You are on page 1of 120

‫أسرتوفيليا‬

‫عنوان الكتاب‪ :‬أستروفيليا‬

‫المؤلف‪ :‬ناصري سندس‬

‫الناشر‪ :‬ماروشكا للنشر والتوزيع‬

‫الطبعة األولى‪ :‬ديسمبر ‪ 2020‬م‬

‫ردمك‪978-9931-9687-3-3 :‬‬

‫المدير العام‪ :‬بن وارث أمال‬

‫لمراسلة الدار‪:‬‬

‫إيمايل‪marouchka.edition@gmail.com :‬‬

‫هاتف‪+213697717050 :‬‬

‫جميع حقوق النشر الورقي واإللكتروني والمرئي والمسموع‬

‫محفوظة للناشر‪ ،‬وغير مسموح بتداول هذا الكتاب بالقص أو النسخ أو‬

‫التعديل إال بإذن منه‪.‬‬

‫ﻟﻠﻨﺸﺮ واﻟﺘﻮزﻳﻊ‬
‫أسرتوفيليا‬
‫رواية‬

‫نارصي سندس‬

‫ﻟﻠﻨﺸﺮ واﻟﺘﻮزﻳﻊ‬
‫مقدمة ‪:‬‬
‫ال أجيد كتابة املقدمات لذا سأفسح لكم املجال بدال عني‪ ،‬إليكم‬
‫صفحات بيضاء لتكتبوا عام أشعل فتيل محاستكم ورسق فضولكم‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫إهداء‪:‬‬
‫إىل من شجعتني لكتابة الكلمة األوىل‪...‬‬

‫إىل من قتلوا حلمها بأن تصري كاتبة‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫رفعت يدي أعد النجوم‪ ،‬عند النجمة التاسعة والعرشين أوقفني‪،‬‬

‫قال‪ :‬ال تعدهيا ستسقط يف عينيك‪.‬‬

‫فقلت‪ :‬إذن هل سأصبح نجمة؟‬

‫‪13‬‬
‫هل الذين ماتوا قد ماتوا؟‬

‫‪15‬‬
‫‪1‬‬

‫إذا ُطرق بابك بعد منتصف الليل ال تفتحه‪ ،‬إنه اليأس‪.‬‬

‫«بقيت أناجي الوحدة املوحشة يف منزل الغابة املنعزل بني األشجار‪،‬‬


‫متاما كام كنت أفعل يف أيام املايض احلزين قبل أن أتغري لألفضل (ربام‬
‫هذا ما ظنته نفيس التي ذاقت طعم األمل ألول مرة يف حياهتا) وها أنا‬
‫أعود لنقطة الصفر من جديد أو حتت الصفر‪.‬‬
‫تساقط األمطار بدون انقطاع وتضارب الرياح مع األشجار‬
‫أضفى جوا مرعبا عىل املكان فاقشعر له بدين‪ ،‬شعرت كام لو أن السامء‬
‫تبكي معي والرياح تنادي عىل قلبي ليخاجلها بام خبأه عن اآلخرين‪،‬‬
‫لن يتمكن أحد من إجيادي ‪ ...‬رغم ذلك هل يوجد من يبحث عني‬
‫اآلن؟ أنا وهو فقط من نعرف بشأن هذا املكان البعيد عن أعني البرش‬
‫اخلبيثة‪ ...‬لكنه اختفى لذا أنا أنيسة الوحشة أخريا مثلام متنيت أن‬
‫أكون‪ ،‬فال بأس أن أستيقظ وال أجد رسالة منه خيربين فيها أنه اشتاق يل‬
‫فالوحدة مجيلة أحيانا‪ ،‬لكن كثرة تظاهري جعلتني أضعف مع الوقت‪،‬‬
‫فجزء مني متنى العكس ‪...‬‬

‫‪17‬‬
‫حاولت قمعه لكن قلبي تغلب عىل عقيل‪ ،‬ماذا لو أنتظر ثوان قليلة‬
‫أو دقائق ألرى ظله عند بايب ‪ ...‬أراه يأيت ناحيتي مرسعا وهو يلهث‬
‫مثلام فعل يف كل مرة تأخر فيها عن موعد لنا‪ ،‬فيخربين أنني أستحق‬
‫العيش ولن خيتفي ثم يعدين وعودا وردية‪ ،‬أنه معي ولن يرتك الوحدة‬
‫تنال مني‪ ،‬أننا سنصل للنهاية السعيدة معا‪ ،‬تلك السعادة التي بدأنا‬
‫برسمها يف أول لقاء لنا باملستشفى‪ ،‬النقطة واحد يف حيايت‪.‬‬
‫لكن ‪ ...‬متر دقائق أخرى وال يتغري يشء‪ ،‬أحدق بالساعة القديمة‬
‫املعلقة باجلدار املقابل يل‪ ،‬فأحس أن عقارهبا ال تتحرك أبدا ‪ ...‬هل هلذا‬
‫جديت حاولت رميها؟ قالت حينها أهنا سئمت من مراقبة الوقت‪ ،‬كم‬
‫ساعة يف الدقيقة يا ترى؟‬
‫راقبت مقبض الباب حتى رشدت إىل عاملي اخلاص ‪ ...‬العامل‬
‫الذي أنا به بطلة الرواية‪ ،‬رصت أطيل النظر يف كل التفاصيل‪ ،‬أجلس‬
‫كالطفل الذي انتظر والده بعدما وعده بإحضار احللوى‪ ،‬لكنه مل يعد‪،‬‬
‫أين احللوى خاصتي؟‬
‫أحلت بنظري إىل وشاحي األمحر املعلق بإحكام يف السقف اخلشبي‬
‫للمنزل‪ ،‬ملاذا أدقق النظر باألشياء كثريا مؤخرا؟ فكرت ‪ ...‬لو يظهر هنا‬
‫سأخنقه بدل قتل نفيس‪ ،‬هذا ما يستحقه‪ ،‬لكنه مل يأت فتتدفق مشاعري‬
‫أكثر‪ ،‬الغضب ‪ ...‬احلقد ‪ ...‬الكراهية أو ربام احلب؟ ال يمكنني حتى‬
‫فهم نفيس‪ ،‬كيف يمكن إنقاذ شخص يعجز عن تفسري ما يشعر به؟‬
‫كيف يمكن لشخص تم قتل روحه ودفنها بني جثث الرعب واألسى‬
‫أن ينجو؟ شخص مل تشفى جراحه مهام حاول تضميدها ليس لديه‬
‫ما خيرسه‪ ،‬لن خياف من املوت ألنه مات بالفعل مائة مرة‪ ،‬ليس مويت‬
‫األول‪ ،‬فقلبي مات منذ زمن ومل يتبق إال جسدي الفارغ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫هنضت بخطى متثاقلة أجر معي بطانيتي‪ ،‬لون أمي املفضل األمحر‪،‬‬
‫و أنا كذلك ‪ ...‬اليشء الوحيد املشرتك بيننا‪ ،‬حرصت عىل اقتناء كل ما‬
‫هو أمحر لكن ال يمكنني التخيل عن بطانيتي الرمادية التي دائام ما ألتف‬
‫فيها عندما أكتب بالشتاء‪ ،‬التففت فيها أحاول احلصول عىل القليل من‬
‫الدفء يف آخر حلظايت‪ ،‬الدفء الذي حرمت منه طوال حيايت‪ ،‬اجتهت‬
‫إىل الكريس القابع بجانب املدفأة‪ ،‬كانت عليه إحدى روايايت السابقة‬
‫«حتت الطاولة» فألقيت هبا إىل النار مثلام فعل البطل برسائل حبيبته‬
‫فيها ‪ ...‬انتبهت أن كل شخصيات روايايت جعلتها تفعل أشياء لطاملا‬
‫متنيت فعلها لذا فالكتابة عنها جعلتني أشعر بالراحة ومنحتني شعورا‬
‫مزيفا بأين حققت أحالمي‪.‬‬
‫أخذت الكريس أجره لكي أحدث صوتا‪ ،‬لعل اجلريان يأتون‬
‫للشكوى ‪ ...‬لكني تذكرت ‪ ...‬ال أملك جريانا ‪ ...‬ال أحد سيسمع‬
‫صوت رصير قلبي هنا‪ ،‬حفيف األشجار وحده من رد عىل رصخايت‬
‫الصامتة‪ ،‬حتى األمطار توقفت عن النزول كأهنا ختربين «هيا بنا حان‬
‫الوقت»‪.‬‬
‫وضعت الكريس أسفل وشاحي املعلق وصعدت عليه ألهيئ‬
‫نفيس‪ ،‬جسمي يرجتف‪ ،‬أسوء حلظات حيايت متر بني عيني ‪ ...‬جنازة‬
‫أيب يف شتائي العرشين ‪ ...‬أول شجار مع أدهم ‪ ...‬فشل روايتي األوىل‬
‫‪ ...‬انتحار ضحى ‪ ...‬مرض أمي ومنزل الغابة ثم أنا وحيدة من جديد‪،‬‬
‫فشلت يف استحضار الذكريات السعيدة كل ما أفكر به سوداوي‬
‫وقاتم‪.‬‬
‫فقدت أنفايس قبل أن أضع احلبل عىل رقبتي حتى‪ ،‬عيناي غارقتان‬
‫يف الدموع‪ ،‬حلقي يؤملني ‪ ...‬أمسكت طرف ثويب بشدة ‪ ...‬لبست‬

‫‪19‬‬
‫ثوب أمي املفضل‪ ،‬أبيض قصري برشيط أسود عىل العنق ‪ ...‬يف الواقع‬
‫بدأت باكتشاف أوجه شبه أخرى بيننا‪ ،‬مثلام فضلت البطانية الرمادية‬
‫هي فضلت الثوب األبيض عىل غرار الفساتني احلمراء‪ ،‬لبسته يف أول‬
‫موعد مع أدهم حينها قال‪« :‬اللون األبيض ال يناسبك» ‪ ...‬مل يفهم أن‬
‫الفستان كان اعرتافا أين تغريت من أجله‪ ،‬تنازلت عن جزء من هويتي‬
‫ألبدو أمجل يف عينيه‪ ،‬ختليت عن اللون األمحر‪.‬‬
‫يقال أن املنتحرين يندمون آخر اللحظات‪ ،‬هل سأفعل؟ ‪...‬‬
‫تذكرت شيئا ما‪ ،‬مل أكتب مالحظة أخرية ‪ ...‬رسالة انتحار أو اختذته‬
‫عذرا النتظار أدهم قليال لعله يمر عىل بايب‪ ،‬نزلت برسعة من عىل‬
‫الكريس وصعدت ملكتبي‪ ،‬حيث وضعت أوراقا لروايتي األخرية‬
‫التي مل تنرش بعد كتبت فيها آخر وأصدق حلظات يف حيايت بخط يدي‪،‬‬
‫وأضفت مالحظة ‪ ...‬أدهم إن كنت تقرأ كالمي فيعني أنك تأخرت‬
‫خطوة‪ ،‬فات األوان لكن تذكر لقد انتظرتك ‪ ...‬فلتنرش روايتي من‬
‫أجيل ليصل للعامل حزن فؤادي‪.‬‬
‫أنا انتقمت منك‪ ،‬فلتتحمل مسؤولية انتحاري ألنك مل تأت يف‬
‫الوقت املناسب‪ ،‬لو مل ترتكني يومها هل كنت ألفكر بفعل هذا؟ كنت‬
‫القطرة التي أفاضت كأيس‪.‬‬
‫وأضفت إىل هناية الرواية بيد مرجتفة ودموعي تسبق احلرب إىل‬
‫الورقة‪ ،‬إىل القراء ‪ ...‬إن كانت روايتي بني أيديكم فلتعلموا ‪ ...‬ال‬
‫وجود يل بعد اآلن‪ ،‬شكرا عىل دعمكم ‪ ...‬اسمي رؤى‪ ،‬الراء للرعب‬
‫واأللفني لألمل واألسى»‬

‫‪20‬‬
‫كانت هذه آخر صفحات من رواية كاتبتي املفضلة‪ ،‬املدعوة رؤى‪...‬‬
‫أهنيتها مع آخر رشفة من الشاي وأنا أكاد أبكي‪ ،‬وضعت الرواية عىل‬
‫املنضدة التي بجانبي‪ ،‬صببت كأس شاي آخر ورحت أنظر من النافذة‬
‫رأيت أطفال احلي وهم يلعبون بمرح مع بعض ويتشاجرون بني حني‬
‫وآخر ولو أين كنت أراهم كالنمل لكن من الواضح أهنم يتشاجرون‪.‬‬
‫حتظ بطفولة سعيدة‪ ،‬هي مل جترب شعور الشجار مع‬ ‫رؤى مل َ‬
‫زميلك يف املقعد‪ ،‬مل تعرف ما الذي يعنيه أن تشارك وجبتك املفضلة‬
‫مع صديقك املقرب‪ ،‬مل تذهب يف رحلة مدرسية من قبل‪ ،‬مل يسبق أن‬
‫كتبت رسالة حب طفولية‪ ،‬والدها مل حيب أمها يوما وأثر هذا بدوره يف‬
‫نفسيتها كثريا‪ ،‬جعلها تفقد الثقة باحلب منذ الصغر‪.‬‬
‫آخر رواياهتا عبارة عن رسالة انتحار طويلة‪ ،‬رواية مقتبسة من‬
‫قصتها احلقيقية ‪ ...‬رواية من قلب الظالم‪ ،‬رواية طفلة عاشت بالكثري‬
‫من األحالم لكنها مل حتقق منها إال القليل‪ ،‬فقررت ترك كل حلم خلفها‬
‫وإهناء حياهتا بعيدا عن البرش‪.‬‬
‫رؤى روائية جمهولة اهلوية‪ ،‬ال نعرف إن كان اسمها احلقيقي فالكثري‬
‫من الشائعات تقول أنه اسم مستعار للتظليل عن احلقيقة‪ ،‬تعرفت عليها‬
‫ألول مرة عندما وجدت إحدى رواياهتا عىل مكتب أختي الكربى‬

‫‪21‬‬
‫كانت ثالث رواية تنرشها التي حتدثت عنها يف آخر صفحات رواياهتا‬
‫بالضبط «حتت الطاولة» عن فتى هياب املرتفعات وفتاة متسلقة جبال‬
‫يعجبان ببعض‪ ،‬فاحلب ال يعرف التناقض‪ ،‬هو فقط يقصد قلوب من‬
‫يشاء بالرغم من خماوفهم‪ ،‬خلفياهتم أو توجهاهتم‪ ،‬هو أيضا ال يعرف‬
‫املكان املناسب لريبط شخصني‪ ،‬فبطيل الرواية التقيا حتت طاولة‪،‬‬
‫غريب صحيح؟‬
‫ومن هناك أعجبت هبا‪ ،‬رغم أنني مل أكن من هواة املطالعة إال أين‬
‫قرأت كل كتبها التي أدخلتني إىل عامل القراءة الشايف من األحزان‪ ،‬لكن‬
‫روايتها األخرية يشء آخر مل أبك يوما بسبب رواية لكن هناك ما شدين‬
‫اليوم‪ ،‬هل ألن اسمي أدهم كذلك؟ أو حماولتي لالنتحار من قبل؟‬
‫الصدفة أخافتني كثريا وجعلتني أرغب يف االلتقاء بأدهم احلقيقي‬
‫ورؤى‪.‬‬
‫هي انتهت بكتابة رواية عن نفسها الكئيبة التي مل نعلم بشأهنا من‬
‫قبل‪ ،‬حياهتا‪ ،‬كيف بدأت الكتابة ووفاة والدها‪ ،‬ترددها عىل عيادات‬
‫الطب النفيس والكثري من تفاصيلها الشخصية التي كانت ختفيها‬
‫لوقت طويل عن قرائها‪ ،‬ما أدهشني وأثار حرييت صفحتها األخرية‪،‬‬
‫أشك يف مصداقيتها‪ ،‬هل انتحرت حقا؟ أم أهنا فقط رغبت يف االعتزال‬
‫بطريقة فريدة مل يسبق لكاتب فعلها؟‬
‫ما أنا متأكد منه هو مويت من الفضول إن مل أتعرف عليها شخصيا‪،‬‬
‫قرأت مجيع رواياهتا ما عدا روايتها األوىل الفاشلة‪ ،‬بحثت عنها يف كل‬
‫مكان دون جدوى‪ ،‬مل تذكر عنواهنا يف كتاهبا األخري فصعب إجيادها‪،‬‬
‫عىل األرجح نرشهتا باسمها احلقيقي‪.‬‬
‫كتبت العديد من أصناف الروايات‪ ،‬روايات بوليسية ال ختلو من‬

‫‪22‬‬
‫اإلثارة جتعلك تنهيها يف جلسة واحدة‪ ،‬وبعض الروايات الرومانسية‬
‫كالرواية التي نرشهتا عبارة عن مذكرات كتبتهم امرأة خانت زوجها‪،‬‬
‫ومل ينسى الرعب مكانه من رواياهتا كذلك فكتبت روايات تستحق‬
‫حتويلها إىل أفالم‪ ،‬أما قصتها األخرية عنواهنا «أنا» تعبريا عن نفسها‪،‬‬
‫عن حياهتا البائسة‪ ،‬أفضل ما مرت به لقاؤها بالطبيب أدهم لكنهام‬
‫انفصال ‪ ...‬مل يتحمل أمراضها النفسية ومل يطق صربا مزاجها احلاد‪ ،‬يف‬
‫الواقع أنا أيضا طبيب‪ ،‬أرعبني يف البداية شبهي الكثري به يف الشخصية‬
‫واالسم واملهنة‪ ،‬لكنها مل تصف شكله أبدا‪ ،‬قالت أهنا تغار عليه حتى‬
‫من وصف مجيل عنه تقرأه امرأة أخرى ‪ ...‬لكنه تركها يف النهاية‪.‬‬
‫قررت البحث عنها وإجيادها‪ ،‬قد أعثر عىل منزهلا أو قربها لكن‬
‫ال هيم ذلك‪ ،‬سأسعى ملعرفة احلقيقة وأعرف الشخص املناسب متاما‬
‫ملساعديت للوصول هلا ‪ ...‬أختي الكربى علياء‪.‬‬
‫علياء أختي غري الشقيقة‪ ،‬توفيت والدهتا «مجيلة» بالرسطان منذ‬
‫سنوات طويلة قبل أن أولد أنا‪ ،‬أيب مل يقدر عىل رعايتها بنفسه‪ ،‬كانت‬
‫علياء بعمر الثانية فقط حينها‪ ،‬فتزوج بعدها بسنة من والديت وحظيا‬
‫يب‪ ،‬هي تكربين بحوايل أربع سنوات‪ ،‬منذ الصغر كنا نتفق بشكل جيد‬
‫أكثر من أي إخوة أشقاء‪ ،‬كنا أصدقاء صنعهم الزمن من أجل بعض‬
‫فقضينا معظم الوقت معا‪.‬‬
‫رغم أهنا أحبت والديت كثريا لكنها مل تنادها يوما بأمي‪ ،‬لطاملا نادهتا‬
‫باسمها احلقيقي «عزيزة» فعلياء منذ الصغر تم إخبارها بقصة والدهتا‪،‬‬
‫مل يشأ والدنا االنتظار حتى تكرب إلخبارها كي ال تدخل يف صدمة‪،‬‬
‫لكنها مل تذكر يوما أهنا اشتاقت لوالدهتا أو أهنا تتمنى لو ما زالت حية‪،‬‬
‫عندما يسأهلا شخص ما عن أمها هي دائام ما تردد‪« :‬ما الذي تقصده؟‬

‫‪23‬‬
‫عزيزة هي أمي»‪ ،‬هي أحبتها بصدق وأكثر من أي حب طفلة ألمها‬
‫رغم أهنا مل تكن متيل إلظهار ذلك‪ ،‬يف سن معينة أصبحت تنادي‬
‫والدنا باسمه احلقيقي كذلك‪ ،‬عاملته كصديق أكثر من أب‪ ،‬عمليا هي‬
‫صديقة اجلميع‪.‬‬
‫أرسلت رسالة لعلياء وأخربهتا «يل عمل لك»‪ ،‬بيتها ليس بالبعيد‬
‫عني‪ ،‬يفصل بيت كبري بني عامرتينا‪ ،‬منذ سنوات انتقلت أنا وهي‬
‫للعيش مستقلني‪ ،‬انتقالنا للحي السكني نفسه كان وليد الصدفة‪،‬‬
‫لكنه سهل األمور عىل والديت لزيارتنا‪ ،‬فهي استمرت بالقلق علينا بعد‬
‫انتقالنا‪ ،‬لطاملا كنا صغارا يف أعينها ولو كربنا‪.‬‬
‫دقائق وأرى علياء عرب النافذة تشق الطريق الرئييس لتصل لعامريت‪،‬‬
‫أحد أبناء صاحب البيت الكبري حيدق فيها عرب رشفته كالعادة أخربهتا‬
‫عنه آالف املرات لكنها ترى أنني أبالغ ‪ ...‬كادت تصدمها سيارة‬
‫فبدأت بالشجار رغم كوهنا املخطئة‪ ،‬ولدت لتخرق إشارات املرور ثم‬
‫لعبت الكرة قليال مع أطفال احلي‪ ،‬وضعت يدي عىل وجهي متحرسا‬
‫عليها‪ ،‬هي ال تكرب أبدا ‪ ...‬هلذا مل تتزوج‪ ،‬كل ما فاحتتها يف أمر الزواج‬
‫ترشح يل كوهنا ليست ضد الزواج وإنام خائفة من االختيار اخلطأ فتهدم‬
‫كل ما حاولت بناءه يف حياهتا‪.‬‬
‫دقائق أخرى وهي عند بايب تكاد حترق اجلرس‪ ،‬ففتحت الباب هلا‪.‬‬
‫‪ -‬أنت هنا‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي يؤخرين إذا شممت رائحة حتقيق؟‬
‫‪ -‬فلتجليس يا كلب التحقيق‪.‬‬
‫‪ -‬أنت ال حترتمني مؤخرا يا هذا‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫علياء نفسها بترسحية الكعكة التي مل تغريها منذ اإلعدادية ورسوال‬
‫اجلينز الذي لن جتد مشكلة يف النوم به‪ ،‬كانت قد رفضت من قبل‬
‫طلبي إلجياد رؤى بحجة كوهنا مشغولة بالعمل وما إىل ذلك‪ ،‬هذه املرة‬
‫ستقبل بال شك ألهنا موقوفة عن العمل مؤقتا لرضهبا مشتبها به من‬
‫الغضب رغم استمرارها بالقول «دفاع عن النفس» إال أنني أثق أنه‬
‫استفزها فحطمت وجهه‪.‬‬
‫البد من شعورها بامللل اآلن‪ ،‬هي فتاة قوية لن ترتدد حلظة واحدة‬
‫برضبك إن قلت هلا «لست أنثوية» لتثبت لك صحة كالمك‪.‬‬
‫‪ -‬رؤى جمددا؟‬
‫‪ -‬هيا ‪ ..‬إهنا قضية كبرية ‪ ...‬الكاتبة انتحرت‪.‬‬
‫‪ -‬سمعت بذلك ‪ ...‬هل تصدقها؟‬
‫قاطعت كالمها الساخر بنظرايت الغاضبة فصمتت للحظات ألهنا‬
‫عرفت مدى جديتي بشأن إجياد رؤى‪ ،‬ثم أمرتني بإعطائها الرواية‬
‫لقراءهتا أوال لعلها جتد دليال بني ثناياها‪.‬‬
‫أعطيتها إياها وطلبت مني منحها بعض الوقت للتحقيق جيدا‪.‬‬
‫ثم مل أرها بعد ذلك ملدة شهر‪...‬‬

‫‪25‬‬
‫‪2‬‬

‫ال تنظر بعيدا‪ ،‬أنظر حولك احلل أمامك متاما‪.‬‬

‫مر زمن ليس بالقصري منذ أن وعدتني علياء بالعثور عىل رؤى‬
‫لكنها قطعت اتصاالهتا يب فجأة دون سابق إنذار عىل غري عادهتا ‪...‬‬
‫ليس معي فقط بل احلال نفسه مع والدينا‪ ،‬ربام حتقق يف القضية بنفسها‬
‫فهي متيل لعزل نفسها عند الرتكيز عىل القضايا‪ ،‬رغم إحلاحي عليها‬
‫باملساعدة ها هي تطفئ محايس باختفائها‪.‬‬
‫عىل أي حال كنت مشغوال حد االختناق باملستشفى ‪ ...‬الكثري‬
‫من املرىض هذا الشهر‪ ،‬كونك طبيبا جراحا يعني أن تودع شيئا اسمه‬
‫وقت الفراغ‪ ،‬بالكاد أملك القليل من الساعات يف األسبوع للمطالعة‬
‫أو االسرتخاء عىل أريكتي وأنا أشاهد مسلسيل األسبوعي املفضل‬
‫الذي فاتتني الكثري من احللقات منه هذا الشهر وحرق عيل صديقي‬
‫األحداث‪.‬‬
‫خرجت من املستشفى منهكا يف الصباح بعد العمل بمناوبة ليلية‪،‬‬
‫أطول ليلة يف حيايت أحسست أهنا لن تنتهي‪ ،‬كدت أجزم أين سأموت‬

‫‪27‬‬
‫من النعاس قبل بزوغ الفجر‪ ،‬كان عيل النوم يف النهار بدل وعد نفيس‬
‫عند بداية كل حلقة من املسلسل أهنا ستكون األخرية‪.‬‬
‫مل يكن املستشفى بالبعيد عن منزيل‪ ،‬أذهب سريا عىل األقدام وأندم‬
‫يف كل مرة عند عوديت عىل عدم ذهايب بالسيارة ألين أفقد اإلحساس‬
‫برجيل‪.‬‬
‫وصلت للعامرة فوجدت املصعد معطال ‪ ...‬آخر ما توقعته يف‬
‫صباحي البائس هذا رؤية عبارة «استخدم السالمل من فضلك» معلقة‬
‫أمامي‪ ،‬صعدت وأنا أكاد أفقد أنفايس حتى الطابق الرابع عرش‬
‫أصبحت رؤيتي ضبابية مع كل خطوة أصعدها‪ ،‬خرست كيلوغرامني‬
‫بسببهم ‪ ...‬من يريد خسارة الوزن مرحب به يف سالمل عامرتنا‪ ،‬لعنت‬
‫حظي واملصعد كثريا‪ ،‬متنيت لو لدي قدرات خارقة متكنني من التنقل‬
‫عرب األماكن دون تعب‪.‬‬
‫ما إن وصلت للمنزل حتى كاد قلبي أن خيرج من مكانه دخلت‬
‫برسعة رشبت قارورة ماء واجتهت مبارشة للحامم‪ ،‬أفضل شعور‬
‫احلصول عىل محام دافئ بعد يوم عمل مرهق ترختي فيه عضالتك‬
‫وتنرشح نفسك كأنك ولدت من جديد‪ ،‬ذهبت بعدها للمطبخ وأنا‬
‫أجفف شعري باملنشفة‪ ،‬ألملئ معديت قبل اخللود إىل النوم‪.‬‬
‫الحظت وجود إبريق احلليب وصندوق طعام فوق الطاولة‪ ،‬ال‬
‫أذكر وضعي له هناك ومل أحلظ وجوده عند دخويل من قبل‪ ،‬فتحته‬
‫فوجدت به كعكا إسفنجيا ‪ ...‬أليس هذا كعك علياء املفضل؟ ‪...‬‬
‫مهال ال يمكن‪...‬‬
‫أرسعت لغرفة اجللوس مندفعا ألجد علياء جتلس بكل ثقة عىل‬
‫أريكتي حتسب نفسها ملكة عىل عرش! تضع رجال فوق رجل وحتمل‬

‫‪28‬‬
‫كأس حليب بالشوكوالتة ‪ ...‬حتى أهنا ترشب يف كويب املفضل‪ ،‬بقيت‬
‫حتدق بالفراغ ثم نظرت يل ورسمت ابتسامة خميفة عىل وجهها حتى‬
‫اقشعر بدين ‪ ...‬أفزعتني بشدة ‪ ...‬كنت سأصنف املوقف كلقطة من‬
‫فيلم رعب لوال محلها لكأس احلليب بشكل جدي الذي غري الوضع‬
‫إىل موقف كوميدي‪.‬‬
‫‪ -‬كيف دخلتي؟‬
‫‪ -‬من الباب‬
‫‪ -‬حسنا أعرف ‪ ...‬من الواضح أنك مل تدخيل من نافذة يف الطابق‬
‫الرابع عش‪...‬‬
‫قبل أن أكمل مجلتي أخرجت بعض األوراق من حقيبة ظهرها‬
‫ومنحتنهم يل دون أن تتوقف عن االبتسام قائلة‪ :‬فلتنظر إىل إنجازات‬
‫أختك ‪ ...‬ال يمكنك أن جتد مثيال يل يف العامل‪.‬‬
‫أمسكتهم عنها وألقيت نظرة خاطفة عليهم‪ ،‬سرية ذاتية كاملة‬
‫عن رؤى ‪ ...‬زمان ومكان امليالد وحتى اسم االبتدائية التي درست‬
‫هبا والعديد من التفاصيل األخرى بعضها ذكر يف الرواية بالفعل‬
‫واألخرى معلومات جديدة مل يسبق أن سمعت هبا‪.‬‬
‫نسيت التعب متاما وجلست أقلب األوراق ونزعت هلا الكوب‬
‫فرمقتني بنظراهتا التي تعرب عن انزعاجها الشديد مني‪ ،‬لكن كل ما‬
‫كنت أريده هو تفسري ورشح كيف ومتى وجدت كل هذا؟ هل كل‬
‫ما هو مكتوب هنا موثوق؟ زادت حدة نظراهتا يل ألهنا أحست بشكي‬
‫يف مصداقية معلوماهتا وهذا من أكثر ما تبغضه‪ ،‬هنضت وجلبت لوح‬
‫سبورة متنقل أدرس عليه عادة وقامت بوضعه أمامي لكي ترشح عليه‬
‫كيف توصلت للحقيقة ‪...‬‬

‫‪29‬‬
‫‪ -‬حسنا فلنتحدث يف األهم قرأت الرواية حوايل مخس مرات‪ ،‬أنا‬
‫تقريبا حفظتها‪ ،‬وكام توقعت هي صندوق غني باألدلة فلتتابع معي ‪...‬‬
‫لو قاطعتني لن أخربك بيشء‪ ،‬حني أنتهي من الرشح بمكنك اإلدالء‬
‫بتعليقاتك‪ ،‬تعرف كم أكره أن تتم مقاطعتي أكثر من رسقة طعامي ‪...‬‬
‫أوال اسمها احلقيقي ليس رؤى بل رغد ‪ ...‬حسنا ستقول كيف عرفت‬
‫ذلك؟‬
‫محلت قلام وكتبت حروف اهلجاء عىل السبورة ثم قامت برتقيمهم‬
‫بالرتتيب‪ ،‬كنت حمتارا أي نوع من دروس االبتدائية ستعلمني‪.‬‬
‫‪ -‬شد انتباهي رسالة انتحارها وعرفت أهنا ليست عادية فاستنتجت‬
‫أن وراءها رسا‪ ،‬بعد عدة نظريات وحتليالت متكنت من حل شفرهتا‪،‬‬
‫هي قالت الراء للرعب وقد ذكرت كلمة الرعب عرش مرات يف الرواية‪،‬‬
‫وترتيب حرف الراء يف األبجدية هو العارش‪ ،‬األلف األوىل لألمل وقد‬
‫ذكرت الكلمة تسع عرشة مرة املوافقة حلرف الغني‪ ،‬األلف األخرية‬
‫لألسى وقد ذكرته ثامين مرات وحرف الدال ترتيبه الثامن‪ ،‬فإذا مجعنا‬
‫احلروف املشكلة الثالثة بالرتتيب اجلديد حسب األرقام سيتشكل لنا‬
‫اسم رغد أي اسمها احلقيقي‪ ،‬تأكدت من صحة نظريتي أثناء قوهلا‬
‫يف الفصل األول أن حياهتا عكس اسمها‪ ،‬فرغد معناه رفاهية العيش‬
‫ليس كحياهتا الكئيبة‪ ،‬هي حقا كاتبة عبقرية كوهنا استطاعت التالعب‬
‫بالكلامت هكذا وكتابتها بدقة‪ ،‬كان عد الكلامت متعبا لكن جيد أن‬
‫جهدي مل يذهب هباء فلم أكن متأكدة من صحة نظريتي يف البداية‪ ،‬مع‬
‫ذلك رسالة انتحارها ال ترمز السمها وحسب بل رمزت حلياهتا أيضا‪،‬‬
‫هي قصدت أن حياهتا كرغد مرعبة مؤملة ومليئة باألسى‪ ،‬هي مجعت‬
‫املعنى يف شفرة باسمها بطريقة ذكية‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫‪ -‬أختي أعرتف بقدرتك اخلارقة يف التحقيق ‪...‬‬
‫‪ -‬هل تريد مني التوقف؟ دعني أصل للجزء األفضل ثم امدحني‬
‫مثلام تشاء ‪ ...‬لن تصدق الصدفة الغريبة ‪ ...‬هي تسكن يف البلدة‬
‫املجاورة لنا فقط‪ ،‬دعني أرشح لك كيف عرفت هذا اجلزء‪ ،‬يبدو أن‬
‫رغد كانت قريبة منا للغاية طوال الوقت لكن مل ننتبه‪ ،‬هل تذكر املسابقة‬
‫التي قمت بإرساهلا لك لربح جمموعة من الكتب عرب قرعة؟ تلك التي‬
‫تم تنظيمها عىل إحدى صفحات جامعي الكتب ‪ ...‬حسنا لتفهم‬
‫بشكل جيد ما أحاول الوصول إليه‪ ،‬يف الفصل اخلامس عرش ذكرت‬
‫الكاتبة أهنا ربحت مسابقة للكتب عرب قرعة من بني املئات عىل إحدى‬
‫الصفحات‪ ،‬فظنت أن كل حظها يف احلياة استنزفته املسابقة حتى أهنا‬
‫ذكرت الكتب التي ربحتها ومن بينها رواية هلا كذلك فضحكت عىل‬
‫نفسها واحتارت ما إن كانت ستصنف هذا حظا جيدا أم عثرا‪ ،‬كانت‬
‫العناوين التي ذكرهتا مألوفة لنا ‪...‬‬
‫كتبت يف اللوح أسامء الكتب التي ذكرهتا رؤى‪ ،‬بعد تدقيق وتفكري‬
‫بدأت ذاكريت تعود تدرجييا ‪ ...‬كيف فاتني ذلك؟ كان يزيد محايس‬
‫وخيفق قلبي أرسع مع كل كلمة ختربين هبا عنها وأحتمس بشكل زائد‪،‬‬
‫بينام علياء تتعمد الصمت للحظات كأهنا تفكر ثم تكمل كالمها‬
‫لتستفزين‪ ،‬كأنه اهلدوء قبل العاصفة حمذرة يل أن أنتظر فقط لتكشف‬
‫عن املزيد‪.‬‬
‫‪ -‬من النظرة التي تعلو وجهك ال بد أنك تفكر فيام فكرت به‪ ،‬نعم‪...‬‬
‫العناوين نفسها للمسابقة التي أرسلتها لك منذ أشهر وجتاهلتها ألنك‬
‫متلك بالفعل الروايات املقدمة للرابح‪ ،‬أرسعت للبحث عن صفحة‬
‫املسابقة بعد جهد جهيد عثرت عليها‪ ،‬لكن املسابقة مر عليها حوايل‬

‫‪31‬‬
‫عام لذا كان من الصعب إجياد املنشور عن الرابح وخشيت أنه ال يوجد‬
‫من األساس أو أهنم مل يذكروا حساب الرابح فأصل لنهاية مسدودة‪،‬‬
‫لذا أمضيت اليوم بطوله أفتش‪ ،‬تعبت عيناي وانتهى خمزون القهوة‬
‫لدي‪ ،‬كانت عملية بحث مستنزفة لطاقتي حقا وعندما كدت أستسلم‬
‫وأسقط نائمة وجدته أخريا‪ ،‬بمجرد وقوع نظري عىل املنشور طار‬
‫النعاس بعيدا‪ ،‬الرابحة اسمها رغد ال يمكنني أن أصف لك مقدار‬
‫شعوري بالنرص حينها‪ ،‬من حسن حظنا أهنم ذكروا حساهبا ومل يذهب‬
‫بحثي هباء منثورا‪ ،‬لكنه خاص أرسلت هلا طلب متابعة فلم تقبلني‪ ،‬مل‬
‫أستطع االنتظار لذا ببساطة طلبت من صديق يل باخرتاق حساهبا ‪...‬‬
‫‪ -‬ما الذي فعلته! هل أصابك اجلنون؟ أال تدركني أهنا جريمة‬
‫إلكرتونية؟ مل يكن عليك الذهاب هلذا احلد‪.‬‬
‫‪ -‬جمنونة؟ وأمل أفعل هذا ألجلك؟ إن كنت تريد معرفة املزيد‬
‫فلتصمت وتدعني أكمل ‪( ...‬تنهدت بعمق ثم واصلت حديثها)‬
‫حصلت عىل حساهبا واكتشفت أهنا مل تنتحر وما زالت تتفاعل عىل‬
‫صفحتها‪ ،‬نرشت بعض الصور‪ ،‬لكنها وحيدة ال تتكلم مع أحد حاليا‪،‬‬
‫صندوق رسائلها فارغ منذ مدة‪ ،‬فيه عدد قليل من األشخاص‪ ،‬لكن‬
‫بعد قراءة كل رسائلها القديمة وجدت أهنا أخربت بعض املعارف‬
‫باملستشفى الذي كانت تعالج فيه أمها املريضة‪ ،‬وهو يبعد عنا حوايل‬
‫ساعة فقط! لذا بمعرفة املستشفى ومن بعض الصور تأكدت من موقع‬
‫سكنها‪ ،‬لكن ما أثار اهتاممي وفضويل هو ال وجود ألدهم يف حساهبا‪،‬‬
‫هل قام بحظرها بعد انفصاهلام أو بعدما نرشت حياهتام اخلاصة؟‬
‫ألكون رصحية انعدام وجود أدهم من حساهبا أثار اهتاممي أكثر من‬
‫سبب إعالهنا انتحارها بينام هي ما زالت حية‪ ،‬وثاين يشء مثري لالهتامم‬
‫ال أثر لصورة هلا‪ ،‬لألسف مل أمتكن من الوصول هلذا القدر‪ .‬ويف النهاية‬

‫‪32‬‬
‫عندما وصلت السمها الكامل احلقيقي وتاريخ ميالدها من حساهبا‬
‫طلبت مساعدة من بعض الوسائط فوجدت كل ما تبقى وخلصته لك‬
‫يف األوراق التي حتملها‪.‬‬
‫ثم نزعت من يدي كوب حليبها جمددا لكنه كان فارغا‪ ،‬فذهبت‬
‫للمطبخ لتعد املزيد‪ ،‬يف هذه اللحظات قمت بقراءة ما خلصته علياء‪،‬‬
‫اسمها رغد‪ ،‬ولدت يف الفاتح من ماي هي أكرب مني بسنة‪ ،‬فرحت‬
‫لذلك ألين بمرحلة ما شككت يف كوهنا امرأة كبرية يف السن أو‬
‫متزوجة‪ ،‬مخنت حتى احتاملية كوهنا رجال كنت ألصاب بصدمة لو أن‬
‫شكوكي كانت صحيحة‪ ،‬هي توقفت عن دراستها اجلامعية يف عامها‬
‫الثاين‪ ،‬والدها «عيل» تويف يف نفس عام توقفها عن الدراسة ربام كان‬
‫السبب يف انقطاعها عن الدراسة‪.‬‬
‫ما إن كدت أنتهي من القراءة رجعت علياء وهي جتر برجليها‬
‫الشبشب خاصتي الكبري عليها‪ ،‬حتمل كوهبا بيد وكعكا باليد األخرى‪،‬‬
‫أكاد أجزم أنه بيتها وليس بيتي‪ ،‬هي تشعر بالراحة أكثر مني هنا‪ ،‬كأهنا‬
‫صاحبة املنزل وأنا الضيف‪.‬‬
‫‪ -‬فلنذهب لزيارهتا اآلن‪.‬‬
‫كادت علياء تسقط ما بيدها من كلاميت‪ ،‬واختنقت من الطعام‪.‬‬
‫‪ -‬ملا ال نذهب لزيارة مستشفى املجانني أحسن؟ كيف نذهب‬
‫لزيارهتا هبذه البساطة؟ أال تبدو مريضة نفسيا من روايتها؟ وما الذي‬
‫ستخربها به عند زيارهتا؟ مرحبا أنا معجب أريد توقيعا عىل رسالة‬
‫انتحارك أم ماذا؟!‬
‫‪ -‬هوين عليك توشكني عىل االنفجار‪ ،‬وجهك أمحر ‪ ...‬فلتبتلعي ما‬
‫يف فمك أوال وامسكي كأسك جيدا لست أنت من سينظف األرضية‬

‫‪33‬‬
‫الحقا ‪ ...‬تكلمي هبدوء‪ ،‬هيا حققي أمنية أخيك الوحيدة‪ ،‬هل من‬
‫خطة؟‬
‫جلست بجانبي ووضعت طعامها عىل املنضدة‪ ،‬سكتت قليال‪ ،‬ها‬
‫هي تستفزين جمددا‪ ...‬ثم ابتسمت يل وأخربتني بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬بالطبع أنا سيدة اخلطط‪ ،‬ال أبدأ عمال إال وكنت متأكدة من إهنائه‪،‬‬
‫إليك خطتي ‪ ...‬فلنذهب لزيارهتا باملنزل عىل أساس أنني حمققة‪،‬‬
‫سأخربها أن أحد القراء قام بالشكوى من احتاملية انتحارها لذا قمنا‬
‫ببعض التحريات هنا وهناك وال نستطيع كشف تفاصيل عنه‪ ،‬حسنا‬
‫هذه ليست كذبة إذا حللنا األمر فأنت من اشتكيت يل‪ ،‬أنا أعمل مع‬
‫الرشطة أعتقد أهنا احلقيقة نوعا ما وستذهب معي بدور مساعدي ‪...‬‬
‫‪ -‬كان عليك التحدث من البداية أنك متتلكني خطة‬
‫‪ -‬يف احلقيقة راودتني الفكرة اآلن فقط‪.‬‬
‫ومن هنا قررنا االنطالق يف تنفيذ خطة متهورة مل ندرس نتائجها‬
‫جيدا‪ ،‬ولو أين عرفت أن االحتامل األكرب هو انتهاء قرارنا بعواقب‬
‫وخيمة‪ ،‬فكل ما يبدأ بالكذب ال ينتهي بشكل جيد يف أي عالقة‬
‫إنسانية‪.‬‬
‫العالقات املبنية عىل الكذب هشة وتنكرس بسهولة‪ ،‬بناء الثقة فيها‬
‫يكون صعبا للغاية عىل الطرف الكاذب فمحاولة إخفائه للكذب‬
‫وتصنعه لشخص آخر جيعله يكبت الكثري يف داخله خوفا من فقدان‬
‫ثقة الطرف اآلخر به‪.‬‬
‫بعدها يف كل نقطة تكاد تنكشف فيها حقيقته يكذب كذبة أخرى‬
‫بيضاء قد يراها صغرية بالنسبة له‪ ،‬املهم أن ينجو من املوقف ‪ ...‬لكن ال‬

‫‪34‬‬
‫يشء خيفى حتت الشمس‪ ،‬مهام طال الزمن أو قرص مهام كثرت األكاذيب‬
‫مهام هترب الشخص من احلقيقة‪ ،‬هي ستالحقه‪ ...‬يف احلقيقة كل هذا‬
‫الكالم مقتبس من رؤى قالته يف إحدى رواياهتا التي المست قلبي ألين‬
‫رأيت فيها شيئا من عالقتي السابقة فجعلتني أعيش املايض من جديد‪،‬‬
‫ويف األخري ختمت كل أقواهلا بعبارة أصبحت اقتباسا مشهورا فيام‬
‫بعد «ال تدخل يف حياة أحدهم بكذبة فحينها ستجعل حياتك معرضة‬
‫لالهنيار باحلقيقة»‪.‬‬
‫رغم معرفتي التامة بخطورة الوضع إذا كذبت عليها‪ ،‬لكن نفيس‬
‫الرشيرة تغلبت عيل‪ ،‬نفيس األنانية التواقة لفك الفضول جعلتني أرى‬
‫الكذب طريقا للحقيقة بينام ذلك أمر غري حممود‪.‬‬
‫هبذا أهنيت جلستي مع علياء وودعتها عىل أن نلتقي بعد أيام‪ ،‬رغم‬
‫التعب مل أنم‪ ،‬بقيت كلامت رواياهتا تدور يف رأيس باستمرار وفكرت‬
‫يف عواقب الكذب‪ ،‬لكن كشخص منافق قررت االستمرار يف اخلطة‬
‫ولو كنت كاذبا‪ ،‬ولو أن النهاية لن تكون سعيدة ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫‪3‬‬

‫حب من أول ابتسامة‪.‬‬

‫اتفقنا أنا وعلياء عىل االنتقال مؤقتا إىل املدينة املجاورة أين تسكن‬
‫رؤى‪ ،‬لنبدأ بخوض مغامرة استثنائية يف حياتنا التي عهدت أن تكون‬
‫روتينية‪ ،‬لكن الوضع كان أصعب مما ختيلنا فال خطة بدون عقبات‪ ،‬مل‬
‫نستطع كراء منزلني بعقد ملدة شهر فقط فنحن ال نخطط لقضاء وقت‬
‫طويل هناك‪ ،‬قررنا االنسحاب بمجرد معرفة سبب كتباهتا للرواية وال‬
‫نتامدى يف الكذب‪.‬‬
‫حتى مع إجيادنا لبيت واحد علياء رفضت السكن معي كأننا‬
‫مل نرتعرع يف مكان واحد عىل كل حال‪ ،‬قالت إنني أعيق حريتها‬
‫واستقالليتها فهي اعتادت عىل العيش لوحدها وهذا اقتحام‬
‫للخصوصية‪ ،‬نسيت اقتحامها خلصوصيايت مئات املرات‪ ،‬تستعمل‬
‫مطبخ منزيل أكثر من استعامهلا حلامم منزهلا‪ ...‬تشاجرنا كثريا وكاد‬
‫أحدنا خينق اآلخر لكن مر كل يشء عىل سالم بعدها ‪ ...‬عكس ما‬
‫يقال هذا هدوء بعد عاصفة‪ ،‬حيايت كلها عواصف بسببها‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫يف النهاية ساعدتنا والديت بإجياد منزلني متقاربني بعقد ملدة شهر‪،‬‬
‫شبكة عالقات أمي ال يستهان هبا فعال لكني مل أخربها بام سنفعله رغم‬
‫إحلاحها عيل بذلك‪ ،‬ال أريد منها التدخل فهي بال شك ستمنعني من‬
‫فعل ما أريد ألهنا تكره رؤى وتنتقد رواياهتا دائام‪ ،‬أما الباقي فعلياء من‬
‫اهتمت بكل اإلجراءات ألنني كنت مشغوال حد املوت إلهناء مواعيد‬
‫مرضاي حتى أمتكن من أخذ عطلة‪ ،‬واضطررت لالعتذار كثريا‪ ،‬مر‬
‫عيل أسبوعني أطول من سنني دراستي للطب‪ ،‬بالكاد نمت فيهم ألربع‬
‫ساعات متواصلة‪ ،‬كدت أنسى ملمس وساديت‪.‬‬
‫وصل اليوم املوعود الذي ننتقل به مؤقتا إىل منزلينا اجلديدين‪ ،‬بعدها‬
‫رشحت يل علياء سبب إرصارها عىل االنتقال والسكن متفرقني‪ ،‬يف‬
‫حالة شكت بنا رغد وتقفت أثرنا لن تعرف أننا إخوة هلذا كانت تتعذر‬
‫بخصوصيتها وما إىل ذلك‪ ،‬مل أفهم ملاذا مل ختربين بذلك من البداية ومل أر‬
‫رضرا يف معرفة رؤى لكن رأس علياء متحجر وانتهينا بتنفيذ ما تريده‬
‫هي‪ ،‬فاملنزلني تم كراؤمها وانتهى‪.‬‬
‫هنضت باكرا ألجهز نفيس‪ ،‬اليوم مميز مثل متيز أيام العيد‪ ،‬تنهض‬
‫باكرا سعيدا دون سبب وترتدي مالبسك بفرحة كأن موعدا مهام‬
‫ينتظرك‪ ،‬شعرت بفرحة طفل صغري بمالبسه اجلديدة أو أقرب إىل‬
‫فرحة صديقني التقيا بعد فراق‪.‬‬
‫خرجت من املنزل وأحكمت إغالقه فام دامت علياء استطاعت‬
‫الدخول ستقدر أمي عىل ذلك أيضا وهذا آخر ما قد أرغب به‪ ،‬تفتيش‬
‫أمي ألغرايض بحجة «األم جيب أن تعرف كل يشء عن أبنائها»‪.‬‬
‫تم تصليح املصعد وأخريا‪ ،‬يبدو أن يومي بدأ بشكل جيد‪ ،‬هذه‬
‫عالمة حظ مذهل بال شك‪ ،‬أسبوعني من التعب واحلظ العاثر أتت‬

‫‪38‬‬
‫بثامرها‪ ،‬ركبت معي يف املصعد جاريت املتطفلة مل تزح عينيها ولو دقيقة‬
‫عن حقائبي أعرف أهنا حترتق من الداخل لتسألني عن وجهتي‪ ،‬لكن‬
‫تركتها لتموت من الفضول وخاصة بكلاميت األخرية التي تدل أين‬
‫سأغيب وقتا‪ ،‬قلت هلا‪« :‬لن أراك ملدة إىل اللقاء»‪ ،‬هي لن تنام اليوم‬
‫ألين فررت منها دون أن خترج مني احلقيقة ستجعل مني حديث العامرة‬
‫ملدة ثم ستنسى ذلك‪ ،‬لطاملا كانت هذه عادهتا‪.‬‬
‫توجهت بالسيارة لعامرة علياء ثم اتصلت هبا لتنزل‪ ،‬انتظرهتا أمام‬
‫الباب متكئا عىل سياريت حماوال تغطية أشعة الشمس بيدي إال أن بعضا‬
‫من أشعتها تسللت لعيناي فدمعت‪ ،‬كنا يف بداية الربيع لكن اجلو كان‬
‫ساخنا جدا والشمس ساطعة دون أثر للسحاب‪.‬‬
‫بقيت أنظر للبيت الكبري الذي يقع يف منتصف العامرات‪ ،‬لطاملا‬
‫ظننت أنه يقع يف مكان غري مناسب‪ ،‬تسكن به عائلة كبرية‪ ،‬كانوا‬
‫يتشاجرون جمددا وأصواهتم تصل للجميع‪ ،‬يا ترى ما السبب هذه‬
‫املرة ‪ ...‬ابنهم األصغر يرفض الدراسة بجد أم ابن عمهم سيدخل‬
‫السجن جمددا‪ ،‬أو ابنهم املعجب بعلياء يرفض الزواج كالعادة‪ ،‬بسببهم‬
‫حينا ليس ممال بعض الدراما يف الصباح جيدة أحيانا‪ ،‬خرج والدهم‬
‫وراء أخيهم األوسط بعصا‪ ،‬يبدو أن عضوا جديدا يف العائلة يسبب‬
‫املشاكل ‪ ...‬يا ترى ما الذي أقدم عىل فعله‪ ،‬كنت أتابع األحداث‬
‫باهتامم ومتشوق ملا سيحصل‪ ،‬فهمت شعور جاريت قليال ‪ ...‬إذا هو‬
‫أشبه بمشاهدة مسلسل عىل الواقع ‪ ...‬األمور تعقدت هناك إن استمر‬
‫الوضع دقائق أخرى سيصورهم أحدهم ويصبحون حديث البلدة‬
‫ماذا لو قمت أنا بذلك؟‬
‫جيب عيل التوقف عن التفكري بشكل شيطاين‪ ،‬خطط مثل هذه جيب‬

‫‪39‬‬
‫االستمتاع بالتفكري فيها فقط ال بتطبيقها‪ ،‬كنت أفكر بجدية كالغبي‬
‫هل سأصوره أم ال لكن مل يسببوا يل املشاكل يوما ولطاملا كانوا لطيفني‬
‫معي من غري اجليد رد اإلحسان بالسوء‪ ،‬رشدت مع الشجار حتى‬
‫شدين شخص من مالبيس انتبهت فوجدت علياء أمامي‪ ،‬مل أحلظ‬
‫جميئها ألين كنت منشغال بالتجسس والتفكري بخبث ‪...‬‬
‫لكنها مل تكن علياء التي أعرفها ‪ ...‬مهال هل هي حقا أختي؟‬
‫وضعت ألوانا مجيلة عىل جفنيها وأمحر شفاه بلون الكاميليا الزهرية‪،‬‬
‫أشبه بلوحة فنية عنواهنا الربيع‪ ،‬ارتدت تنورة طويلة وردية اللون هبا‬
‫العديد من األزرار مع كنزة بيضاء خفيفة وحذاء أبيض بكعب عال‪،‬‬
‫شعرها مسدول يصل ألسفل خرصها‪ ،‬ملاذا مل أحلظ من قبل أنه كان‬
‫هبذا الطول؟ حتت أشعة الشمس بدت خصالت من شعرها ذهبية‪،‬‬
‫حتى أهنا قصت غرهتا‪.‬‬
‫استمرت بالنظر إىل اجلريان وهي تضحك‪ ،‬وضعت بضعا من‬
‫خصالت شعرها وراء أذهنا‪ ،‬ارتدت أقراط أذن عىل شكل زهور‬
‫بيضاء ‪ ...‬مل أرها تضعهم من قبل قط ‪ ...‬مل أرى علياء التي أمامي‬
‫بكاملها من قبل‪ ،‬كان تغريها املفاجئ حمريا‪ ،‬حتى انتبهت لنظرايت غري‬
‫املألوفة هلا ‪...‬‬
‫‪ -‬أين عقلك يا ولد؟‬
‫‪ -‬تبدين مجيلة‪.‬‬
‫‪ -‬حقا؟ هل يمكنك إعادة ما قلته حتى أستطيع تسجيله ‪ ...‬حتى‬
‫كريم أخربين بنفس اليشء ‪ ...‬قال أنت تشبهني والدتك كثريا‪.‬‬
‫‪ -‬هل ِ‬
‫زرت والدنا؟‬

‫‪40‬‬
‫لكن علياء رشدت مع جارنا من جديد الذي أثار جلبة يف هذا‬
‫الصباح ‪ ...‬األمور تعقدت هناك‪ ،‬أعدت سؤايل عدة مرات حتى‬
‫انتبهت وأجابت‪.‬‬
‫‪ -‬طبعا زرته ‪ ...‬سأشتاق له‪.‬‬
‫بدأت بالشك أن شخصا ما قام باستبدال علياء أختي‪ ،‬هل هذا‬
‫‪1‬‬
‫وهم كابجراس؟‬
‫مل تكن املدينة بالبعيدة لذا سنصل رسيعا‪ ،‬الطريق املؤدي إليها كان‬
‫منعشا‪ ،‬رسنا يف خط من األشجار اخلرضاء التي متنح السعادة يف‬
‫الصباح‪ ،‬يستحق املكان إقامة نزهة ربيعية فيه‪.‬‬
‫لكن ما إن وصلنا حتى بدأت العواقب تظهر فعلياء نسيت مكان‬
‫املنزلني‪ ،‬وأمي مل ترسع بالرد علينا‪ ،‬ال أعرف متى ستتعلم أن تزيل وضع‬
‫الصامت من هاتفها‪ ،‬لذا بدال من االستقرار يف ثالث ساعات أو أقل‬
‫تطلب منا األمر اليوم بأكمله‪ ،‬بقينا ندور لساعات يف دوائر ال متناهية‬
‫وكل الشوارع بدت متشاهبة‪ ،‬مع وصولنا لوجهتنا أخريا نام كل منا‬
‫بعمق‪ ،‬يف اليوم التايل اهتممنا بتوضيب أغراضنا وحفظنا السيناريو‬
‫الذي حرضناه إلخبار رغد به ‪ ...‬عن التحقيق وشكوى أحد املعجبني‪،‬‬
‫كام وضعنا توقعات عن ردة فعلها أو تعاملها معنا وكيف نتجاوب‬
‫معها رغم ختوفنا ما إن كانت ستصدقنا‪ ،‬نحن سنخاطر وحسب‪.‬‬
‫مرت أيام أخرى تعرفنا فيها عىل مرافق املدينة جيدا فسيكون من‬
‫املخجل عدم معرفة اسم احلي الذي نسكن به حتى‪ ،‬كام ال أرغب يف‬

‫اضطراب يصاب به الشخص بحيث يتوهم أن صديقه أو والديه أو أي شخص قريب‬ ‫‪1‬‬
‫استبدهلم شخص حمتال يشبههم بمظهرهم‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الضياع جمددا‪.‬‬
‫حان وقت الذهاب إىل رؤى ال مزيد من الوقت لنضيعه ‪ ...‬مازلت‬
‫أنادهيا برؤى لست معتادا عىل اسم رغد بعد‪ ،‬فقد قرأت رواياهتا‬
‫عىل مدار عرش سنوات باسم رؤى‪ ،‬أنا أعترب رؤى ورغد ليستا نفس‬
‫الشخصية‪ ،‬أحس كأن رؤى تبدو شخصية قوية ال هتاب أن تكتب عام‬
‫يرهق ثقلها وال يستهان بقوهتا يف التأليف بينام رغد شخصية انطوائية‬
‫تكره اجلميع وتفضل العزلة‪ ،‬هي امرأة بشخصيتني‪.‬‬
‫التقيت بعلياء أوال‪ ،‬جمددا عىل غري عادهتا ترتدي مالبس تظهر‬
‫أنوثتها الطاغية‪ ،‬هذه املرة اكتفت بقليل من الكحل عىل عينيها الذي‬
‫أضفى بريقا خاصا فبدت عسلية أكثر كالشهد وأمسكت شعرها‬
‫عىل شكل ذيل حصان‪ ،‬ارتدت ثوبا بنيا بأكامم طويلة وحذاء بكعب‬
‫صغري‪ ،‬ما الذي حيدث؟ متى ارشت كل هذه املالبس؟ أم أهنا لطاملا‬
‫امتلكتها لكن مل جتد الفرصة املناسبة الرتدائها؟ لكنها ليست الفرصة‬
‫املناسبة اليوم ومنذ متى تضع عطرا قويا؟ كانت تبدو كمحققة أكثر يف‬
‫السابق هي تبدو كعارضة اآلن‪ ،‬هل تنوي هذه البنت فضحنا؟ قررت‬
‫الترصف كأنني مل أحلظ تغريها حتى حتدثني بنفسها عن رسها‪ ،‬هل‬
‫ترغب بالزواج أخريا؟‬
‫ركبنا السيارة وسكتنا طوال الطريق كأن كال منا ينتظر اآلخر لكي‬
‫يبدأ الكالم‪ ،‬استمر الوضع إىل أن وصلنا‪ ،‬أحسست كأهنا تريد قول‬
‫يشء ما‪ ،‬فانتظرت منها إخباري سبب ختليها عن رسوال اجلينز املفضل‬
‫لدهيا وسرتهتا اجللدية لكنها مل تفعل‪.‬‬
‫ال أصدق أنني أمام باهبا‪ ،‬أنا الذي مل آخذ ولو عطلة يف حيايت من‬
‫العمل وعلياء التي تقدس العمل أكثر مني ‪ ...‬حتى أهنا مل تتزوج‬

‫‪42‬‬
‫بسببه‪ ،‬ها هي تستعمله يف موقف مشبوه قد يؤدي بخسارهتا لعملها‬
‫إن بلغت عنا رؤى‪ ،‬كان كل شخص يطلب يدها يأمرها برتك العمل‬
‫فينتهي برتكها له‪ ،‬لكنها اليوم ستكذب وتستغل منصبها الذي تعتز‬
‫به‪...‬‬
‫بيت رؤى كبري للغاية‪ ،‬مل أعتقد من قبل أهنا هبذا الغنى‪ ،‬كان من‬
‫طابقني بطالء أرجواين به الكثري من النوافذ وسقف قرميدي‪ ،‬حديقة‬
‫صغرية أمام الباب متلؤها زهور الياسمني‪ ،‬مثل ما وصفته يف روايتها‬
‫متاما‪ ،‬مل أختيله هبذا الشكل بالضبط‪ ،‬ختيلته أصغر ومل أتوقع وجوده يف‬
‫منتصف احلي‪ ،‬لطاملا ختيلته منعزال لسبب ما رغم أهنا ذكرت بوضوح‬
‫أهنا تسكن وسط املدينة‪.‬‬
‫تشاجرت مع علياء كالصغار عىل من يرن اجلرس أوال‪ ،‬واستمرينا‬
‫بدفع بعضنا البعض حتى تشجعت أنا وضغطت عىل الزر ‪...‬‬
‫دقائق من االنتظار مصحوبة هبدوء خميف‪ ،‬فقط صوت أنفاسنا‬
‫العميقة يعم املكان‪ ،‬ثم نسمع صوهتا من آلة اجلرس تسأل من نحن‪،‬‬
‫هنا انتبهت لوجود كامريا معلقة فوق الباب‪ ،‬أمتنى أال تكون شاهدت‬
‫شجارنا املضحك‪ ،‬سيكون حمرجا أن ترى بالغني بمثل عمرنا‬
‫يتشاجران عىل أمر تافه‪.‬‬
‫أخرجت علياء من جيبها شارة رشطية مزورة‪ ،‬ولوحت هبا اجتاه‬
‫الكامريا قائلة‪ :‬الرشطة هنا‪ ،‬هل أنت اآلنسة رغد؟‬
‫فتحت الباب بنفسها ببطء شديد‪ ،‬ثم نظرت بعني واحدة من زاوية‬
‫الباب‪ ،‬كقط خائف‪ ،‬بينام علياء دفعت الباب بتطفل ودخلت‪ ،‬فرجعت‬
‫رؤى خطوات للوراء‪.‬‬
‫أنس أبدا حلظة التقاء عيناي هبا‪ ،‬فتاة قصرية مجيلة للغاية‪،‬‬
‫لن َ‬

‫‪43‬‬
‫شعرها بني قصري يصل ألسفل أذنيها ال يغطي رقبتها‪ ،‬عيناها مجعت‬
‫كل األلوان اجلميلة بنية خمرضة‪ ،‬أمجل ما رأت عيني‪ ،‬وجه دائري‬
‫صغري وشفاه ممتلئة‪ ،‬ارتسمت عالمات االرتباك واحلرية عىل وجهها‬
‫بينام تنقل نظرها بيني وبني علياء‪ ،‬فطالبناها باهلدوء‪ ،‬بدأت بالتنفس‬
‫ببطء واضعة يدها عىل صدرها كأهنا تعاين من مرض ما ثم طلبت منا‬
‫التفضل باجللوس‪.‬‬
‫‪ -‬أتيتم أرسع مما ظننت‪.‬‬
‫من كالمها تيقنا أهنا طلبت الرشطة بنفسها بالفعل لكن ملاذا؟ غرفة‬
‫اجللوس كانت مقابلة متاما للمدخل لذا دعتنا للدخول هلا مبارشة‪،‬‬
‫جلت بنظري يف املكان الذي يغلب عليه اللون الرمادي‪ ،‬إذا هي مل ختن‬
‫اللون األمحر بلبسها للفستان األبيض واقتنائها لبطانية رمادية فقط‬
‫بل يف بيتها أيضا‪ ،‬جلسنا مقابلني لبعض لذا بقيت أراقب حتركاهتا و‬
‫تعابريها‪ ،‬كانت لدي عادة مراقبة يدي املرىض ألخذ فكرة عن وضعهم‬
‫النفيس فاليدين أكثر ما يستعملهام الشخص يف يومه‪ ،‬فانتبهت أن لدهيا‬
‫عادة قضم األظافر ومن طريقة تكرس أظافرها ال بد أهنا عادة حديثة‬
‫العهد‪ ،‬مل تذكر ذلك يف روايتها لذا ال بد أهنا كانت متوترة للغاية يف‬
‫اآلونة األخرية بعد نرش الكتاب‪.‬‬
‫‪ -‬هل يمكنك أن ترشحي لنا موقفك يا آنسة؟ يف احلقيقة أحد قرائك‬
‫اشتكى بكونك حتاولني االنتحار هلذا اضطررنا للتطفل عىل بعض من‬
‫خصوصياتك نحن آسفان لكن كان هذا من باب االحتياط يف حال مل‬
‫نلحق إال بجثتك ‪...‬‬
‫‪ -‬أنا مل أحاول االنتحار أبدا ومل أفكر من قبل باإلقدام عىل قتل نفيس‪،‬‬
‫أنا ال أعرف من أين أبدأ الرشح ‪ ...‬أوال من القارئ الذي اشتكى؟‬

‫‪44‬‬
‫السؤال الذي مل نتوقعه‪ ،‬لكن علياء ترصفت برسعة وذكاء‪.‬‬
‫‪ -‬ال يرغب يف اإلفصاح عن هويته كل ما هيمه كونك حية لذا هال‬
‫ختربيننا بمشكلتك حتى نتمكن من مساعدتك؟‬
‫‪ -‬أنا مل أكتب الرواية ‪ ...‬لست الكاتبة‪.‬‬
‫نظرت يف علياء نظرة حمرية‪ ،‬ما الذي هتذي به هذه؟‬
‫‪ -‬أنا مل أكتب الرواية عن نفيس ‪ ...‬مل أكتب رواية «أنا»‪ ،‬شخص آخر‬
‫قام باخرتاق حسايب االلكرتوين وأرسل الرواية لدار النرش باسمي وبام‬
‫أنني عهدت إرسال روايايت هلم بنفس الطريقة مل يتحققوا من هويتي‬
‫وقاموا بنرشها مبارشة‪ ،‬أنا خائفة اآلن من الكاتب احلقيقي‪ ،‬كل ما‬
‫يف الرواية صحيح عني بشكل دقيق ‪ ...‬الكاتب يعلم عني معلومات‬
‫مفصلة للغاية ال يمكن ألي شخص معرفتها‪ ،‬يعرف حتى لوين املفضل‬
‫ومنزل الغابة الذي أجلأ إليه للكتابة‪ ،‬ال أتذكر أنني أخربت أحدا عنه‬
‫أو عن موقعه إنه مكاين الرسي للجوء إليه عندما أفقد اإلهلام‪ ،‬حتى أنه‬
‫يعلم أنني ربحت يف مسابقة للكتب عرب األنرتنت وأن أمي أهدتني‬
‫وشاحا أمحر‪ ،‬أنا ال أعرف إىل أي مدى كان يراقبني هذا الشخص دون‬
‫أن أنتبه‪ ،‬مرعب أنه يريد مني االنتحار‪ ،‬قراءة الرواية وحدها جعلتني‬
‫أرتعد خوفا‪...‬‬
‫آخر ما توقعناه أنا وعلياء حيدث اآلن‪ ،‬السيناريو الذي مل نحفظ‬
‫منه شيئا‪.‬‬
‫‪ -‬هل هناك شخص تشكني به؟ أعني أنا كامرأة أنتبه أحيانا لبعض‬
‫الرجال الذين ينظرون يل بنظرة غريبة ‪ ...‬تعرفني أقصد حدس املرأة‪.‬‬
‫‪ -‬ال أحد خيطر عىل بايل حاليا ال يوجد شخص من هذا القبيل‪ ،‬لكن‬

‫‪45‬‬
‫هناك خطأ يف الرواية‪ ،‬اليشء الوحيد الذي ليس صحيحا عني ‪...‬‬
‫‪ -‬ما هو؟ أعتقد أنه قد يكون ثغرة الكاتب احلقيقي ‪...‬‬
‫‪ -‬ال أعرف شخصا اسمه أدهم‪ ،‬أنا بالكاد حتدثت إىل رجل منذ وفاة‬
‫والدي وتركي للجامعة‪ ،‬أنا انعزلت متاما عن الناس‪ ،‬لذا ربام يكون‬
‫الكاتب احلقيقي طبيبا اسمه أدهم مهووسا أو شيئا كهذا؟ يريد من‬
‫نفسه أن يكون بطال يف روايتي‪ ،‬هذا ما توصلت إليه بعد تفكريي‬
‫املطول‪ ،‬خاصة أنه ركز عىل شخصيته يف الصفحات األخرية ونسب‬
‫لنفسه سبب انتحار شخصيتي‪.‬‬
‫جتمد الدم يف عروقي من كلامهتا مل أستطع حتريك ساكن‪ ،‬تصبب‬
‫العرق من جيني لكن علياء بدت باردة وصلبة كالتمثال ومل يرف هلا‬
‫جفن‪ ،‬عندما رأت وضعي طلبت منها السامح لنا باخلروج وشكرهتا‬
‫عىل تعاوهنا معنا وأننا سنبحث يف القضية ونجد الكاتب يف أرسع‬
‫وقت‪ ،‬ودعتنا رغد مبتسمة كطفل صغري‪ ،‬أول ابتسامة رفرف هلا قلبي‬
‫منحتني أمال ومسحت خويف فلامذا أفزع وأنا لست الكاتب؟‬
‫ما إن خرجنا وركبنا السيارة بقينا شاردين لفرتة نفكر فيام قالته لنا‬
‫رغد للتو‪ ،‬ثم تكلمت علياء‪.‬‬
‫‪ -‬مل تكن الكاتب صحيح؟‬
‫‪ -‬هل تركتي عقلك يف العمل؟ إن كنت الكاتب ملا قد أطلب‬
‫مساعدتك إلجيادها؟‬
‫‪ -‬جيب أن تبتعد عنها حاال ولألبد لن نعود لرؤيتها جمددا ستشك‬
‫بك وسرتفع دعوة ضدك أنا بالكاد أرسعت باخلروج والتسلل قبل أن‬
‫تنتبه وتطلب أرقام هواتفنا أو تسأل عن أسامئنا ‪ ...‬لو كان االسم فقط‬

‫‪46‬‬
‫الذي يطابقك لكان الوضع منطقيا نوعا ما لكن املهنة أيضا؟ من قد‬
‫ال يشك يف مثل هذا املوقف؟ حتى أنه ذكر يف الرواية بأنك من برج‬
‫الرسطان‪ ،‬كيف ستقنعها أنك لست الشخص نفسه؟‬
‫‪ -‬هل تشكني يب أيضا؟‬
‫‪ -‬لست أشك بك لكنني ال أريد منك التورط يف يشء ال يد لك فيه‪.‬‬
‫‪ -‬لكنني أرغب بإهناء ما بدأته‪ ،‬أريد معرفة من يريد حتطيم مسريهتا‬
‫املهنية‬
‫‪ -‬إذا فلتفعل هذا لوحدك أنا سأعود للبيت ألنه سيتم رفع توقيفي‬
‫عام قريب وسأواصل عميل لذا فلتفعل ما تشاء وإياك وطلب مساعديت‬
‫جمددا ألنني سأكون مشغولة‪.‬‬
‫مل نتحدث بعدها حتى وصلنا لبيتها املستأجر ونزلت علياء من‬
‫السيارة دون توديعي حتى‪ ،‬أما أنا فعدت ملنزيل ألفكر يف طريقة ملساعدة‬
‫رؤى دون أن تعرف أنني أطابق الرجل يف كتاهبا‪.‬‬
‫مهام فكرت فكل الطرق تؤدي إىل احلقيقة‪ ،‬الكذبة األوىل دائام ما‬
‫حتتاج لتابعاهتا لكي تتم وخطأ صغري يف الوسط سيدمر سلسلة كذبك‬
‫ويصبح كل ما عملت من أجله بال فائدة‪ ،‬وأنا كشخص يتكلم بعينيه‬
‫قبل فمه ال أستطيع إخفاء الكثري فمالمح العينني تفضح صاحبها‪،‬‬
‫ليس من السهل قول كذبة وعيناك ثابتة أو تتجنب حزنك دون أن‬
‫تدمع عيناك‪ ،‬لذا ستستمر بتجنب التقاء عينيك بالشخص اآلخر‪.‬‬
‫لكن رغد كاتبة‪ ،‬التحايل عىل كاتبة ليس أمرا يسريا‪ ،‬فهي مرت‬
‫عىل كتابة آالف الشخصيات اخلبيثة‪ ،‬الكاذبة واآلثمة لذا هي تعرف‬
‫كيف تدرس شخصية كل فرد‪ ،‬مثلام أستطيع دراسة جسم أي شخص‬

‫‪47‬‬
‫تستطيع هي معرفة ما بداخل العقول ألهنا سبق وأن درست عنها‬
‫جيدا‪.‬‬
‫بعد ختمني‪ ،‬قررت الذهاب بدون خطة‪ ،‬فلندع كل يشء يسري يف‬
‫حال سبيله‪ ،‬أحيانا يكون من األفضل عدم التفكري يف األمور لوقت‬
‫طويل فسينتهي ذلك بتعقيدها أكثر ال غري‪ ،‬أنا ال أجيد التخطيط من‬
‫البداية لطاملا سلكت الطرق املبارشة لذا بدل التفكري يف خطة ملساعدة‬
‫رغد دون كشف هويتي فضلت البحث عن فرصة إلخبارها احلقيقة‬
‫وأترك هلا خيار الشك يب من عدمه‪.‬‬
‫انطباعي عنها بالبداية يف الواقع كان سيئا عندما بدأت بالتحدث‪،‬‬
‫مل تكن خائفة عىل اإلطالق وحتدثت عن األمر هبدوء شديد عكس ما‬
‫ادعت‪ ،‬صحيح أهنا تعاونت معنا وأجابت عىل أسئلتنا لكنها مل تذرف‬
‫ولو دمعة واحدة‪ ،‬حتدثت بوجه جدي خميف‪ ،‬عادة الناس يف موقفها قد‬
‫يبكون بشدة ويرتجون الرشطة بشكل متكرر ملساعدهتم بأقىص رسعة‬
‫ممكنة‪ ،‬أما هي فودعتنا بابتسامة رغم أهنا كانت كفيلة بمسح انطباعي‬
‫اليسء إىل األبد إال أن شعور الشك مل يزل متاما‪ ،‬صحيح أن رؤيتي‬
‫هلا تغريت من قطعة جليد إىل طفلة صغرية‪ ،‬فلم أرد إساءة الظن هبا‬
‫حقا‪ ،‬فكم من شخص رأينا يف عينيه شتاء باردا بينام ما زال قلبه يزهر‬
‫باملشاعر‪ ،‬أو كام قالت يف إهداء روايتها حتت الطاولة «إىل اهلادئني ‪...‬‬
‫الذين حتمل مالحمهم الكثري من األمل أو السعادة إن قرأهتا جيدا»‬

‫‪48‬‬
‫‪4‬‬

‫من خلف الستار؟‬

‫جاءت علياء لتوديعي قبل أن تصل الشمس ملنتصف السامء‪،‬‬


‫أحرضت معها كعكا إسفنجيا يل‪ ،‬متى ستفهم أين ال أفضله وجيب‬
‫عليها التوقف عن فرض تفضيالهتا عيل باستمرار‪.‬‬
‫ترتدي بشكل غريب جمددا ‪ ...‬أقصد مجيل‪ ،‬فستان أمحر طويل جعل‬
‫طوهلا يربز أكثر‪ ..‬ال أصدق أنه مر أيام دون ارتدائها للون األسود‪،‬‬
‫عرضت عليها إيصاهلا بنفيس ملدينتنا‪ ،‬فقبلت بدون تردد هي مل حترض‬
‫سيارهتا معها وال تريد تضييع املال عىل سيارة أجرة‪ ،‬نصحتني طوال‬
‫الطريق باالبتعاد عن رغد وأال أورط نفيس حتى أصابني الصداع من‬
‫هلجتها اآلمرة وأزعجني حتدثها بأيدهيا‪ ،‬ابتليت بأخت رشسة ال تعرف‬
‫ما يعنيه آداب احلوار‪.‬‬
‫لكن هذه املرة أنا سأذهب عكس ما تقوله أختي فليست بالرضورة‬
‫حمقة دائام‪ ،‬لقد كربت بام فيه الكفاية حتى ال تتحكم يف قرارايت وتصدر‬
‫أحكاما عن حيايت‪ ،‬لطاملا أرادت تسيري شؤوين بطريقتها وقد طفح‬

‫‪49‬‬
‫الكيل‪ ،‬تعاملني كابن هلا أكثر من أخ‪.‬‬
‫مل تصمت ولو لثانية رغم جتاهيل هلا حتى آخر حلظة ‪ ...‬كيف مل‬
‫تتعب من احلديث عن ذات املوضوع‪ ،‬حتى أهنا هددتني بإخبار والدنا‬
‫بام فعلناه‪ ،‬هذا ما كان ينقصني ‪ ...‬لو يعرف والدنا سيبلغ عنا للرشطة‬
‫دون اعتبارنا أوالده‪ ،‬هو يتحول لشخص جدي وخميف عندما يتعلق‬
‫األمر بالكذب أو اخلداع‪.‬‬
‫أيب «كريم» الذي لطاملا فضل علياء من الصغر‪ ،‬كان من نصيب‬
‫علياء كل ما هو مجيل‪ ،‬والدهتا قبيل بسنوات كانت كفيلة بأن ترسق‬
‫مني كل احلب‪ ،‬كانت تقوم بكل ما تريد من أفعال طائشة ومصائب‬
‫حبذا عدم ذكرها‪ ،‬ويكون من نصيبي العقاب‪ ،‬برغم درايته التامة أن‬
‫علياء هي الفاعلة لكنه يتجاهل احلقائق‪.‬‬
‫ذات مرة عندما كنت صغريا يف حادثة أتذكرها جيدا كأهنا البارحة‪،‬‬
‫اشتكت جارة لنا أليب بسبب تعرض ابنها للتنمر‪ ،‬كان أيب يعرف جيدا‬
‫أن علياء الفاعلة لكنه أبرحني رضبا دون شفقة لدموعي ورصاخي‪...‬‬
‫لذا مجعت شتات نفيس وأخربته أن علياء الفاعلة ولست أنا لكنه ابتسم‬
‫وقال كالما حطم عالقتي معه وجعلني أكرهه لليوم ‪ ...‬قال‪« :‬حتى لو‬
‫قتلت علياء شخصا أمامي سأكذب عيناي وأصدق أنك الفاعل»‪.‬‬
‫حتى والديت كانت تفضل علياء‪ ،‬وتتحجج بأهنا ال ترغب يف جعلها‬
‫تشعر بأي نقص عاطفي كوهنا حتتاج للرعاية أكثر مني لكيال تشعر‬
‫بغياب أمها أو حتس باختالف عن األطفال اآلخرين‪ ،‬لكن ماذا عني؟‬
‫صحيح أنني كنت أنا وعلياء عىل وفاق تام وعلياء كانت تعتني يب أكثر‬
‫من أمي نفسها لكن داخليا بيني وبني نفيس كنت أغار منها أحيانا‪،‬‬
‫لطاملا كان هلا احلرية التامة يف الترصف‪ ،‬أما أنا فوالدي حياول التحكم‬

‫‪50‬‬
‫يف حيايت حتى يومنا هذا‪.‬‬
‫ظننت أنه بمجرد خترجي وحصويل عىل وظيفة ثم انتقايل لن يكون‬
‫أليب أي دخل‪ ،‬لكنه يرغب يف أن أتزوج بقريبتي التي مل أحدثها منذ أن‬
‫كنا بالثامنة بتحريض من أمي‪ ،‬أمل حين الوقت ألعيش بسالم؟ كيف‬
‫يريدون مني الزواج بعد رفضهم عالقتي السابقة؟ العيش يف عائلة ال‬
‫تعرتف باحلرية الشخصية يفقدك السالم الداخيل‪.‬‬
‫رصت أقود برسعة من الغضب لكن علياء استمرت باحلديث غري‬
‫آهبة لغضبي منها‪ ،‬هي تصبح شيئا فشيئا مثل أيب‪ ،‬وعند قرب وصولنا‬
‫ختمت خطاهبا الطويل باالستهزاء مني قائلة‪:‬‬
‫‪-‬ماذا لو اكتشفت هويتك احلقيقية؟ أي موقف حمرج ستورط‬
‫نفسك فيه؟ تبدو فتاة متعجرفة‪ ،‬هل تظن أنك يف إحدى رواياهتا أو‬
‫مسلسل درامي حيث تقع يف حبك وتساحمك عىل الكذب ثم تعيشان‬
‫بسعادة إىل األبد؟ فقط انس شأهنا ولتعد حلياتك العادية مثلام كنت ‪...‬‬
‫لطاملا شعرنا بالفضول حوهلا وعن شكلها وها قد أشبعت فضولك‬
‫لذا فلتستسلم ‪ ...‬هي مل تأخذ أرقام هواتفنا وبالكاد ستستطيع التعرف‬
‫عىل هويتنا من لقطات الكامريا األمامية‪ ،‬إنه أفضل وقت لالنسحاب‬
‫فلتتوقف عن لعب دور البطل‪.‬‬
‫مل أعرها اهتامما كأنني ال أسمع ما تقوله‪ ،‬هي مل ترتك يل أي فرصة‬
‫للحديث عىل كل حال ‪ ...‬سأتركها لتفعل ما تريد فلتخرب أيب فلتخرب‬
‫العامل أنا ال أهتم‪ ،‬كل هذا الوقت كنت أصارع إلرضاء عائلتي لكني‬
‫أدركت أن هذا حمطم للنفس‪ ،‬كثرة التظاهر جتعل قلوبنا هشة‪ ،‬كل مرة‬
‫أحاول فيها كسب رىض من هم حويل ارتفعت آماهلم وتوقعاهتم بشأين‬
‫وهكذا يتحكمون يب أكثر عىل حسب أهوائهم وينتظرون مني بذل‬

‫‪51‬‬
‫املزيد من اجلهد ألجلهم‪ .‬ليس وكأننا نعيش كثريا‪ ،‬لذا حياة واحدة ال‬
‫بد من عيشها بثمن والقيام بام أرغب به بدل مواكبة اآلخرين خشية أن‬
‫أخيب ظنهم‪ ،‬مل أوافق من قبل عىل مقولة عش وكأنك ستموت غدا‬
‫لكني عرفت قيمتها اليوم‪.‬‬
‫الحظت علياء أخريا ال مبااليت لكالمها‪ ،‬فاستسلمت وتوقفت عن‬
‫الثرثرة ‪ ...‬عند وصولنا نزلت معها ألساعدها عىل محل حقائبها ‪...‬‬
‫ملاذا أحرضت كل هذا إذا كانت سترسع بالعودة‪ ،‬كنت أظن أهنا متلك‬
‫رسوال جينز واحد وقمصان رجالية وسرتات جلدية فقط‪ ،‬ساعدهتا‬
‫يف إيصال أغراضها للمنزل ثم ودعتها‪.‬‬
‫قبل مغادريت حلقتني وقالت يل كلامت تذكرهتا جيدا طيلة حيايت‪،‬‬
‫قالت‪« :‬أنت حتب اجلدال‪ ،‬لكنك فضلت الصمت وعدم مناقشتي‪ ،‬إذا‬
‫أعتقد أنك وصلت لقناعة أن شيئا لن يغري طريقك جتاه رغد‪ ،‬حظا‬
‫موفقا» ‪ ...‬مل أعرف ما أقوله‪ ،‬سعدت كثريا ألهنا وافقتني أخريا لكن‬
‫مل أرغب يف إكامل احلديث عن رغد معها فاكتفيت بإخبارها أهنا مجيلة‬
‫بفستان أو غريه «لست مضطرة لتغيري مظهرك حتى تبدين أمجل»‪ ،‬هذا‬
‫ما قلته هلا بالضبط‪.‬‬
‫ابتسمت يل وصعدت ملنزهلا‪ ،‬ال أصدق أنني سعيد بسبب هذا‪ ،‬يبدو‬
‫أن عادة إرضاء اآلخرين ال يمكن التخلص منها بسهولة‪.‬‬
‫عدت إىل بيتي بمدينة رغد‪ ،‬جلست أحدث نفيس لساعات‪ ،‬ماذا‬
‫لو كانت علياء حمقة وأن كل هذا سينتهي بشكل يسء؟ فهي متتلك‬
‫حدسا جيدا جتاه بعض األمور‪ ،‬ترددت للحظات ثم عزمت أمري عىل‬
‫إكامل ما كنت عىل صدد فعله وليحصل ما حيصل‪ ،‬سأندم بال شك إن‬
‫مل أفعل‪ ،‬تفقدت األوراق التي منحتني إياهم علياء عنها جمددا فوجدت‬

‫‪52‬‬
‫رقمها فحفظته هباتفي‪.‬‬
‫اتصلت هبا ‪ ...‬ناديتها برغد‪ ،‬قررت تعويد نفيس عىل التحدث‬
‫معها باسمها احلقيقي‪ ،‬يف حماولة ألن أعترب هذا لقائي األول هبا كأنني مل‬
‫أعرفها عىل أساس الكاتبة رؤى جمهولة اهلوية من قبل‪ ،‬أنا فقط سألتقي‬
‫بفتاة حتتاج مساعديت اسمها رغد‪ ،‬كان حديثنا خمترصا وتعرفت عىل‬
‫صويت برسعة‪ ،‬أما صوهتا فكان متغريا عىل اهلاتف‪ ،‬بدا أكثر بحة مما هو‬
‫عليه‪ ،‬كأهنا تتحدث معي بينام تبكي‪.‬‬
‫وافقت عىل مقابلتي لكنها طلبت مني االلتقاء بمنزهلا أحسن من‬
‫اخلارج ألهنا ما زالت ختاف من اخلروج الحتاملية وجود مهووس‬
‫يتعقبها فاحرتمت رغبتها‪ ،‬مرعب شعور أن شخصا ما يراقبك‪ ،‬أنك‬
‫حمط أنظار شخص ال تعرف ما قد يقدم عىل فعله‪.‬‬
‫ذهبت هلناك‪ ،‬كان الوضع غريبا قليال ألن علياء ليست معي‬
‫ملساعديت يف الكالم‪ ،‬لكن البد من الثقة بنفيس‪ ،‬فتحت رغد الباب‬
‫بأرحيية هذه املرة مما منحني شعورا باالطمئنان‪.‬‬
‫عندما رأتني كانت تنظر يف األرجاء‪ ،‬فهمت من نظراهتا أهنا‬
‫تبحث عن علياء لكن أخربهتا أنني وحدي وفضلت أال أدخل لبيتها‬
‫إن شعرت بالتوتر لذا عرضت عيل اجللوس يف احلديقة اخللفية‪ ،‬كان‬
‫يقود إليها ممر عشبي بنفس لون البيت به الكثري من النباتات املتسلقة‬
‫فيمنحك شعورا خاصا بالدفء واهلدوء‪ ،‬عىل غرار احلديقة األمامية‬
‫التي يملؤها الياسمني احلديقة اخللفية هبا الكثري جدا من الورد األمحر‬
‫وبام أننا كنا يف الربيع كان كله متفتحتا بشكل مجيل فأعطى جوا رائعا‬
‫لالسرتخاء ومنظرا مرحيا للعني‪ ،‬وضعت هناك طاولة خشبية مستديرة‬
‫عليها بعض الكتب مع كرايس‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫هل يأتيها بعض الزوار؟ فلو كانت وحيدة دائام مثلام قالت ملا ال‬
‫يوجد كريس واحد فقط؟ جلسنا ثم سألتها عن أحواهلا قليال وبدأت‬
‫بطرح األسئلة املعتادة‪.‬‬
‫‪ -‬إذا هل يمكنك التفكري بشخص قد يكون الكاتب احلقيقي؟ ربام‬
‫شخص قريب منك للغاية يعرف عنك معلومات مفصلة‪.‬‬
‫‪ -‬ال أملك أي شخص مقرب سوى والديت‪ ،‬فوالدي تويف عندما‬
‫كنت بالعرشين وصديقتي انتحرت منذ سنوات كام ذكر يف الكتاب‬
‫متاما‪.‬‬
‫‪ -‬أين هي والدتك؟‬
‫‪ -‬متزوجة من رجل آخر‪ ،‬لكني متأكدة أهنا ليست والديت من‬
‫فضلك ال تشك هبا‪ ،‬هي ال تعرف كل يشء عني‪ ،‬من الواضح أن هذا‬
‫الشخص أجرى بحثا كامال عن خلفيتي وأمي ال متتلك ال القدرات‬
‫وال الدافع لفعل هذا هي ال متلك أي سبب لتحاول وضع حد ملسرييت‪.‬‬
‫ملاذا تدافع عن والدهتا هبذه القوة؟ دائام من يغدر بك هو شخص قد‬
‫قلت عنه «مستحيل‪ ،‬هو آخر شخص أتوقع منه طعني»‬
‫استأذنتها بتفتيش منزهلا يف حالة هناك يشء مفقود أو كامريات‬
‫خمفية ألن املهووسني يميلون إىل رسقة أغراض الشخص املعجبني به‪،‬‬
‫أو مراقبته رسا‪ ،‬توقع منهم أي يشء حتى التسلل ملنزلك دون علمك‪.‬‬
‫انقسمنا يف العمل بدأت هي بالتأكد من وجود كل أغراضها يف‬
‫مكاهنا بينام أنا بحثت عن أي كامريات‪ ،‬تأكدت من كل ركن يف املنزل‪،‬‬
‫مل تزعجني أبدا أو تالحقني يف األرجاء بل تركت يل كامل احلرية‬
‫للتجول فيه‪ ،‬بيتها حيتوي عىل ثالث غرف بالطابق الثاين‪ ،‬لكن من‬

‫‪54‬‬
‫الواضح أهنا تستعمل غرفة واحدة فقط‪ ،‬أما الطابق السفيل فيه املطبخ‪،‬‬
‫غرفة اجللوس ومكتبة‪ ،‬أشك أهنا مصابة بالوسواس القهري كل يشء‬
‫مرتب ومتناظر بشكل مثايل‪ ،‬ويشء آخر جذب اهتاممي يف بيتها هو‬
‫رائحة الالفندر املنعشة التي هتدئ القلق‪.‬‬
‫دخلت ملكتبتها كانت كبرية يتوسطها مكتب صغري‪ ،‬حتوي الكثري‬
‫من الكتب‪ ،‬تفحصتهم فوجدت من بينهم بعض الرفوف املخصصة‬
‫لرواياهتا‪ ،‬أخذت روايتي املفضلة هلا «خلف الستار» التي تتحدث عن‬
‫فتاة أعجبت بصفحة فتى من دولة أخرى عىل أحد مواقع التواصل‬
‫االجتامعي لسنوات دون أن تراه وشاءت األقدار أن تلتقي به ذات يوم‬
‫يف مركز رشطة يف باريس‪...‬‬
‫لقاء غري متوقع وغريب بني فتاة فقدت اإلحساس باألمل وفتى‬
‫عاش حياته حزينا ‪ ...‬كانت قد وضعت عالمة عىل إحدى الصفحات‬
‫التي لن أمل من قراءهتا أبدا قالت فيها‪ « :‬عانقني من اخللف وأبى أن‬
‫يرتك رساحي‪ ،‬أنا التي أصبحت سجينة حلبه ال أجد نفيس إالّ معه‪ ،‬أنا‬
‫أمه الثانية التي يلجئ إليها‪ ،‬أنا أسمعه حني يكون العامل أصام‪ ،‬طريقة‬
‫لفظه السمي وحدها متنحني الشعور بالتميز‪ ،‬فأحببته أكثر من املطر‬
‫وأغرمت بعروق معصمه البارزة التي اشتدت كل مرة يعانقني فيها‬
‫بقوة خمربة إياي بلغتها أنه يريدين لنفسه لألبد‪.‬‬
‫التفت إليه ناظرة له بعيوين التي قيدته فقال يل‪« :‬أنت حمياي وممايت»‬
‫دائام ما خيطف قلبي بكلامته‪»...‬‬
‫‪ -‬هل حتب املطالعة؟‬
‫مل أنتبه ملجيء رغد ووقوفها أمامي بينام كنت منغمسا يف روايتها‬
‫الدافئة حتى تكلمت معي‪ ،‬رغم جدية املوقف متلكني شعور‬

‫‪55‬‬
‫بالضحك‪ ،‬مل نقف هبذا القرب من قبل فانتبهت اآلن فقط أهنا أقرص‬
‫بكثري مما ظننت‪ ،‬كان طوهلا حوايل مخسة أقدام‪ ،‬بينام أنا ستة أقدام‬
‫وإنشني‪ ،‬بدت كالطفلة الصغرية أمامي‪ ،‬ذكرتني بتلك الفتاة قليال ‪...‬‬
‫‪ -‬هل سمعت ما قلته؟‬
‫أضحكني موقفها أكثر وهي ترفع رأسها ملحاولة رؤية وجهي ‪...‬‬
‫‪ -‬هذه روايتي املفضلة‪.‬‬
‫‪ -‬إهنا املفضلة يل أيضا‪ ،‬كمية املشاعر التي هبا مل أوظفها يف أي رواية‬
‫أخرى‪ ،‬أحب كتابة روايات بأبطال يمتلكون حياة وشخصيات خمتلفة‬
‫مثلام قد تكون الحظت يف معظم روايايت إن قرأهتا ‪ ...‬باملناسبة ما‬
‫اسمك؟ يسعدين االلتقاء بأول معجب يل شخصيا‪.‬‬
‫سؤاهلا جعلني أتوقف عن االبتسام حلظات ألفكر يف موقفي‪ ،‬هل‬
‫أخربها باسمي احلقيقي أم أكذب جمددا؟ لوحت بيدها يف وجهي‬
‫قاطعة تفكريي‪ ،‬فعزمت أمري وأجبتها اسمي «أدهم»‪.‬‬
‫تغريت تعابري وجهها بمجرد سامع اسمي‪ ،‬تبعثر انرشاحها وحل‬
‫مكانه عبوس‪ ،‬مل أزح عيني عنها‪ ،‬بقيت أراقب تقلباهتا ‪ ...‬مالحمها‬
‫وتفاصيل وجهها‪ ،‬الحظت أهنا متتلك شامة حتت عينها اليرسى‪،‬‬
‫بدأت بالرمش كثريا يف حماولة منها لتجنب التقاء أعيننا ببعض‪ ،‬عىل‬
‫عكسها بقيت ثابتا منتظرا ردة فعل منها‪ ،‬لكنها رسعان ما عادت‬
‫لتبتسم ‪ ...‬متتلك غامزة يف خدها األيرس ‪ ...‬رؤية ابتسامتها حركت‬
‫زوايا شفاهي لوحدمها ‪ ...‬شعرت باخلجل فبدأت باللف والدوران‬
‫كاألبله وحك رأيس‪ ،‬ال أعرف ما الذي أفعله‪ ،‬بقيت تراقبني بسعادة‬
‫ثم قالت يل‪« :‬ترشفت بمعرفتك أدهم»‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫أعتقد أنني نجحت يف االختبار‪ ،‬كان الوضع خانقا فعال للحظات‬
‫لكن مر عىل سالم‪.‬‬
‫ذهبت ثم أتت بصينية هبا شاي وقهوة وهي تدندن أغنية ما‪ ،‬فارحتت‬
‫السرتخائها حويل‪ ،‬إذن هي ال تشعر بالريبة نحوي‪ ،‬أنا سعيد هلذا‪.‬‬
‫‪ -‬مل الشاي والقهوة معا؟‬
‫‪ -‬ال أعرف ما تفضله‪ ،‬لذا أحرضت االثنني ‪ ...‬مهال ال ختربين أنك‬
‫تفضل العصري‪.‬‬
‫‪ -‬ال أنا أفضل الشاي‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬هل وجدت شيئا مثريا للشك؟ أنا مل أجد شيئا مفقودا‪ ،‬كل‬
‫أغرايض يف مكاهنا‪.‬‬
‫‪ -‬وال أنا‪ ،‬البيت آمن‪ ،‬بعد أن ننتهي من هنا لنذهب لتفقد جريانك‬
‫وأي شخص مقرب منك‪.‬‬
‫انتظرهتا لتغري مالبسها‪ ،‬من أجل ترك انطباع جيد عنها جلرياهنا‬
‫الذين مل تزعج نفسها بزيارهتم من قبل‪ ،‬عادت برسعة مرتدية ثوبا‬
‫أبيض برشائط سوداء عىل الرقبة‪ ،‬أليس هو نفس الفستان الذي قال‬
‫الكاتب أهنا ستنتحر فيه؟ مل أختيل أنه يملك رشاشف من األسفل‬
‫يؤسفني أن خميلتي مل تكن واسعة بقدر ما ظننت‪ ،‬رشدت فيها جمددا‪،‬‬
‫ها قد عاد الربيق يف عيني من جديد‪ ،‬هي أعادت الروح لقلبي التائه‬
‫بحسها األنثوي ‪ ...‬جلست إىل جانبي واسرتسلت يف احلديث ‪...‬‬
‫ظننتها انطوائية ‪ ...‬أين خبأت نفسها الثرثارة طوال الوقت؟‬
‫‪ -‬أدهم‪ ،‬أمل تقرأ الرواية التي حتدثت عني؟‬
‫‪ -‬بىل ‪...‬‬

‫‪57‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬هذا هو الثوب الذي حتدث عنه الكاتب يف الصفحات‬
‫األخرية ‪ ...‬ثوب أول موعد يل يف الرواية‪ ،‬مل أرتده بالقرب من احلي من‬
‫قبل ‪ ...‬حسنا أنا فكرت ربام إن كان الكاتب أحد جرياين ألن يتفاجأ‬
‫بارتدائي له؟ علينا مراقبة تعابري وجوههم جيدا‪ ،‬كأنني أعطيه رضبة‬
‫يف الوجه‪.‬‬
‫‪ -‬معك وجهة نظر‪ ،‬اتركي األمر يل أنا جيد يف هذا‪ ،‬من تعابري الوجه‬
‫إىل حركات اليدين ‪ ...‬أنا أجيد قراءة لغة اجلسد‪.‬‬
‫‪ -‬لننطلق إذا‪.‬‬
‫‪ -‬قبل أن نذهب أردت إخبارك أن اللون األبيض يناسبك‪.‬‬
‫أردت منها أن تعرف أنني لست نفس أدهم الذي بكتاهبا‪ ،‬امحرت‬
‫وجنتيها وطأطأت رأسها مبتسمة‪ ،‬وغريت املوضوع إىل فوائد الشاي‪،‬‬
‫من يتحدث عن الشاي يف مثل هذا املوقف؟ كان عليها التفكري يف فكرة‬
‫أفضل لتخفي خجلها‪.‬‬
‫رغبت يف عكس خط سري الرواية‪ ،‬إن كان أدهم بطل روايتها‬
‫ينتقدها فأنا لست كذلك ستبقى مجيلة يف نظري بالرغم عام ترتديه أو‬
‫تقوله أو ما تفعله أليس احلب أن تتقبل من حتب بفضائله وعيوبه وأن‬
‫حتب كل تفاصيله؟ أن متنحه التفهم واحلرية‪.‬‬
‫يف أول مرة التقينا هبا ظننت أهنا فتاة جادة‪ ،‬باردة أعصاب‪ ،‬بدت‬
‫كشخص فارغ من الداخل ‪ ...‬شخص بال مشاعر‪ ،‬أخربتنا بكل برودة‬
‫أهنا مل تكن الكاتبة‪ ،‬مل أفهم ما إن كانت متتلك صعوبة يف التعبري عن‬
‫نفسها أم أهنا بال مشاعر ‪ ...‬لكن اآلن أراها شخصا كان يبحث عن‬
‫الفرصة ليفتح قلبه احلزين‪ ،‬امرأة بقلب طفلة ‪ ...‬وجسد طفلة تقريبا‪،‬‬
‫قبل خروجنا ارتدت كعبا عاليا أسود لتبدو أطول قليال‪ ،‬رأسها يصل‬

‫‪58‬‬
‫لكتفي اآلن‪.‬‬
‫بدأنا بزيارة اجلريان الواحد تلو اآلخر‪ ،‬طرحنا عليهم بعض األسئلة‬
‫التي جتعلهم يظنون أننا ال نشك بأحد منهم بل نثق هبم حتى ينرشحوا‬
‫لنا‪ ،‬مثل هل رأيت شخصا مشبوها يف اجلوار؟ هل انتبهت لوجود‬
‫شخص غري سكان احلي يف األنحاء؟ هل مرت عليك سيارة ليست‬
‫ألحد السكان؟ لكن اجلميع امتلك نفس اإلجابة «مل َنر شيئا» ‪« ...‬مل‬
‫نلحظ شخصا غريبا» ‪« ...‬ال أعتقد أنه قد مر علينا يشء مشابه»‪.‬‬
‫بحسب ترصفاهتم مل نجد شخصا مشبوها ‪ ...‬الكل تعاون مع‬
‫التحقيق‪ ،‬بل عرضوا عىل رغد طلب املساعدة يف حال أحست أن‬
‫هناك من يراقبها وبدا أن اجلميع صادقا يف أقواله وقلقا عليها خصوصا‬
‫سيدات احلي اللوايت يمتلكن بنات يف مثل سنها‪ ،‬لكن أزعجتني‬
‫نظرات جارها الذي يسكن بآخر احلي هلا‪ ،‬ال أعتقد أنه الكاتب ألنه‬
‫ال يبدو ذو مستوى ثقايف رفيع‪ ،‬كام أنه ال يمتلك كتابا واحدا ببيته‪ ،‬لذا‬
‫أظنه منحرفا فحسب‪ ،‬كيف جيرؤ عىل رمقها بتلك النظرات السامة‪.‬‬
‫ما زال هناك تتبع خمرتق احلساب اإللكرتوين‪ ،‬أعرف صديقا قد‬
‫يساعدنا يف هذا لكن لست متأكدا من إمكانية نجاحه‪ ،‬ألن عملية‬
‫االخرتاق مر عليها شهور وال بد من أن املخرتق قد حمى كل آثاره‬
‫بالفعل‪ ،‬وما زال أيضا الذهاب للمستشفى املذكور يف الرواية الذي من‬
‫املفرتض أن أدهم يعمل به‪.‬‬
‫ودعت رغد هنا‪ ،‬واعدا إياها بإمساك الفاعل مهام حدث ولو‬
‫انعدمت األدلة سنجده بال شك‪ ،‬ال يمكنه اهلروب منا‪ ،‬فاحلقيقة مهام‬
‫بعدت عنا ستظهر يف النهاية ال حمالة‪.‬‬
‫نمت لساعات طويلة بعدما عدت للمنزل بسبب الصداع الشديد‪،‬‬

‫‪59‬‬
‫مل أستيقظ إال ليال وأول ما طرأ عىل بايل عند فتح عيناي هي رغد‪ ،‬عىل‬
‫هذه احلال تبقى يل أقل من أسبوعني‪ ،‬جيب أن أجد املشتبه به قبل أن‬
‫تنتهي إجازيت‪ ،‬املشكلة تكمن يف انعدام مشتبه به ‪ ...‬ال يوجد من تشك‬
‫به‪ ،‬من ال يمتلك عدوا أو منافسا؟ أخشى أن يكون هذا الشخص قريبا‬
‫جدا دون علمنا‪ ،‬لو كانت علياء يف مكاين ما الذي كانت ستفعله؟‬
‫لكن مهام فكرت أجد أن أمها مشكوك هبا ولو أن رغد ترفض تقبل‬
‫الفكرة‪ ،‬ابنتها قررت تركها وفضلت العيش لوحدها بعدما أعادت‬
‫هي الزواج من شخص آخر‪ ،‬ربام هي ترغب يف أن تعود ابنتها للعيش‬
‫معها‪ ،‬ألهنا تعلم جيدا أنه ال يوجد هلا دخل آخر من غري الكتابة‪ ،‬فإن‬
‫نرشت رواية أخرية باسم رؤى ستضطر ابنتها للتقاعد واالنتقال‬
‫للعيش يف بيت والدهتا فهي لن تكون قادرة عىل حتمل تكاليفها بنفسها‬
‫وهكذا يتحقق مراد األم‪.‬‬
‫لكن كيف أقنعها أن أمها مشبوهة دون أن تيسء الفهم بأين أحاول‬
‫صنع مشاكل بينهام‪ ،‬لذا جيب تدبري خطة لنقوم باستجواب والدهتا ‪...‬‬
‫لكن حتى لو كانت أمها الكاتبة مل ذكرت شخصا اسمه أدهم؟ هذا ما‬
‫يثري فضويل أكثر‪.‬‬
‫اتفقت أنا ورغد عىل الذهاب غدا للمستشفى املوصوف يف الرواية‬
‫لتفقد ما إن كان هناك شخص يطابق أدهم‪ ،‬رغم إحسايس أنه ال يوجد‬
‫وإن وجد قد يكون توأم روحي دون شك‪ ،‬غريب شعرت كأنني ذاهب‬
‫للبحث عن نفيس‪.‬‬
‫أخربتني أن أنتظرها يف مكان قريب من املستشفى ‪ ...‬دقائق وأالحظ‬
‫فتاة قصرية ترتدي رسوال جينز وقميصا واسعا تغطي رأسها بقبعة‬
‫تلوح يل‪ ،‬كدت ال أتعرف عليها‪ ،‬حتى رأيتها تقرتب مني فتأكدت‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫‪ -‬مل ترتدين اليوم هكذا بخالف األمس أمل تقويل جيب أن نعطي‬
‫الكاتب رضبة يف الوجه؟‬
‫‪ -‬قررت الذهاب عكس خطة األمس‪ ،‬ماذا لو أن الكاتب هنا‬
‫وبرؤيته يل سوف هيرب؟ أو يطلب من املستشفى التسرت عنه‪ ،‬لذا أنا‬
‫سأدخل هبدوء حتى ال يالحظني أحد‪ ،‬يف احلي كان الوضع يف صاحلنا‬
‫أما املستشفى فاألمور تؤول لصاحله‪.‬‬
‫‪ -‬ألست جتذبني االنتباه حولك أكثر؟‬
‫‪ -‬أنت من جتذبه بطولك الشاهق‪ ،‬من قد ال يالحظ وجود عمود‬
‫مثلك‪.‬‬
‫يف احلقيقة وجودها بجواري هو ما جيعلني أبدو ضخام أكثر‪ ،‬يف‬
‫العادة الناس ال تالحظ طويل عندما تقف علياء بجانبي ألهنا طويلة‬
‫كذلك‪ ،‬لكن مع رغد أنا عمود إنارة متنقل‪.‬‬
‫دخلنا املستشفى‪ ،‬وسألنا يف املكان عن طبيب اسمه أدهم لكن ال‬
‫وجود له‪ ،‬طمأنني هذا لسبب ما وزاد من تساؤاليت يف نفس الوقت‪،‬‬
‫لكن استمررنا بالبحث والسؤال عن كل األطباء اجلراحني يف‬
‫املستشفى واتضح أن ال أحد منهم حتت سن األربعني لذا تستحيل‬
‫احتاملية وجوده هنا ولو باسم آخر‪ ،‬فحسب الرواية هو يف ثالثينياته‪،‬‬
‫املشكلة هو سعينا وراء شخص جمهول‪ ،‬فكل ما اعتمدنا عليه هو ما‬
‫ذكر يف الرواية‪ ،‬ولو اتبعنا ذلك فسأكون أنا ذلك الشخص ال حمالة لذا‬
‫ال أعتقد أن اتباع ما كتب فقط سيوصلنا إىل الكاتب‪.‬‬
‫عندما كنا هنم باخلروج رأيت شخصا مل يكن جيب أن ألتقي به‬
‫هنا وخصوصا مع رغد ‪ ...‬زميلة من أيام اجلامعة‪ ،‬كانت يف وجهي‬
‫مبارشة وال يوجد فرصة للهرب‪ ،‬حاولت التظاهر بعدم معرفتها لكن‬

‫‪61‬‬
‫هي نادت باسمي ‪...‬‬
‫‪ -‬أدهم هل هذا أنت؟‬
‫(أنا يف مشكلة ‪)...‬‬
‫‪ -‬أجل ‪ ...‬مرحبا مها‪ ،‬إذا هل تعملني هبذه املستشفى؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أنا أعمل هنا منذ خترجي ‪...‬‬
‫نظرت إىل رغد نظرة متفحصة ثم ابتسمت قائلة‪ :‬إذا أنت شفيت‪...‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ...‬أو ربام ‪ ...‬تعرفني هناك بعض األشياء ال تنسى‪.‬‬
‫‪ -‬معك حق‪ ،‬لن أزعجكام أكثر جيب أن أعود لعميل‪ ،‬إىل اللقاء ‪...‬‬
‫فلتحظيا بيوم جيد‪ ،‬أنا سعيدة ألجلك‪.‬‬
‫يف الواقع هي فتاة مرشقة وجمتهدة لطاملا ساعدتني يف سنني دراستنا‬
‫سواء من ناحية الدراسة أو كوهنا سندا يل عندما أشعر أن العامل أدار‬
‫ظهره يل‪ ،‬أشعر بالذنب ألين حاولت تفادهيا للتو‪ ،‬هي حقا ساعدتني‬
‫يف أشد حلظات حيايت سوادا‪.‬‬
‫حام حولنا جو غريب طوال الفرتة التي خرجنا فيها من املستشفى‪،‬‬
‫جلسنا يف كريس قريب من املدخل لنناقش ما سنفعله تاليا ‪ ...‬أحدثت‬
‫كلامت زميلتي وقعا خاصا عىل قلبي‪ ،‬بينام أنا منهمك يف عاملي اخلاص‪،‬‬
‫قطعت رغد حبل أفكاري‪.‬‬
‫‪ -‬هل كنت مريضا من قبل؟ هل كانت طبيبتك؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬هي زميلة من أيام الدراسة ‪ ...‬يف الواقع كنت مريضا نفسيا‪،‬‬
‫ليس جسديا ‪...‬‬
‫‪ -‬إذا هل يمكنك مشاركتي قصتك إن أردت؟ الروائيون فضوليون‬

‫‪62‬‬
‫يف هذا الشأن‪ ،‬أنا مستمعة جيدة كذلك‪ ،‬باإلضافة ليس من العدل أن‬
‫تعرف كل يشء عني بينام ال أعرف شيئا عنك‪.‬‬
‫‪ -‬لست من النوع الكتوم جدا بخصوص املايض‪ ،‬يف السنوات‬
‫القليلة املاضية تعلمت أنه ليس من اليسء التحدث عام يثقل قلبك لذا‬
‫سأخربك بقصتي‪ ،‬يف بداية أيام شبايب‪ ،‬يف ثاين سنة جامعية يل بالضبط‪،‬‬
‫تعرفت عىل فتاة جعلتني أؤمن باحلب من النظرة األوىل‪ ،‬حبي األول‪،‬‬
‫كنا ندرس مع بعض ورسعان ما طورنا بعض املشاعر لبعضنا‪ ،‬لكن‬
‫أهيل رفضوا الفكرة متاما دون سبب وجيه ‪ ...‬وحاولوا تفريقنا بشتى‬
‫الطرق يكرهون العالقات قبل الزواج ويفضلون الزواج التقليدي‪،‬‬
‫باإلضافة كانوا يرونني صغريا ومن األفضل يل الرتكيز عىل دراستي‬
‫‪ ...‬رغم كل يشء كنت متمسكا هبا ‪ ...‬يف أحد أيام شتاء ديسمرب‬
‫الباردة تعرضت حلادث مرور‪ ،‬مل يتم إنقاذها لألسف‪ ،‬عندما هرعت‬
‫للمستشفى بعد سامع اخلرب‪ ،‬وجدت رجال آخر هناك ‪ ...‬خطيبها‪،‬‬
‫وضعت يف موقف صعب ‪ ...‬حينها مل أرغب بإفساد نظرة عائلتها هلا‬
‫وخاصة أهنا توفيت بالفعل لذا أخربهتم أنني زميلها وغادرت‪ ،‬أصبت‬
‫باكتئاب خاصة بعدما أخربتني صديقتها أهنا مل تأخذين يوما عىل حممل‬
‫اجلد وإنام كانت حتتاجني ملساعدهتا يف الدراسة فقط لذا كانت تسايرين‬
‫وتدعي حبها يل‪ ،‬حتى أنني حاولت االنتحار بسببها رغم خيانتها‬
‫أنا بقيت أحبها‪ ،‬ماتت خائنة لكنها بقيت يف قلبي‪ ،‬وهكذا تعقدت‬
‫مشاعري بني اإلحساس بالكره واحلب‪ ،‬عدة أسئلة بقيت أطرحها عىل‬
‫نفيس‪ ،‬إذا هل املرأة التي حاربت عائلتي من أجلها مل أكن من تفكر فيه‬
‫آخر الليل وعند استيقاظها؟ إذا مشاعري مل تكن متبادلة؟ مرت أكثر‬
‫من عرش سنوات عىل هذا اآلن‪ ،‬تغلبت عىل مريض وبدأت أواصل‬
‫حيايت بينام هناك يشء ما ينقص قلبي‪ ،‬أحاول مأله دائام ‪ ...‬هلذا بدأت‬

‫‪63‬‬
‫يف قراءة رواياتك‪ ،‬بطريقة ما القراءة مألت قلبي األجوف ‪ ...‬عاد‬
‫ليصبح دافئا قليال ‪...‬‬
‫‪ -‬أتعلم؟ األشخاص الذين يبدون عاديني مثلنا هم من مروا بأقسى‬
‫التجارب يف نقطة ما أنا أفهمك ‪ ...‬أكثر ما أزعجني يف الرواية التي‬
‫كتبت عني أنه مل يصف مشاعري بدقة عندما انتحرت صديقتي‬
‫املفضلة ‪ ...‬وال السبب ألن الكاتب ال يعرف كل يشء يف النهاية‬
‫طبعا‪ ،‬صديقتي انتحرت ألن والدها كان يعنفها كثريا ألتفه األسباب‪،‬‬
‫كانت تشكو يل مرارا وتكرارا منه‪ ،‬كانت تطلب نجديت لكن يف كل‬
‫مرة أخربها‪« :‬يف النهاية هو والدك أليس كذلك؟» ‪ ...‬لكن اتضح يف‬
‫النهاية أنه زوج والدهتا‪ ،‬آخر رسالة تلقيتها منها قالت فيها «رغد ‪...‬‬
‫هو ليس والدي‪ ،‬لكن أتعرفني؟ هذا جعلني أشعر بشعور أفضل عىل‬
‫األقل اآلن أعرف سبب كرهه يل» كان هذا بعد عام فقط بالفعل من‬
‫موت والدي الذي مل أجتاوزه بعد‪ ،‬ذلك أحرق قلبي مثلك متاما‪ ،‬سألت‬
‫نفيس ألف سؤال وافرتضت عدة احتامالت‪ ،‬رددت «ماذا لو؟» كثريا‪،‬‬
‫لكن يف النهاية كل اسئلتي لن تغري شيئا‪ ،‬سأستيقظ يف الصباح وضحى‬
‫ال تزال ميتة وأيب ليس بجانبي لذا قررت ختطي األمر شيئا فشيئا ألن‬
‫ذلك ما كان سريغب به والدي لو كان حيا‪.‬‬
‫قالت هذا وعيناها تدمعان بينام ترضب بيدها عىل صدرها ‪...‬‬
‫صوهتا أصبح أكثر بحة كأهنا شخص يكاد خيتنق يطالب بالنجاة‪،‬‬
‫مل أعرف كيف أوايس نفيس فام بالك مواساهتا‪ ،‬اكتفيت بقول بضع‬
‫كلامت لن تغري من حاهلا شيئا‪.‬‬
‫‪ -‬أمور كهذه تبقى فقط عالقة مع الشخص إىل األبد ‪...‬‬
‫‪ -‬باملناسبة هل أنت طبيب جراح؟‬

‫‪64‬‬
‫كل خلية يف جسمي ارجتفت بمجرد سؤاهلا املبارش‪ ،‬هي فقط‬
‫خرجت عن املوضوع دون سابق إنذار‪ ،‬لو أهنا كانت تعلم بذلك عىل‬
‫األقل تطرقت للموضوع بروية ملاذا فاجأتني هكذا ‪ ...‬كيف عرفت؟‬
‫هل شكت يب يف املستشفى أم عند إخبارها باسمي؟ امتنعت عن‬
‫اإلجابة فواصلت كالمها‪.‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن ختربين بجانبك من القصة أو أبلغ عنك‪ ،‬فقط ال‬
‫ختيب ظني‪.‬‬
‫تغريت برسعة وكأهنا ليست نفس الشخص الذي كاد يبكي من‬
‫آالم املايض للتو‪ ،‬رسمت تعابري جديدة عىل وجهها أراها ألول مرة‪،‬‬
‫غاضبة؟ ال ليست كذلك ‪ ...‬إنه تعبري شخص خائف‪.‬‬
‫‪ -‬أخربيني كيف اكتشفت ذلك أوال‪ ،‬سأخربك بجانبي بعدها‪.‬‬
‫‪ -‬أوال مل تكن املرة األوىل التي أراك فيها عندما جئت ملنزيل‪ ،‬وكنت‬
‫أكذب عندما قلت لكم أنني طلبت الرشطة بالفعل‪ ،‬رغبت باختباركم‬
‫وحسب‪ ،‬ثم بدأ شكي يكرب أكثر عندما مل تعد معك الفتاة املحققة‪،‬‬
‫كنت خائفة منك ألكون رصحية‪ ،‬لكن قررت إخفاء خويف ومراقبتك‬
‫للتأكد بنفيس‪ ،‬سأكذب إن أخربتك أن قلبي مل يكد أن يتوقف عندما‬
‫أخربتني عن اسمك‪ ،‬بعدها عندما كنت سترشب الشاي انتبهت‬
‫ليديك‪ ،‬إصبعيك السبابتني بالضبط‪ ،‬عليهام عالمات مقوسة‪ ،‬أال‬
‫يستخدم اجلراحون كلتا سبابتيهم لإلمساك باخليط؟ مع مرور الوقت‬
‫يتسبب ذلك بإبراز عالمات‪.‬‬
‫‪ -‬من أين تعلمت هذا؟‬
‫‪ -‬من املحقق كونان ‪..‬‬

‫‪65‬‬
‫هل ما سمعته أذناي صحيح؟ هل هي تقول أهنا اعتمدت عىل‬
‫الرسوم املتحركة «كونان» لكشفي؟ لكن هي ال تبدو خائفة حقا مني‪،‬‬
‫هي تتحدث براحة تامة وليست غاضبة! مل أتوقع أهنا ستخربين حقا‬
‫بمجرد أن أسأهلا‪.‬‬
‫‪ -‬بإخبارك يل هذا أال يعني أنك تثقني يب بالفعل؟‬
‫‪ -‬ال تقاطعني دعني أكمل‪ ،‬وما أكد شكوكي هو زميلتك الطبيبة‬
‫وقصتك‪ ،‬لو كنت حمققا ال يفرتض أن تدرس باجلامعة‪ ،‬أما عن‬
‫موضوع الثقة أنا ال زلت ال أثق بك متاما‪ ،‬لكن عرفت أنك لست‬
‫الكاتب‪ ،‬أنا أيضا أعرف كيف أجري بحثا عن خلفية الناس‪ ،‬سمعت‬
‫من املمرضات باملستشفى الذي تعمل به أنك مدمن عمل‪ ،‬وأيضا‬
‫شخص بامض مؤمل ال جيرؤ عىل كتابة آالم اآلخرين باستهتار‪ ،‬أنا كاتبة‬
‫لذا أدرك هذه النقطة جيدا‪.‬‬
‫‪ -‬لن أجد فرصة للحديث إذا مل أقاطعك‪ ،‬ال أفهم مل كل النساء ال‬
‫ترتكن لك فرصة للحديث ثم تغضبن عند مقاطعتهن ‪ ...‬مهال! ما‬
‫الذي قصدته بقولك مل تكن املرة األوىل التي رأيتني فيها؟!‬
‫‪ -‬ألن أول مرة رأيتك فيها كانت قبل ثالث سنوات ‪...‬‬
‫‪ -‬ال أتذكر أننا التقينا من قبل!‬
‫‪ -‬سأحكي لك قصة ولك أن تصدقها أم ال ‪ ...‬قبل عدة سنوات‬
‫أمي كان عليها إجراء عملية جراحية طارئة‪ ،‬لكن مستشفى مدينتنا‬
‫أرسلها إىل مستشفى املدينة املجاورة‪ ،‬كنت خائفة جدا وأرجتف عندما‬
‫اتصل يب زوجها طالبا مني احلضور برسعة‪ ،‬عندما وصلنا للمستشفى‬
‫أخربونا أهنا ستكون العملية األوىل للطبيب الذي سيتكفل هبا ألنه‬
‫الوحيد املتاح حاليا‪ ،‬ال يمكنني وصف مدى شعوري بالفزع حينها‪،‬‬

‫‪66‬‬
‫أنت تعلم جيدا إحساس فقدان شخص عزيز‪ ،‬صحيح أنني مل أكن‬
‫بذلك القرب منها بعد زواجها لكنها ستظل أمي‪ ،‬ولو أن العملية مل‬
‫تكن بتلك اخلطورة أنا خفت بشدة ‪ ...‬لكن بعد ساعات من االنتظار‬
‫أنت خرجت مبتسام وأخربتنا أهنا بخري‪ ،‬ابتسامتك تلك كانت أكثر‬
‫يشء مطمئن يل يف حيايت كلها‪.‬‬
‫‪ -‬أنا أتذكر والدتك بوضوح‪ ،‬فهي أول عملية يل لكن ال أتذكر أنك‬
‫كنت هبذا الشكل أمل يكن شعرك طويال جدا؟‬
‫‪ -‬ال تذكرين من فضلك‪ ،‬كان شعري يف حالة فوىض وعيناي‬
‫منتفختان من البكاء الشديد ما كنت ألعرف نفيس من ذلك اليوم‬
‫أيضا‪ ،‬بعدها مل تسنح يل الفرصة للتحدث معك أو ما شابه‪ ،‬ترددت‬
‫للمستشفى الذي تعمل به عدة مرات ‪ ...‬تركت مستشفى املدينة‬
‫وغريت طبيبي لشخص يعمل معك ‪ ...‬أنا أعاين من الربو لذا أحتاج‬
‫لزيارة الطبيب بشكل دوري‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا مل تتحدثي معي؟ ملاذا راقبتني من بعيد وحسب؟‬
‫‪ -‬الحظت أن فتاة ما إىل جانبك تزورك باستمرار لذا استسلمت‬
‫وابتعدت عنك دون التكلم معك‪ ،‬أنا مل أنس وجهك أبدا‪ ،‬لو علمت‬
‫حينها أنك حتب قراءة روايايت ألخربتك أن اسمي رؤى مل أتوقع أن‬
‫طبيبا سيكون لديه الوقت لقراءة روايايت املتواضعة‪.‬‬
‫‪ -‬إذا أنت تعرفت عيل من أول يوم أتيت فيه إليك؟‬
‫‪ -‬عندما أتيت بصفتك حمقق أنا تعرفت عليك لكن مل أكن واثقة فأنا‬
‫أعرفك كطبيب‪ ،‬قلت ربام هو أحد أشباهك األربعني؟ عندما أخربتني‬
‫باسمك تأكدت لذا بدل اخلوف منك أنا كنت سعيدة كالغبية‪ ،‬لكن يف‬
‫نفس الوقت أنا أكثر خوفا من الكاتب أال يعني هذا أنه يعرف أنك‬

‫‪67‬‬
‫حبي األول؟‬
‫بدأت تبكي دون توقف ‪ ...‬انفجرت بالبكاء بمجرد إهناء مجلتها‪،‬‬
‫مل أستطع قول كلمة هلا من الصدمة‪ ،‬ال أصدق أنني مل أتذكرها‪ ،‬لو‬
‫فقط ذلك اليوم حتدثنا لتغريت الثالث سنوات املاضية من حيايت عىل‬
‫نحو آخر‪.‬‬
‫مل جتد الكلامت حملها من فمي فعانقتها‪ ،‬كل ما زاد شهيقها كل ما‬
‫احرتق قلبي‪ ،‬ضممتها إيل بقوة‪ ،‬الطفلة التي وعدها والدها باحللوى‬
‫وانتظرته عاد هلا أخريا‪ ،‬مل نلتق بشكل الئق حتى‪ ،‬كانت قريبة بعيدة‪ ،‬ال‬
‫أصدق أهنا كانت أمامي بينام مل أعرف ذلك‪ ،‬أصابني شعور باإلحباط‬
‫وقلبي اعترص‪ ،‬كيف جترأت عىل الكذب عليها؟ هل أنا إنسان؟‬
‫بعد هدوئها من نوبة البكاء أخربهتا عن القصة كلها‪ ،‬من أول‬
‫رواية قرأهتا هلا التي وجدهتا عىل مكتب علياء إىل روايتها األخرية‪،‬‬
‫وعن كيف أقنعت علياء بالبحث عنها‪ ،‬وأنا اعتذر منها بني كل مجلة‬
‫وأخرى حتى عادت لالبتسام‪ ،‬وضحت هلا أن الفتاة التي كانت تراين‬
‫معها هي علياء ‪ ...‬نفس الشخص الذي أتى معي للتحدث معها‪،‬‬
‫مل تتعرف عليها يومها ‪ ...‬أنا وكدت ال أعرفها يف ذلك اليوم بسبب‬
‫تغيريها املفاجئ‪ ،‬رأت أين وعلياء أفضل إخوة أعجبت بعالقتي هبا‬
‫ومدى انفتاحنا لبعض‪.‬‬
‫لكنها أصبحت أكثر خوفا كيف أن معلوماهتا أصبحت معرضة‬
‫للنرش هكذا بسبب الرواية‪ ،‬فعلياء ما كانت لتستطيع إجيادها لوال‬
‫املعلومات الدقيقة املذكورة‪ ،‬رغم الوضع الصعب الذي كنا به وبدايتنا‬
‫السيئة من شعرها املبعثر إىل كذيب عليها شاء أن نلتقي لنكون معا‪.‬‬
‫هتت يف رغد‪ ،‬يف نفسها التائهة التي تبحث عام هيدد حياهتا‪ ،‬من‬

‫‪68‬‬
‫ناحية ما هل علينا شكر هذا الشخص؟ بسببه التقينا لكني بدأت أراه‬
‫أكثر إخافة‪ ،‬هل يعني أنه كان يعلم بإعجاب رغد يب؟ هل يمكن أن‬
‫يكون زوج أمها ‪ ...‬هو من كان حارضا هناك ‪...‬‬
‫‪ -‬ما الذي تفكر به اآلن؟‬
‫مل أشأ جعلها تفكر يف قضية الكاتب كثريا‪ ،‬شخص بقلب عطوف‬
‫ومتسامح مثلها ال جيدر أن يلوث نفسه بالتفكري الزائد أو احلقد عىل‬
‫شخص ما‪ ،‬أخاف أن تسامح الكاتب احلقيقي إذا وجدناه ‪ ...‬لذا‬
‫قررت تغيري املوضوع وجعلها تنساه قليال‪.‬‬
‫‪ -‬هل وقعت يف حبي بابتسامة فقط؟‬
‫‪ -‬يستغرق الوقوع يف احلب ثالث ثوان بمجرد النظر فام بالك‬
‫ابتسامة‪.‬‬
‫‪ -‬أتفق معك‪ ،‬فأنا وقعت يف حبك قبل رؤيتك حتى‪.‬‬
‫‪ -‬من كان يظن أن حبي اليائس من أول ابتسامة سيأيت إيل؟‬
‫‪ -‬وحبي من أول كلمة يف روايتك من كان يظن أنه متبادل؟‬
‫بريقها‪ ،‬امحرار وجنتيها‪ ،‬ابتسامتها‪ ،‬غامزهتا‪ ،‬ضحكة عينيها‪،‬‬
‫دموعها وصوهتا املبحوح كل ما خيصها رأيته ساحرا‪ ،‬هكذا أزهر حب‬
‫حيايت حتت شمس الربيع الدافئة‪.‬‬
‫رغد امرأة زفريها من الياسمني‪ ،‬ابتسامتها شمس أرشقت‬
‫فأضاءت مائة شمعة انطفئت بقلبي‪ ،‬تشبه الورد األمحر يف أوج‬
‫انفتاحه‪ ...‬أصبحت ضعفي وقويت معا ‪ ...‬أنا أحببتها‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫‪5‬‬

‫حلظة الوقوع يف احلب هي ميالد جديد‪.‬‬

‫علياء حمقة‪ ،‬بالتفكري يف ذلك لطاملا كانت أفضل مني بكل يشء‪،‬‬
‫كانت قادرة أيضا عىل دراسة الطب لكنها ختلت عنه‪ ،‬لنفس السبب‬
‫قررت االجتهاد ودراسته بنفيس‪ ،‬الستكشاف اليشء الذي ختلت عنه‬
‫علياء‪ ،‬أو باألحرى وقتها ظننت أهنا مل تقدر عىل دراسته لذا أردت‬
‫اإلثبات لوالدي أين أستطيع فعل ما مل تقدر عليه هي‪ ،‬لكن احلقيقة أهنا‬
‫اختارت سلك طريق حتبه وهو التحقيق والعمل مع الرشطة‪ ،‬عمل‬
‫آخر جتيده علياء أفضل مني بكثري وفشلت حتى يف تقليدها اآلن‪.‬‬
‫رغد مل تعاتبني كثريا عىل كذيب كل ما كان هيمها أننا معا وأخريا‪،‬‬
‫مثلام قالتها كانت ختفي سعادهتا وخوفها يف آن واحد‪ ،‬فمنذ ثالث‬
‫سنوات انتظرت جميء اليوم الذي نتحدث به‪ ،‬لذا هي قررت مفاحتتي‬
‫باملوضوع وسؤايل مبارشة يف اللحظة التي صارحتها فيها‪ ،‬مل تقدر عىل‬
‫االنتظار أكثر من ذلك حتى أعرتف هلا بكل يشء بنفيس‪.‬‬
‫بدأنا نتعرف عىل بعض أكثر‪ ،‬مل ترتك شيئا إال وسألتني عنه‪،‬‬

‫‪71‬‬
‫لوين املفضل‪ ،‬أي طبق أحب أكله يف األيام الباردة‪ ،‬أي روايات أميل‬
‫لقراءهتا‪ ،‬وغريها من األسئلة يف سبيل معرفتي بشكل أعمق‪ ،‬دونت‬
‫كل إجابايت يف دفرت قائلة بأن الدفرت كنزها الثمني من اآلن فصاعدا‪.‬‬
‫تقابلنا يوميا تقريبا بعدما أخربهتا أنني سأعود ملدينتي بعد انتهاء‬
‫إجازيت‪ ،‬رصنا كأحباء فرقهام الزمن منذ وقت طويل بعد أن وجدا‬
‫كل منهام اآلخر أصبحا خيافان من تضييع ثانية واحدة دون قضائها مع‬
‫بعض‪ ،‬ال جيدان أرواحهام إال عندما يكونان معا‪.‬‬
‫ما زلنا يف عملية البحث عن الكاتب فنحن مل نصل لنتيجة بعد‬
‫ولألسف فشلنا يف حماولة تعقب خمرتق احلساب االلكرتوين فانتهى بنا‬
‫الوضع إىل طريق مسدود‪ ،‬ال زلت أشك يف والدهتا وزوجها لكنها ال‬
‫تفعل وتستبعد احتاميل بقوة‪.‬‬
‫استسلمت لرغبتها خصوصا بعد أن صارت أكثر انفتاحا وإرشاقا‬
‫وتتحدث معي أكثر‪ ،‬مل أظن من قبل أهنا هبذه اللطافة ‪ ...‬لذا مل أحتدث‬
‫هلا عن أمها جمددا ‪ ...‬لن أفسد عالقتي هبا بعد أن وجدهتا بصعوبة‪،‬‬
‫فلطاملا ختيلت كيف يمكن لطرقنا أن تتقاطع ونلتقي يوما ما‪ ،‬نحن‬
‫التقينا بطريقة مل يتوقعها كالنا‪ ،‬لذا سأفعل ما بوسعي للحفاظ عىل‬
‫عالقتنا فهي من رد الروح حليايت لذا يسعدين رد مجيلها‪.‬‬
‫وجدت أن الطريقة الوحيدة لتسمح يل بمقابلة والدهتا للتأكد‬
‫بنفيس دون أن تيسء فهمي هي أن أعرفها عىل والداي أوال‪ ،‬ولكن‬
‫أحتاج علياء حلل هذا‪ ،‬قبل أن أبدأ هل ستقبل رغد ذلك؟ احلل هو‬
‫سؤاهلا مبارشة دون لف ودوران‪.‬‬
‫‪ -‬يرشفني األمر لكن عىل أي أساس ستعرفني هبام؟‬
‫هذا ما قالته عندما سألتها‪ ،‬كالعادة تربكني أسئلتها وجتعل رضبات‬

‫‪72‬‬
‫قلبي تتسابق دون سبب أمل حين دوري ألجعل دقات قلبها تتسابق؟‬
‫فأجبت ‪..‬‬
‫‪ -‬سأخربهم أنك زوجتي املستقبلية فهل تقبلني؟‬
‫‪ -‬من ال تقبل ذلك بعد أن سمعته من الرجل الذي حتبه؟‬
‫مل أقاوم ابتسامتها فقمت بضمها إيل‪ ،‬كانت صغرية جدا بني يدي‪،‬‬
‫أحاطت يدهيا حويل كذلك‪ ،‬يدهيا الصغريتني التي مل تقدر أن تطوق‬
‫ظهري هبام حتى‪.‬‬
‫‪ -‬أنا أحببتك قبل التقائي بك‪ ،‬القراءة جتعلك تقع يف حب شخص‬
‫بعيد‪ ،‬عندما قرأت كتبك ألول مرة أحسست أن كلامتك تشبهني‬
‫كثريا‪ ،‬كلامتك كانت بمثابة مشاعر اندجمت مع مشاعري فجعلتني‬
‫أشعر أن لنا ماض واحد‪ ،‬أننا شخص واحد وأنك تفهمينني رغم كل‬
‫البعد الذي كان بيننا وهذا منحني الراحة أن هناك من جرب شعوري‬
‫املؤمل‪.‬‬
‫‪ -‬أتعلم متى تأكدت من إعجايب بك؟ عندما رأيتك تقرأ كتايب‬
‫بعمق‪ ،‬مل أرى قارئا يغرق مثلك‪ ،‬كان يف عينيك بريق خاص خفق له‬
‫قلبي‪ ،‬أنت أشبه بشخصية خيالية يف إحدى روايايت التي ظننت أين لن‬
‫أجد مثيلتها‪ ،‬لكن الكاتب خميف هل ربام علم بأننا سننتهي لنكون معا؟‬
‫‪ -‬هذا مستحيل‪ ،‬ال أحد يعلم الغيب‪ ،‬أظن أهنا مصادفة مجيلة منحها‬
‫لنا القدر‪ ،‬بالنسبة لعائلتي سأعود إىل املدينة لرتتيب بعض األمور أوال‬
‫ثم سآخذك لرؤيتهم فلتنتظريني‪.‬‬
‫ما أحتاج ترتيبه هو كيف أحرضها هلم أوال؟ متأكد أن والديت‬
‫سرتفض وآخر ما قد أرغب به هو وضع رغد يف موقف حمرج‪ ،‬أمي ما‬

‫‪73‬‬
‫زالت يف صدمة من املايض أكثر مني وختاف أن تعود جراحي لتؤملني‪،‬‬
‫يريدان مني الزواج لكن يرفضان مني االرتباط‪ ،‬املنطق يف طريق ومها يف‬
‫طريق‪ ،‬يفضالن شخصا من العائلة أو زواجا تقليديا‪ ،‬لكن يستحيل‬
‫عيل التخيل عن رغد‪ ،‬والشخص املناسب ملساعديت علياء بدون منازع‪.‬‬
‫مل نتحدث منذ آخر مرة تشاجرنا فيها‪ ،‬ليست املرة األوىل التي‬
‫نتشاجر فيها أو ال نتواصل مع بعض ملدة طويلة لكن الوضع غريب‬
‫قليال ألن علياء تغريت‪ ،‬راسلتها متسائال ما إن كانت يف البيت‬
‫فأجابتني يف احلال باإلجياب‪.‬‬
‫ذهبت ملنزهلا‪ ،‬حتدثنا مطوال كأن شيئا مل حيدث ‪ ...‬مل تسألني عن‬
‫رغد ولو ملرة‪ ،‬تكلمنا كاملعتاد‪ ،‬حدثتني متحمسة عن آخر قضية حتقق‬
‫هبا ‪ ...‬فتاة فقدت منذ ثالث أيام بدون أثر لذا هي مشغولة بتحديد آخر‬
‫مكان وجدت به‪.‬‬
‫تطرقت بنفيس إىل احلديث عن رغد وحكيت هلا كل ما جرى‪،‬‬
‫أعلمتها عن نيتي يف تعريف رغد لوالدي‪ ،‬لكن ردة فعلها آخر ما‬
‫توقعته‪ ،‬هي استشاطت غضبا‪ ،‬مل أرها هبذه العصبية من قبل‪ ،‬رفضت‬
‫رفضا قاطعا ال رجعة فيه‪ ،‬مل أفهم سبب كرهها لرغد هكذا‪ ،‬هي عمليا‬
‫مل تفعل هلا شيئا‪ ،‬وال أظن أهنا قلقة عيل‪ ،‬هي تبالغ يف ترصفاهتا‪.‬‬
‫استسلمت ملحاولة إقناعها فهي عنيدة وال جمال للتغلب عليها‪ ،‬ما إن‬
‫تقرر شيئا فال رجعة فيه ولو سقطت السامء عىل األرض‪.‬‬
‫لكن خطرت ببايل فكرة ال بأس هبا‪ ،‬حكيت لرغد عام دار بيني‬
‫وبني علياء وعن عائلتي املتشددة واقرتحت أن أحتدث مع أمها أوال‬
‫فإن سارت األمور عىل خري ما يرام سيمنحني ذلك الشجاعة ألحتدث‬
‫مع عائلتي فوافقت عىل طلبي‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫ابتهجت ملوافقة رغد عىل طلبي‪ ،‬أمها امرأة طيبة جدا لذا أنا أشعر‬
‫بقليل من الذنب حلميل نوايا سيئة اجتاهها‪ ،‬لكن يف احلياة إن مل نحتط‬
‫من كل شخص سينتهي بنا األمر خمدوعني من قبل أولئك الذي ادعوا‬
‫أهنم حيبون اخلري لنا ويتمنون لنا األفضل‪ ،‬فهم أنانيون ويتظاهرون‬
‫بمعرفة وفعل ما هو يف صاحلنا لكنهم ال يعلمون أهنم بفعلهم هلذا هم‬
‫فقط سيدمرون عالقتنا هبم‪.‬‬
‫أمتنى أال يكون الكاتب احلقيقي شخصا مقربا منها فذلك قد يعطيها‬
‫رضبة قوية ستؤثر يف حياهتا للسنوات القادمة وبشدة‪ ،‬أهيا الكاتب أين‬
‫أنت؟‬

‫‪75‬‬
‫‪6‬‬

‫هل هناك وشاح أمحر يف درج كل امرأة؟‬

‫اخرتنا عطلة هناية أسبوع من املتوقع أن تكون مشمسة ودافئة لنلتقي‬


‫فيها مع أمها فاجلو يؤثر عىل نفسية األشخاص ويتحكم بمزاجهم لذا‬
‫يوم بجو جيد ومعتدل سيرشح صدرها‪ ،‬تأنقت خصيصا هلذا اليوم فأنا‬
‫أرغب بالظهور يف شكل جيد أمام عائلتها‪.‬‬
‫انتظرهتا أمام بيتها الصطحاهبا وفاجأتني بخروجها الرسيع‪ ،‬أول‬
‫فتاة أعرفها ال تأخذ وقتا طويال يف االستعداد ‪ ...‬من النوع الذي يرتدي‬
‫أول يشء يقع عىل نظرها عندما تفتح اخلزانة‪ ،‬لكن ما إن خرجت حتى‬
‫عادت مرسعة للمنزل‪ ،‬تذكرت شيئا ما نسته عىل األرجح‪.‬‬
‫عادت وهي حتمل بيد وشاحا أمحر ويف اليد األخرى كيسا حتاول‬
‫وضعه فيه برسعة‪ ،‬فحملت هلا الكيس بكلتا يدي ملساعدهتا‪ ،‬لكن‬
‫الوشاح األمحر بدا مألوفا‪ ،‬رأيته يف مكان ما‪ ،‬بنفس التصميم ‪ ...‬طويل‬
‫بلون أمحر عقيقي ‪...‬‬

‫‪77‬‬
‫تذكرت! علياء متتلك نفسه‪ ،‬تركته هلا والدهتا عندما توفيت‪ ،‬أذكر‬
‫أنه مطرز باسم والدهتا بالالتينية يف األسفل‪ ،‬طلبت من رغد رؤيته‬
‫جيدا فسمحت يل‪ ،‬أمسكت بطرفه السفيل فلم أجد شيئا ثم رأيت‬
‫الطرف اآلخر فوجدت اسام مكتوبا بالالتينية كذلك ‪ ...‬مكتوب ريام‪.‬‬
‫‪ -‬من أين لك هبذا الوشاح؟‬
‫‪ -‬إنه ملك أمي‪ ،‬اشرتاه هلا والدي منذ زواجهام‪ ،‬هي اعتزت‬
‫واحتفظت به لسنوات لكنها تركته يل عندما تزوجت من جديد‪ ،‬أما‬
‫اآلن ‪ ...‬تعرف ‪ ...‬يف الرواية تم ذكر أنني سوف أقتل نفيس به ‪ ...‬لذا‬
‫أمي قلقت كثريا وطلبت مني احضاره ألنه فأل يسء ‪...‬‬
‫اسم والدة رغد كان ريام‪ ،‬يا هلا من صدفة‪ ،‬ماذا لو أن والدي يعرف‬
‫والدة رغد بالفعل؟ ألن علياء لطاملا تباهت بوشاحها وأخربتني أنه‬
‫مميز‪ ،‬أصبحت أقفز الستنتاجات غبية وغري معقولة مؤخرا ال بد أنه‬
‫كان تصميام رائجا آنذاك‪ ،‬علياء ال تعرف الكثري عن املوضة عىل كل‬
‫حال‪.‬‬
‫مل يكن بيت أم رغد بالبعيد عن بيتها‪ ،‬من الغريب أهنا مل تكن تزورها‬
‫إال نادرا‪ ،‬هي ال ترتاح لزوج والدهتا برغم لطفه اجتاهها كام أخربتني‪،‬‬
‫اآلن أشك يف زوج والدهتا هو شخص حمتمل‪ ،‬بدأت يف الشك باجلميع‬
‫أنا عىل حافة االهنيار‪ ،‬رغد بدأت بنسيان األمر وهي غري مهتمة اآلن‬
‫بإجياد الكاتب مثلام كانت‪ ،‬لكنني لن أرتاح حتى أجده‪.‬‬
‫عندما نزلنا أمام بيت والدهتا أعجبت باملكان‪ ،‬البيت أخرض متاما‪،‬‬
‫النباتات املتسلقة تغطي البيت بأكمله‪ ،‬احلديقة تأخذ املساحة األكرب‪،‬‬
‫إذا رغد ورثت حب النباتات والزهور من والدهتا‪ ،‬من اجلميل أن ترث‬
‫أشياء مجيلة من عائلتك كحب الزهور‪ ،‬الرسم أو املوسيقى أجدها‬

‫‪78‬‬
‫أكثر إثباتا للعالقة العائلية أكثر من أي جينات وراثية أخرى‪.‬‬
‫استقبلتنا والدهتا بحرارة مرحبة بنا يف بيتها ودعتنا للجلوس يف‬
‫حديقتها لدفء اجلو‪ ،‬أمها ال تشبهها أبدا يشرتكان يف لون العينني‬
‫وقرص القامة فقط ‪ ...‬لكن إن كان هناك تعريف للجامل فهو والدهتا‪،‬‬
‫رغم كرب سنها إال أهنا تبدو أصغر مني‪.‬‬
‫قضينا اليوم بكامله مع والدهتا وزوجها‪ ،‬ندمت كثريا لشكي‬
‫بشخصني رائعني وطيبني مثلهام‪ ،‬قمنا بالطبخ معا ‪ ...‬كان ممتعا ‪...‬‬
‫رأيت صور رغد منذ أن كانت صغرية أليام اجلامعة وحكت يل والدهتا‬
‫الكثري من القصص املحرجة عن رغد بينام هي حتاول إسكاهتا لكنني‬
‫طالبت بمعرفة املزيد من القصص عنها‪ ،‬رغبت بمعرفة كل ثانية من‬
‫حياهتا مل أكن فيها معها‪.‬‬
‫زوج والدهتا يمتلك ذوقا فريدا يف األغاين وعرفني عىل الكثري من‬
‫املوسيقى اجليدة‪ ،‬مل أرى أي توتر بينه وبني رغد بل رأيت أهنام مقربان‬
‫عكس ما توقعت‪ ،‬هي تتحدث حوله بأرحيية وتعامله كأب هلا لكن مل‬
‫أفهم ملاذا رغد قررت ترك هذ اجلو العائيل اللطيف والعيش لوحدها‪،‬‬
‫لطاملا متنيت عائلة كهذه‪ ،‬هلم الكثري من الشكر ملنحي شعور الدفء‬
‫وسط العائلة‪.‬‬
‫يف املساء قبل عودتنا جلست يف حديقة املنزل عندما كانت رغد‬
‫تتحدث مع أمها‪ ،‬دقائق وأتت للجلوس بجانبي ‪...‬‬
‫‪ -‬هل أعجبتك رفقة والديت وزوجها؟‬
‫‪ -‬طبعا‪ ،‬سيكون يوما ال ينسى ‪ ...‬فهمت اآلن ملاذا مل تشكي بوالدتك‬
‫وزوجها‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫‪ -‬أرأيت؟ أنا أعلم أنه ال عالقة هلام ‪ ...‬يوما ما سأكتب رواية عن‬
‫أمي ‪ ...‬باملناسبة هل الطبيبة التي تقاطعت طرقنا معها يف املستشفى‬
‫اسمها مها؟‬
‫‪ -‬هل تعرفينها؟‬
‫‪ -‬إذا أنا حمقة‪ ،‬هي طبيبة أمي ‪ ...‬هي متدحها جل الوقت ‪...‬‬
‫‪ -‬مها طبيبة مميزة لن جتدي مثيلتها‪ ،‬هي تعالج املرىض نفسيا وجسديا‪.‬‬
‫‪ -‬لكنني أغار منها‪ ،‬تزعجني فكرة أهنا تعرفك قبيل وحتى أهنا‬
‫درست معك‪.‬‬
‫‪ -‬سأكذب إن قلت مها كأي امرأة أخرى بالنسبة يل‪ ،‬لكن ال تقلقي‬
‫بشأهنا أنا فقدت تواصيل معها منذ خترجها‪ ،‬هي أقل مني بسنة‪ ،‬تعرفنا‬
‫عىل بعضنا يف اجلامعة كنت أدرسها بني احلني واآلخر ‪ ...‬إىل جانب‬
‫علياء هي ساعدتني لتخطي صدمتي عندما توفيت حبيبتي وأقنعتني‬
‫بالعودة ملقاعد الدراسة‪ ،‬هي من أعطتني درسا عندما تويف أول مريض‬
‫يل وأصبت باكتئاب حاد حينها كدت أترك الطب لكنها قالت‪« :‬هل‬
‫ستخيب ظن مئات املرىض القادمني إليك؟ لو كنت تشعر بالذنب‬
‫فلتنقذ املزيد بدل التذمر والبكاء متمنيا ظروفا أفضل ملا ال تتمنى أن‬
‫تصبح أقوى؟»‬
‫‪ -‬اقشعر بدين للتو‪ ،‬كل هذا وتقول أال أقلق بشأهنا؟ إىل جانب‬
‫امتالكها لشخصية قوية جدا مل أرى فتاة بمقدار مجاهلا‪ ،‬ربام هي تشفي‬
‫املرىض بالنظر إليهم بعنينها الزرقاوتني فقط ‪ ...‬يبدو أهنا تعرف عنك‬
‫الكثري ملا مل ختربين من قبل بقصة أول مريض لك؟‬
‫‪ -‬عندما حيني الوقت املناسب ستعرفني كل ما خيصني شيئا فشيئا‪...‬‬

‫‪80‬‬
‫ال تقلقي‪.‬‬
‫عاد كل منا إىل بيته بعدها‪ ،‬بعد الوقت الرائع الذي منحته يل رغد‬
‫هو وافق‬ ‫اليوم اتصلت بوالدي وأخربته عنها‪ ،‬عىل غري املتوقع‬
‫بسهولة بل وفرح! مرر ألمي اهلاتف ‪ ...‬أعلنت عن موافقتها يل أيضا‬
‫متشوقة لرؤية زوجة ابنها املستقبلية فوعدهتم بإحضارها لزيارهتم يف‬
‫أقرب موعد‪.‬‬
‫تعلمت من اليوم أن القفز باالستنتاجات عن أناس ال أعرفهم‬
‫ليس بأمر حممود‪ ،‬فالنسخة السيئة التي تضعها عنهم يف خميلتك ليست‬
‫مسؤوليتهم‪ ،‬لذا بدل قضاء الوقت يف الشك بالناس والتفكري عنهم‬
‫بسوء نية ملا ال نعطيهم فرصة أوال لتربير أنفسهم؟‬
‫حتسنت عالقتي برغد وعائلتها‪ ،‬ووالداي مستعدان لتقبلها ‪ ...‬ملاذا‬
‫خط سري األحداث السعيد هذا مألوف لسبب ما؟ أليس هذا ما حيدث‬
‫يف الروايات قبل أن تنقلب األحداث ضد البطلني ويبدآن بخسارة ما‬
‫بنياه؟ ال يوجد ما يمكن أن يقلب األحداث ضدنا من غري الكاتب‬
‫الذي أرهقني التفكري به وخصوصا صمته حاليا‪ ،‬هو ينوي عىل ظهور‬
‫مفاجئ بال شك‪.‬‬
‫ماذا لو أنه يراقبنا بصمت اآلن؟‬

‫‪81‬‬
‫‪7‬‬

‫ابنة القمر والشمس يلتقيان‪.‬‬

‫حان يوم التقاء رغد بعائلتي رغم رفض علياء للمجيء‪ ،‬حتمست‬
‫أمي للموضوع وصارت تتصل يب كل يوم لتخربين متى سنأيت للزيارة‬
‫واستمرت بمناداهتا بزوجة ابني‪ ،‬كلمة زوجة أحدث وقعا خاصا يف‬
‫قلبي‪.‬‬
‫رغد خافت وتوترت أكثر مني‪ ،‬ألول مرة تتأخر يف اختيار مالبسها‬
‫وقامت بتصفيف شعرها أكثر من ثالث مرات ‪ ...‬مل أعرف أن للشعر‬
‫القصري الكثري من الترسحيات‪ ،‬وترتني معها وهي تسألني عن كيف‬
‫تترصف أو ما الذي عليها فعله‪ ،‬يف النهاية بعد مناقشات طويلة وعرض‬
‫أزياء خلزانتها انتهت إىل ارتداء فستان طويل أسود وكعب عال أمحر‬
‫حتى تبدو أكثر نضجا‪ ،‬رفضت اخلروج دون ارتداء يشء واحد أمحر‪،‬‬
‫هو رمز احلظ اجليد بالنسبة هلا‪.‬‬
‫وصلنا إىل بيت والدي ‪ ...‬جرى كل يشء عىل سالسة‪ ،‬عرفت كيف‬
‫تتكلم معهام وجتعلهام حيباهنا من البداية‪ ،‬بانطباعها الرقيق اهلادئ‪...‬‬

‫‪83‬‬
‫أمي أحبتها للدرجة التي مل تتوقف فيها عن االبتسام هلا‪ ،‬حتى سأهلا‬
‫والدي إىل بعضهام البعض ثم طلبا‬
‫ّ‬ ‫والدي ما عملها‪ ،‬قالت كاتبة‪ ،‬نظر‬
‫منها العفو ألهنام مل يسمعا هبا من قبل رغم ثقافتهام الواسعة عن عامل‬
‫الكتب‪.‬‬
‫‪ -‬يف احلقيقة اسمي الفني رؤى‪ ...‬هل سمعتام يب؟‬
‫أحسست أن صاعقة رضبت وجه أيب‪ ،‬أمي كادت ختتنق من املاء‬
‫الذي كانت ترشبه‪ ،‬مهست أمي يف أذن أيب بكلامت بالكاد سمعتها‬
‫لكني متأكد من قوهلا‪« :‬أليست ابنة القمر؟»‪.‬‬
‫فجأة بدآ بتفادينا بوضوح‪ ،‬وطلبا منا اإلرساع باخلروج بحجة تأخر‬
‫الوقت‪ ،‬ما الذي أصاهبام؟ رغد أصيبت بإحباط شديد وأحست أهنا مل‬
‫تعجبهام ومررت بوقت عصيب إلقناعها أن رأهيام لن يغري من حبي هلا‬
‫شيئا‪ ،‬واعتذرت هلا عن فظاظتهام لكنها استمرت بلوم نفسها ألهنا مل‬
‫تبذل املزيد من اجلهد لكسب رضامها‪.‬‬
‫بعد إيصاهلا‪ ،‬عدت إليهام لنصفي حساباتنا‪ ،‬ما الذي يفكران به؟‬
‫وأنا الذي ظننت للحظات أهنام تغريا‪ ،‬ندمت عىل منح نفيس أمال زائفا‬
‫عنهام‪.‬‬
‫ما إن دخلت حتى أنني مل أنبس ببنت شفة‪ ،‬قال أيب إال هي لن‬
‫تتزوجها ‪...‬‬
‫‪ -‬من طلب رأيك؟ هل أنت من ستتزوجها أم أنا؟‬
‫‪ -‬من فضلك يا أدهم أنا ال أطلب الكثري‪ ،‬يمكنك الزواج من أي فتاة‬
‫يف هذا العامل ما عداها‪.‬‬
‫‪ -‬لكني ال أرى أي فتاة يف العامل ما عداها‪ ،‬عىل األقل قدم يل تفسريا‪،‬‬

‫‪84‬‬
‫أعطني سببا ملاذا مل تعجبك؟‬
‫‪ -‬ال هتم األسباب يا بني‪ ،‬فقط تذكر كالمي ستكره نفسك فقط إن‬
‫تزوجتها‪ ،‬أنا قرأت روايتها األخرية الفتاة تقدم عىل االنتحار‪ ،‬ال شك‬
‫أهنا تعاين من مشاكل نفسية‪.‬‬
‫تذكرت كالم علياء عن عدم مناقشة شخص ما إن كنت عىل قناعة‬
‫أن اجلدال معه لن يغري من رأيه شيئا لذا جتاهلته وخرجت فليتكلم مع‬
‫نفسه‪.‬‬
‫مل أقتنع بسببه التافه عن روايتها‪ ،‬منذ متى أيب يقرأ للروائيني الشباب‬
‫املعارصين؟ ال أظن أن علياء قد أخربته عنا شيئا‪ ،‬وما الذي قصدته‬
‫أمي بابنة القمر؟ أشعر أهنا مجلة مألوفة لكن ال أتذكر أين سمعتها‪.‬‬
‫إىل جانب الكاتب الذي مل ننته من قضيته بعد‪ ،‬ها هي تظهر لنا‬
‫مشكلة جديدة تقف يف طريقنا‪ ،‬بدأت أكره عائلتي املعقدة‪.‬‬
‫ذهبت للمستشفى‪ ،‬إجازيت ستنتهي يف أيام لكن هناك مريض قىض‬
‫وقتا طويال هناك سيتم ترسحيه اليوم ‪ ...‬أنا متعلق به منذ قدومه رغم‬
‫أنه صغري يف السن ‪ ...‬كلنا فرحنا لتحديه مرض الرسطان‪ ،‬التقيت‬
‫بأصدقائي كذلك وألقيت التحية عىل اجلميع‪ ،‬اشتقت ملرضاي‬
‫وأوقايت التي أقضيها معهم‪.‬‬
‫ذهبت إللقاء نظرة عىل إحدى مرضاي‪ ،‬هي فتاة جامعية مصابة‬
‫بفقر دم حاد جدا‪ ،‬شعرت باألسف لرتكها بينام كانت يف أمس احلاجة‬
‫للرعاية اجليدة‪ ،‬إال أهنا سعدت لرؤيتي وحدثتني بحامسة عن الكتب‬
‫التي تركتها هلا قبل ذهايب وعن طبيبتها اجلديدة التي انتقلت منذ‬
‫أسبوع‪ ،‬مل أعرف أن هناك من سينتقل إىل قسمنا‪ ،‬سألتها عن اسمها‬
‫فأشارت بيدها لناحية الباب قائلة إهنا هنا‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫استدرت ألرى مها أمامي فاندهش كالنا ونطقنا يف آن واحد «ما‬
‫الذي أتى بك إىل هنا؟»‪.‬‬
‫ودعت مريضتي الصغرية وطلبت من مها اخلروج للتكلم قليال‪.‬‬
‫‪ -‬كيف انتقلت إىل هنا؟‬
‫‪ -‬أدهم‪ ،‬هل نسيت حلمي؟ لطاملا متنيت العمل يف إحدى‬
‫مستشفيات العاصمة‪ ،‬لو كنت أعلم مسبقا أنك تعمل هنا لطلبت‬
‫مساعدتك يف االنتقال‪.‬‬
‫‪ -‬إذا أنت غريت مقر سكنك؟ أمل تتزوجي من حبيبك؟‬
‫‪ -‬هل تراين أضع خامتا؟ لقد انفصلنا منذ وقت طويل بحجة أنه مل‬
‫يعد حيبني بعد اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬ال أصدق ذلك! أمل هيددك برمي نفسه من آخر طابق يف الكلية إن‬
‫رفضت مواعدته جمددا؟‬
‫‪ -‬كل هذا من املايض‪.‬‬
‫حتاورنا لساعات‪ ،‬حدثتني عن سبب قطع تواصلها معي بسبب‬
‫حبيبها السابق الذي كان سيفتعل مشكلة معي وعن وفاة كلبها الذي‬
‫تبنيته معها يف أول سنة من اجلامعة ووفاة أول مريض هلا متأسفة عن‬
‫قسوهتا جتاهي عندما مررت بنفس جتربتها فهي فقط اآلن فهمت‬
‫شعور العجز الذي حيس به الطبيب‪ ،‬لكنها أقوى اآلن‪.‬‬
‫حدثتني كذلك عن بعض املرىض الذين حتتاج مساعديت لتشخيص‬
‫حالتهم‪ ،‬أخربهتا أيضا عام جيري يف حيايت‪ ،‬عن رغد والرواية وتأسفت‬
‫هلا عن حماولة تفادهيا يف املستشفى ذلك اليوم‪ ،‬تفهمت موقفي ووعدتني‬
‫بالتفكري معي يف خطة إلجياد الكاتب‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫لو تسمع رغد أين حتدثت مع مها من جديد ستغضب بال شك‪ ،‬لذا‬
‫لن أخربها عنها حاليا حتى أسوي الوضع مع عائلتي‪.‬‬
‫مها مل تتغري طوال السنوات املاضية‪ ،‬ما زالت ختطف قلوب الرجال‬
‫من حوهلا دون أن تفعل شيئا‪ ،‬هي ولدت من عرقني خمتلفني‪ ،‬والدهتا‬
‫روسية ‪ ...‬لكن والدهيا تطلقا منذ أن كانت صغرية ومن حينها عاشت‬
‫مها مع والدها‪.‬‬
‫هي نسخة طبق األصل عن أمها بشعرها الذهبي وعينيها البلوريتني‪،‬‬
‫ما زالت برشهتا شاحبة جدا مما تسبب بربوز عروق يدهيا ‪ ...‬سمعت‬
‫مرة أن الفتيات ذات العروق البارزة تكون مشاعرهن رقيقة وصادقة‬
‫كطبيب ال ينبغي عيل تصديق هذه اخلرافات لكنهم حمقني نوعا ما‪.‬‬
‫ستطالبني رغد باالنتقال إىل مستشفى آخر إذا اكتشفت عمل مها‬
‫معي‪ ،‬كيف أقنعها أهنا األمجل يف نظري‪ ،‬أرغب يف كسب ثقتها وبشدة‪.‬‬
‫فهل احلب وحده كاف لكسب الثقة وإزالة كل الشكوك؟‬

‫‪87‬‬
‫‪8‬‬

‫عندما يذهب الظالم تكتشف احلقيقة‪.‬‬

‫انتهت إجازيت وعدت للعمل‪ ،‬مل أر رغد من يومها‪ ،‬اكتفينا بالتحدث‬


‫عرب اهلاتف فقط‪ ،‬تواصل قول «أنا بخري» لكن ذلك مل يقنعني‪.‬‬
‫ذهبت إىل املستشفى‪ ،‬أهنيت مواعيدي ثم ذهبت لعياديت اجلديدة‪،‬‬
‫ما زلت مل أفحتها بعد‪ ،‬فقط بصدد تعديلها ورشاء املعدات ‪ ..‬مل أدخلها‬
‫ملدة شهر لذا ذهبت جمهودات تنظيفي أدراج الرياح‪ ،‬قضيت وقتا أتفقد‬
‫املعدات التي اشرتيتها ثم عدت للبيت بعد يوم طويل‪ ،‬ملست الباب‬
‫فوجدته مفتوحا! من يكون يف الداخل؟ علياء بال شك ‪ ...‬لكني‬
‫دخلت بحذر رغم ذلك حامال املزهرية التي كانت بقرب الباب‪ ،‬من‬
‫يعلم ربام هناك من حيتاج ألن أحطم رأسه هنا ‪ ...‬ماذا؟‬
‫‪ -‬أمي ما الذي تفعلينه هنا؟ متى أتيت؟‬
‫‪ -‬كنت أود احلديث معك منذ أيام لكنك هربت بعيدا بعد شجارك‬
‫مع والدك لذا انتهى يب احلال يف منزلك‪ ،‬علياء من علمتني كيفية‬

‫‪89‬‬
‫الدخول‪.‬‬
‫‪ -‬جيدر يب زيادة احلامية يف منزيل بسببكم يا رفاق‪.‬‬
‫طلبت منها الراحة يف غرفة اجللوس‪ ،‬حرضت هلا بعض الشاي‬
‫الذي حتبه‪ ،‬ورثت حبه منها‪ ،‬لكن ما الذي أتى هبا إىل هنا؟ مل تزرين منذ‬
‫وقت طويل‪ ،‬يا ترى ما الذي ترغب بقوله‪.‬‬
‫قدمت هلا الشاي بعد إضافتي له قطع جليدية ألهنا تفضله باردا‬
‫جدا‪ ،‬قامت برشب كأسني ويف صدد رشب الثالث ومل تتحدث بجدية‬
‫سألتني عن كل يشء عن حايل‪ ،‬حال رغد‪ ،‬حتى كلب اجلريان الذي‬
‫أخربهتا أين ال أستطيع النوم بسبب نباحه ليال سألتني عنه‪ ،‬لكنها مل‬
‫تدخل يف صلب املوضوع الذي تريد التحدث معي بشأنه أبدا‪ ،‬ال‬
‫يمكن أن تكون قطعت كل الطريق لتسألني عن كلب‪.‬‬
‫‪ -‬أمي فلتدخيل يف صلب املوضوع من فضلك ما الذي ترغبني يف‬
‫التحدث بشأنه؟‬
‫تنهدت تنهيدة طويلة‪ ،‬ثم فتحت حقيبتها وأخرجت منها كتابا ثم‬
‫وضعته عىل املنضدة‪ ،‬إحدى روايات رغد‪ ،‬اسمها «أسرتوفيليا» ‪...‬‬
‫‪ -‬هل قرأت هذه الرواية؟‬
‫‪ -‬بالطبع‪ ،‬قرأت كل روايات رغد‪ ،‬إهنا إحدى كتاباهتا األوىل‪ ،‬هي‬
‫خمتلفة بوضوح عن رواياهتا األخرى ‪ ...‬حتى أنني أضع مقطعا منها‬
‫عىل صفحة حسايب ‪« ...‬رفعت يدي أعد النجوم‪ ،‬عند النجمة التاسعة‬
‫والعرشين أوقفني ‪ ...‬قال‪ :‬ال تعدهيا ستسقط يف عينيك ‪ ...‬فقلت‪ :‬إذن‬
‫هل سأصبح نجمة؟» ‪ ...‬تعلمني كم أحب هذا املقطع‪.‬‬
‫‪ -‬إذا لن يكون صعبا رشح القصة لك يا بني‪ ،‬ببساطة ماذا لو قمت‬

‫‪90‬‬
‫بتبديل اسم البطلني يف القصة بعيل ومجيلة؟‬
‫مل أفهم املغزى من كالم والديت‪ ،‬أليس اسم والدة علياء مجيلة؟‬
‫‪ -‬أمل تفهم بعد؟ حسنا سأحكي لك حكاية مر عليها أكثر من أربعني‬
‫سنة فلتحمل كأس الشاي واسمعني ‪...‬‬
‫قبل سنوات عديدة يف مخسينيات القرن املايض‪ ،‬كانت هناك امرأة‬
‫فريدة من نوعها‪ ،‬امرأة عىل غري النساء األخريات‪ ،‬اسمها مجيلة‪ ،‬اسم‬
‫عىل مسمى‪ ،‬مل تأخذ نصيبها من اجلامل فقط‪ ،‬بل الذكاء أيضا‪ ،‬امرأة‬
‫ذكية ومجيلة‪ ،‬تكاد تكون مثالية ‪ ...‬أي رجل قد يقع يف حبها‪ ،‬لكنها‬
‫وقعت يف حب الرجل اخلطأ‪ ،‬شخص مل يكن عىل القدر أن يلقي هبا‬
‫إليه‪.‬‬
‫أحبت ولدا اسمه عيل‪ ،‬القاهم احلب من أيام املراهقة‪ ،‬حبهام مل يكن‬
‫بسيطا‪ ،‬كان قويا ‪ ...‬أحبا بعضا أقوى مما قد تصفه أي رواية‪ ،‬أعمق‬
‫من أي حبيبان وأوىف أكثر من أي زوجني‪ ،‬مها فقط انعزال عن العامل‬
‫وأصبح كل منهام يرى نفسه يف اآلخر‪ ،‬وهكذا شقا طريقهام مع بعض‬
‫مصارعني الظروف‪ ،‬لكن مجيلة الذكية كانت تنسى نفسها مع عيل‪،‬‬
‫تصبح طفلة بني يديه‪ ،‬صحيح أن احلب جيعلك مغفال أحيانا‪.‬‬
‫هكذا شاء القدر أن حتمل منه قبل أن يقوم بخطبتها حتى‪ ،‬قبل أن‬
‫تربطهام أي عالقة زوجية مها ارتكبا خطأ ال يمكن تصليحه‪ ،‬درجة‬
‫ثقتها به ال يمكن أن توصف‪ ،‬مل خيذهلا أو أي يشء فلطاملا أراد الوفاء‬
‫بوعده بالزواج منها لكنها مل ختربه أهنا حامل أبدا‪ ،‬استمرت فقط‬
‫بالطلب منه اإلرساع باملجيء لطلب يدها‪ ،‬كان فرحا ملبارشهتا بسؤاله‬
‫عن ذلك خاصة مع رغبته الشديدة يف تصليح خطئه لذا أرسع لوالدها‪.‬‬
‫لكنهام اصطدما بالواقع حاال‪ ،‬والدها رفض رفضا قاطعا زواجها‬

‫‪91‬‬
‫من عيل‪ ،‬بسبب شجار قديم بني العائلتني‪ ،‬وما زاد األمر تعقيدا سامع‬
‫والد عيل بتقدمه لطلب يد ابنة عدوه فاستشاط غضبا وتشاجر مع عيل‪.‬‬
‫والدها كره عيل بسبب والده قبل أن يتطرق ليتعرف عليه ويستحيل‬
‫البنته أن ختربه حقيقة كونه حبيبها أو أهنا حامل سيذبح عيل ويرشب‬
‫دمه أمامها ناهيك عن ما قد يفعله هبا‪ ،‬كانت مسألة وقت حتى تبدأ‬
‫بطنها بالربوز‪ ،‬كان عليها الترصف برسعة وإجياد حل يف شهر‪.‬‬
‫خططت هي وعيل للهرب بعيدا لكن عيل كان أجبن من أن يفعل‬
‫ذلك‪ ،‬يف النهاية مل يكن قادرا عىل التخيل عن كل يشء من أجلها مثلام‬
‫فعلت‪ ،‬خصوصا أنه مل يعلم أن ابنه يف بطنها‪ ،‬رفض أخريا خطتها‬
‫قائال‪« :‬مجيلة هل علينا الذهاب إىل هذا احلد؟»‪.‬‬
‫يف هذه األثناء تقدم شاب اسمه كريم خلطبتها من العاصمة أتى‬
‫للعمل بمدينتها ورآها ففتن هبا قبل أن يكلمها حتى‪ ،‬ومن مل تعجبه‬
‫مجيلة؟ والدها وافق عليه عىل الفور دون تردد‪ ،‬مل يوافق ألن كريم كان‬
‫مستقرا ماديا أو أنه استوىف مجيع رشوط الزوج املثايل‪ ،‬بل ألن والدها‬
‫رأى فيه املالذ اجليد للتخلص من عيل‪ ،‬فوافق دون أن يستشري مجيلة يف‬
‫ذلك‪.‬‬
‫بام أهنا كانت يائسة من رفض عيل اهلروب معها مشت يف الطريق‬
‫الذي اختاره هلا والدها‪ ،‬قررت املوت عىل يد هذا الشاب يوم عرسها‬
‫بعد أن يعرف رسها‪ ،‬مع ذلك مل تتوقف عن إرسال الرسائل لعيل أو‬
‫االلتقاء به‪ ،‬رغم قرب عرسها‪ ،‬والدها كان فرحا عىل إرصارها عىل‬
‫املسارعة للزواج ظنا منه أهنا كرهت عيل ورأت لونه احلقيقي‪ ،‬كان‬
‫فخورا بابنته بينام ال يعلم ولو جزءا من احلقيقة املخفية‪.‬‬
‫لكن مجيلة ما زالت حتب عيل‪ ،‬أخريا تفهمت سبب عدم هروبه‬

‫‪92‬‬
‫معها‪ ،‬فلو هربا والدهيام بقوة نفوذمها ما هي إال أيام وجيداهنام ال حمالة‬
‫ولن تتعقد إال األمور بعد ذلك ‪...‬‬
‫اقرتب يوم العرس وعيل يراقب من بعيد من قىض معها مراهقته‬
‫وشبابه‪ ،‬يأخذها من يديه شخص جمهول ‪ ...‬آخر ما متناه حيصل أمام‬
‫عينيه ‪ ...‬كابوس حياته‪ ،‬كان خائفا من الذي سيحصل لكنه مل حيرك‬
‫ساكنا‪ ،‬كان عاجزا وأحس بالضعف‪ ،‬كان جبانا‪ ،‬مل يكن قويا بقدر‬
‫مجيلة التي حتكمت برغبتها يف سبيل إنقاذ جنينها ‪...‬‬
‫هكذا وصل يوم عرسها‪ ،‬مل تكن كأي عروس‪ ،‬فارقتها االبتسامة‬
‫وتركتها السعادة‪ ،‬مل تستمتع ولو بلحظة من عرسها الذي حلمت‬
‫به منذ وقوعها باحلب‪ ،‬ليس سهال تقبل فكرة الزواج من شخص مل‬
‫تربطك به أي كلمة من قبل ‪ ...‬ليس سهال الزواج بشخص ال حتبه‪.‬‬
‫مر عرسها كاجلحيم‪ ،‬األصوات الصاخبة التي ترددت عىل‬
‫مسامعها زادهتا اكتئابا‪ ،‬سمعت األغاين كلحن للموت ورأت حناء‬
‫يدهيا توقيعا عىل موهتا الوشيك‪.‬‬
‫وصلت اللحظة احلاسمة أخريا ‪ ...‬مجيلة وكريم لوحدمها بعد أن‬
‫افرتق املدعوون وأكملوا مراسم العرس‪ ،‬كالمها ينظر لآلخر‪ ،‬إال أن‬
‫كل نظرة منهام خمتلفة‪ ،‬نظر هلا كريم نظرة حب وفرح بينام هي نظرة‬
‫حزن وأسى‪ ،‬استجمعت مجيلة كل ما هلا من شجاعة وجرأة يف حياهتا‬
‫كلها ووظفتها يف كلمتني قالت له‪« :‬أنا حامل»‪.‬‬
‫كريم كاد يموت من قوة الصدمة مل يعرف ما عليه فعله فهذا آخر‬
‫أو رميها‬ ‫موقف قد ختيله حيدث بينهام‪ ،‬طلبت منه قتلها إن أراد‬
‫هي ال هتتم بعد اآلن‪ ،‬أعطته حرية الترصف بشأهنا طلبت منه حتى‬
‫جرها خارجا والرصاخ للجميع أهنا ملوثة ‪ ...‬غري رشيفة ‪ ...‬أي ما‬

‫‪93‬‬
‫يريد فعله فليفعله‪.‬‬
‫الحظ يأسها الشديد القابع يف عينيها‪ ،‬هي مل تبك أبدا‪ ،‬كانت عيناها‬
‫فارغتان ‪ ...‬عينا شخص فقد األمل يف احلياة‪ ،‬خرج كريم ومل يعد إال‬
‫فجرا‪ ،‬كاد يقتل نفسه‪ ،‬مل يتقبل قدره القايس ‪ ...‬خرج وذهب بعيدا‬
‫ليرصخ بأعىل ما يمكنه‪ ،‬كان من البداية لديه شك يف قبوهلا برسعة‬
‫الزواج منه وتعجلها إلقامة العرس‪ ،‬بعد معرفته السبب متنى لو مل يقدم‬
‫عىل خطبتها من األساس‪ ،‬وندم عىل التقدم لفتاة مل يتحدث معها من‬
‫قبل‪.‬‬
‫عندما عاد وجدها مل تتحرك ولو خطوة ما زالت ترتدي ثوب‬
‫زفافها جالسة يف نفس املكان لكنها كانت تبكي هذه املرة‪ ،‬تبكي بقوة‬
‫وترجتف‪ ،‬أعطاها كريم بعض املاء وأحرض كرسيا ليجلس مقابال هلا‬
‫مطالبا منها أن حتكي له قصتها من البداية‪ ،‬هبذا حكت مجيلة له كل ما‬
‫حصل من أول يوم تعرفت فيه عىل عيل إىل يوم العرس‪ ،‬بعد االستامع‬
‫هلا قرر أال يفضحها أو يكشف رسها ولن يطلقها لكن برشطني‪.‬‬
‫األول أال خترب عيل بأن من يف بطنها ابنه‪ ،‬بل سريبيه هو عىل أساس‬
‫والده احلقيقي‪ ،‬وثانيا لن يطلقها لكنه لن يلمسها كذلك طيلة حياهتام‪،‬‬
‫طلب منها أن تكون حبيسة له إىل موهتا‪ ،‬وأن تنسى عيل هنائيا‪.‬‬
‫مجيلة كانت غليظة الرأس استمرت بااللتقاء مع عيل من وراء ظهر‬
‫كريم عدة أيام ألهنا استمرت بالقلق عليه بعد أن سمعت بمحاولته‬
‫قتل نفسه يوم عرسها ‪ ...‬حتى بدأت بطنها بالربوز‪ ،‬أخربته مثلام طلب‬
‫منها كريم بالضبط‪ ،‬وهنا كانت النهاية هلام‪ ،‬عندما عرف عيل بأن مجيلة‬
‫حامل‪ ،‬قرر عدم االلتقاء هبا أو احلديث معها جمددا لألبد‪ ،‬كأنه استفاق‬
‫للتو أن مجيلة متزوجة ومل تعد حبيبته بعد اآلن‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫مجيلة كانت تكتب يف مذكراهتا يوميا عن حياهتا وما حيصل هلا‪ ،‬يف‬
‫مذكراهتا وصفت كريم بالشمس‪ ،‬ألهنا بدأت تنسى عيل عندما تقيض‬
‫معه وقتها يف النهار‪ ،‬كان يكون لطيفا تارة وأحيانا يصبح باردا جتاهها‪،‬‬
‫قضت معظم هنارها يف حماولة فك شفرة شخصيته‪ ،‬قررت كسب‬
‫رضاه فهو منقذها بعد كل حال‪ ،‬من قد يريب ابن شخص آخر؟ هو‬
‫شخص لن جتد مثيله يف مليار نسمة‪.‬‬
‫أما عيل كان القمر بالنسبة هلا‪ ،‬عندما يأيت الليل وتبقى بمفردها‬
‫تتذكره ‪ ...‬واستمر الوضع عىل هذا احلال إىل أن أنجبت طفلة‪ ،‬أخرب‬
‫كريم والديه أهنا أنجبت ابنتهام عىل سبعة أشهر عىل غري املعتاد‪ ،‬البنت‬
‫التي أنجبتها نسخة طبق األصل عنها أسمتها «علياء»‪ ،‬فرح كريم‬
‫بالطفلة كأنه والدها احلقيقي وفرح لرؤية الشبه الكبري بينها وبني‬
‫والدهتا ألنه كان خائفا من أن تشبه عيل‪ ،‬مل يرغب يف محل الكره لفتاة ال‬
‫عالقة هلا بأخطاء والدهيا‪.‬‬
‫يف هذا الوقت عندما تردد عىل مسامع عيل اخلرب‪ ،‬قرر امليض يف حياته‬
‫أيضا‪ ،‬لذا تزوج من امرأة عرفته عليها والدته اسمها ريام‪ ،‬هي امرأة‬
‫جتيد كل يشء‪ ،‬كانت أفضل من مجيلة بكثري لكنه رآها أقل بكثري‪ ،‬مل‬
‫يرى الكامل إال يف مجيلة‪ ،‬لكنها مل تقدر أن تكون له ال هي وال ابنته التي‬
‫مل يعرف بشأهنا‪.‬‬
‫ريام كانت أمجل من مجيلة بمراحل‪ ،‬إن كانت مجيلة تكاد تكون‬
‫مثالية فربام ريام مثالية ‪ ...‬لكن لألسف ذلك مل يكن كافيا جلعل عيل‬
‫حيبها فباءت كل حماوالهتا لرسقة قلبه بالفشل‪ ،‬متنت لو حيكي هلا عن‬
‫ماضيه إن أمكن لكنه مل ينرشح هلا يوما‪.‬‬
‫أما مجيلة التي مل حتب سوى شيئني يف حياهتا‪ ،‬الفلك ‪ ...‬عشقت‬

‫‪95‬‬
‫السامء والنجوم والكواكب وأحبت عيل التي كانت تراه كوكبا مجيال‬
‫يسبح يف فضاء حبها‪ ،‬لكن دخل كويكب جديد إىل فضائها‪ ،‬ابنتها‬
‫اجلميلة علياء التي رغبت بشدة أن ترث منها حبها للنجوم بدل وجهها‪.‬‬
‫أحبت اعتناء كريم بابنتها كأهنا ابنته‪ ،‬حتى كادت تصدق أهنا من‬
‫حلمه ودمه ‪ ...‬وصفت يف مذكراهتا أن كريم أحب علياء بقدر عدد‬
‫النجوم يف الكون‪ ،‬رغم إحساسها بوخز يف قلبها كل ما تذكرت عيل‪،‬‬
‫أليس من حقه التعرف عىل ابنته؟ لكنها استمرت يف الوفاء بوعدها‬
‫لكريم‪.‬‬
‫استمرت يف كتابة يومياهتا‪ ،‬جزء منها قرر الوفاء لكريم ألنه‬
‫شاركها شيئا مل يشاركها إياه عيل وهو حب النجوم‪ ،‬أحب السامء‬
‫والنجوم والشمس والقمر أكثر منها ووجدت أن ثقافته حوهلم أوسع‬
‫منها بكثري لذا تعلمت منه العديد من األشياء وأشبعت فضوهلا‪ ،‬كانا‬
‫يقضيان وقتا طويال يتحدثان عن الفلك لكن قلت أحاديثهام عندما‬
‫أصيبت مجيلة باملرض‪ ،‬اعتربته وقت عقاهبا‪ ،‬لذا بدل أن تبذل ما‬
‫بوسعها للشفاء استسلمت للمرض‪.‬‬
‫قبل موهتا قامت بعمل نسخة ليومياهتا وأرسلتها لعيل خفية أما‬
‫األصلية أعطتها لكريم طالبة منه االعتناء بعلياء جيدا قبل موهتا‪،‬‬
‫اعرتف كريم هلا بمشاعره جتاهها وعن مقدار حبه هلا ولو كان ذلك‬
‫متأخرا للغاية ويف غري وقته ‪ ...‬يف مساء أمسية خريفية مجيلة رحلت‪.‬‬
‫أما بالنسبة للنسخة التي أرسلتها مجيلة لعيل من مذكراهتا فقد‬
‫وقعت يف يد ريام‪ ،‬زوجة عيل التي مل تكن قادرة عىل اإلنجاب حينها‪،‬‬
‫كانت خائفة من احتاملية إحضار عيل ابنته للبيت بعد أن سمعت‬
‫بموت مجيلة‪ ،‬لذا هي خبأهتا بعيدا عنه بحيث لن جيدها مطلقا‪ ،‬لكن‬

‫‪96‬‬
‫مل تقدر عىل حرقها أو التخلص منها‪.‬‬
‫بعدها بحوايل سنتني تزوج كريم من جديد مع امرأة أخرى ليقدر‬
‫عىل رعاية علياء‪ ،‬تزوج بعزيزة التي مل تتزوج من قبل‪ ،‬قريبة له أحبته‬
‫من طرف واحد منذ الصغر‪ ،‬بعد أن سمعت بتفكريه بإعادة الزواج‬
‫اغتنمت الفرصة التي انتظرهتا لسنني‪ ،‬مل تعرف حينها أن علياء مل تكن‬
‫ابنته‪ ،‬لذا ربتها وأحبتها كثريا كوهنا قطعة من كريم رغم أملها كل ما‬
‫رأت فيها وجه املرأة التي أحبها زوجها‪ ،‬أنجبت هلا أخا اسمه أدهم‪،‬‬
‫أخا ال تربط بينهام أي صلة دماء ‪...‬‬
‫عيل وريام أيضا استطاعا إنجاب طفلة بعد جهد أسمياها رغد‪،‬‬
‫وهكذا نسيت كلتا العائلتني املايض واستمرا بالعيش يف هناء سنوات‬
‫طويلة‪ ،‬حتى أتى يوم عصف بالعائلتني‪.‬‬
‫وقعت مذكرات مجيلة يف يد علياء أثناء حزمهم ألغراضهم من‬
‫أجل االنتقال ملنزل جديد‪ ،‬كانت احلقيقة أكرب من أن تتقبلها علياء‪،‬‬
‫كيف أن كل حياهتا كانت كذبة‪ ،‬كانت بالعرشين‪ ،‬لذا هي عاشت‬
‫طوال حياهتا مع شخصني ليسا بوالدهيا متاما ‪ ...‬صحيح أهنا تعرف‬
‫أن عزيزة ليست والدهتا ولكن ماذا عن كريم؟ وأخ ال تربطها به عالقة‬
‫دم ‪ ...‬هي عاشت حياة مزيفة لعرشين سنة‪ ،‬مل تتمكن من الصرب حتى‬
‫تكمل قراءة مجيع املذكرة ‪ ...‬كان عليها فعل يشء لتخرج الغضب‬
‫الذي بداخلها‪.‬‬
‫أول شخص ذهبت له للتأكد منه كانت عزيزة ‪ ...‬حسنا فعىل األقل‬
‫عزيزة مل تكذب عليها وأعلمتها منذ الصغر أهنا ليست والدهتا ‪ ...‬عىل‬
‫األقل جزء من حياهتا حقيقي ‪ ...‬لكن عزيزة نفسها مل تكن تعلم بالقصة‬
‫ومل تفهم ما حتاول علياء قوله أو الوصول إليه‪ ،‬حينها أدركت علياء أهنا‬

‫‪97‬‬
‫ليست الوحيدة التي مل تعلم احلقيقة ‪ ...‬مل يتم خداعها لوحدها‪ ،‬لذا‬
‫منحت املذكرات لعزيزة‪.‬‬
‫يف الواقع عزيزة انصدمت أكثر من علياء نفسها وبكت عىل حاهلا‬
‫‪ ...‬إذا الفتاة التي تفانت يف تربيتها هي ابنة شخصني آخرين غريبني‬
‫متاما عنها‪ ،‬احتدت علياء وعزيزة إلجياد حل وفك الغموض‪ ،‬كان‬
‫عليهام سلك إحدى الطريقني إما مصارحة كريم أو نسيان األمر‪،‬‬
‫لكن فضول اإلنسان جيعله خيتار أصعب الطرق دائام‪ ،‬لذا مها فقط‬
‫منحتاه املذكرات مبارشة وطالبتاه بتفسري ‪ ...‬وضعاه يف موقف ال‬
‫حيسد عليه‪ ،‬مل يكن لكريم أي طريقة أو كذبة للهروب من املوقف‪ ،‬لذا‬
‫حكى هلام احلقيقة كاملة‪.‬‬
‫مل تكن حكاية كريم وحدها كفيلة بإشباع فضول علياء‪ ،‬رغبت‬
‫بااللتقاء بوالدها البيولوجي يف أقرب وقت‪ ،‬مل جيد كريم منفذا‬
‫منها مع هتديدها له باهلرب من املنزل أو قتل نفسها‪ ،‬لذا تواصل مع‬
‫عيل واعرتف له باحلقيقة التي مل يصدقها يف البداية‪ ،‬لكن بعد إجراء‬
‫التحاليل اتضح أهنا ابنته حقا ‪ ...‬بعد اكتشاف عيل للحقيقة كان خائفا‬
‫من مصارحة زوجته ريام ووجد صعوبة يف إخبارها وخاف أن تسمع‬
‫ابنته رغد بذلك فيخيب ظنها بوالدها‪.‬‬
‫تشجع عيل ومجع شتات نفسه‪ ،‬انفرد مع ريام وحكى هلا القصة‬
‫كاملة مؤكدا عىل رضورة إخفاء األمر عىل رغد ‪ ...‬لكن جواب ريام‬
‫آخر ما توقعه ببساطة هي أجابته ب‪« :‬نعم‪ ،‬أنا أعرف هذا بالفعل»‪،‬‬
‫جن جنون عيل وطالبها بتفسري فمنحته نسخة املذكرات‪.‬‬
‫أحس عيل بخداع اجلميع فالكل حاول إخفاء احلقيقة عنه لذا أصبح‬
‫ال يثق بأحد‪ ،‬بعد تفكري مطول قبل أن يصل حلافة اجلنون سامح ريام‬

‫‪98‬‬
‫عىل إخفاء املذكرات فهي أم ابنته كذلك‪ ،‬هو حيب رغد أكثر من أي‬
‫شخص يف العامل‪ ،‬أحبها أكثر من مجيلة ‪ ...‬هذا كاف لوصف مقدار‬
‫حبه البنته‪ ،‬كانت من لون حياته ومأل فراغه العاطفي لذا مل يرد أن‬
‫ييسء لوالدهتا‪.‬‬
‫التقى بعلياء عدة مرات وعرض عليها االنتقال للسكن معه‪ ،‬علياء‬
‫فكرت مليا‪ ،‬هل تبقى مع كريم وعزيزة اللذان أحباها أكثر من ابنهام‬
‫احلقيقي؟ أم مع عيل الذي مل تعرفه من قبل وزوجته وابنتهام؟ أليس‬
‫الطريق الصحيح واألسعد واضحا؟ هي رفضت عرض عيل قاطعة‬
‫هبذا كل عالقة معه وعادت لكريم ‪ ...‬لكن من يومها تغري يشء يف‬
‫علياء ‪ ...‬قلبها مل يبقى كام كان ‪ ...‬من يومها مل يسمع منها كريم كلمة‬
‫أيب‪ ،‬آمله ذلك لكنه تقبل موقفها ‪ ...‬كان كافيا بالنسبة له قرار ختليها عن‬
‫والدها البيولوجي من أجله‪.‬‬
‫لكن بعد سنتني من هذه احلادثة‪ ،‬ظهرت فجأة رواية بعنوان‬
‫«أسرتوفيليا» ‪« ...‬مذكرات امرأة أحبت النجوم»‪ ،‬تم تغيري أسامء‬
‫الشخصيات لكن ال جمال للشك أهنا نفس مذكرات مجيلة‪ ،‬نرشهتم‬
‫روائية اسمها رؤى ‪ ...‬علياء فعلت املستحيل لتجد هويتها‪ ،‬لكنها‬
‫عرفت جيدا من أين تبدأ البحث ومل ختطئ ‪ ...‬هي شكت بريام لكن‬
‫مل تكن هي الفاعلة‪ ،‬من نرشهتم كانت ابنتها رغد ‪ ...‬مل تفهم علياء‬
‫دافع أختها غري الشقيقة بفعلتها هذه‪ ،‬علياء كرهت رغد ‪ ...‬رأت فيها‬
‫النفاق‪ ،‬الكذب والرسقة وكل ما هو فاسد‪.‬‬
‫حسنا تنتهي القصة هنا يا بني‪ ،‬هذا كل ما أعرفه‪.‬‬ ‫ ‪-‬‬
‫مل أستطع تصديق ما تسمعه أذناي‪ ،‬سقط الكأس من يدي يف‬
‫منتصف حديث والديت ‪ ...‬أنا قرأت الرواية مسبقا وأعرف نصف‬

‫‪99‬‬
‫األحداث حتى موت مجيلة‪ ،‬لكن مل أعتقد قط أن والدي إحدى أبطاهلا‬
‫احلقيقيني أو أهنا مقتبسة من قصة واقعية‪ ،‬لكن ملاذا نرشهتا رغد؟ أبسط‬
‫حل كان سؤاهلا مبارشة‪ ،‬ال وقت لدينا للتفكري جمددا وإخفاء احلقائق‬
‫‪ ...‬أمتنى لو تكون رغد ال تعرف بذلك وأخفته عني‪.‬‬
‫مل أقو عىل االنتظار فأرسعت باخلروج متجاهال رصاخ أمي آمرة‬
‫إياي بالتوقف‪ ،‬اتصلت برغد قائال هلا‪« :‬أنا قادم حاال»‪.‬‬
‫أرسعت بأقىص ما يمكنني للقائها يف أقرص وقت‪ ،‬وصلت لبيتها‬
‫عىل آخر نفس ‪ ...‬مل أركن السيارة جيدا ودخلت مرسعا ‪ ...‬ما إن‬
‫فتحت يل الباب حتى سألتها مبارشة بنفس متقطع‪.‬‬
‫هل كنت تعرفني؟‬ ‫ ‪-‬‬
‫ما الذي تتحدث عنه؟‬ ‫ ‪-‬‬
‫هل كنت تعلمني أن علياء أختك وليست أختي؟‬ ‫ ‪-‬‬
‫اندهاش رغد مل يكن أقل مني أبدا‪ ،‬بل ربام أكثر ‪ ...‬مل تعلم شيئا من‬
‫هذه القصة‪ ،‬مل تكن تعلم أن هلا أختا ‪ ...‬كل ما كان عليه األمر أنه بعد‬
‫جنازة والدها بينام كانت توظب أغراضه وجدت نسخة املذكرات‪ ،‬ملا‬
‫سألت والدهتا عنهم كذبت ريام جمددا مسببة بذلك مشكلة أخرى‪،‬‬
‫قالت أهنا رواية كتبها والدها عىل شكل مذكرات ‪ ...‬والدها لطاملا أراد‬
‫أن يكون روائيا لكنه مل حيقق احللم‪ ،‬لذا كان سعيدا أن ابنته حققته من‬
‫أجله‪ ،‬رغم فشل عملها األول باسم رغد‪ ،‬إال أهنا عادت بقوة بعمل‬
‫آخر باسم جديد ‪ ...‬لذا لطاملا افتخر هبا قبل وفاته‪.‬‬
‫بعد أن أمتت قراءة املذكرات أرادت نرشهم لريى العامل كلامت أبيها‬
‫لذا استبدلت أسامء الشخصيات بأسامء جديدة جتذب االهتامم أكثر‬

‫‪100‬‬
‫بنصيحة من أمها‪ ،‬لكنها مل تدرك أهنا كلامت شخص آخر‪ ،‬أسمتها‬
‫أسرتوفيليا ألن مجيلة عشقت النجوم كثريا ‪...‬‬
‫وأسرتوفيليا معناه حب النجوم والكواكب والتعلق بالسامء‪ ،‬رغد‬
‫شكت بالفعل يف مصداقية أقوال أمها خصوصا عندما نصحتها بتغيري‬
‫أسامء الشخصيات لكنها فوتت األمر حينها‪ ،‬أوال اسم مجيلة مل يتم ذكره‬
‫يف املذكرات أبدا‪ ،‬كانت تتحدث دائام باسم أنا‪ ،‬ومل تعرف رغد من‬
‫يكون كريم‪ ،‬باإلضافة مجيلة مل تذكر اسم ريام أبدا ألهنا مل تكن تعرفها‬
‫شخصيا وصفتها يف املذكرات فقط باسم زوجة عيل‪ ،‬لذا صدقت رغد‬
‫أن والدها رغب يف أن يكون بطل رواية ما‪ ،‬يف نظرها كانت فعلتها‬
‫سعيا لتحقيق رغبة والدها لكن الواقع كان أقسى من ذلك‪.‬‬
‫وضعي مع رغد أصبح غريبا‪ ،‬مل أعتقد أن عالقتنا معقدة هكذا‪،‬‬
‫عالقتنا كان مقدرا هلا التعقد قبل والدتنا حتى‪ ،‬نحن نتحمل اآلن‬
‫مسؤولية آبائنا‪ ،‬كيف عشت ألكثر من ثالثني سنة مع امرأة ظننت أهنا‬
‫أختي بينام ليست كذلك؟ ومل تتعب نفسها بإخباري احلقيقة ولو‬
‫ليوم‪.‬‬
‫كان عىل رغد التحدث مع والدهتا يف املوضوع‪ ،‬لذا تركتها لتسوي‬
‫األمور بنفسها مع أمها‪ ،‬هذه املرة عندما افرتقنا مل تكن كسابقاهتا مل نقل‬
‫لبعض «سأراك عام قريب»‪.‬‬
‫عدت للبيت منهكا‪ ،‬حاولت النوم لكن مل أستطع فبقيت أنظر لسقف‬
‫غرفتي الليل بطوله‪ ،‬أيقنت أن القدر كان يرسل يل تنبيهات من البداية لكن‬
‫مل أنتبه‪ ،‬أوال مل أتعرف عىل رغد قبل ثالث سنوات بينام كانت أمامي‪ ،‬ثم‬
‫العقباتالتيواجهتناحتىتعرفناعىلبعضواآلنعالقةعائلتينااملشؤومة‪.‬‬
‫لكن من يكون الكاتب؟‬

‫‪101‬‬
‫‪9‬‬

‫احلزن سيدوم لألبد‬


‫من فان جوخ إىل أخيه ثيو‪.‬‬

‫اضطررت الذهاب يف الصباح إىل املستشفى عىل مضض‪ ،‬كيف‬


‫أداوي املرىض وأنا مريض نفسيا ‪ ...‬التقيت بمها فالحظت تغري‬
‫حالتي وأين لست عىل ما يرام فاستمرت بسؤايل عن حايل دون توقف‪،‬‬
‫لست قادرا عىل الكالم لكنها من النوع املرص‪ ،‬فاستسلمت لطلبها يف‬
‫النهاية‪ ،‬يف احلقيقة أنا أكذب ‪ ...‬كنت بحاجة بشدة لشخص ألفرغ له‬
‫قلبي لعل الثقل ينقص عني‪.‬‬
‫حكيت ملها كل ما حدث‪ ،‬كام توقعت ‪ ...‬اندهشت من مدى تعقد‬
‫األحداث‪ ،‬أهنيت كالمي واضعا رأيس بني يدي‪ ،‬ربتت مها عىل ظهري‬
‫ملواسايت ثم قالت‪« :‬لكن أال يعني هذا أن علياء الكاتبة؟»‪ ،‬نظرت هلا‬
‫نظرة خاطفة واالندهاش يعلو وجهي‪ ،‬كيف فاتني هذا؟‬
‫‪-‬مها فلتأخذي مكاين يف مناوبة اليوم من فضلك لدي عمل أقوم‬

‫‪103‬‬
‫به‪ ...‬إىل اللقاء‪.‬‬
‫‪ -‬انتظر! أين أنت ذاهب؟ أنا فقط افرتضت ذلك ‪...‬‬
‫نظرية مها صحيحة فعلياء كرهت رغد من البداية‪ ،‬كانت سبب‬
‫رفضها للعيش مع عيل أوال‪ ،‬كانت خائفة من أن يتم تفضيلها عليها ثم‬
‫أتى اليوم الذي خرجت فيه رواية أسرتوفيليا‪ ،‬عندما علمت أن النارشة‬
‫رغد حقدت عليها أكثر‪ ،‬لكن مل تتجرأ حينها عىل رفع دعوى ضدها‬
‫أو أي يشء‪ ،‬فرغد امتلكت املسودة األصلية كذلك لذا ال جدوى من‬
‫اخلوض يف معركة ال ربح فيها‪ ،‬بعد ذلك علياء أصبحت خائفة يف كل‬
‫مرة تنرش فيها رغد رواية‪ ،‬لذا كانت أول من يشرتي رواياهتا‪.‬‬
‫ذات يوم بينام تركت إحدى الروايات عىل مكتبها وجدهتا أنا‪،‬‬
‫ومن هنا بدأت سلسلة كره جديدة بالنسبة هلا‪ ،‬ال بد أن اهتاممي الكبري‬
‫برغد أزعجها وكيف كنت معجبا بام تكتبه ‪ ...‬لذا رفضت باستمرار‬
‫مساعديت عىل إجيادها بينام تعرفها كل املعرفة‪ ،‬كرهت فكرة أين معجب‬
‫بعدوهتا بينام مل ألتق هبا حتى‪ ،‬أحست أن رغد رسقت كل احلب الذي‬
‫كان يفرتض أن يكون من نصيبها ‪...‬‬
‫ذات يوم رأت علياء رغد يف املستشفى‪ ،‬كانت مهووسة لتعرف‬
‫سبب جميئها ‪ ...‬بعد استجواب املمرضات ال بد أهنا عرفت أين‬
‫أجريت عملية لريام‪ ،‬لذا خافت أن أتوصل للحقيقة وأكتشف الرس‪،‬‬
‫عندها الحظت تردد رغد عىل املستشفى عدة مرات فأكثرت هي‬
‫من املجيء لزياريت دون سبب كذلك حتى ال متنح أي فرصة لرغد‬
‫بالتحدث معي‪.‬‬
‫لذا ال بد أن فكرة راودهتا ‪ ...‬ماذا لو تكتب رواية تكشف فيها عن‬
‫خصوصية حياة رغد‪ ،‬مثلام فعلت بمذكرات والدهتا؟‬

‫‪104‬‬
‫بدأت بمراقبة رغد لعدة سنوات حتى تأكدت من أهنا مجعت كل‬
‫معلومة عنها ثم كتبت رواية طويلة عام مجعته وجعلتني البطل‪ ،‬فبهذا‬
‫يف حال تعريف عىل رغد ستشك يب وتكرهني ‪ ...‬هذا ما خططت له بال‬
‫شك‪.‬‬
‫عندما أرصرت عىل طلب مساعدة علياء‪ ،‬ادعت اجلهل ثم قبلت‬
‫طلبي وفكرت يف كذبة لتخربين هبا عن كيف وجدت املعلومات بينام‬
‫هي من كتبتها منذ البداية‪.‬‬
‫أرادت مساعديت لرؤية رغد ثم تركي يف الفخ‪ ،‬لكن ذهب كل يشء‬
‫عكس ما خططت بل ساعدتنا عىل التعلق ببعض‪.‬‬
‫لكنها من ناحية ما كانت مرتاحة ألهنا تعلم أن أيب يستحيل أن‬
‫يسمح يل بالزواج من رغد ألنه مثلام كرهت هي رغد كره هو عيل‪،‬‬
‫يعرفان شعور بعض جيدا‪ ،‬يرون عائلة رغد نقطة سوداء يف حياهتم‪.‬‬
‫لذا تسرتا عىل الكثري من األرسار‪ ،‬أما إرصاري عىل الزواج من‬
‫رغد يغضبها ‪ ...‬يفقدها صواهبا ‪ ...‬ما خططت له لسنوات انتهى‬
‫بمساعدتنا بدل التفريق بيننا‪ ،‬ورثت حظ أمها العاثر بال شك‪.‬‬
‫إذا حصلت لك مشكلة من وراء ظهرك ومل تعرف الفاعل ‪ ...‬ذلك‬
‫الشخص الذي تقول عنه ‪« ...‬مستحيل أن يفعلها» ‪ ...‬نعم‪ ،‬جيب أن‬
‫تشك به أيضا‪.‬‬
‫هل سأمتكن من الثقة باآلخرين بعد اليوم؟ لن أخرب أحدا جمددا عن‬
‫أي يشء مجيل أعتز به وأحبه‪ ،‬فعىل ما يبدو ليس للجميع حسن النية‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫‪10‬‬

‫الكذب أكثر مرارة من احلقيقة‪.‬‬

‫أنا غاضب حقا‪ ،‬أخفت حقيقة أهنا ليست أختي‪ ،‬وتالعبت يب ‪...‬‬
‫اتصلت هبا وأنا أرجتف ‪ ..‬ردت بعد الرنة الثالثة ‪..‬‬
‫‪ -‬هل أنت يف البيت؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬ماذا ‪...‬‬
‫قطعت اخلط واجتهت هلا مبارشة ‪ ...‬وصلت لبيتها بقيت أرن اجلرس‬
‫وأدق الباب بقوة‪ ،‬اليوم يوم عطلتها أين يمكن أن تكون أمل ختربين أهنا‬
‫بالبيت؟ حتى بدأت بالرصاخ ‪« ..‬علياء أعرف أنك بالداخل افتحي‬
‫الباب قبل أن أقوم بتحطيمه» ‪ ...‬حلظات وتفتح الباب ببطء ‪ ...‬فتحته‬
‫ثم انسحبت خطوات للوراء حتمل بيدها وشاحا أمحر‪ ،‬ترجتف وتبكي‪،‬‬
‫مل أرها تبكي هبذه اهلستريية من قبل أبدا لكن غضبي كان أقوى من‬
‫دموعها وخوفها ‪ ...‬ما جذب انتباهي هو الوشاح األمحر املطابق للذي‬
‫متتلكه رغد‪ ،‬البد أن عيل من منح كال من الوشاحني لريام ومجيلة سابقا‬

‫‪107‬‬
‫فورثتاه ابنتامها ‪...‬‬
‫‪ -‬فلترشحي يل األمر اآلن ‪...‬‬
‫مع صياحي عليها بدأت يف الشهيق أكثر حتى سقطت عىل األرض‪،‬‬
‫كلام حاولت مساعدهتا عىل النهوض تعود لتسقط جمددا‪ ،‬ثم جلست‬
‫معها عىل األرضية وطالبتها بتفسري‪ ،‬صوهتا انقطع وبدأت بالتنفس‬
‫ببطء لكن مل تنطق ‪ ...‬مما أثار أعصايب حتى أوشكت عىل خنقها لكن‬
‫حتكمت بنفيس وعدت للوراء‪ ،‬إال بعد ميض من الوقت تكلمت ‪...‬‬
‫‪ -‬قالت يل عزيزة أهنا حكت لك كل يشء‪.‬‬
‫‪ -‬نعم أنا أعلم ما تعلمني اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬ال أنت ال تعلم ذلك ‪ ...‬أنت ال تعلم شيئا‪ ،‬ال حتاول قط أن‬
‫تترصف كأنك تفهمني أو تصب غضبك عيل دون االستامع إيل ‪...‬‬
‫‪ -‬ال يوجد أي مربر جيعلك ال تتمنني اخلري ألحد سوى أنك متتلكني‬
‫عقدة النقص‪ ،‬لطاملا كانت الظروف عذرا ‪..‬‬
‫‪ -‬توقف عن مطالبتي بتفسري وأنا حتت هذا الضغط‪ ،‬أنا أشعر بثقل‬
‫يف قلبي ويف جسدي كله ‪ ...‬اليوم الذي عدت فيه بعد مقابلة أيب‬
‫البيولوجي ثم عوديت ملنزل كريم‪ ،‬عندما رأيتك ‪ ...‬أنت مل تكن أدهم‬
‫الذي عرفته من قبل‪ ،‬فجأة مل تبق أخي الذي اعتدت العيش معه‪ ،‬اتضح‬
‫أننا غرباء ‪ ...‬فكان هذا خينقني‪ ،‬أعيش مع غريب يعاملني كأخته مثل‬
‫األبله‪ ،‬حاولت يف البداية أن أستمر بالعيش مثلام عهدت لكن لألسف‬
‫نظريت حينها نحوك تغريت لألبد‪ ،‬أتعلم من حرض والدي عىل رفض‬
‫حبيبتك السابقة؟ كانت أنا ‪ ...‬نعم أنا من فعلت ‪ ...‬مهست هلام قائلة‬
‫ماذا لو أدهم يقوم بخطأ عيل وينجب بنتا؟ حينها والدتك جن جنوهنا‬

‫‪108‬‬
‫وأنا فرحت‪ ،‬أعلم أننا لسنا مقدرين لبعض‪ ،‬لكن عىل األقل إن مل تكن‬
‫يل لن تكون ألحد‪.‬‬
‫‪ -‬علياء ما الذي تقصدينه أنت تكذبني أليس كذلك؟ إذا أفعالك‬
‫مل تتوقف عند كتابة رواية «أنا» وحسب‪ ،‬لكنني ما زلت أريد تفسريا‬
‫مفصال ‪...‬‬
‫‪ -‬أكذب؟ هل تكذبني اآلن يف أول يوم أتفوه به يف احلقيقة؟ هل تعلم‬
‫كم كان الكذب مرا؟ أنا فقط كنت سأحاول االنتحار اآلن بوشاح‬
‫أمي مثلام ذكرت يف الرواية ‪ ...‬أنا مل أرك كأخي أبدا يف العرش سنوات‬
‫املاضية‪ ،‬أحببتك من طرف واحد‪ ،‬ملاذا تظن أنني انتقلت للعيش‬
‫وحدي؟ ملاذا مل أتزوج؟ وملاذا اخرتت مهنة أكون فيها مشغولة جدا؟‬
‫كل هذا لتجنبك لسنوات بال فائدة‪ ،‬أنت بنفسك كنت تقول دائام‬
‫نحن نبدو كأصدقاء أكثر من إخوة‪ ،‬أال تعلم أن الصداقة بني الرجل‬
‫واملرأة هي جمرد حب يف ظروف مستحيلة ألحد الطرفني؟ ‪ ...‬بوضع‬
‫اعتقادك أنني أختك ‪ ...‬كان حب شخص أقل مني ليس جيدا بام فيه‬
‫الكفاية‪ ،‬لطاملا فكرت ماذا لو والديت تزوجت بعيل بشكل عادي أال‬
‫يعني هذا أنه ملا كان هناك وجود لرغد؟ لو اختلفت االقدار ولو قليال‬
‫لكانت لنا هناية خمتلفة‪ ،‬احلب من طرف واحد أصعب شعور‪ ،‬أنت‬
‫تقدم كل ما لديك لشخص ينظر لغريك‪ ،‬أذهب للنوم‪ ،‬أضع رأيس عىل‬
‫وساديت ولسبب ما ال أستطيع النوم‪ ،‬لسبب ما أبقى أفكر ماذا لو أنت‬
‫وأنا التقينا بطريق خمتلف؟ أم أن كل الطرق ال تؤدي إليك؟ قررت‬
‫التظاهر أن آالمي ال وجود هلا‪ ،‬لكن ذلك مل يؤد إال ملزيد من الوحشة‬
‫لذا استمريت بالبحث عن كيفية أجتاوز ذلك‪ ،‬أنا أحبك وأنت حتب‬
‫رغد‪ ،‬إياك والظن أنك كنت تعرفني جيدا معتقدا رؤيتك لكل جانب‬
‫من شخصيتي‪ ،‬أنت فرست كل ما فعلته من منطقك‪ ،‬بينام احلقيقة ال‬

‫‪109‬‬
‫صلة هلا بذلك‪ ،‬أنت تراين كشخص ال يشبهني‪ ،‬أنت ال تعرفني أنت ال‬
‫تعرف علياء ابنة عيل‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا ظللت صامتة عن هذا طيلة حياتك؟‬
‫‪ -‬هل تعتقد أن كل الناس مثلك ال جيدون مشكلة يف احلديث عام‬
‫يؤملهم؟ يف نقطة ما أدركت أن بقاءك بجانبي ال عالقة له بام أقدمه لك‬
‫أو ما تعرفه عني إنام برغبتك‪ ،‬وأنا كنت ضد رغبتك ‪ ...‬أنت عرفتني‬
‫أكثر من ثالثني سنة ورغد ملدة شهر لكنك أتيت للرصاخ عيل بسببها‬
‫حماوال خنقي ‪..‬‬
‫حاولت الكالم لكنها وضعت إصبعها عىل فمي وأسكتتني ثم‬
‫وضعت رأسها عىل كتفي وطلبت مني أن نبقى عىل هذه احلال لبعض‬
‫الوقت‪ ،‬بكت لساعات عىل كتفي دون أن حيرك أحد منا ساكنا‪ ،‬بقينا‬
‫جالسني عىل أرضية منزهلا عند الباب وكأن الوقت توقف يف تلك‬
‫اللحظة‪ ،‬بعد أن هدأت نوبتها قالت‪« :‬فلتحاول العيش سعيدا مع‬
‫رغد»‪.‬‬
‫خرجت من بيت علياء منهكا‪ ،‬صعدت إىل سياريت وبكيت ‪ ...‬نعم‬
‫بكيت مثل طفل صغري لساعات أخرى‪ ،‬توقعت كل أنواع اإلجابات‬
‫من علياء ‪ ...‬عن سبب نرشها رواية عن رغد ‪ ...‬ما عدا كوين أنا‬
‫السبب‪ ،‬ظننتها تكره رغد لنرشها رواية أمها لكن اتضح أن ذلك مل‬
‫يتوقف عند مذكرات مجيلة‪ ،‬بل ألهنا تغار من رغد بسببي ‪ ...‬أنا دمرت‬
‫عالقة أختني ببعضهام وال جمال لتصليحها‪.‬‬
‫ال أعرف كيف أصارح رغد باحلقيقة‪ ،‬أنا خائف من خسارهتا‪...‬‬
‫علياء قالت فلتعش معها بسعادة‪ ،‬لكنه من الواضح للغاية أهنا متر‬
‫بمرحلة صعبة‪ ،‬مهام حصل سأضطر خلسارة إحدامها‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫أقفلت عىل نفيس يف البيت أليام متجاهال اتصاالت اجلميع ‪..‬‬
‫املستشفى ‪ ...‬أمي ‪ ...‬مها ‪ ...‬رغد ‪ ...‬إال علياء مل تتصل يب بعدها ‪...‬‬
‫اإلقفال عىل نفيس ال طائل منه ولن حيل مشاكيل لكن يف نفس‬
‫الوقت مل أمتكن من إخبار رغد احلقيقة أو اخلروج ملواجهة أحد ‪...‬‬
‫جرس بايب يرن ‪ ...‬هنضت متثاقال ألرى من أتى ‪ ...‬مهال ‪ ...‬ما‬
‫الذي تفعله رغد هنا؟‬

‫‪111‬‬
‫‪11‬‬

‫هناية غري مألوفة‪.‬‬

‫فتحت الباب وطلبت منها الدخول‪ ،‬جلست لكن دون التطرق يف‬
‫الكالم بقيت فقط تنظر يف أرجاء املنزل لوقت فسألتها ‪...‬‬
‫‪ -‬ما الذي جاء بك إىل هنا؟‬
‫‪ -‬جئت ألطلب االنفصال عنك ‪...‬‬
‫‪ -‬ماذا؟ ملا فجأة؟ ما الذي حصل؟‬
‫‪ -‬ليست فجأة يا أدهم وأنت أدرى بذلك‪ ،‬أتت علياء للتحدث معي‬
‫قبل أيام واعرتفت يل بكل يشء ‪ ...‬األمر ال يتوقف عندها فأنا ال أهتم‬
‫إن كتبت هي الرواية أم غريها‪ ،‬أمي ترفض عالقتنا كذلك‪ ،‬ووالديك‬
‫ال يرحبان يب ‪ ...‬إىل ماذا تظن أن هذا قد يقودنا؟‬
‫‪ -‬إذا أنت قررت االستسالم؟‬
‫‪ -‬لست أستسلم يا أدهم أنا أتقبل الواقع‪ ،‬أنا جتاوزت الثالثني ال‬

‫‪113‬‬
‫وقت لدي ألضيعه يف عالقة ال أمل فيها‪ ،‬ولن أستطيع أبدا أن أغفر‬
‫لعلياء‪ ،‬صحيح أين أخطأت بنرش مذكرات والدهتا لكن كان ذلك عىل‬
‫غفلة مني بينام هي عرفت نقاط ضعفي واستعملتها ضدي عن قصد‬
‫لذا لن أساحمها ‪...‬‬
‫‪ -‬إذا لن أجربك عىل البقاء معي‪ ،‬أنا لن أقول أمتنى لك السعادة مع‬
‫رجل أفضل مني‪ ،‬ألن هذا سيكون كذبا ‪ ...‬سأقول أمتنى أال نرى‬
‫بعضا جمددا حتى ال تضعف مشاعري ‪...‬‬
‫‪ -‬سيكون هذا من األفضل لكلينا‪ ،‬إذا أنا سأرحل ‪ ...‬فلتعترب ما‬
‫مررنا به جمرد فصل من رواية عابرة وجدهتا عىل أحد رفوف الكتب‪.‬‬
‫‪ -‬سأحاول ذلك‪ ،‬إىل اللقاء إذا ‪..‬‬
‫خرجت دون متكني من إخبارها أين أرغب بإيصاهلا ملنزهلا للمرة‬
‫األخرية‪ ،‬لكن هذه املرة يبدو أهنا أتت بسيارهتا ‪ ...‬ما زلت أراقبها‬
‫كاألمحق من النافذة ‪ ...‬أنا لن أنسى طيلة ما حييت نظراهتا األخرية‬
‫الباردة جتاهي وطلبها االنفصال عني بدون تردد ‪ ...‬هي قالتها دون أن‬
‫يرف هلا جفن‪ ،‬ال أعرف ما الذي عانته أو مرت به لتتشجع للمجيء‬
‫إيل وإخباري ذلك لكنه ال يزال مؤملا ‪ ...‬الرجل الذي حيب فتاة لن‬
‫تكون من نصيبه لن ينساها أبدا‪.‬‬
‫بدأت قصة حبي مع بداية الربيع وانتهت مع انتهائه‪ ،‬فهمت قليال‬
‫قرار مجيلة بالزواج من كريم وإكامل حياهتا معه مستسلمة لقرار‬
‫والدها‪ ،‬هذا كله ألن عيل مل يكن مستعدا لفعل املستحيل من أجلها ‪...‬‬
‫لذا انتهت بتقبل واقعها‪.‬‬
‫لكن ملاذا أشعر بالراحة يف قلبي بالرغم من انفصايل للتو عمن‬
‫أحب؟ بالنظر لألمر هي حمقة هذا أفضل لكلينا ولعائلتينا اللتان شاءتا‬

‫‪114‬‬
‫أن تكونا عدوتني منذ األزل‪.‬‬
‫نمت لعدة ساعات ثم استيقظت اليوم التايل ألكمل حيايت كام‬
‫عهدهتا ‪ ...‬لست بخري لكن سأحاول أن أكون كذلك‪.‬‬
‫قمت بتنظيف البيت‪ ،‬فالنظافة تساعد الشخص عىل االسرتخاء‪،‬‬
‫قمت بتغيري قفل الباب‪ ،‬مجعت كل روايات رؤى التي عندي‬
‫ومنحتهم البنة اجلريان التي حتب املطالعة كانت سعيدة جدا باهلدية‪،‬‬
‫طبخت بعض الكعك ووزعته عىل أطفال احلي الذين اعتادوا الشجار‬
‫واللعب معا أكلوه بفرحة رغم مذاقه اليسء الذي حاولت تغطيته‬
‫بإضافة الكثري من الشكوالتة‪ ،‬رأيت صاحب املنزل الكبري يتشاجر مع‬
‫أوالده جمددا فسامهت يف فك الشجار‪ ،‬حان الوقت ليتعلم اإلبقاء عىل‬
‫خصوصيات منزله رسا‪.‬‬
‫ذهبت للمستشفى واعتذرت للجميع عن استهتاري يف األيام‬
‫األخرية‪ ،‬زرت مجيع مرضاي وعوضتهم بقضاء الوقت معهم بام أن‬
‫معظمهم اعتاد أن يشتكي يل عن حياته الشخصية أكثر من مرضه كان‬
‫لدهيم الكثري ليحدثوين بشأنه‪ ،‬هل جيب عيل التغيري للطب النفيس؟‬
‫جلست مع مها ورويت هلا ما حصل من أكشن يف أيامي األخرية‪،‬‬
‫فأسفت حلايل كثريا وواستني يف شأن انفصايل عن رغد‪ ،‬فهي مرت‬
‫بتجربتي وتفهم مشاعري ‪ ...‬ال يوجد شخص يستطيع فهم أمل‬
‫االنفصال إال شخص مر بنفس التجربة‪.‬‬
‫زرت علياء يف عملها بعد رشاء كعك اسفنجي هلا ‪ ...‬ال يوجد‬
‫طريقة أفضل من الطعام إذا حاولت العودة للتحدث مع أحدهم‪،‬‬
‫تفاجأت لرؤيتي لكنها حاولت الترصف عىل طبيعتها مثلام فعلت‪،‬‬
‫مل نتحدث عن رغد وال عن ذلك اليوم‪ ،‬ترصفت كأن شيئا مل يكن‬

‫‪115‬‬
‫وجارتني هي يف ذلك‪.‬‬
‫يف هناية اليوم ذهبت إىل والداي داعيا نفيس للعشاء دون إذن‪ ،‬مثلام‬
‫فعلت مع علياء متاما ترصفت كأن شيئا مل يكن‪ ،‬جربت أمي التطرق‬
‫للموضوع لكن أيب حاول إسكاهتا كلام نطقت حتى توقفت عن ذكر‬
‫رغد‪ ،‬ثم غريت املوضوع للتحدث عن الزواج التقليدي من جديد‪ ،‬ما‬
‫زالت ترغب يف تزوجيي من قريبتي لكني رفضت بوضوح هذه املرة‪،‬‬
‫«حني حيني الوقت للزواج سأتزوج يا أمي» هذا ما قلته‪.‬‬
‫بعد أشهر بدأت حيايت تعود ملجراها الطبيعي وتتحسن أو هذا ما‬
‫أقنعت نفيس به‪ ،‬متكنت من فتح عياديت اخلاصة لكن ما زلت أعمل‬
‫يف املستشفى كجراح‪ ،‬وعلياء طلب يدها ابن صاحب البيت الكبري‬
‫وأخريا‪ ،‬كدت أموت يف مكانه قبل أن يفعل شيئا ‪ ...‬علياء بعد تفكري‬
‫وحماولة إقناع مني ومن والديت قبلت الزواج منه‪ ،‬هي سترتك العمل ‪...‬‬
‫خرب صادم صحيح؟ نعم علياء قررت الزواج من رجل غني والتحول‬
‫لربة بيت‪ ،‬هذا أفضل من اجلري يف األنحاء كل يوم إلمساك املجرمني‪.‬‬
‫سمعت أن رغد ستتزوج األسبوع القادم كذلك من صاحب دار‬
‫النرش التي اعتادت نرش رواياهتا هبا‪ ،‬كام نرشت رواية جديدة باسم‬
‫رغد وليس رؤى ‪ ...‬هي ستبدأ من جديد لكن هذه املرة مل أقرأ روايتها‬
‫ولن أقرأها‪.‬‬
‫يف الواقع ليست رغد وعلياء الوحيدتان اللتان ستتزوجان‪ ،‬أنا أيضا‬
‫سأذهب للقاء والد مها‪ ،‬مل أرغب يف ظلمها بداية بطلب يدها بينام مل‬
‫أنس رغد‪ ،‬فسألتها بكل نزاهة إن كانت ترغب الزواج يب ‪ ...‬هي مل‬
‫تنس حبيبها السابق كذلك‪« ،‬لكن إن كنا سنمنع أنفسنا من إكامل‬
‫حياتنا بسبب من تركونا هل سنتمكن من العيش؟»‪ ،‬هذا ما قالته‬

‫‪116‬‬
‫عندما سألتها‪ ،‬تعجبني ردودها كالعادة‪ ،‬لذا قلت هلا برصيح العبارة‪...‬‬
‫‪ -‬لنتزوج يا مها‬
‫‪ -‬فلنداوي جراحنا معا يا أدهم‪.‬‬
‫وصل عرس علياء‪ ،‬هي سعيدة وحترض لكل يشء بابتهاج ومن‬
‫قلبها‪ ،‬كلنا ادعينا أن شيئا مل حيصل وكنا بارعني للغاية يف ذلك ‪ ...‬بدت‬
‫مجيلة يف فستاهنا األبيض ‪ ..‬التقطنا معا الكثري من الصور ‪ ...‬هديتي‬
‫لزواجها هي فتح خمبزة هلا‪ ،‬أعلم أن اجللوس يف البيت ال يناسبها‪ ،‬وقد‬
‫حان الوقت لتشارك وصفة كعكها االسفنجي للعامل‪.‬‬
‫مها حرضت العرس أيضا واجلميع مدحها ألخالقها ومجاهلا‬
‫وبدأت كل السيدات يف سؤال أمي إن كانت هلا أخت‪ ،‬فليس من‬
‫العدل أن يكون من نصيبها وحدها زوجة ابن كهذه‪ ،‬استغلت أمي‬
‫الوضع وبدأت بالتفاخر هبا أمام النساء‪ ،‬فرحت كثريا عندما سمعت‬
‫بذلك‪ ،‬إذن أمي تعجبها مها‪.‬‬
‫عريس أنا ومها مل يكن أقل روعة من عرس علياء‪ ،‬ال توجد كلامت‬
‫قد ترقى لوصف مجال مها يف ثوهبا األبيض‪ ،‬ما زادها سعادة هو حضور‬
‫والدهتا لعرسها بعد ميض مدة طويلة جدا عىل عدم لقائهام‪.‬‬
‫عرفت مها يف أشد أيام حيايت سوءا لكن مل أتوقع زواجي منها يوما‪،‬‬
‫وال هي توقعت ذلك‪ ،‬حظيت بعالقتني مل تدوما طويال وكلتامها انتهت‬
‫بشكل مأساوي‪ ،‬بينام حظيت مها قبيل بعالقة واحدة دامت طويال لكن‬
‫ليس لألبد‪.‬‬
‫زواجي من مها ليس لنسيان رغد‪ ،‬فمن اخلطأ الدخول يف عالقة‬
‫لنسيان شخص آخر فحتى لو نجحت العالقة ستبقى طريقة بدئها‬

‫‪117‬‬
‫خاطئة وتذكرك بنفسك القديمة‪ ،‬أنا اخرتت مها ألهنا شخص يمكن‬
‫االعتامد عليه يف أشد األيام حزنا ويف أكثر الليايل بؤسا‪ ،‬تستمع لك‬
‫عندما يغلق اآلخرون أذاهنم وتبتسم لك عندما تظن أنك متر بيوم‬
‫يسء‪.‬‬
‫عىل كل حال مل نشرتك أنا ومها يف جتربة االنفصال املؤمل فقط‪ ،‬بل‬
‫تشاركنا جتارب مهنة الطب ودراستها‪ ،‬التي لن يفهم الكثري صعاهبا‪،‬‬
‫جربنا أمل موت مريض لنا‪ ،‬تعاهدنا أن ننقذ املزيد معا‪ ،‬تعلمنا من بعض‬
‫أنه بمشاركة مشاكلنا وأحزاننا مع بعض ستصبح أصغر‪ ،‬ألن اثنني‬
‫أقوى من واحد دائام‪.‬‬
‫عشت مع مها حياة هانئة‪ ،‬فهي امرأة صادقة‪ ،‬هادئة وقليلة الغضب‪،‬‬
‫اشرتينا منزال جديدا يف إحدى األزقة اهلادئة القريبة من املستشفى‬
‫وعياديت يف نفس الوقت ‪ ...‬كل اجلريان لطفاء معنا‪.‬‬
‫حضينا بطفلنا األول بعد سنة من الزواج ‪ ...‬ولد مع ابنة علياء يف‬
‫نفس السنة‪ ،‬علياء تطالب بتزوجيهام منذ اآلن رغم كرب ابنتها باألشهر‪.‬‬
‫أما أنا شفيت متاما بعد والدة طفيل‪ ،‬مل يعد خيفق قلبي عندما أسمع‬
‫أحدهم ينادي باسم رغد يف الشارع‪ ،‬بل التفت إذا سمعت اسم مها ‪...‬‬
‫مل أعد مهتام بقراءة جديدها من الروايات‪ ،‬رصت أفضل قراءة قصص‬
‫األطفال البني قبل أن ينام واألفضل أين نسيت تفاصيل وجهها ‪...‬‬
‫أحيانا قد ننزعج مما حيصل يف حياتنا ونلوم أنفسنا والعامل عىل ما‬
‫رمانا إليه القدر‪ ،‬لكن ربام كل ذلك تنبيهات أنك يف الطريق اخلطأ لذا‬
‫عليك مراجعة نفسك ورؤية ما يكون يف صاحلك من زاوية أوسع‬
‫‪ ...‬إذا فشلت يف دراستك ربام مل يكن ذلك التخصص الذي خلقت‬
‫من أجله لذا فلتعمل بجد إلجياد ما حتب‪ ،‬إذا انفصلت عن حبيبتك‬

‫‪118‬‬
‫ال بأس ربام من املقدر لكام العيش بسعادة مع شخصني آخرين‪ ،‬إذا‬
‫مررت بتجربة قاسية فلتعتربها فرصة لتصبح أقوى‪.‬‬

‫هكذا أكملت حيايت ونسيت أن أنسى‪.‬‬

‫‪119‬‬

You might also like