You are on page 1of 286

‫د‪ .

‬حميي الدين عميمور‬

‫انطباعات‬
‫ال�ستينيات‬
‫‪1‬‬
‫الطبعة الثالثة ‪2016‬‬
‫‪01 02 05 / 16‬‬
‫ردمك ‪978-9931-62-927-7 :‬‬
‫© موفم للنرش‪ ،‬السدايس ‪ 2‬اجلزائر ‪2016‬‬
‫اإلهداء‬
‫إىل رُو ِح القارئ الذي ف َقدْ ُته وف َقدَتْه الدّعوَة‬
‫املغفور له الشيخ اإلمَام‬
‫اإلسْالَميَّة با َجلزائر ُ‬

‫ّ ُْ‬
‫اهلاليل حممد عميمور‬
‫الذي وافته املنية بعنابة يوم األحد ‪ 2‬مايو ‪1972‬‬
‫وهو يف الثالثة والسبعني من العمر‪ ،‬ممارسا نشاطه كمستشار لوزير األوقاف‪،‬‬
‫مقيما بعنابة وإماما خطيبا ملسجد حي سيبوس‪.‬‬

‫وإىل روح األخت والصديقة‬

‫مريم عميمور‬

‫اليت اختطفتها يد املنون يوم ‪ 21‬يناير ‪ 1986‬إثر مرض غامض‬


‫وهي تبدأ عامها السابع والثالثني‪ ،‬بعد أن أصدرت كتاهبا‬
‫عن كفاح شعب الصحراء الغربية‪.‬‬
‫مقدمة الطبعة الثالثة‬
‫يضــم الجــزء األول مــن «انطباعــات» مجموعــة مقــاالت نشـرتها خــال الســتينيات‬
‫فــي مجلــة الجيــش ثــم فــي مجلــة المجاهــد وصحيفــة الشــعب‪ ،‬وكان تأثيرهــا علــى مســيرة‬
‫حياتــي صاعقــا‪ ،‬فقــد كانــت متابعــة الرئيــس هـواري بــو مديــن لهــا وراء اســتدعائه لــي فــي‬
‫نهايــة العشـرية ألعمــل إلــى جانبــه مستشــا ار لإلعــام‪ ،‬وهــو مــا تغيــر بــه مجــرى حياتــي‬
‫مــن الطــب إلــى السياســة‪.‬‬

‫وصــدرت الطبعــة األولــى مــن الكتــاب عــن مطبعــة الشــهاب بقســنطينة عــام‬
‫‪ ،1971‬ثــم صــدرت الطبعــة الثانيــة عــن المؤسســة الوطنيــة للكتــاب فــي ‪.1986‬‬

‫ولقــد ظلــت «انطباعــات» لــدى الكثيريــن مــن أبنــاء جيلــي مرجعيــة فكريــة تذكرهــم‬
‫بمرحلــة بالغــة األهميــة مــن حياتهــم ومــن مســيرة الوطــن آنــذاك‪.‬‬

‫وال بــد أن أعتــرف بأننــي كنــت أحــس فــي البدايــة ببعــض الضيــق وأنــا أرى الكثيريــن‬
‫يتذكــرون «انطباعــات» بعــد كل الســنين التــي مــرت علــى نشــرها‪ ،‬حيــث كنــت أتصــور أن‬
‫ذلــك اســتهانة بــآالف الصفحــات التــي كتبتهــا خــال الســنوات التاليــة‪ ،‬ومــن بينهــا أحاديــث‬
‫الصمــود والرفــض والتواطــؤ‪ ،‬و كتابــات الثمانينيــات التــي كانــت تحــذر مــن فتنــة قادمــة‪،‬‬
‫وأســماها بعــض الرفقــاء «سلســلة الطلقــاء»‪ ،‬وكتابــات التســعينيات واأللفيــة الجديــدة التــي‬
‫أصبحــت مرجعــا لــه وجــوده علــى الســاحة العربيــة‪.‬‬

‫لكــن مراجعتــي النطباعــات الســتينيات جعلتنــي أدرك أنهــم علــى حــق‪ ،‬فقــد تميــزت‬
‫كتابــات الســتينيات بالتلقائيــة والعفويــة والبعــد عــن أي مراقبــة خارجيــة أو ذاتيــة‪ ،‬وبغــض‬
‫النظــر عــن التوقيــع الرمــزي‪« ،‬ميــم ديــن» الــذي اســتعملته آنــذاك لضــرورة التحفــظ الــذي‬
‫تطلبــه وجــودي فــي البحريــة الوطنيــة‪ ،‬طبيبــا معالجــا ومحافظــا سياســيا‪ ،‬لكيــا أحمــل‬
‫المؤسســة التــي أعمــل بهــا مســؤولية نزواتــي الفكريــة‪ ،‬وحافظــت علــى ذلــك‪ ،‬لنفــس الســبب‪،‬‬
‫خــال عملــي فــي رئاســة الجمهوريــة عبــر نحــو ‪ 13‬عشــر ســنة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ولقــد تعمــدت اختيــار عنـوان «انطباعــات»‪ ،‬ألقــول بــكل وضــوح أتهــا كتابــات ذاتيــة‬
‫ال تدعــي أي موضوعيــة‪ ،‬ولــم يكــن يتدخــل فيمــا أكتبــه عنصــر االنضبــاط الفكــري الــذي‬
‫فــرض نفســه غالبــا علــى كتاباتــي فيمــا بعــد‪ ،‬والــذي كان دافعــه الرئيســي إحساســي‪ ،‬بفعــل‬
‫النضــج الــذي وفرتــه تجربــة الســنين واالطــاع علــى معطيــات لــم أكــن علــى علــم بهــا فــي‬
‫ـدو‪ ،‬ويقــرؤه كل مــن‬ ‫الســتينيات‪ ،‬بخطــورة الحــرف المكتــوب الــذي يتابعــه الصديــق والعـ ّ‬
‫يجــده بيــن يديــه‪ ،‬وهــو مــا جعلنــي أحــس‪ ،‬أكثــر مــن ذي قبــل‪ ،‬بمســؤولية الكلمــة‪.‬‬
‫لكننــي أنتهــز هــذه الفرصــة ألقــول بــأن ك ّل مــا كتبتــه طـوال نحــو خمســين ســنة لــم‬
‫يكــن يخضــع إال لتقديــري الشــخصي‪ ،‬ولــم أتلــق يومــا أمـ ار أو توجيهــا أو إشــارة تطلــب منــي‬
‫أن أكتــب مــا ال أريــد كتابتــه‪ ،‬أو أن أتفــادى مــا ال يريــد موقــع مــا أن أتناولــه‪.‬‬
‫ـي أن أعمــل علــى إصــدار‬ ‫واليــوم‪ ،‬والعمــر فــي مرحلــة الثمالــة‪ ،‬أحسســت بــأن علـ ّ‬
‫طبعــة جديــدة مــن «انطباعــات» الســتينيات عــن المؤسســة الوطنيــة للفنــون المطبعيــة‪،‬‬
‫وهــي ســليلة المؤسســة الوطنيــة التــي تحملــت مســؤولية إث ـراء المكتبــة الوطنيــة‪ ،‬بعــد أن‬
‫صفيــت «الســنيد»‪ّ ،‬أم الطباعــة المكتبيــة فــي الج ازئــر‪.‬‬
‫ـت رغبتــي تلــك تشــجيع المديــر العــام للمؤسســة األخ حميــدو مســعودي‪ ،‬وكان‬ ‫ولقيـ ْ‬
‫ال ـرأي أن مــن حــق الجيــل الصاعــد علينــا أن نقــدم لــه صــورة‪ ،‬ولــو جزئيــة‪ ،‬عــن الحيــاة‬
‫فــي الج ازئــر خــال الســنوات القليلــة التــي تلــت اســترجاع االســتقالل‪ ،‬وعــن اهتمامــات‬
‫المثقــف الج ازئــري آنــذاك ونوعيــة الصعوبــات التــي كان يواجههــا‪ ،‬ومــع المجازفــة بــأن‬
‫يعتبــر البعــض ذلــك عــودة تاجــر إلــى دفاتــر قديمــة‪ ،‬فأولئــك ال يعملــون ويزعجهــم أن‬
‫يعمــل اآلخــرون‪.‬‬
‫وهكــذا ُيعــاد الطبــع بــدون أي تغييــر جوهــري‪ ،‬ومعظــم تعليقــات الهوامــش كتبــت‬
‫عنــد اإلصــدار الســابق‪ ،‬رغــم أن يــدي كانــت تأكلنــي ألضيــف تعليقــات جديــدة فــي الطبعــة‬
‫الجديــدة‪ ،‬وهــو مــا أتــرك عبئــه علــى القـراء‪.‬‬
‫أمــا الرســوم الكاريكاتوريــة التــي يضمهــا الكتــاب فقــد رســمتها فــي الســتينيات‪،‬‬
‫وكانــت‪ ،‬فــي حــدود علمــي‪ ،‬أول رســوم كاريكاتوريــة تعرفهــا الصحافــة العربيــة فــي الج ازئــر‪،‬‬
‫ومــع االعت ـراف بأنهــا كانــت رســوما بدائيــة إال أنــه مــن التواضــع الــكاذب أال أعتــز بهــا‪.‬‬
‫وســيتم تغييــر الغــاف لينســجم مــع العنـوان الجديــد‪ ،‬لكننــي ســأضع الغــاف القديــم‬
‫فــي ظهــر الكتــاب‪ ،‬للتذكيــر‪ ،‬وســيكون التغييــر اآلخــر هــو ســعر الكتــاب‪ ،‬الــذي كان‬
‫بجزئيــه ‪ 15‬دينــا ار فــي الســبعينيات‪ ،‬و‪ 48‬دينــا ار فــي الثمانينيــات‪ ،‬وال أدري كــم ســيكون‬
‫الجــزء الواحــد اليــوم‪.‬‬
‫هــل مــن حقــي أن أكــرر اليــوم كلمــات رائعــة قيلــت يومــا علــى لســان ســيد الخلــق‪:‬‬
‫أال هــل بلغــت ؟‬
‫دكتور محيي الدين عميمور‬ ‫الجزائر يونيو ‪2016‬‬

‫‪6‬‬
‫تقديم الطبعة الثانية‬

‫محاولــة تقديــم «انطباعــات» للجيــل المخضــرم الــذي عــاش مرحلــة االنطــاق‬


‫فــي الســتينات وبدايــة الســبعينات ســتكون إضاعــة لوقــت القــارئ‪ .‬فمناضل ـوا ذلــك‬
‫الجيــل أكثــر منــي قــدرة – إن أرادوا – علــى أداء هــذه المهمــة‪ .‬وســيكونون بــدون‬
‫شــك – أكثــر انصافًــا وعــدال‪.‬‬

‫ومحاولــة التقديــم ألبنــاء الجيــل الجديــد قــد تكــون أو ارقــا ازئــدة‪ .‬ال تضيــف الكثيــر‬
‫إلــى مــا يجــب أن يجــدوه بأنفســهم فــي الكتــاب‪ .‬وقــد يبــدو – ظلمــا – أنهــا تســتهين‬
‫بمقدرتهــم علــى اكتشــاف مــا يجــب أن يكتشــفوه‪.‬‬

‫غيــر أن تقديــم الطبعــة الثانيــة – كمــا قيــل لــي – هــو أمــر ضــروري‪ .‬ربمــا مــن‬
‫الناحيــة البروتوكوليــة األدبيــة (إن صــح التعبيــر)‪.‬‬

‫لهــذا فــإن حديثــي ســيكون قصي ـرا‪ .‬وموجهــا إلــى فئــة محــدودة تنحصــر فــي‬
‫ش ـريحة الشــباب الذيــن يحصــدون اليــوم وغــدا مــا زرعــه جيلنــا فــي الربــع قــرن‬
‫الماضي‪ ،‬وردا كان أم بصال أم شوكا‪ ،‬والذين ال يعرفون‪ ،‬أوال يريدون أن يعرفوا‪،‬‬
‫مــا عانينــاه لكــي نكــون جديريــن بالشــعارات التــي رفعناهــا‪ ،‬ولكــي نتمكــن مــن ز ارعــة‬
‫مــا يحصــدون‪.‬‬

‫لهم وحدهم أكتب‪ ،‬ولهم وحدهم أقول‪...‬‬

‫هــذه ســطور عــن تحديــات ومعــارك‪ ،‬وعــن آمــال وآالم‪ ،‬وعــن كوابيــس وأحــام‪،‬‬
‫إذا كان فيهــا نــوع مــن االعتــداد بالنفــس فإنهــا تخلــو مــن االســتعالء والغــرور‪ ،‬إو�ذا‬
‫كان فيهــا عث ـرات وأخطــاء فليــس فيهــا تزويــر أو نفــاق‪ ...‬وس ـواء تعلــق األمــر‬
‫بالوطــن الصغيــر أو بالوطــن العربــي الكبيــر‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وهــي ســطور كان يمكــن أن يكتبهــا كثيــرون مــن أبنــاء جيلنــا ألنهــم – كمثقفيــن‬
‫ومناضليــن‪ -‬خاضـوا نفــس المعركــة‪ ،‬وواجهـوا نفــس التحــدي‪ ،‬ورددوا نفــس النشــيد‪.‬‬

‫وباختصار شديد‪...‬‬

‫هــي مــن زف ـرات جيــل فهــم المعنــى الحقيقــي الســتمرار الثــورة وعمــل علــى‬
‫تالحــم أجيالهــا‪ ،‬ورفــض كل ص ـراع يتجاهــل جيــا أو يغمطــه حقــه‪ ،‬وكل اندفــاع‬
‫يجهــض جيــا أو يحرمــه عمقــه‪...‬‬

‫‪ ...‬كان الوفــاء بالنســبة لــه أكثــر مــن مجــرد شــعار‪ ،‬وكانــت الوطنيــة عنــده‬
‫أكبــر مــن مجــرد عنـوان‪ ...‬لــم يتــردد‪ ،‬ولــم يتهــاون‪ ،‬ولــم يرفــع ال اريــة البيضــاء‪ ،‬ولعلــه‬
‫أحيانــا اجتهــد وأخطــأ‪ ،‬ولكــن المؤكــد أنــه كثيـ ار مــا اجتهــد وأصــاب‪ ،‬ولــم يطالــب حتــى‬
‫بأجر واحد‪ ،‬ألن أســاس مواقفه كان دائما تفكير الرفيق والشـريك ال عقلية األجير‬
‫أو العميــل‪ .‬وفعــل المواطــن المناضــل ال رد فعــل المســتوطن أو النزيــل‪ ...‬لــم يضــع‬
‫يــده فــي جيبــه‪ ،‬ولــم يغلــق فمــه علــى لســانه‪ ،‬ولــم يســجن عقلــه فــي خ ازنــة المالبــس‪،‬‬
‫بــدون الحديــث عــن قلبــه وجنانــه‪.‬‬

‫هنا‪ ...‬أكتفي بالقول‪ ،‬لمن أوجه لهم القول‪...‬‬

‫طوبى لمن يزرعون ويحصدون‪...‬‬

‫طوبى لمن يزرعون وال يحصدون‪...‬‬

‫و‪« ...‬طوبة» لمن يحصدون وال يزرعون‪.‬‬


‫الجزائر ‪ 31‬يناير ‪1986‬‬
‫دكتور محي الدين عميمور‬

‫‪8‬‬
‫صورة مع يحياوي‬

‫انطباعات عن االنطباعات‬
‫لقــد طلــب منــي الصديــق م‪ ..‬ديــن تقديــم كتابــه (انطباعــات) للقــارئ‪ ،‬ورغــم‬
‫شــعوري بمســؤولية مزدوجــة تجــاه الكاتــب والقــارئ معــا وأنــا أقــدم علــى عمــل كهــذا‪..‬‬
‫فقد قبلت وكلي اعتزاز وشرف بتقديم عمل فكري خالد يمثل لبنة جديدة في البنيان‬
‫الثقافــي الوطنــي‪ ،‬وفــي فتـرة تعطــش بالــغ لــكل ألـوان المعرفــة والثقافــة والتطلــع‪.‬‬

‫ومــع اعتقــادي الجــازم بعجــزي عــن تأديــة دور المقــدم بكفايــة‪ ،‬فإنــي أحــس‬
‫بســهولة المهمــة لعوامــل‪ ..‬أهمهــا – أن م‪ ..‬ديــن ليــس غريبــا عــن القـراء‪ ،‬بــل هــو‬
‫غنــي عــن كل تعريــف‪ ،‬فهــو مــن جيــل التضحيــة والفــداء‪ ،‬مــن جيــل عــاش أهــم‬
‫وأقســى معــارك النضــال‪ ،‬وأخصبهــا وأبعدهــا أث ـ ار وتأثي ـ ار فــي مســيرة هــذا الشــعب‪.‬‬

‫كمــا أن الصديــق م‪ ..‬ديــن لــم يقتصــر نضالــه علــى ميــدان معيــن‪ ،‬ولــم يتوقــف‬
‫عنــد بــزوغ االســتقالل‪ ،‬ومــن منــا ينكــر مســاهمته الفعالــة بقلمــه فــي إث ـراء الحيــاة‬
‫الفكريــة بانطباعاتــه التــي لــم تقتصــر علــى ميــدان دون آخــر‪ ،‬ممــا أعطــاه منزلــة‬
‫خاصــة بيــن الق ـراء داخــل الوطــن وخارجــه‪.‬‬

‫ولهــذا فــإن م‪ ..‬ديــن ال يحتــاج إلــى ذلــك الســيل مــن التعريــف واإلطـراء‪ .‬وكتابــه‬
‫«انطباعــات» يمثــل فــي اعتقــادي صفحــة مــن نضالــه الفكــري بــكل مــا يتطلبــه هــذا‬
‫النــوع مــن مـ اررة البحــث وصعوبــة االســتقصاء‪ ،‬وتتبــع األحــداث‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫ذلــك أن الكتابــة فــي مواضيــع كالتــي تناولهــا م‪ ..‬ديــن ليســت هــي بالمتعــة‬
‫أو بالعمليــة الســهلة‪ ،‬بــل كلهــا مشــقة وعنــاء‪ ،‬إنهــا جهــاد ال يقــل قدســية عــن‬
‫أنـواع الجهــاد األخــرى‪ ،‬ومــن هنــا فــا غ اربــة‪ ،‬أيهــا القــارئ العزيــز‪ ،‬إذا كانــت هــذه‬
‫االنطباعــات قــد طبعتهــا حياتنــا فجــاءت وكأنهــا صــورة مــن واقــع أمــة وحيــاة وطــن‪،‬‬
‫ونضــال شــعب‪ ،‬لفت ـرة رغــم قصرهــا كانــت حاســمة وفاصلــة ودقيقــة‪.‬‬

‫لقــد الحــت االنطباعــات فــي ســماء صحافتنــا‪ ،‬فــي وقــت كنــا أحــوج فيــه إلــى‬
‫قلــم‪ ،‬بــل إلــى ســيف مــن الحبــر الباتــر‪ ،‬فــي وقــت كنــا أحــوج فيــه إلــى الذين يضمرون‬
‫مــا يقولــون ويقولــون مــا يضمــرون‪ ،‬كســاؤهم العمــل وغذاؤهــم المبــدأ‪ ،‬يكتبــون مــن‬
‫قلوبهــم ال مــن ورائهــا‪ ،‬الحركــة الدائبــة ســعادتهم‪ ،‬والعمــل الجــاد طريقهــم‪ ،‬ال هــدف‬
‫لهــم إال إبـراز القيــم الثوريــة والوطنيــة ورفــع رايتهــا فــوق كل ال اريــات‪.‬‬

‫ومــا المثقــف المناضــل إن لــم يكــن ذاك الــذي يتأثــر بالظــروف العامــة التــي‬
‫تحيــط بمجتمعــه ويؤثــر فيهــا ويتفاعــل معهــا‪ ،‬متمرســا بالتجربــة الثوريــة‪ ،‬مســتغال‬
‫نعمــة الحيــاة فــي البحــث عــن معرفــة شــئ جديــد‪ ،‬غيــر فاقــد للرابطــة المقدســة التــي‬
‫تصــل القــول بالعمــل والنظريــة بالتطبيــق والماضــي بالحاضــر‪ ،‬والفــرد بالمجتمــع‪،‬‬
‫فارضــا علــى نفســه المعانــاة مقتحمــا األحــداث متســلحا بايجابيــة التطــور‪ ،‬مؤمنــا بــأن‬
‫مــن يمنــح هــو وحــده الــذي يملــك‪ ،‬وأنــه لــم يوجــد فــي هــذه الحيــاة إال ليعمــل علــى‬
‫بعــث جيــل جديــد قــادر علــى تحمــل الرســالة وأداء األمانــة‪ ،‬مرتبــط بوطنــه وقومــه‪،‬‬
‫ارتبــاط الــزرع بــاألرض‪.‬‬

‫والكاتــب م‪ ..‬ديــن فــي انطباعاتــه نجــده قــد تفاعــل مــع كل األحــداث التــي‬
‫عاشــها وطنــه الصغيــر والكبيــر‪ ،‬لــم يجبــن عــن خــوض أيــة معركــة ارتــأى فيهــا شــيئا‬
‫مــن الحقيقــة أو بصيصــا مــن األمــل فــي العثــور علــى تلــك الحقيقــة‪ ،‬سـواء أكانــت‬
‫هــذه الحقيقــة‪ ،‬حقيقــة شــعب أو حقيقــة ثــورة أو حقيقــة أمــة‪ ،‬حقيقــة إنســان مكيــن‪ ،‬أو‬
‫آخــر مهيــن‪ ،‬وقــد عبــر عــن كل ذلــك‪ ،‬بأمثلــة حيــة وبأســلوب شــيق ارئــع طريــف‪.‬‬

‫إو�ذا كان كتــاب انطباعــات يقــدم نفســه بنفســه فتقديمــي هــو اآلخــر ال يكــون إال‬
‫انطباعــا إو�يجــا از ألهــم وأبــرز النقــاط التــي حواهــا كتــاب « انطباعــات»‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫إن االنطبــاع األول الــذي يفــرض نفســه علــى القــارئ مــن أول وهلــة هــو أن‬
‫الكاتــب ينطلــق بالقــارئ فــي آفــاق رحبــة وواســعة‪ ...‬فــي دنيــا الثقافــة واألدب والفــن‬
‫والسياســة‪ ،‬قــد ســيطرت عليــه الحيــاة الوطنيــة ســيطرة تامــة‪ ،‬فهــو متفاعــل مــع كل‬
‫حقائقهــا وأحداثهــا‪ ،‬وفــي إحســاس الكاتــب بهــذه األحــداث وتفاعلــه معهــا يكمــن ســر‬
‫نجاحــه فيمــا كتــب مــن خواطــر وانطباعــات‪.‬‬

‫أمــا موضوعــات كتــاب « انطباعــات‪ ،‬فهــي كمــا قســمها المؤلــف نفســه تنحصــر‬
‫فــي ثــاث أنـواع‪ :‬ثقافيــة وفنيــة‪ ،‬اجتماعيــة وعامــة‪ ،‬انطباعات سياســية(((‪.‬‬

‫واالنطباعــات الثقافيــة كانــت مــن أبــرز وأهــم مواضيــع الكتــاب وأغزرهــا ألن‬
‫قضيــة الثقافــة هــي قضيــة الوطــن كلــه فــي مرحلــة البنــاء والتشــييد‪ ،‬وقــد اســتقطبت‬
‫اهتمام الكاتب وكانت موضوعا دائما لخواطره وانطباعاته‪ ،‬وأبرزها قضية التعريب‪.‬‬

‫والكاتــب فــي هــذه القضيــة ال يؤمــن بالعزلــة واالنغــاق‪ ،‬بــل يؤمــن بــدون حــدود‬
‫بالتفتــح مــع األصالــة‪ ،‬ويــرى أن التعريــب يمثــل تطلعــا وأمــا لمجمــوع الشــعب‪ ،‬وأن‬
‫العمــل فــي هــذا الميــدان عمــل تباركــه الثــورة وتســنده بــكل اإلمكانيــات‪.‬‬

‫إو�ذا كانــت قضيــة التعريــب مركــز اهتمامــه‪ ،‬وموضــوع جــل انطباعاتــه‪ ،‬فإنــه‬
‫عالجهــا بوعــي وموضوعيــة وج ـرأة نــاد ار مــا نجدهمــا عنــد غي ـره‪ ،‬ممــن تصــدوا‬
‫لمعالجــة هــذه القضيــة الحيويــة وســودوا الكثيــر مــن الصفحــات‪.‬‬

‫والفصــل ازخــر أيضــا بموضوعــات أخــرى عالــج فيهــا مشــاكل اإلعــام والتأليــف‬
‫والمســرح والســينما محــاوال قصــارى جهــده ممارســة عمليــة التقييــم والنقــد بهــدف‬
‫التصحيــح ال التجريــح‪ ،‬وتالفــى القــدر الممكــن مــن األخطــاء بعيــدا عــن التهويــل‬
‫والتهريــج والشــعور بالنقــص‪.‬‬

‫أمــا الفصــل االجتماعــي والعــام فقــد تنــاول فيــه الكاتــب المشــاغل اليوميــة‬
‫للمواطــن‪ ،‬واالهتمامــات المختلفــة للوطــن‪ ،‬والمشــاكل االجتماعيــة المختلفــة كمشــكل‬
‫المواصــات‪ ،‬وقضايــا العــاج الطبــي‪ ،‬وقضايــا اإلنتــاج الوطنــي‪ ،‬واالســتهالك‬

‫‪ .1‬النوع األول هو محور هذا الكتاب‪ ،‬وسيخصص كتاب آخر لبقية األنواع‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫وموجــات التقليــد‪ ،‬وغيرهــا مــن الموضوعــات التــي تعكــس المشــاغل الملحــة للمواطــن‬
‫وتمثــل مجــال حديثــه اليومــي‪.‬‬

‫وأهــم هــذه الموضوعــات والتــي ظفــرت بالنصيــب األكبــر مــن انطباعــات هــذا‬
‫الفصل‪ ،‬قضايا العالج في الجزائر ومشاكل الطب ونظامه بين األوضاع الموروثة‪،‬‬
‫والمعطيــات السياســية للج ازئــر الفتيــة مــن انطالقهــا الجديــد كدولــة اشــتراكية تــرى‬
‫العــاج ضــرورة ملحــة لــكل المواطنيــن‪ ،‬وواجــب للمواطــن علــى الدولــة االشــتراكية‪،‬‬
‫وضمانــه كحاجــة مــن الحاجــات األوليــة مثــل الغــذاء واللبــاس بنفــس القــدر‪.‬‬

‫أمــا الفصــل الثالــث مــن كتــاب «انطباعــات» فهــو القســم السياســي ولعلــه‬
‫الفصــل الــذي خلــق وأجــاد فيــه المؤلــف أكثــر‪ ،‬إو�ذا كان نجاحــه غيــر محــدود فــي‬
‫هــذا الفصــل‪ ،‬فالفضــل فــي هــذا يرجــع إلــى غ ـ ازرة معلوماتــه وســعة اطالعــه إو�لــى‬
‫تجاربــه النضاليــة الغنيــة‪.‬‬

‫وقــد هــزت مواضيــع هــذا الفضــل كيــان الكاتــب‪ ،‬فــكان مــا يكتبــه وكأنــه ينتزعــه‬
‫مــن أعصابــه‪ ،‬وينفثــه م ـ اررة وألمــا علــى شــكل خواطــر وكلمــات حائ ـرة أحيانــا‪،‬‬
‫ويحــس القــارئ وكأن الكاتــب يغمــس قلمــه فــي قلبــه ليقــدم للقـراء ســطو ار مــن الــدم‪.‬‬

‫وأهــم مواضيــع هــذا الفصــل علــى اإلطــاق موضــوع الشــرق األوســط‪ ،‬بعــد‬
‫نكســة أو هزيمــة ‪ ،1967‬وقضيــة المقاومــة الفلســطينية كبــادرة جــادة بــرزت لتحــدي‬
‫الهزيمــة ومقاومــة الفنــاء‪ ،‬وانطباعــات الكاتــب فــي هــذا الميــدان لــم تكــن إال تفاعــا‬
‫تلقائيــا مــع المشــهد العنيــف‪ ،‬والد ارمــا الهائلــة التــي عاشــتها األمــة العربيــة كلــه خــال‬
‫األســبوع األســود مــن ســنة (‪.)67‬‬

‫وهــل هنــاك مــا هــو أشــد فظاعــة مــن هــذا الــذي وقــع‪ ،‬لقــد قالـوا قديمــا‪ :‬كل شــئ‬
‫يولــد صغيـ ار ثــم يكبــر مــع األيــام‪ ،‬إال الكـوارث واألحـزان فإنهــا تولــد كبيـرة لتصغــر‬
‫مــع األيــام‪ ،‬غيــر أن كوارثنــا كانــت أكبــر وأكبــر مــن أن تصغــر مــع األيــام‪.‬‬

‫وبالرغــم مــن أنــي كنــت مؤمنــا بــكل مــا جــاء فــي االنطباعــات‪ ،‬عــن النكســة‬
‫والهزيمــة والعــرب إو�سـرائيل فقــد كنــت أراه أحيانــا قتــا لطائــر جائــع‪ ،‬وقتــل الطائــر‬
‫الجائــع كمــا يقولــون شــئ كريــه (أعتــذر علــى هــذه الجملــة المعترضــة)‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وممــا يلحظــه القــارئ بهــذا الفصــل أن تأثــر الكاتــب بــكل مــا جــرى وتفاعلــه بــه‪،‬‬
‫إو�حساســه العميق بم اررة النكبة وفداحة الخطب والمأســاة لم يدفعه إلى هاوية اليأس‬
‫الــذي يقتــل كل أمــل وكل روح للمقاومــة والتحــدي‪ ،‬وكل مــا كتبــه فــي هــذا الموضــوع‬
‫لــم يكــن فيــه باكيــا وال شــامتا‪ ،‬إو�نمــا كان فــي ذلــك معب ـ ار عــن حقائــق أزليــة ثابتــة‬
‫مؤكــدا أن األمــم ال تقهــر أبــدا‪ ،‬مدعمــا ذلــك بالتجــارب الطويلــة لألمــم والشــعوب التــي‬
‫تعرضــت للقهــر والفنــاء والهزيمــة وفــي ظــروف قاهـرة‪ ،‬لكنهــا قاومــت اإلفنــاء والفنــاء‪،‬‬
‫بمضــاء العزيمــة وانتصــرت عليــه بــاإلرادة والصمــود الطويــل‪ ،‬لذلــك كان الكاتــب فــي‬
‫أحاديثه عن المقاومة الفلسطينية يبارك ظاهرة التحدي الحقيقية‪ ،‬وينادي بدعم هذه‬
‫المقاومــة وتوفيــر الســبيل واإلمكانيــات لهــا‪ ،‬لتصنــع بالبنــادق أمجــادا حقيقيــة‪ ،‬تفــوق‬
‫إجــاال وعظمــة مــا يصنــع فــي الكواليــس وفــي المحافــل السياســية‪.‬‬

‫والكاتــب مــع هــذا كلــه يأبــى إال أن يعــرج بنــا مــن حيــن إلــى آخــر علــى قضايــا‬
‫حساســة ومصيريــة بالنســبة للوطــن والثــورة‪ ،‬كقضايــا التحــرر مــن التبعيــة الثقافيــة‬
‫واالقتصاديــة وغيرهــا‪ ،‬بحيــث نعثــر عليهــا فــي كل فصــل مــن فصــول الكتــاب‪ ،‬إشــارة‬
‫وتلميحــا مـرة‪ ،‬وتصريحــا مـرة أخــرى‪.‬‬

‫وأخيـ ار كمــا وعــدت منــذ البدايــة‪ ،‬فــإن هــذه المقدمــة التــي اســتجبت بهــا لطلــب‬
‫الصديــق م‪ ..‬ديــن لــم أقصــد بهــا البتــة نقــد الكتــاب ولــم أقصــد بهــا التعريــف‬
‫بالكاتــب‪ ،‬فكتــاب انطباعــات فــي اعتقــادي وكمــا قلــت يقــدم نفســه بنفســه‪ ،‬ويعتمــد‬
‫أوال وأخي ـ ار علــى قيمتــه الذاتيــة الموضوعيــة‪.‬‬

‫والكاتــب أعــرف مــن أن يعــرف‪ ،‬إو�نمــا كان قصــدي منــذ البدايــة اإلشــارة العابـرة‬
‫ألهــم مواضيــع الكتــاب‪ ،‬لربمــا لخلــق نــوع مــن التشــويق للقــارئ الــذي ســيجد دون‬
‫شــك الكثيــر ممــا هــو فــي حاجــة إلــى معرفتــه فــي هــذه الباقــة مــن االنطباعــات‪ ،‬التــي‬
‫تمثــل بحــق مالحقــة جزئيــة وجــادة لــكل التطــورات واالهتمامــات التــي حفلــت بهــا‬
‫الحيــاة الوطنيــة بصفــة خاصــة والعربيــة والدوليــة بصفــة عامــة‪.‬‬

‫ومــن هنــا جــاءت االنطباعــات وكأنهــا شــئ مــن الواقــع‪ ،‬شــئ مــن التاريــخ‪ ،‬شــئ‬
‫مــن الحقيقــة (وال يفوتنــي بهــذه المناســبة أن أشــكر فــي الكاتــب‪ ،‬الص ارحــة والواقعيــة‪،‬‬
‫والعمــق‪ ،‬والموضوعية)‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫واآلن أيها القارئ العزيز‪:‬‬

‫ال أود أن يكــون تقدمــي هــذا فاصــا ممــا يحــول بينــك وبيــن زجاجــة العطــر‬
‫هــذه التــي أدعــوك أن تتطيــب منهــا‪ ،‬وتلجــأ إليهــا مــن حيــن إلــى حيــن‪ ،‬فهــي أيضــا‬
‫وبحــق حديقــة ســاحرة مــن نــوع آخــر‪ ،‬أشــجارها خليــط مــن قضايــا المجتمــع والثــورة‪،‬‬
‫حورهــا فنانــون وأدبــاء‪ ،‬فالحــون وعمــال‪ ،‬مناضلــون فــي القاعــدة وآخــرون فــي القمــة‪،‬‬
‫وهــي مــع هــذا كلــه مفعمــة بحــب الوطــن والثــورة والشــعب‪.‬‬

‫(((‬
‫محمد الصالح يحياوي‬
‫الجزائر – ماي ‪1971‬‬

‫‪ .1‬قائد األكادمية العسكرية بشرشال آنذاك‪.‬‬


‫‪14‬‬
‫د‪ .‬أحمد طالب اإلبراهيمي‬

‫انطباعات عن االنطباعات‬
‫إن المواضيــع التــي يتناولهــا الكتــاب اليــوم بالعــرض والتحليــل والنقــد والتعليــق‬
‫تطــرق مياديــن مختلفــة‪ ،‬ولكــن أهمهــا وأجلهــا شــأنا هــي مواضيــع الســاعة‪ ،‬وفــي‬
‫ذلــك قــال الشــاعر‪:‬‬

‫مــا مضــى فــات والمؤمــل غيــب‬


‫ولــك الســاعة التــي أنــت فيهــا‬

‫ومــن أبــرز الكتــاب الذيــن يعالجــون المشــاكل الحيويــة التــي تمــر ببالدنــا‬
‫وخاصــة منهــا المشــاكل االجتماعيــة أخونــا م‪ ..‬ديــن‪.‬‬

‫وهــا نحــن اليــوم نقــدم لقـراء العربيــة هــذه المجموعــة مــن المقــاالت التــي نشــرها‬
‫الكاتــب فــي الصحافــة الجزائريــة وتطــرق فيهــا لمختلــف المواضيــع السياســية‬
‫واالجتماعيــة والثقافيــة والفنيــة بالنقــد النزيــه والتوجيــه الحكيــم‪ ،‬فــكان ينفــذ بقلمــه‬
‫إلــى قلــب المشــاكل ليعالجهــا بالنقــد القاســي تــارة وبالســخرية الالذعــة تــارة أخــرى‬
‫وبالدعابة البريئة ثالثة‪ ...‬وكان يشــخص الداء ويصف الدواء‪ ،‬معب ار في كل ذلك‬
‫عــن عاطفتــه الوطنيــة وغيرتــه علــى أبنــاء شــعبه‪.‬‬

‫فنحــن ن ـراه عندمــا يتعــرض لمشــكلة التعريــب مثــا يحــارب أعــداء التعريــب‬
‫الذيــن يجــارون المبــدأ الثــوري فــي الدعــوة إلــى التعريــب فــي الظاهــر وهــم يقولــون‬
‫بأفواههــم مــا ليــس فــي قلوبهــم‪ ،‬ولكنــه فــي نفــس الوقــت ال يعفــى دعــاة التعريــب مــن‬
‫المســؤولية التقصيريــة‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫ويخاطــب الطائفــة األولــى فيكتــب تحــت عن ـوان‪ :‬وختامــا لــك ألــف ســام‪« ،‬‬
‫شــعارات‪ ،‬شــعارات‪ :‬إن أعــداء التعريــب يرفعــون شــعارات ليجوب ـوا بنــا متاهــات‬
‫الخط ـوات المدروســة والتــدرج والتدريــج والبعــد عــن الطف ـرات حتــى ننســى الهــدف‬
‫الرئيســي‪ ،‬وهذا أمر واقع كشــفه الكاتب‪ ،‬إذ أن بعض أعداء التعريب ال يجســرون‬
‫علــى الوقــوف فــي وجــه التعريــب بحكــم مركزهــم الــذي احتلــوه فــي ظــروف معينــة‪،‬‬
‫وأصبــح بقاؤهــم فــي ذلــك المركــز حقــا مكتســبا – كمــا يظنــون – فهـؤالء ال يؤمنــون‬
‫بالتعريــب فــي سـريرتهم‪ ،‬وهــم يتخيلــون أن فيــه القضــاء المبــرم عليهــم وعلــى نفوذهــم‪،‬‬
‫فينــادون بالتعريــب علــى رؤوس المــأ للتضليــل‪ ،‬ويتظاهــرون باإليمــان بــه ولكنهــم‬
‫يضعــون فــي ســبيله كل العراقيــل‪.‬‬

‫ويخاطــب الطائفــة الثانيــة بقولــه‪« :‬يــا أهــل الفكــر العربــي أفيق ـوا مــن نومكــم‬
‫وأثبت ـوا وجودكــم قبــل أن يجرفكــم مـ ّـد تحســون خط ـره‪ ،‬وأحمــدوا اهلل علــى أن هنــاك‬
‫فــي القمــة مــن يؤمــن بمــا تؤمنــون بــه‪ ،‬وينتظــر منكــم أن تتحرك ـوا وأن تنس ـوا‬
‫لوقــت قصيــر مشــاكل الحيــاة اليوميــة وحديــث االنديــس والنقــل والتعييــن لتفكــروا فــي‬
‫المســتقبل بجديــة»‪ .‬وهــذا النــداء ال يخلــو مــن وخــز وغمــز ينبــه فيــه الكاتــب بعــض‬
‫دعــاة التعريــب الذيــن استســلموا للواقــع‪ ،‬وانتظــروا أن يتــم التعريــب مـرة واحــدة دون‬
‫أن يقدمـوا أو يعملـوا شــيئا فــي ســبيل ذلــك‪ ،‬مثلمــا انتظــر الحواريــون نــزول المائــدة‬
‫مــن الســماء‪.‬‬

‫وهكــذا حمــل صديقنــا علــى الطائفتيــن متجنبــا اإلجحــاف متحليــا بالحكمــة‬


‫والنظ ـرة العادلــة كمــا هــو شــأنه فــي كل كلماتــه ومقاالتــه‪.‬‬

‫وبعــد هــذا كلــه فنحــن نــرى أن أخانــا م‪ ..‬ديــن طغــت علــى كلماتــه التعابيــر‬
‫العلميــة علــى التعابيــر األدبيــة‪ ،‬وال غ اربــة فــي ذلــك‪ ،‬فهــو يجنــح إلــى الحقيقــة ويبحــث‬
‫عنهــا حيثمــا كانــت ويتجنــب الخيــال‪ .‬إو�ذا وجــد بيــن الكتــاب مــن يتملــق الجماهيــر أو‬
‫الهيئــات المســؤولة ابتغــاء مرضاتهــا‪ ،‬فــإن كاتبنــا مبـ أر مــن ذلــك‪ ،‬فهــو يرســل كلماتــه‬
‫ويطلــق ســهامه الصائبــة غيــر مبــال بســخط الســاخطين المنحرفيــن عــن طريــق‬
‫الحــق الــذي هــو أحــق بــأن يتبــع‪ ،‬وهــذه المقــاالت برهــان علــى صــدق مــا نقــول‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫إو�نــه ليســعدني أن أقــدم لق ـراء العربيــة فــي الج ازئــر وفــي كل أقطــار العروبــة‬
‫هــذه االنطباعــات التــي تحــري صاحبهــا فــي كتابتهــا النقــد النزيــه البنــاء‪ ،‬آمــا أن‬
‫تكــون نب ارســا لشــبابنا وناشــئتنا‪ ،‬وأن يكــون مــا فيهــا دروســا وعبـرة وحلـوال لكثيــر مــن‬
‫مشــاكل مجتمعنــا‪.‬‬
‫راجيا للمؤلف المزيد من النجاح والتوفيق‪.‬‬
‫ابن الحكيم‬
‫(((‬

‫الجزائر – ماي ‪1971‬‬

‫‪ .1‬الدكتــور أحمــد طالــب اإلبراهيمــي وزيــر الثقافــة واإلعــام آنــذاك‪ ،‬وكان يوقــع كتاباتــه‬
‫بصفــة إبــن الحكيــم‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫محمد الشريف مساعدية‬
‫ّ‬

‫انطباعات عن اإلنطباعات‬
‫حينما طلب مني الرفيق م‪ ..‬دين أن أقدم مجموعة انطباعاته للقراء‪ ،‬شــعرت‬
‫بمزيــج مــن الحــرج والتردد‪! ‬‬

‫الحــرج مبعثــه ســببان‪ :‬أولهمــا‪ ،‬الثقــة التــي وضعهــا فــي هــذا الصديــق‪ ،‬مــع أنــه‬
‫أعــرف النــاس بأننــي لســت بكاتــب وال ناقــد‪ ،‬وال أحســن الوقــوف بيــن النقيضيــن‪:‬‬
‫النقــد واإلط ـراء‪ ،‬بــل أعطــي لكليهمــا اســمه الصحيــح‪ ،‬وأقــول للمخطــئ أخطــأت‬
‫بنفــس اللهجــة التــي أقــول فيهــا للمصيــب أصبــت‪.‬‬

‫وثانيهمــا‪ ،‬طبيعــة المهمــة فــي حــد ذاتهــا‪ ...‬إذ مــن المفهــوم أن التقديــم يعنــي‬
‫التقييــم‪ ،‬إو�صــدار مثــل هــذا الحكــم‪ ،‬وفــي مثــل هــذه القضايــا التــي ال تخضــع‬
‫لمقاييــس محــددة‪ ،‬قــد ال يســلم مــن نقيضيــن كالهمــا عيــب‪ :‬التقصيــر فــي الحكــم أو‬
‫التجــاوز فيــه‪ ..‬ألن هــذا الحكــم كمــا ذكــرت ليــس إال مجــرد تقييــم شــخصي يحتمــل‬
‫الص ـواب والخطــأ‪.‬‬

‫أمــا التــردد فناتــج عــن كــون هــذه المجموعــة التــي نحــن بصــدد تقديمهــا إلــى‬
‫القـراء ســبق أن نشــرت فــي مجلتــي «الجيــش»‪ ،‬و‪« ‬المجاهــد» ممــا قــد يفقدهــا ألول‬
‫وهلــة طابــع الجــدة وعنصــر التشــويق المطلوبيــن فــي مثــل هــذه األعمــال‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫ولكــن هــذه التحفظــات ســرعان مــا تتالشــى بمجــرد أن نشــرع فــي الق ـراءة‬
‫الجــادة والمتمعنــة التــي تفتــح أمامنــا أفقــا واســعا الكتشــاف واستكشــاف سلســلة مــن‬
‫المالحظــات فــي نفــس الوقــت‪ ،‬ولذلــك أبــادر وأحــدد موقفــي تجــاه القــارئ فأقــول‪ :‬إن‬
‫مالحظاتــي ســتكون بمثابــة انطباعــات عــن مضمــون هــذه «االنطباعــات» أكثــر‬
‫منهــا د ارســة تقييميــة‪.‬‬

‫وهكذا وللوهلة األولى‪ ،‬نجد أنفسنا أمام ظاهرة تعد تجديدية في تاريخ الصحافة‬
‫الجزائريــة‪ ،‬وخاصــة منــذ عهــد االســتقالل‪ ،‬س ـواء فــي األســلوب أو المضمــون‪...‬‬
‫فاالنطباعــات تحيــي إحــدى التقاليــد التــي تميــزت بهــا صحافتنــا المناضلــة منــذ أن‬
‫وجــدت هــذه الصحافــة فــي البــاد‪ ،‬وتفتــح ثغـرة فــي جــدار قلعــة التزمــت والخــوف مــن‬
‫ممارســة النقــد‪ ،‬والتهــرب مــن مواجهــة المشــاكل وتبعاتهــا‪ ،‬والالمبــاالة والمســايرة‪.‬‬

‫فالمثقــف عندمــا يقــوم بــدوره الحقيقــي فــي النقــد الملتــزم المســؤول‪ ،‬والتحليــل‬
‫الموضوعــي الصائــب‪ ،‬وكشــف مواطــن الضعــف وتمييــز االنحـراف مــن االجتهــاد‪،‬‬
‫يقدم بدون شك مساهمة جليلة لتوضيح طريق المسيرة الثورية‪ ،‬وتبصير المعنيين‬
‫باألمــر والمســؤولين بمكامــن الخطــأ‪ ...‬هــذه المســاهمة تفــوق فــي أهميتهــا مئــات‬
‫المقــاالت الموشــحة بعبــارات اإلطـراء والمديــح للسياســة الثوريــة‪.‬‬

‫ولعــل هــذه هــي الميـزة األساســية لالنطباعــات‪ ،‬فهــي ليســت مــن نــوع الكتابــات‬
‫التأمليــة التجريديــة الواعظــة‪ ،‬ولكنهــا مــن النــوع اآلخــر‪ ،‬مــن الكتابــات الناقــدة التــي‬
‫تعايــش المشــاكل وتشــخص المــرض وتقــدم العــاج‪ ،‬ومجمــل هــذه المشــاكل التــي‬
‫تعرضــت لهــا االنطباعــات تشــغل اهتمامــات الثــورة فــي قاعدتهــا وقمتهــا‪.‬‬

‫وميـزة أخــرى لهــذه االنطباعــات‪ ،‬هــي أنهــا تخــرق « حرمــة رحــاب التخصــص‬
‫« الــذي يحــاول بعــض كتابنــا أن يعتكف ـوا فيــه‪ ،‬وتقــدم نموذجــا للمثقــف الــذي يهتــم‬
‫بــكل مــا يحيــط مــن حولــه مــن مشــاكل‪ ،‬ومــا يزخــر بــه واقــع مجتمعــه مــن قضايــا‪،‬‬
‫وهكــذا نجــد االنطباعــات تمتــد لتشــمل شــؤون السياســة واالقتصــاد واألدب والفكــر‬
‫والفــن والديــن والطــب‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫وقــد انطلــق الكاتــب فــي كل هــذا‪ ،‬مــن نظـرة بيولوجيــة اجتماعيــة كليــة‪ ،‬حــددت‬
‫أفــق رؤيتــه للمشــاكل فــي وحدتهــا وترابطهــا‪ ،‬فــإذا كانــت الخليــة هــي الجــزء األساســي‬
‫الــذي يتركــب منــه الكائــن الحــي‪ ،‬فــإن المواطــن يعتبــر الخليــة األساســية فــي هيــكل‬
‫المجتمــع والدولــة‪ ،‬وكل خلــل فــي بنيــة هــذه الخليــة يؤثــر علــى نشــاط الجســم كلــه‪.‬‬

‫وكأنــي بالكاتــب طبيــب ال يــرى المــرض بالصــورة الموضعيــة التــي يتوهمهــا‬


‫المريــض‪ ،‬بــل تمتــد لتــرى الــداء فــي جميــع أبعــاده وامتداداتــه‪ ،‬وهــذا مــا نلحظــه‬
‫فــي نظ ـرة الكاتــب واهتمامــه بمختلــف جوانــب حيــاة المجتمــع‪ ،‬مــا كبــر منهــا ومــا‬
‫صغــر‪ ،‬فالمشــاكل التــي تت ـراءى للبعــض أحيانــا ثانويــة أو تافهــة‪ ،‬قــد تكــون لهــا‬
‫مــع ذلــك آثارهــا الكبي ـرة‪ ،‬فوجــع الضــرس أو صــداع ال ـرأس يؤثــر ال محالــة علــى‬
‫مـزاج المريــض كلــه‪ ،‬ويخــل بتوازنــه النفــس (كحبــة الرمــل فــي الحــذاء ال تؤثــر علــى‬
‫المســير ولكــن تؤلــم القــدم)‪.‬‬

‫ومــا يلحظــه القــارئ فــي هــذه االنطباعــات أيضــا‪ ،‬هــو أنهــا ليســت مــن الكتابــات‬
‫الوعظيــة‪ ،‬التــي تشــعره بأنهــا تتعالــى عليــه وتخاطبــه مــن فــوق‪ ،‬وتضعــه فــي موقــف‬
‫المتلقــي والمســتمع فقــط‪ ...‬بــل بالعكــس أنهــا تخلــق جـوا مــن الحـوار مــع القــارئ حتــى‬
‫يشــعر وكأنــه فــي نــدوة مــع الكاتــب‪ ،‬هــذا باإلضافــة إلــى أســلوب الحديــث الشــيق‪ ،‬الــذي‬
‫ينقلــك بيــن الجديــة والهــزل‪ ،‬فحيــن تثقــل الجديــات أعصابــك‪ ،‬يقــدم لــك مهدئــا يزيــل‬
‫توترك‪ ..‬نكتة أو ملحة‪ ،‬أو مثال شعبيا‪ ،‬كل هذا في قالب أسلوب سهل ال تكلف فيه‬
‫وال اصطناع‪ ،‬فالكاتب يتحدث عن سجية‪ ...‬والكتابة بالنسبة له كما يقول عن نفسه‬
‫«إفـراز طبيعــي» ولــذا فمــن الصعــب أن نعثــر علــى ذلــك النســق الفكــري المرصــوف‪...‬‬
‫وهذه االنطباعات تؤرخ في نفس الوقت‪ ،‬فبعضها قدم حلوال لمشــاكل وقد تبنيت هذه‬
‫الحلــول مــن قبــل الجهــات المعنيــة‪ ،‬ولكــن بعــض هــذه المشــاكل ال يـزال يفــرخ بعــد‪..! ‬‬
‫ومن حقنا هنا أن نسأل الكاتب عما إذا كان تابع ما تم تنفيذه من حلول‪ ،‬ليتأكد من‬
‫أن صيحاتــه لــم تكــن صرخــة فــي واد وال نفخــة فــي رمــاد‪...‬‬

‫هــذه انطباعاتــي‪ ...‬وال شــك أن القــارئ بــدأ يتســاءل‪ ..‬هــذا وجــه مشــرق وضــاء‬
‫فأيــن الوجــه اآلخــر ؟‪ ...‬وأحيــل مهمــة الجـواب عــن هــذا السـؤال إلــى نقادنــا وكتابنــا‬
‫ومفكرينــا الذيــن نرجــو أن يتصــدوا لتقييــم الكتــاب بــروح موضوعيــة‪..‬‬

‫‪21‬‬
‫إن االلت ـزام الثــوري يحتــم علينــا أن نتجنــد ونكــرس أفكارنــا وأقالمنــا ومواهبنــا‬
‫للمســاهمة فــي إثـراء الفكــر الثــوري‪ ،‬وتســليط الضــوء علــى كل المشــاكل التــي تتعلــق‬
‫بمســيرتنا الثوريــة‪..‬‬

‫وميــدان الثــورة خصــب وفســيح‪ ،‬وغنــي بالمــادة األساســية التــي تســمح لــكل‬
‫واحــد بالمســاهمة فــي المجهــود الثــوري الضخــم حســب مواهبــه إو�مكانياتــه‪.‬‬

‫ومــن هــذه الزاويــة ال يســعنا إال أن نبــارك المولــود الجديــد فــي حضــن المكتبــة‬
‫الجزائريــة التــي تشــكو قلــة اإلنجــاب وفقــر الق ارئــح‪ ،‬شــاكرين للرفيــق م‪ ..‬ديــن هــذا‬
‫المجهــود ومتمنييــن لــه مواصلــة الخط ـوات‪ .‬وللكتــاب الــرواج وحســن االهتمــام‬
‫والتقديــر‪ ،‬وداعيــن القادريــن علــى التمــام والمتخلفيــن أن يلتحقـوا بالركــب وأن يدخلـوا‬
‫المعركــة مــن أبوابهــا الواســعة‪.‬‬

‫(((‬
‫محمد الشريف مساعدية‬
‫الجزائر – ماي ‪1971‬‬

‫‪ .1‬مسؤول قسم اإلعالم والتوجيه بحزب جبهة التحرير الوطني آنذاك‪.‬‬


‫‪22‬‬
‫مقدمة اجلزء األول‬

‫عزيزي القارئ‬

‫هــذه مجموعــة مــن األحاديــث التــي نشــر معظمهــا تحــت عنـوان «انطباعــات»‬
‫فــي مجلــة «الجيــش» التــي تصدرهــا المحافظــة السياســية للجيــش الوطنــي الشــعبي‬
‫وفــي مجلــة «المجاهــد» اللســان المركــزي لجبهــة التحريــر الوطنــي وذلــك فــي الفتـرة‬
‫بيــن ‪ 1965‬و‪.1971‬‬

‫وأعتــرف بــادئ ذي بــدء بأننــي لــم أكــن أتوقــع أن تصــل كتاباتــي إلــى الكميــة‬
‫التــي تشــجعني علــى جمعهــا فــي كتــاب يحمــل نفــس العنـوان الــذي ألفــه القـراء فــي‬
‫الصحافــة الجزائريــة‪.‬‬

‫ولكنني أزعم بأن الكمية لم تكن وحدها حافزي على إصدار هذا الكتاب‪.‬‬

‫لقــد أحسســت عنــد مراجعتــي لــكل مــا كتبــت فــي الفت ـرة الماضيــة بــأن «‬
‫انطباعــات « يمكــن أن تكــون أحــد الخطــوط البيانيــة التــي تعطــى صــورة صادقــة‬
‫عــن تطورنــا الفكــري والثقافــي‪ ،‬يعبــر عنهــا قلــم قــارئ‪ ،‬يعيــش فــي القاعــدة ويــرى‬
‫األمــور بمنظــار المناضــل البســيط الــذي يعلــم شــيئا وتغيــب عنــه أشــياء‪.‬‬

‫إو�ذا كنــت أشــكر األصدقــاء الذيــن ش ـرفوني بتقديــم هــذا الكتــاب فإننــي أحــس‬
‫بــأن علــى وضــع بعــض النقــاط علــى بعــض الحــروف موضحــا بعــض مــا قــد يثيــر‬
‫تســاؤل القــارئ الــذي يقـ أر « انطباعــات « للمـرة األولــى‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫لقــد أصــررت علــى أن تصــدر «انطباعــات» بنفــس التوقيــع الرمــزي الــذي ألفــه‬
‫الق ـراء ألننــي مازلــت أعتبــر نفســي مجــرد قــارئ يتفاعــل مــع أحــداث بــاده ويفكــر‬
‫فيهــا بصــوت مقــروء‪ ،‬وأعتقــد بــأن اإلســم الكامــل لــن يفيــد القــارئ بشــئ ألن المهــم‬
‫هــي األفــكار التــي تقدمهــا الســطور والتــي أحــب أن أعتقــد بأنهــا ليســت مــن حــق‬
‫فــرد بعينــه‪ ،‬بــل هــي مــن حــق كل قــارئ طافــت فــي مخيلتــه بــدون أن تتمكــن‪ ،‬لســبب‬
‫أو آلخــر‪ ،‬مــن التعبيــر عــن نفســها بصــوت مقــروء‪.‬‬

‫وهنــا ألفــت انتبــاه أصدقــاء « انطباعــات « الجــدد بــأن تقييــم هــذه األحاديــث‬
‫يتطلــب وضعهــا فــي إطارهــا الزمنــي‪ ،‬إلــى جانــب أن هــذا وحــده هــو الــذي يوضــح‬
‫لمــاذا يضطــر القــارئ إلــى ق ـراءة موضــوع معيــن أو انطباعــة عاب ـرة أكثــر مــن‬
‫م ـرة لكــي يســتطيع استكشــاف مــا بيــن الســطور‪ ،‬وهــو مــا ال أعتــذر عنــه ألننــي‬
‫– بالغمــوض الــذي أســدلت ســتائره أحيانــا علــى بعــض مــا كتبــت‪ ...‬وخاصــة فــي‬
‫القســم السياســي – تمكنــت مــن أن أقــول تلميحــا جــل مــا كنــت أريــد قولــه‪ ،‬بــدون‬
‫أن ألجــأ إلــى التصريــح الــذي قــد ال تتحملــه فت ـرة زمنيــة معينــة‪ ،‬وهكــذا وفيــت‬
‫بالتزامــي أمــام القــارئ مــن جهــة حيــث لــم أخــف عنــه الكثيــر‪ ،‬وفــي نفــس الوقــت‬
‫تحملــت مســؤولياتي أمــام احتياجــات فت ـرة زمنيــة معينــة لــم يكــن ممكنــا أن يقــال‬
‫فيهــا الكثيــر‪.-‬‬

‫وأســتطيع أن أفخــر بــأن القــارئ الذكــي الــذي ألــف أســلوبي تمكــن دائمــا مــن‬
‫فهــم مــا أريــد قولــه بمجــرد الغم ـزة واأللــف بــدون هم ـزة‪.‬‬

‫وســيالحظ هــذا القــارئ بأننــي فــي إعــدادي لهــذا الكتــاب تركــت كل شــئ كل‬
‫يتحملــه‬
‫حالــة تقريبــا ولــم أحــذف إال مــا أحسســت بأنــه ممــل وترديــد لفكـرة معينــة قــد ّ‬
‫القــارئ عبــر عـ ّـدة أعــداد مــن مجلــة شــهرية ولكــن وجــوده فــي إطــار كتــاب واحــد ال‬
‫يمكــن إال أن يعتبــر حشـوا إو�طالــة‪.‬‬

‫ولم يبق لي – عزيزي القارئ – إال أن أقول بأنني أعتز بهذه « االنطباعات‬
‫« التــي كانــت أفكارهــا رفيقــي فــي المرحلــة الماضيــة مــن رحلــة العمــر ألنهــا – فــي‬
‫عفويتهــا وتلقائيتهــا – كانــت تعبي ـ ار صادقــا عــن أحاسيســي وانفعاالتــي فــي مرحلــة‬
‫مــن أهــم م ارحــل النضــال العربــي علــى كل الجبهــات‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ومــن نافلــة القــول أن أذكــر بأننــي ال أعتــذر عــن خطــأ اســتنتاجي وقعــت فيــه‬
‫وال أخجــل مــن إعــادة نش ـره ألن مقياســي األول لإلنتــاج الفكــري كان وال ي ـزال‪...‬‬
‫الصــدق فــي التعبيــر‪ ،‬وألن الخطــأ الرئيســي الــذي أحــذر منــه دائمــا هــو الخــوف مــن‬
‫الوقــوع فــي الخطــأ‪.‬‬

‫وأتــركك – عزيــزي القــارئ – متمنيــا لــك رحلــة ســعيدة علــى أم ـواج هــذه‬
‫الســطور‪...‬‬

‫الجزائر – ‪ 18‬مايو ‪1971‬‬


‫م‪ ..‬دين‬

‫‪25‬‬
‫انطباعات‬

‫اجلزء األول‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫انطباعات فنية وثقافية‬
‫‪1971-1965‬‬
‫أنا لست وطنيا ‪! ‬‬
‫(((‬

‫طوفــان مــن التفاهــات الملحنــة – تميي ـ از لهــا عــن التفاهــات غيــر الملحنــة‬
‫– أغرقتنــا بــه إذاعتنــا المصونــة ط ـوال الفت ـرة الماضيــة‪ ...‬أغــان ال معنــى لهــا‪...‬‬
‫وفوضــى لحنيــة‪ ،‬وتأوهــات ممجوجــة ســلطها علينــا بعــض مــن ابتالنــا اهلل بهــم‬
‫مــن مرتزقــة الموســيقى الذيــن يصــر بعــض المذيعيــن علــى تســمية الواحــد منهــم‬
‫موســيقارا‪ ..‬كأنــه ال يختلــف فــي شــئ عــن بتهوفــن أو تشايكوفســكي أو عبــد‬
‫الوهــاب‪ ...‬وهــذا أضعــف اإليمــان‪.‬‬

‫مخلوقــات تتعاطــى وتمــارس االزعــاج العلنــي‪ ..‬يتســلقون حبــال التظاهــر‬


‫بالوطنية وبحماية التراث الموسيقي لينغصوا حياتنا بتجشآتهم اللحنية‪( ..‬التجشؤ‪:‬‬
‫هــو صــوت خــروج الغــازات مــن الفــم‪ ..‬فضلــت – أدبــا – اســتعمال هــذا اللفــظ بــدال‬
‫مــن لفــظ آخــر يــدل علــى خــروج الغــازات مــن غيــر الفــم)‪ ...‬تعلــم بعضهــم عــزف‬
‫آلــة معينــة وعندمــا بــرع فيهــا ظــن أنــه وصــل إلــى القمــة فأصيــب بالقــئ الموســيقي‪،‬‬
‫يلــوث بــه جلســاتنا‪ ..‬وهــو ال يعــرف الفــرق بيــن القــئ وبيــن العســل الــذي يفــرزه‬
‫النحــل مــن رحيــق األزهــار‪ ...‬مرتزقــة يفرضــون علينــا إنتاجــا هزيــا بطريقــة تشــبه‬
‫ابت ـزاز األم ـوال بالتهديــد‪ ...‬ولكنهــا هنــا ابت ـزاز ألعصابنــا ولراحتنــا‪ ،‬إن امتعضــت‬
‫قال ـوا إنــك متأثــر بالموســيقى األجنبيــة‪( ..‬والموســيقى األجنبيــة فــي عرفهــم تشــمل‬
‫الموســيقى الغربيــة والشـرقية والعربيــة‪ ..‬باختصــار كل مــا لــم ينتجــوه‪ ...‬وكل إنتــاج‬
‫فني اقتبسـوا منه الفكرة أو العرض)‪ ..‬حتى الموســيقى الجزائرية القديمة تعتبر في‬

‫‪ .1‬الجيش – يوليو ‪1965‬‬


‫‪29‬‬
‫عرفهــم بعيــدة عــن العصــر‪ ..‬إو�ذن‪ ،‬فالبــد مــن أن نعتــرف لهــم بأنهــم حملــة الرســالة‬
‫الفنيــة (إلــى مقرهــا األخيــر‪ ..‬بالتأكيــد)‪.‬‬

‫إننــي لســت متعصبــا ضــد هــذه البثــور الفنيــة‪ ...‬علــى أن ال تمــأ ليلــي‬
‫ونهــاري‪ ..‬إو�ذا كان االســتماع لفيــروز أو عبــد الوهــاب أو تشايكوفســكي يعتبــر ضــد‬
‫الوطنيــة‪ ،‬فأنــا أعتــرف‪ ..‬أنــا لســت وطنيــا‪..‬‬

‫*‬

‫*‬ ‫*‬

‫ ‬

‫‪30‬‬
‫(((‬
‫‪ ...‬وكيف‬

‫الصديق من اإلذاعة يضرب كفا على كف‪ ...‬متسائال «لقد احتار دليلي‪...‬‬
‫إن قدمــت األغانــي الشــعبية الجزائريــة قلتــم‪ ...‬إننــي أمــأ فراغكــم بالملــل‪ ...‬إو�ن‬
‫قدمــت الموســيقى الشــرقية‪ ...‬قال ـوا‪ ...‬إننــي متحيــز‪ ...‬إو�ن قدمــت الموســيقى‬
‫األوروبيــة‪ ...‬ال أعــدم مــن يقــول‪ ...‬متفرنــج» ‪ ...‬وقلــت « أمــا عــن الموســيقى‬
‫الشــعبية الجزائريــة فليــس هنــاك مــن يقــف ضدهــا بشــرط أن تكــون موســيقى أوال‪...‬‬
‫وشــعبية جزائريــة ثانيــا‪ ...‬وليســت فوضــى لحنيــة مســروقة أصــا وفصــا مــن‬
‫موســيقى بلــدان أخــرى‪.»...‬‬

‫وعــددت لــه أســماء أكثــر مــن مطــرب ج ازئــري أحــس فعــا أنهــم يمثلــون الفــن‬
‫الكالســيكي الجزائري‪ ...‬ولكنه عاد ليقول «‪ ...‬مهما حدث‪ ...‬ســأجد نفســي محل‬
‫االتهامــات‪ ...‬أريــد حــا جذريــا» وقلــت «إذن‪ ...‬الحــل الوحيــد‪ ،‬هــي تقويــة اإلذاعــة‬
‫بحيــث تقــدم برنامجيــن فــي نفــس الوقــت‪ ...‬األول برنامــج عــام يقــدم الفنــون العالميــة‬
‫– بمــا فــي ذلــك مختــارات فنيــة جزائريــة (واضــع عشـرات الخطــوط تحــت كلمــات‪...‬‬
‫مختــارات‪ ...‬وفنيــة‪ ...‬وجزائريــة – منعــا لإللتبــاس) وتقــدم فــي هــذا البرنامــج‬
‫البحــوث العلميــة واألدبيــة والنشـرة األخباريــة بالفصحــى‪ ،‬أمــا البرنامــج الثانــي فيقــدم‬
‫كل األلـوان الشــعبية مــن وهرانيــة وقبائليــة وقســنطينية وصحراويــة وتقــدم فيــه نشـرات‬
‫األخبــار بالدارجــة وكذلــك بعــض األركان الخاصــة كركــن العمــال‪ ...‬الــخ‪ ...‬هــذا‬
‫رأى للمناقشــة‪ ...‬آمــل أن تناولــه اإلخــوة اإلذاعيــون مذك ـ ار إياهــم بــأن الوقــت قــد‬
‫حــان لنأخــذ إذاعتنــا دورهــا فــي العالــم العربــي واإلفريقــي‪.‬‬
‫الجيش – أوت ‪1965‬‬
‫‪31‬‬
‫إذا‪...‬عيات‬

‫عندما بدأت في نشر انطباعاتي عن اإلذاعة كنت آمل أن يحاول الجالسون‬


‫فــي الغــرف المكيفــة اله ـواء البحــث بجديــة عــن أســباب تدهــور إذاعتنــا‪ ...‬ولكــن‬
‫كثي ـ ار منهــم أخــذوا الموضــوع علــى أنــه هجومــات شــخصية – رغــم أن كثي ـ ار مــن‬
‫اإلخــوة اإلذاعييــن أصدقــاء‪ ،‬أعتــز بصداقتهــم – ووجــد البعــض فيــه بابــا فتحتــه‬
‫ليلجــوه ثــم ليفرغ ـوا حقدهــم‪ ...‬لســبب مــا‪ ...‬علــى اإلذاعــة‪.‬‬

‫ولقــد هاجمــت مرتزقــة الفــن اإلذاعــي الذيــن يشــكلون – مــع تضخــم عــدد‬
‫الموظفيــن والســعاة والســائقين والكتبــة – أخطبوطــا يشــل حركتهــا‪ ،‬وهاجمــت‬
‫األخطــاء التــي تعبــر عــن فســاد الــذوق وال دخــل فيهــا لإلمكانيــات الماديــة‪ ...‬الــكل‬
‫أو الكثيــر يعــرف أن اســتوديوهاتنا ناقصــة التجهي ـزات‪ ،‬وأن الميزانيــة ال تســمح‬
‫بتقديــم ب ارمــج إذاعيــة ممتــازة بمــا يلزمهــا مــن مؤث ـرات صوتيــة‪ ...‬وأوال وقبــل كل‬
‫شــئ‪ ...‬مــن ضمانــات اجتماعيــة للمذيــع (الــذي ال يعتبــر حتــى اليــوم موظفــا فــي‬
‫الدولــة)‪ ،‬ولكــن المطلــوب مــن المســؤولين المباش ـرين علــى اإلذاعــة اســتغالل مــا‬
‫تحــت أيديهــم مــن إمكانيــات‪ ،‬ثــم عليهــم – دون خــوف علــى ك ارســيهم – أن يقدمـوا‬
‫الحقيقــة كاملــة إلــى المســؤولين علــى مســتوى الدولــة‪ ...‬عليهــم أن يقولـوا « أنتــم‬
‫تريــدون إذاعــة قويــة تكــون لســانا للدولــة وعينــا للشــعب وأذنــا للعالــم »‪ ...‬إذاعــة‬
‫تكــون جيشــا وطنيــا ثانيــا‪ ...‬إن كنتــم تريــدون ذلــك‪ ...‬فهــا هــي طلباتنــا‪ .‬أقــول هــذا‬
‫وأنــا واثــق مــن أن الدولــة مســتعدة لســماع كل رأي صريــح‪ ...‬كل فكـرة بنــاءة‪ ...‬كل‬
‫نقــد مخلــص‪ ...‬وكل محاولــة جديــة لتدعيــم مؤسســاتنا الوطنيــة‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫إننــي ال أنكــر أن اســتمرار اإلذاعــة بإمكانياتهــا الحاليــة هــو عن ـوان لمجهــود‬
‫ضخــم يقــوم بــه بعــض اإلذاعييــن‪ ...‬كمــا أن النقائــص الموجــودة ال تمحــو صــو ار‬
‫رائعــة مــن النشــاط والتفانــي فــي العمــل‪ ...‬وأن هنــاك جنــودا مجهوليــن يقومــون –‬
‫فــي صمــت بــدور فعــال فــي اآلونــة الحاليــة لإلذاعــة‪ ...‬هــذا ال يكفــي‪...‬‬

‫إن لجنــة – علــى أعلــى المســتويات – يجــب أن تشــكل لبحــث قضيــة اإلذاعــة‬
‫إو�يجــاد الحلــول لمشــاكلها‪ ...‬الماديــة والفنيــة‪.‬‬

‫لجنــة يتحــدث فيهــا أبطــال ‪ 28‬أكتوبــر ‪ 1962‬الذيــن حمل ـوا اإلذاعــة علــى‬
‫أكتافهــم فــي أحلــك األوقــات وكانــت – وما ازلــت – جــزءا مــن نفوســهم‪ ...‬يتحدثــون‬
‫بص ارحــة‪ ...‬فهــم أدرى النــاس بمشــاكلها واحتياجاتهــا‪ ...‬ويتحــدث فيهــا نخبــة مــن‬
‫متقفينــا وحملــة ل ـواء الفكــر فــي بالدنــا‪ ...‬وتوضــع الدولــة أمــام مســؤولياتها تجــاه‬
‫اإلذاعــة كمــا يلتــزم اإلذاعيــون بخــط واضــح مــدروس‪ ،‬وبــدون هــذا تصبــح إذاعتنــا‬
‫كارثــة قوميــة إذا أخذنــا فــي االعتبــار الرســالة التــي تحملهــا أمــام التاريــخ‪ ...‬رســالة‬
‫الحريــة واالشــتراكية‪ ...‬رســالة اإلســام والعروبــة‪...‬‬

‫‪34‬‬
‫َ َ ٌ َ َ‬
‫انطباعات عا ِبرة‬

‫ •جميــل جــدا أن نتجــه للتعريــب‪ ،‬ولكــن علــى البلديــة أن ت ارقــب مــا يكتــب علــى‬
‫واجهــات المحــات التجاريــة‪ ،‬والفتــات المناســبات العامــة‪ ...‬فمعظمهــا يثيــر الرثــاء‪،‬‬
‫وبالمناســبة‪ ،‬هنــاك الفتــة تجعلنــي أشــعر باالشــمئزاز‪ ...‬إنهــا الالفتــة التــي كتــب‬
‫عليهــا « أيهــا األجانــب مرحبــا بكــم فــي بالدنــا» وهــي مكتوبــة باللغتيــن‪ ،‬العربيــة‬
‫والفرنســية‪ ...‬ومجــردة مــن الــذوق‪ ..‬كان يمكــن أن يقــال أيهــا الــزوار‪ ،‬أو أيهــا‬
‫األصدقــاء‪..‬‬

‫ •سـؤال بــرئ إلــى و ازرة اإلرشــاد‪ :‬لمــاذا ال تقــدم الجريــدة الســينمائية – وهــي جهــد‬
‫ممتــاز وصــورة مشــرفة – باللغــة العربيــة كليــة مــع الكتابــة علــى الشـريط بالفرنســية‬
‫– إن أردنــا – هــذه هــي الطريقــة إن كان االتجــاه إلــى تدعيــم اللغــة العربيــة جديــا‪،‬‬
‫وليــس مجــرد تصريحــات رســمية‪ ..‬إو�ال فلمــاذا نصــر علــى اســتعمال لغــة أجنبيــة‬
‫فــي غيــر موضعهــا‪! ‬؟ سـؤال بــرئ‪...‬‬

‫ •العائــدون مــن األشــقاء العــرب – الذيــن يســاهمون معنــا فــي تدعيــم اللغــة العربيــة‬
‫– بعــد انتهــاء العطلــة الســنوية‪ ..‬يعــودون والثــورة الجزائريــة أعيــدت إلــى طريقهــا‪..‬‬
‫ويعــودون بعــد تجــارب الســنوات الماضيــة – أكثــر إدراكا لمهمتهــم التــي ال تنتهــي‬
‫النضــال‪..‬‬‫عنــد بــاب‪ ،‬بــاب المدرســة‪ ،‬ونســتقبلهم‪ :‬ســفراء لبالدهــم‪ ..‬زمــاء فــي ِّ‬
‫مرحبيــن‪.‬‬

‫ •أمــا القادمــون الجــدد فمــع الترحيــب نهمــس فــي أذنهــم‪ ...‬إن التعريــب خطــوة‬
‫نورية‪ ..‬ومعركة قاسية تستلزم عودا صلبا‪ ..‬وأعصابا من حديد وقبل كل شئ‪...‬‬

‫‪35‬‬
‫إيمانــا مطلقــا بالواجــب المقــدس‪ ..‬عليهــم أن ينسـوا الفــروق اإلقليميــة واضعيــن أمــام‬
‫أعينهــم أنهــم‪ ..‬عــرب‪ ..‬فقــط‪ ..‬عــرب‪ ..‬بــدون حواجــز جغرافيــة أو مذهبيــة‪ ..‬عليهــم‬
‫أن يتذكــروا أن المعلــم قــدوة‪ ..‬ال لتالميــذه فقــط إو�نمــا‪ ..‬لــكل مــن يتصــل بهــم‪.‬‬

‫ •و‪ ..‬مرحبا بكم‪ ..‬في بلدكم‪ ..‬وبين أهلكم وعشيرتكم‪.‬‬

‫ •الج ارئــد والمجــات األجنبيــة‪ ..‬هــل هنــاك رقابــة كاملــة عليهــا ؟‪ ..‬سـؤال بــرئ‪..‬‬
‫لســت أدري مــن الــذي يملــك اإلجابــة عليــه ؟‪..‬‬

‫ •األخ العربــي – مــن قطــر فــي الشــمال – الــذي وقــف فــي مكتبــه عامــة بشــارع‬
‫بــاب عــزون يســب فــي قطــر عربــي – فــي الجنــوب – أقــول لــه‪ ..‬أنــت صــورة‬
‫مشــوهة لشــعبك المناضــل فأنــت ال تفهــم مــن العروبــة إال اللــون الــذي يصــوره لــك‬
‫الحــزب أو الهيئــة التــي تنتمــي إليهــا‪ ..‬وأنــت بهــذا الوضــع ورم خبيــث يســتحق‬
‫التطهيــر‪ ..‬وأقــول لــك‪ ..‬تســتطيع أن تتقيــأ فــي بلــدك مــا تريــد‪ ..‬ولكــن هنــا‪ ..‬أغلــق‬
‫فمــك وال تلــوث هــذا البلــد الطاهــر بأحقــادك‪ ..‬هــذا‪ ..‬إن رغبــت فــي أن تســتمر فــي‬
‫استنشــاق هوائــه‪.‬‬

‫ •يظهــر أن مــا يطلبــه المســتمعون هــو ســماع أســمائهم الكريمــة فــي الراديــو لينظــر‬
‫كل منهــم – أو منهــن – إلــى رقاقــه بابتســامة تمتــد بيــن أذنيــه‪ ..‬ونظ ـرة تواضــع‬
‫ازئــف‪ ..‬إن إذاعــة األســماء الكاملــة والمقدمــة الموســيقية تمتــص نصــف البرنامــج‪..‬‬
‫وأعتقــد أنــه يمكــن االكتفــاء بعــدد معيــن مــن األســماء‪ ،‬وتــذاع األســماء األولــى دون‬
‫ذكــر البلــد أو المنطقــة أو‪ ..‬القبيلــة‪ !! ‬بهــذا نكســب وقتــا ونوفــر جهــدا ونقلــل مــن‬
‫مضايقــة المســتمع‪.‬‬

‫ •رجــاء إلــى اإلخــوة المذيعيــن أن يقتصــدوا قليــا فــي إطــاق لقــب «الموســيقار»‬
‫علــى كل مــن هــب ودب‪ ،‬سـواء ســار علــى األرض أم ركــب (بفتــح الـراء‪.)! ‬‬

‫ •ال ينكــر أحــد المجهــود الضخــم الــذي تبذلــه اإلذاعــة‪ ،‬والقســم العربــي بصفــة‬
‫خاصــة‪ ،‬وال ينكــر أحــد الب ارمــج الجيــدة التــي تقــدم أمثــال «وراء الميكروفــون»‪،‬‬
‫«وألـوان»‪« ،‬وبــدون عنـوان»‪« ،‬وطبيــب األسـرة»‪ ..‬ولكننــا عندمــا نهاجــم األخطــاء‬

‫‪36‬‬
‫التــي ن ارهــا أو نســمعها إنمــا نهــدف إلــى المســاهمة فــي تطويــر اإلذاعــة‪ ،‬إو�عدادهــا‬
‫للوقــت الــذي يغطــي إرســالها القــارة كلهــا‪.‬‬

‫ •وفــي الوقــت الــذي ندعــو فيــه للتخطيــط‪ ،‬وللبعــد عــن االرتجــال والت ـواكل‪ ،‬وفــي‬
‫الوقــت الــذي نطلــب فيــه مــن كل مواطــن أن يضاعــف جهــوده للبنــاء‪ ،‬وتعويــض مــا‬
‫فــات‪ ،‬يقــف فــي إذاعتنــا العتيــدة مــن يرفــع عقيرتــه ليغنــى‪ ..‬يــا عبــد اهلل اتركهــا علــى‬
‫اهلل »‪ ..‬وعلينــا اآلن أن ننتظــر أن تمطــر الســماء الذهــب‪ ..‬والفضــة‪.‬‬

‫ •عشرات‪ ..‬بل مئات األفالم أخرجتها الدعاية األمريكية عن الحرب البطولية‪!! ‬‬


‫التــي مولهــا ودعــا إليهــا ال أرســماليون الطيبــون‪ !! ‬والتــي التهمــت مئــات مــن شــباب‬
‫أمريــكا‪ ..‬الحــرب التــي خاضتهــا البحريــة األمريكيــة ضــد المتوحشــين‪ !! ‬الذيــن بلــغ‬
‫مــن جرأتهــم أنهــم وقفـوا ليطالبـوا بحريتهــم وليفرضـوا حكــم الشــعب‪ ..‬وليــس مــن حقنــا‬
‫أن نلــوم أجه ـزة الدعايــة األمريكيــة‪ ..‬ولكــن مــن حقنــا أن نرفــض أن ينطلــي علينــا‬
‫هــذا الخــداع خاصــة فــي الوقــت الــذي تخــوض فيــه البحريــة األمريكيــة حربــا مــن‬
‫نفــس النــوع ضــد شــمال الفيتنــام‪ ..‬ولــم يكــن مــن حــق الرقابــة أن تســمح بعــرض‬
‫فيلــم « جســور توكــو – رى» الــذي شــاهدته الج ازئــر فــي الشــهر الماضــي‪ ..‬إن‬
‫هــذا النــوع مــن األفــام بالــغ الخطــورة ألن اســتدرار الدمــوع واإلعجــاب هــو وســيلته‬
‫لكســب التأييــد‪..‬‬

‫ •األخ الذي يغني‪:‬‬


‫فـ ــهـ ــل أنـ ـ ـــت أخـ ــي‬ ‫أنــــــــــــــــــا أخـــــــــــــوك‬
‫كــالــفــرحــة فــي قلبي‬ ‫الــفــرحــة ف ــي قلبك‬
‫كــالــدمــعــة فــي عين‬ ‫والــدمــعــة فــي عينك‬
‫فليســمح لــي بــأن أضيــف هــذا المجهــود الفنــي المتواضــع إلــى أغنيتــه الخالــدة‪،‬‬
‫متناســيا مــا فــي اللحــن مــن تشــابه مــع أغنيــة لمغــن صغيــر يســمى فريــد األطــرش‪!! ‬‬

‫وهذا ما جادت به القريحة‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫ولـــــــــــــك ق ـ ـ ــدم ـ ـ ــان‬ ‫لــــــــــــي قــــــــدمــــــــان‬
‫وتـ ــلـ ــبـ ــس قــمــيــصــا‬ ‫وألـــــبـــــس قــمــيــصــا‬
‫وتتنفس مــن أنفك‬ ‫وأتــنــفــس مــن أنفي‬
‫فــهــل أن ــت أخ ــي‪!! ‬‬
‫(ملحوظة‪ :‬الذين سيعجبون بهذه األبيات الخالدة التي « سالت مني «‪ ،‬يستحقون‬
‫كل ما ينالهم على يد بعض مطربينا األفاضل‪.)!! ‬‬

‫‪38‬‬
‫ّ‬
‫(((‬
‫املصور‬

‫إذا ذهبت إلى المصور (بكســر الواو وتشــديدها‪ ..‬منعا لاللتباس) وقفت أمام‬
‫ســتارة ســوداء وظهــرت الصــورة محتويــة علــى وجهــك الكريــم (باالبتســامة الممتــدة‬
‫بيــن األذنيــن أو قنــاع الجــد كبســمارك أو لمحــة شــاعرية‪ ...‬كــ‪ ..)...‬هــذه صــورة‬
‫بســيطة وتحتــاج لمجــرد ضبــط آلــة التصويــر علــى وجهــك‪ ..‬الكريــم‪ ..‬ولــو أردت أن‬
‫تكــون الصــورة أكثــر تعبي ـرا‪ ..‬وقفــت فــي المينــاء ومــن خلفــك منظــر العاصمــة أو‬
‫علــى ســفح الشـريعة وقمــم الثلــج تظللــك‪ ..‬عندهــا البــد مــن م ارعــاة ضبــط العمــق فــي‬
‫آلــة التصويــر إو�ظهــار المنظــر الخلفــي كجــزء مكمــل لشــخصك‪( ..‬الكريــم بالطبــع)‬
‫هــذه صــورة مركبــة‪ ..‬نفــس الشــئ فــي الموســيقى‪ ..‬هنــاك لحــن بســيط‪ ..‬يعتمــد علــى‬
‫نغــم واحــد تؤديــه آلــة أو مجموعــة آالت ويقــوم ضــارب الطبــل بــدور تنظيــم عمليــة‬
‫العــزف مــن الناحيــة الزمنيــة (ولهــذا يســمى ضابــط ايقــاع)‪.‬‬

‫وهنــاك اللحــن المركــب حيــث يكــون وراء النغــم األساســي منظــر خلفــي لحنــي‬
‫مــن أنغــام أخــرى تتكامــل معــه وال تتماثــل‪ ..‬هنــاك‪ ..‬تتعــدد اآلالت الموســيقية‬
‫ويختلــف إيقــاع األلحــان الزمنــي كمــا يتضــاءل دور عــازف الطبــل كضابــط‬
‫لإليقــاع‪ ..‬وهنــاك يبــرز دور قائــد األوركســت ار أو المايســترو‪ ..‬فهــو يحفــظ القطعــة‬
‫الموســيقية بــكل تفاصيلهــا‪ ،‬ويقــف ليحــدد لــكل آلــة وقــت عملهــا‪ ،‬ولــكل عــازف لحظــة‬
‫تدخلــه‪ ،‬وتظهــر أهميــة دوره عندمــا نعــرف أن عــدد العازفيــن قــد يتجــاوز الخمســين‬
‫أو الســتين‪ ،‬تعــزف كل مجموعــة لحنــا غيــر الــذي تعزفــه مجموعــة أخــرى (وأبســط‬
‫مثــل لذلــك هــو ألحــان خاتشــاتوريان)‪.‬‬
‫الجيش – يناير ‪.1966‬‬
‫‪39‬‬
‫اآلن أضــع هــذا الس ـؤال‪ ..‬بمــا أن موســيقانا تعتمــد علــى النغــم الواحــد وعلــى‬
‫عــازف الطبــل لضبــط اإليقــاع (حرصــا علــى حياتــي لــن أقــول إننــا لــم نصــل بعــد‬
‫إلــى مســتوى الموســيقى العالميــة المركبــة التــي يميزهــا المنظــر الخلفــي اللحنــي‪..‬‬
‫ولــن أقــول أن معظــم مــا يســمى بالموســيقى الحديثــة عندنــا عبــارة عــن فوضــى‬
‫لحنيــة مســروقة مــن الشــرق والغــرب والشــمال والجنــوب)‪ ..‬أســأل‪ ..‬مــاذا يفعــل‬
‫ذلــك الرجــل الــذي نـراه فــي حفــات التلفزيــون وقــد أعطانــا ظهـره وراح يحــرك يديــه‬
‫بطريقــة هســتيرية‪ ..‬مداعبــا المغنــي فــي بعــض األوقــات وعازفــا علــى آلــة فــي‬
‫أخــرى‪ ..‬ومثي ـ ار ســخرية كل ملــم ببعــض أصــول الموســيقى‪ ..‬لمــاذا ال يعفينــا مــن‬
‫ظه ـره (ولعــل وجهــه أرحــم)‪ ..‬ولمــاذا ال يكتفــي بعــزف اآللــة التــي يتقنهــا بــدال مــن‬
‫أن يلبــس موبوتــو ثــوب نابليــون‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫(((‬
‫إذاعيات‬

‫الــكل يشــتكي‪ ..‬المســتمعون‪ ..‬المذيعــون‪ ..‬اإلداريــون‪ ..‬مــا لقيــت أحــدا إال‬


‫وكان الحديــث عــن اإلذاعــة عمــودا فقريــا لمناقشــتنا‪.‬‬

‫ولقــد لمســت فــي انطباعــات ســابقة بعــض الظواهــر المرضيــة (بفتــح ال ـراء)‬
‫لمســا لعلــه كان يفتقــر إلــى العمــق الكافــي والتحليــل الكامــل‪ ،‬وعــذري فــي ذلــك أننــي‬
‫طرقــت بــاب الحديــث كمســتمع ال كمصلــح إجتماعــي‪ ..‬ولقــد طلبــت تكويــن لجنــة‬
‫علــى أعلــى المســتويات الوطنيــة الممكنــة إلنقــاذ الرابطــة اإلعالميــة األولــى بيــن‬
‫أفـراد شــعبنا الــذي تتفشــى فيــه أميــة القـراءة والكتابــة‪.‬‬

‫فمــن غيــر المعقــول أن تعيــش إذاعتنــا الرســمية بنفــس التخطيــط الــذي وضــع‬
‫أيــام كانــت إذاعــة جهويــة تابعــة للوطــن األم‪!! ‬‬

‫تحدثــت‬
‫إننــي أعتقــد أن الحــل الوحيــد هــو تكويــن اللجنــة التــي ســبق أن ّ‬
‫عنهــا‪ ،‬والتــي يمكــن أن يضــاف إليهــا مجموعــة مــن رجــال الفكــر واألدب بجانــب‬
‫المناضليــن اإلذاعييــن الذيــن أثبت ـوا وجودهــم وحمل ـوا عــبء اإلذاعــة فــي أحلــك‬
‫الوقــات‪.‬‬

‫كمــا يجــب إعــادة النظــر فــي القن ـوات الفرعيــة فيكتفــي ببرنامــج واحــد يشــمل‬
‫الفنــون العالميــة – ومــن بينهــا مختــارات مــن الفنــون الجزائريــة – ويعبــر تعبي ـ ار‬
‫كامــا عــن الج ازئــر الثوريــة اإلشــتراكية‪ ،‬ويصــل بهــا إلــى كل البلــدان العربيــة والــدول‬

‫الجيش – مارس ‪.1966‬‬


‫‪41‬‬
‫اإلفريقيــة الناطقــة بالعربيــة ويوجــه إلــى جنــوب أوربــا وفــي نفــس الوقــت يكــون هنــاك‬
‫برنامــج شــعبي – أو قنــاة شــعبية – محــدود الوقــت والمــدى وتقــدم فيــه الفنــون‬
‫الشــعبية الجزائريــة – فقــط – مــن وهرانيــة وقبائليــة وصحراويــة وقســنطينية‪ ،‬وتقــدم‬
‫فيــه نشـرات األخبــار ملخصــة باللهجــات المحليــة‪ ..‬وطبعــا هــذا كلــه مــع االهتمــام‬
‫بالبرنامــج األوربــي بحيــث يكــون برنامجــا جزائريــا باللغــة األوربيــة‪.‬‬

‫وعلــى هــذه اللجنــة أن تضــع تخطيطــا كامــا لإلذاعــة ترفعــه إلــى القمــة التــي‬
‫أثق بأنها ستتخذ أحزم المواقف لتدعيم الجيش الوطني الثاني‪ ..‬وسائل اإلعالم‪..‬‬
‫وأولهــا اإلذاعــة‪.‬‬

‫وفــي انتظــار اللجنــة‪ ..‬وق ـرار تكــون اللجنــة‪ ..‬أقــول‪ ..‬فصبــر جميــل واهلل‬
‫المســتعان‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫(((‬
‫الليل يطارد الشمس‬

‫ســي جعفــر يمثــل أحــد قمــم البورجوازيــة الجزائريــة التــي يحميهــا مــن لســعات‬
‫الشــمس‪ ..‬ســحاب االســتعمار‪ ،‬اســتمد نفــوذه مــن بــاط الحاكــم العــام فــكان حربــا‬
‫على مواطنيه جالدا لهم‪ ،‬وتمر ســنوات الثورة ويقاســي شــعبنا األمرين بينما يعيش‬
‫«ســي جعفــر» فــي قص ـره الفخــم خالــي البــال إال مــن اســتزادة النفــوذ وامتصــاص‬
‫الدمــاء‪ ،‬ويأتــي االســتقالل وتصفعنــا الصــورة المذهلــة‪ ،‬إن ســي جعفــر مــازال حيــث‬
‫كان‪ ..‬مــازال يمســك بالمقــدرات‪ ..‬اســتبدل ســيدا بســيد‪ ،‬وهكــذا ينــزوي المناضــل‬
‫الصــادق ويبقــى جعفــر وعصابتــه فــي الصــدارة رافعيــن ل ـواء الحريــة والعدالــة‪!! ‬‬

‫هــذه هــي الخالصــة المركـزة للفيلــم ال ارئــع الــذي قدمــه المركــز الوطنــي للســينما‬
‫باالشــتراك مــع اإلذاعــة الوطنيــة وأخرجــه مصطفــى بديــع‪ ،‬ولعــل الســر فــي البــرود‬
‫الــذي قوبــل بــه الفيلــم والدعايــة المركـزة ضــده هــو أنــه يعــرض فــي جـرأة وشــجاعة‬
‫وموضوعيــة المشــكلة التــي تعانيهــا الج ازئــر اليــوم والتــي تســببت فــي النزيــف‬
‫القومــي الــذي نعانيــه‪ ،‬مشــكلة الثورييــن المزيفيــن‪ ،‬مشــكلة الخونــة الذيــن لبس ـوا‬
‫مســوح المناضلين وتســللوا إلى أجهزة الحكم وشـرايين االقتصاد‪ ،‬تاركين الواجهات‬
‫السياســية للمناضليــن‪ ..‬يســتمدون منهــم الحمايــة والتأييــد(((‪.‬‬

‫الجيش‪ -‬مايو ‪.1967‬‬


‫واالســم الحقيقــي لهــذا الفيلــم هــو‪ ...‬الليــل يخــاف مــن الشــمس‪ !!! ‬وقــد حــورب حربــا‬
‫شــعواء‪ ،‬وبذلــت كل المحــاوالت للتعتيــم عليــه‪.‬‬
‫‪ .2‬وأذكر بتاريخ كتابة هذا المقال (تعليق جديد)‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫والفيلــم‪ ،‬فــي مجموعــه‪ ..‬ارئــع‪ ،‬خاصــة إذا قارنــا ظــروف عرضــه والدعايــة‬
‫المحــدودة التــي صاحبتــه بظــروف عــرض «ريــح األوراس» الــذي عــرض فــي‬
‫أول نوفمبــر وفــي ظــروف تنضــح بغــرور وانتهازيــة المخــرج والمصــور وكاتــب‬
‫الســيناريو‪ ..‬الــخ‪ ..‬الــخ‪..‬‬

‫إو�ذا كان فيلم «معركة الجزائر» فيلما تسجيليا سطحيا‪ ،‬وفيلم «ريح االوراس»‬
‫قطاعــا طوليــا لفت ـرة مــن فت ـرات كفاحنــا فــإن هــذا الفيلــم – وهــو أول فيلــم ج ازئــري‬
‫بالمعنــى الكامــل – حــاول أن يغطــي فت ـرة الثــورة كلهــا بطريقــة تدفعنــي إلــى أن‬
‫أطلــق عليــه اســم‪ ..‬ذكريــات‪ ،‬والتــي تجعلنــي اعتقــد بــأن مصطفــى بديــع قــد أحــس‬
‫بــأن هــذا هــو فيلمــه األول واألخيــر‪ ،‬ولهــذا وضــع فيــه كل مــا يمكــن وضعــه بطريقــة‬
‫جعلتــه يبــدو طويــا‪.‬‬

‫اتســم الفيلــم بالــروح الدراميــة وتميــز بلقطــات رائعــة‪ ،‬منهــا اللقطــة التــي أثــارت‬
‫عش ـرات التعليقــات‪ ،‬وهــي ال ـوالدة فــي المقب ـرة‪ ،‬والتــي أرى أنهــا انتصــار للمخــرج‪،‬‬
‫حيــث انصهــر المعنــى الرمــزي لل ـوالدة فــي تطــورات ح ـوادث الفيلــم‪ ،‬وجمــع بيــن‬
‫التأثيــر الد ارمــي للحالــة الســيئة التــي عانتهــا األم والتــي يعانيهــا الوطــن كلــه‪.‬‬

‫أمــا التمثيــل فقــد كان مصطفــى كاتــب رائعــا فــي دور «ســي جعفــر»‪ ،‬ولــم‬
‫ينقــص األداء المســرحي مــن قيمــة دوره حيــث ذكرنــا بيوســف وهبــي‪ ،‬وكانــت ربيعــة‬
‫أكثــر مــن رائعــة فــي دور فاطمــة كمــا كانــت كســبا جديــدا للســينما العربيــة فقــد أدت‬
‫دورهــا بإتقــان لــم أشــاهده إال فــي عــدد محــدود مــن األفــام العربيــة‪.‬‬

‫وكان الفضــاء ممتــا از فــي دور «حــارس المقابــر» كمــا أن زوجتــه أدت الــدور‬
‫بطريقــة طبيعيــة ودون أدنــى تكلــف‪.‬‬

‫وكان «الهاشــمي» خائنــا بــكل جارحــة مــن جوارحــه‪ ،‬ولقــد تحمــل المســكين مــن‬
‫رواد الســينما عشـرات اللعنــات بحيــث دعــوت اهلل أال تكــون لحيتــه حقيقيــة فيتعــرف‬
‫عليــه الجمهــور خــارج الســينما و‪ ...‬ينتهــي إلــى المستشــفى‪.‬‬

‫وعش ـرات الممثليــن قام ـوا بأدوارهــم بصــورة تدعــو إلــى اإلعجــاب منهــم والــد‬
‫فاطمــة العجــوز والغانيــة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ولكــن مــا يثيــر اإلعجــاب حقــا هــو لغــة الفيلــم حيــث كانــت عربيــة ســليمة األداء‬
‫تســمو علــى الدارجــة المبتذلــة بــدون أن تبلبــل أفــكار المتفــرج البســيط بتقع ـرات‬
‫العربيــة الفصحــى القاموســية‪ ،‬وأثبــت بديــع بذلــك أن هنــاك لغــة واحــدة هــي العربيــة‪..‬‬
‫إو�ن تقســيمها إلى دارجة وكالســيكية (على طريقة عمي ياســين‪ )!! ‬مغالطة لفظية‬
‫وتعبيــر عــن انحـراف فكــري أو تجاهــل مقصــود‪.‬‬

‫وأكتفــي هــذه الم ـرة بالنواحــي اإليجابيــة فــي الفيلــم دون تعــداد أخطائــه ويكفــي‬
‫أنــي قضيــت ثــاث ســاعات دون أن أمــل ودون أن أفكــر فــي مغــادرة دار الســينما‬
‫ودون أن ترتســم علــى وجهــي ابتســامة ســخرية أو تقطيبــة ازدراء‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ملن((( ؟‬

‫بعــد يــوم مرهــق مــن العمــل الشــاق‪ ..‬وبعــد جولــة قصي ـرة ;لقــاء عابــر‬
‫ألصدقــاء‪ ...‬ومــع نســمات خجولــة تتســلل كالطيــف لترطــب حـ اررة المســاء‪ ..‬يفتــح‬
‫قلمــي بــاب الذاكـرة ارســما علــى الــورق انطباعــات اليــوم‪ ..‬واكتــب‪ ..‬وأتوقــف مـ ار ار‬
‫ســائال نفســي‪ ..‬لمــن‪ ..‬لمــن أكتــب ؟ إن الكتابــة بالنســبة لــي إفـراز طبيعــي ال أملــك‬
‫إيقافــه ولــو أردت‪ ..‬ولكــن النشــر شــئ آخــر‪ ..‬إنــه يشــرك اآلخريــن فــي تفكيــري‪..‬‬
‫لهــذا أعتقــد أن مــن حقــي ككاتــب (ويســمح لــي اإلخـوان إذا أطلقــت علــى نفســي هــذا‬
‫الوصــف الــذي أحــدده بــأن الكاتــب الــذي أعنيــه‪ ..‬هــو الــذي يكتــب‪ ..‬فقــط دون أي‬
‫وصــف آخــر)‪ ..‬مــن حقــي أن أتســاءل مــا الــذي أرجــوه مــن هــذه االنطباعــات التــي‬
‫أعتبرهــا‪ ..‬تفكي ـ ار بصــوت مقــروء‪ ..‬الحــق أقــول – وكثيــر مــن الموضوعــات التــي‬
‫طرقــت فــي هــذا البــاب مثلــت مشــاكل حيويــة نعانيهــا ‪ ..-‬كان أملــي أن يتجــاوب‬
‫القــارئ العربــي‪ ..‬بصــورة جديــة‪ ..‬فعالــة‪ ..‬مــع مــا يكتــب‪.‬‬

‫ال أنكــر‪ ..‬كانــت كلمــات كثي ـرة تحمــل فــي طياتهــا‪ ..‬بعــض إعجــاب‪ ..‬بعــض‬
‫تأييــد‪ ..‬كانــت تربــت فــي رفــق علــى مســامعي فــي لقــاءات عابـرة‪ ..‬ومالحظــات لهــا‬
‫قيمتها كانت تتناثر – بصورة أقرب إلى العفوية منها إلى المناقشة الجدية – تتناثر‬
‫فــي جلســات قصيـرة‪ ..‬لــم يفكــر أحــد مــن األخــوة الذيــن يمثلــون الثقافــة العربيــة فــي أن‬
‫يســل قلمــه – قبــل أن يتــآكل مــن صــدأ الخمــول – ليناقــش‪ ..‬ليجهــر ب أريــه‪..‬‬

‫هل هو ضيق الوقت ؟‪..‬‬

‫الجيش‪ -‬أوت ‪ .1965‬‬


‫‪47‬‬
‫كــم كنــت أتألــم عندمــا أفكــر فــي العشـرات ممــن يعتبــرون أنفســهم ورثــة الفكــر العربــي‬
‫وحملــة األقــام وحمــاة األدب والذيــن تزخــر بهــم بعــض المقاهــي فــي العاصمــة‪..‬‬
‫يلوكــون التعبيـرات األدبيــة ويمضغــون أحاديــث الفـراغ ويرســمون الخطــط الواســعة‬
‫للتعريــب‪ ..‬ولنشــر الثقافــة العربيــة‪ ..‬عندمــا يأتينــي جنــدي بســيط متشــحا بــرداء‬
‫الخجــل ليعتــذر عــن أنــه ال يحســن الكتابــة بالعربيــة إو�ال‪ ..‬ألرســل لنــا مناقشــا فكـرة‬
‫مــا أو نقــدا معينــا ق ـرأه فــي هــذه المجلــة التــي أردنــا لهــا أن تكــون منب ـ ار للثقافــة‬
‫العربيــة‪ ..‬منبـ ار حـ ار تقــال فيــه كلمــة الحــق‪ ..‬وكلمــة الحــق وحدهــا‪ ..‬تــرى هــل هــو‬
‫الخــوف مــن الجهــر ب ـرأي صريــح ؟ ال أحــب أن أعتقــد ذلــك‪ ..‬هــل هــو الكســل‬
‫والالمبــاالة ؟‬

‫يــا أهــل الفكــر العربــي‪ ..‬أفيقـوا مــن نومكــم‪ ..‬اثبتـوا وجودكــم‪ ..‬قبــل أن يجرفكــم مــن‬
‫تحســون أنتــم اآلن خط ـره‪ ..‬وأحمــدوا اهلل علــى أن هنــاك‪ ..‬فــي القمــة‪ ..‬مــن يؤمــن‬
‫بمــا تؤمنــون‪ ..‬وينتظــر منكــم أن تتحركـوا‪ ..‬أن تنسـوا لوقــت قصيــر مشــاكل الحيــاة‬
‫اليوميــة‪ ..‬وحديــث «األنديــس» والنقــل والتعييــن‪ ..‬لتفكــروا فــي المســتقبل‪ ..‬بجديــة‪..‬‬
‫هــل فهمتــم ؟‪ ..‬بجديــة‪..‬‬

‫الطبيب ‪:‬‬
‫هو‪ ...‬إشرب منه كل شيء يولّي سهل‬
‫دواك هذا ّ‬

‫‪48‬‬
‫(((‬
‫َّومازلنا مع‬
‫الشلل والضياع‬

‫مشــكلة التعريــب عندنــا تذكرنــي بقضيــة فلســطين‪ ..‬مــا أكثــر الحلــول لهــا ومــا‬
‫أســهل الحديــث عنهــا‪ ..‬مجــرد الحديــث‪ ..‬هــو قميــص عثمــان ينشــد اإلثــارة العاطفــة‬
‫ويســتدر الدمــوع‪ ..‬أو هــو العمــود الفقــري لحديــث المتفقــه العالمــة‪.‬‬

‫ومشــكلة المشــاكل هــي أن الذيــن يتبرعــون بالحديــث ال يؤمنــون بــه‪ ..‬وعندمــا‬


‫أقــول اإليمــان أعنــي بــه مــا قالــه الرســول الكريــم «مــا وقــر فــي القلــب وصدقــه‬
‫العمــل»‪ ،‬ولعــل مــن مالمــح المشــكلة أن مثقفينــا باللغــة العربيــة – وقــد تلقـوا علومهــم‬
‫مــن مناهــل مختلفــة فــي مادتهــا وكفاءتهــا وأســاليبها – فشــلوا فــي خلــق تجانــس‬
‫فكــري بينهــم‪ ،‬وهكــذا ظل ـوا كالعصــى المتفرقــة فــي القصــة المشــهورة‪ ،‬تكســرهم‬
‫عاديــات الحيــاة ومشــاكلها اليوميــة والحمــات المنظمــة ضــد مــا يمثلونــه‪ ،‬ونحــن‬
‫ننســى دائمــا أو نتناســى – ألننــا ننظــر لألمــور مــن زاويــة واحــدة – إن التعريــب‬
‫هــو تغييــر ثــوري ألنــه يزيــل قناعــا مشــوها التصــق – أو الصــق – بوجــه الج ازئــر‬
‫العربي‪ ،‬إو�ن الخطوة الثورية تســتلزم التوعية واإلقناع فال شــك أن الكثير من أبناء‬
‫شــعبنا ال يدركــون أهميــة التعريــب وضرورتــه‪ !! ‬وقــد يعتبـره البعــض مجــرد خطــوة‬
‫للتبــرك ألن عصــر العلــوم والــذرة ال يتحــدث العربيــة‪ !! ‬طبعــا لــن أقــول‪ ..‬إن كثيريــن‬
‫ينظــرون للتعريــب كخطــر ازحــف يهــدد بكنســهم‪.‬‬

‫الجيش – سبتمبر ‪.1965‬‬


‫‪49‬‬
‫ولــن أتحــدث عــن الصــور المشــوهة التــي رســمت للعربيــة أمــام مواطنينــا‪..‬‬
‫(أقــول‪ ..‬رســمت؟؟)‪.‬‬

‫معنــى هــذا كلــه أنــه ال نجــاح للتعريــب بــدون تجــاوب شــعبي شــامل إو�يمــان‬
‫عميــق بضرورتــه وأهميتــه إو�دراك كامــل لمــا يمثلــه اســم العروبــة والتعريــب‪.‬‬

‫ودور الدولــة – علــى أهميتــه – ال يلغــى دور اإلف ـراد‪ ..‬أمــا عــن الدولــة‬
‫فاالتجــاه فــي القمــة واضــح ي ـراه األعمــى ببصيرتــه‪ ..‬ولــن أتحــدث هنــا عــن‬
‫التعليــم – فلهــذا مجــال آخــر – ولكــن بقــي علــى الدولــة أن تجعــل مــن اللغــة‬
‫العربيــة عــادة يوميــة باســتعمالها علــى أوســع نطــاق‪ .‬ولقــد بذلــت البلديــات‬
‫جهــودا مشــكورة فــي تعريــب الفتــات الش ـوارع والمحــات التجاريــة وبقــي علــى‬
‫(((‬
‫و ازرة األخبــار أن تلغــى نهائيــا اســتعمال اللغــة األجنبيــة فــي الجريــدة الســينمائية‬
‫‪ -‬ويكتفــي بكتابتهــا علــى الشـريط أن غلبنــا الحنيــن أو أردنــا مجاملــة « إخواننــا»‬
‫األوروبيين‪ – !! ‬كذلك ال أرى معنى لتقديم نشرات أخبار مفصلة باللغات األجنبية‬
‫وال لتقديــم الب ارمــج التلفزيونيــة بغيــر العربيــة وبالنســبة للمطبوعــات الحكوميــة‪ ..‬يجــب‬
‫اســتكمال الجهــود التــي بذلــت لتعريبهــا‪..‬‬

‫باختصــار البــد مــن جعــل اللغــة العربيــة أم ـ ار مألوفــا‪ ..‬ومرغوبــا‪ ..‬أمــا‬


‫علــى الصعيــد الوظيفــي فيجــب أن تنظــم حلقــات د ارســية للموظفيــن‪ ..‬اختياريــة‬
‫فــي البدايــة إجباريــة فــي النهايــة بحيــث نصــل إلــى المرحلــة التــي نســتطيع‬
‫(((‬
‫فيهــا اشــتراط إجــادة العربيــة كضمــان للترقيــة ثــم كشــرط أساســي للتعييــن‬
‫وفــي هــذا كلــه يكــون المثقفــون بالعربيــة‪ ..‬ســاح الدولــة فــي معركتهــا وطريــق األمــة‬
‫الســترداد لســانها‪ ..‬ويــا ويلنــا لــو كان الســاح صدئــا والطريــق موحــا‪ ..‬متشــققا‪..‬‬
‫موحشا‪!! ‬‬

‫‪ .1‬تم تعريب الجريدة السينمائية الناطقة بعد شهور من كتابة هذا المقال‪.‬‬
‫‪ .2‬فيمــا بعــد قــرر مجلــس الثــورة جعــل عــام ‪ 1971‬عــام التعريــب بحيــث أصبحــت اللغــة‬
‫العربيــة مــن المســوغات الرئيســية للتعييــن‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫(((‬
‫التعريب‪..‬مرة أخرى‪..‬‬

‫فقط‪ ..‬هذه المرة لن أتحدث عن دور الدولة‪ ،‬ولن أقول ما يردده المتشائمون‪!! ‬‬
‫مــن أن الخط ـوات التــي اتخــذت كانــت خط ـوات هزيلــة ولــن ألقــى بــاال إلــى قولهــم‬
‫بــأن العربيــة – فــي دولــة لغتهــا الرســمية العربيــة – لغــة اختياريــة‪ !! ‬وأن و ازرة التربيــة‬
‫(بــدون أن أنطــق اســمها كمــا تنطقــه إحــدى مذيعــات التليفزيــون الباريســية اللهجــة) قــد‬
‫قــررت إلغــاء بعــض األقســام العربيــة ودمجهــا تحــت األقســام الفرنســية (كإدارة المنــح‬
‫مثــا) بحجــة توحيــد األقســام‪..‬والوحدة خيــر مــن رفيــق الســوء‪!! ‬‬

‫ومــن جهــة أخــرى لــن أصــدق مــا يقــال عــن حــرب شــعواء تشــن علــى التعريــب‪،‬‬
‫رغم ما قد يؤكده البعض من تصرفات مريبة لبعض صغار المسؤولين في منطقة‬
‫بــاب ال ـواد بالــذات‪ ..‬وكذلــك اإلشــاعات التــي تدنــس‪ !! ‬طهــارة بعــض المتعاونيــن‬
‫الفنييــن األجانــب الذيــن يقولــون للطالــب – حرصــا علــى مصلحتــه بالطبــع – «‬
‫دعــك مــن االنكبــاب علــى لغــة خصصــت لهــا درجتــان فقــط واهتــم بالفرنســية‬
‫والرياضيــات فاألولــى لهــا أربعــة درجــات والثانيــة ســتة‪ .. « !! ‬وبالطبــع لــن أظلــم‪..‬‬
‫اإلذاعــة‪ ..‬متهمــا إياهــا بالجــور علــى نصيــب الب ارمــج العربيــة (بتصرفــات بعــض‬
‫الفنييــن أو مســئولي الفنييــن) وكذلــك لــن أســمح لنفســي بمهاجمــة المجهــود الجبــار‬
‫الــذي يقــوم بــه التليفزيــون للترفيــه عــن األجانــب حتــى ولــو بإهمــال رغبــات المشــاهد‬
‫العربــي‪ ..‬فالضيــف أولــى مــن صاحــب الــدار‪!! ‬‬

‫الحديــث اليــوم عــن أســلحة التعريــب وذخيرتهــا‪ ..‬ولكــي ال أضيــع وقتــا فــي‬
‫الرمــوز‪ ..‬أقــول ببســاطة‪ ..‬أن األســلحة فــي المعركــة هــي‪ ..‬المثقفــون بالعربيــة‪،‬‬
‫الجيش – يونيو ‪.1966‬‬
‫‪51‬‬
‫والذخيــرة هــي طاقاتهــم وحيويتهــم إو�مكانياتهــم‪ ..‬وهنــا تواجهنــا نفــس المشــكلة التــي‬
‫تواجــه جيشــا يتســلح أف ـراده بأن ـواع مــن األســلحة‪ ..‬مختلفــة ومتباينــة و– وهــذا هــو‬
‫المهــم – غيــر متكاملــة‪ ..‬أســلحة بعضهــا مــن مخلفــات الحــرب‪ ..‬والبعــض أفســده‬
‫اإلهمــال أو عــدم التشــحيم‪ ..‬وكثـرة‪ ..‬ليــس فــي جعبتهــا مــا يضمــن إمــكان االعتمــاد‬
‫عليهــا طـوال المعركــة ( إو�ن كان هــذا كلــه يبعــث علــى التفــاؤل إذا تذكرنــا كيــف بــدأ‬
‫نوفمبــر وكيــف انتهــى إلــى مــارس وتــوج بيوليــو‪ )..‬ولكــن الفــارق الوحيــد الــذي يلقــم‬
‫تفاؤلنــا حجـ ار هــو الــروح المصاحبــة‪ ..‬فــي نوفمبــر الثــورة‪ ..‬كان اإليمــان والت اربــط‬
‫والعزيمــة أمــا فــي نوفمبــر التعريــب فهــو التفــكك والت ارخــي واإلهمــال والالمبــاالة‪.‬‬

‫مجمــوع المثقفيــن بالعربيــة ينقصــه االنســجام الفكــري‪ ..‬ولعــل أكثــر األمــور‬


‫ط ارفــة محاولــة جمعهــم فــي قاعــة واحــدة – بشــرط نــزع كل األدوات الصلبــة والحــادة‬
‫منهــا‪ ..‬منعــا لحــدوث إصابــات قاتلــة ‪ ..-‬هنــاك ســنجد – آســفين – أن الرابطــة‬
‫الوحيــدة التــي تــكاد تجمــع المثقفيــن بالعربيــة هــي عــدم إتقانهــم للفرنســية أو عــدم‬
‫معرفتهــم لهــا أصــا‪ ..‬وهنــاك ســنجد أن الص ـراع الداخلــي يدمغــه الغــرور ويمي ـزه‬
‫التطــاول وينميــه انعــدام االنســجام الفكــري‪ ..‬صــورة غالبــة علــى الصــف العربــي‪..‬‬
‫وهكــذا‪ ..‬يــدور كل حــول نفســه‪ ..‬ويســاهم مــن حيــث ال يــدري فــي أحــكام الحبــل‬
‫حــول عنقــه‪.‬‬

‫أقــف لحظــة‪ ..‬آلخــذ نفســا عميقــا وألقــول‪ ..‬إن مناقشــة القضيــة بصفــة التعميــم‬
‫قــد تظلــم الكثيريــن‪ ،‬وقــد تغمــط إخــوة أفاضــل حقهــم فــي التكريــم‪ ..‬لهــذا اســتدرك‬
‫معتــذ ار حتــى ال أتيــح لهــم فرصــة إضاعــة الجهــد فــي العتــاب بــدال مــن التركيــز علــى‬
‫مناقشــة لــب الموضــوع‪.‬‬

‫إذن‪ ..‬فالحقيقــة التــي يدركهــا الجميــع – كمــا أحــب أن أعتقــد – هــي أن قضيــة‬
‫التعريــب نجتــاز مرحلــة صعبــة‪ ..‬ولســت أرى أصلــح مــن هــذا الوقــت للعمــل الــذي‬
‫تباركــه القمــة وتهفــو إليــه جمــوع الشــعب‪( ..‬شــعب القطــر الج ازئــري‪ ..‬ال شــعب‬
‫مدينــة معينــة)‪ ،‬وطريــق النجــاح الوحيــد هــو تجميــع القـوات المتناثـرة بشــكل يجعــل‬
‫منهــا فرقــا متكاملــة مــع بعضهــا مشــكلة جيشــا موحــد الهــدف متناســق التكتيــك تتجــه‬
‫فيــه فوهــات البنــادق إلــى الناحيــة المضــادة ال إلــى صــدور الرفقــاء‪ ..‬جيشــا يشــمل‬

‫‪52‬‬
‫األســاتذة الذيــن حملـوا شــعلة العروبــة فــي حلكــة الظــام وحافظـوا علــى ضوئهــا رغــم‬
‫العاصفــة واألمطــار وبجانبهــم – ودون أن يؤثــر هــذا علــى نفســيتهم وقيمتهــم –‬
‫تالمذتهــم الذيــن اســتكملوا الد ارســة العربيــة خــارج الج ازئــر أو داخلهــا فــي فت ـرة ذاق ـوا‬
‫خاللهــا قســوة الحيــاة‪ ،‬وكان شــظف العيــش قاســما مشــتركا بينهــم وبيــن أهليهــم فــي‬
‫الداخل‪ ،‬ولم يحجب ضباب الشانزليزيه عن أعينهم – باختيارهم أو رغما عنهم –‬
‫أهــداف شــعبهم‪ ..‬ومعهــم فــي المعركــة جنــود الحــرس الوطنــي والدفــاع المدنــي الذيــن‬
‫دخلـوا إلــى بــاب الــدورات التدريبيــة‪ ،‬كذلــك أســاتذة الديــن واألئمــة‪ ..‬سـواء منهــم الذيــن‬
‫ما ازل ـوا ينــادون بالتعريــب فــي المســاجد أو الذيــن تحول ـوا إلــى ســلك التعليــم المدنــي‪،‬‬
‫وقبــل هــذا كلــه‪ ..‬الذيــن تخلـوا عــن د ارســاتهم ليلتحقـوا بالجيــش الوطنــي‪.‬‬

‫واآلن‪ ..‬كيــف يمكــن أن يتحقــق االنســجام الروحــي والتجانــس الفكــري‪ ..‬وكيــف‬


‫يمكــن أن يقــوم جيــش التعريــب بــدوره‪.‬‬

‫هنــا‪ ..‬اســمح لنفســي بــأن أضــع نقطــا أفتــح بهــا بــاب مناقشــة ح ـرة‪ ..‬لعلهــا‬
‫تشــكل بدايــة انطالقــة‪.‬‬

‫أول األمــر‪ ..‬يجــب أن نفتــرض بأننــا ندافــع عــن قضيــة ال تؤمــن بهــا‬
‫الغالبيــة‪ ..‬مضللــة أو متعاميــة (أقــول‪ ..‬نفتــرض‪ )..‬معنــى هــذا‪ ..‬إنــه يجــب عــدم‬
‫افت ـراض وجــود التأييــد الكامــل مــن كل القطاعــات‪ ..‬وبكلمــة أوضــح‪ ..‬يجــب‬
‫الدعــوة لقضيــة التعريــب فــي كل األوســاط حتــى األوســاط التــي يفتــرض بأنهــا‬
‫تؤمــن بالتعريــب‪ ..‬الدعــوة المبنيــة علــى الحقائــق التاريخيــة واالحتياجــات العمليــة‪..‬‬
‫سياســية كانــت أم ثقافيــة – والوصــول إلــى مســتوى الدعــوة يفــرض المــرور بمرحلــة‬
‫التجانــس واالنســجام والتكامــل‪ ..‬وعليــه فــإن المثقفيــن بالعربيــة مطالبــون باالتصــال‬
‫بزمالئهــم‪ ..‬مهمــا كانــت االختالفــات فــي وجهــات النظــر‪ ..‬وأفضلهــم‪ ..‬هــو ذلــك‬
‫الــذي يســعى إلــى أخيــه متذك ـ ار قصــة تحكــى عــن أســد وثالثــة ثي ـران‪ ..‬ســاعيا‬
‫لكــي ال يأتــي يــوم يقــول فيــه « أكلــت يــوم أكل الثــور األبيــض »‪ ..‬إن لقــاء علــى‬
‫كــؤوس الشــاي وحديثــا عابـ ار ال تتخللــه أكثــر مــن عبــارات المجاملــة يمكــن أن يكــون‬
‫بدايــة‪ ..‬ويــزداد العــدد‪ ..‬ومــع اللقــاءات المتعــددة تتضــح عشـرات األفــكار والمشــاريع‬
‫وتتكامــل وجهــات النظــر – وقبــل كل هــذا – تتجــاذب القلــوب وتتعانــق األرواح‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫بجانــب هــذا كلــه‪ ..‬يجــب أن يكــون المثقــف العربــي فــي مســتوى األحــداث‪..‬‬
‫فلــو أردت أن أغيــر اتجــاه خــط الســير بالنســبة لســيارة فلــن أقــف فــي وجههــا – إال‬
‫إذا كنــت أزمــع النــزول ضيفــا علــى أحــد المستشــفيات – الطريقــة الوحيــدة هــي أن‬
‫أجــري معهــا‪ ..‬بنفــس ســرعتها وفــي نفــس اتجاههــا‪ ..‬ثــم أركبهــا وأمــارس عمليــة‬
‫تحويــل االتجــاه‪ ..‬ومعنــى هــذا كلــه‪ ..‬لســت أتوقــع نجاحــا لمثقــف عربــي يأمــل فــي‬
‫القيــام بــدور فعــال فــي معركــة التعريــب بــدون أن يكــون ملمــا باللغــة الفرنســية‪..‬‬
‫مطلعــا علــى كل األحــداث العالميــة والمحليــة‪ ..‬مــن حــرب الفيتنــام إلــى آخــر‬
‫الرقصــات الحديثــة (وأقســم أننــي جــاد فــي حديثــي‪ ..‬فالخطــر كل الخطــر يكمــن‬
‫فــي عزلــة المثقــف واتخــاذه وضــع النعامــة فــي عــدم رؤيــة الحقائــق)‪ ..‬هنــا يكفــل لــه‬
‫لقــاؤه بإخوانــه وزمالئــه ســعة اإلطــاع واســتكمال المعلومــات (مهمــا بــدت للنظ ـرة‬
‫الســطحية تفاهــة مضمونهــا)‪ ..‬يجــب أن يكــون قــدوة‪ ..‬فــي مالبســه‪ ..‬فــي حديثــه‪..‬‬
‫فــي ســعة أفقــه وتفكيـره‪ ..‬بــل يجــب أن يكــون معبــودا صغيـ ار لــدى طلبتــه وطالبتــه‬
‫وبصفــة عامــة‪ ..‬لــدى كل مــن يتصــل بهــم‪.‬‬

‫وبعــد‪ ..‬لعــل هــذه الســطور‪ ..‬وهــي مجــرد انطباعــات‪ ..‬بعيــدة كل البعــد عــن‬
‫إدعــاء التوجيــه واإلرشــاد‪ ..‬ووضــع الب ارمــج والخطــط‪ ..‬لعلهــا – بــكل اإلخــاص‬
‫الــذي تحملــه – تلقــى مــن رفقــاء الســاح ردود فعــل خالقــة‪ ..‬ولعــل ذلــك كلــه‪..‬‬
‫يكــون بدايــة‪ ..‬البدايــة‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫(((‬
‫لكي ال يتنفس بعضهم الصعداء‪! ‬‬

‫أكثــر مــن تســاؤل‪ ..‬وأكثــر مــن تخميــن‪ ..‬وأكثــر مــن اســتنتاج صاحــب اختفــاء‬
‫هــذا البــاب فــي الشــهور الماضيــة‪ ،‬لقــد كنــت بالنســبة للبعــض كالمغــص الكلــوي‪..‬‬
‫ولهــذا عللـوا االختفــاء بمــا يحبــون أن يكــون ســببا لــه‪ ..‬وكنــت أســمع هــذا وأضحــك‪..‬‬
‫فالســبب كان كامنــا فــي كلمــة واحــدة‪ ..‬الملــل‪ ..‬الملــل مــن كل شــئ‪ ..‬حتــى مــن‬
‫مجــرد الحديــث‪.‬‬

‫لقــد ظللــت أكثــر مــن عــام أصــرخ‪ ..‬وأضــع أصابعــي العش ـرة علــى مواطــن‬
‫الــداء‪ ،‬وأحــاول – فــي صخــور الريبــة والشــك والخــوف مــن المجهــول – حفــر طريــق‬
‫للنقــد‪ ..‬مجــرى صغيــر قــد يصبــح نه ـ ار متدفــق الحيويــة‪ ..‬واجتــاز هــذا المجــرى‬
‫منطقــة الصخــور‪ ..‬إلــى األرض التــي تســهل جريانــه‪ ..‬وال تعــوق مياهــه‪ ..‬وتفتحــت‬
‫آفــاق جديــدة‪ ،‬وأخــذت روافــد جديــدة تصــب فــي نهــر النقــد البنــاء‪ ،‬وظهــرت فــي‬
‫صحفنــا – علــى قلتهــا – محــاوالت ناجحــة‪ ..‬أضافــت إلــى الحركــة الفكريــة فــي‬
‫بالدنــا زادا كثيـرا‪ ،‬وازداد هــذا البــاب ضـراوة‪ ..‬واتســع مــدى أهدافــه‪ ..‬وهنــا كان بــدء‬
‫شــعوري بالملــل‪.‬‬

‫كنــت آمــل أن تكــون كل هــذه المحــاوالت وســيلة لخلــق روح جديــدة تجمــع‬
‫المثقفيــن بالعربيــة‪ ..‬وتؤكــد تفاعلهــم مــع المشــاكل الحيويــة لهــذا البلــد‪ ..‬بحيــث تكــون‬
‫روافــد النهــر العظيــم طــرق اتصــال روحــي بيــن الخاليــا البشـرية المتناثـرة عبــر آالف‬
‫الكيلــو متـرات مــن تـراب هــذا الوطــن‪.‬‬

‫الجيش – نوفمبر ‪.1966‬‬


‫‪55‬‬
‫وقلــت لألعمــى فــي وجهــه‪ ..‬أنــت أعمــى‪ ..‬وهــززت بــكل قوتــي أسـرة النيــام‪..‬‬
‫وصببــت المــاء المثلــج علــى رؤوس الذيــن تبلــدت أحساســاتهم‪ ،‬وشاكســت – فــي‬
‫عنفوان قوتهم – الذين ولوا األدبار ؟‪ ! ‬وحرقت أعصابي ليالي طويلة‪ ..‬وتحدثت‬
‫حتــى جــف لعابــي أو كاد‪.‬‬

‫ثــم مللــت فاألصــداء الخافتــة التــي تــرددت لــم تحقــق أملــي‪ ..‬وتوقفــت‪ ..‬أعطيــت‬
‫لنفســي إجــازة طويلــة‪ ..‬وهــدأت تليفونــات االحتجــاج‪ ..‬واســتراح البعــض مــن طــول‬
‫لســاني‪ ..‬واســتراح آخــرون مــن كلمــات العتــاب‪.‬‬

‫ولكــن الذيــن ألف ـوا جــو المعــارك يفقــدون الهــدوء الداخلــي إذا غاب ـوا عــن‬
‫المعركة‪ ..‬وكلمة الحق جمرة تحرق من يحتفظ بها فوق لسانه‪ ،‬وهكذا‪ ..‬وحتى ال‬
‫يتنفــس بعضهــم الصعــداء‪ ..‬أعــود رافعــا ســاحي‪ ..‬قلمــي‪ ..‬مناديــا رفقــاء الســاح‪..‬‬
‫أصدقــاء الكلمــة‪ ..‬والصــوت الحقيقــي الــذي يعبــر عــن أصالــة هــذا الشــعب‪ ..‬صــوت‬
‫الثقافــة العربيــة‪ ..‬فهــل مــن مجيــب ؟‬

‫‪56‬‬
‫(((‬
‫البواسري‬

‫مــرض مزعــج‪ ..‬للمريــض والطبيــب معــا‪ ..‬ويــزداد اإلزعــاج إذا كان المريــض‬
‫قريبــا‪ ،‬هنــاك اإلحـراج‪ ..‬واللف والدوران‪..‬‬
‫صديقــا عزيـزا‪ ..‬أو أســتاذا فاضــا‪ ..‬أو ً‬
‫والتلميــح بالمــرض دون التصريــح به‪.‬‬

‫فحــص المــكان الحســاس – مشــكلة المشــاكل‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ثــم يكــون الفحــص –‬


‫والمريــض ُمحـ َـرج‪ ..‬والطبيــب ُمحـ َـرج‪ ..‬وينتهــي األمــر كثيـ ار بــأن يكتفــي الطبيــب‬
‫بســماع األعــراض وافتــراض التشــخيص دون الفحــص الشــرجي الكامــل‪..‬‬
‫باألصبــع والركتوســكوب‪ ..‬وبمــا أن المــرض مــن عنــد اهلل‪ ..‬فالشــفاء بيــد اهلل‪.‬‬

‫هكــذا كان حالنــا جميعــا ونحــن نحــاول عــاج قضيــة التعريــب‪ ،‬ويتمــزق الكاتــب‬
‫داخليــا عندمــا يحــس أن عليــه م ارعــاة عــدم إغضــاب فــان‪ ،‬وعــدم إثــارة عــان‪ ،‬وعــدم‬
‫إح ـراج الجهــة الفالنيــة أو المجموعــة الفالنيــة‪ ..‬وتكــون نتيجــة هــذا كلــه‪ ..‬د ارســات‬
‫غير مكتملة العناصر‪ ..‬ومن هنا جاءت الصورة التي ارتسمت في أذهان الكثيرين‬
‫ووصمــت مــا نشــر عــن التعريــب – وكثيــر منــه‪ ..‬جهــد صــادق أميــن – بالســطحية‪.‬‬

‫هــذه الم ـرة‪ ..‬ســأرتدي القفــاز الج ارحــي‪ ..‬ولــن أتحــرج مــن س ـؤال أو أتعفــف عــن‬
‫فحــص‪ ..‬لــن أتــردد‪ ..‬ســاحي‪ ..‬إيمــان قاطــع بــأن الوقــت قــد حــان لفحــص البواســير‬
‫المزمنــة بــكل مــا يتطلبــه الضميــر المهنــي مــن تدقيــق‪ ..‬وبــكل مــا تفرضــه المهنــة مــن‬
‫قبــول احتمــاالت التلــوث واإلحـراج‪ ،‬درعــي الــذي احتمــى بــه – إذا مــا زل القلــم أو تعثــر‬
‫– أننــي أحــاول مخلصــا إيجــاد تشــخيص دقيــق لمــرض مزمــن بإمكانيــات محــدودة‪.‬‬
‫الجيش – ديسمبر ‪.1966‬‬
‫‪57‬‬
‫الس ـؤال الــذي يفــرض نفســه كبدايــة للحديــث‪ ..‬إلــى أي مــدى تؤمــن جماهيــر‬
‫شــعبنا بالتعريــب ؟‪ ..‬وهــذا فــي حــد ذاتــه يقودنــا إلــى س ـؤال أكثــر دقــة‪ ..‬وأكثــر‬
‫إح ارجــا وأبعــد مــا يكــون عــن التوقــع‪...‬‬

‫هل يؤمن شعبنا بضرورة التعريب ؟‬

‫فكروا قليال معي‪ ..‬ولنكن صادقين مع أنفسنا‪.‬‬

‫اإلجابة المؤلمة‪ ..‬إن شعبنا‪ ...‬شعبنا‪ ،‬كله ال يؤمن بجدوى التعريب‪.‬‬

‫حقيقة‪ ..‬مرة مؤلمة‪ ..‬ولكنها واقع حي‪! ‬‬

‫عــودة بالذاك ـرة إلــى عهــد مضــى‪ ...‬عهــد غســلته أمطــار نوفمبــر‪ ...‬عــودة‬
‫مقرونــة بالتفكيــر المحايــد‪ ...‬بــدون خطابــة‪ ...‬بــدون تحيــز‪.‬‬

‫كانــت الصــورة التــي تمثلهــا العروبــة فــي ليــل االســتعمار‪ ...‬هــي صــورة‬
‫القدســية واالستشــهاد‪ ...‬العربيــة هــي لغــة الق ـرآن‪ ...‬لغــة أهــل الجنــة‪ ...‬ضــوء‬
‫روحانــي ينيــر القلــوب‪ ...‬تتعطــش إليــه أفئــدة المؤمنيــن‪ ...‬مارس ـوا أم لــم يمارس ـوا‬
‫شــعائر الديــن‪ ،‬اقترنــت بالكفــاح المســلح كمــا اقتــرن بــه هتــاف‪ ...‬اهلل أكبــر‪.‬‬

‫مقابــل هــذا كلــه‪ ..‬كانــت الفرنســية تمثــل العلــم والحضــارة والتقــدم‪ ،‬إو�ذا كانــت‬
‫العربيــة تعتمــد – هكــذا أريــد لهــا مفهومــا – علــى المالئكــة كقــوة ضاربــة‪ ،‬وعلــى‬
‫شــيكات فــي بنــك الجنــة‪ ،‬فالفرنســية هــي قــوة ذاتيــة ألنهــا – هكــذا أريــد لهــا أن‬
‫تفهــم – لغــة البــارود‪ ..‬لغــة الصــاروخ‪ ..‬لغــة البينيســيلين والبــي دوز‪ ..‬هــي لغــة‬
‫اإلدارة ولغــة التعامــل‪ ..‬باختصــار‪ ..‬هــي لغــة العصــر‪.‬‬

‫هكذا – رغم كره االستعمار – كانت الفرنسية‪.‬‬

‫وهكذا ظل مفهوم العربية عند الجماهير‪.‬‬

‫وابن الصحراء يحب جمله‪ ..‬ولكنه ينحني احتراما أمام النفاثة‪.‬‬

‫أمام القوى التي ال يفهمها‪ ..‬والتي ال يستطيع امتالكها‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫وهطلــت أمطــار نوفمبــر فغســلت عــن وجــه الجزائــر أدخنــة قــرن وربــع‪..‬‬
‫وجــاء ربيــع مــارس‪ ..‬ثــم ســطعت شــمس يوليــو‪.‬‬

‫فهــل جفــت األوحــال ؟ هــل عــاد للج ازئــر وجههــا الحقيقــي بعــد االســتقالل ؟‬
‫هــل تغيــرت النظـرة ؟ تصفعنــا اإلجابــة‪ ..‬ذلــك أن ثــاث ســنوات كانــت أقســى علــى‬
‫التعريــب مــن قــرن وربــع‪.‬‬

‫هنــا كان العــدو بيــن الصفــوف‪ ..‬لعلــه كان يتقــدم بعــض الصفــوف‪ ..‬ارتــدى‬
‫ثــوب الصديــق‪ ..‬ثــوب األخ‪ ..‬ثــوب الشــقيق‪.‬‬

‫واألصدقــاء‪ ..‬كانـوا أقســى علينــا منــه‪ ..‬عبثـوا بجراحنــا‪ ..‬ســكبوا عليهــا الميــاه‬
‫دون حــرص‪ ..‬فتقيحــت وتحــول الــدم فيهــا إلــى صديــد‪.‬‬

‫كيف كان الموقف غداة االستقالل ؟‬

‫مزيــج مــن الفرحــة الطاغيــة والدهشــة‪ ..‬ضحــكات علــى الفــم ونظ ـرة إلــى‬
‫المجهــول‪ ..‬وسـريعا أمــر عبــر هــذه الفتـرة التــي ما ازلــت ذك ارهــا حيــة فــي النفــوس‪..‬‬
‫أمــر‪ ..‬ثــم أقــف‪ ..‬ومــن بعيــد‪ ..‬التفــت خلفــي ألحــاول رســم المالمــح العامــة كمــا‬
‫أ ارهــا مــن هنــا‪ ..‬مــن ربــوة مطلــة علــى وادي الذكريــات‪.‬‬

‫وعلــى البعــد وفــي الجماهيــر المتطلعــة إلــى مســتقبل أســعد‪ ..‬الجماهيــر التــي‬
‫كان االســتقالل بالنســبة لهــا نهايــة المطــاف‪ ..‬لحظــة اإلفطــار بعــد يــوم قائــظ الحــر‬
‫مــن أيــام رمضــان‪ ..‬علــى البعــد تبــدو كتــل أميبيــة‪ ..‬متناثـرة حائـرة‪ ..‬قلقــة‪ ..‬تتجمــع‬
‫وتتســلل بهــدوء وبــدون لفــت لالنظــار‪.‬‬

‫ورددت الجبــال صــوت التاريــخ‪ ..‬عــادت الجزائــر إلــى حظيرتهــا األصليــة إو�لــى‬
‫مجالهــا الحيــوي‪ ،‬إو�لــى مكانهــا الطبيعــي بيــن شــعوب األمــة العربيــة‪ ..‬والجماهيــر‬
‫تزغــرد‪ ..‬فرحــة االبــن المغتــرب عنــد أمــل لقــاء األهــل واألحبــاب‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ودق ناقــوس الخطــر‪ ..‬ينبــه الذيــن كان االســتقالل بالنســبة لهــم نقطــة وثــوب‬
‫إلــى آفــاق جديــدة‪ ..‬النفــوس التــي تغلــى بالتطلعــات الطبقيــة الطامحــة إلــى مــلء‬
‫الف ـراغ القيــادي واإلداري الناشــئ عــن زوال القــوة االســتعمارية‪.‬‬

‫هــم الصغــار الذيــن عاش ـوا علــى هامــش اإلدارة الحكوميــة قبــل االســتقالل‪..‬‬
‫حملة ملفات أو فيران مكاتب‪ ..‬ثقافتهم محدودة إو�دراكهم الوطني‪ ..‬محدود‪ ..‬ولكن‬
‫الوطــن األم‪ !! ‬منحهــم فرصــة االحتــكاك بالجهــاز اإلداري‪ ،‬فكانــت لهــم بذلــك بعــض‬
‫خبــرة‪ ..‬وهــم بذلــك يؤمنــون بصاحــب الفضــل‪ ..‬فلـواله لظلـوا أصفــارا‪ ..‬كانـوا كخادمــة‬
‫ريفيــة عاشــت عنــد أسـرة أوروبيــة‪ ..‬تعــود إلــى أهلهــا فــي الــدوار لكــي « تفــوخ « عليهــم‬
‫بكلمــة أجنبيــة تلوكهــا‪ ..‬بتصفيفــة للشــعر‪ ..‬بثــوب كان لســيدتها‪ ..‬وباحتقــار لــكل مــا‬
‫يمثلونــه‪ ،‬فــي محاولــة ال شــعورية لتعويــض النقــص الــذي أحســت بــه أمــام ســادتها‪.‬‬

‫وكان هنــاك الذيــن وضع ـوا لبــن الوطــن األم‪ !! ‬ولــم يفطم ـوا بعــد‪ ..‬منحتهــم‬
‫فرنســا الفرصــة – لســبب أو آلخــر – لكــي يعيش ـوا حضارتهــا ويتســلقوا ثقافتهــا‪..‬‬
‫هــؤالء تقطعــت أنفاســهم فلــم يجــرؤوا علــى الصعــود أكثــر‪ ..‬علــى اكتشــاف‬
‫أنفســهم‪ ..‬علــى اســتغالل مــا تعلمــوه للبحــث عمــا يجــب أن يتعلمــوه‪ ..‬منهــم‬
‫الذيــن كان ـوا علــى شــئ مــن شــفافية النفــس وعمــق البصي ـرة‪ ..‬فانصاع ـوا ألوامــر‬
‫التاريــخ وحتميتــه‪ ،‬ومنهــم مــن تملكــه الخــوف فانضــم روحيــا إلــى مــن تربطــه بهــم‬
‫أوامــر اللســان‪.‬‬

‫وفــي الفوضــى التــي أحدثهــا الف ـراغ اإلداري بعــد رحيــل األوروبييــن أمســكت‬
‫هــذه المجموعــات بأجهــزة الدولــة‪ ..‬الجهــاز الــذي يربــط القاعــدة بالقيــادة‪..‬‬

‫وجــد المســود نفســه فجــأة فــي مقعــد الســيد متمتعــا بجــل امتيا ازتــه‪ ..‬وأصبحــت‬
‫مجــرد فكـرة مغــادره لــه – حتــى لتنــاول الغــداء – مصــدر رعــب‪ ..‬وســيطرت علــى‬
‫الدولــة عقليــة «البيــان فــاكان»(((‪.‬‬

‫ه ـؤالء كلهــم كانــت مصلحتهــم الشــخصية تتعــارض مــع رجــوع الج ازئــر إلــى‬
‫الحظي ـرة العربيــة بصــورة عمليــة‪ ..‬لــم يكــن يرهبهــم موقــف سياســي متجــاوب مــع‬
‫‪ .1‬األمالك الشاغرة‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫اآلمــال الكبــار لألمــة بقــدر مــا يقــض مضجعهــم‪ ..‬أن تصبــح اللغــة العربيــة‪ ..‬اســما‬
‫ومدل ـوال‪ ..‬اللغــة الرســمية فــي الدولــة‪ ..‬وبقــدر مــا كان ـوا مــن أســبق النــاس لحمــل‬
‫شــعارات التعريــب بقــدر مــا كان ـوا معــاول لتحطيــم مضمونــه‪.‬‬

‫معنــى هــذا إذن أن أمامنــا اآلن قاعــدة شــعبية‪ ..‬ما ازلــت العربيــة بالنســبة لهــا‬
‫تحمــل معانــي الســمو الروحــي‪ ..‬ومجموعــات انتهازيــة ترســم إســتراتيجية واســعة‬
‫المــدى لكــي يلــوث اســم العربيــة‪ ..‬ولكــي تظهــر‪ ..‬لغــة عجــز وتأخــر‪ ..‬ولكــي يظهــر‬
‫دعــاة العربيــة‪ ..‬كصــوت مــن العصــر الحجــري‪ ..‬يثيــر الرثــاء‪.‬‬

‫ •التساؤل الذي يفرض نفسه‪..‬‬

‫ •أيــن دعــاة العربيــة‪ ..‬وكيــف كان دورهــم وقبــل كل هــذا‪ ..‬مــن هــم رجــال الصــف‬
‫العربي؟‬

‫جــل المثقفيــن بالعربيــة‪ ..‬إن لــم يكــن‪ ..‬كلهــم‪ ..‬مــن أســر بســيطة متواضعــة‪..‬‬
‫هــم بحــق الوجــه الحقيقــي للطبقــات الكادحــة‪.‬‬

‫ابــن «البــاش آغــا» وابــن «القائــد» وابــن « ســي فــان»‪ ..‬هـؤالء كانـوا يتبعــون‬
‫«الميديرســا» ‪ ..‬ويتدرجــون إلــى « الليســيه « ثــم الجامعــة‪( ..‬ولــن أتحــدث هنــا‬
‫عــن الثمــن الــذي دفعــه أهلوهــم مــن أجــل ذلــك‪ )!! ‬ومعنــى هــذا أن د ارســة المثقــف‬
‫بالعربيــة لهــذه اللغــة كانــت تعبيـ ار عــن الضيــق المــادي فــي أغلــب األحيــان و‪ ..‬رأس‬
‫الفرطــاس قريــب لربــى‪ ..‬ومعنــى هــذا أيضــا أن األب لــو ُخّيــر لمــا اختــار الد ارســة‬
‫العربيــة‪ ،‬ولنفــس الســبب البســيط‪ ..‬مــن أن األب يرجــو الخيــر البنــه‪ ..‬والمســتقبل –‬
‫هكــذا كان يـراه – مكفــول بد ارســة الفرنســية‪.‬‬

‫ويقــول معتــرض لقــد كان الدافــع الدينــي هــو األســاس‪ ..‬لكنــي أقــول‪ ..‬هــذه‬
‫اســتثناءات‪ ..‬والنــادر يحفــظ وال يقــاس عليــه‪.‬‬

‫وأنتــج الفقــر والعــوز‪ ..‬األزهــار التــي تفتحــت مــن بــذور جمعيــة العلمــاء‪..‬‬
‫والثمــار التــي أنتجتهــا هــذه األزهــار ونضجــت فــي معاهــد الشــرق العربــي‪ ..‬وكان‬
‫هــذا هــو الجيــش الــذي وضعــت األقــدار علــى كاهلــه عــبء إعطــاء التعريــب‬
‫مفهومــه المتكامــل‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫ولقــد كان عمــل المثقــف العربــي قبــل االســتقالل واحتكاكــه بــاإلدارة محــدودا‪..‬‬
‫ممــا أفقــده كثيـ ار مــن لزوميــات الخبـرة اإلداريــة علــى مســتوى الدولــة‪ ..‬وهكــذا وبرغــم‬
‫الرصيــد الــذي أضيــف إلــى الصــف العربــي مــن خريجــي المعاهــد العربيــة العليــا‬
‫بعــد اإلســتقالل‪ ..‬فإنــه ظــل مــن الناحيــة النوعيــة عديــم األهميــة كعنصــر موجــه‪،‬‬
‫وكأداة فعالــة لتحقيــق التعريــب‪ ،‬ذلــك ألنــه – وفقــا لإلســتراتيجية الموضوعــة – دفــع‬
‫دفعــا إلــى اإلشــتراك فــي معــارك جانبيــة إلثبــات الوجــود الفــردي‪ ..‬امتصاصــا لجهــده‬
‫وفعاليتــه‪ ..‬ومنعــا لــه مــن التحــرك كمجمــوع متناســق‪.‬‬

‫اإلســتراتيجية كانــت تقتضــي أن يشــل المثقفــون بالعربيــة‪ ..‬كمجمــوع‪ ،‬وأن يبــدو‬


‫كأف ـراد عاجزيــن عــن العمــل‪ ،‬بينمــا يبــدو الناطقــون بالغــو»(((‪ !! ‬بمظهــر العــارف‬
‫الفاهــم المــدرك‪ ..‬رجــال المواقــف والشــدائد‪.‬‬

‫وكانت تقتضي بأن تظهر الفرنسية كأنها قدر البد منه‪ ،‬بينما تدمغ العربية بكل‬
‫نقيصة ممكنة‪ ..‬من التأخر والتخلف إلى‪ ..‬االستعمار‪ ..‬أي واهلل‪ ..‬االستعمار‪!! ‬‬

‫هنــا‪ ..‬والت ازمــا أمــام الضميــر‪ ..‬أقــف ألقــرر حقيقــة بســيطة‪ ..‬كانــت أساســا‬
‫للكثيــر‪ ..‬يقولــون هنــا – تبريــ ار – هــي الســبب‪ ،‬ويقولــون هنــاك – تحذيــ ار – لقــد‬
‫ضخمــت وبولــغ فــي تقديــر أثرهــا‪ ..‬ولكــن هــذا ال يمنــع مــن االعت ـراف بهــا كواقــع‬
‫حــي عشــناه‪.‬‬

‫الحقيقــة‪ ..‬هــي أن واردات الشــرق العربــي – وهــو رمــز العروبــة فــي بلدنــا –‬
‫لــم تكــن كلهــا فــوق مســتوى الشــبهات‪ ..‬كانــت هنــاك األخطــاء علــى المســتوى‬
‫السياســي والفــردي‪ ..‬وكانــت الحماقــات والهنــات والتفاهــات‪ ..‬حقائــق ال تنكــر‪..‬‬
‫الخــاف الوحيــد هــو علــى الكــم‪ ..‬ال علــى النــوع‪ ..‬ولكــن‪..‬‬

‫ •كان هناك من ينفخ على النار ليزيدها اشتعاال‪.‬‬


‫ •وكان هناك من حاول إطفاءها‪ ..‬بالبترول‪.‬‬
‫ •وكان هناك من يملك الماء ويعجز عن استعماله‪ ،‬أو يقدر وال يريد‪.‬‬
‫ •وكان هناك الذي ينتظر نتيجة المعركة‪.‬‬
‫‪ .1‬في اللهجة الباريسية تنطق الراء غينا‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫صــدم شــعبنا بمــا رأى‪ ..‬بمــا عــرض عليــه تحــت العدســات المكبـرة‪ ..‬وكانــت‬
‫ردود الفعــل كارثــة علــى اإليمــان بالتعريــب‪.‬‬

‫وهكــذا أصبــح عندنــا ضيــق األفــق الــذي لــم يحــاول البحــث عــن جوانــب الخيــر‪،‬‬
‫والــذي كان مــن كســل الضميــر بحيــث لــم يكلــف نفســه عنــاء التفكيــر‪ ..‬كالقــروي‬
‫الســاذج‪ ..‬يصــدق فعــا أن الســاحر يخــرج األ ارنــب والطيــور مــن قبعتــه‪ ..‬وانضــم‬
‫إليــه صديقنــا القديــم الــذي يؤمــن دائمــا بــأن العربيــة لغــة الجنــة‪ ..‬فقــط‪ ،‬ومعهــا‬
‫الشــاب العصــري‪ ..‬صديــق الخنافــس ومريــد بريجيــت (ولــم يظهــر فــي األمــة العربيــة‬
‫مــن يمكنــه مــلء فـراغ الخنافــس وبريجيــت)‪ ،‬هــذا بــدون أن ننســى فتاتنــا المتقدمــة‪..‬‬
‫ولهــا العــذر‪ ..‬فكريســتيان ديــور ليــس عربيــا‪ ..‬وهــي ال تســتغنى عــن كريســتيان‬
‫ديــور‪ ،‬وازداد رصيــد القــوة المضــادة للتعريــب‪ ..‬فــي بلــد مــازال تليفزيونــه تابعــا‬
‫لفرنســا(((‪ ،‬فــي بلــد تنهــال عليــه مئــات األطنــان مــن الصحــف والمجــات والكتــب‬
‫الفرنســية وفــي بلــد تبلــغ نســبة األفــام الناطقــة بالفرنســية فيــه حتــى (األمريكيــة منهــا‬
‫واإلنجليزيــة) أكثــر مــن تســعين فــي المائــة‪ ،‬وفــي بلــد يضيــع فيــه الخطــاب المعنــون‬
‫بالعربيــة وتهمــل الشــكوى أو الطلــب المكتــوب بغيــر الفرنســية(((‪ ،‬فــي بلــد تنظــم فيــه‬
‫حمــات محــو األميــة للفالحيــن والعمــال‪ ..‬بالفرنســية (وافهــم يــا لفاهــم)‪ ..‬وفــي بلــد‬
‫كهــذا‪ ..‬يصبــح الحديــث عــن التعريــب – بعــد ثــاث ســنوات مــن االســتقالل – وعبــر‬
‫بحــر مــن الدمــاء واآلالم‪ ..‬يصبــح الحديــث أضحوكــة باكيــة‪ ..‬وســخرية مـرة‪.‬‬

‫السؤال يعود ملحا‪ ..‬كألم األضراس‪..‬‬

‫ •المثقفــون بالعربيــة‪ ..‬حمــاة هــذه اللغــة ودعاتهــا ودعائهمــا‪ ..‬أيــن كان ـوا ؟ كيــف‬
‫عجــزوا عــن صــد هــذا التيــارات ؟ ولمــاذا – وهــم الصــورة الحقيقيــة للشــعب المناضــل‬
‫الصامــد – لــم يســتطيعوا فتــح أعيــن شــعبهم‪ ..‬علــى الخدعــة التــي جــازت عليــه‪..‬‬
‫قرنــا وربــع‪ ..‬وســبع ســنوات‪..‬‬

‫لقد كانوا هناك‪ ..‬ولكن‪..‬‬

‫‪ .1‬تغير هذا الوضع فيما بعد‪.‬‬


‫‪ .2‬صدر قرار رئاسي فيما بعد يمنع رفض أي طلب مكتوب بالعربية‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫‪ ..‬عمي مليح‪ ..‬وزادو الهوا والريح‪!! ‬‬

‫وقصة الثيران الثالثة وأسد الغابة تكررت‪ ..‬أكاد أقول‪ ..‬بكل تفاصيلها‪.‬‬

‫بقــدرة قــادر‪ ..‬خلقــت هــوة ســحيقة بيــن األســاتذة الذيــن حملـوا مشــعل العروبــة‬
‫فــي ليــل الطغيــان الحالــك وبيــن أبنائهــم الذيــن أتمـوا د ارســاتهم فــي جامعــات العالــم‬
‫العربــي‪ ..‬وفــات أولئــك أن نجــاح االبــن عن ـوان لقــوة أبيــه‪ ..‬كمــا فــات ه ـؤالء أن‬
‫الغصــن جــزء مــن الشــجرة‪.‬‬

‫إو�ذا كان الذين استكملوا دراساتهم تبعا للنظام العلمي المنهجي في الجامعات‬
‫والمعاهــد العليــا أقــدر النــاس علــى رســم الب ارمــج الدقيقــة للتعريــب – مثلهــم فــي ذلــك‬
‫مثل الجندي الذي تشــرب التاكتيك العســكري بالصورة األكاديمية المنهجية – فإن‬
‫هــذه المقــدرة كان يجــب أن تلتقــي مــع خب ـرة آبائهــم الروحييــن التــي اســتمدت مــن‬
‫واقــع التجــارب اليوميــة عبــر العش ـرات مــن الســنين‪ ..‬كان ـوا فيهــا مكافحــي الجبــال‬
‫الصامدين‪.‬‬

‫ولكــن الجهــود شــتتت‪ ..‬ونظــر المكافــح القديــم إلــى ابنــه بشــك‪ ..‬وتوجــس‪..‬‬
‫بــل وســاهم – مــدركا‪ ..‬أم متجاهــا‪ – ..‬فــي محاولــة تحطيمــه‪ ..‬ونظــر االبــن إلــى‬
‫أبيــه فــي ألــم‪ ..‬ثــم فــي ك ـره‪ ..‬وأنقســم الصــف العربــي‪ ..‬وتــرك األبنــاء وحدهــم فــي‬
‫الميــدان‪.‬‬

‫والباقــي‪ ..‬كلــه معــروف‪ ..‬فعــدم االعتــراف بشــهاداتهم العلميــة الجامعيــة‬


‫وعزلهــم فــي ســاقية التعليــم‪ ..‬معصوبــي العينيــن بثقــل العمــل اليومــي وضغــط‬
‫المطالــب العائليــة والعاهــات الناتجــة عــن الســير الطويــل فــي الطريــق الشــائك‬
‫المظلــم‪ ..‬حولــت حزمــة العصــى الصلبــة إلــى عصــى متناث ـرة يســهل كســرها‬
‫وتحطيمهــا‪.‬‬

‫وتنفيــذا لسياســة العــزل دمــغ الشــباب الواعــي باالنحــراف المذهبــي بعــد‬


‫د ارســتهم فــي الشــرق العربــي (فــي بلــدان مــا ازلــت الخطــوط الرئيســية إليديولوجيتهــا‬
‫فــي طــور اإلعــداد لالســتهالك الداخلــي!‪ ..)! ‬وفــات الجميــع أن تهمــة كهــذه – إن‬

‫‪64‬‬
‫صــح توجيههــا لمواطــن – يجــب أن توجــه إلــى الذيــن درسـوا حيــث تكــون المذاهــب‬
‫السياســية جــزءا رئيســيا مــن الد ارســة والعمــل اليومــي (واألمثلــة معروفــة)‪.‬‬

‫ •المؤلم هنا أن اآلباء ساهموا في محاولة العزل‪.‬‬

‫ •والمثيــر هنــا أن المثقــف العربــي – بمــا هــو عليــه مــن ضعــف ناتــج عــن الفرديــة‬
‫– أصبــح يتحــرج مــن الدفــاع عــن وجهــة نظـره حتــى ال يتهــم بالتبعيــة ويحــارب فــي‬
‫رزقــه‪ ..‬فــي أمنــه وســامته‪.‬‬

‫وهكــذا قــذف المثقــف العربــي بعيــدا عــن أب ـراج المراقبــة والتوجيــه‪ ..‬والقــط‬
‫مســجون‪ ..‬والفئ ـران تعبــث كمــا تريــد‪.‬‬

‫ومــع كل هــذا وقــف المثقــف العربــي صامــدا‪ ..‬وأدى واجبــه – كفــرد – علــى‬
‫أكمــل وجــه‪ ..‬رغــم كل شــئ‪ ..‬رغــم الــداء واألعــداء والحصــار النفســي واإلداري‪..‬‬
‫وطعنــات األصدقــاء قبــل األعــداء‪.‬‬

‫ •وليتني كنت أستطيع اإلشارة إلى األسماء‪.‬‬


‫ •ليتني كنت أستطيع أن أضع نقطا على الحروف‪.‬‬
‫ •خفت أن أتهم بالتحيز‪.‬‬
‫ •فضلت أن أتهم بالتعقيد‪.‬‬

‫لقــد ســكبت مــدادي طويــا أهاجــم تقاعــس الصــف العربــي‪ ..‬ولكننــي هنــا‬
‫أنحنــي احترامــا للذيــن أثبت ـوا جدارتهــم فيمــا أســند إليهــم مــن أعمــال حتــى ولــو‬
‫كان غيرهــم هــو الــذي حصــل علــى شــرف انجازهــا‪.‬‬

‫فــي الوظائــف اإلداريــة المتواضعــة‪ ..‬فــي اإلذاعــة‪ ..‬فــي الصحافــة الوطنيــة‬


‫فــي مجــال التوجيــه الدينــي بــدون «انديــس» مناســب أو تقديــر‪ ..‬أســماء ما ازلــت‬
‫مجهولــة‪ ..‬تعمــل فــي صمــت الشــهيد‪ ..‬رغــم كل شــئ‪ ..‬رغــم كل شــئ‪..‬‬

‫الهــث وراء القلــم‪ ..‬وراء مئــات اآلالف مــن الصــور‪ ..‬حاولــت كبــح جمــاح‬
‫قلمــي داخــل ســور «االنطباعــات»‪ ..‬وهــو فــي رعونتــه ينطلــق بــي بعيــدا‪ ..‬بعيــدا‪..‬‬

‫‪65‬‬
‫إلــى آفــاق البحــث المتكامــل‪ ..‬إلــى غابــات ُيخيفنــي ظالمهــا وال آمــن علــى نفســي‬
‫فيهــا‪ ..‬عثراتهــا أدمــت مــن ســقطوا ومتاهاتهــا أعجــزت مــن حاول ـوا الخــروج‪.‬‬

‫‪ ..‬وعمـ ًـدا ومــع ســبق اإلص ـرار أبتــر هــذا الحديــث‪ ..‬ألدع لرفقــاء الســاح‬
‫الفرصــة‪ ..‬وبــكل اإلرهــاق الــذي نتــج عــن محاولــة البحــث عــن التشــخيص الدقيــق‬
‫للمريــض الزمــن‪ ..‬وتحليــل المظاهــر المرضيــة وأســابها الباثولوجيــة‪ ..‬أتوقــف‪..‬‬

‫وأظل دائما في االنتظار‪ ..‬انتظار اآلراء‪ ..‬التحليالت‪..‬‬

‫آمــا فــي صحــوة أخــرى للمثقــف العربــي‪ ..‬قبــل أن يفــوت الوقــت ويقضــي‬
‫النزيــف علــى المريــض‪.‬‬

‫*‬
‫*‬ ‫*‬

‫‪66‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫انطباعات عا ِبرة‬

‫ •كــم أتطلــع إلــى اليــوم الــذي يكــون فيــه‪ ..‬فــي كل مدينــة وقريــة‪ ..‬نــاد للفكــر‬
‫العربــي‪ ..‬يكفــل مجــرد اللقــاء‪ ..‬لقــاء الزمــاء واألصدقــاء ويكــرس كل منــا‪ ..‬مهمــا‬
‫كان عملــه‪ ..‬ســاعات فــي األســبوع‪ ..‬أمســية أو اثنيــن‪ ..‬يقضيهــا فــي محاولــة‬
‫البحــث عــن نفســه‪ ..‬عــن أخيــه‪ ..‬عــن مســتقبلنا معــا‪ ..‬وحتــى يأتــي ذلــك اليــوم‪..‬‬
‫لعــل نــادي الفكــر فــي العاصمــة يكــون النـواة الصالحــة‪ ..‬ولعــل األضـواء تعــود إلــى‬
‫الشــقة المظلمــة فــي ميــدان بورســعيد‪.‬‬

‫ •منشــورات باســم صــوت النبــوة‪ ..‬مليئــة باآليــات المحرفــة‪ ..‬تــوزع باللغتيــن العربيــة‬
‫والفرنســية‪ ..‬لعــل الســلطات المعنيــة تتحــرى عــن مصدرهــا وهويــة الذيــن يقومــون‬
‫بتوزيعهــا‪..‬‬

‫ •دون دعايــة‪ ..‬وبــدون تســليط لألض ـواء تقــوم الغرفــة التجاريــة بــأروع األدوار‬
‫لتحقيــق التعريــب اإلداري‪ ،‬إنهــا تخصــص ســاعة كل يــوم يتلقــى فيهــا الموظفــون‬
‫دروســا باللغــة العربيــة‪ ..‬ولقــد نجحــت هــذه الفك ـرة ألن القائميــن علــى الغرفــة‬
‫التجاريــة يؤمنــون بأنفســهم وبدورهــم فــي بنــاء الج ازئــر العربيــة‪ ،‬وليــت عمــل الخيــر‬
‫يكــون مرضــا معديــا‪.‬‬

‫ •اإلدارة الثقافيــة لجامعــة الــدول العربيــة‪ ..‬وهــي تعلــم جيــدا الصعوبــات التــي‬
‫نواجههــا لتحقيــق التعريــب‪ ..‬مــاذا فعلــت لمعاونتنــا ؟‪ ..‬كيــف لــم تفكــر فــي فتــح‬
‫معهــد للثقافــة العربيــة يوضــع فــي خدمــة الموظفيــن الجزائرييــن ويشــرف عليــه أســاتذة‬
‫جامعيــون‪ ..‬مؤهلــون للتعامــل مــع الطالــب ذي المركــز الســامي‪..‬‬

‫‪67‬‬
‫إن هــذا فــي حــد ذاتــه أســبق فــي األهميــة وأبعــد فــي األثــر مــن كثيــر مــن أوجــه‬
‫النشــاط الــذي تقــوم بــه‪.‬‬

‫ومعذرة يا سادة‪ ..‬ولكن الغريق يبحث عن القش‪.‬‬

‫ •كبــار موظفينــا‪ ..‬حتــى رجــال التربيــة والتعليــم‪ ..‬يرســلون أبناءهــم إلــى المــدارس‬
‫األجنبيــة ومــدارس الراهبــات‪ ..‬هــل هــذا يحتــاج إلــى تعليــق‪ ..‬؟‬

‫ •مقاالت األخ «مســعود الجياللي» عن التعريب من أقيم الد ارســات التي نشــرت‬
‫ولكــن إخـراج الصفحــة حولهــا إلــى كتلــة مــن الســطور الصمــاء‪ ..‬كمــا أن وجودهــا‬
‫فــي صحيفــة يوميــة جعلهــا تضيــع بانتهــاء اليــوم‪.‬‬

‫والغريــب أن قلمــا واحــدا لــم ينبــر لمناقشــتها‪ ..‬وهــو نفــس مــا حــدث مــع أخونــا‬
‫عثمــان‪ ..‬وآخريــن‪..‬‬

‫‪ ..‬وليتني كنت حطابا‪.‬‬

‫ •قلــت فــي مـرة ســابقة أن مقيــاس الوحيــد للحكــم علــى ن ازهــة الكاتــب موضوعيتــه‪..‬‬
‫بعــده عــن التجريــح الشــخصي والت ازمــه بالنقــد الموضوعــي – مهمــا كانــت قســوته‬
‫وم اررته – ومهما كان‪ ..‬ومهما حدث ستبقى هذه الصفحات حربا على كل إنتاج‬
‫متعفــن‪ ..‬إداريــا كان أم أدبيــا وعلــى اإلف ـ ارزات الفكريــة التــي تلــوث حياتنــا الثقافيــة‬
‫وعلــى االســتغالل بــكل صــوره‪ ..‬فنيــا أم اجتماعيــا أم سياســيا‪ ..‬إو�ن كنــت ألتــزم‬
‫بهــذا فلكــي أضــع القــارئ العربــي أمــام مســؤولياته لتطهيــر حياتنــا الثقافيــة والجتثــاث‬
‫األعشــاب الطفيليــة والمتســلقة التــي تفــرض نفســها – مســتغلة طيبــة قلبنــا – علــى‬
‫اإلنتــاج األدبــي والفنــي فــي بالدنــا‪.‬‬

‫ •سؤال برئ إلى المركز الوطني للسينما‪:‬‬

‫أيــن تذهــب إي ـرادات دور الســينما‪ ..‬وهــي مــن المؤسســات العامــة التــي تــدر‬
‫أرباحــا طائلــة‪ ..‬؟ وهــل هنــاك ميزانيــة مخصصــة لمكافحــة البــق الموجــود فــي بعــض‬
‫الســينمات‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫ملحوظــة‪ :‬البــق حيـوان أليــف‪ !! ‬يتكفــل بامتصــاص الــدم الفاســد مــن الجســم‪!! ‬‬
‫ونحــن علــى اســتعداد إلرســال صــورة فوتوغرافيــة للمســؤولين للتعــرف عليــه‪ ..‬ويمكــن‬
‫للمواطنيــن إرســال مــا يعثــرون عليــه مــن هــذه الحش ـرات‪ ..‬حيــا‪ ..‬إلــى المركــز‪..‬‬
‫الــذي قــد يخصــص جائـزة لمــن يرســل عــددا أكبــر مــن غيـره‪..‬‬

‫ •أمســية مــن أروع أمســيات هــذا العــام قضيتهــا فــي مشــاهدة الفرقــة البهلوانيــة‬
‫الصينيــة التــي قدمــت عرضهــا فــي دار األوبـ ار بالعاصمــة‪ ..‬كانــت األلعــاب قمــة فــي‬
‫األداء الفنــي والموســيقى المصاحبــة رائعــة اللحــن واألداء‪ ..‬وزاد إعجابــي بالفرقــة‬
‫وبــذكاء المســؤولين عنهــا عندمــا قــدم برنامــج الحفــل وفق ارتــه‪ ..‬باللغــة العربيــة‪..‬‬
‫كانــت لفتــة جميلــة تســتحق كل تقديــر‪ ..‬توجتهــا أنشــودة « كلنــا للقطــر الفــداء» التــي‬
‫غناهــا – بالعربيــة – بعــض أفـراد الفرقــة‪ ..‬كنــت أهمــس معهــم باللحــن وأنــا ألتفــت‬
‫حولــي متســائال «كــم مــن الحضــور يحفــظ النشــيد ؟»‪.‬‬

‫ •كلمــا عــزف اللحــن‪ ..‬وقــف الجميــع خشــوعا‪ ..‬وأدى العســكريون التحيــة‪ ..‬وســاد‬
‫الصمــت والســكون‪.‬‬

‫ومات صاحب اللحن‪ ..‬مات والجماهير تتغنى بلحنه دون أن تعرفه‪..‬‬

‫ومــات وفــرق العالــم الموســيقية الرســمية كلهــا تحفــظ لحنــه‪ ..‬وتتذكــر – إذا‬
‫ســمعته – كفــاح شــعبنا وبطوالتــه‪.‬‬

‫مــات الموســيقار المصــري محمــد فــوزي‪ ،‬ولكــن لحنــه «قســما بالنــازالت‬


‫الماحقــات» ســيبقى أكليــل زهــر ال يذبــل وشــعلة ال يخبــو لهــا لهيــب‪.‬‬

‫ •قــد تكــون الموســيقى األندلســية جــزءا مــن تاريخنــا‪ ..‬ال يجــب إطالقــا أن ننســاه‪..‬‬
‫ولكنهــا كانــت تمثــل عهــد األ ارئــك ومجالــس الطــرب الســلطاني‪ ..‬والبورجوازيــات‬
‫الناعســة فــي ضبــاب النبيــذ‪ .‬التــي ال نســتطيع التجــاوب معهــا فــي عصــر الــذرة‬
‫واالشــتراكية إال إذا قدمــت فــي إطــار موســيقى هارمونــي يجعــل منهــا موســيقى‬
‫كالســيكية عالميــة‪..‬‬

‫مثــل بســيط‪ ..‬إخـراج موســيقى « قــم تــر ب ارعــم اللــوز» التــي قدمهــا األوركســت ار‬
‫الســيمفوني الصينــي‪ ،‬والمختــارات التــي قدمهــا روســيني فــي مقطوعتــه «إيطاليــة فــي‬

‫‪69‬‬
‫الج ازئــر»‪ ..‬تعتبــر اآلن قطعــا عالميــة‪ ..‬لمــاذا ؟ ألن يــدا عبقريــة تناولــت اللحــن‬
‫األساســي ونســجت منــه زخــارف أعطتــه الطابــع الــذي يجعلــه عالمــي اإلطــار دون‬
‫أن يجــور علــى روحــه الجزائريــة‪.‬‬

‫ •صديــق مخضــرم مــن اإلذاعــة قــال لــي‪ ..‬لــو قدمــت تقريـ ار بــكل مــا أعــرف عــن‬
‫مهــازل اإلذاعــة‪ ..‬لطــارت رؤوس وتحطمــت أصنــام»‪ ..‬و‪ ..‬لــم يكــن هــو الوحيــد‬
‫الــذي قــال هــذا‪.‬‬
‫هــل حاولــت الجهــات المســئولة زرع الثقــة فــي نفــوس اإلذاعييــن بحيــث‬
‫يســتطيعون تقديــم تقاريرهــم دون أن يخش ـوا المالحقــة والتهديــد‪.‬‬
‫و‪ ..‬مازلــت عنــد أريــي بأنــه ال صــاح لإلذاعــة إال إذا كونــت لجنــة علــى‬
‫المســتوى الوطنــي توضــع تحــت يدهــا كل اإلمكانيــات كمــا توضــع توصياتهــا محــل‬
‫االعتبــار‪.‬‬

‫ •آلــة جديــدة دخلــت علــى الفــرق الموســيقية‪ ..‬إنهــا لعصــا‪ ..‬العصــا التــي هــي لمــن‬
‫عصــى‪ ..‬ولمــن حدثتــه نفســه بنقــد التفاهــات الموســيقية التــي تفــرض علينــا تحــت‬
‫اســم الموســيقى الوطنيــة الحديثــة‪.‬‬
‫اقتــرح أن تــزود أجه ـزة الراديــو بآلــة معينــة تكشــف المواطــن الــذي يســتمع‬
‫إلــى الموســيقى العالميــة توطئــه لمحاكمتــه كــي يكــون عب ـرة لغي ـرة‪..‬‬

‫‪70‬‬
‫(((‬
‫كتبت قبل اإلفطار‬

‫في غرفهم المكيفة الهواء‪ ..‬يلوكون األحاديث التي ال تنتهي والتي يستكملون‬
‫أطرافهــا فــي دفء منــزل وقــع عليــه الــدور لقضــاء الســهرة‪ ..‬والحديــث والصهبــاء‬
‫رفيقان‪.‬‬

‫األحاديــث محورهــا دائمــا‪ ..‬منــاورات الطمــوح‪ ..‬وحفــر الفخــاخ‪ ..‬وتدعيــم‬


‫التكتــات و‪« ..‬بيســتون» مــن هنــا و‪« ..‬كتــف مــن هنــاك»‪.‬‬

‫وتمتــد الســهرة‪ ..‬بينمــا ترتجــف مــن البــرد الســيارات الحاملــة للوحــة الحم ـراء‬
‫والقابعــة فــي انتظــار الســاهرين‪ ..‬تحملهــم بعــد الســهرة إلــى ديارهــم اســتعدادا لعمــل‬
‫الغــد‪ ..‬الغــد الــذي يبــدأ بالنســبة لســيادة «المســهول»‪ ..‬فــي الثامنــة أو التاســعة‬
‫أو العاش ـرة‪ ..‬والســيارة ســاخنة المحــرك‪ ..‬قــد انتهــت لتوهــا مــن نقــل األشــبال إلــى‬
‫المدرســة وأتــت مــن الســوق بل ـوازم الفطــور‪.‬‬

‫والعمــل ككل يــوم‪ ..‬فـراغ‪ ..‬وتوقيعــات‪ ..‬ومظاهــر كاذبــة‪ ،‬وامتصــاص لطاقــة‬


‫مصلحة التليفونات وتأمل في أرداف السكرتيرات‪ ..‬ثم قراءة – أو التظاهر بقراءة‬
‫– لومونــد والفيجــارو‪..‬‬

‫هــذه هــي الصــورة التــي ميــزت جهازنــا اإلداري فــي فتــرة مــا بعــد االســتقالل‪..‬‬
‫والتــي يرجــع الفضــل إليهــا فــي تشــويه معظــم المخططــات التــي أعــدت لبنــاء هــذه‬
‫الدولــة‪.‬‬

‫الجيش – يناير ‪1967‬‬


‫‪71‬‬
‫كانــت نقطــة الضعــف فــي بنائنــا الوطنــي هــي‪ ..‬هـؤالء الســادة الذيــن أوصلتهــم‬
‫إلــى مناصبهــم‪ ..‬التكتــات اإلقليميــة والشــخصية‪ ..‬والذيــن ورث ـوا الجهــاز اإلداري‬
‫الفرنســي لمجــرد أنهــم يعرفــون اللغــة الفرنســية‪ ..‬وهكــذا أصبحــت هــذه اللغــة‬
‫بالنســبة لهــم الطريــق الوحيــد لالحتفــاظ بالمكاســب والغنائــم مــن مناصــب‬
‫الدولــة‪ ..‬ومــن هنــا أيضــا جــاء اإلحســاس بــأن الوجــود الفرنســي فــي الج ازئــر بعــد‬
‫االســتقالل‪ ..‬أقوى منه في الجزائر الواقعة تحت الضغط االســتعماري‪ ..‬العســكري‬
‫والسياســي‪ ،‬وال وجــه للتعجــب‪ ..‬ذلــك أنــه كان قبــل االســتقالل وجــودا يهــدده عنــاد‬
‫شــعبنا‪ ..‬أقــول عنــاد شــعبنا‪ ،‬بينمــا هــو فــي الفتـرة التــي تلــت يوليــو ‪ ..1962‬وجــود‬
‫يســتمد عناصــر قوتــه مــن أبنــاء هــذا البلــد‪ ..‬أبنائــه بشــهادة الجنســية‪ ..‬بشــهادة‬
‫الميــاد‪ ..‬وربمــا ببضــع شــهادات للنضــال‪!! ‬‬

‫هــذا االبــن غيــر الشــرعي لسياســة القــوة الثالثــة كمــا أرادتهــا الجمهوريــة‬
‫الرابعــة‪( ..‬غيــر المأســوف علــى شــبابها) هــو الــذي كان مخلــب القــط فــي تحطيــم‬
‫الخط ـوات الجــادة لبنــاء االشــتراكية إو�عــادة الج ازئــر إلــى حظيرتهــا األصليــة‪.‬‬

‫وبمنتهــى العباطــة س ـرنا مــع التيــار‪ ..‬بذلــة العبيــد كيفنــا حياتنــا لتتالئــم مــع‬
‫القادميــن مــن وراء البحــر‪ ..‬وبعقليــة جارســون الكازينــو انحنينــا – رغــم الروماتيــزم‬
‫الــذي يحتــل ظهورنــا – لننفــذ السياســة المرســومة كــي تســتمر الج ازئــر فــي فلــك‬
‫«الفرانكوفونــي»‪ ..‬وكل هــذا‪ ..‬لمجــرد أن يبقــى الســادة المذكــورون أعــاه فــي‬
‫مناصبهــم‪ ..‬ومــات الملــك‪ ..‬فليحيــا الملــك‪.‬‬

‫اليــوم نتحاســب‪ ..‬اليــوم نحــس أن مــن حقنــا فتــح التحقيــق‪ ..‬لقــد مــارس المثقــف‬
‫العربــي النقــد الذاتــي‪ ..‬وأشــار إلــى كل خطــأ فــي بنائــه الداخلــي‪ ،‬تعبيـ ار عــن قوتــه‬
‫الذاتيــة الكامنــة‪ ،‬وتطبيقــا حيــا ألبســط المبــادئ التــي يقــوم عليهــا البنــاء االشــتراكي‪،‬‬
‫ألنــه يؤمــن بــأن مجتمعــا ال ينقــد نفســه ذاتيــا خشــية أن يشــتغل خصومــه نقــاط‬
‫ضعفــه – وهــو مــا حــدث بالفعــل – هــو مجتمــع مشــلول‪ ..‬مســلوب اإلرادة‪ ،‬ضيــق‬
‫التفكيــر‪ .‬ومــا كان أســهل أن يكتفــي المثقــف العربــي بالبــكاء والعويــل علــى حالــه –‬
‫وألف حق يمكن أن يعطي له لو فعل ‪ ..-‬وأضعف اإليمان أن ينساق وراء البحث‬
‫عــن كتلــة‪ ..‬عــن أكتــاف‪ ..‬عــن تجمــع إقليمــي‪ ..‬بــدال مــن أن يناقــش عيوبــه بصــوت‬
‫عــال يعطــي الفــرص للذيــن أخفـوا تجاعيــد وجههــم خلــف مســاحيق «الغــو»‪!! ‬‬

‫‪72‬‬
‫ما هي الفرص التي منحت للمثقف العربي ولم يؤكد فيها كفاءته ؟‪.‬‬

‫مــا هــي األب ـواب التــي فتحــت فــي وجهــه – لكــي ال أقــول‪ ..‬التــي لــم تغلــق‬
‫فــي وجهــه – ليثبــت جدارتــه ومقدرتــه علــى تحمــل المســئوليات‪ ..‬بالعمــل الجــدي‬
‫الصامــت ؟‬

‫لســت على اســتعداد كي أحمل عبء اإلجابة إو�ال‪ ..‬الســتهلكت كل صفحات‬


‫هــذه المجلــة فــي ذكــر المواقــف المشـرفة التــي وقفهــا المثقــف العربــي والتــي تـواردت‬
‫عبــر التاريــخ الج ازئــري‪ ..‬والتــي أخفيــت‪ ..‬جحــودا ونك ارنــا فــي ضبــاب األخطــاء‬
‫المفتعلــة‪ ..‬ومظاهــر التشــويه المتعمــد‪.‬‬

‫لــن أضيــع وقتــا كبي ـ ار فــي الحديــث عــن إطــار التربيــة الوطنيــة وعــن قاعدتــه‬
‫المرتك ـزة علــى المثقــف العربــي‪ ..‬عــن الجهــود الجبــارة التــي تبــذل مــع الجيــل‬
‫الصاعــد‪ ..‬رغــم األقـزام الذيــن قفــزوا – فــي غفلــة مــن الدهــر – ليمارسـوا فيــه عقــد‬
‫النقــص والتقلــص الفكــري‪ ..‬ذلــك الحديــث أتركــه للمعلميــن الجزائرييــن‪ ..‬يأخــذون‬
‫بناصيتــه مــن ك ارســيهم الخشــبية وبأيديهــم التــي تأكلــت بمفعــول الطباشــير‪..‬‬
‫وبنفوســهم التــي كاد يقتــل فيهــا الطمــوح واألمــل والرجــاء‪ ..‬وبنظراتهــم التــي اعشــاها‬
‫تصحيــح الك ارســات وتحضيــر الــدروس‪.‬‬

‫ولكننــي‪ ..‬وأيضــا‪ ..‬التزمنــا أمــام الضميــر‪ ..‬ألقــي نظـرة خاطفــة علــى اإلخــوة‬
‫القادميــن مــن المشــرق العربــي ليســاهموا معنــا فــي البنــاء‪ ..‬فــي الرجــوع إلــى‬
‫األصــل‪ ..‬والذيــن وقــع عليهــم التركيــز فــي حملــة الهجــوم علــى الكفــاءة العربيــة‪..‬‬
‫وعلــى الضميــر المهنــي العربــي وعلــى القيمــة الذاتيــة والحيويــة‪.‬‬

‫ولقــد اعترفــت فــي العــدد الماضــي بــأن واردات الشــرق العربــي لــم تكــن كلهــا‬
‫فــوق مســتوى الشــبهات ولــم يرتفــع صــوت واحــد ليقــول‪ ..‬وحتــى واردات مــا وراء‬
‫البحــر‪ ..‬لــم تكــن كلهــا فــوق مســتوى الشــبهات‪»..‬‬

‫قلــت فــي العــدد الماضــي‪« ..‬ويــل للمصليــن‪ »..‬واليــوم‪ ..‬واســتكماال لعناصــر‬


‫الموضــوع‪ ..‬ودفعــا لــكل لبــس أو غمــوض‪ ..‬أكمــل اآليــة‪..‬‬

‫‪73‬‬
‫اليــوم أقــف طويــا عنــد قميــص عثمــان‪ ..‬عنــد األخطــاء التــي ارتكبهــا اإلخــوة‬
‫القادمــون مــن المشــرق العربــي وكانــت بالنســبة لمخالــب القــط االســتعماري‪« ..‬ســبة‬
‫ومالقيتهــا حــدور»‪.‬‬

‫حدثــت أخطــاء كثيرة‪»..‬ومــن كان منكــم بــا خطيئــة‪ ..‬فليرمهــا بحجــر»‪..‬‬


‫ولكن شــيئا غريبا كان يميز هذه األخطاء‪ ..‬كان الخطأ الذي ينســب إلى المواطن‬
‫العربــي يســمع فــي طــول الج ازئــر وعرضهــا بنفــس التفاصيــل الدقيقــة‪ ..‬مــع اختــاف‬
‫أماكــن حدوثــه‪ ..‬وال معنــى لهــذا إال أن هنــاك حملــة منظمــة تتولــى تســويق‬
‫األخبــار ونشــرها والترويــج بهــا‪ ،‬معتمــدة علــى أحــدث النظريــات البســيكولوجية‬
‫فــي الدعايــة واإلشــهار‪ ..‬وهــي االعتمــاد علــى حقيقــة يتقبلهــا المســتمع‪ ،‬ثــم إضافــة‬
‫تفاصيــل ال يملــك المســتمع إنكارهــا ألنهــا مرتبطــة بنفــس الحقيقــة‪ ..‬ثــم الوصــول إلــى‬
‫الهــدف الرئيســي بتسلســل يبــدو للمســتمع الســاذج‪ ..‬منطقيــا ومعق ـوال‪.‬‬

‫مثــل بســيط عــن حادثــة ســمعت عنهــا فــي عنابــة وقيــل لــي أنهــا حدثــت فــي‬
‫قســنطينة‪ ،‬وفــي قســنطينة قيــل أنهــا حدثــت فــي الج ازئــر‪ ،‬وفــي العاصمــة أكــد لــي‬
‫أحدهــم بأنهــا حدثــت فــي وهـران‪ ..‬وكل الذيــن قالوهــا‪ ،‬كادوا يقســمون بأنهــا صحيحــة‬
‫وأن الــذي رواهــا هــو شــاهد عيــان‪.‬‬

‫وبطبيعة العناد قررت أن أتحرى عن هذه الحادثة‪..‬‬

‫محورهــا أن الشــقيق العربــي مغــرم بالمســاومة‪ ..‬ولســت علــى اســتعداد لكــي‬


‫أنكــر هــذا‪ ..‬فالمســاومات فــي البيــع والشـراء وجــدت منــذ وجــد البيــع والشـراء‪ ،‬ولكــن‬
‫ال ـراوي يقــول‪ ..‬أن المســاومة حدثــت علــى ســعر طابــع بريــد‪ !! ‬ســخافة مطلقــة‬
‫صدقهــا الكثيــرون مــع األســف‪.‬‬

‫وكانــت نتيجــة تحرياتــي عــن الموضــوع هــي أن مواطنــا عربيــا فــي مدينــة‬
‫عــوج اللكنــة‪ ..‬طابعــا لخطــاب مرســل إلــى بلــد‬‫جزائريــة طلــب مــن عامــل بريــد ُم ّ‬
‫عربــي‪ ..‬وأعطــاه العامــل ورقــة التامبــر مــن فئــة الدينــار‪ ..‬ولكــن األخ العربــي قــال‬
‫لــه »‪ ..‬إن الج ازئــر عضــو فــي إتحــاد البريــد العربــي وأن قيمــة الطابــع البريــدي بيــن‬
‫البلــدان العربيــة هــو ثالثــون ســنتيما‪ ..‬وثــارت ثائـرة أخينــا البريــدي‪ ،‬وأخذتْــه العـزة‬

‫‪74‬‬
‫باإلثــم‪ ..‬وعــا صوتــه وهــو يشــهد النــاس علــى وقاحــة هــؤالء الشــرقيين الذيــن‬
‫يســاومون حتــى علــى طوابــع البريــد‪!! ‬‬

‫وحادثــة أخــرى ســمعتها‪ ..‬محورهــا أن المــدرس العربــي يســاوم علــى تذكــرة‬


‫التروللــي‪ ..‬وكانــت الحقيقــة التــي وصلــت إليهــا بحديــث مــع زميــل كان يركــب نفــس‬
‫الحافلــة‪ ..‬هــي أن األخ العربــي فــي محاولــة لتجــاذب الحديــث مــع عامــل التذاكــر‬
‫قــال لــه « فــي بلدنــا‪ ..‬ندفــع نصــف القيمــة التــي ندفعهــا فــي الج ازئــر »‪ .‬والذيــن‬
‫عاشـوا فــي الشــرق العربــي يعرفــون أن ظاهـرة تجــاذب الحديــث فــي ســيارات النقــل‬
‫والقطــارات ظاه ـرة مألوفــة‪ ..‬ولكــن محصــل التروللــي متشــبعا بإقليميــة ضيقــة‪،‬‬
‫ومعبئــا ضــد كل مــا هــو عربــي ثــار علــى محدثــه‪ ..‬وأخــذ فــي إلقــاء محاضـرة باللغــة‬
‫ـرب» الذيــن يســاومون حتــى علــى تذك ـرة التروللــي‪.‬‬‫الفرنعربي ـ ُة عــن ه ـؤالء «الكـ ْ‬
‫وعشـرات األمثلــة يمكــن بقليــل مــن التفكيــر المحايــد النزيــه معرفــة ذرات الحقيقــة‬
‫فيهــا‪ ..‬ويظهــر تحليلهــا أن خطــة مرســومة تنفــذ علــى نطــاق واســع لتشــويه معنــى‬
‫المعربيــن‪ ..‬وســاهم فــي نشــرها – ببالهــة –‬ ‫ّ‬ ‫العروبــة مــن خــال تشــويه ســمعة‬
‫كثيــر مــن الذيــن كان يفتــرض فيهــم أن يكونـوا آخــر مــن يخــدع‪ ..‬وأول مــن يفيــق‪،‬‬
‫وتقــف الحقائــق شــامخة كأو ارســنا‪..‬‬

‫‪ ..‬إن المــدرس العربــي وبرغــم كل األخطــاء التــي نســبت إليــه وبرغــم أنــه ال‬
‫يتبــع آخــر تطــورات المــودة التــي يمثلهــا المعلــم األوروبــي‪ ..‬وبرغــم أنــه يأتــي إلــى‬
‫الج ازئــر‪ ..‬ويعانــي األمريــن فــي الحصــول علــى ســكن الئــق‪ ..‬وبرغــم الضغــوط‬
‫النفســية واالســتف اززات المســتمرة وتقعرات بعض المفتشــين وتحرشــات بعض الســوقة‬
‫وتأخــر المرتبــات‪ ،‬وانعــدام ب ارمــج مفصلــة وتوجيهــات دوريــة‪ ،‬برغــم هــذا كلــه يثبــت‬
‫– وتبعــا إلحصائيــات و ازرة التربيــة التــي أشــار إليهــا األخ ســعدي عثمــان – أن‬
‫كفاءتــه تتجــاوز كفــاءة الســادة القادميــن مــن وراء البحــر والذيــن لــم يمــارس كثيــر‬
‫منهــم التعليــم‪ ،‬ويدخــل وجودهــم – كمتعاونيــن فنييــن فــي بالدنــا – فــي إطــار تأديــة‬
‫الخدمــة العســكرية اإلجباريــة فــي بالدهــم‪.‬‬

‫ويطــول الحديــث‪ ..‬وبالنفــس رغبــة ملحــة فــي كشــف األســتار‪ ،‬فلقــد مللــت‬
‫وضاقــت روحــي بالســخافات التــي أســمعها كل يــوم والتــي ضعضعــت صفــوف القــوة‬
‫العاملــة مــن أجــل البنــاء العربــي االشــتراكي‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫لن أتحدث عن أئمة المساجد الذين يطلب منهم األخ التركي رابح أن يتعلموا‬
‫مــا قالــه ســقراط‪ ،‬وكانــت‪ ،‬وجــون ديــوى وهــم الذيــن يعانــون مــن روماتيــزم المفاصــل‪..‬‬
‫وســوء التغذيــة‪ ..‬واإلرهــاق العصبــي‪ ،‬والذيــن يواصلــون – بإمكانياتهــم الضئيلــة ودون‬
‫رعايــة كاملــة مــن الدولــة – كفاحهــم للحفــاظ علــى اإلرث الضخــم لديننــا وتقاليدنــا‪..‬‬
‫ذلــك الحديــث مــن حــق رجــال الديــن‪ ..‬يأخــذون بناصيتــه إن أرادوا‪ ..‬أو يمســكون‪.‬‬

‫ولــن أتحــدث عــن إذاعتنــا الوطنيــة وعــن شــهدائها األحيــاء القابعيــن فــي‬
‫الصفــوف الخلفيــة‪ ..‬يعبــث بمصيرهــم وبإنتاجهــم المثقفــون جــدا‪ ! ‬الفاهمــون‪ ! ‬ولــن‬
‫أقــارن بيــن اإلنتــاج الج ازئــري العربــي الــذي تعتمــد عليــه إذاعتنــا الوطنيــة وبيــن‬
‫فتــات الب ارمــج الفرنســية الــذي يعيــش عليــه التليفزيــون والحصــة الفرنســية‪ ..‬لــن‬
‫أقــارن الســيف بالعصــا‪ ..‬ذلــك دور المثقــف العربــي داخــل اإلذاعــة‪ ..‬هــو وحــده‬
‫يملــك الحديــث ويعــرف التفاصيــل‪ ،‬وهــو وحــده الــذي يســتطيع فضــح كل عمليــات‬
‫التخريــب‪ ..‬مــن قفــل الميكروفــون علــى المتحــدث العربــي‪ ..‬إلــى الحديــث عــن‬
‫التدريــج‪ ،‬واالنحــدار بمســتوى اللغــة العربيــة إذا عــز التحطيــم‪.‬‬

‫بــل إننــي لــن أحــاول – خوفــا مــن اإلتهــام بالمجاملــة – الحديــث عــن المحافظــة‬
‫السياســية للجيــش الوطنــي وهــي تقــوم علــى أكتــاف المثقفيــن بالعربيــة‪ ..‬مثلهــا مثــل‬
‫أكثــر مــن ســاح فــي جيشــنا الوطنــي‪ ..‬ذلــك مــا تتحــدث بــه عنــي هــذه المجلــة‪..‬‬
‫والتــي يعلــم اهلل مــدى الجهــود الجبــارة التــي يبذلهــا نفــر يعــد علــى أصابــع اليــد الواحدة‬
‫لكــي تخــرج فــي صورتهــا المشـرفة‪.‬‬

‫وجهــود أخــرى ال أعلــم تفاصيلهــا‪ ..‬يقــوم بهــا المثقــف العربــي فــي و ازرتــي‬
‫الخارجيــة والعــدل‪ ،‬ويعرفهــا أكثــر منــي بعــض الذيــن يقفــون بــكل ج ـرأة ليصم ـوا‬
‫المثقــف العربــي بالضعــف والتخــاذل والجمــود‪.‬‬

‫وعش ـرات المئــات مــن األمثلــة يجدهــا الباحــث المخلــص وتؤكــد كلهــا فعاليــة‬
‫المثقــف العربــي إذا أعطيــت لــه إشــارة الضــوء األخضــر ومنــح فرصــة إثبــات الوجــود‪.‬‬

‫م ـرة ثانيــة أبتــر الحديــث‪ ..‬فموعــد اإلفطــار يقتــرب‪ ..‬والفكــر يعجــز عــن‬
‫التركيــز‪ ..‬والموضــوع مــازال فــي حاجــة إلــى د ارســة أكثــر‪ ..‬قبــل أن تمســك بخناقــي‬
‫لتطالبنــي بالحلــول‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫(((‬
‫عودة إىل البواسري‬

‫المســألة ليســت بالبســاطة التي يتخيلها البعض‪ ،‬إذ ال يكفي إطالقا أن يســتمع‬
‫أحدهــم إليــك فــي إحــدى المقاهــي شــاكيا أع ـراض مرضــك لكــي يبــدأ فــي توجيهــك‬
‫ألخــذ عــاج معيــن قــد يكــون – ألنــه غيــر مبنــي علــى أســس علميــة ســليمة – وبــاال‬
‫علــى صحتــك وزيــادة فــي ضـراوة المــرض‪.‬‬

‫فالم ارحــل التــي يمــر بهــا المريــض عنــد بدايــة العــاج تشــكل خطـوات رئيســية‬
‫ال يمكــن تغييرهــا ألن كل مرحلــة هــي جــزء مكمــل لمــا يســبقها ممهــد لمــا يتلوهــا‪.‬‬

‫بــادئ ذي بــدء‪ ،‬يشــرح المريــض أع ارضــه المرضيــة ثــم يأتــي دور الفحــص‬
‫والتحاليل الطبية ثم – وبطريقة االستنتاج واالستقراء والمقارنة بالحاالت المماثلة‪،‬‬
‫وباالطالع على نتائج التجارب العالجية التي طبقت من قبل – يتأكد التشخيص‬
‫وهــو الخطــوة األولــى للعــاج الناجــح‪.‬‬

‫ومــا أســهل عــاج المرحلــة األولــى مــن البواســير‪ ..‬بضعــة شــميعات‪ ،‬وابتعــاد‬
‫عــن اإلمســاك‪ ،‬وتفــاد للمأك ـوالت الحريفــة تكفــي إل ارحــة المريــض وتجنبــه خطــر‬
‫الم ارحــل التاليــة ومــا ينتــج مــن آالم مبرحــة ونزيــف مســتمر يشــابه تمامــا حالتنــا‬
‫فــي‪ ..‬قضيــة التعريــب‪.‬‬

‫ومرحلتنــا اليــوم هــي مرحلــة المقارنــة واالســتنتاج‪ ..‬وهــي الطريــق الحتمــي‬


‫لوصــف العــاج فلقــد شــرحت األع ـراض الرئيســية وتـ ّـم فحــص الحالــة‪..‬‬

‫الجيش – فبراير ‪.1967‬‬


‫‪77‬‬
‫اليــوم‪ ..‬نلقــي نظـرة عابـرة علــى التاريــخ‪ ..‬حولنــا‪ ..‬بموضوعيــة وبجـرأة‪ ..‬لعل في‬
‫تجارب اآلخرين ما يلقي ضوءا على واقعنا ولعل في مشــاكلهم مالمح مما نعانيه‪.‬‬

‫قوانيــن الجاذبيــة األرضيــة التــي فطــن إليهــا إســحاق نيوتــن تفــرض أن يســقط‬
‫إلــى األرض أي جســم يتــرك فــي اله ـواء‪ ..‬وهــي قوانيــن ال تحتمــل المناقشــة وال‬
‫مفــر مــن اإليمــان بهــا‪ ..‬ألنهــا – كحتميــة التاريــخ – ســنة الحيــاة منــذ األزل وواقــع‬
‫تثبتــه التجربــة اليوميــة‪ ،‬فالصــاروخ الــذي يــزن خمســة أطنــان يجــب لكــي يبقــى معلقــا‬
‫فــي الهـواء مــن قــوة رافعــة إلــى أعلــى تســاوي خمســة أطنــان‪ ..‬ولكــي يرتفــع البــد مــن‬
‫قــوة رافعــة تفــوق وزنــه إو�ال ركبــه العنــاد كســائقي التاكســي فــي بالدنــا‪.‬‬

‫ولكــن الشــرق األوســط شــهد اضط اربــا فــي ســنة الحيــاة‪ ..‬فــإن بلــدا بنــى نفســه‬
‫ضــد حتميــة التاريــخ بعــزم ال يملــك المــرء أمامــه إال اإلعجــاب‪ !! ‬لقــد جمــع مــن‬
‫الســالة البشـرية كل متنافــر‪ ،‬وانتــزع مــا ال يســتحق ممــن يملــك‪ ،‬وأقــام دولــة نقــول‬
‫أنهــا تعيــش علــى نقــل الــدم المســتمر‪ ،‬ولكــن دولتــه‪ ..‬قامــت‪ ..‬رغــم أنوفنــا ورغــم مــا‬
‫علقنــاه مــن اتهامــات علــى مشــجب االســتعمار‪!! ‬‬

‫كيف ؟‪...‬‬

‫بالحقيقــة البديهيــة التــي تنــص علــى أن بلــدا مــا‪ ..‬ال يمكــن أن يقــام‪ ..‬أو أن‬
‫يدعــم‪ ..‬إال‪ ..‬بخلــق عــزة قوميــة – قــد تصــل إلــى حــد الغــرور اإلقليمــي – ووســيلة‬
‫خلقهــا ال تكــون إال بتدعيــم اللغــة القوميــة بحيــث يكــون المواطــن غريبــا إال فــي‬
‫بلــده‪ ،‬حيــث يوفــر لــه ربــاط اللغــة وحــدة المشــاعر ويحقــق تجانــس التفكيــر‪.‬‬

‫وهكــذا أكــدت خ ارفــة شــعب اهلل المختــار الــذي تجمعــه لغــة التــوراة وقامــت دولــة‬
‫علــى لغــة ميتــة أحيتهــا العزائــم والهمــم الطموحــة‪.‬‬

‫عفـوا ســادتي‪ ..‬نســيت أن أقــول أننــي كنــت أتحــدث عــن إسـرائيل‪ ..‬ولعــل هــذا‬
‫حديــث يــؤذي مشــاعركم الرقيقــة ويســيل دمــوع التماســيح علــى وجناتكــم فأنــا لــم‬
‫أقــل‪ ..‬إسـرائيل المزعومــة‪ ،‬ولــم أتشــنج فــي انتفاضــة وطنيــة كاذبــة لكــي ألعــن جــدود‬
‫وايزمــان وبــن غوريــون‪ ،‬ولكننــي فقــط‪ ..‬رســمت صــورة بــدون رتــوش‪ ..‬صــورة حقيقيــة‬
‫لتجربــة تــدور إلــى جوارنــا‪ ..‬ومــع ذلــك‪ ..‬فلنبحــث عــن تجربــة أخــرى‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫بلــد يمثــل ســكانه ربــع العالــم‪ ،‬لغتــه تفتقــر إلــى الوحــدة األساســية لبنــاء اللغــة‪..‬‬
‫أي الحــروف الهجائيــة‪ ،‬وتتعــدد فيــه اللهجــات المحليــة حتــى تــكاد تصبــح لغــات‬
‫متباينــة‪ ..‬كان وكـ ار لألفيــون وحانــة يختنــق فيهــا االختنــاق‪ ..‬كان وصمــة عــار فــي‬
‫جبيــن العمــاق اآلســيوي‪.‬‬

‫وفــي أقــل مــن نصــف قــرن وبالعـزة القوميــة التــي ارتكــزت علــى اللغــة القوميــة‬
‫اســتطاع أن يكــون قــوة مدمـرة زاحفــة يحســب لهــا العالــم كلــه ألــف حســاب‪ ،‬بــأن دعــم‬
‫لغتــه وجعــل منهــا دينــا وقوميــة‪ ،‬وبنــي مجــده داخــل أس ـوارها حتــى أصبــح عض ـوا‬
‫فــي النــادي الــذري‪ ،‬وأصبحــت العلــوم النوويــة – وهــي أصعــب العلــوم وأكثرهــا تعقيــدا‬
‫– تــدرس باللغــة المحليــة‪ ..‬أصعــب أوســع لغــات العالــم علــى اإلطــاق‪ ..‬لــم تكتــب‬
‫بحــروف التينيــة‪ ،‬ولــم تــدرج‪ ،‬ولــم تبســط‪ ،‬ووصــل بــه االعتـزاز الوطنــي إلــى حــد أنــه‬
‫فــرض علــى أعدائــه ومنافســيه تعلــم – أو محاولــة تعلــم – لغتــه القوميــة‪ ،‬ولــم يرتفــع‬
‫فــي الصيــن صــوت أحمــق ليقــول «إن التمســك باللغــة الصينيــة يعزلنــا عــن التطــور‬
‫العلمــي» ولــم تتحكــم عقــد النقــص والجهــل لتجعــل مــن أمــة عظيمــة تابعــا حتــى‬
‫للدولــة التــي ســاهمت فــي خلقهــا والتــي ترتبــط معهــا بربــاط الماركســية اللينينيــة‪.‬‬

‫وهكــذا كان لهــا مــا أرادت وفرضــت شــخصيتها علــى الجميــع‪ ..‬بمجــرد التمســك‬
‫واالعتـزاز بالقوميــة‪ ..‬لغــة وتفكيـرا‪( ..‬ومعــذرة إذا اضطــررت إلــى تكـرار بعــض مــا‬
‫جــاء فــي مقــال األخ ســعدي وأنــا أتحــدث عــن الصيــن‪.)..‬‬

‫أفضــل اآلن‪ ..‬عزيــزي القــارئ‪ ..‬أن تتوقــف عــن الق ـراءة (بــدون أن تتوقــف‬
‫عــن التفكيــر‪ ،)..‬والبــد إذ ذاك أن تطــوف فــي ذاكرتــك الســطور التــي قرأتهــا عبــر‬
‫هــذه المجلــة‪ ..‬وال أســتبعد أن يمــر علــى شاشــة أفــكارك شـريط ســينمائي للحضــارات‬
‫العالميــة شــروقا وغروبــا‪ ..‬ولتكــن ذاكرتــك فــي هــذه اللحظــة ضــوءا كشــافا مــن واقعنــا‬
‫الج ازئــري علــى العالــم مــن حولــك‪ ،‬وبعدهــا‪ ..‬ســتجد نفســك – كمــا وجــدت نفســي –‬
‫علــى مشــارف الطريــق إلــى الهــدف وقــد وضحــت فــي نفســك خطــة العــاج بعــد أن‬
‫اســتكملت عناصــر البحــث عــن التشــخيص‪.‬‬

‫التشــخيص ببســاطة‪ :‬إلتهــاب مزمــن فــي القوميــة‪ ،‬ونزيــف فــي الكرامــة وارتخــاء‬
‫كامــل فــي العــزة وتصلــب فــي الغــرور المحلــي‪ ،‬والخطــوط الرئيســية للعــاج تحددهــا‬
‫االستنتاجات اآلتية‪:‬‬
‫‪79‬‬
‫إن بنــاء الوطــن يســتلزم أوال وقبــل كل شــئ اعتـ از از قوميــا يتمثــل فــي التمســك‬
‫بلغــة األجــداد – مهمــا كانــت م ازعــم صعوبتهــا – وفــي جعلهــا أداة ربــط قومــي‬
‫ووســيلة انســجام روحــي وتناســق فكــري‪.‬‬

‫ومــن هنــا يتبيــن لنــا أن الحديــث عــن التــدرج والمرحليــة والخطـوات المدروســة‬
‫وتبســيط اللغــة يمكــن أن يكــون ثغـرة – وقــد كان بالفعــل – ينفــذ منهــا االنهزاميــون‬
‫والمنافقــون‪.‬‬

‫إن التعريــب الكامــل لبلدنــا ليــس مطلبــا شــعبيا – كمــا يقــول األخ ســعدي –‬ ‫ • ّ‬
‫بقــدر مــا هــو ضــرورة قوميــة إو�لتـزام ثــوري‪ ،‬وال حاجــة بنــا إلــى الغــوص ثانيــة فــي‬
‫بئــر التاريــخ لنســترجع األســباب التــي تجعــل مــن إنتمــاء الجزائــر إلــى الحظيــرة‬
‫العربيــة واقعــا حتميــا يســتلزم إســتكمال أوجــه النقــص فيــه‪.‬‬

‫ •إن المســألة ليســت مفاضلة بين الفرنســية والعربية وأيهما أســهل وأكثر فائدة‬
‫(‪ ..‬هــذا مــع االحتـرام الكامــل لــكل مــا تحــدث بــه األخ الجياللــي)‪ ..‬بــل أن مجــرد‬
‫المقارنــة ليــس مــن حقنــا إال إذا كان مــن حــق الفرطــاس أن يزهــو بشــعر جي ارنــه‪.‬‬

‫ •إن م ازعــم نقــص اإلمكانيــات الماديــة لتحقيــق التعريــب والتشــكيك فــي كفــاءة‬
‫ســاحه الرئيســي‪ ..‬المثقف العربي‪ ،‬هي خدعة فرضها على تفكيرنا تكتل جماعة‬
‫«الغــو»‪ ،‬وصعوبــة تحقيقــه صعوبــة نســبية ألننــا نقارنهــا بعزائمنــا الضعيفــة‪.‬‬

‫إن العــزة القوميــة والكرامــة الوطنيــة تشــكل القــوة الرئيســية لبنــاء المجتمــع‬
‫االشــتراكي الــذي نحلــم بــه‪ ..‬مجتمــع ال يخضــع إال لمتطلبــات بالدنــا وال تكــون‬
‫جموعنــا فيــه مجــرد دمــى يحركهــا مــن منتــى كارلــو وأوربــا رقــم (‪ )I‬أولئــك الذيــن‬
‫يطمعــون فــي بقائنــا كوكبــا فــي فلــك‪ ..‬بق ـرة حلوبــا فــي المزرعــة‪ ..‬وامتــدادا مشــوها‬
‫لثقافتهــم وصــورة باهتــة لحضارتهــم‪ ..‬بهــذا تبقــى بالدنــا دائمــا تحــت رحمــة عــدو‬
‫الماضــي الــذي ال نضمــن تقلباتــه السياســية‪.‬‬

‫إن الثالوث األساسي لحياتنا هو «العروبة واإلسالم واالشتراكية »‪ ..‬الثالثة‬


‫معــا‪ ..‬ســبيكة جزائريــة انصهــرت فــي بوتقــة ثورتنــا وتشــكلت حســب احتياجاتنــا ومــن‬
‫صافــي عناصرنا الوطنية‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫َ‬
‫(((‬
‫وختاما‪..‬لك ألف سالم‪..‬‬

‫تســاؤل ملــح أثــاره فــي نفســي الحمــاس البالــغ الــذي ميــز االنتخابــات األخيـرة‪..‬‬
‫ظهــرت اجابتــه علــى اســتحياء‪ ..‬كأنهــا مواطــن يطلــب مشــروبا‪ ..‬باللغــة العربيــة‪..! ‬‬
‫فــي إحــدى مقاهــي العاصمــة‪! ‬‬

‫لــو طرحــت فكــرة القيــام بثــورة مســلحة قبــل الصحــوة فــي نوفمبــر ‪ ..1954‬أي‬
‫نســبة مــن جماهيــر شــعبنا ســتقبل أن تحــارب‪ ..‬بالفوشــى والخدمــي وبقايــا الحــرب‬
‫العالميــة‪ ..‬تحــارب جيــوش دولــة كبــرى يدعمهــا الحلــف األطلســي ؟‬

‫واإلجابــة هــي نفســها مفتــاح الحــل فــي قضيــة التعريــب‪ ،‬وهــي شــرح للتناقــض‬
‫الســطحي بيــن مــا قلتــه فــي العــدد الماضــي مــن أن التعريــب ضــرورة قوميــة والتـزام‬
‫ثــوري وبيــن مــا ردده عثمــان مــن أن التعريــب‪ ..‬مطلــب شــعبي وقومــي‪..‬‬

‫التعريــب خطــوة ثوريــة تبــدل وجــه التاريــخ فــي هــذه البــاد والثــورة ال تخضــع‬
‫للمظاهــر الديمقراطيــة الكالســيكية ألنهــا رهــن يتحــرك طليعــة ثوريــة تؤمــن بهــدف‬
‫ســام وال يفــت فــي عضدهــا نقــص إمكانيــات أو ضعــف وســائل‪.‬‬

‫معنــى هــذا بــكل بســاطة‪ ..‬بــكل تجــرد‪ ..‬وبــكل ص ارحــة إن التعريــب ثــورة‪..‬‬
‫والثــورة تفــرض وال تســتجدى‪.‬‬

‫الثــورة التـزام ضميــري لطليعــة مؤمنــة تطــرق بــاب التاريخ‪ .‬تحطمــه‪ ..‬لتتبعها‬
‫الجماهير‪ ..‬ولتعبد بأقدامها‪ ..‬بأجسادها‪ ..‬طريق الخلود‪.‬‬
‫الجيش – مارس ‪.1967‬‬
‫‪81‬‬
‫ولكن‪ ..‬كيف ؟‬

‫هنــا أســمح لنفســي بوضــع المالمــح العامــة‪ ..‬ولــن يكــون لــي فيمــا أقــول فضــل‬
‫المختــرع أو المكتشــف‪ ..‬فقبــل أن أتحــدث عــن التعريــب‪ ..‬وقبــل أن يغرقنــا األخ‬
‫التركــي بمقاالتــه‪ ،‬والجياللــي ببحوثــه‪ ،‬وبشــنون بحلقاتــه‪ ،‬وعثمــان بحقائقــه‪ ..‬تولــى‬
‫االســتعمار نفســه رســم الطريــق‪ ..‬الطريــق المنطقــي المعقــول‪.‬‬

‫لقــد فرضــت الفرنســية ألنهــا جعلــت لغــة للحيــاة اليوميــة‪ ،‬وشــرطا للوظيفــة‬
‫الحكوميــة‪ ..‬مــن الجــارد شــمبيط إلــى طبيــب المستشــفى أو قاضــي المحكمــة‪،‬‬
‫ولــن يمكــن بــأي حــال مــن األحـوال أن تعــود العربيــة إلــى مكانهــا الطبيعــي إال إذا‬
‫أصبحــت‪ ..‬لغــة للخبــز وشــرطا للحصــول عليــه‪.‬‬

‫شعارات‪ ..‬شعارات‪ ..‬مجرد شعارات‪..‬‬

‫إن أعــداء التعريــب يرفعــون شــعاراته ليجوبـوا بنــا بعــد ذلــك متاهــات الخطـوات‬
‫المدروســة والتــدرج والبعــد عــن الطفـرات‪ ..‬حتــى ننســى الهــدف الرئيســي‪.‬‬

‫وأعطيــك مائــة حــق عزيــزي القــارئ‪ ..‬لــو صرخــت فــي وجهــي‪ ..‬لــو طالبتنــي‬
‫بأكثــر مــن مجــرد العناويــن ولكننــي أطلــب منــك أن تكــون معــي فــي كل خطــوة‬
‫فالطريــق طويــل‪ ..‬وطولــه يــزداد إن عــز الرفيــق‪.‬‬

‫الخطــوة األولــى لتحقيــق التعريــب هــي اعتبــاره قضيــة وطنيــة تناقــش وتحــل‬
‫علــى مســتوى الوطــن كلــه‪ ،‬والبدايــة المنطقيــة تفتــرض تكويــن لجنــة عليــا مــن‬
‫المثقفيــن الثورييــن – وبــدون م ارعــاة لسفســطة االزدواج اللغــوي – تتولــى عمــل‬
‫الطليعــة الثوريــة‪.‬‬

‫وال يملــك تكويــن هــذه اللجنــة إال أعلــى مســتويات الدولــة‪ ..‬فالقمــة تخلــق هــذه‬
‫اللجنــة وتجعــل منهــا ابنــا شــرعيا لهــا فيــه ق اربــة المبــادئ وأخــوة النضــال‪ ،‬وبهــذا‬
‫تكــون اللجنــة العليــا للتعريــب فــوق مســتوى أي إدارة حكوميــة‪ ،‬وبهــذا أيضــا‬
‫يتكامــل لهــا عنصــر التجــرد إو�مكانيــات التنفيــذ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫وتتولــى هــذه اللجنــة بتوجيهــات القمــة‪ ،‬ووحــي الضــرورة القوميــة الملحــة وضــع‬
‫الخطــة الكاملــة لتحقيــق التعريــب بحيــث يســير تنفيــذه فــي ثالثــة خطــوط متوازيــة‪.‬‬

‫‪1.1‬تعريب التعليم‬
‫‪2.2‬تعريب اإلدارة‬
‫‪3.3‬تعريب اإلعالم‬

‫وتوضح خطة الســنوات الســت (وهي مدة الد ارســة االبتدائية) لتحقيق التعريب‬
‫علــى مســتوى الوطــن كلــه‪ ..‬وأقــول ســت ســنوات وهــي مــدة كافيــة لتعريــب فرنســا‬
‫ولفرنســة بريطانيــا عنــد الذيــن يؤمنــون بهــدف وضعــت أمامهــم إمكانيــات تحقيقــه‪.‬‬

‫***‬

‫بالنســبة لتعريــب التعليــم (وبــدون أن أغــرق نفســي فــي التفاصيــل الدقيقــة التــي‬
‫يملــك رســمها رجــال التربيــة‪ ..‬المؤمنــون بهــذا البلــد‪ ..‬بماضيــه ومســتقبله‪ ..‬أقــول)‬
‫يجــب أن يتركــز العمــل فــي ثــاث جبهــات‪.‬‬

‫األولــى‪ :‬تعريــب المرحلــة االبتدائيــة((( تعريبــا كامــا دون إرهــاق للب ارعــم‬
‫الصغي ـرة بمتاعــب االزدواج اللغــوي ودون لخبطتهــم بيــن الكتابــة مــن اليميــن إلــى‬
‫اليســار ومــن اليســار إلــى اليميــن‪ ،‬ومعنــى هــذا أن تلغــى ســخافة التدريــس بالعربيــة‬
‫فــي الســنة األولــى وبالفرنســية فــي الســنة الثانيــة‪.‬‬

‫الثانيــة‪ :‬إدخــال العربيــة كمــادة أساســية فــي الد ارســة الثانويــة وفرضهــا كشــرط‬
‫رئيســي للقبــول فــي الجامعــات‪ ،‬ومعنــى هــذا أال يكــون تدريســها فــي هــذه المرحلــة‬
‫تدريســا للغــة إضافيــة يتــرك للطالــب فيــه الخيــار بيــن أداء االمتحــان وعــدم أدائــه‬
‫(وهــذا يتطــور بطبيعــة الحــال بعــد انتهــاء مرحلــة الســت ســنوات األولــى ليصبــح‬
‫تعريبــا كامــا للمرحلــة الثانويــة)‪.‬‬

‫وفي هذه الفترة بالذات – تدخل اللغة العربية (كلغة) إلى الجامعة وتؤدي فيها‬
‫االمتحانات السنوية‪ ..‬مثلها مثل أي مادة علمية‪ ..‬ثم تدرس بها بعض المواد كالطب‬

‫‪ .1‬في عام ‪ 1970‬كان قد تم تعريب السنة األولى وحذفت منها اللغة األجنبية‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫(((‬
‫الشرعي في كلية الطب والرياضيات في كلية العلوم والقانون المدني في كلية الحقوق‬
‫ويســتمر زحــف التعريــب فــي الجامعــة إلــى أن يصــل إلــى أقصــى مــدى ممكــن بعــد‬
‫ثالثــة عشــر عامــا‪.‬‬

‫«قــف»‪ ..‬يصــرخ رجــل منطقــي التفكيــر‪ !!! ‬إنــه – لرقــة قلبــه – يخــاف علــى‬
‫قلوبنــا ســرعة الســير‪ ! ‬رجــل يزعــم أنــه يريــد لنــا الخيــر‪! ‬‬

‫***‬
‫«قف»‬

‫«ومن أين نأتي بمدرسي العربية ونحن نعاني عج از فاضحا فيهم» ؟‬

‫واعتـراض أخينــا المنطقــي‪ ..‬سفســطة وخــداع وتضليــل‪ .‬فنحــن نعانــي العجــز‬


‫فــي مدرســي الفرنســية أكثــر ممــا نعانيــه فــي مدرســي العربيــة ولســبب بســيط‪ ..‬ألننــا‬
‫ال نخجــل مــن محاولــة اســتيراد عشـرة مدرســين للفرنســية مقابــل كل مــدرس عربــي‬
‫نحتــاج إليــه‪.‬‬

‫ويتراجع أخونا المنطقي ولكنه يستدرك محاوال الدخول عن طريق النافذة‪.‬‬

‫يقــول «إننــي أعنــي بالــذات مدرســي الم ارحــل العليــا الذيــن يشــترط فيهــم إعــداد‬
‫بيداغوجــي خــاص‪ ،‬وخبـرات قــد يكــون مــن العســير الحصــول عليهــا»‪.‬‬

‫ولــن أحيلــه بالطبــع إلــى عش ـرات األســماء لحملــة الشــهادات العربيــة العليــا‪،‬‬
‫والــذي يمــارس الكثيــر منهــم – تنفيــذا لخطــة التشــتيت – أعمــاال تبعــد عــن‬
‫اختصاصــه‪ ..‬ولكننــي أكتفــي بالقــول بــأن هــذا االعتـراض هــو نفســه الجبهــة الثالثــة‬
‫لتعريــب التعليــم‪.‬‬

‫ذلــك أن خلــق أربعــة معاهــد عليــا يجــب أن يكــون ضمــن برنامــج خطــة الســت‬
‫ســنوات وهكــذا يمكــن إعــداد مجموعــة ضخمــة – مــن الممرنيــن –مثــا‪ -‬العمــل فــي‬
‫الم ارحــل الد ارســية العليــا‪ ،‬وال يمكــن االحتجــاج بكث ـرة التكاليــف فاألبنيــة الصالحــة‬
‫موجــودة فــي كامــل التـراب الوطنــي‪.‬‬

‫‪ .1‬في العام التالي لهذه السطور أنشئت كلية الحقوق بالعربية‪.‬‬


‫‪84‬‬
‫ولســت أحــب أن أغــوص أكثــر مــن هــذا فــي شــئون التربيــة والتعليــم غيــر أننــي‬
‫قبــل أن أغلــق بــاب الحديــث فــي هــذا الميــدان أحــب أن أقــف لحظــات أمــام المشــكلة‬
‫المفتعلــة عــن عــدم وجــود «الكتــاب المدرســي»‪.‬‬

‫وأنــا علــى اســتعداد – رغــم مــا فــي هــذا مــن إجحــاف وظلــم – للتســليم بأننــا لــم‬
‫نصــل بعــد إلــى المســتوى الــذي نســتطيع معــه خلــق الكتــب الد ارســية بالعربيــة‪ ..‬علــى‬
‫األقــل‪ ..‬ألن الذيــن قــد يســتطيعون إعدادهــا تشــغلهم مســؤوليات الحيــاة اليوميــة‪،‬‬
‫وعــدم إمــكان التفــرغ للتأليــف‪.‬‬

‫وعلــى هــذا فلســت أرى أي مانــع شــرعي يحــول بيننــا وبيــن اســتعمال نفــس‬
‫الكتــب المســتعملة فــي المشــرق العربــي‪ ،‬فنحــن وأياهــم نؤمــن بــأن األرض كرويــة‪،‬‬
‫وبــأن الشــمس تشــرق مــن الشــرق‪ ،‬وأن الطاقــة تســاوي حاصــل ضــرب الكتلــة فــي‬
‫مربــع ســرعة الضــوء‪ ،‬وأن أمريــكا الشــمالية توجــد فــي الشــمال بينمــا تصــر أســتراليا‬
‫علــى أن تبقــى فــي الجنــوب‪ !! ‬وأن الفاعــل مرفــوع بالضمــة‪ ..‬وأن كان ترفــع المبتــدأ‬
‫وتنصــب الخبــر‪.‬‬

‫ويمكننــا – إرضــاء لوطنيــة أخينــا ذي المنطــق الســليم والعقــل ال ارجــح‪– !! ‬‬


‫إجـراء بعــض التحويـرات التــي تالئــم مزاجنــا‪ ..‬فمثــا‪ ..‬؟ تلغــى جملــة «ضــرب زيــد‬
‫عمــرا» الخالــدة وتســتبدل بجملــة «ضــرب مقــران قــدورا»‪ ..‬ويمكننــا أن نســتبدل‬
‫أهازيــج األطفــال بأغنيــة الحمــام اللــي ربيتــه‪ !! ‬الــخ‪.‬‬

‫إذن‪ ..‬فالخــط األول لتعريــب الدولــة هــو التعليــم وهــذا الخــط يضمــن تحقيــق‬
‫التعريــب علــى المــدى البعيــد ولكــن فعاليتــه لــن تتــم إال إذا ســار معــه وفــي موا ازتــه‬
‫خــط تعريــب الجهــاز اإلداري للدولــة‪.‬‬

‫ذلــك فــي حــد ذاتــه أقــوى حافــز لتمســك الطالــب فــي المدرســة بلغتــه العربيــة‪،‬‬
‫وأكثــر الدوافــع فعاليــة لدفعــه إلــى تدعيــم مقدرتــه – بوســائله الفرديــة – فيهــا‪.‬‬

‫وتعريــب الجهــاز اإلداري للدولــة (وأيضــا‪ ..‬بــدون أن نغــرق فــي التفاصيــل)‬


‫يجــب أن ينحصــر فــي اتجاهيــن‪:‬‬

‫‪85‬‬
‫األول‪ :‬تعريب الوثائق والمطبوعات الحكومية من تذكرة التروللي إلى إق اررات‬
‫الض ارئــب وطلبــات التعييــن فــي الوظائــف – وهــذه العمليــة لــو أســندت لالكفــاء لمــا‬
‫زادت مدتهــا عــن ســتة أشــهر – وهــذا فــي حــد ذاتــه ال ينفــي ضــرورة اســتخدام‬
‫الفرنســية مــع العربيــة فــي اإلدارات ذات الصلــة المباش ـرة باألجانــب (كالض ارئــب‬
‫ومصلحــة ج ـوازات الســفر‪ ..‬الــخ)‪.‬‬

‫االتجــاه الثانــي‪ :‬لتعريــب الجهــاز اإلداري يجــب أن يتمثــل فــي وضــع معرفــة‬
‫اللغــة العربيــة كشــرط أساســي لترقيــة الموظــف (وليكــن هــذا بعــد عاميــن مــن صــدور‬
‫القـرار) ثــم كمســوغ للتعييــن فــي الوظيفــة الحكوميــة (ويمكــن هــذا بعــد ســت ســنوات‬
‫مــن صــدور القـرار)(((‪.‬‬

‫وهنــا تبــدو أهميــة المعاهــد التــي ســبقت اإلشــارة إليهــا بجانــب المعاهــد الخاصــة‬
‫(غيــر التابعــة للدولــة) فهــذه المعاهــد بتخصيصهــا ســاعات معينــة فــي المســاء لد ارســة‬
‫اللغــة ستســتطيع محــو األميــة العربيــة بيــن الموظفيــن فــي فتـرة لــن تزيــد علــى ثــاث‬
‫ســنوات‪ ..‬ذلــك أننــا لــن نكــون فــي حاجــة إلــى طــه حســين أو محمــد العيــد لكــي يمــأ‬
‫خانــات يوميــة فــي ســجل المواليــد أو ليحــرر مخالفــة لمواطــن تج ـ أر ومشــى علــى‬
‫الخطــوط الصفـراء أو لتســجيل اســتهالك الغــاز والكهربــاء فــي بيــت أو مؤسســة‪.‬‬

‫وينفجر سؤال محرج‪..‬‬

‫أعرف بالضبط من الذي فجره‪..‬‬

‫« أنطلــب مــن القاضــي فــي شــيخوخته‪ ..‬مــن األســتاذ الجامعــة بوقــاره‪ ،‬مــن‬
‫المســؤول الكبيــر بالتزاماتــه‪ ..‬أن يعــود كل منهــم إلــى مقعــد الدراســة‪ ..‬أي إهانــة‬
‫هذه‪»!! ‬‬

‫واإلجابــة يعرفهــا مــن يزعــم التفكيــر المنطقــي‪ !! ‬فــإن الكثيــر ممــن يحتويهــم‬
‫الس ـؤال يعرفــون العربيــة‪ ..‬ولعــل بعضهــم يعــرف منهــا أكثــر ممــا أعــرف‪ ،‬بــل إن‬
‫مســؤوال كبيـ ار يعــرف معنــى عجلــة التاريــخ اتخــذ لنفســه معلمــا خاصــا بالعربيــة خــال‬
‫العــام الماضــي وحصــل علــى نتائــج رائعــة‪.‬‬

‫‪ .1‬اتخذ قرار رئاسي سينفذ ابتداء من عام ‪.1971‬‬


‫‪86‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ..‬يمكــن علــى المســتويات العليــا تعييــن مترجميــن دائميــن ولــن تزيــد‬
‫حاجتنــا منهــم فــي طــول البــاد وعرضهــا علــى خمســين مترجمــا‪ ..‬وهــو عــدد يوجــد‬
‫بصفــة حتميــة فــي أي بلــد لــه مثــل عالقاتنــا الخارجيــة‪.‬‬

‫بقيــت تفاصيــل البــد مــن الحديــث عنهــا الســتكمال تعريــب الجهــاز اإلداري‪..‬‬
‫مدرســة اإلدارة مثــا‪ ..‬الفتـرات التدريبيــة للموظفيــن‪ ..‬وأنــا علــى عجلــة مــن أمــري‪..‬‬
‫ال أملــك مناقشــتها وأفضــل تركهــا – بــدال مــن التحليــق فــي العموميــات – لمــن يملــك‬
‫رســم برنامــج مفصــل لهــا‪..‬‬

‫لقــد تحدثــت عــن خــط التعريــب األول وهــو التعليــم وعــن خطــه الثانــي وهــو‬
‫اإلدارة وبقــي أن أتحــدث عــن أخطــر هــذه الخطــوط كلهــا‪ ..‬الخــط الــذي يســير موازيــا‬
‫لرفيقيــه وأن دعــت الحاجــة الملحــة إلــى أن يســبقهما‪ ..‬هــو خــط تعريــب اإلعــام‪.‬‬

‫فــي ميــدان اإلعــام تظهــر بوضــوح النظ ـرة الواســعة التــي تشــمل الوطــن‬
‫الج ازئــري كلــه‪ ،‬وال تخطفهــا أض ـواء الواجهــات الزجاجيــة المتمثلــة فــي العاصمــة‬
‫والمــدن الكبــرى‪.‬‬

‫هــذه البــاد هــي ملــك للفــاح الــذي ينطــق الـراء راء‪ ..‬ال غينــا‪ ،‬هــي ملك للعامل‬
‫الــذي يتكلــم العربيــة ألنــه ال يعــرف غيرهــا‪ ،‬وهــي ملــك للمثقــف الثــوري الــذي يؤمــن‬
‫بــأن العـزة القوميــة تتمثــل أوال وقبــل كل شــئ‪ ..‬فــي التمســك باللغــة القوميــة‪.‬‬

‫واإلعــام‪ ..‬ندفــع تكاليفــه أنــا وأنــت‪ ..‬ومــن حقنــا عليــه أن يقــدم لنــا مــا نحــن‬
‫فــي حاجــة إليــه‪ .‬أمــا أن يكــون مقصــو ار علــى فئــة ضئيلــة مــن ســكان هــذا البلــد فهــو‬
‫مــا يؤكــد فشــله‪.‬‬

‫ولعــل المناســبة األولــى التــي أثبتــت فيهــا أجه ـزة اإلعــام فعاليتهــا‪ ..‬هــي‬
‫مناســبة االنتخابــات البلديــة‪ ..‬حيــث كانــت دليــا يــكاد يفقــا أعيــن الذيــن ما ازل ـوا‬
‫يؤمنــون بأنــه يمكــن الحديــث مــع الشــعب والتحــدث إليــه‪ ..‬بغيــر العربيــة‪.‬‬

‫إو�ذن‪ ..‬فــا بــد مــن تعريــب جهــاز اإلعــام بأســرع مــا يمكــن ألنــه‪ ..‬الصلــة‬
‫األولــى بيــن الشــعب وقيادتــه‪ ،‬ويجــب أن تكــون تجربتــه الماضيــة تجربــة توضــع‬
‫محــل الد ارســة وعلــى الطبيعــة ال داخــل «أقجــار» المكاتــب‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫‪ -‬فعلى مستوى الصحافة‪ :‬يجب أن يوقف نهائيا هذا الطوفان من المجالت‬
‫األوروبيــة وعلــى األخــص قصــص األطفــال ومغامـرات زورو وجيمــس بونــد والتــي‬
‫تتســلل إلــى بالدنــا إو�لــى رؤوس شــبابنا ومالبــس فتياتنــا(((‪.‬‬

‫وعلــى هــذا فاللجنــة المختصــة باإلعــام والمتفرعــة عــن اللجنــة العليــا للتعريــب‬
‫تتولــى وضــع قائمــة بأســماء الكتــب والمجــات األجنبيــة التــي يســمح لهــا بدخــول‬
‫بالدنــا علــى أن تعطــي األولويــة للكتــب العربيــة (مــع إعفائهــا مــن الض ارئــب أو‬
‫تقليــل الض ارئــب عليهــا)‪.‬‬

‫ويهمنــي وأنــا أتحــدث عــن الصحافــة األجنبيــة أن أوضــح نقطــة يغلفهــا ضبــاب‬
‫اإلدعــاء‪ ،‬فالفرنســي الــذي يصــر علــى قـراءة لومونــد دون الفيجــارو أو لومانيتــي‬
‫كاالنجليــزي الــذي ال يقـ أر إال التيمــس‪ ..‬هــي اتجاهــات يفرضهــا واقــع الحيــاة الحزبيــة‬
‫فــي كل منهمــا‪ ،‬وهــو أمــر ال يهمنــا مــن قريــب أو بعيــد إذ أن معظــم الصحــف‬
‫األجنبيــة تــكاد تتفــق علــى اتجــاه واحــد فيمــا يتعلــق بسياســتنا‪ ،‬ولهــذا فــإن تعــدد‬
‫الصحــف األجنبيــة التــي تدخــل إلــى بالدنــا – والفرنســية منهــا بوجــه خــاص – لــن‬
‫يــؤدي إال إلــى ربطنــا باتجاهــات ليــس مــن مصلحتنــا علــى اإلطــاق أن نهتــم بهــا‪.‬‬

‫وهــذا ال يعنــي إطالقــا منــع الصحــف الفرنســية مــن الدخــول ولكــن تنظيــم عمليــة‬
‫دخولهــا يجــب أن يخضــع لتخطيــط دقيــق وبحيــث ال تتخــذ صــورة الغــزو الثقافــي‬
‫علــى حســاب الصحافــة الوطنيــة (وهــو مــا تحــدث عنــه بوقاحــة المدعــو ايــف كيــو‬
‫فــي حديثــه الــذي نشــر فــي الفيغــارو وبــدا فيــه كمــن يكتــب عــن الج ازئــر مــن خــال‬
‫الواجهــة الزجاجيــة لســيارة د‪ .‬أس‪.)21.‬‬

‫« وهنــا أيضــا يجــب أن ال ننظــر بجديــة إلــى مــن يقــول بــأن الفكــرة ال تحطمهــا‬
‫إال فكــرة أخــرى أقــوى منهــا‪ ..‬وال مانــع مــن أن نســمح بدخــول كل شــئ مــا دام‬
‫إيماننــا قويــا وعقيدتنــا ارســخة‪ !! ‬الــخ‪ ،»..‬فأبســط مبــادئ االقتصــاد تنبــئ عــن أن‬
‫الصناعــات الناشــئة تفتقــر إلــى معظــم مــا يميــز الصناعــات العريقــة‪ ..‬ومعنــى هــذا‬
‫أن إمكانياتنــا الصحفيــة الهزيلــة – رغــم اإليمــان الــذي يحركهــا – لــن تســتطيع‬
‫الصمــود أمــام قــوة التكنيــك وســحر اإلخـراج وأمــام كتــاب متفرغيــن توضــع أمامهــم‬
‫كل اإلمكانيــات‪ ..‬مــن األم ـوال إلــى مصــادر األخبــار‪.‬‬
‫‪ .1‬طبق قرار المنع فيما بعد على عدد كبير من المجالت الرخيصة‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫والهــدف الــذي يجــب أن يوضــع فــي االعتبــار هــو « تكريــس كل الجهــود لكــي‬
‫يكــون انتمــاء المواطــن الفكــري‪ ..‬لبلــده ولمــا يمثلــه هــذا البلــد‪ ..‬ال لبلــد أجنبــي‬
‫لســنا نضمــن نســبة الســموم فيمــا نســتورده مــن عســله «‪ ،‬وهــذا هــو المغــزى العميــق‬
‫الــذي يكمــن فــي تدعيــم الصحافــة الجزائريــة الناطقــة بالعربيــة وتقديمهــا فــي أجمــل‬
‫ثــوب ممكــن بأزهــد ثمــن ممكــن وبأقــوى الم ـواد الممكنــة‪ ..‬فــي الوقــت الــذي تحــدد‬
‫فيــه الصحــف األجنبيــة الـواردة‪ ..‬نوعــا وكميــة‪ ..‬كمــا تعامــل مــن الناحيــة الضرائبيــة‬
‫كمــا تعامــل الكماليــات‪.‬‬

‫‪ -‬والســينما هــي لغــة العصــر ولســت أرى داعيــا – ونحــن نتحــدث بجديــة عــن‬
‫التعريــب – أن تقــدم الجريــدة الســينمائية بالفرنســية خاصــة وهــي تصــور األحــداث‬
‫التــي ق أرهــا المتفــرج أو ســمع عنهــا وهــي تشــكل – إذا عربــت – درســا حيــا يســاهم‬
‫فــي زيــادة ألفــة المتفــرج بلغتــه القوميــة(((‪.‬‬

‫واألفــام األجنبيــة يجــب أال تقتصــر علــى األفــام الفرنســية‪ ،‬ويكــون مقيــاس‬
‫اختيارهــا هــو مقــدار مــا فيهــا مــن فائــدة ثقافيــة أو متعــة روحيــة أو تســلية بريئــة‪،‬‬
‫ويجــب اختيــار األفــام العربيــة التــي تعــرض بــدال مــن األفــام التافهــة التــي تثيــر‬
‫االشــمئزاز والتــي ألفتهــا بالدنــا منــذ زمــن طويــل‪.‬‬

‫والمسرح يحتاج عناية خاصة حيث يجب أن ترتقي لغته عن لغة السوقة‪.‬‬

‫يجــب أن يكــون المســرح فــي خدمــة القضيــة الوطنيــة األولــى‪ ..‬التعريــب‪ ..‬ولــن‬
‫يكون هذا إال بتشــجيع الكتاب الجزائريين – ومعظمهم غير متفرغ للكتابة – على‬
‫إعــداد مســرحيات جزائريــة‪ ،‬هــذا إلــى جانــب التوســع فــي اســتحضار الفــرق الفنيــة‬
‫العربيــة‪ ،‬وخاصــة بعــد النجــاح الســاحق الــذي حققتــه الفرقــة الســورية فــي مهرجــان‬
‫الفنــون الشــعبية‪.‬‬

‫أطلــت الحديــث‪ ..‬عزيــزي القــارئ‪ ..‬ومــع ذلــك أحــس بــأن حديثــي ملــئ بالثغـرات‬
‫ولقــد تركــت – عامــدا م ـرة‪ ..‬و‪ ..‬غيــر قــادر م ـرات – أكثــر مــن نقطــة كان يجــب‬
‫أن تلمــس‪ ..‬ولكننــي أحــس بــأن علــي تــرك المجــال لآلخريــن‪.‬‬

‫‪ .1‬تم تعريب الجريدة السينمائية في العام التالي‪.‬‬


‫‪89‬‬
‫فقــط‪ ..‬أركــز علــى نقطــة بالغــة األهميــة وهــي ضــرورة تكويــن لجنــة للمتابعــة‬
‫تتفــرع عــن اللجنــة العليــا ويتركــز عملهــا فــي مراقبــة تنفيــذ الخطــة وكشــف كل‬
‫العراقيــل التــي يمكــن أن تنشــأ فــي طريقهــا‪.‬‬

‫وهــذا يفتــرض فــي نفــس الوقــت أن ينشــأ علــى مســتوى القاعــدة «فــي خاليــا‬
‫الحــزب‪ ،‬ودور البلديــات‪ ..‬لجــان خاصــة لشــئون التعريــب يكــون مــن اختصاصاتها‬
‫بجانــب المراقبــة‪ ..‬المبــادرة بحمــات محــو األميــة علــى المســتوى المحلــي‪ ..‬فــي‬
‫مـزارع التســيير الذاتــي وفــي التجمعــات الشــعبية وفــي إطــارات المنظمــات الوطنيــة‪.‬‬

‫وعندمــا ألقــي نظـرة أخيـرة علــى مــا كتبــت‪ ..‬أشــعر بالضيــق‪ ..‬أشــعر بأننــي لــم‬
‫أوف الموضــوع حقــه‪ ..‬ومــع كل اإلرهــاق الــذي أشــعر بــه تطــوف بذهنــي كلمــات‬
‫قالهــا ماكيافيلــي‪:‬‬

‫« إو�ذا قــدر إلمكانياتــي المتواضعــة وتجاربــي المحــدودة أن تجعــل مــن جهــودي‬


‫غيــر كاملــة فــإن هــذه الجهــود علــى كل حــال ســتمهد الســبيل أمــام إنســان آخــر‬
‫بإمكانيــات أضخــم لتحقيــق مــا عجــزت أنــا عــن الوصــول إليــه»‪.‬‬

‫ومعذرة عزيزي القارئ‪ ..‬وختاما‪ ..‬لك ألف سالم‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫(((‬
‫كل عام‪ ..‬وأنتم مستيقظون‬

‫بهــذا العــدد تدخــل مجلــة الجيــش عامهــا ال اربــع مواصلــة العمــل الجبــار الــذي‬
‫اضطلعــت بــه فــي حقــل الثقافــة الثوريــة‪.‬‬

‫والذيــن عاش ـوا عــن قــرب م ارحــل نموهــا‪ ..‬يعرفــون مــدى الجهــود التــي تــكاد‬
‫تفــوق طاقــة اإلنســان‪ ،‬والتــي قــام بهــا نفــر يعــد علــى أصابــع اليــد الواحــدة‪ ،‬والذيــن‬
‫عرفـوا كيــف كان العمــل يســير‪ ..‬بيــن المكتــب والمطبعــة‪ ..‬كانـوا يعجبــون‪ ..‬كيــف‬
‫يمكــن أن تصــدر مجلــة ضخمــة كهــذه المجلــة بهــذه اإلمكانيــات البش ـرية والماديــة‬
‫المحــدودة‪.‬‬

‫لقــد حرصــت هــذه المجلــة أن تكــون مجلــة للشــعب بكافــة فئاتــه‪ ،‬ولــم يكــن‬
‫شــعار «الجيــش» ‪« ..‬الوطنــي» ‪« ..‬الشــعبي»‪ ..‬مجــرد شــعار‪ ،‬بــل كان نضــاال‬
‫علــى مســتوى الوطــن كلــه ومــن أجــل الشــعب كلــه‪ ،‬ولــم تحــاول المجلــة أن تنغلــق‬
‫علــى نفســها داخــل إطــار عســكري محــض بــل عاشــت تجربــة شــعبنا الضخمــة بــكل‬
‫معانــاة وتفاعــل‪.‬‬

‫ويســجل التاريــخ لهــذه المجلــة أنهــا كانــت أول مجلــة جزائريــة تصــدر بالعربيــة‬
‫مقدمــة للقــارئ عنصــر الطباعــة باأللـوان‪ ،‬وهــي المجلــة األولــى التــي أدركــت أهميــة‬
‫األبـواب الثابتــة كمــا كانــت أول مجلــة فــي الشــمال اإلفريقــي كلــه تخصــص ملحقــا‬
‫خاصــا للشــئون العلميــة‪.‬‬

‫الجيش – مارس ‪.1967‬‬


‫‪91‬‬
‫والذيــن يقــدرون معنــى كلمــة الحــق النزيهــة يســجلون لهــذه المجلــة أنهــا كانــت‬
‫أول مــن رفــع ســاح النقــد الذاتــي البنــاء بــدون م ارعــاة للخواطــر ومجاملــة لألف ـراد‬
‫علــى حســاب المصلحــة العامــة‪.‬‬

‫وليــس هنــاك مــن ينســى دور «الجيــش» فــي قضيــة التعريــب‪ ،‬فلقــد جعلــت‬
‫منهــا لحنــا ثوريــا تنشــده الســطور علــى صفحاتهــا‪ ،‬وفتحــت أبوابهــا لــكل قلــم يمكــن‬
‫أن يســاهم بخبرتــه وعلمــه فــي إب ـراز القضيــة وفضــح كل المنــاورات الراميــة إلــى‬
‫تمييعهــا‪ ،‬وتجريــد كلمــة التعريــب مــن مضمونهــا وفعاليتهــا‪ ،‬وكانــت حملة «الجيش»‬
‫الصحفيــة مــن أهــم العوامــل التــي حولــت التعريــب إلــى قضيــة وطنيــة تناقــش علــى‬
‫مســتوى الوطــن كلــه‪.‬‬

‫ولكننــي ســأكون مغاليــا لــو قلــت أن المجلــة قــد حققــت كل أهدافهــا‪ ،‬فالمؤســف‬
‫أن القطــاع األهــم الــذي تتوجــه إليــه المجلــة كان علــى بعــد عشـرات الكيلــو متـرات‬
‫خلــف الطليعــة‪ ،‬ولقــد عجــز المثقفــون بالعربيــة عــن االرتقــاء والتفاعــل معهــا‪ ،‬ولــم‬
‫تســتطع المســهالت القويــة التــي قدمتهــا القضــاء علــى حالــة اإلمســاك الفكــري‬
‫المزمــن الــذي يميــز الثقافــة العربيــة فــي بالدنــا‪ ،‬وأقــول هــذا وكلــي ألــم‪ ،‬ألن الطاقــات‬
‫العربيــة الكامنــة لــو أطلقــت مــن عقالهــا لــكان للتعريــب فــي بلدنــا شــأن آخــر‪،‬‬
‫وألن الدعايــة المضــادة واألســاليب الجهنميــة التــي اســتعملت لتبديــد طاقــة المثقفيــن‬
‫بالعربيــة ولفــرض حصــار مــن العقــد النفســية علــى إمكانياتهــم قــد نجحــت فــي زعزعــة‬
‫الثقــة بنفوســهم‪ ..‬فــي نفوســهم‪.‬‬

‫ولعــل هــذا هــو ســر قــوة هــذه المجلــة‪ ،‬فالحفنــة مــن المناضليــن الذيــن يتولــون‬
‫أمرهــا لــم ييأسـوا أو علــى األقــل لــم يؤثــر يأســهم علــى قدرتهــم وعلــى فعاليتهــم‪ ،‬وهــذا‬
‫مــا أثبتــه التطــور المســتمر الــذي تعيشــه « الجيــش »‪.‬‬

‫لقد سارت القافلة‪ ..‬رغم وعورة الطريق‪..‬‬

‫رغم ضعف الرفيق‪.‬‬

‫رغم ألف عامل وعامل يثير في النفس كل ضعفها‪ ..‬كل قلقها‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫‪ ..‬كل مسببات الملل والقرف‪.‬‬

‫لمجرد أن الهدف واضح‪.‬‬

‫لمجرد أن النضال لذيذ‪ ..‬باتعابه‪ ..‬بكل ما يحتويه من إرهاق ومشقة‪.‬‬

‫ومرحبا بعام جديد من النضال‪.‬‬

‫مرحبــا بحم ـرة اإلرهــاق تغــزو العيــون‪ ..‬برجفــة المشــقة تعــزف علــى األيــدي‪،‬‬
‫بعــذاب الخلــق تحملــه الســطور‪.‬‬

‫ويــا آالت المطابــع دوري برحيــق األعمــار‪ ..‬بعــرق الحيــاة‪ ..‬بــدم الثــورة يغلــي‬
‫فــي العــروق‪.‬‬

‫دوري وغنــى مــع كل حــرف عربــي صاغتــه يــد مؤمنــة‪ ..‬مــع كل لحــن زف ـره‬
‫باحــث عــن الحقيقــة‪..‬‬

‫فالقافلة تسير‬

‫لن تتوقف عن السير‬

‫ألن الوقوف موت ‬

‫وألن السكون فناء‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫(((‬
‫كاتب يا‪ ...‬سني‪!!! ‬‬

‫فــي عــدد ديســمبر وتحــت عن ـوان «البواســير» وفــي إطــار حصــر القــوى‬
‫المضــادة للتعريــب قلــت بالحــرف الواحــد‪:‬‬

‫« وكان هنــاك الذيــن رضعـوا لبــن الوطــن األم‪ !! ‬ولــم يفطمـوا بعــد‪ .‬منحهــم‬
‫الفرصــة – لســبب أو آلخــر – لكــي يعيشـوا حضارتــه ويتســلقوا ثقافتــه‪ ..‬هـؤالء‬
‫تقطعــت أنفاســهم فلــم يجــرؤوا علــى الصعــود أكثــر‪ ..‬علــى اكتشــاف أنفســهم‪..‬‬
‫علــى اســتغالل مــا تعلمـوا للبحــث عمــا يجــب أن يتعلمــوه »‪.‬‬

‫ومــن هــذا يبــدو أن كاتــب ياســين مظلــوم‪ ..‬وأن الحملــة علــى مــا كتبــه حملــة‬
‫تتجاهــل وضعيتــه الحقيقيــة‪ ،‬ولعــل الوحيــد الــذي أنصفــه هــو األخ محمــد العربــي‬
‫حيــث اعتــرف لــه بالشــجاعة األدبيــة التــي جعلتــه يتحــدث بص ارحــة عــن األفــكار‬
‫الحقيقيــة للمثقــف الج ازئــري باللغــة الفرنســية‪ ،‬الــذي أدى نفيــه فيهــا إلــى ابتعــاده عــن‬
‫التفكيــر الواقعــي لجماهيــر الشــعب الج ازئــري‪ ..‬وكان المنطقــي أن يهاجمــه حملــة‬
‫الثقافــة الفرنســية ألنــه كشــف الغطــاء عمــا يتحدثــون بــه فــي غرفــة مغلقــة ومــا ال‬
‫يجــرؤون علــى اعالنــه‪ ،‬وهكــذا لــن أحــاول هنــا مناقشــة كاتــب ياســين‪ ..‬ببســاطة‪..‬‬
‫ألننــي أفضــل أن أناقشــه باللغــة التــي يفهمهــا بــدال مــن مــلء الســطور بمــا هــو‬
‫معــروف ومــا ال يحتــاج إلــى إعــادة الشــرح والتفصيــل‪ ،‬وألننــي أعــرف أنــه معــذور‬
‫ألنــه نظــر إلــى العربيــة مــن خــال مــن عرفهــم مــن مثقفيهــا‪ ،‬وهــم صــورة مشــوهة‬
‫‪ .1‬مجلة الجيش ‪ -‬مايو ‪1967‬‬
‫‪95‬‬
‫للفكــر العربــي‪ ،‬وألنــه ناقــش الوضعيــة الدينيــة مــن خــال المســلمين ال مــن خــال‬
‫النصــوص اإلســامية الســمحة‪.‬‬

‫لكــن المغــزى العميــق الــذي يكمــن وراء هــذه الضجــة التــي أثارهــا كاتــب ياســين‬
‫هــو الجديــر باالهتمــام‪ ،‬ذلــك أنــه أثبــت بــأن الثقافــة األجنبيــة هــي مســخ للفكــر‬
‫الوطنــي‪ ،‬وبالتالــي فهــي أحــط مظاهــر االســتعمار‪ ،‬وهــي تشــكل – إذا لــم تســبقها‬
‫ثقافــة وطنيــة تعــد المواطــن فكريــا وتهبــه قاعــدة صلبــة يســتطيع أن يناقــش منهــا كل‬
‫األفــكار العالميــة – مصــدر خطــر دائــم علــى ســامة الوطــن وعلــى كل مــا يؤمــن‬
‫بــه مــن مثــل وتقاليــد ومبــادئ‪.‬‬

‫وهــذا هــو ســر حماســنا للتعريــب‪ ،‬ألننــا ال نريــد لبالدنــا أن تظــل مرتبطــة‬
‫روحيــا وثقافيــا باتجاهــات فكريــة وسياســية ال تمثــل واقعنــا‪ ..‬بــل‪ ..‬وتشــوه هــذا الواقــع‬
‫وتمســخه‪.‬‬

‫وهــذا هــو ســر اهتمامــي بكاتــب ياســين‪ ،‬ألنــه عبــر بص ارحــة عــن االتجــاه‬
‫الفكــري للذيــن رضع ـوا لبــن الثقافــة الفرنســية فلــم يعرف ـوا لهــم أمــا غيرهــا‪ ،‬وابتعــدوا‬
‫بذلــك عــن قاعــدة شــعبنا العريضــة‪ ،‬وأصبح ـوا بالتالــي‪ ..‬كالقملــة فــي البرنــوس‬
‫األكحــل‪ ..‬ال يمثلــون إال أنفهســم‪ ..‬وعلــى األصــح‪ ..‬صــورة مشــوهة لمــا يجــب أن‬
‫يكون ـوا عليــه‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫(((‬
‫الشهداء املزيفون‬

‫أكثــر مــن مـرة تحدثــت وتحــدث الزمــاء عــن مأســاة الثقافــة األدبيــة فــي بالدنــا‬
‫وقلــت إن المشــكلة مشــكلة قـراء تنقصهــم الحيويــة الالزمــة للتفاعــل مــع مــا يكتــب‪،‬‬
‫مشــكلة الالمبــاالة وهــز األكتــاف‪ ..‬مشــكلة الســلبية المطلقــة التــي تصــب الثلــج علــى‬
‫الكاتــب المنفعــل فتقتــل حماســه وتشــل تفاعلــه‪.‬‬

‫لهــذا ال أجــد بــدا مــن النظــر بمنتهــى االســتخفاف إلــى المشــكلة المفتعلــة التــي‬
‫يثيرهــا بعــض مــن يســمون أنفســهم‪ ..‬األدبــاء الناشــئين‪ ،‬والذيــن يصــر الواحــد منهــم‬
‫علــى تقمــص دور الشــهيد‪ ،‬تبريـ ار لمقدرتــه الفكريــة المتآكلــة أو لتجاوبــه الجنائــزي‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬وفي نفس الوقت الذي كان أكثر من كاتب يحرق نفســه لكي يعرض‬
‫مشــكلة حيويــة كنــا نجــد التجاهــل الســمج مــن جانــب القــارئ‪ ..‬لقــد صــرخ التركــي‬
‫حتــى بــح صوتــه وأذاب ســعدي عثمــان أعصابــه وابيضــت ليالــي الركيبــي وتقطعــت‬
‫أنفــاس زهــور ومــأ اليــأس نفــس البرنــاوي كل هــذا لكــي يقــف رجــل يســمى عصمــان‬
‫ناعيــا علــى الكتــاب احتــكار الصفحــات‪ ،‬وطالبــا إفســاح المجــال للكتــاب الناشــئين‬
‫وملقيــا دم الشــاعر المنتحــر علــى مــن أســماهم محتكــري األدب‪ .‬ثــم ليطلــب‬
‫تكويــن مجلــة أدبيــة تنشــر إنتاجــه الــذي لــم نســمع عنــه‪ ..‬متناســيا أن المشــكلة هــي‬
‫مشــكلة قـراء يلعقــون الســطور بأعينهــم ثــم ينكمشــون علــى أنفســهم يجتــرون مركبــات‬
‫االضطهــاد ويلعنــون كل مــن يكتــب ألنهــم ال يســتطيعون الكتابــة إال فــي موضــوع‬
‫واحــد‪ ..‬اضطهــاد األدبــاء الناشــئين‪!! ‬‬

‫الجيش – مايو ‪.1967‬‬


‫‪97‬‬
‫لقــد فــرض أكثــر مــن قــارئ نفســه علــى إنتاجنــا األدبــي لمجــرد أنــه جــدي‬
‫القــراءة جــدي الكتابــة ‪ ,,‬ولســت أعتقــد أن عبــد اهلل ابــن الضيــف وهــو علــى‬
‫بعــد ‪ 600‬كيلومتــر مــن العاصمــة قــد اســتطاع العثــور علــى «أكتــاف» لكــي ينشــر‬
‫إنتاجــه‪ ..‬ليســت هنــاك مجلــة أو جريــدة ترفــض إنتــاج عبــد اهلل ولســبب بســيط‪ ..‬ألن‬
‫إنتاجــه يفــرض نفســه بنفســه‪ ،‬مثــل األخ الخلفــاوي وعبــد الرحمــن غريــب أو ســامي‬
‫عصــام وغيرهــم‪.‬‬

‫ومــن جانــب آخــر‪ ..‬لــو نشــر كل مــا يصــل إلــى هــذه المجلــة مثــا وممــن‬
‫يســمون أنفســهم‪ ..‬أدبــاء ناشــئين‪ ..‬فــإن أعلــى مســتوى يمكــن أن نصــل إليــه هــو‬
‫اســتعمالها فــي مجــات األغذيــة لتبــاع فيهــا المشــتريات‪.‬‬

‫لقــد منحــت هــذه المجلــة قرائهــا فرصــة الحديــث الصريــح وســهلت لهــم المهمــة‬
‫بطبــع أوراق االســتفتاء فمــاذا كانــت النتيجــة ؟‬

‫فــي الوقــت الــذي انهالــت فيــه اإلجابــات مــن مختلــف القطاعــات الشــعبية فــإن‬
‫مــن يســمون أنفســهم‪ ..‬أدبــاء ناشــئين‪ ..‬أمســكوا عــن الكتابــة ألنهــم ال يســتطيعونها‬
‫وألنهــم يعانــون مركــب االضطهــاد بحيــث يعجــزون عــن القيــام بعمــل بنــاء‪..‬‬

‫لقــد كان صاحــب ركــن « بيــن الشــعب والقـراء « طيبــا إلــى حــد الســذاجة وهــو‬
‫يــرد علــى األخ عصمــان حيــث انســاق معــه إلــى دعــوة إنشــاء المجلــة األدبيــة التــي‬
‫ستباع – إن صدرت – بالكيلو‪ ..‬ألن السادة الكتاب‪ ..‬ال يقرؤون‪ ،‬وألنهم يريدون‬
‫صفحــات يذيلونهــا بتوقيعاتهــم معتقديــن أنهــم بهــذا يدخلــون إلــى حظي ـرة األدب‬
‫واألدبــاء لينغصـوا علينــا حياتنــا باإلنتــاج الفــج الــذي لــم يكتمــل نضجــه‪.‬‬

‫هذه صورة من الجانب المظلم الذي تعيشه الصحافة في بالدنا‪.‬‬

‫أمــا الجانــب اآلخــر والــذي يســتحق نظ ـرة س ـريعة فهــو جانــب الفتــاة العربيــة‬
‫الجزائريــة التــي أثبتــت – ومــع االعتــذار لألخــت زهــور – أنهــا ال تصلــح إال‬
‫لتقشــير البطاطــا ورتــق الجــوارب‪ ..‬هــذا‪ ..‬إن اســتطاعت ذلــك‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫لقــد ألقــى الســيد كاتــب ياســين حجـرة فــي بركــة المــاء األســس الــذي يمثــل الثقافــة‬
‫العربيــة فــي الج ازئــر وانبــرى أكثــر مــن قلــم يناقشــه‪ ،‬بــدون أن نق ـ أر حرفــا واحــدا‬
‫للجزائريــة التــي تدعــى الغي ـرة علــى العربيــة‪.‬‬

‫بــل أن العــدد الضخــم مــن الــردود علــى اســتفتاء مجلــة الجيــش لــم يكــن فيــه رد‬
‫واحــد لجزائريــة مــن النــوع الــذي أزعجتنــا األخــت زهــور وأزعجــت نفســها بالدفــاع عنــه‪.‬‬

‫وأكثــر مــن هــذا لــم تحــاول أحداهــن – ومعظمهــن فــي ميــدان التعليــم – مناقشــة‬
‫ســعدي أو الجياللــي أو التركــي أوبشــنون فيمــا كتبـوا‪ ..‬بــل إن أكثــر مــن ســتين فــي‬
‫المائــة ال يقـرأن الصحافــة علــى اإلطــاق‪..‬‬

‫أبعــد هــذا نتحــدث عــن التعريــب ونحمــل القمــة أوزار المســتعربين وننعــى حظنــا‬
‫ومــا وصلنــا إليــه ونلــوم كاتــب ياســين علــى تفكيـره‪.‬‬

‫لقــد أثبــت حملــة الثقافــة الفرنســية – بدافــع غريـزة البقــاء – بأنهــم فــي مســتوى‬
‫المعركــة وبأنهــم انضــج وأصلــح وأقــدر علــى التحــرك والمبــادرة‪.‬‬

‫إو�ذا كان قانــون «البقــاء لألصلــح» هــو الــذي يحكــم تطــورات التاريــخ فــإن‬
‫المســتقبل أشــد س ـوادا مــن الليــل‪..‬‬

‫‪99‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫انطباعات عا ِبرة‬

‫ •بأعصابــي‪ ..‬أق ـ أر مــا يصلنــي مــن رســائل‪ ..‬وبأعصابــي‪ ..‬أكتــب‪ ..‬وعلــى‬


‫أعصابــي أعيــش عندمــا ال أســتطيع الحديــث‪ ،‬عندمــا أحــس أن الســكوت قــد يكــون‬
‫أرحــم مــن الحديــث‪ ،‬وفــي كل هــذه الحــاالت‪ ..‬أدفــع الثمــن مـ اررة وألمــا‪ ..‬وليــت كل‬
‫مــا يجــب أن يقــال يمكــن أن يقــال‪ ..‬ويــا ليــت الذيــن يتألمــون يعرفــون أنهــم‪ ..‬ليسـوا‬
‫وحدهــم‪ ..‬بــل‪ ..‬لعلهــم أحســن حــاال‪ ..‬ألنهــم يتكلمــون‪.‬‬

‫ •شــئ جميــل أن تقــام الــدورات لتدريــب دبلوماســينا‪ ..‬ولكــن أن يغفــل – عمــدا‬


‫وبســبق اإلص ـرار – منــح الفرصــة للمثقفيــن بالعربيــة فــي و ازرة الخارجيــة لكــي‬
‫يشــتركوا فــي مثــل هــذه الــدورات فهــو أمــر يثيــر أكثــر مــن تســاؤل‪ ..‬هــو أمــر مريــب‪.‬‬

‫والغريــب أن دبلوماســيينا الذيــن ســيتحدثون باســم دولــة عربيــة مســلمة‬


‫يتلقــون تدريبهــم بلغــة أجنبيــة‪ ،‬وال يعرفــون مــن لغتهــم القوميــة إال مــا يعرفــه العــم‬
‫«منديــس» واألغــرب أن خبيـ ار تشيكوســلوفاكيا هــو الــذي يحاضرهــم عــن الجامعــة‬
‫العربيــة‪.‬‬

‫ •الحديــث يــدور حــول مقــال كتبــه فــي مجلــة أســبوعية عربيــة صحفــي عربــي زار‬
‫الج ازئــر أخيـرا‪ ..‬وكانــت لــي علــى المقــال بعــض المالحظــات‪ ..‬ولكــن المســؤول مــن‬
‫الشــقيقة قــال متذمـرا‪« ..‬إنكــم بهــذه المالحظــات تخلقــون حساســية عنــد صحفيينــا‪..‬‬
‫وقــد يأتــي اليــوم الــذي ينحــرج فيــه الصحفــي العربــي مــن الكتابــة عــن الج ازئــر تفاديــا‬
‫لســوء التأويل‪ ..‬لماذا تغمضون أعينكم عن المزايا وال تفتحونها إال على األخطاء‬
‫والعثرات»‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫والــرد علــى األخ الفاضــل بديهــي‪ ..‬فالواجــب ال شــكر عليــه‪ ..‬ومــن جهــة‬
‫أخــرى‪ ..‬فــإن مــا تكتبــه الصحافــة المعاديــة ال يهمنــا بقــدر مــا يهمنــا مــا يكتبــه‬
‫األشــقاء‪ ،‬ومــع االعتـراف بــأن هنــاك مــن قــد يتصيــد أخطــاء األصدقــاء فــإن الواقــع‬
‫يؤكــد أن الكثـرة البالغــة تنصفهــم‪ ،‬ثــم إن الكاتــب الصحفــي ال يعبــر بالضــرورة عــن‬
‫رأي رســمي‪ ،‬وهــو قــد يخطــئ ألنــه ينظــر إلــى األمــور غالبــا مــن زاويــة واحــدة ومــا‬
‫يكتبــه عرضــة للمناقشــة‪ ،‬والــرد عليــه أو انتقــاده احتمــال غيــر بعيــد‪.‬‬

‫هــذا بــدون أن أقــول‪ ..‬أن الحساســية هــي عنــد الذيــن يــرون فــي أي نقــد بوجــه‬
‫إلــى صحفــي مــن بالدهــم‪ ..‬اســتف از از أو مضايقــة أو إثــارة‪.‬‬

‫ورحم اهلل ال ال هنية التي تنحيه منها‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫ •برغــم كل اختــاف وجهــات النظــر بينــي وبيــن األخ تركــي اربــح فإننــي أحتــرم‬
‫جهــوده‪ ،‬واذكــر أنــه كان مــن أوائــل الذيــن رفع ـوا الل ـواء مــن أجــل التعريــب‪ ..‬كاتبــا‬
‫نشــطا ال يعــرف الملــل‪ ،‬لهــذا أتســاءل‪ ..‬لمــاذا احتجــب ومــن هــو المســؤول عــن‬
‫احتجابــه ؟‬

‫إنني أمل أن يعود التركي بسرعة إلى قرائه‪ ..‬على األقل‪ ..‬ألجد من أهاجمه‪! ‬‬

‫ •أثبتــت قســنطينة فــي احتفالهــا الضخــم بذكــرى ابــن باديــس أنهــا كانــت ومــا تـزال‬
‫القلعــة الشــامخة للعروبــة واإلســام‪ ،‬وهــذا هــو مــا يجعلنــي أقــول بــأن المثقفيــن‬
‫بالعربيــة فــي قســنطينة يســتطيعون عمــل الكثيــر لــو نســقوا جهودهــم ووحــدوا‬
‫مجهوداتهــم ليعطـوا بذلــك مثــا عمليــا إلمــكان نجــاح التعريــب فــي أقصــر وقــت إذا‬
‫اقتــرن بالنوايــا الطيبــة والعزيمــة الصادقــة‪.‬‬

‫ •دور ارئــع يمكــن أن تقــوم بــه المعاهــد اإلســامية لــو اســتطاعت و ازرة األوقــاف‬
‫إعــداد ب ارمــج خاصــة لهــا تكفــل أن يكــون خريجوهــا علــى مســتوى رفيــع مــن الثقافــة‬
‫الدينيــة والدنيويــة‪.‬‬

‫إن كل مجــاالت الحيــاة عندنــا فــي حاجــة إلــى المرشــد الدينــي الواعــي الــذي‬
‫يســتطيع أن يصــل إلــى قلــوب الجماهيــر ويفــرس فيهــا مثلنــا العليــا‪ ..‬فــي المــدارس‪..‬‬
‫فــي الثكنــات‪ ..‬فــي المـزارع‪ ..‬فــي النـوادي‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫ثــم إن علينــا دو ار ضخمــا بالنســبة إلفريقيــا المســلمة‪ ..‬دو ار تســتطيع الج ازئــر‬
‫أن تبنــي مــن خاللــه مكانتهــا الروحيــة فــي نفــوس أبنــاء إفريقيــا وتخلــق بذلــك الت اربــط‬
‫الروحــي مــع األقطــار اإلفريقيــة التــي تثــق دائمــا فــي الج ازئــر كدولــة ارئــدة‪..‬‬

‫ •المحــاوالت التــي بذلــت إلحيــاء نــادي الفكــر العربــي محــاوالت فاشــلة ألنهــا‬
‫اعتمــدت أساســا علــى مجموعــة نشــطة ارتكــزت علــى قاعــدة خاملــة مــن النــوع الــذي‬
‫يؤمــن بشــعار «اذهــب أنــت وربــك فقاتــا»‪.‬‬

‫ •مــن الحقائــق التــي أكدهــا االســتفتاء األخيــر أن قـراء هــذا البــاب هــم أولئــك الذيــن‬
‫يستطيعون قراءة السطور وما بينها‪ ،‬ويدركون مغزى التلميحات السليطة التي تحول‬
‫تتحول إلى توضيحات مفصلة‪ ،‬ولقد اتهمت «االنطباعات» أكثر‬ ‫الظروف دون أن ّ‬
‫مــن مـرة بالغمــوض‪ ،‬ولكــن مطالبتهــا بــأن تكــون فــي بســاطة دروس مكافحــة األميــة‬
‫أمــر ال يمكــن تلبيتــه – مــن ناحيــة المســاحة علــى األقــل – ذلــك أن المعانــي العميقــة‬
‫(وبــدون غــرور) التــي تكمــن وراء كثيــر مــن تلميحــات «االنطباعــات «وغم ـزات»‬
‫حكمــة العــدد «وتعبي ـرات» انطباعــات كامي ـرا» تحتــاج إلــى مقــاالت طويلــة وشــروح‬
‫مســتفيضة ومعنــى هــذا أن تســطو االنطباعــات علــى بقيــة الصفحــات‪.‬‬

‫إن أهميــة «االنطباعــات» هــي أنهــا تتــرك للقــارئ المثقــف حريــة االســتنتاج‪،‬‬
‫وتكتفي برسم الهيكل العام للموضوع في لمسات سريعة قد تصلح بداية لمناقشة‪،‬‬
‫أو جــدول أعمــال لد ارســته ومطالبتهــا بهــا هــو أكثــر مــن ذلــك ظلــم لهــا و‪ ..‬لــي‪..‬‬

‫ •الرســائل التــي وصلــت المجلــة حــول موضــوع األدبــاء الناشــئين والــذي تحدثــت‬
‫عنــه فــي انطباعــات شــهر مــاي لــم تنجــح فــي تحويلــي عــن ال ـرأي الــذي أوردتــه‪،‬‬
‫ومازلــت أؤكــد أن األدب الجيــد الــذي يعبــر عــن آمــال هــذه األمــة يفــرض نفســه‬
‫بنفســه‪ ،‬بجانــب أن معظــم كتابنــا مــا ازل ـوا يعتبــرون أنفســهم‪ ..‬أدبــاء ناشــئين‪.‬‬

‫وبهــذه المناســبة أحــب أن أقــول أننــي أعتبــر نفســي مجــرد قــارئ يتفاعــل مــع‬
‫األحــداث ويســجل هــذا التفاعــل فــي شــكل «انطباعــات» ال تدعــي لنفســها صــورة‬
‫«األدب»‪ ،‬ولســت أفكــر – حتــى هــذه اللحظــة – فــي اعتبــار نفســي كاتبــا أو‬
‫صحفيــا‪ ..‬ذلــك شــرف ال أدعيــه‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ •‪ ..‬إذا كان لقاء عبد الوهاب وأم كلثوم في أغنيتي «أنت عمري وأنت الحب»‬
‫يمثــل مرحلــة الطفولــة‪ ..‬فلقاؤهمــا فــي «أمــل حياتــي» هــو مرحلــة المراهقــة‪ ..‬أمــا‬
‫«فكرونــي»‪ ..‬فهــي مرحلــة الشــباب الناضــج‪.‬‬

‫ •إذا صــح أن نظــام اإلنتــاج الفنــي فــي اإلذاعــة ســيصبح بطريقــة «الكاشــي»‪..‬‬
‫بمعنــى‪ ..‬أن الفنــان لــن يتقاضــى مرتبــا شــهريا يضعــه فــي زمـرة البروقراطييــن‪ ..‬بــل‬
‫يتقاضــى تبعــا لمــا ينتجــه مــن أعمــال فنيــة‪ ..‬إذا صــح هــذا‪ ..‬فهــو فاتحــة عهــد جديــد‬
‫فــي إذاعتنــا الوطنيــة‪ ..‬وخطــوة ثوريــة لتحويلهــا مــن تكيــة‪ ..‬إلــى‪ ..‬إذاعــة‪.‬‬

‫ •ال اعتـراض عنــدي علــى عبقريــة المدعــو األخضــر حامينــة‪ ..‬ولكــن‪ ..‬الطريقــة‬
‫التــي أعــدت بهــا اعالنــات فيلــم (ريــاح األوراس) توحــي بأنــه هــو منتــج الفيلــم‪ ..‬ومــا‬
‫أعرفــه هــو أن األمـوال التــي اســتعملت كانــت مــن خزينــة المركــز الوطنــي للســينما‪..‬‬
‫ولســت علــى اســتعداد لكــي أقبــل اســتغالل أم ـوال الدولــة للحصــول علــى أمجــاد‬
‫شــخصية‪.‬‬

‫ •للمـرة الثانيــة‪ ..‬أطالــب بتخصيــص إحــدى دور العــرض الســينمائي مــن الدرجــة‬
‫األولى لألفالم الســينمائية العربية‪ ..‬لماذا ال نخصص لها ســينما االلجيريا مثال‪..‬‬
‫بــدال مــن دور العــرض الحقيـرة التــي تمتــأ بالبــق والجــرذان‪ ..‬ويــا مركــز يــا وطنــي‪..‬‬
‫كونــك‪ ..‬وطني‪.‬‬

‫ •ســألوني‪ ..‬لــم نق ـ أر مــن زمــن طويــل حديثــا لــك عــن اإلذاعــة‪ ..‬وأجبــت‪ ..‬لقــد‬
‫تحدثــت بالصمــت‪.‬‬

‫ •أنــا مــن عشــاق أغانــي أم كلثــوم ولقــد بنــت أم كلثــوم مجدهــا ال علــى الصــوت‬
‫وحــده لكــن علــى تمثيلهــا ألحــام اليقظــة التــي تعبــر عــن الرغبــات الدفينــة فــي نفــس‬
‫المســتمع‪ ..‬عاشــقا أو مهجــو ار أو مظلومــا‪ ..‬الــخ‪..‬‬

‫ولكــن هــذا شــئ وتوجيــه دعــوة رســمية لهــا لزيــارة الج ازئــر شــئ آخــر‪ ،‬ولهــذا ال‬
‫يســعني إال اســتهجان المحــاوالت التــي بذلــت فــي هــذا الصــدد‪ ،‬ذلــك أن أم كلثــوم‬
‫كانــت المغنيــة الكبيـرة الوحيــدة التــي لــم ينفعــل وجدانهــا‪ !! ‬بســطر واحــد تغنيــه عــن‬
‫الج ازئــر أثنــاء معركتهــا التحريريــة‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫لقــد تحركــت مئــات األفــام وعشـرات الحناجــر مســتلهمة الــروح النضاليــة لشــعبنا‬
‫متغنيــة بكفاحــه اال‪ ..‬أم كلثــوم‪ ،‬ومــن هنــا يبــدو أنهــا‪ ..‬كمواطنــة عربيــة‪ ،‬ال تســتحق‬
‫منــا كل هــذا التمجيــد إو�نمايســتحقه أمثــال نجــاة الصغي ـرة وعبــد الحليــم حافــظ وكارم‬
‫محمــود ونجــاح ســام‪ ،‬ممــن عاشـوا معنــا ولــو للحظــات أقســى وأمــر فتـرات حياتنــا‪.‬‬

‫ومرحبــا بــأم كلثــوم إذا جــاءت ولكــن هــذا الترحيــب ســيكون ترحيبــا بهــا كمجــرد‬
‫فنانة‪.‬‬

‫ •قــد أكــون متعصبــا‪ ،‬ولكــن أن تعــود بعــض إذاعاتنــا العربيــة إلــى إذاعــة أغانــي‬
‫الحــب والهيــام والعشــق والغ ـرام – ودمــاء شــهدائنا لــم تجــف بعــد – ومهمــا كانــت‬
‫تبري ـرات ذلــك فهــي ســخافة وهــي انحطــاط إلــى مســتوى مخجــل‪.‬‬

‫لقد آن األوان لكي نخطط لموسيقانا وألغانينا العاطفية بحيث تسمو باألذواق‬
‫وال تتعــارض مــع الــروح التــي يفتــرض توافرهــا بعــد النكســة‪ ،‬وليــس معنــى هــذا أن‬
‫نعيــش علــى األناشــيد الحماســية واألغانــي الوطنيــة المفتعلــة بــل إن أغنيــة تتحــدث‬
‫عــن حــب األرض‪ ..‬عــن رابطــة األس ـرة‪ ..‬عــن الفرحــة بلقــاء ال تقــل أهميــة عــن‬
‫نشــيد حماســي‪ ..‬المهــم هنــا نوعيــة العاطفــة التــي تتغنــى بهــا والتــي يجــب أن تبتعــد‬
‫عــن التأوهــات الرخيصــة التــي خــدرت أيامنــا(((‪.‬‬

‫ •قضيــت أغلــب ليالــي «األســبوع األســود» فــي دار اإلذاعــة الوطنيــة‪ ،‬محــاوال أن‬
‫أســاهم بجهــدي المتواضــع فــي جانــب مــن جوانــب المعركــة‪ ،‬وهنــاك مــع مســعودي‪،‬‬
‫وح ـواس‪ ،‬وحمــدادو ونــور‪ ،‬والبوزيــدي‪ ،‬والنجــار وزيتونــي‪ ،‬عشــت أروع لحظــات‬
‫حياتــي حيــث أحسســت أننــي أكاد أكــون فــي خــط النــار‪ ..‬ولــم يكــن غريبــا أن تكــون‬
‫إذاعتنــا قبلــة اإلســماع ال فــي شــمال إفريقيــا وحدهــا ولكــن فــي أوروبــا والمشــرق‬
‫العربــي إذ أن المناضليــن الذيــن تول ـوا أمرهــا كان ـوا فــي مســتوى المعركــة‪ ..‬كان ـوا‬
‫مناضليــن بــكل مــا فــي الكلمــة مــن معنــى‪.‬‬

‫‪ .1‬كتبــت هــذه اإلنطباعــات إثــر الهزيمــة العربيــة فــي جــوان ‪ 1967‬والتــي أشــرت لهــا فــي‬
‫القســم السياســي تحــت عنــوان ‪ ...‬األســبوع األســود‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫ولكــن تحيــة خاصــة يجــب أن توجــه لــأخ مســعودي الــذي لــم تحــل نظرتــه‬
‫لإلذاعة والظروف التي خرج فيها من منصبه اإلذاعي‪ ،‬من أن يعود وقت الحاجة‬
‫ليشــارك بجهــوده مــع زمالئــه وليقــف فــي الصــف مؤديــا دوره كمناضــل ج ازئــري‪.‬‬

‫ •فــي حديثــي الماضــي قدمــت تحيــة متواضعــة لبعــض اإلخــوة الذيــن جعل ـوا مــن‬
‫إذاعتنــا قبلــة اإلســماع‪ ،‬أثنــاء وبعــد العــدوان‪.‬‬

‫وكمــا يحــدث دائمــا‪ ..‬ســقطت أســماء كثيـرة لمناضليــن عملـوا فــي صمــت ولــم‬
‫يســمع باســمهم أحد وكان لمجهوداتهم الفضل في مظهر اإلذاعة المشــرف‪ ..‬كان‬
‫هنــاك محــررون ومذيعــون وفنيــون وغيرهــم قامـوا بدورهــم دون أن ينتظــروا جـزاء أو‬
‫شــكو ار ولقــد تقبلـوا التحيــة التــي وجهــت إلــى زمالئهــم علــى أنهــا موجهــة إليهــم جميعــا‬
‫فــي شــخص الزمــاء الذيــن ذكــرت أســماؤهم‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫(((‬
‫برام‪ ..‬وضاع له محار‪..‬‬

‫تركتهــم يتحدثــون‪ ..‬ومنــذ تفجــرت القنبلــة التــي ألقيتهــا فــي مــاي الماضــي‬
‫والحديــث عــن مجلــة الناشــئين يــدور‪ ،‬واالتهامــات تتقاذفهــا أم ـواج المناقشــات‪،‬‬
‫ـي أن جعبــة المتناقشــين قــد فرغــت‪ ..‬وهنــا قــررت أن أعــود‬
‫وانتظــرت حتــى خيــل إلـ ّ‬
‫ألضــع نقاطــا علــى الحــروف‪.‬‬

‫وأحــب قبــل كل شــئ أن أحــدد نقطــة البدايــة لهــذا الحديــث‪ ،‬والقاعــدة الفكريــة‬
‫التــي يســتند إليهــا‪.‬‬

‫‪ -1‬أولــى عالمــات الطريــق فــي تفكيــري‪ ،‬هــي ثقتــي المطلقــة بالطاقــات الكامنة‬
‫فــي القطــاع األغلــب مــن مثقفينــا وهــي الثقــة التــي تلهــب حماســي للكتابــة (ويعلــم اهلل‬
‫كــم تكلفنــي) وهــي نفســها التــي تصبــغ أحاديثــي أحيانــا بالقســوة‪ ،‬فإنــه ال شــئ يؤلمنــي‬
‫كعجــز القادريــن علــى التمــام‪ ..‬ونحــن‪ ..‬قادرون‪..‬‬

‫‪ -2‬إننــي لســت ضــد إصــدار مائــة مجلــة ومجلــة ولكننــي أؤمــن بــأن مشــكلتنا‬
‫الحقيقيــة ليســت فــي عــدم وجــود مجلــة‪ ،‬وليســت مشــكلة أدبــاء ناشــئين ال يجــدون‬
‫مجــاال لنشــر إنتاجهــم بقــدر مــا هــي مشــكلة قادريــن علــى الق ـراءة‪ ..‬ال يقــرؤون‪،‬‬
‫وق ـراء ال يتفاعلــون‪.‬‬

‫واذكــر هنــا أننــي ســألت أكثــر مــن واحــد « مــاذا قـرأت خــال العطلــة ؟» وكان‬
‫أكثرهــم يقلــب شــفته الســفلى ويمطهــا‪ ..‬ثــم يقــول‪« ..‬والــو‪ »..‬ولــم أعــدم مــن يعتــذر‬
‫بضيــق الوقــت (الــذي تمتــص ف ارغــه أحجــار الدومينــو‪ ..‬وعلــك أحاديــث المقاهــي)‪.‬‬
‫الجيش – فبراير ‪.1968‬‬
‫‪107‬‬
‫‪ -3‬عندمــا نتحــدث عــن االلتـزام – وهــي كلمــة اتهمــت بهــا المجــات الموجــودة‬
‫حاليــا علــى أســاس أنهــا تفــرض خطــا معينــا علــى الكاتــب – أقــول أن هــذه مغالطــة‬
‫لفظية‪.‬‬

‫االلتزام الرئيسي هو التزام الكاتب أمام الضمير أوال وأخيرا‪..‬‬

‫السؤال الدائم الذي يجب أن يلقيه كل على نفسه وهو يبدأ الكتابة‪.‬‬

‫ما هي احتياجات القارئ العربي في الجزائر ؟‬

‫وأعتقــد أن القــارئ عندنــا ليــس فــي حاجــة إلــى قصيــدة شــعرية عنتريــة أو ن ازرية‪،‬‬
‫بقــدر مــا هــو فــي حاجــة إلــى بحــث جــاد مبســط‪ ..‬وليــس معنــى هــذا أننــي ضــد‬
‫الشــعر‪ ..‬ولكننــي أرى فيــه كماليــة الســيجارة عنــد مقارنتهــا بضروريــة قطعــة اللحــم‪.‬‬

‫والكاتــب الــذي ال يضــع هــذا نصــب عينيــه هــو كاتــب يحــرث فــي البحــر‬
‫ويعيــش بعيــدا عــن المعانــاة الحقيقيــة لشــعبنا‪ ،‬وهــو فــي هــذا ينــزع عــن نفســه –‬
‫وبنفســه – لقــب‪ ..‬الكاتــب الج ازئــري المناضــل‪.‬‬

‫ثــم أســمح لنفســي بوقفــة قصي ـرة لكــي أزيــح جانبــا بعــض التعبي ـرات التــي‬
‫أســتعملها بعــض األخــوة مــن دعــاة مجلــة الناشــئين‪ ،‬والتــي حاول ـوا فيهــا تصويرنــا‬
‫بمظهــر المتعنــت الــذي يحــاول كبــت الب ارعــم الشــابة‪.‬‬

‫تعبي ـرات كثي ـرة اســتعملت مثــل قــول أحدهــم عنــا‪ ..‬نحــن الــذي ننتــزع مــن‬
‫وقــت طعامنــا أو راحتنــا لنكتــب ولنســاهم بقــدر مــا نســتطيع فــي النشــاط الثقافــي‬
‫فــي بالدنــا‪ »..‬إننــا ندافــع عــن بنــد فــي برنامــج أعمالنــا (وهــو بالطبــع خنــق األدبــاء‬
‫الناشــئين‪ )! ‬ومثــل «إننــا لــم نفهــم المشــكل مــن أساســه‪ »! ‬إو�ننــا «نغالــط»‪ « ..‬إو�ننــا‬
‫فاشــلون‪ »..‬إلــى آخــر هــذه المجموعــة مــن قنابــل الدخــان التــي تحجــب الهــدف‪،‬‬
‫وتدخــل المناقشــة فــي دهاليــز جانبيــة تتــوه فيهــا المقاييــس الحقيقيــة للمشــكل‪.‬‬

‫كذلــك ســأضطر إلــى إهمــال بعــض الكلمــات العاطفيــة كتلــك التــي تعهــد بهــا‬
‫أخ فاضــل باســم زمالئــه بأنــه «ســيتحمل نفقــات المجلــة التــي يطالــب بهــا إذا دعــا‬

‫‪108‬‬
‫األمــر» ألن هــذا القــول يعبــر عــن تفكيــر بعيــد كل البعــد عــن التقديــر الكامــل‬
‫لكلمــة‪ ..‬إصــدار مجلــة‪.‬‬

‫مشــكلتنا الثقافيــة – فــي تقديــري – هــي مشــكلة العزلــة بيــن الكاتــب والقــارئ‬
‫وبيــن الكتــاب وبعضهــم‪ ،‬ومشــكلة المفهــوم الدقيــق لــدور األدب فــي مجتمــع يبحــث‬
‫عــن نفســه وعــن شــخصيته‪.‬‬

‫وكتابنا أشــبه ما يكونون بأفراد فرقة موســيقية يعزف كل منهم لحنا ال يتشــابه‬
‫وال يتكامــل مــع لحــن زميلــه‪ ،‬وهكــذا ومهمــا كانــت براعتــه فــي العــزف فــإن النتيجــة‬
‫هــي دائمــا فوضــى لحنيــة‪ ،‬ذلــك أن قيمــة العــزف الموســيقى تكمــن فــي تكامــل‬
‫العــازف مــع زميلــه‪ ،‬واحت ارمــه لقواعــد التوزيــع الموســيقى‪.‬‬

‫وهنــا يأتــي دور القــارئ‪ ..‬إنــه يســتطيع أن يقــوم بــدور قائــد األوركســترا‪ ،‬بتفاعلــه‬
‫مــع مــا يكتــب وبمناقشــة الكاتــب ومحاســبته إن لــزم األمــر‪ ،‬وبإثــارة المناقشــة حــول‬
‫مــا يق ـرأ‪ ،‬بصــورة تضمــن أن يذهــب الزبــد جفــاء وأن يمكــث فــي األرض مــا ينفــع‬
‫النــاس‪.‬‬

‫فليــس كل مــا يكتــب فــي بالدنــا هــو كل مــا يجــب أن يكتــب‪ ،‬والبــد مــن‬
‫االعتـراف بــأن القــارئ العربــي – فــي هــذا القحــط الثقافــي الــذي نعانيــه – ال يجهــد‬
‫الغــذاء الــازم لبنــاء شــخصيته كمثقــف عربــي‪ ،‬وبمالحظــة المــدى المحــدود لثقافــة‬
‫معظــم المتحدثيــن بالضــاد‪ ،‬وإلمكانياتهــم الماديــة‪ ،‬ولظروفهــم المعيشــية يتحــدد الــدور‬
‫الــذي يتحتــم علــى الصحافــة القيــام بــه‪ ،‬وهــذا فــي حــد ذاتــه يفــرض االلتـزام المطلــق‬
‫علــى الكاتــب الثــوري (وال أقــول‪ ..‬االلت ـزام الضيــق‪.)!! ‬‬

‫وعــاج هــذا الموضــوع ال يكــون بالقصائــد الشــعرية واألدب التجريــدي إو�نمــا‪..‬‬


‫بالبحوث الجادة المبســطة‪ ..‬بالد ارســات المركزة‪ ..‬بالتحليالت الرصينة لمشــاكلنا‪..‬‬
‫وباختصــار‪ ..‬بــأن نكتــب مــا يجــب‪ ..‬ال‪ ..‬مــا نريــد‪.‬‬

‫وهنــا نجــد أن تعبيــر «األديــب الناشــئ‪ ،‬تعبيــر د ارمــي مفتعــل قــد يقبــل فــي‬
‫بيــروت أو القاه ـرة أو دمشــق ولكنــه ال يقبــل فــي الج ازئــر»‪ ..‬فليــس عندنــا طــه‬

‫‪109‬‬
‫حســين أو ن ـزار قبانــي‪ ،‬وقــد ســبق أن قلــت أن معظــم كتابنــا ما ازل ـوا فــي أول‬
‫الطريــق‪ ،‬ومعنــى هــذا أن القــول بــأن «شــبابنا يجــب أن يحظــى بمجلــة خاصــة ألنــه‬
‫مــا يـزال فــي دور التكويــن غيــر مهــئ بعــد لدخــول المعركــة»‪ ..‬هــذا القــول مــردود‬
‫مــن أساســه‪ ،‬وقــد نكــون فــي حاجــة إلــى عشـرات المجــات‪ ،‬ولكننــا يجــب أن نــدرك‬
‫أن أرض المعركــة هــي التــي تخلــق المناضــل‪ ،‬وأن مــن حــق الجميــع أن يكتب ـوا‪،‬‬
‫ومــن حــق القــارئ أن يرفــض أو أن يقبــل مــا يكتــب‪ ..‬البقــاء هنــا لألصلــح‪ ،‬وقــد‬
‫يقبــل القــارئ علــى التهــام إنتــاج ثقافــي لكاتــب غيــر معــروف فــي نفــس الوقــت الــذي‬
‫يقلــب الصفحــة إذا رأى اســما معينــا لواحــد مــن‪ ..‬كبــار كتابنــا‪!! ‬‬

‫الكتابــة الجــادة تفــرض نفســها‪ ..‬علــى القــارئ‪ ..‬وعلــى المحــرر‪ ..‬وعلــى رئيــس‬
‫التحريــر‪ ..‬واألمثلــة كثيـرة‪:‬‬

‫رشــيد النجــار مثــا ليــس أديبــا وال شــاعرا‪ ..‬هــو مجــرد رجــل قانــون ولكنــه‪،‬‬
‫كمثقــف عربــي ملتــزم‪ ،‬يــدرك حقيقــة فراغنــا الثقافــي‪ ،‬ويبــذل جهــده لمــلء هــذا الفـراغ‬
‫بد ارســاته القانونيــة‪.‬‬

‫وســعدي عثمــان ال يزعــم حتــى‪ ..‬أنــه أديــب ناشــئ‪ ..‬ولكنــه قــدم إلــى الثقافــة‬
‫العربيــة فــي الج ازئــر مســاهمة كبي ـرة وفعالــة ببحوثــه عــن التعريــب‪.‬‬

‫وشــعابنية هــو مجــرد مســاعد فــي الجيــش (أجــودان) وهــو بعيــد كل البعــد عــن‬
‫اب ـراج الفكــر‪ ..‬ولكنــه – إيمانــا منــه برســالة المثقــف العربــي – بــذل جهــودا كبي ـرة‬
‫لكــي يقــدم د ارســته القيمــة عــن مشــكلة مــن أهــم المشــاكل االجتماعيــة وهــي مشــكلة‬
‫الهجـرة‪.‬‬

‫وهنــاك األخضــر بوطميــن فــي مقاالتــه االجتماعيــة والمفيــدة‪ ،‬بجانــب بعــض‬


‫الق ـراء الذيــن فرض ـوا أنفســهم بجــدارة‪ ،‬ومنهــم ابــن الضيــف والش ـريف والمولــدى‬
‫والخلفــاوى وأســماء جديــدة دخلــت إلــى صحافتنــا مــن بينهــم األخ ســعيداني والمــازم‬
‫ر‪.‬ص واألخ بودربالــة واألخــت حوريــة بيوضــى‪.‬‬

‫ولكــن هــذا ال يعنــي أن كل مــا يصــل إلــى المجلســة مثــا يســتحق النشــر‪،‬‬
‫وعلــى هــذا قلــت فــي عــدد مــاي – وهــو مــا أثــار هــذه الضجــة كلهــا بــدون ســبب –‬

‫‪110‬‬
‫«ولــو نشــر كل مــا يصــل ممــن يســمون أنفســهم‪ ..‬أدبــاء ناشــئين فــإن أعلــى‬
‫مســتوى يمكــن أن تصــل إليــه المجلــة هــو اســتعمالها فــي محــات األغذيــة لتبــاع‬
‫فيهــا المشــتريات»‪.‬‬

‫ولــم أكــن فــي هــذا متجنيــا فالقليلــون هــم الذيــن يعلمــون مــدى اإلرهــاق الــذي‬
‫يعانيــه صاحــب «الم ارســلة» فــي عمليــة الفــرز التــي تتعــرض لهــا رســائل الق ـراء‪،‬‬
‫برغــم الفرحــة التــي يســتقبل بهــا كل رســالة‪ ،‬واإلصـرار علــى نشــرها‪ ،‬أو علــى األقــل‬
‫نشــر مقتطفــات منهــا‪ ،‬خاصــة تلــك الرســائل التــي تــرد مــن خــارج العاصمــة‪ ..‬ولكــن‬
‫الرســائل الجــادة مــع األســف أقليــة تبعــت علــى الرثــاء‪ ،‬رغــم أن مناقشــة مــا يكتــب‬
‫هــي الخطــوة األولــى التــي يســتطيع الكاتــب الناشــئ بواســطتها صقــل أســلوبه‪،‬‬
‫والتمــرن علــى المناقشــة الموضوعيــة خاصــة إذا تعــددت اآلراء‪.‬‬

‫معنــى هــذا كلــه أن المجــال – فــي الحــدود التــي تحدثــت عنهــا – مفتــوح‬
‫ولكن‪ ..‬ليس لمجرد الكتابة‪ ..‬أو لمجرد «تعلم الحفافة في رؤوس اليتامى» إو�نما‬
‫للمســاهمة فــي خلــق صحافــة ناضجــة تعبــر عــن هــذا الشــعب المؤمــن الصامــد‪،‬‬
‫وتكفــل لــه زادا ثقافيــا يدعــم مــن كفــاءة حملــة لـواء التعريــب ويعطــي لحياتنــا الثقافيــة‬
‫دمــاء جديــدة وروحــا أقــوى وعزمــا أشــد‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫(((‬
‫أنا‪ ..‬والعذاب‪ ..‬وهواك‪! ‬‬

‫قضيت الفترة الماضية مستمعا للتعليقات التي أثارها حديثي في العدد السابق‬
‫عــن الكتــاب واألدبــاء و‪ ..‬الق ـراء‪ ،‬ولــم يكــف رنيــن الهاتــف‪ ..‬يحمــل إلــي فــي كل‬
‫ســاعة‪ ..‬صوتــا صديــق يؤيــد أو يعــارض أو يعقــب أو يقول‪»..‬بــارك اهلل فيــك‪»..‬‬

‫وبرغــم ال ارحــة النفســية التــي شــعرت بهــا‪ ،‬فــإن م ازجــي قــد تعكــر ألن بعــض‬
‫اإلخــوة قــد نظــروا إلــى الموضــوع نظـرة شــخصية محضــة‪ ،‬ولــم يحاولـوا إلقــاء نظـرة‬
‫تحليليــة شــاملة علــى مــا كتــب ليرفع ـوا القلــم بعــد ذلــك‪ ،‬وليناقش ـوا القضيــة مــن‬
‫أساســها‪ ..‬بعيــدا عــن ردود الفعــل الشــفوية البرقيــة التــي تكتفــي بالتهانــي القلبيــة أو‬
‫اللغــات األبديــة‪.‬‬

‫وليغفــر لــي القــارئ إذا زعمــت بــأن التصفيــق ال يشــنف مســمعي‪ ،‬ألننــي (وأنــا‬
‫أكتب باســم وهمي مســتعار) ال أبحث عن مجد أدبي من أي نوع كان‪ ،‬وقد ســبق‬
‫أن قلــت بأننــي أعتبــر نفســي مجــرد قــارئ يتفاعــل مــع األحــداث‪ ،‬ويرســم علــى‬
‫الــورق انطباعــات ال يميزهــا إال اإلخــاص فــي العـ ْـرض‪ ،‬والصــدق فــي تصويــر‬
‫االنفعــاالت‪ ،‬والتجاهــل لغضــب اآلخريــن‪ ،‬والبعــد عــن اســتجداء إعجابهــم‪..‬‬
‫وأعتقــد أن هــذه هــي القيمــة الحقيقيــة لهــذا البــاب‪ ..‬ومــن هنــا‪ ..‬ال يســعني إال أن‬
‫أرحــب بــكل نقــد‪ ..‬بــكل مناقشــة حيــة‪ ..‬وبــكل رد نزيــه يضــع أمامــه هــدف الوصــول‬
‫إلــى الحقيقــة‪ ،‬ال هــدف إح ـراز نصــر بالغــي أو اســتعراض عضــات التعبيــر أو‬
‫مجــرد الهجــوم األخــرق الجهــول‪.‬‬

‫الجيش – مارس ‪.1968‬‬


‫‪113‬‬
‫لقــد كانــت صفحــات هــذه المجلــة‪ ..‬غرفــة عمليــات حاولــت وضــع األســس‬
‫العالجيــة – وقبــل ذلــك‪ ..‬البحــث عــن التشــخيص الدقيــق – لكثيــر مــن أمراضنــا‬
‫(ونظ ـرة س ـريعة علــى مــا كتــب فــي الفت ـرة الماضيــة كفيلــة بإقنــاع القــارئ بــأن هــذا‬
‫البــاب قــد أدى دوره‪ ،‬بــل وتعــدى فــي كثيــر مــن األحيــان المفهــوم اللفظــي لعنوانــه‪..‬‬
‫غائصــا فــي بحــار البحــوث العميقــة)‪.‬‬

‫ولقــد ظهــرت االنطباعــات فــي أوائــل ســنة ‪ 1965‬كــرد فعــل للوضــع الــذي‬
‫عشــناه‪ ،‬وكانــت بســاطتها وضراوتهــا صمــام أمــن لالنفعــاالت التــي تجيــش فــي‬
‫صدور المواطنين دون أن تجد لها متنفسا مقروءا أو مسموعا‪ ،‬وتطورت وازدادت‬
‫نضجــا لتكــون – فــي أســلوبها وطريقتهــا – شــيئا جديــدا فــي الصحافــة الجزائريــة مــا‬
‫لبــث أن تــرك أثـره علــى صحافتنــا (وكــذب ال تواضــع أن أقــول غيــر ذلــك)‪.‬‬

‫وهنــا تكمــن الفكــرة فــي عــدم وجــود اســم صريــح كامــل تحــت االنطباعــات‬
‫يبيــن هويــة كاتبهــا‪ ،‬فهــي لــم تكــن محــاوالت أدبيــة إلضافــة اســم جديــد لمجمــوع‬
‫كتابنــا‪ ..‬ولــم تكــن بحثــا عــن شــهرة أو كســبا لعيــش‪ ،‬فكاتبهــا – والحمــد هلل ‪ -‬ليــس‬
‫فــي حاجــة لذلــك‪ ،‬ولــه ميدانــه المهنــي‪ ..‬يفــرض فيــه نفســه بعملــه وكفاءتــه‪ ،‬وال‬
‫يعطــي لنفســه الحــق فــي اســتغالل صفتــه المهنيــة – التــي يعتــز بهــا – إلضفــاء‬
‫الهيبــة علــى مــا يكتــب أو لتســول ق ـراء ومعجبيــن‪.‬‬

‫لــم أكــن أريــد أن يقــول النــاس‪ « ..‬ق ـرأن لفــان» بقــدر مــا أحببــت أن يذكــروا‬
‫دائمــا أنهــم وجــدوا فــي المجلــة صــدى ألفكارهــم‪.‬‬

‫ولهــذا لــم ينجــح الذيــن حاولـوا تقليــد االنطباعــات‪ ،‬ألن القــارئ كان يــرى فيمــا‬
‫يكتبون‪ ..‬شــخصا مجســدا‪ ،‬بينما رأى في االنطباعات شــخصية معنوية ال تفرض‬
‫نفســها عليــه‪ ،‬ومـرآة تقــدم لــه صــورة ألفــكاره وأحاسيســه‪ ،‬دون أن تدعيهــا لنفســها‪.‬‬

‫وأعترف بأنني كسبت شيئين‪:‬‬

‫ •إننــي رددت بطريقــة عمليــة علــى كل اتهــام يمكــن أن يوجــه لــي‪ ..‬مــن نــوع‬
‫االتهــام بالبحــث عــن الشــهرة أو المجــد‪ ..‬فالباحــث عنهمــا يصــر دائمــا علــى وضــع‬

‫‪114‬‬
‫اســمه ولقبــه ومهنتــه (وأحــدد هنــا بأننــي ال أعتبــر البحــث عــن المجــد عيبــا‪ ..‬علــى‬
‫العكــس‪ ..‬هــو الطمــوح الــذي يســير بالعالــم دائمــا إلــى األحســن واألفضــل‪ ،‬ولكننــي‬
‫أعتــرف بــأن طموحــي محــدود)‪.‬‬

‫ •إننــي تركــت الــدور الــذي تقــوم بــه االنطباعــات يحــدد بنفســه أهميتهــا وفــرص‬
‫نجاحهــا‪ ،‬دون أن أقحــم شــخصيتي الفعليــة عليهــا‪ ،‬ومعنــى هــذا أننــي إذا اختفيــت‬
‫لســبب مــا‪ ..‬كان ســهال علــى رفيــق آخــر أن يرفــع المشــعل وأن يتابــع الســير‪ ،‬دون‬
‫أن يقيــد اســمي حركتــه‪ ،‬أو يلزمــه بخــط معيــن‪ ،‬أو طريــق محــدود‪..‬‬

‫أردت أن يذكر الناس االنطباعات دون أن يهتموا بشخصية كاتبها‪.‬‬

‫ومعــذرة‪ ..‬عزيــزي القــارئ فللمـرة األولــى‪ ،‬أحدثــك عــن نفســي‪ ،‬ولكــن عــذري‪..‬‬
‫هــو أننــي عودتــك علــى أن أكتــب لــك‪ ..‬أحاسيســي وانطباعاتــي‪ ،‬عودتــك علــى أن‬
‫تكــون كتاباتــي‪ ..‬تفكيـ ار بصــوت مقــروء‪.‬‬

‫لقــد كانــت ثقتــك فــي هــذا البــاب هــي القــوة التــي جعلــت منــه منبـ ار حـ ار وشــجاعا‬
‫يقــول مــا يعتقــد بأنــه‪ ..‬يجــب أن يقــال‪ ..‬دون م ارعــاة ألي اعتبــار آخــر‪.‬‬

‫وكــم يــزداد تقديــري لــك إذا حولــت ثقتــك إلــى رد فعــل عملــي‪ ..‬وحولــت آراءك‬
‫الشــفوية إلــى آراء مقــروءة‪ ..‬وتأكــد أن صدورنــا جميعــا مفتوحــة لــك وآل ارئــك‪..‬‬
‫وكلنــا نــردد معــك‪« ..‬وأمــا الزبــد فيذهــب جفــاء وأمــا مــا ينفــع النــاس فيمكــث فــي‬
‫األرض‪.»..‬‬

‫‪115‬‬
‫َُ‬ ‫ُ َّ‬
‫(((‬
‫كتاب وكتاب‬

‫‪ ..‬عزيــزي القــارئ‪ ..‬هــل دفعتــك «حاجــة» عاجلــة يومــا لدخــول إحــدى دورات‬
‫الميــاه العامــة‪ ،‬البــد إذن أنــك قــد الحظــت تلــك الظاه ـرة القميئــة‪ ،‬وحكمــت علــى‬
‫أصحابها بالقصور العقلي والطفولة الفكرية‪ ،‬دون أن تتمالك نفســك من االبتســام‪،‬‬
‫ولكــن دون أن تحــاول بالطبــع إبــداء أريــك فيهــم بص ارحــة مكتوبــة‪.‬‬

‫وال شك أنك فهمت ما أعني‪..‬‬

‫تلــك الظاه ـرة هــي ظاهــرة الكتابــة علــى جــدران دورات الميــاه‪ ،‬والتعليقــات‬
‫البذيئــة التــي تزعجــك وأنــت تمــارس أحــد حقوقــك الطبيعيــة فــي الحيــاة‪.‬‬

‫والغريــب‪ ..‬أن بعــض هـؤالء الكتــاب قــد تســرب إلــى صحافتنــا مســتغال الصــدر‬
‫الرحــب الــذي يقابــل بــه كل إنتــاج مهمــا كان‪ ،‬والحريــة المطلقــة التــي تجدهــا‬
‫كتاباتهــم والتــي تصــل إلــى حــد نشــر كل شــئ‪ ..‬إيمانــا بــأن القــارئ وحــده هــو الحكــم‪.‬‬

‫وأحمــق هــو الــذي يثــور إذا هوجــم بهــذه الطريقــة‪ ،‬وســاذج هــو إذا اســتجاب لهــذا‬
‫النــوع مــن الهجــاء ليعطيــه – بالــرد عليــه – قيمــة أكبــر مــن قيمتــه الحقيقيــة‪ ،‬ذلــك أن‬
‫هــذا النــوع مــن «المخطوطــات» (‪ ..‬سـواء كانــت علــى الجــدران أم علــى الصفحــات)‬
‫يشــكل بقعــة ســوداء تظهــر – بتناقضهــا – نصاعــة اللــون األبيــض‪ ،‬إو�ذا كان النهــار‬
‫يعــرف بالليــل‪ ،‬والخيــر يعــرف – مقارنــة وقياســا – بالشــر‪ ،‬فــإن الكتابــات الجــادة‬
‫فــي صحافتنــا تبــرز وتتأكــد قيمتهــا عنــد مقارنتهــا ‪ ..-‬ال تغلــق أنفــك‪ – ..‬بمــا ســبق‬
‫الحديــث عنــه‪ ..‬مــن تهجمــات موتــورة وســباب شــديد وهجــاء مقــذع‪.‬‬
‫الجيش – أفريل ‪.1968‬‬
‫‪117‬‬
‫لكــن هــذه ليســت الصــورة الوحيــدة التــي ترســم متناقضــات الكتابــات الصحفيــة‬
‫عندنــا‪ ،‬وهــي إن صــح اعتبارهــا‪ ..‬أقصــى اليميــن فــإن أقصــى اليســار تمثلــه‬
‫الكتابــات التــي تغالــى فــي الجديــة فتحلــق فــي العموميــات‪ ،‬وتفرقــع بيــن كل ســطر‬
‫وآخــر قنابــل لفظيــة مــن نــوع « محرقــات العيــد « تزعــج القـراء الطيبيــن – أمثالــي‬
‫وأمثالــك – خاصــة وهــي تستشــهد بأق ـوال كبــار الفالســفة والمفكريــن‪..‬‬

‫قــال الفيلســوف المشــهور جــورج ب‪.‬س‪ .‬ادوار دوفســكي‪« :‬إن االنجـراف مــع‬
‫ميتافيزيقيــة االســتقراء‪ ،‬تقوقــع ال إرادي ناتــج عــن إنبعــاج قزحــي فــي الــذات‬
‫الســوبرمانية‪ ،‬وهــو فــي اســتهوائه إقحــام نورســتاني ال يحقــق األبعــاد الثالثيــة‬
‫للتجســيم الحياتــي»‪.‬‬

‫(وطبعــا‪ ..‬عزيــزي القــارئ‪ ..‬ليــس هنــاك فيلســوف بهــذا االســم‪ ..‬ولــم تكــن هــذه‬
‫أكثــر مــن محاولــة أظهــر لــك فيهــا مقــدار علمــي وثقافتــي وســعة أفقــي‪ !! ‬وأختبــر‬
‫فــي نفــس الوقــت مقــدار صبــرك وتحملــك)‪.‬‬

‫ومــن ســوء حظــي أننــي مريــض بالقــرؤة وأصــاب أحيانــا – مــن كثـرة مــا ألتهمــه‪،‬‬
‫بعســر هضــم فكــري يســببه لــي بعــض مــا أقــرؤه‪ ..‬كبعــض المقــاالت التــي ال يربــط‬
‫بيــن جمــل كل منهــا – بضــم الجيــم – إال وجــود أســطرها مرصوفــة فــي صفحــة‬
‫واحــدة‪.‬‬

‫تطلب األمثلة ؟‬

‫معك حق‪ ..‬معك ألف حق‪..‬‬

‫ولكن‪ ..‬ألست ترى معي أنني أغضبت الكثيرين بأمثلتي ؟‬

‫مــاذا لــو أعفيتنــي هــذه الم ـرة‪ ..‬هــذه الم ـرة فقــط‪ ..‬علــى أن تبحــث فــي ذاكرتــك‬
‫عنهــا‪.‬‬

‫‪ ..‬أرجوك‪ ..‬ال تحرجني‪ ..‬هه‪..‬‬


‫***‬

‫‪118‬‬
‫نــوع ثالــث مــن الكتــاب يمــزق نفســك بيــن تقديــر شــجاعته واســتهجان اندفاعــه‪،‬‬
‫هــذا النــوع ينصــب نفســه محاميــا فــي قضيــة وهميــة‪ ،‬ومدافعــا عــن حقــوق قتيــل‬
‫ليســت لــه جثــة‪ ،‬وأعنــي بــه – كمثــال – األخ الــذي تحــدث فــي العــدد الســابق عــن‬
‫مــن اســماهم‪« ..‬األدبــاء الناشــئين» واســميتهم أنــا سابقا‪»..‬الشــهداء المزيفيــن»‪..‬‬
‫هــذا األخ الــذي ذكرنــي بالمثــل الشــعبي «شــكرنا موســى فــي الز ارعــة‪ ..‬حــرث‬
‫الجبانــة‪»..‬‬
‫ولقد قلت أكثر من مرة أن قضية األدباء الناشئين قضية مفتعلة‪.‬‬

‫ •ألن كتابنــا جميعــا (والمعاصــرون منهــم بوجــه عــام) كتــاب ناشــئون‪ ،‬وهــم ال‬
‫يزعمــون ألنفســهم وضــع العمالقــة (وهــذا مــا يدفــع أكثــر فأكثــر الحترامهــم)‪.‬‬
‫ •والن وجــود «اليميــن» وهمــي‪ ..‬إذا لــم يكــن هنــاك « يســار »‪ ..‬إو�ذا لــم يكــن‬
‫هنــاك كبــار‪ ..‬فليــس هنــاك صغــار‪.‬‬
‫ •وألن األدب كمــا يـراه البعــض (وأكــرر‪ ..‬كمــا يـراه البعــض) تــرف ال يمكــن أن‬
‫نتحملــه فــي هــذه الفتــرة‪ ،‬ألن هنــاك مــا هــو أهــم‪ ،‬و‪ ..‬وافرحتــاه إذا كان كل مــن‬
‫يعــرف الفــرق بيــن األلــف وأصبــع المــوز ســيقدم لنــا فــي كل يــوم قصيــدة عصمــاء‪،‬‬
‫أو قصــة أو مســرحية‪ ..‬يفــرض علينــا تذوقهــا إو�ال كنــا ضــد األدب واألدبــاء‪.‬‬

‫المشكلة مشكلة ثقافة وليست قضية أدب‪.‬‬

‫فكيــف يمكــن لشــاب كتابــة قصــة تــدور فــي وســط ز ارعــي مثــا دون أن يكــون‬
‫ملمــا بشــوؤن الز ارعــة‪ ،‬بأوقــات الحصــاد‪ ،‬بمواعيــد شــروق الشــمس فــي الشــتاء‪،‬‬
‫بالفــرق بيــن ز ارعــة القمــح ورعايــة الكــروم‪ .‬بمتاعــب الفــاح مــع الســلطات المحليــة‪..‬‬
‫بمشــاكله المتعلقــة بالتســويق‪.‬‬

‫كيــف نكتــب مســرحية عــن صـراع الشــباب والشــيوخ (وأيضــا كمثــل) بــدون أن‬
‫نرســم شــخصيات المســرحية بشــكل واقعــي يضمــن إال يتحــدث ال ـ «كونســييرج»‬
‫وكأنــه عضــو فــي مجمــع اللغــة العربيــة‪ ،‬وتتحــدث بنــت العش ـرين بحكمــة بنــت‬
‫الســتين (الســتين ســنة بالطبــع) وتفكــر الراقصــة بعقليــة فتــاة الجامعــة‪ ،‬ويتصــرف‬
‫الطبيــب ككاتــب حــروز والممــرض كأنــه كريســتيان برنــار‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫ســهل يــا ســادة أن نضــع علــى الســن أبطــال القصــة أو المســرحية عبــارات‬
‫وطنيــة ونحشــر عــدة شــهداء‪ ،‬ونقبــل اآلذان بخطبــة مضريــة‪ ،‬ونفتعــل عــدة أحــداث‪،‬‬
‫ثــم نضــع توقيعنــا وكأننــا نوقــع ميثــاق األمــم المتحــدة‪.‬‬

‫اذن‪ ..‬فالقضيــة واضحــة‪ ،‬وأدبنــا‪« ،‬ليــس بخيــر» ألنــه لــم يــدرك بعــد دوره فــي‬
‫مجتمــع األمييــن وأربــاع المتعلميــن (حقيقــة مؤلمــة يجــب أن نعتــرف بهــا دون خجــل‬
‫ولكــن‪ ..‬مــع العمــل الجــاد لتغييرهــا)‪.‬‬

‫األدب أيهــا الســادة الكــرام ليــس وحيــا إليهــا‪ ،‬وليــس ثــروة تنــزل مــن‬
‫الســماء‪ ..‬هــو د ارســة‪ ..‬اطــاع‪ ..‬بحــث‪ ..‬ولهــذا قلــت أن المشــكلة مشــكلة ثقافيــة‬
‫وليســت مشــكلة أدب (أو‪ ..‬قلــة أدب‪,)!! ‬‬

‫فــي عصرنــا‪ ..‬لــم يعــد مقبـوال أن يعيــش المثقــف دون أن يعــرف لمــاذا فشــلت‬
‫عمليــة نقــل القلــب األولــى‪ ،‬كيــف تمكــن ســاح الطيـران اإلسـرائيلي – علميــا – مــن‬
‫تضليــل أجهـزة الـرادار العربيــة (ويســبق هــذا فهــم لمعنــى الـرادار)‪ ،‬مــا هــو انعــكاس‬
‫أزمــة الــدوالر علــى اقتصادنــا‪ ،‬هــل يمكــن أن نحــول كل رصيدنــا إلــى ذهــب‪ ،‬مــا هــو‬
‫تأثيــر التجــارب النوويــة علــى تقلبــات الطبيعــة‪ ،‬مــن هــم كبــار الرســامين والموســيقيين‬
‫والشــعراء والكتــاب‪ ..‬ومــا هــو أثرهــم علــى الحيــاة فــي بلدانهــم ثــم فــي العالــم أجمــع‪.‬‬

‫عش ـرات المواضيــع تشــكل العصــب الرئيســي لمفهــوم الثقافــة فــي القــرن‬
‫العشـرين‪ ،‬وتتضــاءل أمامهــا أهميــة قصيــد شــعرية أو حماســية تقــوم بعمــل المخــدر‪،‬‬
‫وتغــرق مجمــوع مثقفينــا فــي ضبــاب يجعــل منهــم كتلــة شــبحية ذائبــة المالمــح‪.‬‬

‫هل معنى هذا أن نتوقف عن نظم الشعر وكتابة القصص ؟‪! ‬‬

‫بالطبع‪ ..‬ال‪.‬‬

‫ولكن الموضوع‪ ..‬موضوع أسبقية‪..‬‬

‫إنتاجنــا يجــب أن يرتكــز أوال وقبــل كل شــئ علــى التثقيــف‪ ..‬والتوعيــة‪ ..‬بــكل‬
‫مــا تحملــه الكلمتــان مــن معــان‪ ،‬وهنــا ال بــأس مــن قطعــة الحلــوى‪ ..‬مــن ســيجارة‪..‬‬
‫أو كأس قهــوة‪ ..‬ومــن هنــا قلــت فــي العــدد الماضــي أننــي أرى فــي الشــعر‪..‬‬
‫كماليــة الســيجارة مقابــل ضروريــة قطعــة اللحــم‪ ،‬وأســتطيع بمجهــود بســيط اســتبدال‬
‫‪120‬‬
‫جملــة كماليــة الســيجارة بكماليــة قطعــة الجاتــوه أو كأس القهــوة‪ ..‬المهــم أن اللحــم‬
‫ضــروري‪ ،‬وأن القهــوة ال تغنــى عنــه ولكــن العكــس صحيــح‪ ،‬ولهــذا يقــول مثلنــا‬
‫الشــعبي‪ »..‬إذا شــبعت البطــن قالــت للـرأس‪ ..‬غنــي لــي‪ »..‬ونحــن جوعــى‪ ..‬جوعــى‬
‫لــكل مــا يمكــن أن يســمى‪ ..‬ثقافــة‪.‬‬

‫ومن هنا أقول دائما‪ ..‬أن مصيبتنا ليست‪ ..‬الكتاب ولكن‪ ..‬القراء‪..‬‬

‫إن الطريــق األول والوحيــد يبــدأ مــن القـراءة‪ ،‬ويســتكمل ســيره ليتفاعــل القــارئ‬
‫مــع مــا يق ـرأ‪ .‬وهــذا حتــى يصــل إلــى المحطــة النهائيــة وهــي‪ ..‬اإلنتــاج‪ ..‬ولكــن‬
‫الق ـراءة والتفاعــل يبقيــان ســاحه األول وطريقــه لإلنتــاج‪.‬‬

‫وهكذا ال أملك إال أن أثور وأنا أراجع إنتاج بعض القراء في صحافتنا‪.‬‬

‫وجلهــم يعتقــد أن الكتابــة معناهــا‪ ..‬قصيــدة أو قصــة‪ ،‬وهــذا فــي نفــس الوقــت‬
‫الــذي تمــوت فيــه قضايــا حساســة تثــار ثــم ال تجــد مــن يناقشــها ويذكــى نارهــا‪.‬‬

‫وهكــذا أيضــا يحتــرق معظــم كتابنــا فــي محاولــة يائســة لإلبقــاء علــى جــذوة‬
‫الحيــاة الفكريــة فــي صقيــع الالمبــاالة وتحــت ثلــوج القـراء الطيبيــن الذيــن يقــرؤون –‬
‫إذا وجــدوا متســعا مــن الوقــت – ليهــز أحدهــم أرســه‪ ،‬وليبصــق آخــر تعليقــا‪ ،‬وليندفــع‬
‫ثالــث متحمــس إلــى غرفتــه ليأخــذ فــي رص عبــارات طنانــة فــي شــكل عمــودي‬
‫يســميه قصيــدة‪ ،‬أو افتعــال حــودث ســاذجة يســميها قصــة‪ ..‬ثــم يلعــن جــدود كبــار‬
‫الكتــاب‪ !! ‬الذيــن يحتكــرون األدب ويســيطرون علــى صفحــات الج ارئــد والمجــات‪.‬‬

‫الكتابــة ليســت احتــكا ار ألحــد‪ ،‬إنهــا للقــادر عليهــا‪ ،‬المــدرك لرســالتها‪ ،‬إنهــا حــق‬
‫لــكل مــن يفهــم دور الكلمــة ويقدســه‪ ،‬والنقــد ليــس ســيف الخالفــة‪ ..‬يــورث أو ينتــزع‬
‫بالقــوة‪ ،‬هــو حــق لــكل مــن يكتــب‪..‬‬

‫وعندمــا قلــت‪ ..‬أننــا نعيــش فــي قحــط ثقافــي كنــت أعنــي هــذه الكلمــة‪ ..‬إال‬
‫إذا كان يمكــن أن نســمي قطعــة أرض رمليــة يســقيها واحــد بعرقــه وثــان ببصاقــه‬
‫وثالــث ب‪ ..!! ..‬ويتفــرج اربــع وكان األمــر ال يعنيــه‪ ،‬إذا كان يمكــن أن نســمي‬
‫هــذه األرض‪ ..‬جنــة غنــاء‪.‬‬

‫وأفيقوا‪ ..‬يرحمكم اهلل‪..‬‬


‫‪121‬‬
‫(((‬
‫كلمات‪ ...‬ورصاص‬

‫كلمــة البــد أن نجدهــا فــي كل حديــث‪ ..‬كالملــح فــي الطعــام‪ ..‬وس ـواء دار‬
‫الحديــث فــي اجتمــاع مغلــق أم حــول مائــدة فــي مقهــى‪ ..‬فــإن هــذه الكلمــة تكــون‬
‫بالنســبة لــه كمفتــاح «صــول» بالنســبة للقطعــة الموســيقية‪.‬‬

‫وقــل أن يخلــو مقــال مــن كلمــة « الموضوعيــة»‪ ..‬ومــا مــن بحــث إال وكان‬
‫لــه بهــذه الكلمــة – بعــدا عنهــا أو التصاقــا بهــا – عالقــة‪ ..‬كعالقــة الظــل بالســائر‪.‬‬

‫وهــي «أكليشــيه» يطلــق دائمــا كتعليــق علــى حديــث أحدهــم‪ ..‬مســبوقا بــأداة‬
‫نفــي أو متبوعــا بعالمــة اســتفهام‪..‬‬

‫ما هي الموضوعية‪ ..‬؟ على الخبراء في علوم اللغة أن يســعفونا بالجواب‪..‬‬


‫إو�لى أن يأتي‪ ..‬اسمح لنفسي – كقارئ – بأن أدلى بدلوى‪.‬‬

‫أنــا أزعــم بــأن الموضوعيــة هــي «المقــدرة علــى الفصــل بيــن موقــف شــخص‬
‫معيــن وبيــن الشــخص نفســه‪ »..‬وبصــورة أكثــر وضوحــا‪ ..‬هــي الخاصيــة الفكريــة‬
‫التــي تتيــح لنــا مناقشــة أفــكار معينــة دون أن ننظــر إليهــا مــن خــال أشــخاصنا‬
‫أو عبــر شــخص قائلهــا‪.‬‬

‫ومعنى هذا أن دليل الســطحية هو عدم المقدرة على التفريق بين‪« ..‬الهجوم‬
‫علــى أفــكار أو مبــادئ معينــة عــن طريــق مقارنتهــا بأفــكار أخــرى أو تحليلهــا بمــا‬

‫الجيــش – مايــو ‪ .1968‬وكتــب المقــال إثــر محاولــة إغتيــال الرئيــس بومديــن فــي أبريــل‬
‫‪.1968‬‬
‫‪123‬‬
‫يثبــت قصورهــا أو خطأهــا‪ »..‬وبيــن «الهجــوم علــى شــخصية الفــرد الــذي يمثــل‬
‫هــذه األفــكار أو يؤمــن بهــا أو يدعــو لهــا»‪.‬‬

‫ومثــا‪ ..‬أنــت – أو أنــا – ال نحــب غنــاء « فالنــة »‪ ..‬ومــن حقنــا أن نصفــه‬


‫بأنــه كم ـواء قطعــة ســرق أوالدهــا‪ ،‬أو كصريــر ســيارة مســرعة فــي طريــق كثيــر‬
‫االلتـواءات ونحلــل ذلــك بــأن هــذه المغنيــة – ودائمــا كمثــل – تختــار كلمــات تافهــة‪..‬‬
‫أو تجتــاز حــدود طبقتهــا الصوتيــة‪ ..‬ولكــن هــذا كلــه شــئ‪ ..‬وأن نتحــدث عــن عفتهــا‬
‫بمــا يجرحهــا‪ ..‬أو نلصــق بهــا وصفــا مهينــا‪ ..‬فهــذا شــئ آخــر‪.‬‬

‫ولــن أســتطرد فــي إي ـراد األمثلــة‪ ..‬وهــي فــي يقينــي موجــودة أمامنــا وال تحتــاج‬
‫إلــى إشــارة أو تذكيــر‪.‬‬

‫وفــي كل المجــاالت‪ ..‬األدبيــة والسياســية والفنيــة‪ ..‬فــي كل فرصــة يمكــن أن‬


‫تلــوح‪ ،‬نســتطيع أن نكتشــف بســهولة الفــرق بيــن الذيــن يمثلــون فكـرة معينــة يتشــبعون‬
‫بهــا ويتصرفــون بوحــي منهــا‪ ..‬ويملكــون مناقشــة أعدائهــا‪ ..‬الحجــة بالحجــة والـرأي‬
‫ضــد الـرأي والبرهــان بالبرهــان‪ ..‬وبيــن أولئــك الذيــن يعجــزون عــن العمــل لمجــرد‬
‫أنهــم ال يملكــون خطتــه وال يجــدون أمامهــم إال اللجــوء إلــى التجريــم والســب‬
‫والشــتم‪ ..‬أي‪ ..‬الهجوم على الشــخص نفســه ألنهم ال يملكون المقدرة الفكرية على‬
‫مواجهــة موقفــه وتفنيــد حججــه‪.‬‬

‫وقمــة هــذا النــوع مــن الفـراغ الفكــري الحاقــد والضحالــة المذهبيــة الســوداء هــو‬
‫اســتعمال ســاح القتــل‪..‬‬

‫وعلى مر التاريخ‪ ..‬وفي مختلف مراحله‪ ..‬كانت االغتياالت السياسية‪.‬‬

‫‪ -‬الدليــل علــى عجــز بعــض المنظمــات السياســية الطموحــة التــي تســعى إلــى‬
‫الســلطة كهــدف‪ ،‬دون أن يكــون لديهــا مــا تقنــع الجماهيــر بــه‪ ،‬وبطريقــة تحترمهــا‬
‫هــذه الجماهيــر‪ ،‬وتدفعهــا للتعلــق بالحركــة الجديــدة‪.‬‬

‫هنــاك تحــاول هــذه المنظمــات خلــق حالــة مــن الفوضــى علــى مســتوى القيــادة‬
‫بقتــل الـرأس لتســتطيع بعــد ذلــك أن تتســلل‪ ..‬وأن تســيطر‪ ..‬ثــم أن تقــود‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫‪ -‬أو‪ ..‬تعبيـ ار عــن الحقــد الذكــي‪ ..‬ينصــب علــى شــخص معيــن‪ ..‬ولكــن هدفــه‬
‫الحقيقــي هــو مــا يمثلــه هــذا الشــخص‪ ..‬بنفــس الطريقــة التــي يطلــق بهــا القنــاص‬
‫رصاصــه علــى حامــل العلــم لكــي يؤثــر بذلــك علــى معنويــات مجموعــة حربيــة‬
‫معاديــة‪ ..‬إذا رأت علمهــا يســقط تحــت األقــدام‪.‬‬

‫‪ -‬أو‪ ..‬مجــرد انفجــار عصبــي يعبــر عــن الحقــد األعمــى‪ ..‬دونمــا هــدف إال‬
‫االنتقــام مــن وضــع سياســي معيــن فــي شــخص مــن يمثلــه‪..‬‬

‫وكل هذا ال يثير الدهشة وكله ال يبعث على االستغراب‪..‬‬

‫بل‪ ..‬الغريب اال يحدث هذا‪..‬‬

‫كيــف ؟‪ ..‬هــذا هــو مجــرد حديثــي‪ ..‬الــذي أحــاول بــه – كعادتــي مــن التفكيــر‬
‫بصــوت مقــروء – أن أفهــم داللــة تلــك الرصاصــات التــي انطلقــت بعــد منتصــف‬
‫ذلــك اليــوم الحــار مــن أيــام الربيــع‪.‬‬

‫وتفــرض حقيقــة مري ـرة نفســها علــى الحديــث‪ ..‬تنزلــق علــى القلــم لتســيل علــى‬
‫الــورق وتقــف فــي طريقــي‪..‬‬

‫حقيقــة أجه ـزة األمــن فــي بالدنــا‪ ..‬أن ـواع كثي ـرة مــن أجه ـزة األمــن‪ ،‬وهــذا كلــه‬
‫أيضــا‪ ..‬وبعــض ش ـوارعنا ليســت مأمونــة فــي ســاعات الليــل المتأخ ـرة‪ ..‬ومخالفــة‬
‫القانــون أصبحــت ظاهـرة تميــز « المســهول‪ »..‬عــن رجــل الشــارع البســيط‪ ..‬وهــذا‬
‫كلــه بــدون أن أتحــدث عــن الســرقات واالعتــداءات الشــخصية‪..‬‬

‫وتأتي ثالثة األثافي‪..‬‬

‫رئيس الدولة يعتدي عليه‪ ..‬هكذا‪ ..‬بساطة‪..‬‬

‫وتحضرني حادثنان‪:‬‬

‫األولــى يــوم ســهر أحــد اإلخــوة الــوزراء إلــى ســاعة متأخ ـرة مــن الليــل معــي‬
‫وبعــض األصدقــاء‪ ..‬وقمــت فــي آخــر الســهرة بإيصالــه إلــى منزلــه بســيارتي‪..‬‬

‫‪125‬‬
‫وهنــاك فوجئنــا معــا بــأن الشــرطي الــذي يفتــرض وجــوده لح ارســة منــزل موظــف ســام‬
‫يقــف فــي المرتبــة الثانيــة بعــد الرئيــس‪ ..‬هــذا الشــرطي لــم يكــن موجــودا‪..‬‬

‫وذهبنــا إلــى محافظــة الشــرطة‪ ..‬ولــم يســتطع الضابــط المنــوب إال أن يقــول‪»..‬‬
‫واش نديــر يــا ســيدي الوزيــر‪ ..‬بالصــح متهنــي‪ ..‬ارنــي بــاش نديــر فيــه اربــور «‪!! ‬‬

‫والحادثــة الثانيــة كانــت يــوم أوقفنــي رجــال الشــرطة ومعــي صديــق وزوجــه فــي‬
‫الطريــق القــادم مــن القبــة وطلبـوا منــا مغــادرة الســيارة ثــم فتشــوني والصديــق‪ .‬وفتشـوا‬
‫حقيبــة الســيدة (‪ ..‬بــكل أدب واحتـرام‪ ..‬كلمــة حــق ال يجــب أن تنســى) ثــم أدوا لنــا‬
‫التحيــة وســمحوا لنــا باالنص ـراف‪ ..‬دون محاولــة االطــاع علــى هوياتنــا‪ ..‬ودون‬
‫محاولــة فتــح حقيبــة الســيارة الخلفيــة‪ ..‬بــل‪ ..‬ودون النظــر فــي الصنــدوق الموجــود‬
‫بجـوار الســائق‪..‬‬

‫أسموه ما أردتم‪..‬‬

‫بساطة‪ ..‬طيبة‪ ..‬عباطة‪ ..‬إهمال‪.‬‬

‫‪ ..‬قاموس العربية غني‪ ..‬والمترادفات كثيرة‪!! ‬‬

‫ولكنها حقيقة نعيشها وأتى االعتداء على الرئيس ليلفت األنظار إلى خطورتها‪،‬‬
‫إو�لــى أن جهــاز األمــن فــي حــد ذاتــه يفتقــر إلــى التنســيق بيــن منظماتــه المختلفــة‪،‬‬
‫ويفتقــر إلــى االعــداد الكافــي لرجالــه‪ ،‬ويفتقــر إلــى الخطــة الصالحــة للعمــل‪..‬‬

‫هنا‪ ..‬وبدون أية محاولة من جانبي‪ ..‬يفرض وضع آخر نفسه على الحديث‪..‬‬
‫هذا الوضع الذي كدنا نألفه كما يألف رجل طيب التهاب أمعائه المزمن‪.‬‬

‫هــو نظــام «البا ارجــات‪ »..‬وأنــا علــى اســتعداد لكــي أعتــذر‪ ،‬ولكــي أســحب‬
‫كالمــي إذا ظهــر مــن يثبــت فائــدة إقامــة «مضيــق» بوليســي فــي طريــق معيــن ينظــر‬
‫أفراده إلى وجوه راكبي الســيارات أو إلى أشــكالها‪ ..‬و‪ ..‬أنت وزهرك‪ .‬وكأن طريدا‬
‫للعدالــة‪ ..‬حليــق اللحيــة والشــارب‪ ..‬اليســتطيع أن يطلــق لحيتــه وشــاربه‪.‬‬

‫وكأن ســيارة مشــبوهة ســتجازف بالبقــاء خــارج حظيـرة مغلقــة يتــم فيهــا اســتبدال‬
‫لونهــا وربمــا‪ ..‬رقمهــا‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫بل‪ ..‬وكأن راكبي الســيارات وحدهم‪ ..‬هم الذين يســتطيعون ارتكاب الجرائم‪..‬‬
‫أمــا المشــاة وراكبــو الد ارجــات والباعــة المتجولــون‪ ..‬فهــم معصومــون (وأقصدهــم‪..‬‬
‫وضعيــة أو‪ ..‬تنكـرا‪.)..‬‬

‫نحن في القرن العشرين يا سادة‪ ..‬يا أذكياء‪..‬‬

‫أنتــم تتركــون الحمــار وتأخــذون فــي ضــرب الســرج‪ ،‬وأنتــم ال تفعلــون أكثــر مــن‬
‫إثــارة ســخرية المجــرم واســتمطار اللعنــات مــن مواطــن يتعطــل عــن عملــه‪ ،‬أو مــن‬
‫آخــر ال يســتطيع اللحــاق بقطــاره أو مــن ثالــث‪ ..‬ضيــق الصــدر أو قليــل الصبــر‪.‬‬

‫انتــم تســتطيعون إقامــة محطــات للرقابــة فــي منحنيــات الطــرق‪ ..‬محطــات‬


‫ت ارقــب بالنظــارات المكبـرة دون أن تلفــت إليهــا النظــر‪ ..‬وهنــاك تســتطيع عــن طريــق‬
‫أجه ـزة الالســلكي الموجــودة فــي ســيارات الشــرطة أن تتابــع ســيارة مشــبوهة أو‬
‫تعتــرض طريقهــا‪.‬‬

‫وأنــا أقــرر‪ ..‬الت ازمــا أمــام الضميــر حتــى ال يبــرر حديثــي هــذا بأنــه رد فعــل‬
‫شــخصي‪ ..‬أقــرر أننــي – وحتــى اللحظــة – لــم ألــق مــن رجــال الشــرطة أو الــدرك –‬
‫مثلــي فــي ذلــك مثــل عشـرات المواطنيــن – إال االحتـرام إو�ال التقديــر‪ ..‬ربمــا ألننــي‪..‬‬
‫وأيضــا حتــى كتابــة هــذه الســطور – لــم أقطــع خطــا أصفــر‪ ..‬ولــم أتجــاوز ســرعة‬
‫قانونيــة ولــم تصــدر ضــدي نشـرة بحــث وتنقيــب‪.‬‬

‫طلقــات الرصــاص التــي مزقــت هــدوء ســاحة قصــر الحكومــة البــد وأنهــا أيقظت‬
‫النيــام‪ ..‬والبــد أن تكــون بالنســبة لنــا كطلقــة المســدس التــي تحــدد بدايــة الســباق‪..‬‬
‫تحــدد لنــا نقطــة االنطــاق إلعــادة النظــر فــي أجه ـزة األمــن فــي بالدنــا بصــورة‬
‫تجعــل منهــا أكثــر ضمانــا ألمــن هــذا البلــد وســامته‪.‬‬

‫والبــد‪ ..‬بــادئ ذي بــدء‪ ..‬أن يتــم توحيــد كل أجهــزة األمــن التــي تختــص بالحيــاة‬
‫المدنيــة بصــورة تجعــل منهــا جهــا از متناســق الفــروع متكامله(((‪.‬‬

‫‪ .1‬تــم فيمــا بعــد إدمــاج الهيئــة الوطنيــة لألمــن ( الــس‪ .‬أن‪.‬أس ) فــي إطــار الشــرطة لكــن نظــام‬
‫«الباراجــات» ظــل علــى حاله‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫ولــن اســتطرد فــي الحديــث عــن هــذا ألن مجالــه ليــس صفحــات المجــات وألن‬
‫كل حديث ال تدعمه األرقام وال يعتمد على الوثائق‪ ..‬سســيكون بناء على صفحة‬
‫المــاء‪ ..‬بنــاء ال يركــب وال يقطــن‪.‬‬

‫وبقيت كلمة أخيرة‪.‬‬


‫إن أخطر سوســة تنخر جذوع النظام الثوري وجذوره‪ ..‬هي‪ ..‬سوســة التســامح‬
‫المفرط و‪ »..‬ضرب النح‪ »..‬واالنتظار إلى أن تســقط الثمرة المتعفنة وحدها‪.‬‬
‫وخطــورة هــذا هــو مــا يعطيــه مــن آثــار تنعكــس علــى تصرفــات المواطــن‪ ،‬وعلــى‬
‫وجــه الدقــة‪ ..‬علــى الت ازمــه الثــوري مــع قيادتــه‪ ..‬وبالتالــي علــى تفاعلــه معهــا‪..‬‬
‫‪ -‬المواطــن يقــول لنفســه عندمــا يواجــه بموقــف يفــرض عليــه الت ازمــا معينــا‬
‫مــع النظــام ومــا يتبــع هــذا مــن وقــوف ضــد أعــداء هــذا النظــام‪ ..‬يقــول لنفســه‪»..‬‬
‫وغــدوه‪ ..‬كــون يتفاهمـوا الكبــار‪ ..‬واش نســوى أنــا‪ »..‬وهــذا هــو بدايــة تيــه الســلبية‬
‫الوطنيــة وهــو أخطــر مــا يمكــن أن يصيــب نظامــا ثوريــا‪.‬‬
‫‪ -‬وعــدو النظــام يقــدم علــى العمــل العدائــي وهــو يــدرك أن أخطــر مــا يمكــن‬
‫أن يصيبــه هــو أن يختفــي فــي الظــام أيامــا أو شــهورا‪ ..‬فــي انتظــار مســاومة‪..‬‬
‫أو ترضيــة‪.‬‬
‫والحديث بدأ يسير في أرض وعرة‪.‬‬
‫والقلم يتردد‪.‬‬
‫ومجالــي فــي صفحــات المجلــة يوشــك علــى االنتهــاء‪ ..‬ولعلــي أعــود إلــى هــذا‬
‫الحديــث‪ ،‬ولعــل زميــا آخــر يمســك بالخيــط‪ ،‬وال أملــك إال أن أقــول‪..‬‬
‫الحمد هلل‪ ..‬الذي كان معنا دائما في كل شدة‪..‬‬
‫ويــا مــن تؤمنــون بــأن الحلــول ال تكــون إال بالمســدس‪ ..‬تذكــروا‪ ..‬أن العنــف يلــد‬
‫العنف‪ ..‬وأن الدماء تجر الدماء‪ ..‬وأن ما يؤخذ بالسيف يمكن أن يسترد بالسيف‪.‬‬
‫ولست أطلب منكم أن ترحموا بعضكم‪ ..‬أطلب منكم أن ترحمونا نحن‪ ..‬ترحموا‬
‫هذا الشعب الذي دفع الكثير من أجلكم ولست أظن أنه ما زال راغبا في الدفع‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫(((‬
‫هالو "فريندز»‬

‫‪ ..‬و‪« ..‬هالو» كلمة انجليزية معناها «أهال» وينطقها أصدقاؤنا الفرنسيون‪..‬‬


‫ألــو‪ ..‬لعجزهــم عــن نطــق حــرف الهــاء‪ ،‬وعنهــم أخذناهــا نحــن كالببغــاوات المحترمــة‬
‫لنســتعملها فــي التليفــون‪ ..‬آلــو آلــو‪ ..‬فــي حيــن أن اســتعمال األصــل العربــي‪..‬‬
‫«أهــا»‪ ..‬ألطــف وأظــرف و‪ ..‬مــا علينــا‪.‬‬

‫وأمــا «فرينــدز» فهــي أيضــا كلمــة انجليزيــة تعنــي «األصدقــاء» وبمــا أننــي أبربــر‬
‫باالنجليزيــة‪ ،‬فإننــي أتوقــع مــن قــارئ االنطباعــات الــذي ألــف أســلوبها (ولعــل هــذا‬
‫امتحــان لــه)‪ ..‬أتوقــع منــه أن يــدرك أننــي أكتــب لــه مــن البــاد الناطقــة باالنجليزيــة‪.‬‬

‫أي نعــم يــا ســادة كـرام‪ ..‬أخوكــم يحيــى عمليــا ذكــر ابــن بطوطــة فيســافر إلــى‬
‫لنــدن ليقــوم برحلــة يزعــم أنهــا ثقافيــة بعــد جولــة خاطفــة فــي باريــس قطعــت فيهــا‬
‫عش ـرات الكيلــو مت ـرات علــى قدمــي اللتيــن ســيأكلهما الــدود – بعــد عمــر طويــل‪..‬‬
‫قول ـوا إن شــاء اهلل –‬

‫ولقــد وصلــت مطــار باريــس فــي يــوم قائــظ خانــق‪ ،‬ولكننــي لــم أقــف فــي نفــس‬
‫الصــف الــذي يقــف فيــه كل ج ازئــري يدخــل إلــى الديــار الفرنســية فهنــا أيهــا األفاضــل‪..‬‬
‫فــي مطــار أورلــي (وتكتــب هكــذا بالفرنســية ‪ ORLY‬ال هكــذا ‪.)HORS-LIT‬‬

‫‪ ..‬هنــا ينقســم البشــر إلــى فئتيــن‪ ..‬مســافرون وجزائريــون(((‪ ..‬له ـؤالء ممــر‬
‫ولهـؤالء ممــر آخــر‪ ..‬ويتعــرض الج ازئــري فــي بعــض األوقــات إلــى أســئلة مدققــة‪..‬‬

‫الجيش – سبتمبر ‪.1968‬‬


‫‪ .2‬اتخــذت الســلطة الجزائريــة موقفــا حازمــا مــن أمثــال هــذه التصرفــات والغيــت هــذه الطريقــة‬
‫السمجة‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫لــم أتعــرض لهــا أنــا‪ ..‬لمــاذا؟‪ ..‬أمــر بســيط‪ ..‬بمجــرد نزولــي مــن الطائ ـرة‪ ..‬ذهبــت‬
‫إلــى مقهــى المطــار‪ ،‬وعلــى غيــر مضــض ارتشــفت قدحــا مــن «االكســبريس»‪ ..‬ثــم‬
‫أعــدت خــال لحظــات ق ـراءة جريــدة الشــعب التــي كانــت معــي‪ ،‬ثــم جعلــت جولــة‬
‫فــي مجــال المشــتريات وأخيـ ار اتجهــت إلــى بــاب الخــروج حيــث قدمــت جـواز ســفري‬
‫وكأننــي أغــا خــان فــي زيــارة شــبه رســمية‪ ..‬وفهــم الشــرطي لعبتــي التــي تفاديــت بهــا‬
‫االنتظــار فــي الصــف‪ ،‬فوضــع خاتمــه علــى الج ـواز وهــو ينظــر إلــي مــن خــال‬
‫نظارتــه كقــط ينظــر فــي الم ـرآة‪.‬‬

‫وخرجــت إلــى باريــس وأحسســت بأننــي أختنــق‪ ..‬هــذه المدينــة البــاردة التــي ال‬
‫قلــب لهــا جعلتنــي أدرك مــا معنــى أن يعيــش اإلنســان فــي عصــر اآللــة‪ ..‬كل شــئ‬
‫يبــدو زائفــا‪ ..‬حتــى القبــات التــي تفرقــع يميــن ويســارا‪ ..‬كانفجــار أغطيــة زجاجــات‬
‫البيـرة فــي بعــض مقاهينــا‪ ..‬وحتــى الضحــكات التــي تتناثــر كمجموعــة مــن العمــات‬
‫المعدنيــة فــي وعــاء لشــحاذ تعثــر فيــه طفــل‪ .‬وكان علــي أن أبقــى فــي باريــس أيامــا‬
‫فــي انتظــار الطائـرة التــي ســتنقلني إلــى لنــدن حيــث تولــت إحــدى شــركات الســياحة‬
‫إعــداد برنامــج زيارتــي‪.‬‬

‫ولقد امتصت أنفاق المترو أكثر من ثلث وقتي والوقت الباقي أخذ منه النوم‬
‫مــا أخــذ وتــرك لــي مــا يكفــي لكــي أجــوب الشـوارع طـوال وعرضــا‪ ..‬مــن «مونماتــر»‬
‫إلــى «النجمــة» ومــن ســاحة مــارس ببرجهــا الشــهير إلــى حدائــق الفرســاى وقصرهــا‪،‬‬
‫ومــن مســجد باريــس إلــى كنيســة نوتــردام إلــى حانــات «البيغــال»‪ ..‬حيــث للحــم‬
‫البشــري ســوق كســوق الحـراش‪.‬‬

‫ووقفــت طويــا تحــت قبــة «األنفاليــد» أتأمــل القبــر الرخامــي ال ارئــع الــذي يضــم‬
‫بقايــا نابليــون‪ ،‬ويمثــل فــي نظــري نصبــا تذكاريــا للنفــاق التاريخــي‪ ،‬حتــى أنــه يخيــل‬
‫لــي أن الهــدف مــن إقامتــه هــدف ســياحي محــض (ولعلــه الســترداد األم ـوال التــي‬
‫صرفــت فــي الحــروب)‪.‬‬

‫وعشــت يومــا كامــا فــي ردهــات «اللوفــر» وخاصــة فــي بهــو اللوحــات‪ ..‬حيــث‬
‫خلــد الفنانــون أنفســهم وخلــدوا بلدهــم‪ ..‬ثــم خرجــت ألقــف فــي «الكونكــورد» وال تخيــل‬
‫مذابــح الثــورة الفرنســية وكيــف أكلــت أبناءهــا الواحــد بعــد اآلخــر‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫والغريــب أنــه فــي الوقــت الــذي تنتصــب فيــه فــي واحــد مــن أكبــر مــن مياديــن‬
‫باريــس مســلة مصريــة‪ ..‬ال أذكــر أننــي شــاهدت فــي أحــد مياديــن القاهـرة أي نصــب‬
‫يمثــل الماضــي العريــق لهــذا البلــد – باســتثناء تمثــال رمســيس الثانــي‪.‬‬

‫وحانت ساعة السفر‪.‬‬

‫ومن « البورجيه» تقلع طائرتي النفاثة (طبعا هي ليســت طائرتي الشــخصية‬


‫إو�ن كان األمــر ال يحتــاج إلــى الشــرح) ذات الثــاث محــركات‪ ..‬وقبــل أن أســتطيع‬
‫إكمــال صحيفتــي‪ ..‬نزلــت الطائ ـرة فــي مطــار « هيثــرو» بلنــدن‪ ..‬قطعــت بحــر‬
‫المانــش وعبــرت « القــارة « إلــى تلــك الجــزر التــي كانــت إمبراطوريــة ال تغيــب‬
‫الشــمس عــن ممتلكاتهــا لمجــرد البحــث عــن سـؤال كان يطــن فــي أدنــى كلمــا قـرأت‬
‫شــيئا عــن الحــرب العالميــة الثانيــة‪..‬‬

‫لمــاذا كانــت بريطانيــا هــي الدولــة الوحيــدة التــي لــم ترفــع العلــم األبيــض أمــام‬
‫هتلــر بعــد أن اشــتعلت الحــرب العالميــة فــي عــام ‪ ..1939‬إو�ذا كان رئيــس وزرائهــا‬
‫تشــمبرلن مســؤوال عــن مهزلــة ميونيــخ‪ ..‬فهــل كان هــذا مجــرد قصــر نظــر بريطانــي‬
‫أم بعــد نظــر ألمانــي‪.‬‬

‫كنــت أحــاول أن أفهــم هــذا الشــعب الــذي ق ـرأت عنــه‪ ،‬والــذي كان يتجاذبنــي‬
‫كلمــا فكــرت فيــه االحت ـرام والك ـره‪.‬‬

‫خرجــت مــن بــاب الطائـرة ألجــد نفســي مباشـرة داخــل مبنــى المطــار‪ ..‬ذلــك أن‬
‫المطــار مصمــم علــى شــكل ألســنة فــي نهايــة كل منهــا قنطـرة صغيـرة مغطــاة تشــبه‬
‫الوصــات بيــن عربــات القطــار‪ ،‬وارتفــاع الطــرف الخارجــي للقنطـرة مســاو الرتفــاع‬
‫بــاب الطائـرة التــي تقــف بحيــث يلتقــي بابهــا مــع الطــرف الخارجــي للقنطـرة‪ ،‬وهكــذا‬
‫ال يتعــرض المســافر لتقلبــات الطقــس ولضجيــج ممـرات المطــار‪.‬‬

‫نسيت أن أقول أنه خالل الرحلة لم يقدم إلينا أي مشروب‪ ..‬وحتى «البونبون»‬
‫التقليــدي لــم نذقــه‪ ..‬وهنــا أشــهد للخطــوط الجويــة الجزائريــة برقــة المعاملــة وحســن‬
‫رعايــة المســافر ممــا لمســته فــي رحلتــي مــن الج ازئــر إلــى باريــس‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫وشــئ آخــر أزعجنــي عندمــا بــدأت الطائـرة االنجليزيــة فــي تحليقهــا مــن مطــار‬
‫باريــس‪ ..‬هنــاك ارتفــع صــوت المذيــع ليطلــب إلينــا قـراءة النشـرة الموجــودة أمــام كل‬
‫مســافر والتــي ترشــده إلــى طريقــة التصــرف عنــد حــدوث الكـوارث الجويــة‪ ..‬ولكــم أن‬
‫تتخيلـوا منظــر المســافر المعلــق بيــن الســماء واألرض وهــو يقـ أر مثــل هــذه النشـرة‪..‬‬
‫ولقــد ذكــرت هــذا ألنــه يرســم صــورة مــن صــور التفكيــر عنــد االنجليــز‪ ،‬وقــد يوافــق‬
‫البعــض علــى هــذه الطريقــة بينمــا يرفضهــا البعــض اآلخــر ولكننــي أكتفــي هنــا‬
‫بالتســجيل‪.‬‬

‫وصلــت فــي نفــس الوقــت ثــاث طائـرات‪ ..‬وعندمــا شــاهدت تكاكــؤ‪ !! ‬الــركاب‬
‫علــى مدخــل القاعــة الداخليــة تأكــدت أن اإلج ـراءات الرســمية لــن تنتهــي قبــل‬
‫ســاعات وســاعات‪..‬‬

‫ولكن بعد أقل من نصف ســاعة جاء دوري ألقف أمام ضابط الشــرطة الذي‬
‫ســألني عــن مــدة زيارتــي لبريطانيــا ثــم وضــع خاتمــه علــى البطاقــة التــي مألتهــا‬
‫وعلــى جـواز الســفر دون أن يفحصــه‪.‬‬

‫ذلــك إنــه ليــس بيننــا وبيــن المملكــة المتحــدة أي تأشــيرة للدخــول‪ ،‬ويســتطيع‬
‫الج ازئــري أن يدخــل فــي أي وقــت شــاء إلــى بريطانيــا دون حاجــة إلــى «فيـزا»‪ ،‬وأتــرك‬
‫لكم حرية الشــعور بالم اررة التي أحسســت بها‪ ..‬الم اررة‪ ..‬ألنني كجزائري ال أســتطيع‬
‫دخــول بعــض البلــدان العربيــة وربمــا اإلفريقيــة بــدون « فيـزا»‪ ..‬و‪ ..‬مــا علينــا‪!! ‬‬

‫بعــد لحظــات‪ ..‬مــررت أمــام ضابــط الجمــارك (الديوانــة) الــذي لــم تفتعــل‬
‫ويشــرف حقيبتــي بتفتيشــها ركنــا ركنــا‪ ،‬ولــم ينظــر إلــي بنظ ـرة شــك تفتعــل الــذكاء‬
‫وكأننــي مهــرب مخــدرات أو مـواد ممنوعــة‪ ،‬ولــم يعتبرنــي «متهمــا» إلــى أن تثبــت‬
‫براءتــي‪( ..‬لســت أحــاول هنــا أن ألمــز وأغمــز‪ ..‬هــه)‪ ..‬ســألني‪ ..‬هــل معــك تبــغ‪..‬‬
‫وقلــت كفايتــي الشــخصية‪ ..‬وقــال‪ ..‬شــكرا‪..‬‬

‫وبعــد لحظــات أخــرى كنــت أركــب مــع بقيــة المســافرين ســيارة المطــار لتنقلنــا‬
‫إلــى المحطــة الجويــة الكائنــة علــى مشــارف المدينــة‪ ،‬وعلــى مقربــة مــن خطــوط‬
‫المواصــات الداخليــة‪ ،‬وهكــذا ال يحمــل المســافر عــبء االنتقــال مــن المطــار إو�ليــه‬

‫‪132‬‬
‫فالمحطــة الجويــة هــي عبــارة عــن جــزء مــن المطــار موجــود فــي المدينــة‪ ،‬يتقــدم‬
‫إليهــا المســافر ويســلم أمتعتــه ويحجــز تذكرتــه ويضــع يديــه فــي جيبيــه ليركــب ســيارة‬
‫المطــار بــدون حاجــة للبحــث عــن تاكســيات «كلوندســتان»‪ ..‬للذهــاب مــن المدينــة‬
‫إلــى المطــار البعيــد(((‪.‬‬

‫وهكــذا نزلــت فــي المحطــة الجويــة (محطــة غربــي لنــدن) التــي تشــكل مســاحتها‬
‫ضعــف مســاحة مبنــى مطــار الــدار البيضــاء وفيهــا مقهــى وبــار ومكاتــب لشــركة‬
‫الطيـران ومحــل لبيــع األشــياء التذكاريــة ومحطــة بريــد وعــدة تليفونــات وخ ازئــن لحفــظ‬
‫األمتعــة وهــي تتفــوق فــي نظامهــا علــى محطــة « االنفاليــد « الجويــة بباريــس‪.‬‬

‫بمجــرد وصولــي الحظــت شــيئا ســاحرا‪ ..‬حيثمــا أدرت بصــري كانــت هنــاك‬
‫ابتســامة‪ ..‬وقــورة أحيانــا‪ ..‬صاخبــة أحيانــا‪ ..‬ومغــردة مـرات‪ ..‬حتــى أصبحــت أعتقــد‬
‫بــأن هـؤالء النــاس يؤمنــون بــأن الشــفاء قــد خلقــت لالبتســام – بجانــب أشــياء أخــرى‬
‫أدعهــا لخيالكــم – وهكــذا كانــت البشاشــة واألدب الجــم والعذوبــة صفــات يلمســها‬
‫الســائح بمجــرد نزولــه مــن طائرتــه‪.‬‬

‫(ملحوظــة‪ :‬لســت أقصــد هنــا أن أمــس – مــن قريــب أو مــن بعيــد – أي أحــد‪،‬‬
‫وال أقصــد أي غمــز ولمــز أو دفــع للقــارئ إلــى عقــد المقارنــات‪ ..‬هــه‪.)..‬‬

‫«يو آر ولكم سير‪»!! ‬‬

‫مــن المحطــة الجويــة خرجــت أحمــل حقيبتــي المناضلــة آلخــذ ســيارة تاكســي‬
‫إلــى الفنــدق‪ ..‬وفوجئــت بمنظــر بــدا لعينــي المتعبتيــن غريبــا‪ ..‬المســافرون يقفــون فــي‬
‫صــف‪ ..‬وســيارات التاكســي تتحــرك فــي صــف‪ ،‬بحيــث يركــب المســافر األول فــي‬
‫الصــف الســيارة األولــى‪ ..‬ثــم يليــه المســافر الثانــي فــي الســيارة الثانيــة بعــد تحــرك‬
‫األولــى وهكــذا‪ ..‬منظــر ارئــع اســمه النظــام‪..‬‬

‫وصــل دوري فركبــت ســيارة التاكســي (وألن التاكســي ليســت كلمــة انجليزيــة‬
‫أصيلــة فهــم ال يســتعملونها‪ ،‬ويكتفــون بكتابــة كلمــة أج ـرة علــى مقدمــة الســيارة‪..‬‬
‫‪ .1‬في العام التالي أقيمت المحطة الجوية لمطار العاصمة أمام فندق أليتي‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫صــورة مــن صــور االعت ـزاز بالقوميــة يلمســها المســافر فــي كل لحظــة) وســيارات‬
‫التاكســي كلهــا ســوداء‪ ،‬ومــن نــوع انجليــزي واحــد رغــم تبعيتهــا لشــركات متعــددة‪،‬‬
‫ويميزهــا عــن ســيارات التاكســي فــي البلــدان األخــرى التــي زرتهــا عــدم وجــود حقيبــة‬
‫خلفيــة للســيارات حيــث توضــع الحقائــب بج ـوار الســائق الــذي يفصلــه عــن مــكان‬
‫الــركاب حاجــز زجاجــي‪ ،‬وهكــذا أمكــن اســتعمال الجــزء الخلفــي مــن الســيارة لوضــع‬
‫أربعــة مقاعــد متقابلــة‪ ..‬أمــا عــداد الســيارة فهــو فــي الداخــل بحيــث يســتطيع ال اركــب‬
‫رؤيتــه‪..‬‬

‫ومــع تحــرك الســيارة عشــت ظاهـرة يتمثــل فيهــا تمســك هــذا الشــعب بتقاليــده‪..‬‬
‫الســيارات هنا تســير على اليســار‪ ..‬بخالف ما هو جار في العالم كله‪ ..‬ويتســاءل‬
‫االنجليــزي بدهشــة‪ ..‬كيــف تســيرون فــي بلدانكــم علــى اليميــن ؟؟‪ ..‬وهــذا إو�ن كان‬
‫مصــدر تنكيــت علــى تقاليــد بريطانيــا إال أنــه – بجانــب المظاهــر األخــرى – يلقــي‬
‫الضــوء علــى عقليــة الشــعب البريطانــي وتمســكه بتقاليــده إلــى حــد العنــاد وال‬
‫«تاغنانــت‪.»..‬‬

‫نزلــت مــن ســيارة األجـرة – لتفــادي كلمــة تاكســي – أمــام الفنــدق التفاجــأ برجــل‬
‫وقــور يرتــدي قبعــة عاليــة « تــوب هــات « وتحلــى النياشــين صــدره ويغطــي عنقــه‬
‫بف ارشــة (بابيــون) ســوداء‪ ..‬ويوحــي منظـره بأنــه مــن كبــار العســكريين أو مســؤولي‬
‫و ازرة الدفــاع‪..‬‬

‫يو آر ولكم سير‪..‬‬

‫(مرحبا بك يا سيدي)‪..‬‬

‫هو يوجه الحديث‪ ..‬وينحني‪ ..‬ثم يمد يده ليحمل الحقيبة عني‪.‬‬

‫« حاشاك‪...»...‬‬

‫قلت أنا‪..‬‬

‫ولعدة لحظات أصبت باالرتباك‪..‬‬

‫‪134‬‬
‫البد أن هناك خطأ ما‪ ..‬فمن أنا حتى استقبل بهذه الطريقة الرسمية‪..‬‬

‫هــل يكــون اإلخــوة فــي «الجيــش» قــد بعثـوا بتوصيــة علــى شــخصي المتواضــع‬
‫أوحــت للمســؤولين هنــا بأننــي شــخص مهــم‪..‬‬

‫وكفقاقيــع الصابــون‪ ..‬تصاعــد غــروري‪ ،‬البــد إذن مــن أن أظهــر بمظهــر‬


‫«الرجــل المهــم‪ ،»..‬ولكــن الحقيقــة صفعتنــي فجــأة‪..‬‬

‫كان ســيادته‪ ..‬مجــرد ال «بالنتــو» المكلــف باســتقبال رواد الفنــدق‪ ..‬ومالبســه‬


‫جــزء مــن طبيعــة عملــه‪ ..‬ولكننــي كنــت مبهــو ار لدرجــة أننــي أعطيتــه هبــه «بــور‬
‫بـوار‪ »..‬وأنــا محــرج‪ ..‬أكاد أعتــذر‪ ..‬وانحنــى الرجــل أمامــي بــكل احتـرام‪ ..‬ثــم عــاد‬
‫ليســتقبل ازئـ ار آخــر‪.‬‬

‫دخلــت إلــى غرفتــي‪ ..‬ووضعــت أمامــي خريطــة لنــدن‪ ،‬وبرنامــج الزيــارة الــذي‬
‫أعــد لــي عــن طريــق وكالــة الســياحة فــي باريــس‪ ..‬ورســمت جــدول أعمالــي بحيــث‬
‫أســتطيع زيــارة األماكــن التــي ال يشــملها البرنامــج األساســي‪ ..‬وقــررت أن أبــدأ مــن‬
‫اليــوم‪..‬‬

‫نســيت أن أقــول لكــم أننــي دفعــت لســائق ســيارة األج ـرة الثمــن المحــدد فــي‬
‫العــداد‪ ..‬لــم يحــاول الســائق أن يطلــب لنفســه «بنســا» واحــدا ازئــدا عــن القيمــة ورغــم‬
‫أننــي لــم أعطــه «هبــة» إال أنــه ودعنــي باحت ـرام‪ ..‬ثانــك يــو‪ ...‬ســير»‪.‬‬

‫الشــئ الالفــت لنظــر أي ســائح يأتــي إلــى هــذه البــاد هــو التقديــر‬
‫الكامــل لظروفــه‪ ،‬وتفهمهــا‪ ..‬هنــاك أوال الخ ارئــط المفصلــة‪ ،‬وعليهــا –‬
‫بأل ـوان ممي ـزة – المعالــم الرئيســية للمدينــة‪ ،‬وهنــاك الكتــاب األبجــدي الــذي‬
‫يســمح لــك بالعثــور علــى أي شــارع تــود الذهــاب إليــه (الكتــاب الوحيــد‬
‫عــن مدينــة الج ازئــر كتــاب قديــم تصــدره دار نشــر فرنســية‪ ! ‬فــي ليــون‪)! ‬‬
‫ثــم هنــاك دليــل الســيارات العامــة‪ ،‬وخطــوط المتــرو‪ ،‬بحيــث ال تضطــر إلــى ركــوب‬
‫ســيارات األج ـرة‪ ،‬إو�لــى جانــب هــذا كلــه الفتــات الش ـوارع والالفتــات الموجــودة فــي‬
‫مفــارق الطــرق والتــي تحــدد االتجاهــات‪ ،‬وطبعــا لــن أضيــف إلــى هــذا وعــي رجــل‬

‫‪135‬‬
‫البوليــس ومعرفتــه الكاملــة للحــي الــذي يعمــل بــه بحيــث ينــدر أن يقــول لــك الشــرطي‬
‫كجـواب علــى سـؤالكم «أنــا مانيــش منــا يــا الخــو‪.»..‬‬

‫اســتراحة قصي ـرة‪ ..‬التقــط فيهــا أنفاســي وأجيــب فيهــا علــى تســاؤالت للقــارئ‬
‫لعلهــا تــدور فــي مخيلتــه منــذ الســطور األولــى لهــذا الحديــث‪.‬‬

‫ما هو هدف هذه السطور ؟‪..‬‬

‫لقــد ســافرت لظــروف صحيــة وعلــى نفقتــي الخاصــة وأحببــت – برغــم مــا‬
‫كنــت أعانيــه – أن أشــرك القــارئ معــي فــي التمتــع ببعــض المظاهــر المشـرقة لهــذه‬
‫الرحلــة‪.‬‬

‫وعلــى هــذا فالحديــث ال يزعــم لنفســه عمــق البحــث العلمــي بقــدر مــا هــو عــرض‬
‫للصــورة التــي تقدمهــا بريطانيــا للســائح األجنبــي وهــي صــورة مش ـرفة خاصــة إذا‬
‫قارناهــا بمــا يحــس بــه الســائح فــي كثيــر مــن العواصــم العالميــة األخــرى‪.‬‬

‫ولعــل هــذه الســطور تعنــي الرفــض الضمنــي لمــا طالــب بــه األخ محمــود‬
‫رويــس فــي «محطــة» الشــعب‪ ،‬إو�ن كانــت تتفــق معــه فــي بعــض الخطــوط الفرعيــة‪،‬‬
‫فالســياحة الخارجيــة هــي ضــرورة ثقافيــة واجتماعيــة وسياســية بشــرطين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أال تكــون ســياحة مســروقة بمعنــى أال تســتغل أم ـوال الدولــة تحــت‬
‫غطــاء ال «أوردر دو ميســيون» فــي تحقيقهــا‪.‬‬

‫والثانــي‪ :‬أن يــدرك المســافر أن عليــه التزامــات وطنيــة‪ ،‬فأنــا ال أتصــور مواطنــا‬
‫يذهــب إلــى أوروبــا ليعيــش فــي «علــب الليــل» كصائــم الدهــر أمــام مائــدة إفطــار‬
‫دســمة‪ ،‬وال أتخيــل عربيــا يــزور بلــدا أجنبيــا فــا يســتطيع أن يعطــي صــورة مشـرفة‬
‫لبــاده‪ ،‬ويتصــرف إيجابيــا بمــا يكســب لهــا األصدقــاء واألنصــار‪ ،‬وعــدم توفــر هــذا‬
‫الشــرط بالــذات – بجانــب بعــض األســباب االقتصاديــة – قــد يبــرر عــدم فتــح‬
‫األب ـواب علــى مصراعيهــا‪ ..‬و‪ ..‬مــا علينــا‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫«بيكاديللي سيركس»‬
‫اعتقــد أن لنــدن مــن أســهل المــدن بالنســبة للســائح‪ ..‬فهــذه المدينــة يقســمها نهــر‬
‫«التاميــز» إلــى قســمين‪ .‬تربطهــا عــدة جســور تاريخيــة ولعــل أهمهــا هــو جســر بــرج‬
‫لنــدن فــي الجــزء الشــمالي مــن النهــر‪ ،‬كمــا تربــط بيــن أطرافهــا عــدة خطــوط رئيســية‬
‫للمتــرو الــذي يســير فــي أنفــاق تحــت األرض‪ ،‬وللحافــات اللندنيــة الشــهيرة ذات‬
‫الطابقيــن والتــي تنطلــق مــن ميــدان بيكاديلــي لتصــل إلــى كل جــزء مــن عاصمــة‬
‫يــكاد عــدد ســكانها يســاوي عــدد ســكان دول بأكملهــا‪.‬‬

‫هنــا جنــة المدخنيــن‪ ..‬ففــي المتــرو هنــاك عــدة عربــات يبــاح فيهــا التدخيــن‪،‬‬
‫كمــا يبــاح فــي الــدور الثانــي للحافــات‪ ،‬وفــي دور الســينما المكيفــة الهـواء (تكييفــا‬
‫حقيقيــا ال مجازيــا‪.)! ‬‬

‫ويمكــن للســائح أن يضــع خطتــه بمجــرد تصــور الوضــع الطبوغ ارفــي للمدينــة‬
‫بحيــث يعتبــر شــارع أكســفورد وامتداديــه كعمودهــا الفقــري وميــدان بيكاديللــي كقلبهــا‬
‫وهكــذا يضمــن أال يضيــع و‪ ..‬يتلــف لــه الحســاب‪..‬‬

‫وبيكاديللــي ســيركس كمــا يســمى‪ ..‬ميــدان صاخــب يــكاد يقابــل ســاحة الشــهداء‬
‫فــي العاصمــة أو قســنطينة ومنــه تتفــرع عــدة شـوارع هامــة باإلضافــة إلــى أنــه مركــز‬
‫المواصــات اللندنيــة وتشــكل منطقتــه القلــب الفنــي النابــض حيــث تتناثــر المســارح‬
‫ودور الســينما والمالهــي وهنــا فقــط تســتطيع أن تضمــن شـرابا فــي أي وقــت تشــاء‪.‬‬

‫والوقــوف فــي ميــدان بيكاديللــي متعــة لل ازئــر‪ ..‬هنــا نجــد أنواعــا مــن البشــر قــل‬
‫أن ت ارهــا فــي مــكان آخــر‪ ..‬هنــا تجــد األمريكــي بقميصــه الملــون والهنــدي بعمامتــه‬
‫الشــهيرة‪ ..‬وهنــا أيضــا تــرى االنجليــزي كمــا ألفنــا رؤيتــه فــي الســينما‪ ..‬القبعــة‬
‫الســوداء الرخــوة والمظلــة يقــرع بهــا األرض أو يعلقهــا علــى ذ ارعــه بينمــا يحمــل فــي‬
‫يــده األخــرى محفظــة ســوداء‪.‬‬

‫هــذا بــدون الحديــث عــن الخنافــس وقــد أريــت منهــم مجموعــة أثــارت اشــمئزازي‬
‫ولكــن هــذا االشــمئزاز ســرعان مــا تكفلــت بإزالتــه مجموعــة مــن البســات المينــي‬
‫جيــب‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫عرفــت اآلن لمــاذا كانــت بنــات الجــزر البريطانيــة أول مــن اختــرع هــذا الــرداء‪..‬‬
‫ببســاطة ألن عندهــن مــا يفخــرن بعرضــه‪ !! ‬ومــن هنــا نــدرك أن «الحايــك» رحمــة‪،‬‬
‫وســتر للعــورة ومحافظــة علــى أمزجــة الناظريــن‪ ،‬ولكــن المثيــر للدهشــة أننــي لــم أجــد‬
‫ســيدة أو آنســة واحــدة تطلــي وجههــا بعش ـرات األل ـوان‪ ،‬ولــم أشــاهد ســمراء تصــر‬
‫علــى أن تصبــغ شــعرها باللــون الذهبــي ولــم ألمــح واحــدة ترتــدي زي الخــروج الكامــل‬
‫بــدون جـوارب‪..‬‬

‫كنــت أتابــع المــارة‪ ..‬أقصــد المــارات‪ ..‬وأنــا « أقــدس» فــي ســري علــى األخ‬
‫رويــس وعلــى كل الذيــن حاولـوا إقناعــي بــأن الجمــال االنجليــزي بــارد‪ ،‬وأن األنوثــة‬
‫شــئ غيــر معــروف فــي بــاد الساكســون‪ ..‬مغفلــون واهلل هــم الذيــن يصدقــون هــذا‬
‫واســألوا مجربــا‪ ..‬ولكــن‪..‬‬

‫ولكــن‪ ..‬هــل يحــدث أن يزعــج ثــور متنكــر فــي شــكل رجــل فتــاة فــي الطريــق؟‬
‫هــل يحــدث أن تقــف ســيارة بهــا مجموعــة مــن الثي ـران البش ـرية أمــام فتــاة تنتظــر‬
‫األوتوبيــس لكــي يخدشـوا حياءهــا بدعـوات مشــبوهة ؟‪ .‬وهــل يحــدث أن تمشــي فتــاة‬
‫– باســتثناء نــوع معيــن يســير بالليــل – بصــورة خليعــة فــي وســط الطريــق ؟‪ .‬أبــدا‪..‬‬
‫يــا ســادة‪ ..‬وجــدت هنــا أناســا ع ـراة األجســام ولكنهــم مســتورو األرواح‪..‬‬

‫ولكــم أن تســموا هــذا مــا شــئتم‪ ..‬بــرود‪ ..‬أدب‪ ،..‬أنــا أســميه ارتـواء أخالقــي‪..‬‬
‫النــاس درجـوا علــى هــذا فــا يــرون فيــه شــذوذا‪ ،‬وهــم ال يتصرفــون بعقليــة الخادمــة‬
‫«ال ـ ‪ Femme de ménage‬التــي تقلــد ســيدتها تقليــدا أعمــى فــي مظهرهــا دون‬
‫أن تــدرك أن «الســيادة» ال تعنــي‪ ..‬تصفيفــة شــعر أو طــول رداء أو لــون شــفاه‪..‬‬

‫شئ آخر‪..‬‬

‫قــررت العــودة علــى قدمــي مــن بيكاديللــي إلــى الفنــدق‪ ..‬وعلــى طــول ثالثــة‬
‫كيلــو مت ـرات س ـرتها فــي شــارع بيكاديللــي ثــم برمبتــون وأخي ـ ار « كرومويــل»‪ ..‬لــم‬
‫ار « يعشــش عليــه بــق بشــرى يمتــص الوقــت‬ ‫طـو ًا‬
‫أجــد مقهــى واحــدا‪ ..‬لــم أجــد « طُ ُر ْ‬
‫ودمــاء الغائبيــن (كانــت الســاعة حوالــي الثامنــة والنصــف مســاء)‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫النــاس هنــا يعملــون (وهــذا هــو بيــت القصيــد)‪ ،‬فــإذا انتهــى العمــل‪ ..‬فهــم فــي‬
‫البيــوت أو الن ـوادي‪ ..‬والمعنــى الــذي أحــب أن أصــل إليــه هــو أن البطالــة هــي‬
‫ســبب النكبــات االجتماعيــة إو�ن الفـراغ الثقافــي والرياضــي هــو أخطــر مــا يمكــن أن‬
‫يصيــب أمــة‪ ،‬وهــو أهــم عوامــل تفككهــا ومســببات ضياعهــا‪.‬‬

‫وليــس معنــى هــذا أنــه ليســت هنــاك مقــاه فــي لنــدن‪ ..‬هنــاك بالطبــع أكثــر مــن‬
‫كافيتريــا فــي المياديــن الهامــة وبــارات (بوبــز)‪ ،‬ولكــن المســألة مســألة نســبة عدديــة‪،‬‬
‫وهنــاك أيضــا دور اللهــو و«االســتربتيز» ولكــن جــل روادهــا مــن السـواح‪.‬‬

‫ومــا ينطبــق علــى الكبــار ينطبــق أيضــا علــى الصغــار‪ ..‬فخــال جـوالت طويلــة‬
‫فــي ش ـوارع المدينــة لــم أجــد فــي الطرقــات مخلوقــات بش ـرية قميئــة‪ ،‬تســيل أنوفهــا‬
‫وتلتهــب عيونهــا‪ ،‬وقــد اســودت منهــا األيــدي واألقــدام‪ ..‬تقتــل الوقــت بقــذف المــارة‬
‫بالحجــارة أو إفســاد الســيارات الواقفــة بالمســامير‪ ..‬لــم أجــد أسـراب الذبــاب البشــري‬
‫تتناقــل األم ـراض وفاحــش القــول والســباب‪ ..‬ولــم أرى أطفــال يقفــزون كالضفــادع‬
‫أمــام الســيارات المــارة أو يتعلقــون بمؤخراتهــا كقــرود وادي الشــفة‪.‬‬

‫النــاس هنــا ال يعيشــون تحــت رحمــة رجــل ديــن معتــوه يفســر كالم اهلل بتزمــت‬
‫جهــول‪ ،‬ويمنــع النــاس مــن تنظيــم نســلهم‪.‬‬

‫لهــذا ال نجــد فــي هــذه البــاد التــي يعمــل فيهــا الرجــل والم ـرأة العــدد الخ ارفــي‬
‫للمواليــد الــذي نجــده فــي البــاد المتخلفــة (والتــي نقــول عنهــا‪ ..‬دول ناميــة‪..)..‬‬
‫وهنــا تتكفــل دور الحضانــة برعايــة األطفــال وتلقينهــم األهازيــج الوطنيــة أغانــي‬
‫المجموعــات (ليــس مــن بيــن هــذه األغانــي أغنيــة «دور بيهــا يــا الشــيباني دور بيهــا‪.‬‬
‫بــاش غــدوه تخــدم عليــك وعليهــا»)‪.‬‬

‫(االســتنتاج الرئيســي الــذي انزلــق إليــه هــو أن الكفايــة االقتصاديــة (والتــي‬


‫حققتهــا بريطانيــا بالفتوحــات االســتعمارية) هــي التــي ســهلت لهــا الحصــول علــى‬
‫مســتوى اجتماعــي وثقافــي معيــن‪ ،‬علــى أســاس أن الفقــر يلــد الجهــل وكالهمــا راع‬
‫للتخلــف االجتماعــي)‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ولكــن الدولــة هنــا وجــدت شــعبا علــى اســتعداد للتضحيــة‪ ..‬لــم يقــل مواطــن‬
‫«أح» عندمــا كان مــا يحصــل عليــه فــي األســبوع‪ ..‬بيضــة واحــدة‪ ،‬أو قطعــة لحــم‬
‫لعلــي أعطــي قطتــي أكبــر منهــا‪ ..‬ولــم يجلــس مخلــوق بشــري وســط مخلوقــات أخــرى‬
‫ينعــى علــى الدولــة تقصيرهــا وهــو فــي حــد ذاتــه تمثــال مجســم للتقصيــر‪( ..‬والحديــث‬
‫عــن المجمــوع)‪.‬‬

‫وهكــذا ال يمكــن أن يتحكــم الذئــاب إال فــي النعــاج‪ ..‬أمــا األســود فهــي تحكــم‬
‫نفســها‪ ..‬كل يعــرف واجبــه قبــل أن يطالــب بحقــه‪ ..‬وهــذا هــو المنظــار الــذي يمكنــه‬
‫أن يوضــح لنــا مغــزى مــا يحــدث فــي «هايــد بــارك»‪.‬‬

‫والحديــث يطــول‪ ..‬وأفضــل أن ابتـره اآلن حتــى ال يقلــق القــارئ ويبــدأ فــي لعــن‬
‫جــدودي‪ ..‬وموعدنــا فــي عــدد قــادم‪ ،‬لنســتكمل الحديــث عــن «لنــدن»‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫َ َ ٌ َ َ‬
‫انطباعات عا ِبرة‬

‫ •القارئ ه‪ .‬أ‪.‬‬

‫أشــكره علــى تحيتــه للمجلــة‪ ،‬ولهــذا الركــن‪ ،‬ولقــد قدمــت رســالته إلــى األخ‬
‫المشــرف علــى الم ارســات وتركــت لــه ق ـرار النشــر‪.‬‬

‫وأحــب أن أؤكــد لــه أننــي أؤمــن بمــا أقــول‪ ،‬وعلــى اســتعداد كامــل لمناقشــة كل‬
‫مــا أكتــب‪ ..‬ولكننــي لســت علــى اســتعداد للدخــول فــي معــارك لفظيــة أقــرب إلــى‬
‫مناقشــات األزقــة والحانــات‪ ..‬وهــذا هــو الســبب الوحيــد الــذي يمنعنــي أحيانــا مــن‬
‫الــرد‪ ..‬فنحــن فــي طــور البنــاء وفــي حاجــة إلــى كميــة كبيـرة مــن‪ ..‬األحجــار‪ ،‬وليــس‬
‫مــن مصلحتنــا أن يزيــد ثمنهــا‪.‬‬

‫ •محاض ـرة األخ مولــود قاســم عــن اللغــة والشــخصية تميــزت بــذكاء العــرض‬
‫وطرافتــه‪ ،‬وبحســن اختيــار نصــوص االستشــهاد بحيــث أن المســتمع كان للحظــات‬
‫يتخيــل أن مــا قالــه فيلســوف ألمانــي منــذ عشـرات الســنين مــا هــو إال حديــث كاتــب‬
‫عربــي يصــف فترتنــا الحاليــة‪.‬‬

‫الشــئ المزعــج أن أحــدا مــن الســادة الكتــاب لــم يتطــرق إلــى مناقشــة المحاضـرة‬
‫ولــم أقـ أر عنهــا إال ســطو ار نشـرتها جريــدة الشــعب‪ ..‬وكان اهلل يحــب المحســنين‪.‬‬

‫ولقــد عــاب بعضهــم فــي الكواليــس علــى مولــود استشــهاده بفيلســوف فاشــي‬
‫النزعــة‪!! ‬‬

‫‪141‬‬
‫وله ـؤالء قلــت وأقــول‪ ..‬أن مــن يعبــر عــن واقعــي هــو ممثــل لــي مهمــا كان‬
‫وضعــه‪ ..‬هــذا شــئ‪ ،‬والشــئ اآلخــر‪ ..‬ال صــاح لهــذه اللغــة إال بالتعصــب لهــا وال‬
‫طريــق للتعريــب إال الثــورة الثقافيــة – علــى حــد تعبيــر األخ ركيبــي –‬

‫ •أحــب أن أكــرر أن تعبيــر « كتــاب دورات الميــاه» يقصــد بــه أولئــك الذيــن ال‬
‫يتقنــون ســوى الســب والشــتم والتجريــح الشــخصي‪ ..‬وكل واحــد يفهــم روحــه‪.‬‬

‫ •للمـرة الرابعــة أقـ أر كتــاب « اسـرائليات» للكاتــب المصــري (أحمــد بهــاء الديــن)‪..‬‬
‫وفــي كل م ـرة كنــت أشــعر بــأن هــذا الكتــاب يجــب أن يكــون فــي متنــاول كل‬
‫قــارئ للعربيــة‪ ..‬حتــى‪ ..‬علــى شــكل مسلســات يوميــة فــي « الشــعب »‪ .‬وليتنــا‬
‫نســتطيع ترجمتــه إلــى الفرنســية وتوزيعــه علــى أوســع نطــاق فــي الج ازئــر وفــي‬
‫البلــدان الناطقــة بالفرنســية‪ ،‬فنحــن – أردنــا أم لــم نــرد – فترينــة األمــة العربيــة علــى‬
‫عالــم الفرانكوفونيــة‪..‬‬

‫ملحوظة‪ :‬ليست في هذه االنطباعة أية محاولة للمساس بشركة «السنيد»‪!! ‬‬

‫ •إذا كان البعــض يفهمــون عكــس مــا أقصــده فــإن هــذا يعنــي أحــد أمريــن‪ ..‬أمــا‬
‫إنهــم ال يعرفــون القـراءة‪ ..‬وهــذا ال يزعجنــي‪ ..‬إو�مــا أننــي ال أحســن التعبيــر‪ ..‬وهــذا‬
‫هــو مــا يضايقنــي‪.‬‬

‫ •«قــد أخالفــك فــي ال ـرأي‪ ..‬ولكننــي علــى اســتعداد لبــذل كل شــئ مــن أجــل أن‬
‫يكــون لــك الحــق فــي إبــداء أريــك بص ارحــة»‪ ..‬حكمــة أحــب ترديدهــا دون أن أذكــر‬
‫قائلهــا‪( ..‬ولعلــه‪ ..‬فولتيــر)‪.‬‬

‫ •األخ الــذي تســاءل فــي العــدد الماضــي‪« ..‬متــى يتبـوأ الناقــد مكانــه ؟»‪ ..‬أجيبــه‬
‫بــأن الناقــد الــذي يتحــدث عنــه ال مــكان لــه فــي مجتمــع األمييــن إو�نصــاف المتعلميــن‬
‫(أمثالنــا)‪ ..‬ومكانــه هــو‪ ..‬مجمــع اللغــة العربيــة‪.‬‬

‫إو�ذا كنا سنســتجيب لما يطلبه األخ الفاضل فإن على الجميع أن يتوقفوا عن‬
‫الكتابــة فــي انتظــار الناقــد المنتظر‪!! ‬‬

‫‪142‬‬
‫ولعــل هــذا ال يكــون محاولــة لخلــق «مافيــا» فكريــة تــرى كل معالجــة لقضايانــا‬
‫الفكريــة وقفــا عليهــا‪.‬‬

‫ •برغــم كل مــا يمكــن أن آخــذه علــى جمــال الديــن بغــدادي فإننــي أعتــرف لــه بأنــه‬
‫مثقــف عربــي شــجاع ربــط جمهــو ار كبيـ ار بالكلمــة العربيــة وســاهم – بطريقتــه – فــي‬
‫التوعيــة والتثقيــف‪.‬‬

‫ •قــال لــي‪« ...‬لقــد أصبــت القــارئ بالتخمــة فقدمــت لــه فــي العــدد الماضــي ثــاث‬
‫وجبــات‪ ..‬أو أكثــر مـرة واحــدة‪»..‬‬

‫وقلت‪« ..‬إنها األحداث تفرض نفسها على القلم‪»...‬‬

‫وقــال‪« ...‬ولكــن طريقتــك فــي الكتابــة تفــرض علــى القــارئ إعــادة تــاوة المقــال‬
‫حتــى يســتطيع أن يفهــم مــا بيــن الســطور‪»..‬‬

‫وقلــت‪« ..‬يســتطيع إن أراد يكتفــي بقـراءة الســطور‪ ..‬ولكننــي أعتقــد أن متعتــه‬


‫ســتزيد لــو حــاول البحــث بيــن الســطور‪»..‬‬

‫وقال‪« ...‬أال تعتقد بأنك مغرور‪»..‬‬

‫وقلت‪« ..‬أعترف‪ ..‬إن التواضع ليس من بين عيوبي الكثيرة‪»..‬‬

‫ •يبــدو أن هنــاك مــن بيــن المســؤولين عــن التجــارة فــي بالدنــا مــن يؤمــن بــأن الفــن‬
‫(الفــن الحقيقــي بالطبــع) هــو‪ ..‬زيــادة‪ ..‬مــا عنــده حتــى «فايــدة»‪.‬‬

‫لقــد اشــتريت باألمــس اســطوانتي‪« ..‬كارمــن» للموســيقار الفرنســي « بيزيــه»‬


‫و«الســيمفونية التاســعة» للموســيقار األلماني «بيتهوفن» بمبلغ مائة دينار تقريبا‪..‬‬
‫فــي حيــن أن األســطوانة تبــاع فــي فرنســا بحوالــي عشـرين دينــارا‪ ..‬ومعنــى هــذا أن‬
‫ضريبــة االســتيراد وصلــت إلــى ‪.250%‬‬

‫وقــد يقولــون أن هــذا مقصــود لتشــجيع فنوننــا الوطنيــة (‪ ..‬أرجوكــم‪ ..‬ال‬


‫تضحك ـوا‪ ..‬أنــا أتحــدث بجديــة)‪ ،‬ولكــن الــرد موجــود‪..‬إن االتحــاد الســوفياتي قــام‬

‫‪143‬‬
‫بتوزيــع اســطوانات بيتهوفــن ومــوزار وبيزيــه وغيرهــم مــن عباق ـرة الموســيقى بثمــن‬
‫يقــدر عليــه كل مواطــن‪ ،‬ورغــم أن الت ـراث الموســيقي الروســي الــذي يشــمل روائــع‬
‫تشاكوفســكي ورحمانينــوف وكورســاكوف كان يمكــن أن يعتبــر كافيــا لغــذاء الشــعب‬
‫الروحــي‪.‬‬

‫لقــد أدرك االتحــاد الســوفياتي أن الموســيقى (وأكــرر‪ ..‬الموســيقى الجيــدة) هــي‬


‫غــذاء روحــي عالمــي يصقــل األرواح ويجعــل األجســام أكثــر قابليــة لإلنتــاج (ولقــد‬
‫ثبــت أن البقــر الــذي يســتمع إلــى الموســيقى يعطــي كميــة أكبــر مــن الحليــب)‪.‬‬

‫ولنا اهلل‪ ..‬فتحت سيف الوطنية المسلط‪ ..‬نرغم على االستماع إلى التفاهات‬
‫الموســيقية لمجــرد أنهــا‪ ..‬جزائريــة‪ ،‬إو�ك ارمــا لعيــون العروبــة البــد مــن أن نقبــل الشــعر‬
‫الغــث المحطــم البنيــان كقريــة مــن قــرى الفيتنــام‪ ..‬لمجــرد أن عربيــا هــو الــذي ألقــاه‬
‫علــى رؤوســنا‪ ..‬ويــا مســؤولي التجــارة‪ ..‬عيــب‪.‬‬

‫ •شئ غريب الحظته‪..‬‬

‫فبرغــم األعــداد الكبيـرة مــن الرســائل التــي تــرد مــن القـراء ومــن مختلــف أنحــاء‬
‫القطــر فإننــي لــم أقـرأ‪ ..‬وحتــى هــذه اللحظــة‪ ،‬رســالة مــن « تلمســان‪»..‬‬

‫‪144‬‬
‫(((‬
‫شعاع من ضوء‪ ..‬خافت‬

‫سامح اهلل األخ الميلي‬

‫كانــت مناورتــه الذكيــة فــي مقالــه عــن « الثــورة الجزائريــة بيــن التاريــخ والواقــع‬
‫« عامــل اســتفزاز‪ ،‬أخرجنــي مــن كهفــي حيــث النــوم لذيــذ‪ ،‬والهـواء عليــل‪ ،‬والهــدوء‬
‫ال ينتهكــه صــوت المطابــع‪.‬‬

‫وقــارئ المقــال يحــس بــأن الميلــي يقــوده مــن أذنــه ليعتــرف بــأن الــدور الرئيســي‬
‫فــي كتابــة تاريــخ الثــورة الجزائريــة يقــع علــى عاتــق الج ازئــري المثقــف بالعربيــة‪.‬‬

‫هــو فــي أغلــب األحيــان ابــن الريــف الج ازئــري‪ ،‬وهــو يمثــل – فــي أغلــب‬
‫األحيــان – قطــاع الطبقــة الفقي ـرة مــن هــذا الشــعب‪.‬‬

‫وهــو – بحكــم التربيــة والثقافــة واللغــة – الوحيــد القــادر علــى فهــم نفســية‬
‫الجماهيــر‪ ،‬وبالتالــي علــى تحليــل حركتهــا وســكونها‪.‬‬

‫ولســت أحــاول هنــا أن أناقــش المقــال أو أن أرد عليــه‪ ،‬ولكننــي أحــاول فقــط‬
‫أن أســلط شــعاعا مــن ضــوء علــى جوانــب أخــرى مــن نفــس الموضــوع الــذي يتواثــب‬
‫منــذ مــدة داخــل نفســي‪ ..‬كقــط محبــوس فــي خ ازنــة المالبــس‪.‬‬

‫وعمليــة كتابــة التاريــخ عمليــة بالغــة الدقــة والصعوبــة‪ ،‬فهــي مــن جهــة تتطلــب‬
‫تفرغــا مطلقــا إو�يمانــا وتجــردا‪ ،‬ومــن جهــة أخــرى‪ ..‬تتطلــب توفــر المعلومــات الكافيــة‬
‫موضوعــة فــي إطارهــا الزمانــي المكانــي ومدعمــة بالوثائــق والحجــج‪.‬‬

‫المجاهد – نوفمبر ‪.1969‬‬


‫‪145‬‬
‫ثــم تأتــي صعوبــة أخــرى ناشــئة عــن اســتحالة تقســيم تاريــخ أمــة إلــى م ارحــل‬
‫منفصلــة عــن بعضهــا‪ ،‬ذلــك أن التاريــخ بصــورة عامــة هــو سلســلة تتكــون مــن‬
‫حلقــات مترابطــة قــد يصعــب اعتبــار كل منهــا وحــدة قائمــة بذاتهــا‪.‬‬

‫وال يملــك كاتــب التاريــخ (أو كتابــه بالجمــع‪ )..‬إال اختيــار حــدث تاريخــي معيــن‬
‫يقــوم بــدور خــط االســتواء‪ ..‬ليفصــل بيــن عهديــن‪ ،‬وليكــون فــي نفــس الوقــت الحــدود‬
‫المشــتركة بينهما‪.‬‬

‫ولكــي ال أبقــى فــي مجــال التجريــد المطلــق أقــول مثــا‪ ..‬إن اســتيالء الحركــة‬
‫النازيــة علــى الحكــم فــي ألمانيــا ال يمكــن أن يعتبــر حدثــا يفصــل بيــن عهديــن‬
‫لمجــرد أنــه قلــب صفحــة جمهوريــة « ويمــار »‪ ..‬ولكــن الحــدث الــذي يمكــن أن يقــوم‬
‫بــدور خــط االســتواء هــو معاهــدة فرســاي‪ ..‬هــي التــي انتهــت فيهــا الحــرب العالميــة‬
‫األولــى وبــدأت الحــرب العالميــة الثانيــة‪ ،‬حيــث كانــت – بشــروطها القاســية التــي‬
‫أمالهــا المنتصــرون تحــت رغبــة االنتقــام مــن العمــاق األلمانــي الــذي أذاقهــم مـ اررة‬
‫القتــال – كانــت التربــة الخصبــة التــي نمــت فيهــا بــذرة النازيــة وترعــرت‪.‬‬

‫لكننــي‪ ..‬لكــي أســهل األمــر علــى نفســي‪ ..‬أقــول – وبعــد تقديــم االعتــذارات‬
‫الالزمــة لمؤرخينــا األفاضــل – أن األحــداث األربعــة الرئيســية التــي يتميــز بهــا‬
‫التاريــخ الج ازئــري هــي‪ ..‬الفتــح اإلســامي ثــم الغــزو الفرنســي‪ ،‬ثــم ثــورة نوفمبــر‪..‬‬
‫ثــم االســتقالل‪( ،‬وأحــب أن أعتبــر االســتقالل حدثــا قائمــا بذاتــه بــدون أن أربطــه‬
‫بثــورة نوفمبــر وحدهــا‪.)..‬‬

‫ومعنــى هــذا أن الم ارحــل الرئيســية التــي يتكــون منهــا التاريــخ الج ازئــري هــي‬
‫مرحلــة مــا قبــل الفتــح اإلســامي‪ ..‬ابتــداء مــن عصــور مــا قبــل التاريــخ ومــرو ار‬
‫بالوجــود الرومانــي‪ ،‬ثــم مرحلــة الج ازئــر اإلســامية ثــم مرحلــة االســتعمار الفرنســي‬
‫بــكل مــا احتــوت عليــه مــن حــركات وســكون‪ ،‬إو�لــى أن أعلنــت ثــورة نوفمبــر بــدء‬
‫مرحلــة جديــدة اختتمــت باالســتقالل‪.‬‬

‫أقــف لحظــة أللتقــط أنفاســي وألقــدم م ـرة ثانيــة كل مــا تحتويــه جعبتــي مــن‬
‫اعتــذارات للمختصيــن فــي العلــوم اإلنســانية‪ ..‬إن زل القلــم أو كاد‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫ألي مرحلــة مــن م ارحــل التاريــخ الج ازئــري تعطــي األســبقية النســبية عنــد‬
‫الحديــث عــن كتابــة التاريــخ ؟‬

‫وعندمــا أصــر علــى وضــع كلمــة النســبية‪ ،‬فذلــك ألن التاريــخ وحــدة متكاملــة‬
‫كمــا ســبق أن قلــت‪ ..‬وألنهــا التبريــر األول العتبــاري أن مرحلــة نوفمبــر ‪– 1954‬‬
‫يوليــو ‪ 1962‬هــي المرحلــة الجديـرة بــأن تعطــي لهــا األســبقية‪ ..‬النســبية‪..‬‬

‫‪ -‬ألنها المرحلة الوحيدة التي يملك المؤرخ الجزائري تســجيلها دون االعتماد‬
‫المطلــق علــى المؤرخيــن األجانــب‪ ،‬فمصادرهــا الحيــة مــا ازلــت موجــودة بيــن‬
‫ظهرانينــا وهــي معرضــة – بحكــم ســنة الحيــاة – لالندثــار طاويــة جوانحهــا علــى‬
‫أهــم أس ـرار الثــورة‪.‬‬

‫‪ -‬ألن الجيــل الجديــد ســيجهل كل شــئ تقريبــا عــن الثمــن الضخــم الــذي دفعــه‬
‫هــذا الشــعب خــال الســبع ســنوات‪ ..‬ونســتطيع أن نلمــس بوضــوح الفجــوة الموجــودة‬
‫بيــن الجيليــن‪ ..‬جيــل صنــاع نوفمبــر‪ ،‬وجيــل المســتفيدين مــن نوفمبــر‪!! ‬‬

‫ولكــي أوفــر علــى القــارئ وقتــا قــد يضيــع فــي مناقشــة جانبيــة‪ ،‬اســتدرك وأقــول‬
‫أن مرحلــة االســتعمار الفرنســي كلهــا يمكــن أن تعتبــر مجموعــة األحــداث التــي‬
‫مهــدت لنوفمبــر‪ ،‬واختيــاري لنوفمبــر كبدايــة يمكــن أن يعتبــر – كمــا قلــت أيضــا –‬
‫كخــط االســتواء‪.‬‬

‫وممــا ال شــك فيــه أن القــارئ حيثمــا كان‪ ،‬متعطــش اللتهــام مــا كتــب ويكتــب‬
‫عــن الثــورة الجزائريــة‪ ..‬عرضــا وتحليــا وتقييمــا‪ ،‬وهــذا هــو ســر نجــاح معظــم مــا‬
‫كتــب عــن ثــورة نوفمبــر‪.‬‬

‫إو�ذا كان البعــض يعتبــر أن نجــاح كتابــي « ايــف كورييــر « والشــوق الــذي‬
‫ينتظــر بــه الكثيــرون الجــزء الثالــث‪ ،‬مــا هــو إال تعبيــر علــى نزعــة القــارئ الغربــي‬
‫– « الجيمــس بونديــة « فإننــي أقــول‪ :‬إن ق ـراءة التاريــخ فــي هــذا العصــر ليســت‬
‫مقصــورة علــى المختصيــن فــي العلــوم اإلنســانية‪ ،‬بقــدر مــا هــي مــادة رئيســية فــي‬

‫‪147‬‬
‫ثقافــة المواطــن العــادي الــذي يحــب المــادة الشــهية ال التحليــات الجافــة التــي تثيــر‬
‫التثــاؤب‪ ،‬وهــذا أدركــه الكثيــرون ممــن كتبـوا عــن ثورتنــا بطريقــة « الكســندر ديمــا»‪.‬‬

‫ذلــك أن العنــف واألسـرار والمنــاورات هــي مشــهيات كتــب التاريــخ‪ ،‬تثيــر خيــال‬
‫القــارئ الغربــي وتتركــه مبهــو ار أمــام أحــداث ال يملــك هــو – بحكــم طبيعــة الحيــاة‬
‫الهادئة التي يطفو فوق سطحها – ال يملك أن يقوم بها أو أن يشارك في صنعها‪.‬‬

‫وهــذا هــو الســاح ذو الحديــن الــذي‪ ..‬إن ضمــن إرضــاء القــارئ مــن جهــة فهــو‬
‫ال يضمــن الحــد األدنــى مــن الموضوعيــة والتجــرد عنــد تحليــل الحــدث التاريخــي‪.‬‬

‫كتابــة تاريــخ أمــة يشــبه إلــى حــد كبيــر كتابــة التقريــر الطبــي الــذي ينتهــي‬
‫بالقــارئ إلــى النتيجــة المطلوبــة أو التشــخيص‪.‬‬

‫– هو مجموعة األعراض الجثمانية السابقة والتي تؤثر على الوضع الحالي‪.‬‬

‫– المظاهر الحالية موضوعة في إطارها الجثماني والزمني‪.‬‬

‫– مجموعــة األبحــاث المعمليــة التــي تضــع أمــام الباحــث حقائــق معينــة ال‬
‫يســتطيع أن يصــل إليهــا بمجهــوده البشــري وحــده‪.‬‬

‫– ثم – وهنا فقط – يأتي االستنتاج النهائي أو التشخيصي‪.‬‬

‫ولكــن معظــم الســادة الغربييــن الذيــن كتبـوا عــن ثــورة نوفمبــر كانـوا فــي عجلــة‬
‫مــن أمرهــم‪ ..‬القــارئ يتلهــف‪ ..‬وعجلــة المطابــع ال ترحــم ولهفــة الناشــر كالســوط‪..‬‬
‫و‪ ..‬ومطالــب الحيــاة‪ ..‬ال تنتظــر‪.‬‬

‫ولهــذا ظهــرت كتــب تتحــدث عــن الثــورة الجزائريــة وتحلــل وتســتنتج بطريقــة‬
‫«ويــل للمصليــن»‪ ..‬وكل همهــا أن تقــدم للقــارئ األجنبــي «فولكلــورا» مــن نــوع‬
‫جديــد (ويالحــظ أننــي افتــرض دائمــا – لطيبــة قلبــي ‪ !! -‬حســن نيــة الكاتــب)‪.‬‬

‫ولهــذا كان الكاتــب فــي كثيــر مــن األحيــان كالطبيــب المــادي الــذي يكتفــي مــن‬
‫عمليــة الفحــص الطبــي بســماع بعــض األعـراض المرضيــة ثــم يتخــذ قـ ارره دون أن‬

‫‪148‬‬
‫يســتكمل عملــه بالفحــص الطبــي الكامــل‪ ..‬حتــى يفــرغ لمريــض آخــر‪ ..‬و‪ ..‬ربــي‬
‫يجيــب الشــفا‪.‬‬

‫الميلــي إذن ينصــب لنــا فخــا‪ ..‬ويضــع كل مثقــف عربــي أمــام تحــد مــن نــوع‬
‫جديــد‪ ..‬وال نملــك إال أن نلتقــط القفــاز‪.‬‬

‫ونتساءل‪...‬‬

‫كيــف يمكــن للمثقــف العربــي أن يســاهم فــي كتابــة تاريــخ ثورتــه ؟ مــا هــي حــدود‬
‫إمكانياتــه وكيــف يمكــن أن توســع هــذه الحــدود ؟ أيــن ينتهــي دور الفــرد ليبــدأ دور‬
‫الدولــة ؟ وبالعكــس‪ ..‬ثــم‪ ..‬وهــذا هــو التســاؤل األهــم‪ ..‬هــل يمكــن أن يكتــب اليــوم‬
‫تاريــخ متجــرد لثــورة نوفمبــر‪ ..‬يعــدد أحداثهــا ويقيــم هــذه األحــداث‪ ،‬ويضعهــا فــي‬
‫اإلطــار الصحيــح وفــي مكانهــا فــي التاريــخ اإلنســاني كلــه‪..‬‬

‫واإلجابــة‪ ..‬اإلجابــة ليــس مــن حقــي أن أقدمهــا اليــوم‪ ..‬ولعلــي أعــود للحديــث‬
‫عنهــا بعــد أن يتولــى رفقــاء آخــرون مهمــة األخــذ بطــرف الخيــط‪ ،‬وتســليط أشــعة‬
‫أخــرى مــن الضــوء علــى بقــع الظــام التــي يزخــر بهــا هــذا الموضــوع‪.‬‬

‫لكنني أترك على طريق عودتي عالمتين‪..‬‬

‫األولــى‪ ..‬أن التاريــخ ال يكتبــه الذيــن عاش ـوا أحداثــه‪ ..‬ألن التاريــخ حكــم‪..‬‬
‫وحكــم المــرء علــى نفســه يصــدر غالبــا عــن الهــوى‪..‬‬

‫الثانيــة‪ ..‬إن هنــاك فرقــا بيــن كتابــة التاريــخ وتســجيل أحداثــه‪ ،‬ودورنــا اليــوم‬
‫هــو تســجيل األحــداث‪ ،‬مــن فــم المواطــن الــذي عاشــها أو مــن قصــة المجاهــد الــذي‬
‫شــارك فــي صنعهــا‪.‬‬

‫دورنا اليوم هو إعداد الوثائق‪ ..‬دور التسجيل‪ ..‬دور إعداد المستندات الالزمة‬
‫ليقوم جيل آخر‪ ..‬جيل المستفيدين من نوفمبر‪ ..‬بالتحليل إو�صدار األحكام‪.‬‬

‫كيف يمكن أن يقوم المثقف العربي بهذا الدور ؟‪..‬‬

‫عليكم أنتم أن تتولوا اإلجابة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫(((‬
‫انزع يدك من جيبي‬

‫يحــدث أن يعجــب القــارئ بمقــال تنشـره صحيفــة محليــة‪ ،‬أو بصــورة فــي نفــس‬
‫الصحيفــة ترســم حدثــا عالميــا ظريفــا‪ ،‬وال يملــك القــارئ إال أن يشــعر بالتقديــر‬
‫للقائميــن علــى هــذه الصحيفــة التــي تحــاول أن تكــون فــي مســتوى األحــداث وأن‬
‫تبــذل مجهــودا كبي ـ ار إلرضائــه‪ ..‬ترفيهــا أو تثقيفــا إو�فــادة‪.‬‬

‫ويحــدث – لســوء الحــظ – أن تقــع فــي يــد نفــس القــارئ صحيفــة غيــر محليــة‪،‬‬
‫فيفاجــأ بــأن المقــال الــذي أثــار إعجابــه منقــول بالكلمــة والحــرف مــن هــذه الصحيفــة‬
‫األجنبيــة‪ ،‬ويتذكــر أنــه لــم يقـ أر فــي الصحيفــة الوطنيــة مــا يفيــد بــأن المقــال منقــول‪.‬‬

‫ويصــدم القــارئ ثانيــة عندمــا يتحقــق مــن أن الصــورة التــي رآهــا فــي الصحيفــة‬
‫الوطنيــة قــد «لهفــت» مــن صحيفــة أجنبيــة بــدون إشــارة لمصدرهــا الرئيســي‪.‬‬

‫هــذه المظاهــر التــي تتكــرر ال يمكــن أن نطلــق عليهــا غيــر تعبيــر «القرصنــة‬
‫الصحفيــة»‪.‬‬

‫ذلــك أن المقــال أو الصــورة أو التعليــق أو العن ـوان كلهــا مجهــودات مــن حــق‬
‫خالقيهــا‪ ،‬وســرقتها أو انتحالهــا بهــذه الطريقــة احتقــار لــذكاء القــارئ إلــى جانــب مــا‬
‫تمثلــه مــن قصــر نظــر وســطحية تفكيــر‪.‬‬

‫العالــم صغيــر وحبــال الكــذب والتدليــس قصيـرة‪ ،‬والقــارئ ليــس حصانــا وضعــت‬
‫الحواجــز الجلديــة علــى جانبــي أرســه لتجبـره علــى النظــر فــي اتجــاه واحــد‪.‬‬
‫المجاهد – ‪ 16‬نوفمبر – ‪.1969‬‬
‫‪151‬‬
‫وأنــا لســت ضــد النقــل أو االستشــهاد بفقـرات مــن مواضيــع معينــة‪ ..‬بــل علــى‬
‫العكــس أؤيــد ذلــك وأدعــو إليــه ألنــه يســاهم فــي إث ـراء المــادة الصحفيــة فــي بالدنــا‬
‫ولكــن بشــرط أن يكــون نقــا منســوبا إلــى صانعــه وصاحــب الحــق األول فيــه‪.‬‬

‫والشــئ نفســه ينطبــق علــى أســماء الب ارمــج اإلذاعيــة أو التليفزيونيــة وعناويــن‬
‫األب ـواب الثابتــة فــي الصحــف والمجــات‪.‬‬

‫ولقــد تعرضــت أنــا شــخصيا لمثــل هــذه القرصنــة عندمــا توقفــت عــن كتابــة «‬
‫انطباعــات» ألســباب ليــس هــذا هــو مجــال الحديــث عنهــا‪.‬‬

‫فلقــد حــاول البعــض التســلق علــى أكتــاف النجــاح الــذي حققتــه «انطباعــات»‪..‬‬
‫وأصبحت أق أر مواضيع مختلفة تحت هذا العنوان الذي أصبح من حق صاحبه‪..‬‬
‫كاالســم العلــم‪ ..‬خاصــة وأن أخاكــم – الــذي هــو أنــا – يســتعمل دائمــا التوقيــع‬
‫الرمــزي‪.‬‬

‫وفــات ه ـؤالء اإلخــوة أن انطباعــات‪ ،‬لــم تحقــق نجاحهــا بفضــل عبقريــة‬


‫صاحبهــا‪ !! ‬أو ســهولة أســلوبها إو�نمــا ألنهــا كانــت تعبــر عــن المشــاعر التــي تنبــض‬
‫فــي نفــس القــارئ دون أن تجــد الفرصــة للظهــور‪ ..‬ســطو ار أو أفــكا ار مســموعة‪.‬‬

‫والــذي كان يثيرنــي أكثــر مــن هــذا هــو أن بعــض مــا كتــب تحــت هــذا العنـوان‬
‫كان بــدون توقيــع‪.‬‬

‫ولست أستطيع أن أقوم بما يقوم به باعة بعض أنواع األطعمة فأصرخ‪»..‬هذا‬
‫هــو األصــل يــا ســادة»‪ « !! ‬احــذروا التقليــد »‪»..‬احترس ـوا مــن النشــالين»‪..!! ‬‬
‫التركيبــة الشــهيرة والوصفــة الخطي ـرة‪« !! ‬ابحث ـوا عــن العالمــة المســجلة لكــي ال‬
‫تخســروا نقودكــم‪.»!! ‬‬

‫الصحافــة يــا ســادة لهــا تقاليــد ولهــذا ســميت «صاحبــة الجاللــة» والصحيفــة إذا‬
‫لــم تتمســك بنزاهتهــا وبتقاليــد المهنــة الصحفيــة تفقــد احت ـرام القــارئ وتفقــد بالتالــي‬
‫كل وزن لهــا‪.‬‬

‫و‪ ..‬إن عدتم‪ ..‬عدنا‪..‬‬

‫‪152‬‬
‫من الذي يضع اجلرس‬
‫(((‬
‫يف رقبة القط‪! ‬‬

‫اتفقنــا فــي األســبوع األســبق علــى أن هنــاك فرقــا بيــن كتابــة التاريــخ وبيــن‬
‫تســجيل أحداثــه‪.‬‬

‫(وأقــول‪ ..‬اتفقنــا‪ ..‬ألن الصمــت عالمــة الرضــى‪ ..‬وألننــي لــم أتشــرف حتــى‬
‫هــذه الســاعة المتأخ ـرة مــن الليــل والتــي أخــط فيهــا هــذه الســطور‪ ..‬لــم أتشــرف‬
‫بســماع اعت ـراض مــا‪ ..‬ولهــذا أعتبــر القــارئ متفقــا معــي علــى طــول الخــط‪ ..‬أو‬
‫علــى عرضــه‪.)!! ‬‬

‫واتفقنــا أيضــا ( ارجــع المبــدأ الســابق) علــى أن كتابــة تاريــخ الثــورة الجزائريــة‬
‫يخــرج – فــي الفت ـرة الزمنيــة الحاليــة – عــن نطــاق الممكــن أن لــم أقــل أنــه يدخــل‬
‫فــي نطــاق جاذبيــة المســتحيل‪.‬‬

‫ألن التاريــخ – كمــا قلــت – حكــم‪ ،‬وحكــم المــرء علــى نفســه غيــر مجــرد عــن‬
‫الهــوى‪ ..‬وال يمكــن أن نحكــم موضوعيــا علــى أحــداث عشــناها وكنــا طرفــا فيهــا‪.‬‬

‫وألن‪ ..‬ألن‪ ..‬كثيريــن مــن الذيــن صنع ـوا أو عاصــروا صنــع أحــداث تاريخيــة‬
‫معينــة ال يســتطيعون أو ال يريــدون الحديــث عنهــا‪( ..‬وال داعــي لكــي أذكــر كثي ـ ار‬
‫مــن التعليــات المعروفــة عنــد الخــاص و‪ ..‬الخــاص)‪.‬‬

‫المجاهد – ‪ 30‬نوفمبر – ‪.1969‬‬


‫‪153‬‬
‫ولكــن هــذا فــي حــد ذاتــه يفــرض علينــا أن نبــدأ منــذ اليــوم فــي تســجيل أحــداث‬
‫الثــورة الجزائريــة مــن أف ـواء الذيــن عاشــوها‪ ،‬فاألعمــار بيــد اهلل‪ ،‬وجريمــة أن نســمح‬
‫بــأن تطــوى القبــور إلــى األبــد جــزء أو أجـزاء مــن تاريخنــا‪.‬‬

‫كيف‪ ..‬؟‬

‫وما هو ضمان الموضوعية ؟‬

‫وكيف نلغي عوامل الرهبة أو التخوف أو المداراة‪ ...‬؟‬

‫كيــف نضمــن تشــجيع الكتــاب والمؤرخيــن‪ ،‬ونضمــن فــي نفــس الوقــت نزاهتهــم‬
‫وتفكيرهــم الحيــادي تجــاه المواقــف التــي يختلــف فيهــا أكثــر مــن اثنيــن‪..‬‬

‫وأوال وقبــل كل شــئ مــا هــو دور جهــاز الدولــة وأيــن ينتهــي هــذا الــدور ليبــدأ‬
‫دور األف ـراد‪.‬‬

‫فــي اعتقــادي أن الجهــاز الحكومــي الــذي يملــك الوســائل الكافيــة هــو جهــاز‬
‫اإلعــام‪.‬‬

‫وأنــا أتصــور أن يكــون هــذا الجهــاز‪ ..‬لجنــة وطنيــة مــن أعضــاء مشــهود لهــم‬
‫بالنضــال والن ازهــة والثقافــة‪ ،‬ويتمتعــون بثقــة القمــة والقاعــدة‪..‬‬

‫تبــدأ اللجنــة عملهــا بحملــة علــى الصعيــد الوطنــي تســتهدف جمــع كل الوثائــق‬
‫التــي تتعلــق بالثــورة وترتيبهــا ثــم وضعهــا داخــل مــكان أميــن مغلــق‪.‬‬

‫إو�ذا أعطيت هذه اللجنة السلطة الالزمة فإن أمر الوثائق التاريخية الموجودة‬
‫فــي ملفــات الدولــة يصبــح أمـ ار ســهال وتبقــى الصعوبــة النســبية لمهمــة جمــع الوثائــق‬
‫مــن األفراد‪.‬‬

‫ولكــي أتحــدث بطريقــة ملموســة أقــول أننــي أعنــي بالوثائــق‪ ..‬الصــور‬


‫والم ارســات الرســمية والخاصــة والتقاريــر الس ـرية ومحاضــر الجلســات واألحــكام‬
‫العســكرية والصحــف الصــادرة فــي الداخــل والخــارج وبطاقــات التعريــف العســكرية‬
‫ومــا كتبــه األعــداء واألصدقــاء علــى الس ـواء‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫وممــا ال شــك فيــه أن األف ـراد الذيــن يملكــون أمثــال هــذه الوثائــق يعتبرونهــا‬
‫جــزءا مــن حياتهــم‪ ،‬وبعضهــم ينكــر أساســا امتالكــه لوثائــق مــن هــذا النــوع (وخاصــة‬
‫الم ارســات‪ )..‬وهــذا هــو دور اللجنــة الحقيقــي‪.‬‬

‫وأنا أعتقد أن باإلمكان اتخاذ أحد موقفين‪:‬‬

‫األول – تصوير هذه الوثائق وردها ألصحابها‪..‬‬

‫الثانــي – تصويرهــا أيضــا إو�عطــاء الصــور معتمــدة بخاتــم اللجنــة ألصحــاب‬


‫الوثائق مع شــهادة تثبت ملكيتهم لها وتتعهد بوضع أســمائهم بجانبها إذا عرضت‬
‫الوثائــق أو نشــرت‪.‬‬

‫وهنا أتحفظ‪ ..‬تطمينا للبعض‪ ..‬وترغيبا للبعض اآلخر‪.‬‬

‫والتحفــظ هنــا يســتند علــى عــرف دولــي اتخــذ صــورة القانــون وأجــد أن مصلحتنــا‬
‫تقتضــي التمســك بــه إو�قنــاع اآلخريــن بذلــك‪.‬‬

‫فلقــد درجــت الــدول علــى منــع إذاعــة الوثائــق التاريخيــة قبــل مــرور ثالثيــن‬
‫ســنة (وخمســين ســنة فــي بعــض الــدول) علــى األحــداث التــي تتعــرض لهــا هــذه‬
‫الوثائــق‪ ..‬وهــذا لضمــان الحــد األقصــى مــن الموضوعيــة عنــد كتابــة التاريــخ‪ ،‬ولــذا‬
‫فــإن علــى اللجنــة اســتصدار قـرار بهــذا والســهر علــى تنفيــذه‪.‬‬

‫ويبقــى اآلن الجــزء األهــم مــن عمليــة تســجيل تاريــخ الثــورة الجزائريــة ويتمثــل‬
‫فــي دعــوة وتشــجيع كل مناضــل علــى كتابــة الم ارحــل التــي عاشــها‪ ،‬واألحــداث التــي‬
‫شــهدها‪ ،‬والتجــارب التــي تعــرض لهــا‪.‬‬

‫وقــد يبــدو للبعــض ســاذجا أن أقــول‪ ..‬كل مناضــل‪ ..‬ولكننــي أصــر علــى هــذا‬
‫التعبيــر‪ ،‬فلقــد أتيحــت لــي أكثــر مــن فرصــة لالتصــال بقطــاع عريــض مــن المناضليــن‬
‫الذيــن ســاهموا فــي ثــور نوفمبــر‪ ..‬ورغــم أننــي أزعــم بأننــي عشــت الثــورة فــي الداخــل‬
‫والخــارج إال أننــي اكتشــفت جهلــي الفاضــح بكثيــر مــن أحداثهــا الحاســمة‪.‬‬

‫واضح هنا تحفظا آخر (وأذكر بأنني أعتز بجزائريتي وأحب أال ينسبني القارئ‬
‫لبلد عربي إسالمي عرف بكثرة تحفظاته عند مناقشة المشاكل الحيوية‪......)!! ‬‬

‫‪155‬‬
‫أقــول‪ ...‬ليــس مــن حقنــا فــي فتـرة التســجيل هــذه أن نقيــم األحــداث‪ ..‬دورنــا هــو‬
‫مجــرد التســجيل‪ .‬تجميــع المعلومــات‪ ..‬وليــس لنــا أن نهمــل تســجيل حــدث بحجــة‬
‫أنــه تافــه أو عديــم األهميــة أو أن نهمــل وثيقــة ألن هنــاك وثائــق أخــرى ترســم نفــس‬
‫الحــاث‪ ،‬وتبــدو أكثــر منهــا موضوعيــة‪.‬‬

‫وينطبــق هــذا نفســه علــى المناضليــن‪ ..‬فليــس لنــا أن نعطــي لحديــث المســؤول‬
‫قيمــة مســتمدة مــن منصبــه‪ ،‬أو أن نقلــل مــن شــأن روايــة يحدثنــا بهــا مواطــن عــادي‬
‫لمجــرد أنــه ال يحتــل منصبــا قياديــا‪.‬‬

‫يقــول لــي قــارئ يملــك ذاكـرة قويــة‪ ..‬قــف‪ ..‬مــا دخــل المثقــف العربــي فــي كل‬
‫هــذا‪ ...‬؟‬

‫والسؤال وجيه‪ ..‬يكاد يحرجني‪ ..‬لوال بقية من نفس طويل‪..‬‬

‫ولقــد اتفقنــا ( ارجــع المــادة األولــى‪ ..‬مــن فضلــك) أن الحــدث التاريخــي ليــس‬
‫لقيطــا ال أب لــه وال أم‪ ..‬وأن المــؤرخ العربــي هــو الوحيــد الــذي يملــك ترتيــب‬
‫أحــداث التاريــخ الج ازئــري وارجاعهــا إلــى أصولــه النفســية إو�لــى جذورهــا الضاربــة‬
‫فــي الماضــي الســحيق‪.‬‬

‫وليــس معنــى هــذا أن دوره فــي عمليــة التســجيل دور عديــم األهميــة بــل هــو‬
‫علــى العكــس مــن ذلــك إذا أدركنــا أن أكثــر مــن تســعين فــي المائــة مــن المناضليــن‬
‫يتحدثــون بالعربيــة أساســا‪.‬‬

‫دور المســجل العربــي هنــا هــو التقــاط المعلومــات مــن القطــاع األغلــب مــن‬
‫المناضليــن‪ ..‬مــن الجنــدي البســيط‪ ..‬مــن الكاب ـران‪ ..‬مــن المســبل‪ ..‬مــن الفــاح‬
‫الــذي كان يســتضيف فــي داره « الجماعــة‪ »..‬أو « الخــاوة»‪.‬‬

‫دوره هــو أن يســتمع ألكبــر عــدد ممكــن مــن مناضلــي القاعــدة الذيــن ال نعرفهــم‬
‫أســماء رنانــة‪ ..‬ألن معلوماتهــم هــي الرتــوش التــي تعطــي للوجــه مالمحــه الحقيقيــة‪،‬‬
‫وهــي اســتكمال لوجهــة النظــر التــي يقدمهــا مســؤول معيــن عــن حــدث تاريخــي معيــن‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫وتمــر بخيالــي وأنــا أتحــدث عــن هــذا تلــك األعــداد الكبيـرة مــن معلمــي العربيــة‬
‫التــي تتناثــر عبــر الت ـراب الوطنــي‪ ،‬وأتخيــل كل معلــم وقــد أخــذ مــن وقــت ف ارغــه‬
‫دقائق يخصصها للبحث عن المناضلين وللحديث معهم عما عاشوه من أحداث‪،‬‬
‫ثــم لتســجيل هــذا كلــه بالتفصيــل واضعــا كل حــدث فــي إطــاره الزمانــي والمكانــي‪.‬‬

‫وأتخيــل الفخــر الــذي سنحســه عندمــا تصــب فــي خزينــة اللجنــة الوطنيــة‬
‫لتســجيل التـراث الثــوري اآلالف المؤلفــة مــن قصــص الثــورة وحوادثهــا منســوبة إلــى‬
‫رواتهــا إو�لــى ناقليهــا‪.‬‬

‫وأتخيل الفخر الذي ستحســه أجيال مقبلة‪ ..‬فخر انتســابها إلى صناع التاريخ‪،‬‬
‫وفخــر انتســابها إلــى المثقفيــن الذيــن كان لهــم الفضــل األول فــي حفظ التاريخ‪.‬‬

‫ولــن أكــون ســاذجا فأتناســى أن كثيريــن ســيرفضون الحديــث‪ ،‬وخاصــة أولئــك‬


‫الذيــن كان لهــم دور أو أدوار حاســمة فــي تاريــخ الثــورة الجزائريــة‪ ..‬بعضهــم بدافــع‬
‫الكســل وبعضهــم بضغــط رهبــة خفيــة أو رغبــة مكبوتــة‪.‬‬

‫ولهــذا أصــر علــى ضــرورة عــدم نشــر أي وثيقــة قبــل مــرور فتـرة زمنيــة كافيــة‬
‫لمحــو كل أثــر لالنفعــال الشــخصي أو للعواطــف الذاتيــة‪.‬‬

‫وأعتــرف بأننــي أطــرد فــي هــذه اللحظــة خاطـ ار يبــدو لــي صبيانيــا هــو أن يطلــب‬
‫مــن أعضــاء اللجنــة حلــف يميــن ينــص علــى عــدم نشــر أو إذاعــة مــا يقــع تحــت‬
‫أيديهــم مــن أسـرار‪.‬‬

‫ثــم يأتــي مصــدر آخــر لزيــادة ثروتنــا مــن الوثائــق التاريخيــة وهــو مصــدر‬
‫األهازيــج والمالحــم الشــعبية وكل قصائــد الشــعر الملحــون التــي تعرضــت ألحــداث‬
‫الثــورة وأشــخاصها‪.‬‬

‫ويبقى السؤال الحاسم‪ ..‬كيف نشجع المناضلين على الكتابة ؟‪..‬‬

‫و‪ ..‬من الذي يضع الجرس في رقبة القط‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫(((‬
‫عن املسألة الفنشعبيأندلسية‬

‫كلمــا دار الحديــث عــن الفنــون الشــعبية واألندلســية‪ ،‬وكلمــا ســمعت دفــاع‬
‫البعــض الحــار عنهــا‪ ،‬وهجومهــم علــى كل مــن ال يقاســمهم حماســهم البالــغ الــذي‬
‫يصــل إلــى حــد االتهــام بعــدم الـوالء للوطــن‪ ..‬تذكــرت كلمــات علــي بــن أبــي طالــب‬
‫«صيحــة حــق‪( ... »..‬وأنــا أتحــدث أحيانــا بطريقــة‪ ..‬ويــل للمصليــن)‪.‬‬

‫وحقيقــي أن الخــط الثــوري الــذي نســير فيــه هــو خــط الرجــوع إلــى األصــل‪..‬‬
‫خــط النــزول إلــى الشــعب والتفكيــر فــي اله ـواء الطلــق بعيــدا عــن األب ـراج العاجيــة‬
‫التــي تعــزل مــن يعيــش فيهــا عــن واقــع شــعبه اليومــي‪.‬‬

‫ولكــن‪ ..‬مــا هــي « العــودة إلــى األصــل « فــي المجــال الفنــي ؟ (وال أعتــذر هنــا‬
‫لتطفلي على اختصاصات أخينا البرناوي فلعله لن يقبل اعتذاري و‪ ..‬يبخصني‪)!! ‬‬

‫العــودة إلــى األصــل هنــا تعنــي فــي اعتقــادي أن نخلــق فنــا (‪ ..‬نعــم نخلــق فنــا)‬
‫يتجــاوب واحتياجــات الجماهيــر (واســتدرك فأحــدد‪ ..‬إننــي لــم أقــل‪ ..‬يرضــى رغبــات‬
‫الجماهيــر فحســب)‪.‬‬

‫ذلــك أننــا فــي حاجــة إلــى فــن يعبــر عــن الشــعب‪ ،‬يســتمد منــه مقومــات وجــوده‬
‫وال يعيــش بمعــزل عــن آالمــه وآمالــه‪ ،‬ولكنــه ال ينــزل إلــى الــدرك األســفل‪ ،‬بــل يســمو‬
‫ليرتفــع بالــذوق الفنــي (وقــل لــي مــاذا تســمع‪ ..‬أقــول لــك مــن أنــت)‪ ..‬باختصــار‪..‬‬
‫نريــد فنــا يقــوم بــدور «المارســييز» فــي الثــورة الفرنســية‪ ..‬فنــا يتأثــر ليؤثــر‪..‬‬

‫المجاهد ‪ 14‬ديسمبر ‪.1969‬‬


‫‪159‬‬
‫أيــن نحــن مــن هــذا كلــه‪ ..‬ومــا هــو األصــل الحقيقــي الــذي يجــب أن نعــود إليــه‪،‬‬
‫ومــا مــدى أصالــة مــا يريــد البعــض أن يفرضــوه علينــا ؟‬

‫فلنلق نظرة إلى الوراء‪...‬‬

‫أحرقــت الســفن‪ ..‬وكان البحــر ورائهــم والعــدو أمامهــم‪ ..‬وزحف ـوا‪ ..‬وانتصــروا‬
‫ودانــت لهــم األرض‪ ..‬وقامــت األندلــس علــى أكتــاف مجاهديــن خرجـوا لنصـرة ديــن‬
‫اهلل‪ ..‬تســلقوا ســفح المعانــاة ليصلـوا إلــى قمــة المجــد الحضــاري‪.‬‬

‫وعلــى القمــة لــم يبــق نضــال‪ ..‬وأصبــح الجهــد المبــذول أقــل بكثيــر مــن الرفاهيــة‬
‫المكتســبة‪ ..‬وبــدأت شــيخوخة الحضــارة ‪ ..,‬اطمــأن الخلفــاء علــى ملكهــم‪ ..‬وحلــت‬
‫مجالــس الطــرب محــل مجالــس الحكمــة‪ ،‬وظهــر فــن غنائــي ارقــص يتــاءم وحلقــات‬
‫الســكارى « والمشعشــعين « وفارغــي الشــغل‪ ..‬ويتجــاوب مــع خياالتهــم المريضــة‬
‫بالتغنــي بألفــاظ الوصــال والقــرب والمــدام (بضــم الميــم)‪.‬‬

‫ثــم أفلــت الشــمس‪ ..‬وطويــت الصفحــة‪ ،‬وبكــى أنــاس كالنســاء ملــكا لــم‬
‫يحافظــوا عليــه كالرجــال‪ ..‬وبقــي شــاهدا علــى أيــام العظمــة‪ ..‬قصــر الحم ـراء‪،‬‬
‫ومســجد قرطبــة وبــرج الذهــب ورحيــق الثقافــات‪ ..‬وكلمــات عربيــة ما ازلــت حتــى‬
‫يومنــا هــذا جــزًءا مــن الحيــاة اليوميــة فــي أســبانيا‪..‬‬

‫وكمــا يفــر الجــرذان مــن الســفينة الغارقــة‪ ..‬فــر المطربــون حامليــن معهــم شـواهد‬
‫عصــر االنحــال‪ ،‬ليســتقروا فــي الشــمال االفريقــي‪ ،‬ولينقلـوا إلينــا شــفاهيا مــا ســمي‬
‫بالفــن األندلســي‪ ،‬وهــو الفــن الــذي توارثــه محترفــو الغنــاء أبــا عــن جــد‪ .‬وأعطــى‬
‫كل منهــم لمــا يحفــظ‪ ..‬طابعــه الشــخصي أو المحلــي (ذلــك أن التســجيل الكتابــي‬
‫للموســيقى أو « الســولفيج « لــم يكــن وســيلة نقــل األلحــان وتداولهــا‪ ،‬إو�نمــا كان ذلــك‬
‫باالســتماع ثــم الحفــظ‪ ..‬فــاألداء)‪.‬‬

‫وتوارثنــا تلــك الموســيقى مــع مــا أدخــل عليهــا مــن تحوي ـرات (لكــي ال أقــول‪..‬‬
‫تشــويهات) ودخلــت آالت الطــرب فــي العهــد العثمانــي لتســاهم فــي عثمنــة الفــن‬
‫األندلســي‪ ..‬وهكــذا تداولــت األيــدي تلــك الورقــة الماليــة‪ ،‬وتركــت كل يــد بصمتهــا‪،‬‬

‫‪160‬‬
‫وأثــار مــا تلوثــت بــه مــن زيــت أو دهــن أو مــاء‪ ..‬إلــى أن فقــدت أرقامهــا ومميزاتهــا‬
‫وحجمهــا‪ ،‬وأصبحــت فــي حالــة ال تســمح بإعطائهــا قيمتهــا الذاتيــة (معــروف أن‬
‫البنــوك تســحب األوراق التالفــة مــن التــداول وتقــوم باحراقهــا‪.)!! ‬‬

‫ولقــد أخــذت هــذه الموســيقى لنفســها منــذ البدايــة طابــع الفــن البورجـوازي الــذي‬
‫يقتصــر علــى طبقــة معينــة‪ ..‬هــي طبقــة األعيــان‪ ،‬التــي تحــاول التشــبه فــي مجالســها‬
‫بمجالــس الطــرب الســلطانية‪ ..‬وهكــذا خلــق نــوع مــن التطلــع الطبقــي عنــد الذيــن‬
‫يعيشــون علــى الحــدود االجتماعيــة بيــن الجماهيــر وبيــن الطبقــة العليــا‪ ..‬وهكــذا‬
‫أيضــا وجــدت هــذه الموســيقى مــن يرتبــط بهــا‪ ،‬ويتعصــب مــن أجلهــا بــل ويطــرب‬
‫لهــا‪ ..‬بحكــم العــادة أو التقليــد أو المفهــوم البورج ـوازي للفــن‪.‬‬

‫وهكــذا أيضــا انتشــر هــذا النــوع مــن الفــن فــي المــدن‪ ،‬وفــي أوســاط العائــات‬
‫المترفــة منع ـزال عــن القطــاع األغلــب مــن الشــعب‪.‬‬

‫هنــاك‪ ..‬وفــي قطــاع الفالحيــن وســكان الب ـوادي نمــا فــن آخــر‪ ..‬فيــه أصالــة‪،‬‬
‫وفيــه تعبيــر صــادق‪ ،‬وفيــه كل بســاطة الحيــاة البدويــة الخاليــة مــن التعقيــدات‬
‫الحضاريــة‪.‬‬

‫الغنــاء البــدوي بــدأ حــداءا بالصــوت الرخيــم يشــجع بــه البــدوي جملــه ويحثــه‬
‫علــى المســير‪ ..‬بالنغمــات البســيطة التــي يؤديهــا الفالحــون أثنــاء العمــل أو فــي‬
‫فت ـرات ال ارحــة‪ ..‬باألهازيــج الشــعبية التلقائيــة التــي تســجل األمجــاد‪ ،‬وتنــادى‬
‫الحبيــب تــارة‪ ،‬وتلعــن جــدود المنافــس تــارة أخــرى‪..‬‬

‫وتتطــور األهازيــج الشــعبية باســتخدام اإليقــاع‪ ،‬بأدائــه بالتصفيــق مــع األصوات‬


‫البش ـرية‪ ،‬ثــم أدخلــت اآلالت البدائيــة كالربــاب والبنديــر والزرنــة (التــي أخــذ منهــا‬
‫األوروبيــون آلــة األوب ـوا‪ )..‬ثــم فجــر اإليقــاع عنــد المغنييــن والمســتمعين اهت ـ اززات‬
‫جثمانيــة تطــورت إلــى أن أخــذت طابــع الرقــص‪.‬‬

‫ورغــم بــروز فئــة خاصــة تحتــرف هــذه الفنــون‪ ،‬وتؤهلهــا لذلــك األصوات الرخيمة‬
‫أو المقــدرة علــى ابتــكار نغمــات جديــدة يطــرب لهــا المســتمعون‪ ،‬فــإن الفــن الشــعبي‬

‫‪161‬‬
‫لــم يكــن وقفــا علــى هــذه الفئــة بــل كان هوايــة للجميــع‪ ،‬يمارســها الــكل ألنهــا جــزء‬
‫مــن الحيــاة اليوميــة‪ ..‬يطربــون لبعضهــا ويقبلــون البعــض علــى عالتــه‪ ..‬ويؤدونهــا‬
‫فــي كثيــر مــن األحيــان بصــورة تقليديــة (وعــرس بــا زرنــة مــا هـواش عــرس‪.)!! ‬‬

‫ثــم تفجــرت النهضــة الصناعيــة فــي العالــم‪ ..‬وتطــورت المفاهيــم‪ ،‬ودالــت دولــة‬
‫المجتمعــات البدويــة الضيقــة بظهــور اإلذاعــة ثــم الســينما والتليفزيــون‪ ،‬وتفتــح العالــم‬
‫علــى فجــر جديــد وتطــورت الفنــون لتالئــم العصــر الصناعــي (عصــر الســاندويتش‬
‫الموســيقى)‪ ..‬وأصبحــت للفــن قواعــده وأصولــه ولــه آدابــه وتقاليــده‪.‬‬

‫وأدرك الفنانــون أن الفــن الشــعبي تـراث حضــاري‪ ،‬ومرحلــة أساســية فــي نهضــة‬
‫كل أمــة فشــرعوا فــي تدوينــه وتقييمــه وتطوي ـره‪ ،‬إلخ ارجــه مــن الطابــع المتحفــي‬
‫بنفــس الطريقــة التــي تحــول بهــا شــركات األدويــة األعشــاب الطبيــة التقليديــة إلــى‬
‫حقــن وأق ـراص و‪ »...‬ســوبوزيتوارات‪.» !! ‬‬

‫فــي روســيا مثــا (ال علــى ســبيل الحصــر) بــرز آرآم خاتشــاتوريان‪ ..‬الفنــان‬
‫األصيــل الــذي يؤمــن بالت ـراث الموســيقي لبلــده‪ ،‬ويــدرك أن المحافظــة علــى هــذا‬
‫التـراث تســتدعي تطويـره إو�عطائــه القالــب الــذي يتناســب والتعقيــدات الفكريــة التــي‬
‫خلقتهــا الحضــارة‪ ..‬وهكــذا أخــذ مــن القديــم خطوطــه الرئيســية ونســج منهــا فنــا فيــه‬
‫نكهــة القديــم وطابــع الجديــد‪ ،‬واســتطاع بروائــع « غايانيــه» و«ماســكاراد» تخليــد‬
‫الكثيــر مــن الرقصــات واألغانــي الشــعبية‪.‬‬

‫وحــدث مثــل ذلــك فــي مصــر علــى يــد ســيد درويــش (‪ ..‬ايــه‪ ..‬ازنافــور‬
‫وماســيوس تعرفوهــم‪ ..‬وســيد درويــش‪ ..‬ال‪ ..‬هــه) الــذي أعطــى للفــن الشــعبي دو ار‬
‫قياديــا فــي المجتمــع المصــري‪ ،‬وتــاه عبــد الوهــاب الــذي اســتطاع أن يدخــل اآلالت‬
‫الحديثــة فــي الفــن ويــدرب األذن الش ـرقية‪ ،‬علــى ســماع األلحــان الحديثــة بفضــل‬
‫إقتباســاته الفنيــة المتعــددة (وديــرو كيفــه يــا مــن تهاجمــوه)‪.‬‬

‫وفــي لبنــان (وأيضــا علــى ســبيل المثــال ال علــى ســبيل الحصــر) اســتطاع‬
‫فنانــون مثقفــون كرحبانــي تخليــد تراثهــم بــل واســتطاعوا فــرض تذوقــه علــى العالــم‬
‫العربــي كلــه‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫أمــا عندنــا‪ ..‬فقــد ابتلينــا بســي « قارقابــو البعقيــس »‪( ..‬وفــي روايــة أخــرى‪..‬‬
‫كاركابــو البعكيــس‪ )!! ‬وســي « مزبلــح بوجرانــة »‪ .‬وســي « الحــاج معــوج بــن‬
‫بوشــقاللة «‪ !! ‬أنــاس مســاكين جهــاء‪ ..‬حفظـوا ألحانــا يرتزقــون منهــا‪ ،‬وعاونتهــم‬
‫اإلذاعــة الفرنســية فــي عهــد االحتــال ليكونـوا مخــد ار للجمــوع الشــعبية‪ ،‬وعامــا‬
‫فــي انحطــاط الــذوق الموســيقى‪ ،‬فأخــذوا طريقــة األداء الشــعبي دون مضمونــه‪،‬‬
‫ليلقـوا علينــا تفاهاتهــم الموســيقية التــي تــدور فــي دائـرة العشــق والغـرام والحمــام اللــي‬
‫والفتــه وجيــت نخطبــك مــن بــوك يــا غ ازلــة‪..‬‬

‫وهكــذا خلــق مرتزقــة هــذا الفــن المريــض المشــوه « مافيــا « تحــاول ابت ـزاز‬
‫الــذوق الموســيقى‪ ،‬وتفــرض إرهابــا فنيــا يحــاول أن يقيــم ســو ار حديديــا حــول أذواقنــا‬
‫حتــى ال نتطــور فنــدرك قيمتهــم الحقيقيــة (قالــت إحــدى فناناتنــا‪ ..‬يجــب منــع دخــول‬
‫األغانــي العربيــة إال إذا قبلــت الــدول العربيــة إذاعــة أغانينــا‪ ...‬ورحــم اهلل أمــرءا‬
‫عــرف قــدر نفســه)‪.‬‬

‫من هنا قلت أن صيحتهم هي صيحة الحق التي عبر عنها ابن أبي طالب‪.‬‬

‫وهكــذا يبــدو واضحــا أن مــا يعــرف اليــوم بالفــن األندلســي مــا هــو فــي الحقيقــة‬
‫إال فــن دخيــل علينــا ال يعبــر عــن حياتنــا بــل ويتعــارض بأفيونيتــه وخــدره مــع كل‬
‫مــا نعمــل مــن أجلــه‪.‬‬

‫والذيــن يرددونــه ببغــارات ال تفهــم مــا تقــول‪( ..‬ســمعت فتيــات فــي عمــر الــورود‬
‫يغنيــن عــن وصــال الحبيــب الــذي هــو أحلــى مــن كأس المــدام‪ ..‬وهــي كلمــات يمكــن‬
‫أن يعاقــب عليهــا قانــون حمايــة أخــاق األحــداث)‪.‬‬

‫لكن هذا ال يمنع من أن نعترف بأن كثي ار من األلحان األندلســية تشــكل ثروة‬
‫موســيقية تنتظــر الفنانيــن الحقيقييــن‪ ،‬العارفيــن بقواعــد الموســيقى‪ ،‬الملتزميــن بالخــط‬
‫الثــوري لهــذا البلــد لكــي يطوروهــا أوركســتراليا فــي صــورة عصريــة بعيــدة عــن المــط‬
‫والتثنــي (ومثــل بســيط لذلــك هــو التقديــم الصينــي لمقطوعــة قــم تــر ب ارعــم اللــوز)‪.‬‬

‫والفــن الشــعبي هــو كمــا قلــت فــن أصيــل يعبــر عــن مرحلــة فــي تاريخنــا الوطنــي‬
‫وهو تراثنا الحقيقي الذي لم يتأثر بالموسيقى األندلسية وال بموسيقى التخت التركي‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫لكــن طابعــه الرئيســي هــو الطابــع المتحفــي أو « االرتي ازنــا» هــو كالبرنــوس أو‬
‫القنــدورة ال يعقــل أن تلبــس فــي قاعــة العمليــات الجراحيــة أو بالقــرب مــن منصــة‬
‫إطــاق الصواريــخ‪..‬‬

‫ودورنــا اليــوم هــو تســجيله أوال ثــم تنقيتــه وتصفيتــه واســتبعاد العناصــر الدخيلــة‬
‫عليــه‪ ..‬فليــس كل مــن رفــع عقيرتــه صانحــا‪ ..‬أي يــاي‪ ..‬فنــان شــعبي‪ ،‬وليــس كل‬
‫مــن نفــخ فــي الزرنــة أو أمســك بالكمــان فــي الوضــع ال أرســي‪ ..‬فنــان شــعبي‪ ..‬وليــس‬
‫كل مــن رص كلمــات مســجوعة‪ ..‬فنــان شــعبي‪..‬‬

‫إن إحيــاء الت ـراث ال يجــب أن يكــون نزعــة عنصريــة أو إقليميــة ضيقــة‪ ،‬ألن‬
‫تـراث أي شــعب هــو جــزء مــن التـراث العالمــي خاصــة فــي ميــدان الفــن والثقافــة‪..‬‬
‫ولقــد حــان الوقــت لكــي تأخــذ فنوننــا الشــعبية طريقهــا إلــى المســتمع فــي العالــم أجمع‪.‬‬

‫ولكــن هــذا لــن يتأتــى باالرتجــال وبطريقــة « كعــور وأعطــى لالعــور»‪ ..‬فلســنا‬
‫عــورا‪ ..‬وأجه ـزة اإلعــام التــي حطمــت األس ـوار بيــن الشــعوب ســتجعلنا محــط‬
‫الســخرية والرثــاء كذلــك الــذي يهمــل استشــارة الطبيــب لكــي يعــرض نفســه علــى‬
‫ســيدي فــان أو ليشــرب « نقيعــا» مــن األعشــاب تقدمــه لــه « جــداه»‪.‬‬

‫وفننــا فــي حاجــة إلــى طبيــب‪ ..‬ومجــال عالجــه هــو األكاديميــات الفنيــة وليــس‬
‫خشــبة المســرح أو شاشــة التليفزيــون (وأنــا واثــق مــن أن اســتهالك الكهربــاء قــد‬
‫انخفــض خــال المهرجــان الماضــي‪.)..‬‬

‫وأرجــو أن ال يأتــي يــوم نقــول فيــه « فــي بالدنــا» بيــن كل مهرجــان ومهرجــان‬
‫هنــاك مهرجــان ثالــث‪ »..‬بــدال مــن‪ »..‬فــي شــارع ديــدوش بيــن كل مقهــى ومقهــى‬
‫هنــاك مقهــى ثالــث‪.‬‬

‫وجمــع التـراث يــا ســادة يتــم فــي ســنوات ال فــي أســابيع معــدودة‪ ..‬وتقييــم التـراث‬
‫إو�عــداده فــي الصــورة التــي تليــق بــه وبنــا‪ ..‬يحتــاج إلــى عمــل شــاق وجهــد عظيــم‬
‫ومقــدرة فنيــة وأفــق واســع‪..‬‬

‫و‪ ...‬كان اهلل في عوننا‪ ..!! ‬نحن المستمعين‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫(((‬
‫بني قوسني‬

‫‪ ..‬وقبــل أن اســتكمل حديثــي عــن مشــكلة العــاج الطبــي فــي بالدنــا‬


‫(((‬

‫والذي أعرض اليوم الحلقة الثالثة من سلسلته أحب أن أفتح قوسين‪.‬‬

‫فلقــد الحظــت هيبــة خانقــة تأخــذ بتالبيــب القــارئ العربــي فــي الج ازئــر إذا دار‬
‫الحديــث عــن االقتصــاد أو «التكنيــك»‪ ،‬وألفــت أن أســمع تعليقــات شــفوية كثيـرة يمكــن‬
‫أن يتمخــض الكثيــر منهــا عــن آراء قيمــة تســتطيع أن تســاهم فــي إلقــاء الضــوء علــى‬
‫العديــد مــن المشــاكل التــي تعالجهــا الصحافــة الوطنيــة وفــي إيجــاد الحلــول لهــا‪.‬‬

‫وكنت إذا تساءلت ساخطا‪ ..‬ولماذا ال تحاولون نقل المناقشات إلى صفحات‬
‫الج ارئــد؟ «أجابنــي الكثيــرون فــي حسـرة ظاهـرة‪ ..‬نحــن ال نقــدر علــى مناقشــة أمثــال‬
‫هــذه األمــور‪ ..‬لهــا رجالهــا ولنــا قهاوينا‪»!! ‬‬

‫وال أعتقــد أن الموضــوع يتعلــق بالخــوف علــى الــرزق‪ ،‬إذا أغضــب بعضهــم‬
‫مصــدره‪ ،‬ذلــك أن الســلبية الفكريــة تــكاد تكــون ظاه ـرة عامــة فــي البلــدان المتخلفــة‬
‫ذات السياســة الموجهــة‪.‬‬

‫لقــد زرعــت فــي نفــوس قـراء الــدول الناميــة عقــدة بالغــة الخطــورة علــى الحيويــة‬
‫الفكريــة‪ ،‬يزيــد مــن خطورتهــا أثرهــا المخــرب الــذي ال تبــدو معالمــه إال بعــد مــرور‬

‫المجاهد ‪ 21‬ديسمبر ‪1969‬‬


‫‪ .2‬الفصل المذكور موجود في القسم الثاني ( انطباعات اجتماعية وعامة)‪ .‬‬
‫‪165‬‬
‫فترة زمنية طويلة يصبح اإلصالح بعدها مســتحيال‪ ..‬كمرض الزهري (الســيفيليس)‬
‫الذي ال تثير عالماته األولى أي قلق عند المريض ولكن عالماته الحقيقية ال تبدو‬
‫إال بعــد عشـرات الســنوات‪ ،‬ويمســي عالجهــا آنــذاك أمـ ار خارجــا عــن نطــاق القــدرة‪.‬‬

‫هــذه العقــدة هــي ذلــك اإلحســاس الخاطــئ بــأن العلــوم االقتصاديــة والد ارســات‬
‫االجتماعيــة واألمــور الفنيــة هــي مياديــن خاصــة بطبقــة معينــة من االختصاصيين‪،‬‬
‫ال تجــوز مناقشــتها مــن الجماهيــر الشــعبية‪.‬‬

‫وينمــي هــذه العقــدة مجموعــة مــن األذكيــاء‪ ،‬معظمهــم لــم يســاهم فــي حركــة‬
‫االســتقالل الوطنــي‪ ،‬وينتمــي إلــى وســط اجتماعــي بورج ـوازي يجعلــه ال يســتطيع‬
‫التفكيــر بعقليــة الجماهيــر الكادحــة‪ ..‬صاحبــة األمــر الحقيقــي‪.‬‬

‫وتعتمــد هــذه المجموعــة علــى ســاح الديبلومــات والشــهادات التكنيكيــة لتخلــق‬


‫مــن نفســها طبقــة جديــدة تجعــل مــن عناصــر التقــدم العصــري دينــا جديــدا كهنوتــي‬
‫فكريــا‬
‫هابــا ً‬
‫الطابــع‪ ،‬تعطيــه األلفــاظ التكنيكيــة المعقــدة قداســة غامضــة‪ ،‬وتفــرض إر ً‬
‫ذكيــا علــى العقــول إلــى أن ينتهــي األمــر بصاحــب األمــر‪ !! ‬إلــى التســليم لهــم بــكل‬
‫ًّ‬
‫شــئ والقناعــة بإيمــان العجائــز‪!! ‬‬

‫وهكــذا تأتــي الكارثــة‪ ..‬فهــذه الطبقــة ال تختلــف فــي شــئ عــن محاكــم التفتيــش‬
‫اإلســبانية‪ ،‬وهــي معزولــة فكريــا وروحيــا وثقافيــا وثوريــا واجتماعيــا عــن الشــعب‪،‬‬
‫ولهذا تقع هي نفسها فريسة للمتعاونين األجانب الذين يرسمون الخطط الهالمية‬
‫والد ارســات الباهظــة التكاليــف (يقــال أن تصميــم شــعار شــركة وطنيــة معينــة تكلــف‬
‫ثمانيــة مالييــن فرنــك قديــم‪ ..‬يقــال‪ ..‬هــه‪)..‬‬

‫وفــي حمايــة القدســية الزائفــة‪ ،‬والرهبــة مــن كهنــوت «التكنيــك» ال تجــرؤ‬


‫الجماهيــر علــى المناقشــة‪ ..‬وهكــذا يمكــن أن تُصــرف المالييــن علــى بنــاء مصنــع‬
‫لتكريــر ميــاه البحــر بجانــب نبــع مــاء صــاف‪ ..‬مثــا‪.‬‬

‫لهــذا أقــول‪ ..‬ال رهبانيــة فــي العلــم‪ ،‬وال قدســية للتكنيــك‪ ..‬كل شــئ يجــب أن‬
‫يناقــش‪ ..‬وبحريــة مطلقــة‪ ..‬ويجــب أن يناقشــه كل مواطــن‪ ..‬مهمــا كان مســتواه‬
‫الثقافــي‪..‬‬

‫‪166‬‬
‫األقتصــاد‪ ..‬يمكــن أن يناقشــه المواطــن كمســتهلك‪ ..‬وليــس المســتهلك فــي‬
‫حاجــة إلــى دكتــوراه فــي االقتصــاد لكــي يتحــدث عــن احتياجاتــه‪ ،‬وعــن أوجــه‬
‫الضعــف فــي ســد هــذه االحتياجــات‪.‬‬

‫الطــب‪ ..‬يمكــن أن يناقشــه كل مواطــن‪ ..‬كمريــض أو كصديــق لمريــض أو‬


‫كقريــب لصيدلــي‪ ..‬ال يحتــاج األمــر هنــا إلــى شــهادة فــي الطــب‪.‬‬

‫والتعليــم‪ ..‬واالعــام‪ ..‬والز ارعــة‪ ..‬كلهــا عناصــر للتقــدم االجتماعــي‪ ،‬تبــدو‬


‫معالمهــا الحقيقيــة إذا ألقــى الطــرف الثانــي (أي المســتهلك) أض ـواء تجربتــه‬
‫الشــخصية عليهــا‪ ،‬وهــذا ممــا يفــرض علــى كل مثقــف وكل قــادر علــى الق ـراءة أن‬
‫يتدخــل‪ ،‬وأن يتســاءل‪ ،‬وأن يناقــش‪ ،‬وأن يعــارض‪.‬‬

‫إو�ذا كان الفرنســيون يقولــون أن « الشــهية تأتــي مــع األكل « فإننــي أقــول «‬
‫أن المقــدرة علــى الكتابــة تكتســب بمحاولــة الكتابــة‪ ،‬وأن القــدرة علــى التحليــل تمتلــك‬
‫بممارسته‪.‬‬

‫وهكــذا فجماهيــر الــدول الناميــة ال يجــب أن تعيــش فــي جــو التخصــص‬


‫المطلــق‪ ،‬والعصــر الحديــث يكفــل إمكانيــات ثقافيــة تضــع فــي يــد القــارئ العــادي‬
‫غيــر المتخصــص أســلحة قويــة تجعلــه قــاد ار علــى المســاهمة فــي نشــاطات الدولــة‬
‫ومشــاريع تنميتهــا‪ .‬حتــى تلــك التــي ال تدخــل فــي نطــاق تخصصــه المهنــي‪.‬‬

‫وفــي بالدنــا بالــذات تقــع المســئولية العظمــى علــى المثقــف العربــي ألنــه هــو‬
‫األقــرب روحيــا وفكريــا إلــى الجماهيــر الشــعبية‪ ،‬وهــو األعــرق فــي التاريــخ الثقافــي‬
‫واألرســخ قدمــا فــي النضــال اليومــي‪ ،‬واألقــدر علــى وضــع األحــداث الوطنيــة فــي‬
‫إطارهــا الحقيقــي الصحيــح‪.‬‬

‫ورغم أنني أقســو دائما على المثقف العربي وأتهمه بالعجز والســلبية إال أنني‬
‫أؤمــن بإمكانياتــه العــذراء إيمانــي بإمكانيــات ســحاب تعبــث بــه الريــاح علــى تحويــل‬
‫األ ارضــي الجــرداء إلــى حدائــق غنــاء‪ ،‬وأومــن بقد ارتــه الكامنــة إيمانــي بأشــجار‬
‫عمالقــة تكمــن فــي أصغــر البــذور‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫فلنقتــل إذن عقــدة التكتيــك الزائفــة‪ ،‬ولنكفــر بآلهــة التخصــص الوهميــة‪ ،‬ولنحطــم‬
‫أصنامــا ســاهمنا بســلبيتنا فــي صنعهــا‪.‬‬

‫والبــد أن تنطلــق النمــور المســجونة داخــل أنفســنا والتــي كادت تتحــول إلــى‬
‫قطــط منزليــة بلهــاء تجــري وراء الفراشــات والذبــاب‪ ،‬والبــد‪ ...‬البــد أن أقفــل القــوس‬
‫الــذي فتحتــه ألعــود إلــى موضــوع الحديــث الرئيســي(((‪...‬‬

‫‪ .1‬الموضوع الرئيسي موجود في القسم الثاني الذي يعالج المشاكل االجتماعية‪.‬‬


‫‪168‬‬
‫َ َ ٌ َ َ‬
‫انطِباعات عا ِبرة‬

‫ •لــن أســتطيع تصديــق مــن يزعــم بنجــاح مــا ســمي بمهرجــان الثقافــات الشــعبية‪..‬‬
‫إال إذا أطلقنــا وصــف الذكــي النابغــة علــى ذلــك الــذي يدخــل منجمــا للذهــب فيأخــذ‬
‫مــن أحجــاره الخــام كتــا يهديهــا إلــى مــن يحــب‪..‬‬

‫كفــى حش ـوا إو�ضاعــة ألم ـوال الدولــة‪ ،‬وحرقــا ألعصــاب المواطينــي‪ ،‬ادرس ـوا‬
‫األمــور قبــل القيــام بهــا‪..‬‬

‫ •‪ ...‬وبهــذه المناســبة أذكــر كلمــات قالهــا – علــى مــا أظــن – كرمويــل‪ ..‬قــال‬
‫مخاطبــا بعــض المســؤولين فــي بــاده‪..‬‬

‫« لقــد أمضيتــم وقتــا طويــا هنــا ال ينســجم مــع النفــع الــذي قدمتمــوه‪ ...‬إو�ننــي‬
‫أقــول لكــم اآلن‪ ...‬أخرج ـوا وخلصونــا منكــم‪ ..‬بحــق الســماء‪ ...‬اذهب ـوا‪ »..‬و‪ ..‬مــا‬
‫قلنــاش‪!! ‬‬

‫ •تحيــة إلــى القائميــن علــى برنامــج « أض ـواء علــى الواليــات « الــذي شــاهدت‬
‫إحــدى حلقاتــه فأحسســت بالمجهــود الكبــر الــذي بــذل مــن أجــل تحقيقهــا‪.‬‬

‫وبمناســبة التليفزيــون‪ ..‬يجــب أن نعتــرف بــأن الكاتــب المســرحي التليفزيونــي‬


‫لــم يخلــق عندنــا بعــد‪ ..‬والدلــل علــى ذلــك هــي هــذه التفاهــات التــي نجبــر علــى‬
‫مشــاهدتها بعــد اإلفطــار‪ ،‬والتــي يرتــزق منهــا بعــض العباقـرة الذيــن جعلـوا مــن هــذا‬
‫الجهــاز اإلعالمــي الخطيــر بق ـرة حلوبــا‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫وأقــول عباق ـرة‪ ..‬ألننــي ال أجــد مــا أصــف بــه ذلــك الشــخص الــذي يؤلــف‬
‫ويخرج ويمثل ويكتب الحوار في وقت واحد (هتشــكوك نفســه ال يســتطيع ذلك‪.)..‬‬

‫إن األدب العالمــي ملــئ بالقصــص والتمثيليــات الرائعــة‪ ،‬ولســت أرى‬


‫مانعــا حقيقيــا يمنعنــا مــن اقتبــاس بعضهــا وتقديمــه للمتفرجيــن المســاكين‬
‫‪ ..‬ذلــك أن الفــن يبــدأ غالبــا بالمحــاكاة واالقتبــاس‪ ،‬وهــذا فــي حــد ذاتــه يســاهم فــي‬
‫خلــق مجموعــة مــن الكتــاب تفهــم معنــى الكتابــة للشاشــة الصغي ـرة‪.‬‬

‫ولست ألوم عباقرتنا‪ ..‬فمن الذي يكره « الكاشي »‪..‬‬

‫ولســت ألــوم إدارة التليفزيــون‪ ..‬فهــذا مــا عطــا اهلل‪ ..‬أنــا ألــوم نفســي‪ ..‬ألننــي‬
‫أفتــح التليفزيــون لمجــرد أن أســاهم فــي زيــادة دخــل شــركة الكهربــاء‪!! ‬‬

‫ •التحذيــر الجــاد الــذي أطلقــه الرئيــس فــي اجتمــاع اإلطــارات كان لــه أثــر ضخــم في‬
‫نفوس الجماهير خاصة عندما ألح على أن موعد ‪ 1971‬يجب أن يحترم واال‪ ..‬؟‬

‫وأنــا أؤمــن بــأن الرئيــس جــاد فــي تحذي ـره‪ ،‬وبقــي أن يؤمــن بعــض المســؤلين‬
‫بذلــك‪ ،‬وخاصــة مســؤولي المدرســة العليــا لــإدارة(((‪.‬‬

‫البــد أن تفــرض العربيــة فــي هــذه المدرســة ولــو أدى األمــر إلــى زيــادة شــهرين‬
‫للعربيــة وحدهــا‪.‬‬

‫وبالنســبة لموظفي اإلدارة الحاليين يجب أن تقام لهم دورات مدتها شــهران أو‬
‫ثالثــة يتوقفــون فيهــا تمامــا عــن مزاولــة نشــاطهم اإلداري ليتفرغ ـوا – تحــت الرقابــة‬
‫الجديــة – لد ارســة اللغــة الوطنيــة‪ .‬ولــن يضيــر إدارة مــا أن يتوقــف ربــع موظفيهــا‬
‫أو عشــرهم عــن العمــل‪.‬‬

‫بغيــر هــذا أخشــى أن نضطــر فــي عــام ‪ 1971‬إلــى أن نعلــن بنفــس طريقــة‬
‫بعــض شــركات الطي ـران التــي‪ »..‬تعتــذر عــن تأخــر قيــام طائرتهــا المتوجهــة إلــى‬
‫كــذا‪ ..‬ألســباب فنيــة»‪!! ‬‬

‫‪ .1‬كان هذا أول تحذير يتناول المدرسة‪ ،‬التي أشيع أن مديرها يحارب العربية‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫ •لعبة طريفة أنصحكم بمحاولة ممارستها‪.‬‬

‫حاولـوا قـراءة الــردود الخاصــة علــى رســائل القـراء التــي لــم تحــظ بشــرف النشــر‪..‬‬
‫ثــم حاولـوا – مــن صيغــة الــرد ومحتـواه – تخيــل مضمــون الرســالة‪ ..‬وأخيـرا‪ ..‬حاولـوا‬
‫تخيــل األســباب التــي دفعــت الصحيفــة إلــى إهمــال نشــر الرســالة‪..‬‬

‫ثم‪ ..‬قولوا لي رأيكم‪!! ‬‬

‫ •كنــت أســمع كثيـ ار فــي العــام الماضــي‪ ..‬لمــاذا توقفــت « انطباعــات »‪ ..‬ولعلــي ال‬
‫أســمع اليــوم‪ ..‬لمــاذا عــادت ؟؟‪« !! ‬‬

‫ •أكــرر وأعيــد‪ ..‬أننــي أعتبــر نفســي مجــرد قــارئ يتفاعــل مــع أحــداث وطنــه ويفكــر‬
‫فيهــا بصــوت‪ ..‬مقــروء‪ ..‬ومــا اكتبــه يعبــر عــن وجهــة نظــري الشــخصية ال غيــر‪..‬‬
‫ولقد كان من أهم أســباب عزوفي عن الكتابة‪ ..‬محاولة البعض إعطاء طابع غير‬
‫شــخصي لهــذه االنطباعــات‪.‬‬

‫ولقــد عــدت‪ ..‬ربمــا‪ ..‬ألن الطبــع يغلــب التطبــع‪ ..‬وألن الكتابــة بالنســبة لــي‪..‬‬
‫اف ـراز طبيعــي ال اســتطيع إيقافــه‪ ..‬ولعلــي أســتطيع التحكــم فيــه‪..‬‬

‫ •فــي حــدود معلوماتــي‪ ..‬ال يوجــد بلــد فــي العالــم يعطــي المنــح الد ارســية لــكل‬
‫الطــاب مهمــا كان مســتواهم المــادي أو الد ارســي‪..‬‬

‫إو�ذن فأقول لطلبتنا « ولئن شكرتم‪.»..‬‬

‫ •رجاء خاص لإلخوة واألخوات الذين يعرفون حقيقة كاتب هذه السطور‪..‬‬

‫سر بيني وبينكم‪ ..‬متفاهمين؟؟‬


‫يرحم والديكم‪ ..‬احتفظوا بذلك ألنفسكم واعتبروه ًا‬

‫ •موظف كبير في جهاز اقتصادي هام كتب مقاال قيما باللغة الفرنسية عن دور‬
‫القطــاع الخــاص فــي التنميــة االقتصاديــة‪ ،‬أثــار موجــة مــن التعليقــات وردود الفعــل‬
‫لج أرتــه وتقدميتــه ومنطقيتــه (رغــم أننــي قــد اختلــف مــع كاتبــة علــى بعــض التفاصيل)‪.‬‬

‫ولكــن ســلطات اإلعــام شــدت إذن مســؤول الجريــدة التــي نشــر بهــا المقــال‬
‫لســماحه بالنشــر‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫ثــم حــدث أن هوجــم كاتــب المقــال علــى نفــس الصحيفــة‪ ..‬أو علــى األدق‬
‫هوجمــت األفــكار التــي قدمهــا‪ ،‬فحــاول الــرد وتوضيــح وجهــة نظ ـره ولكــن‪ ..‬قيــل لــه‬
‫بصفــة غيــر مباشـرة‪ »..‬لقــد قتــل الموضــوع بحثــا‪ »..‬و‪ ..‬يعنــي‪ ..‬لــن ينشــر مقالــك‪..‬‬

‫وأنا ال أفهم معنى هذه التصرفات‪ ..‬وال أفهم سبب عدم فهم بعض المسؤولين‬
‫لما قاله الرئيس عن ضرورة تشجيع النقد البناء إو�فساح المجال لآلراء الحرة‪..‬‬

‫‪ ..‬ويا سادة‪ ..‬نحن مواطنون‪ ..‬ال رعايا‪.‬‬

‫ •فــي نهايــة العــام الماضــي طلبــت « شــركة وطنيــة للنشــر والتوزيــع « (هكــذا)‬
‫مــن الناش ـرين فــي العربيــة المتحــدة كتبــا قانونيــة لتــدرس فــي كليــة الحقــوق (كان‬
‫هــذا فــي شــهر أوت)‬

‫وأرســلت الكتــب فــي أوائــل شــهر ســبتمبر لتصــل إلــى مينــاء الج ازئــر فــي نفــس‬
‫الشهر‪..‬‬

‫ومــازال طلبــة الحقــوق بــدون كتــب ومــازال الدكتــور الجــرف يشــد شــعر أرســه‪..‬‬
‫(نحــن فــي ديســمبر‪)..‬‬

‫والسؤال‪ ..‬ماذا حدث للكتب ؟‪..‬‬

‫ •‪ ..‬أين اللجنة العليا للتعريب‪ ..‬لقد بقي على عام ‪ 1971‬ثالثة عشر شهرا‪..‬‬

‫ •إذا أردتــم قتــل بــذور التفــاؤل فــي أنفســكم فاذهب ـوا إلــى نــادي المعلميــن فــي‬
‫قســنطينة أو عنابــة‪ ..‬ولــن أزيــد‪ ..‬فلــي إلــى هــذا الموضــوع عــودة‪..‬‬

‫ •مشــكلة تصحيــح الالفتــات العربيــة ليســت مشــكلة مســتعصية الحــل إذا كان‬
‫اإليمــان بالتعريــب إيمانــا حقيقيــا‪.‬‬

‫فإنشــاء مكتــب خــاص فــي كل بلديــة (بالســيف‪ )!! ‬يعمــل فيــه متطوعــون مــن‬
‫معلمــي العربيــة يتولــون تقديــم العبــارات الصحيحــة التــي تضــع علــى الالفتــات بــدال‬
‫من‪»..‬مجــزرة األحبــاب» و«الشــعب المخبــوز» ومخــروج االنفـرار‪!! ‬‬

‫‪172‬‬
‫فقــط‪ ..‬يجــب أن نقــول أن هـؤالء المتطوعيــن ليسـوا حملــة الصليــب فــي طريــق‬
‫اآلالم‪ ،‬ومعنــى هــذا أن مجــرد كونهــم متطوعيــن ال يحــول وال يجــب أن يحــول بيــن‬
‫الســلطات وبيــن إعطائهــم بــدالت ماليــة تشــجيعا لهــم‪.‬‬

‫وبهــذه المناســبة‪ ،‬البــد أن نســمع توضيحــا للصمــت الــذي لــف قائمــة متطوعــي‬
‫تعليــم العربيــة والتــي تشــمل مئــات المثقفيــن بالعربيــة الذيــن اســتجابوا لنــداء جريــدة‬
‫الشــعب‪ ..‬أيــن هــي هــذه القائمــة‪..‬؟ ولمــاذا لــم تنشــر األســماء ؟ ومــا هــو رد فعــل‬
‫المســؤولين على الروح الثورية التي تجلت في االســتجابة السـريعة لنداء الشــعب ؟‬

‫ •لســت أدري مــن هــو صاحــب فكـرة دمــج برنامجــي أبحــاث فــي فائــدة العائــات‬
‫ومــا يطلبــه المســتمعون فــي برنامــج واحــد إو�ن كنــت أتوقــع بأنــه مصــاب بعســر‬
‫هضمــي مزمــن‪.‬‬

‫وأنتهــز هــذه الفرصــة ألحيــي صاحــب البرنامــج علــى الموســيقى الممي ـزة‬
‫(انديكاتيــف) التــي اختارهــا وألطلــب مــن األخــت عائشــة أال أن تمــزج صوتهــا مــع‬
‫المقدمــة الموســيقية لألغنيــة التــي تقدمهــا‪.‬‬

‫فنحــن نعتــرف لهــا بالصــوت اإلذاعــي ولكننــا ال نحــب شــرب مزيــج القهــوة‬
‫واألتــاي ونفضــل أن نشــرب كال علــى حــدة‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫ً‬
‫(((‬
‫ومل أر يف عيوب الناس عيبا‪..‬‬

‫كان علــي أن أتحــدث هــذه المـرة عــن مؤتمــر القمــة الخامــس‪ ..‬أو الســادس‪..‬‬
‫لســت أدري‪.‬‬

‫وكنــت أحــاول أن أفــر مــن الحديــث فــي هــذا الموضــوع وأن أبعــد ف ارشــاتي عــن‬
‫لهبــه لســببين‪:‬‬

‫األول – إننــي مللــت الحديــث عــن كل مــا يتعلــق باللقــاءات الرســمية التــي‬
‫يجتمــع فيهــا الزيــت والمــاء‪.‬‬

‫الثاني – إن العناصر اإلخبارية التي يجب أن تتوافر لعمل التحليل السياسي‬


‫(أو العــرض السياســي علــى األقــل) غــر متوف ـرة إال فــي الصحافــة األجنبيــة‪!! ‬‬
‫وصفــاء نبعهــا مشــكوك فيــه‪ ،‬وحســن نيتهــا ليــس فــوق مســتوى الشــبهات‪.‬‬

‫ثم وجدت لنفسي مخرجا من الحرج‪..‬‬

‫وهكذا ســمحت لنفســي بالســطو على اختصاصات الزميل صاحب البريد لكي‬
‫أنشــر داخــل إطــار االنطباعــات الرســالة التــي قذفنــي بهــا األخ العربــي الهاشــمي‪،‬‬
‫ولكــي أجعــل منهــا نقطــة انطــاق للحديــث‪ ..‬بعيــدا عــن الموضوعــات الشــائكة التــي‬
‫ال أســتطيع أن أضمــن لهــا صــدق العــرض ودقــة التحليــل‪.‬‬

‫ولقــد ظــن ص ل ا ع (أي‪ ..‬صديقــي اللــدود األخ العربــي) بأنــه قــد عثــر علــى‬
‫نقطــة ضعــف مناســبة يســتطيع أن يجعــل منهــا العمــود الفقــري للهجــوم‪ ..‬ولكننــي‬
‫أعتقــد أنــه أســاء اإلختيــار‪.‬‬

‫‪ .1‬المجاهد ‪ 4‬يناير ‪.1970‬‬


‫‪175‬‬
‫فاســتعمالي لالســم الرمــزي أو مــا أحــب أن أســميه‪ ..‬االســم الحركــي‪ ..‬كان‬
‫نتيجــة للظــروف التــي صاحبــت ظهــور هــذا البــاب منــذ أربعــة ســنوات تقريبــا‪،‬‬
‫ونتيجــة لوضعــي شــخصيا آنــذاك وللهــدف مــن الكتابــة‪.‬‬

‫لقــد ظهــرت االنطباعــات علــى مجلــة الجيــش قبــل ‪ 19‬جـوان ‪ 1965‬وفــي الفتـرة‬
‫التــي كنــت أتولــى مســئولية معينــة داخــل إطــار الق ـوات المســلحة‪ ،‬ووقعــت أول‬
‫مقالــة لــي باالســم كامــا‪ ،‬ثــم أحسســت بــأن صفتــي المهنيــة تضفــي علــى مــا أكتــب‬
‫وقــا ار معينــا وتثيــر فــي نفــس القــارئ هيبــة تــؤدي إلــى عكــس المطلــوب مــن بــاب‬
‫كهــذا البــاب‪ ..‬يعــرض تفاعــل مواطــن مــع أحــداث بــاده‪ ،‬ويهــدف إلــى إثارة النقاش‬
‫حولهــا‪ ،‬وخلــق ردود فعــل فكريــة إزاء المشــاكل التــي نعيشــها أو األحــداث التــي نمــر‬
‫بهــا‪ ،‬دون أن يكــون لشــخصية الكاتــب تأثيــر علــى النتيجــة أو االســتنتاج‪.‬‬

‫وهكــذا لــم أكــن متناقضــا مــع نفســي وال مــع الطريــق الــذي اخترتــه عندمــا‬
‫هاجمــت فــي العــدد الماضــي أولئــك الفنييــن أو االختصاصييــن الذيــن يفرضــون‬
‫بصفتهــم المهنيــة «هيبــة خانقــة تأخــذ بتالبيــب المثقــف الج ازئــري وتقــف حائــا بينــه‬
‫وبيــن إمكانيــة التفاعــل مــع مــا يق ـرأ»‪.‬‬

‫هــذا هــو الســبب الرئيســي لتوقيــع م‪..‬ديــن‪ ،‬وال داعــي لكــي أقــول بــأن مســؤولي‬
‫اإلعــام بالــذات يعرفــون حقيقــة كاتــب هــذه الســطور كمــا أن « مــا ال أستحســنه‪..‬‬
‫كمــا قــال صاحــب الرســالة‪ »..‬قــد حــدث كثي ـ ار ولكــن لــم يكــن كافيــا لردعــي وال‬
‫لتحويلــي عــن الطريــق الــذي اخترتــه والهــدف الــذي آمنــت بــه‪.‬‬

‫وهكــذا فلــو حــاول ص‪.‬ل‪.‬ا‪.‬ع (أي صديقــي اللــدود‪ ..‬الــخ) قـراءة المقــال أكثــر‬
‫مــن م ـرة (وهــو أحــد عيــوب أســلوبي التــي أعتــرف بهــا) ألدرك أن أفكارنــا ال‬
‫تتعــارض بــل تتكامــل دون أي تناقــض محســوس‪.‬‬

‫لكنني أختلف معه في تحديد المسؤولية‪.‬‬

‫ذلــك أنــه مــن المنطقــي لطبقــة التكنوق ـراط فــي أي بلــد أن تخلــق مــن نفســها‬
‫قــوة ميتافيزيقيــة غامضــة تغطــي ضبابيــات التعبي ـرات الفنيــة المعقــدة مالمحهــا‬

‫‪176‬‬
‫األساســية‪ ،‬وتحــول م اركــز الوظيفــة إلــى م اركــز قــوى تفــرض الهيبــة والتخويــف لكــي‬
‫تخنــق كل نقــاش وتســكت كل لســان‪.‬‬

‫لكــن غيــر المنطقــي فــي البلــد الثــوري أن يستســلم المواطــن المثقــف غيــر‬
‫المتخصــص لهــذا الوضــع‪ ،‬واألدهــى واألمــر هــو اعتقــاده بــأن استســامه هــذا هــو‬
‫التصــرف المنطقــي والمعقــول‪ ..‬وهــذا هــو الخــط الرئيســي لحديثــي الماضــي وهنــا‬
‫نقطــة الخــاف الرئيســي بينــي وبيــن ص‪.‬ل‪.‬ا‪.‬ع‪.‬‬

‫فأنــا أقــول أن الموضــوع ليــس موضــوع شــجاعة أدبيــة (وأنــا لــم أتهــم القــارئ‬
‫العربــي فــي شــجاعته) كمــا أنــه ليــس عجـ از وراثيــا ال عــاج لــه (ولقــد قلــت وأكــرر‬
‫بأننــي أومــن بإمكانيــات المثقــف العربــي الكامنــة وبطاقاتــه المكبوتــة)‪.‬‬

‫الموضــوع هــو الســلبية الفكريــة الناتجــة عــن عقــدة نقــص زرعــت فــي نفــس‬
‫المثقــف العربــي ونمــت مــع األيــام لتصبــح غابــة كثيفــة تزخــر بالهـوام والطفيليــات‪،‬‬
‫وال تدخلهــا شــمس الحقيقــة والمعرفــة‪ ..‬ويصــاب الفكــر مــن رطوبتهــا بالروماتيــزم‬
‫الــذي يقعــده عــن الحركــة ويشــل قد ارتــه وفاعليتــه‪.‬‬

‫لقــد اســتجاب المثقــف العربــي لمحــاوالت التعقيــد (وخاصــة المثقــف العربــي‬


‫الــذي ال يعــرف لغــة أجنبيــة) فأصبــح يحــس بأنــه أقــل مــن اآلخريــن‪ ،‬وأنــه عاجــز‬
‫عــن مناقشــة مشــاكل العصــر‪ ،‬والتفاعــل معهــا‪ ،‬وبــأن مجالــه محــدود بمهنتــه أو‬
‫بحلقــات الدمينــو وهــرش المــخ‪.‬‬

‫بــل أن مزدوجــي الثقافــة وقع ـوا هــم أنفســهم ضحيــة لعمليــة التعقيــد‪ ،‬وأعــرف‬
‫منهــم مــن كتــب عش ـرات المقــاالت بالفرنســية ولــم يكتــب – رغــم مقدرتــه – ســط ار‬
‫واحــدا بالعربيــة‪! ‬‬

‫هذا هو بالضبط ما أهاجمه أنا‪.‬‬

‫أنــا أقــول‪ ..‬أن هنــاك خيــوط عنكبــوت وهميــة تتخبــط فيهــا قــدرات المثقــف‬
‫العربــي‪ ،‬التــي ال يســتطيع مخلــص صــادق إال أن يعتــرف بوجودهــا‪ ،‬وبقدرتهــا علــى‬
‫تغييــر مجــرى الحيــاة (ولعــل إدراك اآلخريــن لهــذا هــو الســر الحقيقــي فــي محاربتهــم‬
‫المثقــف العربــي وفــي محاولتهــم تعقيــده)‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫ولهــذا الســبب أســمح لنفســي بالصـراخ فــي وجــه المثقــف العربــي‪ ،‬ألننــي أومــن‬
‫بأنــه قــادر علــى التمــام وألننــي ال أرضــى لــه استســاما مهينــا أو ســلبية تدفــع بــه‬
‫بعيــدا عــن م اركــز الرقابــة والتوجيــه‪.‬‬

‫لقــد حــان الوقــت لنخلــق مــن مجمــوع المثقفيــن بالعربيــة تيــا ار متجانــس التفكيــر‪،‬‬
‫متكامــل الثقافــة‪ ،‬متناســق العمــل‪ ،‬متقــارب النزعــات‪ ،‬موحــد االتجــاه‪...‬‬

‫‪ ...‬تيــا ار يحطــم كل مــا يمكــن أن يعرقــل طريقــه ويجتــاح ســدود التكنيــك‬


‫الوهميــة ليديــر باندفاعــه الواعــي عجلــة البنــاء الثــوري‪.‬‬

‫هل الطريق سهل معبد ؟ هل تنتظرنا الورود على جانبي الطريق ؟‬

‫أبــدا‪ ..‬بــل هــو الطريــق الوعــر الشــائك الطويــل‪ ..‬وقوتنــا‪ ..‬تكمــن فــي مجابهــة‬
‫التحــدي الــذي نواجهــه‪ ،‬وفــي الســير علــى الشــوك‪ ..‬وأكلــه إذا لــزم األمــر‪.‬‬

‫لقــد قلــت بالحــرف الواحــد فــي العــدد الماضــي « يجــب أن تنطلــق النمــور‬
‫المســجونة داخــل أنفســنا والتــي كادت تتحــول إلــى قطــط منزليــة بلهــاء تجــري وراء‬
‫الف ارشــات والذبــاب»‪.‬‬

‫وأزيــد فأقــول أنــه إذا لــم يتحقــق التعريــب فــي هــذا العهــد فلــن يتحقــق أبــدا‪..‬‬
‫علــى األقــل‪ ..‬بالنســبة لهــذا الجيــل‪ ،‬وهــذا وحــده يكفــي لكــي يحــس المثقــف العربــي‬
‫بضخامــة مســؤوليته‪ ..‬و‪ ..‬بشــئ آخــر‪ ..‬بالخــوف مــن أن تفقــد القمــة ثقتهــا بــه‬
‫وبقد ارتــه (ويجــب أن نعــرف بــأن الكثيريــن يحلمــون بهــذه النتيجــة)‪.‬‬

‫وأنــا أتفــق مــع ص‪.‬ل‪.‬ا‪.‬ع فــي أن بعــض المســؤولين ال يفرقــون بيــن النقــد‬
‫البنــاء وبيــن المعارضــة الحمقــاء أو المشــبوهة‪ .‬وأوافقــه فيمــا ذهــب إليــه ضمنيــا‬
‫مــن أن بعــض مســؤولي الصحــف يفضلــون االحتفــاظ بعالقــات الــود مــع الجميــع‪،‬‬
‫ولــو كان ذلــك علــى حســاب المصلحــة العامــة‪ .‬ولكــن هــذا ال يحــدث بالنســبة لمــا‬
‫يكتــب بالعربيــة فقــط (ولقــد رفضــت صحيفــة ناطفــة بالفرنســية نشــر مــا كتبتــه عــن‬
‫الموســيقى الشعبياندلســية فــي عــدد ســابق (ويــا دار مــا دخلــك شــر‪.)!! ‬‬

‫‪178‬‬
‫وقــد يــرد علــي ليقــول «أن مــا ينشــر بالفرنســية يحــدث مــن الصــدى أكثــر ممــا‬
‫ينشــر بالعربيــة‪ ،‬وهــذا صحيــح رغــم أن صحافتنــا الناطقــة بالعربيــة (وبــدون تواضــع‬
‫كاذب) أدســم فــي كثيــر مــن األحاييــن مــن الصحافــة الناطقــة بغيــر العربيــة»‪.‬‬

‫وعلــة هــذا واضحــة ومعرفتهــا ترســم طريــق العــاج‪ ،‬فمعظــم المســيرين ال‬
‫يعرفــون العربيــة (لكــي ال أقــول أن كثي ـ ار منهــم جــزء مــن المجموعــة التــي تحدثــت‬
‫عنهــا) ولكــن ه ـؤالء ســيضطرون إلــى ق ـراءة العربيــة أو إلــى محاولــة ترجمــة مــا‬
‫يكتــب بهــا إذا أدرك ـوا أن فــي قمــة الجهــاز الثــوري عينــا ال تغفــل‪ ..‬تتابــع وتتتبــع‪،‬‬
‫إو�ذا ارتفعــت الصحافــة الناطقــة بالعربيــة إلــى مســتوى مســؤوليتها التاريخيــة (وهنــا‬
‫يبــرز دور القــارئ العربــي وتتضــح التزاماتــه)‪.‬‬

‫وبقيــت كلمــة‪ ..‬كلمــة شــكر لصديقــي اللــدود‪ ..‬ال علــى الزهــور التــي تكــرم‬
‫وألقاهــا علــى هــذا البــاب‪ ،‬إو�نمــا ألنــه أتــاح لــي الفرصــة للحديــث فــي موضــوع ال‬
‫أمــل مــن الحديــث عنــه‪ ،‬والهــروب مــن حديــث ال أجــرؤ علــى الخــوض فيــه‪ ،‬ولعلــه‬
‫أيضــا أعطانــي مبــر ار لكــي أرضــي فضــول بعــض اإلخــوة الذيــن تســاءلوا ويتســاءلون‬
‫عــن التوقيــع الــذي أذيــل بــه هــذه الموضوعــات‪.‬‬

‫و‪ ...‬يا مثقفي العربية‪ ..‬اتحدوا‪..‬‬

‫‪179‬‬
‫بيت‬
‫بال سقف وال جدران‬

‫تحــت هــذا العن ـوان كتبــت فــي مــارس الماضــي((( موضوعــا مط ـوال مدعمــا‬
‫بالوثائــق والصــور عــن جمعيــة «شــهود يهــوه» وقلــت إنهــا جمعيــة ذات أهــداف‬
‫مشــبوهة تتســتر بالشــعارات الدينيــة لخدمــة مصالــح العــدو‪.‬‬

‫ثــم عــاودت الكتابــة فــي نفــس الموضــوع ووضعــت تحــت تصــرف أجهـزة األمــن‬
‫كل الوثائــق التــي اســتطعت العثــور عليهــا والتــي تثبــت بالدليــل القاطــع مــا ذهبــت‬
‫إليــه‪.‬‬

‫وانتظــرت‪ ..‬وطلبــت مــن الق ـراء أن يرســلوا بمــا لديهــم مــن معلومــات‪ ،‬خاصــة‬
‫أوصــاف األجانــب الذيــن يزورونهــم داعيــن لهــذه الجمعيــة وأرقــام الســيارات‬
‫باختصــار‪ ..‬كل مــا يمكــن جمعــه مــن معلومــات عنهــم‪.‬‬

‫وانتظرت‪ ..‬وانتظرت‪ ..‬ثم نسيت الموضوع أو على األصح تناسيته‪.‬‬

‫ولكــن أجه ـزة األمــن لــم تنــس ولــم تتناســى‪ ،‬وهكــذا وبعــد شــهور اكتملــت‬
‫فيهــا الصــورة‪ ،‬وتجمعــت الدالئــل الكافيــة قامــت األجه ـزة بدورهــا وقامــت بترحيــل‬
‫المســؤولين الرئيســيين لهــذه الجمعيــة (وقــد نشــرت التفاضيــل بجريــدة المجاهــد‬
‫بالفرنســية ثــم نشــرت فــي اليــوم الثالــث‪ !! ‬فــي «جريــدة الشــعب بالعربيــة»‪.‬‬
‫المجاهد ‪ 11 -‬يناير ‪.1970 -‬‬
‫‪ .1‬الموضوع في القسم الثاني‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫لماذا أقول هذا ؟‬

‫أقولــه ردا علــى الذيــن يحاولــون تثبيــط همــة كل مــن يحــاول الكتابــة بالعربيــة‬
‫زاعميــن أن مــا يكتــب بهــذه اللغــة ال قيمــة لــه وأن كتــاب العربيــة يحرثــون فــي البحــر‪.‬‬

‫وأقوله لمرتزقة اللغة العربية الذين ينسون دورهم التاريخي حول موائد الدومينو‬
‫متذرعين بضيق الوقت ومتغنين بلحن « على من تق أر زبورك يا داوود‪»..‬‬

‫وأقولــه فــي نفــس الوقــت لبعــض كتابنــا الذيــن يقصــرون نشــاطهم علــى الحديــث‬
‫عــن المينــي جيــب‪ ،‬أو الصـراخ الفــارغ عــن االنحــال وعــن أعــداء التعريــب وعــن‬
‫قضايــا أخــرى معظمهــا وهمــي‪ ،‬وكثيــر مهــا ال يحتــاج إلــى مئــات الســطور التــي‬
‫ســودت عنــه‪.‬‬

‫ولهــذا النــوع األخيــر أحــب أن أقــول « الكتابــة ال يجــب أن تكــون هدفــا فــي‬
‫حــد ذاتــه‪ ،‬والكتابــة الهادفــة تفتــرض أوال اإللمــام بجوانــب الموضــوع ثــم تحديــد مــدى‬
‫أهميتــه وأســبقيته‪ ،‬ثــم معالجتــه بصــورة نزيهــة‪ ،‬بعيــدة عــن التهريــج والغوغائيــة »‪.‬‬

‫وكمثــل بســيط‪ ..‬تلــك الكتابــات التــي قرأناهــا أخيـرا‪ ،‬والتــي تهاجــم احتفــال بعــض‬
‫أفراد شــعبنا وبعض األســر بعيد الميالد وببداية الســنة الميالدية‪.‬‬

‫ولقــد تعــرض معظــم المتحدثيــن لجانــب واحــد هــو ســخافة تقليــد األوروبييــن فــي‬
‫أعيادهــم‪ ،‬وهــو الجانــب الــذي أوافــق عليــه علــى طــول الخــط بالنســبة لعيــد الميــاد‬
‫« نويــل « وأوافــق عليــه بتحفــظ بالنســبة لالحتفــال بـرأس الســنة الميالديــة‪.‬‬

‫ولنتساءل‪ ..‬قبل أن نصدر أحكامنا‪..‬‬

‫لمــاذا تحتفــل أســر كثي ـرة بأمثــال هــذه األعيــاد‪ ..‬لمــاذا يتــردد اســم بابــا نويــل‬
‫علــى ألســنة أبنائنــا و‪ ..‬لمــاذا يهاجــم البعــض هــذه الظواهــر بطريقــة ثعلــب العنــب‬
‫المشــهورة ؟‬

‫واإلجابــة هــي نفســها‪ ..‬التحليــل المنطقــي للعوامــل النفســية التــي تتحكــم فــي‬
‫ســلوك الفــرد وحركــة المجتمــع‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫نحــن أنــاس ال نعــرف األعيــاد‪ ،‬وال نعــرف العطــات األســبوعية أو الســنوية‪،‬‬
‫وأيــام راحتنــا تضيــف إلــى حياتنــا أعبــاء ال تقــل عــن أعبــاء العمــل‪.‬‬

‫أعيادنــا الشــرعية تضيــع فــي صنــع المقــروض وقــرن الغـزال وفــي الشــجار علــى‬
‫مســتلزمات العيد‪.‬‬

‫أعيادنــا تضيــع فــي زيــارة المقابــر والبــكاء علــى مــن مات ـوا وشــبعوا موتــا‪،‬‬
‫وتضيــع فــي الزيــارات المنزليــة التقليديــة التــي ترهــق الضيــف والمضيــف‪ ،‬وتحــول‬
‫شــعبنا فــي يــوم واحــد إلــى شــعب مصــاب بعســر الهضــم‪.‬‬

‫أعيادنــا ال يســتفيد منهــا ســوى األطفــال وباعــة الحلــوى فــي الزنقــة وتجــار‬
‫المحروقــات‪ ،‬أمــا الكبــار فهــي بالنســبة لهــم زيــادة فــي النفقــات إو�رهــاق للجســم والــروح‬
‫معــا‪ ،‬وربمــا أحــد أســباب الخصــام العائلــي‪.‬‬

‫وســهراتنا العاديــة ســهرات فاشــلة فــي معظمهــا‪ ،‬فالرجــال حــول « البولــوت «‬


‫والدومينــو‪ ،‬والنســاء « يتركتــن « (لفظــة جديــدة مــن اخت ـراع أخيكــم الموقــع أدنــاه‬
‫وتعنــي نســج التريكــو‪ ..‬وحقــوق التأليــف غيــر محفوظــة)‪ ،‬وال حديــث بالطبــع عــن‬
‫الســهرات الترفيهيــة التــي تقــدم فــي المســارح أو علــى شاشــة التليفزيــون‪ ،‬فمعظمهــا‬
‫ال يســتطيع ســد الثغـرة االجتماعيــة المتمثلــة فــي عــدم وجــود عناصــر الترويــح عــن‬
‫النفــس‪ ،‬إن لــم أقــل أنهــا مــن أهــم أســباب «االمســاك» االجتماعــي الــذي نعانيــه‪.‬‬

‫وبقيــت الســينما‪ ..‬وهــذه ليســت محتاجــة إلــى تعليــق‪ ،‬فاألفــام الجيــدة نــادرة‪،‬‬
‫ومعظــم أفالمنــا تــدور حــول «رينقــو» ومسدســاته‪ ..‬والمطــارد‪ ..‬ومجــزرة فــي‬
‫شــيكاغو‪ ..‬ونضطــر إلــى مشــاهدة هــذه األفــام فــي دور عــرض تنقصهــا النظافــة‬
‫والتهويــة وتــزداد أســعار تذاكرهــا يومــا بعــد يــوم‪.‬‬

‫أمــا عطالتنــا األســبوعية فهــي تضيــع فــي النــوم (الــذي هــو عبــادة‪ )!! ‬وفــي‬
‫مشــاجرات الن ـوادي الرياضيــة أو فــي الزيــارات العائليــة‪.‬‬

‫ما معنى هذا كله ؟‬

‫‪183‬‬
‫معنــاه يــا ســادة يــا ك ـرام أن المواطــن وبالــذات المواطــن الــذي ال يقــوم بعمــل‬
‫جثمانــي محــض‪ ،‬يعمــل طـوال العــام كاآللــة ثــم يحــرم مــن عمليــة التنظيــف والتشــحيم‬
‫الســنوية أو األســبوعية‪ ،‬وهــي العمليــة الالزمــة لصيانــة أي آلــة حتــى آلــة الحالقــة‪.‬‬

‫وهذا هو تفسير حالة القلق والتوتر التي نعانيها جميعا‪.‬‬

‫وهــذا هــو الســر فــي محاولــة كثيــر مــن الجزائرييــن االشــتراك مــع األوروبييــن‬
‫فــي القيــام بالرحــات الجماعيــة أو فــي االحتفــاالت الخاصــة باألجانــب (ممــا يعطــي‬
‫الفرصــة للعناصــر األجنبيــة التــي تهــدف إلــى تخريــب هــذا المجتمــع مــن الداخــل)‪.‬‬

‫هــي رغبــة اإلنســان فــي التحلــل مــن االلت ازمــات االجتماعيــة‪ ،‬وقضــاء ليلــة‬
‫واحــدة علــى األقــل فــي التهريــج والضحــك والغنــاء والرقــص‪.‬‬

‫ولهــذا نســمع مــن الجميــع‪ ..‬بــدون اســتثناء‪ »..‬ايــه‪ ...‬هومــا يعرف ـوا يتمتع ـوا‬
‫بوقتهــم‪ »..‬والحديــث عــن األجانــب‪..‬‬

‫وسهل جدا أن نصدر القوانين‪..‬‬

‫وسهل جدا أن نطلق اللعنات‪..‬‬

‫وسهل جدا أن نترك للشرطة مهمة التأديب‪.‬‬

‫وسهل جدا أن نقوم بأمثال حملة منع الخمر التي تمت في ‪.1964‬‬

‫ولكــن النتيجــة هــي دائمــا‪ ..‬صفــر‪ ..‬ألن تخليــص البيــت مــن الدخــان ال يتــم‬
‫بمجــرد محاولــة طــرده بالقــوة‪ ،‬ولكــن بإطفــاء مصــدر الني ـران الحقيقــي‪.‬‬

‫وأقــول إنــه نتيجــة للطريقــة الخاطئــة التــي تســتعمل فــي عــاج هــذه المشــاكل‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬يتضاعــف عــدد المســافرين إلــى الخــارج فــي األســبوع األخيــر مــن كل‬
‫ديســمبر‪ ،‬ويتضاعــف عــدد الذيــن يحســون بالحقــد االجتماعــي ألنهــم ال يملكــون‬
‫الفرصــة أو اإلمكانيــات «بــاش يديــرو كــي لوخريــن»‪ ،‬ويــزداد عــدد الثعالــب التــي‬
‫تنعــت العنــب بأنــه حامــض أو قــارص‪( !! ‬وكثيــر مــن الذيــن يهاجمــون االحتفــال‬

‫‪184‬‬
‫بليلــة رأس الســنة مســتعدون الزدراد مــا كتبــوه‪ ،‬لــو أتيحــت لهــم الفرصــة لحضــور‬
‫ســهرة مــن هــذا النــوع)‪.‬‬

‫ولكن‪ ...‬هل نســمح لشــخصيتنا االجتماعية بالتحلل والذوبان‪ ..‬هكذا ببســاطة‬


‫(وهــي النتيجــة المباشـرة لالرتبــاط الروحــي بتقاليــد بعيــدة عــن تقاليدنــا)‪.‬‬

‫هــذا الشــعب الــذي بــذل أكبــر ثمــن بذلــه شــعب علــى اإلطــاق مــن أجــل تأكيــد‬
‫شــخصيته الوطنيــة يجــد نفســه اليــوم أمــام تيــارات تهــدد جــل مكاســبه‪ ،‬وأمــام ثغـرات‬
‫اجتماعيــة يدخــل منهــا العــدو والصديــق المشــبوه‪.‬‬

‫وهــذا الجيــل الــذي بــاع شــبابه ليشــتري حريتــه يكتشــف اليــوم أن ورثتــه أبعــد‬
‫مــا يكونــون عــن االلت ـزام بالطريــق الــذي يكفــل لهــذه البــاد كل عناصــر الســيادة‬
‫الوطنيــة‪ ،‬ويضمــن لهــا تحقيــق األهــداف التــي بــذل مــن أجلهــا الكثيــر‪.‬‬

‫ما هو الحل ؟‬

‫الحل‪ ..‬حل ديني في المقام األول‪..‬‬

‫يضحــك قــارئ‪ ..‬ويفــرك آخــر عينيــه غيــر مصــدق لمــا يق ـرأ‪ ..‬وثالــث يلعــن‬
‫جــدودي‪ ..‬و اربــع يظــن أن األمــر عبــارة عــن غلطــة مطبعيــة‪ ..‬ولكننــي جــاد فــي‬
‫حديثــي‪..‬‬

‫ولنسر معا إلى آخر الشوط‬

‫لماذا حرم ديننا صيام أيام العيد‪ ..‬؟‬

‫المعنــى أعمــق مــن مجــرد عــدم الصيــام الجثمانــي‪ ..‬فالصيــام عــذاب وارهــاق‪،‬‬
‫وهــدف العيــد هــو إعطــاء المســلم الفرصــة لكــي يســتريح روحيــا ونفســيا ويتجــاوب‬
‫مــع الحديــث (روحـوا القلــوب ســاعة بعــد ســاعة فــإن القلــوب إذا كلــت عميــت‪.)..‬‬

‫وهذا هو الخط الرئيسي الذي يرسم لنا طريق الحل‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫يجــب أن نعطــي ألعيادنــا كل بهجــة ممكنــة‪ ..‬بــل ويجــب أن يندفــع األجانــب‬
‫فــي بالدنــا إلــى االحتفــال معنــا بهــذه األعيــاد‪ ،‬ألنهــم يجــدون فيهــا متعــة روحيــة ال‬
‫يمكــن أن تتــاح لهــم فــي مــكان آخــر‪.‬‬

‫وليــس دوري هنــا أن أعطــي التفاصيــل‪ ..‬ذلــك دور المســؤولين فــي الحــزب‬
‫وفــي و ازرات األوقــاف والســياحة والشــبيبة والتربيــة‪ ..‬فأنــا مريــض يطلــب الشــفاء‬
‫وليــس مــن واجباتــي أن أقــول للطبيــب «ديــر لــي راديــو وأعطينــي البــى دوز‪« !! ‬‬

‫ولكننــي علــى ســبيل المثــال‪ ..‬أقــول « أن زيــارة المقابــر « فــي أيــام العيــد يجــب‬
‫أن تحــارب بــكل وســيلة ممكنــة ويجــب أن تنظــم حمــات توجيهيــة لمحاربــة هــذه‬
‫العــادة التــي تجعلنــا نبــدأ أيامنــا بالغــم والهــم‪..‬‬

‫وعلــى ســبيل المثــال أيضــا أذكــر االقت ـراح الــذي كنــت قــد قدمتــه فــي حديــث‬
‫ســابق والــذي يهــدف إلــى قتــل « بابــا نويــل « فــي عقــول أطفالنــا باســتغالل ليلــة‬
‫القــدر‪ ،‬حيــث يتلقــى الطفــل هديتــه الســنوية فــي صبــاح اليــوم التالــي لليلــة القــدر‪،‬‬
‫وبعد أن يكون قد قضى الســهرة في المســجد مع والده يشــهدون ســهرة دينية ممتعة‬
‫ويســتمعون إلــى حديــث دينــي ارئــع يشــدهم إليــه ويربطهــم بدينهــم وبتقاليدهــم‪.‬‬

‫وأمثلــة كثي ـرة‪ ..‬اتركهــا لغيــر هــذا القلــم‪ ..‬وكلهــا تنطــوي تحــت شــعار «إن‬
‫الفكــرة ال تحاربهــا إال فكــرة أخــرى‪ ،‬والتقاليــد ال تحطمهــا إال تقاليــد أخــرى تتفــوق‬
‫عليهــا جاذبيــة وال تقــل عنهــا إغ ـراء»‪.‬‬

‫وهــذا هــو الحــل يــا ســادة‪ ..‬ومــا عــدا ذلــك فهــو «فســتي فــي هرتــي» كمــا يقــول‬
‫ص‪.‬ل‪.‬ا‪.‬ع (أي صديقــي اللــدود األخ العربــي‪.)..‬‬

‫وبقي أن أسمع الصدى‪..‬‬

‫‪186‬‬
‫(((‬
‫هالو‪..‬‬

‫وهالــو‪ ..‬كلمــة انجليزيــة معناهــا «أهــا» وينطقهــا أصدقاؤنــا الفرنســيون‪ ..‬ألــو‪..‬‬


‫لعجزهــم التــام عــن نطــق حــرف الهــاء (وتنعــت العربيــة بأنهــا لغــة عاج ـزة عــن‬
‫التعبيــر‪.)!! ‬‬

‫وكالببغــاوات المحترمــة أخذنــا نحــن تعبيــر‪ ..‬ألــو‪ ..‬نســتعمله فــي التليفــون طــول‬
‫النهــار‪ ..‬ألــو ألــو‪ ..‬فــي حيــن أن اســتعمال األصــل العربــي ألطــف وأظــرف‪ ..‬ومــا‬
‫علينا‪.‬‬

‫ما الذي ذكرني بهذا‪ ..‬؟‬

‫أكملــت كتابــة انطباعــات هــذا العــدد وكان موضوعهــا‪ ..‬الشــرق األوســط‪ ..‬ثــم‬
‫أعــدت – كعادتــي – قـراءة الموضــوع أكثــر مــن مـرة‪ ..‬وأحسســت بأننــي كنــت أكثــر‬
‫مــن قــاس‪ ..‬وأننــي كتبــت الموضــوع تحــت تأثيــر األغانــي الجديــدة ألم كلثــوم والتــي‬
‫اعتبــرت حدثــا خطي ـ ار ومنعرجــا حاســما‪ !! ‬فــي تاريــخ األمــة العربيــة حيــث نقلــت‬
‫الطائـرات العشـرات مــن أبنــاء األمــة ذات الرســالة الخالــدة‪ !! ‬لكــي يحضــروا حفــل‬
‫أم كلثــوم‪ ..‬فــي باريــس‪ ،‬فــي حيــن كانــت طائـرات «العــال» االسـرائيلية تنقــل رجــال‬
‫الكومنــدو إلــى بلــد أوروبــي كبيــر لكــي يخطفـوا – تحــت ســمع وبصــر الحكومــة –‬
‫زوارق قاذفــة للصواريــخ تدعــم قــوة العــدو الماديــة والمعنويــة (هــذا‪ ..‬دون أن أعيــر‬
‫لقصــة الـرادار المســروق اهتمامــا‪.)!! ‬‬

‫المجاهــد – ‪ 18‬ينايــر ‪ .1970‬والموضــوع المشــار لــه كان سينشــر فــي القســم‬


‫الثالــث‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫كنــت متأثـ ار بهــذا التناقــض الفاضــح وقلــت إن هنــاك سياســة تخديريــة ترمــي‬
‫إلــى إلهــاء الشــعب العربــي وتنويمــه‪ ،‬وقلــت‪ ..‬وقلــت و‪ ..‬أحسســت بعــد قراءتــي‬
‫الثانيــة للموضــوع أن موعــد نش ـره لــم يحــن بعــد‪ ..‬لعــل وعســى‪ .‬ولعلنــي أبالــغ‪..‬‬
‫وعســاهم يتعظــون ولكــن غــول المطبعــة ال يرحــم‪..‬‬

‫ولــم يكــن مــن المعقــول أن ألقمــه‪ ..‬أي كالم فــارغ‪ ..‬وهــو مــا يحــدث حتمــا إذا‬
‫حاولــت كتابــة موضــوع فــي نصــف ســاعة‪ ..‬دون مراجعــة‪.‬‬

‫وعــدت إلــى مذك ارتــي ألجــد هــذا الجــزء الــذي لــم ينشــر عــن رحلتــي األخيـرة إلــى‬
‫« لنــدن »‪ ..‬وقــررت نشـره راجيــا أال ينطبــق عليــه القــول المأثــور «إذا أفلــس التاجــر‬
‫رجــع إلــى دفاتـره القديمة‪.»..‬‬

‫العنصر الرئيســي لشــخصية أي شــعب‪ ،‬هو اعت اززه بتاريخه وتمســكه بتقاليده‪،‬‬
‫ومحاربتــه لــكل مــا مــن شــأنه أن يذيــب مجتمعــه فــي مجتمــع آخــر أجنبــي عنــه‪،‬‬
‫وهــذا العنصــر هــو الــذي يفســر موقــف بريطانيــا فــي الحــرب العالميــة الثانيــة‪ ،‬حيــث‬
‫كانــت الدولــة الوحيــدة التــي لــم ترفــع ال اريــة البيضــاء أمــام زحــف الصليــب المعقــوف‪.‬‬

‫وتخليــد القــادة الذيــن حفــروا مجــرى تاريــخ البلــد بأظافرهــم وأســنانهم ودعمـوا مجــده‬
‫بأجســادهم وأشــائهم جزء رئيســي من االعتزاز بالتاريخ وتدعيم العزة الوطنية‪.‬‬

‫ولــم يكــن أمــام بريطانيــا كجزي ـرة معزولــة إال أن تنظــر خــارج حدودهــا لكــي‬
‫توفــر لشــعبها الرخــاء والرفاهيــة علــى حســاب الشــعوب المســتعمرة‪ ،‬وهكــذا راح‬
‫أبناؤهــا يجوبــون البحــار‪ ..‬قراصنــة مــن طـراز خــاص جعلـوا مــن بالدهــم إمبراطوريــة‬
‫ال تغيــب الشــمس عــن ممتلكاتهــا‪ ،‬وكان تحطيــم األســطولين الفرنســي واإلســباني‬
‫نقطــة تحــول فــي تاريــخ الســيطرة علــى البحــار‪ ،‬ومــن هنــا نــدرك مــدى أهميــة معركــة‬
‫الطــرف األغــر (بالقــرب مــن جبــل طــارق) والتــي تــوج النصــر فيهــا هامــة نلســون‪.‬‬

‫وميــدان الطــرف األغــر (وقــد حــرف االنجليــز االســم العربــي فأصبحـوا ينطقونــه‬
‫« ترافلغــار »‪( ..‬كمــا نقــول نحــن‪ ..‬أوســي نــداي وبناكنــون أي حســين داي وبــن‬
‫عكنــون‪.)!! ‬‬

‫‪188‬‬
‫هــذا الميــدان مــن أهــم مياديــن لنــدن بعــد «بيكاديللــي»‪ ،‬وتصــل مســاحته إلــى‬
‫ـور» عنابــة‬‫أربعــة أضعــاف ســاحة الشــهداء بالعاصمــة‪ ،‬وثالثــة أضعــاف « كـ ِ‬
‫(كــور‪ ..‬بــدون يــاء) وتزينــه نافورتــان للميــاه‪ ،‬وتماثيــل بالحجــم الطبيعــي لقــادة‬
‫عســكريين بارزيــن‪ ،‬وأهــم مــن هــذا عمــود ضخــم يصــل ارتفاعــه إلــى مــا ي ـوازي‬
‫ارتفــاع قصــر الحكومــة‪.‬‬

‫وفــي أعلــى العمــود تمثــال ضخــم للســيد « نلســون « بطــل معركــة الطــرف‬
‫األغــر وتزيــن قاعدتَــه (قاعــدة العمــود ال قاعــدة الســيد نلســون) لوحــات برنزيــة تمثــل‬
‫م ارحــل المعركــة البحريــة المشــهورة‪.‬‬

‫ومعظــم مياديــن العاصمــة البريطانيــة تزينهــا التماثيــل‪ ،‬ولقــد بهرنــي فــي زاويــة‬
‫«هايــد بــارك» تمثــال ارئــع لولنغجتــون يصــوره ممتطيــا صهــوة جـواد مهيــب الطلعــة‪،‬‬
‫وفــي وضــع يفــرض عليــك االحت ـرام والتقديــر‪ ،‬وهــذه هــي عبقريــة المثــال (بتشــديد‬
‫الثــاء)‪ ..‬حيــث تحــس وأنــت تنظــر إلــى التمثــال بأنــك تشــاهد عمــا فنيــا عظيمــا ال‬
‫عمــا مرتجــا يمثــل رجــا تــكاد تظــن أنــه مصــاب بالســل الرئــوي المزمــن‪ ،‬يركــب‬
‫فرســا عجفــاء كأنهــا تصــوم الدهــر كلــه‪.‬‬

‫(ملحوظــة‪ :‬لســت أحــاول هنــا دفــع صــورة تمثــال معيــن إلــى ذهــن القــارئ‪..‬‬
‫ولــذا لــزم التنويــه)‪.‬‬

‫الحمــام يتطايــر فــي ميــدان الطــرف األغــر‪ ،‬ويحــط علــى أيــدي الــزوار الذيــن‬
‫يزودهــم بائــع ذكــي مقابــل ســتة بنســات بكميــة مــن حبــوب القمــح أو المســتورة‬
‫لكــي يقوم ـوا بإطعامــه (إطعــام الحمــام ال إطعــام البائــع إو�ن كان ـوا يطعمــون البائــع‬
‫بإطعامهــم للحمــام أي أن‪ ..‬أوه‪ ..‬أعتقــد أن األمــر واضــح)‪.‬‬

‫وعلــى امتــداد البصــر يبــدو شــارع القاعــة البيضــاء «هوايتهــول»‪ ،‬يتوســطه‬


‫تمثــال الملــك جــورج الخامــس ونصــب الجيــش التــذكاري‪ ،‬وينتهــي بقنط ـرة‬
‫وستمنســتر حيــث مجلــس العمــوم واللــوردات‪ ،‬وحيــث كنيســة وستمنســتر التاريخيــة‬
‫التــي دفــن تحــت مبناهــا المئــات مــن ملــوك بريطانيــا وعظمائهــا (العظمــاء يشــملون‬
‫الكتــاب والشــعراء والفنانيــن الذيــن خلــدوا بالدهــم‪ ..‬هــه‪ ..‬كــم فــي بالدنــا مــن شــعراء‬
‫دفن ـوا بج ـوار الزعمــاء‪ ..‬مــا علينــا)‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫ســرت فــي «هوايتهــول» أبحــث عــن ثالثــة أشــياء عشــت طويــا أحلــم برؤيتهــا‬
‫ولعلهــا مــن أهــم أســباب زيارتــي للنــدن‪.‬‬

‫– تقليد بريطاني يمثل قمة تقاليدها‪.‬‬

‫– ومبنى قررت فيه يوما مصائر هذا العالم‪.‬‬

‫– وصوت مازال حتى اليوم يتحكم في يدي وفي يدك‪.‬‬

‫التقليــد البريطانــي الــذي يحــرص المســؤولون هنــا علــى المحافظــة عليــه فــي‬
‫أقــدم الملكيــات وأخلدهــا هــو الحــرس الملكــي‪ ،‬وهنــا تضــاف صفــة‪ ..‬الملكــي‪..‬‬
‫لالســم لتزيــد مــن قيمتــه وهيبتــه وال يســمح ألي كان باســتعمال هــذه الصفــة حتــى‬
‫ال تبتــذل (كمــا نســتعمل عندنــا صفــة‪ ..‬الوطنــي‪ ..‬نقــول البنــك الوطنــي‪ ..‬اإلدارة‬
‫الوطنيــة‪ ..‬الشــركة الوطنيــة‪ ..‬المطعــم الوطنــي‪ ..‬المخب ـزة‪ ..‬الوطنيــة‪ ..‬المجــزرة‬
‫الوطنية‪ ..‬عدت أخشــى أن نجد يوما‪ ..‬المقبرة الوطنية وال‪ ..‬كذا‪ ..‬الوطني‪.)!! ‬‬

‫وفــي شــارع القاعــة البيضــاء يقــع مقــر خيالــة الحــرس الملكــي‪ ..‬وأمامــه وقفــت‬
‫ألكثــر مــن ســاعة أرقــب الحــارس ببزتــه الحم ـراء المرصعــة بالنياشــين‪ ،‬وخوذتــه‬
‫الصفـراء الالمعــة وهــو جالــس كتمثــال علــى صهــوة جـواد ملكــي يــكاد لقلــة حركتــه‬
‫يكــون تمثــاال لحصــان‪.‬‬

‫جمعــا مــن الفتيــات يــدرن حولــه لتؤخــذ لهــن معــه صــورة‬


‫كنــت أتســاءل وأنــا أرى ً‬
‫تذكاريــة – كل هــذا بــدون أن يتحــرك أو يلتفــت‪ ..‬اللهــم إال غم ـزة عيــن س ـريعة –‬
‫كنــت أتســاءل‪ ..‬مــاذا يحــرس هــذا العاجــز حتــى عــن ح ارســة نفســه ؟‬

‫واإلجابة بالطبع‪ ..‬أنه مجرد صورة‪ ..‬تمثال يعجب السياح البسطاء أمثالي‪..‬‬
‫ومثلــه فــي ذلــك مثــل ح ـراس بــرج لنــدن التاريخــي بمالبســهم الحم ـراء وقبعاتهــم‬
‫العاليــة‪ ،‬وهــي مالبــس تقليديــة تعــود إلــى القــرون الماضيــة‪ ،‬ويحــرص االنجليــز علــى‬
‫التمســك بهــا معطيــن للسـواح فرصــة العيــش للحظــات داخــل اإلطــار التاريخــي لهــذه‬
‫القلعــة الرهيبــة التــي أعدمــت فيهــا مــارى ســتيوارت‪ ،‬وســجن بيــن جدرانهــا رودلــف‬
‫هيــس‪ ،‬وكانــت علــى مــر التاريــخ آخــر مــكان يــود المــرء أن يدخلــه‪ ..‬ترتجــف لذكـره‬
‫األوصــال وتجــف الحلــوق‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫ولعــل هــذا هــو الســر فــي أنهــم يحتفظــون فيهــا اآلن بجواهــر التــاج البريطانــي‬
‫الشــهيرة‪ ،‬وهــي معروضــة فــي واجهــات خاصــة وقاعــات مصفحــة‪ ،‬ومتعــة زيــارة هــذه‬
‫الجواهــر‪ ..‬أقصــد زيــارة القاعــات‪ ..‬ال تكتمــل إطالقــا إال إذا كان هنــاك نســاء‪..‬‬
‫هنــاك فقــط عزيــزي القــارئ (وأقصــد القــارئ المذكــر) ستشــعر بالمتعــة وأنــت تنظــر‬
‫إلــى الجواهــر وتســمع فــي نفــس الوقــت الشــهقات النســائية و»الوحوحــات» و‬
‫«التنهــدات» تتعانــق مــع بريــق األشــعة المتأللئــة لقطــع المــاس والزمــرد‪ ..‬هنــاك‬
‫ســتتمنى أن تكــون ملياردي ـ ار لكــي تكــون الشــهقات متجهــة إليــك (ســهل جــدا أن‬
‫تكــون ملياردي ـرا‪ ..‬تــزوج ملياردي ـرة عجــوزا‪ ..‬ثــم حــاول أن تكــون أرمــا‪.)!! ‬‬

‫الســاعة تقتــرب مــن العاش ـرة‪ ،‬ويجــب أن أعــود إلــى «باكينغهــام» أل شــاهد‬
‫اســتبدال الحــرس الملكــي‪ ..‬المنظــر ال ارئــع الــذي يتــم كل يــوم فــي الحاديــة عش ـرة‬
‫وينتهــي فــي الثانيــة عش ـرة ظه ـرا‪.‬‬

‫وفــي ســاحة القصــر الملكــي تصطــف الفرقــة التــي أكملــت يــوم الح ارســة‪ ،‬فــي‬
‫نظــام بديــع يزيــد مــن روعتــه المالبــس الحم ـراء وغطــاء ال ـرأس الطويــل الضخــم‬
‫المصنــوع مــن شــعر حي ـوان ال أعرفــه‪.‬‬

‫ثــم تأتــي الفرقــة الجديــدة التــي ستتســلم الح ارســة مــن مقــر الحــرس الملكــي الــذي‬
‫يبعــد حوالــي كيلــو متــر عــن القصــر الملكــي‪ ،‬تتقدمهــا الفرقــة الموســيقية للحــرس‪ ،‬ثــم‬
‫يتــم التفتيــش ويتبــادل قــادة الحــرس أماكنهــم‪ .‬ثــم تخــرج الفرقــة التــي أنهــت الح ارســة‬
‫من ســاحة القصر الملكي ذي األسـوار الحديدية التي يعشــش عليها السـواح لتعود‬
‫مقرهــا‪.‬‬
‫إلــى َ‬
‫فــي هــذه الفت ـرة كلهــا والتــي تمتــد إلــى حوالــي ســاعتين يتوقــف المــرور نهائيــا‬
‫فــي المنطقــة الواقعــة حــول القصــر الملكــي وبينــه وبيــن مقــر الح ـراس‪ ..‬ولكنــك ال‬
‫تســمع فــي الســاحة الضخمــة إال صــوت الموســيقى‪ ..‬ال تســمع كالكســونا يصــرخ‬
‫محتجــا علــى تعطيــل المــرور‪ ،‬أو ســائقا يلعــن جــدود الدولــة‪ ،‬أو موظفــا كبيـ ار يحــاول‬
‫أن يمــر معتمــدا علــى البطاقــة المكتــوب عليهــا «أوفيســيال»‪..‬‬

‫وأعود بســرعة إلى ال « هوايتهول» ألبحث عن مبنى معين يحمل أشــهر رقم‬
‫ألشــهر شــارع في العالم‪ ..‬مبنى رئاســة الو ازرة البريطانية‪ »10« ..‬دواننج ســتريت‪..‬‬

‫‪191‬‬
‫هنــا قــرر « دزرائيلــي» ش ـراء أســهم شــركة قنــال الســويس بــدون استشــارة‬
‫البرلمــان‪ ،‬ومهــد هــذا فيمــا بعــد الحتــال مصــر‪.‬‬

‫وهنــا أعــد بلفــور وعــده بإنشــاء وطــن قومــي لليهــود فــي فلســطين‪ ،‬وكان أن‬
‫قامــت فــي الشــرق األوســط دولــة مصطنعــة فرضــت نفســها ال بقوتهــا إو�نمــا بضعــف‬
‫اآلخريــن‪.‬‬

‫وهنــا وضــع تشــمبرلن مظلتــه ليتحــدث كبطــل للســام‪ ،‬وليقــول دون خجــل أنــه‬
‫ضحــى بتشيكوســلوفاكيا لكــي يســكت أطمــاع هتلــر وهنــا أيضــا عــاد محنــى الـرأس‬
‫ليقــرر دخــول الحــرب دفاعــا عــن بولنــدا الحمقــاء‪.‬‬

‫وهنــا – وبعــد انــدالع الحــرب العالميــة الثانيــة – قــال تشرشــل لشــعبه‪« ..‬ليــس‬
‫عنــدي مــا أقدمــه لكــم غيــر الدمــاء والعــرق والدمــوع‪.»..‬‬

‫وهنا‪ ..‬كانت تنتظر في صدمة‪..‬‬

‫داوننــج ســتريت عبــارة عــن مجــرد «زنقــة» ال يتجــاوز طولهــا ثالثمائــة متــر‬
‫متفرعــة مــن شــارع « هوايتهــول»‪ ،‬ورقــم «‪ »10‬عبــارة عــن منــزل مــن ثالثــة طوابــق‪،‬‬
‫مبنــى بالطــوب األحمــر الــذي اســود بتأثيــر األيــام والســنين‪ ،‬وأمــام البيــت شــرطي‪..‬‬
‫شــرطي واحــد‪ ..‬ال يحمــل ســاحا‪ ،‬ويقــف فــي اســترخاء يرقــب فــي ر ازنــة ســاخرة‬
‫أفـواج السـواح وهــي تغــدو وتــروح وتلتقــط الصــور وعلــى الوجــوه عالمــات التعجــب‬
‫واإلعجــاب‪.‬‬

‫هــذا هــو المــكان الــذي كان يحــرك العالــم ويقــود «إمبراطوريــة ال تغيــب الشــمس‬
‫عــن ممتلكاتهــا» و‪ ..‬ســبحان مــن لــه الــدوام‪.‬‬

‫ورغــم أن القــارئ قــد يندهــش كمــا حــدث معــي‪ ،‬ولعلــه ســيندفع فــي تمجيــد‬
‫البســاطة البريطانيــة وهــو يــرى أن مقــر الحاكــم الفعلــي للدولــة (علــى أســاس أن‬
‫الملــك مجــرد رمــز للدولــة‪ ..‬يملــك وال يحكــم) ال يحرســه ســوى شــرطي واحــد وبــدون‬
‫ســاح‪ ،‬إال أن التعمــق فــي بحــث هــذه الظاه ـرة ســيعطي انطباعــا آخــر‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫فقليــل هــم رجــال البوليــس الذيــن تجدهــم فــي لنــدن‪ ..‬ت ارهــم فــي بعــض الشـوارع‬
‫الرئيســية أو المياديــن العامــة بمالبســهم الزرقــاء القاتمــة وقبعاتهــم التقليديــة التــي‬
‫تذكرنــي دائمــا بمغام ـرات ش ـرلوك هولمــز‪.‬‬

‫والظاهـرة األغــرب أننــي لــم أجــد شــرطيا واحــدا يحمــل ســاحا‪ ..‬وقــد تأكــدت‬
‫بنفســي مــن ذلــك فــي جولتــي خــارج العاصمــة البريطانيــة وداخلهــا حيــث لــم أجــد‬
‫الشــرطي والجادارمــي والغــارد – شــمبيط وحــارس الســيارات والديوانــي‪ ..‬يحمــل كل‬
‫منهــم مسدســا ضخمــا ال فائــدة لــه إال المظهــر الــكاذب (فــي مطــار أورلــي يحمــل‬
‫رجــال الشــرطة رشاشــات‪ !! ‬أي نعــم)‪.‬‬

‫لكــن هــذا االنطبــاع األول عــن البوليــس فــي لنــدن انطبــاع خاطــئ‪ ..‬ذلــك أن‬
‫الســائح ال يــرى وال يســتطيع أن يــرى رجــال البوليــس الحقيقييــن‪ ..‬أي الذيــن يقومــون‬
‫فعــا بصيانــة األمــن‪ ،‬ومــن هنــا نفهــم أن الشــرطي البــس الــزي الرســمي مــا هــو إال‬
‫ممثــل فقــط‪ ..‬أو مجــرد مراقــب‪.‬‬

‫أمــا الشــرطي الحقيقــي‪ ..‬فقــد يكــون ذلــك الشــيخ الــذي يمشــي بج ـوارك‪ ،‬أو‬
‫المواطــن الــذي يحمــل آلــة تصويــر كأنــه فــاح يــزور العاصمــة ألول مـرة‪ ،‬أو ذلــك‬
‫الشــاب الــذي يلتصــق بصديقتــه ليهمــس فــي «فمهــا» بأس ـرار قلبــه‪ ..‬أحــد ه ـؤالء‬
‫يمكــن أن يكــون شــرطيا أو ضابــط أمــن‪.‬‬

‫لكــن الشــرطي الرســمي فــي لنــدن يحمــل جهــاز إرســال الســلكي صغيــر يصلــه‬
‫بقيادتــه‪ ،‬وبســيارة للشــرطة (بــدون لــون خــاص) تقــف فــي شــارع جانبــي‪ ،‬علــى‬
‫اســتعداد للتحــرك عنــد الضــرورة بــدون أن تســتهلك وقــود الدولــة فــي ج ـوالت تــذرع‬
‫فيهــا الش ـوارع بالســرعة البطيئــة التــي تعطــل المــرور وتمــأ الجــو بدخــان العــادم‬
‫ورذاذ اللعنــات‪.‬‬

‫ولكــن أحســن شــرطي للمــرور فــي لنــدن ال يســاوي أي شــرطي للمــرور فــي‬
‫بالدنــا‪ ..‬ولقــد راقبــت لدقائــق الشــرطي الــذي ينظــم المــرور أمــام كنيســة وستمنســتر‬
‫حيــث مجلــس العمــوم واللــوردات‪ ..‬راقبتــه وهــو يشــوح بيديــه كالثكلــى‪ ..‬وهــو يصــرخ‬
‫بصفارتــه كحكــم فــي مبــاراة ك ـرة دخــل فيهــا الجمهــور‪ ،‬ورأيتــه مهــدل المالبــس‪،‬‬

‫‪193‬‬
‫مرتديــا فوقهــا «بلــوزة بيضــاء» كأنهــا موروثــة عــن ممرضــة حيزبــون انتقلــت إلــى‬
‫رحمــة ربهــا بعــد عمــر طويــل‪..‬‬

‫وتذكــرت هنــا شــرطي المــرور الــذي ينظــم المــرور فــي ميــدان أديــس أبابــا فــي‬
‫العاصمــة الجزائريــة‪ ..‬وشــعرت بالحنيــن إلــى بلــدي‪..‬‬

‫الصــوت الــذي مــا زال يتحكــم فــي يــدي وفــي يــدك هــو أشــهر صــوت فــي‬
‫العالــم‪ ..‬صــوت جــرس بيــغ بــن‪ ..‬الســاعة الشــهيرة التــي تحــدد الوقــت بتوقيــت‬
‫غرينيتــش (وهــي فــي الواقــع أربــع ســاعات ضخمــة تشــغل كل واحــدة منهــا إحــدى‬
‫واجهــات البــرج الكبيــر فــي مبنــى مجلــس العمــوم واللــوردات‪ ..‬وبيــغ بــن هــو اســم‬
‫أكبــر أج ـراس الســاعة ال اســم الســاعة كمــا كنــت أظــن ســابقا‪.)..‬‬

‫ولفتـرة زمنيــة راقبــت أكثــر مــن لندنــي يمــر أمــام البــرج فيرفــع نظـره إلــى الســاعة‪،‬‬
‫رضــى وكأنــه اطمــأن علــى حســن‬ ‫ثــم ينظــر فــي ســاعة معصمــه وبهــز أرســه فــي ً‬
‫ســير الكـرة األرضيــة‪ ،‬وعلينــا أن نغفــر لــه هــذا الغــرور القومــي النابــع عــن اعتـزاز‬
‫شــديد ببلــده وبــكل مــا يمثلــه هــذا البلــد‪ ،‬بــدون أن ننســى أن اليــوم الــذي تخطــئ فيــه‬
‫ســاعة بيــغ بــن يعتبــر نــادرة تاريخيــة وفضيحــة تتناقلهــا األفـواه‪.‬‬

‫(أحــس اآلن كان قارئــا هالطقمشــاريا يمــط شــفتيه وقــد قفــزت إلــى مخيلتــه‬
‫وهــو يق ـ أر هــذه الســطور صــورة األوجــه الثالثــة لســاعة ســاحة الشــهداء بالعاصمــة‬
‫التــي تتفــق فيمــا بينهــا علــى تحديــد الوقــت بدقــة كمــا يتفــق المجتمعــون فــي أعلــى‬
‫المســتويات العربيــة علــى اتخــاذ ق ـرار جــدي)‪.‬‬

‫كل هــذا قــد يرســم صــورة واضحــة عمــا ي ـراه الســائح فــي لنــدن ولكنــه يثبــت‬
‫أيضــا أن مــا يـراه ليــس هــو لنــدن الحقيقيــة‪ ..‬وأن هــذا كلــه مجــرد ديكــور مســرحي‬
‫جميــل يخفــي كثيـ ار مــن ظــال الحقيقــة وهــو الديكــور الــذي يخــدع البســطاء وينســيهم‬
‫بالدهــم ويجعلهــم يعيشــون فــي لنــدن أســرى لشــعار الحريــة ال ازئــف‪.‬‬

‫ولي – إن شئتم – إلى الموضوع عودة‪ ..‬إال إذا جذبتني أحداث أخرى‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫األسالك الشائكة‬
‫(((‬

‫وخيوط العنكبوت الوهمية‬

‫كلمــة الحــق التــي يجــب أن تقــال هــي أن رد هيئــة إدارة نــادي المعلميــن بعنابــة‬
‫علــى مــا نشــر مــن نقــد لوضعيــة النــادي كان ردا مهذبــا رصينــا يفــرض علــى القــارئ‬
‫االحترام‪.‬‬

‫ذلــك أن الــرد ّبيــن بوضــوح مفهــوم النــادي للنقــد البنــاء‪ ،‬وهــو المفهــوم الــذي‬
‫ندعــو إليــه‪ ،‬والــذي يشــكل التكامــل الطبيعــي بيــن الفعــل ورد الفعــل‪.‬‬

‫بجانــب هــذا أثبــت الــرد الــذي نشــر بالزميلــة «الشــعب» أن فــي نــادي معلمــي‬
‫عنابــة مــن يق ـ أر ومــن يتابــع ويتتبــع‪ ،‬وهــذه الــروح يفتقدهــا نــادي قســنطينة الــذي لــم‬
‫نســمع منــه خيـ ار أو شـ ار حتــى هــذا التاريــخ‪.‬‬

‫وكان يمكــن أن أكتفــي بالتحيــة والتقديــر و‪« ..‬أبقــاو علــى خيــر‪ »...‬ولكننــي –‬
‫ار فــي الحـوار‪.‬‬
‫إو�يمانــا منــي بأهميــة النـوادي الثقافيــة – آخــذ بطــرف الخيــط اســتمرًا‬

‫وثالثــة نقــاط رئيســية تفــرض علــى نفســها كعالمــات للطريــق‪ ،‬وتجعــل مــن‬
‫نفســها أثافــي للقــدر الــذي تغلــي فيــه أفــكاري‪.‬‬

‫األولــى‪ :‬أن كفــاءة إدارة النــادي‪ ..‬أي نــادي‪ ..‬ال يمكــن أن تكــون دائمــا‬
‫المقيــاس الحقيقــي للحكــم علــى نشــاطه‪ ،‬وعلــى أدائــه لــدوره الحقيقــي فــي خلــق تفاعــل‬

‫المجاهد – ‪ 11‬فبراير ‪ 1970 -‬‬


‫‪195‬‬
‫مســتمر بينهــا – كإدارة – وبيــن أعضــاء النــادي مــن جهــة‪ ،‬وبيــن النــادي ككل‬
‫والمجتمــع بصفــة عامــة مــن جهــة أخــرى‪.‬‬

‫ولقــد زرت نــادي المعلميــن بعنابــة أكثــر مــن م ـرة‪ ..‬وأكثــر مــن م ـرة شــعرت‬
‫بخيبــة األمــل‪.‬‬

‫مــكان شــبه مظلــم‪ ،‬ال يختلــف عــن أي مقهــى فــي أصغــر «فيــاج»‪ ..‬موائــد‪..‬‬
‫رايحــة فيهــا‪ ،‬وجــدران مصبوغــة بلــون منفــر‪ ،‬وســاق طيــب يــروح ويغــدو بيــن الموائــد‬
‫كقطــة ضــاع أوالدهــا‪ ..‬وأقــداح وكــؤوس كوجــه المصــاب بالجــدرى‪ ،‬وطرقــات‬
‫الدومينــو‪ ..‬وســحب الدخــان‪ ..‬وأشــخاص يقضــون الســاعات الط ـوال فــي قتــل‬
‫الوقــت واالنتحــار معــه‪.‬‬

‫أمــا المجلــدات الخمســمائة‪ ،‬التــي ورد ذكرهــا فــي رد النــادي فهــي حلــم جميــل‪..‬‬
‫إو�طــاق اســم مجلــدات ال ينطبــق فــي كثيــر أو قليــل علــى تلــك الكتــب التــي تحتويهــا‬
‫الخ ازنــة الخشــبية الكالحــة الموجــودة فــي الغرفــة الداخليــة للنــادي‪.‬‬

‫ولقــد جلســت فــي النــادي عـ ّـدة أمســيات متتاليــة‪ ،‬ولــم يســعدني الحــظ برؤيــة‪»..‬‬
‫كل إطارات التعليم باللغتين من مفتشين‪ ،‬ومستشارين‪ ،‬وأساتذة ومعلمين يتناقشون‬
‫ويطرحــون المشــاكل الهامــة‪ ..» ..‬علــى حــد تعبيــر إخواننــا أعضــاء هيئــة إدارة‬
‫النــادي فــي ردهــم‪.‬‬

‫ولــم أجــد أبــدا مــا يدفعنــي إلــى اإلحســاس بــأن «‪ ..‬الجفــوة التــي كانــت تفصــل‬
‫بيــن المعلميــن بالعربيــة والمعلميــن بالفرنســية قــد ازلــت فــي إطــار النــادي‪»..‬‬

‫وأنــا ال أغمــط أعضــاء اإلدارة حقهــم فممــا ال شــك فيــه أن هنــاك مجهــودات‬
‫كبي ـرة قــد بذلــت‪ ،‬ولكــن الــرد المهــذب الــذي نشــر باســمهم كان صــورة باألل ـوان‬
‫الطبيعيــة زادت فيهــا الرتــوش و»التزويــق» أكثــر مــن الــازم فــكادت ال تمــت إلــى‬
‫الحقيقــة بصلــة‪.‬‬

‫إلى أين يقودني هذا كله ؟‬

‫‪196‬‬
‫يقودنــي إلــى الحقيقــة الم ـرة التــي لــم تجــرؤ إدارة النــادي علــى قولهــا بص ارحــة‬
‫وموضوعيــة وهــي أن المعلميــن أنفســهم لــم يتفاعلـوا مــع أهــداف النــادي كمــا يجــب‬
‫أن يكــون التفاعــل‪ ،‬وهنــا أتفــق مــع ابــن الضيــف فــي جــل مــا ذهــب إليــه‪ ..‬وهــذه هــي‬
‫النقطــة الرئيســية الثانيــة‪.‬‬

‫ولكن‪ ..‬هل المعلم وحده هو المسؤول ؟‬

‫هنا أصل إلى ثالثة األثافي‪:‬‬

‫فأنــا ال أفهــم أبــدا أن يعامــل النــادي الثقافــي كمحــل تجــاري‪ ،‬تفــرض عليــه‬
‫الضرائب‪ ،‬في الوقت الذي يفترض فيه أن تقدم له المســاعدات المالية المحترمة‪،‬‬
‫وأن يعفــى مــن دفــع الكـراء‪ ،‬وأن يــزود بــاألدوات الرياضيــة ككـرة الطاولــة‪ ،‬وأدوات‬
‫الترفيــه كالشــطرنج‪ ،‬بجانــب الكتــب والمجــات والنشـرات‪ ،‬وبــدون أن أنســى أجهـزة‬
‫التليفزيــون واإلذاعــة‪ ،‬وآالت العــرض الســينمائي الصغي ـرة (‪ 16‬م)‪.‬‬

‫وهــذه كلهــا إمكانيــات ال يمكــن أن تقدمهــا إال أجهـزة الدولــة المختصــة بالثقافــة‬
‫واإلعالم والشباب‪ ..‬وهي اإلمكانيات التي تعطي لكلمة « ناد « أبعادها الحقيقية‬
‫وتصنــع الفــرق بينهــا وبيــن كلمــة «مقهــى»‪.‬‬

‫ولهــذا‪ ..‬وفــي الوقــت الــذي نهاجــم فيــه المعلــم ألنــه ال يتفاعــل يجــب أن نســأل‬
‫أجهـزة الدولــة عمــا فعلتــه فــي هــذا المجــال‪.‬‬

‫ومهزلــة كبــرى أال نكتفــي بعــدم إعانــة الن ـوادي الثقافيــة فنــروح نفــرض عليهــا‬
‫الض ارئــب‪ ،‬ونحاصــر نشــاطاتها‪ ،‬ثــم نســب المثقــف العربــي ألنــه متقاعــس وكســول‪.‬‬

‫لقــد مــارس المثقــف العربــي‪ ،‬ويمــارس أقســى عمليــة نقــد ذاتــي عرفتهــا‬
‫الثقافــة فــي بالدنــا‪ ،‬ولقــد كنــت شــخصيا مــن الذيــن صرخـوا فــي وجهــه وصبـوا عليــه‬
‫المــاء المثلــج‪ ،‬ولكننــي اليــوم أتحفــظ وأقــول‪:‬‬

‫«مــن حقنــا نحــن‪ ..‬أبنــاء الثقافــة العربيــة أن نســب بعضنــا وأن نقس ـوا علــى‬
‫بعضنــا‪ ،‬ولكــن ليــس مــن حــق أميــى الوطنيــة مــن راكبــي ال‪.‬د‪.‬ا‪.‬س‪ ،‬ومــن الذيــن‬

‫‪197‬‬
‫يفكــرون فــي حمايــة الغــرف المكيفــة الهـواء‪ ..‬ليــس مــن حقهــم أن يتلفظـوا بكلمــة نقــد‬
‫واحــدة للمثقــف العربــي ولســبب بســيط‪ ..‬ألننــا سنســألهم آنــذاك‪:‬‬

‫ماذا قدمتهم للمثقف العربي ؟‬


‫أعنتموه أو شجعتموه ؟‬
‫ذلك لم يحدث‪...‬‬
‫ضمنتم له األقدمية ؟‬
‫« بال مزيتكم‪ »...‬ذلك حقه وليس منحة من أحد‪.‬‬
‫أعطيتموه عمال ؟‬
‫ذلك أول واجباتكم ومبرر وجودكم‪.‬‬

‫المثقــف العربــي (وخاصــة إذا كان ال يعــرف الفرنســية) يحــس بأنــه غريــب فــي‬
‫وطنــه‪ ،‬ولقــد كانــت نقطــة الضعــف الرئيســية لديــه هــي أنــه اســتجاب – كمــا قلــت‬
‫ســابقا – إلــى محــاوالت التعقيــد فأصبــح يحــس بأنــه أقــل مــن اآلخريــن‪ ،‬وبأنــه عاجــز‬
‫عــن مناقشــة مشــاكل العصــر‪ ،‬والتفاعــل معهــا‪ ،‬وبــأن مجالــه محــدود‪ ..‬بمهنتــه أو‬
‫بحلقــات الدومينــو‪.‬‬

‫هــذه هــي العقــدة التــي هاجمتهــا وســأظل أهاجمهــا إلــى أن تتحطــم‪ ،‬ألننــي‬
‫أؤمــن بأنهــا هــي التــي تحــرم المثقــف العربــي مــن أداء دوره الحقيقــي‪ ،‬وألننــي‬
‫واثــق مــن أن كل العراقيــل والصعــاب‪ ..‬ســحابات صيــف تســتطيع حجــب الشــمس‬
‫للحظــات ولكنهــا س ـريعا مــا تفــر لتأخــذ الســماء زرقتهــا الصافيــة وليأخــذ كل شــئ‬
‫فــي الطبيعــة لونــه الحقيقــي‪.‬‬

‫بقيــت كلمــة أهمــس بهــا فــي أذن اإلخــوة فــي عنابــة (مــع رجائــي بــأن يتكــرم‬
‫أحدهــم بق ـراءة مــا كتــب بصــوت عــال يكفــي إلزعــاج النيــام فــي قســنطينة)‪..‬‬

‫ال تيأس ـوا‪ ..‬ال تيأس ـوا‪ ..‬فالمســتقبل لنــا‪ ..‬أحــب مــن أحــب وك ـره مــن ك ـره‪،‬‬
‫المســتقبل لنــا ولمــا نمثلــه ألنــه هــو الوجــه الحقيقــي لهــذه البــاد‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫حاول ـوا أن تجعل ـوا لقاءاتكــم أكثــر فاعليــة‪ ..‬خصص ـوا ســاعة علــى األقــل‬
‫توقفــون فيهــا الدومينــو لكــي تتحدثـوا‪ ..‬لكــي تتناقشـوا‪ ..‬لكــي يعــرض واحــد زمالئــه‬
‫كتابــا ق ـرأه أو مقــاال أعجبــه أو صــورة اثــارت انتباهــه‪...‬‬

‫اجعلـوا محاضراتكــم فــي النــادي حتــى ولــو اضطــر البعــض للبقــاء واقفــا أثنــاء‬
‫المحاضـرة‪.‬‬

‫وال تجعل ـوا مــن خيــوط العنكبــوت الوهميــة أســاكا شــائكة تســجن قدراتكــم‬
‫وتعزلكــم عــن الحيــاة‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫(((‬
‫حروف ال حتتاج إىل نقاط‪!! ‬‬

‫تعــودت أن أعطــي أهميــة كبي ـرة لرســائل الق ـراء‪ ،‬بــل إن ركــن البريــد فــي أي‬
‫صحيفــة‪ ..‬وطنيــة أو أجنبيــة هــو مــن األركان التــي أحــرص علــى تتبعهــا ألنهــا‬
‫ترســم دائمــا صــورة قريبــة مــن الواقــع للنشــاط الثقافــي وللحيويــة الفكريــة‪.‬‬

‫وكنــت ومــا أزال مــن أنصــار نشــر رســائل القـراء مهمــا كانــت ومهمــا اختلفــت‬
‫مــع القــارئ فــي التحليــل أو العــرض أو االســتنتاج‪ ،‬ألننــي أعتبرهــا ظاهــرة صحيــة‬
‫طيبــة تســتحق التشــجيع والتقديــر‪.‬‬

‫وأنــا ال أزعــم لنفســي دور أســتاذ النقــد‪ ،‬ولكــن هنــاك – فــي نظــري – حقائــق‬
‫أساســية البــد وأن توضــع فــي الحســبان عنــد التعــرض لنقــد أي ظاهـرة اجتماعيــة‪،‬‬
‫أو أي تعبيــر فكــري مســموع أو مقــرؤ‪.‬‬

‫مــن هــذه الحقائــق ضــرورة شــمول العــرض‪ ،‬وأعنــي بذلــك أن المقــال مثــا هــو‬
‫نســيج متكامــل‪ ..‬البــد مــن النظــر إليــه ككل كخطــوة أولــى‪ ،‬ثــم مناقشــة فكرتــه أو‬
‫أفــكاره الرئيســية‪.‬‬

‫إو�همــال هــذه الحقيقــة والتركيــز علــى كلمــة أو ســطر أو تعبيــر هــو هــروب مــن‬
‫مناقشــة الموضــوع وتصــرف بطريقــة «ويــل للمصليــن»‪ ..‬وخــروج مــن دائــرة النقــد‬
‫إلــى دائـرة الهجــاء والتشــهير‪.‬‬

‫ثــم تأتــي الحقيقــة األخــرى‪ ،‬وهــي أن لــكل كاتــب أســلوبا معينــا فــي معالجــة‬
‫الظواهــر التــي ينقدهــا‪ ،‬وهــو يختلــف قســوة ولينــا بحســب نوعيــة الشــئ الــذي ينقــد‪.‬‬
‫المجاهد – ‪ 15‬فبراير – ‪ .1969‬‬
‫‪201‬‬
‫ولســت فــي حاجــة إلــى التذكيــر بــأن كثي ـ ار مــن األدويــة تفتقــر إلــى الطعــم‬
‫الجميــل الــذي يحببهــا إلــى النفــوس‪ ،‬بــل علــى العكــس‪ ..‬هنــاك أدويــة م ـرة المــذاق‬
‫منف ـرة الرائحــة يفــرض علــى المريــض تناولهــا‪ ..‬ال لمجــرد شــفائه فحســب‪ ،‬ولكــن‬
‫أيضــا لحمايــة المحيطيــن بــه مــن العــدوى‪.‬‬

‫ومعنــى هــذا كلــه أن النقــد الــذي يوجــه لقــارئ أخطــأ فــي اســتنتاجه أو تســرع‬
‫فــي حكمــه ال يمكــن أن يكــون فــي قســوة النقــد الــذي يوجــه إلــى مســؤول أخطــأ وهــو‬
‫يعلــم أنــه مخطــئ‪ ،‬أو النقــد الــذي يوجــه إلــى طريقــة خاطئــة فــي معالجــة مشــكلة‬
‫اجتماعيــة هامــة‪.‬‬

‫فــي الحالــة األولــى يفتــرض دائمــا أن نيــة القــارئ حســنة‪ ،‬وأنــه حــاول أن‬
‫يجتهــد ولكنــه عجــز عــن النظــر إلــى الموضــوع ككل‪ ،‬وأدى بــه ذلــك إلــى الحكــم‬
‫المتســرع‪ ،‬وعلــى هــذا فــإن الــرد عليــه يكــون دائمــا لينــا ورفوقــا‪ ،‬ألن الهــدف هــو‬
‫الوصــول إلــى االســتنتاج الصحيــح وليــس االنتصــار فــي مبــارزة كالميــة يتســاوى‬
‫فيهــا المنتصــر والمهــزوم‪.‬‬

‫أمــا الحالــة الثانيــة فهــي تســتلزم القســوة المطلقــة‪ ،‬ألن المخطــئ فيهــا يتصــرف‬
‫عــن علــم‪ ،‬وعــن إدراك لطبيعــة الخطــأ‪ ،‬ويصــر علــى االســتمرار‪ ،‬وتأخــذه الع ـزة‬
‫باإلثــم‪ ،‬فــا يت ارجــع إال إذا شــم رائحــة « القــزول‪»..‬‬

‫وفــي هــذه الحالــة يتحتــم علينــا أن نتعــرف علــى الفــرق بيــن النقــد الــاذع‪ ،‬وبيــن‬
‫الهجــوم البذئ‪.‬‬

‫األول – يهاجــم تصرفــا أو موقفــا خاطئــا مســتعمال التعبيـرات العنيفــة والحــادة‬


‫التــي تتناســب وطبيعــة الخطــأ‪ ،‬ويتعــرض لمرتكــب الخطــأ كجــزء مــن التعــرض‬
‫للخطــأ نفســه‪.‬‬

‫الثانــي – يعبــر عــن نزعــة ســادية‪ ،‬فهــو يهاجــم لمجــرد لــذة الهجــوم علــى‬
‫شــخص واإلســاءة إليه‪ ،‬أو عن نزعة ماسوشــية للتلذذ بتلقي رد الفعل العنيف فيما‬
‫بعــد‪ ،‬وهــو فــي هــذا يســتعمل العبــارات الخشــنة التــي تنصــب علــى الشــخص نفســه‬
‫بــدون التعــرض بموضوعيــة لســبب الهجــوم‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫وكمثــال حــي‪ ..‬أقــول أن الــرد علــى األخ العربــي الــذي عــاش فــي الج ازئــر‬
‫خمســة ســنوات كاملــة‪ ،‬ثــم خــرج منهــا ليكتــب فــي صحافــة بــاده مــا أوردتــه ضمــن‬
‫إطــار انطباعــات العــدد الماضــي وهــذا العــدد‪ ..‬الــرد عليــه ال يمكــن إال أن يتعــرض‬
‫لتكوينــه الفكــري ولشــخصيته وليــس مــن البــذاءة أن أقــول لــه‪« ..‬أنــت تافــه وســطحي‬
‫وناكــر للجميــل‪ ..‬وأمثالــك ســبة فــي وجــه التعليــم العربــي‪ ،‬ووصمــة عــار فــي جبيــن‬
‫المتعاونيــن العــرب‪»..‬‬

‫أقول هذا وبجانبي الدليل القاطع والحجة والبرهان‪.‬‬

‫إو�ذا كان البعــض يعتبــرون تعبيــر « عســر الهضــم « مثــا تعبي ـ ار بذيئــا ال‬
‫يصــح أن يوجــه إلــى أحــد‪ ..‬ألنــه‪ ..‬عــورة‪ ،!! ..‬فإننــي أرجــو أن يكون ـوا قــد وصل ـوا‬
‫إلــى المســتوى الــذي يســمح لهــم بإرشــادي إلــى اللفــظ الواجــب اســتخدامه للتعبيــر عــن‬
‫ســخافة فكرة ضم برنامج إذاعي مخصص للترفيه‪ ،‬ويفترض فيه أن يبعث الســرور‬
‫إلــى قلــب المواطــن‪ ،‬مــع برنامــج آخــر يبعــث علــى األســى ويثيــر الذكريــات الحزينــة‪.‬‬

‫إو�ذا كان الذيــن أثارهــم تعبيــري هــذا لــم يحاولـوا معالجــة القضيــة األساســية التــي‬
‫انصــب عليهــا الهجــوم‪ .‬ولــم يقدمـوا رأيهــم فيهــا حتــى يســتطيع القــارئ أن يحكــم لهــم‬
‫أو عليهــم‪ ،‬فإننــي ال أملــك إال تجاهــل هــذا النــوع مــن النقــد‪ ،‬نازعــا عنــه صفــة النقــد‬
‫البنــاء‪ ..‬ومعنــى هــذا أنــه عاجــز عــن إشــعال ثورتــي التــي ال تشــعلها إال أشــياء أكثــر‬
‫أهميــة‪ ،‬وبــدون الحاجــة إلــى االســتف اززات الســاذجة‪.‬‬

‫وبقي موضوع آخر أحس بضرورة التعرض له استكماال لحديثي هذا‪.‬‬

‫إن حتميــة تاريخنــا تفــرض علينــا أن نقطــع فــي أيــام مــا قطعتــه أوروبــا فــي‬
‫ســنين‪ ،‬ومــن حــق المناضــل أن يكــون طموحــا‪ ،‬وأن يحــاول دائمــا التغلــب علــى‬
‫عامــل الزمــن‪.‬‬

‫وبلدنــا ليــس بلــدا مغلقــا منطويــا علــى نفســه‪ ..‬هنــاك عشـرات المذاهــب الفكريــة‬
‫واالجتماعيــة التــي تحــاول التســلل إلــى هــذا البلــد‪ ،‬إو�قامــة رؤوس جســور فــي‬
‫أفكارنــا تضمــن لهــا فيمــا بعــد إمكانيــة الســيطرة الكاملــة علــى مقدراتنــا‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫ولقــد قلــت فــي حديثــي الــذي ناقشــت فيــه فكـرة االحتفــال باألعيــاد األجنبيــة «‬
‫أن الفكـرة ال تحاربهــا إال فكـرة أخــرى‪ ،‬والتقاليــد ال تحطمهــا إال تقاليــد أخــرى تتفــوق‬
‫عليهــا جاذبيــة وال تقــل عنهــا أغـراء‪»..‬‬
‫وقلت بالحرف الواحد‪.‬‬
‫« سهل جدا أن نصدر القوانين‪...‬‬
‫وسهل جدا أن نطلق اللعنات‪..‬‬
‫وسهل جدا أن نترك للشرطة مهمة التأديب‪ ...‬‬
‫وسهل جدا أن نقوم بأمثال حملة منع الخمر التي تمت في ‪.1964‬‬
‫ولكــن النتيجــة دائمــا‪ ..‬صفــر‪ ،‬ألن تخليــص البيــت مــن الدخــان ال يتــم بمجــرد‬
‫محاولــة طــرده بالقــوة‪ ،‬ولكــن بإطفــاء مصــدر النيـران الحقيقــي »‪.‬‬
‫ويعنــي هــذا كلــه أننــي هاجمــت الوســائل الخاطئــة التــي تســتخدم فــي محاربــة‬
‫الظواهر االجتماعية المتنافية مع تقاليدنا وعاداتنا متوصال إلى النتيجة المنطقية‪،‬‬
‫وهــي أن الديــن يجــب أن يكــون العامــل الرئيســي فــي حربنــا ضــد تلــك الظواهــر‪.‬‬
‫وال ينكــر مخلــص أن حديثــا طبيــا أو فيلمــا ســينمائيا عــن تليــف الكبــد الناتــج‬
‫عــن إدمــان المســكرات ســيكون لــه آثــار إيجابيــة تتفــوق علــى آثــار الــردع أو‬
‫التخويــف مــن النــار أو الترغيــب فــي الجنــة فحســب‪.‬‬
‫لهــذا يمكننــي القــول بــأن الذيــن أحسـوا تناقضــا بيــن التهكــم علــى مــن يحــارب‬
‫الظواهــر التــي تتنافــى مــع الديــن وبيــن القــول بــأن الحــل دينــي فــي المقــام األول هــم‬
‫اإلخــوة الذيــن اكتفـوا بقـراءة بعــض ســطور المقــال بحثــا عــن ثغـرة يمكــن لهــم التســلل‬
‫عبرهــا الســتعراض العضــات الفكريــة‪.‬‬
‫وأنــا أعتــرف بــأن أســلوبي وطريقــة العــرض التــي أتبعهــا تزعــج الكثيريــن‪ ،‬ولكننــي‬
‫أقــول لهــم أن هــذا البــاب ســيظل ســوطا يلهــب ظهــور الذيــن يتخلفــون عــن الركــب‪.‬‬
‫وســتظل حدتــه وســاطته تتناســب تناســبا طرديــا مــع ازديــاد أهميــة وخطــورة‬
‫المشــكلة التــي يتعــرض لمناقشــتها‪ ،‬والميــدان مفتــوح وعليهــم أن يتفضل ـوا بتقديــم‬
‫أســلوب جديــد يثبــت فعاليتــه والحكــم لمجمــوع الق ـراء أوال‪ ..‬وأخي ـرا‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫َ‬
‫(((‬
‫حديث له بقية‪...‬‬

‫العالقــة التــي تنشــأ بيــن الكاتــب وق ارئــه هــي عالقــة مــن نــوع خــاص‪ ،‬وفــي بلــد‬
‫ناشــئ كبلدنا ال يتوفر على الوســائل الكافية لخلق نشــاط ثقافي مؤثر نجد أن هذه‬
‫العالقــة تقــوم بــدور فعــال فــي تكويــن تيــار فكــري متجانــس اآلراء متكامــل النظـرة‬
‫شــديد الفعاليــة‪.‬‬

‫إو�ذا كان في أفق السياسة العربية في المشرق غبار يحجب حقائق الموقف‪،‬‬
‫فقــد فضلــت – رغــم مــا يشــدني للحديــث – أن أفــر مــن الخــوض فيــه‪ ،‬وأحببــت أن‬
‫أشــرك القــارئ معــي فــي التفكيــر بصــوت مقــرؤ حــول مشــكلتنا الثقافيــة‪.‬‬

‫ولقــد ثــار نقــاش طويــل منــذ حوالــي عاميــن حــول دور القـراء فــي إثـراء مادتنــا‬
‫الصحفيــة كمــا وكيفــا‪ ،‬وعــن موضــوع األقــام الشــابة وفتــح المجــال أمامهــا‪ ،‬وحــول‬
‫دور الصحافــة المقــروءة والمســموعة والمرئيــة فــي النهضــة الثقافيــة التــي يجــب أن‬
‫تســير جنبــا إلــى جنــب مــع التطــور االقتصــادي‪.‬‬

‫وكتبــت أكثــر مــن م ـرة حــول هــذا الموضــوع‪ ،‬وكانــت العناصــر الرئيســية فــي‬
‫تفكيــري والتــي ال أعتــذر عــن إعــادة ســردها أن « مشــكلتنا الثقافيــة – فــي تقديــري‬
‫– هــي مشــكلة العزلــة بيــن الكاتــب والقــارئ مــن جهــة‪ ،‬وبيــن الكتــاب بعضهــم‬
‫البعــض مــن جهــة أخــرى‪.‬‬

‫ذلــك أن معظــم كتابنــا أشــبه مــا يكونــون بأعضــاء فرقــة موســيقية يعــزف‬

‫‪ .1‬المجاهد ‪ 1 -‬مارس ‪.1970‬‬


‫‪205‬‬
‫كل منهــم لحنــا ال يتشــابه مــع لحــن زميلــه‪ ،‬وهكــذا ومهمــا بلغــت ب ارعــة العــازف‬
‫كفــرد‪ ،‬فــإن النتيجــة دائمــا فوضــى لحنيــة تتفــوق فيهــا آالت اإليقــاع وأجهـزة العــزف‬
‫النحاســية‪ ،‬وتخفــت أص ـوات الكمــان والعــود و «البيكولــو»‪.‬‬

‫وهكــذا ال يتمتــع المســتمع بلحــن متكامــل األداء‪ ،‬ويرهــق كل عــازف نفســه‪،‬‬


‫وهــو يعتقــد أن مــا يعزفــه هــو اللحــن األساســي‪.‬‬

‫ومــن هنــا أعطيــت لــدور القــارئ أهميــة كبــرى‪ ،‬إذ أنــه يســتطيع القيــام بــدور قائــد‬
‫األوركســترا‪ .‬بتفاعلــه مــع مــا يكتــب‪ ،‬بمناقشــة الكاتــب ومحاســبته إن لــزم األمــر‪،‬‬
‫وبإثــارة المناقشــة حــول الموضوعــات المعروضــة بصــورة تضمــن أن يذهــب الزبــد‬
‫جفــاء‪ ،‬وأن يمكــث فــي األرض مــا ينفــع النــاس‪.‬‬

‫اســتنتاجا مــن هــذا كلــه نجــد أن الثغـرة فــي بنائنــا الثقافــي تكمــن فــي عــدم قيــام‬
‫القــارئ بــدوره الرئيســي (وأحــدد هنــا بــأن القــارئ فــي مفهومــي‪ ..‬هــو كل مــن يقـرأ‪..‬‬
‫وهــذا يضــم الكتــاب أنفســهم إلــى حظيـرة القـراء‪ ..‬وقــد يكــون كل الكتــاب قـراء ولكــن‬
‫العكــس ليــس بصحيــح)‪.‬‬

‫ولكــن‪ ...‬قبــل أن نتحــدث عــن القــارئ – بهــذا المفهــوم – البــد أن نتحــدث عــن‬
‫غيــر القــارئ – وبنفــس المفهــوم ‪ ...-‬ألن االحتياطــي االســتراتيجي للحركــة الثقافيــة‬
‫والــذي يتمثــل فــي قطــاع كبيــر مــن القادريــن علــى القـراءة والكتابــة والذيــن ال يقــرؤون‬
‫علــى اإلطــاق هــو احتياطــي يمكــن أن يقــوم بــدور فعــال فــي حركتنــا الثقافيــة‪.‬‬

‫هــذا القطــاع مــن المتعلميــن الذيــن التهمتهــم دوامــة الحيــاة اليوميــة يشــكل أكثــر‬
‫مــن نصــف مجمــوع الناطقيــن بالعربيــة والقادريــن علــى قراءتهــا والتعبيــر بهــا وعنهــا‪،‬‬
‫ولكنهــم ال يقــرؤون (ورقــم توزيــع الصحــف العربيــة يشــهد بذلــك)‪.‬‬

‫والزعــم الرئيســي الــذي يقدمــه هــذا القطــاع هــو أن «الوقــت ماكانشــي» وهــو‬
‫زعــم مبالــغ فيــه (لكــي ال أقــول أنــه غيــر صحيــح اطالقــا) وليــس هنــاك مــن يجهــل‬
‫أن عــدد صحفنــا الناطقــة بالعربيــة ال يتجــاوز عــدد أصابــع اليــد الواحــدة‪ ،‬وأن‬
‫بعضهــا يمكــن التهــام صفحاتــه فــي دقائــق‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫هنــا يجــد المنتمــون إلــى هــذا القطــاع حجــة أخــرى‪ ..‬يقولــون‪ ..‬أن مــا ينشــر‬
‫ليــس جدي ـ ار بالق ـراءة‪ ..‬وأنــه عبــارة عــن تمســخير وتضييــع وقــت‪ ..‬فســتي فــي‬
‫هرتــي‪ ..‬حســب تعبيــر ص‪.‬ل‪.‬ا‪.‬ع‪ .‬المشــهور‪.‬‬

‫وأعتقد مخلصا أن الواقع يدحض هذه الحجة ويكذبها‪ ،‬ألن مستوى صحافتنا‬
‫العربيــة مــن ناحيــة المحتــوى – ومــع التغاضــي عــن كثيــر مــن أوجــه النقــص التــي‬
‫خلقتهــا ســلبية قطــاع المثقفيــن‪ ،‬هــذا المســتوى يفــوق بكثيــر مســتوى مثيالتهــا فــي‬
‫البــاد التــي مــرت بنفــس ظروفنــا‪ ،‬وعانــت وتعانــي مــن انخفــاض االنتــاج الفكــري‪..‬‬
‫كمــا وكيفــا‪ ..‬وهــو ال يقــل عــن مســتوى صحافتنــا الناطقــة بالفرنســية‪ ..‬إن لــم يــزد‪.‬‬

‫والذيــن يقدمــون هــذه الحجــة يمكــن ببســاطة أن نســكتهم بمجــرد سـؤالهم‪ ..‬ومــاذا‬
‫ق أرتــم مــن الصحــف غيــر الجزائريــة‪ ..‬مــا هــو الكتــاب الــذي قرأتمــوه فــي هــذا الشــهر‬
‫أو الشــهر الــذي ســبقه‪ ..‬وســتكون اإلجابــة فــي أكثــر األحيــان «‪ ...‬راك عــارف‪..‬‬
‫الوقــت ماكانــش‪»...‬‬

‫ينفعل قارئ هالطقمشاري‪ ..‬يقول‪:‬‬

‫بمــا أنهــم ال يقــرؤون‪ ..‬لمــاذا تصدعنــا بالحديــث عنهــم وكأنــك تتحــدث لهــم «‪..‬‬
‫هــل يســمع الصــم الدعــاء‪»..‬‬

‫والرد موجود‪..‬‬

‫فهــذا القطــاع محســوب علــى الثقافــة العربيــة‪ ،‬وهــو يشــكل طاقــة خامــدة يجــب‬
‫أن تســتغل كمــا تســتغل أصـوات الناخبيــن المحايديــن فــي بلــد تتعــدد فيــه األحـزاب‬
‫السياسية‪.‬‬

‫هــذا إلــى جانــب أن عــددا كبيـ ار مــن هـؤالء الســادة يشــكل قطــاع رواد المقاهــي‬
‫وهـواة أحاديــث «طــق الحنــك» حســب التعبيــر الســوري الــدارج‪ ،‬وهــم الذيــن يقضــون‬
‫جــل وقــت فراغهــم «يندبــون» ســعد الثقافــة وينعــون مــوت الفكــر واألدب‪.‬‬

‫وهــدف هــذا الحديــث هــو صنــع المعــاول‪ ،‬ووضعهــا فــي يــد القــارئ ليحطــم‬
‫بهــا قالعهــم الرمليــة‪ ..‬دمجــا لهــم فــي صفوفنــا‪ ،‬أو أضعافــا ألثرهــم االنه ازمــي علــى‬
‫وحــدة هــذه الصفــوف‪.‬‬
‫‪207‬‬
‫ماذا عن القراء‪ ..‬؟‬

‫وأحــدد بــادئ ذي بــدء مفهــوم القــارئ عنــدي هــو الترجمــة الفعليــة لتعبيــر‬
‫القــارئ‪ ..‬وهــذا يدخــل كل الكتــاب داخــل إطــار الق ـراء‪ ،‬ويعطينــا فرصــة أكبــر‬
‫للحديــث‪ ،‬ومقــدرة أفضــل علــى تشــخيص الحالــة التــي نتعــرض لبحثهــا‪.‬‬

‫قطــاع كبيــر مــن القـراء‪ ..‬بــل ومــن مدمنــي القـراءة‪ ،‬نجــد فيــه المثقــف الواعــي‪..‬‬
‫والموظــف النشــيط ونجــد المعلــم والمذيــع والطالــب واألســتاذ والجنــدي‪ ..‬وجلهــم‬
‫يســتطيعون المســاهمة فــي إثـراء حركتنــا الثقافيــة عــن طريــق خلــق الحـوار المكتــوب‪.‬‬

‫ولكــن أف ـراد هــذا القطــاع يعيشــون فــي دائ ـرة مغلقــة ال تتجــاوز أشــخاصهم‬
‫أحيانــا‪ ،‬وال تتعــدى حلقــة ضيقــة مــن األصدقــاء فــي أغلــب األحيــان‪.‬‬

‫إو�ذا اســتثنينا مــن ه ـؤالء عــددا ضئيــا يعيشــون فــي أب ـراج عاجيــة‪ ..‬إحساســا‬
‫منهــم بأنهــم أســمى وأعلــى مــن أن ينحــدروا إلــى مســتوى مناقشــات فكريــة يقــوم‬
‫بهــا «متطفلــون علــى الثقافــة والفكــر‪ ..»! ‬علــى الواجهــات المكتوبــة «لصحافــة‬
‫متخلفــة‪ .» !!! ‬أو اعتقــادا منهــم بــأن مــكان الثقافــة والفكــر هــو المجــال األكاديمــي‬
‫داخل إطار الجامعات أو الندوات المغلقة‪ ..‬إذا استثنينا هذه المجموعة وجدنا أن‬
‫األعــذار التــي يقدمهــا قطــاع القـراء غيــر المتفاعليــن مــع مــا ينشــر فــي صحافتنــا‪..‬‬
‫هــذه األعــذار تتركــز علــى ضيــق الوقــت وضيــق الوقــت وحــده‪.‬‬

‫ويجــب أن نعتــرف بــأن هــذا العــذر وجيــه‪ ،‬إذ أن معظــم أف ـراد هــذا القطــاع‬
‫يعيشــون حيــاة نشــطة متعــددة الجوانــب (وهــذا مــن أهــم العوامــل التــي تدفعنا‪ ‬إلــى‬
‫محاولــة إرغامهــم علــى المســاهمة فــي الحركــة الفكريــة ألن إمكانياتهــم تتيــح لهــم‬
‫تزويــد الحركــة بغــذاء متكامــل يشــفيها مــن حالــة فقــر الــدم المزمــن الــذي تعانيــه)‪.‬‬

‫وأعتقــد مخلصــا أن ضيــق الوقــت – رغــم أهميتــه كعامــل رئيســي – يمكــن‬


‫التغلــب عليــه إذا حاولنــا تحليــل بقيــة العوامــل التــي تحــول بيــن هــذا القطــاع الهــام‬
‫مــن المثقفيــن بالعربيــة وبيــن القيــام بــدور فعــال‪.‬‬

‫والبــد أوال مــن االعتـراف بــأن مســاهمة أبنــاء هــذا القطــاع تشــكل بالنســبة لهــم‬
‫مجهــودا إضافيــا يحتاجــون فيــه إلــى قــدر ال بــأس بــه مــن التضحيــة بوقــت ال ارحــة أو‬

‫‪208‬‬
‫بلحظــات مــن الوقــت المخصــص للترفيــه عــن النفــس‪ ..‬هــذا لكــي أمحــو مــن البدايــة‬
‫تهمــة الكســل والســلبية عــن جــزء كبيــر منهــم‪.‬‬

‫مــن أهــم العوامــل األخــرى التــي تجمــد التفاعــل الكامــل لجــزء كبيــر مــن مثقفينــا‬
‫هــو إحســاس الكثيريــن فــي أغلــب األحيــان بــأن الكاتــب قــد عبــر عــن جــل مــا كانـوا‬
‫يريــدون قولــه‪ ،‬وأن كل إضافــة إلــى مــا كتــب ال تزيــد عــن مجــرد تــرف فكــرى أو‬
‫تشــجيع للكاتــب‪.‬‬

‫وهذا االعتقاد خاطئ من ناحيتين‪:‬‬

‫األولــى‪ :‬أن الكاتــب ومهمــا كان شــمول العــرض الــذي يقدمــه ينظــر غالبــا إلــى‬
‫موضــوع المناقشــة مــن زاويتــه الخاصــة‪ ،‬ومعنــى هــذا أن جوانــب أخــرى للموضــوع‬
‫تهمــل د ارســتها وبالتالــي تفقــد الصــورة تجســيمها‪.‬‬

‫ولكــي أوضــح أكثــر أقــول أن الحكمــة فــي وجــود عينيــن اثنيــن لإلنســان ليســت‬
‫مجــرد اإلبصــار الــذي يمكــن أن تقــوم بــه عيــن واحــدة فقــط‪ ،‬ولكــن ثنائيــة جهــاز‬
‫البصــر تــؤدي إلــى خلــق اإلحســاس بالعمــق‪ ..‬فــكل عيــن تــرى نفــس الصــورة مــن‬
‫زاويــة مختلفــة بعــض الشــئ عــن الزاويــة التــي تــرى بهــا العيــن األخــرى‪ ،‬وهــذا يحــدد‬
‫بعــد الشــئ المرئــي (وفشــل محاولــة إدخــال الخيــط فــي ثقــب إب ـرة باســتعمال عيــن‬
‫واحــدة إو�غمــاض األخــرى دليــل علمــي بســيط علــى هــذه الحقيقــة)‪.‬‬

‫ومــن هنــا نســتنتج أن وجهــات النظــر ال يمكــن أن تتشــابه مائــة فــي المائــة‪،‬‬
‫إو�ن االختــاف فــي زاويــة النظــر – ومهمــا كان ضئيــا – هــو الــذي يحــدد األبعــاد‬
‫الحقيقيــة للمرئيــات‪.‬‬

‫الناحيــة الثانيــة‪ :‬إن مجــرد التفاعــل اإليجابــي مــع الكاتــب ينــزع عــن وجهــة‬
‫نظ ـره طابعهــا الفــردي ويجعــل منهــا رأي ـاً لمجمــوع‪ ..‬ولهــذا وزن كبيــر خاصــة إذا‬
‫تعلــق األمــر بقضايــا ذات حساســية خاصــة أو بموقــف جــذري تجــاه مشــكلة معينــة‪.‬‬

‫بقــي القطــاع الثانــي مــن القـراء وهــو قطــاع القـراء الذيــن يكتبــون وضمــن إطــار‬
‫هــذا القطــاع نجــد الذيــن يتفاعلــون مــع مــا يكتــب بجديــة وفهــم ألهــداف التفاعــل‪،‬‬

‫‪209‬‬
‫ونجــد الذيــن يكتبــون لمجــرد الكتابــة ونجــد الكتــاب الذيــن أســميتهم يومــا‪ »..‬كتــاب‬
‫دورات الميــاه « ألنهــم ال يعرفــون الفــرق بيــن مــا يجــب أن يكتــب علــى الصفحــات‪،‬‬
‫وبيــن التعليقــات النابيــة التــي نجدهــا علــى جــدران دورات الميــاه‪.‬‬

‫وكثيــرون يكتبــون‪ ..‬والحديــث عــن القـراء الذيــن يكتبــون لــن يجــد لــه مكانــا فــي‬
‫هــذا العــدد ولهــذا قلــت‪ ..‬إن لهــذا الحديــث بقيــة‪...‬‬

‫*‬

‫*‬ ‫*‬

‫‪210‬‬
‫إنطباعات بوجادية عن املسألة‬

‫(((‬
‫النثر ‪ -‬شعرية‬

‫كنــت قــد تتبــع بشــغف المعركــة القلميــة التــي دارت حــول قصيــدة إفريقيــا لــأخ‬
‫خمــار‪ ،‬وأعــددت هــذه االنطباعــات عــن المعركــة ثــم أحجمــت عــن نشــرها‪.‬‬

‫فلقــد تدخــل فــي المعركــة زمــاء يفهمــون فــي الشــعر وفــي بحــاره ومحيطاتــه‪،‬‬
‫ولــم يــك لــي فــي هــذا المجــال إال األذن الموســيقية‪ ،‬واإلحســاس بالجمــال بــدون‬
‫محاولــة تفســيره‪.‬‬

‫وطوال عمري (أقل من نصف قرن‪ )..‬وأنا أكره الشعر والشعراء‪ ،‬ربما ألنني‬
‫ال أعــرف الفــرق بيــن البحــر الطويــل‪ ،‬وبيــن البحــر األبيــض المتوســط‪ ،‬وكنــت‬
‫أخلــط أحيانــا بيــن البحــر الــذي رصفــت بــه قصيــدة وبيــن البحــر الميــت‪ ،‬وربمــا ألن‬
‫الشــاعر القديــم فــي نظــري‪ ..‬كان مجــرد إنســان فــارغ شــغل أو عاجــز أساســا عــن‬
‫العمــل‪ .‬يتمتــع بقــدرة علــى رصــف الكلمــات بإيقــاع لفظــي يثيــر اإلعجــاب‪ ،‬هدفــه‬
‫مــن ذلــك أساســا مــلء الجيــب أو المعــدة‪.‬‬

‫وفشــلت فــي حفــظ الشــعر‪ ،‬ألننــي كنــت أحــس فيمــا فــرض علــى حفظــه مــن‬
‫قصائد‪ ..‬مجهودا إنشــائيا يجعل منها مجرد افتعاالت موزونة ال انفعاالت صادقة‪.‬‬

‫المجاهد – ‪ 15‬مارس – ‪.1970‬‬


‫‪211‬‬
‫وهكــذا لــم أضــع وقتــا فــي حفــظ «مكــر مفــر مقبــل مدبــر معــا» أو فــي اســتظهار‬
‫«بانــت ســعاد فقلبــي اليــوم مــا تبولوا‪.»!! ‬‬

‫كنــت أحــس بــأن التعبيــر الصــادق عــن االنفعــال هــو الضمــان األول للشــعر‬
‫الجيــد‪ ،‬يعطيــه اإليقــاع اللحنــي مــا يعطيــه اللــون للزه ـرة‪.‬‬

‫ولــم أســتطع أن أجــد فــي معظــم مــا ق ـرأت مــن الشــعر القديــم مــا يمكــن أن‬
‫أتفاعــل معــه‪ ..‬ولســبب بســيط‪ ..‬ألنــه ال يعبــر عــن حياتــي اليوميــة وال يتجــاوب مــع‬
‫آالمــي وآمالــي‪.‬‬

‫ولكــن قطعــا معينــة كانــت تثيــر شــجوني‪ ..‬كنــت أحــب قصيــدة أبــي ف ـراس‪..‬‬
‫«أقــول وقــد ناحــت بقربــي حمامــة»‪ ..‬وكنــت أحــب قصيــدة ابــن زيــدون‪ ..‬وأردد‬
‫كثي ـرا‪« ..‬وقــد نكــون ومــا يخشــى تفرقنــا – فاليــوم نحــن وال يرجــى تالقينــا»‪.‬‬

‫كنت أحس في هذه األبيات صدق االنفعال‪ ،‬لهذا أحببتها‪.‬‬

‫أســتدرك هنا‪ ..‬قبل أن يتحفز الشــعراء والنقاد للَعن جدود الدخالء والمتطفلين‬
‫( إو�يــاك أعنــي)‪ ..‬وقبــل أن يطالبنــي أحدهــم بمــا ينقــي بأننــي أك ـره الشــعر ألننــي‬
‫عاجــز عــن نظمــه‪.‬‬

‫أســتدرك وأقــول‪ ..‬أننــي أدفــع ثمــن الصحيفــة ومــن حقــي كقــارئ أن أبــدي أريــي‬
‫فــي محتوياتهــا ومظهرهــا حتــى ولــو لــم أكــن مــن خبـراء الماكيــت و‪ ...‬اللينوتيــب‪.‬‬

‫هل نستطيع إذن أن نقول‪:‬‬

‫لقد دالت دولة الشعر‪ ،‬ألن الحاجة إليه قد زالت‪..‬‬

‫أجدادنــا لــم يكــن عندهــم إذاعــة أو تليفزيــون أو صحافــة‪ ،‬وكان الطريــق الوحيــد‬
‫لنقــل األخبــار وتســجيل االنتصــارات وللترفيــه ومــلء البطــون والجيــوب‪ ،‬هــو األبيات‬
‫الشــعرية يحفظهــا النــاس ويتناقلونهــا‪.‬‬

‫وتفككــت القبليــة لتعطــي تشــكيال اجتماعيــا أكبــر وتطــور العلــم الحديــث فأصبــح‬
‫للدولــة وســائلها الخاصــة فــي الفخــر والهجــاء بــدون الحاجــة إلــى شــاعر ينشــد فــي‬
‫حضـرة الســلطان ليأمــر لــه فــي نهايــة الجلســة «بشــئ»‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫وأصبــح لــدى العشــاق وســائل أخــرى لالتصــال‪ !! ‬وِلبـ ّ‬
‫ـث األش ـواق‪ ،‬غيــر‬
‫«بيــت» الشــعر الــذي ال يمكــن أن يوضــع فيــه «س ـرير»‪!! ‬‬

‫ووجــد الذيــن يملكــون الطاقــات الفنيــة مياديــن أخــرى تمتــص طاقاتهــم وتقلــص‬
‫وقــت الفـراغ‪ ،‬وغطــى ضبــاب المدينــة شــفافية األرواح‪ ..‬اســتقباال إو�رســاال‪.‬‬

‫والحاجــة هــي أم االختـراع‪ ،‬ولكــن تطــور العصــر – حســب هــذا المفهــوم – لــم‬
‫يلــغ حاجــة اإلنســان إلــى الشــعر‪ ..‬ولســبب بســيط‪.‬‬

‫ألن الحيـوان يطــرب للحــن االيقاعــي‪ ،‬ولكــن اإلنســان يتميــز عنــه بأنــه يطــرب‬
‫للتعبيــر االيقاعي‪.‬‬

‫ومــن هنــا نجــد أنــه مــازال للشــعر مــكان فــي حياتنــا اليوميــة (بغــض النظــر عــن‬
‫طبيعــة هــذا المــكان)‪.‬‬

‫قديمــا كان لــه الــدور الــذي يؤهلــه للشــرفات وأمكنــة الصــدارة‪ ،‬أمــا اليــوم فهــو‬
‫يقبــع فــي زاويــة مــن زوايــا «الصالــون»‪ ،‬ألن الحاجــة إليــه تقلصــت بحيــث انحصــرت‬
‫فــي رغبــة الفــرد التمتــع بتعبيــر إيقاعــي يثيــر شــجونه‪.‬‬

‫وهكــذا ماتــت التعريفــات مــن أمثــال‪« ..‬الشــعر هــو الــكالم المــوزون المقفــى‪»..‬‬
‫ومــن أمثــال‪« ..‬الشــعر كلمــة جميلــة مســؤولة»‪.‬‬

‫العملية فســيولوجية محضة‪ ،‬والمقاييس التشـريحية للجمال ال يمكن أن تعتبر‬


‫مقاييــس للتفاعــل أو االنفعــال‪.‬‬

‫هناك امرأة رائعة الجمال ال تستثيرني ألنني أرى فيها رخاما باردا‪.‬‬

‫وهنــاك ام ـرأة تســتطيع «بســرها» أن تســحرني‪ ،‬حتــى دون أن تنطبــق عليهــا‬


‫مواصفــات كريســتيان ديــور مــن طــول قامــة أو محيــط صــدر أو أرداف‪.‬‬

‫ولهــذا كانــت معظــم قصائــد الماضــي حديثــا علــى موجــة ال تلتقطهــا أجه ـزة‬
‫اســتقبالنا‪ ،‬مثلهــا مثــل عش ـرات المئــات مــن القصائــد التــي تنصــب علــى أجه ـزة‬
‫اإلعــام فــي العصــر الحديــث‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫فالتعبيــر اإليقاعــي الجميــل‪ ،‬الــذي يعبــر عــن انفعــال تلقائــي صــادق هــو‬
‫التعريــف الــذي يفرضــه هــذا العصــر مفهومــا للشــعر‪.‬‬

‫وأنــا أعتــرف بأننــي أحببــت الشــعر منــذ عرفــت شــعر نـزار قبانــي‪ ،‬وعندهــا فقــط‬
‫تعــودت أن أرهــف ســمعي ألي قصيــدة بعــد أن كنــت أفــر مــن مجــرد ســماع الحديــث‬
‫عــن الشــعر‪.‬‬

‫كنــت أحــس بــأن مفهومــه للشــعر هــو المفهــوم الــذي يتجــاوب معــي‪ ..‬كقــارئ ال‬
‫تهمــه المقاييــس التشـريحية بقــدر مــا يهمــه التأثيــر العاطفــي واألثــر النفســي للقصيــدة‪.‬‬

‫وانطالقــا مــن هــذا التفكيــر‪ ،‬أحببــت قصيــدة الخرفــي «يــا حبيبــي ذكريــات‬
‫األمــس لــم تبــرح خيالــي‪ »..‬وعشــت مــع قصيــدة المغــرب العربــي للشــاعر حجــازي‪.‬‬

‫وثــارت شــجوني مــع مقتطفــات مــن ديـوان خمــار ورســائل أبــي القاســم ســعد اهلل‬
‫وهمســات السائحي‪.‬‬

‫لكــن مصيبتنــا الســوداء هــي أن كثيريــن يريــدون قــرض الشــعر‪ ،‬وهــم يعتقــدون‬
‫أن النيــة الحســنة والمقــدرة علــى رصــف الكلمــات فــي الشــكل العمــودي تكفيــان لبنــاء‬
‫قصيــدة‪ ،‬وهكــذا ابتلينــا بشــعراء المناســبات‪ ،‬حفظــة البحــور واألوزان الذيــن يضعــون‬
‫أنفســهم فــي خدمــة أي غــرض وأي هــدف‪ ،‬آمنـوا بــه أم لــم يؤمنـوا‪.‬‬

‫والمتتبعــون لرســائل الق ـراء األدبيــة – وهــو مــرض أصبــت بــه ولــم أفلــح فــي‬
‫الشــفاء منــه – ال يلمســون إال الجــزء الضئيــل مــن الســيل الــذي يتهاطــل علــى‬
‫الصحــف فــي كل مناســبة وأحيانــا بغيــر مناســبة‪ ،‬ولهــم أن يحمــدوا اهلل علــى عــدم‬
‫نش ـره أو إذاعتــه‪.‬‬

‫كنــت أريــد أن أتحــدث عــن قصيــدة خمــار‪ ..‬ولكننــي تحدثــت عــن كل شــئ إال‬
‫عــن قصيــدة خمــار‪..‬‬

‫ربمــا ألن القصيــدة أعجبتنــي‪ ..‬دون أن أجــد لذلــك تبري ـ ار يرضــى عمالقــة‬
‫البحــور واألوزان‪.‬‬

‫ومــع ذلــك سأنشــر مــا كتبــت‪ ..‬ألنــه يتفــق ومــا أرده دائمــا مــن أن القــارئ يملــك‬
‫الحــق فــي الحديــث‪ ..‬بشــرط أن يعبــر بصــدق عــن مشــاعره وخلجــات نفســه‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫(((‬
‫اعتذار‬

‫منــذ أســابيع طويلــة وســكرتير التحريــر يســألني‪ ..‬مــاذا أعــددت للعــدد ‪،500‬‬
‫وتكــرر الس ـؤال حتــى كاد حديثــي لهــذا العــدد يصبــح عبئــا أحــاول الف ـرار منــه‪.‬‬

‫فأنــا عاجــز عــن الكتابــة فــي المناســبات‪ ،‬ومجــرد إحساســي بــأن علــي أن‬
‫أطرق موضوعا معينا اســتجابة لظرف أو مناســبة يحول قلمي إلى حصان جموح‬
‫ال أســتطيع الســيطرة عليــه‪.‬‬

‫لقــد تعــود قلمــي أن يفــرض نفســه علــي‪ ،‬وكان هــذا بالنســبة لــي – واحت ارمــا‬
‫إللت ازمــي أمــام القــارئ – مصــدر إزعــاج مســتمر‪ ،‬ألن أحداثــا كثيـرة تقــع بــدون أن‬
‫أقــدر علــى التعــرض لهــا‪ ،‬ولــم يكــن هــذا عــن عــدم اقتنــاع بأهميتهــا‪ ،‬ولكنــه كان‬
‫نتيجــة عقــدة لــم أســتطع التخلــص منهــا وهــي اإلحســاس بــأن كتابتــي آنــذاك ســتكون‬
‫اســتجابة لدافــع غيــر ذاتــي وتجاوبــا مــع اتجــاه يســير فيــه الجميــع‪.‬‬

‫ولقــد قلــت يومــا أن الكتابــة بالنســبة لــي إفـراز طبيعــي ال أســتطيع التحكــم فيــه‪،‬‬
‫وهــي تفكيــر بصــوت مقــروء‪ ...‬مجــرد تفكيــر بصــوت مقــروء‪.‬‬

‫وأنــا أدرك قيمــة هــذا العــدد كعالمــة بــارزة فــي طريــق نضالــي طويــل ولكننــي‬
‫أعتــذر عــن عجــزي تــاركا لمــن هــم أقــدر منــي علــى التحكــم فــي أقالمهــم فرصــة‬
‫الحديــث عــن العــدد ‪ 500‬مــن المجاهــد‪ .‬دون أن ينقــص هــذا مــن إد اركــي بــأن هــذا‬
‫العــدد يكتســي – بالنســبة للمجاهــد – صبغــة خاصــة ألنــه يتــوج م ارحــل طويلــة مــن‬
‫النضــال قطعتهــا المجلــة فــي ظــروف صعبــة‪.‬‬

‫و‪ ..‬من قال‪ ..‬ال أدري‪ ..‬فقد أفتى‪..‬‬


‫المجاهد – ‪ 22‬مارس – ‪.1970‬‬
‫‪215‬‬
‫(((‬
‫كلمات سقطت من الغربال‬
‫كثيــرون – كرمــا منهــم – يحســنون الظــن أكثــر مــن الــازم بطاقتــي علــى‬
‫اإلنتــاج‪ ،‬وهــم يكثــرون مــن لومــي إذا تخلفــت عــن لقائــي األســبوعي معهــم‪.‬‬

‫ولكــن األصدقــاء الذيــن يعيشــون مــا أكتــب يعرفــون مــدى الجهــد الــذي أبذلــه‬
‫لكــي أوفــق بيــن التزاماتــي المتضاربــة وبيــن الوقــت المحــدود الــذي يجــب أن تــؤدي‬
‫فيــه هــذه االلت ازمــات‪ ،‬وهــو الشــئ الــذي يجعلنــي أتحســر علــى أن عــدد ســاعات‬
‫اليــوم ال يتجــاوز أربعــا وعش ـرين ســاعة يضيــع أكثــر مــن ثلثهــا فــي األكل والنــوم‪.‬‬

‫وكثيــرون – مشــكورين – يعطــون لهــذا البــاب قيمــة أصبحــت فــي حــد ذاتهــا‬
‫أحــد العوامــل الرئيســية فــي اختفائــه أحيانــا دون ســابق إنــذار‪ ،‬ألن هــذا التقديــر‬
‫يفــرض علــى أال أقــدم إال مــا أقتنــع بــه وأومــن بصالحيتــه‪.‬‬

‫ولكننــي رجــل « موســوس « وفــي أعمــاق نفســي يكمــن « ديكتاتــور « ال‬


‫يرضــى عــن شــئ‪ ،‬وال يرضيــه شــئ‪ ،‬وال يقنــع بشــئ‪.‬‬

‫أنــا أكتــب الحديــث‪ ،‬ثــم أعيــد قراءتــه فأحــس بأنــه ليــس فــي المســتوى الــذي‬
‫يؤهلــه للنشــر‪ ،‬وأعيــد الكتابــة ثــم أعيــد التــاوة شــاه ار القلــم ألضيــف كلمــة هنــا أو‬
‫أعــدل تعبي ـرا‪ ،‬أو أقــدم خب ـ ار وأؤخــر مبتــدأ‪ ،‬وتتحــول الصفحــات إلــى بقــع مزعجــة‬
‫تضطرنــي إلــى إعــادة كتابــة الموضــوع مــن جديــد‪.‬‬

‫وتنتزعنــي الت ازمــات أخــرى‪ ،‬وتــدور عقــارب الســاعة وتتوالــى األيــام‪ ،‬ويصــل‬
‫اليــوم «ي» الــذي يعتبــر الحــد األقصــى لتقديــم الم ـواد إلــى ســكرتارية التحريــر‪،‬‬

‫المجاهد – ‪ 12‬أفريل – ‪.1970‬‬


‫‪217‬‬
‫وأبــذل جهــدا يــكاد يفــوق طاقتــي ‪ -‬وأنــا أعيــد قـراءة الموضــوع للمـرة األخيـرة – حتــى‬
‫أمنــع قلمــي مــن التدخــل الســتبدال تعبيــر بتعبيــر آخــر‪.‬‬

‫ثم ألقي بالصفحات إلى األخ عبد المجيد وأفر حتى ال أقرأها مرة أخرى‪.‬‬

‫وهكذا أعيش كل أسبوع في صراع مع القلم والورق‪.‬‬


‫ويحــدث أحيانــا أن يحــل اليــوم « ي « وموضــوع الحديــث مــا زال فــي خامتــه‬
‫األوليــة‪ ،‬وأبــذل جهــدا آخــر لكــي ال أســتجيب لنــداء االلت ـزام بالموعــد األســبوعي‬
‫مقدمــا هــذه الخامــات األوليــة‪ ،‬حتــى ال تصــاب المطبعــة بعســر هضــم يســببه لهــا‬
‫مــا تلتهمــه مــن موضوعــات غيــر ناضجــة‪.‬‬

‫وأحــاول الكتابــة مـرة أخــرى‪ ..‬وتجــري عقــارب الســاعة ويخــرج لــي فجــر اليــوم‬
‫التالــي لســانه‪ ،‬وأحــس بــأن أرســي كثمـرة طماطــم عصــرت مائــة مـرة‪.‬‬
‫وألقي بالقلم على المكتب‪ ..‬وألقي بنفسي على السرير‪.‬‬

‫وألقي – عند بزوغ النهار – باالعتذار التليفوني لألخ بن حديد‪.‬‬

‫وقــد كان متوقعــا أن أبــدا هــذا الحديــث عــن نفســي باالعتــذار للقــارئ عــن‬
‫إزعاجــي لــه بمشــاكل الشــخصية‪ ،‬ولكننــي عودتــه علــى أن أقــول لــه مــا أحــس‬
‫بوجــوب قولــه دون تكليــف أو «بروتوكــول»‪.‬‬

‫هــذا مــن جهــة ومــن جهــة أخــرى أحببــت أن يفهــم البعــض أن الكتابــة عــذاب‬
‫ومشــقة‪ ،‬وليســت مجــرد تــرف فكــري نمارســه لشــغل أوقــات الف ـراغ وننصــرف عنــه‬
‫إذا « مــا عجبنــاش الحــال‪»..‬‬

‫الكتابــة ليســت إفـ ار از زائــدا عــن الحاجــة نتخلــص بواســطته مــن بقايــا حركــة‬
‫الهضــم الفكــري فــي نفوســنا‪ ،‬ولكنهــا‪ ..‬كالحليــب إف ـراز بهــدف ومــن أجــل غايــة‬
‫وهــو أجـزاء مــن الخاليــا الحيــة نفســها‪.‬‬

‫وهــذا هــو الفــرق بيــن الذيــن «يقضــون حاجتهــم» علــى الــورق وبيــن الذيــن‬
‫يعتصــرون أنفســهم لكــي يقدم ـوا للقــارئ مــا يحســون بأنــه فــي حاجــة إليــه‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫(((‬
‫اللحظات املريرة‬

‫طوال عشـرة أيام كنت أتردد على الغرفة البيضاء‪ ،‬وأجتر – خالل الســاعات‬
‫التي قضيتها – إحساسا بالضآلة وقلة الحيلة‪.‬‬

‫كنت أقف كل يوم مع مجموعة من كبار أطباء العاصمة أشاركهم اإلحساس‬


‫المريــر بالعجــز وبتفاهــة مــا وصــل إليــه العلــم الحديــث‪ ..‬رغــم كل مــا وصــل إليــه‪،‬‬
‫وكل مــا حققــه مــن انتصــارات‪.‬‬

‫وعلى سرير المرض كان يرقد «الصديق سعدي»‪ ..‬ومع قطرات «السيروم»‬
‫والمحلــول الملحــي التــي تنســاب إلــى عروقــه مــن الجهــاز المعلــق‪ ،‬كانــت قط ـرات‬
‫العــرق تســيل علــى الوجــوه‪ ،‬وقطـرات مــن الدمــوع تتســلل مــن العيــون‪.‬‬

‫كانــت الكليتــان فــي حالــة انهيــار تــام أعجزهمــا عــن تنقيــة الــدم‪ ،‬ولــم تنجــح‬
‫عشـرات الماليين من وحدات البنيســلين وعشـرات الجرامات من « الســولنيكول‪»..‬‬
‫لــم تنجــح فــي خفــض االلتهــاب الموجــود وال حتــى‪ ..‬فــي الســيطرة عليــه‪.‬‬

‫وفــي الليــل‪ ..‬والنــاس نيــام‪ ..‬كنــت أدخــل إلــى الغرفــة البيضــاء‪ ..‬وأقــف أمــام‬
‫الس ـرير‪ ..‬أرقــب الص ـراع المريــر مــع المــوت‪..‬‬

‫وأحس بعجزي‪..‬‬

‫أحس بضآلتي‪..‬‬

‫أحس بأنني مكتوف اليدين‪.‬‬


‫المجاهد – ‪ 19‬أفريل – ‪.1970‬‬
‫‪219‬‬
‫وتجــري عينــاي علــى اللوحــة المعلقــة التــي ترســم تطــورات الحالــة الصحيــة‬
‫وتختلــط ألوانهــا‪ ..‬وتتشــابك خطوطهــا وأســمع األنفــاس تتــردد فــي تشــنج‪..‬‬

‫وأفر من الغرفة‪..‬‬

‫وأعــود فــي صبــاح اليــوم التالــي أللتقــي بمجموعــة أطبــاء القســم‪ ،‬ونتحــدث‬
‫ونناقــش عش ـرات االحتمــاالت وترتســم أمامنــا صــورة قائمــة ال توحــى بأمــل‪..‬‬

‫وتغلي المراجل في نفسي‪..‬‬

‫وأخــرج مــن غرفــة المريــض ألواجــه عشـرات األعيــن المتطلعــة مــن األصدقــاء‬
‫واألقــارب‪ ..‬وأنكــس أرســي فــي خجــل‪ ..‬مــاذا أقــول لهــم ؟‪ ..‬وأنــا أعــرف الحقيقــة‪..‬‬
‫وأحــاول أن أتحــدث‪ ..‬وأحــس بالكلمــات تخــرج مــن فمــي وكأنهــا تصــدر مــن فــم‬
‫إنســان غريــب علــي‪.‬‬

‫وأتمزق داخليا‪..‬‬

‫ويحدث تحسن نسبي‪..‬‬

‫ولكنني أعرف حاالت التحسن التي تسبق النهاية‪ ..‬وال أجرؤ على الحديث‪.‬‬

‫ومــع آخــر أضـواء يــوم الثالثــاء تأتــي غيبوبــة المــوت وقبــل أن ينتصــف الليــل‬
‫تتصاعــد األنفــاس األخيـرة وتطــوى صفحــة‪..‬‬

‫وتفقــد العربيــة رجــا ناضــل مــن أجلهــا‪ ،‬وتحمــل الكثيــر دفاعــا عنهــا‪ ..‬وأســتاذا‬
‫أحبــه طلبتــه واحترمــه أعــداؤه‪.‬‬

‫وأعيش لحظات ال أتمناها لعدو لدود‪..‬‬

‫لحظــات أحــس فيهــا بالتفاهــة والعجــز وقلــة الحيلــة‪ ،‬وألتقــي بالطبيــب األوروبــي‬
‫الــذي أشــرف علــى إج ـراء التحليــات‪ ..‬ويهــز أرســه‪ ..‬وأهــز أرســي‪ ..‬وتهــز أيدينــا‬
‫فــي مصافحــة صامتــة‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫وال يجرؤ أي منا على تبادل الحديث‪.‬‬

‫وأخرج من المستشفى‪..‬‬

‫أحس بالعجز‬

‫أحس بالتفاهة‬

‫وأحس بالضآلة وقلة الحيلة‬

‫وال أملك إال أن أقول‪...‬‬

‫رحــم اهلل « الصديــق ســعدي »‪ ..‬وأســكنه فســيح جنانــه وألهمنــا الصبــر‪..‬‬


‫و«إنمــا الميــت ميــت األحيــاء »‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫(((‬
‫لعبة اخلفافيش‬

‫‪ ...‬صيحتان‪..‬‬

‫تندفــع األولــى البســة ثــوب الموضوعيــة‪ ،‬رافعــة شــعار الثقافــة العصريــة‪،‬‬


‫مفرقعــة «محرقــات» تعجــب الصبيــان فــي األعيــاد‪ ،‬وتتســلل الثانيــة فــي فحيــح‬
‫هــادئ وبخبــث مقنــع متســترة فــي رداء األصالــة الحضاريــة‪.‬‬

‫الصيحــة األولــى هــي صيحــة ازدواجيــة اللغــة‪ ،‬وهــي أســخف مــا ســمعت مــن‬
‫صيحــات وأقلهــا مقــدرة علــى اإلقنــاع الهــادئ الرزيــن (‪ ...‬وأخوكــم ليــس معقــدا فهــو‬
‫يعــرف وهلل الحمــد أكثــر مــن لغتيــن‪»...‬‬

‫وأقــول أســخف مــا ســمعت‪ ..‬ألن كثيـ ار مــن الذيــن يصرخــون بهــذا الشــعار ال‬
‫يفهمون على ما يبدو داللته الحقيقية‪ ،‬وهم يحاولون إقناعنا – أو إقناع أنفســهم‪..‬‬
‫لســت أدري – بــأن المقصــود مــن مفهــوم االزدواجيــة اللغويــة هــو أال نكتفــي باللغــة‬
‫العربيــة وحدهــا‪ ،‬لنغلــق نوافذنــا وأبوابنــا دون اللغــات الحيــة‪ ،‬ممــا يــؤدي إلــى ركــود‬
‫ثقافتنــا‪ ،‬وحرماننــا مــن نســيم الثقافــات العالميــة‪.‬‬

‫والمغالطــة هنــا واضحــة‪ ،‬ألنــه مــا مــن أحــد يجــرؤ – حتــى أكثــر المتحمســين‬
‫للتعريب سذاجة – على المطالبة بمنع تدريس اللغات األجنبية أو عدم االستعانة‬
‫بهــا فــي فتـرة المراهقــة التاريخيــة التــي تجتازهــا اللغــة العربيــة اليــوم‪.‬‬

‫لكــن الــذي يبــدو بوضــوح هــو أن البعــض ينســى دور اللغــة كوعــاء رئيســي‬
‫للشــخصية الوطنيــة‪ ،‬وكأهــم مقومــات هــذه الشــخصية إن لــم أقــل أنهــا العنصــر‬
‫األهــم فــي تكوينهــا‪.‬‬
‫المجاهد – ‪ 15‬ماي – ‪1970‬‬
‫‪223‬‬
‫ومحاولة خلق لغتين للحياة اليومية (وهو المفهوم الحقيقي لمعنى االزدواجية)‬
‫ال يمكــن إال أن تــؤدي إلــى ميوعــة الشــخصية الوطنيــة‪ ،‬وتذبــذب الخــط الفكــري‪،‬‬
‫والوصــول إلــى مرتبــة الغـراب األعــرج‪.‬‬

‫وليــس معنــى هــذا أننــي ضــد تعلــم المواطــن ألكثــر مــن لغــة‪ ،‬ولكــن الشــرط‬
‫الرئيســي هــو أن يفكــر المواطــن بلغتــه الوطنيــة‪ ،‬وهــذا يتطلــب أن تقــدم لــه العناصــر‬
‫الرئيســية واألوليــة للثقافــة بلغتــه الوطنيــة وخاصــة فــي العقــد األول والثانــي مــن‬
‫حياتــه‪.‬‬

‫فأن نتكلم بلغة‪ ..‬هذا شئ‬

‫وأن نفكر بهذه اللغة‪ ..‬فهذا شئ آخر‬

‫الحديــث بلغــة معينــة هــو حاصــل عمليــات حســابية عناصرهــا قواعــد اللغــة‬
‫ومفرداتهــا‪.‬‬

‫أمــا التفكيــر بهــذه اللغــة فهــو حصيلــة التفاعــل الحــي بيــن عناصــر الثقافــة‬
‫الشــخصية‪ ،‬وظــروف البيئــة المحليــة‪ ،‬وحركــة التطــور النفســي واالجتماعــي‪ ،‬ولقــد‬
‫كان االنتصــار الحقيقــي إلس ـرائيل – وكمــا قلــت أكثــر مــن م ـرة – هــو صهــر‬
‫الجنســيات المختلــف فــي بوتقــة اللغــة العبريــة‪.‬‬

‫وأنــا – كعادتــي‪ ..‬هــه‪ – !! ‬ال أضــع النوايــا موضــع الشــك لكننــي أتســاءل‬
‫فقــط‪ »..‬لمــاذا يقتصــر مفهــوم االزدواج اللغــوي علــى العربيــة والفرنســية‪ ،‬وال يشــمل‬
‫العربيــة واالنجليزيــة أو العربيــة واأللمانيــة أو العربيــة والروســية‪ ..‬؟ «‬

‫ولــن أردد مــا يقولــه الهالطقمشــاريون الذيــن يزعمــون بــأن « المناديــن‬


‫باالزدواجيــة يعرفــون هــذا جيــدا ولكــن معظمهــم تعلــم العربيــة بالفرنســية وتعلــم‬
‫الفرنســية بالفرنســية (وظــروف د ارســتهم معروفــة‪ )..‬وهــم يشــكلون بورجوازيــة ثقافيــة‬
‫تحــاول أن تضمــن لنفســها وضعــا خاصــا يحفــظ لهــا الكيــان الخفافيشــي‪ ..‬ويمكنهــا‬
‫مــن الســيطرة علــى مقدراتنــا الثقافيــة ألجيــال وأجيــال‪»..‬‬

‫‪224‬‬
‫إو�ذا كانــت المرحلــة االنتقاليــة التــي نعيشــها تعطــي امتيــا از خاصــا للذيــن‬
‫يعرفــون اللغتيــن العربيــة والفرنســية‪ ..‬أو بتعبيــر أكثــر دقــة‪ ..‬الفرنســية والعربيــة‪ ،‬فــإن‬
‫هــذا ال يجــب أن يكــون قاعــدة فكريــة لهــا صفــة الــدوام‪ ،‬خاصــة إذا كان التفكيــر يتــم‬
‫دائمــا بغيــر اللغــة الوطنيــة التــي يفكــر بهــا المالييــن‪.‬‬

‫إو�ذا كانــت دراســة اللغــات األجنبيــة ثــروة وطنيــة وســياجا ضــد مكــر اآلخريــن‪،‬‬
‫فــإن الدراســة باللغــات األجنبيــة هــي عنصــر ضعــف فــي أي بنــاء وطنــي‪ ،‬ألنهــا‬
‫تمييــع للشــخصية الوطنيــة‪ ،‬وربــط للمثقــف بغيــر بــاده‪ ،‬وتفتيــت الرتباطــه مــع‬
‫األغلبيــة الســاحقة لشــعبه‪ ،‬وكل محاولــة لفــرض االزدواج اللغــوي ســتدفعنا دائمــا‬
‫إلــى الشــك فــي حقيقــة نوايــا أخــوة لنــا‪ ..‬ليــس مــن مصلحتنــا وال مــن مصلحتهــم علــى‬
‫اإلطــاق أن تغــرس بيننــا أش ـواك الشــك‪.‬‬

‫لكــن الخطــورة تكمــن فــي الصيحــة الثانيــة التــي تتســلل إلــى اإلســماع‪..‬‬
‫كاألفعــى‪ ..‬بخبــث وهــدوء‪ ..‬والتــي أتــرك الحديــث عنهــا إلــى م ـرة قادمــة‪.‬‬

‫*‬

‫*‬ ‫*‬

‫‪225‬‬
‫(((‬
‫الطريق والسالح والضوء‬

‫لــم أحــاول أن أتدخــل فــي المناقشــة التــي أشــعلها األخ الهـواري علــى صفحــات‬
‫الشــعب حــول مــا اصطلحنــا علــى تســميته‪ ..‬مشــكلة األدبــاء الناشــئين‪.‬‬

‫وكان الســبب الرئيســي فــي ســكوتي‪ ،‬هــو أننــي قلــت كل مــا أحــس بوجــوب قولــه‬
‫منــذ أكثــر مــن ثــاث ســنوات حينمــا أثيــرت هــذه القضيــة للم ـرة األولــى فــي صــورة‬
‫عنيفــة وضاريــة‪.‬‬

‫وأنــا أعتقــد أن عنص ـ ار رئيســيا مــن عناصــر مشــكلتنا الثقافيــة هــي أننــا نقســم‬
‫األل ـوان إلــى أبيــض وأســود‪ ،‬وال نــرى إال الشــئ ونقيضــه‪ ،‬ويرضــى الكثيــرون عــن‬
‫أنفســهم وهــم يســتعملون كلمــة اليميــن واليســار‪ ،‬وكأنهــم يتحدثــون عــن برليــن الشـرقية‬
‫وبرليــن الغربيــة فــي موضــوع تتداخــل معالمــه‪ ،‬ويأخــذ أكثــر مــن لــون فــي وقــت واحــد‪.‬‬

‫ثــم هنــاك عنصــر آخــر ال نعطيــه االعتبــار الالئــق بــه‪ ،‬وهــو الفــرق بيــن األدب‬
‫وبيــن الثقافــة فنحــن نخلــط بينهمــا متناســين أن األدب تخصــص‪ ..‬وأنــه علــم يــدرس‬
‫كالهندســة والكيميــاء والطــب‪.‬‬

‫وحقيقــي أن تفاعــل الق ـراء مــع مــا ينشــر لــم يصــل بعــد إلــى الدرجــة التــي أحلــم‬
‫بهــا‪ ،‬والــذي جعلنــي أقــول فــي مــاي ‪ « ،1967‬أن المشــكلة مشــكلة ق ـراء تنقصهــم‬
‫الحيويــة الالزمــة للتفاعــل مــع مــا يكتــب‪ ،‬مشــكلة الالمبــاالة وهــز األكتــاف‪ ،‬مشــكلة‬
‫الســلبية المطلقــة التــي تصــب الثلــج علــى الكاتــب المنفعــل فتقتــل حماســه وتشــل يــده‬
‫عــن الكتابــة »‪.‬‬

‫المجاهد – يونيو – ‪.1970‬‬


‫‪227‬‬
‫ولكــن الوجــه اآلخــر للعملــة ال يجــب أن يغيــب عــن بالنــا‪ ...‬فحقيقــي أن إنتاجــا‬
‫قيمــا بــدأ يشــق طريقــه إلــى صفحــات مجالتنــا‪ ،‬ولكــن الكثيــر ممــا ينشــر ال يزيــد عــن‬
‫كونــه محــاوالت لــم تنضــج بعــد‪ ،‬ونشــرها ال يعنــي صالحيتهــا المطلقــة بقــدر مــا هــو‬
‫تشــجيع للكاتــب علــى اإلنتــاج‪ ،‬وطــول النفــس والمثابـرة هــي التــي تضمــن لــه المقــدرة‬
‫علــى التأثيــر إو�ثــارة االنفعــال ثــم التفاعــل‪.‬‬

‫ولكــن القــارئ ليــس قطــا يتحفــز فــي انتظــار إنتــاج أدبــي‪ ،‬وهــو ليــس قارئــا‬
‫متفرغــا ال يقــوم بغيــر القـراءة‪ ،‬ثــم إن شــهيته ليــس ممتــازة إلــى الدرجــة التــي تجعلــه‬
‫يقبــل كل مــا يقــدم لــه‪.‬‬

‫ومعنــى هــذا أن نوعيــة مــا يقــدم للقــارئ يجــب أن تضــع احتياجاتــه فــي الموضع‬
‫ريــر ‪1968‬‬ ‫األول‪ ،‬وتحــاول تلبيتهــا والتجــاوب معهــا‪ ،‬وأذكــر أننــي قلــت فــي فب ا‬
‫«أعتقــد أن القــارئ» عندنــا ليــس فــي حاجــة إلــى قصيــدة شــعرية‪« ...‬عنتريــة» أو‬
‫« ن ازريــة» بقــدر مــا هــو فــي حاجــة إلــى بحــث مبســط‪..‬‬

‫وليــس معنــى هــذا أننــي ضــد الشــعر‪ ،‬ولكننــي أرى فيــه كماليــة الســيجارة عنــد‬
‫مقارنتهــا بضروريــة قطعــة اللحــم»‪.‬‬

‫ســيقول أحدهــم اآلن‪« ..‬كيفــاش ؟‪ ...‬أنــت تنكــر فضــل الشــعر فــي تصفيــة‬
‫الــروح‪ ،‬إو�عــداد النفــس للتفاعــل مــع متطلبــات الحيــاة ؟‪»..‬‬

‫والــرد ســهل‪ ..‬ولقــد تحدثــت فــي بدايــة هــذا العــام عــن مفهومــي – كقــارئ –‬
‫للشــعر‪ ،‬ولكننــي‪( ..‬وبينــي‪ ..‬وبينكــم)‪ ..‬عندمــا أحــس بالرغبــة فــي ق ـراءة الشــعر‪،‬‬
‫فلــن أحــاول إطالقــا ازعــاج مخــي الكريــم بقـراءة كلمــات رصــت فــي شــكل عمــودي‬
‫بتوقيــع ســي « مشــنف الرنــاك »‪ ..‬بــل ســأجري إلــى دي ـوان شــعر محتــرم أضمــن‬
‫بق ـراءة بعــض قصائــده لحظــات مــن المتعــة والفائــدة‪.‬‬

‫والحقيقــة هــي أن « القــارئ العربــي ال يجــد الغــذاء الفكــري الــازم لبنــاء‬


‫شــخصيته الثقافيــة‪ ،‬وبمالحظــة المــدى المحــدود لثقافــة أبنــاء العربيــة إو�مكانياتهــم‬
‫الماديــة وظروفهــم المعيشــية نجــد أن لوســائل اإلعــام دو ار هامــا يجــب أن تلعبــه»‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫«هــذا الــدور ال يمكــن تأديتــه بالقصائــد الشــعرية واألدب التجريــدي إو�نمــا‬
‫بالبحــوث الجــادة المبســطة‪ ،‬بالد ارســات المركـزة‪ ..‬بالتحليــات الرصينــة لمشــاكلنا‪..‬‬
‫وباختصــار‪ ..‬بــأن نكتــب مــا يجــب‪ ..‬ال‪ ..‬مــا نريــد»‪.‬‬

‫وهنــا نجــد أن تعبيــر األديــب الناشــئ تعبيــر د ارمــي مفتعــل‪ ،‬يقبــل فــي «بيــروت»‬
‫أو «القاهرة» أو «دمشــق» ولكنه ال يقبل في الجزائر‪ ،‬فليس عندنا «طه حســين»‬
‫أو «نزار قباني»‪..‬‬

‫وهذا هو ما دفعني لكي أقول في ابريل ‪« 1968‬إن قضية األدباء الناشئين‪..‬‬


‫قضية مفتعلة‪..‬‬

‫ •ألن كتابنــا (والمعاصــرون منهــم بوجــه عــام) كتــاب ناشــئون وهــم ال يزعمــون‬
‫ألنفســهم وضــع العمالقــة‪.‬‬

‫ •وألن وجــود اليميــن وهمــي‪ ..‬إذا لــم يكــن هنــاك يســار إو�ذا لــم يكــن هنــاك كبــار‪..‬‬
‫فليــس هنــاك صغار‪.‬‬

‫ •وألن األدب كمــا ي ـراه البعــض ال يزيــد عــن أن يكــون ترفــا فكريــا ال يمكــن أن‬
‫تتحملــه فــي هــذه الفتـرة‪ ،‬ألن هنــاك مــا هــو أهــم‪ ،...‬و‪ ...‬يــا فرحتــاه إذا كان كل مــن‬
‫يعــرف الفــرق بيــن األلــف وأصبــع المــوز ســيقدم لنــا فــي كل يــوم قصيــدة عصمــاء‪!! ‬‬
‫أو مســرحية أو قصــة يفــرض علينــا تذوقهــا إو�ال كنــا ضــد األدب واألدبــاء »‪.‬‬

‫مشــكلتنا الحقيقيــة هــي مشــكلة ثقافيــة وليســت مشــكلة أدبيــة‪ ،‬وكثيــرون‬


‫ينســون هــذه الحقيقــة فيغرقــون الصحــف بإنتــاج أدبــي غــث (وهــو دائمــا‪ ..‬قصيــدة‬
‫أو قصــة) ثــم يلعنــون جــدود كبــار الكتــاب‪ !! ‬الذيــن يحتكــرون الصفحــات‪ ..‬هــذا إذا‬
‫لــم ينشــر إنتاجهــم األدبــي‪ ،‬أو يلعنونهــم أيضــا إذا نشــر هــذا اإلنتــاج‪ ..‬ألن أحــدا لــم‬
‫يحــاول التعليــق عليــه‪..‬‬

‫التعليق على ماذا ؟‪ ..‬ولماذا ؟‬

‫الصحافة ليست مدرسة لمحو األمية‪ ،‬والنقد األدبي المحض له مجاالته‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫وه ـؤالء الذيــن اصطلــح علــى تســميتهم أدبــاء كبــار‪ ..‬مســاكين‪ِ »..‬‬
‫يش ـفّوا »‪..‬‬
‫يــدور الواحــد منهــم طـوال النهــار – ومعــذرة علــى هــذا التعبيــر – كثــور الســاقية‪،‬‬
‫تمتــص طاقتهــم وتحــرق أعصابهــم متاعــب العمــل اليومــي‪ ،‬ومطالــب الحيــاة‪،‬‬
‫والت ازمــات المرحلــة التــي نمــر بهــا‪ ..‬ويعيــش الواحــد منهــم وهــو يحلــم بأســبوع واحــد‬
‫فــي الســنة يقضيــه فــي مــكان منعــزل‪ ..‬ال يفعــل شــيئا وال يقــوم بــأي مجهــود‪ ..‬حتــى‬
‫مجهــود قضــاء الحاجــة‪!! ‬‬

‫باختصار‪...‬‬

‫اإلنتــاج الجيــد يفــرض نفســه وهــو باإلص ـرار والمثاب ـرة يســتطيع أن يضمــن‬
‫لنفســه حــدا أدنــى مــن تفاعــل الق ـراء (بمــن فيهــم الق ـراء األدبــاء أو الكتــاب)‪.‬‬

‫واألمثلــة كثيـرة‪ ..‬واالهتمــام الــذي يوليــه القـراء لكتابــات عبــد العزيــز ال ارغــب‪،‬‬
‫وابــن الضيــف‪ ،‬وشـريف جــودة‪ ،‬وغيرهــم دليــل علــى أن اإلنتــاج الجيــد يفــرض نفســه‬
‫بنفســه‪ ،‬رغــم ضيــق المســاحات المتيسـرة فــي صحفنــا‪ ،‬ودليــل علــى أن طــول نفــس‬
‫الكاتــب ومثابرتــه هــي الضمــان الوحيــد الهتمــام الق ـراء بإنتاجــه‪ ،‬ودليــل علــى أن‬
‫الذيــن لــم يســتطيعوا مواصلــة الســير فــي الطريــق الشــاق ليس ـوا جديريــن باهتمــام‬
‫القــارئ‪ ،‬وبالتالــي فهــم ليس ـوا جديريــن بالتفاعــل‪.‬‬

‫ورغــم أننــي ال أملــك إال االعتـراف بــأن الصحــف الموجــودة حاليــا ال تســتطيع‬
‫تلبيــة رغبــة الم ارســلين جميعــا‪ ،‬ألســباب كثيـرة لعــل منهــا ضيــق المســاحة‪ ،‬إال أننــي‬
‫ال أملــك أيضــا إال أن أعتــرف بــأن القادريــن علــى الكتابــة الجــادة‪ ...‬ال يكتبــون‪،‬‬
‫وبــأن الكثيريــن ممــن يكتبــون‪ ..‬عاجــزون عــن الكتابــة الجــادة الناضجــة‪.‬‬

‫إو�ذا كنــت أطالــب « المجاهــد» بإصــدار ملحــق أســبوعي يخصــص إلنتــاج‬


‫الم ارســلين (وأفضــل أن اســتعمل هــذا التعبيــر بــدال مــن تعبيــر األدبــاء الناشــئين)‬
‫فإننــي أهمــس فــي أذن الم ارســلين ألقــول‪ »..‬إن طريقكــم هــو الق ـراءة‪ ..‬وســاحكم‬
‫هــو الصبــر والمثاب ـرة‪ ..‬وضوءكــم الــذي يكفــل إضــاءة الطريــق‪ ..‬هــو اإليمــان‬
‫بقدســية الكلمــة وااللت ـزام بمســؤوليتها »‪.‬‬

‫ولعلــي لــم أغضــب أصدقــاء‪ ..‬يعــز علــى نفســي أن أغضبهــم ولكــن‪ ..‬عــذرى‬
‫أننــي أفتــح قلبــي وأقــول مــا أعتقــد بأنــه الحــق‪..‬‬
‫‪230‬‬
‫هذه الظاهرة‬

‫قلــت فــي حديــث ســابق أن علينــا انتهــاز الفرصــة التــي توفرهــا لنــا مناســبات‬
‫األعيــاد الوطنيــة للقيــام بعمليــة تقييــم جــدى لحياتنــا ومنجزاتنــا‪ ،‬علــى أســاس أن‬
‫التطــور الحقيقــي البــد لــه مــن االعتمــاد علــى ممارســة موضوعيــة لعمليــة النقــد‬
‫الذاتــي‪.‬‬

‫والنقــد هــو عمليــة تختلــف تمامــا عــن عمليــة االنتقــاد‪ ،‬فاألولــى تحــاول تحديــد‬
‫العوامــل االيجابيــة والســلبية‪ ،‬بينمــا تكتفــي الثانيــة بإب ـراز نقــاط الضعــف وجوانــب‬
‫النقــص وعناصــر التقصيــر‪.‬‬

‫لهــذا قلــت أن أهــم مــا يجــب مراعاتــه‪ ،‬هــو إال نندفــع فــي تجريــح أنفســنا‬
‫وتضخيــم عيوبنــا بصــورة تقســو إلــى حــد «الماسوشــية»‪ ،‬وفــي نفــس الوقــت يجــب‬
‫أن نتفــادى الوقــوع فــي شــرك «النرجســية» إعجابــا بالنفــس ورضــاء عنهــا‪ ،‬وهروبــا‬
‫مــن واقــع الحيــاة إلــى أحــام اليقظــة‪.‬‬

‫وأعتقــد أن الظاهـرة التــي تفــرض نفســها علــى مائــدة البحــث مــع انتهــاء شــهر‬
‫ج ـوان هــي ظاه ـرة المهرجانــات‪ ،‬وأســميها ظاه ـرة ألنهــا كادت تكــون أهــم المعالــم‬
‫التــي تميــز بهــا النشــاط اإلعالمــي فــي بالدنــا (وال أقــول‪ ...‬التــي كاد يقتصــر عليهــا‬
‫النشــاط اإلعالمــي)‪.‬‬

‫ولقــد اعتدنــا تكويــن اللجــان التــي تكلــف بد ارســة مشــروع مــا‪ ،‬ولكننــا – وفــي‬
‫حــدود معلوماتــي – لــم نفكــر فــي تكويــن لجنــة تحــاول تقييــم المشــروع بعــد انجــازه‪،‬‬

‫‪231‬‬
‫لتحديــد عناصــر الضعــف فــي التخطيــط أو التنفيــذ‪ ،‬وبصــورة تمكننــا مــن تفاديهــا‬
‫عنــد تنفيــذ مشــاريع مــن نفــس النــوع‪.‬‬

‫ورغم أن الصحافة هي المجال الحيوي الذي يجب أن يكفل تسليط األضواء‬


‫علــى المنجـزات وممارســة عمليــة التقييــم والنقــد الذاتــي‪ ،‬إال أنهــا تتجنــب غالبــا القيــام‬
‫بهــذا الــدور بصــورة متكاملــة وفعالــة‪ ،‬حتــى ال تتهــم بأنهــا تســيء بنقدهــا إلــى جــال‬
‫المنجـزات الوطنيــة‪ ،‬وهــو التفكيــر الــذي ال يتكامــل أبــدا مــع المنطــق الثــوري‪.‬‬

‫فلنحــاول إلقــاء نظ ـرة علــى ظاه ـرة المهرجانــات مــن خــال المهرجــان الثقافــي‬
‫الوطنــي الثانــي‪ ،‬الــذي أقيــم بوهـران‪ ،‬إو�ن كنــت أتحفــظ قبــل االســتمرار فــي الحديــث‬
‫ألقــول « إننــي عشــت هــذا المهرجــان مــن خــال الشاشــة الصغيـرة كمــا عاشــه كل‬
‫مواطــن خــارج وهـران «‪ ،‬وألعتــرف بأننــي « لــم أتمكــن لضيــق الوقــت مــن متابعــة‬
‫كل مــا أذيــع مــن فق ارتــه »‪.‬‬

‫وأقــول هــذا – ال لكــي أعتــذر عــن تقصيــر أو تســرع ولكــن – لكــي أحتفــظ‬
‫بحقــي فــي العــودة للحديــث عــن نفــس الموضــوع‪ ،‬الــذي ســيتحتم علينــا فــي وقــت‬
‫الحــق محاولــة وضــع منج ازتــه فــي كفــة‪ ،‬والميزانيــة (الماديــة والبش ـرية) التــي‬
‫رصــدت لتحقيقــه فــي كفــة أخــرى‪ ،‬لكــي نحــدد مــدى الكســب أو الخســارة مــن إقامــة‬
‫هــذا المهرجــان وأمثالــه‪.‬‬

‫لهــذا ســيكون حديــث اليــوم مجــرد انطباعــات أوليــة لعلهــا تكــون عالمــات علــى‬
‫طريــق العــودة ولعلهــا أيضــا تكــون فاتحــة حـوار خــاق‪.‬‬

‫والمظهــر الســلبي الرئيســي فــي ظاه ـرة المهرجانــات الثقافيــة هــو تلــك الفك ـرة‬
‫التــي كادت ترســخ فــي أذهــان الكثيريــن‪ ،‬والتــي جعلــت مــن العــروض الفولكلوريــة‬
‫والرقصــات الشــعبية‪ ..‬المفهــوم الوحيــد لإلعــام والثقافــة‪.‬‬

‫إو�ذا أدركنــا أن جيــا جديــدا مــن الشــباب الــذي لــم يقــدر لــه أن يعيــش التجربــة‬
‫الثوريــة المســلحة سيتســلم بعــد ســنوات قصــار مقــدرات األمــور وشـرايين الحيــاة فــي‬
‫هــذه البــاد‪ ،‬إو�ذا اســتطعنا اإلحســاس بالتنافــر الروحــي بيــن جيــل صانعــي ثــورة‬
‫نوفمبــر‪ ،‬وجيــل المســتفيدين مــن ثــورة نوفمبــر‪ ،‬وانعــدام لغــة الح ـوار المشــترك‬
‫بينهمــا‪ ..‬إذا قمنــا بهــذا وجدنــا أنفســنا أمــام أحــد معالــم الــدور الخطيــر الــذي يتحتــم‬
‫‪232‬‬
‫علــى أجه ـزة اإلعــام القيــام بــه‪ ..‬ألنهــا وحدهــا القــادرة علــى خلــق الح ـوار بيــن‬
‫الجيليــن‪ ،‬إو�عــداد الجيــل الصاعــد لحمــل األمانــة والســير فــي طريــق البنــاء العربــي‬
‫اإلســامي االشــتراكي‪.‬‬

‫ولكن‪...‬‬

‫هذا حديث يطول‪..‬‬

‫فلنعد إلى المهرجان (وأذكركم بتحفظاتي‪)...‬‬

‫وال يجــروء أحــد علــى إنــكار الجهــود الجبــارة التــي بذلــت فــي هــذا المهرجــان‪،‬‬
‫ولقــد كان هنــاك مــن كان أمينــا علــى الهــدف‪ ،‬فبــذل مــن نفســه ووقتــه وأعصابــه‬
‫الكثيــر دون أن ينتظــر جـزاء أو شــكورا‪( ،‬خاصــة وهــو يالحــظ بــأن هنــاك مــن بــذل‬
‫أقــل مــن القليــل ونــال أكثــر مــن الكثيــر)‪.‬‬

‫ولقــد كان مــن المظاهــر اإليجابيــة فــي هــذا المهرجــان أنــه كشــف جــل األســتار‬
‫التــي تغطــي الوســط الفنــي فــي بالدنــا‪ ،‬والتــي آمــل أن تصــل الج ـرأة بالمســؤولين‬
‫المباشرين عنه إلى المستوى الذي يمكنهم من عرض كل الحقائق أمام الجماهير‬
‫بصفــة عامــة‪ ،‬وأمــام مســؤولي اإلعــام والثقافــة بوجــه خــاص‪ ،‬وقــد ظهــرت األخــاق‬
‫علــى حقيقتهــا فــي الكواليــس وبــدون مســاحيق‪ ،‬وســقط كبــار حاولـوا «الشــانتاج»‪،‬‬
‫وتصــرف كبــار آخــرون بــذكاء‪ ،‬وبــرزت مــن حنايــا الظــام أضـواء خافتــة قــد يقــدر‬
‫لهــا – لــو وجــدت الرعايــة الكافيــة – أن تضــئ حياتنــا الفنيــة بنــور جديــد (وحكايــات‬
‫كثيـرة يحكيهــا العائــدون مــن وهـران‪.)..‬‬

‫مظهــر إيجابــي آخــر‪ ..‬هــو بــروز المجموعــات الصوتيــة التي حازت اإلعجاب‪،‬‬
‫كذلــك بــروز الفرقــة الســيمفونية إلــى حيــز الوجــود الموســيقى الفعلــي‪ ،‬والتــي كانــت‬
‫إنجــا از جديـ ار بالتقديــر رغــم مــا قــد يقــال عــن المصاريــف الباهظــة التــي صرفــت عليهــا‬
‫منــذ إنشــائها‪ ،‬أو عــن العــدد غيــر القليــل مــن األجانــب بيــن أعضائهــا‪.‬‬

‫إو�ذا كان البــد مــن التنويــه بالجهــد الــذي بذلــه بوجمعيــة مــرزاق (بوجمعيــة‪..‬‬
‫وليــس بوجميــا‪ )...‬سـواء فــي إدارة الفرقــة‪ ،‬أو فــي تدريــب أعضائهــا علــى األلحــان‬

‫‪233‬‬
‫الجديــدة‪ ،‬أو فــي تغطيــة عــورات بعــض كبــار فنانينــا (جماعــة‪ ..‬ال كالس‪ )...‬إال‬
‫أن أيــد كثيـرة تــود أن تعــرك أذنــه ألنــه لــم يبــذل نفــس الجهــد مــع الجميــع (ويبــدو أن‬
‫هــذا هــو ســبب اختفــاء نــورا‪! ‬؟)‪.‬‬

‫وقــد أعجبتنــي طريقــة اســتخدام مــرزاق للحــن «مــن جبالنــا» فــي الســيمفونية‬
‫التــي قدمهــا والتــي اســتوحاها مــن طريقــة «تشايكوفســكي» فــي لحــن ‪( 1882‬والــذي‬
‫اســتخدم فيهــا المارســييز والنشــيد الوطنــي الروســي)‪.‬‬

‫وحقيقــي أن آذانــا تعــودت علــى تلــك الموســيقى المبتذلــة التــي ظلــت طويــا‬
‫المخــدر الكريــه لشــعبنا‪ ..‬هــذه األذان ال يمكــن أن تقبــل بحمــاس علــى الصــور‬
‫الســيمفونية التــي تحتــاج – ليمكــن تقبلهــا – إلــى تكويــن ثقافــي معيــن‪( ،‬وهــذا هــو‬
‫ســر ســوء اســتقبال الجمهــور يــوم اإلثنيــن للفرقــة الكوراليــة الجزائريــة التــي قدمــت‬
‫موشــحات أندلســية كانــت قــد قدمتهــا فــي العاصمــة فرقــة الجمهوريــة العربيــة المتحــدة‬
‫وصفقــت لهــا الجماهيــر طويــا)‪.‬‬

‫لكــن الجمهــور الج ازئــري بصفــة عامــة وصــل اآلن إلــى الحقيقــة الم ـرة التــي‬
‫تقــول بــأن الفــن الغنائــي فــي بالدنــا‪« ..‬ربنــا كريــم»‪ ،‬وهــو مــا أثبتتــه تلــك المجموعــة‬
‫مــن الم ـواء والخ ـوار والمأمــأة والنهيــق‪ ،‬والتــي أكــدت أن جــل العناصــر التــي تقــدم‬
‫مــا اصطلحنــا علــى تســميته‪ ..‬أغــان عصريــة (وهــي االبــن غيــر الشــرعي للعالقــة‬
‫الجنســية الشــاذة بيــن األهازيــج الشــعبية وبيــن الموســيقى األندلســية الدخيلــة التــي‬
‫فرضهــا علــى أذواقنــا يــا فيــل اليهــودي) هــذه العناصــر بتكوينهــا الفنــي المشــوه‪،‬‬
‫وانتمائهــا االجتماعــي‪ ..‬المشــوه‪ ،‬وثقافتهــا المحــدودة‪ ،‬عاج ـزة عــن تقديــم فــن جديــد‬
‫يتجــاوب والمرحلــة الخطي ـرة التــي نجتازهــا‪ ،‬وهكــذا كانــت محاولــة تقديمهــا فــي‬
‫«التابلــو» الوطنــي كمحاولــة إعــداد الش ـربات مــن الســردين المملــح‪ ،‬وهكــذا ســقط‬
‫نجــوم المعــون‪ ..‬واصفــرت مــن الخــوف وجــوه‪ .‬واحمــرت مــن الخجــل وجــوه أخــرى‪.‬‬

‫لكــن البــد مــن االعتـراف أيضــا بــأن المغنييــن أو بعضهــم علــى األقــل لــم توفــر‬
‫لــه فــرص النجــاح (الحظـوا أننــي ال أســتعمل تعبيــر المطربيــن‪ ..‬فليــس مطربــا كل‬
‫مــن رفــع عقيرتــه بالغنــاء)‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫ففــي اليــوم األول‪ ..‬أي فــي «اإلســتاد» كان الجمهــور فــي حالــة غليــان ألن‬
‫توزيــع الصــوت كان ســيئا (بشــهادة الذيــن حضــروا المهرجــان فــي يومــه األول‪..‬‬
‫ورغــم أن القادريــن علــى إعــداد تغطيــة صوتيــة كافيــة موجــودون فــي بالدنــا إال أننــا‬
‫اســتدعينا خبي ـ ار أجنبيــا‪ ..‬فشــل فشــا ذريعــا فــي مهمتــه‪ ..‬والســر يعلمــه اهلل)‪.‬‬

‫كذلــك ثبــت أن بعــض المغنييــن لــم تتــح لهــم فرصــة التمريــن علــى أغانيهــم‬
‫مــع الفرقــة الســيمفونية‪ ،‬وأكثــر مــن هــذا لــم تســتطع بعــض األلحــان أن تتجــاوب مــع‬
‫القــدرات الصوتيــة لبعــض المغنييــن‪.‬‬

‫ذلــك أن لــكل مغــن طبقــة موســيقية تحددهــا مقــدرة حبالــه الصوتيــة‪ ،‬وخروجــه‬
‫من هذه الطبقة يحول غنائه إلى صرير ســيارة مســرعة في طريق شــديد االنحناء‪،‬‬
‫أو إلــى صريــر مفاصــل حديديــة لبــاب قديــم‪.‬‬

‫فــي مقابــل هــذا بــرز صــوت صليحــة ليفــرض نفســه كصــوت نســائي قــوي‬
‫يصلــح ألداء األناشــيد الوطنيــة والتــي تحتــاج إلــى مقــدرة خاصــة ال تتوفــر للكثيـرات‬
‫(والمشــرق العربــي بــكل قد ارتــه الفنيــة ال يتوفــر إال علــى عــدد محــدود مــن األصـوات‬
‫الصالحــة لألغانــي الوطنيــة)‪.‬‬

‫ويقودنــي هــذا إلــى الحديــث عــن أغنيــة المغــرب العربــي‪ ،‬والتــي كشــفت لنــا –‬
‫مــع بعــض األغانــي األخــرى – عــن جيــل جديــد مــن المغنييــن والمنشــدين الذيــن‬
‫كانـوا فــي الظــل ونجــح المهرجــان فــي تســليط األضـواء عليهــم وأذكــر منهــم ارشــدي‬
‫وصابــر وآخــرون ال تحضرنــي أســماؤهم‪.‬‬

‫أما بالنسبة للفرق الموسيقية األخرى‪ ،‬فإن فرقة وهران تفوقت على فرقة العاصمة‬
‫ألنهــا عبــرت عــن أصالــة وعذوبــة لــم أســتطع اإلحســاس بهــا مــع فرقــة العاصمــة‪ ،‬التــي‬
‫كان أهــم مــا لفــت نظــري فيهــا اســتعراضات مؤخـرة تيســير عقلــة‪ ..‬الحائــر بيــن عــزف‬
‫الكمــان وقيــادة الفرقــة (رغــم أن انضباطــه الفنــي كان محــل التقديــر)‪.‬‬

‫أمــا األغانــي الجديــدة فأعتــرف بأننــي لــم أجــد فيمــا ســمعته منهــا أي جديــد‪،‬‬
‫وخاصــة األغانــي الوطنيــة التــي اعتمــدت علــى اســتعمال غوغائــي للشــعارات‬

‫‪235‬‬
‫(ولقــد ذكرنــي مطلــع أغنيــة عهــد الصواريــخ بمطلــع أنشــودة صــوت الجماهيــر لعبــد‬
‫الوهــاب) إلــى جانــب أغــان لــم يكــن فيهــا مــن الجزائريــة إال اســتعمال القــاف بــدال‬
‫مــن الهم ـزة‪!! ‬‬

‫ولكــن األغانــي الفكاهيــة كانــت طريفــة‪ ،‬خاصــة أغنيــة «المينــى جيــب»‬


‫و«الغربــة غــرت بيــا» ولقــد تجــاوب الجمهــور مــع هــذه األغانــي بصــورة البــد وأن‬
‫تدفعنــا إلــى االهتمــام بهــذا النــوع مــن األغانــي‪.‬‬

‫وكانــت الســاطة الجزائريــة التــي قدمــت فــي شــكل «أوبريــت» فــي اليــوم ال اربــع‬
‫ممتعــة لدرجــة أننــي – وأنــا الملــول بطبعــي – لــم أحــس بالملــل‪.‬‬

‫بقــي الباليــه (وأرجــو أال يخطــئ عامــل المطبعــة فيحــذف األلــف الوســطى)‬
‫والــذي لــم يقــدم تالميــذ بــرج الكيفــان لنــا فيــه مظهـ ار يتناســب ومفهــوم كلمة‪»..‬باليــه»‪.‬‬

‫لقــد كان العــرض هــو نفــس مــا شــاهدناه فــي المـرات الماضيــة‪ ،‬ولــم يكــن هنــاك‬
‫تطــور فعلــي فــي األداء أو التنســيق إلــى جانــب أن كثيـ ار مــن الحــركات اإليقاعيــة‬
‫لــم يكــن فيهــا مــن هــذا البلــد إال المالبــس واســتعمال البنديــر والزرنــة‪ ،‬وهكــذا لــم يقــم‬
‫أعضــاء الفرقــة بغيــر تقليــد الفــرق الشــعبية دون خلــق أو ابتــكار جــدي‪.‬‬

‫وأنــا أعتقــد أن الخلفيــة الموســيقية كان يجــب أن تعتمــد علــى مجموعــات‬


‫موســيقية ســيمفونية تقــدم ألحانــا تتكامــل واإليقــاع ال ارقــص‪ ،‬ويمكــن أن تبــرز فيهــا‬
‫آلــة األوبـوا‪ ،‬ويتنــاوب القيــام بعمليــة اإليقــاع‪ ..‬الكونتربــاص والتوقيــع االناملــي علــى‬
‫الوتريــات الحــادة «بتســى كاتــو‪ »..‬ألن هــذا هــو الطريــق الســليم لتطويــر الرقصــات‬
‫الشــعبية وجعلهــا مظه ـ ار فولكلوريــا عالميــا مستســاغا‪.‬‬

‫هنــا نجــد أنفســنا أمــام المظهــر الســلبي الرئيســي للمهرجــان‪ ،‬وهــو أنــه لــم يحــدث‬
‫أي تطــور فنــي حقيقــي للعــروض الفولكوريــة‪ ،‬ممــا يثبــت أننــا لــم نســتطع االســتفادة‬
‫من كل المهرجانات التي أقمناها‪ ..‬اللهم إال تحويل الهواة إلى محترفين‪ ،‬وضمان‬
‫العيــش والشــهرة للمحترفيــن‪ ،‬إو�رضــاء ضميــر القائميــن علــى اإلعــام والثقافــة‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫ولــن أردد بالطبــع مــا قالــه بعــض الهالطقمشــاريين مــن أن التطــور الحقيقــي‬
‫الجديــر باإلعجــاب هــو قصــر المــدة الزمنيــة التــي يســتغرقها العــرض الفولكــوري‬
‫(وهــم أيضــا الذيــن نــادوا بقطــع العالقــات الدبلوماســية مــع المكســيك‪!! ‬ألن مباريــات‬
‫الكـرة كانــت منافســا غيــر نزيــه لعــروض المهرجــان‪.)!! ‬‬

‫والمظهــر المؤســف الــذي الحظــه الجميــع‪ ..‬هــو‪ ..‬ســقوط الجمهــور فــي بعــض‬
‫القاعــات‪ ،‬ولقــد وصــل التهريــج والصفيــر إلــى حــد دفــع قائــد إحــدى الفــرق الموســيقية‬
‫إلــى التوقــف عــن قيــادة الفرقــة ليتوجــه إلــى الجمهــور برجــاء الهــدوء‪.‬‬

‫ولقــد كانــت شــجاعته ورباطــة جأشــه مثــار إعجــاب كل متفــرج نزيــه‪ ،‬واعتــرف‬
‫بأننــي – لــو كنــت فــي مكانــه – ال لقيــت بعصــا القيــادة فــي وجــه المشــاهدين‬
‫وغــادرت خشــبة المســرح‪.‬‬

‫وهــذا بالــذات يقودنــي إلــى ترديــد مــا ســبق أن قتلــه بــأن التطــور النفســي‬
‫واالجتماعــي يجــب أن تعطــى لــه نفــس األهميــة التــي تعطــى للتطــور االقتصــادي‬
‫والتكنيكــي‪.‬‬

‫وأنــا أعتقــد أن المواطــن الــذي يصطحــب أسـرته إلــى حفــل عــام يجــب أن توفــر‬
‫لــه الحمايــة الكافيــة والجــو النظيــف للمتعــة والتســلية وأن األداء الفنــي يجــب أن‬
‫يكــون لــه احت ارمــه وتقديـره‪.‬‬

‫ولــن أطالــب بمثــل مــا يحــدث فــي لنــدن مثــا حيــث يقبــض رجــال الشــرطة علــى‬
‫مجموعــة مــن الشــباب قــد يبــدو لهــا أن تشــاكس عاشــقين يتهامســان أو يتناجيــان‬
‫أو‪ ..‬الــخ ولكــن إخـراج المشــاغبين مــن قاعــات العــرض‪ ،‬إو�لغــاء العــرض نفســه إذا‬
‫كان مســتوى معظم المشــاهدين قد وصل إلى درجة اإلســفاف واالبتذال هو إحدى‬
‫الوســائل التــي يجــب أن تســتخدم مــن أجــل خلــق تقاليــد فنيــة تجعــل مــن دار األوبـ ار‬
‫مح اربــا فنيــا لــه قدســيته واحت ارمــه‪ ،‬وتشــجع المواطــن علــى اصطحــاب أس ـرته إلــى‬
‫الحفــات العامــة والمناســبات الوطنيــة‪.‬‬

‫وقــد يكــون لســعر الدخــول دور فــي هــذا‪ ،‬ولكــن الحــزم هــو العامــل الرئيســي‪،‬‬
‫وقــد يقابــل فــي البدايــة باالمتعــاض والتذمــر‪ ،‬وقــد يحــول دون نجــاح رخيــص لحفلــة‬
‫أو مهرجــان‪ ،‬ولكــن هــذا ثمــن زهيــد إذا قــورن بالنتيجــة النهائيــة‪.‬‬
‫‪237‬‬
‫وبعد‪...‬‬

‫هذه انطباعات أولية عن المهرجان‪...‬‬

‫وهــي ليســت حكمــا نهائيــا بقــدر مــا هــي دعــوة مفتوحــة لــكل المواطنيــن‪ ...‬لكــي‬
‫نحــاول معــا تســليط الضــوء عليــه‪ ،‬وتقييــم ظاهـرة المهرجانــات بصفــة عامــة‪ ،‬وتحديــد‬
‫الــدور الرئيســي للثقافــة واإلعــام فــي بــاد هــي أحــوج مــا تكــون للثقافــة واإلعــام‪،‬‬
‫ويجــب أن نتذكــر جيــدا أن الثــورة الثقافيــة – وهــي الدعامــة الثالثــة لنهضتنــا – ال‬
‫يمكــن أن تتــم داخــل أربــع جــدران‪ ،‬وال يمكــن أن يقــوم بهــا إال رجــال ال يخافــون فــي‬
‫الحــق لومــة الئــم‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫ًّ‬
‫(((‬
‫كلمات قصرية جدا‬

‫لم يكن أمامي خيار‪...‬‬

‫فالثقــة التــي منحهــا الق ـراء لهــذا البــاب‪ ،‬وتجاوبهــم معــه أدى إلــى ت اركــم عــدد‬
‫كبيــر مــن الرســائل لــم أتمكــن لضيــق المســاحة مــن نشــرها حــال وصولهــا‪.‬‬

‫ولقــد قلــت يومــا أن مــن أهدافــي فتــح المجــال النطباعــات القـراء بحيــث يصبــح‬
‫حديثــي جــزًءا مــن كل‪ ،‬وبحيــث ال تكــون رســائل القـراء مجــرد إضافــات لهــذا البــاب‪.‬‬

‫إو�ذا كنت أنســحب هذه المرة تاركا المجال لرســائل القراء فإنني أســمح لنفســي‬
‫بإبــداء مالحظــات أساســية أرجــو أن يتذكرهــا كل م ارســل لهــذه الزاويــة‪ ،‬حتــى تتمكــن‬
‫مــن القيــام بدورهــا فــي خلــق حـوار بنــاء‪ ،‬ومــن تغذيــة النشــاط الفكــري بدمــاء جديــدة‬
‫وبأفــكار شــابة‪.‬‬

‫أول المالحظــات أننــي ال أهمــل أي رســالة مهمــا كانــت وإذا كنــت أتحمــل‬
‫وحــدي مســؤولية نشــر الرســالة حتــى ولــو اختلفــت مــع كاتبهــا فإننــي ال أتحمــل‬
‫وحــدي مســؤولية عــدم نشــرها‪.‬‬

‫ولقــد ألفــت عــرض الرســائل التــي أحــس بأنهــا غيــر صالحــة للنشــر علــى‬
‫بعــض األصدقــاء الذيــن أثــق بأحكامهــم‪ ،‬حتــى ال يكــون قـرار عــدم النشــر ممارســة‬
‫دكتاتوريــة فرديــة مــن جانبــي‪.‬‬

‫المجاهد – ‪ 3‬أغسطس – ‪.1970‬‬


‫‪239‬‬
‫والرســائل الوحيــدة التــي أتحمــل مســؤولية عــدم نشــرها هــي الرســائل التــي تحمــل‬
‫توقيعــات مســتعارة أو التــي تعتقــد أن معنــى حريــة ال ـرأي هــو‪ ..‬التشــهير والســباب‬
‫إو�لقــاء التهــم ج ازفــا‪.‬‬

‫المالحظــة الثانيــة هــي أن هــذه الزاويــة ليســت ســوق عــكاظ لإلنتــاج األدبــي‪،‬‬
‫ألن لهــذا اإلنتــاج مكانــه وأبوابــه الثابتــة‪.‬‬

‫مهمــة «انطباعــات» هــي تســليط األضـواء علــى الجوانــب المختلفــة لحياتنــا‬


‫ومحاولــة اإلســهام فــي اســتكمال أوجــه النقــص وعناصــر الضعــف‪.‬‬

‫وهــذا يقودنــي إلــى المالحظــة الثالثــة وهــي مــا ســبق أن قلتــه مــن أن النقــد‬
‫يختلــف تمامــا عــن االنتقــاد‪.‬‬

‫إو�ذا كنــت أقــف بشــدة ضــد المصفقيــن والمهلليــن والذيــن يعتقــدون أن الثوريــة‬
‫هــي التســبيح بحمــد الثــورة‪ ،‬فإننــي أيضــا أقــف بنفــس الشــدة ضــد الذيــن يلبســون‬
‫النظــارات الســوداء وال يرضــون عــن شــئ وال يعجبهــم شــئ‪.‬‬

‫هنــاك أخطــاء ترتكــب ولكــن هنــاك أيضــا انجــازات جديــرة باالهتمــام‪ ،‬وهنــاك‬
‫مقصــرون ولكــن هنــاك أيضــا مناضلــون يقومــون بواجبهــم خيــر قيــام‪.‬‬

‫إننــي أتحمــل وحــدي مســؤولية هــذا البــاب‪ ،‬ولهــذا آمــل أن يتذكــر القـراء هــذا‪،‬‬
‫وأال يحملونــي فــوق مــا أطيــق‪.‬‬

‫وأعتقد أن علي اآلن ترك المجال لهذه المجموعة من انطباعات القراء‪...‬‬

‫‪240‬‬
‫الذين يعتقدون أن‬
‫(((‬
‫دبابة الثورة من ورق‪...‬‬

‫‪ ...‬أزعــم وأنــا مرتــاح الضميــر بأنــه مــا مــن دولــة أو شــعب أو نظــام حكــم قــدر‬
‫لــه أن يواجــه تحديــا عنيــدا كالتحــدي األول مــن نوعــه والــذي نســتعد لمجابهتــه بعــد‬
‫أيــام معــدودة‪.‬‬

‫إو�ذا كنــت أســتعمل تعبيــر التحــدي‪ ..‬فــأن رئيــس الدولــة لــم يتــرك فرصــة إال‬
‫أكــد فيهــا عــزم الثــورة وتصميمهــا علــى إعطــاء هــذه البــاد صورتهــا األصيلــة‪ ،‬التــي‬
‫تتمثــل فــي جعــل اللغــة العربيــة اللغــة الرســمية الفعليــة‪.‬‬

‫ولقــد أوضــح الرئيــس بمــا ال يــدع مجــاال للتأويــل بــأن موقــف الثــورة مــن قضيــة‬
‫التعريــب موقــف ال يتزعــزع ألن التعريــب خــط اســتراتيجي فــي مســيرة الثــورة وليــس‬
‫مجــرد عمــل تكتيكــي‪ ،‬كمــا أنــه هــو العنـوان الرئيســي للثــورة الثقافيــة‪ ،‬التــي تكنــس‬
‫بقايــا مــاض فكــري لــم يعبــر أبــدا عــن واقــع هــذا الشــعب ولــم يســتجب لمتطلباتــه‪،‬‬
‫وهــو الماضــي الــذي اســتطاع أن يطيــل فــي عم ـره عجزنــا عــن مواجهــة أنفســنا‬
‫بعد االســتقالل‪ ،‬ولجوؤنا إلى الحلول الســهلة ضمانا لما ســمي باالســتقرار اإلداري‬
‫والسياســي‪ ،‬وهكــذا تمكنــت األحجــار التــي تخلفــت مــن أنقــاض البنــاء االســتعماري‬
‫مــن فــرض طابعهــا علــى البنــاء الثــوري الجديــد‪.‬‬

‫هــذا هــو الســبب الرئيســي الــذي يجعــل الــكل يترقــب صبــاح الجمعــة الموافــق‬
‫األول ينايــر ‪ ..1971‬أي بعــد صــدور هــذا العــدد بحوالــي عش ـرة أيــام‪.‬‬

‫المجاهد – ‪ 20‬ديسمبر – ‪.1970‬‬


‫‪241‬‬
‫الجميــع يترقبــون‪ ..‬األصدقــاء واألعــداء‪ ..‬رفقــاء الطريــق وقطــاع الطريــق‪...‬‬
‫كلهــم يحســون بــأن األيــام األولــى مــن العــام ســتكون اختبــا ار لمــدى جديــة القـ اررات‬
‫الثوريــة‪ ،‬وعلــى ضــوء مــا ســيحدث فيهــا ســتتحدد نظـرة المواطــن إلــى كل قـرار ثــوري‬
‫اتخــذ أو ســيتخذ‪ ،‬وعليــه أيضــا قــد يتوقــف مــدى مســاهمة المناضليــن فــي العمــل‪،‬‬
‫ومــدى أحجــام أعــداء الثــورة عــن العمــل‪.‬‬
‫(((‬
‫ماذا سيحمل لنا إذن يوم الجمعة القادم ؟‬

‫فــي اعتقــادي أن األيــام األولــى مــن شــهر ينايــر ســتحمل إلــى كل مواطــن أنبــاء‬
‫الق اررات الجديدة‪ ،‬التي تســتهدف قلب صفحة كادت تســتمر قرنا ونصف قرن‪...،‬‬
‫بــل وأســمح لنفســي بتخيــل مــا يمكــن أن يصــدر مــن قـ اررات تنفيذيــة‪.‬‬

‫ويســتوقفني اإلحســاس بــأن أول مــا ســنالحظه فــي العــام الجديــد هــو دمــوع‬
‫التماســيح‪ ،‬ونظ ـرات اإلشــفاق الــكاذب‪ ،‬ومحــاوالت التبريــر المائــع‪.‬‬

‫ذلــك أن هنــاك مــن أصــم أذنيــه وقلبــه عــن التحذي ـرات التــي أطلقــت فــي‬
‫الســنوات الماضيــة‪ ،‬وه ـؤالء ســيكونون بطريقــة أو بأخــرى أش ـواكا علــى الطريــق‬
‫تدفعنــا بعيــدا عنــه بــكل وســيلة ممكنــة‪ ،‬ولــن نعــدم مــن يؤيــد مواقفهــم بدموعــه أو‬
‫نظ ارتــه أو محاوالتــه‪.‬‬

‫غيــر أننــي أقــول أن الذيــن لــم يحاولـوا علــى اإلطــاق التجــاوب مــع قـرار القيــادة‬
‫الثوريــة‪ ،‬القاضــي باعتبــار ســنة ‪ 1971‬عــام التعريــب‪ ..‬ه ـؤالء يجــب أن يوضع ـوا‬
‫فــي صــف واحــد مــع أعــداء الثــورة‪ ،‬والذيــن يتربصــون بهــا الدوائــر‪ ،‬علــى أســاس أن‬
‫إلتـزام المواطــن مــع الثــورة يعنــي أوال وقبــل كل شــئ احتـرام اختياراتهــا األساســية‪،‬‬
‫والتفاعــل معهــا‪ ،‬وعلــى أســاس أن اســتهانة الفــرد بــأي قـرار تصــدره الســلطة الثوريــة‬
‫أو عــدم حملــه إيــاه علــى محمــل الجــد أو التقاعــس عــن تنفيــذه‪ ،‬كل هــذا يجــرد‬
‫الفــرد مــن حقــه فــي التمتــع بمكاســب الثــورة‪ ،‬ويحرمــه مــن ثقتهــا‪ ،‬ويحــول بينــه وبيــن‬
‫االنتســاب إلــى صفوفهــا‪.‬‬

‫وعلــى هــذا فــإن ق ـ ار ار تنفيذيــا يصــدر بترقيــة كل الموظفيــن الذيــن يمارســون‬


‫عملهــم باللغــة العربيــة لــن يكــون ق ـ ار ار جائ ـ ار ال مبــرر لــه‪.‬‬
‫‪ .1‬كان حل ًما وأصبح وهما (تعليق جديد)‪.‬‬
‫‪242‬‬
‫كمــا أن قـ ار ار تنفيذيــا بإغــاق بــاب الوظيــف علــى كل مــن ال يعــرف حــدا أدنــى‬
‫مــن اللغــة الوطنيــة‪ ،‬أو إدخالــه إلــى مركــز تدريــب إجبــاري لمــدة ســتة شــهور مثــا‪..‬‬
‫قـ اررات مــن هــذا النــوع ليســت أبــدا قـ اررات ظالمــة‪.‬‬

‫طبعــا‪ ..‬ســيندب البعــض‪ ،‬وسيشــنف البعــض اآلخــر‪ ،‬وطبعــا‪ ..‬ســيتباكى‬


‫البعــض وســيقول البعــض اآلخــر بــأن هــذه انتكاســة لتطورنــا االقتصــادي‪ ،‬ولكننــي‬
‫أثق تماما بأن شيئا لن يحدث‪ ،‬إو�ذا حدث شئ فإنه سيثبت أن تطورنا االقتصادي‬
‫ليــس بفضــل الســادة الذيــن لــم يحاول ـوا تعلــم لغــة بالدهــم فــي الســنوات الماضيــة‪،‬‬
‫وكان ـوا يمطــون شــفاههم اســتهانة وســخرية إذا ســمعوا كلمــة واحــدة عــن التعريــب‪.‬‬

‫وأؤكــد هنــا أننــي لــم أســقط فــي الفــخ الــذي يزعــم وجــود ثقافــة فرنســية فــي‬
‫بالدنــا‪ ،‬ألننــي قلــت قبــل اليــوم بــأن عندنــا غالبــا مجــرد متحدثيــن باللغــة الفرنســية‪،‬‬
‫ومعظمهــم يســتعملها بطريقــة «الفــام دو منــاج» رغــم «لومونــد» التــي يرفعونهــا فــي‬
‫أيديهــم كأنهــا هــي شــهادة النضــال الثقافــي‪.‬‬

‫إو�ذا هبطنــا إلــى مســتوى التفاصيــل الصغي ـرة التــي تعطــي لحياتنــا اليوميــة‬
‫مالمحهــا الرئيســية‪ ،‬فإنــه ليــس مــن التجنــي (رغــم دمــوع التماســيح) أن ترفــض‬
‫مصلحــة البريــد كل الخطابــات التــي ال تحمــل عنوانــا مكتوبــا بالعربيــة‪ ،‬ولــو إلــى‬
‫جانــب عن ـوان بالفرنســية يســمح بــه لمرحلــة مؤقتــة‪.‬‬

‫وليــس ظلمــا علــى اإلطــاق أن توقــع عقوبــات صارمــة علــى الحوانيــت التــي‬
‫أهملــت كتابــة الفتاتهــا بالعربيــة (كمــا يحــدث بالنســبة للوحــات الســيارات) أو التــي‬
‫أفــردت لهــا مكانــا هامشــيا‪.‬‬

‫باختصــار‪ ...‬يجــب أن يــدرك ه ـؤالء الذيــن يعتقــدون بــأن دبابــة الثــورة مــن‬
‫ورق أن بيننــا وبينهــم أيامــا معــدودات يكتشــفون بعدهــا أن الثــورة جــادة فــي كل‬
‫قرار تتخذه‪ ،‬وتعلنه‪ ،‬وأن التعريب ليس تهريجا سياســيا وأن البناء االشــتراكي ليس‬
‫ألفاظــا تكتفــي بدفــع الجماهيــر إلــى أحــام اليقظــة‪.‬‬

‫ولكننــي‪ ..‬وكمــا قلــت فــي العــدد الماضــي‪ ..‬أؤمــن بــأن عــام ‪ 1971‬ليــس تحديــا‬
‫لقـرار الســلطة الثوريــة ومحــكا لقدرتهــا علــى تنفيــذه فقــط‪ ،‬ولكنــه أيضــا اختبــار لقيمــة‬
‫المثقــف بالعربيــة وعجــم لعــوده‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫ولــن أكــون ســاذجا فأطلــب مــن األف ـراد القيــام بــدور الدولــة‪ ،‬ولكــن األســبوع‬
‫األول مــن الشــهر القــادم البــد أن يكــون مظاهـرة عمليــة يقــوم بهــا أنصــار التعريــب‪.‬‬

‫ولســت أقصــد مــن المظاهـرة أن تكــون مســيرة هاتفــة‪ ،‬بقــدر مــا أعنــي بهــا عــدة‬
‫تحــركات هادفة‪.‬‬

‫إننــي أتخيــل مــا ســيحدث مثــا لــو كتــب كل مواطــن خمســة رســائل ألصدقائــه‪،‬‬
‫عنونهــا باللغــة العربيــة فقــط‪ ،‬وخاصــة لــو أرســلت إحداهــا بالبريــد المســجل الــذي‬
‫يتســلمه موظــف البريــد بنفســه وال يكتفــي بإلقائــه فــي صنــدوق البريــد‪.‬‬

‫آالف الرســائل ستشــعر إدارة البريــد بــأن التعريــب ليــس نــزوة فوقيــة ولكنــه‬
‫ثــورة تحتيــة‪.‬‬

‫وهذا نفسه يمكن أن يتم على مستوى الطلبات التي تقدم إلى اإلدارات‪.‬‬

‫ومظاهر أخرى كثيرة أعترف بعجزي عن التعرض لها اليوم بالتفصيل‪.‬‬

‫لقــد بقــي علــى عــام التعريــب أقــل مــن أســبوعين ويجــب أن يكــون تســاؤلنا‬
‫اليومــي ابتــداء مــن هــذه اللحظــة‪ ...‬مــاذا فعلنــا‪ ..‬ومــا الــذي يجــب أن نفعلــه‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫(((‬
‫وبقي أقل من أسبوع‬

‫فعــا‪« ...‬الوقــت كالســيف‪ ...‬إن لــم تقطعــه قطعــك»‪ ..‬والحــق أننــي لــم أحــس‬
‫أبدا بالمعنى الحقيقي لهذا المثل كما أحسست به هذه األيام ونحن نستعد الستقبال‬
‫العــام الجديــد بــكل مــا يحملــه مــن آمــال وبــكل مــا ســيتمخض عنــه مــن متاعــب وآالم‪.‬‬

‫إو�ذا كنــت قــد طلبــت مــن القـراء فــي العــدد الماضــي أن يســاهموا بأفكارهــم فــي‬
‫تســليط األضـواء علــى المشــاكل والعقبــات التــي اعترضــت طريــق عمليــة التعريــب‪،‬‬
‫والتــي ســتزداد قســوتها فــي الفت ـرة القادمــة‪ ،‬فإننــي أحــب أن أوضــح بــأن األفــكار‬
‫المطلوبــة ليســت هــي الشــعارات الدعائيــة مــن أمثــال‪ ...‬التعريــب مطلــب قومــي‪،‬‬
‫التعريــب تصحيــح لوضــع شــاذ‪ ...‬و‪ ...‬الــخ‪..‬‬

‫كل هذا معروف‪...‬‬

‫الس ـؤال اآلن‪ ..‬هــو نفــس التســاؤل الــذي طرحــه األخ عبــد اهلل ش ـريط فــي‬
‫المجاهــد الثقافــي‪...‬‬

‫لقــد انتهــت فتـرة‪ ..‬لمــاذا نعــرب ؟‪ ..‬أو كادت تنتهــي‪ ..‬ومــع صبيحــة األول مــن‬
‫ينايــر تبــدأ الفتـرة الثانيــة التــي ســتحمل عنـوان كيــف نعــرب ؟‬

‫لجانــا يمكــن أن تكــون‪ ،‬إو�ن اجتماعــات يمكــن أن تعقــد‪ ،‬ولكــن‬


‫وحقيقــي أن ً‬
‫العــدد المحــدود الــذي يمكــن أن يشــارك فــي هــذه اللجــان أو االجتماعــات يعنــي‬
‫بالتالــي‪ ..‬عــددا محــدودا مــن األفــكار واآلراء‪..‬‬
‫المجاهد – ‪ 27‬ديسمبر – ‪.1970‬‬
‫‪245‬‬
‫وهــذا هــو مــا يدفعنــي هــذه الم ـرة إلــى التنحــي تــاركا المجــال لهــذه المجموعــة‬
‫مــن رســائل الق ـراء (والتــي طــال انتظــار بعضهــا أكثــر مــن الــازم)‪.‬‬

‫إو�ذا كنت ال أنســى وال أتناســى أن التعريب لن ينجح إال إذا أصبحت العربية‬
‫هــي لغــة الخبــز‪ ،‬إو�ال إذا مهدنــا الطريــق ألول نوفمبــر ثقافــي يقلــب كل الموازيــن‪،‬‬
‫ويثبــت م ـرة أخــرى للعالــم أجمــع أن اإليمــان بعدالــة القضيــة وبقدســية الهــدف هــو‬
‫أقوى من كل ســاح‪ ..‬إو�ذا كنت ال أنســى وال أتناســى بأن القيادة الثورية هي التي‬
‫تملــك أن تحقــق التعريــب الكامــل‪ ،‬فأننــي فــي نفــس الوقــت لــن أمــل مــن القــول بــأن‬
‫الثــورة يصنعهــا الث ـوار‪ ،‬وأن الثائــر ال يفتــرض فيــه أن يكــون مــن خريجــي الســان‬
‫ســير أو الســاند هيرســت‪.‬‬

‫وبنفــس المقيــاس فــإن التعريــب يحققــه أبنــاء الجزائــر المؤمنــون بضرورتــه‬


‫وحتميتــه‪ ،‬والذيــن هــم مرتبطــون بالثــورة تفكيـ ار ومصلحــة‪ ،‬وال يمكــن أن يحققــه الذيــن‬
‫هــم بعيــدون عــن الثــورة‪.‬‬

‫وأبتر الحديث ألترك المجال لألصدقاء‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫َ َ ٌ َ َ‬
‫انطِباعات عا ِبرة‬

‫ •واحــد مــن ق ارئــي رجــل مســتجاب الدع ـوات‪ ،‬وهــو يغضــب كثي ـ ار إذا صادفتــه‬
‫أخطــاء مطبعيــة‪ ...‬وألننــي أحــب اإلخــوة فــي المطبعــة أنبههــم إلــى هــذا حتــى ال‬
‫يرفــع القــارئ يديــه فــي الســماء‪..‬‬

‫ •حدثنــي بعضهــم عــن جمهوريــة قســنطينة التليفزيونيــة‪ ..‬وقلــت لمــن حدثنــي‪»...‬‬


‫أكتــب‪ ...‬أو أعطنــي البيانــات الكاملــة لكــي أكتــب‪ ...‬ولكنــي أرفــض أن أتحــدث‬
‫عمــا ال أعــرف كل أو جــل عناص ـره »‪.‬‬

‫ •صحيــح أن فــي التأنــي الســامة‪ ..‬ولكــن هنــاك فرقــا كبيـ ار بيــن التأنــي والر ازنــة‬
‫والخط ـوات المدروســة‪ ،‬وبيــن الركــود والخمــول وانعــدام الحيويــة‪.‬‬

‫ •(‪ -‬ملحوظــة – هــذا كالم عــام يمكــن أن ينطبــق علــى أي شــئ‪ ...‬وال يقصــد‬
‫مــن و ارئــه مــس إدارة معينــة تقــع فــي شــارع الشــهداء بالعاصمــة)‪.‬‬

‫ •هنــاك مــن يق ـ أر الصحافــة العربيــة فقــط‪ ..‬وهنــاك مــن يكتفــي بق ـراءة الصحافــة‬
‫الناطقــة بالفرنســية‪.‬‬
‫وهنــاك مــن يتتبــع ب ارمــج اإلذاعــة العربيــة فقــط‪ ..‬وهنــاك مــن يكتفــي بالقســم‬
‫الفرنســي مــن اإلذاعــة أو بأقســام أخــرى‪...‬‬

‫إو�ذا عرفنــا أن كل واحــد مــن هــذه األجه ـزة يغنــي علــى ليــاه دون تنســيق أو‬
‫تكامــل‪ ...‬أدركنــا الهــوة التــي تفصــل بيــن أبنــاء جيــل واحــد‪..‬‬

‫‪247‬‬
‫نسقوا أجهزة اإلعالم‪ ..‬يرحمكم اهلل‪...‬‬

‫ •يظلمنــي البعــض عندمــا يتهمنــي بأننــي الســبب فــي «موضــة» اســتعمال‬


‫التوقيعــات المســتعارة‪( ،‬والتــي انتشــرت فــي صحفنــا) ألن هــذا غيــر صحيــح‪.‬‬

‫ومــن ألطــف مــا ســمعت فــي هــذا الصــدد‪ ،‬اطــاق اســم «حديــث اآلبــاء»‬
‫علــى «حديــث اليــوم» الــذي تقدمــه الزميلــة «الشــعب»‪ ،‬ألن كثي ـ ار ممــن يكتبــون‬
‫يوقعــون‪ ...‬بقلــم أبــو كــذا‪.‬‬

‫(أعــرف أن البــاء حــر جــر‪ ..‬ويجــب أن يقــال‪ ..‬أبــي كــذا‪ ...‬ولكنهــا تكتــب كمــا‬
‫أوردتهــا وناقــل (‪ )...‬ليــس (‪.)....‬‬

‫ •بحثــت فــي أكثــر مــن مكتبــة عــن كتــاب الحركــة الوطنيــة الجزائريــة للدكتــور‬
‫بلقاســم ســعد اهلل‪ ...‬وكللــت جهــودي‪ ...‬بالفشــل‪...‬‬

‫وســعد اهلل ليــس مــن كتــاب غواتيمــاال أو ســاحل العــاج‪ ...‬هــو كاتــب ج ازئــري‪..‬‬
‫وكتابــه مســاهمة جديــة فــي تســجيل م ارحــل الكفــاح الج ازئــري‪...‬‬

‫ثــم همــس لــي أحدهــم بالســبب‪ ...‬ذلــك أن أحــد «المســهولين» أصــدر ق ـ ار ار‬
‫بمنــع اســتيراد الكتــب التــي ألفهــا جزائريــون وطبعــت خــارج الج ازئــر بعــد ‪...1962‬‬

‫إو�ذا كان هــذا صحيحــا فهــو ســخافة مجرمــة‪ ...‬ولــو كنــت ذا ســلطان أللزمــت‬
‫المســهول المذكــور أعــاه بق ـراءة كل مــا كتــب‪ ،‬إو�عــادة نســخه بخــط اليــد عشــر‬
‫م ـرات‪ ..‬ثــم ألزمتــه بــأكل األوراق التــي كتبهــا‪...‬‬

‫ومن حسن حظ البعض أنني ال أملك إال قلمي‪...‬‬

‫‪248‬‬
‫انطباعات عابرة‬

‫ •‪ -‬النصيحــة التــي تعطــي لــكل مصــاب بعســر الهضــم تتركــز أوال وقبــل كل شــئ‬
‫علــى تعليــم الطريقــة الصحيحــة لتنــاول الطعــام وهــي أن يتفــرغ المــرء لعمليــة األكل‬
‫(فــا يقـ أر مثــا أثنــاء تنــاول الوجبــة) ثــم عليــه أن يمضــغ األكل جيــدا وبتــؤدة وأنــاة‪،‬‬
‫ليبتلــع اللقمــة فــي هــدوء دون أن يتابــع حركــة ارعــي البقــر فــي الفيلــم التليفزيونــي‪.‬‬

‫بغيــر هــذا تتحــول المأك ـوالت فــي المعــدة – ومهمــا كانــت جودتهــا ونوعهــا –‬
‫إلــى خليــط متنافــر‪ ،‬تزيــد العصــارات الهضميــة مــن حموضتــه وتكــون النتيجــة انتفــاخ‬
‫البطــن والقيــئ والتجشــوء العلــوي والســفلي‪.‬‬

‫ويخيــل إلــى أن نفــس هــذه النصيحــة يجــب أن توجــه إلــى بعــض الذيــن‬
‫يعجــزون عــن هضــم مــا يقــرءون‪...‬‬

‫ •فــي حلقــة «الحديقــة الســاحرة» شــاهدت فرقــة مــن صغــار العازفيــن تنبــئ عــن‬
‫إمكانيــات فنيــة طيبــة‪.‬‬

‫إال أن اختيار القطعة الموسيقية األندلسية كان أم ار خبيثا‪.‬‬

‫هــذه الموســيقى الدخيلــة المنحلــة‪ ...‬يحــاول البعــض أن يغرســها فــي نفــوس‬


‫أبنائنــا منــذ نعومــة أظافرهــم ليطمئــن إلــى خــروج الجيــل الجديــد كالجيــل الــذي‬
‫ســبقه‪ ..‬عبــدا أللحــان الخنــوع والميوعــة‪.‬‬

‫أليــس مــن العــار أن يغنــي طفــل فــي العاش ـرة «يــا نديمــي قــم إلــى البســتان‬
‫ننعــم ســاعة هنيــة» و «وصالــك عنــدي‪ ..‬كــذا وكــذا‪ »...‬وكلمــات ال يفهــم الصغيــر‬

‫‪249‬‬
‫معناهــا‪ ..‬اليــوم علــى األقــل‪ ،‬وألفــاظ جنســية ال تتــردد إال فــي أجـواء معينــة أقــل مــا‬
‫يمكــن أن يقــال عنهــا‪ ..‬إنهــا أج ـواء غيــر نظيفــة أخالقيــا‪.‬‬

‫لقــد كانــت فرقــة الموصليــة‪ ،‬وبغــض النظــر عــن ب ارعــة األطفــال فــي العــزف‪،‬‬
‫كومــا مــن النفايــات شــوهت الحديقــة الســاحرة‪.‬‬

‫ •وبمناســبة الحديقــة الســاحرة‪ ...‬كانــت المقدمــة الموســيقية «الجينيــرك» ناجحــة‬


‫جــدا خاصــة مــع الرســوم المتحركــة‪ ...‬وكان نطــق الكلمــات ســليما واختفــت‬
‫التشــويهات والمألوفــة أمثــال «ايــا اللقــا‪ ،»!! ‬وكان االيقــاع اللحنــي رائعــا فــي‬
‫ســهولته وتعبي ـره وعذوبتــه‪ ،‬وكانــت الرســوم متكاملــة مــع الكلمــات واللحــن‪ ...‬كان‬
‫هنــاك عنــاق بيــن الكلمــات‪.‬‬

‫وفــي الحلقــة األخيـرة التــي قدمــت يــوم األحــد الماضــي كان عبــد اهلل عثمانيــة‬
‫ممتــا از فــي التقديــم‪ ،‬وأثبــت أنــه قــادر علــى التطــور عندمــا تخلــص مــن األعصــاب‬
‫المشــدودة وخلــق حـوا ار دائمــا مــع القاعــة‪.‬‬

‫ •توسل أقدمه وأنا جاث على ركبتي لألخ الذي يتولى مراقبة إخراج المجلة‪.‬‬

‫إن الكلمات التي أكتبها أجزاء من نفسي‪ ...‬هي أبنائي‪ ..‬ولست أحب ألبنائي‬
‫التشــويه‪ .‬واألخطــاء المطبعيــة كادت تكــون كحفــر الش ـوارع‪ ...‬و«أمورتيســورات»‬
‫القـراء‪ ...‬كادت تتحطــم‪ .‬و‪ ...‬رحمــة بأبنائــي‪...‬‬

‫ •كانــت حصــة التليفزيــون التــي قــدم فيهــا فيلــم «بــاب الحديــد» وتكلــم فيهــا المخــرج‬
‫يوســف شــاهين‪ ...‬كانــت حديــث المجتمــع‪ ،‬وأثبــت هــذا أن اإلنتــاج الجيــد يفــرض‬
‫نفســه بنفســه‪ ،‬وأن المتفــرج الج ازئــري ال يؤمــن إال بمــا يــرى‪ ،‬وهــو علــى اســتعداد‬
‫لكــي يقتنــع إذا قدمــت لــه الحجــة القويــة والدليــل القاطــع‪.‬‬

‫ولعــل هــذا يكــون بدايــة مرحلــة جديــدة لعــرض األفــام العربيــة الجيــدة فــي‬
‫التليفزيــون‪ ،‬وتخصيــص دار عــرض ســينمائية مــن الدرجــة األولــى لألفــام العربيــة‬
‫(بشــرط أال تكــون األفــام مــن عينــة فيلــم األحــد الماضــي‪.)..‬‬

‫‪250‬‬
‫ •ليــس صحيحــا مــا يروجــه أصحــاب النوايــا الهالطقمشــارية مــن أن التمثــال‬
‫الموجــود فــي ســاحة األميــر عبــد القــادر هــو تمثــال رفــات األميــر‪ ،‬والصحيــح أنــه‬
‫تمثــال األميــر شــخصيا‪!! ‬‬
‫(((‬
‫هكذا صرح صانع التمثال‪...‬‬

‫ويجــب أن يعتــرف النــاس بــأن قاعــدة التمثــال رائعــة خاصــة إذا تذكرنــا الفت ـرة‬
‫الزمنيــة القصي ـرة التــي أقيمــت فيهــا‪ ..‬ويكفيكــم جمــال القاعــدة‪...‬‬

‫ •القطــاع الخــاص جــزء مــن ال أرســمال الوطنــي وهــو الجنــاح الثانــي للتطــور‬
‫االقتصــادي فــي الــدول الناميــة‪ ..‬احــب مــن احــب وك ـره مــن ك ـره‪.‬‬

‫ولكــن بــذور االســتغالل موجــودة فــي الطبــع البشــري وأظافــر القطــاع الخــاص‬
‫يمكــن أن تتحــول إلــى مخالــب‪.‬‬

‫وهنا نجد أن تدعيم القطاع العام في كل المستويات هو الحل الرئيسي لتقليم‬


‫أظافــر القطــاع الخــاص‪ ،‬ويعتمــد هــذا أوال وقبــل كل شــئ علــى حســن التخطيــط‬
‫ومراقبــة التنفيــذ وعلــى الوعــي الجماهيــري الــذي يخنــق كل محــاوالت االســتغالل‪.‬‬

‫ويجــب أن نعتــرف بــأن وجــود القطــاع الخــاص هــو فــي حــد ذاتــه تقليــم ألظافــر‬
‫القطــاع العــام وضمــان لعــدم تحــول المؤسســات العامــة إلــى دول مســتقلة‪ ..‬تحكــم‬
‫بأحكامهــا‪ ...‬وهــذا هــو مــا قلتــه فــي عــدد ســابق‪..‬‬

‫ولكــن‪ ...‬هــذا شــئ‪ ..‬إو�ن نتحــدث بطريقــة المقاهــي ونحشــو كالمنــا بألفــاظ‬
‫االشــتراكية والعدالــة االجتماعيــة وال أرســمالية المســتغلة ثــم نتــوج هــذا كلــه بفقـرات مــن‬
‫حديــث مســؤول كبيــر ونحلــق فــي العموميــات‪ ...‬فهــذا شــئ آخــر‪.‬‬

‫هــذا هــو الطريــق الســهل الــذي ال يــؤدي إلــى نتيجــة‪ ..‬أمــا العــاج فــا يمكــن‬
‫أن يقودنــا إليــه إال د ارســات عميقــة الجــذور وتحليــل رصيــن للتفكيــر ثــم اســتنتاج‬
‫ارئــق الخطــى‪.‬‬

‫‪ .1‬كان تمثاال سيئا صنع في إيطاليا‪ ،‬وتم استبداله بعد ذلك‪.‬‬


‫‪251‬‬
‫ •كانــت هديــة العــام الجديــد‪ ..‬تخــرج أول دفعــة مــن ضبــاط الطيـران الجزائرييــن‪،‬‬
‫الذيــن تلقـوا د ارســتهم كلهــا فــي الج ازئــر‪.‬‬

‫ولــم يســتطع تقديــر هــذه الهديــة حــق قدرهــا إال أولئــك الذيــن يدركــون أننــا نعيــش‬
‫اليــوم عصــر الفضــاء‪ ..‬العصــر الــذي ينتصــر فيــه مــن يســتطيع الســيطرة علــى‬
‫الجــو‪ ..‬دفاعــا وهجومــا‪.‬‬

‫تحية للنسور الجزائريين‪ ...‬إو�لى العال‪.‬‬

‫ •أخي ـ ار عــاد عبــد اهلل بــن الضيــف ليثبــت أن ترســيمه لــم يكــن هــو الســبب فــي‬
‫انقطاعــه‪.‬‬

‫وعبــد اهلل فــي حديثــه األخيــر كان متفائــا جــدا‪ ..‬فهــو يطلــب مــن المعلمــة‬
‫العربيــة فــي عنابــة أن تتفاعــل وأن تســاهم فــي النهضــة الثقافيــة‪.‬‬

‫اهلل يهديك يا سي عبد اهلل‪.‬‬

‫المعلمــة العربيــة يــا عزيــزي عــبء علــي التعريــب (اللهــم احفظنــي مــن لســان‬
‫األخــت زهــور ونيســي) والمعلمــة العربيــة – إال مــن رحــم ربــك – عاجـزة حتــى عــن‬
‫القيــام بدورهــا الرئيســي وهــو التعليــم‪ .‬واألمــل‪ ...‬األمــل هــو فــي الجيــل الجديــد مــن‬
‫المعربــات‪ ..‬جيــل الثانويــات الــذي دخــل إلــى التعليــم مــن البــاب ال مــن النافــذة‪.‬‬

‫وهنــاك مناضــات فعــا ولكنهــن‪ ..‬عاج ـزات عــن فهــم حقيقــة دورهــن‪ ..‬الــذي‬
‫يتجــاوز مجــرد‪ ..‬التعليــم‪.‬‬

‫ •مازلنــا جميعــا عاجزيــن عــن خلــق الحـوار الصحفــي ومــازال كل منــا يضــرب فــي‬
‫واد ويحــاول أن يتحــدث عمــا لــم يتحــدث عنــه اآلخــرون‪.‬‬

‫ورغــم أن هــذا إثـراء لمادتنــا الصحفيــة مــن حيــث الكــم فإنــه أضعــاف لهــا مــن‬
‫ناحيــة الكيــف‪ ،‬ومعالــم مشــاكلنا ال يمكــن أن تتضــح إال إذا تعــرض لهــا أكثــر مــن‬
‫كاتــب‪ ...‬كل مــن زاويتــه وكل بأســلوبه الخــاص وتكوينــه الثقافــي‪...‬‬

‫‪252‬‬
‫قلــت هــذا لكاتــب شــاب ازرنــي وكان اليــأس والقلــق يســيطران علــى نفســه‪،‬‬
‫وأعتقــد أنــه اقتنــع بمــا قلــت‪.‬‬

‫ •الحفــر الموجــودة فــي شـوارع بالدنــا تــدل علــى ذكاء كبيــر إذ أن المقصــود منهــا‬
‫إجبــار الســائقين علــى تخفيــض الســرعة وبالتالــي تقــل حـوادث المــرور‪.‬‬
‫وقل رب زدني علما‪...‬‬

‫ •‪ ...‬وبرقيــة مســتعجلة مــن فــان يطلــب مــن فلتــان الحضــور حــاال ألنــه عمــه‬
‫أصيــب فــي حــادث وحالتــه خطي ـرة‪...‬‬

‫إليكم اآلن أغنية‪...‬‬

‫« الليلة الليلة اليلة‪ ...‬سهرتنا حلوة الليلة‪»...‬‬

‫طلبها فالن وفالن وفالن‪ ...‬الخ‪.‬‬

‫يــا أيهــا األذكيــاء‪ ...‬يــا مــن أدمجتــم برنامــج بــاغ فــي فائــدة العائــات وبرنامــج‬
‫مــا يطلبــه المســتمعون‪ ...‬نهنئكــم علــى ذكائكــم المنقطــع النظيــر‪.‬‬

‫لقــد عرفنــا اآلن أيــن يذهــب القصديــر الــذي يتخلــف بعــد زوال المــدن‬
‫القصديريــة‪...‬‬

‫ •كثيــرون يطلبــون منــي أن أتحــدث عــن موضوعــات معينــة‪ ،‬ويضعــون تحــت‬


‫يــدي بعــض التفاصيــل والمعلومــات الضروريــة‪.‬‬

‫ولهـؤالء أقــول‪ »..‬لــم أزعــم أبــدا أننــي قــد « وســعت كل شــئ علمــا »‪ .‬وأنــا ال‬
‫أســتطيع أبــدا أن أتحــدث عــن كل شــئ‪ ..‬بــل أن بعــض المواضيــع التــي أطرقهــا‬
‫أعجــز أحيانــا عــن إيفائهــا حقهــا الكامــل مــن البحــث والتحليــل‪.‬‬

‫و‪ ...‬يا سادة‪ ...‬يد واحدة‪ ..‬ال تصفق‪.‬‬


‫ •جامعيــة ســألتني عــن ســر مــا يقولــه البعــض فــي الجامعــة عــن انتمــاء كاتــب هــذه‬
‫الســطور إلــى أحــد أجه ـزة الدولــة الهامــة‪ ...‬وعرفــت بــدون الحاجــة إلــى تفكيــر عميــق‬
‫مصدر هذه اإلشاعة‪ ...‬ذلك أنني ألفت أمثال هذه التصرفات من بعض األغبياء‪...‬‬

‫‪253‬‬
‫وكل مــا يمكننــي قولــه كمواطــن ملتــزم‪ » ...‬أن مــا ينســبه البعــض إلــى مــن‬
‫مناصــب ليــس تهمــة أفــر منهــا‪ ....‬ولكنهــا – لألمانــة – شــرف ال أدعيــه‪....‬‬

‫ •التقيــت بأخــوة مــن المشــرق العربــي عرفــت منهــم أنهــم لــم يقــرؤوا مجلــة المجاهــد‬
‫منــذ أكثــر مــن عــام‪ ...‬وفــي حــدود معلوماتــي‪ ...‬المجاهــد تصــدر كل أســبوع وتــوزع‬
‫علــى كل أنحــاء الج ازئــر وهــي المجلــة األســبوعية الوحيــدة الصــادرة بالعربيــة وثمنهــا‬
‫ال يتجــاوز دينــا ار واحــدا‪ ..‬ال غيــر‪.‬‬

‫ •حقيقــي أننــي ال أهمــل أيــة رســالة تصلنــي مــن قــارئ ولكــن هــذا ال يعنــي علــى‬
‫اإلطــاق أن أقــع فــي الفخــاخ التــي يحــاول البعــض نصبهــا‪.‬‬

‫والقــارئ الــذي يحــاول ذلــك باســتعمال االســتف اززات الســاذجة أمثــال‪« ...‬وأنــا‬
‫أعــرف أن رســالتي هــذه لــن تنشــر ألنكــم ال تملكــون الشــجاعة الكافيــة لنشــرها» ‪...‬‬
‫والقــارئ الــذي يحــاول أن يتعنتــر علــى حســابي علــى أســاس أننــي ســأقع فــي الفــخ‬
‫فانشــر ســبابه وتفاهاتــه‪ ...‬هـؤالء مخطئــون‪.‬‬

‫هــم يعتقــدون أننــي بيــن أمريــن‪ ...‬أن انشــر الرســالة متحمــا مســؤولية مــا جــاء‬
‫فيهــا مــن ترهــات أو مســاهما فــي نشــر مــا فيهــا مــن أفــكار فجــة وعبــارات إنشــائية‬
‫بائخــة وبهــذا أهبــط بمســتوى هــذا اإلطــار‪ ،‬إو�مــا أال أنشــر الرســالة فأفتــح بذلــك‬
‫المجــال التهامــي بخنــق الفكــر والتضييــق علــى حريــة ال ـرأي‪.‬‬

‫‪ ...‬حريــة الـرأي شــئ والقــئ الــذي يســود الصفحــات‪ ...‬شــئ آخــر‪ ...‬وتكفيكــم‬
‫جــدران دورات الميــاه‪!! ‬‬

‫ •فــي العــدد األســبق وتحــت عن ـوان «الذيــن يعلمــون وال يعملــون» تحــدث األخ‬
‫البرنــاوي بأعصابــه‪ .‬ورغــم أننــي قــد اختلــف معــه فــي بعــض مــا قالــه إال أننــي أفهــم‬
‫تمامــا حقيقــة العامــل النفســي الــذي دفعــه إلــى الحديــث بهــذا الم ـ اررة‪.‬‬

‫هــو إحســاس الكاتــب الــذي يحتــرق لكــي يكتــب ويثيــر الكثيــر مــن المشــاكل‬
‫الحيويــة ولكــن تفاعــل الق ـراء معــه يبقــى محــدودا فــي دائ ـرة التعليقــات الشــفوية أو‬
‫ردود الفعــل الســطحية‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫لهــذا أختلــف علــى طــول الخــط مــع عبــد اهلل بــن الضيــف‪ ،‬سـواء فــي مضمــون‬
‫رده أو فــي طريقــة الــرد نفســها‪.‬‬

‫وأنــا أتتبــع جــل مــا يكتبــه ابــن الضيــف وأكاد أكــون واثقــا فــي أنــه يتفــق مــع‬
‫البرنــاوي فــي الكثيــر ممــا قــال (وحديثــه عــن نــادي عنابــة مــازال فــي فكــري) ولهــذا‬
‫أقــول لــه أن وضعــه كمعلــم ال يعنــي بالضــرورة أنــه يمثــل كل المعلميــن إو�ال فإنــه‬
‫ســيظلم نفســه أوال وســيعطي للكثيريــن أهميــة ال يســتحقونها‪.‬‬

‫ •في الســودان حركة ثقافية لمســتها من مطالعة بعض المجالت الســودانية التي‬
‫وقعــت فــي يــدي بمحــض الصدفــة وجعلتنــي أشــعر باألســف ألننــا محرومــون مــن‬
‫قـراءة صحــف القطــر الشــقيق بانتظــام‪.‬‬

‫ •الذين استمعوا إلى أغنية أم كلثوم الجديدة‪ ،‬ودارت األيام أحسوا بأن «الست»‬
‫قــد توهبــت ولكــن عبــد الوهــاب لــم يتكلثــم‪.‬‬

‫ولقــد كانــت كلمــات األغنيــة تافهــة جــدا وتعتبــر اســتم ار ار للخــط الــذي تســير فيــه‬
‫«كوكــب الشــرق» والــذي تحدثــت عنــه فــي مـرات ســابقة‪.‬‬

‫ولكــن البــد مــن االعتـراف أيضــا بــأن الموســيقى رائعــة خاصــة الكوبليــه الثالــث‬
‫الذي اســتوحى عبد الوهاب لحنه من مقطوعة حالق اشــبيلية للموســيقار روســيني‪.‬‬

‫وســيقول بعــض فنانينــا‪ ...‬أنهــا س ـرقة فاضحــة وســأقول لهــم‪ ..‬اس ـرقوا مثلــه‬
‫واســمعونا موســيقى جميلــة وألحانــا جيــدة‪.‬‬

‫ •بعــد انتهــاء عملــي فــي حــدود الســابعة أو الســابعة والنصــف مســاء كنــت أحــرص‬
‫علــى أن أكــون فــي الســيارة أو فــي المنــزل فــي الســاعة الثامنــة إال ربــع مســاء لكــي‬
‫اســتمع إلــى تــاوة القـرآن فــي الفرصــة اليوميــة الوحيــدة التــي تتــاح لــي‪ ....‬ولعلنــي‬
‫لــم أكــن وحــدي فــي هــذا‪.‬‬

‫ولكــن الســادة المصابيــن بعســر الهضــم المزمــن والذيــن ينظمــون ب ارمــج اإلذاعــة‬
‫نزعوا تالوة القرآن في هذه الفترة اإلذاعية الهامة لتوضع في فترة تغيير الموجات‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫وال أملك – بعد أن تحدثت عن دمج برنامجي ما يطلبه المســتمعون وأبحاث‬
‫في فائدة العائالت – إال أن أقول‪ ...‬على المســؤول عن البرامج أن يبحث لنفســه‬
‫عن عمل آخر‪ ...‬ألن ذوقه فاســد‪...‬‬
‫والذوق شئ ليس في الكتب‪.‬‬

‫ •مع الســطور األولى لحديث األســتاذ عبد اهلل شـريط في المجاهد الثقافي والذي‬
‫عالج فيه قضية التعريب تذكرت تعبي ار قاله مخترع شــهير – لعله ارشــميدس‪..‬‬

‫قــال فــي معــرض الحديــث عــن الروافــع‪ ..‬أعطونــي مكانــا أقــف فيــه وأنــا كفيــل‬
‫برفــع الكـرة األرضيــة نفســها‪.‬‬

‫وعلــى هــذا فاإليمــان بالتعريــب ووجــود الخطــط لتنفيــذه لــن يقــدم أو يؤخــر إذا‬
‫لــم يكــن المؤمــن بالتعريــب فــي مركــز الســلطة الــذي يســمح لــه بالتنفيــذ‪.‬‬

‫واألدلة موجودة والذين يتجاهلونها يسمحون لنا بالشك في موضوعيتهم‪.‬‬

‫ •البعــض يعيــب علــى مذيعــي التليفزيــون الرياضييــن أغالطهــم اللغويــة والنحويــة‪،‬‬


‫وهــم يقدمــون المباريــات أو التعليقــات بالعربيــة‪.‬‬

‫وله ـؤالء أقــول‪ ..‬أن معظــم ه ـؤالء المذيعيــن ال يعرفــون العربيــة‪ ،‬والمجهــود‬
‫الــذي بذلــوه لتعريــب هــذه الب ارمــج يرفــع مــن قيمتهــم‪ ..‬ومهمــا كانــت األخطــاء التــي‬
‫ترتكــب‪ ،‬وكفانــا تقع ـرا‪...‬‬

‫ •قــارئ أســاء الظــن بذكائــي‪ ...‬أرســل رســالة بتوقيــع كامــل وعن ـوان كامــل فــي‬
‫قســنطينة‪ !! ‬ولكــن خاتــم البريــد يحمــل اســم العاصمــة‪ ،‬وفــرق التاريــخ بيــن الرســالة‬
‫والمظــروف يؤكــد أن الرســالة كتبــت فــي العاصمــة‪.‬‬

‫وطبعــا أهملــت الرســالة‪ ،‬رغــم أن بعــض األفــكار التــي وردت فيهــا أفــكار‬
‫تســتحق التأمــل‪...‬‬

‫ •وبهــذه المناســبة‪ ...‬الرســالة التــي تســاءلت عــن م‪..‬ديــن الغامــض وتريــد أن‬
‫تعــرف أوصافــه أجيبهــا باآلتــي‪ »..‬عمــري أقــل مــن نصــف قــرن وأنــا أطــول مــن متــر‬
‫‪256‬‬
‫وأربعيــن ســنتمت ار ووزنــي يقــل عــن مائــة كيلــو ج ـرام وهنــاك جــرح قديــم فــي أرســي‬
‫أخفيــه بشــعر غيــر مســتعار‪ ..‬وليــس عنــدي أوالد »‪...‬‬

‫أعتقد في هذا الكفاية‪ ..‬و‪ ...‬تسمع بالمعيدي‪ ...‬الخ‬

‫ •البعــض غاضــب‪ ...‬يعتقــد أننــي لــم أكــن عــادال فــي حديثــي عــن ظاه ـرة‬
‫المهرجا نــات‪.‬‬

‫وأنــا ال أطلــب مــن النــاس أن يقول ـوا‪« ...‬آميــن» إذا تثاءبــت‪ ،‬وال أزعــم أن‬
‫آ ارئــي أحــكام نهائيــة‪ ،‬وأؤمــن بــأن المناقشــة الح ـرة النزيهــة هــي الضمــان الحقيقــي‬
‫لنهضتنــا الثقافيــة‪..‬‬

‫ومعنــى هــذا أن علــى األخــوة العاتبيــن أن يتفضلـوا بالــرد إو�ظهــار الحقائــق التــي‬
‫خفيــت علــى حضرتنــا‪ ...‬أنعــم ايه‪...‬‬

‫ •في بداية هذا الشهر كان المدير العام وثالثة أرباع مديري اإلذاعة والتليفزيون‬
‫خارج الجزائر‪...‬‬

‫ولم يتوقف اإلرسال‪ ...‬وكل شئ راو ال بأس‪ ...‬وهذا إن دل على شئ فإنما‬


‫يــدل علــى‪ ..‬يــدل علــى‪ ..‬علــى‪ ..‬علــى‪ ..‬نســيت مــا أريــد قوله‪!! ‬‬

‫و‪ ..‬وماقلناش‪.‬‬

‫ •مجلــة الجزائريــة هــي المجلــة التــي ال توجــد عنــد معظــم باعــة الصحــف ألن‬
‫الشــركة الوطنيــة لإلخفــاء والتخزيــن تعتقــد أن الم ـرأة عــورة وألنهــا – أي الشــركة‬
‫الموق ـرة – تفضــل االحتفــاظ بوضوئهــا فإنهــا ال تــوزع المجلــة‪.‬‬

‫ولقــد شــكوت زهــور ونيســي إلــى الق ـراء ولكنهــا تفضلــت وأرســلت لــي األعــداد‬
‫األربعــة األولــى مــن المجلــة‪.‬‬

‫وسأقول رأيي بعد صدور العدد العاشر‪!! ‬‬

‫ •قيــل لــي‪ ...‬أنــت تكســب كل يــوم عــدوا جديــدا‪ .‬وقلــت‪ ...‬إن هـؤالء األعــداء ليسـوا‬
‫مــن النــوع الــذي يصنــع صديقــا وفيــا مخلصــا‪ ...‬ولهــذا فلســت فــي حاجــة إليهــم‪...‬‬

‫‪257‬‬
‫ •األخ الذي المني على اختفائي في الفترة الماضية أقول له‪...‬‬

‫كان األمــر أكبــر مــن طاقتــي ولعــل هــذا هــو عيــب كل مــن يحــاول القيــام بأكثــر‬
‫مــن عمــل فــي وقــت واحــد‪.‬‬

‫ •ال أملــك إال أن أقــدم تهنئتــي لغرفــة التجــارة والصناعــة علــى إصدارهــا مجلــة‬
‫«األنبــاء االقتصاديــة باللغــة العربيــة» وهــو عمــل جديــر باإلعجــاب ألنــه يســد ف ارغــا‬
‫كبيـ ار فــي النشــاط الثقافــي الج ازئــري‪.‬‬

‫*‬
‫*‬ ‫*‬

‫‪258‬‬
‫‪ ...‬ولن ترضى عنك‬
‫(((‬
‫اليهود وال النصارى‬

‫لــو جمعنــا عــددا مــن النــاس‪ ،‬وعصبنــا عيونهــم ثــم أتينــا بهــم حــول جثــة فيــل‬
‫ضخــم‪ ،‬وطلبنــا منهــم التعــرف علــى كنــه هــذا الحيـوان وأوصافــه عــن طريــق اللمــس‪.‬‬

‫ســنالحظ أن الفــرد قــد يعجــز عــن تحديــد الحقيقــة بمجــرد لمــس جــزء مــن جســم‬
‫الحيـوان‪ ،‬إو�ن الوصــول إلــى الحقيقــة يســتلزم تجميــع المعلومــات التــي يحصــل عليهــا‬
‫كل فــرد‪ ،‬ويكــون هــذا بــأن ينقــل كل فــرد لزمالئــه تصويـ ار للجــزء الــذي يلمســه‪.‬‬

‫ولســت أدري لمــاذا يطــوف هــذا المثــال بذهنــي كلمــا قـرأت شــيئا عــن التعريــب‬
‫أو كلمــا حاولــت التعــرض لبعــض مشــاكله‪ ،‬ربمــا ألننــي أحــس بنفــس إحســاس‬
‫معصــوب العينيــن أمــام جثــة الفيــل‪ ،‬حيــث التعــرف علــى الجــزء الملمــوس ال يكفــي‬
‫وحــده للتعــرف علــى طبيعــة الــكل‪.‬‬

‫ولعــل هــذا هــو تفســير بعــض المظاهــر التــي عشــناها فــي الفت ـرة الماضيــة‪،‬‬
‫وبالــذات فــي األيــام األولــى مــن شــهر ينايــر ‪ ،1971‬والتــي اختلــت فيهــا بعــض‬
‫المقاييــس‪.‬‬

‫والحــق أن اعتبــار التعريــب مجــرد عمليــة تنفيــس عــن كبــت أو تعبيــر عــن‬
‫عقــدة نفســية تجــاه المثقفيــن بالفرنســية هــو خطــأ جســيم وهــو قبــل ذلــك‪ ...‬مغالطــة‬
‫لفظيــة (ولقــد ســبق لــي التعــرض لهــذه المغالطــة بالــذات)‪.‬‬
‫‪ .1‬المجاهد‪ 24 ،‬يناير ‪.1971‬‬
‫‪259‬‬
‫مــن جهــة أخــرى ال أملــك إال اســتهجان الفك ـرة الســاذجة التــي تطلــب مــن‬
‫المعربيــن العمــل فــي هــدوء ودون لفــت النظــر وذلــك بحجــة عــدم إثــارة أولئــك الذيــن‬
‫لــم يتعلم ـوا اللغــة العربيــة‪.‬‬

‫ومــن تحصيــل الحاصــل القــول بــأن شــعار الحــرص علــى الوحــدة الوطنيــة‬
‫الــذي يرفعــه البعــض فــي مجــال التحذيــر مــن تحــول القضيــة الثقافيــة إلــى عمليــة‬
‫سياسية‪ ...‬هذا الشعار هو أيضا مغالطة‪ ،‬ألن المفهوم السياسي لعملية التعريب‬
‫ومفهومهــا الثقافــي همــا وجهــان لعملــة واحــدة‪.‬‬

‫أحــس وأنــا أخــط هــذه الكلمــات بالضبــاب يغلــف تفكيــري‪ ،‬وأحــس بالتناقضــات‬
‫الحــادة التــي تتميــز بهــا هــذه القضيــة‪ ،‬واالعتبــارات المختلفــة التــي تحتــم أن يحســب‬
‫حســابها‪ ..‬وكل هــذا يجعلنــي أتوتــر‪ ..‬ويجعــل الحقيقــة تت ارقــص أمــام ناظــري‪..‬‬

‫وهــذا هــو مــا يجعلنــي أقــول بــأن مهمــة المناضــل المؤمــن بالتعريــب وضرورتــه‬
‫وحتميتــه هــي مهمــة عويصــة ومعقــدة‪ ،‬ويزيــد مــن تعقيدهــا امت ـزاج الواقــع الجــاف‬
‫بالعاطفــة المشــبوبة فــي ظــروف يــكاد يعجــز فيهــا المــرء عــن كبــح جمــاع عاطفتــه‪،‬‬
‫وفــي الوقــت الــذي يتحتــم علينــا فيــه فهــم الواقــع حســب أبعــاده الحقيقيــة بحيــث ال‬
‫تدفعنــا إلــى أقصــى اليســار الشــوفينيات الفكريــة (إن صــح هــذا التعبيــر) وال تقــذف‬
‫بنــا إلــى اليميــن صيحــات الســخط واالســتنكار والعــداء‪ ،‬وال تشــل حركتنــا وتجمــد‬
‫مواقفنــا التحفظــات والتخوفــات والتحذيـرات التــي يطلقهــا البعــض وتــؤدي إلــى تمييــع‬
‫القضيــة إو�طفــاء الحمــاس الجماهيــري لهــا‪.‬‬

‫وحديــث عــن إمكانيــات التعريــب وبيــان العقبــات التــي تقــف أمامــه يجــب – فــي‬
‫اعتقــادي ‪ -‬أن يكــون كالقاطـرة تســير علــى قضيبيــن متوازييــن‪ ..‬قضيــب واحــد ال‬
‫يكفــي‪ ،‬والتقــاء القضيبيــن مســتحيل‪.‬‬

‫األول – اإلنســان كبشــر هــو عبــد لمــا تعــود عليــه‪ ،‬والتغييــر مهمــا كانــت‬
‫مالمحــه إو�بعــاده يقابــل غالبــا بالنفــور الالشــعوري‪.‬‬

‫وهنــا يبــرز ســاح اإلقنــاع بالحكمــة والموعظــة الحســنة وتبــدو أهميــة الحركــة‬
‫المتزنــة البعيــدة عــن االســتفزاز‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫الثانــي – هنــاك مــن وقــر فــي قلبــه أن مصلحتــه تتعــارض أساســا مــع التعريــب‪،‬‬
‫ويدعــم هــذا عنصــر العــادة ونتــاج االلتصــاق بفكــر ال يمثــل مطامــح هــذا الشــعب‪.‬‬
‫إلــى جانــب اعتبــارات أخــرى معروفــة‪.‬‬

‫وهنــا نجــد أن عنصــر اإلقنــاع بالحكمــة والموعظــة الحســنة ال يكفــي فــي حــد‬
‫ذاتــه‪ »..‬ولــن ترضــى عنــك اليهــود وال النصــارى حتــى تتبــع ملتهــم‪»..‬‬

‫وهنــا أيضــا نجــد أن التخــوف مــن اتخــاذ اج ـراءات معينــة علــى أســاس أنهــا‬
‫تغضــب هــذه الفئــة هــو تخــوف ال أســاس لــه‪ ،‬فهــذه الفئــة لــن ترضــى إال إذا أعطيــت‬
‫مــا تريــد‪ ..‬ومــا تريــده ال يتجــاوب أساســا واالتجــاه الثــوري لهــذه البــاد‪..‬‬

‫والس ـؤال الــذي يطــرح نفســه‪ ،‬مــن هــم ه ـؤالء الذيــن نخشــى إغضابهــم إو�ثــارة‬
‫عدائهــم ؟‪..‬‬

‫إنهــم الســادة الذيــن لــم يحاول ـوا ط ـوال الســنوات الماضيــة تعلــم اللغــة التــي‬
‫يخاطبهــم بهــا رئيــس الدولــة‪ ...‬علــى األقــل لكــي يكون ـوا علــى هــذه األرض‪..‬‬
‫مواطنيــن يعيشــون قضايــا بالدهــم وأحداثهــا‪ ،‬ال مســتوطنين يأكلــون الغلــة ويســبون‬
‫الملــة‪.‬‬

‫اللغة العربية‪ ..‬صعبة ؟ خيبكم اهلل‪..‬‬

‫والعبريــة‪ ..‬التــي يتعلهمــا ابــن اسـرائيل فــي أقــل مــن ســتة أشــهر‪ ..‬أليســت لغــة‬
‫صعبــة ؟ ثــم‪....‬‬

‫ماذا يطلب من موظف البريد مثال‪ ..‬؟‬

‫أقل القليل‪..‬‬

‫أن يعــرف قـراءة اســم أو عنـوان‪ ..‬وهــو مــا يمكــن أن يتعلمــه فــي ســتة شــهور‬
‫لــو كانــت هنــاك النيــة الطيبــة واإليمــان بمســتقبل هــذه البــاد واحت ـرام اختياراتهــا‬
‫األساســية‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫لم نطلب من أحد أن يكون في مستوى طه حسين أو نزار قباني‪..‬‬

‫ويطلق أحدهم سؤاال يتفجر من التحدي‪..‬‬

‫فــي مجــال العمــل البوليســي حيــث يتطلــب األمــر تحريــر شــهادة طبيــة عــن‬
‫إصابــات جثمانيــة‪ ...‬تســتعمل فيهــا األلفــاظ الفنيــة واالصطالحــات العلميــة‪...‬‬
‫مــا هــو الوقــت الــازم لكــي نعــد القادريــن علــى كتابــة هــذا التقريــر والقادريــن علــى‬
‫قراءتــه ؟‬

‫والرد سهل‪...‬‬

‫المدة الالزمة ال تتجاوز أسبوعا واحدا‬

‫كيف ؟‬

‫الموضوع بسيط وأبسط مما يتخيله البعض‪..‬‬

‫فــي التقريــر الطبــي المكــون مــن مليــون صفحــة يتركــز االهتمــام علــى ســطر‬
‫واحــد‪ ،‬وهــو مــدة ال ارحــة التــي يتطلبهــا عــاج اإلصابــات المذكــورة فــي التقريــر‪.‬‬

‫الطبيــب يكفيــه أن يتعلــم كتابــة األرقــام والحــروف الدالــة علــى الشــهور واأليــام‬
‫إو�ضافــة تعبيــر « مــا لــم تحــدث مضاعفــات »‪..‬‬

‫‪ ...‬ودمتم للمخلص‬

‫أمــا التقريــر الطبــي نفســه فــا أعتقــد أن هنــاك مــن يكلــف نفســه عنــاء قراءتــه‪،‬‬
‫سـواء كتــب بالفرنســية أو باإلنجليزيــة أو كان مجــر خربشــة علــى ورق ال يســتطيع‬
‫كاتبهــا نفســه أن يعيــد قراءتهــا‪...‬‬

‫ولقــد اختــرت هــذا المثــال ألنــه يتنــاول ميدانــا فنيــا تســتخدم فيــه مصطلحــات‬
‫معقــدة‪ ،‬ويقــدم كثي ـ ار كمثــال لصعوبــة اللغــة العربيــة‪.‬‬

‫وهناك أمثلة كثيرة‪ ...‬أقل تعقيدا‪..‬‬

‫‪262‬‬
‫المــدة الالزمــة المتــاك القــدرة علــى قـراءة حوالــة بريديــة‪ ،‬هــذه المــدة ال تتجــاوز‬
‫ســتة أشهر‪..‬‬

‫المــدة الالزمــة لقـراءة طريقــة اســتعمال دواء معيــن‪ ..‬لــن تتجــاوز ثالثــة أشــهر‬
‫ملعقــة كبيـرة ثــاث مـرات فــي اليــوم بعــد األكل‪ ...‬أو أمبولــة مرتــان فــي اليــوم قبــل‬
‫األكل‪ ..‬أو شــمعة عنــد النــوم‪ ...‬وكان اهلل يحــب المحســنين‪)...‬‬

‫وعندمــا نقــول بــأن عــام ‪ 1971‬هــو عــام التعريــب ال نعنــي بذلــك إن الســنوات‬
‫الماضيــة لــم تبــذل فيهــا جهــود صادقــة‪ ،‬ولكننــا نعنــي بــكل بســاطة أن هــذا العــام‬
‫يجــب أن يشــهد تحـوالت جذريــة فــي مجــال اســتعمال اللغــة العربيــة‪ ،‬وهــي تحـوالت‬
‫وتصميمــا ومثاب ـرة‪ ،‬وتتطلــب قبــل كل هــذا اإليمــان بــأن الذيــن ال‬
‫ً‬ ‫تتطلــب عزمــا‬
‫يســتطيعون التجــاوب مــع اختيــارات الثــورة ليــس لهــم الحــق فــي رعايــة خاصــة‪.‬‬

‫وما زال للحديث بقية‪...‬‬

‫*‬

‫*‬ ‫*‬

‫‪263‬‬
‫(((‬
‫حىت ال ميوت شهداؤنا مرتني‬

‫نوع معين من البشر‪...‬‬

‫يعيــش جثمانيــا بيننــا‪ ،‬وينتســب جغرافيــا إلينــا‪ ،‬ويحســب بشــريا علينــا‪ ،‬ولكنــه –‬
‫وفــي مثــل الفتـرة الدقيقــة التــي نمــر بهــا – يشــكل وضعــا خاصــا البــد أن نقــف أمامــه‬
‫لنتأملــه عــن كتــب‪ ،‬ولنحــدد موقفنــا منــه وتصرفنــا حيالــه‪.‬‬

‫هــو النــوع الــذي أشــار إليــه الرئيــس فــي حديثــه أكثــر مــن م ـرة‪ ...‬النــوع الــذي‬
‫يغــرم «بالتوشــويش»‪ ،‬ويلبــس عمامــة الحكمــة‪ ،‬ونظــارات النظــر الثاقــب البعيــد‪،‬‬
‫ويســتعمل أســلوب الناصــح المشــفق أو الصديــق األميــن‪.‬‬

‫هــو النــوع الــذي لــم يســلم قـرار ثــوري مــن لســانه‪ ،‬ولــم تفلــت خطــوة ثوريــة مــن‬
‫تعليقاتــه ولــم ينــج عمــل مــن عبثــه وتخريبــه‪.‬‬

‫ولــو حاولنــا نبــش حيــاة هــذا النــوع مــن البشــر لوجدنــا أن الكثيــر منهــم لــم يؤمــن‬
‫أساســا بالثــورة التحريريــة‪ ،‬فــر منهــا‪ ،‬أو تجمــد أمامهــا‪ ،‬أو عــاش علــى هامشــها‪ ،‬أو‬
‫مــارس حياتــه كتــرس فــي عجلــة اإلدارة االســتعمارية‪.‬‬

‫إو�ذا كانــت المقاديــر ونقــص اإلطــار الفنــي قــد قذفــت ببعــض أفـراد هــذا القطيــع‬
‫إلــى م اركــز مســؤوليات إداريــة‪ ،‬أو أعطاهــا الفرصــة لتعيــش مظاهــر العمــل‬
‫السياســي‪ ،‬فإنهــم عاشـوا بعــد االســتقالل بعقليــة المســتوطن ال بالت ـزام المواطــن‪،‬‬
‫وكانـوا غالبــا طبقــة لزجــة علــى طريــق النضــال تــكاد تدفــع الســائر فيــه بعيــدا عــن‬
‫المجاهد – ‪ 7‬مارس – ‪.1971‬‬
‫‪265‬‬
‫مراميــه‪ ،‬وظلـوا غالبــا رمــاال فــي محــرك العمــل الثــوري‪ ،‬تعطــل حركتــه وتســبب تــآكل‬
‫أج ازئــه وتصنــع الضجيــج وتشــوه األداء‪.‬‬

‫وألن دور ه ـؤالء النــاس فــي إطــار الكفــاح الوطنــي اتســم غالبــا بالســلبية –‬
‫لكــي ال أقــول‪ ..‬باإليجابيــة مــن وجهــة نظــر العــدو – وألن مقيــاس النضــال هــو‬
‫مــدى المســاهمة التــي قدمــت فــي مجــال العمــل الثــوري‪ ،‬فــإن هــذه الفئــة بعــد أن‬
‫تســللت إلــى واقــع الحيــاة اليوميــة حاولــت دائمــا تدعيــم كيانهــا عــن طريــق التقليــل‬
‫مــن قيمــة الكفــاح الوطنــي‪ ،‬حتــى وصلــت الوقاحــة ببعضهــم إلــى حــد التباهــي‬
‫بالســنوات التــي قضاهــا فــي خدمــة اإلدارة الفرنســية أثنــاء الثــورة‪ ،‬التــي حاولـوا حتــى‬
‫حرمانهــا مــن فضلهــا فــي تحقيــق االســتقالل‪ ،‬ليصبــح الفضــل األول فيــه إلــى ســعة‬
‫أفــق «المتروبــول» وحنــان الوطــن األم وبعــد نظــر زعيمــه التاريخــي ال ارحــل‪!! ‬‬

‫وهكــذا ولكــي يــرث المســتوطنون الجــدد األرض ومــن عليهــا‪ ،‬كان يجــب أن‬
‫يمــوت شــهداؤنا مرتيــن‪ ،‬وأن يســمم نضــال شــعبنا كل يــوم‪ ،‬وأن تــزرع الشــكوك فــي‬
‫فعاليــة الخــط الثــوري الــذي التزمنــا بــه‪ ،‬وفــي جديــة الق ـ اررات التــي ترســم لشــعبنا‬
‫طريــق المســتقبل‪.‬‬

‫هنــا ينكشــف القنــاع عــن حقيقــة «الفرانكوفونيــه» وحقيقــة األفــكار العنصريــة‬


‫المشــبوهة التــي يتحمــس لهــا «الموشوشــون» ممــن فشــلوا فــي ســرقة الثــورة شــكال‬
‫ومضمونــا ف ارحـوا يحاولــون إفـراغ مضمونهــا مــن محتواه األساســي تارة‪ ،‬ويضعون‬
‫العراقيــل فــي طريــق العمــل الثــوري تــارة أخــرى‪ ،‬والهــدف دائمــا هــو الحفــاظ علــى‬
‫م اركــز النفــوذ‪.‬‬

‫علــى هــذا الضــوء نســتطيع أن نــرى بوضــوح األهــداف الحقيقيــة للضجيــج الــذي‬
‫نســمعه كلمــا اتخــذت الثــورة ق ـ ار ار يكفــل لشــعبنا االســتقالل الحقيقــي المتكامــل‪...‬‬
‫ـادا‪.‬‬
‫سياســة وثقافــة واقتصـ ً‬
‫ومــن هــذه الزاويــة نســتطيع أن نحــس بالمصــدر الحقيقــي لتلــك الريــاح التــي‬
‫تثيــر زوابــع الشــك‪ ،‬وتجــرف أبريــاء ومناضليــن حقيقييــن‪ ..‬لتدفعهــم إلــى االرتطــام‬
‫بمنج ـزات ثورتهــم‪ ،‬ولتجعــل منهــم‪ ...‬مخلــب قــط‪ ...‬لمخلــب القــط‪...‬‬

‫‪266‬‬
‫وهكــذا ينكشــف القنــاع عــن األعــداء الحقيقييــن لهــذا البلــد ممــن يحاولــون أن‬
‫يكون ـوا ورثــة «الكولــون» وبالتالــي االمتــداد العضــوي للوطــن األم‪!! ‬‬

‫وهنــا يبــدو الخطــر الحقيقــي لدعــاة «الفرنكوفونيــه» الذيــن غفــر لهــم الشــعب‬
‫هفـوات ماضيهــم‪ ،‬وتغاضــى عــن أخطــاء حاضرهــم‪ ..‬ولكنهــم لــم يقــدروا شــعبهم حــق‬
‫قــدره‪ ،‬وأســاءوا فهــم تســامحه وصمتــه‪ ،‬ولــم يســتطيعوا هضــم حقيقــة االســتقالل ولــم‬
‫يدركـوا بعــد أن عليهــم االختيــار بيــن طريقيــن ال ثالــث لهمــا‪...‬‬

‫االلتزام مع متطلبات الثورة‪...‬‬

‫أو اللحاق بإخوانهم‪ ...‬شق البحر من هيه‪...‬‬

‫ •فــي األســبوع األول مــن شــهر ينايــر ‪ 1971‬تســاقطت الثلــوج علــى العاصمــة‬
‫وألول م ـرة منــذ ســنين طويلــة‪ ...‬هــل يعنــي هــذا أن الســماء أرادت أن تقــول لنــا‬
‫شــيئا مــا‪..‬‬

‫ •أنــا أرفــض تعبيــر «األصدقــاء المزيفيــن» عنــد الحديــث عــن التعريــب‪ ...‬قــد‬
‫تكــون هنــاك مبالغــات وقــد يندفــع البعــض فــي التعبيــر عــن عواطفــه‪ ،‬وقــد يخطــئ‬
‫(((‬
‫البعــض‪ ..‬ولكــن كل هــذا ليــس مــن الزيــف فــي شــئ‪..‬‬

‫ •األخــت التــي تقــدم ب ارمــج أدب وطــرب أرجــو أن تقتصــد قليــا فــي حنانهــا‬
‫(((‬
‫وعذوبتهــا فالبرنامــج يقــدم فــي آخــر الســهرة‪ ..‬والشــيطان ملعــون‪!! ‬‬

‫ـرب‪ ،‬هجومــا علــى حماســنا للتعريــب‪.‬‬


‫‪ .1‬هــذا التعبيــر كان عنوانــا إلفتتاحيــة كتبهــا مثقــف ُمعـ ّ‬
‫(تعليــق جديــد)‬
‫‪ .2‬كان إشارة لبرنامج تقدمه أحالم مستغانمي‪.‬‬
‫‪267‬‬
‫هدايا للمقص‬

‫فــي العالــم أجمــع‪ ،‬وخاصــة فــي البلــدان الســائرة فــي طريــق النمــو‪ ،‬يكــون‬
‫لإلعــام الموجــه دور كبيــر فــي دعــم التطــور ورعايتــه‪ ،‬وفــي مراقبــة أجهـزة الدولــة‬
‫مــن جهــة وخلــق الت اربــط الجماهيــري معهــا مــن جهــة أخــرى‪.‬‬

‫وهــذا ينطبــق بصــورة خاصــة علــى صــور اإلعــام التــي ال تحتــاج مــن المواطــن‬
‫إلــى أكثــر مــن االســتماع أو المشــاهدة‪ ،‬دون أن تكلفــه جهــدا‪ ..‬أو تتطلــب منــه‬
‫مســتوى د ارســيا عاليــا‪.‬‬

‫واألفــام البوليســية – بجانــب أهميتهــا الترفيهيــة والرياضــة الفكريــة التــي تدفــع‬


‫المتفــرج إليهــا – هــذه األفــام هــي مظهــر مــن مظاهــر اإلعــام التــي تتطلــب‬
‫تخطيطــا سياســيا واعيــا وهادفــا وتنفيــذا فنيــا قــاد ار ومتمكنــا‪.‬‬

‫ذلــك أن الفيلــم البوليســي يجــب أن يصــل بالمتفــرج – وبصــورة منطقيــة ال‬


‫افتعــال فيهــا وال تصنــع – إلــى اســتنتاجات رئيســية ثالثــة‪:‬‬

‫االســتنتاج األول – أن الجريمــة ال تفيــد‪ ،‬وأن أذكــى المجرميــن البــد وأن يقــع‬
‫يومــا فــي قبضــة العدالــة ألن الجريمــة الكاملــة تتطلــب اإلنســان الكامــل‪ ..‬و‪..‬‬
‫الكمــال هلل‪.‬‬

‫االســتنتاج الثانــي – إن تــدرك العناصــر المســؤولة عــن األمــن‪ ،‬بــأن األجه ـزة‬
‫الفنية واإلدارية ال تكفي في حد ذاتها للوصول إلى حل الغاز الجرائم أو الحيلولة‬
‫دون وقوعهــا‪ ،‬إو�ن الضمــان الرئيســي لحســن ســير األجهـزة هــو تعــاون الجمهــور‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫وهــذا التعــاون ال يمكــن أن يتحقــق إال إذا زرعــت فــي نفــوس أف ـراده الثقــة‬
‫المطلقــة بجهــاز األمــن‪ ،‬مضافــا إلــى هــذا‪ ...‬الحــب والتقديــر واأللفــة‪.‬‬

‫ومعنى هذا إن صورة الشــرطي الغاضب الذي يعامل الناس جميعا كمتهمين‬
‫عليهــم أن يثبت ـوا براءتهــم‪ ،‬أو الــذي يتصــرف معهــم وكأنهــم خلق ـوا ليمــارس فيهــم‬
‫نفــوذه ويفــرض عليهــم ســلطانه‪ ...‬أو الــذي يســئ اســتقبالهم إذا اضطرتهــم الظــروف‬
‫إلــى طلــب معونتــه‪ ...‬هــذه الصــورة تــؤدي إلــى نفــور الجمهــور مــن البســي البـزات‬
‫الرســمية و‪ ...‬بعيــد يــا شــر‪..‬‬

‫االســتنتاج الثالــث – أن يــدرك الجمهــور بــأن ســامته وســامة أبنائــه‪ ،‬ومقدرتــه‬


‫علــى ممارســة حياتــه فــي أمــن وطمأنينــة‪ ،‬كل هــذا يتوقــف علــى قيــام مصالــح األمــن‬
‫بدورهــا‪ ،‬الــذي يتطلــب دائمــا تعــاون الجمهــور وحســن تقديـره‪.‬‬

‫طافــت ب أرســي هــذه األفــكار وأنــا أتابــع فــي عــرض خــاص الفيلــم البوليســي‬
‫الــذي أعــده للتلف ـزة الجزائريــة المخــرج عبــد العزيــز طلبــي‪ ،‬و أريــت أن أثبــت هــذه‬
‫األفــكار قبــل التعــرض للحديــث عــن الفيلــم ألن أحكامــي عليــه متأث ـرة بهــا‪.‬‬

‫إو�ذا كنــت أك ـره أن يقــص علــى أحدهــم قصــة فيلــم معيــن قبــل أن أراه بنفســي‬
‫فإننــي لــن أحــب للقــارئ إال مــا أحبــه لنفســي‪ ،‬وهــو مــا ســيمنعني مــن ســرد القصــة‬
‫كاملــة‪..‬‬

‫ولكــن هــذا لــن يحــول بينــي وبيــن إبــداء مالحظــات س ـريعة أتعــرض فيهــا‬
‫للمظاهــر الســلبية لهــذا الفيلــم‪ ،‬لعــل هــذا يدفــع المخــرج إلــى إعــادة «مونتــاج» الفيلــم‬
‫لكــي تتوفــر لــه عناصــر النجــاح الــذي يســتحقه كمحاولــة جديــة وجديــدة‪..‬‬

‫إذن‪ ..‬فهــي مالحظــات أهديهــا إلــى المقــص (مقــص المخــرج‪ ..‬ال‪ ...‬مقــص‬
‫واحــد آخــر‪.)...‬‬

‫ •الفيلــم الذكــي هــو الفيلــم الــذي يقــود المتفــرج إلــى اســتنتاج معيــن بطريقــة غيــر‬
‫مباش ـرة وعــن طريــق أحــداث الفيلــم نفســه‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫ولهــذا فــإن اللوحــة التــي ظهــرت فــي ختــام الفيلــم هــي حشــو ال فائــدة منــه إال‬
‫إذا كان المخــرج يشــك فــي ذكاء المتفــرج‪ ...‬وهــذا غيــر وارد‪ ...‬علــى مــا أعتقــد‪.‬‬

‫إو�ذن‪ ...‬فهذا مشهد أهديه للمقص‪..‬‬

‫من ناحية أخرى‪...‬‬

‫القانــون يفتــرض أن المتهــم يجــب أال يعتبــر مجرمــا إال إذا ثبتــت جريمتــه‪..‬‬
‫والعكــس أصــح‪ ...‬وبالتالــي فــإن المعاملــة التــي عومــل بهــا نائــب مديــر الشــركة‬
‫الوطنيــة لــم يكــن لهــا مــا يبررهــا‪ ..‬وببســاطة‪ ..‬ألن تصريــح المديــر ال يجــب أن‬
‫يديــن نائبــه‪ ،‬ومــن جهــة أخــرى ألنــه مــن حــق كل إنســان أن‪ ..‬يخــاف علــى عمـره‪..‬‬

‫وهكذا فإنني أهدي للمقص تفاصيل استجواب نائب المدير‪..‬‬

‫شئ آخر‪...‬‬

‫عندمــا يفاجــأ مواطــن عــادي برجــل يرفــع ســاحه فــي وجهــه‪ ..‬ســيضطرب قليــا‬
‫وقــد يتــردد ولكــن لــن يرفــع يديــه إلــى الســماء بســرعة تحســده عليهــا عامــات الهاتــف‬
‫فــي بالدنــا‪ ..! ‬وبطريقــة توحــي للمتفــرج بــأن التهديــد المســلح ظاهـرة مألوفــة ال تثيــر‬
‫الدهشــة أو االضطراب‪.‬‬

‫وعلــى هــذا فعلــى المقــص أن يتدخــل بحيــث يــرى المتفــرج مظهــر اللصــوص‬
‫وهم يدخلون إلى الشركة الوطنية ثم‪ ...‬مظهر الموظفين وأيديهم مرفوعة فعال‪...‬‬

‫شئ آخر‪...‬‬

‫رغــم أن الحـوار الــذي جــرى بيــن ســائق األجـرة وال اركــب حـوار ممتــع‪ ..‬إال أنــه‬
‫بــدا مفتعــا للمتفــرج حتــى لــكأن المشــهد دخيــل علــى الفيلــم‪.‬‬

‫ولقــد كان مــن المعقــول أن ي ارقــب ســائق األج ـرة ســيارة الجنــاة ثــم يلتقــط‬
‫الرقــم واتجــاه الســيارة‪ ،‬ثــم ينقــل هــذا إلــى محافظــة الشــرطة‪ ..‬أمــا أن يتتبــع الجنــاة‬
‫بســيارته‪ ..‬فــإن « تقعــر» ال داعــي لــه‪...‬‬

‫‪271‬‬
‫إو�ذا‪ ...‬فهذا مشهد يمكن أن يلتهم المقص منه الكثير‪.‬‬

‫وهنــاك مظاهــر أخــرى منهــا رداءة الصــوت أحيانــا وعــدم توافــق النقــات‬
‫الصوتيــة وطــول الرقصــة فــي الكاباريــه واختــال النســب الجســمية عنــد اســتعمال‬
‫الكامي ـ ار داخــل الســيارة‪..‬‬

‫قــارئ طيــب يقــول لــي‪ ..‬قــف‪ ..‬إن هــذا العمــل الفنــي الــذي يقدمــه مثقــف عربــي‬
‫فــي مجــال جديــد كل الجــدة علــى المثقفيــن بالعربيــة‪ ..‬هــذا العمــل ال يجــب أن يعالــج‬
‫بقسوة‪.‬‬

‫وأقول للقارئ‪...‬‬

‫إن المثقف العربي يثبت دائما وعيه المتكامل بممارسته للنقد الذاتي وبصورة‬
‫ال تخلو أحيانا من القســوة ألنه يدرك عظم التحدي الذي فرضت عليه مواجهته‪.‬‬

‫ولقــد كان ل ازمــا علــي أن أقــول مــا قلتــه‪ ،‬رغــم أننــي أحــس بــأن عبــد العزيــز‬
‫طلبي قدم لنا صورة رائعة للمثقف العربي الملتزم‪ ،‬دون أن يطلب جزاء أو شكو ار‬
‫ودون أن يتمتــع بالم ازيــا التــي يتمتــع بهــا حضـرات مخرجينــا الكبــار‪..! ‬‬

‫لقــد كان الفيلــم فــي مجموعــة تجربــة ناجحــة تمثلــت فــي معالجــة القصــة‪ ...‬فــي‬
‫اختيــار «الجينيــرك» أو المقدمــة الموســيقية‪ ...‬فــي حــركات الكامي ـ ار الذكيــة‪ ..‬فــي‬
‫اختيــار الممثليــن الذيــن أدوا أدوارهــم ببســاطة ودون تكلــف‪ ..‬فــي شــجاعة النــزول‬
‫إلــى الشــارع بعيــدا عــن تســهيالت األســتوديو‪ ..‬فــي البعــد عــن األســلوب الوعظــي‬
‫والخطابــي‪.‬‬

‫و‪ ...‬لن أتورط في الحديث عن ايجابيات الفيلم‪ ،‬ذلك أتركه للمتفرجين‪...‬‬

‫وتحية لطلبي ومجموعته الفنية‪ ...‬ومزيدا من هذه األفالم‪..‬‬

‫‪272‬‬
‫(((‬
‫عن الشعب وللشعب ويف الشعب‬

‫العالقــة بينــي وبيــن «الشــعب» كانــت وأظنهــا ال تـزال عالقــة عاطفيــة خاصــة‬
‫ومتميـزة‪ ،‬أزعــم أننــي ال أســتطيع أن أجــد لهــا تفســي ار مرضيــا مائــة بالمائــة‪.‬‬

‫ولقــد حافظــت هــذه العالقــة علــى نوعيتهــا وخصوصيتهــا وقوتهــا‪ ،‬رغــم اختــاف‬
‫الزوايــا التــي قــدر لــي أن أنطلــق منهــا فــي تعاملــي مــع الصحيفــة – المؤسســة‪.‬‬

‫وعبــر ســنوات طويلــة‪ ،‬لعلهــا تمثــل معظــم عمــري المهنــي‪ ،‬كان مــن أهــم مــا‬
‫أحــرص عليــه أال يفوتنــي عــدد واحــد مــن «الشــعب»‪ ،‬حتــى عندمــا كنــت أئــن‪ ،‬بعــد‬
‫العــودة مــن ســفر طويــل‪ ،‬تحــت أكــداس مــن الصحــف كان علــي أن أتصفحهــا‪،‬‬
‫إن لــم أكــن مضطـ ار إلــى ازدراد ســطورها‪ ،‬مــن الغــاف إلــى الغــاف كمــا يقولــون‪.‬‬

‫كنــت دائمــا أبحــث عــن «الشــعب» و «الشــعب» أوال‪ ،‬رغــم صــدور أخ ـوات‬
‫لهــا‪ ،‬فيهــا مــن الجهــد مــا يســتحق التقديــر‪ ،‬ومــن عناصــر التجديــد مــا قــد يبــرز فـراق‬
‫القديــم إلــى الجديــد‪.‬‬

‫وكنت أتساءل أحيانا‪...‬‬

‫هــل كانــت القضيــة مجــرد «الزمــة» عصبيــة كإشــعال ســيغارة الصبــاح‪ ،‬التــي‬
‫ندخنهــا بحكــم العــادة أكثــر ممــا ندخنهــا تحــت ضغــط الحاجــة ؟‬

‫‪ .1‬الشـعب ‪ 12‬ديسـمبر ‪ 1986‬وقـد كان مـن المنطقـي أن يضـاف هـذا الموضـوع إلـى الجـزء‬
‫الثالـث ولكـن المطبعـة كانـت قـد سـبقتني‪ .‬فرأيـت إضافته إلـى الطبعـة الثانية من الجـزء األول‬
‫الـذي كنـت أسـتعد إلصـداره‪ ،‬واعتمـدت علـى األصـل ووضعـت عنوانا جديدا مناسـبا‪.‬‬
‫‪273‬‬
‫ال أعتقد ذلك‪.‬‬

‫ففــي حــاالت معينــة كنــت أقــ أر الصحيفــة فــي آخــر المســاء ال فــي بدايــة‬
‫الصبيحــة‪ ،‬وأحيانــا كنــت أقرؤهــا بعــد أيــام مــن الصــدور‪.‬‬

‫هــل ألنهــا كانــت تتفــوق علــى زميالتهــا مــادة إو�خ ارجــا واســتجابة للحاجــة‬
‫اإلعالميــة ؟‬

‫كنت أحب أن أعتقد ذلك‪.‬‬

‫ولكــن‪ ،‬ربمــا كان أقــرب تفســير لقلبــي هــو أن الشــعب كانــت منــذ انطالقهــا‬
‫فــي ديســمبر ترمــز للتحــدي الــذي يرفعــه الحــرف العربــي فــي وجــه الــداء واألعــداء‪،‬‬
‫وفــي مواجهــة منافســة أقــل مــا يمكــن أن يقــال عنهــا أنهــا كانــت تفتقــر إلــى عنصــر‬
‫النزاهــة الــذي يميــز المنافســة الشـريفة‪ ،‬المبنيــة علــى تكافــؤ الفــرص واإلمكانيــات‪...‬‬
‫(((‬
‫والحظــوة‪.‬‬

‫كنــت أحــس فــي ســطور الصحيفــة نبــض الوطــن كلــه‪ ،‬خاصــة وقــد أصبحــت‬
‫ـز بالــغ الداللــة عندمــا بــرز اتجــاه خفاشــي شــديد الخطــورة يهــدف إلــى تحويلهــا‬ ‫رمـ ًا‬
‫إلى مجرد صحيفة جهوية‪ ،‬وفي ظروف (لكي ال أقول شــيئا آخر) ال مجال فيها‬
‫لغيــر الصحافــة الوطنيــة‪ ،‬الموجهــة لــكل مواطــن عبــر الت ـراب الوطنــي وخارجــه‪.‬‬
‫والتــي تتولــى صياغــة الــذوق المشــترك وخلــق الحساســية المشــتركة وصقــل االهتمــام‬
‫المشــترك‪ ،‬وتكويــن الـرأي العــام المؤثــر لــكل قـراء اللغــة الوطنيــة‪ ...‬أقصــد‪ ..‬اللغــة‬
‫العربيــة‪.‬‬

‫وصمــدت الشــعب (بســامة الرجــال‪ ...‬كمــا يقولــون)‪ ،‬وصمــدت رغــم ظــروف‬


‫ماديــة كانــت تجعــل مــن صدورهــا عمليــة والدة متعسـرة‪ ،‬غيــر مأمونــة النتائــج مائــة‬
‫فــي المائــة‪ ،‬وعبــر المعركــة الضاريــة التــي تكســرت فيهــا النصــال علــى النصــال‪،‬‬
‫دفاعــا عــن «الضــاد»‪ ،‬بــكل مــا تعنيــه‪ ،‬وحمايــة لهــا‪ .‬كان كثيــرون يخافــون يومــا‬
‫ً‬
‫تتوقــف فيــه «الشــعب» ألن آلــة الســحب التاريخيــة لفظــت أنفاســها األخي ـرة‪ .‬أو‬

‫‪ .1‬كان إشارة لما تحظى به الصحيفة الناطقة بالفرنسيىة (تعليق جديد)‪.‬‬


‫‪274‬‬
‫ألن أســاك الكهربــاء‪ ،‬فــي الكهــف الــذي اصطلــح علــى تســميته‪ ...‬مطبعــة‪ ،‬ذابــت‬
‫والتصقــت ببعضهــا فأشــعلت النــار فــي كل شــئ‪ ،‬فــي كل شــئ (والتكـرار مقصــود)‪.‬‬

‫ولقــد كــدت يومــا أطــرح‪ ،‬وبــكل جديــة‪ ،‬فك ـرة القيــام باكتتــاب وطنــي إلنقــاذ‬
‫«الشــعب» رغــم أننــي كنــت أعــرف بــأن القضيــة لــم تكــن أساســا قضيــة ماليــة (وال‬
‫أقــول شــيئا آخــر)‪ .‬وكنــت اريــد مــن طــرح الفكـرة أن تكــون عامــل تحريــض نفســي‬
‫للجميــع‪ ،‬يســتثير النخــوة والشــهامة و«النيــف» قبــل اســتنفار الجيــوب وأرصــدة‬
‫البنــوك‪.‬‬

‫ولكننــي تراجعــت‪ ،‬ألننــي خشــيت علــى الهــدف نفســه مــن اســتعداء ال يواجهــه‬
‫اســتعداد‪ .‬وألننــي لــم أرد أن تشـ ّـوه المضمــون حساســيات الشــكل‪ ،‬وألننــي لــم أرد‬
‫ـرر للتقاعــس‬
‫يضــا واســتفزًازا‪ .‬وبالتالــي مبـ ًا‬
‫هجومــا‪ ،‬والحمــاس تعر ً‬
‫ً‬ ‫أن يعتبــر الدفــاع‬
‫والتخلــي‪ ،‬فــي غيــاب الصمــود والتصــدي‪.‬‬

‫وصبــرت طويــا علــى التشــويه الــذي كان يلحــق‪ ،‬أحيانــا‪ ،‬بســطور أقضــي‬
‫ليالــي طويلــة فــي نحتهــا وصقلهــا لتحمــل للقــارئ – فــي ظــروف معينــة – رســالة‬
‫واضحــة المعالــم‪ ،‬مســتقيمة المعانــي‪.‬‬

‫صبــرت ودعــوت للصبــر‪ ،‬ألننــي كنــت أعــرف الجهــد المبــذول فــي الكهــف‪،‬‬
‫والمعانــاة اليوميــة ألهــل الكهــف‪.‬‬

‫اليــوم تنتقــل «الشــعب» إلــى مرحلــة جديــدة يحــاول الشــكل فيهــا أن يتكامــل مــع‬
‫المضمــون‪ ،‬ويفتــح أمامــه آفاقــا أوســع‪ ،‬ليرتفــع بــه نحــو قمــم جديــدة جديـرة بالهــدف‪،‬‬
‫وســيكون مــن واجبنــا جمعيــا تســجيل تحيــة التقديــر للذيــن مكن ـوا «الشــعب» مــن‬
‫اســتقبال القاعــدة الماديــة للتطــور‪ ،‬ولكــن‪ ،‬وقبــل ذلــك‪ ،‬ســيكون مــن واجبنــا أن نقــدم‬
‫مــا هــو أســمى مــن تحيــة التقديــر إلــى كل أولئــك الذيــن حافظـوا بوجودهــم ووجدانهــم‬
‫على لهب الشــمعة‪ ،‬وســط العاصفة‪ ،‬ليظل كالســيف‪ ،‬المعا باترا‪ ،‬أو صامدا رزينا‪.‬‬

‫ومــن حقنــا‪ ،‬نحــن معشــر القـراء‪ ،‬أن نطالــب بحقنــا فــي تلقــي التهنئــة‪ ،‬دون أن‬
‫ننســى أو نتناســى مــن يســتحقونها قبلنــا‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫وال أقصــد فقــط رجــال القلــم‪ ،‬مــن صحفييــن ورســامين وخطاطيــن‪ ،‬ولكننــي‬
‫أعنــي أيضــا كل الفنييــن والمصففيــن (بالصــاد وفائيــن) والمصوريــن والمكلفيــن‬
‫بالتوزيع فجر أيام الشتاء‪ ،‬وأيضا وخاصة كل الذين تنفسوا الرصاص المصهور‪،‬‬
‫ســنوات وســنوات‪ ،‬دون أن يشــكو واحــد منهــم همســا لقــارئ بــح صوتــه مــن الجهــر‬
‫بالشــكوى‪ ،‬بحــق وبغيــر حــق‪ ،‬ســنوات وســنوات‪.‬‬

‫لقــد ظلــت هــذه الصحيفــة‪ ،‬بــكل مــا يمكــن أن نأخــذه عليهــا‪ ،‬أكبــر مــن مجمــوع‬
‫الجهــد الــذي بذلنــاه نحــن مــن أجلهــا‪ ،‬ولقــد أعطتنــا أكثــر ممــا أخــذت منــا‪ ،‬وكان أهــم‬
‫عطــاء لهــا مــا يمكــن أن أســميه وحــدة االنتمــاء الفكــري‪ ،‬الــذي أصبحــت أراه قاعــدة‬
‫كل شــئ‪ ،‬وضرورة إســتراتجية قبل كل شــئ‪ ،‬وبرغم كل شــئ‪.‬‬

‫ورغــم التفكيــر مــن اليســار إلــى اليميــن إو�ن كتــب مــن اليميــن إلــى اليســار‪،‬‬
‫ورغــم ألــف عامــل وعامــل تدفــع المناضــل نحــو االستســام‪ .‬وتثيــر فــي النفــس‬
‫مبــررات الالمبــاالة وعناصــر اإلحبــاط ولهفــة الجــري وراء االعتبــارات األنانيــة‬
‫والمصلحــة الفرديــة‪ ،‬رغــم كل ذلــك فــإن اإليمــان بالهــدف النبيــل‪ ،‬وبالوســيلة النبيلــة‪،‬‬
‫وبالكلمــة النبيلــة‪ ،‬حريــة ون ازهــة ومســؤولية‪ ،‬ســيكون دائمــا قلعــة الصمــود‪ ،‬وســاحة‬
‫اللقــاء ونقطــة التجمــع وخــط االنطــاق‪.‬‬

‫ولعــل الرمــز‪ ،‬أمــا‪ ،‬يواصــل الربــط بيــن العن ـوان والمضمــون‪ ،‬لتبقــى الشــعب‬
‫دائما بؤرة كل األشــعة‪ ،‬إرســاال واســتقباال‪ ،‬حتى ولو صدرت معها وبجانبها عشـرات‬
‫الصحف والمجالت‪ ،‬ألنها األم بكل ما يجب أن تمثله وترمز إليه‪ ،‬ودون أن ينقص‬
‫هــذا مــن فضــل أخواتهــا وبناتهــا‪ ،‬ألنهــا‪ ،‬وبحكــم التاريــخ‪ ،‬البنــت البكــر لالســتقالل‪،‬‬
‫انبثقــت منــه‪ ،‬وارتبطــت بــه‪ ،‬وتفاعلــت معــه‪ ،‬وستحســب دائمــا عليــه‪.‬‬

‫هذا هو قدر «الشعب»‬

‫أن تكون أو ال تكون‪.‬‬

‫وبقــي أن تقــوم «األوفســت» و«الفاكســيميلي» بالــدور الــذي انتظرنــاه طويــا‪،‬‬


‫لتكــون «الشــعب»‪ ،‬حيــث يجــب أن تكــون‪ ،‬مكانــا ومكانــة‪ ،‬وبغيــر هــذا لــن نكــون‬
‫حمل ـوا التــوراة ثــم لــم يحملوهــا‪.‬‬
‫خي ـ ار مــن الذيــن ّ‬

‫‪276‬‬
‫الدكتور حميي الدين عميمور‬

‫* ‪ -‬طبيــب بشــري‪ ،‬مــن مواليــد القــرن الماضــي‪ !!! ‬ينتمــي ألســرة‬


‫مجاهــدة مــن واليــة «ميلــة» شــرق الجزائــر‪.‬‬
‫* ‪ -‬أول طبيــب جزائــري يتخــرج مــن المشــرق العربــي (طــب عيــن‬
‫شــمس ‪-‬القاهــرة)‬
‫* ‪ -‬مــارس نشــاطا طالبيــا وكشــفيا متعــددا خــال مرحلة الدراســة‪ ،‬وكان‬
‫عضــوا فــي بعثــة جمعيــة العلمــاء المســلمين فــي القاهــرة‪ ،‬وبعــد االنفصــال عنهــا‬
‫إثــر قيــام ثــورة نوفمبــر ‪ 1954‬كــون مــع عــدد مــن أعضائهــا البعثــة الجزائريــة‬
‫الحــرة‪ ،‬وشــارك فــي أشــغال المؤتمــر المعســكر األول لشــباب العالــم اإلســامي‪،‬‬
‫وقــام بتكويــن الفرقــة الكشــفية الجزائريــة فــي المؤتمــر الكشــفي العربــي الثانــي‬
‫برعايــة أحمــد توفيــق المدنــي فــي اإلســكندرية عــام ‪ 1956‬وترأســها‪.‬‬
‫* ‪ -‬قطــع دراســته الطبيــة فــي ‪ 1957‬ليلتحــق بجيــش التحريــر الجزائــري‬
‫تحــت إمــرة العقيــد عمــر أوعمــران‪.‬‬
‫* ‪ -‬اســتكمل دراســته الطبيــة عــام ‪ 1963‬فــي القاهــرة ليعــود فــورا إلــى‬
‫الجزائر‪.‬‬
‫* ‪ -‬تولــى إدارة الشــؤون الطبيــة للقــوات البحريــة الجزائريــة وكان أول‬
‫أطبائهــا الجزائرييــن بعــد اســترجاع االســتقالل‪ ،‬وأســس فيهــا أول محافظــة‬
‫سياســية كان أول محافــظ سياســي لهــا‪.‬‬
‫* ‪ -‬بــدأ الكتابــة بانتظــام فــي منتصــف الســتينيات علــى صفحــات مجلــة‬
‫الجيــش‪ ،‬مســتعمال بتوقيــع «م ‪ ..‬ديــن»‪ ،‬وكانــت رســومه الكاريكاتيريــة أول‬
‫رســوم تعرفهــا الصحافــة العربيــة فــي الجزائــر‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫* ‪ -‬اســتقال مــن البحريــة وفتــح عيــادة خاصــة فــي العاصمــة الجزائريــة‬
‫فــي منتصــف الســتينيات‪ ،‬وفــي الوقــت نفســه واصــل النشــاط النضالــي فــي إطار‬
‫حــزب جبهــة التحريــر الوطنــي والكتابــة فــي مجلــة المجاهــد الناطقــة باســم‬
‫الحــزب وكذلــك فــي صحيفــة الشــعب‪ ،‬وبالتوقيــع المســتعار‪.‬‬
‫* ‪ -‬اختــاره الرئيــس الجزائــري الراحــل هــواري بــو مديــن فــي ‪1971‬‬
‫مستشــارا إعالميــا‪ ،‬فتوقــف عــن ممارســة المهنــة الطبيــة‪ ،‬ولكنــه واصــل الكتابــة‬
‫بكثافــة أقــل‪ ،‬وبالتوقيــع المســتعار‪.‬‬
‫* ‪ -‬رافــق الرئيــس بــو مديــن فــي كل نشــاطاته الداخليــة والخارجيــة‬
‫وحتــى وفــاة الرئيــس فــي ‪ ،1978‬وتحمــل المســؤولية اإلعالميــة إلــى جانــب‬
‫الرئيــس رابــح بيطــاط خــال الفتــرة االنتقاليــة‪ ،‬التــي انتهــت بالمؤتمــر الرابــع‬
‫لحــزب جبهــة التحريــر الوطنــي وانتخــاب الرئيــس الشــاذلي بــن جديــد رئيســا‬
‫للجهوريــة‪.‬‬
‫*‪ -‬اختيــر عضــوا فــي اللجنــة المركزيــة للحــزب فــي المؤتمــر الرابــع‬
‫(‪ )1983 - 1979‬وواصــل مهمتــه فــي نفــس الموقــع برئاســة الجمهوريــة بطلــب‬
‫مــن الرئيــس الشــاذلي بــن جديــد‪ ،‬وإلــى عــام ‪.1984‬‬
‫*‪ -‬كان مــن بيــن مــن تمــت تصفيتهــم سياســيا وإداريــا فــي منتصــف‬
‫الثمانينيــات إلــى جانــب عبــد العزيــز بــو تفليقــة ومحمــد الصالــح يحيــاوي وعبــد‬
‫الســام بلعيــد وآخريــن‪.‬‬
‫* ‪ -‬اســتدعاه الرئيــس الشــاذلي بــن جديــد فــي واليتــه الثالثــة مــرة أخرى‪،‬‬
‫فيمــا بــدا كترضيــة سياســية‪ ،‬وعينــه ســفيرا للجزائــر فــي باكســتان فــي ‪،1989‬‬
‫التــي ظــل بهــا نحــو ثــاث ســنوات‪ ،‬اســتطاع خاللهــا أن يســتعيد للجزائــر‬
‫بريقهــا فــي المنطقــة‪.‬‬
‫*‪ -‬أحيــل إلــى التقاعــد مــرة ثانيــة بعــد اغتيــال الرئيــس بوضيــاف فــي‬
‫‪.1992‬‬
‫* ‪ -‬اســتدعاه الرئيــس اليميــن زروال فــي ‪ 1998‬وعينــه عضــوا فــي‬
‫مجلــس األمــة (الغرفــة العليــا فــي البرلمــان) ضمــن الثلــث الرئاســي الــذي يضــم‬
‫الكفــاءات الوطنيــة‪ ،‬وواصــل الكتابــة السياســية‪ ،‬بــإذن مــن الرئيــس‪ ،‬خــارج‬
‫الوطــن وأساســا فــي كل مــن «الشــرق األوســط» و «األهــرام» و«القــدس‬
‫العربــي» و«الصبــاح التونســية» و«الرايــة القطريــة» و«الحــدث» فــي‬
‫باريــس‪ ،‬وكذلــك داخــل الجزائــر فــي عــدد مــن الصحــف الناطقــة بالعربيــة‬

‫‪278‬‬
‫أساســا‪ ،‬وكانــت مقاالتــه تنشــر فــي نفــس اليــوم علــى صفحــات ســت صحــف‬
‫جزائريــة عربيــة‪ ،‬كمــا نشــر مقــاالت بالفرنســية فــي عــدة صحــف جزائريــة‪.‬‬
‫* ‪ -‬فــي أغســطس ‪ 2000‬اختــاره الرئيــس عبــد العزيــز بــو تفليقــة عضــوا‬
‫فــي حكومتــه الثانيــة وكلفــه بــوزارة االتصــال والثقافــة‪.‬‬
‫*‪ -‬عاد ثانية إلى مجلس األمة بعد خروجه من الحكومة‪.‬‬
‫* ‪-‬انتخــب فــي ســبتمبر ‪ 2002‬رئيســا للجنــة الشــؤون الخارجيــة والتعــاون‬
‫الدولــي والجاليــة الجزائرية‪.‬‬
‫* ‪ -‬مثــل مجلــس األمــة الجزائــري خــال عهدتــه النيابيــة فــي اجتماعــات‬
‫االتحــاد البرلمانــي لمنظمــة المؤتمــر اإلســامي وشــارك فــي عشــرات‬
‫المؤتمــرات الدوليــة واإلفريقيــة‪.‬‬
‫ــرم أكثــر مــن مــرة فــي الجزائــر وفــي عــدة عواصــم عربيــة‪،‬‬ ‫* ‪ُ -‬ك ِ ّ‬
‫واختيــر فــي الكويــت لمرتبــة الشــخصية الثقافيــة العربيــة لعــام ‪ ،2001‬وحصــل‬
‫علــى جائــزة الصحافــة العربيــة فــي دبــي ‪ ،2009‬واختيــر عضــوا فــي مجلــس‬
‫إدارة الجائــزة وعضــوا فــي مجلــس المستشــارين لمؤسســة الفكــر العربــي عــام‬
‫‪ ،2010‬كمــا حصــل علــى ميداليــة المنظمــة اإلســامية للعلــوم والفنــون واآلداب‬
‫(إيسيســكو) فــي ‪ 2012‬بالربــاط‪.‬‬
‫*‪ -‬يحمــل عــدة أوســمة جزائريــة وعربيــة وأجنبيــة (وســام جيــش التحريــر‬
‫الوطنــي الجزائــري – وســام االســتحقاق المصــري مــن الدرجــة األولــى –‬
‫وســام الجمهوريــة التونســي – وســام االســتحقاق الكــوري) ‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫إصدارات الكاتب‬
‫‪ -‬انطباعات(ثالثة أجزاء) البعث (قسنطينة)‪ /‬والمؤسسة الوطنية للكتاب (الجزائر) نفذت‬
‫‪ -‬م‪..‬دين‪ ..‬التجربة والجذور دار األمة (الجزائر) نفذت‪.‬‬
‫‪‍ -‬أيام مع الرئيس بومدين دار اق أر (بيروت) وموفم (المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية)‬
‫‪ 7‬طبعات‪.‬‬
‫اده الخيال دار سعاد الصباح ‪ -‬الكويت ‪ /‬وموفم (‪ )ENAG‬بالجزائر‬
‫‪ .. -‬سفي ارً‪ ...‬ز ُ‬
‫– ‪ 3‬طبعات‬
‫‪ -‬نظرة في مرآة عاكسة موفم الرغاية – الجزائر ‪ -‬طبعتان‬
‫‪ -‬الجزائر ‪ :‬الحلم والكابوس دار هومة ‪ -‬الجزائر ‪ /‬دار الفارابي ‪ -‬بيروت‪ -‬خمس‬
‫طبعات ‪ -‬نفذت‬
‫– أنا وهو وهم‪ .‬موفم – ثالث طبعات‬
‫‪ -‬أيام صححت تاريخ العرب دار هومة ‪ /‬دار الشروق‪.‬‬
‫‪ -‬نحن والعقيد موفم – ثالث طبعات‬
‫‪ -‬هلل وللوطن – ستة مجموعات في تسع أجزاء موفم‬
‫‪ …A mon avis -‬مجموعة مقاالت بالفرنسية موفم‬
‫ضادة‪...‬واقعا دار هومة‬
‫الم ّ‬
‫‪ -‬الثورة ُ‬
‫‪ -‬وزي ار زاده الخيال – الكتاب األول موفم‬
‫‪ -‬وزي ار زاده الخيال – الكتاب الثاني موفم‬
‫‪ -‬وزي ار زاده الخيال – الكتاب الثالث موفم (تحت الطبع)‬
‫‪ -‬انطباعات الستينيات موفم (تحت الطبع)‬
‫مطول) ط‪ - 2 .‬موفم‬
‫‪ -‬مع الموسطاش (حوار ّ‬
‫‪281‬‬
‫الفهرس‬

‫مقدمة الطبعة الثالثة‪5.........................................................‬‬


‫تقديم الطبعة الثانية‪7..........................................................‬‬
‫انطباعات عن االنطباعات ‪15................................................‬‬
‫انطباعات عن اإلنطباعات ‪19................................................‬‬
‫مقدمة الجزء األول ‪23........................................................‬‬
‫انطباعات الجزء األول‬
‫فنية وثقافية ‪27..................................... 1971-1965‬‬ ‫انطباعات ّ‬
‫َ‬
‫أنا لست وطنيا‪29.......................................................... ! ‬‬
‫‪ ...‬وكيف ‪31................................................................‬‬
‫إذا‪...‬عيات ‪33...............................................................‬‬
‫ات َعابِ َرة‪35...........................................................‬‬
‫اع ٌ‬
‫انطب َ‬
‫َ‬
‫المصور ‪39..................................................................‬‬
‫ّ‬
‫إذاعيات ‪41..................................................................‬‬
‫الليل يطارد الشمس ‪43.......................................................‬‬
‫لمن ؟ ‪47....................................................................‬‬
‫ومازلنا مع َّ‬
‫الشلل والضياع‪49.................................................‬‬
‫التعريب‪..‬مرة أخرى‪51..................................................... ..‬‬
‫لكي ال يتنفس بعضهم الصعداء‪55..........................................! ‬‬
‫البواسير ‪57..................................................................‬‬
‫انطباعات َعابِ َرة‪67...........................................................‬‬
‫َ‬
‫كتبت قبل اإلفطار ‪71........................................................‬‬
‫عودة إلى البواسير ‪77........................................................‬‬

‫‪283‬‬
‫وختاما‪..‬لك ألف َسالم‪81.....................................................‬‬
‫كل عام‪ ..‬وأنتم مستيقظون‪91.................................................‬‬
‫كاتب يا‪ ...‬سين‪95...................................................... !!! ‬‬
‫الشهداء المزيفون‪97..........................................................‬‬
‫اعات َعابِ َرة‪101..........................................................‬‬
‫انطب َ‬
‫َ‬
‫برام‪ ..‬وضاع له حمار‪107................................................. ..‬‬
‫أنا‪ ..‬والعذاب‪ ..‬وهواك‪113..................................................! ‬‬
‫ُكتَّاب و ُكتَاب‪117.............................................................‬‬
‫كلمات‪ ...‬ورصاص‪123......................................................‬‬
‫هالو «فريندز»‪129...........................................................‬‬
‫ات َعابِ َرة‪141..........................................................‬‬
‫اع ٌ‬
‫انطب َ‬
‫َ‬
‫شعاع من ضوء‪ ..‬خافت ‪145.................................................‬‬
‫انزع يدك من جيبي ‪151......................................................‬‬
‫من الذي يضع الجرس في رقبة القط‪153....................................! ‬‬
‫عن المسألة الفنشعبيأندلسية‪159...............................................‬‬
‫بين قوسين‪165...............................................................‬‬
‫ات َعابِ َرة‪169..........................................................‬‬
‫اع ٌ‬ ‫ِ‬
‫انطَب َ‬
‫عيبا‪175........................................... ..‬‬
‫ولم أر في عيوب الناس ً‬
‫بيت بال سقف وال جدران ‪181.................................................‬‬
‫هالو‪187.....................................................................‬‬
‫األسالك الشائكة وخيوط العنكبوت الوهمية ‪195................................‬‬
‫حروف ال تحتاج إلى نقاط‪201.............................................!! ‬‬
‫َحديث له بقية‪205............................................................‬‬
‫إنطباعات بوجادية عن المسألة النثر ‪ -‬شعرية ‪211............................‬‬
‫اعتذار ‪215..................................................................‬‬
‫كلمات سقطت من الغربال‪217................................................‬‬
‫اللحظات المريرة ‪219.........................................................‬‬

‫‪284‬‬
‫لعبة الخفافيش ‪223...........................................................‬‬
‫الطريق والسالح والضوء‪227..................................................‬‬
‫هذه الظاهرة‪231..............................................................‬‬
‫كلمات قصيرة ًّ‬
‫جدا ‪239.......................................................‬‬
‫الذين يعتقدون أن دبابة الثورة من ورق‪241................................. ...‬‬
‫وبقي أقل من أسبوع ‪245......................................................‬‬
‫ات َعابِ َرة‪247..........................................................‬‬
‫اع ٌ‬ ‫ِ‬
‫انطَب َ‬
‫انطباعات عابرة‪249..........................................................‬‬
‫‪ ...‬ولن ترضى عنك اليهود وال النصارى‪259..................................‬‬
‫حتى ال يموت شهداؤنا مرتين‪265.............................................‬‬
‫هدايا للمقص ‪269............................................................‬‬
‫عن الشعب وللشعب وفي الشعب ‪273.........................................‬‬

‫‪285‬‬

You might also like