You are on page 1of 417

‫�سينما‬

‫ال�صورة ‪ -‬الحركة‬
‫(الجزء الأول)‬
‫لجنة العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬

‫هدى مقنص (منسق ًة)‬


‫الجراح‬
‫سم ّية ّ‬
‫رجاء مكي‬
‫صالح أبو إصبع‬
‫األب بولس وهبة‬
‫المنظمة العربية للترجمة‬

‫جيل دولوز‬

‫�سينما‬
‫ال�صورة ‪ -‬الحركة‬
‫(الجزء الأول)‬

‫ترجمة‬
‫د‪ .‬جمال شح ّيد‬

‫مراجعة‬
‫د‪ .‬نبيل أبو مراد‬
‫الـفـهـــرسة أثـنـــاء الـنــشر ‪ -‬إعـــداد المـنظمة الـعـــربية لـلـتـرجمـة‬
‫دولوز‪ ،‬جيل‬
‫سينما‪ :‬الصورة ‪ -‬الحركة‪ /‬جيل دولوز؛ ترجـمة جمال شح ّيد؛‬
‫مراجعة نبيل أبو مراد‪.‬‬
‫‪ 416‬ص‪( - .‬علوم إنسانية واجتماعية)‬
‫يشتمل على فهرس‪.‬‬
‫‪ISBN 978-614-434-047-9‬‬
‫‪ .1‬السينما‪ .2 .‬الفلسفة‪ .‬أ‪ .‬العــــنــوان‪ .‬ب‪ .‬شح ّيد‪ ،‬جمال‬
‫(مترجم)‪ .‬ج‪ .‬أبو مراد‪ ،‬نبيل (مراجع)‪ .‬د‪ .‬السلسلة‪.‬‬
‫‪791.4‬‬
‫"اآلراء الواردة في هذا الكتاب ال تع ّبر بالضرورة‬
‫عن اتجاهات تتبناها المنظمة العربية للترجمة"‬
‫‪Deleuze, Gilles‬‬
‫‪vol. 1: Cinéma: L'image-mouvement‬‬
‫‪© Les Editions de Minuit, 1983.‬‬

‫© جميع حقوق الترجمة العربية والنشر محفوظة حصر ًا لـ‪:‬‬

‫المنظمة العربية للترجمة‬

‫بناية "بيت النهضة"‪ ،‬شارع البصرة‪ ،‬ص‪ .‬ب‪113-5996 :‬‬


‫الحمراء ‪ -‬بيروت ‪ - 1103 2090‬لبنان‬
‫هاتف‪ / )9611( 753024 - 753031 :‬فاكس‪)9611( 753032 :‬‬
‫‪e-mail: info@aot.org.lb - Web Site: http://www.aot.org.lb‬‬
‫توزيع‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‬
‫بناية "بيت النهضة"‪ ،‬شارع البصرة‪ ،‬ص‪ .‬ب‪113 - 6001 :‬‬
‫الحمراء ‪ -‬بيروت ‪ - 2034 2407‬لبنان‬
‫تلفون‪)9611( 750086 - 750085 - 750084 :‬‬
‫برقي ًا‪" :‬مرعربي" ‪ -‬بيروت ‪ /‬فاكس‪)9611( 750088 :‬‬
‫‪e-mail: info@caus.org.lb - Web Site: http://www.caus.org.lb‬‬
‫الطبعة األولى‪ :‬بيروت‪ ،‬نيسان (أبريل) ‪2014‬‬
‫المحتويات‬

‫‪7‬‬ ‫مقدمة المترجم ‪................................................................‬‬

‫‪13‬‬ ‫توطئة ‪..............................................................................‬‬


‫الفصل األول ‪ :‬أطروحات حول احلركة‬
‫‪15‬‬ ‫(التعليق األول لربغسون)‪..................................................‬‬

‫‪35‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬اإلطار واللقطة‪ ،‬التأطري والتقطيع ‪.................‬‬

‫‪67‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬املونتاج ‪.....................................................‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬الصورة‪ /‬احلركة ّ‬


‫وتنوعاهتا الثالثة (التعليق‬
‫‪117‬‬ ‫الثاين لربغسون)‪................................................................‬‬

‫‪145‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬الصورة‪ /‬اإلدراك ‪...................................‬‬


‫الفصل السادس‪ :‬الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي‪ :‬الوجه‬
‫‪173‬‬ ‫ّ‬
‫املضخمة ‪...........................................................‬‬ ‫والصورة‬

‫‪5‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي‪ :‬الكيفيات‬
‫‪199‬‬ ‫والقوى واألماكن النكرة ‪..................................................‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬من التأ ّثر إىل الفعل‪:‬‬
‫‪237‬‬ ‫الصورة‪ /‬الغريزة‪.............................................................‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬الصورة‪ /‬الفعل‪:‬‬
‫‪269‬‬ ‫الشكل الكبري ‪.................................................................‬‬
‫الفصل العاشر‪ :‬الصورة‪ /‬الفعل‪:‬‬
‫‪301‬‬ ‫الشكل الصغري ‪................................................................‬‬

‫‪331‬‬ ‫الفصل الحادي عشر‪ :‬الصور أو ّ‬


‫حتول األشكال ‪...................‬‬

‫‪361‬‬ ‫الفصل الثاني عشر‪ :‬أزمة الصورة‪/‬الفعل ‪............................‬‬

‫‪395‬‬ ‫الثبت التعريفي ‪................................................................‬‬

‫‪405‬‬ ‫ثبت المصطلحات ‪...........................................................‬‬

‫‪411‬‬ ‫الفهرس ‪..........................................................................‬‬

‫‪6‬‬
‫مقدمة املرتجم‬

‫منذ عشرين سنة أصدر جيل دولوز دراسة فلسفية طويلة عن‬
‫السينما‪ ،‬عالج في جزئها األول مسألة الصورة‪ /‬الحركة‪ ،‬وفي جزئها‬
‫الثاني الصورة‪ /‬الزمن‪ .‬واعتبر ن ّقاد الفن السابع هذه الدراسة من أهم‬
‫ما كُتب عن السينما حتى اآلن‪ .‬ليست الدراسة "محاولة لكتابة تاريخ‬
‫السينما" كما ّ‬
‫حذر في بدايتها‪ ،‬بقدر ما هي تحليل لعالقة السينما بالحركة‬
‫وبالزمن‪ .‬وهاتان المقولتان من المقوالت الخصبة التي ركّز عليها هنري‬
‫برغسون‪ ،‬وهو الفيلسوف الذي نال حظوة كبرى من أبحاث دولوز‪.‬‬

‫ولد جيل دولوز في ‪ 18‬كانون الثاني‪ /‬يناير ‪ 1925‬في باريس‪،‬‬


‫ودرس الفلسفة في جامعة‬
‫َ‬ ‫وتو ّفي فيها في ‪ 4‬تشرين الثاني‪ /‬نوفمبر ‪.1995‬‬
‫تعرف على ميشال بوتور وفرانسوا شاتليه‪ ،‬وحيث درس‬
‫السوربون حيث ّ‬
‫على يد أساتذة مشهورين مثل فردينان ألكييه وجان هيبوليت‪ .‬وعام ‪1948‬‬
‫ودرس الفلسفة في عدد من المدارس‪ ،‬ثم في جامعة‬
‫فاز بمسابقة التبريز ّ‬
‫ليون‪ ،‬وعام ‪ 1969‬حصل على دكتوراه دولة في الفلسفة بأطروحتين هما‬
‫االختالف والتكرار التي ترجمتها د‪ .‬وفاء شعبان لصالح المنظمة العربية‬
‫‪7‬‬
‫للترجمة (‪ )2009‬وسبينوزا ومشكلة العبارة‪ .‬ونشأت صداقة علمية بينه‬
‫وبين فيليكس غاتاري‪ ،‬فأصدرا عدد ًا من الدراسات المشتركة‪ .‬ومن عام‬
‫درس الفلسفة في جامعة باريس الثامنة‪ ،‬وكان من‬
‫‪ 1969‬وحتى ‪ّ 1987‬‬
‫ألمع أساتذة الفلسفة في زمانه‪ ،‬وجمع إلى الصرامة العلمية والتبحير‬
‫في العلم خياالً هائ ً‬
‫ال في ابتكار المفاهيم‪ .‬وهذا ما دفع ميشال فوكو‬
‫إلى القول‪" :‬سيصبح هذا القرن ذات يوم قرن دولوز"‪ .‬وسئل دولوز‬
‫عما قصده فوكو بهذه العبارة فأجاب‪" :‬ربما أراد أن يقول إنني األكثر‬
‫فضل‬‫براءة وفلسفة"‪ .‬وبعد أن أصيب دولوز بمرض تن ّفسي عام ‪ّ 1995‬‬
‫االنتحار‪ ،‬قائالً‪" :‬األعضاء هي التي تموت‪ ،‬ال الحياة"‪.‬‬

‫كتب دولوز ‪ 29‬كتاب ًا في الفلسفة واألدب والفنون منها نيتشه‬


‫واألدب (‪ ،)1962‬بروست والعالمات (‪ ،)1964‬البرغسونية (‪،)1966‬‬
‫تقديم ساشير‪-‬مازوخ‪ :‬فينوس ذات الغراء (‪ ،)1967‬منطق المعنى‬
‫(‪ ،)1969‬الجذمور مع فيليكس غاتاري (‪ ،)1976‬ما هي الفلسفة مع‬
‫غاتاري أيض ًا (‪ ،)1991‬نقد واستطباب (‪ ،)1993‬نظامان للمجانين‬
‫(‪ .)2003‬تضاف إليها دراسته عن فلسفة السينما التي نحن بصددها‪.‬‬
‫وكثير ًا ما ش ّبه دولوز بفيلسوف "المتاهات"‪ ،‬الذي يقود القارئ إليها‬
‫و ُيخرجه منها‪ ،‬على غرار خيط أريان في متاهة المينوتور‪ ،‬كما ورد في‬
‫األسطورة اليونانية‪ .‬وقيل أيض ًا عنه إنه الفيلسوف الذي أراد تغيير العالم‬
‫بتخليص سكانه من رتابة الحياة اليومية‪.‬‬

‫في كتاب دولوز عن السينما‪ ،‬يقتبس عدد ًا من المقوالت التي‬


‫أوردها برغسون حول تحليل الحركة والزمن‪ .‬ويشرح تشكّل اإلدراك‬
‫عند اإلنسان كالتالي‪ :‬توجد لواقط في جسم اإلنسان (الحواس الخمس)‬
‫‪8‬‬
‫تتل ّقى المعلومة في البيئة التي يعيش فيها‪ ،‬وتتل ّقى مفعول البيئة فينا‪.‬‬
‫يقرر الدماغ أن‬
‫ُرسل المعلومة إلى الدماغ‪ ،‬من طريق األعصاب الحسية‪ّ .‬‬ ‫ت َ‬
‫يتفاعل مع البيئة‪ .‬ينتقل هذا التفاعل إلى العضالت من طريق األعصاب‪.‬‬
‫فتستجيب العضالت بهذه الشكل أو بذاك‪ .‬إذن يكون الدماغ صلة‬
‫الوصل بين ما يتل ّقى من أفعال وبين ردود فعله عليها‪ .‬وتلعب العادة دور ًا‬
‫في عملية اإلدراك‪ ،‬كما نالحظ ذلك في تعلم قيادة السيارة‪ :‬في البداية‬
‫تستقر وتهدأ مع الزمن وتصبح مراحل الحركة‬ ‫ّ‬ ‫تكون القيادة مضطربة‪ ،‬ثم‬
‫معتادة‪.‬‬

‫يط ّبق دولوز هذه المقوالت على السينما‪ ،‬علم ًا بأنه ط ّبقها سابق ًا‬
‫على األدب‪ ،‬في دراسته عن بروست وساشير‪-‬مازوخ‪ ،‬وعن الفن‪ ،‬في‬
‫دراسته عن الفنان البريطاني فرانسيس بيكون (‪ .)1992-1909‬يروي‬
‫فرانسوا دوس )‪ (F. Dosse‬بعض أفالم جان لوك غودار‪ .‬ومن هنا نشأت‬
‫دراسته الرئيسية عن الصورة‪ /‬الحركة والصورة‪ /‬الزمن‪.‬‬

‫يغ ّطي الجزء األول من الدراسة (أي الصورة‪ /‬الحركة) ثالثة‬


‫مواضيع رئيسية‪ :‬الصورة‪ /‬الفعل‪ ،‬الصورة‪ /‬اإلدراك‪ ،‬الصورة‪ /‬االنفعال‬
‫العاطفي‪ .‬صحيح أن دولوز لم يشأ أن يكتب تاريخ ًا لنشأة السينما‬
‫وتطورها‪ ،‬ولكننا نالحظ في جزأي الكتاب وجود ملمحين الفتين في‬
‫السينما‪ :‬الملمح الذي سبق الحرب العالمية الثانية‪ ،‬والملمح الذي‬
‫أعقبها‪ .‬ولكن مفصل الحرب ليس إال سمة ثانوية‪ ،‬إذ هناك تداخل بين‬
‫عمري السينما‪ ،‬أو باألحرى تكامل بينهما‪.‬‬

‫يعالج القسم الثاني من الدراسة – وهو السينما‪ /‬الزمن – ظهور‬

‫‪9‬‬
‫الصورة‪ /‬الزمن ُبعيد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وارتباطها بالواقعية اإليطالية‬
‫الجديدة والموجة الجديدة في فرنسا والسينما الحرة (غير الهوليوودية)‬
‫في الواليات المتحدة‪ .‬وربط دولوز تفكيره عن السينما‪/‬الزمن بنظرة‬
‫برغسون عن الزمن‪ ،‬والقائلة بوجود زمن آلي (وهو زمن الساعة‪ ،‬تِك‬
‫تاك‪ ،‬دقيقة‪ ،‬ساعة‪ ،‬يوم‪ – )...‬وهو زمن ثابت وحسابي‪ ،‬وزمن إنساني‬
‫تابع لتفاعل اإلنسان مع الزمن‪ ،‬وهو زمن رجراج يخضع للحالة النفسية‬
‫والعاطفية والفكرية لإلنسان‪ ،‬ويمكن أن تكون ساعته طويلة ومم ّلة‪ ،‬أو‬
‫ومشوقة‪ .‬وفي جزأي الكتاب يرى دولوز أن الصورة‪ /‬الحركة‬ ‫ّ‬ ‫قصيرة‬
‫والصورة‪ /‬الزمن مرتبطتان بالصورة‪ /‬الدماغ بنا ًء على الدراسات الطب ّية‬
‫والفلسفية الحديثة المتعلقة بالذاكرة وارتباطها بحركات الزمن الثالث‪:‬‬
‫الماضي والحاضر والمستقبل‪ .‬ورأت دفاتر السينما أن دولوز هو‬
‫أحب السينما حق ًا"‪.‬‬
‫"المفكّر الكبير الوحيد في عصرنا الذي ّ‬

‫ويتوقف دولوز عند كثير من التفاصيل اإلخراجية المتع ّلقة‬


‫بالتصوير السينمائي كالكادر وحجم اللقطة والتأطير والتقطيع والمونتاج‬
‫وزوايا التصوير واأللوان واألشكال الكبرى والصغرى‪ ...‬ويستند‬
‫في تحليله الحركة إلى المقوالت التي طرحها الفيلسوف والسيميائي‬
‫األميركي تشارلز ساندرز بيرس (‪ )1914 - 1838‬الذي أثر في المنطق‬
‫الرياضي المعاصر وفي األلسنية الحديثة وفي نظرية العالمات‪ .‬ويسوق‬
‫دولوز أمثلة فيلمية غزيرة‪( ،‬وكان لي الحظ في مشاهدة بعضها في النادي‬
‫السينمائي الدمشقي في أيام الدراسة في باريس)‪ ،‬وال س ّيما تلك التي‬
‫تم ّثل كالسيك السينما‪.‬‬

‫في ما يتعلق بترجمة نصوص دولوز‪ ،‬ذكرت الدكتورة وفاء‬


‫‪10‬‬
‫شعبان التي ترجمت االختالف والتكرار الصعوبات التي وجدتها في‬
‫نقل األفاهيم (‪ )notions‬الفلسفية الطافحة باإلحاالت المباشرة وغير‬
‫المباشرة إلى أعالم الفكر الغربي‪ .‬وأراني أشاطرها الرأي‪ ،‬علم ًا بأن‬
‫أطروحة الدكتوراه التي كتبها دولوز أصعب من الكتاب الذي ترجمته‪.‬‬
‫ومع ذلك يبقى أسلوب دولوز في اإلعراب عن أفكاره متفاوت ًا‪ ،‬فتارة‬
‫هو أسلوب وصفي سلسل – وال س ّيما عندما يح ّلل األفالم ‪ -‬وطور ًا‬
‫هو أسلوب وعر مفرط في التنظير والسباحة في السديم‪ .‬وحب التنظير‬
‫هذا بما يحمل من أفاهيم ومصطلحات ومفردات حديثة وغائمة أحيان ًا‪،‬‬
‫نجده كثير ًا في الفكر الفرنسي المعاصر الذي رفد الفكر العالمي‬
‫الحديث بنظريات ومدارس وتيارات فكرية وفلسفية مهمة‪ ،‬يتناولها‬
‫القارئ األوروبي المستنير بيسر ال يتو ّفر بالضرورة للقارئ العربي غير‬
‫المتخصص‪.‬‬
‫ّ‬

‫جمال شح ّيد‬
‫دمشق في ‪ 20‬آذار‪ /‬مارس ‪2014‬‬

‫‪11‬‬
‫توطئة‬

‫ٍ‬
‫صور‬ ‫ليست هذه الدراسة تاريخ ًا للسينما‪ .‬إنها عملية تبويب‬
‫وإشارات ومحاولة لتصنيفها‪ .‬ولكن هذا الجزء األول من الدراسة يجب‬
‫ٍ‬
‫وحيد من التصنيف‪.‬‬ ‫عناصر قسم‬ ‫أن يكتفي بتحديد العناصر‪ ،‬أقول‬
‫َ‬

‫المنطقي األميركي بيرس )‪(Peirce‬‬


‫ّ‬ ‫نرجع في معظم األحيان إلى‬
‫)‪ ،(1914-1839‬ألنه وضع تصنيف ًا عام ًا للصور واإلشارات هو األكمل‬
‫تنوع ًا بال شك‪ .‬إنه يشبه تصنيف لينيه )‪ (Linné‬في التاريخ‬‫واألكثر ّ‬
‫الطبيعي‪ ،‬بل يشبه الئحة منديلييف )‪ (Mendeleiev‬في الكيمياء‪ .‬ذلك أن‬
‫السينما فرضت وجهات نظر جديدة حول هذه المشكلة‪.‬‬

‫ثمة مجابهة أخرى على جانب من الضرورة‪ .‬لقد كتب برغسون‬ ‫ّ‬
‫شخص‬‫كتابه المادة والذاكرة )‪ (Matière et mémoire‬عام ‪ 1896‬وفيه ّ‬
‫أزم ًة من أزمات علم النفس‪ .‬لم يعد يمكن أن تقوم معارضة بين الحركة‬
‫كواقع فيزيائي في العالم الخارجي‪ ،‬وبين الصورة كواقع نفسي في‬
‫الوعي‪ .‬إن اكتشاف برغسون لصورة‪ /‬حركة‪ ،‬وبخاصة لصورة‪ /‬زمن‬
‫ما يزال حتى اليوم يحتفظ بثرائه الذي لم نستخلص منه جميع نتائجه‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫وجهه برغسون الحق ًا‬
‫فعلى الرغم من االنتقاد الشديد التبسيط الذي ّ‬
‫للسينما‪ ،‬فال شيء يستطيع أن يحول دون ِ‬
‫ربط الصورة‪ /‬الحركة‪ ،‬كما‬
‫رآها‪ ،‬بالصورة السينمائية‪.‬‬
‫في هذا الجزء األول من الكتاب سنعالج الصورة‪ /‬الحركة‬
‫بشتّى أنواعها‪ .‬أما الصورة‪ /‬الزمن فستكون موضوع الجزء الثاني‪ .‬لقد‬
‫بدا لنا أن كبار كتّاب السينما يمكن مقارنتهم ال بالرسامين والمعماريين‬
‫والموسيقيين فحسب‪ ،‬بل بالمفكّرين أيض ًا‪ .‬ذلك أنهم يفكّرون من خالل‬
‫فالكم الهائل‬
‫ّ‬ ‫الصور‪ /‬الحركة والصور‪ /‬الزمن بدل أن يسوقوا المفاهيم‪.‬‬
‫من الضحالة في اإلنتاج السينمائي ليس اعتراض ًا على ذلك؛ مع أنه ليس‬
‫أسوأ مما نراه في مجاالت أخرى‪ ،‬وبالرغم من دعم نتائجه االقتصادية‬
‫والصناعية الفريدة‪ .‬فكبار المخرجين السينمائيين هم بالتالي أكثر عرض ًة‬
‫للتجريح‪ ،‬ومن السهل جد ًا الحؤول دون إنجازهم أفالمهم‪ .‬وتاريخ‬
‫جم من الشهداء‪ .‬فليست السينما أقل إسهام ًا في‬ ‫السينما حافل بعدد ٍّ‬
‫تاريخ الفن والفكر‪ ،‬وفي ظل األشكال المستق ّلة الفريدة التي استحدثها‬
‫هؤالء السينمائيون ونشروها على الرغم من جميع العقبات‪.‬‬

‫لن نقدّ م أية أمثلة سينمائية توضح نصنا‪ ،‬ألن نصنا هو الذي ابتغى‬
‫كل منا ذكرى عنها‬‫أن يكون توضيح ًا لألفالم الكبرى التي ر ّبما يحمل ّ‬
‫وتأ ّثر بها وأدرك أبعادها‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الف�صل الأول‬
‫�أطروحات حول احلركة‬
‫التعليق الأول لربغ�سون‬
‫‪)1‬‬

‫ال يقدّ م برغسون أطروحة واحدة حول الحركة بل ثالث ًا‪ .‬األولى‬
‫هي أشهرها وتوشك أن تحجب األطروحتين األخريين‪ ،‬مع أنها مقدّ مة‬
‫تختلط مع المكان الذي‬ ‫ُ‬ ‫لهما‪ .‬وتقول هذه األطروحة إن الحركة ال‬
‫ماض‪ ،‬بينما الحركة هي حاضر‪ ،‬وهذه‬ ‫ٍ‬ ‫اجتازته‪ .‬فالمكان المجتاز هو‬
‫هي عملية االجتياز‪ .‬ويمكن تقسيم المكان‪ ،‬في حين أن الحركة ال تقبل‬
‫تنقسم من دون أن تغ ّير طبيعة كل قسمة‪ .‬وهذا يقتضي‬ ‫القسمة‪ ،‬أو أنها ال‬‫ِ‬
‫ُ‬
‫فكرة أشدّ تعقيد ًا تقول‪ :‬إن األمكنة المجتازة تنتمي كلها إلى مكان واحد‬
‫ّ‬
‫ويتعذر دمجها ببعضها‪.‬‬ ‫متجانس ال يتغ ّير‪ ،‬في حين أن الحركات متنافرة‬

‫تتطور األطروحة األولى‪ ،‬ال بدّ من القول التالي‪ :‬أنت‬


‫لكن قبل أن ّ‬
‫ال تستطيع إعادة تشكيل الحركة انطالق ًا من مواقف تتع ّلق بالمكان ومن‬
‫لحظات ترتبط بالزمان‪ ،‬أي انطالق ًا من "تقطيعات" ال تتحرك‪ ...‬ال تُقدم‬
‫قرنت المواقف واللحظات بفكرة‬
‫َ‬ ‫أنت على إعادة هذا التشكيل إال إذا‬
‫َ‬
‫المجردة وبزمن آلي متسق وشامل ينسخ المكان‪ ،‬وهو زمن‬‫ّ‬ ‫التعاقب‬
‫‪15‬‬
‫وعندئذ ستفقد الحركة بطريقتين‪ .‬فمن جهة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫واحد لجميع الحركات‪.‬‬
‫بت لحظتين أو موقفين إلى ما ال نهاية‪ ،‬فإن الحركة ستتم دائم ًا‬
‫مهما ّقر َ‬
‫في المسافة الفاصلة بينهما‪ ،‬وستصبح خلفك‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬مهما‬
‫مت أجزاء الزمن‪ ،‬ستتم الحركة في مدّ ة محدّ دة‪ ،‬وستكون‬
‫وقس َ‬‫مت ّ‬ ‫قس َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫لها بالتالي مدّ تها النوعية‪ .‬عندئذ ستتعارض الصيغتان التاليتان‪:‬‬

‫"الحركة الواقعية ← المدة المحددة"‪ ،‬و"التقطيعات الثابتة ‪+‬‬


‫المجرد"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الزمن‬

‫ّ‬
‫الخلق �‪(L’évolu‬‬ ‫عا م ‪ 1907‬تبنّى برغسون‪ ،‬في كتابه التطور‬
‫)‪ ،tion créatricre‬الصيغة الرديئة التالية‪ :‬الوهم السينمائي‪ .‬ذلك أن‬
‫تسمى صور ًا‪،‬‬ ‫السينما تلجأ فع ً‬
‫ال إلى معطيين متكاملين‪ :‬مقاطع لحظية ّ‬
‫وحركة أو زمن غير شخصي وأحادي الشكل ومجرد وغير منظور وغير‬
‫يتم استعراض الصور تباع ًا(((‪.‬‬
‫مدرك و"موجود" في الجهاز و"بواسطته" ّ‬
‫تقدّ م لنا السينما إذن حرك ًة كاذبة‪ ،‬وهي المثال الالفت للحركة الخاطئة‪.‬‬
‫ومن المستغرب أن برغسون أطلق على الوهم األكثر ِقدم ًا صفة عصرية‬
‫وحديثة جد ًا هي "الوهم السينمائي"‪ .‬يقول برغسون‪ :‬إن السينما عندما‬
‫تعيد تشكيل الحركة من خالل مقاطع ساكنة‪ ،‬ال تفعل ّإل ما فعله الفكر‬
‫األشد قدم ًا (مفارقات زينون )‪ )(Zénon‬أو ما يفعله اإلدراك الطبيعي‪.‬‬
‫وفي هذا الشأن يتم ّيز برغسون عن الظواهرية التي رأت أن السينما قد‬

‫((( ‪Henri Bergson, L’évolution créatrice ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]) p. 753,‬‬
‫)‪(305‬‬‫‪5‬‬

‫نستشهد بنصوص برغسون بحسب طبعة ‪Le centenaire‬؛ والرقم املكتوب بني‬
‫قوسني هو رقم الصفحات الوارد يف الطبعة الشائعة التي أصدرهتا دار ‪.P.U.F.‬‬
‫‪16‬‬
‫أحدثت باألحرى قطيعة مع شروط اإلدراك الطبيعي‪ ،‬قال‪" :‬إننا نلتقط‬
‫مشاهد شبه فورية من الواقع العابر‪ ،‬وبما أن هذه المشاهد مرتبطة بهذا‬
‫مجردة وأحادية الشكل‬ ‫الواقع‪ ،‬يكفي أن نجعلها تنتظم في صيرورة ّ‬
‫وغير مرئية تكمن في قاع جهاز المعرفة‪ ...‬فاإلدراك الحسي واإلدراك‬
‫العقلي واللغة تتبع كلها هذا النهج‪ .‬أفكّرنا في الصيرورة أم ع ّبرنا عنها‬
‫ٍ‬
‫جهاز سينمائي‬ ‫أو أدركناها حسي ًا‪ ،‬فإننا ال نفعل شيئ ًا آخر سوى تحريك‬
‫داخلي"‪ .‬هل يجب أن نفهم من ذلك أن السينما‪ ،‬بحسب برغسون‪ ،‬هي‬
‫فقط عرض وإنتاج لوهم ثابت وعام؟ هل هذا يعني أننا مارسنا السينما‬
‫دائم ًا ومن دون أن ندرك ذلك؟ عندها ستُطرح مشاكل عديدة‪.‬‬

‫بداي ًة‪ ،‬أليس اإلنتاج المجدّ د للوهم هو تصحيح له نوع ًا ما؟ هل‬
‫نستطيع استخالص الوسائل االصطناعية من النتيجة االصطناعية؟ تعمل‬
‫السينما من خالل فوتوغرام )‪ ،(photogrammes‬أي من خالل مقاطع‬
‫ثابتة‪ 24 ،‬صورة في الثانية (أو ‪ 18‬صورة في البداية)‪ .‬ولكن ما تعطينا‬
‫إياه السينما‪ ،‬كما الحظنا ذلك غالب ًا‪ ،‬ليس الفوتوغرام‪ ،‬وإنما الصورة‬
‫المتوسطة التي ال تضاف الحركة إليها وال تنجمع فيها‪ :‬ذلك أن الحركة‬
‫المتوسطة كمعطى فوري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على العكس من ذلك‪ ،‬تنتمي إلى الصورة‬
‫سيقال‪ :‬هذا ما يحصل تمام ًا في اإلدراك الطبيعي‪ .‬ولكن هنا سيتم‬
‫تصحيح الوهم في بداية اإلدراك‪ ،‬من خالل الشروط التي تجعل هذا‬
‫فيصح ُح هذا اإلدراك عندما تظهر الصورة‬
‫َّ‬ ‫اإلدراك ممكن ًا‪ .‬أما في السينما‬
‫لمشاهد بعيد عن هذه الشروط (وفي هذا الصدد‪ ،‬سنرى أن الظواهرية‬
‫ُ‬
‫مح ّقة حين افترضت وجود اختالف نوعي بين اإلدراك الطبيعي‬
‫واإلدراك السينمائي)‪ .‬باختصار نقول إن السينما ال تُعطينا صورة تضاف‬

‫‪17‬‬
‫إليها حركة‪ ،‬إنها تعطينا على الفور صورة‪ /‬حركة‪ .‬تعطينا َق ْطع ًا‪ ،‬و َق ْطع ًا‬
‫مجردة‪ .‬والغريب جد ًا في األمر هو أن برغسون اكتشف‬ ‫متحرك ًا ‪ +‬حركة ّ‬
‫ّ‬
‫تمام ًا وجود مقاطع متحركة أو صور‪ /‬حركة‪ .‬ورد ذلك قبل صدور كتابه‬
‫الخلق‪ ،‬وقبل الوالدة الرسمية للسينما‪ ،‬وورد في كتابه المادة‬ ‫ّ‬ ‫التطور‬
‫ّ‬
‫والذاكرة الذي رأى النور عام ‪ .1896‬إن اكتشاف الصورة‪ /‬الحركة‪،‬‬
‫خارج شروط اإلدراك الحسي الطبيعي‪ ،‬كان الكشف الخارق الذي ورد‬
‫في الفصل األول من كتاب المادة والذاكرة‪ .‬أنستطيع الظ ّن بأن برغسون‬
‫قد نسيه بعد عشر سنوات من ذلك؟‬

‫هل انقاد إلى وهم آخر يحدث في بدايات كل شيء؟ نحن نعلم‬
‫أن األشياء واألشخاص مضطرون إلى البقاء في ّ‬
‫الظل‪ ،‬وأنهم ُمج َبرون‬
‫على ذلك عندما يبدأون‪ .‬وكيف يكون األمر غير ذلك؟ فاألشياء تظهر‬
‫ٍ‬
‫وقتئذ؛ لذا وجب‬ ‫يتضمنهم‬ ‫واألشخاص يظهرون في مجمو ٍع لم يكن‬
‫ّ‬
‫عليها وعليهم أن ُيبرزوا السمات المشتركة مع المجموع كي ال يتم‬
‫رفضها ورفضهم‪ .‬ال يظهر جوهر الشيء أبد ًا في البداية‪ ،‬بل في وسطه‬
‫ُ‬
‫تتعزز قواه‪ .‬هذا ما كان يدركه برغسون‬ ‫تطوره‪ ،‬عندما ّ‬
‫وضمن مجرى ّ‬
‫طور الفلسفة بطرحه‬
‫أفضل من أي شخص آخر‪ ،‬وال س ّيما أنه قد ّ‬
‫مسألة "الجديد" بدالً من مسألة "األبدية" (كيف يكون إنتاج وظهور‬
‫ال إن ِجدّ َة الحياة لم يكن بمقدورها‬
‫شيء جديد ممكن ًا؟)‪ .‬لقد قال مث ً‬
‫أن تظهر في بداياتها‪ ،‬ألن بداية الحياة كانت مضطرة إلى تقليد المادة‪...‬‬
‫َأولم يحدث األمر نفسه للسينما؟ أو باألحرى كيف كان وضع السينما‬
‫في البداية؟ من جهة كان التصوير يتم بكاميرا ثابتة‪ ،‬وكانت اللقطة إذن‬
‫تتحرك إطالق ًا؛ ومن جهة أخرى كان هناك دمج بين الكاميرا‬
‫مكانية وال ّ‬

‫‪18‬‬
‫تطور السينما‬
‫مجرد‪ .‬ولكن ّ‬‫وجهاز العرض‪ ،‬وكانا يعمالن في زمن واحد ّ‬
‫جوهرها األصلي وجدّ تَها‪ ،‬سيتحقق في المونتاج ومع الكاميرا‬
‫َ‬ ‫وبلوغها‬
‫ستكف اللقطة‬
‫ّ‬ ‫وتحرر التصوير وانفصاله عن العرض‪ .‬حينذاك‬
‫ّ‬ ‫المتحركة‬
‫متحرك ًا‬
‫ّ‬ ‫عن أن تكون مقولة مكانية لتصبح مقولة زمانية‪ ،‬وسيصبح ال َقطع‬
‫وسيتخ ّلص من جموده‪ ،‬وستجد السينما بالتحديد الصورة‪ /‬الحركة التي‬
‫وردت في الفصل األول من كتاب المادة والذاكرة‪.‬‬

‫يجب االستنتاج بأن األطروحة األولى التي أطلقها برغسون حول‬


‫الحركة أشدّ تعقيد ًا مما بدت في البداية‪ .‬فهناك من جهة انتقاد لجميع‬
‫المحاوالت التي سعت إلى إعادة بناء الحركة وربطتها بالمكان الذي‬
‫تم اجتيازه‪ ،‬وذلك بجمع ال َقطعات الثابتة اآلنية في زمن ّ‬
‫مجرد‪ .‬وهناك‬
‫بت كمحاولة من تلك المحاوالت‬ ‫من جهة ثانية نقدُ السينما التي ُش ِج ْ‬
‫اإليهامية‪ ،‬وكمحاولة إليصال الوهم إلى ذروته‪ .‬ولكن هناك أيض ًا‬
‫أطروحة كتاب المادة والذاكرة‪ ،‬وهناك ال َقطعات المتحركة والصور‬
‫الزمنية التي استشعرت وتن ّبأت بالمستقبل وبجوهر السينما‪.‬‬

‫‪)2‬‬
‫مايزت‬
‫ْ‬ ‫والحال أن كتاب التطور الخالق أطلق أطروحة ثانية‬
‫كل شيء إلى‬‫على األقل بين وهمين شديدي االختالف‪ ،‬بدل أن تختزل ّ‬
‫وهم واحد حول الحركة‪ .‬ودائم ًا يكمن الخطأ في إعادة تشكيل الحركة‬
‫انطالق ًا من لحظات أو مواقف‪ ،‬علم ًا بأن هناك طريقتين لذلك‪ ،‬طريقة‬
‫قديمة وطريقة حديثة‪ .‬لقد رأى ال ُقدامى أن الحركة تحيل إلى عناصر‬
‫يستطيع العقل أن يدركها‪ ،‬ورأوا أن األشكال واألفكار خالدة وثابتة‪.‬‬
‫وطبع ًا‪ ،‬لكي يستطيع المرء أن يعيد تشكيل الحركة‪ ،‬عليه أن يدرك هذه‬
‫‪19‬‬
‫تجسدها في مادة دافقة‪ .‬وهذه األشكال هي‬
‫األشكال في أقرب نقطة من ّ‬
‫بمثابة احتماالت ال تنتقل إلى الفعل إال عندما تتجسد في المادة‪ .‬وعلى‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬فإن ما تقوم به الحركة ما هو إال التعبير عن "جدلية"‬
‫األشكال وعن توليفة ُمثلى تمنحها النظام واالتساق‪ .‬فتكون الحركة‬
‫المتصورة كمعبر منتظم ينتقل من شكل إلى آخر‪ ،‬أي كنظام لوضعيات‬‫ّ‬
‫وللحظات متم ّيزة‪ ،‬كما في الرقص‪ .‬و ُيفترض في هذه األفكار أو الصور‬
‫"أن تع ّبر عن ُكنْه حقبة من الحقبات‪ ،‬ألن كل ما يبقى في هذه الحقبة‬
‫مليء بانتقال شكل إلى شكل آخر‪ ،‬وهو انتقال عديم الجدوى في ذاته‪...‬‬
‫نسجل المآل األخير أو النقطة القصوى )‪ (acmè, télos‬ونجعلها‬
‫فنحن ّ‬
‫لحظ ًة جوهرية‪ ،‬وهذه اللحظة التي احتفظت بها اللغة للتعبير عن ُمجمل‬
‫الحدث تكفي ليضطلع العلم بتحديدها"(((‪.‬‬

‫لقد سعت الثورة العلمية الحديثة إلى إرجاع الحركة‪ ،‬ال إلى‬
‫لحظات أثيرة‪ ،‬بل إلى لحظة عادية جد ًا‪ .‬حتى ولو شكّلنا الحركة من‬
‫جديد‪ ،‬فإننا ال نفعل ذلك انطالق ًا من عناصر شكلية خارقة (الوضعيات)‬
‫بل من عناصر مادية محايثة (المقاطع)‪ .‬وبدالً من القيام بتوليف معقول‬
‫ال حس ّي ًا‪ .‬وهكذا تشك َّل علم الفلك الحديث من‬
‫للحركة‪ ،‬نح ّللها تحلي ً‬
‫خالل تحديد العالقة بين المدار والزمن الالزم لقطعه (كيبلر )‪،)(Kepler‬‬
‫وتشكّلت الفيزياء الحديثة من خالل ربط المسافة التي يجتازها جسم من‬
‫األجسام بالزمن الذي يستغرقه سقوط هذا الجسم (غاليليه )‪،)(Galilée‬‬
‫ٍ‬
‫منحن مس َّطح‪،‬‬ ‫وتشكّلت الهندسة الرياضية باستخالص المعادلة لخط‬

‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)330( 774‬‬


‫‪20‬‬
‫أي بوضع نقطة على مستقيم متحرك في لحظة من لحظات مساره‬
‫(ديكارت )‪ ،)(Descartes‬وتشكّل أخير ًا الحساب المتنامي ِّ‬
‫الص َغر‬
‫عندما ارتأى بعضهم النظر في المقاطع التي يمكن تقريبها إلى ما ال نهاية‬
‫(نيوتن )‪ (Newton‬واليبنز )‪ .)(Leibniz‬ففي كل مكان‪ ،‬كان التعاقب‬
‫محل النظام الجدلي للوضعيات‪" :‬يجب على العلم‬ ‫يحل ّ‬
‫اآللي للحظات ّ‬
‫الحديث أن يتحدّ د وخصوص ًا بتوقه إلى اعتبار الزمن متغير ًا مستق ً‬
‫ال"(((‪.‬‬
‫ال المولود األخير لهذه الساللة التي‬ ‫يبدو أن السينما هي فع ً‬
‫استخلصها برغسون‪ .‬بوسعنا أن نتصور سلسلة من وسائل النقل‬
‫نتصور بالتوازي سلسلة من وسائل‬ ‫ّ‬ ‫(كالقطار والسيارة والطائرة‪ ،)...‬وأن‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫التعبير (كالغرافيك والتصوير الضوئي والسينما)‪ :‬فتبدو الكاميرا‬
‫معمم لحركات وسائل النقل‪ .‬وهكذا‬ ‫كأداة تحويل‪ ،‬أو باألحرى كمعادل َّ‬
‫بدت الكاميرا في أفالم فيم فِندرز )‪ .(Wim Wenders‬وحين نتساءل‬
‫حول الفترة التي سبقت السينما‪ ،‬نجد أننا وقعنا في اعتبارات ُملتبسة‪،‬‬
‫ألننا ال نعلم إلى أين نعيد‪ ،‬وال كيف نحدّ د السلسلة التقانية التي تسمها‪.‬‬
‫الظل الصيني أو إلى أعتق األنظمة‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ نستطيع دائم ًا اإلشارة إلى خيال ّ‬
‫في عرض الصور‪ .‬ولكن الشروط التي حسمت األمر بالنسبة للسينما‬
‫التصور الضوئي الفوري‬‫ّ‬ ‫هي كالتالي‪ :‬ليس التصوير الضوئي فقط‪ ،‬بل‬
‫(ذلك أن تصوير الوضعية ينتمي إلى سلسلة أخرى)؛ المسافة المتساوية‬
‫بين الصور اآلنية؛ نقل هذه المسافة المتساوية إلى حامل يشكّل "الفيلم"‬
‫تخريم‬
‫َ‬ ‫(إديسون )‪ (Edison‬وديكسون )‪ (Dickson‬هما اللذان ابتكرا‬
‫بكرة الفيلم)؛ آلية لتعاقب الصور (بصمات األخوين لوميي ر �‪(Lu‬‬

‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)335( 779‬‬


‫‪21‬‬
‫)‪ .)mière‬بهذا المعنى تكون السينما المنظومة التي تعيد إنتاج الحركة‬
‫بناء على لحظة عادية‪ ،‬أي بنا ًء على لحظات متساوية البعد ّ‬
‫يتم اختيارها‬ ‫ً‬
‫بحيث تعطي انطباع ًا بوجود حركة مستمرة‪ .‬وكل منظومة أخرى‪ ،‬تعيد‬
‫يمرر بعضها بالبعض‬ ‫ُعرض بحيث َّ‬ ‫إنتاج الحركة بنظام تقطيعات ت َ‬
‫اآلخر أو بحيث "تتبدّ ل"‪ ،‬هي منظومة غريبة عن السينما‪ .‬ونتب ّين ذلك‬
‫يتجزأ‬
‫ّ‬ ‫عندما نحاول تعريف الرسوم المتحركة‪ :‬فإذا اعتُبرت جزء ًا ال‬
‫من السينما‪ ،‬فألنها لم تعد تشكّل فيها وضعي ًة أو صورة مكتملة‪ ،‬ولكنها‬
‫عبر حركة الخطوط والنقاط‬‫تصف صورة تتشكل وتتهدّ م على الدوام‪َ ،‬‬
‫ٍ‬
‫لحظات من مسارها‪ .‬تُحيل الرسوم المتحركة إلى هندسة‬ ‫الملتقطة في‬
‫ُ‬
‫رياضية ديكارتية ال إلى هندسة إقليدية‪ .‬فال تقدّ م لنا صورة مرسومة في‬
‫لحظة فريدة‪ ،‬بل تقدّ م حركة مستمرة تصف الصورة‪.‬‬

‫تتغذى بلحظات أثيرة‪ .‬فغالب ًا ما يقال‬


‫مع ذلك يبدو أن السينما ّ‬
‫وتطورات حصلت في‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حركات‬ ‫إن إيزنشتاين )‪ (Eisenstein‬اقتبس‬
‫صنع منها موضوع ًا ممتاز ًا للسينما‪.‬‬
‫َ‬ ‫بعض الفترات المأزومة التي‬
‫وهي التي أطلق عليها صفة "الشجن ّية"‪ :‬لقد اختار نكات وصرخات‪،‬‬
‫نسجل عليه أي‬‫بالمشاهد إلى ذروتها وجعلها تتصادم‪ .‬ولكننا ال ّ‬ ‫ودفع َ‬
‫اعتراض‪ .‬لن ُعدْ إلى ما قبل تاريخ السينما وإلى المثال الشهير عن عَدْ و‬
‫ال َف َرس‪ :‬لم يفكَّك هذا ال َعدو تمام ًا ّإل بالتسجيالت التصويرية التي قام‬
‫بها ماريه )‪ (Marey‬والصور الفورية المتراصفة التي قام بها مويبريدج‬
‫)‪ ،(Muybridge‬وكلها تنقل خبب الفرس إلى نقطة مع ّينة‪ .‬وإذا اخترنا‬
‫ج ّيد ًا الصور المتراصفة لوجب علينا أن نُصادف لحظات رائعة‪ ،‬أي‬
‫عندما يضع الحصان قائم ًة فوق األرض‪ ،‬ثم ثالث قوائم‪ ،‬وقائمتين‪،‬‬

‫‪22‬‬
‫نسمي هذه اللحظات لحظات متم ّيزة؛‬ ‫وثالث ًا‪ ،‬وواحدة‪ .‬ونستطيع أن ّ‬
‫ولكن ليس بمعنى المشاهد والوضعيات العامة التي كانت تميز ال َعدْ َو‬
‫في األشكال القديمة‪ .‬ولم يعد لهذه اللحظات أية ِصلة بالوضعيات‪ ،‬ال‬
‫بل قد تكون مستحيلة تمام ًا كوضعيات‪ .‬وإذا كانت لحظات أثيرة‪ ،‬فألنها‬
‫خاصة بالحركة‪ ،‬وليس ألنها لحظات تح ّين شك ً‬
‫ال‬ ‫نقاط الفتة أو فريدة ّ‬
‫خارق ًا‪ .‬لقد تغ ّير المعنى رأس ًا على عقب‪ .‬فاللحظات البارزة التي تو ّقف‬
‫عندها إيزنشتاين‪ ،‬أو يتو ّقف عندها أي سينمائي آخر‪ ،‬ما زالت لحظات‬
‫عادية؛ ولكن اللحظة العادية قد تكون منتظمة أو فريدة‪ ،‬وقد تكون عادية‬
‫أو الفتة‪ .‬وحين اختار إيزنشتاين لحظات الفتة‪ ،‬فإن هذا لم يمنعه من أن‬
‫يقتبسها من تحليل كامن في الحركة‪ ،‬ال قطع ًا من توليف خارق‪ .‬فاللحظة‬
‫الالفتة أو الفريدة تبقى لحظة عادية كغيرها من اللحظات‪ .‬وهنا يكمن‬
‫الفرق بين الجدلية الحديثة التي ينتمي إليها إيزنشتاين‪ ،‬وبين الجدلية‬
‫القديمة‪ .‬فهذه األخيرة هي نظام األشكال الخارقة التي تتح ّين في‬
‫إنتاج ومجابه ُة النقاط الفريدة الكامنة‬
‫الحركة‪ ،‬في حين أن الحركة هي ُ‬
‫ُ‬
‫والحال أن إنتاج الفرادات هذا (القفزة النوعية) يتم بمراكمة‬ ‫في الحركة‪.‬‬
‫اللحظات المألوفة (العملية الكم ّية)‪ ،‬بحيث تُقتطع اللحظة الفريدة‬
‫من اللحظة المألوفة‪ ،‬فتكون لحظ ًة مألوفة أو غير منتظمة‪ .‬لقد أوضح‬
‫ني" (أو المؤثر) يقتضي وجود "العضوي"‪،‬‬ ‫إيزنشتاين نفسه أن " َ‬
‫الش َج ّ‬
‫شأنه شأن المجمل المن َّظم للحظات العادية التي يجب على ال َق َطعات‬
‫أن تجري فيها(((‪.‬‬

‫ني‪ ،‬انظر‪Sergei Eisenstein, La non-indifférente :‬‬


‫والشج ّ‬
‫َ‬ ‫((( حول العضوي‬
‫‪nature, traduit par Luda et Jean Schnitzer  (Paris : Union Générale D’éditions,‬‬
‫‪[s. d.]).‬‬

‫‪23‬‬
‫نعرف السينما إذ ًا‬
‫اللحظة العادية هي المتراصفة مع لحظة أخرى‪ّ .‬‬
‫على أنها المنظومة التي تعيد إنتاج الحركة عندما ترتبط باللحظة العادية‪.‬‬
‫ولكن هنا تبرز الصعوبة‪ .‬تُرى‪ ،‬ما هي الفائدة من منظومة كهذه؟ من ناحية‬
‫العلم‪ ،‬هي ضئيلة األهمية‪ .‬ذلك أن الثورة العلمية قائمة على التحليل‪.‬‬
‫فإذا وجب ر ّد الحركة إلى اللحظة العادية كي يتم تحليلها‪ ،‬لما رأينا تمام ًا‬
‫أهمية التوليف والتشكيل المجدّ د القائم على المبدأ نفسه‪ ،‬إال إذا ُوجد‬
‫اهتمام غامض بالتوكيد‪ .‬لذا فإن ماريه واألخوين لوميير ما كانوا يثقون‬
‫يتوضح‬‫كثير ًا في اختراع السينما‪ .‬هل كان لها على األقل أهمية فنية؟ لم ّ‬
‫ذلك‪ ،‬ألن الفن استأثر بحقوق توليفة أعلى للحركة‪ ،‬وبقي مرتبط ًا‬
‫بالوضعيات واألشكال التي هجرها العلم‪ .‬إننا إذ ًا في صميم الوضع‬
‫الملتبس للسينما كـ "ف ٍّن صناعي"‪ :‬غير أن هذا ليس فن ًا وليس علم ًا‪.‬‬

‫بيد أن المعاصرين كان بإمكانهم أن يتأ ّثروا بف ّن ّبز الفنون وغ ّير‬


‫في نظام الحركة‪ ،‬وحتى في ف ّن الرسم‪ .‬وعلى األغلب فإن الرقص‬
‫والباليه وف ّن اإليماء تخ ّلوا عن الصور والوضعيات كي ّ‬
‫يحرروا قيم ًا‬
‫غير مطروحة وغير دافعة‪ ،‬قيم ًا كانت تُعيد الحركة إلى اللحظة العادية‪.‬‬
‫وهكذا أصبح الرقص والباليه وفن اإليماء أفعاالً تستطيع االستجابة‬
‫توزع‬
‫ألحداث الوسط االجتماعي للر ّد على حوادث البيئة‪ ،‬أي تستطيع ّ‬
‫النقاط المكانية والزمانية لحدث من األحداث‪ .‬لقد تواطأ كل هذا مع‬
‫السينما‪ .‬ومنذ أن أصبحت هذه سينما ناطقة‪ ،‬فقد أصبحت قادرة على‬
‫أن تجعل الكوميديا الموسيقية أحد أكبر أنواعها‪ ،‬وذلك مع "الفعل‬
‫الراقص" لـ "فريد أستيير" )‪ ،(Fred Astaire‬الذي كان يدور في أي‬

‫‪24‬‬
‫مكان‪ ،‬في وسط الشارع‪ ،‬وبين السيارات‪ ،‬وعلى طول الرصيف(((‪ .‬ولكن‬
‫شارلي شابلن )‪ (Charlie Chaplin‬في السينما الصامتة‪ ،‬كان قد انتزع فن‬
‫اإليماء من ف ّن الوضعيات‪ ،‬وجعله فن ًا إيمائي ًا فاعالً‪ .‬وعلى أولئك الذين‬
‫الموا شارلو )‪(Charlot‬على القيام باستخدام السينما ال بخدمتها‪ ،‬ر ّد‬
‫جان ميتري )‪ (Jean Mitry‬قائالً‪" :‬إنه أعطى اإليماء لون ًا جديد ًا‪ ،‬ووظيفة‬
‫مكانية وزمنية‪ ،‬واستمرار ًا مبني ًا في كل لحظة ولم يعد يتفكّك إال في‬
‫عناصره الكامنة الالفتة‪ ،‬بدالً من أن يرتبط بأشكال محدّ دة مسبق ًا ويجب‬
‫تجسيدها"(((‪.‬‬

‫لقد أثبت برغسون أن السينما تنتمي كلي ًا إلى مفهوم الحركة‬


‫المعاصر هذا‪ .‬بيد أنه‪ ،‬انطالق ًا من ذلك‪ ،‬بدا متر ّدد ًا في اختيار أحد‬
‫الطريقين التاليين‪ :‬كان أحدهما يعيده إلى أطروحته األولى‪ ،‬وكان الثاني‬
‫في المقابل يفتح مسألة جديدة‪ .‬وبحسب الطريق األول‪ ،‬يتمايز مفهومان‬
‫مختلفان جد ًا في نظرتهما إلى العلم‪ ،‬ولكنهما ليسا متماثلين في نتائجهما‬
‫يضطلع بإعادة تشكيل الحركة انطالق ًا من وضعيات‬ ‫ِ‬ ‫تمام ًا‪ .‬وفع ً‬
‫ال هو‬
‫خالدة أو من خالل قطعات ساكنة‪ :‬وفي كلتا الحالتين‪ ،‬تفلت الحركة‬
‫لكلية مفترضين "أن كل شيء معطى"‪ ،‬في حين‬ ‫ٍ‬ ‫من أيدينا ألننا نستسلم‬
‫أن الحركة ال تتم إن لم تكن الحركة معطاة أو غير قابلة ألن تُعطى‪ .‬فما‬
‫أن نصل إلى الكلية في نظام األشكال والوضعيات الخالد‪ ،‬أو في مجمل‬
‫ٍ‬
‫حينئذ ال يعدو الزمن سوى أن يكون صورة للخلود‪،‬‬ ‫اللحظات العادية‪،‬‬

‫‪Arthur Knight, Revue du cinéma, no 10.‬‬ ‫)‪ (5‬‬


‫)‪Jean Mitry, Histoire du cinéma muet, III (Paris: Edition (6‬‬
‫‪Universitaire, 1990) pp. 49-51.‬‬

‫‪25‬‬
‫ٌ‬
‫مكان للحركة الحقيقية(((‪.‬‬ ‫محصلة لمجمل اللحظات‪ ،‬فال يبقى‬ ‫ّ‬ ‫أو‬
‫التصور القديم‬
‫ّ‬ ‫ولكن بدا لبرغسون أن طريق ًا آخر قد انفتح‪ .‬فإذا توافق‬
‫مع الفلسفة القديمة حول فكرة الخلود‪ ،‬فإن المفهوم الحديث والعلم‬
‫الحديث يستدعي فلسفة أخرى‪ .‬فعندما نربط الحركة بعدد من اللحظات‬
‫العادية‪ ،‬يترتّب علينا أن نصبح قادرين على التفكير في إنتاج الحديث‪،‬‬
‫تحول كامل‬‫أي الالفت والفريد‪ ،‬في أية لحظة من هذه اللحظات‪ :‬إنه ّ‬
‫المحصلة‪ ،‬أي أن ُيقدّ م للعلم‬
‫ّ‬ ‫في الفلسفة‪ ،‬وهو ما ابتغاه برغسون في‬
‫الحديث ميتافيزيقا تناسبه ويفتقر إليها‪ ،‬كما يحتاج النصف إلى النصف‬
‫اآلخر(((‪ .‬ولكن هل يسعنا التوقف في هذا الطريق؟ وهل نستطيع أن ننكر‬
‫التحول؟ وأن السينما ليست عام ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫أن الفنون ال تملك القدرة على هذا‬
‫أساسي ًا في هذا الصدد‪ ،‬حتى وإن لم تلعب دور ًا في نشأة وتشكيل هذا‬
‫الفكر الجديد وهذه الطريقة الجديدة في التفكير؟ ها إن برغسون لم يعد‬
‫يكتفي بتأكيد أطروحته األولى حول الحركة‪ .‬ومع أن أطروحة برغسون‬
‫الثانية توقفت في مكان ما من الطريق‪ ،‬إال أنها أتاحت تكوين وجهة نظر‬
‫المتطور ألقدم األوهام‪ ،‬وإنما‬
‫ّ‬ ‫أخرى عن السينما بحيث لن تعود الجهاز‬
‫الجهاز الذي يجب تطويره كي يقدّ م الواقع الجديد‪.‬‬

‫دائم ًا في التطور الخالق يعرض برغسون أطروحته الثالثة‪ .‬ولو‬


‫فجة عنها‪ ،‬لقلنا‪ :‬ليست اللحظة مقطع ًا جامد ًا في‬
‫حاولنا تقديم صيغة ّ‬
‫الحركة فقط‪ ،‬بل الحركة هي المقطع المتحرك للحظة‪ ،‬أي مقطع الكلية‬
‫حصر ًا أو مقطع كُل ّية من الكُل ّيات‪ .‬وهذا يقتضي أن تع ّبر الحركة عن أمر‬

‫‪Bergson, L’évolution créatrice, p. 794 (353).‬‬ ‫ ‬ ‫)‪(7‬‬


‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)343( 786‬‬
‫‪26‬‬
‫أعمق‪ ،‬أال وهو التغ ّير في الديمومة أو في الكُل ّية‪ .‬أن تكون الديمومة هي‬
‫تكف عن التغ ّير‪ .‬إن‬
‫ّ‬ ‫التغيير‪ ،‬فهذا جزء من جوهرها‪ :‬أي أنها تتغ ّير وال‬
‫المادة‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬تتحرك‪ ،‬ولكنها ال تتغ ّير‪ .‬والحال أن الحركة‬
‫تع ّبر عن تغ ّير في الديمومة أو في الكُل ّية‪ .‬وتكمن المشكلة هنا من جهة‬
‫في عبارة "الكُل ّية‪ /‬الديمومة"‪ ،‬وفي تماهيها من جهة أخرى‪.‬‬

‫الحركة هي انتقال في المكان‪ .‬والحال أنه في كل مرة يحدث‬


‫انتقال ألجزاء في المكان‪ ،‬يحدث تغ ّير نوعي أيض ًا في ّ‬
‫الكل‪ .‬وقد أعطى‬
‫برغسون أمثلة عديدة على ذلك في كتابه المادة والذاكرة‪ .‬الحيوان‬
‫يتحرك لالشيء‪ ،‬يتحرك ليأكل أو ليهاجر‪ ...‬إلخ‪ .‬كأن‬
‫يتحرك‪ ،‬ولكنه ال ّ‬
‫أخذت في‬
‫ُ‬ ‫الحركة تفترض فرق ًا في الطاقة‪ ،‬وتُقدم على ردمه‪ .‬فإذا ما‬
‫المجرد عدد ًا من األجزاء واألماكن‪ ،‬هي ‪ A‬و‪ ،B‬فإني ال أفهم‬
‫ّ‬ ‫االعتبار‬
‫وأتضور‬
‫ّ‬ ‫الحركة التي تذهب من أحدهما إلى اآلخر‪ .‬ولكنني في ‪،A‬‬
‫جوع ًا‪ ،‬وأعلم أن هناك طعام ًا في ‪ .B‬وعندما وصلت إلى ‪ B‬وأكلت‪،‬‬
‫ما تغ ّير ليست حالتي فقط‪ ،‬وإنما حالة ‪ A‬و‪ B‬كليهما وجميع ما ُوجد‬
‫بينهما‪ .‬وعندما تجاوز آخيل السلحفاة‪ ،‬ما تَغ ّير هو الوضع العام الذي‬
‫كان يحيط بالسلحفاة وبآخيل وبالمسافة بينهما‪ .‬الحركة تُحيل دائم ًا إلى‬
‫تغ ّير‪ ،‬والهجرة تحيل دائم ًا إلى تغ ّير الفصول‪ .‬وهذا ّ‬
‫يصح على األجساد‪:‬‬
‫فسقوط جسم من األجسام يفترض وجود جسم يجذبه‪ ،‬ويع ّبر عن تغ ّير‬
‫ذرات صرفة‪ ،‬فإن حركاتها‬ ‫في ّ‬
‫الكل الذي يشمل الجزأين‪ .‬وحين نتخ ّيل ّ‬
‫التي ّ‬
‫تدل على فعل متبادل بين جميع أجزاء المادة تع ّبر بالضرورة عن‬
‫تبدّ الت واضطرابات وتغ ّيرات طاق ّية داخل الكل‪ .‬وما اكتشفه برغسون‬

‫‪27‬‬
‫ُ‬
‫التذبذب واإلشعاع‪ .‬وخطؤنا نحن هو أننا نعتقد‬ ‫خلف االنتقال إنما هو‬
‫يتحرك ليس سوى عناصر عادية خارجية في خواص األجسام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بأن ما‬
‫تتحرك هذه‬
‫ولكن هذه الخواص بالذات هي اهتزازات صرفة تتغ ّير كلما ّ‬
‫العناصر المزعومة(((‪.‬‬

‫في كتاب التطور الخالق‪ ،‬قدّ م برغسون مثاالً مشهور ًا جد ًا ما يزال‬


‫علي‬
‫يثير دهشتنا‪ .‬قال‪ :‬عندما أضع السكّر داخل كوب من الماء‪" ،‬يجب َّ‬
‫أن أنتظر حتى يذوب السكر"(‪ .((1‬والغريب أن برغسون‪ ،‬على الرغم من‬
‫يسرع الذوبان‪.‬‬‫كل شيء‪ ،‬بدا وكأنه نسي أن تحريك الملعقة يستطيع أن ّ‬
‫ولكن ماذا يريد أن يقوله في المقام األول؟ أراد أن يقول إن حركة النقل‬
‫التي تفصل بين ذرات السكر والتي تتركها مع ّلقة في الماء تع ّبر هي ذاتها‬
‫نقلة نوعية في حالة‬‫الكل‪ ،‬أي في محتوى الكوب‪ ،‬وعن ٍ‬ ‫عن تغ ّير في ّ‬
‫أسرع‬‫كت الملعقة‪ ،‬فإنني ّ‬
‫حر ُ‬‫الماء الذي يوجد في داخله سكّر‪ .‬فإذا ّ‬
‫يضم اآلن الملعقة؛ فالحركة‬
‫ّ‬ ‫الحركة‪ ،‬ولكنني أغ ّير أيض ًا الكل الذي‬
‫المتسارعة تستمر في التعبير عن تغ ّير الكل‪" .‬إن التنقالت السطحية جد ًا‬
‫في الكتل والجزيئات؛ والتي تدرسها الفيزياء والكيمياء‪ ،‬تصبح‪ ،‬بالنسبة‬
‫تحول وليست‬
‫لهذه الحركة الحيوية التي تتم في العمق‪ ،‬والتي هي بمثابة ّ‬
‫بمثابة انتقال‪ ،‬مشابه ًة لموقف جسم متحرك مقارنة بحركة هذا الجسم‬
‫في المكان"(‪.((1‬‬

‫((( حول مجيع هذه النقاط‪ ،‬انظر‪Henri Bergson, Matière et mémoire, ch. :‬‬
‫‪IV, pp. 332-340 (220-230).‬‬
‫‪Bergson, L’évolution créatrice, p. 502 (9-10).‬‬ ‫)‪(10‬‬
‫(‪ ((1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)32( 521‬‬
‫‪28‬‬
‫حركة بمثابة مقطع متحرك‬ ‫قطعات ساكنة‬
‫=‬
‫تغ ّير نوعي‬ ‫حركة‬

‫هذا مع الفارق القائل بأن عالقة الشطر األيسر تع ّبر عن وهم‪ ،‬وبأن عالقة‬
‫الشطر األيمن تع ّبر عن واقع‪.‬‬

‫ما أراد برغسون أن يقوله تحديد ًا حول كوب الماء المح ّلى‪،‬‬
‫هو أن انتظاري ‪ -‬ومهما كان نوعه ‪ -‬يع ّبر عن ديمومة تم ّثل واقع ًا ذهني ًا‬
‫وروحي ًا‪ .‬ولكن عن ماذا تع ّبر هذه الديمومة الروحية‪ ،‬ال بالنسبة لي أنا‬
‫الذي أنتظر فقط‪ ،‬بل بالنسبة إلى الكل الذي يتغ ّير؟ كان برغسون يقول‪:‬‬
‫ال ُيعطى الكل وال يمكن أن يعطى (وخطأ العلم الحديث‪ ،‬شأنه شأن‬
‫العلم القديم‪ ،‬هو أنه يعطي لنفسه كل شيء‪ ،‬ولكن بطريقتين متباينتين)‪.‬‬
‫كان العديد من الفالسفة قد قالوا إن الكل ال يعطى وال يمكن أن يعطى؛‬
‫مجرد من المعنى‪ .‬أما ما‬ ‫الكل مفهوم ّ‬ ‫واستخلصوا من ذلك فقط أن ّ‬
‫استخلصه برغسون فشديد االختالف‪ :‬إذا كان الكل ال يمكن أن يعطى‪،‬‬
‫فألنه المفتوح بامتياز‪( ،‬المشترك بين الجميع)‪ ،‬وأن من خاصيته أن‬
‫يتغ ّير من دون انقطاع وأن يخلق شيئ ًا جديد ًا‪ ،‬أي أنه بوجيز العبارة يخلق‬
‫ديمومة‪" .‬إن ديمومة الكون ومدى اإلبداع الكامن فيه ال يؤلفان إال شيئ ًا‬
‫واحد ًا"(‪ .((1‬فكلما ُوجدنا أمام ديمومة أو في ديمومة يمكننا الجزم بوجود‬
‫كل يتغ ّير و ُيفضي إلى مكان‪ .‬من المعروف جد ًا أن برغسون قد اكتشف‬ ‫ٍّ‬
‫أن الديمومة مماثلة للوعي‪ .‬غير أن دراسة الوعي المستفيضة دفعته‬

‫(‪ ((1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪)339( 782‬‬


‫‪29‬‬
‫إلى أن ُيثبت بأن ال وجود لهذا الوعي إال إذا انفتح على الكل‪ ،‬وإال إذا‬
‫تماشى مع انفتاح هذا الكل‪ .‬وهذه أيض ًا حالة الكائن الحي‪ :‬عندما قارن‬
‫برغسون الكائن الحي ٍّ‬
‫بكل أو بكل ّية الكون‪ ،‬بدا وكأنه استعاد المقارنة‬
‫األشد قدم ًا(‪ .((1‬ومع ذلك فقد قلب حدودها كلي ًا‪ .‬ذلك أن الكائن الحي‬
‫ال بالتالي لالنصهار في كل ّية الكون‪ ،‬فليس ألنه كون‬ ‫إذا كان كالً‪ ،‬وقاب ً‬
‫انغالق الكل ‪ -‬كما يفترض ‪ -‬بل على العكس من ذلك‬ ‫َ‬ ‫مص ّغر ومنغلق‬
‫ألنه مفتوح على عالم‪ ،‬وألن العالم والكون هو نفسه المفتوح بامتياز‪.‬‬
‫يدون فيه الزمان"(‪.((1‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ٍ‬
‫سجل َّ‬ ‫مكان ما‬ ‫"فحيثما ُوجد شيء حي‪ ،‬يكون في‬

‫لعرفناه من خالل العالقة‪ .‬ذلك‬


‫نعرف الكل‪ّ ،‬‬ ‫إذا وجب علينا أن ّ‬
‫أن العالقة ليست ِسمة خاصة باألشياء‪ ،‬ألنها تخرج دائم ًا عن حدود هذه‬
‫السمة‪ .‬وكذلك ال يمكن فصلها عن المفتوح‪ ،‬ولها وجود روحي أو‬
‫ذهني‪ .‬ال تنتمي العالقات إلى األشياء‪ ،‬بل إلى الكل بشرط أال ِ‬
‫نخلط بينه‬
‫وبين مجموعة مغلقة من األشياء(‪ .((1‬فمن خالل الحركة داخل المكان‪،‬‬
‫نرى أن أشياء مجموعة من المجموعات تغ ّير أماكنها الخاصة بها‪ .‬ولكن‬
‫يتحول الكل أو يغ ّير صفته‪ .‬بل عن الديمومة أو عن‬
‫من طريق العالقات‪ّ ،‬‬
‫الزمن نستطيع القول إنهما يم ّثالن جملة العالقات‪.‬‬

‫(‪ ((1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)15( 507‬‬


‫(‪ ((1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ .)16( 508‬التشابه الوحيد والالفت بني برغسون‬
‫وهيدغر هو التايل‪ :‬كالمها أرسيا خاص ّية الزمان عىل مفهوم االنفتاح‪.‬‬
‫(‪ ((1‬نُدرج هنا مشكلة العالقات‪ ،‬مع أن برغسون مل يطرحها رصاحة‪ .‬ونعلم أن‬
‫العالقة بني شيئني ال يمكن اختزاهلا إىل صفة هذا اليشء أو ذاك‪ ،‬كام ال يمكن اختزاهلا إىل‬
‫عي وجيهة جد ًا‬ ‫ِصفة تعود إىل املجموعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن إمكانية ربط العالقات ٍّ‬
‫بكل ُم َّ ٍ‬
‫الكل ّ‬
‫ككل «مستمر» ال كمجموعة مع ّينة‪.‬‬ ‫إذا نظرنا إىل هذا ّ‬
‫‪30‬‬
‫ينبغي أال نخلط بين الك ُّل و"الكُل ّيات" وبين "المجموعات"‪.‬‬
‫ذلك أن المجموعات مغلقة وكل ما هو مغلق هو مغلق اصطناعي ًا؛ وأن‬
‫الكل ليس مغلق ًا‪ ،‬وإنما‬ ‫ٍ‬
‫أجزاء‪ .‬ولكن ّ‬ ‫مجموعات‬ ‫المجموعات هي دائم ًا‬
‫ُ‬
‫يقسم من‬ ‫مفتوح‪ ،‬وليست له أجزاء ‪ -‬إال بمعنى خاص جد ًا ‪ -‬ألنه ال ّ‬
‫دون أن تتغ ّير طبيعته في كل مرحلة من مراحل التقسيم‪" .‬يستطيع ّ‬
‫الكل‬
‫الحقيقي أن يكون ديمومة ال تقبل القسمة"(‪ .((1‬الكل ليس مجموعة مغلقة‪،‬‬
‫ولكنه على العكس من ذلك يكون المجموعة التي ال تغلق إطالق ًا وتتمتّع‬
‫بحماية كاملة‪ ،‬مما يبقيه مفتوح ًا في جانب من جوانبه‪ ،‬فيكون بمثابة خيط‬
‫رفيع يربطه بباقي الكون‪ .‬إن كأس الماء هو مجموعة ُمغلقة تحتوي على‬
‫الكل‪ّ .‬‬
‫الكل‬ ‫أجزاء هي الماء والسكر وربما الملعقة؛ ولكن ذلك ليس هو ّ‬
‫التكون في بعد آخر من دون أجزاء‪ ،‬شأنه في ذلك‬ ‫ّ‬ ‫يكف عن‬
‫ّ‬ ‫يتكون وال‬
‫شأن ما ينقل المجموعة من حالة نوعية إلى حالة أخرى‪ ،‬كأنه الصيرورة‬
‫تمر في هذه الحاالت‪ .‬وبهذا المعنى يكون‬ ‫الخالصة التي ال تتو ّقف والتي ّ‬
‫الكل روحي ًا أو ذهني ًا‪" .‬فكأس الماء والسكّر وعملية ذوبان السكر في‬ ‫ّ‬
‫الكل المطلق الذي ُقطعت فيه بواسطة‬ ‫الماء هي بالتأكيد تجريدات‪ ،‬أما ّ‬
‫حواسي وإدراكي فيتقدّ م ربما على ِغرار وعي ما"(‪ ((1‬يبقى أن هذا التقطيع‬
‫االصطناعي لمجموعة من المجموعات أو لمنظومة مغلقة‪ ،‬ليس وهم ًا‬
‫كل شيء‬ ‫مبرراته الوجيهة‪ ،‬وإذا كانت العالقة بين ّ‬
‫محض ًا‪ .‬إنه تقطيع له ّ‬
‫ّ‬
‫والكل (أي تلك العالقة المفارقة التي تربطه بما هو مفتوح) هي عالقة‬
‫َعص ّية على االنفصام‪ ،‬بوسعها على األقل أن تتمدّ د وتتطاول إلى ما ال‬

‫)‪Bergson, L’évolution créatrice, p. 520 (31‬‬ ‫)‪(16‬‬ ‫‪6‬‬

‫(‪ ((1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)11-10( 503-502‬‬


‫‪31‬‬
‫نهاية وأن تزداد د ّقة‪ .‬ذلك أن تنظيم المادة يمكّن المنظومات المغلقة أو‬
‫المجموعات ذات األجزاء المحددة‪ ،‬ويجعلها امتدا ُد المكان ضروري ًة‪.‬‬
‫ولكن المجموعات هي ‪ -‬بصورة أدق ‪ -‬موجودة في المكان‪ ،‬بينما تكون‬
‫ّ‬
‫والكل في الديمومة‪ ،‬ال بل تكون الديمومة بالذات بما أنها ال‬ ‫الكل ّيات‬
‫تتو ّقف عن التبدّ ل‪ .‬فتكون الصيغتان اللتان تتناسبان مع األطروحة األولى‬
‫لبرغسون صيغتين تحظيان بوضع أكثر دقة‪ :‬فتحيل الصيغة األولى "أي‬
‫المجرد" إلى المجموعات المغلقة التي تكون‬
‫ّ‬ ‫التقطيعات الثابتة ‪ +‬الزمن‬
‫أجزاؤها مقاطع ثابتة‪ ،‬وتُحتسب حاالتها المتعاقبة على زمن مجرد؛ في‬
‫حين أن الصيغة الثانية "أي الحركة الفعلية ← الديمومة العينية" تحيل‬
‫متحركة تخترق‬
‫ّ‬ ‫إلى االنفتاح على ٍّ‬
‫كل له استدامة‪ ،‬فتكون حركاته مقاطع‬
‫المنظومات المغلقة‪.‬‬

‫في ختام هذه األطروحة الثالثة‪ ،‬نجد أنفسنا في الواقع على‬


‫ثالثة مستويات‪ )1 :‬المجموعات أو المنظومات المغلقة‪ ،‬التي‬
‫تُتحدّ د من خالل أشياء يمكن تب ّينها أو من خالل أجزاء متمايزة؛‬
‫تتم بين هذه األشياء وتغ ّير في وضع كل منها؛‬ ‫‪ )2‬حركة االنتقال التي ّ‬
‫‪ )3‬الديمومة أو الكل‪ ،‬أي الواقع الروحي الذي ال يتوقف عن التغ ّير تبع ًا‬
‫لعالقاته الخاصة به‪.‬‬

‫للحركة إذ ًا وجهان نوع ًا ما‪ .‬فمن جهة‪ ،‬هي ما يحدث بين األشياء‬
‫أو األجزاء‪ ،‬ومن جهة أخرى هي ما يع ّبر عن الديمومة أو عن ّ‬
‫الكل‪ .‬فعندما‬
‫تتغ ّير طبيعة الديمومة‪ ،‬تجعلها الحرك ُة تنقسم داخل األشياء‪ ،‬وعندما‬
‫تتجمع داخل الديمومة‪ .‬سيقال إذ ًا إن‬
‫ّ‬ ‫تتعمق األشياء وتفقد حدودها‬
‫ّ‬
‫الحركة تربط أشياء منظومة مغلقة بالديمومة المفتوحة‪ ،‬وتربط الديمومة‬
‫‪32‬‬
‫تستقر هي‬ ‫ٍ‬
‫منظومة تُرغمها على االنفتاح‪ .‬تربط الحركة األشياء التي‬ ‫بأشياء‬
‫ُّ‬
‫بالكل المتغ ّير الذي تع ّبر عنه‪ ،‬والعكس صحيح‪ .‬فبالحركة‬ ‫ّ‬ ‫في داخلها‪،‬‬
‫الكل في األشياء وتجتمع األشياء في ّ‬
‫الكل‪ :‬وبينهما كليهما‪ ،‬يتغ ّير‬ ‫ينقسم ّ‬
‫الكل"‪ .‬نستطيع النظر في األشياء أو األجزاء التي تشكّل مجموعة مع ّينة‬ ‫" ّ‬
‫تدب بين هذه القطعات‪ ،‬فتربط بين‬ ‫كـ "قطعات ساكنة"؛ ولكن الحركة ّ‬
‫كل يتغ ّير‪ ،‬فتع ّبر إذ ًا عن تغ ّير في ّ‬
‫الكل‬ ‫األشياء أو األجزاء وبين ديمومة ٍّ‬
‫نسب ًة إلى األشياء‪ ،‬فتكون هي بالذات قطع ًا متحرك ًا للديمومة‪ .‬نستطيع‬
‫اآلن أن نفهم األطروحة العميقة جد ًا التي وردت في الفصل األول‬
‫من كتاب المادة والذاكرة‪ )1 :‬ال توجد صور لحظ ّية فقط‪ ،‬أي مقاطع‬
‫ساكنة للحركة؛ ‪ )2‬توجد صور‪ /‬حركة هي مقاطع متحركة للديمومة؛‬
‫‪ )3‬أخير ًا توجد صور‪ /‬زمن‪ ،‬أي صور‪ /‬ديمومة وصور‪ /‬تغ ّير‪ ،‬وصور‪/‬‬
‫عالقة‪ ،‬وصور‪ /‬حجم‪ ،‬تكون خلف الحركة بالذات‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الف�صل الثاني‬
‫الإطار واللقطة‪ ،‬الت�أطري والتقطيع‬
‫‪)1‬‬

‫لننطلق من التعريفات البسيطة جد ًا‪ ،‬على أن نصححها الحق ًا‪.‬‬


‫نطلق كلمة تأطير على تحديد منظومة مغلقة‪ ،‬مغلقة نسبي ًا‪ ،‬وتشمل كل ما‬
‫هو ماثل في الصورة‪ :‬الديكورات والشخصيات واألكسسوارات‪ .‬يشكل‬
‫اإلطار (الكادر) إذ ًا مجموعة لها عدد كبير من األجزاء‪ ،‬أي العناصر التي‬
‫تدخل في المجموعات الفرعية‪ .‬نستطيع أن نحصيها‪ .‬وبالطبع تكون هذه‬ ‫ُ‬
‫يسميها أشياء‪/‬‬
‫األجزاء نفسها في صورة‪ .‬وهذا ما دفع ياكوبسون الى أن ّ‬
‫وسماها بازوليني )‪ُ (Pasolini‬سنَ ْيمات )‪ .(Cinèmes‬ولكن‬
‫ّ‬ ‫عالمات‪،‬‬
‫السنيمات‬ ‫هذه المصطلحات تستدعي بعض المقاربات اللغوية (فتكون ُ‬
‫كالصوتيات‪ ،‬وتكون اللقطة مثل المونيم )‪ )(monème‬والذي هو غير‬
‫ضروري(((‪ .‬فإذا كان للكادر نظير‪ ،‬فسيكون في المنظومة المعلوماتية‬
‫أكثر منه في المنظومة األلسنية‪ .‬والعناصر هي معطيات عديدة أحيان ًا‬

‫((( انظر‪:‬‬
‫‪Pier Paolo Pasolini, L'expérience hérétique, traduit de l'italien par Anna‬‬
‫‪Rocchi Pullberg (Paris: Payot, 1976), pp. 263-265.‬‬

‫‪35‬‬
‫وقليلة أحيان ًا أخرى‪ .‬وال يمكن بالتالي ُ‬
‫فصل اإلطار عن هاتين النزعتين‪،‬‬
‫إما إلى اإلشباع وإما إلى الندرة‪ .‬ويجب التنويه بأن الشاشة الكبيرة وعمق‬
‫مجال الصورة قد مكّنا من مضاعفة أعداد المعطيات المستقلة بحيث‬
‫يكون المشهد الثانوي في مقدّ مة الصورة في حين أن المشهد الرئيسي‬
‫يجري في خلفيتها )‪ (Wyler‬أو ال يعود بمستطاعنا أن نم ّيز بين الرئيسي‬
‫والثانوي )‪ .(Altman‬وعلى العكس من ذلك‪ ،‬تظهر الصور النادرة‪،‬‬
‫إما عندما نشدّ د على شيء واحد (عند هيتشكوك )‪ ،(Hitchcock‬كأس‬
‫المضاء من الداخل‪ ،‬كما في فيلم شكوك )‪ ،(Soupçons‬أو‬ ‫الحليب ُ‬
‫جمرة السيجارة في المستطيل األسود للنافذة‪ ،‬كما في فيلم نافذة مط ّلة‬
‫ُفرغ المجموعة من بعض‬ ‫على فناء )‪ )(Fenêtre sur cour‬أو عندما ت َّ‬
‫المجموعات الفرعية (كما في المناظر الطبيعية الصحراوية عند مايكل‬
‫أنجيلو أنطونيوني )‪ (Michelangelo Antonioni‬والمنازل الخالية (في‬
‫أفالم ياسوجيرو أوزو )‪ .)(Yasujizo Ozu‬وقد تتم النُدرة القصوى مع‬
‫المجموعة الفارغة‪ ،‬عندما تصبح الشاشة سوداء كلي ًا أو بيضاء كلي ًا‪ .‬وقدّ م‬
‫هيتشكوك مثاالً على ذلك في فيلم منزل الدكتور إدواردز ‪(La maison‬‬
‫كأس حليب آخر‪ ،‬فلم يترك إال‬ ‫)‪ du Dr. Edwards‬عندما اجتاح الشاشة ُ‬
‫صورة بيضاء فارغة‪ .‬ولكن في حالتي الندرة أو اإلشباع‪ ،‬يع ّلمنا الكادر‬
‫أن وجود الصورة ال يهدف فقط إلى المشاهدة‪ ،‬فهي مقروءة بقدر ما هي‬
‫المضمرة‪ :‬أن يسجل المعلومات الصوتية‬ ‫مرئية‪ .‬فللكادر هذه الوظيفة ُ‬
‫ال من األشياء في الصورة‪ ،‬فألننا ال نُحسن‬‫وأيض ًا البصرية‪ .‬فإذا رأينا قلي ً‬
‫قراءتها كما يجب‪ ،‬وألننا ال نُحسن تقدير قيمة الندرة أو اإلشباع‪ .‬ال بدّ‬
‫التدرب على الصورة‪ ،‬وال س ّيما في أفالم غودار عندما تظهر هذه‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫الوظيفة بكل جالء‪ ،‬وعندما يصلح الكادر لمساحة من المعلومات‬
‫‪36‬‬
‫الكتيمة‪ ،‬فتكون تارة ضبابية باإلشباع‪ ،‬وطور ًا مختزلة إلى المجموعة‬
‫الفارغة‪ ،‬على الشاشة باللونين األبيض أو األسود(((‪.‬‬
‫في المقام الثاني‪ ،‬كان الكادر على الدوام هندسي ًا أو فيزيائي ًا‪،‬‬
‫حسبما يؤ ّلف المنظومة المغلقة نسبة إلى مترابطات مختارة أو إلى‬
‫متغ ّيرات منتخبة‪ .‬فتارة ُينظر إلى الكادر كتركيب مكاني مؤ ّلف من خطوط‬
‫متوازية ومائلة‪ ،‬كتكوين لوعاء بحيث تجد الكتل وخطوط الصورة التي‬
‫ش ّغلتْه على الفور‪ ،‬توازن ًا لها‪ ،‬فتكون حركاتها أحدى ثوابته‪ .‬نجد هذا‬
‫غالب ًا عند كارل دريير )‪ ،(Carl Dreyer‬ويبدو أن أنطونيوني قد ذهب إلى‬
‫التصور الهندسي للكادر الذي راح ينخرط فيه‪ .‬راجع فيلم‬ ‫ّ‬ ‫أقاصي هذا‬
‫يتحرك‬‫ّ‬ ‫الكسوف((( )‪ .(L’éclipse‬وطور ًا ُينظر إلى الكادر كبناء دينامي‬
‫بالفعل‪ ،‬ويرتبط ارتباط ًا وثيق ًا بالمشهد والشخصيات واألشياء التي‬
‫تمأله‪ .‬وهذا ما نالحظه في أسلوب قزحية العين عند غريفيث )‪(Griffith‬‬
‫ثم ينفتح و ُيظهر البيئة المحيطة؛ وكذلك في‬ ‫الذي يعزل في البداية وجه ًا‪ّ ،‬‬
‫أبحاث إيزنشتاين المستوحاة من الرسوم اليابانية التي توائم بين الكادر‬
‫والموضوع؛ وكذلك أيض ًا في شاشة غرانس )‪ (Grance‬المتحركة التي‬
‫تنفتح وتنغلق "بحسب الضرورات الدرامية" فتكون مثل "أكورديون‬
‫بصري"‪ :‬على هذا النحو جرت في البداية محاولة التنويعات الدينامية‬

‫((( ‪Noël Burch, Une praxis du cinéma (Paris: Gallimard, 1986), p. 86:‬‬
‫ وذلك عىل شاشة األسود أو األبيض‪ ،‬عندما ال يعمل عن بعد من طريق‬
‫التنقيط فقط‪ ،‬بل عندما يأخذ «قيمة بنيوية»‪.‬‬
‫((( ‪Claude Ollier, Souvenirs écran, Cahiers du Cinéma (Paris:‬‬
‫‪Gallimard, 1981), p. 88,‬‬
‫وهذا ما ح ّلله بازوليني واعتربه «تأطري ًا هوسي ًا» عند أنطونيوين ‪(Pasolini, L’expérience‬‬
‫‪hérétique, p. 148).‬‬

‫‪37‬‬
‫للكادر‪ .‬وفي جميع األحوال‪ ،‬التأطير هو حدّ وحصر(((‪ .‬ولكن‪ ،‬بحسب‬
‫المفهوم نفسه‪ ،‬يمكن النظر إلى الحدود بطريقتين‪ ،‬طريقة رياضية أو‬
‫طريقة دينامية‪ :‬فتارة تسبق وجود األجسام التي تث ّبت ماهيتها‪ ،‬وطور ًا‬
‫قوة الجسم‪ .‬ومنذ حقبة الفلسفة‬
‫تذهب هذه الحدود إلى حيث توجد ّ‬
‫الكالسيكية‪ ،‬كان هذا أحد أوجه التعارض الرئيسية بين األفالطونيين‬
‫والرواقيين‪.‬‬

‫يكون الكادر هندسي ًا أو فيزيائي ًا على نحو مختلف أيض ًا‪ ،‬وذلك‬
‫آن واحد‪ .‬في‬‫بالنسبة ألجزاء المنظومة التي يفصل أو يجمع بينها في ٍ‬
‫الحالة األولى‪ ،‬ال ينفصل الكادر عن التمايزات الهندسية الصلبة‪ .‬ويظهر‬
‫التعصب )‪ (Intolérance‬الذي أخرجه‬
‫ّ‬ ‫ذلك في صورة رائعة في فيلم‬
‫غريفيث‪ ،‬وهذه الصورة تقطع الشاشة وفق ًا لخط عمودي يتماشى مع‬
‫سور مدينة بابل‪ ،‬أما في الجهة اليمنى من الصورة فنرى الملك يتقدّ م‬
‫على خط أفقي علوي فوق طريق يعلو السور‪ ،‬وفي الجهة اليسرى نرى‬
‫العربات تنطلق وتعود على خط أفقي منخفض يالمس أبواب المدينة‪.‬‬
‫أما إيزنشتاين فقد درس آثار ال َقطع الذهبي على الصورة السينمائية‪.‬‬
‫واستكشف دريير الخطوط األفقية والعمودية‪ ،‬والتناظرات‪ ،‬وأعلى‬
‫وطور السينمائيون‬
‫الكادر وأسفله‪ ،‬والتناوبات بين األسود واألبيض‪ّ ،‬‬
‫التعبيريون المنحرفات والمنحرفات المعكوسة‪ ،‬واألشكال الهرمية أو‬
‫المث ّلثة التي تكتّل األجسام والحشود واألماكن‪ ،‬وتصادم هذه الكتل‪،‬‬

‫((( يف دراسة منشورة لدومينيك فيالن )‪ (Dominique Villain‬مؤ ّلفة من‬


‫حي ّلل هذين املفهومني للتأطري ‪(Le‬‬
‫مقابالت أجراها مع عدد من مهنديس الكادر‪،‬‬
‫‪cadrage cinématographique).‬‬

‫‪38‬‬
‫واستكشفوا رصف ًا كام ً‬
‫ال للكادر "الذي ترتسم فيه المربعات السوداء‬
‫والبيضاء لرقعة الشطرنج" (راجع فيلمي النيبيلونغن )‪(Nibelungen‬‬
‫وميتروبوليس )‪ (Metropolis‬لفريتز النغ((( )‪ .)(Fritz Lang‬وحتى‬
‫الضوء يكون هدف ًا لمنظور هندسي‪ ،‬عندما ينتظم مع الظلمة في جزأين‬
‫متساويين‪ ،‬أو ينتظم في خطوط متعاقبة بحسب اتجاه من اتجاهات‬
‫التعبيرية (كما نرى ذلك في أفالم روبرت فيني )‪(Robert Wiene‬‬
‫والنغ)‪ .‬وبالطبع فإن الخطوط الفاصلة بين العناصر الكبرى للطبيعة‬
‫تلعب دور ًا أساسي ًا‪ ،‬كما نشاهد ذلك في مناظر السماء في أفالم جون‬
‫فورد )‪ :(John Ford‬إذ تنفصل السماء عن األرض وترتد األرض إلى‬
‫أسفل الشاشة‪ .‬ولكننا نشاهد أيض ًا الفصل بين الماء واليابسة أو الخيط‬
‫الرفيع الذي يفصل بين الهواء والماء‪ ،‬عندما يخفي الماء في قاعه شخص ًا‬
‫هارب ًا‪ ،‬أو عندما يخنق ضحية عند حدّ المسطح (فيلم أنا هارب ‪(Je suis‬‬
‫)‪ un évadé‬للمخرج لو روي )‪ ،(Le Roy‬وفيلم عشيرة المتصلبين ‪(Le‬‬
‫)‪ clan des irréductibles‬للمخرج نيومان )‪ .)(Newman‬وكقاعدة‬
‫عامة‪ ،‬ال تؤطر قوى الطبيعة بالطريقة ذاتها التي تؤ ّطر فيها الشخصيات‬
‫أو األشياء‪ ،‬كذلك تختلف طريقة التأطير لألفراد والحشود‪ ،‬ويختلف‬
‫تأطير العناصر الفرعية والنهايات‪ .‬فتكون داخل الكادر الواحد كادرات‬
‫مختلفة‪ .‬فاألبواب والنوافذ والكوى والقمريات ونوافذ السيارات‬
‫والمرايا هي كادرات في الكادر‪ .‬ونجد لدى كبار المخرجين تآلف ًا خاص ًا‬
‫مع هذا أو ذاك من تلك الكوادر التي هي من الدرجة الثانية أو الثالثة‪...‬‬

‫((( ‪Lotte Eisner, L’écran démoniaque (Paris: Encyclopédie du cinéma,‬‬


‫‪[s. d.]), p. 124.‬‬

‫‪39‬‬
‫إلخ‪ .‬ومن خالل هذا التداخل بين الكادرات تنفصل أجزاء المجموعة أو‬
‫وتتجمع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المنظومة المغلقة‪ ،‬ولكنها تتواطأ أيض ًا في ما بينها‬

‫من الناحية األخرى‪ ،‬يستدعي المفهوم الفيزيائي والدينامي للكادر‬


‫مجموعات غامضة لم تعد تنقسم إلى مناطق أو أماكن‪ .‬فلم يعد الكادر‬
‫تدرجات فيزيائية‪ .‬تكون األجزاء‬
‫موضع تقسيمات هندسية بل موضع ّ‬
‫المك ّثفة بمثابة أجزاء المجموعة‪ ،‬والمجموعة ذاتها هي بمثابة خليط ّ‬
‫يمر‬
‫ويمر في تدرجات ّ‬
‫الظل جميعها والنور وفي جميع‬ ‫ّ‬ ‫في جميع األجزاء‪،‬‬
‫درجات س ّلم االنتقال من المضيء إلى المعتم (كما عند بول فيغينر‬
‫)‪ (Paul Wegener‬وفريدريش فيلهلم مورناو ‪(Friedrich Wilhelm‬‬
‫)‪ .)Murnau‬وهذا يم ّثل االتجاه اآلخر للمنظور التعبيري‪ ،‬مع أن بعض‬
‫المخرجين يشتركون في تياري التعبيرية كليهما‪ ،‬من داخل المدرسة‬
‫التعبيرية ومن خارجها‪ .‬وهنا لم نعد نستطيع التمييز بين الفجر والغسق‪،‬‬
‫وبين الهواء والماء‪ ،‬وبين الماء واليابسة‪ ،‬داخل مزيج كبير بين المستنقع‬
‫والعاصفة(((‪ .‬وعبر درجات المزيج هذا تتمايز األجزاء وتختلط ببعضها‪،‬‬
‫في تحول للقيم ال يتوقف‪ .‬فال تنقسم المجموعة إلى أجزاء من دون أن‬
‫تغ ّير شيئ ًا من طبيعتها كل مرة‪ :‬فال تقبل المجموعة القسمة وليست جلمود ًا‬
‫ال ينقسم‪ ،‬بل هي "تذريرية"‪ .‬صحيح أن هذه الحالة ُوجدت في التصميم‬
‫الهندسي‪ :‬فكان تراكُب الكادرات هو الذي يع ّبر عن تغ ّيراتها النوعية‪.‬‬
‫الصورة السينمائية هي دائم ًا صورة تذريرية‪ .‬والسبب األساسي لذلك هو‬
‫أن الشاشة ‪ -‬ككادر لكل الكادرات ‪ -‬تُعطي مقياس ًا مشترك ًا للكادر الذي‬

‫‪M. Bouvier et J. L. Leutrat, Nosferatu, Cahiers du Cinéma‬‬ ‫((( انظر‪:‬‬


‫‪(Paris: Gallimard, 1981), pp. 75-76.‬‬

‫‪40‬‬
‫يفتقر إلى مقياس‪ :‬لقطة بعيدة لمنظر طبيعي ولقطة قريبة لوجه من الوجوه‪،‬‬
‫منظومة فلكية ونقطة ماء‪ ،‬وهي أجزاء ليس لها قاسم مشترك واحد في‬
‫المسافة والتضاريس والضوء‪ .‬والكادر‪ ،‬في هذه المعاني جميعها‪ ،‬يضمن‬
‫عدم موض َعة الصورة‪.‬‬

‫في المقام الرابع‪ ،‬يرتبط الكادر بزاوية ضبط اإلطار؛ أي أن‬


‫المجموع المغلق هو في ذاته منظومة بصرية تحيل إلى النظر في مجمل‬
‫التفاصيل‪ .‬صحيح أن هذا التوجيه يمكن أن يكون أو أن يبدو مستهجن ًا‬
‫ومفارق ًا‪ :‬ألن السينما تُظهر لقطات مذهلة لما يجري على األرض‪،‬‬
‫ولقطات تؤخذ من األعلى إلى األسفل أو من األسفل إلى األعلى‪...‬‬
‫إلخ‪ .‬ولكن هذه اللقطات تخضع‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬للقاعدة ذرائعية ال تنطبق‬
‫على السينما السردية فقط‪ :‬إذ يجب عليها أن تفصح عن أهدافها ‪ّ -‬‬
‫وإل‬
‫تقع في رؤية جمالية جوفاء ‪ -‬وأن تُظهرها طبيعية ومتسقة أتع ّلقت بمنظور‬
‫ٍ‬
‫بعنصر يبدو غير مرئي وغير متوفر‬ ‫شمولي يستوعب التفاصيل أم تع ّلقت‬
‫في التفاصيل األولى‪ .‬نجد عند جان ميتري وصف ًا للقطة نموذجية في‬
‫هذا الشأن مأخوذة من فيلم الرجل الذي قتلتُه للمخرج إرنست لوبيتش‬
‫)‪ :(Ernest Lubitsch‬في لقطة متحركة وجانبية ومتوسطة العلو‪ ،‬تُظهر‬
‫سياج بشري وتحاول أن تتس ّلل إلى الصف األول من هذا‬
‫ٍ‬ ‫ظهور‬
‫َ‬ ‫الكاميرا‬
‫السياج‪ ،‬ثم تتوقف عند شخص َمبتور الساق تمكّن ساقه المبتورة من‬
‫اإلطالل على مشهد عرض عسكري يتقدّ م‪ .‬وهذه زاوية تأطير بمنتهى‬
‫الغرابة‪ .‬وتصنع الكاميرا من الساق السليمة ومن عكّاز ذلك الرجل‬
‫فتجسد وجهة النظر‬
‫ّ‬ ‫كادر ًا‪ ،‬ومن مكان البتر ّ‬
‫تصور العرض العسكري‪،‬‬

‫‪41‬‬
‫اآلنفة الذكر(((‪ .‬فنقول إذ ًا إن زاوية التأطير كانت ّ‬
‫مبررة‪ .‬ولكن هذه‬
‫القاعدة الذرائعية ال تصلح دائم ًا‪ ،‬وال تستنفد الحالة‪ ،‬حتى وإن أرادت‬
‫ذلك‪ .‬لقد بنَى باسكال بونيتزر )‪ (Pascal Bonitzer‬مفهو َم "الخروج‬
‫عن الكادر" المثير لالهتمام‪ ،‬للداللة على تلك اللقطات غير المألوفة‬
‫التي ال تنضوي في منظور مائل أو في زاوية إشكالية وتحيل إلى بعد‬
‫آخر للصورة(((‪ .‬وهناك أمثلة كثيرة عن الكادرات القاطعة عند دريير‪ ،‬في‬
‫الوجوه التي تقطعها حافة الشاشة‪ ،‬كما في فيلم آالم جان دارك‪ .‬وأكثر من‬
‫ذلك‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬فإن الفضاءات الفارغة التي وردت في أفالم أوزو‪،‬‬
‫والتي تؤ ّطر منطقة ميتة‪ ،‬وإن الفضاءات المفصولة التي ظهرت في أفالم‬
‫روبرت بريسون )‪ ،(Robert Bresson‬والتي ال تترابط أجزاؤها‪ ،‬تتجاوز‬
‫األعم وتأتي ربما لتؤكّد أن‬
‫ّ‬ ‫كل تسويغ سردي وكل تسويغ ذرائعي على‬
‫الصورة البصرية لها وظيفة قرائية إلى جانب وظيفتها البصرية‪.‬‬

‫يبقى أن نتك ّلم عما هو خارج مجال الرؤية (أو اللقطة)‪ .‬وهذا‬
‫تالزم بين كادرين‬ ‫ليس نفي ًا أو إنكار ًا؛ وال يكفي أيض ًا أن ّ‬
‫نعرفه بأنه ال ُ‬
‫يكون أحدهما بصري ًا واآلخر صوتي ًا (كما يظهر ذلك عند بريسون‪ ،‬عندما‬
‫يشي الصوت بما ال نراه و"يحل ّ‬
‫محل" المرئي بدل أن ُيضاعفه)(((‪ .‬يحيل‬

‫((( ‪Jean Mitry, Esthétique et psychologie du cinéma, II (Paris: Edition‬‬


‫‪Universitaires, 1990), pp. 78-79.‬‬
‫)‪Pascal Bonitzer, «Décadrages,» Cahiers du Cinéma, no 248 (Janvier ( 8‬‬
‫‪1878).‬‬
‫)‪Robert Bresson, Notes sur le cinématographe (Paris: Gallimard, (9‬‬
‫‪1993), pp. 61-62:‬‬
‫«جيب عىل الصوت ّأل يأيت ملساعدة الصورة فقط‪ ،‬وال الصورة ملساعدة الصوت‪)...( .‬‬
‫جيب ّأل يتداعم الصوت والصورة‪ ،‬بل أن يعمل كل منهام بدوره تناوبي ًا»‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫خارج الحقل إلى ما ال نسمعه وما ال نراه‪ ،‬مع أنه حاضر تمام ًا‪ .‬صحيح‬
‫أن هذا الحضور يثير مشكلة ويحيل إلى مفهومين جديدين يتعلقان‬
‫بضبط الكادر‪ .‬فإذا ما عدنا إلى بدائلية أندريه بازان )‪(André Bazin‬‬
‫التي تراوح بين القناع والكادر‪ ،‬نرى أن الكادر يعمل تارة كقناع متحرك‬
‫تتمدّ د فيه كل مجموعة داخل مجموع متسق وأوسع يتواصل فيه‪ ،‬وطور ًا‬
‫ككادر تصويري يعزل منظومة ويح ّيدها عن محيطها‪ .‬وتتبدّ ى هذه‬
‫الثنائية بطريقة منهجية عندما نقارن بين جان رينوار )‪(Jean Renoir‬‬
‫وهيتشكوك‪ ،‬فينظر األول إلى المكان والفعل كأنهما يتجاوزان دائم ًا‬
‫حدود الكادر الذي ال يقوم إال باقتطاع جزء من المجال المحيط‪ ،‬في‬
‫المكونة" ويعمل‬
‫ِّ‬ ‫حين أن الكادر عند اآلخر "يحبس جميع العناصر‬
‫صح أن‬
‫كإطار هندسي أكثر منه كإطار تصويري أو مسرحي‪ .‬ولكن إذا ّ‬
‫مجموع ًا جزئي ًا ال يتواصل من حيث الشكل مع مجال الرؤية إال من‬
‫خالل سمات إيجابية للكادر وإلعادة ضبطه‪ ،‬يصح أيض ًا أن المنظومة‬
‫المغلقة‪ ،‬حتى وإن كانت محكمة اإلغالق‪ ،‬ال تلغي مجال الرؤية إال‬
‫ظاهري ًا‪ ،‬فتمنحه على طريقتها أهمية حاسمة‪ ،‬ال بل حاسمة جد ًا(‪ .((1‬فكل‬

‫(‪ ((1‬الدراسة املنهجية جد ًا خلارج اللقطة قدّ مها نويل بورش )‪،(Noël Burch‬‬
‫حول فيلم نانا )‪ (Nana‬الذي أخرجه رينوار ‪(Noël Burch, Une praxis du cinéma,‬‬
‫‪pp. 30- 51),‬‬
‫ومن وجهة النظر هذه يعارض جان ناربوين )‪ (Jean Narboni‬هيتشكوك برينوار‬
‫)‪ (Hitchcock: “Visages d’Hitchcock,” Cahiers du cinéma, p. 37‬ولكن ناربوين‬
‫يذكّر بأن الكادر السينامئي هو دائ ًام قناع كام كان بازان يعتربه‪ :‬لذا فإن ضبط الكادر املغلق‬
‫عند هيتشكوك له خارج لقطته‪ ،‬ولو كان ذلك بطريقة خمتلفة عام هو عليه عند رينوار فهو‬
‫ليس «فضا ًء ممتد ًا ومتسق ًا كفضاء الشاشة‪ ،‬بل هو ح ّيز متقطع ومتنافر يتعارض مع حيز‬
‫الشاشة»‪ ،‬الذي حيد ّد اإلمكانيات‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫ضبط لإلطار يحدّ د ما هو مجال الرؤية‪ .‬وال يوجد نموذجان من الكادر‬
‫يحيل أحدهما إلى خارج مجال الرؤية فقط‪ ،‬بل يوجد باألحرى شكالن‬
‫متباينان لمجال الرؤية يحيل أحدهما إلى طريقة في ضبط اإلطار‪.‬‬

‫إن إمكانية تقسيم المادة تعني أن األجزاء تدخل في مجاميع‬


‫تكف عن االنقسام إلى مجاميع فرعية أو تكون هي بالذات‬ ‫ّ‬ ‫شتّى ال‬
‫مجموع ًا فرعي ًا لمجموع أوسع‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬لذا تتحدّ د المادة من‬
‫خالل ميلها إلى تشكيل منظومات مغلقة وإلى ابتسار هذا الميل‪ .‬كل‬
‫ثمة دائم ًا خيط رفيع يربط كأس‬
‫منظومة مغلقة هي منظومة تواصلية‪ّ .‬‬
‫الماء المح ّلى بمجموع أرحب‪ .‬وهذا هو المعنى األول لما نُطلق‬
‫ويشاهد‬
‫َ‬ ‫عليه تسمية "خارج مجال الرؤية"‪ :‬فما أن يؤ َّطر مجموع ما‪،‬‬
‫بالتالي‪ ،‬حتى يكون هناك مجموع أكبر‪ ،‬أو أن يكون هناك مجموع‬
‫يشاهد بدوره‪ ،‬بشرط‬
‫َ‬ ‫آخر ُيشكِّل مع األول مجموع ًا أكبر‪ ،‬ويمكن أن‬
‫أن يثير "خارج لقطة" جديد ًا‪ ...‬إلخ‪ .‬ومجموع هذه المجاميع بر ّمتها‬
‫يشكّل استمرار ًا متجانس ًا‪ ،‬وفضا ًء أو ح ّيز ًا ال متناهي ًا من المادة‪ .‬ولكنه‬
‫ليس بالتأكيد " ّ ً‬
‫كل"‪ ،‬مع أن هذه اللقطة أو هذه المجاميع ُ‬
‫المتعاظمة لها‬
‫ّ‬
‫بالكل حتم ًا‪ .‬نعلم بالتناقضات المستعصية التي نقع‬ ‫ارتباط غير مباشر‬
‫فيها حين نعالج مجموع المجاميع كافة على أنه ّ‬
‫كل‪ .‬وهذا ال يعني أن‬
‫مجردة من المعنى‪ ،‬بل يعني أنها ليست مجموع ًا وأنها‬
‫فكرة المجموع ّ‬
‫من دون أجزاء‪ .‬إنها باألحرى ما يمنع كل مجموع مهما كان كبير ًا‪ ،‬من‬
‫أن ينغلق على نفسه‪ ،‬وتجبره على االمتداد إلى مجموع أكبر‪ .‬فالكل إذ ًا‬
‫هو كالخيط الذي يخترق المجاميع ويعطي ّ ً‬
‫كل منها اإلمكانية المتحققة‬
‫والكل أيض ًا هو ٌّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫حتم ًا للتواصل مع مجموع آخر‪ ،‬وهكذا دواليك‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫مفتوح المدى ويحيل إلى الزمن أو حتى إلى العقل بدالً من أن يحيل‬ ‫ُ‬
‫إلى المادة وإلى المكان‪ .‬وأ ّي ًا كان الرابط بين هذه المجاميع‪ ،‬فلن نخلط‬
‫بين امتداد هذه المجاميع في ما بينها‪ ،‬وبين انفتاح الكل الذي يدخل‬
‫في الجزء‪ .‬إن منظومة مغلقة ليست مغلقة بشكل مطلق‪ ،‬ولكنها ترتبط‬
‫من جهة‪ ،‬داخل الحيز‪ ،‬بمنظومات أخرى عبر خيط "رفيع" نوع ًا ما‪،‬‬
‫وتنضوي من جهة أخرى إلى ٍّ‬
‫كل يمدّ ها باالستمرار على امتداد هذا‬
‫ٍ‬
‫عندئذ قد ال يكفي أن نم ّيز‪ ،‬مع نويل بورش )‪،(Noël Burch‬‬ ‫الخيط(‪.((1‬‬
‫بين حيز ملموس وحيز متخيل "لخارج مجال الرؤية"‪ ،‬ذلك أن المتخيل‬
‫يصبح ملموس ًا عندما ينتقل بدوره إلى حقل وعندما يكف عن أن يكون‬
‫بالتالي "خارج مجال الرؤية"‪ .‬فـ "خارج مجال الرؤية" بحد ذاته أو‬
‫لذاته‪ ،‬له وجهان متباينان في طبيعتهما‪ :‬وجه نسبي تُحيل فيه منظوم ٌة‬
‫يشاهد‪،‬‬
‫َ‬ ‫مغلقة في الح ّيز إلى مجموع ال نراه نحن ويستطيع بدوره أن‬
‫بشرط أن ُيحدث مجموع ًا جديد ًا غير مرئي وال نهاية له؛ ووجه مطلق‬
‫تنفتح به المنظومة المغلقة على ديمومة كامنة داخل كلية الكون‪ ،‬ولم‬
‫تعد مجموع ًا وال تنتمي إلى نظام المرئي(‪ .((1‬إن حاالت الخروج عن‬

‫‪L’évolution‬‬‫(‪ ((1‬لقد أسهب برغسون يف رشح هذه النقاط مجيعها يف كتاب‬


‫‪ ،créatrice‬الفصل األول‪ .‬بالنسبة للـ «خيط الرفيع»‪ ،‬انظر‪Bergson, L’évolution :‬‬
‫‪créatrice, p. 503 (10).‬‬
‫قائال بأنه ال توجد «صريورة لقطة خلارج‬ ‫(‪ ((1‬اعرتض بونيتزر عىل بورش ً‬
‫اللقطة»‪ ،‬وبأن خارج اللقطة يبقى خيالي ًا‪ ،‬حتى وإن تبلور بتأثري من إحدى الوصالت‪:‬‬
‫يبقى دائ ًام يشء يف خارج اللقطة‪ ،‬ويرى بونيتزر أن الكامريا نفسها تستطيع أن تعمل‬
‫حلسابه‪ ،‬ولكن بإدخال ثنائية جديدة يف الصورة (انظر كتاب‪Pascal Bonitzer, Le :‬‬
‫‪ .)regard et la voix, 10-18, p. 17‬وتبدو لنا مالحظات بونتيزر هذه وجيهة متام ًا‪.‬‬
‫ولكننا نعتقد أن خارج اللقطة هو نفسه ثنائية داخلية وال ُييل إىل أداة العمل فقط‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫تبريرها العملي تحيل بالضبط إلى هذا الوجه الثاني‬
‫اإلطار التي ال تجد َ‬
‫كما تحيل إلى ُم ّبرر وجودها‪.‬‬

‫في إحدى الحالتين ّ‬


‫يدل ما هو خارج مجال الرؤية على ما هو‬
‫موجود في مكان آخر قريب أو محيط؛ وفي الحالة الثانية يشي ما هو‬
‫خارج مجال الرؤية بحضور أشدّ إقالق ًا بحيث ال يعود في وسعنا حتى‬
‫صر" أو "يدوم"‪ ،‬فيكون بمثابة‬
‫أن نقول إنه موجود‪ ،‬بل باألحرى إنه " ُي ّ‬
‫مكان آخر أكثر جذرية‪ ،‬مكان آخر خارج المكان والزمان المتجانسين‪.‬‬
‫شك أن وجهي مجال الرؤية هذين يختلطان باستمرار‪ .‬ولكن عندما‬‫ال ّ‬
‫مؤطرة كمنظومة مغلقة‪ ،‬نستطيع القول بأن أحد الوجهين‬
‫ّ‬ ‫ننظر إلى صورة‬
‫تغ ّلب على اآلخر بحسب طبيعة "الخيط"‪ .‬فكلما َغ ُلظ الخيط الذي يربط‬
‫كلما ح ّقق ما هو خارج مجال‬
‫المشاهد بمجاميع غير مرئية‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫المجموع‬
‫َ‬
‫الرؤية وظيفتَه األولى بشكل أفضل‪ ،‬أال وهي إضافة مكان إلى المكان‪.‬‬
‫ولكن عندما يكون الخيط رفيع ًا جد ًا‪ ،‬ال يكتفي بإحكام إغالق الكادر‬
‫أو بإلغاء العالقة مع الخارج‪ .‬صحيح أنه ال يقوم بعزل كامل للمنظومة‬
‫المغلقة نسبي ًا – وذلك أمر مستحيل ‪ -‬ولكن الخيط ك ّلما كان رفيع ًا أكثر‪،‬‬
‫وكلما نزلت الديمومة إلى المنظومة‪ ،‬شأنها في ذلك شأن العنكبوت‬
‫الذي يهبط فوق خيطه الرفيع‪ ،‬كلما ح ّقق مجال الرؤية وظيفته األخرى‬
‫بشكل أفضل‪ ،‬أال وهي إدخال العابر المكاني والروحي إلى المنظومة‬
‫حول دريير ذلك إلى‬
‫التي ليست على اإلطالق مغلقة بشكل كامل‪ .‬لقد ّ‬
‫تقشف ّية‪ :‬فكلما كانت الصورة مغلقة مكاني ًا ال بل مختزلة إلى‬
‫طريقة ُّ‬
‫عد رابع هو الزمان‪ ،‬وعلى‬ ‫بعدين؛ كلما كانت قادرة على االنفتاح على ب ٍ‬
‫ُ‬
‫ُبعد خامس هو الروح‪ ،‬أي القرار الروحي لجان دارك )‪(Jeanne d’Arc‬‬

‫‪46‬‬
‫عرف كلود أولييه )‪(Claude Ollier‬‬
‫)‪ .(Gertrud‬عندما ّ‬ ‫(‪((1‬‬
‫وجيرترود‬
‫الكادر الهندسي لدى أنطونيوني لم يقل فقط إن الشخص المنتظر ما‬
‫يزال غير مرئي (وهذه هي الوظيفة األولى لمفهوم خارج مجال الرؤية)‪،‬‬
‫بل قال إنه موجود مؤقت ًا في منطقة فراغ‪" ،‬فاألبيض على األبيض يستحيل‬
‫تصويره"‪ ،‬ومنطقة الفراغ هذه غير مرئية تحديد ًا (الوظيفة الثانية)‪ .‬على‬
‫نحو آخر‪ ،‬ال تكتفي كوادر هيتشكوك بتحييد المحيط الخارجي للصورة‪،‬‬
‫الكم األكبر‬
‫وبدفع المنظومة المغلقة إلى مزيد من االنغالق‪ ،‬وباحتجاز ّ‬
‫من العناصر داخل الصورة؛ بل ستجعل في ذات الوقت من الصورة‬
‫صور ًة ذهنية ومفتوح ًة (كما سنرى) على لعبة من العالقات الفكرية‬
‫التي تشكّل نسيج ًا مكتمالً‪ .‬لذا نقول بأن هناك دائم ًا "ما هو خارج مجال‬
‫الرؤية"‪ ،‬وحتى في الصورة األشدّ انغالق ًا‪ .‬ونقول بأن هناك دائم ًا وجهين‬
‫لـ "مجال الرؤية"‪ :‬وجه العالقة الراهنية التي تنضاف إلى مجاميع أخرى‪،‬‬
‫ووجه العالقة االفتراضية التي تنضاف إلى ّ‬
‫الكل‪ .‬ولكن في إحدى‬
‫الحالتين تتحقق العالقة الثانية والخفية جد ًا بشكل ال مباشر‪ ،‬وإلى ما ال‬
‫المتوسعة في تعاقب الصور؛ وفي الحالة‬
‫ّ‬ ‫نهاية‪ ،‬من طريق الحالة األولى‬
‫الثانية ستتحقق‪ ،‬على نحو أكثر مباشرة‪ ،‬داخل الصورة بالذات‪ ،‬وبتحديد‬
‫العالقة األولى وتحييدها‪.‬‬

‫لنختصر اآلن نتائج هذا التحليل للكادر‪ .‬إن ضبط الكادر هو ف ّن‬
‫اختيار األجزاء بشتّى أنواعها والتي تدخل في مجموع‪ .‬وهذا المجموع‬
‫هو منظومة مغلقة‪ ،‬ومغلقة نسبي ًا واصطناعي ًا‪ .‬والمنظومة المغلقة التي‬

‫(‪Dreyer cité par Maurice Drouzy, Carl Th. Dreyer né Nilsson ((1‬‬
‫‪(Paris: Edition du Cerf, [s. d.]), p. 353.‬‬

‫‪47‬‬
‫يحدّ دها الكادر يمكن أن ُينظر إليها بنا ًء على المعطيات التي تنقلها إلى‬
‫المشاهدين‪ :‬فهي إعالمية ومش َبعة ومستندرة‪ .‬وعندما ُينظر إليها من‬
‫خالل طبيعة أجزائها‪ ،‬تكون إما منظومة رياضية وإما فيزيائية أو دينامية‪.‬‬
‫وينظر إليها كمنظومة بصرية عندما تُعتبر بنا ًء على وجهة الكاميرا وعلى‬
‫مبررة عملي ًا‪ ،‬أو أنها تستلزم تبرير ًا‬ ‫ٍ‬
‫زاوية ضبط الكادر‪ :‬عندئذ تكون ّ‬
‫أعلى‪ .‬وأخير ًا تحدد المنظوم ُة خارج مجال الرؤية‪ ،‬إما بشكل مجموع‬
‫كل يدمجها فيه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بشكل ٍّ‬ ‫أوسع يستكملها‪ ،‬وإما‬

‫‪)2‬‬
‫التقطيع الفني هو تحديد الصورة‪ ،‬والصورة هي تحديد الحركة‬
‫التي تجري داخل المنظومة المغلقة‪ ،‬بين عناصر المجموع أو أجزائه‪.‬‬
‫بكل‪ ،‬وتختلف في طبيعتها عن‬ ‫ولكن الحركة‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬تتعلق أيض ًا ّ‬
‫الكل هو ما يتغ ّير‪ ،‬هو المنفتح أو الديمومة‪ .‬وتع ّبر الحركة‬‫المجموع‪ّ .‬‬
‫الكل‪ ،‬أو هي مرحلة أو وجه من وجوه هذا التغ ّير‪ ،‬أو ديمومة‬ ‫إذ ًا عن تغ ّير ّ‬
‫تمفص ُل ديمومة‪ .‬وهكذا فإن للحركة وجهين متالزمين تالز َم وجه‬ ‫ُ‬ ‫أو‬
‫الكل‪ .‬فهي من جهة‬‫الصفحة وظهرها‪ :‬فهي الصلة بين أجزاء‪ ،‬وهي صبا َب ُة ِّ‬
‫تعدّ ل في المواقع الخاصة باألجزاء داخل مجموع مع ّين‪ ،‬وهي مواقع‬
‫بمثابة مقاطع له‪ ،‬وكل مقطع يثبت بذاته؛ ومن جهة أخرى هي المقطع‬
‫كل وتع ّبر فيه عن التغ ّير‪ .‬ففي أحد الوجهين هي نسبية‪ ،‬وفي‬ ‫المتحرك في ّ‬
‫ّ‬
‫ثانيهما هي مطلقة‪ ،‬كما يقال‪ .‬لنأخذ صورة ثابتة يتحرك الشخوص فيها‪:‬‬
‫إنهم يغ ّيرون مواقفهم في المجموع المؤ َّطر؛ ولكن هذا التعديل سيكون‬
‫تحول نوعي ‪ -‬ولو‬ ‫إن لم يع ّبر عن شيء راح يتغ ّير؛ عن ّ‬ ‫اعتباطي ًا تمام ًا ْ‬
‫يمر عبر هذا المجموع‪ .‬لنأخذ صورة تلتقطها‬ ‫الكل الذي ّ‬‫كان طفيف ًا ‪ -‬في ّ‬
‫الكاميرا المتحركة‪ :‬تنتقل هذه الكاميرا من مجموع إلى آخر‪ ،‬وتعدّ ل‬
‫‪48‬‬
‫موقع المجاميع‪ ،‬ولن تكون للكل هذا أية ضرورة إال إذا ع ّبر التعديل‬
‫يمر عبر هذه المجاميع‪ .‬مثالً‪ ،‬تتبع‬ ‫النسبي عن تغيير مطلق للكل الذي ّ‬
‫ال وامرأة يصعدان درج ًا ويصالن إلى باب يفتحه الرجل؛ ثم‬ ‫الكاميرا رج ً‬
‫تتركهما الكاميرا وتنكفئ على صورة واحدة‪ ،‬وتتحرك بمحاذاة الجدار‪،‬‬
‫وتلتحق بالدرج الذي تنزله القهقرى‪ ،‬وتصل إلى الرصيف وترتفع في‬
‫الكتيمة الزجاج التي تراها من الخارج‪ .‬وهذه‬ ‫َ‬ ‫الخارج إلى نافذة الشقة‬
‫الحركة التي تُحدث تغيير ًا نسبي ًا في المجاميع الساكنة ليست ضرورية‬
‫كل ُيالقي هو نفسه هذه‬ ‫ّإل إذا ع ّبرت عن شيء بدأ يتم‪ ،‬وعن تغ ّير في ٍّ‬
‫التبدّ الت‪ :‬بوشر باغتيال المرأة‪ ،‬لقد دخلت الشقة من دون إكراه‪ ،‬ولكنها‬
‫مفر منه‪ .‬سيقال إن هذا المثال‬ ‫لم تعد تتو ّقع أية نجدة‪ ،‬فاالغتيال ال ّ‬
‫(في فيلم فرينزي )‪ (Frenzy‬لهيتشكوك) هو حذف إيجازي في السرد‪.‬‬
‫وسواء ُوجد حذف إيجازي أم ال‪ ،‬أو وجد سرد أم ال‪ ،‬فليس لألمر أية‬
‫يهم في هذه األمثلة هو أن الصورة‪ ،‬مهما كان نوعها‪،‬‬ ‫أهمية حالي ًا‪ .‬ما ّ‬
‫تحتوي على قطبين‪ :‬قطب يتع ّلق بالمجاميع في المكان الذي يدفع إلى‬
‫تعديالت نسبية في العناصر أو في المجاميع الفرعية؛ وقطب يتع ّلق بتغيير‬
‫مطلق في الديمومة‪ .‬وهذا ّ‬
‫الكل ال يكتفي أبد ًا بأن يكون حذف ًا إيجازيي ًا‬
‫أو سرديا‪ ،‬مع أنه يستطيع ذلك‪ .‬ولكن الصورة ‪ -‬مهما كان نوعها ‪ -‬لها‬
‫هذان الوجهان‪ :‬فهي تقوم بتعديالت في الموقف النسبي داخل مجموع‬
‫كل مع ّين أو في ّ‬
‫الكل بعامة‪.‬‬ ‫أو مجاميع‪ ،‬وتع ّبر عن تغييرات مطلقة في ٍّ‬
‫فللصورة بعامة وجه ممتدّ نحو المجموع‪ ،‬وتع ّبر فيه عن التعديالت بين‬
‫الكل يع ّبر فيه عن التغيير أو عن ٍ‬
‫تغيير ما‬ ‫األجزاء‪ ،‬ولها وجه آخر ممتدّ نحو ّ‬
‫مجرد قائلين‬‫على األقل‪ .‬وهكذا نستطيع أن نحدّ د وضع الصورة بشكل ّ‬
‫الكل‪ .‬فتارة تمتدّ إلى قطب التأطير‬ ‫وسيط بين ضبط الكادر ومونتاج ّ‬‫ٌ‬ ‫إنها‬

‫‪49‬‬
‫وطور ًا تمتدّ إلى قطب المونتاج‪ .‬إن الصورة هي الحركة التي ينظر إليها‬
‫من وجهها المزدوج‪ :‬هي ارتحال أجزاء من مجموع يمتدّ في المكان‪،‬‬
‫يتحول في الديمومة‪.‬‬
‫كل ّ‬ ‫وهي تغ ّير يحدث في ٍّ‬

‫ليس هذا تحديد ًا مجرد ًا لصورة سينمائية فقط‪ .‬فهذه الصورة تجد‬
‫تحديدها الواقعي كلما ثابرت على تأمين العبور من وجه إلى آخر‪ ،‬وعلى‬
‫تحولهما المستمر‪ .‬لنعدْ إلى المستويات‬‫تقسيم وتوزيع الوجهين‪ ،‬وعلى ّ‬
‫البرغسونية الثالثة‪ ،‬أي إلى المجاميع وأجزائها‪ ،‬وإلى ّ‬
‫الكل الذي يمتزج‬
‫بالمفتوح أو إلى التغ ّير في الديمومة‪ ،‬وإلى الحركة التي تتم بين األجزاء‬
‫أو المجاميع ولكنها تع ّبر أيض ًا عن الديمومة أو عن الكل المتغير‪ .‬الصورة‬
‫تجزئ‬ ‫التحول واالنتقال‪ .‬إنها ّ‬
‫ّ‬ ‫تكف عن إجراء‬
‫ّ‬ ‫تشبه الحركة التي ال‬
‫وتقسمها بحسب الموضوعات التي تشكل المجموع‪ ،‬إنها‬ ‫ّ‬ ‫الديمومة‬
‫تكف عن تقسيم‬‫تجمع األشياء والمجاميع في ديمومة واحدة ال غير‪ .‬وال ّ‬ ‫ُ‬
‫الديمومة إلى ديمومات فرعية غير متجانسة‪ ،‬وعن جمع الديمومات في‬
‫ديمومة تتحايث مع الكل الكوني‪ .‬وبما أن الوعي هو الذي ُيجري هذه‬
‫التقسيمات والتجميعات‪ ،‬سيقال عن الصورة إنها تعمل كوعي‪ .‬ولكن‬
‫المشاهد وال البطل‪ ،‬إنه الكاميرا التي هي‬
‫الوعي السينمائي ليس نحن وال ُ‬
‫وتتفوق على اإلنسان أحيان ًا أخرى‪ .‬لنفترض‬
‫ّ‬ ‫إنسانية طور ًا والإنسانية تارة‬
‫أننا أمام حركة الماء أو حركة طائر يحلق في البعيد أو حركة شخص فوق‬
‫أحد القوارب‪ :‬تمتزج حركات المدّ هذه في إدراك واحد‪ ،‬وفي ك ّلية‬
‫ينقض‬‫وادعة للطبيعة المؤنسنة‪ .‬ولكن ها هو الطائر‪ ،‬وهو نورس عادي‪ّ ،‬‬
‫على الشخص ويجرحه‪ :‬هنا تنقسم الحركات الثالث وتخرج عن بعضها‬
‫الكل من جديد‪ ،‬ولكنه سيكون قد تغ ّير‪ :‬وسيغدو الوعي الوحيد‬ ‫ويتشكّل ّ‬
‫أو اإلدراك الك ّلي للطيور‪ ،‬كاشف ًا عن طبيعة طائرية تنقلب على اإلنسان‬
‫الكل من جديد عندما تهاجم الطيور‬ ‫في تو ّقع ال ينتهي‪ .‬وسينقسم هذا ّ‬

‫‪50‬‬
‫اإلنسان بحسب طرق هجومها وأماكن الهجوم وضحاياه‪ .‬وسيتشكل‬
‫الكل من جديد بعد ُهدنة تتم‪ ،‬عندما يدخل اإلنساني والالإنساني في‬ ‫هذا ّ‬
‫عالقة مرتبكة (كما نرى ذلك في فيلم الطيور لهيتشكوك)‪ .‬نستطيع القول‬
‫يتم بين ك ّلين آنيين‪ ،‬أو أن ّ‬
‫الكل يتم بين تقسيمين اثنين(‪.((1‬‬ ‫أيض ًا إن التقسيم ّ‬
‫تتجمع‬
‫ّ‬ ‫تدب فيها‬
‫إن الصورة‪ ،‬أي الوعي‪ ،‬ترسم حركة تجعل األشياء التي ّ‬
‫الكل ينقسم بين األشياء (أي المقسوم )‪.)(le Dividuel‬‬ ‫كل‪ ،‬وتجعل ّ‬ ‫في ٍّ‬

‫إن الحركة نفسها هي التي تتح ّلل وتتشكّل من جديد‪ .‬فهي‬


‫تتح ّلل بحسب العناصر التي تدور هذه الحركة بينها في مجموع‪ :‬فهناك‬
‫عناصر تبقى ثابتة‪ ،‬وعناصر تُنسب إليها الحركة‪ ،‬وعناصر تَخلق أو‬
‫تُخضع حركة بسيطة وقابلة للقسمة كهذه‪ ...‬ولكن الحركة تتشكل من‬
‫جديد فتصبح حركة كبرى معقدة وغير قابلة للقسمة بحسب ّ‬
‫الكل الذي‬
‫تع ّبر فيه عن التغيير‪ .‬نستطيع أن نعتبر بعض الحركات الكبرى كتوقيع‬
‫الكل في الفيلم‪ ،‬ال بل على ّ‬
‫الكل‬ ‫فتطبع ِميسمها على ّ‬
‫ُ‬ ‫لمخرج‪،‬‬‫خاص ُ‬
‫في العمل‪ ،‬ولكنها تتناغم مع الحركة الخاصة بهذه الصورة المو ّقعة أو‬
‫بذلك التفصيل في الصورة‪ .‬في دراسة نموذجية لفيلم فاوست )‪(Faust‬‬
‫للمخرج األلماني مورناو )‪ ،(Murnau‬أظهر إريك روهمر ‪(Eric‬‬
‫توزعت حركات التمدّ د والتق ّلص بين الشخوص‬ ‫)‪ Rohmer‬كيف ّ‬
‫واألشياء في "ح ّيز رسومي‪ ،‬وكيف ع ّبرت عن أفكار حقيقية في "الح ّيز‬
‫يصور‬‫ّ‬ ‫الفيلمي"‪ ،‬كأفكار الخير والشر والله والشيطان(‪ .((1‬وغالب ًا ما‬

‫(‪ ((1‬حول انفصال حركات املدّ وانضاممها‪ ،‬انظر‪:‬‬


‫‪Henri Bergson, Durée et simultanéité ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), ch. III,‬‬
‫(لقد أخذ برغسون‪ ،‬كمثال عىل حركات املد الثالث‪ ،‬حركات الوعي واملاء‬
‫اجلاري والطائر املحلق)‪.‬‬
‫(‪Eric Rohmer, L’organisation de l’espace de le «Faust» de ((1‬‬
‫‪Murnau, pp. 10-18.‬‬

‫‪51‬‬
‫أورسون ويلز )‪ (Orson Welles‬حركتين تتشكالن‪ ،‬فتكون األولى‬
‫ومحزز وله فتحات‬‫ّ‬ ‫بمثابة هروب أفقي خطي داخل قفص ُمتطاول‬
‫كبيرة‪ ،‬وتكون الثانية أشبه بخط دائري يقوم محوره العمودي بغطسة‬
‫نحو األعلى أو بغطسة معاكسة إلى األسفل‪ :‬فإذا كانت هذه الحركات‬
‫هي التي تنفخ الحياة في عمل كافكا )‪ (Kafka‬األدبي‪ ،‬الستنتجنا وجود‬
‫تعاطف بين ويلز وكافكا ال يقتصر فقط على فيلم المحاكمة‪ ،‬بل يشرح‬
‫يقارن بكافكا مباشرة؛ وإذا ما ُوجدت‬ ‫باألحرى لماذا احتاج ويلز ألن َ‬
‫مثل هذه الحركات واندمجت بعمق في فيلم الرجل الثالث للمخرج‬
‫أن ويلز كان أكثر‬ ‫اإلنجليزي كارول ريد )‪ ،(Carol Reed‬الستنتجنا ّ‬
‫من ممثل في الفيلم وساهم عن كثب في بنائه وأن ريد كان أحد تالمذة‬
‫ويلز الذين أخذوا عنه‪ .‬إن أكيرا كوروساوا )‪ ،(Akira Kurosawa‬في‬
‫العديد من أفالمه له توقيع ذو طابع ياباني متخ ّيل‪ :‬هناك خط طوالني‬
‫سميك ينزل على الشاشة من األعلى إلى األسفل‪ ،‬في حين تخترقه‬
‫من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين حركتان جانبيتان أكثر‬
‫نعومة؛ حركة مع ّقدة كهذه ترتبط بكلية الفيلم‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬وترتبط‬
‫تصور هذه الكلية في الفيلم‪ .‬عندما ح ّلل فرانسوا ريني و �‪(Fran‬‬
‫بطريقة ّ‬
‫)‪ çois Regnault‬بعض أفالم هيتشكوك‪ ،‬استخلص في كل فيلم منها‬
‫ال أساسي ًا وهندسي ًا ودينامي ًا" أمكنها الظهور‬
‫حركة إجمالية أو "شك ً‬
‫في عناوين األفالم بكل نقاء‪" :‬الخطوط اللولبية في فيلم ‪،Vertigo‬‬
‫الخطوط المنكسرة والبنية المتعاكسة للونين األسود واألبيض في فيلم‬
‫‪ ،Psychoo‬المتواليات الديكارتية السهمية في فيلم �‪North by North‬‬
‫‪ ."...west‬وقد تكون الحركات الكبرى في هذه األفالم مركّبات حركة‬
‫كبرى تع ّبر عن مجمل أعمال هيتشكوك‪ ،‬وقد تكون المنهج الذي‬
‫التوجه اآلخر في أفالمه ال ُّ‬
‫يقل أهمية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تطورت فيه وتغ ّيرت‪ .‬ولكن‬
‫ّ‬
‫كل يتغير ويتجزأ إلى حركات‬ ‫وهو أن هناك حركة كبرى تتوجه نحو ّ‬
‫‪52‬‬
‫نسبية وإلى أشكال محلية تتناول الوضعيات الخاصة بأجزاء المجموع‬
‫وإسنادها إلى األشخاص واألشياء والتوزيعات التي تمت بين العناصر‪.‬‬
‫لقد درس رينيو هذه الحركة عند هيتشكوك (ففي فيلم ‪ Vertigo‬يستطيع‬
‫الخط اللولبي الكبير أن يصبح دوار البطل [فيزيائي ًا]‪ ،‬ولكنه يستطيع‬
‫أن يكون أيض ًا الدورة االلتفافية التي يقوم بها بسيارته‪ ،‬وقد يكون أيض ًا‬
‫الشعر المعقوص للبطلة)(‪ .((1‬ولكن هذا النوع من التحليالت مح ّبب‬
‫لدى كل سينمائي‪ ،‬وهو برنامج بحثي ضروري لكل تحليل يتعلق‬
‫بالمؤلف‪ ،‬وهو ما يمكن أن يسمى باألسلوبية‪ :‬أي الحركة التي تتم‬
‫بين أجزاء المجموع في كادر من الكادرات‪ ،‬أو بين مجموع وآخر لدى‬
‫كل في فيلم أو عمل؛‬ ‫إعادة ضبط الكادرات؛ وهو الحركة التي تع ّبر عن ّ‬
‫وهو التوافق بين الحركتين والطريقة التي تكون فيها إحداهما صدى‬
‫لألخرى‪ ،‬والتي تنتقل فيها إحداهما إلى األخرى‪ .‬ذلك أن الحركة‬
‫واحدة‪ ،‬فهي تارة مشكّلة وطور ًا متحللة‪ ،‬وهاتان الحالتان هما وجها‬
‫كل‬ ‫الحركة ذاتها‪ .‬وهذه الحركة هي الصورة‪ ،‬والوسيط الملموس بين ٍّ‬
‫تكف عن تحويل أحدهما إلى اآلخر‬ ‫ّ‬ ‫له تغ ّيراته وبين ٍّ‬
‫كل له أجزاؤه‪ ،‬وال‬
‫بحسب وجهيها‪.‬‬

‫اللقطة هي الصورة ‪ -‬الحركة‪ .‬وألنها تر ّد الحركة إلى ّ‬


‫كل متغ ّير‪،‬‬
‫فإنها تم ّثل المقطع المتحرك لديمومة معينة‪ .‬يقو ل بودوفكين �‪(Pou‬‬
‫)‪ ،dovkine‬في وصفه لصورة مظاهرة شعبية‪ :‬كأننا صعدنا إلى سطح‬
‫منزل لنشاهدها‪ ،‬ثم كأننا نزلنا إلى نافذة الطريق األول لنقرأ الالفتات‪،‬‬

‫(‪François Regnault, «Système formel d’Hitchcock,» in: Hitchcock, ((1‬‬


‫‪Cahiers du cinéma,‬‬‫‪a‬‬

‫وحول تشكيل احلركة التي قد مت ّثل جممل الفيلم‪ ،‬انظر ص ‪.27‬‬ ‫ ‬


‫‪53‬‬
‫ثم كأننا اختلطنا بحشد المتظاهرين(‪ ...((1‬هذا الوصف مشروط بكلمة‬
‫ورسوات ونقاط ًا ثابتة‬
‫ّ‬ ‫"كأننا"؛ ذلك أن اإلدراك الطبيعي ُيدخل وقفات‬
‫أو وجهات نظر منفصلة‪ ،‬وأجسام ًا متحركة وحتى وسائل نقل متمايزة‪،‬‬
‫في حين أن اإلدراك السينمائي يؤدي من دون تو ّق ٍ‬
‫ف حرك ًة واحدة تكون‬ ‫ّ‬
‫الوقفات نفسها وبحركة واحدة جزء ًا مندمج ًا فيها وليست سوى اهتزاز‬
‫على ذاتها‪ .‬كمثال لنأخذ اللقطة الشهيرة التي صورها كينغ فيدور ‪(King‬‬

‫)‪ Vidor‬في فيلم الحشد‪ ،‬التي ّ‬


‫سماها ميتري "إحدى أجمل اللقطات في‬
‫الكاميرا المتحركة"‪ :‬تتقدم الكاميرا داخل الحشد باالتجاه المعاكس‪،‬‬
‫ثم تتجه نحو ناطحة سحاب‪ ،‬فتتسلق حتى تصل إلى الطابق العشرين‬
‫وتؤطر نافذ ًة من النوافذ فتكتشف بهو ًا مليئ ًا بالمكاتب فتدلف إليه‪ ،‬ثم‬
‫تتقدم وتصل إلى مكتب يجلس خلفه البطل‪ .‬لنأخذ أيض ًا اللقطة الشهيرة‬
‫دراجة توضع أوالً‬
‫في فيلم آخر البشر لمورناو ‪ :‬تُنصب الكاميرا فوق ّ‬
‫(*)‬

‫وتصور في هبوطها بهو أحد‬


‫ّ‬ ‫داخل مصعد البناية ثم تنزل مع المصعد‬
‫الفنادق الكبرى‪ ،‬من خالل الزجاج‪ ،‬وتجري عمليات تقطيع وإعادة‬
‫تركيب مستمرة‪ ،‬ثم "تهرع عبر الرواق وعبر مصاريع األبواب الضخمة‪،‬‬
‫وتُجري لقط ًة متحركة واحدة"‪ .‬وهنا تؤدي الكاميرا حركتين واندفاعتين‬

‫‪Lherminier, L’art du‬‬ ‫(‪ ((1‬استشهاد ببودوفكني أورده لريمينييه يف كتابه‪:‬‬


‫‪cinéma (Paris: Seghers, 1960), p. 192.‬‬
‫(*) فريدريش فيلهلم مورناو )‪ :(1931-1888‬خمرج أملاين يعترب من أهم ممثيل‬
‫السينام الصامتة األملانية مع فريتز النغ‪ .‬نادى بالبساطة يف العملية السينامئية‪ .‬واعتربت‬
‫حول مورناو الكامريا إىل شخصية‬ ‫ٍ‬
‫رائعته آخر البرش أمجل عمل سينامئي ظهر حتئذ‪ ،‬وفيه ّ‬
‫درامية (املرتجم)‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫ونقلتين هما المصعد والدراجة‪ .‬وقد ت ِ‬
‫ُظهر أحدَ هما الذي يشكّل جزء ًا‬
‫من الصورة‪ ،‬وتخفي اآلخر (وتستطيع أيض ًا في بعض الحاالت أن ّ‬
‫تصور‬
‫المهم‪ .‬المهم هو أن الكاميرا المتحركة‬
‫ّ‬ ‫كاميرا أخرى)‪ .‬ولكن ليس هذا‬
‫هي بمثابة ُمعادل عام لجميع وسائل التحريك التي تظهرها أو تستخدمها‬
‫(كالطائرة والسيارة والباخرة والدراجة والدرجات التي تُفضي إلى‬
‫الميترو‪ .)...‬من هذا التعادل سيصنع فِندرز (*) روح فيلمين من أفالمه‪،‬‬
‫مر الزمان وأليس في المدن‪ ،‬وأدخل بالتالي إلى السينما تفكير ًا‬
‫هما على ّ‬
‫واقعي ًا ملموس ًا‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬تستند ميزة الصورة ‪ -‬الحركة في السينما‬
‫إلى أنها تُستخلص من العربات والمتحركات الحركة التي تمثل الجوهر‬
‫المشترك‪ ،‬أو أنها تُستخلص من الحركات الحركية التي هي الجوهر‪.‬‬
‫وهذا ما كان يصبو إليه برغسون‪ :‬فانطالق ًا من الجسم‪ ،‬أو من المحرك‪،‬‬
‫يربط إدراكنا الحسي الحرك َة به مثلما يربطها بوسيلة نقل‪ ،‬يتم استخراج‬
‫ملونة بسيطة‪ ،‬هي الصورة ‪ -‬الحركة التي "تقتصر في ذاتها على‬
‫"بقعة" ّ‬
‫سلسلة من التذبذبات السريعة للغاية" و"ليست في الواقع ّإل حركة‬
‫الحركات"(‪ .((1‬وظن برغسون أن السينما عاجزة عن ذلك‪ ،‬ألنه اعتبر ما‬

‫(*) فيم فِندرز )‪ (1945‬هو خمرج وكاتب سيناريو ومصور سينام ومصور‬
‫فوتوغرايف أملاين‪ .‬ويعترب أحد ممثيل السينام اجلديدة يف أملانيا ما بني ‪ .1980-1960‬وحصل‬
‫فيلمه باريس تكساس عىل السعفة الذهبية يف مهرجان كان )‪ ،(1984‬والقى فيلمه‬
‫أجنحة الرغبة )‪ (1987‬رواج ًا هائ ً‬
‫ال يف الصاالت ويعيش ما بني الواليات املتحدة وأملانيا‬
‫(املرتجم)‪.‬‬
‫(‪Bergson: Matière et mémoire, p. 331 (219), et La pensée et le ((1‬‬
‫‪mouvant, pp. 1382- 1383 (164-165),‬‬
‫ٍ‬
‫حركات»‪.‬‬ ‫«حركات‬
‫ُ‬ ‫غالب ًا ما نجد عند غانس العبارة ذاهتا‬
‫‪55‬‬
‫المجردة لتعاقب‬
‫ّ‬ ‫كان يحدث داخل الجهاز فقط (أي الحركة المتجانسة‬
‫الصور)‪ ،‬والجهاز هو األقدر بامتياز على تحقيقه‪ :‬أي الصورة ‪ -‬الحركة‬
‫الصرفة المستخرجة من األجسام ومن المتحركات‪ .‬وهذا‬
‫أو الحركة ِّ‬
‫ليس تجريد ًا وإنما تحرير ًا‪ .‬إنه دائم ًا لحظة كبرى في السينما‪ ،‬كما يظهر‬
‫ذلك عند رينوار‪ ،‬عندما تغادر الكاميرا شخص ًا من الشخوص وتدير‬
‫ظهرها له‪ ،‬ثم تجده من جديد عقب هذه الحركة الخاصة(‪.((1‬‬

‫إن اللقطة‪ ،‬عندما تقوم بقطع متحرك للحركات‪ ،‬ال تكتفي‬


‫بالتعبير عن ديمومة ٍّ‬
‫كل يتغ ّير‪ ،‬بل ال تتوقف عن تغيير األجسام واألجزاء‬
‫والمالمح واألبعاد والمسافات والوضعيات الخاصة باألجسام التي‬
‫تشكّل مجموع ًا داخل الصورة‪ .‬يحدث الواحد من خالل اآلخر‪ .‬فألن‬
‫الصرفة تغ ّير عناصر المجموع إلى قواسم مشتركة متباينة من‬‫الحركة ِّ‬
‫طريق تجزيئها‪ ،‬وألنها تفكّك المجموع وتعيد تركيبه‪ ،‬فإنها ترتبط ٍّ‬
‫بكل‬
‫بالتكون المستمر والتغ ّير واالستغراق الزمني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منفتح أساس ًا ويتسم‬
‫وعلى العكس من ذلك نجد أن جان إبستاين )‪ (Jean Epstein‬هو الذي‬
‫وحولها إلى حركة‬
‫استخلص بعمق وبشاعرية كبرى طبيعة اللقطة تلك ّ‬
‫بحتة وقارنها بلوحة تكعيبية وتزامنية‪" :‬جميع المساحات تنقسم وتُبتر‬
‫وتتح ّلل وتنكسر كما يتم ذلك في عين الحشرة التي ترصد ألف زاوية‬

‫(‪ ((1‬انظر حتليل أندريه بازان الذي َش َه َر رينوار بصورة حمورية وردت يف فيلم‬
‫جريمة السيد النج )‪ :(Le crime de M. Lange‬تغادر الكامريا أحد الشخوص يف هناية‬
‫الباحة‪ ،‬وتنعطف باجتاه معاكس مستعرضة اجلانب الفارغ من الديكور‪ ،‬ثم تلتقي من‬
‫جديد بالشخصية يف الطرف اآلخر من الباحة الذي ُيقدم فيه عىل ارتكاب جريمته ‪(Jean‬‬
‫)‪« :Renoir, Champ Libre, p. 42‬إن حركة اآللة املدهشة (‪ )...‬هي التعبري املكاين‬
‫لإلخراج كله»‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫الرسام فيها لقطة النهاية (‪ .)...‬فبدل‬
‫وزاوية‪ .‬إنها هندسة وصفية يكون ّ‬
‫المنظور الخارجي يستعيض بالمنظور الداخلي‪ ،‬وهو منظور متعدد‬
‫ومتموج ومتغ ّير ومنتفض كعقرب مقياس الرطوبة‪ .‬ويختلف‬
‫ّ‬ ‫ومتأ ّلق‬
‫هذا المنظور من جهة اليمين عما هو عليه من جهة اليسار‪ ،‬وكذلك األمر‬
‫بالنسبة للمنظور العالي والمنخفض‪ .‬وهذا يعني أن األجزاء الصغيرة التي‬
‫الرسام عن الواقع ليست بقواسم مشتركة في ما يخص المسافة‬
‫يقدمها ّ‬
‫والتضاريس والضوء"‪ .‬فالسينما ‪ -‬التي هي أكثر مباشرة من الرسم ‪-‬‬
‫تعطي الزمن نتوء ًا وتعطيه منظور ًا‪ :‬فهي تع ّبر عن الزمن نفسه كمنظور‬
‫أو كنتوء(‪ .((2‬لذا فإن الزمن يستطيع أساس ًا أن يتق ّلص أو أن يتمدّ د‪ ،‬شأنه‬
‫شأن الحركة التي تتباطأ أو تتسارع‪ .‬لقد اقترب إبستاين جد ًا من مفهوم‬
‫اللقطة‪ :‬فرأى أنها ق ْطع متحرك‪ ،‬أي أنها منظور زمني أو أنها تعديل ما‪.‬‬
‫وينجم عن ذلك تباين في الصورة السينمائية وفي الصورة الفوتوغرافية‪.‬‬
‫فالتصوير الضوئي هو نوع من القولبة )‪ :(moulage‬ذلك أن القالب ينظم‬
‫القوى الداخلية للشيء بحيث تصل في لحظة ما (ق ْطع ساكن) إلى حالة‬
‫من التوازن‪ .‬هذا علم ًا بأن التعديل ال يتوقف عندما يتحقق التوازن‪،‬‬
‫وال يتوقف عن تعديل القالب وعن تشكيل القالب المتغ ّير والمستمر‬
‫والزمني(‪ .((2‬هذه هي الصورة ‪ -‬الحركة التي وجد بازان أنها تتعارض‬

‫(‪ ((2‬لقد كتب إبستاين هذا النص )‪ (Ecrits, I, Seghers, p. 115‬يف معرض كالمه‬
‫عن فرنان ليجيه )‪ ،(Fernand Léger‬الذي هو من دون شك الرسام األقرب إىل السينام‬
‫من غريه‪ .‬ولكنه يف الصفحتني ‪ 138‬و‪ 178‬يعاود التك ّلم عن السينام بأسلوب مبارش‪.‬‬
‫(‪ ((2‬حول هذا التباين بني القولبة والتعديل‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫ ‪Gilbert Simondon, L’individu et sa genèse physico-biologique‬‬
‫‪(Paris: P.U.F., 1964), pp. 40-42.‬‬

‫‪57‬‬
‫المقربة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مع الصورة الضوئية‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬إذ قال‪" :‬من طريق العدسة‬
‫المصور الضوئي‪ ،‬في قولبة ما‪ ،‬إلى أخذ بصمة حقيقية مضيئة (‪.)...‬‬
‫ّ‬ ‫يلجأ‬
‫ولكن السينما تُحقق المفارقة المتمثلة في التقولب مع زمن الشيء‬
‫[المصور] وفي أخذ بصمة ديمومته أيض ًا"(‪.((2‬‬
‫َّ‬

‫‪)3‬‬

‫تم توصيف‬
‫ما الذي كان يحدث في فترة الكاميرا الثابتة؟ لقد ّ‬
‫متكرر لهذا الوضع‪ .‬في المقام األول‪ ،‬تم تحديد الكادر من وجهة نظر‬
‫وحيدة وجبهية‪ ،‬أي وجهة نظر المشاهد الذي ينظر إلى مجموع ال‬
‫يتبدّ ل‪ :‬فال يوجد بالتالي تواصل بين مجاميع متبدلة يحيل بعضها إلى‬
‫البعض اآلخر‪ .‬وفي المقام الثاني‪ ،‬اللقطة هي فقط تحديد لح ّيز مكاني‬
‫يدل على "شريحة مكانية" تبعد عن الكاميرا هذه المسافة أو تلك‬
‫(مقاطع ساكنة)‪ :‬فالحركة ال تُستخلص لذاتها بل تبقى متع ّلقة بالعناصر‬
‫محرك أو ناقل‪ .‬أخير ًا‪ ،‬يمتزج‬
‫والشخوص واألشياء التي تكون لها بمثابة ّ‬
‫الكل بالمجموع امتزاج ًا عميق ًا كما أن المتحرك يجتازه متنق ً‬
‫ال من لقطة‬
‫مكانية إلى أخرى‪ ،‬ومن شريحة موازية إلى شريحة أخرى‪ ،‬مع محافظتها‬
‫على استقاللها وتركيزها‪ :‬في المعنى الدقيق للكلمة ال يوجد تغ ّير وال‬
‫استمرار‪ ،‬وال س ّيما أن االستمرار يقتضي مفهوم ًا آخر عن العمق‪ ،‬فيمزج‬
‫المناطق المتوازية بدالً من تراكبها‪ .‬نستطيع إذ ًا أن ّ‬
‫نعرف الحالة األولى‬

‫(‪André Bazin, Qu’est-ce que le cinéma? (Paris: Edition du Cerf, ((2‬‬


‫‪1958), p. 151.‬‬

‫‪58‬‬
‫للسينما قائلين بأن الصورة تتحرك بدل أن نتكلم عن الصورة – الحركة؛‬
‫وإلى هذه الحالة األولى استند النقد البرغسوني‪.‬‬

‫لو تساءلنا كيف تشكلت الصورة ‪ -‬الحركة‪ ،‬أو كيف انبعثت من‬
‫الشخوص واألشياء‪ ،‬لالحظنا أن ذلك حصل بطريقتين مختلفتين‪ ،‬وجاء‬
‫ذلك في كلتيهما بصورة غير ملحوظة‪ :‬فمن جهة يتم ذلك من دون شك‬
‫بتحريك الكاميرا‪ ،‬فتصبح اللقطة هي نفسها متحركة‪ ،‬ومن جهة أخرى‬
‫يتم أيض ًا من طريق المونتاج‪ ،‬أي عبر وصل اللقطات التي كان كل منها‬
‫أو معظمها يستطيع أن يبقى ثابت ًا‪ .‬بهذه الطريقة كان من الممكن التوصل‬
‫إلى حركية ِصرفة مستخلصة من حركات الشخوص‪ ،‬من دون أن تتحرك‬
‫الكاميرا كثير ًا‪ :‬لقد كان هذا الوضع هو األكثر شيوع ًا‪ ،‬وال سيما في حالة‬
‫فيلم فاوست لمورناو‪ ،‬ألن الكاميرا المتحركة كانت وقف ًا على المشاهد‬
‫االستثنائية أو اللحظات المتم ّيزة‪ .‬والحال أن الطريقتين كانتا في‬
‫بداياتهما ملزمتين على التخفي‪ :‬فلم يكن على وصالت المونتاج فقط‬
‫أن تكون غير مرئية (كما في وصالت المحور)‪ ،‬وإنما كان على حركات‬
‫الكاميرا أن تُعنى بالحركات العادية أو بالمشاهد التافهة (حركات اإلبطاء‬
‫القريب من عتبة اإلدراك)(‪ .((2‬ذلك أن الشكلين أو الوسيلتين لم ّ‬
‫يتدخال‬

‫(‪ ((2‬لقد حلل نويل بورش هذه النقاط املهمة‪ )1 :‬كان لوصل املونتاج وللحركة‬
‫التافهة للكامريا أصول متباينة؛ لقد ق ّعد غريفيث الوصالت‪ ،‬ولكنه جعل استعامل‬
‫الكامريا املتحركة استثنائي ًا )‪(Naissance d’une nation‬؛ إن باسرتوين )‪(Pastrone‬‬
‫هو الذي جعل استعامل الكامريا املتحركة عادي ًا‪ ،‬ولكنه أمهل الوصالت مركّز ًا بشكل‬
‫حرصي عىل اجلبهية التي كانت السمة البارزة ألول سينام بدائية (انظر كتاب ‪.)Cabiria‬‬
‫تعرضتا لرشط اإلدراك نفسه الذي كان‬ ‫‪ )2‬ولكن الطريقتني‪ ،‬عند غريفيث وباسرتوين‪ّ ،‬‬
‫متوخى‪:‬‬
‫‪)Noël Burch, Marcel L’herbier (Paris: Seghers, 1973), pp. 142-145(.‬‬
‫‪59‬‬
‫ّإل لتحقيق إمكانية كامنة في الصورة الثابتة األولية‪ ،‬أي في الحركة التي‬
‫كانت مرتبطة بالشخوص واألشياء‪ .‬كانت هذه الحركة ميزة السينما‪،‬‬
‫وكانت تطالب بنوع من التحرير في السينما من دون االكتفاء بالحدود‬
‫المسماة أولية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التي كانت تلتزم بها الشروط األولية‪ .‬فكانت الصورة‬
‫الصورة التي هي في طور الحركة‪ ،‬تحدَّ د بنزوعها أكثر مما تحدد بحالتها‪.‬‬
‫ومالت اللقطة المكانية والثابتة إلى تقديم صورة ‪ -‬حركة ِصرفة‪ ،‬وهو‬
‫ميل كان يتح ّقق بهدوء عبر تحريك مكان الكاميرا‪ ،‬أو عبر المونتاج في‬‫ٌ‬
‫زمن اللقطات المتحركة أو الثابتة فقط‪ .‬وكما قال برغسون‪ ،‬مع أنه لم‬
‫يقل ذلك بخصوص السينما‪ ،‬ال تتحدّ د األشياء أبد ًا بحالتها األولية‪ ،‬وإنما‬
‫بنزوعها الخفي داخل هذه الحالة‪.‬‬

‫نخصص كلمة "لقطة" للتحديدات المكانية الثابتة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يمكننا أن‬


‫وللشرائح المكانية أو للمسافات الخاصة بالكاميرا‪ :‬وهذا ما ع ّبر عنه‬
‫جان ميتري‪ ،‬ليس فقط عندما شجب كلمة "اللقطة ‪ -‬التعاقبية" ‪( -‬مرور‬
‫الكاميرا بعدة أماكن من دون قطع) ألنه رآها غير مناسبة ‪ -‬بل عندما‬
‫رأى في تحريك الكاميرا سلسلة من اللقطات وليس لقطة واحدة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ تكون سلسلة اللقطات هي التي ترث الحركة والديمومة‪ .‬وبما‬
‫أنها ليست مفهوم ًا واضح ًا بما يكفي‪ ،‬يجب أن تخلق مفاهيم أكثر دقة‬
‫الستخالص وحدتي الحركة والديمومة‪ :‬سنرى ذلك في "األنساق"‬
‫التي تك ّلم عنها كريستيان ميتز )‪ (Christian Metz‬وفي "التفريعات"‬
‫التي تك ّلم عنها رايموند بيلور )‪ .(Raymond Bellour‬ولكن وجهة‬
‫نظرنا حالي ًا هي أن مفهوم اللقطة يمكن أن يتخذ وحد ًة وامتداد ًا كافيين‬
‫في ما لو أعطيناها كامل معناها اإلسقاطي والمنظوري والزمني‪ .‬وفع ً‬
‫ال‬

‫‪60‬‬
‫فعل يحتوي بذاته على العديد من العناصر‬ ‫فإن الوحدة هي دائم ًا وحدة ٍ‬
‫السلبية والمفعولة(‪ .((2‬إن اللقطات‪ ،‬كتحديدات مكانية ثابتة تستطيع تمام ًا‬
‫في هذا المعنى أن تكون التعدّ د الذي يتناسب مع وحدة اللقطة‪ ،‬ك َق ْطع‬
‫متحرك أو كمنظور زمني‪ .‬وستتغ ّير الوحدة بحسب التعدّ د الذي تتضمنه‪،‬‬
‫ولكنها مع ذلك تبقى وحدة هذا التعدّ د المترابط‪.‬‬

‫في هذا الشأن سنُمايز بين حاالت عديدة‪ .‬في الحالة األولى‬
‫أرى أن الحركة المستمرة للكاميرا هي التي ستحدّ د اللقطة‪ ،‬مهما‬
‫كانت تغييرات الزوايا ووجهات النظر متعددة (الكاميرا المتحركة‪،‬‬
‫على سبيل المثال)‪ .‬في الحالة الثانية يكون استمرار الوصل هو الذي‬
‫سيشكّل وحدة اللقطة‪ ،‬حتى ولو كانت "مادة" هذه الوحدة لقطتين أو‬
‫عدة لقطات متعاقبة تستطيع أن تكون ثابتة‪ .‬وهناك أيض ًا لقطات متحركة‬
‫ال تدين بتمايزها إال إلكراهات مادية‪ ،‬وتستطيع أن تشكل وحدة كاملة‬
‫بناء على طبيعة وصلتها‪ :‬فعند المخرج أورسون ويلز في فيلمه المواطن‬
‫كين )‪ (Citizen Kane‬ولقطتيها المشرفتين‪ ،‬تجتاز الكاميرا عملي ًا واجهة‬
‫زجاجية وتدلف إلى داخل غرفة واسعة‪ ،‬إما بسبب المطر الذي ينهمر‬
‫فيغشيه بالضباب‪ ،‬وإما بسبب العاصفة وقصف الرعد الذي‬ ‫على الزجاج ّ‬
‫يكسر هذا الزجاج‪ .‬وفي الحالة الثالثة‪ ،‬نجد أنفسنا أمام لقطة طويلة المدة‬
‫ثابتة أو متحركة‪ ،‬وهي "لقطة مقطعية" ذات بعد في المجال‪ :‬إن لقطة‬
‫مقربة‬
‫كهذه تشمل بذاتها شرائح المكان دفعة واحدة‪ ،‬وتنتقل من لقطة ّ‬
‫إلى لقطة بعيدة‪ ،‬ولكنها مع ذلك تبقى وحد ًة تمكّن من تحديدها كلقطة‪.‬‬

‫(‪Henri Bergson, Essai sur les données immédiates de la conscience ((2‬‬


‫‪([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), p. 55 (60).‬‬

‫‪61‬‬
‫فال ينظر من بعد إلى عمق المجال كما كانت تنظر إليه السينما "البدائية"‪،‬‬
‫كتنضيد لشرائح متوازية ال تتعلق إحداها إال بذاتها ألنها جميعها تخضع‬
‫مجمل الحركات‪ ،‬عند‬ ‫لمحرك واحد‪ .‬وعلى النقيض من ذلك‪ ،‬نجد أن َ‬ ‫ّ‬
‫تتوزع في العمق بحيث تقيم عالقات وأفعاالً وردود أفعال‬
‫رينوار وويلز‪ّ ،‬‬
‫ال تتطور إطالق ًا بطريقة متراصفة حول اللقطة الواحدة وإنما تتدرج على‬
‫مسافات مختلفة ومن لقطة ألخرى‪ .‬وهنا تتح ّقق وحدة اللقطة بسبب‬
‫العالقة المباشرة بين العناصر المأخوذة في تعدد اللقطات المتراكبة‬
‫التي لم تعد تنفصل عن بعضها‪ :‬ذلك أن عالقة األجزاء القريبة والبعيدة‬
‫هي التي تحقق الوحدة‪ .‬ونرى أن هذا التطور نفسه قد حصل في تاريخ‬
‫الرسم ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر‪ :‬فبدل تراكب اللقطات‬
‫تكونت رؤية أخرى متباينة إلى‬ ‫التي يمأل مشهد نوعي َّ‬
‫كل واحدة منها؛ ّ‬
‫العمق حيث يتقابل أشخاص اللوحة على نحو مائل ويتنادون من لقطة‬
‫ألخرى‪ ،‬وحيث تفعل عناصر اللقطة في عناصر لقطة أخرى وتتفاعل‪،‬‬
‫لون على لقطة واحدة‪ ،‬وحيث تكون أبعاد اللقطة األولى‬‫وحيث ال ينغلق ٌ‬
‫ال كي تدخل مباشرة في خلفية اللقطة عبر اختزال حاد‬ ‫غير ّ‬
‫مشذبة أص ً‬
‫لألحجام(‪ .((2‬وفي الحالة الرابعة‪ ،‬لم تعد اللقطة المقطعية (ولها أنواع‬

‫(‪ ((2‬لقد درس وولفلني )‪ (Wölfflin‬هذين املفهومني للعمق يف فن الرسم إ ّبان‬


‫القرنني السادس عرش والسابع عرش‪ ،‬ووردت هذه الدراسة يف كتاب مجيل جد ًا عنوانه‪:‬‬
‫‪Heinrich Wölfflin, Principes fondamentaux de l’histoire de l’art,  traduit par‬‬
‫‪Claire et Marcel Raymond (Paris: Gallimard, 1966),‬‬
‫التطور نفسه متام ًا ونظر‬
‫ّ‬ ‫ويف فصل (اللق َطات والعمق)‪ .‬لقد عرفت السينام‬
‫إليها بازان كملمحني متباينني لعمق املجال‪:‬‬
‫‪Bazin, “Pour en finir avec la profondeur de champ,” Cahiers du cinema, no‬‬
‫‪1 (Avril 1951),‬‬
‫وعىل الرغم من التحفظات مجيعها والتي أبداها ميرتي عىل أطروحة بازان‪=،‬‬
‫‪62‬‬
‫تغور‪ :‬على‬
‫عديدة) تحتوي على أي عمق وال على أي تراكب وال أي ّ‬
‫تمر في‬
‫العكس من ذلك تر ّد اللقطات المكانية جميعها إلى أمامية واحدة ّ‬
‫كادرات شتى بحيث تحيل وحدة اللقطة إلى االلتقاط الكامل للصورة‪،‬‬
‫في حين أن التعدد المتعالق هو تعدد ضبط الكادرات من جديد‪ .‬وهذا‬
‫موحدة اللون‬
‫ّ‬ ‫ما فعله دريير في لقطاته المقطعية الشبيهة بمساحات‬
‫والتي تنفي كل تمايز بين اللقطات المكانية المختلفة‪ ،‬ناقل ًة الحركة عبر‬
‫تحل ّ‬
‫محل التغيير في اللقطة (انظر‬ ‫سلسلة من إعادات ضبط الكوادر التي ّ‬
‫شخصية أورديت )‪ (Ordet‬في فيلم جيرترود )‪ .((2()(Gertrud‬فالصور‬
‫التي تفتقر إلى العمق أو التي لها عمق هزيل تشكّل نموذج ًا للق َطة‬
‫متساهلة أو ُمنسابة‪ ،‬تتعارض مع حجم الصور العميقة‪.‬‬

‫= فإنه وافقه يف ح ّلها‪ :‬رأى أن العمق‪ ،‬يف شكله األول‪ ،‬مقسوم إىل رشائح مرتاكبة يمكن‬
‫وحتمل كل رشحية قيمتها (وكذا األمر عند فوياد )‪ (Feuillade‬أو عند غريفيث‬ ‫ِ‬ ‫عزهلا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫)‪)(Griffith‬؛ ولكن عند رينوار وويلز هناك شكل آخر حيل حمل الرشائح ويتمثل‬
‫بالتفاعل املستمر ويتقاطع مع األمامية واخللفية‪ .‬فلم يعد الشخوص يلتقون عىل لقطة‬
‫واحدة‪ ،‬ألهنم يتعالقون ويتنادون من لقطة إىل أخرى‪ ،‬وقد تكون النامذج األوىل هلذا‬
‫العمق اجلديد يف فيلم الكوارس إليريش فون سرتوهايم )‪ ،(Erich von Stroheim‬وهذا‬
‫يتطابق متام ًا مع حتليل وولفلني‪ :‬فاملرأة جتفل يف لقطة مقربة‪ ،‬يف حني أن زوجها يدخل من‬
‫الباب اخللفي‪ ،‬وينطلق خيط من النور جيمع بينهام‪.‬‬
‫(‪ ((2‬عندما حاول هيتشكوك يف فيلم احلبل أن جيعل من فيلمه كله لقطة مقطعية‬
‫طويلة (تتوقف فقط عند تغيري البكرات)‪ ،‬ط ّبق احلالة نفسها‪ .‬لقد اعرتض بازان عىل أن‬
‫اللقطة املقطعية عند رينوار وويلز ووايلر ُتري قطيعة مع التقطيع أو اللقطة التقليديني‪،‬‬
‫يف حني أن هيتشكوك حافظ عليهام واكتفى بإجراء «تعاقب مستمر إلعادات ضبط‬
‫الكادرات»‪ .‬وبحق ر َّد رومهر وكلود شابرول )‪ (Claude Chabrol‬أن هذا أنشأ ِ‬
‫اجلدّ ة‬
‫حول الكادر التقليدي يف حني أن ويلز حافظ عليه‪ ،‬خالف ًا لذلك‬ ‫عند هيتشكوك الذي ّ‬
‫‪(Eric Rohmer et Claude Chabrol, Hitchcock ([s. l.]: Edition d’aujourd’hui,‬‬
‫‪1976), pp. 98-99).‬‬

‫‪63‬‬
‫في هذه المعاني جميعها‪ ،‬نقول إن اللق ّطة لها وحدة فعالً‪ .‬إنها‬
‫وحدة الحركة‪ ،‬وهي تحتوي ‪ -‬تحت هذه الصفة ‪ -‬على كثرة مترابطة‬
‫ال تتناقض معها(‪ .((2‬ما نستطيع قوله هو إن هذه الوحدة خاضعة لضرورة‬
‫مزدوجة‪ ،‬بالنسبة للكل الذي تع ّبر فيه عن تغ ّير يطرأ على مدى الفيلم‪،‬‬
‫كل‬ ‫وبالنسبة لألجزاء التي تحدّ د فيها التنقالت التي تجري داخل ّ‬
‫مجموع‪ ،‬ومن مجموع آلخر‪ .‬وقد ع ّبر بازوليني عن تلك الضرورة‬
‫المزدوجة بطريقة شديدة الوضوح‪ .‬فمن جهة قد يكون ّ‬
‫الكل السينمائي‬
‫حق مستمر نظري ًا؛‬
‫لقطة مقطعية تحليلية واحدة‪ ،‬لها حق غير محدود‪ّ ،‬‬
‫ومن جهة أخرى قد تكون أجزاء الفيلم فعلي ًا لقطات متقطعة ومشتتة‬
‫ومبعثرة‪ ،‬ال رابط ُيذكر بينها‪ .‬إذ ًا يجب على الكل أن يتخ ّلى عن مثاليته‪،‬‬
‫وأن يصبح َّ‬
‫الكل التوليفي للفيلم الذي يتح ّقق في مونتاج األجزاء؛ وعلى‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬ينبغي اختيار األجزاء والتنسيق بينها ويجب أن تدخل‬
‫في توصيالت وعالقات تُعيد من طريق المونتاج بناء اللقطة المقطعية‬
‫االفتراضية أو الكل التحليلي للسينما(‪.((2‬‬

‫(‪ ((2‬لقد ح ّلل بونيتزر )‪ (Bonitzer‬مجيع هذه األنواع من اللقطات‪ ،‬كام حلل‬
‫عمق احل ّيز‪ ،‬واللقطات العديمة العمق‪ ،‬وذهب به األمر إىل النظر يف اللقطات املعارصة‬
‫سمها «لقطات متناقضة» (عند غـــودار وسايرببرغ ومارغريت دوراس) يف‪:‬‬ ‫التي ّ‬
‫‪Pascal Bonitzer, Le champ aveugle, Cahiers du Cinéma (Paris: Gallimard, [s.‬‬
‫‪d.]),‬‬
‫وتطوره‬
‫ّ‬ ‫وال شك أن بونيتزر‪ ،‬بني الن ّقاد املعارصين‪ ،‬هو الذي أعار مفهوم اللقطة‬
‫االهتام َم األكرب‪ .‬ويبدو لنا أن حتليالته الصارمة ستقوده حت ًام إىل مفهوم جديد للقطة‬
‫كوحدة أساسية‪ ،‬وإىل مفهوم جديد للوحدات (التي توجد مثائلها يف العلوم)‪ .‬ومع‬
‫ذلك ختامره الشكوك يف متانة مفهوم اللقطة‪ ،‬فاستنكر «طابعها التلفيقي والغامض‬
‫والتحاييل»‪ .‬وحول هذه النقطة فقد نستطيع السري معه‪.‬‬
‫(‪Pier Paolo Pasolini, L’expérience hérétique, traduit de l’italien ((2‬‬
‫‪par Anna Rocchi Pullberg  (Paris: Payot, 1976), pp. 197-212.‬‬

‫‪64‬‬
‫ولكن ال يوجد تقسيم بين الفعل والحق (يقتضي عند بازوليني‬
‫نفور ًا كبير ًا من اللقطة المقطعية‪ ،‬التي بقيت دائم ًا في ح ّيز االحتمال)‪.‬‬
‫هناك جانبان يتعلقان أيض ًا بالفعل والحق و ُيظهران توتّر اللقطة كوحدة‪.‬‬
‫من جهة أخرى تدخل األجزاء ومجاميعها في تواصالت نسبية‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل التوصيالت غير الملحوظة‪ ،‬وحركات الكاميرا‪ ،‬واللقطات‬
‫المقطعية الفعلية‪ ،‬مع عمق في المجال أو من دونه‪ .‬ولكن ستكون هناك‬
‫دائم ًا عمليات قطع وانقطاع حتى إذا حصل تواصل الحق ًا‪ ،‬مما ُيثبت أن‬
‫فالكل يتدخل من جهة وعلى مستوى آخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكل ليس من هذه الجهة‪.‬‬‫ّ‬
‫كما لو أنه يمنع المجاميع من أن تنغلق على نفسها ومن أن ينغلق بعضها‬
‫على البعض اآلخر‪ ،‬مما ُيظهر انفتاح ًا ال يتماشى مع عمليات االستمرار‬
‫ومع انقطاعاتها‪ .‬إنه يتبدّ ى في ب ِ‬
‫عد ديمومة تتغير وال تتوقف عن التغ ّير‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ويتبدى في الروابط الخاطئة كقطب أساسي للسينما‪ .‬يستطيع التوصيل‬
‫الكاذب أن يلعب دور ًا داخل مجموع (كما عند إيزنشتاين) أو في‬
‫االنتقال من مجموع إلى آخر‪ ،‬أو بين لقطتين مقطعيتين (كما عند دريير)‪.‬‬
‫ال بل لهذا السبب ال يكفي أن نقول إن اللقطة المقطعية تستبطن المونتاج‬
‫أثناء عمليات التصوير؛ ذلك أنها ‪ -‬على العكس ‪ -‬تطرح مشاكل مونتاج‬
‫نوعية‪ .‬في حديث حول المونتاج أجري مع ناربوني‪ ،‬يتساءل جاك‬
‫ريفيت )‪ ،(Jacques Rivette‬وسيلفي بيير )‪ :(Sylvie Pierre‬أين ذهبت‬
‫جيرترود؟ وأين أخذها دريير؟ الجواب الذي أعطياه هو أنها صارت في‬
‫وصالت األشرطة السينمائية(‪ .((2‬ليس الربط الخاطىء توصيل استمرار‪،‬‬
‫وليس انفصاالً أو انقطاع ًا في التوصيل‪ .‬إنه يحقق القوة األخرى في‬

‫(‪Jean Narboni, Sylvie Pierre et Rivette, "Montage," Cahiers du ((2‬‬


‫‪Cinéma, no 210 (Mars 1969).‬‬

‫‪65‬‬
‫خارج اإلطار‪ ،‬ذلك المكان اآلخر أو تلك المنطقة الفارغة‪ ،‬أو ذلك‬
‫"األبيض على األبيض الذي يستحيل تصويره"‪ .‬لقد انتقلت جيرترود‬
‫إلى ال ُبعد الرابع أو الخامس‪ ،‬بحسب تسمية دارير‪ .‬من دون أن تكسر‬
‫كل شيء‪ ،‬وتكون اإلسفين‬ ‫فعل ّ‬
‫تكون َ‬
‫ُ‬ ‫التوصيالت الكاذبة كل شيء‪،‬‬
‫الذي تغرسه في المجاميع وفي األجزاء؛ كما أن التوصيالت الحقيقية‬
‫هي االتجاه المعاكس؛ اتجاه األجزاء والمجاميع التي يجب أن تلتحق‬
‫ٍ‬
‫بكل ُيفلت منها‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫الف�صل الثالث‬
‫املونتاج‬
‫‪)1‬‬

‫القص‪ ،‬والروابط الخاطئة‬ ‫ّ‬ ‫من خالل التوصيالت وعمليات‬


‫الكل المطلق (وهو المستوى البرغسوني‬ ‫عرف المونتاج بأنه تحديد ّ‬ ‫ُي َّ‬
‫الثالث)‪ .‬لم يكف إيزنشتاين عن التذكير بأن المونتاج هو الفيلم ك ّله‪،‬‬
‫الكل هو بالضبط موضوع المونتاج؟‬ ‫وهو الفكرة األساسية‪ .‬ولكن لماذا ّ‬
‫منذ بداية الفيلم وحتى نهايته‪ ،‬يتغ ّير شيء‪ ،‬ولكن هذا ّ‬
‫الكل الذي يتغير‪،‬‬
‫درك ‪ -‬على ما يبدو ‪ -‬إال بطريقة غير‬ ‫وهذا الزمن أو هذه الديمومة‪ ،‬ال ُي َ‬
‫مباشرة‪ ،‬انطالق ًا من الصور‪ /‬الحركة التي تع ّبر عنه‪ .‬فالمونتاج هو تلك‬
‫العملية التي تعتمد على الصور‪ /‬الحركة لتستخلص كل شيء‪ ،‬أي‬
‫الفكرة أو صورة الزمن‪ .‬إنها صورة ال مباشرة بالضرورة‪ ،‬ألنها مستمدّ ة‬
‫من الصور‪ /‬الحركة ومن عالقاتها‪ .‬وال يأتي المونتاج بعد ذلك‪ ،‬من دون‬
‫الكل هو األول بطريقة من الطرق‪ ،‬وأن يكون‬‫سبب‪ ،‬بل يجب أن يكون ّ‬
‫مفترض ًا من قبل‪ .‬يضاف إلى ذلك‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬أن الصورة‪ /‬الحركة بذاتها‬
‫ال تحيل إال في ما ندر إلى حركية الكاميرا‪ ،‬التي كانت موجودة في عصر‬
‫غريفيث وبعده‪ ،‬ولكنها تنشأ في األغلب من تعاقب لقطات ثابتة تقتضي‬

‫‪67‬‬
‫إجراء المونتاج‪ .‬إذا ما نظرنا في المستويات الثالثة‪ :‬تحديد المنظومات‬
‫المغلقة‪ ،‬وتحديد الحركة التي تنشأ بين أجزاء المنظومة‪ ،‬وتحديد ّ‬
‫الكل‬
‫المتغ ّير الذي يع َّبر عنه في الحركة‪ ،‬نجد انتقاالً كهذا بين هذه المستويات‬
‫يجسد مسبق ًا المستويين‬
‫الثالثة التي يستطيع فيها كل مستوى أن يحتوي أو ّ‬
‫اآلخرين‪ .‬سيتمكن بعض السينمائيين إذ ًا من أن " ُيدخلوا" المونتاج في‬
‫اللقطة أو حتى في الكادر‪ ،‬وأال يولوا أهمية كبرى للمونتاج بحد ذاته‪.‬‬
‫جوانيتها المتبادلة‪ .‬إن‬ ‫ولكن ِ‬
‫مز ّية هذه العمليات الثالث أنها تستمر في ّ‬
‫ما يعود إلى المونتاج‪ ،‬بذاته أو بشيء آخر‪ ،‬هو الصورة الالمباشرة للزمن‬
‫والديمومة‪ .‬وال نتك ّلم عن زمن متجانس أو ديمومة مرتبطة بمكان‪ ،‬كتلك‬
‫التي استنكرها برغسون‪ ،‬بل نتكلم عن ديمومة وزمن فعليين ينحدران‬
‫من تمفصل الصور‪ /‬الحركة‪ ،‬بحسب النصوص السابقة لبرغسون‪ .‬أن‬
‫نعرف إن كانت ثمة صور ال مباشرة يمكن أن نسميها بصور‪ /‬زمن‪ ،‬وإلى‬
‫أي مدى تنفصل عن الصور‪ /‬الحركة‪ ،‬وإلى أي مدى ‪ -‬على العكس من‬
‫ذلك ‪ -‬تستند إلى بعض الجوانب غير المعروفة لهذه الصور‪ ،‬كل هذا ال‬
‫يمكن أن يدخل في صميم بحثنا اآلن‪.‬‬

‫المونتاج هو تركيب وتنظيم الصور‪ /‬الحركة‪ ،‬ويشكّل صورة ال‬


‫مباشرة للزمن‪ ،‬والحال‪ ،‬منذ ظهور الفلسفة األقدم‪ ،‬أن هناك العديد من‬
‫الطرق التي ُينظر فيها إلى الزمن بنا ًء على الحركة‪ ،‬وبالنسبة للحركة‪ ،‬طبق ًا‬
‫المرجح أن نجد هذا التنوع في مختلف "مدارس"‬
‫ّ‬ ‫لتركيبات شتّى‪ .‬ومن‬
‫المونتاج‪ .‬إذا ما أشدْ نَا بغريفيث‪ ،‬ال ألنه اخترع المونتاج‪ ،‬بل ألنه رفع من‬
‫شأنه عالي ًا‪ ،‬يبدو أننا نستطيع التمييز بين أربعة اتجاهات كبرى‪ :‬االتجاه‬
‫العضوي للمدرسة األميركية‪ ،‬االتجاه األيديولوجي الجدلي للمدرسة‬

‫‪68‬‬
‫الكمي للمدرسة الفرنسية قبل الحرب العالمية الثانية‪،‬‬
‫السوفيتية‪ ،‬االتجاه ّ‬
‫واالتجاه التكثيفي للمدرسة التعبيرية األلمانية‪ .‬وفي كل حالة يستطيع‬
‫المخرجون السينمائيون أن يكونوا متغايرين‪ :‬ومع ذلك لهم مواضيع‬
‫قاسم فكري مشترك يكفي‪،‬‬‫ٌ‬ ‫ومشاكل واهتمامات مشتركة‪ ،‬وباختصار‪ ،‬لهم‬
‫في السينما وغيرها‪ ،‬لتأسيس مفهومي "المدرسة" أو "النزعة"‪ .‬يطيب لنا‬
‫اآلن أن نقدّ م توصيف ًا سريع ًا جد ًا لكل تيار من تيارات المونتاج األربعة هذه‪.‬‬

‫لقد نظر غريفيث إلى تركيب الصور‪ /‬الحركة كتنظيم وكجسم‬


‫ووحدة عضوية كبرى‪ .‬وهنا يكمن ابتكاره‪ .‬الجسم هو أوالً وحدة في‬
‫المتنوع‪ ،‬أي مجموع من األجزاء المتباينة‪ :‬هناك الرجال والنساء‪ ،‬هناك‬
‫ّ‬
‫األغنياء والفقراء‪ ،‬المدينة والريف‪ ،‬الشمال والجنوب‪ ،‬العناصر الداخلية‬
‫والعناصر الخارجية‪ ...‬إلخ‪ .‬وننظر إلى هذه األجزاء في عالقاتها الثنائية‬
‫التي تشكّل مونتاج ًا متناوب ًا ومتوازي ًا‪ ،‬أي أن صورة الجزء تعقب صور‬
‫جزء آخر بنا ًء على إيقاع معين‪ .‬ولكن يجب على الجزء والمجموع‬
‫أن تكون لهما صلة‪ ،‬وأن يتبادال أبعادهما النسبية‪ :‬فاللجوء إلى اللقطة‬
‫المقربة‪ ،‬في هذا المعنى‪ ،‬ال يقوم فقط بتضخيم تفصيل من التفاصيل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بل يؤ ّدي إلى تقزيم المجموع وإلى تقليص المشهد (إلى مستوى قامة‬
‫المقربة للطفل الرضيع الذي يشاهد مأسا ًة في فيلم‬
‫ّ‬ ‫طفل‪ ،‬مثالً‪ ،‬كاللقطة‬
‫المقربة‪ ،‬بإظهارها كيف يعيش‬
‫ّ‬ ‫المجزرة)(*)‪ .‬وعلى العموم فإن اللقطة‬
‫الشخوص المشهد الذي هم جزء منه‪ ،‬تقدم المجموع الموضوعي لذاتية‬
‫المقربة لمقاتلين‬
‫ّ‬ ‫تضاهيه ال بل تتجاوزه (وال نتكلم هنا فقط عن اللقطات‬
‫تتناوب مع لقطات المعركة ككل‪ ،‬وال عن اللقطات المقربة المرعبة‬

‫(*) فيلم أخرجه جون فورد عام ‪ ،1948‬ويتع ّلق بالغرب األمريكي (املرتجم)‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫للفتاة التي يتع ّقبها أحد الزنوج في فيلم والدة ّأمة [لغريفيث‪،]1915 ،‬‬
‫وإنما أيض ًا عن اللقطة المقربة للمرأة الشابة التي تتماهى مع صور ذهنها‪،‬‬
‫كما في فيلم((( ‪ .Enoch Arden‬وأخير ًا ينبغي على األجزاء أيض ًا أن‬
‫آن واحد كيف تتنازع وكيف تهدد وحدة‬ ‫تفعل وتتفاعل‪ ،‬كي تظهر في ٍ‬
‫الكل العضوي‪ ،‬وكيف تتجاوز األزمة أو تستعيد ترميم وحدتها‪ .‬في‬ ‫ّ‬
‫ٌ‬
‫أفعال تُظهر تعارض ًا بين اإلنسان الط ّيب والخبيث‪،‬‬ ‫بعض األجزاء تظهر‬
‫تهب لنصرة اإلنسان‬
‫ولكن هناك أجزاء أخرى تُستمدّ من أفعال متضافرة ّ‬
‫ويمر في‬
‫ّ‬ ‫يتطور في جميع هذه الوقائع‬
‫الطيب‪ :‬إنه شكل المبارزة الذي ّ‬
‫أطوار شتى‪ .‬فمن شأن المجموع العضوي أن يتعرض دائم ًا للتهديد؛‬
‫وما ُيتّهم فيه الزنوج في فيلم والدة ّأمة‪ ،‬هو أنهم يريدون تحطيم الوحدة‬
‫الحديثة العهد للواليات المتحدة مستفيدين من هزيمة الجنوب‪...‬‬
‫وتنحو األفعال المتضافرة إلى الغاية نفسها‪ ،‬أي أنها تُظهر مكان المبارزة‬
‫من أجل قلب نتيجتها وإنقاذ البراءة أو إعادة تشكيل الوحدة المهدَّ دة؛‬
‫ويتج ّلى ذلك في عدْ و الفرسان الذين يه ّبون لنجدة المحاصرين أو‬
‫مجيء المنقذ الذي يمسك بالفتاة على ِقطع الجليد المتناثرة في فيلم‬
‫في قلب العاصفة(*) )‪ .(Way down East‬وهذا هو الشكل الثالث‬
‫ِ‬
‫المساهم أو المتضافر‪ ،‬الذي ُيناوب بين لحظات‬ ‫للمونتاج‪ ،‬أي المونتاج‬
‫فعلين سيتصالن وشيك ًا‪ .‬وكلما تضافرت األفعال‪ ،‬كلما اقترب االتصال‪،‬‬

‫املقربة والبنية الثنائية انظر‪Jacques Fieschi, “Griffith le :‬‬ ‫((( حول اللقطة‬
‫‪précurseur,” Cinématographe, no 24 (Février, 1977),‬‬
‫)‬ ‫‪b‬‬

‫وحول اللقطة املقربة لغريفيث وعمليات التقزيم والتذويب‪ ،‬انظر‪Yann :‬‬


‫‪Lardeau, “King David,” Cahiers du cinéma, no 346 (Avril 1983).‬‬
‫(*) فيلم أخرجه غريفيث عام ‪1921‬؛ وحظي مشهد إنقاذ الفتاة األم بتعليقات‬
‫وحتليالت كثرية (املرتجم)‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫وكلما كان التعاقب أسرع (المونتاج المتسارع)‪ .‬صحيح أن االتصال ال‬
‫يتح ّقق دائم ًا عند غريفيث‪ ،‬وأن الفتاة البريئة ُمدانة في الغالب ‪ -‬وبسادية‬
‫نوع ًا ما ‪ -‬ألنها لن تستطيع أن تجد مالذ ًا وخالص ًا إال في وحدة غير‬
‫طبيعية "ال عضوية"‪ :‬فالصيني المدمن على األفيون لن يصل في الوقت‬
‫المناسب لنجدتها في فيلم الزنبقة المح ّطمة‪ .‬في هذه المرة‪ ،‬كان هناك‬
‫سبق انعكاس المسافة البؤرية‪.‬‬‫تسارع خبيث َ‬

‫تلك هي األشكال الثالثة للمونتاج أو التعاقب اإليقاعي‪ :‬أي تعاقب‬


‫األجزاء المتغايرة‪ ،‬تعاقب األبعاد النسبية‪ ،‬تعاقب األفعال المتضافرة‪ .‬إنه‬
‫تصور عضوي هائل ُيفضي بالتالي إلى المجموع وأجزائه‪ .‬وستقتبس‬ ‫ّ‬
‫منه السينما األميركية شك َلها األمتن‪ :‬شكل وضعها كمجموع وشكل‬
‫وضعها المتجدد والمتحول من طريق مبارزة أو تضافر بين األفعال‪.‬‬
‫المونتاج األميركي هو مونتاج عضوي ف ّعال؛ ومن الخطأ أن يؤخذ عليه‬
‫خضوعه للسرد؛ األمر على العكس من ذلك‪ ،‬ألن السردية هي التي تنجم‬
‫التعصب (‪ )1916‬يكتشف غريفيث‬ ‫ّ‬ ‫عن مفهوم المونتاج هذا‪ .‬في فيلم‬
‫أن التمثيل العضوي قد يكون هائالً‪ ،‬وقد ال يشمل عدد ًا من العائالت‬
‫والمجتمعات فقط‪ ،‬بل يشمل آالف ًا من السنين وحضارات شتى‪ .‬وهنا‬
‫ستكون األجزاء المتمازجة في المونتاج المتوازي هي الحضارات‬
‫بالذات‪ .‬وستنطلق األبعاد النسبية المتبادلة من مدينة الملك لتصل إلى‬
‫مكتب الرجل الرأسمالي‪ .‬ولن تكون األفعال المتضافرة فقط مبارزات‬
‫خاصة بكل حضارة‪ ،‬ولن تكون سباق عربات في المشهد البابلي‪ ،‬وسباق‬
‫السيارات أو القطارات في المشهد الحديث‪ ،‬بل سيلتقي السباقان ذاتهما‬
‫عبر القرون في مونتاج متسارع يتراكب بين بابل وأميركا‪ .‬ولن ُيستخلص‬

‫‪71‬‬
‫ّ‬
‫قط مثل هذه الوحدة العضوية بين األجزاء المتغايرة واألفعال المتباعدة‪،‬‬
‫من طريق اإليقاع‪.‬‬

‫كلما نُظر إلى الزمن انطالق ًا من الحركة‪ ،‬وكلما ُع ّرف الزمن على‬
‫أنه مقياس الحركة‪ ،‬كلما اكتشفنا ملمحين للزمن يبعثان دالالت زمنية‪:‬‬
‫فمن جهة هناك الزمن ككل‪ ،‬أو كدائرة كبرى أو لولبية‪ ،‬يلتقط مجموع‬
‫الحركات في الكون؛ ومن جهة أخرى هناك الزمن كفاصل يحدّ د أصغر‬
‫حركة أو فعل‪ .‬الزمن ككل‪ ،‬أي مجمل الحركات في الكون‪ ،‬هو الطائر‬
‫المح ّلق في الفضاء من دون أن يتوقف عن توسيع دائرة طيرانه‪ .‬ولكن‬
‫الوحدة الرقمية للحركة هي خفقة الجناح‪ ،‬وهي المسافة بين حركتين‬
‫تكف عن التضاؤل‪ .‬الزمن كفاصل هو الحاضر المتغ ّير‬ ‫ّ‬ ‫وفعلين ال‬
‫المتسارع‪ ،‬والزمن ككل هو الحركة اللولبية المنفتحة من طرفيها‪ :‬طرف‬
‫الماضي الرحب وطرف المستقبل‪ .‬وبتمدد الحاضر إلى ما ال نهاية‪،‬‬
‫والكل المتق ّلص إلى ما ال نهاية ّ‬
‫يمر عبر الفاصل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نفسه َّ‬
‫الكل؛‬ ‫يصبح هو ُ‬
‫المثلى‪ ،‬أي‬ ‫ِ‬
‫وتشكيل الصور‪ /‬الحركة‪ ،‬هو الفكرة ُ‬ ‫وما ينشأ عن المونتاج‬
‫تلك الصورة الالمباشرة للزمن‪ :‬فالكل هو الذي يطوي ويبسط مجمل‬
‫األجزاء في المهد الشهير لفيلم التعصب‪ ،‬والفاصل بين األفعال هو الذي‬
‫يتضاءل في المونتاج المتسارع للسباقات‪.‬‬

‫‪)2‬‬
‫مع أن إيزنشتاين اعترف بأنه مدين جد ًا لغريفيث‪ ،‬إال أنه ّ‬
‫سجل‬
‫اعتراضين‪ .‬يخال المرء أوالً أن األجزاء المتمايزة للمجموع تعطى بذاتها‬
‫كظواهر مستقلة‪ .‬إنها أشبه بقديد من لحم الخنزير يجمع بين ِ‬
‫الدسم‬
‫والهزيل‪ :‬هناك فقراء وأغنياء‪ ،‬أخيار وأشرار‪ ،‬زنوج وبيض‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫وعندما يتعارض ممثلو هذه األجزاء‪ ،‬يكون ذلك بالضرورة كمبارزات‬
‫الدوافع الجماعية عدد ًا من األسباب الشخصية جد ًا‬
‫ُ‬ ‫فردية تغ ّطي فيها‬
‫حب تكون بمثابة عنصر ميلودرامي)‪ .‬إنها أشبه بخطوط‬ ‫ال قصة ّ‬ ‫(مث ً‬
‫متوازية تتعاقب‪ ،‬وتتالقى إلى ما ال نهاية‪ ،‬من دون أن تتصادم على‬
‫خط قاطع تتصادم في هذه النقطة أو تلك‪.‬‬‫األرض إال عندما يجعلها ٌ‬
‫إن غريفيث يجهل أن األغنياء والفقراء ليسوا كظواهر مستقلة‪ ،‬ولكنهم‬
‫مرتبطون بقضية عامة‪ ،‬أال وهي االستغالل االجتماعي‪ ...‬إن هذين‬
‫االعتراضين اللذين يفضحان التصور "البرجوازي" لغريفيث ال يتعلقان‬
‫فقط بطريقة سرد قصة أو بطريقة فهم التاريخ‪ .‬إنهما يرتبطان مباشرة‬
‫بالمونتاج الموازي (والمتالقي أيض ًا)(((‪ .‬وما يأخذه إيزنشتاين على‬
‫كون عن الجسد فكرة تجريبية تمام ًا‪ ،‬من دون النظر في قانون‬
‫غريفيث أنه ّ‬
‫تصور وحدة هذا الجسد بطريقة خارجية تمام ًا‪ ،‬ورأى‬‫نشأته ونموه؛ وأنه ّ‬
‫أنه وحدة تجمع بين األجزاء المتجاورة وتراكمها‪ ،‬من دون أن ينظر في‬
‫وحدة اإلنتاج‪ ،‬كخل ّية تنتج أجزاءها إما بالتقسيم وإما بالتمايز؛ وأنه أيض ًا‬
‫عرضية‪ ،‬وليس على أنه القوة المحركة الداخلية‬ ‫فهم التعارض بطريقة َ‬
‫التي بها تخلق الوحدة المقسومة وحد ًة جديدة ذات مستوى آخر‪.‬‬
‫سنالحظ أن إيزنشتاين حافظ على فكرة غريفيث القائلة بوجود تركيب‬
‫أو تناغم عضويين للصور‪ /‬الحركة‪ :‬ينطلقان في الوضع العام ويصالن‬
‫إلى الوضع المتغ ّير‪ ،‬ويتحققان بتطور التعارضات وتجاوزها‪ .‬ولكن‬

‫((( يقوم التحليل الالمع جد ًا الذي قدّ مه إيزنشتاين عىل أن املونتاج املوازي‪ ،‬ال‬
‫حييل فقط يف مفهومه وإنام أيض ًا يف ممارسته إىل الطريقة التي هبا يفكر املجتمع البورجوازي‬
‫يف ذاته ويامرسها‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Sergei Eisenstein, Film form (New York: Meridian Books, [s. d.]), pp. 234.‬‬
‫‪sq., (“Dickens, Griffith and the film to-day”).‬‬

‫‪73‬‬
‫غريفيث لم َير ً‬
‫فعال الطبيعة الجدلية للجسد وتركيبه‪ .‬العضوي هو فع ً‬
‫ال‬
‫لولب كبير‪ ،‬ولكن يجب النظر إلى هذا اللولب "بطريقة علمية" ال بطريقة‬
‫تجريبية‪ ،‬بنا ًء على قانون النشأة والنمو والتطور‪ .‬لقد اعتبر إيزنشتاين أنه‬
‫المدرعة بوتومكين �‪(Le cuirassé Potem‬‬ ‫ّ‬ ‫استكمل طريقته في فيل م‬
‫)‪ ،kine‬وفي تعليقه على هذا الفيلم يقدّ م تصور ًا جديد ًا لما هو عضوي(((‪.‬‬
‫اللولب العضوي يجد قانونه الداخلي في المقطع الذهبي الذي‬
‫ويجزئ المجموع إلى قسمين كبيرين متعارضين‬ ‫ّ‬ ‫ُيبرز نقطة وقف‪،‬‬
‫ولكنهما غير متساويين (تلك هي برهة ِ‬
‫الحداد التي يعبر فيها المرء من‬ ‫ُ‬
‫السفينة إلى المدينة وتنقلب فيها الحركة رأس ًا على عقب)‪ .‬ولك ّن كل‬
‫لولبة أو مقطع ينقسم بدوره إلى جزأين غير متساويين ومتعارضين‪.‬‬
‫والتعارضات عديدة‪ :‬فهناك تعارض كمي (إنسان واحد‪ /‬كثيرون‪ ،‬رجل‬
‫واحد‪ /‬رجال كثيرون‪ ،‬عيار ناري واحد‪ /‬صلية من العيارات النارية‪،‬‬
‫مركب واحد‪ /‬أسطول)‪ ،‬وتعارض نوعي (المياه‪ /‬األرض)‪ ،‬وتعارض‬
‫كثيف (الظلمات‪ /‬النور)‪ ،‬وتعارض دينامي (حركة صاعدة‪ /‬حركة‬
‫نازلة‪ ،‬حركة نحو اليمين‪ /‬حركة نحو اليسار وبالعكس)‪ .‬يضاف إلى‬
‫يسجل المقطع الذهبي‬
‫ذلك أننا إذا انطلقنا من نهاية اللولب ال من بدايته‪ّ ،‬‬
‫توقف ًا آخر‪ ،‬فتحل نقطة التعاكس العليا محل النقطة األدنى‪ ،‬و ُيحدث‬

‫((( انظر‪Sergei Eisenstein, La non-indifférente nature, traduit par :‬‬


‫‪Luda et Jean Schnitzer, 10-18,  (Paris: Union Générale D’éditions, [s. d.]), I,‬‬
‫‪ch. "L’organique et le pathétique",‬‬‫‪e‬‬

‫فصل «العضوي والشجني» وهذا الفصل الذي ركز عىل شخصية بوتومكني‬
‫)‪ (Potemkine‬حي ّلل العضوي (كيف ينشأ وكيف ينمو) ويعالج الشجني (كيف‬
‫يتطور) الذي يستكمله‪ .‬ويف الفصل التايل من الكتاب ‪ -‬وهو بعنوان «النابذة وكأس‬
‫الغرال» )‪ (La centrifugeuse graal‬يركّز عىل «اخلط العام» ويستمر يف حتليله‬
‫للشجني من خالل عالقته بالعضوي‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫هذا التو ّقف انقسامات أخرى وتعارضات أخرى‪ .‬فيتقدم اللولب على‬
‫نحو متصاعد من خالل التعارضات والتناقضات‪ .‬ولكن ما يظهر هكذا‬
‫هو حركة الواحد األحد التي تتضاعف وتشكّل من جديدة وحدة ثانية‪.‬‬
‫وفعالً‪ ،‬إذا أرجعنا األجزاء المتعارضة إلى األصل ‪( O‬أو إلى نهاية‬
‫اللولب)‪ ،‬ومن حيث التكوين‪ ،‬فإنها تدخل في تناسب‪ ،‬هو التناسب‬
‫الخاص بالمقطع الذهبي الذي يجب فيه أن يكون الجزء األصغر في‬
‫أعلى مستوى له‪ ،‬شأنه شأن الجزء األكبر بالنسبة للمجموع‪:‬‬
‫‪OA‬‬ ‫‪OB‬‬ ‫‪OC‬‬
‫=‬ ‫=‬ ‫= ‪….‬‬ ‫‪m‬‬
‫‪OB‬‬ ‫‪OC‬‬ ‫‪OD‬‬

‫يسجل فيها تقدم ًا‬


‫ّ‬ ‫التعارض في خدمة الوحدة الجدلية التي‬
‫يبتدأ بنقطة االنطالق وينتهي بوضع الوصول‪ .‬وبهذا المعنى ينعكس‬
‫المجموع داخل كل جزء‪ ،‬وكل لولبة أو جزء يعيد إنتاج المجموع‪ .‬وال‬
‫يصح هذا فقط على المقطع‪ ،‬بل يصح على كل صورة‪ ،‬ألنها تتضمن‬ ‫ّ‬
‫وقفاتها وتعارضاتها ومبتدأها ونهايتها‪ :‬فليس لهذه الصورة وحدة عنصر‬
‫تجاوري لعناصر أخرى‪ ،‬وإنما لها وحدة توليدية لـ "خلية" يمكن أن‬
‫تنشطر إلى خاليا متعددة‪ .‬لقد قال إيزنشتاين عن الصورة‪ /‬الحركة إنها‬
‫خلية مونتاج وليست مجرد عنصر في المونتاج‪ .‬بوجيز العبارة؛ نقول إن‬
‫محل المونتاج المتوازي ويخضع لقانون الواحد‬‫يحل ّ‬
‫مونتاج التعارض ّ‬
‫األحد الجدلي الذي ينشطر ليشكّل وحدة جديدة أرقى‪.‬‬

‫لن نأخذ باالعتبار إال الهيكل النظري لتعليق إيزنشتاين‪ ،‬ألنه يتابع‬
‫مثال)‪ .‬وهذا التركيب الجدلي‬ ‫عن كثب الصور الملموسة ( َد َرج أوديسا‪ً ،‬‬
‫سنجده من جديد في فيلم إيفان الرهيب )‪ :(Ivan le terrible‬وال سيما‬
‫‪75‬‬
‫في الوقفتين اللتين تتطابقان مع لحظتي الشك لدى إيفان )‪ ،(Ivan‬مرة‬
‫عندما طرح على نفسه عدد ًا من األسئلة أمام نعش زوجته‪ ،‬ومرة عندما‬
‫ّ‬
‫وتدل األولى على نهاية اللولبة األولى ‪ -‬وهي المرحلة‬ ‫الراهب‪.‬‬
‫َ‬ ‫ناشد‬
‫األولى من صراعه مع النبالء الروس ‪ّ -‬‬
‫وتدل الثانية على المرحلة الثانية‪،‬‬
‫يتم انسحاب الجيش الروسي إلى خارج موسكو‪.‬‬ ‫وبين المرحلتين ّ‬
‫تصور المرحلة الثانية‬
‫وسيلوم النقد الرسمي السوفيتي إيزنشتاين على أنه ّ‬
‫وعمته‪ :‬ذلك أن إيزنشتاين رفض المغالطة‬‫كمبارزة شخصية بين إيفان ّ‬
‫التاريخية القائلة بأن إيفان اتحد مع الشعب‪ .‬فإيفان‪ ،‬من بداية الفيلم حتى‬
‫نهايته‪ ،‬جعل من الشعب وسيلة بسيطة‪ ،‬طبق ًا للشروط التاريخية لتلك‬
‫المرحلة؛ ولكنه في تلك الظروف يص ّعد نِزاعه مع النبالء الروس‪ ،‬من‬
‫يحول هذا النزاع إلى مبارزة شخصية على طريقة غريفيث‪ ،‬ولكنه‬ ‫دون أن ّ‬
‫انتقل من التسوية السياسية إلى اإلبادة الجسدية واالجتماعية‪.‬‬

‫يتذرع بالعلم والرياضيات والعلوم الطبيعية‪.‬‬


‫بوسع إيزنشتاين أن ّ‬
‫ولكن الف ّن عاجز عن ذلك‪ ،‬إذ يجب على السينما‪ ،‬كما في ف ّن التصوير‪ ،‬أن‬
‫تستنبط اللولبة التي تتناسب مع الموضوع وأن تختار جيد ًا نقاط الوقف‪.‬‬
‫ومن وجهة نظر النشأة والنمو‪ ،‬نرى كيف أن طريقة إيزنشتاين تتضمن‬
‫بشكل أساسي تحديد النقاط الالفتة أو اللحظات األثيرة؛ ولكنها ال تع ّبر‬
‫عرضي أو عن الطابع االحتمالي للفرد؛‬ ‫كما عند غريفيث عن عنصر َ‬
‫على العكس من ذلك نرى أنها تنتمي بكاملها إلى البناء المنتظم للولبة‬
‫العضوية‪ .‬ونرى ذلك على نحو أفضل عندما نضع في اعتبارنا بعد ًا جديد ًا‬
‫قدّ مه إيزنشتاين كإضافة إلى أبعاد العضوي تارة‪ ،‬وكاستكمال لها طور ًا‪.‬‬
‫إن التركيب والتنظيم الجدلي ال يشتمل فقط على الجانب العضوي‪ ،‬أي‬

‫‪76‬‬
‫النشأة والنمو‪ ،‬بل يشمل أيض ًا الجانب الشجني‪ ،‬أو "التطور"‪ .‬ويجب‬
‫عدم الخلط بين الشأن الشجني والشأن العضوي‪ .‬ذلك أننا‪ ،‬من نقطة إلى‬
‫أخرى على اللولب‪ ،‬نستطيع أن نمدّ أشعة موجهة تشبه أوتار القوس أو‬
‫ونطور تعارضات بذاتها بحسب‬
‫ّ‬ ‫اللولبة‪ .‬وهذا ال يعني من بعد أننا نشكّل‬
‫ونطور االنتقال من نقيض إلى آخر‪ ،‬أو باألحرى في‬‫ّ‬ ‫اللولبات‪ ،‬بل نشكل‬
‫اآلخر‪ ،‬بحسب األوتار‪ :‬أي القفز باتجاه النقيض‪ .‬ال يوجد فقط تعارض‬
‫بين األرض والماء‪ ،‬وبين الواحد والمتعدّ د‪ ،‬بل يوجد انتقال من هذا إلى‬
‫تبجس فجائي ينطلق من الواحد نحو اآلخر‪ .‬ال توجد فقط‬ ‫ذاك‪ ،‬ويوجد ّ‬
‫وحدة عضوية بين األضداد‪ ،‬بل انتقال شجني من الضدّ إلى نقيضه‪ .‬ال‬
‫توجد فقط عالقة عضوية بين لحظتين‪ ،‬بل توجد قفزة شجنية تحصل فيها‬
‫اللحظة الثانية على طاقة جديدة‪ ،‬ألن اللحظة األولى قد انتقلت إليها‪.‬‬
‫انتقلت من الحزن إلى الغضب‪ ،‬ومن الشك إلى اليقين‪ ،‬ومن اإلذعان‬
‫آن واحد‬‫إلى التمرد‪ ...‬يتضمن الشجني بذاته هذين الوجهين‪ :‬فهو في ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التبجس‬
‫ّ‬ ‫مز ّية إلى ِ‬
‫مز ّية أخرى‪ ،‬وهو‬ ‫االنتقال من حدّ إلى حدّ آخر‪ ،‬ومن ِ‬
‫للمز ّية الجديدة التي تنشأ من االنتقال الناجز‪ .‬إنه "ضغط"‬‫ِ‬ ‫الفجائي‬
‫ٍ‬
‫قسم لولبه إلى جزأين‬‫و"انفجار" في آن واحد(((‪ .‬إن فيلم الخط العام ُي ّ‬
‫ويوزع تناقضاته‬
‫ّ‬ ‫متعارضين "القديم" و"الجديد"‪ ،‬ويعيد إنتاج انقسامه‪،‬‬
‫في هذا الجانب وفي الجانب اآلخر‪ :‬وهذا هو العنصر العضوي‪ .‬ولكن‬
‫لفرازة القشدة‪ ،‬نشهد انتقاالً من لحظة ألخرى‪ ،‬ومن‬‫في المشهد الشهير ّ‬
‫االرتياب واألمل إلى االنتصار‪ ،‬ومن األنبوبة الفارغة إلى القطرة األولى‬
‫[من القشدة]‪ ،‬وهو انتقال يتسارع كلما اقتربت ِ‬
‫المز ّية الجديدة والقطرة‬

‫‪Eisenstein, Mémoires, 10-18, I, pp. 283-284.‬‬ ‫(((‬


‫‪77‬‬
‫المظ ّفرة‪ :‬وهذا هو العنصر الشجني والطفرة والقفزة النوعية‪ .‬العنصر‬
‫العضوي كان القوس أو مجموع األقواس‪ ،‬ولكن العنصر الشجني هو‬
‫التبجس الفجائي‬ ‫آن واحد‪ ،‬هو تغ ّير النوعية‪ ،‬وهو‬ ‫الوتر والسهم في ٍ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫للمز ّية الجديدة وتربيعها بقوة ‪.2‬‬

‫ال يقتضي الشجني أيض ًا تغيير ًا في مضمون الصورة فقط‪ ،‬بل في‬
‫قوتها وأن تنتقل إلى قوة أعلى‪.‬‬
‫شكلها‪ .‬ذلك أن الصورة ينبغي أن تغ ّير من ّ‬
‫سماه إيزنشتاين "التغيير المطلق للبعد"‪ ،‬كي يجعله يتعارض مع‬ ‫هذا ما ّ‬
‫التغييرات النسبية فقط لغريفيث‪ .‬و ُيقصد بالمطلق أن القفزة النوعية قفزة‬
‫شكلية بقدر ما هي قفزة مادية‪ .‬إن إدخال اللقطة المقربة‪ ،‬عند إيزنشتاين‪،‬‬
‫سيسجل َق ْطع ًا مثل هذه القفزة الشكلية‪ ،‬ويسجل تغيير ًا مطلق ًا‪ ،‬أي أنه رفع‬
‫ّ‬
‫الصورة إلى قوة مر ّبعة‪ :‬وهذه هي بالنسبة لغريفيث وظيفة جديدة جد ًا‬
‫المقربة(((‪ .‬وإذا ما اشتملت هذه اللقطة على جانب من الذاتية‪ ،‬فهذا‬ ‫ّ‬ ‫لل ْقطة‬
‫يدل على أن الوعي ينتقل إلى بعد جديد‪ ،‬ويرقى إلى القوة ‪( 2‬ويمكنه أن‬ ‫ّ‬
‫يتحقق في "سلسلة من اللقطات المتنامية"‪ ،‬ولكن يمكنه أن يسلك طرق ًا‬
‫جديدة)‪ .‬في جميع األحوال‪ ،‬الوعي هو الشجني‪ ،‬هو االنتقال من الطبيعة‬
‫إلى اإلنسان وإلى الكيفية التي تنشأ من هذا االنتقال الحاصل‪ .‬إنه في‬
‫آن واحد الوعي والوعي الحاصل والوعي الثوري المتبلور‪ ،‬حتى نقطة‬ ‫ٍ‬
‫معينة على األقل هي محدودة عند إيفان‪ ،‬أو هي واعدة عند بوتومكين‪،‬‬
‫أو هي نقطة بالغة العلو في فيلم أكتوبر‪ .‬إذا كان الشجني هو التطور‪،‬‬

‫يتغي يف البعد‬
‫ّ‬ ‫((( ح ّلل بونيتز هذا الفرق بني إيزنشتاين وغريفيث (ورأى أنه‬
‫املطلق والنسبي)‪ ،‬يف كتاب‪:‬‬
‫‪Pascal Bonitzer, Le champ aveugle, Cahiers du Cinéma (Paris:‬‬
‫‪Gallimard, [s. d.]), pp. 30-32.‬‬

‫‪78‬‬
‫فألنه تطور الوعي ذاته‪ :‬أي أنه طفرة العضوي الذي يخلق وعي ًا خارجي ًا‬
‫للطبيعة وتطورها‪ ،‬ولكنه يخلق أيض ًا وعي ًا داخلي ًا للمجتمع وتاريخه‪ ،‬في‬
‫فترة من فترات الجسم االجتماعي‪ .‬وهناك طفرات أخرى في العالقات‬
‫المتغ ّيرة مع تغ ّير عالقات الوعي‪ ،‬وتع ّبر كلها عن أبعاد جديدة وتبدّ الت‬
‫شكلية ومطلقة وارتقاءات متعاظمة القوة‪ .‬إنها القفزة النوعية في اللون‪،‬‬
‫مثل الراية الحمراء لبوتومكين والوليمة الحمراء إليفان‪ .‬ومع السينما‬
‫الناطقة والصوتية‪ ،‬سيكتشف إيزنشتاين دائم ًا ارتقاءات أخرى متعاظمة‬
‫القوة(((‪ .‬ولكن إذا اقتصرنا على السينما الصامتة‪ ،‬لرأينا أن القفزة النوعية‬
‫قد تؤدي إلى تغييرات شكلية أو مطلقة تصل إلى أضعاف مضاعفة من‬
‫القوة‪ :‬فس ُيستبدل تد ّفق الحليب في فيلم الخط العام برشقات مائية (وهو‬
‫انتقال إلى الشعشعة) ثم بألعاب نارية (وهو انتقال إلى اللون)‪ ،‬ثم أخير ًا‬
‫بتعرجات األلوان (وهو انتقال من المرئي إلى المقروء)‪ .‬ومن وجهة‬ ‫ّ‬
‫يتوضح المفهوم العسير الذي أطلقه إيزنشتاين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النظر هذه‪ ،‬يمكن أن‬
‫يختزل فع ً‬
‫ال إلى إطالق تشابيه‬ ‫َ‬ ‫وهو "مونتاج التجاذبات" الذي ال‬
‫واستعارات(((‪ .‬ويبدو لنا أن "التجاذبات" هي تارة تصورات مسرحية‬

‫((( وهذا ً‬
‫مثال ما س ّمه إيزنشتاين بـ «املونتاج العمودي»؛ انظر‪:‬‬
‫‪Sergei Eisenstein, The Film Sense, Edited and Translated by Jay,‬‬
‫‪Leyda (New York:  Meridian Books, 1957).‬‬
‫يرص إيزنشتاين كثري ًا عىل الطابع‬
‫((( يف كتاب ‪ّ La non-indifférente nature‬‬
‫الشكيل للقفزة النوعية (ال املادية فقط)‪ .‬فام حيدد هذه السمة‪ ،‬هو أنه جيب أن يوجد ارتقاء‬
‫يف قوة الصورة‪ .‬وهنا يتدخل بالرضورة «مونتاج التجاذبات»‪ .‬إن التعليقات العديدة عىل‬
‫مونتاج التجاذبات‪ ،‬كام أوردها إيزنشتاين يف كتاب )‪ ،Au-delà des étoiles (10-18‬تبدو‬
‫لنا رضب ًا من الثرثرة‪ ،‬إن مل نأخذ باالعتبار القوى املتنامية للصورة‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬ال‬
‫ختل إيزنشتاين عن هذه الطريقة‪ :‬ذلك أنه سيحتاج إليها‬ ‫تُطرح مسألة أن نعرف إذا ما ّ‬
‫دائ ًام يف مفهومه عن القفزة النوعية‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫أو سيركية (انظر العيد األحمر إليفان)‪ ،‬وطور ًا هي تصورات تشكيلية‬
‫المدرعة بوتومكين وخاصة في‬
‫ّ‬ ‫(انظر التماثيل والمنحوتات في فيلم‬
‫فيلم أكتوبر) تأتي الستكمال أو تبديل الصورة‪ .‬ورشقات الماء والنار في‬
‫فيلم الخط العام هي من هذا القبيل‪ .‬صحيح أن االجتذاب يجب أن ُيفهم‬
‫بالمعنى المشهدي‪ ،‬ثم بالمعنى الترابطي‪ :‬ترابط الصور كقانون الجاذبية‬
‫والنيوتونية‪ .‬ولكن األهم هو أن إيزنشتاين في "الحساب التجاذبي"‬
‫يسجل هذا التوق الجدلي للصورة إلى الوصول إلى أبعاد جديدة‪ ،‬أي‬ ‫ّ‬
‫إلى القفز صوري ًا من قوة إلى قوة أخرى‪ .‬فرشقات الماء والنار ترفع قطرة‬
‫وفعال يصبح الوعي كوني ًا وثوري ًا في ٍ‬
‫آن‬ ‫ً‬ ‫الحليب إلى ُبعد كوني بامتياز‪،‬‬
‫واحد‪ ،‬ألنه أدرك في القفزة الشجنية األخيرة مجمل العنصر العضوي‬
‫بالذات‪ ،‬أي التراب والهواء والماء والنار‪ .‬وسنرى الحق ًا كيف أن مونتاج‬
‫التجاذبات ال يكف بالتالي عن ربط العنصر العضوي بالعنصر الشجني‪.‬‬

‫مونتاج‬
‫َ‬ ‫أحل إيزنشتاين محل المونتاج الموازي لدى غريفيث‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مونتاج قفزات‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وأحل محل المونتاج المتقارب أو المترابط‪،‬‬ ‫تعارضات؛‬
‫نوعية (المونتاج الطافر)‪ .‬وتتالقى في هذا المونتاج شتى ضروب‬
‫المونتاج‪ ،‬أو باألحرى تنجم عنه‪ ،‬فال تبدع إجراءات عملية فقط بل‬
‫مفاهيم نظرية‪ :‬ثمة مفهوم جديد للقطة المقربة‪ ،‬ومفهوم جديد للمونتاج‬
‫المسرع والمونتاج العمودي ومونتاج التجاذبات والمونتاج الفكري أو‬
‫َّ‬
‫مونتاج الوعي‪ ...‬نؤمن بتماسك هذا المجموع العضوي الشجني‪ .‬وهذه‬
‫هي خالصة ثورة إيزنشتاين‪ :‬إنه يرفد الجدلية بمعنى سينمائي خاص‪،‬‬
‫وينتزع اإليقاع من تقييمه التجريبي أو الجمالي‪ ،‬كما فعل غريفيث‪،‬‬
‫ويجعل من البنية العضوية مفهوم ًا جدلي ًا بصورة أساسية‪ .‬ويبقى‬

‫‪80‬‬
‫الزمن صورة ال مباشرة تنشأ من التشكيل العضوي للصور‪ /‬الحركة‪،‬‬
‫ولكن الفاصل‪ ،‬شأنه شأن المجموع يأخذ معنى جديد ًا‪ .‬فالفاصل‪ ،‬أو‬
‫الحاضر المتغ ّير‪ ،‬أصبح القفزة النوعية التي تبلغ القوة العالية للحظة‪ .‬أما‬
‫المجموع كاتساع رحب‪ ،‬فلم يعد كلية جامعة تضم أجزا ًء مستقلة إلى‬
‫الشرط الوحيد الذي يقضي بتداخلها ويستطيع دائم ًا أن يكبر إذا ما أضفنا‬
‫إلى المجموع المشروط عدد ًا من األجزاء‪ ،‬أو إذا ما ربطنا مجموعين‬
‫مستقلين بفكرة لها غاية واحدة‪ .‬إنها كلية أصبحت ملموسة وموجودة‬
‫تستولد األجزاء فيها بعضها بعض ًا داخل كليتها‪ ،‬ويتوالد المجموع في‬
‫الكل كمسبب للمجموع‬ ‫األجزاء‪ ،‬بحيث تحيل هذه السببية المتبادلة إلى ّ‬
‫وألجزائه طبق ًا لغاية داخلية‪ .‬إن اللولب المفتوح من نهايتيه لم يعد‬
‫طريقة تجمع من الخارج واقع ًا تجريبي ًا‪ ،‬بل هي الطريقة التي ال يكف‬
‫فيها الواقع الجدلي عن التشكّل والنمو‪ .‬األشياء تغوص إذ ًا في الزمن‬
‫حق ًا وتصبح رحبة ألنها تحتل فيه مكان ًا متعاظم ًا أكبر من المكان الذي‬
‫يكونه المجموع عن ذاته‪ .‬إن المجموع واألجزاء‬ ‫يشغله المجموع أو ما ّ‬
‫ثماني وأربعين ساعة‪ ،‬وتستغرق في‬ ‫َ‬ ‫المدرعة بوتومكين تستغرق‬
‫ّ‬ ‫في فيلم‬
‫فيلم أكتوبر عشرة أيام‪ ،‬أي أنها في مجملها تشكّل ح ّيز ًا يمتدّ بال حدود‪.‬‬
‫تقارن من الخارج‪ ،‬فإنها تشكّل‬ ‫ومن دون أن تنضاف التجاذبات أو أن َ‬
‫هذا االمتداد بالذات أو ذلك الوجود الداخلي في الكل‪ .‬إن التصور‬
‫الجدلي للجسم والمونتاج عند إيزنشتاين ِ‬
‫يقرن ما بين اللولب المفتوح‬
‫دائم ًا واللحظة الواثبة دائم ًا‪.‬‬

‫من المعروف جد ًا أن للجدلية قوانين عديدة تتحدّ د بها‪ .‬فهناك‬


‫الكمية والقفزة النوعية‪ :‬أي االنتقال من سو ّية إلى أخرى‬
‫قانون العملية ّ‬

‫‪81‬‬
‫والنشوء الفجائي لنوعية جديدة‪ .‬وهناك قانون ّ‬
‫الكل والمجموع واألجزاء‪.‬‬
‫وهناك أيض ًا قانون الواحد األحد‪ ،‬وقانون التعارض الذي يرتبط بها‬
‫القانونان اآلخران‪ :‬فالواحد األحد يصبح اثنين ليصل إلى وحدة جديدة‪.‬‬
‫إذا جاز التك ّلم عن مدرسة سوفيتية في المونتاج‪ ،‬فليس ألن ممثليها‬
‫متشابهون‪ ،‬بل ألنهم على العكس يختلفون في المفهوم الجدلي الذي‬
‫يتشاطرونه كلهم‪ ،‬ألن كل واحد منهم يتعاطف مع هذا القانون أو ذاك‬
‫بتدرج‬
‫بحسب استلهامه‪ .‬ومن الواضح أن بودوفكين يهتم قبل كل شيء ّ‬
‫الوعي وبطفراته النوعية‪ :‬وهكذا نرى أن أفالم األم ونهاية سان بترسبورغ‬
‫وعاصفة فوق آسيا تشكّل ثالثية كبرى‪ .‬الطبيعة حاضرة هنا‪ ،‬ببهائها‬
‫ودراميتها‪ ،‬ونهر النيفا )‪ (Néva‬الذي يجر جليده‪ ،‬وسهوب منغوليا‪،‬‬
‫ولكنه حضور يشبه االندفاع الخطي الذي يتضمن لحظات الوعي‪ ،‬وعي‬
‫األم‪ ،‬ووعي الفالح‪ ،‬ووعي المنغولي‪ .‬ويقوم الفن األعمق لبودوفكين‬
‫يكونه‬
‫على أنه كشف النقاب عن وضع إجمالي من خالل الوعي الذي ّ‬
‫أحدهم‪ ،‬ومن خالل تطويره‪ ،‬وصوالً إلى ما ال يستطيع الوعي أن يحيط به‬
‫ويفعله (األم التي تراقب األب الذي يريد سرقة بندول الساعة الجدارية‪،‬‬
‫أو ‪ -‬في "نهاية سان بترسبورغ ‪ -‬المرأة التي تدرك بلمحة بصر عناصر‬
‫الوضع‪ ،‬والشرطي‪ ،‬وفنجان الشاي على الطاولة‪ ،‬والشمعة المدخنة‪،‬‬
‫وبسطار الزوج الذي وصل للتو)(((‪ .‬أما ألكسندر دوفجنكو ‪(Aleksandr‬‬

‫‪Jean Mitry, Histoire du cinéma muet, III (Paris: Edition‬‬ ‫((( انظر‪:‬‬
‫‪Universitaires, 1990), p. 306:‬‬
‫انقضت عىل الكأس‬‫َظرت‪ :‬الكأس والبسطار وعنرص امليليشيا‪ ،‬ثم ّ‬ ‫ٍ‬
‫«عندئذ ن ْ‬ ‫ ‬
‫الرشطي وهرب‪.‬‬ ‫وملح‬ ‫املسن‬ ‫الرجل‬ ‫انحنى‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫الزجاج‪،‬‬ ‫عىل‬ ‫ورمته‬ ‫به‬ ‫حت‬ ‫وطو‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫َس‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتباعا‪ ،‬فنجان الشاي ثم أحد العنارص الواشية وطريقة التأشري واملنقذ‪ )...( ،‬عك َ‬ ‫ً‬
‫هذا اليشء انتباه ًا وحالة فكرية وقصد ًا معين ًا»‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫)‪ Dovjenko‬فيع ّبر عن جدليته بطريقة أخرى‪ ،‬إذ إنه يهجس بالعالقة‬
‫الثالثية بين األجزاء والمجموع والكل‪ .‬وإذا كان هناك ُمخرج استطاع‬
‫أن يجعل الكل واألجزاء تغوص في ٍّ‬
‫كل يمنحها عمق ًا وامتداد ًا ال يقاسان‬
‫بحدودهما الخاصة‪ ،‬فهو دوفجنكو‪ ،‬وأكثر من إيزنشتاين‪ .‬وهذا هو‬
‫موضوع التخييل والمشهد الساحر عند هذا المخرج‪ .‬فتارة نرى أن بعض‬
‫المشاهد تستطيع أن تكون أجزا ًء سكونية أو شذرات غير مترابطة‪ ،‬كصور‬
‫المتجمدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البؤس في بداية فيلم الترسانة‪ :‬المرأة الخائرة القوى‪ ،‬واألم‬
‫والموجيك‪ ،‬وباذرة الحبوب‪ ،‬والموتى المتسممون بالغازات (أو على‬
‫العكس‪ ،‬الصور البهيجة في فيلم األرض‪ ،‬واألزواج الثابتون في أماكنهم‬
‫أو الجالسون أو الواقفون أو المستلقون)‪ .‬وطور ًا تستطيع مجموعة نشطة‬
‫ومتحدة أن تتشكل مث ً‬
‫ال في هذا المكان أو هذا الزمان‪ ،‬كما في غابة فيلم‬
‫الغوص في الكل إلى‬
‫ُ‬ ‫أييروغراد )‪ .(Aérograd‬ويؤكّد ذلك كلما يدفع‬
‫بماض سحيق كماضي جبل أوكرانيا وكنز أقوام السكيثيين‬ ‫ٍ‬ ‫ربط الصور‬
‫في فيلم زفينيغورا )‪ ،(Zvenigora‬وإلى ربطها بمستقبل كوكبي‪ ،‬كما‬
‫الطائرات القادمة من شتى أصقاع‬
‫ُ‬ ‫في فيلم أييروغراد الذي فيه ت ُِق ّل‬
‫األرض بنا َة المدينة الجديدة‪ .‬كان برثيليمي أمينغوال ‪(Barthélemy‬‬
‫)‪ Amengual‬يتكلم عن تجريد المونتاج الذي ‪ -‬من خالل المجموع أو‬
‫الشذرات ‪ -‬يمكّن المؤلف "من التكلم عما هو خارج الزمان والمكان‬
‫جوانية الزمن‬
‫الواقعيين"(((‪ .‬ولكن هذا العنصر الخارجي هو األرض‪ ،‬أو ّ‬

‫‪Amengual, “Dovjenko,” Dossiers du cinéma:‬‬ ‫((( انظر دراسة‪ :‬‬


‫وفيها قال‪« :‬إن احلرية الشعرية التي نَشدها دوفجنكو سابق ًا لتنظيم بعض‬
‫الشذرات املفككة‪ ،‬وجدها يف فيلم إيريوغراد )‪ (Aérograd‬من خالل تقطيع فني ذي‬
‫ج َل ٍد مذهل»‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫يكف عن‬
‫الحقيقية‪ ،‬أي ذلك الكل الذي يتغير‪ ،‬وعندما يغ ّير المنظور‪ ،‬ال ّ‬
‫الكائنات‬
‫ُ‬ ‫إعطاء الكائنات تلك المكانة الرحبة‪ ،‬التي عبرها تالمس هذه‬
‫الماضي السحيق والمستقبل األعمق‪ ،‬وبها تشارك في حركة "ثورتها"‬
‫الخاصة‪ :‬شأنها شأن الجدّ الذي يقضي نحبه بهدوء في بداية فيلم األرض‬
‫أو الجد الذي يهجس بكنه الزمن في فيلم زفينيغورا‪ .‬هذه القامة العمالقة‬
‫التي يتخذها الرجال خالل الزمن‪ ،‬على حدّ قول بروست‪ ،‬والتي تفصل‬
‫األجزاء عن بعضها بقدر ما تمدّ د مجموع ًا معين ًا‪ ،‬هي القامة التي يعطيها‬
‫لفلحيه‪ ،‬وهي التي قدمها في فيلم شيتشور )‪(Chetchors‬‬ ‫دوفجنكو ّ‬
‫وكانت كناية عن "كائنات أسطورية برزت في زمن مجيد"‪.‬‬

‫كان بوسع إيزنشتاين أن ينظر بطريقة ما إلى نفسه كزعيم مدرسة‪،‬‬


‫مقارنة ببودوفكين ودوفجنكو‪ ،‬ألنه كان مأخوذ ًا بالقانون الثالث من‬
‫قوانين التفكير الجدلي‪ ،‬والذي يشتمل على القانونين اآلخرين‪ :‬أي‬
‫أن الواحد األحد يصبح اثنين ويضفي وحدة جديدة تجمع بين الكل‬
‫العضوي والفاصل الشجني‪ .‬وفعالً‪ ،‬كانت تلك ثالث طرق لتصور‬
‫مونتاج جدلي‪ ،‬ولم تعجب أية طريقة منها النقدَ الستاليني‪ .‬ولكن القاسم‬
‫َ‬
‫المشترك بين هذه الطرق هو الفكرة القائلة بأن المادية هي تاريخية قبل‬
‫كل شيء‪ ،‬وبأن الطبيعة ليست جدلية إال ألنها تندمج دائم ًا في كلية‬
‫بشرية‪ .‬ومن هنا تسمية "الالاكتراثية" التي أطلقها إيزنشتاين على الطبيعة‪.‬‬
‫على العكس من ذلك‪ ،‬تكمن أصالة دزيغا فيرتوف )‪ (Dziga Vertov‬في‬
‫تأكيده العميق على جدلية تنبع من المادة بالذات‪ .‬كأنه بذلك وضع‬
‫قانون ًا رابع ًا ينفصل عن القوانين الثالثة األخرى(‪ .((1‬من المؤكد أن ما‬

‫(‪ ((1‬إن مسألة أن نعرف إذا كانت اجلدلية برشية فقط‪ ،‬وإذا كان باستطاعتنا أن=‬
‫‪84‬‬
‫أبرزه فيرتوف‪ ،‬هو أن اإلنسان حاضر في الطبيعة وفي أفعاله وأهوائه‬
‫وحياته‪ .‬ولكنه‪ ،‬إذا اشتغل على األفالم الوثائقية واألحداث الراهنة‪،‬‬
‫وإذا انتقد بشدة تصوير الطبيعة وعارض سيناريو الفعل‪ ،‬فألن له سبب ًا‬
‫عميق ًا‪ .‬فاآلالت والمناظر الطبيعية والمباني الفخمة والبشر لم تنل كثير ًا‬
‫الفلحة الجميلة أو الطفل الذي‬ ‫من اهتمامه‪ :‬فكل منها ‪ -‬بما في ذلك ّ‬
‫يهز المشاعر ‪ -‬كان بمثابة منظومات مادية ال تتوقف عن التفاعل‪ .‬كانت‬
‫ّ‬
‫عناصر تحفيز وتحويل وتبديل تستقبل عدد ًا من الحركات وتعيد منحها‪،‬‬
‫وتطور المادة نحو حاالت أقل‬
‫ّ‬ ‫وتغ ّير في سرعتها وتوجيهها ونظامها‪،‬‬
‫تمت بصلة إلى أبعادها الخاصة‪ .‬هذا‬
‫"احتمالية"‪ ،‬وتُحدث تغييرات ال ّ‬
‫ال يعني أن فيرتوف كان ينظر إلى الكائنات كآالت‪ ،‬بل أن اآلالت لها‬
‫"قلب" و"تسير وترتعش وتنتفض وترمي بالبروق"‪ ،‬كما أن اإلنسان‬
‫يستطيع أن يفعل ذلك ويقوم بحركات أخرى‪ ،‬وفي ظل شروط أخرى‪،‬‬
‫ولكنها تتفاعل على الدوام‪ .‬وما اكتشفه فيرتوف في األحداث الراهنة‬
‫كان الطفل الجزيئي والمرأة الجزيئية‪ ،‬والمرأة والطفل الماديين‪ ،‬كما‬
‫اكتشف أيض ًا المنظومات المسماة "ميكانيزمات" أو "آالت"‪ .‬واألمر‬
‫المهم تم ّث َل في جميع النقالت (الشيوعية) من نظام بدأ يتهالك إلى نظام‬
‫في طور البناء‪ .‬ولكن بين منظومتين أو نظامين‪ ،‬وبين حركتين‪ ،‬يوجد‬
‫بالضرورة فاصل متغ ّير‪ .‬إن فاصل الحركة‪ ،‬عند فيرتوف‪ ،‬هو اإلدراك‬
‫ّ‬
‫المتخشبة‬ ‫وهو اللمحة الخاطفة‪ ،‬والعين‪ .‬ولكن العين ليست العين‬
‫لإلنسان‪ ،‬وإنما هي عين الكاميرا‪ ،‬أي عين المادة‪ ،‬وهي إدراك ذاتها‬

‫تكف عن استثارة املاركسية‪.‬‬


‫ّ‬ ‫= نتك ّلم عن جدلية الطبيعة بحد ذاهتا (أو عن جدلية املادة)‪ ،‬مل‬
‫وأعاد جان بول سارتر )‪ (Jean-Paul Sartre‬طرحها يف كتاب ‪Critique de la raison‬‬
‫‪ dialectique‬مؤكّد ًا الطابع اإلنساين لكل جدلية‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫في المادة‪ :‬أدرك كيف تتمدّ د من نقطة يبدأ فيها فعل وينتهي بر ّدة فعل‪،‬‬
‫وكيف تمأل المسافة بينهما‪ ،‬وكيف تجوب الكون خافقة بجناحيها وفق‬
‫المسافات التي تقطعها‪ .‬إن التعالق بين مادة غير بشرية وبين عين فوق‬
‫بشرية‪ ،‬هو الجدلية بالذات‪ ،‬ألنه يتماهى مع مشاعية المادة ومع شيوعية‬
‫تحوالت الحركات‬ ‫اإلنسان‪ .‬ولن يتوقف المونتاج نفسه عن المواءمة بين ّ‬
‫داخل الكون المادي وبين فاصل الحركة في عين الكاميرا‪ :‬أي اإليقاع‪.‬‬
‫يجب القول إن المونتاج كان كلي الحضور في الزمنين السابقين‪ .‬فقبل‬
‫التصوير هو موجود في اختيار المواد‪ ،‬أي في أجزاء المادة التي ستبدأ‬
‫في التفاعل‪ ،‬والتي تكون أحيان ًا متباعدة ونائية (الحياة كما هي)‪ .‬وفي‬
‫التصوير السينمائي هو موجود في الفواصل التي تشغلها العين‪ /‬الكاميرا‬
‫(أي عين المش ِّغل الذي يتابع ويركض ويدخل ويخرج‪ ،‬إنه باختصار‬
‫الحيا ُة في الفيلم)‪ .‬وبعد التصوير هو موجود في قاعة المونتاج حيث‬
‫تن َّظم الموا ُد واللقطات (حياة الفيلم)‪ ،‬وموجود عند المشاهدين الذين‬
‫يقارنون الحياة في الفيلم بالحياة الحقيقية‪ .‬وهذه المستويات الثالثة‬
‫تشاهد مجتمعة في فيلم الرجل ذو الكاميرا‪ ،‬وهي التي ألهمت‬‫َ‬ ‫هي التي‬
‫العمل السابق برمته‪.‬‬

‫لم يكن مصطلح "جدلية" مجرد كلمة عند السينمائيين السوفييت‪.‬‬


‫كان في آن مع ًا ممارسة المونتاج ونظريته‪ .‬في حين كان السينمائيون‬
‫الكبار الثالثة يستخدمون الجدلية لتغيير التشكيل العضوي للصور‪/‬‬
‫الحركة‪ ،‬فإن فيرتوف وجد فيه الوسيلة ليقطع الصلة بها‪ .‬وكان يأخذ على‬
‫منافسيه أنهم ظ ّلوا متعلقين بأذيال غريفيث وبسينما ذات طراز أميركي‬
‫وبمثالية برجوازية‪ .‬ورأى أن الجدلية يجب أن تقطع الصلة بطبيعة ذات‬

‫‪86‬‬
‫عضوية مفرطة وبإنسان سهل التأ ّثر عاطفي ًا‪ .‬وعمل على دمج المجموع‬
‫الالمتناهي للمادة‪ ،‬وعلى أن يذوب الفاصل مع العين داخل المادة‪ ،‬أي‬
‫مع الكاميرا‪ .‬ولم يعد النقد الرسمي يفهمه‪ .‬ولكنه دفع إلى الحد األقصى‬
‫سجاال داخلي ًا حول الجدلية التي عرف إيزنشتاين كيف ّ‬
‫يلخصها‪ ،‬عندما‬ ‫ً‬
‫رفض المنازلة السجالية‪ .‬وخلق فيرتوف تعارض ًا بين ثنائيات "الطبيعة‪/‬‬
‫اإلنسان" و"الطبيعة القبضة" و"الطبيعة‪ /‬اللكمة" (أي الثنائيات‬
‫العضوية‪ /‬العاطفية)(‪.((1‬‬

‫‪)3‬‬
‫في المدرسة الفرنسية قبل الحرب (وكان غانس )‪ (Gance‬زعيمها‬
‫المعترف به نوع ًا ما)‪ ،‬شهدنا أيض ًا قطيعة مع مبدأ التركيب العضوي‪.‬‬
‫ولكن هذا ال يعني وجود فيرتوفيه )‪ (Vertovisme‬ولو معتدلة‪ .‬هل ينبغي‬
‫تتم معارضتها بالتعبيرية األلمانية؟‬
‫الكالم هنا عن وجود انطباعية‪ ،‬كي ّ‬
‫التعريف الذي يمكن إلصاقه بالمدرسة الفرنسية‪ ،‬هو باألحرى نوع من‬
‫يهتمون قبل كل شيء‬
‫أنواع الديكارتية‪ :‬ذلك أن السينمائيين الفرنسيين ّ‬
‫بكمية الحركة وبالعالقات المتر ّية‪ ،‬وكلها تتيح التعريف بهذه المدرسة‪.‬‬
‫وهم مدينون لغريفيث أكثر مما يدين له السوفييت؛ وكانوا يتمنّون‬
‫تجاوز ما كان تجريبي ًا عند غريفيث ويتط ّلعون إلى مفهوم أكثر علمية‪،‬‬
‫بشرط أن يخدم اإللهام السينمائي‪ ،‬ال بل وحدة الفنون (وهو نفس‬

‫(‪ ((1‬اعرتف إيزنشتاين أن طريقة فارتوف ممكن أن تكون مناسبة‪ ،‬عندما‬


‫«تطوره» الكامل‪ .‬ولكن‪ ،‬حتى يتم ذلك‪ ،‬حيتاج اإلنسان إىل العنرص‬ ‫ّ‬ ‫يبلغ اإلنسان‬
‫الشجني وإىل التجاذبات‪« .‬ال نحتاج إىل سينام‪ /‬عني‪ ،‬بل إىل سينام‪ /‬قبضة‪ .‬جيب‬
‫عىل السينام السوفيتية أن حت ّطم اجلامجم» وال تكتفي بـ «مجع ماليني العيون»‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Eisenstein, Au-delà des étoiles, p. 153.‬‬

‫‪87‬‬
‫االهتمام "بالعلم" الذي كان ينشده فن الرسم في تلك الفترة)‪ .‬والحال‬
‫أن الفرنسيين تنكّبوا للتركيب العضوي من دون أن يتعمقوا في تركيب‬
‫طوروا تركيب ًا آلي ًا كبير ًا في الصور‪ /‬الحركة‪ .‬ولكن‬
‫جدلي معين‪ ،‬غير أنهم ّ‬
‫هذه الكلمة غامضة‪ .‬لنشاهد عدد ًا من المشاهد التي أصبحت مضرب‬
‫مثل في السينما الفرنسية‪ :‬مشهد السوق الموسمية في فيلم قلب وفي‬
‫(‪ (Coeur fidèle‬لجان إبستاين‪ ،‬الرقص الشعبي في فيلم إلدورادو �‪(El‬‬
‫)‪ dorado‬لمارسيل ليربييه )‪ ،(Marcel L’Herbier‬رقصات الفاراندول‬
‫في فيل م مالدون )‪ (Maldone‬وغيره لجان غريميون �‪(Jean Grémil‬‬
‫)‪ .lon‬صحيح أن في الرقص الجماعي يوجد تركيب عضوي للراقصين‪،‬‬
‫ويوجد تركيب جدلي لحركاتهم البطيئة والسريعة وأيض ًا المستقيمة‬
‫والدائرية‪ ...‬إلخ‪ .‬ولكننا نستطيع‪ ،‬عندما ننعم النظر في هذه الحركات‪،‬‬
‫أن نستخلص منها أو ُن ْفرد جسد ًا واحد ًا يستطيع أن يكون الـ" راقص"‪،‬‬
‫أو الجسد الوحيد لجميع الراقصين‪ ،‬وحرك ًة واحدة تكون حركة فاندانغو‬
‫)‪ (Fandango‬عند ليربييه‪ ،‬وهي الحركة التي نراها في جميع حركات‬
‫الفاندانغو الممكنة(‪ .((1‬إننا نتجاوز األجسام المتحركة لنستخلص الحد‬
‫صور غريميون رقصة‬
‫األقصى من كمية الحركة في حيز مع ّين‪ .‬وهكذا ّ‬
‫الفاراندول األولى التي أتى بها‪ ،‬في حيز مغلق أفسح المجال ألقصى حد‬
‫من الحركة‪ .‬وال نقول عن رقصات الفاراندول األخرى‪ ،‬التي وردت في‬

‫‪Epstein, Ecrits sur le cinéma, II (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 67,‬‬ ‫‪7‬‬
‫(‪((1‬‬
‫ويقول عن لريبييه‪« :‬بضبابية متدرجة‪ ،‬يفقد الراقصون تدرجيي ًا متايزاهتم الشخصية‪،‬‬
‫فنكف عن التعرف إليهم كأفراد متميزين إذ ينخرطون يف لغة برصية مشرتكة‪ :‬يصبح‬
‫الراقص من دون اسم‪ ،‬ويستحيل متييزه عن عرشين أو مخسني عنرص ًا مشاهب ًا‪ ،‬إذ راحوا‬
‫ال عام ًا آخر وجتريد ًا آخر‪ .‬ليس هذا الفارانغو أو ذاك بل الفارانغو‬
‫مجيعهم يؤلفون شك ً‬
‫بامتياز‪ ،‬أي البنية التي يمكن أن تنبعث من اإليقاع املوسيقي جلميع رقصات الفارانغو»‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫أفالمه التالية‪ ،‬إنها رقصات مختلفة‪ ،‬ولكنها تم ّثل دائم ًا "الـ" فاراندول‬
‫يمل غريميون من اكتناه سره‪ ،‬أي كمية الحركة؛ وهو يشبه في‬ ‫الذي لم ّ‬
‫الرسا َم مونيه )‪ (Monet‬الذي لم يكف عن رسم زهر النيلوفر‪.‬‬
‫ذلك ّ‬
‫ِ‬
‫يكون الراقصون قطعها‪ .‬وفع ً‬
‫ال‬ ‫إلى حد ما‪ ،‬يغدو الرقص آلة ّ‬
‫استخدمت السينما الفرنسية اآللة بطريقتين بغية الحصول على تشكيل‬
‫آلي للصور‪ /‬الحركة‪ .‬النموذج األول لآللة هو اآللة الذاتية الحركة‪،‬‬
‫وهي آلة بسيطة تتمتع بآلية الساعات الجدارية‪ ،‬وهي التشكيل الهندسي‬
‫وتحول حركات داخل الحيز المتجانس‪ ،‬بحسب‬ ‫ّ‬ ‫ألجزاء تجمع وتراكم‬
‫العالقات التي عرفتها‪ .‬اآللة الذاتية الحركة ال تشي‪ ،‬كما في االنطباعية‬
‫األلمانية‪ ،‬بحياة أخرى متربصة قد تغوص في الظالم‪ ،‬وإنما تشي بحركة‬
‫ميكانيكية واضحة كأنها قانون الحد األقصى لمجموعة من الصور التي‬
‫تجمع األشياء والكائنات الحية والعناصر المتحركة وغير المتحركة‪،‬‬
‫فتُجانِ ُس بينها‪ .‬األشخاص المتذبذبون‪ ،‬والمارة وانعكاسات األشخاص‬
‫المتذبذبين‪ ،‬وظالل المارة‪ ،‬س ُيقيمون عالقات دقيقة جد ًا من التماهي‬
‫المجموع‬
‫َ‬ ‫والتعاقب والتكرار الدوري واالرتكاس المتسلسل‪ ،‬ت ُ‬
‫ُشكل‬
‫الذي يجب أن تُعزى الحركة اآللية إليه‪ .‬وهذا ينطبق على هروب المرأة‬
‫الشابة في فيلم األتاالنت )‪ (L’atalante‬لجان فيغو )‪ ،(Jean Vigo‬وعند‬
‫جان رينوار أيض ًا في فيلم البائعة الصغيرة لعلب الكبريت وحتى في‬
‫التشكيل الكبير لفيلم قاعدة اللعبة‪ .‬وال شك أن رينيه كلير )‪(René Clair‬‬
‫كم من الشعرية‪ ،‬وأحيا التجريدات‬ ‫هو الذي َّ‬
‫بث في هذه الصيغة أكبر ّ‬
‫الهندسية في ح ّيز متجانس وساطع ورمادي يفتقر إلى العمق(‪.((1‬‬

‫(‪ ((1‬انظر حتليالت برثيليمي أمينغوال )‪ (Barthélemy Amengual‬يف كتابه‪:‬‬


‫‪= Barthélemy Amengual, René Clair ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]),‬‬
‫‪89‬‬
‫كمحرك أو نابض‬ ‫ّ‬ ‫فالموضوع المحسوس‪ ،‬وموضوع الرغبة‪ ،‬يظهران‬
‫ويحركه أوالً‪ ،‬ويطلق حركة آلية يتواطأ معها عد ٌد متزايد‬
‫ّ‬ ‫يؤ ّثر في الزمن‪،‬‬
‫من األشخاص الذين يظهرون بدورهم في الح ّيز كمجموع متنا ٍم ُم َمكْنن‬
‫في فيلم ق ّبعة قش من إيطاليا وفيلم المليون‪ .‬فالفردانية هي األساس في‬
‫كل مكان‪ :‬ذلك أن الفرد يقف هو ذاته خلف الموضوع‪ ،‬أو باألحرى‬
‫يوسع تأثيراته في الزمن‪،‬‬
‫يأخذ هو نفسه دور النابض أو المحرك الذي ّ‬
‫سواء أكان شبح ًا أو مشعوذ ًا‪ ،‬شيطان ًا أو عالم ًا مجنون ًا‪ ،‬يجب أن يختفي‬
‫عندما ستبلغ الحركة التي يحدّ دها ذروتَها‪ ،‬أو حينما تتجاوزه‪ .‬عندئذ‬
‫ينتظم كل شيء ونقول باختصار‪ :‬إن ذلك أشبه برقص باليه آلي يسري‬
‫فيه المحرك في الحركة‪ .‬أما النموذج اآلخر من اآلالت فهو نموذج اآللة‬
‫البخارية والنارية‪ ،‬اآللة ذات الطاقة الجبارة التي تنتج الحركة انطالق ًا من‬
‫شيء آخر‪ ،‬وال تتوقف عن تأكيد ٍ‬
‫تنافر يربط حدّ يها‪ :‬يربط اآللي بالحي‪،‬‬
‫الداخل بالخارج‪ ،‬العامل اآللي بالقوة‪ ،‬ضمن عملية طنين داخلي أو‬
‫يحل عنصر ملحمي أو‬‫ومحل العنصر الهزلي والدرامي ّ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫مضخم‪.‬‬ ‫تواصل‬
‫مأساوي‪ .‬هنا تبتعدّ المدرسة الفرنسية عن المخرجين السوفييت الذين لم‬
‫يتو ّقفوا عن استعمال آالت طاقية كبيرة في إخراجهم (وهذا ال ينطبق فقط‬
‫على إيزنشتاين وفيرتوف‪ ،‬بل ينطبق على رائعة تورين )‪ (Tourine‬وهي‬
‫فيلم توركسيب )‪ .)(Turksib‬ورأى هؤالء أن اإلنسان واآللة يشكّالن‬
‫وحدة جدلية نشطة تتجاوز التعارض القائم بين العمل اآللي والعامل‬
‫فتصوروا الوحدة الحركية في كمية الحركة في‬
‫ّ‬ ‫البشري‪ .‬أما الفرنسيون‬
‫وتصوروا كمية توجيه الحركة داخل الروح‪ ،‬وطرحوا هذه الوحدة‬
‫ّ‬ ‫آلة‪،‬‬

‫وحي ّلل أمينغوال أيض ًا دور اآللة الذاتية احلركة عند فيغو ويعارضها بالتعبريية‪:‬‬ ‫=‬
‫‪Jean Vigo, Etudes cinématographiques ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), pp. 68-72.‬‬

‫‪90‬‬
‫يمر بها المحرك‬
‫كدرب آالم يجب أن يؤدي إلى الموت‪ .‬إن الحاالت التي ّ‬
‫الجديد والحركة اآللية تتعاظم على مستوى العالم‪ ،‬شأنها في ذلك شأن‬
‫الحاالت التي يمر بها الفرد الجديد والمجموعات البشرية التي ترقى‬
‫إلى مستوى روح العالم‪ ،‬في ذلك االتحاد اآلخر الذي يتم بين اإلنسان‬
‫واآللة‪ .‬لذا من العبث استخالص نوعين من الصور في فيلم ال َع َجلة‬
‫الذي أخرجه غانس‪ :‬صور الحركة اآللية التي ستحتفظ بجمالها‪ ،‬وصور‬
‫المأساة التي اعتبرت مأساة حمقاء وتافهة‪ .‬فلحظات انطالق القطار‬
‫وسرعته وتسارعه والكارثة التي ح ّلت به‪ ،‬ال يمكن فصلها عن حاالت‬
‫العامل الفنّي‪ ،‬حاالت سيزيف وسط البخار‪ ،‬وبروميثيوس وسط النار‪،‬‬
‫وصوالً إلى أوديب في قلب الثلوج‪ .‬إن االتحاد الحركي بين اإلنسان‬
‫والحركة سيحدّ د وحش ًا بشري ًا يختلف كثير ًا عن الدمية المتحركة التي‬
‫عرف رينوار كيف يكتشف أبعادها الجديدة‪ ،‬حاذي ًا في ذلك حذو غانس‪.‬‬

‫كان على ف ّن تجريدي أن ينشأ عن ذلك‪ ،‬حيث تنطلق الحركة‬


‫مشوهة بسبب التجريد المتنامي‪ ،‬وطور ًا‬ ‫الصرف تارة من موضوعات َّ‬ ‫ِّ‬
‫من عناصر هندسية متبدّ لة دوري ًا‪ ،‬وهو مجموعة من التحوالت التي‬
‫تؤ ّثر في ح ّيز بمجمله‪ .‬وكان ذلك بحث ًا في الحركية كف ّن بصري بامتياز‪،‬‬
‫طرح منذ حقبة السينما الصامتة مشكل َة العالقة بين الصورة‪ /‬الحركة‬
‫وبين اللون والموسيقى‪ .‬إن لوحة البالية اآللية )‪(Ballet mécanique‬‬
‫للفنان التشكيلي فيرنان ليجيه مستوحاة باألحرى من آالت بسيطة‪،‬‬
‫وإن فيلم جماليات التصوير )‪ (Photogénies‬إلبستاين‪ ،‬وفيلم جمالية‬
‫التصوير اآللي )‪ (La photogène mécanique‬لغريميون مستوحيان من‬
‫ودب في أوصال السينما الفرنسية هذه زخم أعمق‪،‬‬
‫اآلالت الصناعية‪َّ .‬‬

‫‪91‬‬
‫كما سنرى‪ ،‬وتو ُّلع عام بالماء والبحر واألنهار (ليربييه‪ ،‬إبستاين‪ ،‬رينوار‪،‬‬
‫فيغو‪ ،‬غريميون)‪ .‬ولم يكن ذلك إطالق ًا للتخ ّلي عن الميكانيك‪ ،‬بل على‬
‫العكس‪ ،‬كان انتقاالً من ميكانيك األجسام الصلبة إلى ميكانيك السوائل‬
‫الذي ‪ -‬من وجهة نظر عملية – سيخلق تعارض ًا بين عالمين‪ ،‬والذي ‪ -‬من‬
‫وجهة نظر تجريدية ‪ -‬سيجد في الصورة السائلة امتداد ًا جديد ًا لكمية‬
‫ضمها‪ :‬فكانت شروط مثلى لالنتقال‬ ‫الحركة داخل المجموع الذي ّ‬
‫تبث في الحركات‬ ‫من المحسوس إلى المجرد‪ ،‬وكانت إمكانية كبرى ّ‬
‫ديمومة ثابتة بمعزل عن الخصائص التصويرية‪ ،‬وكانت قدرة أكثر ضمان ًا‬
‫المحرك(‪ .((1‬لقد كان للماء حضور الفت‬
‫َّ‬ ‫الستخراج الحركة من الشيء‬
‫في السينما األميركية وفي السينما السوفيتية‪ ،‬وكان حضوره إيجابي ًا‬
‫ومدمر ًا أيض ًا‪ ،‬ولكن الماء في جميع الحاالت قد جابه أهداف ًا عضوية‬
‫حررت الماء‪ ،‬وأعطته غايات‬‫وارتبط بها‪ .‬المدرسة الفرنسية هي التي ّ‬
‫ال من دون أن يحصل على قوام عضوي‪.‬‬‫خاصة وجعلت له شك ً‬

‫عندما تك ّلم لويس دولوك )‪ (Louis Delluc‬وجيرمين دوالك‬


‫)‪ (Germaine Dulac‬و ابستاين عن "جمالية التصوير"‪ ،‬لم يكن‬
‫المقصود بالطبع نوعية الصورة الضوئية‪ ،‬وإنما على العكس تحديد‬
‫الصورة السينمائية في اختالفها عن الصورة الضوئية‪ .‬إن جمالية الصورة‬

‫املجردة وحول مفاهيم اإليقاع‪ ،‬انظر‪:‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ ((1‬حول هذه السينام احلركية‬
‫‪Jean Mitry, Le cinéma expérimental (Paris: Seghers, [s. d.]), ch. IV,‬‬ ‫ ‬
‫‪V, X,‬‬
‫ ويطرح ميرتي مشكلة الصورة البرصية‪ ،‬التي ال حتظى مثل الصورة املوسيقية‬
‫باإلمكانيات اإليقاعية نفسها‪ .‬ويف حماوالته اخلاصة‪ ،‬سينتقل ميرتي نفسه من الصلب كام‬
‫يف فيلم الويسترين )‪ (Pacific 232‬إىل السائل كام يف فيلم ‪ّ Images pour Debussy‬‬
‫ليحل‬
‫جزء ًا من هذه املشاكل‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫هي في تحديد الصورة بصفتها مرفوعة القيمة بسبب الحركة(‪ ،((1‬وتكمن‬
‫المسألة بالضبط في تحديد هذه القيمة المرفوعة‪ .‬إنها تتضمن أوالً‬
‫الفاصل الزمني كحاضر متغ ّير‪ .‬وكان رينيه كلير‪ ،‬منذ فيلمه األول باريس‬
‫التي تنام )‪ ،(Paris qui dort‬قد أثار إعجاب فيرتوف إذ أبرز مثل تلك‬
‫الفواصل كنقاط تتو ّقف عندها الحركة وتبدأ من جديد وتنعكس وتتسارع‬
‫أو تتباطأ‪ :‬أي أننا أمام نوع من تفاضلية الحركة(‪ .((1‬ولكن الحركة‪ ،‬في هذا‬
‫تتم كوحدة رقمية تُنتج في الصورة ذروة الكم الحركي‪ ،‬مقارنة‬ ‫المعنى‪ّ ،‬‬
‫بعوامل أخرى يمكن تحديدها‪ ،‬وتتغ ّير من صورة إلى أخرى بحسب تغ ّير‬
‫هذه العوامل بالذات‪ .‬وهذه العوامل هي من أنواع متباينة‪ :‬الطبيعة وأبعاد‬
‫الح ّيز المؤ ّطر‪ ،‬توزيع األجسام المتحركة والثابتة‪ ،‬زاوية ضبط اإلطار‪،‬‬
‫المقربة‪ ،‬المدة المحسوبة لحجم اللقطة‪ ،‬الضوء وتدرجاته‬ ‫ّ‬ ‫العدسة‬
‫وأنساقه‪ ،‬ولكن أيض ًا األنساق التصويرية والعاطفية ّ‬
‫(بغض النظر عن اللون‬
‫والصوت في السينما الناطقة وعن الموسيقى)‪ .‬وبين الفاصل والوحدة‬
‫الرقمية وهذه العوامل‪ ،‬يوجد مجموع من العالقات المترية التي تشكّل‬
‫"األعداد" واإليقاع وتحدّ د حجم الكمية الكبرى للحركة النسبية‪ .‬ال شك‬
‫تضمن دائم ًا حسابات كهذه‪ ،‬حسابات تجريبية أو حدسية‬‫ّ‬ ‫أن المونتاج‬
‫في جانب منها‪ ،‬وحسابات تنحو من جانب آخر إلى علمية معينة(‪.((1‬‬

‫‪Epstein, Ecrits sur le cinéma, I, pp. 137-138.‬‬ ‫(‪((1‬‬


‫(‪ ((1‬انظر حتليل آنيت ميكلسون )‪ (Annette Michelson‬لفيلم رينيه كلري‬
‫والعالقات التي أقامها مع فريتوف‪:‬‬
‫‪Annette Michelson, “L’homme à la caméra,” dans: Dominique‬‬
‫‪Noguez, Cinéma théorie, lectures (Paris: Klincksieck, [s. d.]), pp. 305-307.‬‬
‫(‪ ((1‬انظر ً‬
‫مثال عند إيزنشتاين‪(Sergei Eisenstein, Film form (New York: :‬‬
‫‪= ,Meridian Books, [s. d.]), “Methods of montage”),‬‬
‫‪93‬‬
‫ولكن ما يبدو خاص ًا بالمدرسة الفرنسية‪ ،‬وهي المدرسة الديكارتية في‬
‫تجاوز الحساب لشرطه التجريبي لجعله‬‫ُ‬ ‫هذا المعنى‪ ،‬هو في ٍ‬
‫آن واحد‬
‫نوع ًا من "الجبر"‪ ،‬كما قال غانس‪ ،‬وتوليدُ ه المتكرر ألقصى حد ممكن‬
‫كعامل لجميع المتغ ّيرات‪ ،‬أو كشكل لما يتجاوز العضوي‪ .‬إن‬ ‫للحركة ِ‬
‫الديكورات الداخلية العمالقة لليربييه‪ ،‬التي تشابه ديكورات فرنان ليجيه‬
‫في فيلم المتوحشة )‪ (L’inhumaine‬وديكورات بارساك )‪ (Barsacq‬في‬
‫فيلم المال )‪ ،(L’argent‬وقد تكون خير مثال لح ّيز يخضع لعالقات مترية‬
‫تنضوي فيها القوى والعوامل لتحدّ د أكبر كمية من الحركة‪.‬‬

‫مكرس ًا‬
‫خالف ًا لما حدث في التعبيرية األلمانية‪ ،‬كان كل شيء ّ‬
‫للحركة بما في ذلك الضوء‪ .‬صحيح أن الضوء ليس فقط عام ً‬
‫ال يستمدّ‬
‫قيمته من الحركة التي يصاحبها أو يخضع لها أو يحدد شرطها حتى‪ .‬هناك‬
‫أضوائية فرنسية )‪ (luminisme‬أنشأها كبار مصممي السينما (مثل بيرينال‬
‫)‪ )(Perinal‬وم ّثل الضوء بالنسبة لهم قيمة بحدّ ذاتها‪ .‬ولكن الضوء بذاته‬
‫هو حركة‪ ،‬هو حركة ِصرفة ذات امتداد وتتحقق في اللون الرمادي‪ ،‬في‬
‫"صورة متدرجة اللون تو ّظف تدرجاتها جميعها في األلوان الرمادية"(‪.((1‬‬
‫إنه ضوء ال يتوقف عن االنتشار في حيز متجانس‪ ،‬ويخلق أشكاالً ساطعة‬
‫من خالل حركيته الخاصة أكثر من تالقيه بأجسام تتحرك‪ .‬إن الرمادي‬

‫املونتاج املرتي وتتامته واملونتاج اإليقاعي واملقامي واهلارموين‪ .‬ولكن األمر عند‬ ‫=‬
‫إيزنشتاين يتعلق خصوص ًا باملقاييس العضوية وبالعالقات املرتية حتديد ًا‪.‬‬
‫(‪Noël Burch, Marcel L’Herbier (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 139. ((1‬‬
‫انظر أيض ًا مالحظات أمنغوال حول الضوء عند رينيه كلري (ص ‪ ،)56‬وعند‬
‫فيغو بخاصة (ص ‪désacralisation des ténèbres de l’expressionisime”,“ :)72‬‬
‫وانظر ما كتبته مرياي التيل )‪ (Mireille Latil‬يف‪Cinématographe, no :‬‬
‫‪40 (Octobre 1978).‬‬

‫‪94‬‬
‫الساطع الذي اشتهرت به المدرسة الفرنسية هو أشبه بلون‪ /‬حركة‪ .‬ليس‬
‫‪ -‬كما عند إيزنشتاين ‪ -‬الوحدة الجدلية التي تنقسم إلى أسود وأبيض‪،‬‬
‫أو التي تنجم عن هذين اللونين ككيفية جديدة‪ .‬ولكنه‪ ،‬مقارنة بالطريقة ‪-‬‬
‫التعبيرية‪ ،‬ليس نتيجة صراع عنيف بين النور والظلمة‪ ،‬أو نتيجة تمازج بين‬
‫المضيء والمعتّم‪ .‬فالرمادي‪ ،‬أو الضوء كحركة‪ ،‬هو الحركة التناوبية‪ .‬وال‬
‫شك أن هذا سمة مبتكرة في المدرسة الفرنسية‪ :‬أي إحالل التناوب محل‬
‫التعارض الجدلي والنزاع التعبيري‪ .‬ونجد أنه بلغ ذروته عند غريميون‪:‬‬
‫أي التناوب المنتظم للضوء والظل‪ ،‬الذي تجعله المنارة متحرك ًا في فيلم‬
‫حراس المنارة )‪ ،(Gardiens de phare‬ولكن أيض ًا التناوب بين المدينة‬
‫النهارية والمدينة الليلية كما في فيلم السيد فيكتور الغريب ‪(L’étrange‬‬
‫)‪ .Monsieur Victor‬ويوجد تناوب امتدادي‪ ،‬وليس نزاع ًا‪ ،‬ألن الضوء‬
‫منتشر على الجانبين‪ ،‬ضوء الشمس وضوء القمر‪ ،‬مشهد قمري ومشهد‬
‫شمسي‪ ،‬ويتصالن في ما بينهما داخل الرمادي ويمران بجميع تدرجاته‪.‬‬
‫إن تصور ًا للضوء كهذا يدين كثير ًا للنزعة التلوينية عند روبرت ديلونيه‬
‫)‪ ،(Robert Delaunay‬على الرغم من المظاهر(*)‪.‬‬

‫من البديهي أن أكبر كمية من الحركة ينبغي أن تُفهم حتى‬


‫اآلن كحدّ أعظمي نسبي‪ ،‬ألنها وقف على الوحدة الرقمية المختارة‬
‫كفاصل‪ ،‬وعلى العوامل المتغيرة المرتبطة بها‪ ،‬وعلى العالقات المترية‬
‫بين العوامل والوحدة‪ ،‬والتي تمنح الحركة شكلها‪ .‬تلك هي "أفضل"‬

‫(*) روبري ديلونيه (‪ )1941-1885‬فنان تشكييل فرنيس تأثر بغوغان وبانطباعية‬


‫سورا اجلديدة وبسيزان‪ ،‬وركز عىل الضوء الذي يمنح األلوان حرارهتا؛ ومن أهم أعامله‪:‬‬
‫نوافذ‪ ،‬مدينة باريس‪ ،‬برج إيفل (املرتجم)‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫كمية للحركة‪ ،‬إذا أخذت باالعتبار هذه العناصر جميعها‪ .‬ويأخذ الحد‬
‫األقصى توصيفه‪ ،‬ألنه كيفية بحدّ ذاته‪ :‬فهو فاندانغو وفاراندول وباليه‪...‬‬
‫إلخ‪ .‬وبحسب تغ ّيرات الحاضر أو تق ّلصات الفاصل وتمدداته‪ ،‬نستطيع‬
‫القول إن الحركة البطيئة جد ًا تحقق قدر ًا كبير ًا من الحركة الممكنة‪،‬‬
‫بمقدار ما تحققه حركة سريعة جد ًا في الحالة األخرى‪ :‬إذا ما أعطى فيلم‬
‫العجلة لغانس نموذج ًا لحركة متسارعة وبمونتاج متعاظم السرعة‪ ،‬فإن‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫فيلم انهيار منزل أوشر )‪ (La chute de la maison Usher‬البسين‪.‬‬
‫يبقى تحفة في اإلبطاء مع أنه يح ّقق الحد األقصى للحركة بشكل ممطوط‬
‫للغاية‪ .‬ومن دون الوقوف في التناقض‪ .‬علينا اآلن أن ننتقل إلى الجانب‬
‫اآلخر‪ ،‬أي إلى المطلق في كمية الحركة وإلى المطلق األعظمي‪ .‬ومن‬
‫ويتضمن‬
‫ّ‬ ‫دون الوقوع في تناقض‪ ،‬نرى أن هذين الجانبين متالزمان جد ًا‪،‬‬
‫أحدهما اآلخر ويفترضه منذ البداية‪ .‬أعار ديكارت كمية نسبية جد ًا‬
‫خص كلية الكون بكمية مطلقة‬ ‫للحركة في المجموعات المتغ ّيرة‪ ،‬ولكنه ّ‬
‫أدق شروطها‪.‬‬ ‫من الحركة‪ .‬لقد وجدت السينما ذلك التعالق الضروري في ّ‬
‫فمن جهة يتوجه حجم اللقطة إلى مجاميع مؤ َّطرة‪ ،‬و ُيدخل في عناصره‬
‫الحد األقصى من الحركة النسبية؛ ومن جهة أخرى يهتم بمجموع متغ ّير‬
‫يتبدّ ى فيه التغيير في حدّ أعظمي مطلق للحركة‪ .‬وببساطة ال يكْم ُن الفرق‬
‫بين كل صورة لذاتها (ضبط الكادر) وبين العالقات القائمة بين الصور‬
‫(المونتاج)‪ .‬فحركة الكاميرا تُدخل صور ًا عديدة في صورة واحدة‪ ،‬مع‬
‫مجموعة من الضبط المتكرر للكادرات‪ ،‬وتجعل أيض ًا من الممكن أن‬
‫تع ّبر صورة واحدة عن الكل‪ .‬وهذا الفت عند آبيل غانس الذي تباهى‬
‫عن حق في فيلم نابليون أنه لم ّ‬
‫يحرر الكاميرا من حواملها األرضية‬
‫فحسب‪ ،‬بل حررها من عالقاتها بالرجل الذي يحملها‪ ،‬ووضعها على‬
‫‪96‬‬
‫ظهر حصان‪ ،‬وأطلقها كقذيفة وجعلها تتدحرج ككرة وتسقط من طائرة‬
‫مروحية في البحر(‪ .((1‬بيد أن المالحظة السابقة التي اقتبسناها من بورش‬
‫تبقى سارية المفعول‪ :‬فحركة الكاميرا‪ ،‬عند معظم هؤالء المخرجين‬
‫الذين تكلمنا عنهم في هذا الفصل‪ ،‬ما زالت خاصة بلحظات الفتة‪ ،‬في‬
‫حين أن الحركة العادية تُحيل باألحرى إلى تعاقب في اللقطات الثابتة‪،‬‬
‫بحيث يكون المونتاج من جانبي اللقطة‪ :‬فيشمل المجموع المؤ ّطر الذي‬
‫ال يكتفي بصورة واحدة ولكنه ُيظهر الحركة النسبية في متتالية تغ ّير وحدة‬
‫القياس (إعادة التأطير)‪ ،‬ويشمل كامل الفيلم الذي لن يكتفي بأن يكون‬
‫مجموعة من الصور المتعاقبة‪ ،‬ولكنه يتبدّ ى في حركة مطلقة يجب اآلن‬
‫كشف طبيعتها‪.‬‬

‫كان َكنْت )‪ (Kant‬يقول‪ :‬ما دامت وحدة القياس (الرقمي)‬


‫متجانسة‪ ،‬نستطيع بيسر أن نمضي قدم ًا حتى الالنهاية‪ ،‬ولكن بطريقة‬
‫مجردة‪ .‬وحين تكون وحدة القياس متغ ّيرة‪ ،‬يصطدم الخيال سريع ًا‬
‫بحد من الحدود‪ :‬فخلف المتوالية القصيرة‪ ،‬لن يتمكّن الخيال من فهم‬
‫مجموع األحجام والحركات التي يدركها تباع ًا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن الفكر‪/‬‬
‫الروح‪ ،‬بمقتضى حاجة خاصة به‪ ،‬يجب أن يستوعب ُمجمل الحركات في‬
‫سماه َكنْت بالمتسامي الرياضي‪:‬‬ ‫الطبيعة أو الكون ّ‬
‫ككل شامل‪ .‬وهذا ما ّ‬
‫يكرس الخيال نفسه إلدراك الحركات النسبية التي فيها يستنفد قواه‬ ‫ّ‬
‫سريع ًا بتحويله وحدات القياس‪ ،‬غير أن الفكر يجب أن يبلغ ما يتجاوزه‬
‫كل خيال‪ ،‬أي مجموع الحركات ككل‪ ،‬كحدّ أعلى مطلق للحركة‪،‬‬

‫(‪Abel Gance, L’art du cinéma de Pierre Lherminier (Paris: ((1‬‬


‫‪Seghers, [s. d.]), pp. 163-167.‬‬

‫‪97‬‬
‫كحركة مطلقة تتماهى بذاتها مع ما ال يقاس ومع الهائل والرحب‪،‬‬
‫ومع الق ّبة السماوية أو البحر الذي ال تخوم له(‪ .((2‬ذلك هو الوجه اآلخر‬
‫للزمن‪ ،‬ال الفاصل كحاضر متغ ّير‪ ،‬ولكنه الكل المفتوح بامتياز‪ ،‬والرحب‬
‫رحاب َة المستقبل والماضي‪ .‬لم يعد ذلك هو الزمن كتعاقب في الحركات‬
‫والوحدات‪ ،‬وإنما الزمن كتواقتية وتواقت (ذلك أن التواقت يتعلق‬
‫آن واحد‪ ،‬ألنه الزمن ككل)‪ .‬وهذا المثال األعلى‬ ‫بالزمن والتعاقب في ٍ‬
‫للتواقتية هو الذي ما انفكت السينما الفرنسية تهجس به‪ ،‬وهو الذي‬
‫ألهم ف ّن الرسم والموسيقى وحتى األدب‪ .‬أجل يساورنا االعتقاد بأنه‬
‫من الممكن والسهل االنتقال من الوجه األول إلى الوجه الثاني‪ :‬أليس‬
‫ال ال محدود‪ ،‬وسواء تسارع أو امتدّ إلى األقاصي‪ ،‬أال‬ ‫التعاقب هو أص ً‬
‫يحدّ ه تواقت ُيدانيه إلى ما ال نهاية؟ بهذا المعنى سيتك ّلم إبستاين عن‬
‫"التعاقب السريع والمؤسس الذي يصبو إلى الدائرة الكاملة للتواقتية‬
‫المستحيلة"(‪ .((2‬كان بوسع فيرتوف والمستقبليين أيض ًا أن يتك ّلموا بهذه‬
‫الطريقة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬توجد في المدرسة الفرنسية ثنائية تراوح بين هذين‬
‫الوجهين‪ :‬الحركة النسبية هي من المادة‪ ،‬وتصف المجاميع التي نستطيع‬
‫تب ّينها في هذه المادة أو التي نستطيع نقلها بـ "خيالنا"‪ ،‬في حين أن الحركة‬
‫السمة النفسية للكل الذي يتغ ّير‪ .‬وال‬
‫المطلقة تصدر عن الروح وتع ّبر عن ِّ‬
‫نستطيع بالتالي االنتقال من الواحد إلى اآلخر بالتالعب على وحدات‬
‫القياس‪ ،‬مهما كانت كبيرة أو صغيرة‪ ،‬بل بالوصول فقط إلى شيء ال‬
‫يقبل القياس‪ ،‬في اإلفراط والتفريط مقارنة بكل قياس‪ ،‬شيء ال يمكن‬

‫‪Kant, Critique du jugement, p. 36‬‬ ‫(‪((2‬‬


‫‪Epstein, Ecrits sur le cinéma, I, p. 67.‬‬ ‫(‪((2‬‬
‫‪98‬‬
‫أن تتصوره إال النفس العاقلة‪ .‬في فيلم المال )‪ (L’argent‬الذي أخرجه‬
‫ليربييه‪ ،‬يستخلص نويل بورش حالة شديدة األهمية من هذا البناء الذي‬
‫يشمل كل ّية الزمن الرحب بالضرورة(‪ .((2‬يبقى أن تسريع أو إبطاء الحركة‬
‫النسبية أو النسبية األساسية لوحدة القياس‪ ،‬وأن أبعاد الديكور لعبت كلها‬
‫بالتأكيد دور ًا ال غنى عنه‪ ،‬لكنها رافقت وك ّيفت الجانب اآلخر بدل أن‬
‫تؤ ّمن هي نفسها االنتقال من وجه آلخر‪ .‬ومر ّد ذلك هو أن الثنائية الفرنسية‬
‫تُبقي على الفرق بين ما هو روحي وما هو مادي‪ ،‬مع أنها تُظهر التكامل‬
‫بينهما في ذات الوقت‪ :‬وهذا ال يظهر عند غانس فقط وإنما عند ليربييه‬
‫وإبستاين‪ .‬وغالب ًا ما الحظ بعضهم أن المدرسة الفرنسية قد أولت الصورة‬
‫الذاتية أهمية وتطوير ًا كبيرين بقدر ما أعطتها إياهما التعبيرية األلمانية‪،‬‬
‫ال اختزلت بامتياز ثنائية الحدّ ين وتكاملهما‪:‬‬‫ولو بشكل مختلف‪ .‬وفع ً‬
‫فمن جهة ضاعفت الحد األعلى النسبي لكمية الحركة الممكنة‪ ،‬قارن ًة‬
‫حركة الجسم الناظر بحركة األجسام المرئية؛ ولكنها من جهة أخرى‬
‫شكّلت في ظل هذه الشروط‪ ،‬الحد األعلى المطلق لكمية الحركة‪،‬‬
‫بالنسبة لروح مستقلة "تغ ّلف" وتسبق األجساد(‪ .((2‬تلك هي الحالة‬
‫الشهيرة للغموض الذي يكتنف الرقص في فيلم إلدورادو )‪.(Eldorado‬‬

‫عم إذا كان فيلم املال )‪ (L’argent‬يستطيع أن يعطي مثل‬


‫(‪ ((2‬يتساءل بورش ّ‬
‫هذا االنطباع عن احلركة‪ ،‬يف حني أن احلركات الكربى للكامريا هي حركات نادرة‬
‫نسبي ًا‪ .‬واحلال أن الشكل اهلائل للديكور (ردهة فسيحة مثالً) يقتيض بال شك أن ينتقل‬
‫املمثلون بكل رحابة‪ ،‬ولكنه ال يرشح انطباعنا عن احلد األقىص املطلق للحركة‪ .‬يكتشف‬
‫بورش التربير من خالل حجوم اللقطات يف متوالية معينة‪ :‬يقول هناك «إشباع مفرط»‬
‫ُيدث أثر ًا ال يقاس وجيعلنا نتجاوز العالقات بني األحجام النسبية ‪(Burch, Marcel‬‬
‫‪L’Herbier, pp. 146-157).‬‬
‫‪Gance, L’art du cinéma de Pierre Lherminier.‬‬ ‫(‪ ((2‬انظر‪ :‬‬
‫‪99‬‬
‫هذه الروحانية وهذه الثنائية هما ما منحهما غانس للسينما‬
‫الفرنسية‪ .‬ونجدهما تمام ًا في الوجهين اللذين اتخذهما المونتاج لديه‪.‬‬
‫وبحسب الوجه األول الذي لم يزعم غانس بأنه من اكتشافِه‪ ،‬مع أنه كان‬
‫يتحكّم في تسلسل أحداث الفيلم‪ ،‬كانت الحركة النسبية تجد قانونها‬
‫في "مونتاج عمودي متتابع"‪ :‬وتتم ّثل حالة المونتاج السريع الشهيرة في‬
‫العجلة وأيض ًا في فيلم نابليون‪ .‬ولكن الحركة المطلقة تتبدى في‬
‫فيلم َ‬
‫طريقة أخرى يسميها غانس "بالمونتاج األفقي المتناوب"‪ ،‬والتي ستجد‬
‫في فيلم نابليون شكليها الرئيسيين‪ :‬فهناك االستخدام المبتكر لتقنيات‬
‫الطبع الفوقي(*) )‪ (surimprssions‬من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى اختراع‬
‫الشاشة الثالثية والمشاهدة المتعددة‪ .‬إن غانس‪ ،‬بتراصفه عدد ًا كبير ًا من‬
‫صور الطبع الفوقي (تصل إلى ست عشرة أحيان ًا)‪ ،‬وبإدخاله بينها بعض‬
‫اإلزاحات الزمنية الصغيرة‪ ،‬وبإضافته بعض الصور وبانتزاع أخرى من‬
‫المشاهد لن يرى الصور المتراكبة‪ :‬ذلك أن‬ ‫بينها‪ ،‬يعلم تمام العلم أن ُ‬
‫ال إلى حده بسرعة‪ .‬لكن غانس‬ ‫خياله قد صار متجاوز ًا ومكت ّظ ًا وواص ً‬
‫يعتمد على تأثير جميع هذه اللقطات الفوقية المتراكبة على النفس‪،‬‬
‫ويعتمد على تأليف إيقاع ذي قيم مضافة ومحذوفة ت ِ‬
‫ُشعر باإلفراط‬
‫والرحابة‪ .‬عندما اخترع غانس الشاشة الثالثية ح ّقق تزامن ًا ذا وجوه ثالثة‪،‬‬
‫في مشهد واحد أو في ثالثة مشاهد مختلفة‪ ،‬وبنى إيقاعات ُسم ّيت بـ‬
‫"الالمرتدّ ة"‪ ،‬إيقاعات يرتدّ الواحد منها عن اآلخر‪ ،‬فتضفي قيمة مركزية‬
‫لكليهما‪ .‬وبعد أن جمع غانس بين تزامن الطبع الفوقي المتراكب وبين‬

‫(*) هي طبع لفطتني سالبتني عىل نفس جزء الفيلم املوجب‪ ،‬بحيث تبدو اللقطتان‬
‫السالبتان متطابقتني‪ ،‬ويظهر ذلك يف الفيلم النهائي (املرتجم)‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫تزامن الطبع العكسي‪ ،‬بنى في الحقيقة صورة تحاكي الحركة المطلقة‬
‫َ‬
‫المجال المطلق للفاصل المتغير‬ ‫للكل المتغير‪ .‬ولم يعد ذلك اإلنجاز‬
‫وللتسارع واإلبطاء الحركيين داخل المادة‪ ،‬بل أصبح الميدان المطلق‬
‫للتناوب الساطع وللضوء المنتشر وللكل المتغ ّير الذي هو الروح (لولب‬
‫روحي كبير بدل اللولب العضوي‪ ،‬لولب يظهر بشكل مباشر في حركة‬
‫الكاميرا أحيان ًا‪ ،‬عند غانس وليربييه)‪ .‬وهنا تكمن نقطة التقاطع مع‬
‫الرسام ديلونيه(‪.((2‬‬
‫"تناوبية" ّ‬

‫بوجيز العبارة‪ ،‬ابتكرت المدرسة الفرنسية مع غانس سينما‬


‫الروعة‪ .‬فتأليف الصور‪ /‬الحركة تقدّ م دائم ًا صورة الزمن بوجهيه‪ ،‬الزمن‬
‫كماض ومستقبل‬‫ٍ‬ ‫كفاصل والزمن ككل‪ ،‬الزمن كحاضر متغ ّير والزمن‬
‫رحبين‪ .‬فمث ً‬
‫ال نرى في فيلم نابليون لغانس أن اإلحالة الدائمة إلى الرجل‬
‫الشعبي والمتذمر دائم ًا وإلى عاملة المطبخ تُدخل الحاضر الزمني لشاهد‬
‫ٍ‬
‫وماض شبعا تمحيص ًا(‪.((2‬‬ ‫فوري وساذج إلى الرحابة الملحمية لمستقبل‬

‫(‪ ((2‬يعارض ديلونيه )‪ (Delaunay‬املستقبليني‪ ،‬ويرى أن التناوبية هي هناية‬


‫الطاقة احلركية املتسارعة‪ .‬ويرى أن ال عالقة هلا بالطاقة احلركية‪ ،‬بل ترتبط فقط بتحرك‬
‫وامللونة‪ ،‬و ُيدرجها يف أسطوانات ولوالب مرتبطة‬
‫ّ‬ ‫الضوء‪ ،‬ألنه خيلق أشكاله املضيئة‬
‫تعرف السينامئيون‬
‫ّ‬ ‫‪(Blaise‬‬ ‫)‪Cendrars‬‬ ‫ساندرار‬ ‫بليز‬ ‫بطبيعة الزمن‪ .‬من طريق الكاتب‬
‫الفرنسيون عىل أفكار ديلونيه‪ .‬انظر مقال‪Abel Gance, “Le temps de l’image :‬‬
‫‪éclatée,” dans: Sophia Daria, Abel Gance hier et demain (Paris: Edition La‬‬
‫‪Palatine, [s. d.]),‬‬
‫وبمعنى متقارب‪ ،‬توجد عند ميسيان )‪ (Messiaen‬تناوبية موسيقية تتحدّ د فع ً‬
‫ال بـ‬
‫«اإليقاعات ذات القيمة املضافة» وبـ «اإليقاعات الالمرتدة»‪.‬‬
‫‪Antoine Goléa, Rencontres avec Olivier Messiaen (Paris: Julliard, [s. d.]),‬‬
‫‪pp. 65 sq.‬‬
‫(‪ ((2‬انظر دور فلوري كام ح ّلله نورمان كينغ عرب املشاريع املتتالية التي قام‬
‫هبا غانس‪Abel Gance, “Une épopée populiste,”  Cinématographe, n° 83 :‬‬
‫‪(Novembre 1982).‬‬

‫‪101‬‬
‫األمر معكوس عند رينيه كلير‪ ،‬إذ نجد دائم ًا‪ ،‬وبشكل لطيف‬
‫ّ‬
‫وأخاذ‪ ،‬أن هذا الزمن الكلي يتجابه مع متغ ّيرات الحاضر‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن ما‬
‫يظهر على هذا النحو في المدرسة الفرنسية هو أسلوب جديد في تصور‬
‫عالمتي الزمن‪ :‬إذ أصبح الفاصل الوحدة الرقمية المتغيرة والمتعاقبة التي‬
‫تدخل في عالقات مترية مع العوامل األخرى‪ ،‬محدّ د ًة في كل حالة أكبر‬
‫كمية نسبية للحركة داخل المادة لتحفيز الخيال؛ فالكل غدا المتناوب‬
‫بامتياز والرحب‪ ،‬ودفع بالخيال إلى العجز وأظهر حدوده وخلق‬
‫في العقل الفكرة الصرفة عن كمية حركة مطلقة تع ّبر عن كل تاريخها‬
‫وتغ ّيرها وعالمها‪ .‬وهذا بالتحديد هو األسمى الرياضي الذي تك ّلم عنه‬
‫َكنْت‪ .‬عن هذا المونتاج‪ ،‬وعن هذا التصور للمونتاج‪ ،‬سنقول بأنه مونتاج‬
‫كمي‪ /‬شعري (وتكلم‬
‫رياضي‪ /‬روحي‪ ،‬مونتاج ممتدّ ‪ /‬نفسي‪ ،‬مونتاج ّ‬
‫إيبستين )‪ (Epstein‬عن "الحكمة الغنائية")‪.‬‬

‫يمكن أن نقابل المدرسة الفرنسية بالتعبيرية األلمانية مقابلة‬


‫مسهبة‪ .‬فعندنا من جهة "مزيد من الحركة" ومن جهة أخرى "مزيد من‬
‫الضوء"‪ .‬في التعبيرية األلمانية تهتاج الحركة وإنما لتخدم الضوء وتجعله‬
‫يتألأل ويتشكّل أو تدفعه إلى تفكيك النجوم وإلى مضاعفة االنعكاسات‬
‫ورسم السحب الممطوطة المتأ ّلقة‪ ،‬كما رأينا في ذلك المشهد المهم‬
‫منوعات للمخرج األلماني إيوالد أندريه‬ ‫عن مسرح المنوعات في فيلم ّ‬
‫دوبون )‪ (Ewald André Dupont‬أو في مقطع الحلم في فيلم آخر‬
‫البشر الذي أخرجه فريدريش فيلهلم مورناو‪ .‬صحيح أن الضوء حركة‪،‬‬
‫تجل واحد‪ .‬غير‬ ‫وأن الصورة‪ /‬الحركة والصورة‪ /‬الضوء هما وجها ٍّ‬
‫أن الضوء لدى المدرسة الفرنسية حركة في غاية االمتداد‪ ،‬في حين أنه‬
‫ٍ‬
‫تكثف هائلة وكحركة غزيرة بامتياز‪ .‬يوجد هنا‬ ‫يتبدّ ى في التعبيرية كحركة‬
‫‪102‬‬
‫فع ً‬
‫ال ف ّن حركي تجريدي (هانس ريختر )‪ (Hans Richter‬وفالتر روتمان‬
‫)‪ ،)(Walter Ruttmann‬ولكن الكمية التمدّ دية والتنقل في المكان‬
‫هما أشبه بالزئبق الذي يقيس على نحو غير مباشر الكمية التمددية في‬
‫صعودها أو هبوطها‪ .‬يتوقف الضوء والظل عن تشكيل حركة تناوبية‬
‫ممتدة‪ ،‬ويدخالن اآلن في صراع حاد يشتمل على عدة مراحل‪.‬‬

‫في البداية‪ ،‬تتعارض القوة الالمحدودة للضوء مع الظلمة كقوة ال‬


‫نهائية لن يظهر الضوء من دونها‪ .‬فهي تتعارض مع الظلمة لتَظهر‪ .‬ليس‬
‫ذلك ثنائية‪ ،‬وليس جدلية أيض ًا‪ ،‬ألننا خارج كل وحدة أو كل ّية عضويتين‪.‬‬
‫إنه تعارض ال ينتهي‪ ،‬وظهر في أعمال غوته‪ ،‬والرومنسيين‪ :‬ال قيمة‬
‫للضوء أو على األقل ال قيمة جل ّية له‪ ،‬من دون المعتِّم الذي يتعارض معه‬
‫ويجعله مرئي ًا(‪ .((2‬تنقسم الصورة البصرية إذن إلى جزأين بحسب الخط‬
‫المنحرف أو الخط المث ّلم‪ ،‬بحيث يقتضي "إبراز الضوء نصف ًا معتم ًا"‪،‬‬
‫كما قال الشاعر فاليري )‪ .(Valéry‬ليس هذا تجزيئ ًا للصورة أو لحجم‬
‫اللقطة فقط‪ ،‬كما نجد ذلك في فيلم هومونكولوس )‪(Homunculus‬‬
‫الذي أخرجه أوتو ريبرت(*) )‪ .(Otto Rippert‬أو كما نجده عند فريتز‬

‫‪Théorie des‬‬ ‫(‪ ((2‬حول الضوء وعالقاته باملعتم والكامد‪ ،‬يبقى كتاب‪:‬‬
‫‪ couleurs‬لغوته )‪ (Goethe‬هو النص األسايس )‪ (Ed. Triades‬وقد قدمت عنه إليان‬
‫يتضمن العديد من التطبيقات‬ ‫ّ‬ ‫ال ممتاز ًا يستطيع أن‬
‫إسكوباس )‪ (Eliane Escoubas‬حتلي ً‬
‫‪“L’œil du teinturier,” Critique, n 418 (Mars 1962),‬‬
‫‪o‬‬
‫السينامئية‪:‬‬
‫الضوء التعبريي هو ضوء يعود لغوته‪ ،‬بقدر ما كان الضوء الفرنيس‪ ،‬القريب من‬
‫تتضمن جانب ًا آخر سنصادفه الحق ًا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ديلونيه‪ ،‬ضوء ًا نيوتوني ًا‪ ،‬والصحيح أن نظرية غوته‬
‫عالقة الضوء النقية باألبيض‪.‬‬
‫ّ‬
‫(*) فيلم من السينام األملانية الصامتة مؤلف من ست حلقات أخرجه أوتو‬
‫ريبريت عام ‪( 1916‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫النغ أو عند جورج فيلهلم بابست )‪ ،(Georg Wilhelm Pabst‬ولكنه‬
‫رحم المونتاج أيض ًا‪ ،‬كما في فيلم ليلة اليوم األخير من السنة للمخرج‬ ‫ْ‬
‫والممثل األلماني لوبو ‪ -‬بيك )‪ ،(Lupo-Pick‬الذي يخلق تعارض ًا بين‬
‫عتمة الكوخ واألضواء الساطعة للفندق األنيق‪ ،‬أو كما في فيلم الشفق‬
‫للمخرج مورناو‪ ،‬الذي يخلق تعارض ًا بين المدينة المتألقة والمستنقع‬
‫القوتين‬
‫تغشيه الظلمة‪ .‬وفي المقام الثاني‪ ،‬نرى أن المجابهة بين ّ‬ ‫الذي ّ‬
‫الالمتناهيتين تحدد نقطة الصفر بالنسبة لكل ضوء يكون فيها درج ًة‬
‫متناهية‪ .‬وإن ما يختص به الضوء‪ ،‬هو اشتماله على عالقة باللون األسود‬
‫كسالب يعادل الصفر‪ ،‬ووفق ًا لهذه العالقة تتحدّ د غزارة الضوء أو كمية‬
‫التك ّثف‪ .‬وتبدو اللحظة هنا (خالف ًا للوحدة والجزء الممتدين) كما لو‬
‫كانت تتحكم في حجم الضوء أو درجته بالنسبة للون األسود‪ .‬لذا فإن‬
‫الحركة المكثفة ال تنفصل عن سقوط ‪ -‬ولو احتمالي ‪ -‬يع ّبر فقط عن‬
‫درجة الضوء في تلك المسافة الصفرية‪ .‬وحدها فكرة السقوط تحدد‬
‫الدرجة التي تصعد منها الكمية المك ّثفة‪ ،‬وحتى أن ضوء الطبيعة‪ ،‬في‬
‫أعظم إشراقه‪ ،‬يهبط وال يتوقف عن السقوط‪ .‬ويجب بالتالي أن تنتقل‬
‫فكرة السقوط إلى ح ّيز الفعل وأن تصبح سقوط ًا فعلي ًا أو مادي ًا في‬
‫الكائنات الخاصة‪ .‬للضوء السينمائي سقوط مثالي‪ ،‬ولكن لضوء النهار‬
‫سقوط ًا واقعي ًا‪ :‬تلك هي مغامرة الروح الفردية‪ ،‬التي يتل ّقفها ثقب أسود‪،‬‬
‫مدوخة (سقوط مارغريت في‬ ‫ال تعطينا عنها المدرسة التعبيرية إال أمثلة ّ‬
‫فيلم فاوست لدى مورناو‪ ،‬والسقوط الذي نشاهده في فيلم آخر الرجال)‬
‫[لمورناو أيض ًا] الذي يبتلعه الثقب األسود في صالونات الحالقة التابعة‬
‫للفندق الكبير‪ ،‬أو السقوط الذي يظهر في فيلم لولو للمخرج بابست‪.‬‬

‫هكذا نرى أن الضوء كدرجة (األبيض) وأن الصفر (األسود)‬


‫‪104‬‬
‫يدخالن في عالقات تضاد أو تمازج ملموسة‪ .‬وهذه‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬هي كل‬
‫السلسلة المتضادة للخطوط البيضاء وللخطوط السوداء‪ ،‬وألش ّعة الضوء‬
‫محزز ومخدّ ش يظهر عند المخرج األلماني‬
‫ولخطوط الظل‪ :‬إنها عالم ّ‬
‫روبرت فيني في اللوحات المرسومة التي تشاهد في فيلم عيادة الدكتور‬
‫كاليغاري‪ ،‬ولكنه عالم يأخذ جميع قيمه الضوئية عند فريتز النغ في فيلم‬
‫النيبيلونغن )‪( (Nibelungen‬على سبيل المثال‪ ،‬الضوء في األحراج‪،‬‬
‫أو الحزم الضوئية المتدفقة من النوافذ)‪ .‬وهذه أيض ًا هي السلسلة التي‬
‫المتدرج‪ ،‬والتحول المتواصل لدرجات الضوء كافة‪ ،‬مما‬
‫ّ‬ ‫يمتزجها الضوء‬
‫يشكّل "نسق ًا س ّياالً من التدرجات المتعاقبة من دون انقطاع"‪ :‬وسيكون‬
‫بول فيغينر ومورناو خصوص ًا أستاذين في هذا المجال‪ .‬صحيح أن كبار‬
‫المخرجين قد عرفوا كيف يتقدّ مون في هذين المجالين وعرف النغ‬
‫كيف يصل بالضوء التدرجي‪ :‬مضيء ‪ -‬معتم‪ ،‬إلى ذورة البراعة (كما في‬
‫فيلم ميتروبوليس)‪ ،‬وعرف مورناو كيف يرسم األشعة األكثر تباين ًا‪ :‬ففي‬
‫فيلم الشفق‪ ،‬يبدأ مشهد البحث عن المرأة الغريقة بأثالم ضوئية تُحدثها‬
‫تمر فوق المياه السوداء‪ ،‬ثم تخلي المكان فجأة لتبدالت‬
‫المشاعل التي ّ‬
‫الضوء التدرجي الذي يخفف شيئ ًا فشيئ ًا من درجات الضوء فوق المكان‬
‫يمر فيه‪ .‬ومهما اختلف إيريش فون ستروهايم عن المدرسة‬ ‫الذي ّ‬
‫التعبيرية (وال سيما في مفهومه عن الزمن وعن سقوط األرواح)‪ ،‬فإنه‬
‫عالج مسألة الضوء وأظهر براعته فيها على غرار النغ‪ ،‬وحتى مورناو‪:‬‬
‫فتارة يكون الضوء سلسلة من األثالم الضوئية كتلك القضبان المضيئة‬
‫المنبعثة من فراغات المشربيات والتي تعكس فوق السرير وج َه النائمة‬
‫وأعلى جسمها‪ ،‬كما في فيلم ضروب الجنون عند النساء‪ ،‬وتكون تار ًة‬

‫‪105‬‬
‫أخرى جميع تدرجات الضوء والضوء المعاكس وأالعيب التعتيم‪ ،‬كما‬
‫في فيلم الملكة كيلي(‪.((2‬‬

‫في كل ما سلف نرى أن التعبيرية قطعت الصلة بمبدأ التركيب‬


‫أسسه غريفيث‪ ،‬والذي تبناه معظم المن ّظرين الجدل ّيين‬
‫العضوي الذي ّ‬
‫السوفييت‪ .‬غير أن هذه القطيعة قد أنجزتها التعبيرية على نحو مختلف‬
‫جد ًا في المدرسة الفرنسية‪ .‬ما أعربت عنه ليس الميكانيك الواضح‬
‫لكمية الحركة في األجسام الصلبة أو السائلة‪ ،‬بل حياة مستنقعة غامضة‬
‫تمزقها الظالل أو التي‬
‫تغوص فيها األشياء جميعها‪ ،‬سواء تلك التي ّ‬
‫يواريها الضباب‪ .‬إن الحياة الالعضوية لألشياء‪ ،‬الحياة الرهيبة التي‬
‫تجهل الحكمة وتجهل حدود األجسام‪ ،‬هي المبدأ األول للتعبيرية‬
‫والساري على الطبيعة برمتها‪ ،‬أي على الروح الالواعية الهائمة في‬
‫الظلمات‪ ،‬أو على الضوء المتكامد )‪ .(Lumen opacatum‬لم تعد‬
‫العناصر الطبيعية والمواد االصطناعية والمصابيح العمودية واألشجار‬
‫ّ‬
‫والمضخة والشمس‪ ،‬لم تعد تختلف من وجهة النظر هذه‪ .‬فالجدار الذي‬
‫تدب فيه الحياة شيء مرعب؛ ولكن األدوات المنزلية واألثاث والبيوت‬ ‫ّ‬
‫وسطوحها المنحنية هي التي تدنو من بعضها وتتر ّبص وتتل ّقف‪ .‬إن ظالل‬

‫(‪Lotte Eisner, «Notes sur le style de Stroheim,» Cahiers du ((2‬‬


‫‪Cinéma, no 67 (Janvier, 1957),‬‬
‫‪Eisner, L’écran démoniaque, Encyclopédie du Cinéma H. Lotte‬‬ ‫ويف‪:‬‬
‫‪( Paris: A. Bonne, [s. d.]),‬‬
‫والتدرجية يف املدرسة التعبريية‬
‫ّ‬ ‫حي ّلل باستمرار هاتني الطريقتني‪ :‬األضواء املحزّ زة‬
‫األملانية‪ .‬انظر أيض ًا يف كتابه‪ :‬عن مورناو )‪ (Murnau‬فصل «األرض املقفرة» ‪(Le terrain‬‬
‫)‪ vague‬وال سيام الصفحات ‪ 88‬و‪ 89‬و‪.162‬‬
‫‪106‬‬
‫البيوت هي التي تتع ّقب الشخص الراكض في الشارع(‪ .((2‬في الحاالت‬
‫جميعها‪ ،‬ما يتعارض مع العضوي ال العنصر اآللي‪ ،‬بل العنصر الحركي‬
‫كقوة ُرشيم ّية ما قبل عضوية‪ ،‬قوة يتشاطرها الكائن الحي والجامد‬
‫والمادة التي تالمس الحياة‪ ،‬وأيض ًا الحياة التي تسري في المادة برمتها‪.‬‬
‫العنصر الحيواني فقدَ العنصر العضوي بقدر ما اكتسبت الماد ُة الحياة‪.‬‬
‫تستطيع التعبيرية أن تنتسب إلى حركية ِصرفة‪ ،‬ألنها حركة عنيفة ال‬
‫تحترم الحواف العضوية وال التحديدات الميكانيكية للخطين األفقي‬
‫والعمودي‪ ،‬ومسيرها هو مسير خط منكسر باستمرار‪ ،‬يحدّ د فيه ُّ‬
‫كل تغيير‬
‫آن واحد‪ ،‬أي أنه باختصار‬ ‫حاجز وقو َة دفع جديد‪ ،‬في ٍ‬
‫ٍ‬ ‫في االتجاه قو َة‬
‫يحدّ د التبعية الممتدّ ة لعنصر الكثافة‪ .‬إن وورينغر )‪ (Worringer‬هو‬
‫المن ّظر األول الذي ابتكر مصطلح "التعبيرية" والذي ّ‬
‫عرفه بأنه تعارض‬
‫متوس ً‬
‫ال الخط التزييني "الغوطي‬ ‫والتصور العضوي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بين الزخم الحيوي‬
‫أو الشمالي"‪ :‬إنه خط منكسر ال حواف له يتمايز فيه الشكل والمضمون‪،‬‬
‫متعرج ًا بين األشياء‪ ،‬يقودها أحيان ًا إلى مضمون غائر يضيع‬
‫يمر ّ‬‫ولكنه ّ‬
‫فيه‪ ،‬وأحيان ًا أخرى يجعلها تدور في شكل غائر تتحول فيه إلى "اختالج‬
‫فوضوي"(‪ .((2‬فالناس اآلليون والروبوتات والدمى المتحركة لم تعد إذن‬

‫(‪ ((2‬يصف هريمان وارم )‪ (Hermann Warm‬ديكور فيلم شبح )‪،(Fantôme‬‬


‫وهو فيلم ضائع أخرجه مورناو‪ ،‬قائالً‪ :‬يف اخلارج نرى شارع ًا ُبني جانبه األيرس فعالً‪،‬‬
‫ولكن اجلانب األيمن منه متأله واجهات اصطناعية مركّبة عىل سكة‪ .‬وهكذا فإن‬
‫الواجهات املتحركة واملتسارعة كانت تنرش ظالهلا عىل البيوت الثابتة يف اجلانب اآلخر‪،‬‬
‫وكأهنا تطارد الشاب‪ .‬ويعطي وارم مثاالً آخر مستمد ًا من الفيلم نفسه الذي حيتوي عىل‬
‫آلية معقدة تنتج مع ًا حركة زوبعة وسقوط يتم يف ثقب أسود‪.‬‬
‫‪Lotte Eisner, Murnau ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), pp. 231-232.‬‬ ‫انظر ‪ :‬‬
‫‪Wilhelm Worringer, L’art gothique (Paris: Gallimard, 1967),‬‬ ‫(‪((2‬‬
‫‪= pp. 66-80.‬‬
‫‪107‬‬
‫آليات تُبرز أو تضخم كمية الحركة‪ ،‬بل المسرنمون والبرزخيون والغيالن‬
‫هي التي تع ّبر عن تلك الحياة غير العضوية‪ :‬ال في فيلم الغول لبول فيغينر‬
‫فقط‪ ،‬بل أيض ًا في فيلم الرعب الغوطي الذي بدأ إخراجه نحو عام ‪1930‬‬
‫وتج ّلى في فرانكشتاين وخطيبة فرانكشتاين للمخرج البريطاني جيمس‬
‫وهال )‪ ،(James Whale‬وفي البرزخي األبيض لهالبيران )‪.(Halperin‬‬

‫ال تفقد الهندسة الرياضية حقوقها‪ ،‬ولكن المدرسة الفرنسية‬


‫عر َفت هندسة رياضية أخرى‪ ،‬ألنها تحررت على األقل مباشر ًة من‬
‫الحيثيات التي تق ّيد الكمية الممتدة والعالقات المترية التي تن ّظم‬
‫الحركة داخل الح ّيز المتجانس‪ .‬إنها هندسة "غوطية" تبني الح ّيز من‬
‫دون أن تصفه‪ :‬ألنها لم تعد تعمل بالنظام المتري وإنما بنظام االمتداد‬
‫والتراكم‪ .‬الخطوط تتطاول متجاوزة كل قياس إلى أن تصل إلى نقاط‬
‫تقاطعها‪ ،‬في حين أن نقاط انفصالها تنتج عدد ًا من التراكمات‪ .‬ويمكن‬
‫أن يكون التراكم من خالل الظالل أو الضوء‪ .‬لقد ابتكر فريتز النغ‬
‫المزورة التي تع ّبر عن التغ ّيرات المك َّثفة في الكل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوصالت المضيئة‬
‫إنها هندسة منظورية عنيفة تعمل بإسقاطات وكميات ظ ّلية‪ ،‬من خالل‬
‫المنظورات المائلة‪ .‬فاإلسقاطات القطرية والقطرية المعاكسة تميل إلى‬
‫أن تحل محل اإلسقاط األفقي والعمودي‪ ،‬فيحل المخروط محل الدائرة‬
‫والكرة‪ ،‬وتحل الزوايا الحادة والمث ّلثات الحادة محل الخطوط المنحنية‬
‫أو القائمة (األبواب في فيلم كاليغاري‪ ،‬والمسنّنات والقبعات في فيلم‬

‫طور موضوع احلياة غري العضوية‬


‫ورودولف كورتز )‪ (Rudolf Kurtz‬هو الذي ّ‬ ‫=‬
‫يف السينام يف كتابه‪Rudolf Kurtz, Expressionnismus und Film (Berlin: [s. n.], :‬‬
‫‪1926).‬‬

‫‪108‬‬
‫البرزخي)‪ .‬إذا ما قورنت الهندسة الصرحية عند ليربييه وعند النغ (في‬
‫فيلمي النيبيلونغن ومتروبوليس)‪ ،‬الحظنا كيف أن النغ يركز على‬
‫خطوط ونقاط التراكم‪ ،‬وهي لم تعد تع ّبر عن العالقات المترية إال بشكل‬
‫ال مباشر(‪ .((3‬وإذا ما دخل الجسم البشري مباشرة إلى هذه "المجموعات‬
‫ال أساسي ًا لهذه العمارة"‪ ،‬فليس تمام ًا ألن‬
‫الهندسية"‪ ،‬وإذا ما كان "عام ً‬
‫يحول الكائن البشري إلى عامل آلي" ‪ -‬وهذه عبارة تناسب‬ ‫"التنميط ّ‬
‫باألحرى المدرسة الفرنسية ‪ -‬بل ألن كل تباين بين اآللي والبشري قد‬
‫تالشى‪ ،‬ولكنه تالشى هذه المرة لصالح قوة الحياة غير العضوية لألشياء‪.‬‬

‫في التباينات بين األبيض واألسود‪ ،‬أو في تبدالت الضوء‬


‫يكمد وأن األسود يتناقص‪ ،‬كأننا أمام‬ ‫التدرجي يخ ّيل لنا أن األبيض ّ‬
‫سجلتا في اللحظة‪ ،‬وأمام نقطتي تراكم تتماشيان مع انبثاق‬ ‫درجتين ّ‬
‫اللون في نظرية غوته‪ :‬األزرق مثل أسود يتفتّح‪ ،‬واألصفر مثل أبيض‬
‫يتعتّم‪ .‬وعلى الرغم من تجارب اللون الواحد ال بل تعدّ د األلوان عند‬
‫غريفيث وعند إيزنشتاين‪ ،‬كانت التعبيرية من دون شك هي الرائدة في‬
‫اعتماد تلوينية حقيقية في السينما‪ .‬وقد ب ّين غوته أن اللونين األساسيين‪،‬‬
‫األصفر واألزرق كدرجتين‪ ،‬قد ُأخذا في حركة تكثيف يتماشى طرفاها‬
‫مع انعكاس احمراري‪ .‬إن تكثيف الدرجة هو أشبه باللحظة المحمولة‬
‫إلى القوة الثانية التي يع ّبر هذا االنعكاس عنها‪ .‬أما االنعكاس االحمراري‬
‫أو الالمع فسيتبع مراحل التكثيف جميعها من لمعان وبريق وتأللؤ‬
‫وإشراق وهالة شعاعية وإشعاع وومض فوسفوري‪ .‬وهذه المالمح‬

‫(‪ ((3‬حول اهلندسة الرياضية عند النغ‪ ،‬انظر‪Lotte Eisner, L’écran :‬‬
‫‪démoniaque, "Architecture et paysage de studio", et "Le maniement des‬‬
‫‪foules".‬‬

‫‪109‬‬
‫جميعها تعطي إيقاع ًا للروبوت في فيلم ميتروبوليس كما في فيلم‬
‫فرانكشتاين وخطيبته‪ .‬واستخلص ستروهايم من ذلك تركيبات مذهلة‬
‫يدفع إليها المخلوقات الحية والشريرة أو الضحايا البريئة‪ :‬وهكذا فإن‬
‫الفتاة الذكية‪ ،‬بحسب تحليل لوت إيسنر )‪ (Lotte Eisner‬لمشهد العشاء‬
‫في فيلم الملكة كيلي‪ ،‬تقع بين نارين‪ ،‬نار الشموع الموجودة فوق الطاولة‬
‫والتي تلفح وجهها‪ ،‬ونار المدفأة التي خلفها والتي تحيطها بهالة مش ّعة‬
‫مضيئة (فتشعر بالحر وتبادر إلى خلع معطفها‪ .)...‬ولكن مورناو هو‬
‫المعلم في تنفيذ هذه المراحل والمالمح جميعها والتي تكشف عن‬
‫ً‬
‫وفعال أثبت‬ ‫وصول الشيطان وعن احتدام غضب الله في ٍ‬
‫آن واحد(‪.((3‬‬
‫ِ‬
‫يكتف‬ ‫غوته أن التكثيف من الجهتين (جهة األصفر وجهة األزرق) لم‬
‫باالنعكاسات االحمرارية التي ترافقهما كتأثيرات متنامية اللمعان‪،‬‬
‫قان كلون ثالث أصبح مستق ً‬
‫ال‬ ‫بل ازداد هذا اللمعان في لون أحمر ٍ‬
‫وصار كناية عن تأجج بحت أو دفق من النور الرهيب الذي راح يحرق‬
‫العالم ومخلوقاته‪ .‬كأن الكثافة المنتهية وجدت اآلن‪ ،‬في ذورة تكثيفها‬
‫الخاص؛ ألق العالم الالمتناهي الذي انطلقنا منه‪ .‬لم يتو ّقف الالمتناهي‬
‫عن العمل في المنتهي الذي ير ّده في هذا الشكل المحسوس‪ .‬إن الروح‬
‫لم تغادر الطبيعة‪ ،‬بل كانت تنعش الحياة الالعضوية برمتها‪ ،‬ولكنها ال‬
‫تستطيع أن تتكشف وتوجد فيها ّإل كروح شريرة تحرق الطبيعة بأسرها‪.‬‬
‫إنها حلقة ألسنة النار المصاحبة لنداء الشيطان في فيلم الغول لفيغيرير‬

‫(‪ ((3‬انظر بخاصة حتليل التأللؤ الذي قدمه رومهر يف كتاب‪Eric Rohmer, :‬‬
‫‪L’organisation de l’espace dans le “Faust” de Murnau, 10-18 (Paris: Union‬‬
‫‪Générale D’éditions, 1977), p. 48.‬‬
‫(ودرست إليان إسكوباس يف املقال املذكور آنف ًا تأثري اللمعان والتكثيف حسب‬
‫نظرية األلوان لغوته)‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫وفيلم فاوست لمورناو‪ .‬إنها محرقة فاوست إنها "الرأس الفوسفوري‬
‫للشيطان ذي العينين الحزينتين والساهمتين" لدى فيغيرير‪ .‬إنها الرأس‬
‫المتوج لمابوز )‪ (Mabuse‬ورأس ميفستو )‪ .(Mephisto‬إنها لحظات‬ ‫ّ‬
‫التسامي والتالقي مع الالنهائي داخل روح الشر‪ :‬فعند مورناو خصوص ًا‪،‬‬
‫يمر نوسفيراتو )‪ (Nosferatu‬في أشكال اللون المتدرج جميعها فقط‪،‬‬ ‫ال ّ‬
‫وعبر النور المعاكس والحياة الالعضوية للظالل‪ ،‬وال ينتج فقط لحظات‬
‫االنعكاس االحمراري جميعها‪ ،‬ولكنه يتفاقم كلما فصله ضوء ساطع‬
‫(أحمر ِصرف) عن قاعه المظلم‪ ،‬ويطلقه من ال مضمون أكثر مباشرة‬
‫ويضفي عليه مظهر االقتدار وراء شكله المسطح(‪.((3‬‬

‫هذا السمو الجديد يختلف عن السمو الذي ورد في المدرسة‬


‫الفرنسية‪ .‬لقد مايز َكنْت بين نوعين من السمو‪ :‬السمو الرياضي والنشط‪،‬‬
‫والسمو الرحب والجبار‪ ،‬والسمو المترامي األطراف والعديم الشكل‪.‬‬
‫وامتاز هذان النوعان بتفكيك التركيب العضوي‪ ،‬األول بتجاوزه‪ ،‬والثاني‬
‫بتحطيمه‪ .‬في السمو الرياضي‪ ،‬تتغير وحدة القياس الممتدة بحيث يتوقف‬
‫ّ‬
‫ويضمحل‪ ،‬ولكنه يخلي‬ ‫الخيال عن فهمها ويصطدم بحدها الخاص‬

‫(‪M. Bouvier et J. L. Leutrat, Nosferatu, Cahiers du Cinéma (Paris: ((3‬‬


‫‪Gallimard, 1981), pp. 135-136,‬‬
‫«أضواء كاشفة ترسم دائرة بيضاء خلف املمثلني‪ ،‬بحيث ال تتحدد األشكال‬
‫بحركتها اخلاصة كام تبدو مستبعدة ومطرودة من ال قاع أو من قاع أكثر أصالة من قاع‬
‫ّ‬
‫يتجل أمام هذه البقعة من النور‬ ‫خلفيتها الغارقة جزئي ًا يف الضياء‪ )...( .‬هبذه القطيعة ما‬
‫وينداح كأنه شبح مقطوع من القاع‪ ،‬ليس بالعادة خمتفي ًا يف هذا التاليش العميق الذي‬
‫يشري إليه الضوء املتدرج مثالً‪ .‬وهذا يؤدي كثري ًا إىل الطابع الباهت للوجوه املضاءة هبذا‬
‫الشكل‪ ،‬كام يؤدي إىل اإلحساس الذي تستمده بطبيعتها من الظل من دون أن ّ‬
‫تتغذى هبا‬
‫رومانسي ًا (‪ .)...‬وهذا األثر ال ُيتزل باألثر الذي حيدثه الضوء املعاكس» (التشديد من‬
‫طرفنا نحن)‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫تصور الشاسع والمترامي األطراف‬ ‫المكان لم َلكة مفكِّرة تجبرنا على ّ‬
‫كل‪ .‬في السمو النشط ترتفع الكثافة وتتفاقم بحيث تُبهر أو تمحق‬ ‫على أنه ّ‬
‫كياننا العضوي وتزرع فيه الرعب‪ ،‬ولكنها تخلق م َلكة تفكير تُشعرنا بأننا‬
‫تفوقنا على من يمحقنا‪ ،‬فنكتشف في داخلنا روح ًا فوق عضوية تسيطر‬ ‫ّ‬
‫نتحرر من خوفنا مدركين بأن‬ ‫ٍ‬
‫على كل الحياة الالعضوية لألشياء‪ :‬عندئذ ّ‬
‫"مصيرنا" الروحي ال يقهر أبد ًا(‪ .((3‬يرى غوته أن األحمر الوهاج ليس هو‬
‫اللون الرهيب الذي ُيحرقنا فقط‪ ،‬بل هو اللون األنبل الذي يتضمن جميع‬
‫فذ ًا كحلقة لونية كاملة‪ .‬وهذا ما يحدث‬ ‫األلوان األخرى ويخلق تناغم ًا ّ‬
‫ال أو ما يحظى بفرصة الوصول إلى التاريخ الذي ترويه لنا التعبيرية من‬ ‫فع ً‬
‫وجهة نظر السمو النشط‪ :‬الحياة الالعضوية لألشياء تبلغ ذروتها بالنار‬
‫التي تحرقنا وتُحرق الطبيعة بأسرها‪ ،‬وتعمل كروح للشر والديجور؛ لكن‬
‫هذه النار‪ ،‬من خالل التضحية النهائية التي تبعثها فينا تطلق في نفوسنا‬
‫حياة النفسية للروح ال عالقة لها بالطبيعة وبفرديتنا العضوية‪ ،‬بل هي‬
‫الجانب اإللهي فينا‪ ،‬والرباط الروحي الذي يربطنا وحدنا بالله كنور‪.‬‬
‫على هذا النحو‪ ،‬تبدو الروح وكأنها ترقى نحو النور‪ ،‬بل لنقل إنها التحقت‬
‫بالجانب المضيء من ذاتها‪ ،‬والذي ليس إال هبوط ًا مثالي ًا‪ ،‬والذي نزل إلى‬
‫العنصر الفائق الطبيعة والعنصر الذي‬ ‫َ‬ ‫المتوهج‬
‫ّ‬ ‫العالم ولم يغرق فيه‪ .‬غدا‬
‫تجاوز المحسوس‪ ،‬شأنه في ذلك شأن التضحية بإ ِّلن )‪ (Ellen‬في فيلم‬
‫نوسفيراتو أو فيلم فاوست أو التضحية بإندريه )‪ (Indre‬في فيلم الشفق(*)‪.‬‬

‫‪Kant, Critique du jugement, § 26-28.‬‬ ‫(‪((3‬‬


‫(*) يف هذا الفيلم الذي أخرجه مورناو عام ‪ 1922‬عن مصاص الدماء نوسفرياتو‪،‬‬
‫ينقض مصاص الدماء عىل الزوجة إ ِّلن‪ ،‬وبدمها خيلص مدينة فيسبورغ من وباء الطاعون‪.‬‬‫ّ‬
‫ويف فيلم الشفق الذي أخرجه عام ‪ 1928‬يضحي الزوج بزوجته إندريه ألنه وقع يف غرام‬
‫مصاصة الدماء (املرتجم)‪.‬‬
‫‪112‬‬
‫في هذا الصدد‪ ،‬سنالحظ الفرق الهائل بين التعبيرية والرومانسية‪،‬‬
‫إذ لم يعد األمر يعني ‪ -‬كما في الرومانسية ‪ -‬مصالحة بين الطبيعة‬
‫والروح‪ ،‬وبين الروح المست َلبة في الطبيعة وبين الروح التي تستعيد ذاتها‪:‬‬
‫التصور ‪ -‬شأنه شأن التطور الجدلي ‪ -‬كان ينطوي على كلية عضوية‬ ‫ّ‬ ‫فهذا‬
‫أيض ًا‪ .‬في حين أن التعبيرية ال تتصور مبدئي ًا إال كون ًا روحي ًا كل ّي ًا يخلق‬
‫أشكاله المجردة وكائناته النورانية ووصالته التي تبدو لعين الحواس‬
‫وصالت مزيفة‪ .‬إنها تُقصي خواء اإلنسان والطبيعة(‪ .((3‬أو يقول لنا‬
‫إن لم نلتحق بهذا العالم‬ ‫باألحرى إنه ال يوجد‪ ،‬ولن يوجد‪ ،‬إال الخواء‪ْ ،‬‬
‫شك فيه‪ :‬غالب ًا ما تنتصر نار الخواء أو نُنبأ بأنها‬ ‫الروحي الذي غالب ًا ما ُي ّ‬
‫تكف التعبيرية عن رسم العالم‬
‫ّ‬ ‫ستنتصر لمدة طويلة‪ .‬بوجيز العبارة‪ ،‬ال‬
‫أحمر على أحمر‪ ،‬يحيل أحدهما إلى الحياة الرهيبة وغير العضوية‬
‫لألشياء‪ ،‬ويحيل اآلخر إلى الحياة الالنفسية السامية للروح‪ .‬وصلت‬

‫(‪ ((3‬انظر نص وورينغر حول التعبريية بصفتها «فن ًا جديد ًا»‪ ،‬كام ذكرها بوفييه‬
‫)‪ (Bouvier‬ولوترا )‪ ،(Leutrat‬ص ‪ .179-175‬فعىل الرغم من حت ّفظات بعض النقاد‪،‬‬
‫تبدو لنا املواقف احلداثية لوورينغر قريبة جد ًا من مواقف كاندينسكي )‪(Kandinsky‬‬
‫)‪ .(Du spirituel dans l’art‬وكالمها يأخذ عىل غوته وعىل الرومانسية حرصهام عىل‬
‫إقامة مصاحلة بني الروح والطبيعة‪ ،‬مما يبقي الفن يف منظور فرداين وشهواين‪ .‬عىل العكس‪،‬‬
‫يفكران يف «فن روحي» كاحتاد باهلل‪ ،‬فن يتجاوز األشخاص ويرتك الطبيعة جانب ًا‪،‬‬
‫وحييلهم وحييلها إىل اخلواء الذي ينبغي عىل اإلنسان املعارص اخلروج منه‪ .‬وهم ليسوا‬
‫متأكّدين من أن العملية ستنجح‪ ،‬ولكن ال يوجد خيار آخر‪ :‬ومن هنا بدت مالحظات‬
‫متوهم ربام‪ .‬ونجد هذا‬
‫ّ‬ ‫وورينغر حول «الرصخة» كتعبري وحيد عن التعبريية‪ ،‬عل ًام بأنه‬
‫التشاؤم املتع ّلق بالعامل‪ /‬اخلواء يف السينام التعبريية‪ ،‬ال بل نجد أن فكرة خالص روحي‬
‫يتجاوز التضحية هي فكرة نادرة نسبي ًا‪ .‬ونجدها خصوص ًا عند مورناو‪ ،‬أكثر مما نجدها‬
‫عند النغ‪ ،‬ولكن مورناو‪ ،‬بني التعبرييني مجيعهم‪ ،‬هو األقرب من الرومانسية‪ :‬ذلك أنه‬
‫حافظ عىل فردانية وعىل «شهوانية» ستتجليان بحرية متنامية يف مرحلته األمريكية‪ ،‬بفيلم‬
‫شفق وال س ّيام بفيلم حتريم‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫التعبيرية إلى الصرخة‪ ،‬صرخة مارغريت‪ ،‬صرخة لولو‪ ،‬الصرخة التي‬
‫تع ّبر عن فظاعة الحياة غير العضوية وعن االنفتاح الموهوم ربما على‬
‫توصل إيزنشتاين أيض ًا إلى الصرخة‪ ،‬وإنما على طريقة‬
‫عالم روحي‪ .‬لقد ّ‬
‫الجدليين‪ ،‬أي كقفزة نوعية تجعل الكل يتطور‪ .‬أما اآلن فعلى العكس من‬
‫ذلك‪ ،‬إذ يرتقي ّ‬
‫الكل ويمتزج بالقمة المثالية لهرم ال يكف أثناء ارتقائه‬
‫عن الدفع بعيد ًا بقاعدته‪ .‬وغدا الكل تكثيف ًا ال نهائي ًا تخ ّلص من جميع‬
‫ومر بتجربة النار‪ ،‬ولكن فقط من أجل أن تقطع ارتباطاتها الحسية‬ ‫درجاته ّ‬
‫بالمادي والعضوي والبشري‪ ،‬ومن أجل أن تنفصل عن حاالتها السابقة‬
‫المجرد للمستقبل (كما في‬
‫ّ‬ ‫كافة وأن تكتشف بالتالي الشكل الروحي‬
‫سلسلة أفالم ‪ Rhytmus‬التي أخرجها هانس ريختر)‪.‬‬

‫لقد رأينا إذ ًا أربعة أنواع من المونتاج‪ .‬ذلك أن الصور‪ /‬الحركة‬


‫هي موضوع التركيبات المختلفة جد ًا كل مرة‪ :‬فهناك المونتاج العضوي‪/‬‬
‫الف ّعال والتجريبي أو االختباري باألحرى في السينما األميركية؛ وهناك‬
‫المونتاج الجدلي والعضوي أو المادي في السينما السوفيتية؛ وهناك‬
‫المونتاج الكمي‪ /‬النفسي في السينما الفرنسية في قطيعته مع المونتاج‬
‫العضوي؛ وهناك المونتاج التكثيفي‪ /‬الروحي في التعبيرية األلمانية التي‬
‫تربط بين الحياة غير العضوية والحياة غير النفسية‪ .‬هذه هي وجهات‬
‫النظر الكبرى للسينمائيين‪ ،‬باإلضافة إلى ممارساتهم الملموسة‪ .‬على‬
‫سبيل المثال‪ ،‬سنهمل االعتقاد القائل بأن المونتاج الموازي هو معطى‬
‫نجده في هذه المدارس جميعها‪ ،‬إال إذا ُأخذ الموضوع بمعنى عام‬
‫جد ًا‪ ،‬ألن السينما السوفيتية قد استبدلته بمونتاج التضاد‪ ،‬وألن السينما‬
‫التعبيرية قد استبدلته بمونتاج التباين‪ ...‬إلخ‪ .‬ما حاولنا إظهاره هو التنويع‬

‫‪114‬‬
‫العملي والنظري ألصناف المونتاج‪ ،‬بحسب التصورات العضوية‬
‫والجدلية والتوسعية والتكثيفية لتشكيل الصور‪ /‬الحركة‪ .‬وهذه هي‬
‫فكرة السينما أو فلسفتها‪ ،‬وأيض ًا تقنيتها‪ .‬ومن الغباء القول بأن ممارسة‬
‫من هذه الممارسات‪ /‬النظريات هي أفضل من غيرها‪ ،‬وبأنها تم ّثل‬
‫تقدم ًا (ذلك أن أشكال التقدّ م التقني قد حصلت في كل منحى من هذه‬
‫المناحي وافترضتها من دون أن تحددها)‪ .‬العمومية الوحيدة للمونتاج‪،‬‬
‫هي أنها تربط الصورة السينمائية بالكل‪ ،‬أي أنها تربطها بالزمن المنظور‬
‫إليه كزمن مفتوح بامتياز‪ .‬وهكذا قدم المونتاج صورة ال مباشرة للزمن‪،‬‬
‫آن واحد‪ .‬إنه من جهة الحاضر‬ ‫في الصورة‪ /‬الحركة وفي كلية الفيلم في ٍ‬
‫المتبدل‪ ،‬ومن جهة أخرى هو رحابة المستقبل والماضي‪ .‬وبدا لنا أن‬
‫أشكال المونتاج تحدد هذين الملمحين بشكل مختلف‪ .‬فالحاضر‬
‫ال وقفزة نوعية ووحدة رقمية ودرجة‬ ‫المتبدل يستطيع أن يصبح فاص ً‬
‫كل عضوي ًا ومجموع ًا جدلي ًا وكلية مترامية‬
‫مك ّثفة‪ ،‬وأن يصير الكل‪ً ّ ،‬‬
‫األطراف للسمو الرياضي‪ ،‬وكلية مكثفة للسمو الدينامي‪ .‬سننظر الحق ًا‬
‫في الصورة الالمباشرة للزمن‪ ،‬وفي إمكانية مقارنة الصورة‪ /‬الزمن‬
‫صح أن للصورة‪ /‬الحركة وجهين‪ ،‬يعكف أحدهما‬ ‫المباشرة‪ .‬اآلن‪ ،‬إذا ّ‬
‫على المجاميع وأجزائها ويعمل اآلخر على الكل وتغيراته‪ ،‬فيجب أن‬
‫نسألها هي بالذات‪ :‬الصورة‪ /‬الحركة لذاتها وفي جميع جوانبها وفي ظل‬
‫وجهيها‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫الف�صل الرابع‬
‫ال�صورة‪ /‬احلركة وتن ّوعاتها الثالثة‬
‫التعليق الثاين لربغ�سون‬
‫‪)1‬‬

‫تزامنت األزمة التاريخية لعلم النفس مع الفترة التي لم يعد من‬


‫الممكن فيها الحفاظ على موقف مع ّين‪ :‬وكان هذا الموقف يقول بربط‬
‫الصور بالوعي‪ ،‬وبربط الحركات بالمكان‪ .‬ففي الوعي ال توجد إال صور‬
‫كيفية وال مساحية‪ .‬وفي المكان ال توجد إال حركات مساحية وكمية‪.‬‬
‫نفسر أن الحركات تُنتج‬
‫ولكن كيف يتم االنتقال من نظام آلخر؟ وكيف ّ‬
‫صورة فور ًا‪ ،‬كما في اإلدراك‪ ،‬وأن الصورة تنتج حركة‪ ،‬كما في الفعل‬
‫اإلرادي؟ إذا توسلنا العقل‪ ،‬يجب تزويده بسلطة ِ‬
‫معجزة‪ .‬وكيف نمنع‬
‫الحركة من أن تكون صورة افتراضية على األقل‪ ،‬وكيف نمنع الصورة من‬
‫أن تكون حركة على األقل؟ ما كان يبدو في المحصلة من دون طائل هو‬
‫المجابهة بين المادية والمثالية؛ ذلك أن المادية شاءت أن تعيد بناء نظام‬
‫الوعي بواسطة حركات مادية ِصرفة‪ ،‬وأن المثالية أرادت أن تبني العالم‬
‫بواسطة صور صرفة في الوعي(((‪ .‬كان ال بدّ بأي ثمن من تجاوز هذه‬

‫((( هذا هو املوضوع العام الذي طرحه برغسون يف الفصل األول ويف خامتة كتابه‬
‫‪.Matière et mémoire‬‬
‫‪117‬‬
‫الثنائية بين الصورة والحركة‪ ،‬وبين الوعي والشيء‪ .‬وفي الفترة نفسها‪،‬‬
‫أقد َم فيلسوفان متباينان على االضطالع بهذه المهمة‪ ،‬وهما برغسون‬
‫صاح صيحة حربه‪ :‬كل وعي هو وعي‬ ‫وهوسيرل )‪ .(Husserl‬وكل منهما َ‬
‫شيء ما (هوسيرل)‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ :‬كل وعي هو شيء ما (برغسون)‪.‬‬
‫ال شك أن كثير ًا من العوامل الخارجة عن الفلسفة شرحت أن الموقف‬
‫القديم أصبح مستحيالً‪ .‬كانت هناك عوامل اجتماعية وعلمية تزج مزيد ًا‬
‫من الحركة في الحياة الواعية‪ ،‬وتضع صور ًا في العالم المادي‪ .‬فكيف‬
‫وهمت بتقديم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫السبيل عندئذ إلى إهمال السينما التي أعدّ ت نفسها وقتئذ ّ‬
‫بداهتها المتمثلة بـ "الصورة‪ /‬الحركة"؟‪.‬‬

‫صحيح أن برغسون‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬لم يجد في السينما‪ ،‬ظاهري ًا‪ ،‬إال‬
‫يأت على ذكر السينما‬ ‫حليف ًا زائف ًا‪ .‬أما هوسيرل‪ ،‬بحسب علمنا‪ ،‬فلم ِ‬
‫(وسنالحظ أن سارتر‪ ،‬ولو بصورة متأخرة‪ ،‬عندما َج َر َد وح ّلل شتى‬
‫يأت على ذكر الصورة السينمائية)‪ .‬إن ميرلو‬ ‫الصور في المتخيل‪ ،‬لم ِ‬
‫ّ‬
‫بونتي )‪ (Merleau-Ponty‬هو الذي حاول َع َرض ًا أن يقيم مقارنة بين‬
‫السينما والظواهرية‪ ،‬ولكنه هو الذي رأى أيض ًا في السينما حليف ًا ملتبس ًا‪.‬‬
‫ولكن حجج الظواهرية وحجج برغسون كانت متباينة بحيث يجب‬
‫على هذا التعارض أن يكون دليلنا‪ .‬إن ما تقيمه الظواهرية كأساس هو‬
‫"اإلدراك الطبيعي" وشروطه‪ .‬والحال أن هذه الشروط هي إحداثيات‬
‫وجودية تحدد كيف "يرسو" الفاعل المدرك في العالم‪ ،‬وكيف يوجد في‬
‫هذا العالم‪ ،‬وكيف ينفتح على العالم الذي سيتجلى في العبارة الشهيرة‬
‫ٍ‬
‫عندئذ ينبغي على الحركة‪،‬‬ ‫القائلة بأن "كل وعي هو وعي شيء ما"‪...‬‬
‫ُفهم كشكل معقول (فكرة) يتبلور في‬
‫سواء لوحظت أو أجريت‪ ،‬أال ت َ‬

‫‪118‬‬
‫المادة فقط‪ ،‬بل كشكل محسوس (غيشتالت) ين ّظم الحقل اإلدراكي بناء‬
‫على وعي قصدي مناسب‪ .‬ومع أن السينما حاولت تقريبنا من األشياء‬
‫أو إبعادنا عنها أو المداورة حولها‪ ،‬فإنها ألغت إرساء الفاعل وألغت‬
‫أيض ًا أفق العالم‪ ،‬بحيث استبدلت المعرفة الضمنية والقصدية الثانية‬
‫بشروط اإلدراك الطبيعي(((‪ .‬ال تختلط السينما بغيرها من الفنون التي‬
‫حولت‬ ‫تركز اهتمامها باألحرى على ما هو غير واقعي في العالم‪ ،‬ولكنها ّ‬
‫العالم نفسه إلى أمر ال واقعي أو إلى حكاية‪ :‬في السينما‪ ،‬يغدو العالم‬
‫صورته الخاصة‪ ،‬ال صورة تغدو عالم ًا‪ .‬وسنالحظ أن الظواهرية نوع ًا ما‬
‫لم تتجاوز الشروط التي سبقت السينما والتي تشرح موقفها المرتبك‪:‬‬
‫ذلك أنها أو َلت اإلدراك الطبيعي ميزة تجعل الحركة مرتبطة بمحطات‬
‫ٍ‬
‫عندئذ تم التنديد بالحركة‬ ‫(وجودية بدل أن ترتبط بمحطات جوهرية)؛‬
‫السينمائية على أنها خانت شروط اإلدراك وعلى أنها ُب ّجلت كقصة‬
‫ِ‬
‫المدرك‪ ،‬ومن العالم ومن‬ ‫المدرك ومن‬
‫َ‬ ‫التقرب" من‬
‫جديدة قادرة على " ّ‬
‫اإلدراك(((‪.‬‬

‫بطريقة مختلفة‪ ،‬أدان برغسون السينما كحليف ملتبس‪ .‬ذلك أن‬


‫السينما‪ ،‬إذا ما أنكرت الحركة‪ ،‬فإنها تنكر اإلدراك الطبيعي بالطريقة‬
‫نفسها ولألسباب ذاتها‪" :‬إننا نلتقط مشاهد شبه فورية عن الواقع الذي‬
‫يجري حولنا (‪ ،)...‬وغالب ًا ما يتم اإلدراك والتع ّقل واللغة على هذا‬

‫((( ‪Maurice Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception (Paris:‬‬


‫‪Gallimard, [s. d.]), p. 82.‬‬
‫((( هذا عىل األقل ما نراه يف النظرية املع ّقدة املستوحاة من السينام‪ ،‬والتي ذكرها‪:‬‬
‫‪Albert Laffay, Logique du cinéma (Paris: Masson, [s. d.]).‬‬

‫‪119‬‬
‫النحو"(((‪ .‬وبالنسبة لبرغسون‪ ،‬هذا يعني أن النموذج ال يمكن أن يكون‬
‫هو اإلدراك الطبيعي‪ ،‬ألنه ال يمتلك أي امتياز‪ .‬وباألحرى قد يكون‬
‫تكف عن التغيير‪ ،‬ويكون مادة س ّيالة ال تبين‬ ‫النموذج حالة في األشياء ال ّ‬
‫فيها أية نقطة إرساء أو أية مرجعية‪ .‬انطالق ًا من هذه الحالة‪ ،‬يجب أن نثبت‬
‫كيف تتشكّل المراكز في نقاط غير مع ّينة‪ ،‬وكيف تفرض وجهات نظر‬
‫ثابتة وفورية‪ .‬يقتضي األمر إذ ًا "استخالص" اإلدراك الواعي والطبيعي أو‬
‫السينمائي(((‪ .‬ولكن السينما تقدّ م ربما امتياز ًا كبير ًا‪ :‬فألنها بالضبط تفتقر‬
‫إلى مركز إرساء وأفق‪ ،‬لن تمنعها المقاطع التي تجريها من صعود الطريق‬
‫الذي يهبط منه اإلدراك‪ .‬فبدل االنطالق من الظروف غير المتمركزة على‬
‫اإلدراك الممركز‪ ،‬تستطيع االرتقاء إلى األشياء غير المتمركزة واالقتراب‬
‫منها‪ .‬إال إذا تك ّلمنا عن المقاربة‪ ،‬يتعاكس األمر مع المقاربة التي تطرحها‬
‫غاص فيها‪ ،‬وربما‬
‫الظواهرية‪ .‬إن برغسون‪ ،‬حتى ولو انتقد السينما‪ ،‬فإنه َ‬
‫أكثر مما ظن‪ .‬سنرى ذلك‪ ،‬انطالق ًا من الفصل األول المذهل لكتابه‬
‫المادة والذاكرة‪.‬‬

‫ال أمام عرض تكون فيه الصورة مساوية للحركة‬ ‫ها نحن فع ً‬
‫لنطلق اسم "صورة" على مجمل ما يظهر‪ .‬ال نستطيع‬ ‫ْ‬ ‫(صورة = حركة)‪.‬‬
‫حتى القول بأن صورة ما تؤ ّثر في صورة أخرى‪ ،‬أو أنها تر ّد على أخرى‪.‬‬
‫محرك يتمايز عن‬
‫ال يوجد محرك يتمايز عن حركة ناجزة‪ ،‬وال يوجد َّ‬
‫حركة مستق َبلة‪ .‬فاألشياء جميعها‪ ،‬أي الصور جميعها‪ ،‬تختلط بأفعالها‬

‫‪Henri Bergson, L’évolution créatrice, p. 753 (305).‬‬ ‫ ‬


‫(((‬
‫‪Henri Bergson, Matière et mémoire, p. 182 (28):‬‬ ‫((( ‬
‫«أقول إذ ًا إن اإلدراك الواعي جيب أن يتم»‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫وردود أفعالها‪ :‬وهذا هو التبدل الشامل‪ .‬ليست كل صورة إال "درب ًا‬
‫تعبره‪ ،‬في جميع االتجاهات‪ ،‬التبدالت التي تنتشر في رحابة الكون"‪.‬‬
‫وكل صورة تؤثر‪" ،‬بشتّى أشكالها"‪ ،‬و" بأجزائها جميعها األصلية" في‬
‫صور أخرى وتتأثر بها(((‪" .‬الحقيقة أن الحركات واضحة جد ًا كصور‪،‬‬
‫ثم للبحث في الحركة عن شيء آخر غير ما نراه فيها"(((‪.‬‬
‫وأن ال داعي من ّ‬
‫الذرة صورة تذهب حيث تذهب أفعالها وردود أفعالها‪ .‬جسدي صورة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إذن هو مجموعة من األفعال وردود األفعال‪ .‬عيني ودماغي صورتان‬
‫وجزآن من جسدي‪ .‬كيف سيحتوي دماغي على الصور‪ ،‬ما دام هو‬
‫في‪ ،‬وتنقل لي الحركة‬
‫صورة بين صور أخرى؟ الصور الخارجية تؤثر َّ‬
‫وأعيد جانب ًا من الحركة‪ :‬كيف ستكون الصور داخل وعيي‪ ،‬ما دمت أنا‬
‫صورة أي حركة؟ وأنا على هذا الصعيد كيف أستطيع أن أتكلم عن نفسي‬
‫وعن العين والدماغ والجسد؟ لتسهيل األمور فقط‪ ،‬نقول بأن ال شيء‬
‫ينقاد للتماثل على هذا النحو‪ .‬سيكون ذلك باألحرى حالة غاز ّية‪ .‬فأنا‬
‫وجسمي لسنا باألحرى إال مجموعة من الجزيئات والذرات المتجددة‬
‫من دون انقطاع‪ .‬هل أستطيع حتى التكلم عن ذرات؟ إنها لن تتمايز عن‬
‫عدد من العوالم وعن التأثيرات الذرية البينية(((‪ .‬إنها حالة من حاالت‬
‫المادة الساخنة جد ًا بحيث نمايز فيها أجسام ًا صلبة‪ .‬إنه عالم من التبدل‬
‫التموج الشامل ومن الهسهسة الشاملة‪ :‬فليس ثمة محاور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الشامل ومن‬
‫وال مركز‪ ،‬وال يمين وال يسار‪ ،‬وال فوق وال تحت‪...‬‬

‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)34( 187‬‬


‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)18( 174‬‬
‫«ذرة» أو «خطوط القوة»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مقول‬ ‫راجع‬ ‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪:)36( 188‬‬
‫‪121‬‬
‫هذا المجموع الالمتناهي من هذه الصور جميعها هو أشبه بسطح‬
‫كموني‪ .‬والصورة موجودة بذاتها على هذا السطح‪ .‬كُنه الصورة هذا هو‬
‫المادة‪ :‬وهو ليس شيئ ًا متخفي ًا وراء الصورة‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪،‬‬
‫هو الهوية المطلقة للصورة والحركة‪ .‬إن هوية الصورة والحركة هي‬
‫التي تجعلنا نقول بوجود الصورة‪/‬الحركة‪ ،‬وبوجود المادة‪" .‬قولوا إن‬
‫جسمي مادة‪ ،‬أو قولوا إنه صورة‪ .((( "...‬إن الصورة‪ /‬الحركة والمادة‪/‬‬
‫التدفق هما الشيء ذاته(‪ .((1‬هل هذا العالم المادي هو عالم اآللية؟ ال‪،‬‬
‫ألن اآللية (كما سيثبت ذلك كتاب التطور الخالق) تقتضي منظومات‬
‫ال وعلى هذا‬‫مغلقة وأفعال اتصال ومقاطع ثابتة فورية‪ .‬ففي هذا العالم فع ً‬
‫تفصل منظومات مغلقة ومجموعات منتهية؛ ويجعلها ممكن ًة‬ ‫الصعيد َّ‬
‫بخارجية أجزائها‪ .‬غير أنه ليس واحد ًا‪ .‬إنه مجموع‪ ،‬ولكنه مجموع ال‬
‫متناه‪ :‬أي أن السطح الكموني هو الحركة (وجه الحركة) التي تستقر في‬ ‫ٍ‬
‫تضاعيف كل منظومة وأثناء االنتقال من منظومة إلى أخرى‪ ،‬وتخترقها‬
‫جميعها‪ ،‬وتخلطها‪ ،‬وتخضعها للشرط الذي يمنعها من أن تكون مغلقة‬
‫على نحو مطلق‪ .‬وهو أيض ًا مقطع؛ ولكن مع أن بعض الغموض يحيط‬
‫بمصطلحات برغسون‪ ،‬يبقى أنه مقطع متحرك‪ ،‬ومقطع أو منظور زمني‪.‬‬
‫إنه كتلة من المكان والزمان‪ ،‬ما دام يمتلك في كل مرة زمان الحركة‬
‫التي تحدث فيه‪ .‬ال بل ستوجد سلسلة ال متناهية من مثل هذه الكتل أو‬
‫المقاطع المتحركة تكون تجليات للسطح وتتناسب مع تعاقب حركات‬
‫الكون(‪ .((1‬وال يتمايز السطح عن عرض السطوح هذا‪ .‬إنه ليس جزء ًا من‬

‫ص ‪.)14( 171‬‬ ‫((( املصدر نفسه‪،‬‬


‫‪Henri Bergson, L’évolution créatrice, p. 748 (299).‬‬ ‫(‪((1‬‬
‫ ‬
‫(‪ ((1‬بفكرة سطح الكمون وبالصفات التي ننعته هبا‪ ،‬نبدو وكأننا نبتعد عن =‬
‫‪122‬‬
‫اآللية‪ ،‬إنه اآللية بالذات‪ .‬إن العالم المادي‪ ،‬وسطح الكمون‪ ،‬هو التنظيم‬
‫اآللي للصور‪ /‬الحركة‪ .‬وهنا نرى تقدم ًا مذه ً‬
‫ال لدى برغسون‪ :‬إن الكون‬
‫بمثابة سينما بحد ذاته‪ ،‬إنه سينما متفوقة‪ ،‬ويلقي على السينما نظرة أخرى‬
‫تختلف عن النظرة التي اقترحها برغسون في نقده الصريح‪.‬‬

‫تخص أي شخص‬ ‫ّ‬ ‫لكن كيف يمكن التحدث عن صور بذاتها ال‬
‫تجل من دون وجود‬ ‫وال تتوجه إلى أي شخص؟ كيف التكلم عن ٍّ‬
‫عين ترى؟ هذا لسببين على األقل‪ .‬السبب األول لتمييزها عن األشياء‬
‫المتصورة كأجسام‪ .‬ذلك أن إدراكنا ولغتنا يميزان بين األجسام (وهي‬
‫ّ‬
‫موصوفات) والكيفيات (وهي صفات) واألفعال (وهي أفعال نحوية)‪.‬‬
‫ولكن األفعال‪ ،‬بهذا المعنى الدقيق‪ ،‬قد أح ّلت ّ‬
‫محل الحركة فكرة المكان‬
‫المؤقت الذي تتجه إليه هذه الحركة‪ ،‬أو فكرة النتيجة التي تحصل عليها؛‬
‫محل الحركة فكرة حالة مستمرة ريثما تحل محلها‬ ‫ّ‬ ‫وأح ّلت الكيفية‬
‫محل الحركة فكرة الفاعل الذي سينجزها‬ ‫وأحل الجسم ّ‬ ‫ّ‬ ‫حالة أخرى؛‬
‫وفكرة الشيء الذي سيتأثر بها وفكرة العربة التي ستنقلها(‪ .((1‬سنرى أن‬
‫ال في العالم (صور‪ /‬فعل‪ ،‬صور‪ /‬إنفعال‪،‬‬ ‫مثل هذه الصور تتشكّل فع ً‬

‫= برغسون‪ .‬غري أننا نؤمن بإخالصنا له‪ .‬حصل لربغسون أن قدّ م سطح املادة عىل أنه‬
‫«مقطع فوري» للصريورة )‪ (Bergson, Matière et mémoire, p. 223 ou 81‬ولكننا‬
‫فعلنا ذلك ألسباب تيسريية‪ .‬ذلك أن برغسون ذكّر وسيذكّر بذلك الحق ًا وبدقة (ص‬
‫تعب عن التغريات‬ ‫‪ 292‬أو ‪ :)169‬إنه سطح ما زالت تظهر وتنترش فيه احلركات التي ّ‬
‫كمتغي للحركة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫داخل الصريورة‪ .‬وبالتايل فإنه يشتمل عىل جانب زمني؛ إذ يوجد زمن‬
‫متحرك‪ ،‬كام قال برغسون‪ .‬هناك عرض للسطح يتناسب‬ ‫ّ‬ ‫يضاف إىل ذلك أن السطح بذاته‬
‫تغي معني‪ .‬وفكرة الكتل الزمكانية ال تتعارض‬
‫ّ‬ ‫عن‬ ‫تعب‬
‫ّ‬ ‫التي‬ ‫مع كل جمموع من احلركات‬
‫إطالق ًا مع أطروحة برغسون‪.‬‬
‫‪Bergson, L’évolution créatrice, pp. 749-751 (300-303).‬‬ ‫(‪((1‬‬
‫‪123‬‬
‫صور‪ /‬إدراك)‪ .‬ولكن هذه الصور تخضع لشروط جديدة وال يمكن أن‬
‫تظهر اآلن‪ .‬ليس أمامنا في الوقت الحاضر إال حركات ندعوها صور ًا‬
‫لنميزها عن كل ما عداها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن هذا السبب األول السالب‬ ‫ّ‬
‫ليس كافي ًا‪ .‬أما السبب الموجب فهو أن سطح الكمون هو نور كله‪.‬‬
‫فمجموع الحركات واألفعال وردود األفعال هو نور ينتشر ويتغلغل‬
‫"من دون مقاومة ومن دون هدر"(‪ .((1‬وتعود هوية الصورة والحركة‬
‫إلى هوية المادة والنور‪ .‬فالصورة هي حركة كما أن المادة هي نور‪.‬‬
‫وحصل لبرغسون الحق ًا‪ ،‬في كتاب ه الديمومة والتزامن �‪(Durée et si‬‬
‫)‪ ،multanéité‬أن أظهر أهمية التعاكس الذي أحدثته نظرية النسبية بين‬
‫"خطوط النور" و"الخطوط الجامدة" و"األشكال المضيئة" و"األشكال‬
‫الصلبة أو الهندسية"‪ :‬مع النسبية "نرى إن شكل النور هو الذي يفرض‬
‫شروطه على الشكل الصلب"(‪ .((1‬إذا استذكرنا األمنية الغالية على قلب‬
‫برغسون‪ :‬أن يبني فلسفة تكون فلسفة العلم الحديث (وهذا ال يعني أنها‬
‫تفكير حول هذا العلم‪ ،‬أي حول ابيستيمولوجيا‪ ،‬بل يعني على العكس‬
‫ابتكار مفاهيم مستقلة قادرة على التماشي مع رموز العلم الجديدة)؛‬

‫‪Bergson, Matière et mémoire, p. 188 (36).‬‬ ‫(‪((1‬‬


‫‪Henri Bergson, Durée et simultanéité, ch. v:‬‬ ‫(‪((1‬‬
‫نرى أمهية هذا الكتاب وإشكاله الذي تصدّ ى برغسون فيه لنظرية النسبية‪.‬‬
‫ولكن إذا اضطر برغسون إىل منع إعادة نرشه‪ ،‬فليس ألنه أدرك األخطاء التي ارتكبها‪.‬‬
‫القراء الذين ظنوا أن برغسون كان يناقش نظريات‬ ‫لقد نجم اإلشكال باألحرى من ّ‬
‫أينشتاين نفسها‪ .‬مل يكن األمر كذا (ولكن برغسون مل يستطع إزالة هذا اإلشكال)‪ .‬رأينا‬
‫منذ قليل أنه قبل متام ًا بأولوية النور وبكتل الزمان واملكان‪ .‬دار النقاش حول موضوع‬
‫آخر‪ :‬هل هذه الكتل حتول دون وجود زمن كيل ُص ّور عىل أنه صريورة أو ديمومة؟ مل‬
‫يعتقد برغسون قط أن نظرية النسبية كانت خاطئة‪ ،‬بل إهنا عاجزة عن تشكيل فلسفة‬
‫الزمن الفعيل الذي وجب أن يتامشى معها‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫ألدركنا أن المجابهة بين برغسون وأينشتاين كانت حتمية‪ .‬والوجه األول‬
‫الذي اتخذته هذه المجابهة كان تأكيد انتشار الضوء على سطح الكمون‬
‫بر ّمته‪ .‬ففي الصورة‪ /‬الحركة ليس ثمة أجسام أو خطوط صلبة‪ ،‬بل هناك‬
‫فقط خطوط وأشكال ضوئية‪ .‬إن كتل المكان والزمان هي من مثل هذه‬
‫األشكال‪ .‬إنها صور بذاتها‪ .‬وإذا لم تظهر لشخص ما‪ ،‬أي لعين ما‪ ،‬فألن‬
‫ّ‬
‫يتكشف‬ ‫الضوء لم ينعكس ولم يتوقف بعد‪ ،‬و"ألنه ينتشر دائم ًا‪ ،‬ال‬
‫إطالق ًا"(‪ .((1‬بكالم آخر‪ ،‬تخترق العين األشياء‪ ،‬وتخترق الصور الضوئية‬
‫تم‬
‫بذاتها‪" .‬فالصورة الفوتوغرافية‪ ،‬إن كانت هناك صورة فوتوغرافية‪ ،‬قد ّ‬
‫التقاطها وسحبت من قبل داخل األشياء بالذات‪ ،‬ولكل نقاط المكان‪."...‬‬

‫هنا توجد قطيعة مع كامل التراث الفلسفي الذي ربط االستنارة‬


‫بالعقل‪ ،‬وجعل من الوعي حزمة ضوئية تنتزع األشياء من ظلمتها الفطرية‪.‬‬
‫لقد شاركت الظواهرية تمام ًا في هذا التراث القديم؛ ولكنها بدل أن تجعل‬
‫النور نور ًا داخلي ًا‪ ،‬فإنها فتحته على الخارج كما لو أن قصدي َة الوعي كانت‬
‫كشعاع مصباح كهربائي ("كل وعي هو وعي لشيء ما‪ .)"..‬أما برغسون‬
‫فرأى األمر بشكل مناقض تمام ًا‪ .‬ذلك أن األشياء مضيئة بذاتها من دون‬
‫أن يضيئها شيء‪ :‬كل وعي هو شيء‪ ،‬وهو يمتزج بالشيء‪ ،‬أي أنه يمتزج‬
‫بصورة الضوء‪ .‬ولكن المقصود هنا يتع ّلق بالوعي االحتمالي المنتشر في‬
‫يتكشف؛ وهذا يتع ّلق بصورة فوتوغرافية ملتقطة‬‫َّ‬ ‫كل مكان من دون أن‬
‫وتم تظهيرها في األشياء جميعها وللنقاط كلها‪ ،‬ولكنها صورة "شفيفة"‪.‬‬
‫والحق ًا إذا نشأ وعي ّ‬
‫فعلي في العالم‪ ،‬في هذا المكان أو ذاك على صعيد‬
‫المثول‪ ،‬فألن صور ًا خاص ًة جد ًا قد أوقفت الضوء أو عكسته وقدمت‬

‫‪Bergson, Matière et mémoire, p. 186 (34).‬‬ ‫(‪((1‬‬


‫‪125‬‬
‫"الشاشة السوداء" الناقصة للوحة(‪ .((1‬بوجيز العبارة‪ ،‬ليس الوعي ضوء ًا‪،‬‬
‫بل إن جميع الصور أو الضوء هو وعي ماثل في المادة‪ .‬أما وعينا الفعلي‪،‬‬
‫فسيكون فقط كامد ًا‪ ،‬ومن دون هذا الكمود "ال يتكشف الضوء‪ ،‬بعد أن‬
‫ينتشر دائم ًا"‪ .‬وهنا نرى أن التعارض بين برغسون وبين الظواهرية هو‬
‫تعارض جذري(‪.((1‬‬

‫عن مستوى المحايثة أو على مستوى المادة‪ ،‬نستطيع القول إذ ًا‬


‫إنها مجموع الصور‪ /‬الحركة؛ إنها مجموعة من الخطوط أو من أشكال‬
‫الضوء؛ إنها سلسلة من كتل المكان والزمان‪.‬‬

‫‪)2‬‬

‫ما الذي يحدث‪ ،‬وما الذي يمكن أن يحدث في هذا العالم‬


‫الل ُممركز الذي يتفاعل فيه كل شيء مع كل شيء؟ يجب أال نُدخل‬ ‫ّ‬
‫ال مغاير ًا وذا طبيعة أخرى‪ .‬عندها‪ ،‬ما يمكن أن يحدث هو التالي‪:‬‬
‫عام ً‬
‫في نقاط عادية من السطح يظهر فاصل‪ ،‬وتظهر فجوة بين الفعل ور ّد‬

‫(‪ ((1‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪« :)36( 188‬التصوير الفوتوغرايف لكل يشء هو تصوير‬
‫شفيف‪ :‬فخلف اللوحة‪ ،‬يفتقر هذا التصوير إىل شاشة سوداء تنفصل عنها الصورة»‪.‬‬
‫(‪ ((1‬لقد ّبي سارتر االنقالب الربغسوين يف كتابه‪Jean Paul Sartre, :‬‬
‫‪L'imagination (Paris: Presses Universitaires de France, [s. d.]),‬‬
‫(«يوجد نور رصف‪ ،‬يوجد تأ ّلق‪ ،‬من دون أن توجد مادة مضاءة؛ ولكن هذا النور‬
‫الصف‪ ،‬املنترش يف كل مكان‪ ،‬ال يصبح راهن ًا إال عندما ينعكس عىل بعض املساحات‬ ‫ِّ‬
‫التي تكون بمثابة شاشة بالنسبة للمناطق املضيئة‪ .‬كأننا نقلب املقارنة الكالسيكية التالية‪:‬‬
‫بدل أن يكون النور نور ًا ينطلق من الفاعل إىل اليشء‪ ،‬عندنا ضياء ينطلق من اليشء نحو‬
‫الفاعل»)‪( .‬ص ‪ .)44‬ولكن معاداة سارتر للربغسونية دفعته إىل التخفيف من حدّ ة هذا‬
‫القلب وإىل إنكار ِجدّ ة املفهوم الربغسوين للصورة‪.‬‬
‫‪126‬‬
‫الفعل‪ .‬ال يطلب برغسون أكثر من ذلك‪ :‬يريد حركات وفواصل تستعمل‬
‫كوحدات (وهذا بالضبط ما ستطلبه دزيغا فيرتوف في رؤيتها المادية‬
‫للسينما)(‪ .((1‬من الواضح أن ظاهرة الفاصل هذه ليست ممكنة إال عندما‬
‫يتضمن سطح المادة جانب ًا زمني ًا‪ .‬ويرى برغسون أن الفجوة والفاصل‬
‫ّ‬
‫كافيان لتحديد نوع خاص من الصور من بين صور أخرى‪ :‬وهي صور أو‬
‫مواد ح ّية‪ .‬في حين تفعل الصور على كل وجوهها وأجزائها وتنفعل بها‪،‬‬
‫هناك صور ال تتل ّقى األفعال إال على وجه واحد وفي أجزاء أخرى‪ ،‬وال‬
‫تقوم بردود أفعال إال في أجزاء أخرى وبواسطتها‪ .‬إنها صور مشروخة‬
‫نوع ًا ما‪ .‬أوالً نرى أن وجهها المخصص‪ ،‬والذي سندعوه في ما بعد‬
‫وجه ًا تق ّبلي ًا أو حسي ًا‪ ،‬يؤثر تأثير ًا غريب ًا في الصور القوية أو التحريضات‬
‫المتلقاة‪ :‬كما لو أن هذا الوجه ُفرز من بين جميع الصور تلك الصور التي‬
‫تتقارب وتؤثر مع ًا في الكون‪ .‬وهنا نجد أن بعض المنظومات المغلقة‬
‫و"اللوحات" قادرة على التشكّل‪ .‬فالكائنات الحية "تسمح بأن تخترقها‬
‫أفعال خارجية ال تكترث بها؛ أما األفعال األخرى المعزولة فستتحول‬
‫إلى إدراكات بسبب انعزالها بالذات"(‪ .((1‬إنها عملية قائمة بالضبط على‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ ‪ -‬كما سنرى‬ ‫تأطير مع ّين‪ :‬فبعض األفعال الطارئة يعزلها الكادر‪،‬‬
‫‪ -‬تصبح مسبوقة ومس َّبقة‪ .‬ولكن من الجانب اآلخر‪ ،‬لم تعد ردود األفعال‬
‫تترابط مع الفعل الحاصل‪ :‬وبفضل الفاصل‪َّ ،‬‬
‫تؤخر ردود األفعال التي‬
‫أخذت متسع ًا من الوقت الختيار عناصرها وتنظيمها أو إدراجها في‬

‫‪Dziga Vertov, Articles,‬‬ ‫(‪( ((1‬وهذه نغمة متكررة يف بيانات فريتوف)‪:‬‬


‫‪journaux, projets, 10-18 (Paris: Union Générale D’éditions, 1972).‬‬
‫‪Bergson, Matière et mémoire, p. 186 (33):‬‬ ‫ ‬ ‫(‪((1‬‬
‫هذه الصفحة هي خمترص ممتاز ملجمل أطروحة برغسون‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫حركة جديدة‪ ،‬ويستحيل استخالصها بإطالة التحريض المتلقى‪ .‬وردود‬
‫ستسمى "أفعاالً" بالمعنى‬
‫ّ‬ ‫أفعال كهذه تتمتع بأمور غير متوقعة أو جديدة‬
‫الحصري للكلمة‪ .‬وهكذا فإن الصورة الحية ستكون "وسيلة تحليل‬
‫بالنسبة للحركة المتلقاة‪ ،‬ووسيلة اصطفاء بالنسبة للحركة المن َّفذة"(‪.((2‬‬
‫وألن الصور الحية ال تعزو هذا االمتياز إال لظاهرة الفجوة أو الفاصل‬
‫المنجزة‪ ،‬فإنها ستكون "مراكز ال تع ّي ٍن"‬
‫َ‬ ‫بين الحركة المتلقاة والحركة‬
‫(محيرة وغير محددة)‪ ،‬تتشكل في الكون الالممركز للصور‪ /‬الحركة‪.‬‬

‫إذا ما نظرنا في الوجه اآلخر‪ ،‬الوجه المضيء لسطح المادة‪،‬‬


‫فسنقول هذه المرة إن الصور أو المواد الحية تقدّ م الشاشة السوداء التي‬
‫كانت تفتقر إليها الصفيحة والتي كانت تمنع الصورة المؤ ّثرة (الصورة‬
‫الفوتوغرافية) من الظهور‪ .‬وهذه المرة فإن خط الضوء أو صورة الضوء‪،‬‬
‫بدالً من أن ينشر الضوء في االتجاهات جميعها "من دون مقاومة ومن‬
‫دون ضياع"‪ ،‬يصطدم بعائق‪ ،‬أي بكمود سيقوم بعكسه‪ .‬وسنطلق على‬
‫الصورة التي تعكسها صور ٌة حية تسمية "إدراك"‪ .‬وهذان الوجهان‬
‫متكامالن تمام ًا‪ :‬فالصورة الخاصة أو الصورة الحية هي تمام ًا صورة‬
‫ال متع ّي ٍن أو شاشة سوداء‪ .‬وتنجم عن ذلك نتيجة جوهرية‪ :‬وهي وجود‬
‫منظومة مزدوجة ونظام إحالي للصور مزدوج أيض ًا‪ .‬هناك أوالً منظومة‬
‫تتغ ّير فيها كل صورة لذاتها‪ ،‬وتفعل جميع الصور وتنفعل في ما بينها‪،‬‬
‫على كافة وجوهها وفي جميع أجزائها‪ .‬ولكن‪ ،‬تنضاف إليها منظومة‬
‫أخرى تتغ ّير فيها الصور جميعها بسبب واحدة منها ألنها تتل ّقى مفعول‬

‫(‪ ((2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)27( 181‬‬


‫‪128‬‬
‫الصور األخرى على وجه من وجوهها وتنفعل به على وجه آخر(‪.((2‬‬

‫يكف‬
‫ّ‬ ‫لم نخرج بعد من موضوع الصور‪ /‬المادة‪ /‬الحركة‪ .‬لم‬
‫برغسون عن القول إننا لن نفهم شيئ ًا إن لم نضع في اعتبارنا منذ البداية‬
‫مجمل الصور‪ .‬وعلى هذا الصعيد فقط يمكن أن يحدث فاصل من‬
‫الحركات بسيط‪ .‬والدماغ ليس سوى فاصل وفجوة بين فعل ور ّد فعل‪.‬‬
‫صحيح أن الدماغ ليس مركز ًا للصور التي يمكن االنطالق منها‪ ،‬ولكنه‬
‫يشكّل هو نفسه صورة خصوصية بين الصور األخرى‪ ،‬ويشكّل داخل‬
‫الكون الال ُممركز للصور مركز ًا من الالتعيين‪ .‬غير أن برغسون‪ ،‬مع‬
‫الصورة‪ /‬الدماغ‪ ،‬يواجه في كتابه المادة والذاكرة حالة شديدة التعقيد‬
‫والتنظيم تتعلق بالكائن الحي‪ .‬ذلك أن الحياة لم تكن آنذاك مشكل ًة‬
‫الخلق‪ ،‬ولكن من‬‫التطور ّ‬
‫ّ‬ ‫بالنسبة له (وسيعالج مسألة الحياة في كتابه‬
‫وجهة نظر أخرى)‪ .‬ومع ذلك ال يصعب ملء الفراغات التي تركها‬
‫برغسون عن قصد على مستوى الكائنات الحية األكثر بدائية‪ ،‬يجب‬
‫التفكير في فواصل صغرى‪ ،‬فواصل تتضاءل في حركات تتسارع‪ .‬يضاف‬
‫إلى ذلك أن علماء البيولوجيا يتك ّلمون عن "حساء حيوي مساعد"‪ ،‬وهو‬
‫الميامنة والمياسرة‬
‫الذي مكّن الكائن الحي من العيش‪ ،‬وفيه تلعب المواد ُ‬
‫دور ًا أساسي ًا‪ :‬وهنا ستظهر في الكون الال ُممركز مخططات أولية لمحاور‬
‫ومراكز مخطط يذهب ذات اليمين وآخر ذات الشمال‪ ،‬مخطط علوي‬
‫ومخطط سفلي‪ .‬ويجب التفكير في فواصل صغرى حتى في "الحساء‬
‫الحيوي المساعد"‪ .‬ويقول علماء البيولوجيا إن هذه الظواهر لم تقو‬
‫على التشكّل‪ ،‬عندما كانت األرض شديدة الحرارة‪ .‬فوجب التفكير‬

‫(‪ ((2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)20( 176‬‬


‫‪129‬‬
‫إذ ًا في تبريد السطح الكامن والمترابط مع الظالل الكامدة األولى ومع‬
‫الشاشات األولى التي كانت تحول دون انتشار الضوء‪ .‬هنا قد تتشكّل‬
‫المخططات األولى للجوامد أو لألجسام الصلبة والهندسية‪ .‬وأخير ًا‪،‬‬
‫كما سيقول برغسون‪ ،‬سيتمكن التطور نفسه الذي ينظم المادة إلى جوامد‬
‫من تنظيم الصورة في اإلدراك المتشكل‪ ،‬الصورة التي تستهدفها المواد‬
‫الجامدة‪.‬‬

‫إن الشيء وإدراك الشيء أمر واحد‪ ،‬ولهما الصورة ذاتها‪ ،‬ولكنها‬
‫تُعزى إلى هذه المنظومة أو تلك من منظومتي اإلحالة‪ .‬الشيء هو الصورة‬
‫بذاتها وكما ترتبط بسائر الصور‪ ،‬فتتأثر بها بشكل كامل وتؤثر فيها فور ًا‪.‬‬
‫ولكن إدراك الشيء يعادل الصورة نفسها المرتبطة بصورة خاصة أخرى‬
‫تؤطرها وال تحتفظ منها إال بمفعولها الجزئي وال تتفاعل معها إال بصورة‬
‫غير مباشرة‪ .‬في اإلدراك‪ ،‬المحدد على هذا النحو‪ ،‬ال يوجد أبد ًا عنصر‬
‫آخر أو عنصر يتجاوز الشيء‪ :‬على العكس‪ ،‬يوجد "شيء أقل"(‪ .((2‬نحن‬
‫ندرك الشيء‪ ،‬من دون أن نلقي باالً على ما ّ‬
‫يهمنا فيه‪ ،‬بحسب احتياجاتنا‪.‬‬
‫َ‬
‫الخطوط والنقاط التي نأخذها من‬ ‫ونقصد بكلمتي احتياج أو اهتمام‬
‫الشيء بنا ًء على مدى تق ّبلنا له‪ ،‬وبناء على األفعال التي نختارها بحسب‬
‫ّ‬
‫المتأخرة التي نبديها‪ .‬وتلك هي طريقة نحدّ د بها اللحظة‬ ‫ردود األفعال‬
‫المادية األولى لذاتيتنا‪ :‬إنها طريقة انقاصية تحذف من الشيء ما ال يوليه‬
‫ٍ‬
‫حينئذ للشيء نفسه من أن يبرز في‬ ‫باالً‪ .‬ولكن ‪ -‬على النقيض – ال بدّ‬
‫ذاته كإدراك‪ ،‬كإدراك كامل وفوري ومنتشر‪ .‬فالشيء صورة وبهذه الصفة‬
‫نفسه‪ ،‬ويدرك األشياء األخرى جميعها بحسب تأثره وانفعاله بها‬
‫يدرك َ‬

‫(‪ ((2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)32( 185‬‬


‫‪130‬‬
‫فالذرة مث ً‬
‫ال تدرك أكثر بكثير مما ندرك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في شتى وجوهه وأجزائه كلها‪.‬‬
‫وقد تدرك الكون بأسره الذي منه تنطلق األفعال المؤثرة فيه وتصل إلى‬
‫االرتكاسات التي تبديها هذه الذرة‪ .‬بوجيز العبارة نقول إن األشياء‬
‫وإدراكات األشياء هي إمساكات؛ ولكن األشياء هي إمساكات كلية‬
‫موضوعية‪ ،‬وإن إدراكات األشياء هي إدراكات جزئية ومتحيزة وذاتية‪.‬‬

‫إذا لم يكن اإلدراك الطبيعي الذاتي نموذج ًا للسينما‪ ،‬فألن حركية‬


‫مراكزها وتبدّ ل كادراتها دفعا بها دائم ًا إلى استعادة مناطق ال ُممركزة‬
‫ٍ‬
‫عندئذ تسعى إلى بلوغ النظام األول للصورة‪/‬‬ ‫واسعة ولم تضبط لقطاتها‪:‬‬
‫الحركة‪ ،‬أي التبدل الشامل واإلدراك الكلي والموضوعي والمنتشر‪.‬‬
‫وفي الواقع قطعت السينما الطريق باالتجاهين‪ .‬من وجهة النظر التي‬
‫تهمنا حالي ًا‪ ،‬ننتقل من اإلدراك الكلي الموضوعي الذي يمتزج بالشيء‬
‫ّ‬
‫إلى إدراك ذاتي يتميز عنه بحذف أو إنقاص بسيط‪ .‬وهذا اإلدراك الذاتي‬
‫األحادي المركز هو ما نسميه اإلدراك بالمعنى الكامل للكلمة‪ .‬وهذا‬
‫عصي على‬
‫ّ‬ ‫التحول األول للصورة‪ /‬الحركة‪ :‬عندما نربطها بمركز‬
‫ّ‬ ‫هو‬
‫التحديد‪ ،‬تصبح صورة‪ /‬إدراك ًا‪.‬‬

‫بيد أننا لن نصدق أن العملية برمتها تتألف من حذف فقط‪ .‬هناك‬


‫شيء آخر أيض ًا‪ .‬فعندما ُير َبط عالم الصور‪ /‬الحركة بإحدى تلك الصور‬
‫ٍ‬
‫الخاصة التي تشكّل فيه مركز ًا مع ّين ًا‪ ،‬عندئذ ّ‬
‫يتقوس العالم وينتظم عندما‬
‫يحيط بها‪ .‬نستمر في االنطالق من العالم إلى المركز‪ ،‬ولكن العالم قد‬
‫تقوس وأصبح طرفي ًا وشكّل أفق ًا(‪ .((2‬ما زلنا في الصورة‪ /‬اإلدراك‪ ،‬ولكننا‬

‫(‪ ((2‬هذا موضوع يتكرر يف الفصل األول من كتاب‪ :Matière et mémoire :‬أي =‬
‫‪131‬‬
‫دخلنا في الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬ليس اإلدراك في الواقع إال جانب ًا من جوانب‬
‫الفجوة التي يشكّل الفعل جانبها اآلخر‪ .‬بالمعنى الحصري‪ ،‬ما نسميه‬
‫َّ‬
‫المؤخر لمركز الالتعيين‪ .‬والحال أن هذا المركز ال‬ ‫ً‬
‫فعال هو االرتكاس‬
‫يكون قادر ًا على الفعل بهذا المعنى‪ ،‬أي على تنظيم استجابة غير متوقعة‪،‬‬
‫إال ألنه أدرك وألنه التقط اإلثارة على وجه مم ّيز‪ ،‬حاذف ًا كل ما عداها‪.‬‬
‫وهذا يذكّرنا بأن كل إدراك هو أوالً إدراك حسي ‪ -‬حركي‪ :‬فاإلدراك‬
‫"ليس موجود ًا في المراكز الحسية وال في المراكز الحركية‪ ،‬هو يقيس‬
‫تعقيد عالقاتها"(‪ .((2‬إذا ما تقوس العالم حول المركز اإلدراكي‪ ،‬ال يتأتى‬
‫التقوس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك إال من وجهة نظر الفعل المالزم لإلدراك‪ .‬ومن خالل‬
‫المدركة وجهها النافع لي‪ ،‬في حين أن ردة الفعل المؤخرة‪،‬‬
‫َ‬ ‫تدير األشياء‬
‫مت استخدامها‪ .‬فالمسافة‬‫كان ردة فعلي والتي أصبحت فعالً‪ ،‬قد تع ّل ُ‬
‫ُ‬
‫أدرك‬ ‫هي بالضبط شعاع ينطلق من المحيط الطرفي إلى المركز‪ :‬فعندما‬
‫علي‪ ،‬في حين ّ‬
‫أن‬ ‫األشياء في مكانها فإنني التقط "مفعولها الممكن" ّ‬
‫"الفعل الممكن" الذي أمارسه عليها‪ ،‬كي أتوصل إليها أو أتجنبها‪،‬‬
‫قد أنقص المسافة بيني وبينها‪ ،‬أو زادها‪ .‬تلك إذ ًا ظاهرة الفجوة ُ‬
‫نفسها‬
‫تتج ّلى زمني ًا في فعلي‪ ،‬وتتج ّلى مكاني ًا في إدراكي‪ :‬فكلما ك ّفت رد ُة فعلي‬
‫ال ممكن ًا‪ ،‬كلما غدا‬
‫عن أن تكون مباشرة‪ ،‬وكلما أصبحت في الحقيقة فع ً‬
‫الفعل المضمر في األشياء‪" .‬يتصرف‬ ‫اإلدراك بعيد ًا ومستبق ًا‪ ،‬وكلما بعث َ‬
‫اإلدراك في المكان بقدر ما يتصرف الفعل في الزمان"(‪.((2‬‬

‫= جعل العامل يدور «حول» مركز الالتعيني‪.‬‬


‫‪Bergson, Matière et mémoire, p. 195 (45).‬‬ ‫(‪ ((2‬‬
‫(‪ ((2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)29( 183‬‬
‫‪132‬‬
‫التحول الثاني للصورة‪ /‬الحركة‪ :‬إنّها تصبح الصورة‪/‬‬
‫ّ‬ ‫هذا هو إذ ًا‬
‫الفعل‪ .‬ها نحن ننتقل من دون أن نشعر من اإلدراك إلى الفعل‪ .‬والعملية‬
‫التي نقوم بها لم تعد الحذف أو االختيار أو ضبط اللقطة‪ ،‬بل تقوس‬
‫العالم‪ ،‬مما يؤدي إلى تأثير األشياء الممكن فينا وإلى تأثيرنا الممكن في‬
‫آن واحد‪ .‬إنه الجانب المادي الثاني للذاتية‪ .‬وكما أن اإلدراك‬ ‫األشياء في ٍ‬
‫يربط الحركة بـ "األجسام" (الموصوفات)‪ ،‬أي بأشياء صلبة ستُستخدم‬
‫محركة‪ ،‬فإن الفعل يربط الحركة بـ "أعمال" (أفعال)‬‫محركة أو َّ‬ ‫كأجسام ِّ‬
‫تكون ارتسام ًا لحدّ أو نتيجة مفترضة(‪.((2‬‬

‫غير أن الفاصل ال يتحدّ د بتعيين وجهين‪ /‬حدّ ين فقط‪ ،‬أحدهما‬


‫إدراكي واآلخر فاعل‪ .‬هناك حالة وسطى‪ .‬العاطفة هي التي تشغل‬
‫الفاصل‪ ،‬وهي التي تشغله من دون أن تمأله أو تردمه‪ .‬إنها تبزغ في مركز‬
‫الالتعيين‪ ،‬أي أنها تبزغ لدى الفاعل‪ ،‬وتراوح بين إدراك مقلق وبين فعل‬
‫تطابق بين الفاعل والشيء‪ ،‬أو إنها الطريقة التي بها يدرك‬
‫ٌ‬ ‫مح ّير‪ .‬إنها‬
‫نفسه‪ ،‬أو باألحرى يشعر بها ويحس بها "في دخيلته" (وهذا هو‬‫الفاعل َ‬
‫الجانب المادي الثالث للذاتية)(‪ .((2‬وتر ّد العاطفة الحركة إلى "كيفية"‬
‫كحالة معيشة (صفة)‪ .‬فال يكفي االعتقاد بأن اإلدراك‪ ،‬بفضل المسافة‪،‬‬
‫يهمنا تارك ًا ما ال نكترث به ّ‬
‫يمر مرور السحاب‪.‬‬ ‫يحجز أو يعكس ما ّ‬
‫هناك بالضرورة عدد من الحركات الخارجية "نستوعبها" ونكسر أش ّعتها‬
‫وال تتحول ال إلى موضوعات إدراك وال إلى أفعال يقوم بها الفاعل؛‬
‫إنها باألحرى حركات تُبرز المطابقة بين الفاعل والموضوع داخل‬

‫(‪ ((2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)302( 731‬‬


‫(‪ ((2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)12-11( 169‬‬
‫‪133‬‬
‫كيفية ِصرفة‪ .‬وهذا هو التحول األخير للصورة‪ /‬الحركة‪ :‬أي الصورة‪/‬‬
‫العاطفة‪ .‬ومن الخطأ اعتبار هذا التحول كفشل تُمنى به منظومة اإلدراك‪/‬‬
‫الفعل‪ .‬على النقيض من ذلك‪ ،‬فإنه يم ّثل معطى ثالث ًا ضروري ًا بالمطلق‪.‬‬
‫فنحن‪ ،‬كمواد حية أو كمراكز تفتقر إلى التعيين‪ ،‬لم نخصص وجه ًا من‬
‫وجوهنا أو بعض ًا من نقاطنا إلى أعضاء تل ّقي‪ ،‬من دون أن نحكم عليها‬
‫فوضنا نشاطنا ألعضاء ارتكاسية كنا قد حررناها من‬ ‫بالشلل‪ ،‬علم ًا بأننا ّ‬
‫يمتص وجهنا المتلقي المشلول حركة من‬
‫ّ‬ ‫قبل‪ .‬في هذه الشروط‪ ،‬عندما‬
‫دون أن يعكسها‪ ،‬ال يستطيع من ثم نشاطنا أن يستجيب إال عبر "نزعة"‬
‫محل الفعل الذي أصبح مستحيالً‪ ،‬في وقت محدد‬ ‫يحلن ّ‬ ‫و"مجهود" ّ‬
‫أو في مكان محدد‪ .‬وإذا بنا أمام التعريف الرائع الذي اقترحه برغسون‬
‫للتأثير العاطفي‪ ،‬قال إنه "نزعة محركة على عصب حساس"‪ ،‬أي إنه جهد‬
‫محرك على لوحة استقبالية ال تتحرك(‪.((2‬‬
‫ِّ‬

‫هناك إذ ًا عالقة بين التأثير العاطفي والحركة بعامة‪ ،‬ونستطيع‬


‫تبيانها كما يلي‪ :‬إن حركة االنتقال ال تنقطع فقط عندما ينشرها مباشرة‬
‫يوزع الحركة المتلقاة من جهة‪ ،‬والحركة الناجزة من جهة أخرى‪،‬‬ ‫فاصل ّ‬
‫ويجعلهما رحبتين جد ًا إلى حد ما‪ .‬وبين الحركتين يظهر التأثير العاطفي‬
‫تكف‬‫ّ‬ ‫الذي يربط بينهما؛ ولكن الحركة في التأثير العاطفي تحديد ًا‬
‫ال بسيط ًا‬‫عن كونها انتقاالً لتصبح حركة تعبير‪ ،‬أي لتصبح كيفية أو مي ً‬
‫يحرك عنصر ًا ساكن ًا‪ .‬وليس غريب ًا أن يكون الوجه في الصورة التي‬
‫ّ‬
‫تمثلنا‪ ،‬وبجموده النسبي وبأعضائه المستقبِلة‪ ،‬هو الذي يكشف عن‬
‫هذه الحركات التعبيرية‪ ،‬علم ًا بأن هذه الحركات تبقى متخفية في باقي‬

‫(‪ ((2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.)58-56( 205-203‬‬


‫‪134‬‬
‫الجسم أحيان ًا كثيرة‪ .‬وفي المحصلة تنقسم الصور‪ /‬الحركة إلى ثالثة‬
‫أنواع حينما تُربط بمركز الالتعيين كصورة خاصة‪ :‬وهي الصور‪ /‬اإلدراك‬
‫والصور‪ /‬الفعل‪ ،‬والصور‪ /‬االنفعال العاطفي‪ .‬وكل واحد منا‪ ،‬أكان‬
‫الصورة الخاصة أو المركز االفتراضي‪ ،‬ليس سوى تنسيق لهذه الصور‬
‫الثالث وتوطيد للصور‪ /‬اإلدراك والصور‪ /‬الفعل والصور‪ /‬االنفعال‬
‫العاطفي‪.‬‬

‫‪)3‬‬

‫نستطيع ربط خطوط التمايز بهذه األنواع الثالثة من الصور‪،‬‬


‫ونستطيع البحث عن األرومة أو الصورة‪ /‬الحركة‪ ،‬كما هي بذاتها‪،‬‬
‫وفي نقائها الالممركز وفي نظامها األولي في التبدّ ل‪ ،‬وفي حرارتها‬
‫صفوها أي مركز يفتقر إلى التعيين‪ .‬كيف نخلع‬
‫َ‬ ‫ونورها‪ ،‬حين ال يعكّر‬
‫عن أنفسنا‪ ،‬وكيف نخلع ذواتنا؟ يظهر ذلك في المحاولة المدهشة التي‬
‫قام بها بيكيت )‪ (Beckett‬في عمله السينمائي الذي أطلق عليه عنوان‬
‫فيلم )‪ (Film‬مع الممثل َبستر كيتون )‪ .(Buster Keaton‬صرح بيكيت‬
‫مستعيد ًا صيغة الصورة بحسب األسقف اإليرلندي بيركيل ي �‪(Berke‬‬
‫)‪ ،ley‬قائالً‪" :‬أن تكون‪ ،‬هذا يعني أنك تُرى"؛ ولكن كيف التم ّلص‬
‫من "أفراح المشاهدة" (بصيغتي المعلوم والمجهول)‪ ،‬عندما نقول إن‬
‫اإلدراك سيبقى على األقل مدى الحياة‪ ،‬وإن أرهب إدراك هو إدراك‬
‫طور بيكيت منظومة من االصطالحات السينمائية‬
‫الذات بالذات؟ لقد ّ‬
‫البسيطة تمكّنه من طرح المشكلة واالضطالع بأعباء العملية‪ .‬ولكن يبدو‬
‫لنا أن التعليمات والترسيمات التي قدّ مها هو‪ ،‬وأن الفترات التي م ّيزها في‬

‫‪135‬‬
‫فيلمه‪ ،‬ال تكشف إال نصف ما قصد(‪ .((2‬والفترات الثالث هي التالية‪ .‬في‬
‫الفترة األولى‪ ،‬تندفع الشخصية ‪ O‬وتهرب أفقي ًا على امتداد أحد الجدران‬
‫ثم تشرع عمودي ًا بصعود درج من دون أن تبارح جانب الجدار‪ .‬الشخصية‬
‫فعل أو صورة‪ /‬فعل ‪ -‬ويخضع لالصطالح‬ ‫"تتصرف" ‪ -‬وهذا هو إدراك ٍ‬
‫تصور إال من الخلف وبزاوية ال تتجاوز ‪ 45‬درجة؛‬
‫التالي‪ :‬الكاميرا ‪ Œ‬لن ّ‬
‫وإذا حصل لهذه الكاميرا أن تتجاوز هذه الزاوية يتعرقل الفعل ويتالشى‪،‬‬
‫وتتوقف الشخصية مخفية القسم المهدَّ د من وجهها‪ .‬في الفترة الثانية‪:‬‬
‫الشخصية دخلت إلى غرفة‪ ،‬وبما أنها لم تعد بحذاء الجدار فإن درجة‬
‫فعالية الكاميرا تتضاعف‪ ،‬أي تصل إلى ‪ 45‬درجة من كل جهة‪ ،‬أي إلى‬
‫‪ 90‬درجة‪ .‬الشخصية ‪ O‬تلمح (بذاتها) الغرفة وأشياءها والحيوانات‬
‫التي فيها‪ ،‬في حين أن الكاميرا ‪ Œ‬تلتقط (موضوعي ًا) ‪ O‬نفسها والغرفة‬
‫ومحتوياتها‪ :‬وهذا هو إدراك اإلدراك أو الصورة‪ /‬اإلدراك‪ ،‬منظور ًا إليها‬
‫من زاوية نظام مضاعف وضمن منظومتي إحالة‪ .‬وتبقى الكاميرا خاضعة‬
‫للشرط المحدد‪ ،‬وهو ّأل تتجاوز ‪ 90‬درجة عندما ّ‬
‫تصور ظهر الشخصية‪،‬‬
‫ولكن االصطالح المضاف يقضي بأن تطرد الشخصية الحيوانات‪،‬‬
‫وأن تغطي جميع األشياء التي يمكن أن تستخدم كمرايا أو حتى كأطر‪،‬‬
‫بحيث يتالشى اإلدراك الذاتي ويبقى فقط اإلدراك الموضوعي ‪.Œ‬‬

‫(‪Samuel Beckett: “Film,” dans: Comédie et actes divers (Paris: ((2‬‬


‫‪Edition De Minuit, [s. d.]), pp. 115-134.‬‬
‫ الفرتات الثالث التي م ّيزها بيكيت هي‪ :‬الشارع‪ ،‬الدرج‪ ،‬الغرفة (ص ‪.)115‬‬
‫نقرتح متييز ًا خمتلف ًا؛ الصورة‪ /‬الفعل التي جتمع الشارع والدرج؛ الصورة‪ /‬اإلدراك‪،‬‬
‫بالنسبة للغرفة؛ وأخري ًا الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي بالنسبة للغرفة اخلفية وغفوة‬
‫الشخصية يف األرجوحة‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ تتمكن ‪ O‬من االستقرار في األرجوحة ومن التأرجح بهدوء وهي‬
‫ّ‬
‫ويتكشف الخطر‬ ‫تغمض عينيها‪ .‬ووقتها تبدأ الفترة الثالثة واألخيرة‪،‬‬
‫األكبر‪ :‬إن خمود اإلدراك الذاتي حرر الكاميرا من قيد الـ ‪ 90‬درجة‪.‬‬
‫وبكثير من االحتراس‪ ،‬تتقدم الكاميرا إلى ما هو أبعد‪ ،‬وتبقى في نطاق الـ‬
‫‪ 270‬درجة المتبقية‪ ،‬ولكنها في كل مرة توقظ الشخصية التي تعثر على‬
‫مزقة من إدراكها الذاتي‪ ،‬فتتوارى وتنطوي على نفسها وتجبر الكاميرا‬
‫على التراجع‪ .‬وأخير ًا تستفيد الكاميرا ‪ Œ‬من حالة الخدر التي تمر بها‬
‫الشخصية ‪ ،O‬فتنجح في الوصول إلى أمامها وتقترب منها أكثر فأكثر‪.‬‬
‫تشاهد اآلن الشخصية ‪ O‬من األمام‪ ،‬في الوقت الذي ّ‬
‫يتكشف فيه اإلجراء‬ ‫َ‬
‫الجديد واألخير‪ :‬الكاميرا ‪ Œ‬هي قرين الشخصية ‪ ،O‬الوجه ذاته‪ ،‬العين‬
‫المعصوبة (الرؤية بعين واحدة)‪ ،‬ولكن االختالف الوحيد هو التعبير‬
‫القلق لـ ‪ O‬والتعبير المتيقظ لـ ‪ ،Œ‬والجهد الحركي العاجز ألحدهما‪،‬‬
‫الحساس لآلخر‪ .‬نحن هنا في مجال اإلدراك االنفعالي‬ ‫ّ‬ ‫والسطح‬
‫العاطفي‪ ،‬وهو اإلدراك األشد إرعاب ًا‪ ،‬وهو الذي يبقى بعد أن تتفكّك‬
‫جميع اإلدراكات األخرى‪ :‬إنه إدراك الذات من ِقبل الذات‪ ،‬إنه الصورة‪/‬‬
‫االنفعال العاطفي‪ .‬هل ستتالشى وسيتو ّقف كل شيء بما في ذلك اهتزاز‬
‫األرجوحة‪ ،‬عندما ينزلق الوجه الصنو في العدم؟ هذا ما تطرحه النهاية‪:‬‬
‫موت‪ ،‬همود‪ ،‬ظالم(‪.((3‬‬

‫(‪ ((3‬يقرتح بيكيت ترسيم ًة أوىل للهرب يف الشارع‪ ،‬وهي ال تشكّل أية صعوبة‬
‫(انظر هنا الشكل ‪ 1‬الذي استكملناه نحن)‪ .‬ويقتيض صعود الدرج فقط انتقال الشكل‬
‫عىل مستوى عمودي وتدوير ًا ممكن ًا له‪ .‬ولكن ينبغي وجود ترسيمة عامة متثل جممل‬
‫الفرتات‪ .‬ثم ننتقل إىل الشكل ‪ 2‬الذي اقرتحته فاين دولوز )‪ (Fanny Deleuze‬واملدرج‬
‫=‬ ‫يف الصفحة التالية‪:‬‬
‫‪137‬‬
‫غير أن الهمود والموت والظالم وفقدان الحركة الشخصية‬
‫والقامة المنتصبة حين االسترخاء في األرجوحة التي توقفت عن‬

‫=‬

‫إذا ‪ Œ‬جتاوزت ‪ 45‬درجة )’‪ (Œ‬جيب أن ترتاجع برسعة )”‪ (Œ‬قبل أن تعود‬
‫إىل تع ّقب ‪.O‬‬

‫الدائرة السوداء املركزية هي األرجوحة ‪ B‬عندنا‪:‬‬


‫وضعية يف الشارع‪.‬‬ ‫‪ :O A Œ1‬‬
‫‪ :O Œ2 Œ3‬وضعية يف الغرفة‪.‬‬
‫وضعية تتم عندما ‪ Œ‬تتجاوز ‪ ،Œ3 Œ2‬وتصبح‬ ‫‪ :Œ4 O B‬‬
‫ضعف ‪ ،O‬ويكون هذا يف األرجوحة‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫االهتزاز‪ ،‬ليست بالنسبة لبيكيت إال غائية ذاتية‪ ،‬وليست إال وسيلة بالنسبة‬
‫لغاية أكثر عمق ًا‪ .‬والمقصود بذلك هو الربط بعالم ما قبل اإلنسان‪ ،‬قبل أن‬
‫يبزغ فجرنا البشري‪ ،‬حيث كانت الحركة ‪ -‬على عكس ما نرى ‪ -‬خاضعة‬
‫لنظام التبدّ ل الشامل‪ ،‬وحيث كان النور المنتشر على الدوام ال يحتاج إلى‬
‫أن يتج ّلى‪ .‬وعندما قام بيكيت بإخماد الصور‪ /‬الفعل والصور‪ /‬اإلدراك‬
‫والصور‪ /‬االنفعال العاطفي‪ ،‬ارتقى إلى سطح المثول المتأللئ‪ ،‬سطح‬
‫المادة وهديرها الكوني الذي يمور بالصور‪/‬الحركة‪ .‬ارتقى من أصناف‬
‫الصور الثالثة إلى الصورة‪ /‬الحركة األم‪ .‬ستسنح لنا الفرصة أن نرى ّ‬
‫أن‬
‫نزعة مهمة في السينما نسميها النزعة التجريبية‪ ،‬تقوم على إعادة خلق‬
‫الصرفة‪ /‬الحركة كي تستقر فيه‪ :‬إنها تلجأ‬
‫هذا السطح الال ُممركز للصور ِّ‬
‫فيها إلى وسائل تقنية غالب ًا ما تكون معقدة‪ .‬غير أن فرادة بيكيت هنا قامت‬
‫على االكتفاء بمنظومة رمزية من اإلجراءات البسيطة التي تقضي بانطفاء‬
‫الصور الثالث تباع ًا‪ ،‬واعتبارها الشرط الذي يمكّن هذه النزعة الشائعة‬
‫في السينما التجريبية‪.‬‬

‫لكننا اآلن سنسلك الطريق المعاكس‪ ،‬فننتقل من الصورة‪/‬‬


‫الحركة إلى التنوعات التي تتخذها‪ .‬صارت عندنا إذ ًا أربعة أنواع من‬
‫الصور‪ :‬وأولها الصور‪ /‬الحركة‪ .‬ثم تنقسم بعد أن ت َُر ّد إلى مركز ال تعيين‪،‬‬
‫إلى ثالثة أنواع‪ :‬صور‪ /‬إدراك‪ ،‬وصور‪ /‬فعل‪ ،‬وصور‪ /‬انفعال عاطفي‪.‬‬
‫ومن الحصافة أن نعتقد بأن أنواع ًا أخرى من الصور قد توجد‪ .‬ذلك أن‬
‫مستوى الصور‪ /‬الحركة هو ق ْطع متحرك ٍّ‬
‫لكل متغ ّير‪ ،‬أي لديمومة أو‬
‫لـ "صيرورة شاملة"‪ .‬إن سطح الصور‪ /‬الحركة هو كتلة زمكانية‪ ،‬وهو‬
‫منظور زمني‪ ،‬ولكنه بهذه الصفة منظور ّ‬
‫يطل على زمن فعلي ال يمتزج‬

‫‪139‬‬
‫إطالق ًا بالسطح أو بالحركة‪ .‬يحق لنا االعتقاد إذ ًا بأن هناك صور ًا‪ /‬زمن ًا‬
‫تستطيع أن تحتوي على شتى األنواع‪ .‬وستكون هناك بخاصة صور ال‬
‫مباشرة عن الزمن وستنجم عن مقارنة الصور‪ /‬الحركة ببعضها أو عن‬
‫ترابط األنواع الثالثة‪ ،‬أي اإلدراكات واألفعال واالنفعاالت العاطفية‪.‬‬
‫ولكن وجهة النظر هذه التي تنيط كل شيء بـ "المونتاج"‪ ،‬أو تنيط زمن‬
‫مقارنة الصور بنوع آخر‪ ،‬ال تعطينا صورة‪ /‬زمن لذاتها‪ .‬بالمقابل يستطيع‬
‫مركز الالتعيين‪ ،‬الذي يمتلك وضع ًا خاص ًا على سطح الصور‪ /‬الحركة‪،‬‬
‫يستطيع هو ذاته أن يقيم عالقة خاصة بالكل وبالديمومة أو بالزمن‪ .‬وهل‬
‫سماها برغسون‬ ‫ستكون هناك إمكانية لوجود صورة‪ /‬زمن مباشرة‪ّ :‬‬
‫"الصورة‪ /‬الذكرى" ً‬
‫مثال‪ ،‬أو هل ستتوفر أنواع أخرى من الصور‪ /‬الزمن‬
‫تكون مختلفة جد ًا عن الصور‪ /‬الحركة؟ وهكذا سيكون لدينا عدد كبير‬
‫من الصور المختلفة التي يجب تنظيمها وتصنيفها‪.‬‬

‫إن تشارلز ساندرز بيرس هو الفيلسوف الذي ذهب إلى أبعد‬


‫مدى في التصنيف الممنهج للصور‪ .‬وكمؤسس لعلم السيمياء‪ ،‬وجد لها‬
‫تصنيف ًا للعالقات يعتبر األغنى واألوفر عدد ًا(‪ .((3‬وال نزال نجهل العالقة‬
‫التي اقترحها بيرس بين العالمة والصورة‪ .‬ومن المؤكّد أن الصورة تنّجب‬
‫عالمات‪ .‬من جهتنا تبدو لنا العالمة كصورة خاصة تمثل نموذج ًا لصورة‪،‬‬

‫(‪ ((3‬نُرشت معظم أعامل بريس بعد وفاته‪ ،‬وكانت بثامنية أجزاء حتت عنوان‬
‫‪ Collected Papers‬أصدرهتا دار جامعة هارفارد للنرش‪ .‬وال جيد القارئ الفرنيس إال‬
‫جمموعة من النصوص صدرت حتت عنوان‪Charles Sanders Peirce, Ecrits sur le :‬‬
‫‪signe, assemblés traduits et commentés par Gérard Deledalle (Paris: Edition‬‬
‫‪du Seuil, [s. d.]),‬‬
‫قدّ م هلا وع ّلق عليها بأملعية جريار ديليدال )‪.(Gérard Deledalle‬‬
‫‪140‬‬
‫أكانت على صعيد تركيبها أم على صعيد نشأتها وتشكّلها (أو حتى على‬
‫صعيد تالشيها)‪ .‬وهناك العديد من العالقات‪ ،‬اثنتان على األقل في‬
‫كل نوع من الصور‪ .‬سنقارن تصنيف الصور والعالمات الذي نقترحه‬
‫بالتصنيف الكبير الذي وضعه بيرس‪ :‬لماذا ال يتطابق التصنيفان‪ ،‬حتى‬
‫على مستوى الصورة المم ّيزة؟ ولكن قبل إجراء هذا التحليل الذي سنقوم‬
‫به الحق ًا‪ ،‬سنستعمل كثير ًا من المفردات التي استحدثها بيرس للداللة‬
‫على هذه العالمة أو تلك فحافظنا أحيان ًا على معناها‪ ،‬وعدّ لناه أحيان ًا‬
‫أخرى أو غ ّيرناه بشكل كامل (وذلك ألسباب سنحدّ دها في كل مرة)‪.‬‬

‫سنبدأ هنا بعرض ثالثة أنواع من الصورة‪ /‬الحركة وبالبحث عن‬


‫العالمات المناسبة لها‪ .‬ونحن في السينما ال يصعب علينا االعتراف‬
‫عملي ًا بهذه األنواع الثالثة من الصور التي تتعاقب على الشاشة‪ ،‬حتى‬
‫من دون امتالك معايير صريحة‪ .‬إن المشهد الذي ذكرناه سابق ًا في فيلم‬
‫الرجل الذي قتلتُه للمخرج األلماني إرنست لوبيتش‪ ،‬هو صورة‪ /‬إدراك‬
‫يشاهد الجمهور من الخلف على ارتفاع نصف قامة رجل‪ ،‬وقد‬ ‫َ‬ ‫مثلى‪:‬‬
‫ِ‬
‫يشاهد‬ ‫تركت فرجة بحجم الساق المبتورة لرجل أبتر؛ وعبر هذه الفرجة‬
‫االستعراض الذي يمر‪ .‬وقدم فريتز النغ مثاالً شهير ًا عن‬
‫َ‬ ‫كسيح‬
‫ٌ‬ ‫أبتر آخر‬
‫ُ‬
‫مجزأ مكاني ًا‬
‫صورة‪ /‬فعل في فيلم مابوز الالعب‪ :‬هناك نشاط من ّظم ّ‬
‫وزماني ًا تظهر فيه ساعات متواقتة تعطي إيقاع ًا لجريمة قتل ترتكب في‬
‫القطار‪ ،‬وهناك سيارة تنقل الوثيقة المسروقة وهاتف ين ّبه مابوز‪ .‬وستبقى‬
‫الصورة‪ /‬الفعل متأثرة بهذا النموذج بحيث وجدت في فيلم الدسائس‬
‫)‪ (Film noir‬جو ًا متميز ًا‪ ،‬ووجدت في فيلم السطو مثاالً أعلى لفعل‬
‫ومجزأ‪ .‬وبالمقارنة فإن فيلم الغرب األميركي ال يقدّ م صور ًا‪ /‬فع ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫دقيق‬

‫‪141‬‬
‫فقط‪ ،‬بل أيض ًا صورة‪ /‬إدراك ًا صرفة تقريب ًا‪ :‬إنه دراما المرئي والالمرئي‪،‬‬
‫كما أنه ملحمة فعل؛ فالبطل ال يتصرف ألنه أول من رأى‪ ،‬وال ينتصر‬
‫إال ألنه يفرض الفجوة على الفعل أو على لحظة التأخير التي تعده بأن‬
‫يرى كل شيء (كما في فيلم وينشستر للمخرج األميركي أنطوني مان‬
‫)‪ .)(Antony Mann‬أما الصورة‪ /‬االنفعال فنجد أمثلة كبرى عليها في‬
‫وجه جان دارك في فيلم يحمل ذات العنوان للمخرج الدانمركي كارل‬
‫المقربة للوجه بعامة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دريير‪ ،‬وفي معظم اللقطات‬

‫ما من فيلم على اإلطالق ُصنع من نوع واحد من الصور‪ :‬ونطلق‬


‫كلمة "مونتاج" على التعشيق بين هذه األنواع الثالثة‪ .‬فالمونتاج (في أحد‬
‫وجوهه) هو تنظيم الصور‪ /‬الحركة‪ ،‬أي التنسيق بين الصور‪ /‬اإلدراك‪،‬‬
‫والصور‪ /‬االنفعال العاطفي‪ ،‬والصور‪ /‬الفعل‪ .‬يبقى أن الفيلم على‬
‫األقل في أبسط سماته يقدّ م دائم ًا أولوية لنوع من الصور‪ :‬نستطيع التكلم‬
‫عن مونتاج فعال أو إدراكي أو انفعالي عاطفي‪ ،‬بحسب النمط المهيمن‬
‫للصور‪ .‬غالب ًا ما قيل إن غريفيث قد ابتكر المونتاج عندما خلق مونتاج‬
‫الفعل تحديد ًا‪ .‬ولكن دريير سيبتكر مونتاج ًا وحتى ضبط ًا انفعالي ًا يحدّ د‬
‫حجم اللقطة التي تضاف إليها قواعد أخرى‪ ،‬بحيث اعتُبر فيلمه آالم جان‬
‫دارك ً‬
‫مثاال على فيلم انفعالي عاطفي كامل تقريب ًا‪ .‬وربما كان فيرتوف‬
‫مبتكر المونتاج اإلدراكي حصر ًا الذي ستطوره السينما التجريبية‪.‬‬
‫نستطيع أن ننتقي بين األنواع الثالثة؛ ثالثة أصناف من اللقطات المحدّ دة‬
‫مكاني ًا‪ :‬اللقطة اإلجمالية تكون صورة‪ /‬إدراك ًا بخاصة‪ ،‬واللقطة‬
‫المقربة صورة انفعالية عاطفية‪ .‬ولكن‬
‫ّ‬ ‫المتوسطة صورة‪ /‬فعالً‪ ،‬واللقطة‬
‫كل صورة من هذه الصور‪ /‬الحركة‪ ،‬بنا ًء على تنويه إيزنشتاين‪ ،‬هي في‬
‫‪142‬‬
‫ذات الوقت وجهة نظر تتناول الفيلم برمته‪ ،‬وهي طريقة لفهم هذا الكل‪،‬‬
‫تصبح انفعالية عاطفية في اللقطة المقربة‪ ،‬وفعالة في اللقطة المتوسطة‪،‬‬
‫تكف عن‬
‫ّ‬ ‫وإدراكية في اللقطة اإلجمالية‪ ،‬وكل لقطة من هذه اللقطات‬
‫كونها مكانية لتصبح "قراءة" للفيلم برمته(‪.((3‬‬

‫‪Eisenstein, Au-delà des étoiles, 10-18, pp. 263 sq.‬‬ ‫(‪((3‬‬


‫ ‬
‫املقربة كوجهة‬
‫(صحيح أن إيزنشتاين‪ ،‬من خالل القراءة احلرفية هلذا النص‪ ،‬يعترب اللقطة ّ‬
‫نظر ليست انفعالية عاطفية متام ًا‪ ،‬بل َ‬
‫«حرفية» تشمل الفيلم بكامله؛ ولكن تبقى وجهة‬
‫نظر «عاطفية» خترتق «أعامق احلدث»)‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫الف�صل الخام�س‬
‫ال�صورة‪ /‬الإدراك‬
‫‪)1‬‬

‫رأينا أن اإلدراك مزدوج‪ ،‬أو أن له باألحرى مرجعيتين اثنتين‪.‬‬


‫ويمكن أن يكون موضوعي ًا أو ذاتي ًا‪ .‬ولكن الصعوبة تكمن في معرفتنا‬
‫كيف تظهر في السينما الصورة‪ /‬اإلدراك الموضوعية والصورة‪ /‬اإلدراك‬
‫الذاتية‪ .‬ما الذي يم ّيزها عن بعضها بعض ًا؟ بوسعنا القول إن الصورة‬
‫مؤهل"‪ ،‬أو هي مجمل ما‬
‫الذاتية هي الشيء الذي ينظر إليه شخص " ّ‬
‫يراه أحدهم ممن يشكّل جزء ًا من هذا المجمل‪ .‬ثمة عوامل عديدة‬
‫تحدد إحالة الصورة إلى الشخص الذي ينظر‪ .‬وهناك العامل الحسي‬
‫العجلة الشهير للمخرج غانس‪ ،‬وفيه تنظر الشخصية الجريحة‬
‫في فيلم َ‬
‫العينين إلى غليونها على نحو ضبابي‪ .‬ونجد العامل الفاعل عندما ينظر‬
‫إلى الرقص أو االحتفال شخص يشارك فيهما‪ ،‬كما في أفالم إيبستين‬
‫أو ليربييه‪ .‬ونجد العامل االنفعالي العاطفي في فيلم الشيخ األبيض‬
‫لفريدريكو ف ّليني )‪ ،(Frederico Fellini‬وفيه تنظر إحدى المعجبات إلى‬
‫بطلها الذي كان يتأرجح من أعلى شجرة عمالقة‪ ،‬في حين أنه كان فوق‬
‫ال التح ّقق من الطابع‬
‫أرجوحة تكاد تالمس األرض‪ .‬ولكن إذا كان سه ً‬

‫‪145‬‬
‫الذاتي للصورة‪ ،‬فألننا ال نستطيع مقارنتها بالصورة المعدّ لة والمصححة‬
‫والمفترض فيها أن تكون موضوعية‪ :‬فنحن نرى الشيخ األبيض ينزل من‬
‫أرجوحته المضحكة؛ وحصل لنا أن رأينا الغليون والجريح قبل أن نرى‬
‫الجريح ينظر إلى الغليون‪ .‬ولكن هنا تبدأ الصعوبة‪.‬‬
‫ِ‬
‫يشاهد‬ ‫كان ال بدّ من القول بأن الصورة تكون موضوعية عندما‬
‫شخص يبقى خارج إطار هذا المشهد‪ .‬وهذا‬ ‫ٌ‬ ‫الشي َء والمشهدَ اإلجمالي‬
‫تعريف ممكن‪ ،‬ولكنه يبقى تعريف ًا اسمي ًا وسلبي ًا ومؤقت ًا‪ .‬فما الذي يؤكد‬
‫لنا بأن ما كنّا نظنه في البداية خارج المشهد اإلجمالي لن يتبدّ ى الحق ًا‬
‫أنه جزء منه؟ ففيلم باندورا للمخرج األميركي ألبرت ليوين ‪(Albert‬‬
‫)‪ Lewin‬يبدأ بلقطة إجمالية لشاطئ رملي تركض فوقه مجموعات من‬
‫يشاهد الشاطئ من بعيد ومن أعلى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫متوجهة نحو نقطة مع ّينة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الناس‬
‫من خالل منظار مث ّبت فوق سطح أحد البيوت‪ .‬ولكننا نعلم بسرعة أن‬
‫البيت مأهول وأن المنظار يستخدمه أشخاص من المجموعة المذكورة‪:‬‬
‫الشاطئ‪ ،‬والنقطة التي تجذب المجموعات إليها‪ ،‬والحدث الذي يقع‬
‫فوقه‪ ،‬واألشخاص الذين انتشروا فيه‪ ...‬ألم تصبح الصورة ذاتية‪ ،‬كما في‬
‫مثال المخرج األلماني إرنست لوبيتش؟ أليس المصير الدائم للصورة‪/‬‬
‫اإلدراك في السينما هو أن ينقلنا من أحد أقطابه إلى قطب آخر‪ ،‬أي أن‬
‫ينقلنا من إدراك موضوعي إلى إدراك ذاتي وبالعكس؟ إن التعريفين‬
‫اللذين وضعناهما كمنطلق هما تعريفان اسم ّيان‪ ،‬واسم ّيان فحسب‪.‬‬

‫أشار جان ميتري إلى أهمية إحدى وظائف التكامل‪ ،‬وهي "حقل‬
‫ِ‬
‫المشاهد‬‫اللقطة وخارجها"‪ ،‬عندما تتقاطع مع التكامل الذي يتم بين "‬
‫شخص ينظر‪ ،‬ثم نشاهد ما يراه‪ .‬ولكن ال‬
‫ٌ‬ ‫والمشاهد"‪ .‬يقدَّ م لنا في البداية‬
‫َ‬

‫‪146‬‬
‫يمكن حتى أن نقول إن الصورة األولى هي موضوعية وإن الثانية هي ذاتية‪.‬‬
‫ذلك أن ما ُيرى في الصورة األولى هو ذاتي بالنسبة للشخص الناظر‪ .‬وفي‬
‫يشاهد لذاته وللشخصية أيض ًا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الصورة الثانية يستطيع المنظور إليه أن‬
‫يضاف إلى ذلك أنه قد يحدث تقليص كبير في حقل اللقطة وخارجها‪،‬‬
‫تشاهد المرأة الساهمة على‬ ‫ِ‬ ‫كما في فيلم ألدورادو للمخرج ليربييه‪ ،‬وفيه‬
‫وتشاهد كذلك‪ .‬عندها‪ ،‬إذا ما انفكت الصورة السينمائية‪/‬‬ ‫َ‬ ‫نحو ضبابي‬
‫اإلدراك تنتقل من الذاتي إلى الموضوعي وبالعكس‪ ،‬أال يجب أن نبحث‬
‫لها باألحرى عن وضع نوعي ومنتشر ومطواع‪ ،‬قد يبقى غير مدرك ولكنه‬
‫يتج ّلى أحيان ًا في بعض الحاالت الالفتة؟ باكر ًا جد ًا استبقت الكاميرا‬
‫المتحركة األشخاص ولحقت بهم وتركتهم أو عادت إليهم‪ .‬وباكر ًا جد ًا‪،‬‬
‫في التعبيرية [األلمانية] التقطت الكاميرا صورة خلفية إلحدى الشخصيات‬
‫وتعقبته (كما في فيلم طرطوف )‪ (Tartuffe‬للمخرج األلماني مورناو‪ ،‬أو‬
‫فيلم منوعات )‪ (Variétés‬للمخرج األلماني إيوالد أندريه دوبون)‪ .‬أخير ًا‬
‫المن َعتِقة من كل قيد "تنقيالت في حلقة مغلقة" (كما في‬ ‫ح ّققت الكاميرا ُ‬
‫فيلم آخر الرجال لمورناو)‪ ،‬وحيث ال تعود تكتفي بمطاردة الشخوص‪،‬‬
‫تتحرك بينهم‪ .‬وبناء على هذه المعطيات‪ ،‬اقترح ميتري مفهوم‬ ‫ّ‬ ‫ولكنها‬
‫عممة لإلعراب عن هذا "التواجد المصاحب" الذي‬ ‫صورة نصف ذاتية و ُم َّ‬
‫تقوم به الكاميرا‪ :‬فهي ال تمتزج بالشخصية‪ ،‬من دون أن تكون خارجها‪،‬‬
‫سماه‬‫إنها معها(((‪ .‬إنها أشبه بكائن خرافي سينمائي ذي عين واحدة‪ ،‬أو ما ّ‬
‫دوس باسوس )‪ (Dos Passos‬بـ "عين الكاميرا"‪ ،‬وهي نظرة مجهولة‬
‫االسم لشخصية غير محددة بين شخصيات أخرى‪.‬‬

‫((( ‪Jean Mitry, Esthétique et psychologie du cinéma, II (Paris: Edition‬‬


‫‪Universitaires, [s. d.]), pp. 61 sq.‬‬

‫‪147‬‬
‫لنفترض إذ ًا أن الصورة‪ /‬اإلدراك هي صورة نصف ذاتية‪ .‬غير أنه‬
‫يصعب أن نجد في هذه النصف ذاتية وضع ًا منتظم ًا‪ ،‬ألنها ال تتعادل مع‬
‫ال لغوي ًا‪ .‬نستطيع‬
‫اإلدراك الطبيعي‪ .‬لقد استخدم بازوليني من جهته تماث ً‬
‫القول إن الصورة‪ /‬اإلدراك الذاتية هي خطاب مباشر‪ ،‬ونقول بأسلوب‬
‫أعقد إن الصورة‪ /‬اإلدراك الموضوعية تشابه الخطاب الالمباشر (أي‬
‫أن المشاهد يرى المم ّثل بطريقة تمكّنه عاج ً‬
‫ال أم آج ً‬
‫ال من أن يذكر أن‬
‫الشخصية قد شاهدته‪ ،‬كما يفترض)‪ .‬والحال أن بازوليني كان يعتقد أن‬
‫ما هو جوهري في الصورة السينمائية ال يتوافق ال مع الخطاب المباشر‬
‫وال مع الخطاب غير المباشر‪ ،‬وإنما يتوافق مع خطاب غير مباشر حر‪.‬‬
‫وهذه الصيغة‪ ،‬المهمة جد ًا في اللغتين اإليطالية والروسية‪ ،‬تطرح مشاكل‬
‫كثيرة على النحاة واأللسنيين‪ :‬ومفادها أن هناك تبيين ًا يؤخذ في قول‬
‫استجمعت‬
‫ْ‬ ‫يتعلق هو ذاته بتبيين آخر‪ .‬وكمثال في الفرنسية نقول‪" :‬لقد‬
‫قواها‪ :‬ستعاني باألحرى من التعذيب بدل أن تفقد عذريتها"‪ .‬إن األلسني‬
‫ميخائيل باختين الذي اقتبسنا منه هذا المثال‪ ،‬يطرح المسألة كالتالي‪ :‬ال‬
‫يوجد مزج فقط بين موضوعين في التبيين‪ ،‬يكون أحدهما الناقل والثاني‬
‫المنقول‪ .‬هناك باألحرى تناغم في التبيين يقوم بفع َلي تذويت (دمج‬
‫لهوية الذات) ال ينفصالن‪ ،‬يشكّل أحدهما شخصية بضمير المتك ّلم‪،‬‬
‫في حين أن اآلخر يحضر والدته ويخرجه سينمائي ًا‪ .‬ال يوجد خلط‪ ،‬أو‬
‫كل منهما إلى منظومتين‪ ،‬بل يوجد‬‫حل وسط بين فاعلين ينتمي ٌّ‬ ‫باألحرى ّ‬
‫تمايز بين فاعلين مترابطين بمنظومة هي نفسها متنافرة‪ .‬رأي باختين‬
‫هذا الذي أخذه بازوليني عنه‪ ،‬هو مهم وعسير في ٍ‬
‫آن واحد(((‪ .‬لم تعد‬

‫((( لقد عرض بازوليني نظريته يف كتاب‪= Pier Paolo Pasolini, L’expérience, :‬‬
‫‪148‬‬
‫"االستعارة" هي الفعل األساسي في اللغة ألنها تناغم المنظومة‪ ،‬بل هو‬
‫الحر غير المباشر‪ ،‬ألنه يشهد دائم ًا لمنظومة متنافرة وبعيدة عن‬
‫الخطاب ّ‬
‫التوازن‪ .‬ولكن الخطاب الحر غير المباشر ال يخضع لمقوالت لغوية‪،‬‬
‫ألن هذه المقوالت ال تتعلق إال بمنظومات متّسقة ومتساوقة‪ .‬وقال‬
‫بازوليني إنها مسألة أسلوب أو أسلوبية‪ .‬وأضاف بازوليني مالحظة‬
‫نفيسة‪ :‬كلما تقاربت اللغة من الخطاب الحر غير المباشر كلما أصبحت‬
‫غنية باللهجات‪ ،‬أو باألحرى بدالً من أن تستقر على "مستوى متوسط"‪،‬‬
‫تتمايز إلى "لغة دونية وإلى لغة ِ‬
‫جزلة" (وهذا هو ظرفها السوسيولوجي)‪.‬‬
‫ويطلق بازوليني من جانبه تسمية "محاكاة" )‪ (Mimesis‬على تلك العملية‬
‫الحر‪.‬‬
‫الخاصة بموضوعي التبيين أو اللغتين في الخطاب غير المباشر ّ‬
‫قد ال تكون هذه المفردة مو ّفقة‪ ،‬ألن األمر ال يتك ّلم عن تقليد بل عن‬
‫ترابط بين قضيتين غير متناظرتين تعمالن في اللغة‪ .‬وهذا يشبه األواني‬
‫أصر على كلمة "محاكاة" للتشديد على الطابع‬
‫المتصلة‪ .‬بيد أن بازوليني ّ‬
‫المقدس للعملية‪.‬‬

‫إن هذا االزدواج وهذا التمايز للفاعل في اللغة‪ ،‬أال نجده في‬
‫ال تجريبي ًا ال يستطيع أن يولد‬
‫الفكر وفي الفن؟ إنه الكوجيتو‪ :‬أي أن فاع ً‬
‫في العالم من دون أن يفكّر في ذاته‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬من دون أن يفكّر‬

‫‪hérétique, traduit de l’italien par Anna Rocchi Pullberg  (Paris: Payot, 1976),‬‬ ‫=‬
‫فتكلم عن وجهة النظر األدبية (وال س ّيام بني ص ‪ 39‬و‪ )65‬ووجهة النظر السينامئية‬
‫(وال سيام بني ص ‪ 135‬و‪ .)155‬ونعود إىل آراء باختني باخلطاب غري املبارش احلر يف كتابه‪:‬‬
‫‪Bakhtin Mikhail Mihailovič, Le marxisme et la philosophie du langage,‬‬
‫‪traduit du russe et présenté par Marina Yaguello (Paris: Edition de Minuit,‬‬
‫‪[s. d.]), ch. X et XI.‬‬

‫‪149‬‬
‫في فاعل متسا ٍم ينظر في هذه الذات ويفكّر في نفسه من خاللها‪ .‬ويقضي‬
‫كوجيتو الف ّن بأن ال يوجد فاعل يعمل من دون أن يكون فاعل آخر ينظر‬
‫إليه وهو يعمل ويمسك بتالبيبه كمفعول‪ ،‬ويأخذ على عاتقه الحرية التي‬
‫بها يفلته‪" .‬يوجد إذ ًا نوعان من األنا مختلفان‪ ،‬يعي أحدهما حريته فيهما‬
‫ال يعاين مشهد ًا ما يلعبه النوع اآلخر بطريقة‬ ‫ِ‬
‫مشاهد ًا مستق ً‬ ‫فينصب نفسه‬
‫ّ‬
‫آلية‪ .‬ولكن هذا االزدواج ال يصل مطلق ًا إلى ذروته‪ .‬إنه باألحرى تذبذب‬
‫يكونهما عن نفسه‪ ،‬إنه حركة الفكر في‬ ‫الشخص الذي يراوح بين رأيين ّ‬
‫ذهابها وإيابها‪ ،"...‬إنه كيان مصاحب(((‪.‬‬

‫ما الذي يعني السينما من كل ذلك؟ ولماذا ظ ّن بازوليني أن‬


‫السينما معن ّية به‪ ،‬بحيث يمكّن معادل الخطاب غير المباشر الحر‪ ،‬في‬
‫الصورة‪ ،‬من تحديد "سينما الشعر"؟ ثمة شخصية تتحرك على الشاشة‪،‬‬
‫ومن المفترض أن ترى العالم بطريقة من الطرق‪ .‬ولكن الكاميرا في‬
‫ذات الوقت تراه وترى عالمه من وجهة نظر أخرى‪ ،‬إنها تفكر في وجهة‬
‫وتحولها‪ .‬قال بازوليني‪ :‬إن المؤلف‬
‫ّ‬ ‫نظر الشخصية وتنعم النظر فيها‬
‫"قد استبدل كلية رؤية العالم لشخص عصابي برؤيته الخاصة الهاجسة‬
‫بالحس الجمالي"‪ .‬من المفيد في الواقع أن تكون الشخصية عصابية لكي‬
‫تع ّبر بنحو أفضل عن الوالدة العسيرة لشخص في العالم‪ .‬ولكن الكاميرا‬
‫ال تقدم فقط رؤية الشخصية وعالمها‪ ،‬إنها تفرض رؤية أخرى تتبدل فيها‬
‫الرؤية األولى وتنعكس‪ .‬ويطلق بازوليني على هذا االزدواج صفة "الذاتية‬
‫الحرة غير المباشرة "‪ .‬لن نقول إن األمر هو كذلك دائم ًا في السينما‪ :‬من‬

‫((( ‪Henri Bergson, L’énergie spirituelle ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), p. 920‬‬
‫‪(130).‬‬

‫‪150‬‬
‫الممكن أن نشاهد في السينما صور ًا تدّ عي أنها موضوعية أو ذاتية؛ ولكن‬
‫األمر هنا يتع ّلق بشيء آخر يتجاوز الذاتي والموضوعي ويصبو إلى شكل‬
‫صرف ُيشاد كرؤية مستق ّلة للمضمون‪ .‬فنحن لم نعد أمام صور ذاتية أو‬
‫موضوعية؛ إننا أمام تعالق بين صورة‪ /‬إدراك وبين وعي‪ /‬كاميرا يغ ّيرها‬
‫(لم تعد المسألة المطروحة إذ ًا أن تعرف ما إذا كانت الصورة موضوعية‬
‫يحسون‬‫أو ذاتية)‪ .‬هناك سينما خاصة جد ًا طاب لها "أن تجعل الناس ّ‬
‫بالكاميرا"‪ .‬وقد ح ّلل بازوليني عدد ًا من الطرق األسلوبية التي تعرب عن‬
‫هذا الوعي العاكس أو عن هذا الكوجيتو السينمائي البحت‪ :‬أي "ضبط‬
‫الملح والهوسي" الذي يجعل الكاميرا تنتظر شخصية لتدخل‬ ‫ّ‬ ‫الكادرات‬
‫في هذا الكادر‪ ،‬ولتفعل وتقول شيئ ًا ثم تخرج‪ ،‬مع أنها تستمر في تأطير‬
‫المكان الذي َف َر َغ‪" ،‬تاركة اللوحة من جديد تع ّبر بشكل خالص ومطلق‬
‫عن هذه اللوحة"؛ أي "تعاقب شتّى العدسات على الصورة نفسها"‪،‬‬
‫المفرط إلى عدسة الزوم"‪ ،‬مما يضاعف إدراك وعي جمالي‬‫و"اللجوء ُ‬
‫مستقل‪ ...‬قصارى القول إن الصورة‪ /‬اإلدراك تجد مقامها الحقيقي‬
‫كذاتية حرة غير مباشرة‪ ،‬ما إن تعكس محتواها في وعي‪ /‬كاميرا أصبح‬
‫مستق ً‬
‫ال (أي "سينما شعرية")‪.‬‬

‫تمر بتطور بطيء قبل أن تبلغ هذا‬‫ربما كان على السينما أن ّ‬


‫الوعي بالذات‪ .‬على سبيل المثال نرى أن بازوليني يذكر مايكل أنجيلو‬
‫أنطونيوني وجان لوك غودار‪ .‬ذلك أن أنطونيوني هو أحد المعلمين‬
‫الكبار في الضبط الهوسي للكادرات‪ :‬وهنا نرى أن الشخصية العصابية‬
‫أو اإلنسان الذي بدأ يفقد هويته سيدخل في عالقة "حرة غير مباشرة "‬
‫مع الرؤية الشعرية للمؤلف الذي يتعزز فيه ومن خالله‪ ،‬ويبقى مختلف ًا‬

‫‪151‬‬
‫عنه‪ .‬إن الكادر الموجود مسبق ًا يؤ ّدي إلى انفصال غريب عن الشخصية‬
‫التي تشاهد نفسها وهي تتصرف‪ .‬وتغدو صور العصابي أو العصابية‬
‫بالتالي رؤى للمؤلف الذي يخطو ويفكر من خالل تهويمات بطله‪ .‬ألهذا‬
‫السبب تشعر السينما الحديثة بحاجة ماسة إلى شخصيات عصابية تنطق‬
‫بالخطاب الحر غير المباشر أو "باللغة الدونية" للعالم الحالي؟ ولكن‬
‫إذا كانت الرؤية أو الوعي الشعري عند أنطونيوني هي رؤية أو وعي‬
‫جماليان‪ ،‬فإن رؤية غودار هي باألحرى رؤية "تقانية" (من دون أن تكون‬
‫أقل شعرية)‪ .‬صحيح أن غودار‪ ،‬بحسب مالحظة وجيهة لبازوليني‪ ،‬يقدّ م‬
‫شخصيات مريضة وتعاني "من إصابات خطيرة"‪ ،‬ولكنها شخصيات‬
‫ال تخضع لمعالجة ولم تفقد شيئ ًا من الدرجات المادية لحريتها‪ ،‬وهي‬
‫تعج بالحياة وتم ّثل باألحرى والدة نوع جديد من البشر(((‪.‬‬
‫شخصيات ّ‬

‫كان بوسع بازوليني أن يضيف اسمه هو واسم إريك روهمر إلى‬


‫الئحة األمثلة‪ .‬ذلك أن ما يم ّيز سينما بازوليني هو وعي شعري‪ ،‬ليس‬
‫بالضرورة وعي ًا جماليا‪ ً،‬وال تقاني ًا بل هو باألحرى وعي صوفي و"قدسي"‪.‬‬
‫وهذا ما مكّن بازوليني من النهوض بالصورة‪ /‬اإلدراك أو بالتركيز على‬
‫عصاب شخصياته ومن نقلها إلى مستوى من الوضاعة والبهيمية‪،‬‬
‫في مواضيع شديدة الحساسية‪ ،‬ومن جعلها تنعكس في وعي شعري‬
‫يحركه العنصر األسطوري أو التقديسي‪ .‬إن هذه المراوحة بين‬
‫خالص ّ‬
‫المبتذل والنبيل‪ ،‬وهذه الصلة بين الدنيء والجميل‪ ،‬وهذا اإلسقاط على‬

‫((( يقيم بازوليني )‪ (Pasolini‬مقارنة المعة جد ًا بني أنطونيوين‪ ،‬بنزعته اجلاملية‬


‫«البادوفية ‪ -‬الرومانية»‪ ،‬وبني غودار‪ ،‬بتقانته االنعتاقية‪ ،‬مما يؤثر يف اختالف «األبطال»‬
‫عند هذين املخرجني‪ .‬انظر‪Pier Paolo Pasolini, L’expérience hérétique, traduit :‬‬
‫‪de l’italien par Anna Rocchi Pullberg  (Paris: Payot, 1976), pp. 150-151.‬‬

‫‪152‬‬
‫األسطورة‪ ،‬هو ما حدّ ده بازوليني في الخطاب الحر غير المباشر كشكل‬
‫جوهري لألدب‪ .‬وتمكّن من جعلها صورة سينمائية قادرة على الطالوة‬
‫والهلع في ٍ‬
‫آن واحد(((‪ .‬أما روهمر فربما كان المثال األسطع لبناء صور‬
‫ذاتية غير مباشرة حرة‪ ،‬وذلك من خالل وعي أخالقي متم ّيز‪ .‬والغريب‬
‫في األمر أن هذين المخرجين‪ ،‬أي بازوليني وروهمر‪ ،‬لم يكونا يعرفان‬
‫بعضهما جيد ًا‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬ولكنهما سعيا كثير ًا إلى تأمين وضع جديد‬
‫آن‬‫للصورة للتعبير عن العالم الحديث ولمطابقة السينما مع األدب في ٍ‬
‫واحد‪ .‬لقد و ّظف روهمر الكاميرا من جهة لتخلق وعي ًا أخالقي ًا صريح ًا‬
‫يقدر على نقل الصورة غير المباشرة الحرة للعالم الحديث العصابي‬
‫من جهة (سلسلة الحكايات األخالقية)؛ ويتوصل من جهة أخرى إلى‬
‫قاسم مشترك بين السينما واألدب‪ ،‬ال يستطيع ال روهمر وال بازوليني أن‬
‫يقيماها إال إذا ابتكرا نوع ًا من الصورة البصرية والصوتية تضاهي تمام ًا‬
‫الخطاب الالمباشر (وهذا ما حدا بروهمر إلى إخراج فيلمين مهمين هما‬
‫مركيزة حرف ‪ (La marquise d’O) O‬وبرسيفال((( )‪ .)(Perceval‬لقد‬

‫‪Pier Paolo Pasolini, Etudes cinématographiques, I et II ([s.‬‬ ‫((( انظر‪:‬‬


‫‪l.]: [s. n.], [s. d.]),‬‬
‫وخصوص ًا دراسة‪Jean Semolué, «Après le décameron et les contes de :‬‬
‫‪Canterbury, réflexions sur le récit chez Pasolini».‬‬
‫دائام هيجس بمسألة اخلطاب غري‬
‫((( يبدو أن إريك رومهر )‪ (Eric Rohmer‬كان ً‬
‫املبارش‪ .‬فمنذ فيلمه حكايات أخالقية ربط بني احلوارات املكتوبة بأسلوب غري مبارش‬
‫ومتقن‪ ،‬وبني أحد «التعليقات»‪ .‬جيب الرجوع إىل مقالة كتبها رومهر‪Eric Rohmer, :‬‬
‫‪“Le film et les trois plans du discours, indirect, direct, hyperdirect,” Cahiers‬‬
‫‪Renaud-Barrault, no 96 (1977),‬‬
‫ولكن الغريب يف األمر هو أن رومهر‪ ،‬وعىل علمنا مل يتكلم أبد ًا عن اخلطاب احلر غري‬
‫املبارش ‪ ،‬ويبدو أنه مل يط ّلع عىل نظريات بازوليني‪ .‬ومع ذلك فقد رأى هذه الصيغة اخلاصة‬
‫للخطاب غري املبارش‪ :‬انظر ما قاله يف مقالته عن فيلم مركيزة حرف ‪ O‬حول األسلوب‬
‫غري املبارش عند كليست )‪ ،(Kleist‬وعن فيلم برسيفال حول الشخوص الذين يتكلمون =‬
‫‪153‬‬
‫طورا مسألة العالقة بين الصورة والكلمة‪ ،‬بين الجملة والنص؛ ومن هنا‬
‫والمدْ رج )‪.(insert‬‬
‫الدور الخاص الذي أعطياه للتعليق ُ‬

‫ما يهمنا اآلن ليس عالقة الصورة باللغة‪ ،‬وهذا موضوع سندرسه‬
‫الحق ًا‪ .‬لن نحتفظ من أطروحة بازوليني المهمة جد ًا إال بما يلي‪ :‬قد تجد‬
‫الصورة‪ /‬اإلدراك وضع ًا خاص ًا في "الذاتية الحرة غير المباشرة" التي‬
‫ستكون كانعكاس للصورة في وعي الذات‪ /‬الكاميرا‪ .‬وال أهمية من ثم‬
‫إن كانت الصورة موضوعية أو ذاتية‪ :‬إنها نصف ذاتية‪ ،‬إن شئنا‪،‬‬ ‫لنعرف ْ‬
‫تدل من بعد على أي متغ ّير أو ملتبس‪.‬‬ ‫ولكن هذه الذاتية الوسطية ال ّ‬
‫تسجل أي تذبذب بين قطبين‪ ،‬بل سجلت تثبيت ًا لشكل جمالي‬ ‫لم تعد ّ‬
‫أعلى‪ .‬إن الصورة‪ /‬اإلدراك تجد هنا إشارة خاصة على تركيبها‪ .‬إذا‬
‫استعرنا كلمة بيرس‪ ،‬لقلنا إنها "عالمة تأشير" )‪( (dicisigne‬ولكنها في‬
‫نظر بيرس القول بعامة‪ ،‬بينما نعني بها نحن الحالة الخاصة للقول الحر‬
‫غير المباشر ‪ ،‬أو باألحرى للصورة المماثلة)‪ .‬فيحصل الوعي‪ /‬الكاميرا‬
‫عندئذ على جودة شكلية عالية‪.‬‬

‫‪)2‬‬
‫بيد أن هذا ّ‬
‫الحل ال يحيل إال إلى تعريف اسمي لما هو "ذاتي"‬
‫متطورة للسينما التي عرفت كيف‬
‫ّ‬ ‫و"موضوعي"‪ .‬إنه ينطوي على حالة‬
‫ترتاب من الصورة‪ /‬الحركة‪ .‬فماذا يحدث على العكس‪ ،‬لو أننا انطلقنا‬
‫من تعريف واقعي لهذين القطبين أو للمنظومة المزدوجة؟ لقد اقترحت‬

‫= عن أنفسهم بصيغة الغائب‪ .‬املهم جد ًا ليس تقديم النص يف اخلطاب غري املبارش احلر‪،‬‬
‫وإنام تقديم الصور أو املشاهد البرصية بطريقة مماثلة‪ :‬وهذا ينطبق عىل ضبط الكادرات‬
‫اهلوسية يف «مركيزة حرف ‪ ،»O‬وخصوص ًا عىل معاجلة الصورة كمنمنمة يف «برسيفال»‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫علينا الفلسفة البرغسونية التعريف التالي‪ :‬سيكون الوعي ذاتي ًا عندما تتغ ّير‬
‫الصور بالنسبة إلى صورة مركزية ومفضلة؛ وسيكون الوعي موضوعي ًا‪،‬‬
‫كما هو في األشياء عندما تتغير الصور كافة بالنسبة لبعضها بعض ًا وتتبدل‬
‫في وجوهها وأجزائها كاف ًة‪ .‬إن هذين التعريفين ال يؤكدان فقط التباين‬
‫الحاصل بين قطبي اإلدراك‪ ،‬وإنما يؤكدان إمكانية االنتقال من القطب‬
‫الذاتي إلى القطب الموضوعي‪ .‬فكلما كان المركز المفضل متحرك ًا هو‬
‫نفسه‪ ،‬كلما مال إلى تشكيل منظومة غير ممركزة تتغ ّير فيها الصور مقارنة‬
‫ببعضها‪ ،‬وكلما مالت هذه الصور إلى الربط بين األفعال المتبادلة وبين‬
‫االهتزازات الخاصة بمادة ِصرفة‪ .‬أي شيء أشدّ ذاتية من الهذيان والحلم‬
‫والهلوسة؟ ولكن ما هو األكثر دنو ًا من مادية صنعتها موجة ضوئية أو‬
‫تفاعل جزيئي؟ لقد اكتشفت المدرسة الفرنسية والتعبيرية األلمانية‬
‫الصورة الذاتية‪ ،‬ولكنهما نقلتاها في ذات الوقت إلى تخوم الكون‪.‬‬
‫نحرك مركز اإلحالة نفسه‪ ،‬نرفع حركة األجزاء إلى المجموع‪،‬‬ ‫فعندما ّ‬
‫ونرفع النسبي إلى المطلق‪ ،‬والتتابع إلى التزامن‪ .‬ففي فيلم منوعات‬
‫المنوعات الموسيقية‪ ،‬يرى‬
‫ّ‬ ‫للمخرج األلماني دوبون وفي مشهد مسرح‬
‫الجمهور وسقف المسرح متداخلين‪ ،‬كوابل من‬ ‫َ‬ ‫البهلوان المتأرجح‬
‫الشرر أو كزوبعة من البقع العائمة(((‪ .‬وفي فيلم قلب وفي )‪(Coeur fidèle‬‬
‫للمخرج الفرنسي إيبستين‪ ،‬نشاهد االحتفال الشعبي الجوال الذي يصبو‬
‫المشاهد وبين الحركة المشاهدة‬
‫كل شيء فيه إلى تزامن متحرك يتم بين ُ‬
‫في دوار تضيع فيه النقاط الثابتة‪ .‬وال شك هنا أن الصورة‪ /‬اإلدراك قد‬
‫تحولت بفعل الوعي الجمالي (يجب مراجعة مفهوم "التصوير الجميل"‬ ‫ّ‬

‫‪Lotte H. Eisner, L’écran démoniaque, Encyclopédie‬‬ ‫((( انظر وصف‪:‬‬


‫‪du Cinéma (Paris: A. Bonne, [s. d.]).‬‬

‫‪155‬‬
‫الذي شهرته المدرسة الفرنسية)‪ .‬ولكن هذا الوعي الجمالي لم يتماثل‬
‫بعد مع الوعي الشكلي والحصيف الذي يتجاوز الحركة‪ ،‬إذ كان وعي ًا‬
‫"ساذج ًا" أو وعي ًا غير أطروحي‪ ،‬كما يقول فالسفة الظواهرية‪ ،‬أو وعي ًا‬
‫يعمل ويضخم الحركة وينقلها إلى داخل المادة‪ ،‬سعيد ًا باكتشاف نشاط‬
‫المونتاج والكاميرا‪ .‬كان ذلك مختلف ًا‪ ،‬لم يكن أفضل ولم يكن أسوأ‪.‬‬
‫غالب ًا ما تك ّلم بعضهم عن ميل جان رينوار إلى الماء الجاري‪.‬‬
‫ولكن هذا الميل شائع في المدرسة الفرنسية كلها (مع العلم أن رينوار‬
‫أعطاه بعد ًا خاص ًا جد ًا)‪ .‬ففي المدرسة الفرنسية نرى النهر ومجراه‬
‫أحيان ًا‪ ،‬والقناة وسدودها وزوارقها أحيان ًا أخرى‪ ،‬والبحر وحدوده مع‬
‫اليابسة والميناء والمنارة‪ ،‬نراها كقيمة ضوئية أحيان ًا‪ .‬لو فكّر هؤالء‬
‫المخرجون بكاميرا سلبية لنصبوها أمام الماء الجاري‪ .‬كان ليربييه هو‬
‫الذي بدأ بهذا المشروع في فيلم السيل )‪ (Le torrent‬الذي كان فيه‬
‫اليم ‪(L’homme du‬‬
‫الماء الشخصية الرئيسية‪ .‬ولم يعالج فيلم رجل ّ‬
‫)‪ large‬موضوع البحر كمسألة إدراك بخاصة فقط‪ ،‬وإنما كمنظومة‬
‫إدراكية تختلف عن اإلدراكات األرضية‪ ،‬لقد عالجها كلغة تختلف عن‬
‫لغة اليابسة(((‪ .‬ويؤ ّلف جزء كبير من أعمال إيبستين وغريميون نوع ًا من‬
‫مدرسة بريتونية )‪ (Bretonne‬ح ّققت الحلم السينمائي الذي ينادي بدراما‬
‫ال يوجد فيها عنصر بشري‪ ،‬أو على األقل بدراما تنطلق من الطبيعة نحو‬
‫اإلنسان‪ .‬لماذا بدا الماء على هذا النحو مالئم ًا لجميع مقتضيات هذه‬
‫المدرسة الفرنسية‪ ،‬المقتضيات الجمالية المجردة والمقتضيات التوثيقية‬

‫تعليقات هنري النغلوا )‪ (Henri Langlois‬التي استشهد هبا نويل‬ ‫((( انظر‬
‫‪Noël Burch, Marcel L’Herbier (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 68.‬‬ ‫بورش يف كتاب‪:‬‬
‫‪156‬‬
‫االجتماعية والمقتضيات السردية الدرامية؟ ذلك ألن الماء كان أوالً البيئة‬
‫المحرك‬
‫َّ‬ ‫الممتازة التي يستطيع فيها المرء أن يستخرج الحركة من الشيء‬
‫أو حركية الحركة بالذات‪ :‬ومن هنا تنبع األهمية البصرية والسمعية للماء‬
‫في األبحاث اإليقاعية‪ .‬ما بدأه غانس مع الحديد والسكة الحديدية‪ ،‬هو‬
‫العنصر السائل الذي سيعقبه وينقله وينشره في جميع االتجاهات‪ .‬كان‬
‫جان ميتري في محاوالته التجريبية قد بدأ بسكة الحديد‪ ،‬ثم انتقل إلى‬
‫الماء كما لو أنه انتقل إلى الصورة القادرة بأعمق ما يكون على أن تقدّ م لنا‬
‫الواقع كاهتزاز‪ ،‬كما في فيلمه باسيفيك ‪ (Pacific 231) 231‬وصور من‬
‫أجل ديبوسي((( )‪ .(Images pour Debussy‬أما أفالم غريميون الوثائقية‬
‫مرت بهذه الحركة‪ ،‬فانتقلت من ميكانيك الجوامد إلى ميكانيك‬ ‫فقد ّ‬
‫السوائل‪ ،‬ومن الصناعة إلى خلفيتها البحرية‪.‬‬

‫إن السائل التجريدي هو البيئة الملموسة لفئة من البشر‪ ،‬لساللة‬


‫من الناس الذين ال يعيشون كأهل اليابسة‪ ،‬وال يدركون وال يشعرون‬
‫مثلهم‪ :‬لقد قدمت جزيرة أويسان )‪ (Ouessant‬البريتونية ثم جزيرة سين‬
‫)‪ (Sein‬األطلسية إليبسين وثائقية متميزة استطاع فيه السكان وحدهم‬
‫أن يلعبوا دورهم الخاص بهم في فيلم ي تخوم اليابسة �‪(Finis ter‬‬
‫)‪ rae‬ومور فران )‪ .(Mor Vran‬وأخير ًا أصبح الحد الفاصل بين اليابسة‬
‫والمياه مكان ًا لدراما تتجابه فيه أشكال التع ّلق باألرض من جهة‪ ،‬ومن‬
‫جهة أخرى القلوص وحبال ال َقطر والحبال المتحركة والحرة‪ .‬ففي‬
‫فيلم جميلة نيفيرني(*) )‪ (La belle Nivernaise‬أظهر إيبسين من خالل‬

‫((( ‪Jean Mitry, Le cinéma expérimental (Paris: Seghers, [s. d.]), pp.‬‬
‫‪211-217.‬‬

‫‪157‬‬
‫الزورق النهري تعارض ًا بين رسوخ اليابسة وانسيابية السماء والمياه‪.‬‬
‫وأقام فيلم مالدون )‪ (Maldone‬تعارض ًا بين تنظيم الجذور‪ ،‬وبين األرض‬
‫والمنزل‪ ،‬ورتب شؤون القناة بين اإلنسان والمركب والحصان‪ .‬وكان‬
‫على المأساة أن تقطع الصلة مع األرض‪ ،‬والعالقات بين األب وابنه‪،‬‬
‫وبين الزوج والزوجة والخليلة وبين المرأة وعشيقها‪ ،‬وبين الطفل‬
‫التوصل إلى التضامن بين البشر‬
‫ّ‬ ‫وذويه؛ وكان ال بدّ من العزلة من أجل‬
‫والتضامن الطبقي‪ .‬ومع أن المصالحة النهائية غير مستبعدة‪ ،‬كانت المنارة‬
‫والسدّ مكان ًا للمجابهة القاتلة بين جنون األرض وعدالة الماء العالية‪:‬‬
‫حراس المنارة ‪(Gardiens de‬‬
‫فنالحظ جنون االبن الغاضب في فيلم ّ‬
‫المدوي لسيد القصر المرتدي بذلته في فيلم ضوء‬‫ّ‬ ‫)‪ ،phare‬والسقوط‬
‫كل المهن ليست بحرية‪ ،‬ولكن‬ ‫الصيف )‪ .(Lumière d’été‬صحيح أن ّ‬
‫فكرة غريميون هي أن البروليتاري أو العامل يبنيان في كل مكان‪ ،‬يبنيان‬
‫على اليابسة وحتى في الجو‪ ،‬كما في فيلم السماء هي لكم ‪(Ciel est à‬‬
‫)‪ ،vous‬شروط الحياة لسكان العوم ولشعب البحر القادرين على كشف‬
‫وتغيير طبيعة المصالح االقتصادية والتجارية التي تُطرح في مجتمع ما‪،‬‬
‫بشرط "قطع الحبل السري الذي يربطها باألرض"‪ ،‬كما تقول العبارة‬
‫الماركسية(‪ .((1‬بهذا المعنى ليست المهن البحرية مخ ّلفات أو فولكور ًا‬
‫لسكان الجزر؛ إنها أفق كل مهنة‪ ،‬وحتى مهنة الطبيبة في فيلم حب‬
‫امرأة )‪ (L’amour d’une femme‬لغريميون‪ .‬وهذه المهن ّ‬
‫تعزز العالقة‬

‫(*) منطقة يف مقاطعة البورغوين الفرنسية (املرتجم)‪.‬‬


‫(‪ ((1‬لقد أظهر بول فرييليو )‪ (Paul Virilio‬أصل الربوليتاريا ونموذجها‬
‫البحريني يف نص يمكن تطبيقه متام ًا عىل سينام غريميون‪Paul Virilio, Vitesse et :‬‬
‫‪politique (Paris: Edition Galilée, [s. d.]), p. 50.‬‬

‫‪158‬‬
‫مع عناصر الطبيعة ومع النوع البشري‪ ،‬الموجودة في كل مهنة؛ وحتى‬
‫الميكانيك والصناعة والكدح البروليتاري تجد حقيقتها في إمبراطورية‬
‫البحار (أو الفضاء)‪ .‬كان غريميون يعارض بكل ما أوتي من قوة المثال‬
‫األعلى العائلي واألرضي لحكومة فيشي‪ .‬وقالئل هم السينمائيون الذين‬
‫صوروا عمل الرجال‪ ،‬وكشفوا فيه عما يعادله في أعمال البحر‪ :‬فحتى‬ ‫ّ‬
‫انهيار الصخور يماثل أمواج البحر‪.‬‬
‫هناك منظومتان متعارضتان‪ ،‬اإلدراكات واالنفعاالت العاطفية‬
‫وأعمال البشر على سطح اليابسة‪ ،‬واإلدراكات واالنفعاالت العاطفية‬
‫وأعمال البشر في الماء‪ .‬نجد ذلك بوضوح في فيلم قطر السفن‬
‫)‪ (Remorques‬لغريميون‪ ،‬وفيه يظهر القبطان وهو فوق اليابسة ينقاد‬
‫ّ‬
‫الفيل‬ ‫إلى مراكز ثابتة ويستعرض صور الزوجة أو العاشقة‪ ،‬وصورة‬
‫المحاذية للبحر‪ ،‬وكلها صور ذاتية أنوية‪ ،‬في حين أن البحر يقدم له فكرة‬
‫موضوعية تكون كتبدل شامل وتضامن بين األجزاء كافة‪ ،‬وتكون عدالة‬
‫تتجاوز البشر‪ ،‬وفيها لم يعد يصلح قطر السفن المطروح دائم ًا إال بين‬
‫حركتين‪ .‬ولكن فيلم األتاالند )‪ (L’Atalande‬لجان فيغو هو الذي سيرفع‬
‫هذا التعارض إلى ذروته‪ .‬كما ب ّين ج‪ .‬ب‪ .‬بامبرجيه )‪(J. P. Bamberger‬‬
‫عندما قال إن نظام الحركة يتغ ّير فوق اليابسة وفوق الماء وداخل الماء‪،‬‬
‫كما يتغير "االنسياب" الجميل‪ :‬ذلك أن الحركة األرضية في اختالل‬
‫مستمر‪ ،‬ألن القوة المحركة هي على الدوام خارج مركز الجاذبية (دراجة‬
‫المتجول)؛ في حين أن الحركة المائية تختلط مع انتقال مركز‬
‫ّ‬ ‫البائع‬
‫الجاذبية بحسب قانون موضوعي بسيط‪ ،‬مستقيم أو إهليلجي (وينجم‬
‫تتم فوق األرض‪ ،‬أو حتى‬
‫عن ذلك انطباع أخرق لهذه الحركة عندما ّ‬
‫يتعرج متوارب ًا أو يزحف أو يدور على نفسه‪،‬‬
‫على القارب النهري الذي ّ‬
‫‪159‬‬
‫ولكنها تتمتع بانسياب عالم آخر)‪ .‬وفوق اليابسة تتم الحركة من نقطة إلى‬
‫أخرى وتحدث دائم ًا بين نقطتين‪ ،‬في حين أن النقطة تقع بين حركتين‬
‫فتسجل بالتالي ارتداد ًا أو قلب ًا للحركة‪ ،‬بحسب العالقة‬
‫ّ‬ ‫على الماء‪:‬‬
‫المائية في حركة الكاميرا التي تصور من األعلى إلى األسفل أو العكس‬
‫(السقوط األخير للجسد المعانَق لدى عاشقين ال حدود له‪ ،‬ولكنه‬
‫يتحول إلى حركة صاعدة)‪ .‬وتختلف عن حركة الغرام والعاطفة‪ :‬فحركة‬
‫ّ‬
‫األرض تخضع لهيمنة السلعة والتمائمية والمالبس والموضوع الجزئي‬
‫يسمى بـ‬
‫والموضوع‪ /‬الذكرى؛ وفي حالة الماء ترقى الحركة إلى ما ّ‬
‫"موضوعية" األجساد التي من الممكن أن تكشف القبح تحت الثياب‪،‬‬
‫وتكشف الروعة تحت المظهر القاسي‪ .‬إذا كانت ثمة مصالح بين اليابسة‬
‫تمت على يد األب جول‪ ،‬ألنه استطاع بعفوية أن يفرض‬ ‫والماء‪ ،‬فقد ّ‬
‫قانون الماء على اليابسة‪ :‬فمقصورته استطاعت أن تضم أكثر التمائم‬
‫غرابة‪ ،‬وأشياء مجزوءة‪ ،‬وتذكارات‪ ،‬ونفايات؛ وجعل منها‪ ،‬ال ذاكرة‪،‬‬
‫وإنما فسيفساء خالصة من الحاالت الشديدة الحضور‪ ،‬ومنها أسطوانة‬
‫موسيقية عتيقة عادت تعمل(‪ .((1‬وفي المحصلة‪ ،‬تتطور في الماء وظيفة‬
‫استبصار تتعارض مع الرؤية األرضية‪ :‬في داخل الماء تتج ّلى المحبوبة‬
‫الراحلة‪ ،‬كما لو أن اإلدراك قد تمتّع بمدى وبتفاعل وبحقيقة لم يعرفها‬
‫على األرض اليابسة‪ .‬في مدينة نيس )‪ (Nice‬أتاح وجود الماء تصوير‬
‫البرجوازية كجسد عضوي ممسوخ(‪ .((1‬وكشف تحت الثياب عن قبح‬

‫(‪ ((1‬نستخدم نص ًا مل ينرشه جان بيري بامربجيه حول فيلم األتاالند )‪. (L’atalante‬‬
‫(‪ ((1‬لقد طرح أمينغوال هذه املسألة بصورة الفتة قال‪ :‬ملاذا عرض فيغو‬
‫منوه ًا‬ ‫ِ‬
‫البورجوازية بسامت بيولوجية ال بسامت سياسية واقتصادية؟ أجاب عىل ذلك ّ‬
‫بوظيفة «الرؤيا االستباقية» و«موضوعية» األجساد‪ .‬انظر‪= Jean Vigo, Etudes :‬‬
‫‪160‬‬
‫األجساد البرجوازية‪ ،‬كما يكشف اآلن عن ر ّقة الجسد المحبوب وقوته‪.‬‬
‫وقد اختُزلت البرجوازية إلى موضوعية جسد تمائمي‪ ،‬وإلى جسد‪ /‬نفاية‪،‬‬
‫تقابله الطفولة والحب واإلبحار بأجسادها الطاهرة‪ .‬ثمة "موضوعية"‬
‫وتوازن وعدالة ليست من هذه األرض‪ ،‬وهذه هي ِ‬
‫مز ّية الماء‪.‬‬

‫أخير ًا‪ ،‬ما وجدته المدرسة الفرنسية هو الوعد أو التنويه بحالة‬


‫أخرى من اإلدراك‪ :‬إدراك أكثر إنسانية‪ ،‬إدراك لم يكن مقتطع ًا من‬
‫الجوامد‪ ،‬ولم تعد المادة الجامدة موضوع ًا له وشرط ًا وبيئة‪ .‬إنه إدراك‬
‫أكثر رهافة وأكثر رحابة‪ ،‬إدراك جزيئي خاص بـ "سينما‪ /‬عين"‪ .‬وكان‬
‫المآل عندما انطلقنا من تعريف واقعي بقطبي اإلدراك‪ :‬فالصورة‪/‬‬
‫اإلدراك لن تنعكس في وعي صريح‪ ،‬وإنما ستنشطر إلى حالتين‪،‬‬
‫إحداهما جزيئية واألخرى كتلوية‪ ،‬إحداهما سائلة واألخرى جامدة‪،‬‬
‫تجر األخرى وتمحوها‪ .‬قد ال تكون إذن عالمة اإلدراك "عالمة‬
‫إحداهما ّ‬
‫تأشير" بل "عالمة َر ْيم"(‪ .((1‬فبينما كانت عالمة التأشير تدل على كادر‬
‫ويجمد الصورة‪ ،‬نرى أن "عالمة الريم" تُحيل إلى صورة أصبحت‬ ‫ّ‬ ‫يعزل‬
‫ومرت عبر الكادر أو نحوه‪ .‬لقد غدا الوعي‪ /‬الكاميرا "عالمة‬
‫سائلة ّ‬

‫‪cinématographiques ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]).‬‬ ‫=‬


‫(وح ّلل أمينغوال أيض ًا حركات التصوير من األعىل إىل األسفل عند فيغو)‪.‬‬
‫(‪ ((1‬كان بريس يف تصنيفه للعالمات‪ ،‬ياميز بني «عالمة التأشري» (أو اجلملة)‬
‫وبني «عالمة الريم» (أي الكلمة)‪ .‬لقد اقتبس بازوليني هذه املفردة من بريس‪ ،‬ولكنه‬
‫أدخل إليها فكرة التد ّفق العامة‪ :‬جيب عىل حجم اللقطة أن «يتد ّفق»‪ ،‬فيكون إذن «عالمة‬
‫ريم» ‪Pier Paolo Pasolini, L’expérience hérétique, traduit de l’italien par Anna‬‬
‫‪Rocchi Pullberg  (Paris: Payot, 1976), p. 271,‬‬
‫ولكن بازوليني ارتكب هنا خطأ تأثيلي ًا‪ ،‬عن قصد أو ال قصد‪ .‬ما يتدفق‪ ،‬يف اللغة‬
‫اليونانية‪ ،‬هو ‪ rheume‬أو )‪ .(reume‬نلجأ إذ ًا إىل هذه املفردة ال َّ‬
‫لندل عىل طابع عام يف‬
‫حجم اللقطة‪ ،‬بل عىل عالمة خاصة يف الصورة‪ /‬اإلدراك‪.‬‬
‫‪161‬‬
‫ريم" ألنه تبلور في إدراك متبدل وتوصل بالتالي إلى تحديد مادي وإلى‬
‫مادة‪ /‬جريان‪ .‬بيد أن هذه الحالة األخرى وهذا اإلدراك اآلخر وهذه‬
‫تعمقت‬
‫الوظيفة االستبصارية‪ ،‬أشارت إليها المدرسة الفرنسية‪ ،‬أكثر مما ّ‬
‫فيها‪ :‬باستثناء محاوالتها التجريدية (التي ساهم فيها فيلم تاريس‪ ،‬ملك‬
‫الماء )‪ (Taris, roi de l’eau‬لفيغو)‪ ،‬لم تجعل منها الصور َة الجديدة‪،‬‬
‫بل جعلت حد ًا أو نقط ًة تتالشى فيها الصور‪ /‬الحركة والصور‪ /‬البين‬
‫بين‪ ،‬في إطار قصة ما زالت متينة‪ .‬لم يكن ذلك بالفعل إشارة دونية‪ ،‬ألن‬
‫اإليقاع قد اخترق هذه القصة كثير ًا‪.‬‬

‫‪)3‬‬
‫إن نظام التغيير الشامل بحد ذاته‪ ،‬هو ما اقترح فيرتوف بلوغه أو‬
‫الوصول إليه في "السينما‪ /‬عين"‪ .‬الصور جميعها تتغ ّير وتتداخل‪ ،‬تتغ ّير‬
‫عرف فيرتوف السينما‪ /‬العين على أنها‪:‬‬ ‫على وجوهها وأجزائها كافة‪ّ .‬‬
‫"تُراصف كل نقطة في هذا الكون وفي أي نظام زمني"(‪ .((1‬أكان ذلك‬
‫بطيئ ًا أم سريع ًا‪ ،‬أكان طباعة فوقية أم انشطار ًا أم تخفيف ًا لسرعة الفيلم‬
‫أم تصوير ًا ميكروي ًا‪ ،‬يكون كل هذا في خدمة التبدّ ل والتفاعل‪ .‬ليست‬
‫محسنة‪ .‬ذلك أن العين البشرية‬ ‫ّ‬ ‫السينما عين ًا بشرية حتى ولو كانت عين ًا‬
‫تستطيع أن تتجاوز بعض ًا من حدودها باللجوء إلى األجهزة واألدوات‪،‬‬
‫شرط إمكانيتها الخاص‪:‬‬‫َ‬ ‫ولك ْن هناك حدّ ال تستطيع تجاوزه‪ ،‬ألنه يم ّثل‬
‫أال وهو ثباتها النسبي كعضو استقبال ويجعل الصور جميعها تتغير‬
‫لصالح صورة واحدة‪ ،‬وطبق ًا لصورة مم ّيزة‪ .‬وإذا نظرنا إلى الكاميرا‬

‫(‪Dziga Vertov, Articles, journaux, projets, 10-18 (Paris: Union ((1‬‬


‫‪Générale D’éditions, 1972), pp. 126-127.‬‬

‫‪162‬‬
‫بوصفها جهاز ًا اللتقاط الصور‪ ،‬فإنها تخضع للحدّ الشارط نفسه‪ .‬ولكن‬
‫السينما ال تُختزل في الكاميرا فقط‪ ،‬إنها المونتاج أيض ًا‪ .‬والمونتاج هو‬
‫ويكف عن أن يكون كذلك انطالق ًا‬
‫ّ‬ ‫بالتأكيد بنا ٌء منظور للعين البشرية‪،‬‬
‫من عين أخرى‪ ،‬إنه اإلبصار الخالص لعين غير بشرية‪ ،‬لعين تختلط مع‬
‫األشياء‪ .‬التبدّ ل الشامل‪ ،‬والتفاعل الشامل (أي التعديل) هو ما أطلق‬
‫عليه سيزان )‪ (Cézanne‬عبارات "العالم الذي سبق اإلنسان"‪ ،‬أو "فجرنا‬
‫المتقزح"‪ ،‬أو "بكارة العالم"‪ .‬وليس من المدهش أنه‬
‫ّ‬ ‫نحن"‪ ،‬أو "العماء‬
‫أصر ميتري‬‫يترتّب علينا أن نبنيه‪ ،‬ألنه ليس معطى إال لعين أخرى‪ .‬لقد ّ‬
‫على أن يستنكر عند فيرتوف تناقض ًا ال يجرؤ على إلصاقه ّ‬
‫برسام فنان‪:‬‬
‫إذ هناك تناقض زائف بين إبداعية (المونتاج) وتمامية (الواقع)(‪ .((1‬ما‬
‫يفعله المونتاج‪ ،‬كما يقول فيرتوف‪ ،‬هو نقل اإلدراك إلى األشياء‪ ،‬ووضع‬
‫اإلدراك في المادة‪ ،‬بحيث يتسنّى لكل نقطة من نقاط المكان أن ترى هي‬
‫ذاتها جميع النقاط التي تؤ ّثر فيها أو تتأثر بها‪ ،‬مهما امتدت هذه األفعال‬
‫وردودها‪ .‬وتتحدد الموضوعية عندما "تُرى األشياء من دون حدود ومن‬
‫دون مسافات"‪ .‬في هذا الصدد تجوز جميع اإلجراءات‪ ،‬وال تعود من‬
‫ثم خدع ًا سينمائية(‪ .((1‬ما أنجزه فيرتوف المادي من طريق السينما هو‬

‫(‪Jean Mitry, Histoire du cinéma muet, III (Paris: Edition ((1‬‬


‫‪Universitaires, 1990), p. 256,‬‬
‫ «ال نستطيع الدفاع عن املونتاج والرتكيز يف اآلن ذاته عىل متامية الواقع‪.‬‬
‫التناقض صارخ جد ًا»‪.‬‬
‫‪Dziga Vertov, Articles, journaux, projets:‬‬ ‫(‪ ((1‬‬
‫«إن التصوير الرسيع‪ ،‬والتصوير امليكروي‪ ،‬والتصوير املقلوب‪ ،‬والتصوير‬
‫يتوخى التنشيط‪ ،‬والتصوير املتحرك‪ ،‬والتصوير الذي يعتمد زوايا ٍ‬
‫برص غري‬ ‫ّ‬ ‫الذي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متوقعة إطالقا‪ ...‬إلخ‪ .‬ال تعترب خدعا برصية‪ ،‬بل وسائل عادية جيب اإلكثار من‬
‫استعامهلا»‪.‬‬
‫‪163‬‬
‫البرنامج المادي للفصل األول من كتاب المادة والذاكرة‪ :‬أي الصورة في‬
‫ذاتها‪ .‬إن السينما‪ /‬العين‪ ،‬والعين غير البشرية لفيرتوف‪ ،‬ليست عين ذبابة‬
‫أو عين نسر‪ ،‬أو عين حيوان آخر‪ .‬وليست أيض ًا‪ ،‬على طريقة إيبستين‪،‬‬
‫عين الروح المزودة بمنظور زمني ومدركة للروح الكلية‪ .‬إنها على‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬عين المادة‪ ،‬العين في المادة‪ ،‬العين التي ال تخضع‬
‫وتوصلت إلى "إنكار الزمن"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫للزمن‪ ،‬العين التي "انتصرت" على الزمن‬
‫والتي ال تعرف كلية أخرى سوى الكون المادي وامتداده (وهنا يختلف‬
‫فيرتوف وإيبسين كمستويين متباينين للمجموع نفسه الذي يشمل‪:‬‬
‫الكاميرا والمونتاج)‪.‬‬
‫هذا هو الترتيب األول الذي قام به فيرتوف‪ .‬هو أوالً ترتيب ماكيني‬
‫للصور‪ /‬الحركة‪ .‬لقد رأينا أن الفجوة أو الفاصل بين حركتين‪ ،‬يرسم‬
‫يجسد مسبق ًا الفاعل البشري بصفته يمتلك اإلدراك‪ .‬ولكن‬ ‫مكان ًا فارغ ًا ّ‬
‫األهم‪ ،‬في نظر فيرتوف‪ ،‬هو إعادة الفواصل إلى المادة‪ .‬ذلك هو معنى‬
‫المونتاج "ونظرية الفواصل"‪ ،‬وهي نظرية أعمق من نظرية الحركة‪ .‬فلن‬
‫المتك َّبد‪ ،‬ولن‬
‫يفرق بين ردة الفعل وبين الفعل ُ‬
‫يكون الفاصل من ثم هو ما ّ‬
‫يكون معيار ًا لما ال يقاس و ُيتو ّقع في ر ّدة األفعال‪ ،‬بل على العكس من‬
‫ذلك ‪ -‬عندما يتوضع فعل ما في نقطة من نقاط الكون ‪ -‬سيجد ر ّدة الفعل‬
‫المناسبة في نقطة أخرى غير محددة مهما ب ُعدت ("في الحياة يجب إيجاد‬
‫اإلجابة على الموضوع المعا َلج‪ ،‬أي ناتج ماليين األحداث المتعلقة بهذا‬
‫الموضوع")‪ .‬إن أصالة نظرية فيرتوف حول الفاصل تكمن في أنه لم يعد‬
‫مرتبط ًا بفجوة فاغرة أو بمسافة قائمة بين صورتين متعاقبتين‪ ،‬بل على‬
‫العكس تكمن في ترابط بين صورتين نائيتين (ال تقاسان من منظور‬
‫إدراكنا البشري)‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬قد تعجز السينما عن أن تجري هكذا‬
‫‪164‬‬
‫إن لم تجد عنصر ًا يستطيع أن ّ‬
‫يقرب‬ ‫من طرف العالم إلى طرفه اآلخر؛ ْ‬
‫أجزاء العالم جميعها‪ :‬ما استخلصه فيرتوف من الروح‪ ،‬أي قدرة كل ّية من‬
‫الكليات على التشكّل المستمر‪ ،‬سينتقل اآلن إلى ترابط المادة وتغ ّيراتها‬
‫وتفاعالتها‪ .‬ذك أن التنظيم الماكيني لألشياء وللصور بذاتها يرتبط بتنظيم‬
‫اإلفصاح الجمعي‪ .‬في السينما الصامتة من قبل كان فيرتوف يتعامل مع‬
‫العنوان الداخلي بطريقة مبتكرة تشكّل الكلمة فيها كتلة مع الصورة أي‬
‫نوع ًا من األيديولوغراما(‪ .((1‬هذان هما الجانبان األساسيان للتنظيم‪ :‬أي‬
‫أن اآللة التي تلتقط الصور ال تنفصل عن أنواع الطروحات وال تنفصل‬
‫عن التعبير السينمائي الخاص‪ .‬يتع ّلق األمر طبع ًا‪ ،‬عند فيرتوف بالوعي‬
‫الثوري السوفيتي وبـ "التفسير الشيوعي للواقع"‪ .‬فهو الذي يجمع بين‬
‫إنسان المستقبل وبين العالم الذي سبق ظهور اإلنسان‪ ،‬وبين اإلنسان‬
‫الشيوعي وبين عالم التفاعالت المادي المعروف بأنه "جماعة" (أو فعل‬
‫متبادل بين الفاعل والمفعول) (‪ .((1‬إن فيلم الجزء السادس من العالم ُيظهر‪،‬‬
‫داخل االتحاد السوفيتي‪ ،‬التفاعالت التي تتم عن بعد بين شتّى الشعوب‬
‫والقطعان والصناعات والثقافات والتبادالت التي بدأت تقهر الزمن‪.‬‬

‫كانت آنيت ميكلسون مح ّقة عندما قالت عن فيلم رجل الكاميرا‬


‫بأنه يم ّثل تطور ًا لدى فيرتوف‪ ،‬كما لو أن هذا األخير قد اكتشف أيض ًا‬
‫مفهوم ًا أكمل عن التنظيم‪ .‬ذلك أن مفهومه السابق لم يبارح الصورة‪/‬‬
‫الحركة‪ ،‬أي الصورة المؤلفة من فوتوغرامات‪ ،‬والصورة المتوسطة‬

‫(‪ ((1‬انظر‪Nikolaĭ Pavlovitch Abramov, Dziga Vertov, Premier plan, :‬‬


‫‪traduire par Barthélemy Amengual ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), pp. 40-42.‬‬
‫(‪ ((1‬انظر تعريف مقولة «اجلامعة» عند َكنْت‪ ،‬يف كتابه‪.Critique de la raison :‬‬
‫‪165‬‬
‫المزودة بحركة‪ .‬إذ ًا هناك أيض ًا صورة تتناسب مع اإلدراك البشري‪ ،‬أ ّي ًا‬
‫كانت المعالجة التي يجريها لها المونتاج‪ .‬ولكن ما الذي يحدث إذا‬
‫فلحة‬ ‫تسلسل المونتاج إلى مكونات الصورة؟ ننتقل من صورة لمرأة ّ‬
‫إلى سلسلة من فوتوغراماتها‪ ،‬أو أننا ننطلق من سلسلة فوتوغرامية‬
‫ألطفال لنصل إلى صور لهؤالء األطفال وهم يتحركون‪ .‬وإذا وسعنا‬
‫واج ْهنا صور ًة لراكب دراجة هوائية في ذورة سرعته‪ ،‬بالصورة‬
‫العملية‪َ ،‬‬
‫نفسها التي التقطت من جديد وانعكست و ُعرضت على شاشة‪ .‬إن فيلم‬
‫رينيه كلير باريس النائمة )‪ (Paris qui dort‬كان له تأثير كبير في فيرتوف‪:‬‬
‫ذلك أنه جمع بين عالم إنساني وبين غياب اإلنسان‪ .‬وهذا يعني أن شعاع‬
‫جمد الحركة وقطع الطريق‬ ‫ِ‬
‫العالم المجنون (أو المخرج السينمائي) قد ّ‬
‫على الفعل ليحرره كما يحدث في "تفريغ شحنة كهربائية"‪ .‬المدينة‬
‫المقفرة‪ ،‬المدينة الغائبة عن ذاتها‪ ،‬لن تكف عن االستحواذ على السينما‪،‬‬
‫بسر‪ .‬وهذا السر هو معنى جديد لفكرة الفاصل التي‬ ‫كما لو أنها تحتفظ ّ‬
‫تشير اآلن إلى النقطة التي تتوقف الحركة عندها‪ ،‬وبتوقفها ستتمكن من‬
‫أن تنعكس وتتسارع وتبطئ‪ ...‬لم يعد يكفينا أن نعكس الحركة بكل‬
‫متذرع ًا بالتفاعل عندما كان ينتقل من‬
‫ّ‬ ‫بساطة‪ ،‬كما كان يفعل فيرتوف‬
‫اللحم الميت إلى اللحم الحي‪ .‬ينبغي الوصول إلى نقطة تجعل عكس‬
‫الحركة أو تعديلها ممكن ًا(‪ .((1‬فعند فيرتوف ليس الفوتوغرام مجرد عودة‬

‫(‪Annette Michelson, «L’homme à la caméra, de la magie à ((1‬‬


‫‪l’épistémologie,» dans: Dominique Noguez, Cinéma, théorie, lectures‬‬
‫‪(Paris: Klincksieck, [s. d.]),‬‬
‫حللت يف هذا املقال املواضيع التالية مجيعها‪ :‬التعمق يف نظرية الفاصل‬
‫ْ‬ ‫لقد‬
‫والعكس‪ ،‬وموضوع املدينة النائمة‪ ،‬ودور الفوتوغرام عند فريتوف (واملقاربة التي‬
‫أجرهتا مع رينيه كلري)‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫إلى الصورة الضوئية‪ :‬فإذا ما انتمى إلى السينما‪ ،‬فألنه عنصر الصورة‬
‫التكويني‪ ،‬أو عنصر الحركة التفاضلي‪ .‬فهو ال "ينهي" الحركة من دون‬
‫أن يكون أيض ًا مبدأ تسارعها وتباطؤها وتغ ّيرها‪ .‬إنه االهتزاز والتحريض‬
‫األولي اللذان تتألف منهما الحركة في كل لحظة‪ ،‬إنه اكتما ل �‪(clina‬‬
‫)‪ men‬المادية بحسب الفيلسوف اإلغريقي أبيقور‪ .‬كذلك فإن الفوتوغرام‬
‫ال ينفصل عن السلسلة التي تجعله يهتز‪ ،‬نظر ًا إلى الحركة التي ّ‬
‫تشتق عنه‪.‬‬
‫وتوجهت نحو إدراك آخر‪ ،‬فذلك‬ ‫ّ‬ ‫وإذا تجاوزت السينما اإلدراك البشري‬
‫يعني أنها بلغت العنصر التكويني لكل إدراك ممكن‪ ،‬أي أنها بلغت‬
‫النقطة المتغيرة التي تغ ّير اإلدراك‪ ،‬والعنصر التفاضلي لإلدراك بالذات‪.‬‬
‫لقد حقق فيرتوف إذن األوجه الثالثة التي ال تنفصل عن التجاوز ذاته‪:‬‬
‫وصوال إلى المونتاج‪ ،‬وتجاوز الحركة وصوالً إلى‬
‫ً‬ ‫أي تجاوز الكاميرا‬
‫الفاصل‪ ،‬وتجاوز الصورة وصوالً إلى الفوتوغرام‪.‬‬

‫كون عن المونتاج مفهوم ًا‬


‫باعتبار فيرتوف سينمائي ًا سوفيتي ًا‪ ،‬فإنه ّ‬
‫جدلي ًا‪ .‬ولكن يبدو أن المونتاج الجدلي هو مكان للمواجهة والمعارضة‬
‫أكثر مما هو همزة وصل‪ .‬وإذا ما شجب إيزنشتاين "التهريجات‬
‫المخرجين ليس لهما بالتأكيد نفس‬
‫َ‬ ‫الشكالنية" لدى فيرتوف‪ ،‬فألن‬
‫المفهوم ونفس التطبيق للجدلية‪ .‬بالنسبة إليزنشتاين ال توجد جدلية‬
‫إال نابعة من اإلنسان والطبيعة‪ ،‬من اإلنسان في الطبيعة‪ ،‬ومن الطبيعة في‬
‫اإلنسان‪ ،‬من "الطبيعة الالحيادية" ومن اإلنسان الالمنفصل‪ .‬أما فيرتوف‬
‫فيرى أن الجدلية تكمن في المادة وهي منها‪ ،‬وال تستطيع أن تجمع إال‬
‫بين إدراك ال إنساني وبين اإلنسان المتفوق في المستقبل‪ ،‬أي الجماعة‬
‫المادية والشيوعية الشكلية‪ .‬ويمكننا بيسر أن نستخلص التباينات التي‬

‫‪167‬‬
‫تفرق بين فيرتوف من جهة وبين المدرسة الفرنسية من جهة أخرى‪ .‬إذا‬ ‫ّ‬
‫نظرنا في القواسم المشتركة بينهما‪ ،‬أي إلى المونتاج الكمي والمتسارع‬
‫والمتباطئ وإلى الطباعة الفوقية أو حتى التجميد‪ ،‬لبدا لنا أن هذه الطرق‬
‫تنم قبل كل شيء عن قوة روحية للسينما وعن وجه روحي‬ ‫عند الفرنسيين ّ‬
‫"للقطة"‪ :‬فبالروح يتجاوز اإلنسان حدود اإلدراك‪ ،‬وكما قال غانس‪ ،‬إن‬
‫الطباعات الفوقية هي صور لعواطف وأفكار "تعلو" بها الروح الجسد‬
‫و"تسبقه"‪ .‬ولكن فيرتوف استخدم هذه الطرق بشكل متباين‪ ،‬إذ رأى أن‬
‫الصورة الفوقية تع ّبر عن التفاعل بين عدد من النقاط المادية المتباعدة‪،‬‬
‫أما التسارع أو التباطؤ فيعبران عن تفاضلية الحركة الفيزيائية‪ .‬ولكننا‬
‫ال نمسك ربما بالتباين الجذري انطالق ًا من هذه الزاوية‪ .‬إذ يبرز عندما‬
‫نعود إلى األسباب التي دفعت الفرنسيين إلى تفضيل الصورة السائلة‪:‬‬
‫فهنا يتجاوز اإلدراك البشري حدوده الخاصة‪ ،‬وهنا تكشف الحركة عن‬
‫التمامية الروحية التي تعبر عنها‪ .‬أما عند فيرتوف فتبقى الصورة السائلة‬
‫غير كافية وال تصل إلى كنه المادة‪ .‬يجب على المادة أن تتجاوز ذاتها‪،‬‬
‫يعج بالطاقة‪ .‬الصورة السينمائية ال ترتبط‬
‫ولكن لترقى إلى عنصر مادي ّ‬
‫إذ ًا بـ " َ‬
‫الر ْيم"‪ ،‬وإنما بـ "العنصر" و"الترسيخ" والفوتوغرام‪ .‬وهي عالمة‬
‫غازي‪ ،‬ال عن إدراك‬
‫ّ‬ ‫والدتها‪ .‬وفي المحصلة‪ ،‬ال بدّ من التكلم عن إدراك‬
‫حرة في تنقلها‬‫سائل‪ .‬فإذا انطلقنا من حالة جامدة ال تكون فيها الجزئيات ّ‬
‫تتجول‬
‫(في اإلدراك الكتلوي أو البشري)‪ ،‬النتقلنا من ثم إلى حالة سائلة ّ‬
‫فيها الجزيئات ويندمج بعضها في بعض‪ ،‬ولكننا نصل أخير ًا إلى حالة‬
‫الحر لكل جزيء‪ .‬لعلنا اضطررنا إلى التوغل‬ ‫ّ‬ ‫غاز ّية يحددها المسار‬
‫بحسب فيرتوف إلى كنه المادة وإلى اإلدراك الغازي الذي يتجاوز التد ّفق‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫في األحوال كلها‪ ،‬ستذهب السينما التجريبية األميركية أبعد من‬
‫ذلك‪ ،‬وألنها قطعت الصلة بالغنائية المائية للمدرسة الفرنسية‪ ،‬فستعترف‬
‫التوصل إلى إدراك‬
‫ّ‬ ‫بتأثير فيرتوف في ح ّيز كامل من هذه السينما‪ ،‬يجب‬
‫محض‪ ،‬كما هو في األشياء أو في المادة‪ ،‬بحيث يغطي التفاعالت‬
‫الجزيئية‪ .‬لقد استكشف ستانلي براكاج )‪ (Stanley Brakhage‬عالم ًا‬
‫سيزاني ًا سبق ظهور البشر‪ ،‬وفجر ذواتنا‪ ،‬بتصويره جميع المشاهد‬
‫الخضراء التي شاهدها طفل في أحد المروج(‪ .((2‬وأفقد ميكائيل سنو‬
‫وصور التفاعل الشامل للصور‬ ‫ّ‬ ‫)‪ (Michael Snow‬الكاميرا كل مركز‪،‬‬
‫صور وجوهها كافة وأجزاءها كلها (كما في فيلم‬ ‫التي تتبدل في ما بينها‪ّ ،‬‬
‫المنطقة المركزية)(‪ .((2‬أما جوردان بيلسون )‪ (Jordan Belson‬وكين‬
‫الملونة‬
‫ّ‬ ‫جاكوبس )‪ (Ken Jacobs‬فقد انطلقا من األشكال والحركات‬
‫إلى القوى الجزيئية أو الذرية (كما في فيلمي ظاهرة وآنذاك)‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫إذا ما كان هناك من ثابت في هذه السينما‪ ،‬فإنه فع ً‬
‫ال بناء حالة غاز ّية‬

‫‪Louis Marcorelles, Eléments pour un nouveau cinéma‬‬ ‫(‪ ((2‬انظر‪:‬‬


‫‪(Paris: Unesco, [s. d.]):‬‬
‫ «كم من األلوان توجد يف حقل حيبو فيه الطفل الذي ال يعي اللون األخرض؟»‪.‬‬
‫وتضع‬‫يصور سنو «مشهد ًا فقد إنسانيته» وانعدم فيه كل وجود إنساين‪ُ ،‬‬‫ّ‬ ‫(‪((2‬‬
‫حيرر العني من‬
‫ّ‬ ‫وبذلك‬ ‫باستمرار‪.‬‬ ‫والزوايا‬ ‫احلركات‬ ‫ل‬ ‫تعدّ‬ ‫أوتوماتيكية‬ ‫آللة‬ ‫الكامريا‬
‫رشط مجودها النسبي وتبعيتها لعدد من اإلحداثيات‪ .‬انظر‪Cahiers du cinéma, n :‬‬
‫‪o‬‬

‫‪296 (Janvier, 1979),‬‬


‫توج َه الكامريا وعندما تضبط الصوت‪،‬‬ ‫حتر ُك اآلل ُة ّ‬
‫ماري كريستني‪« :‬عندما ّ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ عىل الرؤية اجلبهية للمنظور‪ .‬فتبقى أحادية العني‪ ،‬ولكننا نتكلم هنا‬ ‫ال تتمركز‬
‫عن عني فارغة وشديدة احلركة»‪.‬‬
‫ّ‬
‫اخلط‪ ،‬وكان أحد ممثيل املدرسة التعبريية‬ ‫(*) اعتمد التنقيط يف لوحاته بدل‬
‫الفرنسية يف التصوير (املرتجم)‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫لإلدراك‪ ،‬بوسائل شتى‪ .‬يكون المونتاج وامض ًا عندما يتحرر الفوتوغرام‬
‫من الصورة المتوسطة وعندما يتجاوز اهتزازه الحركة (ونجمت عن‬
‫ذلك فكرة "الفوتوغرام‪ /‬اللقطة" الذي تحدده طريقة العقدة حيث تتكرر‬
‫سلسلة من الفوتوغرامات‪ ،‬مع فواصل ممكنة تتيح الطباعة الفوقية)‪ .‬ويتم‬
‫المونتاج الفائق السرعة بإطالق نقطة االنعكاس أو التبديل (ألن تثبيت‬
‫فيتحرك الفوتوغرام كما لو‬
‫ّ‬ ‫الصورة يرتبط بحركية الحامل القصوى‪،‬‬
‫كان هو العنصر التفاضلي وو ّلد اللمعان والسرعة)‪ .‬وتتم إعادة التصوير‬
‫والتسجيل بتحرير كُنه المادة (ألن إعادة التصوير تؤدي إلى تسطيح‬
‫(*)‬
‫المكان الذي يتناسج بشكل تنقيطي كما في لوحات جورج بيير سورا‬
‫)‪ ، (Georges-Pierre Seura‬بما يتيح التقاط التفاعل بين نقطتين)(‪.((2‬‬
‫لجميع هذه االعتبارات‪ ،‬ليس الفوتوغرام عودة إلى التصوير الضوئي‪،‬‬
‫ولكنه‪ ،‬طبق ًا لعبارة برغسون‪ ،‬االستحواذ ّ‬
‫الخلق لهذه الصورة "الملتقطة‬
‫والمسحوبة داخل األشياء ولكل نقاط المكان"‪ .‬ومن الفوتوغرام إلى‬
‫الفيديو نشهد بصورة متزايدة تأليف صورة تحددها المعايير الجزيئية‪.‬‬

‫تتواطأ هذه الطرق جميعها وتتغ ّير لتخلق سينما تكون ترتيب ًا آلي ًا‬
‫للصور‪ /‬المادة‪ .‬المهم أن نعرف ما هو الترتيب المناسب للتعبير‪ ،‬ألن‬
‫إجابة فيرتوف (في المجتمع الشيوعي)‪ ،‬قد فقدت معناها‪ .‬هل يمكن‬

‫‪P. A. Sitney, “Le film structurel,” dans: Noguez, Cinéma,‬‬ ‫(‪ ((2‬إن مقالة‪:‬‬
‫‪théorie, lectures,‬‬
‫حت ّلل هذه املالمح مجيعها مستندة إىل أهم خمرجي السينام التجريبية األمريكية‪:‬‬
‫وال س ّيام تشكيل «اللقطة‪ /‬الفوتوغرام» والعقدة؛ ونرى ذلك يف الوميض عند‬
‫ماركوبولوس )‪ (Markopoulos‬وكونراد )‪ (Conrad‬وشاريتس )‪(Sharits‬؛ ويف‬
‫الرسعة عند روبرت برير )‪ ،(Robert Breer‬ويف التصوير احلبيبي عند جيهر )‪(Gehr‬‬
‫وجاكوبس )‪ (Jacobs‬والندوف )‪.(Landow‬‬
‫‪170‬‬
‫أن تكون اإلجابة‪ :‬المخدرات التي تم ّثل المجتمع األميركي؟ ولكن‬
‫إذا كانت المخدرات تلعب دور ًا في هذا الصدد‪ ،‬فال يتحقق ذلك إال‬
‫تتوخاه والذي يستطيع أن يتم بوسائل مختلفة‬ ‫بالتجريب اإلدراكي الذي ّ‬
‫كلي ًا‪ .‬الحقيقة أننا لن نستطيع أن نطرح مسألة التعبير‪ ،‬إال عندما نقدر على‬
‫تحليل الصورة الصوتية بذاتها‪ .‬إذا أخذنا ببرنامج كاستنيدا )‪(Castaneda‬‬
‫التمهيدي‪ ،‬يفترض في المخدرات أن تجعل العالم يتوقف‪ ،‬وأن تطلق‬
‫إدراك "العمل"‪ ،‬أي أن تُستبدل اإلدراكات الحسية ‪ -‬الحركية بإدراكات‬
‫بصرية وصوتية بحتة؛ أي أن تُظهر الفواصل الجزيئية والفجوات داخل‬
‫األصوات واألشكال وحتى داخل الماء؛ وأن ترسم خطوط السرعة في‬
‫المجمد ومن خالل الفجوات الموجودة في العالم(‪ .((2‬هذا‬ ‫َّ‬ ‫هذا العالم‬
‫هو برنامج الوضع الثالث للصورة‪ ،‬للصورة الغاز ّية‪ ،‬التي تتجاوز الجامد‬
‫إدراك "آخر"‪ ،‬هو العنصر التكويني لكل‬ ‫ٍ‬ ‫التوصل إلى‬ ‫والسائل‪ :‬أي‬
‫ّ‬
‫إدراك‪ .‬إن اإلدراك‪ /‬الكاميرا ال يرقى إلى تحديد شكلي أو مادي‪ ،‬بل‬
‫إلى تحديد تكويني وتفاضلي‪ .‬لقد انتقلنا من تحديد واقعي إلى تحديد‬
‫تكويني لإلدراك‪.‬‬

‫إن فيلم ‪ Bardo Follies‬للمخرج الندوف يختزل في هذا المقام‬


‫الغازي‪" :‬يبدأ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويلخص انتقال الوضع السائل إلى الوضع‬ ‫مجمل العملية‬
‫الفيلم بصورة مطبوعة بشكل حلقي المرأة تسبح فوق دوالب نجاة‬
‫وتس ّلم علينا كلما تدور الحلقة دورة كاملة‪ .‬وبعد عشر دقائق تقريب ًا‬
‫(هناك نسخة أقصر)‪ ،‬تظهر الحلقة نفسها مرتين داخل دائرتين لهما‬
‫خلفية سوداء‪ .‬ثم تظهر ثالث دوائر بعد لحظة‪ .‬تأخذ صورة الفيلم في‬
‫الحلقات باالشتعال‪ ،‬فتحدث انتشار ًا لعفونة تغلي ويغلب عليها اللون‬

‫(‪ ((2‬انظر ‪ ، Castaneda‬وانظر أيض ًا ‪.Gallimard‬‬

‫‪171‬‬
‫البرتقالي‪ .‬فتمتلئ الشاشة كلها بالفوتوغرام المشتعل الذي يتحول‬
‫بالحبيبات‪ .‬ويوجد فوتوغرام آخر‬ ‫ُ‬ ‫تدريجي ًا إلى شيء ضبابي مليء‬
‫يحترق؛ وتهتز الشاشة كلها بالسيلولويد الذائب‪ .‬لقد تم الحصول على‬
‫هذه النتيجة على األرجح بسلسلة من عمليات التصوير على الشاشة‪،‬‬
‫والمحصلة أن الشاشة نفسها هي التي تبدو وكأنها تهتز وتشتعل‪ .‬يحا َفظ‬
‫ّ‬
‫على توتر الحلقة التي فقدت تزامنها‪ ،‬طيلة هذا المقطع الذي يبدو فيه‬
‫شريط الفيلم وكأنه يموت‪ .‬وبعد مدة طويلة تتحول الشاشة إلى فقاعات‬
‫ملونة‪ ،‬يختلف لونها بين ضلع‬‫هوائية في الماء ُص ّورت بمنظار له فالتر ّ‬
‫وآخر من الشاشة‪ .‬وعندما تُبدَّ ل مسافة التبئير‪ ،‬تفقد الفقاعات شكلها‬
‫وتنحل متداخلة وتمتزج الفالتر الملونة ببعضها‪ .‬وفي النهاية‪ ،‬أي بعد‬ ‫ّ‬
‫الحلقة األولى بأربعين دقيقة تقريب ًا‪ ،‬تصبح الشاشة بيضاء"(‪.((2‬‬

‫(‪P. A. Sitney, “Le film structurel,” dans: Noguez, Cinéma, théorie, ((2‬‬
‫‪lectures, p. 348.‬‬

‫‪172‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬
‫ال�صورة‪ /‬االنفعال العاطفي‬
‫الوجه وال�صورة امل�ضخّ مة‬

‫‪)1‬‬

‫إن الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي هي الصورة المضخّ مة‪ ،‬والصورة‬


‫ّ‬
‫المضخمة‬ ‫المضخّ مة هي الوجه‪ ...‬اقترح إيزنشتاين بأال تكون الصورة‬
‫صورة عادية فقط‪ ،‬بل بأن تقدّ م قراءة انفعالية عاطفية للفيلم كله‪ .‬وهذا‬
‫يصح بالنسبة للصورة‪ /‬االنفعال العاطفي‪ :‬فهي نوع من الصور وأحد‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مكونات الصور جميعها في آن واحد‪ .‬ومع ذلك لم ينته كالمنا‪ .‬فبأي‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫المضخمة مع الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي برمتها؟‬ ‫معنى تتطابق الصورة‬
‫ّ‬
‫المضخمة‪ ،‬طالما أن هذه اللقطة تقوم‬ ‫ولماذا يتطابق الوجه مع الصورة‬
‫فقط ‪ -‬على ما يبدو ‪ -‬بتكبير الوجه والعديد من األشياء األخرى؟ وكيف‬
‫المضخم أقطاب ًا قادرة على إرشادنا في‬
‫ّ‬ ‫نستطيع أن نستخلص من الوجه‬
‫تحليل الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي؟‬

‫لننطلق من مثال ال ينطبق بالضبط على الوجه‪ :‬ساعة جدارية‬


‫ال قطبان‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مضخمة عدة مرات‪ .‬مثل هذه الصورة لها فع ً‬ ‫تؤخذ لها صورة‬
‫فمن جهة لها عقربان تحرضهما حركات ميكروية احتمالية على األقل‪،‬‬
‫‪173‬‬
‫حتى ولو ُعرضت لنا مرة واحدة‪ ،‬أو مرات عديدة بفواصل طويلة‪ :‬يدخل‬
‫تسجل تصاعد ًا نحو‪ ،...‬أو تتأهب‬ ‫العقربان بالضرورة في سلسلة مكثفة ّ‬
‫تحضر لذروة‪ .‬من جهة ثانية‪ ،‬لها مينا يشبه سطح ًا‬
‫للحظة حرجة‪ ،‬أو أنها ّ‬
‫تقبلي ًا ساكن ًا‪ ،‬وهو كناية عن لوحة تقبلية للتسجيل وعن ترقب ساكن‪ :‬إنها‬
‫وحدة عاكسة ومنعكسة‪.‬‬

‫إن التعريف البرغسوني للتأ ّثر يحتفظ تمام ًا بهاتين السمتين‪ :‬نزوع‬
‫حركي على عصب حساس‪ .‬وبكالم آخر‪ ،‬هما سلسلة من الحركات‬
‫الميكروية قائمة على لوحة عصبية تق ّيد الحركات‪ .‬حين اضطر جزء من‬
‫بجل حركته كي يصبح ركيزة ألعضاء االستقبال‪،‬‬ ‫الجسم إلى التضحية ّ‬
‫فإن هذه األعضاء ال تمتلك من بعد إال نزعات إلى الحركة أو إلى‬
‫حركات ميكروية قادرة‪ ،‬بالنسبة إلى عضو بذاته‪ ،‬أو إلى عضو يتفاعل مع‬
‫المتحرك حركته‬
‫ّ‬ ‫عضو آخر‪ ،‬على الدخول في سالسل مك ّثفة‪ .‬لقد فقد‬
‫االمتدادية‪ ،‬وأصبحت الحركة حركة تعبير‪ .‬فهذا المجموع المؤ ّلف من‬
‫وحدة عاكسة ساكنة ومن حركات كثيقة مع ّبرة هو الذي يشكل التأثر‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬أليس الوجه بذاته هو كذلك؟ الوجه هو هذه اللوحة العصبية‬
‫ضحت بجوهر حركيتها الشاملة‪ ،‬والتي‬
‫التي تحمل أعضا ًء أخرى والتي ّ‬
‫تستجمع أو تعبر في الهواء الطلق عن شتى الحركات الصغرى المحلية‬
‫التي يتركها باقي الجسم مخف ّية بالعادة‪ .‬وفي كل مرة نكتشف في شيء‬
‫ما هذين القطبين ‪ -‬أي السطح العاكس والحركات الميكروية الكثيفة ‪-‬‬
‫وج َه" أو باألحرى " ُس ّلط‬
‫نستطيع القول‪ :‬عومل هذا الشيء كوجه‪ ،‬لقد " ِّ‬
‫وجهنا عليه"‪ ،‬فحدجنا بدوره وتط ّلع إلينا‪ ...‬حتى إذا كان هذا الشيء‬
‫ّ‬
‫المضخمة لساعة الحائط بالنسبة‬ ‫ال يشبه وجه ًا‪ .‬هكذا تكون الصورة‬

‫‪174‬‬
‫للوجه ذاته‪ ،‬لن نقول إن الصورة المضخمة تعامله بطريقة ما وتخضعه‬
‫ّ‬
‫مضخمة‪ ،‬ألن الوجه بذاته هو لقطة‬ ‫لمعالجة ما‪ :‬ال توجد لقطة وجهية‬
‫ّ‬
‫المضخمة هي بذاتها وجه‪ ،‬وكلتاهما تشكّالن‬ ‫ّ‬
‫مضخمة‪ ،‬وألن اللقطة‬
‫التأثر والصورة‪ /‬التأثير العاطفي‪.‬‬

‫عودتنا تقنيات الصورة على قطبي الوجه هذين‪.‬‬ ‫في فن الرسم‪ّ ،‬‬
‫خط محيط يرسم األنف والفم‬ ‫فتارة يتناول الرسام الوجه كاستدارة لها ّ‬
‫وأطراف األجفان‪ ،‬وحتى اللحية والقلنسوة‪ :‬فهي مساحة لتشكيل الوجه‪.‬‬
‫وطور ًا‪ ،‬يرسم على العكس من ذلك‪ ،‬خطوط ًا مبعثرة مأخوذة من كتلة‪،‬‬
‫ومكسرة تشير هنا إلى اختالج الشفتين وبريق البصر‬
‫ّ‬ ‫خطوط ًا مجزوءة‬
‫وتؤ ّدي إلى مادة عص ّية نوع ًا ما على االستدارة‪ :‬إنها خطوط خاصة‬
‫بالوجهية(((‪ .‬وليس من قبيل الصدفة أن يظهر التأ ّثر بملمحين من مالمح‬
‫المفاهيم الكبرى للشغف الذي تحفل به الفلسفة والرسم في ٍ‬
‫آن واحد‪،‬‬
‫ويسجل‬
‫ّ‬ ‫وهذا ما يسميه ديكارت ولي بران )‪ (Le Brun‬بـ "اإلعجاب"‬
‫حدّ ًا أدنى من الحركة لحدّ أعظمي من الوحدة العاكسة والمنعكسة‬
‫على الوجه؛ وهذا ما نسميه "رغبة"‪ ،‬فهي ال تنفصل عن اإلغراءات‬
‫والتحريضات الصغرى التي تؤ ّلف سلسلة مك ّثفة يع ّبر عنها الوجه‪ .‬ليس‬
‫مهم ًا جد ًا أن يعتبر بعضهم اإلعجاب كأصل للشغف في حين أن البعض‬
‫اآلخر يضع الرغبة أو القلق في المقام األول‪ ،‬ألن عدم الحركة بالذات‬
‫يفترض التحييد المتبادل للحركات الميكروية المناسبة‪ .‬فبدالً من التك ّلم‬

‫‪Heinrich Wölfflin, Principes‬‬ ‫((( بالنسبة لتقنيتي البورترية‪ ،‬انظر‪:‬‬


‫‪fondamentaux de l’histoire de l’art, traduit par Claire et Marcel Raymond‬‬
‫‪(Paris: Garllimard, [s. d.]), pp. 43- 44.‬‬

‫‪175‬‬
‫عن أصل حصري‪ ،‬يجب التك ّلم عن قطبين يتغ ّلب أحدهما أحيان ًا على‬
‫اآلخر ويظهر نقي ًا تقريب ًا‪ ،‬وأحيان ًا يختلط القطبان في هذا االتجاه أو ذاك‪.‬‬

‫أمام وجه من الوجوه‪ ،‬يتبادر نوعان من األسئلة تبع ًا للظروف‪:‬‬


‫تحس أو تشعر؟ تارة‬
‫ّ‬ ‫في ماذا تفكر؟ أو‪ :‬ما الذي دهاك‪ ،‬ما بك‪ ،‬بماذا‬
‫يفكّر الوجه في شيء‪ ،‬ويركّز على موضوع‪ ،‬وهذا هو معنى اإلعجاب أو‬
‫الدهشة الذي تحمله الكلمة اإلنجليزية )‪ (Wonder‬انشداه‪ .‬عندما يفكر‬
‫الوجه في شيء‪ ،‬يفكر أساس ًا في استدارته المحيطة‪ ،‬وفي وحدته العاكسة‬
‫التي ترفع إليها األجزاء جميعها‪ .‬فعلى العكس‪ ،‬يعاني الوجه من شيء‬
‫ٍ‬
‫حينئذ تتج ّلى قيمته في السلسلة المك ّثفة التي تبلغها‬ ‫ويشعر به أحيان ًا‪،‬‬
‫أجزاؤه تباع ًا لتصل إلى ذروتها‪ ،‬فيأخذ كل جزء نوع ًا من االستقاللية‬
‫ّ‬
‫المضخمة‪ُ ،‬مهر أحدهما‬ ‫نتعرف على نوعين من الصور‬ ‫المؤ ّقتة‪ .‬هنا ّ‬
‫ّ‬
‫المضخمة‬ ‫باسم غريفيث‪ ،‬واآلخر باسم إيزنشتاين‪ .‬شهيرة هي الصور‬
‫التي أنجزها غريفيث ون ّظم فيها كل شيء بحيث تُركّز االستدارة الصافية‬
‫واللطيفة على وجه نسائي (وال س ّيما عندما تبرز حدقة العين)‪ :‬امرأة‬
‫آردن‪ .‬ولكن الوجه الجميل ألحد‬‫شابة تفكّر في زوجها‪ ،‬في فيلم إينوخ ِ‬
‫الكهنة األرثوذوكس‪ ،‬في فيلم الخط العام إليزنشتاين‪ ،‬يتالشى لصالح‬
‫نظرة ماكرة تتماشى مع قفاه الضيق وشحمة أذنه الضخمة‪ :‬كأن المالمح‬
‫ونمت عن الضغينة التي يشعر بها‬
‫الوجهية قد أفلتت من االستدارة ّ‬
‫الكاهن‪.‬‬

‫لن يداخلنا االعتقاد بأن القطب األول يقتصر على المشاعر‬


‫الرقيقة‪ ،‬وأن القطب الثاني على األهواء السوداء‪ .‬سنتذكّر مث ً‬
‫ال أن ديكارت‬

‫‪176‬‬
‫اعتبر االحتقار كحالة خاصة من حاالت "اإلعجاب"(((‪ .‬فمن جهة نرى‬
‫أن هناك نوايا خبيثة عاكسة‪ ،‬وأن هناك أشياء مروعة وأشكاالً من اليأس‬
‫معكوسة‪ ،‬حتى عند النساء الشابات في أفالم غريفيث وستروهايم‪،‬‬
‫وخصوص ًا عندهن‪ .‬ومن جهة أخرى نجد أن هناك سالسل كثيفة يتج ّلى‬
‫فيها الحب والحنان‪ .‬وأكثر من ذلك‪ ،‬كل جانب منهما يجمع حاالت‬
‫يلم بوجه عديم‬‫وجوه هي نفسها متباينة‪ .‬يستطيع جانب االنشداه أن ّ‬
‫التأثر مستغرق في تفكير إجرامي ملغز؛ ولكنه يستطيع أيض ًا أن يستحوذ‬
‫على وجه يافع وفضولي تعتلج فيه حركات صغيرة بحيث تذوب وتتح ّيد‬
‫(كما في فيلم اإلمبراطورة الحمراء لسترينبرغ )‪(Strenberg‬؛ فعندما‬
‫لما‬
‫كانت صبية كانت تنظر في االتجاهات كافة وتُدهش لكل شيء‪ّ ،‬‬
‫تنوع ًا بحسب‬
‫اقتادها المندوبون الروس)‪ .‬أما الجانب اآلخر فليس أقل ّ‬
‫السالسل ذات الصلة‪.‬‬

‫ال نجد أنفسنا أمام وجه مك ّثف‪،‬‬


‫أين هو معيار التمايز إذ ًا؟ فع ً‬
‫كلما أفلتت المالمح من إطارها‪ ،‬وكلما راحت تعمل لحسابها وشكلت‬
‫سلسلة مستقلة تسعى إلى حدّ أو تجتاز عتبة‪ :‬سلسلة صعودية للغضب‬
‫المدرعة‬
‫ّ‬ ‫أو‪ ،‬كما قال إيزنشتاين‪" ،‬خط صاعد من الحزن" (كما في فيلم‬
‫بوتمكين)‪ .‬لذا فإن هذا الجانب السلسلي يتج ّلى بشكل أفضل من طريق‬

‫‪Descartes, Les passions de l’âme, p. 54:‬‬ ‫(((‬


‫ ‬
‫نعجب بضخامة اليشء‬‫َ‬ ‫«إىل اإلعجاب ينضاف التقدير أو االزدراء‪ ،‬حسبام‬
‫أو بصغره»‪ .‬حول مفهوم اإلعجاب‪ ،‬عند ديكارت والرسام يل بران‪ ،‬جيب الرجوع‬
‫إىل التحليل الرائع الذي قدّ مه هنري سوشون )‪ (Henri Souchon‬يف جملة ‪Etudes‬‬
‫‪philosophiques, I, 1980.‬‬

‫‪177‬‬
‫لس َل‬ ‫وجوه متزامنة أو متعاقبة عديدة‪ ،‬مع أن وجه ًا واحد ًا قد يكفي ْ‬
‫إن َس َ‬
‫أعضاءه ومالمحه المختلفة‪ .‬وهنا تكشف السلسلة المك ّثفة عن وظيفتها‪،‬‬
‫والتوصل إلى صفة جديدة‪ .‬إنتاج‬
‫ّ‬ ‫أي االنتقال من صفة إلى أخرى‪،‬‬
‫كيفية جديدة‪ ،‬إحداث قفزة نوعية‪ ،‬هذا ما ّ‬
‫توخاه إيزنشتاين من اللقطة‬
‫ّ‬
‫يستغل‬ ‫ّ‬
‫المضخمة‪ :‬ننتقل من الكاهن بصفته رجل الله إلى الكاهن الذي‬
‫الفالحين‪ ،‬ومن غضب البحارة إلى االنفجار الثوري‪ ،‬ومن الحجر‬
‫إلى الصرخة‪ ،‬كما في الوضعيات الثالث لألسود المرمرية ("وزأرت‬
‫الحجارة‪.)"...‬‬

‫على النقيض من ذلك‪ ،‬نحن أمام وجه تأ ّملي عاكس‪ ،‬ما دامت‬
‫مجمعة تحت سيطرة فكرة ثابتة أو رهيبة‪ ،‬ولكنها‬ ‫ّ‬ ‫خطوطه قد ظلت‬
‫ثابتة ومن دون صيرورة‪ ،‬فكرة خالدة نوع ًا ما‪ .‬في فيلم الزنبقة المح ّطمة‬
‫متحجر بدا حتى في الموت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المعذبة على وجه‬ ‫لغريفيث‪ ،‬تحافظ الفتاة‬
‫وكأنه يفكّر ويسأل لماذا‪ ،‬في حين أن الصيني العاشق‪ ،‬من جهته يحتفظ‬
‫على وجهه بسيماء الذهول الناجم عن تعاطيه األفيون‪ ،‬وبالتفكير في بوذا‪.‬‬
‫في هذه الحالة‪ ،‬صحيح أن الوجه الساهم يبدو وكأنه أقل إقدام ًا من الوجه‬
‫اآلخر‪ .‬ذلك أن العالقة بين الوجه وبين ما يفكّر فيه‪ ،‬هي عالقة اعتباطية‪.‬‬
‫أن تفكّر زوجة شابة عند غريفيث في زوجها‪ ،‬هو ما ال نستطيع أن نعرفه‬
‫إال ألننا نرى فور ًا بعد ذلك صورة الزوج‪ :‬كان يجب علينا االنتظار‪ ،‬وتبدو‬
‫العالقة هنا عالقة ترابطية‪ .‬قد يكون من المؤكد أن يقلب النظام وأن يبدأ‬
‫مقربة تدلنا على فكرة الوجه الوشيكة‪ :‬ففي فيلم لولو للمخرج‬
‫بلقطة ّ‬
‫تحضرنا اللقطة المك ّبرة للسكين للفكرة‬
‫األلماني جورج فيلهلم بابست‪ّ ،‬‬
‫‪178‬‬
‫باقر البطون (أو في فيلم القاتل يسكن في‬
‫الرهيبة التي تعتمل في رأس جاك ُ‬
‫الطابق ‪ (L’assassin habite au 21) 21‬للمخرج الفرنسي هنري جورج‬
‫كلوزو )‪ ،(Henri - Georges Clouzot‬وفيه تُفهمنا مجموعات تنتقل إلى‬
‫ثالثة أشياء أن البطلة بدأت تفكّر في الرقم ‪ 3‬كمفتاح للسر)‪ .‬ومع ذلك‬
‫ما زلنا بالتالي لم نصل إلى أغوار الوجه المنكب على التفكير‪ .‬ال ّ‬
‫شك‬
‫أن التفكير الذهني هو العملية التي بها نفكّر في شيء‪ ،‬ولكنها من الناحية‬
‫السينمائية تترافق مع تفكير أكثر جذرية يع ّبر عن صفة خالصة تشترك فيها‬
‫أشياء عديدة متباينة (شيء يحملها‪ ،‬جسم يعاني منها‪ ،‬فكرة تم ّثلها‪ ،‬وجه‬
‫يمتلك تلك الفكرة‪ .)...‬إن الوجوه الساهمة للنساء الشابات عند غريفيث‬
‫تستطيع أن تع ّبر عن البياض‪ ،‬بياض ندفة الثلج العالقة فوق هدب العين‪،‬‬
‫البياض الروحي لبراءة داخلية‪ ،‬البياض المتالشي من انحطاط أخالقي‪،‬‬
‫البياض العدائي الجارح للجليد الذي ستهيم فوقه البطلة (كما في فيلم عبر‬
‫العاصفة )‪ .)(Way down east‬وفي فيلم نساء عاشقات استطاع كين راسل‬
‫)‪ (Ken Rassel‬أن يستغل السمة المشتركة لوجه مقطب ولعقم داخلي‬
‫وبرودة موميائية‪ .‬باختصار‪ ،‬ال يكتفي الوجه الساهم بالتفكير في شيء ما‪.‬‬
‫وكما أن الوجه التكثيفي يع ّبر عن قوة خالصة‪ ،‬أي أنه يتحدد بسلسلة تنقلنا‬
‫مز ّية إلى أخرى‪ ،‬كذلك الوجه المفكر يع ّبر عن ِ‬
‫مز ّية خالصة‪ ،‬أي عن‬ ‫من ِ‬
‫"شيء" مشترك ألشياء عديدة ذات طبيعة مختلفة‪ .‬بنا ًء على ذلك‪ ،‬بوسعنا‬
‫مكون من قطبين‪:‬‬
‫رسم جدول ّ‬

‫‪179‬‬
‫ميل حركي‬ ‫حساس‬ ‫عصب ّ‬
‫حركات ميكروية مع ّبرة‬ ‫تتحرك‬
‫لوحة استقبال ال ّ‬
‫مالمح وجهية‬ ‫حواف محدّ دة للوجه‬
‫سلسلة مكثفة‬ ‫وحدة عاكسة‬
‫رغبة (حب‪ /‬ضغينة)‬ ‫إنشداه (إعجاب‪ ،‬ذهول)‬
‫قوة‬ ‫ِ‬
‫مز ّية‬
‫تعبير عن قوة تنتقل من مزية‬ ‫مز ّية مشتركة‬ ‫تعبير عن ِ‬
‫إلى أخرى‬
‫ألشياء عديدة متباينة‬

‫‪)2‬‬

‫إن فيلم لولو لبابست يظهر كيف يتم االنتقال من قطب آلخر‬
‫في لقطة قصيرة نسبي ًا‪ :‬في البداية يكون وجها جاك ولولو مسترخيين‬
‫وباسمين وحالمين ومنشدهين؛ بعد ذلك يلمح جاك السكين من خلف‬
‫كتف لولو ويدخل في خضم هلع متزايد ("الخوف يبلغ األوج‪ ...‬حدقتا‬
‫عينيه تتسعان أكثر فأكثر‪ ...‬يلهث الرجل من الهلع")؛ أخير ًا يسترخي‬
‫وجه جاك‪ ،‬ويرضى جاك بقدره ويفكر اآلن في الموت كصفة مشتركة‬
‫يقاوم ("نصل‬
‫لقناعه كقاتل‪ ،‬ولقابلية الضحية ونداء السكين الذي ال َ‬
‫السكين يلمع‪.((() "...‬‬

‫أجل‪ ،‬إن أحد هذين القطبين يتغ ّلب لدى هذا المخرج أو ذاك‪،‬‬
‫ولكن ذلك يتم دائم ًا بطريقة مع ّقدة ال نصدّ قها في البداية‪ .‬لقد كتب‬

‫‪G. W. Pabst, Pandora’s Box, Classic film scripts (London:‬‬ ‫((( انظر‪:‬‬
‫‪Lorrimer, [s. d.]), pp. 133-135.‬‬

‫‪180‬‬
‫نص ًا شهير ًا مطلعه‪ّ " :‬‬
‫غلية الماء التي بدأت‪( "..‬قال‪ :‬تتذكرون‬ ‫إيزنشتاين ّ‬
‫هنا عبارة لديكنز‪ ،‬وتتذكرون أيض ًا لقطة مك ّبرة لغريفيث عن ّ‬
‫الغلية‬
‫التي تنظر إلينا)(((‪ .‬في هذا النص يح ّلل اختالفه عن غريفيث من ناحية‬
‫اللقطة المك ّبرة أو الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي‪ .‬قال‪ :‬إن اللقطة المك ّبرة‬
‫المشاهدة لدى‬
‫َ‬ ‫عند غريفيث هي لقطة ذاتية فقط‪ ،‬أي أنها تتع ّلق بظروف‬
‫المشاهد‪ ،‬وأنها تبقى منفصلة أو استباقية‪ .‬في حين أن لقطاته المكبرة‪ ،‬أي‬
‫ُ‬
‫لقطات إيزنشتاين‪ ،‬هي ذائبة وموضوعية وجدلية‪ ،‬ألنها تنتج مزية جديدة‬
‫وتقوم بقفزة نوعية‪ .‬نستذكر على الفور ثنائية الوجه العاكس والوجه‬
‫فضل إيزنشتاين‬
‫فضل أحدهما‪ ،‬بينما ّ‬ ‫التكثيفي‪ ،‬وصحيح أن غريفيث ّ‬
‫اآلخر‪ .‬ومع ذلك يبقى تحليل إيزنشتاين شديد االختزال‪ ،‬أو باألحرى‬
‫متح ّيز ًا‪ .‬فعنده نجد أيض ًا وجوه ًا إحاطية قوية التفكير‪ :‬وجه القيصرة‬
‫أناستاسيا عندما شعرت بدنو أجلها؛ وجه ألكسندر نيفسكي الساهم‬
‫بامتياز‪ .‬وعند غريفيث خصوص ًا نجد سالسل تكثيفية‪ :‬فعلى وجه واحد‪،‬‬
‫وفي ذهول وهلع عام‪ ،‬نرى أن الحزن والخوف يصعدان ويشوبان شتّى‬
‫التقاطيع (كما في فيلمي قلوب العالم والزنبقة المح ّطمة)؛ ونرى ذلك‬
‫على وجوه عديدة عندما تأتي اللقطات المك ّبرة للمقاتلين لتخلق إيقاع‬
‫المعركة برمتها (كما في فيلم مولد ّأمة)‪.‬‬

‫صحيح أن هذه الوجوه المتباينة لدى غريفيث ال تتعاقب فور ًا‪،‬‬


‫ولكن لقطاتها المكبرة تتناوب مع لقطات المجموع‪ ،‬طبق ًا لبنية ثنائية‬

‫‪Sergei Eisenstein, Film form (New York: Meridian Books,‬‬ ‫((( انظر‪:‬‬
‫‪[s. d.]), pp. 195 sq.‬‬

‫‪181‬‬
‫عزيزة على قلبه (عام‪ /‬خاص‪ ،‬جماعي‪ /‬فردي)(((‪ .‬بهذا المعنى ال تقوم‬
‫ِجدّ ة إيزنشتاين على أنه ابتكر الوجه المكثف‪ ،‬وال على تأليفه السلسلة‬
‫التكثيفية باللجوء إلى وجوه عديدة وإلى لقطات مقربة عديدة؛ بل‬
‫ألنه استحدث سالسل تكثيفية مدمجة ومستمرة تتجاوز كل بنية ثنائية‬
‫بلغت باألحرى واقع ًا جديد ًا‬
‫ْ‬ ‫وتتخطى ثنائية الجماعي والفردي‪ .‬لقد‬
‫يمكن أن نسميه "الفردي المقسوم" الذي يو ّفق مباشرة بين التفكير‬
‫الجماعي الهائل وبين االنفعاالت الخاصة بكل فرد‪ ،‬ويع ّبر أخير ًا عن‬
‫وحدة القوة والنوعية‪.‬‬

‫يفضل باستمرار واحد ًا من هذين القطبين‪ :‬الوجه‬ ‫يبدو أن المخرج ّ‬


‫العاكس والوجه التكثيفي‪ ،‬ولكنه يتيح لنفسه االلتحاق بالقطب اآلخر‪.‬‬
‫في هذا الصدد‪ ،‬نريد أن نقيم وزن ًا لثنائي آخر؛ ثنائي التعبيرية والتجريد‬
‫الغنائي‪ .‬من المؤكّد أن التعبيرية ال تقل تجريد ًا عن الغنائية‪ .‬ولكن الطريق‬
‫إليهما ليس نفسه إطالق ًا‪ .‬فالتعبيرية هي في األساس المراوحة المك ّثفة‬
‫بين المضيء والمعتم وبين الديجور‪ .‬ومزيجهما يشبه تلك القوة التي‬
‫تُسقط األشخاص في الثقب األسود أو تصعدهم إلى النور‪ .‬وهذا المزيج‬
‫يشكّل سلسلة‪ ،‬إما أن تتعاقب فيه األخاديد والحزوز وإما أن تتك ّثف‬
‫فيه صعود ًا أو نزوالً جميع درجات الظل التي تصلح كألوان‪ .‬إن الوجه‬
‫التعبيري يركّز على السلسلة الكثيفة في ظل هذا الملمح أو ذاك اللذين‬
‫يخلخالن استدارة الوجه ويطيحان بقسماته‪ .‬وهكذا يشارك الوجه في‬

‫((( ‪Jacques Fieschi, “Griffith le précurseur,” Cinématographe, no 24‬‬


‫‪(Février 1977), p. 10.‬‬
‫‪ 24‬و ‪25‬‬ ‫(كرست هذه املجلة عددين من أعدادها للقطة املقربة‪ ،‬مها العددان‬
‫ّ‬ ‫ ‬
‫مع دراسات حول غريفيث وإيزنشتاين وسترينربغ وبرغامن)‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫الحياة الالعضوية لألشياء كقطب أول للتعبيرية‪ .‬فنرى وجه ًا مخدّ د ًا‬
‫محزز ًا سقط في شبكة ضاغطة نوع ًا ما‪ ،‬وصار أشبه بمشربية أو بنار أو‬
‫بأوراق شجر أو بشمس تخترق الغابة‪ .‬نرى وجه ًا ضبابي ًا مدخن ًا يحيط‬
‫به وشاح كثيف نوع ًا ما‪ .‬نرى وجه أتيال [ملك قبائل الهون] المدلهم‬
‫والمتغضن في فيلم النيبيلونغن لفريتز النغ‪ .‬ولكن في غمرة التركيز أو‬
‫ّ‬
‫في الحدّ األقصى من السلسلة‪ ،‬سيقال إن الوجه ُي َر ّد إلى النور الذي ال‬
‫ينقسم أو إلى الهالة البيضاء التي تحيط بشخصية كريميهيدلد(*) �‪(Kriem‬‬
‫)‪ .hilde‬يستعيد الوجه استدارته وينتقل إلى القطب اآلخر‪ ،‬أي إلى حياة‬
‫المحمرة التي‬
‫ّ‬ ‫الروح أو إلى الحياة الروحية غير النفسية‪ .‬إن االنعكاسات‬
‫رافقت سلسلة درجات الظل تجتمع وتشكّل هالة حول الوجه الذي‬
‫صار متألق ًا ومشع ًا والمع ًا ونوراني ًا‪ .‬ويخرج اللمعان من الظلمة‪ ،‬ويتم‬
‫االنتقال من التكثيف إلى االنعكاس‪ .‬صحيح أن هذه العملية يمكنها أن‬
‫تكون عملية الشيطان المتسربل بصورة حزينة لشيطان يعكس الظلمات‬
‫متأججة تشتعل فيها الحياة الالعضوية لألشياء (كما‬
‫داخل حلقة نارية ّ‬
‫نشاهد ذلك عند شيطان فيلم غولم لفيغينير أو فيلم فاوست لمورناو)‪.‬‬
‫ولكن هذه العملية قد تكون عملية إلهية عندما تعكس الروح ذاتها متخذة‬
‫شكل غريتشين )‪ (Gretchen‬التي تم إنقاذها بفضل أضحية عظيمة‪ ،‬إنها‬
‫هيولى أو فوتوغرام تشتعل بذاتها إلى األبد‪ ،‬بارتقائها إلى الحياة النورانية‬
‫الداخلية (هذا ما نراه عند مورناو أيض ًا وعند شخصية إ ِّلن في فيلم‬
‫نوسفيراتو‪ ،‬أو حتى عند شخصية إندريه في فيلم الشفق)‪.‬‬

‫وتسمى أيض ًا غودرون )‪ (Gudrún‬يف األساطري اجلرمان ّية‪ ،‬وهي أهم شخصية‬
‫ّ‬ ‫(*)‬
‫نسائية يف فيلم النيبيلونغن‪ :‬انتقام كرييمهيلد الذي أخرجه فريتز النغ عام ‪1924‬‬
‫(املرتجم)‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫ويعمل التجريد الغنائي عند ستيرنبرغ )‪ (Sternberg‬بطريقة‬
‫مغايرة‪ .‬ليس ستيرنبرغ أقل غوت ّية (نسبة إلى غوته) من التعبيريين‪،‬‬
‫ولكنه تأثر في جانب آخر بغوته‪ .‬إنه الجانب اآلخر من نظرية األلوان‪:‬‬
‫لم تعد هناك عالقة بين النور والظلمة‪ ،‬بل بينه وبين الشفاف والشفيف‬
‫واألبيض‪ .‬الكتاب المترجم إلى الفرنسية كان يحمل عنوان ذكريات‬
‫عارض للظالل )‪ ، (Souvenirs d’un montreur d’ombres‬في حين‬
‫أنه في الحقيقة دعابات في محل صيني لتنظيف الثياب ‪(Drôleries‬‬
‫)‪ .dans une blanchisserie chinoise‬كل شيء يحدث بين النور‬
‫واللون األبيض‪ .‬وتكمن عبقرية ستيرنبرغ في أنه أنجز العبارة الرائعة‬
‫لغوته الذي قال‪" :‬بين الشفافية والكمود األبيض‪ ،‬يوجد عدد ال يحصى‬
‫التشوش (‪ .)...‬نستطيع أن نطلق كلمة أبيض على اللمعان‬ ‫ّ‬ ‫من درجات‬
‫الكامد للشفاف الصافي"(((‪ .‬ذلك أن األبيض‪ ،‬بالنسبة لستيرنبرغ هو‬
‫الذي يقتطع أوالً حيز ًا مالئم ًا للون الساطع‪ .‬وفي هذا الحيز ت َّ‬
‫ُسجل لقطة‬
‫مقربة للوجه تعكس الضوء‪ .‬ينطلق ستيرنبرغ إذ ًا من الوجه االنعكاسي أو‬
‫ّ‬
‫الكيفي‪ .‬في فيلم اإلمبراطورة الحمراء نرى أوالً الوجه األبيض المشدوه‬
‫يسجل استدارته في الحيز الضيق المحتجز بين جدار أبيض‬ ‫للفتاة الذي ّ‬
‫والباب األبيض الذي أغلقته‪ .‬ولكن في ما بعد‪ ،‬بعد أن تلد ابنها‪ُ ،‬يحتجز‬
‫وجه المرأة الشابة بين أبيض الستارة وأبيض المخدة وشراشف السرير‬
‫الذي ترقد فوقه‪ ،‬وصوالً إلى الصورة المذهلة التي لم يعد الوجه يبدو‬
‫فيها إال كتطريز هندسي للستارة‪ .‬ذلك أن الحيز األبيض نفسه يحاط‬
‫منضدة تعطيه حجم ًا‪ ،‬أو تعطيه عمق ًا رقيق ًا‪ ،‬كما‬
‫ويكرر بستارة أو بشبكة ّ‬
‫َّ‬

‫((( ‪Johann Wolfgang Goethe, Théorie des couleurs (Paris: Edition‬‬


‫‪Triade, [s. d.]), p. 495.‬‬

‫‪184‬‬
‫ُيقال في علم المحيطات (أو في فن الرسم)‪ .‬إن سترينبرغ له إطالع واسع‬
‫وعملي على الكتان والتيل والموسلين والدانتيال‪ :‬ويستخلص منها كافة‬
‫مصادر البياض على البياض الذي في داخله يعكس النور‪ .‬بالنسبة لفيلم‬
‫سيرة أنْهاتان‪ ،‬الذي ح ّلل كلود أولييه فيه اختزال المكان بواسطة التجريد‪،‬‬
‫ال عملياتي ًا يدفعنا إلى‬
‫وضغط المكان بوسائل مصطنعة‪ ،‬مما يحدّ د حق ً‬
‫إلغاء العالم بأسره لنصل إلى وجه امرأة خالص(((‪ .‬فبين بياض الستارة‬
‫وبياض الخلفية‪ ،‬يصبح الوجه أشبه بسمكة‪ ،‬ومن الممكن أن يفقد حوافه‬
‫فيتحول إلى وجه ضبابي وإلى "صورة مهتزة"‪ ،‬من دون أن يفقد شيئ ًا‬
‫من قدرته العاكسة‪ .‬وهنا نصل إلى أجواء أحواض السمك‪ ،‬كما نشاهد‬
‫ذلك عند المخرج األميركي فرانك بورزاج )‪ ،(Frank Borzage‬وهو من‬
‫أنصار هذا التجريد الغنائي‪ .‬إن الشبكات والستائر لدى ستيرنبرغ تتمايز‬
‫إذ ًا كثير ًا عن الستائر والشبكات لدى التعبيريين‪ ،‬وتتمايز ضبابياته عن‬
‫المضيء ‪ -‬المعتم عندهم‪.‬‬
‫ليس الصراع بين النور والظلمة هو ما يم ّثل معارضة ستيرنبرغ‬
‫للتعبيرية‪ ،‬بل مغامرة النور مع البياض‪ .‬لن نستنتج من ذلك أن ستيرنبرغ‬
‫تمسك بالكيفية البحتة وبوجهها العاكس‪ ،‬وأنه رفض القوى والتركّزات‬‫ّ‬
‫الشديدة‪ .‬في صفحات جميلة‪ ،‬ب ّين أولييه أن الحيز األبيض كلما يكون‬
‫مغلق ًا وضئيالً‪ ،‬كلما يكون هش ًا ومفتوح ًا على احتماالت خارجية‪.‬‬
‫وكما ورد في فيلم ‪" Shangi Gesture‬كل شيء يمكن أن يحدث في‬
‫محماة‬
‫أي وقت"‪ .‬كل شيء ممكن‪ ...‬سكين يقطع الشبكة‪ ،‬قطعة حديد ّ‬
‫سيمر عبر‬
‫ّ‬ ‫تثقب الستارة‪ ،‬خنجر يخترق الحاجز الورقي‪ .‬العالم المغلق‬

‫‪Claude Ollier, Souvenirs écran, Cahiers du Cinéma (Paris:‬‬ ‫(((‬


‫‪Gallimard, 1981), pp. 274-295.‬‬

‫‪185‬‬
‫سالسل مك ّثفة بحسب أشعة الضوء واألشخاص واألشياء التي تخترقه‪.‬‬
‫إن التأ ّثر مصنوع من هذين العنصرين‪ :‬الصالحية المؤكدة لح ّيز أبيض‪،‬‬
‫ولكن أيض ًا االحتمالية الشديدة لما سيحدث فيه‪.‬‬

‫وتدرجاتها التي‬
‫أجل‪ ،‬ال يمكننا القول إن ستيرنبرغ يجهل الظالل ّ‬
‫تفضي إلى الظالل‪ .‬فهو فقط ينطلق من القطب اآلخر‪ ،‬أو من االنعكاس‬
‫الخالص‪ .‬فمنذ أن أخرج فيلم أرصفة نيويورك‪ ،‬صارت األدخنة لدى‬
‫ستيرنبرغ كوامد بيضاء ليست الظالل إال نتيجة لها‪ :‬لقد فكّر بصورة‬
‫مبكرة جد ًا في ما يريد‪ .‬والحق ًا‪ ،‬حتى في فيلم ماكاو حيث الشبكات‬
‫والستائر والصينيون أيض ًا تعبر ويعبرون إلى الظل‪ ،‬يبقى الح ّيز محدد ًا‬
‫وموزع ًا بسبب الطقمين األبيضين اللذين يلبسهما البطالن‪ .‬ذلك أن‬ ‫ّ‬
‫الظلمة‪ ،‬بالنسبة لستيرنبرغ‪ ،‬ال توجد بذاتها‪ :‬إنها تحدّ د المكان الذي ينتهي‬
‫والظل ليس مزيج ًا‪ ،‬بل هو نتيجة فقط‪ ،‬ال نستطيع فصلها‬ ‫ّ‬ ‫إليه النور فقط‪.‬‬
‫عن مقدماتها‪ .‬ما هي تلك المقدمات؟ إنها الح ّيز الش ّفاف‪ ،‬والشفيف‬
‫واألبيض الذي حدّ دناه للتو‪ .‬يحتفظ ح ّيز كهذا على تمكّنه من عكس‬
‫النور‪ ،‬ولكنه يستطيع أيض ًا أن يعكسه بحرفه األشعة التي تخترقه‪ .‬فالوجه‬
‫الموجود في هذا الحيز يعكس إذن جزء ًا من النور‪ ،‬ولكنه يحرف جزء ًا‬
‫فيتحول من وجه عاكس إلى وجه مك ّثف‪ .‬وهنا يوجد شيء فريد‬ ‫ّ‬ ‫آخر منه‪.‬‬
‫في تاريخ اللقطة المقربة‪ .‬إن اللقطة المقربة الكالسيكية تضمن انعكاس ًا‬
‫جزئي ًا‪ ،‬إذا ما نظر الوجه في اتجاه مختلف عن اتجاه الكاميرا‪ ،‬وترغم‬
‫يشرئب باتجاه الشاشة‪ .‬لقد عرفنا أيض ًا "نظرات‪ /‬كاميرا"‬
‫َّ‬ ‫المشاهد على أن‬
‫جميلة جد ًا‪ ،‬كما في فيل م مونيكا للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان �‪(In‬‬
‫)‪ ،gmar Bergman‬قدّ مت انعكاس ًا كلي ًا ومنحت اللقطة المقربة خلفية‬

‫‪186‬‬
‫خاصة بها‪ .‬ولكن يبدو أن ستيرنبرغ هو الوحيد الذي ضاعف االنعكاس‬
‫الجزئي النحراف األشعة‪ ،‬بفضل البيئة الشفيفة التي استطاع بناءها‪ .‬تكلم‬
‫مارسيل بروست عن الستائر البيضاء التي "ال يؤدي تثبيتها إال إلى حرف‬
‫كبير للشعاع المركزي والسجين الذي يخترقها"‪ .‬وفي الوقت الذي‬
‫يتعرض الوجه ‪ -‬أي‬ ‫تكشف فيه األشعة الضوئية انحراف ًا في المكان‪ّ ،‬‬
‫الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي ‪ -‬لنقالت في المكان ولزيادات في العمق‬
‫الضحل ولتعتيمات تصيب الحواف‪ ،‬ويدخل في سلسلة تكثيفية حسبما‬
‫ينزل الوجه نحو الحافة المعتمة‪ ،‬أو تنزلق الحافة نحو الوجه المضيء‪ .‬إن‬
‫اللقطات المقربة في فيلم شنغهاي إكسبريس تشكّل سلسلة مدهشة من‬
‫التبدّ الت الطارئة على حواف الوجه‪ .‬وهذا يختلف عن التعبيرية في ما‬
‫يتعلق بما سبق تاريخ اللون‪ :‬فبدالً من نور يخرج من تدرجات الظل عبر‬
‫تراكم اللون األحمر وانتشار اللمعان‪ ،‬نحصل على نور يخلق درجات‬
‫ظل أزرق يجعل اللمعان يدخل في هذا الظل (ففي فيلم ‪Shangaï‬‬
‫‪ ،Gesture‬نرى أن الظالل تؤ ّثر في منطقة العينين في الوجه)(((‪ .‬وربما‬
‫حصل ستيرنبرغ على نتائج مشابهة لما حصلت عليه التعبيرية‪ ،‬كما في‬
‫فيلم المالك األزرق؛ ولكن ذلك حصل بشكل موارب‪ ،‬وبوسائل مختلفة‬
‫تمام ًا‪ ،‬وال س ّيما أن انكسار األشعة أقرب ما يكون من تعبيرية يبقى فيها‬
‫الظل دائم ًا كنتيجة‪ .‬لم يكن هذا األمر محاكاة ساخرة للتعبيرية‪ ،‬بل كان في‬
‫أغلب األحيان تنافس ًا معها‪ ،‬أي تحقيق ًا للنتائج ذاتها عبر مبادئ متعارضة‪.‬‬

‫((( انظر‪Josef von Sternberg, Souvenirs d’un montreur d’ombres, :‬‬


‫‪traduit de l’américain par Magdeleine Paz (Paris : R. Laffont, 1966), ch. XII,‬‬
‫‪Les cahiers du cinéma,‬‬ ‫وفيه يعرض سترينربغ نظريته حول الضوء‪ .‬ونرشت‬
‫)‪ no 63 (October, 1956‬صيغة أكثر اكتامالً هلذا النص‪ ،‬ووضعت هلا عنوانا مقتبسا من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غوته ‪.Plus de lumière‬‬
‫‪187‬‬
‫‪)3‬‬

‫لقد رأينا قطبي التأثر‪ ،‬وهما القوة والكيفية‪ ،‬ورأينا كيف ينتقل‬
‫الوجه من إحداهما إلى األخرى تبع ًا للحالة التي هو فيها‪ .‬في هذا الصدد‪،‬‬
‫ما يشوب تمامية اللقطة المقربة هو الفكرة القائلة بأن هذه اللقطة تقدّ م‬
‫ال ومنتزع ًا من مجموع هي جزء منه‪ .‬ويجد‬ ‫لنا موضوع ًا مجتزأ ومنفص ً‬
‫التحليل النفسي واأللسنية فيه أرضية خصبة‪ ،‬ألن هذا التحليل يرى أنه‬
‫يكتشف في الصورة بنية الالوعي (عقدة الخصاء)‪ ،‬وألن األلسنية تجد‬
‫فيه طريقة لتشكيل اللغة (عبر المجاز المرسل‪ ،‬والجزء من أجل الكل)‪.‬‬
‫المقربة‬
‫ّ‬ ‫وعندما يقبل النقاد بفكرة الموضوع الجزئي‪ ،‬يرون في اللقطة‬
‫عالمة التفتت أو القطع‪ ،‬ظن ًا من بعضهم أنه يجب التوفيق بين هذه الفكرة‬
‫وبين استمرارية الفيلم‪ ،‬ومن بعضهم اآلخر ممن يرون‪ ،‬أنها على العكس‪،‬‬
‫تعرب عن انقطاع فيلمي كبير‪ .‬ولكن اللقطة المقربة‪ ،‬في الواقع‪ ،‬والوجه‬
‫في هذه اللقطة‪ ،‬ال عالقة لها البتّة بموضوع جزئي (إال في حالة سنراها‬
‫الحق ًا)‪ .‬فكما ب ّين ذلك باالز )‪ (Balazs‬بكل د ّقة‪ ،‬ال تنتزع اللقطة المقربة‬
‫موضوعها من مجموع يشكّل هذا الموضوع جزء ًا منه‪ ،‬ولكن األمر‬
‫المختلف تمام ًا هو أنها تجرده من عوالقه الزمكانية كلها‪ ،‬أي أنها ترقى‬
‫به إلى حالة الجوهر‪ .‬ليست اللقطة المقربة تضخيم ًا‪ ،‬وإن انطوت على‬
‫تغ ّير في البعد فإنه تغ ّير مطلق‪ .‬إنها تبدّ ل في الحركة ال ينقطع كي يصبح‬
‫تعبير ًا‪" :‬إن التعبير عن وجه بمفرده هو كل ّية معقولة بذاتها‪ ،‬وليس لنا ما‬
‫نضيفه إليه من خالل التفكير‪ ،‬ال في ما يتعلق بالمكان وال بالزمان‪ .‬فعندما‬
‫لتونا وسط حشد من الناس منفص ً‬
‫ال عن بيئته‬ ‫يكون الوجه الذي رأيناه ّ‬
‫ومعروض ًا بشكل بارز‪ ،‬فكأننا فجأة نجد أنفسنا في مواجهته‪ .‬وإن سبق‬

‫‪188‬‬
‫نكف عن التفكير في هذه الردهة عندما‬‫ّ‬ ‫ورأيناه في ردهة واسعة‪ ،‬فإننا‬
‫نتفحص الوجه الذي نشاهده في لقطة مقربة‪ .‬ذلك أن التعبير البادي على‬
‫الوجه ومعنى هذا التعبير ليس لهما أية عالقة أو صلة بالمكان‪ .‬أمام وجه‬
‫معزول ال ندرك المكان‪ .‬يلغى إحساسنا بالمكان‪ .‬فينفتح أمامنا ُبعدٌ لنظام‬
‫آخر"(((‪ .‬هذا ما اقترحه إيبستين عندما قال‪ :‬هذا الوجه لشخص جبان‬
‫مشخص ًا‪ ،‬نرى‬‫ّ‬ ‫راح يهرب‪ ،‬عندما نراه في لقطة مقربة‪ ،‬نرى فيه الجبن‬
‫إن صح أن الصورة السينمائية هي‬ ‫"الشعور‪ /‬الشيء"‪ ،‬نرى الماهية(‪ْ .((1‬‬
‫دائم ًا خارج مكانها‪ ،‬فألن الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي منتزعة من مكانها‬
‫الخاص بها‪ .‬وعندما كان إيزنشتاين ينتقد السينمائيين اآلخرين من أمثال‬
‫غريفيث ودوفجنكو‪ ،‬فألنه المهم على إخفاقهم أحيان ًا في لقطاتهم‬
‫المقربة‪ ،‬ألنهم ربطوها بالحيثيات الزمكانية الخاصة بمكان مع ّين وببرهة‬
‫مع ّينة‪ ،‬ولم يصلوا إلى ما يسمى بالعنصر "الشجني"‪ ،‬المعرب عنه في‬
‫الوجه أو في التأثر العاطفي(‪.((1‬‬

‫المقربة األخرى ما‬


‫ّ‬ ‫الغريب في األمر أن باالز رفض في اللقطات‬
‫ارتضاه بالنسبة للوجه‪ :‬فال بدَّ ليد أو لقسم من الجسم أو لشيء أن يبقى‬
‫داخل المكان‪ ،‬ولن تصبح إذ ًا لقطات مقربة إال بصفتها مواضيع جزئية‪.‬‬
‫تنوعاتها‪ ،‬وتنكّر ًا لقدرة أي‬
‫وهذا يم ّثل تنكر ًا لثبات اللقطة المقربة عبر ّ‬

‫‪Balzac, Le cinéma (Paris: Payot, [s. d.]), p. 57.‬‬ ‫((( ‬


‫‪Epstein, Ecrits, I (Paris: Seghers, [s. d.]), pp. 146-147.‬‬ ‫(‪ ((1‬‬
‫‪Eisenstein, Film Form, pp. 241-242,‬‬ ‫(‪ ((1‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ُ ،‬يظهر إيزنشتاين أن ما يتجاوز حدود الزمكان‪ ،‬جيب أال‬
‫يعترب «متجاوز ًا حدود التاريخ» انظر‪Sergei Eisenstein, La non-indifférente :‬‬
‫‪nature, traduit par Luda et Jean Schnitzer, 10-18 (Paris: Union Générale‬‬
‫‪D’éditions, [s. d.]), I, pp. 391-393.‬‬

‫‪189‬‬
‫المقربة للوجه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫موضوع على التعبير‪ .‬أوالً‪ ،‬هناك عدد كبير من اللقطات‬
‫أحيان ًا لمحيط الوجه وأحيان ًا أخرى لقسماته؛ وتارة هي لوجه وحيد‪،‬‬
‫وطور ًا لوجوه عديدة؛ ومرة بالتتابع ومرة أخرى بالتزامن‪ .‬وتستطيع‬
‫هذه اللقطات أن تتضمن خلفية‪ ،‬وخصوص ًا عندما يعمق المجال‪ .‬ولكن‬
‫اللقطة المقربة تحافظ في الحاالت جميعها على االستطاعة ذاتها‪ ،‬أي‬
‫على انتزاع الصورة من الحيثيات الزمكانية كي تُبرر التأثير الصرف‬
‫كتأثير مع ّبر عنه‪ .‬وحتى المكان الموجود أيض ًا في العمق يفقد حيثياته‪،‬‬
‫ويغدو "مكان ًا ال على التعيين" (وهذا يخ ّفف من اعتراض إيزنشتاين)‪.‬‬
‫إن تقسيمة من تقسيمات الوجه هي لقطة مقربة شأنها شأن الوجه بكامله‪.‬‬
‫وهي فقط قطب آخر للوجه‪ ،‬وتع ّبر التقسيمة عن تكثيف ٍ‬
‫عال بقدر ما يع ّبر‬
‫المقربة‬
‫ّ‬ ‫الوجه الكامل عن كيفية‪ .‬فال نستطيع قطع ًا أن نمايز بين اللقطات‬
‫المقربة بامتياز أو اللقطات االعتراضية )‪ (Inserts‬التي ال تُظهر‬
‫ّ‬ ‫واللقطات‬
‫إال جزء ًا من الوجه‪ .‬وفي العديد من الحاالت‪ ،‬ال يسعنا أن نم ّيز كثير ًا‬
‫المقربة‪ .‬ولماذا سيكون‬
‫ّ‬ ‫بين اللقطات المتقاربة‪ ،‬وهي أميركية‪ ،‬واللقطات‬
‫جزء من الجسم‪ ،‬كالذقن والمعدة أو البطن‪ ،‬أكثر جزئية وأكثر زمكانية‬
‫وأكثر تعبير ًا من تقسيمة وجهية مك ّثقة أو من وجه انعكاسي كامل؟ هذا‬
‫ما حدث في سلسلة الكوالك(*) البدناء في فيلم الخط العام إليزنشتاين‪.‬‬
‫ولماذا ال تقوى األشياء عن التعبير؟ تمارس األشياء تأثيرات‪ .‬السكين‬
‫"الحاد" و"القاطع" و"النافذ" لجاك ِ‬
‫باقر البطون يمارس تأثير ًا‪ ،‬شأنه شأن‬

‫(*) الكوالك هو مزارع رويس ثري (املرتجم)‪.‬‬


‫‪190‬‬
‫الرعب الذي يستحوذ على قسمته‪ ،‬وشأن االستسالم الذي يهيمن أخير ًا‬
‫على كل وجهة‪ .‬كان الفالسفة الرواقيون يثبتون األشياء وأفعالها وردود‬
‫أفعالها‪ :‬أي الجانب القاطع من السكين‪...‬‬

‫إن التأ ّثر العاطفي هو الجوهر‪ ،‬أي أنه القوة أو الكيفية‪ .‬وهو‬
‫ال عن شيء يع ّبر عنه‪ ،‬مع أنه‬ ‫موضع تعبير‪ :‬ذلك أنه ال يوجد مستق ً‬
‫محول‬ ‫مختلف عنه تمام ًا‪ .‬ما يع ّبر عنه هو الوجه أو ما يعادل الوجه (شيء ّ‬
‫إلى وجه)‪ ،‬ال بل هو اقتراح‪ ،‬كما سنراه الحق ًا‪ .‬نطلق كلمة "أيقونة"‬
‫على مجمل ما يع َّبر عنه ويقوله عن التأثر العاطفي والوجه‪ .‬توجد إذن ًا‬
‫ولكل أيقونة هناك باألحرى قطبان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أيقونات لقسمات الوجه ولمحيطه‪،‬‬
‫وهذه هي عالقة التركيب الثنائي القطب للصورة‪ /‬االنفعال العاطفي‪.‬‬
‫والصورة‪ /‬االنفعال؛ هذه هي القوة والكيفية المعتبرتان لذاتهما بصفتهما‬
‫القوى والكيفيات تستطيع أن توجد على نحو‬ ‫مفصحتين‪ .‬ومن المؤكد أن ِ‬
‫َ‬
‫وتتضمن‬‫ّ‬ ‫وتتجسد في أحوال األشياء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مختلف‪ :‬عندما تتحول إلى فعل‬
‫حالة األشياء مكان ًا وزمان ًا محددين وحيثيات زمكانية وأشياء وأشخاص ًا‬
‫وارتباطات حقيقية بين هذه المعطيات كافة‪ .‬في حالة األشياء المف ِّعلة‪،‬‬
‫ال أو ولع ًا‪ ،‬ويصير‬
‫تصبح الكيفية "ميزة" شيء من األشياء‪ ،‬وتغدو القوة فع ً‬
‫التأثر إحساس ًا وشعور ًا وانفعاالً‪ ،‬ال بل دافع ًا عند شخص من األشخاص‪،‬‬
‫ويصبح الوجه طابع ًا أو قناع ًا للشخص (ومن هذه الزاوية فقط يمكن أن‬
‫ثم في مجال الصورة‪ /‬الفعل‪.‬‬ ‫توجد تعابير كاذبة)‪ .‬ولكننا لن نكون من ّ‬
‫أما الصورة‪ /‬العاطفة من جهتها فهي مجردة من الحيثيات الزمكانية التي‬
‫وتجرد وجه الشخص الذي تنتسب إليه في‬ ‫ّ‬ ‫قد تر ّدها إلى حالة األشياء‪،‬‬
‫حالة األشياء‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫إن تشارلز ساندرز بيرس‪ ،‬الذي ب ّينا أهميته القصوى في ما‬
‫يتعلق بكل تصنيف للصور والعالمات‪ ،‬كان يميز بين نوعين من الصور‬
‫سماهما‪" :‬صور ًا واحدية" و"صور ًا اثنينية"(‪ .((1‬وتكون صورة اثنينية‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫عندما يوجد اثنان بذاتهما‪ :‬أي ما هو كما هو مقارنة بشيء ثان‪ ،‬وكل‬
‫ما ينوجد بالتعارض مع آخر من خالل صراع ينتمي إلى هذه االثنينية‪:‬‬
‫تصرف‪،‬‬ ‫جهد‪ /‬مقاومة‪ ،‬فعل‪ /‬ر ّدة فعل‪ ،‬تحريض‪ /‬استجابة‪ ،‬وضع‪ّ /‬‬
‫فرد‪ /‬بيئة‪ ...‬أي ما ينتمي إلى فئة الواقعي والراهن والموجود والمفردن‬
‫تتحول‬
‫ّ‬ ‫)‪ .(individué‬وينتمي الشكل األول لإلثنينية إلى الفئة التي‬
‫فيها الكيفيات‪ /‬القوى إلى "طاقات"‪ ،‬أي أنها تصبح راهنة في حاالت‬
‫األشياء الخاصة‪ ،‬أمكنة أزمنة محددة‪ ،‬أوساط جغرافية وتاريخية‪،‬‬
‫عاملون جماعيون أو أشخاص بمفردهم‪ .‬وهنا تولد الصورة‪ /‬الفعل‬
‫وتتطور‪ .‬ولكن مهما كانت هذه المزائج المحسوسة حميمية تنتمي‬
‫الواحدية إلى فئة أخرى تحيل إلى نوع آخر من الصور وله عالمات‬
‫أخرى‪ .‬ال يخفي بيرس أن الواحدية صعبة التحديد ألنها محسوسة أكثر‬
‫متصورة‪ :‬إنها تعني الجديد في التجربة‪ ،‬تعني الطازج والعابر‬ ‫ّ‬ ‫مما هي‬
‫مع أنه سرمدي‪ .‬ويعطي بيرس‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬أمثل ًة غريبة جد ًا ومفادها‬
‫كالتالي‪ :‬إنها كيفيات وقوى ينظر إليها بذاتها‪ ،‬بمعزل عن كل مسألة‬
‫ال نجدها‬ ‫تتعلق براهنيتها‪ .‬ما هو كذا هو لذاته وبذاته‪ .‬فكلمة "أحمر" مث ً‬
‫في عبارة "هذا ليس أحمر" وعبارة "هذا أحمر"‪ .‬إن شئنا أن نقول إن هذا‬
‫متضمن في كل وعي حقيقي‪ ،‬علم ًا‬ ‫َّ‬ ‫هو وعي مباشر وفوري‪ ،‬مثلما هو‬

‫(‪ ((1‬انظر‪Charles Sanders Peirce, Ecrits sur le signe, assemblés :‬‬


‫‪traduits et commentés par Gérard Deledalle (Paris: Edition du Seuil, [s. d.]),‬‬
‫ ونحيل يف هذه الطبعة إىل الفهرس وإىل التعليقات التي قدّ مها جريار ديالدال‬
‫)‪ (Gérard Deledalle‬حول هذين املصطلحني‪.‬‬
‫‪192‬‬
‫بأنه ليس وعي ًا مباشر ًا وفوري ًا‪ .‬وهذا ليس إحساس ًا أو انطباع ًا أو فكرة‪،‬‬
‫بل هو مسألة إحساس أو انطباع أو فكرة ممكنة كلها‪ .‬الواحدية تنتمي‬
‫إذن إلى فئة الممكن‪ :‬تعطي الممكن قوام ًا خاص ًا‪ ،‬تع ّبر عن الممكن من‬
‫كامال‪ .‬والحال أن الصورة‪ /‬االنفعال‬ ‫شكال ً‬‫ً‬ ‫دون أن تف ّعله وتجعل منه‬
‫العاطفي ليست إال هذا‪ :‬أي هي الكيفية أو القوة‪ ،‬هي اإلمكانية المعتبرة‬
‫لذاتها بصفتها التعبيرية‪ .‬العالمة المطابقة هي التعبير ال التحول إلى‬
‫فعل‪ .‬سبق للفيلسوف الفرنسي ماين دو بيران )‪ (Maine de Biran‬أن‬
‫تك ّلم عن انفعاالت عاطفية خالصة وال تنتمي إلى مكان‪ ،‬ألن ال عالقة‬
‫يوجد ‪،"il y a‬‬
‫لها بمكان محدّ د وألنها ماثلة في الشكل الوحيد لكلمة " َ‬
‫المهومة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وألنها ال ترتبط باألنا (آالم من أصيب بالفالج‪ ،‬صور النعاس‬
‫رؤى الجنون)(‪ .((1‬التأثر ال شخصي ويتمايز عن كل حالة مفردنة‪ :‬هو‬
‫فريد ويمكنه أن يدخل في تركيبات وترابطات فريدة مع تأثرات أخرى‪.‬‬
‫التأثر ال يقبل االنقسام‪ ،‬وال أجزاء له؛ ولكن التركيبات التي يشكلها‬
‫مع تأثرات أخرى تؤلف بدورها كيفية غير منقسمة‪ ،‬ولن تنقسم إال‬
‫إذا غ ّيرت طبيعتها (أو "كنهها")‪ .‬التأثر مستقل عن كل مكان وزمان‬
‫محددين؛ ولكنه يتولد في تاريخ ينتجه كمع َّبر عنه أو كتعبير لمكان‬
‫تكف‬
‫ّ‬ ‫أو لزمان‪ ،‬لحقبة أو لبيئة (لذا يتماهى التأثر مع "الجديد"‪ ،‬وال‬
‫التأثرات الجديدة على التخ ّلق‪ ،‬وال س ّيما من طريق العمل الفني)(‪.((1‬‬

‫(‪ ((1‬انظر‪Maine de Biran, Mémoire sur la décomposition de la pensée :‬‬


‫‪([s. l.]: [s. n.], [s. d.]),‬‬
‫ إنه جانب مهم جد ًا وغري مألوف يف فكر مني دي بريان‪ّ .‬‬
‫ونوه ديالدال بتأثري‬
‫بريان يف بريس‪ :‬ليس بريان املن ِّظر األول لعالقة الفعل بـ «القوة‪ /‬املقاومة» فقط‪ ،‬التي‬
‫تعادل االثنينية التي أتى هبا بريس‪ ،‬بل هو مكتشف االنفعال العاطفي اخلالص الذي‬
‫يعادل الواحدية‪.‬‬
‫أوال =‬
‫(‪ ((1‬جيب النظر هنا يف مقاربة أخرى‪ .‬مع ماكس شيلر )‪ً .(Max Scheler‬‬
‫‪193‬‬
‫باختصار‪ ،‬تستطيع التأ ّثرات والكيفيات‪/‬القوى أن تُفهم بطريقتين‪:‬‬
‫إما أنها تف ّعل في ظرف مع ّين‪ ،‬وإما أنه يع ّبر عنها بوجه أو بمعادل للوجه‬
‫أو من خالل "طرح" محدّ د‪ .‬وهذه هي االثنينية والواحدية عند بيرس‪.‬‬
‫هناك مجموعة من الصور تُصنع من الواحديات واالثنينيات‪ ،‬ومن أشياء‬
‫أخرى أيض ًا‪ .‬ولكن الصور‪ /‬االنفعاالت العاطفية‪ ،‬بالمعنى الدقيق‪ ،‬ال‬
‫تحيل إال إلى الواحدية‪.‬‬

‫هذا هو مفهوم شبحي للتأثر‪ ،‬وينطوي على بعض المجازفات‪:‬‬


‫"عندما وصل إلى الجانب اآلخر من الجسر‪ ،‬أقبلت األشباح للقائه‪."...‬‬
‫ِ‬
‫مفردن (أي يم ّيز ويطبع‬ ‫بالعادة نعترف أن للوجه ثالث وظائف‪ :‬فهو‬
‫كل إنسان)‪ ،‬وهو مجتمعي (أي ُيظهر دور ًا اجتماعي ًا)‪ ،‬وهو عالئقي‬
‫أو تواصلي (ألنه ال يؤ ّمن اإلتصال بين شخصين فقط‪ ،‬بل يؤمن لدى‬
‫الشخص الواحد الوئام الداخلي بين طابعه ودوره)‪ .‬والوجه الذي ُيبرز‬
‫هذه الجوانب في السينما وغيرها يفقدها ثالثتها عندما يتعلق األمر‬
‫المقربة‪ .‬وال شك أن بيرغمان هو المخرج الذي أكد أكثر من‬ ‫ّ‬ ‫باللقطة‬
‫غيره العالقة األساسية التي تربط بين السينما والوجه واللقطة المقربة‪.‬‬

‫وسع مايكل دوفرين ‪(Mikel‬‬


‫استخلصت الظواهرية مفهوم الق ْبلية املادية والعاطفية‪ .‬ثم ّ‬ ‫=‬
‫)‪ Dufrenne‬أفق هذا املفهوم‪ ،‬وجعل له نظام ًا مفص ً‬
‫ال يف سلسلة من الكتب‪Mikel :‬‬
‫‪Dufrenne: Phénoménologie de l’expérience esthétique, II (Paris: P.U.F., [s.‬‬
‫‪d.]); La notion d’a-priori (Paris: Presses universitaires de France, [s. d.]), et‬‬
‫‪L’inventaire des a-priori  (Paris: C. Bourgois, 1980),‬‬
‫وطرح مشكلة العالقة بني هذه القبليات والتاريخ وبني العمل الفني‪ :‬كيف توجد‬
‫معي يف جمتمع ما‪ ،‬أو كلمسة لونية عند‬ ‫القبليات اجلاملية وكيف ُتلق كإحساس جديد ّ‬
‫رسام ما؟ إن الظواهرية وبريس مل يلتقيا‪ .‬ولكن يبدو لنا أن واحدية بريس والقبلية املادية‬
‫والعاطفية عند شيلر ودوفرين تلتقيان عىل أصعدة كثرية‪.‬‬
‫‪194‬‬
‫"يبدأ عملنا بالوجه البشري (‪ )...‬وتُعتبر إمكانية التقرب من الوجه‬
‫البشري هي االبتكار األول والميزة الكبرى للسينما"(‪ .((1‬هناك شخص‬
‫قد هجر مهنته وتخلى عن دوره االجتماعي؛ لم يعد يستطيع ولم يعد‬
‫يريد التواصل‪ ،‬يضرب على نفسه صمت ًا شبه مطلق؛ لقد فقد حتى فرديته‬
‫بحيث تتشابه بغرابة مع اآلخرين‪ ،‬تشابه ًا ناقص ًا أو غائب ًا‪ .‬وفع ً‬
‫ال ُيفترض‬
‫في وظائف الوجه هذه أن تبلور حالة األشياء التي يتحرك فيها األشخاص‬
‫ويدركون‪ .‬ذلك أن الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي تجعل هؤالء األشخاص‬
‫يذوبون ويتالشون‪ .‬ونعترف هنا بأننا أمام سيناريو لبيرغمان‪.‬‬

‫ال توجد لقطة مقربة لوجه‪ .‬اللقطة المقربة هي الوجه‪ ،‬ولكنها‬


‫تحديد ًا الوجه الذي تحلل من وظائفه الثالث‪ .‬إن انكشاف الوجه أكبر‬
‫من عري األجساد‪ ،‬وال إنسانيته أشد من وحشية الحيوانات‪ .‬القبلة تشي‬
‫باالنكشاف الكامل للوجه وتوحي له القيام بحركات صغرى يخفيها‬
‫المقربة تجعل من الوجه شبح ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫باقي الجسم‪ .‬أضف إلى ذلك أن اللقطة‬
‫مصاص الدماء‪ ،‬والحروف األبجدية هي‬ ‫وتُسلمه لألشباح‪ .‬الوجه هو ّ‬
‫خفافيشه وأدوات تعبيره في فيلم متناولو القربان (‪" ،)1992‬بينما يقرأ‬
‫القسيس نص الصالة‪ ،‬تكرر المرأة المصورة بلقطة مقربة العبارات‬
‫نص الرسالة بين‬ ‫من دون أن تكتبها"‪ ،‬وفي فيلم سوناتا الخريف ّ‬
‫يتوزع ّ‬
‫المرأة التي تكتبه وزوجها الذي يطلع عليه والمرسل إليها التي لم تستلمه‬
‫بعد"(‪ .((1‬الوجوه تلتقي وتتبادل ذكرياتها وتميل إلى اختالطها ببعضها‪.‬‬
‫من العبث أن يتساءل المر ُء في فيلم برسونا )‪ (Persona‬إن كان هناك‬

‫‪Bergman, dans: Cahiers du cinéma (Octobre 1959).‬‬ ‫(‪ ((1‬‬


‫(‪Denis Marion, Ingmar Bergman (Paris: Gallimard, 1979), p. 37. ((1‬‬

‫‪195‬‬
‫شخصان تشابها من قبل‪ ،‬أو راحا يتشابهان اآلن‪ ،‬أو على النقيض إن‬
‫كان هناك شخص واحد ينشطر إلى شطرين‪ .‬الموضوع مختلف‪ .‬اللقطة‬
‫كف فيها مبدأ الفردانية‬
‫المقربة دفعت الوجه فقط إلى تلك األمكنة التي ّ‬ ‫ّ‬
‫عن الهيمنة‪ .‬ال تختلط الوجوه في ما بينها ألنها تتشابه ولكن ألنها فقدت‬
‫فردانيتها وفقدت أيض ًا حسها االجتماعي وتواصلها‪ .‬وهذا ما تقوم به‬
‫اللقطة المقربة‪ .‬فاللقطة المقربة ال تشطر فرد ًا‪ ،‬وال تجمع اثنين فيه‪ :‬إنها‬
‫عندئذ يجمع الوجه الوحيد والمغزو جزء ًا من األول‬ ‫ٍ‬ ‫تُعطل الفردانية‪.‬‬
‫وجزء ًا من اآلخر‪ .‬وعند هذه النقطة ال يعكس الوجه شيئ ًا وال يشعر‬
‫يحس بخوف أصم فقط‪ .‬إنه يستوعب كائنين‪ ،‬ويستوعبهما‬ ‫بشيء‪ ،‬ولكنه ّ‬
‫في الفراغ‪ .‬وفي الفراغ يكون هو ذاته الفوتوغرام الذي يشتعل‪ ،‬ويكون‬
‫الخوف هو تأثره الوحيد‪ :‬اللقطة المقربة‪ /‬الوجه هي في ذات الوقت‬
‫المح ّيا وانحساره‪ .‬لقد دفع بيرغمان عدمية الوجه إلى أقصى الحدود‪،‬‬
‫أي عالقته بالخوف والفراغ والغياب‪ ،‬خوف الوجه الذي يواجه عدمه‪.‬‬
‫لقد بلغ بيرغمان‪ ،‬في جزء كبير من أعماله‪ ،‬الحد األقصى للصورة‪/‬‬
‫االنفعال العاطفي‪ ،‬لقد أحرق األيقونة‪ ،‬وأشعل الوجه‪ ،‬كما فعل بيكيت‬
‫بكل تأكيد‪.‬‬

‫المقربة‬
‫ّ‬ ‫هل هذا هو الطريق المحتوم الذي قادتنا إليه اللقطة‬
‫ككيان؟ األشباح تهدّ دنا‪ ،‬وال سيما أنها ال تأتي من الماضي‪ .‬لقد م ّيز كافكا‬
‫تيارين تكنولوجيين حديثين‪ :‬فمن جهة هناك وسائل االتصال‪ /‬النقل‬
‫التي تضمن انخراطنا وفتوحاتنا في المكان والزمان (الباخرة‪ ،‬السيارة‪،‬‬
‫القطار‪ ،‬الطائرة‪) ...‬؛ ومن جهة أخرى هناك وسائل االتصال‪ /‬التعبير‬
‫التي تُوقظ األشباح في طريقنا وتحرفنا نحو تأ ّثرات مشوشة وعصية‬
‫على الترابط (الرسائل‪ ،‬الهاتف‪ ،‬جهاز الراديو‪ ،‬وجميع األجهزة الصوتية‬

‫‪196‬‬
‫والسينمائية التي يمكن تصورها‪ .)...‬هذه لم تكن نظرية أتى بها كافكا‪،‬‬
‫يمتص أحد األشباح القبالت‬ ‫ّ‬ ‫بل تجربة يومية لديه‪ :‬كلما نكتب رسالة‪،‬‬
‫ترسل‪ ،‬بحيث‬ ‫التي تحتويها قبل أن تصل إلى المرسل إليه‪ ،‬وربما قبل أن َ‬
‫لئل تفضي السلسلتان‬ ‫ينبغي أن نكتب رسالة أخرى(‪ .((1‬ولكن ما العمل ّ‬
‫المترابطتان إلى األسوأ‪ ،‬فتس ّلم األولى إلى حركة عسكرية وبوليسية‬
‫متنامية تجعل عدد ًا من األشخاص‪ /‬الموديالت يؤ ّدون أدوار ًا اجتماعية‬
‫متصلة ويملكون طباع ًا متجمدة‪ ،‬في حين أن الفراغ يصعد في السلسلة‬
‫األخرى‪ ،‬ف ُينزل بالوجوه الباقية على قيد الحياة خوف ًا واحد ًا ال يتغ ّير؟‬
‫هذا ينطبق على أعمال بيرغمان‪ ،‬وحتى على أفالمه السياسية كـ (العار‬
‫وبيضة األفعى والخوف)‪ ،‬ولكنه ينطبق أيض ًا على المدرسة األلمانية التي‬
‫مدّ دت وجدّ دت مشروع سينما الخوف هذه‪ .‬ضمن هذا المنظور‪ ،‬حاول‬
‫فيم فِندرز التوفيق بين هذين التيارين‪" :‬أخاف من أن أخاف"‪ .‬فغالب ًا ما‬
‫تتحول فيها حركات االنتقال وتتناوب‪ :‬القطار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نجد عنده سلسلة فاعلة‬
‫السيارة‪ ،‬المترو‪ ،‬الطائرة‪ ،‬الباخرة‪...‬؛ وتلتقي من دون انقطاع وتمتزج من‬
‫دون تو ّقف سلسلة عاطفية يتم فيها البحث عن األشباح التعبيرية ولقاؤها‬
‫وتحريضها بواسطة المطبعة والتصوير الضوئي والسينما‪ .‬إن الرحلة‬
‫تمر في آلة األشباح المتمثلة بالمطبعة‬ ‫كر الزمن ّ‬ ‫التعليمية في فيلم مع ّ‬
‫العتيقة وبالسينما المتنقلة‪ .‬الرحلة في فيلم أليس في المدن تنتظم على‬
‫وقع البوالرويد‪ ،‬بحيث تتالشى صور الفيلم بحسب اإليقاع ذاته‪ ،‬إلى أن‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫تقول البنت الصغيرة‪" :‬ألم تعد تلتقط صور ًا؟" كي تأخذ األشباح‬
‫ال مختلف ًا‪.‬‬
‫شك ً‬

‫لقد اقترح كافكا خليط ًا من اآلالت‪ ،‬وذلك بوضع اآلالت التي‬

‫(‪Kafka Franz, Lettres à Miléna (Paris: Gallimard, [s. d.]), p. 260. ((1‬‬

‫‪197‬‬
‫تنتج األشباح فوق أجهزة النقل‪ :‬وكان ذلك جديد ًا جد ًا بالنسبة لتلك‬
‫الفترة‪ ،‬الهاتف داخل القطار‪ ،‬مراكز البريد فوق الباخرة‪ ،‬السينما داخل‬
‫الطائرة(‪ .((1‬أليس هذا تاريخ السينما بكامله‪ ،‬والكاميرا فوق السكة‬
‫الحديدية وفوق الدراجة الهوائية‪ ...‬إلخ؟ هذا ما أراده فِندرز عندما‬
‫ح ّقق تداخل السلسلتين في أفالمه األولى‪ .‬سنحاول قدر المستطاع‬
‫إنقاذ الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي والصورة‪ /‬الفعل‪ ،‬إنقاذ إحداهما‬
‫يتم فيه إنقاذ الصورة‪ /‬االنفعال‬
‫باألخرى‪ ...‬ولكن أال يوجد سبيل آخر ّ‬
‫العاطفي ودفع حدودها الخاصة (على غرار الطريق المرتسم في فيلم‬
‫الصديق األميركي لفاندرز)؟ ينبغي على المؤ ّثرات أن تشكّل تركيبات‬
‫فريدة وملتبسة ويعاد خلقها باستمرار‪ ،‬بحيث تنأى الوجوه عن بعضها‬
‫كاف كي ال تنصهر وتتالشى‪ .‬ويجب على الحركة بدورها أن‬ ‫على نحو ٍ‬
‫كاف كي تفتح‬ ‫تتخ ّطى ظروف األشياء وأن ترسم خطوط الفرار بشكل ٍ‬
‫في المكان بعد ًا ذا طبيعة مختلفة أو يتالءم مع تركيب التأثيرات‪ .‬هذه‬
‫هي الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي‪ .‬وحدودها هي التأثير البسيط الذي‬
‫يخلقه الخوف‪ ،‬وهي تُالشي الوجوه في العدم‪ .‬ولكن جوهرها هو التأثير‬
‫المركّب من الرغبة والدهشة والذي يعطيها الحياة‪ ،‬وهو أيض ًا انصراف‬
‫الوجوه إلى االنفتاح‪ ،‬والحيوية(‪.((1‬‬

‫‪Kafka Franz, Lettres à‬‬ ‫(‪ ((1‬انظر االقرتاحات احلثيثة التي أوردها كافكا يف‪:‬‬
‫‪Félice, I (Paris: Gallimard, [s. d.]), p. 299.‬‬
‫‪Le‬‬ ‫(‪ ((1‬هناك نص غري منشور مليشال كورتيال )‪ (Michel Courthial‬بعنوان‬
‫‪visage‬؛ حيلل فيه مقولة الكُنه وجوانب الوجه النامجة عنه مجيعها‪ ،‬أوالً بنا ًء عىل التوراة‬
‫(التاليش واالزورار واالنغالق واالنفتاح)‪ ،‬وبنا ًء أيض ًا عىل الفن واألدب والرسم‬
‫والسينام‪.‬‬
‫‪198‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬
‫ال�صورة‪ /‬االنفعال العاطفي‬
‫الكيفيات والقوى والأماكن النكرة‬

‫‪)1‬‬

‫باقر البطون‪ :‬هناك‬


‫هناك لولو والمصباح وسكين الخبز وجاك ُ‬
‫أشخاص يفترض أنهم واقعيون‪ ،‬ولهم طباع فردية وأدوار اجتماعية‬
‫وأشياء لها استخدامات مع ّينة‪ ،‬وترابطات واقعية بين هذه األشياء وهؤالء‬
‫ثمة‬
‫األشخاص‪ ،‬وبوجيز العبارة هناك حالة راهنة لهذه األشياء‪ .‬ولكن ّ‬
‫أيض ًا بريق النور على السكين‪ ،‬وشفرة السكين المس َّلط عليها الضوء‪،‬‬
‫وثمة الهلع واإلذعان لدى جاك‪ ،‬والحنان لدى لولو‪ .‬هذه هي كيفيات‬
‫صرفة وإمكانات فريدة‪ ،‬أي "إمكانات" خالصة نوع ًا ما‪ .‬من المؤكّد أن‬
‫الكيفيات‪ /‬القوى ترتبط باألشخاص واألشياء‪ ،‬أي أنها ترتبط بوضع‬
‫األشياء وبأسبابها‪ .‬ولكنها تأثيرات خاصة جد ًا‪ :‬وال تحيل كلها إال إلى‬
‫نفسها وتشكّل المع َّبر عنه في وضع األشياء‪ ،‬في حين أن األسباب ال تحيل‬
‫هي إال لذاتها مشكّل ًة وضع األشياء‪ .‬لقد قال باالز إن الهاوية هي سبب‬
‫تفسر تعبيره على الوجه‪ .‬أو إذا شئتم‪ ،‬هي تفسره من‬
‫وجيه للدُ وار‪ ،‬ولكنها ال ّ‬
‫تفسر ربما كيف‬
‫يطل أحدهم عليها ّ‬ ‫دون أن تجعله مفهوم ًا‪" :‬الهاوية التي ّ‬

‫‪199‬‬
‫يعبر عن خوفه‪ ،‬ولكنها ليست هي التي تخلق هذا التعبير‪ .‬ذلك أن التعبير‬
‫موجود من دون تسويغ‪ ،‬وال يصبح تعبير ًا ألننا سنضيف إليه وضع ًا عبر‬
‫التفكير"(((‪ .‬ومن المؤكّد أيض ًا أن الكيفيات‪ /‬القوى تلعب دور ًا استباقي ًا‪،‬‬
‫ألنها تهيئ الحدث الذي سيتبلور إلى فعل في حالة األشياء و ُيجري تعدي ً‬
‫ال‬
‫عليه (طعنة السكين‪ ،‬السقوط في الهاوية)‪ .‬ولكنها بحدّ ذاتها‪ ،‬أو بعد أن‬
‫سماه بالنشو‬
‫تحولت إلى تعبير‪ ،‬هي الحدث في جزئه األبدي‪ ،‬أو في ما ّ‬ ‫ّ‬
‫)‪" (Blanchot‬نوع الحدث الذي يستحيل إيصاله إلى حدّ الكمال" ‪.‬‬
‫(((‬

‫أ ّي ًا كانت العالقات الضمنية المتبادلة بين الكيفيات والقوى‪ ،‬فإننا‬


‫نم ّيز حالتين لها‪ ،‬أي أننا نم ّيز تأثراتها‪ :‬أوالً ألنها مبلورة في الوضع الفرداني‬
‫لألشياء وفي الترابطات الواقعية المتالئمة (مع هذا الظرف الزمكاني‪،‬‬
‫ومع الهنا واآلن‪ ،‬ومع تلك السمات واألدوار واألشياء المع ّينة‪ ،‬وثاني ًا ألنه‬
‫يع َّبر عنها لذاتها‪ ،‬وخارج الحيثيات الزمكانية‪ ،‬بتفرداتها المثالية الخاصة‬
‫وبترابطاتها االفتراضية‪ .‬ويشكّل البعد األول ما هو جوهري في الصورة‪/‬‬
‫الفعل‪ ،‬إنه يشكّل اللقطات المتوسطة؛ ولكن البعد الثاني يشكّل الصورة‪/‬‬
‫المقربة‪ .‬فالتأ ّثر الصرف الذي يعبر تمام ًا عن‬
‫ّ‬ ‫االنفعال العاطفي أو اللقطة‬
‫ال إلى وجه يع ّبر عنه (أو إلى وجوه عديدة أو إلى‬ ‫حالة األشياء‪ ،‬يحيل فع ً‬
‫ما يعادلها أو إلى طروحاتها)‪ .‬إن الوجه أو معادله هو الذي يع ّبر عن التأثر‬
‫ويراه ككيان مركب‪ ،‬وهو الذي يؤ ّمن الترابطات الممكنة بين النقاط‬
‫الفريدة لهذا الكيان (اللمعان والنصل القاطع والهلع والحنان‪.)...‬‬

‫((( ‪Béla Balazs, L’esprit du cinéma, traduit de l’allemand par J. M.‬‬


‫‪Chavy (Paris: Payot, 1977), p. 131.‬‬
‫((( ‪Maurice Blanchot, L’espace littéraire (Paris: Gallimard, 1955), p. 161.‬‬

‫‪200‬‬
‫ليس للتأ ّثرات فردنة كتلك التي لألشخاص واألشياء‪ ،‬ولكنها‬
‫ال تغوص مع ذلك في الفراغ المبهم‪ .‬لها مزايا تدخل في ترابطات‬
‫محتملة‪ ،‬وتشكل دائم ًا كيان ًا مركب ًا‪ .‬إنها أشبه بدرجات االنصهار والغليان‬
‫والتكثيف والتخثر‪ ...‬إلخ‪ .‬لذا فإن الوجوه التي تع ّبر عن التأثرات‬
‫المختلفة أو عن نقاط شتى داخل التأ ّثر الواحد ال تختلط بخوف وحيد‬
‫يعمل على إلغائها (ذلك أن الخوف اإللغائي هو حالة قصوى فقط)‪.‬‬
‫التفرد‪ ،‬وكان روجيه لينهار ت �‪(Roger Leen‬‬ ‫ّ‬ ‫اللقطة المقربة تعطل‬
‫)‪ hardt‬على صواب عندما أعرب عن كرهه اللقط َة المقربة ألنها تجعل‬
‫المعرضة للمساحيق تتشابه‬
‫ّ‬ ‫الوجوه جميعها متشابهة‪ :‬جميع الوجوه غير‬
‫تعرضت لها تتشابه مع‬
‫مع وجه الممثلة فالكونيتي )‪ ،(Falconetti‬والتي ّ‬
‫يتعرف على‬
‫وجه غريتا غاربو((( ‪ .‬ولكن يجب التنويه بأن الممثل نفسه ال ّ‬
‫المقربة (بحسب شهادة أدلى بها بيرغمان عندما قال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ذاته داخل اللقطة‬
‫فأردفت‬
‫ْ‬ ‫"توجهنا نحو طاولة المونتاج فقال ليف‪ :‬كم هي قبيحة بيبي!‬
‫لست أنا بل أنت‪ ."...‬هذا يعني فقط أن الوجه في اللقطة المقربة‬
‫بيبي‪ُ :‬‬
‫ال تؤ ّثر فيه ال ذاتيه الدور‪ ،‬وال شخصية الممثل‪ ،‬على األقل مباشرة‪.‬‬
‫ومع ذلك ال يتساوى الممثلون‪ .‬فإذا كان ثمة وجه يقدر أن يع ّبر عن‬
‫خصوصيات مع ّينة من دون غيرها‪ ،‬فذلك يعود إلى تمايز أجزائه المادية‬
‫وإلى قدرته على تنويع عالقاته ببعضها‪ :‬فهناك أجزاء صلبة وأجزاء ل ّينة‪،‬‬
‫وأجزاء معتمة وأخرى مضاءة‪ ،‬وأجزاء كامدة وأخرى المعة‪ ،‬وأجزاء‬
‫صقيلة وأخرى خشنة‪ ،‬وأجزاء منكسرة الزوايا وأخرى منحنية‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫نالحظ إذن وجوه ًا تناسب هذا النوع من التأثرات دون تلك‪ .‬اللقطة‬

‫((( ‪Roger Leenhardt, cité par Abel Gance, L’art du cinéma de Pierre‬‬
‫‪Lherminier (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 174.‬‬

‫‪201‬‬
‫المقربة تجعل من الوجه المادة الصرفة للتأثر‪ ،‬فتكون هيولى له‪ .‬ونرى‬
‫هنا تلك األعراس السينمائية الغريبة التي تمنح الممثلة فيها وجهها‬
‫والقدرة المادية ألجزائه‪ ،‬في حين أن المخرج يبتكر التأثير والشكل‬
‫القابل للتعبير اللذين يستعيرانهما ويصوغانهما‪.‬‬

‫إذ ًا يوجد تركيب داخلي للقطة المقربة‪ ،‬أي يوجد ضبط عاطفي‬
‫للكادرات وتقطيع فني ومونتاج عاطفيان‪ .‬ما يمكن أن نسميه تركيب ًا‬
‫خارجي ًا يتم ّثل في عالقة اللقطة المقربة بلقطات أخرى لها نماذج أخرى‬
‫من الصور‪ .‬ولكن التركيب الداخلي يتم ّثل في ارتباط اللقطة المقربة‪،‬‬
‫مقربة‪ ،‬وإما بذات هذه اللقطة وعناصرها وأبعادها‪.‬‬‫إما بلقطات أخرى ّ‬
‫أضف إلى ذلك أنه ال يوجد فرق كبير بين الحالتين‪ :‬إذ يمكن أن يوجد‬
‫المقربة على نحو متراص أو متقطع؛ ولكن تستطيع‬‫ّ‬ ‫تعاقب في اللقطات‬
‫اللقطة المقربة أن تُبرز أيض ًا بالتتابع هذه المالمح أو هذه األجزاء من‬
‫الوجه‪ ،‬وتجعلنا نشهد تغ ّير ًا داخل العالقات‪ .‬وتستطيع لقطة مقربة‬
‫واحدة أن تبرز في ذات الوقت مجموعة من الوجوه‪ ،‬أو أجزاء متعددة‬
‫من الوجوه (ليس في تصوير قبلة فقط)‪ .‬وتستطيع أخير ًا أن تشمل زمكان ًا‬
‫عميق ًا أو سطحي ًا‪ ،‬كما لو أنها انتزعته من حيثياته التي تجردت منها‪:‬‬
‫وتنقل معها قطعة من السماء‪ ،‬أو من منظر طبيعي‪ ،‬أو من شقة سكنية‪،‬‬
‫أو من رؤية مجتزأة تزيد الوجه قوة وشخصية‪ .‬وهي أشبه بدارة تجمع‬
‫القريب والبعيد‪ .‬ثمة لقطة مقربة إليزنشتاين تظهر المظهر الجانبي‬
‫إليفان‪ ،‬بينما يظهر جمهور المتوسلين المص َّغر قرب قدميه متعارض ًا مع‬
‫الخط المتعرج للزوايا الحادة ألنفه وللحيته وجمجمته‪ .‬وثمة لقطة مقربة‬
‫للمخرج البرتغالي مانويل دو أوليفيرا )‪ (Manuel de Oliveira‬تتم ّثل‬

‫‪202‬‬
‫ّ‬
‫ويدل على‬ ‫في وجهين بشريين‪ ،‬ويظهر في العمق حصان يصعد درج ًا‬
‫التأثرات الناجمة عن خطف لعاشقين تصحبهما كوكبة موسيقية‪ .‬لقد‬
‫رأينا فع ً‬
‫ال أن ال مجال للتمييز بين اللقطة المقربة الكبرى واللقطة المقربة‬
‫العادية واللقطة المقربة المتوسطة أو حتى اللقطة األميركية‪ ،‬حينما تتحدد‬
‫اللقطة المقربة‪ ،‬ال بأبعادها النسبية‪ ،‬بل ببعدها المطلق ووظيفتها التي هي‬
‫تعبير عن التأثر كعنصر كياني‪ .‬ما نسميه تركيب ًا داخلي ًا للقطة المقربة يتناول‬
‫إذن العناصر التالية‪ :‬الكيان المعقد المع َّبر عنه مع خصوصياته‪ ،‬الوجه أو‬
‫الوجوه التي تع ّبر عنه‪ ،‬مع هذه األجزاء المادية المتمايزة أو تلك ومع هذه‬
‫العالقات المتغيرة بين األجزاء أو تلك (الوجه يتص ّلب أو ّ‬
‫يرق)‪ ،‬ح ّيز‬
‫الربط االفتراضي بين الخصوصيات‪ ،‬مما يميل إلى التطابق مع الوجه‬
‫أو يتجاوزه‪ ،‬اإلشاحة بالوجه أو بالوجوه‪ ،‬مما يفتح هذا الح ّيز ويصفه‪...‬‬

‫هذه الجوانب جميعها مترابطة‪ .‬يجب القول أوالً إن اإلشاحة‬


‫بالوجه ليست نقيض االلتفات‪ .‬فكالهما متالزمان‪ :‬تدل األولى باألحرى‬
‫على الحركة التي تحرك الشهوة‪ ،‬ويدل الثاني على الحركة التي تعكس‬
‫اإلعجاب‪ .‬وكما أظهر ذلك كورتيال عندما قال إنهما مرتبطان كالهما‬
‫بالوجه‪ ،‬ولكنهما ال يتعارضان مع ًا‪ ،‬بل يتعارضان مع فكرة الوجه غير‬
‫المم ّيز‪ ،‬الوجه الميت والثابت الذي قد يمحو جميع الوجوه ويقودها‬
‫إلى العدم‪ .‬ما دام هناك وجوه فإنها تدور ككواكب سيارة حول الكوكب‬
‫الثابت‪ ،‬وأثناء دورانها ال تنفك تنأى عنه‪ .‬إن أي تغيير طفيف في اتجاه‬
‫الوجه يغ ّير العالقة بين أجزائه القاسية وأجزائه الرقيقة‪ ،‬و ُيغ ّير بالتالي‬
‫مدى التأثر‪ .‬وحتى الوجه الوحيد له معدل من اإلشاحة وااللتفات‪.‬‬
‫فباإلشاحة‪ /‬االلتفات يع ّبر الوجه عن التأ ّثر ونموه وتناقصه‪ ،‬في حين أن‬

‫‪203‬‬
‫اإللغاء يتجاوز عتبة التناقص و ُيغرق التأثر في الفراغ و ُيفقد الوجه تعابيره‪.‬‬
‫في فيلم لولو لبابست‪ ،‬يشيح وجه جاك عن وجه المرأة فيعدّ ل في مدى‬
‫التأثر ويجعله يتنامى في اتجاه آخر‪ ،‬وصوالً إلى التناقص المفاجئ الذي‬
‫يغرق في العدم‪ .‬إن سينما بيرغمان قد تجد مآلها في محو الوجوه‪ :‬ت ََركها‬
‫تعيش ريثما تنهي ثورتها الغريبة المشينة والحاقدة‪ .‬إن العجوز الجاحظة‬
‫العينين هي أشبه بالشمس التي ‪ -‬ولو مشيحة بنظرها ‪ -‬تدور حولها بطلة‬
‫تشرئب بوجهها‬‫ّ‬ ‫فيلم وجه ًا لوجه‪ .‬والخادمة في فيلم صرخات وهمسات‬
‫العريض‪ ،‬الرخو والصامت‪ ،‬ولكن األختين ال تبقيان على قيد الحياة‬
‫إال بالدوران حوله وبإشاحة وجهيهما عن بعضهما؛ وهذه اإلشاحة‬
‫المتبادلة هي التي تؤ ّمن بقاء األختين على قيد الحياة في فيلم صمت‪،‬‬
‫وتؤ ّمن الحياة المضطربة لشخصيتي فيلم بيرسونا األساسيتين(((‪ .‬ويصل‬
‫بيرغمان بالوجوه المشيحة إلى لحظة ظفرها فتستعيد قوتها الكاملة‬
‫ثم في حيثيات ممكنة‬‫متجاوز ًة العدم ودائر ًة حول المومياء وتدخل من ّ‬
‫تخلق تأثر ًا قوي ًا‪ ،‬قوة سالح يخترق المكان ويشعل وضع األشياء الجائر‬
‫بدل أن يحرق هذه األشياء ذاتها‪ ،‬فيعيد الحياة إلى الحياة األولى‪ ،‬في ظل‬
‫وجه إنسان خنثى أو وجه طفل (كما في فيلم فاني وألكسندر)‪.‬‬

‫يسمى في العصور الوسطى بـ‬


‫إن الكيان المع َّبر عنه هو ما كان ّ‬
‫"المركّب الذي يحمل معنى" لقضية من القضايا‪ ،‬والذي يختلف عن‬
‫وضع األشياء‪ .‬فالمع ّبر عنه‪ ،‬أي التأ ّثر‪ ،‬يكون مركب ًا ألنه مؤ ّلف من‬
‫شتى الفرادات التي يجمعها حين ًا‪ ،‬وينقسم في داخلها حين ًا آخر‪ .‬لذا ال‬

‫‪Claude‬‬ ‫((( حول هذا اجلانب من اللقطة املقربة عند برغامن‪ ،‬انظر‪Roulet, :‬‬
‫‪«Une épure tragique,» Cinématographe, no 4 (Février, 1977).‬‬

‫‪204‬‬
‫يكف عن التغ ّير وعن تبديل طبيعته‪ ،‬بحسب التجميعات التي يجريها‬
‫يتعرض لها‪ .‬وهذا هو الجوهر التعبيري‪ ،‬أي الذي ال‬
‫واالنقسامات التي ّ‬
‫يتنامى وال يتناقص من دون أن يغ ّير في طبيعته‪ .‬إن ما يصنع وحدة التأثر‬
‫في كل لحظة هو الربط المحتمل الذي يقوم به التعبير والوجه والتقاسيم‪.‬‬
‫والش ْفرة القاطعة والحنان هي صفات وطاقات متباينة‬ ‫فاللمعان والهلع َ‬
‫تتجمع تارة وتتفرق طور ًا‪ .‬فاألولى هي طاقة وصفة لشعور‪ ،‬واألخرى‬
‫لعاطفة‪ ،‬والثالثة لفعل‪ ،‬والرابعة أخير ًا لحالة‪ .‬نقول‪" :‬صفة لشعور"‪...‬‬
‫إلخ‪ .‬ألن الشعور والعاطفة سيكونان بالضبط ما ستتبلور به الكيفية‪/‬‬
‫القوة‪ .‬ولكن الكيفية‪ /‬القوة ال تختلط مع وضع األشياء الذي تبلوره‬
‫على هذا النحو‪ :‬فاللمعان ال يختلط مع شعور مع ّين‪ ،‬وال تختلط الشفرة‬
‫القاطعة بفعل محدّ د‪ ،‬ولكنهما إمكانيتان واحتماالن صرفان يحققهما في‬
‫اإلحساس الذي يعطينا إياه السكين تحت الضوء‪ ،‬أو ما‬
‫ُ‬ ‫ظروف معينة‬
‫يفعله السكين في قبضة يدنا‪ .‬كما قال بيرس‪ ،‬إن لون ًا كاللون األحمر‪،‬‬
‫وقو ًة كقوة شفرة السكين‪ ،‬وصفة كصفة القاسي‬ ‫وإن قيمة كقيمة اللمعان‪ّ ،‬‬
‫والل ّين‪ ،‬هي كلها إمكانيات إيجابية ال تحيل إال إلى نفسها(((‪ .‬وبقدر ما‬

‫((( ‪Charles Sanders Peirce, Ecrits sur le signe, assemblés traduits‬‬


‫‪et commentés par Gérard Deledalle (Paris: Edition du Seuil, [s. d.]), p. 43:‬‬
‫«هناك بعض الصفات احلسية‪ ،‬مثل قيمة املاجينتا [املاجينتا‪ :‬اللون الزهري الذي‬
‫يستوعب اللون األخرض (املرتجم)]‪ .‬ورائحة خالصة الورد‪ ،‬وصوت صفارة القطار‪،‬‬
‫وطعم ح ّبة الكينا‪ ،‬ونوعية االنفعال الذي نشعر به عندما نُعجب بربهنة رياضية مجيلة‪،‬‬
‫باحلب‪ ...‬إلخ‪ .‬ال أريد هنا أن أتكلم عن االنطباع املرتبط بتجربة هذه‬
‫ّ‬ ‫ونوعية الشعور‬
‫املشاعر‪ ،‬أكان ذلك بشكل مبارش أو يف الذاكرة أو يف اخليال؛ أي ذلك اليشء الذي يربط‬
‫هذه الصفات بأحد عنارصه‪ .‬ولكنني أريد أن أتك ّلم عن الصفات التي هي بحد ذاهتا ولذاهتا‬
‫«احتامالت» رصفة مل تتحقق بالرضورة»‪.‬‬
‫‪205‬‬
‫تتجمع وتحيل الواحدة‬‫ّ‬ ‫تستطيع االنفصال عن بعضها بعض ًا‪ ،‬تستطيع أن‬
‫إلى األخرى‪ ،‬في ربط محتمل ال يختلط بدوره مع الصلة الفعلية القائمة‬
‫بين المصباح والسكين واألشخاص‪ ،‬مع أن هذا الربط يتبلور هنا واآلن في‬
‫هذه الصلة‪ .‬ينبغي علينا دائم ًا أن نم ّيز الكيفيات‪ /‬القوى في ذاتها باعتبار‬
‫الوجه أو الوجوه أو ما يعادلها تع ّبر عنها (الصورة‪/‬االنفعال العاطفي‬
‫للواحدية)‪ ،‬نم ّيزها عن تلك الكيفيات‪ /‬القوى باعتبارها تتبلور في حالة‬
‫من حاالت األشياء وفي زمكان محدد (الصورة‪ /‬الفعل لالثنينية)‪.‬‬

‫في فيلم آالم جان دارك للمخرج دريير‪ ،‬وهو فيلم عاطفي بامتياز‪،‬‬
‫هناك وقائع تاريخية تبقى‪ ،‬وأدوار اجتماعية وسمات فردية وجماعية‪،‬‬
‫وترابطات حقيقية بين الفتاة جان واألسقف والرجل اإلنجليزي والقضاة‬
‫والمملكة والشعب وبين المحاكمة‪ ،‬لالختصار‪ .‬ولكن هناك شيء‬
‫آخر‪ ،‬وال يمت بصلة إلى ما هو خالد أو متجاوز للتاريخ‪ ،‬إنه الشيء‬
‫"الجواني"‪ ،‬كما قال شارل بيغي )‪ .(Charles Péguy‬هو أشبه بحاضرين‬
‫يتقاطعان باستمرار‪ ،‬فما أن يبدأ أحدهما بالتح ّقق‪ ،‬حتى يكون اآلخر قد‬
‫نيمم‬
‫تم فعالً‪ .‬لقد قال بيغي‪ :‬إننا نستعرض الحدث التاريخي‪ ،‬ولكننا ّ‬ ‫ّ‬
‫شطرنا نحو الحدث اآلخر‪ :‬لقد تبلور الحدث األول منذ زمن طويل‪،‬‬
‫ولكن الحدث الثاني ما زال يع ّبر عن نفسه‪ ،‬ال بل يبحث عن تعبير له‪ .‬إنه‬
‫الحدث نفسه‪ ،‬ولكن جانب ًا منه قد اكتمل تمام ًا في ظرف ما‪ ،‬أما اآلخر‬
‫سر الحاضر هذا عند بيغي أو بالنشو‪ ،‬ولكن‬
‫فهو عصي على كل اكتمال‪ّ .‬‬
‫أيض ًا عند دريير وبريسون‪ ،‬هو الفرق بين محاكمة جان دارك وآالمها‪ ،‬مع‬
‫أنهما متالزمان‪ .‬وتتحدد األسباب الفاعلة ضمن الظروف؛ ولكن الحدث‬
‫نفسه‪ ،‬واالنفعال العاطفي‪ ،‬والتأثير‪ ،‬تتجاوز أسبابها الخاصة وال تحيل‬

‫‪206‬‬
‫إال إلى تأثيرات أخرى‪ ،‬في حين أن األسباب ترتبط بها‪ .‬ترتبط بغضب‬
‫األسقف وباستشهاد جان دارك؛ ولكن ال يبقى من األدوار والمواقف‬
‫إال ما يلزم كي يتج ّلى التأثر وتظهر حيثياته‪" :‬قوة" الغضب والخديعة‪،‬‬
‫"وضع" الضحية واالستشهاد‪ .‬إن استخالص اآلالم من المحاكمة‪ ،‬هو‬
‫أن نستخلص من الحدث هذا الجانب الغزير والصاعق الذي يتجاوز‬
‫تحيينه‪ ،‬أي أننا نستخلص "االكتمال الذي لم يكتمل قط"‪ .‬ويكمن التأ ّثر‬
‫في التعبير عن الظرف‪ ،‬ولكن هذا التعبير ال يحيل إلى الظرف بذاته‪،‬‬
‫بل إلى الوجوه التي تع ّبر عنه‪ ،‬وبتآلفها أو انفصالها تعطيها مادة خاصة‬
‫محركة‪ .‬ألن الفيلم مؤ ّلف من لقطات مقربة قصيرة‪ ،‬فإنه أخذ على عاتقه‬
‫ِّ‬
‫هذا الجانب من الحدث وال يقبل بتحيينه في بيئة محددة‪.‬‬

‫المهم هو مالءمة الوسائل التقنية مع هذا الهدف‪ .‬يتم تحديد حجم‬


‫اللقطة العاطفية بواسطة "لقطات قطع مقربة"‪ .‬فتارة يقتطع الشفتين‬
‫الزاعقتين أو هتافات األفواه الدرداء من كتلة الوجه‪ ،‬وطور ًا يقطع الكادر‬
‫أحد الوجوه على نحو أفقي أو عمودي أو بشكل منحرف أو مائل‪.‬‬
‫وتُقطع الحركات التي بوشر بها‪ ،‬وتقطع الوصالت الخاطئة أصالً‪ ،‬كما‬
‫لو كان ال بدّ من كسر الروابط الشديدة الواقعية والشديدة المنطق‪ .‬وغالب ًا‬
‫ما نرى أن وجه جان دارك ُيدفع إلى الجزء الخلفي من الصورة بحيث‬
‫تنقل اللقطة معها جزء ًا من الديكور األبيض‪ ،‬وهو منطقة فارغة وح ّيز‬
‫من السماء تستوحي منها جان دارك إلهامها‪ .‬وهذه هي وثيقة استثنائية‬
‫تحولها وتستجيب كادرات القطع هذه لمفهوم‬ ‫حول التفات الوجوه أو ّ‬
‫"إزاحة الكادر" الذي اقترحه بونيتزر عندما تك ّلم على الزوايا الناشزة‬
‫تسوغها كلي ًا ضرورات الفعل أو اإلحساس‪ .‬لقد تجنّب دريير‬ ‫التي ال ّ‬

‫‪207‬‬
‫طريقة الحقل‪ /‬الحقل المعاكس التي ستحتفظ لكل وجه بعالقة واقعية‬
‫مع الوجه اآلخر‪ ،‬والتي ستسهم في الصورة‪ /‬الفعل؛ ويفضل عزل كل‬
‫وجه في لقطة مقربة‪ ،‬فال يظهر فيها إال جزء منه‪ ،‬بحيث يؤدي وضعه من‬
‫ناحية اليمين أو من ناحية اليسار إلى وصل محتمل لم يعد يحتاج إلى‬
‫الربط بين األشخاص‪.‬‬

‫سماه درير‬
‫إن التقطيع الفني العاطفي بدوره يعمل من خالل ما ّ‬
‫نفسه "لقطات مقربة سائلة"‪ .‬ال شك أن ذلك هو حركة متواصلة تنتقل‬
‫فيها الكاميرا من اللقطة المقربة إلى اللقطة الوسطى أو لقطة عامة‪،‬‬
‫ولكنه طريقة لمعالجة اللقطتين المتوسطة والعامة‪ ،‬كما تعالج اللقطات‬
‫المقربة‪ ،‬وذلك بسبب غياب العمق أو إلغاء المنظور‪ .‬لم يعد ذلك هو‬ ‫ّ‬
‫المقربة‪ :‬ذلك‬
‫ّ‬ ‫اللقطة القريبة وإنما أية لقطة تستطيع أن تكون بمثابة اللقطة‬
‫أن التمايزات الموروثة من المكان تنحو إلى التالشي‪ .‬عندما ألغى دريير‬
‫المنظور "الجوي"‪ ،‬فإنه قد غ ّلب منظور ًا زمني ًا بامتياز‪ ،‬أو حتى روحي ًا‪:‬‬
‫فبتحطيمه البعد الثالث جعل المكان ذا البعدين في عالقة مباشرة بالتأ ّثر‪،‬‬
‫مع ُبعد رابع وخامس هما الزمان والروح‪ .‬من المؤكد أن اللقطة المقربة‬
‫تستطيع مبدئي ًا أن تمتلك أو أن تُلحق بها خلفيات بحسب عمق المجال‪.‬‬
‫يتجذر عنده ّ‬
‫يدل‬ ‫ّ‬ ‫ولكن األمر ليس كذلك بالنسبة لدريير‪ ،‬فالعمق عندما‬
‫باألحرى إلى اختفاء شخصية من الشخصيات‪ .‬على العكس من ذلك‪،‬‬
‫نفي العمق والمنظور‪ ،‬والتسطيح المثالي للصورة‪ ،‬يتيح استيعاب‬‫يتيح ُ‬
‫اللقطة المتوسطة أو العامة لل ّقطة المقربة‪ ،‬ويمكّن من تطابق المكان‬
‫أو العمق األبيض مع اللقطة المقربة‪ ،‬ال في فيلم مثل جان دارك فقط‬
‫حيث تسيطر اللقطات المقربة‪ ،‬ولكن أيض ًا وخصوص ًا في األفالم التي‬

‫‪208‬‬
‫لم تعد هذه اللقطات تسيطر عليها‪ ،‬ولم تعد بحاجة إلى السيطرة‪ ،‬وألنها‬
‫"سالت"‪ ،‬فإنها راحت تتغلغل مسبق ًا في اللقطات األخرى جميعها‪.‬‬
‫ويغدو كل شيء جاهز ًا للمونتاج العاطفي‪ ،‬أي جاهز ًا للعالقات بين‬
‫اللقطات القاصية والسائلة‪ ،‬وتجعل من جميع اللقطات حاالت خاصة‬
‫وتسجلها وتوحدها في لقطة قطع وحيدة كاملة الحقوق‬ ‫ٍ‬
‫للقطات مقربة‪،‬‬
‫ّ‬
‫(وهذا ما نحا إليه فيلم ا أورديت لغوستاف موالندر �‪(Gustav Molan‬‬
‫)‪( der‬السويد) وجيرترود لدريير)(((‪.‬‬

‫‪)2‬‬

‫المقربة تنتزع الوجه (أو ما يعادله) من‬‫ّ‬ ‫على الرغم من أن اللقطة‬


‫جميع الحيثيات الزمكانية‪ ،‬تستطيع أن تحمل معها زمان ًا ومكان ًا خاصين‬
‫بها‪ ،‬وتحمل جزء ًا من نظرة وسما ًء ومنظر ًا طبيعي ًا وعمق ًا‪ .‬فتارة يزود‬
‫عمق المجال اللقطة المقربة بخلفية معينة‪ ،‬وطور ًا ‪ -‬على العكس من‬ ‫ُ‬
‫ذلك ‪ -‬نرى أن نفي المنظور والعمق هو الذي يربط بين اللقطة المتوسطة‬
‫شق التأثر له مكان ًا‪ ،‬فلماذا ال يستطيع أن‬
‫واللقطة المقربة‪ .‬ولكن إذا ما ّ‬
‫يفعل ذلك من دون اللجوء إلى وجه وبمعزل عن اللقطة المقربة وعن‬
‫كل ما يحيل إليها؟‬

‫((( حول هذه النقاط مجيعها‪ :‬حتديد حجم اللقطة والتقطيع الفني واملونتاج‬
‫‪Philippe Parrain, Dreyer, cadres et mouvements,‬‬ ‫عند دريري‪ ،‬انظر‪études :‬‬
‫‪cinématographiques ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]).‬‬
‫وأيض ًا‪Réflexions sur mon métier,” Cahiers du Cinéma, no 65 (1956),“ :‬‬
‫ويف هذا املقال يطالب دريري «بإلغاء» مقوالت اللقطة األوىل واللقطة الثانية واخللفية‪.‬‬
‫‪209‬‬
‫لنعد إلى فيلم محاكمة جان دارك ‪(Le procès de Jeanne‬‬
‫)‪ d’Arc‬لروبرت بريسون‪ .‬لقد حدّ د جان سيمولويه )‪(Jean Sémolué‬‬
‫وميشال إستيف )‪ (Michel Estève‬التباينات والتشابهات مع فيلم‬
‫آالم جان دارك لدريير‪ .‬يتع ّلق التشابه الكبير في الفيلمين بالتأثر على‬
‫اعتبار أنه كيان روحي مركّب‪ :‬المكان األبيض للترابطات والوصالت‬
‫سر هذا‬
‫واالنقسامات‪ ،‬جانب الحدث الذي ال يقتصر على الظرف‪ّ ،‬‬
‫الحاضر المتجدّ د‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬نجد أن الفيلم مصنوع من لقطات وسطى‬
‫ومن مجاالت ومجاالت معاكسة؛ وجان دارك تظهر رهينة لمحاكمتها‬
‫أكثر مما هي رهينة آلالمها‪ ،‬فهي سجينة تقاوم أكثر منها ضحية وشهيدة(((‪.‬‬
‫المفصح عنها ال تختلط بالمحاكمة التاريخية‪،‬‬
‫َ‬ ‫صح أن هذه المحاكمة‬‫إذا ّ‬
‫إال أنها آالم‪ ،‬عند بريسون ودريير كليهما‪ ،‬وتتقاطع ربما مع محاكمة‬
‫المسيح‪ .‬ولكن اآلالم عند دريير هي آالم "غبطوية" تنتقل عبر الوجه‬
‫واالستفاضة واإلشاحة وتجابه الحدود‪ .‬أما عند بريسون فهي بحد ذاتها‬
‫"محاكمة" أي أنها محطة وخطوة ومسير (ففيلم يوميات كاهن ريفي‬
‫)‪ (Le journal d’un curé de campagne‬يركز على هذا الجانب من‬
‫وقفات أو محطات درب الصليب)‪ .‬إنها بناء للمكان قطعة قطعة‪ ،‬بناء‬
‫ذو قيمة لمسية‪ ،‬وفيه تأخذ اليد الوظيفة اآلمرة التي نراها في فيلم ّ‬
‫النشال‬
‫فتحل محل الوجه‪ .‬إن قانون هذا المكان هو‬ ‫ّ‬ ‫)‪]1959[ (Pickpocket‬‬
‫"التش ّظي"(((‪ .‬فالطاوالت واألبواب ليست معطيات كاملة‪ .‬وغرفة جان‬

‫((( انظر مقاالت جان سيمولويه وميشال إستيف يف‪Michel Estève, Jeanne :‬‬
‫‪d’Arc à l’écran (Paris: Minard, 1962).‬‬
‫)‪Bresson, Notes sur le cinématographe (Paris: Gallimard, [s. d.]), (8‬‬
‫‪= pp. 95-96,‬‬
‫‪210‬‬
‫دارك وقاعة المحكمة وزنزانة المحكوم عليه باإلعدام ليست معطيات‬
‫في لقطات رئيسية‪ ،‬ولكنها مقدّ مة بشكل تعاقبي بحسب وصالت تجعل‬
‫من تلك اللقطات واقع ًا مغلق ًا في كل مرة‪ ،‬ولكن إلى ما ال نهاية‪ .‬من هنا‬
‫ينبع الدور الخاص إلزاحة الكادرات‪ .‬فال يبدو العالم الخارجي نفسه إذن‬
‫مختلف ًا عن زنزانة هي أشبه بغابة من أحواض السمك كما في فيلم النسيلو‬
‫البحيرة )‪ .(Lancelot du Lac‬وهذا يبدو وكأن الروح تصطدم بكل جزء‪،‬‬
‫كما تصطدم بزاوية مغلقة‪ ،‬ولكنها تحظى بحر ّية اليد في التوصيل بين‬
‫األجزاء‪ .‬في الواقع نرى أن وصل األجزاء المتجاورة يمكن أن يتم بطرق‬
‫عديدة‪ ،‬وهو مرهون بشروط جديدة في السرعة والحركة‪ ،‬وبقيم إيقاعية‪،‬‬
‫فتتعارض مع كل تحديد مسبق‪ .‬ثمة "تبعية جديدة‪ ...‬ميدان سباق الخيل‬
‫في لونغشامب )‪ (Longchamp‬ومحطة ليون للقطارات‪ ،‬في فيلم ّ‬
‫النشال‪،‬‬
‫هما مكانان واسعان للتشظي يتغيران بحسب الوصالت اإليقاعية التي‬
‫يتمان فوق طاولة موات‬ ‫تتناسب مع مشاعر النشال‪ .‬فالهالك أو النجاة ّ‬
‫تنتظر أجزاؤها المتتابعة من حركاتنا‪ ،‬أو تنتظر من العقل أن يعيد اللحمة‬
‫إليها‪ .‬لقد خرج المكان ذاته من حيثياته الخاصة كما خرج من وحدات‬
‫القياس المترية‪ .‬إنه مكان ملموس‪ ،‬وبه يستطيع بريسون أن يصل إلى‬
‫نتيجة لم تكن إال نتيج ًة غير مباشرة عند دريير‪ .‬فلم يعد التأثر الروحي‬
‫يع َّبر عنه من خالل الوجه‪ ،‬ولم يعد المكان بحاجة إلى أن يكون خاضع ًا‬
‫للقطة مقربة ومستوعب ًا فيها‪ ،‬وال أن يعا َمل كلقطة مقربة‪ّ .‬‬
‫يتم التأثر اآلن‬
‫وبشكل مباشر في لقطة متوسطة‪ ،‬وفي مكان قادر على أن يتناسب معه‪.‬‬

‫«حول التش ّظي أقول‪ :‬إنه رضوري وإال وقعنا يف مسألة العرض؛ أي أن نشاهد‬ ‫=‬
‫الكائنات واألشياء يف أجزائها القابلة للقسمة؛ أي أن نعزل هذه األجزاء‪ ،‬وأن نجعلها‬
‫مستقلة كي نعطيها تبع ّية جديدة»‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫والمعالجة الشهيرة التي قام بها بريسون لألصوات الرتيبة ال تبرز فقط‬
‫تعاظم ًا في الخطاب الالمباشر الحر في العبارة كلها‪ ،‬بل تمكين ًا لكل ما‬
‫يحدث ويع َّبر عنه‪ ،‬وتناغم ًا بين المكان والتأثر المع َّبر عنه كاحتمال بحت‪.‬‬

‫لم يعد المكان ذلك المكان المحدد أو ذاك‪ ،‬لقد أصبح مكان ًا ال‬
‫على التعيين‪( ،‬غير محدد) طبق ًا لعبارة باسكال أوجيه )‪.(Pascal Augé‬‬
‫صحيح أن بريسون لم يبتدع األمكنة غير المحددة‪ ،‬مع أنه بنى بعضها‬
‫فضل البحث عن أصلها في السينما التجريبية‪.‬‬‫ألهدافه‪ ،‬وبطريقته؛ وربما ّ‬
‫ولكننا نستطيع القول إن هذه األمكنة قديمة قدم السينما‪ .‬المكان العادي‬
‫ليس من الكليات المجردة المرتبطة بكل زمان وكل مكان‪ .‬إنه مكان فريد‬
‫بامتياز‪ ،‬ولكنه مكان فقد تجانسه فقط‪ ،‬أي مبدأ عالقاته المترية‪ ،‬أو فقد‬
‫ترابط أجزائه‪ ،‬بحيث تتمكن الوصالت من أن تتحقق بطرق ال تحصى‪.‬‬
‫درك كمكان صرف للممكن‪ .‬ما ُيظهره تخلخل‬ ‫إنه مكان ربط افتراضي ُي َ‬
‫مثل هذا المكان وتنافره وغياب روابطه‪ ،‬هو ثراء االحتماالت والفرادات‬
‫ّ‬
‫ولكل تحديد‪ .‬لذا عندما نحدّ د‬ ‫التي تم ّثل الشروط األولية ّ‬
‫لكل تمكين‬
‫الصورة‪ /‬الفعل بالكيفية أو القوة بصفتهما ممكَّنتين في مكان مع ّين‬
‫(وضع األشياء)‪ ،‬ال يكفي أن نعارضها بالصورة‪ /‬االنفعال العاطفي التي‬
‫تربط الكيفيات والقوى إلى حالة الفعل المسبوقة التي تج ّلت في وجه‬
‫من الوجوه‪ .‬نقول اآلن بأن هناك نوعين من عالمات الصورة‪ /‬االنفعال‬
‫العاطفي أو بأن هناك صورتين للواحدية‪ :‬هناك من جهة‪ ،‬الكيفية‪ /‬القوة‬
‫التي يع ّبر عنها وج ٌه أو ما يعادله‪ ،‬ولكن هناك‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬الكيفية‪/‬‬
‫القوة المعروضة داخل مكان غير محدد‪ .‬وربما كانت الثانية أكثر دقة من‬
‫األولى‪ ،‬وأكثر قدرة على إظهار نشأة التأثر وتطوره وانتشاره‪ .‬والسبب‬

‫‪212‬‬
‫في ذلك هو أن الوجه يبقى وحدة عظمى‪ ،‬كما قال ديكارت‪ ،‬وتع ّبر‬
‫حركاته عن االنفعاالت المركبة والممزوجة‪ .‬وال نفسر األثر الشهير‬
‫الذي أبرزه كوليشوف )‪ (Koulechov‬بالربط بين الوجه وشيء متغ ّير‪،‬‬
‫بل نفسره بتعبيراته المبهمة التي تتناغم دائم ًا مع شتى التأ ّثرات‪ .‬على‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬حالما نترك الوجه واللقطة المقربة‪ ،‬وحالما ننظر في‬
‫المقربة واللقطة‬
‫ّ‬ ‫اللقطات المركبة التي تتجاوز التمايز البسيط بين اللقطة‬
‫المتوسطة واللقطة اإلجمالية‪ ،‬يبدو لنا أننا دخلنا في "منظومة من‬
‫والتفرد وصعبة التحديد‪ ،‬وصالحة إلحداث‬‫ّ‬ ‫االنفعاالت" شديدة الدقة‬
‫عندئذ على الصورة‪ /‬النفعال‬ ‫ٍ‬ ‫تأثرات أقل إنسانية(((‪ .‬فينطبق األمر‬
‫ٍ‬
‫عندئذ على عالمتين‪ ،‬تكون‬ ‫العاطفي وعلى الصورة‪ /‬اإلدراك‪ :‬فنحصل‬
‫إحداهما عالمة تركيب ثنائي القطب فقط‪ ،‬وتكون الثانية عالمة تكوينية‬
‫أو تفاضلية‪ .‬وسيكون المكان غير المحدّ د العنصر التكويني للصورة‪/‬‬
‫االنفعال العاطفي‪.‬‬

‫تشعر الفصامية الشابة بـ "أول أحاسيسها الخ ّلبية" أمام صورتين‪:‬‬


‫صورة صديقة لها تقترب منها ويتضخم وجهها بإفراط (كأنه رأس أسد)؛‬
‫وصورة حقل القمح المترامي األطراف‪" ،‬رحابة صفراء فاقعة"(‪ .((1‬إذا‬
‫عدنا إلى مصطلحات بيرس‪ ،‬لدللنا على عالمتي الصورة‪ /‬االنفعال‬

‫‪Pascal Bonitzer,‬‬ ‫((( وهذه هي إحدى األطروحات األساسية لكتاب بونيتزر‪:‬‬


‫‪Le champ aveugle, Cahiers du Cinéma (Paris: Gallimard, [s. d.]),‬‬
‫ما أن يتم جتاوز التمييزات املبسطة‪ ،‬وما أن تصبح اللقطات «ملتبسة» ال بل‬
‫«متناقضة» (وهذا ما حصل لدريري بوضوح)‪ ،‬حتى حتصل السينام عىل منظومة إدراكية‬
‫جديدة‪ ،‬ومنظومة انفعالية أيض ًا‪.‬‬
‫(‪M. A. Sechehaye, Journal d’une schizophrène (Paris: Presses ((1‬‬
‫‪Universitaires de France, [s. d.]), pp. 3-5.‬‬

‫‪213‬‬
‫العاطفي كالتالي‪ :‬األيقونة‪ ،‬للداللة على الوجه الذي يع ّبر عن كيفية‪/‬‬
‫قوة‪ ،‬العالمة الكيفية )‪ (Potisigne, Qualisigne‬للتعبير عن مكان غير‬
‫محدّ د‪ .‬إن بعض أفال م المخرج الهولندي جوريس إيفنس �‪(Joris Iv‬‬
‫)‪ ens‬تعطينا فكرة عن العالمة الكيفية‪" :‬ليس فيلم المطر مطر ًا محدد ًا‬
‫موحدة‬‫ال في مكان ما‪ .‬ليست هذه االنطباعات البصرية َّ‬ ‫وملموس ًا وهاط ً‬
‫بتصورات مكانية أو زمانية‪ .‬ما ترصده العين هنا بحساسيتها الشديدة‪،‬‬
‫ليس المطر فعالً‪ ،‬بل الطريقة التي يشاهد فيها عندما تنزل حباته من ورقة‬
‫إلى ورقة‪ ،‬بصمت متواصل‪ ،‬وعندما تقشعر مرآة البحيرة‪ ،‬وعندما تبحث‬
‫القطرة الوحيدة الحائرة عن طريقها على صفحة الزجاج‪ ،‬وعندما تنعكس‬
‫حياة مدينة كبرى على األسفلت المبلول‪ ...‬وحتى عندما يتعلق األمر‬
‫بموضوع وحيد‪ ،‬كما في فيلم الجسر الفوالذي في روتردام‪ ،‬يتحول هذا‬
‫البناء المعدني إلى صور غير مادية مؤطرة بألف طريقة وطريقة‪ .‬وألن هذا‬
‫الجسر يمكن أن يشاهد بطرق مختلفة فإنه يصبح جسر ًا غير واقعي نوع ًا‬
‫ما‪ .‬فال يبدو لنا كأنه من صنع مهندسين رموا إلى غاية معينة‪ ،‬بل كسلسلة‬
‫عجيبة من اآلثار البصرية‪ .‬هذه تنويعات بصرية يصعب على قطار بضائع‬
‫يمر فوقها‪ .((1( "...‬المسألة ليست مفهوم الجسر‪ ،‬وليست أيض ًا الحالة‬
‫أن ّ‬
‫الفردانية لألشياء كما يحددها شكلها ومادتها المعدنية واستخداماتها‬
‫ووظائفها‪ .‬إنها إمكانية‪ .‬المونتاج السريع لسبع مئة لقطة يجعل شتى‬
‫المشاهد قادرة على تطبيق مجموعة ال تحصى من الطرق؛ وألنها ليست‬ ‫َ‬
‫التفردات التي‬
‫موجهة بعضها نحو بعضها اآلخر‪ ،‬فإنها تشكل مجمل ّ‬ ‫َّ‬

‫(‪Balzac, Le cinéma (Paris: Payot, [s. d.]), p. 167, et Béla Balazs, ((1‬‬
‫‪L’esprit du cinéma, traduit de l’allemand par J. M. Chavy (Paris: Payot,‬‬
‫‪1977), p. 205.‬‬

‫‪214‬‬
‫تتحايث في المكان الالمحدَّ د الذي يظهر فيه هذا الجسر ككيفية بحتة‪،‬‬
‫وهذا المعدن كقوة بحتة‪ ،‬وتظهر فيه مدينة روتردام كتأ ّثر‪ .‬وال يتماهى‬
‫المطر مع مفهوم المطر‪ ،‬وال مع حالة الزمان والمكان الماطرين‪ .‬ثمة‬
‫مجموعة من التفردات قدّ مت المطر بذاته‪ ،‬أي كقوة بحتة أو ككيفية‬
‫وتكون المكان‬‫ّ‬ ‫تقترن ‪ -‬من دون تجريد ‪ -‬بجميع األمطار الممكنة‪،‬‬
‫الالمحدّ د المالئم‪ .‬هذا هو المطر كتأثر‪ ،‬وال يوجد شيء يتعارض كثير ًا‬
‫مع فكرة مجردة وعامة‪ ،‬من دون أن تتبلور في حالة فردية لألشياء‪.‬‬

‫‪)3‬‬

‫كيف يتم بناء مكان ما ال على التعيين (في اإلستوديو أو خارج‬


‫اإلستوديو)؟ كيف ُيستخلص مكان ما غير معين من وضع لألشياء‬
‫محدد ومن مكان مع ّين؟ الوسيلة األولى كانت الظل أو الظالل‪ :‬ذلك‬
‫أن المكان المليء بالظالل أو المغمور بها يصبح مكان ًا غير محدّ د‪ .‬رأينا‬
‫كيف تعاملت التعبيرية األلمانية بالظلمة والنور‪ ،‬والقاع األسود الكامد‬
‫والمبدأ الضوئي‪ :‬القوتان تتزاوجان وتتعانقان على طريقة المصارعين‬
‫ومشوه ًا‪ ،‬وسيمتلئان بالظالل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتعطيان المكان عمق ًا قوي ًا‪ ،‬ومنظور ًا الفت ًا‬
‫إما بشكل درجات الضوء التدرجي جميعها‪ ،‬وإما بشكل حزوز متعاقبة‬
‫ومتغايرة‪ .‬إنه عالم "قوطي"‪ُ ،‬يغرق األطراف أو يحطمها‪ ،‬ويمنح األشياء‬
‫حياة غير عضوية تضيع فيها فرديتها ويمكّن المكان من التبلور‪ ،‬جاع ً‬
‫ال‬
‫منه شيئ ًا ال ينتهي‪ .‬إن العمق هو حلبة الصراع التي تجتذب المكان إلى‬
‫قاع هاوية فاغرة حين ًا‪ ،‬وتجذبه حين ًا آخر إلى النور‪ .‬وعلى العكس‪،‬‬
‫يحدث بالتأكيد أن تصبح الشخصية باهتة شديدة الغربة‪ ،‬على قاع حلقة‬

‫‪215‬‬
‫مضيئة أو أن ظلها فقد كل سماكة‪ ،‬من خالل النور المعاكس والقاع‬
‫األبيض؛ ولكن من خالل "عكس قيم اإلضاءة واإلظالم" وعكس‬
‫ٍ‬
‫عندئذ يمارس العمق كل وظيفته‬ ‫المنظور الذي يدفع بالعمق قدم ًا(‪.((1‬‬
‫االستباقية ويقدّ م أنقى حاالت التأ ّثر التهديدي‪ ،‬على ِغرار ّ‬
‫الظل في فيلم‬
‫طرطوف )‪ (Tartuffe‬ونوسفيراتو‪ ،‬أو ظل الكاهن على العاشقين النائمين‬
‫في فيلم التحريم )‪ .(Tabou‬يستطيل الظل إلى ما ال نهاية‪ ،‬ويحدّ د هكذا‬
‫الترابطات الممكنة التي ال تتطابق مع حالة األشياء أو وضع الشخصيات‬
‫التي تنتج هذا الظل‪ :‬في فيلم عارض الظالل [‪ ]1922‬للمخرج األلماني‬
‫آرثر روبنسون )‪ ،(Arthur Robinson‬ثمة يدان ال تتشابكان إال عبر امتداد‬
‫وثمة امرأة ال تدا َعب إال بظالل أيدي المعجبين بها التي تتس ّلل‬
‫ظاللهما‪ّ ،‬‬
‫إلى ظل جسدها‪ .‬ويطور هذا الفيلم بحر ّية االتصاالت المحتملة‪ ،‬مب ّين ًا‬
‫تختف أخير ًا لدى‬‫ِ‬ ‫ما سيحدث لو أن األدوار والمزايا وحالة األشياء لم‬
‫ال عن الظروف المحيطة‬ ‫تفعيل التأثر‪ /‬الغيرة‪ :‬ذلك أنه جعل التأثر مستق ً‬
‫باألشياء‪ .‬في المكان القوطي المجدَّ د ألفالم الرعب‪ ،‬يدفع تيرانس فيشر‬
‫)‪ (Terence Fischer‬بعيد ًا جد ًا هذه االستقاللية للصورة‪ /‬االنفعال‬
‫المسمر على األرض‪ ،‬وال‬ ‫هلك دراكوال )‪(Dracula‬‬ ‫العاطفي عندما ي ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ظل صليب‬ ‫يتم ذلك إال بتضافر محتمل لمراوح طاحونة تشتعل وتعكس َّ‬
‫على موقع التعذيب بالضبط (راجع فيلم عشيقات دراكوال [‪.)]1962‬‬

‫(‪ ((1‬لقد ح ّلل بوفييه ولوترا هذه الطرق املتباينة لدى مورناو‪:‬‬
‫‪M. Bouvier et J. L. Leutrat, Nosferatu, Cahiers du Cinéma (Paris:‬‬
‫‪Gallimard, 1981), pp. 56-58, pp. 135-137, pp. 149-151.‬‬
‫دور الظالل يف التعبريية‪ ،‬انظر‪Lotte H. Eisner, L’écran démoniaque, :‬‬ ‫وحول‬
‫‪Encyclopédie du Cinéma (Paris: A. Bonne, [s. d.]), ch. VIII,‬‬
‫(وح ّلل لوت إيسنر بخاصة فيلم عارض الظالل )‪.)(Le montreur d’ombres‬‬
‫‪216‬‬
‫التجريد الغنائي هو أسلوب آخر‪ .‬ورأينا أنه يتحدد بالعالقة القائمة‬
‫بين النور واللون األبيض‪ ،‬مع احتفاظ الظل بدور هام فيها‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫من أن دول الظل في التعبيرية األلمانية ُمغاير جد ًا‪ .‬ذلك أن التعبيرية‬
‫تطور مبدأ التعارض والنزاع والصراع‪ :‬صراع الروح مع الظلمات‪ .‬بينما‬
‫يرى أنصار التجريد الغنائي‪ ،‬أن ما تفعله الروح ليس صراع ًا وإنما بدلية‪،‬‬
‫ومراوحة نحو الالنهاية أو انقالب ًا يتم في آخر لحظة‪ .‬وال يمدّ د من ثم ظرف ًا‬
‫من الظروف إلى ما ال نهاية‪ ،‬بل يعبر باألحرى عن بديل للظرف نفسه‬
‫وعن إمكانية تجاوزه‪ .‬لقد قطع جاك تورنور )‪ (Jacques Tourneur‬مع‬
‫التراث القوطي المتّبع في فيلم الرعب؛ فأمكنته الشاحبة اللون والمضيئة‬
‫ولياليه ذات الخلفية الفاتحة‪ ،‬جعلت منه ممث ً‬
‫ال للتجريد الغنائي‪ .‬في فيلم‬
‫السنور )‪ ،(Cat People‬ال يشاهد الهجوم الذي يحدث حول حوض‬
‫سباحة إال من خالل الظالل المرتسمة على الجدار األبيض‪ :‬هل المرأة‬
‫هي التي أصبحت فهد ًا (ربط احتمالي) أو أن الفهد هو الذي أفلت (ربط‬
‫فعلي)؟ ومن فيلم )‪ ،(Vaudou‬هل كان المشهد يم ّثل امرأة ميتة‪ /‬حية في‬
‫ُدهش‬ ‫ّ‬
‫المبشر(‪((1‬؟ لن ن َ‬ ‫خدمة الكاهنة أم يم ّثل فتاة مسكينة تخدم الراهب‬
‫إذا ما اضطررنا إلى ذكر ممثلين متباينين لهذا "التجريد الغنائي"‪ :‬فهم ال‬
‫تنوع الممثلين لم يحل‬‫يختلفون كثير ًا عن التعبيريين األلمان‪ ،‬ذلك أن ّ‬
‫دون متانة مفهوم من المفاهيم‪ .‬ما يبدو لنا جوهري ًا في التجريد الغنائي‪،‬‬

‫(‪ ((1‬نحيل يف هذا الصدد إىل جاك تورنور يف قاموس‪Jean-Marie Sabatier, :‬‬
‫‪Les classiques du cinéma fantastique (Paris: Balland, 1973),‬‬
‫ وهذه النزعة «البديلة» يف سينام الرعب‪ ،‬وهي نزعة تتعارض مع النزعة‬
‫القوطية‪ ،‬ليست مستقلة لدى املنتج لوتون )‪ ،(Lewton‬وال لدى رشكة )‪(R. K. O.‬‬
‫)‪( (Radio-Keith-Orpheum‬انظر املرجع املذكور)‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫هو أن الروح ال تنخرط في صراع‪ ،‬لكنها تجابه خيار ًا بديالً‪ .‬وهذا الخيار‬
‫البديل يمكن أن يظهر في شكل جمالي أو عاطفي (كما عند ستيرنبرغ)‬
‫أو أخالقي (كما عند دريفر) أو ديني (كما عند بريسون) أو حتى أن‬
‫يخلط بين هذه األشكال المختلفة‪ .‬فلدى ستيرنبرغ مثالً‪ ،‬الخيار الذي‬
‫يجب على البطلة أن تتخذه بين أن تكون خنثى بيضاء أو المعة وباردة‪،‬‬
‫وبين أن تكون امرأة عاشقة أو متزوجة قد ال يظهر بصراحة إال في بعض‬
‫المناسبات (كما في أفالم ‪ morocco‬وفينوس الشقراء وقطار شنغهاي‬
‫السريع)‪ ،‬وهو موجود أيض ًا في أفالمه كافة‪ :‬ففيلم اإلمبراطورة الحمراء‬
‫يشتمل على لقطة مقربة وحيدة مشطورة بالظل‪ ،‬وهي بالتحديد اللقطة‬
‫التي يتخ ّلى فيها األمير عن الحب ويختار تسنّم السلطة البارد‪ .‬أما بطلة‬
‫فيلم فينوس الشقراء فتتخ ّلى‪ ،‬على العكس‪ ،‬عن فستان السهرة األبيض‬
‫وتختار الحب الزوجي واألمومي‪ ،‬ولكي تكون خيارات ستيرنبرغ‬
‫تقل عن خيارات الروح لدى دريير أو بريسون‬ ‫شهوانية بعمق‪ ،‬فإنها ال ّ‬
‫المتعالية على الشهوانية ظاهري ًا(‪ .((1‬وعلى أي حال ال يتع ّلق األمر إال‬
‫بعاطفة أو بتأثر‪ ،‬مما ينطبق على قول كيركيغارد )‪ (Kierkegaard‬الذي‬
‫رأى أن اإليمان هو مسألة حب وتأ ّثر‪ ،‬وليس شيئ ًا آخر‪.‬‬

‫إن التجريد الغنائي يستخلص من عالقته األساسية باللون األبيض‬


‫تعززان اختالفه عن التعبيرية‪ :‬تعاقب الحدود بدل تعارضها؛‬‫نتيجتين ّ‬
‫خيار بديل للروح بدالً من الصراع أو القتال‪ .‬من جهة في التعاقب بين‬

‫(‪ ((1‬يف مقال نرشه لويس مال )‪ (Louis Malle‬يف جملة ‪ 30( Arts‬كانون األول‪/‬‬
‫ديسمرب ‪ ،)1959‬شدّ د عىل العنارص الشهوانية يف أفالم بريسون‪ ،‬وال سيام يف فيلم النشال‬
‫ال روحاني ًا‪ ،‬وخاصة‬‫)‪ .(Pick-pocket‬وعىل العكس نستطيع أن نقدّ م عن سترينربغ تأوي ً‬
‫يف فيلمه قطار شنغهاي الرسيع )‪( .(Shangaï Express‬انظر مشهد الصالة الباذخ)‪.‬‬
‫‪218‬‬
‫األبيض واألسود نجد أن األبيض هو الذي يأسر النور‪ ،‬وأن األسود‬
‫يبدأ عندما ينتهي النور‪ ،‬كما نجد البين بين أحيان ًا والرمادي العصي‬
‫على التمايز والذي يشكل الحد الثالث‪ .‬وتتم التعاقبات من صورة إلى‬
‫أخرى‪ ،‬أو تجري في الصورة نفسها‪ .‬وعند بريسون هي تعاقبات إيقاعية‬
‫بين الليل والنهار‪ ،‬كما في فيلم يوميات كاهن في الريف ‪(Le Journal‬‬
‫(‪ d’un curé de Campagne‬أو حتى في فيلم النسيلو البحيرة �‪(Lance‬‬
‫)‪ .lot du Lac‬وعند دريير‪ ،‬تصل التعاقبات إلى تركيب هندسي‪ ،‬كأنها‬
‫"بناء نغمي" أو تبليط للمكان (كما في فيلمي يوم الغضب وأورديت)‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى يبدو أن خيار الروح البديل يتالءم تمام ًا مع تعاقب‬
‫الحدود‪ :‬الخير والشر‪ ،‬والاليقين أو الالمباالة‪ ،‬ولكن ذلك يتم بطريقة‬
‫ال ُيشك في وجوب اختيار اللون األبيض‪ .‬لدى دريير‬ ‫غامضة جد ًا‪ .‬وفع ً‬
‫وبريسون يكتسب األبيض الخليوي والسريري طابع ًا مخيف ًا ووحشي ًا‬
‫وال يقل عن البياض الجليدي لدى ستيرنبرغ‪ .‬فاألبيض الذي اختارته‬
‫اإلمبراطورة الحمراء يقتضي تخلي ًا مرير ًا عن قيم الحميمية التي تجدها‬
‫فينوس الشقراء في التخلي عن اللون األبيض‪ .‬إنها قيم الحميمية ذاتها‬
‫التي تجدها بطلة فيلم يوم الغضب ذات لحظة في الظل العصي على‬
‫التمايز‪ ،‬بدالً من األبيض الكهنوتي‪ .‬فالبياض الذي يحبس النور ليس‬
‫أفضل من السواد الذي يبقى غريب ًا عنه‪ .‬وأخير ًا نرى أن خيار الروح‬
‫البديل ال يمت بصلة إلى تعاقب الحدود‪ ،‬مع أن هذا التعاقب هو بمثابة‬
‫أساس له(‪ .((1‬من باسكال إلى كيركيغارد انتشرت فكرة مهمة جد ًا تقول‪:‬‬

‫(‪ ((1‬حول التعاقبات‪ ،‬وحول خيار الروح البديل‪ ،‬ثمة عنارص حتليل كثرية‬
‫نجدها عند فيليب باران )‪ (Philippe Parrain‬حول دريري )‪( (Dreyer‬املصدر نفسه)‪،‬‬
‫=‬ ‫وعند ميشال إستيف حول بريسون‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫ال تتعلق البدلية بحدود يجب اختيارها‪ ،‬بل بطرق عيش الشخص الذي‬
‫يختار‪ .‬فثمة خيارات ال يمكن طرحها إال بشرط االقتناع بأن ال خيار‬
‫أمامنا‪ ،‬إما بسبب التزام أخالقي (الخير‪ ،‬الواجب) وإما لضرورة مادية‬
‫(الظروف‪ ،‬األوضاع)‪ ،‬وإما لضرورة نفسية (رغبتنا في شيء معين)‪ .‬إن‬
‫الخيار الروحي يتحقق ما بين طريقة وجود الشخص الذي يختار‪ ،‬بشرط‬
‫أال يعلم بأنه يختار وبين طريقة وجود الشخص الذي يعلم بأنه أمام خيار‪.‬‬
‫كأن هناك اختيار ًا لالختيار أو لعدم االختيار‪ .‬إذا ما كنت واعي ًا لالختيار‪،‬‬
‫فثمة إذن خيارات ال أستطيع اإلقدام عليها‪ ،‬وثمة طرق عيش ال يمكنني‬
‫عيشها من بعد‪ ،‬وطرق كنت أعيشها كلها مشروطة بقناعة تقول‪" :‬لم‬
‫يكن لدي الخيار"‪ .‬إن رهان باسكال لم يقل شيئ ًا آخر‪ :‬فتعاقب الحدود‬
‫هو فع ً‬
‫ال تأكيد على وجود الله‪ ،‬ونفيه وتعليقه (بالشك والاليقين)؛ ولكن‬
‫تعاقب الروح يكمن في مكان آخر‪ ،‬فهو يراوح بين طريقة حياة الشخص‬
‫الذي "يراهن" على أن الله موجود وبين طريقة حياة الشخص الذي‬
‫يراهن على عدم وجوده أو ال يريد أن يراهن‪ .‬يرى باسكال أن األول‬
‫فقط يعي بأنه معني باالختيار‪ ،‬وال يستطيع اآلخران أن يختارا إال بشرط‬
‫أن يعرفا كنه ذلك‪ .‬باختصار‪ ،‬االختيار الذي هو بمثابة تصميم روحي ال‬
‫يهدف إال لذاته‪ :‬أنا أختار االختيار‪ ،‬وبالتالي أستبعد كل اختيار اتخذته‬
‫بأسلوب عدم االختيار‪ .‬هذا سيكون أيض ًا جوهر ما سماه كيركيغارد‬
‫بـ "البدلية"‪ ،‬وما سماه سارتر بـ "االختيار"‪ ،‬وهذه الكلمة األخيرة هي‬
‫الترجمة اإللحادية لكلمة كيركيغارد‪.‬‬

‫من باسكال إلى بريسون‪ ،‬ومن كيركيغارد إلى دريير‪ ،‬يرتسم خط‬

‫‪Michel Estève, Robert Bresson (Paris: Seghers, [s. d.]).‬‬ ‫=‬


‫‪220‬‬
‫من اإللهام‪ .‬عند كتّاب التجريد الغنائي‪ ،‬ثمة سلسلة غن ّية من الشخصيات‬
‫التي تم ّثل طرق عيش ملموسة‪ .‬هناك الرجال البيض‪ ،‬أي رجال الله‬
‫والخير والفضيلة‪ ،‬وهناك "أتقياء" كباسكال وطغاة ومنافقون ربما‪،‬‬
‫وحماة النظام باسم الواجب األخالقي أو الديني‪ .‬هناك رجال الاليقين‬
‫الرماديون (على غرار البطل في فيلم مصاص الدماء لدريير‪ ،‬وعلى غرار‬
‫النسيلو لبريسون‪ ،‬أو حتى ّ‬
‫النشال الذي كان عنوانه األول ال يقين)‪.‬‬
‫وهناك مخلوقات الشر‪ ،‬وهي كثيرة عند بريسون (انتقام هيلين في فيلم‬
‫سيدات غابة بولونيا )‪ (Les dames du bois de Boulogne‬وخبث‬
‫جيرار في فيلم كيفما اتفق يا بلتزار )‪ ،(Au hasard Balthazar‬وسرقات‬
‫النشال )‪ ،(Pickepocket‬وجرائم إيفون في فيلم المال )‪.(L’argent‬‬ ‫ّ‬
‫وفي ذورة الجانسينية عند بريسون‪ ،‬أظهر العار نفسه في األعمال‪ ،‬أي‬
‫الخير والشر فيها‪ :‬ففي فيلم المال لن يمارس الورع لوسيان )‪(Lucien‬‬
‫اإلحسان إال بناء على الشهادة الكاذبة والسرقة اللتين كانتا شرطيه في‬
‫ذلك‪ ،‬في حين أن إيفون ال ُيقدم على الجريمة إال بعد أن توضح له شرط‬
‫اآلخر‪ .‬وقد يقال إن رجل الخير ال يصل إال بعد أن ينتهي رجل الشر‬
‫من فعلته‪ .‬ولكن لماذا ال يكون هناك‪ ،‬بدالً من خيار الشر المرغوب فيه‪،‬‬
‫خيار للشر "من أجل" الشر من دون أي التباس؟ إن جواب بريسون يشبه‬
‫جواب ميفيستو عند غوته‪ :‬نحن معشر األبالسة ومصاصي الدماء أحرار‬
‫في ارتكاب الفعلة األولى‪ ،‬ولكننا عبيد في األخرى‪ .‬هذا ما يقوله الحس‬
‫تفوه به مفوض الشرطة في‬ ‫السليم (ولكن بأسلوب سيء)‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫اخترت موقف ًا لم يعد يسمح لك‬
‫َ‬ ‫فيلم النشال‪" :‬إننا ال نتوقف البتة"‪ ،‬لقد‬
‫باالختيار‪ .‬بهذا المعنى نرى أن النماذج الثالثة من الشخصيات السابقة‬
‫تنتمي إلى الخيار السيىء‪ ،‬ومن ذلك الخيار الذي ال يتم إال بشرط إنكار‬
‫‪221‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ نفهم ‪ -‬من وجهة نظر التجريد الغنائي‬ ‫الخيار (أو الخيار المتبقي)‪.‬‬
‫‪ -‬ماهية الخيار‪ ،‬وعي الخيار كتصميم روحي متين‪ .‬ليس هو خيار الخير‪،‬‬
‫وليس أيض ًا خيار الشر‪ .‬إنه خيار ال يتحدّ د من خالل ما يختاره‪ ،‬وإنما‬
‫من خالل القوة التي يمتلكها والتي تتم ّثل في تمكّنه من البدء من جديد‬
‫ومن التث ّبت الذاتي‪ ،‬مجازف ًا برهانه كل مرة‪ .‬وحتى إذا اقتضى هذا الخيار‬
‫التضحية بصاحبه‪ ،‬أي أنه ال يقدم على هذه التضحية إال بشرط أن يعرف‬
‫تصور ًا‬
‫أنه سيعاود الكرة في كل مرة‪ ،‬وفي جميع المرات (وهنا أيض ًا نجد ّ‬
‫شديد االختالف عن تصور التعبيرية التي تعتبر أن التضحية تمت مرة‬
‫واحدة‪ ،‬وانتهى األمر)‪ .‬لدى ستيرنبرغ نفسه‪ ،‬ليس الخيار الحقيقي إلى‬
‫جانب اإلمبراطورة الحمراء وال إلى جانب تلك التي اختارت االنتقام‬
‫في فيلم ‪ ،Shangaï Gesture‬بل إلى جانب تلك التي اختارت حتى‬
‫التضحية بنفسها في فيلم قطار شنغهاي السريع‪ ،‬ولكن بشرط‪ :‬أال ّ‬
‫تبرر‬
‫لنفسها تلك التضحية‪ ،‬وأال تعتبر أن ذلك واجب‪ ،‬وأنه ال يترتّب عليها‬
‫تقديم حساب ألحد‪ .‬الشخصية ذات االختيار الصحيح وجدت نفسها‬
‫في التضحية وتجاوزت التضحية التي ال تكف عن التجدّ د‪ :‬فعند بريسون‬
‫ثمة جان دارك‪ ،‬والرجل المحكوم عليه بالموت‪ ،‬وكاهن القرية؛ وعند‬
‫دريير ثمة أيض ًا جان دارك والثالثي الكبير‪ :‬آن في فيلم يوم الغضب‬
‫وإنجيه في فيلم أورديت وأخير ًا جيرترود‪ .‬وإلى النماذج الثالثة السابقة‬
‫يجب أن نضيف نموذج ًا رابع ًا‪ :‬أال وهو شخصية االختيار الصحيح أو‬
‫شخصية االختيار الواعي‪ ،‬أي التأثر‪ :‬فإذا حافظ الثالثة اآلخرون على‬
‫التأثر كحالة راهنة في نظام أو في فوضى قائمين‪ ،‬فإن الشخصية ذات‬
‫االختيار الصعب ترفع تأ ّثرها إلى قوة بها أو إمكانيتها الخالصة على غرار‬
‫حب النسيلو المرهف‪ ،‬ولكن هذه الشخصية تجسد هذا التأثر وتبلوره‬
‫ّ‬
‫‪222‬‬
‫وال س ّيما أنها تبث فيه الجانب الذي ال يقبل بالتبلور‪ ،‬والذي يتجاوز كل‬
‫إتمام (العود األبدي)‪ .‬ويضيف بريسون أيض ًا نموذج ًا خامس ًا أو شخصية‬
‫خامسة‪ :‬الحيوان أو الحمار في فيلم كيفما اتفق يا بلتزار‪ .‬فألن الحمار ال‬
‫يعرف إال براءة من يتعذر عليه أن يختار أو براءة الخيارات البشرية‪ ،‬أي‬
‫جانب األحداث التي تتحقق داخل األجساد وتقتلها من دون التمكّن من‬
‫الوصول (ولكن دون التمكن من الخيانة) إلى جانب ما يتجاوز اإلنجاز‬
‫الموضوع المفضل لخبث‬
‫َ‬ ‫أو التصميم الروحي‪ .‬وهكذا يكون الحمار‬
‫البشر‪ ،‬ولكن أيض ًا االتحاد األسمى بالمسيح‪ ،‬أو بإنسان االختيار‪.‬‬
‫إنها لفكرة غريبة هذه النزعة األخالقية المفرطة التي تتعارض‬
‫مع األخالق‪ ،‬وهذا اإليمان الذي يتعارض مع الدين‪ .‬فال عالقة له البتة‬
‫مع نيتشه‪ ،‬ولكنه موجود بغزارة عند باسكال وكيركيغارد أو الجانسينية‬
‫واإلصالحية (وهو موجود حتى عند سارتر)‪ .‬إنه ينسج بين الفلسفة‬
‫والسينما مجموعة من العالقات الق ّيمة(‪ .((1‬ونالحظ عند إريك روهمر‬

‫تسع الفلسفة إىل جتديد‬


‫َ‬ ‫(‪ ((1‬يف النصف الثاين من القرن التاسع عرش مل‬
‫مضموهنا فحسب‪ ،‬بل إىل امتالك وسائل وأشكال تعبريية جديدة‪ ،‬عىل يد مفكرين‬
‫خمتلفني جد ًا ال جيمع بينهم إال شعورهم بأهنم املم ّثلون األوائل لفلسفة املستقبل‪ .‬هذا‬
‫واضح جد ًا عند كريكيغارد (يف فرنسا ظهر هذا البحث عن أشكال جديدة يف حلقة‬
‫رينوفييه )‪ (Renouvier‬وليكيري )‪ (Lequier‬لدى جمموعة ُأمهلت ظل ًام وكان أحد‬
‫مواضيعها األساسية فكرة اخليار)‪ .‬إذا بقينا عند كريكيغارد لقلنا إن إحدى الوسائل التي‬
‫اتسم هبا هو أنه ُيدخل يف تأمالته شيئ ًا يصعب عىل القارئ أن حيدده بوضوح‪ :‬هل هو‬
‫مثال أو مقطع من مذكرات محيمية أو حكاية أو طرفة أو ميلودراما‪ ...‬إلخ؟ يف مؤلفه ‪Le‬‬
‫ال يروي قصة رجل برجوازي يتناول طعام الفطور مع عائلته‬ ‫‪ traité du désespoir‬مث ً‬
‫اختنقت!»‪ ،‬ويف‬
‫ْ‬ ‫متصفح ًا جريدته‪ ،‬وفجأة هيرع إىل النافذة ويرصخ‪« :‬إ ّيل باملمكن‪ ،‬وإال‬
‫كتاب مراحل عىل درب احلياة يروي قصة املحاسب الذي يصاب باجلنون ساعة يف اليوم‪،‬‬
‫ويبحث عن قانون حييص ويث ّبت التشاهبات‪ ،‬وذات يوم يدخل إىل املاخور ولكنه مل حيتفظ‬
‫بأية ذكرى عام حدث‪ ،‬وربام كان هذا «هو الذي يدفعه إىل اجلنون‪ .»...‬يف كتاب ‪= Crainte‬‬
‫‪223‬‬
‫أيض ًا تاريخ ًا كام ً‬
‫ال من أنماط العيش واالختيار‪ ،‬ومن ضروب االختيارات‬
‫الخاطئة واالختيارات الواعية ويتصدر مجموعة أفالم الحكايات‬
‫األخالقية (وال سيما فيلم ليلتي عند مود )‪(Ma nuit chez Maud‬؛‬
‫ومؤخر ًا فيلم الزواج الجميل )‪ (Le beau mariage‬الذي يتك ّلم عن فتاة‬
‫وتصرح بذلك جهار ًا‪ ،‬ألنها اختارته كما اختارت‬
‫ّ‬ ‫شابة اختارت أن تتزوج‬
‫في الماضي عدم الزواج‪ ،‬ويحدوها الوعي الباسكالي نفسه ونفس التوق‬
‫إلى الخلود والالنهاية)‪ .‬لماذا تمتعت هذه المواضيع بأهمية كبرى من‬
‫الناحيتين الفلسفية والسينمائية؟ ولماذا يجب اإللحاح على هذا الخيار؟‬
‫ذلك أن الخيار الصحيح‪ ،‬الخيار الذي يعني اختيار الخيار‪ ،‬في الفلسفة‬
‫كما في السينما عند باسكال وبريسون وكيركيغارد ودريير‪ُ ،‬يفترض فيه‬
‫أنه يرد إلينا كل شيء‪ .‬يجعلنا نجد كل شيء في روح التضحية‪ ،‬أثناء‬
‫التضحية‪ ،‬ال بل قبل حصول التضحية‪ .‬قال كيركيغارد‪ :‬عندما أترك‬
‫خطيبتي تعاد إلي بالخيار الصحيح؛ إن إبراهيم )‪ (Abraham‬عندما‬
‫ضحى أغاممنو ن �‪(Agamem‬‬ ‫ضحى بابنه وجده في فعل التضحية‪ .‬لقد ّ‬ ‫ّ‬
‫)‪ non‬بابنته إيفيجينيا )‪ ، (Iphigénie‬لكنه فعل ذلك كواجب‪ ،‬وكواجب‬
‫سيضحي إبراهيم بابنه‬
‫ّ‬ ‫فقط‪ ،‬مختار ًا أال يكون له اختيار‪ .‬على العكس‪،‬‬
‫يوحده‬
‫الذي يح ّبه أكثر من نفسه‪ ،‬باختياره فقط‪ ،‬وبوعي اختياره الذي ّ‬
‫ٍ‬
‫حينئذ ُرد إليه ابنه‪ .‬هذه هي مسألة‬ ‫بالله متجاوز ًا مسألة الخير والشر‪.‬‬
‫التجريد الغنائي‪.‬‬

‫= ‪ et tremblement‬يروي قصة أنييس واإلله البحري بأسلوب الصور املتحركة‪ ،‬وقدم‬


‫كريكيغارد عنها عدة سيناريوات‪ .‬وهناك أمثلة كثرية‪ .‬ولكن القارئ املعارص يستطيع أن‬
‫يعطي اس ًام هلذه املقاطع الغريبة‪ ،‬ففي كل قصة هناك سيناريو أشبه بإزائية حقيقية ظهرت‬
‫هبذا األسلوب يف الفلسفة والالهوت وللمرة األوىل‪.‬‬
‫‪224‬‬
‫لقد انطلقنا من مكان محدّ د ألوضاع األشياء‪ ،‬مكان يتعاقب فيه‬
‫اللون األبيض واألسود والرمادي‪ ...‬وقلنا إن األبيض ّ‬
‫يدل على واجبنا‬
‫أو مقدرتنا؛ واألسود على عجزنا أو تعطشنا إلى الشر؛ والرمادي إلى‬
‫الليقين عندنا‪ ،‬وإلى بحثنا وعدم اكتراثنا‪ .‬ثم ارتقينا إلى خيار الروح‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فكان علينا أن نختار بين أنماط من العيش‪ ،‬وكان يقضي بعضها بلونه‬
‫األبيض أو األسود أو الرمادي أن ال خيار أمامنا (أو أننا فقدنا هذا الخيار)؛‬
‫ولكن نمط ًا واحد ًا آخر منها كان يقضي بأن نختار االختيار‪ ،‬وبأننا نعيه‪.‬‬
‫إنه النور اللوني أو المحايث الذي يتجاوز األبيض واألسود والرمادي‪.‬‬
‫وما أن نصل إلى هذا النور حتى َي ُر ّد لنا كل شيء‪ ،‬ير ّد لنا اللون األبيض‬
‫ولكنه يكف عن احتجاز النور؛ وبعد ذلك يرد لنا األسود الذي لم يعد‬
‫يقطع النور‪ ،‬وير ّد لنا حتى الرمادي الذي يكف عن التماهي مع الاليقين‬
‫وعدم االكتراث‪ .‬لقد بلغنا حيز ًا روحي ًا ال يعود فيه ما نختاره يتم ّيز عن‬
‫االختيار ذاته‪ .‬يتحدد التجريد الغنائي بمغامرة النور واألبيض‪ .‬ولكن‬
‫فصول هذه المغامرة هي التي منذ البداية تجعل األبيض الذي يحتجز‬
‫يتحرر النور‬
‫النور يتناوب مع األسود الذي يتوقف النور عنده‪ .‬ومن ثم ّ‬
‫في خيار ير ّد لنا األبيض واألسود أيض ًا‪ .‬لقد انتقلنا ونحن في المكان‬
‫نفسه من حيز إلى آخر‪ ،‬انتقلنا من الحيز الفيزيائي إلى الحيز اللدني الذي‬
‫يعطينا فيزيا ًء (أو ميتافيزياء)‪ .‬الحيز األول خليوي ومغلق‪ ،‬ولكن الحيز‬
‫الثاني ال يختلف عنه‪ ،‬إنه ذاته باعتبار أنه وجد فقط االنفتاح الروحي الذي‬
‫يتخطى االلتزامات الشكلية والضغوط المادية جميعها‪ ،‬هارب ًا إما بالفعل‬
‫أو بشكل مبدئي‪ .‬هذا ما اقترحه بريسون من خالل مبدأ "التش ّظي" الذي‬
‫نادى به‪ ،‬فنحن ننتقل من مجموع مغلق نش ّظيه إلى كل روحي مفتوح‬
‫خلقناه أو أعدنا خلقه‪ .‬وهذا أيض ًا ما قاله دريير‪ :‬الممكن فتح الحيز كبعد‬
‫‪225‬‬
‫من أبعاد الروح (بعد رابع أو خامس)‪ .‬فلم يعد الحيز محدد ًا‪ ،‬لقد أصبح‬
‫حيز ًا عادي ًا مماث ً‬
‫ال لقوة الروح وللقرار الروحي المتجدّ د دائم ًا‪ ،‬وهذا‬
‫القرار هو الذي ُيشكّل التأثر أو "االنفعال العاطفي الذاتي"‪ ،‬وهو الذي‬
‫وصل األجزاء ببعضها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫يأخذ على عاتقه‬

‫إن الظلمة وكفاح الروح واألبيض وبدل ّية الروح‪ ،‬تشكّل كلها‬
‫النهجين األولين اللذين بهما يصبح الحيز حيز ًا عادي ًا ويرقى إلى ِقوى‬
‫المضيء الروحية‪ .‬يجب أيض ًا أن ننظر في النهج الثالث‪ ،‬وأعني به اللون‬
‫الذي لم يعد الح ّيز المظلم للتعبيرية‪ ،‬وال الحيز األبيض للتجريد الغنائي‪،‬‬
‫وإنما الحيز‪ /‬اللون للتلوينية‪ .‬وكما في التصوير‪ ،‬نحن نم ّيز التلوينية‬
‫عن األحادية اللونية أو التعددية اللونية اللتين ‪ -‬عند غريفيث أو عند‬
‫إيزنشتاين ‪ -‬صنعتا صورة ملونة فقط وسبقتا الصورة‪ /‬اللون‪.‬‬

‫من بعض النواحي كانت الظلمة التعبيرية واألبيض الغنائي يلعبان‬


‫دور األلوان‪ .‬ولكن الصورة‪ /‬اللون الحقيقية تُشكّل طريقة ثالثة للفضاء‬
‫العادي‪ .‬إن األشكال الرئيسية لهذه الصورة‪ ،‬وإن اللون‪ /‬السطح للمساحة‬
‫الموحدة‪ ،‬وإن اللون الفضائي الذي يتخ ّلل األلوان األخرى‬
‫ّ‬ ‫اللونية‬
‫تدرج إلى آخر‪ ،‬تنحدر‬
‫جميعها‪ ،‬وإن اللون‪ /‬الحركة الذي ينتقل من ّ‬
‫كلها ربما من الكوميديا الموسيقية ومن قدرتها على استخالص ظرف‬
‫اصطالحي من عالم افتراضي غير محدود‪ .‬من هذه األشكال الثالثة‪ ،‬يبدو‬
‫أن اللون‪ /‬الحركة هو وحده الذي ينتمي إلى السينما‪ ،‬أما األلوان األخرى‬
‫فهي طاقات تصويرية تمام ًا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن الصورة‪ /‬اللون في السينما‬
‫تتحدد بخاصية أخرى على ما يبدو مع أنها موجودة أيض ًا في التصوير‪،‬‬
‫ولكنها تعطي التصوير مدى ووظيفة مختلفين‪ .‬إنها خاصية االمتصاص‪،‬‬
‫‪226‬‬
‫وعبارة غودار "ليس هذا دم ًا‪ ،‬بل لون أحمر" هي عبارة التلوينية بالذات‪.‬‬
‫فخالف ًا للصورة الملونة فقط‪ ،‬ال ترتبط الصورة‪ /‬اللون بهذا الشيء أو‬
‫ذاك‪ ،‬ولكنها تمتص كل ما تستطيع امتصاصه‪ :‬إنها القوة التي تستحوذ‬
‫على كل شيء يقع في مداها‪ ،‬أو هي الصفة المشتركة ألشياء متباينة‪ .‬ثمة‬
‫بالتأكيد رمزية لأللوان‪ ،‬ولكنها ليست تطابق ًا بين لون وتأ ّثر (األخضر هو‬
‫األمل‪ )...‬اللون هو على العكس التأثر نفسه‪ ،‬أي الربط المحتمل لجميع‬
‫األشياء التي يلتقطها‪ .‬حصل ألولييه أن قال إن أفالم المخرجة البلجيكية‬
‫أغنيس فارد ا )‪ ،(Agnès Varda‬وخصوص ًا فيلمها السعادة �‪(Le bon‬‬
‫المشاهد فقط‪ ،‬بل الممثلين أيض ًا والمواقف‪ ،‬بحسب‬ ‫)‪ ،heur‬ال تمتص ُ‬
‫الحركات المعقدة المتأثرة باأللوان اإلضافية(‪ .((1‬وانطبق ذلك أيض ًا على‬
‫فيلم النكتة الصغيرة‪ ،‬وفيه اعتبر األبيض واألسود كألوان إضافية‪ ،‬اتخذ‬
‫األبيض فيها جانب المرأة (العمل األبيض‪ ،‬الحب والموت األبيضان)‪،‬‬
‫في حين أن األسود اتخذ جانب الرجل‪ ،‬ورسم الممثالن الرئيسيان في‬
‫"الثنائي المجرد" مكان البدل ّية والتكامل أثناء الكالم‪ .‬وفي فيلم السعادة‬
‫يصل هذا التشكيل إلى الكمال التلويني‪ ،‬فيتكامل البنفسجي الخبازي‬
‫والذهبي البرتقالي ويتناضح الممثلون والممثالت في الحيز السري‬
‫الذي يتوافق مع األلوان‪ .‬وإذا ما تابعنا االستشهاد بمخرجين متباينين‬
‫كي نبرز على نحو أفضل الصحة المحتملة لمفهوم من المفاهيم‪ ،‬وجب‬
‫القول بأن المخرج األميركي فيشنتي ميني ّلي )‪ ،(Vicente Minelli‬منذ‬
‫بداية السينما‪ ،‬قد اعتبر االمتصاص القوة السينمائية الخاصة لهذا البعد‬
‫الجديد للصورة‪ .‬ومن هنا يتج ّلى لديه دور الحلم‪ :‬فالحلم ليس سوى‬

‫(‪Claude Ollier, Souvenirs écran, Cahiers du Cinéma (Paris: ((1‬‬


‫‪Gallimard, [s. d.]), pp. 211-218, et p. 217: Aliénation par la couleur.‬‬

‫‪227‬‬
‫يمتص اللون‪ .‬ففي الكوميديا الموسيقية وفي األنواع الفنية‬
‫ّ‬ ‫الشكل الذي‬
‫الممض الذين‬
‫ّ‬ ‫األخرى في أفالمه‪ ،‬ثمة متابعة لموضوع الشخوص‬
‫يستحوذ عليهم حلمهم الخاص‪ ،‬وال س ّيما حلم اآلخرين وماضيهم (كما‬
‫في أفالم يوالندا والقرصان وجيجي وميليندا) وحلم القوة لدى اآلخرين‬
‫(كما في فيلم المسحورون)‪ .‬وقد بلغ مينيلي قمة الفتة في فيلمه فرسان‬
‫سفر الرؤيا األربعة الذي يهيمن فيه كابوس الحرب على الكائنات‪ .‬وفي‬
‫أعماله جميعها أصبح الحلم الح ّيز الذي هو كناية عن بيت عنكبوت‬
‫يتر ّبص بالطرائد الحية الذي يجتذبها‪ .‬وإذا ما أصبحت الظروف تُشكّل‬
‫ال راقص ًا‪ ،‬فال ينفصل ذلك‬
‫حرك َة العالم‪ ،‬وإذا ما صار الشخوص شك ً‬
‫عن بهاء األلوان وعن وظيفتها االمتصاصية التي تكاد أن تكون ضارية‬
‫ومفترسة ومدمرة (كما في عجلة الروليت الصفراء الفاقعة في فيلم‬
‫روليت المتعة [‪ .)]1945‬وصحيح أن ميني ّلي قد تصدّ ى لموضوع من‬
‫شأنه التعبير األفضل عن تلك المغامرة الفريدة‪ :‬مغامرة الحيرة والخشية‬
‫واالحترام التي أوالها فان غوغ للون واكتشافه وبهاء ابتكاره واستغراقه‬
‫في ما أبدع واستغراق كيانه وعقله في اللون األصفر (كما في فيلم لواعج‬
‫فان غوغ)(‪.((1‬‬
‫إن أنطونيوني‪ ،‬وهو واحد من كبار التلوينيين في السينما‪،‬‬

‫(‪ ((1‬يف البطاقة التي كرستها جملة ‪ّ Dossiers du cinéma‬‬


‫ملينيل )‪،(Minnelli‬‬
‫يرص تريستان رينو )‪ (Tristan Renaud‬عىل ظاهرة االستغراق‪ ،‬فيتك ّلم عن «الصدمة‬ ‫ّ‬
‫املباغتة لعاملني ورصاعهام وانتصارمها‪ ،‬أو استغراق أحدمها يف اآلخر‪ .»...‬جيب العودة‬
‫إىل مقاالت جان دوشيه )‪ (Jean Douchet‬التي حت ّلل موضوع التهديم واالفرتاس عند‬
‫ّ‬
‫مينيل ‪:‬‬
‫)‪Objectif 64 (Février 1964) et Cahiers du cinéma, no 150 (Janvier 1964‬‬
‫)‪(Fleurs vénéneuses ou carnivores‬‬

‫‪228‬‬
‫سيستخدم األلوان الباردة إلى أقصى مداها وكثافتها ليتجاوز بذلك‬
‫وظيفة االمتصاص التي أبقت الشخوص والمواقف في حيز حلم أو‬
‫الحيز إلى الفراغ‪ ،‬ومحا ما امتصه‪ .‬قال‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اللون‬ ‫كابوس‪ .‬مع أنطونيوني نقل‬
‫بونيتزر‪" :‬منذ فيلم المغامرة بحث أنطونيوني كثير ًا عن اللقطة الخاوية‪،‬‬
‫وصحح‬
‫ّ‬ ‫وعن اللقطة غير المأهولة‪ ،‬في نهاية فيلم الكسوف د ّقق الفراغ‬
‫جميع اللقطات التي استعرضت الشخصين المتساكنين‪ ،‬كما يشير إلى‬
‫ذلك عنوان الفيلم (‪ )...‬لقد بحث عن الصحراء‪ :‬كما في أفالم الصحراء‬
‫الحمراء و)‪ (Zabriskie Point‬و )‪ .)...( (Profession reporter‬وينتهي‬
‫ال فارغ ًا داخل تشبيكات مسار ال‬
‫تصور حق ً‬
‫هذا األخير بلقطة تنقيل أمامية ّ‬
‫أهمية لها تصل إلى حدّ إلغاء التصوير (‪ )...‬ويهدف موضوع السينما عند‬
‫أنطونيوني إلى الوصول إلى الالتصويرية‪ ،‬ويتم ذلك بمغامرة تفضي إلى‬
‫كسف الوجه وإلى محو الشخوص(‪ .((1‬صحيح أن السينما منذ أمد طويل‬
‫توصلت إلى إحراز تأثيرات ترجيعية تتم بمواجهة المكان ذاته الذي‬
‫قد ّ‬
‫يكون مأهوالً ثم فارغ ًا (وحدث هذا خصوص ًا في فيلم المالك األزرق‬
‫مث ً‬
‫ال لستيرنبرغ‪ ،‬مع شرفة لوال )‪ (Lola‬ومع قاعة الدرس)‪ .‬ولكن الفكرة‬
‫ند أنطونيوني أخذت مدى غير مسبوق‪ ،‬واللون هو الذي يؤ ّدي عملية‬
‫المواجهة‪ .‬فهو الذي يرفع المكان إلى جبروت الفراغ‪ ،‬بعد أن يكون‬
‫قد أنجز من الحدث ما أنجز‪ .‬ولكن المكان ال يخرج منه خائر القوى‪،‬‬
‫بل على العكس تزداد إمكانياته‪ .‬ثمة تشابه وتعارض مع بيرغمان في ٍ‬
‫آن‬ ‫ّ‬
‫واحد‪ :‬لقد تجاوز بيرغمان الصورة‪ /‬الفعل وركّز على القوة العاطفية‬
‫المقربة أو للوجه الذي قابله بالفراغ‪ .‬ولكن الوجه عند أنطونيوني‬
‫ّ‬ ‫لل ْقطة‬

‫(‪( Bonitzer, Le champ aveugle ((1‬ويقيم مقارن ًة مع بريغامن)‪.‬‬


‫‪229‬‬
‫يختفي باختفاء الممثل والفعل‪ ،‬بينما التركيز العاطفي يتم ّثل في المكان‬
‫العادي الذي يدفع به أنطونيوني بدوره إلى الفراغ‪.‬‬

‫أضف إلى ذلك أن الح ّيز غير المحدّ د‪ ،‬كما يبدو يأخذ هنا طبيعة‬
‫جديدة‪ .‬فلم يعد‪ ،‬كما في السابق‪ ،‬ح ّيز ًا تحدّ ده أجزاؤه التي يكون الربط‬
‫والتوجيه فيها محدَّ دين مسبق ًا ويستطيعان اتخاذ طرق ال تحصى‪ .‬إنه‬
‫اآلن مجموع عديم الشكل استبعدَ ما كان يتم ويعتمل فيه‪ .‬إنه انطفاء‬
‫أو غشيان‪ ،‬ولكنه ال يتعارض مع العنصر الوراثي‪ .‬نحن نرى تمام ًا أن‬
‫الشكلين متكامالن ومطروحان مسبق ًا‪ :‬ذلك أن المجموع العديم الشكل‬
‫هو مجموعة من األمكنة والمواقع الموجودة مع ًا بمعزل عن الظرف‬
‫الزمني الذي ينتقل من جزء آلخر‪ ،‬وبمعزل عن الروابط والتوجيهات‬
‫التي تعطيها إياها الشخصيات واألوضاع الزائلة‪ .‬ثمة إذ ًا حالتان للحيز‬
‫العادي‪ ،‬وتفترض كل حالة وجود األخرى‪ :‬فالمجموع العديم الشكل‬
‫هو سلسلة من األماكن والمواقع التي تتعايش بمعزل عن النظام الزمني‬
‫الذي ينتقل من جزء آلخر‪ ،‬وبمعزل عن الروابط والتوجيهات التي كان‬
‫الشخوص الراحلون يوفرونها لها ويوفرها أيض ًا الوضع المنصرم‪ .‬ثمة‬
‫إذ ًا حالتان للحيز العادي أو نوعان من العالمات الحسنة‪ ،‬ومن عالمات‬
‫االنفصال وعالمات الخواء‪ .‬ولكن عن هاتين الحالتين المترابطتين‬
‫دائم ًا نقول فقط إن إحداهما "قبل" وإن األخرى "بعد"‪ .‬والح ّيز العادي‬
‫يحتفظ بطبيعة وحيدة ال تتغير‪ :‬فلم تعد له من ثمة حيثيات‪ ،‬ألنه طاقة‬
‫ِصرف‪ ،‬وألنه يعرض ِقوى وكيفيات بحتة فقط‪ ،‬بمعزل عن أوضاع‬
‫جسدتها‬
‫األشياء والبيئات التي تجسد هذه القوى والكيفيات (والتي ّ‬
‫وستجسدها)‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪230‬‬
‫المؤهلة لخلق‬
‫ّ‬ ‫إن الظالل إذ ًا‪ ،‬وتدرجات األبيض واأللوان‪ ،‬هي‬
‫مفرغة‪ .‬ولكن بهذه‬ ‫وتكوين فضاءات عادية‪ ،‬فضاءات منفصلة أو ّ‬
‫الوسائل جميعها وغيرها‪ ،‬كان يمكن بعد الحرب أن يشهد الناس انتشار ًا‬
‫واسع ًا لمثل هذه الفضاءات‪ ،‬أكان ذلك في استوديوهات ُركّبت فيها‬
‫ديكورات أو خارج اإلستوديوهات‪ ،‬ولها تأثيرات شتّى‪ .‬وتشكّل التأثير‬
‫األول ‪ -‬الذي ال عالقة له بالسينما ‪ -‬بسبب الوضع الذي أعقب الحرب‪،‬‬
‫بمدنه المهدّ مة أو التي راحت تُبنى من جديد‪ ،‬وبأراضيه الجرداء وبأحياء‬
‫الصفيح‪ ،‬وحتى في األماكن التي لم تصلها الحرب‪ ،‬بنسيجها المديني‬
‫الموحد الشكل وأماكنها الفسيحة التي تغ ّير استعمالها وبأحواض السفن‬
‫ّ‬
‫والمستودعات وأكوام الجيزان والخردة‪ .‬ونجم التأثير الثاني‪ ،‬كما‬
‫سنرى‪ ،‬عن أزمة الصورة‪ /‬الفعل‪ :‬فالشخوص ق ّلما وجدوا أنفسهم في‬
‫أوضاع حسية حركية "مح ّفزة"‪ ،‬بل وجسدوها باألحرى في "المشاوير"‬
‫والتسكّع والنزهات التي حددت "أوضاع ًا بصرية وصوتية ِصرفة"‪.‬‬
‫عندئذ إلى االنفجار‪ ،‬في حين أن األماكن‬‫ٍ‬ ‫ونحت الصورة‪ /‬الفعل‬
‫ْ‬
‫المحدّ دة تالشت‪ ،‬فأفسحت المجال لظهور فضاءات عادية انتشرت فيها‬
‫التأثرات النفسية الحديثة المتمثلة بالخوف واالنسالخ‪ ،‬ولكن المتمثلة‬
‫أيض ًا بالعذوبة والسرعة القصوى واالنتظار المديد‪.‬‬

‫في البداية‪ ،‬إذا كانت الواقعية اإليطالية الجديدة قد تعارضت‬


‫قطعت الصلة بالحيثيات المكانية‪ ،‬وبالواقعية‬
‫ْ‬ ‫مع الواقعية‪ ،‬فألنها‬
‫شوشت المعالم الحركية (كما نرى ذلك في‬ ‫القديمة لألمكنة‪ ،‬وألنها ّ‬
‫المستنقعات والقلعة في فيلم باييسا )‪ (Paissa‬لروبيرتو روسيليني‬
‫)‪ )(Roberto Rosselini‬أو ألنها شكّلت "اختزاالت" بصرية (كما نرى‬

‫‪231‬‬
‫ذلك في فيلم أوروبا ‪ ]1952[ 51‬لروسيليني أيض ًا) في أماكن خيالية غير‬
‫هشمت‬ ‫محددة(‪ .((2‬وتم ّثل ذلك أيض ًا في الموجة الفرنسية الجديدة التي ّ‬
‫السطوح وأزالت معالمها المكانية الخاصة لصالح فضاء غير تجميعي‪:‬‬
‫صور فيها غودار مثالً‪ ،‬والتي أتاحت الفرصة‬
‫كالشقق غير المكتملة التي ّ‬
‫لظهور عدد من التنافرات والتبدّ الت كجميع طرق الدخول من أبواب‬
‫ُخ ّلبية تمتعت بقيمة شبه موسيقية وخدمت التأثر (كما في فيلم االحتقار‬
‫)‪ .)(Le mépris‬والمخرج األلماني اإليطالي جان ماري ستروب‬
‫)‪ (Jean-Marie Straub‬هو الذي بنى سطوح ًا عديمة الشكل وفضاءات‬
‫مجوفة ومسارح خالية من مسرحيات تم ّثل‬‫جيولوجية ُمقفرة وغامضة أو ّ‬
‫فياها(‪ .((2‬أما مدرسة الخوف األلمانية‪ ،‬وخصوص ًا مع فاسبيندر �‪(Fass‬‬
‫فطورت مشاهد خارجية‬ ‫)‪ binder‬ودانيال شميد )‪ّ ،(Daniel Schmid‬‬
‫المسقفرة‪ ،‬وظهرت فضاءاتها الداخلية مزدوجة في مزايا‪ ،‬ومع‬ ‫كالمدن ُ‬
‫أقل ما يمكن من المعالم المميزة وأكبر عدد من زوايا النظر التي تفتقر‬
‫إلى وصالت (راجع فيلم فيوالنتا لشميد)‪ .‬كانت مدرسة نيويورك‬
‫تفرض رؤية أفقية للمدينة على مستوى األرض حيث تولد األحداث‬
‫عصي على التمييز‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫فوق الرصيف‪ ،‬ولم يعد فيها من مكان إال فضاء‬
‫كما عند المخرج األميركي سيدني لوميت )‪(Sidney Lumet‬؛ وبصورة‬
‫أفضل‪ ،‬عند جون كاسافيت (‪ )John Cassavetes‬الذي بدأ بأفالم يسيطر‬

‫(‪ ((2‬حول الفضاء الواقعي اجلديد‪ ،‬راجع مقالتني مهمتني كتبهام ميشال ديفيلري‬
‫)‪ (Michel Devillers‬وسيلفي تروزا )‪ (Sylvie Trosa‬يف جملة ‪ ،Cinématographe‬العدد‬
‫‪ 42‬و‪ 43‬كانون األول‪ /‬ديسمرب ‪ ،1978‬وكانون الثاين‪ /‬يناير ‪.1979‬‬
‫(‪Jean Narboni, «Là,» Cahiers du cinéma, no 275 (Avril 1977), et ((2‬‬
‫‪Serge Daney, «Le plan straubien,» Cahiers du cinéma, no 305 (Novembre‬‬
‫‪1979).‬‬

‫‪232‬‬
‫المقربة (كما في فيلمي ‪ Shadows‬و‪ Faces‬وبنى‬
‫ّ‬ ‫عليها الوجه واللقطة‬
‫فضاءات مفصولة عن بعضها وذات وقع عاطفي كما في فيلمي قصة‬
‫التافهين وأنشودة اليائسين)‪ .‬فانتقل من نموذج للصورة‪ /‬العاطفة إلى‬
‫يتجرد من‬
‫ّ‬ ‫نموذج آخر‪ .‬وهذا يعني أنه فكّك المكان‪ ،‬بنا ًء على وجه‬
‫حيثياته الزمكانية ومن حدث يتجاوز في األحوال جميعها تفعيله‪ ،‬إما‬
‫تأخر وتح ّلل‪ ،‬وإما ألنه ‪ -‬على النقيض ‪ -‬انطلق بسرعة البرق(‪.((2‬‬‫ألنه ّ‬
‫ال ولكنها ال تجد الوقت لتلتفت إلى‬ ‫في فيلم غلوريا‪ ،‬تنتظر البطلة طوي ً‬
‫الخلف‪ ،‬فمطاردوها وصلوا منذ مدة‪ ،‬كما لو أنهم كانوا يسكنون هناك أو‬
‫باألحرى كما لو أن المكان قد غ ّير فجأة معالمه‪ ،‬ولم يعد المكان عينه‪،‬‬
‫مع وجوده في الموقع العادي نفسه‪ .‬وهذه المرة‪ ،‬امتأل المكان الفارغ‬
‫بصورة مفاجئة‪...‬‬

‫ستكون لنا عودة إلى بعض هذه النقاط‪ .‬ولكن اإلفراط في بالكالم‬
‫عن الفضاءات غير المحددة‪ ،‬يرجع ربما‪ ،‬كما يقول باسكال أوجيه‪ ،‬إلى‬
‫السينما التجريبية التي قطعت الصلة مع سرد األفعال وإدراك األماكن‬
‫سبق وجو َد‬ ‫ٍ‬
‫إدراك َ‬ ‫صح أن السينما التجريبية تنزع نحو‬
‫المحددة‪ .‬فإذا ّ‬
‫البشر (أو أتى بعدهم)‪ ،‬فهي تنزع أيض ًا نحو ما يرتبط بهذا اإلدراك‪ ،‬أي‬

‫ً‬
‫حتليال للفضاء العديم املعامل واحليثيات عند كاسافيت )‪،(Cassavetes‬‬ ‫(‪ ((2‬انظر‬
‫كتبه فيليب دو الرا )‪Cinématographe, n 38 (Mai 1978) ،(Philippe de Lara‬‬
‫‪o‬‬

‫اكتشاف وحتليل هذه الفضاءات‬


‫َ‬ ‫طوروا‬
‫وبعامة كان املسامهون يف هذه املجلة هم الذين ّ‬
‫املفصولة وأعاروا اهتامم ًا باألجزاء املبعثرة والتي ال هتدف إىل يشء‪ :‬وهذا ينطبق عىل‬
‫روسيليني وكاسافيت وأيض ًا عىل لوميه )‪ (Dominique Rinieri, no 74‬وشميد ‪(Nadine‬‬
‫)‪ .Tasso, no 43‬واختارت جملة ‪ Cahiers du cinéma‬باألحرى القطب اآلخر‪ ،‬وحتليل‬
‫املفرغة‪.‬‬
‫الفضاءات ّ‬
‫‪233‬‬
‫نحو فضاء عادي متخ ّلص من حيثياته البشرية‪ .‬إن فيلم المنطقة المركزية‬
‫لميخائيل سنو )‪ (Michaël Snew‬ال يرفع اإلدراك إلى مرتبة التغ ّير‬
‫تستخلص منها ح ّيز ًا من دون معالم‬
‫َ‬ ‫الشامل لمادة خام وأولية من دون أن‬
‫تتبادل األدوار فيه األرض والسماء‪ ،‬والخط العمودي واألفقي‪ .‬حتى‬
‫عما يخرج منه أو يقع فيه‪ ،‬أي العنصر الوراثي واإلدراك‬
‫ينحرف ّ‬
‫ُ‬ ‫العدم‬
‫الطازج الذي يسبب اإلغماء والذي ّ‬
‫يبث الطاقة في المكان فال ُيبقي فيه‬
‫إال على ّ‬
‫الظل أو على األحداث البشرية‪ .‬في فيلم طول الموجة‪ ،‬يستخدم‬
‫سنو عدسة "زوم" (تقريب وتبعيد) لمدة خمس وأربعين دقيقة ليستكشف‬
‫غرف ًة بطولها وبكامل أبعادها إلى أن تصل الكاميرا إلى الحائط الذي‬
‫ُع ّلقت عليه صورة ضوئية لبحر‪ :‬ومن هذه الغرفة يستخرج فضاء محتم ً‬
‫ال‬
‫يستنفد فيه تدريجي ًا قوته وخصوصيته(‪ّ .((2‬‬
‫ثمة فتيات أتي َن لسماع الراديو‪،‬‬
‫وتُسمع أقدام رجل يصعد الدرج ثم ينهار على األرض‪ ،‬ولكن عدسة‬
‫"الزوم" تجاوزته تارك ًة المكان إلحدى الفتيات كي تروي الحادثة على‬
‫طيف الفتاة‪ ،‬من خالل طباعة سالبة فوقية تكرر المشهد‪ ،‬في‬
‫ُ‬ ‫الهاتف‪.‬‬
‫تستمر بالتصوير إلى أن تصل إلى صورة البحر‬
‫ّ‬ ‫حين أن عدسة "الزوم"‬
‫النهائية المع ّلقة على الحائط الذي وصلت إليه‪ .‬الفضاء يالمس البحر‬
‫وتدرجات‬
‫ّ‬ ‫الفارغ‪ .‬العناصر السابقة جميعها؛ للمكان العادي‪ ،‬والظالل‪،‬‬
‫اللون األبيض وباقي األلوان‪ ،‬والتقدّ م المحتوم‪ ،‬والتناقص المحتوم‪،‬‬
‫والرسم الكبير‪ ،‬واألجزاء المنفصلة والمجموع الفارغ‪ :‬كل هذه العناصر‬

‫(‪ ((2‬يصف ب‪ .‬أ‪ .‬سيتني هذا «الفيلم البنيوي» ويعلق عليه يف‪Dominique :‬‬
‫‪Noguez, Cinéma, théorie, lectures (Paris: Klincksieck, [s. d.]),‬‬
‫قائالً‪« :‬حدس املكان هذا‪ ،‬وضمن ًا حدس السينام كطاقة‪ ،‬هو بدهيية يف الفيلم‬
‫الصف‪ ،»...‬ص ‪.342‬‬ ‫البنيوي‪ .‬الغرفة هي دائ ًام مكان املمكن ِّ‬
‫‪234‬‬
‫ّ‬
‫تتدخل هنا في ما أطلق عليه ب‪ .‬أ‪ .‬سيتني )‪ (P. A. Sitney‬تسمية "الفيلم‬
‫البنيوي"‪.‬‬
‫إن فيل م أغاثا والقراءات التي ال حدود لها �‪(Agatha et les lec‬‬
‫)‪ tures illimitées‬لمارغريت دوراس )‪ (Margurite Duras‬يتمتّع ببنية‬
‫مشابهة‪ ،‬إذ ُمنحت له ضرورة السرد أو القراءة باألحرى (تُقرأ الصورة‬
‫تشاهد فقط)‪ .‬كما لو أن الكاميرا انطلقت من عمق غرفة فارغة‬ ‫َ‬ ‫وال‬
‫تغ ّيرت وظائفها‪ ،‬ولن تكون فيها الشخصيتان إال طيفهما وظ ّلهما‪.‬‬
‫وعلى العكس‪ ،‬هناك الشاطئ الفارغ الذي ّ‬
‫تطل النوافذ عليه‪ .‬والوقت‬
‫الذي تستغرقه الكاميرا لتنتقل من عمق الغرفة إلى النوافذ والشاطئ‪،‬‬
‫مع توقفات ثم متابعات‪ ،‬هو وقت السرد‪ .‬والسرد نفسه‪ ،‬أي الصورة‪/‬‬
‫يوحد زمن ًا الحق ًا وزمن ًا سابق ًا‪ ،‬فترتقي من هذا إلى ذاك‪ :‬زمن‬
‫الصوت‪ّ ،‬‬
‫ما بعد البشر‪ ،‬ألن السرد يروي قصة زوجين بدائيين انتهت‪ ،‬ويروي زمن ًا‬
‫سبق مجيء البشر لم يوجد فيه أي وجود ليعكّر صفاء الشاطئ‪ .‬وثمة‬
‫احتفال بطيء بالتأثر الذي ينتقل من أحدهما إلى اآلخر؛ أي هنا احتفال‬
‫بعالقة المحارم الجنسية بين األخ واألخت‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫الف�صل الثامن‬
‫من الت�أ ّثر �إىل الفعل‬
‫ال�صورة‪ /‬الغريزة‬

‫‪)1‬‬

‫يتم تفعيل الكيفيات والقوى في أوضاع األشياء‪ ،‬في بيئات‬ ‫عندما ّ‬


‫جغرافية وتاريخية محددة‪ ،‬ندخل إلى مجال الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬وتتعارض‬
‫واقعية الصورة‪ /‬الفعل مع مثالية الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي‪ .‬ومع ذلك‬
‫يوجد بينهما‪ ،‬أي بين الواحدية واالثنينية‪ ،‬شيء " ّ‬
‫منحل" كالتأ ّثر أو كالفعل‬
‫"الجنيني"‪ .‬وال يصنَّف ذلك في خانة الصورة‪ /‬التأ ّثر العاطفي وال في‬
‫خانة الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬وتتطور األولى‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬في ثنائي األماكن العادية‬
‫وستتطور الثانية في ثنائي البيئات المحددة‪ /‬التصرفات‪ .‬وبين‬
‫ّ‬ ‫والتأ ّثرات‪.‬‬
‫االثنين نلتقي بثنائي غريب‪ :‬عوالم أصلية وغرائز بدائية‪ .‬العالم األصلي‬
‫ليس مكان ًا عادي ًا (مع أنه يشبهه)‪ ،‬ألنه ال يظهر إال في قاع بيئات محددة؛‬
‫ولكنه ليس بيئة محددة تنشأ من العالم األصلي فقط‪ .‬الغريزة ليست تأ ّثر ًا‪،‬‬
‫ألنها انطباع‪ ،‬بالمعنى األقوى للكلمة‪ ،‬وليست تعبير ًا؛ ولكنها مع ذلك ال‬
‫تختلط بالعواطف واالنفعاالت التي تن ّظم سلوك ًا ما أو تُفسده‪ .‬والحال‬
‫مجرد وسيلة أو مكان ًا‬
‫أنه يجب االعتراف بأن هذا المجموع الجديد ليس ّ‬

‫‪237‬‬
‫للعبور‪ ،‬ولكنه يمتلك قوام ًا واستقاللية كاملين ُيبقيان الصورة‪ /‬االنفعال‬
‫العاطفي عاجزة عن اإلفصاح بذلك‪.‬‬

‫لنفترض أن هناك بيت ًا أو بالد ًا أو منطقة‪ .‬وهذه أوساط تحيين‬


‫حقيقية وجغرافية واجتماعية‪ .‬ولكن قد يقال ‪ -‬كل ّي ًا أو جزئي ًا ‪ -‬إنها‬
‫تتواصل في داخلها مع العوالم األصلية‪ .‬ويمكن أن يتم ّيز العالم األصلي‬
‫بالديكور المصطنع (جوقة في أوبريت‪ ،‬غابة أو غدير في استوديو)‬
‫كما يتم ّيز بأصالة منطقة محمية (صحراء حقيقية‪ ،‬غابة عذراء)‪ .‬ونحن‬
‫نتعرف على هذا العالم من طابعه العديم الشكل‪ :‬إنه قاع ِصرف‪ ،‬أو هو‬
‫باألحرى من دون قاع ومصنوع من مواد غير متشكّلة‪ ،‬من ترسيمات أو‬
‫قطع‪ ،‬وتخترقه وظائف غير شكلية أو أفعال أو ديناميات نشطة ال تحيل‬
‫إلى مواضيع متشكلة‪ .‬وفيها تكون الشخوص كحيوانات‪ ،‬فيكون الرجل‬
‫المخملي كطائر كاسر‪ ،‬والعاشق كت ْيس‪ ،‬والفقير كضبع‪ .‬ال ألن لهم‬
‫أشكال هذه الكائنات أو سلوكها‪ ،‬ولكن أفعالهم سبقت كل تمايز بين‬
‫اإلنسان والحيوان‪ .‬إنهم حيوانات إنسانية‪ .‬والغريزة ليست شيئ ًا آخر‪ :‬إنها‬
‫الطاقة التي تستحوذ على ِق َطع العالم األصلي‪ .‬فالغرائز والقطع مترابطة‬
‫بشدة‪ .‬نعم‪ ،‬الغرائز ال تفتقر إلى الذكاء‪ :‬فهي تتمتع بذكاء شيطاني يجعل‬
‫كل غريزة تختار مجالها‪ ،‬وتنتظر فرصتها‪ ،‬وتعلق حركاتها‪ ،‬وتستعير‬
‫الترسيمات الشكلية التي تحقق في ظلها أفعالها‪ .‬وال يفتقر العالم‬
‫األصلي هو أيض ًا إلى قانون يعطيه قوامه‪ .‬إنه أوالً العالم إمبيذوكليس‬
‫عالم ُصنع من ترسيمات وأجزاء؛ ُصنعت الرؤوس‬
‫ٌ‬ ‫)‪،(Empédocle‬‬
‫وصنعت األذرع من دون‬
‫من دون أعناق‪ُ ،‬صنعت العيون من دون جباه‪ُ ،‬‬
‫وصنعت الحركات من دون شكل‪ .‬ولكن المجموع ال يجمع‬ ‫أكتاف‪ُ ،‬‬

‫‪238‬‬
‫يوجه األجزاء جميعها إلى حقل هائل من‬ ‫ّ‬
‫الكل داخل تنظيم مع ّين‪ ،‬بل ّ‬
‫ويوجه الغرائز جميعها إلى غريزة‬ ‫ّ‬ ‫يوجهها إلى مستنقع‪،‬‬
‫القاذورات‪ ،‬أو ّ‬
‫ٍ‬
‫الموت الكبرى‪ .‬العالم األصلي هو في آن مع ًا بداي ٌة جذرية ونهاية ُمطلقة؛‬
‫وأخير ًا يربط البداية بالنهاية ويضع الواحدة داخل األخرى‪ ،‬بمقتضى‬
‫قانون هو قانون االنحدار األكبر‪ .‬وهكذا نرى أنه عالم من العنف خاص‬
‫جد ًا (وأنه‪ ،‬من بعض النواحي‪ ،‬الشر الجذري)؛ ولكن له الفضل في‬
‫أنه يطلق صورة أصلية للزمن‪ ،‬في بدايته ونهايته وانحداره‪ ،‬ويطلق كل‬
‫وحشية الزمان )‪.(Chronos‬‬

‫إنها الطبيعانية؛ (المذهب الطبيعي)‪ ،‬وهي ال تتعارض مع الواقعية‪،‬‬


‫بل على العكس تشدّ د على سماتها وتوصلها إلى سوريالية خاصة‪ .‬وفي‬
‫األدب تتم ّثل الطبيعانية بإميل زوال )‪ (Émile Zola‬على األخص‪ :‬فهو‬
‫الذي فكّر في إرفاد البيئات الواقعية بعوالم أصلية‪ .‬ففي كل كتاب من كتبه‬
‫وصف لبيئة محددة‪ ،‬ولكن زوال يستنفدها ويعيدها إلى العالم األصلي‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫فمن هذا الينبوع العالي يستمد قوته في الوصف الواقعي‪ .‬فالبيئة الواقعية‬
‫الراهنة هي الوسيط لعالم تحدد ببداية الفتة وبنهاية مطلقة وبانجراف‬
‫كبير‪.‬‬

‫األساس في األمر أن البيئة الواقعية والعالم األصلي ال يسمحان‬


‫بأن ينفصال عن بعضهما وال يتجسدان بوضوح‪ .‬ال يوجد العالم األصلي‬
‫بمعزل عن البيئة التاريخية والجغرافية التي هي بمثابة وسيط له‪ .‬فالبيئة‬
‫التصرفات الواقعية‬
‫ّ‬ ‫لها بداية ونهاية وانحدار‪ .‬لذا تُستخ َلص الغرائز من‬
‫الشائعة في بيئة مع ّينة‪ ،‬ومن األهواء واألحاسيس واالنفعاالت التي‬
‫تنتاب الناس الواقعيين في هذه البيئة‪ .‬أما األجزاء فتنتزع من األشياء‬
‫‪239‬‬
‫ال في هذه البيئة‪ .‬قد يقال إن العالم األصلي ال يظهر إال‬‫المتشكّلة فع ً‬
‫عندما نثقل ونك ّثف ونطيل الخطوط غير المرئية التي تق ّطع الواقع والتي‬
‫تفكّك التصرفات واألشياء‪ .‬فاألفعال تتجاوز ذاتها نحو أعمال أولية‬
‫لم تشكلها‪ ،‬واألشياء تتجاوز ذاتها نحو ِقطع لن تشكّلها‪ ،‬واألشخاص‬
‫يتجاوزون ذواتهم نحو طاقات لم "تنظمهم"‪ .‬وفي ٍ‬
‫آن واحد نرى أن‬
‫العالم األصلي غائب وال يعمل إال داخل بيئة واقعية‪ ،‬وال يكتسب أهمية‬
‫إال عندما يتالزم مع هذه البيئة التي يكشف عن عنفها ووحشيتها؛ ولكن‬
‫البيئة ال تتبدّ ى بيئة واقعية إال عندما تالزم العالم األصلي‪ ،‬فتتماثل مع‬
‫بيئة "فرعية" تستمد من العالم األصلي زمانية هي أشبه بالقدَ ر‪ .‬يجب‬
‫والتصرفات واألشخاص واألشياء أن تشغل البيئة الفرعية‬
‫ّ‬ ‫على األفعال‬
‫تعمر العالم األصلي الذي‬ ‫ِ‬
‫تتطور فيها‪ ،‬في حين أن الغرائز والقطع ّ‬‫وأن ّ‬
‫يجذب ّ‬
‫الكل إليه‪ .‬لذا يستحق الكتّاب الطبيعانيون أن تطلق عليهم عبارة‬
‫يشخصون الحضارة‪.‬‬ ‫"أطباء الحضارة"‪ ،‬حسبما قال نيتشه عنهم؛ ألنهم ّ‬
‫للصورة الطبيعانية‪ ،‬وللصورة‪ /‬الغريزة عالمتان هما‪ :‬األعراض‬
‫القطع‪ .‬ذلك هو عالم قايين وعالمات‬ ‫واألصنام أو التمائم في تصور ِ‬
‫قايين بوجيز العبارة‪ ،‬تحيل الطبيعانية إلى أربع حيثيات مع ًا‪ :‬فهي العالم‬
‫والتصرفات‪ .‬فلنتخ ّيل عم ً‬
‫ال تتمايز فيه‬ ‫ّ‬ ‫األصلي والبيئة الفرعية والغرائز‬
‫البيئة الفرعية عن العالم األصلي وتنفصالن عن بعضهما‪ :‬فحتى لو كانا‬
‫ال طبيعاني ًا(((‪.‬‬
‫متطابقين على الصعد كافة‪ ،‬فلن يكون هذا العمل عم ً‬

‫ال أن فيلم حظرية اخلنازير )‪ (Porcherie‬لبازوليني يفصل بني‬ ‫يالحظ مث ً‬


‫َ‬ ‫(((‬
‫العامل األصيل اآلكل حلوم البرش وبني البيئة الفرعية حلظرية اخلنازير‪ ،‬ففي الفيلم جزآن‬
‫منفصالن متام ًا‪ :‬فعمل كهذا ال ينتمي إىل املدرسة الطبيعانية (وبازوليني كان يكره‬
‫كون عنها بشكل مقصود مفهوم ًا مس ّطح ًا جد ًا)‪ .‬ويف املقابل قد حيدث =‬ ‫الطبيعانية التي ّ‬
‫‪240‬‬
‫للمدرسة الطبيعانية مبدعان كبيران في السينما هما المخرج‬
‫األسترالي األميركي إيريش فون ستروهايم‪ ،‬والمخرج اإلسباني لويس‬
‫بونويل )‪ (Luis Bunuel‬فعندهما‪ ،‬يستطيع ابتكار العوالم األصلية أن‬
‫يتجلى في أشكال متموضعة ومتنوعة جد ًا ومصطنعة وطبيعية‪ :‬فهي عند‬
‫ستروهايم قمة الجبل في فيلم األزواج العميان‪ ،‬وكوخ الساحرة في فيلم‬
‫حماقات نسائية‪ ،‬والقصر في فيلم الملكة كيلي ومستنقع الجزء األفريقي‬
‫في هذا الفيلم‪ ،‬والصحراء في نهاية فيلم الكواسر؛ وهي عند بونويل غابة‬
‫ديكورية في الستوديو في فيلم الموت في هذه الحديقة وهي الصالون‬
‫في المالك المبيد‪ ،‬والصحراء ذات األعمدة في سيمون‪ ،‬والحصى في‬
‫العصر الذهبي‪ .‬وحتى إذا كان العالم األصلي محدَّ د الموقع‪ ،‬يبقى المكان‬
‫الفائض الذي تجري فيه أحداث الفيلم كلها‪ ،‬أي العالم الذي يتبدى‬
‫بقوة بالغة‪ .‬فستروهايم وبونويل‬
‫داخل البيئات االجتماعية المصورة ّ‬
‫تصور البيئة قط قبلهما بمثل هذا العنف والضراوة‪ ،‬البيئة‬
‫واقعيان‪ :‬فلم َّ‬
‫بتوزيعها االجتماعي المزدوج "أغنياء‪ /‬فقراء" و"أخيار‪ /‬أشرار"‪ .‬ولكن‬
‫ما يعطي وصفهما مثل هذه القوة هو طريقتهما في إحالة مالمحه إلى عالم‬
‫أصلي يهدر في قاع جميع البيئات‪ ،‬ويستمر متلطي ًا تحتها‪ .‬وهذا العالم ال‬
‫يوجد مستق ً‬
‫ال عن بيئات محددة‪ ،‬غير أنه وبشكل معكوس يجعلها تعيش‬

‫= يف جمال السينام وغريها أن يشكّل العامل األصيل بذاته البيئة املشتقة التي يفرتض أن تكون‬
‫سبقت تارخينا‪ ،‬مثل فيلم حرب‬ ‫ْ‬ ‫واقعية‪ :‬وهذا ينطبق عىل األفالم التي عاجلت قضايا‬
‫النار للمخرج جان جاك أنّو )‪ ،(Jean-Jacques Annaud‬وكثري من أفالم الرعب أو اخليال‬
‫العلمي‪ .‬مثل هذه األفالم تنتمي إىل الطبيعانية‪ .‬ويف األدب كان ج‪ .‬هـ‪ .‬روزين أين ‪(J. H.‬‬
‫)‪ ،Rosny Aîné‬مؤ ّلف ‪ La guerre du feu‬هو الذي فتح باب الطبيعانية يف اجتاهي رواية‬
‫ما قبل التاريخ ورواية اخليال العلمي‪.‬‬
‫‪241‬‬
‫بسمات ومالمح تأتي من األعلى‪ ،‬أو باألحرى تأتي من قا ٍع أشدّ رهبة‬
‫أيض ًا‪ .‬إن العالم األصلي هو بداية العالم‪ ،‬ولكنه أيض ًا نهايته‪ ،‬وهو انحدار‬
‫كل منهما نحو اآلخر‪ :‬إن هذا العالم هو الذي يجذب البيئة إليه ويجعل‬
‫مكب‬
‫ّ‬ ‫ال غير مؤكّد‪.‬‬‫منها أيض ًا بيئ ًة مغلقة وموصدة قطع ًا‪ ،‬ويفتح أمامها أم ً‬
‫القمامة الذي تُلقى فيه الجثة هو الصورة المشتركة لفيلمي حماقات‬
‫تكف البيئات عن الخروج من العالم األصلي‬
‫ّ‬ ‫نسائية والرحمة لهم‪ .‬وال‬
‫والدخول إليه؛ وال تخرج منه إال بمشقة كترسيمات ُمدانة وغائمة‪ ،‬لتعود‬
‫إن لم تحصل على الخالص الذي ال يمكنه أن يأتي وحده إال‬ ‫إليه نهائي ًا‪ْ ،‬‬
‫من تلك العودة إلى األصل‪ .‬وهذا هو المستنقع الذي يظهر في القسم‬
‫األفريقي من فيلم الملكة كيلي‪ ،‬وخصوص ًا في السينما الروائية بوتو‪/‬‬
‫العشاق المعلقون باألشجار صعود‬ ‫ّ‬ ‫بوتو )‪ ،(Poto-Poto‬وفيه ينتظر‬
‫التماسيح‪" :‬هنا‪ّ )...( ،‬‬
‫خط العرض صفر‪ .‬هنا (‪ )...‬ال يوجد تقليد وال‬
‫يتصرف بحسب زخم اللحظة (‪)...‬‬
‫ّ‬ ‫توجد سابقة‪ .‬هنا‪ّ )...( ،‬‬
‫كل واحد‬
‫ويفعل ما يدفعه بوتو‪ /‬بوتو إلى فعله (‪ )...‬بوتو‪ /‬بوتو هو قانوننا وحده‪،‬‬
‫ّ‬
‫وخط‬ ‫(‪ )...‬وهو أيض ًا جالدنا (‪ )...‬نحن جميع ًا محكومون باإلعدام"(((‪.‬‬
‫العرض صفر هو أيض ًا المكان الرئيسي في فيلم المالك المبيد الذي ّ‬
‫تجسدَ‬

‫)‪Erich von Stroheim, Poto-Poto, trad. de l’américain par Renée (2‬‬


‫‪Nitschke (Paris: Edition de la Fontaine, [n. d.]), p. 132,‬‬
‫نعلم أن سرتوهايم قد أصدر ثالثة أعامل يف السينام الروائية‪ ،‬وهي أكثر من‬ ‫ ‬
‫سيناريوهات وختتلف عن الروايات باملعنى احلرصي للكلمة‪ ،‬وذلك للتعويض قدر‬
‫اإلمكان عن االستحالة التي ُوضع فيها إلخراج أفالم‪ ،‬فأصدر‪Poto-Poto, Paprika :‬‬
‫)‪ .(Ed. Martel), Les feux de la Saint-Jean (Ed. Martel‬ويبدو أن بوتو‪ /‬بوتو هو‬
‫التطور املستقل لتتمة فيلم امللكة كييل )‪ ،(Queen Kelly‬وهي تتمة أفريقية كان سرتوهايم‬
‫ّ‬
‫قد بارش هبا (وهي «البكرة احلادية عرشة من فيلم امللكة كييل»)‪.‬‬
‫‪242‬‬
‫أوالً في الصالون البرجوازي المغلق بصورة سرية‪ ،‬ثم‪ ،‬ما إن أعيد فتح‬
‫الصالون‪ ،‬حتى استقر في الكاتدرائية التي اجتمع فيها من جديد الباقون‬
‫على قيد الحياة‪ .‬إنه المكان الرئيسي في فيلم سحر البرجوازية الرزين‬
‫الذي يتشكّل في األماكن الفرعية المتتالية جميعها لمنع وقوع الحدث‬
‫المتو ّقع‪ .‬وكان أيض ًا أرومة فيلم العصر الذهبي الذي ناغم التطورات‬
‫البشرية جميعها وأعاد هضمها ما إن خرجت منها‪.‬‬

‫مع الطبيعانية يتج ّلى الزمن بقوة كبرى في الصورة السينمائية وكان‬
‫جان ميتري على حق عندما قال إن فيلم الكواسر‪ ،‬هو الفيلم األول الذي‬
‫ونموهم‪ .‬وعند بونويل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كتطور الشخوص‬‫ّ‬ ‫يع ّبر عن "ديمومة نفسية"‪،‬‬
‫ليس الزمن بأقل حضور ًا‪ ،‬ولكنّه باألحرى أشبه بزمن إنساني وبتحقيب‬
‫مر بها اإلنسان (وهذا ال يظهر بجالء في فيلم العصر الذهبي‬
‫العصور التي ّ‬
‫فقط‪ ،‬ولكن في فيلم درب الت ّبانة الذي اقتبس من العصور جميعها وقلب‬
‫نظامها رأس ًا على عقب)(((‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وفي المقام األول‪ ،‬يبدو أن الزمن‬
‫الطبيعاني أصيب بلعنة استقرت في جوهره‪ .‬نستطيع فع ً‬
‫ال أن نقول عن‬
‫ستروهايم ما قاله الناقد ألبير تيبوديه )‪ (Albert Thibaudet‬عن فلوبير‪:‬‬
‫الديمومة بالنسبة لفلوبير ال تتم ّثل بما ُيفعل بل بما يتفكّك وبما يهرع إلى‬
‫تفكيك نفسه‪ .‬فال تنفصل إذ ًا عن ال ُقصور الحراري وعن التدهور‪ .‬وهنا‬
‫نرى أن ستروهايم ص ّفى حساباته مع التعبيرية‪ .‬وما يشترك فيه مع التعبيرية‪،‬‬
‫كما رأينا‪ ،‬هو استعمال النور والظالم‪ ،‬مضاهي ًا في ذلك ّ ً‬
‫كل من فريتز النغ‬
‫وفريد ريش ومورناو‪ .‬ولكن الزمن عند هذين األخيرين ال وجود له إال‬

‫حتليل هذين الفيلمني إىل كتاب‪Maurice Drouzy, Luis Bunel :‬‬ ‫((( نرجع يف‬
‫‪architecte du rêve (Paris: Edition Lherminier, [n. d.]).‬‬

‫‪243‬‬
‫بالنسبة للنور والظلمة‪ ،‬بحيث ال يم ّثل انحطاط شخصية من الشخوص‬
‫إال سقوط ًا في الظلمة‪ ،‬أو سقوط ًا في ثقب أسود (ويتج ّلى هذا في فيلم‬
‫آخر الرجال لمورناو‪ ،‬وأيض ًا في فيلم لولو لبابست وحتى في فيلم المالك‬
‫األزرق لستيرنبرغ عندما حاول أن يقلد التعبيريين)‪ .‬أما عند ستروهايم‬
‫فيختلف األمر تمام ًا‪ :‬فهو لم ّ‬
‫يكف عن مطابقة األضواء والظالل مع مراحل‬
‫ٍ‬
‫كقصور حراري‪.‬‬ ‫التدهور الذي كان يفتنه‪ ،‬وأخضع النور لزمن اعتبره‬

‫التدهور ّ‬
‫أقل استقاللية‪ ،‬بل لعلها أكثر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عند بونويل‪ ،‬ليست ظاهرة‬
‫ألنها ظاهرة تشمل بوضوح الجنس البشري‪ .‬يكشف فيلم المالك المبيد‬
‫عن تراجع يعادل على األقل التراجع الموجود في فيلم الكواسر‪ .‬بيد‬
‫أن الفرق بين ستروهايم وبونويل هو أن التدهور عند بونويل ال ُينظر‬
‫إليه كقصور حراري متسارع‪ ،‬بل كتكرار مدهور وك َعود أبدي‪ .‬فالعالم‬
‫األصلي يفرض إذن على البيئات المتعاقبة فيه ال انحدار ًا بالضبط‬
‫تقوس ًا أو حلقة‪ .‬صحيح أن الحلقة‪ ،‬خالف ًا للنزول‪ ،‬ال يمكنها أن‬
‫ولكن ّ‬
‫تكون "سيئة" كلي ًا‪ :‬ذلك أنها ‪ -‬كما هو الحال عند الفيلسوف اإلغريقي‬
‫والحب والضغينة؛ وفع ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫إمبيذوكليس ‪ -‬تدفع إلى تعاقب الخير والشر‪،‬‬
‫نالحظ أن العاشق ورجل الخير وحتى القديس يأخذون أهمية عند بونويل‬
‫ال يجدونها عند ستروهايم‪ .‬ولك ّن هذا يبقى ثانوي ًا نوع ًا ما‪ ،‬ألن العاشقة‬
‫والعاشق والقديس بالذات ليسوا في نظر بونويل أقل ضرر ًا من الفاسقين‬
‫والمنحطين (كما في فيلم نازارين )‪ .)(Nazarin‬وألن الزمن هو زمن‬
‫القصور الحراري أو زمن العود األبدي‪ ،‬فإنه في كلتا الحالتين يستمدّ‬
‫منبعه من العالم األصلي الذي يك ّلفه بلعب دور القدر الذي ال ُيغتفر‪ .‬فما‬
‫أن ينضوي في الزمن األصلي الذي هو بمثابة بداية أو نهاية للزمن‪ ،‬حتى‬

‫‪244‬‬
‫يتم في البيئات الفرعية‪ .‬فهو زمن يكاد أن يكون أفالطوني ًا محدث ًا‪ .‬وال‬‫ّ‬
‫شك أنه يم ّثل إحدى مآثر الطبيعانية في السينما‪ ،‬ألنها اقتربت كثير ًا من‬
‫الصورة‪ /‬الزمن‪ .‬ولكن ما حال دون إدراكها الزمن لذاته‪ ،‬والزمن كشكل‬
‫صرف‪ ،‬هو أنها ُأجبرت حيث هي على إبقائه خاضع ًا للحيثيات الطبيعانية‬
‫وجعله متع ّلق ًا بالغريزة‪ّ .‬‬
‫ومذاك‪ ،‬لم تستطع الطبيعانية أن تستحوذ إال على‬
‫اآلثار السلبية للزمن كالتلف واالنحطاط وال َفقد والخراب والضياع أو‬
‫النسيان فحسب(((‪( .‬سنرى بأن السينما حينما تواجه بصورة مباشرة شكل‬
‫الزمن‪ ،‬فهي لن تتمكّن من بناء صورة له إال إذا قطعت الصلة بالهاجس‬
‫الطبيعاني بالعالم األصلي وبالغرائز)‪.‬‬

‫يتم ّثل األمر المهم في الطبيعانية بالصورة‪ /‬الغريزة‪ .‬وهذه تشمل‬


‫الزمن‪ ،‬ولكن كقدَ ر للغريزة وصيرورة لمضمونها فقط‪ .‬يتع ّلق الجانب‬
‫األول بطبيعة الغرائز‪ .‬فإذا كانت "بدائية" أو "خامة"‪ ،‬أي إذا كانت تحيل‬
‫ٍ‬
‫عندئذ أن تأخذ أشكاالً في غاية التعقيد‬ ‫إلى عوالم أصلية‪ ،‬تستطيع‬
‫والغرابة واالستهجان‪ ،‬بالنسبة لألوساط الفرعية التي تظهر فيها‪ .‬صحيح‬
‫أن الغرائز غالب ًا ما تكون بسيطة نسبي ًا‪ ،‬كغريزة الجوع وغرائز التغذية‬
‫والغرائز الجنسية‪ ،‬أو حتى غريزة الذهب في فيلم "الكواسر"‪ .‬ولكنها‬

‫((( يظهر النسيان بكثرة عند بونويل‪ .‬واملثال الالفت عىل ذلك هو هناية فيلم‬
‫سوزانا )‪ ،(Susana‬إذ يرى مجيع الشخوص كأن شيئ ًا مل حيدث‪ .‬يأيت النسيان إذ ًا ليعزّ ز‬
‫االنطباع بدور احللم أو التخييل‪ .‬ولكن له يف نظرنا وظيفة أكثر أمهية‪ ،‬وهي التشديد عىل‬
‫يتكرر (بفضل النسيان)‪ .‬ويؤكّد‬ ‫هناية حلقة من احللقات‪ ،‬وبعدها يستطيع كل يشء أن ّ‬
‫ساباتييه أيض ًا أنه وجد عند تريانس فيرش هنايات سعيدة زائفة‪ ،‬وفيها ينسى الشخوص‬
‫الرشفاء كل يشء عن الفظائع التي مورست عليهم‪(Jean-Marie Sabatier, Les .‬‬
‫‪classiques du cinéma fantastique (Paris: Balland, 1973), p. 144).‬‬

‫‪245‬‬
‫التصرفات المنحرفة التي تنتجها هذه الغرائز وتنشطها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ال تنفصل عن‬
‫كغرائز أكل اللحم البشري‪ ،‬والغرائز السادية المازوخية‪ ،‬وغرائز التهام‬
‫الجثث‪ ...‬إلخ‪ .‬وس ُيثري بونويل هذه القائمة من خالل اهتمامه بالغرائز‬
‫الروحية تحديد ًا‪ ،‬وهي أكثر تعقيد ًا‪ .‬وال توجد حدود في هذه الطرق‬
‫الحيوية النفسية‪ .‬ال شك أن المخرج اإلسباني ماركو فيريري ‪(Marco‬‬
‫)‪ Ferrire‬هو من المخرجين الحديثين النوادر الذي ورث إلهام ًا طبيعاني ًا‬
‫أصيال وفن ًا يستحضر عالم ًا أصلي ًا داخل البيئات الواقعية (هذا ما نراه‬
‫ً‬
‫المسجاة في حرم جامعي ضخم‪ ،‬أو ما‬‫ّ‬ ‫في الجثة العمالقة لكينغ كونغ‬
‫نراه في المتحف المسرحي في فيلم حلم قرد)‪ .‬وفيه غرس غرائز غريبة‬
‫كغريزة األمومة لدى الذكر في فيلم حلم قرد‪ ،‬أو حتى الغريزة العاتية‬
‫لنفخ بالون‪ ،‬كما في فيلم تحطيم‪.‬‬

‫يتم ّثل الوجه الثاني في مضمون الغريزة‪ ،‬أي‪ ،‬في القسم الذي‬
‫والمنتزع من المضمون الواقعي للبيئة الفرعية‪،‬‬
‫َ‬ ‫ينتمي إلى العالم األصلي‬
‫آن واحد‪ .‬إن مضمون الغريزة هو دائم ًا "المضمون الجزئي" أو‬ ‫في ٍ‬
‫التميمة أو قطعة اللحم أو القطعة النيئة أو القاذورة أو السروال النسائي‬
‫أو الحذاء‪ .‬والحذاء كتميمة جنسية يفسح المجال إلجراء مقارنة بين‬
‫ستروهايم وبونويل‪ ،‬وال س ّيما في فيلمي األرملة السعيدة من جهة‬
‫ويوميات مد ّبرة منزل من جهة أخرى‪ ،‬بحيث تكون الصورة‪ /‬الغريزة هي‬
‫المقربة فيها فع ً‬
‫ال ثانوية‪ ،‬وليس السبب‬ ‫ّ‬ ‫الحالة الوحيدة التي تصبح اللقطة‬
‫المقربة هي هدف جزئي بل ألن الهدف الجزئي ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫في ذلك أن اللقطة‬
‫وقد أصبح هدف الغريزة ‪ -‬أصبح لقط ًة ّ‬
‫مقربة بامتياز‪ .‬الغريزة هي فعل‬
‫ويمزق ويقطع األوصال‪ .‬والفسق ليس انحرافها بل تفريع لها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ينتزع‬

‫‪246‬‬
‫أي أنه تعبيرها الطبيعي في البيئة الفرعية‪ .‬وهذه عالقة دائمة بين الصياد‬
‫وطريدته‪ .‬والعاجز هو الطريدة بامتياز‪ ،‬ما دامت قطعة اللحم عنده لم تعد‬
‫تُعرف‪ :‬أهي الجزء الناقص من جسده أو باقي جسده‪ .‬ولكنه صياد أيض ًا‪،‬‬
‫وليس عدم إشباع الغريزة وجوع الفقراء أقل اقتطاع ًا من جوع األغنياء‪.‬‬
‫إن الملكة في فيلم الملكة كيلي تن ّقب داخل علبة شوكوال كما ينقب‬
‫المتسول داخل حاوية قمامة‪ .‬ما يعطي حضور ًا كبير ًا للعاجز أو الوحش‬
‫ّ‬
‫المحرف الذي‬ ‫ٍ‬
‫في المدرسة الطبيعانية‪ ،‬هو أنه في آن واحد المضمون‬
‫َّ‬
‫المشوه الذي يقوم مقام الفاعل‬
‫َّ‬ ‫يحتله فعل الغريزة‪ ،‬وهو الرسم األولي‬
‫لهذا الفعل‪.‬‬

‫يتم ّثل الوجه الثالث لقانون الغريزة وقدَ رها في أنه يستحوذ من‬
‫طريق الحيلة ‪ -‬ولكن بعنف ‪ -‬على كل ما تستطيع أن تفعله في بيئة‬
‫مع ّينة‪ ،‬وإذا استطاعت ذلك‪ ،‬أن تنتقل من بيئة ألخرى‪ .‬وال يتو ّقف هذا‬
‫االستكشاف وهذا اإلنهاك للبيئات‪ .‬وفي كل مرة‪ ،‬تختار الغريزة نصيبها‬
‫في بيئة مع ّينة‪ ،‬ولكنها ال تختار‪ ،‬تأخذ في األحوال جميعها ما تقدّ مه لها‬
‫البيئة‪ ،‬ع ّلها تذهب أبعد من ذلك الحق ًا‪ .‬هناك مشهد من فيلم عشيقات‬
‫دراكوال لتيرانس فيشر ُيظهر مصاص الدماء وهو يبحث عن الضحية التي‬
‫اختارها‪ ،‬وألنه لم يجدها فقد اكتفى بضحية أخرى‪ :‬ذلك أن غريزته في‬
‫تطور في فيلم‬ ‫امتصاص الدم لم ِ‬
‫ترتو‪ .‬وهذا مشهد مهم‪ ،‬ألنه يدل على ّ‬
‫الرعب الذي انتقل من المدرسة القوطية إلى المدرسة القوطية المحدثة‪،‬‬
‫ومن التعبيرية إلى الطبيعانية‪ :‬فلم نعد في صدد التأ ّثر‪ ،‬بل انتقلنا إلى بيئة‬
‫ُنشط هي أيض ًا العمل الرائع الذي‬ ‫الغرائز (بصورة أخرى نقول إن الغرائز ت ّ‬
‫قدّ مه ماريو بافا )‪ .(Mario Bava‬في فيلم حماقات نسائية لستروهايم‪،‬‬

‫‪247‬‬
‫نرى البطل ينتقل من مدبرة المنزل إلى امرأة المجتمع الراقي لينتهي‬
‫بالمرأة المقعدة المعتوهة‪ ،‬مدفوع ًا بالقوة البدائية للغريزة القانصة التي‬
‫تجعله يستكشف البيئات جميعها ويختطف ما تقدّ مه له كل غريزة‪ .‬إن‬
‫اإلنهاك الكامل ٍ‬
‫لبيئة ما وأم ما وخادم ما وولد ما وأب ما‪ ،‬هو ما تفعله‬
‫بطلة فيلم سوزانا لبونويل(((‪ .‬ينبغي أن تكون الغريزة كاملة‪ .‬فال يكفي‬
‫القول بأن الغريزة تقتصر على ما تقدمه لها البيئة أو تتركه لها‪ .‬وليس‬
‫هذا االقتصار إذعان ًا‪ ،‬بل هو فرح غامر تجد فيه الغريزة قوة اختيارها‪،‬‬
‫طالما أن في أعماقها رغبة في تغيير البيئة‪ ،‬وبحث عن بيئة جديدة يجدر‬
‫استكشافها وتفكيكها‪ ،‬وتكتفي قدر المستطاع بما تقدّ مه هذه البيئة‪ ،‬مهما‬
‫كان وضيع ًا ومنفر ًا ومقزز ًا‪ ،‬فأفراح الغريزة ال تقاس بالتأ ّثر‪ ،‬أي بالمزايا‬
‫الداخلية للشيء الممكن‪.‬‬

‫ذلك أن العالم األصلي ينطوي دائم ًا على تعايش وعلى تعاقب‬


‫بيئات واقعية متمايزة‪ ،‬كما نرى ذلك عند ستروهايم‪ ،‬وعند بونويل‬
‫بخاصة‪ .‬وهنا ال بدّ طبع ًا من التمييز بين وضع األغنياء والفقراء‪ ،‬ووضع‬
‫السادة والخدم‪ .‬ويصعب على الخادم الفقير أن يستكشف ويستهلك‬
‫بيئة غنية كغني حقيقي أو مز ّيف‪ .‬ويصعب عليه أيض ًا أن يدخل إليها‬

‫((( هناك أيض ًا يمكن إجراء مقارنة مع بازوليني ففيلم نظرية )‪ُ (Théorème‬يظهر‬
‫هو أيض ًا بيئة عائلية أهنكها متام ًا وصول شخصية خارجية‪ .‬ولكن اإلهناك عند بازوليني‬
‫هو «إهناك» منطقي‪ ،‬أي أن الربهان فيه ينهك جممل احلاالت املمكنة املطروحة‪ ،‬وهنا‬
‫تكم ُن فرادة بازوليني‪ :‬هلذا ُسمي الفيلم «نظرية»‪ ،‬وهلذا م ّثلت الشخصية اخلارجية دور‬
‫املربهن الروحي‪ .‬وعىل العكس تكون الشخصية اخلارجية‪ ،‬عند‬ ‫الفاعل املاورائي أو ِ‬
‫بونويل والطبيعانية‪ ،‬مم ّثلة للغرائز وتعمل عىل اإلهناك اجلسدي للبيئة املختارة (كام نرى‬
‫ذلك يف فيلم سوزانا)‪.‬‬
‫‪248‬‬
‫كي يصطاد طرائده في بيئة دنيا بين الفقراء‪ .‬ومع ذلك يجب االحتراس‬
‫من البديهيات‪ .‬فإذا كان ستروهايم قد تو ّقف بخاصة عند ّ‬
‫تطور الغني‬
‫في بيئته هو وعند نزوله إلى قاعها‪ ،‬فإن بونويل (وجوزيف لوز ي �‪(Jo‬‬
‫)‪ seph Losey‬الحق ًا) قد رأى أن الظاهرة المناقضة أكثر إثارة للرعب‪،‬‬
‫ربما ألنها ظاهرة شديدة الد ّقة ُ‬
‫والمخاتلة وأقرب إلى ظاهرة الضبع أو‬
‫الصقر اللذين يجيدان التر ّبص‪ ،‬ورأى أيض ًا كيف يتم اجتياح الفقير‬
‫والخادم وكيف يستغل الغني البيئة الغنية وكيف يستهلكها‪ :‬وهذا ال‬
‫يتج ّلى في فيلم "سوزانا" فقط‪ ،‬بل يظهر أيض ًا عند الشحاذين والخادمة‬
‫في فيلم ‪ Viridiana‬أيض ًا‪ .‬لدى الفقراء واألغنياء على السواء؛ للغرائز‬
‫الهدف نفسه والمصير نفسه‪ :‬التقطيع وانتزاع ِ‬
‫الق َطع‪ ،‬ومراكمة النفايات‪،‬‬
‫وتشكيل المك ّبات‪ ،‬وتذويب الغرائز جميعها في غريزة واحدة هي غريزة‬
‫الموت‪ .‬الموت‪ ،‬الموت‪ ،‬غريزة الموت‪ ،‬النزعة الطبيعانية ُمشبعة بها‪.‬‬
‫وتُبلغ عنها قتامتها القصوى‪ ،‬مع أنها لم تقل كلمتها األخيرة فيها‪ .‬وقبل‬
‫الكلمة األخيرة‪ ،‬التي لم ُيفقد األمل فيها كما يمكن أن نتو ّقع‪ ،‬أضاف‬
‫بونويل ما يلي‪ :‬ليس الفقراء واألغنياء وحدهم هم الذين يساهمون في‬
‫عملية االنحطاط نفسها‪ ،‬بل أيض ًا الفاضلون والقدّ يسون‪ .‬فهؤالء أيض ًا‬
‫يتكالبون على النفايات ويستأثرون بالقطع التي اختطفوها‪ .‬لذا نرى أن‬
‫معمم ًا عن‬
‫مجموعات األفالم التي أخرجها بونويل ال تقل انحطاط ًا ّ‬
‫القصور الحراري عند ستروهايم‪ .‬فالناس جميع ًا هم طرائد وطفيليات‬
‫آن واحد‪ .‬يستطيع صوت شيطاني أن يقول للرجل الورع نازارين‬ ‫في ٍ‬
‫البر عنده عن اإلسراع في انحطاط‬
‫)‪ (Nazarin‬الذي ال تكف أعمال ّ‬
‫العامل‪" :‬أنت أيض ًا عديم الفائدة مثلي‪ ،"...‬أنت لست سوى طفيلي‪.‬‬
‫الغنية الجميلة واللطيفة فيريديانا ال تتطور إال عندما تعي أنها من س ْقط‬
‫‪249‬‬
‫المتاع وأنها طفيلية‪ ،‬وهما صفتان متالزمتان لغرائز الخير‪ .‬في كل مكان‬
‫نجد غريزة الطفيلية نفسها‪ .‬وهذا هو تشخيص الظاهرة‪ .‬قطبا التميمة‪،‬‬
‫أو تميمتا الخير والشر‪ ،‬التميمتان المقدستان وتميمتا الجريمة والجنس‬
‫تلتقيان وتتبادالن األدوار‪ ،‬كما يتج ّلى ذلك في سلسلة ُ‬
‫الم َسحاء (جمع‬
‫مسيح) المثيرة للضحك التي ابتكرها بونويل‪ ،‬ويتج ّلى أيض ًا في الصليب‬
‫نسمي بعضها ذخائر مقدسة‬ ‫الخنجري في فيلم فيريديانا‪ .‬بوسعنا أن ّ‬
‫"والبعض اآلخر ‪ -‬بحسب قاموس السحر ‪ "-‬احتقانات وجوه أو‬
‫استحواذات‪ ،‬وهما وجها الظاهرة نفسها‪ .‬وحتى العاشقة والعاشق في‬
‫فيلم العصر الذهبي ال يبحران كثير ًا في نهر العالم‪ ،‬بل يتبعان انحداره‪،‬‬
‫ويتعلقان بتمائم يتنازعانها‪ ،‬تمائم تنبئ بتغ ّير الزمان بينهما وبالكارثة‬
‫العتيدة فينفصالن‪ .‬يقول دروزي )‪ :(Drouzy‬من المستهجن أن يظن‬
‫السورياليون أنهم رأوا في هذا الفيلم مثاالً على الحب المجنون(((‪.‬‬
‫صحيح أن وضع بونويل كان منذ البداية ملتبس ًا مع السوريالية مثلما كان‬
‫وضع ستروهايم كذلك مع التعبيرية‪ :‬لقد استخدمها ولكن لغايات أخرى‬
‫هي غايات الطبيعانية الكلية القدرة‪.‬‬

‫‪)2‬‬

‫تبقى فروق كبرى بين طبيعانية ستروهايم وطبيعانية بونويل‪.‬‬


‫وحصل ف ي األدب شيء من هذا القبيل بين زوال وويسمانس �‪(Huys‬‬
‫يتصور إال الغرائز الجسدية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫)‪ .mans‬كان ويسمانس يقول إن زوال لم‬
‫وفي البيئات االجتماعية النمطية التي يلتحق فيها اإلنسان بالعالم األصلي‬

‫‪Drouzy, Luis Bunel architecte du rêve, pp. 74-75.‬‬ ‫((( ‬


‫‪250‬‬
‫تعترف على‬
‫ُ‬ ‫للحيوانات فقط‪ .‬أما ويسمانس فتط ّلع إلى طبيعانية للروح‬
‫نحو أفضل بالهيكالت المصطنعة لالنحراف‪ ،‬ولكنها تعترف ربما أيض ًا‬
‫بالعالم الماورائي لإليمان‪ .‬وعند بونويل‪ ،‬نرى كذلك أن اكتشاف الغرائز‬
‫الخاصة بالروح ‪ -‬وهي بقوة الجوع والجنس وتشترك معهما ‪ -‬سيعطي‬
‫االنحراف دور ًا روحي ًا ال نجده عند ستروهايم‪ .‬بخاصة نجد أن النقد‬
‫سيتغذى من منابع إيمان محتمل‪ ،‬وسيتيح النقد العنيف‬ ‫ّ‬ ‫الجذري للدين‬
‫للمسيحية كمؤسسة الفرص َة للمسيح بأن ُينظر إليه كإنسان‪ .‬إن أولئك‬
‫الذين رأوا في أعمال بونويل نقاش ًا داخلي ًا مع إحدى الغرائز المسيحية‬
‫لم يكونوا على خطأ‪ :‬فاإلنسان المنحرف والمسيح خصوص ًا يرسمان‬
‫الخطوط العريضة لعالم آخر أكثر مما يفعالنه للعالم الفاني‪ ،‬ويجهران‬
‫بمسألة تتك ّلم عن خالص اإلنسان‪ ،‬حتى ولو كان بونويل ّ‬
‫يشك كثير ًا في‬
‫وسائل هذا الخالص جميعها‪ ،‬كالثورة والحب واإليمان‪.‬‬

‫التطور الذي طرأ ربما على‬


‫ّ‬ ‫ال يسعنا أن نحكم مسبق ًا على‬
‫أعمال ستروهايم(((‪ .‬غير أن الحركة األساسية‪ ،‬في المجمل‪ ،‬هي حركة‬

‫((( بعد أن أخرج سرتوهايم فيلم امللكة كييل )‪ ،(Queen Kelly‬أخرج فيلمه‬
‫تغي وصار‬
‫الوحيد الناطق‪ ،‬وكان بعنوان ‪ ،Walking down Broadway‬ولكن اسمه ّ‬
‫‪ Hello Sister‬وصدر باسم خمرج آخر‪ :‬وبناء عىل الشهادات والوثائق‪ ،‬قام ميشال‬
‫مفصل «للمشاهد» املنسوبة إىل سرتوهايم (انظر‪:‬‬ ‫سيامن )‪ (Michel Ciment‬بتحليل ّ‬
‫‪Michel Ciment, Les conquérants d’un nouveau monde: Essais sur le cinéma‬‬
‫‪ .)américain (Paris: Gallimard, [s. d.]), pp. 78-94‬ولكن األحداث املنسوبة له‬
‫عىل األرجح‪ ،‬وخالصة السيناريو الذي كتبه سرتوهايم تبدو لنا أهنا بقيت يف خط عمله‬
‫السابق‪ .‬وقد تظهر عالئم التطور املمكن بشكل أوضح يف فيلم زواج األمري‪ ،‬وهو تتمة‬
‫حب منه إخراجه‪ .‬كان‬ ‫لفيلم سمفونية الزواج )‪ (La symphonie nuptiale‬الذي ُس َ‬
‫من املفرتض أن حيصل اهتداء روحي للبطلة‪ ،‬مما فتح ربام لسرتوهايم جماالت جديدة‪.‬‬
‫تطور أخرى يف األفالم املقتبسة من روايات‪ ،‬إما مع العامل األفريقي =‬
‫وظهرت عنارص ّ‬
‫‪251‬‬
‫يفرضها العالم األصلي على البيئات‪ ،‬أي أنها تفرض االنحطاط والهبوط‬
‫عندئذ ال يمكن طرح مسألة الخالص إال عندما‬‫ٍ‬ ‫والقصور الحراري‪.‬‬
‫تستر ّد محلي ًا الطاقة الضائعة التي ّ‬
‫تخول العالم األصلي أن يفتح بيئة بدل‬
‫أن يغلقها‪ .‬وهكذا يتبدّ ى المشهد الشهير للحب الطاهر الذي ينمو بين‬
‫أشجار التفاح المزهرة في فيلم سمفونية الزواج‪ ،‬والنصف الثاني من‬
‫فيلم زواج األمير الذي يستحضر ربما والدة حياة روحية‪ .‬ولكننا رأينا‬
‫يحلن محل القصور الحراري‪.‬‬ ‫عند بونويل أن الدائرة أو ال َعود األبدي ّ‬
‫والحال أن ال َعود األبدي فاجع كالقصور الحراري‪ ،‬وأن الدائرة مخزية‬
‫متكررة تطرح‬
‫في أجزائها جميعها‪ ،‬ولكنهما مع ذلك يحرران قوة روحية ّ‬
‫بطريقة جديدة مسألة الخالص الممكن‪ .‬الرجل الصالح أو القديس ليسا‬
‫أقل انحباس ًا في الدائرة من البهيمة أو من الشرير‪ .‬ولكن أليس التكرار‬
‫والشر؟‬
‫ّ‬ ‫قادر ًا على الخروج من دائرته المغلقة‪ ،‬وعلى "القفز" فوق الخير‬
‫فالتكرار هو الذي يؤدي بنا إلى الضياع ويحط من قدرنا‪ ،‬ولكنه هو‬
‫أيض ًا يستطيع إنقاذنا وإخراجنا من التكرار اآلخر‪ .‬لقد أقام كيركيغارد‬
‫معارضة بين الماضي المق ّيد والمهين وبين تكرار اإليمان العاكف على‬
‫المستقبل والذي يعطينا كل شيء‪ ،‬في قوة تختلف عن قوة الخير‪ ،‬ولكنها‬
‫قوة العبث‪ .‬يتعارض ال َعود األبدي كتكرار لحدث يتم دائم ًا‪ ،‬مع ال َعود‬
‫األبدي كقيامة‪ ،‬فيصبح هب ًة جديدة لما هو جديد وممكن‪ .‬واألكثر قرب ًا‬
‫من بونويل هو الكاتب الفرنسي ريمون روسيل )‪(Raymond Roussel‬‬
‫الذي أحبه السورياليون والذي كتب "مشاهد" أو قصص ًا مكررة مرتين‪:‬‬

‫احلب العاشقني‪ ،‬وإما مع عامل الغجر يف فيلم بابريكا‬


‫ُ‬ ‫= للبوتو البوتو ومع الطريقة التي أنقذ‬
‫)‪ (Paprika‬مع موت العاشقني يف حقل الزهور‪.‬‬
‫‪252‬‬
‫ثمة ثماني جثث في حوض‬ ‫ففي كتاب ‪[ Locus solus‬مكان وحيد] ّ‬
‫ُكرر ما حدث لها في حياتها؛ ولوسيوس إغروازار‪ ،‬وهو فنّان‬ ‫زجاجي ت ّ‬
‫يكرر كثير ًا ظروف مقتلها‪،‬‬
‫وعالم عبقري أصبح مجنون ًا بعد مقتل ابنته‪ّ ،‬‬
‫وتشوهه وتعيد صوت الطفلة‬
‫ّ‬ ‫تسجل صوت مغنية‬ ‫ّ‬ ‫إلى أن اخترع آلة‬
‫الميتة فيعترف أن كل شيء أعيد له‪ :‬الطفلة والسعادة‪ .‬وننتقل من تكرار‬
‫مبهم إلى تكرار هو بمثابة لحظة حاسمة‪ ،‬ومن تكرار مغلق إلى تكرار‬
‫مفتوح‪ ،‬من تكرار لم يفشل فقط إلى تكرار يدفع إلى اإلخفاق‪ ،‬ومن‬
‫تكرار ال ينجح فقط بل ُيعيد خلق النموذج أو األصل(((‪ .‬يظن المرء أنه‬
‫أمام سيناريو لبونويل‪ .‬بالفعل‪ ،‬ال يتم التكرار فقط ألن الحدث يفشل‪،‬‬
‫بل هو الذي يجعله يفشل‪ ،‬كما نرى ذلك في فيلم سحر البرجوازية‬
‫الرزين‪ ،‬وفيه يستمر تكرار طعام الغداء في جعل االنحطاط يصيب جميع‬
‫األوساط المنغلقة على نفسها بفعل التكرار (وسط الكنيسة كمؤسسة‪،‬‬
‫ووسط الجيش‪ ،‬والوسط الدبلوماسي‪ .)...‬وفي فيلم المالك المبيد‪،‬‬
‫نرى أن قانون التكرار الرديء يحتجز المدعوين في الغرفة ذات الحدود‬
‫التي ّ‬
‫يتعذر اختراقها‪ ،‬في حين أن التكرار الجيد يبدو وكأنه يلغي الحدود‬
‫ويفتحها على العالم‪.‬‬

‫لدى بونويل وروسيل‪ ،‬يظهر التكرار الرديء في أشكال عدم‬


‫المدعوين نفسيهما في فيلم المالك المبيد‬
‫َّ‬ ‫الدقة أو عدم االتقان‪ :‬فتقديم‬
‫هو تقديم حار مرة وبارد مرة أخرى؛ ورفع األنخاب على شرف الضيف‬
‫يتم في جو من الالمباالة مرة‪ ،‬ومن االحتفاء العام مرة أخرى‪ .‬أما التكرار‬
‫ّ‬

‫((( ح ّلل ميشال بوتور )‪ (Michel Butor‬وقارن موضوع التكرار عند كريكيغارد‬
‫وعند روسيل يف‪.Répertoire I (Paris: Edition de Minuit, [s. d.]) :‬‬
‫‪253‬‬
‫المنقذ فيبدو صحيح ًا‪ ،‬وصحيح ًا وحده‪ :‬ذلك أن البنت العذراء قدّ مت‬
‫المدعوون تمام ًا وضعيتهم األولى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نفسها لإلله الضيف‪ ،‬فيستعيد‬
‫وتحل ّ‬
‫محل‬ ‫ّ‬ ‫يتحررون‪ .‬ولكن الدقة في التكرار معيار خاطئ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وبالتالي‬
‫شيء آخر‪ .‬فتكرار الماضي ممكن مادي ًا‪ ،‬ولكنه مستحيل روحي ًا‪ ،‬بسبب‬
‫الزمن؛ على العكس من ذلك‪ ،‬يبدو أن تكرار اإليمان ‪ -‬وهو تكرار يتط ّلع‬
‫إلى المستقبل ‪ -‬مستحيل مادي ًا‪ ،‬ولكنه ممكن روحي ًا‪ ،‬ألنه قائم على‬
‫التكرار الدائم ويصعد المجرى الذي تحتجزه الدائرة بفضل لحظة زمنية‬
‫خالقة‪ .‬هل هناك تكراران يتعارضان‪ ،‬وكأنهما غريزة موت وغريزة حياة؟‬
‫إن بونويل يتركنا في أعلى درجات الاليقين بدء ًا من تمييز التكرارين أو‬
‫مدعوو المالك أن يحيوا ذكرى‪ ،‬أي أن يكرروا‬
‫ّ‬ ‫بالخلط بينهما‪ .‬يريد‬
‫التكرار الذي أنقذهم‪ ،‬ولكنهم بذلك يسقطون في التكرار الذي قادهم‬
‫إلى الضياع‪ :‬فبعد أن اجتمعوا في الكنيسة كي يرفعوا تسبيح ًة لله‪ ،‬وجدوا‬
‫أنفسهم أسرى‪ ،‬بدرجة عالية وكثيفة‪ ،‬فيما يتعالى هدير الثورة‪ .‬وفي فيلم‬
‫درب التبانة‪ ،‬يبدو المسيح كإنسان وكأنه احتفظ طوي ً‬
‫ال بفرصة االنفتاح‬
‫الحاجان عليها‬
‫ّ‬ ‫تعرف‬
‫على العالم‪ ،‬من خالل األوساط المختلقة التي ّ‬
‫تباع ًا‪ ،‬ولكن يبدو بوضوح أن كل شيء ينغلق في النهاية وأن المسيح‬
‫بذاته أصبح سياج ًا عازالً بدل أن يكون أفق ًا(((‪ .‬من أجل الوصول إلى‬
‫تكرار لينقذ الحياة ويغ ّيرها‪ ،‬ويتجاوز مقولتي الخير والشر‪ ،‬أال ينبغي‬
‫االنسالخ عن نظام الغرائز وتفكيك دوائر الزمن والوصول إلى عنصر‬

‫‪(La‬‬ ‫((( حي ّلل موريس دروزي )‪ (Maurice Drouzy‬لقطات فيلم درب التبانة‬
‫تصور بونويل خالصاً‬
‫ّ‬ ‫)‪ voix lactée‬الذي يظهر فيه املسيح‪ ،‬ويطرح املسألة التي فيها‬
‫ممكن ًا‪ :‬ص ‪ 174‬وما يليها‪.‬‬
‫‪254‬‬
‫يكون بمثابة "رغبة" حقيقية‪ ،‬أو خيار قادر على المعاودة المستمرة (رأينا‬
‫ذلك عندما تك ّلمنا عن التجريد الغنائي)؟‬

‫مع ذلك‪ ،‬فقد كسب بونويل عندما جعل من التكرار‪ ،‬أو من القصور‬
‫قوة التكرار في الصورة السينمائية‪.‬‬ ‫الحراري‪ ،‬قانون العالم‪ .‬لقد وضع ّ‬
‫وليحرره من االنحدار‬
‫ّ‬ ‫ليتلمس أبواب الزمن‬
‫وبذلك تجاوز عالم الغرائز ّ‬
‫أو من الدوائر التي كانت تُلزمه بمضمون مع ّين‪ .‬لم يهتم كثير ًا بأعراض‬
‫طور نوع ًا آخر من العالمات التي يمكننا تسميتها‬ ‫الغرائز وبتمائمها‪ ،‬ألنه ّ‬
‫بـ "المشهد" والتي قد تعطينا صورة مباشرة‪ /‬زمن ًا مباشر ًا‪ .‬وهذا جانب‬
‫من أعماله نجده الحق ًا‪ ،‬ألنه يتجاوز الطبيعانية‪ ،‬ولكن بونويل يتجاوز‬
‫الطبيعانية من الداخل‪ ،‬من دون أن يتخ ّلى عنها إطالق ًا‪.‬‬

‫‪)3‬‬
‫ما يهمنا اآلن ليس طريقة الخروج من حدود الطبيعانية‪ ،‬بل‬
‫باألحرى الطريقة التي فشل بعض السينمائيين الكبار في تبنيها‪ ،‬على‬
‫الرغم من محاوالتهم المتكررة‪ .‬ذلك أنهم كانوا يهجسون بعالم الغرائز‬
‫األصلي؛ ولكن العبقرية الخاصة لكل منهم حرفتهم عن النظر في مشاكل‬
‫أخرى‪ .‬على سبيل المثال حاول لوتشينو فيسكونت ي �‪(Luchino Viscon‬‬
‫)‪ ti‬منذ فيلمه األول هوس إلى فيلمه األخير البريء‪ ،‬أن يصل إلى الغرائز‬
‫الخام والبدائية‪ .‬ولكنه بسبب أرستقراطيته المفرطة لم ينجح في ذلك‪،‬‬
‫ألن موضوعه الحقيقي كان في مكان آخر وكان يتع ّلق بالزمن مباشرة‪.‬‬
‫ال له‪ .‬ذلك أنه غالب ًا ما ّ‬
‫اهتم‬ ‫أما كلود رينوار فيختلف عنه ولكنه يبقى مثي ً‬
‫بالغرائز المنحطة والعنيفة (وال س ّيما في أفالم نانا )‪ (Nana‬ويوميات‬
‫مدبرة منزل )‪ (Le journal d’une femme de chambre‬والوحش‬

‫‪255‬‬
‫البشري )‪ ،(La bête humaine‬ولكنه يبقى أقرب إلى غي دو موباسان‬
‫ال نجد أن الطبيعانية‬ ‫)‪ (Guy de Maupassant‬منه إلى الطبيعانية‪ .‬وفع ً‬
‫عند موباسان لم تعد سوى واجهة‪ :‬فتُرى األشياء من وراء زجاج‪ ،‬أو ترى‬
‫كما لو كانت "مشهد ًا مسرحي ًا"‪ ،‬وهذا يمنع المدى الزمني من أن يشكّل‬
‫مادة كثيفة في طور التدهور؛ وعندما تختل الرؤية عبر الزجاج‪ ،‬ينفسح‬
‫المجال للماء الجارية‪ ،‬مما ال يتوافق كثير ًا مع العوالم األصلية وغرائزها‬
‫وقطعها وترسيماتها األصلية‪ .‬وهكذا نرى أن كل ما ُي ِلهم رينوار ُيبعده‬
‫عن الطبيعانية التي لم تتوقف مع ذلك عن تعذيبه‪.‬‬
‫لنصل أخير ًا إلى السينمائيين األميركيين‪ :‬لقد كان بعضهم‪،‬‬
‫وخصوص ًا صموئيل فو ّلر )‪ ،(Samuel Fuller‬مسكونين عميق ًا بالطبيعانية‬
‫يتوصلوا إليها‪ ،‬فألنهم شغفوا بالواقعية‪ ،‬أي‬
‫وبعالم قايين(‪ .((1‬ولكن إن لم ّ‬
‫ببناء صورة‪ /‬فعل ِصرفة يترتب عليها أن ترسم مباشرة العالقة الحصرية‬
‫والتصرفات (أي نموذج آخر للعنف يختلف عن العنف‬
‫ّ‬ ‫بين البيئات‬
‫الطبيعاني)‪ .‬إن الصورة‪ /‬الفعل هي التي تكبح الصورة‪ /‬الغريزة‪ ،‬وهي‬
‫فاضحة في فظاظتها واعتدالها والواقعيتها‪ .‬إذا ُوجدت ه ّبات طبيعانية في‬
‫السينما األميركية‪ ،‬فهي حاضرة في بعض األدوار النسائية وعلى يد بعض‬
‫الممثالت‪ .‬في الطبيعانية‪ ،‬نرى أن فكرة امرأة أصلية هي أسهل استيعاب ًا‬
‫من كل ما تب ّقى‪ ،‬وينطبق هذا بخاصة على األميركيين‪ .‬قدّ م زوال المرأة نانا‬

‫(‪ ((1‬انظر‪Pierre Domeyne, Dossier du cinéma ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]): :‬‬
‫‪(Caïn‬‬ ‫أراد فولر يف أحد مشاريعه العزيرة عىل قلبه‪ ،‬وهو فيلم قايني وهابيل‬
‫)‪ et Abel‬أن يروي بالفعل نشأة االنفعاالت (األكذوبة األوىل‪ ،‬احلسد األول‪ ...‬إلخ)‬
‫وأضاف إليها تتمة طبيعية‪ ،‬وهي نشأة الرش‪ .‬وهذا املرشوع كمعظم أفالمه‪ ،‬يكشف‬
‫اجلذور األوىل لعمل فولر‪ ،‬أي سينامئي الغريزة والعودة إىل الغرائز الطبيعية واألولية‬
‫وإىل العنف اجلسدي‪.‬‬
‫‪256‬‬
‫كأنها "الجسد الشهوي المركزي" و"الخميرة" و"الذبابة الذهبية"‪ ،‬أي‬
‫وتجره إلى االنحطاط‬
‫ّ‬ ‫الفتاة الطيبة في األصل‪ ،‬ولكنها تُفسد كل ما تلمسه‬
‫الحتمي الذي سينقلب عليها‪ .‬ثمة نموذج آخر للمرأة األصلية والمتسلطة‬
‫مرات ثالث ًا ساقتها الغريزة‬
‫والمتجبرة م ّثلته آفا غرادنر )‪ّ :(Ava Gradner‬‬
‫على نحو ال يقاوم‪ ،‬إال االقتران بالرجل الميت أو العاجز (كما في أفالم‬
‫باندورا أللبرت ليوين والكونتيسة الحافية القدمين لجوزيف مانكييفكس‬
‫)‪ (Joseph Mankiewicz‬والشمس تشرق أيض ًا لهنري كينغ ‪(Henry‬‬
‫)‪ .)King‬ولكن السينمائي األميركي الوحيد الذي تمكّن من أن يحيط‬
‫بطلته بعالم أصلي كامل مفعم بالغرائز العنيفة هو كينغ فيدور وبالتحديد‬
‫في فترة ما بعد الحرب وابتعاده عن هوليود والواقعية‪ .‬إن فيلمه ‪Ruby‬‬
‫‪ Gentry‬يتكلم عن فتاة المستنقعات (الممثلة جينيفر جونز ‪(Jennifer‬‬
‫)‪ )Jones‬التي تتابع انتقامها‪ ،‬وتنتهي من تدمير البيئة المسته َلكة للمدينة‬
‫والرجال وتجعل المستنقع يعود إلى المستنقع‪ :‬وهو أجمل مستنقع ُبني‬
‫في استوديو‪ .‬وهذا ينطبق أيض ًا على فيلم مبارزة في وضح النهار‪ ،‬وهو‬
‫فيلم ويستيرن طبيعاني‪ ،‬وعلى فيلم وراء الغابة‪ ،‬وفيهما ظهر الشخوص‬
‫وكأنهم منقادون "لقوة سرية ما زالت مبهمة"(‪.((1‬‬

‫(‪Christain Viviani, «La garce ou le côté pile,» Positif, no 163 ((1‬‬


‫‪(Novembre 1974).‬‬
‫)‪(Michel Henry‬‬ ‫ وحيتوي هذا العدد نفسه عىل مقالة كتبها ميشال هنري‬
‫”‪ “Le blé, l’acier et la dynamite‬حت ّلل هذه املرحلة عند فيدور ‪ :1953-1947‬لقد‬
‫اجتاهها‪ ،‬فأمهلت مواضيع العمل اجلامعي‬
‫ُ‬ ‫تغي‬
‫أثبت كيف أن «اخللخلة» عند فيدور قد ّ‬
‫وجتديد اإلبداع اللذين وسام الصورة‪ /‬الفعل يف الواقعية األمريكية‪ .‬والتعارض العزيز‬
‫عىل قلب فيدور بني البنت الريفية وبنت املدينة قد اختذ صورة جديدة‪ ،‬فالبنت األوىل‬
‫ومنتهكة‪.‬‬
‫َ‬ ‫أصبحت امرأة عنيفة ومفرتسة بينام أصبحت األخرى ضعيفة‬
‫‪257‬‬
‫ما يجعل الصورة‪ /‬الغريزة صعب َة المنال وعسيرة على التحديد‬
‫والتعيين هو أنها منحصرة نوع ًا ما بين الصورة‪ /‬االنفعال العاطفي‪،‬‬
‫تطور المخرج األميركي نيكوالس راي‬ ‫والصورة‪ /‬الفعل‪ .‬وقد يكون ّ‬
‫)‪ (Nicholas Ray‬خير دليل على ذلك‪ .‬صحيح أن إلهامه غالب ًا ما ُص ّور‬
‫على أنه إلهام "غنائي"‪ ،‬ألنه كان ينتمي إلى التجريد الغنائي‪ .‬إن نزعته‬
‫التلوينية التي تعطي األلوان أعلى قدرة على االمتصاص‪ ،‬كما هو الحال‬
‫لدى المخرج األميركي فيشنتي ميني ّلي‪ ،‬ال تلغي األبيض واألسود وإنما‬
‫تعاملهما كلونين حقيقيين‪ .‬وضمن هذا المنظور‪ ،‬فإن الظلمة لم تكن‬
‫مبد ًأ بل نتيجة تنجم عن عالقات الضوء باأللوان وباللون األبيض‪.‬‬
‫ظل المسيح في المشاهد الخارجية الطافحة بالنور في فيلم ملك‬ ‫وحتى ّ‬
‫الملوك‪ ،‬يتمدّ د طارد ًا الظلمات؛ وفي فيلم ‪The Savage Innocents‬‬
‫تحتبس اللقطات الثابتة اللون األبيض الباذخ الذي يحيل حضارة البيض‬
‫إلى الظالم (و ُأنتجت النسخة اإليطالية من الفيلم بعنوان ظل أبيض)‪.‬‬
‫وكأن العنف قد تم تجاوزه‪ :‬فما اكتسبه الشخوص في الفترة األخيرة من‬
‫أعمال نيكوالس راي هو مستوى التجريد والسكينة والعزيمة الروحية‬
‫تخولهم أن يختاروا‪ ،‬وأن يختاروا بالضرورة الجانب الذي يمكّنهم‬ ‫التي ّ‬
‫من التجدد وإعادة خلق الخيار نفسه‪ ،‬من دون رفض العالم‪ .‬ما بحث عنه‬
‫الزوجان في فيلم ‪ Johny Guitar‬أو في فيلم تحت ظل المشانق وبدآ‬
‫يحصالن عليه‪ ،‬أو الزوجان في فيلم األحبولة‪ ،‬وجداه بغزارة‪ :‬أي ذلك‬
‫الخلق المجدَّ د لعالقة مختارة قد تتالشى في الظالم بشكل مختلف‪.‬‬
‫وبجميع هذه المعاني يظهر التجريد الغنائي كأنه العنصر الخالص الذي‬
‫سعى ري دائم ًا إلى بلوغه‪ :‬فحتى في أفالمه األولى التي اتخذ الليل فيها‬
‫أهمية كبرى‪ ،‬لم تكن الحياة الليلية لألبطال إال نتيجة‪ ،‬ولم يلجأ الشاب‬

‫‪258‬‬
‫إلى الظالم إال كر ّد فعل‪ .‬في فيلم "المنزل في الظل" الذي ُيؤوي الفتا َة‬
‫المتهور‪ ،‬يكون هذا المنزل أشبه بنقيض للمشهد الثلجي‬
‫ّ‬ ‫العمياء والقاتل‬
‫المقتصين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سوده جمهور قاتم من‬ ‫األبيض الذي ّ‬

‫لقد احتاج ري إلى تطور بطيء كي يسيطر على هذا العنصر‬


‫من التجريد الغنائي(‪ .((1‬وصنع أفالمه األولى على النمط األميركي في‬
‫التعاطي مع الصورة‪ /‬الفعل‪ ،‬مما ّقربه من إيليا كازان )‪ :(Elie Kazan‬إن‬
‫عنف الشاب هو عنف مفعول‪ ،‬هو عنف ارتكاسي ضد البيئة والمجتمع‬
‫واألب والبؤس والظلم والوحدة‪ .‬يريد الشاب بعنف أن يصبح رجالً‪،‬‬
‫ولكن هذا العنف بالذات ال يترك له خيار ًا إال الموت أو أن يبقى طفالً‪،‬‬
‫ال أكثر من أن يكون عنيف ًا (وهذا هو موضوع فيلم‬ ‫ويرجح بقاؤه طف ً‬
‫َّ‬
‫جنون العيش‪ ،‬على الرغم من أن البطل يبدو فيه أنه نجح في رهانه على‬
‫ال لنهار واحد"‪ ،‬ولكن بسرعة خاطفة تمكّنه من هدوء‬ ‫"أن يصبح رج ً‬
‫بعمق صورة العنف‬ ‫النفس)‪ .‬في مرحلة ثانية من تطور ري‪ ،‬سيعدّ ل ْ‬
‫والسرعة اللذين ك ّفا عن أن يكونا ر ّدة فعل مرتبطة بوضع مع ّين‪ ،‬وأصبحا‬
‫عند الشخصية السينمائية داخليين وطبيعيين وفطريين‪ :‬فيخال المرء أن‬

‫‪François Truchaud, Nicholas Ray‬‬ ‫‪(Paris: Edition‬‬ ‫(‪ ((1‬انظر‪ :‬‬


‫‪Universitaires, [s. d.]),‬‬
‫سينامئي من السينامئيني‪ .‬يم ّيز تروشو ثالث‬
‫ّ‬ ‫لتطور‬
‫وهذا الكتاب هو حتليل مثايل ّ‬
‫ّ‬
‫مراحل حيددها بحسب العنف وبنا ًء عىل مفهوم «اخليار» الذي عاجلته كل منها‪ )1 :‬يف‬
‫األفالم األوىل‪ ،‬العنف الشبايب واخليار املتناقض الذي يتضمنه؛ ‪ )2‬يف املرحلة الثانية التي‬
‫تبدأ من فيلم جوين غيتار )‪ (Johnny Guitar‬وهو العنف الداخيل الغريزي واستبدال‬
‫املتجاوز يف األفالم األخرية‬
‫َ‬ ‫بالرش والسعي إىل جتاوز العنف؛ ‪ )3‬وأخري ًا العنف‬
‫ّ‬ ‫اخلري‬
‫يرص تروشو عىل إهلام مقتبس من الشاعر رامبو‬ ‫وخيار احلب والرضا‪ .‬ويف غالب األحيان ّ‬
‫يكرس له فيل ًام يقيم عالقة بني اجلامل و"التشنّج"‪.‬‬
‫عند ري الذي أراد أن ّ‬
‫‪259‬‬
‫الشر تمام ًا‪ ،‬بل اختار الغاية من الشر وارتقى إلى نوع من‬ ‫المتمرد لم يختر ّ‬
‫ّ‬
‫الجمال وفي واسطة التشنّج المستمر‪ .‬لم يعد ذلك عنف ًا مفعوالً بل عنف ًا‬
‫كظيم ًا تنطلق منه فقط أفعال مقتضبة وناجعة ودقيقة وشنيعة في الغالب‬
‫تشهد بوجود غريزة فظة‪ .‬مع فيلم األحبولة تتج ّلى الغريزة في حياة وموت‬
‫الحب الساخط للزوجين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رجل العصابات الصديق‪ ،‬كما تتج ّلى أيض ًا في‬
‫في احتدام رقصات المرأة‪ .‬وبخاصة يجعل العنف الجديد في فيلم الغابة‬
‫المحرمة من هذا الفيلم رائعة من روائع الطبيعانية‪ :‬العالم األصلي‪ ،‬بحيرة‬ ‫ّ‬
‫إفيرغالدز )‪ (Everglandes‬األميركية‪ ،‬بقعها الخضراء الزاهية‪ ،‬طيورها‬
‫البيضاء الكبيرة‪ ،‬رجل الغرائز الذي يريد أن "يطلق النار دراك ًا على وجه‬
‫الله"‪ ،‬وعصابته المؤلفة من "إخوة قايين"‪ ،‬وقاتلو الطيور‪ .‬وعربدتهم تر ّد‬
‫على العاصفة والزوبعة‪ .‬ولكن هذه الصور يجب تجاوزها‪ :‬كان موضوع‬
‫الرهان هو الخروج من المستنقع‪ ،‬ولو اقتضى ذلك الموت‪ ،‬أي باكتشاف‬
‫إمكانية القبول والمصالحة‪ .‬وبعد أن يلجم العنف أخير ًا وتتحقق السكينة‪،‬‬
‫سيشكالن الصورة النهائية لخيار يختار نفسه وال يتوقف عن الشروع من‬
‫طورته‬ ‫جديد‪ ،‬جامع ًا في آخر المطاف عناصر التجريد الغنائي كافة الذي ّ‬
‫واقعية المرحلة األولى وطبيعانية المرحلة الثانية‪.‬‬

‫يصعب الوصول إلى نقاء الصورة‪ /‬الغريزة‪ ،‬والبقاء فيه بخاصة‬


‫وإيجاد االنفتاح واإلبداعية الكافيين فيه‪ .‬نحن نسمي "طبيعانيين"‬
‫السينمائيين الكبار الذين صنعوا هذه المدرسة‪ .‬يم ّثل جوزيف لوزي‬
‫(الذي ابتعد عن أميركيته بعض الشيء) الصنو الثالث لستروهايم‬
‫وبونويل‪ .‬لقد أدرج كل أفالمه في الحيثيات الطبيعانية‪ ،‬وجدّ دها على‬
‫طريقته‪ ،‬كما فعل سلفاه‪ .‬ما يظهر أوالً عند لوزي هو عنف خاص ّ‬
‫يتشربه‬
‫الشخوص ويتشبعون به‪ ،‬وهذا العنف يسبق كل فعل (إن ممث ً‬
‫ال مثل‬
‫‪260‬‬
‫ستانلي بايكر )‪ (Stanley Baker‬قد ُوهب مثل هذا العنف الذي هيأه‬
‫عنف‬
‫ٌ‬ ‫للعمل مع لوزي)‪ .‬إنه نقيض العنف الواقعي‪ ،‬عنف الفعل‪ .‬إنه‬
‫فاعل سبق الدخول في الفعل‪ ،‬وليس مرتبط ًا بصورة فعل أكثر من ارتباطه‬
‫بتمثيل مشهد‪ .‬إنه عنف ليس داخلي ًا أو فطري ًا فقط‪ ،‬ولكنه عنف ُسكوني‬
‫ال نجد له معادالً إال عند ّ‬
‫الرسام البريطاني فرانسيس بايكون عندما تك ّلم‬
‫يتحرك‪ ،‬أو عند جان جينيه ‪(Jean‬‬
‫ّ‬ ‫عن "إشراق" ينبعث من شخص ال‬
‫)‪ Genet‬في األدب‪ ،‬عندما وصف العنف الهائل الذي يسكن يد ًا ساكنة‬
‫ال تتحرك(‪ .((1‬يقدّ م لنا فيلم زمن ال يعرف الشفقة شاب ًا متهم ًا‪ ،‬قيل عنه‬
‫المتفرج‬
‫ّ‬ ‫إنه ليس بريئ ًا فحسب‪ ،‬بل هو لطيف وودود؛ ومع ذلك يرتجف‬
‫مثلما ترتجف الشخصية السينمائية ذاتها من العنف‪ ،‬وترتجف تحت‬
‫عنفها المكظوم‪.‬‬

‫في المقام الثاني‪ ،‬نرى أن هذا العنف األصلي‪ ،‬وعنف الغريزة‬


‫هذا‪ ،‬سيخترق وسط ًا مع ّين ًا برمته‪ ،‬وسط ًا فرعي ًا يستهلكه تمام ًا في‬
‫عملية انحطاط طويلة‪ .‬وفي هذا الصدد يطيب للوزي أن يختار وسط ًا‬
‫"فيكتوري ًا"‪ ،‬أكان مدينة أو منزالً فيكتوريين تدور فيهما المأساة‪ ،‬وتحظى‬
‫األدراج فيهما بأهمية كبرى ألنها ترسم ّ‬
‫خط انحدار أكبر‪ .‬فالغريزة تن ّقب‬
‫في الوسط‪ ،‬وال تشفي غليلها إال عندما تستحوذ على ما يبدو لها مغلق ًا‬
‫وتنتمي بحق إلى وسط آخر وإلى مستوى أعلى‪ .‬ومن هنا ينبع االنحراف‬
‫عند لوزي‪ ،‬ويتشكّل في ٍ‬
‫آن واحد من انتشار التدهور هذا‪ ،‬ومن اختيار أو‬
‫انتقاء "القطعة" األشد صعوبة على المنال‪ .‬و ُيظهر فيلم "الخادم" كيف‬

‫(‪Francis Bacon, L’art de l’impossible, II ([s. l.]: Skira, [s. d.]), pp. ((1‬‬
‫‪30-32, et Jean Genêt, Journal du voleur (Paris: Gallimard, [s. d.]), pp. 14 sq.‬‬

‫‪261‬‬
‫ّ‬
‫يستغل الخادم سيده ومنزل سيده‪ .‬هذا عالم من القانّصين‪ :‬يقدّ م لنا فيلم‬
‫حفلة سرية أنماط ًا عديدة من القانصين الذين يتجابهون؛ فهناك الوحش‬
‫الضاري والطيران الجارحان والضبع المسكين والحنون والمنتقم في ٍ‬
‫آن‬
‫واحد‪ .‬ويضاعف فيلم الساعي هذه العمليات‪ ،‬فال يستحوذ ُ‬
‫المزارع فقط‬
‫المكره والمفتون في‬
‫َ‬ ‫على فتاة القصر‪ ،‬بل يستحوذ العاشقان على الطفل‪،‬‬
‫ويزجانه في دوره كسمسار لهما‪ ،‬وي ْقدمان على اغتصابه بطريقة‬ ‫ٍ‬
‫آن مع ًا‪،‬‬
‫ّ‬
‫غريبة تضاعف متعتهما‪ .‬في عالم الغرائز عند لوزي‪ ،‬لعل أهمها غريزة‬
‫"العبودية" وهي غريزة بدائية لدى اإلنسان يط ّبقها الخادم بشكل مستور‬
‫وتتج ّلى لدى السيد والعاشقين والطفل (ال بل هي موجودة في فيلم دون‬
‫جيوفاني)(‪ .((1‬والعبودية هي شأن السيد وشأن الخادم‪ ،‬مثلها مثل غريزة‬
‫التط ّفل عند بونوبل‪ :‬إن االنحطاط هو الظاهرة المرضية الشاملة لغريزة‬
‫العبودية هذه وتتوازى كالعديد من التمائم مع المرايا الفاتنة والتماثيل‬
‫المغوية‪ .‬وتظهر التمائم حتى تحت شكل الملثمات المقلق‪ ،‬مع باطنية‬
‫فيلم ‪ M. Klein‬وخصوص ًا مع ست الحسن في فيلم الساعي‪.‬‬

‫مر بنوع من القصور الحراري‬‫صح أن االنحطاط الطبيعاني ّ‬ ‫إذا ّ‬


‫الح َلقية أو التكرار عند بونويل‪ ،‬لكنه يتخذ‬
‫عند ستروهايم‪ ،‬وبالدائرة َ‬

‫(‪ ((1‬حول فيلم اخلادم )‪ (Servant‬رصح لوزي ً‬


‫قائال‪« :‬أرى أن الفيلم هو فيلم‬
‫ترصف شتى‬ ‫العبودية فقط‪ ،‬عبودية جمتمعنا‪ ،‬عبودية السيد‪ ،‬عبودية اخلادم‪ ،‬والعبودية يف ّ‬
‫أنواع البرش الذين يم ّثلون طبقات وأوضاع ًا خمتلفة (‪ .)...‬إهنا جمتمع اخلوف‪ ،‬وغالب ًا ما‬
‫تكون ر ّدة الفعل عىل اخلوف ليس املقاومة والكفاح‪ ،‬بل العبودية‪ ،‬والعبودية طريقة يف‬
‫التفكري»‪.‬‬
‫انظر أيض ًا‪(Présence du cinéma, n 20, Mars 1964), et Michel Ciment, Le :‬‬
‫‪o‬‬

‫‪livre de Losey (Paris: Stock, [s. d.]), pp. 275 sq.,‬‬


‫وحول فيلم ‪ Don Giovanni‬انظر الصفحة ‪ 408‬وما يليها‪.‬‬
‫‪262‬‬
‫ال آخر‪ .‬وهذا ما يمكن أن نسميه‪ ،‬في المقام الثالث‪ ،‬االنقالب‬‫اآلن شك ً‬
‫على الذات‪ .‬وهنا يأخذ هذا المفهوم معنى بسيط ًا‪ ،‬خاص ًا بلوزي‪ .‬العنف‬
‫األصلي للغرائز هو دائم ًا عنف مف َّعل‪ ،‬ولكنه يتجاوز الفعل بإسراف‪.‬‬
‫يخال للمرء أنه ال يوجد فعل على جانب كبير من القوة يمكن أن يضاهي‬
‫الغريزة في الوسط الفرعي‪ .‬عندما تجد الشخصية المسرحية نفسها‬
‫فريسة لعنف الغريزة ترتجف خوف ًا من نفسها‪ ،‬وتصبح بهذا المعنى‬
‫نصب لوزي أشراك ًا هي كناية‬
‫َ‬ ‫فريسة وضحية غريزتها بالذات‪ .‬وهكذا‬
‫عن مغالطات نفسية حول عمله‪ .‬فالشخصية تستطيع أن تعطي انطباع ًا‬
‫يعوض عنه بفظاظة ظاهرة‪ ،‬تستسلم لها عندما ال تعرف ماذا‬ ‫بأن ضعفها َّ‬
‫تفعله‪ ،‬حتى ولو انهارت دفعة واحدة في ما بعد‪ .‬هذا ما نراه في فيلم‬
‫زمن ال يرحم ومؤخر ًا في فيلم سمكة الترويت‪ :‬ففي كل مرة يقدم الفتى‬
‫البالغ على القتل‪ ،‬وهو في حالة من العجز‪ ،‬ينهار مثل طفل صغير‪ .‬ولكن‬
‫لوزي في الحقيقة ال يصف آلية نفسية‪ ،‬ألنه يبتكر منطق ًا مسرف ًا للغرائز‪.‬‬
‫والحديث عن المازوخية هنا من دون طائل‪ .‬في األساس‪ ،‬هناك الغريزة‬
‫العاتية في طبيعتها‪ ،‬بالنسبة للشخصية‪ ،‬مهما كان طبعها‪ .‬هذا العنف‬
‫مقيم فيها‪ ،‬وليس مظهر ًا من مظاهرها؛ ولكنه ال يستطيع أن يستيقظ‪،‬‬
‫أي أن يصحو داخل وسط فرعي‪ ،‬من دون أن يحطم الشخصية بضربة‬
‫واحدة‪ ،‬أو أن يوجهها إلى مستقبل ال يختلف عن انحطاطها وموتها‪ .‬إن‬
‫شخوص لوزي ليسوا من العتاة المز ّيفين‪ ،‬ولكنهم ضعفاء مز ّيفون‪ :‬فهم‬
‫محكومون سلف ًا بالعنف الذي يسكنهم والذي يدفعهم إلى أقصى بيئة‬
‫تستكشفها الغريزة‪ ،‬ولكن مقابل إقصائهم وإقصاء بيئتهم‪ .‬إن فيلم ‪M.‬‬
‫‪ ،Klein‬وأكثر من أي فيلم آخر أخرجه لوزي‪ ،‬هو المثال األسطع على‬
‫الصيرورة التي تنصب لنا شرك التأويالت النفسية أو التحليالت النفسية‪.‬‬
‫‪263‬‬
‫فالبطل هو صاحب العنف المكبوح الذي نجده دائم ًا عند لوزي (وآالن‬
‫ديلون )‪ (Alain Delon‬يتمتع بذلك العنف الساكن الضروري للممثل‬
‫الذي يعمل مع لوزي)‪ .‬غير أن خصوصية فيلم ‪ M. Klein‬هي أن عنف‬
‫الغرائز التي تسكن البطل هي التي تدفع به إلى الصيرورة األكثر غرابة‪:‬‬
‫يحتج‬
‫ّ‬ ‫عندما ُأخذ السيد كلين على أنه يهودي أثناء االحتالل النازي‪ ،‬بدأ‬
‫وو ّظف كل عنفه األسود في كتابة تحقيق أراد فيه أن يندّ د باإلجحاف‬
‫الناتج من هذا الخلط‪ .‬لم يكن عنفه باسم الحق والقانون أو وعي العدالة‬
‫وتوصل تدريجي ًا إلى اكتشاف حاسم‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫المقيم فيه‬
‫الشريفة‪ ،‬بل باسم العنف ُ‬
‫المتفرع عن‬
‫ّ‬ ‫حتى ولو كان يهودي ًا‪ ،‬فإن غرائزه كافة تتعارض مع العنف‬
‫نظام ليس نظامها‪ ،‬ولكنه يتم ّثل بالنظام االجتماعي لسلطة مسيطرة‪ .‬وإذا‬
‫بالشخصية تتلبس حالة اليهودي التي لم ي ُكنْها‪ ،‬وتقبل بأن تموت ضمن‬
‫حشد اليهود المساقين إلى الموت‪ .‬وهذه هي بالضبط الصيرورة اليهودية‬
‫لشخص غير يهودي(‪ .((1‬في فيلم ‪ M. Klein‬ع َّلق بعضهم على دور الصنو‬
‫(الشبيه) وعلى سير التحقيق‪ .‬تبدو لنا هذه الموضوعات ثانوية وتابعة‬
‫للصورة‪ /‬الغريزة أي تابعة للعنف السكوني لدى الشخصية التي ال‬
‫مخرج لها في الوسط الفرعي إال أن تنقلب على نفسها أي تتط ّلع إلى‬
‫صيرورة تقودها إلى الهالك كانتقال روحي مزعزع‪.‬‬

‫إحدى أفضل روايات آرثر ميلر‪Arthur Miller, ،‬‬ ‫وهذا هو موضوع‬ ‫(‪((1‬‬
‫‪Focus (Paris: Edition de Minuit, [s. d.]):‬‬
‫هناك أمريكي متوسط احلال أشتبه به خطأ أنه هيودي‪ ،‬فعذبته األجهزة الرسية‬
‫حيتج ويثبت أنه من اآلريني األقحاح؛ ثم‬
‫‪ ،K. K. K.‬وهجرته امرأته وأصدقاؤه‪ ،‬راح ّ‬
‫ً‬
‫أدرك أن جلسات التعذيب لن تكون أكثر شناعة لو كان هيوديا فعالً‪ ،‬ثم راح يتامهى‬
‫مع اليهودي الذي مل يكنه‪ ،‬يبدو لنا أن فكرة فيلم لوزي قريبة جد ًا من فكرة رواية ميلر‪.‬‬
‫‪264‬‬
‫هل ثمة من خالص لدى لوزي‪ ،‬حتى ولو شابه الغموض كما‬
‫هو الحال عند ستروهايم أو بونويل؟ إذا ُوجد مثل هذا الخالص‪ ،‬فال‬
‫بدّ من البحث عنه عند النساء‪ .‬يبدو أن عالم الغرائز وبيئة األعراض‬
‫المرضية يحاصران الرجال ويدفعان بهم إلى نوع من ألعاب الجنسية‬
‫المثلية الذكَرية التي ال يخرجون منها‪ .‬على العكس ال توجد امرأة‬
‫أصلية في طبيعانية لوزي (فقط في فيلم ‪ ،Modesty Blaise‬تظهر المرأة‬
‫ذات الغرائز والتمائم‪ ،‬ولكن ذلك محاكاة ساخرة للرجال)‪ .‬وغالب ًا ما‬
‫تظهر النساء عند لوزي متقدمات على البيئة االجتماعية وثائرات عليها‬
‫وخارج العالم األصلي للرجال الذي يقعن فيه ضحايا أحيان ًا‪ ،‬ويوظفنه‬
‫خلقة‬‫أحيان ًا أخرى‪ .‬النساء هن اللواتي يحددن المخرج‪ ،‬ويفزن بحرية ّ‬
‫وجمالية أو بحرية عملية فقط‪ :‬فال يشعرن بالعار أو بالذنب‪ ،‬وال يمارسن‬
‫النحاتة في فيلم‬
‫العنف السكوني الذي ينقلب عليهن‪ .‬تلكم هي المرأة ّ‬
‫الهالكون‪ ،‬وتلكم هي حواء الجديدة في فيلم ‪ Eva‬والتي اكتشفها لوزي‬
‫في فيلمه سمكة الترويت‪ .‬إنهن يخرجن من الطبيعانية ليصلن إلى‬
‫التجريد الغنائي‪ .‬هؤالء النساء المتقدمات يشبهن نوع ًا ما نساء توماس‬
‫هاردي )‪ ،(Thomas Hardy‬في وظائفهن المتشابهة‪.‬‬

‫من غير أن تنفصل العوالم األصلية لدى لوزي عن األوساط‬


‫الفرعية‪ ،‬اتخذت مالمح خاصة تنتمي إلى أسلوبه‪ .‬إنها فضاءات مس ّطحة‬
‫عل‪ ،‬ولكنها ليست دائم ًا صخرية أو حصوية‪،‬‬ ‫تطل من ٍ‬
‫غريبة وغالب ًا ما ّ‬
‫وممرات وخنادق وأنفاق تشكّل متاهات أفقية‪ :‬فهي‬ ‫ّ‬ ‫تخترقها أقنية‬
‫الجرف البحري في فيلم الهالكون‪ ،‬وهي الهضاب العالية في فيلم أطياف‬
‫في منظر طبيعي‪ ،‬وهي المصطبة المرتفعة في فيلم ‪Boom‬؛ ولكنها قد‬

‫‪265‬‬
‫تكون في قاع مدينة ميتة تشبه مدن ما قبل التاريخ‪ ،‬فهي مدينة البندقية في‬
‫فيلم ‪ ،Eva‬أي شبه جزيرة تبدو وكأنها نهاية العالم‪ ،‬وهي مدينة نورفولك‬
‫)‪ (Norfolk‬البريطانية في فيلم الساعي‪ ،‬وهي حديقة على الطراز اإليطالي‬
‫في فيلم دون جيوفاني‪ ،‬وهي بستان مهجور كذاك الذي أقام فيه البطل‬
‫ُمنشأته ومسار سياراته كما في فيلم زمن ال يرحم‪ ،‬وهي حديقة صغيرة‬
‫مفروشة بالحصى كما في فيلم الخادم‪ ،‬وهي ملعب كريكيت (وكان‬
‫لوزي يحب تصوير مثل هذه المالعب‪ ،‬مع أنه ال يحب الرياضة)‪ ،‬وهي‬
‫ميدان شتوي للسيارات ذو أنفاق كما في فيلم ‪ .M. Klein‬العالم األصلي‬
‫لديه عامر بالكهوف والطيور وكذلك بالقالع والمروحيات والمنحوتات‬
‫والتماثيل؛ وال نعلم إن كانت أقنيته المائية اصطناعية أو طبيعية أو ُخ ّلبية‪.‬‬
‫العالم األصلي ال يقيم إذ ًا تعارض ًا بين الطبيعة األولى ومنشآت اإلنسان‪:‬‬
‫يصح إال في األوساط الفرعية‪ .‬ولكن‪ ،‬بما‬ ‫إنه يجهل هذا التمايز الذي ال ّ‬
‫أنه ينطلق بين وسط مات وشبع موت ًا وبين وسط لم يتوصل بعد إلى رؤية‬
‫النور‪ ،‬فهو يمتلك بقايا األول وإرهاصات الثاني ليصنع منها "أعراضه‬
‫المرضية البائسة"‪ ،‬كما قال أنطونيو غرامشي )‪ (Antonio Gramsci‬في‬
‫عبارة تصدرت فيلم دون جيوفاني‪ .‬العالم األصلي يجمع بين المستقبلية‬
‫والمدرسة القديمة‪ .‬وينتمي إليه كل ما يمت بصلة إلى الغريزة من أفعال‬
‫وحركات‪ ،‬كما ينتمي الجرف إلى البحر الهائج‪ .‬ومن أعلى هذا الجرف‬
‫إلى أسفله‪ ،‬وعبر دروب منحدرة وعمودية‪ ،‬أو من الخارج إلى الداخل‬
‫يتصل العالم األصلي باألوساط الفرعية كأنه صياد يختار فيه طرائده‪ ،‬أو‬
‫يسرع انهيار هذا العالم‪ .‬الوسط هنا هو المنزل الفيكتوري‪،‬‬
‫كأنه طفيلي ّ‬
‫والعالم األصلي هو المنطقة الوحشية التي تشرف على هذا المنزل أو‬
‫تحيط به‪.‬‬
‫‪266‬‬
‫هكذا تنتظم عند لوزي الحيثيات األربع الخاصة بالطبيعانية‪ .‬وقد‬
‫أظهرها هو نفسه بجالء‪ ،‬عندما تك ّلم عن فيلمه الهالكون وحدّ د "تجاوز ًا"‬
‫مزدوج ًا‪ :‬فمن جهة هناك جروف بورتالند )‪ (Portland‬الساحلية‬
‫بمناظرها البكر ومنشآتها العسكرية‪ ،‬وهناك أطفالها الذين تأ ّثروا بالنشاط‬
‫اإلشعاعي (العالم األصلي)؛ ولكن هناك "الطراز الفيكتوري البائس‬
‫لمنتجع واي ماوث )‪ (Weymouth‬الصغير" (البيئة الفرعية)؛ ومن جهة‬
‫أخرى الصور الكبرى للطيور والحوامات‪ ،‬وتظهر أيض ًا المنحوتات‬
‫(الصور واألفعال الغريزية)؛ ولكن تظهر أيض ًا عصابة سائقي الدراجات‬
‫النارية التي تشبه مقاودها أجنحة الطيور (األفعال المشينة في الوسط‬
‫الفرعي)(‪ .((1‬ومن فيلم آلخر تتبدل األبعاد األربعة وتدخل في عالقات‬
‫شتى من التعارض والتكامل‪ ،‬حسبما يريد لوزي قوله أو إبرازه‪.‬‬

‫(‪Pierre Rissient, Losey (Paris: Edition Universitaires, [s. d.]), pp. ((1‬‬
‫‪122-123.‬‬

‫‪267‬‬
‫الف�صل التا�سع‬
‫ال�صورة‪ /‬الفعل‬
‫ال�شكل الكبري‬

‫‪)1‬‬

‫نتناول اآلن مجاالً يسهل جد ًا تحديده ويقول‪ :‬إن األوساط‬


‫تنال استقاللها وتشرع في إعطاء قيمة لنفسها‪ .‬ولم تعد الكيفيات‬ ‫الفرعية ُ‬
‫والقوى تتبدى في فضاءات عادية جد ًا‪ ،‬ولم تعد مأهولة بعوالم أصلية‪،‬‬
‫بل تتف ّعل مباشرة في أمكنة‪ /‬أزمنة محددة‪ ،‬أكانت جغرافية أم تاريخية أم‬
‫متجسدة في التصرفات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعية‪ .‬ولم تعد التأثرات والغرائز تظهر إال‬
‫وبهيئة انفعاالت أو أهواء تضبطها أو تفسدها‪ .‬وهذه هي الواقعية بامتياز‪.‬‬
‫صحيح أن هناك أنواع ًا كثيرة من المراحل االنتقالية الممكنة‪ .‬كانت ثمة‬
‫نزعة في التعبيرية األلمانية تنشر ظاللها وتنتقل من الضوء إلى العتمة في‬
‫فضاءات محدّ دة مادي ًا واجتماعي ًا (كما فعل فريتز النغ وجورج بابست)‪.‬‬
‫وعلى العكس نرى أن وسط ًا محدد ًا يستطيع أن يف ّعل قدرة عالية‪ ،‬بحيث‬
‫يصلح هو ذاته لعالم أصلي أو لح ّيز عادي‪ :‬ورأينا ذلك في الغنائية‬
‫السويدية‪ .‬يبقى أن الواقعية تتحدّ د بمستواها النوعي‪ .‬وعلى هذا الصعيد‬
‫ال تستبعد الواقعية إطالق ًا التخ ّيل وال حتى الحلم؛ فبإمكانها أن تشمل‬
‫‪269‬‬
‫المستوهم والخارق والبطولي‪ ،‬وتشمل الميلودراما خصوص ًا؛ وتستطيع‬
‫أن تحتوي على شيء من اإلسراف والشطط‪ ،‬مع العلم أنهما من سماتها‪.‬‬
‫والتصرفات‬ ‫ٍ‬
‫ببساطة ما يلي‪ :‬األوساط التي تف ِّعل‬ ‫ما يشكّل الواقعية هو‬
‫ّ‬
‫تجسد الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬هي العالقة بينهما بصنوفها كافة‪ .‬وهذا‬ ‫التي ّ‬
‫النموذج هو الذي ح ّقق االنتصار العالمي للسينما األميركية‪ ،‬بحيث صار‬
‫ورقة عبور للسينمائيين األجانب الذين ساهموا في تشكيلها‪.‬‬

‫الوسط يف ّعل دائم ًا العديد من الكيفيات والقوى‪ .‬ويقوم فيها بتوليفة‬


‫شاملة‪ ،‬فيكون هو الشمول والشامل‪ ،‬في حين تتحول الكيفيات ِ‬
‫والقوى‬ ‫ّ‬
‫إلى طاقات في الوسط‪ .‬فالوسط وقواه تتقوس وتؤثر في الشخصية‬
‫السينمائية وتتحداها وتشكّل وضع ًا تمسك بتالبيبه‪ .‬والشخصية بدورها‬
‫تر ّد (أي أنها بحصر المعنى تقوم بفعل) بحيث تستجيب للوضع وتعدّ ل‬
‫الوسط أو تعدل عالقتها بالوسط وبالوضع وبباقي الشخوص‪ .‬عليها أن‬
‫تكتسب طريقة جديدة في الوجود ( َم َلكة )‪ )(habitus‬أو أن ترقى في طريقة‬
‫وجودها إلى مقتضيات الوسط والوضع‪ .‬وينجم عن ذلك وضع معدّ ل‬
‫مذوت ًا (ذات ًا)‪ :‬الوسط ذاك‪،‬‬
‫أو مرقم‪ ،‬أي وضع جديد‪ .‬فكل شيء يصبح ّ‬
‫والزمكان ذاك‪ ،‬والوضع كمحدِّ د ومحدَّ د‪ ،‬والشخصية الجماعية والفردية‬
‫آن واحد‪ .‬ورأينا ذلك في التصنيف الذي قام به بيرس للصور‪ ،‬أنه‬ ‫في ٍ‬
‫ملكوت "االثنينية" حيث يكون كل شيء مزدوج ًا بذاته‪ .‬في الوسط نمايز‬
‫القوى وبين وضع األشياء الذي يف ّعلها‪ .‬إن الوضع أو‬‫بين الكيفيات‪ِ /‬‬
‫الشخصية السينمائية أو الفعل هما أشبه بحدّ ين مترابطين ومتعارضين‬
‫قوتين‪ ،‬وهو سلسلة من‬ ‫ٍ‬
‫في آن واحد‪ .‬فالفعل بحدّ ذاته هو مبارزة بين ّ‬
‫المبارزات‪ :‬مبارزة مع الوسط ومع اآلخرين ومع الذات‪ .‬أخير ًا فإن‬

‫‪270‬‬
‫الوضع الجديد الناجم عن الفعل ُيشكِّل ثنائي ًا مع وضع االنطالق‪ .‬وهذا‬
‫حال مجمل الصورة‪ /‬الفعل‪ ،‬أو على األقل شكلها األول‪ .‬وهذا الشكل‬
‫التصور العضوي‪ ،‬ويبدو أنه يتمتّع بن َفس أو بتن ّفس‪ ،‬فيتمدّ د في‬
‫ّ‬ ‫يؤ ّلف‬
‫حال الوسط‪ ،‬ويتق ّلص في حال الفعل‪ .‬وبصورة أدق يتمدّ د ويتق ّلص في‬
‫كلتا الحالتين‪ ،‬بحسب حاالت الوضع ومقتضيات الفعل‪.‬‬

‫مع ذلك نستطيع أن نقول في الجملة بأن األمر يشبه لولبين‬


‫ويتوسع الثاني باتجاه الوضع‬
‫ّ‬ ‫متعاكسين‪ ،‬يتق ّلص األول باتجاه الفعل‪،‬‬
‫شكل كأس البيضة أو الساعة الرملية التي تنطبق على‬ ‫َ‬ ‫الجديد‪ :‬فيأخذ‬
‫التصور العضوي واللولبي له الصيغة‬ ‫الزمان والمكان في ٍ‬
‫آن واحد‪ .‬وهذا‬
‫ّ‬
‫التالي ‪( Ś-A-S :‬أي من الوضع )‪ (Situation‬إلى الوضع المعدّ ل �‪(à la sit‬‬
‫)‪ uation‬عبر وساطة الفعل )‪ .)(action‬وتبدو لنا هذه الصيغة مالئمة لما‬
‫أطلق عليه نويل بورش "الشكل الكبير"(((‪ .‬لهذه الصورة‪ /‬الفعل أو لهذا‬
‫التصور العضوي قطبان‪ ،‬أو باألحرى عالمتان‪ ،‬يحيل األول خصوص ًا‬ ‫ّ‬
‫إلى العنصر العضوي‪ ،‬ويحيل اآلخر إلى العنصر النشط أو الوظيفي‪.‬‬
‫ونسمي األول "عالمة مصاحبة" )‪ (synsigne‬مستأنسين بما قاله بيرس‪:‬‬
‫العالمة المصاحبة هي مجموعة من الكيفيات‪ِ /‬‬
‫القوى بصفتها مف َّعلة‬
‫داخل وسط مع ّين‪ ،‬أو داخل طرف ما‪ ،‬أو داخل زمكان محدد(((‪ .‬ونو ّد‬

‫)‪(M. le maudit‬‬ ‫((( اقرتح نويل بورش هذه املفردة يف توصيفه لفيلم م‪ .‬امللعون‬
‫‪"Le travail de fritz Lang," in: Dominique Noguez,‬‬ ‫الذي أخرجه فرتيز النغ‪:‬‬
‫‪Cinéma, théorie, lectures (Paris: Klincksieck, [s. d.]).‬‬
‫((( كتب بريس الكلمة هكذا “‪ ”Sinsigne‬للتشديد عىل فردية الوضع‪ .‬ولكن‬
‫الصفة‪ .‬لذا‬ ‫فردية الوضع والفاعل جيب أال ختتلط بالفرادة اخلاصة بالكيفيات والقوى ِّ‬
‫تدل بحسب حتليل بريس‪ ،‬عىل أن هناك دائ ًام جمموعة =‬‫نفضل سابقة الكلمة “‪ ”Syn‬التي ّ‬
‫‪271‬‬
‫َعارض الحدين" )‪ (binôme‬لندلل على كل‬
‫أن نطلق على اآلخر كلمة "ت ُ‬
‫مثنى‪ ،‬أي على كل ما هو ف ّعال في الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬ثمة "تعارض حدين"‬
‫كلما ُيحيل ظرف قوة ما إلى قوة ضدية‪ ،‬وخصوص ًا عندما تكون إحدى‬
‫القوتين "إرادية" (أو كلتاهما)‪ ،‬وتنطوي في ممارستها على جهد يستبصر‬
‫يتصرف بنا ًء على ما يعتقد أن اآلخر‬
‫ّ‬ ‫ممارسة القوة األخرى‪ :‬فالفاعل‬
‫سيفعله‪ .‬لذا فإن أشكال التصنّع واالستعراض والخداع هي حاالت‬
‫مثالية لـ "تعارض حدين"‪ .‬في فيلم الويستيرن‪ ،‬تبدأ لحظة المبارزة عندما‬
‫يخلو الشارع‪ ،‬وعندما يخرج البطل ويمشي بطريقة خاصة محاوالً أن‬
‫يعرف مكان الخصم وما سيفعله‪ ،‬وهذا هو تعارض حدين بامتياز‪.‬‬
‫لنأخذ فيلم الريح للمخرج السويدي فيكتور سيوستروم ‪(Victor‬‬
‫)‪( Sjöström‬وهو فيلمه األميركي األول)‪ .‬ال تتو ّقف الريح عن الهبوب‬
‫فوق السهل‪ .‬إن فضاء الريح كتأ ّثر يكاد أن يكون عالم ًا أصلي ًا طبيعاني ًا‪،‬‬
‫ال بل فضاء تعبيري ًا عادي ًا‪ .‬غير أنه أيض ًا ظرف يف ِّعل هذه القوة ويدمجها‬
‫قوة المروج في فضاء محدّ د هو األريزونا )‪ (Arizona‬التي هي بيئة‬
‫مع ّ‬
‫تألف‬
‫ْ‬ ‫واقعية‪ .‬فتاة شابة قادمة من الجنوب تصل إلى هذه البالد التي لم‬
‫العيش فيها‪ ،‬وتجد نفسها غارق ًة في سلسلة من المجابهات‪ ،‬مجابهة مادية‬
‫مع البيئة‪ ،‬مجابهة نفسية مع العائلة العدائية التي ّ‬
‫تحل عندها‪ ،‬مجابهة‬
‫عاطفية مع راعي البقر ّ‬
‫الفظ الذي كان يعشقها‪ ،‬مجابهة جسدية مع تاجر‬
‫المواشي الذي حاول أن يغتصبها‪ .‬فبعد أن قتلت هذا األخير‪ ،‬سعت‬
‫يائسة لدفنه في الرمال‪ ،‬ولكن الريح كانت كل مرة تذرو الرمال وتكشف‬
‫عن الجثة‪ .‬وهذه كانت البرهة التي تحدّ تها البيئة فيها بشدة والتي وصلت‬

‫= من الكيفيات أو القوى املف َّعلة يف ظرف ما‪ .‬لذا كتبنا “‪.”Synsigne‬‬


‫‪272‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‪ :‬مصالحة مع راعي‬ ‫فيها إلى ذروة المجابهة‪ .‬وبدأت المصالحة‬
‫تفهمها وساعدها‪ ،‬مصالحة مع الريح التي استوعبت الفتاة‬
‫البقر الذي َّ‬
‫أحست بأنه ُولد فيها شكل جديد من أشكال الوجود‪.‬‬ ‫جبروتها بعد أن ّ‬
‫تطور هذا النوع من الصورة‪ /‬الفعل عبر عدد من األنواع‬ ‫كيف ّ‬
‫تطور أوالً في الفيلم الوثائقي‪ .‬كان توينبي قد َّ‬
‫طور‬ ‫السينمائية الكبرى؟ ّ‬
‫فلسفة ذرائعية للتاريخ تقول بأن الحضارات هي ردود على تحديات‬
‫البيئة(((‪ .‬فإذا كانت الحالة الطبيعية‪ ،‬أو المعيارية باألحرى‪ ،‬هي حالة‬
‫المجموعات البشرية التي تواجه تحدّ يات على جانب من الخطورة‪،‬‬
‫ولكنها ال تكفي الستيعاب طاقات اإلنسان جميعها‪ ،‬لبرزت أمامنا حالتان‬
‫أخريان‪ :‬في إحداها تكون تحديات البيئة قوية بحيث ال يستطيع اإلنسان‬
‫محفزة (وهذه هي‬‫ّ‬ ‫إال الر ّد عليها أو تفاديها‪ ،‬إذ تكون طاقاته جميعها‬
‫حضارة البقاء على قيد الحياة)‪ ،‬وفي الحالة األخرى تكون البيئة مالئمة‬
‫بحيث يستطيع اإلنسان أن يعيش فيها (وهذه حضارة تزجية الفراغ)‪ .‬إن‬
‫األفالم الوثائقية التي أخرجها األميركي روبرت فالهيرتي �‪(Robert Fla‬‬
‫)‪ herty‬درست هذه الحاالت واكتشفت نبل هذه الحضارات العريقة‪.‬‬
‫ولم ُي ِ‬
‫لق باالً زائد ًا لالعتراض الذي ُو ّجه إليه والقائل بأنه من أنصار جان‬
‫جاك روسو‪ ،‬وبأنه أهمل المشاكل السياسية التي طرحتها المجتمعات‬
‫دور البيض في استغالل هذه المجتمعات‪ .‬هذا‬ ‫البدائية‪ ،‬وأهمل أيض ًا َ‬
‫االعتراض يعني أننا أدخلنا طرف ًا ثالث ًا ال عالقة له بالشروط التي حدّ دها‬
‫فالهيرتي‪ :‬أي التك ّلم المباشر عن البيئة (والتركيز على علم العادات‬
‫واألخالق أكثر من التركيز على علم األعراق)‪ .‬يبدأ فيلم نانوك بالتك ّلم‬

‫‪Arnold Toynbee, L’histoire (Paris: Gallimard, [s. d.]).‬‬ ‫((( انظر‪ :‬‬
‫‪273‬‬
‫عن البيئة‪ ،‬ثم يظهر الرجل األسكيمو مع عائلته‪ .‬هناك عالمة مشتركة‬
‫كبرى تجمع بين السماء المكفهرة وبين شواطئ الجليد التي يؤ ّمن نانوك‬
‫فيها بقاءه على قيد الحياة في بيئة شديدة العدائية‪ :‬يتجابه مع الجليد ليبني‬
‫بيته‪ ،‬ويتجابه بخاصة مع الفقمة‪ .‬هنا لدينا بنية عظيمة لصيغة ‪ ،SAS‬أو‬
‫باألحرى لصيغة ‪ SAS‬ألن عظمة أفعال نانوك ال تتأتى من تعديل الوضع‬
‫بل من البقاء على قيد الحياة في بيئة ال تتزحزح‪ .‬على النقيض من ذلك‪،‬‬
‫ُيظهر لنا فيلم موانا حضار ًة ال تتحداها الطبيعة‪ .‬ولكن بما أن اإلنسان ال‬
‫وجب عليه تالفي‬
‫َ‬ ‫يستطيع أن يكون إنسان ًا إال عبر الجهد ومقاومة األلم‪،‬‬
‫النقص في البيئة الشديدة اللطافة‪ ،‬فأقدم على تجربة الوشم التي جعلته‬
‫يتجابه مع ذاته مجابهة كبرى‪.‬‬

‫في المقام الثاني سنتكلم عن الفيلم النفسي االجتماعي‪ :‬لقد‬


‫عرف المخرج األميركي كينغ فيدور في كامل الجزء الواقعي من أعماله‪،‬‬
‫كيف يصنع توليفات شاملة‪ ،‬تنطلق من الجماعة إلى الفرد ومن الفرد إلى‬
‫الجماعة‪ .‬يمكننا أن نطلق كلمة "أخالقي" على مثل هذا الشكل الذي‬
‫يفرض نفسه على األنواع السينمائية جميعها‪ ،‬وال س ّيما أن األخالق ّ‬
‫تدل‬
‫على المكان أو البيئة وعلى اإلقامة في بيئة مع ّينة‪ ،‬وعلى العادة أو الم َلكة‪،‬‬
‫وعلى طريقة العيش‪ .‬وألن هذا الشكل األخالقي أو الواقعي ال يستبعد‬
‫الحلم‪ ،‬فإنه يشمل قطبي الحلم األميركي‪ :‬فمن جهة هناك الفكرة القائلة‬
‫بوجود مجتمع إجماعي أو أمة‪ /‬بيئة تذوب في بوتقتها األقليات جميعها‬
‫(اإلغراق اإلجماعي في الضحك في نهاية فيلم الجمهور‪ ،‬أو التعبير‬
‫ينم عنه وجه األصفر والزنجي واألبيض في فيلم‬ ‫الواحد نفسه الذي ّ‬
‫مشاهد في الشارع)؛ ومن جهة أخرى‪ ،‬هناك الفكرة المتم ّثلة في زعيم‪،‬‬

‫‪274‬‬
‫أي في رجل من هذه األ ّمة يعرف كيف ير ّد على تحديات البيئة وعلى‬
‫الصعوبات في وضع مع ّين (كما في فيلم خبزنا اليومي‪ ،‬وأغنية عاطفية‬
‫أميركية)‪ ،‬وحتى أثناء األزمات األكثر خطورة تنزاح هذه اإلجماعية‬
‫المدارة بشكل جيد وال تغادر مكان ًا إال لتتشكّل من جديد في مكان آخر‪:‬‬
‫تتحول من‬
‫ّ‬ ‫فإذا ُفقدت في المدينة تنتقل إلى المجموعات الزراعية‪ ،‬ثم‬
‫"القمح إلى الفوالذ" وتنغمس في الصناعة‪ .‬ويبقى أن نقول إن اإلجماع‬
‫يمكن أن يكون زائف ًا‪ ،‬وإن الفرد يمكن أن يستسلم لذاته‪ .‬أليس هذا‬
‫بالضبط ما حصل في فيلم الجمهور الذي لم تكن المدينة فيه إال عبارة‬
‫عن مجموعة بشرية ُمصطنعة والمبالية‪ ،‬ولم يكن الفرد فيه إال شخص ًا‬
‫مهجور ًا ويفتقر إلى اإلمكانيات وردود األفعال؟ الصيغة ‪ ŚAS‬التي يعدّ ل‬
‫فيها الفرد الوضع لها وجه آخر وهو الصيغة ‪ ،SAS‬وفيها لم يعد الفرد‬
‫يعرف ماذا يفعل‪ ،‬وفي أحسن الحاالت يجد نفسه في الوضع ذاته‪ :‬وهذا‬
‫هو الكابوس األميركي الذي ُيظهره فيلم الجمهور‪.‬‬

‫من الممكن أيض ًا أن يسوء الوضع وأن يسقط الفرد في الحضيض‬


‫تفضل أن تقدّ م‬
‫في انحدار لولبي‪ .SAS :‬صحيح أن السينما األميركية ّ‬
‫شخصيات منح ّطة‪ ،‬كالمدمنين على الكحول عند المخرج هوارد‬
‫هوكس )‪ (Howard Hawks‬الذي يعالج مسألة الصعود من الهاوية‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬عندما عالجت هذه السينما عملي َة االنحطاط بالذات‪ ،‬عالجتها‬
‫بطريقة مختلفة عن التعبيرية أو الطبيعانية‪ .‬لم يعد الموضوع سقوط ًا في‬
‫ثقب أسود أو قصور ًا حراري ًا يع ّبر عن انحدار غريزي (مع أن كينغ فيدور‬
‫سينصب االنحطاط الواقعي‪ ،‬بحسب‬ ‫ّ‬ ‫اقترب هنا من الرؤية الطبيعانية)‪.‬‬
‫التصرف‪ ،‬الوضع‪ /‬الفعل‪ .‬ذلك‬‫ّ‬ ‫األسلوب األميركي‪ ،‬في قالب البيئة‪/‬‬
‫أنه ورث تراث ًا أدبي ًا باهر ًا أطلقه فرانسيس فيتزجيرال د �‪(Francis Fitzger‬‬
‫‪275‬‬
‫)‪ ald‬أو جاك لندن )‪" :(Jack London‬الشرب كان طريقة عشتها وعادة‬
‫اختلطت بهم‪ ."...‬االنحطاط يطبع رج ً‬
‫ال يتر ّدد‬ ‫ُ‬ ‫مارسها الرجال الذي‬
‫على هذه األوساط المارقة‪ ،‬األوساط لها إجماع زائف وبشر ناشزون‪،‬‬
‫وال يستطيع أن يع ّبر إال عن تصرفات ُمشينة ومصدّ عة لم تعد تستطيع‬
‫ترميم صدوعها‪ .‬وهذا الرجل ُولد خاسر ًا وتجاوز كل الحدود‪ .‬إنه عالم‬
‫البارات‪ ،‬كما في فيلم ‪ Last Week-end‬للمخرج بيلي وايلدر ‪(Billy‬‬
‫)‪( Wilder‬على الرغم من نهايته السعيدة)؛ إنه عالم البلياردو في فيلم‬
‫روزن )‪(Rosen‬؛ إنه عالم اإلجرام المرتبط بالتحريم‪،‬‬ ‫النصاب للمخرج ِ‬ ‫ّ‬
‫وهو الذي سيشكّل النوع السينمائي الكبير الخاص بالفيلم األسود‪ .‬وفي‬
‫هذا الصدد‪ ،‬يتو ّقف الفيلم األسود مل ّي ًا في وصف الوسط االجتماعي‬
‫ويعرض المواقف‪ ،‬وينشط في معالجة الفعل والفعل الموقوت (نموذج‬
‫السطو مثالً)‪ ،‬ويفضي أخير ًا إلى وضع جديد‪ ،‬هو في أغلب األحيان‬
‫النظام الذي ُأعيد إلى نصابه‪ .‬ولكن إذا كان األوغاد ولدوا خاسرين‪،‬‬
‫على الرغم من قوة بيئتهم ونجاعة أفعالهم‪ ،‬فألن هناك شيئ ًا يقضم هذه‬
‫القوة وهذه النجاعة ويقلب عليهم تلك الحركة اللولبية‪ .‬فمن جهة‪،‬‬
‫ال يكون فيه كل‬ ‫ُيعتبر "الوسط" مجموعة بشرية مز ّيفة‪ ،‬ويجعل منها دغ ً‬
‫التصرفات‬
‫ّ‬ ‫ال لالرتداد؛ ومن جهة أخرى‪ ،‬مهما كانت‬ ‫هش ًا وقاب ً‬
‫تحالف ّ‬
‫محنكة‪ ،‬فإنها ال تشكّل م َلكات حقيقية واستجابات صحيحة ألوضاع‬
‫معينة‪ ،‬ولكنها تُخفي تصدّ عات وتش ّققات تفتتها‪ .‬وهذه هي قصة فيلم‬
‫‪ Scarface‬لهوكس‪ ،‬إذ إن تصدعات البطل جميعها وكل التجاوزات‬
‫اجتمعت في أزمة ُمشينة أطاحت به‬ ‫ْ‬ ‫الصغيرة التي أفرط في ارتكابها‬
‫بعد موت أخته‪ .‬وهناك نموذج آخر مختلف نجده في فيلم ‪Asphalt‬‬
‫‪ Jungle‬لجون هيوستون )‪ ،(John Huston‬ونرى فيه أن الد ّقة المتناهية‬

‫‪276‬‬
‫حررت‬ ‫للطبيب ومهارة القاتل ستتهاويان بعد خيانة شخص ثانوي ّ‬
‫وحررت اآلخر من حنينه إلى‬ ‫ّ‬ ‫أحدهما من َصدْ عه الجنسي الصغير‪،‬‬
‫وطنه األم‪ ،‬وقادتهما كليهما إلى الفشل أو الموت‪ .‬هل ينبغي أن نستنتج‬
‫أن المجتمع هو الصورة التي تعكس جرائمه وأن األوساط جميعها‬
‫مرضية وأن التصرفات جميعها متصدعة؟ هذا سيكون أكثر قرب ًا من‬ ‫َ‬
‫النغ أو بابست‪ .‬ولكن السينما األميركية قد وجدت الوسائل الكفيلة‬
‫بإنقاذ ُحلمها من خالل الكوابيس التي تجاوزتها هذه السينما‪.‬‬

‫إن فيلم الويستيرن هو النوع الرابع العظيم الذي يضرب جذوره‬


‫في وسط ما‪ .‬فمنذ توماس إينس )‪ (Thomas Ince‬ووفق ًا للصيغة ‪SAS‬‬
‫(وسنرى أنها ليست الصيغة الوحيدة في أفالم الويستيرن)‪ ،‬كان الوسط‬
‫السم ُة األساسية للصورة في‬ ‫وتتجسد ِّ‬
‫ّ‬ ‫هو الفضاء المحيط والشامل‪.‬‬
‫الن َفس والتن ّفس‪ .‬وليست هي التي تلهم البطل فقط‪ ،‬بل هي التي تجمع‬
‫وتتوسع بحسب الظروف‪ .‬حين‬ ‫ّ‬ ‫كل‪ ،‬وتتق ّلص‬
‫أشياء التم ّثل العضوي في ّ‬
‫ملون ينشر اللون‬‫يهيمن اللون على هذا العالم‪ ،‬يتم ذلك بحسب س ّلم ّ‬
‫فيه‪ ،‬وتتجاوب فيه أصداء اللون الزاهي واللون الباهت (وسنجد هذا‬
‫اللون المحيط في الديكورات االصطناعية التي ُصممت لفيلم كم كان‬
‫وادينا أخضر لجون فورد‪ .‬المحيط األقصى هو السماء ونبضاتها‪ ،‬ال عند‬
‫فورد فقط‪ ،‬ولكن حتى عند هوكس الذي يجعل إحدى شخصياته في‬
‫فيلم )"‪ "La captive" ("Big Sky‬تقول‪ :‬هذه البالد واسعة‪ ،‬ولكن الشيء‬
‫ٌ‬
‫محاط بالسماء‪ ،‬فإنه يحيط‬ ‫الوحيد األوسع هو السماء‪ ...‬ألن الوسط‬
‫بالمجموعة البشرية‪ .‬وبما أن البطل يم ّثل هذه المجموعة‪ ،‬فإنه يصبح‬
‫ّ‬
‫المختل‬ ‫قادر ًا على إنجاز فعل يجعله معادالً للوسط وعلى إرساء النظام‬
‫على نحو عابر أو بصورة دورية‪ :‬ال بدّ من وساطات الجماعة والبالد كي‬
‫يتشكّل زعيم وكي يصبح الفرد قادر ًا على اجتراح عمل عظيم‪ .‬نحن نعرف‬
‫‪277‬‬
‫عالم فورد بتلك اللحظات الجماعية الكثيفة (من زواج وأعياد ورقصات‬
‫وأغنيات)‪ ،‬وبالحضور المستمر للبالد وبالمثول الدائم للسماء‪ .‬فاستنتج‬
‫بعضهم أن أجواء فورد هي أجواء مغلقة ال حركة وال زمن فعليين فيها(((‪.‬‬
‫ويبدو لنا نحن أن الحركة فيها حقيقية‪ ،‬ولكن ‪ -‬بدل أن تتم بين جزء‬
‫وجزء‪ ،‬أو بالنسبة لكل تع ّبر فيه عن التغ ّير ‪ -‬تتم داخل مكان محيط تع ّبر‬
‫فيه عن تنفسها‪ .‬فالخارج يحتوي الداخل‪ ،‬وكالهما يتواصالن‪ ،‬ويتقدّ م‬
‫ال من هذا إلى ذاك وباالتجاهين‪ ،‬بحسب الصور التي نشاهدها‬ ‫المرء منتق ً‬
‫في فيلم الكوكبة الخيالية الذي يتناوب النظر فيه بين داخل عربة الخيل‬
‫وخارجها‪ .‬بوسعنا االنطالق من نقطة معروفة إلى نقطة مجهولة‪ ،‬أو إلى‬
‫أرض موعودة كما في فيلم ‪ :Wagonmaster‬األساسي هنا يبقى المحيط‬
‫الذي يشملهما كليهما‪ ،‬والذي يتق ّلص عندما نتو ّقف ونستريح‪ .‬وتكمن‬
‫فرادة فورد في أن المحيط وحده يقود الحركة أو اإليقاع العضوي‪ .‬وهو‬
‫أيض ًا بوتقة األقليات‪ ،‬أي أنه هو الذي يجمعها ويكشف فيها عن العناصر‬
‫المشتركة حتى ولو بدت متعارضة‪ ،‬وهو الذي يظهر انصهارها من أجل‬
‫إنشاء أمة‪ :‬وفي فيلم ‪ Wagonmaster‬هي فئات المضطهدين الثالث‪ ،‬أي‬
‫المورمون(*) وممثلو المسرح الجوالون والهنود الحمر‪.‬‬

‫((( يقول جان ميرتي يف كتابه )‪ (Ford‬إن فورد مأساوي أكثر مما هو ملحمي‪،‬‬
‫وسعى لبناء فضاء مغلق من دون زمن وحركة فعليني‪ :‬إنه أشبه «بفكرة احلركة» التي‬
‫تقرتحها الصور الساكنة والبطيئة‪ .‬واستعاد هنري آجيل )‪ (Henri Agel‬وجهة النظر هذه‬
‫«املتوسع واملتق ّلص»‪Henri Agel, L’espace .‬‬
‫ّ‬ ‫بناء عىل خياره بني «املغلق واملفتوح» وبني‬
‫‪cinématographique (Paris: Delarge, [s. d.]), pp. 50-51, pp. 139-141).‬‬
‫أسس جوزيف سميث (‪ )1844-1805‬هذه اجلامعة الدينية املنشقة عن‬ ‫(*) لقد ّ‬
‫الربوتستانتية عام ‪ .1830‬واسمها الرسمي هو «كنيسة يسوع املسيح وقدييس اليوم‬
‫األخري»‪ ،‬وفيها تقليد لبعض الشعائر التوراتية‪ ،‬وفيها تعدّ د الزوجات الذي مورس ما‬
‫بني ‪ 1852‬و‪ ،1890‬ومنعته الدولة األمريكية‪ .‬والكتاب الثاين بعد الكتاب املقدس الذي‬
‫يسرتشد به املورمون هو كتاب مورمون (املرتجم)‪.‬‬
‫‪278‬‬
‫ما دمنا لم نتجاوز هذه المقاربة األولى‪ ،‬فنحن ما زلنا في صيغة‬
‫ال يصبح البطل مكافئ ًا للوسط‬
‫‪ SAS‬التي أصبحت كونية أو ملحمية‪ :‬وفع ً‬
‫من طريق الجماعة وال يعدّ ل في الوسط بل يعيد إقامة النظام الدوري‬
‫تخصص إلينس وفورد عبقرية‬ ‫َّ‬ ‫فيه(((‪ .‬ولكن من الخطورة بمكان أن‬
‫ملحمية‪ ،‬علم ًا بأن بعض المخرجين اآلخرين الحديثي العهد قد طرحوا‬
‫فكرة الويستيرن التراجيدي‪ ،‬ال بل الروائي‪ .‬إن تطبيق ترسيمة هيغل‬
‫ولوكاتش على تسلسل هذه األنواع ال يصح تمام ًا على الويستيرن‪ :‬فكما‬
‫أوضح جان ميتري‪ ،‬سار الويستيرن منذ البداية في شتّى االتجاهات‬
‫الملحمية منها والتراجيدية والروائية‪ ،‬مع رجال كاوبوي سيطر عليهم‬
‫الحنين وعاشوا في عزلة وتقدّ مت بهم السن‪ ،‬ال بل كانوا هالكين منذ‬
‫والدتهم‪ ،‬ومع هنود حمر أعيد اعتبارهم(((‪ .‬إن فورد‪ ،‬في أعماله كافة‪،‬‬
‫التطور في وضع من األوضاع يؤدي إلى زمن‬
‫ّ‬ ‫يكف عن التقاط نقاط‬ ‫ّ‬ ‫لم‬
‫واقعي تمام ًا‪ .‬بالتأكيد هناك اختالف كبير بين الويستيرن وما يمكن أن‬
‫يفسر على أنه تعاقب في األنواع‬
‫نسميه بالويستيرن الجديد؛ ولكنه ال َّ‬
‫السينمائية‪ ،‬كما أنه ليس انتقاالً من المكان المغلق إلى المكان المفتوح‪.‬‬
‫فعند فورد ال يكتفي البطل بإرساء النظام المهدد بين الحين واآلخر‪ .‬إن‬
‫تصوره العضوي‪ ،‬ليس دائري ًا بل لولبي‪ ،‬يختلف فيه وضع‬
‫بنية الفيلم أو ّ‬

‫‪Bernard Dort, Le western, 10-18:‬‬ ‫((( انظر‪ :‬‬


‫ُعرف امللحمة (الرعوية) عىل أهنا مطابقة بني الروح والعامل‪ ،‬وبني البطل والوسط‬ ‫ت َّ‬
‫االجتامعي؛ وحتى اهلنود احلمر ليسوا قوى رشيرة فقط‪ ،‬ولكنهم ال يعيدون النظر يف‬
‫الكون ونظامه‪ ،‬بل يركزون عىل الكوارث والنار والفيضان؛ وعمل البطل ال يعدِّ ل يف‬
‫الوسط‪ ،‬بل يعيد ترتيبه والسيطرة عليه‪ ،‬نوع ًا ما كام لو كان علينا أن نعيد تسوية درب‬
‫من الدروب‪.‬‬
‫‪Mitry, Cahiers du cinéma, no 19-21 (Janvier-Mars 1953).‬‬ ‫((( ‬
‫‪279‬‬
‫الوصول عن وضع االنطالق‪ .ŚAS :‬وهذه الصيغة هي صيغة أخالقية‪،‬‬
‫أكثر منها ملحمية‪ .‬في فيلم الرجل الذي قتل ليبرتي فاالنس‪ُ ،‬قتل اللص‪،‬‬
‫استتب النظام؛ ولكن الكاوبوي الذي قتل اللص يدفع إلى االعتقاد بأن‬ ‫َّ‬
‫كف عن أن يكون‬‫القاتل هو السيناتور العتيد الذي َقبِ َل بتغيير القانون الذي ّ‬
‫القانون الملحمي الصامت للغرب األميركي ليصبح القانون المكتوب‬
‫أو الروائي للحضارة الصناعية‪ .‬وكذلك األمر في فيلم الفارسان الذي‬
‫يتخ ّلى فيه الشريف عن منصبه ويرفض ّ‬
‫تطور المدينة الصغيرة(((‪ .‬وفي كلتا‬
‫الحالتين يبتكر فورد أسلوب ًا شديد األهمية يتم ّثل في الصورة المعدّ لة‪:‬‬
‫هناك صورة تظهر مرتين‪ ،‬ولكنها في المرة الثانية تكون معدّ لة ومتممة‬
‫بحيث يبرز الفرق بين ‪ S‬و’‪ .S‬في فيلم ليبرتي فاالنس تُظهر النهاية الموت‬
‫الحقيقي ل ّلص وتظهر الكابوي الذي أطلق النار‪ ،‬علم ًا بأننا شاهدنا من‬
‫قبل الصورة المقطوعة التي التزمت بها الرواية الرسمية (والقائلة بأن‬
‫السيناتور العتيد هو الذي قتل اللص)‪ .‬في فيلم الفارسان نرى قامة‬
‫الشريف نفسها في الوضعية ذاتها‪ ،‬غير أن الشريف قد تغ ّير‪ .‬صحيح أن‬
‫ويصر بطل ليبرتي‬
‫ّ‬ ‫التباس ًا ونفاق ًا كبيرين يقيمان بينهما‪ ،‬أي بين ‪ S‬و’‪.S‬‬
‫فاالنس على التم ّلص من الجريمة ليصبح سيناتور ًا محترم ًا في حين يترك‬
‫له الصحفيون االحتفاظ بأسطورته التي من دونها سيكون نكرة‪ .‬وكما‬
‫أظهر جان روي )‪ ،(Jean Roy‬فإن فيلم الفارسان يدور حول لولبية المال‬
‫الذي يلغم المجتمع منذ البداية وال يعمل إال على توسيع إمبراطوريته‪.‬‬

‫)‪ (Deux cavaliers‬يف كتاب‪Jean Roy, :‬‬ ‫حتليال دقيق ًا لفيلم الفارسان‬
‫ً‬ ‫((( نجد‬
‫‪Pour John Ford (Paris: Edition du Cerf, [s. d.]),‬‬
‫ويركز فيه عىل اجلانب «اللولبي» للفيلم ويظهر أن شكل اللولب هذا وارد جد ًا‬
‫عند فورد (ص ‪ .)120‬ويف الكتاب حتليل رائع لفيلم ‪ ،Wagonmaster‬ص ‪.59-56‬‬
‫‪280‬‬
‫لكن يخال لنا في كلتا الحالتين أن ما يهتم به فورد هو أن تتمكن‬
‫تكون عن نفسها بعض األوهام‪ .‬وهنا يكمن‬
‫الجماعة البشرية من أن ّ‬
‫الفرق الكبير بين األوساط السليمة واألوساط المريضة‪ .‬لقد كتب جاك‬
‫لندن صفحات رائعة ليد ّلل أخير ًا على أن الجماعة المدمنة على الكحول‬
‫ال تحمل أوهام ًا حول نفسها‪ .‬فبدل أن تدفع الكحول إلى الحلم‪" ،‬تأبى‬
‫على الحالم أن يحلم"‪ ،‬إنها تتصرف كـ "عقل بحت" يقنعنا بأن الحياة‬
‫مهزلة‪ ،‬وبأن الجماعة البشرية هي دغل‪ ،‬وبأن الحياة يأس بيأس (ومن‬
‫هنا يأتي الحس الساخر لدى الكحولي)‪ .‬ونستطيع أن نقول الشيء نفسه‬
‫عن جماعات اإلجرام‪ .‬وعلى العكس من ذلك‪ ،‬تكون الجماعة البشرية‬
‫سليمة عندما يسودها نوع من اإلجماع الذي يتيح لها أن تخلق أوهام ًا‬
‫حول نفسها‪ ،‬وحول دوافعها ورغباتها وأطماعها وقيمها ومثلها العليا‪:‬‬
‫أي عندما تكون األوهام "حيوية" وواقعية وأحق من الحقيقة الصرفة(((‪.‬‬
‫وهذا أيض ًا هو رأي فورد الذي منذ فيلمه "الواشي"‪ ،‬أبرز التدهور‬
‫لمخبر خائن‪ ،‬لكونه لم يعد قادر ًا على خلق األوهام‪.‬‬
‫التعبيري نوع ًا ما ُ‬
‫إذ ًا لن نستطيع أن نلوم الحلم األميركي على أنه ليس حلم ًا‪ :‬هذا ما‬
‫ارتضاه لنفسه‪ ،‬مستمد ًا كل قوته من أنه حلم‪ .‬المجتمع يتغ ّير وال يتوقف‬
‫عن التغ ّير‪ ،‬بالنسبة لفورد ولفيدور‪ ،‬ولكن هذه التغ ّيرات تحصل في بيئة‬
‫حاضنة تغطيها وتباركها بوهم سليم يضمن استمرارية األ ّمة األميركية‪.‬‬

‫في المحصلة‪ ،‬لم تتو ّقف السينما األميركية من تصوير وإعادة‬

‫((( ‪Jack London, Le cabaret de la dernière chance, 10-18, pp. 283‬‬


‫‪sq., et Ford: «Je crois au rêve américan» (Andrew Sinclair, John Ford (Paris:‬‬
‫‪Edition France-Empire, [s. d.]), p. 124).‬‬

‫‪281‬‬
‫تصوير الفيلم األساسي نفسه الذي م ّثل ميالد أمة‪ /‬حضارة‪ ،‬كان غريفيث‬
‫قد صنع نسخته األولى‪ .‬واشتركت مع السينما السوفيتية في اإليمان‬
‫بغائية التاريخ الشامل‪ ،‬وهنا بتفتّح األمة األميركية‪ ،‬وهناك بقدوم عصر‬
‫البروليتاريا‪ .‬ولكن بالنسبة لألميركيين‪ ،‬لم يعرف التمثل العضوي بالطبع‬
‫تطور ًا جدلي ًا‪ ،‬ألنه وحده يختزل التاريخ برمته‪ ،‬وألنّه البذرة الحية التي‬
‫تصدر عنها كل أمة‪ /‬حضارة في جوهرها العضوي وتنبئ بأميركا‪ .‬من‬
‫لتصور التاريخ هذا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هنا جاء الطابع التماثلي العميق أو الطابع الموازي‬
‫التعصب لغريفيث‪ ،‬الذي يمزج أربع حقب تاريخية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كما وجدناه في فيلم‬
‫وكما وجدناه أيض ًا في النسخة األولى لفيلم الوصايا العشر الذي أخرجه‬
‫سيسيل ب‪ .‬دو مايل )‪ ،(Cecil B. De Mille‬ووازى فيه بين حقبتين‪،‬‬
‫تم ّثل أميركا الحقبة األخيرة منهما‪ .‬األمم المنح ّطة هي أجسام مريضة‪،‬‬
‫مثل مدينة بابل لدى غريفيث ومدينة روما لدى دو مايل‪ .‬إذا كانت التوراة‬
‫مهمة جد ًا فألن العبرانيين والمسيحيين من بعدهم قد أنشأوا أمم ًا‪/‬‬
‫حضارات سو ّية تم ّثل ميزتي الحلم األميركي‪ :‬أن تكون أميركا البوتقة‬
‫التي تنصهر فيها األقليات‪ ،‬أن تكون الخميرة التي تصنع زعماء قادرين‬
‫التحرك في األوضاع جميعها‪ .‬على النقيض‪ ،‬فإن لينكولن الذي‬
‫ّ‬ ‫على‬
‫صنعه فورد يستعيد التاريخ التوراتي‪ ،‬فيحكم بعدل مثل سليمان‪ ،‬ويضمن‬
‫المدونة‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫مثل موسى االنتقال من الشريعة البدوية إلى الشريعة‬
‫النوموس [الشريعة] إلى اللوغوس [حكم العقل]‪ ،‬ويدخل إلى المدينة‬
‫على ظهر حماره كما فعل المسيح (كما في فيلم ‪.)Young Mr. Lincoln‬‬
‫وإذا شكّل الفيلم التاريخي نوع ًا كبير ًا من أنواع السينما األميركية‪ ،‬فألن‬
‫األنواع األخرى كافة‪ ،‬في الظروف الخاصة بأميركا‪ ،‬كانت تاريخية أ ّي ًا‬

‫‪282‬‬
‫كانت درجة الخيال فيها‪ :‬فالجريمة مع عصابات السطو‪ ،‬والمغامرة مع‬
‫الويستيرن‪ ،‬م ّثلتا وضع ال ُبنى التاريخية أو المرض ّية أو النموذجية‪.‬‬

‫من السهل أن نسخر من المفاهيم التاريخية الهوليودية‪ .‬على‬


‫العكس تبدو لنا وكأنها جمعت الجوانب األكثر جد ّية التي نظر إليها‬
‫القرن التاسع عشر‪ .‬لقد م ّيز نيتشه ثالثة جوانب منها‪" :‬التاريخ العمراني"‬
‫و"التاريخ األوابدي" و"التاريخ النقدي" أو باألحرى األخالقي(((‪ .‬يتع ّلق‬
‫الجانب العمراني بما يتصل بالشأنين المادي والبشري وبالوسطين‬
‫الطبيعي والمعماري‪ .‬إن بابل وهزيمتها والعبرانيين والصحراء والبحر‬
‫(*)‬
‫الذي انغلق‪ ،‬وإن الفلسطينيين ومعبد داغون الذي هدمه شمشون‬
‫)‪ (Samson‬في فيلم سيسيل ب‪ .‬دو مايل‪ ،‬هي كلها عالمات مشتركة‬
‫تجعل الصورة عمرانية‪ .‬وقد تكون المعالجة شديدة االختالف في‬
‫فيلم الوصايا العشر الذي اعتمد لوحات جدارية ضخمة‪ ،‬أو في‬
‫فيلم شمشون ودليلة الذي اعتمد على سلسلة من المنحوتات؛ تبقى‬
‫الصورة رائعة ويبقى أن معبد داغون يثير ضحكنا‪ ،‬وهو ضحك جليل‬
‫يجتاح المشاهد‪ .‬وفق ًا لتحليل نيتشه‪ ،‬فإن هذا الجانب التاريخي يح ّبذ‬
‫التوازيات والتماثالت بين الحضارات‪ :‬فالفترات الكبرى في تاريخ‬

‫((( ‪Pierre‬‬
‫‪Nietzsche, Considérations intempestives, traduire par ‬‬
‫‪Rusch, «De l'utilité et des inconvénients des études historiques», §§ 2 et 3.‬‬
‫ وهذا النص يتك ّلم عن تاريخ أملانيا يف القرن التاسع عرش؛ ويبدو لنا أنه حافظ‬
‫عىل قيمة راهنة كربى‪ ،‬وينطبق خصوص ًا عىل جانب كبري من األفالم التارخيية وأفالم‬
‫الرداء اإليطالية التي اقتبستها السينام األمريكية‪.‬‬
‫(*) داغون هو إله سامي ‪ -‬غريب نرش األموريون عبادته يف بالد الرافدين‪ .‬وكان‬
‫له معبد يف مدن ماري وإيبال وأوغاريت‪ .‬وظهر يف التوراة باسم داغون إله الفلسطينيني‬
‫(الكتاب املقدس‪« ،‬سفر صموئيل‪ »،‬اآليات ‪ ،5-1‬الفصل اخلامس) (املرتجم)‪.‬‬
‫‪283‬‬
‫البشرية‪ ،‬مهما تباعدت‪ ،‬يفترض فيها أن تتواصل عبر القمم وأن تشكّل‬
‫"مجموعة من النتائج بذاتها" تمكّن من المقارنة الناجحة وتؤ ّثر في عقل‬
‫المشاهد المعاصر‪ .‬ينزع التاريخ العمراني بشكل طبيعي نحو الشمول‪،‬‬
‫التعصب‪ ،‬ألن مختلف الحقب ال تتعاقب‬ ‫ّ‬ ‫ووجد تحفته الفنية في فيلم‬
‫فيه ببساطة‪ ،‬بل تتناوب بحسب مونتاج إيقاعي خارق (سيقدّ م الممثل‬
‫والمخرج َبستر كيتون عنه نسخة هزلية في فيلم األعمار الثالثة)‪ .‬ومهما‬
‫كان نوع المقارنة بين هذه الحقب‪ ،‬فإنه بقي حلم الفيلم التاريخي‬
‫العمراني‪ ،‬حتى عند إيزنشتاين(‪ .((1‬بيد أن لهذه النظرة إلى التاريخ عائق ًا‬
‫كبير ًا‪ :‬يتمثل في معالجة الظواهر كنتائج بذاتها منفصلة عن كل سبب‪،‬‬
‫وهذا ما سبق أن أشار إليه نيتشه‪ ،‬وما انتقده إيزنشتاين في السينما‬
‫التاريخية واالجتماعية األميركية‪ .‬فالحضارات ليست فقط متوازية‪ ،‬بل‬
‫إن الظواهر الرئيسية داخل الحضارة نفسها ‪ -‬كاألغنياء والفقراء مث ً‬
‫ال ‪-‬‬
‫تعالج كـ "ظاهرتين متوازيتين مستقلتين"‪ُ ،‬ينظر إليهما كنتائج ِصرفة‪ ،‬ولو‬
‫ٍ‬
‫عندئذ ال مناص‬ ‫مع شيء من األسف‪ ،‬ولكن دون ذكر أي سبب لهما؛‬
‫من استبعاد األسباب الحقيقية لهذه الظاهرة‪ ،‬وال تظهر هذه األسباب‬
‫إال في شكل مبارزات فردية يتواجه فيها حين ًا ممثل عن الفقراء وممثل‬
‫يبشر بالمستقبل‪ ،‬ومرة‬ ‫عن األغنياء‪ ،‬وحين ًا آخر شخص منحط ورجل ّ‬
‫أخرى إنسان عادل وآخر خائن‪ ...‬إلخ‪ .‬وتم ّثلت قوة إيزنشتاين إذ ًا في‬
‫أنه أظهر أن الجوانب التقنية األساسية للمونتاج األميركي منذ غريفيث‪،‬‬

‫(‪ ((1‬حول مرشوع «النظرة الثالثية يف رصاع اإلنسان عىل املاء» (انظر مقوالت‬
‫تيمورلنك ‪ -‬القيرصية ‪ -‬الكوخلوزات‪ ،‬يف كتاب إيزنشتاين‪:‬‬
‫‪Sergei Eisenstein, La non-indifférente nature, traduit par Luda et Jean‬‬
‫‪Schnitzer  (Paris : Union générale d’éditions, [s. d.]), p. 325.‬‬

‫‪284‬‬
‫والمونتاج الموازي المتناوب الذي يعرض الوضع‪ ،‬والمونتاج المشارك‬
‫المتناوب الذي يؤ ّدي إلى المبارزة‪ ،‬تحيل إلى هذه الرؤية التاريخية‬
‫االجتماعية والبرجوازية‪ .‬وأراد إيزنشتاين إصالح هذا الخلل الرئيسي‪:‬‬
‫َ‬
‫التاريخ‬ ‫لذا طالب بتبيان األسباب الحقيقية‪ ،‬الذي ينبغي عليه أن ُيخضع‬
‫ال في جميع األحوال الصراع الطبقي على‬ ‫العمراني لبناء "جدلي" (مفض ً‬
‫وجود خائن أو منحط أو ماكر) (‪.((1‬‬

‫إذا ما نظر التاريخ العمراني في النتائج بذاتها‪ ،‬وإذا ما اعتبر األسباب‬


‫مجرد مبارزات بين األفراد‪ ،‬لوجب على التاريخ األوابدي أن يهتم بهم‬
‫وأن يعيد بناء أشكالهم المعتادة في ذلك العصر‪ :‬من حروب ومجابهات‪،‬‬
‫ومن صراعات بين المجالدين‪ ،‬ومن سباقات للعربات‪ ،‬ومن مباريات‬
‫بين الفرسان‪ ...‬إلخ‪ .‬وال يكتفي التاريخ األوابدي بالمبارزات التي‬
‫يتوسع ليشمل الوضع الخارجي ويتق ّلص‬‫تؤخذ بالمعنى الحصري‪ ،‬بل ّ‬
‫في وسائل العمل والممارسات الحميمية‪ :‬السجف الرحبة والمالبس‬
‫وأدوات الزينة واآلالت واألسلحة والمعدات والمجوهرات واألشياء‬
‫الخاصة‪ .‬ولقد امتزجت طقوس العربدة مع ظواهر العملقة والمشاهد‬

‫(‪Sergei Eisenstein, Film form (New York: Meridian Books, [s. ((1‬‬
‫‪d.]), p. 235:‬‬
‫«بالطبع‪ ،‬إن مفهوم املونتاج عند غريفيث‪ ،‬بصفته مونتاج ًا موازي ًا قبل كل يشء‪،‬‬
‫يبدو وكأنه اإلنتاج املحدّ د لرؤيته الثنائية للعامل‪ ،‬والتي تتقدّ م عىل اخلطني املتوازيني‬
‫التوصل إىل مصاحلة مفرتضة بينهام‪ .‬اجلدير بالذكر هو أن مفهومنا‬
‫ّ‬ ‫للفقراء واألغنياء‪ ،‬بغية‬
‫وتؤسس عىل رؤية أحادية‬ ‫َّ‬ ‫الظواهر‪،‬‬ ‫لفهم‬ ‫أخرى‬ ‫طريقة‬ ‫عن‬ ‫ينجم‬ ‫للمونتاج جيب أن‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫وجدلية للعامل يف آن واحد»‪ .‬وهذا ينطبق أيضا عىل مرشوع التاريخ الشامل‪ :‬وجيب عىل‬
‫تتأسس عىل جدلية التشكيالت االجتامعية‪ ،‬وقارهنا إيزنشتاين‬ ‫لوحة إيزنشتاين الثالثية أن ّ‬
‫بصاروخ ثالثي الطوابق‪ :‬هي التشكّل الطغياين‪ ،‬والرأساملية‪ ،‬واالشرتاكية؛ ونفهم ملاذا‬
‫تو ّقف املرشوع (إذ كان ستالني يكره كل إحالة تارخيية إىل التشكّالت الطغيانية)‪.‬‬
‫‪285‬‬
‫الحميمة‪ .‬ويتقدّ م التاريخ األوابدي على التاريخ العمراني‪ .‬هنا أيض ًا‬
‫تمكن السخرية من األبنية الهوليودية المعاد تشكيلها‪ ،‬ومن الشكل‬
‫"القشيب" لألكسسوارات‪ :‬فالقشيب‪ ،‬في التاريخ األوابدي هو عالمة‬
‫على تفعيل العصر‪ .‬وتصبح األقمشة عنصر ًا أساسي ًا في الفيلم التاريخي‪،‬‬
‫وال س ّيما مع الصورة‪ /‬اللون‪ ،‬كما في فيلم شمشون ودليلة وفيه شكّل‬
‫قمتين من قمم‬‫عرض البائع ألقمشته‪ ،‬وسرق ُة شمشون لثالثين جلباب ًا‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫األلوان‪ .‬ولآلالت قمتها أيض ًا‪ ،‬إما ألنها خلقت أمة‪ /‬حضارة جديدة‪ ،‬وإما‬
‫ألنها على العكس تنبئ بانحسارها وزوالها‪ .‬في الفيلم التاريخي الوحيد‬
‫الذي أنتجه هوارد هاوكس‪ ،‬وهو فيلم أرض الفراعنة‪ ،‬لم يهتم ‪ -‬على‬
‫ما يبدو ‪ -‬إال بلحظة واحدة وردت في آخر الفيلم وقدّ م فيها المعمار‪/‬‬
‫المهندس للفرعون آلة جديدة خارقة تنضد الرمل والحجر وتو ّفق بين‬
‫انزالق الرمل وسقوط الحجر‪ ،‬كي تسمح بإغالق داخلي محكم تمام ًا‬
‫لغرفة الموتى في قلب الهرم‪.‬‬

‫التصور العمراني واألوابدي للتاريخ يتحدّ ان‬


‫ّ‬ ‫صحيح أخير ًا أن‬
‫وتوزعها‪ .‬ورأى‬
‫ّ‬ ‫فع ً‬
‫ال من دون الصورة األخالقية التي تقدّ ر أبعادهما‬
‫سيسيل ب‪ .‬دو مايل أن األمر يتع ّلق بالخير والشر‪ ،‬مع جميع إغراءات‬
‫الشر وفظاعاته (البرابرة‪ ،‬الالمؤمنون‪ ،‬المتعصبون‪ ،‬الجنس الجماعي‪...‬‬
‫إلخ)‪ .‬ينبغي أن يخضع التاريخ القديم والحديث للمحاكمة وأن يقاضى‪،‬‬
‫وذلك من أجل الكشف عن أسباب االنحطاط والنهوض‪ ،‬وتبيان بذور‬
‫االنحطاط والنهوض‪ ،‬وإبراز العربدة مقارنة بإشارة الصليب‪ ،‬وإظهار‬
‫جبروت األغنياء وبؤس الفقراء‪ .‬ال بدّ من حكم أخالقي صارم يندد بظلم‬
‫األشياء ويجلب الرحمة ويبشر بالحضارة الجديدة الزاحفة؛ وبوجيز‬

‫‪286‬‬
‫العبارة يجب أن يعلن باستمرار عن إعادة اكتشاف أميركا‪ ...‬وال س ّيما‬
‫تفحص األسباب‪ .‬واكتفت السينما‬ ‫أنه منذ البداية جرى التخ ّلي عن ّ‬
‫األميركية بذكر تراخي حضارة من الحضارات داخل البيئة‪ ،‬وبتداخل‬
‫خائن ما في الفعل‪ .‬ولكن األمر الرائع هو أن السينما األميركية‪ ،‬على‬ ‫ٍ‬
‫الرغم من حدودها كلها‪ ،‬نجحت في طرح مفهوم قوي ومتماسك عن‬
‫التاريخ الشامل‪ ،‬أكان عمراني ًا أو أوابدي ًا أو أخالقي ًا(‪.((1‬‬

‫‪)2‬‬
‫من خالل هذه األنواع كلها‪ ،‬ما هي قوانين الصورة‪ /‬الفعل؟ يتع ّلق‬
‫القانون األول بالصورة الفعل كتمثيل عضوي في مجمله‪ .‬وهو قانون‬
‫بنيوي ألن األمكنة واألزمنة محدّ دة تمام ًا في تعارضاتها وتكامالتها‪.‬‬
‫من وجهة نظر الوضع )‪ (S‬ومن وجهة نظر المكان والكادر واللقطة‪،‬‬
‫ين ّظم هذا القانون الطريقة التي بها يبعث الوسط قوى عديدة‪ ،‬ويحدّ د‬
‫حصة كل قوة منها‪ ،‬سماءات فورد مثالً‪ ،‬كما يحدّ د صراع هذه القوى‬
‫واتفاقها‪ ،‬والدور الخاص باألرض واإلقليم‪ ،‬وهو دور يم ّثل ّ‬
‫قوة من بين‬

‫(‪ ((1‬لكل تيار كبري يف السينام التارخيية‪ ،‬أن يطرح السؤال التايل نفسه‪ :‬ما هو‬
‫املتوخى؟ إن حتليل العالقات بني السينام والتاريخ قد تقدّ م كثري ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مفهوم التاريخ‬
‫بفضل الدراسات التي قدّ مها مارك فريو‪Marc Ferro, Cinéma et histoire (Paris: :‬‬
‫‪Denoël-Gonthier, 1977,‬‬
‫‪Cahiers du cinéma, no 254, 257, 277, 278,‬‬ ‫ويف دراسات‪ :‬‬
‫وال سيام مقاالت جان لويس كومويل )‪ .(Jean-Louis Comolli‬ولكن املشكلة‬
‫املطروحة هي أكرب من تلك التي ذكرناها هنا‪ ،‬وتتعلق بالصلة القائمة بني القول التارخيي‬
‫والطروحات التارخيية من جهة‪ ،‬وبني القول والصور السينامئية من جهة أخرى‪ .‬ومسألتنا‬
‫ليست إال جزء ًا من تلك‪.‬‬
‫‪287‬‬
‫قوى أخرى‪ ،‬ويذكر مكان المجابهة والمصالحة بينها كلها؛ ولكن هذا‬
‫القانون ين ّظم أيض ًا الطريقة التي يحيط فيها الكل بالمجموعة وبالشخصية‬
‫السينمائية وبالمنزل‪ ،‬فيقيم عنصر ًا شام ً‬
‫ال تنبعث منه القوى المعادية أو‬
‫المؤيدة‪ ،‬فيبرز الطريقة التي يبزغ فيها الهنود الحمر في قمة تل من التالل‬
‫فيتاخمون السماء واألرض في آن‪ ...‬وحول الزمن وتعاقب اللقطات‪،‬‬
‫ينظم هذا القانون االنتقال من ‪ S‬إلى '‪ ،S‬والتن ّفس العميق‪ ،‬وتناوب‬
‫لحظات التق ّلص والتمدّ د‪ ،‬والتناوب بين الخارج والداخل‪ ،‬وانقسام‬
‫الوضع األساسي إلى أوضاع ثانوية هي أشبه ببقع صغيرة تحيط بها‬
‫تطور ًا لولبي ًا يشتمل‬
‫التصور العضوي ّ‬
‫ّ‬ ‫بقعة شاملة‪ .‬نظر ًا لهذا كله‪ ،‬يكون‬
‫التصور عند إيزنشتاين‪،‬‬‫ّ‬ ‫على حركات وقف مكانية وزمنية‪ .‬سنجد هذا‬
‫توزع وتعاقب األشعة الموجهة‬‫على الرغم من أنه ينظر بشكل مغاير إلى ّ‬
‫على اللولب‪ .‬ويرى غريفيث والسينما األميركية أن المونتاج المتناوب‬
‫المتوازي يكفي لتنظيم عالقة األشعة الموجهة في ما بينها بشكل تجريبي‪.‬‬

‫يحتوي المونتاج المتناوب على شكل ليس متوازي ًا بل متقارب ًا‬


‫أو متالقي ًا‪ .‬ذلك أن االنتقال من ‪ S‬إلى '‪ S‬يتم من طريق ‪ ،A‬وهي الفعل‬
‫الحاسم المتوضع على األغلب قرب '‪ .S‬يجب على العالمة المشتركة أن‬
‫تتق ّلص إلى تعارض حدّ ين‪ ،‬أو إلى مبارزة‪ ،‬كي ّ‬
‫تتوزع القوى التي تف ّعلها‬
‫بطريقة مختلفة‪ ،‬أو تعقد سالم ًا بينها أو تعترف بانتشار إحداها‪ .‬ويتحكم‬
‫إذ ًا القانون الثاني من قوانين الصورة‪ /‬الفعل باالنتقال من )‪(Situation‬‬
‫‪ S‬إلى ‪ .(Action) A‬والحال أن الفعل الحاسم أو المبارزة ال يمنعهما‬
‫من أن يتح ّققا إال إذا انطلقت ‪ -‬من شتّى نقاط العنصر المحيط ‪ -‬خطوط‬
‫فعل متقاربة تجعل المجابهة الفردية القصوى ممكنة‪ ،‬وتجعل االرتكاس‬

‫‪288‬‬
‫تعديلي ًا‪ .‬إن خطوط الفعل هذه هي التي تجعل أطراف موضوع المونتاج‬
‫تلتقي‪ ،‬وهذا هو الشكل الثاني للمونتاج عند غريفيث‪ .‬ولكن فريتز النغ قد‬
‫ح ّقق ربما ّ‬
‫قمة الكمال في فيلم م‪ .‬الملعون (وه ّيأ انتقال النغ إلى أميركا)‪.‬‬
‫فمن خالل تحليل المونتاج المتالقي لهذا الفيلم‪ ،‬خالف ًا لباقي أفالم النغ‬
‫تعرض الوضع‬‫السابقة‪ ،‬طرح نويل بورش فكرة "الشكل األكبر"‪ .‬بالفعل ّ‬
‫الكلي في البداية لزمكان محدّ د ومفردن‪ :‬باحة المبنى في المدينة‪ ،‬درج‬
‫ومطبخ الشقة داخل المبنى‪ ،‬المسافة الفاصلة بين المبنى والمدرسة‪،‬‬
‫والملصقات على الجدران‪ ،‬هيجان الناس‪ ...‬ولكن سرعان ما تبرز في‬
‫هذا الوسط نقطتان‪ ،‬ثم خ ّطا فعل سيتناوبان من دون انقطاع فيما يتقاربان‬
‫كلبة تقبض على المجرم‪ :‬خط الشرطة‪،‬‬ ‫ويتبادالن األدوار‪ ،‬ويشكالن ّ‬
‫وخط الدهماء (التي تخشى أن ُيفسد قاتل األطفال نشاطاتها)‪ .‬سنالحظ‬
‫أن البطل السلبي أو اإليجابي‪ ،‬بفضل الطابع البنيوي الذي يتسم به‬
‫التصور العضوي‪ ،‬يشغل مكان ًا مه ّي ًأ منذ وقت طويل‪ ،‬حتى قبل أن يأتي‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫يتكشف‬ ‫ليحت ّله أو حتى قبل أن نعلم بأنه يأتي ليحت ّله‪ :‬على هذا النحو‬
‫القاتل تدريجي ًا‪ .‬وعندما تمسك الدهماء بتالبيبه نشهد الفعل الحقيقي‬
‫ونتعرف فع ً‬
‫ال على القاتل‪ .‬وهنا تبدأ المبارزة بين م‪ .‬الملعون والمحكمة‬ ‫ّ‬
‫التي شكلها اللصوص والمتسولون‪ .‬إن الخط المزدوج مع وقفاته‬
‫ومقارباته‪ ،‬يقودنا من الوضع إلى المبارزة‪ ،‬ومن العالقة المشتركة إلى‬
‫تعارض الحدين‪ .‬صحيح أن التصور العضوي يحتفظ بغموضه النهائي؛‬
‫لتحل ّ‬
‫محل الدهماء وانتزعت القاتل منها‬ ‫ذلك ألن الشرطة عندما أتت ّ‬
‫لتقدمه إلى محكمة قانونية‪ ،‬ال نعلم إذا كان الوضع سينتهي بالتعديل‬
‫واالستقرار وبأن الجريمة ستغسل‪ ،‬وبأن كل شيء‪ ،‬أو إذا كانت الجريمة‬
‫ستتكرر دائم ًا ("يجب اآلن مراقبة الصغار بشكل أفضل‪ S' :)"...‬أو ‪S‬؟‬
‫‪289‬‬
‫القانون الثالث للصورة‪ /‬الفعل يتناقض مع القانون الثاني‪ .‬فإذا‬
‫كان المونتاج المتناوب بالفعل ضروري ًا لالنتقال من الوضع إلى الفعل‪،‬‬
‫يبدو أن شيئ ًا ما في الفعل المنحصر على هذا النحو وفي عمق المبارزة‬
‫يكون عص ّي ًا على أي مونتاج‪ .‬ونستطيع أن ّ‬
‫نسمي هذا القانون الثالث‬
‫بقانون بازان أو "بالمونتاج المحظور"‪ .‬لقد أوضح أندريه بازان أنه إذا‬
‫التوصل إلى نتيجة وإذا كانا يخضعان لمونتاج‬
‫ّ‬ ‫ساهم فعالن مستقالن في‬
‫واحد‪ ،‬فإن النتيجة الحاصلة تنطوي على برهة يتجابه فيها الحدّ ان‬
‫ويتزامنان بالضرورة‪ ،‬من دون التمكّن من الوصول إلى مونتاج يتناول‬
‫المجال والمجال المضاد‪ .‬واستشهد بازان بفيلم السيرك لشارلي شابلن‬
‫ً‬
‫قائال‪ :‬كل الخدع السينمائية مسموح بها‪ ،‬ولكن كان يجب على شارلو أن‬
‫يدخل إلى قفص األسد وأن يكون معه في لقطة رئيسية‪ .‬وكان يجب على‬
‫رجل اإلسكيمو نانوك أن يجابه الفقمة في لقطة واحدة(‪ .((1‬ولم يعد قانون‬
‫تعارض الحدين يتعلق ال بـ '‪ SS‬وال بـ ‪ ،SA‬ولكن بـ ‪ A‬لذاته‪.‬‬

‫ومموضعة من لحظات الصورة‪/‬‬‫َ‬ ‫فع ً‬


‫ال ليست المبارزة لحظة فريدة‬
‫الفعل‪ .‬إنها تخترق خطوط الفعل‪ ،‬مشيرة دائم ًا إلى تزامنات ضرورية‪.‬‬
‫ويترافق االنتقال من الوضع إلى الفعل بتداخل عدد من المبارزات‪.‬‬
‫وتعارض الحدين هو تعارض حدود‪ .‬وحتى في فيلم الويستيرن الذي‬
‫يعرض المعالجة األكثر نقاء‪ ،‬يصعب حصر المبارزة في المقام األخير‪.‬‬
‫هل هي مبارزة بين الكاوبوي واللص أو الهندي األحمر؟ أو هل تكون‬
‫ّ‬
‫سيحل محله (كما في فيلم‬ ‫مع المرأة أو الصديق أو الرجل الجديد الذي‬

‫(‪André Bazin, Qu’est-ce que le cinéma? (Paris: Edition du Cerf, ((1‬‬


‫‪[s. d.]), p. 59.‬‬

‫‪290‬‬
‫‪)Liberty Valance‬؟ في فيلم م‪ .‬الملعون؟ هل تتم المبارزة الحقيقية‬
‫بين م‪ .‬والشرطة أو المجتمع‪ ،‬أو بين م‪ .‬والدهماء التي ال تقبل به؟ في‬
‫المحصلة تستطيع المبارزة أن تكون خارج الفيلم مع أنها داخل السينما‪.‬‬
‫ّ‬
‫والمتسولون على جريمة‬
‫ّ‬ ‫في مشهد محاكمة الدهماء‪ ،‬يركّز اللصوص‬
‫تصرف مدفوع ًا‬
‫التصرف والجريمة كتنظيم عقلي‪ ،‬ويلومون م‪ .‬على أنه ّ‬ ‫ّ‬
‫يبرئه‪ :‬لم يكن‬‫ال إن هذا هو الذي ّ‬‫بعاطفته‪ .‬فيرد ‪ M‬على هذه التهمة قائ ً‬
‫يتصرف إال طبق ًا لغريزته وتأثره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بوسعه أن يتصرف إال هكذا‪ ،‬فهو لم‬
‫ٍ‬
‫عندئذ يلعبه بطريقة تعبيرية‪ .‬أخير ًا‪ ،‬أليست‬ ‫والممثل الذي يلعب دوره‬
‫المبارزة في فيلم م‪ .‬الملعون هي بين فريتز النغ والتعبيرية؟ وبه و ّدع‬
‫التعبيرية‪ ،‬ودخل إلى الواقعية التي أتى فيلم وصية الدكتور مابوز ليؤكدها‬
‫(وفيه انسحب مابوز لصالح التنظيم الواقعي البارد)‪.‬‬

‫لكن إذا وجد تداخل بين المبارزات‪ ،‬فهذا يعود إلى قانون خامس‬
‫والتصرف الذي يغ ّيره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يقول‪ :‬بين العنصر المحيط والبطل‪ ،‬وبين الوسط‬
‫وبين الوضع والفعل‪ ،‬ال بدّ من وجود تباين كبير ال يمكن معالجته إال‬
‫تدريجي ًا خالل الفيلم‪ .‬من الممكن أن نتصور وضع ًا قد ينقلب إلى مبارزة‬
‫فورية‪ ،‬غير أن ذلك قد يكون من "الهزل السمج"‪ .‬في فيلم رائع قصير‬
‫عنوانه ‪ ،The fatal glass of beer‬يفتح المخرج والممثل الكوميدي‬
‫وليام فيلدز )‪ (William Fields‬في أوقات منتظمة باب كوخه في أقصى‬
‫الشمال ويهتف "في طقس مثل هذا ال تدع كلبك في الخارج"‪ ،‬ثم يتل ّقى‬
‫حاالً على وجهه كرتين من الثلج ال يعرف مصدرهما‪ .‬لكن من الطبيعي‬
‫أن يكون هناك طريق طويل من الوسط إلى المبارزة النهائية‪ .‬والسبب‬
‫هو أن البطل ليس ناضج ًا بعد ألن يقوم فور ًا بالفعل؛ فهو أشبه بهاملت‬

‫‪291‬‬
‫)‪ (Hamlet‬الذي كان الفعل الذي ُيطلب منه القيام به فوق طاقته‪ .‬وال‬
‫يعني هذا أنه ضعيف‪ ،‬بل على النقيض هو مكافئ للعنصر المحيط‪،‬‬
‫ولكنه مكافئ له بشكل احتمالي يجب على قدرته وجبروته أن يدخال‬
‫حيز الواقع‪ .‬يجب أن يتخلى عن انكفائه وسالمه الداخلي‪ ،‬وأن يستجمع‬
‫الوضع منها‪ ،‬وأن ينتظر الفرصة السانحة التي فيها يتل ّقى‬
‫ُ‬ ‫قوى قد حرمه‬
‫ال يحتاج البطل إلى شعب‬ ‫الدعم الضروري من جماعة أو فريق‪ .‬وفع ً‬
‫تكرسه كبطل‪ ،‬ولكنه يحتاج أيض ًا إلى مجموعة‬ ‫وإلى مجموعة أساسية ّ‬
‫يلتقيها وتساعده‪ ،‬مجموعة غير متجانسة وضيقة النطاق‪ .‬عليه أن يتصدّ ى‬
‫للعزائم الخائرة وللخيانات من بعضهم‪ ،‬وألشكال التم ّلص من البعض‬
‫اآلخر‪ .‬وهذه متغ ّيرات نجدها في فيلم الويستيرن والفيلم التاريخي‪.‬‬
‫وحتى عند إيزنشتاين‪ .‬ما لم يقدّ ره النقد السوفيتي هو الطابع الهامليتي‬
‫لـ إيفان الرهيب‪ :‬فلحظتا الشك اللتان انتابته هما بمثابة قطعين في‬
‫الفيلم؛ تضاف إليهما طبيعته األرستقراطية التي عجزت عن النظر إلى‬
‫الشعب كمجموعة أساسية‪ ،‬ولكنها رأت فيه حشد ًا أتى من طريق الصدفة‬
‫يمر في لحظات من‬‫واستخدمته كأداة‪ .‬وبعامة‪ ،‬يجب على البطل أن ّ‬
‫العجز‪ ،‬داخلية كانت أم خارجية‪ .‬تتم ّثل الجوانب القوية في فيلم شمشون‬
‫ودليلة الذي أخرجه سيسيل ب‪ .‬دو مايل‪ ،‬في الصور التي تظهر شمشون‬
‫ويحرك حجر الرحى‪ ،‬ثم شمشون المق ّيد بالسالسل داخل حرم‬‫ّ‬ ‫أعمى‬
‫المعبد‪ ،‬شمشون الملتمس طريقه والحاجل بقدميه بعد عضات السنانير‬
‫التي ه ّيجها أقزام زنيمون؛ وفي النهاية يستجمع شمشون كل قواه ويزيح‬
‫عمود المعبد الهائل عن قاعدته؛ وصورة القوة هذه تعادل صورة العجز‬
‫البالغ التي أظهرت شمشون وهو يدير حجر الرحى ذا الصرير الحاد‪.‬‬
‫تعض شمشون‬
‫على العكس من ذلك‪ ،‬نرى أن أفكاك السنانير التي ّ‬
‫‪292‬‬
‫العاجز تعادل فك الحمار الذي كان يستعمله شمشون الجبار في البداية‬
‫ليصرع به مهاجميه‪ .‬بوجيز العبارة هناك مسار زمكاني يمتزج مع عملية‬
‫التفعيل التي أصبح بها البطل "قادر ًا" على القيام بالفعل؛ والتي صارت‬
‫له قوة معادلة لقوة العنصر المحيط‪ .‬في بعض األحيان تشهد تناوب ًا بين‬
‫تكف إحداهما عن متابعة ما يجري‪ ،‬بينما تكون األخرى‬‫ّ‬ ‫شخصيتين‪،‬‬
‫أحب فورد هذه‬
‫ّ‬ ‫قادرة عليها‪ ،‬كما حصل لموسى ويشوع بن نون‪ .‬لقد‬
‫البنية الثنائية التي ّ‬
‫تدل أيض ًا على تعارض الحدّ ين‪ :‬رجل القانون الذي‬
‫ينوب عن رجل الغرب األميركي في فيلم ‪Liberty Valance‬؛ أو األم‬
‫تفسخ‬
‫في مجتمع زراعي أمومي والتي "تختلط عليها األمور" كلما ازداد ّ‬
‫تتوضح بعد أن أدرك معنى وأهمية المعركة‬ ‫الجماعة‪ ،‬فيما تبدأ رؤية االبن ّ‬
‫الجديدة‪ ،‬كما يظهر ذلك في فيلم عناقيد الغضب‪ .‬من خالل هذه النقاط‬
‫للتطور‪ :‬ال بدَّ من‬
‫ّ‬ ‫جميعها‪ ،‬يتحدد التصور العضوي بهذا القانون األخير‬
‫فاصل كبير بين الوضع والفعل العتيد‪ ،‬ولكن ال وجود لهذا الفاصل إال‬
‫ألنه س ُيردم في عملية موسومة بالوقفات والتراجعات والتقدّ مات‪.‬‬

‫‪)3‬‬
‫استوحت سينما السلوك (المدرسة السلوكية) من الصورة‪/‬‬
‫الفعل‪ ،‬ما دام السلوك هو فعل ينتقل من وضع آلخر‪ ،‬ويستجيب لوضع‬
‫محاوالً تعديله أو تأسيس وضع آخر‪ .‬كان ميرلو بونتي يرى في زيادة‬
‫االهتمام بالسلوك هذه عالمة مشتركة من عالمات الرواية الحديثة وعلم‬
‫النفس الحديث وروح السينما(‪ .((1‬ولكن ضمن هذا المنظور‪ ،‬ال بدّ من‬

‫(‪Merleau-Ponty, Sens et non-sens (Paris: Nagel, [s. d.]), «Le ((1‬‬


‫‪cinéma et la nouvelle psycholgie».‬‬

‫‪293‬‬
‫التصور‬
‫ّ‬ ‫عالقة حسية حركية قوية جد ًا‪ ،‬وال بدّ من هيكلة السلوك فعالً‪ .‬إن‬
‫العضوي الكبير ‪ ŚAS‬ال ينبغي أن يكون مركّب ًا فحسب بل أن يو َلد‪ :‬يجب‬
‫تتشرب الشخصية الموقف بعمق ومن دون انقطاع‪ ،‬ومن‬ ‫من جهة أن ّ‬
‫تتفجر بالفعل‪،‬‬
‫جهة أخرى يجب على الشخصية المشبعة بالموقف أن ّ‬
‫ولو بشكل متق ّطع‪ .‬وهذه هي صيغة العنف الواقعي المختلفة عن العنف‬
‫التشرب)‬
‫ّ‬ ‫الطبيعاني‪ .‬البنية تتم ّثل في بيضة‪ :‬ولها قطب نباتي أو إنباتي (هو‬
‫وقطب حيواني (هو التعبير الحركي عما يجيش في الداخل ‪(Acting-‬‬
‫)‪ .)Out‬ونعلم في هذا المعنى أن الصورة‪ /‬الفعل قد وجدت منهجيتها‬
‫في اإلستوديو األميركي للتمثيل )‪ (Actors Studio‬وفي سينما إيليا‬
‫كازان‪ .‬وهنا توجد ترسيمة حس ّية حركية استحوذت على الصورة‪ ،‬ويوجد‬
‫عنصر وراثي ينزع إلى االنطالق‪ .‬ومنذ البداية لم تط َّبق قواعد اإلستوديو‬
‫األميركي للتمثيل على الممثل فقط بل أيض ًا على تصميم وصنع الفيلم‬
‫أيض ًا‪ ،‬بطرق ضبط الكادرات والتقطيع والمونتاج فيه‪ .‬ويجب ّ‬
‫البت بكل‬
‫هذا وبأداء الممثل الواقعي وبالطبيعة الواقعية للفيلم‪ ،‬وبالعكس‪ .‬فمن‬
‫نصرح بأن الممثل ليس محايد ًا على اإلطالق وبأنه ال‬‫نافل القول أن ّ‬
‫يتشرب الموقف وال يبقى هادئ ًا من دون تو ُّقف‪.‬‬
‫يقرر‪ .‬فعندما ال ينفجر ّ‬
‫بالنسبة للمم ّثل كما بالنسبة للشخصية‪ ،‬يتم ّثل العصاب األساسي‬
‫أقل حركة في الح ّيز من القطب‬ ‫ال ليس القطب اإلنباتي ّ‬
‫بالهستيريا‪ .‬وفع ً‬
‫الحيواني الدائب على الحركة العنيفة‪ .‬فالتش ّبع اإلسفنجي له كثافة كما‬
‫التصور‬
‫ّ‬ ‫والتوسع المفاجئ‪ .‬ولهذا السبب بالذات ُيعطى‬
‫ّ‬ ‫للتعبير الحركي‬
‫البنيوي والوراثي للصورة‪ /‬الفعل صيغ ًة ال تنتهي تطبيقاتها‪ .‬لقد اقترح‬
‫إيليا كازان أن يجعل مجموعة من الشخوص المتنازعين يتناولون الطعام‬
‫سيفجر النزاعات ويجعلها تحتدم‪ .‬لننظر‬
‫ّ‬ ‫مع ًا‪ :‬ذلك أن الطعام المشترك‬
‫‪294‬‬
‫في فيلم حديث ط ّبق هذا المنهج وهذه المنظومة‪ ،‬وهو فيلم جيورجيا‬
‫للمخرج األميركي آرثر بين )‪ .(Arthur Penn‬ثمة في الفيلم مشهد‬
‫ُيظهر مائدة إفطار تجمع أب ًا ملياردير ًا لفتاة شابة مع خطيبها البروليتاري‬
‫المهاجر‪ ،‬فنشهد توتر الوضع الذي يعتمل في دخيلة البطلين المتنافسين؛‬
‫ثم يقول األب‪" :‬لم أعتد أن أعطي ما أملكه"‪ ،‬فكانت هذه الكلمات أشبه‬
‫تضمنت العنصر الجديد في عالقة زنا المحارم‬
‫بانفجار غ ّير الوضع ألنها ّ‬
‫بين األب وبنته‪ .‬والحق ًا في حفل الخطوبة‪ ،‬يبدو األب ‪ -‬الذي ال نشاهده‬
‫يتشرب الموقف‬ ‫بوضوح والذي يتوارى خلف كوة زجاجية ‪ -‬وكأنه ّ‬
‫وينقض األب فيقتل‬
‫ّ‬ ‫وثمة طفل صغير يالحظ ذلك وينتظر؛‬ ‫كعشبة سامة؛ ّ‬
‫ابنته ويجرح خطيبها جرح ًا بالغ ًا‪ ،‬فيغ ّير معطيات الموقف في هذا التعبير‬
‫الحركي الحيواني‪.‬‬
‫هذا يشبه التباين الحيوي الذي تك ّلم عنه برغسون عندما قال‪ :‬إن‬
‫المتفجر مكاني ًا‪ ،‬في‬
‫ّ‬ ‫النبات أو العنصر النباتي قد أخذ على عاتقه تخزين‬
‫حين أن العنصر الحيواني قد تو ّلى تفجيره فعالً‪ ،‬وبحركات مفاجئة(‪.((1‬‬
‫قد تكمن فرادة صموئيل فو ّلر في أنه دفع هذا التباين إلى حدّ ه األقصى‪،‬‬
‫رجات قوية وعلى كسر المشاهد المتعاقبة‪ .‬إن فيلم الحروب‬ ‫معتمد ًا على ّ‬
‫وتشرب األجواء من جهة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُمالئم لذلك من خالل التو ّقعات المستمرة‬
‫ومن خالل التفجيرات العنيفة والتعبيرات الحركية عن جيشان الباطن‪.‬‬
‫المحصلة‪ ،‬سيجد فو ّلر أشكال عنفه لدى المجانين اإلنباتيين الذين‬
‫ّ‬ ‫في‬
‫ينتصبون كنباتات في أحد األروقة‪ ،‬كما نشاهد ذلك في فيلم ‪Corridor‬‬
‫يتفجر‬
‫ّ‬ ‫‪ Shock‬أو في الكلب العنصري في فيلم الكلب األبيض الذي‬
‫تفجرات غير متوقعة وأن‬ ‫في أفعاله الهجومية‪ .‬صحيح أن للمجانين ّ‬

‫‪Henri Bergson, L’évolution créatrice, ch II.‬‬ ‫(‪((1‬‬


‫‪295‬‬
‫تشرب تفجره الباطني طويالً‪" .‬لقد شرحت للكلب بأنه ممثل‬ ‫الكلب ّ‬
‫في فيلمي‪ "...‬ولكن فو ّلر يعرف أن يشرح ذلك للنباتات أيض ًا‪ .‬ما يهمه‬
‫هو ذلك التفريق األقصى الذي يفاقم العنف النباتي والحيواني‪ ،‬والذي‬
‫ٍ‬
‫عندئذ يصل الموقف إلى طبيعانية مظلمة‪.‬‬ ‫يقلب القطبين أحيان ًا‪:‬‬
‫لقد تمكن قازان من التفريق بين القطبين‪ ،‬ففيلمه الدمية اللحمية‬
‫آن واحد عن الحياة‬‫[‪ ]1956‬هو من أجمل األفالم اإلنباتية التي عبرت في ٍ‬
‫المسمومة والبطيئة في الجنوب والوجود النباتي المرأة شابة في السرير‬
‫تطور أعماله هو ذلك‬ ‫الطفلي‪ .‬غير أن ما استرعى انتباه قازان وما حدّ د ّ‬
‫توصل إلى هيكلة متصلة بدل‬ ‫التشربات واالنفجارات‪ ،‬بحيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫الترابط بين‬
‫يتوصل إلى بنية ذات قطبين‪ .‬والمقاس المتطاول للسينما سكوب قد‬ ‫أن ّ‬
‫عزز هذا الميل‪ .‬وهذه هي صراطية "استوديو الممثلين" النيويوركية‪ :‬ثمة‬ ‫ّ‬
‫"مهمة شاملة" (هي ‪ )ŚAS‬وتنقسم إلى "مهمات محلية" متعاقبة ومستمرة‬
‫لكل لقطة جغرافيتها‬‫)…‪ .(s1 a1 s2, s2 a2 s3‬ففي فيلم أميركا‪ ،‬أميركا ّ‬
‫وسوسيولوجيتها ونفسيتها وانطباعها ووضعها الذي يرتبط بالوضع‬
‫فيجر البطل بدوره إلى الوضع التالي‪،‬‬
‫السابق والذي سيقوم بفعل جديد‪ّ ،‬‬
‫والتفجر‪ ،‬حتى يصل إلى االنفجار النهائي (عندما‬‫ّ‬ ‫بالتشرب‬
‫ّ‬ ‫ويتم ذلك‬
‫والمعهر والقاتل‬
‫َّ‬ ‫يق ّبل البطل رصيف نيويورك البحري)‪ .‬فالبطل المنهوب‬
‫والخاطب والخائن‪ ،‬يجتاز هذه اللقطات المنضوية كلها في المهمة‬
‫الكبرى الحاضرة في كل مكان‪ :‬الهرب من األناضول )‪ (S‬للوصول إلى‬
‫نيويورك )‪ .(Ś‬وعندما تحيط المهمة الكبرى بالبطل‪ ،‬فإنها تقدّ سه أو على‬
‫األقل تعفيه من كل ما كان ينبغي عليه فعله هنا وهناك‪ :‬وبعد أن ُأهدر‬
‫شرفه في الخارج‪ ،‬أنقذ شرفه الشخصي ونقاء قلبه ومستقبل عائلته‪ .‬هذا‬
‫ال يعني أنه وجد السالم‪ .‬فهذا العالم هو عالم قايين‪ ،‬وتلك هي عالمة‬

‫‪296‬‬
‫قايين التي ال تعرف السالم‪ ،‬ولكنها تخلق تطابق ًا بين العصاب الهستيري‬
‫والبراءة واإلثمية‪ ،‬وبين العار والشرف‪ :‬أما ما كان وما ّ‬
‫يظل من ّفر ًا في‬
‫مثل هذا الوضع المحلي فهو البطولة التي يقتضيها الوضع الشامل‪،‬‬
‫يطور بإسهاب هذا‬ ‫وهو الثمن الذي يجب دفعه‪ .‬إن فيلم على األرصفة ّ‬
‫الالهوت‪ :‬إن لم أخن اآلخرين‪ ،‬أخون نفسي وأخون العدالة‪ .‬ال بدّ من‬
‫اإلقدام على العديد من األوضاع القذرة المحيطة‪ ،‬وعلى العديد من‬
‫الطابع الذي يغسلنا والتفجير‬
‫ُ‬ ‫ستشف منها‬
‫ّ‬ ‫المشينة‪ ،‬التي ُي‬
‫االنفجارات ُ‬
‫عدن هو الفيلم التوراتي الكبير‪،‬‬
‫الذي ينقذنا أو يسامحنا‪ .‬وفيلم شرقي ْ‬
‫كل من نيكوالس راي‬ ‫هو قصة قايين وخيانته‪ ،‬التي راودت بطرق شتى ّ ً‬
‫وصموئيل فو ّلر(‪ .((1‬وهذا الموضوع ظل حاضر ًا على الدوام في السينما‬
‫األميركية وفي تصورها للتاريخ المقدس والدنيوي‪ .‬والمهم أن قايين‬
‫أصبح واقعي ًا‪ .‬والغريب عند قازان هو الطريقة التي تص ّلب فيها الحلم‬
‫آن واحد‪ .‬وتعزز الحلم األميركي كحلم‪،‬‬ ‫األميركي والصورة‪ /‬الفعل في ٍ‬
‫قوة‬
‫وال شي آخر سوى الحلم‪ ،‬ولكن الوقائع ناقضته؛ ولكنه عرف طفرة ّ‬
‫يتضمن أفعاالً كالخيانة والوشاية (وهي أفعال‬
‫ّ‬ ‫متنامية‪ ،‬ما دام هذا الحلم‬
‫كانت وظيفة الحلم فيها هي اإلقصاء بحسب جون فورد)‪ .‬وبالضبط‬
‫بعد الحرب انهار الحلم األميركي وتحكّمت في الصورة‪ /‬الفعل أزمة‬

‫(‪ ((1‬حول هذه النقاط املتعلقة بقازان مجيعها (املشاكل اجلاملية يف اهليكلة‬
‫واملشاكل الشخصية يف الوشاية التي تؤثر يف الفيلم) جيب الرجوع إىل كتاب‪Roger :‬‬
‫‪Railleur, Kazan (Paris: Seghers, [s. d.]),‬‬
‫ورأينا كيف أن السينام األمريكية‪ ،‬وال سيام األفالم التارخيية أولت أمهية كربى‬
‫بموضوع اخليانة واخلونة‪ .‬وتنامت بعد احلرب العاملية الثانية مع صعود املكارثية‪ .‬ونجد‬
‫أن فولر قد عالج موضوع اخليانة بصورة مبتكرة‪ ،‬انظر‪Jacque Lourcelles, «Thème :‬‬
‫ِ‬
‫‪du traître et du héros,» Présence du cinéma, no 20 (Mars 1964).‬‬

‫‪297‬‬
‫حاسمة كما سنرى‪ ،‬وعندها وجد هذا الحلم شكله األكثر رسوخ ًا‪،‬‬
‫ووجد الفعل ترسيمته األكثر عنف ًا‪ ،‬حتى ولو استمر بعضهم في صناعة‬
‫أفالم من هذه الشاكلة‪.‬‬

‫ال تكتفي سينما السلوك هذه بترسيمة حسية حركية بسيطة من‬
‫نوع القوس االرتكاسي ال بل المشروط‪ .‬إنها سينما تأ ّثرت بتعقيدات‬
‫ً‬
‫وفعال‪،‬‬ ‫المدرسة السلوكية‪ ،‬وأخذت العوامل الداخلية بعين االعتبار(‪.((1‬‬
‫ما يجب أن يظهر للخارج هو ما يعتمل في سريرة الشخصية‪ ،‬ويتقاطع‬
‫سيفجره‪ .‬وكانت تلك القاعدة‬ ‫ّ‬ ‫مع الوضع المحيط به والفعل الذي‬
‫التي اتبعها استوديو الممثلين‪ :‬وحده الجواني هو األساس‪ ،‬ولكن هذا‬
‫الجواني ال يكمن في الماورائيات‪ ،‬وليس خفي ًا‪ ،‬بل يتمازج مع العنصر‬
‫الوراثي للسلوك الذي يجب إبرازه‪ .‬ال يتم ّثل ذلك في اتقان الفعل‪ ،‬بل‬
‫لتطور الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬وال تنسى هذه الصورة‬ ‫هو الشرط الضروري ّ‬
‫الواقعية أبد ًا أنها تحديد ًا تعرض أوضاع ًا خيالية وأفعاالً مصطنعة‪:‬‬
‫ملح‪ ،‬فهو ال يقتل‬ ‫ذلك أن المم ّثل ال يجد نفسه "حق ًا" أمام وضع ّ‬
‫وال يشرب الكحول "حق ًا"‪ .‬فالمسألة ليست إال من قبيل المسرح أو‬
‫السينما‪ ...‬ويعي الممثلون الواقعيون ذلك تمام الوعي‪ ،‬ويقترح عليهم‬
‫"استوديو الممثلين" طريقة معينة‪ .‬فمن جهة يجب إقامة اتصال حسي‬
‫مع األشياء المتصلة بالوضع‪ :‬حتى إذا كان اتصاالً خيالي ًا مع مادة ما‪ ،‬مع‬
‫كأس زجاجي مع ّين‪ ،‬مع نسيج‪ ،‬مع طقم ثياب‪ ،‬مع أداة‪ ،‬مع علكة فم‪.‬‬
‫َ‬
‫تفعيل‬ ‫وينبغي من جهة أخرى أن يوقظ الشيء الذاكرة العاطفية‪ ،‬وأن يعيد‬

‫تطور سيكولوجيا سلوكية أخذت باالعتبار عدد ًا من العنارص اجلوانية‬


‫(‪ ((1‬حول ّ‬
‫للسلوك‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Tilquin, Le behaviorisme (Paris: Vrin, [s. d.]).‬‬

‫‪298‬‬
‫يحرضه الدور‬ ‫ٍ‬
‫انفعال ليس بالضرورة مطابق ًا بل مماث ً‬
‫ال لالنفعال الذي ّ‬
‫ً‬
‫انفعاال مالئم ًا لهذا‬ ‫التمثيلي(‪ .((1‬إن تحريك شيء مالمس للوضع يوقظ‬
‫الوضع‪ :‬فمن خالل هذه العالقة الداخلية بين الشيء واالنفعال يتح ّقق‬
‫الترابط الخارجي للوضع المتخ ّيل أو للفعل المصطنع‪ .‬وهذه طريقة من‬
‫الطرق‪ ،‬فاستوديو الممثلين ال يطلب من الممثل أن يتماهى مع دوره؛‬
‫وما يم ّيز هذه المدرسة هو العملية المعاكسة التي بها يفترض بالممثل‬
‫الواقعي أن يماهي بين الدور وبين بعض العناصر الداخلية التي يمتلكها‬
‫ويختارها لنفسه‪.‬‬

‫غير أن العنصر الداخلي ليس تأهيل الممثل فقط‪ ،‬إنه يظهر في‬
‫الصورة (ومن هنا االضطراب الدائم للمم ّثل)‪ .‬فهو بحدّ ذاته وبطريقة‬
‫مباشرة عنصر من عناصر السلوك والتأهيل الحسي الحركي‪ .‬إنه يطابق‬
‫بين اإلشباع واالنفجار‪ .‬فتظهر "المزدوجة" الشيء واالنفعال في‬
‫الصورة – الفعل كأنها عالمتها الوراثية فيظهر الشيء بالتالي في جميع‬
‫احتماالته (الشيء المستخدم والمباع والمشترى والمتبادل والمكسور‬
‫والمعانق والمرذول‪ ،)...‬ويتماشى مع االنفعاالت الموازية والمف َّعلة‪:‬‬
‫ففي فيلم أميركا أميركا مثالً؛ السكين الذي تعطيه الجدة‪ ،‬والحذاء‬
‫ّ‬
‫المجذف‪ ،‬كلها تتناسب مع ‪ S‬و‪ ...Ś‬ففي‬ ‫المهجور‪ ،‬والقبعة‪ ،‬والبحار‬
‫هذه الحاالت جميعها‪ ،‬هناك مزدوج ُة االنفعال‪ /‬الشيء التي ال تنتمي‬

‫(‪ ((1‬حول اجلوانية واالتصال والذاكرة العاطفية‪ ،‬انظر‪ :‬‬


‫‪Constantin Stanislavski, La formation de l’acteur (Paris: Payot, [s.‬‬
‫‪d.]), et Lee Strasberg, Le travail à l’actors Studio (Paris: Gallimard, [s. d.]),‬‬
‫‪pp. 96-142.‬‬
‫وحول استوديو املمثلني وملحقاته‪ ،‬انظر‪Odette Aslan, L’acteur au XXe :‬‬ ‫ ‬
‫‪siècle ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), pp. 258 sq.‬‬

‫‪299‬‬
‫إال للواقعية‪ ،‬ولكنها بطريقتها تتعادل مع مزدوجة الغريزة والتمائمية‪،‬‬
‫ومع مزدوجة التأ ّثر والوجه‪ .‬وهذا ال يعني أن السينما السلوكية تتجنّب‬
‫بالضرورة اللقطة المقربة (لقد حلل تايور )‪ (Tailleur‬صورة جميلة جد ًا‬
‫المقربة‬
‫ّ‬ ‫في فيلم الدمية اللحمية "يدخل" فيها الرجل تمام ًا في ح ّيز اللقطة‬
‫للمرأة الشابة‪ ،‬فتداعب يده وجهها وشفتيها وتالمس شعرها)(‪ .((1‬يبقى‬
‫أن التعامل االنفعالي لشيء من األشياء‪ ،‬وعملية االنفعال بالنسبة لهذا‬
‫الشيء‪ ،‬يستطيعان أن يؤ ّثرا أكثر من لقطة مقربة في الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬في‬
‫أحد مشاهد فيلم على األرصفة تبدو المرأة بسلوك مزدوج ويبدو الرجل‬
‫خجوالً ومذنب ًا فيلتقط القفاز الذي تركته يسقط على األرض‪ ،‬ويحتفظ به‬
‫ويلهو به ثم يدخله في يده(‪ .((2‬يبدو هذا المشهد كعالمة وراثية وجنينية‬
‫بالنسبة للصورة‪ /‬الفعل‪ ،‬يمكننا تسميتها "دمغة" (أو شيء انفعالي)‪،‬‬
‫وتعمل كـ "رمز" في مجال السلوك‪ .‬وتجمع في ٍ‬
‫آن واحد بطريقة غريبة‪،‬‬
‫شعور المم ّثل‪ ،‬وإثمية الفاعل الشخصية وهستيريا الصورة (كاليد‬
‫َ‬ ‫ال‬
‫المحترقة مثالً)‪ ،‬والدمغة التي ال تكف عن الظهور في أفالم المخرج‬
‫األميركي إدوارد دميتريك )‪ .(Edward Dmytryk‬إن الدمغة في‬
‫األعم‪ ،‬هي الرابط الداخلي ولكن المرئي‪ ،‬بين الوضع المحيط‬
‫ّ‬ ‫تحديدها‬
‫والفعل االنفجاري‪.‬‬

‫‪Tailleur, p. 94.‬‬ ‫(‪ ((1‬‬


‫(‪ ((2‬من خالل األسئلة التي يطرحها ميشال سيامن عىل املخرج إيليا كازان‬
‫يستخلص متام ًا هذا النوع من الصور التي متيل إىل أن ّ‬
‫حتل حمل اللقطة املقربة‪ .‬انظر كتاب‪:‬‬
‫‪Michel Ciment, Kazan par Kazan, Stock ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]),‬‬
‫‪pp. 74 sq.‬‬

‫‪300‬‬
‫الف�صل العا�شر‬
‫ال�صورة‪ /‬الفعل‬
‫ال�شكل ال�صغري‬
‫‪)2‬‬

‫يجب علينا اآلن أن ننظر في جانب آخر للصورة ‪ /‬الفعل مختلف‬


‫تمام ًا‪ .‬إذا كانت الصورة ‪ /‬الفعل تجمع‪ ،‬دائم ًا بين مستويين من مستوياتها‬
‫كافة‪ ،‬فمن الطبيعي بمكان أن يكون لها ملمحان مختلفان‪ .‬فالشكل الكبير‬
‫‪ ،ŚAS‬كان ينطلق من الوضع إلى الفعل الذي يعدّ ل الوضع‪ .‬ولكن يوجد‬
‫شكل آخر ينطلق بطريقة مخالفة من الفعل إلى الوضع ويهدف إلى فعل‬
‫جديد‪ ،ÁSA ،‬فالفعل هذه المرة هو الذي يكشف عن الوضع‪ ،‬أو عن‬
‫ال جديد ًا‪ .‬يتقدّ م الفعل‬
‫قطعة منه أو عن ملمح من مالمحه‪ ،‬فيطلق فع ً‬
‫كاألعمى‪ ،‬ويتكشف الوضع في العتمة أو في اإلبهام‪ .‬ومن فعل إلى فعل‬
‫يبزغ الوضع تدريجي ًا ويتبدّ ل ويتوضح أو يحتفظ بسره‪ .‬لقد كانوا يقولون‬
‫"شكل كبير" عن الصورة‪ /‬الفعل التي كانت تنطلق من الوضع كداللة‬
‫محيطة بالفعل كمثنى (له حدّ ان)‪ .‬وبغية التسهيل سنقول "شكل صغير"‬
‫التصرف أو من السلوك‬ ‫ّ‬ ‫عن الصورة‪ /‬الفعل التي تنطلق من الفعل أو من‬
‫حسية حركية‬ ‫االجتماعي لتصل إلى وضع منكشف جزئي ًا‪ .‬إنها ترسيمة ّ‬
‫ال بل صار محلي ًا‪ .‬ولم يعد لولبي ًا‬
‫التصور لم يعد شام ً‬
‫ّ‬ ‫معكوسة‪ .‬مثل هذا‬
‫‪301‬‬
‫بل صار إهليلجي ًا‪ ،‬ولم يعد بنيوي ًا‪ ،‬بل صار حدثي ًا‪ .‬ولم يعد أخالقي ًا بل‬
‫التصور يفسح المجال لهزل‬ ‫ّ‬ ‫صار كوميدي ًا (نقول "كوميدي ًا" ألن هذا‬
‫ما‪ ،‬مع أنه ليس كوميدي ًا بالضرورة ويمكن أن يكون درامي ًا)‪ .‬إن عالمة‬
‫تركيب هذه الصورة‪ /‬الفعل الجديدة هي المؤشر‪.‬‬

‫تبدو الصورة‪ /‬الفعل وكأنها وعت ذاتها‪ ،‬وال سيما في فيلم الرأي‬
‫العام لشارلي شابلن الذي كان فيه مخرج ًا ال ممثالً‪ ،‬أو في كل أفالم‬
‫المخرج األلماني إرنست لوبيتش‪ .‬وحتى إذا اكتفينا بتحليل سطحي نرى‬
‫أن هناك نوعين من المؤشرات‪ ،‬أو قطبين منها‪ .‬في الحالة األولى يكشف‬
‫الفعل (أو ما يعادله‪ ،‬أو حركة بسيطة) وضع ًا ليس سهالً‪ .‬فالوضع إذن من‬
‫الفعل‪ ،‬باستدالل فوري أو بتفكير مع ّقد نسبي ًا‪ .‬فما دام الفعل غير مدرك‬
‫مؤشر نقصان ويتضمن ثغرة في السرد ويتوافق‬ ‫المؤشر هنا ّ‬
‫ّ‬ ‫بذاته‪ ،‬يكون‬
‫مع المعنى األول لكلمة مضمر )‪ .(ellipse‬ففي فيلم الرأي العام مثالً‪ّ ،‬‬
‫ألح‬
‫شارلي شابلن على ثغرة السنة التي لم تكن أحداثها مغطاة‪ ،‬ولكن جرى‬
‫استنتاج كل شيء من سلوك البطلة الجديد ومن ثيابها‪ ،‬هي التي غدت‬
‫عشيقة رجل غني‪ .‬وحتى الوجوه لم تكن لها قيمة تعبيرية أو عاطفية‬
‫مستقلة‪ ،‬بل إنها لم تقدّ م أية داللة على ما يمتدّ خارج مجال اللقطة‪ .‬ذلك‬
‫تصرفت حق ًا كمؤشرات على وضع شامل‪ .‬هكذا كانت الصورة‬ ‫أنها ّ‬
‫الشهيرة للقطار الذي ال نرى وصوله إال من خالل األضواء التي تعبر وجه‬
‫المرأة‪ ،‬وكانت أيض ًا الصور الشبقية التي نستنتجها من وجوه األشخاص‬
‫ّ‬
‫المؤشر بتفكير‬ ‫الحاضرين فقط‪ .‬وتصبح األمثلة أكثر بيان ًا عندما يحيط‬
‫مع ّين مهما كان سريع ًا‪ :‬وهكذا "تفتح مد ّبرة المنزل صوان ًا‪ ،‬فتسقط ياقة‬
‫الرجل على األرض بمحض الصدفة‪ ،‬مما يكشف النقاب عن عالقة‬

‫‪302‬‬
‫تقيمها إدنا )‪ .((("(Edna‬ونجد عند لوبيتش باستمرار هذه االستدالالت‬
‫ّ‬
‫المدخلة في الصورة نفسها التي تكون بمثابة مؤشر‪ .‬في فيلم‬ ‫السريعة‬
‫نجوى لثالثة أشخاص‪ ،‬وهو فيلم على جانب من الجرأة‪ ،‬ألن البطلة‬
‫تطالب على نحو عفوي وبسيط بحقها في العيش مع اثنين من عشاقها‬
‫وفي مساكنتهم‪ ،‬ورأى أحدهما اآلخر مرتدي ًا بدلة سموكينغ ذات صباح‬
‫في بيت المحبوبة المشتركة‪ :‬فيستنتج من هذا المؤشر (وكذلك يستنتج‬
‫المشاهد) أنه أمضى ليلته مع المرأة الشابة‪ .‬يدل المؤشر على أن أحد‬
‫الشخوص متأنّق جد ًا في لباسه ويرتدي طقم سهرة ليدلل بذلك على أنه‬
‫لم يكن في وضع حميم طوال الليلة الماضية‪ .‬وهذه هي صورة استداللية‪.‬‬

‫لمؤشر ملتبس‪ ،‬مما‬ ‫ّ‬ ‫ثمة نموذج ٍ‬


‫ثان للمؤشر‪ ،‬نموذج أكثر تعقيد ًا‬
‫يتالءم مع المعنى الثاني لكلمة "إهليلج" (في الهندسة)‪ .‬في فيلم الرأي‬
‫ثمة مؤشرات عديدة على الحذف اإليجازي توحي بأن البطلة‬ ‫العام ّ‬
‫ليست مغرمة جد ًا بعاشقها (لها ابتسامات غريبة)‪ .‬وفي المقابل لها مع‬
‫عشيقها الغني عالقة أكثر التباس ًا تجعل المشاهد ال يكف عن التساؤل‪:‬‬
‫هل هي متعلقة به بسبب ثروته وبذخه وبسبب شيء من التواطؤ‪ ،‬أم أنها‬
‫تك ّن له حب ًا صادق ًا وعميق ًا؟ ونجد هذا التساؤل نفسه أيض ًا في فيلم المرأة‬
‫الثامنة لذي اللحية الزرقاء للوبيتش(*)‪ .‬في هذه الحاالت هناك الكثير‬

‫((( ‪Charles Chaplin, Histoire de ma vie (Paris: Robert Laffont 1993),‬‬


‫(نحيل أيض ًا إىل امللف املتعلق بفيلم الرأي العام )‪ (L’opinion publique‬الذي‬
‫أصدرته جملة ‪ Cinématographe‬العدد ‪ ،64‬كانون الثاين‪ /‬يناير ‪ :1981‬وال س ّيام مقالة‬
‫جان توديسكو )‪ (Jean Tédesco‬الذي عارص الفيلم‪ ،‬وحتليل جاك فيييش ‪(Jacques‬‬
‫)‪.Fieschi‬‬
‫(*) يف حكايات شارل بريو )‪ ،(1703-1628) (Charles Perrault‬وردت شخصية‬
‫ُل ّقبت بـ «ذي اللحية الزرقاء» للداللة عىل رجل قايس القلب مع النساء خصوص ًا‪ ،‬ومع‬
‫الناس بعامة (املرتجم)‪.‬‬
‫‪303‬‬
‫ّ‬
‫المؤشرات التي تدفعنا إلى التر ّدد؛ ال‬ ‫من التفاصيل‪ ،‬وهناك نوع آخر من‬
‫بسبب شيء ناقص أو غير مذكور‪ ،‬بل لوجود نزعة ملتبسة ينطوي عليها‬
‫المؤشر (كما نشاهد ذلك في مشهد الياقة الساقطة أرض ًا والملتقطة في‬
‫تصرف ًا ينطوي على اختالف‬ ‫ال أو ّ‬ ‫فيلم الرأي العام)‪ .‬يبدو األمر وكأن فع ً‬
‫بسيط يمكن إحالته بصورة متزامنة إلى وضعين متباعدين ومتعارضين‪.‬‬
‫ال ولكنهما في‬ ‫كأن هذين الفعلين وهاتين الحركتين يبدوان مختلفين قلي ً‬
‫اختالفهما البسيط يحيالن إلى وضعين قابلين للتعارض أو متعارضين‬
‫فعالً‪ .‬وقد يكون أحد الوضعين واقعي ًا واآلخر ظاهري ًا أو كاذب ًا‪ ،‬وقد‬
‫يحل أحدهما ّ‬
‫محل‬ ‫يكونان أيض ًا واقعيين كليهما‪ ،‬ويستطيعان أخير ًا أن ّ‬
‫اآلخر بحيث يكون أحدهما واقعي ًا واآلخر ظاهري ًا أو العكس‪ .‬وبعض‬
‫ال قد ُينظر إلى البريء كمتهم‬ ‫هذه الحاالت شائع في أي فيلم‪ :‬فمث ً‬
‫(الرجل الذي يحمل سكين ًا قرب جثة‪ ،‬هل هو قاتل أم أنه سحب السكين‬
‫للتو تتمتع بأهمية‬‫من الجثة لتوه؟)‪ .‬الحاالت األكثر تعقيد ًا التي ذكرناها ّ‬
‫كبرى‪ .‬فهي تسمح باستخالص قانون المؤشر الجديد‪ :‬إن وجود فارق‬
‫طفيف في الفعل أو الفارق الموجود بين فعلين يؤ ّدي إلى مسافة شاسعة‬
‫يسمى بالحذف اإليجازي بالمعنى الثاني للكلمة‪ ،‬ما‬ ‫بين وضعين‪ .‬هذا ما ّ‬
‫دام الوضعان المتباعدان أشبه ببؤرة مزدوجة‪ .‬وهذا هو مؤشر التباس‪،‬‬
‫مؤشر تباعد‪ ،‬وليس مؤشر نقصان‪ .‬ليس من األهمية بمكان‬ ‫أو باألحرى ّ‬
‫يكذب أو ُينكَر وضع من األوضاع إذ ال يكون ذلك إال عندما يستنفد‬ ‫أن َّ‬
‫المؤشر وإزالة المسافة‬‫ّ‬ ‫وظيفته‪ ،‬وال يتم له ذلك إال إللغاء االلتباس في‬
‫بين األوضاع المذكورة‪ .‬ال شك أن لوبيتش في فيلم أن تكون أو ال تكون‬
‫المؤشرات المعقدة‪ .‬ويتم ذلك أحيان ًا في‬ ‫ّ‬ ‫قد بلغ شأن ًا عظيم ًا في تحريك‬
‫المتفرجين مقعده ما‬‫ّ‬ ‫الصور العصية على التفسير‪ ،‬مث ً‬
‫ال عندما يغادر أحد‬

‫‪304‬‬
‫أن يبدأ الممثل حواره الفردي‪ :‬هل فعل ذلك ألنه ضاق ذرع ًا‪ ،‬أم ألنه‬
‫تواعد مع زوجة الممثل؟ ويتم أحيان ًا أخرى بسبب الحبكة برمتها التي‬
‫تش ّغل المونتاج كله‪ :‬يوجد فرق صغير في الحركة‪ ،‬ولكن توجد أيض ًا‬
‫مسافة هائلة بين موقفين‪ ،‬فعندما يلعب فريق الممثلين أدوار ًا أللمان‬
‫أمام مشاهدي مسرحية ما‪ ،‬هذا شيء‪ ،‬و شيء آخر عندما يمثلون أدوار ًا‬
‫أللمان أمام مشاهدين ألمان يته ّيأ لهم أنهم يرون أنفسهم فيها‪ .‬المسألة‬
‫هي مسألة حياة أو موت‪ :‬تكون األوضاع متباعدة كلما عرف الشخوص‬
‫أن كل شيء متعلق بالفروق الصغيرة في تصرفهم‪.‬‬
‫نستدل من الشكل الصغير على الفعل الذي‬‫ّ‬ ‫في األحوال جميعها‪،‬‬
‫يقودنا إلى الوضع أو إلى األوضاع‪ .‬ويبدو أن هذا الشكل أقل كلفة من‬
‫حيث المبدأ‪ ،‬وأكثر توفير ًا‪ :‬هكذا يشرح لنا شارلي شابلن أنه استخدم‬
‫ظل القطار وضوءه المنعكسين على الوجه من دون أن يكون لديه قطار‬
‫فرنسي حقيقي ليعرضه بشكل مباشر‪ ...‬هذه المالحظة التهكمية مهمة‪،‬‬
‫ألنها تطرح مشكلة عامة‪ :‬مشكلة األفالم التي هي من الفئة ب أو األفالم‬
‫ذات الميزانية المحدودة‪ ،‬وتأثيرها في ابتكارات الصورة في السينما‪ .‬ال‬
‫شك أن القيود االقتصادية قد خلقت إلهامات مبهرة‪ ،‬وأن بعض الصور‬
‫التي التقطت في ظروف مقتصدة قد أثارت أصداء عالمية‪ .‬ولدينا أمثلة‬
‫عديدة عنها نجدها في الواقعية الجديدة‪ ،‬وفي سينما الموجة الجديدة‪،‬‬
‫ولكننا غالب ًا ما نعتبر الفئة ب‪ ،‬وعن حق‪ ،‬مركز ًا فعاالً للتجريب واإلبداع‪.‬‬
‫يبقى أن "الشكل الصغير" لم توجد بالضرورة أصوله وتعبيره الوافي‬
‫قطع ًا‪ ،‬في األفالم ذات الميزانية المحدودة‪ .‬فقد وجد في السينما سكوب‪،‬‬
‫وفي اللون‪ ،‬وفي اإلخراج الباذخ‪ ،‬وفي الديكورات‪ ،‬وسائل تعبيرية كثيرة‬
‫متوفرة في الشكل الكبير ذاته‪ .‬وإذا سميناه "الشكل الصغير" ‪ -‬وهي‬
‫‪305‬‬
‫تسمية غير مناسبة بذاتها – فألننا فقط نعارض بين صيغتين للصورة‪/‬‬
‫الفعل‪ ŚAS :‬و‪ ،ÁSA‬وأعني بذلك البنية األحادية الكبرى التي تجمع‬
‫األعضاء والوظائف أو التي تشمل‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬األفعال‬
‫واألعضاء التي تتشكّل تدريجي ًا في تنظيم ملتبس‪.‬‬
‫عندئذ يغدو من السهل أن نجعل صيغتي الصورة‪ /‬الفعل تتواءمان‬ ‫ٍ‬
‫مع األنواع والحاالت النوعية التي توحيان بها‪ .‬ما رأيناه منذ قليل هو‬
‫كوميديا الطباع‪ ،‬ذات الشكل الصغير ‪ ،ASA‬باعتبارها تتمايز مع الفيلم‬
‫النفسي االجتماعي ذي الشكل الكبير ‪ .SAS‬لكن التمايز أو التعارض‬
‫المتشابهين ينطبقان على المجاالت المتغايرة‪ .‬لنعد أوالً إلى الفيلم‬
‫التاريخي الكبير ‪ ،SAS‬التاريخ العمراني واألوابدي‪ .‬يعارضه نوع من‬
‫األفالم التاريخية أيض ًا‪ ،‬التي تتبع صيغة ‪ ،ASA‬والتي أطلقنا علينا وبحق‬
‫صفة "فيلم األزياء والثياب"‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬يكون الطقم والثوب‬
‫وحتى القماش بمثابة تصرفات أو عادات تدل على وضع تكشف هي‬
‫عنه‪ .‬وهذا يختلف كثير ًا عن الفيلم التاريخي الذي‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬تلعب فيه‬
‫األقمشة والثياب دور ًا مهم ًا جد ًا‪ ،‬ولكن عندما تندرج في مفهوم عمراني‬
‫تصور أزيائي أو تصميمي لها‪ ،‬كما لو أن الخ ّياط‬
‫التصور هنا هو ّ‬
‫ّ‬ ‫وأوابدي‪.‬‬
‫حل محل المعماري واألوابدي‪ .‬في فيلم الزي‪،‬‬ ‫ومصمم الديكور قد ّ‬
‫كما في كوميديا الطباع‪ ،‬ال تنفصل العادات عن المالبس واألفعال‪ ،‬وعن‬
‫حالة األزياء التي تبني شكلها والوضع الناجم عنه‪ ،‬وال تنفصل أيض ًا عن‬
‫األقمشة والستائر‪ .‬ليس مستغرب ًا أن لوبيتش‪ ،‬في أفالمه األولى‪ ،‬وفي‬
‫مرحلته التعبيرية األلمانية قد أنتج أفالم ًا أزيائية تأثرت بعبقريته الخاصة‬
‫(كـ "آن دي بولين والسيدة دو باري وخصوص ًا فيلم الفنتازيا الشرقية‬
‫‪ :)"Sumerun‬ثمة أقمشة وثياب وطرق في اللبس عرف لوبيتش كيف‬
‫‪306‬‬
‫يو ّظفها‪ ،‬وكيف يستخدم في الصورة اللونين الكامد والمضيء واعتبرها‬
‫مؤشرات داللية(((‪.‬‬
‫في مجال الفيلم الوثائقي‪ ،‬عارضت المدرسة اإلنجليزية عام‬
‫‪ 19300‬مخرج األفالم الوثائقية الكبير روبرت فالهيرتي �‪(Robert Fla‬‬
‫()‪ .herty‬لقد أخذ كل من المخرجين إدغار غرييرسون �‪(Edgar Grier‬‬
‫)‪ son‬وبول روثا )‪ (Paul Rotha‬على فالهيرتي عدم اكتراثه االجتماعي‬
‫والسياسي‪ .‬فبدل االنطالق من عنصر محيط ومن بيئة يستنتج فيها سلوك‬
‫التصرفات الستقراء‬
‫ّ‬ ‫البشر "طبيعي ًا"‪ ،‬كان يجب االنطالق من بعض‬
‫الوضع االجتماعي الذي لم يكن معطى بحدّ ذاته‪ ،‬ولكنه كان يحيل إلى‬
‫تنم العادة السلوكية‬
‫وتتحول‪ .‬وهكذا ّ‬
‫ّ‬ ‫وتصرفات تعمل دائم ًا‬
‫ّ‬ ‫صراعات‬
‫عن الفروق الحضارية وعن التمايزات الموجودة في الحضارة نفسها‪.‬‬
‫يجري االنطالق إذ ًا من السلوك إلى الوضع بحيث تتوفر – عندما ننتقل‬
‫الخلق"‪ .‬وستستعيد‬ ‫ّ‬ ‫من األول إلى الثاني – إمكانية "تفسير الواقع‬
‫السينما المباشرة أو سينما الحقيقة هذا المسعى في شروط أخرى‪.‬‬
‫ثمة أيض ًا الفيلم البوليسي‪ ،‬في اختالفه عن فيلم الجريمة‪ .‬صحيح‬
‫أن بعض الشرطة موجودون في فيلم الجريمة‪ ،‬كما أنهم قد يغيبون‬
‫عن الفيلم البوليسي‪ .‬فما يم ّيز النموذجين هو أنه‪ ،‬وفق ًا لصيغة الجريمة‬

‫(‪ )2‬كان لوبيتش خبري ًا يف معرفة األقمشة وصناعة األلبسة‪ ،‬وكانت هذه املعرفة‬
‫بعلو معرفة سترينربغ بالدانتيال و»خيوط النسيج»‪ ..‬لقد اعرتف لوت إيسنر‪ ،‬عىل الرغم‬
‫من أحكامه القاسية عىل أفالم لوبيتش‪ ،‬أنه – يف التعبريية ويف ذائقته لألعامق – أتى بعنرص‬
‫جديد مت ّثل يف ألعاب األضواء املسلطة عىل املالبس‪ ،‬ومتثل أيض ًا يف مساحة الصورة‪ .‬وهذا‬
‫هو النجاح الباهر الذي حققه مورناو الحق ًا يف فيلم طرطوف‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Lotte H. Eisner, L’écran démoniaque, Encyclopédie du Cinéma (Paris: A.‬‬
‫‪Bonne, [s. d.]), pp. 39-43 et p. 141.‬‬

‫‪307‬‬
‫‪ ،SAS‬يتم االنطالق من الوضع أو من الوسط إلى األفعال التي هي بمثابة‬
‫مبارزات‪ ،‬في حين أن االنطالق – في الصيغة البوليسية ‪ – ASA‬يتم من‬
‫أفعال عمياء كمؤشرات داللية إلى أوضاع غامضة تتغ ّير رأس ًا على عقب‬
‫أو تنقلب تمام ًا بحسب تغ ّير طفيف في المؤشر الداللي‪ .‬وتُع ّبر جملة‬
‫الروائي األميركي صموئيل هاميت(*) )‪ (Samuel Hammett‬تمام ًا عن‬
‫هذا النوع من الصور‪" :‬يجب أن تترك مفتاح ًا إنجليزي ًا داخل اآللة"‪.‬‬
‫مزق هذا‬ ‫ستفجر الوضع المظلم كلي ًا‪ ،‬وستنتزع َ‬
‫ّ‬ ‫والحركة العمياء هي التي‬
‫الوضع‪ .‬وبفضلها ُص َّورت أفالم جميلة‪ ،‬منها النوم العميق لهوارد هوكس‬
‫والصقر المالطي لجون هيوستون [واشتهر هذان المخرجان بمعالجة‬
‫الشكل الكبير لفيلم الجريمة]‪ .‬ولعل فريتز النغ هو الذي قدّ م تحفة فنية‬
‫لهذا النوع من األفالم من خالل فيلمه الحقيقة الغريبة‪ :‬في إطار حملة‬
‫تصدّ ت للخطأ القضائي‪ ،‬يصطنع البطل دالئل خاطئة تتهمه بارتكاب‬
‫تم توقيفه وإدانته؛ وحين‬‫جريمة؛ ولكن ما إن زال اصطناع األدلة‪ ،‬حتى ّ‬
‫أوشك الحصول على العفو‪ ،‬أثناء زيارة خطيبته له‪ ،‬يناقض نفسه وتبدو‬
‫ال قاتل‪ .‬كان اصطناع‬ ‫منه إشارة تفهم منها الخطيبة أنه مذنب وأنه فع ً‬
‫الدالئل المزورة طريقة إللغاء الدالئل الصحيحة‪ ،‬ولكنها تؤدي بطريقة‬
‫ملتوية إلى وضع الدالئل الصحيحة نفسها‪ .‬ما من فيلم أقدم على مثل‬
‫هذا الكم من الدالئل وتحركت وتحولت فيه أوضاع متباعدة ومتعارضة‪.‬‬
‫‪)2‬‬
‫أخير ًا يطرح الويستيرن المشكلة نفسها وبشروط غن ّية جد ًا‪ .‬لقد‬

‫التحري واكتسب معرفة من هذه‬


‫ّ‬ ‫وتوف عام ‪ ،1961‬عمل يف‬ ‫ّ‬ ‫(*) ولد عام ‪1894‬‬
‫فتحول إىل كاتب روايات بوليسية وأثر يف كتّاهبا إ ّبان القرن العرشين (املرتجم)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املهنة‪،‬‬
‫‪308‬‬
‫رأينا أن الشكل الكبير لالستنشاق لم يكتف بال شك بالعنصر الملحمي‪،‬‬
‫ولكنه عبر تنوعاته حافظ على وسط محيط وعلى وضع شامل قد‬
‫يؤدي إلى القيام بفعل‪ ،‬وباستطاعته أن يغ ّير هذا الوضع من الداخل‪.‬‬
‫وكان لهذا التم ّثل العضوي سمات محدّ دة‪ ،‬كما هو الحال عند فورد‬
‫مثالً‪ :‬كان يشمل مجموعة أساسية أو مجموعات‪ ،‬لكل منها تحديده‬
‫وتجانسه وأماكنه وأجواؤه الداخلية وعاداته (كالمجموعات الخمس‬
‫في فيلم ‪Wagonmaster‬؛ وكان هذا التم ّثل يشمل أيض ًا مجموعة غير‬
‫محددة وجدت بالمصادفة‪ ،‬مجموعة متباينة ومتنافرة ولكنها وظيفية‪.‬‬
‫أخير ًا ُوجد فارق كبير بين الوضع والفعل المزمع إنجازه‪ ،‬ولكن هذا‬
‫يحول الطاقة إلى‬
‫ال كان على البطل أن ّ‬ ‫الفارق لم يوجد إال ل ُيردم‪ :‬وفع ً‬
‫فعل فتجعله مكافئ ًا للوضع‪ ،‬كان عليه أن يصبح قادر ًا على الفعل وأن‬
‫يتحول تدريجي ًا إلى فعل‪ ،‬باعتباره يمثل الفريق الرئيسي "الجيد" ويجد‬
‫العون الضروري في المجموعة المتشكلة صدفة (الطبيب المدمن على‬
‫الكحول‪ ،‬الفتاة الطائشة ذات القلب الكبير‪ ...‬إلخ‪ ،‬ويظهرون ف ّعالين)‪.‬‬
‫التصور العضوي‪ ،‬ولكنه أخضعه‬ ‫ّ‬ ‫ومن الالفت أن هوكس انخرط في هذا‬
‫وشوهته‪ .‬فحينما يع ّبر هذا التم ّثل بوضوح‪ ،‬كما‬
‫لمعالجة أثرت فيه كثير ًا ّ‬
‫في بداية فيلم النهر األحمر حيث يظهر الزوجان في أفق السماء كأنهما‬
‫يتعادالن مع الطبيعة بأكملها فتكون الصورة على جانب كبير من القوة‬
‫بحيث ال تستطيع أن تستمر‪ .‬وعندما تستمر يتم األمر على نحو آخر‪ ،‬ذلك‬
‫يتوحد مع النهر‪،‬‬
‫أن الصورة تحتاج إلى أن تُسأل‪ ،‬ويحتاج األفق إلى أن ّ‬
‫كما نرى ذلك في فيلمي النهر األحمر والسماء الرحبة‪ .‬نستطيع القول‬
‫إن التم ُّثل العضوي األرضي عند هوكس يميل إلى إفراغ نفسه‪ ،‬وال يعود‬
‫يتيح االستمرار إال لوظائف مبهمة وشبه تجريدية تحتل المقام األول‪.‬‬
‫‪309‬‬
‫في البداية فقدت األماكن الحياة العضوية التي كانت تحيط بها‬
‫وتوضعها داخل مجموع‪ :‬فالسجن‪ ،‬في فيلم ‪ Rio Bravo‬هو‬‫ّ‬ ‫وتخترقها‬
‫وظيفي فقط‪ ،‬وليس بحاجة إلى أن ُيظهر سجينه؛ والكنيسة في فيلم ‪El‬‬
‫‪ Dorado‬لم تعد شاهدة إال على وظيفة طواها الزمن؛ والمدينة في فيلم‬
‫"مصور ال تُقرأ فيه إال مجموعة من الوظائف‪،‬‬
‫َّ‬ ‫‪ Rio Lobo‬اختزلت إلى‬
‫ماض ثقيل"‪ .‬وفي اآلن نفسه‪ ،‬تصبح‬‫ٍ‬ ‫وهي مدينة نازفة محكومة بعبء‬
‫المجموعة األساسية شديدة اإلبهام‪ ،‬والجماعة الوحيدة التي ما زالت‬
‫حسنة التحديد هي الجماعة الناشزة التي تمت بالمصادفة (مدمن على‬
‫الكحول‪ ،‬عجوز‪ ،‬شاب فتي جد ًا‪ :)...‬إنها مجموعة وظيفية لم تعد‬
‫مؤسسة داخل العنصر العضوي؛ لقد وجدت دوافعها في َد ْين يجب‬
‫إيفاؤه‪ ،‬وفي خطيئة يجب التكفير عنها‪ ،‬وفي منزلق مشين يجب الصعود‬
‫منه‪ ،‬ووجدت قواها ووسائلها في اختراع آلة بارعة بدالً من أن تجدها‬
‫في تمثيل مجموعة معينة (شجرة المنجنيق في فيلم السماء الرحبة‪،‬‬
‫األلعاب النارية التي اختتمت فيلم ‪Rio Bravo‬؛ وخارج الويستيرن‬
‫اختراع آلة العلماء في فيلم كتلة النار‪ ،‬للوصول إلى االختراع الكبير في‬
‫الصرفة التي تنزع‪ ،‬عند هوكس‪،‬‬ ‫فيلم أرض الفراعنة (((‪ .‬وهي الوظيفة ِّ‬
‫محل بنية العنصر المحيط‪ .‬لقد الحظنا كثير ًا رهاب‬ ‫ّ‬ ‫إلى الحلول‬
‫االحتجاز في بعض أفالم هوكس‪ :‬ففي فيلم أرض الفراعنة تحديد ًا‪،‬‬
‫قام االختراع على إغالق قاعة الموتى من الداخل‪ ،‬وعلى ما يمكن أن‬
‫نسميه "ويستيرن في ُحجرة"‪ .‬كما نشاهد ذلك في فيلم ‪،Rio Bravo‬‬

‫( ‪ )3‬حول النقطتني السابقتني انظر مقالة‪Michel Devilliers, «Quatre études :‬‬


‫‪sur Howard Hawks,» Cinématographe, no 36 (Mars 1978).‬‬

‫‪310‬‬
‫فعندما يتالشى العنصر المحيط‪ ،‬يزول االتصال – كما في بعض أفالم‬
‫فورد – بين داخل ُمتموضع عضوي ًا وبين خارج يحيط به ويمنحه وسط ًا‬
‫حي ًا تأتي منه النجدات واالعتداءات أيض ًا‪ .‬األمر هنا على العكس من‬
‫ذلك‪ ،‬فالالمتو ّقع والعنيف والحدث كلها تصل من الداخل‪ ،‬في حين أن‬
‫المعتاد أو المنشود‪ ،‬ويتم في تحول‬‫الخارج هو باألحرى مكان الفعل ُ‬
‫غريب بين الخارج والداخل(((‪ .‬في فيلم ‪ El Dorado‬يدخل الجميع إلى‬
‫يستحم فيها الشريف ويخرجون منها كأنهم في الساحة العامة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الغرفة التي‬
‫تقوسه ويتخذ شكل خط تماس انطالق ًا من نقطة‬ ‫الوسط الخارجي يفقد ّ‬
‫أو من مقطع يعمل كـ "جوانية"‪ :‬إذ ًا يصبح الخارج والداخل متخارجين‪،‬‬
‫ويدخالن في عالقة بخط مستقيم تمام ًا تمكّن من حدوث تبادل وظيفي‬
‫بين األضداد‪ .‬ومن هنا ظهرت اآللية المستمرة للتعاكسات عند هوكس‪،‬‬
‫والتي تعمل بكل وضوح‪ ،‬بمعزل عن الخلفية الرمزية‪ ،‬حتى عندما ال‬
‫تكتفي باالعتماد على الخارج والداخل‪ ،‬ولكنها تُعنى‪ ،‬كما في األفالم‬
‫الكوميدية‪ ،‬بالعالقات القطبية الثنائية جميعها‪ .‬إذا كان الخارج والداخل‬
‫وظيفتين صرفتين‪ ،‬يستطيع الداخل أن يأخذ وظيف َة الخارج؛ ولكن المرأة‬
‫بوسعها أن تمارس وظيفة الرجل في عالقة اإلغواء‪ ،‬وبوسع الرجل أن‬
‫ونم في‬
‫واذهب ْ‬
‫ْ‬ ‫يأخذ وظيفة المرأة (كما في فيلمي السيد بيبي المستحيل‬
‫مكان آخر‪ ،‬وكما في األدوار النسائية في أفالم الويستيرن التي أخرجها‬

‫‪Positif,‬‬ ‫(‪ )4‬حول موضوع اخلارج والداخل عند هوكس‪ ،‬جيب العودة اىل‪:‬‬
‫)‪ no 195 (Juillet 1977‬وإىل مقاالت إيكم )‪ (Eyquem‬وماسون )‪ (Masson‬ولوغرند‬
‫)‪ (Legrand‬حول موضوع اخلارج والداخل عند هوكس ومقالة بورجيه )‪(Bourget‬‬
‫التي تقدّ م كثري ًا من اإلضاءات حول املوضوع نفسه‪ .‬يف ‪ّ Cinématographe‬‬
‫يرص كل‬
‫من إيامنويل ديكاو )‪ (Emmanuel Decaux‬وجاك فيييش )‪ (Jacques Fieschi‬عىل اآللية‬
‫العامة للتعاكسات عند هوكس‪.‬‬
‫‪311‬‬
‫هوكس)‪ .‬ويقوم الراشدون والمسنّون بوظائف األطفال‪ ،‬كما أن الطفل‬
‫يأخذ وظيفة الراشد الفظيعة (كما في فيلمي كرة نارية والرجال يفضلون‬
‫ّ‬
‫وتتدخل اآللية نفسها بين الحب والمال‪ ،‬وبين اللغة الراقية‬ ‫الشقراوات)‪.‬‬
‫واللغة الشعبية‪ ...‬وهذه التعاكسات الشبيهة بالتبادالت الوظيفية تشكّل‪،‬‬
‫كما سنرى‪ ،‬صور ًا حقيقية تضمن تبدّ ل الشكل‪.‬‬
‫ينخرط هوكس في تشويه طوبولوجي للشكل الكبير‪ :‬لذا تحافظ‬
‫أفالم هوكس على طاقة عالية من "التن ّفس"‪ ،‬كما قال المخرج جاك‬
‫ريفيت‪ ،‬مع أن هذا التنفس أصبح س ّياالً ومعبر ًا عن االستمرارية وعن‬
‫تناوب الوظائف أكثر من تعبيره عن الشكل العضوي(((‪ .‬ولكن أفالم‬
‫الويستيرن الجديدة‪ ،‬مع أنها مدينة لهوكس‪ ،‬فقد ذهبت في اتجاه آخر‪:‬‬
‫فاستعارت بنحو مباشر "الشكل الصغير"‪ ،‬حتى ولو ُعرضت على شاشة‬
‫ّ‬
‫محل الشكل اللولبي ومساقطه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ويحل‬ ‫كبيرة‪ .‬يسود القطع الناقص‬
‫ولم يعد ذلك هو القانون الشامل والكامل ‪( SA‬أي أن الفارق الكبير‬
‫ال يوجد إال ل ُيردم)‪ ،‬ولكنه قانون تفاضلي ‪ :AS‬أي أن الفارق األصغر‬
‫ليتعمق كي يخلق أوضاع ًا متباعدة أو متعارضة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الذي ال وجود له إال‬
‫في المقام األول‪ ،‬لم يعد الهنود الحمر يظهرون في أعالي التالل كأنهم‬
‫ينزلون من السماء‪ ،‬بل يبزغون من بين األعشاب العالية التي ال يتم ّيزون‬
‫عنها‪ .‬يكاد الهندي األحمر يختلط بالصخرة التي يتر ّبص من خلفها‬
‫(انظر فيلم ‪ Hombre‬لمارتان ريت)‪ ،‬ورجل الكابوي يمتلك شيئ ًا معدني ًا‬
‫يدمجه بالمنظر الطبيعي (راجع فيلم رجل الغرب ألنطوني ما) (((‪ .‬يصبح‬

‫( ‪Jacques Rivette, «Génie de Howard Hawks,» Cahiers du Cinéma, )5‬‬


‫‪no 23 (Mai 1953).‬‬
‫‪ (L’homme‬ألنطوين مان‪ ،‬وحول =‬ ‫)‪de l’ouest‬‬ ‫(‪ )6‬حول فيلم رجل الغرب‬
‫‪312‬‬
‫العنف الغريزة الرئيسية ويزداد شدة وفجائية‪ :‬في فيلم ‪ Seminole‬لبود‬
‫بويتشر )‪ُ (Bod Boetticher‬يقتل أحدهم بضربات سدّ دها له خصم غير‬
‫ِ‬
‫يختف الفريق الرئيسي لصالح فرقاء‬ ‫ٍ‬
‫متخف في المستنقعات‪ .‬لم‬ ‫مرئي‬
‫الصدفة الذين ازدادوا تغاير ًا وتداخ ً‬
‫ال فقط‪ ،‬ولكنهم في ازدياد عددهم‬
‫فقدوا تم ّيزهم الواضح الذي اتسموا به في أفالم هوكس‪ :‬فالرجال الذين‬
‫ينتمون إلى فريق واحد‪ ،‬والذين ينتقلون من فريق آلخر‪ ،‬يقيمون عالقات‬
‫وتحالفات مع ّقدة جد ًا بحيث ال يم َّيزون عن بعضهم إال بمشقة‪ ،‬وبحيث‬
‫تنتقل تعارضاتهم باستمرار (كما في فيلمي المايور داندي والرهط‬
‫ِ‬
‫المطارد‬ ‫المتوحش للمخرج سام بيكنباه )‪ .(Sam Peckinpah‬بين‬
‫والمطارد‪ ،‬ولكن أيض ًا بين الرجل األبيض والرجل الهندي‪ ،‬يغدو الفرق‬
‫َ‬
‫ال أكثر فأكثر في فيلم ال ُطعم لروبرت مان )‪ (Robert Mann‬ال يبدو‬ ‫ضئي ً‬
‫صائد الجوائز وطريدته‪ ،‬ولمدة طويلة‪ ،‬مختلفين جد ًا عن بعضهما؛ وفي‬
‫فيلم ‪ Little Big Man‬آلرثر بين يبقى البطل أبيض مع البيض وهندي ًا مع‬
‫الهنود قاطع ًا في االتجاهين حدود ًا صغيرة جد ًا‪ .‬ذلك أن الفعل ال يمكن‬
‫قط من خالل وضع سابق وفيه؛ على العكس من ذلك ينجم‬ ‫تحديده ّ‬
‫الوضع عن الفعل تدريجي ًا‪ :‬كان بوتيشر يقول إن شخوصه ال يتحددون‬
‫"بقضية" وإنما بما يفعلونه من أجل الدفاع عنها‪ .‬وحين ح ّلل غودار‬
‫الشكل عند أنطوني مان خلص إلى صيغة ‪ ÁSA‬التي عارض بها الشكل‬
‫الكبير ‪ :ŚAS‬وقال إن اإلخراج "يقوم على الكشف في ذات الوقت بدالً‬
‫من التوضيح في حين نرى في الويستيرن الكالسيكي أن اإلخراج يعتمد‬

‫‪Jean-Luc Godard, Jean-Luc Godard (Paris:‬‬ ‫= العنرص النبايت واملعدين فيه‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Belfond, [s. d.]), pp. 199-200.‬‬

‫‪313‬‬
‫ثم على التوضيح"‪ .‬ولكن إذا كان الوضع نفسه منوط ًا‬
‫على االكتشاف ّ‬
‫بالفعل‪ ،‬فال بدّ للفعل بدوره من أن يربط بتاريخ والدته ولحظتها وثانيتها‪،‬‬
‫وبالفاصل الصغير‪ ،‬كما يربط بالفارق الذي يقوم مقام الدافع الغريزي‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ ،‬ال يصلح قانون الفارق الصغير إال إذا أ ّدى إلى أوضاع متباعدة‬
‫جد ًا من ناحية المنطق‪ .‬في فيلم ‪ ،Little Big Man‬يتغ ّير الوضع بالفعل‬
‫رأس ًا على عقب بحسب ما ُيدفع به إلى جانب الهنود أو إلى جانب البيض‪.‬‬
‫وإذا كانت اللحظة هي العنصر الفارق في الفعل‪ ،‬فإن الفعل يستطيع أن‬
‫ينقلب في كل لحظة من هذه اللحظات وينضوي إلى وضع مختلف‬
‫الخ َور والشكوك‬‫جد ًا أو متعارض‪ .‬ال شيء ُيكسب إلى األبد‪ .‬مجاالت َ‬
‫والخوف ال يعود لها إطالق ًا المعنى نفسه كما في التم ّثل العضوي‪ :‬فلم‬
‫تعد المراحل األليمة التي تردم الفاصل والتي من خاللها يرقى البطل إلى‬
‫مقتضيات الوضع الشامل‪ ،‬ويف ّعل قوته الخاصة ويغدو قادر ًا على القيام‬
‫بفعل باهر‪ .‬فلم يعد ثمة فعل باهر‪ ،‬حتى ولو امتلك البطل مزايا خارقة‬
‫عملي ًا‪ .‬في أحسن الحاالت يكون خاسر ًا من أولئك "الخاسرين" الذين‬
‫قدّ مهم بيكنباه )‪ (Peckinpah‬في فيلمه‪" :‬لقد فقدوا مالمحهم‪ ،‬وكل وهم‬
‫من أوهامهم‪ ،‬فهم يم ّثلون المغامرة الخالية من أي هدف أو منفعة‪ ،‬إال من‬
‫رضاهم الخالص بأنهم ما زالوا يعيشون"‪ .‬لم يحتفظوا بشيء من الحلم‬
‫األميركي‪ ،‬وحافظوا على حياتهم فقط‪ ،‬وفي كل لحظة حرجة قد ينقلب‬
‫عليهم الوضع الذي أحدثه فعلهم‪ ،‬فيفقدون الشيء الوحيد الذي تب ّقى‬
‫لهم‪ .‬بوجيز العبارة‪ ،‬للصورة‪ /‬الفعل دالالت تأشير‪ ،‬وهي في آن دالالت‬
‫نقصان تكشف عنها القطوع الفظة في السرد‪ ،‬ودالالت تباعد أو التباس‬
‫تكشف عنها إمكانية وحقيقة االنقالبات المفاجئة للوضع‪.‬‬
‫هذا ال يدل على تر ّدد بين وضعين متباعدين أو متعارضين فحسب‪،‬‬
‫‪314‬‬
‫بل متزامنين أيض ًا‪ .‬األوضاع المتعاقبة والتي يكون ّ‬
‫كل وضع منها ملتبس ًا‬
‫بحدّ ذاته ستشكل ك ّلها وفي اللحظات الحرجة التي تفرزها هذه األوضاع‪،‬‬
‫ستشكّل خط ًا منكسر ًا ذا مسار ليس في الحسبان‪ ،‬مع أنه مسار ضروري‬
‫وصارم‪ .‬وهذا يصح على األمكنة واألحداث‪ .‬عند بيكنباه‪ ،‬لم يعد هناك‬
‫غرب واحد بل مغارب أميركية عديدة‪ ،‬مغارب ترتع فيها اإلبل‪ ،‬مغارب‬
‫يقطنها صينيون‪ ،‬أي أن هناك مجموعات من األماكن والبشر والعادات‬
‫التي تتبدّ ل وتلغي بعضها في الفيلم نفسه(((‪ .‬عند أنطوني مان‪ ،‬وأيض ًا عند‬
‫ديلمار ديفيس )‪ ،(Delmar Daves‬ثمة "طريق أقصر" ويختلف عن‬
‫الخط المستقيم‪ ،‬ولكنه يجمع أفعاالً وأجزا ًء‪ A ،‬و‪ ،Á‬ويحافظ كل منها‬
‫على استقالله‪ ،‬ويكون كل فعل أو جزء منها لحظ ًة حرجة غير متجانسة‬
‫و"حاضر ًا مسنون ًا إلى أقصى الحدود"(((‪ .‬إن ذلك أشبه بحبل ذي عقد‪،‬‬
‫يلتوي عند كل عقدة‪ ،‬وعند كل فعل‪ ،‬وعند كل حدث‪ .‬فعلى العكس من‬
‫المكان‪ /‬التن ّفس في الشكل العضوي‪ ،‬هناك مكان آخر يتشكّل‪ :‬المكان‪/‬‬
‫الهيكل مع وسائل ناقصة وتغايرات تغ ّير مواقعها أو تتواصل بكثافة‪ .‬لم‬
‫موجه ًا له مسافات زمنية‪ .‬لم يعد تلك السمة‬
‫يعد مكان ًا محيط ًا بل مكان ًا ِّ‬
‫المحيطة ذات االستدارة الكبرى‪ ،‬بل السمة التي يكسرها خط كوني‪ .‬إنه‬

‫‪Benayoun, Peckinpah, Dossiers du cinéma.‬‬ ‫(‪ )7‬‬


‫( ‪Philippe Demonsablon, “Le plus court chemin,” Cahiers du )8‬‬
‫‪Cinéma, no 48 (Juin 1955), pp. 52-53,‬‬
‫يف هذا النص املهم املوجز‪ ،‬حي ّلل الكاتب فيلم أنا مغامر‬
‫)‪(Je suis un aventurier‬‬
‫ألنطوين مان‪ .‬لتحليل أرحب ملان وديفيس يف هذا الشأن‪ ،‬جيب الرجوع إىل كلود جان‬
‫فيليب وكريستيان لوديو‪:‬‬
‫‪Claude-Jean Philippe et De Christian Ledieu, Etudes cinématographiques,‬‬
‫‪le western.‬‬

‫‪315‬‬
‫ّ‬
‫المؤشر عالمة‬ ‫العالمة التوليدية للصورة‪ /‬الفعل الجديدة‪ ،‬في حين كان‬
‫تأليفها‪.‬‬
‫‪)3‬‬
‫لقد رأينا كيف أن األنواع السينمائية الكالسيكية تمكّنت بعامة من‬
‫تتوزع بحسب شك َلي الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬والحال أنه إذا ما ُوجد نوع‬ ‫أن ّ‬
‫مكرس حصر ًا للشكل الصغير‪ ،‬بحيث كاد يبتدعه ويستخدمه‬ ‫سينمائي ّ‬
‫كشرط في األهزولة األخالقية‪ ،‬فهذا النوع هو النوع الهزلي الساخر‬
‫المتطورة واألشد اتساع ًا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫)‪ .(burlesque‬ففيه يجد الشكل ‪ AS‬صيغته‬
‫هناك فرق طفيف في الفعل أو بين فعلين‪ ،‬فرق يخلق مسافة غير محدودة‬
‫بين وضعين‪ ،‬وال وجود له إال ليخلق هذه المسافة‪ .‬لنأخذ أمثلة مشهورة‬
‫من مجموعة أفالم شارلي شابلن‪ :‬يشاهد شارلو من الخلف بعد أن تركته‬
‫زوجته فيبدو وكأنه ينتحب‪ ،‬وما أن يستدير باتجاه المشاهد حتى يحرك‬
‫يسجل‬‫رجاجة كوكتيل ليحضر له مشروب ًا‪ .‬وكذلك األمر في الحرب‪ ،‬ألنه ّ‬ ‫ّ‬
‫نقطة كلما يطلق الرصاص؛ ولكن حصل أن رصاصة معادية ردت عليه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ العالمة التي تركتها‪ .‬المهم هو أن العنصر الهزلي الساخر‬ ‫فيلغي‬
‫يصور الحدث من زاوية أبسط فرق مع حدث آخر‬ ‫يستند إلى ما يلي‪َّ :‬‬
‫(إطالق النار من البندقية‪ /‬والمشاركة في اللعبة)‪ ،‬ولكنه يكشف بهذا‬
‫النحو االتساع الهائل للمسافة بين الوضعين (جولة في لعبة البيلياردو‪/‬‬
‫والحرب)‪ .‬وحين يتعلق شارلو بحبل نقانق في ملحمة أحدهم‪ ،‬فإنه‬
‫ال يبرز جيد ًا المسافة التي تفصل بين الترامواي وبين ملحمة‬ ‫يعزز تماث ً‬
‫ّ‬
‫تحوالت األشياء المستخدمة‪ :‬فالفارق‬‫اللحام‪ .‬هذا ما نجده في معظم ّ‬
‫الزهيد الذي يضاف إلى الشيء ُيحدث وظائف قابلة للتعارض أو يؤ ّدي‬

‫‪316‬‬
‫إلى أوضاع متعارضة‪ .‬وهذه هي احتمالية األدوات؛ وحتى عندما يتجابه‬
‫شارلو مع اآلالت يحفظ من هذه المجابهة الفكرة القائلة بوجود أداة‬
‫عمالقة تنقلب آلي ًا إلى الوضع المختلف‪ .‬وهنا تكمن إنسانوية شابلن‬
‫الذي أثبت أن "شيئ ًا بسيط ًا" يكفي لقلب اآللة على اإلنسان وجعلها‬
‫وسيلة ألسره وتجميده وإحباطه‪ ،‬ال بل للتنكيل به‪ ،‬على مستوى‬
‫حاجاته األولية (فاآللتان الضخمتان في فيلم األزمنة الحديثة تتجابهان‬
‫يتعرض لصعوبات ّ‬
‫يتعذر حلها)‪ .‬في‬ ‫مع اإلطعام البسيط لإلنسان الذي ّ‬
‫مجموعة أفالم شارلو‪ ،‬ال يكتفي المرء بإيجاد قوانين الشكل الصغير‪ ،‬بل‬
‫يمسك بها في منشأها‪ :‬أي الغموض والتماهي مع الوسط (شارلو في‬
‫قلب الرمال‪ ،‬شارلو‪ /‬التمثال‪ ،‬شارلو‪ /‬الشجرة‪ ،‬فيجسد من جديد نبوءة‬
‫ماكبث‪)...‬؛ ونالحظ الفارق الصغير الذي يقلب الموقف‪ ،‬كازدواجية‬
‫الشخصية لدى شخص من شخوص الفيلم والتي تؤ ّثر في كل شيء‪،‬‬
‫كما في فيلمي التهافت على الذهب وأضواء المدينة؛ ونرى أن اللحظة‬
‫فترة حرجة في المواقف القابلة للتعارض‪ ،‬فينشغل شارلو في اللحظة‬
‫كل لحظة تستنفر قواه المرتجلة‬ ‫وينتقل من لحظة ألخرى مع العلم أن ّ‬
‫الخط الكوني الذي يرسمه على هذا النحو خ ّط ًا‬
‫ّ‬ ‫جميعها؛ وأخير ًا يبدو‬
‫منكسر ًا يتج ّلى في تبدّ الت الزوايا لسيره‪ ،‬وال تتصل مقاطعه واتجاهاته‬
‫يشاهد فيه شارلو من‬‫َ‬ ‫أخير ًا إال إذا راصفها على الطريق الطويل الذي‬
‫ظهره بين أوتاد وأشجار سقطت عنها أوراقها‪ ،‬أو يشاهد على الحدود‬
‫التي يتبع تعرجاتها بين أميركا حيث تتربص الشرطة به وبين المكسيك‬
‫حيث ينتظره ق ّطاع الطرق‪ .‬وهذا يشكّل لعبة المؤشرات والدالالت كلها‬
‫والتي هي عالمة على الصورة الهزلية الساخرة‪ :‬أي القطع الناقص في‬
‫اتجاهيه االثنين‪.‬‬
‫‪317‬‬
‫لكن قانون المؤشر‪ ،‬أي الفارق الصغير في الفعل الذي يخلق‬
‫مسافة ال متناهية بين وضعين‪ ،‬يبدو حاضر ًا في كل مكان في األهزولة‬
‫طور الممثل األميركي هارولد لويد ‪(Harold‬‬
‫الساخرة بعامة‪ .‬لقد ّ‬
‫)‪ Lloyd‬خصوص ًا متغ ّير ًا ينقل نسق الصورة‪ /‬الفعل إلى نسق الصورة‪/‬‬
‫اإلدراك الصرفة‪ .‬يظهر لنا اإلدراك األول عندما نشاهد هارولد مث ً‬
‫ال في‬
‫سيارة فارهة مركونة في أحد المواقف؛ ويظهر اإلدراك الثاني عندما‬
‫بالتحرك‪ ،‬فتكشف لنا هارولد راكب ًا دراجة بائسة‪ .‬لم يدخل‬
‫ّ‬ ‫تبدأ السيارة‬
‫الكادر إال من خالل زجاج السيارة‪ ،‬والفارق الطفيف بين اإلدراكين‬
‫يجعلنا ندرك المسافة الالمحدودة بين وضعي "الغني‪ /‬الفقير"‪ .‬في‬
‫مشهد جميل جد ًا من فيلم اصعد إلى ناطحة السحاب )‪،(Safety Last‬‬
‫ال منحني القامة‪ ،‬وقضبان ًا حديدية وأنشوطة‬
‫ُيظهر لنا اإلدراك األول رج ً‬
‫تتدلى من أحد السقوف‪ ،‬وامرأة تبكي‪ ،‬وقس ًا يستنهض الهمم‪ ،‬في حين‬
‫أن اإلدراك الثاني ينقل لنا فقط وداع ًا تم على رصيف محطة قطارات‬
‫حيث يجد كل عنصر من هذه العناصر تبريره‪.‬‬
‫إذا حاولنا اكتناه فرادة شابلن‪ ،‬وما أعطاه مكانة ال تضاهى في‬
‫األهزولة الساخرة‪ ،‬فال بدّ لنا أن نبحث عن ذلك في مكان آخر‪ .‬فشابلن‬
‫عرف كيف يختار الحركات القريبة والمواقف المتباعدة التي تالئمها‪،‬‬
‫بحيث خلق في ظل هذه العالقة بينها انفعاالً شديد ًا إلى جانب الضحك‪،‬‬
‫وفاقم الضحك بواسطة هذا االنفعال‪ .‬إذا كان ثمة فرق بسيط في الفعل‬
‫يؤ ّدي إلى موقفين متباعدين أو متعارضين ‪ Ś‬و‪ "S‬ويجعلهما يتناوبان‪،‬‬
‫يكون أحد الموقفين "في الواقع" مؤثر ًا ورهيب ًا ومأساوي ًا (ليس بسبب‬
‫الخداع البصري فقط‪ ،‬كما عند هارولد لويد)‪ .‬في المثال السابق لفيلم‬
‫العسكري شارلو‪ ،‬الحرب هي الوضع الفعلي الراهن‪ ،‬في حين أن جولة‬
‫‪318‬‬
‫لعبة البيلياردو تتراجع إلى ما ال نهاية‪ .‬ومع ذلك ال تتراجع اللعبة كفاية‬
‫كي توقف ضحكنا‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬ال يحول ضحكنا دون التأ ّثر‬
‫بصورة الحرب التي فرضت نفسها واستفحلت‪ ،‬حتى داخل الخنادق‬
‫الغارقة بالمياه‪ .‬بوجيز العبارة‪ ،‬نرى أن المسافة الالمحدودة بين ‪ Ś‬و‬
‫‪( "S‬الحرب وجولة البيلياردو) تؤ ّثر فينا كثير ًا وال سيما أن التقارب بين‬
‫الفعلين والفارق الصغير في الفعل‪ُ ،‬يضحكنا أكثر‪ .‬وذلك ألن شابلن‬
‫عرف كيف يبتكر الفارق الطفيف بين فعلين مختارين جيد ًا‪ ،‬وألنه‬
‫يخلق مسافة قصوى بين الوضعين المناظرين‪ ،‬يصل‬ ‫َ‬ ‫يعرف أيض ًا أن‬
‫األول منهما إلى االنفعال‪ ،‬ويفضي الثاني إلى الهزل الخالص‪ .‬هناك‬
‫دارة قطباها الضحك‪ /‬االنفعال‪ ،‬يحيل فيها أحدهما إلى الفارق الصغير‪،‬‬
‫ويحيل اآلخر إلى المسافة المديدة من دون أن يمحو أحدهما اآلخر أو‬
‫ّ‬
‫ويحث أحدهما اآلخر‪ .‬ال مجال هنا‬ ‫يق ّلصه ولكنهما يتبادالن األدوار‬
‫ال للقول إننا نضحك‪ ،‬في‬‫للحديث عن شابلن مأساوي‪ .‬وال مجال فع ً‬
‫حين يجب علينا أن نبكي‪ .‬إن عبقرية شابلن قائمة على هذين العنصرين‪،‬‬
‫أي أنه يضحكنا أثناء انفعالنا‪ .‬في فيلم أضواء المدينة‪ ،‬نرى أن الفتاة‬
‫كـر ال َغ ْزل‪ ،‬وبين الفعل‬
‫العمياء وشارلو ال يتبادالن األدوار‪ :‬ففي مشهد ّ‬
‫األعمى الذي يسعى إلى إلغاء كل فارق بين خيوط الغزل‪ ،‬وبين الوضع‬
‫المرئي الذي يتغير كلي ًا وفق ًا لحالة شارلو الغني – كما يفترض – والذي‬
‫يمسك بش ّلة الخيوط‪ ،‬أو شارلو البائس الذي يفقد أسما َل ُه‪ ،‬نالحظ أنهما‬
‫شخصيتان تدوران في الدارة نفسها‪ ،‬شخصيتان هزليتان ومؤثرتان‪.‬‬
‫إن األفالم األخيرة لشابلن اكتشفت السينما الناطقة وحكمت‬
‫بإعدام شارلو في آن (يصبح فيردو )‪ (Verdoux‬هو شارلو عندما يذهب‬
‫إلى الموت‪ ،‬ولكن الدكتاتور الذي يصعد إلى المنصة يختلط مع شارلو‬
‫‪319‬‬
‫الذي يصعد إلى المشنقة)‪ .‬ويبدو أن المبدأ نفسه اكتسب قوة جديدة‪ .‬لقد‬
‫أصر أندريه بازان على أن فيلم الدكتاتور ما كان من الممكن إنجازه لو أن‬
‫ّ‬
‫هتلر )‪ (Hitler‬في الواقع لم يسرق ويضع شاربي شارلو(((‪ .‬فالفارق بين‬
‫الحالق اليهودي الصغير والدكتاتور هو بضآلة الشاربين‪ .‬ومع ذلك برز‬
‫عنه وضعان متباعدان تمام التباعد وقابالن للتعارض كوضعي الضحية‬
‫والجالد‪ .‬في فيلم السيد فيردو‪ ،‬يكون الفارق بين ملمحي وتصرفي‬
‫الرجل نفسه‪ ،‬أي قاتل النساء والزوج الذي يحب زوجة مشلولة‪ ،‬من‬
‫الضآلة بمكان بحيث يحتاج األمر إلى حدس الزوجة كله حتى تستشعر‬
‫بأنه "تغ ّير"‪ .‬قالت ميراي التيل إن ذلك لم ينجم عن عجز‪ ،‬بل عن فكرة‬
‫بارعة تقول إن شابلن ‪ -‬في موقفي فيردو – "لم يغ ّير الشكل الخارجي‬
‫للشخصية ولم يبدّ ل شيئ ًا في دورها"(‪ .((1‬ومع ذلك تنجم عن الفارق‬
‫المتالشي الصغير مسافة فسيحة بين األوضاع المتعارضة‪ ،‬وتشهد بذلك‬
‫المرات التي راوح فيها خروج ًا وعودة بين المنازل الخاطئة وبين المنزل‬
‫العائلي الحقيقي‪ .‬هل أراد شابلن أن يقول في هذين الفيلمين بأن في كل‬
‫ال محتملين؟ هل أراد فيهما أن يقول بأن المواقف‬ ‫واحد منا هتلر ًا وقات ً‬
‫فقط هي التي تجعل منا أناس ًا أخيار ًا أو أشرار ًا‪ ،‬ضحايا أو جالدين‪،‬‬

‫( ‪André Bazin et Eric Rohmer,  Charlie Chaplin (Paris: Edition du )9‬‬


‫‪Cerf, 1972), pp. 28-32‬‬
‫‪Mireille Latil le Dantec, «Chaplin ou le poids d’un‬‬ ‫(‪ )10‬‬
‫‪mythe,» Cinématographe, no 35 (Février 1978),‬‬
‫(«إن فريدو الدجال أ ّثر يف املرأة الغنية عندما جاشت عواطفه حول مرض زوجته‬
‫األخري بينام كان يتأمل البستان امليلء بالورود الذي كان الدخان ينبعث منه قبل ذلك‬
‫بقليل‪ ،‬مما يشري إىل جريمته‪ .‬ولكن هذه القصة الزوجية تذكّر بشناعة حبه لزوجته‬
‫احلقيقية ولإلطار املزدان ملنزله»)‪.‬‬
‫‪320‬‬
‫أناس ًا قادرين على الحب أو التدمير؟ بمعزل عن عمق مثل هذه األفكار‬
‫وضحالتها‪ ،‬ال يبدو لنا بأن هذه هي الطريقة التي فكّر فيها شابلن‪ ،‬إال‬
‫يهم أكثر من الوضعين المتعارضين‪ ،‬بين الطيب‬ ‫بشكل ثانوي جد ًا‪ .‬ما ّ‬
‫المضمرة التي تظهر على هذا النحو في نهاية‬ ‫والشرير‪ ،‬هي الخطابات ُ‬
‫هذين الفيلمين‪ .‬ال بل لهذا السبب شكّل هذان الفيلمان فتح ًا تدريجي ًا‬
‫في السينما الناطقة وألغيا تدريجي ًا شخصية شارلو‪ .‬ما قالته الخطابات في‬
‫فيلمي الدكتاتور والسيد فيردو هو أن المجتمع يضع نفسه في الموقف‬
‫يحول كل رجل سلطة إلى دكتاتور دموي‪ ،‬ويجعل من كل رجل‬ ‫الذي ّ‬
‫أعمال قاتالً‪ ،‬بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة‪ ،‬ألن هذا المجتمع يقدم لنا‬
‫تسهيالت جمة لنصبح أشرار ًا‪ ،‬بدل من أن يخلق مواقف تنصهر فيها‬
‫الحرية واإلنسانية مع مصلحتنا أو مع مبرر وجودنا‪ .‬هذه فكرة قريبة من‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫أفكار روسو‪ ،‬ومن ذلك الروسو الذي ح ّلل المجتمع بعمق‪ .‬نرى‬
‫ما الذي تغ ّير في آخر أفالم شابلن‪ .‬ذلك أن الخطاب أمدّ ها ببعد جديد‬
‫جد ًا‪ ،‬وشكَّل صور ًا "استداللية"‪.‬‬
‫هذا لم يعد يعني أن هناك وضعين متعارضين ُولدا‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬من‬
‫فوارق صغيرة بين عملين بين األشخاص أو بين الشخص ذاته‪ .‬المقصود‬
‫هو حالتان للمجتمع‪ ،‬لمجتم َعين متعارضين احتماالً‪ ،‬أحدهما يجعل من‬
‫ٍ‬
‫تباعد ال ينتهي بين األوضاع (االستبداد)‪،‬‬ ‫الفرق الصغير بين البشر وسيل َة‬
‫ويجعل المجتمع اآلخر من الفرق البسيط بين البشر أحدَ المتغ ّيرات‬
‫لوضع كبير‪ ،‬عام ومشترك (الديمقراطية)(‪ .((1‬في سلسلة أفالم شارلي‬

‫(‪ )11‬انظر اخلطاب األخري يف فيلم الدكتاتور )‪ (Dictateur‬الذي نرش بازان‬


‫ورومهر جزء ًا منه‪.‬‬
‫‪321‬‬
‫الصامتة‪ ،‬لم يتمكّن شابلن من معالجة موضوعه إال بصور تخيلية أو‬
‫حلمية (الحلم األكبر في فيلم شارلو رجل البوليس أو الصورة التخيلية‬
‫في فيلم األزمنة الحديثة(‪ .‬ولكن السينما الناطقة‪ ،‬من طريق الخطاب‪،‬‬
‫آن واحد‪،‬‬‫ستعطي هذا الموضوع قوة واقعية‪ .‬يمكننا القول عن شابلن في ٍ‬
‫توجسوا كثير ًا من السينما الناطقة والذين‬
‫إنه أحد السينمائيين الذين ّ‬
‫استخدموها استخدام ًا فعاالً ومبتكر ًا‪ :‬ذلك أن شابلن لجأ إليها ل ُيدخل‬
‫صورة الخطاب إلى السينما‪ ،‬وليغ ّير بالتالي المشاكل األولية للصورة‪/‬‬
‫الفعل‪ .‬وهنا تكمن األهمية الخاصة لفيلم الدكتاتور‪ ،‬وفيه يتماهى‬
‫الخطاب األخير (مهما كانت قيمته الداخلية) مع لغة اإلنسان برمتها‪،‬‬
‫ويم ّثل كل ما يستطيع اإلنسان أن يقوله‪ ،‬قياس ًا إلى اللغة المزيفة‪ ،‬لغة‬
‫الهذر واإلرعاب‪ ،‬ولغة الضجيج والحنق‪ ،‬التي ابتكرها شابلن بعبقرية‪،‬‬
‫على لسان الطاغية‪ .‬لم يكن الشكل الهزلي المفرط يفتقر إلى شيء؛‬
‫ولكن شابلن في أفالمه األخيرة‪ ،‬قد أوصله إلى ذروته وألحقه بشكل‬
‫كبير لم يعد يحتاج إلى الهزل الساخر‪ ،‬ولكنه حافظ على قوته وعالماته‪.‬‬
‫يترسخ دائم ًا في وضعين شاسعين أو متعارضين‬‫ذلك أن الفارق الصغير ّ‬
‫(وهذا يطرح السؤال المؤرق في فيلم أضواء المسرح )‪ :(Limelight‬ما‬
‫هو هذا الشيء "الزهيد"‪ ،‬وهذا الصدع في العمر‪ ،‬وهذا الفارق الصغير‬
‫يحول مشهد ًا جمي ً‬
‫ال يؤ ّديه أحد المهرجين إلى مشهد‬ ‫في الوهن‪ ،‬الذي ّ‬
‫ّ‬
‫رث؟)‪ .‬ولكن الفروق الصغيرة بين البشر أو بين الرجل نفسه تصبح ‪ -‬في‬
‫األفالم األخيرة‪ ،‬وال س ّيما في فيلم أضواء المسرح ‪ -‬حاالت من العيش‬
‫المتر ّدي‪ ،‬وتنويعات على طاقة ح ّيزية يستطيع المهرج أن يق ّلدها إيمائي ًا‪،‬‬
‫بينما تغدو الحاالت المتعارضة حالتين من حاالت المجتمع‪ ،‬األولى‬
‫جائرة ومعارضة للحياة‪ ،‬واألخرى التي يستطيع المهرج المحتضر أن‬
‫‪322‬‬
‫يستشفها ويبثها في المرأة التي شفيت من مرضها‪ .‬وهنا أيض ًا في فيلم‬
‫أضواء المسرح‪ّ ،‬‬
‫يمر كل شيء بإدخال الخطاب‪ ،‬على الطريقة الشكسبيرية‬
‫واألكثر شكسبيرية بين خطابات شابلن الثالثة‪ .‬وسيتذكّر شابلن ذلك‪،‬‬
‫عندما سيندفع في فيلم ملك في نيويورك ويلقي خطاب ًا على طريقة‬
‫هاملت‪ ،‬الذي يتعارض ويتناقض مع المجتمع األميركي (لقد أصبحت‬
‫الديمقراطية "مملكة"‪ ،‬ألن أميركا أصبحت مجتمع ًا ترويجي ًا وبوليسي ًا)‪.‬‬
‫والحال أن وضع الممثل والسيناريست َبستر كيتون مختلف جد ًا‪.‬‬
‫فالمفارقة عنده تقوم على إدخال فوري للهزل الساخر في شكل كبير‪ .‬إذا‬
‫صح أن الهزل الساخر ينتمي أساس ًا إلى الشكل الصغير‪ ،‬فلدى كيتون‬ ‫ّ‬
‫شيء ال يضاهى‪ ،‬وحتى بالمقارنة مع شابلن الذي لم يبلغ إلى "الشكل‬
‫الكبير" إال عبر صورة الخطاب والتالشي النسبي للشخصية الهزلية‬
‫الساخرة‪ .‬يكمن االبتكار العميق لدى َبستر كيتون في أنه مأل الشكل‬
‫الكبير للمضمون الهزلي الساخر الذي بدا أنه يرفضه‪ ،‬وفي أنه و ّفق – من‬
‫دون أي تو ّقع ‪ -‬بين الهزلي الساخر والشكل الكبير‪ .‬فالبطل هنا أشبه‬
‫بنقطة صغيرة جد ًا تنضوي في بيئة هائلة وكارثية وفي ح ّيز بدأ يتغ ّير‪ :‬فيه‬
‫مناظر متغ ّيرة‪ ،‬وبنى هندسية قابلة للتشويه‪ ،‬وسيول جارفة‪ ،‬وسفينة كبيرة‬
‫تجنح فوق البحر‪ ،‬ومدينة يد ّمرها اإلعصار‪ ،‬وجسر ينهار على طريقة‬
‫متوازي أضالع قد تس ّطح‪ ...‬إن نظرة كيتون‪ ،‬على حدّ وصف بنايون‬
‫)‪ (Benayoun‬لها‪ ،‬تنبعث من الوجه مباشرة أو تكون جانبية‪ ،‬فترى كل‬
‫شيء حين ًا‪ ،‬وعلى طريقة المنظار األفقي‪ ،‬وحين ًا آخر ترى بعيد ًا وعلى‬
‫مصممة من أجل الفضاءات‬ ‫َّ‬ ‫طريقة المراقب المتر ّبص(‪ .((1‬إنها نظرة‬

‫(‪Robert Benayoun, Le regard de Buster Keaton (Paris: Herscher, 1982). )12‬‬

‫‪323‬‬
‫الداخلية والخارجية الفسيحة‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬يتو ّلد تحت أنظارنا‬
‫نوع من الصور غير المتو ّقعة في الهزل الساخر‪ .‬هذا ما نراه في فيلم‬
‫قواعد الضيافة‪ ،‬مع الليل والعاصفة والبروق وعمليتي االغتيال والمرأة‬
‫المذعورة‪ ،‬مما يذكّر بأسلوب غريفيث‪ .‬وهذا ما نراه في اإلعصار (في‬
‫الغواص في قاع البحر‬ ‫فيلم ‪ ،)Steamboat Bill Junior‬واختناق ّ‬
‫بحر)‪ ،‬وتح ّطم القطار والفيضان (في فيلم ميكانو‬ ‫(في فيلم رحلة الم ِ‬
‫ُ‬
‫قطار الجنرلال)‪ ،‬ومباراة المالكمة الرهيبة (في فيلم �‪Battling But‬‬
‫‪ .)ler‬وأحيان ًا يم ّثل ذلك عنصر ًا مهم ًا في الصورة‪ :‬شفرة السيف الذي‬
‫يأتي لينغرس في ظهر أحد األعداء‪ ،‬في فيلم ميكانو قطار الجنرال‪ ،‬أو‬
‫يدسها أحدهم في يد أحد المتظاهرين الصينيين (في فيلم‬ ‫السكين التي ّ‬
‫رجل الكاميرا)‪ .‬لنأخذ كمثال مباراة المالكمة‪ ،‬ما دامت أفالم الهزل‬
‫مرت بذلك‪ .‬تستجيب مباريات شارلي شابلن بشكل‬ ‫الساهر جميعها ّ‬
‫ج ّيد لقانون الفرق الصغير‪ :‬مباراة الباليه أو مباراة األعمال المنزلية‬
‫ولكن في فيلم ‪ Battling Butler‬توجد ثالث معارك‪ :‬مباراة مالكمة‬
‫حقيقية تبدو حقيقية في عنفها؛ وجلسة تمرين تمارس بطريقة تقليدية‬
‫ال مدغدَ غ ًا ينتفض فيهدده األب‬
‫مضحكة وساخرة‪ ،‬ويبدو فيها كيتون طف ً‬
‫المدرب؛ وأخير ًا جلسة تصفية بين كيتون والبطل بكل ُقبحها‪ ،‬إذ يرتعش‬
‫ّ‬
‫ويتلوى من األلم ويتج ّعد الجلد بفعل‬
‫ّ‬ ‫فيها الجسم تحت وقع الضربات‬
‫اللكمات‪ ،‬ويظهر الحقد على الوجه‪ .‬هذا المشهد هو واحد من أكثر‬
‫المشاهد إدانة للعبة المالكمة‪ .‬وهنا نفهم جيد ًا مغزى الطرفة التي رواها‬
‫كيتون حين قال‪ :‬كنت أريد أن أحدث فيضان ًا فعارضني المنتج قائ ً‬
‫ال ال‬
‫يمكننا أن نضحك الناس بأشياء كهذه‪ ،‬فأجبته أن شابلن قد أضحكهم في‬
‫أصر على موقفه ووافق على إحداث إعصار‬ ‫حرب ‪ ،1914‬ولكن المنتج ّ‬

‫‪324‬‬
‫فقط (ربما ألنه كان يجهل كم عدد الموتى الذي سيسببه اإلعصار(‪.)((1‬‬
‫عند ذلك المنتج حدس صائب‪ :‬فإذا استطاع شابلن أن ُيضحك الناس‬
‫بواسطة حرب ‪ ،1914‬فألنه ربط بين الحدث الرهيب وبين فارق صغير‬
‫مضحك بحد ذاته‪ .‬أ ّما كيتون‪ ،‬فعلى العكس من شابلن‪ ،‬فقد قدّ م مشهد ًا‬
‫أو وضع ًا غير مضحك‪ ،‬أو قدّ م صورة‪/‬حد ًا‪ ،‬بالنسبة لإلعصار كما‬
‫بالنسبة للقتال‪ .‬لم يعد األمر هنا يتعلق بفارق صغير س ُيبرز وضعين يمكن‬
‫معارضتهما ببعضهما‪ ،‬بل يتعلق بفجوة كبيرة بين الوضع المطروح‬
‫والفعل الهزلي المنتظر (قانون الشكل الكبير)‪ .‬فكيف سيتم ردم هذه‬
‫الهوة‪ ،‬ال ليكون الفعل المضحك "مقبوالً على الرغم من كل شيء"‬
‫ال وكي يتطابق معه؟ لن نقول‬ ‫فقط‪ ،‬بل كي يغطي ويطيح بالوضع كام ً‬
‫إن كيتون وشابلن ممثالن مأساويان‪ ،‬ولكن المسألة مختلفة كلي ًا بينهما‪.‬‬
‫ما هو فريد لدى كيتون هو الطريقة التي يرفع فيها الهزل الساخر إلى‬
‫شكله الكبير‪ .‬ومع ذلك يستخدم عدة طرق‪ .‬لقد أطلق ديفيد روبنسون‬
‫)‪ (David Robinson‬على الطريقة األولى تسمية "المسار‪ /‬القفشة"‪،‬‬
‫وتقوم هذه الطريقة بحشد ف ّن كامل للمونتاج السريع‪ .‬فبعد فيلم األعمار‬
‫الثالثة صرنا نرى البطل المتشح باللباس الروماني ّ‬
‫يفر من زنزانته ويلتقط‬
‫ترس ًا ويرتقي درج ًا وهو يركض وينتزع رمح ًا‪ ،‬ويمتطي حصان ًا‪ ،‬ويقف‬
‫فوقه‪ ،‬ويقفز إلى نافذة عالية ويباعد بين عمودين‪ ،‬ويسقط السقف ويحظى‬
‫بالفتاة‪ ،‬وينزلق على امتداد رمحه ويقفز فوق كومة من القش أعدت‬
‫ساعتها للدواب‪ .‬كذلك نرى البطل العصري يقفز من سطح منزل آلخر‪،‬‬

‫( ‪ )13‬ذكرها‪David Robinson, “Buster Keaton,” La revue du cinéma, no :‬‬


‫‪234 (Décembre 1969): à propos de "Steamboat Bill Junior", p. 74.‬‬

‫‪325‬‬
‫ولكنه يسقط فيتع ّلق بمظلة باب ويتشبث بأنبوب‪ ،‬فينفصل من مكانه‬
‫ويقذفه طابقين إلى األسفل فيجد نفسه في مطفأة للحريق فينزلق على‬
‫ٍ‬
‫وقتئذ‪.‬‬ ‫عمود الهبوط ويقفز إلى مؤخرة سيارة اإلطفاء التي كانت تخرج‬
‫في المشاهد الهزلية الساخرة‪ ،‬بما فيها مشاهد شابلن‪ ،‬نرى مطاردات‬
‫وسباقات سريعة للغاية ومشاهد متنوعة أخرى‪ ،‬ولكن َبستر كيتون هو‬
‫ربما الوحيد الذي قام بمغامرات مستمرة صرفة‪ .‬وأسرع مغامرة حصلت‬
‫َ‬
‫البطل الذي ينطلق‬ ‫في فيلم رجل الكاميرا الذي فيه تهاتف الفتاة الشابة‬
‫همت فيها بإغالق‬ ‫عبر شوارع نيويورك ويصل إليها في اللحظة التي ّ‬
‫سماعة الهاتف‪ .‬ويحقق ذلك أيض ًا من دون مونتاج وفي لقطة واحدة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كما في فيلم ‪ ،Sherlock Junior‬فنرى كيتون يصعد من فتحة في سقف‬
‫قطار ثم يقفز من قاطرة ألخرى ويلتقط جنزير خزان المياه الذي لمحناه‬
‫في بداية اللقطة‪ ،‬فيدفعه سيل الخزان إلى السقوط أرض ًا فيهرب بعيد ًا‪،‬‬
‫فيما يصل رجالن فتغمرهما المياه المتدفقة‪ .‬ويتم المسار‪ /‬القفشة عبر‬
‫تغيير اللقطة ويبقى الممثل ساكن ًا ال يتحرك‪ :‬ففي لقطة شهيرة من حلم‬
‫في ‪ Sherlock Junior‬تمر القطعات تباع ًا فنشاهد الحديقة ثم الشارع‬
‫ثم الهاوية ثم الكثيب الرملي ثم الرصيف البحري الذي تضربه األمواج‬
‫ثم المدى الثلجي ثم نعود إلى الحديقة من جديد (وكذلك األمر بالنسبة‬
‫لعملية تغيير الديكور الذي يتم في سيارة ال تتحرك)(‪.((1‬‬

‫(‪ )14‬نحيل إىل حتليالت ديفيد روبنسون التي تتناول اللقطات واحدة واحدة يف‬
‫أغلب األحيان‪ :‬وليس لفيلمي ‪ Les trois ȃges‬و‪ Sherlock Junior‬فقط بل للمشهد املهم‬
‫لشالالت املياه يف فيلم قواعد الضيافة )‪( (Les lois de l’hospitalité‬ص ‪ .)48-46‬كذلك‬
‫يتغي الديكور خلفه وبالنسبة للمشاكل‬
‫األمر بالنسبة للموقف الثابت للشخص الذي َّ‬
‫التقنية واهلندسية التي تُطرح وقتها (يف غياب أسلوب الشفافيات)‪ :‬انظر ص ‪.54-53‬‬
‫رسام وكاتب فرنيس تأ ّثر بالتكعيبية‪ ،‬و ُأغرم برسم آالت متخ ّيلة‪ .‬ويف الشعر =‬
‫(*) ّ‬
‫‪326‬‬
‫هناك أسلوب آخر يمكن أن نسميه القفشة اآللية‪ .‬إن كتّاب سيرة‬
‫كيتون والمع ّلقين على أفالمه أكدوا ولعه باآلالت وتفاعله معها؛ لم‬
‫يتفاعل مع السريالية بل تفاعل مع الدادائية ال مع السوريالية‪ :‬تفاعل‬
‫مع اآللة‪ /‬البيت ومع اآللة‪ /‬السفينة ومع اآللة‪ /‬القطار ومع اآللة‪/‬‬
‫السينما‪ ...‬أتك ّلم عن اآلالت ال عن األجهزة‪ :‬هناك أوالً جانب مهم‬
‫ُيظهر الفرق بينه وبين شابلن الذي اهتم باألجهزة وعادى اآللة‪ .‬ولكن‬
‫ثاني ًا‪ ،‬إذا كان كيتون قد جعل من اآلالت حليفه األنفس‪ ،‬فألن شخصيته‬
‫ابتكرتها وصارت جزء ًا منها‪ ،‬فهي آالت من دون أم كآالت فرانسيس‬
‫بيكابيا(*) )‪ .(Francis Picabia‬ففي وسعها أن تفلت من سيطرته وأن‬
‫ال وأن تع ّقد ما هو بسيط‪ :‬إنها ال تتو ّقف‬
‫تصبح عبثية أو أن تكون عبثي ًة أص ً‬
‫عن خدمة غائية سرية عليا وتتو ّغل في ف ّن كيتون‪ .‬في فيلم البيت القابل‬
‫للتفكيك‪ .‬نرى بيت ًا فككت قطعه بفوضى وصار أشبه بزوبعة؛ في فيلم‬
‫الفزاعة نشاهد بيت ًا من دون أساس‪ ،‬بيت ًا مؤ ّلف ًا من غرفة واحدة‪ ،‬وتتشابك‬
‫والحمام مع‬
‫ّ‬ ‫قطعه الممكنة وتتداخل مسنناته‪ ،‬يتداخل الموقد مع الحاكي‬
‫الصوفا والسرير مع األرغن‪ :‬مثل هذه اآلالت‪ /‬البيوت جعلت من كيتون‬
‫مهندس ًا معماري ًا دادائي ًا بامتياز‪ .‬ومن ناحية ثالثة‪ ،‬تقودنا هذه اآلالت إلى‬
‫السؤال التالي‪ :‬ما الغاية من هذه اآللة العبثية‪ ،‬من هذا الشكل العديم‬
‫آن واحد ُبنى هندسية ومعلوالت فيزيائية‪.‬‬‫المعنى عند كيتون؟ إنها في ٍ‬
‫ولكن خصوصيتها‪ ،‬في مجمل أعمال كيتون‪ ،‬هي أنها بنى هندسية ذات‬
‫وظيفة "تحجيمية"‪ ،‬أو أنها سببيات فيزيائية ذات وظيفة "تكرارية"‪.‬‬

‫= كتب عدد ًا من الدواوين القريبة من الدادائية‪ ،‬ومنها ديوان قصائد ورسوم للفتاة التي‬
‫ولدت من دون أم (‪( )1918‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪327‬‬
‫في فيلم رحلة المبحر‪ ،‬ليست اآللة هي الباخرة الضخمة بحد ذاتها‬
‫يخصص كل جزء منها‬
‫فقط‪ :‬إنها الباخرة التي لها وظيفة تحجيمية والتي َّ‬
‫لمئات األشخاص‪ ،‬وستغدو مالئمة لزوجين وحدهما من دون أن يملكا‬
‫شيئ ًا‪ .‬فالحدّ ‪ ،‬فالصورة‪ /‬الحدّ ‪ ،‬هو إذ ًا موضوع سلسلة ال ترتئي تجاوزه‬
‫أو حتى بلوغه‪ ،‬بل جذبه واستقطابه‪ .‬كيف السبيل إلى طهو بيضة صغيرة‬
‫في قدر ضخم؟ ال تتحدّ د اآللة عند كيتون بالرحابة‪ ،‬إنها تنطوي على‬
‫تحولها‪ ،‬بفضل نظام آلي‬
‫االتساع‪ ،‬ولكن بابتكار الوظيفة التحجيمية التي ّ‬
‫بارع يقوم على مجموعة من البكرات واألسالك والعتالت(‪ .((1‬وكذلك‬
‫األمر في فيلم ميكانو قطار الجنرال‪ ،‬لن نصدّ ق فقط بأن الفتاة التي تل ّقم‬
‫تتصرف بشكل أخرق وغير‬ ‫ّ‬ ‫مرجل القطار بقطع صغيرة من الحطب‪،‬‬
‫مناسب‪ .‬ولكن ذلك حقيقي‪ ،‬ألنه يح ّقق حلم كيتون‪ ،‬أي استعمال أكبر آلة‬
‫تصرف‬‫في العالم من أجل تشغيلها بأصغر القطع‪ ،‬وجعلها بالتالي تحت ّ‬
‫ال إلى‬‫كل الناس‪ .‬وحصل أن انتقل كيتون مباشرة من اآللة الكبيرة فع ً‬
‫لعبة مستنسخة عنها‪ ،‬كما في نهاية فيلم الحدّ اد مالك‪ .‬ويلجأ فيلم اذهب‬
‫غرب ًا إلى تحجيمات شتّى تراوح بين المسدس القزم إلى العجل الصغير‬
‫المك ّلف بجمع القطيع الهائل من األبقار‪ .‬تلك هي الغاية من اآللة ذاتها‪:‬‬
‫إنها ال تشتمل فقط على قطعها الضخمة ومسنناتها‪ ،‬بل على تحولها‬
‫التقزيمي‪ ،‬وتشتمل أيض ًا على آلية تحويل تجعلها ملك ًا لرجل وحيد أو‬
‫المؤهالت واالختصاصات‪ .‬ال بدّ‬
‫ّ‬ ‫لزوجين ضائعين‪ ،‬بصرف النظر عن‬

‫(‪ )15‬يقول روبنسون‪« :‬هناك زوجان شابان وغنيان مل يتع ّلام أن يتدبرا أمرمها وحدمها‬
‫فيبحران عىل ظهر سفينة خالية من الركاب‪ ،‬ومن دون هدف حمدد‪ .‬وتزداد الصعوبات‬
‫العادية حلياهتام‪ ،‬ألن خدمات السفينة ليست معدّ ة ألفراد‪ ،‬وإنام آلالف الناس‪ ...‬وعىل‬
‫الزوجني أن جياهبا جتهيزات منزلية معدّ ة بعامة ملئات األشخاص» (ص ‪.)56-54‬‬
‫‪328‬‬
‫لكل هذا أن يكون جزء ًا من اآللة‪ :‬في هذا الصدد لسنا متأكدين من أن‬
‫كيتون يفتقر إلى رؤية سياسية‪ ،‬كان شابلن يتمتّع بها‪ .‬ثمة باألحرى رؤيتان‬
‫"اشتراكيتان"‪ ،‬إحداهما إنسانوية شيوعية عند شابلن‪ ،‬واألخرى آالتية‬
‫(*)‬
‫موضوعية عند كيتون (تقريب ًا على غرار الكاهن النمساوي إيفان إي ّليش‬
‫)‪ (Ivan Illich‬الذي طالب بحق استعمال اآلالت الضخمة وبتقزيمها)‪.‬‬
‫تمر‬
‫ال تستطيع هذه التحجيمات أن تتم إال بعمليات سببية فيزيائية ّ‬
‫بتعرجات وامتدادات وطرق غير مباشرة وعالقات بين الالمتجانسات‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فتزود اآللة بالعنصر العبثي الذي ال بدّ منه‪ .‬في مجموعة ‪ ،Malec‬يقترح‬
‫ّ‬
‫فيلم العالمة العالية موجز ًا لسلسلة سببية غريبة‪ :‬ثمة آلة للرمي وفيها‬
‫يضغط البطل برجله على عتلة خفية‪ ،‬فتُسقط منظوم ُة من األسالك‬
‫كلب الوصول إليها عبر شدّ ه على‬ ‫ٌ‬ ‫والبكرات أحد العظام التي يبغي‬
‫حبل‪ ،‬بحيث يقرع جرس الدريئة (يكفي وجود قطة لتعطيل اآللة)‪.‬‬
‫فتخ ّيل هنا رسوم روب غولدبرغ )‪ ،(Rube Goldberg‬التي هي رسوم‬
‫دادائية‪ :‬هناك سالسل سببية مذهلة‪ ،‬فوضع رسالة في علبة البريد مث ً‬
‫ال‬
‫تمر بمجموعة طويلة من اآلليات المتباينة والمتداخلة التي تبدأ بحذاء‬ ‫ّ‬
‫يقذف كرة لعبة الرغبي إلى حوض‪ ،‬ومن مسنن إلى آخر تنتهي بأن‬
‫تعرض على شاشة تُفتح أمام عيني الناظر عبارة‪You Sap Mail that :‬‬
‫‪ .Letter‬وكل عنصر من عناصر السلسلة يبدو وكأنه بال وظيفة وأن ال‬
‫عالقة له بالهدف‪ ،‬ولكنه يصير هــدف ًا إذا قورن بعنصر آخر ّ‬
‫مجرد من‬
‫أية وظيفة ورابط‪ ...‬إلخ‪ .‬تعمل هذه السببيات من خالل سلسلة من‬

‫(*) إيفان إي ّليش )‪ (2002-1926‬كاهن كاثوليكي نمساوي انتقد عادات املجتمع‬


‫الصناعي وأ ّيد الهوت التحرير يف أمريكا الالتينية ونادى بتحديث الكنيسة وعودهتا إىل‬
‫نحرر املستقبل واملخادنة وفقدان املعاين (املرتجم)‪.‬‬
‫منابعها األوىل‪ .‬ومن أهم كتبه كيف ّ‬

‫‪329‬‬
‫التفكّكات‪ :‬وتقترب بعض آالت تِين ْغيويلي )‪ (Tinguely‬من آالت كيتون‬
‫ّ‬
‫ولكل ُبنية عنصر غير وظيفي‪ ،‬ويصبح وظيفي ًا في‬ ‫وتراكم عدد ًا من ال ُبنى‪،‬‬
‫تدوس في السيارة ال تجعل العربة تتقدم‪ ،‬ولكنها‬ ‫(الجدّ ة التي ّ‬
‫البنية التالية َ‬
‫تشكل آلة لنشر الخشب‪ .)...‬عبر هذه السببيات المتواترة يتم امتالك البنى‬
‫الهندسية الكبرى‪ ،‬ويتم أيض ًا تطوير المسارات الكبرى‪ .‬البنية هي رسم‬
‫مسار‪ ،‬ولكن المسار ليس رسم ًا آللة‪ .‬وكل مسار يشكل بحد ذاته آلة يكون‬
‫اإلنسان فيها مسنن ًا داخل عناصر مختلفة‪ ،‬مثل الميكانيكي الجالس على‬
‫تجر جسده الساكن إلى سلسلة من أقواس‬ ‫الحاجز المتحرك للقاطرة التي ّ‬
‫الدائرة‪ .‬الشكالن األساسيان للقفشة عند كيتون‪ ،‬وتحديد ًا القفشة المسارية‬
‫والقفشة اآللية‪ ،‬هما ملمحا واق ٍع واحد‪ ،‬فهناك آلة تنتج اإلنسان من دون‬
‫ُأسس أو تنتج إنسان المستقبل‪ .‬الفارق الكبير بين الوضع الهائل والبطل‬
‫القزم س ُيردم بتلك الوظائف التحجيمية وتلك السالسل المتواترة التي‬
‫تجعل البطل مكافئ ًا للوضع‪ .‬وهكذا فإن كيتون يبتكر هزالً ساخر ًا يتحدى‬
‫جميع الشروط الظاهرية للنوع ويتخذ بالطبع الشكل الكبير كإطار له‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫الف�صل الحادي ع�شر‬
‫ال�صور �أو تحوّل الأ�شكال‬
‫‪)1‬‬

‫إن التمييز بين شكلي الفعل بسيط وواضح في حدّ ذاته‪ ،‬ولكن‬
‫تطبيقاته معقدة‪ .‬رأينا أن بعض المسائل المالية يمكن أن ّ‬
‫تتدخل‪ ،‬ولكنها‬
‫ليست مسائل حاسمة ألن الشكل الصغير‪ ،‬كي يع ّبر عن نفسه وعن‬
‫تطوره‪ ،‬يحتاج إلى شاشة عريضة وديكورات وألوان غنية‪ ،‬شأنه شأن‬ ‫ّ‬
‫الشكل الكبير‪ .‬يجب أن ننظر إلى الشكل الصغير والكبير بالمعنى الذي‬
‫أخذ به أفالطون فجعلهما مطابقين لفكرتين مثاليتين؛ والفكرة المثالية‬
‫هي قبل كل شيء شكل الفعل‪ .‬وهذا ليس خالي ًا من األهمية‪ ،‬بالنسبة‬
‫للسينما‪ .‬وهكذا ع ّبر بعض المخرجين عن تفضيلهم هذا الشكل أو ذاك‬
‫وكرسوه؛ بيد أنهم استعادوا الشكل الثاني أحيان ًا‪ ،‬إما لالستجابة‬ ‫منهما ّ‬
‫لمقتضيات جديدة‪ ،‬وأما ليغيروا ويرتاحوا أو ليختبروا أنفسهم بطريقة‬
‫ال هو مع ّلم في‬‫مختلفة‪ ،‬وإما ليخوضوا تجربة‪ ...‬إلخ‪ .‬فجون فورد مث ً‬
‫الشكل الكبير ويلجأ الى العالمات الجامعة وتعارض الحدين؛ ولكنه‬
‫ومتصرف ًا بمؤشرات‬
‫ّ‬ ‫قدم أيض ًا عدد ًا من الروائع‪ ،‬معتمد ًا الشكل الصغير‪،‬‬
‫(وهذا ما حدث في فيلم رحلة طويلة الذي ال ُيستدل فيه على غارات‬

‫‪331‬‬
‫الطائرات إال عبر الصوت‪ ،‬وعلى هيجان البحر إال من خالل األمواج‬
‫التي تضرب مقدمة السفينة)‪ .‬بعض المخرجين اآلخرين تنقلوا ب ُيسر من‬
‫شكل آلخر‪ ،‬من دون اسئثار‪ :‬لقد رأينا ذلك بالنسبة لألفالم السوداء التي‬
‫أخرجها هوارد هوكس‪ ،‬والسبب هو أنه عرف أن يبتكر شك ً‬
‫ال أصيالً‪،‬‬
‫ال متغ ّير ًا يستطيع اللعب على الطريقتين‪ ،‬كما نشاهد ذلك في أفالم‬‫شك ً‬
‫الويستيرن التي أنتجها‪ .‬ونطلق كلمة شكل أو صورة على عالمة ّ‬
‫تدل‬
‫ثمة أنواع كثيرة من‬
‫والتحوالت والتبدّ الت‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫التشوهات‬
‫ّ‬ ‫على مثل تلك‬
‫التقويمات الجمالية واإلبداعية التي تتجاوز مسألة الصورة‪ /‬الفعل‪،‬‬
‫والتي بالطبع ال تطرح نفسها على نطاق السينما األميركية فقط‪ ،‬ولكنها‬
‫تعني كل مراحل السينما بعامة‪.‬‬
‫ذلك أن كلمتي "صغير" و"كبير" ال تشيران إلى أشكال الفعل فقط‬
‫تصور "موضوع ما" ورؤيته‪ ،‬أو تشير‬ ‫يتم فيها ّ‬
‫بل إلى تصورات‪ ،‬وطرق ّ‬
‫وللتصور شديد األهمية‬
‫ّ‬ ‫الى قصة أو سيناريو‪ .‬وهذا المعنى الثاني للفكرة‬
‫للسينما‪ ،‬وال س ّيما أنه يسبق السيناريو بوجه عام ويحدّ ده‪ ،‬ولكنه يستطيع‬
‫يصر في هذا الشأن على عدم االهتمام‬ ‫أيض ًا أن يأتي بعده (كان هوكس ّ‬
‫بالسيناريو الذي يمكن أن يستلمه جاهز ًا)‪ .‬تصميم الفيلم يقتضي إخراج ًا‬
‫معين ًا وتقطيع ًا ومونتاج ًا محدّ دين‪ ،‬وكلها ال ترتبط بالسيناريو فقط‪ .‬ينقل‬
‫لنا المخرج الروسي ميخائيل روم )‪ (Mikhail Romm‬محادثة جرت بينه‬
‫وبين إيزنشتاين‪ ،‬عندما كان روم يخرج قصة كرة الشحم للكاتب الفرنسي‬
‫أوال‪ :‬بين جزئي القصة‪ ،‬عندك مدينة‬ ‫غي دو موباسان(((‪ .‬سأل إيزنشتاين ً‬
‫روان )‪ (Rouen‬واالحتالل األلماني وشتى أنواع الشخوص من جهة‪،‬‬

‫‪Mikhail Romm, dans: Cahiers du cinéma, no 219 (Avril 1970).‬‬ ‫((( ‬


‫‪332‬‬
‫وعندك من جهة أخرى مسألة عربات الخيل وطرقاتها‪ ،‬فماذا ستختار؟‬
‫أجاب روم بأنه يتناول مسألة عربات الخيل‪ ،‬أي "التاريخ الصغير"‪.‬‬
‫فرد إيزنشتاين بأنه شخصي ًا يفضل المسألة األولى‪ :‬أي التاريخ الكبير‪:‬‬
‫هذا خيار مثالي بين شكلين من الصورة‪ /‬الفعل‪( ÁSA ،‬وضع ثم فعل‬
‫ثم وضع معدّ ل) و‪( ÁSA‬فعل ثم وضع ثم فعل معدّ ل)‪ .‬بعدها طلب‬
‫إيزنشتاين أن يقدم له روم "تفسيراته حول اإلخراج"‪ ،‬فأجابه شارح ًا له‬
‫السيناريو الذي أعده‪ ،‬ولكن إيزنشتاين ر ّد بأن هذا ليس على اإلطالق‬
‫مغزى سؤاله‪ .‬المسألة هي كيف يتصور روم السيناريو وكيف يرى مث ً‬
‫ال‬
‫الصورة األولى‪ :‬كيف يرى "الممر‪ ،‬الباب‪ ،‬اللقطة المقربة‪ ،‬الجزمة أمام‬
‫صور الجزمة بحيث تكون الصورة‬ ‫الباب"‪ .‬وأنهى إيزنشتاين حديثه قائالً‪ّ :‬‬
‫ناطقة‪ ،‬حتى لو لم يكن عليك أن تصور شيئ ًا آخر غيرها‪ ...‬كأنه أراد أن‬
‫ال كمؤشر‪،‬‬‫يقول‪ :‬إذا اخترت الشكل الصغير ‪ ،ÁSA‬قدّ ْم صورة تكون فع ً‬
‫أو تفعل فعل المؤشر‪ .‬ربما تذكّر إيزنشتاين نجاح ًا في هذا الصدد‪ ،‬تذكر‬
‫حذاء بودوفكين في فيلم عاصفة على آسيا‪ .‬وشرح بودوفكين نفسه قائالً‪:‬‬
‫إن الحذاء "يمسك بفكرة" فيلمه‪ ،‬يتصوره تمام ًا ال من خالل السيناريو‪،‬‬
‫بل عندما تصور جندي ًا إنجليزي ًا أنيق ًا وينتعل حذاء المع ًا ويتجنّب تلطيخ‬
‫حذائه بالوحل حين يمشي‪ ،‬ثم يمر في الشارع نفسه ويتخبط في الوحل‬
‫من دون أن ينتبه(((‪ .‬هذا هو "شرح في اإلخراج"‪ .‬بين التصرفين ‪ A‬و‬
‫‪ ،Á‬حدث شيء ال بدَّ وأن الجندي كان في وضع مقلق وشائن نوع ًا ما‬
‫(وهو إعدام المغولي) المدلول عليه في التصرف ‪ .Á‬وهذا هو األسلوب‬

‫((( ‪Pondovkine, cité par: Georges Sadoul, Histoire générale du‬‬


‫‪cinéma, VI (Paris : Denoël, [s. d.]), p. 487.‬‬

‫‪333‬‬
‫الغالب في أعمال بودوفكين‪ :‬فمهما كان مدى البيئة المعروضة‪ ،‬أكانت‬
‫مدينة سان بترزبورغ أو سهوب مونغوليا‪ ،‬ومهما كانت عظمة الفعل‬
‫الثوري المنشود‪ ،‬ننطلق من مشهد تكشف فيها بعض التصرفات جانب ًا‬
‫يسجالن مرحلة مع ّينة‬
‫ّ‬ ‫من الوضع‪ ،‬ونصل إلى مشهد آخر‪ ،‬وكالهما‬
‫من الوعي‪ ،‬وتتصل هذه المرحلة بمراحل أخرى لتشكّل تنامي الوعي‪،‬‬
‫لذا يصبح متناسب ًا مع مجمل الوضع المكشوف عنه‪ .‬إن روم هو تلميذ‬
‫لبودوفكين أكثر بكثير مما يظن (فهو من جيل لم يكن فيه الشكل الكبير‬
‫على الغالب إال من مخلفات الستالينية‪ ،‬وإكراهاتها)‪ .‬إن فيلم تسعة أيام‬
‫من عام لروم قد عمل على نهارات متمايزة لكل منها مؤشراته‪ ،‬ويشكّل‬
‫تدرج ًا في الزمن‪ .‬وأكثر من ذلك‪ ،‬ما أراده في فيلم الفاش ّية‬
‫مجموعها ّ‬
‫العادية كان مونتاج ًا لمجموعة من الوثائق قادر ًا على تجنّب فيلم عن‬
‫تاريخ الفاشية أو إعادة تشكيل أحداثها الكبرى‪ :‬كان ال بدّ من إظهار‬
‫الفاشية كوضع يتكشف انطالق ًا من التصرفات العادية واألحداث‬
‫اليومية ومواقف الشعب أو حركات زعيم مذعور من مضمونها النفسي‬
‫واعتبارها لحظات وعي مست َلب‪.‬‬
‫لقد رأينا كيف كان السينمائيون السوفييت يحدّ دون أنفسهم عبر‬
‫مفهوم جدلي للمونتاج؛ ولكن كان هذا التحديد اسمي ًا وكافي ًا لتمييزهم‬
‫عن باقي التيارات الكبرى في السينما‪ ،‬من دون أن يمنع وجود اختالفات‬
‫عميقة بينهم‪ ،‬ال بل تناقضات‪ ،‬طالما أن كل واحد منهم كان يهتم بجانب‬
‫أو "بقانون" خاص في الجدلية‪ .‬ولم تكن الجدلية عندهم ذريعة ولم تكن‬
‫تفكير ًا نظري ًا وانتهى األمر‪ :‬كانت قبل كل شيء رؤي ًة للصور ومنتجتها‪ .‬ما‬
‫الكم والكيف‪ ،‬والعملية الكمية والقفزة‬
‫كان ذا أهمية لدى بودوفكين هو ّ‬
‫النوعية؛ لقد أبرزت أفالمه كلها لحظات الوعي وقفزاته المتقطعة‪ ،‬ألنها‬
‫‪334‬‬
‫ال يتم بخط مستقيم‪ ،‬وافترضت أيض ًا تعاقب ًا في‬
‫تطور ًا متواص ً‬
‫افترضت ّ‬
‫الزمن أ ّثر فيها‪ .‬ثمة شكل صغير هو ‪ ÁSA‬له مؤشراته وخطوطه البيانية‬
‫كف الخط المنكسر عن االعتباطية‬
‫وهيكليته التي تخترقها الجدلية‪ :‬لقد َّ‬
‫وأصبح "الخط" السياسي والثوري‪ .‬ومن الواضح أن ألكسندر دوفجنكو‬
‫نظر إلى الجدلية نظرة مختلفة‪ ،‬فركّز على قانون الكل والمجموع‬
‫ال في األجزاء‪ ،‬ولكن كيف عليه أن‬ ‫واألجزاء‪ :‬فكيف يكون الكل ماث ً‬
‫ينتقل من الشيء بحد ذاته إلى الشيء لذاته‪ ،‬ومن المحتمل إلى الفعلي‪،‬‬
‫ومن القديم إلى الجديد‪ ،‬ومن األسطورة إلى التاريخ‪ ،‬ومن الحلم إلى‬
‫الواقع‪ ،‬ومن الطبيعة إلى اإلنسان‪ .‬إنه أنشودة األرض التي تتواشج مع‬
‫أناشيد اإلنسان جميعها‪ ،‬وحتى أشجاها‪ ،‬والتي تكتسب ح ّلة قشيبة في‬
‫النشيد الثوري العظيم‪ .‬مع دوفجنكو‪ ،‬أخذ شكل ‪ ŚAS‬من الجدلية إلهام ًا‬
‫وطاقة حلمية وسمفونية تتجاوز حدود العضوي‪.‬‬
‫أما إيزنشتاين‪ ،‬إذا اعتبر نفسه معلم الجميع‪ ،‬فألنه اهتمم بقانون‬
‫ثالث‪ ،‬وهو في نظره القانون األشد عمق ًا‪ ،‬قانون التعارض المتطور‬
‫والمتجاوز (كيف يصبح الواحد اثنين لينتج وحدة جديدة)‪ .‬صحيح أن‬‫َ‬
‫اآلخرين ليسوا من تالميذه‪ .‬ولكن إيزنشتاين ظ ّن عن حق أنه ابتدع شك ً‬
‫ال‬
‫للتحول قادر ًا على االنتقال من ‪ ŚAS‬إلى ‪ .ÁSA‬وفي الواقع كان يرى‬‫ّ‬
‫التصور‬
‫ّ‬ ‫بعمق‪ ،‬كما تشير إلى ذلك محادثته مع روم‪ ،‬ولكنه انطلق من‬
‫العضوي الكبير‪ ،‬من لولبه أو من تنفسه‪ ،‬فأخضعها لمعالجة تُرجع‬
‫اللولب إلى سبب أو قانون "نمو" (هو المقطع الذهبي) وسيحدد إذ ًا في‬
‫التصور العضوي مقدار ًا من القطوع التي تشبه توقفات التنفس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫داخل‬
‫وإذا بهذه القطوع تشير إلى أزمات أو إلى لحظات مفضلة‪ ،‬والتي من‬
‫جهتها ستدخل في عالقة بعضها مع البعض اآلخر‪ ،‬بحسب الخطوط‬
‫‪335‬‬
‫البيانية‪ :‬على هذا النحو سيكون الشجني الذي يتك ّفل بـ "التطوير"‪،‬‬
‫محدث ًا طفرات نوعية بين لحظتين مدفوعتين إلى ذروتهما‪ .‬وهذا الربط‬
‫بين الشجني والعضوي‪ ،‬وهذا "التشجين" كما قال إيزنشتاين‪ ،‬هو كناية‬
‫عن شكل صغير يتطعم في داخله مع الشكل الكبير‪ .‬إن قانون الشكل‬
‫الصغير (القفزات النوعية) ال يكف عن التواشج مع قانون الشكل الكبير‬
‫ٍ‬
‫عندئذ سيتم االنتقال من العالمتين الجامعتين‬ ‫ّ‬
‫(الكل ُيحال إلى سبب)‪،‬‬
‫المدرعة بوتومكين‪ ،‬يشكّل‬
‫ّ‬ ‫إلى مؤشرات الخطوط البيانية‪ :‬في فيلم‬
‫المنظر وطيف السفينة في الضباب عالمة جامعة‪ ،‬ولكن منظار القبطان‬
‫الذي كان يتأرجح بين الحبال يعتبر مؤشر ًا‪.‬‬
‫يتحول لدى إيزنشتاين يقتضي في الغالب‬
‫إن الشكل الذي يجب أن ّ‬
‫األخص‬
‫ّ‬ ‫دورة أكثر تعقيد ًا‪ :‬سيكون التحول بشكل ال مباشر‪ ،‬وسيكون على‬
‫فعاالً‪ .‬هذا يرتبط بالمسألة الصعبة المتعلقة بـ "مونتاج التجاذبات" لقد‬
‫حللناه آنف ًا وحددناه من خالل إدخال صور خاصة‪ ،‬تكون إما عروض ًا‬
‫مسرحية أو مشهدية‪ ،‬وإما عروض ًا نحتية أو تشكيلية‪ ،‬وتبدو وكأنها تقطع‬
‫مجرى الفعل‪ .‬لمرتين‪ ،‬في الجزء الثاني من فيلم إيفان الرهيب‪ُ ،‬يستبدل‬
‫محل الفعل أو يستشف الفعل العتيد‪ :‬فمرة‬ ‫يحل ّ‬
‫الوضع بعرض مسرحي ّ‬
‫نرى النبالء الروس يقدّ سون رفاقهم المقطوعي الرؤوس‪ ،‬ومرة أخرى‬
‫نرى إيفان يقدم لضحيته المقبلة مشهد ًا جهنمي ًا لمهرجين والعبي سيرك‪.‬‬
‫وعلى العكس‪ ،‬بإمكان الفعل أن ُيمدّ د في عروض نحتية وتشكيلية تبعدنا‬
‫عن الوضع الراهن‪ :‬وبالتأكيد نرى ذلك في األسود الحجرية في فيلم‬
‫المدرعة بوتومكين‪ ،‬ولكننا نراها بخاصة في منحوتات فيلم أكتوبر‬
‫(مثالً‪ ،‬تمتدّ دعوة أعداء الثورة إلى الدين عبر سلسلة من التمائم األفريقية‬
‫واآللهة الهندية والتماثيل الصينية لبوذا)‪ .‬في فيلم الخط العام‪ ،‬سيأخذ هذا‬
‫‪336‬‬
‫الجانب الثاني كل أهميته‪ :‬لقد تو ّقف الفعل‪ ،‬فهل ستستمر ّفرازة القشدة‬
‫في العمل؟ تنزل نقطة‪ ،‬ثم يتد ّفق الحليب‪ ،‬ولكنه يستمر عبر صور لنوافير‬
‫ماء أو لنوافير نار تستبدلها (نافورة حليب‪ ،‬انفجار حليب)‪ .‬لقد أخضع‬
‫لفرازة القشدة وتتمتها‪ ،‬أخضعها‬ ‫التحليل النفسي هذه الصور الشهيرة ّ‬
‫لمعالجة صبيانية‪ ،‬بحيث صار من الصعب إيجاد جمالها البسيط‪.‬‬
‫والتفسيرات التقنية التي قدّ مها إيزنشتاين بالذات لهي أفضل دليل على‬
‫إرشادنا‪ .‬ففي رأيه‪ ،‬المطلوب هو "تشجين" شيء متواضع ويومي؛ لم‬
‫يعد الوضع كما كان عليه في المدرعة بوتومكين‪ ،‬ألنه كان شجني ًا بذاته‪.‬‬
‫يجب إذ ًا أال تكون القفزة النوعية مادية فقط‪ ،‬في مجال المضمون‪ ،‬بل أن‬
‫تصبح شكلية‪ ،‬فتنتقل من صورة لشكل مختلف من الصور لن تكون له‬
‫إال عالقة انعكاسية غير مباشرة بصورة االنطالق‪ .‬ولتحقيق هذا الطراز‬
‫اآلخر من الصور‪ ،‬يضيف إيزنشتاين أنه كان عليه أن يختار بين العرض‬
‫المسرحي والعرض التشكيلي‪ :‬ولكن العرض المسرحي يشبه مشهد‬
‫فالحين يرقصون على الجبل األقرع وهو مشهد يثير الضحك‪ .‬وكان‬
‫إيزنشتاين قد لجأ إلى األسلوب المسرحي في مشهد سابق من الفيلم‬
‫نفسه‪ .‬إذن وجب عليه اآلن أن يلجأ إلى عرض تشكيلي على جانب من‬
‫القوة يخوله العودة إلى الفعل‪ ،‬وكان هذا دور الماء والنار(((‪.‬‬
‫لنسترجع الحالتين‪ .‬ففي العرض المسرحي من جهة‪ ،‬ال يتمخض‬
‫الوضع الفعلي على الفور عن عمل خيالي يستشرف مشروع ًا أو فع ً‬
‫ال‬
‫حقيقي ًا عتيد ًا فقط‪ .‬فبدل ‪ ،A←S‬عندنا‪( Á←S :‬عمل تخيلي مسرحي)‪،‬‬

‫املفصل جد ًا إليزنشتاين موجود يف فصل‪Sergei Eisenstein: «La :‬‬


‫(‪ )3‬التعليق ّ‬
‫‪centrefugeuse et le Graal,» dans: La non-indifférente nature, traduit par Luda‬‬
‫‪et Jean Schnitzer, 10-18 (Paris: Union Générale D’éditions, [s. d.]), I.‬‬

‫‪337‬‬
‫‪ ’A‬تكون بمثابة مؤشر للفعل الحقيقي ‪ A‬الذي ُي ِعدّ نفسه (الجريمة)‪ .‬وفي‬
‫العرض التشكيلي من جهة أخرى‪ ،‬ال يكشف الفعل على الفور الوضع‬
‫مضخمة تحيط بالوضع المعني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الذي يشتمله‪ ،‬بل يطور نفسه في أوضاع‬
‫فبدل ‪ ،S←A‬عندنا ← ‪( Ś A‬تصوير تشكيلي)‪ ،‬وتكون فيه ‪ Ś‬بمثابة‬
‫عالمة جامعة أو أنها تشمل الوضع الحقيقي ‪ S‬الذي لن ُيكتشف إال من‬
‫طريقها (فرح القرية)‪ .‬ففي حالة أولى‪ ،‬يحيل الوضع إلى صورة أخرى‬
‫تختلف عن وضع الفعل الذي ستثيره‪ ،‬وفي الحالة األخرى يحيل الفعل‬
‫إلى صورة أخرى تختلف عن صورة الوضع الذي تدل عليه‪ .‬لقد ظهر لنا‬
‫إذ ًا في الحالة األولى أن الشكل الصغير يبدو وكأنه قد ُحقن في الشكل‬
‫الكبير من طريق العرض المسرحي؛ وفي الحالة الثانية ُيح َقن الشكل‬
‫الكبير في الصغير‪ ،‬من طريق العرض النحتي أو التشكيلي‪ .‬على أي حال‬
‫لم تعد ثمة عالقة مباشرة لوضع أو لفعل‪ ،‬ولفعل ووضع‪ :‬فبين صورتين‪،‬‬
‫يتدخل ويؤ ّمن تحول الصور‪.‬‬‫أو بين عنصري الصورة‪ ،‬هناك عنصر ثالث ّ‬
‫كأني بالثنائية األساسية التي وسمت الصورة‪ /‬الفعل قد تاقت إلى تجاوز‬
‫ذاتها لتصل إلى مرجعية أعلى‪ ،‬وصارت بمثابة "ثالثية" قادرة على تحويل‬
‫الصور وعناصرها‪ .‬لنأخذ مثاالً مقتبس ًا من َكنْت‪ :‬الدولة المستبدة تظهر‬
‫مباشرة من خالل بعض األفعال‪ ،‬كالتنظيم االستعبادي واآللي للعمل؛‬
‫ولكن "الطاحونة اليدوية" ستكون الصورة غير المباشرة التي تنعكس‬
‫األسلوب نفسه في فيلم اإلضراب‪:‬‬ ‫َ‬ ‫فيها هذه الدولة(((‪ .‬واتبع إيزنشتاين‬
‫تظهر الدولة القيصرية مباشرة في إطالق النار على المتظاهرين؛ ولكن‬
‫وتصور‬
‫ّ‬ ‫"المسلخ" هو الصورة المباشرة أيض ًا التي تعكس تلك الدولة‬
‫الفعلة‪ .‬أكانت تجاذبات إيزنشتاين مسرحية أم تشكيلية فإنها ال‬ ‫تلك ِ‬

‫‪Immanuel Kant, Critique du‬‬ ‫(‪( )4‬وهذا ما أطلق عليه َكنْت تسمية «رمز»)‬
‫‪jugement, S. 59.‬‬

‫‪338‬‬
‫تؤ ّمن فقط تحول شكل فعل في داخل الفعل اآلخر‪ ،‬إنها تدفع باألوضاع‬
‫والحدود إلى حدّ ها األقصى وترفعها إلى الثلث الذي يتجاوز الثنائية‬
‫التكوينية‪ .‬ولم تكن السلطات التي كانت تراقب السينما السوفيتية تتفاعل‬
‫بالضرورة مع تلك الصور الالمباشرة‪ ،‬ال بل رأت فيها ر ّبما أسلوب ًا خطير ًا‬
‫وتحريفي ًا‪ .‬وفي فيلم لتحيا المكسيك سيتمكّن إيزنشتاين من الوصول‬
‫حر للعروض المسرحية والتشكيلية التي تعكس فكرة الحياة‬ ‫إلى تطوير ّ‬
‫والموت في المكسيك‪ ،‬وتجمع بين المشاهد والجداريات والمنحوتات‬
‫والتمثيليات الدرامية واألهرام واآللهة (الصلب‪ ،‬مصارعة الثيران‪ ،‬الثور‬
‫المصلوب‪ ،‬رقصة الموت الكبرى‪.)...‬‬
‫والمشوقة التي تسري في‬
‫ّ‬ ‫األشكال هي تلك الصور الجاذبة‬
‫الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬عندما حاول فونتانييه تصنيفه الكبير لـ "أشكال‬
‫الخطاب" في بداية القرن التاسع عشر تو ّقف عند أربعة أشكال‪ :‬في‬
‫الحالة األولى المجازات حصر ًا‪ ،‬أي أن الكلمة ال تؤخذ بمعناها الحرفي‬
‫محل كلمة أخرى (االستعارات والكنايات والترادفات)؛ وفي‬ ‫وتحل ّ‬ ‫ّ‬
‫الحالة الثانية المجازات الناشزة‪ ،‬أي مجموعة الكلمات والجمل التي‬
‫تؤخذ بمعناها المجازي (أي االستحضار والتشخيص‪ ...‬إلخ‪).‬؛ في‬
‫الحالة الثالثة يوجد استبدال‪ ،‬ولكن الكلمات بمعناها الحرفي الصارم‬
‫وتحوالت (ويكون القلب إحدى هذه اإلجراءات)؛‬
‫ّ‬ ‫تتعرض لتبادالت‬
‫ّ‬
‫أخير ًا تكمن الحالة األخيرة في الصور الفكرية التي ال ّ‬
‫تمر في أي‬
‫تعديل للكلمات (كالتداول والتنازل واإلسناد والمناجاة‪ ...‬إلخ‪.((().‬‬
‫على هذا المستوى من التحليل‪ ،‬ال نطرح أية مشكلة عامة حول عالقة‬

‫( ‪Pierre Fontanier, Les figures du discours (Paris: Flammarion, [s. d.]). )5‬‬

‫‪339‬‬
‫السينما باللعبة‪ ،‬والصور بالكلمات‪ .‬نالحظ فقط أن الصور السينمائية‬
‫لها أشكال خاصة بها‪ ،‬وتتفق في وسائلها الخاصة مع األنواع األربعة‬
‫التي قدّ مها مونتانييه‪ .‬إن العروض النحتية أو التشكيلية عند إيزنشتاين هي‬
‫صور تشكّل صور ًة أخرى‪ ،‬ولكل صورة قيمتها حتى عندما تكون ضمن‬
‫سلسلة‪ .‬ولكن العروض المسرحية تعمل بال َق ْطع‪ ،‬وقطع الصور هو الذي‬
‫يم ّثل الدور التصويري‪ .‬نتعرف على الحالتين األوليين السابقتين‪ .‬أما‬
‫الح ْرفية التي تعمل‬
‫الحاالت األخرى فذات طبيعة خاصة‪ .‬فاألشكال َ‬
‫بالقلب والعكس نالت دائم ًا نجاح ًا في السينما‪ ،‬ال سيما في اللباس‬
‫الهزلي الساخر‪ .‬ولكننا رأينا عند هوكس أن آليات القلب تصل إلى حالة‬
‫والمعمم‪ .‬حول األشكال الفكرية الموجودة في األفالم‬
‫َّ‬ ‫الشكل المستقل‬
‫الناطقة لشارلي شابلن‪ ،‬ال نستطيع أن نكشف طبيعتها ووظيفتها إال‬
‫الحق ًا‪ ،‬وفي فصل آخر‪ ،‬ألنها لم تعد تكتفي بالعمل في حدود الصورة‪/‬‬
‫تتطور في نوع جديد من الصور التي أعلنت عنها اآلن‬
‫الفعل‪ ،‬ولكنها ّ‬
‫األشكال السابقة‪.‬‬

‫‪)2‬‬
‫يدل الصغير والكبير على شكلين ومفهومين‬ ‫كأفكار مثالية‪ّ ،‬‬
‫متمايزين‪ ،‬ولكنهما قادران أيض ًا على االنتقال من هذا إلى ذاك‪ .‬ولهما‬
‫معنى ثالث‪ ،‬أي أنهما يدالن على الرؤى التي تستحق كلمة "أفكار" فعالً‪.‬‬
‫مع أن هذا ينطبق على السينمائيين الذين ندرسهم جميع ًا‪ ،‬نروم اعتبار‬
‫سينما الحركة عن د المخرج األلماني ويرنر هيرزوغ �‪(Werner Her‬‬
‫)‪ zog‬كحالة قصوى في هذا الشأن‪ .‬وتتميز أعماله بموضوعين هاجسيين‬

‫‪340‬‬
‫يعتبران صيغتين بصريتين أو موسيقيتين(((‪ .‬ففي الموضوع األول‪ ،‬ثمة‬
‫رجل خارق القوة يخالط وسط ًا خارق ًا هو أيض ًا‪ ،‬ويفكر في فعل كبير‬
‫بحجم هذا الوسط‪ .‬ويتناسب مع الشكل ‪ ،ŚAS‬ولكن بطريقة خاصة‪:‬‬
‫ال يتم الفعل من طريق الوضع‪ ،‬إنه مشروع جنوني نبت في رأس شخص‬
‫مهووس‪ ،‬ويبدو كأنه الشخص الوحيد القادر على مضاهاة الوسط كله‪ .‬أو‬
‫أن الفعل يتضاعف باألحرى‪ :‬هناك الفعل السامي والتجاوزي باستمرار‪،‬‬
‫ال بطولي ًا يتجابه مع الوسط‪ ،‬وينفذ‬ ‫ولكنه فعل يو ّلد هو ذاته فع ً‬
‫ال آخر‪ ،‬فع ً‬
‫العصي على التخطي‪ .‬ثمة إذ ًا بعد هلوسي يسمو‬
‫َّ‬ ‫إلى المستغلق ويتخ ّطى‬
‫فيه العقل الفاعل إلى ال متناهي الطبيعة‪ ،‬وثمة بعد تخديري يتجابه فيه‬
‫العقل مع الحدود التي وضعتها له الطبيعة‪ .‬والبعدان مختلفان وبينهما‬
‫عالقة صورية‪ .‬في فيلم أغير )‪ (Aguirre‬يخضع الفعل البطولي وهبوط‬
‫المنحدرات والشالالت‪ ،‬للفعل السامي الذي يتناسب وحده مع رحابة‬
‫الغابة العذراء‪ :‬عزم "أغير" على أن يكون الخائن الوحيد وعلى أن يخون‬
‫ليؤسس عرق ًا صافي ًا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫الجميع في آن واحد‪ ،‬أن يخون الله والملك والبشر ّ‬
‫من خالل زواج المحارم في عالقة مع ابنته‪ ،‬وفيه يصبح التاريخ "أوبرا"‬
‫الطبيعة‪ .‬وفي فيلم فيتزكارالدو )‪ (Fitzcarraldo‬يكون الفعل البطولي‬
‫أكثر مباشرة (اجتياز الجبل عبر قارب ثقيل) ويصبح وسيلة للسمو‪:‬‬
‫أن تمسي الغابة العذراء كلها هيكل أوبرا فيردي )‪ (Verdi‬وصوت دو‬
‫كاروزو )‪ .(de Caruso‬في فيلم قلب من زجاج أخير ًا نرى أن منظر منطقة‬
‫البافيير األلمانية )‪ (Bavière‬يتضمن الفعل التخديري للياقوت األحمر‬

‫((( ‪M.-L. Portrel-Dorget, "Dialectique du surhomme et du sous-‬‬


‫‪homme dans quelques films d’Herzog," Revue du Cinéma, no 342.‬‬

‫‪341‬‬
‫الزجاجي‪ ،‬ولكنه يتجاوز ذاته في المناظر الهلوسية التي تدعو إلى البحث‬
‫هوة الكون الكبرى‪ .‬وهكذا فإن الكبير يتح ّقق باعتباره فكرة محضة‬
‫عن ّ‬
‫في الطبيعة المزدوجة للمناظر واألفعال‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬في الموضوع اآلخر‪ ،‬أو بحسب الشق اآلخر من أعمال‬
‫هيرزوغ‪ ،‬يصبح الصغير هو الفكرة البحتة‪ ،‬ويتح ّقق أوالً في األقزام الذين‬
‫"بدأوا صغار ًا" ثم يتمدد في رجال لم يتوقفوا هم أيض ًا عن أن يكونوا‬
‫أقزام ًا‪ .‬فلم يعودوا "غزاة العبث والالجدوى"‪ ،‬بل هم كائنات لم تعد‬
‫تصلح لشيء‪ .‬ولم يعودوا مهووسين‪ ،‬بل معتوهين وحمقى‪ .‬وتتضاءل‬
‫المناظر أو تتسطح وتصبح كئيبة ومتجهمة‪ ،‬وتميل إلى التالشي‪.‬‬
‫والكائنات التي تتر ّدد إليها تفقد رؤاها‪ ،‬ولكنها تبدو وكأنها تقتصر على‬
‫حساسية بدائية‪ ،‬شأنها شأن الصم البكم في فيلم بلد الصمت والظالم‪،‬‬
‫وهي تسير مهيضة الجناح في طريق ٍ‬
‫وعر ال يترك لها أي مجال للراحة‪ ،‬أو‬
‫بقية رؤيا‪ ،‬إال بين ألمين يتماشيان مع وقع خطواتها أو أقدامها الممسوخة‪.‬‬
‫ذلك هو المسعى في فيلم كسبار هاوسر )‪ ،(Kaspar Hauser‬في‬
‫حديقة األستاذ‪ .‬ونجده أيض ًا في فيلم نزهة برونو مع قزمه ومومسه‪،‬‬
‫رث مثل أميركا‪ .‬ونجده أيض ًا في فيلم‬
‫ووجهة هروبه من ألمانيا نحو بلد ٍّ‬
‫نوسفيراتو الذي عالجه بطريقة معاكسة لطريقة مورناو‪ ،‬وتجتاح البطل‬
‫حالة من النكوص إلى الرحم‪ ،‬جنين مختزل إلى جسد ناحل وإلى ما‬
‫ويمصه‪ ،‬وال ينتشر في الكون إال من طريق خلفه‪ ،‬إنه لنقطة تهرب‬
‫ّ‬ ‫يلمسه‬
‫في أفق أرض منبسطة‪ .‬ونجده في فيلم فويزك )‪ (Woyzeck‬الذي ينهمك‬
‫فيه البطل بآالمه‪ ،‬والذي لم تعد فيه األرض والقمر األحمر والمستنقع‬
‫األسود سوى متواليات لمؤشرات متقطعة‪ ،‬بدل أن تكون عالمات‬

‫‪342‬‬
‫جامعة مجيدة(((‪ .‬هذا هو الشكل الصغير ‪ ،ÁSA‬ولكنه مختزل جد ًا‪ .‬كان‬
‫هيرزوغ ميتافيزيقي ًا في الحالتين‪ :‬في تضخيم الشكل الكبير وفي تحجيم‬
‫الشكل الصغير‪ .‬إنه أكثر السينمائيين ميتافيزيقي ًة (فإذا تخ ّللت الميتافيزيقا‬
‫التعبيري ُة األلمانية‪ ،‬فإنها اقتصرت على مشكلة الخير والشر التي لم‬
‫يكترث لها هيرزوغ)‪ .‬عندما طرح برونو سؤاله‪ :‬أين تمضي األشياء التي‬
‫لم تعد صالحة لالستعمال؟ نستطيع اإلجابة بأنها تذهب بالطبع إلى س ّلة‬
‫المهمالت‪ ،‬ولكن هذه اإلجابة ناقصة ألن المسألة ميتافيزيقية‪ .‬لقد طرح‬
‫يشرع في‬
‫ُ‬ ‫برغسون السؤال ذاته‪ ،‬وأجاب عنه ميتافيزيقي ًا‪ :‬ما لم يعد نافع ًا‬
‫الوجود‪ ،‬بكل بساطة‪ .‬وعندما هيرزوغ يالحظ قائالً‪ :‬إن الذي يمشي هو‬
‫من دون دفاع‪ ،‬نستطيع نحن القول أيض ًا إن الذي يمشي هو شخص ّ‬
‫مجرد‬
‫من كل قواه قياس ًا إلى السيارات أو الطائرات‪ .‬ولكن المالحظة هنا أيض ًا‬
‫ميتافيزيقية(((‪" .‬إطالق ًا من دون دفاع"‪ ،‬هذا هو التعريف الذي أطلقه برونو‬
‫عن نفسه‪ .‬فالسائر يكون من دون حماية‪ ،‬ألنه هو الذي يبدأ بالوجود‪،‬‬
‫وال يبرح إال صغير ًا‪ .‬إنها مشية كاسبار )‪ ،(Kaspar‬مشية من ال ُي ّ‬
‫سمى‪.‬‬
‫وها هو الصغير يدخل مع الكبير في عالقة‪ ،‬بحيث تتواصل الفكرتان‪،‬‬

‫‪Emmanuel Carrère, Werner Herzog (Paris: Edilig,‬‬ ‫(‪ )7‬يف كتاب عنوانه‪:‬‬
‫‪1982),‬‬
‫ح ّلل إيامنوئيل كارير غياب املنظر هذا يف فيلم ‪ ،Woyzeck‬وح ّلل أيض ًا وجود رؤى‬
‫كربى يف احلالة األخرى‪.‬‬
‫(‪ )8‬قدم هريزوغ هذه الفكرة كبدهيية يف مجلة أهنى هبا كتابه‪:‬‬
‫‪Werner Herzog, Sur le chemin des glaces, traduit par Anne Dutter‬‬
‫‪(Paris: Hachette, 1979), p. 114,‬‬
‫فاستنتجت من دون دفاع أهنا‬
‫ُ‬ ‫قائالً‪ ...« :‬وبام أهنا كانت تعلم أنني من املشائني‬
‫فهمتني»‪.‬‬
‫‪343‬‬
‫وتؤلفان أشكاالً في تفاعلهما‪ .‬إن المقصد السامي للرجل المهووس‬
‫فشل في الشكل الكبير‪ ،‬وآلت حقيقته كلها إلى العجز‪ :‬لقد انتهى أغير‬
‫وحيد ًا فوق طوافة دبقة مع فصيلة وحيدة من القرود؛ وفي العرض‬
‫األخير‪ ،‬كانت تعمل مع فيتزكارالدو )‪ (Fitzcarraldo‬فرقة موسيقية‬
‫ر ّثة غنّت أمام جمهور ضئيل العدد وأمام خنزير صغير أسود؛ وحريق‬
‫معمل الزجاج لم يؤ ِّد إال إلى جمع العمال القطع المهمشة‪ .‬ولكن‪ ،‬على‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬فإن العجزة‪ ،‬فيما كانوا يسيرون داخل الشكل الصغير‬
‫كانوا يلمسون ٍ‬
‫بقوة عالم ًا يضخمونه و ُيلهمون الصورة ذاتها‪ ،‬ومثلهم مثل‬
‫الطفل األصم األبكم الذي يلمس شجرة أو ص ّبارة‪ ،‬ومثل فويزيك الذي‬
‫بمالمسته الخشب المحتطب كان يشعر بقوى األرض تنبعث منها‪ .‬وهذا‬
‫التحرير لقوى اللمس ال يكتفي بإيحاء الصورة‪ :‬إنه يش ّقها و ُيدخل فيها‬
‫رؤى هوسية فسيحة‪ ،‬كالطيران والصعود واالختراق‪ ،‬على غرار المتزلج‬
‫األحمر الذي يقفز قفزته الكبرى في فيلم بلد الصمت والظالم‪ ،‬أو على‬
‫شاكلة األحالم الثالثة للقرويين في فيلم كاسبار هاوسر‪ .‬وهنا أيض ًا نشهد‬
‫انشطار ًا يماثل انشطار السامي‪ ،‬وكل ما هو سا ٍم يجد نفسه إلى جانب‬
‫"الصغير"‪ .‬فهذا الصغير‪ ،‬كما عند أفالطون‪ ،‬هو فكرة‪ ،‬على شاكلة‬
‫"الكبير"‪ .‬بهذا المعنى أو ذاك‪ ،‬أظهر هيرزوغ أن رجلي طائر ال َقطرس‬
‫الضخمتين وأن جناحيه الكبيرين األبيضين هما متشابهان‪.‬‬
‫‪)3‬‬
‫في الختام ال بدّ من تحديد الميادين األساسية التي ُيظهر فيها‬
‫شكال الفعل الصغير والكبير تمايزهما الحقيقي وتحوالتهما الممكنة‬
‫جميعها‪ .‬في البداية‪ ،‬هناك المجال الفيزيائي البيولوجي الذي يتناسب مع‬
‫‪344‬‬
‫يدل على المسافة الفاصلة بين جسدين‪،‬‬‫مفهوم البيئة‪ .‬فهذا بمعناه األول ّ‬
‫أو باألحرى ّ‬
‫يدل على ما يشغل هذه المسافة‪ ،‬أو على السائل الذي ينقل‬
‫جسد في اآلخر (ويقتضي فعل المالمسة وجود‬ ‫ٍ‬ ‫– ولو عن بعد – فعل‬
‫مسافة في غاية الصغر)‪ .‬نجد أنفسنا إذ ًا أمام الشكل ‪ ÁSA‬المم ّيز‪ .‬ولكن‬
‫البيئة قد دلت فيما بعد على المحيط أو الشامل‪ ،‬أي ما يحيط بالجسد‬
‫ويؤ ّثر فيه‪ ،‬بشرط أن يؤ ّثر الجسد في البيئة‪ :‬تحت شكل ‪ .ŚAS‬نحن‬
‫ننتقل بسهولة من معنى آلخر‪ ،‬ولكن التركيبات ال تلغي األصل الممايز‬
‫للفكرتين‪ ،‬وتكون األولى من صنف ميكانيك للسوائل‪ ،‬والثانية في إطار‬
‫بيو – أنثربولوجي(((‪.‬‬
‫إن ميدان الرياضيات الذي يتطابق مع مفهوم المكان يستدعي‬
‫مفهومين متمايزين‪ .‬سنطلق صفة "شامل" على المفهوم الذي ينطلق‬
‫من بنية مع ّينة للداللة على مكان ووظيفة أحاديين للعناصر التي تنتمي‬
‫إلى هذا المجموع (حتى قبل معرفة طبيعتهما)‪ .‬إنه مكان أو جو يمكن‬
‫أن يتعرض لبعض التحوالت بالنسبة لألشكال الكامنة فيه‪ .ŚAS :‬أما‬
‫المفهوم "المحلي"‪ ،‬فعلى العكس من ذلك‪ ،‬فينطلق من عنصر متناهي‬
‫الصغر يشكّل مع محيطه المباشر قطع َة مكان؛ ولكن هذه العناصر أو‬
‫هذه األجزاء ليست متصلة في ما بينها طالما لم يحدَّ د خط اتصال تقوم‬
‫مماسة )‪ .(ÁSA‬وسنالحظ أن المفهومين ال يتعارضان‬ ‫ّ‬ ‫به أشعة موجهة‬
‫كما هو الحال بين الكل والجزء‪ ،‬بل باألحرى كطريقتين تحددان العالقة‬
‫بينهما(‪ .((1‬المقصود هنا مكانان متغايران في طبيعتهما‪ /‬ليس لهما الحد‬

‫((( ‪Georges Canguilhem, La connaissance de la vie  (Paris: Hachette,‬‬


‫‪1952), "Le vivant et son milieu".‬‬
‫‪= Albert‬‬ ‫‪Lautman, Essai sur les notions‬‬ ‫(‪ ((1‬حول هذين املفهومني انظر‪:‬‬
‫‪345‬‬
‫نفسه‪ .‬فقد يكون حدّ األول هو المكان الخالي‪ ،‬لكن حدّ الثاني قد يكون‬
‫المكان المفكّك الذي تستطيع أجزاؤه أن تتصل في ما بينها بطرق ال‬
‫حصر لها‪ .‬غير أنه توجد شروط لالنتقال من مكان إلى آخر؛ ويجتمع‬
‫الحدّ ان كالهما ضمن مفهوم المكان النكرة‪ .‬ولكنهما مكانان يتباينان في‬
‫تصور هندسي بحت‪ ،‬لتكافأ‬ ‫األصل والمفهوم‪ .‬لو كان ألفالم الويستيرن ّ‬
‫الجانبان اللذان ح ّللناهما مع هذين الشكلين المكانيين‪.‬‬
‫في المقام الثالث‪ ،‬سننظر في المجال الجمالي الذي يتناسب مع‬
‫مفهوم المنظر‪ .‬يستحضر ف ّن الرسم الصيني والياباني مبدأين أساسيين‪:‬‬
‫جهة الفرا ُغ البدئي‪ ،‬والنفحة الحيوية التي تتغلغل في جميع‬‫ٍ‬ ‫فثمة من‬
‫وتحولها وفق ًا لحركة دائرية كبرى أو لحركة‬
‫ّ‬ ‫األشياء لتصبح واحد ًا‬
‫وثمة من جهة أخرى الفراغ المتوسط والهيكل األساسي‬ ‫لولبية عضوية؛ ّ‬
‫بتموج أو بخط منكسر‪ ،‬ينطلق من كائن إلى آخر‪،‬‬ ‫والتمفصل والربط ّ‬
‫ويتناولهما في ذروة حضورهما‪ ،‬وفق ًا لخط كوني مع ّين‪ .‬في حالة أولى‬
‫تضفى األهمية على الجمع‪ ،‬على انبساط القلب وانقباضه‪ ،‬وفي الحالة‬
‫الثانية المهم باألحرى هو الفصل بين الوقائع المستقلة والحاسمة‪ .‬ففي‬
‫الحالة األولى يكمن وجود األشياء في "مظهرها"‪ ،‬ولكن الحضور‬
‫بالذات‪ ،‬في الحالة الثانية‪ ،‬يكمن في "الزوال"؛ وهذا يشبه برج ًا تتخ ّفى‬
‫قمته في السماء في حين أن قاعدته غير مرئية‪ ،‬ويشبه تنين ًا يختبئ خلف‬
‫الغيوم(‪.((1‬‬

‫‪de structure et d’existence en mathématiques, I (Paris: Herman, [s. d.]), ch.‬‬ ‫=‬
‫‪I et II‬‬
‫ويربطها لومتان بفكرتني أفالطونيتني‪.‬‬
‫‪= Henri Maldiney, Regard parole espace (Paris: L’ȃge d’ homme, [s.‬‬ ‫(‪ ((1‬‬
‫‪346‬‬
‫من المؤكد أن المبدأين ال ينفصالن وأن األول منهما يسيطر‪" :‬من‬
‫المناسب أن تكون الخطوط منقطعة من دون أن تتقطع النفحة الحيوية"؛‬
‫"ويكمن كل فن األداء في التأشيرات المفتتة واالنقطاعات‪ ،‬مع أن الهدف‬
‫هو الحصول على نتيجة كاملة‪ ."...‬كيف يمكن رسم سمكة زنجور من‬
‫دون اكتشاف الخط المنكسر للكون الذي يربطها بالحجر الذي يالمسها‬
‫في قعر الماء وبأعشاب الضفة التي تتخفى السمكة فيها‪ ،‬ولكن كيف‬
‫نرسم هذه السمكة دون أن نبث فيها النفحة الكونية التي ليست السمكة‬
‫إال جزء ًا منها وبصمة من بصماتها؟ في ظل هذين المبدأين‪ ،‬يبقى أن‬
‫نقول إن األشياء ال تتخذ العالمة نفسها وإن شكل الفضاءات يختلف‪،‬‬
‫كما تختلف العالمات الجامعة عن النفحة أو اللولب‪ ،‬واألشعة الموجهة‬
‫عن خطوط الكون‪ :‬فهناك "الخط الوحيد" و"الخط المتغضن"‪.‬‬
‫كان إيزنشتاين مفتون ًا برسوم المناظر الصينية واليابانية‪ ،‬ألنه‬
‫كان يرى فيها إرهاص ًا للسينما(‪ .((1‬ولكن في السينما اليابانية عندنا‬
‫مخرجان قريبان جد ًا منا وح ّبذ كل منهما مكاني الفعل‪ .‬فأفالم أكيرا‬
‫كوروساوا مفعمة بنفحة تخترق المبارزات والمعارك‪ .‬وهذه النفحة‬

‫‪d.]), pp. 167 sq., et François Cheng, Vide et plein, le langage pictural chinois‬‬ ‫=‬
‫‪(Paris: Edition du Seuil, [s. d.]),‬‬
‫ومنه اقتبسنا االستشهادين التاليني حول الرسوم الصينية‪.‬‬
‫‪Eisenstein, La non-indifférente nature, II, pp. 71-107,‬‬ ‫(‪ )12‬انظر بخاصة‪:‬‬
‫ولكن إيزنشتاين ال هيتم كثري ًا بالفضاءات املختلفة بل بشكل «اللوحة‪ /‬امللف»‬
‫التي يدجمها باللوحة البانورامية‪ .‬ولكنه يالحظ أن اللوحات‪ /‬امللفات تشكّل فضاء‬
‫وتتطور يف إطار تنظيم نغمي للفضاءات املرفدة بنفحة‪ .‬ال بل هناك شكل مل تعد‬
‫ّ‬ ‫خطي ًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫املساحة تلتف فيه‪ ،‬بل الصورة تلتف يف املساحة بحيث تشكل كل ال يتجزأ‪ .‬إذا نجد‬
‫الفضائني‪ .‬ويقدم إيزنشتاين السينام كتوليفة جتمع بني هذين الشكلني‪.‬‬
‫‪347‬‬
‫آن واحد عالمة جامعة لألفالم وتوقيع‬ ‫ممثلة بسمة فريدة‪ ،‬فهي في ٍ‬
‫شخصي لكوروساوا‪ :‬لنتخيل خط ًا أفقي ًا سميك ًا ينزل من أعلى الشاشة‬
‫إلى أسفلها ويشطره خطان أفقيان رفيعان ينطلقان من اليمين إلى اليسار‬
‫الترجل الجميل‬
‫ّ‬ ‫ومن اليسار إلى اليمين‪ .‬ففي فيلم ‪ Kagemusha‬نشاهد‬
‫للرسول الذي يتمايل دائم ًا ذات اليمين وذات اليسار‪ .‬إن كوردساوا هو‬
‫صوروا المطر‪ :‬ففي فيلم الساموراي السبعة‬
‫من أعظم السينمائيين الذين ّ‬
‫يتساقط المطر بغزارة فيما عصابة اللصوص تقع في الشرك فتروح وتغدو‬
‫من أقصى القرية إلى أقصاها عدو ًا على خيولها‪ .‬وغالب ًا ما تشكّل زاوية‬
‫التصوير صورة مسطحة تبرز الحركات الجانبية المستمرة‪ .‬سواء أكان‬
‫متوسع ًا أو منقبض ًا فإننا نفهمه فهم ًا أفضل إذا استند‬
‫هذا الفضاء‪ /‬النفحة ّ‬
‫إلى دراسة يابانية للح ّيز‪ :‬ال يبدأ اليابانيون بالفرد ليدلوا على رقم البيت‬
‫واسم الشارع والحي والمدينة‪ ،‬بل على العكس يبدأون بالسور ثم المدينة‬
‫ويدلون على الكتلة العمرانية ثم الحي ثم المكان الذي يبحثون فيه عن‬
‫الشخص المجهول(‪ .((1‬ال ينطلقون من المجهول ليصلوا إلى المعطيات‬
‫القادرة على تحديده‪ ،‬ينطلقون من المعطيات كافة ثم ينزلون ليع ّينوا‬
‫الحدود التي يقيم هذا المجهول بينها‪ .‬وهذه صيغة ‪ AS‬خالصة جد ًا‪ :‬قبل‬
‫صرح‬
‫التصرف‪ ،‬يجب معرفة المعطيات جميعها‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫التصرف‪ ،‬ومن أجل‬
‫ّ‬
‫كوروساوا بأن أصعب شيء لديه هو قبل أن تبدأ الشخصية السينمائية‬
‫علي أن أفكّر أشهر ًا‬
‫التوصل إلى ذلك ينبغي َّ‬
‫ّ‬ ‫بالتصرف‪ :‬فمن أجل‬
‫ّ‬

‫(‪Akira Mizubayashi, "Autour du bain," Critique, no 418 (Janvier ((1‬‬


‫‪1983), p. 5.‬‬

‫‪348‬‬
‫كثيرة(‪ .((1‬ولكن ذلك صعب ألن األمر يتع ّلق بالشخصية ذاتها‪ :‬كان عليه‬
‫أوال أن يحصل على المعطيات جميعها‪ .‬لذا نرى أن أفالم كوروساوا‬ ‫ً‬
‫تنقسم دائم ًا إلى قسمين متمايزين‪ ،‬ويشتمل القسم األول على عرض‬
‫التصرف بكثافة وبشدة (كما في فيلمي الكلب‬
‫ّ‬ ‫طويل‪ ،‬وفي الثاني يبدأ‬
‫المسعور وبين السماء والجحيم)‪ .‬لذا يستطيع المكان عند كوروساوا أن‬
‫يكون فضا ًء مسرحي ًا مق ّلص ًا يحصل البطل فيه على جميع المعطيات التي‬
‫تكون نصب عينيه عندما يعمل (كما في فيلم الحارس الشخصي)(‪ .((1‬لذا‬
‫نرى أخير ًا أن المكان يتمدّ د ويشكل دائرة كبيرة تجمع بين عالم األغنياء‬
‫وعالم الفقراء‪ ،‬وبين العالي والمنخفض‪ ،‬وبين السماء والجحيم؛ ويجب‬
‫اكتشاف األغوار وعرض القمم في ٍ‬
‫آن واحد ليتم رسم دائرة الشكل‬
‫الكبير هذه التي يقطعها جانبي ًا قطر يقف فيه البطل ويتحرك (فيلم بين‬
‫السماء والجحيم)‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬إن لم يكن لكوروساوا فضل آخر‪ ،‬لكان سينمائي ًا بارز ًا قام‬
‫بتطوير الشكل الكبير فقط‪ ،‬وألتاح لنا أن نفهمه وفق ًا للمعايير الغربية التي‬
‫أصبحت كالسيكية‪ .‬ويتضاهى اكتشافه األغوار مع فيلم الجريمة أو فيلم‬
‫البؤس والبؤساء‪ ،‬وتحيل دائرته الكبرى لعالم الفقراء وعالم األغنياء إلى‬

‫(‪Kurosawa, "Entretien avec Shimizu," Etudes cinématographiques ((1‬‬


‫‪Kurosawa, p. 7.‬‬
‫‪Luigi Martelli, p. 112:‬‬ ‫(‪((1‬‬
‫ ‬
‫مجيع األحداث توضع أمام ناظري الشخصية الرئيسية (‪ .)...‬لقد أعطى‬
‫كوروساوا األولوية لزوايا التقاط الصورة التي تساهم يف تسطيح الصورة‪ ،‬وتساعد ‪-‬‬
‫يف غياب عمق احلقل ‪ -‬عىل إحداث انطباع بوجود حركة عرضانية‪ ،‬وهذه اإلجراءات‬
‫التقنية تلعب دور ًا رئيسي ًا عندما تسعى إىل تقديم حكم نقدي‪ ،‬حكم البطل الذي يتبع‬
‫القصة بنظرة تكافئ نظريتنا‪.‬‬
‫‪349‬‬
‫المفهوم اإلنسانوي الليبرالي الذي عرف غريفيث كيف يفرضه‪ ،‬كمعطى‬
‫من معطيات الكون وكقاعدة للمونتاج (وفع ً‬
‫ال نجد هذه الرؤية الغريفيثية‬
‫عند كوروساوا‪ :‬ثمة أغنياء وفقراء‪ ،‬ويجب أن يتفاهموا ويتفقوا‪.)...‬‬
‫يتم قبل الفعل للصيغة ‪:AS‬‬
‫بوجيز العبارة‪ ،‬قد تستجيب ضرورة عرض ّ‬
‫ثمة‬
‫أي من الوضع إلى الفعل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وفي إطار هذا الشكل الكبير‪ّ ،‬‬
‫جوانب عديدة تشهد بطول باعه‪ ،‬وبوسعنا ربطه من دون شك بالتقاليد‬
‫اليابانية‪ ،‬ولكنها مدينة أيض ًا للعبقرية الخاصة بكوروساوا‪ .‬في المقام‬
‫األول‪ ،‬ليست المعطيات التي يجب عرضها تمام ًا هي معطيات الوضع‪.‬‬
‫إنها معطيات مسألة متخفية في الوضع وملتحفة به‪ ،‬ويجب على البطل‬
‫التصرف ومن االستجابة للوضع‪ .‬وليست‬ ‫ّ‬ ‫أن يستخلصها ليتمكّن من‬
‫االستجابة هي استجابة الفعل للوضع فقط‪ ،‬ولكنها أشد عمق ًا‪ ،‬إنها إجابة‬
‫على سؤال أو مشكلة لم يكن الوضع كافي ًا لكشفها‪ .‬إذا وجدت صلة‬
‫قربى بين كوروساوا وفيودور دوستويفسكي )‪(Fyodor Dostoyevsky‬‬
‫فإنها تدور حول النقطة التالية‪ :‬عند دوستويفسكي يهمل البطل عن‬
‫عمد وضع ًا ضروري ًا‪ ،‬مهما كان كبير ًا‪ ،‬ويبحث أوالً عن المسألة األكثر‬
‫إلحاح ًا‪ .‬وهذا ما أحبه كوروساوا في األدب الروسي فأقام همزة وصل‬
‫بين روسيا واليابان‪ .‬يجب أن تُنتزع من الوضع المسألة التي تحتويه‪،‬‬
‫ويجب اكتشاف معطيات المسألة السرية التي تمكّن وحدها من اإلجابة‬
‫عليها‪ ،‬والتي من دونها سيكون الفعل إجابة عليها‪ .‬إن كوروساوا هو إذ ًا‬
‫ميتافيزيقي على طريقته وابتكر توسيع ًا للشكل الكبير‪ :‬إنه تجاوز الوضع‬
‫وتوجه إلى المسألة‪ ،‬ورفع المعطيات إلى مستوى معطيات المسألة‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬
‫حينئذ ليس من المهم أن تبدو لنا المسألة مخ ّيبة‬ ‫إلى معطيات الوضع‪.‬‬
‫لألمل أو بوروجوازية أو ناشئة عن إنسانوية فارغة‪ .‬ما يهم هو هذا الشكل‬
‫‪350‬‬
‫الذي يبرز مسألة مع ّينة ُيظهر معطياتها أكثر من إظهار موضوعها مما‬
‫يجعل منها مسألة "أبي الهول" أو مسألة إحدى الساحرات‪.‬‬
‫التصرف ألنه يظن أنه يمسك‬ ‫ّ‬ ‫إن الذي ال يفهم‪ ،‬ويسارع إلى‬
‫وسيتجرع موت ًا زؤام ًا‪ :‬في فيلم‬
‫ّ‬ ‫بمعطيات الوضع ويكتفي بذلك‪ ،‬سيهلك‬
‫قصر العنكبوت‪ّ ،‬‬
‫يتحول المكان‪ /‬النفحة إلى شبكة عنكبوتية توقع ماكبث‬
‫ثمة‬
‫سرها‪ّ .‬‬
‫في شراكها‪ ،‬ألنه لم يفهم المسألة التي تملك الساحرة وحدها ّ‬
‫حالة ثانية‪ :‬تعتقد شخصية من الشخصيات أنها خليقة بأن تقبض على‬
‫معطيات وضع ما‪ ،‬ال بل تستخلص منه النتائج جميعها‪ ،‬ولكنها تالحظ‬
‫أن هناك مسألة خفية تدركها بشكل مفاجئ وتدفعها إلى تغيير قرارها‪.‬‬
‫ففي فيلم باربروس يدرك معاونه علمي ًا وضع المرضى ومعطيات حالة‬
‫فيهم بمغادرة معلمه الذي بدت تصرفاته تس ّلطية وبالية وضحلة‬
‫الجنون؛ ّ‬
‫علمي ًا‪ .‬ولكنه يلتقي بإحدى المجنونات ويلتقط من شكواها الحالة‬
‫التي كانت مسيطرة على جميع المجنونات‪ ،‬أي صدى مسألة مخ ِّبلة‬
‫وعصية على التشخيص‪ ،‬وتجاوزت بكثير كل وضع موضوعي أو قابل‬
‫ٍ‬
‫عندئذ أن المعلم "كان يعي" المسألة وأن‬ ‫ألن يكون موضوعي ًا‪ .‬ف َيفهم‬
‫فقرر أن يبقى مع باربروس (على كل حال‪ ،‬ال‬‫ممارساته سبرت غورها‪ّ :‬‬
‫يوجد مهرب ممكن من فضاء كوروساوا)‪ .‬ما يتبدّ ى هنا خصوص ًا‪ ،‬هو‬
‫أن معطيات المسألة تشتمل على األحالم والكوابيس واألفكار والرؤى‬
‫والغرائز وأفعال األشخاص المعنيين‪ ،‬في حين أن معطيات الوضع‬
‫كانت تحتفظ فقط باألسباب والنتائج التي ال يمكن التصدي لها إال إذا‬
‫آن واحد‪.‬‬ ‫أزيلت هذه النفحة التي كانت تتضمن السؤال والجواب في ٍ‬
‫في الحقيقة لن يوجد جواب إن لم تجد المسألة العناية واالحترام‪ ،‬حتى‬
‫في الصور المريعة والجنونية والصبيانية التي تع ِّبر فيها‪ .‬وهنا تنشأ الحالة‬
‫‪351‬‬
‫ال ليست بكل بساطة صور ًا‬ ‫الحلمية عند كوروساوا‪ ،‬فالرؤى الهلوسية مث ً‬
‫ذاتية بل أشكاالً من الفكر الذي يكتشف معطيات مسألة خارقة‪ ،‬بما أنها‬
‫تنتمي إلى العالم وكنه العالم (كما في فيلم األحمق)‪ .‬إن التن ّفس في أفالم‬
‫كوروساوا ال يقتصر على التناوب بين المشاهد الملحمية والحميمية‪،‬‬
‫وبين الشدّ ة والتراخي‪ ،‬وبين التنقيل )‪ (Travelling‬واللقطة المقربة‪،‬‬
‫وبين اللقطات الواقعية وغير الواقعية‪ ،‬وإنما تشمل أيض ًا الطريقة التي يتم‬
‫االرتقاء فيها من وضع حقيقي إلى معطيات غير واقعية بالضرورة لمسألة‬
‫يهجس بها الوضع(‪.((1‬‬
‫تتشرب الشخصية السينمائية أو‬ ‫ّ‬ ‫الحالة الثالثة‪ :‬ينبغي بداهة أن‬
‫تستوعب المعطيات جميعها‪ .‬ولكن‪ ،‬بما أنها تُحيل إلى مسألة ال إلى‬
‫التشرب‪/‬‬
‫ّ‬ ‫التشرب‪ /‬التن ّفس اختالف ًا عميق ًا عن‬
‫ّ‬ ‫وضع‪ ،‬يختلف هذا‬
‫التن ّفس الستوديو الممثلين‪ .‬وبدالً من استيعاب وضع من األوضاع‪،‬‬
‫إليجاد إجابة ليست سوى فعل انفجاري‪ ،‬يجب على الشخصية السينمائية‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫تتشرب مسألة‪ ،‬من أجل خلق فعل يكون بمثابة إجابة حصيفة‪.‬‬‫أن ّ‬
‫تعرف عالمة األثر المطبوع تطور ًا ال سابق له‪ .‬ففي فيلم ‪،Kagemusha‬‬
‫يتشرب كل ما يحيط بالمعلم‪ ،‬ويترتّب عليه هو‬‫يجب على القرين أن ّ‬
‫نفسه أن يصبح أثر ًا مطبوع ًا وأن يتجاوز األوضاع المختلفة (النساء‪،‬‬
‫والطفل الصغير‪ ،‬والحصان خصوص ًا)‪ .‬سيقال إن عدد ًا من األفالم‬

‫‪Michel Estève, Robert Bresson (Paris: Seghers, [s. d.]), et‬‬ ‫(‪ )16‬انظر‪:‬‬
‫‪Alain Jourdat (Cinématographe, n 67 (Mai 1981)),‬‬
‫‪o‬‬

‫وحي ّلالن يف هذا العدد بعض املشاهد الكربى من فيلم األمحق‪ :‬الثلج وكرنفال‬
‫املتزجلني والعيون وكتل اجلليد‪ ،‬وفيها ال يتعاقب الوضع احللمي بل ُيستخلص من‬
‫واقعية الوضع‪.‬‬
‫‪352‬‬
‫الغربية تعاملت مع الموضوع ذاته‪ .‬ولكن في هذه المرة‪ ،‬ما يجب على‬
‫القرين أن يتشربه هو كل المعطيات الخاصة بالمسألة التي يعرفها المعلم‬
‫وحده‪" ،‬إنه سريع مثل الريح‪ ،‬وصامت مثل الغابة‪ ،‬ومخيف مثل النار‪،‬‬
‫وهادئ مثل الجبل"‪ .‬ليس هذا هو وصف المعلم‪ ،‬بل هو اللغز الذي‬
‫يمتلك هو جوابه ويأخذه معه‪ .‬وبعيد ًا عن إمكانية تقليده‪ ،‬فإن هذا هو‬
‫الذي يجعله كائن ًا فوق البشر أو يضفي عليه قيمة كونية‪ .‬وهنا يبدو لي‬
‫يتشرب المعطيات جميعها لن يكون إال‬ ‫أننا نصطدم بحدٍّ جديد‪ :‬فالذي ّ‬
‫ظل مذعن ًا للمعلم وللعالم‪ .‬ففي فيلم ‪ Dersou Ouzala‬نرى أن‬‫صنو ًا أو ّ ً‬
‫مع ّلم الغابة التي ترك عليها بصماته ينحدر هو نفسه إلى حالة الظل عندما‬
‫شح بصره‪ ،‬ولم يعد قادر ًا على استيعاب المسألة الجليلة التي تطرحها‬
‫ّ‬
‫الغابة على البشر‪ .‬سيموت على الرغم من إجراءات الوضع المريح التي‬
‫ُوفرت له‪ .‬وفي فيلم الساموراي السبعة نرى أن هؤالء‪ ،‬لو لم يستعلموا‬
‫ال عن الوضع‪ ،‬ولو لم يدركوا المعطيات المادية المرتبطة بالقرية‬‫طوي ً‬
‫فقط وأيض ًا المعطيات النفسية للسكان‪ ،‬فألن هناك مسألة أرفع لن يمكن‬
‫استخالصها من هذه األوضاع إال تدريجي ًا‪ .‬وهذه المسألة هي كالتالي‪:‬‬
‫هل يمكن الدفاع عن القرية؟ ولكن‪ :‬من هو الساموراي اليوم وفي هذه‬
‫الفترة من التاريخ؟ ويأتي الجواب أن الساموراي أصبحوا ظالالً ولم‬
‫يعد لهم مكان ال عند األسياد وال عند الفقراء (وكان الفالحون هم‬
‫المنتصرون الحقيقيون)‪.‬‬
‫لكن في داخل هؤالء الموتى طمأنينة ُيستشف منها جواب أكثر‬
‫ال ثمة حالة رابعة تمكّن من إجمال المجموع‪ .‬إن فيلم‬‫اكتماالً‪ .‬وفع ً‬
‫العيش هو من أجمل أفالم كوروساوا‪ ،‬ويطرح السؤال التالي‪ :‬ما العمل‬
‫إذا كان هناك شخص يعلم بأنه محكوم عليه بأال يعيش إال بضعة أشهر؟‬
‫‪353‬‬
‫ولكن هل هذا هو السؤال الحقيقي؟ كل شيء مرهون بالمعطيات‪ .‬هل‬
‫ينبغي أن نفهم من ذلك ما يلي‪ :‬ما العمل للحصول أخير ًا على المتعة؟‬
‫والرجل المذهول واألخرق يقوم بجولة على أماكن المتعة كالبارات‬
‫ومالهي الستربتيز‪ .‬هل هذه هي معطيات صحيحة لإلجابة على السؤال؟‬
‫أليست باألحرى حالة من الهياج تغ ّطي السؤال وتخفيه؟ بعد أن عرف‬
‫الرجل عاطفة جامحة حيال فتاة شابة‪ ،‬عرف منها أن المسألة ليست‬
‫حب متأخر‪ .‬وتذكر الفتاة له مثالها الشخصي‪ ،‬وتشرح له أنها تصنع‬
‫مسألة ّ‬
‫مجموعة من األرانب اآللية الصغيرة‪ ،‬وأنها سعيدة لمعرفتها بأن األرانب‬
‫ستنتقل بين أيدي أطفال مجهولين وأنها هكذا ستجوب المدينة‪ .‬ويفهم‬
‫الرجل أن معطيات السؤال "ما العمل" هي معطيات عمل نافع يؤديه‪.‬‬
‫وهكذا إذ ًا يستعيد الرجل مشروعه القاضي بإنشاء حديقة عامة‪ ،‬ويتغلب‬
‫قبل أن يموت على جميع العقبات التي اعترضت طريقه‪ .‬وهنا أيض ًا‬
‫نستطيع القول إن كوروساوا أبلغنا رسالة إنسانوية مسطحة إلى حد ما‪.‬‬
‫ولكن الفيلم شيء آخر‪ :‬إنه البحث الدؤوب عن المسألة ومعطياتها عبر‬
‫األوضاع‪ .‬إنه اكتشاف الجواب‪ ،‬ك ّلما تقدّ م البحث‪ .‬واإلجابة الوحيدة‬
‫تقضي بإعادة تقديم المعطيات‪ ،‬وبإعادة شحن العالم بالمعطيات‪ ،‬وقدر‬
‫اإلمكان بتسريب بعض األشياء مهما صغرت‪ ،‬بحيث تنبثق ‪ -‬من خالل‬
‫هذه المعطيات الجديدة أو المتجددة ‪ -‬وتتكاثر مسائل أقل قسوة وأكثر‬
‫بهجة وأكثر قرب ًا من الطبيعة والحياة‪ .‬ذلك ما فعله دورسو أوزاال عندما‬
‫شاء ترميم الكوخ واإلبقاء على بعض األطعمة‪ ،‬كي يتمكن المسافرون‬
‫القادمون من البقاء على قيد الحياة والتجول بدورهم‪ .‬إذ ًا يستطيع المرء‬
‫أن يكون ظالً‪ ،‬ويستطيع أن يموت‪ :‬ولكنه سيعطى المكان نفحة من‬
‫جديد‪ ،‬وسيلتحق من جديد بالمكان‪ /‬النفحة‪ ،‬وسيصبح حديقة أو غابة‬
‫‪354‬‬
‫أو أرنب ًا آلي ًا‪ ،‬بالمعنى الذي تحدث عنه هنري ميلر )‪(Henry Miller‬‬
‫القائل بأن عليه أن يولد من جديد وأن يولد من جديد كحديقة‪.‬‬
‫إن المقارنة بين كوروساوا وبين كينج ي ميزوغوشي �‪(Ken‬‬
‫)‪ ji Mizoguchi‬مقارنة شائعة كتلك التي بين كورناي )‪(Corneille‬‬
‫وراسين )‪( (Racine‬علم ًا بأن النظام التاريخي المتسلسل معكوس)‪.‬‬
‫الذكَري حصر ًا إلى حد ما‪ ،‬مع العالم األنثوي‬
‫يتعارض عالم كوروساوا َ‬
‫لميزوغوشي‪ .‬وتنتمي أعمال ميزوغوشي إلى الشكل الصغير‪ ،‬بقدر ما‬
‫تنتمي أعمال كوروساوا إلى الشكل الكبير‪ .‬أما توقيع ميزوغوشي السمه‬
‫متموج كتموجات البحيرة في فيلم‬ ‫ّ‬ ‫فلم يكن خط ًا وحيد ًا‪ ،‬ولكنه ّ‬
‫خط‬
‫حكايات القمر الغامض بعد المطر‪ ،‬وفيه تحتل تموجات الماء الصورة‬
‫بكاملها‪ .‬ويتمايز الشكالن عند هذين المخرجين تمايز ًا واضح ًا‪ ،‬أكثر‬
‫يحول هذا إلى ذاك‪ .‬وكما أن كوروساوا‪،‬‬ ‫ينمان عن التكامل الذي ّ‬ ‫مما ّ‬
‫َ‬
‫الشكل الكبير للتوسيع الصالح‬ ‫من خالل تقنيته وميتافيزيقيته‪ُ ،‬يخضع‬
‫للتحول محلي ًا‪ ،‬كذلك نرى أن ميزوغوشي يخضع الشكل الصغير‬
‫يحوله بحد ذاته‪.‬‬
‫لالستطالة والمدّ الذي ّ‬
‫إن انطالق ميزوغوشي من المبدأ الثاني‪ ،‬ال من النفحة بل من‬
‫الهيكل ومن قطعة المكان الصغيرة التي ال بدّ لها أن تتصل بقطعة‬
‫المكان التالية‪ ،‬هو انطالق واضح من وجهات نظر عديدة‪ .‬كل شيء‬
‫المخصص للنساء‪" ،‬الذي يقع في أقصى‬
‫ّ‬ ‫ينطلق من القاع‪ ،‬أي من الح ّيز‬
‫مكان في المنزل" ببنيته الرقيقة وستائره‪ .‬في فيلم العشاق المصلوبون‪،‬‬
‫تدشن الفعل‪ ،‬أي هروب الزوجة‪.‬‬ ‫ثمة لعبة كبيرة تتم في غرف امرأة ّ‬ ‫ّ‬
‫في داخل البيت‪ ،‬صحيح أن هناك منظومة كاملة من الروابط التي تتم‬
‫بفضل الحواجز ذات السكة والعازلة‪ .‬ولكن بسبب االتصال بالشارع‬
‫‪355‬‬
‫تبرز أوالً مشكلة توصيل قطعة من الحيز بقطعة أخرى؛ وعلى وجه‬
‫تتدخل فراغات متوسطة بين قطعتي مكان‪ ،‬وتُخلي إحدى‬ ‫الخصوص ّ‬
‫الشخصيات الكادر أو تتخ ّلى الكاميرا عنها‪ .‬هناك لقطة تحدد ح ّيز ًا‬
‫ضيق ًا‪ ،‬لنقل إنه الجزء المرئي من البحيرة التي يجتاحها الضباب‪ ،‬كما‬
‫في فيلم حكايات القمر الغامض؛ ولنقل أيض ًا إن ت ّل ًة تسدُّ األفق‪ ،‬وإن‬
‫االنتقال من مشهد لقطة إلى مشهد لقطة أخرى يستبعد التبهيت ويؤكّد‬
‫التجاور الذي يتعارض مع االستمرار‪ .‬ومع ذلك لن يتكلم عن الح ّيز‬
‫المجزأ‪ ،‬مع أن المقصود هنا هو العزل المستمر‪ .‬ولكن ينبغي على كل‬
‫مشهد وكل لقطة أن ينقال الشخصية أو الحدث إلى قمة استقالليتهما‬
‫وحضورهما المك ّثف‪ .‬ويجب على هذه الكثافة أن تستمر وتمدَّ د حتى‬
‫في سقوطها إلى درجة الصفر‪ ،‬هذا السقوط الذي يخصها شخصي ًا‪ ،‬وال‬
‫المكون لكل كثافة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يخلطه بسقوط آخر بحيث يكون الفراغ هو العنصر‬
‫شأنه في ذلك شأن التالشي الذي هو طريقة محايثة لكل حضور (وهذا‬
‫يختلف كثير ًا‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬عما يحدث عند ياسوجيرو أوزو(‪ .((1‬فالح ّيز‬
‫يتكون المكان من خالل‬ ‫مجزأ‪ ،‬وقطعه تنجم عن عملية تكوين‪ :‬وال ّ‬‫ح ّيز ّ‬
‫رؤية وإنما من خالل تجوال‪ ،‬ووحدة التجوال هي الح ّيز أو القطعة‪.‬‬
‫وخالف ًا لكوروساوا الذي تستمد الحركة الجانبية لديه كل أهميتها من‬
‫الخط الذي يلتقي‪ ،‬من اليمين أو من اليسار‪ ،‬مع حدّ ي دائرة كبيرة نوع ًا‬
‫ما كان هو قطرها فقط‪ ،‬نرى أن الحركة الجانبية عند ميزوغوشي تنطلق‬
‫عن كثب من اتجاه محدّ د ال ينتهي‪ ،‬وهو الذي يخلق الح ّيز بدالً من أن‬

‫‪Hélène‬‬ ‫حول الشدّ ة وامتدادها إىل الفراغ عند ميزوغويش انظر‪:‬‬ ‫(‪)17‬‬
‫‪Bokanowski, «L’ espace de Mizoguchi,» Cinématographe, n 41 (Novembre‬‬
‫‪o‬‬

‫‪1978).‬‬

‫‪356‬‬
‫يفترضه‪ .‬والمكان المحدّ د ال يتضمن إطالق ًا وحدة في االتجاه‪ ،‬ألن‬
‫الموجه بكل واحدة منها‬
‫ّ‬ ‫االتجاه يتغ ّير مع كل قطعة‪ ،‬إذ يرتبط الشعاع‬
‫(وتغ ّير االتجاهات هذا يصل إلى ذروته في فيلم البطل المدنّس‪ .‬وهذا‬
‫ال بسيط ًا في المكان‪ ،‬إن ُه مفارقة في مكان متعاقب بصفته مكان ًا‪،‬‬
‫ليس تبدي ً‬
‫وفيه يؤكّد الزمن موقعه تمام ًا‪ ،‬ولكن على شكل وظيفة لمتغ ّيرات ذلك‬
‫يستحم‬
‫ّ‬ ‫المكان‪ :‬وهكذا نرى في فيلم حكايات العمر الغامض أن البطل‬
‫مع الجنية‪ ،‬ومن ثم نرى أن فائض الماء يشكّل جدوالً في الحقول‪ ،‬ثم‬
‫نرى الحقول ثم الحديقة ثم السهل ثم الحديقة وأخير ًا نشاهد الزوجين‬
‫وهما يتناوالن طعام العشاء "بعد ذلك بأشهر"(‪.((1‬‬

‫في المقام األخير‪ ،‬وخلف التوصيل المتداني‪ ،‬تكمن المشكلة‬


‫في الربط المنهجي بين ِق َطع المكان‪ .‬ثمة أربعة إجراءات تو َّظف لهذا‬
‫الغرض‪ ،‬وتحدّ د نوع ًا من الميتافيزيقا والتقنية‪ :‬وهي الوضع العالي نسبي ًا‬
‫للكاميرا والذي س ُيحدث لقطة إسقاطية قادمة تتيح نشر مشهد في مساحة‬
‫ضيقة؛ في اللقطات المتجاورة الحفاظ على الزاوية نفسها‪ ،‬وهذا يؤ ّدي‬
‫إلى انزالق يغطي القطوع؛ مبدأ المسافة الذي يمتنع عن تجاوز اللقطة‬
‫المتوسطة ويمكّن الكاميرا من القيام بحركات دائرية‪ ،‬من دون أن يلغي‬
‫أي مشهد‪ ،‬بل يطيل قوة المشهد حتى نهايته داخل المكان (مث ً‬
‫ال مشهد‬
‫احتضار المرأة في فيلم حكاية األقحوانات المتأخرة) وأخير ًا‪ ،‬وخصوص ًا‪،‬‬
‫اللقطة المتتالية‪ ،‬كما ح ّللها نويل بورش وفي وظيفتها الخاصة لدى‬
‫ميزوغوشي‪ ،‬إنها لقطة أسطوانية تفكّك قطع المكان المتعاقبة وترتبط‬

‫‪Jean-Luc Godard, Jean-Luc Godard‬‬ ‫(‪ )18‬انظر حتليل غودار هلذه اللقطة‪:‬‬
‫‪(Paris: Belfond, [s. d.]), pp. 113-114.‬‬

‫‪357‬‬
‫بها خطوط االتجاه المختلفة (وأجمل األمثلة بحسب بورش نراه في‬
‫فيلمي أخوات جيون وحكاية األقحوانات المتأخرة)(‪ .((1‬وهذا ما يبدو‬
‫لنا أساسي ًا في ما ُسمي بالحركات المذهلة للكاميرا عند ميزوغوشي‪:‬‬
‫اللقطة المتتالية تؤ ّمن نوع ًا من التوازي بين الخطوط المتوجهة المختلطة‬
‫المسارات‪ ،‬ويشكّل بالتالي ترابط ًا بين قطع المكان المتباينة‪ ،‬ويضفي‬
‫على المكان الشكل تناغم ًا خاص ًا بامتياز‪ .‬في هذه االستطالة أو هذا‬
‫ٍ‬
‫عندئذ الطبيعة القصوى للمكان الخاص‬ ‫االمتداد الذي ال ينتهي‪ ،‬نالمس‬
‫بالشكل الصغير‪ :‬وهو ليس أصغر من مكان الشكل الكبير‪ .‬هو "صغير"‬
‫في سيرورته‪ :‬وتنجم رحابته عن تواشج القطع التي تشكّله‪ ،‬وعن توازي‬
‫الموجهة (والتي تحافظ على تمايزاتها) وعن التناغم الذي‬
‫ّ‬ ‫شتّى الخطوط‬
‫ال يتشكّل إال تدريجي ًا‪ .‬ومن هنا نشأ اهتمام ميزوغوشي بالسينما سكوب‬
‫في أواخر حياته‪ ،‬إذ شعر بأنه يستطيع الحصول على مصادر جديدة‪،‬‬
‫المتموج‬
‫ّ‬ ‫بحسب مفهومه عن المكان‪ .‬فركز تفكيره إذ ًا على الخطين‬
‫والمنكسر‪ .‬والخطان المتموج والمنكسر هما عالمة على خط أو خطوط‬
‫الكون‪ ،‬أو الطبيعة القصوى لهذا الجرف من الفضاء‪ .‬وميزوغوشي هو‬

‫(‪Noël Burch, Pour un observateur lointain, Cahiers du Cinéma ((1‬‬


‫‪(Paris: Gallimard, [s. d.]), pp. 223-250,‬‬
‫ويعالج هذه اجلوانب كافة و ُيثبت كيف تستوعبها «اللقطة األسطوانية» ك َّلها‪.‬‬
‫ويؤكد بورش خصوصية هذا النوع من اللقطات املتتالية‪ .‬وهناك أنواع كثرية للقطات‬
‫املتتالية التي ال يستغني عنها العديد من السينامئيني‪ .‬ويف االختيار الدقيق الذي قام به‬
‫بورش ألفالم ميزوغويش‪ ،‬رأى أن عمله بعد حرب ‪ 1948‬بدأ باالنحسار واتبع «نموذج ًا‬
‫كالسيكي ًا» و«لقطة متتالية عىل طريقة وليم وايلر» (ص ‪ .)249‬ومع ذلك يبدو لنا أن‬
‫اللقطة املتتالية عند ميزوغويش استمرت يف وظيفتها اخلاصة التي ترسم خطوط الكون‪:‬‬
‫وال نجد هلا صدى‪ ،‬ولو كان بعيد ًا‪ ،‬إال يف بعض أفالم الويسترين األمريكية املحدثة‪.‬‬
‫‪358‬‬
‫الذي وصل إلى خطوط الكون وإلى أليافه ولم يتو ّقف عن رسمها في‬
‫أفالمه جميعها‪ :‬وهكذا أعطى الشكل الصغير رحابته التي ال تضاهى‪.‬‬
‫كل‪ ،‬وإنما الخط الذي يربط‬ ‫يوحد في ٍّ‬
‫ليس هذا هو الخط الذي ِّ‬
‫ويوصل الالمتجانسات ببعضها‪ ،‬و ُيبقي عليها كما لو كانت متجانسة‪ .‬إن‬
‫خط الكون يصل بين الغرف الخلفية وبين الشارع‪ ،‬وبين الشارع والبحيرة‬
‫ثم الجبل ثم الغابة‪ .‬وهو الذي يصل الرجل بالمرأة وبالكون‪ .‬وهو الذي‬
‫يربط بين الرغبات والمكابدات واالنحرافات والمحن واالنتصارات‬
‫وترسيخات السالم‪ .‬وهو الذي يقرن بين لحظات الشدة كما لو كانت‬
‫يمر بها‪ .‬إنه يربط بين األحياء والموتى‪ :‬شأنه شأن خط الكون‪،‬‬ ‫نقاط ًا ّ‬
‫خطه البصري والصوتي الذي يربط اإلمبراطور العجوز باإلمبراطورة‬
‫المغدورة في فيلم اإلمبراطورة يانغ كوي في وأيض ًا شأن خط الكون لدى‬
‫الخزاف في فيلم حكايات القمر الغامض الذي كانت له عالقة مع الجنية‬ ‫ّ‬
‫المغوية ثم وجد زوجته الميتة التي أصبح "اختفاؤها" كثاف ًة خالصة من‬
‫الحضور‪ :‬يتفقد البطل غرف المنزل جميعها ويخرج منها ويعود إلى‬
‫تجسدَ الشبح في غضون ذلك‪ .‬لكل منّا خطه الكوني الذي‬ ‫البيت حيث ّ‬
‫يجب اكتشافه‪ ،‬ولكننا ال نكتشفه إال عندما نرسمه‪ ،‬وعندما نرسم خطه‬
‫المتموج‪ .‬ولخطوط الكون فيزياء بلغت ذروتها مع اللقطة المتتالية ومع‬
‫آن واحد ميتافيزيقا تنسجها مواضيع ميزوغوشي‪.‬‬ ‫تنقيل الكاميرا‪ ،‬ولها في ٍ‬
‫ولكن هنا نصطدم بالعقبة الكأداء‪ :‬أي في النقطة المحدّ دة حيث تتجابه‬
‫الميتافيزيقا مع علم االجتماع‪ .‬وهذا التجابه ليس نظري ًا‪ :‬يتم داخل المنزل‬
‫الياباني حيث الغرف الداخلية تخضع لهرمية الغرف األمامية‪ ،‬ويتم‬
‫داخل الح ّيز الياباني حيث يجب أن يحدّ د ربط القطع بحسب ضرورات‬
‫المنظومة الهرمية‪ .‬إن فكر ميزوغوشي السوسيولوجي‪ ،‬في هذا الصدد‪،‬‬
‫يمر بالنساء‪ ،‬ال بل‬ ‫ٍ‬
‫هو بسيط وجبار في آن واحد‪ :‬فهو يرى أن خط الكون ّ‬

‫‪359‬‬
‫يصدر عنهن‪ ،‬هذا على الرغم من الوضع االجتماعي المختزل للنساء‬
‫وممارسة القهر عليهن‪ ،‬وصرفهن غالب ًا إلى البغاء المقنّع أو المكشوف‪.‬‬
‫خطوط الكون أنثوية‪ ،‬ولكن الحالة االجتماعية عهرية‪ .‬وألن النساء‬
‫مهدّ دات جد ًا كيف يستطعن الذود عن أنفسهن والمثابرة وحتى التخلص‬
‫من وضعهن؟ في فيلم حكاية األقحوانات المتأخرة‪ ،‬المرأة هي التي‬
‫تحول المم ّثل الشنيع إلى س ّيد‬
‫تجذب الرجل إلى خط الكون‪ ،‬وهي التي ّ‬
‫عالي الشأن‪ ،‬ولكنها تعلم أن النجاح بالذات سيكسر الخط ولن يمنحه‬
‫إال موت ًا معزوالً‪ .‬في فيلم العشاق المصلوبون ال يكتشف العاشقان‬
‫حبهما إال عندما يضطران إلى الهروب‪ ،‬ألن خطهما الكوني لم يعد ّإل‬
‫خط هروب مآله الفشل حتم ًا‪ .‬ثمة بهاء في تلك الصور التي يشهد المرء‬
‫فيها والدة خط كوني تهجس به في كل لحظة نهايته الخاصة المريرة‪.‬‬
‫واألدهى أيض ًا هو ما نشاهده في فيلم حياة أوهارو المرأة المتحذلقة وفيه‬
‫يتعرض الخط الكوني المنطلق من األم إلى ابنها لصدّ الحرس الذين‬
‫يبعدون تلك المسكينة مرات عديدة عن األمير الشاب الذي أنجبته‪ .‬وإذا‬
‫تكف عن ِذكر الكونية‪،‬‬‫كانت أفالم "الغيشا" التي أخرجها ميزوغوشي ال ّ‬
‫ال طريقة حضورهن‪،‬‬ ‫فإن ذلك لم يعد ذلك يتم من خالل غياب‪ ،‬هو أص ً‬
‫بل من خالل إغالق الينبوع الذي لن يتركهن من ثم يعشن إال في القنوط‬
‫القديم أو في القسوة الحديثة لمومس تبحث عن مالذها األخير‪ .‬وهكذا‬
‫فإن ميزوغوشي قد بلغ حد ًا أقصى للصورة‪ /‬الفعل‪ :‬عندما يهزم عالم‬
‫البؤس كل الخطوط الكونية و ُيبرز واقع ًا أصبح ضائع ًا ومجت ّث ًا‪ .‬صحيح‬
‫أن كوروساوا من جهته جابه الحدّ األقصى من الجانب اآلخر للصورة‪/‬‬
‫يفجر الحلقة الكبرى‪ ،‬ويكشف‬ ‫الفعل‪ :‬حينما يصعد عالم البؤس بحيث ّ‬
‫عن الواقع الخوائي الذي كان مشتت ًا (ففي فيلم ‪ Dodes̓ caden‬يظهر بيت‬
‫الصفيح الذي يشكّل الوحدة الفريدة للحركة الجانبية التي يقوم بها أحد‬
‫الحمقى ظن ًا منه أنه قطار ترام)‪.‬‬
‫‪360‬‬
‫الف�صل الثاني ع�شر‬
‫�أزمة ال�صورة ‪ /‬الفعل‬
‫‪)1‬‬

‫بعد أن مايز بيرس بين العاطفة والفعل وصنّفهما في خانة‬


‫"الواحدية" و"االثنينية" أضاف نوع ًا جديد ًا من الصور‪ ،‬وهي الصورة‬
‫"الذهنية" أو الثالوثية‪ .‬والثالوثية هي كناية عن مفردة تحيل إلى مفردة‬
‫ثانية من طريق مفردة أخرى أو مفردات أخرى‪ .‬وهذا الشكل الثالث‬
‫ظهر في المعنى والقانون والعالقة‪ .‬ومن دون شك ُيشمل كل هذا في‬
‫الفعل‪ ،‬غير أن ذلك ليس صحيح ًا‪ :‬فالفعل‪ ،‬أي المجابهة بين القوى أو‬
‫ازدواجيتها‪ ،‬يخضع لقوانين تجعله ممكن ًا‪ ،‬ولكن ليس قانون الفعل هو‬
‫الذي يصنع الفعل‪ ،‬فالفعل يحمل معنى‪ ،‬ولكن ليس المعنى هو هدفه‬
‫المنشود‪ ،‬وال يشتمل الهدف والوسائل على المعنى‪ ،‬الفعل يعالق بين‬
‫مفردتين‪ ،‬ولكن هذه المعالقة الزمكانية (كالتعارض مثالً) يجب أال‬
‫تُد َمج بعالقة منطقية‪ .‬يرى بيرس من جهة أن ال شيء خلف الثالوثية‪:‬‬
‫فكل شيء خلفها يقتصر على تركيبات بين ‪ .3 ،2 ،1‬ومن جهة أخرى‬
‫رأى أن الثالوثية ‪ -‬أي ما هو ثالثة بذاته ‪ -‬ترفض أن تحال إلى ثنائيات‪:‬‬
‫ال إذا ‪ A‬أعطت ‪ B‬لــ ‪ ،C‬يختلف عما إذا قلنا إن ‪ A‬أسقطت ‪( B‬الثنائي‬ ‫مث ً‬

‫‪361‬‬
‫األول) وإن ‪ C‬التقطت ‪( B‬الثنائي الثاني)؛ إذا قامت‪ A‬و‪ B‬بنوع من‬
‫"التبادل" فهذا يختلف عما إذا ‪ A‬و‪ B‬انفصلتا كل بدورها عن ‪ a‬و‪b‬‬
‫واستحوذتا كل بدورها على ‪ b‬و‪ .(((a‬وأيض ًا ال توحي "الثالوثية" بأفعال‬
‫بل "بتصرفات" تشمل بالضرورة العنصر الرمزي لقانون من القوانين‬
‫(أعطى‪َ ،‬‬
‫تبادل)‪ ،‬وال توحي بإدراكات ولكن بتأويالت تحيل إلى عنصر‬
‫المعنى‪ ،‬وال توحي بعواطف بل بمشاعر ذهنية عالئقية‪ ،‬لتلك التي تترافق‬
‫مع استعمال أدوات اتصال منطقية "ألن"‪" ،‬مع أن"‪" ،‬كي" "إذن"‪،‬‬
‫"والحال أن"‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫وربما في اإلسناد تجد "الثالوثية" تمثيلها األنسب‪ ،‬ذلك أن اإلسناد‬
‫هو دائم ًا ثالثي األطراف‪ ،‬ألنها بالضرورة خارج كلماتها‪ .‬والتراث‬
‫المجردة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي يم ّيز نوعين من األسانيد‪ :‬األسانيد الطبيعية واألسانيد‬
‫والمعنى يرتبط بالنوع األول منها‪ ،‬في حين أن القانون أو الداللة يرتبطان‬
‫على األحرى بالنوع الثاني‪ .‬عبر النوع األول‪ ،‬ننتقل طبيعي ًا وبسهولة‬
‫ال من لوحة البورتريه إلى الموديل‪ ،‬ثم إلى‬ ‫من صورة ألخرى‪ :‬ننتقل مث ً‬
‫الظروف التي أنجزت فيها لوحة البورتريه‪ ،‬ثم إلى المكان الذي يعيش‬
‫فيه الموديل اآلن‪ ...‬إلخ‪ .‬ثمة إذ ًا تشكيل لمتتالية أو لسلسلة عادية من‬
‫الصور‪ ،‬علم ًا بأنها ليست من دون حدود‪ ،‬ألن األسانيد الطبيعية تستنفد‬
‫مفعولها بسرعة‪ .‬أما النوع الثاني من األسانيد‪ ،‬أو اإلسناد التجريدي‪،‬‬
‫فيشير ‪ -‬على العكس من ذلك ‪ -‬إلى ظرف تجري فيه مقارنة بين صورتين‬

‫( ‪ )1‬انظر‪Charles Sanders Peirce, Ecrits sur le signe, assemblés traduits :‬‬


‫‪et commentés par Gérard Deledalle (Paris: Edition du Seuil, [s. d.]),‬‬
‫ويعترب بريس أن «الثالوثية» هي إحدى مكتشفاته األساسية‪.‬‬
‫‪362‬‬
‫موحدتين طبيعي ًا في الذهن (كشكلين متغايرين ولكن يجمع بينهما‬
‫ليستا ّ‬
‫ظرف مشترك وهو كونهما مقطعين مخروطيين)‪ .‬أمامنا تشكيل ٍّ‬
‫لكل‪ ،‬ال‬
‫تأليف لسلسلة(((‪.‬‬

‫لقد ركّز بيرس على النقطة التالية‪ :‬إذا كانت الواحدية هي "واحد"‬
‫بذاتها‪ ،‬واالثنينية اثنين‪ ،‬والثالوثية ثالثة‪ ،‬فمن الضروري‪ ،‬في االثنين‪ ،‬أن‬
‫"تستعيد" المفردة األولى الواحدية على طريقتها‪ ،‬في حين أن المفردة‬
‫الثانية تؤكد االثنينية‪ .‬إذ ًا ليس هناك فقط ‪ ،3 ،2 ،1‬بل ‪ 2 ،1‬في ‪ ،2‬و‪،2 ،1‬‬
‫في ‪ .3‬بوسعنا أن نرى في ذلك نوع ًا من الجدلية‪ ،‬ولكن من المشكوك فيه‬
‫أن تحتوي الجدلية مجموع هذه الحركات‪ ،‬سنقول باألحرى إنها تأويل‪،‬‬
‫وتأويل منقوص‪.‬‬

‫ال شك أن الصورة‪ /‬العاطفة تحتوي على عنصر ذهني (وعي‬


‫تتضمنه أيض ًا‪ ،‬بهدف الفعل (إدراك)‪ ،‬واختيار‬
‫ّ‬ ‫صرف)‪ .‬والصورة‪ /‬الفعل‬
‫الوسائل (حكم)‪ ،‬في مجمل التطبيقات (تع ّقل)‪ .‬وبشكل أرجح‪ ،‬تُدخل‬
‫العنصر الذهني في الصورة‪ .‬وذلك مختلف كلي ًا عن جعل‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫"األشكال"‬
‫الذهني هو الموضوع لصورة‪ ،‬لصورة نوعية‪ ،‬لصورة صريحة بأشكالها‬
‫الخاصة‪ .‬هل هذا يعني أن هذه الصورة يجب أن تم ّثل لنا فكرة شخص‬
‫ما‪ ،‬أو حتى فكرة ِصرفة أو مفكِّر ًا ِصرف ًا؟ بالتأكيد ال‪ ،‬مع أن بعض‬
‫تمت في هذا الصدد‪ .‬فمن جهة‪ ،‬ستغدو الصورة بالتأكيد‬ ‫المحاوالت ّ‬
‫تجريدية بإسراف أو مضحكة‪ .‬ولكن من جهة أخرى تحتوي الصورة‪/‬‬

‫(‪ )2‬ال يرجع بريس برصاحة إىل هذين النوعني من العالقات اللذين يرجع متايزمها‬
‫و«املؤول‬
‫ِّ‬ ‫«املؤول النشط»‬
‫ِّ‬ ‫«املؤول» ومتييزه بني‬
‫ِّ‬ ‫إىل هيوم )‪ .(Hume‬ولكن نظريته حول‬
‫النهائي» تتقاطع مع هذين النوعني من العالقات‪.‬‬
‫‪363‬‬
‫كم محترم من األفكار (لنأخذ على سبيل‬ ‫العاطفة والصورة‪ /‬الفعل على ٍّ‬
‫المثال المحاكمات العقلية في الصورة عند المخرج األلماني إرنست‬
‫لوبيتش‪ .‬عندما نتك ّلم عن الصورة الذهنية‪ ،‬نروم أن نقول شيئ ًا آخر‪ :‬إنها‬
‫صورة تتخذ لها موضوعات فكرية لها وجود خاص خارج الفكر‪ ،‬مثلما‬
‫أن موضوعات اإلدراك لها وجود خاص خارج اإلدراك‪ .‬إنها صورة‬
‫تعالج موضوعاتها عدد ًا من العالقات واألفعال الرمزية واألحاسيس‬
‫الفكرية‪ .‬وتستطيع أن تكون – وليس ضروري ًا – أشدّ صعوبة من الصور‬
‫األخرى‪ .‬وحتم ًا ستكون لها مع الفكر عالقة جديدة ومباشرة ومغايرة‬
‫لعالقة الصور األخرى‪.‬‬
‫ما عالقة كل هذا بالسينما؟ عندما يقول غودار ‪ ...،3 ،2 ،1‬فهذا‬
‫ال يعني أنه يراكم صور ًا فوق بعضها فقط‪ ،‬بل يعني أنه يصنف أنواع ًا من‬
‫ويتجول بينها‪ .‬لنأخذ األهزولة الساخرة كمثال‪ .‬إذا تركنا شابلن‬
‫ّ‬ ‫الصور‬
‫وكيتون جانب ًا‪ ،‬علم ًا بأنهما أوصال األشكال األساسية لإلدراك الهزلي‬
‫الساخر إلى أرقى درجاته‪ ،‬نستطيع أن نقول‪ :‬إن النغدون )‪(Langdon‬‬
‫يحتل المرتبة ‪ ،1‬ولوريل )‪ (Laurel‬وهاردي )‪ (Hardy‬المرتبة ‪،2‬‬ ‫ّ‬
‫واإلخوة ماركس المرتبة ‪ .3‬إن النغدون يم ّثل فع ً‬
‫ال الصورة‪ /‬العاطفة‬
‫الشديدة الصفاء التي ال تتف ّعل في أية مادة أو أي وسط بحيث تدفع‬
‫حاملها إلى نوم ال يقاوم‪ .‬ولكن لوريل وهاردي يم ّثالن الصورة‪ /‬الفعل‪،‬‬
‫والصراع المستمر مع المادة والوسط والنساء واآلخرين‪ ،‬وصراعها‬
‫جميعها مع اآلخر‪ .‬لقد عرفا كيف يفكّكان الصراع‪ ،‬بكسرهما كل تزامن‬
‫حل مح ّله تعاقب ًا داخل الزمان؛ يسددان ضربة لهذا ثم‬
‫داخل المكان‪ ،‬ل ُي ّ‬
‫ضربة لذاك بحيث ال ينتهي الصراع وتتضخم آثاره بفعل المزايدة‪ ،‬بدل‬
‫أن يخور تعب ًا‪ .‬يبقى أن لوريل هو رقم ‪ 1‬في الثنائي‪ ،‬وأنه الممثل العاطفي‬
‫‪364‬‬
‫ويجر الكارثة العملية‪ ،‬ولكنه يتمتع بإلهام يمكّنه من‬
‫ّ‬ ‫الذي يج ّن جنونه‬
‫تجاوز أشراك المادة والوسط‪ ،‬بينما يم ّثل هاردي رقم ‪ ،2‬وهو رجل‬
‫الفعل‪ ،‬ولكنه يفتقر إلى ملكات الحدس‪ ،‬فيستسلم للمادة الخام‪ ،‬بحيث‬
‫تحمل مسؤوليتها ويسقط في جميع‬ ‫يسقط في جميع أشراك األفعال التي ّ‬
‫الكوارث التي سب ّبها لوريل من دون أن يقع هو ضحية لها‪ .‬أما اإلخوة‬
‫ِ‬
‫األحيان وهما‬ ‫ماركس فهم ثالثة‪ ،‬ويعمل اثنان منهم مع ًا في أغلب‬
‫هاربو )‪ (Harpo‬وشيكو )‪ ،(Chico‬أما غروشو (‪ )Groucho‬فيبرز من‬
‫جهته ليتحالف مع االثنين اآلخرين‪ .‬إنهم مجموع ال ينقسم ومؤ ّلف من‬
‫‪ ،3‬هاربو هو رقم ‪ ،1‬ويم ّثل االنفعاالت السماوية‪ ،‬ويم ّثل أيض ًا الغرائز‬
‫الشيطانية والنهم والشبق والتدمير‪ .‬شيكو الرقم ‪ ،2‬يأخذ على عاتقه‬
‫الفعل والمبادرة والصراع مع الوسط واستراتيجية الجهد والمقاومة‪.‬‬
‫ودب من أشياء‪،‬‬‫هب ّ‬ ‫مشمعه المطري الفضفاض ما ّ‬ ‫وهاربو يخفي داخل ّ‬
‫كالقطع والمزق التي يمكن أن تستخدم في عمل ما‪ ،‬ولكنه ال يستخدمها‬
‫إال استخدام ًا عاطفي ًا أو تمائمي ًا‪ ،‬وشيكو هو الذي يستخدمها كوسائل‬
‫لعمل ُمن ّظم‪ .‬وغرشو رقم ‪ 3‬هو رجل التأويالت واألفعال الرمزية‬
‫والعالقات التجريدية‪ .‬يبقى أن كل واحد من هؤالء الثالثة ينتمي أيض ًا‬
‫إلى الثالثية التي يشكلونها مع ًا‪ .‬وبين هاربو وشيكو عالقة تقضي بأن‬
‫يحضر الغرض المالئم لها‪،‬‬
‫يطلق شيكو كلمة لهاربو الذي يجب عليه أن ّ‬
‫وذلك في سلسلة من األشياء التي ال تكف عن التحوير (ففي فيل م �‪Ani‬‬
‫‪ mal crackers‬نجد سلسلة ‪)...flush – flask – flesh - fish flash‬؟‬
‫لغز ٍ‬
‫لغة إشارية‪،‬‬ ‫وعلى العكس من ذلك‪ ،‬فإن هاربو يطرح على شيكو َ‬
‫يخمنها‬
‫في سلسلة من الحركات اإليمائية التي ينبغي على شيكو أن ّ‬
‫دائم ًا ليستخلص منها جملة‪ .‬ولكن غروشو يدفع ف ّن التأويل إلى حدّ ه‬
‫‪365‬‬
‫األقصى‪ ،‬ألنه أستاذ في ف ّن المحاكمة العقلية والبراهين واألقيسة التي‬
‫ستجد في الالمعنى تعبير ًا خالص ًا‪" :‬إما أن هذا الرجل قد مات وإما أن‬
‫ساعتي قد توقفت"‪( .‬قالها وهو يجس نبض هاربو‪ ،‬في فيلم ذات يوم في‬
‫السباق)‪ .‬وفي كل هذه المعاني‪ ،‬تكمن عظمة اإلخوة ماركس في أنهم‬
‫أدخلوا الصورة الذهنية إلى األهزولة الساخرة‪.‬‬
‫إن إدخال الصورة الذهنية إلى السينما‪ ،‬وجعلها تُنهي وتُكمل‬
‫الصور األخرى جميعها‪ ،‬كان أيض ًا المهمة التي قام بها هيتشكوك‪ .‬فكما‬
‫قال روهمر وشابرول عن فيلم كانت الجريمة شبه كاملة‪" :‬ليست نهاية‬
‫الفيلم بأكملها سوى عرض محاكمة عقلية‪ ،‬ولكنها ال تضعف االنتباه"(((‪.‬‬
‫ال يحدث هذا في النهاية فقط‪ ،‬بل منذ البداية‪ :‬بلقطة استرجاعية كاذبة‬
‫ومشهورة‪ ،‬يبدأ فيلم الذريعة الكبرى بتأويل يتبدّ ى كذكرى حديثة العهد‬
‫أو حتى كإدراك‪ .‬لدى هيتشكوك‪ ،‬تكون األفعال والعواطف واإلدراكات‬
‫مصور بلقطة‬
‫ّ‬ ‫بمثابة تأويل‪ ،‬من بداية الفيلم وحتى نهايته(((‪ .‬ففيلم الحبل‬
‫واحدة‪ ،‬وال س ّيما أن الصور ليست سوى تعرجات لمحاكمة عقلية‬
‫واحدة‪ .‬والسبب في ذلك بسيط‪ :‬ففي أفالم هيتشكوك‪ ،‬عندما يطرح‬
‫فعل ما (أكان في الحاضر أم في المستقبل أم في الماضي)‪ُ ،‬يحاط فع ً‬
‫ال‬
‫تنوع في موضوعه وطبيعته وهدفه‪ ...‬إلخ‪ .‬المهم‬ ‫بمجموعة من العالقات ِّ‬
‫ليس فاعل الفعل‪ ،‬أو ما يسميه هيتشكوك بازدراء من فعل هذا ؟ �‪(who‬‬

‫((( ال يرجع بريس برصاحة إىل هذين النوعني من العالقات اللذين يرجع متايزمها‬
‫و»املؤول‬
‫ِّ‬ ‫«املؤول النشط»‬
‫ِّ‬ ‫«املؤول» ومتييزه بني‬
‫ِّ‬ ‫إىل هيوم )‪ .(Hume‬ولكن نظريته حول‬
‫النهائي» تتقاطع مع هذين النوعني من العالقات‪.‬‬
‫( ‪ )4‬انظر‪Jean Narboni, “Visages d’Hitchcock,” in:  Alfred Hitchcock, :‬‬
‫‪Cahiers du Cinéma (Paris: Editions de L’étoile, 1980).‬‬

‫‪366‬‬
‫)‪ ،dunit‬ولكنه ليس الفعل بالذات‪ :‬إنه مجموع الروابط التي تربط الفعل‬
‫وفاعله‪ .‬ومن هنا يأتي المعنى الخاص للكادر‪ :‬الرسوم المسبقة لضبط‬
‫تفسر من خالل إحالة‬
‫الكادر‪ ،‬واإللغاء الصريح لما هو خارج الكادر‪ّ ،‬‬
‫هيتشكوك الدائمة ال إلى ف ّن الرسم أو المسرح‪ ،‬بل إلى ف ّن التسجيف‬
‫)‪ ،(tapisserie‬أي الحياكة والنسج‪ .‬الكادر هو كالدعائم التي تحمل‬
‫تمر‬
‫سلسلة الروابط‪ ،‬في حين أن الفعل يشكل الحبكة المتحركة التي ّ‬
‫ٍ‬
‫حينئذ أن هيتشكوك يعمل عادة من‬ ‫من فوق ومن تحت فقط‪ .‬وندرك‬
‫خالل لقطات قصيرة يعادل عددها عدد الكادرات‪ ،‬وكل لقطة تكشف‬
‫عالقة ما أو تنويع ًا في عالقة‪ .‬ولكن اللقطة الوحيدة نظري ًا في فيلم الح ْبل‬
‫ليست البتة استثناء لهذه القاعدة‪ :‬إن اللقطة الوحيدة عند هيتشكوك‪،‬‬
‫الختالفها الكبير عن اللقطة المتتالية عند أورسون ويلز أو كارل دريير‬
‫الذي أخضع الكادر بطريقتين للكل؛ فاللقطة الوحيدة عند هيتشكوك‬
‫تُخضع كل شيء (تخضع الروابط) للكادر‪ ،‬مكتفية بالفتح طولي ًا‪ ،‬بشرط‬
‫المحافظة على اإلغالق عرضاني ًا‪ ،‬وهذا يشبه تمام ًا تصنيع سجادة طويلة‬
‫يتأخر الفعل واإلدراك والعاطفة داخل‬ ‫جد ًا‪ .‬المهم على أية حال‪ ،‬هو أن ّ‬
‫نسيج العالقات‪ .‬وسلسلة العالقات هذه هي التي تؤ ّلف الصورة الذهنية‪،‬‬
‫خالف ًا لحبكة األفعال واإلدراكات والعواطف‪.‬‬
‫التجسس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سيضفي هيتشكوك على الفيلم البوليسي أو على فيلم‬
‫عملي ًة الفتة بخاصة‪ ،‬من نوع " َقت ََل" َ‬
‫و"س َر َق"‪ .‬وألنها تنضوي تحت‬
‫مجموعة من العالقات التي يجهلها الشخوص (ولكن المشاهد يعرفها‬
‫واكتشفها من قبل)‪ ،‬فلها شكل صراع يسيطر على الفعل برمته‪ :‬صارت‬
‫شيئ ًا آخر‪ ،‬ألن العالمة تشكل الثالوثية التي ترفع الفعل إلى حالة الصورة‬
‫الذهنية‪ .‬ال يكفي إذ ًا تحديد ترسيمة هيتشكوك بالقول إن أحد األبرياء‬
‫‪367‬‬
‫متهم بجريمة لم يرتكبها‪ ،‬لن يكون ذلك سوى خطأ في القراءة‪ ،‬وسوى‬
‫ٍ‬
‫تماه مز ّيف مع "الطرف الثاني"‪ ،‬وهذا ما نسميه بمؤشر التباس‪ .‬على‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬لقد ح ّلل روهمر وشابرول على نحو صائب ترسيمة‬
‫هيتشكوك‪ :‬فالمجرم ن ّفذ دائم ًا جريمته نيابة عن آخر‪ ،‬المجرم الحقيقي‬
‫ن ّفذ جريمته لصالح البريء والذي شاء أم أبى لم يعد بريئ ًا‪ .‬باختصار‪،‬‬
‫ال يمكن فصل الجريمة عن العملية التي بها "قايض" المجرم جريمته‪،‬‬
‫كما نشاهد ذلك في فيلم مجهول قطار الشمال السريع أو أن المجرم‬
‫قد "أعطى" و"ر ّد" جريمته للبريء‪ ،‬كما نشاهد ذلك في فيلم قانون‬
‫الصمت‪ .‬عند هيتشكوك‪ ،‬ال تُرتكب جريمة‪ ،‬بل تُر ّد أو تُع َطى أو يقا َيض‬
‫عليها‪ .‬يبدو لنا أن هذه هي النقطة األهم في كتاب روهمر وشابرول‪.‬‬
‫فعالقة (المقايضة أو الهبة أو السرد) ال تكتفي باإلحاطة بالفعل‪ ،‬إنها‬
‫وتحوله إلى فعل رمزي بالضرورة‪ .‬ال‬‫ّ‬ ‫تخترقه مسبق ًا من كل جانب‪،‬‬
‫يوجد هنا الفاعل والفعل‪ ،‬والقاتل والضحية فقط‪ ،‬يوجد شخص ثالث‪،‬‬
‫عرض ًا أو ظاهري ًا كما يكون البريء المتهم فحسب‪ ،‬بل‬
‫وهو ثالث ليس َ‬
‫هناك شخص ثالث أساسي تشكّله العالقة هي بالذات‪ ،‬أي عالقة القاتل‬
‫بالضحية أو العملية التي تتم من الشخص الثالث الظاهري‪ .‬وهذا التثليث‬
‫المستمر يستحوذ أيض ًا على األشياء واإلدراكات والعواطف‪ .‬فكل‬
‫صورة تكون في كادرها‪ ،‬ومن خالل كادرها‪ ،‬ويجب أن تكون عرض ًا‬
‫يتصرفوا ويدركوا ويشعروا‪ ،‬ولكنهم‬
‫ّ‬ ‫لعالقة ذهنية‪ .‬يستطيع الشخوص أن‬
‫ال يقدرون أن يشوا بأي شيء حول العالقات التي تحدّ دهم‪ .‬ما يشي بهم‬
‫هو حركات الكاميرا وحركاتهم أمام الكاميرا‪ .‬ومن هنا نشأ االختالف‬
‫بين هيتشكوك وبين "استوديو الممثلين"؛ فهو كان يطلب من الممثل‬
‫أن يكون في غاية البساطة أو أن يكون حيادي ًا على األقل‪ ،‬ألن الكاميرا‬
‫‪368‬‬
‫ستتولى بالباقي‪ .‬وهذا الباقي هو األهم أو هو العالقة الذهنية‪ .‬الكاميرا ال‬
‫الحوار هي التي تشرح لماذا البطل في فيلم نافذة على الباحة كُسرت ساقه‬
‫(صور لسيارات سباق في غرفته‪ ،‬آلة تصوير ضوئي مكسورة)‪ .‬في فيلم‬
‫تخريب الكاميرا هي التي تجعل المرأة والرجل والسكين ال يتعاقبون‬
‫كل اثنين مع ًا‪ ،‬بل يكونون في صلة حقيقية (صلة تثليث) تجعل المرأة‬
‫تعزو جريمتها للرجل(((‪ .‬ال يوجد عند هيتشكوك إطالق ًا مثنى أو ازدواج‪:‬‬
‫حتى في فيلم شبهة شك‪ ،‬فإن الشخصين المسميين شارلي‪ ،‬العم وابنة‬
‫نفسه الذي‬
‫ظرف العالم َ‬
‫َ‬ ‫أخته‪ ،‬أي القاتل والفتاة الشابة‪ ،‬يأخذان كدليل‬
‫العم وال يستطيع تبرير جريمة الفتاة أو تبرئتها(((‪ .‬وفي تاريخ‬
‫يبرر جرائم ّ‬ ‫ّ‬
‫يتصور صنع فيلم وفق ًا لحدين‬
‫ّ‬ ‫السينما‪ ،‬يبدو هيتشكوك كسينمائي لم يعد‬
‫اثنين‪ :‬المخرج والفيلم المراد صنعه‪ ،‬وإنما وفق ًا لثالثة حدود‪ :‬المخرج‬
‫والفيلم والجمهور الذي يجب أن يدخل إلى الفيلم (ذلك هو المعنى‬
‫المعلن لعنصر التشويق‪ ،‬ألن المشاهد هو أول من "يعرف" بالروابط) (((‪.‬‬

‫‪François Truffaut, Le cinéma selon‬‬ ‫(‪ )5‬حول هذين املثالني‪ ،‬انظر‪:‬‬


‫‪Hitchcock (Paris:  Laffont, 1966), p. 165 et 79-82.‬‬
‫ويقول يف ص ‪« :15‬هيتشكوك هو السينامئي الوحيد القادر عىل التصوير السينامئي‬
‫وعىل جعلنا ندرك أفكار شخص أو عدة شخوص من دون اللجوء إىل احلوار»‪.‬‬
‫يكمل رومهر وشابرول تروفو (ص ‪ )78-76‬اللذان ركزا عىل‬ ‫(‪ )6‬يف هذا الصدد ّ‬
‫أمهية الرقم ‪ 2‬فقط يف فيلم شبهة شك )‪ ،(L’ombre d’un doute‬وأظهرا أن ثمة عالقة‬
‫تبادل‪ ،‬حتى هنا‪.‬‬
‫(‪ )7‬يقول تروفو يف ص ‪« :14‬يقوم فن خلق عنرص التشويق عىل جعل اجلمهور‬
‫يف قلب احلدث وعىل إرشاكه يف الفيلم‪ .‬يف جمال املشهدية‪ ،‬مل تعد صناعة الفيلم لعبة‬
‫يؤدهيا العبان (املخرج ‪ +‬فيلمه) بل ثالثة العبني (املخرج ‪ +‬فيلمه ‪ +‬اجلمهور)»‪ .‬وألح‬
‫جان دوشيه إحلاح ًا شديد ًا عىل إرشاك املشاهد هذا يف الفيلم ألفرد هيتشكوك ‪(Alfred‬‬
‫)‪ .Hitchcock‬وغالب ًا ما وجد دوشيه بنية ثالثية يف مضمون أفالم هيتشكوك (ص ‪:)49‬‬
‫ال ثمة ‪ 1‬و‪ 2‬و‪ ،3‬ففي ظروف =‬ ‫ففي فيلم املوت املتعقب )‪ (La mort aux trousses‬مث ً‬
‫‪369‬‬
‫من بين العديد من المعلقين الممتازين (علم ًا بأنه لم يحظ أي‬
‫الكم الهائل من التعليقات)‪ ،‬ال مجال لالختيار‬ ‫ّ‬ ‫مخرج سينمائي بهذا‬
‫بين الذين رأوا في هيتشكوك مفكر ًا عميق ًا أو رأوا فيه مسلي ًا كبير ًا فقط‪.‬‬
‫ولكن ليس من الضروري أن نجعل من هيتشكوك فيلسوف ًا ميتافيزيقي ًا‬
‫وأفالطوني ًا وكاثوليكي ًا‪ ،‬كما ارتأى روهمر وشابرول‪ ،‬أو عالم ًا نفسي ًا بسبر‬
‫األعماق‪ ،‬كما رأى دوشيه‪ .‬إن لهيتشكوك باألحرى تصور ًا مؤكد ًا عن‬
‫الروابط‪ ،‬تصور ًا نظري ًا وعملي ًا‪ .‬ليس لويس كارول )‪(Lewis Carroll‬‬
‫وحده‪ ،‬بل الفكر اإلنجليزي كله‪ ،‬أثبت أن نظرية الروابط هي العمود‬
‫الفقري للمنطق‪ ،‬وأنها تستطيع أن تكون في الوقت نفسه األكثر عمق ًا‬
‫وإمتاع ًا‪ .‬إذا وجدت عند هيتشكوك مواضيع مسيحية – بدء ًا من الخطيئة‬
‫األصلية – فألن هذه المواضيع قد طرحت منذ البداية مسألة العالقة‪،‬‬
‫كما يعرف ذلك جيد ًا علماء المنطق اإلنجليز‪ .‬إن الروابط والصورة‬
‫وسماها "مس ّلمة"؛ وبدء ًا‬
‫ّ‬ ‫الذهنية كانت نقطة االنطالق عند هيتشكوك‪،‬‬
‫من هذه المس ّلمة يتطور الفيلم بضرورة رياضية أو مطلقة‪ ،‬على الرغم‬
‫من تقلقالت الحبكة والفعل‪ .‬وعليه‪ ،‬إذا انطلقنا من الروابط‪ ،‬ماذا نقول‬
‫عن تجلياتها الخارجية؟ قد يحدث أن يتالشى الرابط‪ ،‬ويزول فجأة‪ ،‬من‬
‫دون أن يتغ ّير الشخوص‪ ،‬بل يتركهم في الفراغ‪ :‬إذا كانت كوميديا السيد‬
‫والسيدة سميث تنتمي إلى أفالم هيتشكوك‪ ،‬فألن الزوجين بالتحديد‬
‫عرفا فجأة أن زواجهما لم يكن شرعي ًا وأنهما لم يقترنا [نظامي ًا]‪ .‬على‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬قد يحدث أن ينمو الرابط ويشتدّ ‪ ،‬تبع ًا للحدود المرتقبة‬

‫‪2‬‬‫= كهذه يكون األول هو رقم ‪( 1‬رئيس مكتب التحقيقات الفيدرايل)‪ ،‬والثاين هو رقم‬
‫(الزوجان)‪ ،‬والثالث هو ‪( 3‬اجلواسيس الثالثة)‪ .‬وهذا يتطابق مع الثالوثية التي نادى‬
‫هبا بريس‪.‬‬
‫‪370‬‬
‫فتجزئه أو تس ّيره في اتجاهات جديدة‬
‫واألمور األخرى التي تنضاف إليه ّ‬
‫(كما في فيلم ولكن من الذي قتل هاري؟)‪ .‬ويحدث أخير ًا أن ّ‬
‫يمر الرابط‬
‫بتبدّ الت‪ ،‬بحسب المتغ ّيرات التي طرأت عليه وأ ّدت إلى تغييرات عند‬
‫أحد الشخوص أو عند العديد منهم‪ :‬بهذا المعنى ليست شخصيات‬
‫هيتشكوك من طبقة المثقفين‪ ،‬ولكنها تمتلك نزعات يمكن أن نقول عنها‬
‫إنها نزعات عقلية‪ ،‬أكثر مما هي انفعاالت‪ ،‬على اعتبار أنها تنخرط في‬
‫لعبة تتغ ّير بحسب أدوات الربط المستعملة‪ :‬ألن‪ ...‬مع أن‪ ...‬بما أن‪...‬‬
‫إذا‪ ...‬حتى ولو‪( ...‬كما في أفالم العميل السري و‪ Notorious‬وشكوك)‪.‬‬
‫ما يتبدّ ى في هذه الحاالت جميعها هو أن الرابط يخلق لدى الشخوص‬
‫وفي األدوار واألفعال خلخل ًة الفتة‪ .‬ويظهر نموذج هذه الخلخلة لدى‬
‫الجاني والبريء‪ .‬ولكن الحياة المستقلة للرابط ستدفعه نحو نوع من‬
‫التوازن‪ ،‬حتى وإن كان توازن ًا ر ّث ًا ومحبط ًا وفظيع ًا‪ :‬ويتح ّقق بين الجاني‬
‫والبريء‪ ،‬عندما يعاد لكل شخص دوره‪ ،‬ويحاسب كل واحد على‬
‫أعماله‪ ،‬بشرط أن يكون هناك حدّ قد يقضم ّ‬
‫الكل أو يزيله حتى(((‪ .‬هكذا‬
‫الوجه الالمبالي للزوجة التي أصبحت مجنونة في فيلم الجاني المزيف‪.‬‬
‫وهنا يكون هيتشكوك مخرج ًا مأساوي ًا‪ :‬فاللقطة عنده‪ ،‬كما دائم ًا في‬
‫السينما‪ ،‬لها وجهان‪ ،‬أحدهما ينظر إلى الشخوص واألشياء والحركات‪،‬‬
‫كل يتغ ّير مع سير الفيلم‪ .‬ولكن ّ‬
‫الكل الذي يتغ ّير عند‬ ‫والثاني ينظر إلى ٍّ‬
‫تطور العالقات التي تنطلق من فقدان التوازن الذي تزرعه‬
‫هيتشكوك هو ّ‬
‫عند الشخوص‪ ،‬وتصل إلى التوازن الرهيب الذي تكتسبه هي‪.‬‬

‫(‪ )8‬لذا نجد تعليقات حول «خلخلة كربى يف الصورة» عند هيتشكوك (بازان)‬
‫وحول «توازن غريب» كحدّ ‪« ،‬و ُيظهر عيب ًا بنيوي ًا» يف الطبيعة البرشية‪Rohmer et .‬‬
‫‪Chabrol, Hitchcock, p. 117.‬‬

‫‪371‬‬
‫لقد أدخل هيتشكوك الصورة الذهنية إلى السينما‪ .‬وهذا يعني‬
‫أنه جعل من الرابط موضوع ًا للصورة ال ينضاف إلى الصور‪ /‬اإلدراك‬
‫ويحولها‪ .‬مع هيتشكوك يظهر‬
‫ّ‬ ‫فقط‪ ،‬وإلى الفعل والعاطفة‪ ،‬بل يؤ ّطرها‬
‫ال تفرض الصورة‬ ‫نوع جديد من "األشكال"‪ ،‬وهي أشكال فكرية‪ .‬وفع ً‬
‫نفسها عالمات خاصة ال تختلط مع عالمات الصورة‪/‬‬ ‫الذهنية هي ُ‬
‫التحري السري لم يكن له إال دور‬ ‫ّ‬ ‫الفعل‪ .‬غالب ًا ما يالحظ الن ّقاد أن‬
‫متواضع وثانوي (إال إذا دخل تمام ًا في الرابط‪ ،‬كما في فيلم االبتزاز)؛‬
‫والحظوا أن المؤشرات لها أهمية زهيدة‪ .‬في المقابل‪ ،‬خلق هيتشكوك‬
‫عالمات مبتكرة‪ ،‬بحسب نوعي الروابط‪ ،‬أكانا طبيعيين أو تجريديين‪.‬‬
‫ففي الرابط الطبيعي‪ ،‬يحيل حدّ إلى حدود أخرى في سلسلة اعتيادية‪،‬‬
‫فيفسر كل حدّ بالحدود األخرى‪ :‬إنها سمات؛ ولكن يمكن دائم ًا ألحد‬‫َّ‬
‫هذه الحدود أن يفلت من الشبكة‪ ،‬ويظهر في شروط تنتزعه من سلسلته‬
‫أو تضعه في تناقض معها‪ ،‬وفي هذه الحالة نتكلم عن طمس السمة‪ .‬إذ ًا‬
‫من األهمية بمكان أن تكون الحدود عادية تمام ًا‪ ،‬كي يتمكّن أحدها في‬
‫البداية من االنفصال عن السلسلة‪ :‬إذ يجب أن تكون الطيور – كما قال‬
‫هيتشكوك عن فيلمه الطيور ‪ -‬طيور ًا عادية‪ .‬وبعض السمات المطموسة‬
‫عند هيتشكوك مشهورة‪ ،‬كالطاحون في فيلم المراسل ‪ 17‬وفيه يخفق‬
‫الجناحان بحركة معاكسة للريح‪ ،‬أو طائرة رش المبيدات في فيلم الموت‬
‫رش‪ .‬وكذلك األمر‬ ‫ٍ‬
‫حقل بور ال يحتاج إلى ّ‬ ‫المتعقب التي تح ّلق فوق‬
‫بالنسبة لكأس الحليب الذي يدفع لمعانه إلى الشبهة في فيلم شكوك‪،‬‬
‫أو المفتاح الذي ال يتالءم مع القفل في فيلم كانت الجريمة شبه كاملة‪.‬‬
‫وأحيان ًا تتشكّل السمة المطموسة ببطء شديد‪ ،‬كما في فيلم االبتزاز وفيه‬
‫نتساءل عما إذا كان مشتري السيجار قد سقط طبيعي ًا في دوامة الزبون‪/‬‬
‫‪372‬‬
‫الخيار‪ /‬التحضيرات‪ /‬التشغيل‪ ،‬أو عما إذا كان رئيس المغنين يستعمل‬
‫ليستفز الزوجين الشابين‪ .‬وثاني ًا من جهة أخرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السيجار وطقوسه‬
‫المجرد‪ ،‬نطلق كلمة "رمز" ال على تجريد‪ ،‬وإنما على‬
‫ّ‬ ‫ووفق ًا للرابط‬
‫شيء ملموس يحمل روابط شتى‪ ،‬أو يحمل تنويعات على الرابط نفسه‬
‫أو على شخصية مع غيرها أو مع ذاتها(((‪ .‬فللسوار رمز مع ّين منذ فيلم‬
‫الخاتم‪ ،‬كذلك األمر لقيود المساجين في فيلم تسع وثالثون درجة أو‬
‫لمحبس الزواج في فيلم نافذة على الباحة‪ .‬السمات المطموسة والرموز‬
‫قد تتقارب‪ ،‬وال س ّيما في فيلم ‪ :Notorious‬فالزجاجة تفعل فعلها في‬
‫أحد الجواسيس بحيث تقفز من سلسلته الطبيعية "خمر‪ /‬قبو خمور‪/‬‬
‫عشاء"؛ ومفتاح قبو الخمور الذي تقبض عليه البطلة بإحكام يحمل‬
‫مجمل الروابط التي تعيشها مع زوجها الذي سرقت المفتاح منه‪ ،‬والتي‬
‫تعيشها مع عشيقها الذي ستعطيه المفتاح وتكلفه باكتشاف ما يوجد‬
‫في قبو الخمور‪ .‬ونرى أن نفس الشيء‪ ،‬كالمفتاح مثالً‪ ،‬يمكن بحسب‬
‫الصور التي تُلت َقط له أن يستخدم كرمز (كما في فيلم ‪ )Notorious‬أو‬
‫كسمة مطموسة (كما في فيلم كانت الجريمة شبه كاملة)‪ .‬في فيلم‬ ‫ِ‬
‫الطيور‪ ،‬النورس األول الذي َن َق َر البطلة يم ّثل ِسمة مطموسة ألنه يخرج‬
‫بعنف من السلسلة المعتادة التي تربطه بفصيلته وباإلنسان والطبيعة‪.‬‬
‫والمصورة وهي تستعد وتهاجم‬
‫ّ‬ ‫ولكن آالف الطيور‪ ،‬على شتّى أنواعها‪،‬‬
‫وتهادن هي رمز‪ :‬فليست تجريدات أو استعارات‪ ،‬إنها طيور حقيقية مئة‬

‫السمة القائمة واملطموسة ال تظهر يف تصنيف العالمات الذي قدّ مه بريس‪.‬‬ ‫(‪ِّ )9‬‬
‫ويف املقابل‪ ،‬يظهر الرمز‪ ،‬ولكن بمعنى خيتلف جد ًا عن ذاك الذي نقرتحه‪ :‬يف نظر بريس‪،‬‬
‫هو عالمة حتيل إىل موضوعه‪ ،‬وفق ًا لقانون يكون إما ترابطي ًا وإما اعتيادي ًا وإما اصطالحي ًا‬
‫لرمز ما فقط)‪.‬‬‫(فتكون السمة إذن حالة ٍ‬
‫‪373‬‬
‫بالمئة‪ ،‬ولكنها تعرض الصورة المعكوسة للعالقات القائمة بين البشر‬
‫والطبيعة‪ ،‬والصورة التطبيعية للعالقات القائمة بين البشر‪ .‬وتستطيع‬
‫السمات المطموسة والرموز أن تشبه المؤشرات بشكل سطحي‪ :‬ولكنها‬
‫تختلف كلي ًا عنها وتشكّل العالمتين الكبريين للصورة الذهنية‪ .‬السمات‬
‫المطموسة تم ّثل صدمات في الروابط الطبيعية (سلسلة) وتم ّثل الرموز‬
‫عقد ًا في الروابط المجردة (مجموع)‪.‬‬
‫بعد أن اكتشف هيتشكوك الصورة الذهنية‪ ،‬أو الصورة – العالقة‬
‫استخدمها ليقفل بها مجمل الصور‪ /‬األفعال وأيض ًا الصور‪ /‬اإلدراك‬
‫والعاطفة‪ .‬ومن هنا نشأ مفهومه للكادر‪ .‬وال تؤ ّطر الصورة الذهنية الصور‬
‫تحولها باختراقها لها‪ .‬من ذلك نستخلص أن‬ ‫األخرى فقط‪ ،‬ولكنها ّ‬
‫هيتشكوك يكمل ويتم السينما برمتها دافع ًا الصورة‪ /‬الحركة إلى مداها‬
‫المشاهد في الفيلم‪ ،‬وبإدخاله الفيلم في الصورة‪ ،‬فإنه‬
‫األقصى‪ .‬وبإدخاله ُ‬
‫أوصل السينما إلى كمالها‪ .‬بيد أن بعض أجمل أفالم هيتشكوك تدفع إلى‬
‫استشعار مسألة مهمة‪ .‬إن فيلم الدوخة يبث فينا دوخة حقيقية؛ صحيح‬
‫أن ما يثير الدوار يتم في أعماق البطلة‪ ،‬في الرابط الذي يصل ذاتها بذاتها‬
‫والذي يشهد جميع عالقاتها مع اآلخرين (مع المرأة الميتة والزوج‬
‫والمفتش)‪ .‬ولكننا ال نستطيع أن ننسى الدوار اآلخر العادي جد ًا‪ ،‬وهو‬
‫دوار المفتش العاجز عن صعود درج جرسية الكنيسة والذي يعيش‬
‫حالة من التأمل تنتشر في الفيلم كله‪ ،‬وهذا نادر عند هيتشكوك‪ .‬في فيلم‬
‫مكيدة عائلية نرى أن اكتشاف الروابط يحيل – حتى إلثارة الضحك –‬
‫إلى وظيفة التبصير‪ .‬وبصورة أكثر مباشرة‪ ،‬يصل بطل نافذة على الباحة‬
‫مصور ضوئي فقط‪ ،‬بل ألنه في حالة من‬‫ّ‬ ‫إلى الصورة الذهنية‪ ،‬ال ألنه‬

‫‪374‬‬
‫صح أن‬
‫مختزل إلى حالة بصرية خالصة‪ .‬إذا ّ‬
‫َ‬ ‫العجز الحركي ‪ :‬إنه نوع ًا ما‬
‫أحد تجديدات هيتشكوك تم ُثل في إقحام الم ِ‬
‫شاهد في الفيلم‪ ،‬ألم يكن‬ ‫ُ‬
‫ضروري ًا وبديهي ًا نوع ًا ما أن يستوعب المشاهدون الشخوص أنفسهم؟‬
‫ولكن يبدو أن ثمة نتيجة ال مناص من ظهورها‪ :‬إن الصورة الذهنية لن‬
‫تكون إتمام ًا للصورة‪ /‬الفعل وللصور األخرى‪ ،‬بل باألحرى إعادة نظر‬
‫ستتعرض الصورة‪ /‬الحركة كلها‬‫ّ‬ ‫لطبيعتها ولوضعها‪ .‬وأكثر من ذلك‪،‬‬
‫إلعادة النظر من خالل قطع الصالت الحس ّية الحرك ّية في هذه الشخصية‬
‫أو تلك‪ .‬ما رام أن يتجنّبه هيتشكوك هو أزمة الصورة التقليدية في السينما‪،‬‬
‫التي حدثت مع ذلك بعد هيتشكوك‪ ،‬وحدثت جزئي ًا بواسطة تجديداته‪.‬‬

‫‪)2‬‬
‫لكن أتستطيع أزمة الصورة الفعل أن تبدو جديدة؟ أليست تلك‬
‫هي الحالة الدائمة في السينما؟ لطالما ارتبطت قيمة أفالم الحركة‬
‫بوقائع من خارج الفعل أو بأوقات ميتة من خارج األفعال‪ ،‬وبمجموعة‬
‫من األفعال الخارقة أو الزهيدة التي لم يكن من الممكن قطعها أثناء‬
‫المونتاج من دون تعريض الفيلم للتشويه (ومن هنا تبرز السلطة الهائلة‬
‫للمنتجين)‪ .‬ولطالما أوحت إمكانيات السينما وميلها إلى تغيير األماكن‪،‬‬
‫إلى السينمائيين بالرغبة في تقليص‪ ،‬أو حتى إلغاء‪ ،‬وحدة الفعل والدراما‬
‫وطورت لديهم التوق الذي كان يهيمن على األدب‪.‬‬ ‫والحبكة والقصة‪ّ ،‬‬
‫من جهة‪ ،‬كانت بنية ‪ SAS‬موضع تساؤل‪ :‬لم يكن هناك وضع شامل‬
‫يستطيع أن يتك ّثف في فعل حاسم‪ ،‬ولكن ما كان على الفعل أو الحبكة‬
‫كمكون داخل مجموع مشتّت في كلية مفتوحة‪ .‬كان جان‬ ‫ِّ‬ ‫أن يظهرا‬
‫ميتري على حق عندما أثبت أن لويس دولوك‪ ،‬هو الذي كتب سيناريو‬

‫‪375‬‬
‫فيلم العيد اإلسباني الذي أخرجته جيرمين دوالك‪ ،‬كان يروم إغراق‬
‫الدراما في "غبار من الوقائع" ال تكون أية واقعة منها أساسية أو ثانوية‪،‬‬
‫بحيث ال نستطيع إعادة تشكيلها إال بنا ًء على خط منكسر ومتقطع من بين‬
‫تعرضت البنية‬
‫سائر نقاط وخطوط مجموعة العيد(‪ .((1‬ومن جهة أخرى‪ّ ،‬‬
‫‪ ASA‬لنقد مشابه‪ :‬فكما لم توجد قصة مسبقة‪ ،‬لم يكن هناك فعل ُمشكَّل‬
‫مسبق ًا يمكن تخمين نتائجه على وضع مع ّين‪ ،‬ولم يكن بإمكان السينما‬
‫أن تنقل أحداث ًا ناجزة‪ ،‬ولكن كان عليها الوصول إلى الحدث الذي بدأ‬
‫يتشكّل‪ ،‬إما بالتقاطع مع "حدث راهن"‪ ،‬وإما بإثارتِه أو إنتاجه‪ .‬وهذا ما‬
‫أظهره جان لويس كومولي بشكل الفت‪ :‬مهما كانت عملية اإلعداد متقنة‬
‫لدى العديد من السينمائيين‪ ،‬ال تستطيع السينما أن تتجنّب "االنعطاف‬
‫المباشر"‪ .‬هناك دائم ًا لحظة تواجه فيها السينما الطارىء أو المرتجل‪،‬‬
‫وعدم اختزال الحاضر الحي إلى حاضر سردي؛ كذلك ال تستطيع‬
‫الكاميرا أن تبدأ عملها من دون أن تخلق ارتجاالتها الخاصة‪ ،‬التي هي‬
‫عقبات ووسائل ضرورية في ٍ‬
‫آن واحد(‪ .((1‬هاتان الفكرتان‪ ،‬أي الكلية‬
‫يتكون‪ ،‬تنتميان إلى البرغسونية العميقة‬
‫المفتوحة والحدث الذي راح ّ‬
‫للسينما بعامة‪.‬‬

‫(‪Jean Mitry, Esthétique et psychologie du cinéma, II (Paris: ((1‬‬


‫‪Edition Universitaires, 1990), p. 397.‬‬
‫(‪Jean-Louis Comolli, «Le détour par le direct,» Cahiers du ((1‬‬
‫‪Cinéma, n° 209 et 211 (Février et Avril 1969),‬‬
‫إن مارسيل لريبييه هو من أفضل الذين تكلموا عن جانب االرجتال عىل صحن‬
‫التصوير‪ ،‬وهو ارجتال رائع وال مناص منه‪ ،‬وتكلم عن وجود جانب توثيقي يف كل فيلم‬
‫ال من التطواف‬‫وعن االلتقاء ببعض األمور الراهنة‪« :‬يف فيلم إلدورادو استفدت فع ً‬
‫الديني الذي مل أنظمه أنا‪ ،‬ألثري الدراما‪ .‬لقد أطلقت املمثلني معي إىل هذا التطواف‪»...‬‬
‫‪Noël Burch, Marcel L’Herbier (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 76.‬‬ ‫انظر ‪ :‬‬
‫‪376‬‬
‫هزت أركان الصورة‪ /‬الفعل قد ارتبطت بأسباب‬ ‫لكن األزمة التي ّ‬
‫كثيرة لم تظهر آثارها بوضوح إال بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وكانت‬
‫بعضها أسباب ًا اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخالقية‪ ،‬وبعضها اآلخر‬
‫أسباب ًا تتع ّلق بالفن واألدب والسينما بخاصة‪ .‬بوسعنا أن نذكر من دون‬
‫ترتيب مع ّين‪ :‬الحرب وعقابيلها‪ ،‬وترنح "الحلم األميركي" في شتّى‬
‫ّ‬
‫وتضخم الصور في العالم‬ ‫جوانبه‪ ،‬والوعي الجديد لألقليات‪ ،‬وصعود‬
‫الخارجي وفي رؤوس الناس‪ ،‬والتأثير الذي مارسته على السينما‬
‫جربها األدب‪ ،‬وأزمة هوليود واألنواع‬ ‫الطرق الجديدة في السرد التي ّ‬
‫السينمائية الجديدة‪ ...‬صحيح أن استمرت أفالم بصيغة ‪ SAS‬و‪،ASA‬‬
‫تمر من هنا‪ ،‬ولكن هذه األفالم لم تعد‬‫والنجاحات االقتصادية الكبرى ّ‬
‫تشكّل روح السينما‪ .‬فروح السينما تقتضي مزيد ًا من األفكار حتى لو‬
‫بدأت هذه األفكار بتفكيك منظومة األفعال واإلدراكات والعواطف التي‬
‫ال يستطيع‬ ‫ٍ‬
‫حتئذ‪ .‬لم نعد نؤمن بأن وضع ًا شام ً‬ ‫كانت تتغذى بها السينما‬
‫ال قادر ًا على تعديل هذا الوضع‪ .‬وأكثر من ذلك ال نؤمن‬ ‫أن يخلق فع ً‬
‫ال يستطيع أن ُيجبر وضع ًا ما على الكشف عن نفسه‪ ،‬ولو جزئي ًا‪.‬‬‫بأن فع ً‬
‫لقد سقطت األوهام األكثر "صواب ًا"‪ .‬في البداية ما ُيشتبه به في كل مكان‬
‫هو التعاقب بين الموقف والفعل‪ ،‬ثم الفعل ور ّدة الفعل‪ ،‬ثم اإلثارة‬
‫واالستجابة‪ .‬بوجيز العبارة هي الروابط الحس ّية الحركية التي كانت تصنع‬
‫الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬إن الواقعية‪ ،‬على الرغم من كل عنفها‪ ،‬أو باألحرى مع‬
‫كل عنفها الذي يبقى عنف ًا حس ّي ًا حرك ّي ًا‪ ،‬ال تع ّبر عن هذه الحالة الجديدة‬
‫وتتشوش المؤشرات‪ .‬نحتاج‬
‫ّ‬ ‫لألشياء التي تتبدّ د فيها العالمات الجامعة‬
‫إلى عالمات جديدة‪ .‬ينشأ شكل جديد من الصور نحاول تحديد معالمه‬
‫في السينما األميركية بعد الحرب‪ ،‬وخارج هوليوود‪.‬‬
‫‪377‬‬
‫في المقام األول‪ ،‬لم تعد الصورة تحيل إلى وضع شامل أو توليفي‪،‬‬
‫بل إلى وضع تشتيتي‪ .‬الشخوص متعددون‪ ،‬وتداخالتهم ضعيفة‪،‬‬
‫ويصبحون شخوص ًا أساسيين أو يعودون شخوص ًا ثانويين‪ .‬ولكن هذا‬
‫ال يعني أننا أمام سلسلة من االسكتشات أو مجموعة من القصص‪ ،‬ألنهم‬
‫تقصى المخرج روبرت‬ ‫ينخرطون كلهم في الواقع ذاته الذي ُيشتتهم‪ .‬لقد ّ‬
‫ألتمان )‪ (Robert Altman‬هذا االتجاه في فيلم زواج وخصوص ًا في‬
‫فيلم ناشفيل‪ ،‬فاستخدم أشرطة صوتية متعدّ دة وشاشة متعدّ دة السطوح‬
‫تتيح عدة عمليات إخراج متزامنة‪ .‬المدينة والجمهور يفقدان طابعهما‬
‫فتكف المدينة‬
‫ُّ‬ ‫المشترك واإلجماعي‪ ،‬على طريقة المخرج كينغ فيدور؛‬
‫عن كونها شامخة ومنتصبة وبناطحات سحاب ولقطات علوية‪ ،‬لتصبح‬
‫المدينة المستلقية واألفقية التي لها قام ُة رجل فقط‪ ،‬وفيها يتدبر كل إنسان‬
‫أموره الخاصة‪ ،‬ويعمل لمصلحته‪.‬‬
‫وتره الذي كان يطيل‬ ‫في المقام الثاني‪ ،‬ما انكسر هو خط الكون أو ُ‬
‫أمدَ األحداث ويداخلها بين بعضها‪ ،‬أو الذي كان يضمن توصيل أجزاء‬
‫المكان‪ .‬الصيغة الصغرى ‪ ASA‬ليست أقل ُشبه ًة من الصيغة الكبرى‬
‫‪ .SAS‬ويكف الحذف اإليجازي عن أن يكون صيغة السرد وطريقة ُينت َقل‬
‫فيها من فعل إلى وضع مكشوف جزئي ًا‪ :‬ينتمي إلى الوضع بالذات‪ ،‬والواقع‬
‫مثغور و ُمشتّت‪ .‬إن التسلسالت والترابطات والصالت هي ضعيفة عمد ًا‪.‬‬
‫وتمسي الصدفة همزة الوصل الوحيدة‪ ،‬كما في فيلم ‪ Quintet‬أللتمان‪.‬‬
‫فتارة يتباطأ الحدث ويضيع في األوقات الميتة‪ ،‬وتارة يتسارع الحدث‪،‬‬
‫ثمة ِصالت وثيقة بين‬
‫ولكنه ال يخص من يصيبه (وحتى الموت‪ّ .)...‬‬
‫المشتت‪ ،‬ووجه الجانب المباشر الذي‬
‫وجوه الحدث هذه‪ :‬وجه الجانب ُ‬
‫راح يتح ّقق‪ ،‬ووجه الجانب الذي ال ُيملك‪ .‬وقد استخدم جون كاسافيت‬
‫‪378‬‬
‫المح َبطين‪ .‬كأننا‬
‫هذه الجوانب الثالثة في فيلم حفلة التافهين وفيلم نزهة ُ‬
‫أمام أحداث نكرة ال تقوى على أن تتبع حق ًا الذي أثارها أو تل ّقاها‪ ،‬حتى‬
‫ولو نالت منه مقتالً‪ :‬يقول سيدني لوميت إنها وقائع يكون فاعلها إنسان ًا‬
‫ميت ًا يسارع الى التم ّلص منها‪ .‬في فيلم سائق التاكسي لمارتن سكورسيز‬
‫)‪ ،(Martin Scorsese‬يتر ّدد السائق بين أن يقتل نفسه وبين ارتكاب‬
‫ويستعيض عن هذا وذاك بمجزرة أخيرة‪ ،‬يندهش هو‬ ‫ُ‬ ‫اغتيال سياسي‪،‬‬
‫منها‪ ،‬كما لو أن إقدامه عليها ال يعنيه بأكثر مما يعنيه تقاعسه السابق‪.‬‬
‫تستطيع راهني ُة الصورة‪ /‬الفعل واحتمالية الصورة‪ /‬العاطفة أن تتبادال‬
‫األدوار‪ ،‬وال س ّيما أنهما وقعتا في الالاكتراث نفسه‪.‬‬
‫الحسي الحركي‬‫ّ‬ ‫محل الفعل أو الوضع‬ ‫حل ّ‬ ‫في المقام الثالث‪ ،‬ما ّ‬
‫وجدت النزه ُة‬
‫ْ‬ ‫هو النزهة وال ُفسحة والذهاب واإلياب المستمران‪ .‬لقد‬
‫تمت تلبي ًة لضرورة‬ ‫َ‬
‫الشروط الشكلية والمادية لتجدُّ دها‪ .‬لقد ّ‬ ‫في أميركا‬
‫داخلية أو خارجية ولحاجة إلى الهرب‪ .‬ولكنها اآلن تفقد جانبها التلقيني‬
‫تتمتع به في الرحلة األلمانية (وأيض ًا في أفالم فيم فِندرز)‬
‫ُ‬ ‫الذي كانت‬
‫وحافظت عليه في الرحلة السعيدة (كما في فيلم ‪ Easy Rider‬لدنيس‬
‫هوبر )‪ (Dennis Hopper‬وبيتر فوندا )‪ .)(Peter Fonda‬وأصبحت نزه ًة‬
‫مدينية وتخ ّلصت من ال ُبنية النشطة والعاطفية التي كانت تدعمها وتقودها‬
‫وتد ّلها على اتجاهات غامضة‪ .‬كيف توجد استجابة سريعة أو ُبنية حسية‬
‫حركية بين السائق في فيلم سائق التاكسي وما يراه على الرصيف من‬
‫طريق المرآة العاكسة؟ وعند سيدني لوميت‪ ،‬يحدث كل شيء من‬
‫خالل مطاردات مستمرة جيئة وذهاب ًا على مستوى األرض وفي حركات‬
‫مساحات زجاج السيارة (كما في فيلمي‬ ‫عشوائية يتصرف الشخوص مثل ّ‬
‫بعد ظهر قذر وسيربيكو) تلك هي فع ً‬
‫ال النزهة الحديثة‪ ،‬التي تتم في‬
‫‪379‬‬
‫مكان نكرة أو في محطة َف ْرز أو في مستودع تغ ّيرت وظيفته‪ ،‬أو في نسيج‬
‫يتم في أغلب األحيان في أمكنة‬‫غير مميز في المدينة‪ ،‬خالف ًا لفعل كان ُّ‬
‫وأزمنة نوعية‪ ،‬بحسب التيار الواقعي القديم‪ .‬كما قال كاسافيت‪ :‬الهدف‬
‫هو تفكيك المكان ليس بأقل من تفكيك القصة والحبكة والفعل(‪.((1‬‬

‫في المقام الرابع‪ ،‬يتساءل المرء عما ُيحفظ مجموع ًا في هذا العالم‬
‫المجموع هو القوالب‬
‫َ‬ ‫من دون كل ّية أو تساوق‪ .‬الجواب بسيط‪ :‬ما يصنع‬
‫الجاهزة‪ ،‬وليس أي شيء آخر‪ .‬قوالب جاهزة فقط‪ ،‬قوالب جاهزة‬
‫في كل مكان‪ ...‬المشكلة طرحها الروائي األميركي دوس باسوس‬
‫والتقنيات الجديدة التي طبقها في الرواية‪ ،‬قبل أن تفكّر السينما فيها‪:‬‬
‫المشتّت والمثغور‪ ،‬ازدحام الشخوص مع ضعف في التداخل‬ ‫أي الواقع ُ‬
‫بينهم‪ ،‬إمكانية أن يصبحوا أساسيين وأن يعودوا ثانويين‪ ،‬األحداث التي‬
‫يعزز‬
‫تواجههم والتي ال تخص أولئك الذين يكابدونها أو يثيرونها‪ .‬ما ّ‬
‫كل هذا هو وجود قوالب جاهزة شاعت في مرحلة ما‪ ،‬ووجود شعارات‬
‫مسجلة بالصوت والصورة‪ ،‬و ُيطلق عليها دوس بادوس كلم ًة مأخوذة‬ ‫ّ‬
‫من قاموس السينما "وقائع يومية" و"عين الكاميرا" (والوقائع هي أخبار‬
‫متفرقة‪ ،‬ومقابالت‬‫ُمتشابكة ألحداث سياسية أو اجتماعية‪ ،‬أو أحداث ّ‬
‫وأغان قصيرة؛ أما عين الكاميرا فهي المونولوغ الداخلي لشخص عادي‬ ‫ٍ‬
‫ال ُيعتبر من طاقم شخوص الرواية)‪ .‬إنها صور عائمة وقوالب جاهزة‬

‫(‪ ((1‬حول هذه النقاط مجيع ًا جيب أن نعود بانتظام إىل جملة ‪:Cinématographe‬‬
‫‪sur Altman, n° 45, Mars 1979 (article de Maraval) et n° 54, Janvier  ‬‬
‫‪1980 (Fieschi, Carcassone); sur Lumet, n° 74, janvier 1982 (Rinieri, Cèbe,‬‬
‫‪Fieschi); sur Cassavetes, n° 38, Mai 1978 (Lara) et n° 77 avril 1982 (Sylvie‬‬
‫‪Trosa, Prades); sur Scorsese, n° 45 (Cuel).‬‬

‫‪380‬‬
‫كل فرد وتشكّل‬ ‫ُم ْغفلة تنتقل في أرجاء العالم الخارجي‪ ،‬ولكنها تخترق َّ‬
‫عالمه الداخلي‪ ،‬بحيث ال يمتلك بذاته إال قوالب جاهزة نفسية بها يفكّر‬
‫وبها يشعر ويفكّر في نفسه ويشعر بذاته‪ ،‬بما أنه هو أيض ًا قالب بين‬
‫قوالب جاهزة في العالم المحيط به(‪ .((1‬إن القوالب الجاهزة الفيزيائية‬
‫تتغذى من بعضها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والبصرية والصوتية‪ ،‬والقوالب الجاهزة النفسية‬
‫ولكي يتحمل الناس بعضهم بعض ًا ويتحملوا أنفسهم والعالم‪ ،‬يجب أن‬
‫ُيعشش البؤس في أشكال الوعي‪ ،‬وأن يكون داخلهم كخارجهم‪ .‬هذه‬
‫الرؤية الرومانسية المتشائمة هي التي نجدها عند ألتمان وعند لوميت‪.‬‬
‫في فيلم ناشفيل تتضاعف أماكن المدينة من طريق الصور التي توحي‬
‫الموال‬
‫بها والصور الفوتوغرافية والتسجيالت والتلفزيون؛ وفي هذا ّ‬
‫المتكرر يلتقي الشخوص أخير ًا‪ .‬وسلطة القالب الجاهز الصوتي هذا‬
‫ّ‬
‫المتم ّثل باألغنية القصيرة ّ‬
‫تتعزز في فيلم زوجان كامالن أللتمان‪ :‬وفيه‬ ‫ُ‬
‫أخذت النزهة معناها الثاني‪ ،‬أي أنها قصيدة مغنّاة ومصحوبة برقص‪.‬‬
‫وفي فيلم وداع ًا أيها الباسل للوميت‪ ،‬الذي يروي نزهة في المدينة ألربعة‬
‫مثقفين يهود أتوا لدفن أحد أصدقائهم‪ ،‬يهيم أحدهم بين القبور وهو‬
‫يقرأ للموتى أخبار الصحف الطازجة‪ .‬وفي فيلم سائق التاكسي‪ ،‬ين ّظم‬
‫سكورسيز قائمة بجميع القوالب النمطية النفسية التي تعتمل في رأس‬
‫السائق‪ ،‬وبينها قوالب نمطية سمعية بصرية للمدينة‪ /‬النيون التي تتعاقب‬

‫(‪ ((1‬لقد ح ّلل كلود إدموند مانيي )‪ (Claude-Edmonde Magny‬هذه النقاط‬


‫مجيعها عند دوس باسوس‪:‬‬
‫‪John Dos Passos, L’âge du roman américain (Paris:‬‬
‫‪Edition du Seuil, [s. d.]), pp. 125-137,‬‬
‫لقد أثرت روايات دوس باسوس عىل الواقعية اإليطالية اجلديدة؛ وبصورة‬
‫معكوسة القت هذه الواقعية شيئ ًا من التأثري بـ «السينام‪ /‬العني» لفرتوف‪.‬‬
‫‪381‬‬
‫على امتداد الشوارع‪ :‬وهو نفسه‪ ،‬بعد ارتكابه مجزرة‪ ،‬سيتحول إلى بطل‬
‫حالة القالب الجاهز‪ ،‬من دون أن يكون‬ ‫ِ‬ ‫وطني ليوم واحد ويرقى إلى‬
‫معن ّي ًا بالحدث‪ .‬أخير ًا لم نعد حتى قادرين على التمييز بين ما هو فيزيائي‬
‫ونفسي في القالب الجاهز الشامل الذي نشاهده في فيلم ملك الكوميديا‬
‫الشخوص المتبدّ لين‪.‬‬
‫َ‬ ‫يمتص‬
‫ّ‬ ‫والذي من فراغ واحد‬
‫الفكرة القائلة بوجود بؤس وحيد‪ ،‬هو بؤس داخلي وخارجي‪ ،‬في‬
‫العالم وفي الوعي‪ ،‬كانت الفكرة التي شاعت في الرومانسية اإلنجليزية‪،‬‬
‫بشكلها القاتم‪ ،‬وال س ّيما عند وليام باليك )‪ (William Blake‬وصموئيل‬
‫تيلور كوليريدج )‪ :(Samuel Taylor Coleridge‬لن يطيق الناس ما‬
‫ال يطاق إذا لم ت َْس ِر "األسباب" ذاتها التي ُفرضت عليهم من الخارج‬
‫وجعلتهم يقبلون بها في أعماقهم‪ .‬يرى باليك أن هناك تنظيم ًا كام ً‬
‫ال‬
‫للبؤس تستطيع الثور ُة األميركية أن تنقذنا منه(‪ .((1‬ولكن أميركا على‬
‫ال أكثر‬ ‫طرح المسألة الرومانسية وخلعت عليها شك ً‬ ‫َ‬ ‫العكس أعادت‬
‫راديكالية وأكثر إلحاح ًا وأكثر تقني ًة أيض ًا‪ :‬أي سلطان القوالب الجاهزة‪،‬‬
‫في الداخل كما في الخارج‪ .‬كيف ال نصدّ ق بأن ثمة تنظيم ًا جبار ًا‪ ،‬وبأن‬
‫هناك مؤامرة كبرى رهيبة وجدت السبيل لنشر القوالب الجاهزة من‬
‫الخارج إلى الداخل ومن الداخل إلى الخارج؟ إن المؤامرة اإلجرامية‪،‬‬
‫المعاصر مظهر ًا جديد ًا‬ ‫شأنها شأن تنظيم السلطة‪ ،‬ستأخذ في العالم ُ‬
‫ستسعى السينما إلى اتباعه وإظهاره‪ .‬لم يعد هناك أي تنظيم‪ ،‬كما في‬
‫الفيلم األسود الذي قدّ مته الواقعية األميركية‪ ،‬قد يحيل إلى وسط كتما ُي ٍز‬

‫(‪ ((1‬حول أمهية هذا املوضوع يف الرومانسية اإلنجليزية‪ ،‬انظر‪Paul Rozenberg, :‬‬
‫‪Le romantisme anglais (Paris: Larousse, 1973).‬‬

‫‪382‬‬
‫وإلى أفعال يشار إليها بالبنان وبها يتكشف المجرمون (مع أن بعضهم‬
‫والقت نجاح ًا كبير ًا كما في فيلم‬
‫ْ‬ ‫استمر في إخراج أفالم من هذا النمط‬
‫ّ‬
‫العراب)‪ .‬كذلك زال المركز السحري الذي انطلقت منه عمليات تنويم‬ ‫ّ‬
‫مغناطيسي انتشرت في كل مكان‪ ،‬كما في أول فيلمين أخرجهما مابوز‬
‫تطور عند النغ في هذا الصدد‪ :‬فلم يعد فيلم‬‫والنغ‪ .‬صحيح أنه لوحظ ّ‬
‫وصية الدكتور مابوز يشهد إنتاج أفعال سرية‪ ،‬بل يشهد باألحرى احتكار ًا‬
‫في إعادة اإلنتاج‪ .‬واختلطت السلطة الخف ّية بتأثيراتها وحواملها ووسائل‬
‫تتصرف إال‬
‫ّ‬ ‫إعالمها وإذاعاتها وتلفزيوناتها وميكروفوناتها‪ :‬ولم تعد‬
‫والسمة الخامسة‬
‫من خالل "االستنساخ اآللي للصور واألصوات"(‪ِّ .((1‬‬
‫للصورة الجديدة‪ ،‬هي التي ستلهم السينما األميركية ما بعد الحرب‪ .‬لدى‬
‫ّ‬
‫والبث‪ ،‬كما في فيلم‬ ‫التنصت والمراقبة‬
‫ّ‬ ‫لوميت‪ ،‬تتم ّثل المؤامرة بنظام‬
‫عصابة أندرسون؛ أما فيلم ‪ Network‬ف ُيغرق المدينة بالبرامج التلفزيونية‬
‫التنصت التي لم تتو ّقف عن إنتاجها‪ ،‬في حين أن فيلم ملك‬ ‫ّ‬ ‫وأجهزة‬
‫كل حيثيات المدينة على شريط ُممغنط‪ .‬وفيلم ناشفيل‬ ‫سجل َّ‬‫نيويورك ّ‬
‫أللتمان وضع يده على هذه العملية التي تُغرق المدينة بجميع القوالب‬
‫الجاهزة التي تنتجها‪ ،‬وتغرق القوالب الجاهزة نفسها في الداخل‬
‫والخارج‪ ،‬قوالب بصرية وصوتية وقوالب نفسية‪.‬‬
‫هذه هي السمات الخمس الظاهرة للصورة الجديدة‪ :‬الوضع‬
‫المشتّت‪ ،‬الروابط الضعيفة عمد ًا‪ ،‬الشكل‪ /‬النزهة‪ ،‬وعي القوالب‬ ‫ُ‬
‫الجاهزة‪ ،‬التنديدُ بالمؤامرة‪ .‬إنها أزمة الصورة‪ /‬الفعل وأزمة الحلم‬

‫(‪ ((1‬انظر‪Pascal Kané, «Mabuse et le pouvoir,» Cahiers du Cinéma, :‬‬


‫‪n° 309 (Mars 1980).‬‬

‫‪383‬‬
‫آن واحد‪ .‬في كل مكان يعاد النظر في الترسيمة الحسية‬ ‫األميركي في ٍ‬
‫الحركية؛ وأصبح "ستوديو الممثلين" هدف ًا لحمالت النقد القاسية‪ ،‬في‬
‫وتعرض لقطِيعات داخلية‪ .‬ولكن كيف تستطيع‬ ‫تطور فيه ّ‬
‫الوقت الذي ّ‬
‫السينما أن تُندّ د بنظام القوالب الجاهزة في حين أنها تُساهم في صنعها‬
‫لعل الظروف‬‫المصورة والتلفزيونات؟ ّ‬
‫ّ‬ ‫ونشرها‪ ،‬على ِغرار المجالت‬
‫الخاصة التي في ظلها تنتج السينما وتعيد إنتاج القوالب الجاهزة تُمكّن‬
‫التوصل إلى تفكير نقدي لم يكن يتوفر لهم في‬ ‫ّ‬ ‫بعض السينمائيين من‬
‫مكان آخر‪ .‬إن تنظيم السينما‪ ،‬على الرغم من أشكال المراقبة التي تثقل‬
‫يتصرف – على األقل لمدة محدودة ‪ -‬لـ‬ ‫ّ‬ ‫الوطأة عليه‪ ،‬يجعل المبدع‬
‫"يرتكب" ما ال يمكن الرجوع عنه‪ .‬ثمة فرصة لتخليص الصورة من‬
‫جميع القوالب الجاهزة ولمناوأتها‪ .‬ولكن بشرط أن يتم ذلك من خالل‬
‫مشروع جمالي وسياسي قادر على تشكيل مبادرة إيجابية‪ .‬وهنا يضيق‬
‫مدى السينما األميركية‪ .‬فجميع السمات الجمالية وحتى السياسية التي‬
‫يمكن أن تملكها تبقى نقدية جد ًا‪ ،‬ومع ذلك تبقى أقل "خطورة" إال إذا‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‪ ،‬إما أن يكون النقد قاصر ًا‪،‬‬ ‫مورست في مشروع إبداع إيجابي‪.‬‬
‫ويفضح االستخدام السيىء لألجهزة والمؤسسات‪ ،‬سعي ًا إلى إنقاذ ما‬
‫َ‬
‫يستطيل النقد‪ ،‬ولكنه‬ ‫تب ّقى من الحلم األميركي‪ ،‬كما عند لوميت؛ وإما أن‬
‫يدور في الفراغ‪ ،‬ويمسي ناشز ًا‪ ،‬كما عند ألتمان‪ ،‬ويكتفي بمحاكاة ساخرة‬
‫للقالب الجاهز بدالً من خلق صورة جديدة‪ .‬كان الشاعر والروائي ديفيد‬
‫هربرت لورانس )‪ (David Herbert Lawrence‬يقول عن فن الرسم‪:‬‬
‫إن الحنق من القوالب الجاهزة ال يجدي فتي ً‬
‫ال ما دام يكتفي بمحاكاتها؛‬
‫خرب‪ ،‬ال يتأخر في االنبعاث‬
‫بعد أن تساء معاملة القالب الجاهز و ُيبتر و ُي َّ‬

‫‪384‬‬
‫وفعال فإن ِ‬
‫مز ّية السينما األميركية تكمن في أنها ُولدت من‬ ‫ً‬ ‫من رماده(‪.((1‬‬
‫دون تراث مسبق يخنقها‪ ،‬وترتدّ اآلن ضده‪ .‬ذلك أن السينما الصورة‪/‬‬
‫الفعل قد خلقت هي نفسها تراث ًا ولم تعد قادرة في معظم األحيان‬
‫على أن تفلت منه إال بصورة سلبية‪ .‬واألنواع الكبرى في هذه السينما‪،‬‬
‫كالفيلم النفسي االجتماعي‪ ،‬والفيلم األسود‪ ،‬والويستيرن‪ ،‬والكوميديا‬
‫حافظت على كادرها الفارغ‪ .‬ورأى مبدعون‬ ‫ْ‬ ‫انهارت ولكنها‬
‫ْ‬ ‫األميركية‪،‬‬
‫كبار أن طريق الهجرة انقلب‪ ،‬وألسباب ال تتع ّلق بالمكارثية(*) فقط‪.‬‬
‫ال كانت أوروبا تتمتع بحرية أكبر‪ ،‬على هذا الصعيد؛ وأوالً في إيطاليا‬
‫وفع ً‬
‫ظهرت األزمة الكبرى للصورة‪ /‬الفعل‪ .‬والتواريخ هي تقريب ًا كالتالي‪:‬‬
‫نحو عام ‪ 1948‬بالنسبة إليطاليا؛ ونحو عام ‪ 1958‬بالنسبة لفرنسا؛ ونحو‬
‫عام ‪ 1968‬بالنسبة أللمانيا‪.‬‬
‫‪)3‬‬

‫لماذا إيطاليا أوالً‪ ،‬قبل فرنسا وألمانيا؟ هناك ربما سبب جوهري‪،‬‬
‫ولكنه من خارج السينما‪ .‬بدف ٍع من الجنرال ديغول‪ ،‬كان لدى فرنسا في‬
‫نهاية الحرب طموح تاريخي وسياسي بأن تكون في ِعداد المنتصرين‪:‬‬
‫السرية‪ ،‬كفصيل من جيش‬‫فكان يجب إذن أن تظهر المقاومة‪ ،‬وحتى ّ‬
‫المشوبة‬ ‫ِ‬
‫نظامي في غاية االنضباط؛ وكان على حياة الفرنسيين‪ ،‬وحتى َ‬

‫(‪David Herbert Lawrence, Eros et les chiens, traductions de ((1‬‬


‫‪l’anglais par Thérèse Lauriol (Paris: Bourgeois, 1969), pp. 253-257.‬‬
‫‪(Joseph Raymond‬‬ ‫(*) نسبة إىل السيناتور األمريكي جوزيف ريموند مكارثي‬
‫)‪ )1957-1908( McCarthy‬الذي اشتهر بحمالته العنيفة عىل الشيوعية والشيوعيني‬
‫التي أصابت عدد ًا من السياسيني واملثقفني واليساريني إ ّبان األربعينات واخلمسينات‬
‫(املرتجم)‪.‬‬
‫‪385‬‬
‫بالنزاعات وااللتباسات‪ ،‬أن تظهر كمساهمة في النصر‪ .‬وهذه الظروف‬
‫لم تكن مالئمة لتجديد الصورة السينمائية التي بقيت في إطار الثورة‪/‬‬
‫الفعل التقليدية‪ ،‬وفي خدمة "حلم" فرنسي تحديد ًا‪ .‬فلم تتمكن السينما‬
‫وبتحول فكري‬ ‫ّ‬ ‫في فرنسا من أن تقطع الصلة مع تراثها إال بصورة ّ‬
‫متأخرة‬
‫وثقافي تم ّث َل في الموجة الجديدة‪ .‬أما في إيطاليا فتغ ّير الوضع تمام ًا‪:‬‬
‫صحيح أنها لم تستطع أن تعدّ نفسها من المنتصرين؛ ولكنها‪ ،‬خالف ًا‬
‫أللمانيا‪ ،‬كانت تمتلك مؤسسة سينمائية أفلتت نسبي ًا من الفاشية‪ ،‬هذا‬
‫من جهة؛ ومن جهة أخرى تمكّنت من االستناد إلى مقاومة وحياة شعبية‬
‫تصدّ تا للقمع‪ ،‬مع أنهما كانتا بعيدتين عن األوهام‪ .‬ولترسيخ ذلك‪ ،‬كان‬
‫على السينما أن تجد نوع ًا جديد ًا من "السردية" قادر ًا على فهم الجانب‬
‫المضمر وغير المنظم‪ ،‬كما لو كان يترتّب على السينما أن تنطلق ثاني ًة من‬ ‫ُ‬
‫الصفر‪ ،‬وأن تعيد النظر في مكتسبات التقليد األميركي جميعها‪ .‬واستطاع‬
‫اإليطاليون إذ ًا الحصول على وعي حدسي للصورة الجديدة التي بدأت‬
‫تتكون‪ .‬مما سبق‪ ،‬ال نقدّ م أي تفسير لعبقرية روبيرتو روسيليني في أفالمه‬
‫نفسر على األقل ردة فعل بعض الن ّقاد األميركيين الذين وجدوا‬ ‫األولى‪ّ .‬‬
‫في تلك األفالم ا ّدعا ًء مبالغ ًا فيه لبلد مهزوم‪ ،‬وكان ذلك ابتزاز ًا شنيع ًا‬
‫وطريقة في إشعار المنتصرين بالخزي والعار(‪ .((1‬وهذا الوضع الخاص‬
‫جد ًا إليطاليا هو الذي مكّن من ظهور مشروع الواقعية الجديدة‪.‬‬

‫(‪ ((1‬انظر النص العنيف الذي كتبه‪R. S. Warshow, reproduit dans Le :‬‬
‫‪néo-réalisme italien, Etudes cinématographiques, pp. 140-142,‬‬
‫ثمة ضغينة أصابت دائ ًام الواقعية اإليطالية اجلديدة التي ّ‬
‫«جترأت» عىل ابتداع‬
‫)‪(Ingrid Bergman‬‬ ‫مفهوم آخر للسينام‪ .‬ونحت الفضيحة التي أثارهتا إنغريد برغامن‬
‫َّ‬
‫تتخل عن عائلتها لتنضم إىل‬ ‫هذا املنحى‪ :‬فبعد أن أصبحت الفتاة التي تبنّتها أمريكا‪ ،‬مل‬
‫روسيليني فقط‪ ،‬بل تركت سينام املنترصين‪.‬‬
‫‪386‬‬
‫إن الواقعية اإليطالية الجديدة هي التي صاغت السمات الخمس‬
‫اآلنفة الذكر‪ .‬في وضع ما بعد الحرب‪ ،‬اكتشف روسيليني واقع ًا ًمشتت ًا‬
‫ومثغور ًا‪ .‬ففي فيلم روما مدينة مفتوحة‪ ،‬ولكن على األخص في فيلم‬
‫ثمة مجموعة من اللقاءات المجتزأة والمق ّطعة تعيد النظر في‬
‫‪ّ ، Païsa‬‬
‫الصيغة ‪ SAS‬الخاصة بالصورة‪ /‬الفعل‪ .‬وكانت األزمة االقتصادية التي‬
‫أعقبت الحرب خصوص ًا هي التي ألهمت فيتوريو دو سيكا ‪(Vittorio‬‬
‫موجه أو‬
‫)‪ de Sica‬ودفعته إلى كسر الصيغة ‪ :ASA‬لم يعد ثمة شعاع ّ‬
‫خط كون يمدّ د ويربط األحداث في فيلم سارق الدراجة؛ ويستطيع‬ ‫ّ‬
‫يحرف السعي غير المخ ّطط له في نزهة يقوم بها‬
‫المطر دائم ًا أن يقطع أو ّ‬
‫الرجل والطفل‪ .‬و ُيمسي المطر اإليطالي عالمة تدل على الزمن الميت‬
‫والقطيعة الممكنة‪ .‬وأيض ًا تحمل سرقة الدراجة أو األحداث التافهة‬
‫في فيلم ‪ Umberto D‬أهمية حيوية لدى شخوص الفيلم‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫فإن فيلم شبان فيتلوني )‪ (Les Vitelloni‬لفريدريكو ف ّليني ال يعرض‬
‫األحداث التافهة فقط بل أيض ًا التراكبات الحائرة لهؤالء الشبان وعدم‬
‫انتمائهم إلى أولئك الذين يعانون منها‪ ،‬والتي تدخل في خانة النزهة‪ .‬في‬
‫المدينة المهدمة التي يعاد بناؤها‪ ،‬تُكثر الواقعية الجديدة عد َد األمكنة‬
‫النكرة‪ ،‬أو السرطان المديني أو النسيج الذي ال طابع له أو األراضي‬
‫غير المؤهلة‪ ،‬التي تتعارض مع األمكنة المحددة في الواقعية القديمة(‪.((1‬‬
‫وما يصعد في األفق‪ ،‬وما يرتسم في هذا العالم‪ ،‬وما سيفرض نفسه في‬
‫فترة ثالثة‪ ،‬ليس الواقع الفج‪ ،‬وإنما بديله وسلطة القوالب الجاهزة‪ ،‬في‬

‫(‪ ((1‬انظر عددي جملة ‪ Cinématographe‬حول الواقعية اجلديدة‪ 42 ،‬و‪،43‬‬


‫كانون األول‪ /‬ديسمرب ‪ 1978‬وكانون الثاين‪ /‬يناير ‪ ،1979‬وال س ّيام مقاالت سيلفي‬
‫تروزا وميشال ديفيلري‪.‬‬
‫‪387‬‬
‫داخل الناس وخارجهم‪ ،‬في رؤوسهم وقلوبهم‪ ،‬كما في المكان بر ّمته‪.‬‬
‫ألم يتم ّثل هذا في القوالب الجاهزة ُ‬
‫الممكنة للقاء بين أميركا وإيطاليا‬
‫كما اقترحه فيلم ‪Païsa‬؟ وفي فيلم رحلة في إيطاليا يستعرض روسيليني‬
‫الصرفة‪ ،‬كما تراها‬
‫الئحة القوالب الجاهزة الشائعة في العقلية اإليطالية ِّ‬
‫الطبقة البرجوازية التي تتنزه‪ ،‬إذ تشاهد البركان وتماثيل المتاحف ومعبد‬
‫المسيحيين‪ ...‬وفي فيلم ‪ Général della Rovere‬يشدّ القالب الجاهز‬
‫الختراع بطل ما‪ .‬وبشكل خاص جد ًا‪ ،‬إن ف ّليني هو الذي وضع أفالمه‬
‫والتحري وتفاقم القوالب الجاهزة الخارجية‬
‫ّ‬ ‫تحت شعار االختراع‬
‫المصورة في فيلم الشيخ األبيض‪ ،‬والصورة‪ /‬التحقيق‬
‫ّ‬ ‫والداخلية‪ :‬الرواية‬
‫في فيلم وكالة توليد‪ ،‬علب الليل‪ ،‬موسيقى المنوعات والرقص‪ ،‬ألعاب‬
‫تعزي أو تدفع إلى اليأس‪.‬‬
‫السيرك‪ ،‬ثم جميع النغمات المكرورة التي ّ‬
‫هل وجب تحديد المؤامرة الكبرى التي د ّبرت هذا البؤس‪ ،‬والذي بسببه‬
‫استح ّقت إيطاليا اسم ًا جاهز ًا هو المافيا؟ لقد رسم فرانشيسكو روسي‬
‫()‪ (Francesco Rosi‬صورة رجل العصابة في فيلم �‪Salvatore Giulia‬‬
‫المفبركة سلف ًا التي فرضتها عليه سلطة‬ ‫‪ ،no‬مق ّطع ًا القصة وفق ًا لألدوار ُ‬
‫زئبقية لم تُعرف إال بآثارها‪.‬‬
‫تصور ًا تقني ًا عالي ًا للصعوبات التي القتها‬
‫امتلكت الواقعية الجديدة ّ‬
‫وللوسائل التي استحدثتها؛ بقدر ما امتلكت وعي ًا حدسي ًا مؤكد ًا عن‬
‫الصورة الجديدة التي بدأت بالتشكل‪ .‬إن الموجة الفرنسية الجديدة‪ ،‬ومن‬
‫التحول‪ .‬وهنا‬
‫ّ‬ ‫خالل وعي ثقافي وفكري باألحرى‪ ،‬ج ّيرت لصالحها هذا‬
‫تحرر الشكل‪ /‬النزهة من الحيثيات الزمكانية التي بقيت لديه من الواقعية‬
‫ّ‬
‫االجتماعية القديمة‪ ،‬وراح يأخذ قيمته بذاته أو كتعبير عن مجتمع جديد‬
‫وحاضر جديد بحت‪ :‬التن ّقل بين باريس واألقاليم األخرى عند شابرول‬
‫‪388‬‬
‫(كما في فيلمي سيرج الجميل وأوالد العم)؛ جوالت التيه التي أصبحت‬
‫تحليلية‪ ،‬وأدوات تحليل النفس‪ ،‬عند روهمر (كما في سلسلة حكايات‬
‫أخالقية) وعند فرانسوا تروفو )‪( (François Truffaut‬ثالثية الحب في‬
‫العشرين وال ُقبل المسروقة وبيت الزوجية)؛ التحقيق‪ /‬النزهة عند ريفيت‬
‫أطلق النار‬
‫(فيلم باريس نمتلكها)؛ النزهات‪ /‬الهروب عند تروفو (فيلم ْ‬
‫على عازف البيانو) وخصوص ًا عند غودار (في فيلمي الرمق األخير‬
‫وبييرو المجنون)‪ .‬وهنا ُولد جيل من الشخوص الساحرين والمؤ ّثرين‬
‫والمعنيين بالكاد باألحداث التي تجري لهم‪ ،‬بما في ذلك الخيانة‬
‫والموت‪ .‬إنهم يخضعون ألحداث غامضة ضعيفة الترابط ضعف الح ّيز‬
‫النكرة الذي يجوبونه‪ ،‬أو إنهم هم الذين صنعوا هذه األحداث‪ .‬ور ّد ًا على‬
‫عنوان فيلم ريفيت نسمع عبارة مغنّاة لشارل بيغي "باريس ال يمتلكها‬
‫أحد"‪ .‬وفي فيلم الحب المجنون لريفيت‪ ،‬تُخلي التصرفات مكانها‬
‫متفجرة تكسر أفعال الشخوص‬ ‫ّ‬ ‫المصحات العقلية وألعمال‬
‫ّ‬ ‫لوضعيات‬
‫وتقطع تسلسل الحوارية التي يكررونها‪ .‬ما يميل إلى الزوال في هذا النوع‬
‫الجديد من الصور هي الروابط الحسية الحركية وكل استمرارية حسية‬
‫حركية كانت تؤ ّلف جوهر الصورة‪ /‬الفعل‪ .‬ال أتكلم فقط عن المشهد‬
‫الشهير في فيلم بييرو المجنون الذي وردت فيه هذه العبارة‪" :‬ال أعلم‬
‫ماذا أفعل"‪ ،‬والذي غدت فيه النزهة‪ ،‬من دون أن ندري‪ ،‬قصيد ًة مغنّاة‬
‫ومصحوبة بالرقص؛ بل أتك ّلم أيض ًا عن صعود االضطرابات الحسية‬
‫والحركية التي نكاد ال نتب ّينها‪ ،‬وعن حركات خرقاء‪ ،‬وعن تط ّلعات خائبة‪،‬‬
‫وعن تباطؤ الزمن وفساد المبادرات (كما في أفالم الدرك لغودار‪ ،‬وأطلق‬

‫‪389‬‬
‫النار على عازف البيانو لتروفو‪ ،‬وباريس نمتلكها لريفيت)(‪ .((1‬لقد غدا‬
‫للتصرف الحقيقي في‬
‫ّ‬ ‫التزييف عالمة على ظهور واقعية جديدة‪ ،‬خالف ًا‬
‫مصوبة‬
‫ّ‬ ‫الواقعية القديمة‪ .‬ثمة صراعات خرقاء ولكمات وإطالق نيران‬
‫محل المبارزات‬‫بشكل سيىء‪ ،‬وارتباكات في األفعال واألقوال‪ ،‬ح ّلت ّ‬
‫األنيقة في الواقعية األميركية‪ .‬وأجرى جان أوستاش )‪(Jean Eustache‬‬
‫كالم ًا على لسان الشخصية الرئيسية في فيلم ماما والمومس يقول‪" :‬ك ّلما‬
‫بدونا مز ّيفين هكذا‪ ،‬كلما ذهبنا بعيد ًا‪ ،‬المز ّيف هو العالم اآلخر"‪.‬‬
‫ْ‬
‫تحت ضغط التزييف هذا‪ ،‬تصبح الصور جميعها قوالب جاهزة‪ ،‬إما‬
‫ألنه يتبدّ ى خر ُقها‪ ،‬وإما ألنه ُيندَّ د بكمالها الظاهري‪ .‬إن الحركات الخرقاء‬
‫للدرك تضارعها مجموعة من البطاقات البريدية التي أتوا بها من الحرب‪.‬‬
‫القوالب الجاهزة الخارجية والبصرية والصوتية تضارعها قوالب جاهزة‬
‫داخلية أو نفسية‪ .‬وربما في آفاق السينما األلمانية الجديدة سيعرف هذا‬
‫تطوره األوسع‪ :‬لقد ابتكر دانيال شميد تباطؤ ًا يمكّن من انشطار‬ ‫العنصر ّ‬
‫الشخوص‪ ،‬كما لو كانوا بمحاذاة ما يقولون وما يفعلون‪ ،‬وكما لو اختاروا‬
‫من بين القوالب الجاهزة قالب ًا سيجسدونه من الداخل‪ ،‬في استبدال دائم‬
‫للداخل والخارج (نجد ذلك في فيلم ‪ La Paloma‬وخصوص ًا في فيلم‬
‫المومس‬
‫ُ‬ ‫ظل المالئكة‪ ،‬وفيه "يستطيع اليهودي أن يكون فاش ّي ًا‪ ،‬وتمسي‬
‫القوا َد‪ ،"...‬في لعبة ورق تجعل كل العب ورق َة لعب هو نفسه‪ ،‬ولكنها‬

‫(‪Claude Ollier, Souvenirs écran, Cahiers du Cinéma (Paris: ) ((1‬‬


‫‪Gallimard, [1981]), p. 58,‬‬
‫وآالن روب غرييه )‪ (Alain Robbe-Grillet‬هو الذي أكد أمهية التفاصيل‬
‫«املزيفة» ورأى فيها إشارة تدل عىل الواقع ال عىل الواقعية‪ ،‬أو تدل عىل احلقيقة ال عىل‬
‫تيار احلقائقية‪Alain Robbe-Grillet, Pour un nouveau roman (Paris: Edition :‬‬
‫‪de Minuit, [s. d.]), p. 140.‬‬

‫‪390‬‬
‫ورقة يلعبها العب آخر)(‪ .((2‬إذا كان األمر كذلك‪ ،‬كيف ال نصدّ ق وجود‬
‫عمم يمتدّ في كل أرجاء‬
‫مؤامرة دولية منتشرة‪ ،‬ووجود مشروع استعباد ُم ّ‬
‫المكان النكرة ويزرع الموت في كل مكان؟ عند غودار‪ ،‬تؤكد أفالم‬
‫وصنع في الواليات المتحدة األميركية‬‫الجندي الصغير وبييرو المجنون ُ‬
‫وعطلة نهاية األسبوع مع عصابة المقاومة النهائية‪ ،‬تؤكد بصورة متفاوتة‬
‫وجو َد مؤامرة معقدة‪ .‬وريفيت بدء ًا من فيلمه باريس نمتلكها ومرور ًا‬
‫بفيلم جسر الشمال ووصوالً إلى فيلم الراهبة ال يكف عن التك ّلم عن‬
‫توزع األدوار واألوضاع على ِغرار لعبة اإلوزة‬‫المؤامرة الدولية التي ّ‬
‫الشريرة‪.‬‬
‫لكن إذا كان كل شيء قوالب جاهزة ومؤامرة يتم تبادلها ونشرها‪،‬‬
‫يبدو أن ليس ثمة من مخرج إال من طريق سينما السخرية واألخطاء التي‬
‫تحصل بسبب سوء التفاهم واالحتقار‪ ،‬كما ُأ ِخذ ذلك كثير ًا على شابرول‬
‫وألتمان‪ .‬على العكس‪ ،‬ماذا كان الواقعيون الجدد يريدون أن يقولوه‬
‫عندما كانوا يتكلمون عن االحترام والحب الضروري لوالدة الصورة‬
‫الجديدة؟ إن السينما‪ ،‬ومن دون أن تكتفي بوعي سلبي نقدي أو ساخر‪،‬‬
‫تكف عن تعميقه وتطويره‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫انخرطت في أعلى درجات التفكير‪ ،‬ولم‬
‫أضحت الصور‬
‫ْ‬ ‫وقد نجد عند غودار عبارات تع ّبر عن هذه المشكلة‪ :‬إذا‬

‫‪Dossier Daniel Schmid (Paris: Edition L’ȃge d’homme, [s.‬‬ ‫(‪ ((2‬انظر‪:‬‬
‫‪d.]), pp. 78-86,‬‬
‫سمها شميد «القوالب اجلاهزة الورق املنتوف»)‪ .‬ولكن شميد‬ ‫(وال سيام ما ّ‬
‫يعي متام ًا اخلطر الذي ال يرتك للسينام إال وظيفة اهلجاء (ص ‪ : )78‬وأيضا ال تتفاقم‬
‫ً‬
‫القوالب اجلاهزة إال ليخرج يشء منها‪ .‬يف فيلم ظل املالئكة )‪ (L’ombre des anges‬هناك‬
‫شخصيتان تطرحان قوالب جاهزة حتارصمها من اخلارج والداخل‪ ،‬اليهودي والعاهرة‪،‬‬
‫ألهنام عرفتا احلفاظ عىل حس «اخلوف»‪.‬‬
‫‪391‬‬
‫قوالب جاهزة‪ ،‬في الداخل وفي الخارج‪ ،‬فكيف نستخلص صورة واحدة‬
‫من كل هذه القوالب‪" ،‬صورة واحدة فقط"‪ ،‬صورة ذهنية مستق ّلة؟ من‬
‫مجموع القوالب الجاهزة يجب أن تخرج صورة‪ ...‬تخرج بأية سياسة‬
‫وبأية نتائج؟ ما هي الصورة التي تتغاير مع القالب الجاهز؟ أين ينتهي‬
‫القالب الجاهز وأين تبدأ الصورة؟ ولكن إذا لم يوجد جواب مباشر على‬
‫هذا السؤال‪ ،‬فألن مجمل السمات السابقة ال تشكّل الصورة الذهنية‬
‫الجديدة المطلوبة‪ .‬السمات الخمس السابقة هي كناية عن غطاء (بما في‬
‫ذلك القوالب الجاهزة الفيزيائية والنفسية)‪ ،‬إنها شرط ضروري خارجي‪،‬‬
‫ولكنها ال تشكّل الصورة مع أنها تجعلها ممكنة‪ .‬وهنا نستطيع تقدير‬
‫التشابه واالختالف مع هيتشكوك‪ .‬نستطيع أن نقول عن الموجة الجديدة‬
‫وبحق إنها هيتشكوكية ماركسيانية بدل أن تكون "هيتشكوكية هاوكسية"‪.‬‬
‫كما فعل هيتشكوك‪ ،‬أرادت الموجة الجديدة أن تصل إلى الصور الذهنية‬
‫واألشكال الفكرية (الثالوثية)‪ .‬ولكن في حين رأى هيتشكوك فيها نوع ًا‬
‫من تتمة عليها أن تطيل أمدَ المنظومة التقليدية "إدراك‪ /‬فعل‪ /‬عاطفة"‬
‫وتنهيها‪ ،‬وجدت فيها على العكس ضرورة تكفي لكسر المنظومة كلها‪،‬‬
‫ولقطع اإلدراك المتدادها الحركي عبر الفعل‪ ،‬ودفعه بعيد ًا عن الخيط‬
‫الذي كان يربطها بوضع مع ّين عبر العاطفة‪ ،‬وإقصائه عن االنضواء‬
‫واالنتماء إلى شخوص‪ .‬إذ ًا لن تكون الصورة الجديدة إجهاز ًا على‬
‫وجب على‬‫َ‬ ‫السينما وإنما تطوير ًا لها‪ .‬ما كان هيتشكوك قد رفضه دائم ًا‪،‬‬
‫السينما أن ترومه‪ .‬كان ينبغي على الصورة الذهنية أال تكتفي بنسج‬
‫مجموعة من العالقات‪ ،‬بل أن تُشكّل ماهية جديدة‪ .‬كان يجب أن تصبح‬
‫عن حق موضع تفكير ونظر‪ ،‬حتى وإن كان عليها من أجل ذلك أن‬
‫تصبح "صعبة"‪ .‬كان ثمة شرطان‪ .‬فمن جهة قد تقضي وتفترض تأزيم ًا‬
‫‪392‬‬
‫للصورة‪ /‬الفعل‪ ،‬وللصورة‪ /‬اإلدراك‪ ،‬وللصورة‪ /‬العاطفة‪ ،‬بشرط‬
‫اكتشاف "القوالب الجاهزة" في كل مكان‪ .‬ولكن هذه األزمة‪ ،‬من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬ال قيمة لها بذاتها‪ ،‬فلن تكون إال الشرط السلبي النبثاق الصورة‬
‫وجب البحث عنها خارج حدود الحركة‪.‬‬‫َ‬ ‫التفكيرية الجديدة‪ ،‬حتى وإن‬

‫‪393‬‬
‫(∗)‬
‫الثبت التعريفي‬

‫إثنينية )‪ :(secondéité‬بحسب بيرس‪ ،‬هي العالقة النسبية بين كائنين‬


‫أو شيئين‪ .‬وتدخل فيها مقولة الفرد والتجربة والواقع والوجود والفعل‬
‫ال سقوط حجر على األرض‪ ،‬ودوران طاحونة هواء بفعل‬ ‫ور ّد الفعل‪ .‬مث ً‬
‫الريح‪ ،‬والشعور بألم بسبب مشكلة في األسنان‪ .‬وترتبط االثنينية بالزمن‬
‫ارتباط ًا وثيق ًا‪ :‬حدثت هذه الواقعة بتاريخ كذا‪ ،‬وحدثت قبل حادثة أخرى‬
‫أعقبتها بسنة مث ً‬
‫ال ونجمت عنها‪ .‬ولالثنينية ارتباط بالحياة العملية‪.‬‬

‫إخراج )‪ :(mise en scène‬ظهر هذا المصطلح للمرة األولى في‬


‫المسرح عام ‪ .1820‬وكان يعني التشكيل الحركي للممثلين‪ ،‬وصار‬
‫يشمل عمليات العرض المسرحي برمتها من ديكور وموسيقى وإضاءة‬
‫وأسلوب األداء والحركة‪ .‬وانتقلت الكلمة إلى السينما‪ ،‬وصارت تدل‬
‫على ‪ )1‬العالقة بين األشياء والشخصيات والكتل؛ ‪ )2‬تبادل األدوار‬
‫والتأثير بين كل من الضوء والظلمة؛ ‪)3‬‬

‫(*) أورد دولوز بعض المصطلحات في آخر كتابه؛ وللتيسير تم دمجها بالثبت‬
‫التعريفي وبثبت المصطلحات‪.‬‬
‫‪395‬‬
‫األنساق اللونية لمحتويات اإلطار (الكادر)؛ ‪ )4‬موضع الكاميرا‬
‫وزاوية رؤيتها وحركتها؛ ‪ )5‬حركة الشخصيات والموضوعات داخل‬
‫اإلطار (وردت هذه النقاط في موسوعة الشاشة الكبيرة السماعيل بهاء‬
‫الدين سليمان (مكتبة لبنان ناشرون‪ .)2012 ،‬وغالب ًا ما يترادف هذا‬
‫المصطلح مع كلمة ‪.réalisation‬‬

‫إعداد )‪ :(adaptation‬هو نقل عمل أدبي إلى السينما‪ ،‬وتظهر‬


‫فيه رؤية المخرج وطريقته في استيعاب العمل األدبي‪ .‬وأفالم اإلعداد‬
‫السينمائي كثيرة جد ًا‪ .‬ومن بينها فيلم كيت كات (‪ )1991‬الذي نقله‬
‫المخرج داوود عبد السيد عن رواية مالك الحزين إلبراهيم أصالن‪.‬‬
‫والهدف من اإلعداد هو ترجمة األلفاظ إلى صور مرئية‪ .‬ونجح بعض‬
‫المخرجين في هذه العملية‪ ،‬كما في فيلم ذهب مع الريح للكاتبة‬
‫مارغريت ميتشل )‪ (Margaret Mitchell‬وللمخرج ألكسندر فليمنغ‬
‫)‪.(1939) (Alexander Fleming‬‬

‫أهزولة ساخةرة )‪ :(burlesque‬تأثيل هذه الكلمة إيطالي من �‪bur‬‬


‫‪lesco‬كلمة المنحدرة من ‪ burla‬التي تعني كوميديا مقالب‪ .‬وانتشر هذا‬
‫النوع األدبي في مسرح القرن التاسع عشر‪ ،‬وتم ّيز باستعمال المفردات‬
‫ّ‬
‫وتدل‬ ‫المضحكة والشعبية والمبتذلة للداللة على أشياء نبيلة وجادة‪.‬‬
‫الكلمة اليوم على المضحك بإسراف‪ ،‬ألنه مغاير لمستوى الحدث‬
‫والموضوع والمطروق‪ .‬ومن بين الروايات األهزولية الساخرة‪ ،‬روايتا‬
‫غارغانتاوا وبانتاغرويل للكاتب الفرنسي فرانسوا رابيليه �‪(François Ra‬‬
‫)‪ .belais‬وظهر في السينما على يد شارلي شابلن و َبستر كيتون وجاك‬
‫تاتي )‪ (Jacques Tati‬وبيير ريشار )‪ (Pierre Richard‬ومايكل هوي‬
‫)‪ (Michael Hui‬ولويس دو فونيس )‪ .(Louis de Funès‬وفيلم األهزولة‬
‫‪396‬‬
‫الساخرة ُيضحك بسبب كوميديا العبث والالمعقول ومخالفة االتساق‬
‫وإبراز المواقف الكاريكاتورية‪ .‬وغالب ًا ما تعتمد األهزولة الساخرة في‬
‫السينما على المم ّثل‪ .‬وهي ابنة الكوميديا ديالرته اإليطالية والميوزيك‬
‫هول‪.‬‬

‫أيقونة )‪ :(icône‬أخذت الكلمة من األيقونة الدينية وأعطاها بيرس‬


‫معنى دنيوي ًا‪ .‬عام ‪ ،1867‬نشر بيرس في الثامنة والعشرين من عمره كتاب ًا‬
‫عنوانه ‪ .On a New List of Categories‬وفي هذا النص المذهل يرسم‬
‫األساس الماورائي للفلسفة السيميائية ويضع تصنيف ًا علم ّي ًا للعالمات‪.‬‬
‫وفي المثلث المشهور الذي وضعه بيرس‪ ،‬رأى أن القسم األعلى من‬
‫المثلث يحت ّله الرمز والقسم المتوسط منه تحتله األيقونة والقسم السفلي‬
‫منه يحتله المؤشر‪ .‬نتشارك مع الحيوانات في إدراك المؤشرات‪ :‬الدخان‬
‫حمى في‬ ‫ال مؤشر على وجود نار‪ ،‬احمرار الوجه مؤشر على وجود ّ‬ ‫مث ً‬
‫ال عندما نرى ظ ً‬
‫ال‬ ‫الجسم‪ .‬أما األيقونة فهي درجة عليا من المؤشرات‪ :‬مث ً‬
‫أيادي بدائية في أحد الكهوف القديمة؛ هي صورة تتماثل‬ ‫َ‬ ‫على الحائط أو‬
‫أو تتشابه مع األشياء التي نريد أن نع ّبر عنها‪ .‬وبدل أن يتم التعبير من‬
‫طريق الكلمات‪ ،‬يتم من طريق الصور المختزلة؛ وهذا ما نسميه أيقونة‪.‬‬
‫وما أكثر األيقونات في وسائل اإلعالم الحديثة! والرموز هي كلمات‬
‫يتدخل فيها التفكير المنطقي (اللوغوس)‪ ،‬ويتم عبر الحساب‬ ‫ّ‬ ‫وأرقام‬
‫والتصور واألفهوم‪ .‬واقتبس دولوز كثير ًا من‬
‫ّ‬ ‫والتفكير واللغة والتمييز‬
‫مقوالت بيرس وط ّبقها على فلسفة السينما‪.‬‬

‫تثليثية )‪ :(tiercéité‬بحسب بيرس‪ ،‬هي الصلة القائمة بين أول‬


‫ٍ‬
‫وثان‪ .‬وتتبدّ ى في القاعدة والقانون‪ .‬ولكن القانون ال يظهر إال عبر‬
‫حيثيات تط ّبقه (أي في االثنينية)‪ ،‬ولهذه الحيثيات مزايا أو صفات (أي‬

‫‪397‬‬
‫في الواحدية)‪ .‬التثليثية تخضع لقانون الوجوب‪ :‬مث ً‬
‫ال قانون الثقل‪ ،‬فكل‬
‫مرة نرمي بحجر نراه ينزل على األرض‪ .‬والتثليثية هي مقولة تنطبق على‬ ‫ّ‬
‫والتصور والحياة الثقافية والفكرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفكر واللغة‬

‫تعبيرية )‪ :(expressionisme‬مرحلة في السينما األلمانية امتدت‬


‫من ‪ 1919‬وحتى ‪ .1932‬وتم ّيزت بتجسيم المشاعر اإلنسانية الجياشة من‬
‫طريق المناظر الطبيعية أو الديكورات‪ ،‬وتباين الضوء والعتمة‪ .‬وتم ّثلت‬
‫خصوص ًا بعدد من األفالم مثل عيادة الدكتور كاليغاري )‪ (1919‬لروبرت‬
‫فيني ونوسفيراتو )‪ (1922‬لفريديريش فيلهلم مورناو ونيبيلونغن لفريتز‬
‫النغ والمالك األزرق )‪ (1930‬لجوزيف فون ستيرنبرغ ‪(Josef von‬‬
‫)‪.Sternberg‬‬

‫تمائمية )‪ :(fétichisme‬الكلمة مؤثلة من ‪ fetiço‬البرتغالية التي‬


‫الحرزي" ومن الالتينية )‪ (facticius‬التي تعني‬ ‫تعني "المصطنع" و" ِ‬
‫القدَ ر‪ .‬وفي اإلثنولولوجيا‪ ،‬ترتبط التمائمية بتقديس شيء (قالدة‪ ،‬تمثال‪،‬‬
‫عظم‪ ،‬سن‪ )...‬في إطار ممارسة دينية أو صوفية‪ .‬وفيها يتم تقديس‬
‫عناصر الطبيعة كالنار والماء وبعض الحيوانات واألشجار والحجارة‬
‫(األنصاب)‪ ،‬أو الكائنات الخفية كالجن واألرواح‪ .‬وفي الحياة الجنسية‬
‫تتمثل التمائمية بكل ما يمت بصلة إلى المعشوق (ـة) المتخيل(ـة) ‪:‬‬
‫أحذية‪ ،‬جوارب الصقة‪ ،‬سراويل‪ ،‬وشوم‪ ...‬وأدخل الكلمة ألفريد بينيه‬
‫)‪ (Alfred Binet‬إلى اللغة الفرنسية عام ‪.1887‬‬

‫جذور )‪ :(rhizome‬هو في علم النبات جذر أفقي أو باألحرى‬


‫تتكون في أسفل جذع مائل يالمس‬ ‫مجموعة من الجذور األفقية التي ّ‬
‫الماء‪ ،‬كما في الخيزران‪ .‬واستعمله دولوز وغاتاري للداللة على النموذج‬
‫التوصيفي والمعرفي الذي ال يتخذ فيه تنظيم العناصر خ ّط ًا تراتبي ًا ّ‬
‫يتكون‬

‫‪398‬‬
‫من قاعدة وجذر وساق وأغصان وأوراق‪ ،‬بل تتفاعل العناصر فيما بينها‬
‫من دون المرور بالترسيمة‪ :‬جذر ← ساق← أغصان← أوراق‪ .‬ويعني‬
‫والالسنني‪ ،‬أي أن المعرفة‬
‫ُ‬ ‫الجذمور في الفلسفة ذلك العنصر الالامتثالي‬
‫ال ترتكز على االستنتاج المنطقي وعلى المبادىء األولى‪ ،‬بل إنها ُبنية تبزغ‬
‫من كل نسغ‪ .‬فبنية المعرفة ليست عمودية‪ ،‬بل هي باألحرى أفقية وتتجاوز‬
‫النموذج السلطوي الذي يستند إلى األعراف والتقاليد والتراث الثابت‪.‬‬

‫رداء‪ُ /‬ح ّلة‪ /‬وشاح )‪ :(peplum‬تنحدر كلمة ‪ peplum‬من‬


‫الح ّلة التي كان يلبسها اإلغريق ومن ثم الرومان‬
‫الالتينية واليونانية وتعني ُ‬
‫يجرب سمومه على أحد‬ ‫بخاصة‪ .‬وبدأت سينما الرداء مع فيلم نيرون ّ‬
‫العبيد )‪ ،(1896‬ولكنها صارت نوع ًا معروف ًا في بداية الخمسينات من‬
‫القرن العشرين مع فيلم الرداء )‪ (1953‬لهنري لوستر الذي استخدم‬
‫فيه السينماسكوب والستيريوفونيا‪ .‬وتعالج أفالم الرداء مواضيع شبه‬
‫تاريخية أو أسطورية مستوحاة من الحضارات الفرعونية واإلغريقية‬
‫والرومانية‪ .‬ومن بين األفالم القديمة الكبرى لهذا النوع‪Quo vadis :‬‬
‫)‪ ،(1902‬شمشون ودليلة )‪ ،(1908‬آالم المسيح )‪ ،(1903‬ملكة سبأ‬
‫)‪ ،(1913‬في زمن الفراعنة )‪ ...(1910‬وأنتجت هوليود مجموع ًة كبرى‬
‫من هذه األفالم ‪.‬‬

‫ُر ُس ٌّو )‪ :(engramme‬تأثيل الكلمة من )‪ (gramma‬كتابة و)‪(en‬‬


‫في‪ .‬ويقصد بذلك في العلوم العصبية‪ :‬ما تتركه الذاكرة من آثار في‬
‫الدماغ‪ .‬علم ًا بأن الدماغ البشري يحتوي على ‪ 10‬إلى ‪ 12‬مليار عصبون‬
‫تتفاعل في ما بينها‪ .‬فالعصبون الواحد يستطيع أن يتفاعل مع مئة ألف‬
‫عصبون آخر‪ .‬وتتم عملية التذكّر من خالل التحريضات التي تأتي من‬
‫الخارج والتي تستجيب لها العصبونات في تشبيكاتها‪.‬‬

‫‪399‬‬
‫عالمة تأشير )‪ :(décisigne‬يقول دولوز في ثبت مصطلحاته‬
‫المختصر المدرج في آخر هذا الجزء من الدراسة إنه اقتبس هذا‬
‫الحر الالمباشر"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المصطلح من بيرس الذي د ّلل فيه على "الخطاب‬
‫والذي أضاف إليه دولوز بعض التفاصيل‪ :‬فرأى أن عالمة التأشير هي‬
‫إدراك يتم في كادر إدراك آخر؛ وترتبط بإدراك جامد وهندسي وفيزيائي‪.‬‬
‫وتتح ّقق إما بالنظرات وإما بحركات الممثلين وإما بحركات الكاميرا‪.‬‬
‫كيف ينظر الممثل إلى غرفة نومه‪ ،‬وكيف تنظر إليها الكاميرا؟ يجب أن‬
‫يكون هناك انسجام بين الرؤيتين؛ وهذا ما ح ّققه بازوليني وأنطونيوني‬
‫وأوزو‪ ،‬كل على طريقته‪.‬‬

‫فعل‪ /‬حركة‪ /‬أداء )‪ :(action‬مصطلح ُيقصد به الفعل الدرامي‪،‬‬


‫ويشكّل ديناميكية الفيلم‪ .‬وأفالم المغامرات والويستيرن طافحة بتتالي‬
‫وتدل هذه الكلمة‪ ،‬بحسب لفظها اإلنجليزي‪ ،‬على الصيحة‬ ‫ّ‬ ‫األحداث‪.‬‬
‫التي يطلقها المخرج إلى الممثالت والممثلين والتقنيين بأن التصوير‬
‫سيبدأ‪.‬‬

‫فوتوغرام )‪ :(photogramme‬صورة فوتوغرافية ال تستعمل آلة‬


‫حساس للضوء‬‫التصوير في إنتاجها‪ ،‬وتتم بوضع األشياء على مس ّطح ّ‬
‫يعرض مباشرة للنور‪ .‬وفي السينما يتألف الفوتوغرام من‬
‫(بكرة فيلم) ثم ّ‬
‫‪ 24‬صورة في الثانية الواحدة‪ ،‬ولكل صورة منها ‪ 4‬تخريجات‪.‬‬

‫كوميديا موسيقية )‪ :(comédie musicale‬فيلم يتم ّيز بالجمع بين‬


‫األوبرا واألوبريت‪ ،‬ويتسم باألسلوب المرح وبالنهاية السعيدة ومن‬
‫أمثلتها‪ :‬الفالس الكبير لجوليان دوفيفيه )‪،(1938) (Julien Duvivier‬‬
‫سيدتي الجميلة لجورج كوكور )‪ (1964) (George Cukor‬وصوت‬

‫‪400‬‬
‫الموسيقى لروبرت إيرل وايز )‪ (1965) (Robert Earl Wise‬وبياع‬
‫الخواتم ليوسف شاهين )‪.(1965‬‬

‫محايثة )‪ :(immanence‬مصطلح فلسفي ّ‬


‫يدل على العنصر الذي‬
‫يستقي مبدأه من ذاته ال من عنصر آخر أكثر أهمية منه‪ .‬ويتعارض مع‬
‫عنصر "التسامي" )‪ .(transcendance‬وهذا يداني ما قاله الفالسفة‬
‫الرواقيون عن العنصر التابع لإلنسان والنابع منه (المحايثة) وعن‬ ‫ُّ‬
‫العناصر التي ال تتبع له وال تُناط به (التسامي)‪ .‬فعندما قال نيتشه بموت‬
‫الله‪ ،‬أراد أن يقول‪ :‬ينبغي على اإلنسان أال يأمل الوصول إلى الحقيقة‬
‫األسمى والخفية‪ ،‬ألن اإلنسان هو سيد حقيقته‪ ،‬وألن كل شيء هو داخل‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫مستوهم )‪ :(fantastique‬على مستوى األدب يتشكّل المستوهم‬ ‫َ‬


‫بإدخال العنصر الغيبي والخارق في اإلطار الواقعي للقصة أو الرواية‪،‬‬
‫ويراوح بين الممكن والمستحيل وبين المنطقي والالمنطقي‪ .‬وحكايات‬
‫المستوهم‪ .‬وانتشر النوع األدبي‬
‫َ‬ ‫ألف ليلة وليلة ُ‬
‫خير مثال على األدب‬
‫المستوهم في حكايات الكاتب الفرنسي هوفمان )‪(Hoffmann‬‬ ‫َ‬
‫وفي روايات تيوفيل غوتييه )‪ (Théophile Gautier‬وقصص غي دو‬
‫موباسان‪ .‬ويعتبر كتاب صورة دوريان غراي ألوسكار وايلد من أهم‬
‫روايات االستيهام‪ ،‬باإلضافة إلى نصوص إدغار أالن وبو�‪(Edgar Al‬‬
‫)‪ lan Poe‬ونيكوالي غوغول )‪ (Nikolai Gogol‬وألكسندر بوشكين‬
‫)‪ (Aleksandr Pushkin‬وليو تولستوي )‪(Leo Tolstoy‬ودوستويفسكي‬
‫وخورخي لويس بورخيس )‪ .(Jorge Luis Borges‬وفي السينما تم ّثل‬
‫المستوهم باألجواء الخارقة والكائنات الخرافية (مصاصو الدماء‪،‬‬
‫َ‬ ‫الفيلم‬
‫األشخاص المستذئبون‪ ،‬السحرة‪ )...‬والفضاءات السوريالية (مع جان‬

‫‪401‬‬
‫كوكتو خصوص ًا)‪ .‬وفيلم أفاتار وهاري بوتر من أهم أفالم االستيهام في‬
‫السنوات األخيرة‪.‬‬

‫الموجة الجديدة )‪ :(nouvelle vague‬ظهر هذا المصطلح عام‬


‫‪ 1957‬نتيجة التغ ّيرات التي طرأت على المجتمع الشبابي الفرنسي‪.‬‬
‫تأ ّثر ّ‬
‫عشاق السينما غير التجارية بمجلة دفاتر السينما التي ّ‬
‫أسسها أندريه‬
‫بازان‪ .‬وضمت المجموعة سينمائيين شبان ًا‪ ،‬منهم فرانسوا تروفو وجان‬
‫لوك غودار وإريك روهمر وكلود شابرول‪ .‬وكان فيلم سيرج الجميل‬
‫)‪ (1958‬باكورة هذه الحركة التي ترسخت أقدامها مع فيلم الشيطنات‬
‫)‪ (Les quatre cents coups‬وهيروشيما حبي ‪(Hiroshima mon‬‬
‫)‪ amour‬والرمق األخير )‪ .(A bout de souffle‬وتم ّيزت هذه الموجة‬
‫الخ ّلبية وبممارسة التجريب في‬
‫الجديدة ببناء درامي واقعي بعيد عن ُ‬
‫التعامل مع الزمان والمكان وتمكين الشخوص من التعبير عن أفعالهم‬
‫ومواقفهم‪.‬‬

‫واحدية )‪ :(priméité‬بحسب بيرس‪ ،‬هي االستشعار أو اإلرهاص‬


‫الذي يسبق الشيء المستشعر‪ .‬مث ً‬
‫ال فكرة االحمرار‪ ،‬قبل مالحظتنا أن‬
‫هناك شيئ ًا أحمر (ورد‪ ،‬ستائر‪ ،‬ثياب‪)...‬؛ ومث ً‬
‫ال الشعور باالنقباض أو‬
‫األسى‪ ،‬قبل تبيان سبب االنقباض أو األسى (صداع‪ ،‬ألم جسدي أو‬
‫نفسي‪ .)...‬والمقصود بالواحدية أننا أمام واحد (في شموليته وكليته‪،‬‬
‫ومن دون حدود أو أجزاء‪ ،‬ومن دون علة ومعلول)‪.‬‬

‫الواقعية الجديدة )‪ :(Néoréalisme‬حركة سينمائية إيطالية ترافقت‬


‫مع ظروف الحرب العالمية الثانية وعقابيلها‪ ،‬بدأت بفيلم هوس للوتشينو‬
‫فيسكونتي‪ .‬واستُخدم هذا المصطلح للمرة األولى عام ‪ .1943‬وتم ّثلت‬
‫بالسمات التالية‪ :‬التصوير في مواقع حقيقية خارج الستوديو بعامة‪،‬‬

‫‪402‬‬
‫الممثلون أشخاص عاديون وغير محترفين‪ ،‬الموضوعات مقتبسة من‬
‫مشاكل الحياة اليومية‪ ،‬إقصاء التصنّع واالفتعال‪ ،‬اقتصاد في تكاليف‬
‫الفيلم‪ .‬ومن ممثليه روبيرت و روسيليني وجوسيبي دو سانتيس �‪(Gi‬‬
‫)‪ useppe De Santis‬وفيتوريو دو سيكا‪ .‬وتجاوزت الواقعية الجديد ُة‬
‫حدو َد إيطاليا في النصف الثاني من القرن العشرين‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫ثبت امل�صطلحات‬

‫‪cache‬‬ ‫إخفاء‪ /‬قناع‬

‫‪flash-back‬‬ ‫ارتجاع فني‬

‫)‪cinémathèque (française‬‬ ‫أرشيف فرنسي للسينما‬

‫‪décadrage‬‬ ‫إزاحة الكادر‬

‫‪anticipation‬‬ ‫استباق‬

‫)‪ambiante (lumière‬‬ ‫إضاءة محيطة‬

‫‪symptômes‬‬ ‫أعراض‬
‫‪film de dessins animés‬‬ ‫أفالم التحريك‪ /‬أفالم الرسوم‬
‫المتحركة‬
‫‪chambara‬‬ ‫أفالم الساموراي‬

‫‪svelte‬‬ ‫أملداني‪ /‬رشيق‬

‫‪405‬‬
‫‪affect‬‬ ‫انفعال أو تأ ّثر عاطفي‬

‫‪focus‬‬ ‫بؤرة‬

‫‪contraste‬‬ ‫تباين‬

‫‪focalisation‬‬ ‫تبئير‬

‫‪cadrage‬‬ ‫تحديد حجم اللقطة‬

‫‪périodisation‬‬ ‫تحقيب‬

‫‪dégradation‬‬ ‫متدرج‬
‫تدن ّ‬‫ٍّ‬

‫‪profil‬‬ ‫تصوير جانبي‬

‫‪prise de vue‬‬ ‫تصوير سينمائي‬


‫‪contre-plongée‬‬ ‫تصوير الكاميرا من األسفل إلى‬
‫األعلى‬
‫‪plongée‬‬ ‫تصوير الكاميرا من األعلى إلى‬
‫األسفل‬
‫‪binôme‬‬ ‫تعارض حدّ ين‬

‫‪motivation‬‬ ‫تعليل‪ /‬تسويغ‬

‫‪découpage‬‬ ‫تقطيع فني‬

‫‪collure‬‬ ‫تلصيق شريط سينمائي‬

‫‪406‬‬
‫‪allusion‬‬ ‫تلميح‬

‫‪colorisation‬‬ ‫تلوين‬

‫‪audience‬‬ ‫جمهور المشاهدين‬

‫‪dividuel‬‬ ‫جوهر تعبيري‪ /‬تذريري‬

‫‪plan‬‬ ‫حجم اللقطة‬

‫‪ellipse‬‬ ‫حذف إيجازي‬

‫‪hors-champ‬‬ ‫خارج مجال الرؤية‬

‫‪perforer le film‬‬ ‫خرم بكر َة الفيلم‬


‫ّ‬
‫‪synopsis‬‬ ‫خالصة السيناريو‬

‫‪doublage‬‬ ‫دبلجة‬

‫‪péplum‬‬ ‫ِرداء‪ /‬وشاح‬

‫‪angle de réfraction‬‬ ‫زاوية انكسار‬

‫‪séries‬‬ ‫سلسلة فيلمية‬

‫‪scénario‬‬ ‫سيناريو الفيلم‬

‫)’‪avant-garde (cinéma d‬‬ ‫سينما طليعية‬

‫‪grand écran‬‬ ‫شاشة كبيرة‬

‫‪407‬‬
‫‪fragments‬‬ ‫شذرات‬

‫‪piste sonore‬‬ ‫شريط صوتي للفيلم‬

‫‪opsigne‬‬ ‫صورة بصرية‬

‫‪sonsigne‬‬ ‫صورة سمعية‬

‫‪gros plan‬‬ ‫صورة مضخمة‬

‫‪le clair-obscur‬‬ ‫تدرجي‬


‫ضوء ّ‬
‫‪appareillage‬‬ ‫عُدّ ة‪ /‬لوازم‬

‫‪zoom‬‬ ‫عدسة الزوم‬

‫‪chariot‬‬ ‫عربة كاميرا‬

‫‪contre champ‬‬ ‫عكس مجال الرؤية‬

‫‪synsignes‬‬ ‫عالمات جامعة (بيرس)‬

‫‪profondeur du champ‬‬ ‫عمق مجال الرؤية‬

‫‪générique‬‬ ‫عنوان الفيلم‬

‫‪le film noir‬‬ ‫فيلم الدسائس‬


‫)‪biographique (film‬‬ ‫فيلم سيرة غيرية (مث ً‬
‫ال لورانس‬
‫العرب‪ ،‬لينكولن)‬
‫‪documentaire‬‬ ‫فيلم وثائقي‬

‫‪408‬‬
‫‪collage‬‬ ‫قص ولصق‬
‫ّ‬

‫‪coupure‬‬ ‫قطع‬

‫‪scénariste‬‬ ‫كاتب سيناريو‬

‫‪opaque‬‬ ‫كامد‪ /‬أكمد‬

‫‪travelling‬‬ ‫متحركة‪ /‬تنقيل‬


‫ّ‬ ‫كاميرا‬

‫‪comédie noire‬‬ ‫كوميديا سوداء‪ /‬كوميديا مظلمة‬

‫‪plan séquence‬‬ ‫لقطة سياقية‬

‫‪gros-plan‬‬ ‫لقطة كبيرة‪ /‬لقطة مقربة‬

‫‪insert‬‬ ‫درجة‪ُ /‬مدْ َرج‬


‫لقطة ُم َ‬
‫‪une plongée‬‬ ‫لقطة مشرفة من ٍ‬
‫عل‬

‫‪gros plan‬‬ ‫لقطة مقربة‬

‫‪séquence‬‬ ‫متتالية‬

‫‪espace off‬‬ ‫مجال ُملغى‬

‫‪ciné-magazine‬‬ ‫مجلة سينمائية‬

‫‪immanent‬‬ ‫محايث‬

‫‪individué‬‬ ‫ذوت‬
‫ُم ّ‬

‫‪409‬‬
surimpression ‫مزج تراكُبي للصورة‬

polyvision ‫مشاهدة متعدّ دة‬

caméraman ‫مصور‬
ّ

clip ‫ُمقتطف فيلمي‬

poster ‫ملصق‬

montage ‫مونتاج‬

effets ‫مؤ ّثرات‬

archétype ‫نموذج (طراز) بدئي‬

obsession ‫ هوس‬/‫هجاس‬

les raccords de l’axe ‫وصالت المحور‬

raccord ‫وصلة‬

410
‫الفهر�س‬
‫‪،238 ،217 ،173 ،171 ،169‬‬ ‫‪-‬أ‪-‬‬
‫‪398 ،380 ،378 ،370 ،324‬‬ ‫اآللية‪،333 ،124 ،91 ،89 :‬‬
‫اإلطار‪،66 ،45 ،44 ،41 ،35 :‬‬ ‫‪360 ،336‬‬
‫‪407 ،402 ،93‬‬ ‫األدوار‪،253 ،238 ،220 ،211 :‬‬
‫اإلنتاج‪389 ،73 ،17 ،8 :‬‬ ‫‪،377 ،325 ،317 ،293 ،260‬‬
‫‪401 ،397 ،385‬‬
‫إيزنشتاين‪،38 ،37 ،23 ،22 :‬‬
‫‪،83 ،80 ،76 ،74 ،72 ،67 ،65‬‬ ‫األشكال‪،71 ،25 ،23 ،20 ،8 :‬‬
‫‪،114 ،109 ،95 ،90 ،87 ،84‬‬ ‫‪،230 ،222 ،172 ،127 ،126‬‬
‫‪،179 ،178 ،175 ،169 ،144‬‬ ‫‪378 ،370 ،346 ،345 ،337‬‬
‫‪،288 ،230 ،191 ،183 ،180‬‬ ‫األلوان‪،112 ،109 ،94 ،79 :‬‬
‫‪،341 ،339 ،338 ،296 ،292‬‬ ‫‪،261 ،238 ،232 ،230 ،186‬‬
‫‪346 ،345 ،343‬‬ ‫‪290‬‬
‫االرتكاس‪292 ،134 :‬‬ ‫اإلدراك‪،54 ،50 ،18 ،17 ،11 :‬‬
‫األفالم‪،213 ،85 ،53 ،13 :‬‬ ‫‪،134 ،132 ،122 ،119 ،85 ،59‬‬
‫‪،313 ،311 ،300 ،277 ،253‬‬ ‫‪،144 ،141 ،138 ،137 ،135‬‬
‫‪،346 ،328 ،325 ،317 ،314‬‬ ‫‪،157 ،156 ،153 ،148 ،147‬‬
‫‪405 ،404 ،392 ،383 ،358‬‬ ‫‪،168 ،166 ،165 ،163 ،158‬‬

‫‪411‬‬
‫‪،209 ،196 ،194 ،156 ،143‬‬ ‫االنعكاس االمحراري‪،109 :‬‬
‫‪،403 ،401 ،369 ،367 ،218‬‬ ‫‪111‬‬
‫‪413 ،408 ،406‬‬ ‫‪،137‬‬ ‫االنفعال العاطفي‪،11 :‬‬
‫‪-‬ت‪-‬‬ ‫‪،183‬‬ ‫‪،175 ،144 ،141 ،139‬‬
‫التأطري‪،49 ،42 ،39 ،38 ،35 :‬‬ ‫‪،197‬‬ ‫‪،195 ،193 ،191 ،189‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪،210‬‬ ‫‪،204 ،203 ،200 ،198‬‬
‫‪،241‬‬ ‫‪،230 ،220 ،217 ،216‬‬
‫التجريد‪،221 ،187 ،186 ،91 :‬‬ ‫‪261‬‬
‫‪،258 ،229 ،226 ،225 ،222‬‬
‫‪269 ،264 ،262‬‬ ‫‪-‬ب‪-‬‬

‫الرتكيب‪،106 ،87 ،76 ،75 :‬‬ ‫بابست‪ ،‬جورج فيلهلم‪،104 :‬‬


‫‪206 ،193 ،111‬‬ ‫‪281 ،273 ،180‬‬

‫التصوير الضوئي‪172 ،21 :‬‬ ‫بازوليني‪ ،‬بيري باولو‪،65 ،35 :‬‬


‫‪،155 ،154 ،152 ،151 ،150‬‬
‫التقطيع‪253 ،212 ،48 ،31 :‬‬ ‫‪406‬‬
‫‪-‬ث‪-‬‬ ‫برغسون‪ ،‬هنري‪،16 ،10 ،9 ،7 :‬‬
‫الثالوثية‪398 ،373 ،367 :‬‬ ‫‪،56 ،30 ،28 ،27 ،26 ،21 ،19‬‬
‫‪-‬ج‪-‬‬ ‫‪،129 ،128 ،122 ،120 ،68 ،60‬‬
‫‪،173 ،142 ،136 ،132 ،131‬‬
‫اجلدلية‪،86 ،80 ،75 ،74 ،23 :‬‬ ‫‪349 ،299‬‬
‫‪369 ،341 ،340 ،170 ،95‬‬
‫بريسون‪ ،‬روبرت‪،214 ،42 :‬‬
‫اجلمهور‪412 ،350 ،262 ،207 :‬‬ ‫‪،227 ،225 ،223 ،222 ،215‬‬
‫‪-‬ح‪-‬‬ ‫‪230‬‬
‫احلبكة‪381 ،376 ،373 ،311 :‬‬ ‫بودوفكني‪ ،‬فزيفولد‪،82 ،54 :‬‬
‫احلركة النسبية‪100 ،98 ،96 :‬‬ ‫‪340 ،339‬‬
‫بريس‪ ،‬تشارلز ساندرز‪،12 ،7 :‬‬
‫‪412‬‬
‫‪-‬ز‪-‬‬ ‫‪-‬خ‪-‬‬
‫الزمكانية‪،193 ،192 ،190 :‬‬ ‫خطوط الكون‪366 ،364 ،353 :‬‬
‫‪394 ،367 ،237 ،213 ،204‬‬ ‫‪-‬د‪-‬‬
‫الزمن‪،25 ،21 ،16 ،11 ،9 ،8 :‬‬ ‫دريري‪ ،‬كارل‪،46 ،42 ،38 ،37 :‬‬
‫‪،72 ،68 ،67 ،57 ،44 ،32 ،30‬‬ ‫‪،211 ،210 ،144 ،66 ،65 ،63‬‬
‫‪،105 ،101 ،99 ،90 ،83 ،81‬‬ ‫‪،230 ،226 ،223 ،215 ،214‬‬
‫‪،199 ،168 ،166 ،142 ،115‬‬ ‫‪373‬‬
‫‪،292 ،258 ،257 ،249 ،247‬‬
‫‪395 ،393 ،363 ،340 ،316‬‬ ‫دولوز‪ ،‬جيل‪،10 ،9 ،8 ،7 ،4 :‬‬
‫‪404 ،403 ،401 ،137 ،11‬‬
‫‪-‬س‪-‬‬
‫الديكورات‪،281 ،94 ،35 :‬‬
‫الرسد‪،320 ،308 ،239 ،49 :‬‬ ‫‪404 ،311‬‬
‫‪384 ،383 ،374‬‬
‫الديمومة‪،46 ،32 ،30 ،29 ،26 :‬‬
‫سطح الكمون‪127 ،126 :‬‬ ‫‪247 ،126 ،67 ،50 ،48‬‬
‫السيناريو‪،338 ،257 ،197 ،85 :‬‬ ‫‪-‬ذ‪-‬‬
‫‪414 ،412 ،381‬‬
‫الذاتية‪،147 ،99 ،89 ،78 :‬‬
‫السينام الصامتة‪،91 ،79 ،25 :‬‬ ‫‪157 ،156 ،152 ،150‬‬
‫‪167‬‬
‫الذاكرة‪406 ،303 :‬‬
‫السينام الناطقة‪،325 ،93 ،79 :‬‬
‫‪328 ،327‬‬ ‫‪-‬ر‪-‬‬

‫‪-‬ش‪-‬‬ ‫روسيليني‪ ،‬روبريتو‪،392 ،236 :‬‬


‫‪409 ،393‬‬
‫شابرول‪ ،‬كلود‪،395 ،392 ،63 :‬‬
‫‪406‬‬ ‫روهمر‪ ،‬إريك‪،110 ،63 ،51 :‬‬
‫‪،372 ،370 ،225 ،153 ،152‬‬
‫شابلن‪ ،‬شاريل‪،311 ،308 ،25 :‬‬ ‫‪406 ،393 ،374 ،373‬‬
‫‪402 ،330 ،322‬‬

‫‪413‬‬
‫الضوء‪،104 ،102 ،94 ،39 :‬‬ ‫شارلو‪،323 ،322 ،294 ،25 :‬‬
‫‪،128 ،127 ،109 ،108 ،106‬‬ ‫‪327 ،326 ،324‬‬
‫‪،209 ،203 ،188 ،132 ،130‬‬ ‫الشاشة‪،52 ،42 ،41 ،38 ،36 :‬‬
‫‪404 ،401 ،273 ،262 ،219‬‬ ‫‪،152 ،143 ،130 ،128 ،100‬‬
‫‪-‬ع‪-‬‬ ‫‪402 ،354 ،188 ،174‬‬
‫العنرص الشجني‪78 :‬‬ ‫الشخصيات‪،212 ،149 ،39 :‬‬
‫‪-‬غ‪-‬‬ ‫‪،362 ،357 ،234 ،225 ،220‬‬
‫‪402‬‬
‫غريفيث‪ ،‬فريدريك‪،38 ،37 :‬‬
‫‪،80 ،76 ،74 ،73 ،71 ،69 ،67‬‬ ‫الشخوص‪،69 ،59 ،51 ،48 :‬‬
‫‪،178 ،144 ،109 ،106 ،87‬‬ ‫‪،242 ،234 ،233 ،232 ،149‬‬
‫‪،285 ،230 ،191 ،183 ،181‬‬ ‫‪،274 ،264 ،262 ،261 ،247‬‬
‫‪356 ،330 ،292‬‬ ‫‪،373 ،338 ،311 ،309 ،298‬‬
‫‪،385 ،384 ،381 ،377 ،374‬‬
‫غوته‪ ،‬يوهان فولفغانغ فون‪:‬‬ ‫‪408 ،396 ،395 ،387 ،386‬‬
‫‪225 ،186 ،112 ،109 ،103‬‬
‫‪-‬ص‪-‬‬
‫ف‪-‬‬
‫الصورة البرصية‪155 ،103 ،42 :‬‬
‫الفن‪151 ،82 ،24 ،11 ،9 ،8 :‬‬
‫الصورة الذهنية‪،372 ،370 :‬‬
‫الفوتوغرام‪،185 ،174 ،17 :‬‬ ‫‪398 ،380 ،378 ،373‬‬
‫‪406‬‬
‫الصورة السينامئية‪،57 ،40 ،38 :‬‬
‫فريتوف‪ ،‬دزيغا‪،86 ،85 ،84 :‬‬ ‫‪،150 ،149 ،120 ،115 ،92‬‬
‫‪،166 ،165 ،144 ،129 ،98 ،93‬‬ ‫‪391 ،258 ،247 ،191 ،170‬‬
‫‪173 ،171 ،169 ،168‬‬
‫الصورة الضوئية‪169 ،92 ،58 :‬‬
‫‪-‬ق‪-‬‬
‫الصورة الفوتوغرافية‪130 ،57 :‬‬
‫القوالب اجلاهزة‪،388 ،386 :‬‬
‫‪398 ،397 ،396 ،394 ،390‬‬ ‫‪-‬ض‪-‬‬

‫‪414‬‬
‫‪-‬م‪-‬‬ ‫‪-‬ك‪-‬‬
‫جمال الرؤية‪،46 ،45 ،43 ،42 :‬‬ ‫الكادر‪،47 ،42 ،41 ،36 ،35 :‬‬
‫‪413 ،412‬‬ ‫‪،153 ،129 ،96 ،68 ،58 ،49‬‬
‫‪،148‬‬ ‫املخرج‪،105 ،83 ،61 :‬‬ ‫‪،362 ،324 ،211 ،164 ،154‬‬
‫‪،197‬‬ ‫‪،187 ،184 ،182 ،168‬‬ ‫‪410 ،402 ،373‬‬
‫‪،245‬‬ ‫‪،237 ،232 ،218 ،206‬‬ ‫الكامريا‪413 ،188 ،153 ،55 :‬‬
‫‪،279‬‬ ‫‪،278 ،269 ،261 ،249‬‬ ‫كوروساوا‪ ،‬أكريا‪،353 ،52 :‬‬
‫‪،346‬‬ ‫‪،338 ،318 ،308 ،295‬‬ ‫‪،360 ،359 ،358 ،356 ،355‬‬
‫‪406 ،402 ،384 ،375 ،370‬‬ ‫‪366 ،361‬‬
‫املدرسة التعبريية‪104 ،40 :‬‬ ‫كوميديا‪،402 ،376 ،312 :‬‬
‫املدرسة الفرنسية‪،92 ،90 ،87 :‬‬ ‫‪414 ،407 ،403‬‬
‫‪،109 ،108 ،106 ،102 ،98 ،95‬‬ ‫كيتون‪َ ،‬بسرت‪،329 ،288 ،137 :‬‬
‫‪170 ،163 ،158 ،157 ،111‬‬ ‫‪،336 ،334 ،333 ،331 ،330‬‬
‫املرئي‪،304 ،143 ،79 ،45 ،42 :‬‬ ‫‪402‬‬
‫‪362 ،325‬‬ ‫‪-‬ل‪-‬‬
‫املشهد‪،102 ،77 ،71 ،69 ،36 :‬‬ ‫اللقطة‪،54 ،42 ،35 ،19 ،12 :‬‬
‫‪،255 ،238 ،221 ،148 ،143‬‬ ‫‪،68 ،62 ،61 ،59 ،58 ،57 ،55‬‬
‫‪395 ،363 ،330 ،304 ،259‬‬ ‫‪،135 ،103 ،96 ،93 ،78 ،70‬‬
‫املعلومات الكتيمة‪36 :‬‬ ‫‪،177 ،175 ،172 ،148 ،144‬‬
‫املقاطع‪124 ،122 ،21 :‬‬ ‫‪،192 ،190 ،189 ،183 ،180‬‬
‫‪،212 ،211 ،206 ،205 ،198‬‬
‫املنظومة‪،38 ،37 ،35 ،24 ،21 :‬‬ ‫‪،250 ،233 ،222 ،217 ،213‬‬
‫‪،132 ،68 ،48 ،46 ،45 ،43 ،40‬‬ ‫‪،365 ،339 ،332 ،308 ،304‬‬
‫‪398 ،365 ،299 ،151‬‬ ‫‪412 ،411 ،373‬‬
‫مورناو‪ ،‬فريدريش فيلهلم‪،40 :‬‬ ‫اللولب العضوي‪101 ،74 :‬‬

‫‪415‬‬
‫هيتشكوك‪ ،‬ألفريد‪،52 ،47 ،36 :‬‬ ‫‪،111 ،110 ،104 ،102 ،51‬‬
‫‪،377 ،376 ،374 ،373 ،372‬‬ ‫‪404 ،348 ،185 ،149‬‬
‫‪398 ،381 ،380 ،378‬‬ ‫موضوعية‪،149 ،148 ،133 :‬‬
‫هريزوغ‪ ،‬ويرنر‪،348 ،346 :‬‬ ‫‪335 ،163 ،161 ،156 ،153‬‬
‫‪350 ،349‬‬ ‫املونتاج‪،67 ،65 ،59 ،49 ،19 :‬‬
‫‪-‬و‪-‬‬ ‫‪،83 ،82 ،80 ،75 ،72 ،71 ،68‬‬
‫الواقعية‪،235 ،211 ،204 ،16 :‬‬ ‫‪،114 ،104 ،102 ،100 ،97 ،86‬‬
‫‪،298 ،295 ،273 ،250 ،243‬‬ ‫‪،166 ،165 ،158 ،144 ،142‬‬
‫‪،393 ،392 ،388 ،383 ،311‬‬ ‫‪،219 ،205 ،172 ،169 ،168‬‬
‫‪409 ،396 ،394‬‬ ‫‪381 ،311 ،294 ،292‬‬

‫الوحدة اجلدلية‪95 ،75 :‬‬ ‫ميزوغويش‪ ،‬كينجي‪،362 ،361 :‬‬


‫‪365 ،364 ،363‬‬
‫الوعي‪،78 ،51 ،50 ،29 ،7 :‬‬
‫‪،154 ،153 ،127 ،119 ،82 ،80‬‬ ‫‪-‬ن‪-‬‬
‫‪،302 ،228 ،164 ،158 ،157‬‬ ‫النقد‪،296 ،254 ،87 ،76 ،59 :‬‬
‫‪388 ،387 ،340‬‬ ‫‪390 ،389‬‬
‫الويسترين‪،283 ،281 ،276 :‬‬ ‫النموذج‪،143 ،122 ،90 ،89 :‬‬
‫‪،316 ،314 ،296 ،294 ،286‬‬ ‫‪405 ،274 ،257‬‬
‫‪352 ،338 ،319 ،318 ،317‬‬ ‫‪-‬هـ‪-‬‬
‫ويلز‪ ،‬أورسون‪373 ،61 ،52 :‬‬ ‫هوكس‪ ،‬هوارد‪،281 ،279 :‬‬
‫‪،338 ،319 ،316 ،315 ،314‬‬
‫‪346‬‬

‫‪416‬‬

You might also like