫لقد ُطرحت مفاهيم كثيرة عن‬ ‫أقدامها أحجار وأكياس من الرمل‬ ‫أظ ّن أننا لن نختلف حول طاقة‬
‫املُث ّقف وما تزالُ تُطرح ُمنذ‬ ‫(‪)1‬‬
‫العفي!‬
‫ّ‬ ‫البوالقي التنوير ّية والتثوير ّية التي‬
‫ت ّم استخدام ُمصطلح املث ّقف‬ ‫إن كتابتي ليست بغرض امتداح‬ ‫ح ّركته طيلة السنوات املاضية‬
‫مع مفهوم العقيدة املذهبيّة‬ ‫البوالقي أو ذ ّمه‪ ،‬فهاتان ُمه ّمتان‬ ‫داخل الفعل الثقايف املؤسسي أو‬
‫األيديولوجية وذلك يف عام‬ ‫يسيرتان وأدواتُهما متوفرة‬ ‫عشاقه ومتابعيه من املثقفين‬ ‫بين ّ‬
‫‪1792‬م(‪ ،)2‬ثم جاءت تعريفات‬ ‫لدى كثيرين‪ .‬لكنّني أري ُد قرءاة‬ ‫واملبدعين الذين سبقوه أو جايلوه‬
‫كثيرة تحاول أن تُع ِّرف املُثقف‬ ‫«البوالقي‪ -‬النّص» وتأطي ِر عالما ِت ِه‬ ‫أو الذين جاءوا من بعده‪ .‬لقد‬
‫انطالقًا من دوره يف املجتمع‪.‬‬ ‫ال ّظاهرة واملُضمرة الخفيّة‪ ،‬ألنه‬ ‫الشاعر كل موقع أو واقعة‬ ‫استغل ّ‬
‫لكنني أرى أن صعوبة تعريف‬ ‫‪-‬يف رأيي‪ -‬ظاهر ًة ثقافية تر ُّدنا‬ ‫أو كتاب لطرح ما يؤمن به ويراه‬
‫املثقَّف‪ ،‬ليس مر ُّدها إىل عج ٍز يف‬ ‫لطرح السؤال الذي مل يزل ُمه ًّما‬ ‫أشفق عليه‬‫ُ‬ ‫كنت‬
‫ناف ًعا حتَّى أنني ُ‬
‫املُصطلح أو ضبابية يف املفهوم‪،‬‬ ‫ورغم تعدد اإلجابات‬ ‫ُرغم تكراره ُ‬ ‫من أن تضيع طاقته اإلبداعية يف‬
‫‪288‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫صفحته بفيسبوك تحت هاشتاج‬ ‫ومعانيها‪ ،‬والتي يغفلها املتطلع إىل‬ ‫لكن مر َّدها إىل أن هناك أنوا ًعا‬
‫‪#‬آخر_ماقاله_املمثل‪ ،‬كانت تلك‬ ‫فلكلورا‬
‫ً‬ ‫الثقافة الشعبية بوصفها‬ ‫ُمختلفة من املث ّقفين‪ ،‬ال تستطي ُع‬
‫الكتابات يف ُمجملها تعرية لل ّذات‬ ‫ليس أكثر(‪ .)4‬وهو املث ّقف «الوطني»‬ ‫أن تنفي عن أي واح ٍد منهم لفظة‬
‫ومواجهة حاسمة مع تناقضاتها‬ ‫الغيور ج ًّدا عىل ُلغته العربية‪.‬‬ ‫«املث ّقف»‪ ،‬بينما تستطي ُع أن تُلحق‬
‫مع نفسها أو مع الواقع‪ ،‬لقد‬ ‫وقد أستطي ُع أن أطلق عىل البوالقي‬ ‫بلفظة «املثقف» الصفة التي ّ‬
‫تؤطر‬
‫استخدم بوعي نفس فكرة التط ُّهر‬ ‫لفظة «املثقف القلِق» الذي ال‬ ‫دوره‪ ،‬ألنني ال ُيمكنني أن أتفق‬
‫األرسطي بصعود املمثل إىل خشبة‬ ‫يتوقَّف عن نقد كل شيء‪ ،‬حتَّى‬ ‫مع جاك لوكوف فيما ذهب إليه‬
‫املسرح لتُعرض لنا معاناته التي‬ ‫تسلم من نقده‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫ذاتُه ال‬ ‫من أن املثقف هو ك ُّل ُمشتغ ٍل‬
‫ً‬
‫وصول‬ ‫يتخفف منها شيئًا فشيئًا‬ ‫البعض نقد الذات نو ًعا‬ ‫ُ‬ ‫يعتبر‬
‫ُ‬ ‫إنتاجا وتوزي ًعا‬‫ً‬ ‫بالعمل الثقايف‬
‫لالعتراف‪ ،‬أو يوغ ُل فيها شيئًا‬ ‫من التشهير لكنني قد أراه نو ًعا‬ ‫ّ‬ ‫وتنشي ًطا(‪ ،)3‬بل واعتراضي عىل‬
‫فشيئًا حتى الهالك وإال فلما ْ‬
‫مل‬ ‫من التطهير أو التط ُّهر بمفهومه‬ ‫هذا التعريف أنه نظر لتعريف‬
‫يختر البوالقي أي عنوانٍ آخر لهذا‬ ‫األرسطي ‪ ،catharsis‬وهو ما‬ ‫املثقف كتعريف ذي طبقات‪ ،‬نواتُه‬
‫الهاشتاج‪ ،‬حتى وإن كان قد ارتبط‬ ‫قد ُيخالفني فيه املتخصصون‬ ‫املبدعون والفالسفة وهذا صحيح‬
‫حسه‬‫عنده بوقائع فعليَّة‪ ،‬لكن َّ‬ ‫يف املسرح وال ِّدراما الذين رأوا‬ ‫‪-‬يف رأيي‪ -‬لكنّه ض ّم إليهم دائرة‬
‫النقدي لل َّذات جعل من الهاشتاج‬ ‫انحصارا يف األداء‬
‫ً‬ ‫يف املصطلح‬ ‫أوسع من الفنانين والصحفيين‬
‫أحد تجليَّات نقد الذات واآلخر‪،‬‬ ‫املسرحي الذ ي يعالج عاطفتي‬ ‫واملُحامين واملُعلمين وخالفه‪ ،‬وهذا‬
‫والسؤال حول جدوى الكتابة‬ ‫ويع ِّرض البطل‬ ‫الشفقة والخوف‪ُ ،‬‬ ‫مما ال أجدني متفقًا معه‪ .‬وهو ما‬
‫ُمجد ًدا‪.‬‬ ‫لجرعات متنامية من األمل تدفعه يف‬ ‫رآه من قب ُل املف ّكر اإليطايل أنطوني‬
‫وبالعودة إىل مفهوم «املثقف القلق»‬ ‫النِّهاية لالعتراف‪ ،‬وهو ما ُيش ّكل‬ ‫جرامشي عندما تساءل‪ :‬هل‬
‫الذي أطلقه عىل البوالقي مع لقبي‬ ‫يعتبر نفسه‬ ‫تنفيسا للمتل ِّقي الذي‬ ‫املثقفون طبقة اجتماعية واحدة؟‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫«املثقف املوضوعي» و»املثقف‬ ‫ُ‬
‫ُمعادل واقعيًّا لذلك البطل املتخيَّل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أم أن كل طبقة اجتماعية لها‬
‫الوطني»‪ ،‬فذلك مفهوم أطلقه‬ ‫فما عالقة ذلك بنقد الذات لدى‬ ‫مثق ّفوها؟ وهذا ما يؤ ّكد ما أرمي‬
‫الباحث خالد الحروب يف كتابه‬ ‫البوالقي؟ وما ارتباط ذلك باملفهوم‬ ‫اعتبرت البوالقي ُمثقفًا‬ ‫ُ‬ ‫إليه عندما‬
‫«املثقف القلِق ضد مثقف اليقين»‪.‬‬ ‫الدرامي للتط ُّهر؟‬ ‫ُمتع ِّد ًدا‪ .‬فهو بتعبير «غرامشي»‬
‫ينادي هذا الكتاب بضرورة‬ ‫كبيرا من‬ ‫لقد نشر البوالقي عد ًدا‬ ‫عضوي» بالتحامه بقضايا‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫«مثقف‬
‫ً‬
‫مواجهة مثقف اليقين باملثقف‬ ‫القصائد والنثريات مؤخَّ ًرا عبر‬ ‫مجتمعه وبيئته والجماهير التي‬
‫القلق‪ ،‬وهو يف نظري «أشرف‬ ‫يعيش بينها‪ ،‬وهو «مث ّق ٌف‬
‫البوالقي» الذي ال يلين وال‬ ‫حيث يبرز املثقف‬ ‫يل» ُ‬ ‫جما ّ‬
‫يستكين إىل أيديولوجية أو عقيدة‬ ‫الجمايل‪ ،‬باحثًا عن مظاهر‬
‫فكرية‪ ،‬وال يستسلم إىل قناعة‬ ‫الجمال‪ ،‬يف الثقافة الشعبية‬
‫نهائية‪ .‬إن مقاربة صوت وصورة‬ ‫األصيلة (كتابه «أشكال‬
‫املثقف يف الحقبة الحالية يأتي يف‬ ‫وتجليات العدودة يف صعيد‬
‫طليعة املهام املطروحة عىل املثقف‬ ‫نموذجا)‪ ،‬فتلك الثقافة‬ ‫ً‬ ‫مصر»‬
‫القلق‪ ،‬الذي يفترض فيه أن يتسلح‬ ‫بمختلف تعبيراتها وأشكالها‪،‬‬
‫بالحس النقدي‪ ،‬وبهاجس املساءلة‬ ‫من أمثال وشم وخط‬
‫وأخالقيات الحوار واملساجلة‪،‬‬ ‫وخرافة‪ ،‬تحمل يف طياتها عدة‬
‫ونقد كل األفكار‪ ،‬واالنقضاض عىل‬ ‫أبعاد جمالية‪ ،‬وهي األبعاد‬
‫ركودها‪ ،‬حتى لو كانت أفكاره هو‬ ‫ذاتها التي يسعى املثقف‬
‫نفسه‪ .‬والحال أن هذا القلق الفكري‬ ‫الجمايل إىل إبراز قيمتها‬
‫علي جعفر ّ‬
‫العلق‬
‫‪289‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫والاليقين الذي يدعونا إليه خالد‬


‫الحروب إنما يزداد أهمية وراهنية‪،‬‬
‫ويتصاعد بشكل مل ٍّح تحت وطأة‬
‫األزمات الكبرى‪ ،‬عىل حد توصيفه‪،‬‬
‫ويف مقدمتها أزماتنا املزمنة‪،‬‬
‫وانتكاساتنا العربية الراهنة‪.‬‬

‫قنا بين اإللهام واإليهام‬


‫يق ُع كتاب أشرف البوالقي (قنا‬
‫بين الشهد وال ّدموع‪ ..‬قراءات‬
‫وشهادات ثقافية) الصادر عن دار‬
‫ورقات للنّشر والتّوزيع يف ‪197‬‬
‫صفحة‪ .‬ولسنا بصدد ُمناقشة‬
‫كنص ألنه كما ذكر صاحبه‬ ‫ٍّ‬ ‫الكتاب‬
‫يف مق ِّدمته ليس كتا ًبا يف النَّقد وال‬
‫جاك لوكوف‬ ‫أنطوني جرامشي‬ ‫أشرف البوالقي‬ ‫التَّنظير وال هو كتاب عن خصائص‬
‫ومالمح الحركة الثقافية يف قنا‪.‬‬
‫بقوة املُزاحمة حول رئاسة نادي‬ ‫األستاذ عبد الج ّواد خفاجي‬ ‫يطرح مسألة جمود‬ ‫ُ‬ ‫كتاب‬‫ٌ‬ ‫بل هو‬
‫أدب أو عضوية مجلس إدارة‬ ‫الذي ‪-‬بحسب البوالقي‪ -‬كان‬ ‫الواقع الثقايف يف قنا ومن ث َّم‬
‫جمعية ما أو النشر يف مطبوعات‬ ‫ويرشِّ ح ويقترح‪ .‬بمعنى أن‬ ‫ُيف ّكر ُ‬ ‫نستطي ُع اآلن تفنيد بعض املقوالت‬
‫الشباب ‪-‬وأنا واح ٌد‬ ‫ُ‬ ‫بعينها‪ .‬اقتنع‬ ‫الراحل كان مؤمنًا بدوره كمثقَّف‬ ‫حيث‬
‫ومناقشتها من ُ‬ ‫األساسية فيه ُ‬
‫منهم‪ -‬أن سؤال «اإلبداع» مل يعد‬ ‫يقوم به ويعتق ُد‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ويعرف طبيعة ما‬ ‫اتفاقنا أو اختالفنا مع مصداقيتها‬
‫مطروحا كما كان من قبلُ‪ .‬ولكي‬ ‫ً‬ ‫تاحا‬
‫يف جدواه‪ .‬وهذا مما مل ي ُعد ُم ً‬ ‫من عدمه من ناحية‪ ،‬ثم رفد ما‬
‫أذكر‬
‫ُ‬ ‫لألذهان‬ ‫الفكرة‬ ‫هذه‬ ‫أقرب‬ ‫اآلن يف أغلب مراكز ومدن قنا‪ ،‬إنَّك‬ ‫تم َّكن الكتاب من اإلمساك به من‬
‫موقفًا ال بد وأن البوالقي نفسه قد‬ ‫نظرت حولك ال تستطي ُع أن‬ ‫َ‬ ‫إن‬ ‫مظاهر الجمود بمزيد من أسباب‬
‫نسيه ألنه موقف قديم ج ًّدا لكن‬ ‫ترى األستاذ املُعلِّم الذي ُيمكنك أن‬ ‫الجمود ُبغية اإلشارة إىل حلول‬
‫دالالته املهمة والقيمة ال تزال ماثلة‬ ‫تُقبِل عليه بثقة وطمأنينة رغبة يف‬ ‫أو اقتراح تص ُّورات تحلحل هذا‬
‫دخلت نادي أدب‬ ‫ُ‬ ‫أمامي‪ ،‬يوم أن‬ ‫التعلم أو يف االستزادة‪ ،‬وذلك مر ُّده‬ ‫الجمود وتدفع بالواقع الثقايف بقنا‬
‫وكنت وقتها طالبًا‬ ‫ُ‬ ‫قصر ثقافة قنا‬ ‫يف وجهة نظري إىل سببين‪:‬‬ ‫نحو الحيوية والفاعلية‪.‬‬
‫وألقيت‬
‫ُ‬ ‫بجامعة جنوب الوادي‬ ‫األ ّول‪ :‬وقد ذكره البوالقي يف كتابه‬
‫قصيدة باللهجة العامية استحسنها‬ ‫الحقًا‪ ،‬أن كثيرين م َّمن تحققوا يف‬ ‫املقولة األوىل‪ِ :‬قلّة الوجوه‬
‫كثير من الحضور وهم أدباء‬ ‫ٌ‬ ‫املشهد األدبي تحققوا بقوة التّواجد‬ ‫الثقاف ّية التي تسمح‬
‫و ُكتاب وقالوا «أنت شاعر» علّق‬ ‫واملُزاحمة واالنتشار ال بق َّوة‬ ‫لل ُمبدعين وللشباب منهم‬
‫قائل‪ :‬مل‬ ‫األستاذ أشرف البوالقي ً‬ ‫اإلبداع‪ ،‬ومن ث َّم صارت ُهناك أزمة‬ ‫تحديدًا بااللتفاف حولها‪:‬‬
‫ي ُعد كافيا أن نقول أن فُالن شاعر‬ ‫ثقة بين جيل من الشَّ بابِ ُمطلع‬
‫أو غير شاعر‪ ،‬علينا أن نبحث‬ ‫عىل تيارات م َّواجة من اإلبداع عبر‬ ‫الكاتب ذلك أ ّول ما‬
‫ُ‬ ‫وقد رصد‬
‫عن الشاعر الحقيقي واملُختلف‪.‬‬ ‫وسائط اإلنترنت والفضاء املفتوح‬ ‫رصده يف مركز ومدينة أبو تشت‬
‫ساعتها‪ ،‬لو كنت غير ذي وعي‪،‬‬ ‫وبين جيل من الكبار املتحققين‬ ‫بغياب الراحل املبدع والناقد‬
‫يقول لك أحدهم ببراءة وثقة‪ :‬طظ‬ ‫في عام ‪ 2020‬أصدر البوالقي كتابه "عذابات‬
‫يف كالمك!‬
‫هذا التغيير مفيد قط ًعا‪ ،‬بل هو‬ ‫األنثى‪ ..‬أسئلة الذات وتناقضات الواقع‪..‬‬
‫أيضا‪ ،‬وال عيب فيه سوى أنه‬ ‫رائع ً‬ ‫قراءات نقدية في إبداع المرأة" وهو كتاب‬
‫قضى عىل فكرة التيار الفكري يف‬
‫الثقافة العربية‪ ،‬لدينا أسماء مهمة‪،‬‬ ‫نقدي في إبداع ابتهال الشايب وسعاد‬
‫ولكن ينقصنا خلق تيار عام حول‬ ‫سليمان وزينب سعيد ورجاء عبد الحكيم‬
‫النقد األدبي والثقافة والسياسية‪..‬‬
‫تنقصنا القدرة عىل التأثير‪،‬‬ ‫وأمل عبده وهدى سعيد وتقى المرسي‬
‫والتطوير والعمل املمتد الذي ينتقل‬ ‫وسناء مصطفى‪ ،‬ولسنا في مناسبة عرض‬
‫بالفروض من جيل األساتذة إىل‬
‫جيل التالميذ‪.‬‬ ‫لكن عذاباتهن التي ظهرت في‬
‫َّ‬ ‫لذلك الكتاب‬
‫ك ّل ذلك ال ينفي وجود أساتذة‬ ‫امتدت وما تزال‬
‫َّ‬ ‫وبعضهن من قنا‬
‫َّ‬ ‫إبداعهن‬
‫َّ‬
‫كبار حقيقيين بقنا يف الشعر‬
‫والرواية والقصة القصيرة والنقد‬
‫تمتد باتساع اإلقليم‬
‫ُّ‬
‫األدبي‪ ،‬لكنهم غير مؤثرين ألن‬
‫تجاربهم مل تنتقل لالحقين بسبب‬
‫تقدم العمر ببعضهم والظروف‬
‫الصحية أو بسبب عدم وجود‬ ‫وأصحاب مصالح‬
‫ُ‬ ‫أتباع‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫ستخف‬ ‫ُم‬ ‫تماما‬
‫أفهم ً‬ ‫كنت ُ‬ ‫النكسرت‪ ،‬لكنني ُ‬
‫ُ‬
‫مساحة حقيقة للتالقي‪.‬‬ ‫ال ُيمكنهم بأي حال التعقيب عىل‬ ‫مقصده وأحسه وأسعى إليه وهو‬
‫إبداعه أو النظر يف مشروعه إال‬ ‫موقف «سؤال اإلبداع» بعي ًدا عن‬
‫املقولة الثانية‪ :‬غياب الدور‬ ‫وهنا‬
‫باملدح الفائض عن الحاجة‪ُ .‬‬ ‫سؤال التواجد واملزاحمة‪ .‬مل ي ُعد‬
‫الثقايف لجامعة جنوب‬ ‫أستحضر مقولة للدكتور الناقد‬ ‫شباب‬
‫ٌ‬ ‫ذلك ممكنًا اآلن ولديك‬
‫محمد عبد الباسط عيد نشرها‬ ‫وكبار وينشرون كتاباتهم يف دور‬
‫الوادي‪:‬‬
‫عبر صفحته يف فيسبوك منذ‬ ‫نشر خاصة بال معايير وعبر‬
‫بيت خبرة‪،‬‬ ‫الجامعة ‪-‬كما ُيقال‪ُ -‬‬ ‫أسابيع‪ ،‬يقول‪ :‬العامل الذي نعيش‬ ‫صفحات الفيسبوك ويف معرض‬
‫وبالتايل فهي جديرة بأن تكون‬ ‫تماما عن العامل الذي‬
‫فيه يختلف ً‬ ‫الكتاب ويجدون من ُيصفق لهم‬
‫ً‬
‫أصيل لإلبداع‪ ،‬لكن ذلك‬ ‫منبرا‬
‫ً‬ ‫كتبنا فيه أوائل بحوثنا أواخر‬ ‫ويحتفي بهم يف الفضائيات‪ ،‬مل ي ُعد‬
‫قليل حد الندرة يف جامعة جنوب‬ ‫التسعينيات‪ ..‬هذا عامل متعدد‪ ،‬ال‬ ‫سؤال اإلبداع ممكنًا بعد أن صارت‬
‫الوادي بقنا ألسباب ذكرها‬ ‫مركزي‪ ،‬فأنت تقدم نفسك بنفسك‪،‬‬ ‫املُزاحمة عقيدة لدى كثير من‬
‫البوالقي يف كتابه من بينها القبضة‬ ‫وعملك ‪-‬وحده‪ -‬يحكم لك أو‬ ‫املُبدعين ظنًّا منهم أنها هي التحقق‬
‫األمنية وغياب األساتذة املُبدعين‬ ‫عليك!‬ ‫وهي اإلبداع يف ذاته‪ ..‬تزاحموا‪..‬‬
‫أو النقاد أو حتى املُهتمين بالشأن‬ ‫ال يمكنك أن تستخفي وراء درجة‬ ‫لكن هذا الزحام ال أحد!‬
‫الثقايف بشكل عام‪ .‬ويكفي تأيي ًدا‬ ‫علمية‪ ،‬أو وراء مؤسسة ما‪ ،‬كل‬ ‫كثيرا من املُبدعين‬
‫ً‬ ‫الثاني‪ :‬إن‬
‫لهذه املقولة أن أذكركم بتجربة‬ ‫هذا صار من املاضي‪ ،‬فالذين‬ ‫يستخفون وراء مناصب أو مواقع‬
‫عشتُها بنفسي وقارنوها بما‬ ‫يتابعونك ال يعرفون مؤسستك‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫درجات علمية يف‬ ‫ثقافية أو حتى‬
‫يحدث اآلن يف الجامعة‪:‬‬ ‫وال تعنيهم درجتك العلمية‪ ،‬أنت‬ ‫غيابِ الناقد الكبير ذي السطوة‬
‫عند عودته من اإلمارات‪ ،‬قام‬ ‫تكتب وهم يتابعون‪ ،‬لحظة بلحظة‪،‬‬ ‫النقدية التي تستطي ُع أن تُبين‬
‫الدكتور محمد أبو الفضل بدران‬ ‫كلمة بكلمة‪ ..‬وهم يقدرون‪ ،‬وقد‬ ‫الرثَّ من الثمين‪ ،‬وبالتايل صار لك‬
‫‪291‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫بتفعيل نادي األدب والفكر بجامعة‬


‫جنوب الوادي بقنا ثم تابع باهتمام‬
‫كبير تنفيذ األمسيات الشعرية‬
‫بالجامعة وبالتعاون مع رعاية‬
‫الشباب تمكن من طباعة كتاب‬
‫شعري (إبداع مصر) لطالب‬
‫الجامعات املصرية الشعراء‪.‬‬
‫يجلس إلينا ويسمع‬ ‫ُ‬ ‫وأذ ُك ُر أنه كان‬
‫ما نظنه الشعر واستطعنا أن‬
‫نستضيف أسماء كثيرة وقتها من‬
‫خارج الجامعة فتش َّكل وعينا ونما‬
‫بصورة سمحت لنا أن نتواصل‬
‫الحقًا مع بعض هذه األسماء‬
‫خارج الجامعة‪ .‬وقتها ألقى محمد‬
‫أبو الفضل بدران قصيدة «النَّهر»‬
‫للشاعر العراقي الدكتور عيل‬
‫عبد الج ّواد خفاجي‬ ‫سناء مصطفى‬ ‫رجاء عبد الحكيم الفولي‬ ‫العلق فما كان منِّي بعد أن‬ ‫جعفر ّ‬
‫سرتني القصيدة إال أن أبحث يف‬ ‫َّ‬
‫املقولة الثالثة‪ :‬قلّة‬ ‫ملاذا اختفي الحماس؟‬ ‫اإلنترنت عن العالق وأقرأ تجربته‬
‫املؤتمرات األدب ّية بقنا‪:‬‬ ‫ُيشير البوالقي يف كتابه أن‬ ‫وشعرا وأعلِّق يف موقعه‬
‫ً‬ ‫نق ًدا‬
‫املحاوالت التي تدور يف الجامعة‬ ‫يل من‬ ‫اإلليكتروني حتى أ ّنه أرسل إ َّ‬
‫والسؤال اآلن‪ :‬هل أخطأ البوالقي‬ ‫اآلن هي محاوالت فردية تنهض‬ ‫اإلمارات كتابه «أيام آدم» بإهداء‬
‫عندما طرح فكرة نُدرة املؤتمرات‬ ‫بها الدكتور فاطمة الزهراء محمد‬ ‫بخط يده‪ ،‬وسلَّمني الكتاب الدكتور‬
‫بقنا وعالقة ذلك بالحراك الثقايف‬ ‫بحضور جلسات النادي وحث‬ ‫بدران‪ ،‬تستطي ُع أن تستبين دالالت‬
‫داخل املُحافظة؟ يقول يف كتابه‬ ‫الطالب عىل الحضور؟ لكن ملاذا ال‬ ‫مثل هذا املوقف عىل شاعر جامعي‬
‫ص‪« :74‬من غرائب ما يحدث يف‬ ‫نرى هؤالء الطالب بقصر ثقافة‬ ‫يف بواكير تجربته وتستطيع أن‬
‫مصر الثقافية‪ ،‬تهميش أو إقصاء‬ ‫قنا؟ بل ملاذا ال نراهم حتى يف أندية‬ ‫حماس انتابني وقتها‬‫ٍ‬ ‫تكتشف أي‬
‫محافظة قنا بعي ًدا عن خارطة‬ ‫األدب بمراكزهم ومدنهم التي‬ ‫للشعر وللشعراء ولإلبداع‪ .‬لقد‬
‫مؤتمرات وزارة الثقافة‪ ،‬ومل يحدث‬ ‫يسكنونها؟‬ ‫كتب أبو الفضل بدران وقتها ً‬
‫مقال‬
‫يف تاريخ مؤتمر أدباء مصر‪ ،‬طيلة‬ ‫والسؤال اآلن‪ :‬هل غاب الدور‬ ‫بجريدة الجامعة ينق ُد فيه إبداع‬
‫عاما أن‬
‫أكثر من أربعة وثالثين ً‬ ‫الثقايف لجامعة جنوب الوادي كما‬ ‫شعراء نادي األدب بالجامعة‪،‬‬
‫عقد املؤتمر دورة له يف محافظة‬ ‫يزعم البوالقي؟‬ ‫تناولني وتناول الشاعر أحمد‬
‫قنا‪ ،‬فإذا تركنا املؤتمر العام‬ ‫والجواب يف رأيي ووفق ما أملسه‪:‬‬ ‫عبد الفتاح العوامري وكثيرين‬
‫ونظرنا إىل املؤتمرات اإلقليمية‪،‬‬ ‫غاب‬
‫نعم‪ ،‬الدور الثقايف بالجامعة َ‬ ‫نسيتهم اآلن‪ ،‬لكنني لن أنسى أننا‬
‫سنجد أن إقليم وسط وجنوب‬ ‫عندما غابت روح اإلبداع يف غياب‬ ‫عشنا مناخً ا يح ِّرض عىل الكتابة‬
‫الصعيد مل ُيعقد يف قنا إال مرة‬ ‫األساتذة املُبدعين أو املُهتمين‪ ،‬لذلك‬ ‫وعىل االستمرار ُرغم صعوبات‬
‫واحدة فقط يف أبريل ‪ ..2012‬ثم‬ ‫فإن ما رصده البوالقي يف هذا‬ ‫بيروقراطية وأمنية كنّا نواجهها‬
‫عقد مؤتمر إقليم جنوب الصعيد‬ ‫ومؤل ويستحق أن‬ ‫ّ‬ ‫الجزء حقيقي‬ ‫وقتها‪.‬‬
‫يف أسوان واألقصر والبحر األحمر‬ ‫نبحث له عن عالج‪.‬‬ ‫الصعوبات ما زالت موجودة‪ ،‬لكن‬
‫‪292‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫األنفس واألقالم! يقول ص‪:48‬‬ ‫املقولة الرابعة‪ :‬غياب‬ ‫مرتين وثالث مرات‪ ،‬يف حين عقد‬
‫«هناك أندية أدب كاملة ال توجد‬ ‫األنثى‪:‬‬ ‫مرة واحدة يتيمة يف قنا يف مايو‬
‫بها أنثى واحدة تمارس الكتابة‪،‬‬ ‫‪ 2018‬دورة الشاعر الراحل عبد‬
‫وهناك أسما ُء إناث مثبتة يف‬ ‫يف عام ‪ 2020‬أصدر البوالقي‬ ‫الناصر عالم!»‪.‬‬
‫تحضر وال‬
‫ُ‬ ‫القوائم لكنها ال‬ ‫كتابه «عذابات األنثى‪ ..‬أسئلة‬ ‫وهذه مقولة حقيقية بالتواريخ‬
‫تُشارك‪ ،‬ويمكنني أن أستعرض‬ ‫الذات وتناقضات الواقع‪ ..‬قراءات‬ ‫والوقائع لكن تفسيرها كما ذكر‬
‫اآلن عد ًدا من األسماء التي كانت‬ ‫نقدية يف إبداع املرأة» وهو كتاب‬
‫الكتاب أن املؤتمرات والقائمين‬
‫تُشارك يف مدينة قنا‪ ،‬بعضها‬ ‫نقدي يف إبداع ابتهال الشايب‬
‫توقَّف عن الكتابة‪ ،‬وبعضها سافر‬ ‫وسعاد سليمان وزينب سعيد‬ ‫عليها يهتمون باملُدن الساحلية أو‬
‫وانتقل بعي ًدا‪ ،‬وبعضها يكتب يف‬ ‫ورجاء عبد الحكيم وأمل عبده‬ ‫مثل ضمانًا‬ ‫السياحية كاألقصر ً‬
‫صمت وهدوء‪ ،‬وبعضها انصرف‬ ‫ٍ‬ ‫وهدى سعيد وتقى املرسي وسناء‬ ‫لتلبية الدعوات ووجود فندقة‬
‫تحف ًظا عىل املشهد وممارساته‪،‬‬ ‫مصطفى‪ ،‬ولسنا يف مناسبة عرض‬ ‫وغيرها من األعذار واملُبررات‬
‫لكن يجمع بينهما اآلن أسماء‬ ‫لذلك الكتاب لك َّن عذاباتهن التي‬ ‫وهذا يطرح أمامنا إشكالية تسليع‬
‫غائبة‪ ،‬كانت تتواجد وتحضر‬ ‫ظهرت يف إبداعه َّن وبعضه َّن من‬ ‫اإلبداع‪ ،‬فالدولة ممثلة يف وزارة‬
‫وتشارك‪ ،‬لكنها اختفت اآلن‪،‬‬ ‫قنا امت َّدت وما تزال تمت ُّد باتساع‬ ‫الثقافة تضع املؤتمرات كقيمة‬
‫منها (سحر رمضان‪ ،‬هدى عبد‬ ‫نفسر‬
‫السهل أن ِّ‬ ‫اإلقليم‪ .‬ومن َّ‬ ‫ً‬
‫أشواطا‬ ‫ملحافظات قطعت‬‫ٍ‬ ‫ُمضافة‬
‫املنعم‪ ،‬هناء عابدين‪ ،‬غنية عبد‬ ‫غياب األنثى بشكل كبير إال فيما‬ ‫يف الحضور والتنمية وبالتايل‬
‫الرحمن‪ ،‬أمل هاشم‪ ،‬هدى السبع‪،‬‬ ‫ندر عن الفعل اإلبداعي الثقايف‬
‫تُمعن يف إقصاء املُقصى وهجران‬
‫كريمة عبد القادر‪ ،‬لييل رفاعي‪،‬‬ ‫بأن نعزوه إىل التقاليد والعادات‬
‫االجتماعية‪ ،‬فاملُفترض يف املرأة‬ ‫قنا املحافظة التي يجدر بها أن‬
‫مي منصور) وأخريات‪ ..‬ورغم‬
‫املُبدعة إن كانت ُمثقفة أن تقوم‬ ‫سنوي باسم أمل‬ ‫ّ‬ ‫مؤتمر‬
‫ٌ‬ ‫ُيقام بها‬
‫أن الكالم هنا عن مدينة قنا‪ ،‬يف‬
‫بدورها يف مواجهة تلك العادات‬ ‫حصرا وهذا مما‬ ‫ً‬ ‫مثل وليس‬ ‫دنقل ً‬
‫استدعاء أسماء الغائبات‪ ،‬إال‬
‫أنه عىل مستوى املحافظة كلها‬ ‫واألمر‬
‫ُ‬ ‫والتقاليد إن كانت خاطئة‪،‬‬ ‫الكتاب وهذا مما ُيحزن‬ ‫ُ‬ ‫أشار إليه‬
‫تبقى أمامنا ثالث أديبات ال يزلن‬ ‫طب ًعا ليس بهذه السهولة وال ُيمكن‬ ‫الفؤاد ويسلب طاقة اإلبداع م َّمن‬ ‫ُ‬
‫حتى لحظتنا هذه قابضات عىل‬ ‫التصدي له بين عشية وضحاها‬ ‫الرمق األخير‬ ‫يتمسكون بها حتى َّ‬ ‫َّ‬
‫جمر الكتاب وجمر التواصل‬ ‫يمكن تدبيره بليل‪ ،‬لكننا ال‬
‫ُ‬ ‫وال‬ ‫يف قنا‪.‬‬
‫بالحضور واملشاركة‪ ،‬األوىل‬ ‫تيارا إبداعيًّا نسو ًّيا‬
‫نشعر أن ُهناك ً‬
‫ُ‬ ‫أال ترون أنه يج ُدر بنا أن نعقد‬
‫سناء مصطفى من فقط‪ ،‬والثانية‬ ‫يموج يف قنا إال املحاوالت الفردية‬ ‫مؤتمرا سنو ًّيا باسم عبد الجواد‬
‫وتحضر بشق‬ ‫وتنشر‬ ‫تكتب‬ ‫التي‬ ‫ً‬
‫رجاء عبد الحكيم الفويل من أبو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خفاجي الذي سقط يف‬
‫تشت‪ ،‬واألخيرة مها جمال‪ ،‬من‬ ‫معرض الكتاب منذ عامين‬
‫مدينة قنا‪ ،‬وإن كانت األخيرة‬ ‫مصا ًبا بجلطة وهو يحاول أن‬
‫أقلّهن نشاطا ومشاركة‪ ،‬ولكل‬ ‫ِ‬
‫يحتف‬ ‫يحتفي ب ُكتُبه التي مل‬
‫واحدة منهن أكثر من ثالثة كتب‬
‫بها أحد إال القليل حتى من‬
‫إبداعية»‪.‬‬ ‫ِقنا ِ‬
‫نفسها؟‬
‫ولع ّل من أسباب غياب املرأة‬
‫‪-‬يف رأيي‪ -‬إىل جانب بعض‬ ‫وأعتق ُد أن صرخة البوالقي‬
‫املمارسات التي قد تن ِّفر بعض‬ ‫حول نُدرة املؤتمرات الثقافية‬
‫اإلناث من الحضور للندوات‬ ‫الدورية بقنا صادقة وموجعة‬
‫والصورة الذهنية الراسخة‬ ‫وهي عالية ومدوية بحجم‬
‫عن الشعراء واملُبدعين (وهي‬ ‫التجاهل الذي تواجهه‬
‫مش َّوهة يف قطاعات كبيرة من‬ ‫املحافظة‪.‬‬

‫خالد الحروب‬
‫‪293‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫الجنوب) وبعض العادات والتقاليد‬


‫واالنشغال بالحياة وبالعائلة‪،‬‬
‫لعل من أسباب غياب األنثى عدم‬
‫وجود التقدير املعنوي أو املادي‬
‫لدورها‪ ،‬وبالطبع يتساوى يف‬
‫ذلك الرجال مع النساء‪ ،‬أضف‬
‫إىل ذلك أننا نفتقد املرأة التي‬
‫ُيمكن وصفها بالناشطة الثقافية‬
‫أو اإلبداعية التي ُيمكن أن تتحلَّق‬
‫حولها الفتيات والسيدات املُبدعات‬
‫أو الالئي يتذوقن اإلبداع بشكل‬
‫خاص‪ .‬ربما لو شهِدنا تكريما‬
‫لنماذج أنثوية بارزة يف مجال‬
‫الكتابة بقنا وتم تسويق ذلك‬
‫إعالميًّا بشكل جيد‪ ،‬قد تتغير‬
‫األمور‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬أستطي ُع أن أُشير يف‬
‫محمد أبو الفضل بدران‬ ‫محمد عبد الباسط عيد‬ ‫عبد الناصر عالم‬
‫اقتضابٍ شدي ٍد إىل بعض األسباب‬
‫والتعليم ممثلة يف وكيل الوزارة‬ ‫األخرى التي قد تُش ِّكل جمو ًدا يف‬
‫الهوامش‪:‬‬ ‫بقنا وعدم فتح قنوات اتصال‬ ‫الواقع الثقايف بقنا ومنها‪:‬‬
‫مع املؤسسة الثقافية‪ ،‬وقد كان‬ ‫* قلة رسائل املاجستير‬
‫‪ -‬من قراءة يل غير منشورة‬ ‫إنشاء قسم للموهوبين باإلدارات‬ ‫والدكتوراة عن مبدعي قنا ُرغم أن‬
‫يف ديوان «يقطر من خناجرهم‬ ‫التعليمية بادرة أمل‪ ،‬لكنه يبدو‬ ‫إبداع كثير منهم متميز ويستحق‬
‫جمي ًعا» ألشرف البوالقي‪.‬‬ ‫وكأنه يعمل يف السر‪ ،‬فال نسمع‬ ‫الدراسة يف القصة القصيرة‬
‫‪ -2‬دكتور مساعد بن سعيد آل‬ ‫عن فاعليات وال نرى موهوبين‬ ‫والرواية والشعر واملسرح والنقد‬
‫بخَّ ات‪ ،‬من هو املُثقَّف‪ ،‬الجزيرة‬ ‫حقيقيين يتم الدفع بهم ألندية‬ ‫األدبي وهذه مسئولية أساتذة‬
‫األدب‪.‬‬ ‫جامعة جنوب الوادي الذين‬
‫صحيفة يومية سعودية‪ ،‬األربعاء‬
‫* العقلية البيروقراطية املحضة‬ ‫ُيشرفون عىل الرسائل العلمية‪.‬‬
‫‪ 2‬سبتمبر ‪ ،2020‬العدد‪،17429‬‬ ‫* فوضى أندية األدب وعدم‬
‫لبعض رؤساء اإلقليم وافتقاد‬
‫ال ّرياض‪ ،‬ص‪.11‬‬ ‫بعضهم لروح اإلبداع والتجاوز‬ ‫القُدرة عىل استثمار ُمخصصاتها‬
‫‪ -3‬محمد عابد الجابري‪:‬‬ ‫الخلق مما يجعل معظم أنشطة‬ ‫َّ‬ ‫واع وممنهج بحيث تؤتي‬ ‫بشكل ٍ‬
‫املثقفون يف الحضارة العربية‪،‬‬ ‫اإلقليم مجرد مراسم شكلية‬ ‫ثمارها وتفتح طاقات النور‬
‫مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬ ‫فارغة من مضمون حقيقي‪.‬‬ ‫للمبدعين الشباب أو تكتشف‬
‫الطبعة الثالثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‬ ‫إن ما قدمه أشرف البوالقي يف‬ ‫املواهب الحقيقية‪ ،‬كما أن إحدى‬
‫‪ ،2008‬ص‪.22‬‬ ‫كتابه يمثّل سيرة إبداعية لقنا‬ ‫إشكاليات أندية األدب هي فكرة‬
‫من ناحية كما يمثل صرخة يف‬ ‫تأسيس أندية بصرف النظر عن‬
‫‪ -4‬مصطفى العوزي‪ :‬مفهوم‬
‫وجه املؤسسات الرسمية وغير‬ ‫وجود طاقات إبداعية حقيقية‬
‫املثقف من البناء إىل التطور‬ ‫الرسمية من ناحية أُخرى‪ ،‬ناهيك‬ ‫واع من‬‫تُديرها وتستثمرها بشكل ٍ‬
‫التاريخي‪ ،‬موقع مؤمنون بال‬ ‫عن أنه استنهاض لهمم املبدعين‬ ‫عدمه‪ ،‬فأصبحت األندية خاوية‬
‫حدود للدراسات واألبحاث‪29 ،‬‬ ‫الكبار والشباب من أجل تدارك ما‬ ‫كبيوت األشباح!‬
‫يوليو ‪.2016‬‬ ‫يمكن تداركه حتى يعتدل امليزان‬ ‫* قلة ُمبادرات وزارة التربية‬
‫‪294‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫الهجرة الخارجية في‬


‫متخيل اإلنسان األمازيغي‬ ‫بالل أيوب‬

‫من خالل األغنية الشعبية‬ ‫(المغرب)‬

‫نموذجا)‬
‫ً‬ ‫(الريف المغربي‬

‫أوروبا‪ ،‬وتعميرها من جديد‪.‬‬ ‫باإلضافة إىل ذلك كانت هناك‬ ‫عرف اإلنسان األمازيغي‬
‫ومل تقتصر هذه الهجرة عىل‬ ‫هجرات فردية مصلحية من‬ ‫بمنطقة الريف الهجرة منذ‬
‫اإلنسان األمازيغي العادي فقط‪،‬‬ ‫مثل‪ ،‬إذ كانت هذه‬ ‫أجل التجارة ً‬ ‫القدم‪ ،‬وذلك لعدة أسباب منها‬
‫بل أصبحت ه َّم معظم الفنانين‬ ‫الهجرة قبل القرن العشرين تتم‬ ‫الجفاف‪ ،‬واالستعمار‪ ،‬والحروب‪،‬‬
‫الريفيين‪ ،‬فغادروا منطقة الريف‬ ‫بواسطة نقل العمال من بوسكور‬ ‫والتهميش‪ ،‬واألزمات االقتصادية‬
‫مهاجرين إىل الضفة األخرى‬ ‫وتاوسرت وباديس إىل وهران‬ ‫التي عرفها تاريخ املغرب‪ ،‬فهجرة‬
‫بطرق متنوعة ومختلفة‪ ،‬إما بحثًا‬ ‫بالجزائر‪ ،‬أو إىل سبتة ومارتيل‬ ‫الريفيين كانت لظروف قاسية‪،‬‬
‫عن الحرية واألمن واالستقرار‪،‬‬ ‫خصوصا‪ ،‬حيث كان أغلبهم ممن‬ ‫ً‬ ‫أيضا من أسبابها‬
‫والتي نجد ً‬
‫يتقنون ِح َرفًا يدوية(‪.)1‬‬ ‫الهجرة اإلجبارية‪ ،‬إذ يف سنة‬
‫وإما رغبة يف الحصول عىل العمل‪،‬‬
‫هاته األسباب وغيرها دفعت‬ ‫‪ 1898‬قام املخزن املغربي بتشريد‬
‫أو الستكمال الدراسة وتحصيل‬
‫الكثير من الريفيين يف القرن‬ ‫أحد قبائل الريف األوسط‪ ،‬وهي‬
‫سبل املعرفة‪ .‬وبال شك فإن‬
‫العشرين للهجرة شرقًا إىل‬ ‫قبيلة بقيوة‪ ،‬ألنه اعتبر سكانها‬
‫الفنان األمازيغي املعروف بتشبثه‬ ‫جبال الجزائر‪ ،‬وغر ًبا داخل‬ ‫من املزعجين له‪ ،‬حيث ظلت خالية‬
‫بأرضه وهويته الثقافية جعل‬ ‫مدن املغرب (تطوان‪ -‬طنجة‪-‬‬ ‫من السكان ملدة طويلة‪ .‬وإىل‬
‫من األغنية وسيلة للتعبير عن‬ ‫شفشاون‪ -‬القصر الكبير‪ -‬فاس‪-‬‬ ‫جانب هذا التهجير الجماعي كان‬
‫أحاسيسه ومشاعره تجاه وطنه‪،‬‬ ‫مكناس‪ ،)…-‬أو الهجرة نحو‬ ‫هناك تهجير فردي ألشخاص‬
‫فمن خالل عرضنا هذا سنحاول‬ ‫أوروبا منذ سنوات الثالثينيات‬ ‫حكمت عليهم القبيلة حسب عرفها‬
‫أن نعرض أهم األغاني التي‬ ‫من القرن املاضي؛ للمشاركة‬ ‫بمغادرة الدوار لجرم اقترفوه‪،‬‬
‫جعلت من الهجرة موضو ًعا لها‪،‬‬ ‫يف الحرب األهلية اإلسبانية‪ ،‬أو‬ ‫فيضطروا إىل طلب اللجوء‬
‫خصوصا الهجرة الخارجية‪.‬‬
‫ً‬ ‫بعد الحرب العاملية الثانية لبناء‬ ‫(امزاوك)‪.‬‬
‫‪295‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫غناء‬

‫إذ بواسطتها يتم التعبير عن‬ ‫وخ ْي َلة‬


‫خي ًل وخي َلة َ‬ ‫الشي َء يخالُ ْ‬ ‫‪ -1‬التحديدات املفاهيمية‪:‬‬
‫املشاعر ونقل التجارب الروحية‬ ‫يل‪ :‬ظنّه‪ ،‬ويف املثل‬ ‫وخال ِ‬
‫وخ ً‬ ‫ً‬
‫والعاطفية التي تعكس نبضات‬ ‫يسمع َيخَ لْ ‪ ،‬أي يظن‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫من‬ ‫ال يختلف اثنان عىل الدور الكبير‬
‫املجتمع وتطلعاته‪ ،‬كما أنها فن‬ ‫ال الشي ُء‬ ‫َ‬
‫وخيّ َل عليه‪ :‬شبَّ َه‪ .‬وأ َخ َ‬ ‫الذي تلعبه املفاهيم يف بناء العلوم‬
‫يعبر فيه الشاعر عن رؤيته الفنية‬ ‫اشتبه‪ ..‬والسحابة املُخيَّ ُل واملُخَ يَّ َل ُة‬ ‫واملعارف‪ ،‬والتي يرتبط تطورها‬
‫للعامل‪ ،‬ويكشف من خالله املغني‬ ‫واملُ ِخي َل ُة‪ :‬التي إذا رأيتها حسبتها‬ ‫وازدهارها بمدى توفر ودقة‬
‫عن طقاته الصوتية‪ ،‬وامللحن عن‬ ‫ماطرة»(‪.)3‬‬ ‫املفاهيم الخاصة بها‪ .‬فاملفهوم هو‬
‫براعته وتميزه يف العزف واإليقاع‬ ‫عقل وحسب‬ ‫إذ إن اإلنسان ليس ً‬ ‫الوسيلة األساسية لتكوين وتنظيم‬
‫واختيار اللحن املناسب للشعر‪،‬‬ ‫‪-‬كما دأبت عىل ذلك الفلسفة‬ ‫وتقدم أي معرفة‪ ،‬وليس من‬
‫واملنسجم مع الصوت‪.‬‬ ‫قرونًا طويلة‪ -‬وليس وعيًا‬ ‫املبالغ فيه القول إنه ال يوجد علم‬
‫ليست لألغنية األمازيغية وحدة‬ ‫وحسب‪ ،‬بل إنه كائن تناقضي‬ ‫أو منهج من غير جهاز مفاهيمي‬
‫موضوعية تعالجها من خالل‬ ‫يحتمل يف كينونته الرغبة والحلم‬ ‫خاص به ‪K‬كما قال الخوارزمي‬
‫أبياتها‪ ،‬مما جعلها قادرة عىل‬ ‫والعقل والواقع‪ ،‬وتعمل يف داخله‬ ‫«املفاهيم مفاتيح العلوم»‪ .‬لذلك‬
‫احتواء كل القضايا واملواضيع‪،‬‬ ‫كل امللكات‪ ،‬وتصطرع لتتفجر يف‬ ‫فأول ما سنبدأ به يف مقالتنا هاته‬
‫فرغم بساطة سردها يف طرح‬ ‫أشكال لغوية ورمزية قد يطغى‬ ‫هو تفكيك عنوان املقال وشرح‬
‫تلك القضايا من حيث أسبابها‬ ‫عليها الجانب العقالني‪ ،‬كما قد‬ ‫مفاهيمه‪ ،‬محاولة منا لوضع‬
‫وحيثياتها؛ فإن وقعها عىل‬ ‫تعبر عن سمات جمالية ال تخضع‬ ‫القارئ يف الصورة‪.‬‬
‫دائما قو ًّيا (‪ .)5‬بسبب‬
‫املتلقي كان ً‬ ‫بالضرورة للنسق العقيل السائد‪،‬‬ ‫أ‪ -‬الهجرة‪:‬‬
‫تنوع أشكالها الفنية واملوسيقية‬ ‫بل لعامل املخيلة واملتخيل‪ .‬وهذا‬ ‫مشتق من الكلمة‬ ‫ٌ‬ ‫الهجرة لغ ًة ٌ‬
‫لفظ‬
‫وأساليب أدائها‪.‬‬ ‫ما يفرض عدم التعامل مع الذات‬ ‫(ه َج َر)‪ ،‬ومعناها الرحيل‬ ‫الثالثية َ‬
‫‪ -1‬الوليد ميمون‪:‬‬ ‫اإلنسانية من زاوية أحادية ال‬ ‫ٍ‬
‫عن املكان‪ ،‬أو التخيل عن شيء ما‪،‬‬
‫يعتبر الوليد ميمون من الشعراء‬ ‫ترى فيها إال العقل(‪.)4‬‬ ‫ُعرف الهجرة بأنها انتقالُ‬ ‫وأيضا ت ُ‬ ‫ً‬
‫واملغنيين األمازيغ يف منطقة‬ ‫ت‪ -‬األغنية األمازيغية‪:‬‬ ‫األفراد من مكانٍ إىل اآلخر بغرض‬
‫الريف بصفة عامة والريف‬ ‫تعد األغنية يف كل ثقافة شفهية‬ ‫االستقرار يف املكان الجديد‪ .‬أما‬
‫الشرقي بصفة خاصة‪ ،‬وهو ابن‬ ‫عامل مه ًّما من عوامل التواصل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُعرف الهجرة بأنها‬ ‫اصطالحا ت ُ‬
‫ً‬
‫االنتقال من البلد األم لالستقرار‬
‫امدزيان آيت سغروشن مجموعة الشيخ إدريس اسراضي‬ ‫يف بلد آخر‪ ،‬وهي حركة أفراد‬
‫التي يتم فيها االنتقال بشك ٍل‬
‫فردي أو جماعي من موطنهم‬
‫األصيل إىل وطن جديد‪ ،‬وعاد ًة‬
‫ٌ‬
‫ظروف عديد ٌة تؤدي‬ ‫ما توج ُد‬
‫إىل الهجرة‪ ،‬مثل انتشار الحروب‬
‫األهلية أو الخارجية يف الدول‪ ،‬أو‬
‫سوء األوضاع االقتصادية والتي‬
‫تعتبر من املُحفزات للهجرة(‪.)2‬‬ ‫ُ‬
‫ب‪ -‬املتخيل‪:‬‬
‫املتَخيَّل اسم مفعول من تخيل‪،‬‬
‫وهو مشتق من مادة (خ‪ ،‬ي‪،‬‬
‫ل)‪ ،‬جاء يف لسان العرب‪« :‬خال‬
‫‪296‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫زمن تيدي اينو سوينت مارا‪.‬‬ ‫مدينة الناضور ولد سنة ‪،1959‬‬
‫(استغلوا مجهوداتي كلها)‪.‬‬ ‫وتأثر منذ صغره بـ»امذيازن»‪.‬‬
‫ثمشومتا نلغروبيث ذكور اينو‬ ‫استكمل دراسته الثانوية يف‬
‫ثغزا‪( .‬هاته الغربة تركت يف قلبي‬ ‫ثانوية محمد بن عبد الكريم‬
‫أثرا عميقًا)‪.‬‬
‫ً‬ ‫الخطابي بالناضور كما درس‬
‫سنسغ سادوا رقندرت دكدفر د‬ ‫الفلسفة بجامعة محمد بن عبد‬
‫كنزار‪( .‬أبيت الليايل تحت القنطرة‬ ‫اهلل بفاس‪ .‬أصدر أول ديوان له‬
‫يف الثلج والبرد)‪.‬‬ ‫سنة ‪ 1994‬بعنوان ‹›زي رادجاغ‬
‫يا حسرا خ بنادم يتمنزا‪( .‬يا‬ ‫نء ثمورت غاروعرا و جنا›› من‬
‫حسرتاه عىل اإلنسان صار يباع‬ ‫أعماق األرض إىل أعايل السماء‪.‬‬
‫مجموعة أياون‬
‫ويشترى)‪.‬‬ ‫فمن أغانيه الخالدة أغنية «هاجاغ‬
‫هنا الشاعر يتحدث عن‬ ‫ثامرت إينو تلعغ غا بارا‪ ..‬هاجرت‬
‫الصعوبات التي واجهته أثناء‬ ‫موطني ورحت بعي ًدا»‪ ،‬التي‬
‫انتقاله من بلد ألخر‪ ،‬وكذا املعاناة‬ ‫تحكي عن أسباب هجرة اإلنسان‬
‫واالستغالل الذي تعرض له يف‬ ‫األمازيغي ومعاناته يف الغربة‪.‬‬
‫غربته‪ ،‬وأن قيمة اإلنسان تفتقد‬ ‫وهنا نعرض لكلمات األمازيغية‬
‫عند تخليه عن بالده وموطنه‬ ‫مع ترجمة تقريبية‪:‬‬
‫األصيل‪.‬‬ ‫أودارغ اذسوغ ثوزا خايف ثرا‪.‬‬
‫قارغاس مارمي اربي غاجغ‬ ‫(رغبت يف الشرب جف عني املاء)‪.‬‬
‫ثيمورا نبارا‪( .‬أقول متى يا إلهي‬ ‫مين زريغ تيفقاع من زريغ‬
‫أرحل من هاته البلدان)‪.‬‬ ‫نتامارا‪( .‬كم قاسيت من أمل كم‬ ‫جوهان نوري‬
‫اذ عقبغ غا ثمارت اينو سييري‬ ‫قاسيت من معاناة)‪.‬‬
‫اينو ذا زيرار‪( .‬أعود إىل موطني‬ ‫افقوسن د كور أرينايي حال‪.‬‬
‫مرفوع الرأس)‪.‬‬ ‫(الهموم يف القلب جعلوني يف‬
‫ماني ثدجا ثفوشت دو جنا ذا‬ ‫حالة سيئة)‪.‬‬
‫زيزا‪( .‬أين هي الشمس والسماء‬ ‫يتضح من خالل الكلمات التالية‬
‫الزرقاء)‪.‬‬ ‫أن الوليد ميمون كان يتحدث عن‬
‫هاجاغ ثامرت إينو تلعغ غا بارا‪.‬‬ ‫الحالة املزرية التي كان يعيشها‬
‫(هاجرت موطني ورحت بعي ًدا)‪.‬‬ ‫اإلنسان األمازيغي يف بالده قبل‬
‫الفنان يتمنى الرجوع إىل موطنه‬ ‫الهجرة‪ ،‬وكذا أسباب هجرته التي‬
‫كر ًما مرفوع‬
‫األصيل معز ًزا ُم َّ‬ ‫هي املشاكل والهموم التي عاشها‪.‬‬ ‫الوليد ميمون‬
‫الرأس‪ ،‬فبالده التي من شدة‬ ‫هاجارغ ثامرت اينو اتلعغ غا بارا‪.‬‬
‫اشتياقه لها يصف لنا الفنان‬ ‫(هاجرت موطني ورحت بعي ًدا)‪.‬‬
‫مناظرها الطبيعية الخالبة‪.‬‬ ‫زويغ سبع ربحار نيغاس أدفغ‬
‫‪ -2‬مجموعة أياون‪:‬‬ ‫رهنا‪( .‬قطعت سبع بحور بحثًا‬
‫مجموعة «أياون» هي من‬ ‫عن االستقرار)‪.‬‬
‫املجموعات الغنائية األمازيغية‬ ‫زي لكنسا غا وا أريمت اينو‬
‫القديمة واملعروفة يف الريف‪،‬‬ ‫ثنوا‪( .‬من شعب إىل آخر جسدي‬
‫تتطرق للعديد من املواضيع‬ ‫تهالك)‪.‬‬
‫‪297‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫غناء‬

‫ويار‪( .‬عىل قارب الظالم سمع‬ ‫إينو‪( .‬رغم سفري فاألمر ليس‬ ‫املهمة كالتشبث بالثقافة والهوية‬
‫فرحل)‪.‬‬ ‫بيدي)‪.‬‬ ‫األمازيغية‪ ،‬كما ناقشت قضايا‬
‫ثغاربوت ن طرا اينقربن غ‬ ‫مش غاكغ أشم توغ يما ثمزي‬ ‫اجتماعية عديدة‪ ،‬والتي من بينها‬
‫وعرور‪( .‬قارب الظالم الذي أنقل‬ ‫إينو‪( .‬كيف أنساك وهناك أمي‬ ‫ظاهرة الهجرة‪ ،‬وهذا ما نستشفه‬
‫علو ظهره)‪.‬‬ ‫وطفولتي)‪.‬‬ ‫يف العديد من األغاني التي أطلقتها‬
‫إنطالقا من هاته الكلمات التي‬ ‫نش دايم إضحشغ جيغ ريمارث‬ ‫املجموعة‪ .‬سنحاول االشتغال عل‬
‫تعكس لنا نو ًعا آخر من الهجرة‬ ‫إينو‪( .‬أنا فيك يا أرضي ضحكت‬ ‫نموذجين‪ ،‬األول بعنوان «أزول‬
‫بالريف‪ ،‬وهي الهجرة السرية‬ ‫وتركت بصمتي)‪.‬‬ ‫ثمارت إينو‪( ..‬سالم عىل أرضي)»‬
‫بقوارب املوت‪ ،‬التي يعبر عنها‬ ‫تعكس لنا الكلمات السابقة تشبث‬ ‫والثاني تحت عنوان «ثاغاربوت ن‬
‫الفنان بقارب الظالم الذي يحمل‬ ‫املهاجر بذكرياته الجميلة يف‬ ‫طرام‪( ..‬قارب الظالم)»‪.‬‬
‫فوقه األطفال والشباب والشيوخ‪،‬‬ ‫أرض الريف‪ ،‬وكذا حرقته عىل‬
‫ويتساءل الفنان هنا عن سكان‬ ‫رغما عنه‪ ،‬حيث‬ ‫عائلته التي تركها ً‬ ‫األغنية مع ترجمة‬
‫الريف الذين غادروا وتركوا‬ ‫وصل به األمر ملخاطبة األرض‬ ‫تقريبية‪:‬‬
‫وطنهم وأراضيهم‪.‬‬ ‫لكي تزوره‪ ،‬وهذا ما يؤكد لهفته‬
‫‪ -3‬األغاني الشبابية‪:‬‬ ‫الكبيرة و اشتياقه لها‪.‬‬ ‫أزول أزول أزول ثمارت إينو‪.‬‬
‫من البديهي أن ظاهرة الهجرة‬ ‫األغنية الثانية هي بعنوان‬ ‫(مرحبًا مرحبًا مرحبًا بالدي)‪.‬‬
‫مل تكن وليدة اللحظة ومل تنطلق‬ ‫«ثغاربوت ن طرام (قارب‬ ‫يا ثامرت ايتاسن غا ميد ن وور‬
‫من فراغ‪ ،‬وإنما كانت امتدا ًدا‬ ‫الظالم)»‪ ،‬وفيما يأتي الكلمات مع‬ ‫إينو‪( .‬يا بالدي القريبة إىل قلبي)‪.‬‬
‫لتيارات هجروية داخلية عرفها‬ ‫ترجمة تقريبية‪:‬‬ ‫نش ميم إ تراغان زي تمارت‬
‫املجتمع املغربي قبل نظام الحماية‬ ‫ثغاربوت نطرام مين دام يتغير‬ ‫ن إذرا وسينو‪( .‬أنا ابنك‬
‫أثارا بينة عىل‬
‫بعقود‪ ،‬فتركت ً‬ ‫ثمزي امي ذاس ثكيد رغرور‪.‬‬ ‫الذي يناديك من أرض الجبال‬
‫التطورات املتالحقة للهجرة‬ ‫(قارب الظالم ماهذا ملاذا ِ‬
‫قمت‬ ‫والضباب)‪.‬‬
‫الحديثة وانسجمت يف سياقها‬ ‫بإغراء الطفولة)‪.‬‬ ‫ذاديها ذ كليمان ذ رغروبيت اينو‪.‬‬
‫التاريخي(‪ ،)6‬فرغم مرور السنين‬ ‫ما ذ رغمام اشم يذرين ما ثيشرا‬ ‫(هاهنا يف أملانيا يف غربتي)‪.‬‬
‫ال زالت منطقة الريف تعرف‬ ‫و ثكار‪( .‬هل السحب التي غطت ِك‬ ‫شم اذايي شن رحنونيت اينو‪.‬‬
‫هجرة الكثير من الناس‪ ،‬خاصة‬ ‫أم آثار الرحيل)‪.‬‬ ‫(أنت التي أخذتي حناني)‪.‬‬
‫الشباب الذي يجد فيها الحل‬ ‫نيغ ثني ثيمضرين ايثسيد ك‬ ‫وحشخشم ثيكجادايي ثودساد‬
‫األمثل يف ظل الواقع املزري الذي‬ ‫بحرور‪( .‬أم هي القبور التي‬ ‫غا ربار اينو‪( .‬اشتقت لك وأنت‬
‫يعيشه‪ ،‬واملعاناة التي يعانيها‬ ‫حملتي يف أحضانك)‪.‬‬ ‫بعيدة عني لكن ِك قريبة لذهني)‪.‬‬
‫بسبب تفشي ظاهرة البطالة‪،‬‬ ‫ماني ثكيد روروف أريف توغا‬ ‫من خالل هذا املقطع الغنائي‬
‫ويظهر ذلك جليًّا من خالل العديد‬ ‫يشار‪( .‬أينهم اآلالف؟ الريف كان‬ ‫تتضح قيمة الوطن واألرض يف‬
‫من األغاني التي تعبر عن حلم‬ ‫ممتلئًا)‪.‬‬ ‫قلب اإلنسان األمازيغي بصفة‬
‫الهجرة‪ ،‬وأخرى تحاول التطرق‬ ‫ثرا غيد ماغا ايروح خران زايم‬ ‫عامة‪ ،‬والريفي بالخصوص‪ ،‬فرغم‬
‫إىل هاته الظاهرة قصد إقناع‬ ‫(ناديت ملاذا ذهب بسببك‬ ‫ِ‬ ‫ردشور‪.‬‬ ‫هجرته إال أنه مل يستطع نسيان‬
‫الشباب بالعدول عنها‪ ،‬وهذا ما‬ ‫تركوا أحيائهم)‪.‬‬ ‫بالده‪.‬‬
‫يستشف من أغنية الشاب الصاعد‬ ‫قدور ثوغا يقيم ذي ذمرث خو‬ ‫وضايي مارا ثخسذ وضايي‬
‫جوهان نوري الذي يحكي عن‬ ‫بدور‪( .‬قدور –اسم عامل‪ -‬كان‬ ‫ِ‬
‫أردت‬ ‫ثمارت اينو‪( .‬تعايل إذا‬
‫قصص واقعية ألناس هاجروا‬ ‫جالسا فوق صخرة عىل األرض)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تعايل يا أرضي)‪.‬‬
‫من الريف إبان الثورة السورية‪،‬‬ ‫خ ثغاربوت ن طرام يسرا وشاي‬ ‫وخا نش أويارغ ودجي ذاراي‬
‫‪298‬‬
‫العـدد ‪38‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

‫يشير هنا الفنان الشاب جوهان‬ ‫السوريين‪ ،‬واغتنام الفرصة‬ ‫متنكرين كالجئين سوريين نحو‬
‫إىل مشاركة املرأة أو الفتاة‬ ‫للتخفي يف صفة الجئ من أجل‬ ‫البالد األوروبية‪ ،‬هاته الهجرات‬
‫األمازيغية يف هاته الهجرات‪،‬‬ ‫تحقيق حلم الهجرة إىل خارج‬ ‫عموما والريف‬‫ً‬ ‫التي كلفت املغرب‬
‫رغم ما يعرف ثقافيًّا أن الفتاة‬ ‫الوطن‪.‬‬ ‫خاصة فقدان العديد من الشباب‪،‬‬
‫األمازيغية مل تكن لتخرج من‬ ‫وين ذيها يويار يسمح وايني اهلل‬ ‫و هنا نعرض للكلمات األمازيغية‬
‫البيت‪ ،‬واليوم ها هي تهاجر رفقة‬ ‫يعاون‪( .‬ذاك الذي هناك رحل‬ ‫مع ترجمة تقريبية‪:‬‬
‫مجموعة من الشباب‪.‬‬ ‫بدون وداع)‪.‬‬ ‫ثاروا ناريف إينو مين ذاوم‬
‫يجا إحنجارن نس ترون خاص‬ ‫ايخاسن‪( .‬أبناء ريفي ما الذي‬
‫خاتمة‬ ‫إيمطاون‪( .‬ترك أطفاله يذرفون‬ ‫ينقصكم)‪.‬‬
‫عليه الدموع)‪.‬‬ ‫أبريد ن تركيا كنيو يسبوهرين‪.‬‬
‫إن األغنية األمازيغية من الفنون‬ ‫اريف اينو يخرا مارا هاجرن‪.‬‬ ‫(طريق تركيا أصابتكم بالجنون)‪.‬‬
‫التي شدت إليها ‪-‬أكثر من‬ ‫(ريفي مهجور بالكامل فالكل قد‬ ‫كنييو واثسينام مين ذيني‬
‫غيرها‪ -‬انتباه الجمهور الواسع‪،‬‬ ‫تركه)‪.‬‬ ‫ايتوقعن‪( .‬أنتم ال تعرفون ما الذي‬
‫حيث تدل القرائن التاريخية عىل‬ ‫قيمن اوسورا جارسن تمعاشرن‪.‬‬ ‫يحصل هناك)‪.‬‬
‫مدى افتنان اإلنسان األمازيغي‬ ‫(بقي فيه الشيوخ فقط يعيشون‬ ‫كارن ذي رغوابي مساكن‬
‫بفن الغناء منذ القدم‪ ،‬وبالتايل‬ ‫فيما بينهم)‪.‬‬ ‫سنوسن فاقن‪( .‬يعيشون يف‬
‫فهي تعكس العديد من القضايا‬ ‫هنا يعبر الفنان عن القصص‬ ‫الغابات ال يستطيعون النوم)‪.‬‬
‫املجتمعية األمازيغية بصفة عامة‪،‬‬ ‫الواقعية التي تعبر عن هذا النوع‬ ‫ثاروا ناريف إينو توغاكنيو ذا‬
‫والريفية بصفة خاصة‪ ،‬والتي‬ ‫من الهجرة‪ ،‬ويعطي ً‬
‫مثال لألب‬ ‫حسن‪( .‬أبناء ريفي كنتم هنا‬
‫من بينها الهجرة‪ ،‬هاته الظاهرة‬ ‫الذي هاجر دون إخبار أسرته‬ ‫أحسن)‪.‬‬
‫املستمرة سواء الشرعية منها أو‬ ‫تار ًكا بذلك وراءه أوالده‪ ،‬كما‬ ‫وسيند إسورين إيكنيو يسفلسن‪.‬‬
‫غير الشرعية‪ ،‬ففي ظل األزمات‬ ‫يصف لنا حالة الريف بعد هاته‬ ‫(جاء السوريون ففقدتم عقولكم)‪.‬‬
‫االقتصادية واالجتماعية التي‬ ‫الهجرات املتتالية‪ ،‬إذ أصبح فارغًا‬ ‫يتساءل الفنان األمازيغي الشاب‬
‫تعيشها منطقة الريف‪ ،‬فإن‬ ‫من الشباب الذين هم نبض‬ ‫عن سبب هجرة الشباب إىل الديار‬
‫هجرة الشباب إىل خارج الوطن‬ ‫املجتمع‪.‬‬ ‫األوروبية يف الفترة الحالية‪،‬‬
‫أصبحت من األمور املقلقة‪ ،‬إذ لها‬ ‫ورا شم أوثشما اينو تاريند‬ ‫مؤك ًدا عىل أن العيش بالريف‬
‫انعكاسات سلبية عىل البالد تتجىل‬ ‫كيدسن إخفنم‪( .‬حتى ِ‬
‫أنت‬ ‫أهون وأحسن‪ ،‬وأن من يسلك‬
‫يف فقدان اليد العاملة الشبابية‪،‬‬ ‫يا أختي أصبحت منهم أي‬ ‫طريق تركيا غير الشرعية يعاني‬
‫وكذا خسارة العديد من األدمغة‬ ‫املهاجرون)‪.‬‬ ‫الويالت جراء الظروف القاسية‬
‫واملواهب التي يمكن احتضانها‬ ‫ثجيد مسكينة يمام تنيخسيس‬ ‫التي يعيشها أثناء مغامرته هاته‪،‬‬
‫واالهتمام بها لتشكل فيما بعد‬ ‫(تركت أم ِك تبكي بحرقة‬
‫ِ‬ ‫قبارنم‪.‬‬ ‫ويرجع سبب هاته الهجرات‬
‫النواة األساسية للمجتمع‬ ‫أمامك) ‪.‬‬
‫(‪)7‬‬
‫إىل تأثر اإلنسان الريفي بهجرة‬
‫‪299‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫غناء‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬املفتوحي أحمد بوقرب‪ ،‬منطقة الحسيمة عبر التاريخ «مساهمتها يف بناء الحضارة املغربية»‪ ،‬ج‪ ،1‬هوية املجال‬
‫وارتباطه بالوطن وعالقاته باألخر‪ ،‬ط‪ ،1‬مطبعة الخليج العربي‪ ،‬تطوان املغرب‪ ،2013 ،‬ص‪.258‬‬
‫‪ -2‬املوسوعة العربية العاملية‪ ،‬ط‪ ،2‬اململكة العربية السعودية‪ :‬مؤسسة أعمال املوسوعة للنشر والتوزيع‪ ،1999 ،‬صفحة‬
‫‪.73‬‬
‫‪ -3‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مجلد ‪ ،2‬د‪:‬ت‪ ،‬القاهرة‪ ،‬داراملعارف‪ ،‬ص‪.1304‬‬
‫‪ -4‬محمد نورالدين أفاية‪« ،‬يف بعض أنماط املتخيل»‪ ،‬مجلة الثقافة الشعبية‪ ،‬عدد ‪ ،8‬ص‪.13‬‬
‫‪ -5‬بوشتى ذكي‪ ،‬محمد املسعودي‪ ،‬الغزل يف األغنية األمازيغية‪ ،‬منشورات املعهد امللكي للثقافة األمازيغية‪ ،‬مركز‬
‫الدراسات األدبية والفنية واإلنتاج السمعي البصري‪ ،‬دراسات وأبحاث رقم ‪ ،2‬املعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪ ،‬صص‪-12 -11‬‬
‫‪.15‬‬
‫‪ -6‬أحمد أغالل‪ ،‬الدواعي التاريخية واالجتماعية للهجرة املغربية‪ ،‬مطبوعات أكاديمية اململكة املغربية سلسلة الندوات‬
‫«هجرة املغاربة إىل الخارج»‪ ،‬الناظور ‪ ،1999‬ص‪.51‬‬
‫‪ -7‬أغنية (أبريد ن تركيا) للفنان الشاب والصاعد جوهان نوري نشرت سنة ‪.2016‬‬

‫القائمة البيبليوغرافية‪:‬‬
‫املراجع‪:‬‬
‫‪ -‬املفتوحي أحمد بوقرب‪ ،‬منطقة الحسيمة عبر التاريخ «مساهمتها يف بناء الحضارة املغربية»‪ ،‬ج‪ ،1‬هوية املجال‬
‫وارتباطه بالوطن وعالقاته باألخر‪ ،‬ط‪ ،1‬مطبعة الخليج العربي‪ ،‬تطوان املغرب‪.‬‬
‫‪ -‬املوسوعة العربية العاملية‪ ،‬ط‪ ،2‬اململكة العربية السعودية‪ :‬مؤسسة أعمال املوسوعة للنشر والتوزيع‪.9991 ،‬‬
‫‪ -‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مجلد ‪ ،2‬د‪:‬ت‪ ،‬القاهرة‪ ،‬داراملعارف‪.‬‬
‫‪ -‬محمد نورالدين أفايا‪« ،‬يف بعض أنماط املتخيل»‪ ،‬مجلة الثقافة الشعبية‪.‬‬
‫‪ -‬بوشتى ذكي‪ ،‬محمد املسعودي‪ ،‬الغزل يف األغنية األمازيغية‪ ،‬منشورات املعهد امللكي للثقافة األمازيغية‪ ،‬مركز‬
‫الدراسات األدبية والفنية واإلنتاج السمعي البصري‪ ،‬دراسات وأبحاث رقم ‪ ،2‬املعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪.‬‬
‫‪ -‬أحمد أغالل‪ ،‬الدواعي التاريخية واالجتماعية للهجرة املغربية‪ ،‬مطبوعات أكاديمية اململكة املغربية سلسلة الندوات‬
‫«هجرة املغاربة إىل الخارج»‪ ،‬الناظور ‪.9991‬‬

‫األغاني املعتمدة‪:‬‬
‫‪ -‬أغنية الوليد ميمون «هاجاغ ثامرت إينو تلعغ غا بارا‪ ..‬هاجرت موطني ورحت بعي ًدا»‪.‬‬
‫‪ -‬مجوعة «أياون» األغنية األوىل بعنوان «أزول ثمارت إينو‪( ..‬سالم عىل أرضي)»‪ ،‬والثانية تحت عنوان «ثاغاربوت ن‬
‫طرام‪( ..‬قارب الظالم)»‪.‬‬
‫‪ -‬جوهان نوري أغنية «أبريد ن تركيا‪( ..‬طريق تركيا)» نشرت سنة ‪.6102‬‬
‫إضاءات حول‬
‫ديوان‬
‫«قبالت مستعارة»‬

You might also like