Professional Documents
Culture Documents
مأزق الهوية في الفكر الإسلامي
مأزق الهوية في الفكر الإسلامي
السليم لمأزق الهويَّة في الثقافة العربيَّة اإلسالميَّة يقتضي التنقيب عن األسباب الكامنة َّ
إن التشخيص ّ
وراء األزمة والكشف عن تجلياتها في شتَّى الميادين تمهيداً لمجابهتها وإيجاد الحلول الكفيلة للخروج منها.
سينكب البحث في مرحلة أولى على رصد أسباب األزمة ال َّداخلية كالعوامل العقديَّة الفكريَّة ّ
والسياسيَّة ُّ لذلك
والصراع
ّ واالقتصاديَّة االجتماعيَّة من ناحية ،ث َّم األسباب الخارجيَّة مثل االستعمار والحرب الباردة والعولمة
الضوء في مرحلة ثانية على تداعيات األزمة على أه ّم العربي اإلسرائيلي من ناحية أخرى .كما سيسلّط َّ
المستويات الحضاريَّة الثقافيَّة واالقتصاديَّة االجتماعيَّة والسيّاسيَّة العسكريَّة .أمَّا المرحلة األخيرة من العمل
فإنَّها ستستشرف الهويَّة باقتراح خطوتين متزامنتين :أوالهما نقد الذات ،وثانيتهما نقد اآلخر.
www.mominoun.com 2
املقدّمة
ففي ّ
ظل التح ُّوالت االجتماعيَّة واالقتصاديَّة والسياسيَّة برزت تمثّالت هويَّة األنا وهويَّة اآلخر عبر
الساحة الرمزيَّة بالبلدان العربيَّة اإلسالميَّة حديثاً .وعلى الرّ غم من َّ
أن منشئي جملة من الخطابات التي أثثت َّ
هذه الخطابات قد اتّفقوا على ضرورة اإلصالح ،فإنَّهم تعارضوا في مستوى المرجعيَّة والنّموذج المجتمعي،
الساحة الرمزيَّة قد أصبحت مح َّددة بتقابالت الفاعلين المنتجين لهذه الخطابات وبموازين قوى وبذلك َّ
فإن َّ
ّ
للتحكم في وجهة بناء المجتمع العربي اإلسالمي ولرسم ّ
المسخرة الصراع بينهم وبآلياته واستراتيجياته
ّ
الصور اإلدراكيَّة والبناءات
ولعل هذه الكتابات أو الخطابات لم تكن سوى جملة من ُّ ّ ثقافته وتص ُّوراته.
ّ
والتشكالت الثقافيَّة الهادفة إلى تعيين هويَّة األنا وهويَّة اآلخر ،فأنتجت بذلك أنماط صور متفرّ عة المعرفيَّة
تكفلت الحركات االجتماعيَّة بنمذجتها وتسويقها باعتبارها أرصدة رمزيَّة ّ
تغذيها بالتص ُّورات لألنا ولآلخر ّ
واالستراتيجيَّات.
ً
مجاال أن الهويَّة تخضع للعديد من المعطيات ويخترقها أكثر من مجال معرفي وحياتي بما ال يترك وبما َّ
ّ
للشك في أنَّها مسألة ّ
معقدة وشائكة ،فإنّي سأحاول أن ألج هذه القضيَّة بسبر العوامل المؤديَّة إلى نشوء أزمة
الهويَّة في الثقافة العربيَّة اإلسالميَّة مستعرضاً إثر ذلك تداعياتها ونتائجها ،ألخلص في األخير إلى استشراف
الهويَّة كسبيل قد يساعدنا على الخروج من بوتقة المأزق الرَّ اهن.
www.mominoun.com 3
-1األسباب ال ّداخليَّة:
لقد انبنى موضوع الهويَّة في الفكر العربي اإلسالمي على مق ّدمات أصبحت تكتسي بفعل التّكرار طابعاً
َّ
بـ«أن الشيء ُه َو ُه َو ،وال يمكن أن يكون هو مرجعيَّاً ،إذ استند هذا الفكر إلى مبدأ الهويَّة األرسطي ،و َترْ َج َم ُه
1
وغيره في الوقت نفسه ،فالعصا هي العصا وال يمكنها أن تكون عصاً وثعباناً في الوقت نفسه».
أن التّرادف ليس إال وجهاً من الوجوه التي يحملها ترجمة المبدأ السؤال يقودنا إلى َّ َّ
إن الجواب عن هذا ُّ
أن هويَّة الشيء تصبح عبارة عن عالقة بين طرفين ،لكنَّها ال تصل إلى حدود إمكانيَّة التخلّي
األرسطي ،أي َّ
عن طرف لصالح ّ
الطرف الثّاني.
1ـ الزّ اهي نور الدين ،الهويَّة بين المضمر والواحد ،مجلّة الفكر العربي المعاصر ،عدد 98/99سنة ،1992ص .23
www.mominoun.com 4
فإن قولنا ُه َو ُه َو ُّ
يدل على كثرة لها وحدة من وجه ،فإن لم تكن البياض والبرودة هو عين واحدة ،وبالتّالي َّ
كثرة لم يكن يقال ُه َو ُه َو ،وإنَّما يشار في هذه الحالة إلى شيئين.
أن مبدأ الهويَّة األرسطي يثير مشكلة الغير منذ البداية بوصفه مك ّوناً
كل ما سلف ذكره َّ ونستنتج من ّ
الضمير المنفصل عوضاً عنه يغفل أن غياب الفعل من الترجمة العربيَّة وحضور َّ داخليَّاً لهويَّة الشيء ،غير َّ
إثارة أوجه أخرى أكثر تعمُّقاً لمبدأ الهويَّة لينحصر في التّماثل أو التّجانس أو التّرادف .فإذا ما عدنا إلى
أن فعل الوجودالتَّرجمة الفرنسيَّة للمبدأ الهويَّة األرسطي فسيتجلّى لنا االختالف عن التَّرجمة العربيَّة .ذلك َّ
إن «أ» هي ذاتها «أ» ،بل يقودنا أيضاً إلى َّ
أن «أ» ( )êtreفي المثال ( )A est Aال يحيلنا فحسب إلى القول َّ
هي ذاتها مع ذاتها .وبذلك تخترق هويَّة الشيء بالرَّ ابطة والواسطة (مع) التي تح ّول الشيء نفسه إلى وحدة
المبسط لمبدأ الهويَّة للنّظر إليه بوصفه عالقة الوجود بالوجود.
َّ تركيب وعالقة ،فتسمح لنا ّإذاك بتجاوز الفهم
أن هويَّة الشيء الموجود في الفهم الغربي تحضر بفعل وجوده ،وانطالقاً من هذا الوجود يحمل هويَّته إذ َّ
ووحدته التي ليست مجرَّ د وحدة اسميَّة أو هويَّة مغلقة ومتعالية ،بل إنَّها هويَّة الموجود بما هو موجود ،وفي
وجوده تتميَّز هويّته وتتمايز دون أن تفقد وحدتها كوجود ،حتَّى وإن تع َّددت.
إن اإلنسان كائن أو موجود ويمكن توضيح هذا القول بالمثال الذي صاغه هيدغير وأرسطو قبله ،فقولنا َّ
مفكراً .والمقصود بالتّفكير
يعني أنَّه كائن شأنه شأن بقيَّة الموجودات ،غير أنَّه حامل لهويَّة متميّزة بوصفه ّ
هو امتالك قدرة رؤية الوجود وجهاً لوجه ،واالنفتاح عليه ث َّم االنفتاح له لتأسيس ذاته كصلة تربط بين الوجود
َّ
ويتأكد لنا بالتَّالي مدى عمق والموجود ،وبهذا المعنى يبني اإلنسان هويَّته المنفتحة غير المنغلقة أو المتعالية،
مبدأ الهويَّة لكونها تركيباً وعالقة مشروخة وجوديَّاً بفعل نداء الوجود في الموجودات.
مبسط توسلنا مقاربة نفسيَّة تحليليَّة ،فإنَّنا سندعّ م ما ذهبنا إليه سالفاً من َّ
أن الهويَّة قد فهمت بشكل َّ وإذا ما َّ
أن موطنه هو الجسد ّ
بكل في الحقل الثقافي العربي اإلسالمي .فالمرجعيَّة النفسيَّة تحيل الهويَّة على الهو .وبما َّ
فإن استحضارنا للجسد ،أي اإلنسان بوصفه موجوداً ،ليس سوى استحضار
غرائزه ذات األصل الجنسيَّ ،
أن الجسد في المتخيَّل اإلنساني عموماً
لعنصر شارخ وجارح للهويَّة داخل الفضاء الثقافي اإلسالمي .ذلك َّ
ألن الهو مرتبط بحضور الجسد اآلدمي المك ّون من الشرخ األصليَّ ، واإلسالمي خصوصاً كان سبباً في َّ
تراب لكنَّه غائب في الجسد المالئكي النّوارني وفي الجسد الشيطاني النَّاري .فاتصاله بهذا الجسد يجعله
فإن طبيعة هذا الجسد كافية لخلق التَّفرقة داخل وحدة العالم َّ
السماوي ،ال سيَّما موضع شرخ وتفرقة ،وبالتّالي َّ
ألن جسد آدم مخلوق من طين. أن نظام التّراتب قد قبلت به المالئكة فسجدت آلدم في حين رفضه الشياطينَّ ، َّ
أن جسد اإلنسان محكوم بطبيعة اآلدميَّة الغرائزيَّة ،ممَّا جعله سبباً في االنخداع من قبل وينضاف إلى ّ
كل ذلك َّ
أن ظهور العالم اإلنساني إلى جانب الطبيعي واإللهي أمر ُّ
يدل على انشراخ ّ
والطرد من الجنَّة .إذ َّ ّ
الشيطان
www.mominoun.com 5
عامال في تع ّدد الكائنات البشريَّة بوصفه مصدراً
ً إن جسد آدم ذاته قد كان الصراع والتع ُّدد .بل َّ
الوحدة وبروز ّ
مباشراً لميالد ح َّواء رمز الخصوبة والتَّوالد والتع ُّدد اللاَّ نهائي .فبعد أن علم هللا آدم ال يستطيع العيش وحيداً
وتفك وحدته فخرجت ح َّواء من ضلع آدم ّ بحكم طبيعة الغرائزيَّة وجد له كائنة آدميَّة من جنس مغاير تؤانسه
حامال بالق َّوة للغير ومنفتحاً على ما ليس
ً األيسر كهديَّة من هللا آلدم ،وفي ذلك داللة على َّ
أن الجسد األ َّول كان
فضال عن كونه متع ّدداً في وجوده.
ً هو،
وباإلضافة إلى المقاربة النفسيَّة يمكننا فتح إمكانيَّة مغايرة للبحث في المكبوت الثقافي داخل الخطابات
التي تناولت موضوع الهويَّة في الثّقافة العربيَّة اإلسالميَّة .إذ َّ
أن المرجعيَّة األنتروبولوجيَّة قد تسمح لنا مساءلة
الخاص والعميق.
ّ المترسبة في الحقل الثقافي ،ألنَّها في آخر المطاف ماهي إال تاريخه
ّ البنى الالواعية
أن ترسيخ الهويَّة يرتبط ارتباطاً وثيقاً لدى الكائن اإلنساني باالسم الشخصي الذي يحمله،
فنحن نعلم جيّداً َّ
إذ بفضله تعلن هويَّة الفرد وتمرّ ر الجماعة من خالله موروثها الثقافي وهويّتها الجماعيَّة .فهو إذن هويَّة
وفقت الجماعة ّ
تتحقق معها المطابقة الكاملة .وإذا ما ّ تؤسسه وتخترقه إلى درجة
ظاهرة تخفي هويَّة مضمرة ّ
خاصة به اختارها
َّ فإن أخطر ما في األمر إعادة إنتاج ما استدخله بوصفه قيماً في طبع الفرد ّ
بكل ما تنتجهَّ ،
بكل حريَّة وتملّكها ليدافع عنها فيما بعد.
ّ
إن بحث كلود لفي شترواس داخل نسق التسميات عن البنية الخفيَّة أو اللاَّ شعوريَّة الحاكمة لنمط عيش َّ
الجماعة يثبت األهميَّة التي تمنحها األنتروبولوجيا لالسم الشخصي باعتباره مك ّوناً من مك ّونات النّسق الثقافي
َّ
يصب فيه العمل النقدي الرّ اغب والهويَّة الثقافيَّة لجماعة معينة من ناحية ،وبوصفه أيضاً المجال الذي يجب أن
الذات باسمها من ناحية أخرى. المتحكمة في عالقة ّ
ّ ّ
والظاهرة إلى البنى العميقة في تجاوز الهويَّة المباشرة
2ـ غليون برهان .نقد السّ ياسة الدّولة والدّين .المؤسّ سة العربيَّة للنّشر .سنة .1991ص 21
3ـ انظر اآليتين 31و 32من سورة البقرة.
www.mominoun.com 6
«والصحيح أنَّه علّمه أسماء األشياء وذواتها
ّ أو األسماء في جزئيّتهاَّ ،
فإن ابن كثير نجده قد حسم األمر بقوله:
4
وصفاتها».
فبمقتضى هذا التّفسير يكون هللا هو مصدر التَّسميات في الحقل الثقافي اإلسالمي ،وتصبح هذه األسماء
هويَّة معلنة وظاهرة ،بل حاملة في اآلن ذاته لهويَّة مضمرة محورها وقطبها األ َّول واألخير «هو» ،أي هللا.
فإن نسق التَّسميات يستم ُّد هويّته األصليَّة والعميقة من هويَّة هللا المضمرة غير المح ّددة أو المعلنة
وهكذا َّ
أن اسم هللا المضمر واألعظم هو فيفي الحقل الثقافي اإلسالمي ،شأنه شأن الحقل الثقافي اليهودي ،ذلك َّ
الوقت نفسه اسم هللا يهوه ،ال َّدال على انتماء هويَّة ّ
الذات اإللهيَّة إلى مجال الغيب وانفالتها من مجال اإلدراك
اإلنساني المعرفي واللّغوي.
َّ
ولعل انطالق المنظرين لمشروع الوحدة في العالم العربي اإلسالمي من فكرة َّ
أن العالم في األصل
وأن التع ُّدد واالختالف زائفان ومصطنعان ال يعكس إال نظرة اعتباطيَّة وحكماً
كيان واحد ال يعسر توحيدهَّ ،
مسبّقاًَّ ،
ألن االنطالق من الوحدة المفترضة أو الغائبة يؤ ّدي إلى استبعاد االختالف المشاهد وعدم االعتراف
به .وقد برَّ ر هذا النّفي بطغيان الخصوصيّات والنّزعات الفئويَّة أو اإلقليميَّة تحت شعار الوحدة ،واحتكم
إلى منطق اإليديولوجيات التي تنطلق من االعتقاد بوجود هويَّات صافية للقضاء وجوباً بالمماهاة أو الحرب
والتّماثل أو النفي واإلدانة .وبذلك مورست الخصوصيَّة في اإلطار العربي اإلسالمي دائماً باسم األمَّة ،مثلما
المفكرين على غرار علي حرب إلى ّ طبّق االختالف الوحشي باسم الهويَّة العمياء أيضاً .وهذا ما حدا ببعض
أن هذه النّخبة قد عجزت إلى اآلن عن ممارسة دورها ّ
المثقفة في العالم العربي اإلسالمي 5.إذ َّ انتقاد النّخبة
4ـ ابن كثير القرشي .تفسير ابن كثير .المكتبة العصريَّة ،بيروت ،صيدا .م 1ـ ص 74
5ـ حرب علي ،الممنوع والممتنع .المركز الثقافي العربي .الدار البيضاء ،ط 1سنة .1995ص .99
www.mominoun.com 7
التنويري قياساً على ال َّدور الذي مارسه العلماء والفالسفة في العصر الكالسيكي العربي .فهم فقهاء أصوليون
ألنَّهم لم يمارسوا النّقد المطلوب بعد ،بل جعلوه منحصراً في كشف الثّغرات والعيوب والتّناقضات ،والحال
أنَّه كان من األجدر فهم النّقد بالمعنى األنطولوجي ،أي باستكشاف ممكنات عقليَّة جديدة مختلفة تجعل ما كان
ممتنعاً جائزاً وممكناً ،أو ْ
لنقل هو استشراف ألفق فكري يتيح شروطاً إلنتاج المعنى والحقيقة ،ويفضي إلى
تجديد الرؤى والمفاهيم وتحديث المناهج والميادين.
وممَّا يُعاب كذلك على الخطاب العربي المعاصر انخراطه في فوضى دالليَّة مهيمنة نتيجة فشله في
ً
فضال عن َّ
أن هذه الخاصة وبناء عالم مفهومي جديد يسهم في إثراء الفكر العالمي ،هذا
َّ ابتكار مصطلحاته
الخطابات تتالقفها إمَّا االنتقائيَّة أو التّلفيق أو الدغمائيَّة أو األصوليَّة المعتقدة في التَّماهي مع األصل والتَّطابق
مع ّ
الذات.
وإذا كانت العوامل الفكريَّة العقديَّة مساهمة إلى ح ٍّد كبير في مأزق الهويَّة داخل المجتمعات العربيَّة
ّ
التأزم إزاء قضيَّة الهويَّة. فإن العامل السياسي ال ُّ
يقل أهميَّة في زيادة تعميق مشاعر اإلسالميَّةَّ ،
المؤسسة
َّ المؤسسة السياسيَّة مع
َّ الساحة السياسيَّة في البلدان العربيَّة اإلسالميَّة هو تحالف َّ
إن ما يميّز َّ
الدينيَّة .وقد أفضى هذا التَّحالف إلى مصادرة حريَّة التَّعبير باسم المق َّدس الديني وباسم المصلحة السلطويَّة.
تجسدت قضيَّة االستبداد في سطوة اللغة اإليمانيَّة التي ترى الخليفة في جميع األزمنة خليفة لرسول هللا،
وقد َّ
ً
تطاوال على اإلسالم في ح ّد ذاته .فإذا كان الخليفة األ َّول يتناسل في خلفاء الحقين السلطة
ممَّا يجعل من نقد ّ
فإن فقهاء الخلفاء ال يختلفون في شيء عن خلفائهم دون تأمّل العالقة بين االجتهاد يقاسمونه النّظر والعملَّ ،
والسياق أو النَّظر في العالقة بين االجتهاد ال ّديني والمصالح السلطويَّة.
ّ
www.mominoun.com 8
السياق التّاريخي الذي جاء فيه اجتهاد ديني صحيح إلى الرَّ غبة في تأبيد االجتهاد واإلعالن ويعود إلغاء ّ
والسلطة وإلى تكريس النَّظر
ّ عن صالحيّته في جميع األزمنة ،مثلما يؤ ّدي إلى الغاء العالقة بين ال ّدين
السلطوي نظراً دينيَّاً.
ّ
السلطة السياسيَّة طيلة التّاريخ العربي االسالمي واقع ملتبس بالمق َّدس بغاية المحافظة علىفواقع ّ
الحكام يتطيَّرون من العقل الفاعل في الحقل ال ّديني وفي حقول الحياة جميعاً.
ّ استمراريتها ،لذلك نجد
فإن هذا الشكل من القمع في إحاالته الدينيَّة والسلطويَّة ينطوي على أبعاد ثالثة :يتمثّل البعد وهكذا َّ
تطاوال على ال ّدين ،أمَّا البعد الثاني فإنَّه يتجلّى في
ً األ َّول في التوظيف السياسي لل ّدين ،ممَّا يجعل نقد ّ
السلطة
الطرفين واضح ألن التشابه بين ّ االستثمار ال ّديني للهيبة السلطويَّة ،ممَّا يح ّول نقد رجال ال ّدين نقداً للسلطةَّ ،
نافال وظيفته اإلذعان واالنطباع، ً يرسخ الثّبات وأحاديَّة المرجع ،ويرى في ما خارجه ال لبس فيه ،إذ كالهما ّ
ويشير البعد الثالث إلى االنتفاع من جهل العامَّة المطالبة بطاعة النّخبتين السياسيَّة وال ّدينيَّة ،ممَّا يحتّم منطقياً
تكريس الجهل بوسائل متع ّددة بتحويل التّعليم إلى مجرَّ د محو لألميَّة ال أكثر ،وإلغاء السياسة ،وتعزيز ثقافة
الصمت والنّزعات القطيعيَّة.
َّ
السلطة السياسيَّة بمصادرة حريَّة التعبير ،بل تق ِدم إن شاءت أيضاً على مصادرة البشر
وقد ال تكتفي ّ
الذين ال يأتلفون مع العبوديَّة ،لتعمّق االغتراب السياسي أكثر في مجتمعاتها.
فإن ال ّدول اإلسالميَّة في القرون الوسطى لم تعتبر شعوبها سوى مجرَّ د رعايا يفرض عليهموهكذا َّ
أن هذه ال ّدول لم تكن تعترف بوحدة اإلقليم ،ولم يكن ّ
سكانها للسلطان وجباية َّ
الضرائب ،وبما َّ النظام والوالء ّ
ّ
والطائفيَّة والعرقيَّة كان لها األثر الكبير في شعوباً ذوي سيادة تستم ّد منهم ّ
السلطاتَّ ،
فإن االنتماءات القبليَّة
تحديد الهويَّة ،في حين تضاءل الوعي الجماعي المشترك باالنتماء إلى هويَّة واحدة .ومثلما َّ
أن األنظمة
السياسيَّة القديمة قد فشلت في وضع مح ّددات وتصورات تفضي إلى هويَّة مستقرّ ة ومتوازنةَّ ،
فإن نموذج
ال َّدولة الحديثة في العالم العربي اإلسالمي قد عجز أيضاً عن وضع معالم واضحة للهويَّة تكون قاعدة انطالق
وعامل تأطير وتحفيز لتحقيق طموحات التق ّدم والتّنمية واكتساب أسباب الق َّوة والمناعة وبناء عالقة سويَّة
www.mominoun.com 9
باآلخرين .وينضاف إلى ّ
كل ذلك فشل هذا النموذج في استقطاب مشاعر الوالء واالنتماء وتوجيهها إلى طاقة
فعَّالة وإيجابيَّة داخل مجتمعاتها .إذ َّ
أن ال ّدولة الحديثة في العالم العربي اإلسالمي قد َّ
تأسست وهي تتخبَّط
في مفارقة بنيويَّة بين معالم ال َّدولة القديمة وبين نموذج ال َّدولة الحديثة في أوروبا ،الذي يقوم على الوحدة
ً
فضال عن إقراره بمفاهيم قانونيَّة كالجنسيَّة والمواطنة والحقوق الشعب ونظام الحكم الجغرافيَّة ووحدة َّ
ويحقق االندماج االجتماعي ،ويمنح األفراد ّ والواجبات .فاالنتماء إلى هذه ال َّدولة يستقطب مشاعر الوالء،
الشعور بهويَّة مشتركة تمثّل مصالحهم وتز ّودهم باألمن واالستقرار ،دون أن تلغي الهويَّة الجماعيَّة الهويَّة
ّ
أن روح ال ّديمقراطيَّة تعمل على تحقيق التّالحم الوجودي بين مختلف التكوينات االجتماعيَّة
الفرديَّة ،بما َّ
الصغرى وبين مفاهيم ال َّدولة وتص ُّوراتها الموروثة.
ّ
ولئن حملت النّخب السياسيَّة في المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة على عاتقها بعد نهاية االستعمار استيعاب
السلطة كانت له األولويَّة على االنخراط التّقاليد السياسيَّة الحديثة كما مورست في الغربَّ ،
فإن الحفاظ على ّ
في الحداثة بما تقتضيه من تغييرات جوهريَّة في الواقع االجتماعي ثقافيَّاً ودينيَّاً وسياسيَّاً .إذ تجنَّبت ال ُّدول
الحديثة خوض صراعات مع تقاليد راسخة أو مسيطرة على العقول ،ومع ّ
كل ما يمكن أن يه ّدد االستقرار
االجتماعي والبنية الثقافيَّة والذهنيَّة أو يولّد مشاكل واضطرابات هي في غنى عنها حفاظاً على ّ
السلطة من
أن السير في الحداثة لم يحن بعد ،بتعلّة حاجته إلى ظروف موضوعيَّة لم تنضج منافسيها أو اقتناعاً منها َّ
الساحة العربيَّة اإلسالميَّة ،لذلك انتهجت ال ُّدول الحديثة أسلوب حكم استبدادي .وكانت الغلبة في سلّم بعد في َّ
ال والمناعة االقتصاديَّة ثانياً .ولم تطرح مسائل الهويَّة إال في
أولويَّاتها الكتساب أسباب الق َّوة العسكريَّة أ َّو ً
سياق التعبئة والتّجييش لصالح مشروع القائد البطل ،أو ض ّد األعداء الذين يتربَّصون به في ال ّداخل أو الخارج.
فإن تناول قضيَّة الهويَّة قد ت َّم خارج إطار عقالني أو داخل سياق عاطفي مشحون باالنفعاالت، وبالتّالي َّ
األمر الذي حدا بالشعوب العربيَّة اإلسالميَّة إلى التَّماهي معه باعتباره نمطاً جاهزاً من الهويَّة.
www.mominoun.com 10
إن العوامل االقتصاديَّة واالجتماعيَّة ال ُّ
تقل شأناً عن العوامل العقديَّة الفكريَّة أو السياسيَّة .فعلى الرغم َّ
السابقة ،فإنَّها ُتم ِْسي بدورها معطيات مؤثّرة في الفضاء العربي من أنَّها نجمت عن تأثيرات العوامل َّ
اإلسالمي ،وأسباباً يمكن من خاللها أن ّ
تفسر أبعاد أزمة الهويَّة في هذا اإلطار.
لقد ّ
شكلت ظاهرة اإلقطاع منذ نشأة ال َّدولة اإلسالميَّة الميزة األساسيَّة في البناء االقتصادي واالجتماعي.
وزعت ّ
الضياع على األرستقراطيَّة القرشيَّة في عصر الخلفاء الرَّ اشدين ،وتفاقم اإلقطاع أكثر مع األمويين، إذ ّ
ألن المقطعين لم يكتفوا بما حازوه بل سنّوا طريقة االستحواذ واالغتصاب على أراضي المستضعفين .كما
َّ
انتشر في العصر العبَّاسي نظام اإللجاء ،فبعد أن عمَّت الفوضى لجور الوالة في ال ّداخل أرغم صغار
الفالحين على طلب الحماية من المالكين الكبار ،وألجؤوا إليهم أراضيهم ليصبحوا في ما بعد مزارعين
أقناناً .وهذا ما ّ
يفسر قيام ثورات فالحيَّة ذات طابع اجتماعي ،مثل ثورة الزنج التي جاءت مناهضة لألوضاع
6
االقتصاديَّة التي كرَّ سها اإلقطاع.
السلطة المركزيَّة نفسها مرغمة على إقطاع األراضي للجند وفي العهدين البويهي والسلجوقي وجدت ّ
مقابل الخدمة العسكريَّة .فأصبح من ّ
حق المقطع تقسيم األرض على جنده مقابل تأمين ق َّوة عسكريَّة .كما
الصغار ،وأعطي لبعض قادتهم ّ
حق جباية الخراج، استحوذ عن طريق االغتصاب على أراضي المالكين ّ
َّ
والضرائب على المزارعين الفقراء .ولم يقتصر إقطاع الجيش على أراضي فاشتطوا في فرض المغارم
يف الجند بالتزاماتهم،
الخاصة وأراضي األحباس ،ولم ِ
َّ الصوافي واألمالكالسواد ،بل تع َّداه إلى أراضي َّ
َّ
الضرائب ،ومارسوا ضغوطاً كبيرة على خاصة ،وأحجموا عن دفع َّ
َّ بل اعتبروا إقطاعاتهم ملكيَّة فرديَّة
المزارعين واألقنان العاملين فيها بعد أن أصبحوا تحت سلطاتهم المطلقة.
الزاوية في تشكيل البناء االقتصادي للمجتمع العربي اإلسالمي ظل نمط اإلنتاج اإلقطاعي حجر َّ وقد َّ
مجسداً بذلك نموذج المجتمع األبوي ّ
الذكوري الذي يكرّ س العبوديَّة وال يؤمن بالمساواة ّ حتّى العصر الحديث،
بين الرَّ جل والمرأة .فمسكويه ّ
يؤكد فرار عدد كبير من األقنان من المزارع نتيجة َّ
الضغط الممارس عليهم من
قبل صاحب األرض الذي اتَّسع نفوذه حتَّى صار اسمه يذكر على المنابر .وفي السياق ذاته يذكر الجبرتي
أن صاحب األرض كان يجلد قنَّه ّ
بالسوط. َّ
6ـ بوتشيت إبراهيم القادي ،مجلّة الوحدة ،عدد ،57سنة ،1989ص .104
www.mominoun.com 11
ولئن عمل الم ُّد الرأسمالي بعد االستعمار على خلخلة أسس اإلقطاعَّ ،
فإن إشكاليَّة العالقة بين التقليدي
والعصري ظلّت قائمة .فاألوضاع االقتصاديَّة واالجتماعيَّة في العالم العربي اإلسالمي تشهد إلى ح ّد اآلن
مواقف تعبّر إمَّا عن رفض وهمي وإيديولوجي لمعطيات المعاصرة ،وإمَّا عن تغريب عنيف ال يتوافق
ّ
التفكك النسبي للبنيات والجذور االجتماعيَّة واالقتصاديَّة المتوارثة .وممَّا يضفي طابعاً مأساويَّاَ على
والعالقات التقليديَّة هو عدم القدرة على االنصهار واالنسجام من جديد في الوسط التقليدي من جهة ،والعجز
عن االنخراط الكلّي في المجتمع العصري من جهة أخرى .كما يمكن تفسير هذا الواقع المتغيّر والمشحون
بظواهر القلق والحيرة وتقلّص الشعور باألمان باالستنزاف الذي تمارسه القطاعات االقتصاديَّة الجديدة
على البنيات التقليديَّة ،وكذلك بقصور المجهود التحديثي في اتّجاه األرياف والمجاالت التقليديَّة لبلوغ المدى
أن تسرُّ ب عوامل الحداثة لم ّ
يتوفر على الق َّوة والطاقة الكافيتين لفرض التغيير الشامل على البنى المطلوب .إذ َّ
ً
فضال عن غياب الرُّ ؤية العلميَّة الواضحة. االقتصاديَّة واالجتماعيَّة
ومؤسسات
َّ َّ
ولعل المناطق المنعزلة والبعيدة عن مراكز الحداثة والخالية ممَّا يرمز إليها من تجهيزات
أن شبابها وقواها النَّاشطة منجذبة بمغريات الهجرة نحو ما ّ
توفره المدينة هي المناطق األكثر معاناة .ذلك َّ
من فرص االرتقاء االجتماعي ،فيضحي َّإذاك حضورهم في أوساطهم التقليديَّة حضوراً جسديَّاً ال غير ،في
حين َّ
أن أذهانهم وقلوبهم تعيش الحلم والخيال ضمن المجتمع الصناعي.
أن التَّداخل بين التقليدي والعصري على الصعيدين االجتماعي واالقتصادي قد
والجدير بالمالحظة َّ
أ َّدى إلى تش ُّوه كليهما .فالبرجوازيَّة الوطنيَّة الصاعدة في البلدان العربيَّة اإلسالميَّة هي االبن غير الشرعي
وامتصت َّ
كل ما َّ بالطبقات المحليَّة المحتكرة،وأسست عالقة وثيقة ّ لإلقطاع ،ألنَّها نمت حوله وفي تربتهَّ ،
الطبقات .لهذا كانت البورجوازيَّة ضعيفة وغامضة ،وغير قادرة على رجعي وبدائي متخلّف في تلك ّ ّ هو
اتّخاذ موقف حاسم إزاء التبعيَّة االقتصاديَّة للغرب؛ ممَّا جعلها دوماً تجنح نحو المساومة وأنصاف الحلول،
وتبدو متذبذبة وانتهازيَّة ال تقوى على المنافسة ،بل تجدها غالباً ما تلجأ إلى المناورة إليجاد شكل من أشكال
التَّعاون واالشتراك في المشاريع االقتصاديَّة الغربيَّة ،لتتيح أوضاعاً مالئمة لمصالحها ،حتَّى وإن كان ذلك
على حساب المصالح التنمويَّة الوطنيَّة.
وإذا كانت المرأة في بعض المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة محرومة من ممارسة حرياتها الفرديَّة واالنتفاع
خاصة يفرض عليها المزاوجة بين وظيفتها التقليديَّة
َّ من حقوقها كالعمل والتعليم ،فإنَّها في األوساط الريفيَّة
www.mominoun.com 12
كزوجة وأ ّم ،وبين تحمّل مسؤوليَّة أعمال فالحيَّة تثقل كاهلها .وحتَّى في البلدان التي دفعت عجلة المساواة
بين الرَّ جل والمرأة قد وقع النكوص في بعضها عن المكاسب التي جنتها المرأة ،ذلك أنَّه في بلدان الثّورات
السفور ،وبإحياء فكرة تع ُّدد َّ
الزوجات بعد العربيَّة ً
مثال قد تعالت أصوات منادية بعودة الحجاب بعد عقود من ّ
ً
فضال عن َّ
أن المرأة مازالت تتعرَّ ض للعنف واالضطهاد بعد أن ظنَّت النساء أنَّها ولّت إلى غير رجعة .هذا
مئة عام من تحريرهاَّ ،
ألن الرَّ جل في المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة يتصرَّ ف بوعي أو بال وعي على أساس
السلوك بين متعلّم وأمّي تجاه المرأة .فإقصاء المرأة
أن المرأة أدنى منه في المرتبة أو النَّوع .وال فرق في هذا ّ
َّ
من االضطالع بأدوار مهمَّة في الفضاء العربي اإلسالمي عمليَّة تشبه بتر عضو أساسي في البدن تفضي به
7
إلى اإلعاقة وتعطيل عنصر الحيويَّة في المجتمع.
فإن قضيَّة المرأة أيضاً بقيت معلّقة على المستوى أن مسألة الحريَّة سياسيَّاً لم تحسم بعدَّ ، وكما َّ
االجتماعي رغم اتّصالها الوثيق بإشكاليَّة الهويَّة .لذلك تحت ُّد األزمة وتتعمَّق بالعودة إلى المشاكل ال ّداخليَّة
يفسر فحسب بالعوامل الذاتيَّة، القائمة في المجتمع العربي اإلسالمي .غير َّ
أن الوقوع في مأزق الهويَّة ال ّ
إن العوامل الخارجيَّة أيضاً قد أذكت شرارة األزمة ،وعمَّقت طرح سؤال الهويَّة في العصر الحديثبل َّ
أكثر من أيّ وقت آخر.
-2األسباب الخارجيَّة:
أ -االستعمار:
التوسع االستعماري داخل البلدان العربيَّة اإلسالميَّة كان يت ُّم باسم مجموعة من المبادئ
ُّ من المعلوم َّ
أن
المثاليَّة كنشر الحضارة وإنقاذ الشعوب المتخلّفة من براثن الجهل ،غير َّ
أن اهتمام اإلمبرياليَّة في الحقيقة كان
منصبَّاً نحو نهب خيرات هذه البلدان واستغاللها لدعم اقتصادها ونفوذها.
لذلك عملت اإلمبرياليَّة لالستيالء على البنيات التحتيَّة االقتصاديَّة إلدماجها في االقتصاد الرأسمالي،
كما أخضعت البنيات السياسيَّة االجتماعيَّة إلى سلطتها بغاية تغييرها ،ممَّا جعل البلدان المستع َمرة تكابد
ّ
التدخل االستعماري ح َّول المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة من مجتمعات االحتالل في جميع األصعدة .إذ َّ
أن
شبه طبقيَّة إلى مجتمعات طبقيَّة ،وقد استتبع هذا التح ُّول تغييرات في جميع المستويات االقتصاديَّة والسياسيَّة
المؤسسات
َّ يكتف باالحتالل عسكريَّاً ،بل سعى أيضاً إلى القضاء على
ِ ألن المستعمر لمواالجتماعيَّة والثقافيَّةَّ ،
ّ
األقل إلى تهميشها ،ممَّا أثّر على حياة المجتمع بأكمله انطالقاً من تغيير القوانين الموجودة المحليَّة أو على
7ـ الشرفي عبد المجيد ،الثورة والحداثة واإلسالم ،دار الجنوب للنّشر ،ط ،1نوفمبر ،2011ص .118
www.mominoun.com 13
وتعويضها بقوانين جديدة تخدم تط ُّور رأس المال والمصالح االستعماريَّة ،وانتهاء بتأثير شامل في أنماط
التفكير واالستهالك لدى فئة كبيرة.
فإن موجات االحتجاج أن المرحلة االستعماريَّة قد امت َّدت فترات طويلة على غرار الجزائر ً
مثالَّ ، وبما َّ
ض َّد المستعمر قد تعالت ،واندلعت اإلضرابات العماليَّة ،واشت َّدت المواجهات العسكريَّة والثقافيَّة بين الحركات
والشخصيَّات في ال ّدول العربيَّة اإلسالميَّة من جهة ،وبين ق َّوات االحتالل من جهة أخرى .فكرَّ ست أثناء
الحقبة االستعماريَّة ما يُعرف بإيديولوجيا الكفاح المتفرّ عة أساساً من الخصوصيَّة الدينيَّة كر َّدة فعل على
المستعمر ،بهدف الحفاظ على الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة المه َّددة باالستباحة واالستالب.
كما هيمن على هذه اإليديولوجيا فكر تعبوي يجيّش الجماهير عبر الشعارات لطرد الغزاة ،دونما تفكير
علمي او معرفة نقديَّة .لذلك ركنت الخطابات في معظم األحيان إلى الوازع ال ّديني التّقليدي الستنفار الحماسة
الدينيَّة واالنتماء العقدي في مواجهة االستعمار ،فأضحت الهويَّة آنذاك معطى جاهزاً ،ليس على المرء سوى
االنخراط فيه والتّماهي معه ،وإلاَّ واجه مصير التَّهميش واالنبتات ،إن لم يكن التَّخوين واالستبعاد.
ّ
األقل لم يعد العالم بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثانية أحادي البعد ،بل أضحى متع ّدد األطراف أو على
ثنائي القطبين .فقد انضافت إلى المرجعيَّة الغربيَّة َّ
الضابطة لقيم العالم ومبادئه منظومة اشتراكيَّة أصبح لها
الخاص في تكييف مسارات العالقات الدوليَّة وتحديد توجُّ هاتها العامَّة.
ّ وزنها
وإذا كان االستعمار التّقليدي المباشر قد انحسر من تاريخ اإلنسانيَّة المعاصرَّ ،
فإن القطبين المتنازعين
قد سعيا إلى ابتداع وسائل جديدة ّ
تمكنهما من تحقيق غاياتهما .وبذلك شهد االستعمار مرحلة جديدة قوامها
www.mominoun.com 14
والسيطرة والنّفوذ ،ال باستخدام الق َّوة العسكريَّة فحسب ،بل باللّجوء أيضاً إلى وسائل اقتصاديَّة وثقافيَّة
الهيمنة َّ
وإعالميَّة وتكنولوجيَّة ومخابراتيَّة.
ّ
والتدخالت المباشرة وغير المباشرة، ولم تسلم ال ُّدول العربيَّة اإلسالميَّة من الضغوطات الخارجيَّة
الصراع بين القطب الشرقي ّ
الشيوعي حتَّى بعد أن نال معظمها الستقالل ،إذ فرض عليها ال ُّدخول في بوتقة ّ
وبين القطب الغربي الرأسمالي .وشهدت أرجاؤها غزوات نفوذ وسيطرة واستغالل ال تظهر فيها الجيوش
بالضرورة وال تقع على ساحاتها معارك في بعض األحيان ،مثلما أنَّها في أحيان أخرى قد تكون قاعدة
َّ
الشتعال حروب وصراعات مسلّحة صغيرة إقليميَّة ال يبلغ تصاعد العنف فيها عتبة الحرب النوويَّة
كالحرب العربيَّة اإلسرائيليَّة أو الحرب العراقيَّة اإليرانيَّة .ذلك َّ
أن الق َّوتين العظميين تسعيان من خالل
الصغرى إلى الهيمنة أو فرض حلول وتسويات ّ
تحقق مصالحهما االستراتيجيَّة الصراعات اإلقليميَّة ُّ خلق ّ
ومصالح حلفائهما .فكانت الحروب ال َّدائرة بالمنطقة العربيَّة اإلسالميَّة حروباً بالوكالة ،كما مثّلت في الوقت
ذاته ميادين تُجرَّ ب فيها األسلحة الجديدة المتط ّورة غير النوويَّة ومختبرات لألجهزة اإللكترونيَّة واألنظمة
ال ّدفاعيَّة والهجوميَّة.
ج -العولمة:
ما إن وضعت الحرب الباردة أوزارها حتَّى وجد العالم نفسه أمام نظام عالمي جديد تزامنت معه ثورة
للتوسع الرأسمالي
ُّ مثيال منذ الثّورة الصناعيَّة .ذلك َّ
أن العولمة أفرزت نسقاً جيوسياسيَّاً ً لم تعرف البشريَّة لها
متنام للعولمة الماليَّة والنقديَّة،
ٍ تجسد بثورة اتّصاليَّة وتكنولوجيَّة عارمة ،ودورَّ على المستوى الكوني،
ومؤسساتها ،وانهيار الحواجز الحمائيَّة ،واتّساع
َّ وهيمنة الشركات العابرة للقارَّ ات ،وتغيير لوظائف ال َّدولة
َّ
واختل التّجارة اإللكترونيَّة .فقد تغير العالم بسرعة مذهلة ،وأضحى خاضعاً لمبدأ ّ
الشبكات والمصالح،
النّظام الثنائي الذي لطالما أوحى بوجود توازن بين الق َّوتين العظميين في العالم ،كما برز خطر هيمنة القطب
ألن النّظام العالمي الجديد قد أوجد أنماطاً جديدة
خاصة العربيَّة واإلسالميَّةَّ ،
َّ الواحد على دول العالم وشعوبها
www.mominoun.com 15
كافة أوجه الحياة .وقد زادت الثورة المعلوماتيَّة اله َّوة اتّساعاً بين أغنياء العالم وفقرائه ،إذ
السلوك في َّ من ّ
ً
ضئيال. المتمكنة ،في حين بدا أمل بلدان العالم النّامي للحاق بركب الحضارة ّ سارع إيقاع التّط ّور لدى ال ّدول
ّ
ولتتحكم في مق َّدراتها وهكذا فقد أفسحت العولمة المجال لنفسها حتَّى تسيطر على البلدان العربيَّة اإلسالميَّة،
وقدراتها وممتلكاتها وملكاتها .كما سعى القطب الواحد بوسائل االتصال الحديثة إلى فرض نمط واحد من
الشعوب العربيَّة اإلسالميَّة الثّقافيَّة ويل ّوح الحياة ومن القيم والمبادئ ومن ّ
الذوق العا ّم ،يستهدف خصوصيَّات ّ
بتفاقم الهويَّة .لذلك ولّدت صعوبة استيعاب التّح ُّوالت الجارفة شعوراً بالعجز والتَّصاغر واالنسحاق ،وخلّفت
تتحصن بها وتنغلق فيها .كما احتدمت
َّ الذات بالبحث عن الهويَّة في أصول ردود فعل انطوائيَّة تحاول إثبات ّ
النزاعات ّ
الطائفيَّة واالنقسامات العرقيَّة وال ّدينيَّة في عالم ظاهره الوحدة وباطنه االنقسام .كما ألفى اإلسالم
نفسه معنيَّاً بخوض صراعات ومواجهاتها مع العالم الذي خرج منتصراً من الحرب الباردة ،فقد برزت
الصراع وتمنحه المعنى ،وتضفي عليه أبعاداً ثقافيَّة من قبيل حديث فرنسيس مقوالت ونظريَّات ّ
تؤطر هذا ّ
فوكوياما عن نهاية التّاريخ أو إقرار صمويل هنتنجتون بصدام الحضارات .واشت َّدت المواجهات بعد أحداث
التّفجيرات في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر سنة ،2001وما تالها من حروب شنّتها
الواليات المتَّحدة وحلفاؤها تحت مسمَّى الحرب على اإلرهاب في أفغانستان وباكستان والعراق ،وهي مناطق
تنتمي تاريخيَّاً إلى العالم اإلسالمي .كما واجهت قطاعات هائلة من المسلمين في الغرب مقيمين وزائرين
مضايقات وانتهاكات عديدة ،وع َّم نسبة كبيرة من المسلمين إحساس بأنَّهم منبوذون ألنَّهم مسلمون ،مثلما نمت
في أذهانهم فكرة االستهداف في دينهم وكرامتهم وشرفهم وحقوقهم وأرضهم ،بما َّ
أن انتماءهم ال ّديني بات
ظل هذه األجواء المتوتّرةوالسخرية .وفي ّ يتعرَّ ض للتَّجريحَّ ،
وأن رموزهم ال ّدينيَّة أضحت عرضة لالنتهاك ّ
وإقصائي ،يسعى لتوحيد المسلمين وينهل من
ّ ّ
لتضخم خطاب هويَّة دغمائي حصريّ َّ
توفرت البيئة المالئمة
اإلسالمي لل ّدفاع عن شرفه وكرامته.
ّ معين االنتماء
العربي اإلسرائيلي
ّ الصراع
دّ -
www.mominoun.com 16
خاصة والغرب عامَّة ال َّدعم والمساندة ال ّدوليَّة التي تحظى بها إسرائيل من ال ّدول العظمى،
َّ تجاه إسرائيل
ّ
الحق وأن إسرائيل تسعى من أجلبأن الفلسطينيين معتدون َّ ونجاح الصهيونيَّة في إيهام الرأي العا ّم العالمي َّ
الصهيونيَّة قد وجهت عداءها
أن ّأن حركات التحرُّ ر الفلسطينية ليست سوى أوكار لإلرهاب .وبما َّ
في حين َّ
ً
ودوالَّ ،
فإن قضيَّة فلسطين أضحت قضيَّة العرب األولى ،واتسعت أبعادها إلى نحو العرب عرقاً ومجتمعاً
درجة التَّماهي مع القضيَّة القوميَّة ،بل صارت جوهرها وجزء ّ
الكل من الهويَّة.
كل ذلك إلى أنَّه من الطبيعي أن يكون خطاب الهويَّة مرتكزاً أساساً على معيار االنتماء إلى ونخلص من ّ
خاصة بالنّسبة إلى المجموعات التي تقاوم
َّ والصديق وفقاً لهذا المقياس،
ّ اإلسالم أو العروبة ،وأن يع َّد العد ّو
االحتالل االسرائيلي ،بل َّ
إن معظم أجنحة المقاومة العسكريَّة أضحت مجموعات ذات توجُّ هات دينيَّة ،ممَّا
يجعل خطابها ال يرتكز سوى على المفاهيم الدينيَّة.
ولئن بان لنا من خالل تشخيص مأزق الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة األثر الكبير للعوامل الخارجيَّةَّ ،
فإن
األسباب ال ّداخليَّة الذاتيَّة ُّ
تظل األكثر تأثيراً في خلق أزمة الهويَّة وترسيخها.
فإن األسباب جميعاً قد تضافرت لتفضي إلى تداعيات خطيرة ألمَّت بالمجتمعات العربيَّة
وعلى العمومَّ ،
اإلسالميَّة على ّ
كافة المستويات.
أن الحضارة العربيَّة اإلسالميَّة قد عرفت في أوج ازدهارها باالنفتاح على مصادرعلى الرّ غم من َّ
معرفيَّة وثقافيَّة متن ّوعة ،فإنَّها آلت منذ القرن الخامس الهجري إلى الجمود واالنغالق ،ممَّا فسح المجال
للنّزعات اللاَّ عقليّة كي تنمو ،وانحسرت المعرفة العقليَّة المنبنية على الثّقة بالنّفس واالضطالع بالمسؤوليَّة
الصادق للمعرفة .فقد تضاءلت الفلسفة ث َّم اختفت من معظم األمصار ،وتح َّولت العلوم الطبيعيَّة
واإلخالص َّ
ألن الثّقافة العربيَّة
والشرعيَّة إلى متون وأراجيز شعبيَّة تحفظ عن ظاهر قلب ،وصار الوضع الثقافي مقيَّداًَّ ،
www.mominoun.com 17
ً
قائال« :هناك تداخل بين العصور الثقافيَّة ويفسر الجابري هذا الوضع ّ مازالت منبنية على الثّبات والجمود،
المثقف في أيّ مكان منّ في الفكر العربي منذ الجاهليَّة إلى اليوم ،ممَّا يجعل منها زمناً ثقافيَّاً واحداً يعيشه
والسمة
ّ يشكل جزءاً أساسيَّاً وجوهريَّاً من هويَّته الثقافيَّة وشخصيَّته الحضاريَّة،
الوطن العربي كزمن راكد ّ
الزمن الثقافي العربي الواحد هي حضور القديم ،ال في جوف الجديد يغنيه ويوصله بل البارزة في هذا َّ
ّ
المثقفون في العالم العربي حضوره جنباً إلى جنب ينافسه ويكبّله» 8.ومن تجليات األزمة التي يعاني منها
الصدمة الحضاريَّة ،أي طيلة القرنين الماضيين ،االنقسام إلى تيّارين فكريين مختلفين أش َّد اإلسالمي منذ َّ
االختالف في مقاربة مسألة الثّقافة وعالقتها بالهويَّة .إذ ارتمى التيَّار األ َّول في أحضان الماضي ،واختار
التحصن بالتّراث خوفاً من ضياع الهويَّة واالغتراب رغم سعي بعض دعاته إلى التوفيق بين الحفاظ ُّ أتباعه
على التّراث وبين االنفتاح على علوم العصر وفنونه وفكره .أمَّا التيَّار الفكري الثاني ،فإنَّه قد تبنَّى المدنيَّة
الغربيَّة بالكامل ،بل ذهب أتباعه أحياناً إلى أبعد من ذلك ،ور َّوجوا األفكار القوميَّة والفرعونيَّة ،ودعوا إلى
تأسيس ركائز المجتمع المدني ،لذلك اتَّهمهم التيَّار األ َّول بالمروق من مسارات الثّقافة العربيَّة اإلسالميَّة.
كل البعد عن اإلبداع الحضاري محل تجاذب وصراع إيديولوجي بعيد ّ َّ فظلّت َّ
الساحة الثقافيَّة والفكريَّة
المثقف مغيَّباً في المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة عن المشاركة في إنتاج
ّ والثّقافي الفعَّال .وليس غريباً أن يكون
مظاهر المدنيَّة المعاصرة .إذ تصنّف األمم المتَّحدة هذه المجتمعات في القسم السفلي من قائمة اإلسهامات
تتحكم في ّ
كل القطاعات ،بما فيها قطاع الثّقافة ،ألنَّها َّ الثقافيَّة والمنجزات الحضاريَّة .وال يخفى َّ
أن العولمة
السلعة واإلعالم ورأس المال أن تتح َّول إلى شبه آلة هائلة تشمل الكون بأسره استطاعت بارتكازها على ّ
وتخص المجتمع البشري بأكمله داخلها ،ث َّم تخرج النّاس عبر أجهزتها المبرمجة قوالب متشابهة منمَّطة .ذلك
ّ
أن وراء تشغيل هذه اآللة يكمن ذهن علمي مبدع ما ّ
انفك منذ الثّورة العلميَّة والتكنولوجيَّة ينتقل من كشف َّ
إلى آخر ،فال يقف عند ح ّد وال يعترف في حقله بمعرفة نهائيَّة ،في حين َّ
أن الشعوب العربيَّة اإلسالميَّة قد
الذهني المعاصر ،فكان مصيرها التقولب والتنميط وفق إفرازات العولمة ،دون أن يكون رفضت هذا البناء ّ
لثقافتها وتراثها أيُّ دور في صناعة الوضع الثّقافي والحضاري القائم ،بل هي عاجزة عن تغييره أو تعديله
أن الثّقافتين العالمة والشعبيَّة في العالم العربي اإلسالمي قد
لبلوغ ما بو ّدها أن تصبح عليه .ومن المعلوم َّ
تخلّتا عن دوريهما لصالح الثّقافة الجماهريَّة التي تولّدت مع الوسائط الجماهريَّة كوسائل االتّصال والتَّواصل
شكلت هذه الثّقافة عبر استيراد تقنيات الوسائط
الحديثة .لهذا نشأ نمط ثقافي آخر هو الثّقافة االستهالكيَّة .إذ ّ
الجماهريَّة من الغرب ،فظهر في إنتاجات هذه الثّقافة األثر الكبير للتَّفاعل مع الغرب وثقافته ،بعد أن سعت
مختلف القنوات في العالم العربي اإلسالمي إلى ترجمة البرامج التلفزيونيَّة الغربيَّة أخباراً وبرامج ومن َّوعات
ً
فضال عن مختلف ألعاب الفيديو والفيديو كليب. وأفالماً ومسلسالت،
8ـ الجابري محمَّد ،نقد العقل العربي .ج :1تكوين العقل العربي ،بيروت ،1984ص .42
www.mominoun.com 18
والمؤسسات الثقافيَّة ،ألنَّها ظلّت تعمل بطريقة
َّ أن هذا التّفاعل لم يحدث أيَّ تغيير على مستوى البنى
غير َّ
تقليديَّة ،باإلضافة إلى كونها لم تج ّدد في طبيعة المحتوى ،ولم تنتقل إلى المستوى الرَّ قمي .وحتَّى إن انتهجت
الوسائط الحديثة في اإلطار الثقافي العربي اإلسالميَّ ،
فإن الما َّدة الثقافيَّة المنتجة عادة ما تكتفي بإعادة
تص ُّورات الوسائط الغربيَّة وتقليدها.
ويعاني التَّعليم أيضاً من غياب التّركيز المبرمج على فروع العلوم العصريَّة والتكنولوجيا ،واالنصراف
السياسات التّعليميَّة المنتهجة إلى تخريج ماليين
والسياسيَّة ،فأفضت ّ ّ إلى العلوم اإلنسانيَّة واالجتماعيَّة
العاطلين عن العمل أو ما يعرف بالبطالة الثقافيَّة المقنَّعة المنتشرة على نطاق واسع بين خرّ يجي الجامعات
9 وحاملي ّ
الشهادات العليا.
فالخلل البنيوي في المناهج وأساليب التَّعليم في البلدان العربيَّة اإلسالميَّة ليس له من هدف سوى تكريس
فضال عن كونه ال يساعد على بناء شخصيَّة إنسانيَّة سويَّة تعتمد القدرة على ً ذهنيَّة ّ
التلقي والخضوع،
السائد ال يساعد االستكشاف والنّشاط الحرّ والممارسة اإلبداعيَّة في حقلي الثّقافة والفنون .كما َّ
أن التعليم َّ
9ـ ضاهر مسعود ،المجلّة العربيَّة للثّقافة .54 .مارس .2009ص .93
www.mominoun.com 19
السائدة نحو ثقافة التغيير الشمولي ،كما أنّه يُ ْد ِبر عن تملّك العلوم العصريَّة
على تجاوز مقوالت ثقافة التبرير َّ
والتّكنولوجيا المتط ّورة أيضاً.
والطلبة فحسب ،بل يطال كذلك المنظومة التعليميَّة وال يقتصر خنق الحريَّة في نسق التَّعليم على التَّالميذ ّ
برُ مَّتها ،فالمعلّمون قاهرون ،والتّالميذ هم بدورهم مقهورون من اإلدارة التعليميَّة ،بحكم تدنّي مكانة َّ
السواد
األعظم منهم ماديَّاً ومعنويَّاً.
تعاني أغلب البلدان العربيَّة اإلسالميَّة من صعوبات كبيرة على المستويين االقتصادي واالجتماعي .ذلك
مؤشرات النم ّو فيها قد بلغت أسفل سلّم التَّصنيف العالمي ،نظراً لكونها مجتمعات تخضع للتبعيَّة من جهة،
أن َّّ
وتقبل على االستهالك والتَّوريد أكثر ممَّا تنتج أو تص ّدر من جهة أخرى .وفي ّ
ظل غياب سياسات تنمويَّة
خاصة َّ
وأن نم َّو المجتمعات في عصر العولمة بات يعتمد على آليات َّ تعقداً،
واضحة المعالم تزداد المشاكل ّ
والسوق الكونيَّة. جديدة لكسب الثَّروة من قبيل اقتصاد المعرفة وإنتاج ّ
الذكاء ُّ
أن األقطار العربيَّة اإلسالميَّة عاجزة عن مواكبة مثل هذه التح ُّوالت االقتصاديَّة الجديدة ،فإنَّهاوبما َّ
اختالال خطيراً في موازين مدفوعاتها الخارجيَّة ،كما سبَّب هذا العجز التّجاري تراكم ً ظلّت تواجه دائماً
ال ُّديون الخارجيَّة عليها عاماً بعد عام ،فتتحمَّل من جديد أعباء دفع أقساطها ّ
السنويَّة باإلضافة إلى دفع الفائدة
المستحقة عليها سنويَّاً ،ويتفاقم عجز الموازين التجاريَّة سنة بعد أخرى.
ّ
وحتَّى األقطار النفطيَّة ليست بمعزل عن األزمات االقتصاديَّة نتيجة تقلّب أسعار الخامات التي تص ّدرها
والمؤسسيَّة .لذلك نجدها عاجزة هي األخرى عن إنجاز تنمية حقيقيَّة ،بل َّ
إن َّ ولمحدوديَّة مواردها البشريَّة
كل شيء من الخارج ،بما في ذلك األمر ينتهي بها عادة إلى تبديد مواردها الماليَّة في مشاريع تستورد لها َّ
العمالة والمع َّدات التكنولوجيَّة واألطر اإلداريَّة .كما تتآكل أرصدة هذه ال ُّدول إمَّا باالستيراد المستمرّ ّ
للسالح
بالصراعات والحروب الممت ّدة والتّهافت على التسلّح ،وإمَّا بدفع فواتير ّ بأسعار باهظة في منطقة تتَّصف
www.mominoun.com 20
االستعانة بق َّوات أجنبيَّة ّ
توفر لها الحماية واألمن .وهكذا فتح الباب لمجاالت إنفاق جديدة ال عالقة لها ببرامج
التنمية االقتصاديَّة.
وبذلك تتمظهر أزمة الهويَّة على المستوى االجتماعي ،ال في حدود القطر الضيّقة فحسب ،بل نراها
أحياناً تمت ُّد إلى أبعد من ذلك ،مثلما يمكن معاينتها في الوقت ذاته ضمن ّ
السلوكيَّات االجتماعيَّة ،إذ َّ
أن مشكلة
االنتماء تبدو واضحة في صلب البلدان العربيَّة اإلسالميَّة من خالل الهيئة الخارجيَّة ،فعلى سبيل المثال يميل
بعض شبَّان هذه األقطار عبر الزيّ أو تسريحة َّ
الشعر أو ما يوضع على الجسد إلى تقليد التّقليعات الغربيَّة،
أن البعض اآلخر يختارون لباساً مغايراً ،أو ما يعتبرونه زيَّاً إسالميَّاً ،فيلبسون الجلباب ويطيلون
في حين َّ
لحاهم ،وتقبل اإلناث على ارتداء الحجاب أو النّقاب .والمالحظ األبرز في هذا المضمار المزاوجة بين الزيّ
اإلسالمي من جهة ،وبين موضة العصر من جهة أخرى .إذ نجد نسبة كبيرة من اإلناث الالتي يضعن أغطية
َّ
وجوههن. رؤوسهن ،يلبسن أيضاً بنطلونات الجينز ،كما يضعن مساحيق ّ
الزينة الفاقعة على ّ على
وال يقتصر التغيّر على الهيئة الخارجيَّة فحسب ،بل ينسحب كذلك على العادات الغذائيَّة َّ
والذائقة الفنيَّة.
السريعة واالستماع إلى إذ صار َّ
الشباب في المجتمعات العربيَّة اإلسالميَّة يقبلون على تناول الوجبات َّ
السينما األمريكيَّة ،غير أنَّهم عندما يحاولون التَّوفيق بين العادات
موسيقى البوب والجاز والرَّ اب ومشاهدة ّ
الجديدة وبين التّقاليد العربيَّة اإلسالميَّة الموروثة ،يجدون أنفسهم َّ
ممزقين وأذهانهم مش َّوشة ،ألنَّهم منش ُّدون
إلى عصرهم وأنماطه الثّقافيَّة من ناحية ،مثلما أنَّهم في الوقت ذاته مسكونون بهاجس التّقاليد الموروثة التي
مازالت راسخة وفاعلة في العقل والوجدان من ناحية أخرى .وبالنّظر إلى مثل هذه ّ
السلوكيَّات المنتشرة في
أوساط أولئك ّ
الشباب نتبيَّن عمق األزمة ،إذ ال يلجأ إلى ا ّدعاء التَّوفيق وتطويع التّقاليد لمالئمة مقتضيات
www.mominoun.com 21
ّ
التمزق بين أنماط وافدة عليه من غير بيئته العصر إال من كان مأزوماً .ويتجلّى مكمن المأزق بوضوح في
تأسره ببهرجها ،وبين هويَّة تجثم على عقله وقلبه ،ولكنَّها ال تشبع رغباته وال تلبّي طموحاته.
الشباب العربي المسلم عن مشكلة انتمائه وهويّته باالنغماس في تشجيع ناديهفال غرابة إذن أن يعبّر ّ
والشعور بوجوده .بل قد يؤول الهوس ّ
الشديد في ّ الرّ ياضي إلى ح ّد التّماهي واالندماج الكلّي لتحقيق ذاته
ألن الهويَّة التعصب األعمى وممارسة العنف ّ
بكل أشكالهَّ ، ُّ ال ّدفاع عن هويَّة فريق ما أو انتماء معيَّن إلى
السياق مبنيَّة على أساس عاطفي بحت بعيد عن ّ
كل منطق عقالني .فالرَّ وابط بين المشجّ عين في هذا ّ
ّ
تتحقق بفضل التَّعارف والمعرفة الشخصيَّة المتبادلة وغير خاضعة لمنطق المنتمين إلى فريق واحد ال
َّ
تتحقق في لحظة تواصل جماعيَّة تندرج ضمن ثقافة المصلحة المتع ّددة المشتركة المتّفق عليها ،وإنَّما
10
الحشد وخصائصها النفسيَّة.
ظل ّ
الشعور َّ
بأن الهويَّة واالنتماء األصليين غير قادرين على احتوائه وإشباع طموحاته وتحقيق وفي ّ
الشباب العربي المسلم في أحضان نا ٍد يشجّ عه ليكون مالذاً يفرغ فيه
والشجاعة ،يرتمي ّ
َّ اإلحساس بالنَّصر
شحنة الغضب واإلحباط من تر ّدي الواقع المعيش.
إن المتأمّل في ال َّدعوة اإلسالميَّة إبَّان انخراطها الكلّي في التَّاريخ ،أي بعد وضع العلوم اإلسالميَّة
َّ
للذات ولآلخر قد صيغت بشكل نهائي ،وقد أن الرؤية اإلسالميَّة ّ
وتركيز ال َّدولة نظاماً ومسؤوليَّات ،يلحظ َّ
الصلح ،وأهل الذمَّة َّ
تمخض عن هذه الرُّ ؤية مفاهيم أساسيَّة للهويَّة تميّز بين دار اإلسالم ودار الحرب ودار ّ
والمستأمنين والجهاد .وإذا كانت دار اإلسالم تض ُّم َّ
كل األرضي الواقعة تحت سلطة اإلسالم السياسيَّةَّ ،
فإن
دار الحرب تمثل مبدئيَّاً بقيَّة بلدان العالم التي ال تنتمي إلى دار اإلسالم ،ممَّا يجعلها وفق ذلك هدفاً لحرب
المسلمين الشرعيَّة أو المسمَّاة جهاداً .وقد كان العالم المسيحي البيزنطي ث َّم األوروبي تاريخيَّاً الممثّل األه َّم
لدار الحرب .وبالتَّالي َّ
فإن الخلفيَّة الدينيَّة كانت العامل الحاسم في تشكيل رؤية المسلمين لهويَّتهم ولهويَّة
اآلخرين .كما نما في هذا اإلطار مفهوم األمَّة ،ال بالمعنى الجغرافي أو السياسي ،وإنَّما بالمعنى ال ّديني ،أي
ولكن الممارسة الفعليَّة لمصطلح دار اإلسالم لم يكن سائداً طيلة
َّ متجسدة في نطاق دار اإلسالم.ّ أمَّة اإلسالم
فترات طويلة من هذه المرحلة التَّاريخيَّةَّ ،
ألن المسلمين انقسموا إلى فرق دينيَّة متناحرة منذ الفتنة الكبرى.
إن إمبراطوريَّاتهم َّ
تفككت واستحالت إلى دول متصارعة. بل َّ
10ـ بن بلقاسم فريد ،قضايا الهويَّة في اإلسالم المعاصر ،دار سحر للنّشر ،ط ،1جانفي ،2013ص .109
www.mominoun.com 22
فمنذ القرن التَّاسع الميالدي ظهرت مراكز نفوذ مستقلّة عن سلطة الخليفة العبّاسي ،بالمغرب وبخراسان
أسس الفاطميون خالفة مستقلّة تماماً ،وطالبوا بقيادة العالم اإلسالمي.
في المشرق .كما َّ
وقد استمرَّ ت حال التجزئة والتّقسيم بدار اإلسالم بعد استيالء المغول على بغداد سنة ،1258فظهرت
ثالث دول كبرى هي تركيا وإيران ومصر سرعان ما أصبحت اثنتين بعد أن ض َّم األتراك العثمانيون مصر
إلى سلطانهم .وقد تنازعت ال َّدولتان العثمانيَّة والصفويَّة حول ال ُّنفوذ في العالم اإلسالمي إلى ح ّد استنزاف
الصلح عليهما. َّ
وتمكن ملوك أوروبا وأمراؤها من فرض معاهدات ّ قدرتيهما العسكريَّة،
السياق َّ
أن ال ّدين اإلسالمي لم يكن طيلة فترات ممت َّدة من تاريخه المح ّدد والجدير بالمالحظة في هذا ّ
الوحيد االنتماء والهويَّة ،فكثيراً ما تداخلت معه مح ّددات أخرى كالمعطيات العرقيَّة ّ
والطائفيَّة والمذهبيَّة وحتَّى
والصراع ال َّدموي والمواجهات العسكريَّة بين ّ
السلطات الحاكمة في ّ السالالت الحاكمة ،لذلك استمرَّ التّنافس ُّ
الشعور باالنتماء إلى أمَّة واحدة لم يكن شعوراً طاغياً
أن ّالمناطق المدع َّوة بدار اإلسالم ،ممَّا يقيم ال َّدليل على َّ
نفسي أكثر منه تجسيداً فعليَّاً في
ّ وعامال ثابتاً في تحديد الهويَّة .فما وجود مفهوم األمَّة سوى وجود رمزيّ
ً
الواقع التَّاريخي .وعلى الرّ غم من أهميَّة شعار الهويَّة الذي رفعته البلدان العربيَّة اإلسالميَّة لل ّدفاع عن ذاتها
وكيان مجتمعاتها ض َّد عمليَّات االقتالع واالستئصال التي كان يمارسها المستعمرَّ ،
فإن نتائجه كانت عكسيَّة
السياسي واإليديولوجي مثّلت إحدى أه ّم
أن عمليَّة تكريس الواحد على المستوى ّال سيَّما بعد االستقالل ،إذ َّ
التَّداعيات التي أ َّدى إليها ال ّدفاع عن الهويَّة الموحّ دة والواحدة.
مثال احتكرت األحزاب الحاكمة شعار الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة بوصفها أحزاباً
ً ففي المغرب العربي
معادلة لتاريخ النّضال والجهاد .وح َّولت بذلك ذاتها إلى قطب واحد وأحاديّ قادر على ضمان تجسيد هويَّة
ً
قابال للخضوع للواحد ولمسيرته ً
حقال المجتمع والتَّاريخ ،فأضحى بذلك الحقل السيّاسي بعد لحظة االستعمار
ياسي مغلقاً أمام أشكال المشاركة أو المنافسة أو المعارضة .وال يقتصر األمر على إقليم
الس ّفقط ،وبات العمل ّ
العربي ،بل إنَّنا نجد األمر نفسه في المشرق أيضاً .إذ انبنت الهويَّة في مصر ً
مثال على العروبة، ّ المغرب
الزعيم الواحد الذي أصبح مرجعاً لتيَّار
واتَّخذت منها مصدراً رئيسيَّاً لطاقتها وحركيَّتها ،ممَّا أ َّدى إلى خلق َّ
السيادة فإن إعالن الهويَّة مصدراً لتأسيس ّ
الشرعيَّة وإنتاج ّ العربي ّ
ككل .وبالتّالي َّ ّ سياسي انتشر داخل الوطن
ّ
السياسي ،وما هو إال نتيجة
ّ وإعادة إنتاجها وضمان ديمومتها ليس إال تبعة من تبعات شخصنة السلطان
ياسي المعقلن عن األنظمة السياسيَّة
الس ّ السياسي ومجتمعه .وهكذا نفي ّ
الطابع ّ ّ من نتائج المماثلة بين الواحد
السياسي ومصدر شرعيّتها هويَّة
ّ العربيَّة اإلسالميَّة ،ومنح في مقابل ذلك شرعيَّة قدسيَّة ،رمزها الواحد
المجتمع الثّقافيَّة والدينيَّة الواحدة المغلقة والمتجانسة.
www.mominoun.com 23
السياسيَّة داخليَّاً ،وإلى الهزائم واالنتكاسات وقد أفضى ُّ
كل ذلك إلى االستبداد وتنامي االغتياالت واالنقالبات ّ
خارجيَّاً ،من قبيل هزيمة الجيوش العربيَّة ض َّد إسرائيل سنة 1967واحتالل األراضي الفلسطينيَّة ،فحتّى
السياسيَّة والعسكريَّة التي عقدت بين ال ّدول العربيَّة واإلسالميَّة لم يكتب لها النَّجاح .ذلك َّ
أن التحالفات ّ
ّ
ومنظمة المؤتمر الخليجي
ّ العربي ومجلس التَّعاون
ّ ّ
منظمات من قبيلة جامعة ال ّدول العربيَّة واتّحاد المغرب
يجسد المصالح المشتركة ألعضائها سياسيَّاً وأمنيَّاً ،ويضع
اإلسالمي قد فشلت في تقديم نموذج ناجح وفعَّال ّ
الصراع العسكري بين لحل المشاكل والخالفات ّ
الطارئة بينها .ففي ثمانينات القرن العشرين دام ّ آليَّات ّ
العراق وإيران ثماني سنوات بأكملها ،تكبَّد خالله الجيشان خسائر ماديَّة هائلة دون أن تحسم الحرب بشكل
نهائي وقاطع لصالح أحد الطرفين .كما خلّف دخول الق َّوات العراقيَّة إلى الكويت مزيداً من التدهور ،ليس
ّ
الخليجي فحسب ،بل داخل المنطقة العربيَّة اإلسالميَّة برمَّتها .إذا استصدرت الواليات
ّ ياسي
الس ّفي الواقع ّ
المتَّحدة وحلفاؤها تدابير من مجلس األمن تقضي بحصار اقتصاديّ وجويّ خانق على العراق ،وبتجنيد اثني
أسطوال حربيَّاً إلضعاف الق َّوة العسكريَّة العراقيَّة وتدميرها.
ً عشر
تكفلت بعض أجهزة اإلعالم الغربيَّة أيضاً باستفزاز نعرة التّ ُّ
عصب ومشاعر الحقد عند المسلمين وقد ّ
نبي اإلسالم ،كما َّ
أن فيلم فتنة الصحف األوروبيَّة قصد إهانة ّ بنشر الرُّ سومات الكاريكاتوريَّة في بعض ّ
الذي أنتجه النَّائب الهولنديّ «غيرت ولدرز» قد أساء هو اآلخر لإلسالم والقرآن .وال ننسى كذلك ما خلّفته
السادس عشر أثناء محاضرة له بألمانيا سنة 2005من ردود فعل سلبيَّة في أوساط
تصريحات البابا بيندكت َّ
12
المسلمين ،ألنَّهم وجدوا في عباراته إساءة لإلسالم والمسلمين.
11ـ حرب علي ،الممنوع والممتنع ،المركز الثّقافي العربيّ ،الدّار البيضاء ،ط ،1سنة .1995
12ـ بن بلقاسم فريد ،قضايا الهويَّة في اإلسالم المعاصر ،دار سحر للنشر ،ط ،2013ص .120
www.mominoun.com 24
فإن الوقائع السالف ذكرها مجتمعة قد عمَّقت التَّباعد الثّ َّ
قافي الحضاريَّ بين المسلمين والغرب، وبالتّالي َّ
فسي ومشاعر العداء ،لتجعل أعداداً من مناطق مختلفة من العالم اإلسالمي تقع في وأجَّ جت ح َّدة التوتّر النّ ّ
السالح ال على اآلخر غير اإليديولوجي ،وتنضوي ضمن حركات إسالميَّة إرهابيَّة رافعة ّ
ّ ّ
فخ االستفزاز
المسلم فحسب ،بل حتَّى على من ينتمون إلى دائرة اإلسالم وال يشاركونهم انتماءاتهم وتص ُّوراتهم العقديَّة.
مثال مازال إلى يومنا هذا متدهوراً بفعل التّفجيرات التي تقوم بها الخاليا
ً األمني في العراق
َّ إن الوضع َّ
الشأن بالنّسبة إلى بلدان الثّورات العربيَّة التي أضحت بؤرة لتجنيد المجموعات المتطرّ فة
اإلرهابيَّة ،وكذلك ّ
وموطناً لتنفيذ العمليَّات اإلرهابيَّة ،مستغلّة بذلك مناخ الحريَّة الذي أتاحته الثّورات من جهة وهشاشة الوضع
متعصب يصبح
ّ ظل انحصار هذه المجموعات ضمن انتماء واحد األمني والعسكري من جهة أخرى .ففي ّ
الذات في تقديم نفسها قاتال ودافعاً إللغاء المختلف عنها .لذلك يحلو لآلخر أن ّ
يوظف فشل ّ ً اإلحساس بالهويَّة
وليرسخ أيضاً خطاب الخوف
ّ ّ
ليشكل صورة نمطيَّة سلبيَّة لإلسالم والمسلمين، أو االرتباك في تص ُّور الهويَّة
13
من اإلسالم ،واعتبار المسلمين قنبلة موقوتة ض َّد الغرب.
وإذا كانت ردود الفعل تجاه األزمات التي تتعرَّ ض لها المجموعات مختلفة ،فإنَّه بقدر إدراك أفرادها
بتقصي جذورها أو بمعرفة تداعياتها ،بقدر ما تكون قادرة على تجاوز المآزق التي تل ُّم
ّ حجم المشكلة ،إن
بها وعلى إيجاد الحلول المالئمة لها.
التأزم التي أفضت إليها الهويَّة في الثّقافة العربيَّة اإلسالميَّة إلى انتهاج
ّ لذلك يقتضي اإلفالت من حالة
الذات والمصالحة معها ،والثانية إعادة النَّظر في العالقة مع اآلخر. خطوتين متزامنتين :األولى نقد ّ
-1نقد ّ
الذات:
يحظى التّراث في العالم اإلسالمي بأهميَّة كبرى ألكثر من سبب ،فهو يلعب دور هويَّة شاملة مطمئنة
ألن الخير الذي انتصر في الماضي على أعدائه سيعود تعد المسلم بمستقبل مضيء على صورة ماضيةَّ .
يتمسك به المضطهدون
َّ مظفراً وأوسع انتصاراً .وهذا الوعد بالنَّصر الذي
َّ حسب زعم المؤمنين بالتّراث
13ـ الجابري محمَّد عابد ،مسألة العروبة واإلسالم والغرب ،مركز دراسات الوحدة العربيَّة ،بيروت ،لبنان ط ،1ص .175
www.mominoun.com 25
المدافعون عن حقوقهم يجعل الهويَّة التراثيَّة محمَّلة ببعد إيماني حاسم ،بل إنَّه يعيّن اإليمان مرجعاً للهويَّة
14
وقواماً لها.
أن االبتعاد عن وتنطوي الهويَّة التراثيَّة على أبعاد تاريخيَّة تحيل على وقائع ومنجزات وأشخاص .غير َّ
البداية المضيئة والقطع الحضاري معها يمزج التَّاريخ الوقائعي باألساطير ،لهذا ال تستوي الهويَّة التراثيَّة إال
ألن ذاكرة المغلوبين تعتصم بالتّراث وتخلقه في آن واحد.
كهويَّة يتساكن فيها الواقعي والمتخيَّلَّ ،
وبالتّالي َّ
فإن الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة تنتسب إلى المق َّدس اإللهي ،وتتفوق على غيرها من الهويَّات َّ
ألن
أن التّراث العربي اإلسالمي من هذا المنظور يغدو تراثاً مضمون القداسة ،بحكم التَّاريخ ضامنها هو هللا .كما َّ
المبني من
ّ الصادقون من جهة ولغة القرآن واالجتهاد الفكريّ الكاشف عن الطريق الذي صنعه المجاهدون َّ
يني المتوارث في عالقته بشؤون الحياة كلّها هو الذي يعيّن التّراث مرجعاً ولعل الخطاب ال ّد ََّّ جهة أخرى.
اإلسالمي ،بل َّ
إن أبعاده المق َّدسة ومنظوماته الرَّ مزيَّة ّ العربي
ّ للثّقافة المجتمعيَّة نظريَّاً وعمليَّاً في اإلطار
الشعوب أو من قبل الحكومات النَّاطقة تقضي ال ّدفاع عنه والحفاظ عليه والتَّذكير المتج ّدد به سواء من قبل ُّ
ّ
الحق في المستقبل، أن ال ّدفاع عن التّراث في دالئله المختلفة يتضمَّن بعدين :أ َّولهما ال ّدفاع عن
باسمه .إذ َّ
أن حجَّ ة الحفاظ على التّراث أفضت إلى
لماض مجيد مضيء .إال ٍَّ وثانيهما اإليمان َّ
بأن المستقبل استئناف
ألن الوعي التراثي العربي اإلسالمي قد تعيَّن لدى المتماهين مع التراث شـأن السيّد قطب ً
مثال تكبيله وتقييدهَّ ،
السابق لإلسالم ،وزمن الجاهليَّة الجديدة بزمنينَّ :
الزمن األ َّول منقسم بدوره إلى زمنين :زمن الجاهليَّة القديمة َّ
الزمن الثاني فهو زمن انتصار ال َّدعوة اإلسالميَّة الذي أعاد تأسيس َّ
الزمن أو جاهليَّة القرن العشرين ،أمَّا َّ
البدهي إذن أن يؤ ّدي
ّ ً
فاضال ال نقص فيه وال اعتالل .فمن اإلنساني على قواعد جديدة ،وجاء ليبني مجتمعاً
العربي اإلسالمي كلّه في كلمة التّراث إلى الوقوع في منزلقات ثالثة :يتمثّل المنزلق األ َّول
ّ اختصار التَّاريخ
واإلنساني ،كما يفضي المنزلق
ّ في المجانسة بين األزمنة ،أمَّا الثاني فإنَّه يكرّ س عدم الفصل بين اإللهي
الثّالث إلى تحويل التَّاريخ برمَّته إلى حكاية مجرَّ دة عن وحدة اإليمان واالنتصار ،ممَّا يلغي علم التَّاريخ
ويح ّوله إلى سرد أقرب إلى الحكايات واألساطير.
ولن يختلف التَّعاطي مع التّراث أيضاً إذا ما تعلّق األمر باللّغة العربيَّة ،لكونها لغة كتاب مق َّدس نطق بها
أن هذه اللّغة المق َّدسة تصبح لغة عاديَّة حينما يتداولها البشر في حياتهم اليوميَّة، آدم وإبليس من قبله .غير َّ
إن في اللّغة العربيَّة لغات دنيويَّة مثل العاميَّة واللّغة الرسميَّة ولغة االختصاص التي يستعملها األطباء
بل َّ
فإن اعتبار اللّغة العربيَّة لغة مق َّدسة في ّ
جل درجاتها يقضي عليها بالثّبات والمهندسون وغيرهم .لذلك َّ
ويكفر َّ
كل دعوة لتبسيط قواعدها. ّ والجمود
14ـ درَّ اج فيصل ،الحفاظ على التّراث واالعتراف بالتّاريخ ،المجلّة العربيَّة للثّقافة ،عدد ،53ديسمبر ،2008ص .11
www.mominoun.com 26
النص القرآني وبين العربيَّة في
ّ فالذهنيَّة التراثيّة مأخوذة بالثّبات وال تفصل بين العربيَّة المق َّدسة في
بالسكون والخلط بين التّقديس والثّبات ،كما لو كان في قبولاستعماالتها الدنيويَّة ،ممَّا يجعلها حينئذ محكومة ّ
َّ
ولعل الميزة األبرز للتديّن الفلكلوري هو الخلط بين اإليمان والثّبات. التط ُّور ما يعارض اإليمان والمق َّدسات.
أن في التشبُّه باألقدمين لباساً وهيئة انتساباً حقيقيَّاً إلى زمنهم الماضي ،والحال َّ
أن الوفاء إذ يعتقد أتباعه َّ
األمثل للتّاريخ العربي اإلسالمي ال يكون إال بالمساهمة في إثراء الحضارة العالميَّة الرَّ اهنة ،واالضطالع
بال َّدور الحضاري الذي كان يقوم به العرب والمسلمون في الماضي.
فاألكيد أنَّه ال مهرب من تحرير التّراث من العوائق ال ّداخليَّة التي تمنع عنه الوضوح والبساطة ،وتحول
بالشلل دون ً
جاهال بمتغيّرات العالم يصاب ّ ألن التّراث الذي يراوح في مكانه بينه وبين الرّ كود والمراوحةَّ ،
أن يدري .لذلك يجب الفصل بين معنى الماضي كحقبة زمنيَّة مح َّددة نشأت وابتعدت نتيجة سياقات ومسببّات،
وبين معنى التَّاريخ كحركة مستمرَّ ة تفرّ ق بين ما انقضى وما استج َّد ،انطالقاً من تغيّر الحاجات البشريَّة ،بل
إنَّه يجب التمييز أيضاً بين استلهام الموروث بما فيه من ق َّوه إيجابيَّة أخالقيَّة هائلة ،وبين االنبهار بالتّراث
الزمن الرَّ اهنة ،وحالماً بالعودة إلى زمن لن يعود. الذي يجعل العقل التّراثي متغاضياً عن قضايا َّ
فبقدر ما يكون الوعي التّراثي مرتقياً على مستوى التّراث بقدر ما يضمن له الوضوح ،ويح ّوله في ما
بعد منجزاً راقياً يحتوي على فضائل زمانه وفضائل أزمنة سابقة .والمقصود بذلك َّ
أن معرفة التّراث ال تستقيم
شكال ومضموناً مح َّددين .فإذا كانت
ً إال بمعرفة بدايته ،والتعرّ ف على السببيَّة الموضوعيَّة التي أملته وأعطته
فإن فهم الموروث واستيعابه كل ظاهرة تراثيَّة تنزع في منطقها ال ّداخلي إلى حجب أصلها كي تبدو أزليَّةَّ ، ُّ
يستوجب النَّظر في تاريخيّته التي تبرهن أنَّه لن يكون خالداً ما لم يعترف باختالف األزمنة وبحاجات اإلنسان
المتغيّرة في األزمنة المختلفة .فإذن هناك فرق بين وعي تراثي مغلق يؤمن بأزليَّة التّراث ويجمّده في لحظة
الميالد معرضاً عن مفهوم َّ
السبب والسببيَّة ،وبين وعي تراثي تاريخي يرى حياة التّراث في ترهينه وتقسيمه
أن مثل هذا التحقيب يقضي إلى حقب تراثيَّة متباينة الختالف أسبابها التي ح َّددت ظهورها وابتعادها .إذ َّ
ّ
المنحط أيضاً، بإنكار مقولة التّسليم بأسطورة التّراث المتجانس ،ويعترف باالزدهار كما يعترف باالجترار
www.mominoun.com 27
والسياق وبين التّراث والمنتسبين إليه .فقراءة التّراث بمناهج علميَّة متق ّدمة
ألنَّه يتلمَّس العالقة بين الموروث ّ
وصوال إلى المعارف الحديثة تكفل معارضة اإلسقاط اإليماني ً عليه وبمعارف جاءت بها األزمنة التي أعقبته
أن هذا اإلسقاط يجهل ما يجب معرفته ويخترع ما ال وجود له ،ألنَّه الذي ينسب إلى التّراث ما ليس فيه .ذلك َّ
أن القرآن كتاب في علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ،والحال أنَّه خطاب ديني يتح َّدث ببالغة عالية
يعتقد َّ
تخص البشر كالحياة والموت واآلخرة ،فاإلسقاط اإليماني المطمئن ليس إال تعبيراً
ُّ عن موضوعات أساسيَّة
عن الجهل والكسل واالنغالق وعن عدم االعتراف بالعلم وبالوسائل الماديَّة المختلفة في بناء الحضارة.
وإذا ما أردنا أن نصون الهويَّة العربيَّة اإلسالميَّة صيانة حقيقيَّة ،فإنَّه يتحتَّم االعتراف بالعقل اإلنساني
الزمن العالمي ثقافة وإنجازات علميَّة متوالدة من الزمن اإليماني وبين َّ من جهة ،والتّمييز بين خصوصيَّة َّ
أن وحدة العقل واإليمان هي التي تسمح بالفصل بين المق َّدس وال ّدنيوي ،وبنزع القداسة عن جهة أخرى ،إذ َّ
أن هناك خارج النّصين التّأسيسيين ما ال يحتمل التّقديس ،فإنَّه من األجدر
ظواهر ال تحتمل التّقديس .وبما َّ
إن تفعيل التّراث ونقله
قراءته بمناهج نقديَّة دنيويَّة تحافظ على التّراث وال تخدش المق َّدس في شيء ،بل َّ
من األسطورة إلى الواقع ال يستقيم إال بتأمّل التّاريخ اإلسالمي في جميع حقبه وأطواره .فأنسنة الماضي
واختباره بأدوات علم التّاريخ يتيح التّعامل مع المسلمين المتق ّدمين كبشر يصيبون ويخطئون مثل بقيَّة البشر
أن عالقته وطيدة الصلة بمعنى الوعي الثّقافي الذي يتعامل معه ،أي َّ
فإن معنى التّراث شديد ّ جميعاً .وبالتّالي َّ
ألن تاريخه شهد حقباً بثقافة المؤولين .كما تجدر المالحظة أيضاً َّ
أن التّراث ليس له وجود بصيغة المفردَّ ،
َّ
متوهم ال ّ
منحطة .فالتّعامل مع التّراث بصيغة المفرد أو المق َّدس يفضي إلى تاريخ تلفيقي مزدهرة وأخرى
َّ
ولعل يساعد على فهم أسباب االزدهار في حقبة معيَّنة ويحجب عوامل االنحطاط والتقهقر في حقب أخرى.
والسياسي والثّقافي
ّ الكتابة التلفيقيَّة التّمجيديَّة هي التي تنحو هذا المنحى لكونها تختصر التّاريخ االجتماعي
العربي اإلسالمي في زمنيَّة متجانسة أو شبه متماثلة ،وفي مقابل ذلك فإنَّها تهمّش وجوهاً أساسيَّة من التّراث،
وغني
ّ أن الموروث العربي اإلسالمي متن ّوع أن التراث هو ال ّدين وال شيء غير ذلك ،والحال َّ ظنَّاً منها َّ
ألن في تاريخ الحضارة العربيَّة اإلسالميَّة اتّجاهات عقليَّة في بعض تجليّاتها
باإلنجازات التراثيَّة القيّمةَّ ،
َّ
ولكن جوهرها عصري وحديث .فالتفكير في المكاسب الماديَّة والمعنويَّة التي مازالت تحتفظ بألقها في قديمة
تخص المسلمين فحسب بل البشريَّة قاطبة ،ممَّا يدفعنا إلى العدول عن القطيعة مع
ُّ ّ
والفن والفكر ال العمارة
ألن هذه المنجزات مازالت تعيش فينا ،وهي إبداعات جديرة بالعناية واالهتمامَّ .
لكن المشكلة الماضي برمَّتهَّ ،
تكمن في القدرة على التّمييز بين ما يجب تركه والتخلّي عنه لكونه لم يعد صالحاً لزماننا ،وبين ما ينبغي
للتمكن من ّ
فك االرتباط بين الفكر ّ الحفاظ عليه 15،فال مفرَّ إذن من الجرأة على تجاوز الخطابات التمجيديَّة،
وإطالقيَّة الحقيقة ،والتخلّي أيضاً عن ديكتاتوريَّة المعنى وأحاديَّة الفكر .إذ ال أحد يمكنه ا ّدعاء امتالك معنى
نص من النصوص أو حدث من األحداث .فالمعنى مفتوح على التع ُّدد والتن ُّوع وال ًنّسخ والتب ّدل ،وإذا كانت
ّ
15ـ الشرفي عبد المجيد ،الثورة واإلسالم والحداثة ،دار الجنوب للنّشر ،ط ،1نوفمبر .2011
www.mominoun.com 28
فإن المعنى كذلك ال يدرك إال كتفسير وتأويل أو كصرف الحقيقة ال تفهم إال على أساس الخلق واإلبداعَّ ،
توصلنا إلى فهم ما يحدث ال يعني أنّنا أدركنا حقيقة متعالية ،وإنَّما يجب التّعاطي مع هذا
وتحويل .فحتَّى إن َّ
الفهم على أساس أنَّه دافع الجتراح إمكانات أخرى ،والستحداث آفاق معرفيَّة ال متناهية .فإذا نظرنا ً
مثال إلى
تتوقفُّ .
وكل تأويل جديد تفاسير النّصوص وشروحاتها المتعاقبة ونسخها المتع ّددة نجدها سلسلة تأويالت ال ّ
إنَّما هو إعادة صياغة للمعنى بإقحام مناطق جديدة للتفكير أو اشتقاق أدوات جديدة للتعبير ،ممَّا يقودنا إلى
إدراك معنى المعنى أو إنتاج المعنى عبر اإلحالة واالنزياح أو الحزق والتّجاوز أو النَّسخ والتبديل.
ّ
وتشظيه هو الكفيل برفع اليد عن النّصوص المق َّدسة المحتكرة وبالتّالي َّ
فإن فتح الباب لتفجير المعنى
الضامن للتّعامل معها بوصفها منابع دالليَّة يمكن استثمارها كرؤوس أموال رمزيَّة من
للمعنى ،كما أنَّه َّ
نواح ،سواء كانت عقائديَّة تشريعيَّة أو روحيَّة خلقيَّة أو معرفيَّة جماليَّة .فالنّصوص المق َّدسة التوحيديَّة
ٍ ع ّدة
كتب صيغت بلغة الغيب لكي توجّ ه إلى اإلنسان ،وهي سلع رمزيَّة توضع برسم التَّداول للجميع ،وبذلك
معرفي
ّ خاص بديانة أو طائفة إلى ملك عا ّم أو إلى مشاع
ّ تتح َّول العالقة مع عالم هللا وأنبيائه وكتبه من ملك
ال أحد أولى به من غيره ،ممَّا يفضي إلى إلغاء ال َّدعاوى والتّهم الدينيَّة ،وإلى تقويض قاعدة االرتداد
كل واحد إيمانه على طريقته وبحسب تجربته وميدان عمله .فمثل وإطالق حريَّة االعتقاد ،ليمارس ُّ
أن خطابهذا التَّعامل الجديد مع النصوص المق َّدسة يتيح فرصة جديدة لممارسة حقوق اإلنسان .وبما َّ
هللا موجَّ ه إلى اإلنسان عامَّة ،فله أن يتعامل معه ّ
بالطريقة التي يختارها ،شرط احترام آداب المناظرة
16
العقالنيَّة وقواعد المحاورة ال ّديمقراطيَّة.
فإن تفجير المعنى وزعزعة عالقته باألصل يجعالن الحقيقة نسبيَّة ،ويجنّبان القراءة األحاديَّة
وهكذا َّ
أن إقامة عالقة مع األصل على أساس الجامدة التي تحتكر المعنى وتستبعد المختلف وتستأصل اآلخر .كما َّ
التوسع والتط ُّور واإلثراء والتج ُّدد.
ُّ الحي يفتح اآلفاق أمام
ّ أنَّه متغيّر ومتحرّ ك ومتح ّول على أرض الواقع
أمَّا منطق المطابقة والمماثلة ،فإنَّه يس ُّد األفق ويوصد األبواب ويقمع المساءلة واالعتراض ويقفل باب
متجسداً كفرع
ّ النّقاش ويصادر الكالم .ففي جعل المعنى يدرك بالنَّسخ والتح ُّول إقرار َّ
بأن األصل أضحى
ونسخة غير مطابقة لألصل ومختلفة عنه ،وهو اختالف ين ُّم عن استقالليَّة الفكر والقدرة على الخلق واإلبداع
الذاكرة ،إنَّما هو يتحرَّ ر من المسبقات والمصادرات ،ويتعاطى أن االبتكار ال ينقطع كليَّاً عن ّ
والتج ُّدد .غير َّ
مع الموروثات ال بوصفها سلطات مق َّدسة بل كمعطيات وجوديَّة يجري االشتغال عليها لتحويلها عبر إعادة
ومركبة فهي تتطلّب التمثّل واالستيعاب وال ّدمج
َّ صياغتها وتشكيلها وبنائها وتنظيمها ،وبما أنَّها عمليَّة ملتبسة
والتالؤم أو التّفاعل والتّبادل ،ممَّا يفسح المجال أمام المرء لفهم األحداث ويجابه التّغييرات في الوقائع
ّ
تتشكل واألفكار بنوع من التّفكيك والتّركيب ،ويعيد تشكيل مرجعيَّات الفكر وأطره واستراتيجياتهَّ .
وإذاك
16ـ حرب علي ،العالم ومأزقه ،المركز الثقافي العربي ،الدّار البيضاء ،المغرب ،ط ،1سنة ،2002ص .169
www.mominoun.com 29
هويَّة غنيَّة متصالحة مع ذاتها وغير متعالية عن الوقائع ،ألنَّها تجعل صاحبها قادراً على الخلق والتج ُّدد
والتَّجاوز والعبور من خالل سيرورة متواصلة من البناء وإعادة البناء .وبهذا المعنى تصبح الهويَّة ال مجرَّ د
مماهاة مع َّ
الذات من خالل طيف أو صورة أو نموذج ،بل تمسي مركباً ثقافيَّاَ تتداخل فيه طبقات متراكمة
وعناصر متباينة وروافد متعددة ،وتضحي هويَّة المرء أيضاً طاقة حيَّة متحركة ،وصورة تتيح له قراءة
األحداث ومجابهة التحديات لتخرجها على سبيل التداول والتواصل.
وال محيد عند مراجعة الذات عن إعادة النظر في مفهوم الوحدة بين النّظراء بغاية بنائه من جديد ،ال على
ال .فالواقع المعيش ليس إال معطى متحرّ كاً ومضطرباً وقائماً أساس التّجانس وإنَّما على أساس االختالف أ َّو ً
مؤسسة أو دولة أو أمَّة .وهذا
َّ على الفروق واالختالف أو التَّفاوت والتفاضل ،سواء تعلّق األمر بأسرة أو
األمر يمكن معاينته على جميع األصعدة والمستويات .لذا ال يمكن التسليم بالتطابق بين شيئين أو شخصين،
مثلما أنَّه يستحيل التماهي بين صعيد وآخر .ولكي نصل إلى ٍّ
حل ال ب َّد من إيجاد صيغ وتراكيب ّ
تمكن من
جمع المت َفرّ ق وتوليف المختلف بخلق قيم تبادليَّة وأفكار وسطيَّة وبناء منظومات تواصليَّة وعقليَّات منفتحة.
فالوحدة القائمة على المماهاة وذهنيَّة التماثل والتطابق ،إنَّما هي وحدة مل ّغمة من داخلها ،ألنَّها تقوم على
تبسيطي.
ّ نفي الواقع المولّد دوماً لالختالف ،وهي كذلك صادرة عن فكر أحاديّ
أن َّ
كل واحد منهم يعمل مؤسسات اتّحاديَّة ناجحة أو مثمرة ،إذ َّ
أمَّا المختلفون فهم القادرون على إنشاء َّ
خط للتواصل ،أو تشكيل وسط للتحرك ،أو نسج على فكرة واختالفه ليالقي اآلخر ويتفاهم معه ،إمَّا بفتح ٍّ
شبكة للتداول والتبادل.
17ـ المرايحي لطفي ،الهويَّة العربيَّة :فجوة األدلجة والواقع ،األطلسيَّة للنشر ط ،1سنة ،2011ص .18
www.mominoun.com 30
َّ
محل تشريح وتفكيك ،ألجل إعادة البناء الذات والفكر والقناعات والممارسات وإذن ال مهرب من وضع َّ
والصياغة بابتكار الجديد والمالئم أو الفعَّال والمثمر من التّوجُّ هات والمرجعيَّات أو اللغات أو المعادالت
ّ
أو القيم والمفاهيم واألساليب .وال غنى عن المشاركة الفعَّالة في صناعة الحياة وإدارة العالم ،ال سيَّما بعد
انحسار الشعارات والمعادالت والمشاريع القوميَّة أو ال ّدينيَّة أو التّراثيَّة أو الحداثيَّة.
إذا كانت الخطوة األولى تبدأ بنقد الذات والتصالح معها لتجاوز مأزق الهويَّة ،فإنَّه ال مفرَّ أيضاً من القيام
بالخطوة الثانية متزامنة ،وذلك بإعادة النظر في العالقة باآلخر.
فالعرب والمسلمون يتحمَّلون نصيباً ال بأس به في تشنّج عالقاتهم بالغرب وتعميق ه ًّوتها مع اآلخر ،من
ً
فضال عن بحقهم من قبل الغير،حيث يشعرون أو ال يشعرون ،ألنَّهم يرفضون التقييمات السلبيَّة الصادرة ّ
كونهم ال يحسنون التَّعامل مع اآلخر ،واألخطر من ذلك أنَّهم غائبون عن المشاركة في صناعة الحضارة
الكونيَّة أو اإلسهام أو االبتكار في ميادين الثّروة والقيمة أو العلم والتّقنية .كما أ َّدى العجز عن استيعاب حداثة
الغرب وثقافته إلى االنجراف نحو مقاومته بشتَّى األشكال وإلى مزيد من التَّبعية واالستسالم للغرب.
إذ بتعلة ال ّدفاع عن الخصوصيَّة والخوف على الهويَّة من زحف الحداثة ،تستبعد األطروحات الحداثيَّة
وتقصى من دائرة التفكير .لذلك طرحت قضيَّة الهويَّة لدى القوى المحافظة كض ٍّد للحداثة أو للغرب.
أن الحداثة ليست مفهوماً وارتبطت الحداثة في أذهان أوصياء الهويَّة بمفهوم االغتراب واالنبتات ،غير َّ
إجرائيَّاً اجتماعيَّاً أو سياسيَّاً أو تاريخيَّاً يمكن االختالف حوله ،بل هي نمط حضاريّ تتميَّز به البلدان األكثر
الغربي ،كما تحقق منذ القرن
ّ تق ُّدماً تقنيَّاً واقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وسياسيَّاً ،ممَّا يعني أنَّها النَّمط الحضاريّ
السابع عشر للميالد في أوروبا ث َّم في أمريكا واليابان .وإذا كانت هناك صفة جامعة يمكن على ضوئها فهم
شك الجرأة على كسر حدود المعرفة .إذ هناك سعي متواصل إلى الكشف المسار العام للحداثة ،فهي بدون ّ
الطبيعة فحسب ،بل تشمل أيضاً تكوين اإلنسان عن الحقيقة من وراء المظاهر .وال تقتصر محاولة الفهم على ّ
والسياسيَّة .فالرَّ غبة في المعرفة
ّ المؤسسات ال ّدينيَّة
َّ ً
فضال عن سبر آليات اشتغال فيزيولوجيَّاً ونفسانيَّاً،
18
المدعومة من إرادة التغيير سمة بارزة من سمات الحداثة.
18ـ الشرفي عبد المجيد ،لبنات ،دار الجنوب للنشر ،تونس ،1994ص .19
www.mominoun.com 31
َّاسي اعتبروا منتمين إلى الساحة الثقافيَّة اإلسالميَّة ،فإنَّه ال انفكاك كذلك ومثلما َّ
أن الناس في العصر العب ّ
من اعتبار النَّاس في العصر الحديث منتمين أيضاً إلى فضاء الحضارة الغربيَّة ،حتَّى وإن كانت العالقة بيننا
ألن التَّبادل الحاصل بين العرب والغرب جلي ،وليس مقتصراً
وبين الغرب قائمة على التّحدي والتنافسَّ ،
على الجانب التّقني فحسب ،بل هو قبل ّ
كل شيء فضاء فكري وعالم معرفي.
فالحضارة الحديثة ليست حضارة الغرب وحده ،وإنَّما هي حضارة اإلنسان في طور من أطواره ،مثلما
أن الحضارة العباسيَّة كانت حضارة اإلنسان في طور قديم من أطواره .وبالتَّالي يمكن القول إنَّنا نعيش منذ
َّ
الصناعيَّة واإللكترونيَّة ،أمَّا الحضارة اإلسالميَّة فإنَّها
زمن بعيد في فضاء حضارة عالميَّة واحدة بموجتيها ّ
الزراعي بوسائلها وتقنياتها وبتنظيماتها ومنتوجاتها ،وهي كغيرها من الحضارات القديمة تنتمي إلى العصر ّ
سلبي
ّ يبق منها سوى آثارها وشواهدها .وإذا كان ثمَّة موقف باتت حضارة ميّتة ،أو أنَّها فقدت فاعليتها ولم َ
اإلسالمي ،فإنَّه غير موجَّ ه إلى الحضارة العربيَّة اإلسالميَّة الغابرة
ّ عدائي من قبل الغرب تجاه العالم
ّ أو
المتجسدة
ّ والحائزة على اإلعجاب بالمنجزات واآلثار الباقية ،وإنَّما مص َّوب إلى الثّقافة اإلسالميَّة أو العربيَّة
بشكل خاص في الجوانب العقائديَّة ال ّدينيَّة أو اإليديولوجيَّة القوميَّة القديمة والحديثة .فال مبرّ ر إذن للخوض
ثقافي باألساس ،وال معنى كذلك ألن يقف المرء ض َّد مكتسبات الحضارة
ّ الصراع في صراع حضاريّ َّ ،
ألن ّ
السائدة ،بل ما من أحد إال ويرغب في االستفادة ممَّا أنجزته هذه الحضارة من االختراعات واألدوات
َّ
والمنتجات في تحقيق مشاريعه أو تحسين شروط حياته .ويشهد على ذلك ال ُّدعاة من رجال ال ّدين المسلمين
الشاشات ّ
لبث دعاويهم وشرح فتاواهم أو لل ّدفاع عن آرائهم الذين يمارسون نجوميّتهم من فرط ظهورهم على ّ
19
وأطروحاتهم.
وإذا كانت الثقافة العربيَّة اإلسالميَّة تجد نفسها اليوم أمام تح ّديات العولمة وثورتها التّقنيَّة والرَّ قميَّة،
قافي ،ألنَّها ال تعكس إال العجز والجهل معاً فإن مجابهة التَّح ّدي لن تكون مجدية بعقليَّة مجابهة الغزو الثّ َّّ
في اآلن ذاته.
تحويال خلاَّ قاً على نفسها لمواجهة التّح ُّوالت والمستج َّدات بتطوير
ً فاألجدى أن تجري الثقافة اإلسالميَّة
مفهوم الهويَّة وإنتاج أفكار جديدة حوله تعيد صياغة إشكاليَّة العالقة بين األنا واآلخرَّ ،
ألن في ذلك أفضل
دفاع عن ّ
الذات .أمَّا النَّرجسيَّة الثّقافيَّة وإرادة المماهاة وعقليَّة المحافظة بحجَّ ة الخشية على الخصوصيَّة من
االجتماعي الذي لن يعترف بنا
ّ خطر الغزو الفكريّ ،فإنَّها تجعلنا الوجه اآلخر لدعاة االصطفاء واإلقصاء
ما لم نصنع شيئاً يحتاج إليه أو يفيد منه من أدوات النَّظر ووسائل العمل أو من قيم الحياة ونماذج التنمية.
فالقضيَّة ليست صدام حضارات أو صراعاً بين الغرب واإلسالم أو العرب والحداثة ،وإنَّما المشكلة تكمن
19ـ حرب علي ،العالم ومأزقه ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب ،ط ،2002 ،1ص .63
www.mominoun.com 32
في االنخراط ضمن ورشة الحضارة والمشاركة في صناعة العالم وإتقان لغة الشراكة مع الغير عبر التّمرُّ س
بمنطق الخلق ،لننجز شيئاً يستأثر باهتمام العالم ،وإال تح َّولنا إلى ديناصورات ثقافيَّة تدافع عن هويَّتها دفاعات
فاشلة أو عقيمة أو مدمّرة بعقلية النَّموذج اإلرهابي الذي ي َّدعي القبض على الحقيقة ،أو بعقليَّة القاصر؛ أي
السلف في ّ
كل ما قالوه أو فعلوه. األبله الثّقافي الذي ال ه َّم له سوى تقليد ّ
ّ
المعقدة والمتشابكة أو الملتبسة بين الغرب فهذه الثّنائيَّة تنطوي على كثير من التَّبسيط وتحجب العالقات
أن هناك عالقات صراع وتح ٍّد بين الغرب كل واحد من هذين العالمين .إذ ال يخفى َّ واإلسالم أو داخل ّ
الصراع بينهما
أن ّالسجاالت العقائديَّة والغزوات العسكريَّة منذ القدم ،وال مراء َّ
واإلسالم ،وتشهد على ذلك ّ
هو األكثر ح َّدة وتوتراً لسببين :األ َّول استراتيجي بحكم التَّجاور الجغرافي بين اإلسالم والغرب ،الذي يجعل
خاصة في االنشقاق بين اإلسالم والمسيحيَّة َّ يتوسع على حساب اآلخر ،والثَّاني عقائدي يتجلّىَّ أحدهما
كفرعين لألصل التَّوحيدي نفسه .إذ هما يتنافسان على احتكار اإليمان والمشروعيَّة ال ّدينيَّة باسم إله إبراهيم
َّ
األشقاء يكون األكثر ح َّدة والحروب بينهم هي األش ّد شراسة أن الخالف بينالساللة النّبويَّة .إال َّ
وبقيَّة ّ
اإلسالميُّ ،
فكل واحد منهما يريد لآلخر ّ وفظاعة مثل الحروب ال ّدينيّة في أوروبا أو الفتن المذهبيّة في العالم
أن يكون نسخة منه أو أنَّه يعمل على نسخه وعدم االعتراف به .ذلك َّ
أن المسيحيَّة لم تعترف باإلسالم الذي
تفرَّ ع عن األصل التَّوحيدي نفسه ،وفي المقابل َّ
فإن اإلسالم قد اعترف بالمسيحيَّة ،ولكن بعد أن حاول نسخها
والقيام مقامها .وقد مثّل هذا الخالف العقائديّ أكبر العوائق أمام الحوار بين المسلمين والمسيحيّين في بلد
مثال ،بسبب األديان ّ
والطوائف ،وعلى الرّ غم من ذلك َّ
فإن العالقات بين اإلسالم والغرب هي واحد شأن لبنان ً
www.mominoun.com 33
صالت بين عالمين ال َّ
ينفكان عن التَّواصل ،إذ الواحد منهما يحتاج إلى اآلخر بقدر ما يسعى إلى اختراقه أو
أنَّه يسعى إلى نفيه.
وهكذا فإنَّنا نهرب من أنفسنا إلى الغرب لنستنجد به أو لنطلب عنده العلم أو لنتنعَّم بسلعه ووسائل لهوه
أو لنشتري األسلحة التي نحارب أو نتحارب بها ،أو لنتبنَّى المقوالت التي نحتاج إليها لفهم العالم أو لتحقيق
أساسي في
ّ مشاريعنا التنمويَّة .وذلك ما يدفعنا إلى االعتراف َّ
بأن الغرب مق ّوم من مق ّومات حياتنا وعامل
الصعيد
يشكل شطرنا اآلخر على َّ إن عالقتنا به عالقة ضروريَّة ،ألنَّه ّ
إنجاز مشاريعنا الحضاريَّة ،بل َّ
الوجوديّ .وإذا كانت عالقتنا نحن بأنفسنا ملتبسة ال تخلو من انقسام واختالف ،كما تشهد على ذلك صراعاتنا
فإن الغرب كذلك ال يمثّل عالماً متجانساً ،وليس بعيداً عن االنقسامات ،ممَّا يعني
العقائديَّة وحروبنا األهليَّةَّ ،
أنَّه مثلما يوجد في الغرب من يتعامل مع العرب والمسلمين بعقليَّة النَّفي والرَّ فض أو مشاعر الكره والعداء،
فإنَّنا نجد في المقابل كذلك جبهة منفتحة تتحلّى بوعي نقديّ مضاد ّ
للذات ،أمثال جاك دريدا الذي اهت َّم بتفكير
المركزيَّة الغربيَّة ،وإدغار موران الذي يعترف في كتاباته بتخلّف الغرب أخالقيَّاً وببدائيَّة وعيه على َّ
الصعيد
والكوني.
ّ البيئي
ّ
فاإلسالم شأنه شأن المسيحيَّة اليهوديَّة والماركسيَّة وسواها من العقائد القديمة والمذاهب الحديثة قد يؤ َّول
اقتتاال .وليس خفيَّاً أيضاً
ً السلب نفعاً أو ضرراً وتسامحاً أو انغالقاً وتعارفاً أو
ويترجم على سبيل اإليجاب أو َّ
أن الغرب ينظر إلى نفسه قويَّاً غنيَّاً ومصدراً للمعرفة أو نموذجاً للحضارة ،لذلك يعامل
في الجهة المقابلة َّ
العرب المسلمين بكونهم مجرَّ د مستهلكين لسلعه أو سالحه أو أفكاره ،بل إنَّه يلجأ إلى ممارسة اإلرهاب
بتهديداته العسكريَّة ومفاضالته العنصريَّة والتبجُّ ح بما أنجزه طيلة قرنين من الزمن ،واستخدامنا كمواقع أو
فإن اتّهام المسلمين باإلرهاب أمر مردود على الغرب ،ألنَّنا في
السلم أو الق َّوة .وبالتَّالي َّ
كأسواق عن طريق ّ
الحقيقة لسنا إال وجهه اآلخر الذي يحاول إخفاءه ،مثلما أنَّه وجهنا اآلخر الذي ال نعترف به .واألجدى أن
نعيد النظر في إشكاليَّة العالقة بين األنا واآلخر بتجاوز الثنائيَّة والعقليَّات االصطفائيَّة .إذ في ضوء القراءة
التي ترى الوجه اآلخر للعالقة بين األنا واآلخر سبيل لتجاوز العداء بين اإلسالم والغرب .فال يعود اإلسالم
َّإذاك مصدر الخوف والخطر ،على غرار ما ر ّوج له لتغطية عنفه الرَّ مزيّ وإرهابه العسكريّ ،بل يغدو
مصدر الحاجة التي ال يستغنى عنها في صنع الق َّوة والثروة .كما َّ
أن الغرب في المقابل لن يص َّور على كونه
الجحيم ،بل من نقلّده ونحتاج إليه أو من نجد فيه من يدافع عنَّا ويقف إلى جانبنا .فاإلسالم إذن هو مشكلة
www.mominoun.com 34
أن الغرب هو مشكلة اإلسالم مع نفسه أيضاً .وال َّدليل على ذلك ما يستعيره ُّ
كل واحد الغرب مع نفسه ،مثلما َّ
والصور الملتبسة أو المتعارضة .وهذا يعني حتماً َّ
أن المسألة في جوهرها الوجوديّ ُّ منهما لآلخر من األقنعة
الكوني ،كما ينبّهنا على َّ
أن ّ خاصة عندما تتشابك المصالح والمصائر على المستوى
َّ مشكلة اإلنسان مع نفسه،
المسألة تتح َّول من مجرَّ د صراع بين حضارات أو ثقافات لتصبح خياراً بين أمرين :فإمَّا الصدام بين الهويَّات
الثّقافيَّة ،وإمَّا التَّداول والتَّفاعل بين الجماعات اللّغويَّة والبشريَّة.
فالنَّظرة الجديدة ألصل المشكلة بين اإلسالم والغرب تجعلنا نتجاوز أوهام تهديد مصير العالم بحفنة من
اإلرهابيّينَّ ،
ألن ظاهرة اإلرهاب ما هي إال نتاج ثقافاتنا ومجتمعاتنا ،وليست إال حصيلة ما دبّر لإلنسانيَّة
من عنف وما أصابها من فقر وهالك ودمار .وبهذا االعتبار تصبح مسألة الهويَّة وجوديَّة في نهاية المطاف،
ألن اآلخر هو ما ال قوام لنا إال به ،وعالقتنا به ضروريَّة بقدر ما هي ملتبسة .إذ مادام المرء يرمز ويتكلّم
َّ
ّ
ويفكر ويعمل ،فإنَّه يحتاج إلى آخر يعنيه ويقصده أو يتَّجه إليه ويواجهه ،أو يقيم معه عالقات تواصل وتفاهم
كل وعي ّ
بالذات هو في الوقت أن َّ
أو تبادل وتداول .فأينما يولّي المرء وجهه لن يجد سوى اآلخر ،ممَّا يعني َّ
واقعي أو متخيّل ،وال انفكاك عنه في ما ّ
يفكر فيه أو يقوله أو يسعى إليه. ّ ذاته وعي باآلخر،
وإذن ال مفرَّ من الحوار على جميع األصعدة ،سواء أكان ثقافيَّاً إنسانيَّاً أو بين الحضارات أو بين ّ
الشرق
مدني أو حتَّى وجوديّ َّ ،
ألن اإلنسان ّ سياسي
ّ ديني عقائديّ أو والغرب أو بين َّ
الشمال والجنوب ،أو على صعيد ّ
يشكل الحوار بُعداً من
تواصلي عبر المحادثة مع اآلخر .وبالتَّالي ّ
ّ كائن ناطق يمارس عالقته بوجوده كفعل
تداوال معرفيَّاً حول معاني الكينونة والهويَّة واإلنسان والحوار ،إال
ً أبعاد الكينونة ،ال سيَّما إذا كان تعارفاً أو
أن هدف التَّحاور مع الغير ال يعني التَّحول إلى نظير له ،بل التّعلم منه والتَّبادل معه إلتقان ّ
فن العيش معه َّ
أن جوهر الحوار ال يهدف إلى التَّطابق في وجهات النَّظر بين المختلفين ،وإنَّما غرضه خلق وبواسطته .إذ َّ
مفهومي أو مجال عام أو قيمة تبادليَّة أو لغة حيَّة ومتحرّ كة أو عقليَّة منفتحة ومتج ّددة.
ّ مناخ للتَّعايش أو وسط
ّ
الخالق .أمَّا فبفضل هذه المفاهيم الجديدة يمكن العيش في أجواء سلميَّة ،ويتاح التداول الخصب والتَّفاعل
والضحيَّة ،فإنَّها
َّ والصفاء والوحدانيَّة والثّبات واليقين والمطابقة والمؤامرة
َّ المفاهيم المبنيَّة على الجوهر
مقوالت ال دور لها سوى أن تجعل الحوار عقيماً ،أو أن تولّد التَّعصب واالنغالق واإلقصاء .كما أنَّها تح ّول
عالقة المرء بهويَّته إلى سجن فكريّ يفضي إلى نفي المختلف واآلخر .وهي في األخير ّ
تجسد العجز والفقر
وتح ّول العالقة باألحداث والمتغيّرات أفخاخاً وأزمات.
www.mominoun.com 35
الخامتة:
فإعادة النَّظر في بديهيَّات الماضي ال تعني القطع معه وتهميشاً له ،بل المساءلة المستمرَّ ة لمفهوم الهويَّة
فطن يمكننا من تتبُّع رحلتها ومن إدراك ما علِ َق بها من إضافات ،والتّ ّ
الزمن ،وهو ما ّ ً
تواصال عبر ًّ واعتبارها
إلى ما قد وقع التّخلي عنه أو تناسيه .وبالتّالي تصبح الهويَّة مقترنة بمفهوم األصالة .غير َّ
أن األصالة ليست
توحُّ داً أعمى بالماضي وذوباناً في سياقه إلى درجة تقديس ّ
كل ما هو قديم ومتوارث ،وإنَّما يُقصد باألصالة
لكل تحجُّ ر وجمود فكري في التَّعامل مع الماضي ،وقبول االعتناء بإبداعات جديدة واالنفتاح علىالتَّص ّدي ّ
الشعوب األخرى ،والعمل على استدماج ما تحويه من جوانب عقالنيَّة خلاَّ قة .إذ َّ
أن بناء عالقة جديدة تجارب ّ
َّ
بالذات وباآلخرين من شأنه أن يُخرج الهويَّة من الجمود واإلطالقيَّة ،وأن يفضي إلى االعتراف بأنَّها متع ّددة
خاضعة لتغييرات مستمرَّ ة.
www.mominoun.com 36
قامئة املراجع
الكتب:
•غيلون برهان .نقد السّ ياسة ال َّدولة وال ّدين .المؤسَّ سة العربيَّة للنّشر .سنة 1991
•ابن كثير القرشي .تفسير ابن كثير .المكتبة العصريَّة .صيدا بيروت .سنة 2006
•حرب علي .الممنوع والممتع .المركز الثقافي العربي .ال ّدار البيضاء.ط .1سنة 1995
• ّ
الشرفي عبد المجيد .لبنات .دار الجنوب للنشر .تونس 1994
الشرفي عبد المجيد .الثّورة والحداثة واإلسالم .دار الجنوب للنشر .ط 1نوفمبر 2011
• ّ
المجالت:
•ال ّزاهي نور ال ّدين .الهويَّة بين المضمر والواحد .مجلّة الفكر العربي المعاصر عـــدد 99/98سنة 1992
•بوتشيت إبراهيم .مجلّة الوحدة.عـدد 57مارس 1989
•د َّراج فيصل .المجلّة العربيَّة للثّقافة .عدد .53ديسمبر2008
•ظاهر مسعود .المجلّة العربيَّة للثّقافة .عدد .53مارس 2009
www.mominoun.com 37
MominounWithoutBorders
Mominoun
@ Mominoun_sm
info@mominoun.com
www.mominoun.com