You are on page 1of 38

‫الجــامعــــة اللبنانيـــــــة‬

‫معهد العلوم االجتماعية‬


‫الفرع الرابع‬

‫نظريـــــات ســــكانيــــــــة‬

‫السنــــة الثــالثـــة‬

‫تنسيق ‪ :‬الدكتورة جاكلين عيسى‬

‫‪1‬‬
‫أوالا ‪ :‬الفلسفات واألفكار السكانية القديمة‬

‫يعتبر السكان أحد الموضوعات العديدة التي تدخل ضمن اختصاص علم االجتماع ‪،‬‬
‫والتي يوليها المشتغلون به جانبا ً ال بأس به من اهتماماتهم ‪ ،‬ويستندون في ذلك الى عدة‬
‫اعتبارات نستطيع ان نتعرف عليها من خالل النظر الى تعريف علم االجتماع وتحديد‬
‫موضوعه ‪ ،‬وبيان أقسامه ومجال اهتمامه أوغير ذلك ‪ .‬واستنادا ً الى ذلك ‪ ،‬يتصور المهتمون‬
‫بدراسة السكان في علم االجتماع مجموعة متباينة من الظواهر السكانية تنصرف اليها‬
‫جهودهم في البحث والدراسة ‪ ،‬وصوالً الى عدة نتائج توضّح ضرورة وأهمية هذه الظواهر‬
‫السكانية في المجتمع ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ان دراسة السكان نفسها تعتبر أقدم من علم االجتماع ‪ ،‬ألنها ظهرت‬
‫ونمت من أصول ومصادر متنوعة ومتعددة منها الفسلفة واالقتصاد واالحصاء والجغرافيا‬
‫والطب والبيويوجيا وغيرها ‪ ،‬إال ان هذه الدراسة للسكان ما لبثت ان اصبحت اليوم أكثر‬
‫ارتباطا ً بعلم االجتماع وأصبحت ميدانا ً متميّزا ً في إطاره ‪.‬‬

‫الفــــكر السكانـــــي القديــــم ‪:‬‬

‫نعني بالفكر السكاني القديم مجمل اآلراء ووجهات النظر التي أضافها اولئك المفكرون‬
‫والكتّاب الذين ُوجدوا مع المراحل األولى من تاريخ الفكر السكاني أو ما بعدها ‪ ،‬تلك اآلراء‬
‫التي تناولت مختلف الظواهر السكانية بالتحليل والتفسير ‪ .‬والذي يجعلنا نعتبر هذه اآلراء‬
‫من قبيل الفكر السكاني ‪ ،‬هو ما تميّزت به من خصائص ومميزات أبعد ما تكون عن‬
‫خصائص ومميزات التفكير العلمي المعاصر حول السكان وظواهره ‪ .‬ولكن مع ذلك ‪ ،‬كان‬
‫لهذا الفكر السكاني أثره الواضح في التمهيد لما نشهده اليوم من دراسات سكانية ‪.‬‬
‫صلة االهتمام بدراسة السكان من جانب عدد من‬ ‫وكان الفكر السكاني القديم مح ّ‬
‫المفكرين والكتّاب الذين جذبت انتباههم هذه الظواهر منذ أقدم العصور ‪ .‬ومن بين هؤالء‬
‫الكتّاب يمكن ان نذكر على وجه الخصوص‪ ،‬كونفوشيوس بين الصينيين وأفالطون وأرسطو‬
‫بين اليونانيين وابن خلدون بين العرب ‪...‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ 1‬ــ كونفوشيوس ‪:‬‬

‫كانت فلسفة كونفوشيوس تهدف الى الوصول بالمجتمع الى أرقى مستوياته عن طريق‬
‫تنظيم شؤون األسرة التي هي النطاق األول للتجربة األخالقية ‪ ،‬وهي النقطة التي تبدأ منها‬
‫األخالق الفاضلة ‪ .‬ولذلك فان االخالق الفاضلة ــ من وجهة نظره ــ تبدأ بين أبناء األسرة‬
‫الواحدة ‪ ،‬حيث يعامل األب أبناءه بنفس المعاملة التي كان ينتظرها من والده ‪ ...‬ومعنى ذلك‬
‫ان الصينيين القدماء لم يتّجهوا الى الح ّد من النسل ‪ ،‬وإن كان كونفوشيوس قد أعار اهتمامه‬
‫لفكرة التناسب بين مساحة األرض وعدد السكان أو " الحجم األمثل للسكان" ‪ .‬فلكل مجتمع‬
‫عدد من السكان يتناسب مع قوة انتاجه ‪ ،‬بحيث ال يتعدى الحجم األمثل المناسب ‪ ،‬وال‬
‫ينخفض عن الحجم األمثل حتى ال يؤدي ذلك الى الفقر وانخفاض مستوى المعيشة ‪ .‬واعتقد‬
‫كونفوشيوس ان مسؤولية الحكومة ان تنقل السكان من المناطق المزدحمة بالسكان الى‬
‫المناطق األقل عددا ً ‪ .‬وأوضح ايضا ً العوامل العديدة التي تؤثر في نمو السكان ‪ ،‬وحصرها‬
‫في عوامل نقص الغذاء ‪ ،‬والحرب ‪ ،‬والزواج المبكر ‪ ،‬والتكاليف المبالغ فيها عند الزواج ‪.‬‬

‫‪ 2‬ــ أفـــالطــــون ‪:‬‬

‫كان موضوع الحجم األمثل للسكان في الوحدة السياسية اليونانية ‪ ،‬ونعني المدينة‬
‫الدولة التي تقوم فيها الحكومة بالمحافظة على رفاهية وأمن المواطنين من خالل ما تمارسه‬
‫من إرادة في هذا الصدد ‪ ،‬هو المحور الذي دارت حوله كل األفكار التي تركها لنا أفالطون‬
‫في مؤلفَيه " الجمهورية" و " القوانين" في ما يتعلق بدراسة السكان ‪.‬‬
‫يشير أفالطون في كتابه " الجمهورية " الى انه ينبغي على الحكام ان يثبّتوا عدد‬
‫جراء األمراض والحروب ‪،‬‬ ‫يعوضوا ما فُقد من ّ‬
‫حد أمثل ‪ ،‬على ان ّ‬‫السكان في المدينة عند ّ‬
‫ويحاولوا االّ يزيد هذا العدد عن الحد األمثل ‪ ،‬حتى تبقى الدولة في الحد المتوسط ‪ ،‬وذلك‬
‫عن تنظيم عقود الزواج‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ويذهب الى ان العدد األمثل للمواطنين في المدينة يجب ان يكون ( ‪ ) 5040‬مواطن‪،‬‬
‫مع مالحظة ان العبيد ال يحسبون ضمن المواطنين ‪ .‬وهذا العدد له أهميه في نظر أفالطون‬
‫ألنه يعتقد انه من المناسب تقسيم األراضي في المدينة اليونانية الى اثني عشر جزءا ً هذا من‬
‫ناحية ‪ ،‬ومن ناحية أخرى ‪ ،‬كان يظن ان لهذا العدد األمثل داللة ومغزى دينيا ً وأسطوريا ً‬
‫لدى المواطنين ‪ ،‬األمر الذي يؤدي بهم الى تقديس هذا العدد في حياتهم ‪.‬‬
‫أما بالنسبة لألساليب التي يمكن للحكومة بواسطتها ان تضغط من أجل الحفاظ على‬
‫هذا الح ّد‪ ،‬نجد أفالطون يقرر أنه اذا زاد عدد سكان المدينة عن هذا الحد األمثل ‪ ،‬يجب ان‬
‫يتد ّخل الح ّكام إلنقاصه عن طريق تحديد الزواج والنسل ومنع الهجرة الى البالد ‪ .‬واذا نقص‬
‫عدد سكان المدينة عن هذا الحد ‪ ،‬يجب تشجيع النسل‪ ،‬وان تُجازى األسر المنجبة لألوالد‬
‫بالمال ‪ ،‬ويُباح لألجانب التجنّس بالجنسية اليونانية ‪ .‬وتستطيع الدولة ان تتدخل لتدبير الزواج‬
‫والنسل من خالل وضع القيود التي تحول دون ذلك‪ ،‬كأن تقت َصر وراثة األرض على عدد‬
‫محدود فقط من األبناء الذكور في األسرة ‪ ،‬وتحصل الحكومة على ما يزيد على ذلك ‪ ،‬أو‬
‫من خالل توقيع الجزاءات أو تقديم النصيحة أو توجيه التوبيخ واللوم أو حتى عن طريق‬
‫إرسال األعداد الزائدة عن هذا الحد من السكان الى المستعمرات ‪.‬‬

‫‪ 3‬ــ أرســـــــــطو ‪:‬‬

‫إتجه أرسطو في معالجته لموضوع السكان اتجاها ً أكثر واقعية من أفالطون ‪ ،‬هذا‬
‫فضالً عن انه تناول العديد من المسائل السكانية مثل توزيع السكان ‪ ،‬ونمو السكان والحد‬
‫األمثل للسكان ‪.‬‬
‫سمها بين األسرة ثم القرية‬
‫إذ نجده يشير الى توزيع السكان على وحدات المجتمع ‪ ،‬ويق ّ‬
‫ثم المدينة ‪ ،‬ثم يعالج توزيع السكان على المهن ‪ ،‬ويقسمهم الى َمن يقومون بالمهن الطبيعية‬
‫( الزراعة والصيد وتربية الحيوانات) ‪ ،‬والى َمن يقومون بمهن غير طبيعية مثل التجارة‬
‫والصناعة ‪ .‬كما تناول أرسطو التوزيع العمري للسكان وأجرى تفرقة بين الرجل والمرأة‬
‫عل أساس االستعدادات الجسمية والعقليّة ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وفي ما يتعلق بموضوع نمو السكان ‪ ،‬نجد أرسطو يحذّر من النمو غير المتناسب بين‬
‫طبقات المدينة وما ترتّب على ذلك من ثورات ‪ ،‬فيشبّه المدينة بالجسم االنساني ويرى انه‬
‫كما يجب ان تنمو أجزاء الجسم االنساني بالتناسب ‪ ،‬يجب ان ينمو السكان بتناسب مماثل‬
‫بحيث ال يطغى عدد السكان في طبقة على العدد في طبقة أخرى ‪.‬‬
‫وبالنسبة للحد األمثل للسكان ‪ ،‬فقد رأى ضرورة وجود حجم ثابت للسكان حتى تتمكن‬
‫الدولة من تسيير عملها ونشر النظام وتوزيع المناصب على المواطنين حسب الكفاءة ‪ ،‬ذلك‬
‫الن الدولة العظمى على حد تعبيره ليست هي الدولة ذات الحجم الكبير في السكان ‪ ،‬النه‬
‫يصعب عندها تحقيق التناسب بين حجم السكان في المدينة وبين مواردهم وخاصة مساحة‬
‫األرض وقدرتها على إشباع حاجات السكان ‪.‬‬
‫غير ان ارسطو يتخلى عن صفته االجتماعية ويتحدث عن مجموعة من االجراءات‬
‫سفيّة التي يراها ضرورية الستبقاء عدد السكان في المدينة في المستوى المناسب ‪ ،‬وهذه‬
‫التع ّ‬
‫االجراءات هي ‪:‬‬
‫‪ -‬االجهاض قبل ان يدبّ الشعور في الجنين ‪.‬‬
‫والمشوهين وفاسدي األخالق ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬إعدام األطفال ناقصي التكوين‬
‫‪ -‬تحريم الزواج على الشيوخ والعجزة وعلى كل من يبلغ الخمسين من عمره ‪ ،‬وذلك‬
‫على اعتبار ان الرجال والنساء المتقدمين في السن ال ينجبون إال مخلوقات ناقصة‬
‫جسما ً وعقالً ‪ ،‬وال جدوى من عالج تلك الثمرات الف ّجة ‪.‬‬

‫اما الرومان ‪ ،‬فكانوا يرون في زيادة عدد السكان قوة حربية هائلة ووسيلة أساسية لبناء‬
‫امبراطورية كبيرة‪ ،‬فكانوا يشجعون على الزواج وبالتالي على االنجاب ‪.‬‬

‫هذا ويش ّجع مفكّرو المسيحية على زيادة االنجاب وعدم التد ّخل بالتنظيم أو بالتحديد في‬
‫تلك المسألة باعتبارها من اختصاص الخالق ‪ .‬كذلك بالنسبة للمفكرين المسلمين الذين‬
‫يتمسكون ببعض النصوص واآليات التي تدعو الى ترك مسألة السكان للخالق ايضا ً ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ 4‬ــ ابـــن خـــــلدون ‪:‬‬

‫من الفالسفة المسلمين الذي وضع الخطوط العريضة للسياسة السكانية المعاصرة في‬
‫إطارها التنموي ‪ ،‬إذ يؤكد على التفاعل بين التغير السكاني المستمر مع العوامل االقتصادية‬
‫واالجتماعية والسياسية ‪ .‬كما قدّم ابن خلدون بعض األفكار التي أثرت فيما بعد في تطوير‬
‫االهتمام بدراسة السكان ‪،‬حيث رأى ان المجتمعات تمر بمراحل تطورية محددة تؤثر على‬
‫عدد المواليد والوفيات في كل مرحلة ‪ .‬إذ يشهد المجتمع في المرحلة االولى من تطوره‬
‫زيادة معدالت المواليد ونقص في معدل الوفيات ‪ ،‬بما يؤثر على نمو السكان ويزيد عددهم‪.‬‬
‫وعندما ينتقل المجتمع الى المرحلة االخيرة في تطوره ‪ ،‬يشهد ظروفا ً ديموغرافية مخالفة‬
‫تماما ً ‪ ،‬ينخفض فيها معدل الخصوبة والمواليد‪ ،‬ويرتفع معدل الوفيات ‪ ...‬ويوضح ابن‬
‫خلدون تأثير كل مرحلة من تطور المجتمع على المواليد والوفيات ‪ ،‬العتقاده ان الخصوبة‬
‫العالية في المرحلة االولى من تطور المجتمع ترجع الى نشاط السكان وثقتهم ومقدرتهم ‪.‬‬
‫اما في المرحلة االخيرة من تطور المجتمع فتظهر المجاعات واالوبئة ‪ ،‬والثورات‬
‫واالضطرابات ‪ ،‬مما يقلل من نشاط السكان ‪ ،‬ويق ّل من نسلهم ‪.‬‬

‫‪ 5‬ــ المــدرسة المــركنتيلــــيّة ‪:‬‬

‫تبلورت مسألة النمو السكاني في القرن الخامس عشر بسياسة سكانية ترمي الى زيادة‬
‫عدد السكان بهدف إغناء الدولة وزيادة ثروتها ‪ ،‬فبحثت في كل الوسائل التي تعمل على‬
‫زيادة عدد السكان وتلك التي تح ّد من نموه كاألوبئة والحروب والهجرة واالجهاض وتأ ّخر‬
‫ّ‬
‫سن الزواج ‪.‬‬
‫وكانت المدرسة المركنتيليّة قد أخذت بهذا االتجاه ‪ ،‬ورأت ان المسائل السكانية يجب‬
‫ان تعالَج من الوجهة االقتصادية المبنية على أساس البحث عن وسائل إغناء الدولة وزيادة‬
‫ثروتها ‪ .‬وانطلقت دراساتها السكانية من افتراض رئيسي قوامه ان على الدولة أعباء يجب‬
‫يقوي سلطتها بما في ذلك وجود جيش‬ ‫ان تقوم بها ‪ .‬من أجل ذلك ‪ ،‬يجب ان تلجأ الى كل ما ّ‬
‫قوي وأرض واسعة وممتلكات وراء البحار وعدد كبير من السكان‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ 6‬ــ المدرسة الفــيزيوقراطــيّة ‪:‬‬

‫في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهرت في فرنسا المدرسة الفيزيوقراطية‬
‫روادها وهو " كيناي " ‪ Quesnay‬بين الدراسات السكانية‬ ‫أو الطبيعية ‪ ،‬وقد ربط أحد ّ‬
‫واالقتصادية‪ .‬فقد كان أتباع مذهب الفيزيوقراط يرون ترك التجارة أو الزراعة أو االنجاب‬
‫‪ ...‬تسير في طرقها الطبيعية دون تد ّخل من أحد ‪ ،‬على اعتبار ان كل شيء في الحياة‬
‫االجتماعية يسير وفق االرادة االلهية الخيّرة ‪ ،‬وال سبيل الى اعتراض العناية االلهية وال‬
‫سيما ان ذلك ليس في قدرة البشر ‪.‬‬

‫ولعل دراسات كيناي في مجال السكان تعبّر عن وجهة نظر أعضاء مدرسة‬
‫الفيزيوقراط في المجال السكاني ‪ ،‬حيث تناول سكان فرنسا بالدراسة الوضعيّة التحليليّة شبه‬
‫العلميّة ‪ .‬وتبيّن له ان تعداد سكان فرنسا قد انخفض في إحدى الفترات (حوالي مئتي سنة )‬
‫فيما بين ‪ 1650‬و ‪ 1850‬كما انخفضت معدالت االنتاج ‪ .‬ولذلك فقد حاول تحديد معالم‬
‫االرتباط بين عدد السكان والقدرة على االنتاج في تلك الفترة ‪ .‬ونتيجة النخفاض معدالت‬
‫االنتاج في هذه الفترة ‪ ،‬جاءت نتيجة معالم االرتباط مؤ ِكدة ان انخفاض االنتاج ناتج عن‬
‫انخفاض عدد السكان ‪ .‬وخلص من دراسته الديموغرافية االقتصادية الى قاعدة عامة مؤداها‬
‫ان هناك عالقة طردية بين نسبة تخلخل السكان وقلة االنتاج ‪ ،‬بمعنى ان الدولة التي يقل‬
‫عدد سكانها بمقدار الثلث ‪ ،‬ينقص انتاجها بمقدار الثلثين‪.‬‬

‫وكلما زادت كثافة السكان في أمة أراضيها خصبة ومتّسعة األرجاء ‪ ،‬كلما ازدادت‬
‫بالتالي ثروتها وانتاجها ‪ .‬ويرى ايضا ً ان الدولة يجب ان تعمل على زيادة الدخل قبل زيادة‬
‫السكان ‪ ،‬الن االستمتاع بدخل كبير أنفع للدولة من زيادة السكان بنسبة ال تنسجم مع الدولة‬
‫وحاجة المعيشة ‪ .‬اي انه يرى ان الثروة ال ترتكز على عدد السكان بل العكس صحيح ‪،‬‬
‫اي ان عدد السكان يتوقف على الثروة ‪ ،‬وان السكان يزدادون بزيادة الدخل ولذلك وجب‬
‫العمل على زيادة الدخل قبل زيادة السكان‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ذلك ان االنتاج يومئذ كان يعتمد على القوة العضلية ‪ ،‬وتلك النتيجة توصف بانها شبه‬
‫علمية‪ ،‬الن عدد السكان قد يزيد في الفئة التي تنطوي على السن السابقة لالنتاج مثل الفئة (‬
‫أقل من ‪ 18‬سنة ) ‪ .‬ومثل تلك الزيادة ال تؤدي الى زيادة في االنتاج وإنما تؤدي الى زيادة‬
‫في االستهالك ‪ .‬واذا كان العدد الذي انخفض في السكان من بين هذه الفئة ‪ ،‬فان نقصهم ال‬
‫يؤدي الى نقص في االنتاج الن سن االنتاج تقع بين ‪ 18‬و ‪ 50‬سنة تقريبا ً ‪.‬‬

‫ثانـــــيا ا ‪ :‬اآلراء السكانيـــة ما قبل المالتوسية‬

‫في العقد األخير من القرن الثامن عشر ظهرت ثالث مؤلفات تدعو الى التفاؤل في‬
‫المسألة السكانية وفي وقت واحد تقريبا ً في اوروبا ‪ .‬وراح صاحب كل مؤلف يبشر بحاضر‬
‫وأولهم هو " سوسميلش " ‪ Sussmilch‬وكان‬ ‫كلّه رفاهية ونعيم وبمستقبل أكثر سعادة‪ّ .‬‬
‫واعظا ً في جيش فردريك االكبر ‪ ،‬حيث حاول صياغة قانون في مشكلة السكان في مؤلفه‬
‫بعنوان " االحصاء الديموغرافي " سنة ‪ 1740‬يرتكز على زعم التعادل بين الخلق واإلفناء‬
‫‪ .‬ويتلخص قانونه في انه يوجد بالضرورة ووفقا ً لترتيبات العناية اإللهية ‪ ،‬تكافؤ أو ــ على‬
‫االقل ــ نسبة ثابتة بين كل من عدد المتزوجين وعدد المواليد وعدد الوفيات في كل سنة من‬
‫السنين العادية التي ال يتخللها أوبئة أو حروب أو آفات وشرور اجتماعية أو أزمات اقتصادية‪.‬‬
‫على حين أنه في حال االخالل بهذا التكافؤ ‪ ،‬لسبب من االسباب السالفة الذكر ‪ ،‬مثل‬
‫حدوث أزمة اقتصادية وبالتالي انخفاض معدالت الزواج وبالتالي انخفاض معدالت‬
‫المواليد‪ ، ...‬فان العناية اإللهية ما تلبث ان تعيد هذا التكافؤ الى وضعه الطبيعي بعد زوال‬
‫آثار تلك العوامل الطارئة ‪.‬‬
‫وثانيهما هو الفيلسوف الفرنسي " كوندرسيه " ‪ Condorcet‬الذي وردت آراؤه‬
‫السكانية ضمن نظريته في فلسفة التاريخ والتي تعتبر تاريخ التطور البشري أشبه بخط‬
‫صاعد نحو الرقي والكمال ‪ .‬من هنا فان كل مرحلة من مراحلها العشرة أرقى من سابقاتها‪،‬‬
‫وتمهد ألخرى أرقى منها ‪ .‬هذا والمراحل التسعة االولى تمثل تجربة االنسانية في الماضي‪،‬‬
‫على حين ان المرحلة العاشرة هي مرجلة اآلمال وتتعلق بما ينبغي ان تكون عليه االنسانية‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ونالحظ هنا انه في المرحلة التاسعة التي ابتدأت من عهد ديكارت الى عصر الثورة‬
‫الفرنسية‪ ،‬يؤكد ان حقوق االنسان أخذت وضعها الطبيعي ‪ ،‬كما انتصر العقل على االيمان‪،‬‬
‫وتخلصت الفلسفة في سائر فروعها من الدين ‪ ،‬وبذلك اصبح االنسان في الوضع الالئق به‪.‬‬
‫وفي المرحلة العاشرة ‪ ،‬وهي مرحلة اآلمال ‪ ،‬أكد ان االنسانية تتقدم في ثالثة أبعاد هي ‪:‬‬
‫أ ــ قيام المساواة بين األمم باختفاء العداوات الشعوبية والقومية ‪.‬‬
‫ب ــ قيام المساواة داخل كل أمة بين الجنسين ‪.‬‬
‫ج ــ إرتقاء االنسان في ذاته كجنس عام ‪.‬‬
‫ويرجع ذلك في نظره الى ان القانون وسائر النظم االخرى سوف تتجه دائما ً الى جعل‬
‫الفرد ينسجم مع المصالح المشتركة ‪ ،‬وان انتاج المحاصيل الزراعية ال سيما الغذائية منها‬
‫سيظل في ازدياد ‪ ،‬وان األمراض سينخفض انتشارها الى ح ّد بعيد ‪ ،‬وبالتالي ستطول حياة‬
‫االنسان حتى تكاد ال تصل الى نهاية ‪ ،‬ومن ثم سترتفع قدرات واستعدادات االنسان الى ان‬
‫يصل الى الكمال ‪.‬‬

‫والثالث واألخير هو غودوين ‪ Godwin‬وهو من الفالسفة االجتماعيين الذين عالجوا‬


‫المشكالت االجتماعية بأسلوب النقد الالذع للحكومة والمؤسسات االجتماعية والسياسية‬
‫واالقتصادية التي انشأها المجتمع لتنظيم الحياة االجتماعية ‪ .‬بمعنى ان غودوين كان يعزو‬
‫الشرور واآلثام االجتماعية ‪ ،‬ال الى االنسان ذاته وإنما الى الحكومات القائمة والهيئات‬
‫السياسية والمؤسسات االقتصادية واالجتماعية أي الى البناء السياسي واالقتصادي‬
‫واالجتماعي للمجتمع ‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد تنبّأ بعصر ذهبي آت ال ريب فيه ‪ ،‬حيث يصل االنسان يومئذ الى الكمال‬
‫المنشود ‪ .‬وال سيما ان قدرات االنسان الفطرية يمكن تحويلها بالتربية السليمة الى الخير‬
‫والى العدل‪ ،‬والى البحث العلمي الهادئ من أجل خير البشرية والى إزالة كل المعوقات أمام‬
‫استعدادات االنسان المبدعة ليحقق الرخاء والرفاهية للبشرية ‪ ...‬وانتهى الى أفكار يمكن‬
‫اعتبارها من البذور األولى لالشتراكية الماركسية أو الفوضوية البرودونية ( نسبة الى‬
‫برودون ‪ ،) Proudhon‬حيث قال انه يوم تصل البشرية الى تلك الحالة ‪ ،‬فإنه لن تكون‬
‫هناك حاجة بالتالي الى الشرطة والى المحاكم ما دام العدل سيكون هدفا ً لكل انسان يعمل من‬
‫أجل تحقيقه بحماس شديد ‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫ثــالــثا ا ‪ :‬نظريـة توماس روبــرت مالتـــوس‬

‫‪ 1‬ـــ الخلفيات التي قامت عليها نظرية مالتوس ‪:‬‬

‫في مواجهة وجهات النظر المتفائلة ( غودوين وكوندرسيه ‪ ، ) ...‬ظهرت نظرية‬


‫القسيس االنكليزي مالتوس ــ التي تتّسم بالتشاؤم ــ في دراسته التي نشرها " بدون توقيعه‬
‫" سنة ‪ ،1798‬حيث كانت اوروبا أثناء إعداد هذه الدراسة في حالة يرثى لها بسبب الثورة‬
‫الفرنسية والحروب النابليونية ‪ .‬بينما كانت انكلترا يومئذ بوجه خاص تعاني من أزمة‬
‫اقتصادية واجتماعية طاحنة نتيجة لسوء المحصول الزراعي في الريف البريطاني لعدة‬
‫سنوات متتالية ‪ ،‬باالضافة الى وجود اضطرابات في رسوم الجمارك والضرائب التي لم‬
‫يتمكن رئيس الوزراء يومئذ من إصالحها ‪ ،‬األمر الذي أدى الى إعاقة الحركة التجارية‬
‫وانخفاض المعروض من األقوات الغذائية ‪.‬‬

‫هذا وقد استمرت تلك الظروف المعيشية السيئة في بريطانيا بالرغم من تقدم الصناعة‬
‫وابتكار المغازل واألنوال اآللية التي أدت الى تقدم صناعة النسيج حينئذ ‪ ،‬وذلك يرجع الى‬
‫استغناء أصحاب المصانع عن خدمات الكثير من عمال الغزل والنسيج ‪ ،‬األمر الذي ترتب‬
‫عليه زيادة أعداد العاطلين عن العمل وانخفاض األجور وكذلك انخفاض المساعدات‬
‫االجتماعية للفئات الفقيرة ‪ .‬ولعل تلك األحوال السيئة في بريطانيا هي التي تفسر آراء‬
‫جودوين الفوضوية وتبرر النظرة التشاؤمية التي ظهرت في مقال مالتوس الذي نشره دون‬
‫ان يضع اسمه عليه ‪ ،‬وال سيما ان تلك األحوال السيئة قد ارتبطت بفترة طفولة وشباب‬
‫وبداية رجولة مالتوس ‪ ،‬فهو من مواليد سنة ‪. 1766‬‬

‫وكانت الثورة الصناعية في ذلك الوقت تمضي قدما ً وكانت األمور تبشر بالخير في‬
‫اوروبا واميركا الشمالية‪ .‬اي انه كان هناك ثمة شعور بتفاؤل عام يشيع في الجو ‪ ،‬شعور‬
‫بان العلم والعقل سيتمكنان من معالجة أية مشكالت قد تنشأ في الحياة االجتماعية ‪.‬لكن قلة‬
‫من الناس قد ف ّكروا في دراسة العواقب المحتملة لالرتفاع السريع في معدالت النمو السكاني‪،‬‬
‫‪10‬‬
‫وكانوا يشعرون بانه ما من شيء يدعو الى القلق ‪ .‬وقد عبّر غودوين وكوندرسيه عن ايمانهما‬
‫بان السكان لن يلبثوا ان يصلوا الى المستوى المعقول ‪ ...‬بطريقة ما ‪.‬‬
‫لكن مالتوس لم يكن مطمئنا ً الى هذه الدرجة ‪ ،‬فقد جاءت آراؤه في السكان متأثرة‬
‫بآراء غودوين ورد فعل لها ‪ ،‬حيث دارت نظريته حول اإلجابة على تساؤل ‪ :‬ما هو مدى‬
‫تأثير النمو السكاني على رفاهية هؤالء السكان ؟ ولم يكن هذا التساؤل من بنات أفكار‬
‫مالتوس ‪ ،‬لكن طريقة عرضه لهذا التساؤل وكيفية تحليله واالجابة عليه ووضع الحلول‬
‫المالئمة له هي التي أثارت ض ّجة حول مسائل السكان ‪ ،‬واعتبرت في ذلك الوقت نقطة‬
‫البداية في النظريات السكانية ‪ .‬بل وكانت األساس الذي قام عليه علم السكان كفرع من فروع‬
‫علم االجتماع فيما بعد ‪.‬‬

‫هذا وتستند نظرية مالتوس في السكان على أسس دينية واقتصادية وإحصائية ‪ ،‬فقد‬
‫رفض النظرة التفاؤلية لدى السابقين عليه أمثال ‪ :‬سوسميلش ‪ ،‬كوندرسيه ‪ ،‬وغودوين ‪،‬‬
‫وراح يؤسس نظريته على األرقام ‪ ،‬كما ربط بين داللة األرقام ومعدالت النمو االقتصادي‬
‫وكذلك االنجاب ‪ .‬من هنا اعتبره البعض انه أول من أرسى دعائم الدراسة العلمية للسكان‬
‫وجعل منها كيانا ً مستقالً يعتمد على المناهج العلمية وخاصة االحصائية منها ‪.‬‬

‫‪ 2‬ــ مبادئ النظريــة ومقوالتـــها ‪:‬‬

‫بنى مالتوس نظريته على مقولتين أساسيتين تحددان نظرته العامة في السكان‬
‫وتحكمان طبيعة البشر‪ .‬وهاتان المقولتان هما ‪:‬‬
‫أوالا ــ ان الغذاء ضروري لحياة االنسان وال يمكن االستغناء عنه ‪ ،‬والصلة ما بين‬
‫حجم السكان وكمية الطعام المنتجة أو المتوافرة صلة أساسية في نظرية مالتوس ‪ ،‬والعالقة‬
‫بينهما عالقة طرديّة ‪ .‬إال ان ازدياد الموارد هو المتحول األساسي في حين ان عامل السكان‬
‫هو المتحول التابع‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ثانيا ا ــ ان الغريزة الجنسية ضرورة أساسية تحكم ميل كل من الجنسين لآلخر ‪،‬‬
‫وتؤدي ــ اذا لم تتدخل فيها الموانع األخالقية واإليجابية ــ الى زيادة التناسل عند االنسان‬
‫تفوق بكثير قدرة االرض على انتاج الموارد الغذائية ‪.‬‬
‫واستنادا ً الى هاتين المقولتين الرئيسيتين يمكن استخالص المقوالت الفرعية اآلتية ‪:‬‬
‫( من أ الى هـ فقط المطلوب ما تحته خط )‬
‫أ ــ ان انتاج االرض الزراعية محدود ويخضع خضوعا ً تاما ً لقانون الغلة المتناقصة ‪.‬‬
‫وجوهر هذا القانون هو ان لكل مساحة من االرض الزراعية حدا ً أقصى يبلغه االنتاج‬
‫الزراعي بالنسبة لما يستخدم فيها من قوة عمل فعلية ورأسمال ‪ ،‬بحيث لو زيد المقدار‬
‫المستخدم منها عن هذا الحد ‪ ،‬ألخذ االنتاج بالتناقص التدريجي أو النسبي ‪ .‬ان أية زيادة في‬
‫رأس المال أو األيدي العاملة تتخطى ذلك الحد لن يقابلها أية زيادة مماثلة في االنتاج‬
‫الزراعي‪ ،‬وتبعا ً لذلك فان الموارد الغذائية تزداد وفق متوالية حسابية ‪.‬‬
‫ب ــ ان معنى التزايد هو االتجاه الثابت لجميع المخلوقات الحية ‪ .‬والبشر كغيرهم من أنواع‬
‫الكائنات الحيّة يميلون نحو التزايد السريع ‪ ،‬وذلك وفق متوالية هندسية ‪.‬‬
‫ج ــ ان ذلك الميل نحو التزايد الكبير تحدّه موانع أخالقية وإيجابية ‪ .‬وير ّجع مالتوس عدم‬
‫وصول االنسانية الى المرحلة الرهيبة من الزيادة المضطردة لعدد السكان الى الفقر والبؤس‬
‫والشقاء ‪ ،‬الذي يؤدي الى ارتفاع نسبة الوفيات ‪ ،‬فلوال الموانع الطبيعية لوصل االنسان فعالً‬
‫الى تلك األعداد الرهيبة‪ .‬ولكن مع ان هذه الموانع تح ّد من النمو الهائل لعدد السكان ‪ ،‬إال ان‬
‫التناسب يبقى متفاوتا ً بين الموارد الغذائية وعدد السكان ‪.‬‬
‫د ــ يتحدّد عدد السكان تبعا ً لكمية الموارد الغذائية ‪ ،‬فيزداد عددهم ازديادا ً مضطردا ً تبعا ً‬
‫للزيادة المضطردة في موارد العيش‪.‬‬
‫هـ ــ عدم التناسب بين عدد السكان والموارد الغذائية ‪ .‬فالسكان يزدادون وفق متوالية هندسية‪،‬‬
‫في حين تزداد الموارد الغذائية وفق متوالية حسابية ‪ ،‬وال يمكن ان نغفل نسبة التفاوت بينهما‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ 3‬ــ السياسة السكانية عند مالتوس ‪:‬‬

‫اتخذت سياسة الحد من النمو السكاني عبر تطور االنسانية أشكاالً متباينة كان يجد لها‬
‫االنسان مبررات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخالقية ‪.‬ومن تلك االشكال ما شهده تارخ‬
‫االنسانية من وأد لألطفال ‪ ،‬وقتل للمسنين والشيوخ والمرضى‪ ،‬وافتعال للحروب ‪ ،‬وإجهاض‬
‫للحوامل ‪ ،‬وتهجير وتشريد للسكان ‪ .‬والنظرية المالتوسية لم تبتكر شيئا ً جديدا ً في هذا‬
‫شح بوشاح انساني ‪.‬‬ ‫المنحى‪ ،‬بل حاولت ان تضفي على تلك المبررات صبغة علمية تتو ّ‬
‫فأظهرت العوامل التي تؤدي الى الزيادة السكانية ‪ ،‬وأشارت الى أثر تلك الزيادة في خلق‬
‫مشكالت اجتماعية واقتصادية ‪ ،‬وطرحت من خالل ذلك حلوالً لتلك المشكالت تتمثل بموانع‬
‫وقائية وإيجابية وأخالقية تح ّد من نمو السكان ‪.‬‬

‫أ ــ عوامــل النــمو السكانــي ‪:‬‬


‫عالج مالتوس في مقاله االول " المبدأ العام للسكان " العوامل التي تؤثر في النمو‬
‫السكاني ‪ ،‬ورأى ان السبب المباشر في زيادة السكان يعود الى عاملين أساسيين هما عاملي‬
‫الزيادة الطبيعية والهجرة ‪.‬‬

‫ــ الزيادة الطبيعية ‪:‬‬

‫تتأثر الزيادة الطبيعية بالعوامل التي تؤثر في الوالدات والوفيات سلبا ً أو إيجابا ً ‪.‬‬
‫والفارق ما بين معدل الوالدات ومعدل الوفيات هو ما نشير اليه بلغة علم السكان المعاصر‬
‫بمعدل الزيادة الطبيعية في السكان ‪ .‬ويحدد مالتوس العوامل التي تؤدي الى ارتفاع معدل‬
‫الوالدات بارتفاع نسبة االناث اللواتي يعشن حتى سن الزواج ‪ ،‬وبالتالي ارتفاع معدالت‬
‫الزواج ‪.‬اما انخفاض نسبة الوفيات فتتأثر بتناقص عدد وفيات االطفال والرضّع وارتفاع‬
‫معدالت الحياة ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ــ الهـــجرة ‪:‬‬

‫تعمل الهجرة من الوجهة المالتوسية على زيادة معدل النمو السكاني سواء في البلد‬
‫المهاجر منه أو المهاجر اليه ‪ .‬واذا كان ارتفاع معدل النمو في البلد المهاجر اليه أمرا ً‬
‫واضحا ً‪ ،‬اال ان تعليل الزيادة في البلد المهاجر منه بالنسبة لمالتوس يحتاج الى بعض‬
‫التوضيح‪ .‬فهو يدّعي ان سياسة التهجير في الدولة المصدرة للسكان ‪ ،‬مع انها تعمل على‬
‫تخفيف الضغط السكاني عنها ‪ ،‬اال ان ذلك يكون بشكل مؤقت ‪ .‬إذ ما تلبث الدولة المصدرة‬
‫تعوض ما فقدته من السكان بعملية التولّد الذاتي حيث ترتفع معدالت الزواج التي‬
‫للسكان ان ّ‬
‫تؤدي بدورها الى ارتفاع معدل الوالدات ‪ ،‬وتبعا ً لذلك يزداد عدد السكان بعد فترة قصيرة‬
‫من الزمن ‪ ،‬وتشعر الدولة بضغط االزدحام السكاني أكثر من ذي قبل ‪ .‬وعلى هذا فسياسة‬
‫التهجير لن تؤدي الى التخفيف من الضغط السكاني بل انها على العكس من ذلك تعمل على‬
‫زيادة السكان حتى في الدولة المهاجر منها ‪.‬‬
‫ويدلل مالتوس على صحة نظريته بالهجرة الدولية التي تمت من اسبانيا الى الواليات‬
‫تكونت في الواليات المتحدة واليتين من‬‫المتحدة االميركية إبان القرن الثامن عشر ‪ ،‬فمع انه ّ‬
‫السكان االسبانيين ‪ ،‬اال ان ذلك لم يخفف من ازدحام السكان في اسبانيا ‪.‬‬

‫ب ــ أثر التزايد السكاني على االوضاع االقتصادية واالجتماعية ‪:‬‬

‫ان المشكالت االقتصادية واالجتماعية ما هي اال نتيجة مباشرة لزيادة السكان ‪ ،‬وعدم‬
‫تناسب هذه الزيادة مع االمكانيات المتاحة ‪.‬ففرص العمل التي يجب ان تتوفر للسكان الذين‬
‫هم في سن العمل محدودة ‪ ،‬بل انها تميل الى التناقص بسبب تقدّم التصنيع اآللي ‪ .‬وتحقيق‬
‫العمالة التامة في مثل هذه الظروف يؤدي الى خلق اشكاالت عديدة منها انخفاض األجر ‪،‬‬
‫وخفض سن التقاعد ‪ ،‬وانخفاض مستوى المعيشة وبالتالي زيادة عدد الفقراء ‪.‬‬

‫ان الشرور االنسانية في رأي مالتوس تحدث كنتيجة حتمية الختالل التوازن بين‬
‫الزيادة الكبيرة في عدد السكان وموارد العيش ‪ .‬فالفقر الذي خيّم على الفالحين في المجتمع‬
‫‪14‬‬
‫االنكليزي واالضطرابات التي حدثت في االرياف والمدن كانت متالزمة مع كثرة عدد‬
‫االطفال لدى فئات الفقراء والمعدمين ‪ .‬كما انه يرى ان مساعدة الفقراء وتخفيف بؤسهم‬
‫وشقائهم وآالمهم لن تجدي في القضاء على البؤس اال لفترة محدودة من الزمن ‪ .‬ويعلل ذلك‬
‫بان ارتفاع مستوى معيشة الفقراء يعمل على ارتفاع نسبة الزواج عندهم وبالتالي على زيادة‬
‫عدد االوالد بشكل ال يتناسب مع االمكانيات المتاحة ‪ ،‬فيعيدون الدور االول من الشقاء‬
‫والبؤس ‪ .‬ومن هذه الوجهة ينصح الدولة بان ال تقدّم أية معونة او مساعدة قانونية الى الفقراء‬
‫المعوزين الن ذلك لن يجدي نفعا ً ‪ .‬وقد عدّل مالتوس وجهة نظره هذه فيما بعد حين أوضح‬
‫ان ارتفاع مستوى المعيشة يعتبر من احد العوامل الهامة التي تساعد على الحد من الزيادة‬
‫السكانية ‪ ،‬إذ الحظ ان افراد الطبقة الغنية في المجتمع أقل تناسالً من أفراد الطبقة الفقيرة‪،‬‬
‫سن مستويات المعيشة واتساع نطاق الطبقة العليا في المستقبل قد يكون له بعض‬ ‫وان تح ّ‬
‫األثر في الحد من الزيادة السكانية ‪.‬‬

‫ج ــ الموانع التي تح ّد من الزيادة السكانية ‪:‬‬

‫اعتمد مالتوس في وضع سياسته السكانية على مقولة رئيسية قوامها ان الشقاء والبؤس‬
‫هما نتيجة تكاثر السكان وتزاحمهم على الموارد الغذائية ‪ .‬وما لم ت ُ َح ّد هذه الزيادة بموانع‬
‫فسوف يزداد بؤس االنسانية وشقاؤها‪ .‬ويج ُمل هذه الموانع بالموانع الوقائية والموانع‬
‫االيجابية ‪.‬‬

‫صره وبعد نظره ‪ ،‬مثل العفة والرهبنة‬ ‫ــ الموانع الوقائية ‪ :‬محورها تعقّل االنسان وتب ّ‬
‫والزهد أو تأ ّخر سن الزواج ‪ .‬ولكن هذه الموانع ال تكفي وحدها لموازنة أعداد السكان مع‬
‫الموارد الغذائية لسبب واحد هو ان كثيرا ً من االفراد ال يملكون النظرة الثاقبة أو البصيرة‬
‫النافذة ‪ ،‬وال تتوفر عند الجميع القدرة على كبح الشهوات ‪ .‬فال يُنتظر مثال من أفراد الطبقات‬
‫الدنيا من السكان ان يق ّدروا اعتبارات بُعد النظر والحيطة قبل الدخول في الحياة الزوجية ‪،‬‬
‫بينما افراد الطبقات العليا هم الذين يؤجلون الزواج وينجبون أكثر ما يمكن من االطفال بحكم‬
‫سن في الجنس البشري لن يتم طالما ان اوالد الفقراء في زيادة‬ ‫نظرتهم الصائبة للحياة ‪ .‬والتح ّ‬
‫مستمرة واوالد االغنياء الذين يمكن ان يصلوا الى درجة عالية من الثقافة والعلم في نقص‬
‫‪15‬‬
‫نسبي ‪ .‬وربما كان هذا هو السبب الذي من أجله رفض مالتوس قانون الفقرا في انكلترا‬
‫ّ‬
‫المنحطة على الزيادة في العدد‬ ‫واعتبره بدعة يجب الغاؤها نهائيا ً النه يساعد فئات الفقراء‬
‫على حساب طبقة االغنياء ‪.‬‬

‫ــ الموانع االيجابية ‪ :‬هي موانع تفرضها الطبيعة فرضا ً على بني االنسان ‪ ،‬ويمكن‬
‫حصرها في البؤس والرذيلة ‪ ،‬مثل العمل في المهن غير الصحية ‪ ،‬والفقر المدقع ‪،‬‬
‫واالمراض واالوبئة والقحط والمجاعات ‪ ،‬والحروب الطاحنة التي شهدتها وما زالت تشهدها‬
‫البشرية ما لم يضع االنسان حدا ً لشروره بنفسه ‪ .‬ويعود الفضل الى هذه الموانع في عدم‬
‫الزيادة السكانية وموازنة أعداد السكان بموارد العيش المحدودة في العالم ‪.‬‬

‫إزاء موقف رجال الدين المضاد لهذه الموانع غير االنسانية ‪ ،‬اضطر مالتوس في‬
‫الطبعة الثانية من مؤلفه الى اضافة ما أسماه بالمانع االخالقي وهو على النحو اآلتي ‪:‬‬

‫ــ المانع االخالقي ‪ :‬وهو الذي يعتمد على ارادة االنسان في منع الشر قبل وقوعه ‪.‬‬
‫ويقوم على أساس رؤية االنسان إلمكاناته المادية ومدى قدرتها على تغطية تكاليف األسرة‬
‫قبل إقدامه على تكوينها ‪.‬‬
‫• فاذا كانت تلك االمكانات المادية تسمح بالزواج ‪ ،‬كان له ان يتزوج مع تفضيله لتأخير‬
‫الزواج بعض الوقت ‪.‬‬
‫• واذا لم تكن تسمح له بالزواج ‪ ،‬كان عليه ان يؤجل زواجه الى ان تتوافرلديه االمكانات‬
‫المادية التي تكفي لتغطية احتياجات االسرة ‪ ،‬ثم يتزوج ‪.‬‬
‫• واذا استحال عليه توفير تلك االمكانات المادية الضرورية للزواج ‪ ،‬فان عليه ان يؤجل‬
‫زواجه الى أجل غير مس ّمى ‪ ،‬وان يتزوج بعد ان يفقد قدرته على االنجاب ‪ ،‬حتى ال‬
‫ينجب أطفاالً ال يستطيع توفير القوت لهم ‪.‬‬

‫يُال َحظ هنا ان مالتوس عمل في الطبعة االولى من كتابه عن السكان على ان يعبّر عن‬
‫وجهة نظر المحافظين في انكلترا ـ التفاقها مع وجهة نظره ـ وألنها تتعارض مع آراء‬
‫‪16‬‬
‫دعاة االصالح االجتماعي ‪ ،‬والذين عبّر غودوين عن وجهة نظرهم ‪ .‬وكانت آراء‬
‫المحافظين تتّسم بالقسوة إذ‪:‬‬
‫ان االنسان الذي يولد في عالم مكتظ بالناس ليس له الحق في ان يطالب بقوته ‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫فالطبيعة تأمره بان يذهب ـ اي ان يموت جوعا ً او باالنتحارـ كما ان الطبيعة لن تتوانى‬
‫عن تنفيذ هذا االمر بأساليبها الخاصة‪.‬‬
‫ان االنسان الذي يكثر من التناسل في نظر مالتوس ‪ ،‬ال يزيد من قوة السكان وإنما‬ ‫‪-‬‬
‫يضاعف من قوة البؤس والشقاء ‪.‬‬
‫ان االنسان الذي يعتقد في معالجة الفقر والعوز عن طريق االحسان والمساعدات‬ ‫‪-‬‬
‫العامة ‪ ،‬يعمل في واقع االمر على زيادة عدد البؤساء والمحتاجين بدالً من إنقاص‬
‫عددهم ‪.‬‬
‫ان االنسان الذي ينجب أطفاال ‪ ،‬وليست لديه االمكانات المادية التي تم ّكنه من االنفاق‬ ‫‪-‬‬
‫على تربيتهم ‪...‬يجب ان يخضع لقوانين الطبيعة التي هي من تشريع هللا ‪ ،‬تلك‬
‫التشريعات االلهية التي تفرض عليه وعلى أبنائه ـ تبعا لتعبير مالتوس ـ ان يتألموا ‪،‬‬
‫بمعنى ان َمن يخرج على حدود طاقته المادية يخرج في نفس الوقت على حدود ارادة‬
‫هللا ‪.‬‬
‫ضرورة إصدار قانون يمنع االحسان والمساعدات االجتماعية لكل طفل يولد بصورة‬ ‫‪-‬‬
‫غير مشروعة ‪ ( .‬المقصود هنا بالمشروعية هو القدرة المادية ) ‪.‬‬

‫وقد لقيت آراء مالتوس هذه تأييدا ً سياسيا ً من حزب المحافظين البريطاني وهو حزب‬
‫االقطاعيين والرأسماليين ‪ ،‬الن آراءه تحارب آراء االشتراكية لغودوين والنها رفعت كل‬
‫مسؤولية عن الطبقات الحاكمة في ما يتعلق بالبؤس والشقاء وألقت بها على كاهل الفقراء‬
‫أنفسهم لعدم تبصرهم وعدم تقدير مصيرهم ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫( غير مطلوب لهذه السنة )‬ ‫نقــد نظريـة مالتوس ‪:‬‬

‫اعتمدت مدارس فكرية كثيرة أفكار مالتوس في تحليل المسألة السكانية‪ ،‬كما برز‬
‫نقر بان نظريته اعتبرت نقطة االنطالق لتأسيس علم السكان‬
‫معارضون لها‪ .‬وال يمكننا إال أن ّ‬
‫المعاصر‪ ،‬نظرا ً لما طرحته من تساؤالت حول مسألة السكان‪ .‬كما أسهم مالتوس في إدخال‬
‫دراسة السكان في نطاق ميدان علم االجتماع بهدف تحسين ظروف معيشة االنسان ‪.‬‬

‫‪ 1‬ــ كانت نظرية مالتوس انعكاسا ً لتأثره باالوضاع االجتماعية واالقتصادية السائدة‬
‫في تلك الفترة ‪ ،‬اي االوضاع السيئة التي كانت تمر بها الدول االوروبية خاصة انكلترا قبل‬
‫الثورة الصناعية وفي بداياتها‪ .‬تأثره بتلك االوضاع‪ ،‬منعه من معالجة المسائل السكانية برؤية‬
‫مستقبلية متفائلة‪.‬‬

‫‪ 2‬ــ لم يكن قادرا ً على التنبؤ بالعائدات الضخمة التي جناها االوروبيون من استخدام‬
‫سكك الحديد والبواخر‪ .‬فقد م ّكنت اوروبا من الوصول الى أبعد األماكن ومن عبور المحيطات‬
‫تفوق أوروبا العسكري والتكنولوجي‪.‬‬ ‫واالنتقال الى قارات جديدة وجمع الثروات بسبب ّ‬
‫فأصبح بإمكان أعداد كبيرة من البريطانيين العيش من خالل اللحوم المستوردة من استراليا‪،‬‬
‫والقمح من كندا‪ ،‬والس ّكر من الهند ‪.‬‬

‫‪ 3‬ــ ربط مالتوس بين زيادة السكان وتناقص نصيبهم من الموارد الغذائية في بداية‬
‫الثورة الصناعية‪.‬‬
‫إنطلق من افتراضه هذا من بلد واحد وقام بتعميمه على كل بالد العالم كقانون سكاني‪.‬‬
‫ففي كثير من الدول االشتراكية ( سابقا ً ) لم تؤ ِد زيادة السكان فيها الى نقص حصة الفرد‪،‬‬
‫بل على العكس‪ ،‬بالرغم من الزيادة السكانية فقد ارتفع مستوى المعيشة واتجهت الحكومات‬
‫الى تشجيع زيادة السكان من خالل الهجرة اليها ومنح المكافآت وتقديم اإلعانات‪.‬‬
‫فمالتوس لم يستطع تفسير المشكالت االقتصادية واالجتماعية االخرى في بلدان مختلفة‬
‫ى طويل من التاريخ ‪.‬‬ ‫وفي أوقات مغايرة‪ .‬أي ال يمكن تعميمها على مد ً‬
‫‪18‬‬
‫‪ 4‬ــ في تحليله للبنية السكانية‪ ،‬اعتمد مالتوس على النمط اإلرجاعي والمنهج الرياضي‪.‬‬
‫تجرد الواقع برموز‪،‬‬
‫تحول العالقات الكيفية الى عالقات ك ّمية ‪ ،‬كما أنها ّ‬
‫فاللغة الرياضية ّ‬
‫مما يعزلها عن المضمون االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬
‫كما أرجع مالتوس النمو السكاني الى الحركة السكانية على أنها السبب المباشر في‬
‫زيادة السكا ن ‪ .‬واعتبر ان البؤس والشقاء هما نتيجة هذه الزيادة‪ .‬فالنمو السكاني ال يتحدد‬
‫بالحركة السكانية فقط ‪ ،‬بل بعوامل أخرى مثل االقتصادية‪ ،‬االجتماعية‪ ،‬النفسية ‪ ...‬كما يجب‬
‫البحث عن الجذور التاريخية االقتصادية واالجتماعية ألية مشكلة ‪.‬‬
‫اذاً‪ ،‬في استخدامه للمتواليتين عزل المنهج عن حركة التاريخ والمجتمع ‪ .‬من هنا لم‬
‫يستطع تفسير الدول االشتراكية في توجهها نحو زيادة السكان‪ ،‬والدول الصناعية الرأسمالية‬
‫ِ‬
‫للح ّد منه ‪ ،‬واضطراب هذه المسألة في الدول النامية ‪.‬‬

‫‪ 5‬ــ عايش مالتوس النظام االقطاعي السائد في بريطانيا واستئثار االقطاع بثروات‬
‫االرض واالنتاج ‪ ،‬مقابل إعطاء القليل القليل للفالح ‪.‬‬
‫اذا ً ‪ ،‬فالمشكلة تكمن في طبيعة النظام القائم وليس في كميات االنتاج‪ ،‬وهذا ما لم َ‬
‫يره‬
‫مالتوس‪.‬‬

‫‪ 6‬ــ بالنسبة لما أسماه "الشهوة الجنسية بين النوعين"‪ ،‬وأنها ستظل على حالتها‬
‫الراهنة ‪ ،‬لم يتطرق الى االختالفات والفوارق الفردية‪ .‬إذ نجد ان النمو العقلي وشتى الميول‬
‫والرغبات في المجتمعات الراقية الحديثة‪ ،‬من شأنها أن تقلّل الرغبة الجنسية الى درجة أنها‬
‫تصبح مانعا ً لتزايد السكان ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫رابـــعا ا ‪ :‬النظريات السكانية بعد مالتوس ‪:‬‬

‫يواجه كل من يهتم بتتبع نظرية علم اجتماع السكان بحقيقة ال شك فيها ‪ ،‬هي ان‬
‫تكون بنا ًء متماسكا ً وموحدا ً او نظرية من ّ‬
‫سقة بقدر ما‬ ‫كتابات المشتغلين حديثا ً بهذا العلم ال ّ‬
‫تمثل مجموعة متباينة ومتعددة من االفكار والقضايا النظرية ‪ .‬ومن هنا كان من المتوقع ان‬
‫تنطوي دراسة نظرية علم اجتماع السكان على محاوالت متباينة لتصنيف هذه المجموعة‬
‫الكبيرة من القضايا النظرية ‪ .‬ولما كانت محاولة كل منها تستند الى معيار مغاير في تصنيف‬
‫القضايا النظرية ‪ ،‬فمن المتوقع ان ال نجد اتفاقا ً بين محاوالت التصنيف هذه ‪.‬‬

‫وعموما ً تُر ّد محاوالت تصنيف نظرية علم اجتماع السكان الى ثالث على النحو اآلتي‪:‬‬

‫المحاولة االولى ‪ :‬وتقوم على تقسيم النظريات الى نوعين ؛ نظريات طبيعية ونظريات‬
‫اجتماعية‪.‬‬

‫النظريات الطبيعية ‪:‬‬


‫وهي التي يجمع بينها اعتقاد واحد مؤداه ان الذي يتحكم في نمو السكان هو طبيعة‬
‫االنسان نفسه وطبيعة العالم الذي يعيش فيه ‪.‬وأنه اذا كان لالنسان سيطرة على هذا النمو‬
‫فهي سيطرة محدودة ‪.‬ويوضح لنا هذا االعتقاد كيف كان اصحاب هذه النظريات يحاولون‬
‫ايجاد قانون لنمو السكان يتمكنون به من معرفة ما حدث في الماضي وما سيحدث في‬
‫المستقبل‪ ،‬وكانت القوانين التي توصلوا اليها في الغالب تنكر كل تد ّخل لآلنسان وللقيم‬
‫االنسانية واالتجاهات في هذا النمو وتعتبره أمرا ً طبيعيا ً ال يمكن لآلنسان ان ّ‬
‫يعوقه ‪ .‬ويدخل‬
‫ضمن هذه الفئة من اصحاب النظريات سادلر ودبلداي وسبنسر وجيني ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫النظريات االجتماعية ‪:‬‬

‫يعتقد أصحاب هذه النظريات ان نمو السكان ال يرجع الى قانون طبيعي ثابت وإنما‬
‫يرجع الى الظروف االجتماعية التي تحيط بأعضاء المجتمع ‪ ،‬وهذه الظروف تضم مجموعة‬
‫من العوامل المختلفة التي يتحدد عددها وفقا ً لطبيعة كل مجتمع ‪ .‬ويدخل ضمن أصحاب هذا‬
‫النوع من النظريات السكانية ‪ ،‬كارل ماركس ‪ ،‬أرسين ديمون ‪ ،‬كارسوندرز‪...‬‬

‫المحاولــة الــثانـــــية ‪ :‬وهي التي تصنّف نظريات السكان على ضوء العوامل التي تؤثر‬
‫في نمو السكان ‪ ،‬الى نظريات بيولوجية ونظريات ثقافية اجتماعية ونظريات اقتصادية ‪.‬‬

‫ــ النظريات التي حاولت إبراز أهمية العوامل البيولوجية ‪:‬‬


‫تذهب هذه النظريات الى ان انخفاض الخصوبة الذي حدث في الدول المتقدمة يرجع‬
‫بصفة أساسية الى انخفاض القدرة الفيزيولوجية او البيولوجية على االنجاب ‪ .‬غير ان‬
‫اصحاب هذا االتجاه اختلفوا فيما بينهم في ما يتعلق بالعوامل المؤثرة على هذه القدرة ‪ .‬فبينما‬
‫يرى سادلر ان ارتفاع الكثافة السكانية يؤدي بطريقة طبيعية الى تناقص القدرة على االنجاب‪،‬‬
‫يذهب دبلداي الى ان زيادة التغذية تؤدي الى هذه القدرة ‪ .‬ويشير سبنسر الى ان تعقيد الحياة‬
‫االجتماعية يتطلب من االنسان ان يبذل جهودا ً إضافية للمحافظة على حياته الذاتية وان ذلك‬
‫يؤدي الى خفض قدرته على التوالد ‪.‬‬

‫ــ النظريات التي حاولت إبراز أهمية العوامل االقتصادية ‪:‬‬


‫ان المحور االساسي الذي تدور حوله هذه النظريات ‪ ،‬هو ان الزواج واالنجاب‬
‫يتحددان وفقا ً للظروف االقتصادية السائدة ‪ .‬ويرجع التفكير االقتصادي للظواهر السكانية‬
‫الى عهد قديم ‪ ،‬بل هو أول تفسير قدمه المفكرون لهذه الظاهرة ‪ .‬فقد اعتقد المفكرون‬
‫التقليديون ان الظروف االقتصادية هي التي تحدد معدالت الزواج واالنجاب ‪ ،‬وكان آدم‬
‫سميث من بين ممثلي هذا االتجاه ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ومع تطور النظرية االقتصادية الكالسيكية ‪ ،‬بدأ مفهوم الحجم األمثل للسكان يظهر‬
‫في كتابات علماء االقتصاد ‪ ،‬ابتدا ًء من كتابات آدم سميث وكيناي وكارسوندرز‪..‬‬

‫ــ النظريات التي حاولت إبراز أهمية العوامل الثقافية االجتماعية‪:‬‬


‫وهي مجموعة النظريات التي تعتمد على التفاعل الثقافي دون غيره ‪ ،‬كتلك التي‬
‫تحاول تفسير السلوك االنجابي ومن ثم نمو السكان بالرجوع الى النسق القيمي السائد في‬
‫المجتمع ‪ ،‬أو بالرجوع الى مفهوم الثقافة التقليدية ‪.‬‬

‫المحاولـــة الثالـــثة ‪ :‬وهي تلك المحاولة التي تر ّد نظريات السكان الى مدخلين ‪:‬‬

‫ــ نظريات المدخل المحافظ ‪ ،‬الذي يرى ان المجتمع يميل دائما ً نحو التوازن ‪ ،‬وانه في‬
‫مراحل التغيّر يختل هذا التوازن‪ .‬ولكن هناك قوى اجتماعية او بيولوجية تعمل دائما ً على‬
‫إعادة هذا التوازن مرة ثانية ‪ .‬ويدخل في إطار هذا المدخل النظري مجموعة نظريات سبنسر‬
‫وسادلر وكارسوندرز وديفز ‪...‬‬

‫ــ نظريات المدخل الراديكالي ‪ ،‬الذي يرى انه اذا كانت العوامل المادية تلعب دورا ً رئيسيا ً‬
‫في تحديد معدالت الخصوبة ‪ ،‬فان اإلطار الثقافي السائد في المجتمع والذي غالبا ً ما يكون‬
‫انعكاسا ً لهذه الظروف ‪ ،‬يؤثر بدوره في معدالت الخصوبة هذه ‪ .‬ومن هنا ترى مجموعة‬
‫هذه النظريات ان رفض هذه العوامل واإلطار المرتبط بها ومحاولة تغييره الى صورة‬
‫اخرى هو الطريق المؤدي الى تقليل معدالت الخصوبة واالنجاب ‪ .‬ويدخل في إطار نظريات‬
‫المدخل الراديكالي كارل ماركس وكونتز وريابوشكين وكوزولوف وغيرهم ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫من النظريات الطبيعية ‪:‬‬

‫‪ 1‬ــ سبنسر ) ‪H . Spencer(1903 – 1820‬‬

‫عرف باهتمامه بالتطور البيولوجي االجتماعي للقوى الطبيعية ‪ ،‬فليس‬ ‫مف ّكر اجتماعي ُ‬
‫من الغريب ان يهتم بدراسة مسائل السكان على هذا األساس ‪ .‬وقد عرض سبنسر قضايا‬
‫النظرية السكانية ضمن كتابه " مبادئ البيولوجيا " الذي نشره عام ‪ ، 1910‬حيث اعتقد ان‬
‫الغذاء الجيد يزيد من القدرة على التناسل ‪.‬وان هناك قانونا ً طبيعيا ً يجعل االنسان غير مسؤول‬
‫عن التحكم في زيادة عدد أفراده ‪ ،‬وقد حققت الطبيعة هذه الغاية وذلك عن طريق إضعاف‬
‫اهتمام االنسان بالتكاثر‪ ،‬بينما وجهته الى تخصيص المزيد من الوقت والجهد للتنمية‬
‫الشخصية والعلمية واالقتصادية ‪ .‬ومن هنا ‪ ،‬فكلما اشتد الجهد الذي ينبغي على االنسان ان‬
‫يبذله لضمان تقدمه في اي ميدان ‪ ،‬ضعف اهتمامه بالتكاثر‪ .‬اي ان هناك تعارضا ً بين التناسل‬
‫والنضوج الذاتي ‪ .‬ولذلك اعتقد سبنسر ان هناك تناقصا ً طبيعيا ً في القدرة على االنجاب‬
‫خاصة لدى االناث وذلك الن اهتمام الفرد بنفسه يستدعي المزيد من الوقت والطاقة ‪ ،‬وهذا‬
‫النقص في القدرة على االنجاب يؤدي الى زيادة أبطأ في عدد السكان ‪.‬‬

‫ويدعّم سبنسر اعتقاده السابق بناء على ما الحظه من قلة النسل بين السيدات‬
‫ّ‬
‫تغذيتهن‬ ‫المشتغالت في المهن الفكرية والالتي ينتسبن الى طبقات عليا والالتي ‪ ،‬بالرغم من‬
‫أفضل من تغذية سيدات الطبقات الفقيرة ‪ ،‬وأنهن ينلن رعاية صحية أفضل ‪ ،‬إال ان تناسلهن‬
‫يكون ضعيفا ً بسبب االجهاد الذهني وعجزهن عن االهتمام بأطفالهن ورعايتهم ‪.‬‬
‫وفي ضوء هذه القضايا ‪ ،‬تنبّأ سبنسر بان مشكلة تزايد السكان ستختفي مع ما يصاحبها‬
‫ي ويبذل جهودا ً كبيرة في سبيل ذلك ‪.‬‬
‫من شرور أخرى ما دام االنسان ينشد الرق ّ‬

‫‪23‬‬
‫‪ 2‬ــ توماس دبلداي ( ‪ 1790‬ــ ‪Thomas Doubleday ) 1870‬‬

‫كان دبلداي اقتصاديا ً وفيلسوفا ً اجتماعيا ً انكليزيا ً ‪ ،‬وقد اعتقد أنه جاء بقانون طبيعي‬
‫مختلف يحكم نمو السكان ‪ ،‬إذ رأى ان التزايد في عدد السكان يرتبط ارتباطا ً عكسيا ً بموارد‬
‫سنت موارد الغذاء المتاحة لالنسان ‪ ،‬كلما أبطأت الزيادة في أعدادهم ‪ .‬وفي‬ ‫الغذاء‪ .‬فكلما تح ّ‬
‫كل المجتمعات‪ ،‬فان الفقر يش ّجع على الخصوبة العالية لدى السكان ‪ ،‬ومن ث ّم نرى زيادة‬
‫مستمرة في عدد الذين ال يحصلون إال على أقل قدر من الغذاء‪ ،‬أي بمعنى آخر ‪ ،‬في صفوف‬
‫السكان األشد فقراً‪ .‬أما األغنياء الذين ينعمون بكفاية الغذاء‪ ،‬فإن عددهم في تناقص مستمر‪.‬‬
‫وبين هاتين الطبقتين ( الفقراء واألغنياء) توجد طبقة وسطى يحصل أفرادها على كفايتهم‬
‫من الغذاء‪ ،‬ويعيشون عيشة وسطا ً ويكون عدد سكانها ثابتا ً‪ ،‬وهذا يستتبع ان الزيادة أو النقص‬
‫في مجموع السكان الكلي يتوقفان على التناسب العددي بين هذه الحاالت الثالث في كل‬
‫مجتمع ‪.‬‬

‫‪ 3‬ــ كورادو جيني ) ‪Corrado Gini ( 1965 – 1884‬‬


‫مفكر اجتماعي ايطالي ‪ ،‬عرض لقضاياه النظرية في مؤلفه " أثر السكان في تطور‬
‫المجتمع" والذي نشره عام ‪.1912‬وانحصرت هذه القضايا في معظمها في تحليل العالقة‬
‫بين السكان وتطور أو تغيّر بناء المجتمع وخاصة من النواحي البيولوجية والمورفولوجية‬
‫أو البنائية واالقتصادية والثقافية وأثر السكان ايضا ً في وقوع االزمات االجتماعية داخله ‪.‬‬
‫ويمكن تلخيص هذه القضايا النظرية على النحو اآلتي ‪:‬‬
‫أ ــ يسلم بان المجتمع يمر بمراحل ثالثة هي ‪ :‬النشأة والتكوين ‪ ،‬التقدم واالزدهار‪،‬‬
‫االضمحالل والفناء ‪.‬‬
‫ب ــ افترض انه في كل مرحلة من مراحل تطور وتغير المجتمع هذه يمكن ان نالحظ‬
‫خصائص محددة تميز نمو السكان ونتائج تترتب على هذا النمو تؤثر في مختلف جوانب‬
‫المجتمع البيولوجية والمورفولوجية واالقتصادية وغيرها ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫من النظريات االجتماعية ‪:‬‬

‫‪ 1‬ــ أرسين ديمون ) ‪Arsène Dumont ( 1902 – 1849‬‬


‫كان ديمون استاذا ً في جامعة ستراسبورغ ‪ ،‬وتعتمد أفكاره في السكان على الدراسة‬
‫التي قام بها عن نمو السكان في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر وس ّماها " نظرية‬
‫الشعيريّة االجتماعية"‪.‬‬
‫ويمكن تلخيص نظريته في انه كان يعتقد ان الفرد يميل الى الصعود نحو مستويات‬
‫أعلى في بيئته االجتماعية عن طريق عملية تشبه الخاصيّة الشعيريّة الطبيعية ‪ ،‬وفي هذه‬
‫العملية من االرتفاع الى أعلى يصبح توالده أقل احتماالً باضطراد حيث يبتعد شيئا ً فشيئا ً عن‬
‫وسطه الطبيعي وعن أسرته وبالتالي يفقد االهتمام باألسرة ويتركز اهتمامه الرئيسي على‬
‫الصعود بطريقة تفيده شخصيا ً ‪،‬بصرف النظر ع ّما اذا كانت هذه الحركة تفيد المجتمع أو‬
‫الساللة ‪ .‬وقد اعتقد ديمون ان " الشعيرية االجتماعية بالنسبة الى النظام االجتماعي هي‬
‫كالجاذبية بالنسبة للعالم الطبيعي " ‪ .‬وهو يعتبر ايضا ان هذه الحركة من طبقة الى أخرى‬
‫هي السبب المباشر الذي يطرأ على معدل المواليد حيث يذكر بان " زيادة األعداد في شعب‬
‫تتناسب تناسبا ً عكسيا ً مع تطور الفرد " ‪.‬‬
‫وقد بنى ديمون نظريته نتيجة دراسته للخصوبة في فرنسا ‪ ،‬وذكر بان هناك تفاوتا ً‬
‫كبيرا في المجتمعات المتقدمة مثل فرنسا والنامية مثل الهند ‪ .‬ففي فرنسا حيث استقرت‬
‫الديموقراطية ‪ ،‬كان االنتقال من طبقة الى اخرى سريعا ً ــ اي تكون الشعيرية االجتماعية‬
‫أش ّد مفعوالً ــ مما ترتّب عليه خفض معدل المواليد الى درجة كبيرة ‪ .‬باالضافة الى ذلك ‪،‬‬
‫فان المدن الكبرى في المجتمعات الديموقراطية تفرض جاذبية قوية على الذين يعيشون‬
‫وتسرع في العمل على‬‫ّ‬ ‫بالقرب منها ‪ ،‬وبهذا تزيد من قوة الجاذبية الشعيرية على الناس‬
‫تخفيض معدل المواليد في المجتمع ‪ .‬والذين يبعدون عن مراكز الجاذبية ال يُجتذبون بمثل‬
‫هذه السرعة الى الحركة الشعيرية ‪ .‬ومن هنا ال يُحتمل ان يقللوا معدل المواليد بل يواصلون‬
‫التزايد ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫‪ 2‬ــ الكسندر كارسوندرز ‪Carr Saunders ( 1966 – 1886 ) :‬‬
‫باحث انكليزي اهتم بدراسة الظواهرالسكانية وعرض قضاياه النظرية في مؤلف له‬
‫بعنوان " سكان العالم " بحيث تتلخص كما يأتي ‪:‬‬
‫أ ــ يسلّم كارسوندرز بان السكان في اي مجتمع إما ان يكونوا قلّة أو أكثر أو عن ح ّد‬
‫نفرق بين أنواع مختلفة من كثافة السكان ‪ ،‬وان مفهوم الكثافة‬‫امثل ‪ .‬ويرى انه يمكن ان ّ‬
‫السكانية مفهوم نسبي ‪ ،‬الن الزيادة والقلة مسائل نسبية ‪ .‬وال يجب ان نحكم على مجتمع بانه‬
‫نقر بان عدد السكان في‬
‫قليل السكان الن عدده قليل في الكيلومتر المربع ‪ ،‬وال يجوز ان ّ‬
‫مجتمع كثير اذا كان العدد في الكيلومتر المربع كثير الن هذا العدد قد يكون قليالً وهناك‬
‫موارد ثروة كثيرة مثال البالد الغنية باالنهار والمعادن والصناعات ‪ .‬وقد يكون العدد كثيرا ً‬
‫والموارد قليلة مثل المجتمعات الصحراوية‪.‬‬

‫ب ــ ثم يفترض كارسوندرز بان هناك عالقة بين حجم السكان وبين موارد الثروة في‬
‫المجتمع من ارض زراعية يمكن استغاللها او ثروة معدنية يمكن استخراجها او غيرها من‬
‫موارد الزمة لالنتاج‪ ،‬بحيث يحكم على هذا العدد بانه قليل او خفيف اذا كان العدد ال يساعد‬
‫على قيام المشروعات التي تستغل هذه الموارد ويعجز عن ان يوفر المنتجات التي يحتاجها‬
‫هذا العدد وال يزيد القدرة االنتاجية للفرد ‪ .‬ويكون هذا العدد كثيفا ً اذا كانت هذه الزيادة في‬
‫عدده تؤدي الى تناقص االنتاج المستخرج من موارده ‪ .‬ويصف المجتمع بانه قد وصل الى‬
‫حجم امثل اذا كان في حالة وسط بين القلة والكثرة وبلغ انتاحه أقصاه مع عدم الزيادة في‬
‫عدده ‪.‬‬
‫ج ــ ثم أخذ كارسوندرز يحصر األدلّة على صحة افتراضه بالنظر الى حقيقة دخل الفرد في‬
‫المجتمع والمترتب على موارد الثروة فيه ‪.‬‬
‫د ــ بحيث ذهب الى انه يمكن استخالص مقياس يمكن بواسطته التعرف على مستوى القلة‬
‫او الكثرة او المثلى الذي قد يصل اليه السكان ويتمثل في انه ‪ :‬اذا كان متوسط دخل الفرد‬
‫أخذ في الزيادة ‪ ،‬د ّل هذا على ان عدد السكان في هذا المجتمع عند ح ّد قلّة ‪ ،‬اما اذا كان‬
‫متوسط الدخل في حالة استقرار كان عدد السكان عند الح ّد األمثل ‪ ،‬واذا كان المتوسط متجها ً‬
‫نحو الهبوط تدريجيا ً فان عدد السكان يكون عند ح ّد متزايد ‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ 3‬ــ سيدنـــي كونتـــز ‪:Sidney Coontz‬‬
‫باحث اهتم بدراسة الظواهر السكانية متأثرا ً بأفكار ماركس في تفسيرها على ضوء‬
‫سع من نطاق هذا التفسير على النحو اآلتي ‪:‬‬‫العوامل االقتصادية ‪ .‬ولكنه و ّ‬
‫ــ يتّفق مع ماركس في األخذ في نفس القضايا المسلمة حول تغيّر المجتمع وظواهره ‪.‬‬
‫ــ ولكنه يصيغ تفسيره الفرضي لظاهرة نمو السكان على نحو مغاير ‪ ،‬إذ يرى ان نمو‬
‫السكان يتوقف على عوامل اقتصادية ثالثة ‪ ،‬هي مقدار العمل ‪ ،‬ونوع العمل ‪ ،‬ووظيفة‬
‫االسرة ‪.‬‬
‫ــ مقدار العمل المطلوب ؛ كان آدم سميث قد أشار من قبل الى ان فرص العمل المتاحة هي‬
‫التي تحد د معدالت الزواج واالنجاب‪ .‬وقد سبقت االشارة الى ان زيادة العمل في الدول‬
‫الغربية ارتبطت بهبوط معدل المواليد ‪ .‬لذلك أضاف كونتز عاملين اقتصاديين آخرين لتفسير‬
‫اتجاهات الخصوبة هما نوع العمل المطلوب والوظائف االقتصادية التي تقوم بها االسرة ‪.‬‬
‫ــ نوع العمل المطلوب ؛ ان زيادة الطلب على العمل غير الماهر ــ وهو نوع العمل الذي ال‬
‫يحتاج الى تكاليف كبيرة ــ تؤدي الى ارتفاع الخصوبة ‪ ،‬في حين ان زيادة الطلب على العمل‬
‫الماهر ال تؤدي بالضرورة الى ارتفاع الخصوبة ‪ ،‬الن هذا النوع من العمل يتطلب تكاليف‬
‫كبيرة وبالتالي ال تستطيع االسرة االنفاق على عدد كبير من االطفال الذين تعدّهم لحياتهم‬
‫سر كونتز العالقة بين الخصوبة والدخل ‪ ،‬وانتهى الى انه اذا كان االغنياء‬ ‫المهنية ‪ .‬وبذلك ف ّ‬
‫أقل انجابا ً من الفقراء ‪ ،‬فيرجع ذلك الى ان المهن التي يمارسها االغنياء تتطلب إعدادا ً طويال‬
‫وتكاليف كبيرة ‪.‬‬
‫ــ الوظائف االقتصادية لألسرة ؛ أشار كونتز الى ان التغيير الذي طرأ على الوظيفة‬
‫حولها من وحدة انتاجية تحتاج الى ايدي عاملة كثيرة في المجتمعات‬ ‫االقتصادية لآلسرة ّ‬
‫الزراعية ‪ ،‬الى وحدة استهالكية في المجتمعات الصناعية بسبب تخلّي الزوجة واالوالد عن‬
‫وظيفتهم االنتاجية داخل االسرة ‪ ،‬مما أفقد االطفال قيمتهم االقتصادية وأدى بالتالي الى‬
‫انخفاض الخصوبة ‪ .‬ومن ناحية اخرى ‪ ،‬خرجت المرأة الى ميدان العمل مما جعلها ترغب‬
‫في الحد من االنجاب كي ال تنقطع عن العمل فترة طويلة مما يفقدها قيمة األجر الذي‬
‫تتقاضاه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫التحول الديموغرافي ‪Transition démographique‬‬
‫ّ‬ ‫نظرية‬

‫وهي من أكثر النظريات الحديثة شيوعا ً واستخداما ً في الدراسات السكانية ‪ ،‬وتعطي إطارا ً‬
‫نظريا ً يساعد على فهم اتجاهات السكان والتغيرات السكانية ‪.‬‬
‫جاءت هذه النظرية كوسيلة لشرح وتفسير االتجاهات الديموغرافية في أوروبا التي لم تطابق‬
‫آراء مالتوس‪ .‬وقد هيمنت على الجزء الرئيس من فكر الديموغرافيا االجتماعية ‪ ،‬حيث ان عددا ً‬
‫كبيرا ً جدا ً من األعمال النظرية والتجريبية اتجهت للبحث في القضايا التي أثارتها أفكار وادعاءات‬
‫النظرية ‪.‬‬
‫تنتج عملية التحول الديموغرافي في مجرى التحديث ‪ modernisation‬والتطور االقتصادي‬
‫من وضعية تتميز بارتفاع الوفيات والوالدات الى وضعية انخفاض الوفيات والوالدات عبر مرحلة‬
‫تتميز بمعدالت الوفيات المنخفضة وتباطؤ في معدالت الوالدات ‪ .‬هذا المفهوم للتحول الديموغرافي‬
‫كسب زخما ً كامالً فقط بعد كتابات دايفز ‪ Davis‬ونوتيستين ‪ Notestein‬في عام ‪ ، 1945‬رغم ان‬
‫الجوهر الكامل للعالقة بين التحديث وانخفاض الوفيات والخصوبة إضافة الى المراحل الثالث‬
‫للتطور‪ ،‬صيغت بشكل كامل من قبل تومبسون ‪ Thompson‬في عام ‪ .1929‬ودرست العناصر‬
‫الرئيسية من قبل الندري ‪ Landry‬في األعوام ‪ 1909‬و ‪ . 1934‬وكذلك وردت في الدراسات الكثيرة‬
‫لألجناس والسالالت البشرية التي أصدرها كارسوندرز في األعوام ‪ 1922‬و‪ 1934‬و‪.1936‬‬
‫تشرح هذه النظرية العالقة بين معدل الوالدات الخام ومعدل الوفيات الخام ‪ ،‬واستُخدمت‬
‫لتفسير آلية معدالت النمو السكاني في اوروبا الغربية ‪ .‬وقد وضع نوتيستين هيكلية الكالسيكي‬
‫للتحول الديموغرافي ونشرها في البداية عام ‪ 1945‬كما ذُكر‪.‬وطبقا ً لهذه النظرية ‪ ،‬هناك أربع مراحل‬
‫للتحول الديموغرافي ‪ :‬األولى غطت معظم التاريخ البشري حتى انطالق الثورة الصناعية‪ .‬وتميّزت‬
‫بارتفاع معدالت الوالدات والوفيات ‪ ،‬حيث قادت الى خفض معدالت الزيادة الطبيعية ‪ ،‬بل كانت‬
‫سالبة في بعض األوقات‪ .‬ويبدو ان معدل الزيادة الطبيعية لسكان العالم حتى منتصف القرن الثامن‬
‫عشر كان طفيفا ً وبلغ ‪ % 0,1‬سنوياً‪ .‬طبعا ً نتج هذا من ظروف التخلف االقتصادي واالجتماعي‬
‫والثقافي والصحي والحروب والمجاعات التي كانت تعيشها البشرية آنذاك ‪ .‬وتتمثل هذه المرحلة‬
‫حاليا ً في المجتمعات الزراعية ذات البناء االجتماعي القبلي أو التقليدي المتخلف والتي لم تنتقل بعد‬
‫الى الحياة العصرية وتشمل مناطق محدودة من العالم ‪.‬‬
‫المرحلة الثانية ‪ :‬تميزت باالنخفاض في معدالت الوفيات لكن معدالت الوالدات لم تنخفض‬
‫بشكل اساسي في المراحل االولى للثورة الصناعية ‪ .‬وحسب نوتيستين فقد انخفضت معدالت الوفيات‬
‫في أعقاب الثورة الصناعية ألنها أحدثت تغيرات مادية في ما يخص التطور الزراعي واتصاالت‬
‫سن في طرق عالج االمراض‬ ‫سن في الظروف الصحية ‪ ،‬خاصة التح ّ‬ ‫أفضل وإنتاجية عالية وتح ّ‬
‫المعدية التي كانت تع ّد من األسباب الرئيسية الرتفاع معدالت الوفيات ‪ ،‬لكن الخصوبة كانت أقل‬
‫‪1‬‬
‫استجابة لمثل هذا التحديث ‪ .‬وخالل القرن التاسع عشر ومع انتشار الثورة الصناعية ‪ّ ،‬‬
‫تعزز بقوة‬
‫انخفاض معدالت الوفيات نتيجة االنخفاض الحاد في معدالت وفيات الرضّع واألطفال مع زيادة مهمة‬
‫في العمر المتوقع ‪ .‬وبما ان معدالت الوالدات استمرت عالية ‪ ،‬تسارعت بشكل أساسي معدالت‬
‫الزيادة الطبيعية في الدول االوروبية الغربية المتقدمة ‪ ،‬حيث وصلت أكثر قليالً من ‪ % 1‬كمتوسط‬
‫سنوي‪ .‬بينما دخلت الدول النامية هذه المرحلة متأخرة ولكن بسرعة مستفيدة من التقدم الحاصل في‬
‫مجال الطب الوقائي والعالجي وال يزال الكثير منها يمر بها ‪ ،‬حيث يكون معدل نمو السكان أكثر‬
‫من ‪ % 2‬سنويا ً ‪.‬‬

‫وبدأت المرحلة الثالثة بعد الحرب العالمية األولى وتميزت باالنخفاض الواضح للخصوبة‬
‫مترافقة مع استمرار االنخفاض في معدالت الوفيات حيث قادت الى انخفاض معدالت الزيادة الطبيعية‬
‫في الدول المتقدمة ‪.‬‬

‫اما المرحلة الرابعة فقد بدأت منذ السبعينات حيث استمرت معدالت الزيادة الطبيعية منخفضة‬
‫جدا ً في الدول االوروبية اضافة الى الدول الصناعية االخرى ‪ .‬وخالل العقد الماضي استمرت‬
‫معدالت الزيادة الطبيعية منخفضة جدا ً في معظم دول االتحاد االوروبي حتى اقتربت من الصفر ‪،‬‬
‫وهو ما يسمى ‪ . zero population order‬هذه المرحلة من التحول الديموغرافي لها انعكاسات‬
‫اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة على هذه الدول في المدى القصير والطويل ‪.‬‬

‫سر النظرية الديموغرافية تلك التغيرات السكانية بتغيرات بنائية تتض ّمن تغيرات اقتصادية‬ ‫وتف ّ‬
‫ظر الى االتجاهات الديموغرافية ‪ ،‬وخاصة انخفاض معدالت الخصوبة‬ ‫واجتماعية وسلوكيّة ‪ .‬ويُن َ‬
‫على أنها استجابة لتغيرات بنائية متباينة لعملية التحديث‪ .‬وبذلك أصبح من الضروري ‪ ،‬لفهم مستويات‬
‫الخصوبة ‪ ،‬أنجز الديموغرافيون األميركيون نظرية موحدة تبدو قادرة على تفسير االتجاهات‬
‫الديموغرافية على المستوى العالمي وتميزت بالربط بين الظواهر الديموغرافية والظروف الجتماعية‬
‫واالقتصادية ‪.‬‬

‫وهي بذلك تُعد من أوائل النظريات السكانية المتخصصة التي استهدفت موضوع السكان ‪،‬‬
‫وقد فتحت هذه النظرية المجال امام علماء السكان لمزيد من الدراسات للتأكد من مدى مالءمتها‬
‫ل لمجتمعات المتخلفة ذات الثقافات المتباينة وصالحية تطبيقها على أزمنة تاريخية اختلفت ظروفها‬
‫وأوضاعها السياسية واالقتصادية والتي انعكست بالطبع على االوضاع االجتماعية والسكانية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫الســــكان والـــغذاء‬

‫تظهر أهمية الغذاء الكامل على صحة ونمو االنسان وأثره في انخفاض كفاءة العمل وتدني‬
‫مستوى صحته ‪ .‬ويُعتبر توفير الغذاء من أبرز المشاكل التي يعاني منها عالم اليوم الذي يواجه الكثير‬
‫من التحديات الخطيرة ‪ .‬وتبعا ً لمعطيات األمم المتحدة ( ‪ ، ) 2009‬فان سبعة ماليين طفل في العالم‬
‫ثوان ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫يموتون سنويا ً بسبب الجوع ‪ ،‬أي ‪ 17‬ألف طفل في اليوم ‪ ،‬بما معدّله طفل واحد كل خمس‬
‫إن ذلك يحدث في وقت يُنتج فيه العالم من الغذاء اليوم ما يكفي إلطعام كل سكان الكوكب ‪.‬‬
‫المشكلة اذا ً ليست في االنتاج وزيادة فعاليته ‪ ،‬بل في التوزيع ‪ .‬فنحن اليوم ال نعيش في عالم الندرة ‪.‬‬
‫حررت المجتمع من " الندرة االقتصادية " ‪ ،‬وأزالت التناقض بين تزايد عدد‬ ‫إذ أن الثورة الصناعية ّ‬
‫السكان وبين توافر الغذاء ‪ .‬فقد بات االقتصاد العالمي قادرا ً على انتاج كميات من السلع والغذاء‬
‫والثروات ‪ ،‬بحيث يمكن تأمين الحاجات األوليّة لجميع سكان العالم وإبعاد خطر المجاعة عنهم ‪.‬غير‬
‫ان المشكلة ‪ ،‬كما ذُكر ‪ ،‬ال تقع في دائرة االنتاج ‪ ،‬بل في التوزيع المتفاوت للثروات واإلمكانات ‪.‬‬
‫ومشكلة الغذاء ليست تحدّيا ً للنظام االقتصادي فحسب ‪ ،‬إنما لكافة األنظمة االجتماعية‬
‫والسياسية واألمنية ‪ ،‬إذ ال استقرار وال أمان في عالم تهدّده المجاعة وتنتهكه أمراض سوء التغذية ‪.‬‬

‫‪ 1‬ــ في مفهوم األمن الغذائي‬

‫هناك عدّة تعريفات لألمن الغذائي ‪ ،‬إال أن التعريف األكثر تداوالً هو ‪ " :‬قدرة المجتمع على‬
‫توفير احتياجات التغذية األساسية ألفراد الشعب ‪ ،‬وضمان حدّ أدنى من تلك االحتياجات بانتظام "‪.‬‬
‫كما أن مفهوم األمن الغذائي يعني ان تكون البالد في وضع يم ّكنها من تلبية حاجات المواطنين‬
‫الغذائية خاصة في األوقات الحرجة الناجمة عن نقص مفاجئ في االنتاج لسبب غير متوقّع كالجفاف‬
‫معوقات لالستيراد غيرمنتظرة لسبب اقتصادي أو سياسي ‪ ،‬مثل التوقّف‬ ‫أو الفياضانات أو لحصول ّ‬
‫عن التصدير في بلد المنشأ ‪ ،‬أو لتدهور القوة الشرائية للبلد بسبب التقلّص في الدخل القومي ‪...‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ 2‬ــ جوهر المشكلة‬

‫تعتبر المشكلة الغذائية في العالم من أبرز المشكالت التي تواجهها البشرية ‪ ،‬ال بل ربما من‬
‫تمس مباشرة ً حياة مئات الماليين من الناس وبقاءهم ‪ .‬وت ُظهر‬
‫أكثرها حدّة في عصرنا الراهن ‪ ،‬كونها ّ‬
‫معطيات منظمة األغذية والزراعة التابعة لألمم المتحدة ( ‪ ) FAO‬حدّة المشكلة الغذائية وحجمها ‪،‬‬
‫حيث تشير هذه المعطيات الى ان عشرات الماليين في العالم مهدّدون بالموت اليوم ‪ ،‬بسبب الجوع‬
‫واألمراض الناجمة عن سوء التغذية ‪ .‬فمئات الماليين يعانون الجوع ‪ ،‬في حين ان أكثر من مليار‬
‫ونصف مليار انسان يتحملون مختلف أشكال سوء التغذية ‪ ،‬بما في ذلك ما يس ّمى سوء التغذية " غير‬
‫المرئي " ‪ ،‬أو " الجوع الخفي "‪ .‬وث ّمة تقديرات تفيد بأن ربع أطفال البلدان المتخلفة وبعض بلدان‬
‫الدول النامية يعانون " سوء التغذية غير المرئي " ‪ ،‬وهذا ما ينعكس سلبا ً على صحة الناس ‪ ،‬وينجم‬
‫عنه انخفاض نسبي في نوعية اليد العاملة وكفاءتها ‪.‬‬
‫تبرز حدّة المشكلة الغذائية نتيجة لطابعها المتناقض ‪ .‬فمن جهة يؤدي الجوع الى هالك‬
‫تطور القوى المنتجة والتطورات العلميّة والتكنولوجية‬ ‫الماليين‪ ،‬ومن جهة أخرى ‪ ،‬فإن مستوى ّ‬
‫المستخدمة في االنتاج الزراعي ‪ ،‬تجعل االنتاج العالمي من المواد اللغذائية قادرا ً عموما ً على تلبية‬
‫الحاجات الغذائية لسكان العالم ‪.‬‬
‫وللمشكلة الغذائية خصائصها في الدول ذات األنظمة االجتماعية المختلفة ‪ ،‬فهي تتّسم بالحدّة‬
‫في البلدان المتخلفة والنامية ‪ ،‬نظرا ً لإلرث االستعماري وما خلّفه من نمط انتاج في هذه البلدان ‪،‬‬
‫قاصر بنيويا ً عن تلبية الحاجات الغذائية ‪ .‬ولكن هذا ال يعني ان المشكلة الغذائية غير قائمة في البلدان‬
‫المتقدمة ‪ ،‬إال أن طابعها هناك يختلف عنه في البلدان النامية ‪ .‬فهي في البلدان المتقدمة ذات طابع‬
‫اجتماعي ‪ ،‬توزيعي ‪ ،‬ناجم عن التمايز االجتماعي في تلك البلدان ‪ ،‬حيث أن قسما ً من السكان يعاني‬
‫سوء التغذية ‪ ،‬على الرغم من وجود فائض كافٍ من الموارد الغذائية فيها ‪.‬‬
‫ان المشكلة الغذائية هي ذات بعد عالمي شامل ( كوني ) ‪ ،‬سواء من حيث طابعها االنساني ‪،‬‬
‫أم من حيث ترابطها الوثيق مع المه ّمة المعقّدة ‪ ،‬المتمثلة بتذليل التخلّف االقتصادي واالجتماعي في‬
‫الدول المستع َمرة سابقا ً والتابعة ‪ .‬فعدم تلبية الحاجات الغذائية لعدد كبير من سكان البلدان المتخلفة‬
‫والنامية ال يش ّكل عائقا ً أمام فرص التقدّم وحسب ‪ ،‬بل هو في الواقع مصدر دائم لعدم االستقرار‬
‫االجتماعي والسياسي وللنزاعات في هذه البلدان ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ 3‬ــ مالتوس والمالتوسيون الجدد‬

‫أ ّكد توماس روبرت مالتوس ‪ ،‬الباحث واالقتصادي االنكليزي ‪ ،‬أن ث ّمة عالقة وطيدة بين‬
‫وتطور كميّة االنتاج ‪ .‬وقد زعم بأن نمو عدد السكان يفوق الزيادة في انتاج المواد‬
‫ّ‬ ‫تطور عدد السكان‬
‫ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الغذائية ‪ ،‬قائال بحتميّة النقص في المواد الغذائية نسبة الى زيادة عدد السكان ‪ ،‬إذ " ان قوة السكان‬
‫على التناسل أعظم من قوة األرض على انتاج القوت لالنسان "‪ .‬فقد اعتبر مالتوس ان عدد السكان‬
‫يزيد وفق متوالية هندسية ‪ ،‬بينما يزيد االنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية ‪ ،‬مما يؤدي حتما ً الى‬
‫نقص الغذاء ‪.‬‬
‫أثارت نظريته حول السكان ض ّجة كبيرة ‪ ،‬حيث جاء فيها ان الشخص الذي ليس له من يعيله‪،‬‬
‫والذي ال يستطيع أن يجد عمالً له في المجتمع ‪ ،‬سوف يجد أن ليس له نصيب من الغذاء على أرضه‬
‫وأن الطبيعة تأمره بمغادرة الزمن ‪.‬‬
‫ويؤكد المالتوسيون الجدد ( وهم من مناصري مالتوس ) أن هناك ارتباطا ً وثيقا ً بين المشكلة‬
‫السكانية والمشكلة الغذائية في العالم ‪ ،‬معتبرين بأن نمو سكان الكوكب يجري اليوم بوتيرة أسرع‬
‫بكثير من وتيرة نمو انتاج المواد الغذائية ‪ .‬فيرى وليام بلوم ‪ William Blum‬ان عدد سكان الكوكب‬
‫تض ّخم على نحو مبالغ فيه ‪ ،‬ويقترح تخفيض نسبة الوالدة بصورة حادّة ‪.‬‬
‫ولتعليل رأيهم يقول المالتوسيين الجدد بأن البشرية احتاجت الى ‪ 4‬ماليين سنة لكي يصل‬
‫ملياري نسمة ‪ ،‬والى ‪ 46‬سنة لتضيف الى عددها مليارين آخرين ‪ ،‬ثم الى ‪ 22‬سنة فقط‬ ‫َ‬ ‫عددها الى‬
‫لكي تضيف المليارين التاليين ‪ .‬ال ينفي المالتوسيون الجدد بأن نمو انتاج المواد الغذائية في الماضي‬
‫جرى على نحو أسرع من نمو عدد السكان ‪،‬األمر الذي أتاح زيادة حصة الفرد من المواد الغذائية ‪،‬‬
‫وذلك بفضل التطور التكنولوجي في المجال الزراعي ‪ .‬غير أنهم يزعمون بأن بداية القرن الحادي‬
‫والعشرين شهدت أمرين جديدين مثيرين للقلق في ما يتعلق بانتاج المواد الغذائية ‪.‬أولهما تمثّل في ان‬
‫نمو انتاج المواد الغذائية أخذ يتباطأ تدريجيا ً ‪ ،‬مقترنا ً بعوائق منها تخفيض كلفة االنتاج وبالتالي‬
‫األسعار ‪ .‬والثاني ‪ ،‬تمثّل في ارتفاع الكلفة البيئية التي تدفعها الطبيعة والبشرية لقاء زيادة االنتاج‬
‫الزراعي ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪ 4‬ــ العوامل المؤثرة على الوضع الغذائي‬

‫ردا ً على هذه المزاعم ‪ ،‬يقول فريد ماغدوف ‪ Fred Magdoff‬أنه ال توجد أية عالقة بين‬
‫مئات ماليين الجياع في العالم ونمو السكان ‪ .‬فالسبب الفعلي يكمن في النظام الرأسمالي وفي آلية‬
‫عمله والعالقات االنتاجية ـ االجتماعية في داخله ‪ .‬ويؤكد بان ما يُنتج في الواليات المتحدة االميركية‬
‫من مواد غذائية يفيض عن حاجة سكانها ‪ ،‬ومع ذلك يبقى الجوع مشكلة خطيرة ‪ .‬ولو تقلّص عدد‬
‫سكانها الى النصف ‪ ،‬فان الفائض في المواد الغذائية سيزيد ولكن الجوع لن يزول ‪ ،‬وسيبقى َمن‬
‫يعاني الجوع وسوء التغذية حتى في الواليات المتحدة ‪.‬‬
‫وخالفا ً لمزاعم المالتوسيين ـ القدامى والجدد ـ هناك عوامل حقيقية تؤثر على الوضع الغذائي‬
‫وتساهم في تفاقم المشكلة الغذائية ‪ ،‬وال سيما في البلدان المتخلفة والنامية ‪:‬‬

‫تكون تاريخيا ً ‪ ،‬وموقع البلدان‬


‫أولا ‪:‬ان أول هذه األسباب يكمن في التقسيم الدولي للعمل الذي ّ‬
‫في االقتصاد العالمي والتجارة الدولية ‪ ،‬والوضع الذي وجدت هذه البلدان نفسها فيه نظرا ً لإلرث‬
‫االستعماري وما خلّفه من نمط انتاج فيها‪ ،‬اتُّفق على تسميته " نمط االنتاج الكولونيالي "‪ ،‬نمط االنتاج‬
‫صص في انتاج عدد محدّد من السلع التقليدية ( منتجات‬ ‫لمشوه األحادي الجانب الذي يقوم على التخ ّ‬ ‫ا ّ‬
‫زراعية ‪ ،‬مواد أولية ) أو تلك المو ّجهة للتصدير والمرتبطة الى حدّ التبعيّة الكاملة القتصادات البلدان‬
‫الصناعية المتقدمة‪.‬‬
‫ان تخلّف العديد من البلدان ‪ ،‬الذي يتجلّى في تد ّني مستوى تطور القوى المنتجة في الزراعة‬
‫صصها الضيّق في مجالَي الزراعة وانتاج المواد األولية ‪ ،‬وفي فقر السواد األعظم من‬ ‫وفي تخ ّ‬
‫السكان وضعف قدراتهم الشرائية ‪ ،‬يفاقم بدوره المشكلة الغذائية في هذه البلدان ‪ .‬فضالً عن ذلك فان‬
‫تركيز بعض هذه البلدان على انتاج السلع الزراعية المخصصة للتصدير ‪ ،‬مهيئةً لها أفضل األراضي‬
‫وأكثرها خصوبة على حساب المواد الغذائية التي ال تزال تنتَج بالطريقة التقليدية والبدائية والتي‬
‫تتأثر الى حدّ كبير بالظروف المناخية ‪ ،‬كل ذلك يجعل انتاجية العمل في القطاع الزراعي لغالبية‬
‫البلدان النامية متدنية جدا ً ‪.‬‬

‫ثانيا ا ‪:‬السبب الجوهري الذي يف ّ‬


‫سر عمق األزمة الغذائية ‪ ،‬يتمثل في السياسات النيوليبرالية‬
‫المطبّقة ( تحرير التجارة في جميع الجوانب ‪ ،‬إنفالت حركة رؤوس األموال عبر الحدود دون أية‬
‫ضوابط أو قيود ‪ ،‬تفاقم مشكلة الديون الخارجية لبعض بلدان الجنوب ‪ ،‬خصخصة الخدمات العامة‪)...‬‬
‫وكذلك في النموذج الزراعي والغذائي الذي يخدم منطق الرأسمالية ‪ .‬فقد أدّت السياسات "التنموية"‬

‫‪4‬‬
‫االقتصادية التي تقودها بلدان الشمال منذ الستينات ( الثورة الخضراء ‪ ،‬اتفاقيات التجارة الحرة‬
‫االقليمية ‪ ،‬سياسات منظمة التجارة العالمية ‪ ،‬سياسات الدعم المباشر وغير المباشر للقطاع الزراعي‬
‫في بلدان الشمال‪ )...‬الى تدمير األنظمة الغذائية ‪.‬‬
‫روجت لها مختلف‬ ‫فبين الستينات والسبعينات ‪ ،‬حدث ما يسمى " الثورة الخضراء " التي ّ‬
‫المؤسسات الدولية ومراكز األبحاث الزراعية بهدف تحديث الزراعة في البلدان غير الصناعية ‪،‬‬
‫فكانت نتائجها جيدة من حيث زيادة االنتاج ‪ ،‬لكن هذه الزيادة لم يكن لها تأثير مباشر في الحدّ من‬
‫الجوع في العالم ألنها لم تغيّر من تر ّكز السلطة االقتصادية ولم ّ‬
‫تعزز القوة الشرائية ‪ .‬وقد ترتّب عن‬
‫الثورة الخضراء آثار سلبية جانبية على الفالحين الفقراء والمتوسطين ‪ ،‬وعلى األمن الغذائي في‬
‫المدى الطويل ‪ .‬وزادت هذه الثورة من قوة شركات األعمال الزراعية في السوق ‪ ،‬وتسبّبت في فقدان‬
‫التنوع الزراعي ‪ ،‬وقلّصت بشكل واسع منسوب المياه ‪ ،‬وزادت من الملوحة وتآكل التربة‪،‬‬ ‫‪ %90‬من ّ‬
‫وشردت الماليين من الفالحين من الريف الى الضواحي الفقيرة للمدن وخلقت أحزمة البؤس التي‬ ‫ّ‬
‫تلفّها ‪ ،‬في حين تف ّككت األنظمة الغذائية الزراعية التقليدية التي تكفل األمن الغذائي ‪.‬‬

‫ثالثا ا ‪ :‬والسبب الثالث الذي ال يق ّل أهمية في ظهور المشكلة الغذائية وتفاقمها ‪ ،‬يتمثّل في‬
‫الدور الذي تضطلع به الشركات العابرة للقوميات في االقتصاد العالمي وفي اقتصادات البلدان النامية‬
‫تحديدا ً ‪ .‬فهذه الشركات فرضت نفسها كالعب رئيس في أسواق المواد الغذائية انتاجا ً وتسويقا ً ‪ ،‬حيث‬
‫تمارس احتكار المواد الغذائية وتستخدمها في حاالت عديدة كسلعة للمضاربة في أسواق أخضعت‬
‫كل شيء للتسليع ولمنطق الربح ‪ :‬األرض والمياه والغذاء والدواء ‪.‬‬
‫وأصبحت الشركات العابرة للقوميات تسيطر اليوم على مساحات شاسعة من األراضي في‬
‫األرياف في البلدان النامية ‪ ،‬سواء من خالل شرائها أو استئجارها لسنوات طويلة بمبالغ رمزية ‪ ،‬أو‬
‫من خالل الدخول كشريك مع جهات داخلية غالبا ً ما تكون قريبة من مراكز القرار في السلطة في‬
‫البلد المعني ‪ .‬فتكسر هذه الشركات بنشاطها نمط االنتاج الزراعي التقليدي المتوارث في هذا البلد ‪،‬‬
‫وتعيد توجيه الزراعة فيه باتجاه زراعات عصرية ( تصنيعية أو ترفيهية ) مو ّجهة نحو التصدير ‪،‬‬
‫حارمة السكان المحليين زراعاتهم التي تؤ ّمن حاجاتهم الغذائية الضرورية ‪ ،‬مع ما ينطوي عليه ذلك‬
‫من تهديد لألمن الغذائي في البلدان النامية ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫رابعا ا ‪ :‬تجدر االشارة الى أن أسبابا ً أخرى عديدة ومتداخلة تساهم أيضا ً في ارتفاع أسعار‬
‫صلة الرتفاع كلفة االنتاج الزراعي على المستوى العالمي ‪ ،‬ومن ث ّم الى تفاقم‬‫المواد الغذائية ‪ ،‬كمح ّ‬
‫المشكلة الغذائية ‪ .‬فالنمو السريع الذي تشهده اقتصادات بلدان كبيرة كالصين والهند ‪ ،‬فضالً عن بلدان‬
‫أخرى ‪ ،‬وتسارع وتيرة التصنيع فيها أدى من جهة ‪ ،‬الى ارتفاع مستوى المعيشة في هذه البلدان ‪،‬‬
‫ومن ثم الى ازدياد حجم استهالك المواد الغذائية فيها ‪ .‬كما أدّى ‪ ،‬من جهة أخرى ‪ ،‬الى تسارع الطلب‬
‫مكونات أساسية لإلنتاج‬ ‫على النفط فيها وبالتالي الى ارتفاع أسعاره ‪ ،‬ومن ثم الى ارتفاع أسعار ّ‬
‫الزراعي ‪ ،‬كالوقود وزيوت اآلالت واألسمدة والمبيدات ‪ .‬كما ان ارتفاع أسعار الوقود يؤدي بدوره‬
‫الى ارتفاع كلفة نقل المنتجات الغذائية الى األسواق ‪ ،‬ومن ثم الى ارتفاع في أسعارها ‪.‬‬

‫خامسا ا ‪ :‬ومن األمور التي تضطلع بدور كبير في تفاقم مشكلة الغذاء في البلدان النامية أيضاً‪،‬‬
‫تحول بعضها الى مصدر للمنتجات‬ ‫تطورتكنولوجيا االنتاج الزراعي في البلدان المتطورة التي ّ‬ ‫ّ‬
‫تحولت بموجبه دول‬ ‫الزراعية والمواد الغذائية ‪ .‬أي أن ما نشهده من تبدّل في التقسيم الدولي للعمل ‪ّ ،‬‬
‫صناعية متطورة الى التخصص في انتاج سلع زراعية على أسس علميّة وتكنولوجية حديثة‬
‫وتصديرها الى البلدان األخرى بما فيها البلدان النامية ‪ ،‬وبأسعار مرتفعة ‪ .‬ويقترن ذلك مع لجوء‬
‫حكومات الدول الصناعية المتقدمة ‪ ،‬سواء في االتحاد االوروبي أو الواليات المتحدة أو اليابان ‪ ،‬الى‬
‫تقديم الدعم المباشر لمزارعيها ‪.‬‬

‫سادسا ا ‪ :‬تسار ع ظاهرة " التمدين " في البلدان النامية ‪ ،‬أي نزوح أعداد كبيرة من سكان‬
‫تلف هذه المدن ‪ ،‬مع ارتفاع نسبة البطالة فيها‬
‫األرياف الى المدن وتج ّمع قسم منهم في أحزمة بؤس ّ‬
‫الى مستويات غير مسبوقة ‪ ،‬وتقلّص عدد العاملين في القطاع الزراعي وانتقال الفئات األكثر حيوية‬
‫ونشاطا ً اقتصاديا ً الى قطاعات االقتصاد األخرى غير المنتجة للمواد الغذائية ‪ ،‬وإهمال مساحات‬
‫واسعة من األراضي في األرياف ‪ .‬وهي أمور تؤدي الى تراجع االنتاج الزراعي في عدد كبير من‬
‫البلدان النامية ‪ ،‬وبالتالي الى تقلّص إمكانات التأمين الغذائي لسكانها ‪.‬‬

‫سابعا ا ‪ :‬الجفاف وغيره من الظواهر المرتبطة بتغيّر المناخ في بلدان منتجة كالصين‬
‫وبنغالدش واستراليا أثّرت على المحاصيل وعلى انتاج المواد الغذائية ‪ .‬كما أن التغيرات في العادات‬
‫الغذائية ( وفق نمط االستهالك الغربي ) نظرا ً لالرتفاع في معدالت النمو االقتصادي والتطور في‬
‫مستوى المعيشة في بعض البلدان من شأنه أن يفاقم المشكلة الغذائية ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫العالم العربي والمشكلة الغذائية‬

‫بحكم انتمائه الى العالم الثالث ‪ ،‬فان الوطن العربي ليس ببعيد عن المخاطر التي تهدّد األمن‬
‫الغذائي حيث تُعتبر البلدان العربية من أكثر مناطق العالم اعتمادا ً على الخارج في الحصول على‬
‫الغذاء ومن أكثرها تأثّرا ً بمشكلة الغذاء العالمية وأشدّها تضررا ً ‪ .‬واألزمة الغذائية في العالم العربي‬
‫لم تكن الى حدّ كبير ـ وحتى الى عهد قريب ـ مشكلة نقص أو ش ّح في المواد المتاحة ‪ ،‬وال نموا ً‬
‫سكانيا ً متسارعا ً أو عجزا ً في االمكانات المالية ‪ ،‬إنما هي بالدرجة االولى فشل أو خلل في السياسات‬
‫الزراعية وسوء استغالل لما هو متاح من موارد في العالم العربي ‪ .‬هذه السياسات التي تمثّل جزءا ً‬
‫من مسألة التنمية في جوهرها ‪.‬‬
‫مقومات‬
‫وبالرغم مم ا يعانيه العالم العربي من مشكلة غذائية آخذة في االتساع ‪ ،‬فإنه يملك ّ‬
‫سد في الطاقات الماديّة التي تحويها مكامن األرض الواسعة وتربتها الزراعية الخصبة‬
‫وإمكانات تتج ّ‬
‫التي لو استُثمرت بشكل موضوعي وعلمي ألنتجت من الخيرات ما يكفي لسكان الكثير من دول‬
‫العالم ‪.‬‬
‫فالسودان ‪ ،‬لو استُثمرت تربته الزراعية باستخدام التقنيات الحديثة التي تستخدم في البلدان‬
‫المتطورة ‪ ،‬فإنها ستؤ ّمن الغذاء للوطن العربي بأكمله ‪ .‬واذا علمنا ان أق ّل من ‪ %1‬من األراضي‬
‫الزراعية يُسثمر بشكل سليم ‪ ،‬سنشعر بمدى الخلل القائم في الوطن العربي بالنسبة الستثمار طاقاته‬
‫المادية الزراعية ‪.‬‬
‫كما يملك العالم العربي م وارد مائية غزيرة ‪ ،‬فلديه أضخم األحواض النهرية في العالم ‪ ،‬حيث‬
‫تؤكد االحصاءات بأن نقص الرقعة الزراعية المروية ال يعود الى قلّة المياه وندرتها بقدر ما يعود‬
‫الى سوء استغاللها ‪.‬‬
‫أما من الناحية البشرية ‪ ،‬فالعالم العربي يملك طاقات بشرية تتش ّكل منها ّ‬
‫قوة انتاجيّة هامة فيما‬
‫لو استُثمرت بشكل عقالني سليم وبعيد عن الهدر والضياع ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫الفجوة الغذائية‬

‫بدأت الدول العربية تعاني من فجوة غذائية منذ سبعينات القرن الماضي وال زالت هذه الفجوة‬
‫تزداد اتساعا ً ّ‬
‫باطراد ‪ .‬وتُعدّ هذه الدول من أكثر دول العالم استيرادا ً للحبوب ‪ ،‬مع أن خصوبة تربتها‬
‫الزراعية من المفترض أن تجعلها المصدر األول لها ‪ ،‬يُضاف الى ذلك سوء تخزين المواد الغذائية‬
‫وخطر اآلفات والحشرات ‪ .‬ويُقدّر ان ‪ 10‬ـ ‪ % 30‬من انتاج الحبوب ال يُستهلك نتيجة سوء التخزين‪.‬‬
‫وقد انخفض االكتفاء الغذائي العربي بحيث تر ّكز هذا االنخفاض في المواد األساسية كالقمح واللحوم‬
‫وتحول العالم العربي الى أول منطقة في العالم عاجزة عن تأمين متطلباتها الغذائية ‪ .‬ولسدّ‬
‫ّ‬ ‫والس ّكر‪،‬‬
‫العجز في انتاج الغذاء ‪ ،‬اضطر العالم العربي الى االستيراد من الخارج ‪ .‬هذا االستيراد يتزايد كل‬
‫عام من حيث الكمية والقيمة ‪ ،‬مما فرض واقعا ً جديدا ً على الدول العربية وأوقعها في أزمات ومشاكل‬
‫هي في غنى عنها ‪ ،‬فالحبوب والسلع الغذائية المستوردة تدفع الدول ثمنها بالعمالت الصعبة التي‬
‫كانت مخصصة لألغراض االنمائية ‪...‬‬
‫يعتبر التزايد ا لسكاني الذي يشهده العالم العربي من أبرز أسباب الفجوة الغذائية ‪ ،‬فحجم‬
‫السكان يشهد تسارعا ً ملحوظا ً بمعدل بلغ تقريبا ً حوالي ‪ %3‬سنويا ً عام ‪ ، 2000‬وهو معدل يفوق‬
‫متوسط معدالت نمو االنتاج الزراعي في نفس الفترة ‪ ،‬مما أدى الى اختالالت على مستوى العرض‬
‫والطلب على الغ ذاء ‪ .‬كما ان هذا التزايد للسكان رافقه تغيير جوهري في توزيع السكان بين الريف‬
‫والحضر ‪ ،‬فقد أدّت الهجرة الريفية الى المدن داخل البلد الواحد الى تزايد كبير لسكان المدن وحرمان‬
‫القطاع الزراعي في المناطق الريفية من اليد العاملة ‪ ،‬وبالتالي الى تراجع االنتاج الزراعي فيها ‪.‬‬
‫وال تعود أسباب الفجوة الغذائية في العالم العربي الى عدد السكان فقط ‪ ،‬بل ترجع أساسا ً الى‬
‫التجزئة والتشتت الذي تعيشه بلدانه والى توزيع السكان فيه بشكل غير منتظم ‪ ،‬مما ينعكس سلبا ً على‬
‫االنتاج الغذائي وبالتالي توفير الغذاء لسكانه ‪ .‬وتظهر أسباب الفجوة الغذائية في إخفاق الدول العربية‬
‫في اتّباع خطط تنمية سليمة وخاصة في اإلصالح الزراعي ‪ ،‬وفي وضع سياسة تخطيط قوميّة‬
‫مشتركة لمواجهة المشكالت الغذائية والنقص الغذائي ‪ .‬هذا وقد ُوض َعت في الدول العربية سياسات‬
‫شطه ‪ ،‬بقدر ما تخدم القطاع الصناعي ‪ .‬كما ان التبادل التجاري‬‫ال تخدم القطاع الزراعي وتدعمه وتن ّ‬
‫العربي ضعيف مقارنةً بالتبادل التجاري مع الدول األجنبية ‪.‬‬
‫هذا الى جانب االسباب الطبيعية ومنها نوعية التربة ‪ ،‬حيث تتميز األراضي الزراعية المرويّة‬
‫بنسبة ملوحة عالية تؤدي الى تدهور االنتاج وخاصة بالنسبة الى محاصيل الحبوب ‪ .‬ويُذكر ان اكثر‬
‫من ‪ % 85‬من األتربة الزراعية تعتمد أساسا ً في استثمارها على مياه األمطار ‪ ،‬وهذا يؤدي الى‬
‫تقلّب االنتاج الزراعي وعدم استقراره وتعطيل استخدام وسائل االنتاج الحديثة في االنتاج الزراعي‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫اما االسباب المالية فتظهر في افتقار العالم العربي الى المال الذي يسمح له باستصالح‬
‫األراضي وزيادة االنتاج وتطويره ‪ .‬وحتى لو توفرت هذه األموال ‪ ،‬فال يُستفاد منها في مشاريع‬
‫تنموية ‪.‬‬
‫وأخيرا ً ‪ ،‬تلعب االسباب التكنولوجية دورا ً بارزا ً في تعميق األزمة الغذائية من خالل عجز‬
‫العديد من الدول العربية عن استخدام التكنولوجيا المتطورة والحديثة في المجال الزراعي لزيادة‬
‫االنتاج وبالتالي لسد الفجوة الغذائية أو تقليصها الى أدنى حدّ ممكن ‪.‬‬

‫‪9‬‬

You might also like