Professional Documents
Culture Documents
في عالم الرقمنة ،هذا العالم االفتراضي الجديد الذي دخل إلى عالمنا متسلال والمستأذنا ،كما أنه فرض علينا قوانين وقواعد
جديدة من شأنها أن تحقق المبتغى منها إن تم احتضانها والتعامل معها بشكل إيجابي ،أو أن تعمق أزمتنا إذا تم تجاهلها
والتعاطي معها على أنها أكسسوارات أو مسألة ثانوية.
يمثل قطاع المعلوميات ،الذي يعتبر أحد ركائز الرقمنة ،حوالي 7 %من الناتج الداخلي الخام العالمي ،ويخلق حوالي %60
من مناصب الشغل،كما أن معدل 1%من النمو للبيئة الرقمية القتصاد ما ،من شأنه أن يساهم مابين %0.13إلى 0.26%من
الناتج الداخلي الخام لهذا االقتصاد ،هذا من جهة ،ومن جهة أخرى فإن سوق المعامالت في مجال المعلوميات يبلغ تريليونات
الدوالرات ،هذه األرقام توحي بأهمية قطاع الرقمنة بصفة عامة وبمجال المعلوميات على وجه الخصوص،هذا األخير الذي
أضحى في السنوات األخيرة من بين القطاعات الحيوية القادرة على خلق قيمة مضافة وثروة فلكية ،وخير مثال على ذلك ،
فمعظم أثرياء العالم المصنفين في مجلة فوربس األمريكية ذات الصيح العالمي،قد حققوا ثرواتهم في مجال المعلوميات
والرقمنة.
في بلدنا ،وخالل فترة الحجر الصحي نتيجة وباء كوفيد ،19أصبح الولوج إلى عالم الرقمنة مسألة حتمية وليست
اختيارية،وبدأت بعض العبارات تطفو على السطح كعبارة télé travailبالنسبة للموظفين أو التعليم عن بعد بالنسبة ألسرة
التعليم ،فرضت علينا جاءحة كوفيد 19التعامل االضطراري مع مجال الرقمنة دون أن نكون مهيإين أو عن صبق إصرار
وترصد لها ،الستخفافنا بها من جهة ،والعتبارها مسألة ثانوية من جهة أخرى ،كما أن سلوكنا وتعاملنا اعتاد ماهو
ملموس،فأصبحنا في انسجام وتناغم تام مع كل ما هو ورقي ومادي ،وخلقنا منطقة ارتياح وهمية zone de confortأصبح
من العسير علينا االستغناء عنها أو التضحية بها في سبيل ماهو ال مادي والورقي ،بالرغم من االمتيازات التي يزخر
بها،واإليجابيات التي يقدمها.
في مجال المقاولة ،أتى المرسوم التشريعي رقم , 2-12-349الصادر بتاريخ 20مارس 2013والمنظم أساسا للصفقات
العمومية ،أتى مدججا بترسانة من القوانين التي أطرت مسألة الرقمنة في هذا المجال ،فالمواد من 147إلى 151من الفقرة 7
من القانون السالف الذكر وضحت بشكل معمق ومفصل ،المسطرة القانونية التي تؤطر مسألة الرقمنة بالنسبة للصفقات
المبرمة مع المؤسسات العمومية ،كما أن الوزارة المختصة،في خطوة جد إيجابية ،قامت بإنشاء البوابة اإللكترونية للصفقات
العمومية ،وأصبحت المؤسسات العمومية،طبقا لمقتضيات الفقرة 2من المادة 20من المرسوم أعاله ،أصبحت ملزمة
باإلعالن عن الصفقات العمومية في هذه البوابة اإللكترونية.
بعيدا lعن الترسانة القانونية ،ومن الشق العملي ،يبقى مستوى الرقمنة جد هزيل على أرض الواقع ،بالرغم من الجهود التي
بذلتها الدولة في هذا المجال ،وهذا راجع باألساس إلى الفجوة الحاصلة بين مستوى المؤسسة العمومية من جهة ،ومستوى
المقاولة المغربية من جهة أخرى ،هذه األخيرة أضحت كذاك الشخص الذي حصل على سيارة آخر صيحة ،دون أن يتوفر
على رخصة القيادة ،فمجال الرقمنة يتطلب درايتا ،وعيا وثقافتا ،فإذا كانت المؤسسة العمومية قطعت أشواطا إيجابية في
مجال الرقمنة ،فإن المقاولة المغربية مازالت متأخرة وتفضل العمل بطرق كالسيكية ،خاصة إذا علمنا أن مسألة الرقمنة تبقى
اختيارية وغير إجبارية بقوة المرسوم التشريعي.
إن نجاح الرقمنة في مجال الصفقات العمومية رهين بانخراط كال الطرفين في هذه المسألة (المؤسسة العمومية والمقاولة
المغربية) فكالهما يكمل اآلخر ،وكالهما يساهم في خلق االستثمار في بلدنا ،كما أن تعثر أحدهما أو نجاحهه سينعكس على
المنظومة بأكملها ،وعلى القيمة المضافة للصفقات العمومية في الناتج الداخلي الخام الوطني والتي تبلغ نسبة %15تقريبا.
بعيدا lعن الصفقات العمومية ،قامت وكالة التنمية lالرقمية Agence de Développement Digitalبإنشاء منصتين
إلكترونيتين ” l،مكتب الظبط الرقمي ” و”الملف الرقمي ” يهدفان إلى رقمنة سلوك ومعامالت المؤسسات العمومية في
معامالتها الداخلية ،أو في تعاملها مع شركائها الخارجيين ،وهذه خطوة إيجابية يمكن أن تساهم في المضي قدما في مجال
الرقمنة ،شريطة انخراط كل األطراف المعنيين في هذا الورش ،حيث أنه ال يكفي أن نتوفر على الوسائل واألدوات ،بل
المطلوب هو تغيير العقليات والثقافات ،والقطع تدريجيا مع كل ما هو ورقي ومادي ،وهذه ليست بالمسألة الهينة ،وإنما هو
عمل جبار يتطلب في البداية مرحلة هجينة hybrideنشتغل فيها بكلتا الطريقتين ،قبل أن ننغمس كليا في عالم الرقمنة،
خاصة إذا علمنا أنه من شب على شيء شاب عليه وأن تغيير السلوك يتطلب وقتا وجهدا.
إن مسألة الرقمنة أصبحت أكثر من أي وقت مضى مسألة ضرورية في إدارتنا ،وإذا قمنا بجرد بسيط لمختلف نقاطها
اإليجابية ،يمكن أن نجد على سبيل المثال:
-1التقليص من الميزانية المخصصة للورق ،إذ أن المغرب يستهلك مامجموعه 650 000طن من الورق سنويا ،وإذا علمنا
أن اإلدارات والمؤسسات العمومية تستحوذ على حصة األسد في هذه الرقم ،فإنه من الطبيعي أن الولوج إلى عالم الرقمنة من
شأنه أن يساهم في تخفيض هذه الميزانية بشكل كبير ،ويمكننا من توجيها إلىاستثمارات أخرى.
-2الرفع من مردوديات المؤسسات واإلدارات المغربية ،حيث أن االشتغال بوسائل الرقمنة يتطلب مجهودا ووقتا أقل،
وتكون النتيجة أفضل.
-3توسيع دائرة المنافسة في الصفقات العمومية ،إذ أن البوابة اإللكترونية من شأنها أن تعطي الفرصة للعديد من المقاوالت
للمشاركة في طلبات العروض دونما الحاجة إلى التنقل إلى عين المكان ،مما يرفع من حظوظ الحصول على الخدمة بثمن
أقل ،وهذا يتالءم مع المبدأ األساسي للصفقات العمومية ،والمتمثل أساسا في ترشيد النفقات ،ومع الفصل 157من دستور
2011الذي ينص على ضرورة التقيد بقواعد الحكامة الجيدة بالنسبة للمقاوالت العمومية.
-4تمكين المواطن من االستفادة من خدمات اإلدارة والمرافق العمومية بشكل سلس ،غير مكلف ،ويراعي معايير الجودة
والشفافية المنصوص عليها في الفصل 154من دستور المملكة.
-5التقليص من آثار البصمة البيئية ،إذ أن المغرب بحاجة إلى الحد من انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون خاصة ،إذا علمنا أن
بلدنا ينتج lسنويا مايناهز 100مليون طن من غاز ،CO2مما يتناقض مع شعار التنمية المستدامة الذي رفعناه ،ومع
االستثمارات الضخمة في مجال الطاقات المتجددة ،ومع احتضاننا لمؤتمر المناخ .COP22
كخالصة ،نستنتج أن إنجاح مشروع الرقمنة في بلدنا ،مسؤولية تقع على عاتقنا جميعا ،من مسؤولين ،موظفين ومواطنين،
وأن الظرفية الحساسة التي تمر بها بالدنا نتيجة وباء كوفيد ،19تستلزم منا أكثر من أي وقت مضى التقيد بأخالق المواطنة،
واستغالل كل الطرق والوسائل التي من شأنها أن تحقق قفزة نوعية القتصادنا ،وتدفع بعجلته إلى األمام ،وهذه مهمتنا جميعا.
رياض برايدة