Professional Documents
Culture Documents
نظريات سكانية + تعليق
نظريات سكانية + تعليق
نظريـــــات ســــكانيــــــــة
السنــــة الثــالثـــة
1
أوالا :الفلسفات واألفكار السكانية القديمة
يعتبر السكان أحد الموضوعات العديدة التي تدخل ضمن اختصاص علم االجتماع ،
والتي يوليها المشتغلون به جانبا ً ال بأس به من اهتماماتهم ،ويستندون في ذلك الى عدة
اعتبارات نستطيع ان نتعرف عليها من خالل النظر الى تعريف علم االجتماع وتحديد
موضوعه ،وبيان أقسامه ومجال اهتمامه أوغير ذلك .واستنادا ً الى ذلك ،يتصور المهتمون
بدراسة السكان في علم االجتماع مجموعة متباينة من الظواهر السكانية تنصرف اليها
جهودهم في البحث والدراسة ،وصوالً الى عدة نتائج توضّح ضرورة وأهمية هذه الظواهر
السكانية في المجتمع .
وعلى الرغم من ان دراسة السكان نفسها تعتبر أقدم من علم االجتماع ،ألنها ظهرت
ونمت من أصول ومصادر متنوعة ومتعددة منها الفسلفة واالقتصاد واالحصاء والجغرافيا
والطب والبيويوجيا وغيرها ،إال ان هذه الدراسة للسكان ما لبثت ان اصبحت اليوم أكثر
ارتباطا ً بعلم االجتماع وأصبحت ميدانا ً متميّزا ً في إطاره .
نعني بالفكر السكاني القديم مجمل اآلراء ووجهات النظر التي أضافها اولئك المفكرون
والكتّاب الذين ُوجدوا مع المراحل األولى من تاريخ الفكر السكاني أو ما بعدها ،تلك اآلراء
التي تناولت مختلف الظواهر السكانية بالتحليل والتفسير .والذي يجعلنا نعتبر هذه اآلراء
من قبيل الفكر السكاني ،هو ما تميّزت به من خصائص ومميزات أبعد ما تكون عن
خصائص ومميزات التفكير العلمي المعاصر حول السكان وظواهره .ولكن مع ذلك ،كان
لهذا الفكر السكاني أثره الواضح في التمهيد لما نشهده اليوم من دراسات سكانية .
صلة االهتمام بدراسة السكان من جانب عدد من وكان الفكر السكاني القديم مح ّ
المفكرين والكتّاب الذين جذبت انتباههم هذه الظواهر منذ أقدم العصور .ومن بين هؤالء
الكتّاب يمكن ان نذكر على وجه الخصوص ،كونفوشيوس بين الصينيين وأفالطون وأرسطو
بين اليونانيين وابن خلدون بين العرب ...
2
1ــ كونفوشيوس :
كانت فلسفة كونفوشيوس تهدف الى الوصول بالمجتمع الى أرقى مستوياته عن طريق
تنظيم شؤون األسرة التي هي النطاق األول للتجربة األخالقية ،وهي النقطة التي تبدأ منها
األخالق الفاضلة .ولذلك فان االخالق الفاضلة ــ من وجهة نظره ــ تبدأ بين أبناء األسرة
الواحدة ،حيث يعامل األب أبناءه بنفس المعاملة التي كان ينتظرها من والده ...ومعنى ذلك
ان الصينيين القدماء لم يتّجهوا الى الح ّد من النسل ،وإن كان كونفوشيوس قد أعار اهتمامه
لفكرة التناسب بين مساحة األرض وعدد السكان أو " الحجم األمثل للسكان" .فلكل مجتمع
عدد من السكان يتناسب مع قوة انتاجه ،بحيث ال يتعدى الحجم األمثل المناسب ،وال
ينخفض عن الحجم األمثل حتى ال يؤدي ذلك الى الفقر وانخفاض مستوى المعيشة .واعتقد
كونفوشيوس ان مسؤولية الحكومة ان تنقل السكان من المناطق المزدحمة بالسكان الى
المناطق األقل عددا ً .وأوضح ايضا ً العوامل العديدة التي تؤثر في نمو السكان ،وحصرها
في عوامل نقص الغذاء ،والحرب ،والزواج المبكر ،والتكاليف المبالغ فيها عند الزواج .
كان موضوع الحجم األمثل للسكان في الوحدة السياسية اليونانية ،ونعني المدينة
الدولة التي تقوم فيها الحكومة بالمحافظة على رفاهية وأمن المواطنين من خالل ما تمارسه
من إرادة في هذا الصدد ،هو المحور الذي دارت حوله كل األفكار التي تركها لنا أفالطون
في مؤلفَيه " الجمهورية" و " القوانين" في ما يتعلق بدراسة السكان .
يشير أفالطون في كتابه " الجمهورية " الى انه ينبغي على الحكام ان يثبّتوا عدد
جراء األمراض والحروب ، يعوضوا ما فُقد من ّ
حد أمثل ،على ان ّالسكان في المدينة عند ّ
ويحاولوا االّ يزيد هذا العدد عن الحد األمثل ،حتى تبقى الدولة في الحد المتوسط ،وذلك
عن تنظيم عقود الزواج.
3
ويذهب الى ان العدد األمثل للمواطنين في المدينة يجب ان يكون ( ) 5040مواطن،
مع مالحظة ان العبيد ال يحسبون ضمن المواطنين .وهذا العدد له أهميه في نظر أفالطون
ألنه يعتقد انه من المناسب تقسيم األراضي في المدينة اليونانية الى اثني عشر جزءا ً هذا من
ناحية ،ومن ناحية أخرى ،كان يظن ان لهذا العدد األمثل داللة ومغزى دينيا ً وأسطوريا ً
لدى المواطنين ،األمر الذي يؤدي بهم الى تقديس هذا العدد في حياتهم .
أما بالنسبة لألساليب التي يمكن للحكومة بواسطتها ان تضغط من أجل الحفاظ على
هذا الح ّد ،نجد أفالطون يقرر أنه اذا زاد عدد سكان المدينة عن هذا الحد األمثل ،يجب ان
يتد ّخل الح ّكام إلنقاصه عن طريق تحديد الزواج والنسل ومنع الهجرة الى البالد .واذا نقص
عدد سكان المدينة عن هذا الحد ،يجب تشجيع النسل ،وان تُجازى األسر المنجبة لألوالد
بالمال ،ويُباح لألجانب التجنّس بالجنسية اليونانية .وتستطيع الدولة ان تتدخل لتدبير الزواج
والنسل من خالل وضع القيود التي تحول دون ذلك ،كأن تقت َصر وراثة األرض على عدد
محدود فقط من األبناء الذكور في األسرة ،وتحصل الحكومة على ما يزيد على ذلك ،أو
من خالل توقيع الجزاءات أو تقديم النصيحة أو توجيه التوبيخ واللوم أو حتى عن طريق
إرسال األعداد الزائدة عن هذا الحد من السكان الى المستعمرات .
إتجه أرسطو في معالجته لموضوع السكان اتجاها ً أكثر واقعية من أفالطون ،هذا
فضالً عن انه تناول العديد من المسائل السكانية مثل توزيع السكان ،ونمو السكان والحد
األمثل للسكان .
سمها بين األسرة ثم القرية
إذ نجده يشير الى توزيع السكان على وحدات المجتمع ،ويق ّ
ثم المدينة ،ثم يعالج توزيع السكان على المهن ،ويقسمهم الى َمن يقومون بالمهن الطبيعية
( الزراعة والصيد وتربية الحيوانات) ،والى َمن يقومون بمهن غير طبيعية مثل التجارة
والصناعة .كما تناول أرسطو التوزيع العمري للسكان وأجرى تفرقة بين الرجل والمرأة
عل أساس االستعدادات الجسمية والعقليّة .
4
وفي ما يتعلق بموضوع نمو السكان ،نجد أرسطو يحذّر من النمو غير المتناسب بين
طبقات المدينة وما ترتّب على ذلك من ثورات ،فيشبّه المدينة بالجسم االنساني ويرى انه
كما يجب ان تنمو أجزاء الجسم االنساني بالتناسب ،يجب ان ينمو السكان بتناسب مماثل
بحيث ال يطغى عدد السكان في طبقة على العدد في طبقة أخرى .
وبالنسبة للحد األمثل للسكان ،فقد رأى ضرورة وجود حجم ثابت للسكان حتى تتمكن
الدولة من تسيير عملها ونشر النظام وتوزيع المناصب على المواطنين حسب الكفاءة ،ذلك
الن الدولة العظمى على حد تعبيره ليست هي الدولة ذات الحجم الكبير في السكان ،النه
يصعب عندها تحقيق التناسب بين حجم السكان في المدينة وبين مواردهم وخاصة مساحة
األرض وقدرتها على إشباع حاجات السكان .
غير ان ارسطو يتخلى عن صفته االجتماعية ويتحدث عن مجموعة من االجراءات
سفيّة التي يراها ضرورية الستبقاء عدد السكان في المدينة في المستوى المناسب ،وهذه
التع ّ
االجراءات هي :
-االجهاض قبل ان يدبّ الشعور في الجنين .
والمشوهين وفاسدي األخالق .
ّ -إعدام األطفال ناقصي التكوين
-تحريم الزواج على الشيوخ والعجزة وعلى كل من يبلغ الخمسين من عمره ،وذلك
على اعتبار ان الرجال والنساء المتقدمين في السن ال ينجبون إال مخلوقات ناقصة
جسما ً وعقالً ،وال جدوى من عالج تلك الثمرات الف ّجة .
اما الرومان ،فكانوا يرون في زيادة عدد السكان قوة حربية هائلة ووسيلة أساسية لبناء
امبراطورية كبيرة ،فكانوا يشجعون على الزواج وبالتالي على االنجاب .
هذا ويش ّجع مفكّرو المسيحية على زيادة االنجاب وعدم التد ّخل بالتنظيم أو بالتحديد في
تلك المسألة باعتبارها من اختصاص الخالق .كذلك بالنسبة للمفكرين المسلمين الذين
يتمسكون ببعض النصوص واآليات التي تدعو الى ترك مسألة السكان للخالق ايضا ً .
5
4ــ ابـــن خـــــلدون :
من الفالسفة المسلمين الذي وضع الخطوط العريضة للسياسة السكانية المعاصرة في
إطارها التنموي ،إذ يؤكد على التفاعل بين التغير السكاني المستمر مع العوامل االقتصادية
واالجتماعية والسياسية .كما قدّم ابن خلدون بعض األفكار التي أثرت فيما بعد في تطوير
االهتمام بدراسة السكان ،حيث رأى ان المجتمعات تمر بمراحل تطورية محددة تؤثر على
عدد المواليد والوفيات في كل مرحلة .إذ يشهد المجتمع في المرحلة االولى من تطوره
زيادة معدالت المواليد ونقص في معدل الوفيات ،بما يؤثر على نمو السكان ويزيد عددهم.
وعندما ينتقل المجتمع الى المرحلة االخيرة في تطوره ،يشهد ظروفا ً ديموغرافية مخالفة
تماما ً ،ينخفض فيها معدل الخصوبة والمواليد ،ويرتفع معدل الوفيات ...ويوضح ابن
خلدون تأثير كل مرحلة من تطور المجتمع على المواليد والوفيات ،العتقاده ان الخصوبة
العالية في المرحلة االولى من تطور المجتمع ترجع الى نشاط السكان وثقتهم ومقدرتهم .
اما في المرحلة االخيرة من تطور المجتمع فتظهر المجاعات واالوبئة ،والثورات
واالضطرابات ،مما يقلل من نشاط السكان ،ويق ّل من نسلهم .
تبلورت مسألة النمو السكاني في القرن الخامس عشر بسياسة سكانية ترمي الى زيادة
عدد السكان بهدف إغناء الدولة وزيادة ثروتها ،فبحثت في كل الوسائل التي تعمل على
زيادة عدد السكان وتلك التي تح ّد من نموه كاألوبئة والحروب والهجرة واالجهاض وتأ ّخر
ّ
سن الزواج .
وكانت المدرسة المركنتيليّة قد أخذت بهذا االتجاه ،ورأت ان المسائل السكانية يجب
ان تعالَج من الوجهة االقتصادية المبنية على أساس البحث عن وسائل إغناء الدولة وزيادة
ثروتها .وانطلقت دراساتها السكانية من افتراض رئيسي قوامه ان على الدولة أعباء يجب
يقوي سلطتها بما في ذلك وجود جيش ان تقوم بها .من أجل ذلك ،يجب ان تلجأ الى كل ما ّ
قوي وأرض واسعة وممتلكات وراء البحار وعدد كبير من السكان.
6
6ــ المدرسة الفــيزيوقراطــيّة :
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهرت في فرنسا المدرسة الفيزيوقراطية
روادها وهو " كيناي " Quesnayبين الدراسات السكانية أو الطبيعية ،وقد ربط أحد ّ
واالقتصادية .فقد كان أتباع مذهب الفيزيوقراط يرون ترك التجارة أو الزراعة أو االنجاب
...تسير في طرقها الطبيعية دون تد ّخل من أحد ،على اعتبار ان كل شيء في الحياة
االجتماعية يسير وفق االرادة االلهية الخيّرة ،وال سبيل الى اعتراض العناية االلهية وال
سيما ان ذلك ليس في قدرة البشر .
ولعل دراسات كيناي في مجال السكان تعبّر عن وجهة نظر أعضاء مدرسة
الفيزيوقراط في المجال السكاني ،حيث تناول سكان فرنسا بالدراسة الوضعيّة التحليليّة شبه
العلميّة .وتبيّن له ان تعداد سكان فرنسا قد انخفض في إحدى الفترات (حوالي مئتي سنة )
فيما بين 1650و 1850كما انخفضت معدالت االنتاج .ولذلك فقد حاول تحديد معالم
االرتباط بين عدد السكان والقدرة على االنتاج في تلك الفترة .ونتيجة النخفاض معدالت
االنتاج في هذه الفترة ،جاءت نتيجة معالم االرتباط مؤ ِكدة ان انخفاض االنتاج ناتج عن
انخفاض عدد السكان .وخلص من دراسته الديموغرافية االقتصادية الى قاعدة عامة مؤداها
ان هناك عالقة طردية بين نسبة تخلخل السكان وقلة االنتاج ،بمعنى ان الدولة التي يقل
عدد سكانها بمقدار الثلث ،ينقص انتاجها بمقدار الثلثين.
وكلما زادت كثافة السكان في أمة أراضيها خصبة ومتّسعة األرجاء ،كلما ازدادت
بالتالي ثروتها وانتاجها .ويرى ايضا ً ان الدولة يجب ان تعمل على زيادة الدخل قبل زيادة
السكان ،الن االستمتاع بدخل كبير أنفع للدولة من زيادة السكان بنسبة ال تنسجم مع الدولة
وحاجة المعيشة .اي انه يرى ان الثروة ال ترتكز على عدد السكان بل العكس صحيح ،
اي ان عدد السكان يتوقف على الثروة ،وان السكان يزدادون بزيادة الدخل ولذلك وجب
العمل على زيادة الدخل قبل زيادة السكان.
7
ذلك ان االنتاج يومئذ كان يعتمد على القوة العضلية ،وتلك النتيجة توصف بانها شبه
علمية ،الن عدد السكان قد يزيد في الفئة التي تنطوي على السن السابقة لالنتاج مثل الفئة (
أقل من 18سنة ) .ومثل تلك الزيادة ال تؤدي الى زيادة في االنتاج وإنما تؤدي الى زيادة
في االستهالك .واذا كان العدد الذي انخفض في السكان من بين هذه الفئة ،فان نقصهم ال
يؤدي الى نقص في االنتاج الن سن االنتاج تقع بين 18و 50سنة تقريبا ً .
في العقد األخير من القرن الثامن عشر ظهرت ثالث مؤلفات تدعو الى التفاؤل في
المسألة السكانية وفي وقت واحد تقريبا ً في اوروبا .وراح صاحب كل مؤلف يبشر بحاضر
وأولهم هو " سوسميلش " Sussmilchوكان كلّه رفاهية ونعيم وبمستقبل أكثر سعادةّ .
واعظا ً في جيش فردريك االكبر ،حيث حاول صياغة قانون في مشكلة السكان في مؤلفه
بعنوان " االحصاء الديموغرافي " سنة 1740يرتكز على زعم التعادل بين الخلق واإلفناء
.ويتلخص قانونه في انه يوجد بالضرورة ووفقا ً لترتيبات العناية اإللهية ،تكافؤ أو ــ على
االقل ــ نسبة ثابتة بين كل من عدد المتزوجين وعدد المواليد وعدد الوفيات في كل سنة من
السنين العادية التي ال يتخللها أوبئة أو حروب أو آفات وشرور اجتماعية أو أزمات اقتصادية.
على حين أنه في حال االخالل بهذا التكافؤ ،لسبب من االسباب السالفة الذكر ،مثل
حدوث أزمة اقتصادية وبالتالي انخفاض معدالت الزواج وبالتالي انخفاض معدالت
المواليد ، ...فان العناية اإللهية ما تلبث ان تعيد هذا التكافؤ الى وضعه الطبيعي بعد زوال
آثار تلك العوامل الطارئة .
وثانيهما هو الفيلسوف الفرنسي " كوندرسيه " Condorcetالذي وردت آراؤه
السكانية ضمن نظريته في فلسفة التاريخ والتي تعتبر تاريخ التطور البشري أشبه بخط
صاعد نحو الرقي والكمال .من هنا فان كل مرحلة من مراحلها العشرة أرقى من سابقاتها،
وتمهد ألخرى أرقى منها .هذا والمراحل التسعة االولى تمثل تجربة االنسانية في الماضي،
على حين ان المرحلة العاشرة هي مرجلة اآلمال وتتعلق بما ينبغي ان تكون عليه االنسانية.
8
ونالحظ هنا انه في المرحلة التاسعة التي ابتدأت من عهد ديكارت الى عصر الثورة
الفرنسية ،يؤكد ان حقوق االنسان أخذت وضعها الطبيعي ،كما انتصر العقل على االيمان،
وتخلصت الفلسفة في سائر فروعها من الدين ،وبذلك اصبح االنسان في الوضع الالئق به.
وفي المرحلة العاشرة ،وهي مرحلة اآلمال ،أكد ان االنسانية تتقدم في ثالثة أبعاد هي :
أ ــ قيام المساواة بين األمم باختفاء العداوات الشعوبية والقومية .
ب ــ قيام المساواة داخل كل أمة بين الجنسين .
ج ــ إرتقاء االنسان في ذاته كجنس عام .
ويرجع ذلك في نظره الى ان القانون وسائر النظم االخرى سوف تتجه دائما ً الى جعل
الفرد ينسجم مع المصالح المشتركة ،وان انتاج المحاصيل الزراعية ال سيما الغذائية منها
سيظل في ازدياد ،وان األمراض سينخفض انتشارها الى ح ّد بعيد ،وبالتالي ستطول حياة
االنسان حتى تكاد ال تصل الى نهاية ،ومن ثم سترتفع قدرات واستعدادات االنسان الى ان
يصل الى الكمال .
هذا وقد استمرت تلك الظروف المعيشية السيئة في بريطانيا بالرغم من تقدم الصناعة
وابتكار المغازل واألنوال اآللية التي أدت الى تقدم صناعة النسيج حينئذ ،وذلك يرجع الى
استغناء أصحاب المصانع عن خدمات الكثير من عمال الغزل والنسيج ،األمر الذي ترتب
عليه زيادة أعداد العاطلين عن العمل وانخفاض األجور وكذلك انخفاض المساعدات
االجتماعية للفئات الفقيرة .ولعل تلك األحوال السيئة في بريطانيا هي التي تفسر آراء
جودوين الفوضوية وتبرر النظرة التشاؤمية التي ظهرت في مقال مالتوس الذي نشره دون
ان يضع اسمه عليه ،وال سيما ان تلك األحوال السيئة قد ارتبطت بفترة طفولة وشباب
وبداية رجولة مالتوس ،فهو من مواليد سنة . 1766
وكانت الثورة الصناعية في ذلك الوقت تمضي قدما ً وكانت األمور تبشر بالخير في
اوروبا واميركا الشمالية .اي انه كان هناك ثمة شعور بتفاؤل عام يشيع في الجو ،شعور
بان العلم والعقل سيتمكنان من معالجة أية مشكالت قد تنشأ في الحياة االجتماعية .لكن قلة
من الناس قد ف ّكروا في دراسة العواقب المحتملة لالرتفاع السريع في معدالت النمو السكاني،
10
وكانوا يشعرون بانه ما من شيء يدعو الى القلق .وقد عبّر غودوين وكوندرسيه عن ايمانهما
بان السكان لن يلبثوا ان يصلوا الى المستوى المعقول ...بطريقة ما .
لكن مالتوس لم يكن مطمئنا ً الى هذه الدرجة ،فقد جاءت آراؤه في السكان متأثرة
بآراء غودوين ورد فعل لها ،حيث دارت نظريته حول اإلجابة على تساؤل :ما هو مدى
تأثير النمو السكاني على رفاهية هؤالء السكان ؟ ولم يكن هذا التساؤل من بنات أفكار
مالتوس ،لكن طريقة عرضه لهذا التساؤل وكيفية تحليله واالجابة عليه ووضع الحلول
المالئمة له هي التي أثارت ض ّجة حول مسائل السكان ،واعتبرت في ذلك الوقت نقطة
البداية في النظريات السكانية .بل وكانت األساس الذي قام عليه علم السكان كفرع من فروع
علم االجتماع فيما بعد .
هذا وتستند نظرية مالتوس في السكان على أسس دينية واقتصادية وإحصائية ،فقد
رفض النظرة التفاؤلية لدى السابقين عليه أمثال :سوسميلش ،كوندرسيه ،وغودوين ،
وراح يؤسس نظريته على األرقام ،كما ربط بين داللة األرقام ومعدالت النمو االقتصادي
وكذلك االنجاب .من هنا اعتبره البعض انه أول من أرسى دعائم الدراسة العلمية للسكان
وجعل منها كيانا ً مستقالً يعتمد على المناهج العلمية وخاصة االحصائية منها .
بنى مالتوس نظريته على مقولتين أساسيتين تحددان نظرته العامة في السكان
وتحكمان طبيعة البشر .وهاتان المقولتان هما :
أوالا ــ ان الغذاء ضروري لحياة االنسان وال يمكن االستغناء عنه ،والصلة ما بين
حجم السكان وكمية الطعام المنتجة أو المتوافرة صلة أساسية في نظرية مالتوس ،والعالقة
بينهما عالقة طرديّة .إال ان ازدياد الموارد هو المتحول األساسي في حين ان عامل السكان
هو المتحول التابع.
11
ثانيا ا ــ ان الغريزة الجنسية ضرورة أساسية تحكم ميل كل من الجنسين لآلخر ،
وتؤدي ــ اذا لم تتدخل فيها الموانع األخالقية واإليجابية ــ الى زيادة التناسل عند االنسان
تفوق بكثير قدرة االرض على انتاج الموارد الغذائية .
واستنادا ً الى هاتين المقولتين الرئيسيتين يمكن استخالص المقوالت الفرعية اآلتية :
( من أ الى هـ فقط المطلوب ما تحته خط )
أ ــ ان انتاج االرض الزراعية محدود ويخضع خضوعا ً تاما ً لقانون الغلة المتناقصة .
وجوهر هذا القانون هو ان لكل مساحة من االرض الزراعية حدا ً أقصى يبلغه االنتاج
الزراعي بالنسبة لما يستخدم فيها من قوة عمل فعلية ورأسمال ،بحيث لو زيد المقدار
المستخدم منها عن هذا الحد ،ألخذ االنتاج بالتناقص التدريجي أو النسبي .ان أية زيادة في
رأس المال أو األيدي العاملة تتخطى ذلك الحد لن يقابلها أية زيادة مماثلة في االنتاج
الزراعي ،وتبعا ً لذلك فان الموارد الغذائية تزداد وفق متوالية حسابية .
ب ــ ان معنى التزايد هو االتجاه الثابت لجميع المخلوقات الحية .والبشر كغيرهم من أنواع
الكائنات الحيّة يميلون نحو التزايد السريع ،وذلك وفق متوالية هندسية .
ج ــ ان ذلك الميل نحو التزايد الكبير تحدّه موانع أخالقية وإيجابية .وير ّجع مالتوس عدم
وصول االنسانية الى المرحلة الرهيبة من الزيادة المضطردة لعدد السكان الى الفقر والبؤس
والشقاء ،الذي يؤدي الى ارتفاع نسبة الوفيات ،فلوال الموانع الطبيعية لوصل االنسان فعالً
الى تلك األعداد الرهيبة .ولكن مع ان هذه الموانع تح ّد من النمو الهائل لعدد السكان ،إال ان
التناسب يبقى متفاوتا ً بين الموارد الغذائية وعدد السكان .
د ــ يتحدّد عدد السكان تبعا ً لكمية الموارد الغذائية ،فيزداد عددهم ازديادا ً مضطردا ً تبعا ً
للزيادة المضطردة في موارد العيش.
هـ ــ عدم التناسب بين عدد السكان والموارد الغذائية .فالسكان يزدادون وفق متوالية هندسية،
في حين تزداد الموارد الغذائية وفق متوالية حسابية ،وال يمكن ان نغفل نسبة التفاوت بينهما.
12
3ــ السياسة السكانية عند مالتوس :
اتخذت سياسة الحد من النمو السكاني عبر تطور االنسانية أشكاالً متباينة كان يجد لها
االنسان مبررات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخالقية .ومن تلك االشكال ما شهده تارخ
االنسانية من وأد لألطفال ،وقتل للمسنين والشيوخ والمرضى ،وافتعال للحروب ،وإجهاض
للحوامل ،وتهجير وتشريد للسكان .والنظرية المالتوسية لم تبتكر شيئا ً جديدا ً في هذا
شح بوشاح انساني . المنحى ،بل حاولت ان تضفي على تلك المبررات صبغة علمية تتو ّ
فأظهرت العوامل التي تؤدي الى الزيادة السكانية ،وأشارت الى أثر تلك الزيادة في خلق
مشكالت اجتماعية واقتصادية ،وطرحت من خالل ذلك حلوالً لتلك المشكالت تتمثل بموانع
وقائية وإيجابية وأخالقية تح ّد من نمو السكان .
تتأثر الزيادة الطبيعية بالعوامل التي تؤثر في الوالدات والوفيات سلبا ً أو إيجابا ً .
والفارق ما بين معدل الوالدات ومعدل الوفيات هو ما نشير اليه بلغة علم السكان المعاصر
بمعدل الزيادة الطبيعية في السكان .ويحدد مالتوس العوامل التي تؤدي الى ارتفاع معدل
الوالدات بارتفاع نسبة االناث اللواتي يعشن حتى سن الزواج ،وبالتالي ارتفاع معدالت
الزواج .اما انخفاض نسبة الوفيات فتتأثر بتناقص عدد وفيات االطفال والرضّع وارتفاع
معدالت الحياة .
13
ــ الهـــجرة :
تعمل الهجرة من الوجهة المالتوسية على زيادة معدل النمو السكاني سواء في البلد
المهاجر منه أو المهاجر اليه .واذا كان ارتفاع معدل النمو في البلد المهاجر اليه أمرا ً
واضحا ً ،اال ان تعليل الزيادة في البلد المهاجر منه بالنسبة لمالتوس يحتاج الى بعض
التوضيح .فهو يدّعي ان سياسة التهجير في الدولة المصدرة للسكان ،مع انها تعمل على
تخفيف الضغط السكاني عنها ،اال ان ذلك يكون بشكل مؤقت .إذ ما تلبث الدولة المصدرة
تعوض ما فقدته من السكان بعملية التولّد الذاتي حيث ترتفع معدالت الزواج التي
للسكان ان ّ
تؤدي بدورها الى ارتفاع معدل الوالدات ،وتبعا ً لذلك يزداد عدد السكان بعد فترة قصيرة
من الزمن ،وتشعر الدولة بضغط االزدحام السكاني أكثر من ذي قبل .وعلى هذا فسياسة
التهجير لن تؤدي الى التخفيف من الضغط السكاني بل انها على العكس من ذلك تعمل على
زيادة السكان حتى في الدولة المهاجر منها .
ويدلل مالتوس على صحة نظريته بالهجرة الدولية التي تمت من اسبانيا الى الواليات
تكونت في الواليات المتحدة واليتين منالمتحدة االميركية إبان القرن الثامن عشر ،فمع انه ّ
السكان االسبانيين ،اال ان ذلك لم يخفف من ازدحام السكان في اسبانيا .
ان المشكالت االقتصادية واالجتماعية ما هي اال نتيجة مباشرة لزيادة السكان ،وعدم
تناسب هذه الزيادة مع االمكانيات المتاحة .ففرص العمل التي يجب ان تتوفر للسكان الذين
هم في سن العمل محدودة ،بل انها تميل الى التناقص بسبب تقدّم التصنيع اآللي .وتحقيق
العمالة التامة في مثل هذه الظروف يؤدي الى خلق اشكاالت عديدة منها انخفاض األجر ،
وخفض سن التقاعد ،وانخفاض مستوى المعيشة وبالتالي زيادة عدد الفقراء .
ان الشرور االنسانية في رأي مالتوس تحدث كنتيجة حتمية الختالل التوازن بين
الزيادة الكبيرة في عدد السكان وموارد العيش .فالفقر الذي خيّم على الفالحين في المجتمع
14
االنكليزي واالضطرابات التي حدثت في االرياف والمدن كانت متالزمة مع كثرة عدد
االطفال لدى فئات الفقراء والمعدمين .كما انه يرى ان مساعدة الفقراء وتخفيف بؤسهم
وشقائهم وآالمهم لن تجدي في القضاء على البؤس اال لفترة محدودة من الزمن .ويعلل ذلك
بان ارتفاع مستوى معيشة الفقراء يعمل على ارتفاع نسبة الزواج عندهم وبالتالي على زيادة
عدد االوالد بشكل ال يتناسب مع االمكانيات المتاحة ،فيعيدون الدور االول من الشقاء
والبؤس .ومن هذه الوجهة ينصح الدولة بان ال تقدّم أية معونة او مساعدة قانونية الى الفقراء
المعوزين الن ذلك لن يجدي نفعا ً .وقد عدّل مالتوس وجهة نظره هذه فيما بعد حين أوضح
ان ارتفاع مستوى المعيشة يعتبر من احد العوامل الهامة التي تساعد على الحد من الزيادة
السكانية ،إذ الحظ ان افراد الطبقة الغنية في المجتمع أقل تناسالً من أفراد الطبقة الفقيرة،
سن مستويات المعيشة واتساع نطاق الطبقة العليا في المستقبل قد يكون له بعض وان تح ّ
األثر في الحد من الزيادة السكانية .
اعتمد مالتوس في وضع سياسته السكانية على مقولة رئيسية قوامها ان الشقاء والبؤس
هما نتيجة تكاثر السكان وتزاحمهم على الموارد الغذائية .وما لم ت ُ َح ّد هذه الزيادة بموانع
فسوف يزداد بؤس االنسانية وشقاؤها .ويج ُمل هذه الموانع بالموانع الوقائية والموانع
االيجابية .
صره وبعد نظره ،مثل العفة والرهبنة ــ الموانع الوقائية :محورها تعقّل االنسان وتب ّ
والزهد أو تأ ّخر سن الزواج .ولكن هذه الموانع ال تكفي وحدها لموازنة أعداد السكان مع
الموارد الغذائية لسبب واحد هو ان كثيرا ً من االفراد ال يملكون النظرة الثاقبة أو البصيرة
النافذة ،وال تتوفر عند الجميع القدرة على كبح الشهوات .فال يُنتظر مثال من أفراد الطبقات
الدنيا من السكان ان يق ّدروا اعتبارات بُعد النظر والحيطة قبل الدخول في الحياة الزوجية ،
بينما افراد الطبقات العليا هم الذين يؤجلون الزواج وينجبون أكثر ما يمكن من االطفال بحكم
سن في الجنس البشري لن يتم طالما ان اوالد الفقراء في زيادة نظرتهم الصائبة للحياة .والتح ّ
مستمرة واوالد االغنياء الذين يمكن ان يصلوا الى درجة عالية من الثقافة والعلم في نقص
15
نسبي .وربما كان هذا هو السبب الذي من أجله رفض مالتوس قانون الفقرا في انكلترا
ّ
المنحطة على الزيادة في العدد واعتبره بدعة يجب الغاؤها نهائيا ً النه يساعد فئات الفقراء
على حساب طبقة االغنياء .
ــ الموانع االيجابية :هي موانع تفرضها الطبيعة فرضا ً على بني االنسان ،ويمكن
حصرها في البؤس والرذيلة ،مثل العمل في المهن غير الصحية ،والفقر المدقع ،
واالمراض واالوبئة والقحط والمجاعات ،والحروب الطاحنة التي شهدتها وما زالت تشهدها
البشرية ما لم يضع االنسان حدا ً لشروره بنفسه .ويعود الفضل الى هذه الموانع في عدم
الزيادة السكانية وموازنة أعداد السكان بموارد العيش المحدودة في العالم .
إزاء موقف رجال الدين المضاد لهذه الموانع غير االنسانية ،اضطر مالتوس في
الطبعة الثانية من مؤلفه الى اضافة ما أسماه بالمانع االخالقي وهو على النحو اآلتي :
ــ المانع االخالقي :وهو الذي يعتمد على ارادة االنسان في منع الشر قبل وقوعه .
ويقوم على أساس رؤية االنسان إلمكاناته المادية ومدى قدرتها على تغطية تكاليف األسرة
قبل إقدامه على تكوينها .
• فاذا كانت تلك االمكانات المادية تسمح بالزواج ،كان له ان يتزوج مع تفضيله لتأخير
الزواج بعض الوقت .
• واذا لم تكن تسمح له بالزواج ،كان عليه ان يؤجل زواجه الى ان تتوافرلديه االمكانات
المادية التي تكفي لتغطية احتياجات االسرة ،ثم يتزوج .
• واذا استحال عليه توفير تلك االمكانات المادية الضرورية للزواج ،فان عليه ان يؤجل
زواجه الى أجل غير مس ّمى ،وان يتزوج بعد ان يفقد قدرته على االنجاب ،حتى ال
ينجب أطفاالً ال يستطيع توفير القوت لهم .
يُال َحظ هنا ان مالتوس عمل في الطبعة االولى من كتابه عن السكان على ان يعبّر عن
وجهة نظر المحافظين في انكلترا ـ التفاقها مع وجهة نظره ـ وألنها تتعارض مع آراء
16
دعاة االصالح االجتماعي ،والذين عبّر غودوين عن وجهة نظرهم .وكانت آراء
المحافظين تتّسم بالقسوة إذ:
ان االنسان الذي يولد في عالم مكتظ بالناس ليس له الحق في ان يطالب بقوته ... -
فالطبيعة تأمره بان يذهب ـ اي ان يموت جوعا ً او باالنتحارـ كما ان الطبيعة لن تتوانى
عن تنفيذ هذا االمر بأساليبها الخاصة.
ان االنسان الذي يكثر من التناسل في نظر مالتوس ،ال يزيد من قوة السكان وإنما -
يضاعف من قوة البؤس والشقاء .
ان االنسان الذي يعتقد في معالجة الفقر والعوز عن طريق االحسان والمساعدات -
العامة ،يعمل في واقع االمر على زيادة عدد البؤساء والمحتاجين بدالً من إنقاص
عددهم .
ان االنسان الذي ينجب أطفاال ،وليست لديه االمكانات المادية التي تم ّكنه من االنفاق -
على تربيتهم ...يجب ان يخضع لقوانين الطبيعة التي هي من تشريع هللا ،تلك
التشريعات االلهية التي تفرض عليه وعلى أبنائه ـ تبعا لتعبير مالتوس ـ ان يتألموا ،
بمعنى ان َمن يخرج على حدود طاقته المادية يخرج في نفس الوقت على حدود ارادة
هللا .
ضرورة إصدار قانون يمنع االحسان والمساعدات االجتماعية لكل طفل يولد بصورة -
غير مشروعة ( .المقصود هنا بالمشروعية هو القدرة المادية ) .
وقد لقيت آراء مالتوس هذه تأييدا ً سياسيا ً من حزب المحافظين البريطاني وهو حزب
االقطاعيين والرأسماليين ،الن آراءه تحارب آراء االشتراكية لغودوين والنها رفعت كل
مسؤولية عن الطبقات الحاكمة في ما يتعلق بالبؤس والشقاء وألقت بها على كاهل الفقراء
أنفسهم لعدم تبصرهم وعدم تقدير مصيرهم .
17
( غير مطلوب لهذه السنة ) نقــد نظريـة مالتوس :
اعتمدت مدارس فكرية كثيرة أفكار مالتوس في تحليل المسألة السكانية ،كما برز
نقر بان نظريته اعتبرت نقطة االنطالق لتأسيس علم السكان
معارضون لها .وال يمكننا إال أن ّ
المعاصر ،نظرا ً لما طرحته من تساؤالت حول مسألة السكان .كما أسهم مالتوس في إدخال
دراسة السكان في نطاق ميدان علم االجتماع بهدف تحسين ظروف معيشة االنسان .
1ــ كانت نظرية مالتوس انعكاسا ً لتأثره باالوضاع االجتماعية واالقتصادية السائدة
في تلك الفترة ،اي االوضاع السيئة التي كانت تمر بها الدول االوروبية خاصة انكلترا قبل
الثورة الصناعية وفي بداياتها .تأثره بتلك االوضاع ،منعه من معالجة المسائل السكانية برؤية
مستقبلية متفائلة.
2ــ لم يكن قادرا ً على التنبؤ بالعائدات الضخمة التي جناها االوروبيون من استخدام
سكك الحديد والبواخر .فقد م ّكنت اوروبا من الوصول الى أبعد األماكن ومن عبور المحيطات
تفوق أوروبا العسكري والتكنولوجي. واالنتقال الى قارات جديدة وجمع الثروات بسبب ّ
فأصبح بإمكان أعداد كبيرة من البريطانيين العيش من خالل اللحوم المستوردة من استراليا،
والقمح من كندا ،والس ّكر من الهند .
3ــ ربط مالتوس بين زيادة السكان وتناقص نصيبهم من الموارد الغذائية في بداية
الثورة الصناعية.
إنطلق من افتراضه هذا من بلد واحد وقام بتعميمه على كل بالد العالم كقانون سكاني.
ففي كثير من الدول االشتراكية ( سابقا ً ) لم تؤ ِد زيادة السكان فيها الى نقص حصة الفرد،
بل على العكس ،بالرغم من الزيادة السكانية فقد ارتفع مستوى المعيشة واتجهت الحكومات
الى تشجيع زيادة السكان من خالل الهجرة اليها ومنح المكافآت وتقديم اإلعانات.
فمالتوس لم يستطع تفسير المشكالت االقتصادية واالجتماعية االخرى في بلدان مختلفة
ى طويل من التاريخ . وفي أوقات مغايرة .أي ال يمكن تعميمها على مد ً
18
4ــ في تحليله للبنية السكانية ،اعتمد مالتوس على النمط اإلرجاعي والمنهج الرياضي.
تجرد الواقع برموز،
تحول العالقات الكيفية الى عالقات ك ّمية ،كما أنها ّ
فاللغة الرياضية ّ
مما يعزلها عن المضمون االقتصادي واالجتماعي.
كما أرجع مالتوس النمو السكاني الى الحركة السكانية على أنها السبب المباشر في
زيادة السكا ن .واعتبر ان البؤس والشقاء هما نتيجة هذه الزيادة .فالنمو السكاني ال يتحدد
بالحركة السكانية فقط ،بل بعوامل أخرى مثل االقتصادية ،االجتماعية ،النفسية ...كما يجب
البحث عن الجذور التاريخية االقتصادية واالجتماعية ألية مشكلة .
اذاً ،في استخدامه للمتواليتين عزل المنهج عن حركة التاريخ والمجتمع .من هنا لم
يستطع تفسير الدول االشتراكية في توجهها نحو زيادة السكان ،والدول الصناعية الرأسمالية
ِ
للح ّد منه ،واضطراب هذه المسألة في الدول النامية .
5ــ عايش مالتوس النظام االقطاعي السائد في بريطانيا واستئثار االقطاع بثروات
االرض واالنتاج ،مقابل إعطاء القليل القليل للفالح .
اذا ً ،فالمشكلة تكمن في طبيعة النظام القائم وليس في كميات االنتاج ،وهذا ما لم َ
يره
مالتوس.
6ــ بالنسبة لما أسماه "الشهوة الجنسية بين النوعين" ،وأنها ستظل على حالتها
الراهنة ،لم يتطرق الى االختالفات والفوارق الفردية .إذ نجد ان النمو العقلي وشتى الميول
والرغبات في المجتمعات الراقية الحديثة ،من شأنها أن تقلّل الرغبة الجنسية الى درجة أنها
تصبح مانعا ً لتزايد السكان .
19
رابـــعا ا :النظريات السكانية بعد مالتوس :
يواجه كل من يهتم بتتبع نظرية علم اجتماع السكان بحقيقة ال شك فيها ،هي ان
تكون بنا ًء متماسكا ً وموحدا ً او نظرية من ّ
سقة بقدر ما كتابات المشتغلين حديثا ً بهذا العلم ال ّ
تمثل مجموعة متباينة ومتعددة من االفكار والقضايا النظرية .ومن هنا كان من المتوقع ان
تنطوي دراسة نظرية علم اجتماع السكان على محاوالت متباينة لتصنيف هذه المجموعة
الكبيرة من القضايا النظرية .ولما كانت محاولة كل منها تستند الى معيار مغاير في تصنيف
القضايا النظرية ،فمن المتوقع ان ال نجد اتفاقا ً بين محاوالت التصنيف هذه .
وعموما ً تُر ّد محاوالت تصنيف نظرية علم اجتماع السكان الى ثالث على النحو اآلتي:
المحاولة االولى :وتقوم على تقسيم النظريات الى نوعين ؛ نظريات طبيعية ونظريات
اجتماعية.
20
النظريات االجتماعية :
يعتقد أصحاب هذه النظريات ان نمو السكان ال يرجع الى قانون طبيعي ثابت وإنما
يرجع الى الظروف االجتماعية التي تحيط بأعضاء المجتمع ،وهذه الظروف تضم مجموعة
من العوامل المختلفة التي يتحدد عددها وفقا ً لطبيعة كل مجتمع .ويدخل ضمن أصحاب هذا
النوع من النظريات السكانية ،كارل ماركس ،أرسين ديمون ،كارسوندرز...
المحاولــة الــثانـــــية :وهي التي تصنّف نظريات السكان على ضوء العوامل التي تؤثر
في نمو السكان ،الى نظريات بيولوجية ونظريات ثقافية اجتماعية ونظريات اقتصادية .
21
ومع تطور النظرية االقتصادية الكالسيكية ،بدأ مفهوم الحجم األمثل للسكان يظهر
في كتابات علماء االقتصاد ،ابتدا ًء من كتابات آدم سميث وكيناي وكارسوندرز..
المحاولـــة الثالـــثة :وهي تلك المحاولة التي تر ّد نظريات السكان الى مدخلين :
ــ نظريات المدخل المحافظ ،الذي يرى ان المجتمع يميل دائما ً نحو التوازن ،وانه في
مراحل التغيّر يختل هذا التوازن .ولكن هناك قوى اجتماعية او بيولوجية تعمل دائما ً على
إعادة هذا التوازن مرة ثانية .ويدخل في إطار هذا المدخل النظري مجموعة نظريات سبنسر
وسادلر وكارسوندرز وديفز ...
ــ نظريات المدخل الراديكالي ،الذي يرى انه اذا كانت العوامل المادية تلعب دورا ً رئيسيا ً
في تحديد معدالت الخصوبة ،فان اإلطار الثقافي السائد في المجتمع والذي غالبا ً ما يكون
انعكاسا ً لهذه الظروف ،يؤثر بدوره في معدالت الخصوبة هذه .ومن هنا ترى مجموعة
هذه النظريات ان رفض هذه العوامل واإلطار المرتبط بها ومحاولة تغييره الى صورة
اخرى هو الطريق المؤدي الى تقليل معدالت الخصوبة واالنجاب .ويدخل في إطار نظريات
المدخل الراديكالي كارل ماركس وكونتز وريابوشكين وكوزولوف وغيرهم .
22
من النظريات الطبيعية :
عرف باهتمامه بالتطور البيولوجي االجتماعي للقوى الطبيعية ،فليس مف ّكر اجتماعي ُ
من الغريب ان يهتم بدراسة مسائل السكان على هذا األساس .وقد عرض سبنسر قضايا
النظرية السكانية ضمن كتابه " مبادئ البيولوجيا " الذي نشره عام ، 1910حيث اعتقد ان
الغذاء الجيد يزيد من القدرة على التناسل .وان هناك قانونا ً طبيعيا ً يجعل االنسان غير مسؤول
عن التحكم في زيادة عدد أفراده ،وقد حققت الطبيعة هذه الغاية وذلك عن طريق إضعاف
اهتمام االنسان بالتكاثر ،بينما وجهته الى تخصيص المزيد من الوقت والجهد للتنمية
الشخصية والعلمية واالقتصادية .ومن هنا ،فكلما اشتد الجهد الذي ينبغي على االنسان ان
يبذله لضمان تقدمه في اي ميدان ،ضعف اهتمامه بالتكاثر .اي ان هناك تعارضا ً بين التناسل
والنضوج الذاتي .ولذلك اعتقد سبنسر ان هناك تناقصا ً طبيعيا ً في القدرة على االنجاب
خاصة لدى االناث وذلك الن اهتمام الفرد بنفسه يستدعي المزيد من الوقت والطاقة ،وهذا
النقص في القدرة على االنجاب يؤدي الى زيادة أبطأ في عدد السكان .
ويدعّم سبنسر اعتقاده السابق بناء على ما الحظه من قلة النسل بين السيدات
ّ
تغذيتهن المشتغالت في المهن الفكرية والالتي ينتسبن الى طبقات عليا والالتي ،بالرغم من
أفضل من تغذية سيدات الطبقات الفقيرة ،وأنهن ينلن رعاية صحية أفضل ،إال ان تناسلهن
يكون ضعيفا ً بسبب االجهاد الذهني وعجزهن عن االهتمام بأطفالهن ورعايتهم .
وفي ضوء هذه القضايا ،تنبّأ سبنسر بان مشكلة تزايد السكان ستختفي مع ما يصاحبها
ي ويبذل جهودا ً كبيرة في سبيل ذلك .
من شرور أخرى ما دام االنسان ينشد الرق ّ
23
2ــ توماس دبلداي ( 1790ــ Thomas Doubleday ) 1870
كان دبلداي اقتصاديا ً وفيلسوفا ً اجتماعيا ً انكليزيا ً ،وقد اعتقد أنه جاء بقانون طبيعي
مختلف يحكم نمو السكان ،إذ رأى ان التزايد في عدد السكان يرتبط ارتباطا ً عكسيا ً بموارد
سنت موارد الغذاء المتاحة لالنسان ،كلما أبطأت الزيادة في أعدادهم .وفي الغذاء .فكلما تح ّ
كل المجتمعات ،فان الفقر يش ّجع على الخصوبة العالية لدى السكان ،ومن ث ّم نرى زيادة
مستمرة في عدد الذين ال يحصلون إال على أقل قدر من الغذاء ،أي بمعنى آخر ،في صفوف
السكان األشد فقراً .أما األغنياء الذين ينعمون بكفاية الغذاء ،فإن عددهم في تناقص مستمر.
وبين هاتين الطبقتين ( الفقراء واألغنياء) توجد طبقة وسطى يحصل أفرادها على كفايتهم
من الغذاء ،ويعيشون عيشة وسطا ً ويكون عدد سكانها ثابتا ً ،وهذا يستتبع ان الزيادة أو النقص
في مجموع السكان الكلي يتوقفان على التناسب العددي بين هذه الحاالت الثالث في كل
مجتمع .
24
من النظريات االجتماعية :
27
2ــ الكسندر كارسوندرز Carr Saunders ( 1966 – 1886 ) :
باحث انكليزي اهتم بدراسة الظواهرالسكانية وعرض قضاياه النظرية في مؤلف له
بعنوان " سكان العالم " بحيث تتلخص كما يأتي :
أ ــ يسلّم كارسوندرز بان السكان في اي مجتمع إما ان يكونوا قلّة أو أكثر أو عن ح ّد
نفرق بين أنواع مختلفة من كثافة السكان ،وان مفهوم الكثافةامثل .ويرى انه يمكن ان ّ
السكانية مفهوم نسبي ،الن الزيادة والقلة مسائل نسبية .وال يجب ان نحكم على مجتمع بانه
نقر بان عدد السكان في
قليل السكان الن عدده قليل في الكيلومتر المربع ،وال يجوز ان ّ
مجتمع كثير اذا كان العدد في الكيلومتر المربع كثير الن هذا العدد قد يكون قليالً وهناك
موارد ثروة كثيرة مثال البالد الغنية باالنهار والمعادن والصناعات .وقد يكون العدد كثيرا ً
والموارد قليلة مثل المجتمعات الصحراوية.
ب ــ ثم يفترض كارسوندرز بان هناك عالقة بين حجم السكان وبين موارد الثروة في
المجتمع من ارض زراعية يمكن استغاللها او ثروة معدنية يمكن استخراجها او غيرها من
موارد الزمة لالنتاج ،بحيث يحكم على هذا العدد بانه قليل او خفيف اذا كان العدد ال يساعد
على قيام المشروعات التي تستغل هذه الموارد ويعجز عن ان يوفر المنتجات التي يحتاجها
هذا العدد وال يزيد القدرة االنتاجية للفرد .ويكون هذا العدد كثيفا ً اذا كانت هذه الزيادة في
عدده تؤدي الى تناقص االنتاج المستخرج من موارده .ويصف المجتمع بانه قد وصل الى
حجم امثل اذا كان في حالة وسط بين القلة والكثرة وبلغ انتاحه أقصاه مع عدم الزيادة في
عدده .
ج ــ ثم أخذ كارسوندرز يحصر األدلّة على صحة افتراضه بالنظر الى حقيقة دخل الفرد في
المجتمع والمترتب على موارد الثروة فيه .
د ــ بحيث ذهب الى انه يمكن استخالص مقياس يمكن بواسطته التعرف على مستوى القلة
او الكثرة او المثلى الذي قد يصل اليه السكان ويتمثل في انه :اذا كان متوسط دخل الفرد
أخذ في الزيادة ،د ّل هذا على ان عدد السكان في هذا المجتمع عند ح ّد قلّة ،اما اذا كان
متوسط الدخل في حالة استقرار كان عدد السكان عند الح ّد األمثل ،واذا كان المتوسط متجها ً
نحو الهبوط تدريجيا ً فان عدد السكان يكون عند ح ّد متزايد .
28
3ــ سيدنـــي كونتـــز :Sidney Coontz
باحث اهتم بدراسة الظواهر السكانية متأثرا ً بأفكار ماركس في تفسيرها على ضوء
سع من نطاق هذا التفسير على النحو اآلتي :العوامل االقتصادية .ولكنه و ّ
ــ يتّفق مع ماركس في األخذ في نفس القضايا المسلمة حول تغيّر المجتمع وظواهره .
ــ ولكنه يصيغ تفسيره الفرضي لظاهرة نمو السكان على نحو مغاير ،إذ يرى ان نمو
السكان يتوقف على عوامل اقتصادية ثالثة ،هي مقدار العمل ،ونوع العمل ،ووظيفة
االسرة .
ــ مقدار العمل المطلوب ؛ كان آدم سميث قد أشار من قبل الى ان فرص العمل المتاحة هي
التي تحد د معدالت الزواج واالنجاب .وقد سبقت االشارة الى ان زيادة العمل في الدول
الغربية ارتبطت بهبوط معدل المواليد .لذلك أضاف كونتز عاملين اقتصاديين آخرين لتفسير
اتجاهات الخصوبة هما نوع العمل المطلوب والوظائف االقتصادية التي تقوم بها االسرة .
ــ نوع العمل المطلوب ؛ ان زيادة الطلب على العمل غير الماهر ــ وهو نوع العمل الذي ال
يحتاج الى تكاليف كبيرة ــ تؤدي الى ارتفاع الخصوبة ،في حين ان زيادة الطلب على العمل
الماهر ال تؤدي بالضرورة الى ارتفاع الخصوبة ،الن هذا النوع من العمل يتطلب تكاليف
كبيرة وبالتالي ال تستطيع االسرة االنفاق على عدد كبير من االطفال الذين تعدّهم لحياتهم
سر كونتز العالقة بين الخصوبة والدخل ،وانتهى الى انه اذا كان االغنياء المهنية .وبذلك ف ّ
أقل انجابا ً من الفقراء ،فيرجع ذلك الى ان المهن التي يمارسها االغنياء تتطلب إعدادا ً طويال
وتكاليف كبيرة .
ــ الوظائف االقتصادية لألسرة ؛ أشار كونتز الى ان التغيير الذي طرأ على الوظيفة
حولها من وحدة انتاجية تحتاج الى ايدي عاملة كثيرة في المجتمعات االقتصادية لآلسرة ّ
الزراعية ،الى وحدة استهالكية في المجتمعات الصناعية بسبب تخلّي الزوجة واالوالد عن
وظيفتهم االنتاجية داخل االسرة ،مما أفقد االطفال قيمتهم االقتصادية وأدى بالتالي الى
انخفاض الخصوبة .ومن ناحية اخرى ،خرجت المرأة الى ميدان العمل مما جعلها ترغب
في الحد من االنجاب كي ال تنقطع عن العمل فترة طويلة مما يفقدها قيمة األجر الذي
تتقاضاه.
29
التحول الديموغرافي Transition démographique
ّ نظرية
وهي من أكثر النظريات الحديثة شيوعا ً واستخداما ً في الدراسات السكانية ،وتعطي إطارا ً
نظريا ً يساعد على فهم اتجاهات السكان والتغيرات السكانية .
جاءت هذه النظرية كوسيلة لشرح وتفسير االتجاهات الديموغرافية في أوروبا التي لم تطابق
آراء مالتوس .وقد هيمنت على الجزء الرئيس من فكر الديموغرافيا االجتماعية ،حيث ان عددا ً
كبيرا ً جدا ً من األعمال النظرية والتجريبية اتجهت للبحث في القضايا التي أثارتها أفكار وادعاءات
النظرية .
تنتج عملية التحول الديموغرافي في مجرى التحديث modernisationوالتطور االقتصادي
من وضعية تتميز بارتفاع الوفيات والوالدات الى وضعية انخفاض الوفيات والوالدات عبر مرحلة
تتميز بمعدالت الوفيات المنخفضة وتباطؤ في معدالت الوالدات .هذا المفهوم للتحول الديموغرافي
كسب زخما ً كامالً فقط بعد كتابات دايفز Davisونوتيستين Notesteinفي عام ، 1945رغم ان
الجوهر الكامل للعالقة بين التحديث وانخفاض الوفيات والخصوبة إضافة الى المراحل الثالث
للتطور ،صيغت بشكل كامل من قبل تومبسون Thompsonفي عام .1929ودرست العناصر
الرئيسية من قبل الندري Landryفي األعوام 1909و . 1934وكذلك وردت في الدراسات الكثيرة
لألجناس والسالالت البشرية التي أصدرها كارسوندرز في األعوام 1922و 1934و.1936
تشرح هذه النظرية العالقة بين معدل الوالدات الخام ومعدل الوفيات الخام ،واستُخدمت
لتفسير آلية معدالت النمو السكاني في اوروبا الغربية .وقد وضع نوتيستين هيكلية الكالسيكي
للتحول الديموغرافي ونشرها في البداية عام 1945كما ذُكر.وطبقا ً لهذه النظرية ،هناك أربع مراحل
للتحول الديموغرافي :األولى غطت معظم التاريخ البشري حتى انطالق الثورة الصناعية .وتميّزت
بارتفاع معدالت الوالدات والوفيات ،حيث قادت الى خفض معدالت الزيادة الطبيعية ،بل كانت
سالبة في بعض األوقات .ويبدو ان معدل الزيادة الطبيعية لسكان العالم حتى منتصف القرن الثامن
عشر كان طفيفا ً وبلغ % 0,1سنوياً .طبعا ً نتج هذا من ظروف التخلف االقتصادي واالجتماعي
والثقافي والصحي والحروب والمجاعات التي كانت تعيشها البشرية آنذاك .وتتمثل هذه المرحلة
حاليا ً في المجتمعات الزراعية ذات البناء االجتماعي القبلي أو التقليدي المتخلف والتي لم تنتقل بعد
الى الحياة العصرية وتشمل مناطق محدودة من العالم .
المرحلة الثانية :تميزت باالنخفاض في معدالت الوفيات لكن معدالت الوالدات لم تنخفض
بشكل اساسي في المراحل االولى للثورة الصناعية .وحسب نوتيستين فقد انخفضت معدالت الوفيات
في أعقاب الثورة الصناعية ألنها أحدثت تغيرات مادية في ما يخص التطور الزراعي واتصاالت
سن في طرق عالج االمراض سن في الظروف الصحية ،خاصة التح ّ أفضل وإنتاجية عالية وتح ّ
المعدية التي كانت تع ّد من األسباب الرئيسية الرتفاع معدالت الوفيات ،لكن الخصوبة كانت أقل
1
استجابة لمثل هذا التحديث .وخالل القرن التاسع عشر ومع انتشار الثورة الصناعية ّ ،
تعزز بقوة
انخفاض معدالت الوفيات نتيجة االنخفاض الحاد في معدالت وفيات الرضّع واألطفال مع زيادة مهمة
في العمر المتوقع .وبما ان معدالت الوالدات استمرت عالية ،تسارعت بشكل أساسي معدالت
الزيادة الطبيعية في الدول االوروبية الغربية المتقدمة ،حيث وصلت أكثر قليالً من % 1كمتوسط
سنوي .بينما دخلت الدول النامية هذه المرحلة متأخرة ولكن بسرعة مستفيدة من التقدم الحاصل في
مجال الطب الوقائي والعالجي وال يزال الكثير منها يمر بها ،حيث يكون معدل نمو السكان أكثر
من % 2سنويا ً .
وبدأت المرحلة الثالثة بعد الحرب العالمية األولى وتميزت باالنخفاض الواضح للخصوبة
مترافقة مع استمرار االنخفاض في معدالت الوفيات حيث قادت الى انخفاض معدالت الزيادة الطبيعية
في الدول المتقدمة .
اما المرحلة الرابعة فقد بدأت منذ السبعينات حيث استمرت معدالت الزيادة الطبيعية منخفضة
جدا ً في الدول االوروبية اضافة الى الدول الصناعية االخرى .وخالل العقد الماضي استمرت
معدالت الزيادة الطبيعية منخفضة جدا ً في معظم دول االتحاد االوروبي حتى اقتربت من الصفر ،
وهو ما يسمى . zero population orderهذه المرحلة من التحول الديموغرافي لها انعكاسات
اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة على هذه الدول في المدى القصير والطويل .
سر النظرية الديموغرافية تلك التغيرات السكانية بتغيرات بنائية تتض ّمن تغيرات اقتصادية وتف ّ
ظر الى االتجاهات الديموغرافية ،وخاصة انخفاض معدالت الخصوبة واجتماعية وسلوكيّة .ويُن َ
على أنها استجابة لتغيرات بنائية متباينة لعملية التحديث .وبذلك أصبح من الضروري ،لفهم مستويات
الخصوبة ،أنجز الديموغرافيون األميركيون نظرية موحدة تبدو قادرة على تفسير االتجاهات
الديموغرافية على المستوى العالمي وتميزت بالربط بين الظواهر الديموغرافية والظروف الجتماعية
واالقتصادية .
وهي بذلك تُعد من أوائل النظريات السكانية المتخصصة التي استهدفت موضوع السكان ،
وقد فتحت هذه النظرية المجال امام علماء السكان لمزيد من الدراسات للتأكد من مدى مالءمتها
ل لمجتمعات المتخلفة ذات الثقافات المتباينة وصالحية تطبيقها على أزمنة تاريخية اختلفت ظروفها
وأوضاعها السياسية واالقتصادية والتي انعكست بالطبع على االوضاع االجتماعية والسكانية.
2
الســــكان والـــغذاء
تظهر أهمية الغذاء الكامل على صحة ونمو االنسان وأثره في انخفاض كفاءة العمل وتدني
مستوى صحته .ويُعتبر توفير الغذاء من أبرز المشاكل التي يعاني منها عالم اليوم الذي يواجه الكثير
من التحديات الخطيرة .وتبعا ً لمعطيات األمم المتحدة ( ، ) 2009فان سبعة ماليين طفل في العالم
ثوان .
ٍ يموتون سنويا ً بسبب الجوع ،أي 17ألف طفل في اليوم ،بما معدّله طفل واحد كل خمس
إن ذلك يحدث في وقت يُنتج فيه العالم من الغذاء اليوم ما يكفي إلطعام كل سكان الكوكب .
المشكلة اذا ً ليست في االنتاج وزيادة فعاليته ،بل في التوزيع .فنحن اليوم ال نعيش في عالم الندرة .
حررت المجتمع من " الندرة االقتصادية " ،وأزالت التناقض بين تزايد عدد إذ أن الثورة الصناعية ّ
السكان وبين توافر الغذاء .فقد بات االقتصاد العالمي قادرا ً على انتاج كميات من السلع والغذاء
والثروات ،بحيث يمكن تأمين الحاجات األوليّة لجميع سكان العالم وإبعاد خطر المجاعة عنهم .غير
ان المشكلة ،كما ذُكر ،ال تقع في دائرة االنتاج ،بل في التوزيع المتفاوت للثروات واإلمكانات .
ومشكلة الغذاء ليست تحدّيا ً للنظام االقتصادي فحسب ،إنما لكافة األنظمة االجتماعية
والسياسية واألمنية ،إذ ال استقرار وال أمان في عالم تهدّده المجاعة وتنتهكه أمراض سوء التغذية .
هناك عدّة تعريفات لألمن الغذائي ،إال أن التعريف األكثر تداوالً هو " :قدرة المجتمع على
توفير احتياجات التغذية األساسية ألفراد الشعب ،وضمان حدّ أدنى من تلك االحتياجات بانتظام ".
كما أن مفهوم األمن الغذائي يعني ان تكون البالد في وضع يم ّكنها من تلبية حاجات المواطنين
الغذائية خاصة في األوقات الحرجة الناجمة عن نقص مفاجئ في االنتاج لسبب غير متوقّع كالجفاف
معوقات لالستيراد غيرمنتظرة لسبب اقتصادي أو سياسي ،مثل التوقّف أو الفياضانات أو لحصول ّ
عن التصدير في بلد المنشأ ،أو لتدهور القوة الشرائية للبلد بسبب التقلّص في الدخل القومي ...
1
2ــ جوهر المشكلة
تعتبر المشكلة الغذائية في العالم من أبرز المشكالت التي تواجهها البشرية ،ال بل ربما من
تمس مباشرة ً حياة مئات الماليين من الناس وبقاءهم .وت ُظهر
أكثرها حدّة في عصرنا الراهن ،كونها ّ
معطيات منظمة األغذية والزراعة التابعة لألمم المتحدة ( ) FAOحدّة المشكلة الغذائية وحجمها ،
حيث تشير هذه المعطيات الى ان عشرات الماليين في العالم مهدّدون بالموت اليوم ،بسبب الجوع
واألمراض الناجمة عن سوء التغذية .فمئات الماليين يعانون الجوع ،في حين ان أكثر من مليار
ونصف مليار انسان يتحملون مختلف أشكال سوء التغذية ،بما في ذلك ما يس ّمى سوء التغذية " غير
المرئي " ،أو " الجوع الخفي " .وث ّمة تقديرات تفيد بأن ربع أطفال البلدان المتخلفة وبعض بلدان
الدول النامية يعانون " سوء التغذية غير المرئي " ،وهذا ما ينعكس سلبا ً على صحة الناس ،وينجم
عنه انخفاض نسبي في نوعية اليد العاملة وكفاءتها .
تبرز حدّة المشكلة الغذائية نتيجة لطابعها المتناقض .فمن جهة يؤدي الجوع الى هالك
تطور القوى المنتجة والتطورات العلميّة والتكنولوجية الماليين ،ومن جهة أخرى ،فإن مستوى ّ
المستخدمة في االنتاج الزراعي ،تجعل االنتاج العالمي من المواد اللغذائية قادرا ً عموما ً على تلبية
الحاجات الغذائية لسكان العالم .
وللمشكلة الغذائية خصائصها في الدول ذات األنظمة االجتماعية المختلفة ،فهي تتّسم بالحدّة
في البلدان المتخلفة والنامية ،نظرا ً لإلرث االستعماري وما خلّفه من نمط انتاج في هذه البلدان ،
قاصر بنيويا ً عن تلبية الحاجات الغذائية .ولكن هذا ال يعني ان المشكلة الغذائية غير قائمة في البلدان
المتقدمة ،إال أن طابعها هناك يختلف عنه في البلدان النامية .فهي في البلدان المتقدمة ذات طابع
اجتماعي ،توزيعي ،ناجم عن التمايز االجتماعي في تلك البلدان ،حيث أن قسما ً من السكان يعاني
سوء التغذية ،على الرغم من وجود فائض كافٍ من الموارد الغذائية فيها .
ان المشكلة الغذائية هي ذات بعد عالمي شامل ( كوني ) ،سواء من حيث طابعها االنساني ،
أم من حيث ترابطها الوثيق مع المه ّمة المعقّدة ،المتمثلة بتذليل التخلّف االقتصادي واالجتماعي في
الدول المستع َمرة سابقا ً والتابعة .فعدم تلبية الحاجات الغذائية لعدد كبير من سكان البلدان المتخلفة
والنامية ال يش ّكل عائقا ً أمام فرص التقدّم وحسب ،بل هو في الواقع مصدر دائم لعدم االستقرار
االجتماعي والسياسي وللنزاعات في هذه البلدان .
2
3ــ مالتوس والمالتوسيون الجدد
أ ّكد توماس روبرت مالتوس ،الباحث واالقتصادي االنكليزي ،أن ث ّمة عالقة وطيدة بين
وتطور كميّة االنتاج .وقد زعم بأن نمو عدد السكان يفوق الزيادة في انتاج المواد
ّ تطور عدد السكان
ّ
ً ً
الغذائية ،قائال بحتميّة النقص في المواد الغذائية نسبة الى زيادة عدد السكان ،إذ " ان قوة السكان
على التناسل أعظم من قوة األرض على انتاج القوت لالنسان " .فقد اعتبر مالتوس ان عدد السكان
يزيد وفق متوالية هندسية ،بينما يزيد االنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية ،مما يؤدي حتما ً الى
نقص الغذاء .
أثارت نظريته حول السكان ض ّجة كبيرة ،حيث جاء فيها ان الشخص الذي ليس له من يعيله،
والذي ال يستطيع أن يجد عمالً له في المجتمع ،سوف يجد أن ليس له نصيب من الغذاء على أرضه
وأن الطبيعة تأمره بمغادرة الزمن .
ويؤكد المالتوسيون الجدد ( وهم من مناصري مالتوس ) أن هناك ارتباطا ً وثيقا ً بين المشكلة
السكانية والمشكلة الغذائية في العالم ،معتبرين بأن نمو سكان الكوكب يجري اليوم بوتيرة أسرع
بكثير من وتيرة نمو انتاج المواد الغذائية .فيرى وليام بلوم William Blumان عدد سكان الكوكب
تض ّخم على نحو مبالغ فيه ،ويقترح تخفيض نسبة الوالدة بصورة حادّة .
ولتعليل رأيهم يقول المالتوسيين الجدد بأن البشرية احتاجت الى 4ماليين سنة لكي يصل
ملياري نسمة ،والى 46سنة لتضيف الى عددها مليارين آخرين ،ثم الى 22سنة فقط َ عددها الى
لكي تضيف المليارين التاليين .ال ينفي المالتوسيون الجدد بأن نمو انتاج المواد الغذائية في الماضي
جرى على نحو أسرع من نمو عدد السكان ،األمر الذي أتاح زيادة حصة الفرد من المواد الغذائية ،
وذلك بفضل التطور التكنولوجي في المجال الزراعي .غير أنهم يزعمون بأن بداية القرن الحادي
والعشرين شهدت أمرين جديدين مثيرين للقلق في ما يتعلق بانتاج المواد الغذائية .أولهما تمثّل في ان
نمو انتاج المواد الغذائية أخذ يتباطأ تدريجيا ً ،مقترنا ً بعوائق منها تخفيض كلفة االنتاج وبالتالي
األسعار .والثاني ،تمثّل في ارتفاع الكلفة البيئية التي تدفعها الطبيعة والبشرية لقاء زيادة االنتاج
الزراعي .
3
4ــ العوامل المؤثرة على الوضع الغذائي
ردا ً على هذه المزاعم ،يقول فريد ماغدوف Fred Magdoffأنه ال توجد أية عالقة بين
مئات ماليين الجياع في العالم ونمو السكان .فالسبب الفعلي يكمن في النظام الرأسمالي وفي آلية
عمله والعالقات االنتاجية ـ االجتماعية في داخله .ويؤكد بان ما يُنتج في الواليات المتحدة االميركية
من مواد غذائية يفيض عن حاجة سكانها ،ومع ذلك يبقى الجوع مشكلة خطيرة .ولو تقلّص عدد
سكانها الى النصف ،فان الفائض في المواد الغذائية سيزيد ولكن الجوع لن يزول ،وسيبقى َمن
يعاني الجوع وسوء التغذية حتى في الواليات المتحدة .
وخالفا ً لمزاعم المالتوسيين ـ القدامى والجدد ـ هناك عوامل حقيقية تؤثر على الوضع الغذائي
وتساهم في تفاقم المشكلة الغذائية ،وال سيما في البلدان المتخلفة والنامية :
4
االقتصادية التي تقودها بلدان الشمال منذ الستينات ( الثورة الخضراء ،اتفاقيات التجارة الحرة
االقليمية ،سياسات منظمة التجارة العالمية ،سياسات الدعم المباشر وغير المباشر للقطاع الزراعي
في بلدان الشمال )...الى تدمير األنظمة الغذائية .
روجت لها مختلف فبين الستينات والسبعينات ،حدث ما يسمى " الثورة الخضراء " التي ّ
المؤسسات الدولية ومراكز األبحاث الزراعية بهدف تحديث الزراعة في البلدان غير الصناعية ،
فكانت نتائجها جيدة من حيث زيادة االنتاج ،لكن هذه الزيادة لم يكن لها تأثير مباشر في الحدّ من
الجوع في العالم ألنها لم تغيّر من تر ّكز السلطة االقتصادية ولم ّ
تعزز القوة الشرائية .وقد ترتّب عن
الثورة الخضراء آثار سلبية جانبية على الفالحين الفقراء والمتوسطين ،وعلى األمن الغذائي في
المدى الطويل .وزادت هذه الثورة من قوة شركات األعمال الزراعية في السوق ،وتسبّبت في فقدان
التنوع الزراعي ،وقلّصت بشكل واسع منسوب المياه ،وزادت من الملوحة وتآكل التربة، %90من ّ
وشردت الماليين من الفالحين من الريف الى الضواحي الفقيرة للمدن وخلقت أحزمة البؤس التي ّ
تلفّها ،في حين تف ّككت األنظمة الغذائية الزراعية التقليدية التي تكفل األمن الغذائي .
ثالثا ا :والسبب الثالث الذي ال يق ّل أهمية في ظهور المشكلة الغذائية وتفاقمها ،يتمثّل في
الدور الذي تضطلع به الشركات العابرة للقوميات في االقتصاد العالمي وفي اقتصادات البلدان النامية
تحديدا ً .فهذه الشركات فرضت نفسها كالعب رئيس في أسواق المواد الغذائية انتاجا ً وتسويقا ً ،حيث
تمارس احتكار المواد الغذائية وتستخدمها في حاالت عديدة كسلعة للمضاربة في أسواق أخضعت
كل شيء للتسليع ولمنطق الربح :األرض والمياه والغذاء والدواء .
وأصبحت الشركات العابرة للقوميات تسيطر اليوم على مساحات شاسعة من األراضي في
األرياف في البلدان النامية ،سواء من خالل شرائها أو استئجارها لسنوات طويلة بمبالغ رمزية ،أو
من خالل الدخول كشريك مع جهات داخلية غالبا ً ما تكون قريبة من مراكز القرار في السلطة في
البلد المعني .فتكسر هذه الشركات بنشاطها نمط االنتاج الزراعي التقليدي المتوارث في هذا البلد ،
وتعيد توجيه الزراعة فيه باتجاه زراعات عصرية ( تصنيعية أو ترفيهية ) مو ّجهة نحو التصدير ،
حارمة السكان المحليين زراعاتهم التي تؤ ّمن حاجاتهم الغذائية الضرورية ،مع ما ينطوي عليه ذلك
من تهديد لألمن الغذائي في البلدان النامية .
5
رابعا ا :تجدر االشارة الى أن أسبابا ً أخرى عديدة ومتداخلة تساهم أيضا ً في ارتفاع أسعار
صلة الرتفاع كلفة االنتاج الزراعي على المستوى العالمي ،ومن ث ّم الى تفاقمالمواد الغذائية ،كمح ّ
المشكلة الغذائية .فالنمو السريع الذي تشهده اقتصادات بلدان كبيرة كالصين والهند ،فضالً عن بلدان
أخرى ،وتسارع وتيرة التصنيع فيها أدى من جهة ،الى ارتفاع مستوى المعيشة في هذه البلدان ،
ومن ثم الى ازدياد حجم استهالك المواد الغذائية فيها .كما أدّى ،من جهة أخرى ،الى تسارع الطلب
مكونات أساسية لإلنتاج على النفط فيها وبالتالي الى ارتفاع أسعاره ،ومن ثم الى ارتفاع أسعار ّ
الزراعي ،كالوقود وزيوت اآلالت واألسمدة والمبيدات .كما ان ارتفاع أسعار الوقود يؤدي بدوره
الى ارتفاع كلفة نقل المنتجات الغذائية الى األسواق ،ومن ثم الى ارتفاع في أسعارها .
خامسا ا :ومن األمور التي تضطلع بدور كبير في تفاقم مشكلة الغذاء في البلدان النامية أيضاً،
تحول بعضها الى مصدر للمنتجات تطورتكنولوجيا االنتاج الزراعي في البلدان المتطورة التي ّ ّ
تحولت بموجبه دول الزراعية والمواد الغذائية .أي أن ما نشهده من تبدّل في التقسيم الدولي للعمل ّ ،
صناعية متطورة الى التخصص في انتاج سلع زراعية على أسس علميّة وتكنولوجية حديثة
وتصديرها الى البلدان األخرى بما فيها البلدان النامية ،وبأسعار مرتفعة .ويقترن ذلك مع لجوء
حكومات الدول الصناعية المتقدمة ،سواء في االتحاد االوروبي أو الواليات المتحدة أو اليابان ،الى
تقديم الدعم المباشر لمزارعيها .
سادسا ا :تسار ع ظاهرة " التمدين " في البلدان النامية ،أي نزوح أعداد كبيرة من سكان
تلف هذه المدن ،مع ارتفاع نسبة البطالة فيها
األرياف الى المدن وتج ّمع قسم منهم في أحزمة بؤس ّ
الى مستويات غير مسبوقة ،وتقلّص عدد العاملين في القطاع الزراعي وانتقال الفئات األكثر حيوية
ونشاطا ً اقتصاديا ً الى قطاعات االقتصاد األخرى غير المنتجة للمواد الغذائية ،وإهمال مساحات
واسعة من األراضي في األرياف .وهي أمور تؤدي الى تراجع االنتاج الزراعي في عدد كبير من
البلدان النامية ،وبالتالي الى تقلّص إمكانات التأمين الغذائي لسكانها .
سابعا ا :الجفاف وغيره من الظواهر المرتبطة بتغيّر المناخ في بلدان منتجة كالصين
وبنغالدش واستراليا أثّرت على المحاصيل وعلى انتاج المواد الغذائية .كما أن التغيرات في العادات
الغذائية ( وفق نمط االستهالك الغربي ) نظرا ً لالرتفاع في معدالت النمو االقتصادي والتطور في
مستوى المعيشة في بعض البلدان من شأنه أن يفاقم المشكلة الغذائية .
6
العالم العربي والمشكلة الغذائية
بحكم انتمائه الى العالم الثالث ،فان الوطن العربي ليس ببعيد عن المخاطر التي تهدّد األمن
الغذائي حيث تُعتبر البلدان العربية من أكثر مناطق العالم اعتمادا ً على الخارج في الحصول على
الغذاء ومن أكثرها تأثّرا ً بمشكلة الغذاء العالمية وأشدّها تضررا ً .واألزمة الغذائية في العالم العربي
لم تكن الى حدّ كبير ـ وحتى الى عهد قريب ـ مشكلة نقص أو ش ّح في المواد المتاحة ،وال نموا ً
سكانيا ً متسارعا ً أو عجزا ً في االمكانات المالية ،إنما هي بالدرجة االولى فشل أو خلل في السياسات
الزراعية وسوء استغالل لما هو متاح من موارد في العالم العربي .هذه السياسات التي تمثّل جزءا ً
من مسألة التنمية في جوهرها .
مقومات
وبالرغم مم ا يعانيه العالم العربي من مشكلة غذائية آخذة في االتساع ،فإنه يملك ّ
سد في الطاقات الماديّة التي تحويها مكامن األرض الواسعة وتربتها الزراعية الخصبة
وإمكانات تتج ّ
التي لو استُثمرت بشكل موضوعي وعلمي ألنتجت من الخيرات ما يكفي لسكان الكثير من دول
العالم .
فالسودان ،لو استُثمرت تربته الزراعية باستخدام التقنيات الحديثة التي تستخدم في البلدان
المتطورة ،فإنها ستؤ ّمن الغذاء للوطن العربي بأكمله .واذا علمنا ان أق ّل من %1من األراضي
الزراعية يُسثمر بشكل سليم ،سنشعر بمدى الخلل القائم في الوطن العربي بالنسبة الستثمار طاقاته
المادية الزراعية .
كما يملك العالم العربي م وارد مائية غزيرة ،فلديه أضخم األحواض النهرية في العالم ،حيث
تؤكد االحصاءات بأن نقص الرقعة الزراعية المروية ال يعود الى قلّة المياه وندرتها بقدر ما يعود
الى سوء استغاللها .
أما من الناحية البشرية ،فالعالم العربي يملك طاقات بشرية تتش ّكل منها ّ
قوة انتاجيّة هامة فيما
لو استُثمرت بشكل عقالني سليم وبعيد عن الهدر والضياع .
7
الفجوة الغذائية
بدأت الدول العربية تعاني من فجوة غذائية منذ سبعينات القرن الماضي وال زالت هذه الفجوة
تزداد اتساعا ً ّ
باطراد .وتُعدّ هذه الدول من أكثر دول العالم استيرادا ً للحبوب ،مع أن خصوبة تربتها
الزراعية من المفترض أن تجعلها المصدر األول لها ،يُضاف الى ذلك سوء تخزين المواد الغذائية
وخطر اآلفات والحشرات .ويُقدّر ان 10ـ % 30من انتاج الحبوب ال يُستهلك نتيجة سوء التخزين.
وقد انخفض االكتفاء الغذائي العربي بحيث تر ّكز هذا االنخفاض في المواد األساسية كالقمح واللحوم
وتحول العالم العربي الى أول منطقة في العالم عاجزة عن تأمين متطلباتها الغذائية .ولسدّ
ّ والس ّكر،
العجز في انتاج الغذاء ،اضطر العالم العربي الى االستيراد من الخارج .هذا االستيراد يتزايد كل
عام من حيث الكمية والقيمة ،مما فرض واقعا ً جديدا ً على الدول العربية وأوقعها في أزمات ومشاكل
هي في غنى عنها ،فالحبوب والسلع الغذائية المستوردة تدفع الدول ثمنها بالعمالت الصعبة التي
كانت مخصصة لألغراض االنمائية ...
يعتبر التزايد ا لسكاني الذي يشهده العالم العربي من أبرز أسباب الفجوة الغذائية ،فحجم
السكان يشهد تسارعا ً ملحوظا ً بمعدل بلغ تقريبا ً حوالي %3سنويا ً عام ، 2000وهو معدل يفوق
متوسط معدالت نمو االنتاج الزراعي في نفس الفترة ،مما أدى الى اختالالت على مستوى العرض
والطلب على الغ ذاء .كما ان هذا التزايد للسكان رافقه تغيير جوهري في توزيع السكان بين الريف
والحضر ،فقد أدّت الهجرة الريفية الى المدن داخل البلد الواحد الى تزايد كبير لسكان المدن وحرمان
القطاع الزراعي في المناطق الريفية من اليد العاملة ،وبالتالي الى تراجع االنتاج الزراعي فيها .
وال تعود أسباب الفجوة الغذائية في العالم العربي الى عدد السكان فقط ،بل ترجع أساسا ً الى
التجزئة والتشتت الذي تعيشه بلدانه والى توزيع السكان فيه بشكل غير منتظم ،مما ينعكس سلبا ً على
االنتاج الغذائي وبالتالي توفير الغذاء لسكانه .وتظهر أسباب الفجوة الغذائية في إخفاق الدول العربية
في اتّباع خطط تنمية سليمة وخاصة في اإلصالح الزراعي ،وفي وضع سياسة تخطيط قوميّة
مشتركة لمواجهة المشكالت الغذائية والنقص الغذائي .هذا وقد ُوض َعت في الدول العربية سياسات
شطه ،بقدر ما تخدم القطاع الصناعي .كما ان التبادل التجاريال تخدم القطاع الزراعي وتدعمه وتن ّ
العربي ضعيف مقارنةً بالتبادل التجاري مع الدول األجنبية .
هذا الى جانب االسباب الطبيعية ومنها نوعية التربة ،حيث تتميز األراضي الزراعية المرويّة
بنسبة ملوحة عالية تؤدي الى تدهور االنتاج وخاصة بالنسبة الى محاصيل الحبوب .ويُذكر ان اكثر
من % 85من األتربة الزراعية تعتمد أساسا ً في استثمارها على مياه األمطار ،وهذا يؤدي الى
تقلّب االنتاج الزراعي وعدم استقراره وتعطيل استخدام وسائل االنتاج الحديثة في االنتاج الزراعي.
8
اما االسباب المالية فتظهر في افتقار العالم العربي الى المال الذي يسمح له باستصالح
األراضي وزيادة االنتاج وتطويره .وحتى لو توفرت هذه األموال ،فال يُستفاد منها في مشاريع
تنموية .
وأخيرا ً ،تلعب االسباب التكنولوجية دورا ً بارزا ً في تعميق األزمة الغذائية من خالل عجز
العديد من الدول العربية عن استخدام التكنولوجيا المتطورة والحديثة في المجال الزراعي لزيادة
االنتاج وبالتالي لسد الفجوة الغذائية أو تقليصها الى أدنى حدّ ممكن .
9