You are on page 1of 108

< <ìŠÚæ<ð]‚ã

< <?^ÛãÞ]ç}]æ<ë‚·æ<àŠu<çe_@
‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻷﻭﻝ‬
< <êréi]‰÷]<Å憎¹]<Ùçu
< <l^Ú‚ÏÚ< ◘
< <Ø}‚Ú ◘
< <éÇjÖ]æ<†è†vjÖ]<°e<<◘
< <íñˆrjÖ]æ<ì‚uçÖ]æ<íeæ†ÃÖ]<àÚ<ÌÎç¹]<<◘
< <â^Û¢]æ<íè…çnÖ]<íéßfÖ]< ◘
< <†ŽÃÖ]<½^ÏßÖ]<sÚ^Þ†e<Ùçu< ◘
< <êÚø‰ý]<ÄÎç¹]<±c<Ù^ÏjÞ÷]<íé×ÛÂæ<êréi]‰÷]<Å憎¹]<<◘

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ‬
< <«xjÊ»<Ø}]<l]…^éjÖ]<Å]†‘
< <«xjÊ»<íÒ†u< ◘
<Ø}‚Ú< ◘
< <«xjÊ»<Ø}]<l]…^éjÖ]<íŽÎ^ßÚ<»< ◘
ì^éÏÖ]<ÜèçÏi<Ùçu<<◘
ì^éÏÖ^e<íÎøÃÖ]< ◘
< <íé×}]‚Ö]<ífÃ×Ö]<Ùç‘_<àÚ< ◘
<<
‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ‬
íéÖøÏj‰÷]<Ùçu<Å]†’Ö]
íéÖøÏj‰÷]<<<◘
l^éÊçŠÖ]<àÚ<ÌÎç¹]<◄
< <êe†ÃÖ]<àÚ^–jÖ]<àÚ<ÌÎç¹]<◄
< <gñ^jÓÖ]<ÙˆÂ<Åç•çÚ<»<<<◘
ì‚vj¹]<íãf¢]<Ùçu<◄
êÞ^ßf×Ö]<|^ߢ]<íe†Ÿ<àÚ<◄
< <á^ßfÖ<»<çqçÖ]<Ùçu< ◘
<<
‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ‬
< <퉅^Û¹]æ<†ÓËÖ]æ<sãß¹]<» < <
ØÛÃÖ]<íérãßÚ<<<◘<
äŠËßÖ<…^éjÖ]<ÜãÊ<»<◄
«Ù^jÏÖ]<퉅^º<»<íè…çm<…^ÓÊ_»<gjÒ<Ùçu<◄
ì_†¹]<íé–Î<àÚ<ÌÎç¹]<◄
ì…çnÖ]<í膿Þæ<â^Û¢]<¼}<◄
솢]<‚ߊi<Ö]<ìç’£]<◄
< <í×j]<š…ù]<î×Â<ˆéÒÖ]<◄
< <…^éjÖ]<‚•<íu^fŠÖ]<◄
<<
‫ﻣﻠﺤﻖ‬
< <á^f–ÏÖ]<ð]…æ<àÚ<íéŠÒ…^¹]æ<Ýø‰ý]<Ùçu<í×ò‰_

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻷﻭﻝ‬
< <äjéÂ憎Ú<sãßÚ<ë_<‚ÛjŠè<àè_<àÚ
< <â^Û¢]<gŠÒ<Ùçu< ◘
ÐéfŞjÖ]<»<‹éÖæ<íéŠÒ…^¹]<솿ßÖ]<»<í×ÃÖ]< ◘

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ‬
< <ì…^–£]<íÒ†ÃÚ<»<Ýø‰ý]
†}`jÖ]æ<Ý‚ÏjÖ]<…^éÃÚ< ◘

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ‬
íÚ^Â<í¾çv×Ú
‫‪1‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻷﻭﻝ‬
‫‪< <êréi]‰÷]<Å憎¹]<Ùçu‬‬
‫‪< <<Üè‚Ïi‬‬
‫يحمل ھذا الكتاب سمات تاريخية لتيار انبثق أساسا ً من داخل فتح‪ ،‬وترعرع من خالل تجربة الثورة‬
‫الفلسطينية في النصف الثاني من السبعينات‪ .‬ثم دخل مرحلة تحول كبرى بالنسبة إليه حين انتقل إلى‬
‫أرض اإلسالم بعد أن كان يقف على أرض الوطنية الفلسطينية‪ ،‬والقومية العربية‪ ،‬والمرجعية‬
‫الماركسية اللينينية‪ .‬وكان انتقاالً على مستوى العقيدة والمنھج والمرجعية النظرية والفكرية‬
‫)األيديولوجية( والفقه‪ ،‬وكذلك على مستوى السياسة والممارسة‪ .‬أي كان االنتقال إلى االنخراط في‬
‫العمل اإلسالمي عموما ً والمشروع النھضوي الحضاري الكبير لألمة‪.‬‬

‫على أن ھذا االنتقال حافظ في المجال السياسي على الثوابت والمنطلقات واألھداف األساسية مثل‬
‫تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية‪ ،‬والتحرر من السيطرة اإلمبريالية‪ ،‬وبناء االستقالل الحقيقي‬
‫وإقامة العدل االجتماعي‪ .‬ھنا أصبحت كل ھذه الثوابت واألھداف معززة أكثر من خالل الوقوف على‬
‫أرض اإلسالم وغدت مشمولة‪ ،‬بقوة أكبر‪ ،‬عبر االنخراط في المشروع النھضوي العربي واإلسالمي‬
‫العام‪.‬‬

‫ولھذا فإن التاريخ لھذا التيار يشكل جزءاً‪ ،‬ولو متواضعاً‪ ،‬لكنه مھم‪ ،‬في تجربة فتح والثورة‬
‫الفلسطينية وحركة التحرر العربي من جھة‪ ،‬كما يحمل من جھة أخرى مغزى خاصا ً بانتقاله العقدي‬
‫والنظري والفكري والسياسي إلى الموقع اإلسالمي‪ .‬وھو ما دعا الكثيرين إلى التساؤل عن عملية ھذا‬
‫االنتقال ال سيما‪ ،‬كونه تميز بانتقال شبه جماعي ألعداد كبيرة من األفراد ذوي الخلفيات الدينية‬
‫والمذھبية والقومية والثقافية والحضارية المختلفة‪ .‬بما ينزع عن ھذه التجربة سمة المعاناة الذاتية‬
‫الشخصية في عملية ھذا االنتقال‪.‬‬

‫ومن ھنا جاء ھذا الكتاب ليسدي بعض الحقائق لفئة من الشھداء في مقدمتھم محمد محمد بحيص )أبو‬
‫حسن( ومحمد باسم سلطان التميمي )حمدي( وسعد جرادات )سعد( ومروان كيالي وسمير الشيخ‬
‫وجورج شفيق عسل )أبو خالد( وعلي أبو طوق والحاج حسن‪ ،‬ومحمد علي )أبو يعقوب(‪ ،‬وھالل‬
‫رسالن )أبو محمود(‪ ،‬وحمود الحسنية‪ ،‬وعشرات غيرھم من شھداء فلسطينيين ولبنانيين وعرباً‬
‫وغير عرب‪ ،‬لعبوا دوراً إيجابيا ً بارزاً في تجربة الحرب األھلية في لبنان كما في تجربة الثورة‬
‫الفلسطينية وعلى مستويات أوسع من ذلك‪ .‬وكانوا في حياتھم عرضة لھجمات كثيرة‪ .‬والقوا ظلما ً‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪2‬‬

‫شديداً في أثناء عملھم‪ ،‬وحتى بعد استشھادھم‪ .‬أما من جھة أخرى فقد جاء ليلبي بعضھا من الحاجة‬
‫إلى معرفة الخلفية التي أوصلت ھذا التيار إلى الدخول في مشروع الصحوة اإلسالمية وإعادة صياغة‬
‫نفسه على أساس اإلسالم‪.‬‬

‫على أن إعطاء صفة التاريخ لھذا العمل ال ينطبق عليه تماما ً فھو بالمقياس المنھجي التاريخي ال‬
‫يستحق أن يحمل ھذه الصفة‪ ،‬أو في أحسن الحاالت‪ ،‬يمكن أن يحمل قدراً متواضعا ً جداً منھا‪ .‬فالكتاب‬
‫بمقياس الكتابة التاريخية يفتقر إلى التوثيق والتسلسل في تناول األحداث‪ ،‬ويخلو من التعرض إلى‬
‫األسماء ذات العالقة سلبيا ً أو إيجابيا ً بتجربته عدا أسماء بعض شھدائه‪ .‬ويرجع ذلك إلى صعوبات‬
‫ناشئة عن رغبة البعض في عدم ذكر أسمائھم‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬تجنب التعرض ألشخاص واجھھم‬
‫التيار حتى ال يحمل ذلك تجنيا ً ال سيما في نقل أفكارھم‪ .‬وإذا كان ما تقدم يترك فراغات كثيرة بحاجة‬
‫إلى أن تمال من قبل المؤرخ الذي يھمه الدخول في األزقة والدھاليز ومختلف التفاصيل‪ ،‬إال أنه سجل‬
‫تاريخه الفكري والنظري والسياسي من جھة‪ ،‬كما سجل من جھة أخرى‪ ،‬أفكار عدد من التيارات‬
‫ومواقفھا وشعاراتھا وما دار من صراعات فكرية وسياسية في ذلك الحين‪ .‬ومن ھنا‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫مما يحمله العمل من نواقص ستشغل بال المؤرخ الذي يھمه تسلسل األحداث والتفاصيل واألفراد‬
‫الذين لعبوا دوراً في تلك المرحلة‪ ،‬غال أنه سيظل ذا فائدة لمن سيكتب عن تجربة الثورة الفلسطينية‬
‫في أثناء الحرب األھلية في لبنان‪.‬‬

‫أما عن الصراعات التي دارت داخل فتح والساحة الفلسطينية والعربية خالل السبعينات والثمانينات‪،‬‬
‫فإن من يقرأ ھذا الكتاب وما سجله حول مرحلة تمتد من ‪ 1973‬إلى ‪ 1988‬قد يتصور أن تيار أبي‬
‫حسن‪ ،‬وحمدي‪ ،‬وإخوانھما قد كان محور األحداث أو أنه لعب الدور الرئيسي فيھا‪ .‬وھو تصور‬
‫يجافي الحقيقة طبعاً‪ ،‬ويؤدي إلى المبالغة في تقويم ذلك الدور‪.‬‬

‫وھو ما يحدث عادة عندما يقرأ المرء مذكرات إنسان عاصر مراحل تاريخية معينة وشارك بشكل أو‬
‫بآخر في أحداثھا‪ .‬فطبيعة كتابة المذكرات الخاصة لفرد أو لحزب أو تيار تقود إلى التصور‪ ،‬إن‬
‫المعني‪ ،‬حتى لو لم يقصد ذلك قطعاً‪ ،‬كان ذا دور عظيم وكان مركز األحداث ولھذا يرجى التنبيه إلى‬
‫أن ھذا الكتاب ال يريد الوصول بقارئه إلى ھذه المبالغة وإن كان يريد أن يرفع عن تيار أبي حسن‬
‫وحمدي وإخوانھما‪ ،‬ما ناله من ظلم وتجاھل وإنكار وعقوق‪.‬‬

‫ھذا ويعترف مؤلف ھذا الكتاب أنه يحمل سمة المذكرات‪ .‬ألنه سجل متابعته لمسيرة ھذا التيار‪ ،‬وإن‬
‫كان قصّر أكثر ما قصر في مجال سجله العلمي بسبب غياب كثير من التفاصيل عنه أو عدم مواكبته‬
‫لھا‪ .‬ولكنه نال شرف المساھمة في أغلب النقاشات التي خاضھا أبناء ھذا التيار وقد أسھم في كتابة‬
‫محصلة عدد من النقاشات التي أصدرھا بكتب ومقاالت ودراسات‪ ،‬كما حدث على سبيل المثال‬
‫بالنسبة إلى النقاشات التي دارت حول قضية المرأة‪ ،‬وقد أصدرھا بكراسة حملت اسم "حول نضال‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪3‬‬

‫المرأة"‪ .‬ولعل ما يكنه من حب خاص وتقدير كبير ألبي حسن وحمدي وسعد وعلي أبي طوق وأبي‬
‫خالد جورج وأبي محمود ومروان والحاج حسن وأبي يعقوب‪ ،‬وعدد آخر من إخوانھم الشھداء ممن‬
‫عرفھم جيداً‪ ،‬يسمح بإبعاد عمله ھذا عن صفة الموضوعية بمعناھا البحثي الالمبالي والبارد‪ ،‬فھي‬
‫كتابة منحازة ومجرحّ ة بحبھا وصداقتھا ووفائھا‪ ،‬ولھذا يجب أن يؤخذ الكتاب على ھذا المستوى عند‬
‫قراءته وتقويمه‪.‬‬

‫تساءل بعض الذين حاول المؤلف االستعانة بھم‪ ،‬ممن عاصروا التجربة في مختلف مراحلھا العملية‬
‫عن الفائدة من كتابة ھذا النص أو باألحرى ما الفائدة منه ولمن ھو موجه؟ اإلجابة ھنا تفرض العودة‬
‫إلى إعطائه سمة تاريخية‪) ،‬ولو بحدود(‪ ،‬للخاصة ممن يھمھم أن يعرفوا شيئا ً من دور أبي حسن‬
‫وحمدي ومروان‪ ،‬وسمير وإخوانھم‪ ،‬في تلك المرحلة ال سيما وأن عدداً من شھداء ھذا التيار أصبحوا‬
‫رموزاً على مستوى الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني واللبناني والعربي‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪،‬‬
‫أصبحوا جزءاً من المشروع اإلسالمي والصحوة اإلسالمية‪.‬‬

‫أم من جھة أخرى‪ ،‬فإن في ھذه التجربة كثيراً من ال ِعبر التي قد تفيد على صُعد متعددة‪ ،‬ال سيما إذا ما‬
‫فھمت بروحيتھا ومنھجيتھا وعقليتھا‪ ،‬ولم تفھم بحرفيتھا‪ ،‬وتقلد تقليداً بليداً‪ .‬بل يمكن القول أن أھمية‬
‫تيار أبي حسن وحمدي وإخوانھما‪ ،‬ال تكمن فيما أدوه من دور فحسب‪ ،‬وإنما أيضا ً في كونه مدرسة‬
‫كذلك‪ ،‬وھذا ما قد يسمح لمن يريد أن يتعلم منھم‪ ،‬ويواصل طريقھم ونھجھم‪ ،‬بأن يحيط جيدا ً‬
‫بتجربتھم‪ ،‬ويتعرف أكثر إلى روحيتھم ومنھجيتھم وعقليتھم‪ ،‬ويكون قصده المواصلة بإبداع ال بتقليد‪،‬‬
‫فيمسك بالجوھر ال بالشكل‪ ،‬واألھم أن يدرك خطورة أن يحمل المرء راية ھذا النھج بال مبدئية‬
‫وصدقية وتضحية‪ ،‬ألن تركھا أفضل من تلطيخھا بالمطامع الشخصية والجشع أو الوھن والجبن أو‬
‫العجز والكسل‪ ،‬أو التراجع واالنكفاء‪ ،‬فھذه الراية كانت شديدة في تمسكھا بالثوابت والمبادئ وحازمة‬
‫في سلوك طريق التحرر والتغيير والنھوض والبحث عن الحقيقة‪.‬‬

‫وإذا كان ھنالك من عبروا في أكثر من مناسبة عن أنھم سيكونون ورثة ھذا الخط‪ ،‬فإن عليھم أن‬
‫يثبتوا ذلك باألفعال ومكارم األخالق وحسن المقال وصحة السياسة والمواقف وعدم الخوف من‬
‫الصعوبات والتضحيات‪ ،‬وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‪.‬‬

‫كلمة أخيرة‪ ،‬وھي اعتذار مرة أخرى‪ ،‬للثغرات التي حملھا ھذا الكتاب وقد حدث بعضھا عن وعي‬
‫وقصد‪ ،‬وبعضھا عن قلة حيلة وعجز‪ ،‬وبعضھا عن نقص في المعلومات واإلحاطة‪ .‬ولعل ما يمكن‬
‫أن يكون قد تضمنه من إيجابيات وفوائد يشفع لبعض تلك الثغرات‪ .‬أما االعتذار الحقيقي فھو ألبي‬
‫حسن وحمدي وإخوانھما‪ ،‬لما يكون قد قصّر به ھذا الكتيب بحقھم ال سيما في مجال الممارسة وذكر‬
‫ما سطروه من مآثر وبطوالت‪ ،‬أو في مجال إبراز بعض المجاالت الفكرية والنظرية المنھجية التي‬
‫َس َھا عنھا‪ ،‬كما ال بد من االعتذار للشھداء‪ ،‬وذويھم ممن لم يحضره ذكرھم‪ ،‬أو لم يعطوا حقھم كما‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪4‬‬

‫يجب‪ ،‬فمؤلف ھذا الكتاب يعترف أنه تابع الصراعات الفكرية متابعة دقيقة‪ ،‬بينما كان بعيدا ً عن كثير‬
‫من التفاصيل في الممارسة العملية‪ ،‬والتي ال يستطيع أن يكتب عنھا إال من عايشوھا في الواقع يوماً‬
‫بعد يوم‪ ،‬فثمة تاريخ تفصيلي يجب أن يُسجل للسرية الطالبية وكتيبة الجرمق‪ ،‬وثمة تاريخ تفصيلي‬
‫يجب أن يُكتب عن أبي حسن وحمدي في عملھما في األرض المحتلة‪ ،‬سواء أكان في مرحلة لجنة‬
‫‪ 77‬أم في مرحلة سرايا الجھاد اإلسالمي‪ ،‬وأن من سيقوم بذلك يُكمل ھذا الكتاب و َيسد نوا ِقصه أو‬
‫يُصبح أصالً‪ ،‬ويُصبح ھذا الكتاب ُمكمال له‪.‬‬

‫ورحمة ﷲ على أبي حسن‪ ،‬وحمدي‪ ،‬وسمير‪ ،‬ومروان‪ ،‬وإخوانھم من شھداء ھذا التيار‪ ،‬ورحمة ﷲ‬
‫على كل الشھداء‪ ،‬وأسكنھم فسيح جنانه‪.‬‬


 ‪١ ١‬ـ│ ‪١‬‬ ‫‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪5‬‬

‫‪< <l^Ú‚ÏÚ‬‬
‫‪< <VØ}‚Ú‬‬

‫ويعبر العام السادس على استشھاد األخوة القادة محمد محمد بحيص )أبو حسن( ومحمد باسم سلطان‬
‫التميمي )حمدي( ومروان الكيالي ‪ 14‬شباط )فبراير( ‪ .1988‬وقد وقعت خالل السنوات الماضية‬
‫أحداث ومتغيرات جعلت المسافة بعيدة جداً عن ذلك اليوم الذي فقدنا فيه ھؤالء الشھداء‪ .‬وھو ما جعل‬
‫إحساسنا بعظم خسارتنا لھم يتضاعف عما كان عليه يوم وارينھم التراب‪ .‬فقد ظن البعض من إخوانھم‬
‫أن باإلمكان مواصلة طريقھم بمجرد تقليد ما كانوا يفعلون‪ ،‬أو بمجرد متابعة ما كانوا يتابعون‪ .‬ولكن‬
‫سرعان ما تبين أن استشھادھم كشف في توقيته‪ ،‬وعمليا ً عن نھاية مرحلة كانوا من قادتھا وفرسانھا‬
‫وبداية مرحلة جديدة‪.‬‬

‫فاإلشكالية ھنا ال تتمثل بتكرار بليد للشعارات أو ألشكال العمل والممارسة وإنما في القدرة على‬
‫استخدام منھجيتھم في دراسة الوقائع الجديدة‪ ،‬والظروف ال ُمستجدة‪ ،‬والمرحلة ال ُمقبلة‪ .‬ولھذا ينتشر‬
‫شعور‪ ،‬اآلن لدى محبيھم‪ ،‬بأن ثمة حاجة إلى االستمساك بقوة شكيمتھم المبدئية واألخالقية وال سيما‬
‫مع حالة االنھيار التي أصيبت بھا كثرة من الكوادر الفلسطينية والعربية بعد حرب الخليج‪ ،‬واألھم مع‬
‫حالة االنحراف المطلوب للدخول في مشروع التسوية وما وصلت إليه األمور مع توقيع اتفاق أوسلو‪.‬‬
‫لقد كان الشھيد محمد محمد بحيص )أبو حسن( مؤسسا ً أول لتيار متميز داخل فتح والثورة الفلسطينية‬
‫وكان إلى جانبه في ذلك الوقت في أواسط ‪ 1975‬ثلة من الشباب ذوي السمات القيادية‪ ،‬وقد تميزا‬
‫بروحية وحدودية عالية وبشجاعة ال حدود لھا في مواجھة التحديات‪ .‬وقد سقط أكثرھم شھيداً مخضبا ً‬
‫بدماه‪ .‬ويمكن أن نخص ھنا بالذكر المرحوم ھالل رسالن )أبو محمود( والشھيد سعد جرادات‪ ،‬وعلي‬
‫أبو طوق والحاج حسن وأبو خالد جورج عسل ومحمد علي ومروان الكيالي وأبو الوفا وسمير الشيخ‬
‫ومحمود الحسنية وغيرھم سيأتي ذكرھم بمناسبة أخرى‪ .‬ولم يبق من تلك النواة إال قلة قليلة جدا ً‬
‫حُرمت من الشھادة وھي ما زالت تنتظر وما بدلت تبديالً‪.‬‬

‫وما أن خرج محمد باسم سلطان )حمدي( من السجن في األرض المحتلة حتى أصبح وأبو حسن يداً‬
‫بيد وخطوة بخطوة في مسار دام ما يزيد على خمسة عشر عاما ً‪.‬‬

‫وإذا كان لھذا التيار أن يميّز فيه فيما بين الذين عملوا من خالله في التسابق على الخير في تأسيسه‬
‫وتعزيزه وترسيخ فكره ومنھجيته وتقاليده فال بد من أن يوضع على رأس القائمة أبو حسن وحمدي‬
‫وسعد جرادات‪ ،‬وإن كانت المسافة التي تفصلھم عن اآلخرين ال تعد باألمتار أو األشبار وإنما‬
‫بالبوصات أو السنتيمترات‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪6‬‬

‫لعل أبرز ما يذكره الكثيرون عن أبي حسن وحمدي وسعد والشھداء اآلخرين ھو ذلك الجانب العملي‬
‫في حياتھم أي انكبابھم على الممارسة واتسامھم بالشجاع والنشاطية وإخضاع حياتھم الخاصة للعمل‬
‫والقضية‪ .‬وھذه مزايا ليست بالھينة أو البسيطة فھي ذات قيمة كبيرة بالنسبة إلى القائد والقدوة وھو‬
‫يشق طرقا ً جديدة‪ .‬ولھذا‪ ،‬فالذين يبرزون ھذه الجوانب ليسوا مخطئين ال في إبرازھا في ھؤالء‬
‫الشھداء العظام وال في إعطائھا أھمية معيارية عالية‪.‬‬

‫بيد أن تلك المزايا ال تقع بالنسبة إليھم في المقام األول من بين مزاياھم األخرى‪ .‬فالبعض إما عن قلة‬
‫معرفة‪ ،‬وإما عن قصد مدغول‪ ،‬يبرز تلك المزايا‪ ،‬على أھميتھا وخطورتھا‪ ،‬في الشھداء دون أن‬
‫يتوقف كما ينبغي له أمام مزايا أخرى ھي في المقام األول بالنسبة إلى شخصياتھم أو بالنسبة إلى‬
‫الخط الذي كانوا يجسدون‪ .‬بل أن المزايا العملية المتعلقة بالنشاطية والممارسة كانت نتاجا ً لتلك‬
‫الصفات األخرى التي لم تشتھر كما يجب في أولئك الشھداء‪ ،‬فالذين ال يرون في أبي حسن وحمدي‬
‫ومروان وأبي محمود وسعد مروان وأبو خالد وغالبية الشھداء اآلخرين مفكرين ومنظرين وصاحبي‬
‫منھج‪ ،‬وال يرون أن ثمة خطا ً سياسيا ً وأيديولوجيا ً كان يھدي ممارستھم ونشاطيتھم وكانوا ھم في‬
‫مقدمة واضعيه ال يكونون قد عرفوا الشھداء‪ .‬فالمسألة من ھنا تبدأ وبھذا تنتھي‪ .‬وھي تمر بسيرتھم‬
‫العملية فلو أخذنا على سبيل المثال ما كان يتسم به ھذا التيار من اھتمام في المسائل الفكرية والنظرية‬
‫لوجدنا ذلك غير مقتصر على المسائل الفكرية والنظرية التي كانت تعني الثورة الفلسطينية خالل‬
‫السبعينات فحسب‪ ،‬وإنما كان االھتمام يمتد أيضا ً إلى المسائل الفكرية والنظرية التي كانت تعني‬
‫الوضع العربي كله بل العالم‪ .‬فقد كان النقاش مع التيارات الفكرية والنظرية والسياسية العالمية‬
‫والعربية والفلسطينية يتم بأعلى درجات الجدية واالھتمام‪ ،‬ويعطى من الوقت ما ال يعطيه له المثقفون‬
‫المحترفون‪ .‬وإال كيف كان لھذا التيار أن يصوغ كل ذلك التراث الفكري والنظري والسياسي الذي‬
‫اتسم به خالل السبعينات والثمانينات‪ .‬أما نوعيته فمسألة ستظل خالفية‪ ،‬ولكنھا في كل األحوال كانت‬
‫تتسم بالجدية والمبدئية والتجديد ومحاولة التعمق واإلحاطة واالقتراب من الصواب قدر اإلمكان‪ .‬ولو‬
‫لم يكن األمر كذلك لما تطور ھذا التيار بأغلبيته من مرحلة فكرية ونظرية إلى أخرى وصوالً إلى‬
‫الوقوف على أرض اإلسالم‪ .‬فھذه العملية ما كانت لتحدث لو لم يكن أبو حسن وحمدي وزمالؤھما‬
‫على درجة عالية من االھتمام بالمسائل الفكرية والنظرية والعقدية‪ ،‬ولو لم تكن التجربة العملية التي‬
‫مارسوھا‪ ،‬أو التي كانت تجري من حولھم فلسطينيا ً وعربيا ً وإسالميا ً وعالميا ً محط تقويم نظري‬
‫وفكري وسياسي مستمر حتى كان باإلمكان االقتراب أكثر فأكثر من فھم الواقع المحلي واإلقليمي‬
‫والعالمي‪ ،‬كما االقتراب أكثر فأكثر من اإلمساك بالحقائق الكونية والكلية‪.‬‬

‫بكلمة أخرى‪ ،‬ما كانت الممارسة بالنسبة إلى أبي حسن وحمدي ومعھما مروان واآلخرون غاية بحد‬
‫ذاتھا‪ ،‬ولم تكن انجرافا ً مع تيار الثورة‪ ،‬وإنما كانت وسيلة لتحقيق غايات وأھداف أكبر منھا بكثير‪.‬‬

‫<<‬
‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪7‬‬

‫‪< <éÇjÖ]æ<†è†vjÖ]<°e‬‬
‫فقد كان ھؤالء الشھداء يدركون تماماً أن الثورة الفلسطينية التي أعطوھا شبابھم وعُصارة فكرھم‬
‫وغاية جھدھم ھي محدودة التأثير على مستوى مقاتلة العدو الصھيوني بسبب اتساع الھوة في ميزان‬
‫القوى العسكري والمادي بينھا وبين العدو‪ ،‬وكانوا يدركون أن الثورة الفلسطينية ال تستطيع تحرير‬
‫فلسطين وحدھا ألن قضية التحرير أكبر بكثير من إمكانات الشعب الفلسطيني‪ ،‬فالكيان اإلسرائيلي‬
‫يجمع في داخله ومن ورائه قوة دولية ھائلة من إمكانات الدول الكبرى إلى إمكانات الحركة‬
‫الصھيونية العالمية‪ .‬ومن ثم فإن تحرير فلسطين يحتاج إلى تحشيد قوى كبرى مقابلة‪ .‬ولھذا كان‬
‫الكفاح المسلح لتحرير فلسطين ھو طريق مساعد إلحداث التغيير المطلوب في الوضع العربي‬
‫واإلسالمي ولتعبئة رأي عام عالمي واسع حول عدالة القضية الفلسطينية‪ .‬ومن ھنا عندما طرحت‬
‫قيادة منظمة التحرير الفلسطينية برنامج النقاط العشر في أواخر ‪ 1973‬رأى أبو حسن وعدد من‬
‫‪1‬‬
‫إخوانه ‪ ،‬فيه انقالبا ً على مبادئ فتح ومنطلقاتھا وأھدافھا وأعلنوا رفضھم له‪ .‬وشددوا على ضرورة‬
‫أن تبقى مھمة الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني ھي الكفاح المسلح ضد االحتالل والكيان‬
‫الصھيوني باعتباره طريقا ً يسھم في استنھاض األمة وإحداث التغيير المنشود فيه‪ .‬ألن ذلك وحده ھو‬
‫الذي يؤدي إلى وقف الزحف الصھيوني إن لم يؤد إلى تحرير فلسطين‪ .‬أي أصبح خطھم وممارستھم‬
‫يحمالن أھدافا ً أبعد بكثير من األھداف التي حملتھا م‪ .‬ت‪.‬ف‪ .‬حين تبنت برنامج النقاط العشر‪.‬‬
‫وأصبحت تبحث عن مكان لھا فيما بين األنظمة العربية بدالً من مكانھا في قلب التغيير العربي‪ ،‬كما‬
‫أصبحت تسعى للدخول في المعادلة الدولية ضمن إطار قرار ‪ ،242‬بداية‪ ،‬بصورة غير مباشرة ثم‬
‫بصورة مباشرة فيما بعد‪ ،‬بدالً من أن تترك ذلك اإلطار للدول العربية المعنية في حين تحصر ھي‬
‫مھمتھا بتحرير األرض‪ ،‬وبعد ذلك لكل حادث حديث‪ .‬فقد اعتبروا أن إثارة موضوع الدولة‬
‫الفلسطينية أو السلطة الوطنية‪ ،‬سيدخل الشعب الفلسطيني وم‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬في زحمة من الصراعات‬
‫الجانبية ولتحقيق أھداف ھزيلة ال تساوي عظم المسؤولية التاريخية والتحريرية والحضارية التي‬
‫ألقيت على كاھل الشعب الفلسطيني‪ .‬وشاءت المقادير أن تضعه في ذلك الموقع المتميز‪ ،‬وھو الذي‬
‫يجب أن يضطلع به‪ ،‬ويستحق ما قدم ويقدم من تضحيات‪ .‬ولقد أثبتت الوقائع صوابية ھذه النظرة‬
‫ط منذ قرار المجلس الوطني بتبني برنامج النقاط‬ ‫اإلستراتيجية بعيدة المدى‪ ،‬إذ أثبت المسار الذي ُخ ّ‬

‫)‪ (1‬ﺇﺫﺍ ﻜﺎﻨﺕ ﺍﻝﻤﻼﻤﺢ ﺍﻝﻨﻬﺎﺌﻴﺔ ﻝﻬﺫﺍ ﺍﻝﺘﻴﺎﺭ ﻗﺩ ﺘﺸﻜﻠﺕ ﻓﻲ ﺃﻭﺴﺎﻁ ‪ 1975‬ﺃﻻ ﺃﻥ ﺇﺭﻫﺎﺼﺎﺘﻪ ﺘﺭﺠﻊ ﺇﻝﻰ ﺃﻭﺍﺌل ‪ .1973‬ﻭﻝﻜﻥ ﻫﺫﻩ ﺍﻹﺭﻫﺎﺼﺎﺕ‬
‫ﻼ ﺒﻌﺩﺩ ﻤﻥ ﺍﻝﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﺍﻷﺨﺭﻯ‪ .‬ﺒل ﻴﻤﻜﻥ ﺍﻝﻘﻭل ﻜﺎﻨﺕ ﺜﻤﺔ ﻓﻭﻀﻰ ﻓﻲ ﺘﺩﺍﺨل ﺍﻝﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﻭﺍﺨﺘﻼﻁﻬﺎ ﻓﻲ ﻤﺭﺤﻠﺔ ﺒﻴﺭﻭﺕ‬
‫ﻜﺎﻨﺕ ﺘﺸﻜل ﺘﻴﺎﺭﹰﺍ ﻤﺘﺩﺍﺨ ﹰ‬
‫ﻤﺎ ﺒﻌﺩ ﺍﻝﺨﺭﻭﺝ ﻤﻥ ﺍﻷﺭﺩﻥ‪ ،‬ﻓﻜﺎﻥ ﺍﻝﻭﻀﻊ ﺃﺸﺒﻪ ﺒﺒﻭﺘﻘﺔ ﻜﺒﻴﺭﺓ ﻓﻲ ﺩﺍﺨﻠﻬﺎ ﻋﺩﺓ ﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﻭﺘﻭﺠﻬﺎﺕ ﺃﻭ ﺃﺸﺒﻪ ﺒﻭﺠﻭﺩ ﻋﺩﺓ ﺒﻭﺘﻘﺎﺕ ﻓﻲ ﺩﺍﺨـل‬
‫ﻜل ﻤﻨﻬﺎ ﻋﺩﺓ ﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﻭﺘﻭﺠﻬﺎﺕ ﻜﺫﻝﻙ‪.‬‬
‫ﻭﻝﻌل ﺍﻝﺴﻨﺘﻴﻥ ﺍﻝﺘﺎﻝﻴﺘﻴﻥ ﻝﺤﺭﺏ ﺘﺸﺭﻴﻥ ‪ 1973‬ﻜﺎﻨﺕ ﺍﺤﺎﺴﻤﺘﻴﻥ ﻓﻲ ﺒﻠﻭﺭﺓ ﺍﻝﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﻭﺍﻝﺘﻭﺠﻬﺎﺕ ﻭﺘﻔﻜﻴﻙ ﺍﻝﻜﺜﻴﺭ ﻤﻥ ﺍﻝﺘﺩﺍﺨل ﻭﺍﻻﺨﺘﻼﻁ‪ .‬ﻜﻤﺎ‬
‫ﻴﻤﻜﻥ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭﻫﻤﺎ ﺍﻝﺴﻨﺘﻴﻥ ﺍﻝﻠﺘﻴﻥ ﺍﻨﻀﺠﺘﺎ ﻜل ﻤﺎ ﻜﺎﻥ ﺠﻨﻴﻨﺎﹰ‪ ،‬ﺃﻭ ﺍﺭﻫﺎﺼﺎﹰ‪ ،‬ﺃﻭ ﺒﺩﺍﻴﺔ ﺘﻭﺠﻪ‪ ،‬ﻭﺍﻋﻁﻴﺎﻩ ﺸﻜﻠﻪ ﺍﻝﻤﻤﻴﺯ ﻭﻭﻀﻌﺎﻩ ﻓﻭﻕ ﺍﻝﺴﻜﺔ ﺍﻝﺘﻲ‬
‫ﺴﻴﺴﺭ ﻋﻠﻴﻬﺎ‪ .‬ﻭﺃﻥ ﻫﺫﻩ ﺍﻝﻤﻼﺤﻅﺔ ﺘﻨﻁﺒﻕ ﺤﺘﻰ ﻋﻠﻰ ﻤﺴﺘﻭﻯ ﻤﺎ ﻜﺎﻥ ﺍﺭﻫﺎﺼﺎ ﺃﻭ ﺠﻨﻴﻨﻴﺎ ﻓﻲ ﺴﻴﺎﺴﺎﺕ ﻗﻴﺎﺩﺍﺕ ﻓﺘﺢ ﻭﻡ‪ .‬ﺕ‪.‬ﻑ ﻜﺫﻝﻙ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪8‬‬

‫العشر أن نھايته كانت اتفاق أوسلو ولعل المستقبل يخبئ ما ھو أسوأ‪ ،‬أي بقاء االحتالل عمليا ً وتحويل‬
‫الدفة الفلسطينية نحو حكم ذاتي أو شبه دويلة ستكون "بندوستانا" فلسطينيا ً إن لم تكن رأس جسر‬
‫لعبور المشروع الصھيوني عليه إلى البالد العربية واإلسالمية‪ .‬بينما لو حافظت فتح على أھدافھا‬
‫ومبادئھا ومنطلقاتھا كما كان يرى أبو حسن وحمدي وسعد ومروان وإخوانھم لما كان من حل ممكن‬
‫للضفة الغربية وقطاع غزة وال سيما القدس أمام الدول العربية والمجتمع الدولي غير االنسحاب‬
‫اإلسرائيلي كما ھو الشأن بالنسبة إلى سيناء والجوالن‪ ،‬أو كان بقاء الكرة بالنسبة إلى قرار ‪ 242‬في‬
‫الملعب اإلسرائيلي واألمريكي والروسي واألوروبي ومجلس األمن‪ ،‬ومن ثم كانت الثورة الفلسطينية‬
‫والشعب الفلسطيني في الحالتين في الموقع األقوى واألسلم‪ .‬أما إبراز الشخصية الفلسطينية كما كان‬
‫يفھمه أبو حسن وحمدي وإخوانھما فقد كان الھدف منه مواجھة االغتصاب الصھيوني من خالل‬
‫استخدامه عنوانا ًلعدالة القضية وكان حجم ھذه الشخصية )م‪.‬ت‪.‬ف‪ (.‬في ھذه الحالة بحجم القضية أي‬
‫أكبر بكثير من أية دولة قطرية‪ .‬أما أنا أريد من ذلك البحث عن دويلة‪ ،‬أو كيانية قطرية‪ ،‬فسيعني ذلك‬
‫مساراً آخر غير المسار الذي عبرت عنه فتح في منطلقاتھا أو م‪ .‬ت‪ .‬ف في ميثاقھا‪ .‬فالكيانية في‬
‫الحالة الفلسطينية‪ .‬أي ضمن معادالت الوضع فشي فلسطين والوضع العربي والعالم ال ب لھا من أن‬
‫تخرج‪ ،‬في أحسن حاالتھا‪ ،‬أكثر اھتراء من أية دول قطرية عربية ھزيلة‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪9‬‬

‫]‪<íñˆrjÖ]æ<ì‚uçÖ]æ<íeæ†ÃÖ]<àÚ<ÌÎç¹‬‬
‫إذا كان التيار قد اعتبر‪ ،‬استنادا إلى منطلقات فتح أساسا‪ ،‬بأن الكفاح المسلح لتحرير فلسطين يساعد‬
‫عل التعبئة الضرورية والمناخ المالئم من أجل تحقيق الوحدة العربية والتغيير العربي فقد كان ذلك‬
‫بالنسبة إليه أمراً جاداً وليس‪ ،‬كما استخدمه البعض‪ ،‬ألغراض المناقشة مع العروبيين فقط‪.‬‬

‫ولعل مراجعة مدققة ألفكار ذلك التيار لتؤكد أن مدخله إلى إبراز الشخصية الفلسطينية والتركيز على‬
‫القضية الفلسطينية والكفاح المسلح الفلسطيني كان ينبع من نعرة عروبية قوية‪ ،‬ومن توجه قومي‬
‫وحدوي ثابت‪ .‬ويمكن القول أنه كان يندفع بقضية التحرير وعينه على التغيير العربي والوحدة‬
‫العربية‪ .‬وذلك من خالل القناعة بأن ھذين الشرطين التغيير العربي والوحدة العربية ال يشكالن شرطا ً‬
‫أساسا ً لنھوض األمة العربية فحسب بل ھما شرط تحرير فلسطين وإنقاذھا‪ .‬طبعا لقد تعمقت ھذه‬
‫النظرة‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬إذ اعتبر ذلك طريقا إلى التغيير اإلسالمي ووحدة األمة العربية واإلسالمية كذلك‪.‬‬

‫ولھذا عندما أخذت بعض االتجاھات الفلسطينية ترتد إلى التعامل والسمة الفلسطينية ال باعتبارھا‬
‫ھوية نضالية وتغييرية وإنما كأنھا "قومية" قائمة بذاتھا‪ ،‬وراحت تعيد الشعب الفلسطيني إلى الكنعانية‬
‫والفلستية واالختالط العرقي والحضاري مع طمس للمرحلة العربية اإلسالمية والھوية العربية‬
‫اإلسالمية كما فعل البعض في البالد العربية حين عادوا بقطرھم إلى عھود ما قبل اإلسالم أي‬
‫االنتساب إلى الفرعونية أو الفينيقية أو اآلشورية‪ .‬ورد عل ذلك من قبل ھذا التيار بمعارضة حازمة‬
‫مبكرة فقد رؤي بتلك اإلرھاصات مقدمة خطيرة النكفاء فلسطيني ضيق‪ ،‬وعصبوي يعزل نفسه‪،‬‬
‫عمليا وسياسيا‪ ،‬إن لم يكن نظرياً‪ ،‬عن أمته العربية ودوره العربي‪ .‬وھذا ما يفسر المستوى الذي‬
‫تحصن به ھذا التيار ضد السياسات التي كانت تحاول استغالل المعاناة التي عانى منھا الشعب‬
‫الفلسطيني من عدد من الدول العربية‪ ،‬بما في ذلك الصراعات الحادة أو الدامية التي عرفتھا‬
‫السبعينات والثمانينات‪ ،‬أو استغالل االنكفاء القطري لھذا البلد العربي أو ذاك والتفريط في االھتمام‬
‫بالقضية الفلسطينية أو االستعداد لمواجھة العدو اإلسرائيلي‪ ،‬أو التقصير في دعم الشعب الفلسطيني‪..‬‬
‫ھنا كان التيار يرى أن الموقف من ذلك يجب أن يتجه إلى المزيد من اإلصرار على التوجه العروبي‬
‫)وفيما بعد العروبي واإلسالمي(‪ ،‬والى المزيد من الدفع باتجاه التغيير العربي والوحدة العربية‪ .‬وقد‬
‫وصل الموقف إلى حد اعتبار التجزئة العربية شر الشرور‪ ،‬ومصدر كل ضعف‪ ،‬وھي سبب رئيس‬
‫في كل نكسة وتراجع‪ .‬كما وصل من جھة أخرى إلى حد الدعوة إلى تأييد كل تقارب عربي ‪ -‬عربي‬
‫يتضمن التخفيف من موانع الحدود ووضع البرامج التنموية أو الثقافية المشتركة‪.‬‬

‫ھذا واعتبر أن تأييد الوحدة العربية‪ ،‬أو الوحدة بين أي قطرين‪ ،‬يجب أن يكون بال قيد أو شرط‪ ،‬حتى‬
‫لو كانت السياسات التي وراء الوحدة ستفتح السجون وتنزل أشد ألوان النكال بخصومھا السياسيين‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪10‬‬

‫وإن كان ھو نفسه من بينھم‪ .‬المھم أن تحقق الوحدة أية وحدة وبعد ذلك يكافح من أجل التغيير‬
‫تصحيحا ً للمعوج وإنقاذاً‪ .‬من خطر العودة إلى التجزئة‪.‬‬

‫لقد كان ھذا الموقف من العروبة والوحدة في أساسات نشأة التيار الذي لم يكن ليفھم منطلقات فتح أو‬
‫يقدمھا لم إال منسجمة وھذا الموقف ومعززة له‪.‬‬

‫أما انتقال التيار‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬إلى الموقع اإلسالمي فقد جعله يرى في اإلسالم شرطا ً في فھمه للعروبة‬
‫والوحدة العربية كما رأى فيه ضمانة لمواصلة الطريق الفلسطيني دون انكفاء إلى اإلقليمية الضيقة‬
‫ودون تراجع عن الثوابت واألساسيات فقد أصبحت القضية الفلسطينية وفي مقدمتھا تحرير القدس‬
‫جزءاً من العقيدة وأصبح الجھاد لتحرير فلسطين وإعالء المقاومة ضد االحتالل واجبا ً وفرضا ً‪ .‬وھذا‬
‫كله طريق يسھم في العملية الكبرى الشاملة لتحرير شعوب األمة واستقاللھا ونھضتھا ووحدتھا‬
‫وتحقيق العدالة‪.‬‬

‫]‪íèâ^Û¢]æ<íè…çnÖ]<íéßfÖ‬‬
‫لقد انطلقت األنوية األولى التي شكلت التيار من مفاھيم وأيديولوجية ومرتكزات تطمح إلى بناء الفرد‬
‫الثوري المنتمي للجماھير العريضة الكادحة والتي تختزن أفضل التقاليد الثورية والسمات األخالقية‬
‫البعيدة عن األنانية واالنتھازية والنظرة الفئوية الضيقة من جھة‪ ،‬والمشربة من جھة أخرى بروح‬
‫االستقاللية واإلقدام والعمل المتفاني والتكافل والتعاون‪ ،‬والمسلحة بالنظرة الواسعة الجبھوية‬
‫والوحدوية والتوليفية‪ ،‬والمعالجة السمحة المرنة المعتدلة مقابل األيديولوجية المتطرفة العصبوية‬
‫المغالية التي تتسم بھا بعض الفئات المثقفة والمغامرة الطموحة من الطبقات المتوسطة‪ ،‬والتي تتجه‬
‫إلى محاكاة نظيراتھا في الغرب‪ ،‬والتي تحمل العقلية االنشقاقية المتشنجة‪.‬‬

‫راح التيار يزن مختلف المواقف السياسية والمسلكية واألخالقية على أساس الصراع بين ھذين‬
‫الخطين‪ .‬وذلك بقصد تشريب األخوة واألخوات بتلك القيم من خالل القناعة الذاتية واالختيار الحر‬
‫بين إتباع ھذا الخط أو ذاك‪ .‬فإذا كان الشائع في ذلك الوقت إعطاء "صفة البروليتارية" للخط األول‬
‫وصفة البرجوازية للخط الثاني‪ ،‬فقد مال التيار إلى استخدام صفة الجماھيرية والثورية والخط‬
‫الصحيح تمييزا لنفسه‪ ،‬ال من الناحية الشكلية فحسب وإنما أيضا من ناحية المحتوى‪ ،‬عن المفھوم‬
‫الماركسي التقليدي )السوفياتي واليسراوي والماوي( للبروليتارية‪ .‬ألن المفھوم اآلخر يعبر عن‬
‫الجماھير الشعبية العريضة في بالدنا‪ .‬لكنه احتفظ في المقابل باستخدام تعبير البرجوازية‬
‫والبرجوازية الصغيرة مرادفا للخط الثاني‪ .‬لكن حتى ھذه كانت تعطى سمات كثيراً ما كانت تختلف‬
‫عن سماتھا في النظرية الماركسية‪ .‬فمثالً كان يعتبر الموقف السلبي أو المعادي لإلسالم‪ ،‬والرافض‬
‫للتقاليد واألخالقية الموروثة رفضا ً بالجملة‪ ،‬ومن حيث أتت‪ ،‬سمة من سمات المثقف البرجوازي‬
‫المقلد للغرب بينما يعتبر ھذان الموقفان بروليتاريين في التأويل الماركسي )السوفياتي واليسراوي‬
‫األوروبي كما في الثورة الثقافية الماوية في الصين(‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪11‬‬

‫وھنا يمكن أن يلحظ أن الشعارات المعتدلة والمواقف المرنة التي تبناھا التيار في كثير من المواقف‬
‫السياسية اليومية فلسطينيا ً ولبنانيا ً وعربيا ً كانت تقوم على أساس متين من االلتزام الشعبي الجماھيري‬
‫الثوري‪ .‬فالمرونة لم تنبع من ميوعة‪ ،‬واالعتدال ال ينبع من انتھازية‪ ،‬والنظرة التي تجمح بين‬
‫المتناقضين ال تصدر من تلفيقية‪ ،‬والتركيز على أولوية ما ال يعني بيع ما عداھا‪ .‬فقد كان انتماء‬
‫أصيالً وحازما ً للجماھير العريضة وللثورة والتغيير‬

‫‪<íèçŠjÖ]<¼}æ<†ŽÃÖ]<½^ÏßÖ]<sÚ^Þ†e<Ùçu‬‬
‫كان من نتائج حرب تشرين أول )أكتوبر( ‪ 1973‬أن راحت تتبلور فكرة طرح برنامج مرحلي‬
‫لمنظمة التحرير الفلسطينية يصبح برنامج الحد األدنى‪ ،‬أو المرحلة األولى بينما يبقى برنامج التحرير‬
‫الكامل برنامج الحد األعلى‪ .‬وقدمت المرحلة األولى‪ ،‬المتصاص المعارضة شبه الشاملة لھا‪،‬‬
‫باعتبارھا مرتبطة عضويا ً بالمرحلة الثانية‪ ،‬وھي شرط الوصول إلى األخيرة‪ .‬ولھذا طرحت على‬
‫شكل "قيام السلطة ‪ -‬الوطنية المقاتلة على أي جزء يتحرر من فلسطين"‪ ،‬ومن ثم بناء القاعدة‬
‫المحررة لمواصلة عملية التحرير‪ .‬وشاع اتخاذ ما حدث في فيتنام نموذجا ً لھذه المرحلية إذ حررت‬
‫في فيتنام الشمالية أوالً وأصبحت القاعدة المقاتلة الصلبة للمرحلة الثانية أي تحرير فيتنام الجنوبية‪.‬‬

‫لم يكن من السھل بالرغم من كل ھذه التعمية حول حقيقة برنامج النقاط العشر أن يمرر على‬
‫المستوى الداخلي في فتح خصوصاً‪) ،‬وبالمناسبة لم يقرر رسميا ً من خالل مؤتمر لفتح إال عام‬
‫‪ (1980‬أو على مستوى المجلس الوطني إال بشق األنفس وبكثير من المناورات وأساليب التقريب‬
‫واإلبعاد‪ .‬ويكفي تدليالً على صورة الوضع الفلسطيني في ذلك الوقت أن عدداً ھاما ً من كبار‬
‫المفاوضين الفلسطينيين في واشنطن أو طابا أو القاص ة أو في المفاوضات اإلقليمية كان معارضا‬
‫حتى لتبني برنامج النقاط العشر‪ .‬ولم يقنعه حتى أن تكون السلطة مقدمة‪ .‬ألنه كان يرى في ذلك بداية‬
‫االنحراف عن المنطلقات أو بداية االنزالق إلى طريق قرار ‪ 242‬معدال بحيث يصبح لمنظمة‬
‫التحرير الفلسطينية مكان فيه‪ .‬وقد أثبتت الوقائع فعال أن نظرية المرحلية والتشبه بالطريقة الفيتنامية‬
‫كانا زرا للرماد في العيون‪ ،‬أما إضافة كلمة المقاتلة إلى السلطة الوطنية واإلصرار على التحرير‬
‫الكامل في الوقت نفسه كانا لتمرير البرنامج وما أن يثبت المبدأ حتى تبقى السلطة وتسقط كل‬
‫اإلضافات التسويغية األخرى‪.‬‬

‫ويمكن أن يسجل بھذه المناسبة براعة استثنائية لقيادة فتح في المناورة بالكلمات والمساومات للوصول‬
‫إلى صيغ يمكن أن تكون مشتركة فيما بين أغلب االتجاھات والتيارات داخل م‪ .‬ت‪ .‬ف‪ .‬فقد كانت تلك‬
‫القيادة تعرف بالضبط ما تريد‪ ،‬فعلى سبيل المثال حدث ھذا حين مرر برنامج السلطة الوطنية‪ ،‬أو‬
‫المشاركة "في مؤتمر مدريد" إذ كانت األغلبية داخل فتح وخارجھا‪ ،‬وأحيانا داخل قيادة فتح نفسھا‪،‬‬
‫ال تستطيع أن تشرب الكأس على تلك الصورة‪ .‬وھنا كانت المناقشات تحتد لتنتھي إلى اتفاق بعد أن‬
‫تكون األطراف المعارضة وضعت من الشروط ما شاءت حول الموضوع المعني وتكون قيادة فتح‬
‫قد قبلت بتلك الشروط مھما كانت مناقضة للموضوع األساسي أو مقيدة له‪ .‬ثم يأخذ التنفيذ العملي‬
‫بإسقاط تلك الشروط عمليا ليبقى المقصود فالذي بقي ھو قرار العمل من أجل الوصول إلى سلطة أو‬
‫إلى المشاركة في المفاوضات أي كان المھم ھو إقرار المبدأ أما ما عدا ذلك فيترك للمؤرخ أو‬
‫للمعارض الذي سيرتكز عليه وھو يواجه مشروعا ً يحمل تنازالت جديدة‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪12‬‬

‫على أن تمرير برنامج النقاط العشر لم يتم بصورة أساسية بسبب المھارة والمناورة والتالعب‬
‫بالشروط المقيدة وإنما بسبب التقاء بين تيارين أساسيين في الساحة الفلسطينية والعربية والدولية‪:‬‬
‫التيار الذي يراعي الموقف المصري أو الموقف العربي الرسمي عموما والتيار الذي يعبر عن موقف‬
‫االتحاد السوفياتي الذي أخذ يمد بنفوذه إلى الساحة الفلسطينية‪ .‬فقد تزعمت كل من مصر واالتحاد‬
‫السوفياتي في ذلك الوقت حملة التغيير المطلوب في برنامج م‪ .‬ت‪ .‬ف‪ .‬وقد التقيا على ذلك على‬
‫الرغم من الصراع الذي أخذ يتعاظم بينھما في ذلك الوقت‪ .‬أي كان التقاء بين ھذين التوجھين‬
‫المصري والسوفياتي وإن من موقفين وھدفين مختلفين‪ .‬فمصر بعد حرب تشرين كانت تريد االندفاع‬
‫بطريق التسوية األمريكية‪ ،‬ولھذا ضغطت باتجاه التغيير المذكور‪ ،‬ولم يكن انعقاد المجلس الوطني‬
‫الذي أقر النقاط العشر في القاھرة خاليا ً من المغزى‪ .‬أما االتحاد السوفياتي فكان يرى بھذا التغيير‬
‫إزالة عقبة كبيرة كانت تقف بينه وبين بسط نفوذه على الساحة الفلسطينية أو ممارسة التأثير فيھا‪ .‬ألن‬
‫ذلك شرط االنسجام مع اعترافه بالدولة اإلسرائيلية وحقھا بالوجود وتبنيه لقرار ‪ . 242‬كما أنه‬
‫سيضيف من خالل ذلك قوة رئيسية إلى موقفه في عملية الصراع ضد االنفراد األمريكي بالتسوية بل‬
‫في مواجھة خط السادات نفسه‪.‬‬

‫إن االلتقاء بين ھذين االتجاھين األكثر تأثيراً في المعادلة الفلسطينية في ذلك الوقت ھو الذي سمح‪،‬‬
‫مع عملية التجميل والتعمية الضرورية للبرنامج‪ ،‬أن يشق طريقه وسط معارضة كبيرة بل أكبر من‬
‫المؤيدة‪ ،‬داخل الساحة الفلسطينية‪ ،‬ووسط تحفظ‪ ،‬أو معارضة‪ ،‬من قبل عدد من الدول العربية كانت‬
‫متصارعة فيما بينھا‪.‬‬

‫لقد ُشنت حملة واسعة في ذلك الوقت ضد رفض برنامج النقاط العشر عموما ً وضد التيار الذي جسده‬
‫الشھداء أبو حسن وحمدي ومروان رحمھم ﷲ‪ ،‬والسيما داخل فتح‪ ،‬وعلى الخصوص من قبل‬
‫االتجاھات الداعية إلى التحالف مع السوفيات كما من قبل قيادة فتح المتقاطعة أكثر مع الموقف‬
‫المصري‪ .‬وقد ارتكزت الحملة على اعتبار االستمساك بالمنطلقات األساسية لفتح ورفض‬
‫الموضوعات المتعلقة بالمرحلية الموھومة بأنه عدمية سياسية‪ ،‬أو ال واقعية تتجاھل حقائق موازين‬
‫القوى العالمية‪.‬‬

‫وجاء رد أبي حسن وحمدي وسعد وعلي أبي طوق ومروان الكيالي وأبي خالد جورج عسل والحاج‬
‫نقوال عبود وإخوانھم على ھذه الموضوعات أوال بمالحظة أن أنصار السوفيات بحماستھم المنقطعة‬
‫النظير لتغيير برنامج فتح وم‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬عموما ً من شعار التحرير الكامل إلى شعار السلطة الوطنية إنما‬
‫يراد منه إزالة عقبة كبيرة تقف أمام احتواء االتحاد السوفياتي لمنظمة التحرير الفلسطينية‪ .‬فاالتحاد‬
‫السوفياتي كان حاسما ً وثابت باعترافه بالكيان اإلسرائيلي وحصره التناقض وإياه ظاھراً‪.‬‬

‫حول ضرورة تنفيذ قرار مجلس األمن ‪ ،242‬ولكن حقيقة بسبب تواطؤ الحكومة اإلسرائيلية‬
‫والواليات المتحدة األمريكية في الحرب الباردة‪ .‬المھم كان التعديل في الشعار ال يمثل واقعية مرحلية‬
‫إذ لم يكن ھنالك في األفق أي تطبيق لقرار ‪ 242‬على األرض الفلسطينية‪ ،‬وإنما كان المطلوب إيجاد‬
‫شرط انحياز م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬إلى المعسكر السوفياتي إن لم يكن رسميا ً فعمليا ً‪ .‬ومن ھنا كان الصراع قد‬
‫احتد في مواجھة أنصار التحالف واالتحاد السوفياتي ال على أساس واقعية برنامج النقاط العشر أو‬
‫عدم واقعيته‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪13‬‬

‫أما ثانيا‪ ،‬فقد الحظوا أن تمرير البرنامج سيصب في نھاية المطاف في الخط الساداتي‪ .‬ألن ما في‬
‫جعبة السوفيات ھو "الالسلم والالحرب" ولھذا ال بد للجدية في البحث عن سلطة وكيانية من أن تقود‬
‫إلى جعبة مصر ضمن تسوية أمريكية‪ .‬ومن ھنا كان للصراع الذي خاضه ذلك التيار‪ ،‬أو تعرض له‪،‬‬
‫رأسان أحدھما موجه للخط السوفياتي واآلخر للخط الساداتي‪ .‬وإن غلبت في الظاھر معركته مع‬
‫التيار الذي كان يدعو للتحالف والسوفيات‪ .‬ويرجع ذلك لتصديه األشد شراسة وعلنية وھجومية ضد‬
‫تيار أبي حسن وإخوانه بينما كانت األطراف األخرى تنھج سياسة "ترك الفُ ّخار يكسر بعضه"‪ ،‬ولكن‬
‫ضمن تحالف مع التيار األول وضرب تحت الحزام ضد تيار أبي حسن وإخوانه دون أن يصل إلى‬
‫حد التصفية حتى يظل الفُ ّخار يكسر بعضه‪ .‬ألن قيادة فتح كانت تشعر دائما ً بمخاوف من سيطرة‬
‫التيار األول السوفياتي ومن دفعه إياھا لمعاداة مصر ودول الخليج لكنھا ما كانت تواجھه مباشرة‪.‬‬
‫ولعل ذلك كان واحدا ً من األسباب التي حالت دون تصفية تيار أبي حسن وحمدي وإخوانھما منذ‬
‫وقوفھم الحازم والعلني ضد برنامج النقاط العشر وسياساته‪.‬‬

‫أما وجھة نظر أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانھم في مناقشة موضوع برنامج النقاط العشر من‬
‫زاوية الواقعية أو الالواقعية‪ ،‬فقد استند إلى اعتبار أن االنحياز إلى االتحاد السوفياتي سيعني من‬
‫ناحية واقعية تجميد الوضع وليس تحقيق حل مرحلي ألن اإلستراتيجية الحقيقية لالتحاد السوفياتي‬
‫كانت في تلك المرحلة ھي "الالسلم والالحرب" في المنطقة ومن ثم فان التغيير ال يشكل خطوة‬
‫باتجاه تحقيق برنامج مرحلي‪ .‬وإنما سيشكل انتكاسة‪ ،‬فقط في إستراتيجية فتح و م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬من‬
‫إستراتيجية الحرب إلى إستراتيجية "السلم والحرب"‪.‬‬

‫وقد كان األخوة واضحين ھنا في التقاط خطر ھذا التحول‪ ،‬كما الحظوا من جھة أخرى أن ھذا‬
‫التحول إذا تم‪ ،‬وإذا ما وجدت م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬نفسھا غارقة في حالة "ال سلم ال حرب" بينما أصبحت شھيتھا‬
‫مفتوحة‪ .‬إلى السلطة والكيانية! فقد تجد طريقھا مع مصر تدريجا ً إلى فتح األبواب ألمريكا والعدو‬
‫اإلسرائيلي اللذين بيدھما الخروج من حالة "السلم الحرب" باتجاه تسوية سياسية تعطي شيئا إن كان‬
‫لھا أصالً أن تعطي شيئا ً للفلسطينيين وقد أثبتت تجربة السادات ھذه المقولة‪ .‬فإسقاط إستراتيجية‬
‫الحرب واالنتقال إلى إستراتيجية الالسلم والالحرب )السوفياتية أساسا ً( سيؤدي إلى اختناق يدفع إلى‬
‫البحث عن تسوية أمريكية ‪ -‬إسرائيلية‪ .‬وھو مصير كان ينتظر م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬وقد راحت تسعى إليه‪،‬‬
‫بصورة حثيثة‪ ،‬بعد الخروج من لبنان في خريف ‪ . 1983‬فالذي يجري اآلن من اقتراب متواصل‬
‫نحو الحل األمريكي ‪ -‬اإلسرائيلي لم يكن نتاج حرب الخليج أو انھيار االتحاد السوفياتي فحسب‪،‬‬
‫وإنما كان أيضا قد مھد له مع تقرير البرنامج المرحلي‪ ،‬ال سيما منذ توقف سفينة ياسر عرفات‬
‫الخارجة من طرابلس )لبنان(‪ ،‬في بورسعيد والتقائه القيادة المصرية‪ ،‬وھو في طريقه إلى تونس‪.‬‬
‫وكان في ذلك قد خرق المقاطعة العربية للقاھرة بسبب المعاھدة المصرية ‪ -‬اإلسرائيلية عام ‪، 1979‬‬
‫وكان الخروج إلى تونس يعني موضوعيا ً التحرر من العوائق التي كانت تمنع من السير على نھج‬
‫القاھرة‪ ،‬أي العائق السوفياتي والسوري والمحلي اللبناني والفلسطيني‪ .‬أي اتخذت الواقعية التي حملھا‬
‫برنامج النقاط العشر مسارھا الطبيعي في القفز من حالة الالسلم والالحرب إلى حالة البحث عن السلم‬
‫المصري‪ ،‬ومن خالله السلم األمريكي ‪ -‬اإلسرائيلي‪.‬‬

‫ھذا دون الحديث عن أن الواقعية الثانية أي واقعية البرنامج المتوافق واإلستراتيجية األمريكية في‬
‫المنطقة ومن ثم اإلستراتيجية اإلسرائيلية‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬سواء أكان بوعي أم بال وعي‪ ،‬ال يشكل‬
‫برنامجا ً مرحليا ً بمعنى تحرير الضفة والقطاع أوالً أو أي جزء ينسحب منه العدو‪ ،‬ثم نأتي إلى‬
‫برنامج المرحلة الثانية لتحرير اللد والرملة‪ ،‬ثم برنامج المرحلة الثالثة تحرير يافا وحيفا‪ .‬فھذه‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪14‬‬

‫المرحلية‪ :‬وكما أظھرت التجربة المريرة والقاسية‪ ،‬غير واقعية إال بقدر‪ .‬ما ھي واقعية للتخلي عن‬
‫نفسھا في مصلحة واقعية أخرى تعتبر غزة وأريحا مرحلة أولى تليھا في أحسن الحاالت مرحلة تمس‬
‫بعض أجزاء الضفة الغربية في ظل سيطرة أمنية إسرائيلية على الوضع كله أو بقاء االحتالل عمليا ً‬
‫حتى على الضفة وغزة‪ .‬ناھيك عن أن لسان الواقعيين لم يعد اآلن‪ ،‬يستطيع التحدث‪ ،‬ولو ھمسا ً‪ ،‬عن‬
‫تحقيق أھداف فتح وم‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬ومنطقاتھما أي التحرير الكامل مرحلة بعد مرحلة‪.‬‬

‫أما السلطة المقاتلة فأصبحت السلطة المجردة من السالح والباحثة عن قوات دولية حفاظا ُ على أمنھا‬
‫من المستوطنين‪ ،‬أو عن ضمانات إسرائيلية مع مراقبين دوليين‪ ،‬عدا قوات شرطة لضبط األمن‬
‫الداخلي ومنع الصدام بالعدو‪.‬‬

‫تكمن اإلشكالية ھنا في أن نظرية المرحلية ال عالقة لھا منذ طرح برنامج النقاط العشر في أواخر‬
‫‪ 1973‬وأوائل ‪ 1974‬بمرحلية تحرير كامل فلسطين بحدودھا قبل ‪ . 1947‬فنظرية المرحلية‬
‫استخدمت غطاء نظريا ً للرد على المستمسكين بالمنطلقات األساسية ليس إال‪ .‬وھذا األمر يتكرر اآلن‬
‫مع نظرية غزة وأريحا أوالً والتي توحي كأن ثانيا ً سيعني االنسحاب اإلسرائيلي من كل األراضي‬
‫المحتلة عام ‪ 1967‬بما في ذلك القدس الشرقية‪ ،‬والتي يشملھا القرار ‪ ،242‬كما سيعني إقامة دولة‬
‫فلسطينية مستقلة على أنقاض ذلك االنسحاب‪ .‬فأوالً ھنا ال عالقة لھا في واقع الحال بكل ذلك حتى لو‬
‫حصرناه في األراضي المحتلة بعد ‪ .1967‬وإنما له عالقة بترتيبات شبيھة بما يجري اآلن بالنسبة‬
‫إلى غزة وأريحا قد تشمل بعض المدن والقرى عدا القدس ومنطقتھا‪ ،‬وعدا الطرق والنقاط‬
‫اإلستراتيجية‪ ،‬وعدا مسؤولية األمن على الحدود وعلى الوضع عموماً‪ ،‬أما إقامة دولة فلسطينية‬
‫مستقلة ذات سيادة على األرض والحدود فھذا غير الكيان الذي سيقوم باسم الحكم الذاتي حتى لو سمي‬
‫األخير‪ ،‬في المستقبل‪ ،‬اختراقا ً وتجاوزاً "دولة"‪.‬‬

‫بكلمة‪ ،‬إن مشروع النقاط العشر‪ ،‬كما أكدت السنوات العشرين الماضية‪ ،‬ال عالقة له بالتحرير‬
‫المرحلي لفلسطين وال بالواقعية السياسية أو الثورية‪ .‬وھذا ما الحظه الشھيدان وإخوانھما في حينه‬
‫وكان واحداً من األسس التي قام عليه رفضھم لھا بل اعتبروا أن الواقعية الحقيقية المرحلية إذا شئت‪،‬‬
‫ھي احتفاظ فتح وم‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬بالبرناج األساسي‪ ،‬أي بالمنطلقات والثوابت والميثاق‪ ،‬وترك موضوع‬
‫التسوية والصراعات العربية والدولية حولھا شأنا ً من شؤون مؤتمرات القمم العربية والدول العربية‪،‬‬
‫بينما الفلسطينيون يبقون حالة مقاومة‪ ،‬ويبقون مستمسكين بالحقوق األساسية في فلسطين‪ ،‬ويستمرون‬
‫شاھداً حيا ً على جريمة االغتصاب الصھيوني لفلسطين‪ .‬فھم بھذه الواقعية يكونون قد استعادوا للشعب‬
‫الفلسطيني شخصيته وكيانيته المعنوية والشاملة لكل الفلسطينيين‪ ،‬من خالل شخصية الشعب المقاتل‬
‫من أجل التحرير‪ ،‬والممثل لجانب العدالة في الصراع‪ ،‬ھذا فضالً عن أدائه لدور الحافز على التغيير‬
‫العربي‪ ،‬والصارخ في وجه التخاذل والتفريط‪ ،‬والناقد لعدم وضع كل الجھود في خدمة القضية‬
‫المركزية أو القضية المقدسة األولى للعرب والمسلمين‪ .‬أما من جھة أخرى فإن ھذه الواقعية تجنب‬
‫فتح وم‪.‬ت‪.‬ف‪.‬‬

‫الصراع مع األردن حول الضفة الغربية أو التمثيل‪ .‬وھو الذي كان يسميه أبا حسن رحمه ﷲ لماذا‬
‫نتقاتل على جلد الدب قبل أن نصيده‪ .‬وقد كان يرى ھو وحمدي المنغمسان في العمل في مھمات‬
‫المقاومة في الداخل أن تأزيم األجواء مع األردن والدخول في حرب داخلية ال يخدم تصعيد المقاومة‬
‫السياسية والعسكرية ضد العدو‪ .‬وكانا يستشھدان بالخسارة‪ ،‬أو بالنكسة التي مني بھا الكفاح المسلح‪،‬‬
‫والسيما‪ ،‬في قطاع غزة‪ ،‬بعد أحداث أيلول والخروج من األردن‪ .‬فقد كانت اإلستراتيجية الصحيحة‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪15‬‬

‫تقتضي التركيز على مقاومة االحتالل وإعطائه األولوية وإخضاع عالقات م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬بالدول العربية‪،‬‬
‫وخصوصا ً باألردن لھذه األولوية‪.‬‬

‫وكانا يريان أن التشديد المبالغ فيه على موضوع السلطة الوطنية‪ ،‬والتمثيل الفلسطيني‪ ،‬ومن ثم السعي‬
‫للدخول في اللعبة السياسية الدولية‪ ،‬يؤدي إلى تعكير العالقات الفلسطينية ‪ -‬اللبنانية كما الفلسطينية ‪-‬‬
‫السورية‪ .‬فإستراتيجية المبادئ والمنطلقات لفتح وم‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬كانت تقضي بأن يكون لبنان "قاعدة‬
‫وممراً للمقاومة بينما رأينا إستراتيجية النقاط العشر قد اتجھت إلى السيطرة على ما أمكن من لبنان‬
‫واتخاذ ذلك ورقة للوجود على خريطة الشرق األوسط كما ذكر جھاراً‪ ،‬فقد راجت مقولة معبرة وذات‬
‫مغزى‪ ،‬بعد الخروج من لبنان‪ ،‬وھي‪" :‬أن لبنان كان رھينة بأيدينا نفاوض عليه‪ ،‬واآلن فقدنا ھذه‬
‫الورقة"‪ .‬وال يخفى أن ھذه اإلستراتيجية كلفت الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني الكثير الكثير‪ ،‬وإن‬
‫كان من غير السليم تحميلھا كل المسؤولية إذ أن ھنالك إستراتيجيات أخرى كانت تعمل في لبنان‬
‫وأدت بدورھا إلى ما حدث في لبنان لكل من الشعبين الشقيقين‪ .‬ويفسر ھذا‪ ،‬الفجيعة التي أصيب بھا‬
‫كثير من اللبنانيين بعد إعالن اتفاق أوسلو إذ أحسوا أنھم خدعوا بشعارات الثورة الفلسطينية التي‬
‫جعلتھم يبذلون الكثير تحت راياتھا باعتبارھا راية تحرير كل فلسطين أو ھي صاعق التغيير العربي‪،‬‬
‫وليس باعتبارھا مشروعا ً في ھذه القامة التي ما كانت تستحق كل ما قدم من تضحيات لبنانية‬
‫وفلسطينية في لبنان‪.‬‬

‫أما على جبھة العالقات الفلسطينية ‪ -‬السورية فقد كان برنامج النقاط العشر أحد العوامل الھامة‬
‫لتدھور تلك العالقات‪ ،‬وما زال النھج الذي خطه ذلك البرنامج وما أدى إليه عامالً ھاما ً في دھورة‬
‫تلك العالقات‪ .‬وإن كان من الخطأ أن تلقى في ذلك كل المسؤولية عليه‪.‬‬

‫ألن السير في برنامج التسوية كان يقضي باالنشداد المستمر إلى السياسة المصرية‪ ،‬والسيما بعد‬
‫توقيع المعاھدة المصرية ‪ -‬اإلسرائيلية‪ ،‬ومن خالل ذلك البحث عن طريق فلسطيني "منفرد" ال محالة‬
‫في مخاطبة أمريكا والكيان اإلسرائيلي‪ ..‬وھي عوامل كانت تعني الصدام بسوريا إلى جانب عامل‬
‫محاولة السيطرة على الشطر اللبناني غير الماروني‪.‬‬

‫ولھذا كان االستمساك الحاسم بسياسة مقاومة االحتالل دون الدخول في زحمة التسوية السياسية‬
‫والبحث عن موقع على الخريطة ‪ -‬دولة ‪ -‬كيان ‪ -‬حكم ذاتي أو أقل من ذلك‪ ،‬كان سيقلل الكثير من‬
‫الصراعات الفلسطينية ‪ -‬األردنية والفلسطينية ‪ -‬السورية‪ ،‬والفلسطينية ‪ -‬اللبنانية‪ ،‬وحتى الفلسطينية ‪-‬‬
‫المصرية )ألن برنامج النقاط العشر في مرحلته األولى‪ ،‬أو واقعيته األولى‪ ،‬أو االحتمال األقوى‬
‫لمساره‪ ،‬كان باتجاه االنحياز للسوفيات موضوعيا ً‪ .‬في وقت كانت فيه مصر تخفف من عالقاتھا‬
‫السوفياتية وتقترب باتجاه التفاھم والواليات المتحدة األمريكية(‪.‬‬

‫وبالمناسبة احتار بعض الذين ردوا بالتشھير ضد ھذا التيار فيما يصفونه‪ ،‬أو على من يحسبونه‪ ،‬فتارة‬
‫اتھم بالعمالة لألردن وكان رد أبي حسن "إذن كانت فتح عميلة لألردن من ‪ 1965‬إلى ‪"..1974‬‬
‫وتارة أتھم بالعمالة لسورية‪ ،‬وأخرى بالعمالة لمصر‪ .‬وكان الرد "ألم يكن ھذا موقفكم دائما ً قبل طرح‬
‫برنامج النقاط العشر"!!‪ ،‬كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد وجد حالً مثاليا ً للثورة الفلسطينية‬
‫في مرحلة المنطلقات والمبادئ وذلك حين أعلن موافقته على مشروع روجرز إذ قال من حق‬
‫الفلسطينيين أن يرفضوا مشروع روجرز‪ ،‬وقرار مجلس األمن ‪ ،242‬ولكن ليس من حقھم أن‬
‫يحاربوا مصر بسبب ذلك‪ .‬فاإلستراتيجية األحكم ھنا كانت تقضي بأن تتمسك الثورة الفلسطينية‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪16‬‬

‫بمنطلقاتھا وأھدافھا وبمواصلة مقاومة االحتالل إلى جانب تمسكھا بحقھا في رفض مشاريع التسوية‬
‫ألن ما من مشروع منھا يحقق الحد األدنى من الحقوق األساسية الثابتة في فلسطين‪ .‬ولكن مع ترك‬
‫الدول العربية تسعى إلى "إزالة آثار العدوان"‪ ،‬أو استعادة األراضي المحتلة في ‪ ،1967‬وفي‬
‫مقدمتھا القدس‪ .‬وبھذا يكون خطھا عدم الدخول في صراعات المحاور العربية‪ ،‬وال في زحمة‬
‫صراعات الحرب الباردة‪.‬‬

‫طبعا ً ھذا ال يعني أنھا كانت ستنجو من الضغوط العربية الرامية إلى فرض االنحياز عليھا‬
‫واستخدامھا في صراعات المحاور‪ ،‬كما أن التحريض لضربھا‪ ،‬وعدم السماح لھا بالتحرك من‬
‫الحدود العربية كانت سياسة أمريكية ‪ -‬إسرائيلية ثابتة‪ .‬وكانت ھنالك استعدادات عربية لالستجابة‬
‫لذلك‪ .‬ولكن كان ما سيقع أقل كثيراً من الذي وقع بسبب برنامج النقاط العشر والتمثيل األوحد للشعب‬
‫الفلسطيني والدخول في لعبة التسوية أو محاولة إيجاد مكان في المعادلة العربية والدولية‪.‬‬

‫وتتمثل أھمية ھذه اإلستراتيجية في أن الثورة ستكون في الموقع األقوى في كل تلك الصراعات حين‬
‫يكون دافعھا من الطرف العربي ھو االستجابة لضغوط خارجية أو إلخراج الثورة من حياديتھا‬
‫واستقالليتھا بالنسبة إلى الصراعات المحورية العربية ‪ -‬العربية‪ .‬أما في الحالة األولى أي محاولة‬
‫التحول إلى نظام عربي ومحاولة استخدام األوراق المختلفة‪ ،‬والتحالفات والمناورات السياسية من‬
‫أجل االشتراك في التسوية من خالل التقرب من السوفيات أوالً ثم أمريكا فإسرائيل ثانياً‪ ،‬كان يزيد‬
‫على ما ذكر من عوامل للصراع في الحالة الثانية عوامل المنافسة المباشرة حول التمثيل والضفة‬
‫الغربية‪ ،‬والمنافسة المباشرة لسوريا في لبنان‪ ،‬وفي االنحياز إلى مصر‪.‬‬

‫بكلمة‪ ،‬ال يمكن أن يوصف موقف الشھداء أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانھم من إشكالية برنامج‬
‫النقاط العشر بالعدمي أو بالالوقعي‪ ،‬فھو باإلضافة إلى أساساته المبدئية‪ ،‬نبع من إدراك أعمق للواقع‬
‫العربي والدولي والتجاه مسارات التسوية‪ .‬ومن ثم كان يرفض رفضا ً قاطعا ً أال يكون ھو األكثر‬
‫واقعية وعملية واألفضل نتائج على أرض الواقع‪.‬‬

‫تبقى إشكالية واحدة ھنا كانت تجابه ھذا التيار وھي ماذا سيحدث لو تحققت تسوية واستعادت الدول‬
‫العربية المعنية‪ ،‬مصر وسوريا واألردن‪ ،‬ما كان بحوزتھا من أرض قبل حزيران ‪1967‬؟‬
‫ھنا كان يحضر منذ ذلك الوقت جوابان‪ ،‬األول ھو أن األولوية يجب أن تعطى الستعادة األراضي‬
‫والسيما القدس‪ .‬ومن ثم فتحقيق ذلك سيكون نصراً حتى لو خرجت م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬من المو ِلد بال ح ّمص‬
‫كما يقول المثل أو كما كان يخاف البعض من حدوثه‪ .‬وقد أثبتت الوقائع أن دون ذلك خرط القتاد‬
‫وليس باألمر الذي كان على أجندة التنفيذ الواقعي‪ .‬وإذا ما قورن بما نشھده اليوم من شروط للتسوية‬
‫راحت توافق عليھا م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬كان سيكون‪ ،‬وبال جدال‪ ،‬خياراً أفضل‪.‬‬

‫وإذا كانت مصر ال تظھر مشكلة في الحالتين بسبب حرصھا على عدم الوجود العسكري المباشر في‬
‫القطاع‪ .‬وإن كانت حريصة علي أن يبقى القطاع موالياً لھا‪ ،‬فإن اإلشكال يبقى بالنسبة إلى السؤال‬
‫يتعلق بالعالقات الفلسطينية ‪ -‬األردنية في الضفة الغربية‪ .‬وھنا كانت ثمة عدة خيارات مطروحة‬
‫ويمكن أن يتفق عليھا مسبقا ً من أجل الذين يحرصون على عدم الخروج من "المولد بال حمص"‪.‬‬
‫وھي خيارات تراوحت بين المملكة المتحدة إلى الكونفدرالية‪ .‬وھي خيارات‪ ،‬على الرغم من الممثل‬
‫الشرعي والوحيد وشعارات الدولة الفلسطينية المستقلة بقيت جزءاً من برنامج الطرح الفلسطيني‬
‫الذي لم يستطع من الناحية النظرية والعملية والسياسية القفز عليھا‪ .‬ألن الخيار المقابل الذي أفرزه‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪17‬‬

‫مسار التسوية كان حكما ً ذاتيا ً ضمن السيادة األمنية اإلسرائيلية أو كونفدرالية فلسطينية ‪ -‬إسرائيلية أو‬
‫كونفدرالية فلسطينية ‪ -‬أردنية ‪ -‬إسرائيلية وھذه جميعا ً أسوأ الخيارات‪ ،‬وأسوأ حتى من إذابة الشعب‬
‫الفلسطيني وفقدانه ألية ھوية سياسية رسمية فلسطينية‪.‬‬

‫أما الجواب الثاني‪ ،‬فكان يرى أن أية تسوية يمكن أن تعقدھا الدول العربية‪ ،‬ولو من وراء ظھر‬
‫م‪.‬ت‪.‬ف‪ ،.‬لم تعد تستطيع عدم استرضاء الفلسطينيين حتى دون أن يسعوا من جانبھم إلى ذلك‪ .‬الن‬
‫مجرد الوقوف الصامت والمتأني من قبل م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬والشعب الفلسطيني تاركين لعملية التسوية أن تأخذ‬
‫مجراھا فيما بين الدول أمر ال تستطيعه المعادلة العربية أو الدولية أو اإلسرائيلية‪ ،‬ذلك بأن من‬
‫شروط العملية الحصول على موافقة فلسطينية وھو أمر ضروري لألطراف العربية أوالً بسبب ما‬
‫يمكن أن تحمله التسوية من تنازالت‪ .‬فالورقة الفلسطينية الصامتة ھنا أقوى ألف مرة‪ ،‬من ناحية‬
‫عملية‪ ،‬من برنامج النقاط العشر وما تبعه من برامج وصوالً إلى اتفاق أوسلو‪ .‬ألنك في الحالة األولى‬
‫تكون مطلوبا ً ومسترضى وفي الحالة الثانية تكون طالباً بل متوسالً‪ .‬وتكون‪ :‬كل أوراقك في الحالة‬
‫األولى بيديك بينما تكون في الحالة الثانية أغلب أوراقك إن لم تكن كلھا قد فقدت من يديك‪ ،‬أو‬
‫أصبحت مكشوفة‪.‬‬

‫كما أن القبول الفلسطيني أو االسترضاء على الرغم مما كان يظھر على السطح سيكون مطلوباً‬
‫أمريكيا ً وأوروبيا ً وإسرائيليا ً ال لتغطية الموقف العربي والمشاريع القادمة فحسب وإنما أيضا ً لنزع‬
‫الفتيل الفلسطيني أو اللغم الفلسطيني المتفجر تحت أية تسوية تدوسه تحت أقدامھا‪.‬‬

‫المھم أن البقاء في مواقع المنطلقات والمبادئ من الناحية النظرية واأليديولوجية والسياسية والبقاء في‬
‫مواقع المقاومة والثورة من الناحية العملية واألخالقية والقيمية وإبقاء األولوية لدحر االحتالل كانا‬
‫الخيار األفضل وكان مردودھما أقل خسائر وتضحيات بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وأكثر فائدة‬
‫ونفعا ً لمستقبل التغيير العربي وللمستقبل الفلسطيني وللوضع العربي الرسمي عموما ً‪ .‬بل حتى للھوية‬
‫الفلسطينية ونوع الكيانية ولكن ذلك كله كان بحاجة إلى خيال وحساب معادلة مركبة وإلى صبر‬
‫جميل‪.‬‬

‫ھذا اإلدراك المعمق والشمولي الذي حمله أبو حسن وحمدي وأبو محمود وسعد ومروان وأبو خالد‬
‫جورج وإخوانھم الذي ينم عن رؤية نظرية ومبدئية وسياسية عملية الذي ميزھم عن أغلب القوى‬
‫الفلسطينية والعربية الرافضة في ذلك الوقت‪ ،‬وھو الذي يفسر السبب الذي جعلھم وإخوانھم يثبتون‬
‫عليه طوال المراحل الالحقة بينما شھدت فصائل م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬التي رفضت مشروع النقاط العشر تراجعاً‬
‫تلو اآلخر أوالً باتجاه السلطة الوطنية ثم باتجاه الموافقة على االنخراط في ھذا أو ذاك من مشاريع‬
‫التسوية‪ .‬ولھذا كان الشھيد القائد أبو حسن يردد المثل الفلسطيني "دجاجة حفرت على رأسھا عفرت"‬
‫مدلالً علي أن التخبط في ھذا الطريق الذي شقه مشروع برنامج النقاط العشر ھو سير على طريق‬
‫خراب البيت الفلسطيني والعربي‪ .‬وھو ما كان يلحظه مع تالحق المراحل التي مرت بھا م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬منذ‬
‫‪ ،1974‬بصورة خاصة‪ ،‬حتى يوم استشھاده بصحبة حمدي ومروان في ‪ 14‬شباط )فبراير ‪.(1988‬‬

‫وإذا كان من الصحيح أن يرى قرار القمة العربية في الرباط عام ‪ 1974‬باعتبار م‪ .‬ت‪ .‬ف‪ .‬الممثل‬
‫ال مع البرنامج المحلي‪ ،‬فقد حاول أبو حسن‬ ‫الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني مكمالً أو متكام ً‬
‫وحمدي وإخوانھما أن يعطوه‪ ،‬مع تحفظھم عليه أساسا‪ ،‬بعداَ نضاليا يشدد على الشخصية الفلسطينية‬
‫المقاتلة وعلى ضرورة احترام قرار الشعب الفلسطيني باختيار طريق الكفاح المسلح لتحرير‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪18‬‬

‫فلسطين‪ ،‬وأن يستخدم ضد أي تفريط عربي بالحقوق الثابتة في فلسطين‪ .‬وقد أثبتت الوقائع أن قرار‬
‫التمثيل الوحيد غير المشروط كان يخفي من بعض القيادات العربية في قمة الرباط خبثا ً تكاد تزول‬
‫منه الجبال‪ .‬وھو إيجاد المسوغ إللغاء المسؤولية العربية واإلسالمية إزاء قضية فلسطين‪ ،‬أو حتى‬
‫بالنسبة إلى استعادة كل األراضي المحتلة عام ‪ 1967‬وفي مقدمتھا القدس‪ .‬ومن ثم تدفع م‪.‬ت‪.‬ف إلى‬
‫تقديم التنازالت المطلوبة أمريكيا ً وإسرائيليا ً بعد استنزافھا وتدويخھا بالحصار والضغوط المختلفة‪،‬‬
‫ليصبح شعار الدول العربية "نرضى بما يرضى به الفلسطينيون"‪ .‬وبھذا "يتحررون" من عبء‬
‫"قضية العرب المركزية" أو "قضية العرب والمسلمين األولى" فتصبح القضية قضية الشعب‬
‫الفلسطيني فقط‪ ،‬والذي يعبر عنه في ذلك م‪ .‬ت‪ .‬ف الممثل الشرعي والوحيد‪.‬‬

‫أما من جھة أخرى فقد أثبتت والوقائع صحة كل تلك المعارضة لھذين التوجھين‪" :‬البرنامج المرحلي‬
‫وإشكالية الممثل الشرعي والوحيد للقضية الفلسطينية" فھذان التوجھان أديا‪ ،‬في نھاية المطاف إلى أن‬
‫يصبح البحث في الكيان الفلسطيني والتمثيل الفلسطيني مقدمين على االنسحاب اإلسرائيلي الكامل من‬
‫الضفة والقطاع والقدس وتفكيك المستوطنات ال سيما من القدس الشرقية وما حولھا‪ .‬ويؤدي ھذا‪،‬‬
‫بدوره إلى االلتفاف على شعار األرض مقابل السالم ليصبح الحكم الذاتي بقيادة الممثل الشرعي‬
‫والوحيد مقابل السالم‪ .‬وھو ما عبرت عنه اتفاقية أوسلو‪ ،‬والتي حملت اسم "غزة أريحا أوال" أي‬
‫الحكم الذاتي أوال‪ ،‬ولو على جزء‪ ،‬ولو تحت أية شروط‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪19‬‬

‫]‪<êÚø‰ý]<ÄÎç¹]<±c<Ù^ÏjÞ÷]<íé×ÛÂæ<êréi]‰ý]<Å憎¹‬‬

‫يلحظ مما تقدم أن المشروع الذي حمله الشھيدان أبو حسن وحمدي وإخوانھما كان مشروع‬
‫إستراتيجيا كبيراً يطمح إلى أن يكون بحجم القضية الفلسطينية وبحجم مشروع الوحدة العربية‬
‫ومشروع نھضة األمة العربية واإلسالمية‪ .‬وقد فھموا على ھذه الصورة منطلقات فتح ومبادئھا‬
‫وأھدافھا‪ .‬وكان كل تطور فكري لھم يسير بھذا االتجاه ويعمقه بينما كان البعض من حولھم قد راح‬
‫يتجه إلى التخلص من ھذا اإلرث وتسطيحه خطوة بعد خطوة حتى يتخلص منه تماما ً‪.‬‬

‫لقد كان ھذا بالضبط عامالً مستخفيا ً في كل ما لقيه الشھيدان في حياتھما من اضطھاد معنوي‬
‫ومحاصرة سياسية وتضييق مادي‪ .‬وكانت ھذه المعاناة تزداد كلما تأكد أن صالبتھما في استمساكھما‬
‫بھذا الخط تزداد يوما بعد يوم وقد أصبحت من فوالذ وإسمنت ال سيما بعد أن فتح ﷲ عليھما مع عدد‬
‫من إخوانھما بالوقوف على أرض اإلسالم عقيدة ومنھجا ً ونمط حياة‪ ،‬ومرجعية نظرية‪ ،‬وفكرية‪،‬‬
‫وأخالقية‪ ،‬وسياسية‪.‬‬

‫وھنا أحدث الشھيدان قفزة في ممارستھما العملية السابقة حين راحا يجمعان القوى واإلمكانات من‬
‫أجل إطالق الجھاد في فلسطين‪ ،‬وكان في ذلك تجديدا ً لشباب الثورة الفلسطينية عملياً‪ ،‬ال سيما بعد أن‬
‫أرھقتھا التراجعات السياسية والصدامات بالوضع العربي وآخرھا الخروج من لبنان والتمركز في‬
‫تونس‪ .‬لقد جاء مشروع الجھاد في فلسطين تجديدا ً لحيوية المقاومة في الشعب الفلسطيني ولعله كان‬
‫تمھيداً لمرحلة االنتفاضة وحماس‪ .‬بل أصبح بعد نجاحه حافزاً‪ ،‬ولو بصورة غير مباشرة لتجديد روح‬
‫المقاومة عند شبيبة كل الفصائل الفلسطينية األخرى بمن فيھم شبيبة فتح‪.‬‬

‫وإذا كان ألحد أن يسجل دوراً قياديا ً فكريا ً ونظريا ً وعمليا ً مميزاً في إطالق مشروع الجھاد في‬
‫فلسطين فيجب أن يرى في أبي حسن وحمدي بؤرة المركز فيه‪ .‬فقد كانا يمتلكان الرؤية النظرية‬
‫الصحيحة والواضحة والسليمة حول مركزية القضية الفلسطينية وحول ضرورة إطالق الجھاد‬
‫اإلسالمي على األرض المباركة‪ .‬وكانا يمتلكان الخبرة العملية التاريخية الضرورية‪ ،‬واإلمكانات التي‬
‫تحتاجھا االنطالقة واألھم كان بمقدورھما أن يلعبا دور الموحد بين عدد من المجموعات اإلسالمية‬
‫والشخصيات اإلسالمية التي كانت تطمح في ذلك الوقت بإطالق شعلة الجھاد الفلسطيني‪ .‬ولكنھا ما‬
‫كانت قادرة على إيجاد أرضية مشتركة فيما بينھا فضالً عن حاجتھا إلى الوقت الكافي المتالك‬
‫الخبرة واإلمكانات‪ .‬ومن ھنا كانت التجمعات الجھادية الفلسطينية‪ ،‬أفراداً وجماعات صغيرة‬
‫متواضعة‪ ،‬بحاجة إلى أبي حسن وحمدي شخصيا ً ليسھما في تجميع جھودھا إلى ما عندھما من قدرة‬
‫وإمكانات بشرية وتسليحية وتجربة عملية تاريخية إلطالق العملية الجھادية‪ .‬وما كان ذلك ممكن‬
‫التحقيق‪ ،‬في تلك الظروف‪ ،‬إال تحت فكرة "سرايا الجھاد اإلسالمي"‪ ،‬والتي أطلقت تحت راياتھا‬
‫عملية حائط البراق‪ .‬أي فكرة إطار تنسيقي أو جبھوي عام يحمل اسما مشتركا تطلق تحت مظلته‬
‫العمليات الجھادية التي تنسب له بغض النظر عن الجھة المعنية التي تقوم بالعملية الجھادية‪ .‬وذلك‬
‫تحت الطموح لتجنب التسابق على ادعاء العمليات فيما بين الجماعات اإلسالمية الجھادية وتجنب‬
‫استخدام الجھاد ألغراض الترويج الفئوي كما ضرورة تجنب استعداء اإلخوان المسلمين أو إحداث‬
‫شرخ في الساحة اإلسالمية‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪20‬‬

‫ھنا يجب أن تدرك حقيقة أساسية‪ ،‬وھي أن مرحلة الثمانينات التي شھدت والدة سرايا الجھاد‬
‫اإلسالمي في فلسطين كان ألبي حسن وحمدي الدور المميز فيھا‪ ،‬علما ً أنھما كانا يھربان من‬
‫األضواء كما من المديح واإلطراء‪ ،‬ويقدمان دائما ً اآلخرين تشجيعا ً لھم‪ .‬وان اإلشارة إلى ھذا الدور ال‬
‫يقلل وال بشكل من األشكال من األدوار التي قامت به عدة جماعات وشخصيات إسالمية‪ ،‬جنبا ً إلى‬
‫جنب‪ ،‬وبالتعاون مع الشھيدين‪ ،‬إلنجاح المشروع‪.‬‬

‫وبالمناسبة حاول الشھيدان أبو حسن وحمدي أن يعطيا لعملية الدبويا العسكرية الشھيرة أسما ً إسالمياً‬
‫كرمز لوحدة العمل اإلسالمي والوطني الفلسطيني في ذلك الوقت من عام ‪ 1980‬وھي المرحلة التي‬
‫كانت الثورة الفلسطينية تواجه فيھا مفترق طرق‪ .‬وكانت إحداھا تدل على بداية صحوة إسالمية‬
‫كبيرة‪ ،‬كما كانت إحداھا تدل على دوران في المكان إن لم يكن الخروج من لبنان‪ ،‬وأخرى على‬
‫تراجعات باتجاه التسوية وأخرى تشير إلى متغيرات إقليمية وعالمية كبيرة‪ .‬فقد رأى الشھيدان في تلك‬
‫المرحلة ضرورة إحداث انعطافة في سياسات الثورة الفلسطينية من خالل العودة إلى المنطلقات‪،‬‬
‫والتحالف والصحوة اإلسالمية واالستناد إلى المرجعية اإلسالمية بدالً من التقاذف في مھب الرياح‪.‬‬
‫وبدالً من التآكل الداخلي‪ .‬ولكن ما كان ذلك مجرد اقتراحات إذا تبلت كان به وان لم تقبل تبقى األمور‬
‫على حالھا‪ .‬أي دون أي اختيار من جانبھما للطريق الذي اقترحاه واعتبراه ضرورة إلنقاذ الثورة من‬
‫طمع الطامعين إقليميا ً ودوليا ً‪ .‬كما ضرورة إلنقاذھا من نفسھا بعد أن أخذت عالئم الترھل تظھر ھنا‬
‫وھناك‪ .‬وتھدد بالتفشي والتفاقم ال من الناحية السياسية والمبدئية فحسب وإنما أيضاً‪ ،‬من ناحية القيم‬
‫والمناقب الثورية واألخالقية‪.‬‬

‫على أن توصلھما وأغلبية ممن شاركھم البحث والمداولة إلى الوقوف على أرض اإلسالم لم يأت‬
‫ألسباب عملية بقصد تجديد شباب الثورة الفلسطينية من عالئم الترھل ومخاطر التخلي عن المنطلقات‬
‫والمبادئ واألھداف‪ .‬فھذا األمر جاء نتاجا ً الحقا ً ولم يكن سببا ً ودافعا ً فقد اقتضت عملية الوصول إلى‬
‫تلك النتيجة سلسلة طويلة من المناقشات والجدل والمقارنات ومحاوالت استقاء العبر من التجارب‬
‫المحلية واإلقليمية والعالمية في تقويم طرق العلمنة السيما طريق الماركسية الليفينية حتى في وجھھا‬
‫األكثر جاذبية بالنسبة إلى الثورة في بلدان العالم الثالث أي ما عرف باسم أفكار ماوتسي تونغ‪ .‬وإلى‬
‫حد أبسط أفكار موتشي منه ومنھجيته في التعامل والقضايا الجزئية للتجربة‪.‬‬

‫بكلمة‪ ،‬كان االنتقال أو باألصح التطور أو التقدم باتجاه المرجعية اإلسالمية قد تم عبر عملية تاريخية‬
‫صاحبت تلك التجربة وأفكارھا وتنظيراتھا ما يقارب العقد من السنين‪ .‬وإذا كان البعض قد نظر إلى‬
‫ھذا التحول بعين ساخطة‪ ،‬وتجنى عليه باتھامه بالتقلب في المواقف أو بالتنقل الھوائي أو العشوائي‪،‬‬
‫فقد أخطأ في ذلك‪ .‬ألن ما حدث كان مسار‪ .‬متماسكا ً باتجاه اكتشاف الحقيقة ال الحقيقة الكونية فحسب‬
‫وإنما أيضا ً الحقائق التاريخية واالجتماعية واأليديولوجية والمفھومية‪ .‬فقد اتسم التيار الذي وقف في‬
‫مقدمته أبو حسن وحمدي بالتوتر القلق الدائم في البحث عن الحقيقة والموقف السياسي واأليديولوجي‬
‫الصحيح‪ .‬وكان ھذا يقضي إبقاء العيون مفتحة على كل ما اعتبر من المسلمات‪ ،‬وإبقاءھا متوقدة في‬
‫تقويم نتائج كل تجربة أو فكرة أو نظرية‪ ،‬فالتعامل والماركسية الليفينية لم يبدأ في ھذه التجربة‬
‫بالطريقة الجامدة المدرسية التي كان عليھا أن تبتلع نتاج النظرية بكلمته وتفصيالته‪ ،‬وغالبا ً بشكل‬
‫شديد التبسيطية‪ ،‬وإنما بالتعامل وإياھا من خالل نقد صارم للتجربة السوفياتية‪ ،‬ولتجارب األحزاب‬
‫الشيوعية واليسارية إقليميا ً وعالمياً‪ ،‬واألھم بدأت بنقد صارم للمركزية األوروبية في بنية النظرية‬
‫الماركسية الليفينية‪ ،‬ومن ھنا كان التعامل والنظرية منذ اللحظة األولى تعامالً نقدياً‪ ،‬مع محاولة دائمة‬
‫لوضعھا على محك التاريخ العربي‪ ،‬والواقع العربي‪ ،‬مما كان يدفع باستمرار إلى الخروج‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪21‬‬

‫بموضوعات ذات أصالة نسبيا ً ومختلفة جوھريا ً عن كثير من الموضوعات التي تبنتھا الحركات‬
‫اليسارية الفلسطينية والعربية واألوروبية‪ ،‬السيما في التفسير الطبقي التبسيطي للتاريخ‪ ،‬والواقع‬
‫العربي القائم أو التفسير الطبقي الساذج للظاھرة الصھيونية في فلسطين والعالم‪.‬‬

‫ولعل مراجعة للرسالة التي نشرت باسم الشھيدين تحت عنوان "رسالة من وراء القضبان"‪ ،‬والملحقة‬
‫بھذا الكتيب‪ ،‬لتكشف من جھة عن جوانب من البعد الفكري‪ - .‬الثقافي ‪ -‬النظري لدى الشھيدين مما‬
‫يدحض حصرھما في الجانب الجزئي التطبيقي العملي‪ ،‬ولتكشف من جھة أخرى عن نھجھما وما‬
‫وجھاه من النقد للماركسية الليفينية وتجاربھا‪.‬‬

‫في الواقع لم يكد عام ‪ 1976‬يشرف على االنتھاء حتى كان الشھيدان ومعھما عدد ھام من المنتسبين‬
‫لھذا التيار قد أخذوا يص ّفون الحساب مع الماركسية الليفينية تماماً‪ ،‬وكانت الشعرة التي قصمت ظھر‬
‫البعير سقوط تجربة الثورة الثقافية في الصين‪ .‬وإن كان النقد األساسي الذي وجھاه لھا غير النقد الذي‬
‫وجه لھا رسميا ً من قبل القيادة الصينية الالحقة‪ .‬فقد اعتمد نقدھما على الروحية األوروبية التخريبية‬
‫التي حكمت جانبا ً ھاما ً من الطرح النظري للثورة الثقافية السيما اعتماد الموضوعة النظرية الواردة‬
‫في البيان الشيوعي لماركس وانجلز‪ ،‬والقائلة بضرورة القطع التام مع الماضي بكل أوجھه وليس فقط‬
‫مع البرجوازية‪ .‬فقد الحظ الشھيدان ومعھما أغلب إخوانھما روحا ً تخريبية عالية في طرح نظرية‬
‫الثورة الثقافية وممارستھا بالرغم من شعبويتھا ونفسھا الجماھيري ومعارضتھا للبيروقراطية وتسلط‬
‫الحزب والدولة على الشعب‪ ،‬والتي اتھمت بالغلو والالتوازن بسبب سياسات القادة األربعة للثورة‬
‫الثقافية )"عصابة األربعة" وفقا ً لنعت قيادة الحزب الشيوعي الصيني الالحقة(‪.‬‬

‫لقد كانت ھذه التجربة مناسبة للتعمق أكثر فأكثر في عدد من المواضيع النظرية مثل موضوعة خط‬
‫الجماھير‪ ،‬وموضوعة االستقاللية‪ ،‬واألصالة في فھم خصوصية الثورة والتغيير في كل بلد‪ ،‬كما‬
‫صحب ذلك سقوط تام لھالة الماركسية األوروبية ابتداء من ماركس وانجلز ولينين وصوالً إلى‬
‫مراجعة صارمة للفلسفة المادية والمنھج الديالكتيكي والمادية التاريخية واالشتراكية العلمية‪ ،‬وأصبح‬
‫التيار المذكور مطالبا ً بطرح مشروع مواز في كل تلك المجاالت وإزاء مختلف تلك المواضيع‪ .‬وھنا‬
‫تطلب األمر القيام بدراسات حول التجربة اإلسالمية الواقعية والتي بدأت بقيادة الرسول صلى ﷲ‬
‫عليه وسلم وما تالھا من تجارب إسالمية شروط ضرورية لبناء نظري وأيديولوجي أصيل‪ .‬لقد كانت‬
‫ھذه الدراسات وإلى جانبھا حوار مفتوح متعدد األطراف والمشاركين حول ھذه اإلشكاليات محاولة‬
‫الكتشاف القوانين التي تحكمت في التاريخ العربي قديمه وحديثه والكتشاف القوانين المتعلقة بالمنھج‪،‬‬
‫وأخيراً إجراء قراءة أكثر تعمقا ً للواقع العربي الراھن وصوالً الكتشاف سمات الثورة في بالدنا‪..‬‬
‫سمات التغيير الذي يخرج األمة من حالة التجزئة والتبعية والوجود الصھيوني في فلسطين ويسمح‬
‫لھا بالوصول إلى الوحدة والعدالة االجتماعية والنھوض الحضاري والثقافي والنمو االقتصادي‬
‫والعلمي والتقني‪.‬‬

‫كانت ھذه البداية السليمة نسبيا ً وھي التحرر المبكر جداً‪ ،‬بل منذ والدة التيار‪ ،‬من الماركسية‬
‫السوفياتية‪ ،‬كما من اليسراوية األوروبية والتي ترعرعت في النصف الثاني من الستينات بصورة‬
‫خاصة‪ ،‬قد حصنته من جھة ضد سلسلة من الشعارات المخطئة ال سيما المغامرة والطفولية ودفعته‬
‫إلى األصالة واالعتماد على الذات من جھة ثانية‪ .‬وھذا ما جعله يدخل الصراع ال مع التيارات‬
‫السوفياتية فحسب وإنما أيضا مع التيارات اليسراوية األوروبية‪ ،‬والتروتسكية‪ ،‬أو الماوية‪ ،‬أو الثورية‬
‫المسلحة‪ ،‬وغيرھا وامتداداتھا في الساحتين الفلسطينية والعربية‪ .‬بكلمة لقد كانت لھا إطاللتھا المستقلة‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪22‬‬

‫واألصيلة على الماركسية‪ ،‬بما في ذلك أفكار ماوتسي تونغ والتجربة الفيتنامية‪ .‬وقد انسحب ھذا حتى‬
‫على المسائل الصغيرة وذات الطابع الشكلي فمنذ البداية على سبيل المثال لم يستخدم لقب "رفيق"‬
‫مطلقا ً وإنما نداء األخ واألخت‪ .‬فھذا على بساطته كان يعتبر شذوذاً في مختلف المدارس الماركسية‬
‫وبإجماع‪.‬‬

‫ھنا بدأت العقول واألبواب تفتح على مصراعيھا لدراسة اإلسالم والتجربة اإلسالمية التاريخية وقد‬
‫صحب ذلك تدفق الجماھير إلى الشوارع في إيران وھي ترفع راية "ﷲ أكبر" و"ال اله إال ﷲ"‪،‬‬
‫وتمضي إلى غايتھا بحزم وتصميم ال مثيل لھما‪ .‬ولكن أكثر ما أثر في اإلسراع بالتقاط اإلشكالية‬
‫المتعلقة باإلسالم ودوره في المعركة ضد السيطرة االمبريالية العالمية وفي مواجھة الطغاة والعمالء‬
‫وفي إلھام الشعب في مساره للتغير والنھوض كان رد الفعل الذي استقبلت به الجماھير الفلسطينية‬
‫والعربية نداء "ﷲ أكبر" المتصاعد من طھران‪ .‬فقد تبين من خالل نظرة ثاقبة أن ھذا النداء يسكن‬
‫أعماق جماھير األمة العربية‪ ،‬ومن ثم فإن كل بحث عن خط الجماھير‪ ،‬أو خصوصية سمات الثورة‬
‫في بالدنا لن يصيب كبد الحقيقة أبداً ما لم يدرك الحقيقة اإلسالمية المزروعة في أساسات التكوين‬
‫العربي الراھن‪ .‬وبھذا بدأت األمور تتداعى باتجاه فھم أعمق ال لدور اإلسالم وأھميته في عملية‬
‫التحرير واالنعتاق والنھوض في بالدنا أي الجانب الحضاري ‪ -‬الثقافي ‪ -‬السياسي ‪ -‬التحريضي‬
‫فحسب وإنما أيضا ً لفھم اإلسالم نفسه وإدراك بنيته الداخلية أقرب ما يكون لما جاء عليه في القرآن‬
‫والسنة‪ .‬وكان ھذا يقضي بعدم االقتصار على إدراك النظريات اإلسالمية في التاريخ واالجتماع‬
‫واالقتصاد ومعالجة قضايا اإلنسان أو اإلمساك بالمنھج اإلسالمي الذي يتسم‪ ،‬فيما يتسم به‪ ،‬بقانون‬
‫التوازن والعدل وإنما التوقف أمام مسألة العقيدة ودورھا المحوري في بنية اإلسالم كله‪ ،‬إذ أن كل‬
‫الجوانب المتعلقة باإلشكاليات الحضارية والثقافية والمنھجية والتغيير تنبعث من محور العقيدة وال بد‬
‫من أن تظل مشدودة إلى ذلك المحور‪.‬‬

‫ھنا دخلت العملية مرحلة أخرى منطقية بالنسبة إلى ما تقدم كان ال بد من الوصول إليھا‪ ،‬كما كان‬
‫الحال فيما حدث من تتابع منطقي للموضوعات السابقة‪ .‬وتأتي ھذه المنطقية في سياق متماسك‬
‫صاحب منھجية الشھيدين وإخوانھما من أول يوم بدأ يتشكل به ھذا التيار‪ .‬ويمكن أن يشار ھنا إلى‬
‫جانب ھام وھي أن ھذا التيار لم يحول نفسه منذ البداية إلى تنظيم مركزي تخضع فيه األقلية لألغلبية‬
‫والمستويات الدنيا للمستويات العليا‪ ،‬ولم يتشكل على أساس وجود رئيس وأمين عام ومكتب سياسي‬
‫ولجنة مركزية‪ .‬ألنه لو كان كذلك لما تمكن من انتھاج ذلك النھج النقدي ‪ -‬التطوري ‪ -‬والقلق في‬
‫البحث عن الحقيقة والصواب‪ .‬فما كان أسھل من أن يكبت أي رأي نقدي أو فكرة جديدة‪ ،‬أو محاولة‬
‫نظرية‪ ،‬من خالل التصويت أو من خالل نظرية األغلبية واألقلية‪ .‬فعلى العكس‪ ،‬كان إبقاء األبواب‬
‫مفتوحة على مصاريعھا للنقد وللتجديد والتنظير سمح دائما ً بإخصاب الفكر والتجربة وإغنائھما وھو‬
‫الذي سمح أن يتحول ما كان وليداً في صدور قلة قليلة إلى كثرة كاثرة مع الزمن والنقاش األخوي‬
‫الودي الصبور‪ .‬ودون أن يؤثر ذلك في مسار الجانب العملي التطبيقي الذي كان موضوعه ثابت أي‬
‫مواجھة العدو الصھيوني سواء أكان في النشاط على الحدود من جنوبي لبنان أم كان من خالل دور‬
‫الشھيدين في القطاع الغربي والعمل في الداخل‪.‬‬

‫فالتيار في حقيقته قام على أساس نواة متفاھمة متحابة متماسكة تحكمھا ثقة متبادلة عميقة‪ ،‬ولم تكن‬
‫نواة مغلقة وإنما كانت نقاشاتھا مفتوحة‪ ،‬ولم تكن ذات ھيكل تنظيمي‪ ،‬أو نظام داخلي‪ ..‬ففي كل ما‬
‫يتعلق بالمسائل الفكرية والنظرية والعقدية والسياسية والمواقف كان خطھا مفتوحا ً على العشرات‬
‫والمئات بل على كل مشارك حتى لو كان يحمل وجھات نظر مناقضة‪ ،‬أو يمثل تياراً آخر‪ .‬وما كانت‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪23‬‬

‫لتحصر في مكان بعينه ومناسبة بعينھا وإنما كانت تجري حيثما وجد اثنان أو أكثر‪ .‬ومن ثم كان‬
‫النتاج النظري والسياسي محصلة لجملة واسعة من النقاشات في كل المواقع‪ .‬أما الممارسة العملية‬
‫فكانت تتم وفق للقناعة الفردية‪ .‬وقد ترك قرار المشاركة ومستواھا لضمير كل فرد وقناعته دون أن‬
‫يترتب على عدم المشاركة أية إجراءات تأخذ شكل العقاب والمحاسبة‪ ،‬أو التشھير وإنما كان عدم‬
‫المشاركة يعني فقدان الدور‪ ،‬تلقائيا وبال قرار‪ ،‬في مجال التطبيق‪ ،‬وھو دور كان يمكن أن يستعاد‪،‬‬
‫في المقابل‪ ،‬بمجرد العودة إلى الممارسة وقد يصار إلى تخطيه إذا ما قامت ممارسة تستحق ذلك‪ .‬أي‬
‫كان النھج المتبع يسمح بتبادل تلقائي لمواقع "القيادة" أو باألصح أھمية الدور‪ ،‬وفقا ً للدور العملي‪،‬‬
‫وليس وفقا ً القرار من فوق! ولعل السبب الذي جعل مثل ھذا النھج ناجحا ً يعود إلى مجموعة من‬
‫األسباب كما إلى طبيعة المخاطر القصوى التي كان يتضمنھا الدور العملي‪ ..‬ولھذا ليس من السھل‬
‫استخدامه في ظروف أخرى بالطريقة نفسھا‪ .‬أو بكلمة أخرى يجب أال يعتبر ھذا النھج قانونا ً عاماً‪،‬‬
‫أو ھو األصح دائما‪ ،‬وبصورة مطلقة‪ ،‬ألن إشكاليات التنظيم وألوانه أو إشكالية العالقات داخل تيار‬
‫معين يجب أن تخضع لظروف كل حالة وما يناسبھا‪.‬‬

‫وكان الشھيدان حريصين على محاربة االتجاھات التي كانت تحاول المساس بمن يتخلف عن‬
‫الممارسة أو اإلساءة إليه‪ ،‬وذلك إلبقاء روح العالقة أخوية بال حزازات شخصية‪ ،‬وإلبقاء األخ‬
‫مشدوداً للتيار عموما ً وفي حالة احترام بداخله‪ ،‬ومن ثم إبقاء الباب مفتوحا ً أمامه لمراجعة موقفه‬
‫وامتالك القناعة الذاتية بضرورة المشاركة العملية والتجرؤ على التضحية‪ .‬فالقتال كره لإلنسان وفيه‬
‫الكثير مما يناقض الحرص على الحياة والمصالح وصون األمل والولد‪ ،‬واألمر كذلك بالنسبة إلى‬
‫السجن والتشريد‪.‬‬

‫وكان الشھيدان حريصين على أن يبقيا خط التواصل ممدوداً مع جميع األخوة الذين استمسكوا‬
‫بالوضع السابق ورفضوا تقبل اإلسالم عقيدة ومرجعية‪ ،‬فمن جھة حافظوا على روح األخوة واللقاء‬
‫الودود والحوار الودي‪ ،‬وإن أمكن إبقاء التعاون في الممارسة‪ .‬فالعقول الفردية والتجارب الذاتية‬
‫ليست سواء بين الناس‪ .‬ومن ثم يحتاج البعض إلى وقت أطول وتجارب أكثر حتى يصل ما وصل‬
‫إليه السابقون‪ .‬كما أن ھنالك إشكاالت في مواقع الحركة اإلسالمية نفسھا ليست مشجعة دائما ً لمن ھو‬
‫خارجھا لولوجھا‪ ،‬كما أن ثمة ضغوطا ً ھائلة معادية ال تشجع كذلك‪ .‬ولھذا ال بد من طول النفس في‬
‫معالجة الكثير من الحاالت‪ .‬بل أن من ال يقتنع سيظل مشدوداً إليك بھذا القدر أو ذاك إذا ما حافظت‬
‫على التواصل واإلخاء والود والرفق‪.‬‬

‫ال طيباً‪ ،‬فكثيرون تخلفوا عن القتال‬


‫وجاءت التجربة العملية لتؤكد أن ھذا النھج أتى في الحالتين أك ً‬
‫والعمل في ھذه المناسبة أو ذاك‪ ،‬أو لھذا السبب أو ذاك‪ ،‬ولكنھم عادوا بعد حين أشد مضاء‪ ،‬وأكثر‬
‫استعدادا للتضحية‪ .‬وكثيرون تأخروا عن تقبل اإلسالم‪ ،‬وألسباب مختلفة‪ ،‬عادوا إلى رحابه وأصبح‬
‫قى وثباتا ً واستقام ًة وعمالً‪.‬‬
‫حالھم أفضل من بعض ممن سبقھم تُ ً‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪24‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ‬
‫‘†]‪«xjÊ»<Ø}]<l]…^éjÖ]<Å‬‬

‫‪< <«xjÊ»<íÒ†u‬‬
‫‪< <<VØ}‚Ú‬‬
‫لعل مراجعة دقيقة لمجموعة المواقف السياسية التي تبناھا أبو حسن وسعد وحمدي وأبو محمود‬
‫وإخوانھم منذ بدايات تبلور خطھم المميز لتلحظ اختالفاً شبه دائم والخط الرسمي المعلن والمطبق‬
‫الذي تبنته قيادة فتح وم‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬وذلك ابتداء من معارضة قرارات المجلس الوطني الخاص ببرنامج‬
‫النقاط العشر والتحفظ على قرارات قمة الرباط حول الممثل الشرعي والوحيد ومرور‪ .‬بسلسلة من‬
‫المواقف المتعلقة بإدارة الصراع في لبنان وانتھاء بمشروع الجھاد والموضوعات التي تبلورت خالل‬
‫الثمانينات وفي مقدمتھا معارضة موقف المنظمة من الجھاد األفغاني‪ ،‬ومن الحرب العراقية ‪-‬‬
‫اإليرانية ومن سياسة العودة إلى لبنان بدالً من التركيز على الداخل‪ .‬ھذا إلى جانب المعارضة "لعقلية‬
‫التسوية"‪ 2‬ولسياسات البحث عن مكان في المعادلة الرسمية الدولية والعربية في أية تسوية قادمة‪.‬‬

‫ومن ھنا كان السؤال الدائم‪ :‬إذا كان األمر كذلك فما الذي أبقى ھذا التيار في فتح؟ وما ھي حقيقة‬
‫موقفه من قيادة فتح؟‬

‫ھنا يجب أن يالحظ بداية أن وضع الشھيد أبي حسن وإخوانه في فتح وموقفھم من قيادتھا كان قد‬
‫تطور تدريجا ً ألنھم في األساس انضموا إلى فتح بقناعة كاملة بمنطلقاتھا ومبادئھا وأھدافھا‬
‫وإستراتيجيتھا‪ .‬وقد اعتبروا تلك المنطلقات – فتحا ً حقيقيا ً في فھم الوضع العربي وسمات إحداث‬
‫التغيير فيه من خالل التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية وإستراتيجية الكفاح المسلح وتكتيكه‬
‫لتحرير فلسطين طريقا ً يھيئ ألحداث التغيير والوحدة والنھضة في األمة‪ .‬وكانت سياسات فتح‬
‫االستقاللية إزاء المحاور العربية‪ ،‬كما شعاراتھا حول عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول‬
‫العربية‪ ،‬ووضع القضية الفلسطينية فوق الخالفات العربية‪ ،‬وتوجيه كل البنادق نحو العدو‬
‫الصھيوني‪ ،‬ھذا إلى جانب سياساتھا االستقاللية عن االستقطاب الدولي‪ :‬ھجوما ً على االمبريالية‬
‫األميريكية حليفة العدو الصھيوني‪ ،‬ونقداً صارما ً للموقف السوفياتي من قضية فلسطين‪ ،‬قد ش ّكل‬
‫عندھم قناعة فكرية راسخة وارتباطا ً وجدانيا ً بفتح‪ .‬وكان شأنھم شأن كل الذين انخرطوا في فتح‬
‫ومنظمات الثورة الفلسطينية قد انش ّدوا إلى المبادئ والمنطلقات إلى جانب اإلعجاب الشديد والثقة‬
‫بالمبادرة الثورية التي تحدت الحصار العربي والدولي وشقت طريق الكفاح المسلح‪ ،‬وأخذت مواقعھا‬
‫في الميدان في مقدمة الصفوف‪ .‬فإذا كان االنشداد إلى المبادئ والمنطلقات بقي قويا ً فيھم دائما ً إال أن‬

‫)‪ (2‬ﻜﺎﻥ ﺍﻝﺸﻬﻴﺩ ﻜﻤﺎل ﻋﺩﻭﺍﻥ ﺃﻭل ﻤﻥ ﺍﺴﺘﺨﺩﻡ ﺘﻌﺒﻴﺭ "ﻋﻘﻠﻴﺔ ﺍﻝﺘﺴﻭﻴﺔ" ﻭﻗﺩ ﺭﻜﺯ ﻓﻲ ﺃﻭﺍﺨﺭ ‪ 72‬ﻭﺃﻭﺍﺌل ‪ 1972‬ﻋﻠﻰ ﻀـﺭﻭﺭﺓ ﻤﺤﺎﺭﺒـﺔ‬
‫"ﻋﻘﻠﻴﺔ ﺍﻝﺘﺴﻭﻴﺔ" ﻭﻝﻴﺱ ﻤﺸﺎﺭﻴﻊ ﺍﻝﺘﺴﻭﻴﺔ ﻓﻘﻁ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪25‬‬

‫مستوى الثقة بالقيادة وسياساتھا راح يتزعزع خطوة فخطوة‪ ،‬ابتداء من تجربة فتح والثورة في‬
‫األردن ومروراً‪ ،‬بصورة خاصة‪ ،‬مع طرح برنامج النقاط العشر وبروز سياسات لدى بعض القياديين‬
‫راحت تبتعد بھذا القدر أو ذاك عن الموقف االستقاللي سواء أكان بالنسبة إلى سياسة االبتعاد عن‬
‫المحاور الدولية والعربية أم كان بالنسبة إلى التحالفات الشعبية حيث بدأ االنحياز واضحا ً لما كان‬
‫يسمى بجبھة القوى التقدمية‪.‬‬

‫كان أبو حسن قد فقد ثقته تماما ً بقيادة فتح منذ الخروج من األردن في تموز )يوليو( ‪ .1971‬وبدأ‬
‫يبحث عن بدائل أخرى من داخل التيارات التي أخذت تتنامى داخل فتح نتيجة لمراجعة تجربة‬
‫األردن‪ .‬وقد انتقل إلى بغداد حيث مكث فيھا حوالي السنتين وكانت تعج بالنقاشات والبحث عن مخرج‬
‫من األزمة بعد الرحيل من األردن‪ .‬ومن ھناك انتقل أبو حسن إلى بيروت حيث أصبحت مركز الثقل‬
‫في فتح‪ .‬وقد راح يخوض في حوارات مطولة مع مختلف الكوادر والقيادات في بيروت حول البحث‬
‫عن مخرج من األزمة‪.‬‬

‫كان الوضع في بيروت يعج بآراء ال حصر لھا‪ ،‬وكان المشاركون في النقاشات من داخل فتح ألوانا ً‬
‫وألواناً‪ ،‬بعضھم كان في أعلى مستويات المسؤولية في اللجنة المركزية وأكثرھم من المجلس الثوري‬
‫في حينه ومن الكوادر األخرى في الصف الثاني والثالث‪ .‬وكانت الحركة الطالبية بدورھا تتأجج‬
‫نشاطا ً وھي تبحث عن مخرج من األزمة كذلك‪.‬‬

‫فالبعض راح يطرح تشكيل تنظيم ماركسي لينيني على النمط اليسراوي‪ ،‬وآخرون سعوا لتشكيل تكتل‬
‫تقدمي باتجاه التحالف مع االتحاد السوفياتى والجبھة التقدمية العربية والبعض راح يطرح تكتالً أو‬
‫تنظيما ً فتحاويا ً حديديا ً من أجل تكريس نظام داخلي مركزي ديمقراطي ينقذ التنظيم مما كان يسمى‬
‫بالعقلية الفردية والعشائرية‪.‬‬

‫وكان ثمة إرھاصات متواضعة لتفكير آخر أخذ منذ البداية موقفا ً نقدياً‪ ،‬من كل ھذه التيارات‬
‫باعتبارھا إجابات مخطئة على إلشكالية فتح وما يواجھھا من أزمة‪ .‬فإن تشكيل تنظيم ماركسي ‪-‬‬
‫لينيني على النمط اليسراوي ال يمكنه أن ينقذ الوضع وإنما قد يزيد الوضع الداخلي تأزما ً‪ .‬فاإلشكالية‬
‫في جوھرھا ليست تنظيمية أو متعلقة بالنظرية الثورية‪ ،‬األمر الذي يجعل ھذا التناول مرتجالً وليس‬
‫له أركان‪ .‬كما أن تيار التحالف مع االتحاد السوفياتي والقوى التقدمية ينحرف بفتح عن منطلقاتھا‬
‫ومنھجھا وسياساتھا‪ .‬ويكفي أن يحكم عليه بدراسة تجربة ما يسمى بالقوى التقدمية المتحالفة مع‬
‫السوفيات وما أفرزته على أرض الواقع‪ .‬فتب ّني مثل ھذا الخط رسميا ً يدمر فتح قطعاً‪ ،‬وبھذا يكون‬
‫الحل كالھارب من الدلف إلى المزراب‪ .‬واألخطر أنه يتضمن االتجاه مستقبالً للتوافق وقرار مجلس‬
‫األمن ‪ 242‬ألن التحالف واالتحاد السوفياتي ال يستقيم وھدف تحرير فلسطين‪.‬‬

‫كما أنه رد على التكتالت الرامية إلى الخروج من األزمة من خالل وضع نظام داخلي لفتح وھو ما‬
‫تم وفقا ً لتصور المعنيين في المؤتمر الثالث أواخر ‪ .1971‬وقد التقت في ھذا المؤتمر التوجھات‬
‫اليسراوية والسوفياتية واإلصالحية كافة فقرر مبدأ "المركزية الديمقراطية" ووضع نظاما ً داخلياً‬
‫استعير من المبادئ العامة لألنظمة الداخلية في األحزاب الشيوعية‪ .‬فكان حالً ال عالقة له بالحالة‬
‫الفتحاوية المشكلة تاريخيا ً على صورة محددة‪ .‬ولم يكن من الصعب أن يلحظ أن أغلب الداعين إلى‬
‫إصالح فتح وإعادة بنائھا على أساس تنظيم ثوري وحديدي إن ھو إال وھم غير قابل للتنفيذ إال إذا‬
‫استبدل ناسھا من القمة إلى القاعدة بغير ناسھا الحاليين‪ .‬فإن الدعوة إلى اإلصالح على الرغم من أنھا‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪26‬‬

‫تلقى ھوى وصدى لدى غالبية أبناء فتح إال أنھا كانت غير واقعية وال تؤدي إال إلى تأجيج‬
‫الصراعات الداخلية‪ .‬وقد أراد البعض استخدامھا لتحسين وضعه الداخلي‪ .‬فكانت تجمد في أغلب‬
‫الحاالت‪ ،‬بعد الوصول إلى المواقع المطلوبة لتعود األمور داخل فتح سيرتھا األولى وربما أسوأ‪.‬‬
‫وفي الواقع أثبتت التجربة العملية أن كل تلك التيارات ما كانت تستطيع مجتمعة أو منفردة أن تخرج‬
‫فتح من جلدھا أو تغير طبيعة تركيبتھا الداخلية‪ ،‬أو العقلية السائدة فيھا في إدارة وضعھا الداخلي‪.‬‬
‫فالمحاوالت التي أرادت بناء التنظيم الثوري الماركسي سرعان ما تطايرت في اتجاھات شتى بعضھا‬
‫انضم إلى انشقاق ‪ 1983‬وبعضھا بصم بالعشرة لقيادة ياسر عرفات في تونس‪ .‬ولكنھا في الحالتين‬
‫تخلت عن مشروعھا التي قامت عليه وأصبحت مقوالتھا السابقة في خبر كان‪ .‬أما التيار السوفياتي‬
‫فقد تعاظم نفوذه داخل فتح ومجلسھا الثوري السيما في سنوات الحرب األھلية‪ .‬وذلك لما امتلك من‬
‫دعم دولي وعربي ومساندة من القوى التقدمية اللبنانية التي تعاظم نفوذھا في أثناء الحرب األھلية‬
‫اللبنانية وإن كان ذلك‪ ،‬بداية‪ ،‬باالتكاء على فتح وفصائل م‪.‬ت‪.‬ف‪ ..‬فقد كانت قيادة فتح تجد في تلك‬
‫الجبھة غطاء لنفوذھا وسلطتھا المتنامية في لبنان بعد انفجار الحرب األھلية في نيسان )ابريل(‬
‫‪ .1975‬وكان الثمن الذي دفع ھو تعظيم دور تلك القوى السيما منظمة العمل الشيوعي والحزب‬
‫الشيوعي اللبناني على حساب اإلسالم السياسي السني التقليدي وبعض الناصريين والحركة اإلسالمية‬
‫الس ّنية في بيروت وصيدا وطرابلس‪ ،‬وعلى حساب القيادة الشيعية السياسية التقليدية وحركة‬
‫المحرومين ثم حركة أمل الشعبية في المناطق الشيعية من لبنان‪ ،‬السيما الجنوب‪ .‬ولكن ھذا االستقواء‬
‫الذي امتلكته جبھة القوى واألحزاب التقدمية عاد بدوره فمارس تأثيره في توازنات فتح الداخلية‬
‫وراح يرجّ ح من دفة القوى األكثر اتجاھا ً نحو السوفيات ومعسكرھم عالميا ً وجبھة القوى التقدمية‬
‫عربيا ً وتقدميا ً‪ .‬أما الدخول السوري إلى لبنان والمعارضة المغالية التى ووجه بھا من قبل جبھة القوى‬
‫واألحزاب التقدمية اللبنانية والفلسطينية‪ ،‬بما فيھا تلك التي في فتح فقد سمح بإضعاف قوة التيار‬
‫"التقدمية" داخل فتح نفسھا السيما بعد ھزيمته العسكرية في الجبل في منطقة عينطورة أمام القصف‬
‫السوري‪ .‬وكانت تعتبر القاعدة المحررة وسميت بالجيب األحمر‪.‬‬

‫على كل حال انتھى تيار القوى التقدمية بألوانه المختلفة في فتح بعد االنشقاق الذي حدث عام ‪، 1983‬‬
‫ال سيما بعد انتقال قيادة فتح إلى تونس‪ .‬ولكن يجب أن يسجل له أنه كان ماضيا ً كالصاروخ في‬
‫السيطرة على فتح في ظروف المنتصف الثاني من السبعينات على مستوى معادلة الحرب الباردة‬
‫والوضع اللبناني والصراعات العربية السيما مع انتھاج القاھرة سياسة عزلة عربية ولبنانية منذ فك‬
‫االشتباكين األول والثاني وصوالً إلى المعاھدة المصرية ‪ -‬اإلسرائيلية‪ .‬فاالنشقاق أثبت أنه استطاع أن‬
‫يحشد حوله قوى كثيرة وإن لم تكن كلھا من االتجاه نفسه‪ .‬بيد أنه أثبت من جھة أخرى عدم قدرة على‬
‫التحول إلى بديل بل عدم قدرة على المحافظة على قواه التي بدأ منھا االنشقاق‪ .‬أما من الجھة األھم‬
‫فإن التجربة أثبتت أن نقطة االنطالق التي تشكلت على أساسھا تلك التوجھات أي تحت دعوى‬
‫إصالح فتح وإعادة بنائھا على أساس تنظيم ثوري لم تكن واقعية أو جادة من ھذه الزاوية‪ ،‬وھذا ما‬
‫جعلھا تتحول الى مسار آخر مع أولى خطواتھا‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪27‬‬

‫»<‪<«xjÊ»<Ø}]<l]…^éjÖ]<íŽÎ^ßÚ‬‬
‫كان النقد الذي وجه إلى مختلف التيارات التي تقدمت بمشاريع للخروج من األزمة يرتكز في ذلك‬
‫الوقت على مجموعة من المقوالت األساسية‪ .‬ولعل الوقوف عندھا باختصار يثكل ضرورة إلعطاء‬
‫خلفية أدق لفكر التيار الذي تبلور فيما بعد على يد أبي حسن وحمدي وعدد من إخوانھما‪ ،‬وھي ‪:‬‬

‫ال‪ ،‬يجب أال ترى األزمة داخلية‪ ،‬على الرغم من وجود أزمة داخلية في فتح‪ .‬فالوضع الفلسطيني‬ ‫أو ً‬
‫يجب أن يرى دائما ً ضمن معادلة عالقته بالوضع العربي والدولي‪ .‬فإذا كانت تلك المعادلة غير مؤاتية‬
‫فإن كل المشاريع المقترحة ستظل دون طموحھا بكثير حتى لو تجمعت كلھا‪ .‬وأمسكت بزمام القيادة‪.‬‬
‫أي يجب أن يعاد تقويم حجم الدور الذاتي الفلسطيني أمام ذلك التضخم المرضي الذي أصيب به‪ ،‬ال‬
‫سيما‪ ،‬بعد معركة الكرامة والتفاف الجماھير الواسعة من حول فتح والثورة الفلسطينية والترحيب‬
‫اإلعالمي الحماسي‪ .‬ألن البقاء في دائرة ذلك التضخم سيؤدي إلى التقدم بمشاريع طموحة جداً‬
‫سرعان ما تعيد ذلك الدور إلى حجمه الحقيقي مع كل ما يحمله ذلك من خيبات وتصدعات‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الحركات الكبرى لم تنشأ عبر مشاريع إصالح التنظيم‪ ،‬على الرغم من أن إصالح التنظيم يظل‬
‫مطلوبا ً عموماً‪ ،‬ولكن ليس باعتباره المخرج من األزمة‪ ،‬وإنما باعتباره مخففا ً منھا في أحسن‬
‫الحاالت‪ .‬فالحركات الكبرى تقوم على أساس تبني مشروع نظري وعملي بديل حول الخروج من‬
‫األزمة‪ ،‬وھذا ما سبق وفعلته فتح‪ ،‬فإذا لم يكن ذلك متوفراً‪ ،‬أو لم تكن الظروف مھيأة له‪ ،‬فليس ھنالك‬
‫من مشروع يخرج من األزمة أو يحدث تغييراً إنقاذيا جذريا ً للوضع‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬يجب التنبيه عند تقويم أية تجربة تاريخية أن من السھل بمكان التقاط ھذا العنصر الغائب فيھا‪،‬‬
‫أو ذلك العنصر السلبي في داخلھا ثم االستنتاج بأن استدعاء الغائب أو تغيير السلبي ھو الجواب على‬
‫الھزيمة أو الفشل أو األزمة‪ ،‬بينما قد يكون السبب أو األسباب‪ ،‬األكثر حسماً‪ ،‬في ذلك شيئا ً آخر‬
‫تماما ً‪ .‬ولھذا فإن إعطاء اإلجابات المتعجلة مثل لو كان ھنالك نظرية ثورية وحزب ثوري لما خرجت‬
‫فتح من األردن‪ .‬ومن ثم يصار إلى طرح مشروع يس ّد ھذا النقص‪ .‬ولكن سرعان ما يتبيّن أنه متعثر‬
‫وربما غير قادر حتى على الوصول إلى أھداب ثوب الطرف موضوع النقد‪ .‬وبالمناسبة ھذا ما يجب‬
‫التنبه له من جانب الحركات اإلسالمية أيضا ً‪ .‬فال يظن أن مجرد تبني اإلسالم وبناء جماعة إسالمية‬
‫يكونان الجواب الشافي وحدھما لألزمة أو البلد المعني ألن من الضروري مراعاة توفير الشروط‬
‫األخرى الضرورية لذلك مثل نظرية العمل‪ ،‬والشعارات‪ ،‬ولغة الخطاب‪ ،‬وإشكال الممارسة ومراعاة‬
‫المعادلة اإلقليمية والدولية‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬ليست "البروليتارية" أو الثورية شعارات متطرفة فوق يسارية‪ ،‬وليست استھتاراً بالتقاليد‬
‫والقيم أو إشباعا ً لنزوات بعض المثقفين‪ ،‬إنھا فعل ثوري عملي‪ ،‬وموقف صحيح من خط الجماھير‪،‬‬
‫ومسلك أخالقي قويم‪ ،‬ومنھج جبھوي‪ ،‬بعيدا ً عن الروح االنشقاقية‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬األمر يتطلب أوالً تقدير موقف صحيح للوضع الدولي والعربي عند تقويم األزمة‪ ،‬ثم يصبح‬
‫باإلمكان تحديد اآلفاق السياسية التي يمكن أن يعمل على أساسھا للخروج من األزمة أو وقف التدھور‬
‫أو القيام بمبادرات محددة‪ .‬األمر الذي يؤدي إلى اقتراح سياسات يمكن تبنيھا ً على مستوى الوضع‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪28‬‬

‫ككل‪ .‬كما قد يؤدي إلى اقتراح مبادرات إنقاذية على جبھة الصراع ضد العدو يمكن تنفيذھا من قبل‬
‫ثلة من المناضلين دون أن يكون بمقدرة أحد معارضتھا أو منعھا‪.‬‬

‫ومن ھنا كانت بدايات تيار أبي حسن وإخوانه متحررة من إغراءات الشعارات الكبرى المتعلقة‬
‫بالنظرية الثورية والحزب الثوري أو التنظيم الحديدي الثوري‪ ،‬وكانت تحمل إرھاصا ً إيجابيا ً في‬
‫مواجھة األزمة المستعصية على الحل والتي ستتواصل إلى أمد طويل قادم‪ .‬ھذا وكان في جعبتھا ً‬
‫عشرات األمثلة لتجارب عالمية توفرت لھا تلك الشروط ولم تدخل أزمة خانقة فحسب وإنما أيضاً‬
‫اجتثت من جذورھا‪ .‬فلم تكن كل التجارب ھي فيتنام أو الصين أو ثورة أكتوبر‪ .‬فتجارب الفشل أكثر‬
‫عشرات المرات ابتداء من كومونة باريس إلى انتفاضات برلين ووارسو وشنغھاي إلى الحروب‬
‫األھلية في اليونان والماليو والفلبين وإلى الثورات في أمريكا الالتينية وغيرھا‪ ،‬ومن ثم يجب عدم‬
‫الوقوع بإغراء الشعارات الكبرى التي تجتذب حديثي العھد بالماركسية واآلتين من عالم الفتحاوية‬
‫التبسيطية أو القومية الطوباوية‪.‬‬

‫ھذا النقد الذي وجه إلى تلك التيارات ارتكز من ناحية إيجابية على البدء ببلورة مشروع مقابل انطلق‬
‫من أن فتح غير قابلة لإلصالح بمعنى إعادة بناء تنظيمھا على األسس التي يتحدث عنھا المصلحون‬
‫ولطالما كان أبو حسن يردد " فالج ال تعالج "‪ .‬فما من حركة يمكن أن تغيّر إال من خالل قيادتھا أو‬
‫إزاحة قيادة وإحالل قيادة أخرى‪ .‬وكان ھذان الخياران غير واردين ال من ناحية واقعية أو نظرية وال‬
‫من ناحية الظروف العربية والدولية‪ .‬كما أن بقاء القيادة كان يعني بقاء منھجھا وعقليتھا ال محالة‪.‬‬
‫وھذا ما أثبتت صحته التجربة على الرغم مما يبدو عليه من مظھر قسوة وتشاؤم‪ .‬واألخطر‪ ،‬أنه كان‬
‫يعني إما القبول بواقع فتح من حيث األساس وواقع قيادتھا‪ ،‬وإما البحث عن بديل خارجھا‪ .‬ولكن‬
‫محاولة تغيير الظاھرة بما يناقض تكوينھا األساسي نشأةً وقيادةً وتركيباً‪ ،‬سيؤدي إلى تعمق أزمتھا‬
‫الداخلية إن لم يؤد إلى التمزيق واالنشقاق أو زيادة الشلل‪ .‬كما أن عدم مالحظة العالقة بين فتح‬
‫والوضع العربي في محصلته تمنع من رؤية عالقة مستقبل أي مشروع فلسطيني بالوضع العربي‬
‫والمعادلة العربية والدولية‪ .‬ومن ثم فإن الواقع الموضوعي والذاتي فلسطينيا ً وعربياً‪ ،‬وإلى أمد بعيد‪،‬‬
‫سيبقي فتح على حالھا من حيث الجوھر‪ .‬وإذا كان ھنالك من إمكان لتغيير ھذا الوضع فمستقبله‬
‫المنظور سيتوقف على مدى تعاظم النفوذ السوفياتي دوليا ً وعربيا ً وتمكنه من فتح‪ .‬وھو الخيار الذي‬
‫كان خيار إبقاء القيادة وفتح على حالھما‪ ،‬وعلى ما بھما‪ ،‬أفضل منه بالنسبة إلى الصراع ضد العدو‪،‬‬
‫كما بالنسبة إلى تنامي حركة التغيير العربي‪ ،‬والحفاظ على منطلقات فتح ومبادئھا‪.‬‬

‫»‪< <í×’]<áçÞ^Ïe<Ý‚Ïji<«xjÊ‬‬
‫إذاً كان حال فتح غير قابل للتغيير النوعي وفقا ً لما تريده االتجاھات المختلفة "اإلصالحية ضمن‬
‫منظور أو معطيات السبعينات‪ ،‬فإن فتح على الرغم مما كان يعتريھا من نواقص من الناحية التنظيمية‬
‫الداخلية أو من الناحية المسلكية بالنسبة إلى البعض أو من ناحية العقلية المسماة عشائرية كانت أفضل‬
‫ما في الساحة في نظر تيار أبي حسن وسعد وإخوانھما‪ ،‬وما كان الوضع الموضوعي والذاتي قادر‪.‬‬
‫على إفراز‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬ما ھو أفضل‪ .‬ففتح لم تحقق كل تلك االنجازات عبثا ً أو بال ايجابيات‬
‫حقيقية في داخلھا وفي قيادتھا‪ .‬ولم تتقدم كل الفصائل الفلسطينية سواء أكان بخطھا السياسي عموما ً أم‬
‫كان بممارستھا أم في وضعھا بمجموعه عبثا ً وبال وجود ايجابيات وأسباب موضوعية وذاتية‪ .‬ومن‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪29‬‬

‫ثم يمكن القول بينما كانت التيارات التي راحت تتشكل في تلك المرحلة تقدر الوضع من زاوية جزئية‬
‫أحادية الجانب كان يتنامى تيار‪.....‬‬

‫وبدأ ھنا أبو حسن يقتنع به ويتقدم صفوفه يسعى لتقويم الوضع تقويما ً شموليا ً يلحظ االيجابيات كما‬
‫يلحظ السلبيات‪ .‬ويميل إلى ترجيح االيجابيات على السلبيات‪ .‬ففتح ومن خالل قرارات قيادتھا صنعت‬
‫انطالقة الثورة الفلسطينية‪ ،‬وھي التي أعادت المبادرة للكفاح المسلح والمقاومة بعد حرب حزيران‬
‫)يونيو( ‪ ، 1967‬وھي التي أخذت قرار الصمود والمواجھة في الكرامة‪ ،‬وھي التي حمت استمرارية‬
‫البنادق وخط الكفاح المسلح حتى حينه‪ ،‬وھي التي وقفت في مقدمة الصدامات والعدو الصھيوني‪،‬‬
‫وھي التي جمعت في صفوفھا الحشد األكبر من الكفاءات والقدرات الثورية‪ ،‬وھي التي قدمت أكبر‬
‫التضحيات في األرض المحتلة كما على خطوط التماس في األردن ولبنان‪ ،‬فكيف ينسى كل ذلك وال‬
‫يحسب في رصيد قيادتھا وتكوينھا بمجموعه مقابل ما يوجه من النقد للعشائرية التنظيمية وللنيات‬
‫الدفينة‪ ،‬وحماية بعض الفاسدين‪ ،‬وعدد ال يستھان به من نواقص ھنا وھناك‪ .‬وكان الحكم في نھاية‬
‫التحليل أعاله يؤدي إلى موقف إيجابي من وضع فتح إذا أخذ بكليته وشموليته‪ .‬وھنا نشأت مقولة‬
‫حملھا أبو حسن وسعد وأبو محمود وحمدي وعلي أبو طوق ومروان وأبو خالد جورج والحاج حسن‬
‫ومحمد علي وغيرھم‪ ،‬وقد أخذت تتحول إلى تيار‪ ،‬تقول‪ :‬أن فتح تتقدم‪ ،‬منذ عام ‪ ، 1968‬بعد‬
‫الكرامة‪ ،‬على األقل‪ ،‬وفقا ً لقانون "المحصلة" "أي خروج محصلة عامة من خالل تصارع عدة قوى‬
‫واتجاھات داخلھا‪ ،‬ومثلھا مؤثرة من الخارج فيھا‪ .‬فھي ال تعمل ضمن خط صارم ينتظم الجميع بال‬
‫استثناء كما ھو الحال في األحزاب الشيوعية أو أحزاب البعث التي تحرص على وحدة الموقف من‬
‫القمة إلى القاعدة ووحدة المسلك ووحدة المظھر ووحدة الممارسة‪ .‬ففتح تتقدم على أساس نظام‬
‫محصلة القوى‪ .‬ففي داخلھا اجتھادات متعددة وأحيانا ً متضاربة في األيديولوجية والسياسة والممارسة‬
‫وثمة تنوع مشھود من جھة األصول التي جاءت منھا قياداتھا وكوادرھا وقواعدھا‪ .‬فقد كانت أحياناً‬
‫تعكس في داخلھا الوضع العربي كله رسميا ً وشعبيا ً والوضع الفلسطيني بمختلف تياراته‪ ،‬فھي حالة‬
‫معقدة مركبة‪ .‬وكان الحكم عليھا أولھا يتجه دائما ً إلى أحادية الجانب أي التركيز على جانب أو‬
‫جوانب دون سواھا‪ .‬فعلى سبيل المثال كان تيار أبي حسن يرد على الذين يشيرون إلى بعض‬
‫الفاسدين أو النفعيين داخل فتح بالقول لماذا ال ترون في داخلھا ذلك الحشد الھائل من المستقيمين‬
‫والصادقين والمناضلين‪ .‬واذا كنتم تتھكمون على قانون "المحبة" في معالجة عدد من اإلشكاليات‬
‫الداخلية باعتباره قانونا ً عشائرياً‪ ،‬فإنه قانون صحيح ويجب أال يخلو منه تنظيم محترم‪ ،‬بل ھو من‬
‫إيجابيات فتح وإبداعاتھا فال تنظروا إلى بعض سلبياته حين يتسامح ھو حاالت فاسدة فقط‪ ،‬وإنما‬
‫انظروا إلى شمول ايجابيته على المستوى العام‪ .‬بكلمة إنه أفضل من قاعدة المركزية الديمقراطية في‬
‫األحزاب الشيوعية)ا(‪.‬‬

‫وھكذا أخذ التيار المذكور يتكون على أساس تلك النظرة إلى فتح وراح يجدد القناعة التامة بصحة‬
‫المنطلقات واألھداف وبصحة اإلستراتيجية والتكتيك للوصول إلى تلك األھداف‪ .‬وإذا كان التطبيق‬
‫العملي خالل السنوات السابقة قد أثبت إيجابيات كثيرة لفتح وإدارتھا للصراع واتخاذھا للقرارات‬
‫المناسبة في األوقات المناسبة عموما ً من ‪ 1965‬حتى ‪ .1973‬وإذا كانت بنيتھا تعكس حالة شعبية‬
‫معقدة ومركبة وكانت ذات طابع شعبي وكانت األقرب إلى خط الجماھير‪ ،‬وإذا كان الوضع الذاتي‬
‫والموضوعي فلسطينينا ً وعربيا ً ودوليا ً غير مھيأ لوالدة بديل أفضل فإن الحكمة والموقف الصحيح‬
‫يفرضان البقاء في ھذا الموقع الثوري الذي يعمل بمحصلته‪ .‬وإن محصلته حتى اآلن )ما بين ‪- 72‬‬
‫‪ (73‬تسير باالتجاه الصحيح ويتوقع لھا االستمرار على ھذا المنوال حتى األمد المنظور في األقل‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪30‬‬

‫بيد أن ھذا الفھم لوضع فتح وما يحيطھا من معادالت كان يفترض انتھاج خط داخلھا يأتي‪ ،‬بصورة‬
‫واعية‪ ،‬باتجاه المحصلة الصحيحة‪ .‬ومن ثم فإن المطلوب إتباع سياسات وممارسات تدفع المحصلة‬
‫العامة إلى أمام‪ .‬فإذا كان من غير الممكن تغيير واقع فتح ومن غير الممكن إصالحھا بالجملة من‬
‫قاعدتھا حتى قمتھا فإن من الممكن‪ ،‬وھو ما تسمح به تركيبة فتح‪ ،‬أن ينمو فيھا تيار يدفع باتجاه‬
‫العوامل االيجابية ويخفف موضوعيا ً من تأثير العوامل السلبية‪ .‬فإذا كان التش ّكي يمس إشكالية‬
‫االستمرار في القتال أو الحزم فيه ضد العدو فلينشأ تيار يدفع بھذا االتجاه وينميه ويمارسه‪ ،‬وال‬
‫يعامله مجرد اقتراح وعلى اآلخرين تنفيذه‪ ،‬أو يعارض تحت رايته "وكفى ﷲ المؤمنين القتال"‪ .‬وإذا‬
‫كان التش ّكي من تدھور في القيم الثورية واألخالق فلينشأ تيار يتحلى بأعلى القيم الثورية ويستمسك‬
‫باألخالق الحميدة‪ .‬وإذا كان التش ّكي من سوء العالقة بالجماھير وبضرورة االلتصاق بھا وحفزھا‬
‫للمشاركة‪ .‬فلينبر المعنيون إلى تنفيذ ذلك وتطبيقه عمليا ً بدالً من استخدامه شعاراً لمعارضة القيادة‪ ،‬أو‬
‫بعضھا دون أن يقدم المثل الحي على ذلك‪.‬‬

‫ھنا بدأ الخط يتبلور ضمن معادلة فتح نفسھا وبما يتناسب وإياھا واقعياً‪ ،‬وبما يتيح له االندماج فيھا‬
‫أكثر‪ ،‬وبما يكون في خيرھا وخير القضية والشعب الفلسطيني واألمة العربية‪ .‬بينما راحت أغلب‬
‫التيارات األخرى تجنح إلى التعامل والوضع من خالل تشكيل نوع من المعارضة الداخلية الشبيھة‬
‫بالمعارضة البرلمانية‪ ،‬وھي في ظروف ثورة والثورة ال تناسبھا مثل ھذه المعارضة‪ ،‬كما ال يجدي‬
‫تآمر انقالبي يتجه إلى السيطرة على الوضع أو االنشقاق في ظروف شتات فلسطيني ال ينفع معه‬
‫انقالب وال ينقذه االنشقاق‪ ،‬فكل انشقاق يحتاج بالضرورة إلى حاضن عربي وكان ذلك يكفي ليفقد‬
‫الكثير من مصداقيته‪ ،‬واألھم يفرض عليه تحوالً غير الذي كان يريده في البدء‪.‬‬

‫وحدث في تلك المرحلة أن أخذ العدو يعد النتخابات بلدية‪ .‬وخشيت قيادة فتح من شبح القيادة البديلة‪.‬‬
‫وھنا تحرك الشھيد كمال عدوان وكان عضواً في اللجنة المركزية‪ .‬وأصبح مسؤوالً عن القطاع‬
‫الغربي في فتح‪ .‬وكان رحمه ﷲ قائدا ً فذا ً وذكيا ً جداً‪ ،‬وحيوياً‪ ،‬وقد أحس بالحاجة إلى ارسال عدة‬
‫مجموعات مقاتلة إلى داخل االرض المحتلة من جنوبي لبنان‪ .‬وذلك ليؤكد على قوة فتح ووجودھا‬
‫أمام الشائعات التي كانت تدعي انتھاءھا بعد الخروج من األردن وانحسار العمل المسلح‪ .‬ومن ثم‬
‫توجيه انذار غير مباشر لكل من قد ينقاد وراء "مؤامرة القيادة البديلة"‪ .‬وفوجئ الشھيد كمال عدوان‬
‫بعد تجواله في القواعد في جنوبي لبنان بقلة عدد المستعدين للتطوع في ھذه المھمة‪ ،‬فالمعنويات كانت‬
‫مھتزة وفوجىء بتضاؤل عدد األدالء الذين يعرفون الحدود ومناطق الجليل معرفة جيدة‪ .‬وعندما شاع‬
‫خبر ھذه الجولة ونتيجتھا كثرت مالحظات تلك التيارات في إبراز فشل القيادة‪ ،‬وسوء عملھا الذي‬
‫أدى إلى كل ذلك‪ .‬ولكن السؤال الذي طرح في المقابل‪ :‬إذا كان األمر كذلك لماذا ال يتقدم أصحاب‬
‫نظرية التنظيم الثوري الحديدي أو الحزب الثوري والنظرية الثورية‪ ،‬وتدعيم خط القتال فيتولون ھم‬
‫تشكيل مجموعات أو مجموعة أو اثنتان‪ ،‬على األقل‪ ،‬بقيادة بعضھم لتنفيذ المھمة فيؤكدون على أرض‬
‫الواقع صحة دعواھم ومصداقيتھا‪ .‬ويثبتون جدارة نقدھم للقيادة وواقعيته؟‬

‫أثار السؤال حنق أغلب تلك االتجاھات وكان الجواب أن المسألة بحاجة إلى إمكانات وإعداد‪ ،‬أو‬
‫بكلمة أخرى بحاجة‪ ،‬إلى أن يكونوا مكان القيادة حتى يمكن تنفيذ ذلك‪ .‬ولكن مثل ھذا السؤال ضرب‬
‫عند أبي حسن على وتر حساس‪ ،‬لما كان يتسم به نظر ثاقب وعزيمة عملية استثنائية‪ .‬فقد التقطه‬
‫لينشٮئ خطا ً كامالً على ضوئه وليزيد من الفراق بينه وبين مثل تلك المدارس في معالجة األزمة في‬
‫فتح‪ .‬ھنا أصبح منھج أبي حسن وسعد وأبي خالد جورج والحاج حسن يتجه نحو القول ولماذا ال نضع‬
‫نحن كل ثقلنا لسد ھذه الثغرة أو تلك في عمل فتح والثورة ما دمنا مقتنعين بصحة ذلك بدالً من البقاء‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪31‬‬

‫في مواقع المعارضة في المكاتب واللقاءات الليلية ھنا وھناك؟ من ھنا بدأ يتبلور ذلك التيار أو الخط‬
‫المتميز‪ .‬وكان ال بد من أن يجتذب العناصر األكثر رغبة في الممارسة والقتال وميالً إلى ذلك‪ .‬بل‬
‫استطاع أن يستعيد عدداً من الكوادر إلى العمل من جديد في صفوف فتح بعد أن غادرتھا‪ ،‬أو كانت‬
‫في الطريق إلى ذلك‪ ،‬بسبب النقمة على األوضاع أو القيادة‪.‬‬

‫فما دامت فتح تسمح بالمبادرات على اختالفھا وأحيانا تشجعھا فلماذا ال يجد مثل ھذا الخط مكانا ً له‬
‫وذلك من خالل فرض نفسه وممارسته على الواقع‪ .‬وإذا كان ال بد من االنفصال بسبب اجتھاده‬
‫وسياساته وعمله فليأت القرار من قيادة فتح ال منه‪ .‬وكما كان يقول أبو حسن‪" :‬نحن نعلن ما نراه‬
‫صحيحا ً في السياسة والمواقف ونمارس ما نراه صحيحا ً وال نبالي أوجد ذلك قبوالً من القيادة أو لم‬
‫يجد‪ ،‬ولنترك لھم أن يقرروا بقاءنا في فتح وتحمل ھذا الخط المتميز أو عدم بقائنا‪ .‬وإذا كنا راغبين‬
‫في البقاء ونراه الخيار األفضل فإننا ال نخشى من إلقائنا خارجاً"‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪32‬‬

‫‪< <ì^éÏÖ]<ÜèçÏi<Ùçu‬‬
‫وھكذا بدأ التيار المذكور يختلف مع التيارات األخرى من الناحية النظرية أوالً ثم من ناحية اتجاه‬
‫الممارسة ثانيا ً‪ .‬وجاءت ثالثاً‪ ،‬إشكالية الموقف من القيادة لتعمق في الخالفية‪ .‬فبينما غلب على بعض‬
‫تلك التيارات التشكيك بالقيادة إلى حد الطعن بوطنيتھا وإخالصھا وجد تيار أبي حسن وسعد وحمدي‬
‫وإخوانھم نفسه في مواجھة ھذا التشكيك‪ .‬وھو ما فرق في ذلك الوقت‪ ،‬من بين مفرقات أخرى‪ ،‬فيما‬
‫بين أصدقاء وإخوة ومتحابين‪ .‬ولعل بعضھم ال يستطيع أن يمسك نفسه اليوم‪ ،‬لو أن أبا حسن بقي حياً‪،‬‬
‫من أن يفاخر بعد اتفاقي أوسلو والقاھرة بالقول ألم أقل لك أنھم سيفعلونھا‪ .‬ولكن أبا حسن في ذلك‬
‫الوقت كان يرى مغاالة في ھذا الحكم‪ ،‬ويرى فيه خطأ سياسياً‪ ،‬وال يخدم ممارسة القتال في مواجھة‬
‫العدو‪ .‬فالخط الذي تبناه أبو حسن وحمدي وسعد وعلي أبو طوق وأبو خالد جورج وآخرون وجميعھم‬
‫شھداء اآلن وإخوانھم كان ينطلق من تقويم قيادة فتح باعتبارھا مجتمعة وأفراداً قيادة وطنية‪ ،‬وال‬
‫يصح التشكيك بإخالصھا‪ .‬وإن كانت تتسم ببراغماتية‪ 3‬عالية للغاية مما يجعلھا في المستقبل قابلة‬
‫للدخول في مسارات وخيارات متعددة بما في ذلك الخيارات التي تحمل التنازالت عن بعض المبادئ‬
‫والمنطلقات‪ .‬وكان مؤشر طرح مشروع السلطة الوطنية بارزاً في ھذا األمر كما كان مؤشر التقارب‬
‫والسوفيات‪ ،‬والقرار إزاء مؤتمر جنيف الذي عقد بعد حرب تشرين ‪ ،1973‬والتقارب وخط السادات‬
‫الذي أعلن بعد حرب تشرين أنه يأمل أن تكون آخر الحروب وبدأ يتجه بقوة نحو التسوية السياسية‪.‬‬
‫ولكن السؤال الذي كان ملحا ً حول منھجية تقويم القيادة‪ ،‬وھو نفسه كان يطبق على الكثير من القيادات‬
‫العربية يتلخص في‪ :‬ھل نحكم على سياسة ما‪ ،‬أو قيادة ما‪ ،‬وفقا ً لما ستؤول إليه أم وفقا ً لما ھي عليه؟‬
‫وھل يمكن أن نحبس احتماالت التغير مستقبالً في احتمال حتمي وحيد؟‬

‫ال يستقيم العمل السياسي إذا ارتكز على محاكمة الحاضر على أساس احتمال مستقبلي حتى لو كان‬
‫ذلك االحتمال راجحا ً من بين احتماالت أخرى‪ .‬ألن ذلك يقعدك عن الفعل في الحاضر‪ ،‬وال يفيدك‬
‫كثيراً إن جاء المستقبل مؤيداً لتوقعاتك بعد خراب البصرة‪ ،‬كما يقولون‪ .‬فالفعل السياسي يقتضي‬
‫التحرك في الحاضر دائما ً مستخدما ً كل معطياته بھدف التأثير في المستقبل ونتائجه‪ .‬وھذا ما يفرض‬
‫بأن تحكم على الظاھرة في وضعھا ً الراھن وتتعامل وإياھا على أساسه بما يخدم رؤيتك واستراتيجيك‬
‫مع إبقاء احتمال ما ينتظرھا في المستقبل من تدھور سلبي حاضراً في حساباتك وفي رصدك لھا‪.‬‬
‫فكون الشاب سيتحول بعد سنين عدداً إلى شيخ ضعيف ال يعني أن تصارعه باعتباره شيخاً‪ ،‬أو‬
‫تستھين بقوته ألنه يضمر الشيخوخة في شرايينه وعضالته‪ .‬فإذا فعلت فستجد نفسك في وضع صعب‬
‫جداً وأنت تتلقى لكماته‪ .‬وإذا تعلق األمر في العمل السياسي التعبوي فالجماھير ال تحكم على النيات‬
‫أو على ما يخبئ‪ ،‬المستقبل السيما بالنسبة إلى قيادات كسبت ثقتھا عن جدارة وعبر تجارب ملموسة‪.‬‬

‫من ھنا كانت اإلجابة عن السؤال تحمل طابعا ً منھجيا ً ھاما ً ولھا عالقة بالممارسة وحسن إدارة‬
‫الصراع حاضراً ومستقبالً‪ .‬ويمكن أن تدعم ھذه المنھجية من ناحية علمية من خالل إدراك السنن‬
‫التي تتحكم بالقيادات ذات الطبيعة البراغماتية الخالصة‪ ،‬وھي أن مسار اتجاھھا يتوقف على معادلة‬
‫تطورات موازين القوى والظروف بمجملھا إقليميا ً ودوليا ً‪ .‬وھي تطورات ال يسھل ضبطھا ألن‬
‫الكثير منھا ھو خارج إرادة المعنيين أو الحالة الجزئية المعنية‪ .‬فمن ال يستطيع أن يرى‪ ،‬على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬كيف تطور عسكري براغماتي مثل منغستو ھايلي مريام من مغامر إلى حليف للسوفيات‬
‫وحول أثيوبيا إلى قاعدة سوفياتية ثم مع إنھيار االتحاد السوفياتي راح يبحث عن سيد أمريكي أو‬

‫)‪ (3‬ﺃﻱ ﺍﻝﺩﻭﺭﺍﻥ ﺤﻴﺙ ﺘﺩﻭﺭ ﺍﻝﻤﺼﻠﺤﺔ ﺍﻝﺫﺍﺘﻴﺔ ﻓﻲ ﺃﻀﻴﻕ ﻤﻔﺎﻫﻴﻤﻬﺎ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪33‬‬

‫غربي أو إسرائيلي وكان مستعداً أن يتحول إلى أي شيء ويطبق أي خط‪ ،‬فإنه ال يعرف كيف يجب‬
‫أن تفھم مثل ھذه الحاالت‪.‬‬

‫والسؤال ھل كان من الحكمة‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬أن يعامل منغستو ھايلي مريام في أواخر السبعينات‬
‫باعتباره عميالً أمريكيا ً أو إسرائيليا ً أي باعتبار ما سيؤول إليه ال باعتباره كما كان عليه في حينه؟‬

‫وبالمناسبة أال نرى في ھذا الزمن عشرات الظواھر عربيا ً ودوليا ً وعالميا ً كانت في ظروف معينة‬
‫وضمن موازين قوى معينة في مقدمة القيادات المعادية لالمبريالية والحاملة لواء الثورية والتقدمية‬
‫وھي اآلن تنقلب إلى التعلق بذيول االمبريالية األمريكية وتطأطئ‪ ،‬رأسھا ً أمام الصھيونية والعنصرية‬
‫اإلسرائيلية لتمثل أحط ألوان االستسالم والعداء لألمة‪.‬‬

‫فالمنھجية التي جسدھا أبو حسن وإخوانه منذ عام ‪ 1973‬كانت تستند إلى التعامل وظاھرة القيادة‬
‫الفلسطينية باعتبارھا وطنية ومخلصة دون أن يمنع ذلك توقع انعطافات خطيرة من قبل بعضھا وفقاً‬
‫لتطورات ميزان القوى‪ .‬فالتوقع الوحيد لم يكن‪ ،‬على أية حال‪ ،‬ھو ما آلت إليه اآلن ألن تغيراً باتجاه‬
‫اإلنحياز الشديد نحو السوفيات كان األكثر احتماالً في حينه‪ ،‬وذلك إذا ما حسبت معادلة ميزان القوى‬
‫الدولي والمعادلة العربية‪ ،‬وھذا ما حدث فعالً‪ .‬وكان من الممكن أن يقع التغيير بھذا االتجاه أكثر لو‬
‫جاءت تطورات الوضع الدولي والعربي على ھذه الصورة‪ ،‬ولم يكن بال مغزاً حين أشاع بعض‬
‫اليساريين التقدميين في فتح‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬أنه يتوقع من ياسر عرفات أن يكرر تجربة ھايلي مريم أو‬
‫تجربة كاسترو في الثورة الفلسطينية‪.‬‬

‫لقد كان وراء ھذه المنھجية في تقويم وضع القيادة الفلسطينية تلك الدروس القاسية التي تلقتھا‬
‫األحزاب الشيوعية وعدداً من األحزاب القومية حين كانت تخطيء في تقويم ظاھرة القيادات‬
‫الوطنية‪ ،‬والتي كان يحلو لھا أن تسميھا القيادات البرجوازية الوطنية‪ .‬وذلك حين قام التقويم لعبد‬
‫الناصر في العام ‪ 1953‬و ‪ 1954‬باعتباره دكتاتوراً وعميالً ألمريكا ثم انقلب بعد صفقة األسلحة‬
‫التشيكية وتأميم قناة السويس إلى قائد القومية العربية العظيم‪ ،‬والمعادي األول لألحالف العسكرية‬
‫واالمبريالية األمريكية‪ .‬ولكن ما أن دخل عام ‪ 1959‬وتأزمت عالقاته بعراق عبدالكريم قاسم‬
‫واالتحاد السوفياتي وبدأ تقاربا ً وأمريكا‪ ،‬حتى أصبحت تھمته االنتقال إلى أحضانھا وإلقاء أعالم‬
‫القومية والتقدمية ومعاداة اإلمبريالية بعيداً في البحر وتكرر االنقالب في التقويم مع زيارة‬
‫خروتشوف وبولغانين لمصر وافتتاح السد العالي عام ‪.1964 - 1963‬‬

‫وإذا به يتعدى أن يكون قائداً وطنيا ً وقوميا ً كبيراً معاديا ً لالمبريالية إلى أن يصبح قائداً تقدميا ً اشتراكياً‬
‫ثم عادوا وعدلوا ھذا التقويم بعد سقوط خروتشوف‪.‬‬

‫المھم ھنا أن التقويم كان في كل مرة يستند إلى الوجه السائد في سياسة عبد الناصر دون أن تلحظ أن‬
‫موازين القوى تحمل في طياتھا تأثيراً مباشراً في االتجاھات التي تأخذھا السياسة البراغماتية‪ .‬أما في‬
‫المقابل فكان ھنالك من حكموا على ظاھرة عبد الناصر منذ اليوم األول بأنه عميل ألمريكا وبقوا على‬
‫ذلك‪ ،‬وانتھوا بعد موافقته على مشروع روجرز ‪ 1970‬إلى التأكيد بأنھم كانوا دائما ً على صواب‪.‬‬
‫ولكنھم لم يلحظوا أن السياسة حين تعامل على ھذه الصورة ال تستطيع أن تفسر كل الحاالت التي تمر‬
‫بھا الظاھرة‪ .‬وال تسمح بمعالجة كل حالة‪ ،‬فتترك صاحبھا بال فعل يومي ايجابي مع األحداث فإما‬
‫تدفعه إلى الجمود والعزلة العملية وإما إلى المغامرة والتطرف والبعد عن الجماھير‪ .‬فإذا كانت‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪34‬‬

‫القيادات االجتماعية أو السياسية التي تنقلب من حال إلى حال‪ ،‬سلبا ً أو إيجاباً‪ ،‬بسبب اجتماع‬
‫البراغماتية فيھا وتغيرات موازين القوى ھي كثيرة ومتكررة‪ ،‬فإن من الخطأ تثبيت حكم واحد عليھا‬
‫ال يتغير‪ ،‬أو الحكم عليھا بأنھا آيلة إلى مآل بعينه بغض النظر عن تغيرات موازين القوى والتي تحمل‬
‫في الغالب‪ ،‬أكثر من احتمال لتغيرھا‪ ،‬إال إذا كان قد رأى على بعد عشرين سنة مسبقا ً ما ستؤول إليه‬
‫األوضاع وموازين القوى محليا ً وإقليميا ً ودوليا ً وأخذ بحتمية تاريخية فجة‪.‬‬

‫ثم ھناك اإلشكالية األخرى التي تبرز في ھذا الصدد كذلك أال وھي منھجية التعامل وظاھرة مركبة‬
‫ومعقدة بسبب تشكلھا من عدة أوجه وجوانب أو تكونھا من عدة عناصر‪ .‬فثمة منھجية الحكم عليھا‬
‫حكما ً أحادي الجانب استناداً إلى جانب أو أكثر‪ ،‬أو عنصر أو أكثر فيھا ومن ثم تجاھل‪ ،‬أو عدم‬
‫إدخال‪ ،‬الجوانب واألوجه والعناصر األخرى في الحساب أو في الحكم‪ .‬بينما منھجية التعامل وإياھا‬
‫من خالل االجتھاد بتوزين مختلف أوجھھا وجوانبھا وعناصرھا المكونة وإقامة حكم عام يرجح‬
‫اإليجابيات على السلبيات أو العكس وذلك من أجل أن يكون بمقدوره تدعيم االيجابيات ومقاومة‬
‫السلبيات‪ .‬ولكن مع ذلك ستظل ثمة صعوبة كبرى في التعامل السياسي اليومي في أن يقبل منك‬
‫اآلخرون ھذه المنھجية أو في عدم اتھامك بتأييد ما ھو سلبي في الظاھرة أو إلصاقك به‪ ،‬وأنت حاول‬
‫تأييد ما ھو إيجابي فقط وتعارض ما ھو سلبي‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪35‬‬

‫]‪V<ì^éÏÖ^e<íÎøÃÖ‬‬
‫أن الخط الذي قاده أبو حسن وحمدي وعدد من إخوانھما كانت له أسسه المنھجية في التعامل داخل‬
‫فتح وفي تقويم وضع فتح وفي تقويم قياداتھا‪ .‬وھو ما كان يضعه باستمرار‪ ،‬تحت شبھة الدفاع عن‬
‫القيادة في حين كانت تلك القيادة في ذلك الوقت‪ ،‬تحاربه حرب ال ھوادة فيھا‪ ،‬وتعطي كل األضواء‬
‫الخضر ألنصارھا للتحريض ضده وتشويھه وتقليمه وتحجيمه والتضييق عليه‪ .‬فقد كانت أغلب قيادة‬
‫فتح تنظر إليه منذ أول يوم حتى آخر يوم نظرة ريبة وتشكيك وتمارس ضده الحرب‪ ،‬فھي ال تستطيع‬
‫أن تتفھم موقف عدد من الكوادر يكونوا أصحاب اجتھاد غير منقادين لسياساتھا وتعليماتھا‪ ،‬أو وفقاً‬
‫لتعبير خصومھا في ذلك الوقت أنھا ال تقبل كادراً ال يكون مستزلما ً لھا حتى لو كان فتحاويا ً أصي ً‬
‫ال‬
‫وشديد اإلخالص لفتح ومنطلقاتھا وأھدافھا‪ .‬وحتى لو تسابق على تقديم دمه وجھده دفاعا ً عن الثورة‬
‫وتصعيداً لخط القتال ضد العدو الصھيوني‪ .‬ولھذا كانت تالحقه دائما ً تھمة بناء تنظيم داخل فتح وتھمة‬
‫التحضير لالنشقاق‪ .‬وكانت التھمتان بالنسبة إلى ھذا التيار غير واردتين‪ .‬ومع ذلك استمرت ھذه التھم‬
‫قائمة كلما ذكر أبو حسن وحمدي وإخوانھما‪ .‬فبالنسبة إلى موضوع التنظيم فقد سبق وأشير إلى‬
‫المنھجية التي اتبعت في عمل ھذا التيار‪ .‬أما التحضير لالنشقاق فكان موقفا ً مرفوضا ً مبدئيا ً أما‬
‫روحية التآمر‪ ،‬أو المؤامرة‪ ،‬أو العقلية الباطنية فكانت غريبة عن منھجية ھذا التيار وبنائه الفكري‬
‫‪4‬‬
‫واألخالقي‬

‫على أن اإلشكالية الحقيقية التي كانت تزعج القيادة لم تكن الخوف من تنظيم أو انشقاق‪ ،‬ولعل البعض‬
‫كان يتمنى ذلك‪ ،‬وإنما كانت استقاللية ھذا التيار برأيه وعمله في كل القضايا وجھره بذلك مھما كان‬
‫معارضا ً للموقف الرسمي حتى لو كان األخير بحجم مؤتمر فتح أو المجلس الوطني الفلسطيني‪ .‬فكان‬
‫يعلن ما يراه صوابا ً أو يراه األنسب لفتح والثورة الفلسطينية والموقف العربي عموما ً وليكن ما يكون‪.‬‬

‫وكان يمارس وفقا ً لما يعلن‪ ،‬وما كان عنده ما يخفيه أو يبطنه سوى ما قد يعرض أمنه من ناحية‬
‫النشاط العملي في مواجھة العدو الصھيوني‪ .‬أما في الفكر والسياسة والمواقف والممارسة فقد سار‬
‫كل شيء على المكشوف‪ .‬وكان دائما ً مستعدا ً لتحمل تبعات ذلك جھاراً‪ ،‬وبال خوف من أحد‪ .‬وقد‬
‫ساعده على مثل ھذا النھج عدم طلبه لرضا القيادة‪ ،‬أو لشيء مما عند القيادة موقعاً‪ ،‬أو جاھاً‪ ،‬أو ماالً‪،‬‬
‫أو دعما ً‪ ،‬أو حماية‪ ،‬فكانت ال ُكرة عندھا باستمرار لتحكم له أو عليه‪ ،‬وتتخذ حياله المواقف‪ .‬وكانت‬
‫قيادة فتح‪ ،‬عموماً‪ ،‬حين توازن الوضع بمجموعه تميل إلى استبقاء ھذا التيار في صفوفھا وتحمله‬
‫على ما ھو عليه‪ .‬فقد يكون في إخراجه مضرة أشد‪ ،‬وقد يكون في بقائه قدرة أعلى على مراقبته‬
‫وقص أجنحته بينما ھو من الجھة األخرى‪ ،‬ومن خالل خطه يُعطي الدم والشھداء واألسرى والسجناء‬
‫في أحرج األزمات التي واجھت فتح والثورة الفلسطينية‪ .‬أي كانت ثمة فائدة يمكن جنيھا‪ ،‬ولو‬
‫بصورة غير مباشرة‪ ،‬من ھذا الخط الذي يركز على العدو الصھيوني‪ ،‬ويتجنب الدخول في‬
‫الصراعات الداخلية وال يشارك في جوقة الحمالت ضد فتح وقيادتھا وليس له أية ارتباطات بأية دولة‬
‫عربية أو دولية‪.‬‬

‫وھكذا كان حساب أغلب قيادة فتح في محصلته دائما ً في مصلحة بقاء ھذا التيار داخل صفوفھا‬
‫بالرغم من امتعاضھا الدائم منه وسعيھا لتقليمه وتحجيمه وحتى تصفيته إن أمكن‪ .‬بينما كان حساب‬

‫)‪ (4‬ﻻ ﺒﺩ ﻤﻥ ﺍﻝﺘﺭﻜﻴﺯ ﻋﻠﻰ ﻫﺫﻩ ﺍﻝﻨﻘﻁﺔ ﺍﻵﻥ ﺘﻭﻀﻴﺤ ﹰﺎ ﻝﻠﺤﻘﻴﻘﺔ‪ ،‬ﻓﺈﺫﺍ ﻜﺎﻥ ﺘﻭﻀﻴﺤﻬﺎ ﻓﻲ ﺤﻴﻨﻪ ﻴﺘﻬﻡ ﺘﻬﺭﺒ ﹰﺎ ﻤﻥ ﺍﻝﻤﺤﺎﺴﺒﺔ‪ ،‬ﻓﻬﺫﺍ ﻝﻡ ﻴﻌﺩ ﻭﺍﺭﺩﹰﺍ‬
‫ﺍﻵﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﻴﺔ ﺤﺎل‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪36‬‬

‫أبي حسن وحمدي وإخوانھم‪ ،‬في المقابل‪ ،‬ھو البقاء ما دامت فتح في مواقع المواجھة وكانت‬
‫محصلتھا العامة باتجاه فلسطين‪ .‬وما دام البقاء فيھا ال يؤثر من قريب أو بعيد في استقاللية الموقف‬
‫الفكري والسياسي والعملي بما في ذلك محافظته على االستقاللية في نسج العالقات الشعبية خارجھا‪.‬‬
‫أما من جھة أخرى كان البقاء في الداخل يخدم أبا حسن وحمدي من موقعھما في القطاع الغربي من‬
‫حيث تغطية مالية حاجة العمل في الداخل المحتل حتى لو كانت تلك التغطية شحيحة وإن حجبت‬
‫تماما ً أحيانا ً‪ .‬فقد كان ھنالك حذر دائم من أن يؤدي الخروج من فتح إلى الوقوع تحت رحمة المحاور‬
‫العربية أو رحمة البحث عن تغطية للعاملين وللعمل في األرض المحتلة‪ .‬ولھذا كان ثمة حرص على‬
‫عدم طلب الخروج من فتح‪ ،‬أو الدفع باتجاھه‪ ،‬وإن لم يكن ثمة خوف منه‪ .‬بل كان ھنالك استعداد دائم‬
‫الستقباله‪ ،‬السيما ً بعد أن طرح مشروع الجھاد‪ .‬وأصبح الوضع يختلف عما كان عليه في السبعينات‬
‫اختالفا ً جوھرياً‪ ،‬خصوصاً‪ ،‬وأن التنازل عن منطلقات فتح ومبادئھا من جانب المجالس الوطنية‬
‫وقراراتھا أصبح متسارعا ً فلم تعد المنطلقات والمبادئ ھي الجامع للفتحاويين وقد راح يحل محلھا‬
‫العصبوية الفتحاوية والطموح المشترك للوصول إلى السلطة في األرض المحتلة‪ ،‬واقتسام بعض‬
‫الغنائم‪ ،‬وضمان المستقبل الفردي والعائلي ضمن برنامج سياسي جديد يختلف بمستوى ‪ 180‬درجة‬
‫عن برنامج فتح األول الجامع‪.‬‬

‫في الواقع أخذت قيادة فتح بحجب الموازنة التي كانت مخصصة للجنة التنظيم في القطاع الغربي‪،‬‬
‫والتي كان يشرف عليھا أبى حسن وحمدي حجبا ً صارما ً منذ أواخر العام ‪ .1984‬مما يعني تجميد‬
‫وضعھما في الحركة دون قرار بالفصل‪ .‬ولكن ذلك لم يمنعھما من مواصلة نشاطھما العملي دون أن‬
‫يلتفتا إلى ما حدث‪ ،‬أو يترك فيھما أثراً مثبطا ً أو سيئا ً أو يدفعھما إلى العودة الصاغرة للقيادة‪ .‬واستمر‬
‫ھذا الوضع حوالي الثالث أو األربع سنوات‪ .‬وقد لجأ الشھيدان للتعويض الجزئي عن ذلك إلى‬
‫التعاون مع عدد من األفراد والشخصيات الذين يحترمونھما ويقدرون جھدھما وخطھما وراحوا‬
‫يقدمون لھما ما يستطيعون‪ ،‬على شحه‪ ،‬وقد أسھم ذلك إسھاما ً كبيراً في بقائھما ً في الميدان‪ .‬ويكفي أن‬
‫يذكر أن عملية البراق وعملية عطاف عليان وعملية الشجاعية تمت في تلك المرحلة الضيقة من‬
‫الناحية المادية‪ ،‬والفسيحة من ناحية اإليمان والعطاء والروح الجھادية‪.‬‬

‫لقد حاول الشھيد أبو جھاد‪ ،‬بعد اندالع االنتفاضة‪ ،‬وبسببھا‪ ،‬كما بسبب تصاعد العمليات الجھادية‬
‫ورسوخھا في األرض‪ ،‬والبداية القوية لبروز حماس‪ ،‬وربما مع تفاقم خالفه مع ياسر عرفات‪ .‬فضالً‬
‫عن اإلدراك بأن حجب الموازنة عن أبي حسن وحمدي لم يجد شيئاً‪ ،‬أن يلطف الجو معھما‪ .‬وقد‬
‫طرح أن تعود المياه إلى مجاريھا من حيث التعاون في مجال االنتفاضة والمقاومة ضد العدو إال أن‬
‫ذلك لم يتم فقد قتل الشھداء الثالثة بعد ذلك بأسبوعين واستشھد أبو جھاد بعدھما ببضعة أسابيع‪.‬‬

‫فكان ذلك كأنه المحاولة اليائسة الستعادة مرحلة كانت قد آذنت على االنتھاء بالنسبة إلى ما مثله‬
‫الشھيد القائد أبو جھاد وما مثله أبو حسن وحمدي من جھة ثانية‪ ،‬لتبدأ في المقابل‪ ،‬مرحلة االنتفاضة‬
‫وحماس من ناحية ومرحلة فتح مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن واتفاق أوسلو من ناحية ثانية‪.‬‬

‫كانت منطلقات فتح ومبادئھا بالنسبة إلى أبي حسن وحمدي وإخوانھما مرجعية أساسية في اإلطاللة‬
‫على الوضع الفلسطيني واللبناني والعربي‪ .‬فكان لھم اجتھادھم المتميز بالنسبة إلى عدد من القضايا‬
‫التي أصبحت محط صراع فكري وسياسي داخل فتح والساحة الفلسطينية والعربية‪ .‬وكثيراً ما كان‬
‫اجتھادھم يأتي متعارضا ً والموقف الرسمي الذي تعلنه قيادة فتح‪ ،‬فكانوا يعتبرون أنفسھم في ھذه‬
‫الحالة ھم الذين يعبرون عن الموقف الفتحاوي األصيل والصحيح‪ .‬وكانوا يخوضون من ھذا الموقع‪،‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪37‬‬

‫وعن قناعة تامة‪ ،‬مختلف الصراعات المتولدة عنه‪ .‬وقد احتد ھذا األمر‪ ،‬بصورة خاصة‪ ،‬في أثناء‬
‫الحرب األھلية اللبنانية‪ ،‬وقبلھا بالنسبة إلى الموقف من التضامن العربي في حرب تشرين وما تالھا‬
‫من مواقف مست الحظر النفطي الذي قادته السعودية‪ .‬ولعل الدخول في التفصيل والتحديد حول ما‬
‫خاضه ھذا التيار من صراعات سياسية وفكرية ليعطي صورة واضحة عن خط حافظ على روح‬
‫المنطلقات والمبادئ في كل مناسبة‪ ،‬وكان‪ ،‬من وجھة نظره‪ ،‬األكثر دقة في التعبير السياسي والفكري‬
‫عن الموقف الصحيح لفتح والثورة الفلسطينية ومصلحتھما‪ .‬وذلك على الرغم من موقف قيادة فتح‬
‫الذي كان كثيراً ما يحمل تأويالً آخر‪ .‬ومن ثم يتھم أبا حسن وحمدي وإخوانھما بالخروج على فتح‪.‬‬
‫فالبعض كان يعتبر فتح ھي ما تعبر عنه القيادة ويتعامل وإياھا من خالل القيادة‪ .‬أما أبو حسن‬
‫وحمدي وإخوانھما فكانوا يجتھدون ويأخذون المواقف كأنھم ھم قادة فتح والمسؤولون عنھا‪ .‬ومن ھنا‬
‫لم يتشكل منھجھم في المعارضة من خالل المزايدة أو طرح الشعارات األكثر تطرفا ً وإنما من خالل‬
‫أن تضع نفسك مكان القيادة وتتصرف بھذا المستوى من المسؤولية‪ ،‬وبعد ذلك تقترح ما تراه مناسبا ً‪.‬‬
‫وھو ما كان يجعل خط أبي حسن وحمدي وإخوانھم يبدو في كثير من األحيان كأنه يقف على "يمين‬
‫القيادة"‪ ،‬كما كان يبدو للنظرة السطحية بل كان أكثر مرونة منھا في التعاطي واألزمة اللبنانية أو‬
‫الصراعات العربية ‪ -‬العربية‪ .‬ولنقف عند بعض األمثلة على ما تقدم‪.‬‬

‫وخالصة‪ ،‬لم يكن تحليل وضع القيادة والعالقة بفتح يقوم على إصدار حكم نھائي وإن انطلق من‬
‫اعتبارھا قيادة وطنية وثورية‪ .‬ولكن دون اعتباره شھادة دائمة وأبدية‪ .‬وبال مراعاة الحتماالت‬
‫تطورات ميزان القوى والمعادالت‪ .‬فالتقدير الذي قام على أساس معاملتھا باعتبارھا قيادة وطنية‬
‫استند إلى تاريخھا وحاضرھا أما التوقع بالنسبة إلى المستقبل المنظور ‪ -‬لنقل عشر سنوات ‪ -‬فكان‬
‫يرى استمرار التقدير نفسه‪ .‬أما الدافع للتوقف طويالً أمام ھذه المسألة‪ ،‬فكان بسبب الصراعات التي‬
‫دارت داخل االتجاھات اإلصالحية‪ ،‬السيما أكثرھا تطرفاً يساريا ً وتقدمياً‪ ،‬وھي االتجاھات التي قامت‬
‫موضوعاتھا على التشكيك إلى حد التخوين‪ .‬وقد رفض أبو حسن وإخوانه في ذلك الوقت المساومة‬
‫بأن يميز بين ما يعلن وما يقال "داخلياً" إذ أصروا أن يكون الموقف واحدا ً‪ .‬فإذا كان من غير‬
‫الضروري أن يقول اإلنسان كل ما عنده إال أن من الخطأ أن يقول شيئا ً يخالف أو يناقض ما احتفظ به‬
‫ولم يقله‪ .‬وقد اعتبروا ھذه مسألة منھجية من الدرجة األولى‪ ،‬كما أنھا مسألة أخالقية ومسلكية‪ .‬أما‬
‫االتجاه الداعي للتحالف والسوفيات فكان مزدوجا ً في حكمه على قيادة ياسر عرفات‪ .‬فأحيانا ً يميل إلى‬
‫التشكيك الشديد‪ ،‬ويشجع األطراف اليسارية على الضغط بھذا االتجاه‪ ،‬وأحيانا ً يتملقھا كل ًم كان يريد‬
‫موقعا ً جديداً‪.‬أو مواقف محدودة‪.‬‬

‫في الواقع كان موقف أبي حسن وحمدي وإخوانھم من ھذه المسألة واضحا ً حتى بدا كأنه يدافع عن‬
‫القيادة كلما دخل في حوار حاد مع االتجاھات المشككة‪ .‬وما كان له أن يماشيھا بتحليلھا‪ ،‬ال ظاھراً وال‬
‫باطنا ً‪ ،‬ألنه كان حريصا ً دائماً‪ ،‬علي أن يكون متماسكا ً ومنطقيا ً في موقفه ويبتعد عن لعبة النفاق أو‬
‫الموقف المزدوج الذي يناقض ظاھره أو باطنه أو تناقض ممارسة نظريته‪ .‬فلو قبل ھؤالء األخوة‬
‫ذلك التحليل لما قبلوا ألنفسھم أن يبقوا يوما ً واحداً في فتح‪ ،‬ألنھم ال يقبلون أن يكون موقفھم النظري‬
‫والعملي ذا وجھين في اللحظة الواحدة‪.‬‬

‫أما بالنسبة إلى ما يمكن أن يحمله المستقبل من تطورات في وضع القيادة وموقفھا وتحالفاتھا‬
‫وسياساتھا فأمر يقرر في حينه على ضوء الوقائع الملموسة‪ .‬وليس على ضوء التكھنات‪ ،‬أو المظنة‬
‫والشكوك ألن إقامة التحريض السياسي على التكھنات والمظنة والشكوك واعتبار ما سيكون ) ولو‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪38‬‬

‫بعد عشرين سنة ( يضعف الموقف في أعين الجماھير التي تحكم على ضوء التجربة التاريخية على‬
‫الراھن‪ ،‬بل تتأخر في تغيير ھذا الحكم حتى تتراكم وقائع متتالية وملموسة‪.‬‬

‫‪íé×}]‚Ö]<ífÃ×Ö]<Ùç‘_<àÚ‬‬
‫يجب أن يالحظ ھنا أن قيادة فتح اتسمت بروح عجيبة في احتمال النقد والتجريح‪ ،‬والتھجمات في حق‬
‫بعضھا بعضاً‪ ،‬أو من قبل بعض كوادرھا ضدھا‪ ،‬مجتمعة أو منفردة‪ ،‬أو من جانب بعضھا بحق‬
‫ناقديھا من الكوادر‪ .‬فقد كانت االتھامات المتبادلة تصل إلى حدود من القسوة والعدائية ال يمكن أن‬
‫تصدر إال فيما بين أعداء ال يراعون إالً وال حرمة في تجريح بعضھم بعضا ً‪ .‬وكان أبو حسن يصف‬
‫جلودھم‪".‬المصفحة" لقدرتھم على التحمل‪ ،‬وعلى النسيان‪ ،‬وبعضھم كان البادئ في الظلم‪ .‬لكن مع‬
‫ذلك كانت ھنالك دائما ً وحدة على مستوى القيادة األساسية‪ ،‬ال سيما في مواجھة التحديات الكبرى‪ ،‬إذ‬
‫كانت ھنالك قدرة لعودة المياه إلى مجاريھا كأن شيئا ً لم يكن ودون أن يمنع ذلك أو يلغي العودة‬
‫المستمرة لتفجر الخالفيات والصراعات والتھم المتبادلة وھكذا دواليك‪ .‬وقد وصل األمر بالبعض‬
‫خارج فتح إلى التصور أن الخالفيات والصراعات ھي مجرد لعبة وتوزيع أدوار بينما ھي في الواقع‬
‫غير ذلك ما دامت تركيبة فتح الداخلية‪ ،‬وابتدا ًء من مستوى القيادة‪ ،‬ال تقوم على أساس الوحدة‬
‫المركزية واالنضباط الحازم بمعنى وحدة الموقف والمسلك‪ ،‬بل تسمح بتعدد وجھات النظر ونزولھا‬
‫إلى الكوادر والقواعد وخروجھا إلى العلن‪ .‬إن الذي سمح بمس ھذا النمط من العالقات الداخلية‬
‫يرجع‪ ،‬أوالً وقبل كل شيء‪ ،‬إلى طبيعة العالقة على مستوى أفراد القيادة من جھة والى منھج قيادة‬
‫فتح في محاولة احتواء كل التناقتضات واالتجاھات داخلھا‪ ،‬ومنھجھا في مراعاة ضغوط المحاور‬
‫العربية والدولية‪ .‬األمر الذي كان يفترض التسامح إلى حد ما باالختراقات‪ ،‬لكن ضمن حدود‪ .‬وكان‬
‫يفترض التسامح باالمتداد من الداخل إلى الخارج لكن بحدود كذلك‪ .‬أي كانت ھنالك سقوف أو خطوط‬
‫حمراء لما يمكن أن تذھب إليه الصراعات والخالفيات الداخلية أو لما يمكن أن يذھب إليه ھامش‬
‫االستقاللية التي يتمتع به األفراد والتيارات الداخلية‪ ،‬أما إذا ما خرقت الخطوط الحمراء فكان من‬
‫الضروري وقف ذلك فوراً وعدم التسامح معه‪ ،‬ولو باستخدام أية وسيلة‪.5‬‬

‫لقد حلل أبو حسن وسعد وحمدي وإخوانھم الوضع في داخل فتح تحليالً دقيقا ً منذ البداية‪ .‬وھذا ما‬
‫سمح لھم أن يستمروا كل تلك الفترة وذلك على الرغم من خروجھم على واحد من الخطوط الحمراء‬
‫أال وھو اإلفالت من سيطرة ھذا القائد أو ذاك عليھم وانتھاجھم خطا ً مستقالً تماما ً عن القيادة‪.‬‬

‫فقد كان التقليد في التيارات القاعدية داخل فتح أن تجد لھا حماية أو رعاية من أحد من القيادات األكثر‬
‫نفوذاً‪ ،‬كما جرى التقليد أن يتشكل التيار الكادري والقاعدي نزوالً من أعلى إلى أسفل أي من قبل أحد‬
‫القيادات األكثر نفوذاً‪ .‬ولكن من جھة أخرى فإن استقاللية التيار وعدم اتصاله بأي من المحاور‬

‫)‪ (5‬ﻝﺸﺩ ﻤﺎ ﻜﺎﻥ ﻫﻨﺎﻝﻙ ﻤﻥ ﺍﺨﺘﻼﻑ ﻋﻤﻴﻕ ﺒﻴﻥ ﻭﺍﻗﻊ ﻓﺘﺢ ﻭﺘﻠﻙ ﺍﻝﺼﻭﺭﺓ ﺍﻝﺘﻲ ﺭﺴﻤﻬﺎ ﺴﺠﻨﺎﺀ ﻓﺘﺢ ﻝﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻝﺴﺠﻭﻥ‪ .‬ﻓﻤﺎ ﻜﺎﻨﻭﺍ ﻝﻴﺘﺼﻭﺭﻭﺍ‬
‫ﻭﺠﻭﺩ ﺍﺨﺘﻼﻓﺎﺕ ﺃﻭ ﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﺩﺍﺨﻠﻬﺎ ﺃﻭ ﻓﻴﻤﺎ ﺒﻴﻥ ﻗﻴﺎﺩﺍﺘﻬﺎ‪ ،‬ﻭﻤﺎ ﻜﺎﻨﻭﺍ ﻝﻴﺘﺼﻭﺭﻭﺍ ﻭﺠﻭﺩ ﻤﻨﺤﺭﻓﻴﻥ ﻭﻓﺎﺴﺩﻴﻥ‪ .‬ﻭﻗﺩ ﺴﺘﺨﺩﻡ ﺍﻝﺒﻌﺽ ﻫﺫﻩ ﺍﻝﻤﺒﺭﺭﺓ‬
‫ﻝﻴﻘﻴﻡ ﻓﻲ ﺍﻝﺴﺠﻭﻥ ﺘﻨﻅﻴﻤ ﹰﺎ ﺤﺩﻴﺩﻴ ﹰﺎ ﻝﻔﺘﺢ ﺃﻋﻁﻰ ﻝﻨﻔﺴﻪ ﺤﻕ ﺍﻝﺘﺤﻘﻴﻕ ﻭﺍﻝﺘﻌﺫﻴﺏ ﻭﺇﺼﺩﺍﺭ ﺍﻷﺤﻜﺎﻡ ﻭﺘﻨﻔﻴﺫﻫﺎ‪ .‬ﻭﻗﺩ ﺸﻥ ﺃﺒﻭ ﺤﺴﻥ ﻭﺤﻤﺩﻱ ﻨﻘـﺩﹰﺍ‬
‫ﺼﺎﺭﻤ ﹰﺎ ﻝﻠﻌﻘﻠﻴﺔ ﺍﻝﺴﺎﺌﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻝﺴﺠﻭﻥ‪ ،‬ﻭﻝﻤﺎ ﻴﺠﺭﻱ ﻤﻥ ﺇﺭﻫﺎﺏ ﻓﻜﺭﻱ ﻭﺤﺘﻰ ﺍﻀﻁﻬﺎﺩ ﻤﻌﻨﻭﻱ ﻹﺨﻭﺍﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻝﺴﺠﻭﻥ ﻭﻝﻠﺘﻴﺎﺭﺍﺕ ﺍﻝﻤﻌﺎﺭﻀـﺔ‪،‬‬
‫ﺨﺼﻭﺼ ﹰﺎ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ﻤﻥ ﺠﻬﺔ‪ .‬ﻭﻝﻡ ﻴﺘﺭﺩﺩﻭﺍ ﻤﻥ ﺠﻬﺔ ﺃﺨﺭﻯ‪ ،‬ﻓﻲ ﺸﺠﺏ ﺍﻝﺘﻌﺫﻴﺏ ﻭﺇﺼﺩﺍﺭ ﺃﺤﻜﺎﻡ ﺍﻹﻋﺩﺍﻡ ﺒﺤﻕ ﻤﻥ ﺍﺘﻬﻤﻭﺍ ﺒﺎﻝﻌﻤﺎﻝﺔ ﺨﺸـﻴﺔ‬
‫ﺃﻥ ﺘﺅﺨﺫ ﺍﻋﺘﺭﺍﻓﺎﺕ ﺒﺎﻝﻌﻤﺎﻝﺔ ﻤﻥ ﺃﺒﺭﻴﺎﺀ ﺘﺤﺕ ﻭﻁﺄﺓ ﺍﻝﺘﻌﺫﻴﺏ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪39‬‬

‫والدول خارج فتح‪ ،‬وعدم تلقيه أية مساعدات مالية من ھذه الدولة أو تلك خفف من ذلك الخروج على‬
‫ذلك الخط األحمر‪ .‬كما أن منھجه في عدم التعرض للقيادة‪ ،‬بل عدم رده في كثير من األحيان على‬
‫قيادات تطاولت عليه من وراء ظھره بالشتائم واالتھامات الظالمة كان يخفف ذلك من االحتكاك‪ ،‬ثم‬
‫تأتي مواقفه السياسية والعملية ذات االستقاللية العالية لتمنحه الحماية األكبر بصورة مباشرة‪ ،‬وغير‬
‫مباشرة‪.‬‬

‫ويمكن أن يلحظ ھنا أن تلك السمة الخاصة بأخالقيات القيادة في التعامل مع بعضھا بعضاً‪ ،‬أو‬
‫صراعات التيارات األخرى الداخلية ضد ھذا القائد أو ذاك كانا يؤججان تناقضات داخلية فيما بينھا‬
‫حادة جداً أين منھا التناقض مع تيار أبي حسن وإخوانه‪ .‬ويجب أن يضاف إلى ھذا العامل تتابع‬
‫األزمات التي كانت تواجھھا ً فتح‪ .‬األمر الذي كان يستبقي حاجة إلى ھذا التيار ال سيما في لحظات‬
‫المواجھات العسكرية‪.‬‬

‫وبالمناسبة لم تستطع األطراف المعارضة عربيا ً لقيادة فتح أو التيارات الداخلية أن تبني عالقات‬
‫ايجابية مع ھذا التيار بالرغم من التقائه وإياھا في كثير من المواقف السياسية أو بالرغم من معاداة‬
‫القيادة له وإساءاتھا المتكررة بحقه‪ .‬فاإلشكالية ھنا‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬لم تنبع من رفض ذلك التيار التعاون‬
‫وأيا ً من تلك األطراف‪ .‬بل كان مستعداً حتى للتعاون والمنشقين عام ‪ 1983‬ضد االحتالل اإلسرائيلي‬
‫في لبنان‪ ،‬وكان من الممكن أن تبنى معھم جسور التنسيق‪ .‬ولكن اإلشكالية كانت في سياسة التعاون‬
‫والتنسيق‪ ،‬فتيار أبي حسن وإخوانه ما كان ليدخل في مواجھات أو تعاون أو تحالفات إال في مجال‬
‫مواجھة العدو الصھيوني‪ .‬أي المحافظة على اتجاه البوصلة مؤشراً نحو فلسطين وضد العدو‬
‫الصھيوني‪ ،‬بينما كانت األطراف األخرى تريد جبھات وتحالفات ضد القيادة أو ضد ھذا الطرف أو‬
‫ذاك من أطراف القيادة‪ ،‬وھو ما كان مرفوضا ً‪ .‬ولو تحلى بعضھا بالخيال‪ ،‬أو الحسابات المركبة التي‬
‫امتازت بھا قيادة فتح‪ ،‬وقبل بمد خيوط التعاون‪ ،‬ولو محصوراً في دعم الصمود الداخلي تحت‬
‫االحتالل وفي مقاومة العدو الصھيوني‪ ،‬وھو أمر ما كان تيار أبي حسن وحمدي ليرفضه‪ ،‬وإال‬
‫ناقض نفسه واختل موقفه المتوازن‪ ،‬ألدى ذلك إلى تعميق الشكوك من قبل القيادة بنيات أبي حسن‬
‫وإخوانه‪ ،‬ولرعرعت أوھاما حول طبيعة تلك العالقات‪ .‬األمر الذي كان سيدفعھا إلى تعجل الخالص‬
‫منه‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪40‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ‬
‫]‪< <íéÖøÏj‰÷]<Ùçu<Å]†’Ö‬‬
‫<<‬
‫]÷‪<íéÖøÏj‰‬‬
‫نشأت فتح على أساس مبدأ االستقاللية بالنسبة إلى المحاور العربية ‪ -‬العربية‪ ،‬أو بالنسبة إلى‬
‫الصراعات فيما بين الدول في العالم الثالث‪ ،‬أو بالنسبة إلى االستقطاب الدولي في الحرب الباردة أو‬
‫الصراع الصيني ‪ -‬السوفياتي‪ .‬وإذا انتسبت فھي تنتسب للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر اإلسالمي‬
‫وحركة عدم االنحياز‪ .‬وقد عبرت قيادة فتح وأدبياتھا عن كل ذلك ما بين ‪ 1965‬حتى ‪ .1971‬ولكن‬
‫النصف األول من السبعينات بدأ يشھد نوء من التردد في التمسك الحازم باالستقاللية في إدارة‬
‫العالقات العربية والدولية‪ .‬فقد سادت فكرة منذ أول لقاء عقد بين ياسر عرفات وبريجينيف بعد‬
‫الخروج من األردن شدد عليھا بريجينيف وھي "أنكم يا سيد ياسر عرفات خرجتم من األردن بمعادلة‬
‫دولية" وكان يشير في ذلك إلى أنكم كنتم بال حماية دولية‪.‬‬

‫◄<]‪<l^éÊçŠÖ]<àÚ<ÌÎç¹‬‬
‫وتلقف البعض ھذا الرأي فراحوا يعزفون عليه ويدفعون باتجاه تغيير الموقف من االتحاد السوفياتي‬
‫ال باعتباره صديقا ً على الرغم من الخالف وإياه من القضية الفلسطينية فحسب‪ ،‬وإنما أيضا ً الدعوة‬
‫إلى اعتباره الحليف االستراتيجي والضغط باتجاه االرتباط به‪ .‬وقد انقسم الرأي داخل فتح حول ھذه‬
‫المسالة ضمن ثالثة تيارات أساسية راح أحدھا يطالب باالنحياز الكامل إلى المعسكر االشتراكي‬
‫)السوفياتي( واالرتباط المصيري به‪ .‬وراح تيار مقابل يعارض ھذا التوجه بقوة ويدعو إلى بناء‬
‫عالقات صداقة متوازنة باالتحاد السوفياتي لكن مع المحافظة على الموقف االستقاللي السيما‬
‫باالستناد إلى الموقف العربي العام وإلى حركة عدم االنحياز وعدم التفريط بصداقة الصين‪ .‬أما التيار‬
‫الثالث وھو الذي كانت له الغلبة في كثر األحيان‪ ،‬فاتسم بالتمايل بين ھذين الموقفين مع ميالن أكثر‬
‫نحو الرأي األول في كثير من المواقف‪ .‬فمنذ ‪ 1974‬بدأت مجلة "فلسطين الثورة" الناطقة الرسمية‬
‫تتحدث عن الحليف االستراتيجي‪ ،‬وتغمز من الصين أو تتجاھلھا تماما ً‪ .‬وتؤول الموقف من حركة‬
‫عدم االنحياز باعتباره انحيازاً لالتحاد السوفياتي وذلك تحت حجة استحالة وضع المعسكر االشتراكي‬
‫والمعسكر االستعماري على قدم المساواة‪ .‬وجاء رد أبي حسن وحمدي وإخوانھما‪ :‬إذا كانت ھنالك‬
‫فروق بين الطرفين ھنا وھناك فھذا ال يعني االنحياز‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬فإشكالية عدم االنحياز تظل قائمة‬
‫حتى عندما تصنف أمريكا عدواً واالتحاد السوفياتي صديقا ً‪ .‬فبدالً من أن يدقق جيدا ً بھذه النقطة كان‬
‫يلجأ إلى استخدامھا استخداما ً تبسيطيا ً من أجل الدفع باتجاه االنحياز إلى االتحاد السوفياتي‪.‬‬

‫كان ھذا التيار الداعي للتحالف واالتحاد السوفياتي قد راح يستمد قوة مضاعفة بعد اندالع الحرب‬
‫األھلية في لبنان‪ ،‬ودعم م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬لجبھة القوى واألحزاب التقدمية‪ ،‬والتي أصبحت بدورھا قوة مسلحة‬
‫في الشارع‪ .‬فقد أخذ يستقوي بھا على الداخل الفتحاوي نفسه‪ .‬وھنا خلط ھذا االتجاه األوراق في‬
‫المجال العربي كذلك وطفق يھاجم‪ ،‬بصور مباشرة أو غير مباشرة‪ ،‬السياسة األصلية لفتح حول‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪41‬‬

‫االستقاللية عن المحاور العربية‪ ،‬ووضع القضية الفلسطينية فوق الخالفات العربية‪ ،‬أو عدم التدخل‬
‫في الشؤون الداخلية للدول العربية أو في تبنيھا لسياسة التضامن العربي وشعارھا األصيل "كل‬
‫البنادق نحو العدو الصھيوني"‪ .‬وأخذ يدفع باتجاه تأزيم العالقات بمصر والسعودية والمغرب‬
‫واألردن ودول الخليج‪ .‬وراح يروج الحديث عن الدول المسماة بالدول المرجعية العربية‪.‬‬
‫وأخذ يطالب بالفرز العربي على أساس تقدمي ورجعي بدالً من الموقف األصلي لفتح الذي يفرز على‬
‫أساس من مع فلسطين ومن ضدھا‪ ،‬من يدعم الثورة عسكريا ً أو ماديا ً أو سياسيا ً أو معنويا ً ومن‬
‫ضدھا‪.‬‬

‫وراح موقف التيار التقدمي داخل فتح لبنانيا ً يشن ھجوما ً شديداً على اإلمام موسى الصدر رحمه ﷲ‬
‫والقيادة السياسية السنية التقليدية من رؤوساء الوزراء السابقين مروراً بالجماعة اإلسالمية والعلماء‬
‫وبعض الناصريين والشخصيات وانتھا ًء بدار اإلفتاء وبعض الممثلين السياسيين للشيعة‪ .‬ولم ينج من‬
‫الھجوم السيد محمد حسين فضل ﷲ وعدد ھام من العلماء النشطين ال سيما قيادة المجلس اإلسالمي‬
‫الشيعي األعلى‪.‬‬

‫ووصلت الحملة إلى داخل فتح إذ تركزت على من كانوا يتھمون "باليمينية" أو "بجماعة الخليج" أو‬
‫الفتحاويين "المتخلفين"‪ .‬وقد وجھت ضربة مبكرة لتنظيم فتح في لبنان‪ ،‬والذي كان مركز قوة ضمن‬
‫حدود المنطلقات والمبادئ‪.‬‬

‫أما على أرض الصراع فقد أصبح التيار الفتحاوي العريض الذي يريد أن يحافظ على المنطلقات‬
‫والمبادئ األساسية في اإلطاللة على الوضع الدولي والعربي واللبناني والفلسطيني في حالة انحسار‬
‫وارتباك وتراجع أمام ضخامة الھجمة التي أخذ يشنھا "اليساريون والتقدميون" داخل فتح وخارجھا‪.‬‬
‫أما التيار السائد في القيادة أو الذي تراوح في مواقفه بين الموقفين فكان يتعرض بدوره إلى ضغوط‬
‫متعاظمة للتخلي عن التيار الفتحاوي المسمى "باليميني" والتسليم للتيار التقدمي‪ .‬فقد كان‪ ،‬وبسبب‬
‫البراغماتية العالية‪ ،‬كثيراً ما ينحني أمام الضغط حتى لو كان ضده شخصياً‪ ،‬وكثيراً ما كان في‬
‫المواقف المعلنة وعدد كبير من المواقف العملية يميل إلى تبني خطاب التيار" التقدمي" ومواقفه إال‬
‫أنه كان غير راض‪ ،‬عملياً‪ ،‬أن يصبح أسيراً أو مطوقاً‪ ،‬وال يكون صاحب الكلمة المقررة‪ .‬وكان‬
‫يشعر بخطورة أن تضرب عالقاته بمصر أو بدول الخليج أو المغرب فكان يلجاأ إلى السياسة‬
‫المزدوجة والمواقف المزدوجة‪ .‬كما كان ھذا حاله بالنسبة إلى الداخل اللبناني حيث كان يتسلل سراً‬
‫إلبقاء بعض العالقات باالتجاھات اللبنانية المختلفة التي كانت جبھة األحزاب والقوى التقدمية تريد‬
‫استخدام فتح لتھميشھا وضربھا‪ ،‬وقد نجحت في ذلك‪ ،‬مؤقتا ً طبعاً‪ ،‬إلى حد بعيد السيما بين ‪-1975‬‬
‫‪.1982‬‬

‫كانت منطلقات فتح ومبادئھا وخطھا االستقاللي الضحايا الفعلية‪ ،‬األولى واألخيرة‪ ،‬في قلب ھذا‬
‫الخضم‪ .‬فقد ضاعت تماما ً أمام ضجيج الشعارات "التقدمية" و"اليسارية" وتحت ضربات "فلسطين‬
‫الثورة" ومنشورات اإلعالم التابع لفتح وضاعت أكثر من خالل مواقف القيادة البراغماتية التي ما‬
‫كانت لتقيم وزنا ً كبيراً لما يقال أو يطرح‪ .‬ألن المھم بالنسبة إليھا كان اإلمساك بمفاتيح القوة‬
‫و"التكتكة" السياسية والبقاء على الواجھة في كل المناسبات‪ .‬أما االتجاھات الفتحاوية التي كانت‬
‫تحسب على "اليمينية أو الرجعية أو التخلف" وھي العبارات التي كانت الستار في الحقيقة للھجوم‬
‫على المنطلقات والمبادئ األساسية‪ ،‬فقد كانت في أغلبھا مكبلة اليدين‪ ،‬أو مبعدة‪ ،‬أو مدافعة علنا ً دفاعا ً‬
‫خجوالً‪ ،‬وإن كانت وراء الكواليس أكثر صراحة وھجومية‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪42‬‬

‫ھنا يمكن القول أن أبا حسن وحمدي وإخوانھما حملوا عبئا ً غير قليل في االستمساك بالمنطلقات‬
‫والمبادئ وخط االستقاللية من الناحيتين النظرية والسياسية في مواجھة تلك الھجمة القوية والمتنفذة‬
‫والحازمة وذات الصوت العالي‪ ،‬والجريئة على االتھام بال حساب‪ .‬وكانوا في المقدمة مع من‬
‫اصطلوا بنارھا‪ ،‬وتعرضوا للقمع على يديھا بصورة مباشرة أو غير مباشرة‪ ،‬ونالھم الكثير من‬
‫التشھير والتھميش‪.‬‬

‫فعلى المستوى الدولي كان خط أبي حسن وحمدي وإخوانھما يمتلك مناعة مضاعفة من السقوط في‬
‫فخ التيار السوفياتي إذ لم يكن موقفھم من االتحاد السوفياتي‪ ،‬والنابع أساسا ً من الموقف األصلي لفتح‪،‬‬
‫قد اقتصر على نقد الموقف السوفياتي من القضية الفلسطينية فحسب وإنما أيضا ً لفت انتباھھم بوقت‬
‫مبكر ما كانت توجھه الحركة الماوية من اتھام لالتحاد السوفياتي باالمبريالية‪ .‬وقد اقتنعوا فعالً بھذه‬
‫الحقيقة ألنه كان من المھم أن يفسر ما الذي كان وراء الموقف السوفياتي في دعم قيام الدولة‬
‫اإلسرائيلية وتسليحھا‪ ،‬ولماذا تحول إلى موقف مبدئي ال يتزحزح‪ .‬وقد بدأت موضوعة االمبريالية‬
‫السوفياتية تعطي تفسيراً لھذا الموقف‪ .‬كما كان ھذا الموقف‪ ،‬بدوره‪ ،‬يشير إليھا بإصبع االتھام أي لم‬
‫ينبع ذلك من مجرد خطأ أو خلل في تقدير يحمل كل النيات الثورية النقية!‬

‫ثم تحصّ ن ھذا الفھم لطبيعة الدولة السوفياتية أكثر مع مراجعة الموقف الروسي من الجمھوريات‬
‫اإلسالمية ودول أوروبا الشرقية حيث بدأت تفوح رائحة بطرس األكبر في مشروع الدولة السوفياتية‬
‫نفسه‪ ،‬وفي معسكر حلف وارسو‪.‬‬

‫ولكن مع ذلك كان أبو حسن وحمدي وإخوانھم‪) ،‬وعلى الضد من اتھام "تقدميي فتح" لھم بالعداء‬
‫لالتحاد السوفياتي وبوضع االتحاد السوفياتي وأمريكا على قدم المساواة‪ ،‬وبأنھم مجرد صدى للموقف‬
‫الماوي(‪ ،‬جريصين على اعتبار رأيھم حول طبيعة الدولة السوفياتية مسألة ال عالقة لفتح فيھا‪ ،‬وما‬
‫ينبغي لفتح أن تتبناھا مطلقاً‪ ،‬كما أنھم بدورھم‪ ،‬ومن موقعھم في فتح والساحة الفلسطينية والعربية ال‬
‫يطالبون‪ ،‬أو يقترحون‪ ،‬أن يعامل االتحاد السوفياتي عدواً‪ ،‬أو وضعه في سلة واحدة وأمريكا‪.‬‬
‫فالموقف الذي صيغ استناداً إلى المنطلقات والمبادئ والى تقدير الموقف المعطى فلسطينيا ً ودولياً‬
‫وعربياً‪ ،‬وإلى حسن ترتيب األولويات والتمييز فيما بين التناقضات‪ ،‬كان يقتضي من فتح أن تعتبر‬
‫االتحاد السوفياتي صديقا ً ولكن ليس حليفا ً استراتيجياً‪ ،‬وإقامة عالقات تقوم على االستقاللية والتوازن‬
‫وإياه وتكون نقاط االتفاق واالختالف واضحة فيما يتعلق بالسياسات الفلسطينية والعربية والدولية‪.‬‬
‫ھذا مع التشديد على عدم تبني مواقفه في الساحة الدولية أو العربية أو في صراعه مع الصين ألن‬
‫الصين يجب أن تبقى تعامل صديقاً كذلك‪ .‬ويكون الموقف فيما يتعلق بصراعھما ھو الحياد وعدم‬
‫االنحياز ألي من الطرفين ضد اآلخر‪ .‬أما على مستوى أمريكا فكان ال بد من التمييز بينھما بقدر ما‬
‫ھي مميزة عالقة كل منھما بالعدو الصھيوني أو بالشعب الفلسطيني‪ .‬وھذا ما يضع أمريكا في موقع‬
‫العدو رقم ‪ 2‬بعد العدو الصھيوني )إسرائيل والحركة الصھيونية العالمية( وال ينبغي لھا أن تساوى‬
‫ضمن المعادلة السابقة واالتحاد السوفياتي‪ ،‬بل يجب أن نميز بينھا وبين أوروبا عموما ً في ھذه‬
‫المرحلة التاريخية كذلك‪ .‬أما موضوع االمبريالية السوفياتية فقد كان في مجال الفھم النظري لطبيعة‬
‫الدولة السوفياتية‪ ،‬مع إبقائه في موقع القناعة الخاصة‪ ،‬والمعلنة إذا ما اقتضى األمر‪ ،‬والتي ال مكان‬
‫لھا في األدبيات أو في الشعارات المطلوب تبنيھا من قبل الثورة ولم يكن برأيھم من المناسب أن‬
‫تتبنى فتح مثل ھذه المقولة تماما ً كما ال يجوز أن تتبنى مقولة الحليف االستراتيجي‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪43‬‬

‫على كل حال إن مثل ھذا الموقف من االتحاد السوفياتي كان يكلف في ذلك الوقت‪ ،‬غاليا ً في الساحة‬
‫الفلسطينية واللبنانية‪ .‬وكان ال يقوى عليه إال من يضع دمه على كفه ويكون شديد المبدئية وغير مبال‬
‫بمصالحه الضيقة‪.‬‬

‫وبالمناسبة‪ ،‬يجدر أن يلحظ ھنا أصالة الموقف من ھذا الموضوع وتمييزه عن الموقف الماوي الذي‬
‫كان يعتبر االتحاد السوفياتي عدواً رقم ‪ 1‬للشعوب‪ ،‬أو في أحسن الحاالت كان يضعه في مرتبة واحدة‬
‫واالمبريالية األمريكية‪.‬‬

‫لعل التأمل في موقف أبي حسن وحمدي وإخوانھم من إشكالية االتحاد السوفياتي في ذلك الوقت‬
‫وضمن تلك الظروف من موازين القوى يستطيع أن يدرك عمق االستقاللية في خطھم من جھة‪ ،‬وھي‬
‫التي أخذت تصبح غريبة في فتح‪ ،‬وشدة الحساسية في خطھم للجھر بالحقيقة والموقف السياسي‬
‫والفكري الصحيح الذي فيه مصلحة فتح والثورة والشعب واألمة العربية )وفقا ً لمصطلحات تلك‬
‫المرحلة(‪ .‬ولو كان ثمن ذلك وقوفا ً في وجه التيار والتعرض للمخاسر والمخاطر‪.‬‬

‫وفي المقابل‪ ،‬كانت أعصاب تقدميي فتح مستثارة ومستفزة إلى أقصى حد بسبب ھذا الخط الذي‬
‫يواجھھا جھاراً‪ .‬وينشر أفكاره بكتب معلنة واسعة االنتشار‪ .‬وقد راحت تشن حربا ً شعواء لتجريد‬
‫أصحاب ھذا التيار من كل موقع في فتح وللدفع باتجاه إخراجھم منھا والتضييق عليھم بكل سبيل‪ .‬أما‬
‫قوة أھل ھذا الخط فقد نبعت في ذلك الوقت من سمات ذاتية كانوا قد تحلوا بھا ومن مستوى‬
‫التضحيات التي كانوا يقدمونھا في المعارك والمواجھات‪ .‬كما ساعدھم على البقاء الرضا الداخلي‬
‫الذي كان يستشعره عدد من قيادة فتح وھم يشاھدون االشتباك الحامي الوطيس بين الطرفين‪ ،‬ولعل‬
‫البعض كان شعاره دعھم "فخار يكسر بعضه"‪ ،‬وقد أكسبه ھذا بعض الحماية بصورة غير مباشرة‪.‬‬
‫أو في األقل جعل تيار "تقدميي فتح" يحسب أنه محمي داخليا ً فينتقل للھجوم على من يظنھم يحمونه‪.‬‬
‫وما كان ليقتنع أنه ال حماية له داخليا ً بالرغم من ھجوم القيادة المتواصل عليه‪ .‬فكان متصور دائما ً أن‬
‫للقيادة موقفا ً مزدوجا ً‪ .‬وھو بالفعل كان كذلك‪ .‬ولكن لو وصل األمر إلى بسط الحماية الكتشف أن‬
‫القيادة ما كانت تمنحه حماية أو دعماً‪ ،‬بل كانت مواظبة على معاداته وتقليمه‪ .‬ولعل تجنب تيار أبي‬
‫حسن وحمدي وإخوانھم الدخول في جوقة التھجم على القيادة بالرغم من إساءاتھا المباشرة لھم‪ ،‬قد‬
‫ساعد علي أن يعمى تيار "تقدمي فتح" عن التقدير الصحيح للوضع‪ .‬لقد كان أبو حسن رحمه ﷲ‬
‫يقول ‪" :‬دعھم يتوھموا بوجود ھذه الحماية‪ ،‬فھذا يخيفھم ويخفف عنا دون أن يكلفنا شيئأ ً"‪ .‬ومن ثم‬
‫كانت تغذية ھذا الوھم وعدم إزالته مفيدة عملياً‪ ،‬وذلك بالرغم من بعض الضرر السياسي الذي كان‬
‫ينجم عن ذلك إذ وقع بالوھم نفسه آخرون ما كان يجب أن يقعوا فيه‪.‬‬

‫◄ ]‪êe†ÃÖ]<àÚ^–jÖ]<àÚ<ÌÎç¹‬‬
‫وتأتي المعركة السياسية حول الموقف من التضامن العربي‪ .‬وھنا كان تيار "تقدميي فتح"‪ 6‬حريصاً‬
‫على قلب منطلقات فتح بالنسبة إلى سياساتھا العربية رأسا ً على عقب كذلك‪ .‬فأوالً كان المطلوب أن‬
‫تقسم الوضع العربي إلى تقدمي ورجعي )كذلك دول عدم االنحياز(‪ .‬وكان ثمة تركيز خاص ضد‬
‫مصر وإلى حد أقل نسبيا ً ضد سوريا حتى أن حرب تشرين ھوجمت ولم ينظر إليھا نظرة ايجابية‪،‬‬
‫وذلك على الرغم من مشاركة فتح و م‪.‬ت‪.‬ف فيھا أيضا ً‪ .‬طبعا ً خلفية الموقف كان عدم رضا االتحاد‬

‫)‪ (6‬ﻫﺫﺍ ﻫﻭ ﺍﻝﻠﻘﺏ ﺍﻷﺨﻴﺭ ﺍﻝﺫﻱ ﻜﺎﻨﻭﺍ ﻴﺤﺒﻭﻥ ﺃﻥ ﻴﺨﻠﻊ ﻋﻠﻴﻬﻡ‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪44‬‬

‫السوفياتي عنھا وعن السادات‪ ،‬وقد أعطى السادات لھم فيما بعد كل األسلحة الضرورية للھجوم عليه‬
‫والطعن بحرب تشرين التي وقف أبو حسن وحمدي وإخوانھم إلى جانبھا بكل قوة واعتبروھا إنجازاً‬
‫ھاما ً جداً‪ .‬ألنھا حققت إنجازاً عسكريا ً ال يستھان به ضد جيش العدو‪ .‬بل أذل جيش العدو‪ ،‬ألول مرة‪،‬‬
‫في الميدان من قبل جيشين عربيين )مصر وسوريا( ولم ينقذه إال التدخل األمريكي عبر الجسر‬
‫الجوي والضغط السياسي والتھديد‪ .‬وألن قرارھا كان مستقالً عن السوفيات واألمريكان وحمل تجرؤاً‬
‫على القتال في ظروف عسكرية ودولية غير مؤاتية‪ .‬ولكن سياسات السادات التي اتسمت بالتراجع‬
‫تلو التراجع في الموقف من أمريكا وفي عملية التسوية مع الكيان اإلسرائيلي بما في ذلك تخريب‬
‫التضامن العربي وإنجازاته في تشرين وفي معركة حظر النفط‪ ،‬وتھديمه للتحالف المصري ‪-‬‬
‫السوري كانت كفيلة بتشويه صورة حرب تشرين‪ .‬وھكذا كان خط أبي حسن وحمدي وسعد والحاج‬
‫حسن ومحمد علي )أبو يعقوب( وإخوانھم مع التضامن العربي‬

‫الذي تجلى في حرب تشرين‪ ،‬وفي حظر النفط‪ ،‬ومع خط المواجھة والقتال كما شجبوا كل سياسة‬
‫تخريبية لھذا التضامن أو متراجعة أمام العدو الصھيوني أو متواطئة مع أي من الدول الكبرى على‬
‫حساب خط االستقالل وعدم االنحياز‪ .‬وبھذا كان الموقف دائما ً متوازنا ً ومتماسكا ً‪ .‬ويقوم على معايير‬
‫ثابتة ھي في أساسھا منطلقات فتح‪ ،‬وعلى حسن تقدير الموقف في حينه‪.‬‬

‫كما راح التيار "التقدمي" في فتح وعل الساحة اللبنانية يعمق في التناقض الذي نشا ً بين سوريا ً وفتح‬
‫في لبنان ال سيما في العام ‪ 1976‬ويدعو إلى شن حرب ال ھوادة فيھا ضد دمشق وحتى إلى إسقاط‬
‫النظام وكان يسقى ليدفع فتح بھذا االتجاه‪.‬‬

‫ھنا أيضا ً أخذ أبو حسن وحمدي وسعد وأبو محمود وأبو خالد جورج ومروان كيالي والحاج نقوال‬
‫عبود ونسيم سعيد وشوقي الظنط وعبدالوھاب الحسن )أبو طارق(‪ ،‬ووجدي العنداري وفؤاد تلمسان‪.‬‬
‫وإخوانھم موقف معلنا ً وشجاعا ً في معارضة ھذا الخط المدمر‪ .‬وطالبوا بموقف دفاعي محدود في‬
‫المجال العسكري مع بذل المساعي لرأب الصدع وعودة التضامن ووقف التدمير الذاتي للقوى التي‬
‫يفترض بھا أن تكون في جبھة واحدة ضد العدو الصھيوني وإلنقاذ وحدة لبنان وأنھم اآلن جميعا ً في‬
‫ذمة ﷲ‪ ،‬رحمھم وأوسع لھم في رحمته‪.‬‬

‫فكان ھذا الموقف النابع من منطلقات فتح ومن المصالح العليا لفتح والشعب الفلسطيني والثورة كما‬
‫سوريا ولبنان والموقف العربي كله محط لھجوم شديد حتى وصل األمر باتھام الخط بالتبعية لسوريا‪،‬‬
‫كما اتھم من قبل بالساداتية‪ .‬وتندر البعض على أبي حسن في تمركزه مع السرية الطالبية إلى جانب‬
‫القوات األخرى في بحمدون بأنه ذھب ال ليدافع وإنما ليستقبل الدبابات السورية بالورود‪.‬‬

‫إنه مجرد الجھر‪ ،‬في ذلك الوقت من عام ‪ ، 1976‬بأن سوريا ليست عدواً وأن الحرب معھا يجب أن‬
‫توقف‪ ،‬وأن العالقات يجب أن تصحح‪ ،‬وفقا ً لشعار "كل البنادق نحو العدو الصھيوني"‪ ،‬كان يحتاج‬
‫إلى درجة عالية من الفدائية واالستشھادية أمام كل تلك المغاالة التي كانت سائدة في صفوف القوى‬
‫التقدمية اللبنانية والفلسطينية ضد سوريا‪.‬‬

‫وتواصلت حلقات ھذه المواقف والمواقف المضادة عند تقويم قرار حظر النفط الذي تزعمه الملك‬
‫فيصل رحمه ﷲ‪ ،‬إذ ووجه بحملة شعواء من قبل التيارات التقدمية دون أن يدرك مغزاه وأبعاده‬
‫الحقيقية‪ .‬ثم يدرك بعمق أكبر شعار التضامن العربي باعتباره ضرورة في المواجھة ضد العدو‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪45‬‬

‫الصھيوني وفي الدفاع‪ ،‬على األقل‪ ،‬عن الحد األدنى من الحقوق والمصالح العربية‪ .‬وقد وصل األمر‬
‫بإطالق تسمية تھكمية على أبي حسن وحمدي وإخوانھم وھي "جماعة التضامن العربي"‪ .‬فيا لھا من‬
‫تھمة! ولكن مع ذلك كانت تھمة حقيقية وخطيرة حين توجه ضد أحد في تلك الظروف وتلك األيام‪.‬‬

‫ولكن كان جواب أبي حسن وحمدي وإخوانھم‪ ،‬نعم نحن مع التضامن العربي‪ ،‬ومع عقد القمم العربية‪.‬‬
‫ألن ھذه القمم تقوم على أساس الحد األدنى المشترك فيما بين الدول العربية المختلفة من يسار إلى‬
‫يمين ولھذا كانت المحصلة في ذلك الوقت إيجابية بالضرورة‪ .‬فھي بالضرورة ال تخرج أمريكية أو‬
‫سوفياتية‪ .‬ومن ثم تأتي أقرب إلى االستقاللية‪ .‬فكل دولة عربية وحدھا لھا حساباتھا وظروفھا‬
‫وارتباطاتھا ونقاط ضعفھا تجاه الضغوط الخارجية وينطبق ھذا‪ ،‬إلى حد ما‪ ،‬على المحاور كذلك‪.‬‬
‫بينما حين كانت تجتمع المعادلة العربية في تلك الظروف كانت تخرج المحصلة بمجموعھا أفضل‬
‫نسبيا ً ألن الموقف الجماعي وإن عبّر عن نقاط الضعف المشتركة إال أنه يعبر عن نقاط إيجابية نابعة‬
‫من طبيعة التجمع‪ .‬وإذا كانت التجربة قد أثبتت أن التضامن لم يحرر فلسطين‪ .‬ولم يزل آثار العدوان‬
‫إال أن عكسه لم يفعل كذلك‪ .‬ولكن التضامن حقق شيئا ً ولو جزئيا ً في كل مرة‪ .‬ويكفي أن نلحظ أن‬
‫التضامن العربي حتى في ظروف ما بعد حرب الخليج الثانية وانھيار االتحاد السوفياتي وھي أسوأ‬
‫من الظروف السابقة بالنسبة إلى معادلة الدول العربية‪ ،‬ما زال‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬مقاوما ً من قبل أمريكا‬
‫والصھيونية‪ .‬وما زال أفضل من أن تترك كل دولة وحدھا ليستفرد بھا‪.‬‬

‫المھم‪ ،‬أن يلحظ أن خط التضامن العربي كان ھو الذي يمثل منطلقات فتح ومبادئھا كما كان يجسد‬
‫السياسة التقليدية الصحيحة لفتح في تلك الظروف والمعادالت‪ .‬لكن مع ذلك كان الصوت األعلى‬
‫داخل فتح وم‪.‬ت‪.‬ف ضده‪ ،‬ودون أن يتورع بإدانة كل من دعا له‪ ،‬أو حتى لم يشجبه ألنه كان يعتبر‬
‫خط السادات والسعودية واألردن والمغرب‪.‬‬

‫وبالمناسبة‪ ،‬يجب أن يعاد التأكيد ھنا أن أبا حسن وحمدي ومحمد علي وإخوانھم لم يكونوا وحدھم في‬
‫كل ما مرّ من مواقف فقد تصدى في ذلك الوقت من داخل فتح عدد من القيادات والكوادر لكل ھذه‬
‫القضايا‪ .‬وما كان موقفھم أقل فدائية وشجاعة‪ ،‬وما كان معرضا ً أقل للھجمات والحمالت الظالمة‪ .‬فقد‬
‫كانت الساحة على الرغم من سيطرة التيار التقدمي في ذلك الوقت وشدة غلوائه في محاربة خصومه‪،‬‬
‫تعج بمثل تلك المواقف ولعل عذر كاتب ھذه السطور في عدم ذكر األسماء يستند من جھة إلى‬
‫التركيز على الشھداء أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانھم والحاجة إلى تبيان مواقفھم‪ ،‬كما يستند من‬
‫جھة أخرى إلى ترك حق ذكر األسماء ألصحابھا وقد انطبق ھذا عند الحديث عن مختلف التيارات‪.‬‬
‫وذلك حتى ال يكون في اإلشارة تعريضا ً شخصيا ً بأحد عند النقد‪ ،‬أو إحراجا ً شخصيا ً ألحد عند‬
‫التقريظ واإلشادة‪ ،‬أو إساءة في دقة نقل الموقف حين يشار إلى شخص بعينه‪.‬‬

‫ومن ھنا‪ ،‬يتوجب التنويه‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬إلى أن ھذا الكتيب يغطي جزءاً متواضعا ً من صورة تلك‬
‫المرحلة الغنية المترامية األطراف‪ ،‬والالمتناھية في تعددھا وتالوينھا‪.‬‬

‫<<‬
‫<<‬
‫<<‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪46‬‬

‫»<‪< <gñ^jÓÖ]<ÙˆÂ<Åç•çÚ‬‬
‫عندما ً وقعت جريمة الباص في عين الرمانة في نيسان ‪ ، 1975‬وبدت بوادر الحرب األھلية‬
‫واالنقسام وانھيار الدولة‪ ،‬تميز موقف أبي حسن وسعد جرادات وإخوانھما بطرح خط يقول بضرورة‬
‫الرد بضربة محدودة ثم العودة فوراً إلى المساومة لوقف تدھور الوضع وتجنيب لبنان خطر االنقسام‬
‫الطائفي وانھيار الدولة‪ .‬ولكن سرعان ما بدأت األحداث تتفاقم وقد وصلت قمتھا بالقرار الذي اتخذ‬
‫على مستوى القيادة المشتركة الفلسطينية ‪ -‬اللبنانية" بعزل الكاتب"‪.‬‬

‫لم يتردد أبو حسن وسعد ومروان وأبو خالد جورج وإخوانھم في تخطيء ھذا القرار حتى عندھا كان‬
‫يُبعث في مراحله األولى‪ .‬ثم جھروا بمعارضته بعد أن و ّقع عليه ياسر عرفات والمرحوم كمال‬
‫جنبالط‪ .‬وكانوا في موقفھم ھذا يطبقون المنھجية المشار إليھا آنفاً‪ ،‬وھي تصور أنفسھم في موقع‬
‫القيادة من جھة تقدير الظروف المعطاة بمجملھا ومن ثم طرح السياسة التي ستكون األفضل واألصح‬
‫بالنسبة إلى مجموع الوضع‪ .‬فقد كانوا حريصين على أال تكون شعاراتھم ذات طابع فئوي خاص‪ ،‬أو‬
‫من أجل مكاسب ضيقة‪ ،‬وإنما ھي موجھة لتامين "الخير العام" ومن ثم كثيراً ما تكون في مصلحة‬
‫معارضيھا وھم ال يعلمون‪ .‬ولھذا قامت معارضة قرار عزل الكتائب على حيثيات كان ينبغي للقيادة‬
‫الفلسطينية أن تراعيھا وكانت ستؤمن مصلحة عامة وتحقق خيراً عاما ً لو أخذ بھا المعنيون‬
‫)فلسطينيون ولبنانيون(‪.‬‬

‫فمن جھة كانوا يرون أن ليس من حق القيادة الفلسطينية التي وجدت في لبنان على أساس اتفاق‬
‫القاھرة أن تأخذ مثل ھذا القرار ألن في ذلك تجاوزاً واضحا ً لحدودھا‪ ،‬وتدخالً خطيراً في الشأن‬
‫اللبناني‪ ،‬ذلك بأن موقفھا من عزل الكتائب إذا صح ھنا فما يمنع أن يعمم على غير الكتائب وتبدأ‬
‫عمليات العزل والتدخل؟ أفال يشكل ھذا خطراً حقيقياً‪ ،‬وغلطة واضحة‪ ،‬وابتعاداً ملموسا ً عن منطلقات‬
‫فتح ومبادئھا التي وضعتھا لنفسھا في عالقاتھا العربية؟‬

‫ھذا من الناحية المبدئية والموقف األساسي ولكن يمكن أن نرى خطأ القرار من ناحية سياسية وعملية‬
‫كذلك‪ .‬فمن جھة يضع العزل الشارع الماروني كله إلى جانب الكتائب فوراً‪ ،‬كما يحرج الصف المسلم‬
‫التقليدي السني ‪ -‬الشيعي ‪ -‬الدرزي‪.7‬أي أن قرار العزل يعزز الجبھة المقابلة ويفسخ الجبھة في‬
‫المناطق اإلسالمية‪.‬‬

‫ثم أن العزل يضع الحرب في طريق مسدود أي يفرض التقسيم‪ .‬ألن العزل ال يسمح بالمساومة‬
‫وباالتفاق حتى لو استعد ذلك الطرف لتقديم عدد من التنازالت المطلوبة منه‪.‬‬

‫وقد حدث ذلك فعالً في مناسبتين‪ ،‬على األقل‪ ،‬حيث أبدى الطرف الماروني استعداداً لالتفاق‪ ،‬ولكن‬
‫قرار العزل كان يدين حتى أي اتصال أو مفاوضة‪ .‬أي كان قراراً مكبالً ليدي جنبالط وعرفات من‬

‫)‪ (7‬ﻓﻲ ﺍﻝﻭﺍﻗﻊ ﺇﻥ ﺘﻭﻗﻴﻊ ﺍﻝﻤﺭﺤﻭﻡ ﻜﻤﺎل ﺠﻨﺒﻼﻁ ﻋﻠﻰ ﻤﺜل ﻫﺫﺍ ﺍﻝﻘﺭﺍﺭ ﻝﻡ ﻴﻜﻥ ﻤﻔﻬﻭﻤ ﹰﺎ ﺒل ﻜﺎﻥ ﻏﺭﻴﺒ ﹰﺎ ﺘﻤﺎﻤ ﹰﺎ ﻋﻥ ﺃﺼﻭل ﺍﻝﻠﻌﺒﺔ ﺍﻝﻠﺒﻨﺎﻨﻴﺔ ﺍﻝﺘﻲ‬
‫ﻜﺎﻥ ﻤﻥ ﺃﺴﺎﻁﻴﻨﻬﺎ‪ .‬ﻭﻤﺎ ﻜﺎﻥ ﻤﻥ ﺍﻝﻤﻜﻥ ﺃﻥ ﻴﻘﻊ ﻓﻲ ﻤﺜل ﻫﺫﺍ ﺍﻝﺨﻁﺄ ﻝﻭﻻ ﻀﻐﻭﻁ ﺤﻠﻔﺎﺌﻪ ﺍﻝﺘﻘﺩﻤﻴﻴﻥ ﻭﺤﻠﻔﺎﺀ ﺤﻠﻔﺎﺌﻪ ﺍﻝﺘﻘﺩﻤﻴﻴﻥ ﺍﻝﻔﻠﺴـﻁﻴﻨﻴﻴﻥ‬
‫ﻭﻏﻴﺭﻫﻡ‪ ،‬ﺇﺫ ﻗﻴل ﻝﻪ ﺃﻥ ﻓﺘﺢ ﺘﺭﻴﺩ ﺫﻝﻙ ﻭﻜﺎﻥ ﻴﺎﺴﺭ ﻋﺭﻓﺎﺕ ﻏﺎﺌﺒﺎ‪ ،‬ﻭﻝﻤﺎ ﻋﺎﺩ ﻗﺎل ﻝﻪ ﻜﻤﺎل ﺠﻨﺒﻼ ﻁ " ﺃﻨﺎ ﻭﺍﻓﻘﺕ ﺒﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﻁﻠﺏ ﻗﻴﺎﺩﺓ ﻓـﺘﺢ‬
‫ﻓﻲ ﺍﻝﻠﺠﻨﺔ ﺍﻝﻘﻴﺎﺩﻴﺔ ﺍﻝﻤﺸﺘﺭﻜﺔ ﺍﻝﻠﺒﻨﺎﻨﻴﺔ _ ﺍﻝﻔﻠﺴﻁﻴﻨﻴﺔ ﻭﻋﻠﻴﻙ ﺃﻥ ﺘﻭﺍﻓﻕ ﺍﻵﻥ"‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪47‬‬

‫جني أية مكاسب أو الخروج من األزمة وإعادة اللحمة للوضع على أساس اتفاق جديد‪ .‬ولعل من‬
‫تداعيات ھذا القرار كان التدخل السوري واألزمة بين سوريا والقوات اللبنانية ‪ -‬الفلسطينية‬
‫المشتركة‪ ،‬وصوالً إلى حرب حزيران ‪ ، 1982‬طبعا ً ال تفسر كل ھذه التداعيات بسبب القرار ألن لھا‬
‫بدورھا ظروفھا وعواملھا العربية والدولية‪ ،‬لكنه كان ممھداً لھا ومساعداً عليھا‪ ،‬ويجب أن يحسب‬
‫حسابه عند تقويم مختلف أوجه الحرب األھلية في لبنان‪.‬‬

‫كان الوقوف ضد قرار العزل وانتقاده يبدو ضربا ً من الجنون في ظروف جريمة مجزرة عين‬
‫الرمانة‪ .‬وما صحبھا من قعقعة للسالح وانتشار للميليشيات وانتقال الحزب الشيوعي اللبناني الداعي‬
‫دائما ً إلى الطريق السلمي إلى "حربجي" من الدرجة األولى‪ ،‬وانتقال منظمة العمل الشيوعي صاحبة‬
‫التحليل الطبقي للبنان و"دولة ‪ "% 4‬إلى الحديث عن االنعزالية المارونية والدولة الطائفية‪ .‬ھذا دون‬
‫الحديث عن المقاومة الفلسطينية التي وجدت نفسھا فجأة في موقع المسيطر على الشارع اللبناني‬
‫السني ‪ -‬الشيعي‪ .‬وقد راحت بكل فصائلھا تجند الميليشيات وتوزع السالح‪ .‬وقد وصف البعض ھذا‬
‫التطور لألحداث أن لبنان يتجه ليكون بمثابة فيتنام الشمالية التي شكت قاعدة تحرير فيتنام الجنوبية!!‪.‬‬

‫ھذا دون الحديث عن غليان الشارع السني والشيعي والدرزي بذكريات االمتيازات التي تمتع بھا‬
‫الموارنة والحرمان في المناطق الشعبية ال سيما الشيعية‪.‬‬

‫من ھنا كانت المجاھرة بموقف سياسي حازم ضد قرار العزل واعتباره خطا مبدئيا ً وسياسياً‪،‬‬
‫والدعوة إلى أن يكون ھدف كل مواجھة دفاعيا ً وفتح الباب للمفاوضة بل السعي إلعادة اللحمة ووقف‬
‫االنقسام ومنع انھيار الدولة والوصول إلى درجة أعلى من العدالة والتفاھم اللبناني ‪ -‬اللبناني الداخلي‬
‫يحد من االمتيازات ومن الحرمان سوا ًء بسواء‪ ،‬كان ذلك قد قوبل بحملة شعواء‪.‬‬

‫على أن ھذا الطرح‪ ،‬أمام كثرة معارضيه‪ ،‬فرض فرزاً جديداً‪ .‬ووضع تيار أبي حسن وسعد جرادات‬
‫وأبي محمود )ھالل رسالن( وأبي خالد )جورج عسل( وعلي أبي طوق ومروان كيالي‪ ،‬ومعھم بضع‬
‫عشرات في موقع متميز‪ ،‬وخلصه من التداخل في المواقف الناجعة عن طبيعة العالقات والصداقات‬
‫المتشابكة داخل فتح‪ .‬ويمكن القول أن ھذه المناسبة شكلت نقطة االنطالق الحقيقية لذلك التيار‪،‬‬
‫وسمحت له من اآلن فصاعداً‪ ،‬بأن يتحمل وحده مسؤولية مواقفه وما سيطبعه من سمات‪.‬‬

‫لقد جاءت المبادرة في ھذه المسالة ) أي في فرض التمايز واالنطالق على أسس جديدة( من قبل عدد‬
‫من اإلخوة ممن أصبحوا يتحملون على مضض‪ ،‬بسبب العالقات المتداخلة‪ ،‬توجھات الخط في‬
‫منھجية العمل وفي موضوع التضامن العربي وحرب تشرين والموقف من االتحاد السوفياتي‪ .‬وفي‬
‫تقويم القيادة وفي غيرھا من القضايا‪ ،‬فوجدوا في معارضة قرار العزل موقفا ً غير صحيح وغير‬
‫معقول‪ .‬ويثير على صاحبه الشبھة‪ .‬فانبروا لحسم العالقة على أساس‪" :‬من مع قرار العزل ومن‬
‫ضده"‪ .‬ومن ثم كان على أبي حسن وإخوانه أن يبدؤوا مرحلة جديدة يبلورون فيھا خطھم النظري‬
‫والسياسي والعملي‪ ،‬بلورة متماسكة مميزة غير متداخلة بتوجھات وخطوط أخرى ومنھجياتھا‬
‫وسياساتھا‪.‬‬

‫لقد حسب بعض المقربين أن مقاومة قرار العزل سينھي ھذا التيار ويصفيه إذ كيف يعقل أن يرفع‬
‫مثل ھذا الشعار‪ ،‬بل كيف يعقل أن يكون ھنالك صمود في مثل تلك الظروف التي تھب رياحھا في‬
‫مصلحة قرار العزل؟ على أن الوقائع أثبتت العكس تماما ً فصحة الموقف والتحليل إزاء ھذا‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪48‬‬

‫الموضوع‪ ،‬كما إزاء المواضيع األخرى الالحقة كانت حاسمة في مضاعفة قوى ھذا الخط حتى‬
‫ضمن تلك الظروف‪ .‬فقد أصبح التيار قطب جذب لقوى شابة‪ ،‬أساساً‪ ،‬طالبية‪ ،‬فلسطينية ولبنانية تتسم‬
‫بالذكاء والنضج والشجاعة والحيوية واالستعداد لدخول غمار القتال وعدم الخوف من التضحيات‪،‬‬
‫ومھيأة لإلمساك بھذا الخط إمساكا مبدئيا ً عاليا ً وخوض الصراع النظري والفكري والسياسي‪ .‬فالذي‬
‫لم يلحظ‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬أن معارضة عزل الكتائب ما جاء عرضاً‪ ،‬وإنما كان جزءاً من منظومة‬
‫متماسكة من المواقف والسياسات تبدأ من منطلقات فتح ومبادئھا لتشمل مختلف القضايا من الوضع‬
‫الدولي إلى الوضع العربي إلى الوضع اللبناني إلى الوضع الفلسطيني‪ .‬وتتناول كل اإلشكاليات‬
‫الفلسفية والفكرية واأليديولوجية والمنھجية والتجارب الثورية التي تواجه العمل والتغيير‪.‬‬

‫ولھذا إذا كان ال بد من أن يؤرخ لليوم الذي خرج فيه ھذا الخط من مرحلة اإلرھاصات وتداخل‬
‫الخطوط واالتجاھات والعالقات المختلطة إلى مرحلة التبلور الذي أصبح معروفا ً عليه فسيكون يوم‬
‫تبنيه لخط معارضة قرار العزل‪ ،‬وما تاله أساسا ً من تداعيات أنھت المرحلة األولى‪ .‬وھو اليوم الذي‬
‫انتعلت فيه ثلة من الخيرة إلى مواقع القيادة والمسؤولية ّ‬
‫يقلبون األمور ويتخذون القرارات والمواقف‬
‫وينفذون‪.‬‬

‫◄<‪<l^ËÖ^vjÖ]æ<ì‚vj¹]<íãf¢]<Ùçu‬‬
‫فھم أبو حسن وحمدي وسعد وأبو خالد وإخوانھم من منطلقات فتح أن معيارھا في إقامة العالقات ھو‬
‫تعبئة كل من تمكن تعبئتھم من أجل نصرة الثورة وقضية فلسطين‪ ،‬والعمل على تقليص األعداء إلى‬
‫أقصى حد‪ .‬وإعطاء األولوية للتركيز ضد العدو الصھيوني أما حلفاؤه ومؤيدوه فال بد من العمل في‬
‫صفوفھم من أجل كسب من يمكن كسبه وتحييد من يمكن تحييده‪ ،‬وحتى الذي يكون عداءه لقضية‬
‫فلسطين وثورة شعبھا وانحيازه للعدو الصھيوني متردداً‪ ،‬فينبغي التخفيف من عداوته‪ .‬وكان يبرز ھنا‬
‫بصورة خاصة أمريكا والدول األوروبية إذ كان ال بد من أن يميز فيما بين ھذه القوى في تحديد س ُّلم‬
‫األعداء ولكن في كل األحوال كان يجب أن يبقى الكيان اإلسرائيلي على رأس الس ُّلم ثم تليه الحركة‬
‫الصھيونية العالمية والواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬

‫أما على مستوى المعسكر االشتراكي والصين ودول عدم االنحياز فالمعيار يعتمد التحشيد السياسي‬
‫والمعنوي والمادي إن أمكن‪ ،‬وراء قضية فلسطين والثورة‪ .‬ولكي يكون ذلك ممكنا ً فعلى فتح أال‬
‫تنحاز ألي طرف ضد الطرف اآلخر‪ ،‬فاالنحياز يجب أن يكون لقضيتھا وثورتھا‪ .‬فھي تقيم العالقات‬
‫باآلخرين لتأتي بھم إلى مواقعھا ال لتذھب ھي إلى مواقعھم‪ ،‬وتُستخدم في صراعاتھم‪ .‬وال ينبغي لھا‬
‫أن تدخل في مقايضات بمعنى أن تنحاز لسياسات طرف معين مقابل تأييده لھا‪ ،‬أو وقوفه إلى جانبھا‪.‬‬
‫أما على المستوى العربي واإلسالمي فالمطلوب تحشيد كل األطراف الرسمية والشعبية من أجل‬
‫نصرة القضية الفلسطينية ودعم كفاح شعبھا‪ .‬فاليد يجب أن تمد إلى الجميع بال استثناء‪ ،‬وبغض النظر‬
‫عن نوع األنظمة أو نوع األحزاب واأليديولوجيات‪ ،‬ويجب أن تكون القضية الفلسطينية فوق‬
‫الصراعات العربية ‪ -‬العربية‪ .‬وكان ينظر إلى كل انحياز لھذا الطرف أو ذاك‪ ،‬ومھما كان مسوغه‪،‬‬
‫باعتباره خسارة في عملية التحشيد وال يخدم القضية الفلسطينية في مرحلتھا الراھنة آنذاك‪.‬‬

‫طبعا ً تعرضت ھذه المنطلقات إلى سلسلة طويلة من االنتقادات ومن مختلف األطراف‪ .‬والكل يذكر‬
‫الحمالت التي شنت على شعار "قضية فلسطين فوق الصراعات العربية ‪ -‬العربية"‪ ،‬أو شعار "عدم‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪49‬‬

‫التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية"‪ ،‬أو شعار "كل البنادق نحو العدو الصھيوني"‪ ،‬أو شعار‬
‫"تكوين الجبھات لمساندة فتح والثورة الفلسطينية"‪ .‬فكان رأي فتح األصلي أنھا ً تطل على الثورة‬
‫العربية والثورة العالمية أو على إشكالية التغيير العربي والنضال العالمي ضد االمبريالية من خالل‬
‫تركيزھا على الصراع ضد العدو الصھيوني‪ ،‬أي من فوق أرضھا وليس من خالل االنتقال إلى‬
‫خنادق أخرى‪ ،‬والدخول في تكتالت وجبھات ذات غايات األخرى‪ .‬لقد فھم شعار‪ ،‬أو منطلق‪ ،‬فلسطين‬
‫طريق الوحدة العربية‪ ،‬أو طريق التغيير العربي‪ ،‬بأنه جزء ال يتجزأ من عالقة تبادلية وتكاملية بين‬
‫فلسطين والوحدة والتغيير‪ .‬فما ينبغي للسعي لتحرير فلسطين أن يلغي‪ ،‬أو يغيب السعي للوحدة أو‬
‫التحرر أو التغيير العربي‪ ،‬بل عليه أن يكون العامل المساعد على ذلك‪ .‬وھذا من أھم مسوغات العمل‬
‫على الساحة الفلسطينية‪ .‬كذلك كان الحرص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية ينبع‪ ،‬من وجھة‬
‫نظر أبي حسن وحمدي وإخوانھما من حرص على إطالق طاقات التغيير العربي بصورة مستقلة‬
‫ومتوازنة ومتكاملة دون وصاية أو إلحاق من قبل الثورة الفلسطينية‪ .‬وفي المقابل أن الحرص على‬
‫استمرارية الثورة الفلسطينية يتطب الحرص على استقالليتھا ورفض االحتواء واإللحاق‪ .‬أي كان‬
‫المطلوب طرح سياسات حكيمة وصحيحة لضبط العالقة التبادلية التأثير بين التحرير والتغيير‪ ،‬أو‬
‫التحرير والوحدة العربية وكان الشعار "أن على فتح أال تترك خنادقھا وتذھب إلى خنادق أخرى مھما‬
‫تعاطفت وإياھا"‪.‬‬

‫وكان أبو حسن وسعد وحمدي وإخوانھم يرون أن ھذا الخط ھو األكثر ثورية واألكثر صحة من حيث‬
‫نتائجه ال على مستوى مصلحة قضية فلسطين أو الثورة الفلسطينية وإنما على مستوى التغيير العربي‬
‫وتحشيد الموقف العربي الرسمي من أجل قضية فلسطين‪ ،‬كما على النضال العالمي من أجل تحرير‬
‫الشعوب من الھيمنة االمبريالية والصھيونية العالمية‪ .‬ولھذا فإن كل موقف سياسي حمل خروجا ً على‬
‫ھذه المنطلقات كان يصطدم بالنقد ويواجه بسياسة بديلة من قبلھم حتى لو كان ذلك قد صدر‪ ،‬عن قيادة‬
‫فتح وم‪.‬ت‪.‬ف‪.‬‬

‫وجدت ھذه اإلشكالية أشد حاالتھا تأزما ً منذ ‪ 1973‬في لبنان السيما في السنتين األوليين من اندالع‬
‫الحرب األھلية‪.‬‬

‫كان من الواضح أن ثمة تركيزاً من جانب التيار "التقدمي" )بما في ذلك اليساري( في داخل فتح‬
‫والثورة الفلسطينية يرمي إلى تقديم مفھوم للجبھة والعالقات داخل لبنان مناقضة لمنطلقات فتح‬
‫ومفھومھا األساسي حول الموضوع أو مناقضة لما كان معموالً به في لبنان خالل المراحل األولى‬
‫من وجود فتح قبيل اتفاق القاھرة وبعده‪ ،‬كما كان معموالً به‪ ،‬بصورة مركزة‪ ،‬منذ ‪ ، 1965‬السيما‬
‫بعد حزيران ‪ 1967‬حتى أواسط السبعينات‪.‬‬

‫ال من أن تفتح فتح ذراعيھا وتتعاون وكل القوى اللبنانية المستعدة لدعمھا والوقوف إلى جانب‬ ‫فبد ً‬
‫قضيتھا‪ ،‬وبغض النظر عن ھويتھا الطائفية أو السياسية أو الحزبية‪ ،‬صار مطلوب أن تضم ذراعيھا‬
‫على القوى التقدمية واليسارية وبعض القوى القومية فقط‪ ،‬وتغلق الباب في وجه اآلخرين كلھم إن لم‬
‫تسھم في إضعافھم‪.‬‬

‫إن نظرة سريعة إلى حجم القوى الفعلي على األرض والمطلوب نبذھا أو تلك المطلوب التحالف‬
‫وإياھا من خالل ذلك النھج تدل على خلل كبير في السياسة والمنطق وعلى تفريط في المصلحة‬
‫العليا‪ ،‬واستخدام لفتح في غير مقاصدھا‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪50‬‬

‫فإذا كان الخط التقليدي لفتح مفتوحا ً في السابق على الجميع في لبنان‪ ،‬بما في ذلك الموارنة‪ ،‬فإن الخط‬
‫الجديد‪ ،‬السيما‪ ،‬في ظروف اندالع الحرب األھلية قام على عزل الكتائب والموارنة‪ ،‬أوالً ثم اتجه‬
‫ثانياً‪ ،‬وبقوة أكبر إلى عزل قيادات الشيعة بكل فئاتھم عدا قلة من األفراد المنتمين لألحزاب اليسارية‬
‫والتقدمية‪ ،‬كما اتجه إلى عزل أغلب األطراف السنية من القيادات السياسية التقليدية إلى الحركات‬
‫الشعبية اإلسالمية إلى دار اإلفتاء إلى االتجاھات الناصرية عدا بعض فئاتھا المنضمة إلى جبھة‬
‫القوى واألحزاب التقدمية‪.‬‬

‫وكانت حركة المحرومين التي أطلقھا اإلمام موسى الصدر قد لقيت في المراحل األولى بعض‬
‫التجاوب من قيادة فتح ثم أخذت العالقة بھا بعد اندالع الحرب األھلية تتدھور وإن لم تنقطع بالسر من‬
‫البعض ألن العلنية كانت تُعرض صاحبھا إلى التشھير به من قبل تقدميي فتح وجبھة األحزاب‬
‫والقوى التقدمية اللبنانية‪ .‬وكانت ھنالك قلة‪ ،‬من بين كوادر فتح وقياداتھا حافظت على عالقات حسنة‬
‫بھا‪ ،‬ورفضت مقاطعتھا أو التھجم عليھا ورأت أن ذلك مخالف لمبادئ فتح ومخالف لمصلحتھا السيما‬
‫وجود قواتھا في الجنوب‪ .‬وكان تيار أبو حسن وحمدي وسعد وإخوانھم حاسما ً في التحدي في ھذا‬
‫الموضوع ودخل في صراعات داخلية شديدة دفاعا ً عن موقفھم ونقداً للموقف اآلخر‪ .‬وقدموا جسور‬
‫التعاون علنا‪ ،‬وحركة المحرومين‪ .‬والتي أصبحت "أمل" وكان الشھيد أبو حسن قد أرسل الشھيد‬
‫مجاھد الضامن ليدرب بعض شباب حركة المحرومين من أجل تدعيم المقاومة ضد العدو الصھيوني‬
‫وقد انفجرت به قنبلة فاستشھد جنبا ً إلى جنب مع أحد القيادات العسكرية لحركة المحرومين‪ .‬وقد‬
‫أعلنت حركة "أمل" أثر تلك الحادثة وھو اختصار السم "أفواج المقاومة اللبنانية"‪ .‬ووصل األمر أن‬
‫أخذ القرار في قيادة فتح لتشكيل لجنة تحقيق مع بعض الكوادر القيادية ن فتح و م‪ .‬ت‪ .‬في بسبب‬
‫عالقاتھم بحركة أمل أو بالتيارات اإلسالمية األخرى التقليدية والشعبية‪ .‬وإذا كانت اللجنة قد تشكلت‬
‫بضغط التيار التقدمي داخل فتح إال إنھا انفجرت على قاعدتھا مع أول لحظات التحقيق ألنھا ما كانت‬
‫تستطيع أن تناقش من مواقع فتحاوية مثل ھذه السياسة ألن موقفھا كان ضعيفا ً من ھذه الزاوية وليس‬
‫لديه من سالح غير اإلرھاب الفكري والتشكيك وإلقاء ال ُشبه جزافا ً‪ .‬ولكن ما كان أخطر‪ ،‬فقد تمثل في‬
‫الصراعات التي خاضھا تيار أبي حسن وحمدي ومروان وعلي أبي طوق وإخوانھم في الجنوب‪،‬‬
‫السيما‪ ،‬بعد نزول السرية الطالبية التي أسسھا وقادھا الشھيد سعد وغادرھا مبكراً‪ .‬وقد تحولت إلى‬
‫كتيبة الجرمق في الجنوب‪ .‬وكانت المرحلة التالية لـ ‪ 1977‬مرحلة ھجوم شديد من قبل جبھة‬
‫األحزاب والقوى التقدمية للسيطرة على قرى الجنوب التي ليس لھم فيھا من‪ ،‬مرتكزات أو قواعد‬
‫تذكر‪ ،‬وكان يراد أن تستخدم قوات الثورة الفلسطينية ومعھا القوات اللبنانية التقدمية لھذه الغاية‪ .‬فكان‬
‫على كتيبة الجرمق إلى جانب مھمتھا األولى في مواجھة العدو الصھيوني على خط التماس‪ ،‬أن تدافع‬
‫عن القرى الشيعية وحركة أمل في الجنوب‪ .‬وقد وصل األمر أحيانا ً إلى أن يرتفع سالح فتح في‬
‫مواجھة بعضه بعضا ً‪ .‬ولوال حكمة قيادة كتيبة الجرمق وحزمھا لحدثت اشتباكات‪ .‬كما حدث حين‬
‫تصدى مروان وعلي أبي طوق مع قوات من كتيبة الجرمق لوقف ھجوم القوات المشتركة حين دكت‬
‫األخيرة بالمدفعية دير قانون عام ‪ .1978‬الن الكتيبة كانت مصممة ال على طرح موقف سياسي‬
‫مقابل فحسب وإنما أيضاً‪ ،‬على تنفيذه‪ ،‬وھي مقتنعة كل القناعة أن في خطھا مصلحة عليا لفتح‬
‫والثورة الفلسطينية كما ألھل الجنوب ولبنان كله في حين كان خط تسليط جبھة القوى واألحزاب‬
‫التقدمية على قرى الجنوب يحمل تدميراً لمعادلة الصراع داخل لبنان وتدميراً لفتح نفسھا ً فيه‪ .‬ويجب‬
‫أن يذكر ھنا الشھيدان مروان الكيالي وعلي أبو طوق اللذان شكال من خالل موقعھما القيادي في‬
‫كتيبة الجرمق‪ ،‬إلى جانب دفاعھما عن الخط الصحيح ضميراً لفتح ومنطلقاتھا في وقت كانت الرياح‬
‫تھب في االتجاه اآلخر‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪51‬‬

‫ولم يكن الوضع مختلفا ً بالنسبة إلى الدفاع عن عالقات فتح باإلسالم السني السياسي والشعبي ألن‬
‫المناطق السنية في بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع كانت أول ما استھدف من خالل سياسات العزل‬
‫قبل أن تنتقل النار إلى الجنوب‪ .‬ھنا أيضا ً كان اإلصرار من جانب أبي حسن وسعد وحمدي وأبي‬
‫خالد وإخوانھم على تركيز العالقات مع كل القوى االجتماعية األساسية التي يراد استبعادھا‪،‬‬
‫وأصبحت في حالة االستضعاف وھي التي كانت قد شكلت سنداً لفتح من ‪ 1968‬إلى أواسط‬
‫السبعينات‪ .‬ولشد ما كانت بعض القيادات العليا في فتح تلقى من ھجمات عليھا بمجرد محافظتھا على‬
‫عالقات خجولة بالقيادات السنية السياسية التقليدية مثل رؤساء الوزراء السابقين ودار اإلفتاء أو‬
‫الحركات الشعبية مثل الجماعة اإلسالمية وعدد من العلماء والتجمعات المحلية وبعض الناصريين‬
‫والعروبيين‪ ،‬أو بعلماء المجلس الشيعي األعلى أو السيد حسين فضل ﷲ‪ ،‬وغيرھم وغيرھم‪ ،‬فكانت‬
‫تمارس تلك العالقات بالسر قدر اإلمكان‪ ،‬وتعطي وعوداً بال أفعال‪ ،‬بينما كان الموقف الرسمي‬
‫والساعد الضاربة الفعلية أسيرين لجبھة القوى واألحزاب التقدمية‪.‬‬

‫ھنا كان خط أبي حسن وحمدي وسعد وإخوانھم قد بلور سياسة للجبھة المطلوب تشكيلھا والعمل من‬
‫خاللھا إلخراج لبنان من أزمته تتألف من دار اإلفتاء والمجلس الشيعي األعلى ومن القيادات السنية‬
‫والشيعية السياسية التقليدية ومن العلماء ومن القوى الشعبية اإلسالمية والعروبية ومن جبھة القوى‬
‫واألحزاب التقدمية والقومية ومن الشخصيات ورجال الدين المسيحيين ممن يمكن حشدھم من أجل‬
‫الضغط باتجاه وقف الحرب األھلية ومنع التقسيم وإعادة بناء المعادلة اللبنانية مع فتح باب الحوار مع‬
‫البطريركية المارونية وحزب الكتائب وحزب األحرار والكسليك وكل من يقبل الحوار وال يعزل غير‬
‫المتواطئين مع العدو الصھيوني‪ .‬وذلك لتكون المحصلة في مصلحة إعادة اللحمة إلى الوضع اللبناني‬
‫على شكل يحقق عدالة أكبر وتماسكا ً أشد فيما بين مختلف طوائفه وقواه السياسية‪ ،‬ھذا من جھة وأما‬
‫من جھة أخرى فمن أجل تحقيق أكبر إجماع لبناني وراء وجود الثورة في لبنان ووراء القضية‬
‫الفلسطينية‪.‬‬

‫ويجدر أن يشار ھنا إلى أن ھذا التيار نتھج سياسة مشابھة بالنسبة إلى القوى السياسية العربية‬
‫واإلسالمية واألوروبية التي أخذت توصد في وجھھا أبواب فتح بسبب صراعاتھا ً مع التيار‬
‫السوفياتي‪ .‬إما من مواقع إسالمية أو قومية أو ماوية أو يسارية أوروبية‪ .‬فبالموازاة وبعض‬
‫الفتحاويين‪ ،‬بقيادة الشھيد أبي جھاد رحمه ﷲ‪ ،‬استمر ھذا التيار من جانبه‪ ،‬وباستقاللية‪ ،‬يسعى لفتح‬
‫الجبھة العريضة على مصراعيھا عربيا ً وإسالميا ً ودولياً‪ ،‬وذلك بالرغم من السياسة الرسمية المعلنة‬
‫التي راحت تحصر أو تحاصر في حدود التيارات التقدمية واليسارية )ال سيما المؤيدة للسوفيات(‪.‬‬

‫كان ھذا ھو التوجه المعلن والمطبق‪ ،‬رضي من رضي‪ ،‬وغضب من غضب‪ .‬وھو الذي تحول إلى‬
‫سمة مميزة لخط أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانھم فلسطينيين ولبنانيين‪ ،‬وكان اللبنانيون في ھذا‬
‫التيار يشكلون شطراً مساويا ً للشطر الفلسطيني عددا ً ودوراً وقياديا ً وعمالً وتضحيات‪ ،‬وكانوا من كل‬
‫الطوائف والمناطق اللبنانية تقريباً‪ ،‬وقد استطاعوا أن ينسجوا أمتن العالقات‪ ،‬في المناطق اإلسالمية‬
‫من لبنان‪ ،‬بالقوى المقھورة التي تتخطفھا ميليشيات القوات المشتركة الفلسطينية ‪ -‬اللبنانية التي كانت‬
‫تحت سيطرة جبھة القوى واألحزاب التقدمية‪.‬‬

‫قد يبدو أن تيار أبي حسن وسعد وحمدي وإخوانھم كان معاديا ً لجبھة القوى واألحزاب التقدمية‪ ،‬وكان‬
‫يريد من فتح أن تعزلھا‪ ،‬ولكن ھذا غير صحيح ولم يكن يوما ً كذلك‪ .‬فقد كانوا يحملون احتراما ً خاصاً‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪52‬‬

‫للمرحوم كمال جنبالط وكانوا ينظرون إليه بأنه الوحيد في تلك الجبھة الذي كان يمثل شطراً حقيقياً‬
‫في مكونات المعادلة اللبنانية‪ ،‬وما كانوا يحملون بالنسبة إلى األطراف األخرى نيات عدائية أو‬
‫سياسات اقصائية‪ .‬بل أن عددا ً مھما ً من الشباب اللبناني في قلب ھذا التيار كان قد انحدر من منظمة‬
‫العمل الشيوعي وقد حافظ على صداقاته وسعى دائما ً الستمرار الحوار والتعاون‪ .‬وإن كان باب‬
‫منظمة العمل ھو الذي أوصد بعد اإلنخراط في جبھة األحزاب والقوى التقدمية‪ .‬فالموقف الفتحاوي‬
‫كان يقتضي أن تكون األذرع مفتوحة إلى جميع أولئك كذلك‪ .‬فالصراع كان ضد الخط السياسي‬
‫والعملي الخاطئ الذي تبنته جبھة القوى واألحزاب التقدمية في إدارة الصراع في األزمة اللبنانية‪.‬‬
‫فموقف تيار أبي حسن كان متماس ًكا‪ ،‬مستنداً إلى المنطلقات ومن تقدير للمصلحة العليا ولحسن إدارة‬
‫الصراع ولم يكن وجھا ً آخر لعملة التيار التقدمي واليساري داخل فتح الذي كان أحادي الجانب‬
‫ومتجھا ً لطرف واحد بعينه في لبنان وضاربا ً عرض الحائط باألطراف األخرى جميعا ً‪ .‬أي كان خط‬
‫أبي حسن وحمدي وسعد وأبي خالد وأبي محمود ومحمود الحسنية وإخوانھم يريد من فتح أن تتعاون‬
‫وجبھة األحزاب والقوى التقدمية‪ ،‬بما في ذلك الحزب الشيوعي‪ ،‬ولكن ليس على حساب التعاون مع‬
‫القوى األخرى أو عزلھا أو ضربھا‪.‬‬

‫ولعل من المآسي المبكيات أن فتح في حرب حزيران ‪ 1982‬ومي تواجه الضغوط السياسية‬
‫والعسكرية للخروج من لبنان‪ ،‬كما من طرابلس عام ‪ ، 1983‬لم تنل من جبھة األحزاب والقوى‬
‫التقدمية عشر معشار ما كانت تتوقعه منھا أ‪ .‬واألنكى أن مؤتمر الكوادر الذي عقد في بنزرت في‬
‫أثناه الحصار على طرابلس والتعرض للھجوم العسكري أرسل التحية للقوى واألحزاب التقدمية‬
‫اللبنانية التي كانت في معظمھا في الطرف المقابل‪ ،‬بينما شق عليه أن يوجه إلى حركة التوحيد‬
‫اإلسالمية مثل تلك التحية مع العلم أنھا كانت حليفا ً لفتح في طرابلس‪ .‬إن ھذه الواقعة تشير إلى أي‬
‫مدى أخذت فيه الھوة تتسع بين فتح ومنطلقاتھا‪.‬‬

‫◄<‪<êÞ^ßf×Ö]<|^ߢ]<íe†Ÿ<àÚ‬‬
‫كان اللبنانيون في ھذا التيار يشكلون شطراً مساويا ً للشطر الفلسطيني عدداً ودوراً قياديا ً وعم ً‬
‫ال‬
‫وتضحيات‪ .‬وذلك من أول يوم حتى آخر يوم‪ .‬وكانوا من كل الطوائف والمناطق اللبنانية تقريبا ً‪ .‬وقد‬
‫شارك في التيار كذلك عدد آخر من أخوة عرب لعب بعضھم دوراً أساسياً‪ ،‬ھذا إلى جانب عالقات‬
‫حوار وتعاون مع عدد من األطراف العربية وغير العربية فكان ما يطرح من خط موضع اھتمام‬
‫واسع‪ ،‬بل كان نتاج حوار مستمر مع مختلف األفراد والتجمعات المذكورة‪.‬‬

‫على أن الميزة التي انفرد بھا اللبنانيون في ھذا التيار كونھم انخرطوا فيه ال من أجل دعم نشاطھم‬
‫المحلي اللبناني‪ ،‬أو من أجل تأمين الدعم له بين الجماھير اللبنانية‪ ،‬كما كان حال أغلب المشاركات‬
‫اللبنانية في ذلك الوقت‪ ،‬وإنما من أجل أن يشاركوا في المشروع الفلسطيني نفسه‪ ،‬باعتباره القضية‬
‫األولى لألمة كلھا‪ .‬أي كانوا أقرب إلى االھتداء بنموذج الشھيد عزالدين القسام )السوري المنشأ( أو‬
‫المرحوم القاوقجي )اللبناني الجنسية(‪ .‬وإن كان ھذا الخط قد واجه باستمرار من داخله اللبناني‬
‫اتجاھات للتحول إلى حركة لبنانية أو إلى النشاط اللبناني واإلفادة من الحالة الفلسطينية في دعم‬
‫متبادل‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪53‬‬

‫وقد عرفت التجربة ھنا عدة محاوالت في مجال إيجاد أطر لبنانية وكانت ناجحة نسبياً‪ ،‬كما عرفت‬
‫انخراطا ً كامالً من قبل األخوة اللبنانيين في مشروع السرية الطالبية وكتيبة الجرمق وكان لھم دور‬
‫في ذلك يكاد يفوق الدور الفلسطيني‪ .‬أما على مستوى تلك المحاوالت أو التي لم تبعد كثيراً عن ھذا‬
‫التوجه العام فقد عرفت النور قبل ‪ 1975‬تجربة الجبھة الوطنية على مستوى الحركة الطالبية في‬
‫الجامعة اللبنانية‪ ،‬وكان من روادھا مروان الكيالي والمرحوم نذير االوبرى‪ ،‬وتجربة الثانويات التي‬
‫كان من قادتھا الشھيد علي أبو طوق‪ ،‬ثم تشكلت تجارب اللجان الوطنية وتجربة حركة لبنان العربي‬
‫وكان على رأسھا الشھيد الدكتور عصمت مراد‪.8‬‬

‫وبالمناسبة واجه السياق اللبناني داخل ھذا التيار تغيراً أساسيا ً بعد االنتقال إلى رض اإلسالم‪ .‬فقد‬
‫واجه بعد أن حسم ھذا الموضوع إشكالية في استمراره بمعنى ھل يستمر تياراً داخل الساحة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬أم ال؟‪.‬‬

‫وقد اتجه النقاش منذ ذلك الوقت إلى اإلجابة ‪" -‬ال" حاسمة عن السؤال‪ .‬ومن ثم كان على أفراد ھذا‬
‫التيار أن يبحثوا كل حسب اجتھاده وضميره في الساحة اإلسالمية عن علماء يأخذون عليھم دينھم‬
‫وحركات وجماعات ينخرطون فيھا عمالً وجھاداً‪ .‬ولكن كان ثمة إصرار على االحتفاظ بما ھو قائم‬
‫على الساحة الفلسطينية بالنسبة إلى كتيبة الجرمق أو العمل في األرض المحتلة‪ .‬ألن التخلي عن ذلك‬
‫وحله قبل أن تتوفر بدائل‪ ،‬وفي مستواه‪ ،‬قد يشكل خطأ ً كبيراً يفيد منه العدو الصھيوني‪ ،‬أو قد يجعل‬
‫ّ‬
‫حال التيار "جبارين في الجاھلية خوارين في اإلسالم" إذا ما تخلوا عن مواقع القتال على خط التماس‬
‫أو الجھاد والمقاومة المسلحة في فلسطين‪.‬‬

‫وقد أدى ذلك إلى توزع أغلب اللبنانيين‪ ،‬ال سيما بعد ‪ ، 1982‬على مواقع جديدة من خالل اجتھاد‬
‫فردي مستقل‪ ،‬وقد أصبحت لبعضھم خطوط مختلفة تماماً‪ ،‬ولم تحافظ حتى على التشاور وتبادل‬
‫الرأي‪ .‬لكن بقى‪ ،‬في المقابل‪ ،‬بعض اللبنانيين الذين أصروا على االنخراط في المشروع الفلسطيني‬
‫الجھادي ضمن حالته الجديدة‪ ،‬وضمن الرؤية السابقة نفسھا حول عالقة القضية الفلسطينية والجھاد‬
‫الفلسطيني بالتغيير والوحدة والنھوض في األمة وكان في مقدمة ھذا التوجه الشھيد سمير الشيخ‪.9‬‬
‫فالتحول إلى الطريق اإلسالمي لم يغير في جوھر المعادلة السابقة وإنما وسعھا لتشمل األمة العربية‬
‫واإلسالمية ولربما كانت ھنالك ضرورة مستقبالً لوقفة تقويمية بالنسبة إلى ما حدث بعد ‪.1980‬‬
‫خصوصاً‪ ،‬بعد ‪ 1982‬بالنسبة إلى أفراد ھذا التيار من لبنانيين وعرب عندما تركوه ليخوضوا في‬
‫الساحة اإلسالمية تجارب أخرى من منطلقات ومواقع أخرى وضمن منھجية مختلفة‪ ،‬فبعضھا كان‬
‫ناجحا ً وايجابيا ً وبعضھا كان سلبيا ً‪.‬‬

‫)‪ (8‬ﻴﺠﺩﺭ ﺍﻝﺘﻨﻭﻴﻪ ﺇﻝﻰ ﺃﻥ ﺍﻝﺸﻬﻴﺩ ﺍﻝﺩﻜﺘﻭﺭ ﻋﺼﻤﺕ ﻤﺭﺍﺩ ﻜﺎﻥ ﻤﻥ ﺍﻝﻘﻴﺎﺩﺍﺕ ﺍﻝﺭﺌﻴﺴﻴﺔ ﻓﻲ ﺘﻴﺎﺭ ﺃﺒﻲ ﺤﺴﻥ ﻭﺴﻌﺩ ﻭﺤﻤﺩﻱ ﺇﻝﻰ ﺃﻥ ﺍﺨﺫ ﻤﺒﺎﺩﺭﺓ‬
‫ﻤﺴﺘﻘﻠﺔ‪ ،‬ﻭﻋﻠﻰ ﻋﺎﺘﻘﻪ‪ ،‬ﺒﺎﻝﻤﺸﺎﺭﻜﺔ ﻓﻲ ﺇﻨﺸﺎﺀ ﺤﺭﻜﺔ ﺍﻝﺘﻭﺤﻴﺩ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﻁﺭﺍﺒﻠﺱ‪ .‬ﻭﻜﺫﻝﻙ ﻜﺎﻥ ﺍﻝﺸﻬﻴﺩ ﻤﺼﻁﻔﻰ ﻜﺭﺩﻴﺔ ﺃﺒﻭ ﺭﺒﻴﻊ ﺍﻝـﺫﻱ‬
‫ﺍﻨﻀﻡ ﺇﻝﻰ ﺍﻝﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ‪ ،‬ﺒﻘﺭﺍﺭ ﻤﺴﺘﻘل‪ ،‬ﻭﺍﺴﺘﺸﻬﺩ ﺘﺤﺕ ﺭﺍﻴﺎﺘﻬﺎ‪.‬‬
‫)‪ (9‬ﻝﻭﻻ ﺍﺴﺘﺸﻬﺎﺩ ﺴﻤﻴﺭ ﺍﻝﺸﻴﺦ ﻝﻜﺎﻥ ﻓﻲ ﻤﻘﺩﻤﺔ ﺍﻝﻌﺎﻤﻠﻴﻥ ﻓﻲ ﺍﻝﻤﺸﺭﻭﻉ ﺍﻝﺠﻬﺎﺩﻱ ﺍﻝﻔﻠﺴﻁﻴﻨﻲ‪ .‬ﻓﻘﺩ ﻜﺎﻥ ﻴﺴﺘﻌﺩ ﻝﻤﻐﺎﺩﺭﺓ ﻝﺒﻨـﺎﻥ ﻭﺍﻝﺘﻔـﺭﻍ‬
‫ﻝﻤﺸﺭﻭﻉ ﺴﺭﺍﻴﺎ ﺍﻝﺠﻬﺎﺩ ﺍﻹﺴﻼﻤﻲ ﻓﻲ ﻓﻠﺴﻁﻴﻥ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪54‬‬

‫‪< <á^ßfÖ<»<çqçÖ]<Ùçu‬‬
‫رأى أبو حسن وحمدي وإخوانھما أن مرحلة وجود فتح في لبنان قد انتھت‪ ،‬على صورتھا السابقة‪،‬‬
‫منذ الخروج من بيروت‪ .‬وكان تقدير الموقف عندھم يتوقع انتھاءھا قبل ذلك التاريخ‪ .‬ألن خروج‬
‫مصر من المعادلة العربية بعد ذھاب السادات إلى القدس‪ ،‬وعقد المعاھدة المصرية‪-‬اإلسرائيلية‪ ،‬أفقد‬
‫م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬مرتكزھا األول في البقاء في لبنان‪ .‬فعلى الرغم من أن كثيرين من الفتحاويين يعزون‬
‫وجودھم في لبنان لعوامل ذاتية إال أنھم يخطئون حين ال يلمسون أن وجودھم تم بمعادلة مصرية ‪-‬‬
‫سورية‪ ،‬ولذلك سمي االتفاق الفلسطيني ‪ -‬اللبناني اتفاق القاھرة‪ .‬فمصر عبد الناصر كانت لھا منذ‬
‫‪ 1959‬حصة كبيرة في معادلة الوضع الداخلي اللبناني‪ .‬ولكن بعد حرب حزيران ‪ 1967‬وتغير‬
‫معادلة ميزان القوى في المنطقة كان ال بد من أن تنحسر ھذه الحصة بحجم انحسار النفوذ الناصري‬
‫في تلك المعادلة‪ .‬وكان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد راح ينتھج سياسة مصالحة عربية من‬
‫أجل تركيز الجھود على ھدف إزالة آثار العدوان‪ ،‬وھو لذلك أحال ما بقي له من حصة‪ ،‬في لبنان‪،‬‬
‫إلى المقاومة الفلسطينية التي كان يرى بوجودھا واستمرارھا كتفاً‪ ،‬ولو متواضعاً‪ ،‬يساعد في حمل‬
‫الثقل إلى جانب كتفه وكتف سوريا واألردن وبقية الدول العربية‪.‬‬

‫وبقي الدور المصري الداعم لوجود م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬في لبنان قائما ً طوال السبعينات حتى زيارة السادات إلى‬
‫القدس‪ .‬ومن ثم كان ال بد من أن تتغير المعادلة على ضوء ھذا المتغير في وقت سريع لوال بروز‬
‫عامل جديد وھو انھيار دولة الشاه‪.‬في إيران‪ .‬مما أحدث خلالً مقابالً في معادلة المنطقة‪ .‬وقد أتاح ذلك‬
‫للعراق السيما بين ‪ 1981 - 1978‬أن يتحرر من ثقل الضغط الذي كان يمارسه عليه شاه إيران‪.‬‬
‫وأصبح يطمح بلعب دور قيادي عربي أكبر‪ ،‬وھو طموح مالزم للعراق منذ القديم‪ ،‬ولكنه أصبح اآلن‬
‫ممكنا ً أكثر مع غياب مصر وانھيار نظام الشاه ودخول الوضع في إيران مرحلة تغير داخلي كبير‪.‬‬

‫ومن ھنا لم يكن بال مغزى أن يسمى مؤتمر القمة العربي الذي عقد عام‪ 1979‬بمؤتمر بغداد‪ .‬ولم يكن‬
‫بال مغزى أن تحتدم األزمة العراقية ‪-‬السورية في تلك المرحلة وينتقل فيھا العراق إلى الھجوم‪ ،‬كما‬
‫لم يكن بال مغزى أن يبدأ العراق بالمزاحمة في لبنان من خالل فتح أساسا ً‪ .‬فھذا كله ھو الذي شكل‬
‫معادلة جديدة سمحت لفتح أن تبقى في لبنان تلك السنوات اإلضافية‪ .‬ولكن استمرار مضي مصر في‬
‫طريق المعاھدة المصرية‪-‬اإلسرائيلية‪ ،‬ودخول العراق في حرب ضد إيران سرعان ما جعله يغرق‬
‫فيھا حتى أذنيه‪ .‬وقد ظنھا نزھة لبضعة أسابيع أو أشھر أو عملية جراحية سريعة‪ .‬األمر الذي أعاد‬
‫الخلل للمعادلة من جديد مما سمح للعدو اإلسرائيلي وضمن غطاء أمريكي أن يشن الحرب في لبنان‬
‫وقد وصل فيھا إلى بيروت لتجد م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬نفسھا في السفن التي حملتھا إلى تونس واليمن‪ ،‬ولم يبق لھا‬
‫إال بعض الجيوب والمواقع في منطقة بعلبك‪ ،‬ولم يبق من عمق لھا في المعادلة العربية غير سورية‪.‬‬
‫ولكنھا كانت قد ربطت تحالفا ً مع العراق‪ ،‬وعينھا على إعادة العالقات بمصر‪ .‬وكان التوجه العراقي‬
‫أن يسعى الستعادة مصر إلى المعادلة العربية بعد أن شعر بتورطه في الحرب‪ ،‬وعدم قدرته على أن‬
‫يخرج منھا سالما ً بقوته وحده‪ .‬كان انضمام قيادة فتح إلى محور العراق وتطعلھا لعودة عالقاتھا‬
‫بمصر يتناقضان والمحافظة على عالقاتھا بسوريا‪ .‬األمر الذي أطلق رصاصة الرحمة على رأس‬
‫المعادلة التي سمحت لھا أن تبقى في لبنان‪.‬‬

‫كان أبو حسن وحمدي وإخوانھما استندوا إلى تقدير الموقف ھذا فاعتبروا أن الخط األسلم ھو تركيز‬
‫كل الجھود على األرض المحتلة‪ .‬وقرر أبو حسن وحمدي أن ينتقال إلى ع ّمان علما ً أنھما في السابق‬
‫كانا يتناوبان الوجود فيھا‪ ،‬ولو سراً‪ ،‬بسبب تركيزھما الدائم على األرض المحتلة‪ ،‬وإن كانا في‬
‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪55‬‬

‫المنتصف الثاني من السبعينات قد توزعا بين األردن ولبنان‪ .‬أما كتيبة الجرمق فقد أعادت تنظيم‬
‫قواتھا في البقاع إثر حرب حزيران ً‪ 1982‬من أجل تحويلھا إلى قوات ضاربة خلف قوات العدو‬
‫الصھيوني الذي كان يحتل أغلب لبنان‪ ،‬لقد واجھت قيادة كتيبة الجرمق بعد أن وقع االنشقاق داخل‬
‫فتح في ربيع ‪ 1983‬أزمة وحرجا ً فعلى الرغم من خالفياتھا السابقة مع أطرافه وأغلبھم كانوا من‬
‫التيار التقدمي واليساري في فتح‪ ،‬وعلى الرغم من رفضھا لالنشقاق من حيث المبدأ‪ ،‬إال أنھا حاولت‬
‫تحييد نفسھا وتجنب الدخول في اقتتال وصراع عسكري ليبقى ھدفھا الوحيد من الوجود في البقاع ھو‬
‫مقاومة االحتالل اإلسرائيلي‪ .‬ولكن قادة االنشقاق كان ينقصھم الخيال في التعامل وھذه الظاھرة‪ .‬وقد‬
‫أصروا عليھا أن تحدد موقفا ً وتنحاز‪ ،‬وھذا ما فرض على كتيبة الجرمق االنسحاب إلى طرابلس‪،‬‬
‫والدخول في صراع ال تريده حتى الخروج منھا‪.‬‬

‫لقد كان التوجه األساسي للخط ھو التركيز الكلي على األرض المحتلة بعد ‪ ،1982‬أما البقاء في لبنان‬
‫فيجب أن يكون ثانويا ً مقتصراً على مقاومة العدو الصھيوني‪ .‬ولكن ما كان لقيادة فتح أن تسلم‬
‫بالحقائق والوقائع الجديدة‪ ،‬والتي تقتضي منھا أما أن تتفاھم مع وسوريا‪ ،‬وأما أن تنسحب من لبنان‬
‫وتتجنب الصراع مع سوريا‪ .‬ومن ثم تركز على تصعيد المقاومة في األرض المحتلة‪ .‬وكان ھذان‬
‫الخياران غير واردين في نھج أغلب قيادة فتح التي سيطر على عقلھا حلم العودة إلى لبنان وراح‬
‫يغذيه دخولھا المحور العراقي ‪ -‬المصري في حرب الخليج األولى‪ .‬وھي السياسة التي أصبحت‬
‫رسمية وسائدة طوال الثمانينات‪.‬‬

‫كان توجه الخط عند أبي حسن وحمدي أن يترك لبنان وال يُعاد بناء كتيبة الجرمق فيه‪ ،‬وأن تركز كل‬
‫الجھود على األرض المحتلة‪ ،‬وكان مشروع إطالق الجھاد اإلسالمي في فلسطين ھو شغلھما الشاغل‬
‫في ھذه المرحلة‪ .‬أما من ناحية أخرى فقد اعتبر تحالف م‪.‬ت‪.‬ف مع العراق والدخول في معاداة إيران‬
‫مخالفا ً للمنطلقات وخطأ أساسياً‪ ،‬ألن بوصلة م‪.‬ت‪.‬ف يجب أن تبقى متجھة إلى فلسطين‪ ،‬ودور فتح‬
‫يجب أن يكون وسيط خير بين العراق وإيران‪ ،‬واعتبر موقف م‪.‬ت‪.‬ف المؤيد لالحتالل السوفياتي‬
‫ألفغانستان خطأ فادحا ً كذلك‪ ،‬وال يمكن تسويغه بأي شكل من األشكال‪ ،‬كما أن اإلصرار على العودة‬
‫إلى لبنان بكل سبيل والتأزيم مع سوريا يشكالن خطأين آخرين مھما قيل عن الموقف السوري لتسويغ‬
‫ذلك‪ .‬ومن ھنا يلحظ أن الھوة في الخالف في الموقف السياسي والعملي ووضع األولويات وفھم‬
‫روحية منطلقات فتح قد راحت تتسع خالل الثمانينات‪ .‬ولكن بالرغم من كل ما تقدم فقد بقيت نقطتا‬
‫تقاطع‪- :‬األولى‪ ،‬العمل في األرض المحتلة وضرورة اإلفادة من ذلك إلطالق الجھاد اإلسالمي‪ ،‬ومن‬
‫ثم تصعيد المقاومة عموما ً‪.‬‬

‫‪ -‬الثانية‪ ،‬بقاء مكان إلبداء الرأي الصحيح كامالً من داخل فتح بما في ذلك الجھر في نقد السياسات‬
‫المذكورة‪ ،‬وفي اإلعالن عن الموقف اإلسالمي‪ ،‬بال مواربة‪.‬‬

‫ونما إلى جانب ھذا الخط العام توجه داخله يدعو إلى العودة إلى لبنان بھدف مقاومة العدو الصھيوني‬
‫في جنوبي لبنان وكان الشھيد علي أبو طوق ومروان كيالي وبعض إخوانھما في الكتيبة من‬
‫المبادرين إلى العودة إلى لبنان من أجل ھذه الغاية‪ .‬وھي غير الغاية األخرى التي أرادتھا قيادة فتح‬
‫من العودة إلى لبنان وقد ارتكزوا على حسن عالقاتھم ومتانتھا بحركة أمل وحزب ﷲ ومختلف القوى‬
‫الشعبية في لبنان‪ .‬وبالفعل وجدوا من كل أولئك ترحيب فكانوا يميزون بينھم وبين سياسة القيادة وذلك‬
‫انطالقا ً من تجربة السبعينات‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪56‬‬

‫على أن خلالً حدث في معادلة الوضع الجديد في لبنان مع أواخر عام ‪ 1984‬وأوائل عام ‪ 1985‬جعل‬
‫قبضة إغالق األبواب في وجه فتح الرسمية تتراخى قصداً‪ .‬فبدأ مطار بيروت يستقبل الوافدين‬
‫زرافات ووحدانا ً وبدأ السالح يباع أو يھرب لمخيمات بيروت‪ .‬ولم تمض بضعة أسابيع حتى بدا كما‬
‫لو كانت المخيمات في بيروت ستعيد سيرتھا األولى‪ .‬وھنا سرعان ما عادت تلك المعادلة لتنقلب مرة‬
‫أخرى فتفتح حرب المخيمات في أواسط ‪ 1985‬وتبدأ مرحلة جديدة من الصراع الجھنمي فيما بين‬
‫من كان يفترض بھم أن يكونوا في جبھة واحدة‪ .‬وقد جاءت التطورات الالحقة وما حل في المخيمات‬
‫من كوارث لتؤكد صحة التحليل األساسي الذي كان يدعو إلى تناول جديد للوضع في لبنان يختلف‬
‫كليا ً عما كان عليه في السابق‪.‬‬

‫لقد استشھد في حرب المخيمات علي أبو طوق شريك الشھداء سعد وأبي حسن ومروان في تشكل‬
‫السرية الطالبية والقائد الميداني البارز في كتيبة الجرمق‪ ،‬والذي لعب دوراً رياديا ً كبيراً في إطالق‬
‫أولى العمليات الموجعة في مقاومة االحتالل اإلسرائيلي للبنان‪ ،‬انطالقا ً من البقاع‪ .‬وجاء استشھاده في‬
‫المكان الذي ما أحب أن يستشھد فيه وعلى أيدي من لم يعتبرھم يوما ً أعداءه‪ .‬واضطر إلى الدخول في‬
‫حرب المخيمات اضطراراً‪ .‬فبينما توجه إلى لبنان ليسھم في المقاومة ضد العدو الصھيوني في جنوبه‬
‫وجد نفسه واقعا ً في الشرك ولم يعد له من مسوغ في البقاء غير الدفاع عن الناس البسطاء في المخيم‬
‫والعمل على وقف ھذا االقتتال فيما بين األخوة‪.‬‬

‫كان أبو حسن وحمدي وإخوانھم يرون إشكالية كبرى في كل ما يجري في الداخل اللبناني من‬
‫صراعات ابتداء بالحرب األھلية وانتھاء بحرب المخيمات‪ .‬فقد كانت أغلب تلك الحروب تشبه‬
‫الحروب بالوكالة‪ .‬فلبنان منذ تركبت معادلته الطائفية‪ ،‬ھذا دون الرجوع إلى تاريخ أطول‪ ،‬كان ولم‬
‫يزل شديد التأثر بالمعادلة العربية والدولية من حوله‪ .‬وھو تأثر يأخذ شكالً مباشراً وسريعا ً‪ .‬وال يبالغ‬
‫مواز في ميزان القوى من حوله‪ .‬ألن طبيعة‬ ‫ٍ‬ ‫المرء إذا ربط كل تطور في ميزان قواه الداخلي بتطور‬
‫المعادلة الحساسة فيما بين طوائفه تشكلت عبر معادلة عربية ودولية محددة‪ .‬وأخذت شكل اتفاق‬
‫داخلي‪ .‬ولھذا ما كانت المعادلة من حوله تتغير حتى كان يواجه أزمة بحجم التغيير المطلوب منه أن‬
‫يحدثه‪ .‬فعندما تراجع النفوذ الفرنسي الذي أشرف على معادلة ‪ .1943‬وأخذ النفوذ البريطاني ومن‬
‫خالل حلف الشرق األوسط ثم حلف بغداد يتعاظم مع أوائل الخمسينات حتى حدثت أزمة كبرى‬
‫أطاحت بالشيخ بشارة الخوري وجاءت بكميل شمعون حليف نوري السعيد إلى سدة الرئاسة‪ .‬ولكن ما‬
‫أن بدأت معادلة النفوذ البريطاني تتراجع لحساب المد الناصري من جھة والنفوذ األمريكي من جھة‬
‫أخرى حتى واجه لبنان حربا ً أھلية عام ‪ 1958‬أودت بكميل شمعون‪ ،‬وجاءت بالشھابية‪ .‬وجاءت ھذه‬
‫األخيرة لتعكس معادلة الوضع في المنطقة في أواخر الخمسينات السيما فيما بين مصر الناصرية‬
‫والواليات المتحدة األمريكية‪ .‬وما أن اھتزت المعادلة المذكورة اھتزازاً‪ .‬جوھريا ً بعد حرب ‪1967‬‬
‫حتى سقطت الشھابية لحساب الحلف الثالثي‪ .‬وبدأت معادلة ميزان القوى داخل لبنان تتشكل على‬
‫أساس المعادلة العربية‪ -‬الدولية الجديدة‪ .‬وھي المعادلة التي سمحت بدخول م‪.‬ت‪.‬ف‪ .‬إلى لبنان وعقد‬
‫اتفاق القاھرة‪ .‬وفي المقابل كان النفوذ األمريكي من جھة والخليجي والعراقي من جھة أخرى يتعاظم‬
‫فيه‪ ،‬على حساب مصر وسوريا‪ .‬ولكن ما أن اندلعت حرب تشرين وما تحقق فيھا من إنجاز ازداد‬
‫موقع كل من مصر وفتح وسوريا ً في معادلة ميزان القوى‪ ،‬كما أن االتحاد السوفياتي‪ ،‬راح يضغط‬
‫لتعزيز موقعه أو قوته في المشرق العربي بعد أن أخذ موقعه يضعف في مصر‪ .‬األمر الذي أدخل‬
‫لبنان في حرب أھلية طويلة األمد‪ .‬وكان السبب في طول أمدھا أن التوازن الرجراج في معادلة‬
‫ميزان القوى العربي والدولي )واإلسرائيلي طبعا ً( ما بين نيسان ‪ 1975‬إلى اتفاق الطائف ‪ 1990‬ما‬
‫كان ليتيح أن تبنى تركيبة داخلية جديدة لدولة لبنان وإنما كانت تدفع باتجاه استمرار الحروب الداخلية‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪57‬‬

‫فيه‪ .‬فقد كانت تلك المعادلة تسمح لكل طرف رئيس أن يقول‪ ،‬ال‪ ،‬ويخرّب أي اتفاق إلعادة تركيبه‪.‬‬
‫وما كانت األطراف الرئيسة أو بعضھا في وضع القادر على فرض معادلة جديدة للدولة‪ .‬وھذا ما بدأ‬
‫يتغير مع معادلة اتفاق الطائف ثم معادلة حرب الخليج الثانية ومن ثم ھذا ما سمح ببناء دولة موحدة‬
‫في لبنان وأقام معادلة جديدة‪ .‬وأن ھذا القانون ھو ما يجعل لبنان معرضا ً لالھتزاز مرة أخرى إذا ما‬
‫اھتزت معادلة ميزان القوى المذكورة‪.‬‬

‫بكلمة أخرى‪ ،‬أن كل من يعمل في لبنان عليه أن يدرس الوضع من خالل معادلة الخارج‪ ،‬إذ أن كل‬
‫ما ينشأ في داخله‪ ،‬من صراعات واشتباكات وحروب‪ ،‬واغتياالت أو أزمات سياسية وتظاھرات‬
‫وإضرابات‪ ،‬أو سقوط حكومات أو تغيير للرئاسة‪ ،‬يمر من خالل معادلة الخارج‪ ،‬ومن ثم ال بد‬
‫للمتعاطي والشأن اللبناني من أن يجتھد في التقاط الدوافع أو العوامل الخارجية الدافعة إلى ذلك‪.‬‬

‫من ھنا كان خط أبي حسن وسعد وحمدي وإخوانھم‪ ،‬يميل باستمرار إلى أن يتجنب قدر اإلمكان‬
‫التورط في صراعات ال يكون ھدفھا محاربة العدو‪ ،‬وإنما صراعات عربية ‪ -‬عربية أو داخلية‬
‫قطرية‪ .‬وكان ھدفھم من أية مشاركة في الصراعات داخل اللبنان أن تكون بھدف التوجه إلى مقاتلة‬
‫العدو‪ ،‬أو التھيئة إلى ذلك أو رفع العقبات التي تحول دونه‪ .‬فقد شاركوا في الحرب األھلية بعد حادثة‬
‫عين الرمانة مكرھين‪.‬‬

‫وما كانوا يريدون المشاركة أكثر من أن تكون دفاعية ومؤقتة وسريعة وأال تصبح تورطا ً ومن ثم‬
‫تضعف التركيز على العدو الصھيوني‪ .‬وما كان من مسوغ يسمح بتلك المشاركة غير حماية الوضع‬
‫الذي يسمح بإبقاء المواجھة والمقاومة ضد العدو الصھيوني‪ ،‬وغير ردع التوجھات المستجيبة‬
‫لضغوط أمريكا أو الجيش اإلسرائيلي في ضرب المقاومة وتصفيتھا‪.‬‬

‫ويجب أن يالحظ ھنا أن سياسة عدم التورط في الصراعات اللبنانية ‪ -‬اللبنانية أو الصراعات العربية‬
‫‪ -‬العربية أو صراعات الحرب الباردة بين السوفيات واألمريكان كان يمثل خطا ً أساسيا ً ألبي حسن‬
‫وحمدي وسعد وأبي خالد وإخوانھم‪ .‬وكان التورط لھذا الحد أو ذاك محصوراً بالدفاع عن وجود‬
‫الثورة الفلسطينية‪ .‬وكان المسوغ لھذا التورط حيثما وقع ھو استخدامه الستمرار مقاومة العدو‬
‫الصھيوني‪ .‬ھذا إلى جانب الدفاع عن الجماھير الفلسطينية واللبنانية حيثما ً كانت تتعرض لھجمات‬
‫اإلبادة الطائفية‪ ،‬أو االعتداء عليھا‪ ،‬ولكن في كل األحوال كان الھدف فلسطين وكان خط التعبئة ھو‬
‫باتجاه فلسطين‪.‬‬

‫أما ً من جھة أخرى‪ ،‬فقد كان اإلدراك المعمق للوضع اللبناني يسمح ألبي حسن وحمدي ومروان‬
‫وسعد وأبي خالد جورج وإخوانھم أن يمسكوا بالقوانين التي تحكم لعبة الصراع فيه‪ .‬ومن ثم أدركوا‬
‫سلفا ً أن كل شي ء يبنى ھناك يبنى على رمال فھو يقوم في ظل ميزان قوى محدد خارجه‪ .‬ويذھب‬
‫وفقا ً لميزان قوى محدد ترسم مالمحه األساسية خارجه كذلك‪.‬‬

‫ومن ثم فإن من الحكمة أن تدار السياسة في لبنان وفقا ً لميزان القوى الذي تتشكل من حوله‪ ،‬فتحسب‬
‫حسابا ً دقيقا ً جدا‪ ،‬والتي يجب أال يقع خطأ فيھا وإال كان الثمن غال‪ .‬ألن الدم تسھل إراقته فيه‪،‬‬
‫والرؤوس "يطيب" قطافھا ھناك‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪58‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ‬
‫»<]‪< <퉅^Û¹]æ<†ÓËÖ]æ<sãß¹‬‬
‫< <‬

‫‪< <ØÛÃÖ]<íérãßÚ‬‬
‫◄<»<‪< <<å…ææ<äŠËßÖ<…^éjÖ]<ÜãÊ‬‬
‫لم ينشأ ھذا التيار‪ ،‬في منطلقه األساسي‪ ،‬ليكون تنظيما ً مستقالً‪ ،‬وال ليتحول مستقبالً إلى تنظيم مستقل‪،‬‬
‫ومن ھنا حدد التيار دوره وموقعه داخل فتح‪ .‬فقد بنى حساباته‪ ،‬ضمن تقدير لألوضاع في المدى‬
‫المنظور‪ .‬وكان ھ ّمه األول أن يحقق األھداف المتواضعة التي طرحھا على نفسه‪ ،‬بدالً من أن يضع‬
‫أھدافا ً كبيرة ال تناسب إمكاناته الذاتية‪ ،‬وليس لھا مستقبل من ناحية المعطيات الموضوعية المنظورة‬
‫أو المتوقعة‪ ،‬في حينه‪ ،‬فلسطينيا ً وعربيا ً ودوليا ً‪ .‬بينما توھم الكثيرون في ذلك الوقت أن باستطاعتھم‬
‫بناء التنظيم الطليعي القائد‪ ،‬والذي سيقود الساحة الفلسطينية‪ ،‬إن لم يكن األمة العربية كلھا‪ ،‬بمجرد‬
‫طرح "برنامج ثوري علمي جذري مقاتل"‪ ،‬الخ أو لمجرد إعادة إنتاج منطلقات فتح بعقلية "علمية‬
‫ثورية جذرية وبناء التنظيم الماركسي اللينيني الحقيقي"‪ .‬لكنھم جميعا ً سرعان ما انفجروا على‬
‫قواعدھم‪ ،‬حين اكتشفوا أن مشاريعھم غير قابلة للتحقيق‪ ،‬بل حتى للبقاء‪.‬‬

‫بكلمة‪ ،‬لم يكن التيار منذ بداياته يرى إمكانا ً لقيام تنظيم مستقل خارج فتح‪ ،‬أو إمكانا ً لتغيير فتح من‬
‫الداخل‪ .‬ولم يكن يرى في ظروف فتح عام ‪ 1973‬تتقدم باتجاه المنطلقات وإنما راحت تبتعد عنھا‬
‫على مختلف المستويات السياسية والفكرية والتنظيمية والمسلكية‪ .‬ولكنه كان يرى أن ثمة حالة ثورية‬
‫ھامة تتمثل بالكفاح المسلح الفلسطيني لعبت فتح فيھا دوراً مركزياً‪ ،‬وما زالت‪ ،‬وستبقى إلى المدى‬
‫المنظور ) ‪ 15 - 5‬سنة مثالً( كذلك‪ .‬وھي حالة تسھم في انضاج المناخ الثوري العام عربيا ً وإقليمياً‬
‫ودوليا‪ .‬وذلك بالرغم من كل قائمة السلبيات‪ .‬وكان طموحه األساسي المساعدة على إنضاج ذلك‬
‫المناخ والتعبير عن المنطلقات والمبادئ واألھداف والدفاع عنھا وترجمتھا واقعياً‪ ،‬وفقا ً ألسلوبه‬
‫ومنھجيته واجتھاده‪ .‬وقد قام فھمه لفتح على نظرية "فالج ال تعالج" كما كان يقول أبو حسن‪ .‬أي‬
‫استحالة إحداث تغيير لطبيعتھا وتركيبتھا الفكرية والسياسية والتنظيمية‪ ،‬أو حتى إعادتھا إلى ما كانت‬
‫عليه في مرحلة سابقة‪ .‬ألن الذي يستطيع أن يغيّر فيھا ھو قيادتھا وتغييرھم ألنفسھم بھذا االتجاه أو‬
‫ذاك‪ .‬وھو أمر ال يتحقق من القاعدة بالضغط والصراع الداخلي‪ .‬فالقيادة لم تعد مستعدة‪ ،‬أو حتى‬
‫قادرة‪ ،‬أن ترجع إلى المنطلقات والى ما كان عليه الوضع في المرحلة األولى‪ ،‬وإذا كان ثمة من‬
‫احتمال لتغيير فھو باتجاه االبتعاد أكثر عن المنطلقات والمبادئ والغرق أكثر في خط البرنامج‬
‫المرحلي والفوضى التنظيمية الداخلية‪ ،‬والتخلي‪ ،‬أكثر عما كان يعتبر من قيم فتح وأخالقياتھا‪.‬‬

‫ولھذا ما كان متاحا ً فعله عمل ھو اإلسھام في محصلة الكفاح ضد العدو أوالً‪ ،‬أما داخلياً‪ ،‬ثانياً‪ ،‬فإنقاذ‬
‫الكوادر الذين يمكن إنقاذھم من اليأس والخروج من الثورة أو إنقاذھم من التخلي عن القيم الثورية‬
‫واألخالق الحميدة‪ ،‬ومن ثم وضعھم في اتجاه محصلة الكفاع ضد العدو‪ ،‬أما ثالث‪ ،‬فكان أقصى ما‬
‫يرجى ھو المساھمة في وقف التدھور أو تبطيئه‪ ،‬والعمل‪ ،‬قدر اإلمكان‪ ،‬على إبقاء شعلة المقاومة‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪59‬‬

‫مستمرة أطول مدة ممكنة‪ ،‬عسى تنشأ ظروف أو تحدث تطورات‪ ،‬أساساً‪ ،‬فلسطينيا ً وعربيا ً أو إقليمياً‬
‫أو دوليا ً تسمح باإلنقاذ ووقف التدھور والتراجع‪ ،‬أو تسمح بوالدة بديل ممكن الوجود وقابل للحياة‪.‬‬

‫ھنا‪ ،‬في أواسط السبعينات‪ ،‬بدأت تتبلور موضوعات أصبحت جزءاً ھاما ً من منھجية التيار وفھمه‬
‫لدوره ونفسه‪ .‬فكان من بين تلك الموضوعات‪ ،‬الموضوعة القائلة "يجب أن يكون دورنا دور العامل‬
‫المساعد" في المعادالت الكيمائية أي أال نكون طرفا ً في المعادلة وإنما "طرف" في المساعدة لبناء‬
‫معادلة ايجابية أو الحفز عليھا‪ .‬أي العمل مع األطراف المختلفة ذات النزعات أو السياسات التي تعتبر‬
‫إيجابية من أجل تشجيعھا ودفعھا إلى أمام فتحاويا ً وفلسطينيا ً ولبنانيا ً أوالً‪ ،‬وعربيا ً ثانيا ً وإقليميا ً ودولياً‬
‫ثالثا ً‪ .‬فالمطلوب أن يكون التيار داخل فتح عامالً مساعداً‪ .‬على الوحدة‪ ،‬وفي المحافظة على المنطلقات‬
‫والمبادئ‪ ،‬وفي دفع محصلة الكفاح ضد العدو‪ ،‬وفي تشجيع االستقاللية والقيم الفتحاوية الثورية‬
‫والمناقبية األخالقية الحميدة‪ .‬وفي طرح سياسات بديلة حيثما كان ثمة خلل في السياسات الرسمية‪ ،‬أي‬
‫تقديم كل من يعمل بھذا أو ذاك من ھذه الجوانب إلى أمام‪ ،‬ولو على حساب األخوة ومواقعھم‬
‫ونضالھم وتضحياتھم‪.‬‬

‫كانت ھذه المنھجية فعّالة جداً في تحشيد قوى كثيرة باالتجاه الصحيح وكانت فعّالة في تحقيق ما‬
‫يوضع من أھداف جزئية‪ .‬ولكنھا كانت قليلة المردود على نفوذ التيار أو أفراده أو شھرته أو دوره‬
‫الخاص ألن الذين كانوا يدفعون إلى أمام كثيراً ما كان أغلبھم يجيّر المردود لنفسه أو جماعته‪ .‬وكان‬
‫البعض بعد حين يدير ظھره‪ ،‬إن لم ينقلب على األخوة المعنيين في التيار‪ .‬لقد حدث ھذا في الساحة‬
‫اللبنانية والساحة الفلسطينية وفي ساحات أخرى‪ .‬وقد حدث خالل السبعينات كما حدث مع تجربة‬
‫العمل مع بعض القوى الجھادية اإلسالمية فيما بعد‪.‬‬

‫كانت المقوالت التي كانت تدعم ھذه المنھجية تقول‪ :‬المھم المبادئ‪ ،‬المھم األھداف والثورة والشعب‪،‬‬
‫المھم النتائج اإليجابية على األرض في تحقق األھداف وانجاز المھمات المحددة‪ ،‬وليس مھما ً من‬
‫يقطف ثمرات الثورة أو السمعة أو النفوذ‪ ،‬أو المكاسب المادية‪ .‬وليكن ديدننا‪" ،‬أن نكون الجنود‬
‫المجھولين"‪ ،‬وقد أصبحت ھذه المقوالت بعد الوقوف على أرض اإلسالم ذات معنى عندما أصبح‬
‫التيار يتأمل مفھوم "العمل في سبيل ﷲ" أو "العمل لوجه ﷲ" وأبعاده‪ .‬وقد أصبح ھذا المفھوم يعطي‬
‫راحة لألخوة من ذلك القلق الذي كان يساورھم في السابق من منھجية التمسك بالمثل والقيم والمبادئ‬
‫ومفاھيم التجرد عن المصلحة الخاصة من أجل الثورة والشعب واألھداف‪ .‬ثم يرون غيرھم يقطفون‬
‫الثمار بينما ھم كانوا أكثر من أعطى وجاھد وتفانى في العمل ودفع الدم‪ ،‬وبال مردود على المستوى‬
‫الذاتي‪ .‬أما اآلن فقد أصبح ھذا التفاني له الجزاء األكبر عند رب العالمين ولو لم ينل صاحبه نصيباً‬
‫من الدنيا‪.‬‬

‫لقد أسھمت ھذه المنھجية حين وجدت أرضھا الخصبة في القرآن والسُنة دوراً فعاالً عند التعامل في‬
‫الساحة اإلسالمية من أجل إطالق الجھاد اإلسالمي في فلسطين‪ ،‬فھي من جھة أشعرت اآلخرين‬
‫باالطمئنان أن وراء أبي جسن وحمدي‪ .‬وإخوانھما مشروعا ً في سبيل ﷲ فعالً‪ ،‬وليس مشروعا ً خاصاً‬
‫بھم ليصبحوا طرفا ً أو تنظيما ً مقابالً ينافس على الزعامة والقيادة أو ركوب الموجة‪ .‬فقد كان يھمھم‬
‫أن تُج ّمع القوى واإلمكانات‪ .‬وأن يتقدم كل من يستطيع أن يتقدم مدعوما ً مشجعا ً‪ .‬وراحت التعبئة‬
‫الفكرية تشدد على االبتعاد عن لعبة الفصائل الفلسطينية العلمانية التي وقعت بالفئوية الضيقة‪،‬‬
‫واستخدمت العمليات المسلحة سلما ً لتقوية التنظيم والفئة‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪60‬‬

‫ولكن كان ھنالك دائما ً في الساحة اإلسالمية كما في الساحة الفتحاوية والقومية من ذاتيته أو فئويته‪،‬‬
‫أو سعيه للمكاسب المادية الضيقة‪ ،‬أو الثورة أو السلطة أو النفوذ‪ ،‬ھو المتغلب على الھدف والمبادئ‪،‬‬
‫والقيم‪ ،‬أو على مبدأ "العمل في سبيل ﷲ أو لوجه ﷲ"‪ .‬األمر الذي عرّ ض أبا حسن وحمدي‬
‫وإخوانھما مرة‪ ،‬فمرة‪ ،‬إلى ما كابدوه دائما ً من إغماط لدورھم وانتھابا ً لجھدھم )حتى بعد‬
‫استشھادھما(‪ .‬وھو ما كان يضعھم عند كل تجربة من ھذا النوع أمام خيار إما االنكفاء عن ھذا النھج‬
‫الناجح من ناحية العمل وتحقيق األھداف‪ ،‬والفاشل من ناحية المكاسب الذاتية وإما االستمرار فيه‪،‬‬
‫وھو ما كان يحتاج إلى قوة روحية ھائلة‪ ،‬وبعد نظر ثاقب‪ ،‬حتى يكون مستعداً مرة أخرى لمصير‬
‫مماثل‪ :‬اغماطا ً لدوره‪ ،‬وانتھابا ً‪ .‬لعمله‪.‬‬

‫ولھذا عندما كانت ترتفع بعض األصوات تجأر باالحتجاج على ھذا الجانب من جوانب الخط كان‬
‫جواب أبي حسن وحمدي دائما ً‪: .‬المھم ماذا تحقق على األرض‪ ،‬وفي الواقع‪ ،‬فإذا كان الھدف‬
‫المنشود‪ ،‬على صغره أو كبره‪ ،‬قد تحقق فذلكم ھو المطوب‪ ،‬أما ما عدا ذلك فھو حطام ال تعبأوا به‪،‬‬
‫مھما كان مجحفا ً‪ .‬فواصلوا العمل بھذه الروحية‪ ،‬وال تبحثوا عن مكاسب كما يبحث البعض‪.‬‬

‫في الحقيقة كان ھذا النھج يشكل جوھراً في بنية ذلك التيار وعقليته‪ ،‬وما كان من الممكن ان يتغير‪،‬‬
‫مھما تكررت خيبات األمل‪ ،‬وعال االحتجاج ولو شمل األغلبية‪ .‬ألن تغييره يعني القيام ببناء شيء‬
‫آخر مختلف تماما ً له سماته المختلفة‪.‬‬

‫وبالمناسبة تأثر التيار منذ بداياته بالنظرية األولى التي كانت وراء تجربة المرابطين في المغرب‪ ،‬أي‬
‫فكرة سد الثغور‪ .‬فأينما ُوجد ثغر معرض للھجوم أو السقوط من جانب العدو وكان ينقصه من يذھب‬
‫للوقوف عليه أو لتدعيم الواقفين عليه‪ ،‬يجب أن يصار إلى التوجه ھناك‪ .‬لقد كانت الروح المثالية في‬
‫بداية تشكل حركة المرابطين في المغرب ونھجيتھم في الھجرة إلى الثغور قد أثرت تأثيراً خاصا ً في‬
‫التيار وطبعت جانبا ً ھاما ً من منھجيته‪ .‬وھو مثل آخر على المنھجية األصيلة االستقاللية التي تعاطى‬
‫بھا التيار والتاريخ العربي والنظرية الماركسية في ذلك الحين‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪61‬‬

‫◄<‪«Ù^jÏÖ]<퉅^º<»<íè…çm<…^ÓÊ_»<h^jÒ<Ùçu‬‬
‫إن مراجعة‪ .‬للكتيب الذي صدر باسم سعد وأبو خالد )سعد جرادات‪ ،‬وجورج شفيق عسل( تحت‬
‫عنوان "أفكار ثورية في ممارسة القتال" ليعطي صورة معمقة للمنھجية العملية واألخالقية التي‬
‫حكمت ھذا التيار فقد ُكتبت ھذه الموضوعات على مدى سنتين تقريبا ً وكانت تصدر فرادى بعد كل‬
‫مناسبة موجبة‪ ،‬وبعد أن تكون قد نوقشت على نطاق واسع‪ ،‬لتصبح بعد كتابتھا جزءاً‪ .‬من منھجية‬
‫الخط وأيديولوجيته وسلوكيته‪ .‬ولعل نقالً سريعا ً للعناوين التي حملتھا موضوعات الكتاب ليعطي‬
‫صورة عن جانب ھام من سمات ھذا التيار المنھجية واألخالقية التي تشكل على أساسھا‪ .‬وكانت‬
‫سبب ھاما ً من األسباب التي سمحت له بان يدخل األرض اإلسالمية كأنه يدخل على أرض أليفة‪ ،‬وقد‬
‫وجد فيھا‪ ،‬فيما وجد‪ ،‬األرض الحقيقية التي يجب أن تقف عليھا تلك الموضوعات‪.‬‬

‫ألنھا ھنا‪ ،‬أي فوق األرض اإلسالمية‪ ،‬ستصبح‪ ،‬في أغلبھا‪ ،‬بمثابة التعاليم الربّانية بعد أن كانت شيماً‬
‫وقيما ً ثورية تستند إلى مصلحة الثورة والشعب فقط‪ .‬علما ً أن قيما ً مثل اتباع الصدق واالستقامة وعدم‬
‫الخوف من الموت في سبيل القضية والتزام األخالق الحميدة ستظل من الناحية العملية تجسّد مصلحة‬
‫الثورة واألمة وذلك من خالل األخذ بھا طاعة Œ وطلبا ً لرضوانه‪ ،‬وعمالً في سبيله‪ .‬بل أن ھذا‬
‫لينطبق أيضا ً على القضية الفلسطينية نفسھا إذ ستصبح‪ ،‬فوق تلك األرض جزءاً من العقيدة‪ ،‬وليس‬
‫فقط‪ ،‬قضية وطنية وعروبية وإنسانية‪.‬‬

‫حمل الفصل األول من كتاب "أفكار ثورية في ممارسة القتال" عنوانا ً يقول‪" :‬إعادة صياغة الذات"‪.‬‬
‫وقد عالج الموضوعات التالية ‪:‬‬

‫‪ -1‬ما ھي أفكارنا الحقيقية؟ وكان الجواب ھي ما نعبر عنه في ممارستنا ومسلكنا الفعلي وليس ما‬
‫نقوله وندعيه األمر الذي يتطلب أن يقوم االنسجام بين فكر اإلنسان وممارسته‪ ،‬ويجب أن يحكم على‬
‫المرء من خالل ممارسته أساساً‪ ،‬ال من خالل ما يعلن من أفكار‪.‬‬

‫‪ -2‬ھل يجب أن نغير أنفسنا ونعيد صياغتھا؟ "والجواب بالحرف الواحد‪" :‬الخط السياسي الصحيح‬
‫والخط الفكري الصحيح يضعان مسألة تغيير أنفسنا وإعادة صياغتھا باتجاه الثورة في المقدمة‪ ،‬أي‬
‫التخلص من القشور واألنانية والخوف من الموت والخوف من التضحيات والتحلي بالقيم التي تدمجنا‬
‫بالثورة وتقربنا من الشعب"‪.‬‬

‫‪ -3‬تكريس حياتنا من أجل الشعب والثورة "فالمطلوب التفاني ونكران الذات وعدم االھتمام بالمصالح‬
‫الشخصية والمكاسب الذاتية‪ ،‬أو االلتفات إلى ما يبعدنا عن ھذا التكريس"‪.‬‬

‫‪ -4‬الموقف األخالقي‪" :‬محاربة االتجاھات التي تحتقر األخالق وتعتبرھا قيما ً رجعية‪ ،‬فالثورة ال‬
‫تحل باألخالق الحميدة وجعلھا جزءاً من الصراع ضد العدو"‪.‬‬
‫تقوم بال ٍ‬

‫‪ -5‬الجرأة على النضال ضد األخطاء والنواقص "ضرورة تكريس الجرأة على النضال ضد أنفسنا‪،‬‬
‫وضد أخطائنا‪ ،‬وضد نواقصنا"‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪62‬‬

‫‪ -6‬نقد النواقص والسلبيات واألخطاء "ضرورة إنماء روحية تقويم العمل والتجارب والتشجيع على‬
‫روح النقد بأخوية ونزاھة وحرية وتعميق البحث عن الحقيقة"‪.‬‬

‫‪ -7‬التخلص من العادات السيئة‪" :‬محاربة االتجاه الذي يعتبر أن عاداته يجب أال تتغير ومن ثم علينا‬
‫أن نسعى المتالك القدرة على الحساب العادات األفضل في كل المجاالت"‪.‬‬

‫‪ -8‬لنقض على نزعة التذمر‪" :‬ھنالك نزعة واسعة االنتشار تتسم بالتذمر المستمر من كل شيء‬
‫‪،‬وھدم الرضا بما عندك أو بما أنت عليه‪ ،‬وتجعلك تظھر التأفف من الشعب والناس البسطاء وإلى‬
‫غير ذلك‪ ،‬األمر الذي يقضي بضرورة التخلص من نزعة التذمر فينا"‪ .‬أو في األصح "وإما بنعمة‬
‫ربك فحدث"‪.‬‬

‫‪ -9‬نزعة األستذة والوصاية‪" :‬أبعد عنه نزعة األستذة والوصاية فيما بين صفوف األخوة أو مع‬
‫اآلخرين‪ ،‬فال بد من التواضع مھما امتلكنا من معرفة وتفوق نظري أو فكري أو عملي"‪.‬‬

‫‪ -10‬البحث عن االنسجام المزاجي‪" :‬ھنالك أخوة يميزون فيما بينھم وفي عالقاتھم ببعضھم بعضا ً أو‬
‫باآلخرين وفقا ً للمزاج‪ ،‬بدالً من تغليب روح العمل والتعاون واالنفتاح والصبر"‪.‬‬

‫‪ -11‬لنقض على نزعة االنفالت واالستخفاف بالنظام واالنضباط‪":‬إن الخط الفكري الصحيح ينطلق‬
‫من إعطاء الديمقراطية محتوى يقوم على أساس التمسك بالديمقراطية التي يجب أن تتحلى‪ ،‬إلى‬
‫جانب تحليھا بحرية الفكر والنقد‪ ،‬بقيم االتحاد واالنضباط والنظام والعمل الموحد"‪.‬‬

‫‪ -12‬خطان في مواجھة المسؤولية‪" :‬خط يراه موقعا ً يعطي صاحبه سطوة ونفوذاً ومنافع خاصة‬
‫وامتيازات ومكاسب‪ ،‬وآخر وھو الصحيح يعاملھا باعتبارھا موقعا ً يتيح للمرء أن يقدم خدمة أكبر‬
‫ويضحي أكثر فال يتسلط وال يتجبر وال يتكبر"‪.‬‬

‫‪ -13‬التعلم من األشياء البسيطة وممن ھم دوننا في المسؤولية‪.‬‬

‫‪ -14‬الصدق والصراحة في التعامل فيما بين األخوة )المھم التطبيق والترجمة الصحيحة ولكن يجب‬
‫أن يشحن الصدق والصراحة باألخوة الدافئة والمحبة(‪.‬‬

‫‪ -15‬رفع مستوى التحمل والصبر ومعالجة مشكلة تأخر البديل )البديل المقصود ھنا ھو الذي يجيء‬
‫ليقوم مقام مقاتل آخر في الموقع (‪.‬‬

‫‪ -16‬مراعاة اإلصابة والمرض‪ .‬وقد كتبت ھذه الموضوعة بحق الشھيدين حمدي وعلي أبي طوق‬
‫اللذين غادرا الفراش قبل أن تشفى إصابتھما‪ ،‬األول في صدره والثاني في ساقه‪ ،‬ليعودا إلى الموقع‪) .‬‬
‫فكان المطلوب محاربة نزعة االستھتار بفترة العالج الضرورية ولو كان الدافع ھو العمل والعطاء(‪.‬‬
‫وبالمناسبة لم يتخلص الشھيدان حمدي وعلي أبو طوق وغيرھما‪ ،‬من ھذه النزعة‪ ،‬على الرغم من‬
‫تسليمھما بھا‪ .‬األمر الذي كان يتطلب تشديداً أكبر عليھا‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪63‬‬

‫‪ -17‬نقل الحدث كما ھو دون مبالغة )وقد كتبت من أجل محاربة المبالغة في نقل األخبار واألحداث‬
‫من أجل تعلم الدقة المتنافية لكي يحسن اتخاذ القرارات (‪.‬‬

‫‪ -18‬السالح لقتال العدو ) كتبت ضد نزعة التباھي‪ ،‬في الشوارع أو أمام األھل واألصحاب‪ ،‬بحمل‬
‫السالح وقد سادت ھذه النزعة بعد نيسان ‪ 1975‬في لبنان‪ ،‬كما سبق وسادت قبل أيلول ‪ 1970‬في‬
‫األردن(‪.‬‬

‫‪ -19‬المحافظة على ما في أيدينا ) كتبت ضد نزعة االستھتار في استخدام ما ھو أمالك عامة مثل‬
‫السيارات أو الكتب واألثاث‪..‬والسعي الدائم للصيانة والرعاية(‪.‬‬

‫‪ -20‬التغلب على الصعوبات‪ .‬أي التشرب بروحية مواجھة الصعوبات مھما كبرت‪ ،‬وإذكاء روحية‬
‫اقتحامھا وتذليلھا‪.‬‬

‫‪ -21‬نذھب حيث المھمات أصعب‪" :‬إن األعمال داخل الوضع الواحد متفاوتة من جھة سھولتھا‬
‫وصعوبتھا‪ ،‬فالموقف األفضل ھو أن تختار لنفسك األصعب واألخطر بدالً من أن تختار ما ھو أسھل‬
‫وتترك ألخيك األصعب أو األخطر"‪.‬‬

‫‪ -22‬نقتل ونتحرك بما ھو في أيدينا )كان األخوة يعانون دائما ً من نقص باألسلحة واآلليات‬
‫واإلمكانات وكانت ھنالك محاربة لھم إلى حد جعلھم يستخدمون‪ ،‬في الغالب‪ ،‬أنواعا ً قديمة أو تعبة‪.‬‬
‫األمر الذي كان يثير تذمراً من قبل البعض‪ ،‬وأحيانا يؤدي إلى انسحابھم بسبب ذلك‪ ،‬ولھذا رفع شعار‬
‫يجب علينا أن نستخدم ما ھو متوفر في أيدينا على أحسن وجه‪ ،‬وعدم اشتراط األفضل لكي ننخرط‬
‫في العمل أو نتقنه(‪.‬‬

‫‪ -23‬مواجھة سقوط الشھداء كتبت أثر سقوط عدد من الشھداء الذين ساھموا في تأسيس الخط وقيادته‬
‫وعلى فترات متقاربة مما ّ‬
‫ولد إحساسا ً عند البعض بالتشاؤم واقتراب نھايته‪ ،‬بينما حثت الموضوعة‬
‫على أن الموقف الصحيح ال يكون بالتشاؤم وإنما بأخذ مكانھم ومواصلة طريقھم‪.‬‬

‫أما الفصل الثاني من الكتاب فقد تناول المنھاج والسياسة مركزاً على ‪:‬‬

‫‪ -1‬الخط السياسي والتماسك‪ :‬أكد على أھمية الخط السياسي الصحيح المتماسك وأھمية التحليل‬
‫الصحيح للوضع العام ولميزان القوى مع موقف مبدئي يحمل أكبر درجة من الثبات ‪" :‬إن المبادئ‬
‫ليست شيئا ً مؤجالً‪ ،‬كما أن اإلستراتيجية ليست مسألة بعيدة قائمة بذاتھا ال عالقة لھا بالتكتيك اليومي‪.‬‬
‫فالمبادئ واإلستراتيجية يجب أن تظال حاضرتين في التكتيك دائما ً وفي كل المراحل وفي كل يوم‬
‫"ويترجم ھذا من خالل الخط السياسي الصحيح والخط الفكري الصحيح"‪.‬‬

‫‪ -2‬ليس السالح ھو العامل الحاسم ‪ :‬جاءت رداً على الرأي الذي يعطي األولوية لتوفر السالح والمال‬
‫لكسب األنصار بينما األولوية "يجب أن تبقي‪ ،‬على أھمية السالح واإلمكانات والعدد‪ ،‬للخط السياسي‬
‫الصحيح والخط الفكري الصحيح"‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪64‬‬

‫‪ -3‬ال تستھتر بالعدو تكتيكيا ً‪" :‬إذا كان االنتصار سيكون في النھاية من نصيب األمة فال يجب اعتبار‬
‫نفسك في حالة انتصار اآلن فتستھتر بالعدو وقوته"‪.‬‬

‫‪ -4‬ضد سياسة ھجوم ‪ -‬ھجوم‪ ،‬وتقدم ‪ -‬تقدم‪ :‬وھي رد على نزعة مزايدة تقدس الھجوم والتقدم‬
‫وتريدھما أن يبقيا مستمرين حتى حين تكون ھناك ضرورة للتوقف والتقاط األنفاس أو التخلي حتى‬
‫عن بعض المواقع‪" ،‬الھجوم والدفاع يشكالن وحدة الضدين اللذين يتحول الواحد منھما إلى اآلخر"‪.‬‬

‫‪ -5‬لتنطبق أفكارنا على الواقع‪" :‬وھي ضرورة أن نمسك بالحقيقة كما ھي‪ ،‬وندرك الواقع كما‬
‫ھو‪،‬ونجعل ممارستنا واقعية ‪،‬وخطنا السياسي منطبقا ً على إمكانات الواقع‪ ،‬السيما‪ ،‬في معالجة‬
‫المعضالت والمشاكل والتحديات‪ ،‬أي اكتشاف القوانين األدق في ممارسة المواجھة والعمل"‪.‬‬

‫‪ -6‬حول المساومة‪" :‬وھي موضوعة ترد على االتجاه اليسراوي الذي يرفض سلفا ً كل مساومة مع‬
‫القوى التقليدية أو على مستوى األزمة اللبنانية‪ ،‬بينما يفترض الخط الصحيح أن نعرف متى تُرفض‬
‫المساومة ومتى يُقبل بھا"‪.‬‬

‫‪ -7‬كل صراع متعرج‪ :‬وھي موضوعة ترد على الذين ال يحتملون التراجعات أو االنتكاسات‬
‫ويريدون التقدم دائما ً علما ً أن ما من تقدم يمكن أن يمضي إال عبر خط متعرج يمر عبر النجاح‬
‫واإلخفاق‪ ،‬مرة بعد مرة‪ ،‬كما عبر الظروف المؤاتية والظروف غير المؤاتية‪.‬‬

‫‪ -8‬الظروف المؤاتية‪ ،‬والظروف غير المؤاتية‪ .‬إن كالً من الظروف المؤاتية وغير المؤاتية تتطلبان‬
‫تقديراً صحيحا ً للموقف وحسن إدارة للصراع‪.‬‬

‫‪ -9‬لكل عمل وجه رئيسي‪" :‬إذا كانت كل ظاھرة وكل عمل يتشكل من عدة أوجه وجوانب فإن من‬
‫الخطأ معاملة الجوانب جميعاً كأنھا متساوية وعدم إدراك الرئيس والثانوي فيھا وأن وضع كل‬
‫األوجه والعوامل على قدم المساواة أو محاولة إعطاء كل منھا قدراً مساويا ً لآلخر في المعالجة‪،‬‬
‫يشكل نظرة تسطيحية ويؤدي إلى ممارسة تبسيطية متخبطة"‪.‬‬

‫‪ -10‬الحرب لھا قوانينھا والسياسة لھا قوانينھا‪":‬ضرورة التعامل والحرب وفقا ً لقوانينھا والسياسة‬
‫ووفقا ً لقوانينھا‪ .‬أما الخلط‪ ،‬وإن تشابھت بعض القوانين بينھما‪ ،‬فيؤدي إلى ارتكاب األخطاء الفادحة"‪.‬‬

‫أما الفصل الثالث واألخير فيتناول أساليب العمل والتنظيم مركزاً على ‪:‬‬

‫‪ -1‬العمل األفقي والتركيز‪ :‬وھو دعوة لالھتمام المر ّكز في العمق‪ ،‬بالفرد وإعطائه الوقت الكافي‬
‫وتجنب أسلوب التعبئة العامة السطحية‪ ،‬وھذا ينطبق على عدة مجاالت كذلك أي ضرورة التركيز‬
‫وعدم "الشلفقة"؟ أو األلشقة‪.‬‬

‫‪ -2‬حول االجتماع التنظيمي في فتح‪" :‬وھو ضد نزعة الرتابة والتعامل والموضوع بحرفية وشكلية‬
‫أو كأنه غاية‪ ،‬بينما األصح أن يركن في كل لقاء باعتباره الجسر الذي تعبر النظرية من خالله إلى‬
‫الممارسة ثم تعبر الممارسة من خالله بعد تقويمھا‪ ،‬إلى النظرية‪ .‬أي يجب أن يكون بحثا ً حيا ً في‬
‫السياسة والنظرية والعمل‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪65‬‬

‫‪ -3‬المتابعة وعدم اإلھمال‪" :‬إن المتابعة وعدم اإلھمال ھما جوھر كل عمل جاد ومنظم "وضرورة‬
‫عدم التقليل من أھمية القيام باألعمال الصغيرة والبسيطة"‪.‬‬

‫‪ -4‬الركض وراء الكسب السريع‪ :‬وھي موضوعة ضد الذين يسارعون لالرتقاء أو الكسب السريع‬
‫وجني الثمرات‪" .‬فالخط الفكري الصحيح يتطلب أن يحمله المقاتلون الحقيقيون الذين ال يدعون وال‬
‫يبالغون وال يسعون إلى الكسب الرخيص وإنما يلتزمون بقول الصدق و الحقيقة ويزدادون تواضعاً‬
‫كلما ازدادت مآثرھم واليدخلون المنافسة مع خط الكذب والمبالغة أي بالترويج للنفس والمبالغة‬
‫واالدعاء‪ ،‬وإنما عليھم أن يستمروا في العمل الحقيقي الجاد بكل تواضع ودون ضجيج‪ ،‬وينتظروا في‬
‫صبر انكشاف الحقيقة حتى ولو استغرق ذلك بعض الوقت‪ ،‬ولو عضوا على الجرح طويالً‪ .‬فھم على‬
‫كل حال ال يرجون غير خدمة الشعب وانتصار ثورة الشعب‪ .‬الشعب الذي ھو وحده البطل الحقيقي"‪.‬‬

‫‪ -5‬لكل جواد كبوة ‪ :‬ھي موضوعة لتكريس المحبة بين األخوة ومقاومة روح "االستشفاء" أو روح‬
‫الشماتة باألخ الذي يضعف أو يرتكب خطأ أو يتقاعس‪ .‬فالمطلوب اعتبار ذلك مثل الكبوة واعتبار‬
‫المخطئ‪ ،‬مثل الجواد الذي يجب أن يساعد على النھوض من الكبوة‪.‬‬

‫‪ -6‬لنھتم بالدراسة ‪ :‬تتناول ھذه الموضوعة أن يبقى االھتمام بالسياسة والدراسات النظرية والفكرية‬
‫مستمراً في ظل الفرق في الممارسة‪ .‬وعدم جعل الممارسة سببا ً إلھمال التعلم المستمر والدراسة‬
‫واالطالع‪.‬‬

‫‪ -7‬برامج التثقيف ‪ :‬وھي موضوعة تتطلب أن ترتبط برامج التربية والتثقيف بحاجة الممارسة‬
‫والمھمات التي يطلع بھا األخوة في كل مرحلة إلى جانب برامج التثقيف العامة‪.‬‬

‫‪ -8‬ضرورة إجراء التحقيقات‪ :‬أي ضرورة التعلم أال يؤخذ شيء بال تدقيق وتأكد‪ ،‬سواء أجاء ذلك من‬
‫خصوم أصدقاء‪ ،‬أم من قبل من تحب وتحترم وتثق به‪ .‬كما يجب أال يحكم على ظاھرة أو تعالج قبل‬
‫جمع المعلومات وإجراء التحقيقات الالزمة من أجل الخروج بالرأي الصحيح لمعالجة صحيحة‪.‬‬

‫‪ -9‬كيف نجري التقويم ‪ :‬إذا كان الجميع متفقا ً على موضوعة ضرورة إجراء التقويم فإن اإلشكالية‬
‫تبقى كيف يجري التقويم؟ وبأية منھجية نصل إلى تقويم صحيح‪ .‬أي ضرورة الدراسة الدقيقة للواقع‬
‫والمعطيات أوالً ثم يقوم العمل ثانيا ً‪ .‬فالتقويم بال منھجية صحيحة ينتھي إلى نتائج مخطئة ومضرّة‪.‬‬

‫‪ -10‬توضيح المھمة ‪" :‬لقد تعلمنا من تجربتنا في ھذه الحرب األھلية إن من الخطأ تحريك المناضلين‬
‫والمقاتلين بأسلوب االلتزام وإصدار األوامر‪ ،‬أو بأسلوب التخجيل واإلحراج كذلك‪ .‬إنه من الخطأ‬
‫تكليفھم بمھمة من المھمات دون أن تشرح لھم أھميتھا من الناحيتين السياسية والعسكرية أو دون‬
‫توضيح طبيعتھا وما ينتظرھم في أثناء تنفيذھا"‪.‬‬

‫ھذه خالصة سريعة خاطفة لواحد من النتاج الفكري والنظري الذي أسھم أبو حسن وسعد وأبو خالد‬
‫جورج وحمدي وأبو محمود وعلي أبو طوق ومروان نسيم أبو سعيد فايز وعشرات الشھداء في‬
‫صياغتھا ومعايشة أحداثھا ومناقشاتھا حرفا ً حرفا ً واإلشراف على التعبئة وفقا ً لھا‪ .‬ولعل من يتأمل في‬
‫ھذا النص وعلى الرغم مما في متنه األصلي من منھجية طبقية ماركسية يستطيع أن يلمس عمق‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪66‬‬

‫انغراس منطلقات فتح وتجربتھا الثورية فيه كما ع ّمق انغراس قيم أخالقية دينية فيه كذلك‪ .‬األمر الذي‬
‫يعطي تفسيراً للمسار الذي آل بأھل ھذا التيار في نھاية المطاف إلى التخلي عن الماركسية والوقوف‬
‫على األرض اإلسالمية‪ .‬فالمنھجية الماركسية كانت ھنا تحت تصرف التيار خاضعة للتجربة الواقعية‬
‫ولروح الشعب والثورة والقيم األخالقية والسلوكيات الحميدة ومنھجية البحث الموضوعي العلمي ولم‬
‫يكن خاضعا ً لھا ناقالً لمسلماتھا‪ .‬وكانت ھنالك أسس من الثوابت القيمية واألخالقية في ھذا النص‬
‫تلتقي وما يقول اإلسالم في موضوعاتھا وإن لم ترتكز إلى اإلسالم عند كتابتھا‪ .‬فكان ھذا أيضا ً من‬
‫العوامل التي جعلت الوقوف‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬على األرض اإلسالمية سھالً ميسوراً ال يحتاج إلى معاناة‬
‫للتخلص من مسلكيات وأخالقيات مرذولة حتى يكون باإلمكان التحلي باألخالقيات والمسلكيات‬
‫اإلسالمية‪ .‬فلم يكن ھذا التيار غريبا ً عن قيم الصدق والمبدئية واالستقامة واإلخالص للحقيقة‪ ،‬والوفاء‬
‫بالعھد‪ ،‬والشجاعة في قول الحق‪ ،‬وفي البحث عن الحقيقة‪ .‬فقد كان ھذا التيار بعيداً عن االنتھازية‬
‫السياسية‪ ،‬أو الركض وراء المكاسب الشخصية‪ ،‬أو تعاطي الخمر والزنا والميسر أو عدم البر‬
‫بالوالدين‪ ،‬أو احترام األكبر سنا ً أو رعاية األھل‪ ،‬أو التحلي بالتواضع والكرم وحب التعلم‪ ،‬والغيرة‬
‫على الشعب واألوطان‪ .‬أما اإلشكال الحقيقي في تلك التجربة بالنسبة إلى المعيار اإلسالمي فكان‬
‫يتمثل بالجوانب العقدية والفلسفية والنظرية والفكرية وكل ما له عالقة بالمادية التاريخية والمادية‬
‫الديالكتيكية‪ ،‬واالشتراكية العلمية‪ ،‬والنظرة إلى الغرب والثورة الصناعية وحركات التحرر القومي‪،‬‬
‫والثورة العالمية‪ .‬وھي وال شك خطيرة‪ ،‬وال يمكن االستھانة بھا أو التقليل من شأنھا‪ .‬وأن أمثالھا تمنع‬
‫الكثيرين حتى ھذه اللحظة من االقتراب من اإلسالم‪ .‬ولكن سبق أن أشير إلى أھمية الجانب المنھجي‬
‫عند أبي حسن وحمدي وإخوانھما ودوره في عملية ھذا التحول الكبير‪ .‬فقد اتبع ومنذ البدء‪ ،‬منھجا ً‬
‫وضع الماركسية على محك التجربة والمساءلة على مستوى التجربة العالمية والتاريخية‪ ،‬السيما‬
‫بالنسبة إلى بلدان أسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية‪ ،‬وخصوصا ً التجربة العربية التاريخية‪ .‬وھو الذي‬
‫مھد الطريق إلى النقد وإلى التخلص خطوة فخطوة من مختلف مرتكزات النظرية الماركسية‪ .‬ولم يبدأ‬
‫أبو حسن وحمدي وإخوانھما‪ ،‬كما سبقت اإلشارة إليه‪ ،‬يطرقون باب اإلسالم ليفتح لھم إال بعد أن‬
‫كانوا متحررين تماما ً أو يكادون من ذلك اإلرث‪ .‬وكانوا في طريقھم إلى توليد مرتكزات نظرية‬
‫وفكرية من اجتھادھم‪.‬‬

‫◄ »]‪< <«ìfl†¢]<‚ߊi<Ö]<ìç’£‬‬
‫وجدت الموضوعة النظرية‪ ،‬سالفة الذكر‪ ،‬في منھج التيار حول "العامل المساعد" الذي يدخل التفاعل‬
‫ويكون شرطا ً أساسيا ً لحدوثه لكنه ال يصبح طرفا ً فيه‪ ،‬تدعيه ‪ -‬موازيا ً لھا ومتكامالً وإياھا‪ ،‬من خالل‬
‫مقولة أخرى تقول "يمكن للحصوة أن تسند الخابية" أي يمكن للحصوة على صغرھا‪ ،‬إذا وضعت في‬
‫النقطة المناسبة أن تحمي الجرة على كبرھا من التدحرج والتحطم‪ .‬فلماذا ال يكون دور التيار دور‬
‫الحصوة دون أن يكون ھو الجرة‪ ،‬أو يطمح أن يكونھا‪ ،‬فالجرة )الثورة ‪-‬عملية التغيير‪-‬حركة‬
‫اإلصالح‪-‬مسيرة النھضة( موجودة ضمن المعادلة على الساحة‪ ،‬أو ضمن محصلة المعادلة؟ وكان‬
‫ھذا يشترط بسبب المحدودية في حجمه والكبر في فعله أن يحسن اختيار النقطة المناسبة أو الموقع‬
‫المناسب الذي تضع الحصوة فيه نفسھا‪ .‬وھنا كانت إشكالية حسن تقدير الموقف وتحديد مركز الثقل‬
‫في المواجھة والتجرؤ على الوجود فيه يشكل الشرط األساسي بالنسبة إلى نجاح ھذا المنھاج وفعاليته‪.‬‬
‫ولھذا فإن من يراجع سيرة ھذا التيار فسيجده قد سعى دائما َ إلى أن يكون حصوة في الموقع المناسب‪،‬‬
‫ففي أيار‪ 1973‬كان أبو حسن يقود في موقع الجامعة العربية أو "دوار الكوال" حيث تصدى ھو‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪67‬‬

‫وزميل أخر له )غيفارا( ألول دبابة تقدمت من دوار الكوال باتجاه الجامعة العربية وكان من ورائھا‬
‫رتل من الدبابات يتبعھا‪.‬‬

‫وقد أوقف الھجوم مع تحطمھا‪ .‬فكانت تلك النقطة‪ ،‬إلى جانب غيرھا من الجھود في تلك األزمة‪،‬‬
‫حاسمة في إنھائھا وفي المساھمة في حماية الثورة‪ .‬وكان موقع أبي حسن وسعد في البرجاوي في‬
‫المنتصف الثاني من عام ‪ 1975‬عامالً ھاما ً إلى جانب مواقع أخرى في تماسك جبھة بيروت‬
‫وصمودھا‪ ،‬السيما أمام شبح ما حدث في منطقة عين الرمانة وفي منطقة النبعة والكرنتينا‪ .‬وكان‬
‫الصعود بعد ذلك إلى الجبل فصنين يھدف إلى حماية تل الزعتر من التصفية‪ .‬وھنا يجب أن تذكر‬
‫دماء الشھداء سعد وأبي خالد )جورج عسل( وحسن ومحمود الحسنية ونسيم أبو سعيد وزھير‬
‫العنداري ومحمد شبارو وطوني النمس وأحمد وجمال القرى وحماد حيدر وأيمن أبو عبدﷲ‪،‬‬
‫وحسنين‪ ،‬وحرب جمجوم الذين ما استشھدوا إال بھدف وقف المجازر والتصفية والتطھير الطائفي‬
‫للمناطق‪ ،‬وكان الھدف فتح جبھة أو ممارسة الضغط إلنقاذ مخيم تل الزعتر من اإلبادة كما حدث في‬
‫الكارنتينا والنبعة ومخيم ضبية فكان ھذا ھو الھدف بالنسبة إلى موقف التيار من الوجود في الجبل‬
‫وصنين‪ 10‬وقد نجح ھذا الضغط جزئيا ً في تدعيم صمود تل الزعتر‪ ،‬ولكن كان األفق السياسي المكمل‬
‫مسدوداً أو محبطا ً بسبب قرار العزل والتأزيم غير المتوازن مع سوريا ويجدر أن يذكر ھنا الدور‬
‫االستثنائي الذي لعبه أبو وجيه أمين العنداري في اختراق الحصار ليليا ً عبر طريق في الجبل‬
‫والوادي من العبادية إلى تل الزعتر‪ ،.‬كان يتسم بصعوبة ما كان ألحد أن يجتازھا إال تحت قيادته‬
‫الفذة‪ ،‬وقد استشھد بعد ذلك بسنتين في حرب ‪ 1978‬في معركة مارون الراس ببنت جبيل‪ ،‬وقد أبلى‬
‫بھا خير بالء‪.‬‬

‫وبالمناسبة ال بد من أن يشار ھنا إلى واقعة كادت تحدث أزمة عميقة داخل فتح وذلك حين كان قائد‬
‫المجموعة التي أفرزتھا السرية الطالبية للمساھمة مع القوات الفلسطينية اللبنانية المشتركة لفتح‬
‫طريق الدامور‪ ،‬وذلك ألھميته الحاسمة في ربط بيروت بخطوط التماس في الجنوب‪ .‬وھو الشھيد أبو‬
‫الراتب )اسماعيل خضر( الذي انسحب من القتال بمجموعته التي كانت من أوائل مقتحمي الخط‬
‫األمامي‪ ،‬احتجاجا ً على قتل األسرى‪ ،‬بما في ذلك األطفال والنساء‪ ،‬وأبلغ القيادة الميدانية أنه‬
‫سينسحب إذا لم تعط أوامر صارمة بوقف قتل األسرى ال سيما من النساء واألطفال والمسنين والعزل‬
‫من السالح‪ .‬فعاد بمجموعته إلى بيروت على الرغم من تھديده بتقديمه ومجموعته لمحاكمة عسكرية‬
‫ميدانية‪ .‬فاتخذ الشھيد سعد جرادات موقفا ً حاسما ً في دعمه‪ ،‬وفي االحتجاج على انتھاج سياسة شبيھة‬
‫بسياسة القوات اللبنانية المارونية في التطھير وقتل المدنيين واألسرى‪ .‬وكان التيار في ذلك مستعداً‬
‫للمضي في ھذا الصراع الداخلي إلى أبعد مدى ومھما كلف األمر‪ .‬ولكن الموضوع لفلف‪ .‬وعلق‬
‫الشھيد أبو أياد لسعد "إنكم بالرغم من خالفي معكم وربما كرھي لكم أقول أنكم تعبرون بھذا عن‬
‫ضمير فتح"‪.‬‬

‫كان أبو حسن ومروان كيالي وعلي أبو طوق وبقية شباب السرية من لبنانيين وفلسطينيين على‬
‫مشارف عالية بعد أربعة أيام من القتال في منطقة بحمدون حين أعلن عن اتفاق الرياض بين سوريا‬
‫ومنظمة التحرير الفلسطينية‪ .‬فما كان منھم إال أن تنفسوا الصعداء خالصا ً من ورطة ھذا الصراع‬

‫)‪ (10‬ﻜﺎﻥ ﺍﻝﺘﺄﻜﻴﺩ ﻋﻠﻰ ﻫﺫﺍ ﺍﻝﻬﺩﻑ ﻭﺤﺼﺭ ﺍﻝﻭﺠﻭﺩ ﻓﻲ ﺍﻝﺠﺒل ﻋﻠﻰ ﺘﺤﻘﻴﻘﻪ‪ ،‬ﻤﺜﺎﺭﹰﺍ ﻝﺼﺭﺍﻋﺎﺕ ﺩﺍﺨﻠﻴﺔ ﺸﺩﻴﺩﺓ‪ ،‬ﻭﻤﺩﻋﺎﺓ ﻹﻝﻘﺎﺀ ﺍﻝﺘﻬﻡ ﺠﺯﺍﻓـ ﹰﺎ‬
‫ﻋﻠﻰ ﺨﻁ ﺃﺒﻲ ﺤﺴﻥ ﻭﺇﺨﻭﺍﻨﻪ ﺍﻝﺫﻴﻥ ﺭﺩﻭﺍ ﺒﺤﺯﻡ ﻭﻭﻗﻔﻭﺍ ﻓﻲ ﻭﺠﻪ ﺍﻝﺸﻌﺎﺭﺍﺕ ﺍﻝﻌﺎﺘﻴﺔ ﺒﺼﺩﻭﺭﻫﻡ ﻭﺩﻤﺎﺌﻬﻡ ﻭﺜﺒﺎﺘﻬﻡ ﺍﻝﺸﺠﺎﻉ ﻓـﻲ ﺍﻝﻤﻌـﺎﺭﻙ‪،‬‬
‫ﻭﺍﻝﻭﺍﻗﻊ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪68‬‬

‫الجانبي الذي ألحق ابلغ األضرار السياسية والمعنوية ناھيك عن المادية والبشرية‪ ،‬بأطرافه كافة‪ .‬كما‬
‫رحبوا أشد ترحيب منذ اللحظة األولى باالتفاق بينما تعالت أصوات تقدميي فتح ونظرائھم اللبنانيين‬
‫بإدانته‪ ،‬والبعض راح يھاجم مبادرة السرية الطالبية بالتحرك فوراً بعد إعالن اتفاق الرياض‪ ،‬نحو‬
‫الجنوب‪ .‬وكان الجنوب في ذلك الوقت يتساقط أمام قوات لحد ‪ -‬سعد حداد المدعوم من العدو‬
‫اإلسرائيلي‪ .‬وبالفعل لقد تحركت السرية الطالبية حتى قبل أن يصار إلى تثبيت وقف إطالق النار بين‬
‫السوريين والقوات الفلسطينية ‪ -‬اللبنانية باتجاه بنت جبيل التي كانت قد تلقت إنذاراً باحتاللھا من قبل‬
‫قوات لحد ‪ -‬سعد حداد وقد أثار ذلك لغطا ً حول تركھم للمواقع في تلك الفترة الحرجة بل اتھمھم‬
‫البعض بأن ثمة مؤامرة على الشباب الجيد والثوري في السرية الطالبية لقتلھم "بين مطرقة‬
‫اإلسرائيليين وسندان السوريين" بالحرف الواحد‪ .‬ولكنھم كانوا بتقديرھم للموقف وحسابھم للمعادلة‬
‫في تلك اللحظة الحرجة قد حسموا بأن تلك مرحلة انتھت وبدأت مرحلة المواجھة في الجنوب‪ .‬ھذا‬
‫فضالً عن أن خيار المواجھة في الجنوب أمام زحف القوات اإلسرائيلية كان دائما ً صحيحا ً بل‬
‫األصح‪.‬‬

‫ولكن تلك الزوبعة سرعان ما تبخرت من داخل فتح وخارجھا ضد أبي حسن وإخوانه بعد أن ثبت‬
‫فعالً أن تلك المرحلة من الحرب قد انتھت وبدأت مرحلة جديدة‪ ،‬السيما بعد أن تكرست اتفاقات‬
‫الرياض باتفاق القاھرة الذي جاء ضمن الخطوط نفسھا‪.‬‬

‫كان استقرار السرية في بنت جبيل وتلة شلعبون في ذلك الوقت قد لبى عدة حاجات‪ .‬األول كان‬
‫الوقوف في الموقع الصحيح والمنسجم مع الخط من أساساته‪ .‬والثاني‪ ،‬الحاجة التي أصبحت ملحة إلى‬
‫وقف زحف قوات لحد ‪ -‬سعد حداد‪ .‬والثالث تطور وضع السرية‪ ،‬على الرغم من نزيفھا المستمر‪،‬‬
‫والذي أسقط درراً من تاجھا‪ ،‬إلى كتيبة فكأنما كان ﷲ يبارك لھا ويزيدھا قوة وعدداً‪ ،‬واألھم رسخت‬
‫في أرض الجنوب‪ ،‬وأصبحت جزءاً من تاريخه حتى حرب حزيران ‪.1982‬‬

‫كان الوجود في ذلك الموقع المناسب والمستند إلى خط سياسي صحيح قد سمح للسرية الطالبية بأن‬
‫تتحول إلى ھيبة محترفة ضمت إلى قوات العاصفة‪ ،‬وكانت في الواقع‪ ،‬شأنھا شأن تكوين ھذا التيار‬
‫من بداياته‪ ،‬لبنانية ‪ -‬فلسطينية في كوادرھا القائدة وقواعدھا‪ .‬ھذا دون ذكر عشرات ومئات من‬
‫المتطوعين العرب وغير العرب الذين كانوا قد شاركوا إخوانھم من خاللھا شرف القتال ضد العدو‬
‫الصھيوني‪.‬‬

‫ويجب أن يسجل ھنا أن ھذا التيار أضاف إلى قوات العاصفة في الجنوب كتيبة انحدرت من الطالب‬
‫وخريجي الجامعات أساساً‪ ،‬في الوقت الذي كانت تلك القوات تعاني من نزيف معاكس في ترك‬
‫المواقع القتالية في الجنوب‪ .‬وبدالً من أن يرى ھذا الخط إيجابيا ً يعطي وال يأخذ‪ .‬ويزيد من قوى فتح‬
‫وال ينقص منھا أو يخذلھا ظل مالحقا ً بالتشكيك والتضييق عليه‪ .‬وكثيراً ما واجھت كتيبة الجرمق‬
‫تقتيراً باإلمكانات المادية وأحيانا ً حتى بالخبز والتموين‪ .‬ويجب أن يذكر بھذه المناسبة للشھيد جواد‬
‫أبي الشعر الذي كان قائد األوسط في الجنوب ثم كان قائد الميليشيا في بيروت أنه تعاطف والسرية‬
‫الطالبية وھرب لھا الكثير من قطع السالح‪ .‬وقد كان يمثل بدوره اتجاھا ً فتحاويا ً آخر سليم الطوية‬
‫فعاالً‪.‬‬

‫ولعل أول مواجھة ثبتت أركان الكتيبة في بنت جبيل كانت معركة تلة شلعبون ضد قوات الجيب‬
‫العميل ثم معركة مارون الراس ضد العدو الصھيوني فقد سطرت في ھاتين المعركتين مآثر مشھودا ً‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪69‬‬

‫لھا من أھل المنطقة ومن بعض تعليقات صحف العدو‪ .‬وأصبحت تلك "الحصوة" بعد ھاتين‬
‫المعركتين مھابة سواء أكان ذلك من قوات الجيب العميل أم القوات اإلسرائيلية‪ .‬ولعل السياسات‬
‫والمسلكية التي مارستھا الكتيبة مع األھالي من حولھا‪ ،‬في بنت جبيل نفسھا جعلتھا تحاط بالحب‬
‫واالحترام حتى من أوساط كانت دائما ً ناقمة على المقاومة الفلسطينية أو كانت متألمة منھا‪ .‬فالكتيبة‬
‫وھي تتبنى في نھجھا خط احترام الجماھير‪ ،‬والدفاع عنھا ومساعدتھا‪ ،‬وعدم التحول إلى ثقل عليھا‪،‬‬
‫نمت في صفوفھا روح احترام الصالة والصيام في رمضان‪ ،‬واحترام تقاليد الناس فيما يتعلق‬
‫باألخالق والنظرة إلى المرأة والرجال المسنين‪ .‬ويكفي شھادة على ذلك أن البعض في الجنوب سمى‬
‫كوادرھا "بالحسينيين"‪ ،‬وكانت التسمية الفتة للنظر بالنسبة إلى فكر كان يتشرب من الماركسية‬
‫والتجارب العالمية أكثر من التجربة اإلسالمية التاريخية‪ .‬ولم تفھم ھذه الشھادة بعمقھا وأبعادھا إال‬
‫فيما بعد‪ ،‬وبأنھا فعالً تستحق من كتيبة الجرمق أن تعتز بھا‪.‬‬

‫كان التحرك السريع من الجبل وأخذ المواقع في منطقة بنت جبيل )في أقل من ‪ 12‬ساعة( قد أربك‬
‫خطة سعد حداد وأوقف امتداد الشريط الحدودي‪ ،‬ال سيما بعد أن تلقى ھزيمة قاسية في معركة تلة‬
‫شلعبون‪ .‬األمر الذي أبقى الجيب العميل مشطوراً إلى قسمين ‪ :‬رقعة مرجعيون من جھة وعين ابل‬
‫ورميش من جھة ثانية‪ .‬وأدى لحاق قوات الثورة الفلسطينية بعد ذلك من الجبل وبيروت إلى الجنوب‬
‫بعد اتفاق شتورة إلى نشوء وضع جديد تمثل بوجود رقعتين تحت سيطرة قوات سعد حداد )الجيب‬
‫العميل( ويقابلھا مناطق واسعة تموضعت فيھا قوات الثورة الفلسطينية‪) ،‬كانت ھنالك مشاركة لبنانية‬
‫بدأت تتسع بعد إغالق ملف الجبل(‪.‬‬

‫وقد نشأ إلى جانب خطي المواجھة‪ ،‬حالة رمادية تمثلت بوجود مجموعة من القرى الحدودية‪ ،‬في‬
‫وضع حيادي "أرض حرام" ال تتمركز فيھا قوات الثورة‪ ،‬وال قوات سعد حداد‪ ،‬أو القوات‬
‫اإلسرائيلية وقد اشتھرت من بينھا قرى مارون الراس وميس الجبل وحوال وعيترون وغيرھا‪.‬‬

‫لقد أصبحت ھذه القرى الحدودية ‪ -‬الحيادية "األرض الحرام"‪ ،‬في تلك المرحلة‪ ،‬نقطة الصراع‬
‫المركزية في محاولة كل طرف الجتذاب أھلھا إليه‪ .‬األمر الذي ولد صراعا ً حاداً بين خطين داخل‬
‫الثورة الفلسطينية )القوات‪ .‬المشتركة الفلسطينية ‪ -‬اللبنانية(‪ .‬إزاء التعامل وھذه الحالة الجديدة‬
‫والمعقدة‪.‬‬

‫تجسد الخط األول بالسياسات التي اتبعتھا السرية الطالبية والتي أصبحت اآلن كتيبة الجرمق‪ .‬وقد‬
‫رمى إلى العمل على تعزيز وحدة األھالي داخل ھذه القرى ‪ -‬وحدة العائالت والقوى المتنفذة إلى‬
‫جانب الشباب المسيس‪ ،‬ومن ثم التصدي لمحاوالت سعد حداد لدخولھا تصديا ً يعتمد على النضال‬
‫الجماھيري الواسع المستند إلى إجماع داخلي‪ .‬وقد افترض ھذا الخط أن تعمل قوات الثورة من‬
‫الناحية السياسية واالجتماعية والتعبوية على تشجيع ھذا التوجه ودعمه‪ ،‬في حين يجب أن يكثف‬
‫االستعداد العسكري لمواجھة قوات سعد حداد أو قوات العدو الصھيوني إذا ما حاولت احتاللھا بالقوة‪.‬‬
‫وسيكون الموقف الجماھيري العام‪ ،‬في ھذه الحالة‪ ،‬إلى جانب قوات الثورة ضد الطرف المعتدي‬
‫الذي خرق حيادھا وأمنھا‪ .‬وقد شھدت بالفعل‪ ،‬قرى الجنوب إشكاال ھامة من المقاومة الشعبية‬
‫الالعنفية تمثل في اعتصام األھالي بمنازلھم أو في مساجدھم وحسينياتھم حين كانت القوات‬
‫اإلسرائيلية أو قوات سعد حداد تدخل تلك القرى‪ .‬فتواجه برفض التعاون وإياھا بل حتى رفض‬
‫الحديث معھم‪ .‬وقد فقد العدو نتيجة ذلك ورقة ھامة‪ ،‬وھي اإلفادة من تقسيم الصفوف الداخلية‪ ،‬كما‬
‫سمح لقوات الجرمق‪ ،‬بفضل صحة الخط السياسي وحسن المسلك والتصرف بأن تحقق في منطقتھا‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪70‬‬

‫تفوقا ً سياسيا ً ملموسا ً عليه‪ .‬األمر الذي اضطره في نھاية المطاف إلى احتالل مارون الراس عسكرياً‪،‬‬
‫وھي قرية مرتفعة ذات موقع استراتيجي بالنسبة إلى كل من جنوبي لبنان وشمالي فلسطين‪ ،‬وكان‬
‫يشرف على بنت جبيل ويمسك بخناقھا‪.‬‬

‫وقد فوجئ العدو بتسلل وحدات من الجرمق وراء خطوطه في القرية مع بدء ھجوم على عدة نقاط‬
‫في الواجھة‪ .‬األمر الذي أوقعه في ارتباك فمن جھة لم يتوقع الھجوم ومن جھة لم يتوقع التسلل الذي‬
‫راح يشتبك من الداخل وراء الخط األمامي‪ ،‬فاضطر إلى االنسحاب وقد ترك وراءه أسلحة وآليات‬
‫وجثثا ً‪ .‬وازداد إرباكه حين اكتشف أن قوات الجرمق انسحبت من القرية فوراً للمحافظة على حيادھا‬
‫كما كان يرغب أھلوھا الذين أسدوا لھا في تلك المعركة عدة خدمات أساسية‪ ،‬والبعض شارك كذلك‪.‬‬
‫فقد كانت إعادة احتاللھا من قبل قوات العدو تشكل إحراجا ً سياسيا ً شديداً وتبطل كل التعبئة التي كانت‬
‫تنشر في الجنوب لتحريض األھالي على قوات الثورة الفلسطينية‪ ،‬أما الخط الثاني‪ ،‬والذي حوصر‬
‫سياسيا ً من قبل كتيبة الجرمق في منطقة بنت جبيل والمنطقة الرمادية حولھا‪ ،‬فكان يتبع سياسات في‬
‫تلك القرى ترمي إلى سيطرة الشباب الحزبي من جبھة األحزاب والقوى التقدمية على القرى‬
‫واالصطدام بالقيادات التقليدية والوجھاء والعلماء‪ .‬ولم يكن بعيداً عن استخدام عضالته في تحقيق ذلك‬
‫من خالل التسلل بالسالح إلى تلك القرى‪ .‬مما كان يولد استفزازاً واحتكاكا ً داخليا ً باستثارة بعض‬
‫الحزازات القديمة أو إلقاء التھم جزافا ً على ھذا وذاك من الوجھاء‪ ،‬وكانت ھذه التصرفات غير‬
‫حكيمة حتى لو كان في التھمة بعض الصحة‪ .‬ألن طرح خط صحيح يحرج حتى المتواطئين أما‬
‫االتھامات فقد تستفز عائالتھم للدفاع عنھم‪.‬‬

‫لقد كانت حجة ھذا الخط تستند إلى ضرورة سيطرة القوات المشتركة عسكريا ً على تلك القرى وعدم‬
‫تركھا لقمة سائغة للعدو‪ .‬وقد تصدت كتيبة الجرمق لھذا الخط واعتبرته فقيراً أو سطحيا ً في تقدير‬
‫الموقف العسكري والسياسي وفي جس نبض الناس‪ .‬األمر الذي يضع الحب في طاحونة العدو من‬
‫حيث يظن أنه األشد ثورية في مواجھته‪.‬‬

‫أما من جھة أخرى فقد كان الخط السياسي والمسلكي الذي طبق بالنسبة إلى المناطق الرمادية جزءاً‬
‫من خط أشمل طبقته كتيبة الجرمق في الجنوب عموماً‪ ،‬فھا ھنا‪ ،‬أيضا‪ ،‬تد ّعم المسلك الحسن مع‬
‫الجماھير بالموقف السياسي الذي انحاز إلى جانب األھالي والعلماء وحركة أمل أمام محاولة سيطرة‬
‫القوات اللبنانية ‪ -‬الفلسطينية المشتركة التقدمية على قرى الجنوب‪ .‬فكانت الكتيبة ملجأ ومصدر حماية‬
‫ضد التسلط‪ .‬وكانت رادعاً‪ ،‬إن لم تكن شاھداً على سياسة مخطئة كان يراد لھا أن تمرر بصمت‪.‬‬
‫وھكذا‪ ،‬تج ّمع في الكتيبة أربع مزايا في آن واحد خط سياسي صحيح‪ ،‬وقوة شكيمة وذكاء في القتال‬
‫ضد العدو‪ ،‬وحسن مسلك ومعاملة في العالقة بالناس‪ ،‬ووقوف شجاع ضد سياسة بعض االتجاھات‬
‫اللبنانية والفلسطينية التي حاولت السيطرة بالقوة على الجنوب دون سند شعبي‪.‬‬

‫لقد اعتبرت معركة مارون الراس في ‪ 2‬آذار )مارس( ‪ 1978‬واحدة من األسباب التي دفعت العدو‬
‫الرتكاب مغامرة حرب ‪ 1978‬لتلعب الكتيبة دوراً ملموسا ً امتد عبر تكتيك قتالي تراجعي من مارون‬
‫الراس حتى نھر الليطاني‪ .‬وقد استطاعت أن تحافظ على مجموعات استمرت في القتال وراء صفوف‬
‫العدو‪ ،‬وتمكنت أن تعود وتالم صفوفھا‪ ،‬بسرعة‪ ،‬لتأخذ موقعھا في الجنوب ھذه المرة في قلعة‬
‫الشقيف وما حولھا‪ .‬وإذا كانت قد قامت ما يزيد على أربعين شھيداً ما بين خريف ‪ 1976‬وخريف‬
‫‪ 1978‬فال بد من أن يذكر‪ ،‬بصورة خاصة‪ ،‬استشھاد أبي خالد الشحيمي وأبي وجيه العنداري في‬
‫معارك تلة شلعبون ومارون الراس وذلك للدور الھام الذي لعباه‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪71‬‬

‫إذا كان التموضع في بنت جبيل ومحيطھا مركزاً ونقطة ثقل في المواجھة ضد العدو والجيب العميل‬
‫في المرحلة ما قبل اجتياح الجنوب من قبل جيش العدو عام ‪ ، 1978‬فقد أصبحت النبطية ومحيطھا‬
‫مركز ثقل ھام بعد ذلك‪ ،‬حتى معركة االجتياح الثاني في حزيران ‪ ، 1982‬حيث دارت فيھا معارك‬
‫مشھورة كانت أخرھا وأھمھا معركة الشقيف التي استشھد قائدھا الشھيد راسم وزميله الشجاع عبد‬
‫القادر "اليمني"‪ 11‬وعدد آخر من الخيرة‪ .‬وبالمناسبة كان علي أبو طوق في الحقيقة ھو بطل تحصين‬
‫قلعة الشقيف وقد جعلھا قادرة على استقبال حرب ‪ 1982‬بكل تلك الجدارة‪ .‬فقد كان الشھيد على أبو‬
‫طوق عالي الھمة في أمور التحصين والتدريب وكل ما له عالقة بالعمل الشاق والمضني‪ ،‬فضالً عن‬
‫علو ھمته في رعاية إخوانه وخدمتھم ليل نھار‪ ،‬إلى جانب شجاعته الفائقة وذكائه الحاد وتصميمه‬
‫الحازم في القتال‪.‬‬

‫لقد تجمع في كتيبة الجرمق ثلة من الكوادر السياسية والمتمكنة نظريا ً ومنھجياً‪ ،‬وقد اكتسبت‪ ،‬عبر‬
‫القتال والدراسة وتقويم التجارب‪ ،‬المھارة التكتيكية والقدرة على التحصين والتخطيط والتمويه‬
‫وامتالك روح المبادرة ومفاجأة العدو‪ ،‬وقد أضافت كل ذلك إلى ما تحلت به من سمات الذكاء‬
‫والشجاعة والمبدئية ونكران الذات وحب الجماھير‪.‬‬

‫ويكفي أن ترى واحدة من ثمرات ذلك في معركة الشقيف التي‪ ،‬وبشھادة عدد من القيادات العسكرية‬
‫في لواء الغوالني‪ ،‬كانت من أقسى المواجھات التي مني بھا المھاجمون بأكثر من محاولة فاشلة‪،‬‬
‫وعل الرغم من قصفھا بالطيران قصفا ً عنيفا ً يفقد الدفاع توازنه أو يزعزع وذلك بفضل ما بذل من‬
‫جھد في التحصين والتمويه‪ .‬ولم يتحقق احتاللھا إال بعد خسائر جسيمة في مقدمتھا مقتل قائد الھجوم‬
‫نفسه الرائد غيورا ھيرمك المشھور )بغوني( وقد اقتحمھا بالمشاة من قوات الصاعقة المميزة من‬
‫لواء غوالني بعد أن فشل اقتحامھا باآلليات مرة فمرة‪.12‬‬

‫يلحظ‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬من كل ھذا المسار أھمية الدور الذي لعبه ھذا التيار حين طبق منھجية "العامل‬
‫المساعد"‪" ،‬ونظرية" الحصوة التي تسند الخابية تطبيقاً سليما ً كان شرطه األول‪ ،‬بعد سمة نكران‬
‫الذات‪ ،‬القدرة على التحرك على ھدي تقدير صحيح للموقف وفقا ً لكل وضع وحالة‪.‬‬

‫◄<]‪< <í×j]<š…ù]<î×Â<ˆéÒÖ‬‬
‫يجب أن يلحظ أن متابعة العمل في األرض المحتلة طوال فترة النصف الثاني من السبعينات بقي‬
‫متناوبا ً‪ .‬عليه بين أبي حسن وحمدي كما كانا يتناوبان الوجود في لبنان إلى جانب السرية الطالبية ثم‬
‫الكتيبة‪ .‬فالبوصلة كانت تؤشر دائما ً إلى فلسطين وإلى‪ ،‬قتال العدو الصھيوني‪.‬‬

‫ولعل سجل العمليات في ملفات العدو اإلسرائيلي‪ ،‬والتي قام بھا القطاع الغربي في فتح خالل تلك‬
‫الفترة يحمك نصيبا ً مرموقا ً يحسب على أبي حسن وحمدي أول ما اشتھر بلجنة ‪ .77‬أما العملية‬
‫الكبرى التي كانا على رأسھا وكانت نتاج‪ ،‬توجه جديد في العمل وھو إدخال كوادر إلى الداخل ال‬

‫)‪ (11‬ھو ﻤﻥ ﺍﻝﻴﻤﻥ ﻭﻝﻡ ﻴﻜﺸﻑ ﻋﻥ ﺍﺴﻤﻪ ﺍﻝﻜﺎﻤل ﻓﻠﻘﺏ"ﺒﺎﻝﻴﻤﻨﻲ"‬


‫)‪ (12‬ﺫﻜﺭﺕ ﻫﺫﻩ ﺍﻝﻤﻌﺭﻜﺔ ﻓﺭ ﻜﺘﺎﺏ"ﺍﻝﻬﺠﻭﻡ ﺍﻝﻤﻔﺎﺠﺊ" _ "ﺍﻝﻀﺭﺒﺎﺕ ﺍﻝﺼﺎﻋﻘﺔ ﻝﻘﻭﺍﺕ ﺍﻝﻨﺨﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻝﻌﺎﻝﻡ"‪ – .‬ﺘﺄﻝﻴﻑ ﺒﻴﺘﺭ ﺩﺍﺭﻤـﺎﻥ _ ﺒـﺭﺍﻭﻥ‬
‫ﺒﻭﻜﺱ ﻝﻴﻤﺘﺩ ‪ -‬ﻝﻨﺩﻥ ‪) .1993‬ﻭﻗﺩ ﺠﻤﻊ ﻓﻴﻪ ﻨﺨﺒﺔ ﺍﻝﻌﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﻝﻤﺸﺎﺒﻬﺔ ﺨﻼل ﺍﻝﻘﺭﻥ ﺍﻝﻌﺸﺭﻴﻥ(‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪72‬‬

‫للقيام بعملية محددة على الشريط الحدودي وإنما للتمركز في الجبال‪ ،‬وبدء العمل من خالل الوجود‬
‫المتمركز ذاك‪.‬‬

‫كان الدافع وراء ھذا التفكير الجديد ھو االنحسار الذي شل العمل العسكري في الداخل في النصف‬
‫الثاني من السبعينات‪ .‬وكان لھذا االنحسار أسباب كثيرة‪ ،‬منھا إعطاء قيادة الثورة األولوية للوجود في‬
‫لبنان‪ .‬وقد وصل األمر في بعض المراحل‪ ،‬أن يستخدم القطاع الغربي بأغلبيته‪ ،‬للمشاركة في الحرب‬
‫األھلية‪ .‬كما أن البرنامج المرحلي راح يعطي أھمية متزايدة للعمل السياسي والوجود السياسي في‬
‫الداخل‪ .‬ويجب أن يضاف إلى ذلك االفتقار إلى كوادر قيادية مجربة في الداخل الستقطاب العناصر‬
‫الشابة وتدريبھا والتخطيط لعمليات كبيرة‪ ،‬فقد كان العمر النضالي للكادر العسكري في األرض‬
‫المحتلة قصيراً نسبيا ً ليودع بعده في السجن المؤبد أو ألمد طويل من السنين‪ .‬ومن ھنا وصل أبو‬
‫حسن وحمدي إلى رأي يقول ال يمكن أن يصعّد العمل العسكري أو يرتفع إلى مستوى أرقى ما لم‬
‫تزرع في الجبال كوادر قيادية مجربة‪ .‬ويعطى تنظيم الداخل أھمية مركزية ال تسمح للوضع في لبنان‬
‫بأن يطغى عليه‪ .‬كما أن النجاح في زرع تلك األنوية في الجبال‪ ،‬أو في المدن إن أمكن فيما بعد‪،‬‬
‫يحتاج إلى خاليا تنظيمية قادرة على تأمين سلسلة من الخدمات لھا إلى جانب مشاركتھا المباشرة‪.‬‬
‫وكان ذلك يتطلب منھما تعبئة خاصة صبورة للكوادر فضالً عن تجاوز صعوبات ال حد لھا في‬
‫العبور من األردن إلى الداخل عبر النھر الذي أصبح اجتيازه صعبا ً جداً السيما تخطي منطقة "كشف‬
‫األثر" المحاذية للسلك الشائك‪ ،‬والتي تقع تحت مراقبة الدوريات العسكرية اإلسرائيلية المستمرة لي ً‬
‫ال‬
‫نھاراً‪ .‬وقد استطاعا خالل العام ‪ 1979 / 1978‬أن يدفعا بمجموعتين إحداھما نجحت نجاحا ً باھراً إذ‬
‫استمرت حوالي السنة في جبال الخليل وأنتجت عملية الدبويا الكبيرة التي عاش عليھا المؤتمر الرابع‬
‫لفتح ‪ 1980‬وھو يعاني التضييق والحصار‪ ،‬والتي تركت أثراً إيجابيا ً بعيداً في المعنويات الفلسطينية‬
‫ال سيما التجرؤ على تصعيد الكفاح المسلح في وقت كانت الظروف العامة والعوامل الذاتية تتجه إلى‬
‫حرف توجه البوصلة عن الداخل‪.‬‬

‫أما المجموعة الثانية فقد توجھت بعد بضعة أشھر من دخول األولى‪ ،‬إلى منطقة جبال رام ﷲ ‪-‬‬
‫نابلس‪ ،‬واستطاعت أن تنجح كذلك في المكوث في الجبال حوالي الستة أشھر وقد استشھد قائدھا الفذ‬
‫أبو خلدون )خالد صابر الديك( بعد معركة دامت عدة ساعات مع قوات العدو‪ .‬وقد أحدث ذلك‪،‬‬
‫بدوره‪ ،‬أثرا إيجابيا ً في الوضع الفلسطيني العام‪ .‬وقد كان من الممكن لھاتين التجربتين أن تحدثا نقلة‬
‫كبيرة أو تصبحا نھجا ً في العمل لوال أنھما جاءتا سباحة ضد التيار الذي أخذ يعتبر الداخل مرتبة ثانية‬
‫بعد لبنان ويتعامل والمقاومة المسلحة باعتبارھا مرتبة ثانية بعد االھتمام بالعمل السياسي النقابي‬
‫والعلني لخدمة برنامج النقاط العشر‪ .‬ولكن يجب أن يسجل أن باب العمل العسكري في الداخل كان‬
‫مفتوحا ً ومشجعا ً لمن أراد‪.‬‬

‫كان أبو حسن وحمدي حريصين على تركيز الجھود خالل تلك المرحلة في نقطتين‪ ،‬األولى من خالل‬
‫العمل داخل األرض المحتلة والثانية من خالل جنوبي لبنان‪ .‬وبھذا يكون أھل ھذا الخط األكثر‬
‫انسجاما ً مع منطلقات فتح وإستراتيجيتھا األساسية بعيداً قدر اإلمكان عن المعارك الجانبية‪.‬‬

‫عندما شن الجيش اإلسرائيلي حرب حزيران )يونيو( ‪ 1982‬كان حمدي على رأس عدد من‬
‫المجموعات من كتيبة الجرمق والشباب اللبناني يخوض قتاالً متواصالً من الجبل حتى البقاع‪.‬‬
‫وكانت لھذه المجموعات عدة إنجازات في عرقلة تقدم قوات العدو شأنھا شأن سائر مجموعات كتيبة‬
‫الجرمق التي قاتلت من موقع إلى موقع خالل تلك الحرب ابتدا ًء من قلعة الشقيف وصوالً إلى البقاع‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪73‬‬

‫أما أبو حسن فأصبح‪ ،‬كعادته في األزمات‪ ،‬قائداً ميدانيا ً يقود واجھة المدينة الرياضية في أثناء ھجوم‬
‫الجيش اإلسرائيلي على بيروت وحصارھا‪ .‬وقد قصفھا أكثر من ثالثة وثمانين يوما ً قصفا ً تندك لھوله‬
‫الجبال‪.‬‬

‫لعل من األھمية بمكان أن تجد مآثر كتيبة الجرمق ومن قبلھا السرية الطالبية‪ ،‬كما تجد إنجازات أبي‬
‫الحسن وحمدي على مستوى العمليات العسكرية في األرض المحتلة في مستوى حربي ‪ 1978‬و‬
‫‪ 1982‬في لبنان من يؤرخ لھا تفصيالً ويسجل لكل شھيد من شھدائھا بطوالته وإنجازاته‪ .‬وذلك من‬
‫أجل سد النواقص التي حملھا ھذا الكتيب الذي غطى االتجاه العام وقصر في وصف الوقائع‬
‫وتفصيلھا‪.‬‬

‫وثمة عمليات نوعية عدة قام بھا إخوان أبي حسن وحمدي ومروان إما مباشرة وإما بالتعاون مع‬
‫مناضلين آخرين‪ ،‬كانت بارزة في مدلوالتھا وفي الروح المعنوية العالية التي اتصف بھا ھذا التيار‪.‬‬
‫منھا على سبيل المثال ال الحصر العملية البطولية في رويسة البلوط حيث تم أسر ثمانية من أفراد‬
‫جيش العدو اإلسرائيلي ونقلھم إلى الخطوط الخلفية وقد جرى تبادلھم بعد وقت باإلفراج عن المئات‬
‫من المعتقلين في السجون اإلسرائيلية‪ .‬وكذلك عمليات العاقبية وعالية وعرمون وعيناب ويتسامون‬
‫والسمقانية وعين الحلزون وغيرھا وقد استشھد خاللھا عدد من أخوة أبي حسن وحمدي وأبي محمود‬
‫ھالل رسالن وأبي فايز محمود الحسينة‪ .‬ويمكن أن يذكر ممن كان لھم دور ھام في التصدي لقوات‬
‫االحتالل الشھداء نبيل مكارم وأسعد فياض وغيرھما‪ .‬وأسھم الشباب اللبنانيون في الفرار الذي حصل‬
‫في سجن أنصار في جنوب لبنان‪.‬‬

‫على أن االنتھاء من حرب حزيران )يونيو( ‪ 1982‬والخروج من لبنان بعد ذلك بحوالي ثالثة أشھر‬
‫جعل المسار يتواصل‪ ،‬بأعلى درجات الزخم‪ ،‬في الجھد الكثيف الذي بذله أبو حسن وحمدي‪،‬‬
‫خصوصاً‪ ،‬وإخوانھم عموماً‪ ،‬إلطالق شعلة الجھاد اإلسالمي في فلسطين‪.‬‬

‫لقد كانت المرحلة الممتدة من أوائل عام ‪ 1983‬حتى تاريخ استشھاد أبي حسن وحمدي ومروان‬
‫الكيالي وإخوانھم ھي مرحلة العمل الدؤوب لحشد القوى من أجل إطالق الجھاد اإلسالمي والتحضير‬
‫لسلسلة من العمليات الكبيرة‪ ،‬والتي أرادوھا أن تكون مدوية حتى تليق بحمل اسم الجھاد‪.‬‬

‫وعلى الرغم من النقص الفادح باإلمكانات المالية‪ ،‬استطاعت أنوية سرايا الجھاد اإلسالمي‪ ،‬وبفضل‬
‫الكثيرين ممن شاركوا فيھا )جماعات وأفراداً( أن تجد لنفسھا موقعا ً مرموقا ً على الخريطة العسكرية‬
‫في األرض المحتلة ‪ .‬ويمكن أن يذكر ھنا‪ ،‬بصورة خاصة‪ .‬عملية البراق الناجحة والكبيرة التي‬
‫أثخنت بالجراح أكثر من سبعين جنديا ً من قوات غوالني وكانت العملية التي أعلنت‪ ،‬بمناسبتھا‪ ،‬سرايا‬
‫الجھاد اإلسالمي أول بيان حمل اسمھا‪ .‬وكان أبو حسن وحمدي قد سھرا عليھا سھراً متواصالً حتى‬
‫كتب لھا ذلك النجاح المدوي واتبعاھا بالتحضير لعملية استشھادية كبرى خطط لھا أن تتوجه إلى‬
‫مجمع رئاسة الوزراء اإلسرائيلية وتنفذ من خالل سيارة حملت كميات كبيرة من المتفجرات تزيد‬
‫على المائتي كيلو غرام وكانت المجاھدة عطاف عليان قد تھيأت للشھادة في سبيل ﷲ‪ .‬فصممت على‬
‫اقتحام الموقع وبنفسھا حتى ال تترك فرصة للفشل‪ .‬وشاء القدر أن تكشف العملية قبل تنفيذھا‪ .‬ولكن‬
‫على الرغم من ذلك فقد تركت أثراً إيجابيا ً كبيراً حين عرفت أبعاد العملية وما حملته السيارة من‬
‫متفجرات‪ ،‬وشاع خبر الفتاة االستشھادية‪ .‬ولكن الشھيد حمدي مر بعذاب نفسي شديد بسبب فشل‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪74‬‬

‫العملية وراح يح ّمل نفسه مسؤولية الخطأ إلى حد كاد يعتزل معه العمل القيادي الذي كان يقوم به‪.‬‬
‫ولوال تاثير أبي حسن عليه وعزيمته على ألم الجراح والتعلم من األخطاء‪ ،‬وھو الذي كان يتألم مثل‬
‫حمدي وكان بحاجة إلى حمدي وللسبب نفسه‪ ،‬لما استطاع ھذان الفارسان الفذان أن يعودا ليواصال‬
‫دورھما القيادي في سرايا الجھاد ويمدا شھداء عملية الشجاعية بالسالح والدعم بعد أن فروا من‬
‫السجن وقد جاء استشھادھم بعد معركة بطولية تمھيداً مباركاً‪ ،‬من بين عوامل أخرى‪ ،‬النطالقة‬
‫االنتفاضة‪.‬‬

‫يجب أن يذكر ھنا أن االنخراط في مشروع إطالق الجھاد اإلسالمي جاء استمراراً لذلك االلتقاط‬
‫الذكي والمناسب للموقع الذي يكون فيه أبو حسن وحمدي وإخوانھما‪ ،‬أفضل ما يكون االلتقاط‪ .‬لقد‬
‫تكثف تركيزھما على إطالق الجھاد اإلسالمي في فلسطين‪ ،‬والذي أصبح يشكل‪ ،‬موضوعياً‪ ،‬مركز‬ ‫ّ‬
‫الثقل في مرحلة الثمانينات‪ .‬وقد أتى أكله المرجوة على أفضل وجه‪ ،‬وكان له إلى جانب عوامل‬
‫أخرى إسھامه الملحوظ في اندالعة االنتفاضة المباركة‪ .‬وإذا كان أبو حسن وحمدي ومروان قد‬
‫كحّ لوا عيونھم برؤية ھذه االنتفاضة في األشھر الثالثة األولى من اندالعتھا‪ ،‬ورأوا فيھا الشكل‬
‫األرقى في مواجھة العدو وذلك بسبب طابعھا الجماھيري الواسع‪ ،‬واستقبلوا براحة كبرى انخراط‬
‫حركة حماس في االنتفاضة واندفاعھا للتصدي لمھماتھا ولعب دور قيادي رائد فيھا‪ .‬وقد رأوا في‬
‫ذلك انتصاراً كبيراً لألمام كما كان انتصاراً للمقاومة بمجموعھا ضد العدو‪ .‬فقد كانوا يرون ضرورة‬
‫أن تفتح فتح ذراعيھا الستقبال الظاھرة اإلسالمية المجاھدة في فلسطين بدالً من أن تتنامى فيھا‬
‫اتجاھات العداء لإلخوان المسلمين ولفصائل الجھاد اإلسالمي‪ .‬وقد ذكروا بعضا ً من كوادر فتح في‬
‫إحدى نقاشاتھم قبيل استشھادھم‪ ،‬قائلين إذا كنتم قد وجھتم النقد لإلسالميين عموما‪ .‬ولإلخوان‬
‫المسلمين‬

‫خصوصا ً ألنھم لم ينخرطوا بالكفاح المسلح في فلسطين فأين منطقكم حين تزدادون نقداً وتھجما ً حين‬
‫ينخرطون في الجھاد واالنتفاضة وينفخون روحا ً عظيمة في المقاومة ضد العدو الصھيوني؟‬

‫في الحقيقة لو أراد المرء أن يتابع النھج الذي اختطه أبو حسن وحمدي قبل استشھادھما‪ ،‬سواء أكان‬
‫من حيث وضع األولوية للھدف والمبدأ وللمواجھة ضد العدو‪ ،‬أم كان من ناحية انتھاج منھجية لعب‬
‫دور العامل المساعد أو الحصوة التي تسند الجرة‪ ،‬أو الوقوف على الثغر الذي يحتاجك أكثر‪ ،‬لكانا‬
‫اآلن في الخندق األمامي إلى جانب حماس وقوات عز الدين القسام والعتبرا ذلك ھو الترجمة‬
‫المستمرة للوجود في الموقع الذي يكون فيه المرء أكثر فعالية وأكثر انسجاما ً مع المبادئ واألھداف‬
‫والمقاومة وتحرير فلسطين وإنھاض األمة‪ .‬بل العتبرا ذلكم ھو التواصل وجھاد شعب فلسطين منذ‬
‫العشرينات حتى اليوم مروراً بانطالقة ‪.1965 / 1 / 1‬‬

‫◄<]‪< <<ì_†¹]<íé–Î<àÚ<<ÌÎç¹‬‬
‫ثارت مناقشات حادة حول قضية المرأة ودورھا فيما بين التيارات المختلفة في الثورة الفلسطينية‪ ،‬ال‬
‫سيما‪ ،‬في المرحلة التي تلت جريمة عين الرمانة )نيسان ‪ .( 1975‬وكان من الطبيعي أن تنعكس تلك‬
‫المناقشات بشكل‪ ،‬أو بآخر‪ ،‬داخل تيار أبي حسن وحمدي وإخوانھما الذي أصبح اآلن أكثر تمايزاً في‬
‫مواقفه عن المواقف األخرى بما في ذلك‪ ،‬تلك التي كانت أقرب ما تكون منه‪ .‬وقد عرف التيار‬
‫مشاركة نشطة للعنصر النسائي داخله منذ مراحله األولى‪ .‬وجاء ذلك منسجما ً مع النشأة الطالبية‬
‫الجامعية لغالبية من كوادره‪.‬‬
‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪75‬‬

‫ويجب أن يلحظ ھنا أن تقبل الخط الذي طرحه ھذا التيار حول قضية المرأة لم يكن سھالً بالنسبة لعدد‬
‫من كوادره شبيبة وشابات فقد ووجه بنقاش حاد من قبل من تعلموا في الغرب كما من قبل عدد من‬
‫األخوات اللواتي جئن من فئات اجتماعية مدنية مرفھة نسبيا ً ومتغربة‪ ،‬وبعضھن انحدرن من طوائف‬
‫مسيحية وكن درسن في المدارس والجامعات التبشيرية واألجنبية‪ .‬لكن على الرغم من ذلك فإن‬
‫غالبية من بينھن كن يتمتھن بحرص شديد على المشاركة والعطاء ويتسمن بوعي سياسي‪ .‬األمر الذي‬
‫جعلھن يستوعبن أو يتقبلن‪ ،‬إلى حد بعيد‪ ،‬الموضوعات التي تبناھا التيار حول المرأة حتى مرحلة‬
‫االنتقال إلى ارض المرجعية اإلسالمية‪ .‬وقد لعبن دوراً فاعالً مشھوداً لھن فيه خالل المرحلة األولى‬
‫إال أن ذلك بدأ باالنحسار تدريجا ً بالنسبة للكثيرات في المرحلة اإلسالمية التالية‪ .‬ولعل الظروف‬
‫الجديدة التي دخلتھا الثورة والعمل عموما ً بعد الخروج من بيروت لعبت دوراً ملموساً‪ ،‬إلى جانب‬
‫عامل التقدم في السن اقترابا ً من الثالثين أو تجاوزاً لھا في ھذا االنحسار‪.‬‬

‫لقد استندت النظرية التي طرحت حول قضية المرأة ونضالھا إلى التاريخ العربي والتجربة‬
‫الجماھيرية‪ .‬فقد لوحظ‪ ،‬بادئ ذي بدء‪ ،‬أن موضوع المرأة يطفو على السطح ويصبح أكثر حدة مع‬
‫ارتفاع المد الثوري التغييري‪ .‬وذلك ألھميته‪ ،‬سلبا ً وإيجابا ً على مجرى التغيير‪ .‬لقد جاء في نص عبّر‬
‫عن رأي التيار عوداً بالموضوع إلى التجربة اإلسالمية‪" :‬ولھذا فإن ثورة اإلسالم في التاريخ العربي‬
‫عالجت موضوع دور المرأة‪ ،‬فأشركھا اإلسالم‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ ،‬في الجھاد وحثھا على اعتناق‬
‫اإلسالم والدعوة له وقد نجح اإلسالم في االرتقاء بدورھا فنقلھا من وضع إلى وضع أرقى‪ .‬أو ما‬
‫عرف في تاريخنا باالنتقال من الجاھلية إلى اإلسالم‪ ،‬ولم تكن المرأة بعيدة عن المساھمة في عملية‬
‫ھذا االنتقال التاريخي العظيم"‪ 13‬ولوحظ أن مشاركة المرأة في تاريخنا تعاظمت في مرحلة الكفاح‬
‫ضد التتار والصليبيين ثم ضد االستعمار القديم الذي غزا بالدنا منذ أوائل القرن التاسع عشر فقد‬
‫عرفت كل البالد العربية مشاركة المرأة في النضال‪ .‬في كل الثورات واالنتفاضات الشعبية منذ ذلك‬
‫الوقت حتى اآلن‪ .‬فالمرأة كانت تتصرف باعتبارھا جزءاً من األمة وتتقدم إلى المواجھة‪ .‬فالنساء لم‬
‫يحملن قضية خاصة بھن‪ ،‬وإنما كن يحملن دائما ً قضية الشعب كله ومع الشعب كله‪ .‬فذلك ھو الذي‬
‫شغل بالھن وراح يدفعھن إلى النضال‪ .‬ولھذا فإن محاولة البعض إعطاء أولوية لقضية ما يسمى‬
‫بتحرير المرأة أو مساواتھا بالرجل‪ ،‬ال ينسجم والمجرى التاريخي أو خط الجماھير‪ ،‬واألھم يشكل‬
‫محاولة إلعطاء أولوية‪ ،‬عمليا ً إن لم يكن نظرياً‪ ،‬فوق أولوية القضية المركزية‪ .‬ومن ثم فإنه‬
‫يدفع"بالتناقضات الثانوية لتطغى على التناقض الرئيسي" وتكون النتيجة الغرق في صراعات ال‬
‫طائل من ورائھا وال مكان لھا‪ .‬وتؤدي إلى العزلة عن الجماھير‪ .‬بل ال تشجع على مشاركة القسم‬
‫األعظم من نساء الشعب في العمل حين يراد لتلك المشاركة أن تتم تحت عنوان كبير ھو "الصراع‬
‫ضد الرجل"‪.‬‬

‫وھنا طرح التيار خطا نقد من خالله االتجاھات المحافظة التي تعارض كل مشاركة للمرأة في الثورة‬
‫الفلسطينية أو التغيير في األمة من جھة‪ .‬كما وجه نقداً أشد إلى شعارات اليسارية الطفولية‪ ،‬بسبب‬
‫كونھا في ذلك الوقت األعلى صوتاً‪ ،‬وذلك لرفعھا إشكالية المساواة‪ ،‬بصورة تجريدية ومنفرة‪ ،‬أو‬
‫طرحھا لقضية المرأة باعتبارھا معركة رئيسية "ضد التقاليد أو ضد الدين أو ضد المؤمنين ومن‬

‫)‪ (13‬ﻝﻘﺩ ﺸﺎﺭﻙ ﻤﺅﻝﻑ ﻫﺫﺍ ﺍﻝﻜﺘﻴﺏ ﺒﺎﻝﻨﻘﺸﺎﺕ ﺍﻝﺘﻲ ﺩﺍﺭﺕ‪ ،‬ﻓﻲ ﺤﻴﻨﻪ‪ ،‬ﺤﻭل ﻨﻀﺎل ﺍﻝﻤﺭﺃﺓ ﻭﻝﺨﺹ ﺍﻝﻤﺤﺼﻠﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺒﻌﺩ ﻤﻥ ﺨﻼل ﻤﻘﺎﻝﺔ "ﺤﻭل‬
‫ﻨﻀﺎل ﺍﻝﻤﺭﺃﺓ" ﺒﻘﻴﺕ ﺘﺤﺕ ﺍﻝﺘﺩﺍﻭل ﺃﻜﺜﺭ ﻤﻥ ﺴﻨﺔ ﺜﻡ ﻨﺜﺭﺕ ﻓﻲ "ﺸﺅﻭﻥ ﻓﻠﺴﻁﻴﻨﻴﺔ" ‪-‬ﻋﺩﺩ ) ‪ ،(62‬ﻜﺎﻨﻭﻥ ﺍﻝﺜﺎﻨﻲ ‪ ،1977‬ﺒﻴﺭﻭﺕ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪76‬‬

‫يحملون ھذه التقاليد‪ .‬أي ضد غالبية الشعب"‪.14‬ومن ثم فاالتجاه األخير يزيد على االتجاه األول في‬
‫إقصائه ألوسع جماھير النساء عن المشاركة الفعلية‪ ،‬وسلخت "الطليعة النسائية والرجالية نفسھا عن‬
‫جماھير الشعب نساء ورجاالً"‪ .‬وذلك بضربھا أسوأ مثل للجماھير في معالجة "موضوع المرأة" إذ‬
‫حولت "القضية عمليا ً إلى صراع من اجل الحرية الفردية واالنفالت من قيود الروابط العائلية واتھام‬
‫نساء الشعب ورجاله بالتخلف والتأخر والعقل الرجعي‪ .‬فالبعض قلد االتجاھات المنحرفة لدى اليسار‬
‫األوروبي والبعض قلد العصرية األوروبية وغرق في الفسق والفجور والتھتك أو بالمظاھر السطحية‬
‫لمدنية برجوازية استعمارية زائفة"‪.15‬‬

‫يجب أن يلحظ ھنا أيضا ً المنھجية األصيلة التي تحلى بھا تيار أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانھم‪،‬‬
‫والمرتكز إلى الماركسية في ذلك الوقت‪ ،‬في معالجة موضوع المرأة ال سيما في تقويم اإلسالم‬
‫والتجربة اإلسالمية من موضوع المرأة لحظنا أعاله‪ ،‬وھو منھج غريب تماما ً عن كل التيارات‬
‫الماركسية المعروفة‪ .‬ولھذا لم يكن بال مغزى أن يتھم من قبل الكثيرين من اليساريين ومنذ أولى‬
‫توجھاته "بعدم العالقة بالماركسية"‪ .‬وھي تھمة كانت تستفزه في ذلك الوقت وكان يرد عليھا بأن‬
‫موضوعاته ھي الماركسية الحقيقية ألنھا األكثر قربا ً من الواقع الموضوعي والذاتي لبالدنا وشعبنا‪،‬‬
‫واألكثر دفعا ً للعملية التغيرية الكبرى‪.‬‬

‫وعودة إلى موضوع المرأة فقد شدد الخط في ذلك الوقت على ضرورة إشراك النساء في النشاط‬
‫العملي مشاركة فعالة‪ .‬وذلك بربط تلك المشاركة بالقضية العامة تماما ً كما ھو الحال بالنسبة إلى‬
‫الرجال )وھذا يتضمن برأيه أعلى درجات المساواة(‪ ،‬وبجعل الھدف العملي‪ ،‬بل مقياس النجاح‪ ،‬ھو‬
‫إشراك أوسع جماھير النساء الشعبيات واللواتي يشكلن الغالبية الساحقة من نساء األمة‪ ،‬في الثورة‬
‫وفي العمل السياسي عموما ً‪ .‬وھذا يختلف عن منھج النساء اللواتي يعتبرن أنفسھن "متقدمات" في‬
‫الوعي والعمل فيطرحن اإلشكالية على مقاسھن ووفقا ً لحاجاتھن‪ ،‬بدالً من أن يطرحنھا على مقاس‬
‫جماھير النساء الشعبيات وحاجاتھن‪.‬‬

‫أما من جھة أخرى‪ ،‬فيما يتعلق بالتقاليد والقيم واألفكار السائدة حول المرأة أو حول عالقة الرجل بھا‬
‫"فإن بعض تلك التقاليد والقيم واألفكار يحمل طابعا ً شديد السلبية في ھو مواجھة عملية استنھاض‬
‫جماھير النساء للمشاركة في نضال الشعب‪ .‬وقد جاء ھذا البعض من عصور االنحطاط ومن الغزاة‬
‫والمستعمرين كاحتقار المرأة ومعاملتھا بمھانة وھو غريب عن التقاليد والقيم واألفكار التي طرحھا‬
‫اإلسالم‪ .‬ولھذا يجب أن نفرق بين ما ھو غريب مستورد وسلبي وبين ما ھو إيجابي في تقاليدنا وقيمنا‬
‫وأفكارنا‪ .‬كما أن احترام تقاليد الشعب وقيمه وأفكاره مسألة أساسية في النجاح بمھمة استنھاض‬
‫جماھير النساء للنضال‪ .‬ألن من غير الممكن أن يفرض على الشعب شي ء أو أن يعامل الشعب بتحد‬
‫وتعال‪ ،‬فالشعب ھو الذي إذا اقتنع غيّر‪ ،‬ألنه ھو الذي يصنع الثورة وھو الذي يحقق االنتصارات"‪.16‬‬
‫وعلى الرغم من أن اإلحاطة بكل الموضوعات التي طرحت في حينه لمعالجة قضية المرأة واإلجابة‬
‫عن مختلف التساؤالت يضيق بھا ھذا المكان‪ .‬فقد طرحت اثنتا عشرة نقطة في كيفية معالجة‬
‫الموضوع ثم ركز بعد ذلك على ضرورة أن يرتكز التوجه لجماھير النساء من خالل القضية‬
‫السياسية أي القضية أو القضايا التي تھم األمة كلھا‪ .‬ومن ثم نقد االتجاھات التي تتصور أن المسائل‬

‫)‪ (14‬ﺍﻝﻤﺭﺠﻊ ﺍﻝﺴﺎﺒﻕ‪.‬‬


‫)‪ (15‬ﺍﻝﻤﺭﺠﻊ ﺍﻝﺴﺎﺒﻕ‪.‬‬
‫)‪ (16‬ﺍﻝﻤﺭﺠﻊ ﺍﻝﺴﺎﺒﻕ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪77‬‬

‫السياسية الكبرى المطروحة على الشعب كله ھي فوق مستوى استيعاب جماھير النساء وأن استيعابھا‬
‫عال مثل الذي يتمتع به أصحاب تلك االتجاھات‪ .‬إنھا‬ ‫ٍ‬ ‫يحتاج إلى مستوى من "التعليم" و"الثقافة"‬
‫نزعة األستذة على الشعب والنظرة العليائية إلى جماھير الشعب‪ .‬إنھا نظرة البرجوازية إلى الجماھير‬
‫الكادحة فالتجارب التاريخية القديمة والمعاصرة أثبتت أن استنھاض جماھير النساء كان يرتبط‬
‫بالقضايا الكبرى التي تحرك جماھير الشعب للقيام بالثورة واالنتفاضات‪.‬‬

‫وقد شن التيار حملة في الوقت نفسه ضد ظاھرة "الطليعة" النسائية "المتحررة" إذ راحت بعض‬
‫الطليعيات وبتشجيع من زمالئھن "الطيعيين" بتحرير أنفسھن كأفراد وتحقيق مساواتھن ھن بالرجال‪.‬‬
‫وذھبن بھذا السبيل إلى حد االقتداء بكل ما يعمله زمالؤھن‪ ،‬وبصورة خاصة‪ ،‬العادات السيئة‬
‫والسلبيات على أنواعھا‪ .‬وبھذا تحولت قضية المرأة إلى قضية ضيقة خاصة جداً تتعلق ببضع‬
‫عشرات أو مئات من النساء أما الماليين فال عالقة لھن بموضوع "التحرر"‪.17‬‬
‫وصاحب ذلك نقد اتجاھات االھتمام بالمساواة الشكلية والمظاھر‪ ،‬واالھتمام بالجزئيات ال بالجوھر‬
‫مع رفض التقاليد وتحديھا تحديا ً استفزازيا ً للناس‪.‬‬

‫أما من جھة أخرى فقد وجه تيار أبي حسن وحمدي نقداً ضد النزعة الخدماتية واالقتصادية في‬
‫التوجه لجماھير النساء وذلك حين ال يكون ذلك ضمن االھتمام بالقضايا الكبرى والعمل السياسي‪،‬‬
‫وإنما على حسابھما أو بتجاھلھما‪ .‬كما نقد‪ 18‬نزعة رفض العمل المنزلي والتأفف من تربية األطفال‬
‫تحت حجة االھتمام بالعمل العام بدالً من حسن التوفيق والموازنة بين ھذين الجانبين األساسيين‪ .‬ومن‬
‫ثم كان ھنالك تشديد خاص بالنسبة إلى فتيات التيار ونسائه إلعادة صياغة أفكارھن وممارستھن وفقا ً‬
‫لھذه الخطوط فيتخلصن مما ھو مخطئ أو منحرف أو مضر من األفكار والعادات والممارسات‬
‫ويتحلين بأسمى القيم وأفضل السمات الثورية‪ ،‬فال تغريھن بھارج الحياة وال تخيفھن التضحية‪ ،‬وال‬
‫تقعدھن المشاق والصعوبات وبھذا "يصبحن جديرات باسم الطليعة وبشعبھن ووطنھن ويصبحن‬
‫جديرات بأن يكن حفيدات أم حبيب ونسيبة بنت حارث وأم سلمة وخولة الكندية"‪.19‬‬

‫◄<]‪<…^éjÖ]<‚•<íu^fŠÖ‬‬
‫كان أبو حسن )محمد محمد بحيص( رحمه ﷲ في الموقع األمامي دائما ً حين كان يستعر القتال‬
‫ويحمى الوطيس‪ .‬فقد كان القائد المقدام الفذ في كل األوقات العصيبة‪ .‬فكان يمتلك العزيمة الفوالذية‬
‫في مواجھة أشد اللحظات التي تھتز فيھا شجاعة الرجال‪ .‬وكان يمتلك الذكاء الن ّفاذ لتقدير الموقف‬
‫تقديراً صحيحاً‪ ،‬كما كان يلھم من حوله بالشجاعة وروح الصمود والعمل الدؤوب‪ .‬فقد كان الميدان‬
‫يخلو لقيادة أبي حسن ليجول ويصول فيه عندما يكون الوطيس حاميا ً والنار مشتعلة‪ ،‬والموت الزؤام‬
‫يحوم من كل جانب‪ .‬أما عندما كانت تعود الحياة إلى طبيعتھا فكان أبو حسن يعود‪ ،‬وتعيده القيادة‪ ،‬إلى‬
‫عنصر عادي كأنه غير موجود حين تشكل اللجان القيادية وتوزع المواقع‪ .‬أما ھو فكان في كل ذلك‬
‫راضيا ً مبتسما ً يحتقر المتھافتين على الوجاھة في السلم والھاربين في الحرب‪ .‬لقد كان يشبه حجر‬
‫المحك بالنسبة إلى معادن الرجال‪ .‬فمن كان فيه العيب ظاھراً أو خافيا ً في المسلك أو األخالق أو في‬
‫الشجاعة واإلقدام‪ ،‬أو في الصدق واالستقامة أو في فساد المعدن ما كان يحمل ألبي حسن غير الحقد‬

‫)‪ (17‬ﺍﻝﻤﺭﺠﻊ ﺍﻝﺴﺎﺒﻕ‪.‬‬


‫)‪ (18‬ﺍﻝﻤﺭﺠﻊ ﺍﻝﺴﺎﺒﻕ‪.‬‬
‫)‪ (19‬ﺍﻝﻤﺭﺠﻊ ﺍﻝﺴﺎﺒﻕ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪78‬‬

‫ويھرب منه أو يبعده عنه‪ .‬ومن كان فيه ولو بعض من رھافة الحس وصدق الطوية وسالمة المقصد‪،‬‬
‫ونقاء المعدن إال كان يحترم أبا حسن ويقدره ويتقرب منه‪.‬‬

‫فالرجل عاش في الثورة مظلوماً‪ ،‬لم ينل من المواقع التي يستحقھا‪ ،‬بل لقي الكثير من اإلبعاد‬
‫واإلھمال ونكران الجميل‪ ،‬وكان رحمه ﷲ يجھد ليجد بعض الوقت لعائلته وكم عانى وعانت عائلته‬
‫بسبب ضيق يده وتواصل عمله ليالً ونھاراً‪ ..‬وكانت مسؤولياته في قيادة الخط ورعايته والسھر عليه‬
‫مما تنوء الجبال عن تحمل بعضھا السيما في الظروف الصعبة غير المؤاتية التي مرت بھم في أغلب‬
‫األحيان‪ .‬وإذا كان له من نصيب شخص في كل ھذا الجھاد فقد جاء من عشرات ومئات الشباب‬
‫والرجاالت الذين عرفوه عن قرب وإذا بھم يمحضونه من الحب والتقدير ما ال يمحض إال للنادر‬
‫القليل من الرجال المجاھدين حملة المبدأ والرسالة وأصحاب الفكر وأمل العزيمة في العمل‬
‫والممارسة‪.‬‬

‫أما حمدي رحمه ﷲ فقد كان‪ ،‬أيضاً‪ ،‬من الرجال المجاھدين حملة المبدأ والرسالة وأصحاب الفكر‬
‫وأھل العزيمة في العمل وفي اللحظات التي تمتحن فيھا معادن الرجال‪ .‬وقد أجھد أعصابه وأتعب‬
‫جسده ھو اآلخر وقد راح يعمل ليل نھار من أجل القضية التي حملھا وقد القى ربه وھو يتضور ألماً‬
‫من مرض كان يفترض منه بأن يكون على فراش المستشفى بدالً من أن يكون في ليماسول‪ .‬وكان‬
‫حاد الذكاء‪ .‬متعدد المواھب كثير األصدقاء‪ ،‬بما في ذلك خارج المحيط الذي عمل فيه يداً بيد مع أـبي‬
‫حسن‪ .‬فقد تميز بقلب يشعر محدثه أنه يلفه بالود والحب واإلخالص‪ .‬ومن ھنا كان شديد التأثير في‬
‫الرجال مقنعا ً حتى لمخالفيه بالرأي‪ ،‬وما أسرعه في أن يكسب احترام خصمه لو قدر لألخير أن‬
‫يناقشه ويتحدث إليه‪ .‬بكلمة كان دافئا ً ودوداً وھو متمسك برأيه وموقفه المبدئي دون أن يدلس‪ ،‬أو‬
‫ينافق‪ ،‬أو يُمالئ‪.‬‬

‫لقد كان اجتماع أبي حسن وحمدي كأنه قدر ﷲ ليتكامال في وحدة رائعة من المزايا االستثنائية التي‬
‫جعلتھما بجدارة يربيان جيالً من الرجال والنساء‪ .‬ويشقان طريقا ً سيظل في قلب الشعب الفلسطيني‬
‫وذاكرته ما ذكرت ثورة فلسطين وما ذكرت المقاومة‪ ،‬وما ذكر الجھاد في فلسطين‪ .‬وأحسب أن‬
‫أثرھما‪ ،‬بصورة مباشرة‪ ،‬أو غير مباشرة‪ ،‬سيتعدى حدود فلسطين ولبنان حين يدرس ما أسھما به من‬
‫نتاج فكري ومنھجي‪ ،‬وتجربة وطنية وعروبية وإسالمية فذة‪.‬‬

‫إذا كان أبو حسن وحمدي ومروان وإخوانھم قد انتھجوا نھجا ً بعيداً‪ .‬عن الطموح بالتحول إلى تنظيم‬
‫مستقل أو طرف يطمح إلى القيادة فقد زاد ھذا التوجه عمقا ً بعد الوقوف على أرض اإلسالم‪ .‬فقد‬
‫ازداد‪ ،‬ھاھنا‪ ،‬االتجاه نحو لعب دور "العامل المساعد"‪ ،‬ودور الحصوة التي تسند الخابية )الجرة(‬
‫ودور الوقوف على الثغر المھجور أو الذي بحاجة إلى تدعيم وتعزيز‪ .‬وقد أصلح ذلك ھو ترجمتھم‬
‫لكيفية فھمھم العمل لوجه ﷲ أو الجھاد في سبيل ﷲ أي دون أن يكونوا مثقلين بالتصور أن العمل‬
‫لوجھه أو في سبيله تبارك وتعالى يعني تعزيز ذاتھم أو جماعتھم أو ال يمر إال من خاللھم‪ .‬ھذا من‬
‫جھة أما من الجھة األخرى فما كان يحزنھم"أن يخرجوا من المولد بال حمص" أو كما كان يتندر‬
‫البعض بالمثل"احرث وادري لبطرس"‪.‬‬

‫على أنھم إلى جانب ھذه المنھجية‪ ،‬أو العقلية في العمل رفضوا كما ذكر سابقا ً التعامل وقيادة الثورة‬
‫من خالل النقد المستمر أو التحول إلى ما يشبه المعارضة البرلمانية‪ ،‬وإنما كان منھجھم أمام أية‬
‫مشكلة أو قضية أو سياسة تواجه الثورة بمجموعھا يبدأ بسؤال أنفسھم لو كنا نحن القيادة‪ ،‬أو لنتصور‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪79‬‬

‫إننا في مكان القيادة‪ ،‬فما ھي السياسة أو الخط األصح الذي يجب أن نتبناه على ضوء الظروف‬
‫المعطاة وموازين القوى القائمة‪ .‬ولھذا كان الخط يبلور موافقة التكتيكية من موقع المشاركة‬
‫بالمسؤولية‪ .‬والشعور بھا حتى لو كانت القيادة تكيد له كيداً‪ ،‬ولم يكن له موقع في صنع القرار أو‬
‫المسؤولية ومن ھنا تميز تاريخھم في معظمه بالوقوف ضد التيار‪ ،‬كما لو كانوا طرفا ً يطرح نفسه‬
‫لقيادة الوضع‪ .‬فقد راحوا يحملون ّ‬
‫السلم بالعرض كما يقال في مواجھة أعباء القتال ضد العدو‪ ،‬أو في‬
‫الدفاع عن منطلقات فتح ومبادئھا أو الدفاع عن الثورة‪ ،‬أو الوقوف إلى جانب الجماھير اإلسالمية‬
‫المقھورة في لبنان وضد التقسيم والحرب الطائفية أو الحرب بالوكالة‪ .‬أو في الصمود إلى جانب الخط‬
‫السياسي والفكري الصحيح في مواجھة السوفيات وأنصارھم‪ ،‬أو في مواجھة خط التخلي عن‬
‫منطلقات فتح والسير على طريق التسوية والتنازالت‪ ،‬أو في التركيز على تدعيم الصحوة اإلسالمية‬
‫في مواجھة التغريب‪ ،‬والحمالت الظالمة‪ ،‬أو تعزيز الجھاد واالنتفاضة ومختلف أشكال المقاومة في‬
‫مدو‪ ،‬وھو موجود وغير موجود‪،‬‬ ‫فلسطين‪ .‬إنه تاريخ مميز حقاً‪ ،‬فھو مؤثر فيما حدث من غير إعالن ّ‬
‫يعمل عمل الجندي المجھول‪ ،‬وال يعرف إال حين يرتطم به التيار المسيطر ليضطھده أو يشھر به‪.‬‬

‫أما من ناحية الجوھر فكان تاريخ ھذا التيار سلسلة متواصلة من الوقوف إلى جانب الحركات‬
‫الجماھيرية والتغيير األصيل والوالء للمبادئ والقيم والمثل العليا‪ ...‬والبحث عن الحقيقة‪ .‬وكان في‬
‫معارضة دائمة التجاھات الطفولية اليسارية‪ ،‬واالتجاھات المتطرفة التي تلجأ إلى العنف الخارجي أو‬
‫االغتيال الفردي أو االعتماد على عضالت النخبة بدالً من العمل السياسي الصبور بين الجماھير‬
‫والرأي العام‪ .‬وقد كان يميل دائما ً إلى االبتعاد عن الغلو والمغاالة‪.‬‬

‫لقد لعب ھذا النھج دوراً مرموقاً‪ ،‬وأحيانا مفصلياً‪ ،‬في مرحلة السبعينات وقد زاده اإلسالم رسوخا ً‬
‫وتبلوراً ووضوحا ً وتألقا ً في مرحلة الثمانينات‪ .‬وكان من الممكن أن يكون العطاء كبيراً كذلك في‬
‫مرحلة التسعينات لو لم يشأ قدر ﷲ تبارك وتعالى أن يُقتل الشھداء الثالثة أبو حسن وحمدي ومروان‬
‫قبل ست سنوات في ليماسول عبر قنبلة فجرھا الموساد اإلسرائيلي في السيارة التي كانت تقلھم ليختم‬
‫بھذا تاريخ خمسة عشر عاما ً‪ .‬وإننا لندعو ﷲ تبارك وتعالى أن يحتسب لھم ولبقية الشھداء فيه‬
‫استشھادھم وما فعلوه من خير وما كان في مرضاته ويغفر لھم ما كان في غير مرضاته‪.‬‬

‫أما جنازة أبي حسن وحمدي في ع ّمان وجنازة مروان الكيالي في بيروت‪ ،‬فقد جاءتا من حيث‬
‫الحشود كما ً ونوعا ً خير ما يجازى به شھداء قتلوا ونيتھم وعملھم أن يكونا في سبيل ﷲ‪ ،‬وأمضوا‬
‫حياتھم عمالً وجھاداً من أجل تحرير فلسطين وتوحيد أمة العرب والمسلمين‪ .‬فقد سار وراء نعوشھم‬
‫وصورھم المكللة بالسواد كبار العلماء والقادة اإلسالميين وكبار المفكرين والصحفيين والشخصيات‬
‫الوطنية والقومية واليسارية من مختلف االتجاھات السياسية والفكرية‪ .‬وكان ذلك كله شھادة لخطھم‬
‫وتاريخھم وما عبّروا عنه ومثلوه‪ .‬بل أن الوحدة الواسعة التي تحققت في تلك اللحظات وھم يوارون‬
‫فيھا التراب مثلت الجبھة التي كانوا يحلمون أن تتشكل من أجل فلسطين وفي الرد على التحديات التي‬
‫تواجه األمة‪ .‬رحمھم ﷲ وأسكنھم فسيح جنانه‪ ،‬وإنا Œ وإنا إليه راجعون‪.‬‬

‫◄<}¼<]‪<ì…çnÖ]<í膿Þæ<â^Û¢‬‬
‫لقد لعبت كل من فكرة "خط الجماھير" وفكرة البحث عن "نظرية الثورة في بالدنا" دوراً ھاما ً في‬
‫عملية االنتقال إلى أرض اإلسالم بالنسبة إلى أغلب أفراد تيار أبي حسن وحمدي وإخوانھما‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪80‬‬

‫كان المقصود بمفھوم أو منھجية خط الجماھير ھو القيام بالتحقيقات الضرورية الكتشاف االتجاه‬
‫األساسي والجوھري في أفكار الجماھير ومواقفھا وتوجھاتھا وأمانيھا‪ ،‬فالمعلومات التي تأتي بھا تلك‬
‫التحقيقات تتحول إلى نظرية أي تشتق النظرية ھنا من الممارسات الجماھيرية ومن أفكار الجماھير‪،‬‬
‫ثم تحول إلى شعارات يعاد من خاللھا إلى الممارسة بين الجماھير‪ .‬وقد وجد التيار في ھذه الفكرة‬
‫التي بلورھا ماوتسي تونغ‪ ،‬أسلوبا مھما ً في محاولة اكتشاف النظرية الثورية في بالدنا‪ .‬وھي عملية‬
‫قد تبتعد بنتائجھا تماما ً عن النتائج المماثلة التي عبّر عنھا فكر ماوتسي تونغ حين استخدم ذلك‬
‫األسلوب في اكتشاف الحقائق المتعلقة بطبيعة الثورة ونظريتھا في الصين‪ .‬ولعل من الدوافع وراء‬
‫اإلعجاب بھذه المنھجية‪ ،‬على الرغم مما قد تكشفه من حقائق‪ ،‬وإن كانت غير صالحة لكشف كل‬
‫الحقائق‪ ،‬كان ما تعنيه من روح استقاللية ومن ابتعاد عن ابتالع الشعارات والنظريات الجاھزة حول‬
‫الثورة واآلتية من موسكو‪ ،‬أو العواصم الغربية أو من بكين أو ھانوي أو بيونغ يانغ أو تيرانا‪ .‬فقد‬
‫كانت مدخالً للتعاطي والواقع الفلسطيني والعربي بصورة متحررة من النظريات والشعارات الجاھزة‬
‫والجامدة‪ .‬أي كانت مدخالً إلخضاع الماركسية لنتائج دراسة الواقع الفلسطيني والعربي ال إخضاع‬
‫ھذا الواقع لمقوالت الماركسية اللينيينة‪..‬‬

‫بكلمة أخرى عمقت فكرة‪ ،‬أو نظرية‪ ،‬خط الجماھير‪ ،‬على تلك الصورة‪ ،‬من روح األصالة المتحررة‬
‫من أي قيد نظري جاھز في البحث‪ ،‬ال سيما في محاولة اكتشاف سمات الثورة في بالدنا‪ ،‬أو نظرية‬
‫الثورة وكيف يمكن أن تنجز‪ .‬ھنا أصبحت ثمة مسؤولية لكسب معرفة أعمق وأدق بالنسبة إلى‬
‫تاريخنا وإلى التجارب السابقة لشعوبنا وإلى التجارب الواقعية الراھنة لجماھير األمة وأفكارھا‬
‫وتوجھاتھا‪ .‬وقد راحت نتائج ذلك تبتعد أكثر فأكثر عن المنظومات السوفياتية أو الغربية الماركسية أو‬
‫الصينية أو الفيتنامية حول الثورة ونظريتھا في بالدنا أو حول فھم تاريخ األمة العربية واإلسالمية‬
‫وتقويم تجاربھا الثورية‪ .‬وھذا ما أسس التيار منذ بدايته على احترام تقاليد الجماھير وأخالقھا‬
‫والتعامل وإياھا بشفافية عالية‪ ،‬بل تجنب إتباع أية أخالق أو مسلكية تتصادم وتلك التقاليد واألخالق‪.‬‬
‫وكان ھذا يعني منذ اليوم األول التحلي بروح احترام اإلسالم والدين عموماً‪ ،‬وتقويم التجربة‬
‫اإلسالمية العربية تقويما ً إيجابيا ً‪ .‬فكان المطلوب االقتراب أكثر فأكثر من نبض الجماھير وخطھا‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك بقي التيار أسيرا لمفھوم الثورة الوطنية الديمقراطية ثم الثورة االشتراكية‪ ،‬فالمفھوم‬
‫األول لم يخضع‪ ،‬بصورة مبكرة‪ ،‬إلى المراجعة والتقويم‪ ،‬فقد كان منسجما ً واعتبار فتح لنفسھا حركة‬
‫تحرير وطني ورفعھا لشعار الدولة الديمقراطية في فلسطين‪ ،‬وارتبط الثاني بالخلفية العروبية القومية‬
‫للتيار وبالمرجعية الماركسية‪.‬‬

‫كان الندالع التظاھرات الشعبية العريضة في إيران‪ ،‬كما ذكر سابقاً‪ ،‬ورفعھا لشعارات ﷲ أكبر‪ ،‬وال‬
‫إله إال ﷲ‪ ،‬وتحولھا إلى ثورة تغييرية أطاحت بالنظام الشاھنشاھي وإلى جانبھا‪ ،‬وربما بأھمية أكبر‪،‬‬
‫كان للتجاوب الجماھيري الفلسطيني والعربي غير المعتاد مع تلك الشعارات‪ ،‬أثرا مھما ً في تطبيق‬
‫نظرية خط الجماھير تطبيقا ً خالقا ً‪ .‬ھنا برز رأي داخل التيار يقول "منذ سنوات ونحن نبحث عن خط‬
‫الجماھير وھو أمام أعيننا ولكن ما كنا نراه‪ .‬أنظروا أليس اإلسالم ھو خط الجماھير في بالدنا؟ فبأي‬
‫منطق نبحث عن سمات الثورة بالقول أنھا وطنية ديمقراطية )بمعنى برجوازية من النمط الغربي‬
‫والمعدل ماويا ً( أو أنھا اشتراكية بينما ھي ھنا إسالمية أردنا أو لم نرد‪ .‬فإن ھذه األحشاء التي ستلد‬
‫الثورة في بالدنا‪ ..‬أي ھذه المجتمعات‪ ،‬ھي مجتمعات إسالمية تحمل المخزون التاريخي اإلسالمي‪،‬‬
‫وتحمل األماني والتطلعات ذات الطبيعة اإلسالمية‪ .‬وسواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا يجب أن نقر بھذه‬
‫الحقيقة إذا ما كنا نريد أن نمسك بخط الجماھير‪ ،‬أو نكتشف سمة الثورة في بالدنا‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪81‬‬

‫وبالمناسبة كان لماركس رأي يصف فيه الطيعة بأنھا مثل القابلة القانونية التي تقوم بمساعدة الطبقة‬
‫على الوالدة أي والدة الثورة‪ .‬فھي ال تخترع ھذه الثورة وال تأتي بھا من عندھا وإنما ھي تقوم‬
‫بتوليدھا ألن سمات الثورة تتشكل في أحشاء المجتمع المعطى والطبقة المعنية‪ .‬أي كان ماركس ينظر‬
‫إلى الثورة باعتبارھا مسألة موضوعية أساسا ً‪.‬‬

‫أما الدور الذاتي فھو مساعد على الوالدة وقد يعطي بعض التالوين الخارجية لھا‪ .‬ولكنھا من حيث‬
‫الجوھر مستقلة عنه‪ .‬ھنا أيضا خرج رأي من داخل التيار يقول إذا كانت الطليعة مثل القابلة القانونية‬
‫التي تساعد على إخراج الوليد ولكنھا ال تستطيع أن تغير شيئا ً من سماته التكونية األساسية‪ .‬فلماذا‬
‫نجعل تطبيقنا مناقضاً؟ ولھذا فثورتكم ستحمل التكوين اإلسالمي والمولود ھنا سيخرج إلى الحياة وھو‬
‫يقول ال إله أال ﷲ‪ ،‬وﷲ أكبر‪ ..‬فإذا لم يعجبكم ذلك فابحثوا عن المشاركة في عملية والدة أخرى في‬
‫غير ھذه البالد العربية واإلسالمية‪.‬‬

‫ففي البالد العربية لن تخرج الثورة بشعر أشقر وعينين زرقاوين أو بوجه أصفر وعينين مشقوقتين‬
‫فمن أراد الخيار الذي في عقله الماركسي فليذھب إلى السويد أو إلى الصين أو فيتنام‪.‬‬

‫كانت الموضوعة على بساطتھا الظاھرية‪ ،‬ومن قبلھا المقولة التي تعتبر أن خط الجماھير في بالدنا‬
‫وكذلك طبيعة الثورة يتسمان باإلسالمية أوالً وقبل كل شيء‪ ،‬ثم بعد ذلك يمكن أن تعطي سمات أكثر‬
‫خصوصية في كل حالة من حاالت البالد العربية واإلسالمية قد سھال االنفتاح على الموضوع‬
‫اإلسالمي والقبول به من الزاوية السياسية والحضارية والثقافية‪ ،‬كما االنفتاح على تقويم أكثر إيجابية‬
‫لإلسالم والتجربة اإلسالمية األولى‪.‬‬

‫في الواقع‪ ،‬لقد ساعد رسوخ فكرة خط الجماھير وموضوعية الثورة لدى أكثرية أفراد ھذا التيار‪،‬‬
‫على عملية االنتقال سواء أكان بالتجرؤ على ارتياد أكثر تفتحا ً وتحرراً وموضوعية للتاريخ العربي‬
‫أم للواقع العربي‪ .‬ومن ثم على صياغة موضوعات نظرية حلت محل كثير من الموضوعات‬
‫الماركسية النظرية السابقة والتي كان أكثر ما قد تم االنتھاء منه قبل ذلك‪ .‬ثم ساعد على تقبل‬
‫موضوعة إسالمية خط الجماھير وإسالمية الثورة حتى لو كان المرء ال يعجبه ذلك بسبب استمرار‬
‫التعارض والمنھجية "العلمية" أو "الديالكتكية"‪ ،‬أو بسبب التعارض وعدد من النظرات الراسخة لدى‬
‫البعض حول حرية المرأة ومساواتھا بالرجل أو حرية الفرد‪ .‬فقد كان عدد من المشاركين في‬
‫النقاشات قد درسوا في الغرب وفتحت أعينھم على الماركسية في الغرب‪ ،‬وكان عدد آخر قد انحدر‬
‫من خلفيات دينية غير اإلسالم وبعضھم كان راسخا ً في اإللحاد‪ .‬ومن ثم كان لدى ھؤالء عوائق فكرية‬
‫ونفسية كثيرة إزاء قبول ما ھو أكثر من التسليم من ناحية موضوعية بأن خط الجماھير في بالدنا‬
‫إسالمي وكذلك طبيعة الثورة‪ ..‬إال أن ھذا التسليم حتى ضمن ھذه الحدود ش ّكل لدى البعض من أولئك‬
‫خطوة إلى أمام باتجاه تجاوز تلك العوائق فيما بعد واالقتراب أكثر من المفاھيم اإلسالمية بما في ذلك‬
‫الجانب العقدي‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪82‬‬

‫   ‬

‫‪Üè‚Ïi‬‬
‫كتب ھذا النص كرسالة أريد منھا أن تجيب عن أسئلة أو تساؤالت كان قد أرسلھا عدد من السجناء‬
‫السياسيين في سجون العدو الصھيوني إلى الشھيدين محمد محمد بحيص )أبو حسن قاسم( ومحمد‬
‫باسم سلطان )حمدي(‪ .‬وقد يعجب القارئ من المستوى النظري الذي طرحت فيه التساؤالت وكتبت‬
‫فيه الرسالة‪ ،‬وال سيما حين يعلم أن التساؤالت صدرت عن فدائيين فلسطينيين قضوا في السجون‬
‫بسبب قيامھم بعمليات عسكرية مدداً تتراوح بين ‪ 10‬سنوات و ‪ 15‬سنة‪ ،‬أو حين يعلم أن اإلجابة‬
‫جاءت من قبل قائدين ميدانيين عرفا بانجازاتھما القتالية والميدانية والتنظيمية خصوصاً‪ ،‬والعملية‬
‫عموماً‪ ،‬أي نحن أمام نص لم يصدر عن مثقفين محترفين‪ .‬كما أن التساؤالت لم تصدر عن مثقفين‬
‫محترفين كذلك‪.‬‬

‫ويبقى جانب إيضاحي آخر البد من اإلحاطة به كخلفية كمنت وراء التساؤالت واإلجابة؛ إال وھو‬
‫طبيعة العالقة بين السائلين والمجيبين‪ .‬فقد كانت عالقة أخوة وزمالة وعمل ضمن خط واحد ردحا ً‬
‫طويالً من الزمان وكان الشھيدان يمثالن قيادة له‪ .‬وكان ھذا الخط يستند في أساسه إلى منطلقات فتح‬
‫في النظر إلى القضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية وما نشأ عنھما‪ ،‬ومن حولھما‪ ،‬من مسائل وقضايا‬
‫لھا عالقة بالوضعين العربي والعالمي‪ .‬أما الخلفية النظرية فكانت تنتسب للماركسية اللينينية ضمن‬
‫مفھوم استقاللي عن المحاور الدولية أوالحزبية‪ ،‬وفي ظل سعي دائب للوصول إلى فھم للخصوصية‬
‫الفلسطينية والعربية‪ .‬فالعالقة بالماركسية كانت بالنسبة إلى ھذا الخط‪ ،‬ومنذ البداية‪ ،‬ذات طابع مميز‬
‫يختلف عن طابعھا بالنسبة إلى مختلف االتجاھات الماركسية ‪ -‬اللينينية‪ .‬ولعل أھم سمات ذلك الطابع‬
‫كانت سمة إخضاع الموضوعات الماركسية‪ ،‬باستمرار‪ ،‬إلى حكم الواقع والوقائع والتاريخ‪ ،‬على‬
‫مستوى العالم عموماً‪ ،‬وعلى المستوى العربي خصوصا ً‪.‬‬

‫ومن ھنا كانت تلك الموضوعات في" قفص االتھام" باستمرار‪ .‬ويا ويل الموضوعة التي ال تقوى‬
‫على إثبات مصداقيتھا‪ ،‬في مواجھة الواقع والتاريخ والوقائع‪ .‬فقد كانت تنفل من أساسھا‪ ،‬وبال رحمة‪،‬‬
‫وتحل محلھا‪ ،‬إن أمكن موضوعة أو موضوعات أخرى حتى لو كانت غريبة عن الماركسية‪ ،‬وغير‬
‫مقبولة من الماركسيين‪ .‬وھكذا اتسم مسار ھذا الخط من الناحية النظرية بعملية صراع مستمرة بين ما‬
‫يحمل من أفكار وموضوعات وبين االحتكام إلى الوقائع‪ ،‬أو ھو صراع يحكمه البحث عن الحقيقة‬
‫بحثا ً ال ينقذ وال يكل أو بكلمة أخرى كانت ماركسية ھذا الخط صراعا ً ضد الماركسية نفسھا‪ ..‬فما‬
‫كانت ھنالك من موضوعة واحدة في الماركسية غير قابلة للنقد‪ ،‬أو كانت تعامل كحقيقة يمكن التسليم‬
‫بھا ولھا تماما ً‪ .‬وإنما كانت تعامل كموضوعة تبدو صحيحة حتى إشعار آخر‪ .‬فثمة شك مستمر في‬
‫احتمال عدم صحتھا في حقيقة األمر‪ .‬ولھذا كانت الماركسية ‪ -‬اللينينية في حقيقتھا وجوھرھا وبنيتھا‬
‫األساسية مھتزة غارقة بالنظرات المغالطة‪ ،‬والموضوعات غير العملية‪ ،‬واألفكار السطحية أحادية‬
‫الجانب‪ ،‬فقد راحت موضوعاتھا تتھاوى الواحدة بعد األخرى‪ ،‬وعلى مدى عدة سنوات في نظر‬
‫أصحاب ذلك الخط‪ ،‬وفي مقدمتھم أبو حسن وحمدي‪ .‬وھذا ما جعل الھوة تتسع باستمرار بين‬
‫الشھيدين وبين عدد من زمالئھما‪ ،‬وال سيما أولئك الذين كانوا بعيدين عنھم وراء القضبان ال يواكبون‬
‫ما يجري من نقاش يومي وتغيرات نظرية مستمرة‪ ،‬أو كانوا يتسمون بالجمود والعصبية‬
‫اإليديولوجية‪ .‬وبلغ األمر مداه عندما انتھت مسيرة ذلك الخط‪ ،‬بأغلبية إلى نقد الماركسية ‪ -‬اللينينية‪،‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪83‬‬

‫بل نقضھا من أساسھا النظري‪ .‬أي من المادية الديالكتيكية إلى المادية التاريخية إلى االقتصاد‬
‫السياسي واالشتراكية العملية‪ ،‬وليس فقط نقد التجارب العملية للحركات والدول التي قامت على ذلك‬
‫األساس‪ .‬وھو أمر أدى إلى مفاصلة مع عدد من الذين كانوا مستعدين للتخلي عن كثير من‬
‫موضوعات الماركسية عدا المنھج على األقل‪ .‬ثم تفاقم الوضع حين توجت تلك المسيرة من‬
‫موضوعات بتبني اإلسالم عقيدة ومنھاجا ً ونظاماً‪ ،‬أو بعبارة أدق تبني اإلسالم قرآنا ً وسنة‪.‬‬

‫ويمكن بعد ھذا اإليضاح للخلفية التي حكمت التساؤالت واإلجابات أن يدخل القارئ إلى ھذا النص‬
‫دخوالً مريحا ً أو في األصح وھو ملم بالظروف التي أحاطت بكتابته‪ .‬أما من جھة أخرى فالبد من أر‬
‫يدرك المتأمل في ھذا النص‪ ،‬ممن أعجب بالشھيدين محمد بحيص )أبو حسن قاسم( وباسم سلطان‬
‫التميمي )حمدي( باعتبارھما قائدين فذين في الممارسة العملية‪ ،‬إنه أمام مناضلين شديدي االھتمام‬
‫بالمسائل الفكرية والنظرية والسياسية‪ .‬ولھما باع في كل ذلك يسند باعھما في الممارسة العملية‪ .‬فقد‬
‫كان اھتمام الشھيدين شديداً بتلك المسائل إذ كانا يدركان تماما ً أن الممارسة بال عقيدة سليمة‪ ،‬ومفاھيم‬
‫نظرية صحيحة‪ ،‬وخط فكري وسياسي سليم قد تضل ضالالً بعيداً‪ ،‬تؤدي بصاحبھا إلى ارتكاب‬
‫األخطاء الفادحة وربما إلى االنحراف والسقوط‪ .‬ومن ھنا يخطئ من تعود أن يراھما غارقين في‬
‫الممارسة العملية‪ ،‬ليل نھار‪ ،‬حين ال يلحظ تركيزھما المكثف قبل ذلك‪ ،‬وفي أثنائه وبعده على العقيدة‬
‫والنظرية والمنھج والفكر والسياسة والقيم األخالقية )وال سيما القيم األخالقية التي يجب أن تتسم بھا‬
‫الممارسة عمالً ال قوالً فقط(‪.‬‬

‫وأخيراً ال بد من أن يلحظ أن التطورات الراھنة على المستويين العالمي والعربي‪ ،‬وال سيما‪ ،‬في‬
‫المعسكر االشتراكي جاءت تؤكد الموضوعات التي طرحھا ھذا النص الذي كتب عام ‪ .1984‬ولعل‬
‫الذين وجه إليھم في ذلك الوقت ولم يستوعبوا كل أبعاده‪ ،‬يمكنھم اليوم أن يعودوا إلى قراءته بعقول‬
‫أكثر تفتحا ً بعد أن فك أسر أغلبھم‪ ،‬وبعد أن أجمعت جماھير كل البلدان التي حكمت بأنظمة اشتراكية‬
‫على رفضھا من أساسھا ووصل األمر ببعضھا إلى المطالبة بتحريم األحزاب التي حكمتھا‪ .‬وما زال‬
‫في جعبة المستقبل الكثير مما لم يقله بحق تلك األنظمة التي ھي ثمرات طبيعية ومحتومة للنظرية‬
‫الماركسية والمنھج الماركسي وال مھرب من ذلك‪ ،‬ألنه من الھزل أن تعزى مسؤولية تلك األنظمة‬
‫واألحزاب إلى التطبيق ال إلى النظرية‪ .‬فالفشل في التطبيق حين يكون عاما ً وشامالً‪ ،‬بال استثناء‪،‬‬
‫يفرض أن تراجع النظرية التي اھتدى بھا واتخذھا دليالً‪ .‬وھنا ً أمامه خيارات ال مفر منھا‪ :‬فإما أن‬
‫تكون النظرية مستعصية على التطبيق وفوق عقول البشر وإمكاناتھم وقدراتھم‪ ،‬وإذا كانت كذلك فما‬
‫الحاجة إليھا وما قيمتھا‪ ،‬وإما أن يكون الخلل قد جاء ابتدا ًء من النظرية نفسھا وھو األمر المحتم بدليل‬
‫أنھم يصرون على القول أن النظرية في جوھرھا صحيحة ولكن الخطأ جاء من كل ھؤالء الذين‬
‫تبنوھا وحملوھا إلى الواقع‪ ،‬ومن ثم فھي بانتظار عباقرة من طراز استثنائي ليحسنوا إدراكھا أو‬
‫التقاطھا وتطبيقھا خيراً مما فعل لينين وستالين وخروتشوف وبريجينف وغورباتشوف أو ماوتسي‬
‫تونغ وشوان الي وتينغ تشاو بينغ أو كاسترو وجيفكوف وھونيكر‪ ،‬وانتھا ًء بذلك الحشد الذي ال ينتھي‬
‫من األمناء العامين في سائر بلدان العالم‪ ،‬وبالمناسبة يمكن اإلثبات أيضا أن ماركس وإنجلز غرقا في‬
‫األخطاء والفشل في ممارستھا العملية كذلك‪ .‬ومن ثم ال يمكن أن يعزى ذلك إلى سوء التطبيق‪ ،‬وعدم‬
‫فھم جوھر النظرية الماركسية في عرف القائلين أن الخلل في الممارسة ال في النظرية‪ .‬وھنا ال بد من‬
‫أن يھنأ كل من يعجب بذكائه إلى حد يحسب معه ألنه قادر اليوم أن يخرج من النظرية الماركسية‬
‫أفضل مما أخرج كل أولئك من الذين يمكن أن يوصفوا بالجھابذة من ناحية قدراتھم العقلية وعزائمھم‬
‫ومثابرتھم‪ .‬وإن كان فيھم من نقض فھو فيما حملوا من عقيدة ونظرية ومنھج‪ .‬وال يمكن أن تكون‬
‫علتھم في الذكاء والقدرة على الفھم‪ .‬وذلك في األقل من ناحية استيعابھم للنظرية ومھارتھم التطبيقية‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪84‬‬

‫فالمشكل في النظرية وفي ارتباطھم الحضاري ولعل إصرار أغلب الماركسيين‪ ،‬ال سيما في بالدنا‬
‫العربية على تبني الماركسية وعدم االقتراب من اإلسالم‪ ،‬وبالرغم من كل العواصف التي ھبت وھي‬
‫تحمل البراھين على بطالن ذلك اإلصرار وخلطه يشكل دليالً جديداً‪ ،‬ولو بالمعاكسة‪ ،‬على عظمة تلك‬
‫السمات التي تحلى بھا الشھيدان أبو حسن وحمدي في احترام عقليھما‪ ،‬وفي احترام الحقيقة واحترام‬
‫الوقائع والدافع والتاريخ والنظرة العملية‪ ،‬كما في امتالك الصدق مع النفس والناس‪ ،‬وأخيراً ال آخراً‪،‬‬
‫في امتالك الشجاعة في الخروج من الظلمات إلى النور‪ .‬من الماركسية إلى اإلسالم فسالم عليھما‪.‬‬

‫
  ‪.‬‬

‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫<‬ ‫<‬
‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪85‬‬

‫»‪«Ðv×Ú‬‬
‫_‪á^f–ÏÖ]<ð]…æ<àÚ<íéŠÒ…^¹]æ<Ýø‰ý]<Ùçu<í×ò‰‬‬
‫‪20‬‬
‫بقلم ‪ :‬محمد محمد بحيص )أبو حسن(│محمد باسم سلطان )حمدي(‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻷﻭﻝ‬

‫‪< <äjéÂ憎Ú<sãßÚ<ë_<‚ÛjŠè<àè_<àÚ‬‬
‫أيھا األخوة في سجن‪...‬‬

‫لنبدأ باإلجابة عن القسم األول من أسئلتكم‪" :‬من أين يستمد أي منھج مشروعيته؟ ھل من مدى‬
‫استجابته الحتياجات المرحلة المعاصرة ومتطلبات الواقع؟ أم المتالكه "شھادة منشأ تاريخية" تشير‬
‫بأنه نبت وانبثق عن ھذه المنطقة أو تلك؟ فإذا كان اإلسالم قد امتزج بتاريخنا وتراثنا كعرب فأين‬
‫موقعه في التراث الفكري‪ ،‬لشعوب أمريكا الالتينية مثالً‪ ،‬فاإلسالم ال يشكل جزءاً من تراثھا‬
‫ووعيھا"؟‪.‬‬

‫حقا ً أيھا اإلخوة ال يستمد أي منھج مشروعيته من مجرد استصدار شھادة منشأ تاريخية ال في بالدنا‬
‫وال في بالد غيرنا‪ ،‬ولم نقل أن المنھج مجرد تراث تاريخي ألمتنا أو ألية أمة أخرى‪.‬‬

‫فلو كان األمر عند حدود ھذا السؤال كما يفھم من ظاھر كلماته فال خالف بيننا‪ ،‬دون أن نكون قد‬
‫تركنا موقعنا من فوق أرض اإلسالم أو نكون قد تراجعنا عن تبنينا لإلسالم ومنھجه‪ .‬وكذلك إذا قلتم‬
‫أن "مشروعية المنھج"‪ ،‬ولعلكم تقصدون صحته‪ ،‬تتقرر من مدى استجابته الحتياجات المرحلة‬
‫المعاصرة ومتطلبات الواقع‪ ،‬فسوف نتفق أيضا ً على حدود ھذا السياق دون أن نكون قد تركنا موقعنا‬
‫من فوق أرض اإلسالم‪ .‬أو نكون قد تراجعنا عن تبنينا لإلسالم ومنھجه‪ ،‬ألن اإلسالم أو منھجه برأينا‬
‫يجيبان أيضا ً عن احتياجات المرحلة المعاصرة ومتطلباتھا وھذا ما يمكن أن نثبته وندافع عنه‪ ،‬كما‬
‫ويمكننا أن نثبت عدم صالحية المنھج الماركسي عموماً‪ ،‬أو بالنسبة إلى اإلجابة عن احتياجات‬
‫المرحلة المعاصرة ومتطلباتھا‪ ،‬أما الجزء األخير من تساؤلكم فال خالف حين تقولون "إذا كان‬
‫اإلسالم قد امتزج بتاريخنا وتراثنا كعرب فليس له من موقع في التراث الفكري لشعوب أمريكا‬
‫الالتينية كما أنه ال يشكل جزءاً من تراثھا ووعيھا"‪ .‬ولكن ھل يفھم من ھذا استبعاد موضوع اإلسالم‬
‫بالنسبة إلينا ما دام ليس جزءاً من التراث الفكري لشعوب أمريكا الالتينية؟ وھذا ينطبق على تراث‬
‫الكثير من الشعوب بما يوحي بالقمل‪ ،‬كما يريد التساؤلى ان تراث كل شعب من الشعوب يجب‬
‫استبعاده ألنه ال يحمل سمة عامة مشتركة لكل الشعوب‪ ،‬ومن ثم يجب إتباع طريق عالمي يتخطى‬
‫خصوصيات الشعوب‪ ،‬أو منھج يحلق فوق الخصوصيات وھي نظرة ماركسية كوزموبوليتيكية )ال‬

‫)‪ (20‬ﻨﺸﺭ ﻓﻲ "ﺩﺍﺭ ﺍﻝﻔﻜﺭ ﺍﻹﻋﻼﻤﻲ" ‪ -‬ﺒﻴﺭﻭﺕ‪ ،‬ﻝﺒﻨﺎﻥ‪1440 .‬ﻫـ‪1990/‬ﻡ‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪86‬‬

‫وطنية( وتتنكر لخصوصيات الوطنية‪ ،‬ويبدو من روحية ھذه التساؤالت أنكم فھمتم من طرحنا‬
‫لموضوع اإلسالم‪ ،‬أو طرحنا لموضوع عالقتنا بتاريخنا وتراثنا وحضارتنا‪ ،‬إن حجتنا الوحيدة أو‬
‫الرئيسية في الصراع تستند إلى مجرد نظرة تراثية‪ ،‬أو نظرة تعتبر أن ما ھو تراث ھو صحيح‪ ،‬وھو‬
‫المناسب ومن ثم دارت أسئلتكم حول ھذه النقطة إلثبات خطئھا أو سطحيتھا أو عدم حيويتھا‪ ،‬وھو‬
‫أمر نوافقكم عليه لو كانت حجتنا تقوم على ھذا األساس‪ ،‬أو كان بعض حجتنا يقوم عليه وتذكروا أن‬
‫القرآن الكريم يقطع بفساد حجة الذين احتجوا بآبائھم وأجدادھم إلثبات صحة طريقھم ومنھجھم بقوله‬
‫تعالى‪" :‬إنا وجدنا آبائنا على امة وإنا على آثارھم مقتدون" )الزخرف ‪" .(23‬وقالوا حسبنا ما وجدنا‬
‫عليه آباؤنا")المائدة ‪" ،(104‬قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا")يونس ‪" .(78‬قالوا بل وجدنا‬
‫آباءنا كذلك يفعلون")الشعراء ‪ (74‬ومن ھنا نتفق أيضا ً على أنه ليس كل ما جاء عن اآلباء واألجداد‬
‫أو كان من التراث ھو صحيح ومناسب تلقائيا ً واألھم أننا نتفق على أنھا ليست الحجة المنطقية التي‬
‫يرد بھا على حجة أخرى‪ .‬ولكن ليتنا نتفق أيضا ً أنه ليس كل ما يورثه اآلباء مرفوض وال يحمل حجة‬
‫أو يجب أن يترك باعتباره قديم ورجعي وسلفي‪ .‬ألن السؤال من ھم آباؤك وما كانوا يفعلون؟‪ .‬فعلى‬
‫األقل يجب أن نتذكر أن ما من علم أو فكرة أو رأي أو نظرية تولد اليوم إال وتصبح ويجب أن ننھج‬
‫على نھجه‪.‬‬

‫‪ -1‬ليس كل ما ھو تراث علم وصحيح ويجب أن ننھج على نھجه‪.‬‬

‫‪ -2‬ليس كل ما ھو تراث مرفوض باعتباره ماضيا ً وسلفياً‪.‬‬

‫‪ -3‬دائما ً ھنالك ما ھو صحيح عقيدة ومنھجا ً ونظرية بينما ھو في الوقت نفسه تراث وقد حمله اآلباء‬
‫واألجداد‪ .‬وھذا ال ينطبق على كل الحاالت بالنسبة لكل الشعوب‪ ،‬وال ينطبق على الشعب المحدد‬
‫بالنسبة إلى كل ما توارثه وإنما بالنسبة إلى بعض ما توارثه‪ .‬وفي ھذا الصدد نرى أن اإلسالم بالنسبة‬
‫إلينا يشكل تراثنا الرئيسي وتاريخنا‪ ،‬ويحدد السمات الخاصة بشعبنا وحضارتنا‪ .‬ھذه حقيقة بعضكم‬
‫غير موافق عليھا لألسف‪ .‬وھو في الوقت نفسه صحيح أصالً عقيدة وشريعة ومنھاجا ً سواء أكان‬
‫تراثا ً لنا أو لم يكن‪ ،‬وھو كذلك بالنسبة إلى من ليس تراثا ً لھم‪ .‬أما من جھة شعبنا فثمة تطابق بين‬
‫األمرين في حالتنا الخاصة‪ ،‬أما إذا أريد الخوض في الحجج التي نستند إليھا في إثبات ھذه الصحة‬
‫فھو ما سنتناوله الحقا ً عند تناولنا موضوع المنھج الذي كما يبدو تضعون له أھمية خاصة‪.‬‬

‫‪<â^Û¢]<gŠÒ<Ùçu‬‬
‫ثانياً‪ :‬في القسم الثاني من أسئلتكم تريدون االستيضاح حول "إلى أي مدى عمل الشعور بسھولة كسب‬
‫الجماھير من خالل ھذا المنھج على إنتاجكم له"‪ .‬ثم تتساءلون "ماذا نحن فاعلون إذا اكتشفنا بعد‬
‫عشر سنوات أن ھذا المنھج لم يستقطب الجماھير ثم تتساءلون عن رأينا بتجربة اليمن الديمقراطي‬
‫وعن سبب ضعف انتشار الماركسية لدينا‪ .....‬الخ‪.‬‬

‫أيھا األخوة على الرغم من بعض القسوة في السؤال إال أننا نجد لكم العذر في طرحه‪ ،‬خصوصا ً لما‬
‫تعرفونه عنا من حب للجماھير وبحث دائم عن خط الجماھير‪ .‬وأخيراً المقولة التي كنا نتبناھا عن‬
‫استحالة نجاح الثورة ما لم تكن مؤيدة من الجماھير‪ ،‬ومتبناة من الجماھير‪ ،‬ومعبرة عن أماني‬
‫الجماھير وصالحھا‪ .‬ولعل ھذه الجوانب في تكويننا السابق سھلت علينا االقتراب من اإلسالم وتفھمه‬
‫ال من ناحية البحث عن سھولة لكسب الجماھير واستقطابھا‪ .‬فھذه لم تكن من ھمومنا ألننا ما طمعنا‬
‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪87‬‬

‫يوما ً بقيادة الجماھير وال تطلعنا إلى ذلك‪ ،‬فقد نشأنا في حركة تقود الجماھير وعملنا بروح الجندي في‬
‫صفوف الثورة وبروح من يضع كتفه للمساعدة في تحمل أعباء الثورة‪ ،‬أو كما تذكرون كنا نقول‬
‫"لنكن الحصوة التي تلقي الخابية"‪ 21‬أما من جھة أخرى فثقوا أننا ال نحمل أوھاما ً بأن الوقوف على‬
‫أرض اإلسالم سوف يجعل الجماھير أو كسبھا أسھل تلقائياً‪ ،‬فعلى األقل ھنالك عشرات التنظيمات‬
‫اإلسالمية التي بقيت معزولة‪ ،‬ولم تستقطب الجماھير‪ .‬بل إن تجربة عدد من األحزاب اإلسالمية‬
‫المعاصرة في فلسطين وغيرھا تؤكد أنھا لم تكسب الجماھير بالرغم من كونھا أحزابا ً إسالمية‪ ،‬أما‬
‫من جھتنا فاألمر ھو أكثر صعوبة حين نقف على أرض اإلسالم‪ ،‬بالنسبة إلى كسب الجماھير‬
‫واستقطابھا‪ ،‬ولھذا أسبابه المفھومة والمشروعة‪ ،‬ومن ثم لن تصدمنا ھذه الحقيقة ال اآلن‪ ،‬وال بعد‬
‫عشر سنوات‪ ،‬وإذا قدر ال سمح ﷲ أن نجد أنفسنا بعد عشر سنوات في موضع مراجعة بعض مواقفنا‬
‫الراھنة فلن يكون ذلك بسبب اكتشاف عدم سھولة كسب الجماھير من خالل طريق اإلسالم‪ ،‬ولن‬
‫يكون مراجعة لإلسالم عقيدة ومنھاجاً‪ ،‬وإنما قطعا ً سيكون ضمن البحث عن أنجع أساليب إحداث‬
‫التغيير في األمة‪ ،‬وفي تحرير فلسطين‪ ،‬سيكون بحثنا عن الثورة‪ ،‬عن إنقاذ األمة‪ ،‬عن أفضل الطرق‬
‫الموصلة إلى حل مشاكل اإلنسان واإلنسانية‪ ،‬لشعبنا والشعوب األخرى‪ .‬ھذه طبعا ً نقطة عارضة‬
‫واعذرونا إذا شممتم به بعض االدعاء‪.‬‬

‫بالنسبة إلى موضوع كسب الجماھير أو دعوة الناس إلى سلوك طريق اإلسالم فإن له شروطا ً أخرى‪.‬‬
‫وإن كان األخذ باإلسالم قد يساعد‪ ،‬أحيانا ً وفي بعض الحاالت على ذلك‪ .‬فاإلسالم نؤمن به أوالً وقبل‬
‫كل شيء لذاته‪ ،‬ومن ثم نتحدث عن أن األخذ باإلسالم يساعد على اكتشاف نظرية الثورة والقدرة‬
‫على تقديم إجابات صحيحة عن التحديات التي تواجه لشعبنا وأمتنا والعالم ككل‪ ،‬وھي إجابات ليست‬
‫جاھزة‪ ،‬وإنما ً تمر عبر فھم البشر المعاصرين لإلسالم ولقضايا عصرھم‪ .‬فالوقوف على أرض‬
‫اإلسالم‪ ،‬بنظرنا‪ ،‬ھو مجرد الخطوة األولى الضرورية لالتجاه الصحيح‪ ،‬ولكن بعد ذلك ثمة‬
‫معضالت ومشكالت كثيرة‪ .‬وانتكاسات وتعرجات وصعوبات‪ ،‬ودموع ودماء‪ ،‬وفشل ونجاح‪ ،‬وربما‬
‫إخفاقات متتالية‪ ،‬بل يمكن القول أن االنتقال إلى أرض اإلسالم بالنسبة إلينا ليس انتقاالً إلى الموقع‬
‫األسھل أو الطريق األسھل‪ ،‬أو الشعبية السريعة الرخيصة‪ ،‬بل بالعكس انه انتقال إلى الموقع‬
‫األصعب‪ ،‬والجھاد األكثر تضحيات‪ ،‬والشعبية األكثر تعقيداً‪ ،‬واألبعد مناالً‪.‬‬

‫أما بالنسبة إلى اليمن الديمقراطي فيمكن أن يقال كل شيء في تلك التجربة عدا النجاح‪ ،‬سواء من‬
‫الناحية الشعبية للحكم أو من الناحية االقتصادية أو من الناحية االستقاللية‪ ،‬فيا لقسوة تلك التقديرات‬
‫التي تقول أن حوالي ثلثي سكان اليمن الجنوبي ھاجروا شماالً وانتشروا في الخارج‪ ،‬أما الباقون فال‬
‫أظن أن أحداً عاد يتحدث بحماسة عن الثورة ومنجزاتھا بعد إعدام سالمين ونفي عبد الفتاح‬
‫إسماعيل‪ 22‬كما ال أحد يتحدث عن انجازات اقتصادية فالشعب أصبح يأكل أقل كثيراً‪ ،‬ولم يعد يسمع‬
‫بالسمك إال نادراً‪ ،‬أما االستقاللية فاليمن أصبحت كأنھا في وضع المحمية السوفياتية‪ ،‬وانتظروا سماع‬
‫أزمات فاألزمات ھناك بال نھاية إال بانتھاء النظام فمن أين جاء تصوركم حول نجاح اليمن الجنوبي‬
‫فھذا تصور ال عالقة له بالواقع‪.23‬‬

‫<<‬
‫)‪ (21‬ﺍﻝﺤﺼﻭﺓ ﺍﻝﺘﻲ ﺘﺴﻨﺩ ﺍﻝﺠﺭﺓ‪.‬‬
‫)‪ (22‬ﻜﺘﺏ ﻫﺫﺍ ﺍﻝﻨﺹ ﻗﺒل ﺍﻝﻤﺠﺯﺭﺓ ﺍﻝﺘﻲ ﺤﺩﺜﺕ ﻓﻴﻤﺎ ﺒﻴﻥ ﻗﺎﺩﺓ ﺍﻝﺤﺯﺏ ﺍﻻﺸﺘﺭﺍﻜﻲ‪.‬‬
‫)‪ (23‬ﻏﻨﻲ ﻋﻥ ﺍﻹﺸﺎﺭﺓ ﺇﻝﻰ ﺃﻥ ﺍﻝﺘﻁﻭﺭﺍﺕ ﺍﻝﺘﻲ ﺤﺩﺜﺕ ﻓﻲ ﺍﻝﻴﻤﻥ ﺒﻌﺩ ﺍﻨﻬﻴﺎﺭ ﺍﻻﺘﺤﺎﺩ ﺍﻝﺴﻭﻓﻴﺎﺘﻲ ﺃﻜﺩﺕ ﺍﻝﺘﻘﺩﻴﺭﺍﺕ ﺍﻝﻤﺫﻜﻭﺭﺓ‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪88‬‬

‫]‪<ÐéfŞjÖ]<»<‹éÖæ<íéŠÒ…^¹]<솿ßÖ]<»<í×ÃÖ‬‬
‫أما موضوع األحزاب والتنظيمات الماركسية والعربية والفلسطينية وعزلتھا الجماھيرية فھذا أمر‬
‫نراه ال يرجع أساسا ً لموضوع أخطائھا‪ ،‬وإنما ترجع أخطاؤھا إلى أساس جوھري في النظرية نفسھا‪،‬‬
‫وإال "كيف ال يخطئون مرة بالصواب" كما قال أحد الشعراء لو كان األساس صحيحا ً والثمرات‬
‫فاسدة فقط‪ .‬أفال يحق أن تتساءلوا حين ترون فساد الثمرات وجفاف األغصان وذبول األوراق عن‬
‫علة‪ ،‬أو علل في الساق والجذور‪ .‬في الواقع إن موضوع الماركسية أخذ ھنا معاناة كبيرة جداً‬
‫وتعقيدات كثيرة وحوارات طويلة حين توصلنا إلى قناعات بالتخلي عن أرضھا‪ ،‬ومنھجھا‪ .‬وھذا أمر‬
‫حصل من مناقشة نظرتھا الفلسفية المادية إلى منھاجھا )المادية الديالكتيكية( إلى فھمھا للتاريخ‬
‫)المادية التاريخية(‬

‫‪-----------‬‬

‫وأخيراً إلى موضوعاتھا االقتصادية المتعلقة باالشتراكية العلمية‪ ،‬ناھيك عن خيبة األمل المتكررة‬
‫التي منينا بھا ونحن ندقق في نتائج تطبيقاتھما على الشعوب المختلفة‪ ،‬خصوصا ً تجربة االتحاد‬
‫السوفياتي‪ ،‬وأوروبا الشرقية‪ ،‬ثم الدول اإلفريقية‪ ،‬ثم فيتنام وكوريا وأخيراً الصين‪ ،‬األمر الذي أدى بنا‬
‫إلى إجراء نقد جوھري إلى أساسات المنظومة الماركسية‪ .‬وبالمناسبة إننا متأكدون بأن األحزاب‬
‫والتنظيمات الماركسية في بالدنا لو قدر ألحدھا أن تراعي موضوع اإلسالم على أفضل صورة‪،‬‬
‫وتتبنى خطا ً كفاحيا ً منذ البداية ضد االستعمار الصھيوني‪ ،‬ولم تتخذ طريق التبعية لالتحاد السوفياتي‪،‬‬
‫كما كنا نأمل في السابق‪ ،‬وكنا نعمل باتجاھه‪ ،‬فإن كل ذلك لن ينقذھا من مشكلتھا الجوھرية مع الناس‬
‫وتنظيم االقتصاد والمجتمع‪ .‬أي لو قدر لھا أن تتالفى ما تسجلونه عليھا من أخطاء وتحظى على تأييد‬
‫الجماھير وتقودھا في معركة التحرير واالستقالل‪ ،‬فإنھا سرعان ما تتحول إلى دولة بيروقراطية‬
‫طاغية معزولة‪ ،‬ھي والحزب الطليعي‪ ،‬عن الناس‪ .‬بل ستصبح قمعية‪ ،‬مصادرة ألدنى أشكال‬
‫الحريات الفكرية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬ويصبح عليھا حراسة حدودھا لئال تفرغ بالدھا من شعبھا الذي‬
‫سيسعى للھرب زرافات ووحدانا‪ ،‬ألن المشكلة تكمن في فھمھا الخاطئ للتاريخ واإلنسان ولمفھوم‬
‫العدالة وللملكية وللدولة‪ ،‬فضالً عن فساد فلسفتھا ومنھجھا‪ ،‬إنه ال يكفي أن تنال شھادة النجاح حين‬
‫نثبت الوجه البشع للرأسمالية واستغاللھا وموبقاتھا‪ .‬ألن عليھا أن تقدم بديالً‪ ،‬ال يأتي وجھا ً آخر للعملة‬
‫نفسھا‪ .‬وھذا ما خدع الكثيرين حين قامت على نقد الرأسمالية وھي أسوأ منھا‪ .‬فھي بدالً من معالجة‬
‫الموضوع المذكور انطالقا ً من نظرة ومنھجية متوازنة تشكل بديالً حقا ً نقلت الملكية الفردية‬
‫الرأسمالية الطاغية إلى ملكية الدولة البيروقراطية‪ ،‬أو نقلت الطغيان السياسي للسياسيين الفاسدين‬
‫الرأسماليين إلى طغيان قلة في قيادة الحزب الذين ال يسمحون بنقد أو مناقشة‪ ،‬وتجري كل أمورھم‬
‫وصراعاتھم في غرف مغلقة وراء الكواليس‪ ،‬فترى أھم تطور يحرزه بلد اشتراكي يكمن في تطور‬
‫الجيش وأجھزة القمع واألسلحة والدولة‪ ،‬أما الشعب فتتبخر من أمامه تدريجيا ً أحالم "االشتراكية"‬
‫والعدالة والحياة األفضل‪" ،‬والديمقراطية األفضل من ديمقراطية الرأسمالية" )ألنھا‪ ،‬كما ادعوا‬
‫تصبح ديمقراطية اقتصادية واجتماعية(‪ .‬وھكذا يبدأ الشعب يفقد حماسه‪ ،‬خصوصا ً جماھير الفالحين‬
‫والعمال والبسطاء‪ ،‬إن حدث وكانت ھناك حماسة‪ ،‬وبھذا تدخل البالد في دورة جھنمية تصل في كثير‬
‫من األحيان بالناس إلى أن يتمنوا العودة إلى العھود السابقة أو إلى الرأسمالية‪ ،‬فأمريكا مكروھة في‬
‫كل مكان إال في أوروبا الشرقية والشعب الذي قاتل األمريكيين بقيادة الحزب الشيوعي في فيتنام‪،‬‬
‫بكل بسالة‪ ،‬أصبح في وضع سيء جداً اآلن بعد عشر سنوات من نجاح الثورة‪ ،‬فدعك مما يجري‬
‫وجرى من انتھاكات كانت لمبادئ "االخوة" في العدوان على كمبوديا والوس‪ ،‬فالشعب في فيتنام‬
‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪89‬‬

‫نفسھا أصبح يھرب باآلالف وال يردعه إال رصاص حرس الحدود أو األمواج العالية التي التھمت‬
‫وتلتھم العشرات من الذين يھربون بقوارب من صنع أيديھم‪ ،‬وھؤالء ليسوا الرأسماليين أو‬
‫البرجوازية الصغيرة ألن األخوين لھم وسائلھم األخرى في الھرب‪ .‬ثم الدور السوفياتي في أرتيريا‬
‫وأفغانستان اآلن‪ ،‬وقبل ذلك الكثير في الماضي كي يشكل فضيحة كبرى للماركسية وال يجعل المسألة‬
‫مجرد أخطاء أو نزوات طاغية اسمه "ستالين" أو خروتشوف أو بريجينيف فالحكومات الماركسية‬
‫صادرت كل الحقوق الخاصة باإلنسان والشعب تحت دعوى أنھا ممثلة الشعب وتقرر له ما ھي‬
‫مصلحته وقامت إمبراطوريات ظالمة تحت شعار "األممية" ولھذا نرى أن البديل الحقيقي‬
‫للماركسية‪ ،‬في المقابل ليس الرأسمالية أو العكس‪ .‬وإنما منظومة عقدية منھجية نظرية تجمع بين‬
‫الجوانب الروحية واألخالقية والتوازن وااللتزام بالمثل العليا وھي تعالج الجوانب المتعلقة بالحياة‬
‫المادية وعمليات اإلنتاج‪ ،‬والصراع السياسي‪ .‬وال بد من الجمع بين الملكية الفردية المحدودة‬
‫والملكيات االجتماعية "جمعيات ومؤسسات شعبية‪ ،‬بلديات‪ ،‬ملكيات عائلية وجھوية وأرض مشاع‬
‫"على مستوى القرية مع عدم اللجوء إلى ملكية الدولة إال في الحاالت التي ال يمكن أن تقوم بھا إال‬
‫الدولة‪ ،‬وذلك من أجل بناء المجتمع قويا ً في مواجھة الدولة ليمنع طغيانھا‪ ،‬وإبقاء الدولة ناصراً للعدل‬
‫ومتدخلة ضد الطغيان إذا وقع في المجتمع‪.‬‬

‫أما إذا أصبحت الدولة كل شيء تصبح ھي الخصم والحكم‪ .‬ثم ھنالك المسألة التي يجب عدم‬
‫االستھتار بھا وھي المتعلقة بحقوق الناس وكرامتھم‪ .‬بما في ذلك حق المعارضة السياسية المنظمة‬
‫والعلنية‪ ،‬وحق التنافس الشريف في انتخابات حرة‪ ،‬وسائر حقوق اإلنسان فيما يتعلق بالمعتقد وحرية‬
‫الرأي وعدم تعريض الناس وكراماتھم لعسف رجال المخابرات والشرطة أو التعرض للتعذيب‪ ،‬أو‬
‫مصادرة حرياتھم بدعوى الشبھة وھكذا‪ ،‬وإننا نرى أن كل ھذه يضمنھا اإلسالم ويمكن أن تؤسس‬
‫على أرضه وھي نابعة من جوھر نظريته التي ال تضع المسألة إما ملكية فردية أو ملكية الدولة وإما‬
‫ليبرالية رأسمالية أو دكتاتورية دولة البروليتاريا‪ ،‬أما التخلي عن الحياة المادية وإما الولوغ فيھا بال‬
‫رادع أو وازع‪ .‬وكذلك ال تفسر التاريخ من وجھة نظر أحادية الجانب قوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج‬
‫أو صراع الطبقات أو حصر التاريخ بالمراحل الخمسة‪ ،‬فالظواھر التاريخية يجب أن ترى بصورة‬
‫شمولية تجمع فيھا مختلف الجوانب والعوامل‪ .‬وال يوجد عامل يلعب العامل الحاسم في كل الحاالت‬
‫والمراحل فأنت ال تستطيع أن تفسر مثالً ثورة اإلسالم األولى وبناءه المعنوي‪ ،‬الفكري‪ ،‬االقتصادي‪،‬‬
‫في البحث عن أدوات اإلنتاج وترى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج‪ ،‬وما حدث فيھا من تطور في الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬حتى الذين يضعون أھمية لتحول طريق التجارة إلى الحجاز يكونون قد ادخلوا عامالً غير‬
‫عامل أدوات اإلنتاج وقوى اإلنتاج‪ .‬وال يدخل ضمن نظرية صراع الطبقات النابعة من الموقع في‬
‫العملية اإلنتاجية القاعدية‪ .‬إذا كان اإلسالم وتجربته انعكاسا ً لواقع المجتمع المكي والقبلي المتخلف‪،‬‬
‫فكيف يكونان على ھذا المستوى من العمق والشمول إلى حد يبز أرقى األفكار والنظريات التي مادتھا‬
‫الحضارة المعاصرة‪ .‬ولو عدتم إلى منطوق النظرية الماركسية بالنسبة إليھا لوجدتم أن ھذه األفكار‬
‫مجرد انعكاس لوضع معين‪ ،‬وتعبر عن أفكار طبقة التجار‪ .‬ومن ثم لم تعد في سجل التاريخ إال شيئاً‬
‫من الماضي‪ .‬وإذا كانت لھا من استمرارية فھي استمرارية قوة التقاليد بالمعنى السلبي للكلمة‪ .‬ولكن‬
‫ھل األمر كذلك أم فوق ذلك بكثير؟ في الواقع إن تطبيق المنھج الماركسي في تفسير التاريخ يؤدي‬
‫إلى االضطراب واألخطاء في كل المجاالت تقريباً‪ ،‬فالماركسيون كم تخبطوا خبط الشعراء وھم‬
‫يفسرون تاريخ المسلمين‪ ،‬أو ھم يفسرون تاريخ آسيا وإفريقيا بل أوروبا نفسھا‪ .‬مما يدل على أن‬
‫المنھج المذكور ليس تلك العصا السحرية التي تمسك بناصية التاريخ وقوانينه‪ .‬بل أثبتت من مظاھر‬
‫الضعف أكثر بكثير ما أثبتت من مظاھر القوة‪ .‬وكم سنكون سعداء لو دلنا أحد على كتاب تاريخ‬
‫لماركسي واحد عاش خمس سنوات صامداً حتى في نظر الماركسيين أنفسھم‪ .‬تصورا أن تاريخ‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪90‬‬

‫الحزب الشيوعي في االتحاد السوفياتي تعاد كتابته مع كل موت ألمين عام بما في ذلك األحداث التي‬
‫وقعت سنة ‪ 1902‬مثالً‪ .‬أظن آن األوان لنتخلص من ذلك الوھم الكبير )اإلرھاب الفكري( بأن‬
‫الماركسية ھي "المنھجية العلمية الموضوعية وبيدھا أسرار الحقيقة والمعرفة"‪ .‬فھذا ادعاء لم يثبته‬
‫الواقع ال من خالل الماركسيين الفلسطينيين والعرب الذين تعرفون مدى علميتھم وموضوعيتھم ‪ -‬وال‬
‫من خالل غيرھم‪ ،‬انظروا إلى اتھامات السوفييت للصينيين و الشيوعيين اإليطاليين واليوغسالف ‪-‬‬
‫وانظروا االتھامات الموجھة للسوفييت من ماركسيين كثيرين‪ ..‬تجدوا أن كل طرف يؤكد أن اآلخر‬
‫أحادي الجانب ومتافيزيقي‪ ،‬وغير علمي‪ ،‬وغير موضوعي ھذا دون التعرض لالتھامات المتعلقة‬
‫باتھامه بالبرجوازي والبرجوازية الصغيرة أو الشوفينية أو التوسعية واالستبداد والفساد‪ ..‬الخ‪ .‬أظن‬
‫أن ھذه الظواھر ليس لھا تفسير في النظرية وإنما لھا تبريرات‪ ،‬بينما ترون في اإلسالم تفسيراً لكل‬
‫حالة انحراف تحدث من قبل المسلمين‪ ،‬وال مجال لتبرير جرائم أو قتل بال حق أو مفاسد أو مظالم‪.‬‬
‫فنصوص القرآن والسنة ھي التي تشكل المعيار الفاصل بين الحالل والحرام‪ ،‬والھدى والضالل‪،‬‬
‫والعدل والظلم‪ ،‬وھي التي تكشف حقيقة عن أھم سنن ﷲ في الناس واآلفاق‪.‬‬

‫ال تنسوا أيھا اإلخوة أننا واجھنا كل ھذه المسائل في الماضي بالتبريرات مثلكم اليوم‪ .‬وكنا نظن أن‬
‫المشكلة في األفراد وفي سوء التطبيق‪ .‬ولكن عندما تكون األخطاء ھي الظاھرة العامة لكل الحاالت‬
‫ومع كل األفراد أفال يحق أن نبحث عن الخلل في جوھر النظرية والفكر‪ .‬وإلى متى يبقى ھنالك ذلك‬
‫الماركسي المغرور الذي يتصور أنه الوحيد الذي يفھم‪ ،‬أو سيفھم‪ ،‬جوھر الماركسية وتطبيقھا بينما‬
‫الجميع قد أساؤوا فھمھا وتطبيقھا ابتدا ًء من ستالين وخروتشرف ومروراً بماوتسي تونغ وكيم ايل‬
‫سونغ وكاسترو وانتھا ًء ببرجينف‪ .‬بكلمة أخرى على الماركسيين أن يقروا بأن ھذه ھي الماركسية‬
‫وھذه تجلياتھا وثمارھا‪ ،‬ولن يخرج منھا أفضل ما خرج منھا‪ ،‬ھذا إذا لم يكن المسار التقھقري أكثر‬
‫فأكثر وھو كذلك على كل حال‪ ،‬فرجالھا المعاصرون اآلن "أقزام" بالمقارنة لمن سبقھم واآلتون‬
‫سيكونون أصغر‪ ،‬ألن الماركسية دخلت منذ زمن طويل الطريق المسدود حتى بمقاييسھا الكالسيكية‪،‬‬
‫وال بد لھا من رصاصة الرحمة‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪91‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ‬

‫]‪ì…^–£]<íÒ†ÃÚ<»<Ýø‰ý‬‬
‫القسم الثاني من أسئلتكم يقول‪" :‬أال ترون أن التركيز الحضاري في كتاب "اإلسالم في معركة‬
‫الحضارة"‪ ،‬لألخ منير شفيق‪ ،‬على تقسيم المناھج واإليديولوجيات وفقا ً لألنماط الحضارية سيقود إلى‬
‫بعض النتائج المضللة وأھمھا أننا سنجد أن إيديولوجيات مختلفة في الحضارة الغربية بل ومتناقضة‬
‫قد وضعت في سلة واحدة وحوكمت من منظار واحد‪ .‬وھو استناداً إلى أنھا جميعا ً نتاج حضارة‬
‫الغرب وھي بعيدة عنا وليست حضارتنا لذا فإن الفلسفات والمناھج التي نمت فيھا ال تناسبنا"‪.‬‬

‫يالحظ أيھا اإلخوة من طريقة طرح السؤال أعاله لم يجر تدقيق كافً فيما طرح في كتاب "اإلسالم‬
‫في معركة الحضارة" حول الموضوع الحضاري واقتصر الرد علي أن ھذا طرح يقود إلى نتائج‬
‫مضللة‪ ،‬منھا وضع اإليديولوجيات المختلفة والمتناقضة في الغرب في سلة واحدة ورفض إفرازات‬
‫الحضارات األخرى لمجرد أنھا غير حضارتنا وال تناسبنا وغريبة عنا‪.‬‬

‫لذلك لنوضح وجھة نظرنا حول الموضع ‪:‬‬

‫‪ (1‬إن وضع خارطة األنماط الحضارية على مستوى العالم يعكس واقعا ً موضوعيا ً تاريخياً‪ ،‬وال‬
‫عالقة له بما يثار من مخاوف من نتائج مضللة‪ .‬إن ھذا الخوف ال يجوز له أن يطمس حقيقة كبرى‬
‫في تاريخ البشرية قد يؤدي طمسھا إلى نتائج تشكل خطراً كبيراً وال يجوز أن تطمس حقيقة خوفا ً من‬
‫النتائج المترتبة عن كشفھا‪ .‬فمخاوفكم ال تشكل برھانا ً نظريا ً على صحة رأيكم‪ ،‬ولنسأل ھل عرف‬
‫العالم أنماطا حضارية متغايرة أم ال؟‬

‫الحقيقة تقوا أن الحضارة الصينية والحضارة الھندية‪ ،‬وحضارة الھنود الحمر والحضارة اإلسالمية‬
‫والحضارة األوروبية ليست مجرد أوھام أو تسميات بال محتوى ومعنى‪ ،‬وبال نتائج‪ .‬ثم إن المسارات‬
‫التاريخية التي أخذھا التطور الحضاري األوروبي من العبودية واإلقطاع والرأسمالية لم تعرفه‬
‫الحضارة األخرى وإنما عرفت أنماطا ً أخرى في بنيتھا التحتية والفوقية‪ ،‬ويكفي أن نالحظ أن ھذه‬
‫الحقيقة اصطدم بھا ماركس حين أشار إلى نمط اإلنتاج اآلسيوي‪ .‬واصدم بھا ماركسيون عديدون‬
‫حين سموا نمط اإلنتاج اإلسالمي بالنمط الخراجي‪ ،‬أو اإلقطاع العسكري‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫خذوا مثالً‪ ،‬إن الذي يدقق بأصول القانون الروماني الذي ھو أساس التشريع في الحضارة الغربية‬
‫تراه يختلف في الجوھر عن أصول التشريع اإلسالمي‪ .‬والتشريع يعني البناء القانوني والحقوقي‪،‬‬
‫يعني تكوين اجتماعي مختلف حين يختلف مع نظيره‪.‬‬

‫‪ (2‬الحديث عن أنماط حضارية مختلفة ال يعني وضع مفرزات كل حضارة في سلة واحدة‪ ،‬فالتفريق‬
‫فيما بينھا ضروري وأساسي حين يتعلق األمر بدراسة التفاصيل ولكن في الوقت نفسه من أصول‬
‫العلم أن ترى األصول المشتركة إن كانت ھناك أصول مشتركة ‪ -‬فماركس لم يخجل من أن يعتبر‬
‫الماركسية ابنة الفلسفة األلمانية االشتراكية الفرنسية واالقتصاد السياسي االنجليزي‪ .‬وھل يمكن ألحد‬
‫أن يفھم ماركس دون الرجوع إلى الفلسفة اإلغريقية حتى ھرقليطس‪ .‬ولكن لن تروا في طريقكم وأنتم‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪92‬‬

‫تتبعونه أية صلة بمحمد صلى ﷲ عليه وسلم وال حتى بابن رشد وابن سينا وابن خلدون‪ ،‬فھؤالء‬
‫أصالً ليسوا في قاموسه‪ ،‬ناھيك عن عالقته باألصول الحضارية األخرى‪ .‬إن عدم رؤية الطابع‬
‫األوروبي لماركس وأنجلز ولينين بما في ذلك تأثرھم باليھودية والمسيحية بإطارھما األوروبي‪،‬‬
‫يظلمھم ويبسط األمور كثيراً‪ .‬ففي علم األحياء يبدأ العالم بتقسيمھا إلى األجناس ثم اآلرومات وفصال‬
‫حتى تصل إلى التفريق بين كل فرد‪ ،‬ولكن إذا أخطأت في التقسيم األول سيظل الخطأ ً وراءك وأنت‬
‫تدخل في األكثر تحديدا ً وتفصيالً‪ .‬فمن يخطيء في التمييز بين الحضارات في عمومھا‪ ،‬يخطيء وھو‬
‫ينتقل إلى األكثر تفصيالً وتحديداً‪ .‬أما إذا كان ھذا التقسيم الواسع قد يقود البعض إلى نتائج مضللة‪،‬‬
‫كالفشل في التمييز بين الحاالت المختلفة المتناقضة فھذا ذنب ذلك البعض وليس ذنب التقيد الصارم‬
‫بحقائق الواقع والتاريخ والعلم‪ .‬وبالمناسبة وفي كل الحاالت يجب االنتباه دائما ً عند معالجة حاالت‪ ،‬أو‬
‫إيديولوجيات مختلفة ومتناقضة‪ ،‬التمييز بين التناقض الناشئ بين طبيعة مختلفة والتناقض الناجم عن‬
‫اختالف بين وجھي عملة واحدة‪.‬‬

‫‪ (3‬إن طمس حقيقة تعدد األنماط الحضارية ومحاولة اعتبار مسار النمط الحضاري األوروبي‬
‫باعتباره القانون العالمي أدى بماركس إلى القول‪":‬إن أمام بريطانيا مھمة تاريخية مزدوجة تؤديھا في‬
‫الھند‪ ،‬األولى تحطيم البنى القديمة‪ ،‬والثانية زرع الحضارة األوروبية"‪ .‬ولو قبلنا بحسن النيات التي‬
‫كانت تتصور أن تحطيم البنية الحضارية الثقافية والنمط االجتماعي التقليدي للشعوب األخرى‬
‫وإحالل الحضارة األوروبية مكانھا يعني التقدم ووالدة الرأسمالية‪ ،‬قد أثبتت الوقائع أن نتائج ھذه‬
‫العملية كانت تعني‪ ،‬وأدت بالفعل إلى خلق األنماط المتغربة التابعة للمركز الرأسمالي واإلمبريالي‪،‬‬
‫ولم تؤد ال إلى نھضة برجوازية وال إلى استقالل حقيقي‪ .‬إن تحطيم البنى الحضارية والثقافية‬
‫االجتماعية التقليدية للشعوب األخرى كان الشرط لتحطيم استقاللھا وھذا خلق حالة التبعية الدائمة‬
‫التي استمرت بعد االستقالل بل زادت بعد االستقالل‪ ،‬والى جانبھا حالة تبعية البلدان التي سارت على‬
‫"الطريق الال رأسمالي‪ -‬لالتحاد السوفياتي ‪ -‬بغض النظر عن التبعية التي تعاني منھا غالبية بلدان‬
‫العالم الثالث‪ .‬ومن ثم‪ ،‬إن ارتباط االستقالل الحقيقي بمسائل الھوية والنمط الثقافي والحضاري أصبح‬
‫اآلن حقيقة يعترف بھا حتى كثير من الماركسيين‪ ،‬وما الندوة التي نشرتھا مجلة الحرية لعلماء‬
‫سوفيات تحت عنوان "الھوية والنمط الثقافي والحضاري" إال اتجاھا ً محرجا ً للماركسية‬
‫والماركسيين‪ .‬أنھم راحوا يعترفون اآلن بحقيقة كثيراً ما لفوا وداروا حولھا وعملوا على تجاھلھا‬
‫ولكنھا أصبحت اليوم تصدمھم في عقر دارھم‪ ،‬فضالً عن تجلياتھا في البالد اإلسالمية والھند‬
‫والصين وإفريقيا‪.‬‬

‫لھذا فإن مالحظتكم حول الموضوع الحضاري تحتاج إلى إعادة تدقيق من جانبكم وإال فاتكم القطار‬
‫حتى غالة الماركسيين الذين يسعون اآلن الخروج من مآزقھم النظري الخطير‪ .‬خصوصا ً بعد الضوء‬
‫األخضر الذي أطلقته لھم الندوة المذكورة "من حيث االھتمام بالتقليدي ومحاولة المزاوجة بينه وبين‬
‫المعاصر"‪ ،‬طبعا ً سيزيدون تخبطا ً ألنھم ما زالوا يدورون في الفلك نفسه‪.‬‬

‫‪ (4‬إن محاولة فرض النمط الحضاري األوروبي بوجھه الرأسمالي أو االشتراكي على الشعوب‬
‫األخرى من الخارج‪ ،‬أو من خالل النخبة المتسلطة في الدولة‪ ،‬أثبت فشله في التجربتين الرأسمالية‬
‫واالشتراكية ألن التغير )التطور أو الثورة( إذا لم يكن ناتجا ً من األعماق وتتمسك به الجماھير‪،‬‬
‫سينتھي إلى التبعية والفشل والقمع وأبشع أشكال الدكتاتورية‪ .‬وبالمناسبة في مرحلة من مراحل‬
‫تفكيرنا ونحن نناقش ھذه المسائل كنا نستند إلى مقولة ماركسية تقول "أن النظام الجديد ‪ -‬الثورة‬
‫يخرج من أحشاء الطبقة ‪ -‬المجتمع المعني" فالعملية تتكون ھناك وتنضج ھناك ألنھا مسألة‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪93‬‬

‫موضوعية" ومن ھنا كنا نسأل‪ :‬أي نوع من الثورة تحملھا أحشاء األمة العربية أي نظام جديد‪ ،‬أي‬
‫تغيير؟ وما ھي سماتھا بغض النظر عن رغباتنا وأفكارنا ولھذا منذ البدء لم يكن في منھجنا اختراع‬
‫ثورة من الكتب الماركسية أو من عقولنا‪ ،‬ألنھا ستكون محاولة فرض رغباتنا وتصوراتنا على الواقع‬
‫وتسميتھا ثورة‪ .‬إن ھذه المسألة عمل بعكسھا في الفكر الماركسي من ماركس وإنجلز ولينين حتى‬
‫ماوتسي تونغ واستبدلت بوضع برامج للثورة غير نابعة من أعماق األمة‪ ،‬أما المجاالت التي نجح بھا‬
‫بعض الماركسيين‪ ،‬كماوتسي تونغ وھوتشي منه‪ ،‬بتوليد ثورة فقد واجھوا كثيراً من العنت وھم‬
‫يحاولون تطبيع أفكارھم الماركسية مع تراثھم وتاريخھم وحضارتھم وروح شعبھم‪ .‬وقد أثبت الواقع‬
‫عبث ھذه المحاوالت في ظل تبني الماركسية‪ .‬ومع ذلك لعلكم ترددون عبارة "التطبيق الخالق على‬
‫الظروف الخاصة"‪ .‬اذھبوا حتى النھاية في فھم ھذه الظروف الخاصة‪ ،‬واذھبوا حتى النھاية في‬
‫الخالق‪ ،‬تجدوا أنفسكم‪ ،‬في ظروف بالدكم اإلسالمية في مواجھة مع اإلسالم ‪ .‬فيكف‬‫ّ‬ ‫مسألة التطبيق‬
‫يمكن أن يكون ھناك تطبيق خالق وأنتم تحملون الماركسية المتصادمة مع اإلسالم‪.‬‬

‫بكلمة أخرى‪ ،‬إذا بحثنا في سمات الثورة في بالدنا سنجد أنھا سمات إسالمية فال نظاما ً جديداً في‬
‫أحشاء مجتمعنا غير النظام اإلسالمي‪ .‬ھذه حقيقة توصلنا إليھا ونحن غير راغبين فيھا‪ ،‬في البداية‪،‬‬
‫ولم تكن تلتقي مع رغباتنا وھوانا وأفكارنا ونظرياتنا‪ ،‬فكان علينا أن نبذل الجھد لدراسة اإلسالم‪.‬‬
‫وكان علينا أن نضحي بكثير مما بنيناه في المجال الفكري والسياسي من أجل مواصلة التقدم في‬
‫اكتشاف الحقيقة‪ ،‬فاغلبنا اقتنع بھذه الحقيقة دون أن يكون قد اقتنع بالثورة اإلسالمية‪ ،‬أو كان متعاطفا‬
‫مع الجانب السياسي‪ ،‬والحضاري في اإلسالم فقط‪ .‬والبعض وجد أنه غير مستعد للمساعدة على والدة‬
‫ثورة تنزل من أحشاء المجتمع‪ ،‬وھي تھتف "ﷲ اكبر"‪ ،‬فآثر االبتعاد واالھتمام بأموره الخاصة بعد‬
‫أن اقتنع بعدم وجود ثورة أخرى في تلك األحشاء‪ .‬ومن ھنا بدأت المسيرة الجديدة عبر حوار طويل‬
‫حتى انتھت بعدد ال بأس به من اإلخوة إلى االقتناع الضميري الذاتي بالعقيدة أيضا ً‪ .‬فأصبح الموضوع‬
‫بالنسبة إليھم يقوم على أسس غير المقوالت آنفة الذكر حول الحضارة والتغريب وفشل التجارب‬
‫الماركسية في البلدان اإلسالمية على وجه الخصوص وحول الثورة وسماتھا الخاص‪ ،‬لذلك يمكن‬
‫القول أن البعض يقف على أرض اإلسالم وقوفا ً خالصاً إيمانا ً بعقيدته وانطالقا ً من قناعة بصحته‪.‬‬
‫وبغض النظر عن سائر االعتبارات‪ .‬وال يبالي ھذا البعض‪ ،‬ونحن منھم‪ ،‬بكل تلك الحجج التي‬
‫أوردناھا‪ ،‬وھناك بعض آخر حسم قناعته بأن "ال ثورة في بالدنا إال ثورة إسالمية" وھو يتعامل مع‬
‫الموضوع تعامالً سياسيا ً وحضاريا ً فقط‪ .‬وھنالك بعض ما زالوا يناقشون ويجادلون ويطرحون‬
‫التساؤالت الشبيھة بتساؤالتكم‪ .‬وكل ذلك أمر طبيعي وصحي‪ ،‬ما دام العمل الجھادي ضد العدو‬
‫الصھيوني مستمراً والرجال األشداء في الميدان ليسوا فقط عضالت قوية‪ ،‬وإنما ھم أيضا ً عقول‬
‫متفتحة تفكر وتناقش وتتسائل وتتعذب في البحث عن الحقيقة‪.‬‬

‫ال‪ - :‬مواصلة النضال وعدم الخوف من‬ ‫إن الخط الصحيح في معالجة ھذا الوضع يقضي أو ً‬
‫التضحيات وتصعيد العمل والجھود‪ ،‬ثانياً‪ :‬المحافظة على روح األخوة والوحدة والتعاون والثقة فيما‬
‫بيننا لمواصلة الكفاح‪ ،‬والجھاد على أحسن وجه‪ ،‬ولخوض الحوار الجاد على أحسن وجه‪ ،‬ثالثاً‪ :‬فتح‬
‫النوافذ واألبواب في عقولنا ونفوسنا ونحن نناقش أفكارنا من حولنا‪ ،‬وتجاربنا وتجارب من حولنا‬
‫ونحن نختلف ونتفق‪ ،‬وبھذا الصدد علينا أال نخاف من االختالف‪ ،‬وإنما من الجمود‪ ،‬وأال نخاف من‬
‫تعدد اآلراء وإنما من مصادرة اآلراء وكبتھا‪ ،‬علينا أن نتعلم بناء وحدة ضمن التعدد واالختالف‬
‫والصراع ال وحدة الطوب الذي يصنع على قالب واحد ويكدس فوق بعضه باإلسمنت والحديد‬
‫ويصبح بيتا ً قابالً ألن يكون خمارة أو إسطبالً أو يكون مدرسة أو مستشفى‪ ،‬على ضوء ما يرى ذلك‬
‫من بيده المفاتيح‪ .‬وفي ھذه الحالة ال تعجبكم قوة الجدران وإنما انظروا إلى ما أصبحت تخدمه‪ .‬أو‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪94‬‬

‫األھداف التي تسعى إليھا وفي المقابل‪ ،‬المطلوب بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً‪ ،‬ولكنه ليس من‬
‫طوب وإنما من بشر أخوة مؤمنين مسلمين يتكافلون ويتعاونون ويجتھدون ويختلفون‪ .‬فال يجب أن‬
‫يسمح للوحدة أن تصادر الفكر وال يجب أن يسمح لحرية الفكر أن تصادر الوحدة‪.‬‬

‫‪†}`jÖ]æ<Ý‚ÏjÖ]<…^éÃÚ‬‬
‫القسم الرابع ‪ :‬من تساؤالتكم‪" .‬أال ترون أنه لو بقى اإلسالم كنھج ومراتب حياة سائداً في منطقتنا‬
‫مدى قرون االنقطاع الحضاري العترته تطورات جذرية ربما شملت أموراً جوھرية فيه ؟" السؤال‬
‫كما تلحظون افتراضي‪ ،‬اإلجابة عليه تتوقف على النظرة التي يحملھا المرء بالنسبة إلى التاريخ‪،‬‬
‫فھناك التصور الماركسي الذي يرى المراحل التاريخية التي عرفتھا أوروبا حتمية‪ ،‬ومن ثم يتصور‬
‫أن الطريق اإلسالمي كان سيصل إلى الرأسمالية واالشتراكية أو إلى ما نشاھده اليوم من سمات في‬
‫الحضارة األوروبية المعاصرة‪ ،‬لكن تجربة ثالثة عشر قرنا ً عاشتھا بالدنا في ظالل الحضارة‬
‫اإلسالمية والمجتمع اإلسالمي والتطور العام باعتماد اإلسالم العقيدة والمنھج أساسا ً لتشريع وتنظيم‬
‫الحياة لم تشھد صورة شبيھة لما حدث في أوروبا من نظام عبودي وإقطاعي ورأسمالي‪ ،‬فقد عملت‬
‫ھنا قوانين أخرى في ضبط الحركة الداخلية للتغير وللفكر اإلسالمي في البالد اإلسالمية في مختلف‬
‫النواحي‪ .‬وكانت أطراف الصراع تحمل سمات مختلفة‪ ..‬فعندما قام "الملك العضوض" أو قامت‬
‫حكومات الغلب "سيطرة قادة العسكر مثال" أو عندما دارت صراعات فكرية حتى على مستوى‬
‫اإللحاد والزندقة‪ ،‬وفي المقابل عندما كانت تندلع المقاومة والثورات من أجل إعادة حكم اإلسالم بما‬
‫ھو قريب من صورته األصلية‪ ،‬أو عندما كانت تشن حروب المقاومة ضد الغزاة بما في ذلك‬
‫التجارب الثورية المعاصرة العظيمة مثل الثورة المھدية والثورة السنوسية وثورة عبد القادر‬
‫الجزائري‪ ،‬وعبد الكريم الخطابي وعز الدين القسّام‪ ،‬فإن كل ذلك كان يتم ضمن قوانين وسمات‬
‫تختلف جوھريا ً عما كان يحدث في إطار الحضارة األوروبية في القديم والحديث‪ ،‬ھذه بادئ ذي بدء‪،‬‬
‫حقائق تاريخية يجب أن يسلم بھا الماركسي والليبرالي‪ ،‬ناھيك عن الفكر اإلسالمي‪ ،‬فإذا كان األمر‬
‫كذلك فالجواب عن السؤال يجب أال يتصور تكراراً للطريق الرأسمالي أو االشتراكي السوفياتي‪ ،‬أو‬
‫تكراراً للحضارة األوروبية المعاصرة‪ .‬طبعا ً إن ھذا المدخل إلى اإلجابة عن السؤال تغطي جانبا ً منه‬
‫ويجب أال يفھم منھا أن استمرار الطريق اإلسالمي كان سيبقي األمور حيث بقيت منذ مائة سنة‪ ،‬فقد‬
‫كان من الممكن أن تحدث عدة تطورات‪ .‬مثالً كان من الممكن أن تقوم أنظمة استبدادية تحاول‬
‫التالعب بالشرع لتعطي صيغة احتيالية للربا ولالستغالل الفاحش أو الملكيات الكبيرة‪ .‬وقد جرت مثل‬
‫ھذه المحاوالت في السابق ولكن كانت تواجه ولو بعد حين بمقاومة للعودة إلى الشرع وكان ھذا دائما ً‬
‫خط كبار العلماء والثورة وخط الجماھير المسحوقة فيما كان خط الطغاة واالستغالليين والعساكر‬
‫والجباة إقطاعي ضمن قانون اإلرث اإلسالمي‪ .‬ومن ھنا كان يجب تعطيل الشرع حتى يقوم مثل ھذا‬
‫النظام ويستقر وتتوارث‪ ،‬ولم يكن من الممكن أن يقام حتى نظام إقطاعي جبائي‪ ،‬ال ملكية إقطاعية في‬
‫أسوأ الحاالت‪ ،‬دون تغيير في الشرع‪ .‬ولكن من كان يجرؤ قبل السيطرة االستعمارية على الجھر‬
‫بتعطيل الشرع أو التخلي عنه؟ لذلك كان الشرع قادراً دائما ً على استعادة صفائه كلما طغى عليه‬
‫بعض الركام‪ .‬وقد أثبت التاريخ الطويل لألمة اإلسالمية‪ ،‬أن ثمة دورة لكل حوالي مائة عام تشھد‬
‫ثورة شعبية للعودة إلى تطبيق الشرع واإلطاحة بالظلم والترف الفاسق واالستغالل وقد جاء في‬
‫الحديث الصحيح عن رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم "أن ﷲ يبعث كل مائة عام ألمتي من يجدد‬
‫دينھا"‪ .‬والحظ ھذا األمر حتى "انجلز" في معرض تعقبيه على ثورة المھدي في السودان وسماه‬
‫المودة إلى الشرع من قبل الفقراء كل مائة عام‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪95‬‬

‫ومن ثم نرى أن مسار التطور التاريخي عند الضرورة ما كان سيأخذ المسار الذي اتخذته أوروبا‪.‬‬
‫وقد أثبت الواقع الحديث أن فرض الحضارة األوروبية جاء من الخارج وبالعنف أساسا ً فاالستعمار ال‬
‫يؤدي إلى قيام مراكز عالية موازية وذات سيطرة وإنما يؤدي إلى تكريس التبعية لمراكزه ھو‪ .‬وفي‬
‫المقابل يترك للمستعمرات التبعية الحضارية في ذل مقيم للغرب‪.‬‬

‫ولھذا البد من مشروع عالمي ثوري وجذري يتضمن فعالً عملية انفالت من ھذه المراكز الرأسمالية‬
‫االحتكارية )أمريكا والغرب(‪ ،‬ورأسمالية الدولة االحتكارية ودكاتورية الحزب الواحد )االتحاد‬
‫السوفياتي(‪ .‬وھنا يصبح موضوع إعادة الصياغة النظرية لتاريخ العالم بعيداً عن التفسيرات الغربية‬
‫الليبرالية والماركسية أمراً ملحاً‪ ،‬بحيث تنزع النظارات الغربية عن األعين ليرى التاريخ الموضعي‬
‫الحقيقي للشعوب‪ ،‬ولرؤية مسارات التغير وتحقيق االستقالل للشعوب المقھورة‪ .‬ھنا ستقولون ولكن‬
‫كيف تضعان المدرستين الماركسية والليبرالية في سلة واحدة بالرغم مما بينھما من اختالف‪.‬‬

‫جوابنا إن كالً من المدرستين‪ ،‬بالرغم مما بينھما من خالف‪ ،‬وتناقض تتسمان بالمركزية األوروبية‬
‫)أي النظرة المضخمة للذات األوروبية والمتمحورة حولھا(‪ .‬ولھما جذور مشتركة‪ ،‬على األقل في‬
‫رؤية كل منھما لنموذجه األوروبي والتاريخ األوروبي باعتباره المعيار والنموذج للقياس العالمي‪،‬‬
‫ولكن إذ نسأل ھل يمكن أن يوضع في سلة واحدة طماطم وبصل وتفاح وفجل أم ال؟ ونقول فعالً‬
‫تستطيعون أن تضعوھا كلھا على بسطة خضار واحدة ويمكنكم أن تضعوا قواطع بينھا ولكن من على‬
‫تلك البسطة )الحضارة نفسھا( فكل بسطة حضارية فيھا ھذا النوع المتناقض مع بقاء التفريق بين‬
‫البصل والفجل والتفاح‪ ،‬وبھذه المناسبة ثمة قواسم مشتركة كثيرة فيما بين الحضارات المختلفة ولكنھا‬
‫ليست تلك التي ترسمھا الماركسية بصورة سطحية رأسمالية وعمال أو قطاع وفالحين‪ .‬أو فكر‬
‫برجوازي وفكر بروليتاري‪.‬‬

‫فمثالً مسألة الفطرة وتعبيراتھا المختلفة في كل الحضارات‪ ،‬ومسألة االنحراف عن الفطرة وتعبيراتھا‬
‫المختلفة‪ ،‬ولو جئنا للتطبيق العملي‪ ،‬تنطلق الماركسية في تقويم االستغالل واستعباد اإلنسان لإلنسان‬
‫من نظرية اقتصادية مرتبطة بتطور قوى اإلنتاج‪ ،‬فالنظام العبودي تراه تقدميا ً ومشروعا ً في مرحلة‬
‫تاريخية وتسوغ ما ارتكبه من جرائم جماعية حتى يمكن وضع النير في رقاب العبيد ويقول‬
‫"أنجلز"" "كان البد من أساليب وحشية للخالص من الوحشية"‪ ،‬وكذلك بالنظرة إلى االستغالل‬
‫اإلقطاعي والرأسمالي واالستعماري فثمة مرحلة تقدمية مع كل عھد ثم يصبح رجعيا ً ويجب الخالص‬
‫منه‪ .‬وھذا ما يسمح اآلن كما سمح في السابق‪ ،‬أن تداس إرادة الشعوب اإلسالمية وغيرھا‪ ،‬لتقع تحت‬
‫نير الحكم السوفياتي‪ .‬وإال كيف يفسر ما يجري في أفغانستان ويسوغونه؟ أما النظرة اإلسالمية فھي‬
‫ترى االستغالل واالستعباد واإلقطاع واالستعمار وكل ظلم مناقضا ً للفطرة األصلية لإلنسان‪،‬‬
‫وترفضه من حيث المبدأ واألساس وإن كان المنھج اإلسالمي قد عالج بعض تلك االنحرافات بطريق‬
‫تدرجي مثل الخالص من حالة االسترقاق والعبيد بعد أن كانت قد استفحلت قبل مجيئه‪ ،‬كما يرى‬
‫اإلسالم على سبيل المثال أن عدم إقامة توازن بين مختلف حاجات اإلنسان الروحية والمادية‬
‫والغريزية وترك الحبل على الغارب للركض وراء الشھوات المادية ومنازع الھوى واألنانيات يشكل‬
‫انحرافا ً عن النظرة اإلنسانية‪ .‬مما يسمح لإلنسان أن يخاطب أبناء الحضارات األخرى بلغة إقامة‬
‫نظام التوازن في حياة الفرد والمجتمع والشعوب‪ ،‬وعدم االنسياق وراء النظرة المادية‪،‬أو إطالق‬
‫الغرائز‪ .‬واالنغماس بالملذات‪ ،‬وجعلھا غاية‪ .‬وتكفي نظرة إلى ما يجري من انسياق وراء ھذه‬
‫الجوانب في الحضارة الغربية والجرائم واالنحرافات والشذوذ والعري واإلباحة‪ ،‬وتفكك أواصر‬
‫العائلة والعالقات اإلنسانية‪ ،‬وما ينجم عن ذلك من قلق وخوف‪ ،‬والشعور بالوحدة والعزلة‪.‬وانقطاع‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪96‬‬

‫التواصل اإلنساني )بالمناسبة ثمة كتابات أخذت تظھر تشير إلى بروز آيات لھذه الظواھر في‬
‫المجتمع السوفياتي وقد لمحت إلى ذلك حتى البرافدا( ولكن األخطر في االتحاد السوفياتي نفسه في‬
‫انتشار السكر والتسكع واالنحالل العائلي فضالً عن المظالم االجتماعية وفقدان حرية الفكر واستعباد‬
‫الشعوب‪ .‬ومن ھنا كان لدى اإلسالم ما يواجه به تلك الشعوب وكان لديه مشروعه لإلسھام في صالح‬
‫كثير من األوضاع وھذا يفسر بعض الظواھر المذھلة في الغرب من‬

‫‪----------‬‬

‫اندفاع عدد من كبار المثقفين نحو اعتناق اإلسالم إلى جانب أعداد ملفتة للنظر من تحول الشاب نحو‬
‫اإلسالم‪ ،‬بھذا فنكون قد اقتربنا من إعطاء جواب أكثر تحديداً حول السؤال‪ .‬ال يرى اإلسالم‪ ،‬كما تفعل‬
‫الماركسية طريق التطور والتقدم والرقي محكوما ً بتطور أدوات اإلنتاج وقوى اإلنتاج‪ .‬ومن ثم ال‬
‫يرى أن ھذه األخيرة ھي التي تحكم سائر األبنية االقتصادية واالجتماعية والثقافية والفكرية وكأنھا‬
‫الخيول التي تجر العربة‪ ،‬وھي خيول تتحكم أيضا ً بسائسھا الذيعليه أن يوجه رأسه باالتجاه الذي‬
‫تركض نحوه‪ .‬طبعا ً إن تقدم أدوات اإلنتاج وقوى اإلنتاج والعلوم والتكنولوجيا لھا دور رئيسي في‬
‫تطور الحياة المادية لإلنسان كوسائل حصوله على حاجاته معاشه أو تأمين مواصالته أو مواجھة‬
‫األمراض والمصاعب الطبيعية ولكنھا ليست معيار العدل والظلم وال ما ھو حالل وما ھو حرام‪ ،‬وال‬
‫يحق لھا أن تتحكم بمختلف جوانب الحياة األخرى‪.‬‬

‫بل إن االنسياق من ورائھا كما حدث في الرأسمالية واالشتراكية دون ضوابط أخرى أدى إلى انتكاسة‬
‫الوضع العام لإلنسان من النواحي اإلنسانية والعدالية واإلسالمية والروحية واألخالقية والنفسية‪،‬‬
‫فضالً عن استفحال المظالم تجاه الشعوب الضعيفة واستفحال التنافس على السيطرة العالمية في ظل‬
‫إطالق العنان للجشع والنوازع القومية واألنانية وسباق التسلح مما أصبح يھدد العالم بالدمار الشامل‪.‬‬

‫إن اإلسالم يھتم باإلنسان ويجعله معياراً للتقدم والتأخر‪ ،‬وھو أمر يختلف جوھريا ً عن اعتبار اإلنسان‬
‫تابعا ً لتطور القوى المادية لإلنتاج‪ .‬فھذا القانون اإلسالمي ينطلق من القانون الذي يحدد الثوابت‬
‫والمتغيرات في اإلنسان والثوابت ھذه ال تعترف بھا الماركسية‪ ،‬وإن أقرت بھا‪ ،‬ال تعطيھا ما تستحق‬
‫من أھمية‪ ،‬ھذه الثوابت ھي ثوابت الفطرة والغرائز والنوازع الطبيعية األساسية‪ ،‬وھي ما يصحب‬
‫اإلنسان طوال وجوده التاريخي إلى أبد الدھر وھي مشتركة في كل بنى اإلنسان بغض النظر عن‬
‫ألسنتھم وانحدارھم الحضاري‪ .‬وإن كانت تتجلى بإشكال ونسب مختلفة من وضع إلى وضع ومن‬
‫نمط عقدي حضاري إلى نمط عقدي حضاري‪.‬وھي موجودة في كل مستويات تطور أدوات اإلنتاج‬
‫وقوى اإلنتاج واألنظمة والعمل‪ .‬أما المتغيرات فھي تلك التجليات المختلفة التي تتخذھا وھي تنجم‬
‫عن أسباب كثيرة من بينھا التطورات المادية والعلمية‪ ،‬أو ما يمكن أن يحل من نمط سياسي ثقافي‪ ،‬أو‬
‫ينشأ من صراعات على أسس العصبيات اإلقليمية أو الطبقات‪ ،‬أو الكوارث أو االكتشافات الجغرافية‬
‫وغيرھا‪.‬‬

‫ومن ھنا وضع اإلسالم منھجا ً لتنظيم ھذه الثوابت وضبطھا على أفضل وجه‪ ،‬آخذاً بعين االعتبار ما‬
‫يحدث من تغيرات ورقي في حياة اإلنسان وتجربته على مختلف المستويات المادية والسياسية‬
‫والفكرية واالجتماعية‪ .‬وفي ھذا يكون اإلنسان نقطة البداية وغاية المعالجة ووسيلتھا وھو القادر على‬
‫التحكم والضبط وإحداث التوازن وفق التصور الصحيح‪ ،‬كما ھو قابل إلى أن ينساق وراء الھوى‬
‫والنوازع بسبب المطامع وحب السيطرة انسياقا ً بال عقل أو ضبط ليحيل العالم إلى غابة من الوحوش‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪97‬‬

‫بالرغم مما يكون قد فعله من رقي مذھل في مضمار العلوم والتقنيات كما يشھد عالمنا اليوم‪ .‬ومن ھنا‬
‫كان المعيار األول للتقدم والرقي يعتمد على النظرة الشاملة إليه‪ ،‬فينطلق من وضع اإلنسان في‬
‫موضوع التقدم‪ .‬وھذا يتحقق بمقياس ذلك التوازن العادل الذي يجب أن يسود بين مختلف الجوانب‪،‬‬
‫فإذا حوصرت النوازع السلبية كالجشع والطمع والتراكض على الشھوات‪ ..‬الخ‪ .‬وإذا أشبعت الغرائز‬
‫الطبيعية‪ ،‬والحاجات األساسية بصورة سليمة ودقيقة‪ ،‬ولم يسمح لھا بالفجور والتحكم بالجوانب‬
‫األخرى‪ ،‬وإذا قام نظام العدل بين الناس وفيما بين الشعوب‪ ،‬بما ينسجم مع الفطرة وخير الناس كافة‬
‫وإذا دارت حركة العمل والنشاط لتطور الحياة المادية والعلوم ووسائل اإلنتاج ضمن إطار المنفعة‬
‫اإلنسانية واالرتفاع باإلنسان والرقي بوضعه الكلي فإننا نكون حيال تقدم ورقي حقيقيين وفق‬
‫المنظور اإلسالمي‪ .‬وھو أمر ينطبق على كل الحاالت اإلنسانية إن كان اإلنسان في الصحراء أو في‬
‫سيبيريا أو وھو وراء المحراث أو التراكتور أو المصنع االلكتروني وھو يحمل الخنجر والسيف أو‬
‫وھو يحمل االر‪ .‬بي‪ .‬جي‪ .‬أو عندما كان يركب الحمار والجمل وأصبح يركب الصاروخ والنفاثة‬
‫والغواصة والقطار‪ .‬إن كل ھذه الحاالت يحمل اإلنسان فيھا نظرته التي فطره ﷲ عليھا‪ ،‬ويحمل‬
‫طبيعته المتعددة النوازع والحاجات والغرائز والشھوات والتي وضعھا ﷲ في تكوينه ويحمل فيھا‬
‫عقالً الذي وھبه ﷲ وحاجاته الروحية والنفسية كما أنه في كل الحاالت ضعيف "خلق اإلنسان‬
‫ضعيفا"‪ ،‬أشد ما يكون الضعف‪ ،‬وقوي )وھبه ﷲ كل أسباب امتالك القوة( أشد ما تكون القوة‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫تشكل ھذه الثوابت وعالقتھا بالمتغيرات أساسا ً لفھم اإلنسان والتاريخ واكتشاف المنھج السليم‬
‫الصحيح في معالجتھا ومواجھتھا واقتراح الحلول لھا‪ .‬أما حصر التاريخ في متابعة المتغيرات‪ ،‬أو‬
‫حصر التاريخ في رؤية تغير واحد )االقتصاد مثالً( وتجاھل تلك الثوابت األساسية وعدم الربط بين‬
‫الثوابت والتغيرات ورؤية قوانين العالقة بينھما‪ ،‬سيؤدي إلى نظريات خاطئة فلسفيا ً وعمليا ً وسياسياً‬
‫وفكريا ً‪.....‬الخ‪.‬‬

‫ال‪ :‬يعتبر ماركس أن إزالة الملكية الفردية يزيل نوازع االستغالل على مستوى األمة‬ ‫لنضرب مث ً‬
‫الواحدة وعل مستوى األمم )راجع البيان الشيوعي( ويزيل البغضاء والصراعات والعداوات‪ ،‬ويكون‬
‫أساسا ً لعالم جديد‪ .‬عندما أزيلت الملكية الفردية في االتحاد السوفياتي بقيت كل ظواھر الجشع والطمع‬
‫والبحث عن السطوة والقوة والنفوذ واالستغالل كما لم تزل عن الدولة في عالقتھا مع األمم األخرى‬
‫نوازع السيطرة والتحكم والنھب‪ .‬فكان البد من تبرير‪ ،‬فقيل أن إزالة الملكية ما زال في أول العھد‪ ،‬ثم‬
‫ھناك ما زالت ملكية الكولخوزات‪ .‬ولكن تفاقم الوضع مع مجيء الجيل الثاني الذي ولد في العھد‬
‫الجديد‪ .‬وتفاقم أكثر مع مجيء الجيل الثالث والرابع‪ .‬مما جعل تلك الموضوعة حول اعتبار الملكية‬
‫الفردية والطبقات أو التخلف اإلنتاجي أساس كل الشرور‪ ،‬موضوعة تبسيطية مسطحة ال أساس لھا‬
‫من العلم والحقيقة‪ ،‬وثقوا أن محاولة الركض وراء الشھوات والطمع والجشع وظواھر الحسد‬
‫والبغضاء والتنافس والصراعات فيما بين البشر لن تزول حتى أبد الدھر ألن منابعھا في اإلنسان‬
‫نفسه في ثوابت خلقه ووجوده‪ .‬وكل من يتجاھلھا أو يعزيھا لعوامل خارجية يجانب الحقيقة‬
‫الموضوعية‪ ،‬كذلك يجب أن نالحظ أن تفوق اإلنسان وتطلعه إلى التوحيد والعدل والحق وضبط تلك‬
‫النوازع وتطلعه للحرية واإلخاء والمقومات اإلنسانية السليمة‪ ،‬ھي أيضا ً ثوابت في فطرة اإلنسان‬
‫ومن ثم ھو في صراع ونزال مع تلك الثوابت المقابلة‪ .‬وھذه معركة الصراع األبدية أو الحرب‬
‫األبدية‪.‬‬

‫لھذا جاء اإلسالم ليقدم منھجا ً يدل اإلنسان على الموقف الصحيح في ھذه المعركة‪ ،‬ويعطيه أسلحة‬
‫إدارة الصراع وطرق خوضه‪ ،‬فقدر له بداية على أن يقف إلى جانب الفطرة‪ ،‬ويقيم التوازن السليم‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪98‬‬

‫والعادل ويشن الحرب الضروس ضد مظاھر الظلم واالستغالل والجوع‪ ..‬الخ‪ .‬ولم يقل له أنك إن‬
‫دخلت اإلسالم كفرد أصبحت في مأمن من نوازع الشھوات واالنحراف وإنما عليك أن تواصل جھاد‬
‫نفسك وتنقيتھا باإليمان واتباع مرضاة ﷲ ولم يقل له أنك ستصبح السوبرمان‪ .‬بل قال له خلقت على‬
‫عجل ووھن وضعف‪.‬‬

‫ولھذا البد من االنتباه المستمر والصراع الدائم لبلوغ الحالة اإلنسانية الحقة التي يعبر عنھا اإلسالم‪.‬‬
‫وھذا ينطبق أيضا ً على إقامة النظام اإلسالمي والحكم اإلسالمي حيث تظل في المجتمع اإلسالمي كل‬
‫نوازع الخروج على العدل والحق والتوحيد وسيظل السعي إلعادة سيطرة العصبيات والطبقات‬
‫الظالمة االستغاللية والمنافع التي تتبع ھواھا وشھواتھا وتعبد القوة والسيطرة والثروة والشھوة‪ ،‬ولھذا‬
‫البد من االنتباه لخوض الصراع المستمر‪ ..‬وھكذا فھي معركة ال تنتھي إلى أبد الدھر‪.‬‬

‫انظروا يا إخوتنا الفرق بين النظرة العلمية الواقعية إلى اإلنسان والمجتمع والتاريخ والتي تؤكدھا كل‬
‫الوقائع وتلك النظرات التي بنيت على نظرية أحادية الجانب وقد قادھا فسادھا إلى استنتاج خيالي‪ ،‬أو‬
‫وعد كاذب بإقامة المدينة الفاضلة أو العالم الفاضل‪ .‬حيث تنتھي الشرور حين تنتھي الملكية وتنتھي‬
‫الطبقات )بالمناسبة االتحاد السوفياتي بعد ‪ 67‬سنة عاد يشجع الملكية الفردية في إدارة المصانع‬
‫والمزارع ويدعو إلى عودة التنافس في السوق أو إعادة تشجيع المنافع الفردية على مستوى المنتجين‪.‬‬
‫أما في البلدان االشتراكية األخرى فإن ذلك الصراع أخذ شكل إرساء تنظيمات اقتصادية جديدة‬
‫راحت تقترب أكثر فأكثر من المسوق شبه الحرة والتوسع باإلنتاج القائم على الملكية الفردية‬
‫والمنافسة بين األفراد وغير ذلك(‪ ،‬انظروا أنھم يحاولون أن يتوازنوا بين ما ھو عام وما ھو خاص‪،‬‬
‫وبين الملكية العامة والمنافع الخاصة‪ ،‬والفردية والتنافس والجوائز‪ ..‬الخ‪ .‬وذلك بعد الفشل الذريع‬
‫الذي منيت به الزراعة والمرافق الصناعية بسبب انتزاع الدولة للملكية واحتكارھا‪ .‬بينما راعى‬
‫اإلسالم نوازع الفرد نحو الملكية والعمل بنفسه ولمنفعته وتحقيق مطامعه الخاصة فلم يقل بإلغاء‬
‫الملكية الفردية من حيث أتى‪ .‬وإنما أبقاھا وعمل على ضبطھا وتنظيمھا‪ ،‬وكذلك راعى ضرورة إقامة‬
‫ملكيات عامة‪ ،‬ولكن لم يسمح للدولة باحتكارھا والتحكم بھا فترك بعضھا شائعا ً للناس وترك بعضھا‬
‫ملكيات على مستوى مجموعات من المنتجين )عائالت‪ ،‬قرى‪ ،‬جمعيات‪ ،‬مؤسسات( وترك بعضھا‬
‫أوقافا ً وترك بعضھا للدولة‪ ،‬كما لم يلغ السوق والتجارة الحرة وإنما أقام لكل ذلك ضوابط وروادع‬
‫وأصوالً‪ ،‬وباعتقادنا أن كل تباھي الماركسيين في علم االقتصاد‪ ،‬أثبتت الوقائع أن اإلسالم تفوق‬
‫عليھم ولم يستطيعوا اللحاق بذيوله‪ .‬ولعل من أسباب ذلك‪ ،‬جھلھم أوالً وقبل كل شيء‪ ،‬باإلنسان وخلقه‬
‫ومكوناته ومن يجھل ھذا يسحب جھله إلى عالم االقتصاد‪.‬‬

‫إن لفت االنتباه ألھمية فھم اإلسالم في معالجة اإلنسان وموضوع الثوابت والمتغيرات يساعد على‬
‫تالفي السلبيات التي يمكن أن تنجم عن رقي العلوم والتقيات وتطور اإلنتاج والمواصالت‪ ،‬أفسح‬
‫المجال رحبا ً لرقي التجربة اإلنسانية في مجال التنظيم االجتماعي والسياسي‪ ..‬الخ‪ .‬فاإلسالم قدم‬
‫مبادئ عامة ولم يدخل في التفصيالت تاركا ً لالجتھاد أن يجيب على ما يستجد من متغيرات‪ ،‬ويرقى‬
‫بتنظيم حياة الناس ضمن ما يبلغه اإلنسان من رقي وتطور مادي‪ ،‬فعلى سبيل المثال أقر اإلسالم مبدأ‬
‫الشورى ولكنه لم يضع نظاما ً ثابتا ً في كيفية تحديد أھل الشورى أو كيفية إجرائھا‪ .‬فأھل الحل والعقد‬
‫يمكن أن يكونوا على الشكل الذي طبق زمن الرسول صلى ﷲ عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي‬
‫ﷲ عنھم‪ ،‬ويمكن أن يشكلوا من خالل انتخابات ومجلس شورى أو من خالل شكل يجمع بين‬
‫االنتخابات وبين أھل العلم واالجتھاد والخبرة واالختصاص‪ ..‬الخ‪ .‬أو مثالً وضع اإلسالم مبدأ مراعاة‬
‫المنفعة العامة أو دفع الضرر وھذه أيضا ً ترك تحديدھا وتطبيقھا للمتغيرات ومراعاة ظروف الزمان‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪99‬‬

‫والمكان وكذلك موضوع تنظيم الملكية في المجتمع وإدارة اإلنتاج ومراقبة السوق وتحقيق التكافل‬
‫االجتماعي‪ ،‬فقد وضع المبادئ والمنھج وترك التفصيالت للمتغيرات واجتھاد أھل اإلسالم‪.‬‬

‫ومن ھنا أيھا األخوة حين يعود اإلسالم بعد ذلك االنقطاع سينشئ مجتمعا ً أو مجتمعات إسالمية ليست‬
‫صورة طبق األصل وتفصيلية من المجتمعات اإلسالمية األولى بل ستكون ھنالك متغيرات كثيرة‪.‬‬
‫ولكن سيبقى الجوھر واحداً فإن كانت إسالمية حقا ً فال بد من أن تجدوا فيھا عدل أبي بكر وعمر‬
‫وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي ﷲ عنھم‪ ،‬وستجدون فيھا اإلنسان المسلم المتوازن على‬
‫المنھج الذي كان يزن عليه الرسول صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬ولكن ستجدون أيضا ً مؤسسات‬
‫وجمعيات شعبية إلدارة اإلنتاج‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والتعليم وأجھزة تختلف عما كان يجري في الزمن السابق‬
‫من إشكال اجتماعية في إدارة اإلنتاج والسياسة والتعليم‪ ،‬وستجدون دوراً للجامع يربط بين العبادة‬
‫والسياسة وإقامة العدل والتنمية والدفاع عن الحق واإلسالم‪ ..‬ربما من طراز جديد أيضاً‪ ،‬يشكل‬
‫استمراراً وتعميقا ً وتطويراً لدوره الذي عرفه التاريخ اإلسالمي السابق‪ ،‬وبالمناسبة أنه لمن البديھي‬
‫القول أو المسلم به من أغلب المفكرين اإلسالميين أن أمام اإلسالم اليوم عشرات المستجدات‬
‫والقضايا التي يجب على الفقھاء والعلماء والقادة أن يقولوا كلمتھم فيھا بما يناسب العصر وما طرأ‬
‫من متغيرات‪.‬‬

‫فالذي يجب أن تدركوه أن االنتقال إلى أرض اإلسالم في معالجة قضايا األمة ال يشكل غير الخطوة‬
‫األولى الصحيحة والضرورية التي تضعنا ضمن االتجاه الصحيح‪ ،‬ولكن ال يعني ذلك أن أمامنا‬
‫حلوالً جاھزة لمختلف القضايا والمعضالت وال يعني أن تقديم تلك الحلول بصورة سليمة مسألة‬
‫مضمونة من قبل من في يدھم أمر الفتوى واالجتھاد‪ ،‬فالعملية أعقد من ذلك بكثير‪ ،‬وال يجب أن‬
‫يحمل المرء أوھاما ً بامتالك مفتاح سحري‪ ..‬فلو كان األمر كذلك لكان األمر محلوالً‪ ،‬فھذه ليست‬
‫التجربة األولى في محاولة اعتماد اإلسالم لمواجھة التحديات المعاصرة فثمة قبلھا عشرات‬
‫المحاوالت بعضھا حقق نجاحا ً جزئياً‪ ،‬وبعضھا غلب على أمره‪ ،‬وبعضنا لم يوفق بما ذھب إليه‪ .‬وال‬
‫تنسوا أن ما يمكن اقتراحه ھو محاولة لتطبيق منھج اإلسالم من خالل البشر‪ ،‬والبشر خطاؤون‪ .‬وال‬
‫عصمة ألي من القادة والمجتھدين‪ ،‬ولھذا إن ما بين أيديكم محاولة لوضع األمر على أول السكة‬
‫الصحيحة ليس أكثر‪ ،‬ثم بعد ذلك البد من البحث والعمل والتعلم والمحاولة‪ .‬ولكن في كل األحوال‬
‫احتمال النجاح من خالل اإلسالم أكيد في النھاية‪ ،‬أما المناھج والطرق األخرى ففشلھا أكيد من البداية‬
‫إلى النھاية‪.‬‬

‫لنعد مرة أخرى إلى مواصلة التأكيد على صحة المنھج اإلسالمي الشمولي في معالجة الثوابت‬
‫والمتغيرات ولنضع ذلك ضمن قاعدته األساسية وھي مسألة اإليمان باŒ وبالعقيدة وأھمية الضوابط‬
‫والروادع اإليمانية واألخالقية في إنجاح المعالجة الشمولية لإلنسان‪ .‬إن الشمولية اإلسالمية في‬
‫معالجتھا لقضية اإلنسان والحياة والمجتمع واإلنسانية تتمركز حول محور اإليمان باŒ إذ بدون ھذا‬
‫المحور تفقد تماسكھا وحياتھا الداخلية وقوتھا المحركة‪ ،‬فاإليمان بوحدانية ﷲ وبأن ﷲ تعالى أكبر من‬
‫كل خلق‪ ،‬تعطي اإلنسان قوة في مواجھة نفسه وھواه وضعفه بل في مواجھة كل ما من شأنه أن‬
‫يتحول إلى معبود يعبده اإلنسان أو يخضع له أو يصبح عبداً له سواء أكان ذلك بشراً قائداً‪ ،‬أو حاكما ً‬
‫أو كان طبقة أو حزبا ً أو كان ماالً‪ ،‬أو بنين‪ ،‬أو فساداً‪ ،‬أو شھوات‪ ،‬أو ھوى‪ ،‬فالعبودية Œ وحده تسمح‬
‫بإسقاط‪ ،‬أو تقضي في جوھرھا بإسقاط‪ ،‬أية عبودية أخرى‪ ،‬واإليمان بأن ال اله إال ﷲ ال تسمح بتسلط‬
‫بشر على بشر‪ ،‬أو بعبادة بشر لبشر‪ ،‬أو أن يقيم أحد نفسه "إله" على الناس إذ أن ھذا اإليمان باŒ‬
‫الواحد األحد ورفض أي شرك بھذا اإليمان أو بديل له ھو الذي يسمح بإقامة نظام العدل والتوازن‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪100‬‬

‫فيما بين مختلف الجوانب التي تتعلق بحياة اإلنسان‪ ،‬وھو الذي يسمح بأال يطغي جانب على الجوانب‬
‫األخرى‪ .‬فالتوحيد ھو الذي يضبط وينظم الثوابت في اإلنسان ويقيم التوازن فيما بين مختلف‬
‫المتغيرات‪ .‬فھذا التوحيد وما يصحبه من إيمان باليوم األخر والتزام بمرضاة ﷲ‪ ،‬واتباع أوامره‬
‫ونواھيه يشكل الشروط الضرورية للتحرك في الحياة على صراط مستقيم‪ ،‬فال يترك عقل اإلنسان‬
‫ليبرر ھواه أو ليسوغ األنظمة الطاغوتية والوحشية كما نشھد في عصر العقل األوروبي‪ .‬بينما يطلق‬
‫العقل إلى أقصى مداه بعد أن يقوده التوحيد واإليمان وااللتزام بمرضاة ﷲ فيمتلك البوصلة التي تحدد‬
‫له االتجاه الذي يجعله يبدع ويخترع وينظم بعيداً عن الھوى واألنانية والشھوات‪ .‬وھذا عماده الفطرة‬
‫وعززه الوحي الذي وصل خاتمته بنزول القرآن وتمام رسالة محمد وسنته صلى ﷲ عليه وسلم‪ ،‬أما‬
‫ھذا المحور‪ ،‬أي اإليمان باŒ وما أنزل من كتب وبعث من رسل وأنبياء واإليمان باليوم اآلخر كل‬
‫ذلك يسمح بتنظيم ھذا الشمول ويجعد له معنى ومغزى فيصبح سير اإلنسان بمنھج التوازن والعدل‬
‫ليس مجرد قناعة بمنھجية علمية فحسب‪ ،‬وال يصبح مجرد خيار أفضل من بين المناھج أحادية‬
‫الجانب فحسب وإنما أيضا ً يكون خضوعا ً Œ فال يكفي أال تعتدي على غيرك حتى تكون مقتنعا ً‬
‫بضرر ذلك من ناحية إنسانية وإنما يجب باإلضافة إلى ذلك أن يكون أمراً إلھيا ً ال خيار لك فيه حتى‬
‫ال تترك الحبل على الغارب للمعتدين أو حتى عندما يحدث اعتداء تكون األبواب مغلقة في وجھه‪،‬‬
‫على األقل‪ ،‬من الناحية النظرية والفكرية ولھذا كان من أصعب األمور على الظالمين والفاسقين‬
‫والمعتدين في التاريخ اإلسالمي أن يجعلوا ما يفعلونه قانونا ً‪ .‬فاإلقطاعي أو السيد أو الرأسمالي أو‬
‫الدولة االشتراكية‪ ،‬جعل ھو وضعه شرعيا ً دستوريا ً قانونيا ً‪ .‬وأصبح كل خروج عليه ھو خروج على‬
‫القانون‪ ،‬أما في التاريخ اإلسالمي لم يستطع الذين خرجوا على الشرع من خلفاء وسالطين وحولوا‬
‫الحكم إلى ملك عضوض‪ ،‬أن يبطلوا الشرع أو يعطوا الشرعية لقانونھم‪ .‬فكان بإمكانھم أن يحكموا‬
‫بالغلبة والسيف‪ ،‬وان يكبتوا األنفاس‪ ،‬ويرھبوا العلماء والناس‪ ،‬ولكنھم لم يستطيعوا أن يكرسوا ذلك‬
‫بالدستور والقانون‪ .‬ألن الشرع كان لھم بالمرصاد‪ .‬وكان بقاؤھم يتعلق بميزان القوى حتى يأتي من‬
‫يعلن اعتبارھم خارجين على الشرع‪ ،‬أي ھم الذين خرجوا على قانون ﷲ‪ ،‬وبھذا كانت الثورة تحمل‬
‫شرعيتھا دون استئذان‪.‬‬

‫ثم ما الذي يقنعك أال تطغى‪ ،‬أو ال تترك لشھواتك العنان إذا لم يكن لك مرجع يحرم الطغيان واتباع‬
‫الشھوات‪ .‬ولھذا تراھم اآلن في الغرب ضعيفي الحجة أمام الذين يطالبون بجعل اللواط قانونيا ً‪ .‬إن‬
‫االستناد إلى المصلحة العامة‪ ،‬أو اإلنسانية تظل مسألة خالفية بالرغم من أھميتھا‪ ،‬وال قدرة لھا إن لم‬
‫تكن ھنالك قوة تسندھا‪ .‬تذكرون أن المراحل األولى في حياة االشتراكيين والشيوعيين والثوريين‬
‫والعلمانيين حملت قناعات عندھم بأخالق إنسانية ومثل إنسانية )أو بروليتارية( واسماھا البعض‬
‫األخالق الثورية‪ ،‬فبدالً من أن يكون الصدق بمنزلة األمر اإللھي‪ ،‬حولوه إلى مبدأ ثوري‪ ،‬ولكن‬
‫سرعان ما تبخرت ھذه المبادئ ألنھا فقدت مرتكزاتھا‪ .‬وأصبح من يتمسك بھا يسمى"شاعراً‬
‫وخيالياً"‪ ،‬وحل محلھا فن النفعية وما يحقق المصالح السياسية والحزبية أو الفردية ولم يعد من‬
‫ضوابط العالقات بين المرأة والرجل إال ما يضعه كل لنفسه من ضوابط‪ ،‬عدا الحاالت التي تنجم‬
‫عنھا فضائح‪ ،‬فتقاوم ال لذاتھا وإنما لما تلحقه من أضرار بسبب الفضائح‪.‬‬

‫الحظوا أيھا اإلخوة قوله تعالى‪" :‬إن اإلنسان ليطغى" وھذا ينطبق حتى على الذين يؤمنون باŒ وما‬
‫أنزل على محمد صلى ﷲ عليه وسلم‪ ،‬فالمنع من الطغيان يحتاج إلى إيمان وال يترك األمر لالجتھاد‪.‬‬
‫ويحتاج إلى روادع أخرى كالخوف من جھنم والخوف من إقامة الحد‪ ،‬ويحتاج إلى وضع القوانين‬
‫الرادعة والمانعة فإذا كان اإليمان ال يكفي لوحده لضبط المجتمع واألفراد فكيف بدونه؟ إن معالجة‬
‫اإلنسان كما يلحظ المنھج اإلسالمي مسألة على غاية من التعقيد وبحاجة إلى تناول كل مشكلة من عدة‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪101‬‬

‫زوايا حتى يتوفر إمكان لضبطھا‪ ،‬ال نھائيا ً وال كلياً‪ ،‬وإنما نسبياً‪ ،‬اإليمان أوالً والخوف من جھنم‬
‫ثانياً‪ ،‬ثم الحدود والقوانين ثم توفير الشروط اإليجابية إلقامة العدل العام والتوسع بتأسيس الحاجات‬
‫الضرورية لإلنسان‪ ..‬الخ‪ .‬كل ذلك يحقق من النتائج لخير اإلنسان واإلنسانية أفضل من أي منھج آخر‬
‫يقتصر على معالجة لھذه المشكلة أو تلك من زاوية أو زاويتين فقط كالودع القانوني أو اإلغراء‬
‫المادي أو تأمين شروط اقتصادية أفضل‪.‬‬

‫أيھا اإلخوة‪ ،‬إن كل ھذه الملحوظات تستحق منكم أن تتأملوھا وتحاولوا فھمھا من كل جوانبھا قبل أن‬
‫تردوا عليھا‪ ،‬وال بد أن تلحظوا أنكم‪ ،‬كما كنا نحن إلى حين‪ ،‬تحملون أفكاراً مسبقة ومفاھيم تظنونھا‬
‫من العلم اليقين‪ .‬ومن ثم تسرعون إلى محاكمة اإلسالم على ضوئھا‪ .‬ولكن ثقوا أنھا قابلة للھز ھزاً‬
‫قويا ً ألنھا ليست من العلم اليقين‪ ،‬وتذكروا أن أجيالنا منذ سبعين عاما ً في األقل‪ ،‬ال تتعلم في مدارسنا‬
‫وال تقرأ أو تسمع أو تشاھد في إعالمنا‪ ،‬وال تسمع ممن في يدھم السلطة‪ ،‬غير أفكار الحضارة الغربية‬
‫المسيطرة علينا‪ .‬وال تظنوا أن معركتنا مع الغرب االستعماري كانت فقط معركة عسكرية‪ ،‬أو أن‬
‫االستعمار ھو فقط نھب الثروات واالحتكار وتقسيم العالم )أو إذا شئتم السمات الخمسة التي وضعھا‬
‫لينين لالستعمار( إنه أكثر من ذلك‪ ،‬أنه أيضا ً سحق للشخصية والھوية والثقافة والحضارة المقابلة‬
‫األخرى‪ ،‬ليفرض حضارته على الشعوب حتى تجعله قبلتھا في كل شيء‪ .‬ومن ثم يصبح عليھا‪ ،‬حتى‬
‫وھي تعارضه‪ ،‬أن تختار أدوات المعارضة من بعض بضاعته‪ ،‬طبعا ً قد تقولون أن الغرب ليس فقط‬
‫االستعمار والرأسمالية وإنما الغرب ھم البروليتارية أيضا ً‪ .‬ولكن ألم يحن الوقت الذي تنتھي فيه ھذه‬
‫األكذوبة لكي ترى البروليتارية شريكا ً وجزءاً من عملية االستعمار‪ .‬وإال لما كان من الممكن أن‬
‫يتحقق االستعمار‪ ،‬أو يبقى حتى اليوم وبالمناسبة الحظوا أن النظرة الماركسية الماوية تقول‪" :‬أن‬
‫مركز الثورة العالمية انتقل إلى العالم الثالث" تمثل اعترافا ً بصورة غير مباشرة بانھيار مقولة‬
‫البروليتارية في البلدان الرأسمالية المتقدمة‪.‬‬

‫حقا ً ھنالك صراعات بين الطبقات واالتجاھات السياسية اإليديولوجية في الغرب )نستثني االتجاھات‬
‫النابعة من دوافع الفطرة‪ ،‬والتي ال يعبر عنھا اآلن إال تعبيراً ضعيفا ً جدا‪ .(.‬فنقابات العمال واألحزاب‬
‫المختلفة تتصارع في الداخل القتسام المكاسب ولكنھا في شراكة بالنسبة إلى العالم الثالث اآلخر‪،‬‬
‫ولنجعل من قضية فلسطين مثالً كشافاً‪ ،‬أفال تلحظون أن جميع تلك القوى الرأسمالية والبروليتارية في‬
‫الغرب والشرق والسوفياتي‪ ،‬متفقة على بناء دولة إسرائيل وشاركوا في إقامتھا ولو بنسب متفاوتة‪،‬‬
‫وما زالوا شركاء في رفض كل تصفية لھا‪ .‬ثم ھم يختلفون بعد ذلك حول الحدود التي يمكن أن تكون‬
‫عليه دولتھا‪ ،‬ويختلفون حول حقوق الشعب الفلسطيني‪ .‬ويختلفون في السياسة‪ ،‬لمن تتبع إسرائيل‪.‬‬
‫انظروا وتأملوا جيداً في المواقف بالنسبة إلى ھذه القضية تستطيعوا أن ترفعوا الغشاوة عن بعض‬
‫العيون فترون لماذا يجب أن نضع أولئك الجميع في سلة واحدة ونحن نفرق بين تفاصيل مواقفھم‪.‬‬

‫وقد نفيد تكتيكاً‪ ،‬بعض الشيء من ھذا التفريق‪ .‬ولكن ال يمكن أن تكون جزءاً من إحدى الجبھتين‬
‫ھناك‪ ،‬وإنما نبحن طرف ثالث بكل ما تحمل الكلمة من معنى‪ ،‬إذا كان مثال فلسطين أكثر وضوحاً‬
‫بالنسبة إلينا لكي نفھم الوضع فيمكن أن نجد ھذا األمر نفسه يطبق على الموقف من اإلسالم‪ ..‬وعلى‬
‫الموقف من المعركة الحضارية‪ .،‬أليسوا متفقين علي أن حضارتنا يجب أن تحطم‪ ..‬أليسوا متفقين‬
‫على أننا يجب أن نتبع المركز العالمي للحضارة الذي ھو ھم‪ ،‬أم علينا أن نخدع حيث يختلفون أشد‬
‫االختالف على من يأكلنا منھم‪ ،‬وعلى من يتبعنا إليه‪ .‬إن مثل ھذا االختالف يجعلكم تقولون ال‬
‫تضعوھم في سلة واحدة‪ ،‬فھذا كله مفھوم ويمكن مالحظته جيداً‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪102‬‬

‫أيھا األخوة فسروا لنا ھذا الموقف اإلجماعي من "إسرائيل" وقبل‪،‬ذلك فسروا لنا لماذا مصطفى‬
‫أتاتورك ورضا بھلوي والد شاه إيران السابق اللذان افتتحا المعركة ضد اإلسالم واندفعا نحو‬
‫العصرية الغربية‪ ،‬أيدا من قبل لينين كما مجدا من الفكر الغربي الليبرالي والماركسي إجماالً؟ وفي‬
‫الوقت نفسه لماذا تحمس ماركس للمھمة المزدوجة لالستعمار البريطاني في الھند لتحطيم المجتمع‬
‫التقليدي األسيوي وزرع الحضارة األوروبية‪ ،‬وھو تعبيره المباشر بينما كان "بالمرستون" ينفذ ذلك‬
‫بحد السيف‪ ،‬ويوغل بدماء المسلمين الھنود؟ وبالمناسبة ھل تعلمون ما ھو التفسير الماركسي لشراكة‬
‫البروليتاريا رأسمالييھا بالنسبة إلى العالم الثالث‪ ،‬يقولون أن الرأسماليين رشوا فئاتھا العليا‪ ،‬ثم قالوا‬
‫بل الرشوة كانت أشمل من خالل ما تم التنازل عنه للبروليتاريا الغربية من ضمانات ومكاسب‪ ،‬ولكن‬
‫الذي يقبل بالرشوة القليلة فھل سيعف عن أكل الحصة األخرى حين تتاح له‪ ،‬أي القيام بالنھب المباشر‬
‫ھو نفسه حين يصبح بالسلطة )االشتراكية(‪.‬‬

‫ومن ھنا فإن التأمل العميق في الموضوعات أعاله المتعلقة بانطالق اإلسالم من اإلنسان وما يتسم به‬
‫من ثوابت وتغيرات‪ ،‬وما قدمه من منھجية شمولية في معالجة مختلف الجوانب وإقامة التوازن على‬
‫أساس العدل والمساواة فيما بينھا‪ ،‬ندرك جوھر عالمية النظرة القرآنية‪ ،‬وھي عالمية ال تقوم على‬
‫أساس ظرف تاريخي محدد كالعالمية الرأسمالية أو البروليتارية مثالً‪ .‬ألنھا عالمية تتعامل مع اإلنسان‬
‫في جوھره ال مع جانب من جوانب المتغيرات في تاريخه‪ ،‬وإن كانت قادرة على احتواء المتغيرات‬
‫وضبطھا ضمن العالمية اإلسالمية‪ .‬ويجب أن نتذكر ھنا أن اإلسالم قدم نموذجا ً على مستوى تطبيقي‬
‫ناجح من خالل ثورته األولى ودولته األولى بقيادة الرسول العظيم صلى ﷲ عليه وسلم‪ .‬ونماذج‬
‫الحكم التي قدمھا عھد الخلفاء الراشدين وعدد من الحاالت المشابھة التي كانت ثمرات ثورات بقيادة‬
‫علماء أو فقھاء أو نماذج للمقاومة المستمرة طوال األربعة عشر قرنا ً الماضية كان بمثابة قطب‬
‫الجذب والمنارة العالمية لإلسالم‪ ،‬حيث كان النموذج مصدر جذب عالمي‪ .‬وما الفتوحات اإلسالمية‬
‫التي انطلقت من ذلك النموذج أو على ھديه كانت تحريراً للشعوب التي افتتحت أراضيھا كما جاءت‬
‫تجاوبا ً مع فطرتھا عندما أقيم حكم اإلسالم‪ .‬وھذا يفسر لماذا أسلمت وعربت كل ھذه المناطق التي‬
‫تغطي اآلن البالد العربية ولماذا انتشر اإلسالم وانغرس في إيران وتركيا ومناطق آسيا وأعماق‬
‫إفريقيا‪.‬‬

‫لقد ذھبت قوة الفاتحين وبقي اإلسالم في كل تلك البالد ليس كدين عبادة فحسب وإنما كنموذج للعدل‬
‫االجتماعي وللعالمية واإلنسانية ولمعالجة قضايا اإلنسان‪ ،‬ولھذا ترى اليوم مئات من الشعوب‬
‫اإلسالمية تتحرك في صحوة عارمة من أجل خلع أنظمة التغريب عنھا وإقامة نظام اإلسالم والدعوة‬
‫إلى األخوة اإلسالمية والوحدة اإلسالمية والعالمية اإلسالمية‪ .‬ولكن يجب الوقوف ھنا لتأمل تجربة‬
‫الفتح‪ .‬فاإلسالم يقدم نموذجا ً للعالمية اإلسالمية فيما بين شعوب منتشرة في آسيا وإفريقيا وأوروبا لم‬
‫تنشأ بعدھا أية عالمية تضاھيھا أو تقارن بھا منذ أربعة عشر قرنا ً‪ .‬وذلك بالرغم مما بلغته اإلنسانية‬
‫اليوم من تقدم في العلوم والتقنيات ووسائل المواصالت واإلنتاج‪ ،‬فھذا يفرض التفكير جيداً بھذه‬
‫الحقيقة من جھة‪ ،‬كما يجعل من المشروع القول أن العالم الذي يركض إلى دماره اليوم وبأيدي مراكز‬
‫الحضارة الغربية ھو أشد ما يكون حاجة إلى إعادة إحياء العالمية اإلسالمية‪ ،‬بداية عن طريق استعادة‬
‫اإلسالم لنموذجه فوق الديار اإلسالمية‪ .‬ثانيا ً من خالل اإلسھام المباشر مع جميع مستضعفي العالم‬
‫لوقف الدمار المسمى بالحضارة الغربية المعاصرة إنھا أسباب تلف اإلنسان روحياً‪ ،‬وجسدياً‪،‬‬
‫وعالقات دولية‪ ،‬دون الحديث عما تحمله من مظالم أو فساد‪.‬ومن ھنا فثمة مسؤولية أمام العلماء‬
‫والمفكرين والقادة اإلسالميين لمواجھة مسؤولية إعادة صياغة شروط الحياة المعاصرة المطبوعة‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪103‬‬

‫بالرؤيا الحربية وذلك من خالل إعادة بناء النموذج اإلسالمي في الديار اإلسالمية‪ ،‬كما بالنسبة إلى‬
‫سمات توليد العالمية اإلسالمية الجديدة‪.‬‬

‫ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ‬
‫<<‬
‫‪<V<íÚ^Â<í¾çv×Ú‬‬
‫أيھا اإلخوة‪ ،‬ثمة عدد من النقاط أثرتموھا ما زالت بحاجة إلى الرد عليھا‪:‬‬

‫أ‪ -‬مسألة المنھج وعالقته باإلجابة عن قضايا العصر‪"،‬وشھادة المنشأ التاريخية" يمكن أن يالحظ اآلن‬
‫أننا لم نأخذ باإلسالم ألنه تراث وإنما لقناعة بصحة عقيدته أوالً‪ ،‬وصحة منھجه في اإلجابة عن‬
‫قضايا اإلنسان اإلنسانية ثانياً‪ ،‬وقدرته على اإلجابة عن قضايا العصر وحاجاته ثالثا ً‪ .‬كما يمكن أن‬
‫تالحظوا ما لدينا من قناعة بخطأ المناھج األخرى المعاصرة وضاللھا‪) .‬بالمناسبة إن تعبير المنھج ال‬
‫يغطي ما يجب أن يناقش وإنما األصح البدء بالعقيدة وما يتبعھا من منھجية فكرية ومفاھيم تتصدى‬
‫لمواجھة مسائل الكون والطبيعة والمجتمع واإلنسان والنظام السياسي واالقتصادي واالجتماعي‬
‫عموما ً وقد حدث التجاوب مع ھذا التعبير تجنبا ً لنقاش في "التعريفات" وإن كنا نرغب في معرفة‬
‫تعريفكم له أو قصدكم منه‪.‬‬

‫ب‪ -‬إن المناقشة التي دارت حول البعد الحضاري في الصراع مع الغرب االستعماري‪ ،‬تحظى على‬
‫أھمية خاصة في ظروف ھيمنة الحضارة الغربية على العالم بالنسبة إلى قضية الفھم العميق لمسائل‬
‫االستعمار والصھيونية واالمبريالية والتبعية‪ .‬ومن ثم من غير الممكن خوض نضال حقيقي ضد‬
‫االمبريالية والصھيونية وبناء استقالل حقيقي ما لم تتم صياغة نظرية صحيحة حول المسألة‬
‫الحضارية‪ .‬ألننا ھنا حيال حضارة تريد الھيمنة على شعوب العالم األخرى وإلحاقھا بھا بعد نزع كل‬
‫مقومات استقاللھا وتنميتھا‪ .‬وھنا يدخل العنصر الحضاري في المركز من ھذه العملية‪ ،‬وإن التمعن‬
‫في الموضوعات التي تناولت مسائل المنھج والحضارة في كتاب "اإلسالم في معركة الحضارة"‪ ،‬ال‬
‫يلحظ أنھا قامت على أساس تناولھا من زاوية شھادة المنشأ التاريخي‪ ..‬وإن كان لكل حقيقة ونظرية‬
‫ونھج وفكرة ونظام منشأ وتاريخ‪ ،‬وال مفر من دراسة تاريخ الظاھرة ومنشأھا كشرط أساسي لفھمھا‬
‫وتحديدھا‪ .‬وھذا جزء من المنھج العلمي في دراسة حتى الظواھر الطبيعية أما الصواب والخطأ فلم‬
‫يستند فيھما ال إلى جغرافيا القارات وال إلى األجناس واأللوان وال إلى التراث بمعنى قومي أو‬
‫عصبوي؛ تراثنا صحيح وتراث غيرنا خطأ‪ ،‬لماذا ألنه يخصنا وال يخص غيرنا‪ ،‬إن المسالة‬
‫الجوھرية في تلك الموضوعات أنھا أثارت اإلشكاليات التالية‪.‬‬

‫إن القول أن المنھج الماركسي عالمي مسألة مردود عليھا‪ ،‬وھذا ما حاولت تبيانه تلك الموضوعات‬
‫التي أثبتت أنه مشحون بالخصومة ضد تجربة الحضارة اإلسالمية‪ .‬ولم يكن تلخيصا ً علميا ً لمجموع‬
‫الخصوصيات الحضارية العالمية فعندما نزعت العلمية عن ذلك المنھج‪ ،‬في كتاب "اإلسالم في‬
‫معركة الحضارة" فقد استند‪ ،‬فيما استند إليه‪ ،‬أن المنھج الماركسي وليد تراث فكري وفلسفي محدود‪،‬‬
‫وتجربة حضارية نابعة من بقعة صغيرة من العالم ومن ثم كان من الخطأ تعميم خصوصية جزئية‬
‫واعتبارھا قانونا ً علميا ً عاما ً وعالميا ً‪ .‬كما حاول كتاب "اإلسالم في معركة الحضارة" أن ينبه إلى‬
‫عالقة منھج بمجموعة محددة من النظريات والنظرات والمفاھيم والنماذج الخاصة التي يحملھا‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪104‬‬

‫ويعتبرھا مرتكزاته‪ ،‬وھذه غير ما يمكن أن يعتبر القوانين العامة في النھج‪ ،‬مثالً لو درسنا منھجية‬
‫ابن خلدون العلمية نراھا مشحونة بصورة صراع العصبيات بينما نرى نھج ماركس مشحون بصورة‬
‫طبقات العبيد واألسياد في أثينا وروما وإقطاع أوروبا وأقنانھا وبرجوازيتھا وعمالھا‪ .‬إن المنھج الذي‬
‫ال فكرة لديه عن صراع العصبيات القبلية في مرحلة من تاريخنا مثالً أو صراع البادية والمدينة أو‬
‫صراع الجھويات والقبائل اإلسالمية في إسبانيا حيث عمت تجربة حضارية عالمية في ظروف‬
‫انعزل فيھا الفاتحون المسلمون عن بقية جسم الدولة اإلسالمية منذ العباسي‪ .‬لكن مع ذلك استطاعت‬
‫أن تتعايش فع السكان األصليين وأن تنغرس في األرض اإلسبانية وتولد حضارة أثارھا مشھودة حتى‬
‫اليوم‪.‬‬

‫وبالمناسبة لم تھزم الدولة اإلسالمية في إسبانيا بعد مئات السنين إال في ظروف انحالل الحكام‬
‫وانقسامھم إلى دويالت ثم اشتداد الدعم الخارجي لفئة صغيرة من اإلسبان‪ .‬لكن األھم من ذلك فإن‬
‫اإلسالم انتزع عبر عمليات اإلبادة واالجتثاث من الجذور التي أصابت مئات األلوف من المسلمين‬
‫العرب واإلسبان‪ ،‬ولوال ذلك لبقي اإلسالم منغرسا ً في األرض حتى بعد أن فقد سلطته السياسية‬
‫وقدرته العسكرية‪.‬‬

‫ثم إذا أخذنا بعين االعتبار خطورة تلك التأثيرات السلبية على العالمية اإلسالمية‪ ،‬والمتمثلة ببعض‬
‫القيود الظالمة والمظاھر الفاسدة في ظل الحكومات التي تلت العھد الراشدي‪ ،‬فسوف ندرك أھمية‬
‫النموذج اإلسالمي الراشدي األصلي‪ ،‬وأھمية العمل اإلسالمي القاعدي الذي يمارسه العلماء‬
‫والمجاھدون واألتقياء دون اعتماد على سلطة الدولة لكي يكرسوا العالمية اإلسالمية‪ ،‬بينما ال تستطيع‬
‫العالمية المعاصرة أن تبقى إال من خالل سلطة الدولة‪ ،‬فماذا سيحدث لالشتراكية لو رفعت سلطة‬
‫الدولة وعلى التحديد سلطة الجيش؟ فھل ستبقى تلك المجتمعات متمسكة بالنمط االجتماعي السائد‪،‬‬
‫إزاء الماركسية الرسمية السائدة أم سينتھي أمر ھذا النموذج بسبب تناقضه مع اإلنسان‪ ،‬مع فطرته‬
‫وجوھره‪ .‬ومن ثم مع العديد من جوانب حياته الروحية والفكرية والسياسية واالقتصادية واالجتماعية‪.‬‬

‫ھذا كله يؤكد ال علمية المنھج الماركسي وعدم قدرته على الديمومة والبقاء عشر معشار بقاء‬
‫اإلسالم‪ .‬ومن ھنا لم تحسنوا التقاط موضوعات كتاب "اإلسالم في معركة الحضارة" ولھذا ال يجوز‬
‫باالستناد إلى ال علمية الماركسية وال عالميتھا من جھة وال عالمية الماركسية‪ ،‬أو الليبرالية األوروبية‬
‫من جھة أخرى‪ ،‬بسبب محدوديتھما وخصوصيتھما التاريخية إلى نقل تھمتھا نفسھا إلى تلك‬
‫الموضوعات بالقول "أنھا تعتبر العلمية تنبع من الخصوصية الحضارية وشھادة المنشأ"‪ .‬إن الجواب‬
‫كان سيكون مقبوالً لو دحضتم تلك الموضوعات من خالل إثبات عالمية الماركسية وعلميتھا‪ .‬فتلك‬
‫الموضوعات أثبتت أحادية النظرة في المنھج الماركسي والمناھج األوروبية األخرى بسبب قيامھا‬
‫على أساس التجربة الخاصة التاريخية لحضارة واحدة محددة‪ ،‬ھي الحضارة األوروبية‪ ،‬وإنھا لم‬
‫تشق من دراسة التجربة التاريخية للعالم أو أغلبيته‪ ،‬ھذا ويمكن البرھنة أن معلومات تلك المناھج‬
‫حول الحضارات األخرى وتجاربھا التاريخية وبنائھا الفكري ومعلومات إما خاطئة أو مجاملة أو‬
‫سطحية فماركس وإنجلز‪ ،‬مثال‪ ،‬حيث يعتبران الثورة اإلسالمية األولى‪ ،‬ردة فعل بدوية‪ ،‬ال يكونان‬
‫يعبران عن نظرة علمية وإنما ينطلقان من نظرة المركزية األوروبية الضيقة‪ .‬وھذا في أحسن حاالت‬
‫التفسير لسبب مثل ھذه األحكام التي ھي من منھجھما المسمى العلمي والعالمي والذي يدعي أنه فوق‬
‫الحدود الحضارية أو التاريخية المحددة لقارة معينة‪ .‬ولھذا فإن إغناء الحوار بيننا يحتاج من جانبكم‬
‫إلى التدقيق في تلك الموضوعات الواردة في كتاب "اإلسالم في معركة الحضارة" ثم مناقشتھا حتى‬
‫نختلف أو نتفق على ما جاء فيھا فعالً ال على ما لم يكن فيھا‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪105‬‬

‫ح‪ -‬إن مشروعية المنھج الموضوعي أو علميته يجب أن تأتي من قدرته على أن يكون تقييما ً حقيقياً‬
‫صحيحا ً للتجربة التاريخية العالمية لإلنسانية أو على األقل لحضاراتھا الرئيسية‪ ،‬وليس أن يقيم تجربة‬
‫جزئية محدودة )التجربة األوروبية( ويعتبرھا قانونا ً عاما ً‪ .‬أما مشروعية المنھج اإلسالمي وعلميته‬
‫فقد وصلنا في البداية لھما من خالل األسس نفسھا التي تعاملون بھا المنھج الماركسي ولكن اإلسالم‬
‫جاء في أصوله عن طريق ألوحي‪ ،‬من ھنا تأتي مشروعيته وعلميته بالنسبة لمن امن باŒ‪ ،‬وأن‬
‫محمداً رسوله صلى ﷲ عليه وسلم ونحن اليوم من ھؤالء المؤمنين والحمد Œ‪ .‬أما بالنسبة لمن ال‬
‫يستند إلى ھذا البرھان فنحن يمكن أن نقنعه كما اقتنعنا نحن بادئ ذي بدء من خالل إثبات صحة‬
‫النظرة اإلسالمية والمنھجية اإلسالمية وعالميتھا‪ ،‬وقد حاولنا إثبات ذلك أعاله‪ ،‬بل كان ذلك ھو‬
‫طريقنا إلى اإليمان والعقيدة‪ ،‬فعندما ثبت لنا بالبرھان صحة اإلسالم ومنھجه وعالميته تساءلنا‪:‬كيف‬
‫يكون اإلسالم على ھذا القدر من الصحة والعالمية ويكون قادراً على مواجھة الفكر األوروبي‬
‫المعاصر‪ .‬ويكون في الوقت نفسه من صنع بشر أبناء تجربة تاريخية محدودة ومتواضعة كما كان‬
‫الحال في القرن الثامن في الجزيرة العربية‪ .‬أي البد من أن يكون مصدر ھذه الصحة والمنھجية‬
‫العلمية والعالمية وحي يتعدى الزمان والمكان المحدودين‪.‬‬

‫د‪ -‬اآلن سنأتي إلى موضوعة التراث والتاريخ والحضارة وتأثيرھا كقانون عام على الشعوب كافة‬
‫ويمكن ھنا‪ ،‬أن نالحظ ما يلي‪.‬‬

‫‪ -1‬القسم األعظم من بلدان العالم الثالث إن لم يكن جميعھا زادت تبعية بعد االستقالل من ناحية‬
‫االعتماد على الخارج حتى في مجال القمح والغذاء وھناك اليوم إجماع على أن مشاريع التنمية لم‬
‫تحقق األھداف المرجوة وقد زادت الديون حتى بلغت حداً أشرفت الدول على رھن نفسھا‪ ،‬أو إعالن‬
‫اإلفالس‪.‬‬

‫‪ -2‬أثبتت التجربة أيضا ً أن البلدان التي تبنت االشتراكية أو سارت على ما يسميه السوفييت "الطريق‬
‫الال رأسمالي"‪ ،‬واجھت المصير نفسه ولم تحقق التنمية الموعودة وتدھورت أكثر من غيرھا من‬
‫ناحية الغذاء والزراعة والصناعة والتجارة الداخلية والخدمات والديون الخارجية‪.‬‬

‫‪ -3‬أجمع أغلب الذين عالجوا ھذه الظاھرة على القول أن السبب يرجع إلى عزلة مشاريع التنمية عن‬
‫الجماھير‪ ،‬خصوصا ً جماھير الفالحين والعمال المسحوقين وقد أقرت لجنة العلماء السوفييت في‬
‫ندوتھا المشار إليھا أعاله بھذه الحقيقية أيضا ً وفسرتھا بأن النخبة الطليعية سرعان ما تجد نفسھا في‬
‫عزلة وتناقض مع "التقليدي" فالتقدم يأخذ شكل النزول من األعلى إلى األسفل‪ .‬أي من النخبة والدولة‬
‫من فوق بينما ال تكون "القاعدة التقليدية" مھيأة له‪ ،‬وھذا ما حداھم إلى التأكيد بعد فوات األوان طبعا ً‬
‫على ضرورة االنتباه إلى المواءمة بين العصرنة و"التقليدي"‪ .‬وھي المعضلة التي لم يجد العلمانيون‬
‫حالً لھا في البلدان التي استطاعت فيھا األحزاب ألماركسية أن تقود الشعب )التقليدي( في معركة‬
‫التحرير الوطني كالصين وفيتنام وكمبوديا‪ ،‬وإن كانت ھذه التجارب أفضل نسبيا ً من ھذه الناحية‪.‬‬

‫‪ -4‬إن الحقيقة العلمية التي أصبحت اآلن مقبولة حتى من قبل بعض كبار الماركسيين والليبراليين‬
‫تقول أن تكريس االستقالل بعد كسب معركته ضد المستعمر وتحقيق تنمية حقيقية مستقلة )ناھيك عن‬
‫العدل والحرية والديمقراطية( ال يمكن أن يتم بمعزل عن تبني الجماھير لھما‪ .‬وھذا غير ممكن ضمن‬
‫البرامج العلمانية المتغربة التي أثبتت أنھا بالضرورة متعادية مع الجماھير وال تخدم غير فئة النخبة‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪106‬‬

‫من كبار االحتكاريين من قادة الحزب والدولة في البلدان التي توسعت في التأميم‪ .‬ولنذكرھا ھنا‪ ،‬أن‬
‫الجماھير المستعاض عنھا بعبارة "التقليدي" في ندوة العلماء السوفييت ھي التي تختزن التاريخ‬
‫والتراث والتقاليد لألمة‪ ،‬ومن ثم إذا لم تنبع مشاريع التنمية من قلب ھذا الخزان ولم تلمس عقيدة‬
‫الجماھير وقناعتھا وقلوبھا فعبثا ً يصار إلى دفعھا لتجعل من قضية االستقالل والتقدم والتنمية‬
‫قضيتھا‪ .‬أما إذا كانت قضية االستقالل والتقدم والتنمية قضية ذات محتوى تغريبي علماني )ليبرالي‬
‫أو اشتراكي( فالجماھير ستنظر إليھا بحذر وستفقد حماسھا رويداً رويدا‪ ،‬حتى يقع االنفصال النھائي‪.‬‬
‫وھذا ما حدث حتى بالنسبة إلى القيادات التي كانت في المعارك الوطنية ضد االستعمار تحظى على‬
‫تأييد الجماھير ودعمھا‪ .‬وإذا بھا تفقد ذلك التأييد وتتحول إلى معادية للناس بعد الوصول إلى الحكم‬
‫وتطبيق برنامجھا العلماني‪.‬‬

‫‪ -5‬من ھنا يمكن أن تفھم المسالة الحضارية باعتبارھا قضية مركزية يتوقف على فھمھا ومعالجتھا‬
‫مستقبل الثورات في العالم الثالث‪ ،‬عموما ً وأن من يستطيع أن يفھمھا في بالدنا فھما ً عميقاً‪ ،‬ويلحظ‬
‫مركزية العقيدة اإلسالمية بالنسبة إلى حضارتنا فيمتلك النھج الذي يستطيع أن يجيب على قضايا‬
‫العصر وحاجاته‪ ،‬قضايا استقالل الشعوب وتقدمھا وتنميتھا وخالصھا من التبعية‪ ،‬قضية تحطيم‬
‫مراكز السيطرة العالمية تفرض ھيمنتھا على الشعوب وتريدھا أن تبقى في نير العبودية‪ ،‬والتي تھدد‬
‫العالم بالدمار إذا ما تحركت أزرارھا النووية‪ .‬لذا كان شرط البرنامج القادر على تحقيق االستقالل‬
‫والتنمية والحرية أن يكون قادراً على مس شغاف قلوب األمة حتى تتبناه لتنھض من أجل تحقيقه‪،‬‬
‫وإذا كان ھذا الشرط ال يتحقق في بالدنا إال من خالل اإلسالم‪ ،‬فھل يكون تجاھل ھذين الشرطين‬
‫موقفا ً علميا ً أو منھجا ً علميا ً وعالمياً‪ ،‬أم يكون عكس ذلك تماماً‪ ،‬فالنھج العلمي الحقيقي ھو الذي يوفي‬
‫ھذين الشرطين‪ .‬ومن ثم إن تناول ھذا الموضوع ال عالقة له بكسب الشعبية وال بالضرب على الوتر‬
‫العاطفي للجماھير‪ .‬وإنما يجب أن يتعامل معه بصورة أكثر جدية باعتباره حقيقة قائمة بذاتھا بغض‬
‫النظر عما يسمى بكسب الجماھير أو عدم كسبھا‪ .‬المسألة ھنا ليست مسألة نجاح في انتخابات‪ ،‬وإنما‬
‫ھي مسألة نجاح األمة في تحقيق نھضتھا في كل المجاالت‪ .‬إنھا مسالة تقرر نجاح أمتنا في الحفاظ‬
‫على استقاللھا وتحقيق وحدتھا وإنزال الھزيمة بعدوھا الصھيوني وتحقيق نھضتھا الحضارية‬
‫والتنموية والثقافية إنھا المسألة التي تقرر قيام نظام عادل شوري يصون حقوق العباد وحرياتھم‬
‫ويطلق طاقاتھم الخيرة‪ ،‬ويكرس كرامتھم اإلنسانية ويحقق التوازن في حياتھم ويسمح لھم بمواجھة‬
‫العالم بمشروع حضاري متميز حقا ً‪.‬‬

‫‪ -6‬إذا كانت ھذه الموضوعات تنطبق بصورة صارخة على الشعوب اإلسالمية فھي تنطبق كذلك‬
‫على بقية الشعوب بما في ذلك شعوب أمريكا الالتينية‪ ،‬أما إذا كان اإلسالم غير مطروح بالنسبة إليھا‬
‫فإن من المؤكد أن مشاريع التغريب لم تلق عندما الحماسة المطلوبة ولھذا كان البد من إيجاد برنامج‬
‫ھناك يراعي تراثھا وتقاليدھا وحضارتھا‪ .‬ھذه قاعدة عامة صحيحة بالنسبة إلى أغلب الحاالت ولعل‬
‫من أبرز أمثلتھا الناجحة التجربة اليابانية التي صنعت كل تقدمھا ضمن المحافظة على تراثھا وضمن‬
‫المحافظة على الكثير من جوانبه األساسية‪ ،‬ولھذا ما يجري من عالقة بين العمال في المصانع في‬
‫اليابان أو فيما بينھم وبين الرأسمالية يختلف اختالفا ً نوعيا ً عن نظيره في أوروبا أو أمريكا‪ .‬أما‬
‫التجربة الثانية فھي نجاح الثورة اإلسالمية في إيران ببلوغ االكتفاء الذاتي‪ ،‬كما أعلن في القمح‬
‫والكثير من المواد الغذائية منذ سنواتھا الخمس األولى‪ ،‬بينما كانت في زمن شاه إيران تستورد حاجة‬
‫عشرة أشھر في السنة من القمح والكثير من المواد الغذائية‪ .‬وكان المسجد في القرية ھو الذي قاد‬
‫عملية إحياء اإلنتاج‪.‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬


‫‪107‬‬

‫‪ -7‬أما القول‪ :‬الحظوا تعاظم دور رجال الدين الكاثوليك في ثورات أمريكا الالتينية أو بولندا أو عدد‬
‫من بلدان آسيا وإفريقيا وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فكيف يحق لكم أال تلحظوا دور اإلسالمي في الثورة‬
‫عندنا؟ وكيف يحق لكم االستنتاج بالمقابل أن موضوع اإلسالم ليس وارداً بالنسبة إلى أمتنا ما دام‬
‫ليس بوارد بالنسبة لكاثوليك أمريكا الالتينية‪ .‬طبعا ً إن ھذا ال يتناقض مع طموح اإلسالم بأن يطرح‬
‫رسالته على الناس كافة ولھم أن يقبلوا أو يرفضوھا‪ ،‬وكل سيجني ثمار ما زرعت يداه‪.‬‬

‫‪ -8‬وبھذا ترون أن من حق الشعوب األخرى كما ھو من حق أمتنا أن ترفض انسحاق شخصيتھا‬


‫وھويتھا أمام الحضارة الغربية ومن حقھا رفض التغريب ومن حقھا أن ينبثق برنامجھا من تراثھا‬
‫وتاريخھا وظرفھا الخاصة بل يمكن القول أنھا إذا لم تفعل ذلك لن تكسب معركة االستقالل والحرية‬
‫والتنمية أما من جھة أخرى‪ ،‬إن فعلت ذلك‪ ،‬خصوصاً‪ ،‬إذا نقبت عن ومضات الفطرة في تاريخھا‬
‫وحضارتھا‪ ،‬فسوف يصبح الحوار بينھا وبين اإلسالم في العمق على مستوى أرقى من التعاون بين‬
‫الشعوب المظلومة ضد االستكبار الدولي فقط‪.‬‬

‫وأخيراً أيھا اإلخوة اسمحوا لنا بكلمة أخيرة وھي أن ال تنسوا وحدتكم ضد عدوكم وأنتم تناقشون ھذه‬
‫القضايا أي وأنتم تتفقون وتختلفون حولھا‪ .‬وال تنسوا المحافظة على روح األخوة والتحلي بالحلم‬
‫والحكمة والصبر بينما كل ھنا يناقش من يخالفه الرأي‪ .‬وال تنسوا أن اإلنسان يموت وھو يتعلم‪،‬‬
‫وعليه أن ال يكل في تحصيل العلم والبحث عن الحقيقة وأال يخشى أن يغير رأيه حين يبين له خطأه‪،‬‬
‫ولو كان قبل حين مستعداً للموت في سبيل ما كان يعتقده صحيحا ً أو في الدفاع عنه‪.‬‬

‫‪.81 9  ,: 4 +;* <= .& '( ) *+, - ً/


&012 34 567 
"#  $%‬‬

‫ــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـــــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ـــــــ ــــــــ ــــــــ ــــــــ ــــ ـ‬

‫نيسان ‪ │ ١٩٩٤‬مؤسسة الوفاء‬ ‫منير شفيق │ شھداء ومسيرة‬

You might also like