Professional Documents
Culture Documents
تحليل بردة كعب بن زهير ذ. المصلح. المحاضرة التاسعة
تحليل بردة كعب بن زهير ذ. المصلح. المحاضرة التاسعة
س ْل َمى ْال ُمزَ ِني ،من أهل نجد ،وأحد فحول الشعراء المخضرمين ،ينسب إلى ُمزَ ْينَةَ،
- 1هو كعب بن زهير بن أبي ُ
إحدى القبائل المضرية ،أمه كبشة بنت عمار بن عدي من غطفان .ولد في الجاهلية ونشأ في غطفان قوم أمه،
شاعر الحكمة الكبير ،نشأ في كنف أسرة يسري الشعر في عروقها فمكنه ذلك من أن يرث مجد أبيه ،الذي تتلمذ
على يديه ،وكان ينهاه عن قول الشعر خشية أن يأتي منه ال ال خير فيه ،لكنه لم ينته ،فامتحنه والده ،فتأكد من
نبوغه ومقدرته ،فسمح له باالنطالق فيه ،فأصبح من المبرزين المقدمين( .توفي كعب نحو ،644 /24وقيل:
26ه645/م ،وقيل .662 /42 :ينظر :تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان ،162/1 :وتاريخ األدب العربي
س َّكري...8 :
للزيات ،146 :وديوان الشاعر ،25-13 :وشرح ديوانه لل ُّ
- 2هذه رائعة الشاعر والصحابي (كعب بن زهير) في مدح رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم ،-فبعد أن طفق
كعب يجول في األرض يهجو المسلمين ويؤذيهم بشعره ،ويشبب بنسائهم ،وعلم الرسول الكريم -صلى هللا عليه
وسلم -بذلك أهدر دمه ،فلم يبال كعب بذلك ،ولم يقلع عن غيه .ولما بلغه خبر مقتل المشركين وشعرائهم -الذين
كانوا يتعرضون للمسلمين ويؤذونهم -في حنين وثقيف ،أدرك مدى خطورة الموقف ،وقوة المسلمين وقائدهم
1
تحليل قصيدة األدب اإلسالمي بين النشأة والتأصيل
"بانت سعاد" لكعب بن زهير
سعا ُد فق ْلبي الي ْوم متْبُـو ُل *** ُمتي ٌم إثْــــــــــــرها لم يُ ْفد م ْكبُــو ُلبانتْ ُ
ضيض الطرف م ْك ُحو ُل ُ سعا ُد غداة الب ْين إذ رحلـوا *** إال أغ ُّن غ وما ُ
طــو ُل شتكى قصـــــــ ٌر منها وال ُ ه ْيفا ُء ُمقبلةً ع ْجزا ُء ُم ْدبـــــــــرةً *** ال يُ ْ
كعادة الشعراء العرب استهل كعب قصيدته بمقدمة غزلية عفيفة ،سمعها
رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -وفي ذلك بيان جواز الشعر البعيد عن
المجون.
ويبتدأ كعب قصيدته بذكر المرأة ،وما خلفه رحيلها عنه من ألم ولوعة
وشوق.
فما تـــــــ ُدو ُم على حال تكـــونُ بها *** كما تلونُ في أثْـــــوابها الغُــــــو ُل
ت ْجلُو عوارض ذي ظ ْلم إذا ابتسمتْ *** كأنهُ ُم ْنه ٌل بالـــــــــراح م ْعلُو ُل
كانتْ مواعي ُد ع ُْرقُـــــــوب لها مثالً *** وما مواعيـــــدُها إال األباطي ُل
تتمادى سعاد في هجرها وتنكرها له ،فكانت كعرقوب وهو رجل يضرب به
المثل في اإلخالف
بالوعود .ويصل هذا المطلع إلى أربعة عشر بيتا إلى قوله :
ق النجيباتُ ا ْلمراسي ُل سـعا ُد بأ ْرض ال يُبلغُها *** إال العتا ُ أمست ُ
وبعد هذا المطلَ ِع َينتقل الشاعر إلى وصف ناقته على عادة الشعراء القدامى؛ إذ
وطباعهن ،ووصف َّ َّ
وأجسامهن َّ
سيرهن لهم بالنوق شأن كبير في وصف
عليه أزكى الصالة والتسليم ،فأظلمت الدنيا في وجهه ،وعلم أنه مقتول ال محالة ،وأثناء ذلك وصلته رسالة من
ع إليه ،وإال فا ْن ُج بحياتك
أخيه بُ َجي ٍْر يخبره فيها أن رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -ال يقتل من جاءه تائبا ،فأ ْس ِر ْ
في األرض .فرق قلب كعب ،ووثق بعفو الصادق األمين ،وقصد المدينة المنورة ،ودخل إلى المسجد في صالة
الصبح ،فتقدم إليه وقال :يا رسول هللا ،أنا رسول كعب بن زهير إليك ،وإنه قد جاء تائبا معتذرا فهل أنت قابل
منه؟ قال :نعم ،فقال :يا رسول هللا أنا كعب بن زهير .وما أن سمع الحاضرون كعبا ينطق باسمه ،حتى وثب
رجل من األنصار يريد قتله ،فقال رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم(( :-دعه عنك ،فإنه قد جاء تائبا نازعا عما
كان عليه)) .أسلم كعب ،وفرح بالعفو الجميل من الرسول الكريم ،وأنشد بين يديه قصيدة من أعظم ما ُمدح به
بشر .ووهب له رسول هللا –صلى هللا عليه وسلم -بردته ،فاشتراها منه معاوية بثالثين ألف درهم ،وقال العتبي:
بعشرين ألف .وتوارثها الخلفاء يلبسونها في الجمع واألعياد تبركا بها .ولم يحظ شعر بما حظيت به قصيدة "بانت
سعاد" ،حيث حظيت بفائق العناية ،ووافر الرعاية شرحا ودراسة ،وترجمت إلى عدة لغات .وال عجب في ذلك؛
ف بسماع الرسول –صلى هللا عليه وسلم -له ،وألقي في مسجده وبحضرة أصحابه – فهي من الشعر الذي ش َُر َ
رضوان هللا عليهم -وأحال عبدا من الخوف والغضب إلى الرحمة والعفو ،وتلقاه أهل العلم بالقبول ،على اختالف
الغزي (ت 534ه)( :ينظر حاشية على شرح (بانت سعاد) طبقاتهم واتجاهاتهم في التصنيف .وهلل در أبي إسحاق ِ
البن هشام ،للبغدادي:)18/1 :
سعا ُد) ذُنُـوب ك ْعــب *** وأعْلـــتْ ك ْعبــه في كُـــــــــل ناد
ُ محتْ (بانتْ ُ
ْ
وهي قصيدة المية تربو على ثمان وخمسين ( )58بيتا من بحر البسيط .حفظتها مصادر األدب ما بين
زيادة ونقص وتبايُن في الرواية .والقصيدة في تسع وخمسين بيتا في ديوان كعب ،تحقيق علي فاعور ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،لبنان ،الطبعة األولى1407 :ه1987 /م ،ص .60 :وانظر العمدة البن رشيق (،)24-22/1
والشعر والشعراء 67 :وما بعدها ،وطبقات الشعراء ،32 :وجمهرة أشعار العرب للقرشي.48-47 :
2
تحليل قصيدة األدب اإلسالمي بين النشأة والتأصيل
"بانت سعاد" لكعب بن زهير
غرضه وتحقيق ِ طعُها الناقة وصوال بذي الحا َجة إلى المفا ِوز والفلَوات التي تَق َ
الوصف على واحد وعشرينَ بيتا ِمنها قوله: ُ شتمل هذامراده .ويَ ِ
ول ْن يُبلغها إال عُــذافـــــــــرةٌ *** فيها على األ ْيـن إ ْرقا ٌل وت ْبغيـــ ُل
كأن ما فات ع ْين ْيها وم ْذبـحها *** من خ ْطمها ومن الل ْحي ْين برطي ُل
وينتقل كعب بعد ذلك إلى وصف الناقة ،وتلك -كما أشرنا -عادة عربية أصيلة
اتخذها الشعراء األقحاح كالفارس عنترة بن شداد ،هذه الناقة اتخذت من
عذافرة أي صلبة عظيمة ،تجوب الصحاري الصفات أجملها وأعظمها ،فهي ُ
بكل قوة ونشاط ،وال يثنيها عن ذلك أي حر أو شدة.
ـراب زهاليــــ ُلبان وأقــ ٌ يـ ْمشي القُرا ُد عل ْيها ثُم يـ ُ ْزلـقُهُ *** منها ل ٌ
يعني أن جلدها أملس لسمنه ،فال تقف عليه الحشرات ،وذلك تصوير غاية في
الدقة واإلبداع .إلى قوله:
ق عن تـــــــــــراقيها رعابي ُل ت ْفري اللبان بكفيها وم ْدرعها *** ُمشق ٌ
ثم يمهد الشاعر للغرض الرئيس؛ وهو َمدح رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم-
حق رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -قبل اقترفه في ِ
ذره عما َ ع ِفيأ ُخذ في إبداء ُ
مهد لهذا العذر بأربعة أبيات هي قوله: أن يَد ُخل في اإلسالم ،ويُ ِ
سلمى لمقتـــــو ُل تسعى الوشاةُ بـج ْنبيها وق ْولُـهـــ ُم *** إنك يا بن أبي ُ
وقال ك ُّل خليــل كنتُ آملُـــــه *** ال ألفينك إني عنك مشغــــو ُل
فقلتُ :خلُّوا سبيلي ال أبا ل ُكــ ُم *** فك ُّل ما قدر الرحمنُ مفعــــــو ُل
ُك ُّل ا ْبن أ ُ ْنثى وإ ْن طالتْ سالمتُهُ *** ي ْوما ً على آلة حــ ْدباء مـ ْح ُمـو ُل
بعد ذلك ينتقل إلى موضوع القصيدة الرئيس ،فيعرب عن اعتذاره ،موجها
الخطاب إلى رسول ال ُهدى -صلى هللا عليه وسلم -بقوله:
سول هللا مأ ْ ُمــو ُل سـول هللا أ ْوعــــدني *** وا ْلع ْف ُو ع ْند ر ُأ ُ ْنبئْـتُ أن ر ُ
ظ وت ْفصيــ ُل م ْه ًال هداك الذي أ ْعطاك نافلة ا ْلـ *** قُ ْرآن فيها مواعيـــ ٌ
ما أروعها من كلمات تقطر حكمة وبالغة ،تأمل قول كعب بحقيقة اإلنسان في
هذه الدنيا الفانية ،والتي تنتهي بكفن ونعش يحمل فيه على األكتاف ليشيع إلى
لحده .وبأسلوب غاية في األدب والرقة ،يعتذر إلى خير الخلق ،وسيد العرب
والعجم ،طالبا عفوه ،آمال في منه وحلمه ،فهو صاحب الرسالة الهادية،
والقرآن المنزل الشافي للصدور .وقيل إن كعبا لما قالَ :وال َعفُ ُو ِعندَ َرسو ِل َ ِ
َللا
َمأمولُ ،قال النبي الكريم -صلى هللا عليه وسلم" :-العفو عند هللا مأمول".
لقد أقــو ُم مقاما ً لـ ْو يـقُـــــــــو ُم بـه *** أرى وأسم ُع ما لو يسمــــــ ُع الفيـــ ُل
3
تحليل قصيدة األدب اإلسالمي بين النشأة والتأصيل
"بانت سعاد" لكعب بن زهير
لظل يُـــ ْرعــ ُد إال أ ْن يكــــــون لـهُ *** من الرسول -بإذن َللا – تنويـــــ ُل
سبُــــــو ٌر ومســـــؤو ُل ب عنــــدي إذ أُكـلـ ُمــهُ *** وقيل :إنك م ْ لذاك أ ْهي ُ
سد م ْخد ُرهُ *** بب ْطــن عـثــــر ،غـيــ ٌل ُدونهُ غـيــ ُل من ض ْيغم من ضراء األ ُ ْ
في وصف بليغ يصور كعب شدة خوفه من وعيد رسول هللا -صلى هللا عليه
وسلم ،-وبأن الفيل لعظمة جثته يرتعد من هيبة وعظمة النبي الكريم ،لكن نفسه
ارتاحت وسكنت لما وضع يده بأطيب وأشرف يد ،فنال عفو سيد الخلق.
سيوف َللا مسلو ُل ــور يُستـضا ُء به *** ُمهن ٌد من ُ إن الرسول لنــ ٌ
سلموا ُزولـوا عصْبة من قُريش قال قائلُ ُه ْم *** ببطن مكة لما أ ْ في ُ
ُف *** عند اللـقاء وال مي ٌل معازيـ ُل كاس وال ُكش ٌ زالوا فما زال أ ْن ٌ
ت ،فهو -بحق -أجمل وأي نور يضيء بعد نور النبي الهادي ،أَع ِ
ْظ ْم ِب ِه ِم ْن بَ ْي ٍ
بيت في قصيدة كعب.
داود في اله ْيجا سرابيـ ُل س ُهــــ ُم *** من نسج ُ ش ُّم العـــرانين أبطا ٌل لبــــــو ُ
ُ
ق القفعاء م ْجــــــــدو ُل ق *** كأنها حلـ ُ بيض سواب ُغ قد شُكت لها حلــــــ ٌ ٌ
ب إذا عرد الســـ ُو ُد التنابي ُل الز ْهر يعص ُم ُهم *** ض ْر ٌ يمشون مشي الجمال ُّ
مدح كعب المهاجرين بأحسن األوصاف وقيم النبل واألخالق ،فهم الذين
هاجروا بدينهم وتحملوا ما تحملوا من مشقة وعناء ،وهم األقوياء الشجعان
ذوي األصول الكريمة ،والهيبة المنيعة ،استحقوا شرف رفقة رسول هللا -
صلى هللا عليه وسلم .-وقيل :إن رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -قال له" :أال
ذكرت األنصار بخير؟ فإن األنصار لذلك أهل .فخصص لهم كعب بعد ذلك
قصيدة يمدحهم فيها حيث يقول:
من سرهُ كر ُم الـحياة فال يــــزل *** في مقنب من صالحي األنصار
ـف من األمــــــطار ـــة أحال ُم ُهـــــم *** وأ ُكفُّهم خل ٌ تزنُ الجبال رزان ً
ذرع *** كصواقـل الـه ْنـــدي غير قصار الـ ُمكرهين الس ْمــــهــري بأ ُ
والناظــرين بأ ْعيُن ُمـ ْحمـــــــرة *** كالج ْمـر غيــــــر كـليلة اإلبصار
فلما فرغ كعب من إنشاد قصيدته ،خلع النبي -صلى هللا عليه وسلم -بردته
الشريفة وأهداها لكعب ،وهذا تكريم ما بعده تكريم ،وهدية ليست ككل الهدايا،
ولهذا أطلق على هذه القصيدة اسم البردة.
ويتجلى اإلبداع في وحدات القصيدة لفظا لفظا ،وتركيبا تركيبا ،فلم
غرب ،ولم َيتكلَّف ،وإنما جاءت القصيدة نظما ُمتنا ِسقا ،ك ُّل لفظة تليق بالمعنى يُ ِ
4
تحليل قصيدة األدب اإلسالمي بين النشأة والتأصيل
"بانت سعاد" لكعب بن زهير
حمله البيت ،وتُجسِده الصورة .وال تخلو القصيدة من الجزالة التي الذي َي ِ
اشتهرت بها القصيدة العربية القديمة.
ومما يد ُّل على إبداع الشاعر كعب بن زهير في هذه الالمية الرائعة أن
شهرة والذيوع مبلغا كبيرا ،وأصبحت نموذجا يُحتذى في القصيدة بلغَت من ال ُّ
المدح ،وتوالها بالشرح والتحليل كثير من األدباء.
وآية اإلبداع واإلجادة في قصيدة كعب بن زهير :حملها لمالمح جديدة لم
يكن الشعراء
َيمدحون بمثلها في الجاهلية؛ كحديثه -رضي هللا عنه -عن القرآن الكريم،
وعن هداية النبي -صلى هللا عليه وسلم -للناس وتأييده ِمن ربه .كما ضمنها ذلك
فوض األمور كلها إلى هللا وحده ،وهذا محض المعنى اإلسالمي الرائع؛ حيث َّ
اإليمان بالدِين الجديد الذي آ َمن به ،ويَتجلى هذا
المعنى في قوله:
فقُ ْلتُ :خلُّـــوا طريقي ال أبا ل ُك ُم *** ف ُك ُّل ما قدر الر ْحمنُ م ْفعُـو ُل
معان إسالميةٌ أبدعها كعب لـ َمن جاء بعده كقوله( :إن ٍ ويَتْبَ ُع ذلك المعنى
الرسول لنُور يُستضاء به) .وكقوله:
ظ وتفصي ُل مهالً هداك الذي أعطاك نافلة الــ *** قرآن فيها مواعيـ ٌ
نهجه ،وفي ذلك خدمة ُكبرى وبهذا فتَح كعب الباب لـ َمن جاء بعده ل َيسير على ِ
لإلسالم.
وتعد هذه القصيدة كنزا من الدرر النفيسة ،فنحن أمام شاعر بدوي جاهلي
أبا عن جد ،فُطم على الشعر كأبيه (زهير) ،فإذا نظرنا إلى مقدمة القصيدة ،فقد
التزم كعب بعادة الجاهليين في الوقوف على الديار وذكر المحبوبة ،وكذلك
وصف الناقة ليصل إلى غرض القصيدة األساس؛ ففي المشهد األول يصف
سعاد غداة الرحيل بنغمة شجية وصورة شفافة على ما فيها من مادية جاهلية
واستطراد تشبيهي ،فشبه سعاد بقوله:
ضيض الطرف م ْك ُحو ُل ُ سعا ُد غداة الب ْين إذ رحلـوا *** إال أغ ُّن غ وما ُ
فعجز البيت من باب التشبيه التخييلي ،الذي ال يطرك بشيء من الحواس
الخمس الظاهرة،
ج في أصْل ا ْلجحيم ( )64ط ْلعُها كالذي وقع في قوله تعالى{ :إنها شجرةٌ ت ْخ ُر ُ
1
كأنهُ ُر ُء ُ
وس
- 1سورة الصافات.
5
تحليل قصيدة األدب اإلسالمي بين النشأة والتأصيل
"بانت سعاد" لكعب بن زهير
الشياطين ( .})65فتشبيه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين أمر غير معتاد
للعيان .فالعرب تزعم أن الغول تتحول من شأن إلى شأن (بصورة إنسان أو
حيوان) ،واألظهر أن العرب تسمي كل داهية غوال على التهويل والتعظيم؛
فالمشبه تلون سعاد في حال القرب والبعد ،والمشبه به تلون الغول ،ووجه
الشبه سرعة التلون وكثرة التنقل ،والمشبه حسي من وجه ،وعقلي من وجه
آخر .وغرض هذا التشبيه راجع إلى المشبه ،لبيان حاله ،على سبيل التشبيه
المفرد ،وهو كثير في القصيدة .ثم يصل إلى غرض القصيدة؛ فيشبه رسول هللا
-صلى هللا عليه وسلم -بالسيف الحاد ،واألسد المهاب ،على سبيل التشبيه البليغ:
سيوف َللا مسلـو ُل نور يُستــضا ُء به *** ُمهن ٌد من ُ
إن الرسول ل ٌ
بر ُز مالمح اإلبداع في توفيق الشاعر إلى أسمى ما يُحبُّ أن في هذا البيت تَ ُ
يُمدح به النبي -صلى هللا عليه وسلم -وهو النور الفائض على العالمين ،أي
كسيف قاطع في دفع الباطل ودمغه ،وفي االقتداء به ،لما جاء بالنور المبين
والمعجزات الظاهرة ،ودعا الناس إليه أتوا مهتدين بنوره
الساطع ،ومؤتمين بضيائه الالمع.
وشبه نفسه كفيل عظيم ارتعد من هيبة الرسول الكريم -صلى هللا عليه
وسلم ،-فقال:
لقد أقو ُم مقاما ً لو يقـــــو ُم به *** أرى وأسم ُع ما لو يسم ُع الفيــــ ُل
ــــرع ُد إال أن يكون لهُ *** من الرسول -بإذن َللا -تنوي ُل لظل يُ ْ
ومن أمثلة التشبيه التمثيلي ،الذي ينتزع فيه وجه الشبه من متعدد ،قوله:
تجلو عوارض ذي ظ ْلم إذا ا ْبتسمتْ *** كأنهُ ُم ْنه ٌل بالــراح معلو ُل
تشبيه يحتمل معاني كثيرة تنم عن سعة فكر الشاعر وقوة شاعريته؛ فشبه
بالمنهل في البياض،
وبالمعلول في الحمرة ،إذ بياض ثغرها يضرب إلى الحمرة؛ وهذا تشبيه طرفاه
حسيان ،والمشبه واحد ،والمشبه به متعدد ،والغرض من التشبيه راجع إلى
المشبه؛ إما لبيان حاله ،وإما الستطرافه ،على سبيل قوله -تعالى { 1:-مثلُ ُه ْم
ارا فلما أضاءتْ ما ح ْولهُ ذهب َللاُ بنُوره ْم وترك ُه ْم في ست ْوقد ن ً
كمثل الذي ا ْ
ظلُمات ال يُ ْبص ُرون (})17ُ
وقد أجاد كعب في وصف حال "سعاد" بطريق التشبيه المقلوب ،فقال:
كانت مواعي ُد ع ُْرقُـوب لها مثالً *** وما مواعيـدُها إال األباطيــ ُل
- 1سورة البقرة.
6
تحليل قصيدة األدب اإلسالمي بين النشأة والتأصيل
"بانت سعاد" لكعب بن زهير
ضرب كعب األمثال في قصيدته في ذكره لعرقوب ،وهو رجل يضرب به
المثل في إخالف
الوعد .وشطر البيت من باب التشبيه المقلوب؛ بقصد المبالغة في جعل الفرع
{ذلك بأن ُه ْم قالُوا أصال واألصل فرعا ،على طريقة ما جاء في قوله -تعالىَٰ 1:-
إنما ا ْلب ْي ُع مثْ ُل الربا ۗ وأحل َللاُ ا ْلب ْيع وحرم الربا ۚ فمن جاءهُ م ْوعظةٌ من ربه
اب النار ۖ ُه ْم فيها ولئك أصْح ُ فانتهى فلهُ ما سلف وأ ْم ُرهُ إلى َللا ۖ وم ْن عاد فأ ُ َٰ
َٰ
خالدُون ( .})275وغرض التشبيه في بيت الشاعر راجع إلى المشبه به؛ وهو
إيهام أنه أتَ ُّم من المشبه في وجه الشبه ،الذي هو تحقيق الخلف من سعاد أكثر
من مرة.
وفي هذه الرائعة يتجلى اإلبداع في وحدات كل بيت يَحمل صورة
شعرية.
ومن أرفع الصفات والخالل أن يُثني على النبي -صلى هللا عليه وسلم-
بالشجاعة والعفو عند المقدرة:
سـول هللا مأ ْ ُمـو ُلسـول هللا أ ْوعدني *** وا ْلع ْف ُو ع ْند ر ُ أ ُ ْنبئْتُ أن ر ُ
كما برع في وصف المهاجرين بامتداد القامة ،وعظم الخلق ،وبياض البشرة،
والرفق في المشي،
وذلك دليل الوقار:
سو ُد التنابي ُل ب إذا عرد ال ُّ الز ْهر ي ْعص ُم ُه ْم *** ض ْر ٌ
يمشون مشي الجمال ُ
كذلك يصفهم بالصبر والشدة في الحروب ،وقلة اكتراثهم بأعدائهم ،فهم إذا
غلبوا ال يجزعون. غَلبوا ال يفرحون ،وإذا ُ
ال يفرحـون إذا نالت رما ُح ُهـ ُم *** قوما ً وليسوا مـجازيعا ً إذا نيـلُـوا
وتكثر بالقصيدة أنواع االستعارات ،منها التصريحية في مثل قوله:
ت ْجلُو عوارض ذي ظ ْلم إذا ا ْبتسمتْ *** كأنهُ ُم ْنه ٌل بالــراح م ْعلُــــو ُل
يريد بقوله (معلول) الخمر المخلوط بها؛ إذ هو شبيه بالمسقي خمرا.
ومن أمثلة االستعارة المكنية قوله:
من ماء م ْحنيـــة *** صاف بأبطح أضحى و ْهو مشمو ُل شُجتْ بذي شبم ْ
أي خلطت بماء بارد ،والعوارض ليست مما يمزج بشيء ،لكنها تشبه الماء في
الصفاء ،والماء مما يمزج ،فادعى أنها ماء على طريق االستعارة المكنية،
لحذف المشبه به.
- 1سورة البقرة.
7
تحليل قصيدة األدب اإلسالمي بين النشأة والتأصيل
"بانت سعاد" لكعب بن زهير
أما اإليقاع الخارجي فقد اختار الشاعر بحر البسيط ،1كشكل إيقاعي
استطاع احتواء
التجربة الشعرية ذات المعاني المختلفة ،فباعتباره بحرا طويال ،أتاح للشاعر
إمكانية إيجابية إليصال معاني معينة ،ومنحه نفسا تركيبيا ودالليا لكي يشحن
تفاعيله بتجربة شعرية وشعورية معقدة ،تتوزعها أغراض مختلفة ،منها:
الغزل ،والمدح ،واالعتذار ...واختار الروي (الالم) ،وهو صوت أسناني
مجهور متوسط ،يناسب يدل على طلب الرحمة ،ويناسب نفسية الشاعر،
والقافية مطلقة (مضمومة) تفسح المجال إلشباع الصوت ،مما يتماشى مع
األمل الكبير لدى كعب .وحروف المد الصامتة قبلها التي تخرج من جوف
الصدر وتنتهي إلى هواء الفم ،لتنقل ما يعالجه الشاعر من خوف ورهبة،
ممتزجين ببعد أمل في العفو والصفح.
هذا فضال عن اإليقاع الداخلي المتمثل في التكرار بأنواعه :الحرفي
والكلمي ،والجناس...
ومهما اجتهدنا في تحليل وشرح قصيدة "بانت سعاد" فلن نوفيها حقها،
وقد خصت أعظم خلق هللا سيدنا محمد عليه الصالة والسالم ،قصيدة لخص
فيها كعب بن زهير ببراعة منقطعة النظير ،وأسلوب بياني بالغ في التقدير -
لخص -قصة قدومه لطلب عفو سيد الخلق حتى تم له ذلك ،فانتهت هذه القصة
بتشريف عظيم فخلع عليه بردته الشريفة ،فكانت قصيدة البردة بانت سعاد:
أعظم قصيدة في مدح خير خلق هللا ،وعنوانا بارزا في ديوان الشعر العربي
العريق.
ط :سمي بسيطا النبساط أسبابه؛ أي تواليها في مستهل تفعيالته السباعية ،وقيل النبساط الحركات في - 1البسي ُ
عروضه وضربه في حالة قبضهما؛ إذ تتوالى فيهما ثالث حركات .ويحتل البسيط المرتبة الثانية بعد الطويل،
يرتكز بناؤه على تفعيلتيُ ( :م ْستَ ْف ِعلُ ْن) و(فَا ِعلُ ْن)،
ُ بحر ثُنائ ُّ
ي التفعيل ِة، ويشاركه في هذه المرتبة الكامل .وهو ٌ
َ َ ْ
ووزنهُ ( :م ْستَ ْف ِعلُ ْن فَا ِعلُ ْن ُم ْستَ ْف ِعلُ ْن فَا ِعلُ ْن *** ُم ْستَف ِعلن فا ِعلن ُم ْستَف ِعلن فا ِعلن) .ومفتاح البسيط( :إِن البَسِيط لدَ ْي ِه
َّ ْ ُ َ ْ ُ ْ ْ ُ َ ْ ُ ْ
ط األ َ َم ُل *** ُم ْستَ ْف ِعلُ ْن فَا ِعلُ ْن ُم ْستَ ْف ِعلُ ْن فَ ِعلُ) .ويجوز استعماله تاما ومجزوءا.
س ُ
يُ ْب َ
8