You are on page 1of 38

‫‪ 06‬ﻳﻮﻟﻴﻮ ‪2017‬‬ ‫ﻗﺴﻢ اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ‬ ‫ﺑﺤﺚ ﻣﺤﻜﻢ‬

‫‪All rights reserved © 2017‬‬ ‫ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ © ‪2017‬‬


‫ّ‬
‫امللخص‪:‬‬
‫تعاني الثقافة العربيَّة اإلسالميَّة منذ ّ‬
‫تشكلها من أزمة الهويَّة‪ .‬بل َّ‬
‫إن هذه المشكلة صارت في القرنين‬
‫معياري العروبة واإلسالم‬
‫َ‬ ‫ظل مرتكزاً باألساس على‬‫أن خطاب الهويَّة َّ‬
‫األخيرين قضيَّة كيانيَّة أصليَّة‪ .‬غير َّ‬
‫ومشحوناً باالنفعاالت‪ .‬وقد أ َّدى تغييب التّشخيص العقالني إلى تفاقم األزمة على جميع األصعدة‪ ،‬كما حال‬
‫االعتقاد بوجود هويَّات صافية دون ممارسة النّقد الموضوعي لألنا ولآلخر‪ ،‬ووضع مح ّددات واضحة‬
‫أن مسألة الهويَّة وجوديَّة في نهاية المطاف‪ ،‬فإنَّه ال ب َّد‬
‫وتص ُّورات تفضي إلى هويَّة مستقرَّ ة ومتوازنة‪ .‬وبما َّ‬
‫بالذات وباآلخر في الوقت ذاته ومن مساءلة مفهوم الهويَّة باستمرار‪.‬‬ ‫من الوعي َّ‬

‫السليم لمأزق الهويَّة في الثقافة العربيَّة اإلسالميَّة يقتضي التنقيب عن األسباب الكامنة‬ ‫َّ‬
‫إن التشخيص ّ‬
‫وراء األزمة والكشف عن تجلياتها في شتَّى الميادين تمهيداً لمجابهتها وإيجاد الحلول الكفيلة للخروج منها‪.‬‬
‫سينكب البحث في مرحلة أولى على رصد أسباب األزمة ال َّداخلية كالعوامل العقديَّة الفكريَّة ّ‬
‫والسياسيَّة‬ ‫ُّ‬ ‫لذلك‬
‫والصراع‬
‫ّ‬ ‫واالقتصاديَّة االجتماعيَّة من ناحية‪ ،‬ث َّم األسباب الخارجيَّة مثل االستعمار والحرب الباردة والعولمة‬
‫الضوء في مرحلة ثانية على تداعيات األزمة على أه ّم‬ ‫العربي اإلسرائيلي من ناحية أخرى‪ .‬كما سيسلّط َّ‬
‫المستويات الحضاريَّة الثقافيَّة واالقتصاديَّة االجتماعيَّة والسيّاسيَّة العسكريَّة‪ .‬أمَّا المرحلة األخيرة من العمل‬
‫فإنَّها ستستشرف الهويَّة باقتراح خطوتين متزامنتين‪ :‬أوالهما نقد الذات‪ ،‬وثانيتهما نقد اآلخر‪.‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪2‬‬
‫املقدّمة‬

‫فإن ذلك ال يعني أنَّها كانت‬


‫الصدمة الحضاريَّة إبَّان حملة نابليون‪َّ ،‬‬
‫لئن لم تطرح مسألة الهويَّة بش َّدة قبل َّ‬
‫أن في الوقائع التاريخيَّة ما يشي بعمق أزمة الهويَّة‪،‬‬ ‫مغيَّبة عن األذهان طيلة التّاريخ العربي اإلسالمي‪ ،‬إذ َّ‬
‫وإذا ما كانت قضيَّة الهويَّة ضاربة في القدم‪ ،‬فإنَّها قد طفت على سطح الثقافة العربيَّة اإلسالميَّة منذ أكثر‬
‫من مئتي سنة‪ ،‬لتصبح أكثر خطورة وح َّدة‪ ،‬بل إنَّها صارت القضيَّة الكيانيَّة األصليَّة التي يواجهها الغرب‬
‫والمسلمون حتَّى يومنا هذا‪.‬‬

‫ففي ّ‬
‫ظل التح ُّوالت االجتماعيَّة واالقتصاديَّة والسياسيَّة برزت تمثّالت هويَّة األنا وهويَّة اآلخر عبر‬
‫الساحة الرمزيَّة بالبلدان العربيَّة اإلسالميَّة حديثاً‪ .‬وعلى الرّ غم من َّ‬
‫أن منشئي‬ ‫جملة من الخطابات التي أثثت َّ‬
‫هذه الخطابات قد اتّفقوا على ضرورة اإلصالح‪ ،‬فإنَّهم تعارضوا في مستوى المرجعيَّة والنّموذج المجتمعي‪،‬‬
‫الساحة الرمزيَّة قد أصبحت مح َّددة بتقابالت الفاعلين المنتجين لهذه الخطابات وبموازين قوى‬ ‫وبذلك َّ‬
‫فإن َّ‬
‫ّ‬
‫للتحكم في وجهة بناء المجتمع العربي اإلسالمي ولرسم‬ ‫ّ‬
‫المسخرة‬ ‫الصراع بينهم وبآلياته واستراتيجياته‬
‫ّ‬
‫الصور اإلدراكيَّة والبناءات‬
‫ولعل هذه الكتابات أو الخطابات لم تكن سوى جملة من ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ثقافته وتص ُّوراته‪.‬‬
‫ّ‬
‫والتشكالت الثقافيَّة الهادفة إلى تعيين هويَّة األنا وهويَّة اآلخر‪ ،‬فأنتجت بذلك أنماط صور متفرّ عة‬ ‫المعرفيَّة‬
‫تكفلت الحركات االجتماعيَّة بنمذجتها وتسويقها باعتبارها أرصدة رمزيَّة ّ‬
‫تغذيها بالتص ُّورات‬ ‫لألنا ولآلخر ّ‬
‫واالستراتيجيَّات‪.‬‬

‫ً‬
‫مجاال‬ ‫أن الهويَّة تخضع للعديد من المعطيات ويخترقها أكثر من مجال معرفي وحياتي بما ال يترك‬ ‫وبما َّ‬
‫ّ‬
‫للشك في أنَّها مسألة ّ‬
‫معقدة وشائكة‪ ،‬فإنّي سأحاول أن ألج هذه القضيَّة بسبر العوامل المؤديَّة إلى نشوء أزمة‬
‫الهويَّة في الثقافة العربيَّة اإلسالميَّة مستعرضاً إثر ذلك تداعياتها ونتائجها‪ ،‬ألخلص في األخير إلى استشراف‬
‫الهويَّة كسبيل قد يساعدنا على الخروج من بوتقة المأزق الرَّ اهن‪.‬‬

‫أو ًال‪ :‬عوامل مأزق الهو َّية‬


‫ظن الكثير من الباحثين العرب والمسلمين َّ‬
‫أن اآلخر أو الغرب وحده يتحمَّل مسؤوليَّة وضع‬ ‫يذهب في ّ‬
‫أن البحث المتأنّي يرفض مثل هذه التبريرات‬ ‫ّ‬
‫متأزمة إزاء هويَّته‪ ،‬غير َّ‬ ‫العالم العربي اإلسالمي في حالة‬
‫أن العوامل ّ‬
‫الذاتيَّة إلى جانب‬ ‫تقصي األسباب العميقة الكامنة وراء األزمات‪ ،‬فاألكيد َّ‬‫األحاديَّة‪ ،‬وينحو إلى ّ‬
‫التّأثيرات الخارجيَّة قد ساهمت بقسط وافر في اشتداد أزمة الهويَّة في الثّقافة العربيَّة اإلسالميَّة‪.‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪ -1‬األسباب ال ّداخليَّة‪:‬‬

‫أ‪ -‬عوامل عقديَّة فكريَّة‬

‫لقد انبنى موضوع الهويَّة في الفكر العربي اإلسالمي على مق ّدمات أصبحت تكتسي بفعل التّكرار طابعاً‬
‫َّ‬
‫بـ«أن الشيء ُه َو ُه َو‪ ،‬وال يمكن أن يكون هو‬ ‫مرجعيَّاً‪ ،‬إذ استند هذا الفكر إلى مبدأ الهويَّة األرسطي‪ ،‬و َترْ َج َم ُه‬
‫‪1‬‬
‫وغيره في الوقت نفسه‪ ،‬فالعصا هي العصا وال يمكنها أن تكون عصاً وثعباناً في الوقت نفسه»‪.‬‬

‫أن عنصر التَّجانس يسجّ ل حضوره مقابل غياب ّ‬


‫كل ماهو مناقض من داخل‬ ‫ويفهم من هذه التَّرجمة َّ‬
‫لكن األخذ بمثل هذا الفهم للمبدأ األرسطي في تحديد موضوع الهويَّة يطرح‬ ‫الفكرة نفسها أو الشيء ذاته‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫مثال‪.‬‬ ‫أمامنا مشكالت ع َّدة‪ ،‬ألنَّه ال يتيح لنا إمكانات متع ّددة لقراءاته كما هو نتيجة في التّرجمة الفرنسيَّة‬
‫إن اللّيث هو األسد‪ ،‬وبذلك ندرك من هذا القول حضور المماثلة وغياب الفعل‪.‬‬ ‫فقولنا «أ» هي «أ» كقولنا َّ‬
‫كما يمكن أن نفهم عالقة «أ» بـ«أ» على أساس التَّرادف دون أن يح ّدد الفعل طبيعة هذه العالقة‪ ،‬فينجم عن‬
‫غياب الفعل في التّرجمة العربيَّة نتائج ع َّدة؛ من بينها حضور عالقة التَّرادف التي تجعل هويَّة الشيء واحدة‪.‬‬
‫ً‬
‫حاصال سوى في تركيبة الكلمات‬ ‫مثال «ال يكون‬‫ً‬ ‫أمَّا االختالف بين المترادفين‪ ،‬فإنَّه حسب اإلمام الغزالي‬
‫السياق هو‪ :‬لماذا نصوغ هويَّة‬
‫السؤال الذي يطرح في هذا ّ‬ ‫وحروفها‪ ،‬بينما هي تعيين للشيء نفسه»‪َّ .‬‬
‫لكن ُّ‬
‫الشيء بمترادفتين مع إمكانيّة االكتفاء بلفظة واحدة؟‬

‫أن التّرادف ليس إال وجهاً من الوجوه التي يحملها ترجمة المبدأ‬ ‫السؤال يقودنا إلى َّ‬ ‫َّ‬
‫إن الجواب عن هذا ُّ‬
‫أن هويَّة الشيء تصبح عبارة عن عالقة بين طرفين‪ ،‬لكنَّها ال تصل إلى حدود إمكانيَّة التخلّي‬
‫األرسطي‪ ،‬أي َّ‬
‫عن طرف لصالح ّ‬
‫الطرف الثّاني‪.‬‬

‫السيف هو المهنَّد أو َّ‬


‫الصارم هو السيف»‪،‬‬ ‫«إن َّ‬ ‫ً‬
‫قائال‪َّ :‬‬ ‫ً‬
‫مثاال على ذلك‬ ‫الصدد ذاته‬
‫ويورد الغزالي في َّ‬
‫ومثل هذا القول ال يحيلنا إلى الهويَّة كترادف وتماثل بل إلى الهويَّة كعالقة بين شيئيين لهما نقطة مشتركة‪،‬‬
‫بالضرورة‪ ،‬وبذلك ستطلق كلمة المهنَّد على شيء مغاير من حيث‬ ‫أن المهنَّد ليس سيفاً َّ‬
‫فالسيف هو المهنَّد إال َّ‬
‫َّ‬
‫فإن هويَّة الشيء لن تكون واحدة بمعنى التَّجانس واالنغالق‪ ،‬بل يخترقها غيرها‪،‬‬
‫هويّته‪ .‬وفي هذه الحالة َّ‬
‫وتصبح وفق هذا االعتبار حاملة للغير كمك ّون لها‪ ،‬كما يترتَّب عن هذا المثال َّ‬
‫أن هويَّة الشيء قد تمسي‬
‫«إن الثّلج أبيض بارد‪ ،‬فاألبيض والبارد‬ ‫ناتجة ال عن عالقة‪ ،‬ولكن عن وحدة في الموضوع‪ ،‬كأن يقال ً‬
‫مثال َّ‬
‫ويفسر بوحدة الموضوع‪ ،‬أي َّ‬
‫أن الموصوف بصفتي‬ ‫ّ‬ ‫واحد واألبيض هو البارد‪ ،‬وهذا الفهم هو أبعد الوجوه‪،‬‬

‫‪1‬ـ الزّ اهي نور الدين‪ ،‬الهويَّة بين المضمر والواحد‪ ،‬مجلّة الفكر العربي المعاصر‪ ،‬عدد ‪ 98/99‬سنة ‪ ،1992‬ص ‪.23‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪4‬‬
‫فإن قولنا ُه َو ُه َو ُّ‬
‫يدل على كثرة لها وحدة من وجه‪ ،‬فإن لم تكن‬ ‫البياض والبرودة هو عين واحدة‪ ،‬وبالتّالي َّ‬
‫كثرة لم يكن يقال ُه َو ُه َو‪ ،‬وإنَّما يشار في هذه الحالة إلى شيئين‪.‬‬

‫أن مبدأ الهويَّة األرسطي يثير مشكلة الغير منذ البداية بوصفه مك ّوناً‬
‫كل ما سلف ذكره َّ‬ ‫ونستنتج من ّ‬
‫الضمير المنفصل عوضاً عنه يغفل‬ ‫أن غياب الفعل من الترجمة العربيَّة وحضور َّ‬ ‫داخليَّاً لهويَّة الشيء‪ ،‬غير َّ‬
‫إثارة أوجه أخرى أكثر تعمُّقاً لمبدأ الهويَّة لينحصر في التّماثل أو التّجانس أو التّرادف‪ .‬فإذا ما عدنا إلى‬
‫أن فعل الوجود‬‫التَّرجمة الفرنسيَّة للمبدأ الهويَّة األرسطي فسيتجلّى لنا االختالف عن التَّرجمة العربيَّة‪ .‬ذلك َّ‬
‫إن «أ» هي ذاتها «أ»‪ ،‬بل يقودنا أيضاً إلى َّ‬
‫أن «أ»‬ ‫(‪ )être‬في المثال (‪ )A est A‬ال يحيلنا فحسب إلى القول َّ‬
‫هي ذاتها مع ذاتها‪ .‬وبذلك تخترق هويَّة الشيء بالرَّ ابطة والواسطة (مع) التي تح ّول الشيء نفسه إلى وحدة‬
‫المبسط لمبدأ الهويَّة للنّظر إليه بوصفه عالقة الوجود بالوجود‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تركيب وعالقة‪ ،‬فتسمح لنا ّإذاك بتجاوز الفهم‬
‫أن هويَّة الشيء الموجود في الفهم الغربي تحضر بفعل وجوده‪ ،‬وانطالقاً من هذا الوجود يحمل هويَّته‬ ‫إذ َّ‬
‫ووحدته التي ليست مجرَّ د وحدة اسميَّة أو هويَّة مغلقة ومتعالية‪ ،‬بل إنَّها هويَّة الموجود بما هو موجود‪ ،‬وفي‬
‫وجوده تتميَّز هويّته وتتمايز دون أن تفقد وحدتها كوجود‪ ،‬حتَّى وإن تع َّددت‪.‬‬

‫إن اإلنسان كائن أو موجود‬ ‫ويمكن توضيح هذا القول بالمثال الذي صاغه هيدغير وأرسطو قبله‪ ،‬فقولنا َّ‬
‫مفكراً‪ .‬والمقصود بالتّفكير‬
‫يعني أنَّه كائن شأنه شأن بقيَّة الموجودات‪ ،‬غير أنَّه حامل لهويَّة متميّزة بوصفه ّ‬
‫هو امتالك قدرة رؤية الوجود وجهاً لوجه‪ ،‬واالنفتاح عليه ث َّم االنفتاح له لتأسيس ذاته كصلة تربط بين الوجود‬
‫َّ‬
‫ويتأكد لنا بالتَّالي مدى عمق‬ ‫والموجود‪ ،‬وبهذا المعنى يبني اإلنسان هويَّته المنفتحة غير المنغلقة أو المتعالية‪،‬‬
‫مبدأ الهويَّة لكونها تركيباً وعالقة مشروخة وجوديَّاً بفعل نداء الوجود في الموجودات‪.‬‬

‫مبسط‬ ‫توسلنا مقاربة نفسيَّة تحليليَّة‪ ،‬فإنَّنا سندعّ م ما ذهبنا إليه سالفاً من َّ‬
‫أن الهويَّة قد فهمت بشكل َّ‬ ‫وإذا ما َّ‬
‫أن موطنه هو الجسد ّ‬
‫بكل‬ ‫في الحقل الثقافي العربي اإلسالمي‪ .‬فالمرجعيَّة النفسيَّة تحيل الهويَّة على الهو‪ .‬وبما َّ‬
‫فإن استحضارنا للجسد‪ ،‬أي اإلنسان بوصفه موجوداً‪ ،‬ليس سوى استحضار‬
‫غرائزه ذات األصل الجنسي‪َّ ،‬‬
‫أن الجسد في المتخيَّل اإلنساني عموماً‬
‫لعنصر شارخ وجارح للهويَّة داخل الفضاء الثقافي اإلسالمي‪ .‬ذلك َّ‬
‫ألن الهو مرتبط بحضور الجسد اآلدمي المك ّون من‬ ‫الشرخ األصلي‪َّ ،‬‬ ‫واإلسالمي خصوصاً كان سبباً في َّ‬
‫تراب لكنَّه غائب في الجسد المالئكي النّوارني وفي الجسد الشيطاني النَّاري‪ .‬فاتصاله بهذا الجسد يجعله‬
‫فإن طبيعة هذا الجسد كافية لخلق التَّفرقة داخل وحدة العالم َّ‬
‫السماوي‪ ،‬ال سيَّما‬ ‫موضع شرخ وتفرقة‪ ،‬وبالتّالي َّ‬
‫ألن جسد آدم مخلوق من طين‪.‬‬ ‫أن نظام التّراتب قد قبلت به المالئكة فسجدت آلدم في حين رفضه الشياطين‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أن جسد اإلنسان محكوم بطبيعة اآلدميَّة الغرائزيَّة‪ ،‬ممَّا جعله سبباً في االنخداع من قبل‬ ‫وينضاف إلى ّ‬
‫كل ذلك َّ‬
‫أن ظهور العالم اإلنساني إلى جانب الطبيعي واإللهي أمر ُّ‬
‫يدل على انشراخ‬ ‫ّ‬
‫والطرد من الجنَّة‪ .‬إذ َّ‬ ‫ّ‬
‫الشيطان‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪5‬‬
‫عامال في تع ّدد الكائنات البشريَّة بوصفه مصدراً‬
‫ً‬ ‫إن جسد آدم ذاته قد كان‬ ‫الصراع والتع ُّدد‪ .‬بل َّ‬
‫الوحدة وبروز ّ‬
‫مباشراً لميالد ح َّواء رمز الخصوبة والتَّوالد والتع ُّدد اللاَّ نهائي‪ .‬فبعد أن علم هللا آدم ال يستطيع العيش وحيداً‬
‫وتفك وحدته فخرجت ح َّواء من ضلع آدم‬ ‫ّ‬ ‫بحكم طبيعة الغرائزيَّة وجد له كائنة آدميَّة من جنس مغاير تؤانسه‬
‫حامال بالق َّوة للغير ومنفتحاً على ما ليس‬
‫ً‬ ‫األيسر كهديَّة من هللا آلدم‪ ،‬وفي ذلك داللة على َّ‬
‫أن الجسد األ َّول كان‬
‫فضال عن كونه متع ّدداً في وجوده‪.‬‬
‫ً‬ ‫هو‪،‬‬

‫وباإلضافة إلى المقاربة النفسيَّة يمكننا فتح إمكانيَّة مغايرة للبحث في المكبوت الثقافي داخل الخطابات‬
‫التي تناولت موضوع الهويَّة في الثّقافة العربيَّة اإلسالميَّة‪ .‬إذ َّ‬
‫أن المرجعيَّة األنتروبولوجيَّة قد تسمح لنا مساءلة‬
‫الخاص والعميق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المترسبة في الحقل الثقافي‪ ،‬ألنَّها في آخر المطاف ماهي إال تاريخه‬
‫ّ‬ ‫البنى الالواعية‬

‫أن ترسيخ الهويَّة يرتبط ارتباطاً وثيقاً لدى الكائن اإلنساني باالسم الشخصي الذي يحمله‪،‬‬
‫فنحن نعلم جيّداً َّ‬
‫إذ بفضله تعلن هويَّة الفرد وتمرّ ر الجماعة من خالله موروثها الثقافي وهويّتها الجماعيَّة‪ .‬فهو إذن هويَّة‬
‫وفقت الجماعة‬ ‫ّ‬
‫تتحقق معها المطابقة الكاملة‪ .‬وإذا ما ّ‬ ‫تؤسسه وتخترقه إلى درجة‬
‫ظاهرة تخفي هويَّة مضمرة ّ‬
‫خاصة به اختارها‬
‫َّ‬ ‫فإن أخطر ما في األمر إعادة إنتاج ما استدخله بوصفه قيماً‬ ‫في طبع الفرد ّ‬
‫بكل ما تنتجه‪َّ ،‬‬
‫بكل حريَّة وتملّكها ليدافع عنها فيما بعد‪.‬‬
‫ّ‬

‫إن بحث كلود لفي شترواس داخل نسق التسميات عن البنية الخفيَّة أو اللاَّ شعوريَّة الحاكمة لنمط عيش‬ ‫َّ‬
‫الجماعة يثبت األهميَّة التي تمنحها األنتروبولوجيا لالسم الشخصي باعتباره مك ّوناً من مك ّونات النّسق الثقافي‬
‫َّ‬
‫يصب فيه العمل النقدي الرّ اغب‬ ‫والهويَّة الثقافيَّة لجماعة معينة من ناحية‪ ،‬وبوصفه أيضاً المجال الذي يجب أن‬
‫الذات باسمها من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫المتحكمة في عالقة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والظاهرة إلى البنى العميقة‬ ‫في تجاوز الهويَّة المباشرة‬

‫أن األنتروبولوجيا قد َّ‬


‫ركزت اهتمامها على مسألة االختالفات الثقافيَّة‪ ،‬فإنَّه يمكن استثمار نتائج‬ ‫وبما َّ‬
‫هذا الحقل المعرفي في دراسة البناء الثقافي للمجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة‪ .‬إذ َّ‬
‫أن في هذه المجتمعات كما‬
‫خاصة المصدر األ َّول إن لم نقل الوحيد للقيم‬ ‫َّ‬ ‫ورد على لسان برهان غليون‪« :‬ال يزال ال ّدين عامَّة واإلسالم‬
‫والحس الحضاري‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫الرمزيَّة والتَّاريخيّة والمعنويَّة والنفسيَّة والتَّربويَّة التي يقوم عليها بناء المدنيَّة‬
‫عمليَّاً ومن هذه َّ‬
‫الزاوية أه ّم مرتكز لهويَّتهم شاؤوا ذلك أم أبوا»‪ 2.‬وبالنظر إلى هذه الخاصيَّة الثقافيَّة فإنَّه ال‬
‫يمكن االكتفاء بنسق التّسميات داخل نمط حياة المجتمعات فحسب‪ ،‬بل يجب البحث عنها في النّسق الثّقافي‬
‫أن هللا مح ّدد ومنتج ّ‬
‫لكل‬ ‫النص ال ّديني‪ ،‬حيث يش ّدد في بعض آياته على َّ‬
‫ّ‬ ‫وخاصة في‬
‫َّ‬ ‫اإلسالمي بشكل عام‪،‬‬
‫األسماء والتّسميات‪ 3،‬ولئن أثيرت خالفات داخل مجال التّفسير حول تعليم هللا آدم األصناف واألجناس العامَّة‬

‫‪2‬ـ غليون برهان‪ .‬نقد السّ ياسة الدّولة والدّين‪ .‬المؤسّ سة العربيَّة للنّشر‪ .‬سنة ‪ .1991‬ص ‪21‬‬
‫‪3‬ـ انظر اآليتين ‪ 31‬و‪ 32‬من سورة البقرة‪.‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪6‬‬
‫«والصحيح أنَّه علّمه أسماء األشياء وذواتها‬
‫ّ‬ ‫أو األسماء في جزئيّتها‪َّ ،‬‬
‫فإن ابن كثير نجده قد حسم األمر بقوله‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫وصفاتها»‪.‬‬

‫فبمقتضى هذا التّفسير يكون هللا هو مصدر التَّسميات في الحقل الثقافي اإلسالمي‪ ،‬وتصبح هذه األسماء‬
‫هويَّة معلنة وظاهرة‪ ،‬بل حاملة في اآلن ذاته لهويَّة مضمرة محورها وقطبها األ َّول واألخير «هو»‪ ،‬أي هللا‪.‬‬
‫فإن نسق التَّسميات يستم ُّد هويّته األصليَّة والعميقة من هويَّة هللا المضمرة غير المح ّددة أو المعلنة‬
‫وهكذا َّ‬
‫أن اسم هللا المضمر واألعظم هو في‬‫في الحقل الثقافي اإلسالمي‪ ،‬شأنه شأن الحقل الثقافي اليهودي‪ ،‬ذلك َّ‬
‫الوقت نفسه اسم هللا يهوه‪ ،‬ال َّدال على انتماء هويَّة ّ‬
‫الذات اإللهيَّة إلى مجال الغيب وانفالتها من مجال اإلدراك‬
‫اإلنساني المعرفي واللّغوي‪.‬‬

‫أن هويَّة األشياء والنَّاس قد استقيت في ال وعيها وعمقها من‬


‫وعلى هذا األساس يمكن أن ننتهي إلى َّ‬
‫كل األسماء دون أن تفقد إضمارها‪ ،‬وبذلك تكون ُّ‬
‫كل هويَّة فرديَّة أو‬ ‫هذه الهويَّة المضمرة التي تحيل إليها ّ‬
‫كل خطاب‬ ‫جماعيَّة داخل الفضاء الثقافي العربي اإلسالمي حاملة لهذا العمق اللاَّ هوتي اإلسالمي‪ ،‬ويصبح ُّ‬
‫معلن للهويَّة ومدافع عنها ليس إال دفاعاً عن هذا العمق الذي تحتضنه الثّقافة واإلسالم الشخصي معاً‪ .‬فالهويَّة‬
‫يفسر غياب اإلقناع منطقيَّاً أو صيغة التَّعويض نفسيَّاً في‬
‫ووعي الهويَّة متغلغالن في الحقل العقدي‪ ،‬ممَّا ّ‬
‫بكل سلطتها كصيغة شرعيَّة وحيدة ال‬ ‫حالة ال ّدفاع عن الهويَّة‪ .‬وفي المقابل تسجّ ل صيغة الجهاد حضورها ّ‬
‫يتمكن من الحضور إال بقدر‬ ‫بأن الغير لن َّ‬ ‫بديل عنها لل ّدفاع عن الهويَّة‪ .‬وإن تغلّبت هذه ّ‬
‫الصيغة فذلك إعالن َّ‬
‫مؤسس على االسم المضمر «هو» أو‬ ‫فإن َّ‬
‫كل خطاب للهويَّة َّ‬ ‫َّ‬
‫الذوبان اإلثني والحضاري والثقافي‪ .‬وبالتّالي َّ‬
‫ومآال مستقبليَّاً‪ .‬فهي إذن هويَّة واحدة‬
‫ً‬ ‫أصال ماضياً‬
‫ً‬ ‫على الهويَّة المضمرة لن يدافع عن الهويَّة إال بوصفها‬
‫مؤقتاً من قبل غيرها إال أنَّها لن تلبث أن تعود إلى أصلها الواحد‪.‬‬
‫وأصليَّة‪ ،‬قد تخترق ّ‬

‫َّ‬
‫ولعل انطالق المنظرين لمشروع الوحدة في العالم العربي اإلسالمي من فكرة َّ‬
‫أن العالم في األصل‬
‫وأن التع ُّدد واالختالف زائفان ومصطنعان ال يعكس إال نظرة اعتباطيَّة وحكماً‬
‫كيان واحد ال يعسر توحيده‪َّ ،‬‬
‫مسبّقاً‪َّ ،‬‬
‫ألن االنطالق من الوحدة المفترضة أو الغائبة يؤ ّدي إلى استبعاد االختالف المشاهد وعدم االعتراف‬
‫به‪ .‬وقد برَّ ر هذا النّفي بطغيان الخصوصيّات والنّزعات الفئويَّة أو اإلقليميَّة تحت شعار الوحدة‪ ،‬واحتكم‬
‫إلى منطق اإليديولوجيات التي تنطلق من االعتقاد بوجود هويَّات صافية للقضاء وجوباً بالمماهاة أو الحرب‬
‫والتّماثل أو النفي واإلدانة‪ .‬وبذلك مورست الخصوصيَّة في اإلطار العربي اإلسالمي دائماً باسم األمَّة‪ ،‬مثلما‬
‫المفكرين على غرار علي حرب إلى‬ ‫ّ‬ ‫طبّق االختالف الوحشي باسم الهويَّة العمياء أيضاً‪ .‬وهذا ما حدا ببعض‬
‫أن هذه النّخبة قد عجزت إلى اآلن عن ممارسة دورها‬ ‫ّ‬
‫المثقفة في العالم العربي اإلسالمي‪ 5.‬إذ َّ‬ ‫انتقاد النّخبة‬
‫‪4‬ـ ابن كثير القرشي‪ .‬تفسير ابن كثير‪ .‬المكتبة العصريَّة‪ ،‬بيروت‪ ،‬صيدا‪ .‬م‪ 1‬ـ ص ‪74‬‬
‫‪5‬ـ حرب علي‪ ،‬الممنوع والممتنع‪ .‬المركز الثقافي العربي‪ .‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ 1‬سنة ‪ .1995‬ص ‪.99‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪7‬‬
‫التنويري قياساً على ال َّدور الذي مارسه العلماء والفالسفة في العصر الكالسيكي العربي‪ .‬فهم فقهاء أصوليون‬
‫ألنَّهم لم يمارسوا النّقد المطلوب بعد‪ ،‬بل جعلوه منحصراً في كشف الثّغرات والعيوب والتّناقضات‪ ،‬والحال‬
‫أنَّه كان من األجدر فهم النّقد بالمعنى األنطولوجي‪ ،‬أي باستكشاف ممكنات عقليَّة جديدة مختلفة تجعل ما كان‬
‫ممتنعاً جائزاً وممكناً‪ ،‬أو ْ‬
‫لنقل هو استشراف ألفق فكري يتيح شروطاً إلنتاج المعنى والحقيقة‪ ،‬ويفضي إلى‬
‫تجديد الرؤى والمفاهيم وتحديث المناهج والميادين‪.‬‬

‫وممَّا يُعاب كذلك على الخطاب العربي المعاصر انخراطه في فوضى دالليَّة مهيمنة نتيجة فشله في‬
‫ً‬
‫فضال عن َّ‬
‫أن هذه‬ ‫الخاصة وبناء عالم مفهومي جديد يسهم في إثراء الفكر العالمي‪ ،‬هذا‬
‫َّ‬ ‫ابتكار مصطلحاته‬
‫الخطابات تتالقفها إمَّا االنتقائيَّة أو التّلفيق أو الدغمائيَّة أو األصوليَّة المعتقدة في التَّماهي مع األصل والتَّطابق‬
‫مع ّ‬
‫الذات‪.‬‬

‫إن األصولي قد يكون إسالميَّاً كما‬


‫فاألصوليَّة ليست حكراً على الفكر الكالمي اللاَّ هوتي فحسب‪ ،‬بل َّ‬
‫ألن األصالة في التفكير تخرج‬‫يمكن أن يكون ماركسيَّاً أيضاً‪ .‬واألصوليَّة هي ذاتها التي تغيّب األصالة‪َّ ،‬‬
‫السبات العقائدي‪ .‬لهذا َّ‬
‫فإن أزمة المجتمع والهويَّة في العالم العربي‬ ‫عن ّ‬
‫كل ما هو تقليدي بغية النّهوض من ّ‬
‫ّ‬
‫المثقفة أدوارها‬ ‫خاصة واإلسالمي عامَّة ال تكمن في غياب المثقفين بقدر ماهي انحراف عن ممارسة النّخبة‬
‫َّ‬
‫ممارسة نقديَّة‪ ،‬وعجزها عن تمثّل الواقع وقراءة األحداث‪ ،‬إمَّا بسبب المواقف ال ّدغمائيَّة‪ ،‬وإمَّا بالنَّظرات‬
‫التبسيطيَّة أو بالنظريَّات الطوباويَّة‪.‬‬

‫وإذا كانت العوامل الفكريَّة العقديَّة مساهمة إلى ح ٍّد كبير في مأزق الهويَّة داخل المجتمعات العربيَّة‬
‫ّ‬
‫التأزم إزاء قضيَّة الهويَّة‪.‬‬ ‫فإن العامل السياسي ال ُّ‬
‫يقل أهميَّة في زيادة تعميق مشاعر‬ ‫اإلسالميَّة‪َّ ،‬‬

‫ب‪ -‬عوامل سياسيَّة‪:‬‬

‫المؤسسة‬
‫َّ‬ ‫المؤسسة السياسيَّة مع‬
‫َّ‬ ‫الساحة السياسيَّة في البلدان العربيَّة اإلسالميَّة هو تحالف‬ ‫َّ‬
‫إن ما يميّز َّ‬
‫الدينيَّة‪ .‬وقد أفضى هذا التَّحالف إلى مصادرة حريَّة التَّعبير باسم المق َّدس الديني وباسم المصلحة السلطويَّة‪.‬‬
‫تجسدت قضيَّة االستبداد في سطوة اللغة اإليمانيَّة التي ترى الخليفة في جميع األزمنة خليفة لرسول هللا‪،‬‬
‫وقد َّ‬
‫ً‬
‫تطاوال على اإلسالم في ح ّد ذاته‪ .‬فإذا كان الخليفة األ َّول يتناسل في خلفاء الحقين‬ ‫السلطة‬
‫ممَّا يجعل من نقد ّ‬
‫فإن فقهاء الخلفاء ال يختلفون في شيء عن خلفائهم دون تأمّل العالقة بين االجتهاد‬ ‫يقاسمونه النّظر والعمل‪َّ ،‬‬
‫والسياق أو النَّظر في العالقة بين االجتهاد ال ّديني والمصالح السلطويَّة‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪8‬‬
‫السياق التّاريخي الذي جاء فيه اجتهاد ديني صحيح إلى الرَّ غبة في تأبيد االجتهاد واإلعالن‬ ‫ويعود إلغاء ّ‬
‫والسلطة وإلى تكريس النَّظر‬
‫ّ‬ ‫عن صالحيّته في جميع األزمنة‪ ،‬مثلما يؤ ّدي إلى الغاء العالقة بين ال ّدين‬
‫السلطوي نظراً دينيَّاً‪.‬‬
‫ّ‬

‫المؤسسة الدينيَّة التي تهيّئ ّ‬


‫الشروط االجتماعيَّة‬ ‫َّ‬ ‫ذلك أً َّن االستبداد ّ‬
‫السياسي يتملّك العقول والمحكومين عبر‬
‫ّ‬
‫والمفكرين‪ .‬لهذا تختار السلطة السياسيَّة رجال ال ّدين المناسبين‬ ‫للتحكم في األذهان وتوطيد مواقع التّفكير‬ ‫ّ‬
‫الذين يس ّوغون حكمها ويباركونه‪ ،‬فيختار هؤالء ما يلبّي حاجاتهم وحاجاتها منتهين في الحاالت جميعاً إلى‬
‫أمرين‪ :‬أ ّولهما ال ّدفاع عن تراث واحد ووحيد وأحادي المعنى بما يمنع االجتهاد وتعدديَّة التّأويل‪ ،‬والثاني‬
‫ال ّدفاع عن حاكم واحد ووحيد بما يبارك ديمومته ويؤثّم التَّغيير‪.‬‬

‫السلطة السياسيَّة طيلة التّاريخ العربي االسالمي واقع ملتبس بالمق َّدس بغاية المحافظة على‬‫فواقع ّ‬
‫الحكام يتطيَّرون من العقل الفاعل في الحقل ال ّديني وفي حقول الحياة جميعاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫استمراريتها‪ ،‬لذلك نجد‬

‫فإن هذا الشكل من القمع في إحاالته الدينيَّة والسلطويَّة ينطوي على أبعاد ثالثة‪ :‬يتمثّل البعد‬ ‫وهكذا َّ‬
‫تطاوال على ال ّدين‪ ،‬أمَّا البعد الثاني فإنَّه يتجلّى في‬
‫ً‬ ‫األ َّول في التوظيف السياسي لل ّدين‪ ،‬ممَّا يجعل نقد ّ‬
‫السلطة‬
‫الطرفين واضح‬ ‫ألن التشابه بين ّ‬ ‫االستثمار ال ّديني للهيبة السلطويَّة‪ ،‬ممَّا يح ّول نقد رجال ال ّدين نقداً للسلطة‪َّ ،‬‬
‫نافال وظيفته اإلذعان واالنطباع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يرسخ الثّبات وأحاديَّة المرجع‪ ،‬ويرى في ما خارجه‬ ‫ال لبس فيه‪ ،‬إذ كالهما ّ‬
‫ويشير البعد الثالث إلى االنتفاع من جهل العامَّة المطالبة بطاعة النّخبتين السياسيَّة وال ّدينيَّة‪ ،‬ممَّا يحتّم منطقياً‬
‫تكريس الجهل بوسائل متع ّددة بتحويل التّعليم إلى مجرَّ د محو لألميَّة ال أكثر‪ ،‬وإلغاء السياسة‪ ،‬وتعزيز ثقافة‬
‫الصمت والنّزعات القطيعيَّة‪.‬‬
‫َّ‬

‫السلطة السياسيَّة بمصادرة حريَّة التعبير‪ ،‬بل تق ِدم إن شاءت أيضاً على مصادرة البشر‬
‫وقد ال تكتفي ّ‬
‫الذين ال يأتلفون مع العبوديَّة‪ ،‬لتعمّق االغتراب السياسي أكثر في مجتمعاتها‪.‬‬

‫فإن ال ّدول اإلسالميَّة في القرون الوسطى لم تعتبر شعوبها سوى مجرَّ د رعايا يفرض عليهم‬‫وهكذا َّ‬
‫أن هذه ال ّدول لم تكن تعترف بوحدة اإلقليم‪ ،‬ولم يكن ّ‬
‫سكانها‬ ‫للسلطان وجباية َّ‬
‫الضرائب‪ ،‬وبما َّ‬ ‫النظام والوالء ّ‬
‫ّ‬
‫والطائفيَّة والعرقيَّة كان لها األثر الكبير في‬ ‫شعوباً ذوي سيادة تستم ّد منهم ّ‬
‫السلطات‪َّ ،‬‬
‫فإن االنتماءات القبليَّة‬
‫تحديد الهويَّة‪ ،‬في حين تضاءل الوعي الجماعي المشترك باالنتماء إلى هويَّة واحدة‪ .‬ومثلما َّ‬
‫أن األنظمة‬
‫السياسيَّة القديمة قد فشلت في وضع مح ّددات وتصورات تفضي إلى هويَّة مستقرّ ة ومتوازنة‪َّ ،‬‬
‫فإن نموذج‬
‫ال َّدولة الحديثة في العالم العربي اإلسالمي قد عجز أيضاً عن وضع معالم واضحة للهويَّة تكون قاعدة انطالق‬
‫وعامل تأطير وتحفيز لتحقيق طموحات التق ّدم والتّنمية واكتساب أسباب الق َّوة والمناعة وبناء عالقة سويَّة‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪9‬‬
‫باآلخرين‪ .‬وينضاف إلى ّ‬
‫كل ذلك فشل هذا النموذج في استقطاب مشاعر الوالء واالنتماء وتوجيهها إلى طاقة‬
‫فعَّالة وإيجابيَّة داخل مجتمعاتها‪ .‬إذ َّ‬
‫أن ال ّدولة الحديثة في العالم العربي اإلسالمي قد َّ‬
‫تأسست وهي تتخبَّط‬
‫في مفارقة بنيويَّة بين معالم ال َّدولة القديمة وبين نموذج ال َّدولة الحديثة في أوروبا‪ ،‬الذي يقوم على الوحدة‬
‫ً‬
‫فضال عن إقراره بمفاهيم قانونيَّة كالجنسيَّة والمواطنة والحقوق‬ ‫الشعب ونظام الحكم‬ ‫الجغرافيَّة ووحدة َّ‬
‫ويحقق االندماج االجتماعي‪ ،‬ويمنح األفراد‬ ‫ّ‬ ‫والواجبات‪ .‬فاالنتماء إلى هذه ال َّدولة يستقطب مشاعر الوالء‪،‬‬
‫الشعور بهويَّة مشتركة تمثّل مصالحهم وتز ّودهم باألمن واالستقرار‪ ،‬دون أن تلغي الهويَّة الجماعيَّة الهويَّة‬
‫ّ‬
‫أن روح ال ّديمقراطيَّة تعمل على تحقيق التّالحم الوجودي بين مختلف التكوينات االجتماعيَّة‬
‫الفرديَّة‪ ،‬بما َّ‬
‫الصغرى وبين مفاهيم ال َّدولة وتص ُّوراتها الموروثة‪.‬‬
‫ّ‬

‫ولئن حملت النّخب السياسيَّة في المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة على عاتقها بعد نهاية االستعمار استيعاب‬
‫السلطة كانت له األولويَّة على االنخراط‬ ‫التّقاليد السياسيَّة الحديثة كما مورست في الغرب‪َّ ،‬‬
‫فإن الحفاظ على ّ‬
‫في الحداثة بما تقتضيه من تغييرات جوهريَّة في الواقع االجتماعي ثقافيَّاً ودينيَّاً وسياسيَّاً‪ .‬إذ تجنَّبت ال ُّدول‬
‫الحديثة خوض صراعات مع تقاليد راسخة أو مسيطرة على العقول‪ ،‬ومع ّ‬
‫كل ما يمكن أن يه ّدد االستقرار‬
‫االجتماعي والبنية الثقافيَّة والذهنيَّة أو يولّد مشاكل واضطرابات هي في غنى عنها حفاظاً على ّ‬
‫السلطة من‬
‫أن السير في الحداثة لم يحن بعد‪ ،‬بتعلّة حاجته إلى ظروف موضوعيَّة لم تنضج‬ ‫منافسيها أو اقتناعاً منها َّ‬
‫الساحة العربيَّة اإلسالميَّة‪ ،‬لذلك انتهجت ال ُّدول الحديثة أسلوب حكم استبدادي‪ .‬وكانت الغلبة في سلّم‬ ‫بعد في َّ‬
‫ال والمناعة االقتصاديَّة ثانياً‪ .‬ولم تطرح مسائل الهويَّة إال في‬
‫أولويَّاتها الكتساب أسباب الق َّوة العسكريَّة أ َّو ً‬
‫سياق التعبئة والتّجييش لصالح مشروع القائد البطل‪ ،‬أو ض ّد األعداء الذين يتربَّصون به في ال ّداخل أو الخارج‪.‬‬

‫فإن تناول قضيَّة الهويَّة قد ت َّم خارج إطار عقالني أو داخل سياق عاطفي مشحون باالنفعاالت‪،‬‬ ‫وبالتّالي َّ‬
‫األمر الذي حدا بالشعوب العربيَّة اإلسالميَّة إلى التَّماهي معه باعتباره نمطاً جاهزاً من الهويَّة‪.‬‬

‫أن استقالليَّة َّ‬


‫الشخص وحريَّة التفكير والتعبير مه َّددة‬ ‫فمسألة الحريَّة وثيقة الصلة بمأزق الهويَّة‪ ،‬ال سيَّما َّ‬
‫ّ‬
‫المثقفين على طريقة الحاكم بأمر هللا‪،‬‬ ‫الحكام في العالم العربي اإلسالمي يتصرَّ فون تجاه‬ ‫َّ‬ ‫باستمرار‪ ،‬بما َّ‬
‫أن‬
‫وألن ال ّديمقراطيَّة كذلك تمارس في أغلب الحاالت بصورة شكليَّة أو هزليَّة‪ ،‬بما يوحي َّ‬
‫أن الشعوب العربيَّة‬ ‫َّ‬
‫اإلسالميَّة مازالت حتَّى اآلن عاجزة عن إنتاج رؤساء ديمقراطيين‪ ،‬أو غير قادرة على أن تحكم نفسها‬
‫وتتحكم في مصائرها‪ ،‬بل مازالت تتصرَّ ف بوصفها محتاجة إلى أنبياء مخلّصين أو إلى قادة ملهمين تق ّدم لهم‬
‫َّ‬
‫مؤسسات مجتمع مدني ذات وزن وفعاليَّة‬ ‫تتشكل في الفضاء االجتماعي َّ‬ ‫َّ‬ ‫فروض التبجيل والتعظيم‪ .‬لذلك لم‬
‫ظل المجتمع المدني تحت سيطرة ال ّدول‬‫للح ّد من القيود والضغوط المجتمعيَّة أو السياسيَّة أو الثقافيَّة‪ ،‬وإنَّما َّ‬
‫االستبداديَّة أو في عهدة ّ‬
‫الطوائف الدينيَّة والعشائريَّة القبليَّة بعصبيَّاتها الضيّقة المغلقة‪.‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪10‬‬
‫إن العوامل االقتصاديَّة واالجتماعيَّة ال ُّ‬
‫تقل شأناً عن العوامل العقديَّة الفكريَّة أو السياسيَّة‪ .‬فعلى الرغم‬ ‫َّ‬
‫السابقة‪ ،‬فإنَّها ُتم ِْسي بدورها معطيات مؤثّرة في الفضاء العربي‬ ‫من أنَّها نجمت عن تأثيرات العوامل َّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وأسباباً يمكن من خاللها أن ّ‬
‫تفسر أبعاد أزمة الهويَّة في هذا اإلطار‪.‬‬

‫ج‪ -‬عوامل اقتصاديَّة اجتماعيَّة‪:‬‬

‫لقد ّ‬
‫شكلت ظاهرة اإلقطاع منذ نشأة ال َّدولة اإلسالميَّة الميزة األساسيَّة في البناء االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬
‫وزعت ّ‬
‫الضياع على األرستقراطيَّة القرشيَّة في عصر الخلفاء الرَّ اشدين‪ ،‬وتفاقم اإلقطاع أكثر مع األمويين‪،‬‬ ‫إذ ّ‬
‫ألن المقطعين لم يكتفوا بما حازوه بل سنّوا طريقة االستحواذ واالغتصاب على أراضي المستضعفين‪ .‬كما‬
‫َّ‬
‫انتشر في العصر العبَّاسي نظام اإللجاء‪ ،‬فبعد أن عمَّت الفوضى لجور الوالة في ال ّداخل أرغم صغار‬
‫الفالحين على طلب الحماية من المالكين الكبار‪ ،‬وألجؤوا إليهم أراضيهم ليصبحوا في ما بعد مزارعين‬
‫أقناناً‪ .‬وهذا ما ّ‬
‫يفسر قيام ثورات فالحيَّة ذات طابع اجتماعي‪ ،‬مثل ثورة الزنج التي جاءت مناهضة لألوضاع‬
‫‪6‬‬
‫االقتصاديَّة التي كرَّ سها اإلقطاع‪.‬‬

‫السلطة المركزيَّة نفسها مرغمة على إقطاع األراضي للجند‬ ‫وفي العهدين البويهي والسلجوقي وجدت ّ‬
‫مقابل الخدمة العسكريَّة‪ .‬فأصبح من ّ‬
‫حق المقطع تقسيم األرض على جنده مقابل تأمين ق َّوة عسكريَّة‪ .‬كما‬
‫الصغار‪ ،‬وأعطي لبعض قادتهم ّ‬
‫حق جباية الخراج‪،‬‬ ‫استحوذ عن طريق االغتصاب على أراضي المالكين ّ‬
‫َّ‬
‫والضرائب على المزارعين الفقراء‪ .‬ولم يقتصر إقطاع الجيش على أراضي‬ ‫فاشتطوا في فرض المغارم‬
‫يف الجند بالتزاماتهم‪،‬‬
‫الخاصة وأراضي األحباس‪ ،‬ولم ِ‬
‫َّ‬ ‫الصوافي واألمالك‬‫السواد‪ ،‬بل تع َّداه إلى أراضي َّ‬
‫َّ‬
‫الضرائب‪ ،‬ومارسوا ضغوطاً كبيرة على‬ ‫خاصة‪ ،‬وأحجموا عن دفع َّ‬
‫َّ‬ ‫بل اعتبروا إقطاعاتهم ملكيَّة فرديَّة‬
‫المزارعين واألقنان العاملين فيها بعد أن أصبحوا تحت سلطاتهم المطلقة‪.‬‬

‫الزاوية في تشكيل البناء االقتصادي للمجتمع العربي اإلسالمي‬ ‫ظل نمط اإلنتاج اإلقطاعي حجر َّ‬ ‫وقد َّ‬
‫مجسداً بذلك نموذج المجتمع األبوي ّ‬
‫الذكوري الذي يكرّ س العبوديَّة وال يؤمن بالمساواة‬ ‫ّ‬ ‫حتّى العصر الحديث‪،‬‬
‫بين الرَّ جل والمرأة‪ .‬فمسكويه ّ‬
‫يؤكد فرار عدد كبير من األقنان من المزارع نتيجة َّ‬
‫الضغط الممارس عليهم من‬
‫قبل صاحب األرض الذي اتَّسع نفوذه حتَّى صار اسمه يذكر على المنابر‪ .‬وفي السياق ذاته يذكر الجبرتي‬
‫أن صاحب األرض كان يجلد قنَّه ّ‬
‫بالسوط‪.‬‬ ‫َّ‬

‫وليست بالد األندلس أحسن ًّ‬


‫حظاً من بقيَّة اإلمارات اإلسالميَّة‪ ،‬بما َّ‬
‫أن هناك من المقطعين من مارس‬
‫السلط‪ ،‬بما في ذلك القضاء وجباية َّ‬
‫الضرائب واالستقالل بالشؤون اإلداريَّة والحربيَّة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كافة ّ‬

‫‪6‬ـ بوتشيت إبراهيم القادي‪ ،‬مجلّة الوحدة‪ ،‬عدد ‪ ،57‬سنة ‪ ،1989‬ص ‪.104‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪11‬‬
‫ولئن عمل الم ُّد الرأسمالي بعد االستعمار على خلخلة أسس اإلقطاع‪َّ ،‬‬
‫فإن إشكاليَّة العالقة بين التقليدي‬
‫والعصري ظلّت قائمة‪ .‬فاألوضاع االقتصاديَّة واالجتماعيَّة في العالم العربي اإلسالمي تشهد إلى ح ّد اآلن‬
‫مواقف تعبّر إمَّا عن رفض وهمي وإيديولوجي لمعطيات المعاصرة‪ ،‬وإمَّا عن تغريب عنيف ال يتوافق‬
‫ّ‬
‫التفكك النسبي للبنيات‬ ‫والجذور االجتماعيَّة واالقتصاديَّة المتوارثة‪ .‬وممَّا يضفي طابعاً مأساويَّاَ على‬
‫والعالقات التقليديَّة هو عدم القدرة على االنصهار واالنسجام من جديد في الوسط التقليدي من جهة‪ ،‬والعجز‬
‫عن االنخراط الكلّي في المجتمع العصري من جهة أخرى‪ .‬كما يمكن تفسير هذا الواقع المتغيّر والمشحون‬
‫بظواهر القلق والحيرة وتقلّص الشعور باألمان باالستنزاف الذي تمارسه القطاعات االقتصاديَّة الجديدة‬
‫على البنيات التقليديَّة‪ ،‬وكذلك بقصور المجهود التحديثي في اتّجاه األرياف والمجاالت التقليديَّة لبلوغ المدى‬
‫أن تسرُّ ب عوامل الحداثة لم ّ‬
‫يتوفر على الق َّوة والطاقة الكافيتين لفرض التغيير الشامل على البنى‬ ‫المطلوب‪ .‬إذ َّ‬
‫ً‬
‫فضال عن غياب الرُّ ؤية العلميَّة الواضحة‪.‬‬ ‫االقتصاديَّة واالجتماعيَّة‬

‫ومؤسسات‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ولعل المناطق المنعزلة والبعيدة عن مراكز الحداثة والخالية ممَّا يرمز إليها من تجهيزات‬
‫أن شبابها وقواها النَّاشطة منجذبة بمغريات الهجرة نحو ما ّ‬
‫توفره المدينة‬ ‫هي المناطق األكثر معاناة‪ .‬ذلك َّ‬
‫من فرص االرتقاء االجتماعي‪ ،‬فيضحي َّإذاك حضورهم في أوساطهم التقليديَّة حضوراً جسديَّاً ال غير‪ ،‬في‬
‫حين َّ‬
‫أن أذهانهم وقلوبهم تعيش الحلم والخيال ضمن المجتمع الصناعي‪.‬‬

‫أن التَّداخل بين التقليدي والعصري على الصعيدين االجتماعي واالقتصادي قد‬
‫والجدير بالمالحظة َّ‬
‫أ َّدى إلى تش ُّوه كليهما‪ .‬فالبرجوازيَّة الوطنيَّة الصاعدة في البلدان العربيَّة اإلسالميَّة هي االبن غير الشرعي‬
‫وامتصت َّ‬
‫كل ما‬ ‫َّ‬ ‫بالطبقات المحليَّة المحتكرة‪،‬‬‫وأسست عالقة وثيقة ّ‬ ‫لإلقطاع‪ ،‬ألنَّها نمت حوله وفي تربته‪َّ ،‬‬
‫الطبقات‪ .‬لهذا كانت البورجوازيَّة ضعيفة وغامضة‪ ،‬وغير قادرة على‬ ‫رجعي وبدائي متخلّف في تلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫هو‬
‫اتّخاذ موقف حاسم إزاء التبعيَّة االقتصاديَّة للغرب؛ ممَّا جعلها دوماً تجنح نحو المساومة وأنصاف الحلول‪،‬‬
‫وتبدو متذبذبة وانتهازيَّة ال تقوى على المنافسة‪ ،‬بل تجدها غالباً ما تلجأ إلى المناورة إليجاد شكل من أشكال‬
‫التَّعاون واالشتراك في المشاريع االقتصاديَّة الغربيَّة‪ ،‬لتتيح أوضاعاً مالئمة لمصالحها‪ ،‬حتَّى وإن كان ذلك‬
‫على حساب المصالح التنمويَّة الوطنيَّة‪.‬‬

‫السلطة الرمزيَّة والحصول‬


‫وقد تعمد الطبقة البورجوازية إلى توظيف المكتسبات االقتصاديَّة لتدعيم ّ‬
‫على االمتياز االجتماعي والمكانة المرموقة في مجتمعات مازالت تثمّن الهديَّة والهبة والمحاباة والمحسوبيَّة‪،‬‬
‫فتصبح الوسيلة المثلى لتحقيق التَّراكم االقتصادي بطرق غير اقتصاديَّة‪.‬‬

‫وإذا كانت المرأة في بعض المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة محرومة من ممارسة حرياتها الفرديَّة واالنتفاع‬
‫خاصة يفرض عليها المزاوجة بين وظيفتها التقليديَّة‬
‫َّ‬ ‫من حقوقها كالعمل والتعليم‪ ،‬فإنَّها في األوساط الريفيَّة‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪12‬‬
‫كزوجة وأ ّم‪ ،‬وبين تحمّل مسؤوليَّة أعمال فالحيَّة تثقل كاهلها‪ .‬وحتَّى في البلدان التي دفعت عجلة المساواة‬
‫بين الرَّ جل والمرأة قد وقع النكوص في بعضها عن المكاسب التي جنتها المرأة‪ ،‬ذلك أنَّه في بلدان الثّورات‬
‫السفور‪ ،‬وبإحياء فكرة تع ُّدد َّ‬
‫الزوجات بعد‬ ‫العربيَّة ً‬
‫مثال قد تعالت أصوات منادية بعودة الحجاب بعد عقود من ّ‬
‫ً‬
‫فضال عن َّ‬
‫أن المرأة مازالت تتعرَّ ض للعنف واالضطهاد بعد‬ ‫أن ظنَّت النساء أنَّها ولّت إلى غير رجعة‪ .‬هذا‬
‫مئة عام من تحريرها‪َّ ،‬‬
‫ألن الرَّ جل في المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة يتصرَّ ف بوعي أو بال وعي على أساس‬
‫السلوك بين متعلّم وأمّي تجاه المرأة‪ .‬فإقصاء المرأة‬
‫أن المرأة أدنى منه في المرتبة أو النَّوع‪ .‬وال فرق في هذا ّ‬
‫َّ‬
‫من االضطالع بأدوار مهمَّة في الفضاء العربي اإلسالمي عمليَّة تشبه بتر عضو أساسي في البدن تفضي به‬
‫‪7‬‬
‫إلى اإلعاقة وتعطيل عنصر الحيويَّة في المجتمع‪.‬‬

‫فإن قضيَّة المرأة أيضاً بقيت معلّقة على المستوى‬ ‫أن مسألة الحريَّة سياسيَّاً لم تحسم بعد‪َّ ،‬‬ ‫وكما َّ‬
‫االجتماعي رغم اتّصالها الوثيق بإشكاليَّة الهويَّة‪ .‬لذلك تحت ُّد األزمة وتتعمَّق بالعودة إلى المشاكل ال ّداخليَّة‬
‫يفسر فحسب بالعوامل الذاتيَّة‪،‬‬ ‫القائمة في المجتمع العربي اإلسالمي‪ .‬غير َّ‬
‫أن الوقوع في مأزق الهويَّة ال ّ‬
‫إن العوامل الخارجيَّة أيضاً قد أذكت شرارة األزمة‪ ،‬وعمَّقت طرح سؤال الهويَّة في العصر الحديث‬‫بل َّ‬
‫أكثر من أيّ وقت آخر‪.‬‬

‫‪ -2‬األسباب الخارجيَّة‪:‬‬

‫أ‪ -‬االستعمار‪:‬‬

‫التوسع االستعماري داخل البلدان العربيَّة اإلسالميَّة كان يت ُّم باسم مجموعة من المبادئ‬
‫ُّ‬ ‫من المعلوم َّ‬
‫أن‬
‫المثاليَّة كنشر الحضارة وإنقاذ الشعوب المتخلّفة من براثن الجهل‪ ،‬غير َّ‬
‫أن اهتمام اإلمبرياليَّة في الحقيقة كان‬
‫منصبَّاً نحو نهب خيرات هذه البلدان واستغاللها لدعم اقتصادها ونفوذها‪.‬‬

‫لذلك عملت اإلمبرياليَّة لالستيالء على البنيات التحتيَّة االقتصاديَّة إلدماجها في االقتصاد الرأسمالي‪،‬‬
‫كما أخضعت البنيات السياسيَّة االجتماعيَّة إلى سلطتها بغاية تغييرها‪ ،‬ممَّا جعل البلدان المستع َمرة تكابد‬
‫ّ‬
‫التدخل االستعماري ح َّول المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة من مجتمعات‬ ‫االحتالل في جميع األصعدة‪ .‬إذ َّ‬
‫أن‬
‫شبه طبقيَّة إلى مجتمعات طبقيَّة‪ ،‬وقد استتبع هذا التح ُّول تغييرات في جميع المستويات االقتصاديَّة والسياسيَّة‬
‫المؤسسات‬
‫َّ‬ ‫يكتف باالحتالل عسكريَّاً‪ ،‬بل سعى أيضاً إلى القضاء على‬
‫ِ‬ ‫ألن المستعمر لم‬‫واالجتماعيَّة والثقافيَّة‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫األقل إلى تهميشها‪ ،‬ممَّا أثّر على حياة المجتمع بأكمله انطالقاً من تغيير القوانين الموجودة‬ ‫المحليَّة أو على‬

‫‪7‬ـ الشرفي عبد المجيد‪ ،‬الثورة والحداثة واإلسالم‪ ،‬دار الجنوب للنّشر‪ ،‬ط‪ ،1‬نوفمبر ‪ ،2011‬ص ‪.118‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪13‬‬
‫وتعويضها بقوانين جديدة تخدم تط ُّور رأس المال والمصالح االستعماريَّة‪ ،‬وانتهاء بتأثير شامل في أنماط‬
‫التفكير واالستهالك لدى فئة كبيرة‪.‬‬

‫عامال أساسيَّاً في تفقير الفالحين وتكديحهم‪ ،‬وفي اختالل البنية االقتصاديَّة‬


‫ً‬ ‫وقد كانت عمليَّات نزع الملكيَّة‬
‫واالجتماعيَّة والنفسيَّة في األوساط الريفيَّة‪ ،‬إذ تح َّول بعضهم إلى عمَّال في ضيعات المستعمرين‪ ،‬بعد أن‬
‫فضل البعض اآلخر منهم مغادرة أرضه والنّزوح نحو المدن أو الهجرة‬ ‫كانت ملكهم أو ملك أسرهم‪ .‬لذلك َّ‬
‫السلط االستعماريَّة تساند فئة األعيان التي وقفت إلى‬
‫خارج الوطن في بعض األحيان‪ .‬وفي الوقت نفسه كانت ّ‬
‫جانب المستعمر وساعدته على احتالل البالد والقضاء على المقاومة الشعبيَّة المسلّحة‪ .‬وهكذا استطاعت هذه‬
‫الفئة الحفاظ على ممتلكاتها‪ ،‬بل وتوسيعها على حساب صغار الفالحين واالستفادة من القروض ومن عمليَّة‬
‫ألن التَّصنيع قد أفرز أزمة ّ‬
‫الصناعات التقليديَّة‬ ‫التحديث في المجال الفالحي‪ .‬وقد طال التّغيير كذلك المدن‪َّ ،‬‬
‫نتيجة تغلغل نمط اإلنتاج الرَّ أسمالي وظهور أذواق وعادات استهالكيَّة جديدة‪.‬‬

‫فإن موجات االحتجاج‬ ‫أن المرحلة االستعماريَّة قد امت َّدت فترات طويلة على غرار الجزائر ً‬
‫مثال‪َّ ،‬‬ ‫وبما َّ‬
‫ض َّد المستعمر قد تعالت‪ ،‬واندلعت اإلضرابات العماليَّة‪ ،‬واشت َّدت المواجهات العسكريَّة والثقافيَّة بين الحركات‬
‫والشخصيَّات في ال ّدول العربيَّة اإلسالميَّة من جهة‪ ،‬وبين ق َّوات االحتالل من جهة أخرى‪ .‬فكرَّ ست أثناء‬
‫الحقبة االستعماريَّة ما يُعرف بإيديولوجيا الكفاح المتفرّ عة أساساً من الخصوصيَّة الدينيَّة كر َّدة فعل على‬
‫المستعمر‪ ،‬بهدف الحفاظ على الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة المه َّددة باالستباحة واالستالب‪.‬‬

‫كما هيمن على هذه اإليديولوجيا فكر تعبوي يجيّش الجماهير عبر الشعارات لطرد الغزاة‪ ،‬دونما تفكير‬
‫علمي او معرفة نقديَّة‪ .‬لذلك ركنت الخطابات في معظم األحيان إلى الوازع ال ّديني التّقليدي الستنفار الحماسة‬
‫الدينيَّة واالنتماء العقدي في مواجهة االستعمار‪ ،‬فأضحت الهويَّة آنذاك معطى جاهزاً‪ ،‬ليس على المرء سوى‬
‫االنخراط فيه والتّماهي معه‪ ،‬وإلاَّ واجه مصير التَّهميش واالنبتات‪ ،‬إن لم يكن التَّخوين واالستبعاد‪.‬‬

‫ب‪ -‬الحرب الباردة‪:‬‬

‫ّ‬
‫األقل‬ ‫لم يعد العالم بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثانية أحادي البعد‪ ،‬بل أضحى متع ّدد األطراف أو على‬
‫ثنائي القطبين‪ .‬فقد انضافت إلى المرجعيَّة الغربيَّة َّ‬
‫الضابطة لقيم العالم ومبادئه منظومة اشتراكيَّة أصبح لها‬
‫الخاص في تكييف مسارات العالقات الدوليَّة وتحديد توجُّ هاتها العامَّة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وزنها‬

‫وإذا كان االستعمار التّقليدي المباشر قد انحسر من تاريخ اإلنسانيَّة المعاصر‪َّ ،‬‬
‫فإن القطبين المتنازعين‬
‫قد سعيا إلى ابتداع وسائل جديدة ّ‬
‫تمكنهما من تحقيق غاياتهما‪ .‬وبذلك شهد االستعمار مرحلة جديدة قوامها‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪14‬‬
‫والسيطرة والنّفوذ‪ ،‬ال باستخدام الق َّوة العسكريَّة فحسب‪ ،‬بل باللّجوء أيضاً إلى وسائل اقتصاديَّة وثقافيَّة‬
‫الهيمنة َّ‬
‫وإعالميَّة وتكنولوجيَّة ومخابراتيَّة‪.‬‬

‫ّ‬
‫والتدخالت المباشرة وغير المباشرة‪،‬‬ ‫ولم تسلم ال ُّدول العربيَّة اإلسالميَّة من الضغوطات الخارجيَّة‬
‫الصراع بين القطب الشرقي ّ‬
‫الشيوعي‬ ‫حتَّى بعد أن نال معظمها الستقالل‪ ،‬إذ فرض عليها ال ُّدخول في بوتقة ّ‬
‫وبين القطب الغربي الرأسمالي‪ .‬وشهدت أرجاؤها غزوات نفوذ وسيطرة واستغالل ال تظهر فيها الجيوش‬
‫بالضرورة وال تقع على ساحاتها معارك في بعض األحيان‪ ،‬مثلما أنَّها في أحيان أخرى قد تكون قاعدة‬
‫َّ‬
‫الشتعال حروب وصراعات مسلّحة صغيرة إقليميَّة ال يبلغ تصاعد العنف فيها عتبة الحرب النوويَّة‬
‫كالحرب العربيَّة اإلسرائيليَّة أو الحرب العراقيَّة اإليرانيَّة‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن الق َّوتين العظميين تسعيان من خالل‬
‫الصغرى إلى الهيمنة أو فرض حلول وتسويات ّ‬
‫تحقق مصالحهما االستراتيجيَّة‬ ‫الصراعات اإلقليميَّة ُّ‬ ‫خلق ّ‬
‫ومصالح حلفائهما‪ .‬فكانت الحروب ال َّدائرة بالمنطقة العربيَّة اإلسالميَّة حروباً بالوكالة‪ ،‬كما مثّلت في الوقت‬
‫ذاته ميادين تُجرَّ ب فيها األسلحة الجديدة المتط ّورة غير النوويَّة ومختبرات لألجهزة اإللكترونيَّة واألنظمة‬
‫ال ّدفاعيَّة والهجوميَّة‪.‬‬

‫عامال مح ّدداً لسياسة ال َّدولة في األقطار العربيَّة اإلسالميَّة‪ ،‬ومعيناً‬


‫ً‬ ‫لهذا كانت أجواء الحرب الباردة‬
‫لتوجُّ هاتها في مختلف المجاالت‪ ،‬كما أثّرت في خطابها وإيديولوجيَّتها‪ ،‬شأنها في ذلك شأن التيَّارات والحركات‬
‫السياق الذي تطرح فيه مسألة الهويَّة مشحوناً بالتعبئة اإليديولوجيَّة وبرهانات ّ‬
‫الصراع‬ ‫المعارضة لها‪َّ .‬‬
‫فظل ّ‬
‫المستحكم بين قطبي العالم‪ ،‬منذ نهاية الحرب العالميَّة الثانية حتَّى سقوط جدار برلين‪ .‬وينضاف إلى ّ‬
‫كل ذلك‬
‫ّ‬
‫المؤهلة لمراجعة قضيَّة الهويَّة وتناولها بصفة عقالنيَّة‪ ،‬كانت متورّ طة إلى ح ّد كبير ضمن أجواء‬ ‫أن النّخب‬
‫َّ‬
‫فإن مناخات النّظر في مسألة الهويَّة لم تكن مالئمة‪ ،‬ولم تتهيّأ ّ‬
‫الظروف المناسبة‬ ‫الحرب الباردة‪ .‬وبالتّالي َّ‬
‫للح ّد من تداعيات مأزق الهويَّة‪.‬‬

‫ج‪ -‬العولمة‪:‬‬

‫ما إن وضعت الحرب الباردة أوزارها حتَّى وجد العالم نفسه أمام نظام عالمي جديد تزامنت معه ثورة‬
‫للتوسع الرأسمالي‬
‫ُّ‬ ‫مثيال منذ الثّورة الصناعيَّة‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن العولمة أفرزت نسقاً جيوسياسيَّاً‬ ‫ً‬ ‫لم تعرف البشريَّة لها‬
‫متنام للعولمة الماليَّة والنقديَّة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫تجسد بثورة اتّصاليَّة وتكنولوجيَّة عارمة‪ ،‬ودور‬‫َّ‬ ‫على المستوى الكوني‪،‬‬
‫ومؤسساتها‪ ،‬وانهيار الحواجز الحمائيَّة‪ ،‬واتّساع‬
‫َّ‬ ‫وهيمنة الشركات العابرة للقارَّ ات‪ ،‬وتغيير لوظائف ال َّدولة‬
‫َّ‬
‫واختل‬ ‫التّجارة اإللكترونيَّة‪ .‬فقد تغير العالم بسرعة مذهلة‪ ،‬وأضحى خاضعاً لمبدأ ّ‬
‫الشبكات والمصالح‪،‬‬
‫النّظام الثنائي الذي لطالما أوحى بوجود توازن بين الق َّوتين العظميين في العالم‪ ،‬كما برز خطر هيمنة القطب‬
‫ألن النّظام العالمي الجديد قد أوجد أنماطاً جديدة‬
‫خاصة العربيَّة واإلسالميَّة‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫الواحد على دول العالم وشعوبها‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪15‬‬
‫كافة أوجه الحياة‪ .‬وقد زادت الثورة المعلوماتيَّة اله َّوة اتّساعاً بين أغنياء العالم وفقرائه‪ ،‬إذ‬
‫السلوك في َّ‬ ‫من ّ‬
‫ً‬
‫ضئيال‪.‬‬ ‫المتمكنة‪ ،‬في حين بدا أمل بلدان العالم النّامي للحاق بركب الحضارة‬ ‫ّ‬ ‫سارع إيقاع التّط ّور لدى ال ّدول‬
‫ّ‬
‫ولتتحكم في مق َّدراتها‬ ‫وهكذا فقد أفسحت العولمة المجال لنفسها حتَّى تسيطر على البلدان العربيَّة اإلسالميَّة‪،‬‬
‫وقدراتها وممتلكاتها وملكاتها‪ .‬كما سعى القطب الواحد بوسائل االتصال الحديثة إلى فرض نمط واحد من‬
‫الشعوب العربيَّة اإلسالميَّة الثّقافيَّة ويل ّوح‬ ‫الحياة ومن القيم والمبادئ ومن ّ‬
‫الذوق العا ّم‪ ،‬يستهدف خصوصيَّات ّ‬
‫بتفاقم الهويَّة‪ .‬لذلك ولّدت صعوبة استيعاب التّح ُّوالت الجارفة شعوراً بالعجز والتَّصاغر واالنسحاق‪ ،‬وخلّفت‬
‫تتحصن بها وتنغلق فيها‪ .‬كما احتدمت‬
‫َّ‬ ‫الذات بالبحث عن الهويَّة في أصول‬ ‫ردود فعل انطوائيَّة تحاول إثبات ّ‬
‫النزاعات ّ‬
‫الطائفيَّة واالنقسامات العرقيَّة وال ّدينيَّة في عالم ظاهره الوحدة وباطنه االنقسام‪ .‬كما ألفى اإلسالم‬
‫نفسه معنيَّاً بخوض صراعات ومواجهاتها مع العالم الذي خرج منتصراً من الحرب الباردة‪ ،‬فقد برزت‬
‫الصراع وتمنحه المعنى‪ ،‬وتضفي عليه أبعاداً ثقافيَّة من قبيل حديث فرنسيس‬ ‫مقوالت ونظريَّات ّ‬
‫تؤطر هذا ّ‬
‫فوكوياما عن نهاية التّاريخ أو إقرار صمويل هنتنجتون بصدام الحضارات‪ .‬واشت َّدت المواجهات بعد أحداث‬
‫التّفجيرات في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر سنة ‪ ،2001‬وما تالها من حروب شنّتها‬
‫الواليات المتَّحدة وحلفاؤها تحت مسمَّى الحرب على اإلرهاب في أفغانستان وباكستان والعراق‪ ،‬وهي مناطق‬
‫تنتمي تاريخيَّاً إلى العالم اإلسالمي‪ .‬كما واجهت قطاعات هائلة من المسلمين في الغرب مقيمين وزائرين‬
‫مضايقات وانتهاكات عديدة‪ ،‬وع َّم نسبة كبيرة من المسلمين إحساس بأنَّهم منبوذون ألنَّهم مسلمون‪ ،‬مثلما نمت‬
‫في أذهانهم فكرة االستهداف في دينهم وكرامتهم وشرفهم وحقوقهم وأرضهم‪ ،‬بما َّ‬
‫أن انتماءهم ال ّديني بات‬
‫ظل هذه األجواء المتوتّرة‬‫والسخرية‪ .‬وفي ّ‬ ‫يتعرَّ ض للتَّجريح‪َّ ،‬‬
‫وأن رموزهم ال ّدينيَّة أضحت عرضة لالنتهاك ّ‬
‫وإقصائي‪ ،‬يسعى لتوحيد المسلمين وينهل من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لتضخم خطاب هويَّة دغمائي حصريّ‬ ‫َّ‬
‫توفرت البيئة المالئمة‬
‫اإلسالمي لل ّدفاع عن شرفه وكرامته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معين االنتماء‬

‫العربي اإلسرائيلي‬
‫ّ‬ ‫الصراع‬
‫د‪ّ -‬‬

‫الصلة بالمشروع االستعماريّ في المنطقة العربيَّة‪ .‬إذ‬


‫هيوني في فلسطين متين ّ‬
‫ّ‬ ‫الص‬ ‫ال يخفى َّ‬
‫أن الوجود ّ‬
‫أقيمت إسرائيل في منطقة ّ‬
‫الشرق األوسط لتكون قاعدة متق ّدمة تحمي المصالح االستعماريَّة في هذه المنطقة‬
‫االستراتيجيَّة من العالم سواء بمواردها الطبيعيّة أو بموقعها الجغرافي أو برصيدها الرَّ مزي والتاريخي‪ .‬وقد‬
‫قامت إسرائيل بدورها على الوجه األكمل عبر شنّها حروباً عدوانيَّة متتالية ض َّد األقطار العربيَّة التي تص َّدت‬
‫الشعب‬‫تمكن الكيان الصهيوني من تشريد ّ‬ ‫ّ‬
‫لمخططاتها ودعَّ مت حركات التحرُّ ر الوطنيَّة الفلسطينيَّة‪ .‬كما َّ‬
‫الوطني في فلسطين والشعوب‬
‫ّ‬ ‫الفلسطيني واحتالل أغلب أراضيه‪ ،‬لتخلق بذلك مشاكل جمَّة لحركات التحرّ ر‬
‫العربيَّة أيضاً‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن األنشطة العدوانيَّة التي اقترفتها إسرائيل كانت أبرز العوامل المعرقلة للبناء الحضاريّ‬
‫واالجتماعي في المنطقة العربيَّة‪ .‬وممَّا زاد في تنامي شعور العداء في نفوس العرب والمسلمين‬
‫ّ‬ ‫واالقتصاديّ‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪16‬‬
‫خاصة والغرب عامَّة ال َّدعم والمساندة ال ّدوليَّة التي تحظى بها إسرائيل من ال ّدول العظمى‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تجاه إسرائيل‬
‫ّ‬
‫الحق‬ ‫وأن إسرائيل تسعى من أجل‬‫بأن الفلسطينيين معتدون َّ‬ ‫ونجاح الصهيونيَّة في إيهام الرأي العا ّم العالمي َّ‬
‫الصهيونيَّة قد وجهت عداءها‬
‫أن ّ‬‫أن حركات التحرُّ ر الفلسطينية ليست سوى أوكار لإلرهاب‪ .‬وبما َّ‬
‫في حين َّ‬
‫ً‬
‫ودوال‪َّ ،‬‬
‫فإن قضيَّة فلسطين أضحت قضيَّة العرب األولى‪ ،‬واتسعت أبعادها إلى‬ ‫نحو العرب عرقاً ومجتمعاً‬
‫درجة التَّماهي مع القضيَّة القوميَّة‪ ،‬بل صارت جوهرها وجزء ّ‬
‫الكل من الهويَّة‪.‬‬

‫عامال قويَّاً في استثارة العواطف القوميَّة والدينيَّة وفي‬


‫ً‬ ‫وهكذا فقد مثّل ّ‬
‫الصراع العربي اإلسرائيلي‬
‫ممارسة التعبئة اإليديولوجيَّة‪ ،‬ال سيَّما عند تعرُّ ض المق َّدسات اإلسالميَّة في فلسطين لالنتهاك‪ .‬وفي ّ‬
‫كل‬
‫الصراع إطاراً مناسباً لطرح مسألة الهويَّة بعيداً عن التّجييش العاطفي َّ‬
‫والشحن‬ ‫األحوال لم تخلق أجواء هذا ّ‬
‫َّ‬
‫والشهادة‬ ‫اإليديولوجي‪ .‬لذلك استعيدت إيديولوجيا الكفاح‪ ،‬وسيطرت عليها المفاهيم ال ّدينيَّة من قبيل الجهاد‬
‫واالستشهاد‪.‬‬

‫كل ذلك إلى أنَّه من الطبيعي أن يكون خطاب الهويَّة مرتكزاً أساساً على معيار االنتماء إلى‬ ‫ونخلص من ّ‬
‫خاصة بالنّسبة إلى المجموعات التي تقاوم‬
‫َّ‬ ‫والصديق وفقاً لهذا المقياس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم أو العروبة‪ ،‬وأن يع َّد العد ّو‬
‫االحتالل االسرائيلي‪ ،‬بل َّ‬
‫إن معظم أجنحة المقاومة العسكريَّة أضحت مجموعات ذات توجُّ هات دينيَّة‪ ،‬ممَّا‬
‫يجعل خطابها ال يرتكز سوى على المفاهيم الدينيَّة‪.‬‬

‫ولئن بان لنا من خالل تشخيص مأزق الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة األثر الكبير للعوامل الخارجيَّة‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫األسباب ال ّداخليَّة الذاتيَّة ُّ‬
‫تظل األكثر تأثيراً في خلق أزمة الهويَّة وترسيخها‪.‬‬

‫فإن األسباب جميعاً قد تضافرت لتفضي إلى تداعيات خطيرة ألمَّت بالمجتمعات العربيَّة‬
‫وعلى العموم‪َّ ،‬‬
‫اإلسالميَّة على ّ‬
‫كافة المستويات‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬مظاهر أزمة الهو َّية‬


‫‪ -1‬التخلّف الحضاري ّ‬
‫والثقافي‪:‬‬

‫أن الحضارة العربيَّة اإلسالميَّة قد عرفت في أوج ازدهارها باالنفتاح على مصادر‬‫على الرّ غم من َّ‬
‫معرفيَّة وثقافيَّة متن ّوعة‪ ،‬فإنَّها آلت منذ القرن الخامس الهجري إلى الجمود واالنغالق‪ ،‬ممَّا فسح المجال‬
‫للنّزعات اللاَّ عقليّة كي تنمو‪ ،‬وانحسرت المعرفة العقليَّة المنبنية على الثّقة بالنّفس واالضطالع بالمسؤوليَّة‬
‫الصادق للمعرفة‪ .‬فقد تضاءلت الفلسفة ث َّم اختفت من معظم األمصار‪ ،‬وتح َّولت العلوم الطبيعيَّة‬
‫واإلخالص َّ‬
‫ألن الثّقافة العربيَّة‬
‫والشرعيَّة إلى متون وأراجيز شعبيَّة تحفظ عن ظاهر قلب‪ ،‬وصار الوضع الثقافي مقيَّداً‪َّ ،‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪17‬‬
‫ً‬
‫قائال‪« :‬هناك تداخل بين العصور الثقافيَّة‬ ‫ويفسر الجابري هذا الوضع‬ ‫ّ‬ ‫مازالت منبنية على الثّبات والجمود‪،‬‬
‫المثقف في أيّ مكان من‬‫ّ‬ ‫في الفكر العربي منذ الجاهليَّة إلى اليوم‪ ،‬ممَّا يجعل منها زمناً ثقافيَّاً واحداً يعيشه‬
‫والسمة‬
‫ّ‬ ‫يشكل جزءاً أساسيَّاً وجوهريَّاً من هويَّته الثقافيَّة وشخصيَّته الحضاريَّة‪،‬‬
‫الوطن العربي كزمن راكد ّ‬
‫الزمن الثقافي العربي الواحد هي حضور القديم‪ ،‬ال في جوف الجديد يغنيه ويوصله بل‬ ‫البارزة في هذا َّ‬
‫ّ‬
‫المثقفون في العالم العربي‬ ‫حضوره جنباً إلى جنب ينافسه ويكبّله»‪ 8.‬ومن تجليات األزمة التي يعاني منها‬
‫الصدمة الحضاريَّة‪ ،‬أي طيلة القرنين الماضيين‪ ،‬االنقسام إلى تيّارين فكريين مختلفين أش َّد‬ ‫اإلسالمي منذ َّ‬
‫االختالف في مقاربة مسألة الثّقافة وعالقتها بالهويَّة‪ .‬إذ ارتمى التيَّار األ َّول في أحضان الماضي‪ ،‬واختار‬
‫التحصن بالتّراث خوفاً من ضياع الهويَّة واالغتراب رغم سعي بعض دعاته إلى التوفيق بين الحفاظ‬ ‫ُّ‬ ‫أتباعه‬
‫على التّراث وبين االنفتاح على علوم العصر وفنونه وفكره‪ .‬أمَّا التيَّار الفكري الثاني‪ ،‬فإنَّه قد تبنَّى المدنيَّة‬
‫الغربيَّة بالكامل‪ ،‬بل ذهب أتباعه أحياناً إلى أبعد من ذلك‪ ،‬ور َّوجوا األفكار القوميَّة والفرعونيَّة‪ ،‬ودعوا إلى‬
‫تأسيس ركائز المجتمع المدني‪ ،‬لذلك اتَّهمهم التيَّار األ َّول بالمروق من مسارات الثّقافة العربيَّة اإلسالميَّة‪.‬‬
‫كل البعد عن اإلبداع الحضاري‬ ‫محل تجاذب وصراع إيديولوجي بعيد ّ‬ ‫َّ‬ ‫فظلّت َّ‬
‫الساحة الثقافيَّة والفكريَّة‬
‫المثقف مغيَّباً في المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة عن المشاركة في إنتاج‬
‫ّ‬ ‫والثّقافي الفعَّال‪ .‬وليس غريباً أن يكون‬
‫مظاهر المدنيَّة المعاصرة‪ .‬إذ تصنّف األمم المتَّحدة هذه المجتمعات في القسم السفلي من قائمة اإلسهامات‬
‫تتحكم في ّ‬
‫كل القطاعات‪ ،‬بما فيها قطاع الثّقافة‪ ،‬ألنَّها‬ ‫َّ‬ ‫الثقافيَّة والمنجزات الحضاريَّة‪ .‬وال يخفى َّ‬
‫أن العولمة‬
‫السلعة واإلعالم ورأس المال أن تتح َّول إلى شبه آلة هائلة تشمل الكون بأسره‬ ‫استطاعت بارتكازها على ّ‬
‫وتخص المجتمع البشري بأكمله داخلها‪ ،‬ث َّم تخرج النّاس عبر أجهزتها المبرمجة قوالب متشابهة منمَّطة‪ .‬ذلك‬
‫ّ‬
‫أن وراء تشغيل هذه اآللة يكمن ذهن علمي مبدع ما ّ‬
‫انفك منذ الثّورة العلميَّة والتكنولوجيَّة ينتقل من كشف‬ ‫َّ‬
‫إلى آخر‪ ،‬فال يقف عند ح ّد وال يعترف في حقله بمعرفة نهائيَّة‪ ،‬في حين َّ‬
‫أن الشعوب العربيَّة اإلسالميَّة قد‬
‫الذهني المعاصر‪ ،‬فكان مصيرها التقولب والتنميط وفق إفرازات العولمة‪ ،‬دون أن يكون‬ ‫رفضت هذا البناء ّ‬
‫لثقافتها وتراثها أيُّ دور في صناعة الوضع الثّقافي والحضاري القائم‪ ،‬بل هي عاجزة عن تغييره أو تعديله‬
‫أن الثّقافتين العالمة والشعبيَّة في العالم العربي اإلسالمي قد‬
‫لبلوغ ما بو ّدها أن تصبح عليه‪ .‬ومن المعلوم َّ‬
‫تخلّتا عن دوريهما لصالح الثّقافة الجماهريَّة التي تولّدت مع الوسائط الجماهريَّة كوسائل االتّصال والتَّواصل‬
‫شكلت هذه الثّقافة عبر استيراد تقنيات الوسائط‬
‫الحديثة‪ .‬لهذا نشأ نمط ثقافي آخر هو الثّقافة االستهالكيَّة‪ .‬إذ ّ‬
‫الجماهريَّة من الغرب‪ ،‬فظهر في إنتاجات هذه الثّقافة األثر الكبير للتَّفاعل مع الغرب وثقافته‪ ،‬بعد أن سعت‬
‫مختلف القنوات في العالم العربي اإلسالمي إلى ترجمة البرامج التلفزيونيَّة الغربيَّة أخباراً وبرامج ومن َّوعات‬
‫ً‬
‫فضال عن مختلف ألعاب الفيديو والفيديو كليب‪.‬‬ ‫وأفالماً ومسلسالت‪،‬‬

‫‪8‬ـ الجابري محمَّد‪ ،‬نقد العقل العربي‪ .‬ج‪ :1‬تكوين العقل العربي‪ ،‬بيروت ‪ ،1984‬ص ‪.42‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪18‬‬
‫والمؤسسات الثقافيَّة‪ ،‬ألنَّها ظلّت تعمل بطريقة‬
‫َّ‬ ‫أن هذا التّفاعل لم يحدث أيَّ تغيير على مستوى البنى‬
‫غير َّ‬
‫تقليديَّة‪ ،‬باإلضافة إلى كونها لم تج ّدد في طبيعة المحتوى‪ ،‬ولم تنتقل إلى المستوى الرَّ قمي‪ .‬وحتَّى إن انتهجت‬
‫الوسائط الحديثة في اإلطار الثقافي العربي اإلسالمي‪َّ ،‬‬
‫فإن الما َّدة الثقافيَّة المنتجة عادة ما تكتفي بإعادة‬
‫تص ُّورات الوسائط الغربيَّة وتقليدها‪.‬‬

‫فإن المتأمّل في هذا القطاع داخل البلدان العربيَّة‬ ‫الصلة ّ‬


‫بكل ماهو ثقافي وحضاري‪َّ ،‬‬ ‫وبما َّ‬
‫أن التعليم وثيق ّ‬
‫اإلسالميَّة يدرك حالة التخبُّط التي يشهدها النظام التعليمي من تناقض صارخ بين احتفاظه في مواد العلوم‬
‫اإلنسانيَّة بتلقين قيم ومناهج لم تعد لها صلة بالواقع الرَّ اهن من جهة‪ ،‬وبين حرصه من جهة أخرى على‬
‫علمي وتقني يخرّ ج اإلطارات الفنيَّة في مختلف المجاالت‪ ،‬ولكنَّه محكوم عليه بال ّدغمائيَّة واالجترار؛‬
‫ّ‬ ‫تكوين‬
‫الضامنة لشروط الخلق واالبتكار‪ .‬ويزداد ّ‬
‫الشعور بوطأة أزمة الهويَّة‬ ‫ً‬
‫مفصوال عن قاعدته المعرفيَّة َّ‬ ‫لكونه‬
‫في بعض األقطار العربيَّة اإلسالميَّة حينما تراها محافظة على التّعليم ال ّديني التّقليدي كنظام مواز للتَّعليم‬
‫أن مناهج التّعليم ال ّديني ومعارفه مبنيَّة أساساً على الحفظ واالجترار والوثوقيَّة‪ ،‬وهو ما يتعارض‬
‫الحديث‪ ،‬إذ َّ‬
‫مع أساليب التّعليم الحديث ال ّدافعة إلى االبتكار والتَّجديد وتنسيب المعارف‪ .‬فال غرابة إذن أن تصدر عن‬
‫األمم المتحدة بمساهمة واسعة من خيرة الباحثين تقارير تقييميَّة سلبيَّة لوضع التَّعليم في البلدان العربيَّة‪.‬‬
‫توقعت‬ ‫أن نسبة األميَّة بلغت حوالي الثّلث بين الرّ جال والنّصف بين النّساء‪ ،‬كما ّ‬ ‫فقد أشار بعضها ً‬
‫مثال إلى َّ‬
‫الستين مليون أمّي‪ ،‬أي بنسبة أكثر من ‪ 20‬في المائة من ّ‬
‫سكان العالم العربي‬ ‫أن تصل نسبتها إلى حوالي ّ‬
‫عام ‪ .2015‬هذا باإلضافة إلى وجود ماليين األطفال ممَّن هم في ّ‬
‫سن ال ّدراسة خارج المدارس‪ ،‬وينتظر أن‬
‫أن التّعليم‬
‫تتسرَّ ب ماليين إضافيَّة قبل بلوغ نهاية مرحلة التّعليم األساسي‪ .‬كما أجمعت هذه التقارير على َّ‬
‫كافة مراحله موسوم بتر ّدي النوعيَّة‪ ،‬وافتقار المتعلّمين إلى القدرات األساسيَّة للتعلّم‬
‫بمعظم ال ّدول العربيَّة في ّ‬
‫الذاتي‪ ،‬وملكات النقد والتّحليل واإلبداع‪ ،‬وهي شروط ال غنى عنها الكتساب المعرفة وإنتاجها‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ويعاني التَّعليم أيضاً من غياب التّركيز المبرمج على فروع العلوم العصريَّة والتكنولوجيا‪ ،‬واالنصراف‬
‫السياسات التّعليميَّة المنتهجة إلى تخريج ماليين‬
‫والسياسيَّة‪ ،‬فأفضت ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلى العلوم اإلنسانيَّة واالجتماعيَّة‬
‫العاطلين عن العمل أو ما يعرف بالبطالة الثقافيَّة المقنَّعة المنتشرة على نطاق واسع بين خرّ يجي الجامعات‬
‫‪9‬‬ ‫وحاملي ّ‬
‫الشهادات العليا‪.‬‬

‫فالخلل البنيوي في المناهج وأساليب التَّعليم في البلدان العربيَّة اإلسالميَّة ليس له من هدف سوى تكريس‬
‫فضال عن كونه ال يساعد على بناء شخصيَّة إنسانيَّة سويَّة تعتمد القدرة على‬ ‫ً‬ ‫ذهنيَّة ّ‬
‫التلقي والخضوع‪،‬‬
‫السائد ال يساعد‬ ‫االستكشاف والنّشاط الحرّ والممارسة اإلبداعيَّة في حقلي الثّقافة والفنون‪ .‬كما َّ‬
‫أن التعليم َّ‬

‫‪9‬ـ ضاهر مسعود‪ ،‬المجلّة العربيَّة للثّقافة‪ .54 .‬مارس ‪ .2009‬ص ‪.93‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪19‬‬
‫السائدة نحو ثقافة التغيير الشمولي‪ ،‬كما أنّه يُ ْد ِبر عن تملّك العلوم العصريَّة‬
‫على تجاوز مقوالت ثقافة التبرير َّ‬
‫والتّكنولوجيا المتط ّورة أيضاً‪.‬‬

‫أن حجم استفادة التّعليم في المنطقة العربيَّة اإلسالميَّة من وسائل‬


‫السياق ذاته َّ‬
‫والجدير بالمالحظة في ّ‬
‫الخاصة تتمتّع بنوعيَّة متميّزة من‬
‫َّ‬ ‫وأن قلّة من خرّ يجي الجامعات‬‫االتّصال والتَّواصل الحديثة يبدو ضعيفاً‪َّ ،‬‬
‫التعليم العصري‪ ،‬وهي مقتصرة على أبناء ّ‬
‫الشرائح االجتماعيَّة الغنيَّة‪ ،‬الذين يختارون في مجملهم االنتقال‬
‫الخاص على القطاع العا ّم‪ .‬ولذلك انعكست‬
‫ّ‬ ‫يفضلون العمل في القطاع‬ ‫والسكن خارج أوطانهم‪ ،‬كما أنَّهم ّ‬
‫للعمل َّ‬
‫المتوسطة‪ ،‬ألنَّهم في الغالب يتلّقون‬
‫ّ‬ ‫سلبيَّات التّعليم بشكل أساسي على أبناء ّ‬
‫الطبقة الفقيرة وال ّدنيا من الطبقة‬
‫نوعيَّة رديئة من التعليم الذي يش ّوه شخصيَّة الطالب‪ ،‬ويقضي على روح اإلبداع والنّزوع الطبيعي نحو الحريَّة‪.‬‬

‫والطلبة فحسب‪ ،‬بل يطال كذلك المنظومة التعليميَّة‬ ‫وال يقتصر خنق الحريَّة في نسق التَّعليم على التَّالميذ ّ‬

‫برُ مَّتها‪ ،‬فالمعلّمون قاهرون‪ ،‬والتّالميذ هم بدورهم مقهورون من اإلدارة التعليميَّة‪ ،‬بحكم تدنّي مكانة َّ‬
‫السواد‬
‫األعظم منهم ماديَّاً ومعنويَّاً‪.‬‬

‫‪ -2‬المشاكل االقتصاديَّة واالجتماعيَّة‪:‬‬

‫تعاني أغلب البلدان العربيَّة اإلسالميَّة من صعوبات كبيرة على المستويين االقتصادي واالجتماعي‪ .‬ذلك‬
‫مؤشرات النم ّو فيها قد بلغت أسفل سلّم التَّصنيف العالمي‪ ،‬نظراً لكونها مجتمعات تخضع للتبعيَّة من جهة‪،‬‬
‫أن ّ‬‫َّ‬
‫وتقبل على االستهالك والتَّوريد أكثر ممَّا تنتج أو تص ّدر من جهة أخرى‪ .‬وفي ّ‬
‫ظل غياب سياسات تنمويَّة‬
‫خاصة َّ‬
‫وأن نم َّو المجتمعات في عصر العولمة بات يعتمد على آليات‬ ‫َّ‬ ‫تعقداً‪،‬‬
‫واضحة المعالم تزداد المشاكل ّ‬
‫والسوق الكونيَّة‪.‬‬ ‫جديدة لكسب الثَّروة من قبيل اقتصاد المعرفة وإنتاج ّ‬
‫الذكاء ُّ‬

‫أن األقطار العربيَّة اإلسالميَّة عاجزة عن مواكبة مثل هذه التح ُّوالت االقتصاديَّة الجديدة‪ ،‬فإنَّها‬‫وبما َّ‬
‫اختالال خطيراً في موازين مدفوعاتها الخارجيَّة‪ ،‬كما سبَّب هذا العجز التّجاري تراكم‬ ‫ً‬ ‫ظلّت تواجه دائماً‬
‫ال ُّديون الخارجيَّة عليها عاماً بعد عام‪ ،‬فتتحمَّل من جديد أعباء دفع أقساطها ّ‬
‫السنويَّة باإلضافة إلى دفع الفائدة‬
‫المستحقة عليها سنويَّاً‪ ،‬ويتفاقم عجز الموازين التجاريَّة سنة بعد أخرى‪.‬‬
‫ّ‬

‫وحتَّى األقطار النفطيَّة ليست بمعزل عن األزمات االقتصاديَّة نتيجة تقلّب أسعار الخامات التي تص ّدرها‬
‫والمؤسسيَّة‪ .‬لذلك نجدها عاجزة هي األخرى عن إنجاز تنمية حقيقيَّة‪ ،‬بل َّ‬
‫إن‬ ‫َّ‬ ‫ولمحدوديَّة مواردها البشريَّة‬
‫كل شيء من الخارج‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫األمر ينتهي بها عادة إلى تبديد مواردها الماليَّة في مشاريع تستورد لها َّ‬
‫العمالة والمع َّدات التكنولوجيَّة واألطر اإلداريَّة‪ .‬كما تتآكل أرصدة هذه ال ُّدول إمَّا باالستيراد المستمرّ ّ‬
‫للسالح‬
‫بالصراعات والحروب الممت ّدة والتّهافت على التسلّح‪ ،‬وإمَّا بدفع فواتير‬ ‫ّ‬ ‫بأسعار باهظة في منطقة تتَّصف‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪20‬‬
‫االستعانة بق َّوات أجنبيَّة ّ‬
‫توفر لها الحماية واألمن‪ .‬وهكذا فتح الباب لمجاالت إنفاق جديدة ال عالقة لها ببرامج‬
‫التنمية االقتصاديَّة‪.‬‬

‫وأمام ازدياد الحاجات الغذائيَّة َّ‬


‫فإن بلدان العالم العربي اإلسالمي تواجه مخاطر فقدان القدرة على ضمان‬
‫الحدود ال ُّدنيا من األمن الغذائي جرَّ اء تذبذب اإلنتاج الفالحي وغياب سياسات فعليَّة للنّهوض بهذا القطاع‬
‫خاصة في اشتداد التّباين‬ ‫َّ‬ ‫محليَّاً وإقليميَّاً‪ .‬وتتجلّى أبعاد أزمة الهويَّة بصورة أوضح على المستوى االقتصادي‬
‫بين الرّ ؤى والخيارات االقتصاديَّة‪ ،‬فهذا تيَّار يرى االقتداء بالنموذج االقتصادي الغربي رأسماليَّاً أو اشتراكيَّاً‬
‫حل ّ‬
‫للظفر بسعادة اآلخرة‪ ،‬حتَّى وإن لم ّ‬
‫يحقق‬ ‫سبيال للنَّجاة‪ ،‬وذاك تيَّار آخر يزعم النموذج اإلسالمي أنسب ّ‬
‫ً‬
‫سعادة ال ُّدنيا‪ .‬وفي تلك الحالة يصعب الحسم الختيار المنوال االقتصادي المناسب‪ ،‬ويغلب التذبذب في إدارة‬
‫الشؤون االقتصاديَّة‪ ،‬ممَّا يؤ ّدي حتماً إلى تصاعد االحتجاجات االجتماعيَّة وتوتّر الفئات الفقيرة والعاطلة عن‬
‫ّ‬
‫الطبقي بين األفراد والجهات‪ ،‬بل قد تتخذ االحتجاجات‬ ‫العمل لتطالب بالعدالة االجتماعيَّة والح ّد من التّفاوت ّ‬
‫ً‬
‫مثال اجتياح‬ ‫المطالبة بالعدالة االجتماعيَّة بُعداً قوميَّاً تجلّى في مساندة ّ‬
‫الطبقات الشعبيَّة بالبلدان العربيَّة‪،‬‬
‫العراق للكويت للتّعبير عن قناعتها بضرورة التَّوزيع العادل للثّروة النفطيَّة بين بلدان العالم العربي‪.‬‬

‫وبذلك تتمظهر أزمة الهويَّة على المستوى االجتماعي‪ ،‬ال في حدود القطر الضيّقة فحسب‪ ،‬بل نراها‬
‫أحياناً تمت ُّد إلى أبعد من ذلك‪ ،‬مثلما يمكن معاينتها في الوقت ذاته ضمن ّ‬
‫السلوكيَّات االجتماعيَّة‪ ،‬إذ َّ‬
‫أن مشكلة‬
‫االنتماء تبدو واضحة في صلب البلدان العربيَّة اإلسالميَّة من خالل الهيئة الخارجيَّة‪ ،‬فعلى سبيل المثال يميل‬
‫بعض شبَّان هذه األقطار عبر الزيّ أو تسريحة َّ‬
‫الشعر أو ما يوضع على الجسد إلى تقليد التّقليعات الغربيَّة‪،‬‬
‫أن البعض اآلخر يختارون لباساً مغايراً‪ ،‬أو ما يعتبرونه زيَّاً إسالميَّاً‪ ،‬فيلبسون الجلباب ويطيلون‬
‫في حين َّ‬
‫لحاهم‪ ،‬وتقبل اإلناث على ارتداء الحجاب أو النّقاب‪ .‬والمالحظ األبرز في هذا المضمار المزاوجة بين الزيّ‬
‫اإلسالمي من جهة‪ ،‬وبين موضة العصر من جهة أخرى‪ .‬إذ نجد نسبة كبيرة من اإلناث الالتي يضعن أغطية‬
‫َّ‬
‫وجوههن‪.‬‬ ‫رؤوسهن‪ ،‬يلبسن أيضاً بنطلونات الجينز‪ ،‬كما يضعن مساحيق ّ‬
‫الزينة الفاقعة على‬ ‫ّ‬ ‫على‬

‫وال يقتصر التغيّر على الهيئة الخارجيَّة فحسب‪ ،‬بل ينسحب كذلك على العادات الغذائيَّة َّ‬
‫والذائقة الفنيَّة‪.‬‬
‫السريعة واالستماع إلى‬ ‫إذ صار َّ‬
‫الشباب في المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة يقبلون على تناول الوجبات َّ‬
‫السينما األمريكيَّة‪ ،‬غير أنَّهم عندما يحاولون التَّوفيق بين العادات‬
‫موسيقى البوب والجاز والرَّ اب ومشاهدة ّ‬
‫الجديدة وبين التّقاليد العربيَّة اإلسالميَّة الموروثة‪ ،‬يجدون أنفسهم َّ‬
‫ممزقين وأذهانهم مش َّوشة‪ ،‬ألنَّهم منش ُّدون‬
‫إلى عصرهم وأنماطه الثّقافيَّة من ناحية‪ ،‬مثلما أنَّهم في الوقت ذاته مسكونون بهاجس التّقاليد الموروثة التي‬
‫مازالت راسخة وفاعلة في العقل والوجدان من ناحية أخرى‪ .‬وبالنّظر إلى مثل هذه ّ‬
‫السلوكيَّات المنتشرة في‬
‫أوساط أولئك ّ‬
‫الشباب نتبيَّن عمق األزمة‪ ،‬إذ ال يلجأ إلى ا ّدعاء التَّوفيق وتطويع التّقاليد لمالئمة مقتضيات‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪21‬‬
‫ّ‬
‫التمزق بين أنماط وافدة عليه من غير بيئته‬ ‫العصر إال من كان مأزوماً‪ .‬ويتجلّى مكمن المأزق بوضوح في‬
‫تأسره ببهرجها‪ ،‬وبين هويَّة تجثم على عقله وقلبه‪ ،‬ولكنَّها ال تشبع رغباته وال تلبّي طموحاته‪.‬‬

‫الشباب العربي المسلم عن مشكلة انتمائه وهويّته باالنغماس في تشجيع ناديه‬‫فال غرابة إذن أن يعبّر ّ‬
‫والشعور بوجوده‪ .‬بل قد يؤول الهوس ّ‬
‫الشديد في‬ ‫ّ‬ ‫الرّ ياضي إلى ح ّد التّماهي واالندماج الكلّي لتحقيق ذاته‬
‫ألن الهويَّة‬ ‫التعصب األعمى وممارسة العنف ّ‬
‫بكل أشكاله‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ال ّدفاع عن هويَّة فريق ما أو انتماء معيَّن إلى‬
‫السياق مبنيَّة على أساس عاطفي بحت بعيد عن ّ‬
‫كل منطق عقالني‪ .‬فالرَّ وابط بين المشجّ عين‬ ‫في هذا ّ‬
‫ّ‬
‫تتحقق بفضل التَّعارف والمعرفة الشخصيَّة المتبادلة وغير خاضعة لمنطق‬ ‫المنتمين إلى فريق واحد ال‬
‫َّ‬
‫تتحقق في لحظة تواصل جماعيَّة تندرج ضمن ثقافة‬ ‫المصلحة المتع ّددة المشتركة المتّفق عليها‪ ،‬وإنَّما‬
‫‪10‬‬
‫الحشد وخصائصها النفسيَّة‪.‬‬

‫ظل ّ‬
‫الشعور َّ‬
‫بأن الهويَّة واالنتماء األصليين غير قادرين على احتوائه وإشباع طموحاته وتحقيق‬ ‫وفي ّ‬
‫الشباب العربي المسلم في أحضان نا ٍد يشجّ عه ليكون مالذاً يفرغ فيه‬
‫والشجاعة‪ ،‬يرتمي ّ‬
‫َّ‬ ‫اإلحساس بالنَّصر‬
‫شحنة الغضب واإلحباط من تر ّدي الواقع المعيش‪.‬‬

‫الصراعات السياسيَّة والعسكريَّة‪:‬‬


‫‪ّ -3‬‬

‫إن المتأمّل في ال َّدعوة اإلسالميَّة إبَّان انخراطها الكلّي في التَّاريخ‪ ،‬أي بعد وضع العلوم اإلسالميَّة‬
‫َّ‬
‫للذات ولآلخر قد صيغت بشكل نهائي‪ ،‬وقد‬ ‫أن الرؤية اإلسالميَّة ّ‬
‫وتركيز ال َّدولة نظاماً ومسؤوليَّات‪ ،‬يلحظ َّ‬
‫الصلح‪ ،‬وأهل الذمَّة‬ ‫َّ‬
‫تمخض عن هذه الرُّ ؤية مفاهيم أساسيَّة للهويَّة تميّز بين دار اإلسالم ودار الحرب ودار ّ‬
‫والمستأمنين والجهاد‪ .‬وإذا كانت دار اإلسالم تض ُّم َّ‬
‫كل األرضي الواقعة تحت سلطة اإلسالم السياسيَّة‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫دار الحرب تمثل مبدئيَّاً بقيَّة بلدان العالم التي ال تنتمي إلى دار اإلسالم‪ ،‬ممَّا يجعلها وفق ذلك هدفاً لحرب‬
‫المسلمين الشرعيَّة أو المسمَّاة جهاداً‪ .‬وقد كان العالم المسيحي البيزنطي ث َّم األوروبي تاريخيَّاً الممثّل األه َّم‬
‫لدار الحرب‪ .‬وبالتَّالي َّ‬
‫فإن الخلفيَّة الدينيَّة كانت العامل الحاسم في تشكيل رؤية المسلمين لهويَّتهم ولهويَّة‬
‫اآلخرين‪ .‬كما نما في هذا اإلطار مفهوم األمَّة‪ ،‬ال بالمعنى الجغرافي أو السياسي‪ ،‬وإنَّما بالمعنى ال ّديني‪ ،‬أي‬
‫ولكن الممارسة الفعليَّة لمصطلح دار اإلسالم لم يكن سائداً طيلة‬
‫َّ‬ ‫متجسدة في نطاق دار اإلسالم‪.‬‬‫ّ‬ ‫أمَّة اإلسالم‬
‫فترات طويلة من هذه المرحلة التَّاريخيَّة‪َّ ،‬‬
‫ألن المسلمين انقسموا إلى فرق دينيَّة متناحرة منذ الفتنة الكبرى‪.‬‬
‫إن إمبراطوريَّاتهم َّ‬
‫تفككت واستحالت إلى دول متصارعة‪.‬‬ ‫بل َّ‬

‫‪10‬ـ بن بلقاسم فريد‪ ،‬قضايا الهويَّة في اإلسالم المعاصر‪ ،‬دار سحر للنّشر‪ ،‬ط‪ ،1‬جانفي ‪ ،2013‬ص ‪.109‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪22‬‬
‫فمنذ القرن التَّاسع الميالدي ظهرت مراكز نفوذ مستقلّة عن سلطة الخليفة العبّاسي‪ ،‬بالمغرب وبخراسان‬
‫أسس الفاطميون خالفة مستقلّة تماماً‪ ،‬وطالبوا بقيادة العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫في المشرق‪ .‬كما َّ‬

‫وقد استمرَّ ت حال التجزئة والتّقسيم بدار اإلسالم بعد استيالء المغول على بغداد سنة ‪ ،1258‬فظهرت‬
‫ثالث دول كبرى هي تركيا وإيران ومصر سرعان ما أصبحت اثنتين بعد أن ض َّم األتراك العثمانيون مصر‬
‫إلى سلطانهم‪ .‬وقد تنازعت ال َّدولتان العثمانيَّة والصفويَّة حول ال ُّنفوذ في العالم اإلسالمي إلى ح ّد استنزاف‬
‫الصلح عليهما‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وتمكن ملوك أوروبا وأمراؤها من فرض معاهدات ّ‬ ‫قدرتيهما العسكريَّة‪،‬‬

‫السياق َّ‬
‫أن ال ّدين اإلسالمي لم يكن طيلة فترات ممت َّدة من تاريخه المح ّدد‬ ‫والجدير بالمالحظة في هذا ّ‬
‫الوحيد االنتماء والهويَّة‪ ،‬فكثيراً ما تداخلت معه مح ّددات أخرى كالمعطيات العرقيَّة ّ‬
‫والطائفيَّة والمذهبيَّة وحتَّى‬
‫والصراع ال َّدموي والمواجهات العسكريَّة بين ّ‬
‫السلطات الحاكمة في‬ ‫ّ‬ ‫السالالت الحاكمة‪ ،‬لذلك استمرَّ التّنافس‬ ‫ُّ‬
‫الشعور باالنتماء إلى أمَّة واحدة لم يكن شعوراً طاغياً‬
‫أن ّ‬‫المناطق المدع َّوة بدار اإلسالم‪ ،‬ممَّا يقيم ال َّدليل على َّ‬
‫نفسي أكثر منه تجسيداً فعليَّاً في‬
‫ّ‬ ‫وعامال ثابتاً في تحديد الهويَّة‪ .‬فما وجود مفهوم األمَّة سوى وجود رمزيّ‬
‫ً‬
‫الواقع التَّاريخي‪ .‬وعلى الرّ غم من أهميَّة شعار الهويَّة الذي رفعته البلدان العربيَّة اإلسالميَّة لل ّدفاع عن ذاتها‬
‫وكيان مجتمعاتها ض َّد عمليَّات االقتالع واالستئصال التي كان يمارسها المستعمر‪َّ ،‬‬
‫فإن نتائجه كانت عكسيَّة‬
‫السياسي واإليديولوجي مثّلت إحدى أه ّم‬
‫أن عمليَّة تكريس الواحد على المستوى ّ‬‫ال سيَّما بعد االستقالل‪ ،‬إذ َّ‬
‫التَّداعيات التي أ َّدى إليها ال ّدفاع عن الهويَّة الموحّ دة والواحدة‪.‬‬

‫مثال احتكرت األحزاب الحاكمة شعار الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة بوصفها أحزاباً‬
‫ً‬ ‫ففي المغرب العربي‬
‫معادلة لتاريخ النّضال والجهاد‪ .‬وح َّولت بذلك ذاتها إلى قطب واحد وأحاديّ قادر على ضمان تجسيد هويَّة‬
‫ً‬
‫قابال للخضوع للواحد ولمسيرته‬ ‫ً‬
‫حقال‬ ‫المجتمع والتَّاريخ‪ ،‬فأضحى بذلك الحقل السيّاسي بعد لحظة االستعمار‬
‫ياسي مغلقاً أمام أشكال المشاركة أو المنافسة أو المعارضة‪ .‬وال يقتصر األمر على إقليم‬
‫الس ّ‬‫فقط‪ ،‬وبات العمل ّ‬
‫العربي‪ ،‬بل إنَّنا نجد األمر نفسه في المشرق أيضاً‪ .‬إذ انبنت الهويَّة في مصر ً‬
‫مثال على العروبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المغرب‬
‫الزعيم الواحد الذي أصبح مرجعاً لتيَّار‬
‫واتَّخذت منها مصدراً رئيسيَّاً لطاقتها وحركيَّتها‪ ،‬ممَّا أ َّدى إلى خلق َّ‬
‫السيادة‬ ‫فإن إعالن الهويَّة مصدراً لتأسيس ّ‬
‫الشرعيَّة وإنتاج ّ‬ ‫العربي ّ‬
‫ككل‪ .‬وبالتّالي َّ‬ ‫ّ‬ ‫سياسي انتشر داخل الوطن‬
‫ّ‬
‫السياسي‪ ،‬وما هو إال نتيجة‬
‫ّ‬ ‫وإعادة إنتاجها وضمان ديمومتها ليس إال تبعة من تبعات شخصنة السلطان‬
‫ياسي المعقلن عن األنظمة السياسيَّة‬
‫الس ّ‬ ‫السياسي ومجتمعه‪ .‬وهكذا نفي ّ‬
‫الطابع ّ‬ ‫ّ‬ ‫من نتائج المماثلة بين الواحد‬
‫السياسي ومصدر شرعيّتها هويَّة‬
‫ّ‬ ‫العربيَّة اإلسالميَّة‪ ،‬ومنح في مقابل ذلك شرعيَّة قدسيَّة‪ ،‬رمزها الواحد‬
‫المجتمع الثّقافيَّة والدينيَّة الواحدة المغلقة والمتجانسة‪.‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪23‬‬
‫السياسيَّة داخليَّاً‪ ،‬وإلى الهزائم واالنتكاسات‬ ‫وقد أفضى ُّ‬
‫كل ذلك إلى االستبداد وتنامي االغتياالت واالنقالبات ّ‬
‫خارجيَّاً‪ ،‬من قبيل هزيمة الجيوش العربيَّة ض َّد إسرائيل سنة ‪ 1967‬واحتالل األراضي الفلسطينيَّة‪ ،‬فحتّى‬
‫السياسيَّة والعسكريَّة التي عقدت بين ال ّدول العربيَّة واإلسالميَّة لم يكتب لها النَّجاح‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن‬ ‫التحالفات ّ‬
‫ّ‬
‫ومنظمة المؤتمر‬ ‫الخليجي‬
‫ّ‬ ‫العربي ومجلس التَّعاون‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫منظمات من قبيلة جامعة ال ّدول العربيَّة واتّحاد المغرب‬
‫يجسد المصالح المشتركة ألعضائها سياسيَّاً وأمنيَّاً‪ ،‬ويضع‬
‫اإلسالمي قد فشلت في تقديم نموذج ناجح وفعَّال ّ‬
‫الصراع العسكري بين‬ ‫لحل المشاكل والخالفات ّ‬
‫الطارئة بينها‪ .‬ففي ثمانينات القرن العشرين دام ّ‬ ‫آليَّات ّ‬
‫العراق وإيران ثماني سنوات بأكملها‪ ،‬تكبَّد خالله الجيشان خسائر ماديَّة هائلة دون أن تحسم الحرب بشكل‬
‫نهائي وقاطع لصالح أحد الطرفين‪ .‬كما خلّف دخول الق َّوات العراقيَّة إلى الكويت مزيداً من التدهور‪ ،‬ليس‬
‫ّ‬
‫الخليجي فحسب‪ ،‬بل داخل المنطقة العربيَّة اإلسالميَّة برمَّتها‪ .‬إذا استصدرت الواليات‬
‫ّ‬ ‫ياسي‬
‫الس ّ‬‫في الواقع ّ‬
‫المتَّحدة وحلفاؤها تدابير من مجلس األمن تقضي بحصار اقتصاديّ وجويّ خانق على العراق‪ ،‬وبتجنيد اثني‬
‫أسطوال حربيَّاً إلضعاف الق َّوة العسكريَّة العراقيَّة وتدميرها‪.‬‬
‫ً‬ ‫عشر‬

‫فإن بعض المثقفين اعتبروها حرباً عربيَّة عربيَّة‪ ،‬وبرَّ ر ذلك‬


‫ولئن ع َّدت هذه الحرب غزواً استعماريَّاً‪َّ ،‬‬
‫‪11‬‬
‫العربي بين دوله وأنظمته من ناحية وبين أهله وشعوبه من ناحية أخرى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بما يدور من صراع في العالم‬

‫العربي اإلسالمي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر‬‫ّ‬ ‫والسياسي في العالم‬


‫ّ‬ ‫وقد ّ‬
‫تعقد المشكل األمني‬
‫السنة ذاتها‪ ،‬ث َّم في العراق ‪ .2003‬فتنامى لدى‬ ‫‪ 2001‬بالحرب ّ‬
‫الشاملة على اإلرهاب في أفغانستان في َّ‬
‫بأن حرب الواليات المتَّحدة والغرب عموماً تستهدف اإلسالم والمسلمين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الشعوب العربيَّة اإلسالميَّة شعور َّ‬
‫مثقفي الغرب بعدم الخلط بين اإلسالم واإلرهاب‪ .‬كما زادت‬ ‫الصادرة عن بعض ّ‬‫رغم محاوالت التّحذير َّ‬
‫خاصة عندما مارست الواليات المتحدة األمريكيَّة‬
‫َّ‬ ‫الشعور لدى المسلمين‪،‬‬‫بعض الوقائع من تأكيد هذا ّ‬
‫مضايقات وضروباً شتَّى من التّمييز على المسلمين المقيمين بها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر‪.‬‬

‫تكفلت بعض أجهزة اإلعالم الغربيَّة أيضاً باستفزاز نعرة التّ ُّ‬
‫عصب ومشاعر الحقد عند المسلمين‬ ‫وقد ّ‬
‫نبي اإلسالم‪ ،‬كما َّ‬
‫أن فيلم فتنة‬ ‫الصحف األوروبيَّة قصد إهانة ّ‬ ‫بنشر الرُّ سومات الكاريكاتوريَّة في بعض ّ‬
‫الذي أنتجه النَّائب الهولنديّ «غيرت ولدرز» قد أساء هو اآلخر لإلسالم والقرآن‪ .‬وال ننسى كذلك ما خلّفته‬
‫السادس عشر أثناء محاضرة له بألمانيا سنة ‪ 2005‬من ردود فعل سلبيَّة في أوساط‬
‫تصريحات البابا بيندكت َّ‬
‫‪12‬‬
‫المسلمين‪ ،‬ألنَّهم وجدوا في عباراته إساءة لإلسالم والمسلمين‪.‬‬

‫‪11‬ـ حرب علي‪ ،‬الممنوع والممتنع‪ ،‬المركز الثّقافي العربيّ ‪ ،‬الدّار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،1‬سنة ‪.1995‬‬
‫‪12‬ـ بن بلقاسم فريد‪ ،‬قضايا الهويَّة في اإلسالم المعاصر‪ ،‬دار سحر للنشر‪ ،‬ط ‪ ،2013‬ص ‪.120‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪24‬‬
‫فإن الوقائع السالف ذكرها مجتمعة قد عمَّقت التَّباعد الثّ َّ‬
‫قافي الحضاريَّ بين المسلمين والغرب‪،‬‬ ‫وبالتّالي َّ‬
‫فسي ومشاعر العداء‪ ،‬لتجعل أعداداً من مناطق مختلفة من العالم اإلسالمي تقع في‬ ‫وأجَّ جت ح َّدة التوتّر النّ ّ‬
‫السالح ال على اآلخر غير‬ ‫اإليديولوجي‪ ،‬وتنضوي ضمن حركات إسالميَّة إرهابيَّة رافعة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فخ االستفزاز‬
‫المسلم فحسب‪ ،‬بل حتَّى على من ينتمون إلى دائرة اإلسالم وال يشاركونهم انتماءاتهم وتص ُّوراتهم العقديَّة‪.‬‬
‫مثال مازال إلى يومنا هذا متدهوراً بفعل التّفجيرات التي تقوم بها الخاليا‬
‫ً‬ ‫األمني في العراق‬
‫َّ‬ ‫إن الوضع‬ ‫َّ‬
‫الشأن بالنّسبة إلى بلدان الثّورات العربيَّة التي أضحت بؤرة لتجنيد المجموعات المتطرّ فة‬
‫اإلرهابيَّة‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫وموطناً لتنفيذ العمليَّات اإلرهابيَّة‪ ،‬مستغلّة بذلك مناخ الحريَّة الذي أتاحته الثّورات من جهة وهشاشة الوضع‬
‫متعصب يصبح‬
‫ّ‬ ‫ظل انحصار هذه المجموعات ضمن انتماء واحد‬ ‫األمني والعسكري من جهة أخرى‪ .‬ففي ّ‬
‫الذات في تقديم نفسها‬ ‫قاتال ودافعاً إللغاء المختلف عنها‪ .‬لذلك يحلو لآلخر أن ّ‬
‫يوظف فشل ّ‬ ‫ً‬ ‫اإلحساس بالهويَّة‬
‫وليرسخ أيضاً خطاب الخوف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ليشكل صورة نمطيَّة سلبيَّة لإلسالم والمسلمين‪،‬‬ ‫أو االرتباك في تص ُّور الهويَّة‬
‫‪13‬‬
‫من اإلسالم‪ ،‬واعتبار المسلمين قنبلة موقوتة ض َّد الغرب‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬استرشاف الهو َّية‬

‫إن العامَّة أيضاً في‬ ‫ً‬


‫موكال إليهم فحسب‪ ،‬بل َّ‬ ‫ً‬
‫ومشغال‬ ‫ليست مسألة الهويَّة وقفاً على خطابات المثقفين‬
‫اإلطار العربي اإلسالمي تشعر بأمر يه ّدد مجريات حياتها اليوميَّة‪ ،‬وتتملّكها حالة من عدم االرتياح‪ ،‬أو ْ‬
‫لنقل‬
‫بأن األشياء ال تستقيم رغم افتقارها إلى آليات التّشخيص ومناهج التَّحليل‪.‬‬
‫إنَّها تحدس َّ‬

‫وإذا كانت ردود الفعل تجاه األزمات التي تتعرَّ ض لها المجموعات مختلفة‪ ،‬فإنَّه بقدر إدراك أفرادها‬
‫بتقصي جذورها أو بمعرفة تداعياتها‪ ،‬بقدر ما تكون قادرة على تجاوز المآزق التي تل ُّم‬
‫ّ‬ ‫حجم المشكلة‪ ،‬إن‬
‫بها وعلى إيجاد الحلول المالئمة لها‪.‬‬

‫التأزم التي أفضت إليها الهويَّة في الثّقافة العربيَّة اإلسالميَّة إلى انتهاج‬
‫ّ‬ ‫لذلك يقتضي اإلفالت من حالة‬
‫الذات والمصالحة معها‪ ،‬والثانية إعادة النَّظر في العالقة مع اآلخر‪.‬‬ ‫خطوتين متزامنتين‪ :‬األولى نقد ّ‬

‫‪ -1‬نقد ّ‬
‫الذات‪:‬‬

‫يحظى التّراث في العالم اإلسالمي بأهميَّة كبرى ألكثر من سبب‪ ،‬فهو يلعب دور هويَّة شاملة مطمئنة‬
‫ألن الخير الذي انتصر في الماضي على أعدائه سيعود‬ ‫تعد المسلم بمستقبل مضيء على صورة ماضية‪َّ .‬‬
‫يتمسك به المضطهدون‬
‫َّ‬ ‫مظفراً وأوسع انتصاراً‪ .‬وهذا الوعد بالنَّصر الذي‬
‫َّ‬ ‫حسب زعم المؤمنين بالتّراث‬

‫‪13‬ـ الجابري محمَّد عابد‪ ،‬مسألة العروبة واإلسالم والغرب‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربيَّة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان ط‪ ،1‬ص ‪.175‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪25‬‬
‫المدافعون عن حقوقهم يجعل الهويَّة التراثيَّة محمَّلة ببعد إيماني حاسم‪ ،‬بل إنَّه يعيّن اإليمان مرجعاً للهويَّة‬
‫‪14‬‬
‫وقواماً لها‪.‬‬

‫أن االبتعاد عن‬ ‫وتنطوي الهويَّة التراثيَّة على أبعاد تاريخيَّة تحيل على وقائع ومنجزات وأشخاص‪ .‬غير َّ‬
‫البداية المضيئة والقطع الحضاري معها يمزج التَّاريخ الوقائعي باألساطير‪ ،‬لهذا ال تستوي الهويَّة التراثيَّة إال‬
‫ألن ذاكرة المغلوبين تعتصم بالتّراث وتخلقه في آن واحد‪.‬‬
‫كهويَّة يتساكن فيها الواقعي والمتخيَّل‪َّ ،‬‬

‫وبالتّالي َّ‬
‫فإن الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة تنتسب إلى المق َّدس اإللهي‪ ،‬وتتفوق على غيرها من الهويَّات َّ‬
‫ألن‬
‫أن التّراث العربي اإلسالمي من هذا المنظور يغدو تراثاً مضمون القداسة‪ ،‬بحكم التَّاريخ‬ ‫ضامنها هو هللا‪ .‬كما َّ‬
‫المبني من‬
‫ّ‬ ‫الصادقون من جهة ولغة القرآن واالجتهاد الفكريّ الكاشف عن الطريق‬ ‫الذي صنعه المجاهدون َّ‬
‫يني المتوارث في عالقته بشؤون الحياة كلّها هو الذي يعيّن التّراث مرجعاً‬ ‫ولعل الخطاب ال ّد َّ‬‫َّ‬ ‫جهة أخرى‪.‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬بل َّ‬
‫إن أبعاده المق َّدسة ومنظوماته الرَّ مزيَّة‬ ‫ّ‬ ‫العربي‬
‫ّ‬ ‫للثّقافة المجتمعيَّة نظريَّاً وعمليَّاً في اإلطار‬
‫الشعوب أو من قبل الحكومات النَّاطقة‬ ‫تقضي ال ّدفاع عنه والحفاظ عليه والتَّذكير المتج ّدد به سواء من قبل ُّ‬
‫ّ‬
‫الحق في المستقبل‪،‬‬ ‫أن ال ّدفاع عن التّراث في دالئله المختلفة يتضمَّن بعدين‪ :‬أ َّولهما ال ّدفاع عن‬
‫باسمه‪ .‬إذ َّ‬
‫أن حجَّ ة الحفاظ على التّراث أفضت إلى‬
‫لماض مجيد مضيء‪ .‬إال َّ‬‫ٍ‬ ‫وثانيهما اإليمان َّ‬
‫بأن المستقبل استئناف‬
‫ألن الوعي التراثي العربي اإلسالمي قد تعيَّن لدى المتماهين مع التراث شـأن السيّد قطب ً‬
‫مثال‬ ‫تكبيله وتقييده‪َّ ،‬‬
‫السابق لإلسالم‪ ،‬وزمن الجاهليَّة الجديدة‬ ‫بزمنين‪َّ :‬‬
‫الزمن األ َّول منقسم بدوره إلى زمنين‪ :‬زمن الجاهليَّة القديمة َّ‬
‫الزمن الثاني فهو زمن انتصار ال َّدعوة اإلسالميَّة الذي أعاد تأسيس َّ‬
‫الزمن‬ ‫أو جاهليَّة القرن العشرين‪ ،‬أمَّا َّ‬
‫البدهي إذن أن يؤ ّدي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫فاضال ال نقص فيه وال اعتالل‪ .‬فمن‬ ‫اإلنساني على قواعد جديدة‪ ،‬وجاء ليبني مجتمعاً‬
‫العربي اإلسالمي كلّه في كلمة التّراث إلى الوقوع في منزلقات ثالثة‪ :‬يتمثّل المنزلق األ َّول‬
‫ّ‬ ‫اختصار التَّاريخ‬
‫واإلنساني‪ ،‬كما يفضي المنزلق‬
‫ّ‬ ‫في المجانسة بين األزمنة‪ ،‬أمَّا الثاني فإنَّه يكرّ س عدم الفصل بين اإللهي‬
‫الثّالث إلى تحويل التَّاريخ برمَّته إلى حكاية مجرَّ دة عن وحدة اإليمان واالنتصار‪ ،‬ممَّا يلغي علم التَّاريخ‬
‫ويح ّوله إلى سرد أقرب إلى الحكايات واألساطير‪.‬‬

‫ولن يختلف التَّعاطي مع التّراث أيضاً إذا ما تعلّق األمر باللّغة العربيَّة‪ ،‬لكونها لغة كتاب مق َّدس نطق بها‬
‫أن هذه اللّغة المق َّدسة تصبح لغة عاديَّة حينما يتداولها البشر في حياتهم اليوميَّة‪،‬‬ ‫آدم وإبليس من قبله‪ .‬غير َّ‬
‫إن في اللّغة العربيَّة لغات دنيويَّة مثل العاميَّة واللّغة الرسميَّة ولغة االختصاص التي يستعملها األطباء‬
‫بل َّ‬
‫فإن اعتبار اللّغة العربيَّة لغة مق َّدسة في ّ‬
‫جل درجاتها يقضي عليها بالثّبات‬ ‫والمهندسون وغيرهم‪ .‬لذلك َّ‬
‫ويكفر َّ‬
‫كل دعوة لتبسيط قواعدها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والجمود‬

‫‪14‬ـ درَّ اج فيصل‪ ،‬الحفاظ على التّراث واالعتراف بالتّاريخ‪ ،‬المجلّة العربيَّة للثّقافة‪ ،‬عدد ‪ ،53‬ديسمبر ‪ ،2008‬ص ‪.11‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪26‬‬
‫النص القرآني وبين العربيَّة في‬
‫ّ‬ ‫فالذهنيَّة التراثيّة مأخوذة بالثّبات وال تفصل بين العربيَّة المق َّدسة في‬
‫بالسكون والخلط بين التّقديس والثّبات‪ ،‬كما لو كان في قبول‬‫استعماالتها الدنيويَّة‪ ،‬ممَّا يجعلها حينئذ محكومة ّ‬
‫َّ‬
‫ولعل الميزة األبرز للتديّن الفلكلوري هو الخلط بين اإليمان والثّبات‪.‬‬ ‫التط ُّور ما يعارض اإليمان والمق َّدسات‪.‬‬
‫أن في التشبُّه باألقدمين لباساً وهيئة انتساباً حقيقيَّاً إلى زمنهم الماضي‪ ،‬والحال َّ‬
‫أن الوفاء‬ ‫إذ يعتقد أتباعه َّ‬
‫األمثل للتّاريخ العربي اإلسالمي ال يكون إال بالمساهمة في إثراء الحضارة العالميَّة الرَّ اهنة‪ ،‬واالضطالع‬
‫بال َّدور الحضاري الذي كان يقوم به العرب والمسلمون في الماضي‪.‬‬

‫فاألكيد أنَّه ال مهرب من تحرير التّراث من العوائق ال ّداخليَّة التي تمنع عنه الوضوح والبساطة‪ ،‬وتحول‬
‫بالشلل دون‬ ‫ً‬
‫جاهال بمتغيّرات العالم يصاب ّ‬ ‫ألن التّراث الذي يراوح في مكانه‬ ‫بينه وبين الرّ كود والمراوحة‪َّ ،‬‬
‫أن يدري‪ .‬لذلك يجب الفصل بين معنى الماضي كحقبة زمنيَّة مح َّددة نشأت وابتعدت نتيجة سياقات ومسببّات‪،‬‬
‫وبين معنى التَّاريخ كحركة مستمرَّ ة تفرّ ق بين ما انقضى وما استج َّد‪ ،‬انطالقاً من تغيّر الحاجات البشريَّة‪ ،‬بل‬
‫إنَّه يجب التمييز أيضاً بين استلهام الموروث بما فيه من ق َّوه إيجابيَّة أخالقيَّة هائلة‪ ،‬وبين االنبهار بالتّراث‬
‫الزمن الرَّ اهنة‪ ،‬وحالماً بالعودة إلى زمن لن يعود‪.‬‬ ‫الذي يجعل العقل التّراثي متغاضياً عن قضايا َّ‬

‫فاعال في الحاضر ومسهماً في إضاءة القضايا الرَّ اهنة‪ ،‬بنقده وتطويره‬


‫ً‬ ‫وال قيمة للتّراث ما لم يكن‬
‫تجسر المسافة بين الحاضر والماضي الستشراف المستقبل‪ .‬فلكي تعقل ّ‬
‫الذات‬ ‫وإدراجه في ثقافة تاريخيَّة ّ‬
‫ُوضح بلغة بسيطة تنقله من وضع العموميَّة الغامضة المجرَّ دة إلى وضع‬ ‫ذاتها ال ب َّد أن يُشرح التّراث وي َّ‬
‫ويتبصر‬
‫ّ‬ ‫الصلة بمن يقرأه جيّداً‪،‬‬
‫أن حياة التّراث شديدة ّ‬
‫الموروث الواضح الذي يعيه المؤمنون به ويفهمونه‪ .‬إذ َّ‬
‫مضامينه‪ ،‬ويصيّره إلى عالقة حيَّة ضمن الحياة اليوميَّة‪ ،‬ألنَّه ال انفصال بين حياة التّراث وحياة البشر‪ ،‬إال‬
‫الزمن المنقضي الذي َّ‬
‫تشكل فيه تراثهم‪.‬‬ ‫الزمن الذي يعيشون فيه‪ ،‬ولفحوى َّ‬ ‫إذا كانوا غير مدركين لمعنى َّ‬

‫فبقدر ما يكون الوعي التّراثي مرتقياً على مستوى التّراث بقدر ما يضمن له الوضوح‪ ،‬ويح ّوله في ما‬
‫بعد منجزاً راقياً يحتوي على فضائل زمانه وفضائل أزمنة سابقة‪ .‬والمقصود بذلك َّ‬
‫أن معرفة التّراث ال تستقيم‬
‫شكال ومضموناً مح َّددين‪ .‬فإذا كانت‬
‫ً‬ ‫إال بمعرفة بدايته‪ ،‬والتعرّ ف على السببيَّة الموضوعيَّة التي أملته وأعطته‬
‫فإن فهم الموروث واستيعابه‬ ‫كل ظاهرة تراثيَّة تنزع في منطقها ال ّداخلي إلى حجب أصلها كي تبدو أزليَّة‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫يستوجب النَّظر في تاريخيّته التي تبرهن أنَّه لن يكون خالداً ما لم يعترف باختالف األزمنة وبحاجات اإلنسان‬
‫المتغيّرة في األزمنة المختلفة‪ .‬فإذن هناك فرق بين وعي تراثي مغلق يؤمن بأزليَّة التّراث ويجمّده في لحظة‬
‫الميالد معرضاً عن مفهوم َّ‬
‫السبب والسببيَّة‪ ،‬وبين وعي تراثي تاريخي يرى حياة التّراث في ترهينه وتقسيمه‬
‫أن مثل هذا التحقيب يقضي‬ ‫إلى حقب تراثيَّة متباينة الختالف أسبابها التي ح َّددت ظهورها وابتعادها‪ .‬إذ َّ‬
‫ّ‬
‫المنحط أيضاً‪،‬‬ ‫بإنكار مقولة التّسليم بأسطورة التّراث المتجانس‪ ،‬ويعترف باالزدهار كما يعترف باالجترار‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪27‬‬
‫والسياق وبين التّراث والمنتسبين إليه‪ .‬فقراءة التّراث بمناهج علميَّة متق ّدمة‬
‫ألنَّه يتلمَّس العالقة بين الموروث ّ‬
‫وصوال إلى المعارف الحديثة تكفل معارضة اإلسقاط اإليماني‬ ‫ً‬ ‫عليه وبمعارف جاءت بها األزمنة التي أعقبته‬
‫أن هذا اإلسقاط يجهل ما يجب معرفته ويخترع ما ال وجود له‪ ،‬ألنَّه‬ ‫الذي ينسب إلى التّراث ما ليس فيه‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن القرآن كتاب في علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا‪ ،‬والحال أنَّه خطاب ديني يتح َّدث ببالغة عالية‬
‫يعتقد َّ‬
‫تخص البشر كالحياة والموت واآلخرة‪ ،‬فاإلسقاط اإليماني المطمئن ليس إال تعبيراً‬
‫ُّ‬ ‫عن موضوعات أساسيَّة‬
‫عن الجهل والكسل واالنغالق وعن عدم االعتراف بالعلم وبالوسائل الماديَّة المختلفة في بناء الحضارة‪.‬‬
‫وإذا ما أردنا أن نصون الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة صيانة حقيقيَّة‪ ،‬فإنَّه يتحتَّم االعتراف بالعقل اإلنساني‬
‫الزمن العالمي ثقافة وإنجازات علميَّة متوالدة من‬ ‫الزمن اإليماني وبين َّ‬ ‫من جهة‪ ،‬والتّمييز بين خصوصيَّة َّ‬
‫أن وحدة العقل واإليمان هي التي تسمح بالفصل بين المق َّدس وال ّدنيوي‪ ،‬وبنزع القداسة عن‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬إذ َّ‬
‫أن هناك خارج النّصين التّأسيسيين ما ال يحتمل التّقديس‪ ،‬فإنَّه من األجدر‬
‫ظواهر ال تحتمل التّقديس‪ .‬وبما َّ‬
‫إن تفعيل التّراث ونقله‬
‫قراءته بمناهج نقديَّة دنيويَّة تحافظ على التّراث وال تخدش المق َّدس في شيء‪ ،‬بل َّ‬
‫من األسطورة إلى الواقع ال يستقيم إال بتأمّل التّاريخ اإلسالمي في جميع حقبه وأطواره‪ .‬فأنسنة الماضي‬
‫واختباره بأدوات علم التّاريخ يتيح التّعامل مع المسلمين المتق ّدمين كبشر يصيبون ويخطئون مثل بقيَّة البشر‬
‫أن عالقته وطيدة‬ ‫الصلة بمعنى الوعي الثّقافي الذي يتعامل معه‪ ،‬أي َّ‬
‫فإن معنى التّراث شديد ّ‬ ‫جميعاً‪ .‬وبالتّالي َّ‬
‫ألن تاريخه شهد حقباً‬ ‫بثقافة المؤولين‪ .‬كما تجدر المالحظة أيضاً َّ‬
‫أن التّراث ليس له وجود بصيغة المفرد‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫متوهم ال‬ ‫ّ‬
‫منحطة‪ .‬فالتّعامل مع التّراث بصيغة المفرد أو المق َّدس يفضي إلى تاريخ تلفيقي‬ ‫مزدهرة وأخرى‬
‫َّ‬
‫ولعل‬ ‫يساعد على فهم أسباب االزدهار في حقبة معيَّنة ويحجب عوامل االنحطاط والتقهقر في حقب أخرى‪.‬‬
‫والسياسي والثّقافي‬
‫ّ‬ ‫الكتابة التلفيقيَّة التّمجيديَّة هي التي تنحو هذا المنحى لكونها تختصر التّاريخ االجتماعي‬
‫العربي اإلسالمي في زمنيَّة متجانسة أو شبه متماثلة‪ ،‬وفي مقابل ذلك فإنَّها تهمّش وجوهاً أساسيَّة من التّراث‪،‬‬
‫وغني‬
‫ّ‬ ‫أن الموروث العربي اإلسالمي متن ّوع‬ ‫أن التراث هو ال ّدين وال شيء غير ذلك‪ ،‬والحال َّ‬ ‫ظنَّاً منها َّ‬
‫ألن في تاريخ الحضارة العربيَّة اإلسالميَّة اتّجاهات عقليَّة في بعض تجليّاتها‬
‫باإلنجازات التراثيَّة القيّمة‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫ولكن جوهرها عصري وحديث‪ .‬فالتفكير في المكاسب الماديَّة والمعنويَّة التي مازالت تحتفظ بألقها في‬ ‫قديمة‬
‫تخص المسلمين فحسب بل البشريَّة قاطبة‪ ،‬ممَّا يدفعنا إلى العدول عن القطيعة مع‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫والفن والفكر ال‬ ‫العمارة‬
‫ألن هذه المنجزات مازالت تعيش فينا‪ ،‬وهي إبداعات جديرة بالعناية واالهتمام‪َّ .‬‬
‫لكن المشكلة‬ ‫الماضي برمَّته‪َّ ،‬‬
‫تكمن في القدرة على التّمييز بين ما يجب تركه والتخلّي عنه لكونه لم يعد صالحاً لزماننا‪ ،‬وبين ما ينبغي‬
‫للتمكن من ّ‬
‫فك االرتباط بين الفكر‬ ‫ّ‬ ‫الحفاظ عليه‪ 15،‬فال مفرَّ إذن من الجرأة على تجاوز الخطابات التمجيديَّة‪،‬‬
‫وإطالقيَّة الحقيقة‪ ،‬والتخلّي أيضاً عن ديكتاتوريَّة المعنى وأحاديَّة الفكر‪ .‬إذ ال أحد يمكنه ا ّدعاء امتالك معنى‬
‫نص من النصوص أو حدث من األحداث‪ .‬فالمعنى مفتوح على التع ُّدد والتن ُّوع وال ًنّسخ والتب ّدل‪ ،‬وإذا كانت‬
‫ّ‬

‫‪15‬ـ الشرفي عبد المجيد‪ ،‬الثورة واإلسالم والحداثة‪ ،‬دار الجنوب للنّشر‪ ،‬ط ‪ ،1‬نوفمبر ‪.2011‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪28‬‬
‫فإن المعنى كذلك ال يدرك إال كتفسير وتأويل أو كصرف‬ ‫الحقيقة ال تفهم إال على أساس الخلق واإلبداع‪َّ ،‬‬
‫توصلنا إلى فهم ما يحدث ال يعني أنّنا أدركنا حقيقة متعالية‪ ،‬وإنَّما يجب التّعاطي مع هذا‬
‫وتحويل‪ .‬فحتَّى إن َّ‬
‫الفهم على أساس أنَّه دافع الجتراح إمكانات أخرى‪ ،‬والستحداث آفاق معرفيَّة ال متناهية‪ .‬فإذا نظرنا ً‬
‫مثال إلى‬
‫تتوقف‪ُّ .‬‬
‫وكل تأويل جديد‬ ‫تفاسير النّصوص وشروحاتها المتعاقبة ونسخها المتع ّددة نجدها سلسلة تأويالت ال ّ‬
‫إنَّما هو إعادة صياغة للمعنى بإقحام مناطق جديدة للتفكير أو اشتقاق أدوات جديدة للتعبير‪ ،‬ممَّا يقودنا إلى‬
‫إدراك معنى المعنى أو إنتاج المعنى عبر اإلحالة واالنزياح أو الحزق والتّجاوز أو النَّسخ والتبديل‪.‬‬

‫ّ‬
‫وتشظيه هو الكفيل برفع اليد عن النّصوص المق َّدسة المحتكرة‬ ‫وبالتّالي َّ‬
‫فإن فتح الباب لتفجير المعنى‬
‫الضامن للتّعامل معها بوصفها منابع دالليَّة يمكن استثمارها كرؤوس أموال رمزيَّة من‬
‫للمعنى‪ ،‬كما أنَّه َّ‬
‫نواح‪ ،‬سواء كانت عقائديَّة تشريعيَّة أو روحيَّة خلقيَّة أو معرفيَّة جماليَّة‪ .‬فالنّصوص المق َّدسة التوحيديَّة‬
‫ٍ‬ ‫ع ّدة‬
‫كتب صيغت بلغة الغيب لكي توجّ ه إلى اإلنسان‪ ،‬وهي سلع رمزيَّة توضع برسم التَّداول للجميع‪ ،‬وبذلك‬
‫معرفي‬
‫ّ‬ ‫خاص بديانة أو طائفة إلى ملك عا ّم أو إلى مشاع‬
‫ّ‬ ‫تتح َّول العالقة مع عالم هللا وأنبيائه وكتبه من ملك‬
‫ال أحد أولى به من غيره‪ ،‬ممَّا يفضي إلى إلغاء ال َّدعاوى والتّهم الدينيَّة‪ ،‬وإلى تقويض قاعدة االرتداد‬
‫كل واحد إيمانه على طريقته وبحسب تجربته وميدان عمله‪ .‬فمثل‬ ‫وإطالق حريَّة االعتقاد‪ ،‬ليمارس ُّ‬
‫أن خطاب‬‫هذا التَّعامل الجديد مع النصوص المق َّدسة يتيح فرصة جديدة لممارسة حقوق اإلنسان‪ .‬وبما َّ‬
‫هللا موجَّ ه إلى اإلنسان عامَّة‪ ،‬فله أن يتعامل معه ّ‬
‫بالطريقة التي يختارها‪ ،‬شرط احترام آداب المناظرة‬
‫‪16‬‬
‫العقالنيَّة وقواعد المحاورة ال ّديمقراطيَّة‪.‬‬

‫فإن تفجير المعنى وزعزعة عالقته باألصل يجعالن الحقيقة نسبيَّة‪ ،‬ويجنّبان القراءة األحاديَّة‬
‫وهكذا َّ‬
‫أن إقامة عالقة مع األصل على أساس‬ ‫الجامدة التي تحتكر المعنى وتستبعد المختلف وتستأصل اآلخر‪ .‬كما َّ‬
‫التوسع والتط ُّور واإلثراء والتج ُّدد‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الحي يفتح اآلفاق أمام‬
‫ّ‬ ‫أنَّه متغيّر ومتحرّ ك ومتح ّول على أرض الواقع‬
‫أمَّا منطق المطابقة والمماثلة‪ ،‬فإنَّه يس ُّد األفق ويوصد األبواب ويقمع المساءلة واالعتراض ويقفل باب‬
‫متجسداً كفرع‬
‫ّ‬ ‫النّقاش ويصادر الكالم‪ .‬ففي جعل المعنى يدرك بالنَّسخ والتح ُّول إقرار َّ‬
‫بأن األصل أضحى‬
‫ونسخة غير مطابقة لألصل ومختلفة عنه‪ ،‬وهو اختالف ين ُّم عن استقالليَّة الفكر والقدرة على الخلق واإلبداع‬
‫الذاكرة‪ ،‬إنَّما هو يتحرَّ ر من المسبقات والمصادرات‪ ،‬ويتعاطى‬ ‫أن االبتكار ال ينقطع كليَّاً عن ّ‬
‫والتج ُّدد‪ .‬غير َّ‬
‫مع الموروثات ال بوصفها سلطات مق َّدسة بل كمعطيات وجوديَّة يجري االشتغال عليها لتحويلها عبر إعادة‬
‫ومركبة فهي تتطلّب التمثّل واالستيعاب وال ّدمج‬
‫َّ‬ ‫صياغتها وتشكيلها وبنائها وتنظيمها‪ ،‬وبما أنَّها عمليَّة ملتبسة‬
‫والتالؤم أو التّفاعل والتّبادل‪ ،‬ممَّا يفسح المجال أمام المرء لفهم األحداث ويجابه التّغييرات في الوقائع‬
‫ّ‬
‫تتشكل‬ ‫واألفكار بنوع من التّفكيك والتّركيب‪ ،‬ويعيد تشكيل مرجعيَّات الفكر وأطره واستراتيجياته‪َّ .‬‬
‫وإذاك‬

‫‪16‬ـ حرب علي‪ ،‬العالم ومأزقه‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدّار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪ ،1‬سنة ‪ ،2002‬ص ‪.169‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪29‬‬
‫هويَّة غنيَّة متصالحة مع ذاتها وغير متعالية عن الوقائع‪ ،‬ألنَّها تجعل صاحبها قادراً على الخلق والتج ُّدد‬
‫والتَّجاوز والعبور من خالل سيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء‪ .‬وبهذا المعنى تصبح الهويَّة ال مجرَّ د‬
‫مماهاة مع َّ‬
‫الذات من خالل طيف أو صورة أو نموذج‪ ،‬بل تمسي مركباً ثقافيَّاَ تتداخل فيه طبقات متراكمة‬
‫وعناصر متباينة وروافد متعددة‪ ،‬وتضحي هويَّة المرء أيضاً طاقة حيَّة متحركة‪ ،‬وصورة تتيح له قراءة‬
‫األحداث ومجابهة التحديات لتخرجها على سبيل التداول والتواصل‪.‬‬

‫وال محيد عند مراجعة الذات عن إعادة النظر في مفهوم الوحدة بين النّظراء بغاية بنائه من جديد‪ ،‬ال على‬
‫ال‪ .‬فالواقع المعيش ليس إال معطى متحرّ كاً ومضطرباً وقائماً‬ ‫أساس التّجانس وإنَّما على أساس االختالف أ َّو ً‬
‫مؤسسة أو دولة أو أمَّة‪ .‬وهذا‬
‫َّ‬ ‫على الفروق واالختالف أو التَّفاوت والتفاضل‪ ،‬سواء تعلّق األمر بأسرة أو‬
‫األمر يمكن معاينته على جميع األصعدة والمستويات‪ .‬لذا ال يمكن التسليم بالتطابق بين شيئين أو شخصين‪،‬‬
‫مثلما أنَّه يستحيل التماهي بين صعيد وآخر‪ .‬ولكي نصل إلى ٍّ‬
‫حل ال ب َّد من إيجاد صيغ وتراكيب ّ‬
‫تمكن من‬
‫جمع المت َفرّ ق وتوليف المختلف بخلق قيم تبادليَّة وأفكار وسطيَّة وبناء منظومات تواصليَّة وعقليَّات منفتحة‪.‬‬

‫أن المتماثلين ليس لديهم سوى التّباين‬


‫وبهذا تبنى الوحدة على المختلف‪ ،‬وليس على المماهاة‪ ،‬ذلك َّ‬
‫َّ‬
‫يتسن‬ ‫والتعارض أو الخالف والنّزاع‪ ،‬وال يسودهم غير إرادة اإللغاء‪ ،‬حتَّى تجعل اآلخر صورة أو آلة‪ .‬فإن لم‬
‫َّ‬
‫ويكفر‪ .‬ولنفترض َّ‬
‫أن المتماثلين قد أقاموا وحدة على أكثر من عنصر‬ ‫ذلك فإنَّه يهّمش ويلغى دوره ويخ َّون‬
‫أسسوا وحدتهم على التّجانس ال‬
‫انتماء بما يجعل إرادة اإللغاء والنّزاعات ضعيفة‪ ،‬فإنَّهم في واقع األمر قد ّ‬
‫على االنسجام‪ .‬إذ التَّجانس يفضي إلى مجموعة مغلقة وكيان يجتمع أفراده حول المواصفات نفسها متقاسمين‬
‫القناعات ذاتها‪ ،‬فتسهل بذلك إدارتهم والسيطرة عليهم واحتواؤهم‪ .‬أمَّا اإلنسجام فإنَّه يرمي إلى اتّحاد مجموعة‬
‫منفتحة ال تخشى على نفسها تع ُّدد المشارب‪ ،‬وهي قادرة كذلك على تحويل أطيافها إلى ثراء فكريّ وإبداعي‪،‬‬
‫‪17‬‬
‫وتشب على ثقافة وممارسات متسامحة تسهّل عليها التَّعامل مع اآلخر‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فيتسع صدرها لقبول االختالف‪،‬‬

‫فالوحدة القائمة على المماهاة وذهنيَّة التماثل والتطابق‪ ،‬إنَّما هي وحدة مل ّغمة من داخلها‪ ،‬ألنَّها تقوم على‬
‫تبسيطي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نفي الواقع المولّد دوماً لالختالف‪ ،‬وهي كذلك صادرة عن فكر أحاديّ‬

‫أن َّ‬
‫كل واحد منهم يعمل‬ ‫مؤسسات اتّحاديَّة ناجحة أو مثمرة‪ ،‬إذ َّ‬
‫أمَّا المختلفون فهم القادرون على إنشاء َّ‬
‫خط للتواصل‪ ،‬أو تشكيل وسط للتحرك‪ ،‬أو نسج‬ ‫على فكرة واختالفه ليالقي اآلخر ويتفاهم معه‪ ،‬إمَّا بفتح ٍّ‬
‫شبكة للتداول والتبادل‪.‬‬

‫‪17‬ـ المرايحي لطفي‪ ،‬الهويَّة العربيَّة‪ :‬فجوة األدلجة والواقع‪ ،‬األطلسيَّة للنشر ط‪ ،1‬سنة ‪ ،2011‬ص ‪.18‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪30‬‬
‫َّ‬
‫محل تشريح وتفكيك‪ ،‬ألجل إعادة البناء‬ ‫الذات والفكر والقناعات والممارسات‬ ‫وإذن ال مهرب من وضع َّ‬
‫والصياغة بابتكار الجديد والمالئم أو الفعَّال والمثمر من التّوجُّ هات والمرجعيَّات أو اللغات أو المعادالت‬
‫ّ‬
‫أو القيم والمفاهيم واألساليب‪ .‬وال غنى عن المشاركة الفعَّالة في صناعة الحياة وإدارة العالم‪ ،‬ال سيَّما بعد‬
‫انحسار الشعارات والمعادالت والمشاريع القوميَّة أو ال ّدينيَّة أو التّراثيَّة أو الحداثيَّة‪.‬‬

‫أن لغة النّرجسيَّة ّ‬


‫والطوباويَّة واألصوليَّة االصطفائيَّة والحتميات المنغلقة والفكر االستبدادي والثّنائيَّة‬ ‫إذ َّ‬
‫والضديَّة الحاسمة وخطاب المؤامرة واستعداء العالم ووضع المالمة على الغير والقفز على الوقائع‪ ،‬ليست‬
‫إال ممارسات فكريَّة ساهمت في تلغيم المشاريع الحضاريَّة التنمويَّة وفي خسارة القضايا المصيريَّة‪.‬‬

‫‪ -2‬مراجعة العالقة باآلخر‬

‫إذا كانت الخطوة األولى تبدأ بنقد الذات والتصالح معها لتجاوز مأزق الهويَّة‪ ،‬فإنَّه ال مفرَّ أيضاً من القيام‬
‫بالخطوة الثانية متزامنة‪ ،‬وذلك بإعادة النظر في العالقة باآلخر‪.‬‬

‫فالعرب والمسلمون يتحمَّلون نصيباً ال بأس به في تشنّج عالقاتهم بالغرب وتعميق ه ًّوتها مع اآلخر‪ ،‬من‬
‫ً‬
‫فضال عن‬ ‫بحقهم من قبل الغير‪،‬‬‫حيث يشعرون أو ال يشعرون‪ ،‬ألنَّهم يرفضون التقييمات السلبيَّة الصادرة ّ‬
‫كونهم ال يحسنون التَّعامل مع اآلخر‪ ،‬واألخطر من ذلك أنَّهم غائبون عن المشاركة في صناعة الحضارة‬
‫الكونيَّة أو اإلسهام أو االبتكار في ميادين الثّروة والقيمة أو العلم والتّقنية‪ .‬كما أ َّدى العجز عن استيعاب حداثة‬
‫الغرب وثقافته إلى االنجراف نحو مقاومته بشتَّى األشكال وإلى مزيد من التَّبعية واالستسالم للغرب‪.‬‬

‫إذ بتعلة ال ّدفاع عن الخصوصيَّة والخوف على الهويَّة من زحف الحداثة‪ ،‬تستبعد األطروحات الحداثيَّة‬
‫وتقصى من دائرة التفكير‪ .‬لذلك طرحت قضيَّة الهويَّة لدى القوى المحافظة كض ٍّد للحداثة أو للغرب‪.‬‬
‫أن الحداثة ليست مفهوماً‬ ‫وارتبطت الحداثة في أذهان أوصياء الهويَّة بمفهوم االغتراب واالنبتات‪ ،‬غير َّ‬
‫إجرائيَّاً اجتماعيَّاً أو سياسيَّاً أو تاريخيَّاً يمكن االختالف حوله‪ ،‬بل هي نمط حضاريّ تتميَّز به البلدان األكثر‬
‫الغربي‪ ،‬كما تحقق منذ القرن‬
‫ّ‬ ‫تق ُّدماً تقنيَّاً واقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وسياسيَّاً‪ ،‬ممَّا يعني أنَّها النَّمط الحضاريّ‬
‫السابع عشر للميالد في أوروبا ث َّم في أمريكا واليابان‪ .‬وإذا كانت هناك صفة جامعة يمكن على ضوئها فهم‬
‫شك الجرأة على كسر حدود المعرفة‪ .‬إذ هناك سعي متواصل إلى الكشف‬ ‫المسار العام للحداثة‪ ،‬فهي بدون ّ‬
‫الطبيعة فحسب‪ ،‬بل تشمل أيضاً تكوين اإلنسان‬ ‫عن الحقيقة من وراء المظاهر‪ .‬وال تقتصر محاولة الفهم على ّ‬
‫والسياسيَّة‪ .‬فالرَّ غبة في المعرفة‬
‫ّ‬ ‫المؤسسات ال ّدينيَّة‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫فضال عن سبر آليات اشتغال‬ ‫فيزيولوجيَّاً ونفسانيَّاً‪،‬‬
‫‪18‬‬
‫المدعومة من إرادة التغيير سمة بارزة من سمات الحداثة‪.‬‬

‫‪18‬ـ الشرفي عبد المجيد‪ ،‬لبنات‪ ،‬دار الجنوب للنشر‪ ،‬تونس‪ ،1994‬ص ‪.19‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪31‬‬
‫َّاسي اعتبروا منتمين إلى الساحة الثقافيَّة اإلسالميَّة‪ ،‬فإنَّه ال انفكاك كذلك‬ ‫ومثلما َّ‬
‫أن الناس في العصر العب ّ‬
‫من اعتبار النَّاس في العصر الحديث منتمين أيضاً إلى فضاء الحضارة الغربيَّة‪ ،‬حتَّى وإن كانت العالقة بيننا‬
‫ألن التَّبادل الحاصل بين العرب والغرب جلي‪ ،‬وليس مقتصراً‬
‫وبين الغرب قائمة على التّحدي والتنافس‪َّ ،‬‬
‫على الجانب التّقني فحسب‪ ،‬بل هو قبل ّ‬
‫كل شيء فضاء فكري وعالم معرفي‪.‬‬

‫فالحضارة الحديثة ليست حضارة الغرب وحده‪ ،‬وإنَّما هي حضارة اإلنسان في طور من أطواره‪ ،‬مثلما‬
‫أن الحضارة العباسيَّة كانت حضارة اإلنسان في طور قديم من أطواره‪ .‬وبالتَّالي يمكن القول إنَّنا نعيش منذ‬
‫َّ‬
‫الصناعيَّة واإللكترونيَّة‪ ،‬أمَّا الحضارة اإلسالميَّة فإنَّها‬
‫زمن بعيد في فضاء حضارة عالميَّة واحدة بموجتيها ّ‬
‫الزراعي بوسائلها وتقنياتها وبتنظيماتها ومنتوجاتها‪ ،‬وهي كغيرها من الحضارات القديمة‬ ‫تنتمي إلى العصر ّ‬
‫سلبي‬
‫ّ‬ ‫يبق منها سوى آثارها وشواهدها‪ .‬وإذا كان ثمَّة موقف‬ ‫باتت حضارة ميّتة‪ ،‬أو أنَّها فقدت فاعليتها ولم َ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فإنَّه غير موجَّ ه إلى الحضارة العربيَّة اإلسالميَّة الغابرة‬
‫ّ‬ ‫عدائي من قبل الغرب تجاه العالم‬
‫ّ‬ ‫أو‬
‫المتجسدة‬
‫ّ‬ ‫والحائزة على اإلعجاب بالمنجزات واآلثار الباقية‪ ،‬وإنَّما مص َّوب إلى الثّقافة اإلسالميَّة أو العربيَّة‬
‫بشكل خاص في الجوانب العقائديَّة ال ّدينيَّة أو اإليديولوجيَّة القوميَّة القديمة والحديثة‪ .‬فال مبرّ ر إذن للخوض‬
‫ثقافي باألساس‪ ،‬وال معنى كذلك ألن يقف المرء ض َّد مكتسبات الحضارة‬
‫ّ‬ ‫الصراع‬ ‫في صراع حضاريّ ‪َّ ،‬‬
‫ألن ّ‬
‫السائدة‪ ،‬بل ما من أحد إال ويرغب في االستفادة ممَّا أنجزته هذه الحضارة من االختراعات واألدوات‬
‫َّ‬
‫والمنتجات في تحقيق مشاريعه أو تحسين شروط حياته‪ .‬ويشهد على ذلك ال ُّدعاة من رجال ال ّدين المسلمين‬
‫الشاشات ّ‬
‫لبث دعاويهم وشرح فتاواهم أو لل ّدفاع عن آرائهم‬ ‫الذين يمارسون نجوميّتهم من فرط ظهورهم على ّ‬
‫‪19‬‬
‫وأطروحاتهم‪.‬‬

‫وإذا كانت الثقافة العربيَّة اإلسالميَّة تجد نفسها اليوم أمام تح ّديات العولمة وثورتها التّقنيَّة والرَّ قميَّة‪،‬‬
‫قافي‪ ،‬ألنَّها ال تعكس إال العجز والجهل معاً‬ ‫فإن مجابهة التَّح ّدي لن تكون مجدية بعقليَّة مجابهة الغزو الثّ ّ‬‫َّ‬
‫في اآلن ذاته‪.‬‬

‫تحويال خلاَّ قاً على نفسها لمواجهة التّح ُّوالت والمستج َّدات بتطوير‬
‫ً‬ ‫فاألجدى أن تجري الثقافة اإلسالميَّة‬
‫مفهوم الهويَّة وإنتاج أفكار جديدة حوله تعيد صياغة إشكاليَّة العالقة بين األنا واآلخر‪َّ ،‬‬
‫ألن في ذلك أفضل‬
‫دفاع عن ّ‬
‫الذات‪ .‬أمَّا النَّرجسيَّة الثّقافيَّة وإرادة المماهاة وعقليَّة المحافظة بحجَّ ة الخشية على الخصوصيَّة من‬
‫االجتماعي الذي لن يعترف بنا‬
‫ّ‬ ‫خطر الغزو الفكريّ ‪ ،‬فإنَّها تجعلنا الوجه اآلخر لدعاة االصطفاء واإلقصاء‬
‫ما لم نصنع شيئاً يحتاج إليه أو يفيد منه من أدوات النَّظر ووسائل العمل أو من قيم الحياة ونماذج التنمية‪.‬‬
‫فالقضيَّة ليست صدام حضارات أو صراعاً بين الغرب واإلسالم أو العرب والحداثة‪ ،‬وإنَّما المشكلة تكمن‬

‫‪19‬ـ حرب علي‪ ،‬العالم ومأزقه‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬ص ‪.63‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪32‬‬
‫في االنخراط ضمن ورشة الحضارة والمشاركة في صناعة العالم وإتقان لغة الشراكة مع الغير عبر التّمرُّ س‬
‫بمنطق الخلق‪ ،‬لننجز شيئاً يستأثر باهتمام العالم‪ ،‬وإال تح َّولنا إلى ديناصورات ثقافيَّة تدافع عن هويَّتها دفاعات‬
‫فاشلة أو عقيمة أو مدمّرة بعقلية النَّموذج اإلرهابي الذي ي َّدعي القبض على الحقيقة‪ ،‬أو بعقليَّة القاصر؛ أي‬
‫السلف في ّ‬
‫كل ما قالوه أو فعلوه‪.‬‬ ‫األبله الثّقافي الذي ال ه َّم له سوى تقليد ّ‬

‫أن التَّحول في العالقة مع اآلخر نحو َّ‬


‫الشراكة ال يعني النّقد المفرط أو التَّقليد األعمى‪ ،‬كما فعل‬ ‫غير َّ‬
‫والسياسيَّة‪ ،‬إذ تعاملوا مع الغرب بوصفه العالم واألفق أو المثال والنَّموذج في‬
‫ّ‬ ‫الكثيرون من النّخب الثّقافيَّة‬
‫أن التَّقليد سيف ذو ح َّدين‪ ،‬فهو ال‬
‫النّهوض واإلصالح والتَّق ّدم والتَّنمية والتَّغيير والتَّحرير والتَّفكير‪ ،‬والحال َّ‬
‫الذات وصنع النَّموذج من جهة‪ ،‬كما أنَّه يمكن أن يكون‬ ‫غنى عنه الكتساب الخبرات والمعارف الكفيلة ببناء َّ‬
‫مجرَّ د مماهاة‪ ،‬فيعيد صاحبه حينئذ إنتاج النَّموذج بصورة عقيمة أو مش َّوهة من جهة أخرى‪ .‬وينضاف إلى‬
‫وتوخي عقليَّة التّفاعل الثّقافي مع الغرب عوض اإلعراض عنه‬
‫ّ‬ ‫الصدام الحضاريّ‬
‫ضرورة استبعاد منطق ّ‬
‫أو التّماهي كليَّاً معه‪ ،‬أمر آخر على قدر كبير من األهميَّة‪ ،‬ألنَّه ينشغل بمراجعة عالقة اإلسالم بالغرب‪ .‬ذلك‬
‫أن النَّظر إلى اإلسالم بوصفه ض َّد الغرب بالمطلق يشبه التَّعامل مع الغرب بوصفه معادياً لإلسالم مطلقاً‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فكالهما وجهان لعملة إيديولوجيَّة واحدة‪ ،‬تحفر الخنادق الثّقافيَّة أو العسكريَّة بين المجموعات البشريَّة سواء‬
‫من هذا الجانب أو ذاك‪ ،‬مثلما أنَّها تفضي إلى تقسيم النَّاس قسمة نهائيَّة بين إيمان وكفر أو خير وشرّ أو تخلّف‬
‫وتق ُّدم أو مدنيَّة وبربريَّة‪.‬‬

‫ّ‬
‫المعقدة والمتشابكة أو الملتبسة بين الغرب‬ ‫فهذه الثّنائيَّة تنطوي على كثير من التَّبسيط وتحجب العالقات‬
‫أن هناك عالقات صراع وتح ٍّد بين الغرب‬ ‫كل واحد من هذين العالمين‪ .‬إذ ال يخفى َّ‬ ‫واإلسالم أو داخل ّ‬
‫الصراع بينهما‬
‫أن ّ‬‫السجاالت العقائديَّة والغزوات العسكريَّة منذ القدم‪ ،‬وال مراء َّ‬
‫واإلسالم‪ ،‬وتشهد على ذلك ّ‬
‫هو األكثر ح َّدة وتوتراً لسببين‪ :‬األ َّول استراتيجي بحكم التَّجاور الجغرافي بين اإلسالم والغرب‪ ،‬الذي يجعل‬
‫خاصة في االنشقاق بين اإلسالم والمسيحيَّة‬ ‫َّ‬ ‫يتوسع على حساب اآلخر‪ ،‬والثَّاني عقائدي يتجلّى‬‫َّ‬ ‫أحدهما‬
‫كفرعين لألصل التَّوحيدي نفسه‪ .‬إذ هما يتنافسان على احتكار اإليمان والمشروعيَّة ال ّدينيَّة باسم إله إبراهيم‬
‫َّ‬
‫األشقاء يكون األكثر ح َّدة والحروب بينهم هي األش ّد شراسة‬ ‫أن الخالف بين‬‫الساللة النّبويَّة‪ .‬إال َّ‬
‫وبقيَّة ّ‬
‫اإلسالمي‪ُّ ،‬‬
‫فكل واحد منهما يريد لآلخر‬ ‫ّ‬ ‫وفظاعة مثل الحروب ال ّدينيّة في أوروبا أو الفتن المذهبيّة في العالم‬
‫أن يكون نسخة منه أو أنَّه يعمل على نسخه وعدم االعتراف به‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن المسيحيَّة لم تعترف باإلسالم الذي‬
‫تفرَّ ع عن األصل التَّوحيدي نفسه‪ ،‬وفي المقابل َّ‬
‫فإن اإلسالم قد اعترف بالمسيحيَّة‪ ،‬ولكن بعد أن حاول نسخها‬
‫والقيام مقامها‪ .‬وقد مثّل هذا الخالف العقائديّ أكبر العوائق أمام الحوار بين المسلمين والمسيحيّين في بلد‬
‫مثال‪ ،‬بسبب األديان ّ‬
‫والطوائف‪ ،‬وعلى الرّ غم من ذلك َّ‬
‫فإن العالقات بين اإلسالم والغرب هي‬ ‫واحد شأن لبنان ً‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪33‬‬
‫صالت بين عالمين ال َّ‬
‫ينفكان عن التَّواصل‪ ،‬إذ الواحد منهما يحتاج إلى اآلخر بقدر ما يسعى إلى اختراقه أو‬
‫أنَّه يسعى إلى نفيه‪.‬‬

‫خاصة حينما تنظر إلى العرب والمسلمين الذين يجدون في‬


‫َّ‬ ‫والشواهد كثيرة على وجود الخرق والتبادل‪،‬‬ ‫َّ‬
‫البلدان الغربيَّة مكاناً للعمل هرباً من الفقر والجور في بلدانهم‪ ،‬أو الذين يقيمون على أرض الغرب ويهاجمونه‬
‫في عقر داره علناً عبر القنوات الفضائيَّة‪.‬‬

‫وهكذا فإنَّنا نهرب من أنفسنا إلى الغرب لنستنجد به أو لنطلب عنده العلم أو لنتنعَّم بسلعه ووسائل لهوه‬
‫أو لنشتري األسلحة التي نحارب أو نتحارب بها‪ ،‬أو لنتبنَّى المقوالت التي نحتاج إليها لفهم العالم أو لتحقيق‬
‫أساسي في‬
‫ّ‬ ‫مشاريعنا التنمويَّة‪ .‬وذلك ما يدفعنا إلى االعتراف َّ‬
‫بأن الغرب مق ّوم من مق ّومات حياتنا وعامل‬
‫الصعيد‬
‫يشكل شطرنا اآلخر على َّ‬ ‫إن عالقتنا به عالقة ضروريَّة‪ ،‬ألنَّه ّ‬
‫إنجاز مشاريعنا الحضاريَّة‪ ،‬بل َّ‬
‫الوجوديّ ‪ .‬وإذا كانت عالقتنا نحن بأنفسنا ملتبسة ال تخلو من انقسام واختالف‪ ،‬كما تشهد على ذلك صراعاتنا‬
‫فإن الغرب كذلك ال يمثّل عالماً متجانساً‪ ،‬وليس بعيداً عن االنقسامات‪ ،‬ممَّا يعني‬
‫العقائديَّة وحروبنا األهليَّة‪َّ ،‬‬
‫أنَّه مثلما يوجد في الغرب من يتعامل مع العرب والمسلمين بعقليَّة النَّفي والرَّ فض أو مشاعر الكره والعداء‪،‬‬
‫فإنَّنا نجد في المقابل كذلك جبهة منفتحة تتحلّى بوعي نقديّ مضاد ّ‬
‫للذات‪ ،‬أمثال جاك دريدا الذي اهت َّم بتفكير‬
‫المركزيَّة الغربيَّة‪ ،‬وإدغار موران الذي يعترف في كتاباته بتخلّف الغرب أخالقيَّاً وببدائيَّة وعيه على َّ‬
‫الصعيد‬
‫والكوني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫البيئي‬
‫ّ‬

‫فاإلسالم شأنه شأن المسيحيَّة اليهوديَّة والماركسيَّة وسواها من العقائد القديمة والمذاهب الحديثة قد يؤ َّول‬
‫اقتتاال‪ .‬وليس خفيَّاً أيضاً‬
‫ً‬ ‫السلب نفعاً أو ضرراً وتسامحاً أو انغالقاً وتعارفاً أو‬
‫ويترجم على سبيل اإليجاب أو َّ‬
‫أن الغرب ينظر إلى نفسه قويَّاً غنيَّاً ومصدراً للمعرفة أو نموذجاً للحضارة‪ ،‬لذلك يعامل‬
‫في الجهة المقابلة َّ‬
‫العرب المسلمين بكونهم مجرَّ د مستهلكين لسلعه أو سالحه أو أفكاره‪ ،‬بل إنَّه يلجأ إلى ممارسة اإلرهاب‬
‫بتهديداته العسكريَّة ومفاضالته العنصريَّة والتبجُّ ح بما أنجزه طيلة قرنين من الزمن‪ ،‬واستخدامنا كمواقع أو‬
‫فإن اتّهام المسلمين باإلرهاب أمر مردود على الغرب‪ ،‬ألنَّنا في‬
‫السلم أو الق َّوة‪ .‬وبالتَّالي َّ‬
‫كأسواق عن طريق ّ‬
‫الحقيقة لسنا إال وجهه اآلخر الذي يحاول إخفاءه‪ ،‬مثلما أنَّه وجهنا اآلخر الذي ال نعترف به‪ .‬واألجدى أن‬
‫نعيد النظر في إشكاليَّة العالقة بين األنا واآلخر بتجاوز الثنائيَّة والعقليَّات االصطفائيَّة‪ .‬إذ في ضوء القراءة‬
‫التي ترى الوجه اآلخر للعالقة بين األنا واآلخر سبيل لتجاوز العداء بين اإلسالم والغرب‪ .‬فال يعود اإلسالم‬
‫َّإذاك مصدر الخوف والخطر‪ ،‬على غرار ما ر ّوج له لتغطية عنفه الرَّ مزيّ وإرهابه العسكريّ ‪ ،‬بل يغدو‬
‫مصدر الحاجة التي ال يستغنى عنها في صنع الق َّوة والثروة‪ .‬كما َّ‬
‫أن الغرب في المقابل لن يص َّور على كونه‬
‫الجحيم‪ ،‬بل من نقلّده ونحتاج إليه أو من نجد فيه من يدافع عنَّا ويقف إلى جانبنا‪ .‬فاإلسالم إذن هو مشكلة‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪34‬‬
‫أن الغرب هو مشكلة اإلسالم مع نفسه أيضاً‪ .‬وال َّدليل على ذلك ما يستعيره ُّ‬
‫كل واحد‬ ‫الغرب مع نفسه‪ ،‬مثلما َّ‬
‫والصور الملتبسة أو المتعارضة‪ .‬وهذا يعني حتماً َّ‬
‫أن المسألة في جوهرها الوجوديّ‬ ‫ُّ‬ ‫منهما لآلخر من األقنعة‬
‫الكوني‪ ،‬كما ينبّهنا على َّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫خاصة عندما تتشابك المصالح والمصائر على المستوى‬
‫َّ‬ ‫مشكلة اإلنسان مع نفسه‪،‬‬
‫المسألة تتح َّول من مجرَّ د صراع بين حضارات أو ثقافات لتصبح خياراً بين أمرين‪ :‬فإمَّا الصدام بين الهويَّات‬
‫الثّقافيَّة‪ ،‬وإمَّا التَّداول والتَّفاعل بين الجماعات اللّغويَّة والبشريَّة‪.‬‬

‫فالنَّظرة الجديدة ألصل المشكلة بين اإلسالم والغرب تجعلنا نتجاوز أوهام تهديد مصير العالم بحفنة من‬
‫اإلرهابيّين‪َّ ،‬‬
‫ألن ظاهرة اإلرهاب ما هي إال نتاج ثقافاتنا ومجتمعاتنا‪ ،‬وليست إال حصيلة ما دبّر لإلنسانيَّة‬
‫من عنف وما أصابها من فقر وهالك ودمار‪ .‬وبهذا االعتبار تصبح مسألة الهويَّة وجوديَّة في نهاية المطاف‪،‬‬
‫ألن اآلخر هو ما ال قوام لنا إال به‪ ،‬وعالقتنا به ضروريَّة بقدر ما هي ملتبسة‪ .‬إذ مادام المرء يرمز ويتكلّم‬
‫َّ‬
‫ّ‬
‫ويفكر ويعمل‪ ،‬فإنَّه يحتاج إلى آخر يعنيه ويقصده أو يتَّجه إليه ويواجهه‪ ،‬أو يقيم معه عالقات تواصل وتفاهم‬
‫كل وعي ّ‬
‫بالذات هو في الوقت‬ ‫أن َّ‬
‫أو تبادل وتداول‪ .‬فأينما يولّي المرء وجهه لن يجد سوى اآلخر‪ ،‬ممَّا يعني َّ‬
‫واقعي أو متخيّل‪ ،‬وال انفكاك عنه في ما ّ‬
‫يفكر فيه أو يقوله أو يسعى إليه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ذاته وعي باآلخر‪،‬‬

‫وإذن ال مفرَّ من الحوار على جميع األصعدة‪ ،‬سواء أكان ثقافيَّاً إنسانيَّاً أو بين الحضارات أو بين ّ‬
‫الشرق‬
‫مدني أو حتَّى وجوديّ ‪َّ ،‬‬
‫ألن اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫سياسي‬
‫ّ‬ ‫ديني عقائديّ أو‬ ‫والغرب أو بين َّ‬
‫الشمال والجنوب‪ ،‬أو على صعيد ّ‬
‫يشكل الحوار بُعداً من‬
‫تواصلي عبر المحادثة مع اآلخر‪ .‬وبالتَّالي ّ‬
‫ّ‬ ‫كائن ناطق يمارس عالقته بوجوده كفعل‬
‫تداوال معرفيَّاً حول معاني الكينونة والهويَّة واإلنسان والحوار‪ ،‬إال‬
‫ً‬ ‫أبعاد الكينونة‪ ،‬ال سيَّما إذا كان تعارفاً أو‬
‫أن هدف التَّحاور مع الغير ال يعني التَّحول إلى نظير له‪ ،‬بل التّعلم منه والتَّبادل معه إلتقان ّ‬
‫فن العيش معه‬ ‫َّ‬
‫أن جوهر الحوار ال يهدف إلى التَّطابق في وجهات النَّظر بين المختلفين‪ ،‬وإنَّما غرضه خلق‬ ‫وبواسطته‪ .‬إذ َّ‬
‫مفهومي أو مجال عام أو قيمة تبادليَّة أو لغة حيَّة ومتحرّ كة أو عقليَّة منفتحة ومتج ّددة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مناخ للتَّعايش أو وسط‬
‫ّ‬
‫الخالق‪ .‬أمَّا‬ ‫فبفضل هذه المفاهيم الجديدة يمكن العيش في أجواء سلميَّة‪ ،‬ويتاح التداول الخصب والتَّفاعل‬
‫والضحيَّة‪ ،‬فإنَّها‬
‫َّ‬ ‫والصفاء والوحدانيَّة والثّبات واليقين والمطابقة والمؤامرة‬
‫َّ‬ ‫المفاهيم المبنيَّة على الجوهر‬
‫مقوالت ال دور لها سوى أن تجعل الحوار عقيماً‪ ،‬أو أن تولّد التَّعصب واالنغالق واإلقصاء‪ .‬كما أنَّها تح ّول‬
‫عالقة المرء بهويَّته إلى سجن فكريّ يفضي إلى نفي المختلف واآلخر‪ .‬وهي في األخير ّ‬
‫تجسد العجز والفقر‬
‫وتح ّول العالقة باألحداث والمتغيّرات أفخاخاً وأزمات‪.‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪35‬‬
‫الخامتة‪:‬‬

‫تقصيت جذور أزمة الهويَّة في الثّقافة العربيَّة اإلسالميَّة‬


‫لقد انتهيت في خاتمة هذا البحث‪ ،‬بعد أن َّ‬
‫وتداعياتها في أغلب المستويات‪ ،‬إلى ضرورة البحث عن هويَّة بديلة ومنشودة أو استشراف هويَّة جديدة‬
‫أزم َّ‬
‫الشامل‪.‬‬ ‫تنأى بالعرب والمسلمين من وضع التّ ُّ‬

‫فإعادة النَّظر في بديهيَّات الماضي ال تعني القطع معه وتهميشاً له‪ ،‬بل المساءلة المستمرَّ ة لمفهوم الهويَّة‬
‫فطن‬ ‫يمكننا من تتبُّع رحلتها ومن إدراك ما علِ َق بها من إضافات‪ ،‬والتّ ّ‬
‫الزمن‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫ً‬
‫تواصال عبر ًّ‬ ‫واعتبارها‬
‫إلى ما قد وقع التّخلي عنه أو تناسيه‪ .‬وبالتّالي تصبح الهويَّة مقترنة بمفهوم األصالة‪ .‬غير َّ‬
‫أن األصالة ليست‬
‫توحُّ داً أعمى بالماضي وذوباناً في سياقه إلى درجة تقديس ّ‬
‫كل ما هو قديم ومتوارث‪ ،‬وإنَّما يُقصد باألصالة‬
‫لكل تحجُّ ر وجمود فكري في التَّعامل مع الماضي‪ ،‬وقبول االعتناء بإبداعات جديدة واالنفتاح على‬‫التَّص ّدي ّ‬
‫الشعوب األخرى‪ ،‬والعمل على استدماج ما تحويه من جوانب عقالنيَّة خلاَّ قة‪ .‬إذ َّ‬
‫أن بناء عالقة جديدة‬ ‫تجارب ّ‬
‫َّ‬
‫بالذات وباآلخرين من شأنه أن يُخرج الهويَّة من الجمود واإلطالقيَّة‪ ،‬وأن يفضي إلى االعتراف بأنَّها متع ّددة‬
‫خاضعة لتغييرات مستمرَّ ة‪.‬‬

‫السياسة الفكريَّة القديمة وممارسة النَّقد أ َّو ً‬


‫ال على الذات‪ ،‬واالشتغال على‬ ‫مناص إذن من تغيير ّ‬
‫َ‬ ‫فال‬
‫وتحليال وتشريحاً وتفكيكاً بغية تشخيص المشكالت وتذليل العوائق والممتنعات‬ ‫ً‬ ‫معطيات وجودنا درساً‬
‫خفف من التنظيرات‬ ‫أن أفضل دفاع عن ّ‬
‫الذات والهويَّة يكون بالتَّ ّ‬ ‫وفتح اآلفاق أمام اإلنجاز الحضاريّ ‪ .‬ذلك َّ‬
‫المعرفي على النّقد اإليديولوجي‪ ،‬وإيالء الثّقافة األولويَّة في مقاربة مسألة‬
‫ّ‬ ‫اإليديولوجيَّة‪ ،‬وبتغليب النّقد‬
‫فإن الهويَّة أيضاً ليست معطى ثابتاً وال جوهراً مطلقاً وال انتماء‬ ‫معقد في صيرورته‪َّ ،‬‬ ‫أن العالم ّ‬
‫الهويَّة‪ .‬فكما َّ‬
‫واحداً‪ ،‬بل هي نامية متط ّورة ومتح ّولة ومتع ّددة االنتماءات قابلة للهدم وإعادة االنبناء وفقاً للوضعيَّات‪ .‬إنَّها‬
‫اجتماعي يحملها على إعادة صياغة نفسها بطريقة مغايرة‪ ،‬فتتح َّول مع‬
‫ّ‬ ‫ألن َّ‬
‫كل تغيّر‬ ‫إذن حركة مستمرَّ ة‪َّ ،‬‬
‫السلوك البشريّ تغييرات عميقة‪.‬‬
‫الزمن‪ ،‬وتحدث في ّ‬ ‫َّ‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪36‬‬
‫قامئة املراجع‬
‫الكتب‪:‬‬
‫ •غيلون برهان‪ .‬نقد السّ ياسة ال َّدولة وال ّدين‪ .‬المؤسَّ سة العربيَّة للنّشر‪ .‬سنة ‪1991‬‬
‫ •ابن كثير القرشي‪ .‬تفسير ابن كثير‪ .‬المكتبة العصريَّة‪ .‬صيدا بيروت‪ .‬سنة ‪2006‬‬
‫ •حرب علي‪ .‬الممنوع والممتع‪ .‬المركز الثقافي العربي‪ .‬ال ّدار البيضاء‪.‬ط‪ .1‬سنة ‪1995‬‬
‫ • ّ‬
‫الشرفي عبد المجيد‪ .‬لبنات‪ .‬دار الجنوب للنشر‪ .‬تونس ‪1994‬‬
‫الشرفي عبد المجيد‪ .‬الثّورة والحداثة واإلسالم‪ .‬دار الجنوب للنشر‪ .‬ط‪ 1‬نوفمبر ‪2011‬‬
‫ • ّ‬

‫ •الجابري مح َّمد‪ .‬نقد العقل العربي‪ .‬بيروت ‪1984‬‬


‫ •بن بلقاسم فريد‪ .‬قضايا الهويَّة في اإلسالم المعاصر‪ .‬دار سحر للنشر‪ .‬ط‪1‬نوفمبر‪2013‬‬
‫ •حرب علي‪ .‬العالم ومأزقه‪ .‬المركز الثّقافي في العربي‪ .‬ال ّدار البيضاء‪ .‬ط‪1‬سنة ‪2002‬‬
‫ •المرايحي لطفي‪ .‬الهويَّة العربيَّة‪ :‬فجوة األدلجة والواقع‪ .‬األطلسيَّة للنشر‪ .‬ط‪1‬سنة ‪2011‬‬

‫المجالت‪:‬‬
‫ •ال ّزاهي نور ال ّدين‪ .‬الهويَّة بين المضمر والواحد‪ .‬مجلّة الفكر العربي المعاصر عـــدد ‪ 99/98‬سنة ‪1992‬‬
‫ •بوتشيت إبراهيم‪ .‬مجلّة الوحدة‪.‬عـدد ‪57‬مارس ‪1989‬‬
‫ •د َّراج فيصل‪ .‬المجلّة العربيَّة للثّقافة‪ .‬عدد‪ .53‬ديسمبر‪2008‬‬
‫ •ظاهر مسعود‪ .‬المجلّة العربيَّة للثّقافة‪ .‬عدد ‪ .53‬مارس ‪2009‬‬

‫‪www.mominoun.com‬‬ ‫‪37‬‬
MominounWithoutBorders

Mominoun

@ Mominoun_sm

‫ اﻟﻤﻤﻠﻜﺔ اﻟﻤﻐﺮﺑﻴﺔ‬.‫ أﻛﺪال‬- ‫اﻟﺮﺑﺎط‬


10569 : ‫صب‬
+212 537 77 99 54 : ‫اﻟﻬﺎﺗﻒ‬
+212 537 77 88 27 : ‫اﻟﻔﺎﻛﺲ‬

info@mominoun.com
www.mominoun.com

All rights reserved © 2017 2017 © ‫ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‬

You might also like