Professional Documents
Culture Documents
أمــــا بعــــد .. الشيخ عائض القرني
أمــــا بعــــد .. الشيخ عائض القرني
الحمد هلل:
أحمده تعالى على جزيل إنعامه وإ ْفضاله ،وأشكره على جلي ِل إحسانه ونواله ،وله الحم ُد
ت جالله ،وله الحم ُد على ْعدله قَدَراً وشرعا ً ،وله ت كمال ِه ونعو ِ على أسمائ ِه الحسنى وصفا ِ
الحم ُد في اآلخر ِة واألولى وهو الحكي ُم الخبير ،وأشهد أن ال إله إال هللاُ وحده ال شريك له
س في والوزير ،وتق ّد َ
ِ ك
العلي الكبير ،تعالى في ألوهيته وربوبيت ِه عن الشري ِ ُّ ق ك الح ُّ ال ِمل ُ
ت
ت كمال ِه ونعو ِ والولي والنصير ،وتن َّزه في صفا ِ ِّ ص َمديتِه عن الصاحب ِة والول ِد أ َح ِديَّتِه و َ
ب
نازع وال ُمغال ِ
ِ سلطان قَهره وكما ِل قـدره عن ال ُم ِ جاللِه عن ال ُكفء والنظير ،وعـ َّز في
طعم وال ُمجير ،فسبحانه ما أعظ َمه وأحل َمه، وغنَاهُ عن ال ُم ِ شير ،وج َّل في بقائه ِ وال ُمعي ِن وال ُم ِ
توكلت وإليه ُأنيبُ ،وهو حسبي ونعم الوكيل. ُ وما أجَّله وأكملَه ،عليه
من أيـن أبدأ والمحامـد كلهـا لك يا مهيمن يا مص ُور يا ص ْمد
فاعتذرت ولم أز ْد ُ قدرك احترت في أبهى المعاني أن تفي بجالل ِ ُ
كاشف الضـرَّاء ،معطي السـراء. ِ جزيل العطاء ،مس ِدي النَّعماء ، ِ الحمد هللِ على
المتكفل باألقوات ،
ِ هر والقَ ْدر ،الحمد هلل عالي القَ ِ ْ عالم الس ِّر والجهر ،الحمد هلل الحمد هلل ِ
المرجو في األزمات. ِّ ف الكربات ، ب عند ك ْش ِ المدعو عند المدلَ ِه َّمات ،المطلو ِ ِّ
أمر يسَّره ،وعلى كل ص َرفها ،وعلى ك ِّل ٍ الحمد هلل على كل نعم ٍة أنعم بها ،وعلى كل بليِّ ٍة َ
ث لَطَف فيه. قضا ٍء ق َّدره ،وكل مكرو ٍه كفاه ،وكلِّ حاد ٍ
الحمد هلل كم أعطى من النعيم ،كم َمنَح من الخير العميم ،كم تفضَّل به من النوال الجسيم ،
انصرفت نقَ ُمه ،تضاعف كر ُمه. ْ ع َّمت نع ُمه ،
الحمد هلل على تمام ال ِمنة ،الحمد هلل بالكتاب والسنة ،الحمد هلل على نعم ِة اإلسالم ،وتواتر
ت أقوالُه الحمد هلل ُموْ لِى الجميل ، ُنت أفعالُه ،ت َّم ْ توالت أفضالُه ،ع َّم نوالُه َ ،حس ْ ْ اإلنعام ،
ق من ك في القليل ،أجو ُد َم ْن أعطى ،وأصد ُ بار ُ واهبُ العطا ِء الجزيل ،شافي العليل ،ال ُم ِ
أوفى.
كالحيران كالساهي ِ يا غافالً عن إل ِه الكون يا الهي تعيش عمرك
ارج ْع إلى هللاِ واقص ْد بابه كرما ً وهللاِ وهللاِ ال تلقـى سـوى هللا
َم ْن قَبِله فهو المقبول َ ،م ْن حاربه فهو المخذول َ ،م ْن التجَأ إليه ع َّز َ ،م ْن ت َّوكل عليه كفاه ،
صمه َ ،م ْن بارزه َحطَمه َ ،م ْن أشرك به أحرقه َ ،م ْن نا َّده َم ْن أطاعه تواله َ ،م ْن نازعه قَ َ
م َّزقه.
بالـدم يُكتـبُ
ِ وصـار كتابُ الحـبِّ َ ص ْغنا من الدمع قصةً فو هللاِ لو ُ
الجمر نُسحبُِ النار نُشوى أو على ِ و ِسرْ نا على األجفا ِن نمشي محبةً على
لما بـلغـت ما تستحق جهـودنا فكـل ولو نـال المشقـة مـذنـب
النبي الخاتم ،واإلما ُم المعصوم ،واألسوةُ الحسنة ،والقدوةُ ُّ وأشهد أن محمداً رسو ُل هللا ،
الحواضر والبوادي ،وزينةُ النوادي ،أعظم هادي ،وأفضل حادي: ِ ف المثلى َ ،ش َر ُ
يا طريــداً مـأل الدنيا اسـ ُمه وغـدا لحنـا ً على ك ِّل ال ِّشفـاه
وغــدت سيـرتُه أســطورةً يتلقَّــاهـا رواةُ عـن رواه ْ
ع منـاه ت وأتبـا ُ ليت شعري هل درى َم ْن طاردوا عابـدوا الال ِ
شاهـت وشـاه ْ ـن طـارد ْته ُأمــهٌ هُبَـ ٌل معبو ُدها درت َم ْ ْ هل
1
أما بعد:
فعنوان محاضرتي ( ..أما بعد) ..
وأما بعد ..وأما قبل ،فلله األم ُر من قب ُل ومن بعد ،ليس لنا من األمر شيء ،وليس لنا مع
َره تدبير ،هو قدرت ِه َحوْ ل ،وما عندنا ،ألمره ر ُّد ،وما لنا لقضائه حيلة ،وما لدينا مع قَد ِ
فالطين أصلُنا ،وإن افتخرنا فالترابُ مر ُّدنا ،وما ُ الفعَّا ُل لما يريد ،ونحن العبيد ،إن تش َّر ْفنا
ُعجب برأيه: يزهو بعلمه ،أو ي َ َ مهين أن يشم َخ بأ ْنفِه ،أو ٍ لمن ُخلِق من ما ٍء
ِّف من َم ْت ٍن ومن َسن ِد يا أنتَ يا أحسنَ األسما ِء في خَ لَدي ماذا ُأعر ُ
األوصاف عندك ُم ل َّما َس ِمعْنا ثنا َء الواحـ ِد األحـ ِد ُ تَقَاصرْ ت كلُّها
لمدح السـي ِد الصّم ِد ِ العروق
ِ أن أقال َم الورى بُريـت ِمن وهللاِ لو َّ
العشير وهذا غايةُ األمـ ِد ِ ق وال ُع َ
شر نبلغ العُش َر ممـا يستح ُّ لم ِ
الغني وأنا الفقير ،أنت ُّ لطيف ،أنت الكام ُل وأنا الناقص ،أنت ُ حي ،يا قيو ُم ،يا يا ربِّ ،يا ُّ
الفقر
ِ ب تشير إلى الغفار .ألسنةُ الحي وأنا الميت ..أصاب ُع الذنو ِ ُّ القويُّ وأنا الضعيف ،أنت
الضعف تُرفع للقوي. ِ ي ُّ .
أكف تدعو الغن َّ
ي القيوم. الميت يمد ُح الح َّ ُ
ق يُنادي :يا ذا الجالل واإلكرام. الغري ُ
واإلشارات عاجزات. ُ ُ
الكلمات
علن التقصير. البيان والبالغةُ والتعبي ُر تُ ِ ُ
ق إالَّ هو. ال يعلم ما يستح ُّ
ال يحيطُ بعل ِمه سواه.
ال يق ِّدرُه قَ ْدرُه إالَّ إياه.
ال يحسن الثناء عليه غيُره.
إن ق َّد ْستُهُ أو سبَّحْ تُه أو م ّج ْدتُه فهو الذي علَّمني .إن َح ِم ْدتُه أو كبَّرْ تُه أو وحَّدتُه فهو الذي
ألهمني .إن َعبْدتُه أو َش َكرْ تُه أو َذ َكرْ تُه فهو الذي أكرمني.
نعوت الفض ِل في األبرار نفحةٌ من أفضاله ،ألسنةُ ُ المدح في الكاملين ذ َّرةٌ من كماله ، ِ ُ
صفات
أمدحه؟ َم ْن أنا حتى ُأم ِّجده؟ َم ْن أنا َ المادحين وَأقال ُم الواصفينـ حائرةٌ في جالله ،من أنا حتى
طين أذكر ٍ ص َّور من ك الوهّاب! َأنا الذي ُ ف المل َ ص ُب َأ ِ ق من ترا ٍ ثني عليه؟ أنا الذي ُخلِ َ حتى ُأ َ
جال َل ربِّ العالمين؟!
بأوصاف أحكم الحاكمين ،الله َّم َّ
إن ِ إن الخَ َج َل يمُأل فؤا َد َم ْن خلق من ما ٍء مهي ٍن ،إذا قام يشدو َّ
وسام أحملُه وض ُع جبهتي ٍ إن أعظ َم أشرفَ تاج أحملهُ تمري ُغ أنفي على التراب لجاللك ،اللهم َّ
على األرض لعبوديتِك.
الغني الحمي ُد ،ع َّزُّ المعترف بتقصيره ،المقرُّ بذنبه َ ،أنت الجوا ُد الماج ُد ُ َأنا الظال ُم ِ
لنفسه
جاهُك ،وج َّل ثناؤك ،وتق َّدست َأسماؤك .وال إله غيرك.
عزيـز بعدكم هـانا
ٍ ق من دمعي على بصري فاليـو َم كـلُّ قد كنت أشف ُ
تيا هللا سج َد وجهي لك ،يا هللا خشع سمعي وبصري لك ،يا هللا َر ِغم أنفي لك ،يا هللا ذلَّ ْ
اتجهت نفسي إليك ،يا هللا َحسُنَ ظني فيك ،يا هللا ْ رقبتي لك ،يا هللا َو ِجل قلبي منك ،يا هللا
الحديث عنك ،يا هللا كمل التوكل عليك.ُ طاب
َ
إليك وإالَّ ال تُ َش ُّد الركائبُ ومنك وإال فالمؤ ِّمل خائبُ
ِّث كاذبُ وفيك وإال فالغرا ُم مضيَّ ٌع وعنك وإال فالمحد ُ
2
أما بعد:
واستفدت عشراً.
ُ وقفت عشرا ، ُ فقد
استفدت عشراً:
أولها :اللجو ُء إلى هللا في ال ُملِ َّمات ،وقص ُده في ال ُكرُبات ،وسؤالُه في األزمات.
الضيق سعةً ،وبعد الشد ِة رخاء. ِ ب فرجا ً ،ومع أن مع العسر يسراً ،ومع الكر ِ ثانِيهاَّ :
ب إال هللا ،وما لكَ عند الدواهي إال هللا .وما معك في ثالثُها :أنه ليس لك في المصاع ِ
المضطر إذا دعاه).
َ ب إال هللا (أمن يجيب الخطو ِ
ُحسنون ويغلَطُون ،والمصلحونـ يُس ّددون رابعُها :أن العلما َء يصيبون ويخطئون ،والدعاةَ ي ِ
المصيب بال خطأ ،والمس َّدد بال َغلَط ، ُـ ويعثُرون إال محمداً صلى هللا عليه وسلم ،فهو
ي يوحى). عثرة (وما ينطق عن الهوى إن هو إال وح ٌ والمصلِ ُح بال ْ
الوحي كتابا ًَ ق وتخالف ،إالف منها وتُنكر ،وتَقب ُل وتَرُد ،وتوافِ ُ تعر ُ
الكتب ِ َ خامسُها :أن
ق أت ُّمه وأكملُه ،والعد ُل أولُه وآخرُه. والصواب أجمعُه ،والح ُّ ُـ وسنة ،ففيه الصحةُ كلُّها ،
التكلم باسمهُ ،
فدين هللا ِ لنصر الدين ،وال
ِ يدعي أنه المخ َّو ُل وحدَه َ سادسُها :أنه ليس ألح ٍد أن
منصو ٌر ،شا َء َم ْن شا َء ،وأبى َم ْن أبى (فإن يكفر بها هؤالء فقد وكلنا بها قوما ً ليسوا بها
وسلمان الفارسي ،وصهيبٌ الرومي ،وبال ٌل الحبشي ، ُ َص َره محم ٌد العربي ، بكافرين) .ن َ
وصال ُح الدي ِن الكردي ،ونو ُر الدين التركماني ،وإقبا ُل الهندي.
وأن الكلمةَ اللينةَ هي السح ُر الحالل ،وأن ق األمث ُل للدعوة َّ ، ق هو الطري ُ أن الرف َ سابعُهاَّ :
السهل هو مصيدة الرجال. َ األسلوب
َ
والقليل
َ ق وعدل، ت العلما ِء َحس ٌْن وصواب ،وح ٌّ ت الدعا ِة وندوا ِ غالب محاضرا ِ َ ثامنُها :أن
وانقطاع الوحي.ِ وضعف اإلنسانية ،وانتفا ِء العصمة ، ِ لعنصر البشرية ، ِ الناد َر غلطٌ وخطأ ،
وجدت أن األمةَ ال يشفي عليلَها وال يروي غليلَها مقطوعةٌ من فنان ،وال طرْ ٌح من ُ تاسعُها:
ميراث منٌ علماني ،وال هُيا ٌم من شاعر ،وال خيا ٌل من فيلسوف ،إنما يحييها ،ويرفعُها ،
نبوة ،وت َِركةٌ من رسالة ،وَأثَارةٌ من وحي( :فأما الزبد فيذهب جفاءاً وأما ما ينفع الناس
فيمكث في األرض).
غير منتج ٍة ،وال مخترع ٍة ،وال مكتشف ٍة ،وال مصنِّعة ، أن األمةَ قد تكون َ وجدت َُّ عاشرُها:
ُف بال منهج( :أ َو من كان ميتا ولكنها ال تعيشُ بال إيمان ،وال تحيا بال رسالة ،وال تشر ُ
فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس).
ب الحقيق ِة ،و ُشدا ِة
تلك عشرة كاملة ..أهديها لمحبِّ النصح ،وعاشق الفضيلة وطال ِ
اإلصالح ما استطعت وما توفيقي إال باهلل عليه َ (إن ُأري ُد إال اإلصالح ،ور َّوا ِد المعرفةْ :
توكلت وإليه أنيب).
الرحمن جاريةً هللا يحفظُهــا وهللا يرعاهَــا ُ َد ْعها كما شاءها
الغار تبـدو في محيَّاها أما بعد: ِ لها من الوحي نو ٌر تستضي ُء به وبهجةُ
ومبكيات َّ ،م ْ
رت ٌ ٌ
ومضحكات حسنات وسيئات ، ٌ ت قصيرات ،فيها ت طويال ٍفهذه عش ُر سنوا ٍ
وفقرها َّ ،
ولذتِها ومعاناتِها. ِ وبؤسها ،وغناها
ِ بسرورها وحزنِها ،ونعيمها ِ
سنـون بالسعو ِد وبالهنا فكأنـها مـن قِصْ رها أيـا ُم ٌ ْ
مرت
هجر بعدها فكأنها مـن طُـولها أعـوا ُم
ٍ ْ
انثنت أيـا ُم ثـم
السنون وأهلُها فكـأنـها وكأنـهم أحـال ُم!ُ ْ
انقضت تلك ثم
3
(ع ْل ُمها عند ربي في كتاب ال يضل ربي وال
انتهت هذه العشر عندنا ،لكن ما انتهت عند هللا ِ
ينسى).
4
أما بعد:
وميادين مختلفة ،ومناب ُر ُ فإن الداعية ليس له حقل واحد ال يعمل إال فيه ،بل حقو ٌل متعددة ،
إن الدعوةَ تجري في دم شتى ،فالدعوةُ ال يح ُّدها ح ّد ،وال يحصرُها َحصْ ر ،وال يقي ُدها قيدَّ .
الداعية ،يقولُها كلمةً ،ويصو ُغها عبارةً ،ويُنش ُدها قصيدةً ،ويدبِّجُها خطبةً ،وينقلُها فكرةً ،
ويؤلفُها كتابا ً ،ويلقيها محاضرة.
ب شفقةً إنها قد تكون مع النفس في محاسب ٍة ومراقبة ،وتكون مع األ ّم براً وحنانا ً ،ومع األ ِ
المسلم مصافاةً ومودة ، ِ ورحمة ،ومع االبن تربيةً وأدبا ً ،ومع الجار إحسانا ً وبراً ،ومع
ومع الكافر دعوةً وحواراً.
يتلطف بأبيه (يا أبتي) ،وهذا نوح ينوح على ابنه( :يا بني اركب معنا) ، ُ فهذا إبراهي ُم الخلي ُل
وهذا مؤمن آل فرعونَ يعطف على قو ِمه( :يا قومي) .وهذا مؤمن آل ياسين ينادي وهو في
الجنة( :يا ليت قومي يعلمون).
إن الدعوةَ ه ٌّم الزم ،وواجبٌ دائم ،فهي معك في السيار ِة ،وفي الطائر ِة ،وفي السفين ِة ،وفي
النادي ،وفي الجامع ِة ،والمزرع ِة ،والمتجر ..
ُ
قد تدعو بسيرتك أكثر من كالمك ،وتدعو بصفاتك أعظم من ُخطَبِك وتدعو ب ُخلقِك أحسن من
محاضرتك.
يوسف فدعا في السجن ،وطُرد نوح فدعا في السفينة ،وحوصر ُ ليس للداعية وقوف ،سُجن
ب ،وطُ ِّوق فدعا في الغار ،وطُرد فأنشأ دولة. محم ًد فدعا في ال ِّشع ِ
السلطان بنفيك إلى قبرص ،أو قتلِك أو سجنِك فقال :وهللاِ ُ لشيخ اإلسالم ابن تيمية :قد أمر ِ قيل
الشام لوسعهم ،وهللا إني كالغنم ِة ما تنا ُم إال ِ إن بي من الفرح والسرور ما لو قُ ِّس َم على أه ِل َّ
خلوت بعبادة ، ُ دعوت أهلها إلى اإلسالم ،وإن سجنت ُ فيت إلى قبرص على صوف ،إن نُ ُ
ربي وإن قتلت فأنا شهيد:
روحي تحدثني بأنك متلفي نفسي فداك عرفت أم لم تعرف
ليس من المهم عند الداعية أن يكون له جمهو ٌر حاشد ،أو حف ٌل بهيج ،أو مستمعون ُكثر ،
قيأمر بالمعروف ،وأن ينهى عن المنكر ،وأن يحم َل الميثا َ َ يقول الحق ،وأن َ المهم أن
بأمانة ،ويبلَّ َغ الشريعةَ بصدق.
(وإذ أخذ هللا ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس وال تكتمونه)
يستجبْ له أحد ،والبعضُ استجاب له واح ٌد أو اثنان ،والبعضُ جماعة ، ِ بعضُ األنبياء لم
وبعضُهم دعا ُع ُم َره كلَّه ثم قُتل ولم يُطعْه بشر ،وأنبيا ُء آخرون مكثوا السنينَ الطويلةَ يدعون
ثم نُشروا بالمناشير!
سيِّـدي علِّـ ِل الفـؤا َد العليـال واحيني قبل أن تراني قتيال
تكن عازما ً على قتل روحي فترفـ ْق بها قليـالً قليـال! إن ْ
التأثير في الناس ، ِ إن الداعيةَ ليس فنانا ً يداعبُ العواطف ،ويلعبُ بالمشاعر ،ويتَفق ُد مكامن
األلباب ،ويساف ُر مع الخيال ،وي ِهيم في أودي ِة الضالل ،وليس فيلسوفا ً َ وليس شاعراً يخلُبُ
يقنِّ ُن القوانين ،ويضربُ األقيسةَ ،ويحدِّد المقدِّمات ،ويخلُصُ إلى النتائج ،وليس سلطانا ً
يفرضُ كلمتَه ،ويؤدبُ رعيتَه ويحش ُد جنودَه ،ويرف ُع بنودَه ،وليس تاجراً يجم ُع الدراه َم ، ِ
ص ُد الشيكات ،ويضاربُ باألسهم .الداعيةُ شي ٌء آخر! .. ويكنِ ُز القناطي َر المقنطرةَ ،وير ُ
تلميذ نجيبٌ في مدرستِه ،طالبٌ ٌ ابن بارٌّ لرعايته ، إنه تاب ُع لمحم ٍد -صلى هللا عليه وسلم ٌ ، -
ق في جامعته .يسري حبُّ هللا وحبُّ محم ٍد -صلى هللا عليه وسلم -في دمه ،يُ ِش ُّع في متفو ٌ
ضميره.
َ قلبه ،يُضي ُء طريقَه ،يمُأل وجدانَه ،يُل ِهبُ
5
الحبُّ ليس روايةٌ شرقيةً بأريجها يتزوج األبطال
لكنه اإلبحا ُر دون سفيـنة ومرادنا أن المحال محال
ات ،وال عادات .الداعيةُ ليس له حف ُل مولد ّص ٌ الداعية ليس له إجازةٌ ،وال انتدابٌ ،وال مخص َ
وداع ،وال مناسبةُ استقبال ،بل هو مع األنبياء ،تلقاه ٍ مهرجانات تخرج ،وال حف ُل ُ ،وال
والخباز والنسَّاج ،والبنَّاء ،معِ النجار
ِ الحرفَ ،مع كان ،ومع أه ِل ِ الرصيف ،وفي ال ُّد ِ ِ على
ولألمير
ِ وأجناسهم ،داعيا ً للملِك والمملوك ،ِ الناس باختالف أذواقِهم وطبقاتِهم وألوانِهم
والصغير ،للذكر واألنثى ،لألبيض واألسود. ِ وللكبير
ِ والوزيـر ،
ِ
ُ
الداعية باع نف َسه من هللا ،فال يُطالب ،وال يُضارب ،ال يُعاتب ،وال يُحاسب ..فاتورة تعبِه
ُ
مصروف من بنك ك ُأجْ رتِه
مدفوعةُ في اآلخرة (ولسوف يعطيك ربُّك فترضى) ،شي ُ
(يريدون وجهه) ،وسن ُد أموال ِه موقَّ ُع عليه (إنك تعلم ما نريد).
بقوم بايعوا المختارا النفوس فال خيار ببيعنا أ ْعظ ْم ِ َ بعنا
ف األبرارا عدن تُ ِ
تح ُ ٍ فأعاضنَا ث َمنا ً أج َّل من المنى جنا ِ
ت َ
ك من البشر ،وال نياشينَ يعلِّقُها على صدره ،وال حسن سير ٍة وسلو ٍ ِ الداعيةُ ال ينتظ ُر شهادةَ
نجو َم يضعُها على أكتافه ،وال صورةَ ذكرى يرفعُها في مجل ِسه .إنه يريد تاج (رضي هللا
نجوم (يحبهم ويحبونه) ،ويرغبُ في نياشين (هللا ولي ِ عنهم ورضوا عنه) ،ويطم ُع في
الذين آمنوا).
ب من الجمهور .الداعيةُ ال بقرار جمهوري ،وال بوثيق ٍة حكومية ،وال بانتخا ٍ ٍ الداعيةُ ال يُعيَّن
ق
المجلس النيابي ،وال الهيئ ِة البرلمانية ،فهو فو َ ِ صناديق االقتراع ،وال ِ طريق
ِ يأتي عن
إن هللا عيَّنه ،والواح َد األحد هيَّأه ،والرحمنَ استأمنه الكونجرس ،واللوردات ،والشيوخَّ .
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة .)..
الداعيةُ مواله هللا ،وإما ُمه محم ٌد ،وبيته المسجد ،ومذكرتُه القرآن ،وزا ُده التقوى ،وعصاه
التوكل ،ولباسُه الزهد ،ومركبُه اليقين ،وطريقُه الهدى ،ومرا ُده الجنة (دعها فإن معها
حذاءها وسقاءها ،ترد الماء وترعى الشجر).
والدين أبي ورسو ُل هللا دوما ً قدوتي ُ أنا ربي هللاُ
القرآن نو ٌر ساط ٌع ولي الكعبة كانت قبلتي ُ ولي
َ
الداعيةُ ال تتوقف دعوتُه مع التخرج من المدرسة الليلية ،وال مكافحة األمية ،وال من
الجامعة ،وال من المجالس الفقهية ،وال المجامع العلمية ..جامعةُ الداعية (ومن أحسن قوالً
ممن دعا إلى هللا) ،وشهادتُه (بلغوا عني ولو آية) ووثيقةُ تخرجه (فاصدع بما تؤمر )..
الداعيةُ ال ينتظر راتبا ً شهريا ً ،وال مكافأةً سنوية ،وال إكراميةً مالية ،وال هتافا ً جماهيريا ً ،
وال شكراً من الوزير ،وال ترقيةً من الفريق ،وال ثنا ًء من مدير المدرسة.
راتبُه( :ليوفيهم أجورهم).
مكافأتُه( :يبتغون فضالً من هللا ورضوانا).
إكراميتُه( :ادخلوها بسالم آمنين).
هتافُه( :ال إله إال هللا).
شكرُه( :سالم عليكم بما صبرتم).
ترقيتُه( :في مقعد صدق عند مليك مقتدر).
ت ثناء ، مدح وملحما ِ
ٍ الداعية ال تُرفع له أقواسُ النصر .وال تُعلَّق صُورُه .وال ينتظ ُر قصائ َد
ت تبجيل. ومقاما ِ
أقواسُ نصره( :إنا فتحنا لك فتحا ً مبينا).
6
صورُه المعلقة( :كتابٌ أحكمت آياتُه) .وعبارات مديحه (قد أفلح المؤمنون)
ُ
مقامات تبجيله( :وأنتم األعلون إن كنتم مؤمنين).
اللوح وانهمـرت آيـاتها فاقـرؤا يـا قـو ُم قـرآني ِ وثيـقتي ُكتبـت في
ي مدرستي الكبرى ،وغار حـرا تاريخ عمري ،وميالدي ،وعرفاني والوح ُ
أما بعد:
ق ،قريبٌ ،حبيبٌ ،سهل لي ٌِّن ،صبو ٌر شكور. فالداعيةُ رحي ٌم ،رفي ٌ
رحي ُم :ألن الراحمين يرحمهم الرحمن ،وألن إما َمه -صلى هللا عليه وسلم -رحمةٌ
للعالمين ،فهو الذي يقول( :من ال يرحم ال يُرحم).
يقول أحد العلماء( :ينبغي إذا رأيت الكافر أن تتمنى إسالمه رحمةً به أن يدخل النار ألن من
تمام النصح الشفقة بالخلق).
ق يحب الرفق ،وألنه -صلى هللا عليه وسلم -يقول (ما كان الرفق في ق :ألن هللا رفي ُ رفي ُ
ويقرب البعي َد ،ويلي ُِّن ِ عاب ،
ص َ ق يسهِّل ال ِّشيء إال زانه ،وما نُزع من شيء إال شانه) .والرف ُ
ع العاص َي ،ويجذبُ القلوب. ويطو ُ
ِّ القاس َي ،
قريبٌ :فهو يدنو من النفوس ،ويقتربُ من القلوب ،ويتواض ُع لزمالئه ،وال يفاخ ُر أبناء
عجبُه نفسُه ،وال يزدري أحداً ،وال يحتق ُر بشراً ،وال يتهكم جن ِسه ،وال ي ْش َم ُخ بأنفه ،وال تُ ِ
بمخلوق (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين).
حبيبٌ تحبُّه القلوب ،ترتا ُح له األنفس ،تأنَسُ بحضوره الناس ،تَهَشُ لقدومه األرواح ،
ق لقا َءه األجيال ،تدعو له األمةُ بظهر الغيب (إن الذين آمنوا بحضوره الجموع ،تعش ُ ِ تفر ُح
وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا).
ك عليك أصحابُك فراجْ ع أخالقَك) يقول أح ُد الفضالء( :إذا سافرتَ ولم يب ِ
ق ،وال سه ُُل ليِّن :فهو كمعلِّمه األول -صلى هللا عليه وسلم ، -سه ُُل في كالمه فال يتفيه ُ
يزخرف ،سه ُُل في أفعاله فال يكلِّ ُ
ف ُ ُ
يتكلف ،وال يتنط ُع ،وال ق ،وال ق ،وال يتشد ُ يتع َّم ُ
الناس شططا ً ،وال يح ِّملُهم عبئا ً ،وال يج ِّش ُمهم مشقة.َ
ث،
الفواجع ،وعلى الحواد ِ ِ ت ،وعلى ت ،وعلى الكربا ِ ت ،وعلى األزما ِ صبورُ :على الملما ِ
تع فيصبْر ،يُسبُّ فيصبْر ،يُجلد فيصبْر ،يُحبس فيصبْر ،يبُ َّك ُ ث ،يجو ُ وعلى الكوار ِـ
فيصبْر ،يُ َّكذبُ فيصبْر ،يؤذى فيصبْر ،أما نوح فازدجرْ ،وأما صال ٌح فقيل له :كذابٌ أشرْ ،
وأما هود فقُهر ،وأما زكريا فنشر ،وأما يحيى (فنحر…) ،وأما موسى فضاق به المفر ،
وأما عيسى فافتقر ،وأما محمد فابتلي فصبر وأعطي فشكر (واصبرـ وما صبرك إال باهلل).
(فاصبر صبراً جميال)( .واصبرـ على ما يقولون)( .فاصفح الصفح الجميل)( .واهجرهم
هجراً جميالً)( .فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في األمر)( .والكاظمين الغيظ والعافين
عن الناس)( .ادفع بالتي هي أحسن).
شكور :على النعمة ،يُعطى فيشكر ،يُس َّدد فيشكر ،يُفتح عليه فيشكر ،يأكل فيشكر ،يلبس
فيشكر ،ينام فيشكر ،يصح فيشكر ،يمرض فيشكر ،يعافى فيشكر ،يُبتلى فيشكر ،يغتني
فيشكر ،يفتقر فيشكر( .وسنجزي الشاكرين) (اعملواـ آل داود شكراً وقليل من عبادي
الشكور) ( ،إن في ذلك آليات لكل صبار شكور) ( ،لئن شكرتم ألزيدنكم).
لك الحمـد يا رحمـان ما هل صيـب وما تاب يا من يقبل التوب مذنبُ
لك الحمد ما هاج الغرام وما هما الغمام ومـا غنـى الحمـام المطـربُ
7
أما بعد:
فإن الداعية يعلم أن الحياة ليست فرصة لتقلد منصب ،وال الظفر بأمارة ،وال العثور على
وزارة ،وال جمع تجارة ،وال التشرف بسفارة ،وليست الحياة عنده متعة ،يقضيها في اللهو
واللعب ،فليس عنده إجازة يقضيها على ضفاف الل ّوار ،وال في قمم الهماليا ،وال عند
شالالت نياجرا ،وال في أبراج كوااللمبور ،وال في حضور عيد األم ،وليس عند الداعية
أرصدة في البنوك الربوية ،وليس له هم في مراقبة البورصة العالمية ،وال االهتمام بأسواق
الذهبأو بأسعار البترول ،فكنوزه وماله وغناه ومستقبله في جنات تجري من تحتها األنهار ،
فال يُبهجه إال (متكئين على فرش بطائنها من إستبرق).
وال يفرحه إال (تعرف في وجوههم نضرة النعيم).
وال يسره إال (يُسقون من رحيم مختوم).
وال يُسعده إال ( كلوا واشربوا هنيئا ً بما أسلفتم في األيام الخالية).
وال يُطربه إال (حور مقصورات في الخيام).
وال يُنعشه إال (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما ً وملكا ً كبيراً)
الداعية ليس له سه ٌر مع (ألف ليلة وليلة) ،وال أنسٌ مع (أبي نواس) ،وال خلوةٌ مع (بدائع
ق من (الزير سالم) ،وال سن ٌد من (شمس المعارف). الزهور) ،وال توثي ٌ
سهرُه :مع صحيح البخاري.
أنسه :مع ابن تيمية.
خلوتُه :مع رياض الصالحين.
توثيقه :من يحيى بن معين.
سنده :من سفيان الثوري.
ُأ
هيهات رحلةُ مسرانا جحافلنا كما عهدت وعزمـات الــورى نُ ُ
ــف
ُ
طرف في كفك الشهم مـن حبل الهدى طـرف على الصراط وفي أرواحنا
الداعية ال يفتخر بصداقة المشاهير ،ونجوم الكرة ،ونجوم الفن ،وكواكب المسرح ،
والساسة العمالقة ،والفالسفة العباقرة ،ورموز الثقافة ،فله صداقات ومودات مع نـوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلـوات هللا وسالمه عليهم ، -وله عالقة بأبي بكر
وعمر وعثمان وعلي ،وله اتصال بأبي حنيفة ،ومالك ،والشافعي ،وأحمد بن حنبل.
الداعية ليس منهمكا في زوايا الغرام ،وال مع قصاصات الهيام ،وال مع آهات الهجر ،
وزفرات الجوى ،وأوجاع العيون السود …
زفراته :من (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها).
وآهاته :من (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها).
وأوجاعه :من (يا ليتها كانت القاضية .ما أغنى عني ماليه .هلك عني سلطانيه).
أما بعد:
فإن الداعية تتقلب به األيام ،وتتغاير عليه الليالي ،وتختلف عليه الساعات ،وتتعاقب عليه
السنون ،رض ًى وغضب ،سرور وحزن ،شبع وجوع ،منبر وحبس ،شكر وسبّ ،إقبال
وإدبار ،منحه ومحنة ،عطية وبلية ،أمل وألم ،وهو مع ذلك عبد هلل ،ينزل مع القرآن أينما
نزل ،ويهبط مع الوحي أينما هبط ،ويسافر مع الرسالة أينما سافرت ،ويرتحل مع الحق
أينما ارتحل .يصلي في القصر وفي الحبس ،في الجامعة والمزرعة ،وفي الحاضرة
والبادية ،يسبِّح في النادي والملعب ،ويكبِّر في المسجد والسوق ..
8
الداعية عنده شهادةُُ أكبر من شهادات األرض ،ولديه وثيقة أعظم من وثائق المعمورة (إياك
نعبد وإياك نستعين) وعنده تزكية أجل من كل تزكية (وإن جندنا لهم الغالبون).
أيها الداعـي الذي َعبَ َد هللا طريـق النجـا ِة فيـك قويـ ُم
أدعيا ُء الضالل سحّا ُر فرعون ..وأنت العصى وأنت الكلي ُم
أما بعد :
فقد قرأت عشرات المجلدات والمصنفات والمؤلفات ،فما وجدت كالقرآن حسنا ً وجماالً ،
بهجة ونضرة ،قوة وفخامة ،صدقا ً وعدال… .سعادة وإشراقا ً .
وطالعت مئات المجالت والجرائد والدوريات والصحف فما رأيت كالسنة عطا ًء وبركة ،
وسلوةً وعزاء ،وتوعية وتربية ،ورشداً ونصحا ً ،وتعليما ً وتقويما … ،
وسمعت آالف الكلمات ،وآالف األبيات ،وآالف اللطائف ،وآالف النُكات ،فما وجدت
كذكر هللا إيمانا َ ويقينا ً ،وروحا ً وطمأنينة ،وأنَسا ً ورحمة ،وثوابا ً وأجرا .
9
فيا حب زدني في هواه صبابـة ويا قلب زدني في هوى مهجتي حبا
ُ
سخرت فؤادي كـي أفوز به قربـا لعلي إذا جئت المحصب من مني
إن أهم صفة في الداعية أنه صاحب مبدأ ،وحامل رسالة ،وله منهج ،قد يغلظ أو يرفق ،
يقسو أو يلين ،يُقبل أو يدبر ،يواجه أو يهادن … لكنه صاحب مبدأ .
قد يحاور ويفاوض ،وير ُّد ويَ ْقبل ،ويأخذ ويعطي ،ويغضب ويرضى ،ولكنه صاحب مبدأ
…
له ثوابت ال يتخلى عنها ،وربما تنازل عن الحواشي ليبقى األصل ،وربما ترك التعليق
ليبقى المتن ،وربما تخلى عن اإلطار لتبقى الصورةـ .
الداعية هو الناطق الرسمي للملة (وقل الحق من ربكم) ،والسفي ُر األول للشريعة (إنا
أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا) والمندوب الدائم لمحمد (نضّر هللا امرءاً سمع مني مقالةً
فوعاها ،فأداها كما سمعها).
واألمين العام للقيم (إن خير من استأجرت القوي األمين).
الداعيـة له في كل قلب سفارة ،وفي كل عقل محطة ،وفي كل مجلس قناة … الداعية تقرؤه
في الصحيفة ،وتطالعه في المجلة ،وتنظر إليه في الشاشة ،وتصلي وراءه في المحراب
وتسمعه على المنبر ،وتلقاه في السوق ،وتصافحه في الحديقة ،وتجلس بجانبه في الحافلة ،
وتعانقه في الطائرة .وتقاتل وراءه في المعركة ،وتراه في العرس ،وتشاهده في الجنازة .
يصافح الملك ،يمسح رأس اليتيم ،يرفق بالرئيس ،يعطف على األرملة ،يمازح الشاب ،
ويقود العجوز.
الداعية يرسل كلمته على ذبذبة طولها الحق ،وعرضها الصدق ،على هواء اإلبداع ،وعبر
ُ
موجات األرواح . وتنقل عبارته
َ أثير المحبة لتستقبل كلمته أطباق القلوب ،
والدعاة درجات عند هللا ،فمنهم من يحبو ،ومنهم من يمشي ،ومنهم من يهرول ،ومنهم من
يمرُّ م ّر السحاب ،ومنهم من يسرع سرعة الريح ،ومنهم من يحلق في سماء اإلبداع فيرتفع
عن سطح الدنيا سبعة وثالثين ألف قدم من الصدق والرفق والحق والعدل والعلم واإليمان .
إن أنت كنت بكيت من حر الجوى وسكبت في ليـل الفـراق دمـوعا
فنفوسنا ذبحت على ساح الوغـى يا من يرى صرعى السيوف هجوعا
10
الداعية ينهمر باآليات واألبيات والسير والعبر والقصص واألخبار والفوائد والقصائد
والشوارد والفرائد يدعو بها كلها إلى هللا ليُعبد هللا وحده ال إله إال هللا .
فمرجع الداعية قلبه النابض ،ومصدره نفسه المشرقة ،وحبره دمه ،ومادته دموعه ،
ُ
وصفات النبل التي يحملها . وورقه خصال الخي ُر
الداعية ال ينسى دعوته ،وهل ينسى المريضُ مرضه والجائ ُع جوعه ،والمحمو ُم ُح َّماه ،
وكيف يترك الداعية دعوته ،وهل يترك الرسام ريشته والنجار فأسه والفالح مسحاته ،
والكاتب قلمه.
وقد عاهدتني يا قلبُ أنّي متى ما تبت من ليلى تتوب
ذكرت تذوب؟!ُ فها أنا تائب من حب ليلى فمالك كلمـا
شي إذا ما ت ّم نقصان إال اإليمان في قلب حامله . لكل ْ
11
واط ُر ْد من نفو ِسنا القلق. وأزلْ عنا الهَ َّم ْ ، اللهم أذ ِهبْ عنا الحزنَ ِ ،
والتوكل إال عليك ،والسؤا ِل إال منك ، ِ الخوف إال منك ،والركو ِن إال إليك ، ِ ونعو ُذ بك من
واالستعان ِة إال بك ،أنت وليُّنا ،نعم المولى ونعم النصير.
األحوال ،وسد ِد األقوال. َ األعمال ،وح ِّس ِن
َ واصلح
ِ حقق اآلما َل ، ِ اللهم
واكشف ال ُغ َّمةَ ،وانصرْ الدينَ وأت َّمه. ِ شمل األم ِة ، َ اللهم اجم ْع
الهم أصلحْ القلوبْ ،واغفرْ الذنوبْ ،واستر العيوبْ ،واقبل توبةَ َم ْن يتوب ،اللهم أجزلْ
ال َعطيةَ ،واغفرْ الخطيةَ ،وأحْ يِنا حياةً رضيَّة ،ونسألك ال ِميتةَ السويَّة ،اللهم أل ِه ْمنا الحجةَ ،
وثب ْتنا على المح َّج ِة ،وي ِّم ْن كتابَنا ،ويسِّرْ حسابَنا.
الكوارث ،واح ِمنا من الحوادث. َ واغفر ال َّزلَلْ ،وادرْأ عنا ِ اشف منَّا ال ِعلَلْ ، ِ اللهم
ِّت أقدا َمنا ص ًر إسال َمنا ،وارف ْع أعال َمنا وثب ْ ثوب الدين ،وان ُ ك باليقين ،وألبِسْنا َ اللهم أذ ِهبْ الش َّ
ي ق لَ َم ْع ،وظب ٌ غيث هَ َمع ،وبرْ ٌ ٌ ،وس ِّد ْد سها َمنا ،اللهم بلِّ ْغ رسولَنا عنا الصالةَ والسال َم ما
وأعط ِه
ِ وابعثه مقاما ً محموداً ، ْ ص َدحْ ،اللهم آت ِه الوسيلةَ ،وامنحْ ه الفضيلةَ ، َسنَحْ ،وبلب ٌل َ
اعتزوا بأنسابِهم ، ُّ حوضا ً موروداً ،وأجبْ شفاعتَه ،وأكر ْم وفادتَه ،يا رب إن البشر
وعزنا وفخرُنا بك ،فال نكن أشقى منهم بك. ُّ وافتخروا بأحسابِهم ،
ب والفضة ،ومالَنَا وكن ُزنا يا رب إنهم جمعوا األموا َل ،وا َّدخروا الكنوزَ ،واحتاطوا بالذه ِ
الفقر األكبر حتى نكون بك أغنى منهم بأموالهم. ِ وميراثُنا دينُك وذكرُك ،اللهم فاعنِنا يوم
ورفَ َع بعضُهم بعضا ً ،ومدحُنا َح بعضُهم بعضا ً وأطرى بعضُهم بعضا ً َ ، البشر َمد َ َ يا رب إن
وثناؤنا وتبجيلُنا لك وحدك ،اللهم إنهم أ َّملوا من ممدوحيهم جوائزَ وأوسمةً ،وعطايا وهدايا ،
ك ،وهداياكَ . أكثر منهم حظا ً بجوائزك ،وأوسمتِك ،وعطايا َ فاجعلنا َ ْ اللهم
س بمرغوبِه ،وفَ ِزع إلى قريبِه ،واعتم َد على اللهم إنا رأينا َم ْن َر َكن إلى محبوبِه ،وَأنِ َ
صاحبِه ،اللهم إليك فَز ْعنا ،وعليك ر َكنَّا ،وبك وث ْقنا ،وعليك اعتم ْدنا ،هللا فاجعلنا َأسع َد بك
ب بصاحبِه ،ومن المولى بسي ِده. ب بقريبه ،ومن الصاح ِ من القري ِ
لغيرك ،واأللسنةَ تق ِّدسُ البشر ، ِ الرؤوس تخض ُع لسواك ،والجباهَ تسج ُد َ اللهم إنا رأينا
ت رقابُنا ،اللهم َّ
وسجدت جباهُنا ،وذل ْ ْ خضعت رؤوسنا ، ْ وأزعجنَا ذلك ،فلك
َ فغضبْنا لذلك ،
الذ ِل ،والنجاةَ يوم التغابن. إنا نسألك الغنى يوم الفقر ،والع َّز يوم ُّ
ق الراعي الرعية ،نسألك رضى ال ي ِّكدرُه سُخط ، اللهم أخلص الني ْة ،وأصلح الذري ْة ،ووفِّ ِ
وسروراً ال يش ُوبه ح ُْزن ،وفرحةً ال ين ِّغصُها تَرْ حة ،وسعادةً ال يع ِّكرها شقاء.
سبحانَ ربك رب العزة عما يصفون ،وسالم على المرسلين ،والحمد هلل رب العالمين .
سبحانك هللا اللهم وبحمدك ،أشهد أن ال إله إال أنت استغفرك وأتوب إليك.
وصلى هللا على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
12