Professional Documents
Culture Documents
ردمك978-9931-9687-3-3 :
لمراسلة الدار:
إيمايلmarouchka.edition@gmail.com :
هاتف+213697717050 :
محفوظة للناشر ،وغير مسموح بتداول هذا الكتاب بالقص أو النسخ أو
ﻟﻠﻨﺸﺮ واﻟﺘﻮزﻳﻊ
أسرتوفيليا
رواية
نارصي سندس
ﻟﻠﻨﺸﺮ واﻟﺘﻮزﻳﻊ
مقدمة :
ال أجيد كتابة املقدمات لذا سأفسح لكم املجال بدال عني ،إليكم
صفحات بيضاء لتكتبوا عام أشعل فتيل محاستكم ورسق فضولكم.
5
إهداء:
إىل من شجعتني لكتابة الكلمة األوىل...
11
رفعت يدي أعد النجوم ،عند النجمة التاسعة والعرشين أوقفني،
13
هل الذين ماتوا قد ماتوا؟
15
1
17
حاولت قمعه لكن قلبي تغلب عىل عقيل ،ماذا لو أنتظر ثوان قليلة
أو دقائق ألرى ظله عند بايب ...أراه يأيت ناحيتي مرسعا وهو يلهث
مثلام فعل يف كل مرة تأخر فيها عن موعد لنا ،فيخربين أنني أستحق
العيش ولن خيتفي ثم يعدين وعودا وردية ،أنه معي ولن يرتك الوحدة
تنال مني ،أننا سنصل للنهاية السعيدة معا ،تلك السعادة التي بدأنا
برسمها يف أول لقاء لنا باملستشفى ،النقطة واحد يف حيايت.
لكن ...متر دقائق أخرى وال يتغري يشء ،أحدق بالساعة القديمة
املعلقة باجلدار املقابل يل ،فأحس أن عقارهبا ال تتحرك أبدا ...هل هلذا
جديت حاولت رميها؟ قالت حينها أهنا سئمت من مراقبة الوقت ،كم
ساعة يف الدقيقة يا ترى؟
راقبت مقبض الباب حتى رشدت إىل عاملي اخلاص ...العامل
الذي أنا به بطلة الرواية ،رصت أطيل النظر يف كل التفاصيل ،أجلس
كالطفل الذي انتظر والده بعدما وعده بإحضار احللوى ،لكنه مل يعد،
أين احللوى خاصتي؟
أحلت بنظري إىل وشاحي األمحر املعلق بإحكام يف السقف اخلشبي
للمنزل ،ملاذا أدقق النظر باألشياء كثريا مؤخرا؟ فكرت ...لو يظهر هنا
سأخنقه بدل قتل نفيس ،هذا ما يستحقه ،لكنه مل يأت فتتدفق مشاعري
أكثر ،الغضب ...احلقد ...الكراهية أو ربام احلب؟ ال يمكنني حتى
فهم نفيس ،كيف يمكن إنقاذ شخص يعجز عن تفسري ما يشعر به؟
كيف يمكن لشخص تم قتل روحه ودفنها بني جثث الرعب واألسى
أن ينجو؟ شخص مل تشفى جراحه مهام حاول تضميدها ليس لديه
ما خيرسه ،لن خياف من املوت ألنه مات بالفعل مائة مرة ،ليس مويت
األول ،فقلبي مات منذ زمن ومل يتبق إال جسدي الفارغ.
18
هنضت بخطى متثاقلة أجر معي بطانيتي ،لون أمي املفضل األمحر،
و أنا كذلك ...اليشء الوحيد املشرتك بيننا ،حرصت عىل اقتناء كل ما
هو أمحر لكن ال يمكنني التخيل عن بطانيتي الرمادية التي دائام ما ألتف
فيها عندما أكتب بالشتاء ،التففت فيها أحاول احلصول عىل القليل من
الدفء يف آخر حلظايت ،الدفء الذي حرمت منه طوال حيايت ،اجتهت
إىل الكريس القابع بجانب املدفأة ،كانت عليه إحدى روايايت السابقة
«حتت الطاولة» فألقيت هبا إىل النار مثلام فعل البطل برسائل حبيبته
فيها ...انتبهت أن كل شخصيات روايايت جعلتها تفعل أشياء لطاملا
متنيت فعلها لذا فالكتابة عنها جعلتني أشعر بالراحة ومنحتني شعورا
مزيفا بأين حققت أحالمي.
أخذت الكريس أجره لكي أحدث صوتا ،لعل اجلريان يأتون
للشكوى ...لكني تذكرت ...ال أملك جريانا ...ال أحد سيسمع
صوت رصير قلبي هنا ،حفيف األشجار وحده من رد عىل رصخايت
الصامتة ،حتى األمطار توقفت عن النزول كأهنا ختربين «هيا بنا حان
الوقت».
وضعت الكريس أسفل وشاحي املعلق وصعدت عليه ألهيئ
نفيس ،جسمي يرجتف ،أسوء حلظات حيايت متر بني عيني ...جنازة
أيب يف شتائي العرشين ...أول شجار مع أدهم ...فشل روايتي األوىل
...انتحار ضحى ...مرض أمي ومنزل الغابة ثم أنا وحيدة من جديد،
فشلت يف استحضار الذكريات السعيدة كل ما أفكر به سوداوي
وقاتم.
فقدت أنفايس قبل أن أضع احلبل عىل رقبتي حتى ،عيناي غارقتان
يف الدموع ،حلقي يؤملني ...أمسكت طرف ثويب بشدة ...لبست
19
ثوب أمي املفضل ،أبيض قصري برشيط أسود عىل العنق ...يف الواقع
بدأت باكتشاف أوجه شبه أخرى بيننا ،مثلام فضلت البطانية الرمادية
هي فضلت الثوب األبيض عىل غرار الفساتني احلمراء ،لبسته يف أول
موعد مع أدهم حينها قال« :اللون األبيض ال يناسبك» ...مل يفهم أن
الفستان كان اعرتافا أين تغريت من أجله ،تنازلت عن جزء من هويتي
ألبدو أمجل يف عينيه ،ختليت عن اللون األمحر.
يقال أن املنتحرين يندمون آخر اللحظات ،هل سأفعل؟ ...
تذكرت شيئا ما ،مل أكتب مالحظة أخرية ...رسالة انتحار أو اختذته
عذرا النتظار أدهم قليال لعله يمر عىل بايب ،نزلت برسعة من عىل
الكريس وصعدت ملكتبي ،حيث وضعت أوراقا لروايتي األخرية
التي مل تنرش بعد كتبت فيها آخر وأصدق حلظات يف حيايت بخط يدي،
وأضفت مالحظة ...أدهم إن كنت تقرأ كالمي فيعني أنك تأخرت
خطوة ،فات األوان لكن تذكر لقد انتظرتك ...فلتنرش روايتي من
أجيل ليصل للعامل حزن فؤادي.
أنا انتقمت منك ،فلتتحمل مسؤولية انتحاري ألنك مل تأت يف
الوقت املناسب ،لو مل ترتكني يومها هل كنت ألفكر بفعل هذا؟ كنت
القطرة التي أفاضت كأيس.
وأضفت إىل هناية الرواية بيد مرجتفة ودموعي تسبق احلرب إىل
الورقة ،إىل القراء ...إن كانت روايتي بني أيديكم فلتعلموا ...ال
وجود يل بعد اآلن ،شكرا عىل دعمكم ...اسمي رؤى ،الراء للرعب
واأللفني لألمل واألسى»
20
كانت هذه آخر صفحات من رواية كاتبتي املفضلة ،املدعوة رؤى...
أهنيتها مع آخر رشفة من الشاي وأنا أكاد أبكي ،وضعت الرواية عىل
املنضدة التي بجانبي ،صببت كأس شاي آخر ورحت أنظر من النافذة
رأيت أطفال احلي وهم يلعبون بمرح مع بعض ويتشاجرون بني حني
وآخر ولو أين كنت أراهم كالنمل لكن من الواضح أهنم يتشاجرون.
حتظ بطفولة سعيدة ،هي مل جترب شعور الشجار مع رؤى مل َ
زميلك يف املقعد ،مل تعرف ما الذي يعنيه أن تشارك وجبتك املفضلة
مع صديقك املقرب ،مل تذهب يف رحلة مدرسية من قبل ،مل يسبق أن
كتبت رسالة حب طفولية ،والدها مل حيب أمها يوما وأثر هذا بدوره يف
نفسيتها كثريا ،جعلها تفقد الثقة باحلب منذ الصغر.
آخر رواياهتا عبارة عن رسالة انتحار طويلة ،رواية مقتبسة من
قصتها احلقيقية ...رواية من قلب الظالم ،رواية طفلة عاشت بالكثري
من األحالم لكنها مل حتقق منها إال القليل ،فقررت ترك كل حلم خلفها
وإهناء حياهتا بعيدا عن البرش.
رؤى روائية جمهولة اهلوية ،ال نعرف إن كان اسمها احلقيقي فالكثري
من الشائعات تقول أنه اسم مستعار للتظليل عن احلقيقة ،تعرفت عليها
ألول مرة عندما وجدت إحدى رواياهتا عىل مكتب أختي الكربى
21
كانت ثالث رواية تنرشها التي حتدثت عنها يف آخر صفحات رواياهتا
بالضبط «حتت الطاولة» عن فتى هياب املرتفعات وفتاة متسلقة جبال
يعجبان ببعض ،فاحلب ال يعرف التناقض ،هو فقط يقصد قلوب من
يشاء بالرغم من خماوفهم ،خلفياهتم أو توجهاهتم ،هو أيضا ال يعرف
املكان املناسب لريبط شخصني ،فبطيل الرواية التقيا حتت طاولة،
غريب صحيح؟
ومن هناك أعجبت هبا ،رغم أنني مل أكن من هواة املطالعة إال أين
قرأت كل كتبها التي أدخلتني إىل عامل القراءة الشايف من األحزان ،لكن
روايتها األخرية يشء آخر مل أبك يوما بسبب رواية لكن هناك ما شدين
اليوم ،هل ألن اسمي أدهم كذلك؟ أو حماولتي لالنتحار من قبل؟
الصدفة أخافتني كثريا وجعلتني أرغب يف االلتقاء بأدهم احلقيقي
ورؤى.
هي انتهت بكتابة رواية عن نفسها الكئيبة التي مل نعلم بشأهنا من
قبل ،حياهتا ،كيف بدأت الكتابة ووفاة والدها ،ترددها عىل عيادات
الطب النفيس والكثري من تفاصيلها الشخصية التي كانت ختفيها
لوقت طويل عن قرائها ،ما أدهشني وأثار حرييت صفحتها األخرية،
أشك يف مصداقيتها ،هل انتحرت حقا؟ أم أهنا فقط رغبت يف االعتزال
بطريقة فريدة مل يسبق لكاتب فعلها؟
ما أنا متأكد منه هو مويت من الفضول إن مل أتعرف عليها شخصيا،
قرأت مجيع رواياهتا ما عدا روايتها األوىل الفاشلة ،بحثت عنها يف كل
مكان دون جدوى ،مل تذكر عنواهنا يف كتاهبا األخري فصعب إجيادها،
عىل األرجح نرشهتا باسمها احلقيقي.
كتبت العديد من أصناف الروايات ،روايات بوليسية ال ختلو من
22
اإلثارة جتعلك تنهيها يف جلسة واحدة ،وبعض الروايات الرومانسية
كالرواية التي نرشهتا عبارة عن مذكرات كتبتهم امرأة خانت زوجها،
ومل ينسى الرعب مكانه من رواياهتا كذلك فكتبت روايات تستحق
حتويلها إىل أفالم ،أما قصتها األخرية عنواهنا «أنا» تعبريا عن نفسها،
عن حياهتا البائسة ،أفضل ما مرت به لقاؤها بالطبيب أدهم لكنهام
انفصال ...مل يتحمل أمراضها النفسية ومل يطق صربا مزاجها احلاد ،يف
الواقع أنا أيضا طبيب ،أرعبني يف البداية شبهي الكثري به يف الشخصية
واالسم واملهنة ،لكنها مل تصف شكله أبدا ،قالت أهنا تغار عليه حتى
من وصف مجيل عنه تقرأه امرأة أخرى ...لكنه تركها يف النهاية.
قررت البحث عنها وإجيادها ،قد أعثر عىل منزهلا أو قربها لكن
ال هيم ذلك ،سأسعى ملعرفة احلقيقة وأعرف الشخص املناسب متاما
ملساعديت للوصول هلا ...أختي الكربى علياء.
علياء أختي غري الشقيقة ،توفيت والدهتا «مجيلة» بالرسطان منذ
سنوات طويلة قبل أن أولد أنا ،أيب مل يقدر عىل رعايتها بنفسه ،كانت
علياء بعمر الثانية فقط حينها ،فتزوج بعدها بسنة من والديت وحظيا
يب ،هي تكربين بحوايل أربع سنوات ،منذ الصغر كنا نتفق بشكل جيد
أكثر من أي إخوة أشقاء ،كنا أصدقاء صنعهم الزمن من أجل بعض
فقضينا معظم الوقت معا.
رغم أهنا أحبت والديت كثريا لكنها مل تنادها يوما بأمي ،لطاملا نادهتا
باسمها احلقيقي «عزيزة» فعلياء منذ الصغر تم إخبارها بقصة والدهتا،
مل يشأ والدنا االنتظار حتى تكرب إلخبارها كي ال تدخل يف صدمة،
لكنها مل تذكر يوما أهنا اشتاقت لوالدهتا أو أهنا تتمنى لو ما زالت حية،
عندما يسأهلا شخص ما عن أمها هي دائام ما تردد« :ما الذي تقصده؟
23
عزيزة هي أمي» ،هي أحبتها بصدق وأكثر من أي حب طفلة ألمها
رغم أهنا مل تكن متيل إلظهار ذلك ،يف سن معينة أصبحت تنادي
والدنا باسمه احلقيقي كذلك ،عاملته كصديق أكثر من أب ،عمليا هي
صديقة اجلميع.
أرسلت رسالة لعلياء وأخربهتا «يل عمل لك» ،بيتها ليس بالبعيد
عني ،يفصل بيت كبري بني عامرتينا ،منذ سنوات انتقلت أنا وهي
للعيش مستقلني ،انتقالنا للحي السكني نفسه كان وليد الصدفة،
لكنه سهل األمور عىل والديت لزيارتنا ،فهي استمرت بالقلق علينا بعد
انتقالنا ،لطاملا كنا صغارا يف أعينها ولو كربنا.
دقائق وأرى علياء عرب النافذة تشق الطريق الرئييس لتصل لعامريت،
أحد أبناء صاحب البيت الكبري حيدق فيها عرب رشفته كالعادة أخربهتا
عنه آالف املرات لكنها ترى أنني أبالغ ...كادت تصدمها سيارة
فبدأت بالشجار رغم كوهنا املخطئة ،ولدت لتخرق إشارات املرور ثم
لعبت الكرة قليال مع أطفال احلي ،وضعت يدي عىل وجهي متحرسا
عليها ،هي ال تكرب أبدا ...هلذا مل تتزوج ،كل ما فاحتتها يف أمر الزواج
ترشح يل كوهنا ليست ضد الزواج وإنام خائفة من االختيار اخلطأ فتهدم
كل ما حاولت بناءه يف حياهتا.
دقائق أخرى وهي عند بايب تكاد حترق اجلرس ،ففتحت الباب هلا.
-أنت هنا.
-ما الذي يؤخرين إذا شممت رائحة حتقيق؟
-فلتجليس يا كلب التحقيق.
-أنت ال حترتمني مؤخرا يا هذا.
24
علياء نفسها بترسحية الكعكة التي مل تغريها منذ اإلعدادية ورسوال
اجلينز الذي لن جتد مشكلة يف النوم به ،كانت قد رفضت من قبل
طلبي إلجياد رؤى بحجة كوهنا مشغولة بالعمل وما إىل ذلك ،هذه املرة
ستقبل بال شك ألهنا موقوفة عن العمل مؤقتا لرضهبا مشتبها به من
الغضب رغم استمرارها بالقول «دفاع عن النفس» إال أنني أثق أنه
استفزها فحطمت وجهه.
البد من شعورها بامللل اآلن ،هي فتاة قوية لن ترتدد حلظة واحدة
برضبك إن قلت هلا «لست أنثوية» لتثبت لك صحة كالمك.
-رؤى جمددا؟
-هيا ..إهنا قضية كبرية ...الكاتبة انتحرت.
-سمعت بذلك ...هل تصدقها؟
قاطعت كالمها الساخر بنظرايت الغاضبة فصمتت للحظات ألهنا
عرفت مدى جديتي بشأن إجياد رؤى ،ثم أمرتني بإعطائها الرواية
لقراءهتا أوال لعلها جتد دليال بني ثناياها.
أعطيتها إياها وطلبت مني منحها بعض الوقت للتحقيق جيدا.
ثم مل أرها بعد ذلك ملدة شهر...
25
2
مر زمن ليس بالقصري منذ أن وعدتني علياء بالعثور عىل رؤى
لكنها قطعت اتصاالهتا يب فجأة دون سابق إنذار عىل غري عادهتا ...
ليس معي فقط بل احلال نفسه مع والدينا ،ربام حتقق يف القضية بنفسها
فهي متيل لعزل نفسها عند الرتكيز عىل القضايا ،رغم إحلاحي عليها
باملساعدة ها هي تطفئ محايس باختفائها.
عىل أي حال كنت مشغوال حد االختناق باملستشفى ...الكثري
من املرىض هذا الشهر ،كونك طبيبا جراحا يعني أن تودع شيئا اسمه
وقت الفراغ ،بالكاد أملك القليل من الساعات يف األسبوع للمطالعة
أو االسرتخاء عىل أريكتي وأنا أشاهد مسلسيل األسبوعي املفضل
الذي فاتتني الكثري من احللقات منه هذا الشهر وحرق عيل صديقي
األحداث.
خرجت من املستشفى منهكا يف الصباح بعد العمل بمناوبة ليلية،
أطول ليلة يف حيايت أحسست أهنا لن تنتهي ،كدت أجزم أين سأموت
27
من النعاس قبل بزوغ الفجر ،كان عيل النوم يف النهار بدل وعد نفيس
عند بداية كل حلقة من املسلسل أهنا ستكون األخرية.
مل يكن املستشفى بالبعيد عن منزيل ،أذهب سريا عىل األقدام وأندم
يف كل مرة عند عوديت عىل عدم ذهايب بالسيارة ألين أفقد اإلحساس
برجيل.
وصلت للعامرة فوجدت املصعد معطال ...آخر ما توقعته يف
صباحي البائس هذا رؤية عبارة «استخدم السالمل من فضلك» معلقة
أمامي ،صعدت وأنا أكاد أفقد أنفايس حتى الطابق الرابع عرش
أصبحت رؤيتي ضبابية مع كل خطوة أصعدها ،خرست كيلوغرامني
بسببهم ...من يريد خسارة الوزن مرحب به يف سالمل عامرتنا ،لعنت
حظي واملصعد كثريا ،متنيت لو لدي قدرات خارقة متكنني من التنقل
عرب األماكن دون تعب.
ما إن وصلت للمنزل حتى كاد قلبي أن خيرج من مكانه دخلت
برسعة رشبت قارورة ماء واجتهت مبارشة للحامم ،أفضل شعور
احلصول عىل محام دافئ بعد يوم عمل مرهق ترختي فيه عضالتك
وتنرشح نفسك كأنك ولدت من جديد ،ذهبت بعدها للمطبخ وأنا
أجفف شعري باملنشفة ،ألملئ معديت قبل اخللود إىل النوم.
الحظت وجود إبريق احلليب وصندوق طعام فوق الطاولة ،ال
أذكر وضعي له هناك ومل أحلظ وجوده عند دخويل من قبل ،فتحته
فوجدت به كعكا إسفنجيا ...أليس هذا كعك علياء املفضل؟ ...
مهال ال يمكن...
أرسعت لغرفة اجللوس مندفعا ألجد علياء جتلس بكل ثقة عىل
أريكتي حتسب نفسها ملكة عىل عرش! تضع رجال فوق رجل وحتمل
28
كأس حليب بالشوكوالتة ...حتى أهنا ترشب يف كويب املفضل ،بقيت
حتدق بالفراغ ثم نظرت يل ورسمت ابتسامة خميفة عىل وجهها حتى
اقشعر بدين ...أفزعتني بشدة ...كنت سأصنف املوقف كلقطة من
فيلم رعب لوال محلها لكأس احلليب بشكل جدي الذي غري الوضع
إىل موقف كوميدي.
-كيف دخلتي؟
-من الباب
-حسنا أعرف ...من الواضح أنك مل تدخيل من نافذة يف الطابق
الرابع عش...
قبل أن أكمل مجلتي أخرجت بعض األوراق من حقيبة ظهرها
ومنحتنهم يل دون أن تتوقف عن االبتسام قائلة :فلتنظر إىل إنجازات
أختك ...ال يمكنك أن جتد مثيال يل يف العامل.
أمسكتهم عنها وألقيت نظرة خاطفة عليهم ،سرية ذاتية كاملة
عن رؤى ...زمان ومكان امليالد وحتى اسم االبتدائية التي درست
هبا والعديد من التفاصيل األخرى بعضها ذكر يف الرواية بالفعل
واألخرى معلومات جديدة مل يسبق أن سمعت هبا.
نسيت التعب متاما وجلست أقلب األوراق ونزعت هلا الكوب
فرمقتني بنظراهتا التي تعرب عن انزعاجها الشديد مني ،لكن كل ما
كنت أريده هو تفسري ورشح كيف ومتى وجدت كل هذا؟ هل كل
ما هو مكتوب هنا موثوق؟ زادت حدة نظراهتا يل ألهنا أحست بشكي
يف مصداقية معلوماهتا وهذا من أكثر ما تبغضه ،هنضت وجلبت لوح
سبورة متنقل أدرس عليه عادة وقامت بوضعه أمامي لكي ترشح عليه
كيف توصلت للحقيقة ...
29
-حسنا فلنتحدث يف األهم قرأت الرواية حوايل مخس مرات ،أنا
تقريبا حفظتها ،وكام توقعت هي صندوق غني باألدلة فلتتابع معي ...
لو قاطعتني لن أخربك بيشء ،حني أنتهي من الرشح بمكنك اإلدالء
بتعليقاتك ،تعرف كم أكره أن تتم مقاطعتي أكثر من رسقة طعامي ...
أوال اسمها احلقيقي ليس رؤى بل رغد ...حسنا ستقول كيف عرفت
ذلك؟
محلت قلام وكتبت حروف اهلجاء عىل السبورة ثم قامت برتقيمهم
بالرتتيب ،كنت حمتارا أي نوع من دروس االبتدائية ستعلمني.
-شد انتباهي رسالة انتحارها وعرفت أهنا ليست عادية فاستنتجت
أن وراءها رسا ،بعد عدة نظريات وحتليالت متكنت من حل شفرهتا،
هي قالت الراء للرعب وقد ذكرت كلمة الرعب عرش مرات يف الرواية،
وترتيب حرف الراء يف األبجدية هو العارش ،األلف األوىل لألمل وقد
ذكرت الكلمة تسع عرشة مرة املوافقة حلرف الغني ،األلف األخرية
لألسى وقد ذكرته ثامين مرات وحرف الدال ترتيبه الثامن ،فإذا مجعنا
احلروف املشكلة الثالثة بالرتتيب اجلديد حسب األرقام سيتشكل لنا
اسم رغد أي اسمها احلقيقي ،تأكدت من صحة نظريتي أثناء قوهلا
يف الفصل األول أن حياهتا عكس اسمها ،فرغد معناه رفاهية العيش
ليس كحياهتا الكئيبة ،هي حقا كاتبة عبقرية كوهنا استطاعت التالعب
بالكلامت هكذا وكتابتها بدقة ،كان عد الكلامت متعبا لكن جيد أن
جهدي مل يذهب هباء فلم أكن متأكدة من صحة نظريتي يف البداية ،مع
ذلك رسالة انتحارها ال ترمز السمها وحسب بل رمزت حلياهتا أيضا،
هي قصدت أن حياهتا كرغد مرعبة مؤملة ومليئة باألسى ،هي مجعت
املعنى يف شفرة باسمها بطريقة ذكية.
30
-أختي أعرتف بقدرتك اخلارقة يف التحقيق ...
-هل تريد مني التوقف؟ دعني أصل للجزء األفضل ثم امدحني
مثلام تشاء ...لن تصدق الصدفة الغريبة ...هي تسكن يف البلدة
املجاورة لنا فقط ،دعني أرشح لك كيف عرفت هذا اجلزء ،يبدو أن
رغد كانت قريبة منا للغاية طوال الوقت لكن مل ننتبه ،هل تذكر املسابقة
التي قمت بإرساهلا لك لربح جمموعة من الكتب عرب قرعة؟ تلك التي
تم تنظيمها عىل إحدى صفحات جامعي الكتب ...حسنا لتفهم
بشكل جيد ما أحاول الوصول إليه ،يف الفصل اخلامس عرش ذكرت
الكاتبة أهنا ربحت مسابقة للكتب عرب قرعة من بني املئات عىل إحدى
الصفحات ،فظنت أن كل حظها يف احلياة استنزفته املسابقة حتى أهنا
ذكرت الكتب التي ربحتها ومن بينها رواية هلا كذلك فضحكت عىل
نفسها واحتارت ما إن كانت ستصنف هذا حظا جيدا أم عثرا ،كانت
العناوين التي ذكرهتا مألوفة لنا ...
كتبت يف اللوح أسامء الكتب التي ذكرهتا رؤى ،بعد تدقيق وتفكري
بدأت ذاكريت تعود تدرجييا ...كيف فاتني ذلك؟ كان يزيد محايس
وخيفق قلبي أرسع مع كل كلمة ختربين هبا عنها وأحتمس بشكل زائد،
بينام علياء تتعمد الصمت للحظات كأهنا تفكر ثم تكمل كالمها
لتستفزين ،كأنه اهلدوء قبل العاصفة حمذرة يل أن أنتظر فقط لتكشف
عن املزيد.
-من النظرة التي تعلو وجهك ال بد أنك تفكر فيام فكرت به ،نعم...
العناوين نفسها للمسابقة التي أرسلتها لك منذ أشهر وجتاهلتها ألنك
متلك بالفعل الروايات املقدمة للرابح ،أرسعت للبحث عن صفحة
املسابقة بعد جهد جهيد عثرت عليها ،لكن املسابقة مر عليها حوايل
31
عام لذا كان من الصعب إجياد املنشور عن الرابح وخشيت أنه ال يوجد
من األساس أو أهنم مل يذكروا حساب الرابح فأصل لنهاية مسدودة،
لذا أمضيت اليوم بطوله أفتش ،تعبت عيناي وانتهى خمزون القهوة
لدي ،كانت عملية بحث مستنزفة لطاقتي حقا وعندما كدت أستسلم
وأسقط نائمة وجدته أخريا ،بمجرد وقوع نظري عىل املنشور طار
النعاس بعيدا ،الرابحة اسمها رغد ال يمكنني أن أصف لك مقدار
شعوري بالنرص حينها ،من حسن حظنا أهنم ذكروا حساهبا ومل يذهب
بحثي هباء منثورا ،لكنه خاص أرسلت هلا طلب متابعة فلم تقبلني ،مل
أستطع االنتظار لذا ببساطة طلبت من صديق يل باخرتاق حساهبا ...
-ما الذي فعلته! هل أصابك اجلنون؟ أال تدركني أهنا جريمة
إلكرتونية؟ مل يكن عليك الذهاب هلذا احلد.
-جمنونة؟ وأمل أفعل هذا ألجلك؟ إن كنت تريد معرفة املزيد
فلتصمت وتدعني أكمل ( ...تنهدت بعمق ثم واصلت حديثها)
حصلت عىل حساهبا واكتشفت أهنا مل تنتحر وما زالت تتفاعل عىل
صفحتها ،نرشت بعض الصور ،لكنها وحيدة ال تتكلم مع أحد حاليا،
صندوق رسائلها فارغ منذ مدة ،فيه عدد قليل من األشخاص ،لكن
بعد قراءة كل رسائلها القديمة وجدت أهنا أخربت بعض املعارف
باملستشفى الذي كانت تعالج فيه أمها املريضة ،وهو يبعد عنا حوايل
ساعة فقط! لذا بمعرفة املستشفى ومن بعض الصور تأكدت من موقع
سكنها ،لكن ما أثار اهتاممي وفضويل هو ال وجود ألدهم يف حساهبا،
هل قام بحظرها بعد انفصاهلام أو بعدما نرشت حياهتام اخلاصة؟
ألكون رصحية انعدام وجود أدهم من حساهبا أثار اهتاممي أكثر من
سبب إعالهنا انتحارها بينام هي ما زالت حية ،وثاين يشء مثري لالهتامم
ال أثر لصورة هلا ،لألسف مل أمتكن من الوصول هلذا القدر .ويف النهاية
32
عندما وصلت السمها الكامل احلقيقي وتاريخ ميالدها من حساهبا
طلبت مساعدة من بعض الوسائط فوجدت كل ما تبقى وخلصته لك
يف األوراق التي حتملها.
ثم نزعت من يدي كوب حليبها جمددا لكنه كان فارغا ،فذهبت
للمطبخ لتعد املزيد ،يف هذه اللحظات قمت بقراءة ما خلصته علياء،
اسمها رغد ،ولدت يف الفاتح من ماي هي أكرب مني بسنة ،فرحت
لذلك ألين بمرحلة ما شككت يف كوهنا امرأة كبرية يف السن أو
متزوجة ،مخنت حتى احتاملية كوهنا رجال كنت ألصاب بصدمة لو أن
شكوكي كانت صحيحة ،هي توقفت عن دراستها اجلامعية يف عامها
الثاين ،والدها «عيل» تويف يف نفس عام توقفها عن الدراسة ربام كان
السبب يف انقطاعها عن الدراسة.
ما إن كدت أنتهي من القراءة رجعت علياء وهي جتر برجليها
الشبشب خاصتي الكبري عليها ،حتمل كوهبا بيد وكعكا باليد األخرى،
أكاد أجزم أنه بيتها وليس بيتي ،هي تشعر بالراحة أكثر مني هنا ،كأهنا
صاحبة املنزل وأنا الضيف.
-فلنذهب لزيارهتا اآلن.
كادت علياء تسقط ما بيدها من كلاميت ،واختنقت من الطعام.
-ملا ال نذهب لزيارة مستشفى املجانني أحسن؟ كيف نذهب
لزيارهتا هبذه البساطة؟ أال تبدو مريضة نفسيا من روايتها؟ وما الذي
ستخربها به عند زيارهتا؟ مرحبا أنا معجب أريد توقيعا عىل رسالة
انتحارك أم ماذا؟!
-هوين عليك توشكني عىل االنفجار ،وجهك أمحر ...فلتبتلعي ما
يف فمك أوال وامسكي كأسك جيدا لست أنت من سينظف األرضية
33
الحقا ...تكلمي هبدوء ،هيا حققي أمنية أخيك الوحيدة ،هل من
خطة؟
جلست بجانبي ووضعت طعامها عىل املنضدة ،سكتت قليال ،ها
هي تستفزين جمددا ...ثم ابتسمت يل وأخربتني بثقة:
-بالطبع أنا سيدة اخلطط ،ال أبدأ عمال إال وكنت متأكدة من إهنائه،
إليك خطتي ...فلنذهب لزيارهتا باملنزل عىل أساس أنني حمققة،
سأخربها أن أحد القراء قام بالشكوى من احتاملية انتحارها لذا قمنا
ببعض التحريات هنا وهناك وال نستطيع كشف تفاصيل عنه ،حسنا
هذه ليست كذبة إذا حللنا األمر فأنت من اشتكيت يل ،أنا أعمل مع
الرشطة أعتقد أهنا احلقيقة نوعا ما وستذهب معي بدور مساعدي ...
-كان عليك التحدث من البداية أنك متتلكني خطة
-يف احلقيقة راودتني الفكرة اآلن فقط.
ومن هنا قررنا االنطالق يف تنفيذ خطة متهورة مل ندرس نتائجها
جيدا ،ولو أين عرفت أن االحتامل األكرب هو انتهاء قرارنا بعواقب
وخيمة ،فكل ما يبدأ بالكذب ال ينتهي بشكل جيد يف أي عالقة
إنسانية.
العالقات املبنية عىل الكذب هشة وتنكرس بسهولة ،بناء الثقة فيها
يكون صعبا للغاية عىل الطرف الكاذب فمحاولة إخفائه للكذب
وتصنعه لشخص آخر جيعله يكبت الكثري يف داخله خوفا من فقدان
ثقة الطرف اآلخر به.
بعدها يف كل نقطة تكاد تنكشف فيها حقيقته يكذب كذبة أخرى
بيضاء قد يراها صغرية بالنسبة له ،املهم أن ينجو من املوقف ...لكن ال
34
يشء خيفى حتت الشمس ،مهام طال الزمن أو قرص مهام كثرت األكاذيب
مهام هترب الشخص من احلقيقة ،هي ستالحقه ...يف احلقيقة كل هذا
الكالم مقتبس من رؤى قالته يف إحدى رواياهتا التي المست قلبي ألين
رأيت فيها شيئا من عالقتي السابقة فجعلتني أعيش املايض من جديد،
ويف األخري ختمت كل أقواهلا بعبارة أصبحت اقتباسا مشهورا فيام
بعد «ال تدخل يف حياة أحدهم بكذبة فحينها ستجعل حياتك معرضة
لالهنيار باحلقيقة».
رغم معرفتي التامة بخطورة الوضع إذا كذبت عليها ،لكن نفيس
الرشيرة تغلبت عيل ،نفيس األنانية التواقة لفك الفضول جعلتني أرى
الكذب طريقا للحقيقة بينام ذلك أمر غري حممود.
هبذا أهنيت جلستي مع علياء وودعتها عىل أن نلتقي بعد أيام ،رغم
التعب مل أنم ،بقيت كلامت رواياهتا تدور يف رأيس باستمرار وفكرت
يف عواقب الكذب ،لكن كشخص منافق قررت االستمرار يف اخلطة
ولو كنت كاذبا ،ولو أن النهاية لن تكون سعيدة .
35
3
اتفقنا أنا وعلياء عىل االنتقال مؤقتا إىل املدينة املجاورة أين تسكن
رؤى ،لنبدأ بخوض مغامرة استثنائية يف حياتنا التي عهدت أن تكون
روتينية ،لكن الوضع كان أصعب مما ختيلنا فال خطة بدون عقبات ،مل
نستطع كراء منزلني بعقد ملدة شهر فقط فنحن ال نخطط لقضاء وقت
طويل هناك ،قررنا االنسحاب بمجرد معرفة سبب كتباهتا للرواية وال
نتامدى يف الكذب.
حتى مع إجيادنا لبيت واحد علياء رفضت السكن معي كأننا
مل نرتعرع يف مكان واحد عىل كل حال ،قالت إنني أعيق حريتها
واستقالليتها فهي اعتادت عىل العيش لوحدها وهذا اقتحام
للخصوصية ،نسيت اقتحامها خلصوصيايت مئات املرات ،تستعمل
مطبخ منزيل أكثر من استعامهلا حلامم منزهلا ...تشاجرنا كثريا وكاد
أحدنا خينق اآلخر لكن مر كل يشء عىل سالم بعدها ...عكس ما
يقال هذا هدوء بعد عاصفة ،حيايت كلها عواصف بسببها.
37
يف النهاية ساعدتنا والديت بإجياد منزلني متقاربني بعقد ملدة شهر،
شبكة عالقات أمي ال يستهان هبا فعال لكني مل أخربها بام سنفعله رغم
إحلاحها عيل بذلك ،ال أريد منها التدخل فهي بال شك ستمنعني من
فعل ما أريد ألهنا تكره رؤى وتنتقد رواياهتا دائام ،أما الباقي فعلياء من
اهتمت بكل اإلجراءات ألنني كنت مشغوال حد املوت إلهناء مواعيد
مرضاي حتى أمتكن من أخذ عطلة ،واضطررت لالعتذار كثريا ،مر
عيل أسبوعني أطول من سنني دراستي للطب ،بالكاد نمت فيهم ألربع
ساعات متواصلة ،كدت أنسى ملمس وساديت.
وصل اليوم املوعود الذي ننتقل به مؤقتا إىل منزلينا اجلديدين ،بعدها
رشحت يل علياء سبب إرصارها عىل االنتقال والسكن متفرقني ،يف
حالة شكت بنا رغد وتقفت أثرنا لن تعرف أننا إخوة هلذا كانت تتعذر
بخصوصيتها وما إىل ذلك ،مل أفهم ملاذا مل ختربين بذلك من البداية ومل أر
رضرا يف معرفة رؤى لكن رأس علياء متحجر وانتهينا بتنفيذ ما تريده
هي ،فاملنزلني تم كراؤمها وانتهى.
هنضت باكرا ألجهز نفيس ،اليوم مميز مثل متيز أيام العيد ،تنهض
باكرا سعيدا دون سبب وترتدي مالبسك بفرحة كأن موعدا مهام
ينتظرك ،شعرت بفرحة طفل صغري بمالبسه اجلديدة أو أقرب إىل
فرحة صديقني التقيا بعد فراق.
خرجت من املنزل وأحكمت إغالقه فام دامت علياء استطاعت
الدخول ستقدر أمي عىل ذلك أيضا وهذا آخر ما قد أرغب به ،تفتيش
أمي ألغرايض بحجة «األم جيب أن تعرف كل يشء عن أبنائها».
تم تصليح املصعد وأخريا ،يبدو أن يومي بدأ بشكل جيد ،هذه
عالمة حظ مذهل بال شك ،أسبوعني من التعب واحلظ العاثر أتت
38
بثامرها ،ركبت معي يف املصعد جاريت املتطفلة مل تزح عينيها ولو دقيقة
عن حقائبي أعرف أهنا حترتق من الداخل لتسألني عن وجهتي ،لكن
تركتها لتموت من الفضول وخاصة بكلاميت األخرية التي تدل أين
سأغيب وقتا ،قلت هلا« :لن أراك ملدة إىل اللقاء» ،هي لن تنام اليوم
ألين فررت منها دون أن خترج مني احلقيقة ستجعل مني حديث العامرة
ملدة ثم ستنسى ذلك ،لطاملا كانت هذه عادهتا.
توجهت بالسيارة لعامرة علياء ثم اتصلت هبا لتنزل ،انتظرهتا أمام
الباب متكئا عىل سياريت حماوال تغطية أشعة الشمس بيدي إال أن بعضا
من أشعتها تسللت لعيناي فدمعت ،كنا يف بداية الربيع لكن اجلو كان
ساخنا جدا والشمس ساطعة دون أثر للسحاب.
بقيت أنظر للبيت الكبري الذي يقع يف منتصف العامرات ،لطاملا
ظننت أنه يقع يف مكان غري مناسب ،تسكن به عائلة كبرية ،كانوا
يتشاجرون جمددا وأصواهتم تصل للجميع ،يا ترى ما السبب هذه
املرة ...ابنهم األصغر يرفض الدراسة بجد أم ابن عمهم سيدخل
السجن جمددا ،أو ابنهم املعجب بعلياء يرفض الزواج كالعادة ،بسببهم
حينا ليس ممال بعض الدراما يف الصباح جيدة أحيانا ،خرج والدهم
وراء أخيهم األوسط بعصا ،يبدو أن عضوا جديدا يف العائلة يسبب
املشاكل ...يا ترى ما الذي أقدم عىل فعله ،كنت أتابع األحداث
باهتامم ومتشوق ملا سيحصل ،فهمت شعور جاريت قليال ...إذا هو
أشبه بمشاهدة مسلسل عىل الواقع ...األمور تعقدت هناك إن استمر
الوضع دقائق أخرى سيصورهم أحدهم ويصبحون حديث البلدة
ماذا لو قمت أنا بذلك؟
جيب عيل التوقف عن التفكري بشكل شيطاين ،خطط مثل هذه جيب
39
االستمتاع بالتفكري فيها فقط ال بتطبيقها ،كنت أفكر بجدية كالغبي
هل سأصوره أم ال لكن مل يسببوا يل املشاكل يوما ولطاملا كانوا لطيفني
معي من غري اجليد رد اإلحسان بالسوء ،رشدت مع الشجار حتى
شدين شخص من مالبيس انتبهت فوجدت علياء أمامي ،مل أحلظ
جميئها ألين كنت منشغال بالتجسس والتفكري بخبث ...
لكنها مل تكن علياء التي أعرفها ...مهال هل هي حقا أختي؟
وضعت ألوانا مجيلة عىل جفنيها وأمحر شفاه بلون الكاميليا الزهرية،
أشبه بلوحة فنية عنواهنا الربيع ،ارتدت تنورة طويلة وردية اللون هبا
العديد من األزرار مع كنزة بيضاء خفيفة وحذاء أبيض بكعب عال،
شعرها مسدول يصل ألسفل خرصها ،ملاذا مل أحلظ من قبل أنه كان
هبذا الطول؟ حتت أشعة الشمس بدت خصالت من شعرها ذهبية،
حتى أهنا قصت غرهتا.
استمرت بالنظر إىل اجلريان وهي تضحك ،وضعت بضعا من
خصالت شعرها وراء أذهنا ،ارتدت أقراط أذن عىل شكل زهور
بيضاء ...مل أرها تضعهم من قبل قط ...مل أرى علياء التي أمامي
بكاملها من قبل ،كان تغريها املفاجئ حمريا ،حتى انتبهت لنظرايت غري
املألوفة هلا ...
-أين عقلك يا ولد؟
-تبدين مجيلة.
-حقا؟ هل يمكنك إعادة ما قلته حتى أستطيع تسجيله ...حتى
كريم أخربين بنفس اليشء ...قال أنت تشبهني والدتك كثريا.
-هل ِ
زرت والدنا؟
40
لكن علياء رشدت مع جارنا من جديد الذي أثار جلبة يف هذا
الصباح ...األمور تعقدت هناك ،أعدت سؤايل عدة مرات حتى
انتبهت وأجابت.
-طبعا زرته ...سأشتاق له.
بدأت بالشك أن شخصا ما قام باستبدال علياء أختي ،هل هذا
1
وهم كابجراس؟
مل تكن املدينة بالبعيدة لذا سنصل رسيعا ،الطريق املؤدي إليها كان
منعشا ،رسنا يف خط من األشجار اخلرضاء التي متنح السعادة يف
الصباح ،يستحق املكان إقامة نزهة ربيعية فيه.
لكن ما إن وصلنا حتى بدأت العواقب تظهر فعلياء نسيت مكان
املنزلني ،وأمي مل ترسع بالرد علينا ،ال أعرف متى ستتعلم أن تزيل وضع
الصامت من هاتفها ،لذا بدال من االستقرار يف ثالث ساعات أو أقل
تطلب منا األمر اليوم بأكمله ،بقينا ندور لساعات يف دوائر ال متناهية
وكل الشوارع بدت متشاهبة ،مع وصولنا لوجهتنا أخريا نام كل منا
بعمق ،يف اليوم التايل اهتممنا بتوضيب أغراضنا وحفظنا السيناريو
الذي حرضناه إلخبار رغد به ...عن التحقيق وشكوى أحد املعجبني،
كام وضعنا توقعات عن ردة فعلها أو تعاملها معنا وكيف نتجاوب
معها رغم ختوفنا ما إن كانت ستصدقنا ،نحن سنخاطر وحسب.
مرت أيام أخرى تعرفنا فيها عىل مرافق املدينة جيدا فسيكون من
املخجل عدم معرفة اسم احلي الذي نسكن به حتى ،كام ال أرغب يف
اضطراب يصاب به الشخص بحيث يتوهم أن صديقه أو والديه أو أي شخص قريب 1
استبدهلم شخص حمتال يشبههم بمظهرهم.
41
الضياع جمددا.
حان وقت الذهاب إىل رؤى ال مزيد من الوقت لنضيعه ...مازلت
أنادهيا برؤى لست معتادا عىل اسم رغد بعد ،فقد قرأت رواياهتا
عىل مدار عرش سنوات باسم رؤى ،أنا أعترب رؤى ورغد ليستا نفس
الشخصية ،أحس كأن رؤى تبدو شخصية قوية ال هتاب أن تكتب عام
يرهق ثقلها وال يستهان بقوهتا يف التأليف بينام رغد شخصية انطوائية
تكره اجلميع وتفضل العزلة ،هي امرأة بشخصيتني.
التقيت بعلياء أوال ،جمددا عىل غري عادهتا ترتدي مالبس تظهر
أنوثتها الطاغية ،هذه املرة اكتفت بقليل من الكحل عىل عينيها الذي
أضفى بريقا خاصا فبدت عسلية أكثر كالشهد وأمسكت شعرها
عىل شكل ذيل حصان ،ارتدت ثوبا بنيا بأكامم طويلة وحذاء بكعب
صغري ،ما الذي حيدث؟ متى ارشت كل هذه املالبس؟ أم أهنا لطاملا
امتلكتها لكن مل جتد الفرصة املناسبة الرتدائها؟ لكنها ليست الفرصة
املناسبة اليوم ومنذ متى تضع عطرا قويا؟ كانت تبدو كمحققة أكثر يف
السابق هي تبدو كعارضة اآلن ،هل تنوي هذه البنت فضحنا؟ قررت
الترصف كأنني مل أحلظ تغريها حتى حتدثني بنفسها عن رسها ،هل
ترغب بالزواج أخريا؟
ركبنا السيارة وسكتنا طوال الطريق كأن كال منا ينتظر اآلخر لكي
يبدأ الكالم ،استمر الوضع إىل أن وصلنا ،أحسست كأهنا تريد قول
يشء ما ،فانتظرت منها إخباري سبب ختليها عن رسوال اجلينز املفضل
لدهيا وسرتهتا اجللدية لكنها مل تفعل.
ال أصدق أنني أمام باهبا ،أنا الذي مل آخذ ولو عطلة يف حيايت من
العمل وعلياء التي تقدس العمل أكثر مني ...حتى أهنا مل تتزوج
42
بسببه ،ها هي تستعمله يف موقف مشبوه قد يؤدي بخسارهتا لعملها
إن بلغت عنا رؤى ،كان كل شخص يطلب يدها يأمرها برتك العمل
فينتهي برتكها له ،لكنها اليوم ستكذب وتستغل منصبها الذي تعتز
به...
بيت رؤى كبري للغاية ،مل أعتقد من قبل أهنا هبذا الغنى ،كان من
طابقني بطالء أرجواين به الكثري من النوافذ وسقف قرميدي ،حديقة
صغرية أمام الباب متلؤها زهور الياسمني ،مثل ما وصفته يف روايتها
متاما ،مل أختيله هبذا الشكل بالضبط ،ختيلته أصغر ومل أتوقع وجوده يف
منتصف احلي ،لطاملا ختيلته منعزال لسبب ما رغم أهنا ذكرت بوضوح
أهنا تسكن وسط املدينة.
تشاجرت مع علياء كالصغار عىل من يرن اجلرس أوال ،واستمرينا
بدفع بعضنا البعض حتى تشجعت أنا وضغطت عىل الزر ...
دقائق من االنتظار مصحوبة هبدوء خميف ،فقط صوت أنفاسنا
العميقة يعم املكان ،ثم نسمع صوهتا من آلة اجلرس تسأل من نحن،
هنا انتبهت لوجود كامريا معلقة فوق الباب ،أمتنى أال تكون شاهدت
شجارنا املضحك ،سيكون حمرجا أن ترى بالغني بمثل عمرنا
يتشاجران عىل أمر تافه.
أخرجت علياء من جيبها شارة رشطية مزورة ،ولوحت هبا اجتاه
الكامريا قائلة :الرشطة هنا ،هل أنت اآلنسة رغد؟
فتحت الباب بنفسها ببطء شديد ،ثم نظرت بعني واحدة من زاوية
الباب ،كقط خائف ،بينام علياء دفعت الباب بتطفل ودخلت ،فرجعت
رؤى خطوات للوراء.
أنس أبدا حلظة التقاء عيناي هبا ،فتاة قصرية مجيلة للغاية،
لن َ
43
شعرها بني قصري يصل ألسفل أذنيها ال يغطي رقبتها ،عيناها مجعت
كل األلوان اجلميلة بنية خمرضة ،أمجل ما رأت عيني ،وجه دائري
صغري وشفاه ممتلئة ،ارتسمت عالمات االرتباك واحلرية عىل وجهها
بينام تنقل نظرها بيني وبني علياء ،فطالبناها باهلدوء ،بدأت بالتنفس
ببطء واضعة يدها عىل صدرها كأهنا تعاين من مرض ما ثم طلبت منا
التفضل باجللوس.
-أتيتم أرسع مما ظننت.
من كالمها تيقنا أهنا طلبت الرشطة بنفسها بالفعل لكن ملاذا؟ غرفة
اجللوس كانت مقابلة متاما للمدخل لذا دعتنا للدخول هلا مبارشة،
جلت بنظري يف املكان الذي يغلب عليه اللون الرمادي ،إذا هي مل ختن
اللون األمحر بلبسها للفستان األبيض واقتنائها لبطانية رمادية فقط
بل يف بيتها أيضا ،جلسنا مقابلني لبعض لذا بقيت أراقب حتركاهتا و
تعابريها ،كانت لدي عادة مراقبة يدي املرىض ألخذ فكرة عن وضعهم
النفيس فاليدين أكثر ما يستعملهام الشخص يف يومه ،فانتبهت أن لدهيا
عادة قضم األظافر ومن طريقة تكرس أظافرها ال بد أهنا عادة حديثة
العهد ،مل تذكر ذلك يف روايتها لذا ال بد أهنا كانت متوترة للغاية يف
اآلونة األخرية بعد نرش الكتاب.
-هل يمكنك أن ترشحي لنا موقفك يا آنسة؟ يف احلقيقة أحد قرائك
اشتكى بكونك حتاولني االنتحار هلذا اضطررنا للتطفل عىل بعض من
خصوصياتك نحن آسفان لكن كان هذا من باب االحتياط يف حال مل
نلحق إال بجثتك ...
-أنا مل أحاول االنتحار أبدا ومل أفكر من قبل باإلقدام عىل قتل نفيس،
أنا ال أعرف من أين أبدأ الرشح ...أوال من القارئ الذي اشتكى؟
44
السؤال الذي مل نتوقعه ،لكن علياء ترصفت برسعة وذكاء.
-ال يرغب يف اإلفصاح عن هويته كل ما هيمه كونك حية لذا هال
ختربيننا بمشكلتك حتى نتمكن من مساعدتك؟
-أنا مل أكتب الرواية ...لست الكاتبة.
نظرت يف علياء نظرة حمرية ،ما الذي هتذي به هذه؟
-أنا مل أكتب الرواية عن نفيس ...مل أكتب رواية «أنا» ،شخص آخر
قام باخرتاق حسايب االلكرتوين وأرسل الرواية لدار النرش باسمي وبام
أنني عهدت إرسال روايايت هلم بنفس الطريقة مل يتحققوا من هويتي
وقاموا بنرشها مبارشة ،أنا خائفة اآلن من الكاتب احلقيقي ،كل ما
يف الرواية صحيح عني بشكل دقيق ...الكاتب يعلم عني معلومات
مفصلة للغاية ال يمكن ألي شخص معرفتها ،يعرف حتى لوين املفضل
ومنزل الغابة الذي أجلأ إليه للكتابة ،ال أتذكر أنني أخربت أحدا عنه
أو عن موقعه إنه مكاين الرسي للجوء إليه عندما أفقد اإلهلام ،حتى أنه
يعلم أنني ربحت يف مسابقة للكتب عرب األنرتنت وأن أمي أهدتني
وشاحا أمحر ،أنا ال أعرف إىل أي مدى كان يراقبني هذا الشخص دون
أن أنتبه ،مرعب أنه يريد مني االنتحار ،قراءة الرواية وحدها جعلتني
أرتعد خوفا...
آخر ما توقعناه أنا وعلياء حيدث اآلن ،السيناريو الذي مل نحفظ
منه شيئا.
-هل هناك شخص تشكني به؟ أعني أنا كامرأة أنتبه أحيانا لبعض
الرجال الذين ينظرون يل بنظرة غريبة ...تعرفني أقصد حدس املرأة.
-ال أحد خيطر عىل بايل حاليا ال يوجد شخص من هذا القبيل ،لكن
45
هناك خطأ يف الرواية ،اليشء الوحيد الذي ليس صحيحا عني ...
-ما هو؟ أعتقد أنه قد يكون ثغرة الكاتب احلقيقي ...
-ال أعرف شخصا اسمه أدهم ،أنا بالكاد حتدثت إىل رجل منذ وفاة
والدي وتركي للجامعة ،أنا انعزلت متاما عن الناس ،لذا ربام يكون
الكاتب احلقيقي طبيبا اسمه أدهم مهووسا أو شيئا كهذا؟ يريد من
نفسه أن يكون بطال يف روايتي ،هذا ما توصلت إليه بعد تفكريي
املطول ،خاصة أنه ركز عىل شخصيته يف الصفحات األخرية ونسب
لنفسه سبب انتحار شخصيتي.
جتمد الدم يف عروقي من كلامهتا مل أستطع حتريك ساكن ،تصبب
العرق من جيني لكن علياء بدت باردة وصلبة كالتمثال ومل يرف هلا
جفن ،عندما رأت وضعي طلبت منها السامح لنا باخلروج وشكرهتا
عىل تعاوهنا معنا وأننا سنبحث يف القضية ونجد الكاتب يف أرسع
وقت ،ودعتنا رغد مبتسمة كطفل صغري ،أول ابتسامة رفرف هلا قلبي
منحتني أمال ومسحت خويف فلامذا أفزع وأنا لست الكاتب؟
ما إن خرجنا وركبنا السيارة بقينا شاردين لفرتة نفكر فيام قالته لنا
رغد للتو ،ثم تكلمت علياء.
-مل تكن الكاتب صحيح؟
-هل تركتي عقلك يف العمل؟ إن كنت الكاتب ملا قد أطلب
مساعدتك إلجيادها؟
-جيب أن تبتعد عنها حاال ولألبد لن نعود لرؤيتها جمددا ستشك
بك وسرتفع دعوة ضدك أنا بالكاد أرسعت باخلروج والتسلل قبل أن
تنتبه وتطلب أرقام هواتفنا أو تسأل عن أسامئنا ...لو كان االسم فقط
46
الذي يطابقك لكان الوضع منطقيا نوعا ما لكن املهنة أيضا؟ من قد
ال يشك يف مثل هذا املوقف؟ حتى أنه ذكر يف الرواية بأنك من برج
الرسطان ،كيف ستقنعها أنك لست الشخص نفسه؟
-هل تشكني يب أيضا؟
-لست أشك بك لكنني ال أريد منك التورط يف يشء ال يد لك فيه.
-لكنني أرغب بإهناء ما بدأته ،أريد معرفة من يريد حتطيم مسريهتا
املهنية
-إذا فلتفعل هذا لوحدك أنا سأعود للبيت ألنه سيتم رفع توقيفي
عام قريب وسأواصل عميل لذا فلتفعل ما تشاء وإياك وطلب مساعديت
جمددا ألنني سأكون مشغولة.
مل نتحدث بعدها حتى وصلنا لبيتها املستأجر ونزلت علياء من
السيارة دون توديعي حتى ،أما أنا فعدت ملنزيل ألفكر يف طريقة ملساعدة
رؤى دون أن تعرف أنني أطابق الرجل يف كتاهبا.
مهام فكرت فكل الطرق تؤدي إىل احلقيقة ،الكذبة األوىل دائام ما
حتتاج لتابعاهتا لكي تتم وخطأ صغري يف الوسط سيدمر سلسلة كذبك
ويصبح كل ما عملت من أجله بال فائدة ،وأنا كشخص يتكلم بعينيه
قبل فمه ال أستطيع إخفاء الكثري فمالمح العينني تفضح صاحبها،
ليس من السهل قول كذبة وعيناك ثابتة أو تتجنب حزنك دون أن
تدمع عيناك ،لذا ستستمر بتجنب التقاء عينيك بالشخص اآلخر.
لكن رغد كاتبة ،التحايل عىل كاتبة ليس أمرا يسريا ،فهي مرت
عىل كتابة آالف الشخصيات اخلبيثة ،الكاذبة واآلثمة لذا هي تعرف
كيف تدرس شخصية كل فرد ،مثلام أستطيع دراسة جسم أي شخص
47
تستطيع هي معرفة ما بداخل العقول ألهنا سبق وأن درست عنها
جيدا.
بعد ختمني ،قررت الذهاب بدون خطة ،فلندع كل يشء يسري يف
حال سبيله ،أحيانا يكون من األفضل عدم التفكري يف األمور لوقت
طويل فسينتهي ذلك بتعقيدها أكثر ال غري ،أنا ال أجيد التخطيط من
البداية لطاملا سلكت الطرق املبارشة لذا بدل التفكري يف خطة ملساعدة
رغد دون كشف هويتي فضلت البحث عن فرصة إلخبارها احلقيقة
وأترك هلا خيار الشك يب من عدمه.
انطباعي عنها بالبداية يف الواقع كان سيئا عندما بدأت بالتحدث،
مل تكن خائفة عىل اإلطالق وحتدثت عن األمر هبدوء شديد عكس ما
ادعت ،صحيح أهنا تعاونت معنا وأجابت عىل أسئلتنا لكنها مل تذرف
ولو دمعة واحدة ،حتدثت بوجه جدي خميف ،عادة الناس يف موقفها قد
يبكون بشدة ويرتجون الرشطة بشكل متكرر ملساعدهتم بأقىص رسعة
ممكنة ،أما هي فودعتنا بابتسامة رغم أهنا كانت كفيلة بمسح انطباعي
اليسء إىل األبد إال أن شعور الشك مل يزل متاما ،صحيح أن رؤيتي
هلا تغريت من قطعة جليد إىل طفلة صغرية ،فلم أرد إساءة الظن هبا
حقا ،فكم من شخص رأينا يف عينيه شتاء باردا بينام ما زال قلبه يزهر
باملشاعر ،أو كام قالت يف إهداء روايتها حتت الطاولة «إىل اهلادئني ...
الذين حتمل مالحمهم الكثري من األمل أو السعادة إن قرأهتا جيدا»
48
4
49
الكيل ،تعاملني كابن هلا أكثر من أخ.
مل تصمت ولو لثانية رغم جتاهيل هلا حتى آخر حلظة ...كيف مل
تتعب من احلديث عن ذات املوضوع ،حتى أهنا هددتني بإخبار والدنا
بام فعلناه ،هذا ما كان ينقصني ...لو يعرف والدنا سيبلغ عنا للرشطة
دون اعتبارنا أوالده ،هو يتحول لشخص جدي وخميف عندما يتعلق
األمر بالكذب أو اخلداع.
أيب «كريم» الذي لطاملا فضل علياء من الصغر ،كان من نصيب
علياء كل ما هو مجيل ،والدهتا قبيل بسنوات كانت كفيلة بأن ترسق
مني كل احلب ،كانت تقوم بكل ما تريد من أفعال طائشة ومصائب
حبذا عدم ذكرها ،ويكون من نصيبي العقاب ،برغم درايته التامة أن
علياء هي الفاعلة لكنه يتجاهل احلقائق.
ذات مرة عندما كنت صغريا يف حادثة أتذكرها جيدا كأهنا البارحة،
اشتكت جارة لنا أليب بسبب تعرض ابنها للتنمر ،كان أيب يعرف جيدا
أن علياء الفاعلة لكنه أبرحني رضبا دون شفقة لدموعي ورصاخي...
لذا مجعت شتات نفيس وأخربته أن علياء الفاعلة ولست أنا لكنه ابتسم
وقال كالما حطم عالقتي معه وجعلني أكرهه لليوم ...قال« :حتى لو
قتلت علياء شخصا أمامي سأكذب عيناي وأصدق أنك الفاعل».
حتى والديت كانت تفضل علياء ،وتتحجج بأهنا ال ترغب يف جعلها
تشعر بأي نقص عاطفي كوهنا حتتاج للرعاية أكثر مني لكيال تشعر
بغياب أمها أو حتس باختالف عن األطفال اآلخرين ،لكن ماذا عني؟
صحيح أنني كنت أنا وعلياء عىل وفاق تام وعلياء كانت تعتني يب أكثر
من أمي نفسها لكن داخليا بيني وبني نفيس كنت أغار منها أحيانا،
لطاملا كان هلا احلرية التامة يف الترصف ،أما أنا فوالدي حياول التحكم
50
يف حيايت حتى يومنا هذا.
ظننت أنه بمجرد خترجي وحصويل عىل وظيفة ثم انتقايل لن يكون
أليب أي دخل ،لكنه يرغب يف أن أتزوج بقريبتي التي مل أحدثها منذ أن
كنا بالثامنة بتحريض من أمي ،أمل حين الوقت ألعيش بسالم؟ كيف
يريدون مني الزواج بعد رفضهم عالقتي السابقة؟ العيش يف عائلة ال
تعرتف باحلرية الشخصية يفقدك السالم الداخيل.
رصت أقود برسعة من الغضب لكن علياء استمرت باحلديث غري
آهبة لغضبي منها ،هي تصبح شيئا فشيئا مثل أيب ،وعند قرب وصولنا
ختمت خطاهبا الطويل باالستهزاء مني قائلة:
-ماذا لو اكتشفت هويتك احلقيقية؟ أي موقف حمرج ستورط
نفسك فيه؟ تبدو فتاة متعجرفة ،هل تظن أنك يف إحدى رواياهتا أو
مسلسل درامي حيث تقع يف حبك وتساحمك عىل الكذب ثم تعيشان
بسعادة إىل األبد؟ فقط انس شأهنا ولتعد حلياتك العادية مثلام كنت ...
لطاملا شعرنا بالفضول حوهلا وعن شكلها وها قد أشبعت فضولك
لذا فلتستسلم ...هي مل تأخذ أرقام هواتفنا وبالكاد ستستطيع التعرف
عىل هويتنا من لقطات الكامريا األمامية ،إنه أفضل وقت لالنسحاب
فلتتوقف عن لعب دور البطل.
مل أعرها اهتامما كأنني ال أسمع ما تقوله ،هي مل ترتك يل أي فرصة
للحديث عىل كل حال ...سأتركها لتفعل ما تريد فلتخرب أيب فلتخرب
العامل أنا ال أهتم ،كل هذا الوقت كنت أصارع إلرضاء عائلتي لكني
أدركت أن هذا حمطم للنفس ،كثرة التظاهر جتعل قلوبنا هشة ،كل مرة
أحاول فيها كسب رىض من هم حويل ارتفعت آماهلم وتوقعاهتم بشأين
وهكذا يتحكمون يب أكثر عىل حسب أهوائهم وينتظرون مني بذل
51
املزيد من اجلهد ألجلهم .ليس وكأننا نعيش كثريا ،لذا حياة واحدة ال
بد من عيشها بثمن والقيام بام أرغب به بدل مواكبة اآلخرين خشية أن
أخيب ظنهم ،مل أوافق من قبل عىل مقولة عش وكأنك ستموت غدا
لكني عرفت قيمتها اليوم.
الحظت علياء أخريا ال مبااليت لكالمها ،فاستسلمت وتوقفت عن
الثرثرة ...عند وصولنا نزلت معها ألساعدها عىل محل حقائبها ...
ملاذا أحرضت كل هذا إذا كانت سترسع بالعودة ،كنت أظن أهنا متلك
رسوال جينز واحد وقمصان رجالية وسرتات جلدية فقط ،ساعدهتا
يف إيصال أغراضها للمنزل ثم ودعتها.
قبل مغادريت حلقتني وقالت يل كلامت تذكرهتا جيدا طيلة حيايت،
قالت« :أنت حتب اجلدال ،لكنك فضلت الصمت وعدم مناقشتي ،إذا
أعتقد أنك وصلت لقناعة أن شيئا لن يغري طريقك جتاه رغد ،حظا
موفقا» ...مل أعرف ما أقوله ،سعدت كثريا ألهنا وافقتني أخريا لكن
مل أرغب يف إكامل احلديث عن رغد معها فاكتفيت بإخبارها أهنا مجيلة
بفستان أو غريه «لست مضطرة لتغيري مظهرك حتى تبدين أمجل» ،هذا
ما قلته هلا بالضبط.
ابتسمت يل وصعدت ملنزهلا ،ال أصدق أنني سعيد بسبب هذا ،يبدو
أن عادة إرضاء اآلخرين ال يمكن التخلص منها بسهولة.
عدت إىل بيتي بمدينة رغد ،جلست أحدث نفيس لساعات ،ماذا
لو كانت علياء حمقة وأن كل هذا سينتهي بشكل يسء؟ فهي متتلك
حدسا جيدا جتاه بعض األمور ،ترددت للحظات ثم عزمت أمري عىل
إكامل ما كنت عىل صدد فعله وليحصل ما حيصل ،سأندم بال شك إن
مل أفعل ،تفقدت األوراق التي منحتني إياهم علياء عنها جمددا فوجدت
52
رقمها فحفظته هباتفي.
اتصلت هبا ...ناديتها برغد ،قررت تعويد نفيس عىل التحدث
معها باسمها احلقيقي ،يف حماولة ألن أعترب هذا لقائي األول هبا كأنني مل
أعرفها عىل أساس الكاتبة رؤى جمهولة اهلوية من قبل ،أنا فقط سألتقي
بفتاة حتتاج مساعديت اسمها رغد ،كان حديثنا خمترصا وتعرفت عىل
صويت برسعة ،أما صوهتا فكان متغريا عىل اهلاتف ،بدا أكثر بحة مما هو
عليه ،كأهنا تتحدث معي بينام تبكي.
وافقت عىل مقابلتي لكنها طلبت مني االلتقاء بمنزهلا أحسن من
اخلارج ألهنا ما زالت ختاف من اخلروج الحتاملية وجود مهووس
يتعقبها فاحرتمت رغبتها ،مرعب شعور أن شخصا ما يراقبك ،أنك
حمط أنظار شخص ال تعرف ما قد يقدم عىل فعله.
ذهبت هلناك ،كان الوضع غريبا قليال ألن علياء ليست معي
ملساعديت يف الكالم ،لكن البد من الثقة بنفيس ،فتحت رغد الباب
بأرحيية هذه املرة مما منحني شعورا باالطمئنان.
عندما رأتني كانت تنظر يف األرجاء ،فهمت من نظراهتا أهنا
تبحث عن علياء لكن أخربهتا أنني وحدي وفضلت أال أدخل لبيتها
إن شعرت بالتوتر لذا عرضت عيل اجللوس يف احلديقة اخللفية ،كان
يقود إليها ممر عشبي بنفس لون البيت به الكثري من النباتات املتسلقة
فيمنحك شعورا خاصا بالدفء واهلدوء ،عىل غرار احلديقة األمامية
التي يملؤها الياسمني احلديقة اخللفية هبا الكثري جدا من الورد األمحر
وبام أننا كنا يف الربيع كان كله متفتحتا بشكل مجيل فأعطى جوا رائعا
لالسرتخاء ومنظرا مرحيا للعني ،وضعت هناك طاولة خشبية مستديرة
عليها بعض الكتب مع كرايس.
53
هل يأتيها بعض الزوار؟ فلو كانت وحيدة دائام مثلام قالت ملا ال
يوجد كريس واحد فقط؟ جلسنا ثم سألتها عن أحواهلا قليال وبدأت
بطرح األسئلة املعتادة.
-إذا هل يمكنك التفكري بشخص قد يكون الكاتب احلقيقي؟ ربام
شخص قريب منك للغاية يعرف عنك معلومات مفصلة.
-ال أملك أي شخص مقرب سوى والديت ،فوالدي تويف عندما
كنت بالعرشين وصديقتي انتحرت منذ سنوات كام ذكر يف الكتاب
متاما.
-أين هي والدتك؟
-متزوجة من رجل آخر ،لكني متأكدة أهنا ليست والديت من
فضلك ال تشك هبا ،هي ال تعرف كل يشء عني ،من الواضح أن هذا
الشخص أجرى بحثا كامال عن خلفيتي وأمي ال متتلك ال القدرات
وال الدافع لفعل هذا هي ال متلك أي سبب لتحاول وضع حد ملسرييت.
ملاذا تدافع عن والدهتا هبذه القوة؟ دائام من يغدر بك هو شخص قد
قلت عنه «مستحيل ،هو آخر شخص أتوقع منه طعني»
استأذنتها بتفتيش منزهلا يف حالة هناك يشء مفقود أو كامريات
خمفية ألن املهووسني يميلون إىل رسقة أغراض الشخص املعجبني به،
أو مراقبته رسا ،توقع منهم أي يشء حتى التسلل ملنزلك دون علمك.
انقسمنا يف العمل بدأت هي بالتأكد من وجود كل أغراضها يف
مكاهنا بينام أنا بحثت عن أي كامريات ،تأكدت من كل ركن يف املنزل،
مل تزعجني أبدا أو تالحقني يف األرجاء بل تركت يل كامل احلرية
للتجول فيه ،بيتها حيتوي عىل ثالث غرف بالطابق الثاين ،لكن من
54
الواضح أهنا تستعمل غرفة واحدة فقط ،أما الطابق السفيل فيه املطبخ،
غرفة اجللوس ومكتبة ،أشك أهنا مصابة بالوسواس القهري كل يشء
مرتب ومتناظر بشكل مثايل ،ويشء آخر جذب اهتاممي يف بيتها هو
رائحة الالفندر املنعشة التي هتدئ القلق.
دخلت ملكتبتها كانت كبرية يتوسطها مكتب صغري ،حتوي الكثري
من الكتب ،تفحصتهم فوجدت من بينهم بعض الرفوف املخصصة
لرواياهتا ،أخذت روايتي املفضلة هلا «خلف الستار» التي تتحدث عن
فتاة أعجبت بصفحة فتى من دولة أخرى عىل أحد مواقع التواصل
االجتامعي لسنوات دون أن تراه وشاءت األقدار أن تلتقي به ذات يوم
يف مركز رشطة يف باريس...
لقاء غري متوقع وغريب بني فتاة فقدت اإلحساس باألمل وفتى
عاش حياته حزينا ...كانت قد وضعت عالمة عىل إحدى الصفحات
التي لن أمل من قراءهتا أبدا قالت فيها « :عانقني من اخللف وأبى أن
يرتك رساحي ،أنا التي أصبحت سجينة حلبه ال أجد نفيس إالّ معه ،أنا
أمه الثانية التي يلجئ إليها ،أنا أسمعه حني يكون العامل أصام ،طريقة
لفظه السمي وحدها متنحني الشعور بالتميز ،فأحببته أكثر من املطر
وأغرمت بعروق معصمه البارزة التي اشتدت كل مرة يعانقني فيها
بقوة خمربة إياي بلغتها أنه يريدين لنفسه لألبد.
التفت إليه ناظرة له بعيوين التي قيدته فقال يل« :أنت حمياي وممايت»
دائام ما خيطف قلبي بكلامته»...
-هل حتب املطالعة؟
مل أنتبه ملجيء رغد ووقوفها أمامي بينام كنت منغمسا يف روايتها
الدافئة حتى تكلمت معي ،رغم جدية املوقف متلكني شعور
55
بالضحك ،مل نقف هبذا القرب من قبل فانتبهت اآلن فقط أهنا أقرص
بكثري مما ظننت ،كان طوهلا حوايل مخسة أقدام ،بينام أنا ستة أقدام
وإنشني ،بدت كالطفلة الصغرية أمامي ،ذكرتني بتلك الفتاة قليال ...
-هل سمعت ما قلته؟
أضحكني موقفها أكثر وهي ترفع رأسها ملحاولة رؤية وجهي ...
-هذه روايتي املفضلة.
-إهنا املفضلة يل أيضا ،كمية املشاعر التي هبا مل أوظفها يف أي رواية
أخرى ،أحب كتابة روايات بأبطال يمتلكون حياة وشخصيات خمتلفة
مثلام قد تكون الحظت يف معظم روايايت إن قرأهتا ...باملناسبة ما
اسمك؟ يسعدين االلتقاء بأول معجب يل شخصيا.
سؤاهلا جعلني أتوقف عن االبتسام حلظات ألفكر يف موقفي ،هل
أخربها باسمي احلقيقي أم أكذب جمددا؟ لوحت بيدها يف وجهي
قاطعة تفكريي ،فعزمت أمري وأجبتها اسمي «أدهم».
تغريت تعابري وجهها بمجرد سامع اسمي ،تبعثر انرشاحها وحل
مكانه عبوس ،مل أزح عيني عنها ،بقيت أراقب تقلباهتا ...مالحمها
وتفاصيل وجهها ،الحظت أهنا متتلك شامة حتت عينها اليرسى،
بدأت بالرمش كثريا يف حماولة منها لتجنب التقاء أعيننا ببعض ،عىل
عكسها بقيت ثابتا منتظرا ردة فعل منها ،لكنها رسعان ما عادت
لتبتسم ...متتلك غامزة يف خدها األيرس ...رؤية ابتسامتها حركت
زوايا شفاهي لوحدمها ...شعرت باخلجل فبدأت باللف والدوران
كاألبله وحك رأيس ،ال أعرف ما الذي أفعله ،بقيت تراقبني بسعادة
ثم قالت يل« :ترشفت بمعرفتك أدهم».
56
أعتقد أنني نجحت يف االختبار ،كان الوضع خانقا فعال للحظات
لكن مر عىل سالم.
ذهبت ثم أتت بصينية هبا شاي وقهوة وهي تدندن أغنية ما ،فارحتت
السرتخائها حويل ،إذن هي ال تشعر بالريبة نحوي ،أنا سعيد هلذا.
-مل الشاي والقهوة معا؟
-ال أعرف ما تفضله ،لذا أحرضت االثنني ...مهال ال ختربين أنك
تفضل العصري.
-ال أنا أفضل الشاي.
-حسنا ،هل وجدت شيئا مثريا للشك؟ أنا مل أجد شيئا مفقودا ،كل
أغرايض يف مكاهنا.
-وال أنا ،البيت آمن ،بعد أن ننتهي من هنا لنذهب لتفقد جريانك
وأي شخص مقرب منك.
انتظرهتا لتغري مالبسها ،من أجل ترك انطباع جيد عنها جلرياهنا
الذين مل تزعج نفسها بزيارهتم من قبل ،عادت برسعة مرتدية ثوبا
أبيض برشائط سوداء عىل الرقبة ،أليس هو نفس الفستان الذي قال
الكاتب أهنا ستنتحر فيه؟ مل أختيل أنه يملك رشاشف من األسفل
يؤسفني أن خميلتي مل تكن واسعة بقدر ما ظننت ،رشدت فيها جمددا،
ها قد عاد الربيق يف عيني من جديد ،هي أعادت الروح لقلبي التائه
بحسها األنثوي ...جلست إىل جانبي واسرتسلت يف احلديث ...
ظننتها انطوائية ...أين خبأت نفسها الثرثارة طوال الوقت؟
-أدهم ،أمل تقرأ الرواية التي حتدثت عني؟
-بىل ...
57
-حسنا ،هذا هو الثوب الذي حتدث عنه الكاتب يف الصفحات
األخرية ...ثوب أول موعد يل يف الرواية ،مل أرتده بالقرب من احلي من
قبل ...حسنا أنا فكرت ربام إن كان الكاتب أحد جرياين ألن يتفاجأ
بارتدائي له؟ علينا مراقبة تعابري وجوههم جيدا ،كأنني أعطيه رضبة
يف الوجه.
-معك وجهة نظر ،اتركي األمر يل أنا جيد يف هذا ،من تعابري الوجه
إىل حركات اليدين ...أنا أجيد قراءة لغة اجلسد.
-لننطلق إذا.
-قبل أن نذهب أردت إخبارك أن اللون األبيض يناسبك.
أردت منها أن تعرف أنني لست نفس أدهم الذي بكتاهبا ،امحرت
وجنتيها وطأطأت رأسها مبتسمة ،وغريت املوضوع إىل فوائد الشاي،
من يتحدث عن الشاي يف مثل هذا املوقف؟ كان عليها التفكري يف فكرة
أفضل لتخفي خجلها.
رغبت يف عكس خط سري الرواية ،إن كان أدهم بطل روايتها
ينتقدها فأنا لست كذلك ستبقى مجيلة يف نظري بالرغم عام ترتديه أو
تقوله أو ما تفعله أليس احلب أن تتقبل من حتب بفضائله وعيوبه وأن
حتب كل تفاصيله؟ أن متنحه التفهم واحلرية.
يف أول مرة التقينا هبا ظننت أهنا فتاة جادة ،باردة أعصاب ،بدت
كشخص فارغ من الداخل ...شخص بال مشاعر ،أخربتنا بكل برودة
أهنا مل تكن الكاتبة ،مل أفهم ما إن كانت متتلك صعوبة يف التعبري عن
نفسها أم أهنا بال مشاعر ...لكن اآلن أراها شخصا كان يبحث عن
الفرصة ليفتح قلبه احلزين ،امرأة بقلب طفلة ...وجسد طفلة تقريبا،
قبل خروجنا ارتدت كعبا عاليا أسود لتبدو أطول قليال ،رأسها يصل
58
لكتفي اآلن.
بدأنا بزيارة اجلريان الواحد تلو اآلخر ،طرحنا عليهم بعض األسئلة
التي جتعلهم يظنون أننا ال نشك بأحد منهم بل نثق هبم حتى ينرشحوا
لنا ،مثل هل رأيت شخصا مشبوها يف اجلوار؟ هل انتبهت لوجود
شخص غري سكان احلي يف األنحاء؟ هل مرت عليك سيارة ليست
ألحد السكان؟ لكن اجلميع امتلك نفس اإلجابة «مل َنر شيئا» « ...مل
نلحظ شخصا غريبا» « ...ال أعتقد أنه قد مر علينا يشء مشابه».
بحسب ترصفاهتم مل نجد شخصا مشبوها ...الكل تعاون مع
التحقيق ،بل عرضوا عىل رغد طلب املساعدة يف حال أحست أن
هناك من يراقبها وبدا أن اجلميع صادقا يف أقواله وقلقا عليها خصوصا
سيدات احلي اللوايت يمتلكن بنات يف مثل سنها ،لكن أزعجتني
نظرات جارها الذي يسكن بآخر احلي هلا ،ال أعتقد أنه الكاتب ألنه
ال يبدو ذو مستوى ثقايف رفيع ،كام أنه ال يمتلك كتابا واحدا ببيته ،لذا
أظنه منحرفا فحسب ،كيف جيرؤ عىل رمقها بتلك النظرات السامة.
ما زال هناك تتبع خمرتق احلساب اإللكرتوين ،أعرف صديقا قد
يساعدنا يف هذا لكن لست متأكدا من إمكانية نجاحه ،ألن عملية
االخرتاق مر عليها شهور وال بد من أن املخرتق قد حمى كل آثاره
بالفعل ،وما زال أيضا الذهاب للمستشفى املذكور يف الرواية الذي من
املفرتض أن أدهم يعمل به.
ودعت رغد هنا ،واعدا إياها بإمساك الفاعل مهام حدث ولو
انعدمت األدلة سنجده بال شك ،ال يمكنه اهلروب منا ،فاحلقيقة مهام
بعدت عنا ستظهر يف النهاية ال حمالة.
نمت لساعات طويلة بعدما عدت للمنزل بسبب الصداع الشديد،
59
مل أستيقظ إال ليال وأول ما طرأ عىل بايل عند فتح عيناي هي رغد ،عىل
هذه احلال تبقى يل أقل من أسبوعني ،جيب أن أجد املشتبه به قبل أن
تنتهي إجازيت ،املشكلة تكمن يف انعدام مشتبه به ...ال يوجد من تشك
به ،من ال يمتلك عدوا أو منافسا؟ أخشى أن يكون هذا الشخص قريبا
جدا دون علمنا ،لو كانت علياء يف مكاين ما الذي كانت ستفعله؟
لكن مهام فكرت أجد أن أمها مشكوك هبا ولو أن رغد ترفض تقبل
الفكرة ،ابنتها قررت تركها وفضلت العيش لوحدها بعدما أعادت
هي الزواج من شخص آخر ،ربام هي ترغب يف أن تعود ابنتها للعيش
معها ،ألهنا تعلم جيدا أنه ال يوجد هلا دخل آخر من غري الكتابة ،فإن
نرشت رواية أخرية باسم رؤى ستضطر ابنتها للتقاعد واالنتقال
للعيش يف بيت والدهتا فهي لن تكون قادرة عىل حتمل تكاليفها بنفسها
وهكذا يتحقق مراد األم.
لكن كيف أقنعها أن أمها مشبوهة دون أن تيسء الفهم بأين أحاول
صنع مشاكل بينهام ،لذا جيب تدبري خطة لنقوم باستجواب والدهتا ...
لكن حتى لو كانت أمها الكاتبة مل ذكرت شخصا اسمه أدهم؟ هذا ما
يثري فضويل أكثر.
اتفقت أنا ورغد عىل الذهاب غدا للمستشفى املوصوف يف الرواية
لتفقد ما إن كان هناك شخص يطابق أدهم ،رغم إحسايس أنه ال يوجد
وإن وجد قد يكون توأم روحي دون شك ،غريب شعرت كأنني ذاهب
للبحث عن نفيس.
أخربتني أن أنتظرها يف مكان قريب من املستشفى ...دقائق وأالحظ
فتاة قصرية ترتدي رسوال جينز وقميصا واسعا تغطي رأسها بقبعة
تلوح يل ،كدت ال أتعرف عليها ،حتى رأيتها تقرتب مني فتأكدت.
60
-مل ترتدين اليوم هكذا بخالف األمس أمل تقويل جيب أن نعطي
الكاتب رضبة يف الوجه؟
-قررت الذهاب عكس خطة األمس ،ماذا لو أن الكاتب هنا
وبرؤيته يل سوف هيرب؟ أو يطلب من املستشفى التسرت عنه ،لذا أنا
سأدخل هبدوء حتى ال يالحظني أحد ،يف احلي كان الوضع يف صاحلنا
أما املستشفى فاألمور تؤول لصاحله.
-ألست جتذبني االنتباه حولك أكثر؟
-أنت من جتذبه بطولك الشاهق ،من قد ال يالحظ وجود عمود
مثلك.
يف احلقيقة وجودها بجواري هو ما جيعلني أبدو ضخام أكثر ،يف
العادة الناس ال تالحظ طويل عندما تقف علياء بجانبي ألهنا طويلة
كذلك ،لكن مع رغد أنا عمود إنارة متنقل.
دخلنا املستشفى ،وسألنا يف املكان عن طبيب اسمه أدهم لكن ال
وجود له ،طمأنني هذا لسبب ما وزاد من تساؤاليت يف نفس الوقت،
لكن استمررنا بالبحث والسؤال عن كل األطباء اجلراحني يف
املستشفى واتضح أن ال أحد منهم حتت سن األربعني لذا تستحيل
احتاملية وجوده هنا ولو باسم آخر ،فحسب الرواية هو يف ثالثينياته،
املشكلة هو سعينا وراء شخص جمهول ،فكل ما اعتمدنا عليه هو ما
ذكر يف الرواية ،ولو اتبعنا ذلك فسأكون أنا ذلك الشخص ال حمالة لذا
ال أعتقد أن اتباع ما كتب فقط سيوصلنا إىل الكاتب.
عندما كنا هنم باخلروج رأيت شخصا مل يكن جيب أن ألتقي به
هنا وخصوصا مع رغد ...زميلة من أيام اجلامعة ،كانت يف وجهي
مبارشة وال يوجد فرصة للهرب ،حاولت التظاهر بعدم معرفتها لكن
61
هي نادت باسمي ...
-أدهم هل هذا أنت؟
(أنا يف مشكلة )...
-أجل ...مرحبا مها ،إذا هل تعملني هبذه املستشفى؟
-نعم ،أنا أعمل هنا منذ خترجي ...
نظرت إىل رغد نظرة متفحصة ثم ابتسمت قائلة :إذا أنت شفيت...
-نعم ...أو ربام ...تعرفني هناك بعض األشياء ال تنسى.
-معك حق ،لن أزعجكام أكثر جيب أن أعود لعميل ،إىل اللقاء ...
فلتحظيا بيوم جيد ،أنا سعيدة ألجلك.
يف الواقع هي فتاة مرشقة وجمتهدة لطاملا ساعدتني يف سنني دراستنا
سواء من ناحية الدراسة أو كوهنا سندا يل عندما أشعر أن العامل أدار
ظهره يل ،أشعر بالذنب ألين حاولت تفادهيا للتو ،هي حقا ساعدتني
يف أشد حلظات حيايت سوادا.
حام حولنا جو غريب طوال الفرتة التي خرجنا فيها من املستشفى،
جلسنا يف كريس قريب من املدخل لنناقش ما سنفعله تاليا ...أحدثت
كلامت زميلتي وقعا خاصا عىل قلبي ،بينام أنا منهمك يف عاملي اخلاص،
قطعت رغد حبل أفكاري.
-هل كنت مريضا من قبل؟ هل كانت طبيبتك؟
-ال ،هي زميلة من أيام الدراسة ...يف الواقع كنت مريضا نفسيا،
ليس جسديا ...
-إذا هل يمكنك مشاركتي قصتك إن أردت؟ الروائيون فضوليون
62
يف هذا الشأن ،أنا مستمعة جيدة كذلك ،باإلضافة ليس من العدل أن
تعرف كل يشء عني بينام ال أعرف شيئا عنك.
-لست من النوع الكتوم جدا بخصوص املايض ،يف السنوات
القليلة املاضية تعلمت أنه ليس من اليسء التحدث عام يثقل قلبك لذا
سأخربك بقصتي ،يف بداية أيام شبايب ،يف ثاين سنة جامعية يل بالضبط،
تعرفت عىل فتاة جعلتني أؤمن باحلب من النظرة األوىل ،حبي األول،
كنا ندرس مع بعض ورسعان ما طورنا بعض املشاعر لبعضنا ،لكن
أهيل رفضوا الفكرة متاما دون سبب وجيه ...وحاولوا تفريقنا بشتى
الطرق يكرهون العالقات قبل الزواج ويفضلون الزواج التقليدي،
باإلضافة كانوا يرونني صغريا ومن األفضل يل الرتكيز عىل دراستي
...رغم كل يشء كنت متمسكا هبا ...يف أحد أيام شتاء ديسمرب
الباردة تعرضت حلادث مرور ،مل يتم إنقاذها لألسف ،عندما هرعت
للمستشفى بعد سامع اخلرب ،وجدت رجال آخر هناك ...خطيبها،
وضعت يف موقف صعب ...حينها مل أرغب بإفساد نظرة عائلتها هلا
وخاصة أهنا توفيت بالفعل لذا أخربهتم أنني زميلها وغادرت ،أصبت
باكتئاب خاصة بعدما أخربتني صديقتها أهنا مل تأخذين يوما عىل حممل
اجلد وإنام كانت حتتاجني ملساعدهتا يف الدراسة فقط لذا كانت تسايرين
وتدعي حبها يل ،حتى أنني حاولت االنتحار بسببها رغم خيانتها
أنا بقيت أحبها ،ماتت خائنة لكنها بقيت يف قلبي ،وهكذا تعقدت
مشاعري بني اإلحساس بالكره واحلب ،عدة أسئلة بقيت أطرحها عىل
نفيس ،إذا هل املرأة التي حاربت عائلتي من أجلها مل أكن من تفكر فيه
آخر الليل وعند استيقاظها؟ إذا مشاعري مل تكن متبادلة؟ مرت أكثر
من عرش سنوات عىل هذا اآلن ،تغلبت عىل مريض وبدأت أواصل
حيايت بينام هناك يشء ما ينقص قلبي ،أحاول مأله دائام ...هلذا بدأت
63
يف قراءة رواياتك ،بطريقة ما القراءة مألت قلبي األجوف ...عاد
ليصبح دافئا قليال ...
-أتعلم؟ األشخاص الذين يبدون عاديني مثلنا هم من مروا بأقسى
التجارب يف نقطة ما أنا أفهمك ...أكثر ما أزعجني يف الرواية التي
كتبت عني أنه مل يصف مشاعري بدقة عندما انتحرت صديقتي
املفضلة ...وال السبب ألن الكاتب ال يعرف كل يشء يف النهاية
طبعا ،صديقتي انتحرت ألن والدها كان يعنفها كثريا ألتفه األسباب،
كانت تشكو يل مرارا وتكرارا منه ،كانت تطلب نجديت لكن يف كل
مرة أخربها« :يف النهاية هو والدك أليس كذلك؟» ...لكن اتضح يف
النهاية أنه زوج والدهتا ،آخر رسالة تلقيتها منها قالت فيها «رغد ...
هو ليس والدي ،لكن أتعرفني؟ هذا جعلني أشعر بشعور أفضل عىل
األقل اآلن أعرف سبب كرهه يل» كان هذا بعد عام فقط بالفعل من
موت والدي الذي مل أجتاوزه بعد ،ذلك أحرق قلبي مثلك متاما ،سألت
نفيس ألف سؤال وافرتضت عدة احتامالت ،رددت «ماذا لو؟» كثريا،
لكن يف النهاية كل اسئلتي لن تغري شيئا ،سأستيقظ يف الصباح وضحى
ال تزال ميتة وأيب ليس بجانبي لذا قررت ختطي األمر شيئا فشيئا ألن
ذلك ما كان سريغب به والدي لو كان حيا.
قالت هذا وعيناها تدمعان بينام ترضب بيدها عىل صدرها ...
صوهتا أصبح أكثر بحة كأهنا شخص يكاد خيتنق يطالب بالنجاة،
مل أعرف كيف أوايس نفيس فام بالك مواساهتا ،اكتفيت بقول بضع
كلامت لن تغري من حاهلا شيئا.
-أمور كهذه تبقى فقط عالقة مع الشخص إىل األبد ...
-باملناسبة هل أنت طبيب جراح؟
64
كل خلية يف جسمي ارجتفت بمجرد سؤاهلا املبارش ،هي فقط
خرجت عن املوضوع دون سابق إنذار ،لو أهنا كانت تعلم بذلك عىل
األقل تطرقت للموضوع بروية ملاذا فاجأتني هكذا ...كيف عرفت؟
هل شكت يب يف املستشفى أم عند إخبارها باسمي؟ امتنعت عن
اإلجابة فواصلت كالمها.
-من األفضل أن ختربين بجانبك من القصة أو أبلغ عنك ،فقط ال
ختيب ظني.
تغريت برسعة وكأهنا ليست نفس الشخص الذي كاد يبكي من
آالم املايض للتو ،رسمت تعابري جديدة عىل وجهها أراها ألول مرة،
غاضبة؟ ال ليست كذلك ...إنه تعبري شخص خائف.
-أخربيني كيف اكتشفت ذلك أوال ،سأخربك بجانبي بعدها.
-أوال مل تكن املرة األوىل التي أراك فيها عندما جئت ملنزيل ،وكنت
أكذب عندما قلت لكم أنني طلبت الرشطة بالفعل ،رغبت باختباركم
وحسب ،ثم بدأ شكي يكرب أكثر عندما مل تعد معك الفتاة املحققة،
كنت خائفة منك ألكون رصحية ،لكن قررت إخفاء خويف ومراقبتك
للتأكد بنفيس ،سأكذب إن أخربتك أن قلبي مل يكد أن يتوقف عندما
أخربتني عن اسمك ،بعدها عندما كنت سترشب الشاي انتبهت
ليديك ،إصبعيك السبابتني بالضبط ،عليهام عالمات مقوسة ،أال
يستخدم اجلراحون كلتا سبابتيهم لإلمساك باخليط؟ مع مرور الوقت
يتسبب ذلك بإبراز عالمات.
-من أين تعلمت هذا؟
-من املحقق كونان ..
65
هل ما سمعته أذناي صحيح؟ هل هي تقول أهنا اعتمدت عىل
الرسوم املتحركة «كونان» لكشفي؟ لكن هي ال تبدو خائفة حقا مني،
هي تتحدث براحة تامة وليست غاضبة! مل أتوقع أهنا ستخربين حقا
بمجرد أن أسأهلا.
-بإخبارك يل هذا أال يعني أنك تثقني يب بالفعل؟
-ال تقاطعني دعني أكمل ،وما أكد شكوكي هو زميلتك الطبيبة
وقصتك ،لو كنت حمققا ال يفرتض أن تدرس باجلامعة ،أما عن
موضوع الثقة أنا ال زلت ال أثق بك متاما ،لكن عرفت أنك لست
الكاتب ،أنا أيضا أعرف كيف أجري بحثا عن خلفية الناس ،سمعت
من املمرضات باملستشفى الذي تعمل به أنك مدمن عمل ،وأيضا
شخص بامض مؤمل ال جيرؤ عىل كتابة آالم اآلخرين باستهتار ،أنا كاتبة
لذا أدرك هذه النقطة جيدا.
-لن أجد فرصة للحديث إذا مل أقاطعك ،ال أفهم مل كل النساء ال
ترتكن لك فرصة للحديث ثم تغضبن عند مقاطعتهن ...مهال! ما
الذي قصدته بقولك مل تكن املرة األوىل التي رأيتني فيها؟!
-ألن أول مرة رأيتك فيها كانت قبل ثالث سنوات ...
-ال أتذكر أننا التقينا من قبل!
-سأحكي لك قصة ولك أن تصدقها أم ال ...قبل عدة سنوات
أمي كان عليها إجراء عملية جراحية طارئة ،لكن مستشفى مدينتنا
أرسلها إىل مستشفى املدينة املجاورة ،كنت خائفة جدا وأرجتف عندما
اتصل يب زوجها طالبا مني احلضور برسعة ،عندما وصلنا للمستشفى
أخربونا أهنا ستكون العملية األوىل للطبيب الذي سيتكفل هبا ألنه
الوحيد املتاح حاليا ،ال يمكنني وصف مدى شعوري بالفزع حينها،
66
أنت تعلم جيدا إحساس فقدان شخص عزيز ،صحيح أنني مل أكن
بذلك القرب منها بعد زواجها لكنها ستظل أمي ،ولو أن العملية مل
تكن بتلك اخلطورة أنا خفت بشدة ...لكن بعد ساعات من االنتظار
أنت خرجت مبتسام وأخربتنا أهنا بخري ،ابتسامتك تلك كانت أكثر
يشء مطمئن يل يف حيايت كلها.
-أنا أتذكر والدتك بوضوح ،فهي أول عملية يل لكن ال أتذكر أنك
كنت هبذا الشكل أمل يكن شعرك طويال جدا؟
-ال تذكرين من فضلك ،كان شعري يف حالة فوىض وعيناي
منتفختان من البكاء الشديد ما كنت ألعرف نفيس من ذلك اليوم
أيضا ،بعدها مل تسنح يل الفرصة للتحدث معك أو ما شابه ،ترددت
للمستشفى الذي تعمل به عدة مرات ...تركت مستشفى املدينة
وغريت طبيبي لشخص يعمل معك ...أنا أعاين من الربو لذا أحتاج
لزيارة الطبيب بشكل دوري.
-ملاذا مل تتحدثي معي؟ ملاذا راقبتني من بعيد وحسب؟
-الحظت أن فتاة ما إىل جانبك تزورك باستمرار لذا استسلمت
وابتعدت عنك دون التكلم معك ،أنا مل أنس وجهك أبدا ،لو علمت
حينها أنك حتب قراءة روايايت ألخربتك أن اسمي رؤى مل أتوقع أن
طبيبا سيكون لديه الوقت لقراءة روايايت املتواضعة.
-إذا أنت تعرفت عيل من أول يوم أتيت فيه إليك؟
-عندما أتيت بصفتك حمقق أنا تعرفت عليك لكن مل أكن واثقة فأنا
أعرفك كطبيب ،قلت ربام هو أحد أشباهك األربعني؟ عندما أخربتني
باسمك تأكدت لذا بدل اخلوف منك أنا كنت سعيدة كالغبية ،لكن يف
نفس الوقت أنا أكثر خوفا من الكاتب أال يعني هذا أنه يعرف أنك
67
حبي األول؟
بدأت تبكي دون توقف ...انفجرت بالبكاء بمجرد إهناء مجلتها،
مل أستطع قول كلمة هلا من الصدمة ،ال أصدق أنني مل أتذكرها ،لو
فقط ذلك اليوم حتدثنا لتغريت الثالث سنوات املاضية من حيايت عىل
نحو آخر.
مل جتد الكلامت حملها من فمي فعانقتها ،كل ما زاد شهيقها كل ما
احرتق قلبي ،ضممتها إيل بقوة ،الطفلة التي وعدها والدها باحللوى
وانتظرته عاد هلا أخريا ،مل نلتق بشكل الئق حتى ،كانت قريبة بعيدة ،ال
أصدق أهنا كانت أمامي بينام مل أعرف ذلك ،أصابني شعور باإلحباط
وقلبي اعترص ،كيف جترأت عىل الكذب عليها؟ هل أنا إنسان؟
بعد هدوئها من نوبة البكاء أخربهتا عن القصة كلها ،من أول
رواية قرأهتا هلا التي وجدهتا عىل مكتب علياء إىل روايتها األخرية،
وعن كيف أقنعت علياء بالبحث عنها ،وأنا اعتذر منها بني كل مجلة
وأخرى حتى عادت لالبتسام ،وضحت هلا أن الفتاة التي كانت تراين
معها هي علياء ...نفس الشخص الذي أتى معي للتحدث معها،
مل تتعرف عليها يومها ...أنا وكدت ال أعرفها يف ذلك اليوم بسبب
تغيريها املفاجئ ،رأت أين وعلياء أفضل إخوة أعجبت بعالقتي هبا
ومدى انفتاحنا لبعض.
لكنها أصبحت أكثر خوفا كيف أن معلوماهتا أصبحت معرضة
للنرش هكذا بسبب الرواية ،فعلياء ما كانت لتستطيع إجيادها لوال
املعلومات الدقيقة املذكورة ،رغم الوضع الصعب الذي كنا به وبدايتنا
السيئة من شعرها املبعثر إىل كذيب عليها شاء أن نلتقي لنكون معا.
هتت يف رغد ،يف نفسها التائهة التي تبحث عام هيدد حياهتا ،من
68
ناحية ما هل علينا شكر هذا الشخص؟ بسببه التقينا لكني بدأت أراه
أكثر إخافة ،هل يعني أنه كان يعلم بإعجاب رغد يب؟ هل يمكن أن
يكون زوج أمها ...هو من كان حارضا هناك ...
-ما الذي تفكر به اآلن؟
مل أشأ جعلها تفكر يف قضية الكاتب كثريا ،شخص بقلب عطوف
ومتسامح مثلها ال جيدر أن يلوث نفسه بالتفكري الزائد أو احلقد عىل
شخص ما ،أخاف أن تسامح الكاتب احلقيقي إذا وجدناه ...لذا
قررت تغيري املوضوع وجعلها تنساه قليال.
-هل وقعت يف حبي بابتسامة فقط؟
-يستغرق الوقوع يف احلب ثالث ثوان بمجرد النظر فام بالك
ابتسامة.
-أتفق معك ،فأنا وقعت يف حبك قبل رؤيتك حتى.
-من كان يظن أن حبي اليائس من أول ابتسامة سيأيت إيل؟
-وحبي من أول كلمة يف روايتك من كان يظن أنه متبادل؟
بريقها ،امحرار وجنتيها ،ابتسامتها ،غامزهتا ،ضحكة عينيها،
دموعها وصوهتا املبحوح كل ما خيصها رأيته ساحرا ،هكذا أزهر حب
حيايت حتت شمس الربيع الدافئة.
رغد امرأة زفريها من الياسمني ،ابتسامتها شمس أرشقت
فأضاءت مائة شمعة انطفئت بقلبي ،تشبه الورد األمحر يف أوج
انفتاحه ...أصبحت ضعفي وقويت معا ...أنا أحببتها.
69
5
علياء حمقة ،بالتفكري يف ذلك لطاملا كانت أفضل مني بكل يشء،
كانت قادرة أيضا عىل دراسة الطب لكنها ختلت عنه ،لنفس السبب
قررت االجتهاد ودراسته بنفيس ،الستكشاف اليشء الذي ختلت عنه
علياء ،أو باألحرى وقتها ظننت أهنا مل تقدر عىل دراسته لذا أردت
اإلثبات لوالدي أين أستطيع فعل ما مل تقدر عليه هي ،لكن احلقيقة أهنا
اختارت سلك طريق حتبه وهو التحقيق والعمل مع الرشطة ،عمل
آخر جتيده علياء أفضل مني بكثري وفشلت حتى يف تقليدها اآلن.
رغد مل تعاتبني كثريا عىل كذيب كل ما كان هيمها أننا معا وأخريا،
مثلام قالتها كانت ختفي سعادهتا وخوفها يف آن واحد ،فمنذ ثالث
سنوات انتظرت جميء اليوم الذي نتحدث به ،لذا هي قررت مفاحتتي
باملوضوع وسؤايل مبارشة يف اللحظة التي صارحتها فيها ،مل تقدر عىل
االنتظار أكثر من ذلك حتى أعرتف هلا بكل يشء بنفيس.
بدأنا نتعرف عىل بعض أكثر ،مل ترتك شيئا إال وسألتني عنه،
71
لوين املفضل ،أي طبق أحب أكله يف األيام الباردة ،أي روايات أميل
لقراءهتا ،وغريها من األسئلة يف سبيل معرفتي بشكل أعمق ،دونت
كل إجابايت يف دفرت قائلة بأن الدفرت كنزها الثمني من اآلن فصاعدا.
تقابلنا يوميا تقريبا بعدما أخربهتا أنني سأعود ملدينتي بعد انتهاء
إجازيت ،رصنا كأحباء فرقهام الزمن منذ وقت طويل بعد أن وجدا
كل منهام اآلخر أصبحا خيافان من تضييع ثانية واحدة دون قضائها مع
بعض ،ال جيدان أرواحهام إال عندما يكونان معا.
ما زلنا يف عملية البحث عن الكاتب فنحن مل نصل لنتيجة بعد
ولألسف فشلنا يف حماولة تعقب خمرتق احلساب االلكرتوين فانتهى بنا
الوضع إىل طريق مسدود ،ال زلت أشك يف والدهتا وزوجها لكنها ال
تفعل وتستبعد احتاميل بقوة.
استسلمت لرغبتها خصوصا بعد أن صارت أكثر انفتاحا وإرشاقا
وتتحدث معي أكثر ،مل أظن من قبل أهنا هبذه اللطافة ...لذا مل أحتدث
هلا عن أمها جمددا ...لن أفسد عالقتي هبا بعد أن وجدهتا بصعوبة،
فلطاملا ختيلت كيف يمكن لطرقنا أن تتقاطع ونلتقي يوما ما ،نحن
التقينا بطريقة مل يتوقعها كالنا ،لذا سأفعل ما بوسعي للحفاظ عىل
عالقتنا فهي من رد الروح حليايت لذا يسعدين رد مجيلها.
وجدت أن الطريقة الوحيدة لتسمح يل بمقابلة والدهتا للتأكد
بنفيس دون أن تيسء فهمي هي أن أعرفها عىل والداي أوال ،ولكن
أحتاج علياء حلل هذا ،قبل أن أبدأ هل ستقبل رغد ذلك؟ احلل هو
سؤاهلا مبارشة دون لف ودوران.
-يرشفني األمر لكن عىل أي أساس ستعرفني هبام؟
هذا ما قالته عندما سألتها ،كالعادة تربكني أسئلتها وجتعل رضبات
72
قلبي تتسابق دون سبب أمل حين دوري ألجعل دقات قلبها تتسابق؟
فأجبت ..
-سأخربهم أنك زوجتي املستقبلية فهل تقبلني؟
-من ال تقبل ذلك بعد أن سمعته من الرجل الذي حتبه؟
مل أقاوم ابتسامتها فقمت بضمها إيل ،كانت صغرية جدا بني يدي،
أحاطت يدهيا حويل كذلك ،يدهيا الصغريتني التي مل تقدر أن تطوق
ظهري هبام حتى.
-أنا أحببتك قبل التقائي بك ،القراءة جتعلك تقع يف حب شخص
بعيد ،عندما قرأت كتبك ألول مرة أحسست أن كلامتك تشبهني
كثريا ،كلامتك كانت بمثابة مشاعر اندجمت مع مشاعري فجعلتني
أشعر أن لنا ماض واحد ،أننا شخص واحد وأنك تفهمينني رغم كل
البعد الذي كان بيننا وهذا منحني الراحة أن هناك من جرب شعوري
املؤمل.
-أتعلم متى تأكدت من إعجايب بك؟ عندما رأيتك تقرأ كتايب
بعمق ،مل أرى قارئا يغرق مثلك ،كان يف عينيك بريق خاص خفق له
قلبي ،أنت أشبه بشخصية خيالية يف إحدى روايايت التي ظننت أين لن
أجد مثيلتها ،لكن الكاتب خميف هل ربام علم بأننا سننتهي لنكون معا؟
-هذا مستحيل ،ال أحد يعلم الغيب ،أظن أهنا مصادفة مجيلة منحها
لنا القدر ،بالنسبة لعائلتي سأعود إىل املدينة لرتتيب بعض األمور أوال
ثم سآخذك لرؤيتهم فلتنتظريني.
ما أحتاج ترتيبه هو كيف أحرضها هلم أوال؟ متأكد أن والديت
سرتفض وآخر ما قد أرغب به هو وضع رغد يف موقف حمرج ،أمي ما
73
زالت يف صدمة من املايض أكثر مني وختاف أن تعود جراحي لتؤملني،
يريدان مني الزواج لكن يرفضان مني االرتباط ،املنطق يف طريق ومها يف
طريق ،يفضالن شخصا من العائلة أو زواجا تقليديا ،لكن يستحيل
عيل التخيل عن رغد ،والشخص املناسب ملساعديت علياء بدون منازع.
مل نتحدث منذ آخر مرة تشاجرنا فيها ،ليست املرة األوىل التي
نتشاجر فيها أو ال نتواصل مع بعض ملدة طويلة لكن الوضع غريب
قليال ألن علياء تغريت ،راسلتها متسائال ما إن كانت يف البيت
فأجابتني يف احلال باإلجياب.
ذهبت ملنزهلا ،حتدثنا مطوال كأن شيئا مل حيدث ...مل تسألني عن
رغد ولو ملرة ،تكلمنا كاملعتاد ،حدثتني متحمسة عن آخر قضية حتقق
هبا ...فتاة فقدت منذ ثالث أيام بدون أثر لذا هي مشغولة بتحديد آخر
مكان وجدت به.
تطرقت بنفيس إىل احلديث عن رغد وحكيت هلا كل ما جرى،
أعلمتها عن نيتي يف تعريف رغد لوالدي ،لكن ردة فعلها آخر ما
توقعته ،هي استشاطت غضبا ،مل أرها هبذه العصبية من قبل ،رفضت
رفضا قاطعا ال رجعة فيه ،مل أفهم سبب كرهها لرغد هكذا ،هي عمليا
مل تفعل هلا شيئا ،وال أظن أهنا قلقة عيل ،هي تبالغ يف ترصفاهتا.
استسلمت ملحاولة إقناعها فهي عنيدة وال جمال للتغلب عليها ،ما إن
تقرر شيئا فال رجعة فيه ولو سقطت السامء عىل األرض.
لكن خطرت ببايل فكرة ال بأس هبا ،حكيت لرغد عام دار بيني
وبني علياء وعن عائلتي املتشددة واقرتحت أن أحتدث مع أمها أوال
فإن سارت األمور عىل خري ما يرام سيمنحني ذلك الشجاعة ألحتدث
مع عائلتي فوافقت عىل طلبي.
74
ابتهجت ملوافقة رغد عىل طلبي ،أمها امرأة طيبة جدا لذا أنا أشعر
بقليل من الذنب حلميل نوايا سيئة اجتاهها ،لكن يف احلياة إن مل نحتط
من كل شخص سينتهي بنا األمر خمدوعني من قبل أولئك الذي ادعوا
أهنم حيبون اخلري لنا ويتمنون لنا األفضل ،فهم أنانيون ويتظاهرون
بمعرفة وفعل ما هو يف صاحلنا لكنهم ال يعلمون أهنم بفعلهم هلذا هم
فقط سيدمرون عالقتنا هبم.
أمتنى أال يكون الكاتب احلقيقي شخصا مقربا منها فذلك قد يعطيها
رضبة قوية ستؤثر يف حياهتا للسنوات القادمة وبشدة ،أهيا الكاتب أين
أنت؟
75
6
77
تذكرت! علياء متتلك نفسه ،تركته هلا والدهتا عندما توفيت ،أذكر
أنه مطرز باسم والدهتا بالالتينية يف األسفل ،طلبت من رغد رؤيته
جيدا فسمحت يل ،أمسكت بطرفه السفيل فلم أجد شيئا ثم رأيت
الطرف اآلخر فوجدت اسام مكتوبا بالالتينية كذلك ...مكتوب ريام.
-من أين لك هبذا الوشاح؟
-إنه ملك أمي ،اشرتاه هلا والدي منذ زواجهام ،هي اعتزت
واحتفظت به لسنوات لكنها تركته يل عندما تزوجت من جديد ،أما
اآلن ...تعرف ...يف الرواية تم ذكر أنني سوف أقتل نفيس به ...لذا
أمي قلقت كثريا وطلبت مني احضاره ألنه فأل يسء ...
اسم والدة رغد كان ريام ،يا هلا من صدفة ،ماذا لو أن والدي يعرف
والدة رغد بالفعل؟ ألن علياء لطاملا تباهت بوشاحها وأخربتني أنه
مميز ،أصبحت أقفز الستنتاجات غبية وغري معقولة مؤخرا ال بد أنه
كان تصميام رائجا آنذاك ،علياء ال تعرف الكثري عن املوضة عىل كل
حال.
مل يكن بيت أم رغد بالبعيد عن بيتها ،من الغريب أهنا مل تكن تزورها
إال نادرا ،هي ال ترتاح لزوج والدهتا برغم لطفه اجتاهها كام أخربتني،
اآلن أشك يف زوج والدهتا هو شخص حمتمل ،بدأت يف الشك باجلميع
أنا عىل حافة االهنيار ،رغد بدأت بنسيان األمر وهي غري مهتمة اآلن
بإجياد الكاتب مثلام كانت ،لكنني لن أرتاح حتى أجده.
عندما نزلنا أمام بيت والدهتا أعجبت باملكان ،البيت أخرض متاما،
النباتات املتسلقة تغطي البيت بأكمله ،احلديقة تأخذ املساحة األكرب،
إذا رغد ورثت حب النباتات والزهور من والدهتا ،من اجلميل أن ترث
أشياء مجيلة من عائلتك كحب الزهور ،الرسم أو املوسيقى أجدها
78
أكثر إثباتا للعالقة العائلية أكثر من أي جينات وراثية أخرى.
استقبلتنا والدهتا بحرارة مرحبة بنا يف بيتها ودعتنا للجلوس يف
حديقتها لدفء اجلو ،أمها ال تشبهها أبدا يشرتكان يف لون العينني
وقرص القامة فقط ...لكن إن كان هناك تعريف للجامل فهو والدهتا،
رغم كرب سنها إال أهنا تبدو أصغر مني.
قضينا اليوم بكامله مع والدهتا وزوجها ،ندمت كثريا لشكي
بشخصني رائعني وطيبني مثلهام ،قمنا بالطبخ معا ...كان ممتعا ...
رأيت صور رغد منذ أن كانت صغرية أليام اجلامعة وحكت يل والدهتا
الكثري من القصص املحرجة عن رغد بينام هي حتاول إسكاهتا لكنني
طالبت بمعرفة املزيد من القصص عنها ،رغبت بمعرفة كل ثانية من
حياهتا مل أكن فيها معها.
زوج والدهتا يمتلك ذوقا فريدا يف األغاين وعرفني عىل الكثري من
املوسيقى اجليدة ،مل أرى أي توتر بينه وبني رغد بل رأيت أهنام مقربان
عكس ما توقعت ،هي تتحدث حوله بأرحيية وتعامله كأب هلا لكن مل
أفهم ملاذا رغد قررت ترك هذ اجلو العائيل اللطيف والعيش لوحدها،
لطاملا متنيت عائلة كهذه ،هلم الكثري من الشكر ملنحي شعور الدفء
وسط العائلة.
يف املساء قبل عودتنا جلست يف حديقة املنزل عندما كانت رغد
تتحدث مع أمها ،دقائق وأتت للجلوس بجانبي ...
-هل أعجبتك رفقة والديت وزوجها؟
-طبعا ،سيكون يوما ال ينسى ...فهمت اآلن ملاذا مل تشكي بوالدتك
وزوجها.
79
-أرأيت؟ أنا أعلم أنه ال عالقة هلام ...يوما ما سأكتب رواية عن
أمي ...باملناسبة هل الطبيبة التي تقاطعت طرقنا معها يف املستشفى
اسمها مها؟
-هل تعرفينها؟
-إذا أنا حمقة ،هي طبيبة أمي ...هي متدحها جل الوقت ...
-مها طبيبة مميزة لن جتدي مثيلتها ،هي تعالج املرىض نفسيا وجسديا.
-لكنني أغار منها ،تزعجني فكرة أهنا تعرفك قبيل وحتى أهنا
درست معك.
-سأكذب إن قلت مها كأي امرأة أخرى بالنسبة يل ،لكن ال تقلقي
بشأهنا أنا فقدت تواصيل معها منذ خترجها ،هي أقل مني بسنة ،تعرفنا
عىل بعضنا يف اجلامعة كنت أدرسها بني احلني واآلخر ...إىل جانب
علياء هي ساعدتني لتخطي صدمتي عندما توفيت حبيبتي وأقنعتني
بالعودة ملقاعد الدراسة ،هي من أعطتني درسا عندما تويف أول مريض
يل وأصبت باكتئاب حاد حينها كدت أترك الطب لكنها قالت« :هل
ستخيب ظن مئات املرىض القادمني إليك؟ لو كنت تشعر بالذنب
فلتنقذ املزيد بدل التذمر والبكاء متمنيا ظروفا أفضل ملا ال تتمنى أن
تصبح أقوى؟»
-اقشعر بدين للتو ،كل هذا وتقول أال أقلق بشأهنا؟ إىل جانب
امتالكها لشخصية قوية جدا مل أرى فتاة بمقدار مجاهلا ،ربام هي تشفي
املرىض بالنظر إليهم بعنينها الزرقاوتني فقط ...يبدو أهنا تعرف عنك
الكثري ملا مل ختربين من قبل بقصة أول مريض لك؟
-عندما حيني الوقت املناسب ستعرفني كل ما خيصني شيئا فشيئا...
80
ال تقلقي.
عاد كل منا إىل بيته بعدها ،بعد الوقت الرائع الذي منحته يل رغد
هو وافق اليوم اتصلت بوالدي وأخربته عنها ،عىل غري املتوقع
بسهولة بل وفرح! مرر ألمي اهلاتف ...أعلنت عن موافقتها يل أيضا
متشوقة لرؤية زوجة ابنها املستقبلية فوعدهتم بإحضارها لزيارهتم يف
أقرب موعد.
تعلمت من اليوم أن القفز باالستنتاجات عن أناس ال أعرفهم
ليس بأمر حممود ،فالنسخة السيئة التي تضعها عنهم يف خميلتك ليست
مسؤوليتهم ،لذا بدل قضاء الوقت يف الشك بالناس والتفكري عنهم
بسوء نية ملا ال نعطيهم فرصة أوال لتربير أنفسهم؟
حتسنت عالقتي برغد وعائلتها ،ووالداي مستعدان لتقبلها ...ملاذا
خط سري األحداث السعيد هذا مألوف لسبب ما؟ أليس هذا ما حيدث
يف الروايات قبل أن تنقلب األحداث ضد البطلني ويبدآن بخسارة ما
بنياه؟ ال يوجد ما يمكن أن يقلب األحداث ضدنا من غري الكاتب
الذي أرهقني التفكري به وخصوصا صمته حاليا ،هو ينوي عىل ظهور
مفاجئ بال شك.
ماذا لو أنه يراقبنا بصمت اآلن؟
81
7
حان يوم التقاء رغد بعائلتي رغم رفض علياء للمجيء ،حتمست
أمي للموضوع وصارت تتصل يب كل يوم لتخربين متى سنأيت للزيارة
واستمرت بمناداهتا بزوجة ابني ،كلمة زوجة أحدث وقعا خاصا يف
قلبي.
رغد خافت وتوترت أكثر مني ،ألول مرة تتأخر يف اختيار مالبسها
وقامت بتصفيف شعرها أكثر من ثالث مرات ...مل أعرف أن للشعر
القصري الكثري من الترسحيات ،وترتني معها وهي تسألني عن كيف
تترصف أو ما الذي عليها فعله ،يف النهاية بعد مناقشات طويلة وعرض
أزياء خلزانتها انتهت إىل ارتداء فستان طويل أسود وكعب عال أمحر
حتى تبدو أكثر نضجا ،رفضت اخلروج دون ارتداء يشء واحد أمحر،
هو رمز احلظ اجليد بالنسبة هلا.
وصلنا إىل بيت والدي ...جرى كل يشء عىل سالسة ،عرفت كيف
تتكلم معهام وجتعلهام حيباهنا من البداية ،بانطباعها الرقيق اهلادئ...
83
أمي أحبتها للدرجة التي مل تتوقف فيها عن االبتسام هلا ،حتى سأهلا
والدي إىل بعضهام البعض ثم طلبا
ّ والدي ما عملها ،قالت كاتبة ،نظر
منها العفو ألهنام مل يسمعا هبا من قبل رغم ثقافتهام الواسعة عن عامل
الكتب.
-يف احلقيقة اسمي الفني رؤى ...هل سمعتام يب؟
أحسست أن صاعقة رضبت وجه أيب ،أمي كادت ختتنق من املاء
الذي كانت ترشبه ،مهست أمي يف أذن أيب بكلامت بالكاد سمعتها
لكني متأكد من قوهلا« :أليست ابنة القمر؟».
فجأة بدآ بتفادينا بوضوح ،وطلبا منا اإلرساع باخلروج بحجة تأخر
الوقت ،ما الذي أصاهبام؟ رغد أصيبت بإحباط شديد وأحست أهنا مل
تعجبهام ومررت بوقت عصيب إلقناعها أن رأهيام لن يغري من حبي هلا
شيئا ،واعتذرت هلا عن فظاظتهام لكنها استمرت بلوم نفسها ألهنا مل
تبذل املزيد من اجلهد لكسب رضامها.
بعد إيصاهلا ،عدت إليهام لنصفي حساباتنا ،ما الذي يفكران به؟
وأنا الذي ظننت للحظات أهنام تغريا ،ندمت عىل منح نفيس أمال زائفا
عنهام.
ما إن دخلت حتى أنني مل أنبس ببنت شفة ،قال أيب إال هي لن
تتزوجها ...
-من طلب رأيك؟ هل أنت من ستتزوجها أم أنا؟
-من فضلك يا أدهم أنا ال أطلب الكثري ،يمكنك الزواج من أي فتاة
يف هذا العامل ما عداها.
-لكني ال أرى أي فتاة يف العامل ما عداها ،عىل األقل قدم يل تفسريا،
84
أعطني سببا ملاذا مل تعجبك؟
-ال هتم األسباب يا بني ،فقط تذكر كالمي ستكره نفسك فقط إن
تزوجتها ،أنا قرأت روايتها األخرية الفتاة تقدم عىل االنتحار ،ال شك
أهنا تعاين من مشاكل نفسية.
تذكرت كالم علياء عن عدم مناقشة شخص ما إن كنت عىل قناعة
أن اجلدال معه لن يغري من رأيه شيئا لذا جتاهلته وخرجت فليتكلم مع
نفسه.
مل أقتنع بسببه التافه عن روايتها ،منذ متى أيب يقرأ للروائيني الشباب
املعارصين؟ ال أظن أن علياء قد أخربته عنا شيئا ،وما الذي قصدته
أمي بابنة القمر؟ أشعر أهنا مجلة مألوفة لكن ال أتذكر أين سمعتها.
إىل جانب الكاتب الذي مل ننته من قضيته بعد ،ها هي تظهر لنا
مشكلة جديدة تقف يف طريقنا ،بدأت أكره عائلتي املعقدة.
ذهبت للمستشفى ،إجازيت ستنتهي يف أيام لكن هناك مريض قىض
وقتا طويال هناك سيتم ترسحيه اليوم ...أنا متعلق به منذ قدومه رغم
أنه صغري يف السن ...كلنا فرحنا لتحديه مرض الرسطان ،التقيت
بأصدقائي كذلك وألقيت التحية عىل اجلميع ،اشتقت ملرضاي
وأوقايت التي أقضيها معهم.
ذهبت إللقاء نظرة عىل إحدى مرضاي ،هي فتاة جامعية مصابة
بفقر دم حاد جدا ،شعرت باألسف لرتكها بينام كانت يف أمس احلاجة
للرعاية اجليدة ،إال أهنا سعدت لرؤيتي وحدثتني بحامسة عن الكتب
التي تركتها هلا قبل ذهايب وعن طبيبتها اجلديدة التي انتقلت منذ
أسبوع ،مل أعرف أن هناك من سينتقل إىل قسمنا ،سألتها عن اسمها
فأشارت بيدها لناحية الباب قائلة إهنا هنا.
85
استدرت ألرى مها أمامي فاندهش كالنا ونطقنا يف آن واحد «ما
الذي أتى بك إىل هنا؟».
ودعت مريضتي الصغرية وطلبت من مها اخلروج للتكلم قليال.
-كيف انتقلت إىل هنا؟
-أدهم ،هل نسيت حلمي؟ لطاملا متنيت العمل يف إحدى
مستشفيات العاصمة ،لو كنت أعلم مسبقا أنك تعمل هنا لطلبت
مساعدتك يف االنتقال.
-إذا أنت غريت مقر سكنك؟ أمل تتزوجي من حبيبك؟
-هل تراين أضع خامتا؟ لقد انفصلنا منذ وقت طويل بحجة أنه مل
يعد حيبني بعد اآلن.
-ال أصدق ذلك! أمل هيددك برمي نفسه من آخر طابق يف الكلية إن
رفضت مواعدته جمددا؟
-كل هذا من املايض.
حتاورنا لساعات ،حدثتني عن سبب قطع تواصلها معي بسبب
حبيبها السابق الذي كان سيفتعل مشكلة معي وعن وفاة كلبها الذي
تبنيته معها يف أول سنة من اجلامعة ووفاة أول مريض هلا متأسفة عن
قسوهتا جتاهي عندما مررت بنفس جتربتها فهي فقط اآلن فهمت
شعور العجز الذي حيس به الطبيب ،لكنها أقوى اآلن.
حدثتني كذلك عن بعض املرىض الذين حتتاج مساعديت لتشخيص
حالتهم ،أخربهتا أيضا عام جيري يف حيايت ،عن رغد والرواية وتأسفت
هلا عن حماولة تفادهيا يف املستشفى ذلك اليوم ،تفهمت موقفي ووعدتني
بالتفكري معي يف خطة إلجياد الكاتب.
86
لو تسمع رغد أين حتدثت مع مها من جديد ستغضب بال شك ،لذا
لن أخربها عنها حاليا حتى أسوي الوضع مع عائلتي.
مها مل تتغري طوال السنوات املاضية ،ما زالت ختطف قلوب الرجال
من حوهلا دون أن تفعل شيئا ،هي ولدت من عرقني خمتلفني ،والدهتا
روسية ...لكن والدهيا تطلقا منذ أن كانت صغرية ومن حينها عاشت
مها مع والدها.
هي نسخة طبق األصل عن أمها بشعرها الذهبي وعينيها البلوريتني،
ما زالت برشهتا شاحبة جدا مما تسبب بربوز عروق يدهيا ...سمعت
مرة أن الفتيات ذات العروق البارزة تكون مشاعرهن رقيقة وصادقة
كطبيب ال ينبغي عيل تصديق هذه اخلرافات لكنهم حمقني نوعا ما.
ستطالبني رغد باالنتقال إىل مستشفى آخر إذا اكتشفت عمل مها
معي ،كيف أقنعها أهنا األمجل يف نظري ،أرغب يف كسب ثقتها وبشدة.
فهل احلب وحده كاف لكسب الثقة وإزالة كل الشكوك؟
87
8
89
الدخول.
-جيدر يب زيادة احلامية يف منزيل بسببكم يا رفاق.
طلبت منها الراحة يف غرفة اجللوس ،حرضت هلا بعض الشاي
الذي حتبه ،ورثت حبه منها ،لكن ما الذي أتى هبا إىل هنا؟ مل تزرين منذ
وقت طويل ،يا ترى ما الذي ترغب بقوله.
قدمت هلا الشاي بعد إضافتي له قطع جليدية ألهنا تفضله باردا
جدا ،قامت برشب كأسني ويف صدد رشب الثالث ومل تتحدث بجدية
سألتني عن كل يشء عن حايل ،حال رغد ،حتى كلب اجلريان الذي
أخربهتا أين ال أستطيع النوم بسبب نباحه ليال سألتني عنه ،لكنها مل
تدخل يف صلب املوضوع الذي تريد التحدث معي بشأنه أبدا ،ال
يمكن أن تكون قطعت كل الطريق لتسألني عن كلب.
-أمي فلتدخيل يف صلب املوضوع من فضلك ما الذي ترغبني يف
التحدث بشأنه؟
تنهدت تنهيدة طويلة ،ثم فتحت حقيبتها وأخرجت منها كتابا ثم
وضعته عىل املنضدة ،إحدى روايات رغد ،اسمها «أسرتوفيليا» ...
-هل قرأت هذه الرواية؟
-بالطبع ،قرأت كل روايات رغد ،إهنا إحدى كتاباهتا األوىل ،هي
خمتلفة بوضوح عن رواياهتا األخرى ...حتى أنني أضع مقطعا منها
عىل صفحة حسايب « ...رفعت يدي أعد النجوم ،عند النجمة التاسعة
والعرشين أوقفني ...قال :ال تعدهيا ستسقط يف عينيك ...فقلت :إذن
هل سأصبح نجمة؟» ...تعلمني كم أحب هذا املقطع.
-إذا لن يكون صعبا رشح القصة لك يا بني ،ببساطة ماذا لو قمت
90
بتبديل اسم البطلني يف القصة بعيل ومجيلة؟
مل أفهم املغزى من كالم والديت ،أليس اسم والدة علياء مجيلة؟
-أمل تفهم بعد؟ حسنا سأحكي لك حكاية مر عليها أكثر من أربعني
سنة فلتحمل كأس الشاي واسمعني ...
قبل سنوات عديدة يف مخسينيات القرن املايض ،كانت هناك امرأة
فريدة من نوعها ،امرأة عىل غري النساء األخريات ،اسمها مجيلة ،اسم
عىل مسمى ،مل تأخذ نصيبها من اجلامل فقط ،بل الذكاء أيضا ،امرأة
ذكية ومجيلة ،تكاد تكون مثالية ...أي رجل قد يقع يف حبها ،لكنها
وقعت يف حب الرجل اخلطأ ،شخص مل يكن عىل القدر أن يلقي هبا
إليه.
أحبت ولدا اسمه عيل ،القاهم احلب من أيام املراهقة ،حبهام مل يكن
بسيطا ،كان قويا ...أحبا بعضا أقوى مما قد تصفه أي رواية ،أعمق
من أي حبيبان وأوىف أكثر من أي زوجني ،مها فقط انعزال عن العامل
وأصبح كل منهام يرى نفسه يف اآلخر ،وهكذا شقا طريقهام مع بعض
مصارعني الظروف ،لكن مجيلة الذكية كانت تنسى نفسها مع عيل،
تصبح طفلة بني يديه ،صحيح أن احلب جيعلك مغفال أحيانا.
هكذا شاء القدر أن حتمل منه قبل أن يقوم بخطبتها حتى ،قبل أن
تربطهام أي عالقة زوجية مها ارتكبا خطأ ال يمكن تصليحه ،درجة
ثقتها به ال يمكن أن توصف ،مل خيذهلا أو أي يشء فلطاملا أراد الوفاء
بوعده بالزواج منها لكنها مل ختربه أهنا حامل أبدا ،استمرت فقط
بالطلب منه اإلرساع باملجيء لطلب يدها ،كان فرحا ملبارشهتا بسؤاله
عن ذلك خاصة مع رغبته الشديدة يف تصليح خطئه لذا أرسع لوالدها.
لكنهام اصطدما بالواقع حاال ،والدها رفض رفضا قاطعا زواجها
91
من عيل ،بسبب شجار قديم بني العائلتني ،وما زاد األمر تعقيدا سامع
والد عيل بتقدمه لطلب يد ابنة عدوه فاستشاط غضبا وتشاجر مع عيل.
والدها كره عيل بسبب والده قبل أن يتطرق ليتعرف عليه ويستحيل
البنته أن ختربه حقيقة كونه حبيبها أو أهنا حامل سيذبح عيل ويرشب
دمه أمامها ناهيك عن ما قد يفعله هبا ،كانت مسألة وقت حتى تبدأ
بطنها بالربوز ،كان عليها الترصف برسعة وإجياد حل يف شهر.
خططت هي وعيل للهرب بعيدا لكن عيل كان أجبن من أن يفعل
ذلك ،يف النهاية مل يكن قادرا عىل التخيل عن كل يشء من أجلها مثلام
فعلت ،خصوصا أنه مل يعلم أن ابنه يف بطنها ،رفض أخريا خطتها
قائال« :مجيلة هل علينا الذهاب إىل هذا احلد؟».
يف هذه األثناء تقدم شاب اسمه كريم خلطبتها من العاصمة أتى
للعمل بمدينتها ورآها ففتن هبا قبل أن يكلمها حتى ،ومن مل تعجبه
مجيلة؟ والدها وافق عليه عىل الفور دون تردد ،مل يوافق ألن كريم كان
مستقرا ماديا أو أنه استوىف مجيع رشوط الزوج املثايل ،بل ألن والدها
رأى فيه املالذ اجليد للتخلص من عيل ،فوافق دون أن يستشري مجيلة يف
ذلك.
بام أهنا كانت يائسة من رفض عيل اهلروب معها مشت يف الطريق
الذي اختاره هلا والدها ،قررت املوت عىل يد هذا الشاب يوم عرسها
بعد أن يعرف رسها ،مع ذلك مل تتوقف عن إرسال الرسائل لعيل أو
االلتقاء به ،رغم قرب عرسها ،والدها كان فرحا عىل إرصارها عىل
املسارعة للزواج ظنا منه أهنا كرهت عيل ورأت لونه احلقيقي ،كان
فخورا بابنته بينام ال يعلم ولو جزءا من احلقيقة املخفية.
لكن مجيلة ما زالت حتب عيل ،أخريا تفهمت سبب عدم هروبه
92
معها ،فلو هربا والدهيام بقوة نفوذمها ما هي إال أيام وجيداهنام ال حمالة
ولن تتعقد إال األمور بعد ذلك ...
اقرتب يوم العرس وعيل يراقب من بعيد من قىض معها مراهقته
وشبابه ،يأخذها من يديه شخص جمهول ...آخر ما متناه حيصل أمام
عينيه ...كابوس حياته ،كان خائفا من الذي سيحصل لكنه مل حيرك
ساكنا ،كان عاجزا وأحس بالضعف ،كان جبانا ،مل يكن قويا بقدر
مجيلة التي حتكمت برغبتها يف سبيل إنقاذ جنينها ...
هكذا وصل يوم عرسها ،مل تكن كأي عروس ،فارقتها االبتسامة
وتركتها السعادة ،مل تستمتع ولو بلحظة من عرسها الذي حلمت
به منذ وقوعها باحلب ،ليس سهال تقبل فكرة الزواج من شخص مل
تربطك به أي كلمة من قبل ...ليس سهال الزواج بشخص ال حتبه.
مر عرسها كاجلحيم ،األصوات الصاخبة التي ترددت عىل
مسامعها زادهتا اكتئابا ،سمعت األغاين كلحن للموت ورأت حناء
يدهيا توقيعا عىل موهتا الوشيك.
وصلت اللحظة احلاسمة أخريا ...مجيلة وكريم لوحدمها بعد أن
افرتق املدعوون وأكملوا مراسم العرس ،كالمها ينظر لآلخر ،إال أن
كل نظرة منهام خمتلفة ،نظر هلا كريم نظرة حب وفرح بينام هي نظرة
حزن وأسى ،استجمعت مجيلة كل ما هلا من شجاعة وجرأة يف حياهتا
كلها ووظفتها يف كلمتني قالت له« :أنا حامل».
كريم كاد يموت من قوة الصدمة مل يعرف ما عليه فعله فهذا آخر
أو رميها موقف قد ختيله حيدث بينهام ،طلبت منه قتلها إن أراد
هي ال هتتم بعد اآلن ،أعطته حرية الترصف بشأهنا طلبت منه حتى
جرها خارجا والرصاخ للجميع أهنا ملوثة ...غري رشيفة ...أي ما
93
يريد فعله فليفعله.
الحظ يأسها الشديد القابع يف عينيها ،هي مل تبك أبدا ،كانت عيناها
فارغتان ...عينا شخص فقد األمل يف احلياة ،خرج كريم ومل يعد إال
فجرا ،كاد يقتل نفسه ،مل يتقبل قدره القايس ...خرج وذهب بعيدا
ليرصخ بأعىل ما يمكنه ،كان من البداية لديه شك يف قبوهلا برسعة
الزواج منه وتعجلها إلقامة العرس ،بعد معرفته السبب متنى لو مل يقدم
عىل خطبتها من األساس ،وندم عىل التقدم لفتاة مل يتحدث معها من
قبل.
عندما عاد وجدها مل تتحرك ولو خطوة ما زالت ترتدي ثوب
زفافها جالسة يف نفس املكان لكنها كانت تبكي هذه املرة ،تبكي بقوة
وترجتف ،أعطاها كريم بعض املاء وأحرض كرسيا ليجلس مقابال هلا
مطالبا منها أن حتكي له قصتها من البداية ،هبذا حكت مجيلة له كل ما
حصل من أول يوم تعرفت فيه عىل عيل إىل يوم العرس ،بعد االستامع
هلا قرر أال يفضحها أو يكشف رسها ولن يطلقها لكن برشطني.
األول أال خترب عيل بأن من يف بطنها ابنه ،بل سريبيه هو عىل أساس
والده احلقيقي ،وثانيا لن يطلقها لكنه لن يلمسها كذلك طيلة حياهتام،
طلب منها أن تكون حبيسة له إىل موهتا ،وأن تنسى عيل هنائيا.
مجيلة كانت غليظة الرأس استمرت بااللتقاء مع عيل من وراء ظهر
كريم عدة أيام ألهنا استمرت بالقلق عليه بعد أن سمعت بمحاولته
قتل نفسه يوم عرسها ...حتى بدأت بطنها بالربوز ،أخربته مثلام طلب
منها كريم بالضبط ،وهنا كانت النهاية هلام ،عندما عرف عيل بأن مجيلة
حامل ،قرر عدم االلتقاء هبا أو احلديث معها جمددا لألبد ،كأنه استفاق
للتو أن مجيلة متزوجة ومل تعد حبيبته بعد اآلن.
94
مجيلة كانت تكتب يف مذكراهتا يوميا عن حياهتا وما حيصل هلا ،يف
مذكراهتا وصفت كريم بالشمس ،ألهنا بدأت تنسى عيل عندما تقيض
معه وقتها يف النهار ،كان يكون لطيفا تارة وأحيانا يصبح باردا جتاهها،
قضت معظم هنارها يف حماولة فك شفرة شخصيته ،قررت كسب
رضاه فهو منقذها بعد كل حال ،من قد يريب ابن شخص آخر؟ هو
شخص لن جتد مثيله يف مليار نسمة.
أما عيل كان القمر بالنسبة هلا ،عندما يأيت الليل وتبقى بمفردها
تتذكره ...واستمر الوضع عىل هذا احلال إىل أن أنجبت طفلة ،أخرب
كريم والديه أهنا أنجبت ابنتهام عىل سبعة أشهر عىل غري املعتاد ،البنت
التي أنجبتها نسخة طبق األصل عنها أسمتها «علياء» ،فرح كريم
بالطفلة كأنه والدها احلقيقي وفرح لرؤية الشبه الكبري بينها وبني
والدهتا ألنه كان خائفا من أن تشبه عيل ،مل يرغب يف محل الكره لفتاة ال
عالقة هلا بأخطاء والدهيا.
يف هذا الوقت عندما تردد عىل مسامع عيل اخلرب ،قرر امليض يف حياته
أيضا ،لذا تزوج من امرأة عرفته عليها والدته اسمها ريام ،هي امرأة
جتيد كل يشء ،كانت أفضل من مجيلة بكثري لكنه رآها أقل بكثري ،مل
يرى الكامل إال يف مجيلة ،لكنها مل تقدر أن تكون له ال هي وال ابنته التي
مل يعرف بشأهنا.
ريام كانت أمجل من مجيلة بمراحل ،إن كانت مجيلة تكاد تكون
مثالية فربام ريام مثالية ...لكن لألسف ذلك مل يكن كافيا جلعل عيل
حيبها فباءت كل حماوالهتا لرسقة قلبه بالفشل ،متنت لو حيكي هلا عن
ماضيه إن أمكن لكنه مل ينرشح هلا يوما.
أما مجيلة التي مل حتب سوى شيئني يف حياهتا ،الفلك ...عشقت
95
السامء والنجوم والكواكب وأحبت عيل التي كانت تراه كوكبا مجيال
يسبح يف فضاء حبها ،لكن دخل كويكب جديد إىل فضائها ،ابنتها
اجلميلة علياء التي رغبت بشدة أن ترث منها حبها للنجوم بدل وجهها.
أحبت اعتناء كريم بابنتها كأهنا ابنته ،حتى كادت تصدق أهنا من
حلمه ودمه ...وصفت يف مذكراهتا أن كريم أحب علياء بقدر عدد
النجوم يف الكون ،رغم إحساسها بوخز يف قلبها كل ما تذكرت عيل،
أليس من حقه التعرف عىل ابنته؟ لكنها استمرت يف الوفاء بوعدها
لكريم.
استمرت يف كتابة يومياهتا ،جزء منها قرر الوفاء لكريم ألنه
شاركها شيئا مل يشاركها إياه عيل وهو حب النجوم ،أحب السامء
والنجوم والشمس والقمر أكثر منها ووجدت أن ثقافته حوهلم أوسع
منها بكثري لذا تعلمت منه العديد من األشياء وأشبعت فضوهلا ،كانا
يقضيان وقتا طويال يتحدثان عن الفلك لكن قلت أحاديثهام عندما
أصيبت مجيلة باملرض ،اعتربته وقت عقاهبا ،لذا بدل أن تبذل ما
بوسعها للشفاء استسلمت للمرض.
قبل موهتا قامت بعمل نسخة ليومياهتا وأرسلتها لعيل خفية أما
األصلية أعطتها لكريم طالبة منه االعتناء بعلياء جيدا قبل موهتا،
اعرتف كريم هلا بمشاعره جتاهها وعن مقدار حبه هلا ولو كان ذلك
متأخرا للغاية ويف غري وقته ...يف مساء أمسية خريفية مجيلة رحلت.
أما بالنسبة للنسخة التي أرسلتها مجيلة لعيل من مذكراهتا فقد
وقعت يف يد ريام ،زوجة عيل التي مل تكن قادرة عىل اإلنجاب حينها،
كانت خائفة من احتاملية إحضار عيل ابنته للبيت بعد أن سمعت
بموت مجيلة ،لذا هي خبأهتا بعيدا عنه بحيث لن جيدها مطلقا ،لكن
96
مل تقدر عىل حرقها أو التخلص منها.
بعدها بحوايل سنتني تزوج كريم من جديد مع امرأة أخرى ليقدر
عىل رعاية علياء ،تزوج بعزيزة التي مل تتزوج من قبل ،قريبة له أحبته
من طرف واحد منذ الصغر ،بعد أن سمعت بتفكريه بإعادة الزواج
اغتنمت الفرصة التي انتظرهتا لسنني ،مل تعرف حينها أن علياء مل تكن
ابنته ،لذا ربتها وأحبتها كثريا كوهنا قطعة من كريم رغم أملها كل ما
رأت فيها وجه املرأة التي أحبها زوجها ،أنجبت هلا أخا اسمه أدهم،
أخا ال تربط بينهام أي صلة دماء ...
عيل وريام أيضا استطاعا إنجاب طفلة بعد جهد أسمياها رغد،
وهكذا نسيت كلتا العائلتني املايض واستمرا بالعيش يف هناء سنوات
طويلة ،حتى أتى يوم عصف بالعائلتني.
وقعت مذكرات مجيلة يف يد علياء أثناء حزمهم ألغراضهم من
أجل االنتقال ملنزل جديد ،كانت احلقيقة أكرب من أن تتقبلها علياء،
كيف أن كل حياهتا كانت كذبة ،كانت بالعرشين ،لذا هي عاشت
طوال حياهتا مع شخصني ليسا بوالدهيا متاما ...صحيح أهنا تعرف
أن عزيزة ليست والدهتا ولكن ماذا عن كريم؟ وأخ ال تربطها به عالقة
دم ...هي عاشت حياة مزيفة لعرشين سنة ،مل تتمكن من الصرب حتى
تكمل قراءة مجيع املذكرة ...كان عليها فعل يشء لتخرج الغضب
الذي بداخلها.
أول شخص ذهبت له للتأكد منه كانت عزيزة ...حسنا فعىل األقل
عزيزة مل تكذب عليها وأعلمتها منذ الصغر أهنا ليست والدهتا ...عىل
األقل جزء من حياهتا حقيقي ...لكن عزيزة نفسها مل تكن تعلم بالقصة
ومل تفهم ما حتاول علياء قوله أو الوصول إليه ،حينها أدركت علياء أهنا
97
ليست الوحيدة التي مل تعلم احلقيقة ...مل يتم خداعها لوحدها ،لذا
منحت املذكرات لعزيزة.
يف الواقع عزيزة انصدمت أكثر من علياء نفسها وبكت عىل حاهلا
...إذا الفتاة التي تفانت يف تربيتها هي ابنة شخصني آخرين غريبني
متاما عنها ،احتدت علياء وعزيزة إلجياد حل وفك الغموض ،كان
عليهام سلك إحدى الطريقني إما مصارحة كريم أو نسيان األمر،
لكن فضول اإلنسان جيعله خيتار أصعب الطرق دائام ،لذا مها فقط
منحتاه املذكرات مبارشة وطالبتاه بتفسري ...وضعاه يف موقف ال
حيسد عليه ،مل يكن لكريم أي طريقة أو كذبة للهروب من املوقف ،لذا
حكى هلام احلقيقة كاملة.
مل تكن حكاية كريم وحدها كفيلة بإشباع فضول علياء ،رغبت
بااللتقاء بوالدها البيولوجي يف أقرب وقت ،مل جيد كريم منفذا
منها مع هتديدها له باهلرب من املنزل أو قتل نفسها ،لذا تواصل مع
عيل واعرتف له باحلقيقة التي مل يصدقها يف البداية ،لكن بعد إجراء
التحاليل اتضح أهنا ابنته حقا ...بعد اكتشاف عيل للحقيقة كان خائفا
من مصارحة زوجته ريام ووجد صعوبة يف إخبارها وخاف أن تسمع
ابنته رغد بذلك فيخيب ظنها بوالدها.
تشجع عيل ومجع شتات نفسه ،انفرد مع ريام وحكى هلا القصة
كاملة مؤكدا عىل رضورة إخفاء األمر عىل رغد ...لكن جواب ريام
آخر ما توقعه ببساطة هي أجابته ب« :نعم ،أنا أعرف هذا بالفعل»،
جن جنون عيل وطالبها بتفسري فمنحته نسخة املذكرات.
أحس عيل بخداع اجلميع فالكل حاول إخفاء احلقيقة عنه لذا أصبح
ال يثق بأحد ،بعد تفكري مطول قبل أن يصل حلافة اجلنون سامح ريام
98
عىل إخفاء املذكرات فهي أم ابنته كذلك ،هو حيب رغد أكثر من أي
شخص يف العامل ،أحبها أكثر من مجيلة ...هذا كاف لوصف مقدار
حبه البنته ،كانت من لون حياته ومأل فراغه العاطفي لذا مل يرد أن
ييسء لوالدهتا.
التقى بعلياء عدة مرات وعرض عليها االنتقال للسكن معه ،علياء
فكرت مليا ،هل تبقى مع كريم وعزيزة اللذان أحباها أكثر من ابنهام
احلقيقي؟ أم مع عيل الذي مل تعرفه من قبل وزوجته وابنتهام؟ أليس
الطريق الصحيح واألسعد واضحا؟ هي رفضت عرض عيل قاطعة
هبذا كل عالقة معه وعادت لكريم ...لكن من يومها تغري يشء يف
علياء ...قلبها مل يبقى كام كان ...من يومها مل يسمع منها كريم كلمة
أيب ،آمله ذلك لكنه تقبل موقفها ...كان كافيا بالنسبة له قرار ختليها عن
والدها البيولوجي من أجله.
لكن بعد سنتني من هذه احلادثة ،ظهرت فجأة رواية بعنوان
«أسرتوفيليا» « ...مذكرات امرأة أحبت النجوم» ،تم تغيري أسامء
الشخصيات لكن ال جمال للشك أهنا نفس مذكرات مجيلة ،نرشهتم
روائية اسمها رؤى ...علياء فعلت املستحيل لتجد هويتها ،لكنها
عرفت جيدا من أين تبدأ البحث ومل ختطئ ...هي شكت بريام لكن
مل تكن هي الفاعلة ،من نرشهتم كانت ابنتها رغد ...مل تفهم علياء
دافع أختها غري الشقيقة بفعلتها هذه ،علياء كرهت رغد ...رأت فيها
النفاق ،الكذب والرسقة وكل ما هو فاسد.
حسنا تنتهي القصة هنا يا بني ،هذا كل ما أعرفه. -
مل أستطع تصديق ما تسمعه أذناي ،سقط الكأس من يدي يف
منتصف حديث والديت ...أنا قرأت الرواية مسبقا وأعرف نصف
99
األحداث حتى موت مجيلة ،لكن مل أعتقد قط أن والدي إحدى أبطاهلا
احلقيقيني أو أهنا مقتبسة من قصة واقعية ،لكن ملاذا نرشهتا رغد؟ أبسط
حل كان سؤاهلا مبارشة ،ال وقت لدينا للتفكري جمددا وإخفاء احلقائق
...أمتنى لو تكون رغد ال تعرف بذلك وأخفته عني.
مل أقو عىل االنتظار فأرسعت باخلروج متجاهال رصاخ أمي آمرة
إياي بالتوقف ،اتصلت برغد قائال هلا« :أنا قادم حاال».
أرسعت بأقىص ما يمكنني للقائها يف أقرص وقت ،وصلت لبيتها
عىل آخر نفس ...مل أركن السيارة جيدا ودخلت مرسعا ...ما إن
فتحت يل الباب حتى سألتها مبارشة بنفس متقطع.
هل كنت تعرفني؟ -
ما الذي تتحدث عنه؟ -
هل كنت تعلمني أن علياء أختك وليست أختي؟ -
اندهاش رغد مل يكن أقل مني أبدا ،بل ربام أكثر ...مل تعلم شيئا من
هذه القصة ،مل تكن تعلم أن هلا أختا ...كل ما كان عليه األمر أنه بعد
جنازة والدها بينام كانت توظب أغراضه وجدت نسخة املذكرات ،ملا
سألت والدهتا عنهم كذبت ريام جمددا مسببة بذلك مشكلة أخرى،
قالت أهنا رواية كتبها والدها عىل شكل مذكرات ...والدها لطاملا أراد
أن يكون روائيا لكنه مل حيقق احللم ،لذا كان سعيدا أن ابنته حققته من
أجله ،رغم فشل عملها األول باسم رغد ،إال أهنا عادت بقوة بعمل
آخر باسم جديد ...لذا لطاملا افتخر هبا قبل وفاته.
بعد أن أمتت قراءة املذكرات أرادت نرشهم لريى العامل كلامت أبيها
لذا استبدلت أسامء الشخصيات بأسامء جديدة جتذب االهتامم أكثر
100
بنصيحة من أمها ،لكنها مل تدرك أهنا كلامت شخص آخر ،أسمتها
أسرتوفيليا ألن مجيلة عشقت النجوم كثريا ...
وأسرتوفيليا معناه حب النجوم والكواكب والتعلق بالسامء ،رغد
شكت بالفعل يف مصداقية أقوال أمها خصوصا عندما نصحتها بتغيري
أسامء الشخصيات لكنها فوتت األمر حينها ،أوال اسم مجيلة مل يتم ذكره
يف املذكرات أبدا ،كانت تتحدث دائام باسم أنا ،ومل تعرف رغد من
يكون كريم ،باإلضافة مجيلة مل تذكر اسم ريام أبدا ألهنا مل تكن تعرفها
شخصيا وصفتها يف املذكرات فقط باسم زوجة عيل ،لذا صدقت رغد
أن والدها رغب يف أن يكون بطل رواية ما ،يف نظرها كانت فعلتها
سعيا لتحقيق رغبة والدها لكن الواقع كان أقسى من ذلك.
وضعي مع رغد أصبح غريبا ،مل أعتقد أن عالقتنا معقدة هكذا،
عالقتنا كان مقدرا هلا التعقد قبل والدتنا حتى ،نحن نتحمل اآلن
مسؤولية آبائنا ،كيف عشت ألكثر من ثالثني سنة مع امرأة ظننت أهنا
أختي بينام ليست كذلك؟ ومل تتعب نفسها بإخباري احلقيقة ولو
ليوم.
كان عىل رغد التحدث مع والدهتا يف املوضوع ،لذا تركتها لتسوي
األمور بنفسها مع أمها ،هذه املرة عندما افرتقنا مل تكن كسابقاهتا مل نقل
لبعض «سأراك عام قريب».
عدت للبيت منهكا ،حاولت النوم لكن مل أستطع فبقيت أنظر لسقف
غرفتي الليل بطوله ،أيقنت أن القدر كان يرسل يل تنبيهات من البداية لكن
مل أنتبه ،أوال مل أتعرف عىل رغد قبل ثالث سنوات بينام كانت أمامي ،ثم
العقباتالتيواجهتناحتىتعرفناعىلبعضواآلنعالقةعائلتينااملشؤومة.
لكن من يكون الكاتب؟
101
9
103
به ...إىل اللقاء.
-انتظر! أين أنت ذاهب؟ أنا فقط افرتضت ذلك ...
نظرية مها صحيحة فعلياء كرهت رغد من البداية ،كانت سبب
رفضها للعيش مع عيل أوال ،كانت خائفة من أن يتم تفضيلها عليها ثم
أتى اليوم الذي خرجت فيه رواية أسرتوفيليا ،عندما علمت أن النارشة
رغد حقدت عليها أكثر ،لكن مل تتجرأ حينها عىل رفع دعوى ضدها
أو أي يشء ،فرغد امتلكت املسودة األصلية كذلك لذا ال جدوى من
اخلوض يف معركة ال ربح فيها ،بعد ذلك علياء أصبحت خائفة يف كل
مرة تنرش فيها رغد رواية ،لذا كانت أول من يشرتي رواياهتا.
ذات يوم بينام تركت إحدى الروايات عىل مكتبها وجدهتا أنا،
ومن هنا بدأت سلسلة كره جديدة بالنسبة هلا ،ال بد أن اهتاممي الكبري
برغد أزعجها وكيف كنت معجبا بام تكتبه ...لذا رفضت باستمرار
مساعديت عىل إجيادها بينام تعرفها كل املعرفة ،كرهت فكرة أين معجب
بعدوهتا بينام مل ألتق هبا حتى ،أحست أن رغد رسقت كل احلب الذي
كان يفرتض أن يكون من نصيبها ...
ذات يوم رأت علياء رغد يف املستشفى ،كانت مهووسة لتعرف
سبب جميئها ...بعد استجواب املمرضات ال بد أهنا عرفت أين
أجريت عملية لريام ،لذا خافت أن أتوصل للحقيقة وأكتشف الرس،
عندها الحظت تردد رغد عىل املستشفى عدة مرات فأكثرت هي
من املجيء لزياريت دون سبب كذلك حتى ال متنح أي فرصة لرغد
بالتحدث معي.
لذا ال بد أن فكرة راودهتا ...ماذا لو تكتب رواية تكشف فيها عن
خصوصية حياة رغد ،مثلام فعلت بمذكرات والدهتا؟
104
بدأت بمراقبة رغد لعدة سنوات حتى تأكدت من أهنا مجعت كل
معلومة عنها ثم كتبت رواية طويلة عام مجعته وجعلتني البطل ،فبهذا
يف حال تعريف عىل رغد ستشك يب وتكرهني ...هذا ما خططت له بال
شك.
عندما أرصرت عىل طلب مساعدة علياء ،ادعت اجلهل ثم قبلت
طلبي وفكرت يف كذبة لتخربين هبا عن كيف وجدت املعلومات بينام
هي من كتبتها منذ البداية.
أرادت مساعديت لرؤية رغد ثم تركي يف الفخ ،لكن ذهب كل يشء
عكس ما خططت بل ساعدتنا عىل التعلق ببعض.
لكنها من ناحية ما كانت مرتاحة ألهنا تعلم أن أيب يستحيل أن
يسمح يل بالزواج من رغد ألنه مثلام كرهت هي رغد كره هو عيل،
يعرفان شعور بعض جيدا ،يرون عائلة رغد نقطة سوداء يف حياهتم.
لذا تسرتا عىل الكثري من األرسار ،أما إرصاري عىل الزواج من
رغد يغضبها ...يفقدها صواهبا ...ما خططت له لسنوات انتهى
بمساعدتنا بدل التفريق بيننا ،ورثت حظ أمها العاثر بال شك.
إذا حصلت لك مشكلة من وراء ظهرك ومل تعرف الفاعل ...ذلك
الشخص الذي تقول عنه « ...مستحيل أن يفعلها» ...نعم ،جيب أن
تشك به أيضا.
هل سأمتكن من الثقة باآلخرين بعد اليوم؟ لن أخرب أحدا جمددا عن
أي يشء مجيل أعتز به وأحبه ،فعىل ما يبدو ليس للجميع حسن النية.
105
10
أنا غاضب حقا ،أخفت حقيقة أهنا ليست أختي ،وتالعبت يب ...
اتصلت هبا وأنا أرجتف ..ردت بعد الرنة الثالثة ..
-هل أنت يف البيت؟
-نعم ،ماذا ...
قطعت اخلط واجتهت هلا مبارشة ...وصلت لبيتها بقيت أرن اجلرس
وأدق الباب بقوة ،اليوم يوم عطلتها أين يمكن أن تكون أمل ختربين أهنا
بالبيت؟ حتى بدأت بالرصاخ « ..علياء أعرف أنك بالداخل افتحي
الباب قبل أن أقوم بتحطيمه» ...حلظات وتفتح الباب ببطء ...فتحته
ثم انسحبت خطوات للوراء حتمل بيدها وشاحا أمحر ،ترجتف وتبكي،
مل أرها تبكي هبذه اهلستريية من قبل أبدا لكن غضبي كان أقوى من
دموعها وخوفها ...ما جذب انتباهي هو الوشاح األمحر املطابق للذي
متتلكه رغد ،البد أن عيل من منح كال من الوشاحني لريام ومجيلة سابقا
107
فورثتاه ابنتامها ...
-فلترشحي يل األمر اآلن ...
مع صياحي عليها بدأت يف الشهيق أكثر حتى سقطت عىل األرض،
كلام حاولت مساعدهتا عىل النهوض تعود لتسقط جمددا ،ثم جلست
معها عىل األرضية وطالبتها بتفسري ،صوهتا انقطع وبدأت بالتنفس
ببطء لكن مل تنطق ...مما أثار أعصايب حتى أوشكت عىل خنقها لكن
حتكمت بنفيس وعدت للوراء ،إال بعد ميض من الوقت تكلمت ...
-قالت يل عزيزة أهنا حكت لك كل يشء.
-نعم أنا أعلم ما تعلمني اآلن.
-ال أنت ال تعلم ذلك ...أنت ال تعلم شيئا ،ال حتاول قط أن
تترصف كأنك تفهمني أو تصب غضبك عيل دون االستامع إيل ...
-ال يوجد أي مربر جيعلك ال تتمنني اخلري ألحد سوى أنك متتلكني
عقدة النقص ،لطاملا كانت الظروف عذرا ..
-توقف عن مطالبتي بتفسري وأنا حتت هذا الضغط ،أنا أشعر بثقل
يف قلبي ويف جسدي كله ...اليوم الذي عدت فيه بعد مقابلة أيب
البيولوجي ثم عوديت ملنزل كريم ،عندما رأيتك ...أنت مل تكن أدهم
الذي عرفته من قبل ،فجأة مل تبق أخي الذي اعتدت العيش معه ،اتضح
أننا غرباء ...فكان هذا خينقني ،أعيش مع غريب يعاملني كأخته مثل
األبله ،حاولت يف البداية أن أستمر بالعيش مثلام عهدت لكن لألسف
نظريت حينها نحوك تغريت لألبد ،أتعلم من حرض والدي عىل رفض
حبيبتك السابقة؟ كانت أنا ...نعم أنا من فعلت ...مهست هلام قائلة
ماذا لو أدهم يقوم بخطأ عيل وينجب بنتا؟ حينها والدتك جن جنوهنا
108
وأنا فرحت ،أعلم أننا لسنا مقدرين لبعض ،لكن عىل األقل إن مل تكن
يل لن تكون ألحد.
-علياء ما الذي تقصدينه أنت تكذبني أليس كذلك؟ إذا أفعالك
مل تتوقف عند كتابة رواية «أنا» وحسب ،لكنني ما زلت أريد تفسريا
مفصال ...
-أكذب؟ هل تكذبني اآلن يف أول يوم أتفوه به يف احلقيقة؟ هل تعلم
كم كان الكذب مرا؟ أنا فقط كنت سأحاول االنتحار اآلن بوشاح
أمي مثلام ذكرت يف الرواية ...أنا مل أرك كأخي أبدا يف العرش سنوات
املاضية ،أحببتك من طرف واحد ،ملاذا تظن أنني انتقلت للعيش
وحدي؟ ملاذا مل أتزوج؟ وملاذا اخرتت مهنة أكون فيها مشغولة جدا؟
كل هذا لتجنبك لسنوات بال فائدة ،أنت بنفسك كنت تقول دائام
نحن نبدو كأصدقاء أكثر من إخوة ،أال تعلم أن الصداقة بني الرجل
واملرأة هي جمرد حب يف ظروف مستحيلة ألحد الطرفني؟ ...بوضع
اعتقادك أنني أختك ...كان حب شخص أقل مني ليس جيدا بام فيه
الكفاية ،لطاملا فكرت ماذا لو والديت تزوجت بعيل بشكل عادي أال
يعني هذا أنه ملا كان هناك وجود لرغد؟ لو اختلفت االقدار ولو قليال
لكانت لنا هناية خمتلفة ،احلب من طرف واحد أصعب شعور ،أنت
تقدم كل ما لديك لشخص ينظر لغريك ،أذهب للنوم ،أضع رأيس عىل
وساديت ولسبب ما ال أستطيع النوم ،لسبب ما أبقى أفكر ماذا لو أنت
وأنا التقينا بطريق خمتلف؟ أم أن كل الطرق ال تؤدي إليك؟ قررت
التظاهر أن آالمي ال وجود هلا ،لكن ذلك مل يؤد إال ملزيد من الوحشة
لذا استمريت بالبحث عن كيفية أجتاوز ذلك ،أنا أحبك وأنت حتب
رغد ،إياك والظن أنك كنت تعرفني جيدا معتقدا رؤيتك لكل جانب
من شخصيتي ،أنت فرست كل ما فعلته من منطقك ،بينام احلقيقة ال
109
صلة هلا بذلك ،أنت تراين كشخص ال يشبهني ،أنت ال تعرفني أنت ال
تعرف علياء ابنة عيل.
-ملاذا ظللت صامتة عن هذا طيلة حياتك؟
-هل تعتقد أن كل الناس مثلك ال جيدون مشكلة يف احلديث عام
يؤملهم؟ يف نقطة ما أدركت أن بقاءك بجانبي ال عالقة له بام أقدمه لك
أو ما تعرفه عني إنام برغبتك ،وأنا كنت ضد رغبتك ...أنت عرفتني
أكثر من ثالثني سنة ورغد ملدة شهر لكنك أتيت للرصاخ عيل بسببها
حماوال خنقي ..
حاولت الكالم لكنها وضعت إصبعها عىل فمي وأسكتتني ثم
وضعت رأسها عىل كتفي وطلبت مني أن نبقى عىل هذه احلال لبعض
الوقت ،بكت لساعات عىل كتفي دون أن حيرك أحد منا ساكنا ،بقينا
جالسني عىل أرضية منزهلا عند الباب وكأن الوقت توقف يف تلك
اللحظة ،بعد أن هدأت نوبتها قالت« :فلتحاول العيش سعيدا مع
رغد».
خرجت من بيت علياء منهكا ،صعدت إىل سياريت وبكيت ...نعم
بكيت مثل طفل صغري لساعات أخرى ،توقعت كل أنواع اإلجابات
من علياء ...عن سبب نرشها رواية عن رغد ...ما عدا كوين أنا
السبب ،ظننتها تكره رغد لنرشها رواية أمها لكن اتضح أن ذلك مل
يتوقف عند مذكرات مجيلة ،بل ألهنا تغار من رغد بسببي ...أنا دمرت
عالقة أختني ببعضهام وال جمال لتصليحها.
ال أعرف كيف أصارح رغد باحلقيقة ،أنا خائف من خسارهتا...
علياء قالت فلتعش معها بسعادة ،لكنه من الواضح للغاية أهنا متر
بمرحلة صعبة ،مهام حصل سأضطر خلسارة إحدامها.
110
أقفلت عىل نفيس يف البيت أليام متجاهال اتصاالت اجلميع ..
املستشفى ...أمي ...مها ...رغد ...إال علياء مل تتصل يب بعدها ...
اإلقفال عىل نفيس ال طائل منه ولن حيل مشاكيل لكن يف نفس
الوقت مل أمتكن من إخبار رغد احلقيقة أو اخلروج ملواجهة أحد ...
جرس بايب يرن ...هنضت متثاقال ألرى من أتى ...مهال ...ما
الذي تفعله رغد هنا؟
111
11
فتحت الباب وطلبت منها الدخول ،جلست لكن دون التطرق يف
الكالم بقيت فقط تنظر يف أرجاء املنزل لوقت فسألتها ...
-ما الذي جاء بك إىل هنا؟
-جئت ألطلب االنفصال عنك ...
-ماذا؟ ملا فجأة؟ ما الذي حصل؟
-ليست فجأة يا أدهم وأنت أدرى بذلك ،أتت علياء للتحدث معي
قبل أيام واعرتفت يل بكل يشء ...األمر ال يتوقف عندها فأنا ال أهتم
إن كتبت هي الرواية أم غريها ،أمي ترفض عالقتنا كذلك ،ووالديك
ال يرحبان يب ...إىل ماذا تظن أن هذا قد يقودنا؟
-إذا أنت قررت االستسالم؟
-لست أستسلم يا أدهم أنا أتقبل الواقع ،أنا جتاوزت الثالثني ال
113
وقت لدي ألضيعه يف عالقة ال أمل فيها ،ولن أستطيع أبدا أن أغفر
لعلياء ،صحيح أين أخطأت بنرش مذكرات والدهتا لكن كان ذلك عىل
غفلة مني بينام هي عرفت نقاط ضعفي واستعملتها ضدي عن قصد
لذا لن أساحمها ...
-إذا لن أجربك عىل البقاء معي ،أنا لن أقول أمتنى لك السعادة مع
رجل أفضل مني ،ألن هذا سيكون كذبا ...سأقول أمتنى أال نرى
بعضا جمددا حتى ال تضعف مشاعري ...
-سيكون هذا من األفضل لكلينا ،إذا أنا سأرحل ...فلتعترب ما
مررنا به جمرد فصل من رواية عابرة وجدهتا عىل أحد رفوف الكتب.
-سأحاول ذلك ،إىل اللقاء إذا ..
خرجت دون متكني من إخبارها أين أرغب بإيصاهلا ملنزهلا للمرة
األخرية ،لكن هذه املرة يبدو أهنا أتت بسيارهتا ...ما زلت أراقبها
كاألمحق من النافذة ...أنا لن أنسى طيلة ما حييت نظراهتا األخرية
الباردة جتاهي وطلبها االنفصال عني بدون تردد ...هي قالتها دون أن
يرف هلا جفن ،ال أعرف ما الذي عانته أو مرت به لتتشجع للمجيء
إيل وإخباري ذلك لكنه ال يزال مؤملا ...الرجل الذي حيب فتاة لن
تكون من نصيبه لن ينساها أبدا.
بدأت قصة حبي مع بداية الربيع وانتهت مع انتهائه ،فهمت قليال
قرار مجيلة بالزواج من كريم وإكامل حياهتا معه مستسلمة لقرار
والدها ،هذا كله ألن عيل مل يكن مستعدا لفعل املستحيل من أجلها ...
لذا انتهت بتقبل واقعها.
لكن ملاذا أشعر بالراحة يف قلبي بالرغم من انفصايل للتو عمن
أحب؟ بالنظر لألمر هي حمقة هذا أفضل لكلينا ولعائلتينا اللتان شاءتا
114
أن تكونا عدوتني منذ األزل.
نمت لعدة ساعات ثم استيقظت اليوم التايل ألكمل حيايت كام
عهدهتا ...لست بخري لكن سأحاول أن أكون كذلك.
قمت بتنظيف البيت ،فالنظافة تساعد الشخص عىل االسرتخاء،
قمت بتغيري قفل الباب ،مجعت كل روايات رؤى التي عندي
ومنحتهم البنة اجلريان التي حتب املطالعة كانت سعيدة جدا باهلدية،
طبخت بعض الكعك ووزعته عىل أطفال احلي الذين اعتادوا الشجار
واللعب معا أكلوه بفرحة رغم مذاقه اليسء الذي حاولت تغطيته
بإضافة الكثري من الشكوالتة ،رأيت صاحب املنزل الكبري يتشاجر مع
أوالده جمددا فسامهت يف فك الشجار ،حان الوقت ليتعلم اإلبقاء عىل
خصوصيات منزله رسا.
ذهبت للمستشفى واعتذرت للجميع عن استهتاري يف األيام
األخرية ،زرت مجيع مرضاي وعوضتهم بقضاء الوقت معهم بام أن
معظمهم اعتاد أن يشتكي يل عن حياته الشخصية أكثر من مرضه كان
لدهيم الكثري ليحدثوين بشأنه ،هل جيب عيل التغيري للطب النفيس؟
جلست مع مها ورويت هلا ما حصل من أكشن يف أيامي األخرية،
فأسفت حلايل كثريا وواستني يف شأن انفصايل عن رغد ،فهي مرت
بتجربتي وتفهم مشاعري ...ال يوجد شخص يستطيع فهم أمل
االنفصال إال شخص مر بنفس التجربة.
زرت علياء يف عملها بعد رشاء كعك اسفنجي هلا ...ال يوجد
طريقة أفضل من الطعام إذا حاولت العودة للتحدث مع أحدهم،
تفاجأت لرؤيتي لكنها حاولت الترصف عىل طبيعتها مثلام فعلت،
مل نتحدث عن رغد وال عن ذلك اليوم ،ترصفت كأن شيئا مل يكن
115
وجارتني هي يف ذلك.
يف هناية اليوم ذهبت إىل والداي داعيا نفيس للعشاء دون إذن ،مثلام
فعلت مع علياء متاما ترصفت كأن شيئا مل يكن ،جربت أمي التطرق
للموضوع لكن أيب حاول إسكاهتا كلام نطقت حتى توقفت عن ذكر
رغد ،ثم غريت املوضوع للتحدث عن الزواج التقليدي من جديد ،ما
زالت ترغب يف تزوجيي من قريبتي لكني رفضت بوضوح هذه املرة،
«حني حيني الوقت للزواج سأتزوج يا أمي» هذا ما قلته.
بعد أشهر بدأت حيايت تعود ملجراها الطبيعي وتتحسن أو هذا ما
أقنعت نفيس به ،متكنت من فتح عياديت اخلاصة لكن ما زلت أعمل
يف املستشفى كجراح ،وعلياء طلب يدها ابن صاحب البيت الكبري
وأخريا ،كدت أموت يف مكانه قبل أن يفعل شيئا ...علياء بعد تفكري
وحماولة إقناع مني ومن والديت قبلت الزواج منه ،هي سترتك العمل ...
خرب صادم صحيح؟ نعم علياء قررت الزواج من رجل غني والتحول
لربة بيت ،هذا أفضل من اجلري يف األنحاء كل يوم إلمساك املجرمني.
سمعت أن رغد ستتزوج األسبوع القادم كذلك من صاحب دار
النرش التي اعتادت نرش رواياهتا هبا ،كام نرشت رواية جديدة باسم
رغد وليس رؤى ...هي ستبدأ من جديد لكن هذه املرة مل أقرأ روايتها
ولن أقرأها.
يف الواقع ليست رغد وعلياء الوحيدتان اللتان ستتزوجان ،أنا أيضا
سأذهب للقاء والد مها ،مل أرغب يف ظلمها بداية بطلب يدها بينام مل
أنس رغد ،فسألتها بكل نزاهة إن كانت ترغب الزواج يب ...هي مل
تنس حبيبها السابق كذلك« ،لكن إن كنا سنمنع أنفسنا من إكامل
حياتنا بسبب من تركونا هل سنتمكن من العيش؟» ،هذا ما قالته
116
عندما سألتها ،تعجبني ردودها كالعادة ،لذا قلت هلا برصيح العبارة...
-لنتزوج يا مها
-فلنداوي جراحنا معا يا أدهم.
وصل عرس علياء ،هي سعيدة وحترض لكل يشء بابتهاج ومن
قلبها ،كلنا ادعينا أن شيئا مل حيصل وكنا بارعني للغاية يف ذلك ...بدت
مجيلة يف فستاهنا األبيض ..التقطنا معا الكثري من الصور ...هديتي
لزواجها هي فتح خمبزة هلا ،أعلم أن اجللوس يف البيت ال يناسبها ،وقد
حان الوقت لتشارك وصفة كعكها االسفنجي للعامل.
مها حرضت العرس أيضا واجلميع مدحها ألخالقها ومجاهلا
وبدأت كل السيدات يف سؤال أمي إن كانت هلا أخت ،فليس من
العدل أن يكون من نصيبها وحدها زوجة ابن كهذه ،استغلت أمي
الوضع وبدأت بالتفاخر هبا أمام النساء ،فرحت كثريا عندما سمعت
بذلك ،إذن أمي تعجبها مها.
عريس أنا ومها مل يكن أقل روعة من عرس علياء ،ال توجد كلامت
قد ترقى لوصف مجال مها يف ثوهبا األبيض ،ما زادها سعادة هو حضور
والدهتا لعرسها بعد ميض مدة طويلة جدا عىل عدم لقائهام.
عرفت مها يف أشد أيام حيايت سوءا لكن مل أتوقع زواجي منها يوما،
وال هي توقعت ذلك ،حظيت بعالقتني مل تدوما طويال وكلتامها انتهت
بشكل مأساوي ،بينام حظيت مها قبيل بعالقة واحدة دامت طويال لكن
ليس لألبد.
زواجي من مها ليس لنسيان رغد ،فمن اخلطأ الدخول يف عالقة
لنسيان شخص آخر فحتى لو نجحت العالقة ستبقى طريقة بدئها
117
خاطئة وتذكرك بنفسك القديمة ،أنا اخرتت مها ألهنا شخص يمكن
االعتامد عليه يف أشد األيام حزنا ويف أكثر الليايل بؤسا ،تستمع لك
عندما يغلق اآلخرون أذاهنم وتبتسم لك عندما تظن أنك متر بيوم
يسء.
عىل كل حال مل نشرتك أنا ومها يف جتربة االنفصال املؤمل فقط ،بل
تشاركنا جتارب مهنة الطب ودراستها ،التي لن يفهم الكثري صعاهبا،
جربنا أمل موت مريض لنا ،تعاهدنا أن ننقذ املزيد معا ،تعلمنا من بعض
أنه بمشاركة مشاكلنا وأحزاننا مع بعض ستصبح أصغر ،ألن اثنني
أقوى من واحد دائام.
عشت مع مها حياة هانئة ،فهي امرأة صادقة ،هادئة وقليلة الغضب،
اشرتينا منزال جديدا يف إحدى األزقة اهلادئة القريبة من املستشفى
وعياديت يف نفس الوقت ...كل اجلريان لطفاء معنا.
حضينا بطفلنا األول بعد سنة من الزواج ...ولد مع ابنة علياء يف
نفس السنة ،علياء تطالب بتزوجيهام منذ اآلن رغم كرب ابنتها باألشهر.
أما أنا شفيت متاما بعد والدة طفيل ،مل يعد خيفق قلبي عندما أسمع
أحدهم ينادي باسم رغد يف الشارع ،بل التفت إذا سمعت اسم مها ...
مل أعد مهتام بقراءة جديدها من الروايات ،رصت أفضل قراءة قصص
األطفال البني قبل أن ينام واألفضل أين نسيت تفاصيل وجهها ...
أحيانا قد ننزعج مما حيصل يف حياتنا ونلوم أنفسنا والعامل عىل ما
رمانا إليه القدر ،لكن ربام كل ذلك تنبيهات أنك يف الطريق اخلطأ لذا
عليك مراجعة نفسك ورؤية ما يكون يف صاحلك من زاوية أوسع
...إذا فشلت يف دراستك ربام مل يكن ذلك التخصص الذي خلقت
من أجله لذا فلتعمل بجد إلجياد ما حتب ،إذا انفصلت عن حبيبتك
118
ال بأس ربام من املقدر لكام العيش بسعادة مع شخصني آخرين ،إذا
مررت بتجربة قاسية فلتعتربها فرصة لتصبح أقوى.
119