Professional Documents
Culture Documents
ال�صورة -الحركة
(الجزء الأول)
لجنة العلوم اإلنسانية واالجتماعية
جيل دولوز
�سينما
ال�صورة -الحركة
(الجزء الأول)
ترجمة
د .جمال شح ّيد
مراجعة
د .نبيل أبو مراد
الـفـهـــرسة أثـنـــاء الـنــشر -إعـــداد المـنظمة الـعـــربية لـلـتـرجمـة
دولوز ،جيل
سينما :الصورة -الحركة /جيل دولوز؛ ترجـمة جمال شح ّيد؛
مراجعة نبيل أبو مراد.
416ص( - .علوم إنسانية واجتماعية)
يشتمل على فهرس.
ISBN 978-614-434-047-9
.1السينما .2 .الفلسفة .أ .العــــنــوان .ب .شح ّيد ،جمال
(مترجم) .ج .أبو مراد ،نبيل (مراجع) .د .السلسلة.
791.4
"اآلراء الواردة في هذا الكتاب ال تع ّبر بالضرورة
عن اتجاهات تتبناها المنظمة العربية للترجمة"
Deleuze, Gilles
vol. 1: Cinéma: L'image-mouvement
© Les Editions de Minuit, 1983.
5
الفصل السابع :الصورة /االنفعال العاطفي :الكيفيات
199 والقوى واألماكن النكرة ..................................................
الفصل الثامن :من التأ ّثر إىل الفعل:
237 الصورة /الغريزة.............................................................
الفصل التاسع :الصورة /الفعل:
269 الشكل الكبري .................................................................
الفصل العاشر :الصورة /الفعل:
301 الشكل الصغري ................................................................
6
مقدمة املرتجم
منذ عشرين سنة أصدر جيل دولوز دراسة فلسفية طويلة عن
السينما ،عالج في جزئها األول مسألة الصورة /الحركة ،وفي جزئها
الثاني الصورة /الزمن .واعتبر ن ّقاد الفن السابع هذه الدراسة من أهم
ما كُتب عن السينما حتى اآلن .ليست الدراسة "محاولة لكتابة تاريخ
السينما" كما ّ
حذر في بدايتها ،بقدر ما هي تحليل لعالقة السينما بالحركة
وبالزمن .وهاتان المقولتان من المقوالت الخصبة التي ركّز عليها هنري
برغسون ،وهو الفيلسوف الذي نال حظوة كبرى من أبحاث دولوز.
يط ّبق دولوز هذه المقوالت على السينما ،علم ًا بأنه ط ّبقها سابق ًا
على األدب ،في دراسته عن بروست وساشير-مازوخ ،وعن الفن ،في
دراسته عن الفنان البريطاني فرانسيس بيكون ( .)1992-1909يروي
فرانسوا دوس ) (F. Dosseبعض أفالم جان لوك غودار .ومن هنا نشأت
دراسته الرئيسية عن الصورة /الحركة والصورة /الزمن.
9
الصورة /الزمن ُبعيد الحرب العالمية الثانية ،وارتباطها بالواقعية اإليطالية
الجديدة والموجة الجديدة في فرنسا والسينما الحرة (غير الهوليوودية)
في الواليات المتحدة .وربط دولوز تفكيره عن السينما/الزمن بنظرة
برغسون عن الزمن ،والقائلة بوجود زمن آلي (وهو زمن الساعة ،تِك
تاك ،دقيقة ،ساعة ،يوم – )...وهو زمن ثابت وحسابي ،وزمن إنساني
تابع لتفاعل اإلنسان مع الزمن ،وهو زمن رجراج يخضع للحالة النفسية
والعاطفية والفكرية لإلنسان ،ويمكن أن تكون ساعته طويلة ومم ّلة ،أو
ومشوقة .وفي جزأي الكتاب يرى دولوز أن الصورة /الحركة ّ قصيرة
والصورة /الزمن مرتبطتان بالصورة /الدماغ بنا ًء على الدراسات الطب ّية
والفلسفية الحديثة المتعلقة بالذاكرة وارتباطها بحركات الزمن الثالث:
الماضي والحاضر والمستقبل .ورأت دفاتر السينما أن دولوز هو
أحب السينما حق ًا".
"المفكّر الكبير الوحيد في عصرنا الذي ّ
جمال شح ّيد
دمشق في 20آذار /مارس 2014
11
توطئة
ٍ
صور ليست هذه الدراسة تاريخ ًا للسينما .إنها عملية تبويب
وإشارات ومحاولة لتصنيفها .ولكن هذا الجزء األول من الدراسة يجب
ٍ
وحيد من التصنيف. عناصر قسم أن يكتفي بتحديد العناصر ،أقول
َ
ثمة مجابهة أخرى على جانب من الضرورة .لقد كتب برغسون ّ
شخصكتابه المادة والذاكرة ) (Matière et mémoireعام 1896وفيه ّ
أزم ًة من أزمات علم النفس .لم يعد يمكن أن تقوم معارضة بين الحركة
كواقع فيزيائي في العالم الخارجي ،وبين الصورة كواقع نفسي في
الوعي .إن اكتشاف برغسون لصورة /حركة ،وبخاصة لصورة /زمن
ما يزال حتى اليوم يحتفظ بثرائه الذي لم نستخلص منه جميع نتائجه.
13
وجهه برغسون الحق ًا
فعلى الرغم من االنتقاد الشديد التبسيط الذي ّ
للسينما ،فال شيء يستطيع أن يحول دون ِ
ربط الصورة /الحركة ،كما
رآها ،بالصورة السينمائية.
في هذا الجزء األول من الكتاب سنعالج الصورة /الحركة
بشتّى أنواعها .أما الصورة /الزمن فستكون موضوع الجزء الثاني .لقد
بدا لنا أن كبار كتّاب السينما يمكن مقارنتهم ال بالرسامين والمعماريين
والموسيقيين فحسب ،بل بالمفكّرين أيض ًا .ذلك أنهم يفكّرون من خالل
فالكم الهائل
ّ الصور /الحركة والصور /الزمن بدل أن يسوقوا المفاهيم.
من الضحالة في اإلنتاج السينمائي ليس اعتراض ًا على ذلك؛ مع أنه ليس
أسوأ مما نراه في مجاالت أخرى ،وبالرغم من دعم نتائجه االقتصادية
والصناعية الفريدة .فكبار المخرجين السينمائيين هم بالتالي أكثر عرض ًة
للتجريح ،ومن السهل جد ًا الحؤول دون إنجازهم أفالمهم .وتاريخ
جم من الشهداء .فليست السينما أقل إسهام ًا في السينما حافل بعدد ٍّ
تاريخ الفن والفكر ،وفي ظل األشكال المستق ّلة الفريدة التي استحدثها
هؤالء السينمائيون ونشروها على الرغم من جميع العقبات.
لن نقدّ م أية أمثلة سينمائية توضح نصنا ،ألن نصنا هو الذي ابتغى
كل منا ذكرى عنهاأن يكون توضيح ًا لألفالم الكبرى التي ر ّبما يحمل ّ
وتأ ّثر بها وأدرك أبعادها.
14
الف�صل الأول
�أطروحات حول احلركة
التعليق الأول لربغ�سون
)1
ال يقدّ م برغسون أطروحة واحدة حول الحركة بل ثالث ًا .األولى
هي أشهرها وتوشك أن تحجب األطروحتين األخريين ،مع أنها مقدّ مة
تختلط مع المكان الذي ُ لهما .وتقول هذه األطروحة إن الحركة ال
ماض ،بينما الحركة هي حاضر ،وهذه ٍ اجتازته .فالمكان المجتاز هو
هي عملية االجتياز .ويمكن تقسيم المكان ،في حين أن الحركة ال تقبل
تنقسم من دون أن تغ ّير طبيعة كل قسمة .وهذا يقتضي القسمة ،أو أنها الِ
ُ
فكرة أشدّ تعقيد ًا تقول :إن األمكنة المجتازة تنتمي كلها إلى مكان واحد
ّ
ويتعذر دمجها ببعضها. متجانس ال يتغ ّير ،في حين أن الحركات متنافرة
ّ
الخلق �(L’évolu عا م 1907تبنّى برغسون ،في كتابه التطور
) ،tion créatricreالصيغة الرديئة التالية :الوهم السينمائي .ذلك أن
تسمى صور ًا، السينما تلجأ فع ً
ال إلى معطيين متكاملين :مقاطع لحظية ّ
وحركة أو زمن غير شخصي وأحادي الشكل ومجرد وغير منظور وغير
يتم استعراض الصور تباع ًا(((.
مدرك و"موجود" في الجهاز و"بواسطته" ّ
تقدّ م لنا السينما إذن حرك ًة كاذبة ،وهي المثال الالفت للحركة الخاطئة.
ومن المستغرب أن برغسون أطلق على الوهم األكثر ِقدم ًا صفة عصرية
وحديثة جد ًا هي "الوهم السينمائي" .يقول برغسون :إن السينما عندما
تعيد تشكيل الحركة من خالل مقاطع ساكنة ،ال تفعل ّإل ما فعله الفكر
األشد قدم ًا (مفارقات زينون ) )(Zénonأو ما يفعله اإلدراك الطبيعي.
وفي هذا الشأن يتم ّيز برغسون عن الظواهرية التي رأت أن السينما قد
((( Henri Bergson, L’évolution créatrice ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]) p. 753,
)(3055
نستشهد بنصوص برغسون بحسب طبعة Le centenaire؛ والرقم املكتوب بني
قوسني هو رقم الصفحات الوارد يف الطبعة الشائعة التي أصدرهتا دار .P.U.F.
16
أحدثت باألحرى قطيعة مع شروط اإلدراك الطبيعي ،قال" :إننا نلتقط
مشاهد شبه فورية من الواقع العابر ،وبما أن هذه المشاهد مرتبطة بهذا
مجردة وأحادية الشكل الواقع ،يكفي أن نجعلها تنتظم في صيرورة ّ
وغير مرئية تكمن في قاع جهاز المعرفة ...فاإلدراك الحسي واإلدراك
العقلي واللغة تتبع كلها هذا النهج .أفكّرنا في الصيرورة أم ع ّبرنا عنها
ٍ
جهاز سينمائي أو أدركناها حسي ًا ،فإننا ال نفعل شيئ ًا آخر سوى تحريك
داخلي" .هل يجب أن نفهم من ذلك أن السينما ،بحسب برغسون ،هي
فقط عرض وإنتاج لوهم ثابت وعام؟ هل هذا يعني أننا مارسنا السينما
دائم ًا ومن دون أن ندرك ذلك؟ عندها ستُطرح مشاكل عديدة.
بداي ًة ،أليس اإلنتاج المجدّ د للوهم هو تصحيح له نوع ًا ما؟ هل
نستطيع استخالص الوسائل االصطناعية من النتيجة االصطناعية؟ تعمل
السينما من خالل فوتوغرام ) ،(photogrammesأي من خالل مقاطع
ثابتة 24 ،صورة في الثانية (أو 18صورة في البداية) .ولكن ما تعطينا
إياه السينما ،كما الحظنا ذلك غالب ًا ،ليس الفوتوغرام ،وإنما الصورة
المتوسطة التي ال تضاف الحركة إليها وال تنجمع فيها :ذلك أن الحركة
المتوسطة كمعطى فوري.
ّ على العكس من ذلك ،تنتمي إلى الصورة
سيقال :هذا ما يحصل تمام ًا في اإلدراك الطبيعي .ولكن هنا سيتم
تصحيح الوهم في بداية اإلدراك ،من خالل الشروط التي تجعل هذا
فيصح ُح هذا اإلدراك عندما تظهر الصورة
َّ اإلدراك ممكن ًا .أما في السينما
لمشاهد بعيد عن هذه الشروط (وفي هذا الصدد ،سنرى أن الظواهرية
ُ
مح ّقة حين افترضت وجود اختالف نوعي بين اإلدراك الطبيعي
واإلدراك السينمائي) .باختصار نقول إن السينما ال تُعطينا صورة تضاف
17
إليها حركة ،إنها تعطينا على الفور صورة /حركة .تعطينا َق ْطع ًا ،و َق ْطع ًا
مجردة .والغريب جد ًا في األمر هو أن برغسون اكتشف متحرك ًا +حركة ّ
ّ
تمام ًا وجود مقاطع متحركة أو صور /حركة .ورد ذلك قبل صدور كتابه
الخلق ،وقبل الوالدة الرسمية للسينما ،وورد في كتابه المادة ّ التطور
ّ
والذاكرة الذي رأى النور عام .1896إن اكتشاف الصورة /الحركة،
خارج شروط اإلدراك الحسي الطبيعي ،كان الكشف الخارق الذي ورد
في الفصل األول من كتاب المادة والذاكرة .أنستطيع الظ ّن بأن برغسون
قد نسيه بعد عشر سنوات من ذلك؟
هل انقاد إلى وهم آخر يحدث في بدايات كل شيء؟ نحن نعلم
أن األشياء واألشخاص مضطرون إلى البقاء في ّ
الظل ،وأنهم ُمج َبرون
على ذلك عندما يبدأون .وكيف يكون األمر غير ذلك؟ فاألشياء تظهر
ٍ
وقتئذ؛ لذا وجب يتضمنهم واألشخاص يظهرون في مجمو ٍع لم يكن
ّ
عليها وعليهم أن ُيبرزوا السمات المشتركة مع المجموع كي ال يتم
رفضها ورفضهم .ال يظهر جوهر الشيء أبد ًا في البداية ،بل في وسطه
ُ
تتعزز قواه .هذا ما كان يدركه برغسون تطوره ،عندما ّ
وضمن مجرى ّ
طور الفلسفة بطرحه
أفضل من أي شخص آخر ،وال س ّيما أنه قد ّ
مسألة "الجديد" بدالً من مسألة "األبدية" (كيف يكون إنتاج وظهور
ال إن ِجدّ َة الحياة لم يكن بمقدورها
شيء جديد ممكن ًا؟) .لقد قال مث ً
أن تظهر في بداياتها ،ألن بداية الحياة كانت مضطرة إلى تقليد المادة...
َأولم يحدث األمر نفسه للسينما؟ أو باألحرى كيف كان وضع السينما
في البداية؟ من جهة كان التصوير يتم بكاميرا ثابتة ،وكانت اللقطة إذن
تتحرك إطالق ًا؛ ومن جهة أخرى كان هناك دمج بين الكاميرا
مكانية وال ّ
18
تطور السينما
مجرد .ولكن ّوجهاز العرض ،وكانا يعمالن في زمن واحد ّ
جوهرها األصلي وجدّ تَها ،سيتحقق في المونتاج ومع الكاميرا
َ وبلوغها
ستكف اللقطة
ّ وتحرر التصوير وانفصاله عن العرض .حينذاك
ّ المتحركة
متحرك ًا
ّ عن أن تكون مقولة مكانية لتصبح مقولة زمانية ،وسيصبح ال َقطع
وسيتخ ّلص من جموده ،وستجد السينما بالتحديد الصورة /الحركة التي
وردت في الفصل األول من كتاب المادة والذاكرة.
)2
مايزت
ْ والحال أن كتاب التطور الخالق أطلق أطروحة ثانية
كل شيء إلىعلى األقل بين وهمين شديدي االختالف ،بدل أن تختزل ّ
وهم واحد حول الحركة .ودائم ًا يكمن الخطأ في إعادة تشكيل الحركة
انطالق ًا من لحظات أو مواقف ،علم ًا بأن هناك طريقتين لذلك ،طريقة
قديمة وطريقة حديثة .لقد رأى ال ُقدامى أن الحركة تحيل إلى عناصر
يستطيع العقل أن يدركها ،ورأوا أن األشكال واألفكار خالدة وثابتة.
وطبع ًا ،لكي يستطيع المرء أن يعيد تشكيل الحركة ،عليه أن يدرك هذه
19
تجسدها في مادة دافقة .وهذه األشكال هي
األشكال في أقرب نقطة من ّ
بمثابة احتماالت ال تنتقل إلى الفعل إال عندما تتجسد في المادة .وعلى
العكس من ذلك ،فإن ما تقوم به الحركة ما هو إال التعبير عن "جدلية"
األشكال وعن توليفة ُمثلى تمنحها النظام واالتساق .فتكون الحركة
المتصورة كمعبر منتظم ينتقل من شكل إلى آخر ،أي كنظام لوضعياتّ
وللحظات متم ّيزة ،كما في الرقص .و ُيفترض في هذه األفكار أو الصور
"أن تع ّبر عن ُكنْه حقبة من الحقبات ،ألن كل ما يبقى في هذه الحقبة
مليء بانتقال شكل إلى شكل آخر ،وهو انتقال عديم الجدوى في ذاته...
نسجل المآل األخير أو النقطة القصوى ) (acmè, télosونجعلها
فنحن ّ
لحظ ًة جوهرية ،وهذه اللحظة التي احتفظت بها اللغة للتعبير عن ُمجمل
الحدث تكفي ليضطلع العلم بتحديدها"(((.
لقد سعت الثورة العلمية الحديثة إلى إرجاع الحركة ،ال إلى
لحظات أثيرة ،بل إلى لحظة عادية جد ًا .حتى ولو شكّلنا الحركة من
جديد ،فإننا ال نفعل ذلك انطالق ًا من عناصر شكلية خارقة (الوضعيات)
بل من عناصر مادية محايثة (المقاطع) .وبدالً من القيام بتوليف معقول
ال حس ّي ًا .وهكذا تشك َّل علم الفلك الحديث من
للحركة ،نح ّللها تحلي ً
خالل تحديد العالقة بين المدار والزمن الالزم لقطعه (كيبلر )،)(Kepler
وتشكّلت الفيزياء الحديثة من خالل ربط المسافة التي يجتازها جسم من
األجسام بالزمن الذي يستغرقه سقوط هذا الجسم (غاليليه )،)(Galilée
ٍ
منحن مس َّطح، وتشكّلت الهندسة الرياضية باستخالص المعادلة لخط
22
نسمي هذه اللحظات لحظات متم ّيزة؛ وثالث ًا ،وواحدة .ونستطيع أن ّ
ولكن ليس بمعنى المشاهد والوضعيات العامة التي كانت تميز ال َعدْ َو
في األشكال القديمة .ولم يعد لهذه اللحظات أية ِصلة بالوضعيات ،ال
بل قد تكون مستحيلة تمام ًا كوضعيات .وإذا كانت لحظات أثيرة ،فألنها
خاصة بالحركة ،وليس ألنها لحظات تح ّين شك ً
ال نقاط الفتة أو فريدة ّ
خارق ًا .لقد تغ ّير المعنى رأس ًا على عقب .فاللحظات البارزة التي تو ّقف
عندها إيزنشتاين ،أو يتو ّقف عندها أي سينمائي آخر ،ما زالت لحظات
عادية؛ ولكن اللحظة العادية قد تكون منتظمة أو فريدة ،وقد تكون عادية
أو الفتة .وحين اختار إيزنشتاين لحظات الفتة ،فإن هذا لم يمنعه من أن
يقتبسها من تحليل كامن في الحركة ،ال قطع ًا من توليف خارق .فاللحظة
الالفتة أو الفريدة تبقى لحظة عادية كغيرها من اللحظات .وهنا يكمن
الفرق بين الجدلية الحديثة التي ينتمي إليها إيزنشتاين ،وبين الجدلية
القديمة .فهذه األخيرة هي نظام األشكال الخارقة التي تتح ّين في
إنتاج ومجابه ُة النقاط الفريدة الكامنة
الحركة ،في حين أن الحركة هي ُ
ُ
والحال أن إنتاج الفرادات هذا (القفزة النوعية) يتم بمراكمة في الحركة.
اللحظات المألوفة (العملية الكم ّية) ،بحيث تُقتطع اللحظة الفريدة
من اللحظة المألوفة ،فتكون لحظ ًة مألوفة أو غير منتظمة .لقد أوضح
ني" (أو المؤثر) يقتضي وجود "العضوي"، إيزنشتاين نفسه أن " َ
الش َج ّ
شأنه شأن المجمل المن َّظم للحظات العادية التي يجب على ال َق َطعات
أن تجري فيها(((.
23
نعرف السينما إذ ًا
اللحظة العادية هي المتراصفة مع لحظة أخرىّ .
على أنها المنظومة التي تعيد إنتاج الحركة عندما ترتبط باللحظة العادية.
ولكن هنا تبرز الصعوبة .تُرى ،ما هي الفائدة من منظومة كهذه؟ من ناحية
العلم ،هي ضئيلة األهمية .ذلك أن الثورة العلمية قائمة على التحليل.
فإذا وجب ر ّد الحركة إلى اللحظة العادية كي يتم تحليلها ،لما رأينا تمام ًا
أهمية التوليف والتشكيل المجدّ د القائم على المبدأ نفسه ،إال إذا ُوجد
اهتمام غامض بالتوكيد .لذا فإن ماريه واألخوين لوميير ما كانوا يثقون
يتوضحكثير ًا في اختراع السينما .هل كان لها على األقل أهمية فنية؟ لم ّ
ذلك ،ألن الفن استأثر بحقوق توليفة أعلى للحركة ،وبقي مرتبط ًا
بالوضعيات واألشكال التي هجرها العلم .إننا إذ ًا في صميم الوضع
الملتبس للسينما كـ "ف ٍّن صناعي" :غير أن هذا ليس فن ًا وليس علم ًا.
24
مكان ،في وسط الشارع ،وبين السيارات ،وعلى طول الرصيف((( .ولكن
شارلي شابلن ) (Charlie Chaplinفي السينما الصامتة ،كان قد انتزع فن
اإليماء من ف ّن الوضعيات ،وجعله فن ًا إيمائي ًا فاعالً .وعلى أولئك الذين
الموا شارلو )(Charlotعلى القيام باستخدام السينما ال بخدمتها ،ر ّد
جان ميتري ) (Jean Mitryقائالً" :إنه أعطى اإليماء لون ًا جديد ًا ،ووظيفة
مكانية وزمنية ،واستمرار ًا مبني ًا في كل لحظة ولم يعد يتفكّك إال في
عناصره الكامنة الالفتة ،بدالً من أن يرتبط بأشكال محدّ دة مسبق ًا ويجب
تجسيدها"(((.
25
ٌ
مكان للحركة الحقيقية(((. محصلة لمجمل اللحظات ،فال يبقى ّ أو
التصور القديم
ّ ولكن بدا لبرغسون أن طريق ًا آخر قد انفتح .فإذا توافق
مع الفلسفة القديمة حول فكرة الخلود ،فإن المفهوم الحديث والعلم
الحديث يستدعي فلسفة أخرى .فعندما نربط الحركة بعدد من اللحظات
العادية ،يترتّب علينا أن نصبح قادرين على التفكير في إنتاج الحديث،
تحول كاملأي الالفت والفريد ،في أية لحظة من هذه اللحظات :إنه ّ
المحصلة ،أي أن ُيقدّ م للعلم
ّ في الفلسفة ،وهو ما ابتغاه برغسون في
الحديث ميتافيزيقا تناسبه ويفتقر إليها ،كما يحتاج النصف إلى النصف
اآلخر((( .ولكن هل يسعنا التوقف في هذا الطريق؟ وهل نستطيع أن ننكر
التحول؟ وأن السينما ليست عام ً
ال ّ أن الفنون ال تملك القدرة على هذا
أساسي ًا في هذا الصدد ،حتى وإن لم تلعب دور ًا في نشأة وتشكيل هذا
الفكر الجديد وهذه الطريقة الجديدة في التفكير؟ ها إن برغسون لم يعد
يكتفي بتأكيد أطروحته األولى حول الحركة .ومع أن أطروحة برغسون
الثانية توقفت في مكان ما من الطريق ،إال أنها أتاحت تكوين وجهة نظر
المتطور ألقدم األوهام ،وإنما
ّ أخرى عن السينما بحيث لن تعود الجهاز
الجهاز الذي يجب تطويره كي يقدّ م الواقع الجديد.
27
ُ
التذبذب واإلشعاع .وخطؤنا نحن هو أننا نعتقد خلف االنتقال إنما هو
يتحرك ليس سوى عناصر عادية خارجية في خواص األجسام،
ّ بأن ما
تتحرك هذه
ولكن هذه الخواص بالذات هي اهتزازات صرفة تتغ ّير كلما ّ
العناصر المزعومة(((.
((( حول مجيع هذه النقاط ،انظرHenri Bergson, Matière et mémoire, ch. :
IV, pp. 332-340 (220-230).
Bergson, L’évolution créatrice, p. 502 (9-10). )(10
( ((1املصدر نفسه ،ص .)32( 521
28
حركة بمثابة مقطع متحرك قطعات ساكنة
=
تغ ّير نوعي حركة
هذا مع الفارق القائل بأن عالقة الشطر األيسر تع ّبر عن وهم ،وبأن عالقة
الشطر األيمن تع ّبر عن واقع.
ما أراد برغسون أن يقوله تحديد ًا حول كوب الماء المح ّلى،
هو أن انتظاري -ومهما كان نوعه -يع ّبر عن ديمومة تم ّثل واقع ًا ذهني ًا
وروحي ًا .ولكن عن ماذا تع ّبر هذه الديمومة الروحية ،ال بالنسبة لي أنا
الذي أنتظر فقط ،بل بالنسبة إلى الكل الذي يتغ ّير؟ كان برغسون يقول:
ال ُيعطى الكل وال يمكن أن يعطى (وخطأ العلم الحديث ،شأنه شأن
العلم القديم ،هو أنه يعطي لنفسه كل شيء ،ولكن بطريقتين متباينتين).
كان العديد من الفالسفة قد قالوا إن الكل ال يعطى وال يمكن أن يعطى؛
مجرد من المعنى .أما ما الكل مفهوم ّ واستخلصوا من ذلك فقط أن ّ
استخلصه برغسون فشديد االختالف :إذا كان الكل ال يمكن أن يعطى،
فألنه المفتوح بامتياز( ،المشترك بين الجميع) ،وأن من خاصيته أن
يتغ ّير من دون انقطاع وأن يخلق شيئ ًا جديد ًا ،أي أنه بوجيز العبارة يخلق
ديمومة" .إن ديمومة الكون ومدى اإلبداع الكامن فيه ال يؤلفان إال شيئ ًا
واحد ًا"( .((1فكلما ُوجدنا أمام ديمومة أو في ديمومة يمكننا الجزم بوجود
كل يتغ ّير و ُيفضي إلى مكان .من المعروف جد ًا أن برغسون قد اكتشف ٍّ
أن الديمومة مماثلة للوعي .غير أن دراسة الوعي المستفيضة دفعته
للحركة إذ ًا وجهان نوع ًا ما .فمن جهة ،هي ما يحدث بين األشياء
أو األجزاء ،ومن جهة أخرى هي ما يع ّبر عن الديمومة أو عن ّ
الكل .فعندما
تتغ ّير طبيعة الديمومة ،تجعلها الحرك ُة تنقسم داخل األشياء ،وعندما
تتجمع داخل الديمومة .سيقال إذ ًا إن
ّ تتعمق األشياء وتفقد حدودها
ّ
الحركة تربط أشياء منظومة مغلقة بالديمومة المفتوحة ،وتربط الديمومة
32
تستقر هي ٍ
منظومة تُرغمها على االنفتاح .تربط الحركة األشياء التي بأشياء
ُّ
بالكل المتغ ّير الذي تع ّبر عنه ،والعكس صحيح .فبالحركة ّ في داخلها،
الكل في األشياء وتجتمع األشياء في ّ
الكل :وبينهما كليهما ،يتغ ّير ينقسم ّ
الكل" .نستطيع النظر في األشياء أو األجزاء التي تشكّل مجموعة مع ّينة " ّ
تدب بين هذه القطعات ،فتربط بين كـ "قطعات ساكنة"؛ ولكن الحركة ّ
كل يتغ ّير ،فتع ّبر إذ ًا عن تغ ّير في ّ
الكل األشياء أو األجزاء وبين ديمومة ٍّ
نسب ًة إلى األشياء ،فتكون هي بالذات قطع ًا متحرك ًا للديمومة .نستطيع
اآلن أن نفهم األطروحة العميقة جد ًا التي وردت في الفصل األول
من كتاب المادة والذاكرة )1 :ال توجد صور لحظ ّية فقط ،أي مقاطع
ساكنة للحركة؛ )2توجد صور /حركة هي مقاطع متحركة للديمومة؛
)3أخير ًا توجد صور /زمن ،أي صور /ديمومة وصور /تغ ّير ،وصور/
عالقة ،وصور /حجم ،تكون خلف الحركة بالذات.
33
الف�صل الثاني
الإطار واللقطة ،الت�أطري والتقطيع
)1
((( انظر:
Pier Paolo Pasolini, L'expérience hérétique, traduit de l'italien par Anna
Rocchi Pullberg (Paris: Payot, 1976), pp. 263-265.
35
وقليلة أحيان ًا أخرى .وال يمكن بالتالي ُ
فصل اإلطار عن هاتين النزعتين،
إما إلى اإلشباع وإما إلى الندرة .ويجب التنويه بأن الشاشة الكبيرة وعمق
مجال الصورة قد مكّنا من مضاعفة أعداد المعطيات المستقلة بحيث
يكون المشهد الثانوي في مقدّ مة الصورة في حين أن المشهد الرئيسي
يجري في خلفيتها ) (Wylerأو ال يعود بمستطاعنا أن نم ّيز بين الرئيسي
والثانوي ) .(Altmanوعلى العكس من ذلك ،تظهر الصور النادرة،
إما عندما نشدّ د على شيء واحد (عند هيتشكوك ) ،(Hitchcockكأس
المضاء من الداخل ،كما في فيلم شكوك ) ،(Soupçonsأو الحليب ُ
جمرة السيجارة في المستطيل األسود للنافذة ،كما في فيلم نافذة مط ّلة
ُفرغ المجموعة من بعض على فناء ) )(Fenêtre sur courأو عندما ت َّ
المجموعات الفرعية (كما في المناظر الطبيعية الصحراوية عند مايكل
أنجيلو أنطونيوني ) (Michelangelo Antonioniوالمنازل الخالية (في
أفالم ياسوجيرو أوزو ) .)(Yasujizo Ozuوقد تتم النُدرة القصوى مع
المجموعة الفارغة ،عندما تصبح الشاشة سوداء كلي ًا أو بيضاء كلي ًا .وقدّ م
هيتشكوك مثاالً على ذلك في فيلم منزل الدكتور إدواردز (La maison
كأس حليب آخر ،فلم يترك إال ) du Dr. Edwardsعندما اجتاح الشاشة ُ
صورة بيضاء فارغة .ولكن في حالتي الندرة أو اإلشباع ،يع ّلمنا الكادر
أن وجود الصورة ال يهدف فقط إلى المشاهدة ،فهي مقروءة بقدر ما هي
المضمرة :أن يسجل المعلومات الصوتية مرئية .فللكادر هذه الوظيفة ُ
ال من األشياء في الصورة ،فألننا ال نُحسنوأيض ًا البصرية .فإذا رأينا قلي ً
قراءتها كما يجب ،وألننا ال نُحسن تقدير قيمة الندرة أو اإلشباع .ال بدّ
التدرب على الصورة ،وال س ّيما في أفالم غودار عندما تظهر هذه
ّ من
الوظيفة بكل جالء ،وعندما يصلح الكادر لمساحة من المعلومات
36
الكتيمة ،فتكون تارة ضبابية باإلشباع ،وطور ًا مختزلة إلى المجموعة
الفارغة ،على الشاشة باللونين األبيض أو األسود(((.
في المقام الثاني ،كان الكادر على الدوام هندسي ًا أو فيزيائي ًا،
حسبما يؤ ّلف المنظومة المغلقة نسبة إلى مترابطات مختارة أو إلى
متغ ّيرات منتخبة .فتارة ُينظر إلى الكادر كتركيب مكاني مؤ ّلف من خطوط
متوازية ومائلة ،كتكوين لوعاء بحيث تجد الكتل وخطوط الصورة التي
ش ّغلتْه على الفور ،توازن ًا لها ،فتكون حركاتها أحدى ثوابته .نجد هذا
غالب ًا عند كارل دريير ) ،(Carl Dreyerويبدو أن أنطونيوني قد ذهب إلى
التصور الهندسي للكادر الذي راح ينخرط فيه .راجع فيلم ّ أقاصي هذا
يتحركّ الكسوف((( ) .(L’éclipseوطور ًا ُينظر إلى الكادر كبناء دينامي
بالفعل ،ويرتبط ارتباط ًا وثيق ًا بالمشهد والشخصيات واألشياء التي
تمأله .وهذا ما نالحظه في أسلوب قزحية العين عند غريفيث )(Griffith
ثم ينفتح و ُيظهر البيئة المحيطة؛ وكذلك في الذي يعزل في البداية وجه ًاّ ،
أبحاث إيزنشتاين المستوحاة من الرسوم اليابانية التي توائم بين الكادر
والموضوع؛ وكذلك أيض ًا في شاشة غرانس ) (Granceالمتحركة التي
تنفتح وتنغلق "بحسب الضرورات الدرامية" فتكون مثل "أكورديون
بصري" :على هذا النحو جرت في البداية محاولة التنويعات الدينامية
((( Noël Burch, Une praxis du cinéma (Paris: Gallimard, 1986), p. 86:
وذلك عىل شاشة األسود أو األبيض ،عندما ال يعمل عن بعد من طريق
التنقيط فقط ،بل عندما يأخذ «قيمة بنيوية».
((( Claude Ollier, Souvenirs écran, Cahiers du Cinéma (Paris:
Gallimard, 1981), p. 88,
وهذا ما ح ّلله بازوليني واعتربه «تأطري ًا هوسي ًا» عند أنطونيوين (Pasolini, L’expérience
hérétique, p. 148).
37
للكادر .وفي جميع األحوال ،التأطير هو حدّ وحصر((( .ولكن ،بحسب
المفهوم نفسه ،يمكن النظر إلى الحدود بطريقتين ،طريقة رياضية أو
طريقة دينامية :فتارة تسبق وجود األجسام التي تث ّبت ماهيتها ،وطور ًا
قوة الجسم .ومنذ حقبة الفلسفة
تذهب هذه الحدود إلى حيث توجد ّ
الكالسيكية ،كان هذا أحد أوجه التعارض الرئيسية بين األفالطونيين
والرواقيين.
يكون الكادر هندسي ًا أو فيزيائي ًا على نحو مختلف أيض ًا ،وذلك
آن واحد .فيبالنسبة ألجزاء المنظومة التي يفصل أو يجمع بينها في ٍ
الحالة األولى ،ال ينفصل الكادر عن التمايزات الهندسية الصلبة .ويظهر
التعصب ) (Intoléranceالذي أخرجه
ّ ذلك في صورة رائعة في فيلم
غريفيث ،وهذه الصورة تقطع الشاشة وفق ًا لخط عمودي يتماشى مع
سور مدينة بابل ،أما في الجهة اليمنى من الصورة فنرى الملك يتقدّ م
على خط أفقي علوي فوق طريق يعلو السور ،وفي الجهة اليسرى نرى
العربات تنطلق وتعود على خط أفقي منخفض يالمس أبواب المدينة.
أما إيزنشتاين فقد درس آثار ال َقطع الذهبي على الصورة السينمائية.
واستكشف دريير الخطوط األفقية والعمودية ،والتناظرات ،وأعلى
وطور السينمائيون
الكادر وأسفله ،والتناوبات بين األسود واألبيضّ ،
التعبيريون المنحرفات والمنحرفات المعكوسة ،واألشكال الهرمية أو
المث ّلثة التي تكتّل األجسام والحشود واألماكن ،وتصادم هذه الكتل،
38
واستكشفوا رصف ًا كام ً
ال للكادر "الذي ترتسم فيه المربعات السوداء
والبيضاء لرقعة الشطرنج" (راجع فيلمي النيبيلونغن )(Nibelungen
وميتروبوليس ) (Metropolisلفريتز النغ((( ) .)(Fritz Langوحتى
الضوء يكون هدف ًا لمنظور هندسي ،عندما ينتظم مع الظلمة في جزأين
متساويين ،أو ينتظم في خطوط متعاقبة بحسب اتجاه من اتجاهات
التعبيرية (كما نرى ذلك في أفالم روبرت فيني )(Robert Wiene
والنغ) .وبالطبع فإن الخطوط الفاصلة بين العناصر الكبرى للطبيعة
تلعب دور ًا أساسي ًا ،كما نشاهد ذلك في مناظر السماء في أفالم جون
فورد ) :(John Fordإذ تنفصل السماء عن األرض وترتد األرض إلى
أسفل الشاشة .ولكننا نشاهد أيض ًا الفصل بين الماء واليابسة أو الخيط
الرفيع الذي يفصل بين الهواء والماء ،عندما يخفي الماء في قاعه شخص ًا
هارب ًا ،أو عندما يخنق ضحية عند حدّ المسطح (فيلم أنا هارب (Je suis
) un évadéللمخرج لو روي ) ،(Le Royوفيلم عشيرة المتصلبين (Le
) clan des irréductiblesللمخرج نيومان ) .)(Newmanوكقاعدة
عامة ،ال تؤطر قوى الطبيعة بالطريقة ذاتها التي تؤ ّطر فيها الشخصيات
أو األشياء ،كذلك تختلف طريقة التأطير لألفراد والحشود ،ويختلف
تأطير العناصر الفرعية والنهايات .فتكون داخل الكادر الواحد كادرات
مختلفة .فاألبواب والنوافذ والكوى والقمريات ونوافذ السيارات
والمرايا هي كادرات في الكادر .ونجد لدى كبار المخرجين تآلف ًا خاص ًا
مع هذا أو ذاك من تلك الكوادر التي هي من الدرجة الثانية أو الثالثة...
39
إلخ .ومن خالل هذا التداخل بين الكادرات تنفصل أجزاء المجموعة أو
وتتجمع.
ّ المنظومة المغلقة ،ولكنها تتواطأ أيض ًا في ما بينها
40
يفتقر إلى مقياس :لقطة بعيدة لمنظر طبيعي ولقطة قريبة لوجه من الوجوه،
منظومة فلكية ونقطة ماء ،وهي أجزاء ليس لها قاسم مشترك واحد في
المسافة والتضاريس والضوء .والكادر ،في هذه المعاني جميعها ،يضمن
عدم موض َعة الصورة.
41
اآلنفة الذكر((( .فنقول إذ ًا إن زاوية التأطير كانت ّ
مبررة .ولكن هذه
القاعدة الذرائعية ال تصلح دائم ًا ،وال تستنفد الحالة ،حتى وإن أرادت
ذلك .لقد بنَى باسكال بونيتزر ) (Pascal Bonitzerمفهو َم "الخروج
عن الكادر" المثير لالهتمام ،للداللة على تلك اللقطات غير المألوفة
التي ال تنضوي في منظور مائل أو في زاوية إشكالية وتحيل إلى بعد
آخر للصورة((( .وهناك أمثلة كثيرة عن الكادرات القاطعة عند دريير ،في
الوجوه التي تقطعها حافة الشاشة ،كما في فيلم آالم جان دارك .وأكثر من
ذلك ،كما سنرى ،فإن الفضاءات الفارغة التي وردت في أفالم أوزو،
والتي تؤ ّطر منطقة ميتة ،وإن الفضاءات المفصولة التي ظهرت في أفالم
روبرت بريسون ) ،(Robert Bressonوالتي ال تترابط أجزاؤها ،تتجاوز
األعم وتأتي ربما لتؤكّد أن
ّ كل تسويغ سردي وكل تسويغ ذرائعي على
الصورة البصرية لها وظيفة قرائية إلى جانب وظيفتها البصرية.
يبقى أن نتك ّلم عما هو خارج مجال الرؤية (أو اللقطة) .وهذا
تالزم بين كادرين ليس نفي ًا أو إنكار ًا؛ وال يكفي أيض ًا أن ّ
نعرفه بأنه ال ُ
يكون أحدهما بصري ًا واآلخر صوتي ًا (كما يظهر ذلك عند بريسون ،عندما
يشي الصوت بما ال نراه و"يحل ّ
محل" المرئي بدل أن ُيضاعفه)((( .يحيل
( ((1الدراسة املنهجية جد ًا خلارج اللقطة قدّ مها نويل بورش )،(Noël Burch
حول فيلم نانا ) (Nanaالذي أخرجه رينوار (Noël Burch, Une praxis du cinéma,
pp. 30- 51),
ومن وجهة النظر هذه يعارض جان ناربوين ) (Jean Narboniهيتشكوك برينوار
) (Hitchcock: “Visages d’Hitchcock,” Cahiers du cinéma, p. 37ولكن ناربوين
يذكّر بأن الكادر السينامئي هو دائ ًام قناع كام كان بازان يعتربه :لذا فإن ضبط الكادر املغلق
عند هيتشكوك له خارج لقطته ،ولو كان ذلك بطريقة خمتلفة عام هو عليه عند رينوار فهو
ليس «فضا ًء ممتد ًا ومتسق ًا كفضاء الشاشة ،بل هو ح ّيز متقطع ومتنافر يتعارض مع حيز
الشاشة» ،الذي حيد ّد اإلمكانيات.
43
ضبط لإلطار يحدّ د ما هو مجال الرؤية .وال يوجد نموذجان من الكادر
يحيل أحدهما إلى خارج مجال الرؤية فقط ،بل يوجد باألحرى شكالن
متباينان لمجال الرؤية يحيل أحدهما إلى طريقة في ضبط اإلطار.
46
عرف كلود أولييه )(Claude Ollier
) .(Gertrudعندما ّ (((1
وجيرترود
الكادر الهندسي لدى أنطونيوني لم يقل فقط إن الشخص المنتظر ما
يزال غير مرئي (وهذه هي الوظيفة األولى لمفهوم خارج مجال الرؤية)،
بل قال إنه موجود مؤقت ًا في منطقة فراغ" ،فاألبيض على األبيض يستحيل
تصويره" ،ومنطقة الفراغ هذه غير مرئية تحديد ًا (الوظيفة الثانية) .على
نحو آخر ،ال تكتفي كوادر هيتشكوك بتحييد المحيط الخارجي للصورة،
الكم األكبر
وبدفع المنظومة المغلقة إلى مزيد من االنغالق ،وباحتجاز ّ
من العناصر داخل الصورة؛ بل ستجعل في ذات الوقت من الصورة
صور ًة ذهنية ومفتوح ًة (كما سنرى) على لعبة من العالقات الفكرية
التي تشكّل نسيج ًا مكتمالً .لذا نقول بأن هناك دائم ًا "ما هو خارج مجال
الرؤية" ،وحتى في الصورة األشدّ انغالق ًا .ونقول بأن هناك دائم ًا وجهين
لـ "مجال الرؤية" :وجه العالقة الراهنية التي تنضاف إلى مجاميع أخرى،
ووجه العالقة االفتراضية التي تنضاف إلى ّ
الكل .ولكن في إحدى
الحالتين تتحقق العالقة الثانية والخفية جد ًا بشكل ال مباشر ،وإلى ما ال
المتوسعة في تعاقب الصور؛ وفي الحالة
ّ نهاية ،من طريق الحالة األولى
الثانية ستتحقق ،على نحو أكثر مباشرة ،داخل الصورة بالذات ،وبتحديد
العالقة األولى وتحييدها.
لنختصر اآلن نتائج هذا التحليل للكادر .إن ضبط الكادر هو ف ّن
اختيار األجزاء بشتّى أنواعها والتي تدخل في مجموع .وهذا المجموع
هو منظومة مغلقة ،ومغلقة نسبي ًا واصطناعي ًا .والمنظومة المغلقة التي
(Dreyer cité par Maurice Drouzy, Carl Th. Dreyer né Nilsson ((1
(Paris: Edition du Cerf, [s. d.]), p. 353.
47
يحدّ دها الكادر يمكن أن ُينظر إليها بنا ًء على المعطيات التي تنقلها إلى
المشاهدين :فهي إعالمية ومش َبعة ومستندرة .وعندما ُينظر إليها من
خالل طبيعة أجزائها ،تكون إما منظومة رياضية وإما فيزيائية أو دينامية.
وينظر إليها كمنظومة بصرية عندما تُعتبر بنا ًء على وجهة الكاميرا وعلى
مبررة عملي ًا ،أو أنها تستلزم تبرير ًا ٍ
زاوية ضبط الكادر :عندئذ تكون ّ
أعلى .وأخير ًا تحدد المنظوم ُة خارج مجال الرؤية ،إما بشكل مجموع
كل يدمجها فيه. ِ
بشكل ٍّ أوسع يستكملها ،وإما
)2
التقطيع الفني هو تحديد الصورة ،والصورة هي تحديد الحركة
التي تجري داخل المنظومة المغلقة ،بين عناصر المجموع أو أجزائه.
بكل ،وتختلف في طبيعتها عن ولكن الحركة ،كما رأينا ،تتعلق أيض ًا ّ
الكل هو ما يتغ ّير ،هو المنفتح أو الديمومة .وتع ّبر الحركةالمجموعّ .
الكل ،أو هي مرحلة أو وجه من وجوه هذا التغ ّير ،أو ديمومة إذ ًا عن تغ ّير ّ
تمفص ُل ديمومة .وهكذا فإن للحركة وجهين متالزمين تالز َم وجه ُ أو
الكل .فهي من جهةالصفحة وظهرها :فهي الصلة بين أجزاء ،وهي صبا َب ُة ِّ
تعدّ ل في المواقع الخاصة باألجزاء داخل مجموع مع ّين ،وهي مواقع
بمثابة مقاطع له ،وكل مقطع يثبت بذاته؛ ومن جهة أخرى هي المقطع
كل وتع ّبر فيه عن التغ ّير .ففي أحد الوجهين هي نسبية ،وفي المتحرك في ّ
ّ
ثانيهما هي مطلقة ،كما يقال .لنأخذ صورة ثابتة يتحرك الشخوص فيها:
إنهم يغ ّيرون مواقفهم في المجموع المؤ َّطر؛ ولكن هذا التعديل سيكون
تحول نوعي -ولو إن لم يع ّبر عن شيء راح يتغ ّير؛ عن ّ اعتباطي ًا تمام ًا ْ
يمر عبر هذا المجموع .لنأخذ صورة تلتقطها الكل الذي ّكان طفيف ًا -في ّ
الكاميرا المتحركة :تنتقل هذه الكاميرا من مجموع إلى آخر ،وتعدّ ل
48
موقع المجاميع ،ولن تكون للكل هذا أية ضرورة إال إذا ع ّبر التعديل
يمر عبر هذه المجاميع .مثالً ،تتبع النسبي عن تغيير مطلق للكل الذي ّ
ال وامرأة يصعدان درج ًا ويصالن إلى باب يفتحه الرجل؛ ثم الكاميرا رج ً
تتركهما الكاميرا وتنكفئ على صورة واحدة ،وتتحرك بمحاذاة الجدار،
وتلتحق بالدرج الذي تنزله القهقرى ،وتصل إلى الرصيف وترتفع في
الكتيمة الزجاج التي تراها من الخارج .وهذه َ الخارج إلى نافذة الشقة
الحركة التي تُحدث تغيير ًا نسبي ًا في المجاميع الساكنة ليست ضرورية
كل ُيالقي هو نفسه هذه ّإل إذا ع ّبرت عن شيء بدأ يتم ،وعن تغ ّير في ٍّ
التبدّ الت :بوشر باغتيال المرأة ،لقد دخلت الشقة من دون إكراه ،ولكنها
مفر منه .سيقال إن هذا المثال لم تعد تتو ّقع أية نجدة ،فاالغتيال ال ّ
(في فيلم فرينزي ) (Frenzyلهيتشكوك) هو حذف إيجازي في السرد.
وسواء ُوجد حذف إيجازي أم ال ،أو وجد سرد أم ال ،فليس لألمر أية
يهم في هذه األمثلة هو أن الصورة ،مهما كان نوعها، أهمية حالي ًا .ما ّ
تحتوي على قطبين :قطب يتع ّلق بالمجاميع في المكان الذي يدفع إلى
تعديالت نسبية في العناصر أو في المجاميع الفرعية؛ وقطب يتع ّلق بتغيير
مطلق في الديمومة .وهذا ّ
الكل ال يكتفي أبد ًا بأن يكون حذف ًا إيجازيي ًا
أو سرديا ،مع أنه يستطيع ذلك .ولكن الصورة -مهما كان نوعها -لها
هذان الوجهان :فهي تقوم بتعديالت في الموقف النسبي داخل مجموع
كل مع ّين أو في ّ
الكل بعامة. أو مجاميع ،وتع ّبر عن تغييرات مطلقة في ٍّ
فللصورة بعامة وجه ممتدّ نحو المجموع ،وتع ّبر فيه عن التعديالت بين
الكل يع ّبر فيه عن التغيير أو عن ٍ
تغيير ما األجزاء ،ولها وجه آخر ممتدّ نحو ّ
مجرد قائلينعلى األقل .وهكذا نستطيع أن نحدّ د وضع الصورة بشكل ّ
الكل .فتارة تمتدّ إلى قطب التأطير وسيط بين ضبط الكادر ومونتاج ٌّ إنها
49
وطور ًا تمتدّ إلى قطب المونتاج .إن الصورة هي الحركة التي ينظر إليها
من وجهها المزدوج :هي ارتحال أجزاء من مجموع يمتدّ في المكان،
يتحول في الديمومة.
كل ّ وهي تغ ّير يحدث في ٍّ
ليس هذا تحديد ًا مجرد ًا لصورة سينمائية فقط .فهذه الصورة تجد
تحديدها الواقعي كلما ثابرت على تأمين العبور من وجه إلى آخر ،وعلى
تحولهما المستمر .لنعدْ إلى المستوياتتقسيم وتوزيع الوجهين ،وعلى ّ
البرغسونية الثالثة ،أي إلى المجاميع وأجزائها ،وإلى ّ
الكل الذي يمتزج
بالمفتوح أو إلى التغ ّير في الديمومة ،وإلى الحركة التي تتم بين األجزاء
أو المجاميع ولكنها تع ّبر أيض ًا عن الديمومة أو عن الكل المتغير .الصورة
تجزئ التحول واالنتقال .إنها ّ
ّ تكف عن إجراء
ّ تشبه الحركة التي ال
وتقسمها بحسب الموضوعات التي تشكل المجموع ،إنها ّ الديمومة
تكف عن تقسيمتجمع األشياء والمجاميع في ديمومة واحدة ال غير .وال ّ ُ
الديمومة إلى ديمومات فرعية غير متجانسة ،وعن جمع الديمومات في
ديمومة تتحايث مع الكل الكوني .وبما أن الوعي هو الذي ُيجري هذه
التقسيمات والتجميعات ،سيقال عن الصورة إنها تعمل كوعي .ولكن
المشاهد وال البطل ،إنه الكاميرا التي هي
الوعي السينمائي ليس نحن وال ُ
وتتفوق على اإلنسان أحيان ًا أخرى .لنفترض
ّ إنسانية طور ًا والإنسانية تارة
أننا أمام حركة الماء أو حركة طائر يحلق في البعيد أو حركة شخص فوق
أحد القوارب :تمتزج حركات المدّ هذه في إدراك واحد ،وفي ك ّلية
ينقضوادعة للطبيعة المؤنسنة .ولكن ها هو الطائر ،وهو نورس عاديّ ،
على الشخص ويجرحه :هنا تنقسم الحركات الثالث وتخرج عن بعضها
الكل من جديد ،ولكنه سيكون قد تغ ّير :وسيغدو الوعي الوحيد ويتشكّل ّ
أو اإلدراك الك ّلي للطيور ،كاشف ًا عن طبيعة طائرية تنقلب على اإلنسان
الكل من جديد عندما تهاجم الطيور في تو ّقع ال ينتهي .وسينقسم هذا ّ
50
اإلنسان بحسب طرق هجومها وأماكن الهجوم وضحاياه .وسيتشكل
الكل من جديد بعد ُهدنة تتم ،عندما يدخل اإلنساني والالإنساني في هذا ّ
عالقة مرتبكة (كما نرى ذلك في فيلم الطيور لهيتشكوك) .نستطيع القول
يتم بين ك ّلين آنيين ،أو أن ّ
الكل يتم بين تقسيمين اثنين(.((1 أيض ًا إن التقسيم ّ
تتجمع
ّ تدب فيها
إن الصورة ،أي الوعي ،ترسم حركة تجعل األشياء التي ّ
الكل ينقسم بين األشياء (أي المقسوم ).)(le Dividuel كل ،وتجعل ّ في ٍّ
51
أورسون ويلز ) (Orson Wellesحركتين تتشكالن ،فتكون األولى
ومحزز وله فتحاتّ بمثابة هروب أفقي خطي داخل قفص ُمتطاول
كبيرة ،وتكون الثانية أشبه بخط دائري يقوم محوره العمودي بغطسة
نحو األعلى أو بغطسة معاكسة إلى األسفل :فإذا كانت هذه الحركات
هي التي تنفخ الحياة في عمل كافكا ) (Kafkaاألدبي ،الستنتجنا وجود
تعاطف بين ويلز وكافكا ال يقتصر فقط على فيلم المحاكمة ،بل يشرح
يقارن بكافكا مباشرة؛ وإذا ما ُوجدت باألحرى لماذا احتاج ويلز ألن َ
مثل هذه الحركات واندمجت بعمق في فيلم الرجل الثالث للمخرج
أن ويلز كان أكثر اإلنجليزي كارول ريد ) ،(Carol Reedالستنتجنا ّ
من ممثل في الفيلم وساهم عن كثب في بنائه وأن ريد كان أحد تالمذة
ويلز الذين أخذوا عنه .إن أكيرا كوروساوا ) ،(Akira Kurosawaفي
العديد من أفالمه له توقيع ذو طابع ياباني متخ ّيل :هناك خط طوالني
سميك ينزل على الشاشة من األعلى إلى األسفل ،في حين تخترقه
من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين حركتان جانبيتان أكثر
نعومة؛ حركة مع ّقدة كهذه ترتبط بكلية الفيلم ،كما سنرى ،وترتبط
تصور هذه الكلية في الفيلم .عندما ح ّلل فرانسوا ريني و �(Fran
بطريقة ّ
) çois Regnaultبعض أفالم هيتشكوك ،استخلص في كل فيلم منها
ال أساسي ًا وهندسي ًا ودينامي ًا" أمكنها الظهور
حركة إجمالية أو "شك ً
في عناوين األفالم بكل نقاء" :الخطوط اللولبية في فيلم ،Vertigo
الخطوط المنكسرة والبنية المتعاكسة للونين األسود واألبيض في فيلم
،Psychooالمتواليات الديكارتية السهمية في فيلم �North by North
."...westوقد تكون الحركات الكبرى في هذه األفالم مركّبات حركة
كبرى تع ّبر عن مجمل أعمال هيتشكوك ،وقد تكون المنهج الذي
التوجه اآلخر في أفالمه ال ُّ
يقل أهمية، ّ تطورت فيه وتغ ّيرت .ولكن
ّ
كل يتغير ويتجزأ إلى حركات وهو أن هناك حركة كبرى تتوجه نحو ّ
52
نسبية وإلى أشكال محلية تتناول الوضعيات الخاصة بأجزاء المجموع
وإسنادها إلى األشخاص واألشياء والتوزيعات التي تمت بين العناصر.
لقد درس رينيو هذه الحركة عند هيتشكوك (ففي فيلم Vertigoيستطيع
الخط اللولبي الكبير أن يصبح دوار البطل [فيزيائي ًا] ،ولكنه يستطيع
أن يكون أيض ًا الدورة االلتفافية التي يقوم بها بسيارته ،وقد يكون أيض ًا
الشعر المعقوص للبطلة)( .((1ولكن هذا النوع من التحليالت مح ّبب
لدى كل سينمائي ،وهو برنامج بحثي ضروري لكل تحليل يتعلق
بالمؤلف ،وهو ما يمكن أن يسمى باألسلوبية :أي الحركة التي تتم
بين أجزاء المجموع في كادر من الكادرات ،أو بين مجموع وآخر لدى
كل في فيلم أو عمل؛ إعادة ضبط الكادرات؛ وهو الحركة التي تع ّبر عن ّ
وهو التوافق بين الحركتين والطريقة التي تكون فيها إحداهما صدى
لألخرى ،والتي تنتقل فيها إحداهما إلى األخرى .ذلك أن الحركة
واحدة ،فهي تارة مشكّلة وطور ًا متحللة ،وهاتان الحالتان هما وجها
كل الحركة ذاتها .وهذه الحركة هي الصورة ،والوسيط الملموس بين ٍّ
تكف عن تحويل أحدهما إلى اآلخر ّ له تغ ّيراته وبين ٍّ
كل له أجزاؤه ،وال
بحسب وجهيها.
(*) فيم فِندرز ) (1945هو خمرج وكاتب سيناريو ومصور سينام ومصور
فوتوغرايف أملاين .ويعترب أحد ممثيل السينام اجلديدة يف أملانيا ما بني .1980-1960وحصل
فيلمه باريس تكساس عىل السعفة الذهبية يف مهرجان كان ) ،(1984والقى فيلمه
أجنحة الرغبة ) (1987رواج ًا هائ ً
ال يف الصاالت ويعيش ما بني الواليات املتحدة وأملانيا
(املرتجم).
(Bergson: Matière et mémoire, p. 331 (219), et La pensée et le ((1
mouvant, pp. 1382- 1383 (164-165),
ٍ
حركات». «حركات
ُ غالب ًا ما نجد عند غانس العبارة ذاهتا
55
المجردة لتعاقب
ّ كان يحدث داخل الجهاز فقط (أي الحركة المتجانسة
الصور) ،والجهاز هو األقدر بامتياز على تحقيقه :أي الصورة -الحركة
الصرفة المستخرجة من األجسام ومن المتحركات .وهذا
أو الحركة ِّ
ليس تجريد ًا وإنما تحرير ًا .إنه دائم ًا لحظة كبرى في السينما ،كما يظهر
ذلك عند رينوار ،عندما تغادر الكاميرا شخص ًا من الشخوص وتدير
ظهرها له ،ثم تجده من جديد عقب هذه الحركة الخاصة(.((1
( ((1انظر حتليل أندريه بازان الذي َش َه َر رينوار بصورة حمورية وردت يف فيلم
جريمة السيد النج ) :(Le crime de M. Langeتغادر الكامريا أحد الشخوص يف هناية
الباحة ،وتنعطف باجتاه معاكس مستعرضة اجلانب الفارغ من الديكور ،ثم تلتقي من
جديد بالشخصية يف الطرف اآلخر من الباحة الذي ُيقدم فيه عىل ارتكاب جريمته (Jean
)« :Renoir, Champ Libre, p. 42إن حركة اآللة املدهشة ( )...هي التعبري املكاين
لإلخراج كله».
56
الرسام فيها لقطة النهاية ( .)...فبدل
وزاوية .إنها هندسة وصفية يكون ّ
المنظور الخارجي يستعيض بالمنظور الداخلي ،وهو منظور متعدد
ومتموج ومتغ ّير ومنتفض كعقرب مقياس الرطوبة .ويختلف
ّ ومتأ ّلق
هذا المنظور من جهة اليمين عما هو عليه من جهة اليسار ،وكذلك األمر
بالنسبة للمنظور العالي والمنخفض .وهذا يعني أن األجزاء الصغيرة التي
الرسام عن الواقع ليست بقواسم مشتركة في ما يخص المسافة
يقدمها ّ
والتضاريس والضوء" .فالسينما -التي هي أكثر مباشرة من الرسم -
تعطي الزمن نتوء ًا وتعطيه منظور ًا :فهي تع ّبر عن الزمن نفسه كمنظور
أو كنتوء( .((2لذا فإن الزمن يستطيع أساس ًا أن يتق ّلص أو أن يتمدّ د ،شأنه
شأن الحركة التي تتباطأ أو تتسارع .لقد اقترب إبستاين جد ًا من مفهوم
اللقطة :فرأى أنها ق ْطع متحرك ،أي أنها منظور زمني أو أنها تعديل ما.
وينجم عن ذلك تباين في الصورة السينمائية وفي الصورة الفوتوغرافية.
فالتصوير الضوئي هو نوع من القولبة ) :(moulageذلك أن القالب ينظم
القوى الداخلية للشيء بحيث تصل في لحظة ما (ق ْطع ساكن) إلى حالة
من التوازن .هذا علم ًا بأن التعديل ال يتوقف عندما يتحقق التوازن،
وال يتوقف عن تعديل القالب وعن تشكيل القالب المتغ ّير والمستمر
والزمني( .((2هذه هي الصورة -الحركة التي وجد بازان أنها تتعارض
( ((2لقد كتب إبستاين هذا النص ) (Ecrits, I, Seghers, p. 115يف معرض كالمه
عن فرنان ليجيه ) ،(Fernand Légerالذي هو من دون شك الرسام األقرب إىل السينام
من غريه .ولكنه يف الصفحتني 138و 178يعاود التك ّلم عن السينام بأسلوب مبارش.
( ((2حول هذا التباين بني القولبة والتعديل ،انظر:
Gilbert Simondon, L’individu et sa genèse physico-biologique
(Paris: P.U.F., 1964), pp. 40-42.
57
المقربة،
ّ مع الصورة الضوئية ،في هذا الصدد ،إذ قال" :من طريق العدسة
المصور الضوئي ،في قولبة ما ،إلى أخذ بصمة حقيقية مضيئة (.)...
ّ يلجأ
ولكن السينما تُحقق المفارقة المتمثلة في التقولب مع زمن الشيء
[المصور] وفي أخذ بصمة ديمومته أيض ًا"(.((2
َّ
)3
تم توصيف
ما الذي كان يحدث في فترة الكاميرا الثابتة؟ لقد ّ
متكرر لهذا الوضع .في المقام األول ،تم تحديد الكادر من وجهة نظر
وحيدة وجبهية ،أي وجهة نظر المشاهد الذي ينظر إلى مجموع ال
يتبدّ ل :فال يوجد بالتالي تواصل بين مجاميع متبدلة يحيل بعضها إلى
البعض اآلخر .وفي المقام الثاني ،اللقطة هي فقط تحديد لح ّيز مكاني
يدل على "شريحة مكانية" تبعد عن الكاميرا هذه المسافة أو تلك
(مقاطع ساكنة) :فالحركة ال تُستخلص لذاتها بل تبقى متع ّلقة بالعناصر
محرك أو ناقل .أخير ًا ،يمتزج
والشخوص واألشياء التي تكون لها بمثابة ّ
الكل بالمجموع امتزاج ًا عميق ًا كما أن المتحرك يجتازه متنق ً
ال من لقطة
مكانية إلى أخرى ،ومن شريحة موازية إلى شريحة أخرى ،مع محافظتها
على استقاللها وتركيزها :في المعنى الدقيق للكلمة ال يوجد تغ ّير وال
استمرار ،وال س ّيما أن االستمرار يقتضي مفهوم ًا آخر عن العمق ،فيمزج
المناطق المتوازية بدالً من تراكبها .نستطيع إذ ًا أن ّ
نعرف الحالة األولى
58
للسينما قائلين بأن الصورة تتحرك بدل أن نتكلم عن الصورة – الحركة؛
وإلى هذه الحالة األولى استند النقد البرغسوني.
لو تساءلنا كيف تشكلت الصورة -الحركة ،أو كيف انبعثت من
الشخوص واألشياء ،لالحظنا أن ذلك حصل بطريقتين مختلفتين ،وجاء
ذلك في كلتيهما بصورة غير ملحوظة :فمن جهة يتم ذلك من دون شك
بتحريك الكاميرا ،فتصبح اللقطة هي نفسها متحركة ،ومن جهة أخرى
يتم أيض ًا من طريق المونتاج ،أي عبر وصل اللقطات التي كان كل منها
أو معظمها يستطيع أن يبقى ثابت ًا .بهذه الطريقة كان من الممكن التوصل
إلى حركية ِصرفة مستخلصة من حركات الشخوص ،من دون أن تتحرك
الكاميرا كثير ًا :لقد كان هذا الوضع هو األكثر شيوع ًا ،وال سيما في حالة
فيلم فاوست لمورناو ،ألن الكاميرا المتحركة كانت وقف ًا على المشاهد
االستثنائية أو اللحظات المتم ّيزة .والحال أن الطريقتين كانتا في
بداياتهما ملزمتين على التخفي :فلم يكن على وصالت المونتاج فقط
أن تكون غير مرئية (كما في وصالت المحور) ،وإنما كان على حركات
الكاميرا أن تُعنى بالحركات العادية أو بالمشاهد التافهة (حركات اإلبطاء
القريب من عتبة اإلدراك)( .((2ذلك أن الشكلين أو الوسيلتين لم ّ
يتدخال
( ((2لقد حلل نويل بورش هذه النقاط املهمة )1 :كان لوصل املونتاج وللحركة
التافهة للكامريا أصول متباينة؛ لقد ق ّعد غريفيث الوصالت ،ولكنه جعل استعامل
الكامريا املتحركة استثنائي ًا )(Naissance d’une nation؛ إن باسرتوين )(Pastrone
هو الذي جعل استعامل الكامريا املتحركة عادي ًا ،ولكنه أمهل الوصالت مركّز ًا بشكل
حرصي عىل اجلبهية التي كانت السمة البارزة ألول سينام بدائية (انظر كتاب .)Cabiria
تعرضتا لرشط اإلدراك نفسه الذي كان )2ولكن الطريقتني ،عند غريفيث وباسرتوينّ ،
متوخى:
)Noël Burch, Marcel L’herbier (Paris: Seghers, 1973), pp. 142-145(.
59
ّإل لتحقيق إمكانية كامنة في الصورة الثابتة األولية ،أي في الحركة التي
كانت مرتبطة بالشخوص واألشياء .كانت هذه الحركة ميزة السينما،
وكانت تطالب بنوع من التحرير في السينما من دون االكتفاء بالحدود
المسماة أولية،
ّ التي كانت تلتزم بها الشروط األولية .فكانت الصورة
الصورة التي هي في طور الحركة ،تحدَّ د بنزوعها أكثر مما تحدد بحالتها.
ومالت اللقطة المكانية والثابتة إلى تقديم صورة -حركة ِصرفة ،وهو
ميل كان يتح ّقق بهدوء عبر تحريك مكان الكاميرا ،أو عبر المونتاج فيٌ
زمن اللقطات المتحركة أو الثابتة فقط .وكما قال برغسون ،مع أنه لم
يقل ذلك بخصوص السينما ،ال تتحدّ د األشياء أبد ًا بحالتها األولية ،وإنما
بنزوعها الخفي داخل هذه الحالة.
60
فعل يحتوي بذاته على العديد من العناصر فإن الوحدة هي دائم ًا وحدة ٍ
السلبية والمفعولة( .((2إن اللقطات ،كتحديدات مكانية ثابتة تستطيع تمام ًا
في هذا المعنى أن تكون التعدّ د الذي يتناسب مع وحدة اللقطة ،ك َق ْطع
متحرك أو كمنظور زمني .وستتغ ّير الوحدة بحسب التعدّ د الذي تتضمنه،
ولكنها مع ذلك تبقى وحدة هذا التعدّ د المترابط.
في هذا الشأن سنُمايز بين حاالت عديدة .في الحالة األولى
أرى أن الحركة المستمرة للكاميرا هي التي ستحدّ د اللقطة ،مهما
كانت تغييرات الزوايا ووجهات النظر متعددة (الكاميرا المتحركة،
على سبيل المثال) .في الحالة الثانية يكون استمرار الوصل هو الذي
سيشكّل وحدة اللقطة ،حتى ولو كانت "مادة" هذه الوحدة لقطتين أو
عدة لقطات متعاقبة تستطيع أن تكون ثابتة .وهناك أيض ًا لقطات متحركة
ال تدين بتمايزها إال إلكراهات مادية ،وتستطيع أن تشكل وحدة كاملة
بناء على طبيعة وصلتها :فعند المخرج أورسون ويلز في فيلمه المواطن
كين ) (Citizen Kaneولقطتيها المشرفتين ،تجتاز الكاميرا عملي ًا واجهة
زجاجية وتدلف إلى داخل غرفة واسعة ،إما بسبب المطر الذي ينهمر
فيغشيه بالضباب ،وإما بسبب العاصفة وقصف الرعد الذي على الزجاج ّ
يكسر هذا الزجاج .وفي الحالة الثالثة ،نجد أنفسنا أمام لقطة طويلة المدة
ثابتة أو متحركة ،وهي "لقطة مقطعية" ذات بعد في المجال :إن لقطة
مقربة
كهذه تشمل بذاتها شرائح المكان دفعة واحدة ،وتنتقل من لقطة ّ
إلى لقطة بعيدة ،ولكنها مع ذلك تبقى وحد ًة تمكّن من تحديدها كلقطة.
61
فال ينظر من بعد إلى عمق المجال كما كانت تنظر إليه السينما "البدائية"،
كتنضيد لشرائح متوازية ال تتعلق إحداها إال بذاتها ألنها جميعها تخضع
مجمل الحركات ،عند لمحرك واحد .وعلى النقيض من ذلك ،نجد أن َ ّ
تتوزع في العمق بحيث تقيم عالقات وأفعاالً وردود أفعال
رينوار وويلزّ ،
ال تتطور إطالق ًا بطريقة متراصفة حول اللقطة الواحدة وإنما تتدرج على
مسافات مختلفة ومن لقطة ألخرى .وهنا تتح ّقق وحدة اللقطة بسبب
العالقة المباشرة بين العناصر المأخوذة في تعدد اللقطات المتراكبة
التي لم تعد تنفصل عن بعضها :ذلك أن عالقة األجزاء القريبة والبعيدة
هي التي تحقق الوحدة .ونرى أن هذا التطور نفسه قد حصل في تاريخ
الرسم ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر :فبدل تراكب اللقطات
تكونت رؤية أخرى متباينة إلى التي يمأل مشهد نوعي َّ
كل واحدة منها؛ ّ
العمق حيث يتقابل أشخاص اللوحة على نحو مائل ويتنادون من لقطة
ألخرى ،وحيث تفعل عناصر اللقطة في عناصر لقطة أخرى وتتفاعل،
لون على لقطة واحدة ،وحيث تكون أبعاد اللقطة األولىوحيث ال ينغلق ٌ
ال كي تدخل مباشرة في خلفية اللقطة عبر اختزال حاد غير ّ
مشذبة أص ً
لألحجام( .((2وفي الحالة الرابعة ،لم تعد اللقطة المقطعية (ولها أنواع
= فإنه وافقه يف ح ّلها :رأى أن العمق ،يف شكله األول ،مقسوم إىل رشائح مرتاكبة يمكن
وحتمل كل رشحية قيمتها (وكذا األمر عند فوياد ) (Feuilladeأو عند غريفيث ِ عزهلا،
ّ ّ ّ
))(Griffith؛ ولكن عند رينوار وويلز هناك شكل آخر حيل حمل الرشائح ويتمثل
بالتفاعل املستمر ويتقاطع مع األمامية واخللفية .فلم يعد الشخوص يلتقون عىل لقطة
واحدة ،ألهنم يتعالقون ويتنادون من لقطة إىل أخرى ،وقد تكون النامذج األوىل هلذا
العمق اجلديد يف فيلم الكوارس إليريش فون سرتوهايم ) ،(Erich von Stroheimوهذا
يتطابق متام ًا مع حتليل وولفلني :فاملرأة جتفل يف لقطة مقربة ،يف حني أن زوجها يدخل من
الباب اخللفي ،وينطلق خيط من النور جيمع بينهام.
( ((2عندما حاول هيتشكوك يف فيلم احلبل أن جيعل من فيلمه كله لقطة مقطعية
طويلة (تتوقف فقط عند تغيري البكرات) ،ط ّبق احلالة نفسها .لقد اعرتض بازان عىل أن
اللقطة املقطعية عند رينوار وويلز ووايلر ُتري قطيعة مع التقطيع أو اللقطة التقليديني،
يف حني أن هيتشكوك حافظ عليهام واكتفى بإجراء «تعاقب مستمر إلعادات ضبط
الكادرات» .وبحق ر َّد رومهر وكلود شابرول ) (Claude Chabrolأن هذا أنشأ ِ
اجلدّ ة
حول الكادر التقليدي يف حني أن ويلز حافظ عليه ،خالف ًا لذلك عند هيتشكوك الذي ّ
(Eric Rohmer et Claude Chabrol, Hitchcock ([s. l.]: Edition d’aujourd’hui,
1976), pp. 98-99).
63
في هذه المعاني جميعها ،نقول إن اللق ّطة لها وحدة فعالً .إنها
وحدة الحركة ،وهي تحتوي -تحت هذه الصفة -على كثرة مترابطة
ال تتناقض معها( .((2ما نستطيع قوله هو إن هذه الوحدة خاضعة لضرورة
مزدوجة ،بالنسبة للكل الذي تع ّبر فيه عن تغ ّير يطرأ على مدى الفيلم،
كل وبالنسبة لألجزاء التي تحدّ د فيها التنقالت التي تجري داخل ّ
مجموع ،ومن مجموع آلخر .وقد ع ّبر بازوليني عن تلك الضرورة
المزدوجة بطريقة شديدة الوضوح .فمن جهة قد يكون ّ
الكل السينمائي
حق مستمر نظري ًا؛
لقطة مقطعية تحليلية واحدة ،لها حق غير محدودّ ،
ومن جهة أخرى قد تكون أجزاء الفيلم فعلي ًا لقطات متقطعة ومشتتة
ومبعثرة ،ال رابط ُيذكر بينها .إذ ًا يجب على الكل أن يتخ ّلى عن مثاليته،
وأن يصبح َّ
الكل التوليفي للفيلم الذي يتح ّقق في مونتاج األجزاء؛ وعلى
العكس من ذلك ،ينبغي اختيار األجزاء والتنسيق بينها ويجب أن تدخل
في توصيالت وعالقات تُعيد من طريق المونتاج بناء اللقطة المقطعية
االفتراضية أو الكل التحليلي للسينما(.((2
( ((2لقد ح ّلل بونيتزر ) (Bonitzerمجيع هذه األنواع من اللقطات ،كام حلل
عمق احل ّيز ،واللقطات العديمة العمق ،وذهب به األمر إىل النظر يف اللقطات املعارصة
سمها «لقطات متناقضة» (عند غـــودار وسايرببرغ ومارغريت دوراس) يف: التي ّ
Pascal Bonitzer, Le champ aveugle, Cahiers du Cinéma (Paris: Gallimard, [s.
d.]),
وتطوره
ّ وال شك أن بونيتزر ،بني الن ّقاد املعارصين ،هو الذي أعار مفهوم اللقطة
االهتام َم األكرب .ويبدو لنا أن حتليالته الصارمة ستقوده حت ًام إىل مفهوم جديد للقطة
كوحدة أساسية ،وإىل مفهوم جديد للوحدات (التي توجد مثائلها يف العلوم) .ومع
ذلك ختامره الشكوك يف متانة مفهوم اللقطة ،فاستنكر «طابعها التلفيقي والغامض
والتحاييل» .وحول هذه النقطة فقد نستطيع السري معه.
(Pier Paolo Pasolini, L’expérience hérétique, traduit de l’italien ((2
par Anna Rocchi Pullberg (Paris: Payot, 1976), pp. 197-212.
64
ولكن ال يوجد تقسيم بين الفعل والحق (يقتضي عند بازوليني
نفور ًا كبير ًا من اللقطة المقطعية ،التي بقيت دائم ًا في ح ّيز االحتمال).
هناك جانبان يتعلقان أيض ًا بالفعل والحق و ُيظهران توتّر اللقطة كوحدة.
من جهة أخرى تدخل األجزاء ومجاميعها في تواصالت نسبية ،وذلك
من خالل التوصيالت غير الملحوظة ،وحركات الكاميرا ،واللقطات
المقطعية الفعلية ،مع عمق في المجال أو من دونه .ولكن ستكون هناك
دائم ًا عمليات قطع وانقطاع حتى إذا حصل تواصل الحق ًا ،مما ُيثبت أن
فالكل يتدخل من جهة وعلى مستوى آخر، ّ الكل ليس من هذه الجهة.ّ
كما لو أنه يمنع المجاميع من أن تنغلق على نفسها ومن أن ينغلق بعضها
على البعض اآلخر ،مما ُيظهر انفتاح ًا ال يتماشى مع عمليات االستمرار
ومع انقطاعاتها .إنه يتبدّ ى في ب ِ
عد ديمومة تتغير وال تتوقف عن التغ ّير. ُ
ويتبدى في الروابط الخاطئة كقطب أساسي للسينما .يستطيع التوصيل
الكاذب أن يلعب دور ًا داخل مجموع (كما عند إيزنشتاين) أو في
االنتقال من مجموع إلى آخر ،أو بين لقطتين مقطعيتين (كما عند دريير).
ال بل لهذا السبب ال يكفي أن نقول إن اللقطة المقطعية تستبطن المونتاج
أثناء عمليات التصوير؛ ذلك أنها -على العكس -تطرح مشاكل مونتاج
نوعية .في حديث حول المونتاج أجري مع ناربوني ،يتساءل جاك
ريفيت ) ،(Jacques Rivetteوسيلفي بيير ) :(Sylvie Pierreأين ذهبت
جيرترود؟ وأين أخذها دريير؟ الجواب الذي أعطياه هو أنها صارت في
وصالت األشرطة السينمائية( .((2ليس الربط الخاطىء توصيل استمرار،
وليس انفصاالً أو انقطاع ًا في التوصيل .إنه يحقق القوة األخرى في
65
خارج اإلطار ،ذلك المكان اآلخر أو تلك المنطقة الفارغة ،أو ذلك
"األبيض على األبيض الذي يستحيل تصويره" .لقد انتقلت جيرترود
إلى ال ُبعد الرابع أو الخامس ،بحسب تسمية دارير .من دون أن تكسر
كل شيء ،وتكون اإلسفين فعل ّ
تكون َ
ُ التوصيالت الكاذبة كل شيء،
الذي تغرسه في المجاميع وفي األجزاء؛ كما أن التوصيالت الحقيقية
هي االتجاه المعاكس؛ اتجاه األجزاء والمجاميع التي يجب أن تلتحق
ٍ
بكل ُيفلت منها.
66
الف�صل الثالث
املونتاج
)1
67
إجراء المونتاج .إذا ما نظرنا في المستويات الثالثة :تحديد المنظومات
المغلقة ،وتحديد الحركة التي تنشأ بين أجزاء المنظومة ،وتحديد ّ
الكل
المتغ ّير الذي يع َّبر عنه في الحركة ،نجد انتقاالً كهذا بين هذه المستويات
يجسد مسبق ًا المستويين
الثالثة التي يستطيع فيها كل مستوى أن يحتوي أو ّ
اآلخرين .سيتمكن بعض السينمائيين إذ ًا من أن " ُيدخلوا" المونتاج في
اللقطة أو حتى في الكادر ،وأال يولوا أهمية كبرى للمونتاج بحد ذاته.
جوانيتها المتبادلة .إن ولكن ِ
مز ّية هذه العمليات الثالث أنها تستمر في ّ
ما يعود إلى المونتاج ،بذاته أو بشيء آخر ،هو الصورة الالمباشرة للزمن
والديمومة .وال نتك ّلم عن زمن متجانس أو ديمومة مرتبطة بمكان ،كتلك
التي استنكرها برغسون ،بل نتكلم عن ديمومة وزمن فعليين ينحدران
من تمفصل الصور /الحركة ،بحسب النصوص السابقة لبرغسون .أن
نعرف إن كانت ثمة صور ال مباشرة يمكن أن نسميها بصور /زمن ،وإلى
أي مدى تنفصل عن الصور /الحركة ،وإلى أي مدى -على العكس من
ذلك -تستند إلى بعض الجوانب غير المعروفة لهذه الصور ،كل هذا ال
يمكن أن يدخل في صميم بحثنا اآلن.
68
الكمي للمدرسة الفرنسية قبل الحرب العالمية الثانية،
السوفيتية ،االتجاه ّ
واالتجاه التكثيفي للمدرسة التعبيرية األلمانية .وفي كل حالة يستطيع
المخرجون السينمائيون أن يكونوا متغايرين :ومع ذلك لهم مواضيع
قاسم فكري مشترك يكفي،ٌ ومشاكل واهتمامات مشتركة ،وباختصار ،لهم
في السينما وغيرها ،لتأسيس مفهومي "المدرسة" أو "النزعة" .يطيب لنا
اآلن أن نقدّ م توصيف ًا سريع ًا جد ًا لكل تيار من تيارات المونتاج األربعة هذه.
(*) فيلم أخرجه جون فورد عام ،1948ويتع ّلق بالغرب األمريكي (املرتجم).
69
للفتاة التي يتع ّقبها أحد الزنوج في فيلم والدة ّأمة [لغريفيث،]1915 ،
وإنما أيض ًا عن اللقطة المقربة للمرأة الشابة التي تتماهى مع صور ذهنها،
كما في فيلم((( .Enoch Ardenوأخير ًا ينبغي على األجزاء أيض ًا أن
آن واحد كيف تتنازع وكيف تهدد وحدة تفعل وتتفاعل ،كي تظهر في ٍ
الكل العضوي ،وكيف تتجاوز األزمة أو تستعيد ترميم وحدتها .في ّ
ٌ
أفعال تُظهر تعارض ًا بين اإلنسان الط ّيب والخبيث، بعض األجزاء تظهر
تهب لنصرة اإلنسان
ولكن هناك أجزاء أخرى تُستمدّ من أفعال متضافرة ّ
ويمر في
ّ يتطور في جميع هذه الوقائع
الطيب :إنه شكل المبارزة الذي ّ
أطوار شتى .فمن شأن المجموع العضوي أن يتعرض دائم ًا للتهديد؛
وما ُيتّهم فيه الزنوج في فيلم والدة ّأمة ،هو أنهم يريدون تحطيم الوحدة
الحديثة العهد للواليات المتحدة مستفيدين من هزيمة الجنوب...
وتنحو األفعال المتضافرة إلى الغاية نفسها ،أي أنها تُظهر مكان المبارزة
من أجل قلب نتيجتها وإنقاذ البراءة أو إعادة تشكيل الوحدة المهدَّ دة؛
ويتج ّلى ذلك في عدْ و الفرسان الذين يه ّبون لنجدة المحاصرين أو
مجيء المنقذ الذي يمسك بالفتاة على ِقطع الجليد المتناثرة في فيلم
في قلب العاصفة(*) ) .(Way down Eastوهذا هو الشكل الثالث
ِ
المساهم أو المتضافر ،الذي ُيناوب بين لحظات للمونتاج ،أي المونتاج
فعلين سيتصالن وشيك ًا .وكلما تضافرت األفعال ،كلما اقترب االتصال،
املقربة والبنية الثنائية انظرJacques Fieschi, “Griffith le : ((( حول اللقطة
précurseur,” Cinématographe, no 24 (Février, 1977),
) b
71
ّ
قط مثل هذه الوحدة العضوية بين األجزاء المتغايرة واألفعال المتباعدة،
من طريق اإليقاع.
كلما نُظر إلى الزمن انطالق ًا من الحركة ،وكلما ُع ّرف الزمن على
أنه مقياس الحركة ،كلما اكتشفنا ملمحين للزمن يبعثان دالالت زمنية:
فمن جهة هناك الزمن ككل ،أو كدائرة كبرى أو لولبية ،يلتقط مجموع
الحركات في الكون؛ ومن جهة أخرى هناك الزمن كفاصل يحدّ د أصغر
حركة أو فعل .الزمن ككل ،أي مجمل الحركات في الكون ،هو الطائر
المح ّلق في الفضاء من دون أن يتوقف عن توسيع دائرة طيرانه .ولكن
الوحدة الرقمية للحركة هي خفقة الجناح ،وهي المسافة بين حركتين
تكف عن التضاؤل .الزمن كفاصل هو الحاضر المتغ ّير ّ وفعلين ال
المتسارع ،والزمن ككل هو الحركة اللولبية المنفتحة من طرفيها :طرف
الماضي الرحب وطرف المستقبل .وبتمدد الحاضر إلى ما ال نهاية،
والكل المتق ّلص إلى ما ال نهاية ّ
يمر عبر الفاصل. ّ نفسه َّ
الكل؛ يصبح هو ُ
المثلى ،أي ِ
وتشكيل الصور /الحركة ،هو الفكرة ُ وما ينشأ عن المونتاج
تلك الصورة الالمباشرة للزمن :فالكل هو الذي يطوي ويبسط مجمل
األجزاء في المهد الشهير لفيلم التعصب ،والفاصل بين األفعال هو الذي
يتضاءل في المونتاج المتسارع للسباقات.
)2
مع أن إيزنشتاين اعترف بأنه مدين جد ًا لغريفيث ،إال أنه ّ
سجل
اعتراضين .يخال المرء أوالً أن األجزاء المتمايزة للمجموع تعطى بذاتها
كظواهر مستقلة .إنها أشبه بقديد من لحم الخنزير يجمع بين ِ
الدسم
والهزيل :هناك فقراء وأغنياء ،أخيار وأشرار ،زنوج وبيض ...إلخ.
72
وعندما يتعارض ممثلو هذه األجزاء ،يكون ذلك بالضرورة كمبارزات
الدوافع الجماعية عدد ًا من األسباب الشخصية جد ًا
ُ فردية تغ ّطي فيها
حب تكون بمثابة عنصر ميلودرامي) .إنها أشبه بخطوط ال قصة ّ (مث ً
متوازية تتعاقب ،وتتالقى إلى ما ال نهاية ،من دون أن تتصادم على
خط قاطع تتصادم في هذه النقطة أو تلك.األرض إال عندما يجعلها ٌ
إن غريفيث يجهل أن األغنياء والفقراء ليسوا كظواهر مستقلة ،ولكنهم
مرتبطون بقضية عامة ،أال وهي االستغالل االجتماعي ...إن هذين
االعتراضين اللذين يفضحان التصور "البرجوازي" لغريفيث ال يتعلقان
فقط بطريقة سرد قصة أو بطريقة فهم التاريخ .إنهما يرتبطان مباشرة
بالمونتاج الموازي (والمتالقي أيض ًا)((( .وما يأخذه إيزنشتاين على
كون عن الجسد فكرة تجريبية تمام ًا ،من دون النظر في قانون
غريفيث أنه ّ
تصور وحدة هذا الجسد بطريقة خارجية تمام ًا ،ورأىنشأته ونموه؛ وأنه ّ
أنه وحدة تجمع بين األجزاء المتجاورة وتراكمها ،من دون أن ينظر في
وحدة اإلنتاج ،كخل ّية تنتج أجزاءها إما بالتقسيم وإما بالتمايز؛ وأنه أيض ًا
عرضية ،وليس على أنه القوة المحركة الداخلية فهم التعارض بطريقة َ
التي بها تخلق الوحدة المقسومة وحد ًة جديدة ذات مستوى آخر.
سنالحظ أن إيزنشتاين حافظ على فكرة غريفيث القائلة بوجود تركيب
أو تناغم عضويين للصور /الحركة :ينطلقان في الوضع العام ويصالن
إلى الوضع المتغ ّير ،ويتحققان بتطور التعارضات وتجاوزها .ولكن
((( يقوم التحليل الالمع جد ًا الذي قدّ مه إيزنشتاين عىل أن املونتاج املوازي ،ال
حييل فقط يف مفهومه وإنام أيض ًا يف ممارسته إىل الطريقة التي هبا يفكر املجتمع البورجوازي
يف ذاته ويامرسها .انظر:
Sergei Eisenstein, Film form (New York: Meridian Books, [s. d.]), pp. 234.
sq., (“Dickens, Griffith and the film to-day”).
73
غريفيث لم َير ً
فعال الطبيعة الجدلية للجسد وتركيبه .العضوي هو فع ً
ال
لولب كبير ،ولكن يجب النظر إلى هذا اللولب "بطريقة علمية" ال بطريقة
تجريبية ،بنا ًء على قانون النشأة والنمو والتطور .لقد اعتبر إيزنشتاين أنه
المدرعة بوتومكين �(Le cuirassé Potem ّ استكمل طريقته في فيل م
) ،kineوفي تعليقه على هذا الفيلم يقدّ م تصور ًا جديد ًا لما هو عضوي(((.
اللولب العضوي يجد قانونه الداخلي في المقطع الذهبي الذي
ويجزئ المجموع إلى قسمين كبيرين متعارضين ّ ُيبرز نقطة وقف،
ولكنهما غير متساويين (تلك هي برهة ِ
الحداد التي يعبر فيها المرء من ُ
السفينة إلى المدينة وتنقلب فيها الحركة رأس ًا على عقب) .ولك ّن كل
لولبة أو مقطع ينقسم بدوره إلى جزأين غير متساويين ومتعارضين.
والتعارضات عديدة :فهناك تعارض كمي (إنسان واحد /كثيرون ،رجل
واحد /رجال كثيرون ،عيار ناري واحد /صلية من العيارات النارية،
مركب واحد /أسطول) ،وتعارض نوعي (المياه /األرض) ،وتعارض
كثيف (الظلمات /النور) ،وتعارض دينامي (حركة صاعدة /حركة
نازلة ،حركة نحو اليمين /حركة نحو اليسار وبالعكس) .يضاف إلى
يسجل المقطع الذهبي
ذلك أننا إذا انطلقنا من نهاية اللولب ال من بدايتهّ ،
توقف ًا آخر ،فتحل نقطة التعاكس العليا محل النقطة األدنى ،و ُيحدث
فصل «العضوي والشجني» وهذا الفصل الذي ركز عىل شخصية بوتومكني
) (Potemkineحي ّلل العضوي (كيف ينشأ وكيف ينمو) ويعالج الشجني (كيف
يتطور) الذي يستكمله .ويف الفصل التايل من الكتاب -وهو بعنوان «النابذة وكأس
الغرال» ) (La centrifugeuse graalيركّز عىل «اخلط العام» ويستمر يف حتليله
للشجني من خالل عالقته بالعضوي.
74
هذا التو ّقف انقسامات أخرى وتعارضات أخرى .فيتقدم اللولب على
نحو متصاعد من خالل التعارضات والتناقضات .ولكن ما يظهر هكذا
هو حركة الواحد األحد التي تتضاعف وتشكّل من جديدة وحدة ثانية.
وفعالً ،إذا أرجعنا األجزاء المتعارضة إلى األصل ( Oأو إلى نهاية
اللولب) ،ومن حيث التكوين ،فإنها تدخل في تناسب ،هو التناسب
الخاص بالمقطع الذهبي الذي يجب فيه أن يكون الجزء األصغر في
أعلى مستوى له ،شأنه شأن الجزء األكبر بالنسبة للمجموع:
OA OB OC
= = = …. m
OB OC OD
لن نأخذ باالعتبار إال الهيكل النظري لتعليق إيزنشتاين ،ألنه يتابع
مثال) .وهذا التركيب الجدلي عن كثب الصور الملموسة ( َد َرج أوديساً ،
سنجده من جديد في فيلم إيفان الرهيب ) :(Ivan le terribleوال سيما
75
في الوقفتين اللتين تتطابقان مع لحظتي الشك لدى إيفان ) ،(Ivanمرة
عندما طرح على نفسه عدد ًا من األسئلة أمام نعش زوجته ،ومرة عندما
ّ
وتدل األولى على نهاية اللولبة األولى -وهي المرحلة الراهب.
َ ناشد
األولى من صراعه مع النبالء الروس ّ -
وتدل الثانية على المرحلة الثانية،
يتم انسحاب الجيش الروسي إلى خارج موسكو. وبين المرحلتين ّ
تصور المرحلة الثانية
وسيلوم النقد الرسمي السوفيتي إيزنشتاين على أنه ّ
وعمته :ذلك أن إيزنشتاين رفض المغالطةكمبارزة شخصية بين إيفان ّ
التاريخية القائلة بأن إيفان اتحد مع الشعب .فإيفان ،من بداية الفيلم حتى
نهايته ،جعل من الشعب وسيلة بسيطة ،طبق ًا للشروط التاريخية لتلك
المرحلة؛ ولكنه في تلك الظروف يص ّعد نِزاعه مع النبالء الروس ،من
يحول هذا النزاع إلى مبارزة شخصية على طريقة غريفيث ،ولكنه دون أن ّ
انتقل من التسوية السياسية إلى اإلبادة الجسدية واالجتماعية.
76
النشأة والنمو ،بل يشمل أيض ًا الجانب الشجني ،أو "التطور" .ويجب
عدم الخلط بين الشأن الشجني والشأن العضوي .ذلك أننا ،من نقطة إلى
أخرى على اللولب ،نستطيع أن نمدّ أشعة موجهة تشبه أوتار القوس أو
ونطور تعارضات بذاتها بحسب
ّ اللولبة .وهذا ال يعني من بعد أننا نشكّل
ونطور االنتقال من نقيض إلى آخر ،أو باألحرى فيّ اللولبات ،بل نشكل
اآلخر ،بحسب األوتار :أي القفز باتجاه النقيض .ال يوجد فقط تعارض
بين األرض والماء ،وبين الواحد والمتعدّ د ،بل يوجد انتقال من هذا إلى
تبجس فجائي ينطلق من الواحد نحو اآلخر .ال توجد فقط ذاك ،ويوجد ّ
وحدة عضوية بين األضداد ،بل انتقال شجني من الضدّ إلى نقيضه .ال
توجد فقط عالقة عضوية بين لحظتين ،بل توجد قفزة شجنية تحصل فيها
اللحظة الثانية على طاقة جديدة ،ألن اللحظة األولى قد انتقلت إليها.
انتقلت من الحزن إلى الغضب ،ومن الشك إلى اليقين ،ومن اإلذعان
آن واحدإلى التمرد ...يتضمن الشجني بذاته هذين الوجهين :فهو في ٍ
ّ ّ
التبجس
ّ مز ّية إلى ِ
مز ّية أخرى ،وهو االنتقال من حدّ إلى حدّ آخر ،ومن ِ
للمز ّية الجديدة التي تنشأ من االنتقال الناجز .إنه "ضغط"ِ الفجائي
ٍ
قسم لولبه إلى جزأينو"انفجار" في آن واحد((( .إن فيلم الخط العام ُي ّ
ويوزع تناقضاته
ّ متعارضين "القديم" و"الجديد" ،ويعيد إنتاج انقسامه،
في هذا الجانب وفي الجانب اآلخر :وهذا هو العنصر العضوي .ولكن
لفرازة القشدة ،نشهد انتقاالً من لحظة ألخرى ،ومنفي المشهد الشهير ّ
االرتياب واألمل إلى االنتصار ،ومن األنبوبة الفارغة إلى القطرة األولى
[من القشدة] ،وهو انتقال يتسارع كلما اقتربت ِ
المز ّية الجديدة والقطرة
ال يقتضي الشجني أيض ًا تغيير ًا في مضمون الصورة فقط ،بل في
قوتها وأن تنتقل إلى قوة أعلى.
شكلها .ذلك أن الصورة ينبغي أن تغ ّير من ّ
سماه إيزنشتاين "التغيير المطلق للبعد" ،كي يجعله يتعارض مع هذا ما ّ
التغييرات النسبية فقط لغريفيث .و ُيقصد بالمطلق أن القفزة النوعية قفزة
شكلية بقدر ما هي قفزة مادية .إن إدخال اللقطة المقربة ،عند إيزنشتاين،
سيسجل َق ْطع ًا مثل هذه القفزة الشكلية ،ويسجل تغيير ًا مطلق ًا ،أي أنه رفع
ّ
الصورة إلى قوة مر ّبعة :وهذه هي بالنسبة لغريفيث وظيفة جديدة جد ًا
المقربة((( .وإذا ما اشتملت هذه اللقطة على جانب من الذاتية ،فهذا ّ لل ْقطة
يدل على أن الوعي ينتقل إلى بعد جديد ،ويرقى إلى القوة ( 2ويمكنه أن ّ
يتحقق في "سلسلة من اللقطات المتنامية" ،ولكن يمكنه أن يسلك طرق ًا
جديدة) .في جميع األحوال ،الوعي هو الشجني ،هو االنتقال من الطبيعة
إلى اإلنسان وإلى الكيفية التي تنشأ من هذا االنتقال الحاصل .إنه في
آن واحد الوعي والوعي الحاصل والوعي الثوري المتبلور ،حتى نقطة ٍ
معينة على األقل هي محدودة عند إيفان ،أو هي واعدة عند بوتومكين،
أو هي نقطة بالغة العلو في فيلم أكتوبر .إذا كان الشجني هو التطور،
يتغي يف البعد
ّ ((( ح ّلل بونيتز هذا الفرق بني إيزنشتاين وغريفيث (ورأى أنه
املطلق والنسبي) ،يف كتاب:
Pascal Bonitzer, Le champ aveugle, Cahiers du Cinéma (Paris:
Gallimard, [s. d.]), pp. 30-32.
78
فألنه تطور الوعي ذاته :أي أنه طفرة العضوي الذي يخلق وعي ًا خارجي ًا
للطبيعة وتطورها ،ولكنه يخلق أيض ًا وعي ًا داخلي ًا للمجتمع وتاريخه ،في
فترة من فترات الجسم االجتماعي .وهناك طفرات أخرى في العالقات
المتغ ّيرة مع تغ ّير عالقات الوعي ،وتع ّبر كلها عن أبعاد جديدة وتبدّ الت
شكلية ومطلقة وارتقاءات متعاظمة القوة .إنها القفزة النوعية في اللون،
مثل الراية الحمراء لبوتومكين والوليمة الحمراء إليفان .ومع السينما
الناطقة والصوتية ،سيكتشف إيزنشتاين دائم ًا ارتقاءات أخرى متعاظمة
القوة((( .ولكن إذا اقتصرنا على السينما الصامتة ،لرأينا أن القفزة النوعية
قد تؤدي إلى تغييرات شكلية أو مطلقة تصل إلى أضعاف مضاعفة من
القوة :فس ُيستبدل تد ّفق الحليب في فيلم الخط العام برشقات مائية (وهو
انتقال إلى الشعشعة) ثم بألعاب نارية (وهو انتقال إلى اللون) ،ثم أخير ًا
بتعرجات األلوان (وهو انتقال من المرئي إلى المقروء) .ومن وجهة ّ
يتوضح المفهوم العسير الذي أطلقه إيزنشتاين،
ّ النظر هذه ،يمكن أن
يختزل فع ً
ال إلى إطالق تشابيه َ وهو "مونتاج التجاذبات" الذي ال
واستعارات((( .ويبدو لنا أن "التجاذبات" هي تارة تصورات مسرحية
((( وهذا ً
مثال ما س ّمه إيزنشتاين بـ «املونتاج العمودي»؛ انظر:
Sergei Eisenstein, The Film Sense, Edited and Translated by Jay,
Leyda (New York: Meridian Books, 1957).
يرص إيزنشتاين كثري ًا عىل الطابع
((( يف كتاب ّ La non-indifférente nature
الشكيل للقفزة النوعية (ال املادية فقط) .فام حيدد هذه السمة ،هو أنه جيب أن يوجد ارتقاء
يف قوة الصورة .وهنا يتدخل بالرضورة «مونتاج التجاذبات» .إن التعليقات العديدة عىل
مونتاج التجاذبات ،كام أوردها إيزنشتاين يف كتاب ) ،Au-delà des étoiles (10-18تبدو
لنا رضب ًا من الثرثرة ،إن مل نأخذ باالعتبار القوى املتنامية للصورة .ويف هذا الصدد ،ال
ختل إيزنشتاين عن هذه الطريقة :ذلك أنه سيحتاج إليها تُطرح مسألة أن نعرف إذا ما ّ
دائ ًام يف مفهومه عن القفزة النوعية.
79
أو سيركية (انظر العيد األحمر إليفان) ،وطور ًا هي تصورات تشكيلية
المدرعة بوتومكين وخاصة في
ّ (انظر التماثيل والمنحوتات في فيلم
فيلم أكتوبر) تأتي الستكمال أو تبديل الصورة .ورشقات الماء والنار في
فيلم الخط العام هي من هذا القبيل .صحيح أن االجتذاب يجب أن ُيفهم
بالمعنى المشهدي ،ثم بالمعنى الترابطي :ترابط الصور كقانون الجاذبية
والنيوتونية .ولكن األهم هو أن إيزنشتاين في "الحساب التجاذبي"
يسجل هذا التوق الجدلي للصورة إلى الوصول إلى أبعاد جديدة ،أي ّ
إلى القفز صوري ًا من قوة إلى قوة أخرى .فرشقات الماء والنار ترفع قطرة
وفعال يصبح الوعي كوني ًا وثوري ًا في ٍ
آن ً الحليب إلى ُبعد كوني بامتياز،
واحد ،ألنه أدرك في القفزة الشجنية األخيرة مجمل العنصر العضوي
بالذات ،أي التراب والهواء والماء والنار .وسنرى الحق ًا كيف أن مونتاج
التجاذبات ال يكف بالتالي عن ربط العنصر العضوي بالعنصر الشجني.
مونتاج
َ أحل إيزنشتاين محل المونتاج الموازي لدى غريفيث، ّ
مونتاج قفزات
َ ّ
وأحل محل المونتاج المتقارب أو المترابط، تعارضات؛
نوعية (المونتاج الطافر) .وتتالقى في هذا المونتاج شتى ضروب
المونتاج ،أو باألحرى تنجم عنه ،فال تبدع إجراءات عملية فقط بل
مفاهيم نظرية :ثمة مفهوم جديد للقطة المقربة ،ومفهوم جديد للمونتاج
المسرع والمونتاج العمودي ومونتاج التجاذبات والمونتاج الفكري أو
َّ
مونتاج الوعي ...نؤمن بتماسك هذا المجموع العضوي الشجني .وهذه
هي خالصة ثورة إيزنشتاين :إنه يرفد الجدلية بمعنى سينمائي خاص،
وينتزع اإليقاع من تقييمه التجريبي أو الجمالي ،كما فعل غريفيث،
ويجعل من البنية العضوية مفهوم ًا جدلي ًا بصورة أساسية .ويبقى
80
الزمن صورة ال مباشرة تنشأ من التشكيل العضوي للصور /الحركة،
ولكن الفاصل ،شأنه شأن المجموع يأخذ معنى جديد ًا .فالفاصل ،أو
الحاضر المتغ ّير ،أصبح القفزة النوعية التي تبلغ القوة العالية للحظة .أما
المجموع كاتساع رحب ،فلم يعد كلية جامعة تضم أجزا ًء مستقلة إلى
الشرط الوحيد الذي يقضي بتداخلها ويستطيع دائم ًا أن يكبر إذا ما أضفنا
إلى المجموع المشروط عدد ًا من األجزاء ،أو إذا ما ربطنا مجموعين
مستقلين بفكرة لها غاية واحدة .إنها كلية أصبحت ملموسة وموجودة
تستولد األجزاء فيها بعضها بعض ًا داخل كليتها ،ويتوالد المجموع في
الكل كمسبب للمجموع األجزاء ،بحيث تحيل هذه السببية المتبادلة إلى ّ
وألجزائه طبق ًا لغاية داخلية .إن اللولب المفتوح من نهايتيه لم يعد
طريقة تجمع من الخارج واقع ًا تجريبي ًا ،بل هي الطريقة التي ال يكف
فيها الواقع الجدلي عن التشكّل والنمو .األشياء تغوص إذ ًا في الزمن
حق ًا وتصبح رحبة ألنها تحتل فيه مكان ًا متعاظم ًا أكبر من المكان الذي
يكونه المجموع عن ذاته .إن المجموع واألجزاء يشغله المجموع أو ما ّ
ثماني وأربعين ساعة ،وتستغرق في َ المدرعة بوتومكين تستغرق
ّ في فيلم
فيلم أكتوبر عشرة أيام ،أي أنها في مجملها تشكّل ح ّيز ًا يمتدّ بال حدود.
تقارن من الخارج ،فإنها تشكّل ومن دون أن تنضاف التجاذبات أو أن َ
هذا االمتداد بالذات أو ذلك الوجود الداخلي في الكل .إن التصور
الجدلي للجسم والمونتاج عند إيزنشتاين ِ
يقرن ما بين اللولب المفتوح
دائم ًا واللحظة الواثبة دائم ًا.
81
والنشوء الفجائي لنوعية جديدة .وهناك قانون ّ
الكل والمجموع واألجزاء.
وهناك أيض ًا قانون الواحد األحد ،وقانون التعارض الذي يرتبط بها
القانونان اآلخران :فالواحد األحد يصبح اثنين ليصل إلى وحدة جديدة.
إذا جاز التك ّلم عن مدرسة سوفيتية في المونتاج ،فليس ألن ممثليها
متشابهون ،بل ألنهم على العكس يختلفون في المفهوم الجدلي الذي
يتشاطرونه كلهم ،ألن كل واحد منهم يتعاطف مع هذا القانون أو ذاك
بتدرج
بحسب استلهامه .ومن الواضح أن بودوفكين يهتم قبل كل شيء ّ
الوعي وبطفراته النوعية :وهكذا نرى أن أفالم األم ونهاية سان بترسبورغ
وعاصفة فوق آسيا تشكّل ثالثية كبرى .الطبيعة حاضرة هنا ،ببهائها
ودراميتها ،ونهر النيفا ) (Névaالذي يجر جليده ،وسهوب منغوليا،
ولكنه حضور يشبه االندفاع الخطي الذي يتضمن لحظات الوعي ،وعي
األم ،ووعي الفالح ،ووعي المنغولي .ويقوم الفن األعمق لبودوفكين
يكونه
على أنه كشف النقاب عن وضع إجمالي من خالل الوعي الذي ّ
أحدهم ،ومن خالل تطويره ،وصوالً إلى ما ال يستطيع الوعي أن يحيط به
ويفعله (األم التي تراقب األب الذي يريد سرقة بندول الساعة الجدارية،
أو -في "نهاية سان بترسبورغ -المرأة التي تدرك بلمحة بصر عناصر
الوضع ،والشرطي ،وفنجان الشاي على الطاولة ،والشمعة المدخنة،
وبسطار الزوج الذي وصل للتو)((( .أما ألكسندر دوفجنكو (Aleksandr
Jean Mitry, Histoire du cinéma muet, III (Paris: Edition ((( انظر:
Universitaires, 1990), p. 306:
انقضت عىل الكأسَظرت :الكأس والبسطار وعنرص امليليشيا ،ثم ّ ٍ
«عندئذ ن ْ
الرشطي وهرب. وملح املسن الرجل انحنى ٍ
عندئذ الزجاج، عىل ورمته به حت وطو
َ ّ
َس ُ ُ
وتباعا ،فنجان الشاي ثم أحد العنارص الواشية وطريقة التأشري واملنقذ )...( ،عك َ ً
هذا اليشء انتباه ًا وحالة فكرية وقصد ًا معين ًا».
82
) Dovjenkoفيع ّبر عن جدليته بطريقة أخرى ،إذ إنه يهجس بالعالقة
الثالثية بين األجزاء والمجموع والكل .وإذا كان هناك ُمخرج استطاع
أن يجعل الكل واألجزاء تغوص في ٍّ
كل يمنحها عمق ًا وامتداد ًا ال يقاسان
بحدودهما الخاصة ،فهو دوفجنكو ،وأكثر من إيزنشتاين .وهذا هو
موضوع التخييل والمشهد الساحر عند هذا المخرج .فتارة نرى أن بعض
المشاهد تستطيع أن تكون أجزا ًء سكونية أو شذرات غير مترابطة ،كصور
المتجمدة،
ّ البؤس في بداية فيلم الترسانة :المرأة الخائرة القوى ،واألم
والموجيك ،وباذرة الحبوب ،والموتى المتسممون بالغازات (أو على
العكس ،الصور البهيجة في فيلم األرض ،واألزواج الثابتون في أماكنهم
أو الجالسون أو الواقفون أو المستلقون) .وطور ًا تستطيع مجموعة نشطة
ومتحدة أن تتشكل مث ً
ال في هذا المكان أو هذا الزمان ،كما في غابة فيلم
الغوص في الكل إلى
ُ أييروغراد ) .(Aérogradويؤكّد ذلك كلما يدفع
بماض سحيق كماضي جبل أوكرانيا وكنز أقوام السكيثيين ٍ ربط الصور
في فيلم زفينيغورا ) ،(Zvenigoraوإلى ربطها بمستقبل كوكبي ،كما
الطائرات القادمة من شتى أصقاع
ُ في فيلم أييروغراد الذي فيه ت ُِق ّل
األرض بنا َة المدينة الجديدة .كان برثيليمي أمينغوال (Barthélemy
) Amengualيتكلم عن تجريد المونتاج الذي -من خالل المجموع أو
الشذرات -يمكّن المؤلف "من التكلم عما هو خارج الزمان والمكان
جوانية الزمن
الواقعيين"((( .ولكن هذا العنصر الخارجي هو األرض ،أو ّ
( ((1إن مسألة أن نعرف إذا كانت اجلدلية برشية فقط ،وإذا كان باستطاعتنا أن=
84
أبرزه فيرتوف ،هو أن اإلنسان حاضر في الطبيعة وفي أفعاله وأهوائه
وحياته .ولكنه ،إذا اشتغل على األفالم الوثائقية واألحداث الراهنة،
وإذا انتقد بشدة تصوير الطبيعة وعارض سيناريو الفعل ،فألن له سبب ًا
عميق ًا .فاآلالت والمناظر الطبيعية والمباني الفخمة والبشر لم تنل كثير ًا
الفلحة الجميلة أو الطفل الذي من اهتمامه :فكل منها -بما في ذلك ّ
يهز المشاعر -كان بمثابة منظومات مادية ال تتوقف عن التفاعل .كانت
ّ
عناصر تحفيز وتحويل وتبديل تستقبل عدد ًا من الحركات وتعيد منحها،
وتطور المادة نحو حاالت أقل
ّ وتغ ّير في سرعتها وتوجيهها ونظامها،
تمت بصلة إلى أبعادها الخاصة .هذا
"احتمالية" ،وتُحدث تغييرات ال ّ
ال يعني أن فيرتوف كان ينظر إلى الكائنات كآالت ،بل أن اآلالت لها
"قلب" و"تسير وترتعش وتنتفض وترمي بالبروق" ،كما أن اإلنسان
يستطيع أن يفعل ذلك ويقوم بحركات أخرى ،وفي ظل شروط أخرى،
ولكنها تتفاعل على الدوام .وما اكتشفه فيرتوف في األحداث الراهنة
كان الطفل الجزيئي والمرأة الجزيئية ،والمرأة والطفل الماديين ،كما
اكتشف أيض ًا المنظومات المسماة "ميكانيزمات" أو "آالت" .واألمر
المهم تم ّث َل في جميع النقالت (الشيوعية) من نظام بدأ يتهالك إلى نظام
في طور البناء .ولكن بين منظومتين أو نظامين ،وبين حركتين ،يوجد
بالضرورة فاصل متغ ّير .إن فاصل الحركة ،عند فيرتوف ،هو اإلدراك
ّ
المتخشبة وهو اللمحة الخاطفة ،والعين .ولكن العين ليست العين
لإلنسان ،وإنما هي عين الكاميرا ،أي عين المادة ،وهي إدراك ذاتها
86
عضوية مفرطة وبإنسان سهل التأ ّثر عاطفي ًا .وعمل على دمج المجموع
الالمتناهي للمادة ،وعلى أن يذوب الفاصل مع العين داخل المادة ،أي
مع الكاميرا .ولم يعد النقد الرسمي يفهمه .ولكنه دفع إلى الحد األقصى
سجاال داخلي ًا حول الجدلية التي عرف إيزنشتاين كيف ّ
يلخصها ،عندما ً
رفض المنازلة السجالية .وخلق فيرتوف تعارض ًا بين ثنائيات "الطبيعة/
اإلنسان" و"الطبيعة القبضة" و"الطبيعة /اللكمة" (أي الثنائيات
العضوية /العاطفية)(.((1
)3
في المدرسة الفرنسية قبل الحرب (وكان غانس ) (Ganceزعيمها
المعترف به نوع ًا ما) ،شهدنا أيض ًا قطيعة مع مبدأ التركيب العضوي.
ولكن هذا ال يعني وجود فيرتوفيه ) (Vertovismeولو معتدلة .هل ينبغي
تتم معارضتها بالتعبيرية األلمانية؟
الكالم هنا عن وجود انطباعية ،كي ّ
التعريف الذي يمكن إلصاقه بالمدرسة الفرنسية ،هو باألحرى نوع من
يهتمون قبل كل شيء
أنواع الديكارتية :ذلك أن السينمائيين الفرنسيين ّ
بكمية الحركة وبالعالقات المتر ّية ،وكلها تتيح التعريف بهذه المدرسة.
وهم مدينون لغريفيث أكثر مما يدين له السوفييت؛ وكانوا يتمنّون
تجاوز ما كان تجريبي ًا عند غريفيث ويتط ّلعون إلى مفهوم أكثر علمية،
بشرط أن يخدم اإللهام السينمائي ،ال بل وحدة الفنون (وهو نفس
87
االهتمام "بالعلم" الذي كان ينشده فن الرسم في تلك الفترة) .والحال
أن الفرنسيين تنكّبوا للتركيب العضوي من دون أن يتعمقوا في تركيب
طوروا تركيب ًا آلي ًا كبير ًا في الصور /الحركة .ولكن
جدلي معين ،غير أنهم ّ
هذه الكلمة غامضة .لنشاهد عدد ًا من المشاهد التي أصبحت مضرب
مثل في السينما الفرنسية :مشهد السوق الموسمية في فيلم قلب وفي
( (Coeur fidèleلجان إبستاين ،الرقص الشعبي في فيلم إلدورادو �(El
) doradoلمارسيل ليربييه ) ،(Marcel L’Herbierرقصات الفاراندول
في فيل م مالدون ) (Maldoneوغيره لجان غريميون �(Jean Grémil
) .lonصحيح أن في الرقص الجماعي يوجد تركيب عضوي للراقصين،
ويوجد تركيب جدلي لحركاتهم البطيئة والسريعة وأيض ًا المستقيمة
والدائرية ...إلخ .ولكننا نستطيع ،عندما ننعم النظر في هذه الحركات،
أن نستخلص منها أو ُن ْفرد جسد ًا واحد ًا يستطيع أن يكون الـ" راقص"،
أو الجسد الوحيد لجميع الراقصين ،وحرك ًة واحدة تكون حركة فاندانغو
) (Fandangoعند ليربييه ،وهي الحركة التي نراها في جميع حركات
الفاندانغو الممكنة( .((1إننا نتجاوز األجسام المتحركة لنستخلص الحد
صور غريميون رقصة
األقصى من كمية الحركة في حيز مع ّين .وهكذا ّ
الفاراندول األولى التي أتى بها ،في حيز مغلق أفسح المجال ألقصى حد
من الحركة .وال نقول عن رقصات الفاراندول األخرى ،التي وردت في
Epstein, Ecrits sur le cinéma, II (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 67, 7
(((1
ويقول عن لريبييه« :بضبابية متدرجة ،يفقد الراقصون تدرجيي ًا متايزاهتم الشخصية،
فنكف عن التعرف إليهم كأفراد متميزين إذ ينخرطون يف لغة برصية مشرتكة :يصبح
الراقص من دون اسم ،ويستحيل متييزه عن عرشين أو مخسني عنرص ًا مشاهب ًا ،إذ راحوا
ال عام ًا آخر وجتريد ًا آخر .ليس هذا الفارانغو أو ذاك بل الفارانغو
مجيعهم يؤلفون شك ً
بامتياز ،أي البنية التي يمكن أن تنبعث من اإليقاع املوسيقي جلميع رقصات الفارانغو».
88
أفالمه التالية ،إنها رقصات مختلفة ،ولكنها تم ّثل دائم ًا "الـ" فاراندول
يمل غريميون من اكتناه سره ،أي كمية الحركة؛ وهو يشبه في الذي لم ّ
الرسا َم مونيه ) (Monetالذي لم يكف عن رسم زهر النيلوفر.
ذلك ّ
ِ
يكون الراقصون قطعها .وفع ً
ال إلى حد ما ،يغدو الرقص آلة ّ
استخدمت السينما الفرنسية اآللة بطريقتين بغية الحصول على تشكيل
آلي للصور /الحركة .النموذج األول لآللة هو اآللة الذاتية الحركة،
وهي آلة بسيطة تتمتع بآلية الساعات الجدارية ،وهي التشكيل الهندسي
وتحول حركات داخل الحيز المتجانس ،بحسب ّ ألجزاء تجمع وتراكم
العالقات التي عرفتها .اآللة الذاتية الحركة ال تشي ،كما في االنطباعية
األلمانية ،بحياة أخرى متربصة قد تغوص في الظالم ،وإنما تشي بحركة
ميكانيكية واضحة كأنها قانون الحد األقصى لمجموعة من الصور التي
تجمع األشياء والكائنات الحية والعناصر المتحركة وغير المتحركة،
فتُجانِ ُس بينها .األشخاص المتذبذبون ،والمارة وانعكاسات األشخاص
المتذبذبين ،وظالل المارة ،س ُيقيمون عالقات دقيقة جد ًا من التماهي
المجموع
َ والتعاقب والتكرار الدوري واالرتكاس المتسلسل ،ت ُ
ُشكل
الذي يجب أن تُعزى الحركة اآللية إليه .وهذا ينطبق على هروب المرأة
الشابة في فيلم األتاالنت ) (L’atalanteلجان فيغو ) ،(Jean Vigoوعند
جان رينوار أيض ًا في فيلم البائعة الصغيرة لعلب الكبريت وحتى في
التشكيل الكبير لفيلم قاعدة اللعبة .وال شك أن رينيه كلير )(René Clair
كم من الشعرية ،وأحيا التجريدات هو الذي َّ
بث في هذه الصيغة أكبر ّ
الهندسية في ح ّيز متجانس وساطع ورمادي يفتقر إلى العمق(.((1
وحي ّلل أمينغوال أيض ًا دور اآللة الذاتية احلركة عند فيغو ويعارضها بالتعبريية: =
Jean Vigo, Etudes cinématographiques ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), pp. 68-72.
90
يمر بها المحرك
كدرب آالم يجب أن يؤدي إلى الموت .إن الحاالت التي ّ
الجديد والحركة اآللية تتعاظم على مستوى العالم ،شأنها في ذلك شأن
الحاالت التي يمر بها الفرد الجديد والمجموعات البشرية التي ترقى
إلى مستوى روح العالم ،في ذلك االتحاد اآلخر الذي يتم بين اإلنسان
واآللة .لذا من العبث استخالص نوعين من الصور في فيلم ال َع َجلة
الذي أخرجه غانس :صور الحركة اآللية التي ستحتفظ بجمالها ،وصور
المأساة التي اعتبرت مأساة حمقاء وتافهة .فلحظات انطالق القطار
وسرعته وتسارعه والكارثة التي ح ّلت به ،ال يمكن فصلها عن حاالت
العامل الفنّي ،حاالت سيزيف وسط البخار ،وبروميثيوس وسط النار،
وصوالً إلى أوديب في قلب الثلوج .إن االتحاد الحركي بين اإلنسان
والحركة سيحدّ د وحش ًا بشري ًا يختلف كثير ًا عن الدمية المتحركة التي
عرف رينوار كيف يكتشف أبعادها الجديدة ،حاذي ًا في ذلك حذو غانس.
91
كما سنرى ،وتو ُّلع عام بالماء والبحر واألنهار (ليربييه ،إبستاين ،رينوار،
فيغو ،غريميون) .ولم يكن ذلك إطالق ًا للتخ ّلي عن الميكانيك ،بل على
العكس ،كان انتقاالً من ميكانيك األجسام الصلبة إلى ميكانيك السوائل
الذي -من وجهة نظر عملية – سيخلق تعارض ًا بين عالمين ،والذي -من
وجهة نظر تجريدية -سيجد في الصورة السائلة امتداد ًا جديد ًا لكمية
ضمها :فكانت شروط مثلى لالنتقال الحركة داخل المجموع الذي ّ
تبث في الحركات من المحسوس إلى المجرد ،وكانت إمكانية كبرى ّ
ديمومة ثابتة بمعزل عن الخصائص التصويرية ،وكانت قدرة أكثر ضمان ًا
المحرك( .((1لقد كان للماء حضور الفت
َّ الستخراج الحركة من الشيء
في السينما األميركية وفي السينما السوفيتية ،وكان حضوره إيجابي ًا
ومدمر ًا أيض ًا ،ولكن الماء في جميع الحاالت قد جابه أهداف ًا عضوية
حررت الماء ،وأعطته غاياتوارتبط بها .المدرسة الفرنسية هي التي ّ
ال من دون أن يحصل على قوام عضوي.خاصة وجعلت له شك ً
مكرس ًا
خالف ًا لما حدث في التعبيرية األلمانية ،كان كل شيء ّ
للحركة بما في ذلك الضوء .صحيح أن الضوء ليس فقط عام ً
ال يستمدّ
قيمته من الحركة التي يصاحبها أو يخضع لها أو يحدد شرطها حتى .هناك
أضوائية فرنسية ) (luminismeأنشأها كبار مصممي السينما (مثل بيرينال
) )(Perinalوم ّثل الضوء بالنسبة لهم قيمة بحدّ ذاتها .ولكن الضوء بذاته
هو حركة ،هو حركة ِصرفة ذات امتداد وتتحقق في اللون الرمادي ،في
"صورة متدرجة اللون تو ّظف تدرجاتها جميعها في األلوان الرمادية"(.((1
إنه ضوء ال يتوقف عن االنتشار في حيز متجانس ،ويخلق أشكاالً ساطعة
من خالل حركيته الخاصة أكثر من تالقيه بأجسام تتحرك .إن الرمادي
املونتاج املرتي وتتامته واملونتاج اإليقاعي واملقامي واهلارموين .ولكن األمر عند =
إيزنشتاين يتعلق خصوص ًا باملقاييس العضوية وبالعالقات املرتية حتديد ًا.
(Noël Burch, Marcel L’Herbier (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 139. ((1
انظر أيض ًا مالحظات أمنغوال حول الضوء عند رينيه كلري (ص ،)56وعند
فيغو بخاصة (ص désacralisation des ténèbres de l’expressionisime”,“ :)72
وانظر ما كتبته مرياي التيل ) (Mireille LatilيفCinématographe, no :
40 (Octobre 1978).
94
الساطع الذي اشتهرت به المدرسة الفرنسية هو أشبه بلون /حركة .ليس
-كما عند إيزنشتاين -الوحدة الجدلية التي تنقسم إلى أسود وأبيض،
أو التي تنجم عن هذين اللونين ككيفية جديدة .ولكنه ،مقارنة بالطريقة -
التعبيرية ،ليس نتيجة صراع عنيف بين النور والظلمة ،أو نتيجة تمازج بين
المضيء والمعتّم .فالرمادي ،أو الضوء كحركة ،هو الحركة التناوبية .وال
شك أن هذا سمة مبتكرة في المدرسة الفرنسية :أي إحالل التناوب محل
التعارض الجدلي والنزاع التعبيري .ونجد أنه بلغ ذروته عند غريميون:
أي التناوب المنتظم للضوء والظل ،الذي تجعله المنارة متحرك ًا في فيلم
حراس المنارة ) ،(Gardiens de phareولكن أيض ًا التناوب بين المدينة
النهارية والمدينة الليلية كما في فيلم السيد فيكتور الغريب (L’étrange
) .Monsieur Victorويوجد تناوب امتدادي ،وليس نزاع ًا ،ألن الضوء
منتشر على الجانبين ،ضوء الشمس وضوء القمر ،مشهد قمري ومشهد
شمسي ،ويتصالن في ما بينهما داخل الرمادي ويمران بجميع تدرجاته.
إن تصور ًا للضوء كهذا يدين كثير ًا للنزعة التلوينية عند روبرت ديلونيه
) ،(Robert Delaunayعلى الرغم من المظاهر(*).
95
كمية للحركة ،إذا أخذت باالعتبار هذه العناصر جميعها .ويأخذ الحد
األقصى توصيفه ،ألنه كيفية بحدّ ذاته :فهو فاندانغو وفاراندول وباليه...
إلخ .وبحسب تغ ّيرات الحاضر أو تق ّلصات الفاصل وتمدداته ،نستطيع
القول إن الحركة البطيئة جد ًا تحقق قدر ًا كبير ًا من الحركة الممكنة،
بمقدار ما تحققه حركة سريعة جد ًا في الحالة األخرى :إذا ما أعطى فيلم
العجلة لغانس نموذج ًا لحركة متسارعة وبمونتاج متعاظم السرعة ،فإن َ
ِ
فيلم انهيار منزل أوشر ) (La chute de la maison Usherالبسين.
يبقى تحفة في اإلبطاء مع أنه يح ّقق الحد األقصى للحركة بشكل ممطوط
للغاية .ومن دون الوقوف في التناقض .علينا اآلن أن ننتقل إلى الجانب
اآلخر ،أي إلى المطلق في كمية الحركة وإلى المطلق األعظمي .ومن
ويتضمن
ّ دون الوقوع في تناقض ،نرى أن هذين الجانبين متالزمان جد ًا،
أحدهما اآلخر ويفترضه منذ البداية .أعار ديكارت كمية نسبية جد ًا
خص كلية الكون بكمية مطلقة للحركة في المجموعات المتغ ّيرة ،ولكنه ّ
أدق شروطها. من الحركة .لقد وجدت السينما ذلك التعالق الضروري في ّ
فمن جهة يتوجه حجم اللقطة إلى مجاميع مؤ َّطرة ،و ُيدخل في عناصره
الحد األقصى من الحركة النسبية؛ ومن جهة أخرى يهتم بمجموع متغ ّير
يتبدّ ى فيه التغيير في حدّ أعظمي مطلق للحركة .وببساطة ال يكْم ُن الفرق
بين كل صورة لذاتها (ضبط الكادر) وبين العالقات القائمة بين الصور
(المونتاج) .فحركة الكاميرا تُدخل صور ًا عديدة في صورة واحدة ،مع
مجموعة من الضبط المتكرر للكادرات ،وتجعل أيض ًا من الممكن أن
تع ّبر صورة واحدة عن الكل .وهذا الفت عند آبيل غانس الذي تباهى
عن حق في فيلم نابليون أنه لم ّ
يحرر الكاميرا من حواملها األرضية
فحسب ،بل حررها من عالقاتها بالرجل الذي يحملها ،ووضعها على
96
ظهر حصان ،وأطلقها كقذيفة وجعلها تتدحرج ككرة وتسقط من طائرة
مروحية في البحر( .((1بيد أن المالحظة السابقة التي اقتبسناها من بورش
تبقى سارية المفعول :فحركة الكاميرا ،عند معظم هؤالء المخرجين
الذين تكلمنا عنهم في هذا الفصل ،ما زالت خاصة بلحظات الفتة ،في
حين أن الحركة العادية تُحيل باألحرى إلى تعاقب في اللقطات الثابتة،
بحيث يكون المونتاج من جانبي اللقطة :فيشمل المجموع المؤ ّطر الذي
ال يكتفي بصورة واحدة ولكنه ُيظهر الحركة النسبية في متتالية تغ ّير وحدة
القياس (إعادة التأطير) ،ويشمل كامل الفيلم الذي لن يكتفي بأن يكون
مجموعة من الصور المتعاقبة ،ولكنه يتبدّ ى في حركة مطلقة يجب اآلن
كشف طبيعتها.
97
كحركة مطلقة تتماهى بذاتها مع ما ال يقاس ومع الهائل والرحب،
ومع الق ّبة السماوية أو البحر الذي ال تخوم له( .((2ذلك هو الوجه اآلخر
للزمن ،ال الفاصل كحاضر متغ ّير ،ولكنه الكل المفتوح بامتياز ،والرحب
رحاب َة المستقبل والماضي .لم يعد ذلك هو الزمن كتعاقب في الحركات
والوحدات ،وإنما الزمن كتواقتية وتواقت (ذلك أن التواقت يتعلق
آن واحد ،ألنه الزمن ككل) .وهذا المثال األعلى بالزمن والتعاقب في ٍ
للتواقتية هو الذي ما انفكت السينما الفرنسية تهجس به ،وهو الذي
ألهم ف ّن الرسم والموسيقى وحتى األدب .أجل يساورنا االعتقاد بأنه
من الممكن والسهل االنتقال من الوجه األول إلى الوجه الثاني :أليس
ال ال محدود ،وسواء تسارع أو امتدّ إلى األقاصي ،أال التعاقب هو أص ً
يحدّ ه تواقت ُيدانيه إلى ما ال نهاية؟ بهذا المعنى سيتك ّلم إبستاين عن
"التعاقب السريع والمؤسس الذي يصبو إلى الدائرة الكاملة للتواقتية
المستحيلة"( .((2كان بوسع فيرتوف والمستقبليين أيض ًا أن يتك ّلموا بهذه
الطريقة .ومع ذلك ،توجد في المدرسة الفرنسية ثنائية تراوح بين هذين
الوجهين :الحركة النسبية هي من المادة ،وتصف المجاميع التي نستطيع
تب ّينها في هذه المادة أو التي نستطيع نقلها بـ "خيالنا" ،في حين أن الحركة
السمة النفسية للكل الذي يتغ ّير .وال
المطلقة تصدر عن الروح وتع ّبر عن ِّ
نستطيع بالتالي االنتقال من الواحد إلى اآلخر بالتالعب على وحدات
القياس ،مهما كانت كبيرة أو صغيرة ،بل بالوصول فقط إلى شيء ال
يقبل القياس ،في اإلفراط والتفريط مقارنة بكل قياس ،شيء ال يمكن
(*) هي طبع لفطتني سالبتني عىل نفس جزء الفيلم املوجب ،بحيث تبدو اللقطتان
السالبتان متطابقتني ،ويظهر ذلك يف الفيلم النهائي (املرتجم).
100
تزامن الطبع العكسي ،بنى في الحقيقة صورة تحاكي الحركة المطلقة
َ
المجال المطلق للفاصل المتغير للكل المتغير .ولم يعد ذلك اإلنجاز
وللتسارع واإلبطاء الحركيين داخل المادة ،بل أصبح الميدان المطلق
للتناوب الساطع وللضوء المنتشر وللكل المتغ ّير الذي هو الروح (لولب
روحي كبير بدل اللولب العضوي ،لولب يظهر بشكل مباشر في حركة
الكاميرا أحيان ًا ،عند غانس وليربييه) .وهنا تكمن نقطة التقاطع مع
الرسام ديلونيه(.((2
"تناوبية" ّ
101
األمر معكوس عند رينيه كلير ،إذ نجد دائم ًا ،وبشكل لطيف
ّ
وأخاذ ،أن هذا الزمن الكلي يتجابه مع متغ ّيرات الحاضر .وعليه ،فإن ما
يظهر على هذا النحو في المدرسة الفرنسية هو أسلوب جديد في تصور
عالمتي الزمن :إذ أصبح الفاصل الوحدة الرقمية المتغيرة والمتعاقبة التي
تدخل في عالقات مترية مع العوامل األخرى ،محدّ د ًة في كل حالة أكبر
كمية نسبية للحركة داخل المادة لتحفيز الخيال؛ فالكل غدا المتناوب
بامتياز والرحب ،ودفع بالخيال إلى العجز وأظهر حدوده وخلق
في العقل الفكرة الصرفة عن كمية حركة مطلقة تع ّبر عن كل تاريخها
وتغ ّيرها وعالمها .وهذا بالتحديد هو األسمى الرياضي الذي تك ّلم عنه
َكنْت .عن هذا المونتاج ،وعن هذا التصور للمونتاج ،سنقول بأنه مونتاج
كمي /شعري (وتكلم
رياضي /روحي ،مونتاج ممتدّ /نفسي ،مونتاج ّ
إيبستين ) (Epsteinعن "الحكمة الغنائية").
Théorie des ( ((2حول الضوء وعالقاته باملعتم والكامد ،يبقى كتاب:
couleursلغوته ) (Goetheهو النص األسايس ) (Ed. Triadesوقد قدمت عنه إليان
يتضمن العديد من التطبيقات ّ ال ممتاز ًا يستطيع أن
إسكوباس ) (Eliane Escoubasحتلي ً
“L’œil du teinturier,” Critique, n 418 (Mars 1962),
o
السينامئية:
الضوء التعبريي هو ضوء يعود لغوته ،بقدر ما كان الضوء الفرنيس ،القريب من
تتضمن جانب ًا آخر سنصادفه الحق ًا:
ّ ديلونيه ،ضوء ًا نيوتوني ًا ،والصحيح أن نظرية غوته
عالقة الضوء النقية باألبيض.
ّ
(*) فيلم من السينام األملانية الصامتة مؤلف من ست حلقات أخرجه أوتو
ريبريت عام ( 1916املرتجم).
103
النغ أو عند جورج فيلهلم بابست ) ،(Georg Wilhelm Pabstولكنه
رحم المونتاج أيض ًا ،كما في فيلم ليلة اليوم األخير من السنة للمخرج ْ
والممثل األلماني لوبو -بيك ) ،(Lupo-Pickالذي يخلق تعارض ًا بين
عتمة الكوخ واألضواء الساطعة للفندق األنيق ،أو كما في فيلم الشفق
للمخرج مورناو ،الذي يخلق تعارض ًا بين المدينة المتألقة والمستنقع
القوتين
تغشيه الظلمة .وفي المقام الثاني ،نرى أن المجابهة بين ّ الذي ّ
الالمتناهيتين تحدد نقطة الصفر بالنسبة لكل ضوء يكون فيها درج ًة
متناهية .وإن ما يختص به الضوء ،هو اشتماله على عالقة باللون األسود
كسالب يعادل الصفر ،ووفق ًا لهذه العالقة تتحدّ د غزارة الضوء أو كمية
التك ّثف .وتبدو اللحظة هنا (خالف ًا للوحدة والجزء الممتدين) كما لو
كانت تتحكم في حجم الضوء أو درجته بالنسبة للون األسود .لذا فإن
الحركة المكثفة ال تنفصل عن سقوط -ولو احتمالي -يع ّبر فقط عن
درجة الضوء في تلك المسافة الصفرية .وحدها فكرة السقوط تحدد
الدرجة التي تصعد منها الكمية المك ّثفة ،وحتى أن ضوء الطبيعة ،في
أعظم إشراقه ،يهبط وال يتوقف عن السقوط .ويجب بالتالي أن تنتقل
فكرة السقوط إلى ح ّيز الفعل وأن تصبح سقوط ًا فعلي ًا أو مادي ًا في
الكائنات الخاصة .للضوء السينمائي سقوط مثالي ،ولكن لضوء النهار
سقوط ًا واقعي ًا :تلك هي مغامرة الروح الفردية ،التي يتل ّقفها ثقب أسود،
مدوخة (سقوط مارغريت في ال تعطينا عنها المدرسة التعبيرية إال أمثلة ّ
فيلم فاوست لدى مورناو ،والسقوط الذي نشاهده في فيلم آخر الرجال)
[لمورناو أيض ًا] الذي يبتلعه الثقب األسود في صالونات الحالقة التابعة
للفندق الكبير ،أو السقوط الذي يظهر في فيلم لولو للمخرج بابست.
105
أخرى جميع تدرجات الضوء والضوء المعاكس وأالعيب التعتيم ،كما
في فيلم الملكة كيلي(.((2
108
البرزخي) .إذا ما قورنت الهندسة الصرحية عند ليربييه وعند النغ (في
فيلمي النيبيلونغن ومتروبوليس) ،الحظنا كيف أن النغ يركز على
خطوط ونقاط التراكم ،وهي لم تعد تع ّبر عن العالقات المترية إال بشكل
ال مباشر( .((3وإذا ما دخل الجسم البشري مباشرة إلى هذه "المجموعات
ال أساسي ًا لهذه العمارة" ،فليس تمام ًا ألن
الهندسية" ،وإذا ما كان "عام ً
يحول الكائن البشري إلى عامل آلي" -وهذه عبارة تناسب "التنميط ّ
باألحرى المدرسة الفرنسية -بل ألن كل تباين بين اآللي والبشري قد
تالشى ،ولكنه تالشى هذه المرة لصالح قوة الحياة غير العضوية لألشياء.
( ((3حول اهلندسة الرياضية عند النغ ،انظرLotte Eisner, L’écran :
démoniaque, "Architecture et paysage de studio", et "Le maniement des
foules".
109
جميعها تعطي إيقاع ًا للروبوت في فيلم ميتروبوليس كما في فيلم
فرانكشتاين وخطيبته .واستخلص ستروهايم من ذلك تركيبات مذهلة
يدفع إليها المخلوقات الحية والشريرة أو الضحايا البريئة :وهكذا فإن
الفتاة الذكية ،بحسب تحليل لوت إيسنر ) (Lotte Eisnerلمشهد العشاء
في فيلم الملكة كيلي ،تقع بين نارين ،نار الشموع الموجودة فوق الطاولة
والتي تلفح وجهها ،ونار المدفأة التي خلفها والتي تحيطها بهالة مش ّعة
مضيئة (فتشعر بالحر وتبادر إلى خلع معطفها .)...ولكن مورناو هو
المعلم في تنفيذ هذه المراحل والمالمح جميعها والتي تكشف عن
ً
وفعال أثبت وصول الشيطان وعن احتدام غضب الله في ٍ
آن واحد(.((3
ِ
يكتف غوته أن التكثيف من الجهتين (جهة األصفر وجهة األزرق) لم
باالنعكاسات االحمرارية التي ترافقهما كتأثيرات متنامية اللمعان،
قان كلون ثالث أصبح مستق ً
ال بل ازداد هذا اللمعان في لون أحمر ٍ
وصار كناية عن تأجج بحت أو دفق من النور الرهيب الذي راح يحرق
العالم ومخلوقاته .كأن الكثافة المنتهية وجدت اآلن ،في ذورة تكثيفها
الخاص؛ ألق العالم الالمتناهي الذي انطلقنا منه .لم يتو ّقف الالمتناهي
عن العمل في المنتهي الذي ير ّده في هذا الشكل المحسوس .إن الروح
لم تغادر الطبيعة ،بل كانت تنعش الحياة الالعضوية برمتها ،ولكنها ال
تستطيع أن تتكشف وتوجد فيها ّإل كروح شريرة تحرق الطبيعة بأسرها.
إنها حلقة ألسنة النار المصاحبة لنداء الشيطان في فيلم الغول لفيغيرير
( ((3انظر بخاصة حتليل التأللؤ الذي قدمه رومهر يف كتابEric Rohmer, :
L’organisation de l’espace dans le “Faust” de Murnau, 10-18 (Paris: Union
Générale D’éditions, 1977), p. 48.
(ودرست إليان إسكوباس يف املقال املذكور آنف ًا تأثري اللمعان والتكثيف حسب
نظرية األلوان لغوته).
110
وفيلم فاوست لمورناو .إنها محرقة فاوست إنها "الرأس الفوسفوري
للشيطان ذي العينين الحزينتين والساهمتين" لدى فيغيرير .إنها الرأس
المتوج لمابوز ) (Mabuseورأس ميفستو ) .(Mephistoإنها لحظات ّ
التسامي والتالقي مع الالنهائي داخل روح الشر :فعند مورناو خصوص ًا،
يمر نوسفيراتو ) (Nosferatuفي أشكال اللون المتدرج جميعها فقط، ال ّ
وعبر النور المعاكس والحياة الالعضوية للظالل ،وال ينتج فقط لحظات
االنعكاس االحمراري جميعها ،ولكنه يتفاقم كلما فصله ضوء ساطع
(أحمر ِصرف) عن قاعه المظلم ،ويطلقه من ال مضمون أكثر مباشرة
ويضفي عليه مظهر االقتدار وراء شكله المسطح(.((3
( ((3انظر نص وورينغر حول التعبريية بصفتها «فن ًا جديد ًا» ،كام ذكرها بوفييه
) (Bouvierولوترا ) ،(Leutratص .179-175فعىل الرغم من حت ّفظات بعض النقاد،
تبدو لنا املواقف احلداثية لوورينغر قريبة جد ًا من مواقف كاندينسكي )(Kandinsky
) .(Du spirituel dans l’artوكالمها يأخذ عىل غوته وعىل الرومانسية حرصهام عىل
إقامة مصاحلة بني الروح والطبيعة ،مما يبقي الفن يف منظور فرداين وشهواين .عىل العكس،
يفكران يف «فن روحي» كاحتاد باهلل ،فن يتجاوز األشخاص ويرتك الطبيعة جانب ًا،
وحييلهم وحييلها إىل اخلواء الذي ينبغي عىل اإلنسان املعارص اخلروج منه .وهم ليسوا
متأكّدين من أن العملية ستنجح ،ولكن ال يوجد خيار آخر :ومن هنا بدت مالحظات
متوهم ربام .ونجد هذا
ّ وورينغر حول «الرصخة» كتعبري وحيد عن التعبريية ،عل ًام بأنه
التشاؤم املتع ّلق بالعامل /اخلواء يف السينام التعبريية ،ال بل نجد أن فكرة خالص روحي
يتجاوز التضحية هي فكرة نادرة نسبي ًا .ونجدها خصوص ًا عند مورناو ،أكثر مما نجدها
عند النغ ،ولكن مورناو ،بني التعبرييني مجيعهم ،هو األقرب من الرومانسية :ذلك أنه
حافظ عىل فردانية وعىل «شهوانية» ستتجليان بحرية متنامية يف مرحلته األمريكية ،بفيلم
شفق وال س ّيام بفيلم حتريم.
113
التعبيرية إلى الصرخة ،صرخة مارغريت ،صرخة لولو ،الصرخة التي
تع ّبر عن فظاعة الحياة غير العضوية وعن االنفتاح الموهوم ربما على
توصل إيزنشتاين أيض ًا إلى الصرخة ،وإنما على طريقة
عالم روحي .لقد ّ
الجدليين ،أي كقفزة نوعية تجعل الكل يتطور .أما اآلن فعلى العكس من
ذلك ،إذ يرتقي ّ
الكل ويمتزج بالقمة المثالية لهرم ال يكف أثناء ارتقائه
عن الدفع بعيد ًا بقاعدته .وغدا الكل تكثيف ًا ال نهائي ًا تخ ّلص من جميع
ومر بتجربة النار ،ولكن فقط من أجل أن تقطع ارتباطاتها الحسية درجاته ّ
بالمادي والعضوي والبشري ،ومن أجل أن تنفصل عن حاالتها السابقة
المجرد للمستقبل (كما في
ّ كافة وأن تكتشف بالتالي الشكل الروحي
سلسلة أفالم Rhytmusالتي أخرجها هانس ريختر).
114
العملي والنظري ألصناف المونتاج ،بحسب التصورات العضوية
والجدلية والتوسعية والتكثيفية لتشكيل الصور /الحركة .وهذه هي
فكرة السينما أو فلسفتها ،وأيض ًا تقنيتها .ومن الغباء القول بأن ممارسة
من هذه الممارسات /النظريات هي أفضل من غيرها ،وبأنها تم ّثل
تقدم ًا (ذلك أن أشكال التقدّ م التقني قد حصلت في كل منحى من هذه
المناحي وافترضتها من دون أن تحددها) .العمومية الوحيدة للمونتاج،
هي أنها تربط الصورة السينمائية بالكل ،أي أنها تربطها بالزمن المنظور
إليه كزمن مفتوح بامتياز .وهكذا قدم المونتاج صورة ال مباشرة للزمن،
آن واحد .إنه من جهة الحاضر في الصورة /الحركة وفي كلية الفيلم في ٍ
المتبدل ،ومن جهة أخرى هو رحابة المستقبل والماضي .وبدا لنا أن
أشكال المونتاج تحدد هذين الملمحين بشكل مختلف .فالحاضر
ال وقفزة نوعية ووحدة رقمية ودرجة المتبدل يستطيع أن يصبح فاص ً
كل عضوي ًا ومجموع ًا جدلي ًا وكلية مترامية
مك ّثفة ،وأن يصير الكلً ّ ،
األطراف للسمو الرياضي ،وكلية مكثفة للسمو الدينامي .سننظر الحق ًا
في الصورة الالمباشرة للزمن ،وفي إمكانية مقارنة الصورة /الزمن
صح أن للصورة /الحركة وجهين ،يعكف أحدهما المباشرة .اآلن ،إذا ّ
على المجاميع وأجزائها ويعمل اآلخر على الكل وتغيراته ،فيجب أن
نسألها هي بالذات :الصورة /الحركة لذاتها وفي جميع جوانبها وفي ظل
وجهيها.
115
الف�صل الرابع
ال�صورة /احلركة وتن ّوعاتها الثالثة
التعليق الثاين لربغ�سون
)1
((( هذا هو املوضوع العام الذي طرحه برغسون يف الفصل األول ويف خامتة كتابه
.Matière et mémoire
117
الثنائية بين الصورة والحركة ،وبين الوعي والشيء .وفي الفترة نفسها،
أقد َم فيلسوفان متباينان على االضطالع بهذه المهمة ،وهما برغسون
صاح صيحة حربه :كل وعي هو وعي وهوسيرل ) .(Husserlوكل منهما َ
شيء ما (هوسيرل) ،بل أكثر من ذلك :كل وعي هو شيء ما (برغسون).
ال شك أن كثير ًا من العوامل الخارجة عن الفلسفة شرحت أن الموقف
القديم أصبح مستحيالً .كانت هناك عوامل اجتماعية وعلمية تزج مزيد ًا
من الحركة في الحياة الواعية ،وتضع صور ًا في العالم المادي .فكيف
وهمت بتقديم ٍ ٍ
السبيل عندئذ إلى إهمال السينما التي أعدّ ت نفسها وقتئذ ّ
بداهتها المتمثلة بـ "الصورة /الحركة"؟.
صحيح أن برغسون ،كما رأينا ،لم يجد في السينما ،ظاهري ًا ،إال
يأت على ذكر السينما حليف ًا زائف ًا .أما هوسيرل ،بحسب علمنا ،فلم ِ
(وسنالحظ أن سارتر ،ولو بصورة متأخرة ،عندما َج َر َد وح ّلل شتى
يأت على ذكر الصورة السينمائية) .إن ميرلو الصور في المتخيل ،لم ِ
ّ
بونتي ) (Merleau-Pontyهو الذي حاول َع َرض ًا أن يقيم مقارنة بين
السينما والظواهرية ،ولكنه هو الذي رأى أيض ًا في السينما حليف ًا ملتبس ًا.
ولكن حجج الظواهرية وحجج برغسون كانت متباينة بحيث يجب
على هذا التعارض أن يكون دليلنا .إن ما تقيمه الظواهرية كأساس هو
"اإلدراك الطبيعي" وشروطه .والحال أن هذه الشروط هي إحداثيات
وجودية تحدد كيف "يرسو" الفاعل المدرك في العالم ،وكيف يوجد في
هذا العالم ،وكيف ينفتح على العالم الذي سيتجلى في العبارة الشهيرة
ٍ
عندئذ ينبغي على الحركة، القائلة بأن "كل وعي هو وعي شيء ما"...
ُفهم كشكل معقول (فكرة) يتبلور في
سواء لوحظت أو أجريت ،أال ت َ
118
المادة فقط ،بل كشكل محسوس (غيشتالت) ين ّظم الحقل اإلدراكي بناء
على وعي قصدي مناسب .ومع أن السينما حاولت تقريبنا من األشياء
أو إبعادنا عنها أو المداورة حولها ،فإنها ألغت إرساء الفاعل وألغت
أيض ًا أفق العالم ،بحيث استبدلت المعرفة الضمنية والقصدية الثانية
بشروط اإلدراك الطبيعي((( .ال تختلط السينما بغيرها من الفنون التي
حولت تركز اهتمامها باألحرى على ما هو غير واقعي في العالم ،ولكنها ّ
العالم نفسه إلى أمر ال واقعي أو إلى حكاية :في السينما ،يغدو العالم
صورته الخاصة ،ال صورة تغدو عالم ًا .وسنالحظ أن الظواهرية نوع ًا ما
لم تتجاوز الشروط التي سبقت السينما والتي تشرح موقفها المرتبك:
ذلك أنها أو َلت اإلدراك الطبيعي ميزة تجعل الحركة مرتبطة بمحطات
ٍ
عندئذ تم التنديد بالحركة (وجودية بدل أن ترتبط بمحطات جوهرية)؛
السينمائية على أنها خانت شروط اإلدراك وعلى أنها ُب ّجلت كقصة
ِ
المدرك ،ومن العالم ومن المدرك ومن
َ التقرب" من
جديدة قادرة على " ّ
اإلدراك(((.
119
النحو"((( .وبالنسبة لبرغسون ،هذا يعني أن النموذج ال يمكن أن يكون
هو اإلدراك الطبيعي ،ألنه ال يمتلك أي امتياز .وباألحرى قد يكون
تكف عن التغيير ،ويكون مادة س ّيالة ال تبين النموذج حالة في األشياء ال ّ
فيها أية نقطة إرساء أو أية مرجعية .انطالق ًا من هذه الحالة ،يجب أن نثبت
كيف تتشكّل المراكز في نقاط غير مع ّينة ،وكيف تفرض وجهات نظر
ثابتة وفورية .يقتضي األمر إذ ًا "استخالص" اإلدراك الواعي والطبيعي أو
السينمائي((( .ولكن السينما تقدّ م ربما امتياز ًا كبير ًا :فألنها بالضبط تفتقر
إلى مركز إرساء وأفق ،لن تمنعها المقاطع التي تجريها من صعود الطريق
الذي يهبط منه اإلدراك .فبدل االنطالق من الظروف غير المتمركزة على
اإلدراك الممركز ،تستطيع االرتقاء إلى األشياء غير المتمركزة واالقتراب
منها .إال إذا تك ّلمنا عن المقاربة ،يتعاكس األمر مع المقاربة التي تطرحها
غاص فيها ،وربما
الظواهرية .إن برغسون ،حتى ولو انتقد السينما ،فإنه َ
أكثر مما ظن .سنرى ذلك ،انطالق ًا من الفصل األول المذهل لكتابه
المادة والذاكرة.
ال أمام عرض تكون فيه الصورة مساوية للحركة ها نحن فع ً
لنطلق اسم "صورة" على مجمل ما يظهر .ال نستطيع ْ (صورة = حركة).
حتى القول بأن صورة ما تؤ ّثر في صورة أخرى ،أو أنها تر ّد على أخرى.
محرك يتمايز عن
ال يوجد محرك يتمايز عن حركة ناجزة ،وال يوجد َّ
حركة مستق َبلة .فاألشياء جميعها ،أي الصور جميعها ،تختلط بأفعالها
تخص أي شخص ّ لكن كيف يمكن التحدث عن صور بذاتها ال
تجل من دون وجود وال تتوجه إلى أي شخص؟ كيف التكلم عن ٍّ
عين ترى؟ هذا لسببين على األقل .السبب األول لتمييزها عن األشياء
المتصورة كأجسام .ذلك أن إدراكنا ولغتنا يميزان بين األجسام (وهي
ّ
موصوفات) والكيفيات (وهي صفات) واألفعال (وهي أفعال نحوية).
ولكن األفعال ،بهذا المعنى الدقيق ،قد أح ّلت ّ
محل الحركة فكرة المكان
المؤقت الذي تتجه إليه هذه الحركة ،أو فكرة النتيجة التي تحصل عليها؛
محل الحركة فكرة حالة مستمرة ريثما تحل محلها ّ وأح ّلت الكيفية
محل الحركة فكرة الفاعل الذي سينجزها وأحل الجسم ّ ّ حالة أخرى؛
وفكرة الشيء الذي سيتأثر بها وفكرة العربة التي ستنقلها( .((1سنرى أن
ال في العالم (صور /فعل ،صور /إنفعال، مثل هذه الصور تتشكّل فع ً
= برغسون .غري أننا نؤمن بإخالصنا له .حصل لربغسون أن قدّ م سطح املادة عىل أنه
«مقطع فوري» للصريورة ) (Bergson, Matière et mémoire, p. 223 ou 81ولكننا
فعلنا ذلك ألسباب تيسريية .ذلك أن برغسون ذكّر وسيذكّر بذلك الحق ًا وبدقة (ص
تعب عن التغريات 292أو :)169إنه سطح ما زالت تظهر وتنترش فيه احلركات التي ّ
كمتغي للحركة.
ّ داخل الصريورة .وبالتايل فإنه يشتمل عىل جانب زمني؛ إذ يوجد زمن
متحرك ،كام قال برغسون .هناك عرض للسطح يتناسب ّ يضاف إىل ذلك أن السطح بذاته
تغي معني .وفكرة الكتل الزمكانية ال تتعارض
ّ عن تعب
ّ التي مع كل جمموع من احلركات
إطالق ًا مع أطروحة برغسون.
Bergson, L’évolution créatrice, pp. 749-751 (300-303). (((1
123
صور /إدراك) .ولكن هذه الصور تخضع لشروط جديدة وال يمكن أن
تظهر اآلن .ليس أمامنا في الوقت الحاضر إال حركات ندعوها صور ًا
لنميزها عن كل ما عداها .ومع ذلك ،فإن هذا السبب األول السالب ّ
ليس كافي ًا .أما السبب الموجب فهو أن سطح الكمون هو نور كله.
فمجموع الحركات واألفعال وردود األفعال هو نور ينتشر ويتغلغل
"من دون مقاومة ومن دون هدر"( .((1وتعود هوية الصورة والحركة
إلى هوية المادة والنور .فالصورة هي حركة كما أن المادة هي نور.
وحصل لبرغسون الحق ًا ،في كتاب ه الديمومة والتزامن �(Durée et si
) ،multanéitéأن أظهر أهمية التعاكس الذي أحدثته نظرية النسبية بين
"خطوط النور" و"الخطوط الجامدة" و"األشكال المضيئة" و"األشكال
الصلبة أو الهندسية" :مع النسبية "نرى إن شكل النور هو الذي يفرض
شروطه على الشكل الصلب"( .((1إذا استذكرنا األمنية الغالية على قلب
برغسون :أن يبني فلسفة تكون فلسفة العلم الحديث (وهذا ال يعني أنها
تفكير حول هذا العلم ،أي حول ابيستيمولوجيا ،بل يعني على العكس
ابتكار مفاهيم مستقلة قادرة على التماشي مع رموز العلم الجديدة)؛
)2
( ((1املصدر نفسه ،ص « :)36( 188التصوير الفوتوغرايف لكل يشء هو تصوير
شفيف :فخلف اللوحة ،يفتقر هذا التصوير إىل شاشة سوداء تنفصل عنها الصورة».
( ((1لقد ّبي سارتر االنقالب الربغسوين يف كتابهJean Paul Sartre, :
L'imagination (Paris: Presses Universitaires de France, [s. d.]),
(«يوجد نور رصف ،يوجد تأ ّلق ،من دون أن توجد مادة مضاءة؛ ولكن هذا النور
الصف ،املنترش يف كل مكان ،ال يصبح راهن ًا إال عندما ينعكس عىل بعض املساحات ِّ
التي تكون بمثابة شاشة بالنسبة للمناطق املضيئة .كأننا نقلب املقارنة الكالسيكية التالية:
بدل أن يكون النور نور ًا ينطلق من الفاعل إىل اليشء ،عندنا ضياء ينطلق من اليشء نحو
الفاعل»)( .ص .)44ولكن معاداة سارتر للربغسونية دفعته إىل التخفيف من حدّ ة هذا
القلب وإىل إنكار ِجدّ ة املفهوم الربغسوين للصورة.
126
الفعل .ال يطلب برغسون أكثر من ذلك :يريد حركات وفواصل تستعمل
كوحدات (وهذا بالضبط ما ستطلبه دزيغا فيرتوف في رؤيتها المادية
للسينما)( .((1من الواضح أن ظاهرة الفاصل هذه ليست ممكنة إال عندما
يتضمن سطح المادة جانب ًا زمني ًا .ويرى برغسون أن الفجوة والفاصل
ّ
كافيان لتحديد نوع خاص من الصور من بين صور أخرى :وهي صور أو
مواد ح ّية .في حين تفعل الصور على كل وجوهها وأجزائها وتنفعل بها،
هناك صور ال تتل ّقى األفعال إال على وجه واحد وفي أجزاء أخرى ،وال
تقوم بردود أفعال إال في أجزاء أخرى وبواسطتها .إنها صور مشروخة
نوع ًا ما .أوالً نرى أن وجهها المخصص ،والذي سندعوه في ما بعد
وجه ًا تق ّبلي ًا أو حسي ًا ،يؤثر تأثير ًا غريب ًا في الصور القوية أو التحريضات
المتلقاة :كما لو أن هذا الوجه ُفرز من بين جميع الصور تلك الصور التي
تتقارب وتؤثر مع ًا في الكون .وهنا نجد أن بعض المنظومات المغلقة
و"اللوحات" قادرة على التشكّل .فالكائنات الحية "تسمح بأن تخترقها
أفعال خارجية ال تكترث بها؛ أما األفعال األخرى المعزولة فستتحول
إلى إدراكات بسبب انعزالها بالذات"( .((1إنها عملية قائمة بالضبط على
ٍ
وعندئذ -كما سنرى تأطير مع ّين :فبعض األفعال الطارئة يعزلها الكادر،
-تصبح مسبوقة ومس َّبقة .ولكن من الجانب اآلخر ،لم تعد ردود األفعال
تترابط مع الفعل الحاصل :وبفضل الفاصلَّ ،
تؤخر ردود األفعال التي
أخذت متسع ًا من الوقت الختيار عناصرها وتنظيمها أو إدراجها في
يكف
ّ لم نخرج بعد من موضوع الصور /المادة /الحركة .لم
برغسون عن القول إننا لن نفهم شيئ ًا إن لم نضع في اعتبارنا منذ البداية
مجمل الصور .وعلى هذا الصعيد فقط يمكن أن يحدث فاصل من
الحركات بسيط .والدماغ ليس سوى فاصل وفجوة بين فعل ور ّد فعل.
صحيح أن الدماغ ليس مركز ًا للصور التي يمكن االنطالق منها ،ولكنه
يشكّل هو نفسه صورة خصوصية بين الصور األخرى ،ويشكّل داخل
الكون الال ُممركز للصور مركز ًا من الالتعيين .غير أن برغسون ،مع
الصورة /الدماغ ،يواجه في كتابه المادة والذاكرة حالة شديدة التعقيد
والتنظيم تتعلق بالكائن الحي .ذلك أن الحياة لم تكن آنذاك مشكل ًة
الخلق ،ولكن منالتطور ّ
ّ بالنسبة له (وسيعالج مسألة الحياة في كتابه
وجهة نظر أخرى) .ومع ذلك ال يصعب ملء الفراغات التي تركها
برغسون عن قصد على مستوى الكائنات الحية األكثر بدائية ،يجب
التفكير في فواصل صغرى ،فواصل تتضاءل في حركات تتسارع .يضاف
إلى ذلك أن علماء البيولوجيا يتك ّلمون عن "حساء حيوي مساعد" ،وهو
الميامنة والمياسرة
الذي مكّن الكائن الحي من العيش ،وفيه تلعب المواد ُ
دور ًا أساسي ًا :وهنا ستظهر في الكون الال ُممركز مخططات أولية لمحاور
ومراكز مخطط يذهب ذات اليمين وآخر ذات الشمال ،مخطط علوي
ومخطط سفلي .ويجب التفكير في فواصل صغرى حتى في "الحساء
الحيوي المساعد" .ويقول علماء البيولوجيا إن هذه الظواهر لم تقو
على التشكّل ،عندما كانت األرض شديدة الحرارة .فوجب التفكير
إن الشيء وإدراك الشيء أمر واحد ،ولهما الصورة ذاتها ،ولكنها
تُعزى إلى هذه المنظومة أو تلك من منظومتي اإلحالة .الشيء هو الصورة
بذاتها وكما ترتبط بسائر الصور ،فتتأثر بها بشكل كامل وتؤثر فيها فور ًا.
ولكن إدراك الشيء يعادل الصورة نفسها المرتبطة بصورة خاصة أخرى
تؤطرها وال تحتفظ منها إال بمفعولها الجزئي وال تتفاعل معها إال بصورة
غير مباشرة .في اإلدراك ،المحدد على هذا النحو ،ال يوجد أبد ًا عنصر
آخر أو عنصر يتجاوز الشيء :على العكس ،يوجد "شيء أقل"( .((2نحن
ندرك الشيء ،من دون أن نلقي باالً على ما ّ
يهمنا فيه ،بحسب احتياجاتنا.
َ
الخطوط والنقاط التي نأخذها من ونقصد بكلمتي احتياج أو اهتمام
الشيء بنا ًء على مدى تق ّبلنا له ،وبناء على األفعال التي نختارها بحسب
ّ
المتأخرة التي نبديها .وتلك هي طريقة نحدّ د بها اللحظة ردود األفعال
المادية األولى لذاتيتنا :إنها طريقة انقاصية تحذف من الشيء ما ال يوليه
ٍ
حينئذ للشيء نفسه من أن يبرز في باالً .ولكن -على النقيض – ال بدّ
ذاته كإدراك ،كإدراك كامل وفوري ومنتشر .فالشيء صورة وبهذه الصفة
نفسه ،ويدرك األشياء األخرى جميعها بحسب تأثره وانفعاله بها
يدرك َ
( ((2هذا موضوع يتكرر يف الفصل األول من كتاب :Matière et mémoire :أي =
131
دخلنا في الصورة /الفعل .ليس اإلدراك في الواقع إال جانب ًا من جوانب
الفجوة التي يشكّل الفعل جانبها اآلخر .بالمعنى الحصري ،ما نسميه
َّ
المؤخر لمركز الالتعيين .والحال أن هذا المركز ال ً
فعال هو االرتكاس
يكون قادر ًا على الفعل بهذا المعنى ،أي على تنظيم استجابة غير متوقعة،
إال ألنه أدرك وألنه التقط اإلثارة على وجه مم ّيز ،حاذف ًا كل ما عداها.
وهذا يذكّرنا بأن كل إدراك هو أوالً إدراك حسي -حركي :فاإلدراك
"ليس موجود ًا في المراكز الحسية وال في المراكز الحركية ،هو يقيس
تعقيد عالقاتها"( .((2إذا ما تقوس العالم حول المركز اإلدراكي ،ال يتأتى
التقوس،
ّ ذلك إال من وجهة نظر الفعل المالزم لإلدراك .ومن خالل
المدركة وجهها النافع لي ،في حين أن ردة الفعل المؤخرة،
َ تدير األشياء
مت استخدامها .فالمسافةكان ردة فعلي والتي أصبحت فعالً ،قد تع ّل ُ
ُ
أدرك هي بالضبط شعاع ينطلق من المحيط الطرفي إلى المركز :فعندما
علي ،في حين ّ
أن األشياء في مكانها فإنني التقط "مفعولها الممكن" ّ
"الفعل الممكن" الذي أمارسه عليها ،كي أتوصل إليها أو أتجنبها،
قد أنقص المسافة بيني وبينها ،أو زادها .تلك إذ ًا ظاهرة الفجوة ُ
نفسها
تتج ّلى زمني ًا في فعلي ،وتتج ّلى مكاني ًا في إدراكي :فكلما ك ّفت رد ُة فعلي
ال ممكن ًا ،كلما غدا
عن أن تكون مباشرة ،وكلما أصبحت في الحقيقة فع ً
الفعل المضمر في األشياء" .يتصرف اإلدراك بعيد ًا ومستبق ًا ،وكلما بعث َ
اإلدراك في المكان بقدر ما يتصرف الفعل في الزمان"(.((2
)3
135
فيلمه ،ال تكشف إال نصف ما قصد( .((2والفترات الثالث هي التالية .في
الفترة األولى ،تندفع الشخصية Oوتهرب أفقي ًا على امتداد أحد الجدران
ثم تشرع عمودي ًا بصعود درج من دون أن تبارح جانب الجدار .الشخصية
فعل أو صورة /فعل -ويخضع لالصطالح "تتصرف" -وهذا هو إدراك ٍ
تصور إال من الخلف وبزاوية ال تتجاوز 45درجة؛
التالي :الكاميرا Œلن ّ
وإذا حصل لهذه الكاميرا أن تتجاوز هذه الزاوية يتعرقل الفعل ويتالشى،
وتتوقف الشخصية مخفية القسم المهدَّ د من وجهها .في الفترة الثانية:
الشخصية دخلت إلى غرفة ،وبما أنها لم تعد بحذاء الجدار فإن درجة
فعالية الكاميرا تتضاعف ،أي تصل إلى 45درجة من كل جهة ،أي إلى
90درجة .الشخصية Oتلمح (بذاتها) الغرفة وأشياءها والحيوانات
التي فيها ،في حين أن الكاميرا Œتلتقط (موضوعي ًا) Oنفسها والغرفة
ومحتوياتها :وهذا هو إدراك اإلدراك أو الصورة /اإلدراك ،منظور ًا إليها
من زاوية نظام مضاعف وضمن منظومتي إحالة .وتبقى الكاميرا خاضعة
للشرط المحدد ،وهو ّأل تتجاوز 90درجة عندما ّ
تصور ظهر الشخصية،
ولكن االصطالح المضاف يقضي بأن تطرد الشخصية الحيوانات،
وأن تغطي جميع األشياء التي يمكن أن تستخدم كمرايا أو حتى كأطر،
بحيث يتالشى اإلدراك الذاتي ويبقى فقط اإلدراك الموضوعي .Œ
( ((3يقرتح بيكيت ترسيم ًة أوىل للهرب يف الشارع ،وهي ال تشكّل أية صعوبة
(انظر هنا الشكل 1الذي استكملناه نحن) .ويقتيض صعود الدرج فقط انتقال الشكل
عىل مستوى عمودي وتدوير ًا ممكن ًا له .ولكن ينبغي وجود ترسيمة عامة متثل جممل
الفرتات .ثم ننتقل إىل الشكل 2الذي اقرتحته فاين دولوز ) (Fanny Deleuzeواملدرج
= يف الصفحة التالية:
137
غير أن الهمود والموت والظالم وفقدان الحركة الشخصية
والقامة المنتصبة حين االسترخاء في األرجوحة التي توقفت عن
=
إذا Œجتاوزت 45درجة )’ (Œجيب أن ترتاجع برسعة )” (Œقبل أن تعود
إىل تع ّقب .O
139
إطالق ًا بالسطح أو بالحركة .يحق لنا االعتقاد إذ ًا بأن هناك صور ًا /زمن ًا
تستطيع أن تحتوي على شتى األنواع .وستكون هناك بخاصة صور ال
مباشرة عن الزمن وستنجم عن مقارنة الصور /الحركة ببعضها أو عن
ترابط األنواع الثالثة ،أي اإلدراكات واألفعال واالنفعاالت العاطفية.
ولكن وجهة النظر هذه التي تنيط كل شيء بـ "المونتاج" ،أو تنيط زمن
مقارنة الصور بنوع آخر ،ال تعطينا صورة /زمن لذاتها .بالمقابل يستطيع
مركز الالتعيين ،الذي يمتلك وضع ًا خاص ًا على سطح الصور /الحركة،
يستطيع هو ذاته أن يقيم عالقة خاصة بالكل وبالديمومة أو بالزمن .وهل
سماها برغسون ستكون هناك إمكانية لوجود صورة /زمن مباشرةّ :
"الصورة /الذكرى" ً
مثال ،أو هل ستتوفر أنواع أخرى من الصور /الزمن
تكون مختلفة جد ًا عن الصور /الحركة؟ وهكذا سيكون لدينا عدد كبير
من الصور المختلفة التي يجب تنظيمها وتصنيفها.
( ((3نُرشت معظم أعامل بريس بعد وفاته ،وكانت بثامنية أجزاء حتت عنوان
Collected Papersأصدرهتا دار جامعة هارفارد للنرش .وال جيد القارئ الفرنيس إال
جمموعة من النصوص صدرت حتت عنوانCharles Sanders Peirce, Ecrits sur le :
signe, assemblés traduits et commentés par Gérard Deledalle (Paris: Edition
du Seuil, [s. d.]),
قدّ م هلا وع ّلق عليها بأملعية جريار ديليدال ).(Gérard Deledalle
140
أكانت على صعيد تركيبها أم على صعيد نشأتها وتشكّلها (أو حتى على
صعيد تالشيها) .وهناك العديد من العالقات ،اثنتان على األقل في
كل نوع من الصور .سنقارن تصنيف الصور والعالمات الذي نقترحه
بالتصنيف الكبير الذي وضعه بيرس :لماذا ال يتطابق التصنيفان ،حتى
على مستوى الصورة المم ّيزة؟ ولكن قبل إجراء هذا التحليل الذي سنقوم
به الحق ًا ،سنستعمل كثير ًا من المفردات التي استحدثها بيرس للداللة
على هذه العالمة أو تلك فحافظنا أحيان ًا على معناها ،وعدّ لناه أحيان ًا
أخرى أو غ ّيرناه بشكل كامل (وذلك ألسباب سنحدّ دها في كل مرة).
141
فقط ،بل أيض ًا صورة /إدراك ًا صرفة تقريب ًا :إنه دراما المرئي والالمرئي،
كما أنه ملحمة فعل؛ فالبطل ال يتصرف ألنه أول من رأى ،وال ينتصر
إال ألنه يفرض الفجوة على الفعل أو على لحظة التأخير التي تعده بأن
يرى كل شيء (كما في فيلم وينشستر للمخرج األميركي أنطوني مان
) .)(Antony Mannأما الصورة /االنفعال فنجد أمثلة كبرى عليها في
وجه جان دارك في فيلم يحمل ذات العنوان للمخرج الدانمركي كارل
المقربة للوجه بعامة.
ّ دريير ،وفي معظم اللقطات
145
الذاتي للصورة ،فألننا ال نستطيع مقارنتها بالصورة المعدّ لة والمصححة
والمفترض فيها أن تكون موضوعية :فنحن نرى الشيخ األبيض ينزل من
أرجوحته المضحكة؛ وحصل لنا أن رأينا الغليون والجريح قبل أن نرى
الجريح ينظر إلى الغليون .ولكن هنا تبدأ الصعوبة.
ِ
يشاهد كان ال بدّ من القول بأن الصورة تكون موضوعية عندما
شخص يبقى خارج إطار هذا المشهد .وهذا ٌ الشي َء والمشهدَ اإلجمالي
تعريف ممكن ،ولكنه يبقى تعريف ًا اسمي ًا وسلبي ًا ومؤقت ًا .فما الذي يؤكد
لنا بأن ما كنّا نظنه في البداية خارج المشهد اإلجمالي لن يتبدّ ى الحق ًا
أنه جزء منه؟ ففيلم باندورا للمخرج األميركي ألبرت ليوين (Albert
) Lewinيبدأ بلقطة إجمالية لشاطئ رملي تركض فوقه مجموعات من
يشاهد الشاطئ من بعيد ومن أعلى، َ متوجهة نحو نقطة مع ّينة:
ّ الناس
من خالل منظار مث ّبت فوق سطح أحد البيوت .ولكننا نعلم بسرعة أن
البيت مأهول وأن المنظار يستخدمه أشخاص من المجموعة المذكورة:
الشاطئ ،والنقطة التي تجذب المجموعات إليها ،والحدث الذي يقع
فوقه ،واألشخاص الذين انتشروا فيه ...ألم تصبح الصورة ذاتية ،كما في
مثال المخرج األلماني إرنست لوبيتش؟ أليس المصير الدائم للصورة/
اإلدراك في السينما هو أن ينقلنا من أحد أقطابه إلى قطب آخر ،أي أن
ينقلنا من إدراك موضوعي إلى إدراك ذاتي وبالعكس؟ إن التعريفين
اللذين وضعناهما كمنطلق هما تعريفان اسم ّيان ،واسم ّيان فحسب.
أشار جان ميتري إلى أهمية إحدى وظائف التكامل ،وهي "حقل
ِ
المشاهداللقطة وخارجها" ،عندما تتقاطع مع التكامل الذي يتم بين "
شخص ينظر ،ثم نشاهد ما يراه .ولكن ال
ٌ والمشاهد" .يقدَّ م لنا في البداية
َ
146
يمكن حتى أن نقول إن الصورة األولى هي موضوعية وإن الثانية هي ذاتية.
ذلك أن ما ُيرى في الصورة األولى هو ذاتي بالنسبة للشخص الناظر .وفي
يشاهد لذاته وللشخصية أيض ًا. َ الصورة الثانية يستطيع المنظور إليه أن
يضاف إلى ذلك أنه قد يحدث تقليص كبير في حقل اللقطة وخارجها،
تشاهد المرأة الساهمة على ِ كما في فيلم ألدورادو للمخرج ليربييه ،وفيه
وتشاهد كذلك .عندها ،إذا ما انفكت الصورة السينمائية/ َ نحو ضبابي
اإلدراك تنتقل من الذاتي إلى الموضوعي وبالعكس ،أال يجب أن نبحث
لها باألحرى عن وضع نوعي ومنتشر ومطواع ،قد يبقى غير مدرك ولكنه
يتج ّلى أحيان ًا في بعض الحاالت الالفتة؟ باكر ًا جد ًا استبقت الكاميرا
المتحركة األشخاص ولحقت بهم وتركتهم أو عادت إليهم .وباكر ًا جد ًا،
في التعبيرية [األلمانية] التقطت الكاميرا صورة خلفية إلحدى الشخصيات
وتعقبته (كما في فيلم طرطوف ) (Tartuffeللمخرج األلماني مورناو ،أو
فيلم منوعات ) (Variétésللمخرج األلماني إيوالد أندريه دوبون) .أخير ًا
المن َعتِقة من كل قيد "تنقيالت في حلقة مغلقة" (كما في ح ّققت الكاميرا ُ
فيلم آخر الرجال لمورناو) ،وحيث ال تعود تكتفي بمطاردة الشخوص،
تتحرك بينهم .وبناء على هذه المعطيات ،اقترح ميتري مفهوم ّ ولكنها
عممة لإلعراب عن هذا "التواجد المصاحب" الذي صورة نصف ذاتية و ُم َّ
تقوم به الكاميرا :فهي ال تمتزج بالشخصية ،من دون أن تكون خارجها،
سماهإنها معها((( .إنها أشبه بكائن خرافي سينمائي ذي عين واحدة ،أو ما ّ
دوس باسوس ) (Dos Passosبـ "عين الكاميرا" ،وهي نظرة مجهولة
االسم لشخصية غير محددة بين شخصيات أخرى.
147
لنفترض إذ ًا أن الصورة /اإلدراك هي صورة نصف ذاتية .غير أنه
يصعب أن نجد في هذه النصف ذاتية وضع ًا منتظم ًا ،ألنها ال تتعادل مع
ال لغوي ًا .نستطيع
اإلدراك الطبيعي .لقد استخدم بازوليني من جهته تماث ً
القول إن الصورة /اإلدراك الذاتية هي خطاب مباشر ،ونقول بأسلوب
أعقد إن الصورة /اإلدراك الموضوعية تشابه الخطاب الالمباشر (أي
أن المشاهد يرى المم ّثل بطريقة تمكّنه عاج ً
ال أم آج ً
ال من أن يذكر أن
الشخصية قد شاهدته ،كما يفترض) .والحال أن بازوليني كان يعتقد أن
ما هو جوهري في الصورة السينمائية ال يتوافق ال مع الخطاب المباشر
وال مع الخطاب غير المباشر ،وإنما يتوافق مع خطاب غير مباشر حر.
وهذه الصيغة ،المهمة جد ًا في اللغتين اإليطالية والروسية ،تطرح مشاكل
كثيرة على النحاة واأللسنيين :ومفادها أن هناك تبيين ًا يؤخذ في قول
استجمعت
ْ يتعلق هو ذاته بتبيين آخر .وكمثال في الفرنسية نقول" :لقد
قواها :ستعاني باألحرى من التعذيب بدل أن تفقد عذريتها" .إن األلسني
ميخائيل باختين الذي اقتبسنا منه هذا المثال ،يطرح المسألة كالتالي :ال
يوجد مزج فقط بين موضوعين في التبيين ،يكون أحدهما الناقل والثاني
المنقول .هناك باألحرى تناغم في التبيين يقوم بفع َلي تذويت (دمج
لهوية الذات) ال ينفصالن ،يشكّل أحدهما شخصية بضمير المتك ّلم،
في حين أن اآلخر يحضر والدته ويخرجه سينمائي ًا .ال يوجد خلط ،أو
كل منهما إلى منظومتين ،بل يوجدحل وسط بين فاعلين ينتمي ٌّ باألحرى ّ
تمايز بين فاعلين مترابطين بمنظومة هي نفسها متنافرة .رأي باختين
هذا الذي أخذه بازوليني عنه ،هو مهم وعسير في ٍ
آن واحد((( .لم تعد
((( لقد عرض بازوليني نظريته يف كتاب= Pier Paolo Pasolini, L’expérience, :
148
"االستعارة" هي الفعل األساسي في اللغة ألنها تناغم المنظومة ،بل هو
الحر غير المباشر ،ألنه يشهد دائم ًا لمنظومة متنافرة وبعيدة عن
الخطاب ّ
التوازن .ولكن الخطاب الحر غير المباشر ال يخضع لمقوالت لغوية،
ألن هذه المقوالت ال تتعلق إال بمنظومات متّسقة ومتساوقة .وقال
بازوليني إنها مسألة أسلوب أو أسلوبية .وأضاف بازوليني مالحظة
نفيسة :كلما تقاربت اللغة من الخطاب الحر غير المباشر كلما أصبحت
غنية باللهجات ،أو باألحرى بدالً من أن تستقر على "مستوى متوسط"،
تتمايز إلى "لغة دونية وإلى لغة ِ
جزلة" (وهذا هو ظرفها السوسيولوجي).
ويطلق بازوليني من جانبه تسمية "محاكاة" ) (Mimesisعلى تلك العملية
الحر.
الخاصة بموضوعي التبيين أو اللغتين في الخطاب غير المباشر ّ
قد ال تكون هذه المفردة مو ّفقة ،ألن األمر ال يتك ّلم عن تقليد بل عن
ترابط بين قضيتين غير متناظرتين تعمالن في اللغة .وهذا يشبه األواني
أصر على كلمة "محاكاة" للتشديد على الطابع
المتصلة .بيد أن بازوليني ّ
المقدس للعملية.
إن هذا االزدواج وهذا التمايز للفاعل في اللغة ،أال نجده في
ال تجريبي ًا ال يستطيع أن يولد
الفكر وفي الفن؟ إنه الكوجيتو :أي أن فاع ً
في العالم من دون أن يفكّر في ذاته ،وفي الوقت نفسه ،من دون أن يفكّر
hérétique, traduit de l’italien par Anna Rocchi Pullberg (Paris: Payot, 1976), =
فتكلم عن وجهة النظر األدبية (وال س ّيام بني ص 39و )65ووجهة النظر السينامئية
(وال سيام بني ص 135و .)155ونعود إىل آراء باختني باخلطاب غري املبارش احلر يف كتابه:
Bakhtin Mikhail Mihailovič, Le marxisme et la philosophie du langage,
traduit du russe et présenté par Marina Yaguello (Paris: Edition de Minuit,
[s. d.]), ch. X et XI.
149
في فاعل متسا ٍم ينظر في هذه الذات ويفكّر في نفسه من خاللها .ويقضي
كوجيتو الف ّن بأن ال يوجد فاعل يعمل من دون أن يكون فاعل آخر ينظر
إليه وهو يعمل ويمسك بتالبيبه كمفعول ،ويأخذ على عاتقه الحرية التي
بها يفلته" .يوجد إذ ًا نوعان من األنا مختلفان ،يعي أحدهما حريته فيهما
ال يعاين مشهد ًا ما يلعبه النوع اآلخر بطريقة ِ
مشاهد ًا مستق ً فينصب نفسه
ّ
آلية .ولكن هذا االزدواج ال يصل مطلق ًا إلى ذروته .إنه باألحرى تذبذب
يكونهما عن نفسه ،إنه حركة الفكر في الشخص الذي يراوح بين رأيين ّ
ذهابها وإيابها ،"...إنه كيان مصاحب(((.
((( Henri Bergson, L’énergie spirituelle ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]), p. 920
(130).
150
الممكن أن نشاهد في السينما صور ًا تدّ عي أنها موضوعية أو ذاتية؛ ولكن
األمر هنا يتع ّلق بشيء آخر يتجاوز الذاتي والموضوعي ويصبو إلى شكل
صرف ُيشاد كرؤية مستق ّلة للمضمون .فنحن لم نعد أمام صور ذاتية أو
موضوعية؛ إننا أمام تعالق بين صورة /إدراك وبين وعي /كاميرا يغ ّيرها
(لم تعد المسألة المطروحة إذ ًا أن تعرف ما إذا كانت الصورة موضوعية
يحسونأو ذاتية) .هناك سينما خاصة جد ًا طاب لها "أن تجعل الناس ّ
بالكاميرا" .وقد ح ّلل بازوليني عدد ًا من الطرق األسلوبية التي تعرب عن
هذا الوعي العاكس أو عن هذا الكوجيتو السينمائي البحت :أي "ضبط
الملح والهوسي" الذي يجعل الكاميرا تنتظر شخصية لتدخل ّ الكادرات
في هذا الكادر ،ولتفعل وتقول شيئ ًا ثم تخرج ،مع أنها تستمر في تأطير
المكان الذي َف َر َغ" ،تاركة اللوحة من جديد تع ّبر بشكل خالص ومطلق
عن هذه اللوحة"؛ أي "تعاقب شتّى العدسات على الصورة نفسها"،
المفرط إلى عدسة الزوم" ،مما يضاعف إدراك وعي جماليو"اللجوء ُ
مستقل ...قصارى القول إن الصورة /اإلدراك تجد مقامها الحقيقي
كذاتية حرة غير مباشرة ،ما إن تعكس محتواها في وعي /كاميرا أصبح
مستق ً
ال (أي "سينما شعرية").
151
عنه .إن الكادر الموجود مسبق ًا يؤ ّدي إلى انفصال غريب عن الشخصية
التي تشاهد نفسها وهي تتصرف .وتغدو صور العصابي أو العصابية
بالتالي رؤى للمؤلف الذي يخطو ويفكر من خالل تهويمات بطله .ألهذا
السبب تشعر السينما الحديثة بحاجة ماسة إلى شخصيات عصابية تنطق
بالخطاب الحر غير المباشر أو "باللغة الدونية" للعالم الحالي؟ ولكن
إذا كانت الرؤية أو الوعي الشعري عند أنطونيوني هي رؤية أو وعي
جماليان ،فإن رؤية غودار هي باألحرى رؤية "تقانية" (من دون أن تكون
أقل شعرية) .صحيح أن غودار ،بحسب مالحظة وجيهة لبازوليني ،يقدّ م
شخصيات مريضة وتعاني "من إصابات خطيرة" ،ولكنها شخصيات
ال تخضع لمعالجة ولم تفقد شيئ ًا من الدرجات المادية لحريتها ،وهي
تعج بالحياة وتم ّثل باألحرى والدة نوع جديد من البشر(((.
شخصيات ّ
152
األسطورة ،هو ما حدّ ده بازوليني في الخطاب الحر غير المباشر كشكل
جوهري لألدب .وتمكّن من جعلها صورة سينمائية قادرة على الطالوة
والهلع في ٍ
آن واحد((( .أما روهمر فربما كان المثال األسطع لبناء صور
ذاتية غير مباشرة حرة ،وذلك من خالل وعي أخالقي متم ّيز .والغريب
في األمر أن هذين المخرجين ،أي بازوليني وروهمر ،لم يكونا يعرفان
بعضهما جيد ًا ،على ما يبدو ،ولكنهما سعيا كثير ًا إلى تأمين وضع جديد
آنللصورة للتعبير عن العالم الحديث ولمطابقة السينما مع األدب في ٍ
واحد .لقد و ّظف روهمر الكاميرا من جهة لتخلق وعي ًا أخالقي ًا صريح ًا
يقدر على نقل الصورة غير المباشرة الحرة للعالم الحديث العصابي
من جهة (سلسلة الحكايات األخالقية)؛ ويتوصل من جهة أخرى إلى
قاسم مشترك بين السينما واألدب ،ال يستطيع ال روهمر وال بازوليني أن
يقيماها إال إذا ابتكرا نوع ًا من الصورة البصرية والصوتية تضاهي تمام ًا
الخطاب الالمباشر (وهذا ما حدا بروهمر إلى إخراج فيلمين مهمين هما
مركيزة حرف (La marquise d’O) Oوبرسيفال((( ) .)(Percevalلقد
ما يهمنا اآلن ليس عالقة الصورة باللغة ،وهذا موضوع سندرسه
الحق ًا .لن نحتفظ من أطروحة بازوليني المهمة جد ًا إال بما يلي :قد تجد
الصورة /اإلدراك وضع ًا خاص ًا في "الذاتية الحرة غير المباشرة" التي
ستكون كانعكاس للصورة في وعي الذات /الكاميرا .وال أهمية من ثم
إن كانت الصورة موضوعية أو ذاتية :إنها نصف ذاتية ،إن شئنا، لنعرف ْ
تدل من بعد على أي متغ ّير أو ملتبس. ولكن هذه الذاتية الوسطية ال ّ
تسجل أي تذبذب بين قطبين ،بل سجلت تثبيت ًا لشكل جمالي لم تعد ّ
أعلى .إن الصورة /اإلدراك تجد هنا إشارة خاصة على تركيبها .إذا
استعرنا كلمة بيرس ،لقلنا إنها "عالمة تأشير" )( (dicisigneولكنها في
نظر بيرس القول بعامة ،بينما نعني بها نحن الحالة الخاصة للقول الحر
غير المباشر ،أو باألحرى للصورة المماثلة) .فيحصل الوعي /الكاميرا
عندئذ على جودة شكلية عالية.
)2
بيد أن هذا ّ
الحل ال يحيل إال إلى تعريف اسمي لما هو "ذاتي"
متطورة للسينما التي عرفت كيف
ّ و"موضوعي" .إنه ينطوي على حالة
ترتاب من الصورة /الحركة .فماذا يحدث على العكس ،لو أننا انطلقنا
من تعريف واقعي لهذين القطبين أو للمنظومة المزدوجة؟ لقد اقترحت
= عن أنفسهم بصيغة الغائب .املهم جد ًا ليس تقديم النص يف اخلطاب غري املبارش احلر،
وإنام تقديم الصور أو املشاهد البرصية بطريقة مماثلة :وهذا ينطبق عىل ضبط الكادرات
اهلوسية يف «مركيزة حرف ،»Oوخصوص ًا عىل معاجلة الصورة كمنمنمة يف «برسيفال».
154
علينا الفلسفة البرغسونية التعريف التالي :سيكون الوعي ذاتي ًا عندما تتغ ّير
الصور بالنسبة إلى صورة مركزية ومفضلة؛ وسيكون الوعي موضوعي ًا،
كما هو في األشياء عندما تتغير الصور كافة بالنسبة لبعضها بعض ًا وتتبدل
في وجوهها وأجزائها كاف ًة .إن هذين التعريفين ال يؤكدان فقط التباين
الحاصل بين قطبي اإلدراك ،وإنما يؤكدان إمكانية االنتقال من القطب
الذاتي إلى القطب الموضوعي .فكلما كان المركز المفضل متحرك ًا هو
نفسه ،كلما مال إلى تشكيل منظومة غير ممركزة تتغ ّير فيها الصور مقارنة
ببعضها ،وكلما مالت هذه الصور إلى الربط بين األفعال المتبادلة وبين
االهتزازات الخاصة بمادة ِصرفة .أي شيء أشدّ ذاتية من الهذيان والحلم
والهلوسة؟ ولكن ما هو األكثر دنو ًا من مادية صنعتها موجة ضوئية أو
تفاعل جزيئي؟ لقد اكتشفت المدرسة الفرنسية والتعبيرية األلمانية
الصورة الذاتية ،ولكنهما نقلتاها في ذات الوقت إلى تخوم الكون.
نحرك مركز اإلحالة نفسه ،نرفع حركة األجزاء إلى المجموع، فعندما ّ
ونرفع النسبي إلى المطلق ،والتتابع إلى التزامن .ففي فيلم منوعات
المنوعات الموسيقية ،يرى
ّ للمخرج األلماني دوبون وفي مشهد مسرح
الجمهور وسقف المسرح متداخلين ،كوابل من َ البهلوان المتأرجح
الشرر أو كزوبعة من البقع العائمة((( .وفي فيلم قلب وفي )(Coeur fidèle
للمخرج الفرنسي إيبستين ،نشاهد االحتفال الشعبي الجوال الذي يصبو
المشاهد وبين الحركة المشاهدة
كل شيء فيه إلى تزامن متحرك يتم بين ُ
في دوار تضيع فيه النقاط الثابتة .وال شك هنا أن الصورة /اإلدراك قد
تحولت بفعل الوعي الجمالي (يجب مراجعة مفهوم "التصوير الجميل" ّ
155
الذي شهرته المدرسة الفرنسية) .ولكن هذا الوعي الجمالي لم يتماثل
بعد مع الوعي الشكلي والحصيف الذي يتجاوز الحركة ،إذ كان وعي ًا
"ساذج ًا" أو وعي ًا غير أطروحي ،كما يقول فالسفة الظواهرية ،أو وعي ًا
يعمل ويضخم الحركة وينقلها إلى داخل المادة ،سعيد ًا باكتشاف نشاط
المونتاج والكاميرا .كان ذلك مختلف ًا ،لم يكن أفضل ولم يكن أسوأ.
غالب ًا ما تك ّلم بعضهم عن ميل جان رينوار إلى الماء الجاري.
ولكن هذا الميل شائع في المدرسة الفرنسية كلها (مع العلم أن رينوار
أعطاه بعد ًا خاص ًا جد ًا) .ففي المدرسة الفرنسية نرى النهر ومجراه
أحيان ًا ،والقناة وسدودها وزوارقها أحيان ًا أخرى ،والبحر وحدوده مع
اليابسة والميناء والمنارة ،نراها كقيمة ضوئية أحيان ًا .لو فكّر هؤالء
المخرجون بكاميرا سلبية لنصبوها أمام الماء الجاري .كان ليربييه هو
الذي بدأ بهذا المشروع في فيلم السيل ) (Le torrentالذي كان فيه
اليم (L’homme du
الماء الشخصية الرئيسية .ولم يعالج فيلم رجل ّ
) largeموضوع البحر كمسألة إدراك بخاصة فقط ،وإنما كمنظومة
إدراكية تختلف عن اإلدراكات األرضية ،لقد عالجها كلغة تختلف عن
لغة اليابسة((( .ويؤ ّلف جزء كبير من أعمال إيبستين وغريميون نوع ًا من
مدرسة بريتونية ) (Bretonneح ّققت الحلم السينمائي الذي ينادي بدراما
ال يوجد فيها عنصر بشري ،أو على األقل بدراما تنطلق من الطبيعة نحو
اإلنسان .لماذا بدا الماء على هذا النحو مالئم ًا لجميع مقتضيات هذه
المدرسة الفرنسية ،المقتضيات الجمالية المجردة والمقتضيات التوثيقية
تعليقات هنري النغلوا ) (Henri Langloisالتي استشهد هبا نويل ((( انظر
Noël Burch, Marcel L’Herbier (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 68. بورش يف كتاب:
156
االجتماعية والمقتضيات السردية الدرامية؟ ذلك ألن الماء كان أوالً البيئة
المحرك
َّ الممتازة التي يستطيع فيها المرء أن يستخرج الحركة من الشيء
أو حركية الحركة بالذات :ومن هنا تنبع األهمية البصرية والسمعية للماء
في األبحاث اإليقاعية .ما بدأه غانس مع الحديد والسكة الحديدية ،هو
العنصر السائل الذي سيعقبه وينقله وينشره في جميع االتجاهات .كان
جان ميتري في محاوالته التجريبية قد بدأ بسكة الحديد ،ثم انتقل إلى
الماء كما لو أنه انتقل إلى الصورة القادرة بأعمق ما يكون على أن تقدّ م لنا
الواقع كاهتزاز ،كما في فيلمه باسيفيك (Pacific 231) 231وصور من
أجل ديبوسي((( ) .(Images pour Debussyأما أفالم غريميون الوثائقية
مرت بهذه الحركة ،فانتقلت من ميكانيك الجوامد إلى ميكانيك فقد ّ
السوائل ،ومن الصناعة إلى خلفيتها البحرية.
((( Jean Mitry, Le cinéma expérimental (Paris: Seghers, [s. d.]), pp.
211-217.
157
الزورق النهري تعارض ًا بين رسوخ اليابسة وانسيابية السماء والمياه.
وأقام فيلم مالدون ) (Maldoneتعارض ًا بين تنظيم الجذور ،وبين األرض
والمنزل ،ورتب شؤون القناة بين اإلنسان والمركب والحصان .وكان
على المأساة أن تقطع الصلة مع األرض ،والعالقات بين األب وابنه،
وبين الزوج والزوجة والخليلة وبين المرأة وعشيقها ،وبين الطفل
التوصل إلى التضامن بين البشر
ّ وذويه؛ وكان ال بدّ من العزلة من أجل
والتضامن الطبقي .ومع أن المصالحة النهائية غير مستبعدة ،كانت المنارة
والسدّ مكان ًا للمجابهة القاتلة بين جنون األرض وعدالة الماء العالية:
حراس المنارة (Gardiens de
فنالحظ جنون االبن الغاضب في فيلم ّ
المدوي لسيد القصر المرتدي بذلته في فيلم ضوءّ ) ،phareوالسقوط
كل المهن ليست بحرية ،ولكن الصيف ) .(Lumière d’étéصحيح أن ّ
فكرة غريميون هي أن البروليتاري أو العامل يبنيان في كل مكان ،يبنيان
على اليابسة وحتى في الجو ،كما في فيلم السماء هي لكم (Ciel est à
) ،vousشروط الحياة لسكان العوم ولشعب البحر القادرين على كشف
وتغيير طبيعة المصالح االقتصادية والتجارية التي تُطرح في مجتمع ما،
بشرط "قطع الحبل السري الذي يربطها باألرض" ،كما تقول العبارة
الماركسية( .((1بهذا المعنى ليست المهن البحرية مخ ّلفات أو فولكور ًا
لسكان الجزر؛ إنها أفق كل مهنة ،وحتى مهنة الطبيبة في فيلم حب
امرأة ) (L’amour d’une femmeلغريميون .وهذه المهن ّ
تعزز العالقة
158
مع عناصر الطبيعة ومع النوع البشري ،الموجودة في كل مهنة؛ وحتى
الميكانيك والصناعة والكدح البروليتاري تجد حقيقتها في إمبراطورية
البحار (أو الفضاء) .كان غريميون يعارض بكل ما أوتي من قوة المثال
األعلى العائلي واألرضي لحكومة فيشي .وقالئل هم السينمائيون الذين
صوروا عمل الرجال ،وكشفوا فيه عما يعادله في أعمال البحر :فحتى ّ
انهيار الصخور يماثل أمواج البحر.
هناك منظومتان متعارضتان ،اإلدراكات واالنفعاالت العاطفية
وأعمال البشر على سطح اليابسة ،واإلدراكات واالنفعاالت العاطفية
وأعمال البشر في الماء .نجد ذلك بوضوح في فيلم قطر السفن
) (Remorquesلغريميون ،وفيه يظهر القبطان وهو فوق اليابسة ينقاد
ّ
الفيل إلى مراكز ثابتة ويستعرض صور الزوجة أو العاشقة ،وصورة
المحاذية للبحر ،وكلها صور ذاتية أنوية ،في حين أن البحر يقدم له فكرة
موضوعية تكون كتبدل شامل وتضامن بين األجزاء كافة ،وتكون عدالة
تتجاوز البشر ،وفيها لم يعد يصلح قطر السفن المطروح دائم ًا إال بين
حركتين .ولكن فيلم األتاالند ) (L’Atalandeلجان فيغو هو الذي سيرفع
هذا التعارض إلى ذروته .كما ب ّين ج .ب .بامبرجيه )(J. P. Bamberger
عندما قال إن نظام الحركة يتغ ّير فوق اليابسة وفوق الماء وداخل الماء،
كما يتغير "االنسياب" الجميل :ذلك أن الحركة األرضية في اختالل
مستمر ،ألن القوة المحركة هي على الدوام خارج مركز الجاذبية (دراجة
المتجول)؛ في حين أن الحركة المائية تختلط مع انتقال مركز
ّ البائع
الجاذبية بحسب قانون موضوعي بسيط ،مستقيم أو إهليلجي (وينجم
تتم فوق األرض ،أو حتى
عن ذلك انطباع أخرق لهذه الحركة عندما ّ
يتعرج متوارب ًا أو يزحف أو يدور على نفسه،
على القارب النهري الذي ّ
159
ولكنها تتمتع بانسياب عالم آخر) .وفوق اليابسة تتم الحركة من نقطة إلى
أخرى وتحدث دائم ًا بين نقطتين ،في حين أن النقطة تقع بين حركتين
فتسجل بالتالي ارتداد ًا أو قلب ًا للحركة ،بحسب العالقة
ّ على الماء:
المائية في حركة الكاميرا التي تصور من األعلى إلى األسفل أو العكس
(السقوط األخير للجسد المعانَق لدى عاشقين ال حدود له ،ولكنه
يتحول إلى حركة صاعدة) .وتختلف عن حركة الغرام والعاطفة :فحركة
ّ
األرض تخضع لهيمنة السلعة والتمائمية والمالبس والموضوع الجزئي
يسمى بـ
والموضوع /الذكرى؛ وفي حالة الماء ترقى الحركة إلى ما ّ
"موضوعية" األجساد التي من الممكن أن تكشف القبح تحت الثياب،
وتكشف الروعة تحت المظهر القاسي .إذا كانت ثمة مصالح بين اليابسة
تمت على يد األب جول ،ألنه استطاع بعفوية أن يفرض والماء ،فقد ّ
قانون الماء على اليابسة :فمقصورته استطاعت أن تضم أكثر التمائم
غرابة ،وأشياء مجزوءة ،وتذكارات ،ونفايات؛ وجعل منها ،ال ذاكرة،
وإنما فسيفساء خالصة من الحاالت الشديدة الحضور ،ومنها أسطوانة
موسيقية عتيقة عادت تعمل( .((1وفي المحصلة ،تتطور في الماء وظيفة
استبصار تتعارض مع الرؤية األرضية :في داخل الماء تتج ّلى المحبوبة
الراحلة ،كما لو أن اإلدراك قد تمتّع بمدى وبتفاعل وبحقيقة لم يعرفها
على األرض اليابسة .في مدينة نيس ) (Niceأتاح وجود الماء تصوير
البرجوازية كجسد عضوي ممسوخ( .((1وكشف تحت الثياب عن قبح
( ((1نستخدم نص ًا مل ينرشه جان بيري بامربجيه حول فيلم األتاالند ). (L’atalante
( ((1لقد طرح أمينغوال هذه املسألة بصورة الفتة قال :ملاذا عرض فيغو
منوه ًا ِ
البورجوازية بسامت بيولوجية ال بسامت سياسية واقتصادية؟ أجاب عىل ذلك ّ
بوظيفة «الرؤيا االستباقية» و«موضوعية» األجساد .انظر= Jean Vigo, Etudes :
160
األجساد البرجوازية ،كما يكشف اآلن عن ر ّقة الجسد المحبوب وقوته.
وقد اختُزلت البرجوازية إلى موضوعية جسد تمائمي ،وإلى جسد /نفاية،
تقابله الطفولة والحب واإلبحار بأجسادها الطاهرة .ثمة "موضوعية"
وتوازن وعدالة ليست من هذه األرض ،وهذه هي ِ
مز ّية الماء.
)3
إن نظام التغيير الشامل بحد ذاته ،هو ما اقترح فيرتوف بلوغه أو
الوصول إليه في "السينما /عين" .الصور جميعها تتغ ّير وتتداخل ،تتغ ّير
عرف فيرتوف السينما /العين على أنها: على وجوهها وأجزائها كافةّ .
"تُراصف كل نقطة في هذا الكون وفي أي نظام زمني"( .((1أكان ذلك
بطيئ ًا أم سريع ًا ،أكان طباعة فوقية أم انشطار ًا أم تخفيف ًا لسرعة الفيلم
أم تصوير ًا ميكروي ًا ،يكون كل هذا في خدمة التبدّ ل والتفاعل .ليست
محسنة .ذلك أن العين البشرية ّ السينما عين ًا بشرية حتى ولو كانت عين ًا
تستطيع أن تتجاوز بعض ًا من حدودها باللجوء إلى األجهزة واألدوات،
شرط إمكانيتها الخاص:َ ولك ْن هناك حدّ ال تستطيع تجاوزه ،ألنه يم ّثل
أال وهو ثباتها النسبي كعضو استقبال ويجعل الصور جميعها تتغير
لصالح صورة واحدة ،وطبق ًا لصورة مم ّيزة .وإذا نظرنا إلى الكاميرا
162
بوصفها جهاز ًا اللتقاط الصور ،فإنها تخضع للحدّ الشارط نفسه .ولكن
السينما ال تُختزل في الكاميرا فقط ،إنها المونتاج أيض ًا .والمونتاج هو
ويكف عن أن يكون كذلك انطالق ًا
ّ بالتأكيد بنا ٌء منظور للعين البشرية،
من عين أخرى ،إنه اإلبصار الخالص لعين غير بشرية ،لعين تختلط مع
األشياء .التبدّ ل الشامل ،والتفاعل الشامل (أي التعديل) هو ما أطلق
عليه سيزان ) (Cézanneعبارات "العالم الذي سبق اإلنسان" ،أو "فجرنا
المتقزح" ،أو "بكارة العالم" .وليس من المدهش أنه
ّ نحن" ،أو "العماء
أصر ميترييترتّب علينا أن نبنيه ،ألنه ليس معطى إال لعين أخرى .لقد ّ
على أن يستنكر عند فيرتوف تناقض ًا ال يجرؤ على إلصاقه ّ
برسام فنان:
إذ هناك تناقض زائف بين إبداعية (المونتاج) وتمامية (الواقع)( .((1ما
يفعله المونتاج ،كما يقول فيرتوف ،هو نقل اإلدراك إلى األشياء ،ووضع
اإلدراك في المادة ،بحيث يتسنّى لكل نقطة من نقاط المكان أن ترى هي
ذاتها جميع النقاط التي تؤ ّثر فيها أو تتأثر بها ،مهما امتدت هذه األفعال
وردودها .وتتحدد الموضوعية عندما "تُرى األشياء من دون حدود ومن
دون مسافات" .في هذا الصدد تجوز جميع اإلجراءات ،وال تعود من
ثم خدع ًا سينمائية( .((1ما أنجزه فيرتوف المادي من طريق السينما هو
167
تفرق بين فيرتوف من جهة وبين المدرسة الفرنسية من جهة أخرى .إذا ّ
نظرنا في القواسم المشتركة بينهما ،أي إلى المونتاج الكمي والمتسارع
والمتباطئ وإلى الطباعة الفوقية أو حتى التجميد ،لبدا لنا أن هذه الطرق
تنم قبل كل شيء عن قوة روحية للسينما وعن وجه روحي عند الفرنسيين ّ
"للقطة" :فبالروح يتجاوز اإلنسان حدود اإلدراك ،وكما قال غانس ،إن
الطباعات الفوقية هي صور لعواطف وأفكار "تعلو" بها الروح الجسد
و"تسبقه" .ولكن فيرتوف استخدم هذه الطرق بشكل متباين ،إذ رأى أن
الصورة الفوقية تع ّبر عن التفاعل بين عدد من النقاط المادية المتباعدة،
أما التسارع أو التباطؤ فيعبران عن تفاضلية الحركة الفيزيائية .ولكننا
ال نمسك ربما بالتباين الجذري انطالق ًا من هذه الزاوية .إذ يبرز عندما
نعود إلى األسباب التي دفعت الفرنسيين إلى تفضيل الصورة السائلة:
فهنا يتجاوز اإلدراك البشري حدوده الخاصة ،وهنا تكشف الحركة عن
التمامية الروحية التي تعبر عنها .أما عند فيرتوف فتبقى الصورة السائلة
غير كافية وال تصل إلى كنه المادة .يجب على المادة أن تتجاوز ذاتها،
يعج بالطاقة .الصورة السينمائية ال ترتبط
ولكن لترقى إلى عنصر مادي ّ
إذ ًا بـ " َ
الر ْيم" ،وإنما بـ "العنصر" و"الترسيخ" والفوتوغرام .وهي عالمة
غازي ،ال عن إدراك
ّ والدتها .وفي المحصلة ،ال بدّ من التكلم عن إدراك
حرة في تنقلهاسائل .فإذا انطلقنا من حالة جامدة ال تكون فيها الجزئيات ّ
تتجول
(في اإلدراك الكتلوي أو البشري) ،النتقلنا من ثم إلى حالة سائلة ّ
فيها الجزيئات ويندمج بعضها في بعض ،ولكننا نصل أخير ًا إلى حالة
الحر لكل جزيء .لعلنا اضطررنا إلى التوغل ّ غاز ّية يحددها المسار
بحسب فيرتوف إلى كنه المادة وإلى اإلدراك الغازي الذي يتجاوز التد ّفق.
168
في األحوال كلها ،ستذهب السينما التجريبية األميركية أبعد من
ذلك ،وألنها قطعت الصلة بالغنائية المائية للمدرسة الفرنسية ،فستعترف
التوصل إلى إدراك
ّ بتأثير فيرتوف في ح ّيز كامل من هذه السينما ،يجب
محض ،كما هو في األشياء أو في المادة ،بحيث يغطي التفاعالت
الجزيئية .لقد استكشف ستانلي براكاج ) (Stanley Brakhageعالم ًا
سيزاني ًا سبق ظهور البشر ،وفجر ذواتنا ،بتصويره جميع المشاهد
الخضراء التي شاهدها طفل في أحد المروج( .((2وأفقد ميكائيل سنو
وصور التفاعل الشامل للصور ّ ) (Michael Snowالكاميرا كل مركز،
صور وجوهها كافة وأجزاءها كلها (كما في فيلم التي تتبدل في ما بينهاّ ،
المنطقة المركزية)( .((2أما جوردان بيلسون ) (Jordan Belsonوكين
الملونة
ّ جاكوبس ) (Ken Jacobsفقد انطلقا من األشكال والحركات
إلى القوى الجزيئية أو الذرية (كما في فيلمي ظاهرة وآنذاك) .وعليه،
إذا ما كان هناك من ثابت في هذه السينما ،فإنه فع ً
ال بناء حالة غاز ّية
تتواطأ هذه الطرق جميعها وتتغ ّير لتخلق سينما تكون ترتيب ًا آلي ًا
للصور /المادة .المهم أن نعرف ما هو الترتيب المناسب للتعبير ،ألن
إجابة فيرتوف (في المجتمع الشيوعي) ،قد فقدت معناها .هل يمكن
P. A. Sitney, “Le film structurel,” dans: Noguez, Cinéma, ( ((2إن مقالة:
théorie, lectures,
حت ّلل هذه املالمح مجيعها مستندة إىل أهم خمرجي السينام التجريبية األمريكية:
وال س ّيام تشكيل «اللقطة /الفوتوغرام» والعقدة؛ ونرى ذلك يف الوميض عند
ماركوبولوس ) (Markopoulosوكونراد ) (Conradوشاريتس )(Sharits؛ ويف
الرسعة عند روبرت برير ) ،(Robert Breerويف التصوير احلبيبي عند جيهر )(Gehr
وجاكوبس ) (Jacobsوالندوف ).(Landow
170
أن تكون اإلجابة :المخدرات التي تم ّثل المجتمع األميركي؟ ولكن
إذا كانت المخدرات تلعب دور ًا في هذا الصدد ،فال يتحقق ذلك إال
تتوخاه والذي يستطيع أن يتم بوسائل مختلفة بالتجريب اإلدراكي الذي ّ
كلي ًا .الحقيقة أننا لن نستطيع أن نطرح مسألة التعبير ،إال عندما نقدر على
تحليل الصورة الصوتية بذاتها .إذا أخذنا ببرنامج كاستنيدا )(Castaneda
التمهيدي ،يفترض في المخدرات أن تجعل العالم يتوقف ،وأن تطلق
إدراك "العمل" ،أي أن تُستبدل اإلدراكات الحسية -الحركية بإدراكات
بصرية وصوتية بحتة؛ أي أن تُظهر الفواصل الجزيئية والفجوات داخل
األصوات واألشكال وحتى داخل الماء؛ وأن ترسم خطوط السرعة في
المجمد ومن خالل الفجوات الموجودة في العالم( .((2هذا َّ هذا العالم
هو برنامج الوضع الثالث للصورة ،للصورة الغاز ّية ،التي تتجاوز الجامد
إدراك "آخر" ،هو العنصر التكويني لكل ٍ التوصل إلى والسائل :أي
ّ
إدراك .إن اإلدراك /الكاميرا ال يرقى إلى تحديد شكلي أو مادي ،بل
إلى تحديد تكويني وتفاضلي .لقد انتقلنا من تحديد واقعي إلى تحديد
تكويني لإلدراك.
171
البرتقالي .فتمتلئ الشاشة كلها بالفوتوغرام المشتعل الذي يتحول
بالحبيبات .ويوجد فوتوغرام آخر ُ تدريجي ًا إلى شيء ضبابي مليء
يحترق؛ وتهتز الشاشة كلها بالسيلولويد الذائب .لقد تم الحصول على
هذه النتيجة على األرجح بسلسلة من عمليات التصوير على الشاشة،
والمحصلة أن الشاشة نفسها هي التي تبدو وكأنها تهتز وتشتعل .يحا َفظ
ّ
على توتر الحلقة التي فقدت تزامنها ،طيلة هذا المقطع الذي يبدو فيه
شريط الفيلم وكأنه يموت .وبعد مدة طويلة تتحول الشاشة إلى فقاعات
ملونة ،يختلف لونها بين ضلعهوائية في الماء ُص ّورت بمنظار له فالتر ّ
وآخر من الشاشة .وعندما تُبدَّ ل مسافة التبئير ،تفقد الفقاعات شكلها
وتنحل متداخلة وتمتزج الفالتر الملونة ببعضها .وفي النهاية ،أي بعد ّ
الحلقة األولى بأربعين دقيقة تقريب ًا ،تصبح الشاشة بيضاء"(.((2
(P. A. Sitney, “Le film structurel,” dans: Noguez, Cinéma, théorie, ((2
lectures, p. 348.
172
الف�صل ال�ساد�س
ال�صورة /االنفعال العاطفي
الوجه وال�صورة امل�ضخّ مة
)1
إن التعريف البرغسوني للتأ ّثر يحتفظ تمام ًا بهاتين السمتين :نزوع
حركي على عصب حساس .وبكالم آخر ،هما سلسلة من الحركات
الميكروية قائمة على لوحة عصبية تق ّيد الحركات .حين اضطر جزء من
بجل حركته كي يصبح ركيزة ألعضاء االستقبال، الجسم إلى التضحية ّ
فإن هذه األعضاء ال تمتلك من بعد إال نزعات إلى الحركة أو إلى
حركات ميكروية قادرة ،بالنسبة إلى عضو بذاته ،أو إلى عضو يتفاعل مع
المتحرك حركته
ّ عضو آخر ،على الدخول في سالسل مك ّثفة .لقد فقد
االمتدادية ،وأصبحت الحركة حركة تعبير .فهذا المجموع المؤ ّلف من
وحدة عاكسة ساكنة ومن حركات كثيقة مع ّبرة هو الذي يشكل التأثر.
ولكن ،أليس الوجه بذاته هو كذلك؟ الوجه هو هذه اللوحة العصبية
ضحت بجوهر حركيتها الشاملة ،والتي
التي تحمل أعضا ًء أخرى والتي ّ
تستجمع أو تعبر في الهواء الطلق عن شتى الحركات الصغرى المحلية
التي يتركها باقي الجسم مخف ّية بالعادة .وفي كل مرة نكتشف في شيء
ما هذين القطبين -أي السطح العاكس والحركات الميكروية الكثيفة -
وج َه" أو باألحرى " ُس ّلط
نستطيع القول :عومل هذا الشيء كوجه ،لقد " ِّ
وجهنا عليه" ،فحدجنا بدوره وتط ّلع إلينا ...حتى إذا كان هذا الشيء
ّ
المضخمة لساعة الحائط بالنسبة ال يشبه وجه ًا .هكذا تكون الصورة
174
للوجه ذاته ،لن نقول إن الصورة المضخمة تعامله بطريقة ما وتخضعه
ّ
مضخمة ،ألن الوجه بذاته هو لقطة لمعالجة ما :ال توجد لقطة وجهية
ّ
المضخمة هي بذاتها وجه ،وكلتاهما تشكّالن ّ
مضخمة ،وألن اللقطة
التأثر والصورة /التأثير العاطفي.
عودتنا تقنيات الصورة على قطبي الوجه هذين. في فن الرسمّ ،
خط محيط يرسم األنف والفم فتارة يتناول الرسام الوجه كاستدارة لها ّ
وأطراف األجفان ،وحتى اللحية والقلنسوة :فهي مساحة لتشكيل الوجه.
وطور ًا ،يرسم على العكس من ذلك ،خطوط ًا مبعثرة مأخوذة من كتلة،
ومكسرة تشير هنا إلى اختالج الشفتين وبريق البصر
ّ خطوط ًا مجزوءة
وتؤ ّدي إلى مادة عص ّية نوع ًا ما على االستدارة :إنها خطوط خاصة
بالوجهية((( .وليس من قبيل الصدفة أن يظهر التأ ّثر بملمحين من مالمح
المفاهيم الكبرى للشغف الذي تحفل به الفلسفة والرسم في ٍ
آن واحد،
ويسجل
ّ وهذا ما يسميه ديكارت ولي بران ) (Le Brunبـ "اإلعجاب"
حدّ ًا أدنى من الحركة لحدّ أعظمي من الوحدة العاكسة والمنعكسة
على الوجه؛ وهذا ما نسميه "رغبة" ،فهي ال تنفصل عن اإلغراءات
والتحريضات الصغرى التي تؤ ّلف سلسلة مك ّثفة يع ّبر عنها الوجه .ليس
مهم ًا جد ًا أن يعتبر بعضهم اإلعجاب كأصل للشغف في حين أن البعض
اآلخر يضع الرغبة أو القلق في المقام األول ،ألن عدم الحركة بالذات
يفترض التحييد المتبادل للحركات الميكروية المناسبة .فبدالً من التك ّلم
175
عن أصل حصري ،يجب التك ّلم عن قطبين يتغ ّلب أحدهما أحيان ًا على
اآلخر ويظهر نقي ًا تقريب ًا ،وأحيان ًا يختلط القطبان في هذا االتجاه أو ذاك.
176
اعتبر االحتقار كحالة خاصة من حاالت "اإلعجاب"((( .فمن جهة نرى
أن هناك نوايا خبيثة عاكسة ،وأن هناك أشياء مروعة وأشكاالً من اليأس
معكوسة ،حتى عند النساء الشابات في أفالم غريفيث وستروهايم،
وخصوص ًا عندهن .ومن جهة أخرى نجد أن هناك سالسل كثيفة يتج ّلى
فيها الحب والحنان .وأكثر من ذلك ،كل جانب منهما يجمع حاالت
يلم بوجه عديموجوه هي نفسها متباينة .يستطيع جانب االنشداه أن ّ
التأثر مستغرق في تفكير إجرامي ملغز؛ ولكنه يستطيع أيض ًا أن يستحوذ
على وجه يافع وفضولي تعتلج فيه حركات صغيرة بحيث تذوب وتتح ّيد
(كما في فيلم اإلمبراطورة الحمراء لسترينبرغ )(Strenberg؛ فعندما
لما
كانت صبية كانت تنظر في االتجاهات كافة وتُدهش لكل شيءّ ،
تنوع ًا بحسب
اقتادها المندوبون الروس) .أما الجانب اآلخر فليس أقل ّ
السالسل ذات الصلة.
177
لس َل وجوه متزامنة أو متعاقبة عديدة ،مع أن وجه ًا واحد ًا قد يكفي ْ
إن َس َ
أعضاءه ومالمحه المختلفة .وهنا تكشف السلسلة المك ّثفة عن وظيفتها،
والتوصل إلى صفة جديدة .إنتاج
ّ أي االنتقال من صفة إلى أخرى،
كيفية جديدة ،إحداث قفزة نوعية ،هذا ما ّ
توخاه إيزنشتاين من اللقطة
ّ
يستغل ّ
المضخمة :ننتقل من الكاهن بصفته رجل الله إلى الكاهن الذي
الفالحين ،ومن غضب البحارة إلى االنفجار الثوري ،ومن الحجر
إلى الصرخة ،كما في الوضعيات الثالث لألسود المرمرية ("وزأرت
الحجارة.)"...
على النقيض من ذلك ،نحن أمام وجه تأ ّملي عاكس ،ما دامت
مجمعة تحت سيطرة فكرة ثابتة أو رهيبة ،ولكنها ّ خطوطه قد ظلت
ثابتة ومن دون صيرورة ،فكرة خالدة نوع ًا ما .في فيلم الزنبقة المح ّطمة
متحجر بدا حتى في الموت
ّ ّ
المعذبة على وجه لغريفيث ،تحافظ الفتاة
وكأنه يفكّر ويسأل لماذا ،في حين أن الصيني العاشق ،من جهته يحتفظ
على وجهه بسيماء الذهول الناجم عن تعاطيه األفيون ،وبالتفكير في بوذا.
في هذه الحالة ،صحيح أن الوجه الساهم يبدو وكأنه أقل إقدام ًا من الوجه
اآلخر .ذلك أن العالقة بين الوجه وبين ما يفكّر فيه ،هي عالقة اعتباطية.
أن تفكّر زوجة شابة عند غريفيث في زوجها ،هو ما ال نستطيع أن نعرفه
إال ألننا نرى فور ًا بعد ذلك صورة الزوج :كان يجب علينا االنتظار ،وتبدو
العالقة هنا عالقة ترابطية .قد يكون من المؤكد أن يقلب النظام وأن يبدأ
مقربة تدلنا على فكرة الوجه الوشيكة :ففي فيلم لولو للمخرج
بلقطة ّ
تحضرنا اللقطة المك ّبرة للسكين للفكرة
األلماني جورج فيلهلم بابستّ ،
178
باقر البطون (أو في فيلم القاتل يسكن في
الرهيبة التي تعتمل في رأس جاك ُ
الطابق (L’assassin habite au 21) 21للمخرج الفرنسي هنري جورج
كلوزو ) ،(Henri - Georges Clouzotوفيه تُفهمنا مجموعات تنتقل إلى
ثالثة أشياء أن البطلة بدأت تفكّر في الرقم 3كمفتاح للسر) .ومع ذلك
ما زلنا بالتالي لم نصل إلى أغوار الوجه المنكب على التفكير .ال ّ
شك
أن التفكير الذهني هو العملية التي بها نفكّر في شيء ،ولكنها من الناحية
السينمائية تترافق مع تفكير أكثر جذرية يع ّبر عن صفة خالصة تشترك فيها
أشياء عديدة متباينة (شيء يحملها ،جسم يعاني منها ،فكرة تم ّثلها ،وجه
يمتلك تلك الفكرة .)...إن الوجوه الساهمة للنساء الشابات عند غريفيث
تستطيع أن تع ّبر عن البياض ،بياض ندفة الثلج العالقة فوق هدب العين،
البياض الروحي لبراءة داخلية ،البياض المتالشي من انحطاط أخالقي،
البياض العدائي الجارح للجليد الذي ستهيم فوقه البطلة (كما في فيلم عبر
العاصفة ) .)(Way down eastوفي فيلم نساء عاشقات استطاع كين راسل
) (Ken Rasselأن يستغل السمة المشتركة لوجه مقطب ولعقم داخلي
وبرودة موميائية .باختصار ،ال يكتفي الوجه الساهم بالتفكير في شيء ما.
وكما أن الوجه التكثيفي يع ّبر عن قوة خالصة ،أي أنه يتحدد بسلسلة تنقلنا
مز ّية إلى أخرى ،كذلك الوجه المفكر يع ّبر عن ِ
مز ّية خالصة ،أي عن من ِ
"شيء" مشترك ألشياء عديدة ذات طبيعة مختلفة .بنا ًء على ذلك ،بوسعنا
مكون من قطبين:
رسم جدول ّ
179
ميل حركي حساس عصب ّ
حركات ميكروية مع ّبرة تتحرك
لوحة استقبال ال ّ
مالمح وجهية حواف محدّ دة للوجه
سلسلة مكثفة وحدة عاكسة
رغبة (حب /ضغينة) إنشداه (إعجاب ،ذهول)
قوة ِ
مز ّية
تعبير عن قوة تنتقل من مزية مز ّية مشتركة تعبير عن ِ
إلى أخرى
ألشياء عديدة متباينة
)2
إن فيلم لولو لبابست يظهر كيف يتم االنتقال من قطب آلخر
في لقطة قصيرة نسبي ًا :في البداية يكون وجها جاك ولولو مسترخيين
وباسمين وحالمين ومنشدهين؛ بعد ذلك يلمح جاك السكين من خلف
كتف لولو ويدخل في خضم هلع متزايد ("الخوف يبلغ األوج ...حدقتا
عينيه تتسعان أكثر فأكثر ...يلهث الرجل من الهلع")؛ أخير ًا يسترخي
وجه جاك ،ويرضى جاك بقدره ويفكر اآلن في الموت كصفة مشتركة
يقاوم ("نصل
لقناعه كقاتل ،ولقابلية الضحية ونداء السكين الذي ال َ
السكين يلمع.((() "...
أجل ،إن أحد هذين القطبين يتغ ّلب لدى هذا المخرج أو ذاك،
ولكن ذلك يتم دائم ًا بطريقة مع ّقدة ال نصدّ قها في البداية .لقد كتب
G. W. Pabst, Pandora’s Box, Classic film scripts (London: ((( انظر:
Lorrimer, [s. d.]), pp. 133-135.
180
نص ًا شهير ًا مطلعهّ " :
غلية الماء التي بدأت( "..قال :تتذكرون إيزنشتاين ّ
هنا عبارة لديكنز ،وتتذكرون أيض ًا لقطة مك ّبرة لغريفيث عن ّ
الغلية
التي تنظر إلينا)((( .في هذا النص يح ّلل اختالفه عن غريفيث من ناحية
اللقطة المك ّبرة أو الصورة /االنفعال العاطفي .قال :إن اللقطة المك ّبرة
المشاهدة لدى
َ عند غريفيث هي لقطة ذاتية فقط ،أي أنها تتع ّلق بظروف
المشاهد ،وأنها تبقى منفصلة أو استباقية .في حين أن لقطاته المكبرة ،أي
ُ
لقطات إيزنشتاين ،هي ذائبة وموضوعية وجدلية ،ألنها تنتج مزية جديدة
وتقوم بقفزة نوعية .نستذكر على الفور ثنائية الوجه العاكس والوجه
فضل إيزنشتاين
فضل أحدهما ،بينما ّ التكثيفي ،وصحيح أن غريفيث ّ
اآلخر .ومع ذلك يبقى تحليل إيزنشتاين شديد االختزال ،أو باألحرى
متح ّيز ًا .فعنده نجد أيض ًا وجوه ًا إحاطية قوية التفكير :وجه القيصرة
أناستاسيا عندما شعرت بدنو أجلها؛ وجه ألكسندر نيفسكي الساهم
بامتياز .وعند غريفيث خصوص ًا نجد سالسل تكثيفية :فعلى وجه واحد،
وفي ذهول وهلع عام ،نرى أن الحزن والخوف يصعدان ويشوبان شتّى
التقاطيع (كما في فيلمي قلوب العالم والزنبقة المح ّطمة)؛ ونرى ذلك
على وجوه عديدة عندما تأتي اللقطات المك ّبرة للمقاتلين لتخلق إيقاع
المعركة برمتها (كما في فيلم مولد ّأمة).
Sergei Eisenstein, Film form (New York: Meridian Books, ((( انظر:
[s. d.]), pp. 195 sq.
181
عزيزة على قلبه (عام /خاص ،جماعي /فردي)((( .بهذا المعنى ال تقوم
ِجدّ ة إيزنشتاين على أنه ابتكر الوجه المكثف ،وال على تأليفه السلسلة
التكثيفية باللجوء إلى وجوه عديدة وإلى لقطات مقربة عديدة؛ بل
ألنه استحدث سالسل تكثيفية مدمجة ومستمرة تتجاوز كل بنية ثنائية
بلغت باألحرى واقع ًا جديد ًا
ْ وتتخطى ثنائية الجماعي والفردي .لقد
يمكن أن نسميه "الفردي المقسوم" الذي يو ّفق مباشرة بين التفكير
الجماعي الهائل وبين االنفعاالت الخاصة بكل فرد ،ويع ّبر أخير ًا عن
وحدة القوة والنوعية.
وتسمى أيض ًا غودرون ) (Gudrúnيف األساطري اجلرمان ّية ،وهي أهم شخصية
ّ (*)
نسائية يف فيلم النيبيلونغن :انتقام كرييمهيلد الذي أخرجه فريتز النغ عام 1924
(املرتجم).
183
ويعمل التجريد الغنائي عند ستيرنبرغ ) (Sternbergبطريقة
مغايرة .ليس ستيرنبرغ أقل غوت ّية (نسبة إلى غوته) من التعبيريين،
ولكنه تأثر في جانب آخر بغوته .إنه الجانب اآلخر من نظرية األلوان:
لم تعد هناك عالقة بين النور والظلمة ،بل بينه وبين الشفاف والشفيف
واألبيض .الكتاب المترجم إلى الفرنسية كان يحمل عنوان ذكريات
عارض للظالل ) ، (Souvenirs d’un montreur d’ombresفي حين
أنه في الحقيقة دعابات في محل صيني لتنظيف الثياب (Drôleries
) .dans une blanchisserie chinoiseكل شيء يحدث بين النور
واللون األبيض .وتكمن عبقرية ستيرنبرغ في أنه أنجز العبارة الرائعة
لغوته الذي قال" :بين الشفافية والكمود األبيض ،يوجد عدد ال يحصى
التشوش ( .)...نستطيع أن نطلق كلمة أبيض على اللمعان ّ من درجات
الكامد للشفاف الصافي"((( .ذلك أن األبيض ،بالنسبة لستيرنبرغ هو
الذي يقتطع أوالً حيز ًا مالئم ًا للون الساطع .وفي هذا الحيز ت َّ
ُسجل لقطة
مقربة للوجه تعكس الضوء .ينطلق ستيرنبرغ إذ ًا من الوجه االنعكاسي أو
ّ
الكيفي .في فيلم اإلمبراطورة الحمراء نرى أوالً الوجه األبيض المشدوه
يسجل استدارته في الحيز الضيق المحتجز بين جدار أبيض للفتاة الذي ّ
والباب األبيض الذي أغلقته .ولكن في ما بعد ،بعد أن تلد ابنهاُ ،يحتجز
وجه المرأة الشابة بين أبيض الستارة وأبيض المخدة وشراشف السرير
الذي ترقد فوقه ،وصوالً إلى الصورة المذهلة التي لم يعد الوجه يبدو
فيها إال كتطريز هندسي للستارة .ذلك أن الحيز األبيض نفسه يحاط
منضدة تعطيه حجم ًا ،أو تعطيه عمق ًا رقيق ًا ،كما
ويكرر بستارة أو بشبكة ّ
َّ
184
ُيقال في علم المحيطات (أو في فن الرسم) .إن سترينبرغ له إطالع واسع
وعملي على الكتان والتيل والموسلين والدانتيال :ويستخلص منها كافة
مصادر البياض على البياض الذي في داخله يعكس النور .بالنسبة لفيلم
سيرة أنْهاتان ،الذي ح ّلل كلود أولييه فيه اختزال المكان بواسطة التجريد،
ال عملياتي ًا يدفعنا إلى
وضغط المكان بوسائل مصطنعة ،مما يحدّ د حق ً
إلغاء العالم بأسره لنصل إلى وجه امرأة خالص((( .فبين بياض الستارة
وبياض الخلفية ،يصبح الوجه أشبه بسمكة ،ومن الممكن أن يفقد حوافه
فيتحول إلى وجه ضبابي وإلى "صورة مهتزة" ،من دون أن يفقد شيئ ًا
من قدرته العاكسة .وهنا نصل إلى أجواء أحواض السمك ،كما نشاهد
ذلك عند المخرج األميركي فرانك بورزاج ) ،(Frank Borzageوهو من
أنصار هذا التجريد الغنائي .إن الشبكات والستائر لدى ستيرنبرغ تتمايز
إذ ًا كثير ًا عن الستائر والشبكات لدى التعبيريين ،وتتمايز ضبابياته عن
المضيء -المعتم عندهم.
ليس الصراع بين النور والظلمة هو ما يم ّثل معارضة ستيرنبرغ
للتعبيرية ،بل مغامرة النور مع البياض .لن نستنتج من ذلك أن ستيرنبرغ
تمسك بالكيفية البحتة وبوجهها العاكس ،وأنه رفض القوى والتركّزاتّ
الشديدة .في صفحات جميلة ،ب ّين أولييه أن الحيز األبيض كلما يكون
مغلق ًا وضئيالً ،كلما يكون هش ًا ومفتوح ًا على احتماالت خارجية.
وكما ورد في فيلم " Shangi Gestureكل شيء يمكن أن يحدث في
محماة
أي وقت" .كل شيء ممكن ...سكين يقطع الشبكة ،قطعة حديد ّ
سيمر عبر
ّ تثقب الستارة ،خنجر يخترق الحاجز الورقي .العالم المغلق
185
سالسل مك ّثفة بحسب أشعة الضوء واألشخاص واألشياء التي تخترقه.
إن التأ ّثر مصنوع من هذين العنصرين :الصالحية المؤكدة لح ّيز أبيض،
ولكن أيض ًا االحتمالية الشديدة لما سيحدث فيه.
وتدرجاتها التي
أجل ،ال يمكننا القول إن ستيرنبرغ يجهل الظالل ّ
تفضي إلى الظالل .فهو فقط ينطلق من القطب اآلخر ،أو من االنعكاس
الخالص .فمنذ أن أخرج فيلم أرصفة نيويورك ،صارت األدخنة لدى
ستيرنبرغ كوامد بيضاء ليست الظالل إال نتيجة لها :لقد فكّر بصورة
مبكرة جد ًا في ما يريد .والحق ًا ،حتى في فيلم ماكاو حيث الشبكات
والستائر والصينيون أيض ًا تعبر ويعبرون إلى الظل ،يبقى الح ّيز محدد ًا
وموزع ًا بسبب الطقمين األبيضين اللذين يلبسهما البطالن .ذلك أن ّ
الظلمة ،بالنسبة لستيرنبرغ ،ال توجد بذاتها :إنها تحدّ د المكان الذي ينتهي
والظل ليس مزيج ًا ،بل هو نتيجة فقط ،ال نستطيع فصلها ّ إليه النور فقط.
عن مقدماتها .ما هي تلك المقدمات؟ إنها الح ّيز الش ّفاف ،والشفيف
واألبيض الذي حدّ دناه للتو .يحتفظ ح ّيز كهذا على تمكّنه من عكس
النور ،ولكنه يستطيع أيض ًا أن يعكسه بحرفه األشعة التي تخترقه .فالوجه
الموجود في هذا الحيز يعكس إذن جزء ًا من النور ،ولكنه يحرف جزء ًا
فيتحول من وجه عاكس إلى وجه مك ّثف .وهنا يوجد شيء فريد ّ آخر منه.
في تاريخ اللقطة المقربة .إن اللقطة المقربة الكالسيكية تضمن انعكاس ًا
جزئي ًا ،إذا ما نظر الوجه في اتجاه مختلف عن اتجاه الكاميرا ،وترغم
يشرئب باتجاه الشاشة .لقد عرفنا أيض ًا "نظرات /كاميرا"
َّ المشاهد على أن
جميلة جد ًا ،كما في فيل م مونيكا للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان �(In
) ،gmar Bergmanقدّ مت انعكاس ًا كلي ًا ومنحت اللقطة المقربة خلفية
186
خاصة بها .ولكن يبدو أن ستيرنبرغ هو الوحيد الذي ضاعف االنعكاس
الجزئي النحراف األشعة ،بفضل البيئة الشفيفة التي استطاع بناءها .تكلم
مارسيل بروست عن الستائر البيضاء التي "ال يؤدي تثبيتها إال إلى حرف
كبير للشعاع المركزي والسجين الذي يخترقها" .وفي الوقت الذي
يتعرض الوجه -أي تكشف فيه األشعة الضوئية انحراف ًا في المكانّ ،
الصورة /االنفعال العاطفي -لنقالت في المكان ولزيادات في العمق
الضحل ولتعتيمات تصيب الحواف ،ويدخل في سلسلة تكثيفية حسبما
ينزل الوجه نحو الحافة المعتمة ،أو تنزلق الحافة نحو الوجه المضيء .إن
اللقطات المقربة في فيلم شنغهاي إكسبريس تشكّل سلسلة مدهشة من
التبدّ الت الطارئة على حواف الوجه .وهذا يختلف عن التعبيرية في ما
يتعلق بما سبق تاريخ اللون :فبدالً من نور يخرج من تدرجات الظل عبر
تراكم اللون األحمر وانتشار اللمعان ،نحصل على نور يخلق درجات
ظل أزرق يجعل اللمعان يدخل في هذا الظل (ففي فيلم Shangaï
،Gestureنرى أن الظالل تؤ ّثر في منطقة العينين في الوجه)((( .وربما
حصل ستيرنبرغ على نتائج مشابهة لما حصلت عليه التعبيرية ،كما في
فيلم المالك األزرق؛ ولكن ذلك حصل بشكل موارب ،وبوسائل مختلفة
تمام ًا ،وال س ّيما أن انكسار األشعة أقرب ما يكون من تعبيرية يبقى فيها
الظل دائم ًا كنتيجة .لم يكن هذا األمر محاكاة ساخرة للتعبيرية ،بل كان في
أغلب األحيان تنافس ًا معها ،أي تحقيق ًا للنتائج ذاتها عبر مبادئ متعارضة.
لقد رأينا قطبي التأثر ،وهما القوة والكيفية ،ورأينا كيف ينتقل
الوجه من إحداهما إلى األخرى تبع ًا للحالة التي هو فيها .في هذا الصدد،
ما يشوب تمامية اللقطة المقربة هو الفكرة القائلة بأن هذه اللقطة تقدّ م
ال ومنتزع ًا من مجموع هي جزء منه .ويجد لنا موضوع ًا مجتزأ ومنفص ً
التحليل النفسي واأللسنية فيه أرضية خصبة ،ألن هذا التحليل يرى أنه
يكتشف في الصورة بنية الالوعي (عقدة الخصاء) ،وألن األلسنية تجد
فيه طريقة لتشكيل اللغة (عبر المجاز المرسل ،والجزء من أجل الكل).
المقربة
ّ وعندما يقبل النقاد بفكرة الموضوع الجزئي ،يرون في اللقطة
عالمة التفتت أو القطع ،ظن ًا من بعضهم أنه يجب التوفيق بين هذه الفكرة
وبين استمرارية الفيلم ،ومن بعضهم اآلخر ممن يرون ،أنها على العكس،
تعرب عن انقطاع فيلمي كبير .ولكن اللقطة المقربة ،في الواقع ،والوجه
في هذه اللقطة ،ال عالقة لها البتّة بموضوع جزئي (إال في حالة سنراها
الحق ًا) .فكما ب ّين ذلك باالز ) (Balazsبكل د ّقة ،ال تنتزع اللقطة المقربة
موضوعها من مجموع يشكّل هذا الموضوع جزء ًا منه ،ولكن األمر
المختلف تمام ًا هو أنها تجرده من عوالقه الزمكانية كلها ،أي أنها ترقى
به إلى حالة الجوهر .ليست اللقطة المقربة تضخيم ًا ،وإن انطوت على
تغ ّير في البعد فإنه تغ ّير مطلق .إنها تبدّ ل في الحركة ال ينقطع كي يصبح
تعبير ًا" :إن التعبير عن وجه بمفرده هو كل ّية معقولة بذاتها ،وليس لنا ما
نضيفه إليه من خالل التفكير ،ال في ما يتعلق بالمكان وال بالزمان .فعندما
لتونا وسط حشد من الناس منفص ً
ال عن بيئته يكون الوجه الذي رأيناه ّ
ومعروض ًا بشكل بارز ،فكأننا فجأة نجد أنفسنا في مواجهته .وإن سبق
188
نكف عن التفكير في هذه الردهة عندماّ ورأيناه في ردهة واسعة ،فإننا
نتفحص الوجه الذي نشاهده في لقطة مقربة .ذلك أن التعبير البادي على
الوجه ومعنى هذا التعبير ليس لهما أية عالقة أو صلة بالمكان .أمام وجه
معزول ال ندرك المكان .يلغى إحساسنا بالمكان .فينفتح أمامنا ُبعدٌ لنظام
آخر"((( .هذا ما اقترحه إيبستين عندما قال :هذا الوجه لشخص جبان
مشخص ًا ،نرىّ راح يهرب ،عندما نراه في لقطة مقربة ،نرى فيه الجبن
إن صح أن الصورة السينمائية هي "الشعور /الشيء" ،نرى الماهية(ْ .((1
دائم ًا خارج مكانها ،فألن الصورة /االنفعال العاطفي منتزعة من مكانها
الخاص بها .وعندما كان إيزنشتاين ينتقد السينمائيين اآلخرين من أمثال
غريفيث ودوفجنكو ،فألنه المهم على إخفاقهم أحيان ًا في لقطاتهم
المقربة ،ألنهم ربطوها بالحيثيات الزمكانية الخاصة بمكان مع ّين وببرهة
مع ّينة ،ولم يصلوا إلى ما يسمى بالعنصر "الشجني" ،المعرب عنه في
الوجه أو في التأثر العاطفي(.((1
189
المقربة للوجه:
ّ موضوع على التعبير .أوالً ،هناك عدد كبير من اللقطات
أحيان ًا لمحيط الوجه وأحيان ًا أخرى لقسماته؛ وتارة هي لوجه وحيد،
وطور ًا لوجوه عديدة؛ ومرة بالتتابع ومرة أخرى بالتزامن .وتستطيع
هذه اللقطات أن تتضمن خلفية ،وخصوص ًا عندما يعمق المجال .ولكن
اللقطة المقربة تحافظ في الحاالت جميعها على االستطاعة ذاتها ،أي
على انتزاع الصورة من الحيثيات الزمكانية كي تُبرر التأثير الصرف
كتأثير مع ّبر عنه .وحتى المكان الموجود أيض ًا في العمق يفقد حيثياته،
ويغدو "مكان ًا ال على التعيين" (وهذا يخ ّفف من اعتراض إيزنشتاين).
إن تقسيمة من تقسيمات الوجه هي لقطة مقربة شأنها شأن الوجه بكامله.
وهي فقط قطب آخر للوجه ،وتع ّبر التقسيمة عن تكثيف ٍ
عال بقدر ما يع ّبر
المقربة
ّ الوجه الكامل عن كيفية .فال نستطيع قطع ًا أن نمايز بين اللقطات
المقربة بامتياز أو اللقطات االعتراضية ) (Insertsالتي ال تُظهر
ّ واللقطات
إال جزء ًا من الوجه .وفي العديد من الحاالت ،ال يسعنا أن نم ّيز كثير ًا
المقربة .ولماذا سيكون
ّ بين اللقطات المتقاربة ،وهي أميركية ،واللقطات
جزء من الجسم ،كالذقن والمعدة أو البطن ،أكثر جزئية وأكثر زمكانية
وأكثر تعبير ًا من تقسيمة وجهية مك ّثقة أو من وجه انعكاسي كامل؟ هذا
ما حدث في سلسلة الكوالك(*) البدناء في فيلم الخط العام إليزنشتاين.
ولماذا ال تقوى األشياء عن التعبير؟ تمارس األشياء تأثيرات .السكين
"الحاد" و"القاطع" و"النافذ" لجاك ِ
باقر البطون يمارس تأثير ًا ،شأنه شأن
إن التأ ّثر العاطفي هو الجوهر ،أي أنه القوة أو الكيفية .وهو
ال عن شيء يع ّبر عنه ،مع أنه موضع تعبير :ذلك أنه ال يوجد مستق ً
محول مختلف عنه تمام ًا .ما يع ّبر عنه هو الوجه أو ما يعادل الوجه (شيء ّ
إلى وجه) ،ال بل هو اقتراح ،كما سنراه الحق ًا .نطلق كلمة "أيقونة"
على مجمل ما يع َّبر عنه ويقوله عن التأثر العاطفي والوجه .توجد إذن ًا
ولكل أيقونة هناك باألحرى قطبان: ّ أيقونات لقسمات الوجه ولمحيطه،
وهذه هي عالقة التركيب الثنائي القطب للصورة /االنفعال العاطفي.
والصورة /االنفعال؛ هذه هي القوة والكيفية المعتبرتان لذاتهما بصفتهما
القوى والكيفيات تستطيع أن توجد على نحو مفصحتين .ومن المؤكد أن ِ
َ
وتتضمنّ وتتجسد في أحوال األشياء.
ّ مختلف :عندما تتحول إلى فعل
حالة األشياء مكان ًا وزمان ًا محددين وحيثيات زمكانية وأشياء وأشخاص ًا
وارتباطات حقيقية بين هذه المعطيات كافة .في حالة األشياء المف ِّعلة،
ال أو ولع ًا ،ويصير
تصبح الكيفية "ميزة" شيء من األشياء ،وتغدو القوة فع ً
التأثر إحساس ًا وشعور ًا وانفعاالً ،ال بل دافع ًا عند شخص من األشخاص،
ويصبح الوجه طابع ًا أو قناع ًا للشخص (ومن هذه الزاوية فقط يمكن أن
ثم في مجال الصورة /الفعل. توجد تعابير كاذبة) .ولكننا لن نكون من ّ
أما الصورة /العاطفة من جهتها فهي مجردة من الحيثيات الزمكانية التي
وتجرد وجه الشخص الذي تنتسب إليه في ّ قد تر ّدها إلى حالة األشياء،
حالة األشياء.
191
إن تشارلز ساندرز بيرس ،الذي ب ّينا أهميته القصوى في ما
يتعلق بكل تصنيف للصور والعالمات ،كان يميز بين نوعين من الصور
سماهما" :صور ًا واحدية" و"صور ًا اثنينية"( .((1وتكون صورة اثنينية ّ
ٍ
عندما يوجد اثنان بذاتهما :أي ما هو كما هو مقارنة بشيء ثان ،وكل
ما ينوجد بالتعارض مع آخر من خالل صراع ينتمي إلى هذه االثنينية:
تصرف، جهد /مقاومة ،فعل /ر ّدة فعل ،تحريض /استجابة ،وضعّ /
فرد /بيئة ...أي ما ينتمي إلى فئة الواقعي والراهن والموجود والمفردن
تتحول
ّ ) .(individuéوينتمي الشكل األول لإلثنينية إلى الفئة التي
فيها الكيفيات /القوى إلى "طاقات" ،أي أنها تصبح راهنة في حاالت
األشياء الخاصة ،أمكنة أزمنة محددة ،أوساط جغرافية وتاريخية،
عاملون جماعيون أو أشخاص بمفردهم .وهنا تولد الصورة /الفعل
وتتطور .ولكن مهما كانت هذه المزائج المحسوسة حميمية تنتمي
الواحدية إلى فئة أخرى تحيل إلى نوع آخر من الصور وله عالمات
أخرى .ال يخفي بيرس أن الواحدية صعبة التحديد ألنها محسوسة أكثر
متصورة :إنها تعني الجديد في التجربة ،تعني الطازج والعابر ّ مما هي
مع أنه سرمدي .ويعطي بيرس ،كما سنرى ،أمثل ًة غريبة جد ًا ومفادها
كالتالي :إنها كيفيات وقوى ينظر إليها بذاتها ،بمعزل عن كل مسألة
ال نجدها تتعلق براهنيتها .ما هو كذا هو لذاته وبذاته .فكلمة "أحمر" مث ً
في عبارة "هذا ليس أحمر" وعبارة "هذا أحمر" .إن شئنا أن نقول إن هذا
متضمن في كل وعي حقيقي ،علم ًا َّ هو وعي مباشر وفوري ،مثلما هو
195
شخصان تشابها من قبل ،أو راحا يتشابهان اآلن ،أو على النقيض إن
كان هناك شخص واحد ينشطر إلى شطرين .الموضوع مختلف .اللقطة
كف فيها مبدأ الفردانية
المقربة دفعت الوجه فقط إلى تلك األمكنة التي ّ ّ
عن الهيمنة .ال تختلط الوجوه في ما بينها ألنها تتشابه ولكن ألنها فقدت
فردانيتها وفقدت أيض ًا حسها االجتماعي وتواصلها .وهذا ما تقوم به
اللقطة المقربة .فاللقطة المقربة ال تشطر فرد ًا ،وال تجمع اثنين فيه :إنها
عندئذ يجمع الوجه الوحيد والمغزو جزء ًا من األول ٍ تُعطل الفردانية.
وجزء ًا من اآلخر .وعند هذه النقطة ال يعكس الوجه شيئ ًا وال يشعر
يحس بخوف أصم فقط .إنه يستوعب كائنين ،ويستوعبهما بشيء ،ولكنه ّ
في الفراغ .وفي الفراغ يكون هو ذاته الفوتوغرام الذي يشتعل ،ويكون
الخوف هو تأثره الوحيد :اللقطة المقربة /الوجه هي في ذات الوقت
المح ّيا وانحساره .لقد دفع بيرغمان عدمية الوجه إلى أقصى الحدود،
أي عالقته بالخوف والفراغ والغياب ،خوف الوجه الذي يواجه عدمه.
لقد بلغ بيرغمان ،في جزء كبير من أعماله ،الحد األقصى للصورة/
االنفعال العاطفي ،لقد أحرق األيقونة ،وأشعل الوجه ،كما فعل بيكيت
بكل تأكيد.
المقربة
ّ هل هذا هو الطريق المحتوم الذي قادتنا إليه اللقطة
ككيان؟ األشباح تهدّ دنا ،وال سيما أنها ال تأتي من الماضي .لقد م ّيز كافكا
تيارين تكنولوجيين حديثين :فمن جهة هناك وسائل االتصال /النقل
التي تضمن انخراطنا وفتوحاتنا في المكان والزمان (الباخرة ،السيارة،
القطار ،الطائرة) ...؛ ومن جهة أخرى هناك وسائل االتصال /التعبير
التي تُوقظ األشباح في طريقنا وتحرفنا نحو تأ ّثرات مشوشة وعصية
على الترابط (الرسائل ،الهاتف ،جهاز الراديو ،وجميع األجهزة الصوتية
196
والسينمائية التي يمكن تصورها .)...هذه لم تكن نظرية أتى بها كافكا،
يمتص أحد األشباح القبالت ّ بل تجربة يومية لديه :كلما نكتب رسالة،
ترسل ،بحيث التي تحتويها قبل أن تصل إلى المرسل إليه ،وربما قبل أن َ
لئل تفضي السلسلتان ينبغي أن نكتب رسالة أخرى( .((1ولكن ما العمل ّ
المترابطتان إلى األسوأ ،فتس ّلم األولى إلى حركة عسكرية وبوليسية
متنامية تجعل عدد ًا من األشخاص /الموديالت يؤ ّدون أدوار ًا اجتماعية
متصلة ويملكون طباع ًا متجمدة ،في حين أن الفراغ يصعد في السلسلة
األخرى ،ف ُينزل بالوجوه الباقية على قيد الحياة خوف ًا واحد ًا ال يتغ ّير؟
هذا ينطبق على أعمال بيرغمان ،وحتى على أفالمه السياسية كـ (العار
وبيضة األفعى والخوف) ،ولكنه ينطبق أيض ًا على المدرسة األلمانية التي
مدّ دت وجدّ دت مشروع سينما الخوف هذه .ضمن هذا المنظور ،حاول
فيم فِندرز التوفيق بين هذين التيارين" :أخاف من أن أخاف" .فغالب ًا ما
تتحول فيها حركات االنتقال وتتناوب :القطار، ّ نجد عنده سلسلة فاعلة
السيارة ،المترو ،الطائرة ،الباخرة...؛ وتلتقي من دون انقطاع وتمتزج من
دون تو ّقف سلسلة عاطفية يتم فيها البحث عن األشباح التعبيرية ولقاؤها
وتحريضها بواسطة المطبعة والتصوير الضوئي والسينما .إن الرحلة
تمر في آلة األشباح المتمثلة بالمطبعة كر الزمن ّ التعليمية في فيلم مع ّ
العتيقة وبالسينما المتنقلة .الرحلة في فيلم أليس في المدن تنتظم على
وقع البوالرويد ،بحيث تتالشى صور الفيلم بحسب اإليقاع ذاته ،إلى أن
ٍ
عندئذ تقول البنت الصغيرة" :ألم تعد تلتقط صور ًا؟" كي تأخذ األشباح
ال مختلف ًا.
شك ً
(Kafka Franz, Lettres à Miléna (Paris: Gallimard, [s. d.]), p. 260. ((1
197
تنتج األشباح فوق أجهزة النقل :وكان ذلك جديد ًا جد ًا بالنسبة لتلك
الفترة ،الهاتف داخل القطار ،مراكز البريد فوق الباخرة ،السينما داخل
الطائرة( .((1أليس هذا تاريخ السينما بكامله ،والكاميرا فوق السكة
الحديدية وفوق الدراجة الهوائية ...إلخ؟ هذا ما أراده فِندرز عندما
ح ّقق تداخل السلسلتين في أفالمه األولى .سنحاول قدر المستطاع
إنقاذ الصورة /االنفعال العاطفي والصورة /الفعل ،إنقاذ إحداهما
يتم فيه إنقاذ الصورة /االنفعال
باألخرى ...ولكن أال يوجد سبيل آخر ّ
العاطفي ودفع حدودها الخاصة (على غرار الطريق المرتسم في فيلم
الصديق األميركي لفاندرز)؟ ينبغي على المؤ ّثرات أن تشكّل تركيبات
فريدة وملتبسة ويعاد خلقها باستمرار ،بحيث تنأى الوجوه عن بعضها
كاف كي ال تنصهر وتتالشى .ويجب على الحركة بدورها أن على نحو ٍ
كاف كي تفتح تتخ ّطى ظروف األشياء وأن ترسم خطوط الفرار بشكل ٍ
في المكان بعد ًا ذا طبيعة مختلفة أو يتالءم مع تركيب التأثيرات .هذه
هي الصورة /االنفعال العاطفي .وحدودها هي التأثير البسيط الذي
يخلقه الخوف ،وهي تُالشي الوجوه في العدم .ولكن جوهرها هو التأثير
المركّب من الرغبة والدهشة والذي يعطيها الحياة ،وهو أيض ًا انصراف
الوجوه إلى االنفتاح ،والحيوية(.((1
Kafka Franz, Lettres à ( ((1انظر االقرتاحات احلثيثة التي أوردها كافكا يف:
Félice, I (Paris: Gallimard, [s. d.]), p. 299.
Le ( ((1هناك نص غري منشور مليشال كورتيال ) (Michel Courthialبعنوان
visage؛ حيلل فيه مقولة الكُنه وجوانب الوجه النامجة عنه مجيعها ،أوالً بنا ًء عىل التوراة
(التاليش واالزورار واالنغالق واالنفتاح) ،وبنا ًء أيض ًا عىل الفن واألدب والرسم
والسينام.
198
الف�صل ال�سابع
ال�صورة /االنفعال العاطفي
الكيفيات والقوى والأماكن النكرة
)1
199
يعبر عن خوفه ،ولكنها ليست هي التي تخلق هذا التعبير .ذلك أن التعبير
موجود من دون تسويغ ،وال يصبح تعبير ًا ألننا سنضيف إليه وضع ًا عبر
التفكير"((( .ومن المؤكّد أيض ًا أن الكيفيات /القوى تلعب دور ًا استباقي ًا،
ألنها تهيئ الحدث الذي سيتبلور إلى فعل في حالة األشياء و ُيجري تعدي ً
ال
عليه (طعنة السكين ،السقوط في الهاوية) .ولكنها بحدّ ذاتها ،أو بعد أن
سماه بالنشو
تحولت إلى تعبير ،هي الحدث في جزئه األبدي ،أو في ما ّ ّ
)" (Blanchotنوع الحدث الذي يستحيل إيصاله إلى حدّ الكمال" .
(((
200
ليس للتأ ّثرات فردنة كتلك التي لألشخاص واألشياء ،ولكنها
ال تغوص مع ذلك في الفراغ المبهم .لها مزايا تدخل في ترابطات
محتملة ،وتشكل دائم ًا كيان ًا مركب ًا .إنها أشبه بدرجات االنصهار والغليان
والتكثيف والتخثر ...إلخ .لذا فإن الوجوه التي تع ّبر عن التأثرات
المختلفة أو عن نقاط شتى داخل التأ ّثر الواحد ال تختلط بخوف وحيد
يعمل على إلغائها (ذلك أن الخوف اإللغائي هو حالة قصوى فقط).
التفرد ،وكان روجيه لينهار ت �(Roger Leen ّ اللقطة المقربة تعطل
) hardtعلى صواب عندما أعرب عن كرهه اللقط َة المقربة ألنها تجعل
المعرضة للمساحيق تتشابه
ّ الوجوه جميعها متشابهة :جميع الوجوه غير
تعرضت لها تتشابه مع
مع وجه الممثلة فالكونيتي ) ،(Falconettiوالتي ّ
يتعرف على
وجه غريتا غاربو((( .ولكن يجب التنويه بأن الممثل نفسه ال ّ
المقربة (بحسب شهادة أدلى بها بيرغمان عندما قال:
ّ ذاته داخل اللقطة
فأردفت
ْ "توجهنا نحو طاولة المونتاج فقال ليف :كم هي قبيحة بيبي!
لست أنا بل أنت ."...هذا يعني فقط أن الوجه في اللقطة المقربة
بيبيُ :
ال تؤ ّثر فيه ال ذاتيه الدور ،وال شخصية الممثل ،على األقل مباشرة.
ومع ذلك ال يتساوى الممثلون .فإذا كان ثمة وجه يقدر أن يع ّبر عن
خصوصيات مع ّينة من دون غيرها ،فذلك يعود إلى تمايز أجزائه المادية
وإلى قدرته على تنويع عالقاته ببعضها :فهناك أجزاء صلبة وأجزاء ل ّينة،
وأجزاء معتمة وأخرى مضاءة ،وأجزاء كامدة وأخرى المعة ،وأجزاء
صقيلة وأخرى خشنة ،وأجزاء منكسرة الزوايا وأخرى منحنية ...إلخ.
نالحظ إذن وجوه ًا تناسب هذا النوع من التأثرات دون تلك .اللقطة
((( Roger Leenhardt, cité par Abel Gance, L’art du cinéma de Pierre
Lherminier (Paris: Seghers, [s. d.]), p. 174.
201
المقربة تجعل من الوجه المادة الصرفة للتأثر ،فتكون هيولى له .ونرى
هنا تلك األعراس السينمائية الغريبة التي تمنح الممثلة فيها وجهها
والقدرة المادية ألجزائه ،في حين أن المخرج يبتكر التأثير والشكل
القابل للتعبير اللذين يستعيرانهما ويصوغانهما.
إذ ًا يوجد تركيب داخلي للقطة المقربة ،أي يوجد ضبط عاطفي
للكادرات وتقطيع فني ومونتاج عاطفيان .ما يمكن أن نسميه تركيب ًا
خارجي ًا يتم ّثل في عالقة اللقطة المقربة بلقطات أخرى لها نماذج أخرى
من الصور .ولكن التركيب الداخلي يتم ّثل في ارتباط اللقطة المقربة،
مقربة ،وإما بذات هذه اللقطة وعناصرها وأبعادها.إما بلقطات أخرى ّ
أضف إلى ذلك أنه ال يوجد فرق كبير بين الحالتين :إذ يمكن أن يوجد
المقربة على نحو متراص أو متقطع؛ ولكن تستطيعّ تعاقب في اللقطات
اللقطة المقربة أن تُبرز أيض ًا بالتتابع هذه المالمح أو هذه األجزاء من
الوجه ،وتجعلنا نشهد تغ ّير ًا داخل العالقات .وتستطيع لقطة مقربة
واحدة أن تبرز في ذات الوقت مجموعة من الوجوه ،أو أجزاء متعددة
من الوجوه (ليس في تصوير قبلة فقط) .وتستطيع أخير ًا أن تشمل زمكان ًا
عميق ًا أو سطحي ًا ،كما لو أنها انتزعته من حيثياته التي تجردت منها:
وتنقل معها قطعة من السماء ،أو من منظر طبيعي ،أو من شقة سكنية،
أو من رؤية مجتزأة تزيد الوجه قوة وشخصية .وهي أشبه بدارة تجمع
القريب والبعيد .ثمة لقطة مقربة إليزنشتاين تظهر المظهر الجانبي
إليفان ،بينما يظهر جمهور المتوسلين المص َّغر قرب قدميه متعارض ًا مع
الخط المتعرج للزوايا الحادة ألنفه وللحيته وجمجمته .وثمة لقطة مقربة
للمخرج البرتغالي مانويل دو أوليفيرا ) (Manuel de Oliveiraتتم ّثل
202
ّ
ويدل على في وجهين بشريين ،ويظهر في العمق حصان يصعد درج ًا
التأثرات الناجمة عن خطف لعاشقين تصحبهما كوكبة موسيقية .لقد
رأينا فع ً
ال أن ال مجال للتمييز بين اللقطة المقربة الكبرى واللقطة المقربة
العادية واللقطة المقربة المتوسطة أو حتى اللقطة األميركية ،حينما تتحدد
اللقطة المقربة ،ال بأبعادها النسبية ،بل ببعدها المطلق ووظيفتها التي هي
تعبير عن التأثر كعنصر كياني .ما نسميه تركيب ًا داخلي ًا للقطة المقربة يتناول
إذن العناصر التالية :الكيان المعقد المع َّبر عنه مع خصوصياته ،الوجه أو
الوجوه التي تع ّبر عنه ،مع هذه األجزاء المادية المتمايزة أو تلك ومع هذه
العالقات المتغيرة بين األجزاء أو تلك (الوجه يتص ّلب أو ّ
يرق) ،ح ّيز
الربط االفتراضي بين الخصوصيات ،مما يميل إلى التطابق مع الوجه
أو يتجاوزه ،اإلشاحة بالوجه أو بالوجوه ،مما يفتح هذا الح ّيز ويصفه...
203
اإللغاء يتجاوز عتبة التناقص و ُيغرق التأثر في الفراغ و ُيفقد الوجه تعابيره.
في فيلم لولو لبابست ،يشيح وجه جاك عن وجه المرأة فيعدّ ل في مدى
التأثر ويجعله يتنامى في اتجاه آخر ،وصوالً إلى التناقص المفاجئ الذي
يغرق في العدم .إن سينما بيرغمان قد تجد مآلها في محو الوجوه :ت ََركها
تعيش ريثما تنهي ثورتها الغريبة المشينة والحاقدة .إن العجوز الجاحظة
العينين هي أشبه بالشمس التي -ولو مشيحة بنظرها -تدور حولها بطلة
تشرئب بوجههاّ فيلم وجه ًا لوجه .والخادمة في فيلم صرخات وهمسات
العريض ،الرخو والصامت ،ولكن األختين ال تبقيان على قيد الحياة
إال بالدوران حوله وبإشاحة وجهيهما عن بعضهما؛ وهذه اإلشاحة
المتبادلة هي التي تؤ ّمن بقاء األختين على قيد الحياة في فيلم صمت،
وتؤ ّمن الحياة المضطربة لشخصيتي فيلم بيرسونا األساسيتين((( .ويصل
بيرغمان بالوجوه المشيحة إلى لحظة ظفرها فتستعيد قوتها الكاملة
ثم في حيثيات ممكنةمتجاوز ًة العدم ودائر ًة حول المومياء وتدخل من ّ
تخلق تأثر ًا قوي ًا ،قوة سالح يخترق المكان ويشعل وضع األشياء الجائر
بدل أن يحرق هذه األشياء ذاتها ،فيعيد الحياة إلى الحياة األولى ،في ظل
وجه إنسان خنثى أو وجه طفل (كما في فيلم فاني وألكسندر).
Claude ((( حول هذا اجلانب من اللقطة املقربة عند برغامن ،انظرRoulet, :
«Une épure tragique,» Cinématographe, no 4 (Février, 1977).
204
يكف عن التغ ّير وعن تبديل طبيعته ،بحسب التجميعات التي يجريها
يتعرض لها .وهذا هو الجوهر التعبيري ،أي الذي ال
واالنقسامات التي ّ
يتنامى وال يتناقص من دون أن يغ ّير في طبيعته .إن ما يصنع وحدة التأثر
في كل لحظة هو الربط المحتمل الذي يقوم به التعبير والوجه والتقاسيم.
والش ْفرة القاطعة والحنان هي صفات وطاقات متباينة فاللمعان والهلع َ
تتجمع تارة وتتفرق طور ًا .فاألولى هي طاقة وصفة لشعور ،واألخرى
لعاطفة ،والثالثة لفعل ،والرابعة أخير ًا لحالة .نقول" :صفة لشعور"...
إلخ .ألن الشعور والعاطفة سيكونان بالضبط ما ستتبلور به الكيفية/
القوة .ولكن الكيفية /القوة ال تختلط مع وضع األشياء الذي تبلوره
على هذا النحو :فاللمعان ال يختلط مع شعور مع ّين ،وال تختلط الشفرة
القاطعة بفعل محدّ د ،ولكنهما إمكانيتان واحتماالن صرفان يحققهما في
اإلحساس الذي يعطينا إياه السكين تحت الضوء ،أو ما
ُ ظروف معينة
يفعله السكين في قبضة يدنا .كما قال بيرس ،إن لون ًا كاللون األحمر،
وقو ًة كقوة شفرة السكين ،وصفة كصفة القاسي وإن قيمة كقيمة اللمعانّ ،
والل ّين ،هي كلها إمكانيات إيجابية ال تحيل إال إلى نفسها((( .وبقدر ما
في فيلم آالم جان دارك للمخرج دريير ،وهو فيلم عاطفي بامتياز،
هناك وقائع تاريخية تبقى ،وأدوار اجتماعية وسمات فردية وجماعية،
وترابطات حقيقية بين الفتاة جان واألسقف والرجل اإلنجليزي والقضاة
والمملكة والشعب وبين المحاكمة ،لالختصار .ولكن هناك شيء
آخر ،وال يمت بصلة إلى ما هو خالد أو متجاوز للتاريخ ،إنه الشيء
"الجواني" ،كما قال شارل بيغي ) .(Charles Péguyهو أشبه بحاضرين
يتقاطعان باستمرار ،فما أن يبدأ أحدهما بالتح ّقق ،حتى يكون اآلخر قد
نيمم
تم فعالً .لقد قال بيغي :إننا نستعرض الحدث التاريخي ،ولكننا ّ ّ
شطرنا نحو الحدث اآلخر :لقد تبلور الحدث األول منذ زمن طويل،
ولكن الحدث الثاني ما زال يع ّبر عن نفسه ،ال بل يبحث عن تعبير له .إنه
الحدث نفسه ،ولكن جانب ًا منه قد اكتمل تمام ًا في ظرف ما ،أما اآلخر
سر الحاضر هذا عند بيغي أو بالنشو ،ولكن
فهو عصي على كل اكتمالّ .
أيض ًا عند دريير وبريسون ،هو الفرق بين محاكمة جان دارك وآالمها ،مع
أنهما متالزمان .وتتحدد األسباب الفاعلة ضمن الظروف؛ ولكن الحدث
نفسه ،واالنفعال العاطفي ،والتأثير ،تتجاوز أسبابها الخاصة وال تحيل
206
إال إلى تأثيرات أخرى ،في حين أن األسباب ترتبط بها .ترتبط بغضب
األسقف وباستشهاد جان دارك؛ ولكن ال يبقى من األدوار والمواقف
إال ما يلزم كي يتج ّلى التأثر وتظهر حيثياته" :قوة" الغضب والخديعة،
"وضع" الضحية واالستشهاد .إن استخالص اآلالم من المحاكمة ،هو
أن نستخلص من الحدث هذا الجانب الغزير والصاعق الذي يتجاوز
تحيينه ،أي أننا نستخلص "االكتمال الذي لم يكتمل قط" .ويكمن التأ ّثر
في التعبير عن الظرف ،ولكن هذا التعبير ال يحيل إلى الظرف بذاته،
بل إلى الوجوه التي تع ّبر عنه ،وبتآلفها أو انفصالها تعطيها مادة خاصة
محركة .ألن الفيلم مؤ ّلف من لقطات مقربة قصيرة ،فإنه أخذ على عاتقه
ِّ
هذا الجانب من الحدث وال يقبل بتحيينه في بيئة محددة.
207
طريقة الحقل /الحقل المعاكس التي ستحتفظ لكل وجه بعالقة واقعية
مع الوجه اآلخر ،والتي ستسهم في الصورة /الفعل؛ ويفضل عزل كل
وجه في لقطة مقربة ،فال يظهر فيها إال جزء منه ،بحيث يؤدي وضعه من
ناحية اليمين أو من ناحية اليسار إلى وصل محتمل لم يعد يحتاج إلى
الربط بين األشخاص.
سماه درير
إن التقطيع الفني العاطفي بدوره يعمل من خالل ما ّ
نفسه "لقطات مقربة سائلة" .ال شك أن ذلك هو حركة متواصلة تنتقل
فيها الكاميرا من اللقطة المقربة إلى اللقطة الوسطى أو لقطة عامة،
ولكنه طريقة لمعالجة اللقطتين المتوسطة والعامة ،كما تعالج اللقطات
المقربة ،وذلك بسبب غياب العمق أو إلغاء المنظور .لم يعد ذلك هو ّ
المقربة :ذلك
ّ اللقطة القريبة وإنما أية لقطة تستطيع أن تكون بمثابة اللقطة
أن التمايزات الموروثة من المكان تنحو إلى التالشي .عندما ألغى دريير
المنظور "الجوي" ،فإنه قد غ ّلب منظور ًا زمني ًا بامتياز ،أو حتى روحي ًا:
فبتحطيمه البعد الثالث جعل المكان ذا البعدين في عالقة مباشرة بالتأ ّثر،
مع ُبعد رابع وخامس هما الزمان والروح .من المؤكد أن اللقطة المقربة
تستطيع مبدئي ًا أن تمتلك أو أن تُلحق بها خلفيات بحسب عمق المجال.
يتجذر عنده ّ
يدل ّ ولكن األمر ليس كذلك بالنسبة لدريير ،فالعمق عندما
باألحرى إلى اختفاء شخصية من الشخصيات .على العكس من ذلك،
نفي العمق والمنظور ،والتسطيح المثالي للصورة ،يتيح استيعابيتيح ُ
اللقطة المتوسطة أو العامة لل ّقطة المقربة ،ويمكّن من تطابق المكان
أو العمق األبيض مع اللقطة المقربة ،ال في فيلم مثل جان دارك فقط
حيث تسيطر اللقطات المقربة ،ولكن أيض ًا وخصوص ًا في األفالم التي
208
لم تعد هذه اللقطات تسيطر عليها ،ولم تعد بحاجة إلى السيطرة ،وألنها
"سالت" ،فإنها راحت تتغلغل مسبق ًا في اللقطات األخرى جميعها.
ويغدو كل شيء جاهز ًا للمونتاج العاطفي ،أي جاهز ًا للعالقات بين
اللقطات القاصية والسائلة ،وتجعل من جميع اللقطات حاالت خاصة
وتسجلها وتوحدها في لقطة قطع وحيدة كاملة الحقوق ٍ
للقطات مقربة،
ّ
(وهذا ما نحا إليه فيلم ا أورديت لغوستاف موالندر �(Gustav Molan
)( derالسويد) وجيرترود لدريير)(((.
)2
((( حول هذه النقاط مجيعها :حتديد حجم اللقطة والتقطيع الفني واملونتاج
Philippe Parrain, Dreyer, cadres et mouvements, عند دريري ،انظرétudes :
cinématographiques ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]).
وأيض ًاRéflexions sur mon métier,” Cahiers du Cinéma, no 65 (1956),“ :
ويف هذا املقال يطالب دريري «بإلغاء» مقوالت اللقطة األوىل واللقطة الثانية واخللفية.
209
لنعد إلى فيلم محاكمة جان دارك (Le procès de Jeanne
) d’Arcلروبرت بريسون .لقد حدّ د جان سيمولويه )(Jean Sémolué
وميشال إستيف ) (Michel Estèveالتباينات والتشابهات مع فيلم
آالم جان دارك لدريير .يتع ّلق التشابه الكبير في الفيلمين بالتأثر على
اعتبار أنه كيان روحي مركّب :المكان األبيض للترابطات والوصالت
سر هذا
واالنقسامات ،جانب الحدث الذي ال يقتصر على الظرفّ ،
الحاضر المتجدّ د .ومع ذلك ،نجد أن الفيلم مصنوع من لقطات وسطى
ومن مجاالت ومجاالت معاكسة؛ وجان دارك تظهر رهينة لمحاكمتها
أكثر مما هي رهينة آلالمها ،فهي سجينة تقاوم أكثر منها ضحية وشهيدة(((.
المفصح عنها ال تختلط بالمحاكمة التاريخية،
َ صح أن هذه المحاكمةإذا ّ
إال أنها آالم ،عند بريسون ودريير كليهما ،وتتقاطع ربما مع محاكمة
المسيح .ولكن اآلالم عند دريير هي آالم "غبطوية" تنتقل عبر الوجه
واالستفاضة واإلشاحة وتجابه الحدود .أما عند بريسون فهي بحد ذاتها
"محاكمة" أي أنها محطة وخطوة ومسير (ففيلم يوميات كاهن ريفي
) (Le journal d’un curé de campagneيركز على هذا الجانب من
وقفات أو محطات درب الصليب) .إنها بناء للمكان قطعة قطعة ،بناء
ذو قيمة لمسية ،وفيه تأخذ اليد الوظيفة اآلمرة التي نراها في فيلم ّ
النشال
فتحل محل الوجه .إن قانون هذا المكان هو ّ )]1959[ (Pickpocket
"التش ّظي"((( .فالطاوالت واألبواب ليست معطيات كاملة .وغرفة جان
((( انظر مقاالت جان سيمولويه وميشال إستيف يفMichel Estève, Jeanne :
d’Arc à l’écran (Paris: Minard, 1962).
)Bresson, Notes sur le cinématographe (Paris: Gallimard, [s. d.]), (8
= pp. 95-96,
210
دارك وقاعة المحكمة وزنزانة المحكوم عليه باإلعدام ليست معطيات
في لقطات رئيسية ،ولكنها مقدّ مة بشكل تعاقبي بحسب وصالت تجعل
من تلك اللقطات واقع ًا مغلق ًا في كل مرة ،ولكن إلى ما ال نهاية .من هنا
ينبع الدور الخاص إلزاحة الكادرات .فال يبدو العالم الخارجي نفسه إذن
مختلف ًا عن زنزانة هي أشبه بغابة من أحواض السمك كما في فيلم النسيلو
البحيرة ) .(Lancelot du Lacوهذا يبدو وكأن الروح تصطدم بكل جزء،
كما تصطدم بزاوية مغلقة ،ولكنها تحظى بحر ّية اليد في التوصيل بين
األجزاء .في الواقع نرى أن وصل األجزاء المتجاورة يمكن أن يتم بطرق
عديدة ،وهو مرهون بشروط جديدة في السرعة والحركة ،وبقيم إيقاعية،
فتتعارض مع كل تحديد مسبق .ثمة "تبعية جديدة ...ميدان سباق الخيل
في لونغشامب ) (Longchampومحطة ليون للقطارات ،في فيلم ّ
النشال،
هما مكانان واسعان للتشظي يتغيران بحسب الوصالت اإليقاعية التي
يتمان فوق طاولة موات تتناسب مع مشاعر النشال .فالهالك أو النجاة ّ
تنتظر أجزاؤها المتتابعة من حركاتنا ،أو تنتظر من العقل أن يعيد اللحمة
إليها .لقد خرج المكان ذاته من حيثياته الخاصة كما خرج من وحدات
القياس المترية .إنه مكان ملموس ،وبه يستطيع بريسون أن يصل إلى
نتيجة لم تكن إال نتيج ًة غير مباشرة عند دريير .فلم يعد التأثر الروحي
يع َّبر عنه من خالل الوجه ،ولم يعد المكان بحاجة إلى أن يكون خاضع ًا
للقطة مقربة ومستوعب ًا فيها ،وال أن يعا َمل كلقطة مقربةّ .
يتم التأثر اآلن
وبشكل مباشر في لقطة متوسطة ،وفي مكان قادر على أن يتناسب معه.
«حول التش ّظي أقول :إنه رضوري وإال وقعنا يف مسألة العرض؛ أي أن نشاهد =
الكائنات واألشياء يف أجزائها القابلة للقسمة؛ أي أن نعزل هذه األجزاء ،وأن نجعلها
مستقلة كي نعطيها تبع ّية جديدة».
211
والمعالجة الشهيرة التي قام بها بريسون لألصوات الرتيبة ال تبرز فقط
تعاظم ًا في الخطاب الالمباشر الحر في العبارة كلها ،بل تمكين ًا لكل ما
يحدث ويع َّبر عنه ،وتناغم ًا بين المكان والتأثر المع َّبر عنه كاحتمال بحت.
لم يعد المكان ذلك المكان المحدد أو ذاك ،لقد أصبح مكان ًا ال
على التعيين( ،غير محدد) طبق ًا لعبارة باسكال أوجيه ).(Pascal Augé
صحيح أن بريسون لم يبتدع األمكنة غير المحددة ،مع أنه بنى بعضها
فضل البحث عن أصلها في السينما التجريبية.ألهدافه ،وبطريقته؛ وربما ّ
ولكننا نستطيع القول إن هذه األمكنة قديمة قدم السينما .المكان العادي
ليس من الكليات المجردة المرتبطة بكل زمان وكل مكان .إنه مكان فريد
بامتياز ،ولكنه مكان فقد تجانسه فقط ،أي مبدأ عالقاته المترية ،أو فقد
ترابط أجزائه ،بحيث تتمكن الوصالت من أن تتحقق بطرق ال تحصى.
درك كمكان صرف للممكن .ما ُيظهره تخلخل إنه مكان ربط افتراضي ُي َ
مثل هذا المكان وتنافره وغياب روابطه ،هو ثراء االحتماالت والفرادات
ّ
ولكل تحديد .لذا عندما نحدّ د التي تم ّثل الشروط األولية ّ
لكل تمكين
الصورة /الفعل بالكيفية أو القوة بصفتهما ممكَّنتين في مكان مع ّين
(وضع األشياء) ،ال يكفي أن نعارضها بالصورة /االنفعال العاطفي التي
تربط الكيفيات والقوى إلى حالة الفعل المسبوقة التي تج ّلت في وجه
من الوجوه .نقول اآلن بأن هناك نوعين من عالمات الصورة /االنفعال
العاطفي أو بأن هناك صورتين للواحدية :هناك من جهة ،الكيفية /القوة
التي يع ّبر عنها وج ٌه أو ما يعادله ،ولكن هناك ،من جهة أخرى ،الكيفية/
القوة المعروضة داخل مكان غير محدد .وربما كانت الثانية أكثر دقة من
األولى ،وأكثر قدرة على إظهار نشأة التأثر وتطوره وانتشاره .والسبب
212
في ذلك هو أن الوجه يبقى وحدة عظمى ،كما قال ديكارت ،وتع ّبر
حركاته عن االنفعاالت المركبة والممزوجة .وال نفسر األثر الشهير
الذي أبرزه كوليشوف ) (Koulechovبالربط بين الوجه وشيء متغ ّير،
بل نفسره بتعبيراته المبهمة التي تتناغم دائم ًا مع شتى التأ ّثرات .على
العكس من ذلك ،حالما نترك الوجه واللقطة المقربة ،وحالما ننظر في
المقربة واللقطة
ّ اللقطات المركبة التي تتجاوز التمايز البسيط بين اللقطة
المتوسطة واللقطة اإلجمالية ،يبدو لنا أننا دخلنا في "منظومة من
والتفرد وصعبة التحديد ،وصالحة إلحداثّ االنفعاالت" شديدة الدقة
عندئذ على الصورة /النفعال ٍ تأثرات أقل إنسانية((( .فينطبق األمر
ٍ
عندئذ على عالمتين ،تكون العاطفي وعلى الصورة /اإلدراك :فنحصل
إحداهما عالمة تركيب ثنائي القطب فقط ،وتكون الثانية عالمة تكوينية
أو تفاضلية .وسيكون المكان غير المحدّ د العنصر التكويني للصورة/
االنفعال العاطفي.
213
العاطفي كالتالي :األيقونة ،للداللة على الوجه الذي يع ّبر عن كيفية/
قوة ،العالمة الكيفية ) (Potisigne, Qualisigneللتعبير عن مكان غير
محدّ د .إن بعض أفال م المخرج الهولندي جوريس إيفنس �(Joris Iv
) ensتعطينا فكرة عن العالمة الكيفية" :ليس فيلم المطر مطر ًا محدد ًا
موحدةال في مكان ما .ليست هذه االنطباعات البصرية َّ وملموس ًا وهاط ً
بتصورات مكانية أو زمانية .ما ترصده العين هنا بحساسيتها الشديدة،
ليس المطر فعالً ،بل الطريقة التي يشاهد فيها عندما تنزل حباته من ورقة
إلى ورقة ،بصمت متواصل ،وعندما تقشعر مرآة البحيرة ،وعندما تبحث
القطرة الوحيدة الحائرة عن طريقها على صفحة الزجاج ،وعندما تنعكس
حياة مدينة كبرى على األسفلت المبلول ...وحتى عندما يتعلق األمر
بموضوع وحيد ،كما في فيلم الجسر الفوالذي في روتردام ،يتحول هذا
البناء المعدني إلى صور غير مادية مؤطرة بألف طريقة وطريقة .وألن هذا
الجسر يمكن أن يشاهد بطرق مختلفة فإنه يصبح جسر ًا غير واقعي نوع ًا
ما .فال يبدو لنا كأنه من صنع مهندسين رموا إلى غاية معينة ،بل كسلسلة
عجيبة من اآلثار البصرية .هذه تنويعات بصرية يصعب على قطار بضائع
يمر فوقها .((1( "...المسألة ليست مفهوم الجسر ،وليست أيض ًا الحالة
أن ّ
الفردانية لألشياء كما يحددها شكلها ومادتها المعدنية واستخداماتها
ووظائفها .إنها إمكانية .المونتاج السريع لسبع مئة لقطة يجعل شتى
المشاهد قادرة على تطبيق مجموعة ال تحصى من الطرق؛ وألنها ليست َ
التفردات التي
موجهة بعضها نحو بعضها اآلخر ،فإنها تشكل مجمل ّ َّ
(Balzac, Le cinéma (Paris: Payot, [s. d.]), p. 167, et Béla Balazs, ((1
L’esprit du cinéma, traduit de l’allemand par J. M. Chavy (Paris: Payot,
1977), p. 205.
214
تتحايث في المكان الالمحدَّ د الذي يظهر فيه هذا الجسر ككيفية بحتة،
وهذا المعدن كقوة بحتة ،وتظهر فيه مدينة روتردام كتأ ّثر .وال يتماهى
المطر مع مفهوم المطر ،وال مع حالة الزمان والمكان الماطرين .ثمة
مجموعة من التفردات قدّ مت المطر بذاته ،أي كقوة بحتة أو ككيفية
وتكون المكانّ تقترن -من دون تجريد -بجميع األمطار الممكنة،
الالمحدّ د المالئم .هذا هو المطر كتأثر ،وال يوجد شيء يتعارض كثير ًا
مع فكرة مجردة وعامة ،من دون أن تتبلور في حالة فردية لألشياء.
)3
215
مضيئة أو أن ظلها فقد كل سماكة ،من خالل النور المعاكس والقاع
األبيض؛ ولكن من خالل "عكس قيم اإلضاءة واإلظالم" وعكس
ٍ
عندئذ يمارس العمق كل وظيفته المنظور الذي يدفع بالعمق قدم ًا(.((1
االستباقية ويقدّ م أنقى حاالت التأ ّثر التهديدي ،على ِغرار ّ
الظل في فيلم
طرطوف ) (Tartuffeونوسفيراتو ،أو ظل الكاهن على العاشقين النائمين
في فيلم التحريم ) .(Tabouيستطيل الظل إلى ما ال نهاية ،ويحدّ د هكذا
الترابطات الممكنة التي ال تتطابق مع حالة األشياء أو وضع الشخصيات
التي تنتج هذا الظل :في فيلم عارض الظالل [ ]1922للمخرج األلماني
آرثر روبنسون ) ،(Arthur Robinsonثمة يدان ال تتشابكان إال عبر امتداد
وثمة امرأة ال تدا َعب إال بظالل أيدي المعجبين بها التي تتس ّلل
ظاللهماّ ،
إلى ظل جسدها .ويطور هذا الفيلم بحر ّية االتصاالت المحتملة ،مب ّين ًا
تختف أخير ًا لدىِ ما سيحدث لو أن األدوار والمزايا وحالة األشياء لم
ال عن الظروف المحيطة تفعيل التأثر /الغيرة :ذلك أنه جعل التأثر مستق ً
باألشياء .في المكان القوطي المجدَّ د ألفالم الرعب ،يدفع تيرانس فيشر
) (Terence Fischerبعيد ًا جد ًا هذه االستقاللية للصورة /االنفعال
المسمر على األرض ،وال هلك دراكوال )(Dracula العاطفي عندما ي ِ
َّ ُ
ظل صليب يتم ذلك إال بتضافر محتمل لمراوح طاحونة تشتعل وتعكس َّ
على موقع التعذيب بالضبط (راجع فيلم عشيقات دراكوال [.)]1962
( ((1لقد ح ّلل بوفييه ولوترا هذه الطرق املتباينة لدى مورناو:
M. Bouvier et J. L. Leutrat, Nosferatu, Cahiers du Cinéma (Paris:
Gallimard, 1981), pp. 56-58, pp. 135-137, pp. 149-151.
دور الظالل يف التعبريية ،انظرLotte H. Eisner, L’écran démoniaque, : وحول
Encyclopédie du Cinéma (Paris: A. Bonne, [s. d.]), ch. VIII,
(وح ّلل لوت إيسنر بخاصة فيلم عارض الظالل ).)(Le montreur d’ombres
216
التجريد الغنائي هو أسلوب آخر .ورأينا أنه يتحدد بالعالقة القائمة
بين النور واللون األبيض ،مع احتفاظ الظل بدور هام فيها ،وعلى الرغم
من أن دول الظل في التعبيرية األلمانية ُمغاير جد ًا .ذلك أن التعبيرية
تطور مبدأ التعارض والنزاع والصراع :صراع الروح مع الظلمات .بينما
يرى أنصار التجريد الغنائي ،أن ما تفعله الروح ليس صراع ًا وإنما بدلية،
ومراوحة نحو الالنهاية أو انقالب ًا يتم في آخر لحظة .وال يمدّ د من ثم ظرف ًا
من الظروف إلى ما ال نهاية ،بل يعبر باألحرى عن بديل للظرف نفسه
وعن إمكانية تجاوزه .لقد قطع جاك تورنور ) (Jacques Tourneurمع
التراث القوطي المتّبع في فيلم الرعب؛ فأمكنته الشاحبة اللون والمضيئة
ولياليه ذات الخلفية الفاتحة ،جعلت منه ممث ً
ال للتجريد الغنائي .في فيلم
السنور ) ،(Cat Peopleال يشاهد الهجوم الذي يحدث حول حوض
سباحة إال من خالل الظالل المرتسمة على الجدار األبيض :هل المرأة
هي التي أصبحت فهد ًا (ربط احتمالي) أو أن الفهد هو الذي أفلت (ربط
فعلي)؟ ومن فيلم ) ،(Vaudouهل كان المشهد يم ّثل امرأة ميتة /حية في
ُدهش ّ
المبشر(((1؟ لن ن َ خدمة الكاهنة أم يم ّثل فتاة مسكينة تخدم الراهب
إذا ما اضطررنا إلى ذكر ممثلين متباينين لهذا "التجريد الغنائي" :فهم ال
تنوع الممثلين لم يحليختلفون كثير ًا عن التعبيريين األلمان ،ذلك أن ّ
دون متانة مفهوم من المفاهيم .ما يبدو لنا جوهري ًا في التجريد الغنائي،
( ((1نحيل يف هذا الصدد إىل جاك تورنور يف قاموسJean-Marie Sabatier, :
Les classiques du cinéma fantastique (Paris: Balland, 1973),
وهذه النزعة «البديلة» يف سينام الرعب ،وهي نزعة تتعارض مع النزعة
القوطية ،ليست مستقلة لدى املنتج لوتون ) ،(Lewtonوال لدى رشكة )(R. K. O.
)( (Radio-Keith-Orpheumانظر املرجع املذكور).
217
هو أن الروح ال تنخرط في صراع ،لكنها تجابه خيار ًا بديالً .وهذا الخيار
البديل يمكن أن يظهر في شكل جمالي أو عاطفي (كما عند ستيرنبرغ)
أو أخالقي (كما عند دريفر) أو ديني (كما عند بريسون) أو حتى أن
يخلط بين هذه األشكال المختلفة .فلدى ستيرنبرغ مثالً ،الخيار الذي
يجب على البطلة أن تتخذه بين أن تكون خنثى بيضاء أو المعة وباردة،
وبين أن تكون امرأة عاشقة أو متزوجة قد ال يظهر بصراحة إال في بعض
المناسبات (كما في أفالم moroccoوفينوس الشقراء وقطار شنغهاي
السريع) ،وهو موجود أيض ًا في أفالمه كافة :ففيلم اإلمبراطورة الحمراء
يشتمل على لقطة مقربة وحيدة مشطورة بالظل ،وهي بالتحديد اللقطة
التي يتخ ّلى فيها األمير عن الحب ويختار تسنّم السلطة البارد .أما بطلة
فيلم فينوس الشقراء فتتخ ّلى ،على العكس ،عن فستان السهرة األبيض
وتختار الحب الزوجي واألمومي ،ولكي تكون خيارات ستيرنبرغ
تقل عن خيارات الروح لدى دريير أو بريسون شهوانية بعمق ،فإنها ال ّ
المتعالية على الشهوانية ظاهري ًا( .((1وعلى أي حال ال يتع ّلق األمر إال
بعاطفة أو بتأثر ،مما ينطبق على قول كيركيغارد ) (Kierkegaardالذي
رأى أن اإليمان هو مسألة حب وتأ ّثر ،وليس شيئ ًا آخر.
( ((1يف مقال نرشه لويس مال ) (Louis Malleيف جملة 30( Artsكانون األول/
ديسمرب ،)1959شدّ د عىل العنارص الشهوانية يف أفالم بريسون ،وال سيام يف فيلم النشال
ال روحاني ًا ،وخاصة) .(Pick-pocketوعىل العكس نستطيع أن نقدّ م عن سترينربغ تأوي ً
يف فيلمه قطار شنغهاي الرسيع )( .(Shangaï Expressانظر مشهد الصالة الباذخ).
218
األبيض واألسود نجد أن األبيض هو الذي يأسر النور ،وأن األسود
يبدأ عندما ينتهي النور ،كما نجد البين بين أحيان ًا والرمادي العصي
على التمايز والذي يشكل الحد الثالث .وتتم التعاقبات من صورة إلى
أخرى ،أو تجري في الصورة نفسها .وعند بريسون هي تعاقبات إيقاعية
بين الليل والنهار ،كما في فيلم يوميات كاهن في الريف (Le Journal
( d’un curé de Campagneأو حتى في فيلم النسيلو البحيرة �(Lance
) .lot du Lacوعند دريير ،تصل التعاقبات إلى تركيب هندسي ،كأنها
"بناء نغمي" أو تبليط للمكان (كما في فيلمي يوم الغضب وأورديت).
ومن جهة أخرى يبدو أن خيار الروح البديل يتالءم تمام ًا مع تعاقب
الحدود :الخير والشر ،والاليقين أو الالمباالة ،ولكن ذلك يتم بطريقة
ال ُيشك في وجوب اختيار اللون األبيض .لدى دريير غامضة جد ًا .وفع ً
وبريسون يكتسب األبيض الخليوي والسريري طابع ًا مخيف ًا ووحشي ًا
وال يقل عن البياض الجليدي لدى ستيرنبرغ .فاألبيض الذي اختارته
اإلمبراطورة الحمراء يقتضي تخلي ًا مرير ًا عن قيم الحميمية التي تجدها
فينوس الشقراء في التخلي عن اللون األبيض .إنها قيم الحميمية ذاتها
التي تجدها بطلة فيلم يوم الغضب ذات لحظة في الظل العصي على
التمايز ،بدالً من األبيض الكهنوتي .فالبياض الذي يحبس النور ليس
أفضل من السواد الذي يبقى غريب ًا عنه .وأخير ًا نرى أن خيار الروح
البديل ال يمت بصلة إلى تعاقب الحدود ،مع أن هذا التعاقب هو بمثابة
أساس له( .((1من باسكال إلى كيركيغارد انتشرت فكرة مهمة جد ًا تقول:
( ((1حول التعاقبات ،وحول خيار الروح البديل ،ثمة عنارص حتليل كثرية
نجدها عند فيليب باران ) (Philippe Parrainحول دريري )( (Dreyerاملصدر نفسه)،
= وعند ميشال إستيف حول بريسون.
219
ال تتعلق البدلية بحدود يجب اختيارها ،بل بطرق عيش الشخص الذي
يختار .فثمة خيارات ال يمكن طرحها إال بشرط االقتناع بأن ال خيار
أمامنا ،إما بسبب التزام أخالقي (الخير ،الواجب) وإما لضرورة مادية
(الظروف ،األوضاع) ،وإما لضرورة نفسية (رغبتنا في شيء معين) .إن
الخيار الروحي يتحقق ما بين طريقة وجود الشخص الذي يختار ،بشرط
أال يعلم بأنه يختار وبين طريقة وجود الشخص الذي يعلم بأنه أمام خيار.
كأن هناك اختيار ًا لالختيار أو لعدم االختيار .إذا ما كنت واعي ًا لالختيار،
فثمة إذن خيارات ال أستطيع اإلقدام عليها ،وثمة طرق عيش ال يمكنني
عيشها من بعد ،وطرق كنت أعيشها كلها مشروطة بقناعة تقول" :لم
يكن لدي الخيار" .إن رهان باسكال لم يقل شيئ ًا آخر :فتعاقب الحدود
هو فع ً
ال تأكيد على وجود الله ،ونفيه وتعليقه (بالشك والاليقين)؛ ولكن
تعاقب الروح يكمن في مكان آخر ،فهو يراوح بين طريقة حياة الشخص
الذي "يراهن" على أن الله موجود وبين طريقة حياة الشخص الذي
يراهن على عدم وجوده أو ال يريد أن يراهن .يرى باسكال أن األول
فقط يعي بأنه معني باالختيار ،وال يستطيع اآلخران أن يختارا إال بشرط
أن يعرفا كنه ذلك .باختصار ،االختيار الذي هو بمثابة تصميم روحي ال
يهدف إال لذاته :أنا أختار االختيار ،وبالتالي أستبعد كل اختيار اتخذته
بأسلوب عدم االختيار .هذا سيكون أيض ًا جوهر ما سماه كيركيغارد
بـ "البدلية" ،وما سماه سارتر بـ "االختيار" ،وهذه الكلمة األخيرة هي
الترجمة اإللحادية لكلمة كيركيغارد.
من باسكال إلى بريسون ،ومن كيركيغارد إلى دريير ،يرتسم خط
إن الظلمة وكفاح الروح واألبيض وبدل ّية الروح ،تشكّل كلها
النهجين األولين اللذين بهما يصبح الحيز حيز ًا عادي ًا ويرقى إلى ِقوى
المضيء الروحية .يجب أيض ًا أن ننظر في النهج الثالث ،وأعني به اللون
الذي لم يعد الح ّيز المظلم للتعبيرية ،وال الحيز األبيض للتجريد الغنائي،
وإنما الحيز /اللون للتلوينية .وكما في التصوير ،نحن نم ّيز التلوينية
عن األحادية اللونية أو التعددية اللونية اللتين -عند غريفيث أو عند
إيزنشتاين -صنعتا صورة ملونة فقط وسبقتا الصورة /اللون.
227
يمتص اللون .ففي الكوميديا الموسيقية وفي األنواع الفنية
ّ الشكل الذي
الممض الذين
ّ األخرى في أفالمه ،ثمة متابعة لموضوع الشخوص
يستحوذ عليهم حلمهم الخاص ،وال س ّيما حلم اآلخرين وماضيهم (كما
في أفالم يوالندا والقرصان وجيجي وميليندا) وحلم القوة لدى اآلخرين
(كما في فيلم المسحورون) .وقد بلغ مينيلي قمة الفتة في فيلمه فرسان
سفر الرؤيا األربعة الذي يهيمن فيه كابوس الحرب على الكائنات .وفي
أعماله جميعها أصبح الحلم الح ّيز الذي هو كناية عن بيت عنكبوت
يتر ّبص بالطرائد الحية الذي يجتذبها .وإذا ما أصبحت الظروف تُشكّل
ال راقص ًا ،فال ينفصل ذلك
حرك َة العالم ،وإذا ما صار الشخوص شك ً
عن بهاء األلوان وعن وظيفتها االمتصاصية التي تكاد أن تكون ضارية
ومفترسة ومدمرة (كما في عجلة الروليت الصفراء الفاقعة في فيلم
روليت المتعة [ .)]1945وصحيح أن ميني ّلي قد تصدّ ى لموضوع من
شأنه التعبير األفضل عن تلك المغامرة الفريدة :مغامرة الحيرة والخشية
واالحترام التي أوالها فان غوغ للون واكتشافه وبهاء ابتكاره واستغراقه
في ما أبدع واستغراق كيانه وعقله في اللون األصفر (كما في فيلم لواعج
فان غوغ)(.((1
إن أنطونيوني ،وهو واحد من كبار التلوينيين في السينما،
228
سيستخدم األلوان الباردة إلى أقصى مداها وكثافتها ليتجاوز بذلك
وظيفة االمتصاص التي أبقت الشخوص والمواقف في حيز حلم أو
الحيز إلى الفراغ ،ومحا ما امتصه .قال
َ ُ
اللون كابوس .مع أنطونيوني نقل
بونيتزر" :منذ فيلم المغامرة بحث أنطونيوني كثير ًا عن اللقطة الخاوية،
وصحح
ّ وعن اللقطة غير المأهولة ،في نهاية فيلم الكسوف د ّقق الفراغ
جميع اللقطات التي استعرضت الشخصين المتساكنين ،كما يشير إلى
ذلك عنوان الفيلم ( )...لقد بحث عن الصحراء :كما في أفالم الصحراء
الحمراء و) (Zabriskie Pointو ) .)...( (Profession reporterوينتهي
ال فارغ ًا داخل تشبيكات مسار ال
تصور حق ً
هذا األخير بلقطة تنقيل أمامية ّ
أهمية لها تصل إلى حدّ إلغاء التصوير ( )...ويهدف موضوع السينما عند
أنطونيوني إلى الوصول إلى الالتصويرية ،ويتم ذلك بمغامرة تفضي إلى
كسف الوجه وإلى محو الشخوص( .((1صحيح أن السينما منذ أمد طويل
توصلت إلى إحراز تأثيرات ترجيعية تتم بمواجهة المكان ذاته الذي
قد ّ
يكون مأهوالً ثم فارغ ًا (وحدث هذا خصوص ًا في فيلم المالك األزرق
مث ً
ال لستيرنبرغ ،مع شرفة لوال ) (Lolaومع قاعة الدرس) .ولكن الفكرة
ند أنطونيوني أخذت مدى غير مسبوق ،واللون هو الذي يؤ ّدي عملية
المواجهة .فهو الذي يرفع المكان إلى جبروت الفراغ ،بعد أن يكون
قد أنجز من الحدث ما أنجز .ولكن المكان ال يخرج منه خائر القوى،
بل على العكس تزداد إمكانياته .ثمة تشابه وتعارض مع بيرغمان في ٍ
آن ّ
واحد :لقد تجاوز بيرغمان الصورة /الفعل وركّز على القوة العاطفية
المقربة أو للوجه الذي قابله بالفراغ .ولكن الوجه عند أنطونيوني
ّ لل ْقطة
أضف إلى ذلك أن الح ّيز غير المحدّ د ،كما يبدو يأخذ هنا طبيعة
جديدة .فلم يعد ،كما في السابق ،ح ّيز ًا تحدّ ده أجزاؤه التي يكون الربط
والتوجيه فيها محدَّ دين مسبق ًا ويستطيعان اتخاذ طرق ال تحصى .إنه
اآلن مجموع عديم الشكل استبعدَ ما كان يتم ويعتمل فيه .إنه انطفاء
أو غشيان ،ولكنه ال يتعارض مع العنصر الوراثي .نحن نرى تمام ًا أن
الشكلين متكامالن ومطروحان مسبق ًا :ذلك أن المجموع العديم الشكل
هو مجموعة من األمكنة والمواقع الموجودة مع ًا بمعزل عن الظرف
الزمني الذي ينتقل من جزء آلخر ،وبمعزل عن الروابط والتوجيهات
التي تعطيها إياها الشخصيات واألوضاع الزائلة .ثمة إذ ًا حالتان للحيز
العادي ،وتفترض كل حالة وجود األخرى :فالمجموع العديم الشكل
هو سلسلة من األماكن والمواقع التي تتعايش بمعزل عن النظام الزمني
الذي ينتقل من جزء آلخر ،وبمعزل عن الروابط والتوجيهات التي كان
الشخوص الراحلون يوفرونها لها ويوفرها أيض ًا الوضع المنصرم .ثمة
إذ ًا حالتان للحيز العادي أو نوعان من العالمات الحسنة ،ومن عالمات
االنفصال وعالمات الخواء .ولكن عن هاتين الحالتين المترابطتين
دائم ًا نقول فقط إن إحداهما "قبل" وإن األخرى "بعد" .والح ّيز العادي
يحتفظ بطبيعة وحيدة ال تتغير :فلم تعد له من ثمة حيثيات ،ألنه طاقة
ِصرف ،وألنه يعرض ِقوى وكيفيات بحتة فقط ،بمعزل عن أوضاع
جسدتها
األشياء والبيئات التي تجسد هذه القوى والكيفيات (والتي ّ
وستجسدها).
ّ
230
المؤهلة لخلق
ّ إن الظالل إذ ًا ،وتدرجات األبيض واأللوان ،هي
مفرغة .ولكن بهذه وتكوين فضاءات عادية ،فضاءات منفصلة أو ّ
الوسائل جميعها وغيرها ،كان يمكن بعد الحرب أن يشهد الناس انتشار ًا
واسع ًا لمثل هذه الفضاءات ،أكان ذلك في استوديوهات ُركّبت فيها
ديكورات أو خارج اإلستوديوهات ،ولها تأثيرات شتّى .وتشكّل التأثير
األول -الذي ال عالقة له بالسينما -بسبب الوضع الذي أعقب الحرب،
بمدنه المهدّ مة أو التي راحت تُبنى من جديد ،وبأراضيه الجرداء وبأحياء
الصفيح ،وحتى في األماكن التي لم تصلها الحرب ،بنسيجها المديني
الموحد الشكل وأماكنها الفسيحة التي تغ ّير استعمالها وبأحواض السفن
ّ
والمستودعات وأكوام الجيزان والخردة .ونجم التأثير الثاني ،كما
سنرى ،عن أزمة الصورة /الفعل :فالشخوص ق ّلما وجدوا أنفسهم في
أوضاع حسية حركية "مح ّفزة" ،بل وجسدوها باألحرى في "المشاوير"
والتسكّع والنزهات التي حددت "أوضاع ًا بصرية وصوتية ِصرفة".
عندئذ إلى االنفجار ،في حين أن األماكنٍ ونحت الصورة /الفعل
ْ
المحدّ دة تالشت ،فأفسحت المجال لظهور فضاءات عادية انتشرت فيها
التأثرات النفسية الحديثة المتمثلة بالخوف واالنسالخ ،ولكن المتمثلة
أيض ًا بالعذوبة والسرعة القصوى واالنتظار المديد.
231
ذلك في فيلم أوروبا ]1952[ 51لروسيليني أيض ًا) في أماكن خيالية غير
هشمت محددة( .((2وتم ّثل ذلك أيض ًا في الموجة الفرنسية الجديدة التي ّ
السطوح وأزالت معالمها المكانية الخاصة لصالح فضاء غير تجميعي:
صور فيها غودار مثالً ،والتي أتاحت الفرصة
كالشقق غير المكتملة التي ّ
لظهور عدد من التنافرات والتبدّ الت كجميع طرق الدخول من أبواب
ُخ ّلبية تمتعت بقيمة شبه موسيقية وخدمت التأثر (كما في فيلم االحتقار
) .)(Le méprisوالمخرج األلماني اإليطالي جان ماري ستروب
) (Jean-Marie Straubهو الذي بنى سطوح ًا عديمة الشكل وفضاءات
مجوفة ومسارح خالية من مسرحيات تم ّثلجيولوجية ُمقفرة وغامضة أو ّ
فياها( .((2أما مدرسة الخوف األلمانية ،وخصوص ًا مع فاسبيندر �(Fass
فطورت مشاهد خارجية ) binderودانيال شميد )ّ ،(Daniel Schmid
المسقفرة ،وظهرت فضاءاتها الداخلية مزدوجة في مزايا ،ومع كالمدن ُ
أقل ما يمكن من المعالم المميزة وأكبر عدد من زوايا النظر التي تفتقر
إلى وصالت (راجع فيلم فيوالنتا لشميد) .كانت مدرسة نيويورك
تفرض رؤية أفقية للمدينة على مستوى األرض حيث تولد األحداث
عصي على التمييز،
ٌّ فوق الرصيف ،ولم يعد فيها من مكان إال فضاء
كما عند المخرج األميركي سيدني لوميت )(Sidney Lumet؛ وبصورة
أفضل ،عند جون كاسافيت ( )John Cassavetesالذي بدأ بأفالم يسيطر
( ((2حول الفضاء الواقعي اجلديد ،راجع مقالتني مهمتني كتبهام ميشال ديفيلري
) (Michel Devillersوسيلفي تروزا ) (Sylvie Trosaيف جملة ،Cinématographeالعدد
42و 43كانون األول /ديسمرب ،1978وكانون الثاين /يناير .1979
(Jean Narboni, «Là,» Cahiers du cinéma, no 275 (Avril 1977), et ((2
Serge Daney, «Le plan straubien,» Cahiers du cinéma, no 305 (Novembre
1979).
232
المقربة (كما في فيلمي Shadowsو Facesوبنى
ّ عليها الوجه واللقطة
فضاءات مفصولة عن بعضها وذات وقع عاطفي كما في فيلمي قصة
التافهين وأنشودة اليائسين) .فانتقل من نموذج للصورة /العاطفة إلى
يتجرد من
ّ نموذج آخر .وهذا يعني أنه فكّك المكان ،بنا ًء على وجه
حيثياته الزمكانية ومن حدث يتجاوز في األحوال جميعها تفعيله ،إما
تأخر وتح ّلل ،وإما ألنه -على النقيض -انطلق بسرعة البرق(.((2ألنه ّ
ال ولكنها ال تجد الوقت لتلتفت إلى في فيلم غلوريا ،تنتظر البطلة طوي ً
الخلف ،فمطاردوها وصلوا منذ مدة ،كما لو أنهم كانوا يسكنون هناك أو
باألحرى كما لو أن المكان قد غ ّير فجأة معالمه ،ولم يعد المكان عينه،
مع وجوده في الموقع العادي نفسه .وهذه المرة ،امتأل المكان الفارغ
بصورة مفاجئة...
ستكون لنا عودة إلى بعض هذه النقاط .ولكن اإلفراط في بالكالم
عن الفضاءات غير المحددة ،يرجع ربما ،كما يقول باسكال أوجيه ،إلى
السينما التجريبية التي قطعت الصلة مع سرد األفعال وإدراك األماكن
سبق وجو َد ٍ
إدراك َ صح أن السينما التجريبية تنزع نحو
المحددة .فإذا ّ
البشر (أو أتى بعدهم) ،فهي تنزع أيض ًا نحو ما يرتبط بهذا اإلدراك ،أي
ً
حتليال للفضاء العديم املعامل واحليثيات عند كاسافيت )،(Cassavetes ( ((2انظر
كتبه فيليب دو الرا )Cinématographe, n 38 (Mai 1978) ،(Philippe de Lara
o
( ((2يصف ب .أ .سيتني هذا «الفيلم البنيوي» ويعلق عليه يفDominique :
Noguez, Cinéma, théorie, lectures (Paris: Klincksieck, [s. d.]),
قائالً« :حدس املكان هذا ،وضمن ًا حدس السينام كطاقة ،هو بدهيية يف الفيلم
الصف ،»...ص .342 البنيوي .الغرفة هي دائ ًام مكان املمكن ِّ
234
ّ
تتدخل هنا في ما أطلق عليه ب .أ .سيتني ) (P. A. Sitneyتسمية "الفيلم
البنيوي".
إن فيل م أغاثا والقراءات التي ال حدود لها �(Agatha et les lec
) tures illimitéesلمارغريت دوراس ) (Margurite Durasيتمتّع ببنية
مشابهة ،إذ ُمنحت له ضرورة السرد أو القراءة باألحرى (تُقرأ الصورة
تشاهد فقط) .كما لو أن الكاميرا انطلقت من عمق غرفة فارغة َ وال
تغ ّيرت وظائفها ،ولن تكون فيها الشخصيتان إال طيفهما وظ ّلهما.
وعلى العكس ،هناك الشاطئ الفارغ الذي ّ
تطل النوافذ عليه .والوقت
الذي تستغرقه الكاميرا لتنتقل من عمق الغرفة إلى النوافذ والشاطئ،
مع توقفات ثم متابعات ،هو وقت السرد .والسرد نفسه ،أي الصورة/
يوحد زمن ًا الحق ًا وزمن ًا سابق ًا ،فترتقي من هذا إلى ذاك :زمن
الصوتّ ،
ما بعد البشر ،ألن السرد يروي قصة زوجين بدائيين انتهت ،ويروي زمن ًا
سبق مجيء البشر لم يوجد فيه أي وجود ليعكّر صفاء الشاطئ .وثمة
احتفال بطيء بالتأثر الذي ينتقل من أحدهما إلى اآلخر؛ أي هنا احتفال
بعالقة المحارم الجنسية بين األخ واألخت.
235
الف�صل الثامن
من الت�أ ّثر �إىل الفعل
ال�صورة /الغريزة
)1
237
للعبور ،ولكنه يمتلك قوام ًا واستقاللية كاملين ُيبقيان الصورة /االنفعال
العاطفي عاجزة عن اإلفصاح بذلك.
238
يوجه األجزاء جميعها إلى حقل هائل من ّ
الكل داخل تنظيم مع ّين ،بل ّ
ويوجه الغرائز جميعها إلى غريزة ّ يوجهها إلى مستنقع،
القاذورات ،أو ّ
ٍ
الموت الكبرى .العالم األصلي هو في آن مع ًا بداي ٌة جذرية ونهاية ُمطلقة؛
وأخير ًا يربط البداية بالنهاية ويضع الواحدة داخل األخرى ،بمقتضى
قانون هو قانون االنحدار األكبر .وهكذا نرى أنه عالم من العنف خاص
جد ًا (وأنه ،من بعض النواحي ،الشر الجذري)؛ ولكن له الفضل في
أنه يطلق صورة أصلية للزمن ،في بدايته ونهايته وانحداره ،ويطلق كل
وحشية الزمان ).(Chronos
= يف جمال السينام وغريها أن يشكّل العامل األصيل بذاته البيئة املشتقة التي يفرتض أن تكون
سبقت تارخينا ،مثل فيلم حرب ْ واقعية :وهذا ينطبق عىل األفالم التي عاجلت قضايا
النار للمخرج جان جاك أنّو ) ،(Jean-Jacques Annaudوكثري من أفالم الرعب أو اخليال
العلمي .مثل هذه األفالم تنتمي إىل الطبيعانية .ويف األدب كان ج .هـ .روزين أين (J. H.
) ،Rosny Aînéمؤ ّلف La guerre du feuهو الذي فتح باب الطبيعانية يف اجتاهي رواية
ما قبل التاريخ ورواية اخليال العلمي.
241
بسمات ومالمح تأتي من األعلى ،أو باألحرى تأتي من قا ٍع أشدّ رهبة
أيض ًا .إن العالم األصلي هو بداية العالم ،ولكنه أيض ًا نهايته ،وهو انحدار
كل منهما نحو اآلخر :إن هذا العالم هو الذي يجذب البيئة إليه ويجعل
مكب
ّ ال غير مؤكّد.منها أيض ًا بيئ ًة مغلقة وموصدة قطع ًا ،ويفتح أمامها أم ً
القمامة الذي تُلقى فيه الجثة هو الصورة المشتركة لفيلمي حماقات
تكف البيئات عن الخروج من العالم األصلي
ّ نسائية والرحمة لهم .وال
والدخول إليه؛ وال تخرج منه إال بمشقة كترسيمات ُمدانة وغائمة ،لتعود
إن لم تحصل على الخالص الذي ال يمكنه أن يأتي وحده إال إليه نهائي ًاْ ،
من تلك العودة إلى األصل .وهذا هو المستنقع الذي يظهر في القسم
األفريقي من فيلم الملكة كيلي ،وخصوص ًا في السينما الروائية بوتو/
العشاق المعلقون باألشجار صعود ّ بوتو ) ،(Poto-Potoوفيه ينتظر
التماسيح" :هناّ )...( ،
خط العرض صفر .هنا ( )...ال يوجد تقليد وال
يتصرف بحسب زخم اللحظة ()...
ّ توجد سابقة .هناّ )...( ،
كل واحد
ويفعل ما يدفعه بوتو /بوتو إلى فعله ( )...بوتو /بوتو هو قانوننا وحده،
ّ
وخط ( )...وهو أيض ًا جالدنا ( )...نحن جميع ًا محكومون باإلعدام"(((.
العرض صفر هو أيض ًا المكان الرئيسي في فيلم المالك المبيد الذي ّ
تجسدَ
مع الطبيعانية يتج ّلى الزمن بقوة كبرى في الصورة السينمائية وكان
جان ميتري على حق عندما قال إن فيلم الكواسر ،هو الفيلم األول الذي
ونموهم .وعند بونويل،
ّ كتطور الشخوصّ يع ّبر عن "ديمومة نفسية"،
ليس الزمن بأقل حضور ًا ،ولكنّه باألحرى أشبه بزمن إنساني وبتحقيب
مر بها اإلنسان (وهذا ال يظهر بجالء في فيلم العصر الذهبي
العصور التي ّ
فقط ،ولكن في فيلم درب الت ّبانة الذي اقتبس من العصور جميعها وقلب
نظامها رأس ًا على عقب)((( .ومع ذلك ،وفي المقام األول ،يبدو أن الزمن
الطبيعاني أصيب بلعنة استقرت في جوهره .نستطيع فع ً
ال أن نقول عن
ستروهايم ما قاله الناقد ألبير تيبوديه ) (Albert Thibaudetعن فلوبير:
الديمومة بالنسبة لفلوبير ال تتم ّثل بما ُيفعل بل بما يتفكّك وبما يهرع إلى
تفكيك نفسه .فال تنفصل إذ ًا عن ال ُقصور الحراري وعن التدهور .وهنا
نرى أن ستروهايم ص ّفى حساباته مع التعبيرية .وما يشترك فيه مع التعبيرية،
كما رأينا ،هو استعمال النور والظالم ،مضاهي ًا في ذلك ّ ً
كل من فريتز النغ
وفريد ريش ومورناو .ولكن الزمن عند هذين األخيرين ال وجود له إال
حتليل هذين الفيلمني إىل كتابMaurice Drouzy, Luis Bunel : ((( نرجع يف
architecte du rêve (Paris: Edition Lherminier, [n. d.]).
243
بالنسبة للنور والظلمة ،بحيث ال يم ّثل انحطاط شخصية من الشخوص
إال سقوط ًا في الظلمة ،أو سقوط ًا في ثقب أسود (ويتج ّلى هذا في فيلم
آخر الرجال لمورناو ،وأيض ًا في فيلم لولو لبابست وحتى في فيلم المالك
األزرق لستيرنبرغ عندما حاول أن يقلد التعبيريين) .أما عند ستروهايم
فيختلف األمر تمام ًا :فهو لم ّ
يكف عن مطابقة األضواء والظالل مع مراحل
ٍ
كقصور حراري. التدهور الذي كان يفتنه ،وأخضع النور لزمن اعتبره
التدهور ّ
أقل استقاللية ،بل لعلها أكثر، ّ عند بونويل ،ليست ظاهرة
ألنها ظاهرة تشمل بوضوح الجنس البشري .يكشف فيلم المالك المبيد
عن تراجع يعادل على األقل التراجع الموجود في فيلم الكواسر .بيد
أن الفرق بين ستروهايم وبونويل هو أن التدهور عند بونويل ال ُينظر
إليه كقصور حراري متسارع ،بل كتكرار مدهور وك َعود أبدي .فالعالم
األصلي يفرض إذن على البيئات المتعاقبة فيه ال انحدار ًا بالضبط
تقوس ًا أو حلقة .صحيح أن الحلقة ،خالف ًا للنزول ،ال يمكنها أن
ولكن ّ
تكون "سيئة" كلي ًا :ذلك أنها -كما هو الحال عند الفيلسوف اإلغريقي
والحب والضغينة؛ وفع ً
ال ّ إمبيذوكليس -تدفع إلى تعاقب الخير والشر،
نالحظ أن العاشق ورجل الخير وحتى القديس يأخذون أهمية عند بونويل
ال يجدونها عند ستروهايم .ولك ّن هذا يبقى ثانوي ًا نوع ًا ما ،ألن العاشقة
والعاشق والقديس بالذات ليسوا في نظر بونويل أقل ضرر ًا من الفاسقين
والمنحطين (كما في فيلم نازارين ) .)(Nazarinوألن الزمن هو زمن
القصور الحراري أو زمن العود األبدي ،فإنه في كلتا الحالتين يستمدّ
منبعه من العالم األصلي الذي يك ّلفه بلعب دور القدر الذي ال ُيغتفر .فما
أن ينضوي في الزمن األصلي الذي هو بمثابة بداية أو نهاية للزمن ،حتى
244
يتم في البيئات الفرعية .فهو زمن يكاد أن يكون أفالطوني ًا محدث ًا .والّ
شك أنه يم ّثل إحدى مآثر الطبيعانية في السينما ،ألنها اقتربت كثير ًا من
الصورة /الزمن .ولكن ما حال دون إدراكها الزمن لذاته ،والزمن كشكل
صرف ،هو أنها ُأجبرت حيث هي على إبقائه خاضع ًا للحيثيات الطبيعانية
وجعله متع ّلق ًا بالغريزةّ .
ومذاك ،لم تستطع الطبيعانية أن تستحوذ إال على
اآلثار السلبية للزمن كالتلف واالنحطاط وال َفقد والخراب والضياع أو
النسيان فحسب(((( .سنرى بأن السينما حينما تواجه بصورة مباشرة شكل
الزمن ،فهي لن تتمكّن من بناء صورة له إال إذا قطعت الصلة بالهاجس
الطبيعاني بالعالم األصلي وبالغرائز).
((( يظهر النسيان بكثرة عند بونويل .واملثال الالفت عىل ذلك هو هناية فيلم
سوزانا ) ،(Susanaإذ يرى مجيع الشخوص كأن شيئ ًا مل حيدث .يأيت النسيان إذ ًا ليعزّ ز
االنطباع بدور احللم أو التخييل .ولكن له يف نظرنا وظيفة أكثر أمهية ،وهي التشديد عىل
يتكرر (بفضل النسيان) .ويؤكّد هناية حلقة من احللقات ،وبعدها يستطيع كل يشء أن ّ
ساباتييه أيض ًا أنه وجد عند تريانس فيرش هنايات سعيدة زائفة ،وفيها ينسى الشخوص
الرشفاء كل يشء عن الفظائع التي مورست عليهم(Jean-Marie Sabatier, Les .
classiques du cinéma fantastique (Paris: Balland, 1973), p. 144).
245
التصرفات المنحرفة التي تنتجها هذه الغرائز وتنشطها،
ّ ال تنفصل عن
كغرائز أكل اللحم البشري ،والغرائز السادية المازوخية ،وغرائز التهام
الجثث ...إلخ .وس ُيثري بونويل هذه القائمة من خالل اهتمامه بالغرائز
الروحية تحديد ًا ،وهي أكثر تعقيد ًا .وال توجد حدود في هذه الطرق
الحيوية النفسية .ال شك أن المخرج اإلسباني ماركو فيريري (Marco
) Ferrireهو من المخرجين الحديثين النوادر الذي ورث إلهام ًا طبيعاني ًا
أصيال وفن ًا يستحضر عالم ًا أصلي ًا داخل البيئات الواقعية (هذا ما نراه
ً
المسجاة في حرم جامعي ضخم ،أو ماّ في الجثة العمالقة لكينغ كونغ
نراه في المتحف المسرحي في فيلم حلم قرد) .وفيه غرس غرائز غريبة
كغريزة األمومة لدى الذكر في فيلم حلم قرد ،أو حتى الغريزة العاتية
لنفخ بالون ،كما في فيلم تحطيم.
يتم ّثل الوجه الثاني في مضمون الغريزة ،أي ،في القسم الذي
والمنتزع من المضمون الواقعي للبيئة الفرعية،
َ ينتمي إلى العالم األصلي
آن واحد .إن مضمون الغريزة هو دائم ًا "المضمون الجزئي" أو في ٍ
التميمة أو قطعة اللحم أو القطعة النيئة أو القاذورة أو السروال النسائي
أو الحذاء .والحذاء كتميمة جنسية يفسح المجال إلجراء مقارنة بين
ستروهايم وبونويل ،وال س ّيما في فيلمي األرملة السعيدة من جهة
ويوميات مد ّبرة منزل من جهة أخرى ،بحيث تكون الصورة /الغريزة هي
المقربة فيها فع ً
ال ثانوية ،وليس السبب ّ الحالة الوحيدة التي تصبح اللقطة
المقربة هي هدف جزئي بل ألن الهدف الجزئي - ّ في ذلك أن اللقطة
وقد أصبح هدف الغريزة -أصبح لقط ًة ّ
مقربة بامتياز .الغريزة هي فعل
ويمزق ويقطع األوصال .والفسق ليس انحرافها بل تفريع لها،
ّ ينتزع
246
أي أنه تعبيرها الطبيعي في البيئة الفرعية .وهذه عالقة دائمة بين الصياد
وطريدته .والعاجز هو الطريدة بامتياز ،ما دامت قطعة اللحم عنده لم تعد
تُعرف :أهي الجزء الناقص من جسده أو باقي جسده .ولكنه صياد أيض ًا،
وليس عدم إشباع الغريزة وجوع الفقراء أقل اقتطاع ًا من جوع األغنياء.
إن الملكة في فيلم الملكة كيلي تن ّقب داخل علبة شوكوال كما ينقب
المتسول داخل حاوية قمامة .ما يعطي حضور ًا كبير ًا للعاجز أو الوحش
ّ
المحرف الذي ٍ
في المدرسة الطبيعانية ،هو أنه في آن واحد المضمون
َّ
المشوه الذي يقوم مقام الفاعل
َّ يحتله فعل الغريزة ،وهو الرسم األولي
لهذا الفعل.
يتم ّثل الوجه الثالث لقانون الغريزة وقدَ رها في أنه يستحوذ من
طريق الحيلة -ولكن بعنف -على كل ما تستطيع أن تفعله في بيئة
مع ّينة ،وإذا استطاعت ذلك ،أن تنتقل من بيئة ألخرى .وال يتو ّقف هذا
االستكشاف وهذا اإلنهاك للبيئات .وفي كل مرة ،تختار الغريزة نصيبها
في بيئة مع ّينة ،ولكنها ال تختار ،تأخذ في األحوال جميعها ما تقدّ مه لها
البيئة ،ع ّلها تذهب أبعد من ذلك الحق ًا .هناك مشهد من فيلم عشيقات
دراكوال لتيرانس فيشر ُيظهر مصاص الدماء وهو يبحث عن الضحية التي
اختارها ،وألنه لم يجدها فقد اكتفى بضحية أخرى :ذلك أن غريزته في
تطور في فيلم امتصاص الدم لم ِ
ترتو .وهذا مشهد مهم ،ألنه يدل على ّ
الرعب الذي انتقل من المدرسة القوطية إلى المدرسة القوطية المحدثة،
ومن التعبيرية إلى الطبيعانية :فلم نعد في صدد التأ ّثر ،بل انتقلنا إلى بيئة
ُنشط هي أيض ًا العمل الرائع الذي الغرائز (بصورة أخرى نقول إن الغرائز ت ّ
قدّ مه ماريو بافا ) .(Mario Bavaفي فيلم حماقات نسائية لستروهايم،
247
نرى البطل ينتقل من مدبرة المنزل إلى امرأة المجتمع الراقي لينتهي
بالمرأة المقعدة المعتوهة ،مدفوع ًا بالقوة البدائية للغريزة القانصة التي
تجعله يستكشف البيئات جميعها ويختطف ما تقدّ مه له كل غريزة .إن
اإلنهاك الكامل ٍ
لبيئة ما وأم ما وخادم ما وولد ما وأب ما ،هو ما تفعله
بطلة فيلم سوزانا لبونويل((( .ينبغي أن تكون الغريزة كاملة .فال يكفي
القول بأن الغريزة تقتصر على ما تقدمه لها البيئة أو تتركه لها .وليس
هذا االقتصار إذعان ًا ،بل هو فرح غامر تجد فيه الغريزة قوة اختيارها،
طالما أن في أعماقها رغبة في تغيير البيئة ،وبحث عن بيئة جديدة يجدر
استكشافها وتفكيكها ،وتكتفي قدر المستطاع بما تقدّ مه هذه البيئة ،مهما
كان وضيع ًا ومنفر ًا ومقزز ًا ،فأفراح الغريزة ال تقاس بالتأ ّثر ،أي بالمزايا
الداخلية للشيء الممكن.
((( هناك أيض ًا يمكن إجراء مقارنة مع بازوليني ففيلم نظرية )ُ (Théorèmeيظهر
هو أيض ًا بيئة عائلية أهنكها متام ًا وصول شخصية خارجية .ولكن اإلهناك عند بازوليني
هو «إهناك» منطقي ،أي أن الربهان فيه ينهك جممل احلاالت املمكنة املطروحة ،وهنا
تكم ُن فرادة بازوليني :هلذا ُسمي الفيلم «نظرية» ،وهلذا م ّثلت الشخصية اخلارجية دور
املربهن الروحي .وعىل العكس تكون الشخصية اخلارجية ،عند الفاعل املاورائي أو ِ
بونويل والطبيعانية ،مم ّثلة للغرائز وتعمل عىل اإلهناك اجلسدي للبيئة املختارة (كام نرى
ذلك يف فيلم سوزانا).
248
كي يصطاد طرائده في بيئة دنيا بين الفقراء .ومع ذلك يجب االحتراس
من البديهيات .فإذا كان ستروهايم قد تو ّقف بخاصة عند ّ
تطور الغني
في بيئته هو وعند نزوله إلى قاعها ،فإن بونويل (وجوزيف لوز ي �(Jo
) seph Loseyالحق ًا) قد رأى أن الظاهرة المناقضة أكثر إثارة للرعب،
ربما ألنها ظاهرة شديدة الد ّقة ُ
والمخاتلة وأقرب إلى ظاهرة الضبع أو
الصقر اللذين يجيدان التر ّبص ،ورأى أيض ًا كيف يتم اجتياح الفقير
والخادم وكيف يستغل الغني البيئة الغنية وكيف يستهلكها :وهذا ال
يتج ّلى في فيلم "سوزانا" فقط ،بل يظهر أيض ًا عند الشحاذين والخادمة
في فيلم Viridianaأيض ًا .لدى الفقراء واألغنياء على السواء؛ للغرائز
الهدف نفسه والمصير نفسه :التقطيع وانتزاع ِ
الق َطع ،ومراكمة النفايات،
وتشكيل المك ّبات ،وتذويب الغرائز جميعها في غريزة واحدة هي غريزة
الموت .الموت ،الموت ،غريزة الموت ،النزعة الطبيعانية ُمشبعة بها.
وتُبلغ عنها قتامتها القصوى ،مع أنها لم تقل كلمتها األخيرة فيها .وقبل
الكلمة األخيرة ،التي لم ُيفقد األمل فيها كما يمكن أن نتو ّقع ،أضاف
بونويل ما يلي :ليس الفقراء واألغنياء وحدهم هم الذين يساهمون في
عملية االنحطاط نفسها ،بل أيض ًا الفاضلون والقدّ يسون .فهؤالء أيض ًا
يتكالبون على النفايات ويستأثرون بالقطع التي اختطفوها .لذا نرى أن
معمم ًا عن
مجموعات األفالم التي أخرجها بونويل ال تقل انحطاط ًا ّ
القصور الحراري عند ستروهايم .فالناس جميع ًا هم طرائد وطفيليات
آن واحد .يستطيع صوت شيطاني أن يقول للرجل الورع نازارين في ٍ
البر عنده عن اإلسراع في انحطاط
) (Nazarinالذي ال تكف أعمال ّ
العامل" :أنت أيض ًا عديم الفائدة مثلي ،"...أنت لست سوى طفيلي.
الغنية الجميلة واللطيفة فيريديانا ال تتطور إال عندما تعي أنها من س ْقط
249
المتاع وأنها طفيلية ،وهما صفتان متالزمتان لغرائز الخير .في كل مكان
نجد غريزة الطفيلية نفسها .وهذا هو تشخيص الظاهرة .قطبا التميمة،
أو تميمتا الخير والشر ،التميمتان المقدستان وتميمتا الجريمة والجنس
تلتقيان وتتبادالن األدوار ،كما يتج ّلى ذلك في سلسلة ُ
الم َسحاء (جمع
مسيح) المثيرة للضحك التي ابتكرها بونويل ،ويتج ّلى أيض ًا في الصليب
نسمي بعضها ذخائر مقدسة الخنجري في فيلم فيريديانا .بوسعنا أن ّ
"والبعض اآلخر -بحسب قاموس السحر "-احتقانات وجوه أو
استحواذات ،وهما وجها الظاهرة نفسها .وحتى العاشقة والعاشق في
فيلم العصر الذهبي ال يبحران كثير ًا في نهر العالم ،بل يتبعان انحداره،
ويتعلقان بتمائم يتنازعانها ،تمائم تنبئ بتغ ّير الزمان بينهما وبالكارثة
العتيدة فينفصالن .يقول دروزي ) :(Drouzyمن المستهجن أن يظن
السورياليون أنهم رأوا في هذا الفيلم مثاالً على الحب المجنون(((.
صحيح أن وضع بونويل كان منذ البداية ملتبس ًا مع السوريالية مثلما كان
وضع ستروهايم كذلك مع التعبيرية :لقد استخدمها ولكن لغايات أخرى
هي غايات الطبيعانية الكلية القدرة.
)2
((( بعد أن أخرج سرتوهايم فيلم امللكة كييل ) ،(Queen Kellyأخرج فيلمه
تغي وصار
الوحيد الناطق ،وكان بعنوان ،Walking down Broadwayولكن اسمه ّ
Hello Sisterوصدر باسم خمرج آخر :وبناء عىل الشهادات والوثائق ،قام ميشال
مفصل «للمشاهد» املنسوبة إىل سرتوهايم (انظر: سيامن ) (Michel Cimentبتحليل ّ
Michel Ciment, Les conquérants d’un nouveau monde: Essais sur le cinéma
.)américain (Paris: Gallimard, [s. d.]), pp. 78-94ولكن األحداث املنسوبة له
عىل األرجح ،وخالصة السيناريو الذي كتبه سرتوهايم تبدو لنا أهنا بقيت يف خط عمله
السابق .وقد تظهر عالئم التطور املمكن بشكل أوضح يف فيلم زواج األمري ،وهو تتمة
حب منه إخراجه .كان لفيلم سمفونية الزواج ) (La symphonie nuptialeالذي ُس َ
من املفرتض أن حيصل اهتداء روحي للبطلة ،مما فتح ربام لسرتوهايم جماالت جديدة.
تطور أخرى يف األفالم املقتبسة من روايات ،إما مع العامل األفريقي =
وظهرت عنارص ّ
251
يفرضها العالم األصلي على البيئات ،أي أنها تفرض االنحطاط والهبوط
عندئذ ال يمكن طرح مسألة الخالص إال عندماٍ والقصور الحراري.
تستر ّد محلي ًا الطاقة الضائعة التي ّ
تخول العالم األصلي أن يفتح بيئة بدل
أن يغلقها .وهكذا يتبدّ ى المشهد الشهير للحب الطاهر الذي ينمو بين
أشجار التفاح المزهرة في فيلم سمفونية الزواج ،والنصف الثاني من
فيلم زواج األمير الذي يستحضر ربما والدة حياة روحية .ولكننا رأينا
يحلن محل القصور الحراري. عند بونويل أن الدائرة أو ال َعود األبدي ّ
والحال أن ال َعود األبدي فاجع كالقصور الحراري ،وأن الدائرة مخزية
متكررة تطرح
في أجزائها جميعها ،ولكنهما مع ذلك يحرران قوة روحية ّ
بطريقة جديدة مسألة الخالص الممكن .الرجل الصالح أو القديس ليسا
أقل انحباس ًا في الدائرة من البهيمة أو من الشرير .ولكن أليس التكرار
والشر؟
ّ قادر ًا على الخروج من دائرته المغلقة ،وعلى "القفز" فوق الخير
فالتكرار هو الذي يؤدي بنا إلى الضياع ويحط من قدرنا ،ولكنه هو
أيض ًا يستطيع إنقاذنا وإخراجنا من التكرار اآلخر .لقد أقام كيركيغارد
معارضة بين الماضي المق ّيد والمهين وبين تكرار اإليمان العاكف على
المستقبل والذي يعطينا كل شيء ،في قوة تختلف عن قوة الخير ،ولكنها
قوة العبث .يتعارض ال َعود األبدي كتكرار لحدث يتم دائم ًا ،مع ال َعود
األبدي كقيامة ،فيصبح هب ًة جديدة لما هو جديد وممكن .واألكثر قرب ًا
من بونويل هو الكاتب الفرنسي ريمون روسيل )(Raymond Roussel
الذي أحبه السورياليون والذي كتب "مشاهد" أو قصص ًا مكررة مرتين:
((( ح ّلل ميشال بوتور ) (Michel Butorوقارن موضوع التكرار عند كريكيغارد
وعند روسيل يف.Répertoire I (Paris: Edition de Minuit, [s. d.]) :
253
المنقذ فيبدو صحيح ًا ،وصحيح ًا وحده :ذلك أن البنت العذراء قدّ مت
المدعوون تمام ًا وضعيتهم األولى،
ّ نفسها لإلله الضيف ،فيستعيد
وتحل ّ
محل ّ يتحررون .ولكن الدقة في التكرار معيار خاطئ،
ّ وبالتالي
شيء آخر .فتكرار الماضي ممكن مادي ًا ،ولكنه مستحيل روحي ًا ،بسبب
الزمن؛ على العكس من ذلك ،يبدو أن تكرار اإليمان -وهو تكرار يتط ّلع
إلى المستقبل -مستحيل مادي ًا ،ولكنه ممكن روحي ًا ،ألنه قائم على
التكرار الدائم ويصعد المجرى الذي تحتجزه الدائرة بفضل لحظة زمنية
خالقة .هل هناك تكراران يتعارضان ،وكأنهما غريزة موت وغريزة حياة؟
إن بونويل يتركنا في أعلى درجات الاليقين بدء ًا من تمييز التكرارين أو
مدعوو المالك أن يحيوا ذكرى ،أي أن يكرروا
ّ بالخلط بينهما .يريد
التكرار الذي أنقذهم ،ولكنهم بذلك يسقطون في التكرار الذي قادهم
إلى الضياع :فبعد أن اجتمعوا في الكنيسة كي يرفعوا تسبيح ًة لله ،وجدوا
أنفسهم أسرى ،بدرجة عالية وكثيفة ،فيما يتعالى هدير الثورة .وفي فيلم
درب التبانة ،يبدو المسيح كإنسان وكأنه احتفظ طوي ً
ال بفرصة االنفتاح
الحاجان عليها
ّ تعرف
على العالم ،من خالل األوساط المختلقة التي ّ
تباع ًا ،ولكن يبدو بوضوح أن كل شيء ينغلق في النهاية وأن المسيح
بذاته أصبح سياج ًا عازالً بدل أن يكون أفق ًا((( .من أجل الوصول إلى
تكرار لينقذ الحياة ويغ ّيرها ،ويتجاوز مقولتي الخير والشر ،أال ينبغي
االنسالخ عن نظام الغرائز وتفكيك دوائر الزمن والوصول إلى عنصر
(La ((( حي ّلل موريس دروزي ) (Maurice Drouzyلقطات فيلم درب التبانة
تصور بونويل خالصاً
ّ ) voix lactéeالذي يظهر فيه املسيح ،ويطرح املسألة التي فيها
ممكن ًا :ص 174وما يليها.
254
يكون بمثابة "رغبة" حقيقية ،أو خيار قادر على المعاودة المستمرة (رأينا
ذلك عندما تك ّلمنا عن التجريد الغنائي)؟
مع ذلك ،فقد كسب بونويل عندما جعل من التكرار ،أو من القصور
قوة التكرار في الصورة السينمائية. الحراري ،قانون العالم .لقد وضع ّ
وليحرره من االنحدار
ّ ليتلمس أبواب الزمن
وبذلك تجاوز عالم الغرائز ّ
أو من الدوائر التي كانت تُلزمه بمضمون مع ّين .لم يهتم كثير ًا بأعراض
طور نوع ًا آخر من العالمات التي يمكننا تسميتها الغرائز وبتمائمها ،ألنه ّ
بـ "المشهد" والتي قد تعطينا صورة مباشرة /زمن ًا مباشر ًا .وهذا جانب
من أعماله نجده الحق ًا ،ألنه يتجاوز الطبيعانية ،ولكن بونويل يتجاوز
الطبيعانية من الداخل ،من دون أن يتخ ّلى عنها إطالق ًا.
)3
ما يهمنا اآلن ليس طريقة الخروج من حدود الطبيعانية ،بل
باألحرى الطريقة التي فشل بعض السينمائيين الكبار في تبنيها ،على
الرغم من محاوالتهم المتكررة .ذلك أنهم كانوا يهجسون بعالم الغرائز
األصلي؛ ولكن العبقرية الخاصة لكل منهم حرفتهم عن النظر في مشاكل
أخرى .على سبيل المثال حاول لوتشينو فيسكونت ي �(Luchino Viscon
) tiمنذ فيلمه األول هوس إلى فيلمه األخير البريء ،أن يصل إلى الغرائز
الخام والبدائية .ولكنه بسبب أرستقراطيته المفرطة لم ينجح في ذلك،
ألن موضوعه الحقيقي كان في مكان آخر وكان يتع ّلق بالزمن مباشرة.
ال له .ذلك أنه غالب ًا ما ّ
اهتم أما كلود رينوار فيختلف عنه ولكنه يبقى مثي ً
بالغرائز المنحطة والعنيفة (وال س ّيما في أفالم نانا ) (Nanaويوميات
مدبرة منزل ) (Le journal d’une femme de chambreوالوحش
255
البشري ) ،(La bête humaineولكنه يبقى أقرب إلى غي دو موباسان
ال نجد أن الطبيعانية ) (Guy de Maupassantمنه إلى الطبيعانية .وفع ً
عند موباسان لم تعد سوى واجهة :فتُرى األشياء من وراء زجاج ،أو ترى
كما لو كانت "مشهد ًا مسرحي ًا" ،وهذا يمنع المدى الزمني من أن يشكّل
مادة كثيفة في طور التدهور؛ وعندما تختل الرؤية عبر الزجاج ،ينفسح
المجال للماء الجارية ،مما ال يتوافق كثير ًا مع العوالم األصلية وغرائزها
وقطعها وترسيماتها األصلية .وهكذا نرى أن كل ما ُي ِلهم رينوار ُيبعده
عن الطبيعانية التي لم تتوقف مع ذلك عن تعذيبه.
لنصل أخير ًا إلى السينمائيين األميركيين :لقد كان بعضهم،
وخصوص ًا صموئيل فو ّلر ) ،(Samuel Fullerمسكونين عميق ًا بالطبيعانية
يتوصلوا إليها ،فألنهم شغفوا بالواقعية ،أي
وبعالم قايين( .((1ولكن إن لم ّ
ببناء صورة /فعل ِصرفة يترتب عليها أن ترسم مباشرة العالقة الحصرية
والتصرفات (أي نموذج آخر للعنف يختلف عن العنف
ّ بين البيئات
الطبيعاني) .إن الصورة /الفعل هي التي تكبح الصورة /الغريزة ،وهي
فاضحة في فظاظتها واعتدالها والواقعيتها .إذا ُوجدت ه ّبات طبيعانية في
السينما األميركية ،فهي حاضرة في بعض األدوار النسائية وعلى يد بعض
الممثالت .في الطبيعانية ،نرى أن فكرة امرأة أصلية هي أسهل استيعاب ًا
من كل ما تب ّقى ،وينطبق هذا بخاصة على األميركيين .قدّ م زوال المرأة نانا
( ((1انظرPierre Domeyne, Dossier du cinéma ([s. l.]: [s. n.], [s. d.]): :
(Caïn أراد فولر يف أحد مشاريعه العزيرة عىل قلبه ،وهو فيلم قايني وهابيل
) et Abelأن يروي بالفعل نشأة االنفعاالت (األكذوبة األوىل ،احلسد األول ...إلخ)
وأضاف إليها تتمة طبيعية ،وهي نشأة الرش .وهذا املرشوع كمعظم أفالمه ،يكشف
اجلذور األوىل لعمل فولر ،أي سينامئي الغريزة والعودة إىل الغرائز الطبيعية واألولية
وإىل العنف اجلسدي.
256
كأنها "الجسد الشهوي المركزي" و"الخميرة" و"الذبابة الذهبية" ،أي
وتجره إلى االنحطاط
ّ الفتاة الطيبة في األصل ،ولكنها تُفسد كل ما تلمسه
الحتمي الذي سينقلب عليها .ثمة نموذج آخر للمرأة األصلية والمتسلطة
مرات ثالث ًا ساقتها الغريزة
والمتجبرة م ّثلته آفا غرادنر )ّ :(Ava Gradner
على نحو ال يقاوم ،إال االقتران بالرجل الميت أو العاجز (كما في أفالم
باندورا أللبرت ليوين والكونتيسة الحافية القدمين لجوزيف مانكييفكس
) (Joseph Mankiewiczوالشمس تشرق أيض ًا لهنري كينغ (Henry
) .)Kingولكن السينمائي األميركي الوحيد الذي تمكّن من أن يحيط
بطلته بعالم أصلي كامل مفعم بالغرائز العنيفة هو كينغ فيدور وبالتحديد
في فترة ما بعد الحرب وابتعاده عن هوليود والواقعية .إن فيلمه Ruby
Gentryيتكلم عن فتاة المستنقعات (الممثلة جينيفر جونز (Jennifer
) )Jonesالتي تتابع انتقامها ،وتنتهي من تدمير البيئة المسته َلكة للمدينة
والرجال وتجعل المستنقع يعود إلى المستنقع :وهو أجمل مستنقع ُبني
في استوديو .وهذا ينطبق أيض ًا على فيلم مبارزة في وضح النهار ،وهو
فيلم ويستيرن طبيعاني ،وعلى فيلم وراء الغابة ،وفيهما ظهر الشخوص
وكأنهم منقادون "لقوة سرية ما زالت مبهمة"(.((1
258
إلى الظالم إال كر ّد فعل .في فيلم "المنزل في الظل" الذي ُيؤوي الفتا َة
المتهور ،يكون هذا المنزل أشبه بنقيض للمشهد الثلجي
ّ العمياء والقاتل
المقتصين.
ّ سوده جمهور قاتم من األبيض الذي ّ
(Francis Bacon, L’art de l’impossible, II ([s. l.]: Skira, [s. d.]), pp. ((1
30-32, et Jean Genêt, Journal du voleur (Paris: Gallimard, [s. d.]), pp. 14 sq.
261
ّ
يستغل الخادم سيده ومنزل سيده .هذا عالم من القانّصين :يقدّ م لنا فيلم
حفلة سرية أنماط ًا عديدة من القانصين الذين يتجابهون؛ فهناك الوحش
الضاري والطيران الجارحان والضبع المسكين والحنون والمنتقم في ٍ
آن
واحد .ويضاعف فيلم الساعي هذه العمليات ،فال يستحوذ ُ
المزارع فقط
المكره والمفتون في
َ على فتاة القصر ،بل يستحوذ العاشقان على الطفل،
ويزجانه في دوره كسمسار لهما ،وي ْقدمان على اغتصابه بطريقة ٍ
آن مع ًا،
ّ
غريبة تضاعف متعتهما .في عالم الغرائز عند لوزي ،لعل أهمها غريزة
"العبودية" وهي غريزة بدائية لدى اإلنسان يط ّبقها الخادم بشكل مستور
وتتج ّلى لدى السيد والعاشقين والطفل (ال بل هي موجودة في فيلم دون
جيوفاني)( .((1والعبودية هي شأن السيد وشأن الخادم ،مثلها مثل غريزة
التط ّفل عند بونوبل :إن االنحطاط هو الظاهرة المرضية الشاملة لغريزة
العبودية هذه وتتوازى كالعديد من التمائم مع المرايا الفاتنة والتماثيل
المغوية .وتظهر التمائم حتى تحت شكل الملثمات المقلق ،مع باطنية
فيلم M. Kleinوخصوص ًا مع ست الحسن في فيلم الساعي.
إحدى أفضل روايات آرثر ميلرArthur Miller, ، وهذا هو موضوع (((1
Focus (Paris: Edition de Minuit, [s. d.]):
هناك أمريكي متوسط احلال أشتبه به خطأ أنه هيودي ،فعذبته األجهزة الرسية
حيتج ويثبت أنه من اآلريني األقحاح؛ ثم
،K. K. K.وهجرته امرأته وأصدقاؤه ،راح ّ
ً
أدرك أن جلسات التعذيب لن تكون أكثر شناعة لو كان هيوديا فعالً ،ثم راح يتامهى
مع اليهودي الذي مل يكنه ،يبدو لنا أن فكرة فيلم لوزي قريبة جد ًا من فكرة رواية ميلر.
264
هل ثمة من خالص لدى لوزي ،حتى ولو شابه الغموض كما
هو الحال عند ستروهايم أو بونويل؟ إذا ُوجد مثل هذا الخالص ،فال
بدّ من البحث عنه عند النساء .يبدو أن عالم الغرائز وبيئة األعراض
المرضية يحاصران الرجال ويدفعان بهم إلى نوع من ألعاب الجنسية
المثلية الذكَرية التي ال يخرجون منها .على العكس ال توجد امرأة
أصلية في طبيعانية لوزي (فقط في فيلم ،Modesty Blaiseتظهر المرأة
ذات الغرائز والتمائم ،ولكن ذلك محاكاة ساخرة للرجال) .وغالب ًا ما
تظهر النساء عند لوزي متقدمات على البيئة االجتماعية وثائرات عليها
وخارج العالم األصلي للرجال الذي يقعن فيه ضحايا أحيان ًا ،ويوظفنه
خلقةأحيان ًا أخرى .النساء هن اللواتي يحددن المخرج ،ويفزن بحرية ّ
وجمالية أو بحرية عملية فقط :فال يشعرن بالعار أو بالذنب ،وال يمارسن
النحاتة في فيلم
العنف السكوني الذي ينقلب عليهن .تلكم هي المرأة ّ
الهالكون ،وتلكم هي حواء الجديدة في فيلم Evaوالتي اكتشفها لوزي
في فيلمه سمكة الترويت .إنهن يخرجن من الطبيعانية ليصلن إلى
التجريد الغنائي .هؤالء النساء المتقدمات يشبهن نوع ًا ما نساء توماس
هاردي ) ،(Thomas Hardyفي وظائفهن المتشابهة.
265
تكون في قاع مدينة ميتة تشبه مدن ما قبل التاريخ ،فهي مدينة البندقية في
فيلم ،Evaأي شبه جزيرة تبدو وكأنها نهاية العالم ،وهي مدينة نورفولك
) (Norfolkالبريطانية في فيلم الساعي ،وهي حديقة على الطراز اإليطالي
في فيلم دون جيوفاني ،وهي بستان مهجور كذاك الذي أقام فيه البطل
ُمنشأته ومسار سياراته كما في فيلم زمن ال يرحم ،وهي حديقة صغيرة
مفروشة بالحصى كما في فيلم الخادم ،وهي ملعب كريكيت (وكان
لوزي يحب تصوير مثل هذه المالعب ،مع أنه ال يحب الرياضة) ،وهي
ميدان شتوي للسيارات ذو أنفاق كما في فيلم .M. Kleinالعالم األصلي
لديه عامر بالكهوف والطيور وكذلك بالقالع والمروحيات والمنحوتات
والتماثيل؛ وال نعلم إن كانت أقنيته المائية اصطناعية أو طبيعية أو ُخ ّلبية.
العالم األصلي ال يقيم إذ ًا تعارض ًا بين الطبيعة األولى ومنشآت اإلنسان:
يصح إال في األوساط الفرعية .ولكن ،بما إنه يجهل هذا التمايز الذي ال ّ
أنه ينطلق بين وسط مات وشبع موت ًا وبين وسط لم يتوصل بعد إلى رؤية
النور ،فهو يمتلك بقايا األول وإرهاصات الثاني ليصنع منها "أعراضه
المرضية البائسة" ،كما قال أنطونيو غرامشي ) (Antonio Gramsciفي
عبارة تصدرت فيلم دون جيوفاني .العالم األصلي يجمع بين المستقبلية
والمدرسة القديمة .وينتمي إليه كل ما يمت بصلة إلى الغريزة من أفعال
وحركات ،كما ينتمي الجرف إلى البحر الهائج .ومن أعلى هذا الجرف
إلى أسفله ،وعبر دروب منحدرة وعمودية ،أو من الخارج إلى الداخل
يتصل العالم األصلي باألوساط الفرعية كأنه صياد يختار فيه طرائده ،أو
يسرع انهيار هذا العالم .الوسط هنا هو المنزل الفيكتوري،
كأنه طفيلي ّ
والعالم األصلي هو المنطقة الوحشية التي تشرف على هذا المنزل أو
تحيط به.
266
هكذا تنتظم عند لوزي الحيثيات األربع الخاصة بالطبيعانية .وقد
أظهرها هو نفسه بجالء ،عندما تك ّلم عن فيلمه الهالكون وحدّ د "تجاوز ًا"
مزدوج ًا :فمن جهة هناك جروف بورتالند ) (Portlandالساحلية
بمناظرها البكر ومنشآتها العسكرية ،وهناك أطفالها الذين تأ ّثروا بالنشاط
اإلشعاعي (العالم األصلي)؛ ولكن هناك "الطراز الفيكتوري البائس
لمنتجع واي ماوث ) (Weymouthالصغير" (البيئة الفرعية)؛ ومن جهة
أخرى الصور الكبرى للطيور والحوامات ،وتظهر أيض ًا المنحوتات
(الصور واألفعال الغريزية)؛ ولكن تظهر أيض ًا عصابة سائقي الدراجات
النارية التي تشبه مقاودها أجنحة الطيور (األفعال المشينة في الوسط
الفرعي)( .((1ومن فيلم آلخر تتبدل األبعاد األربعة وتدخل في عالقات
شتى من التعارض والتكامل ،حسبما يريد لوزي قوله أو إبرازه.
(Pierre Rissient, Losey (Paris: Edition Universitaires, [s. d.]), pp. ((1
122-123.
267
الف�صل التا�سع
ال�صورة /الفعل
ال�شكل الكبري
)1
270
الوضع الجديد الناجم عن الفعل ُيشكِّل ثنائي ًا مع وضع االنطالق .وهذا
حال مجمل الصورة /الفعل ،أو على األقل شكلها األول .وهذا الشكل
التصور العضوي ،ويبدو أنه يتمتّع بن َفس أو بتن ّفس ،فيتمدّ د في
ّ يؤ ّلف
حال الوسط ،ويتق ّلص في حال الفعل .وبصورة أدق يتمدّ د ويتق ّلص في
كلتا الحالتين ،بحسب حاالت الوضع ومقتضيات الفعل.
)(M. le maudit ((( اقرتح نويل بورش هذه املفردة يف توصيفه لفيلم م .امللعون
"Le travail de fritz Lang," in: Dominique Noguez, الذي أخرجه فرتيز النغ:
Cinéma, théorie, lectures (Paris: Klincksieck, [s. d.]).
((( كتب بريس الكلمة هكذا “ ”Sinsigneللتشديد عىل فردية الوضع .ولكن
الصفة .لذا فردية الوضع والفاعل جيب أال ختتلط بالفرادة اخلاصة بالكيفيات والقوى ِّ
تدل بحسب حتليل بريس ،عىل أن هناك دائ ًام جمموعة =نفضل سابقة الكلمة “ ”Synالتي ّ
271
َعارض الحدين" ) (binômeلندلل على كل
أن نطلق على اآلخر كلمة "ت ُ
مثنى ،أي على كل ما هو ف ّعال في الصورة /الفعل .ثمة "تعارض حدين"
كلما ُيحيل ظرف قوة ما إلى قوة ضدية ،وخصوص ًا عندما تكون إحدى
القوتين "إرادية" (أو كلتاهما) ،وتنطوي في ممارستها على جهد يستبصر
يتصرف بنا ًء على ما يعتقد أن اآلخر
ّ ممارسة القوة األخرى :فالفاعل
سيفعله .لذا فإن أشكال التصنّع واالستعراض والخداع هي حاالت
مثالية لـ "تعارض حدين" .في فيلم الويستيرن ،تبدأ لحظة المبارزة عندما
يخلو الشارع ،وعندما يخرج البطل ويمشي بطريقة خاصة محاوالً أن
يعرف مكان الخصم وما سيفعله ،وهذا هو تعارض حدين بامتياز.
لنأخذ فيلم الريح للمخرج السويدي فيكتور سيوستروم (Victor
)( Sjöströmوهو فيلمه األميركي األول) .ال تتو ّقف الريح عن الهبوب
فوق السهل .إن فضاء الريح كتأ ّثر يكاد أن يكون عالم ًا أصلي ًا طبيعاني ًا،
ال بل فضاء تعبيري ًا عادي ًا .غير أنه أيض ًا ظرف يف ِّعل هذه القوة ويدمجها
قوة المروج في فضاء محدّ د هو األريزونا ) (Arizonaالتي هي بيئة
مع ّ
تألف
ْ واقعية .فتاة شابة قادمة من الجنوب تصل إلى هذه البالد التي لم
العيش فيها ،وتجد نفسها غارق ًة في سلسلة من المجابهات ،مجابهة مادية
مع البيئة ،مجابهة نفسية مع العائلة العدائية التي ّ
تحل عندها ،مجابهة
عاطفية مع راعي البقر ّ
الفظ الذي كان يعشقها ،مجابهة جسدية مع تاجر
المواشي الذي حاول أن يغتصبها .فبعد أن قتلت هذا األخير ،سعت
يائسة لدفنه في الرمال ،ولكن الريح كانت كل مرة تذرو الرمال وتكشف
عن الجثة .وهذه كانت البرهة التي تحدّ تها البيئة فيها بشدة والتي وصلت
Arnold Toynbee, L’histoire (Paris: Gallimard, [s. d.]). ((( انظر :
273
عن البيئة ،ثم يظهر الرجل األسكيمو مع عائلته .هناك عالمة مشتركة
كبرى تجمع بين السماء المكفهرة وبين شواطئ الجليد التي يؤ ّمن نانوك
فيها بقاءه على قيد الحياة في بيئة شديدة العدائية :يتجابه مع الجليد ليبني
بيته ،ويتجابه بخاصة مع الفقمة .هنا لدينا بنية عظيمة لصيغة ،SASأو
باألحرى لصيغة SASألن عظمة أفعال نانوك ال تتأتى من تعديل الوضع
بل من البقاء على قيد الحياة في بيئة ال تتزحزح .على النقيض من ذلك،
ُيظهر لنا فيلم موانا حضار ًة ال تتحداها الطبيعة .ولكن بما أن اإلنسان ال
وجب عليه تالفي
َ يستطيع أن يكون إنسان ًا إال عبر الجهد ومقاومة األلم،
النقص في البيئة الشديدة اللطافة ،فأقدم على تجربة الوشم التي جعلته
يتجابه مع ذاته مجابهة كبرى.
274
أي في رجل من هذه األ ّمة يعرف كيف ير ّد على تحديات البيئة وعلى
الصعوبات في وضع مع ّين (كما في فيلم خبزنا اليومي ،وأغنية عاطفية
أميركية) ،وحتى أثناء األزمات األكثر خطورة تنزاح هذه اإلجماعية
المدارة بشكل جيد وال تغادر مكان ًا إال لتتشكّل من جديد في مكان آخر:
تتحول من
ّ فإذا ُفقدت في المدينة تنتقل إلى المجموعات الزراعية ،ثم
"القمح إلى الفوالذ" وتنغمس في الصناعة .ويبقى أن نقول إن اإلجماع
يمكن أن يكون زائف ًا ،وإن الفرد يمكن أن يستسلم لذاته .أليس هذا
بالضبط ما حصل في فيلم الجمهور الذي لم تكن المدينة فيه إال عبارة
عن مجموعة بشرية ُمصطنعة والمبالية ،ولم يكن الفرد فيه إال شخص ًا
مهجور ًا ويفتقر إلى اإلمكانيات وردود األفعال؟ الصيغة ŚASالتي يعدّ ل
فيها الفرد الوضع لها وجه آخر وهو الصيغة ،SASوفيها لم يعد الفرد
يعرف ماذا يفعل ،وفي أحسن الحاالت يجد نفسه في الوضع ذاته :وهذا
هو الكابوس األميركي الذي ُيظهره فيلم الجمهور.
276
حررت للطبيب ومهارة القاتل ستتهاويان بعد خيانة شخص ثانوي ّ
وحررت اآلخر من حنينه إلى ّ أحدهما من َصدْ عه الجنسي الصغير،
وطنه األم ،وقادتهما كليهما إلى الفشل أو الموت .هل ينبغي أن نستنتج
أن المجتمع هو الصورة التي تعكس جرائمه وأن األوساط جميعها
مرضية وأن التصرفات جميعها متصدعة؟ هذا سيكون أكثر قرب ًا من َ
النغ أو بابست .ولكن السينما األميركية قد وجدت الوسائل الكفيلة
بإنقاذ ُحلمها من خالل الكوابيس التي تجاوزتها هذه السينما.
((( يقول جان ميرتي يف كتابه ) (Fordإن فورد مأساوي أكثر مما هو ملحمي،
وسعى لبناء فضاء مغلق من دون زمن وحركة فعليني :إنه أشبه «بفكرة احلركة» التي
تقرتحها الصور الساكنة والبطيئة .واستعاد هنري آجيل ) (Henri Agelوجهة النظر هذه
«املتوسع واملتق ّلص»Henri Agel, L’espace .
ّ بناء عىل خياره بني «املغلق واملفتوح» وبني
cinématographique (Paris: Delarge, [s. d.]), pp. 50-51, pp. 139-141).
أسس جوزيف سميث ( )1844-1805هذه اجلامعة الدينية املنشقة عن (*) لقد ّ
الربوتستانتية عام .1830واسمها الرسمي هو «كنيسة يسوع املسيح وقدييس اليوم
األخري» ،وفيها تقليد لبعض الشعائر التوراتية ،وفيها تعدّ د الزوجات الذي مورس ما
بني 1852و ،1890ومنعته الدولة األمريكية .والكتاب الثاين بعد الكتاب املقدس الذي
يسرتشد به املورمون هو كتاب مورمون (املرتجم).
278
ما دمنا لم نتجاوز هذه المقاربة األولى ،فنحن ما زلنا في صيغة
ال يصبح البطل مكافئ ًا للوسط
SASالتي أصبحت كونية أو ملحمية :وفع ً
من طريق الجماعة وال يعدّ ل في الوسط بل يعيد إقامة النظام الدوري
تخصص إلينس وفورد عبقرية َّ فيه((( .ولكن من الخطورة بمكان أن
ملحمية ،علم ًا بأن بعض المخرجين اآلخرين الحديثي العهد قد طرحوا
فكرة الويستيرن التراجيدي ،ال بل الروائي .إن تطبيق ترسيمة هيغل
ولوكاتش على تسلسل هذه األنواع ال يصح تمام ًا على الويستيرن :فكما
أوضح جان ميتري ،سار الويستيرن منذ البداية في شتّى االتجاهات
الملحمية منها والتراجيدية والروائية ،مع رجال كاوبوي سيطر عليهم
الحنين وعاشوا في عزلة وتقدّ مت بهم السن ،ال بل كانوا هالكين منذ
والدتهم ،ومع هنود حمر أعيد اعتبارهم((( .إن فورد ،في أعماله كافة،
التطور في وضع من األوضاع يؤدي إلى زمن
ّ يكف عن التقاط نقاط ّ لم
واقعي تمام ًا .بالتأكيد هناك اختالف كبير بين الويستيرن وما يمكن أن
يفسر على أنه تعاقب في األنواع
نسميه بالويستيرن الجديد؛ ولكنه ال َّ
السينمائية ،كما أنه ليس انتقاالً من المكان المغلق إلى المكان المفتوح.
فعند فورد ال يكتفي البطل بإرساء النظام المهدد بين الحين واآلخر .إن
تصوره العضوي ،ليس دائري ًا بل لولبي ،يختلف فيه وضع
بنية الفيلم أو ّ
) (Deux cavaliersيف كتابJean Roy, : حتليال دقيق ًا لفيلم الفارسان
ً ((( نجد
Pour John Ford (Paris: Edition du Cerf, [s. d.]),
ويركز فيه عىل اجلانب «اللولبي» للفيلم ويظهر أن شكل اللولب هذا وارد جد ًا
عند فورد (ص .)120ويف الكتاب حتليل رائع لفيلم ،Wagonmasterص .59-56
280
لكن يخال لنا في كلتا الحالتين أن ما يهتم به فورد هو أن تتمكن
تكون عن نفسها بعض األوهام .وهنا يكمن
الجماعة البشرية من أن ّ
الفرق الكبير بين األوساط السليمة واألوساط المريضة .لقد كتب جاك
لندن صفحات رائعة ليد ّلل أخير ًا على أن الجماعة المدمنة على الكحول
ال تحمل أوهام ًا حول نفسها .فبدل أن تدفع الكحول إلى الحلم" ،تأبى
على الحالم أن يحلم" ،إنها تتصرف كـ "عقل بحت" يقنعنا بأن الحياة
مهزلة ،وبأن الجماعة البشرية هي دغل ،وبأن الحياة يأس بيأس (ومن
هنا يأتي الحس الساخر لدى الكحولي) .ونستطيع أن نقول الشيء نفسه
عن جماعات اإلجرام .وعلى العكس من ذلك ،تكون الجماعة البشرية
سليمة عندما يسودها نوع من اإلجماع الذي يتيح لها أن تخلق أوهام ًا
حول نفسها ،وحول دوافعها ورغباتها وأطماعها وقيمها ومثلها العليا:
أي عندما تكون األوهام "حيوية" وواقعية وأحق من الحقيقة الصرفة(((.
وهذا أيض ًا هو رأي فورد الذي منذ فيلمه "الواشي" ،أبرز التدهور
لمخبر خائن ،لكونه لم يعد قادر ًا على خلق األوهام.
التعبيري نوع ًا ما ُ
إذ ًا لن نستطيع أن نلوم الحلم األميركي على أنه ليس حلم ًا :هذا ما
ارتضاه لنفسه ،مستمد ًا كل قوته من أنه حلم .المجتمع يتغ ّير وال يتوقف
عن التغ ّير ،بالنسبة لفورد ولفيدور ،ولكن هذه التغ ّيرات تحصل في بيئة
حاضنة تغطيها وتباركها بوهم سليم يضمن استمرارية األ ّمة األميركية.
281
تصوير الفيلم األساسي نفسه الذي م ّثل ميالد أمة /حضارة ،كان غريفيث
قد صنع نسخته األولى .واشتركت مع السينما السوفيتية في اإليمان
بغائية التاريخ الشامل ،وهنا بتفتّح األمة األميركية ،وهناك بقدوم عصر
البروليتاريا .ولكن بالنسبة لألميركيين ،لم يعرف التمثل العضوي بالطبع
تطور ًا جدلي ًا ،ألنه وحده يختزل التاريخ برمته ،وألنّه البذرة الحية التي
تصدر عنها كل أمة /حضارة في جوهرها العضوي وتنبئ بأميركا .من
لتصور التاريخ هذا،
ّ هنا جاء الطابع التماثلي العميق أو الطابع الموازي
التعصب لغريفيث ،الذي يمزج أربع حقب تاريخية،
ّ كما وجدناه في فيلم
وكما وجدناه أيض ًا في النسخة األولى لفيلم الوصايا العشر الذي أخرجه
سيسيل ب .دو مايل ) ،(Cecil B. De Milleووازى فيه بين حقبتين،
تم ّثل أميركا الحقبة األخيرة منهما .األمم المنح ّطة هي أجسام مريضة،
مثل مدينة بابل لدى غريفيث ومدينة روما لدى دو مايل .إذا كانت التوراة
مهمة جد ًا فألن العبرانيين والمسيحيين من بعدهم قد أنشأوا أمم ًا/
حضارات سو ّية تم ّثل ميزتي الحلم األميركي :أن تكون أميركا البوتقة
التي تنصهر فيها األقليات ،أن تكون الخميرة التي تصنع زعماء قادرين
التحرك في األوضاع جميعها .على النقيض ،فإن لينكولن الذي
ّ على
صنعه فورد يستعيد التاريخ التوراتي ،فيحكم بعدل مثل سليمان ،ويضمن
المدونة ،ومن
ّ مثل موسى االنتقال من الشريعة البدوية إلى الشريعة
النوموس [الشريعة] إلى اللوغوس [حكم العقل] ،ويدخل إلى المدينة
على ظهر حماره كما فعل المسيح (كما في فيلم .)Young Mr. Lincoln
وإذا شكّل الفيلم التاريخي نوع ًا كبير ًا من أنواع السينما األميركية ،فألن
األنواع األخرى كافة ،في الظروف الخاصة بأميركا ،كانت تاريخية أ ّي ًا
282
كانت درجة الخيال فيها :فالجريمة مع عصابات السطو ،والمغامرة مع
الويستيرن ،م ّثلتا وضع ال ُبنى التاريخية أو المرض ّية أو النموذجية.
((( Pierre
Nietzsche, Considérations intempestives, traduire par
Rusch, «De l'utilité et des inconvénients des études historiques», §§ 2 et 3.
وهذا النص يتك ّلم عن تاريخ أملانيا يف القرن التاسع عرش؛ ويبدو لنا أنه حافظ
عىل قيمة راهنة كربى ،وينطبق خصوص ًا عىل جانب كبري من األفالم التارخيية وأفالم
الرداء اإليطالية التي اقتبستها السينام األمريكية.
(*) داغون هو إله سامي -غريب نرش األموريون عبادته يف بالد الرافدين .وكان
له معبد يف مدن ماري وإيبال وأوغاريت .وظهر يف التوراة باسم داغون إله الفلسطينيني
(الكتاب املقدس« ،سفر صموئيل »،اآليات ،5-1الفصل اخلامس) (املرتجم).
283
البشرية ،مهما تباعدت ،يفترض فيها أن تتواصل عبر القمم وأن تشكّل
"مجموعة من النتائج بذاتها" تمكّن من المقارنة الناجحة وتؤ ّثر في عقل
المشاهد المعاصر .ينزع التاريخ العمراني بشكل طبيعي نحو الشمول،
التعصب ،ألن مختلف الحقب ال تتعاقب ّ ووجد تحفته الفنية في فيلم
فيه ببساطة ،بل تتناوب بحسب مونتاج إيقاعي خارق (سيقدّ م الممثل
والمخرج َبستر كيتون عنه نسخة هزلية في فيلم األعمار الثالثة) .ومهما
كان نوع المقارنة بين هذه الحقب ،فإنه بقي حلم الفيلم التاريخي
العمراني ،حتى عند إيزنشتاين( .((1بيد أن لهذه النظرة إلى التاريخ عائق ًا
كبير ًا :يتمثل في معالجة الظواهر كنتائج بذاتها منفصلة عن كل سبب،
وهذا ما سبق أن أشار إليه نيتشه ،وما انتقده إيزنشتاين في السينما
التاريخية واالجتماعية األميركية .فالحضارات ليست فقط متوازية ،بل
إن الظواهر الرئيسية داخل الحضارة نفسها -كاألغنياء والفقراء مث ً
ال -
تعالج كـ "ظاهرتين متوازيتين مستقلتين"ُ ،ينظر إليهما كنتائج ِصرفة ،ولو
ٍ
عندئذ ال مناص مع شيء من األسف ،ولكن دون ذكر أي سبب لهما؛
من استبعاد األسباب الحقيقية لهذه الظاهرة ،وال تظهر هذه األسباب
إال في شكل مبارزات فردية يتواجه فيها حين ًا ممثل عن الفقراء وممثل
يبشر بالمستقبل ،ومرة عن األغنياء ،وحين ًا آخر شخص منحط ورجل ّ
أخرى إنسان عادل وآخر خائن ...إلخ .وتم ّثلت قوة إيزنشتاين إذ ًا في
أنه أظهر أن الجوانب التقنية األساسية للمونتاج األميركي منذ غريفيث،
( ((1حول مرشوع «النظرة الثالثية يف رصاع اإلنسان عىل املاء» (انظر مقوالت
تيمورلنك -القيرصية -الكوخلوزات ،يف كتاب إيزنشتاين:
Sergei Eisenstein, La non-indifférente nature, traduit par Luda et Jean
Schnitzer (Paris : Union générale d’éditions, [s. d.]), p. 325.
284
والمونتاج الموازي المتناوب الذي يعرض الوضع ،والمونتاج المشارك
المتناوب الذي يؤ ّدي إلى المبارزة ،تحيل إلى هذه الرؤية التاريخية
االجتماعية والبرجوازية .وأراد إيزنشتاين إصالح هذا الخلل الرئيسي:
َ
التاريخ لذا طالب بتبيان األسباب الحقيقية ،الذي ينبغي عليه أن ُيخضع
ال في جميع األحوال الصراع الطبقي على العمراني لبناء "جدلي" (مفض ً
وجود خائن أو منحط أو ماكر) (.((1
(Sergei Eisenstein, Film form (New York: Meridian Books, [s. ((1
d.]), p. 235:
«بالطبع ،إن مفهوم املونتاج عند غريفيث ،بصفته مونتاج ًا موازي ًا قبل كل يشء،
يبدو وكأنه اإلنتاج املحدّ د لرؤيته الثنائية للعامل ،والتي تتقدّ م عىل اخلطني املتوازيني
التوصل إىل مصاحلة مفرتضة بينهام .اجلدير بالذكر هو أن مفهومنا
ّ للفقراء واألغنياء ،بغية
وتؤسس عىل رؤية أحادية َّ الظواهر، لفهم أخرى طريقة عن ينجم للمونتاج جيب أن
ً ٍ
وجدلية للعامل يف آن واحد» .وهذا ينطبق أيضا عىل مرشوع التاريخ الشامل :وجيب عىل
تتأسس عىل جدلية التشكيالت االجتامعية ،وقارهنا إيزنشتاين لوحة إيزنشتاين الثالثية أن ّ
بصاروخ ثالثي الطوابق :هي التشكّل الطغياين ،والرأساملية ،واالشرتاكية؛ ونفهم ملاذا
تو ّقف املرشوع (إذ كان ستالني يكره كل إحالة تارخيية إىل التشكّالت الطغيانية).
285
الحميمة .ويتقدّ م التاريخ األوابدي على التاريخ العمراني .هنا أيض ًا
تمكن السخرية من األبنية الهوليودية المعاد تشكيلها ،ومن الشكل
"القشيب" لألكسسوارات :فالقشيب ،في التاريخ األوابدي هو عالمة
على تفعيل العصر .وتصبح األقمشة عنصر ًا أساسي ًا في الفيلم التاريخي،
وال س ّيما مع الصورة /اللون ،كما في فيلم شمشون ودليلة وفيه شكّل
قمتين من قممعرض البائع ألقمشته ،وسرق ُة شمشون لثالثين جلباب ًاّ ،
ُ
األلوان .ولآلالت قمتها أيض ًا ،إما ألنها خلقت أمة /حضارة جديدة ،وإما
ألنها على العكس تنبئ بانحسارها وزوالها .في الفيلم التاريخي الوحيد
الذي أنتجه هوارد هاوكس ،وهو فيلم أرض الفراعنة ،لم يهتم -على
ما يبدو -إال بلحظة واحدة وردت في آخر الفيلم وقدّ م فيها المعمار/
المهندس للفرعون آلة جديدة خارقة تنضد الرمل والحجر وتو ّفق بين
انزالق الرمل وسقوط الحجر ،كي تسمح بإغالق داخلي محكم تمام ًا
لغرفة الموتى في قلب الهرم.
286
العبارة يجب أن يعلن باستمرار عن إعادة اكتشاف أميركا ...وال س ّيما
تفحص األسباب .واكتفت السينما أنه منذ البداية جرى التخ ّلي عن ّ
األميركية بذكر تراخي حضارة من الحضارات داخل البيئة ،وبتداخل
خائن ما في الفعل .ولكن األمر الرائع هو أن السينما األميركية ،على ٍ
الرغم من حدودها كلها ،نجحت في طرح مفهوم قوي ومتماسك عن
التاريخ الشامل ،أكان عمراني ًا أو أوابدي ًا أو أخالقي ًا(.((1
)2
من خالل هذه األنواع كلها ،ما هي قوانين الصورة /الفعل؟ يتع ّلق
القانون األول بالصورة الفعل كتمثيل عضوي في مجمله .وهو قانون
بنيوي ألن األمكنة واألزمنة محدّ دة تمام ًا في تعارضاتها وتكامالتها.
من وجهة نظر الوضع ) (Sومن وجهة نظر المكان والكادر واللقطة،
ين ّظم هذا القانون الطريقة التي بها يبعث الوسط قوى عديدة ،ويحدّ د
حصة كل قوة منها ،سماءات فورد مثالً ،كما يحدّ د صراع هذه القوى
واتفاقها ،والدور الخاص باألرض واإلقليم ،وهو دور يم ّثل ّ
قوة من بين
( ((1لكل تيار كبري يف السينام التارخيية ،أن يطرح السؤال التايل نفسه :ما هو
املتوخى؟ إن حتليل العالقات بني السينام والتاريخ قد تقدّ م كثري ًا،
ّ مفهوم التاريخ
بفضل الدراسات التي قدّ مها مارك فريوMarc Ferro, Cinéma et histoire (Paris: :
Denoël-Gonthier, 1977,
Cahiers du cinéma, no 254, 257, 277, 278, ويف دراسات :
وال سيام مقاالت جان لويس كومويل ) .(Jean-Louis Comolliولكن املشكلة
املطروحة هي أكرب من تلك التي ذكرناها هنا ،وتتعلق بالصلة القائمة بني القول التارخيي
والطروحات التارخيية من جهة ،وبني القول والصور السينامئية من جهة أخرى .ومسألتنا
ليست إال جزء ًا من تلك.
287
قوى أخرى ،ويذكر مكان المجابهة والمصالحة بينها كلها؛ ولكن هذا
القانون ين ّظم أيض ًا الطريقة التي يحيط فيها الكل بالمجموعة وبالشخصية
السينمائية وبالمنزل ،فيقيم عنصر ًا شام ً
ال تنبعث منه القوى المعادية أو
المؤيدة ،فيبرز الطريقة التي يبزغ فيها الهنود الحمر في قمة تل من التالل
فيتاخمون السماء واألرض في آن ...وحول الزمن وتعاقب اللقطات،
ينظم هذا القانون االنتقال من Sإلى ' ،Sوالتن ّفس العميق ،وتناوب
لحظات التق ّلص والتمدّ د ،والتناوب بين الخارج والداخل ،وانقسام
الوضع األساسي إلى أوضاع ثانوية هي أشبه ببقع صغيرة تحيط بها
تطور ًا لولبي ًا يشتمل
التصور العضوي ّ
ّ بقعة شاملة .نظر ًا لهذا كله ،يكون
التصور عند إيزنشتاين،ّ على حركات وقف مكانية وزمنية .سنجد هذا
توزع وتعاقب األشعة الموجهةعلى الرغم من أنه ينظر بشكل مغاير إلى ّ
على اللولب .ويرى غريفيث والسينما األميركية أن المونتاج المتناوب
المتوازي يكفي لتنظيم عالقة األشعة الموجهة في ما بينها بشكل تجريبي.
288
تعديلي ًا .إن خطوط الفعل هذه هي التي تجعل أطراف موضوع المونتاج
تلتقي ،وهذا هو الشكل الثاني للمونتاج عند غريفيث .ولكن فريتز النغ قد
ح ّقق ربما ّ
قمة الكمال في فيلم م .الملعون (وه ّيأ انتقال النغ إلى أميركا).
فمن خالل تحليل المونتاج المتالقي لهذا الفيلم ،خالف ًا لباقي أفالم النغ
تعرض الوضعالسابقة ،طرح نويل بورش فكرة "الشكل األكبر" .بالفعل ّ
الكلي في البداية لزمكان محدّ د ومفردن :باحة المبنى في المدينة ،درج
ومطبخ الشقة داخل المبنى ،المسافة الفاصلة بين المبنى والمدرسة،
والملصقات على الجدران ،هيجان الناس ...ولكن سرعان ما تبرز في
هذا الوسط نقطتان ،ثم خ ّطا فعل سيتناوبان من دون انقطاع فيما يتقاربان
كلبة تقبض على المجرم :خط الشرطة، ويتبادالن األدوار ،ويشكالن ّ
وخط الدهماء (التي تخشى أن ُيفسد قاتل األطفال نشاطاتها) .سنالحظ
أن البطل السلبي أو اإليجابي ،بفضل الطابع البنيوي الذي يتسم به
التصور العضوي ،يشغل مكان ًا مه ّي ًأ منذ وقت طويل ،حتى قبل أن يأتي
ّ
ّ
يتكشف ليحت ّله أو حتى قبل أن نعلم بأنه يأتي ليحت ّله :على هذا النحو
القاتل تدريجي ًا .وعندما تمسك الدهماء بتالبيبه نشهد الفعل الحقيقي
ونتعرف فع ً
ال على القاتل .وهنا تبدأ المبارزة بين م .الملعون والمحكمة ّ
التي شكلها اللصوص والمتسولون .إن الخط المزدوج مع وقفاته
ومقارباته ،يقودنا من الوضع إلى المبارزة ،ومن العالقة المشتركة إلى
تعارض الحدين .صحيح أن التصور العضوي يحتفظ بغموضه النهائي؛
لتحل ّ
محل الدهماء وانتزعت القاتل منها ذلك ألن الشرطة عندما أتت ّ
لتقدمه إلى محكمة قانونية ،ال نعلم إذا كان الوضع سينتهي بالتعديل
واالستقرار وبأن الجريمة ستغسل ،وبأن كل شيء ،أو إذا كانت الجريمة
ستتكرر دائم ًا ("يجب اآلن مراقبة الصغار بشكل أفضل S' :)"...أو S؟
289
القانون الثالث للصورة /الفعل يتناقض مع القانون الثاني .فإذا
كان المونتاج المتناوب بالفعل ضروري ًا لالنتقال من الوضع إلى الفعل،
يبدو أن شيئ ًا ما في الفعل المنحصر على هذا النحو وفي عمق المبارزة
يكون عص ّي ًا على أي مونتاج .ونستطيع أن ّ
نسمي هذا القانون الثالث
بقانون بازان أو "بالمونتاج المحظور" .لقد أوضح أندريه بازان أنه إذا
التوصل إلى نتيجة وإذا كانا يخضعان لمونتاج
ّ ساهم فعالن مستقالن في
واحد ،فإن النتيجة الحاصلة تنطوي على برهة يتجابه فيها الحدّ ان
ويتزامنان بالضرورة ،من دون التمكّن من الوصول إلى مونتاج يتناول
المجال والمجال المضاد .واستشهد بازان بفيلم السيرك لشارلي شابلن
ً
قائال :كل الخدع السينمائية مسموح بها ،ولكن كان يجب على شارلو أن
يدخل إلى قفص األسد وأن يكون معه في لقطة رئيسية .وكان يجب على
رجل اإلسكيمو نانوك أن يجابه الفقمة في لقطة واحدة( .((1ولم يعد قانون
تعارض الحدين يتعلق ال بـ ' SSوال بـ ،SAولكن بـ Aلذاته.
290
)Liberty Valance؟ في فيلم م .الملعون؟ هل تتم المبارزة الحقيقية
بين م .والشرطة أو المجتمع ،أو بين م .والدهماء التي ال تقبل به؟ في
المحصلة تستطيع المبارزة أن تكون خارج الفيلم مع أنها داخل السينما.
ّ
والمتسولون على جريمة
ّ في مشهد محاكمة الدهماء ،يركّز اللصوص
تصرف مدفوع ًا
التصرف والجريمة كتنظيم عقلي ،ويلومون م .على أنه ّ ّ
يبرئه :لم يكنال إن هذا هو الذي ّبعاطفته .فيرد Mعلى هذه التهمة قائ ً
يتصرف إال طبق ًا لغريزته وتأثره،
ّ بوسعه أن يتصرف إال هكذا ،فهو لم
ٍ
عندئذ يلعبه بطريقة تعبيرية .أخير ًا ،أليست والممثل الذي يلعب دوره
المبارزة في فيلم م .الملعون هي بين فريتز النغ والتعبيرية؟ وبه و ّدع
التعبيرية ،ودخل إلى الواقعية التي أتى فيلم وصية الدكتور مابوز ليؤكدها
(وفيه انسحب مابوز لصالح التنظيم الواقعي البارد).
لكن إذا وجد تداخل بين المبارزات ،فهذا يعود إلى قانون خامس
والتصرف الذي يغ ّيره،
ّ يقول :بين العنصر المحيط والبطل ،وبين الوسط
وبين الوضع والفعل ،ال بدّ من وجود تباين كبير ال يمكن معالجته إال
تدريجي ًا خالل الفيلم .من الممكن أن نتصور وضع ًا قد ينقلب إلى مبارزة
فورية ،غير أن ذلك قد يكون من "الهزل السمج" .في فيلم رائع قصير
عنوانه ،The fatal glass of beerيفتح المخرج والممثل الكوميدي
وليام فيلدز ) (William Fieldsفي أوقات منتظمة باب كوخه في أقصى
الشمال ويهتف "في طقس مثل هذا ال تدع كلبك في الخارج" ،ثم يتل ّقى
حاالً على وجهه كرتين من الثلج ال يعرف مصدرهما .لكن من الطبيعي
أن يكون هناك طريق طويل من الوسط إلى المبارزة النهائية .والسبب
هو أن البطل ليس ناضج ًا بعد ألن يقوم فور ًا بالفعل؛ فهو أشبه بهاملت
291
) (Hamletالذي كان الفعل الذي ُيطلب منه القيام به فوق طاقته .وال
يعني هذا أنه ضعيف ،بل على النقيض هو مكافئ للعنصر المحيط،
ولكنه مكافئ له بشكل احتمالي يجب على قدرته وجبروته أن يدخال
حيز الواقع .يجب أن يتخلى عن انكفائه وسالمه الداخلي ،وأن يستجمع
الوضع منها ،وأن ينتظر الفرصة السانحة التي فيها يتل ّقى
ُ قوى قد حرمه
ال يحتاج البطل إلى شعب الدعم الضروري من جماعة أو فريق .وفع ً
تكرسه كبطل ،ولكنه يحتاج أيض ًا إلى مجموعة وإلى مجموعة أساسية ّ
يلتقيها وتساعده ،مجموعة غير متجانسة وضيقة النطاق .عليه أن يتصدّ ى
للعزائم الخائرة وللخيانات من بعضهم ،وألشكال التم ّلص من البعض
اآلخر .وهذه متغ ّيرات نجدها في فيلم الويستيرن والفيلم التاريخي.
وحتى عند إيزنشتاين .ما لم يقدّ ره النقد السوفيتي هو الطابع الهامليتي
لـ إيفان الرهيب :فلحظتا الشك اللتان انتابته هما بمثابة قطعين في
الفيلم؛ تضاف إليهما طبيعته األرستقراطية التي عجزت عن النظر إلى
الشعب كمجموعة أساسية ،ولكنها رأت فيه حشد ًا أتى من طريق الصدفة
يمر في لحظات منواستخدمته كأداة .وبعامة ،يجب على البطل أن ّ
العجز ،داخلية كانت أم خارجية .تتم ّثل الجوانب القوية في فيلم شمشون
ودليلة الذي أخرجه سيسيل ب .دو مايل ،في الصور التي تظهر شمشون
ويحرك حجر الرحى ،ثم شمشون المق ّيد بالسالسل داخل حرمّ أعمى
المعبد ،شمشون الملتمس طريقه والحاجل بقدميه بعد عضات السنانير
التي ه ّيجها أقزام زنيمون؛ وفي النهاية يستجمع شمشون كل قواه ويزيح
عمود المعبد الهائل عن قاعدته؛ وصورة القوة هذه تعادل صورة العجز
البالغ التي أظهرت شمشون وهو يدير حجر الرحى ذا الصرير الحاد.
تعض شمشون
على العكس من ذلك ،نرى أن أفكاك السنانير التي ّ
292
العاجز تعادل فك الحمار الذي كان يستعمله شمشون الجبار في البداية
ليصرع به مهاجميه .بوجيز العبارة هناك مسار زمكاني يمتزج مع عملية
التفعيل التي أصبح بها البطل "قادر ًا" على القيام بالفعل؛ والتي صارت
له قوة معادلة لقوة العنصر المحيط .في بعض األحيان تشهد تناوب ًا بين
تكف إحداهما عن متابعة ما يجري ،بينما تكون األخرىّ شخصيتين،
أحب فورد هذه
ّ قادرة عليها ،كما حصل لموسى ويشوع بن نون .لقد
البنية الثنائية التي ّ
تدل أيض ًا على تعارض الحدّ ين :رجل القانون الذي
ينوب عن رجل الغرب األميركي في فيلم Liberty Valance؛ أو األم
تفسخ
في مجتمع زراعي أمومي والتي "تختلط عليها األمور" كلما ازداد ّ
تتوضح بعد أن أدرك معنى وأهمية المعركة الجماعة ،فيما تبدأ رؤية االبن ّ
الجديدة ،كما يظهر ذلك في فيلم عناقيد الغضب .من خالل هذه النقاط
للتطور :ال بدَّ من
ّ جميعها ،يتحدد التصور العضوي بهذا القانون األخير
فاصل كبير بين الوضع والفعل العتيد ،ولكن ال وجود لهذا الفاصل إال
ألنه س ُيردم في عملية موسومة بالوقفات والتراجعات والتقدّ مات.
)3
استوحت سينما السلوك (المدرسة السلوكية) من الصورة/
الفعل ،ما دام السلوك هو فعل ينتقل من وضع آلخر ،ويستجيب لوضع
محاوالً تعديله أو تأسيس وضع آخر .كان ميرلو بونتي يرى في زيادة
االهتمام بالسلوك هذه عالمة مشتركة من عالمات الرواية الحديثة وعلم
النفس الحديث وروح السينما( .((1ولكن ضمن هذا المنظور ،ال بدّ من
293
التصور
ّ عالقة حسية حركية قوية جد ًا ،وال بدّ من هيكلة السلوك فعالً .إن
العضوي الكبير ŚASال ينبغي أن يكون مركّب ًا فحسب بل أن يو َلد :يجب
تتشرب الشخصية الموقف بعمق ومن دون انقطاع ،ومن من جهة أن ّ
تتفجر بالفعل،
جهة أخرى يجب على الشخصية المشبعة بالموقف أن ّ
ولو بشكل متق ّطع .وهذه هي صيغة العنف الواقعي المختلفة عن العنف
التشرب)
ّ الطبيعاني .البنية تتم ّثل في بيضة :ولها قطب نباتي أو إنباتي (هو
وقطب حيواني (هو التعبير الحركي عما يجيش في الداخل (Acting-
) .)Outونعلم في هذا المعنى أن الصورة /الفعل قد وجدت منهجيتها
في اإلستوديو األميركي للتمثيل ) (Actors Studioوفي سينما إيليا
كازان .وهنا توجد ترسيمة حس ّية حركية استحوذت على الصورة ،ويوجد
عنصر وراثي ينزع إلى االنطالق .ومنذ البداية لم تط َّبق قواعد اإلستوديو
األميركي للتمثيل على الممثل فقط بل أيض ًا على تصميم وصنع الفيلم
أيض ًا ،بطرق ضبط الكادرات والتقطيع والمونتاج فيه .ويجب ّ
البت بكل
هذا وبأداء الممثل الواقعي وبالطبيعة الواقعية للفيلم ،وبالعكس .فمن
نصرح بأن الممثل ليس محايد ًا على اإلطالق وبأنه النافل القول أن ّ
يتشرب الموقف وال يبقى هادئ ًا من دون تو ُّقف.
يقرر .فعندما ال ينفجر ّ
بالنسبة للمم ّثل كما بالنسبة للشخصية ،يتم ّثل العصاب األساسي
أقل حركة في الح ّيز من القطب ال ليس القطب اإلنباتي ّ
بالهستيريا .وفع ً
الحيواني الدائب على الحركة العنيفة .فالتش ّبع اإلسفنجي له كثافة كما
التصور
ّ والتوسع المفاجئ .ولهذا السبب بالذات ُيعطى
ّ للتعبير الحركي
البنيوي والوراثي للصورة /الفعل صيغ ًة ال تنتهي تطبيقاتها .لقد اقترح
إيليا كازان أن يجعل مجموعة من الشخوص المتنازعين يتناولون الطعام
سيفجر النزاعات ويجعلها تحتدم .لننظر
ّ مع ًا :ذلك أن الطعام المشترك
294
في فيلم حديث ط ّبق هذا المنهج وهذه المنظومة ،وهو فيلم جيورجيا
للمخرج األميركي آرثر بين ) .(Arthur Pennثمة في الفيلم مشهد
ُيظهر مائدة إفطار تجمع أب ًا ملياردير ًا لفتاة شابة مع خطيبها البروليتاري
المهاجر ،فنشهد توتر الوضع الذي يعتمل في دخيلة البطلين المتنافسين؛
ثم يقول األب" :لم أعتد أن أعطي ما أملكه" ،فكانت هذه الكلمات أشبه
تضمنت العنصر الجديد في عالقة زنا المحارم
بانفجار غ ّير الوضع ألنها ّ
بين األب وبنته .والحق ًا في حفل الخطوبة ،يبدو األب -الذي ال نشاهده
يتشرب الموقف بوضوح والذي يتوارى خلف كوة زجاجية -وكأنه ّ
وينقض األب فيقتل
ّ وثمة طفل صغير يالحظ ذلك وينتظر؛ كعشبة سامة؛ ّ
ابنته ويجرح خطيبها جرح ًا بالغ ًا ،فيغ ّير معطيات الموقف في هذا التعبير
الحركي الحيواني.
هذا يشبه التباين الحيوي الذي تك ّلم عنه برغسون عندما قال :إن
المتفجر مكاني ًا ،في
ّ النبات أو العنصر النباتي قد أخذ على عاتقه تخزين
حين أن العنصر الحيواني قد تو ّلى تفجيره فعالً ،وبحركات مفاجئة(.((1
قد تكمن فرادة صموئيل فو ّلر في أنه دفع هذا التباين إلى حدّ ه األقصى،
رجات قوية وعلى كسر المشاهد المتعاقبة .إن فيلم الحروب معتمد ًا على ّ
وتشرب األجواء من جهة، ّ ُمالئم لذلك من خالل التو ّقعات المستمرة
ومن خالل التفجيرات العنيفة والتعبيرات الحركية عن جيشان الباطن.
المحصلة ،سيجد فو ّلر أشكال عنفه لدى المجانين اإلنباتيين الذين
ّ في
ينتصبون كنباتات في أحد األروقة ،كما نشاهد ذلك في فيلم Corridor
يتفجر
ّ Shockأو في الكلب العنصري في فيلم الكلب األبيض الذي
تفجرات غير متوقعة وأن في أفعاله الهجومية .صحيح أن للمجانين ّ
296
قايين التي ال تعرف السالم ،ولكنها تخلق تطابق ًا بين العصاب الهستيري
والبراءة واإلثمية ،وبين العار والشرف :أما ما كان وما ّ
يظل من ّفر ًا في
مثل هذا الوضع المحلي فهو البطولة التي يقتضيها الوضع الشامل،
يطور بإسهاب هذا وهو الثمن الذي يجب دفعه .إن فيلم على األرصفة ّ
الالهوت :إن لم أخن اآلخرين ،أخون نفسي وأخون العدالة .ال بدّ من
اإلقدام على العديد من األوضاع القذرة المحيطة ،وعلى العديد من
الطابع الذي يغسلنا والتفجير
ُ ستشف منها
ّ المشينة ،التي ُي
االنفجارات ُ
عدن هو الفيلم التوراتي الكبير،
الذي ينقذنا أو يسامحنا .وفيلم شرقي ْ
كل من نيكوالس راي هو قصة قايين وخيانته ،التي راودت بطرق شتى ّ ً
وصموئيل فو ّلر( .((1وهذا الموضوع ظل حاضر ًا على الدوام في السينما
األميركية وفي تصورها للتاريخ المقدس والدنيوي .والمهم أن قايين
أصبح واقعي ًا .والغريب عند قازان هو الطريقة التي تص ّلب فيها الحلم
آن واحد .وتعزز الحلم األميركي كحلم، األميركي والصورة /الفعل في ٍ
قوة
وال شي آخر سوى الحلم ،ولكن الوقائع ناقضته؛ ولكنه عرف طفرة ّ
يتضمن أفعاالً كالخيانة والوشاية (وهي أفعال
ّ متنامية ،ما دام هذا الحلم
كانت وظيفة الحلم فيها هي اإلقصاء بحسب جون فورد) .وبالضبط
بعد الحرب انهار الحلم األميركي وتحكّمت في الصورة /الفعل أزمة
( ((1حول هذه النقاط املتعلقة بقازان مجيعها (املشاكل اجلاملية يف اهليكلة
واملشاكل الشخصية يف الوشاية التي تؤثر يف الفيلم) جيب الرجوع إىل كتابRoger :
Railleur, Kazan (Paris: Seghers, [s. d.]),
ورأينا كيف أن السينام األمريكية ،وال سيام األفالم التارخيية أولت أمهية كربى
بموضوع اخليانة واخلونة .وتنامت بعد احلرب العاملية الثانية مع صعود املكارثية .ونجد
أن فولر قد عالج موضوع اخليانة بصورة مبتكرة ،انظرJacque Lourcelles, «Thème :
ِ
du traître et du héros,» Présence du cinéma, no 20 (Mars 1964).
297
حاسمة كما سنرى ،وعندها وجد هذا الحلم شكله األكثر رسوخ ًا،
ووجد الفعل ترسيمته األكثر عنف ًا ،حتى ولو استمر بعضهم في صناعة
أفالم من هذه الشاكلة.
ال تكتفي سينما السلوك هذه بترسيمة حسية حركية بسيطة من
نوع القوس االرتكاسي ال بل المشروط .إنها سينما تأ ّثرت بتعقيدات
ً
وفعال، المدرسة السلوكية ،وأخذت العوامل الداخلية بعين االعتبار(.((1
ما يجب أن يظهر للخارج هو ما يعتمل في سريرة الشخصية ،ويتقاطع
سيفجره .وكانت تلك القاعدة ّ مع الوضع المحيط به والفعل الذي
التي اتبعها استوديو الممثلين :وحده الجواني هو األساس ،ولكن هذا
الجواني ال يكمن في الماورائيات ،وليس خفي ًا ،بل يتمازج مع العنصر
الوراثي للسلوك الذي يجب إبرازه .ال يتم ّثل ذلك في اتقان الفعل ،بل
لتطور الصورة /الفعل .وال تنسى هذه الصورة هو الشرط الضروري ّ
الواقعية أبد ًا أنها تحديد ًا تعرض أوضاع ًا خيالية وأفعاالً مصطنعة:
ملح ،فهو ال يقتل ذلك أن المم ّثل ال يجد نفسه "حق ًا" أمام وضع ّ
وال يشرب الكحول "حق ًا" .فالمسألة ليست إال من قبيل المسرح أو
السينما ...ويعي الممثلون الواقعيون ذلك تمام الوعي ،ويقترح عليهم
"استوديو الممثلين" طريقة معينة .فمن جهة يجب إقامة اتصال حسي
مع األشياء المتصلة بالوضع :حتى إذا كان اتصاالً خيالي ًا مع مادة ما ،مع
كأس زجاجي مع ّين ،مع نسيج ،مع طقم ثياب ،مع أداة ،مع علكة فم.
َ
تفعيل وينبغي من جهة أخرى أن يوقظ الشيء الذاكرة العاطفية ،وأن يعيد
298
يحرضه الدور ٍ
انفعال ليس بالضرورة مطابق ًا بل مماث ً
ال لالنفعال الذي ّ
ً
انفعاال مالئم ًا لهذا التمثيلي( .((1إن تحريك شيء مالمس للوضع يوقظ
الوضع :فمن خالل هذه العالقة الداخلية بين الشيء واالنفعال يتح ّقق
الترابط الخارجي للوضع المتخ ّيل أو للفعل المصطنع .وهذه طريقة من
الطرق ،فاستوديو الممثلين ال يطلب من الممثل أن يتماهى مع دوره؛
وما يم ّيز هذه المدرسة هو العملية المعاكسة التي بها يفترض بالممثل
الواقعي أن يماهي بين الدور وبين بعض العناصر الداخلية التي يمتلكها
ويختارها لنفسه.
غير أن العنصر الداخلي ليس تأهيل الممثل فقط ،إنه يظهر في
الصورة (ومن هنا االضطراب الدائم للمم ّثل) .فهو بحدّ ذاته وبطريقة
مباشرة عنصر من عناصر السلوك والتأهيل الحسي الحركي .إنه يطابق
بين اإلشباع واالنفجار .فتظهر "المزدوجة" الشيء واالنفعال في
الصورة – الفعل كأنها عالمتها الوراثية فيظهر الشيء بالتالي في جميع
احتماالته (الشيء المستخدم والمباع والمشترى والمتبادل والمكسور
والمعانق والمرذول ،)...ويتماشى مع االنفعاالت الموازية والمف َّعلة:
ففي فيلم أميركا أميركا مثالً؛ السكين الذي تعطيه الجدة ،والحذاء
ّ
المجذف ،كلها تتناسب مع Sو ...Śففي المهجور ،والقبعة ،والبحار
هذه الحاالت جميعها ،هناك مزدوج ُة االنفعال /الشيء التي ال تنتمي
299
إال للواقعية ،ولكنها بطريقتها تتعادل مع مزدوجة الغريزة والتمائمية،
ومع مزدوجة التأ ّثر والوجه .وهذا ال يعني أن السينما السلوكية تتجنّب
بالضرورة اللقطة المقربة (لقد حلل تايور ) (Tailleurصورة جميلة جد ًا
المقربة
ّ في فيلم الدمية اللحمية "يدخل" فيها الرجل تمام ًا في ح ّيز اللقطة
للمرأة الشابة ،فتداعب يده وجهها وشفتيها وتالمس شعرها)( .((1يبقى
أن التعامل االنفعالي لشيء من األشياء ،وعملية االنفعال بالنسبة لهذا
الشيء ،يستطيعان أن يؤ ّثرا أكثر من لقطة مقربة في الصورة /الفعل .في
أحد مشاهد فيلم على األرصفة تبدو المرأة بسلوك مزدوج ويبدو الرجل
خجوالً ومذنب ًا فيلتقط القفاز الذي تركته يسقط على األرض ،ويحتفظ به
ويلهو به ثم يدخله في يده( .((2يبدو هذا المشهد كعالمة وراثية وجنينية
بالنسبة للصورة /الفعل ،يمكننا تسميتها "دمغة" (أو شيء انفعالي)،
وتعمل كـ "رمز" في مجال السلوك .وتجمع في ٍ
آن واحد بطريقة غريبة،
شعور المم ّثل ،وإثمية الفاعل الشخصية وهستيريا الصورة (كاليد
َ ال
المحترقة مثالً) ،والدمغة التي ال تكف عن الظهور في أفالم المخرج
األميركي إدوارد دميتريك ) .(Edward Dmytrykإن الدمغة في
األعم ،هي الرابط الداخلي ولكن المرئي ،بين الوضع المحيط
ّ تحديدها
والفعل االنفجاري.
300
الف�صل العا�شر
ال�صورة /الفعل
ال�شكل ال�صغري
)2
تبدو الصورة /الفعل وكأنها وعت ذاتها ،وال سيما في فيلم الرأي
العام لشارلي شابلن الذي كان فيه مخرج ًا ال ممثالً ،أو في كل أفالم
المخرج األلماني إرنست لوبيتش .وحتى إذا اكتفينا بتحليل سطحي نرى
أن هناك نوعين من المؤشرات ،أو قطبين منها .في الحالة األولى يكشف
الفعل (أو ما يعادله ،أو حركة بسيطة) وضع ًا ليس سهالً .فالوضع إذن من
الفعل ،باستدالل فوري أو بتفكير مع ّقد نسبي ًا .فما دام الفعل غير مدرك
مؤشر نقصان ويتضمن ثغرة في السرد ويتوافق المؤشر هنا ّ
ّ بذاته ،يكون
مع المعنى األول لكلمة مضمر ) .(ellipseففي فيلم الرأي العام مثالًّ ،
ألح
شارلي شابلن على ثغرة السنة التي لم تكن أحداثها مغطاة ،ولكن جرى
استنتاج كل شيء من سلوك البطلة الجديد ومن ثيابها ،هي التي غدت
عشيقة رجل غني .وحتى الوجوه لم تكن لها قيمة تعبيرية أو عاطفية
مستقلة ،بل إنها لم تقدّ م أية داللة على ما يمتدّ خارج مجال اللقطة .ذلك
تصرفت حق ًا كمؤشرات على وضع شامل .هكذا كانت الصورة أنها ّ
الشهيرة للقطار الذي ال نرى وصوله إال من خالل األضواء التي تعبر وجه
المرأة ،وكانت أيض ًا الصور الشبقية التي نستنتجها من وجوه األشخاص
ّ
المؤشر بتفكير الحاضرين فقط .وتصبح األمثلة أكثر بيان ًا عندما يحيط
مع ّين مهما كان سريع ًا :وهكذا "تفتح مد ّبرة المنزل صوان ًا ،فتسقط ياقة
الرجل على األرض بمحض الصدفة ،مما يكشف النقاب عن عالقة
302
تقيمها إدنا ) .((("(Ednaونجد عند لوبيتش باستمرار هذه االستدالالت
ّ
المدخلة في الصورة نفسها التي تكون بمثابة مؤشر .في فيلم السريعة
نجوى لثالثة أشخاص ،وهو فيلم على جانب من الجرأة ،ألن البطلة
تطالب على نحو عفوي وبسيط بحقها في العيش مع اثنين من عشاقها
وفي مساكنتهم ،ورأى أحدهما اآلخر مرتدي ًا بدلة سموكينغ ذات صباح
في بيت المحبوبة المشتركة :فيستنتج من هذا المؤشر (وكذلك يستنتج
المشاهد) أنه أمضى ليلته مع المرأة الشابة .يدل المؤشر على أن أحد
الشخوص متأنّق جد ًا في لباسه ويرتدي طقم سهرة ليدلل بذلك على أنه
لم يكن في وضع حميم طوال الليلة الماضية .وهذه هي صورة استداللية.
304
أن يبدأ الممثل حواره الفردي :هل فعل ذلك ألنه ضاق ذرع ًا ،أم ألنه
تواعد مع زوجة الممثل؟ ويتم أحيان ًا أخرى بسبب الحبكة برمتها التي
تش ّغل المونتاج كله :يوجد فرق صغير في الحركة ،ولكن توجد أيض ًا
مسافة هائلة بين موقفين ،فعندما يلعب فريق الممثلين أدوار ًا أللمان
أمام مشاهدي مسرحية ما ،هذا شيء ،و شيء آخر عندما يمثلون أدوار ًا
أللمان أمام مشاهدين ألمان يته ّيأ لهم أنهم يرون أنفسهم فيها .المسألة
هي مسألة حياة أو موت :تكون األوضاع متباعدة كلما عرف الشخوص
أن كل شيء متعلق بالفروق الصغيرة في تصرفهم.
نستدل من الشكل الصغير على الفعل الذيّ في األحوال جميعها،
يقودنا إلى الوضع أو إلى األوضاع .ويبدو أن هذا الشكل أقل كلفة من
حيث المبدأ ،وأكثر توفير ًا :هكذا يشرح لنا شارلي شابلن أنه استخدم
ظل القطار وضوءه المنعكسين على الوجه من دون أن يكون لديه قطار
فرنسي حقيقي ليعرضه بشكل مباشر ...هذه المالحظة التهكمية مهمة،
ألنها تطرح مشكلة عامة :مشكلة األفالم التي هي من الفئة ب أو األفالم
ذات الميزانية المحدودة ،وتأثيرها في ابتكارات الصورة في السينما .ال
شك أن القيود االقتصادية قد خلقت إلهامات مبهرة ،وأن بعض الصور
التي التقطت في ظروف مقتصدة قد أثارت أصداء عالمية .ولدينا أمثلة
عديدة عنها نجدها في الواقعية الجديدة ،وفي سينما الموجة الجديدة،
ولكننا غالب ًا ما نعتبر الفئة ب ،وعن حق ،مركز ًا فعاالً للتجريب واإلبداع.
يبقى أن "الشكل الصغير" لم توجد بالضرورة أصوله وتعبيره الوافي
قطع ًا ،في األفالم ذات الميزانية المحدودة .فقد وجد في السينما سكوب،
وفي اللون ،وفي اإلخراج الباذخ ،وفي الديكورات ،وسائل تعبيرية كثيرة
متوفرة في الشكل الكبير ذاته .وإذا سميناه "الشكل الصغير" -وهي
305
تسمية غير مناسبة بذاتها – فألننا فقط نعارض بين صيغتين للصورة/
الفعل ŚAS :و ،ÁSAوأعني بذلك البنية األحادية الكبرى التي تجمع
األعضاء والوظائف أو التي تشمل ،على العكس من ذلك ،األفعال
واألعضاء التي تتشكّل تدريجي ًا في تنظيم ملتبس.
عندئذ يغدو من السهل أن نجعل صيغتي الصورة /الفعل تتواءمان ٍ
مع األنواع والحاالت النوعية التي توحيان بها .ما رأيناه منذ قليل هو
كوميديا الطباع ،ذات الشكل الصغير ،ASAباعتبارها تتمايز مع الفيلم
النفسي االجتماعي ذي الشكل الكبير .SASلكن التمايز أو التعارض
المتشابهين ينطبقان على المجاالت المتغايرة .لنعد أوالً إلى الفيلم
التاريخي الكبير ،SASالتاريخ العمراني واألوابدي .يعارضه نوع من
األفالم التاريخية أيض ًا ،التي تتبع صيغة ،ASAوالتي أطلقنا علينا وبحق
صفة "فيلم األزياء والثياب" .في هذه الحالة ،يكون الطقم والثوب
وحتى القماش بمثابة تصرفات أو عادات تدل على وضع تكشف هي
عنه .وهذا يختلف كثير ًا عن الفيلم التاريخي الذي ،كما رأينا ،تلعب فيه
األقمشة والثياب دور ًا مهم ًا جد ًا ،ولكن عندما تندرج في مفهوم عمراني
تصور أزيائي أو تصميمي لها ،كما لو أن الخ ّياط
التصور هنا هو ّ
ّ وأوابدي.
حل محل المعماري واألوابدي .في فيلم الزي، ومصمم الديكور قد ّ
كما في كوميديا الطباع ،ال تنفصل العادات عن المالبس واألفعال ،وعن
حالة األزياء التي تبني شكلها والوضع الناجم عنه ،وال تنفصل أيض ًا عن
األقمشة والستائر .ليس مستغرب ًا أن لوبيتش ،في أفالمه األولى ،وفي
مرحلته التعبيرية األلمانية قد أنتج أفالم ًا أزيائية تأثرت بعبقريته الخاصة
(كـ "آن دي بولين والسيدة دو باري وخصوص ًا فيلم الفنتازيا الشرقية
:)"Sumerunثمة أقمشة وثياب وطرق في اللبس عرف لوبيتش كيف
306
يو ّظفها ،وكيف يستخدم في الصورة اللونين الكامد والمضيء واعتبرها
مؤشرات داللية(((.
في مجال الفيلم الوثائقي ،عارضت المدرسة اإلنجليزية عام
19300مخرج األفالم الوثائقية الكبير روبرت فالهيرتي �(Robert Fla
() .hertyلقد أخذ كل من المخرجين إدغار غرييرسون �(Edgar Grier
) sonوبول روثا ) (Paul Rothaعلى فالهيرتي عدم اكتراثه االجتماعي
والسياسي .فبدل االنطالق من عنصر محيط ومن بيئة يستنتج فيها سلوك
التصرفات الستقراء
ّ البشر "طبيعي ًا" ،كان يجب االنطالق من بعض
الوضع االجتماعي الذي لم يكن معطى بحدّ ذاته ،ولكنه كان يحيل إلى
تنم العادة السلوكية
وتتحول .وهكذا ّ
ّ وتصرفات تعمل دائم ًا
ّ صراعات
عن الفروق الحضارية وعن التمايزات الموجودة في الحضارة نفسها.
يجري االنطالق إذ ًا من السلوك إلى الوضع بحيث تتوفر – عندما ننتقل
الخلق" .وستستعيد ّ من األول إلى الثاني – إمكانية "تفسير الواقع
السينما المباشرة أو سينما الحقيقة هذا المسعى في شروط أخرى.
ثمة أيض ًا الفيلم البوليسي ،في اختالفه عن فيلم الجريمة .صحيح
أن بعض الشرطة موجودون في فيلم الجريمة ،كما أنهم قد يغيبون
عن الفيلم البوليسي .فما يم ّيز النموذجين هو أنه ،وفق ًا لصيغة الجريمة
( )2كان لوبيتش خبري ًا يف معرفة األقمشة وصناعة األلبسة ،وكانت هذه املعرفة
بعلو معرفة سترينربغ بالدانتيال و»خيوط النسيج» ..لقد اعرتف لوت إيسنر ،عىل الرغم
من أحكامه القاسية عىل أفالم لوبيتش ،أنه – يف التعبريية ويف ذائقته لألعامق – أتى بعنرص
جديد مت ّثل يف ألعاب األضواء املسلطة عىل املالبس ،ومتثل أيض ًا يف مساحة الصورة .وهذا
هو النجاح الباهر الذي حققه مورناو الحق ًا يف فيلم طرطوف .انظر:
Lotte H. Eisner, L’écran démoniaque, Encyclopédie du Cinéma (Paris: A.
Bonne, [s. d.]), pp. 39-43 et p. 141.
307
،SASيتم االنطالق من الوضع أو من الوسط إلى األفعال التي هي بمثابة
مبارزات ،في حين أن االنطالق – في الصيغة البوليسية – ASAيتم من
أفعال عمياء كمؤشرات داللية إلى أوضاع غامضة تتغ ّير رأس ًا على عقب
أو تنقلب تمام ًا بحسب تغ ّير طفيف في المؤشر الداللي .وتُع ّبر جملة
الروائي األميركي صموئيل هاميت(*) ) (Samuel Hammettتمام ًا عن
هذا النوع من الصور" :يجب أن تترك مفتاح ًا إنجليزي ًا داخل اآللة".
مزق هذا ستفجر الوضع المظلم كلي ًا ،وستنتزع َ
ّ والحركة العمياء هي التي
الوضع .وبفضلها ُص َّورت أفالم جميلة ،منها النوم العميق لهوارد هوكس
والصقر المالطي لجون هيوستون [واشتهر هذان المخرجان بمعالجة
الشكل الكبير لفيلم الجريمة] .ولعل فريتز النغ هو الذي قدّ م تحفة فنية
لهذا النوع من األفالم من خالل فيلمه الحقيقة الغريبة :في إطار حملة
تصدّ ت للخطأ القضائي ،يصطنع البطل دالئل خاطئة تتهمه بارتكاب
تم توقيفه وإدانته؛ وحينجريمة؛ ولكن ما إن زال اصطناع األدلة ،حتى ّ
أوشك الحصول على العفو ،أثناء زيارة خطيبته له ،يناقض نفسه وتبدو
ال قاتل .كان اصطناع منه إشارة تفهم منها الخطيبة أنه مذنب وأنه فع ً
الدالئل المزورة طريقة إللغاء الدالئل الصحيحة ،ولكنها تؤدي بطريقة
ملتوية إلى وضع الدالئل الصحيحة نفسها .ما من فيلم أقدم على مثل
هذا الكم من الدالئل وتحركت وتحولت فيه أوضاع متباعدة ومتعارضة.
)2
أخير ًا يطرح الويستيرن المشكلة نفسها وبشروط غن ّية جد ًا .لقد
310
فعندما يتالشى العنصر المحيط ،يزول االتصال – كما في بعض أفالم
فورد – بين داخل ُمتموضع عضوي ًا وبين خارج يحيط به ويمنحه وسط ًا
حي ًا تأتي منه النجدات واالعتداءات أيض ًا .األمر هنا على العكس من
ذلك ،فالالمتو ّقع والعنيف والحدث كلها تصل من الداخل ،في حين أن
المعتاد أو المنشود ،ويتم في تحولالخارج هو باألحرى مكان الفعل ُ
غريب بين الخارج والداخل((( .في فيلم El Doradoيدخل الجميع إلى
يستحم فيها الشريف ويخرجون منها كأنهم في الساحة العامة.
ّ الغرفة التي
تقوسه ويتخذ شكل خط تماس انطالق ًا من نقطة الوسط الخارجي يفقد ّ
أو من مقطع يعمل كـ "جوانية" :إذ ًا يصبح الخارج والداخل متخارجين،
ويدخالن في عالقة بخط مستقيم تمام ًا تمكّن من حدوث تبادل وظيفي
بين األضداد .ومن هنا ظهرت اآللية المستمرة للتعاكسات عند هوكس،
والتي تعمل بكل وضوح ،بمعزل عن الخلفية الرمزية ،حتى عندما ال
تكتفي باالعتماد على الخارج والداخل ،ولكنها تُعنى ،كما في األفالم
الكوميدية ،بالعالقات القطبية الثنائية جميعها .إذا كان الخارج والداخل
وظيفتين صرفتين ،يستطيع الداخل أن يأخذ وظيف َة الخارج؛ ولكن المرأة
بوسعها أن تمارس وظيفة الرجل في عالقة اإلغواء ،وبوسع الرجل أن
ونم في
واذهب ْ
ْ يأخذ وظيفة المرأة (كما في فيلمي السيد بيبي المستحيل
مكان آخر ،وكما في األدوار النسائية في أفالم الويستيرن التي أخرجها
Positif, ( )4حول موضوع اخلارج والداخل عند هوكس ،جيب العودة اىل:
) no 195 (Juillet 1977وإىل مقاالت إيكم ) (Eyquemوماسون ) (Massonولوغرند
) (Legrandحول موضوع اخلارج والداخل عند هوكس ومقالة بورجيه )(Bourget
التي تقدّ م كثري ًا من اإلضاءات حول املوضوع نفسه .يف ّ Cinématographe
يرص كل
من إيامنويل ديكاو ) (Emmanuel Decauxوجاك فيييش ) (Jacques Fieschiعىل اآللية
العامة للتعاكسات عند هوكس.
311
هوكس) .ويقوم الراشدون والمسنّون بوظائف األطفال ،كما أن الطفل
يأخذ وظيفة الراشد الفظيعة (كما في فيلمي كرة نارية والرجال يفضلون
ّ
وتتدخل اآللية نفسها بين الحب والمال ،وبين اللغة الراقية الشقراوات).
واللغة الشعبية ...وهذه التعاكسات الشبيهة بالتبادالت الوظيفية تشكّل،
كما سنرى ،صور ًا حقيقية تضمن تبدّ ل الشكل.
ينخرط هوكس في تشويه طوبولوجي للشكل الكبير :لذا تحافظ
أفالم هوكس على طاقة عالية من "التن ّفس" ،كما قال المخرج جاك
ريفيت ،مع أن هذا التنفس أصبح س ّياالً ومعبر ًا عن االستمرارية وعن
تناوب الوظائف أكثر من تعبيره عن الشكل العضوي((( .ولكن أفالم
الويستيرن الجديدة ،مع أنها مدينة لهوكس ،فقد ذهبت في اتجاه آخر:
فاستعارت بنحو مباشر "الشكل الصغير" ،حتى ولو ُعرضت على شاشة
ّ
محل الشكل اللولبي ومساقطه. ّ
ويحل كبيرة .يسود القطع الناقص
ولم يعد ذلك هو القانون الشامل والكامل ( SAأي أن الفارق الكبير
ال يوجد إال ل ُيردم) ،ولكنه قانون تفاضلي :ASأي أن الفارق األصغر
ليتعمق كي يخلق أوضاع ًا متباعدة أو متعارضة.
ّ الذي ال وجود له إال
في المقام األول ،لم يعد الهنود الحمر يظهرون في أعالي التالل كأنهم
ينزلون من السماء ،بل يبزغون من بين األعشاب العالية التي ال يتم ّيزون
عنها .يكاد الهندي األحمر يختلط بالصخرة التي يتر ّبص من خلفها
(انظر فيلم Hombreلمارتان ريت) ،ورجل الكابوي يمتلك شيئ ًا معدني ًا
يدمجه بالمنظر الطبيعي (راجع فيلم رجل الغرب ألنطوني ما) ((( .يصبح
Jean-Luc Godard, Jean-Luc Godard (Paris: = العنرص النبايت واملعدين فيه ،انظر:
Belfond, [s. d.]), pp. 199-200.
313
ثم على التوضيح" .ولكن إذا كان الوضع نفسه منوط ًا
على االكتشاف ّ
بالفعل ،فال بدّ للفعل بدوره من أن يربط بتاريخ والدته ولحظتها وثانيتها،
وبالفاصل الصغير ،كما يربط بالفارق الذي يقوم مقام الدافع الغريزي.
ثاني ًا ،ال يصلح قانون الفارق الصغير إال إذا أ ّدى إلى أوضاع متباعدة
جد ًا من ناحية المنطق .في فيلم ،Little Big Manيتغ ّير الوضع بالفعل
رأس ًا على عقب بحسب ما ُيدفع به إلى جانب الهنود أو إلى جانب البيض.
وإذا كانت اللحظة هي العنصر الفارق في الفعل ،فإن الفعل يستطيع أن
ينقلب في كل لحظة من هذه اللحظات وينضوي إلى وضع مختلف
الخ َور والشكوكجد ًا أو متعارض .ال شيء ُيكسب إلى األبد .مجاالت َ
والخوف ال يعود لها إطالق ًا المعنى نفسه كما في التم ّثل العضوي :فلم
تعد المراحل األليمة التي تردم الفاصل والتي من خاللها يرقى البطل إلى
مقتضيات الوضع الشامل ،ويف ّعل قوته الخاصة ويغدو قادر ًا على القيام
بفعل باهر .فلم يعد ثمة فعل باهر ،حتى ولو امتلك البطل مزايا خارقة
عملي ًا .في أحسن الحاالت يكون خاسر ًا من أولئك "الخاسرين" الذين
قدّ مهم بيكنباه ) (Peckinpahفي فيلمه" :لقد فقدوا مالمحهم ،وكل وهم
من أوهامهم ،فهم يم ّثلون المغامرة الخالية من أي هدف أو منفعة ،إال من
رضاهم الخالص بأنهم ما زالوا يعيشون" .لم يحتفظوا بشيء من الحلم
األميركي ،وحافظوا على حياتهم فقط ،وفي كل لحظة حرجة قد ينقلب
عليهم الوضع الذي أحدثه فعلهم ،فيفقدون الشيء الوحيد الذي تب ّقى
لهم .بوجيز العبارة ،للصورة /الفعل دالالت تأشير ،وهي في آن دالالت
نقصان تكشف عنها القطوع الفظة في السرد ،ودالالت تباعد أو التباس
تكشف عنها إمكانية وحقيقة االنقالبات المفاجئة للوضع.
هذا ال يدل على تر ّدد بين وضعين متباعدين أو متعارضين فحسب،
314
بل متزامنين أيض ًا .األوضاع المتعاقبة والتي يكون ّ
كل وضع منها ملتبس ًا
بحدّ ذاته ستشكل ك ّلها وفي اللحظات الحرجة التي تفرزها هذه األوضاع،
ستشكّل خط ًا منكسر ًا ذا مسار ليس في الحسبان ،مع أنه مسار ضروري
وصارم .وهذا يصح على األمكنة واألحداث .عند بيكنباه ،لم يعد هناك
غرب واحد بل مغارب أميركية عديدة ،مغارب ترتع فيها اإلبل ،مغارب
يقطنها صينيون ،أي أن هناك مجموعات من األماكن والبشر والعادات
التي تتبدّ ل وتلغي بعضها في الفيلم نفسه((( .عند أنطوني مان ،وأيض ًا عند
ديلمار ديفيس ) ،(Delmar Davesثمة "طريق أقصر" ويختلف عن
الخط المستقيم ،ولكنه يجمع أفعاالً وأجزا ًء A ،و ،Áويحافظ كل منها
على استقالله ،ويكون كل فعل أو جزء منها لحظ ًة حرجة غير متجانسة
و"حاضر ًا مسنون ًا إلى أقصى الحدود"((( .إن ذلك أشبه بحبل ذي عقد،
يلتوي عند كل عقدة ،وعند كل فعل ،وعند كل حدث .فعلى العكس من
المكان /التن ّفس في الشكل العضوي ،هناك مكان آخر يتشكّل :المكان/
الهيكل مع وسائل ناقصة وتغايرات تغ ّير مواقعها أو تتواصل بكثافة .لم
موجه ًا له مسافات زمنية .لم يعد تلك السمة
يعد مكان ًا محيط ًا بل مكان ًا ِّ
المحيطة ذات االستدارة الكبرى ،بل السمة التي يكسرها خط كوني .إنه
315
ّ
المؤشر عالمة العالمة التوليدية للصورة /الفعل الجديدة ،في حين كان
تأليفها.
)3
لقد رأينا كيف أن األنواع السينمائية الكالسيكية تمكّنت بعامة من
تتوزع بحسب شك َلي الصورة /الفعل .والحال أنه إذا ما ُوجد نوع أن ّ
مكرس حصر ًا للشكل الصغير ،بحيث كاد يبتدعه ويستخدمه سينمائي ّ
كشرط في األهزولة األخالقية ،فهذا النوع هو النوع الهزلي الساخر
المتطورة واألشد اتساع ًا:
ّ ) .(burlesqueففيه يجد الشكل ASصيغته
هناك فرق طفيف في الفعل أو بين فعلين ،فرق يخلق مسافة غير محدودة
بين وضعين ،وال وجود له إال ليخلق هذه المسافة .لنأخذ أمثلة مشهورة
من مجموعة أفالم شارلي شابلن :يشاهد شارلو من الخلف بعد أن تركته
زوجته فيبدو وكأنه ينتحب ،وما أن يستدير باتجاه المشاهد حتى يحرك
يسجلرجاجة كوكتيل ليحضر له مشروب ًا .وكذلك األمر في الحرب ،ألنه ّ ّ
نقطة كلما يطلق الرصاص؛ ولكن حصل أن رصاصة معادية ردت عليه،
ٍ
عندئذ العالمة التي تركتها .المهم هو أن العنصر الهزلي الساخر فيلغي
يصور الحدث من زاوية أبسط فرق مع حدث آخر يستند إلى ما يليَّ :
(إطالق النار من البندقية /والمشاركة في اللعبة) ،ولكنه يكشف بهذا
النحو االتساع الهائل للمسافة بين الوضعين (جولة في لعبة البيلياردو/
والحرب) .وحين يتعلق شارلو بحبل نقانق في ملحمة أحدهم ،فإنه
ال يبرز جيد ًا المسافة التي تفصل بين الترامواي وبين ملحمة يعزز تماث ً
ّ
تحوالت األشياء المستخدمة :فالفارقاللحام .هذا ما نجده في معظم ّ
الزهيد الذي يضاف إلى الشيء ُيحدث وظائف قابلة للتعارض أو يؤ ّدي
316
إلى أوضاع متعارضة .وهذه هي احتمالية األدوات؛ وحتى عندما يتجابه
شارلو مع اآلالت يحفظ من هذه المجابهة الفكرة القائلة بوجود أداة
عمالقة تنقلب آلي ًا إلى الوضع المختلف .وهنا تكمن إنسانوية شابلن
الذي أثبت أن "شيئ ًا بسيط ًا" يكفي لقلب اآللة على اإلنسان وجعلها
وسيلة ألسره وتجميده وإحباطه ،ال بل للتنكيل به ،على مستوى
حاجاته األولية (فاآللتان الضخمتان في فيلم األزمنة الحديثة تتجابهان
يتعرض لصعوبات ّ
يتعذر حلها) .في مع اإلطعام البسيط لإلنسان الذي ّ
مجموعة أفالم شارلو ،ال يكتفي المرء بإيجاد قوانين الشكل الصغير ،بل
يمسك بها في منشأها :أي الغموض والتماهي مع الوسط (شارلو في
قلب الرمال ،شارلو /التمثال ،شارلو /الشجرة ،فيجسد من جديد نبوءة
ماكبث)...؛ ونالحظ الفارق الصغير الذي يقلب الموقف ،كازدواجية
الشخصية لدى شخص من شخوص الفيلم والتي تؤ ّثر في كل شيء،
كما في فيلمي التهافت على الذهب وأضواء المدينة؛ ونرى أن اللحظة
فترة حرجة في المواقف القابلة للتعارض ،فينشغل شارلو في اللحظة
كل لحظة تستنفر قواه المرتجلة وينتقل من لحظة ألخرى مع العلم أن ّ
الخط الكوني الذي يرسمه على هذا النحو خ ّط ًا
ّ جميعها؛ وأخير ًا يبدو
منكسر ًا يتج ّلى في تبدّ الت الزوايا لسيره ،وال تتصل مقاطعه واتجاهاته
يشاهد فيه شارلو منَ أخير ًا إال إذا راصفها على الطريق الطويل الذي
ظهره بين أوتاد وأشجار سقطت عنها أوراقها ،أو يشاهد على الحدود
التي يتبع تعرجاتها بين أميركا حيث تتربص الشرطة به وبين المكسيك
حيث ينتظره ق ّطاع الطرق .وهذا يشكّل لعبة المؤشرات والدالالت كلها
والتي هي عالمة على الصورة الهزلية الساخرة :أي القطع الناقص في
اتجاهيه االثنين.
317
لكن قانون المؤشر ،أي الفارق الصغير في الفعل الذي يخلق
مسافة ال متناهية بين وضعين ،يبدو حاضر ًا في كل مكان في األهزولة
طور الممثل األميركي هارولد لويد (Harold
الساخرة بعامة .لقد ّ
) Lloydخصوص ًا متغ ّير ًا ينقل نسق الصورة /الفعل إلى نسق الصورة/
اإلدراك الصرفة .يظهر لنا اإلدراك األول عندما نشاهد هارولد مث ً
ال في
سيارة فارهة مركونة في أحد المواقف؛ ويظهر اإلدراك الثاني عندما
بالتحرك ،فتكشف لنا هارولد راكب ًا دراجة بائسة .لم يدخل
ّ تبدأ السيارة
الكادر إال من خالل زجاج السيارة ،والفارق الطفيف بين اإلدراكين
يجعلنا ندرك المسافة الالمحدودة بين وضعي "الغني /الفقير" .في
مشهد جميل جد ًا من فيلم اصعد إلى ناطحة السحاب )،(Safety Last
ال منحني القامة ،وقضبان ًا حديدية وأنشوطة
ُيظهر لنا اإلدراك األول رج ً
تتدلى من أحد السقوف ،وامرأة تبكي ،وقس ًا يستنهض الهمم ،في حين
أن اإلدراك الثاني ينقل لنا فقط وداع ًا تم على رصيف محطة قطارات
حيث يجد كل عنصر من هذه العناصر تبريره.
إذا حاولنا اكتناه فرادة شابلن ،وما أعطاه مكانة ال تضاهى في
األهزولة الساخرة ،فال بدّ لنا أن نبحث عن ذلك في مكان آخر .فشابلن
عرف كيف يختار الحركات القريبة والمواقف المتباعدة التي تالئمها،
بحيث خلق في ظل هذه العالقة بينها انفعاالً شديد ًا إلى جانب الضحك،
وفاقم الضحك بواسطة هذا االنفعال .إذا كان ثمة فرق بسيط في الفعل
يؤ ّدي إلى موقفين متباعدين أو متعارضين Śو "Sويجعلهما يتناوبان،
يكون أحد الموقفين "في الواقع" مؤثر ًا ورهيب ًا ومأساوي ًا (ليس بسبب
الخداع البصري فقط ،كما عند هارولد لويد) .في المثال السابق لفيلم
العسكري شارلو ،الحرب هي الوضع الفعلي الراهن ،في حين أن جولة
318
لعبة البيلياردو تتراجع إلى ما ال نهاية .ومع ذلك ال تتراجع اللعبة كفاية
كي توقف ضحكنا ،على العكس من ذلك ،ال يحول ضحكنا دون التأ ّثر
بصورة الحرب التي فرضت نفسها واستفحلت ،حتى داخل الخنادق
الغارقة بالمياه .بوجيز العبارة ،نرى أن المسافة الالمحدودة بين Śو
( "Sالحرب وجولة البيلياردو) تؤ ّثر فينا كثير ًا وال سيما أن التقارب بين
الفعلين والفارق الصغير في الفعلُ ،يضحكنا أكثر .وذلك ألن شابلن
عرف كيف يبتكر الفارق الطفيف بين فعلين مختارين جيد ًا ،وألنه
يخلق مسافة قصوى بين الوضعين المناظرين ،يصل َ يعرف أيض ًا أن
األول منهما إلى االنفعال ،ويفضي الثاني إلى الهزل الخالص .هناك
دارة قطباها الضحك /االنفعال ،يحيل فيها أحدهما إلى الفارق الصغير،
ويحيل اآلخر إلى المسافة المديدة من دون أن يمحو أحدهما اآلخر أو
ّ
ويحث أحدهما اآلخر .ال مجال هنا يق ّلصه ولكنهما يتبادالن األدوار
ال للقول إننا نضحك ،فيللحديث عن شابلن مأساوي .وال مجال فع ً
حين يجب علينا أن نبكي .إن عبقرية شابلن قائمة على هذين العنصرين،
أي أنه يضحكنا أثناء انفعالنا .في فيلم أضواء المدينة ،نرى أن الفتاة
كـر ال َغ ْزل ،وبين الفعل
العمياء وشارلو ال يتبادالن األدوار :ففي مشهد ّ
األعمى الذي يسعى إلى إلغاء كل فارق بين خيوط الغزل ،وبين الوضع
المرئي الذي يتغير كلي ًا وفق ًا لحالة شارلو الغني – كما يفترض – والذي
يمسك بش ّلة الخيوط ،أو شارلو البائس الذي يفقد أسما َل ُه ،نالحظ أنهما
شخصيتان تدوران في الدارة نفسها ،شخصيتان هزليتان ومؤثرتان.
إن األفالم األخيرة لشابلن اكتشفت السينما الناطقة وحكمت
بإعدام شارلو في آن (يصبح فيردو ) (Verdouxهو شارلو عندما يذهب
إلى الموت ،ولكن الدكتاتور الذي يصعد إلى المنصة يختلط مع شارلو
319
الذي يصعد إلى المشنقة) .ويبدو أن المبدأ نفسه اكتسب قوة جديدة .لقد
أصر أندريه بازان على أن فيلم الدكتاتور ما كان من الممكن إنجازه لو أن
ّ
هتلر ) (Hitlerفي الواقع لم يسرق ويضع شاربي شارلو((( .فالفارق بين
الحالق اليهودي الصغير والدكتاتور هو بضآلة الشاربين .ومع ذلك برز
عنه وضعان متباعدان تمام التباعد وقابالن للتعارض كوضعي الضحية
والجالد .في فيلم السيد فيردو ،يكون الفارق بين ملمحي وتصرفي
الرجل نفسه ،أي قاتل النساء والزوج الذي يحب زوجة مشلولة ،من
الضآلة بمكان بحيث يحتاج األمر إلى حدس الزوجة كله حتى تستشعر
بأنه "تغ ّير" .قالت ميراي التيل إن ذلك لم ينجم عن عجز ،بل عن فكرة
بارعة تقول إن شابلن -في موقفي فيردو – "لم يغ ّير الشكل الخارجي
للشخصية ولم يبدّ ل شيئ ًا في دورها"( .((1ومع ذلك تنجم عن الفارق
المتالشي الصغير مسافة فسيحة بين األوضاع المتعارضة ،وتشهد بذلك
المرات التي راوح فيها خروج ًا وعودة بين المنازل الخاطئة وبين المنزل
العائلي الحقيقي .هل أراد شابلن أن يقول في هذين الفيلمين بأن في كل
ال محتملين؟ هل أراد فيهما أن يقول بأن المواقف واحد منا هتلر ًا وقات ً
فقط هي التي تجعل منا أناس ًا أخيار ًا أو أشرار ًا ،ضحايا أو جالدين،
323
الداخلية والخارجية الفسيحة .وفي الوقت نفسه ،يتو ّلد تحت أنظارنا
نوع من الصور غير المتو ّقعة في الهزل الساخر .هذا ما نراه في فيلم
قواعد الضيافة ،مع الليل والعاصفة والبروق وعمليتي االغتيال والمرأة
المذعورة ،مما يذكّر بأسلوب غريفيث .وهذا ما نراه في اإلعصار (في
الغواص في قاع البحر فيلم ،)Steamboat Bill Juniorواختناق ّ
بحر) ،وتح ّطم القطار والفيضان (في فيلم ميكانو (في فيلم رحلة الم ِ
ُ
قطار الجنرلال) ،ومباراة المالكمة الرهيبة (في فيلم �Battling But
.)lerوأحيان ًا يم ّثل ذلك عنصر ًا مهم ًا في الصورة :شفرة السيف الذي
يأتي لينغرس في ظهر أحد األعداء ،في فيلم ميكانو قطار الجنرال ،أو
يدسها أحدهم في يد أحد المتظاهرين الصينيين (في فيلم السكين التي ّ
رجل الكاميرا) .لنأخذ كمثال مباراة المالكمة ،ما دامت أفالم الهزل
مرت بذلك .تستجيب مباريات شارلي شابلن بشكل الساهر جميعها ّ
ج ّيد لقانون الفرق الصغير :مباراة الباليه أو مباراة األعمال المنزلية
ولكن في فيلم Battling Butlerتوجد ثالث معارك :مباراة مالكمة
حقيقية تبدو حقيقية في عنفها؛ وجلسة تمرين تمارس بطريقة تقليدية
ال مدغدَ غ ًا ينتفض فيهدده األب
مضحكة وساخرة ،ويبدو فيها كيتون طف ً
المدرب؛ وأخير ًا جلسة تصفية بين كيتون والبطل بكل ُقبحها ،إذ يرتعش
ّ
ويتلوى من األلم ويتج ّعد الجلد بفعل
ّ فيها الجسم تحت وقع الضربات
اللكمات ،ويظهر الحقد على الوجه .هذا المشهد هو واحد من أكثر
المشاهد إدانة للعبة المالكمة .وهنا نفهم جيد ًا مغزى الطرفة التي رواها
كيتون حين قال :كنت أريد أن أحدث فيضان ًا فعارضني المنتج قائ ً
ال ال
يمكننا أن نضحك الناس بأشياء كهذه ،فأجبته أن شابلن قد أضحكهم في
أصر على موقفه ووافق على إحداث إعصار حرب ،1914ولكن المنتج ّ
324
فقط (ربما ألنه كان يجهل كم عدد الموتى الذي سيسببه اإلعصار(.)((1
عند ذلك المنتج حدس صائب :فإذا استطاع شابلن أن ُيضحك الناس
بواسطة حرب ،1914فألنه ربط بين الحدث الرهيب وبين فارق صغير
مضحك بحد ذاته .أ ّما كيتون ،فعلى العكس من شابلن ،فقد قدّ م مشهد ًا
أو وضع ًا غير مضحك ،أو قدّ م صورة/حد ًا ،بالنسبة لإلعصار كما
بالنسبة للقتال .لم يعد األمر هنا يتعلق بفارق صغير س ُيبرز وضعين يمكن
معارضتهما ببعضهما ،بل يتعلق بفجوة كبيرة بين الوضع المطروح
والفعل الهزلي المنتظر (قانون الشكل الكبير) .فكيف سيتم ردم هذه
الهوة ،ال ليكون الفعل المضحك "مقبوالً على الرغم من كل شيء"
ال وكي يتطابق معه؟ لن نقول فقط ،بل كي يغطي ويطيح بالوضع كام ً
إن كيتون وشابلن ممثالن مأساويان ،ولكن المسألة مختلفة كلي ًا بينهما.
ما هو فريد لدى كيتون هو الطريقة التي يرفع فيها الهزل الساخر إلى
شكله الكبير .ومع ذلك يستخدم عدة طرق .لقد أطلق ديفيد روبنسون
) (David Robinsonعلى الطريقة األولى تسمية "المسار /القفشة"،
وتقوم هذه الطريقة بحشد ف ّن كامل للمونتاج السريع .فبعد فيلم األعمار
الثالثة صرنا نرى البطل المتشح باللباس الروماني ّ
يفر من زنزانته ويلتقط
ترس ًا ويرتقي درج ًا وهو يركض وينتزع رمح ًا ،ويمتطي حصان ًا ،ويقف
فوقه ،ويقفز إلى نافذة عالية ويباعد بين عمودين ،ويسقط السقف ويحظى
بالفتاة ،وينزلق على امتداد رمحه ويقفز فوق كومة من القش أعدت
ساعتها للدواب .كذلك نرى البطل العصري يقفز من سطح منزل آلخر،
325
ولكنه يسقط فيتع ّلق بمظلة باب ويتشبث بأنبوب ،فينفصل من مكانه
ويقذفه طابقين إلى األسفل فيجد نفسه في مطفأة للحريق فينزلق على
ٍ
وقتئذ. عمود الهبوط ويقفز إلى مؤخرة سيارة اإلطفاء التي كانت تخرج
في المشاهد الهزلية الساخرة ،بما فيها مشاهد شابلن ،نرى مطاردات
وسباقات سريعة للغاية ومشاهد متنوعة أخرى ،ولكن َبستر كيتون هو
ربما الوحيد الذي قام بمغامرات مستمرة صرفة .وأسرع مغامرة حصلت
َ
البطل الذي ينطلق في فيلم رجل الكاميرا الذي فيه تهاتف الفتاة الشابة
همت فيها بإغالق عبر شوارع نيويورك ويصل إليها في اللحظة التي ّ
سماعة الهاتف .ويحقق ذلك أيض ًا من دون مونتاج وفي لقطة واحدة، ّ
كما في فيلم ،Sherlock Juniorفنرى كيتون يصعد من فتحة في سقف
قطار ثم يقفز من قاطرة ألخرى ويلتقط جنزير خزان المياه الذي لمحناه
في بداية اللقطة ،فيدفعه سيل الخزان إلى السقوط أرض ًا فيهرب بعيد ًا،
فيما يصل رجالن فتغمرهما المياه المتدفقة .ويتم المسار /القفشة عبر
تغيير اللقطة ويبقى الممثل ساكن ًا ال يتحرك :ففي لقطة شهيرة من حلم
في Sherlock Juniorتمر القطعات تباع ًا فنشاهد الحديقة ثم الشارع
ثم الهاوية ثم الكثيب الرملي ثم الرصيف البحري الذي تضربه األمواج
ثم المدى الثلجي ثم نعود إلى الحديقة من جديد (وكذلك األمر بالنسبة
لعملية تغيير الديكور الذي يتم في سيارة ال تتحرك)(.((1
( )14نحيل إىل حتليالت ديفيد روبنسون التي تتناول اللقطات واحدة واحدة يف
أغلب األحيان :وليس لفيلمي Les trois ȃgesو Sherlock Juniorفقط بل للمشهد املهم
لشالالت املياه يف فيلم قواعد الضيافة )( (Les lois de l’hospitalitéص .)48-46كذلك
يتغي الديكور خلفه وبالنسبة للمشاكل
األمر بالنسبة للموقف الثابت للشخص الذي َّ
التقنية واهلندسية التي تُطرح وقتها (يف غياب أسلوب الشفافيات) :انظر ص .54-53
رسام وكاتب فرنيس تأ ّثر بالتكعيبية ،و ُأغرم برسم آالت متخ ّيلة .ويف الشعر =
(*) ّ
326
هناك أسلوب آخر يمكن أن نسميه القفشة اآللية .إن كتّاب سيرة
كيتون والمع ّلقين على أفالمه أكدوا ولعه باآلالت وتفاعله معها؛ لم
يتفاعل مع السريالية بل تفاعل مع الدادائية ال مع السوريالية :تفاعل
مع اآللة /البيت ومع اآللة /السفينة ومع اآللة /القطار ومع اآللة/
السينما ...أتك ّلم عن اآلالت ال عن األجهزة :هناك أوالً جانب مهم
ُيظهر الفرق بينه وبين شابلن الذي اهتم باألجهزة وعادى اآللة .ولكن
ثاني ًا ،إذا كان كيتون قد جعل من اآلالت حليفه األنفس ،فألن شخصيته
ابتكرتها وصارت جزء ًا منها ،فهي آالت من دون أم كآالت فرانسيس
بيكابيا(*) ) .(Francis Picabiaففي وسعها أن تفلت من سيطرته وأن
ال وأن تع ّقد ما هو بسيط :إنها ال تتو ّقف
تصبح عبثية أو أن تكون عبثي ًة أص ً
عن خدمة غائية سرية عليا وتتو ّغل في ف ّن كيتون .في فيلم البيت القابل
للتفكيك .نرى بيت ًا فككت قطعه بفوضى وصار أشبه بزوبعة؛ في فيلم
الفزاعة نشاهد بيت ًا من دون أساس ،بيت ًا مؤ ّلف ًا من غرفة واحدة ،وتتشابك
والحمام مع
ّ قطعه الممكنة وتتداخل مسنناته ،يتداخل الموقد مع الحاكي
الصوفا والسرير مع األرغن :مثل هذه اآلالت /البيوت جعلت من كيتون
مهندس ًا معماري ًا دادائي ًا بامتياز .ومن ناحية ثالثة ،تقودنا هذه اآلالت إلى
السؤال التالي :ما الغاية من هذه اآللة العبثية ،من هذا الشكل العديم
آن واحد ُبنى هندسية ومعلوالت فيزيائية.المعنى عند كيتون؟ إنها في ٍ
ولكن خصوصيتها ،في مجمل أعمال كيتون ،هي أنها بنى هندسية ذات
وظيفة "تحجيمية" ،أو أنها سببيات فيزيائية ذات وظيفة "تكرارية".
= كتب عدد ًا من الدواوين القريبة من الدادائية ،ومنها ديوان قصائد ورسوم للفتاة التي
ولدت من دون أم (( )1918املرتجم).
327
في فيلم رحلة المبحر ،ليست اآللة هي الباخرة الضخمة بحد ذاتها
يخصص كل جزء منها
فقط :إنها الباخرة التي لها وظيفة تحجيمية والتي َّ
لمئات األشخاص ،وستغدو مالئمة لزوجين وحدهما من دون أن يملكا
شيئ ًا .فالحدّ ،فالصورة /الحدّ ،هو إذ ًا موضوع سلسلة ال ترتئي تجاوزه
أو حتى بلوغه ،بل جذبه واستقطابه .كيف السبيل إلى طهو بيضة صغيرة
في قدر ضخم؟ ال تتحدّ د اآللة عند كيتون بالرحابة ،إنها تنطوي على
تحولها ،بفضل نظام آلي
االتساع ،ولكن بابتكار الوظيفة التحجيمية التي ّ
بارع يقوم على مجموعة من البكرات واألسالك والعتالت( .((1وكذلك
األمر في فيلم ميكانو قطار الجنرال ،لن نصدّ ق فقط بأن الفتاة التي تل ّقم
تتصرف بشكل أخرق وغير ّ مرجل القطار بقطع صغيرة من الحطب،
مناسب .ولكن ذلك حقيقي ،ألنه يح ّقق حلم كيتون ،أي استعمال أكبر آلة
تصرففي العالم من أجل تشغيلها بأصغر القطع ،وجعلها بالتالي تحت ّ
ال إلىكل الناس .وحصل أن انتقل كيتون مباشرة من اآللة الكبيرة فع ً
لعبة مستنسخة عنها ،كما في نهاية فيلم الحدّ اد مالك .ويلجأ فيلم اذهب
غرب ًا إلى تحجيمات شتّى تراوح بين المسدس القزم إلى العجل الصغير
المك ّلف بجمع القطيع الهائل من األبقار .تلك هي الغاية من اآللة ذاتها:
إنها ال تشتمل فقط على قطعها الضخمة ومسنناتها ،بل على تحولها
التقزيمي ،وتشتمل أيض ًا على آلية تحويل تجعلها ملك ًا لرجل وحيد أو
المؤهالت واالختصاصات .ال بدّ
ّ لزوجين ضائعين ،بصرف النظر عن
( )15يقول روبنسون« :هناك زوجان شابان وغنيان مل يتع ّلام أن يتدبرا أمرمها وحدمها
فيبحران عىل ظهر سفينة خالية من الركاب ،ومن دون هدف حمدد .وتزداد الصعوبات
العادية حلياهتام ،ألن خدمات السفينة ليست معدّ ة ألفراد ،وإنام آلالف الناس ...وعىل
الزوجني أن جياهبا جتهيزات منزلية معدّ ة بعامة ملئات األشخاص» (ص .)56-54
328
لكل هذا أن يكون جزء ًا من اآللة :في هذا الصدد لسنا متأكدين من أن
كيتون يفتقر إلى رؤية سياسية ،كان شابلن يتمتّع بها .ثمة باألحرى رؤيتان
"اشتراكيتان" ،إحداهما إنسانوية شيوعية عند شابلن ،واألخرى آالتية
(*)
موضوعية عند كيتون (تقريب ًا على غرار الكاهن النمساوي إيفان إي ّليش
) (Ivan Illichالذي طالب بحق استعمال اآلالت الضخمة وبتقزيمها).
تمر
ال تستطيع هذه التحجيمات أن تتم إال بعمليات سببية فيزيائية ّ
بتعرجات وامتدادات وطرق غير مباشرة وعالقات بين الالمتجانسات، ّ
فتزود اآللة بالعنصر العبثي الذي ال بدّ منه .في مجموعة ،Malecيقترح
ّ
فيلم العالمة العالية موجز ًا لسلسلة سببية غريبة :ثمة آلة للرمي وفيها
يضغط البطل برجله على عتلة خفية ،فتُسقط منظوم ُة من األسالك
كلب الوصول إليها عبر شدّ ه على ٌ والبكرات أحد العظام التي يبغي
حبل ،بحيث يقرع جرس الدريئة (يكفي وجود قطة لتعطيل اآللة).
فتخ ّيل هنا رسوم روب غولدبرغ ) ،(Rube Goldbergالتي هي رسوم
دادائية :هناك سالسل سببية مذهلة ،فوضع رسالة في علبة البريد مث ً
ال
تمر بمجموعة طويلة من اآلليات المتباينة والمتداخلة التي تبدأ بحذاء ّ
يقذف كرة لعبة الرغبي إلى حوض ،ومن مسنن إلى آخر تنتهي بأن
تعرض على شاشة تُفتح أمام عيني الناظر عبارةYou Sap Mail that :
.Letterوكل عنصر من عناصر السلسلة يبدو وكأنه بال وظيفة وأن ال
عالقة له بالهدف ،ولكنه يصير هــدف ًا إذا قورن بعنصر آخر ّ
مجرد من
أية وظيفة ورابط ...إلخ .تعمل هذه السببيات من خالل سلسلة من
329
التفكّكات :وتقترب بعض آالت تِين ْغيويلي ) (Tinguelyمن آالت كيتون
ّ
ولكل ُبنية عنصر غير وظيفي ،ويصبح وظيفي ًا في وتراكم عدد ًا من ال ُبنى،
تدوس في السيارة ال تجعل العربة تتقدم ،ولكنها (الجدّ ة التي ّ
البنية التالية َ
تشكل آلة لنشر الخشب .)...عبر هذه السببيات المتواترة يتم امتالك البنى
الهندسية الكبرى ،ويتم أيض ًا تطوير المسارات الكبرى .البنية هي رسم
مسار ،ولكن المسار ليس رسم ًا آللة .وكل مسار يشكل بحد ذاته آلة يكون
اإلنسان فيها مسنن ًا داخل عناصر مختلفة ،مثل الميكانيكي الجالس على
تجر جسده الساكن إلى سلسلة من أقواس الحاجز المتحرك للقاطرة التي ّ
الدائرة .الشكالن األساسيان للقفشة عند كيتون ،وتحديد ًا القفشة المسارية
والقفشة اآللية ،هما ملمحا واق ٍع واحد ،فهناك آلة تنتج اإلنسان من دون
ُأسس أو تنتج إنسان المستقبل .الفارق الكبير بين الوضع الهائل والبطل
القزم س ُيردم بتلك الوظائف التحجيمية وتلك السالسل المتواترة التي
تجعل البطل مكافئ ًا للوضع .وهكذا فإن كيتون يبتكر هزالً ساخر ًا يتحدى
جميع الشروط الظاهرية للنوع ويتخذ بالطبع الشكل الكبير كإطار له.
330
الف�صل الحادي ع�شر
ال�صور �أو تحوّل الأ�شكال
)1
إن التمييز بين شكلي الفعل بسيط وواضح في حدّ ذاته ،ولكن
تطبيقاته معقدة .رأينا أن بعض المسائل المالية يمكن أن ّ
تتدخل ،ولكنها
ليست مسائل حاسمة ألن الشكل الصغير ،كي يع ّبر عن نفسه وعن
تطوره ،يحتاج إلى شاشة عريضة وديكورات وألوان غنية ،شأنه شأن ّ
الشكل الكبير .يجب أن ننظر إلى الشكل الصغير والكبير بالمعنى الذي
أخذ به أفالطون فجعلهما مطابقين لفكرتين مثاليتين؛ والفكرة المثالية
هي قبل كل شيء شكل الفعل .وهذا ليس خالي ًا من األهمية ،بالنسبة
للسينما .وهكذا ع ّبر بعض المخرجين عن تفضيلهم هذا الشكل أو ذاك
وكرسوه؛ بيد أنهم استعادوا الشكل الثاني أحيان ًا ،إما لالستجابة منهما ّ
لمقتضيات جديدة ،وأما ليغيروا ويرتاحوا أو ليختبروا أنفسهم بطريقة
ال هو مع ّلم فيمختلفة ،وإما ليخوضوا تجربة ...إلخ .فجون فورد مث ً
الشكل الكبير ويلجأ الى العالمات الجامعة وتعارض الحدين؛ ولكنه
ومتصرف ًا بمؤشرات
ّ قدم أيض ًا عدد ًا من الروائع ،معتمد ًا الشكل الصغير،
(وهذا ما حدث في فيلم رحلة طويلة الذي ال ُيستدل فيه على غارات
331
الطائرات إال عبر الصوت ،وعلى هيجان البحر إال من خالل األمواج
التي تضرب مقدمة السفينة) .بعض المخرجين اآلخرين تنقلوا ب ُيسر من
شكل آلخر ،من دون اسئثار :لقد رأينا ذلك بالنسبة لألفالم السوداء التي
أخرجها هوارد هوكس ،والسبب هو أنه عرف أن يبتكر شك ً
ال أصيالً،
ال متغ ّير ًا يستطيع اللعب على الطريقتين ،كما نشاهد ذلك في أفالمشك ً
الويستيرن التي أنتجها .ونطلق كلمة شكل أو صورة على عالمة ّ
تدل
ثمة أنواع كثيرة من
والتحوالت والتبدّ التّ .
ّ التشوهات
ّ على مثل تلك
التقويمات الجمالية واإلبداعية التي تتجاوز مسألة الصورة /الفعل،
والتي بالطبع ال تطرح نفسها على نطاق السينما األميركية فقط ،ولكنها
تعني كل مراحل السينما بعامة.
ذلك أن كلمتي "صغير" و"كبير" ال تشيران إلى أشكال الفعل فقط
تصور "موضوع ما" ورؤيته ،أو تشير يتم فيها ّ
بل إلى تصورات ،وطرق ّ
وللتصور شديد األهمية
ّ الى قصة أو سيناريو .وهذا المعنى الثاني للفكرة
للسينما ،وال س ّيما أنه يسبق السيناريو بوجه عام ويحدّ ده ،ولكنه يستطيع
يصر في هذا الشأن على عدم االهتمام أيض ًا أن يأتي بعده (كان هوكس ّ
بالسيناريو الذي يمكن أن يستلمه جاهز ًا) .تصميم الفيلم يقتضي إخراج ًا
معين ًا وتقطيع ًا ومونتاج ًا محدّ دين ،وكلها ال ترتبط بالسيناريو فقط .ينقل
لنا المخرج الروسي ميخائيل روم ) (Mikhail Rommمحادثة جرت بينه
وبين إيزنشتاين ،عندما كان روم يخرج قصة كرة الشحم للكاتب الفرنسي
أوال :بين جزئي القصة ،عندك مدينة غي دو موباسان((( .سأل إيزنشتاين ً
روان ) (Rouenواالحتالل األلماني وشتى أنواع الشخوص من جهة،
333
الغالب في أعمال بودوفكين :فمهما كان مدى البيئة المعروضة ،أكانت
مدينة سان بترزبورغ أو سهوب مونغوليا ،ومهما كانت عظمة الفعل
الثوري المنشود ،ننطلق من مشهد تكشف فيها بعض التصرفات جانب ًا
يسجالن مرحلة مع ّينة
ّ من الوضع ،ونصل إلى مشهد آخر ،وكالهما
من الوعي ،وتتصل هذه المرحلة بمراحل أخرى لتشكّل تنامي الوعي،
لذا يصبح متناسب ًا مع مجمل الوضع المكشوف عنه .إن روم هو تلميذ
لبودوفكين أكثر بكثير مما يظن (فهو من جيل لم يكن فيه الشكل الكبير
على الغالب إال من مخلفات الستالينية ،وإكراهاتها) .إن فيلم تسعة أيام
من عام لروم قد عمل على نهارات متمايزة لكل منها مؤشراته ،ويشكّل
تدرج ًا في الزمن .وأكثر من ذلك ،ما أراده في فيلم الفاش ّية
مجموعها ّ
العادية كان مونتاج ًا لمجموعة من الوثائق قادر ًا على تجنّب فيلم عن
تاريخ الفاشية أو إعادة تشكيل أحداثها الكبرى :كان ال بدّ من إظهار
الفاشية كوضع يتكشف انطالق ًا من التصرفات العادية واألحداث
اليومية ومواقف الشعب أو حركات زعيم مذعور من مضمونها النفسي
واعتبارها لحظات وعي مست َلب.
لقد رأينا كيف كان السينمائيون السوفييت يحدّ دون أنفسهم عبر
مفهوم جدلي للمونتاج؛ ولكن كان هذا التحديد اسمي ًا وكافي ًا لتمييزهم
عن باقي التيارات الكبرى في السينما ،من دون أن يمنع وجود اختالفات
عميقة بينهم ،ال بل تناقضات ،طالما أن كل واحد منهم كان يهتم بجانب
أو "بقانون" خاص في الجدلية .ولم تكن الجدلية عندهم ذريعة ولم تكن
تفكير ًا نظري ًا وانتهى األمر :كانت قبل كل شيء رؤي ًة للصور ومنتجتها .ما
الكم والكيف ،والعملية الكمية والقفزة
كان ذا أهمية لدى بودوفكين هو ّ
النوعية؛ لقد أبرزت أفالمه كلها لحظات الوعي وقفزاته المتقطعة ،ألنها
334
ال يتم بخط مستقيم ،وافترضت أيض ًا تعاقب ًا في
تطور ًا متواص ً
افترضت ّ
الزمن أ ّثر فيها .ثمة شكل صغير هو ÁSAله مؤشراته وخطوطه البيانية
كف الخط المنكسر عن االعتباطية
وهيكليته التي تخترقها الجدلية :لقد َّ
وأصبح "الخط" السياسي والثوري .ومن الواضح أن ألكسندر دوفجنكو
نظر إلى الجدلية نظرة مختلفة ،فركّز على قانون الكل والمجموع
ال في األجزاء ،ولكن كيف عليه أن واألجزاء :فكيف يكون الكل ماث ً
ينتقل من الشيء بحد ذاته إلى الشيء لذاته ،ومن المحتمل إلى الفعلي،
ومن القديم إلى الجديد ،ومن األسطورة إلى التاريخ ،ومن الحلم إلى
الواقع ،ومن الطبيعة إلى اإلنسان .إنه أنشودة األرض التي تتواشج مع
أناشيد اإلنسان جميعها ،وحتى أشجاها ،والتي تكتسب ح ّلة قشيبة في
النشيد الثوري العظيم .مع دوفجنكو ،أخذ شكل ŚASمن الجدلية إلهام ًا
وطاقة حلمية وسمفونية تتجاوز حدود العضوي.
أما إيزنشتاين ،إذا اعتبر نفسه معلم الجميع ،فألنه اهتمم بقانون
ثالث ،وهو في نظره القانون األشد عمق ًا ،قانون التعارض المتطور
والمتجاوز (كيف يصبح الواحد اثنين لينتج وحدة جديدة) .صحيح أنَ
اآلخرين ليسوا من تالميذه .ولكن إيزنشتاين ظ ّن عن حق أنه ابتدع شك ً
ال
للتحول قادر ًا على االنتقال من ŚASإلى .ÁSAوفي الواقع كان يرىّ
التصور
ّ بعمق ،كما تشير إلى ذلك محادثته مع روم ،ولكنه انطلق من
العضوي الكبير ،من لولبه أو من تنفسه ،فأخضعها لمعالجة تُرجع
اللولب إلى سبب أو قانون "نمو" (هو المقطع الذهبي) وسيحدد إذ ًا في
التصور العضوي مقدار ًا من القطوع التي تشبه توقفات التنفس.
ّ داخل
وإذا بهذه القطوع تشير إلى أزمات أو إلى لحظات مفضلة ،والتي من
جهتها ستدخل في عالقة بعضها مع البعض اآلخر ،بحسب الخطوط
335
البيانية :على هذا النحو سيكون الشجني الذي يتك ّفل بـ "التطوير"،
محدث ًا طفرات نوعية بين لحظتين مدفوعتين إلى ذروتهما .وهذا الربط
بين الشجني والعضوي ،وهذا "التشجين" كما قال إيزنشتاين ،هو كناية
عن شكل صغير يتطعم في داخله مع الشكل الكبير .إن قانون الشكل
الصغير (القفزات النوعية) ال يكف عن التواشج مع قانون الشكل الكبير
ٍ
عندئذ سيتم االنتقال من العالمتين الجامعتين ّ
(الكل ُيحال إلى سبب)،
المدرعة بوتومكين ،يشكّل
ّ إلى مؤشرات الخطوط البيانية :في فيلم
المنظر وطيف السفينة في الضباب عالمة جامعة ،ولكن منظار القبطان
الذي كان يتأرجح بين الحبال يعتبر مؤشر ًا.
يتحول لدى إيزنشتاين يقتضي في الغالب
إن الشكل الذي يجب أن ّ
األخص
ّ دورة أكثر تعقيد ًا :سيكون التحول بشكل ال مباشر ،وسيكون على
فعاالً .هذا يرتبط بالمسألة الصعبة المتعلقة بـ "مونتاج التجاذبات" لقد
حللناه آنف ًا وحددناه من خالل إدخال صور خاصة ،تكون إما عروض ًا
مسرحية أو مشهدية ،وإما عروض ًا نحتية أو تشكيلية ،وتبدو وكأنها تقطع
مجرى الفعل .لمرتين ،في الجزء الثاني من فيلم إيفان الرهيبُ ،يستبدل
محل الفعل أو يستشف الفعل العتيد :فمرة يحل ّ
الوضع بعرض مسرحي ّ
نرى النبالء الروس يقدّ سون رفاقهم المقطوعي الرؤوس ،ومرة أخرى
نرى إيفان يقدم لضحيته المقبلة مشهد ًا جهنمي ًا لمهرجين والعبي سيرك.
وعلى العكس ،بإمكان الفعل أن ُيمدّ د في عروض نحتية وتشكيلية تبعدنا
عن الوضع الراهن :وبالتأكيد نرى ذلك في األسود الحجرية في فيلم
المدرعة بوتومكين ،ولكننا نراها بخاصة في منحوتات فيلم أكتوبر
(مثالً ،تمتدّ دعوة أعداء الثورة إلى الدين عبر سلسلة من التمائم األفريقية
واآللهة الهندية والتماثيل الصينية لبوذا) .في فيلم الخط العام ،سيأخذ هذا
336
الجانب الثاني كل أهميته :لقد تو ّقف الفعل ،فهل ستستمر ّفرازة القشدة
في العمل؟ تنزل نقطة ،ثم يتد ّفق الحليب ،ولكنه يستمر عبر صور لنوافير
ماء أو لنوافير نار تستبدلها (نافورة حليب ،انفجار حليب) .لقد أخضع
لفرازة القشدة وتتمتها ،أخضعها التحليل النفسي هذه الصور الشهيرة ّ
لمعالجة صبيانية ،بحيث صار من الصعب إيجاد جمالها البسيط.
والتفسيرات التقنية التي قدّ مها إيزنشتاين بالذات لهي أفضل دليل على
إرشادنا .ففي رأيه ،المطلوب هو "تشجين" شيء متواضع ويومي؛ لم
يعد الوضع كما كان عليه في المدرعة بوتومكين ،ألنه كان شجني ًا بذاته.
يجب إذ ًا أال تكون القفزة النوعية مادية فقط ،في مجال المضمون ،بل أن
تصبح شكلية ،فتنتقل من صورة لشكل مختلف من الصور لن تكون له
إال عالقة انعكاسية غير مباشرة بصورة االنطالق .ولتحقيق هذا الطراز
اآلخر من الصور ،يضيف إيزنشتاين أنه كان عليه أن يختار بين العرض
المسرحي والعرض التشكيلي :ولكن العرض المسرحي يشبه مشهد
فالحين يرقصون على الجبل األقرع وهو مشهد يثير الضحك .وكان
إيزنشتاين قد لجأ إلى األسلوب المسرحي في مشهد سابق من الفيلم
نفسه .إذن وجب عليه اآلن أن يلجأ إلى عرض تشكيلي على جانب من
القوة يخوله العودة إلى الفعل ،وكان هذا دور الماء والنار(((.
لنسترجع الحالتين .ففي العرض المسرحي من جهة ،ال يتمخض
الوضع الفعلي على الفور عن عمل خيالي يستشرف مشروع ًا أو فع ً
ال
حقيقي ًا عتيد ًا فقط .فبدل ،A←Sعندنا( Á←S :عمل تخيلي مسرحي)،
337
’Aتكون بمثابة مؤشر للفعل الحقيقي Aالذي ُي ِعدّ نفسه (الجريمة) .وفي
العرض التشكيلي من جهة أخرى ،ال يكشف الفعل على الفور الوضع
مضخمة تحيط بالوضع المعني. ّ الذي يشتمله ،بل يطور نفسه في أوضاع
فبدل ،S←Aعندنا ← ( Ś Aتصوير تشكيلي) ،وتكون فيه Śبمثابة
عالمة جامعة أو أنها تشمل الوضع الحقيقي Sالذي لن ُيكتشف إال من
طريقها (فرح القرية) .ففي حالة أولى ،يحيل الوضع إلى صورة أخرى
تختلف عن وضع الفعل الذي ستثيره ،وفي الحالة األخرى يحيل الفعل
إلى صورة أخرى تختلف عن صورة الوضع الذي تدل عليه .لقد ظهر لنا
إذ ًا في الحالة األولى أن الشكل الصغير يبدو وكأنه قد ُحقن في الشكل
الكبير من طريق العرض المسرحي؛ وفي الحالة الثانية ُيح َقن الشكل
الكبير في الصغير ،من طريق العرض النحتي أو التشكيلي .على أي حال
لم تعد ثمة عالقة مباشرة لوضع أو لفعل ،ولفعل ووضع :فبين صورتين،
يتدخل ويؤ ّمن تحول الصور.أو بين عنصري الصورة ،هناك عنصر ثالث ّ
كأني بالثنائية األساسية التي وسمت الصورة /الفعل قد تاقت إلى تجاوز
ذاتها لتصل إلى مرجعية أعلى ،وصارت بمثابة "ثالثية" قادرة على تحويل
الصور وعناصرها .لنأخذ مثاالً مقتبس ًا من َكنْت :الدولة المستبدة تظهر
مباشرة من خالل بعض األفعال ،كالتنظيم االستعبادي واآللي للعمل؛
ولكن "الطاحونة اليدوية" ستكون الصورة غير المباشرة التي تنعكس
األسلوب نفسه في فيلم اإلضراب: َ فيها هذه الدولة((( .واتبع إيزنشتاين
تظهر الدولة القيصرية مباشرة في إطالق النار على المتظاهرين؛ ولكن
وتصور
ّ "المسلخ" هو الصورة المباشرة أيض ًا التي تعكس تلك الدولة
الفعلة .أكانت تجاذبات إيزنشتاين مسرحية أم تشكيلية فإنها ال تلك ِ
Immanuel Kant, Critique du (( )4وهذا ما أطلق عليه َكنْت تسمية «رمز»)
jugement, S. 59.
338
تؤ ّمن فقط تحول شكل فعل في داخل الفعل اآلخر ،إنها تدفع باألوضاع
والحدود إلى حدّ ها األقصى وترفعها إلى الثلث الذي يتجاوز الثنائية
التكوينية .ولم تكن السلطات التي كانت تراقب السينما السوفيتية تتفاعل
بالضرورة مع تلك الصور الالمباشرة ،ال بل رأت فيها ر ّبما أسلوب ًا خطير ًا
وتحريفي ًا .وفي فيلم لتحيا المكسيك سيتمكّن إيزنشتاين من الوصول
حر للعروض المسرحية والتشكيلية التي تعكس فكرة الحياة إلى تطوير ّ
والموت في المكسيك ،وتجمع بين المشاهد والجداريات والمنحوتات
والتمثيليات الدرامية واألهرام واآللهة (الصلب ،مصارعة الثيران ،الثور
المصلوب ،رقصة الموت الكبرى.)...
والمشوقة التي تسري في
ّ األشكال هي تلك الصور الجاذبة
الصورة /الفعل .عندما حاول فونتانييه تصنيفه الكبير لـ "أشكال
الخطاب" في بداية القرن التاسع عشر تو ّقف عند أربعة أشكال :في
الحالة األولى المجازات حصر ًا ،أي أن الكلمة ال تؤخذ بمعناها الحرفي
محل كلمة أخرى (االستعارات والكنايات والترادفات)؛ وفي وتحل ّ ّ
الحالة الثانية المجازات الناشزة ،أي مجموعة الكلمات والجمل التي
تؤخذ بمعناها المجازي (أي االستحضار والتشخيص ...إلخ).؛ في
الحالة الثالثة يوجد استبدال ،ولكن الكلمات بمعناها الحرفي الصارم
وتحوالت (ويكون القلب إحدى هذه اإلجراءات)؛
ّ تتعرض لتبادالت
ّ
أخير ًا تكمن الحالة األخيرة في الصور الفكرية التي ال ّ
تمر في أي
تعديل للكلمات (كالتداول والتنازل واإلسناد والمناجاة ...إلخ.((().
على هذا المستوى من التحليل ،ال نطرح أية مشكلة عامة حول عالقة
( Pierre Fontanier, Les figures du discours (Paris: Flammarion, [s. d.]). )5
339
السينما باللعبة ،والصور بالكلمات .نالحظ فقط أن الصور السينمائية
لها أشكال خاصة بها ،وتتفق في وسائلها الخاصة مع األنواع األربعة
التي قدّ مها مونتانييه .إن العروض النحتية أو التشكيلية عند إيزنشتاين هي
صور تشكّل صور ًة أخرى ،ولكل صورة قيمتها حتى عندما تكون ضمن
سلسلة .ولكن العروض المسرحية تعمل بال َق ْطع ،وقطع الصور هو الذي
يم ّثل الدور التصويري .نتعرف على الحالتين األوليين السابقتين .أما
الح ْرفية التي تعمل
الحاالت األخرى فذات طبيعة خاصة .فاألشكال َ
بالقلب والعكس نالت دائم ًا نجاح ًا في السينما ،ال سيما في اللباس
الهزلي الساخر .ولكننا رأينا عند هوكس أن آليات القلب تصل إلى حالة
والمعمم .حول األشكال الفكرية الموجودة في األفالم
َّ الشكل المستقل
الناطقة لشارلي شابلن ،ال نستطيع أن نكشف طبيعتها ووظيفتها إال
الحق ًا ،وفي فصل آخر ،ألنها لم تعد تكتفي بالعمل في حدود الصورة/
تتطور في نوع جديد من الصور التي أعلنت عنها اآلن
الفعل ،ولكنها ّ
األشكال السابقة.
)2
يدل الصغير والكبير على شكلين ومفهومين كأفكار مثاليةّ ،
متمايزين ،ولكنهما قادران أيض ًا على االنتقال من هذا إلى ذاك .ولهما
معنى ثالث ،أي أنهما يدالن على الرؤى التي تستحق كلمة "أفكار" فعالً.
مع أن هذا ينطبق على السينمائيين الذين ندرسهم جميع ًا ،نروم اعتبار
سينما الحركة عن د المخرج األلماني ويرنر هيرزوغ �(Werner Her
) zogكحالة قصوى في هذا الشأن .وتتميز أعماله بموضوعين هاجسيين
340
يعتبران صيغتين بصريتين أو موسيقيتين((( .ففي الموضوع األول ،ثمة
رجل خارق القوة يخالط وسط ًا خارق ًا هو أيض ًا ،ويفكر في فعل كبير
بحجم هذا الوسط .ويتناسب مع الشكل ،ŚASولكن بطريقة خاصة:
ال يتم الفعل من طريق الوضع ،إنه مشروع جنوني نبت في رأس شخص
مهووس ،ويبدو كأنه الشخص الوحيد القادر على مضاهاة الوسط كله .أو
أن الفعل يتضاعف باألحرى :هناك الفعل السامي والتجاوزي باستمرار،
ال بطولي ًا يتجابه مع الوسط ،وينفذ ولكنه فعل يو ّلد هو ذاته فع ً
ال آخر ،فع ً
العصي على التخطي .ثمة إذ ًا بعد هلوسي يسمو
َّ إلى المستغلق ويتخ ّطى
فيه العقل الفاعل إلى ال متناهي الطبيعة ،وثمة بعد تخديري يتجابه فيه
العقل مع الحدود التي وضعتها له الطبيعة .والبعدان مختلفان وبينهما
عالقة صورية .في فيلم أغير ) (Aguirreيخضع الفعل البطولي وهبوط
المنحدرات والشالالت ،للفعل السامي الذي يتناسب وحده مع رحابة
الغابة العذراء :عزم "أغير" على أن يكون الخائن الوحيد وعلى أن يخون
ليؤسس عرق ًا صافي ًا، ٍ
الجميع في آن واحد ،أن يخون الله والملك والبشر ّ
من خالل زواج المحارم في عالقة مع ابنته ،وفيه يصبح التاريخ "أوبرا"
الطبيعة .وفي فيلم فيتزكارالدو ) (Fitzcarraldoيكون الفعل البطولي
أكثر مباشرة (اجتياز الجبل عبر قارب ثقيل) ويصبح وسيلة للسمو:
أن تمسي الغابة العذراء كلها هيكل أوبرا فيردي ) (Verdiوصوت دو
كاروزو ) .(de Carusoفي فيلم قلب من زجاج أخير ًا نرى أن منظر منطقة
البافيير األلمانية ) (Bavièreيتضمن الفعل التخديري للياقوت األحمر
341
الزجاجي ،ولكنه يتجاوز ذاته في المناظر الهلوسية التي تدعو إلى البحث
هوة الكون الكبرى .وهكذا فإن الكبير يتح ّقق باعتباره فكرة محضة
عن ّ
في الطبيعة المزدوجة للمناظر واألفعال.
لكن ،في الموضوع اآلخر ،أو بحسب الشق اآلخر من أعمال
هيرزوغ ،يصبح الصغير هو الفكرة البحتة ،ويتح ّقق أوالً في األقزام الذين
"بدأوا صغار ًا" ثم يتمدد في رجال لم يتوقفوا هم أيض ًا عن أن يكونوا
أقزام ًا .فلم يعودوا "غزاة العبث والالجدوى" ،بل هم كائنات لم تعد
تصلح لشيء .ولم يعودوا مهووسين ،بل معتوهين وحمقى .وتتضاءل
المناظر أو تتسطح وتصبح كئيبة ومتجهمة ،وتميل إلى التالشي.
والكائنات التي تتر ّدد إليها تفقد رؤاها ،ولكنها تبدو وكأنها تقتصر على
حساسية بدائية ،شأنها شأن الصم البكم في فيلم بلد الصمت والظالم،
وهي تسير مهيضة الجناح في طريق ٍ
وعر ال يترك لها أي مجال للراحة ،أو
بقية رؤيا ،إال بين ألمين يتماشيان مع وقع خطواتها أو أقدامها الممسوخة.
ذلك هو المسعى في فيلم كسبار هاوسر ) ،(Kaspar Hauserفي
حديقة األستاذ .ونجده أيض ًا في فيلم نزهة برونو مع قزمه ومومسه،
رث مثل أميركا .ونجده أيض ًا في فيلم
ووجهة هروبه من ألمانيا نحو بلد ٍّ
نوسفيراتو الذي عالجه بطريقة معاكسة لطريقة مورناو ،وتجتاح البطل
حالة من النكوص إلى الرحم ،جنين مختزل إلى جسد ناحل وإلى ما
ويمصه ،وال ينتشر في الكون إال من طريق خلفه ،إنه لنقطة تهرب
ّ يلمسه
في أفق أرض منبسطة .ونجده في فيلم فويزك ) (Woyzeckالذي ينهمك
فيه البطل بآالمه ،والذي لم تعد فيه األرض والقمر األحمر والمستنقع
األسود سوى متواليات لمؤشرات متقطعة ،بدل أن تكون عالمات
342
جامعة مجيدة((( .هذا هو الشكل الصغير ،ÁSAولكنه مختزل جد ًا .كان
هيرزوغ ميتافيزيقي ًا في الحالتين :في تضخيم الشكل الكبير وفي تحجيم
الشكل الصغير .إنه أكثر السينمائيين ميتافيزيقي ًة (فإذا تخ ّللت الميتافيزيقا
التعبيري ُة األلمانية ،فإنها اقتصرت على مشكلة الخير والشر التي لم
يكترث لها هيرزوغ) .عندما طرح برونو سؤاله :أين تمضي األشياء التي
لم تعد صالحة لالستعمال؟ نستطيع اإلجابة بأنها تذهب بالطبع إلى س ّلة
المهمالت ،ولكن هذه اإلجابة ناقصة ألن المسألة ميتافيزيقية .لقد طرح
يشرع في
ُ برغسون السؤال ذاته ،وأجاب عنه ميتافيزيقي ًا :ما لم يعد نافع ًا
الوجود ،بكل بساطة .وعندما هيرزوغ يالحظ قائالً :إن الذي يمشي هو
من دون دفاع ،نستطيع نحن القول أيض ًا إن الذي يمشي هو شخص ّ
مجرد
من كل قواه قياس ًا إلى السيارات أو الطائرات .ولكن المالحظة هنا أيض ًا
ميتافيزيقية(((" .إطالق ًا من دون دفاع" ،هذا هو التعريف الذي أطلقه برونو
عن نفسه .فالسائر يكون من دون حماية ،ألنه هو الذي يبدأ بالوجود،
وال يبرح إال صغير ًا .إنها مشية كاسبار ) ،(Kasparمشية من ال ُي ّ
سمى.
وها هو الصغير يدخل مع الكبير في عالقة ،بحيث تتواصل الفكرتان،
Emmanuel Carrère, Werner Herzog (Paris: Edilig, ( )7يف كتاب عنوانه:
1982),
ح ّلل إيامنوئيل كارير غياب املنظر هذا يف فيلم ،Woyzeckوح ّلل أيض ًا وجود رؤى
كربى يف احلالة األخرى.
( )8قدم هريزوغ هذه الفكرة كبدهيية يف مجلة أهنى هبا كتابه:
Werner Herzog, Sur le chemin des glaces, traduit par Anne Dutter
(Paris: Hachette, 1979), p. 114,
فاستنتجت من دون دفاع أهنا
ُ قائالً ...« :وبام أهنا كانت تعلم أنني من املشائني
فهمتني».
343
وتؤلفان أشكاالً في تفاعلهما .إن المقصد السامي للرجل المهووس
فشل في الشكل الكبير ،وآلت حقيقته كلها إلى العجز :لقد انتهى أغير
وحيد ًا فوق طوافة دبقة مع فصيلة وحيدة من القرود؛ وفي العرض
األخير ،كانت تعمل مع فيتزكارالدو ) (Fitzcarraldoفرقة موسيقية
ر ّثة غنّت أمام جمهور ضئيل العدد وأمام خنزير صغير أسود؛ وحريق
معمل الزجاج لم يؤ ِّد إال إلى جمع العمال القطع المهمشة .ولكن ،على
العكس من ذلك ،فإن العجزة ،فيما كانوا يسيرون داخل الشكل الصغير
كانوا يلمسون ٍ
بقوة عالم ًا يضخمونه و ُيلهمون الصورة ذاتها ،ومثلهم مثل
الطفل األصم األبكم الذي يلمس شجرة أو ص ّبارة ،ومثل فويزيك الذي
بمالمسته الخشب المحتطب كان يشعر بقوى األرض تنبعث منها .وهذا
التحرير لقوى اللمس ال يكتفي بإيحاء الصورة :إنه يش ّقها و ُيدخل فيها
رؤى هوسية فسيحة ،كالطيران والصعود واالختراق ،على غرار المتزلج
األحمر الذي يقفز قفزته الكبرى في فيلم بلد الصمت والظالم ،أو على
شاكلة األحالم الثالثة للقرويين في فيلم كاسبار هاوسر .وهنا أيض ًا نشهد
انشطار ًا يماثل انشطار السامي ،وكل ما هو سا ٍم يجد نفسه إلى جانب
"الصغير" .فهذا الصغير ،كما عند أفالطون ،هو فكرة ،على شاكلة
"الكبير" .بهذا المعنى أو ذاك ،أظهر هيرزوغ أن رجلي طائر ال َقطرس
الضخمتين وأن جناحيه الكبيرين األبيضين هما متشابهان.
)3
في الختام ال بدّ من تحديد الميادين األساسية التي ُيظهر فيها
شكال الفعل الصغير والكبير تمايزهما الحقيقي وتحوالتهما الممكنة
جميعها .في البداية ،هناك المجال الفيزيائي البيولوجي الذي يتناسب مع
344
يدل على المسافة الفاصلة بين جسدين،مفهوم البيئة .فهذا بمعناه األول ّ
أو باألحرى ّ
يدل على ما يشغل هذه المسافة ،أو على السائل الذي ينقل
جسد في اآلخر (ويقتضي فعل المالمسة وجود ٍ – ولو عن بعد – فعل
مسافة في غاية الصغر) .نجد أنفسنا إذ ًا أمام الشكل ÁSAالمم ّيز .ولكن
البيئة قد دلت فيما بعد على المحيط أو الشامل ،أي ما يحيط بالجسد
ويؤ ّثر فيه ،بشرط أن يؤ ّثر الجسد في البيئة :تحت شكل .ŚASنحن
ننتقل بسهولة من معنى آلخر ،ولكن التركيبات ال تلغي األصل الممايز
للفكرتين ،وتكون األولى من صنف ميكانيك للسوائل ،والثانية في إطار
بيو – أنثربولوجي(((.
إن ميدان الرياضيات الذي يتطابق مع مفهوم المكان يستدعي
مفهومين متمايزين .سنطلق صفة "شامل" على المفهوم الذي ينطلق
من بنية مع ّينة للداللة على مكان ووظيفة أحاديين للعناصر التي تنتمي
إلى هذا المجموع (حتى قبل معرفة طبيعتهما) .إنه مكان أو جو يمكن
أن يتعرض لبعض التحوالت بالنسبة لألشكال الكامنة فيه .ŚAS :أما
المفهوم "المحلي" ،فعلى العكس من ذلك ،فينطلق من عنصر متناهي
الصغر يشكّل مع محيطه المباشر قطع َة مكان؛ ولكن هذه العناصر أو
هذه األجزاء ليست متصلة في ما بينها طالما لم يحدَّ د خط اتصال تقوم
مماسة ) .(ÁSAوسنالحظ أن المفهومين ال يتعارضان ّ به أشعة موجهة
كما هو الحال بين الكل والجزء ،بل باألحرى كطريقتين تحددان العالقة
بينهما( .((1المقصود هنا مكانان متغايران في طبيعتهما /ليس لهما الحد
de structure et d’existence en mathématiques, I (Paris: Herman, [s. d.]), ch. =
I et II
ويربطها لومتان بفكرتني أفالطونيتني.
= Henri Maldiney, Regard parole espace (Paris: L’ȃge d’ homme, [s. ( ((1
346
من المؤكد أن المبدأين ال ينفصالن وأن األول منهما يسيطر" :من
المناسب أن تكون الخطوط منقطعة من دون أن تتقطع النفحة الحيوية"؛
"ويكمن كل فن األداء في التأشيرات المفتتة واالنقطاعات ،مع أن الهدف
هو الحصول على نتيجة كاملة ."...كيف يمكن رسم سمكة زنجور من
دون اكتشاف الخط المنكسر للكون الذي يربطها بالحجر الذي يالمسها
في قعر الماء وبأعشاب الضفة التي تتخفى السمكة فيها ،ولكن كيف
نرسم هذه السمكة دون أن نبث فيها النفحة الكونية التي ليست السمكة
إال جزء ًا منها وبصمة من بصماتها؟ في ظل هذين المبدأين ،يبقى أن
نقول إن األشياء ال تتخذ العالمة نفسها وإن شكل الفضاءات يختلف،
كما تختلف العالمات الجامعة عن النفحة أو اللولب ،واألشعة الموجهة
عن خطوط الكون :فهناك "الخط الوحيد" و"الخط المتغضن".
كان إيزنشتاين مفتون ًا برسوم المناظر الصينية واليابانية ،ألنه
كان يرى فيها إرهاص ًا للسينما( .((1ولكن في السينما اليابانية عندنا
مخرجان قريبان جد ًا منا وح ّبذ كل منهما مكاني الفعل .فأفالم أكيرا
كوروساوا مفعمة بنفحة تخترق المبارزات والمعارك .وهذه النفحة
d.]), pp. 167 sq., et François Cheng, Vide et plein, le langage pictural chinois =
(Paris: Edition du Seuil, [s. d.]),
ومنه اقتبسنا االستشهادين التاليني حول الرسوم الصينية.
Eisenstein, La non-indifférente nature, II, pp. 71-107, ( )12انظر بخاصة:
ولكن إيزنشتاين ال هيتم كثري ًا بالفضاءات املختلفة بل بشكل «اللوحة /امللف»
التي يدجمها باللوحة البانورامية .ولكنه يالحظ أن اللوحات /امللفات تشكّل فضاء
وتتطور يف إطار تنظيم نغمي للفضاءات املرفدة بنفحة .ال بل هناك شكل مل تعد
ّ خطي ًا،
ً ّ
املساحة تلتف فيه ،بل الصورة تلتف يف املساحة بحيث تشكل كل ال يتجزأ .إذا نجد
الفضائني .ويقدم إيزنشتاين السينام كتوليفة جتمع بني هذين الشكلني.
347
آن واحد عالمة جامعة لألفالم وتوقيع ممثلة بسمة فريدة ،فهي في ٍ
شخصي لكوروساوا :لنتخيل خط ًا أفقي ًا سميك ًا ينزل من أعلى الشاشة
إلى أسفلها ويشطره خطان أفقيان رفيعان ينطلقان من اليمين إلى اليسار
الترجل الجميل
ّ ومن اليسار إلى اليمين .ففي فيلم Kagemushaنشاهد
للرسول الذي يتمايل دائم ًا ذات اليمين وذات اليسار .إن كوردساوا هو
صوروا المطر :ففي فيلم الساموراي السبعة
من أعظم السينمائيين الذين ّ
يتساقط المطر بغزارة فيما عصابة اللصوص تقع في الشرك فتروح وتغدو
من أقصى القرية إلى أقصاها عدو ًا على خيولها .وغالب ًا ما تشكّل زاوية
التصوير صورة مسطحة تبرز الحركات الجانبية المستمرة .سواء أكان
متوسع ًا أو منقبض ًا فإننا نفهمه فهم ًا أفضل إذا استند
هذا الفضاء /النفحة ّ
إلى دراسة يابانية للح ّيز :ال يبدأ اليابانيون بالفرد ليدلوا على رقم البيت
واسم الشارع والحي والمدينة ،بل على العكس يبدأون بالسور ثم المدينة
ويدلون على الكتلة العمرانية ثم الحي ثم المكان الذي يبحثون فيه عن
الشخص المجهول( .((1ال ينطلقون من المجهول ليصلوا إلى المعطيات
القادرة على تحديده ،ينطلقون من المعطيات كافة ثم ينزلون ليع ّينوا
الحدود التي يقيم هذا المجهول بينها .وهذه صيغة ASخالصة جد ًا :قبل
صرح
التصرف ،يجب معرفة المعطيات جميعهاّ .
ّ التصرف ،ومن أجل
ّ
كوروساوا بأن أصعب شيء لديه هو قبل أن تبدأ الشخصية السينمائية
علي أن أفكّر أشهر ًا
التوصل إلى ذلك ينبغي َّ
ّ بالتصرف :فمن أجل
ّ
348
كثيرة( .((1ولكن ذلك صعب ألن األمر يتع ّلق بالشخصية ذاتها :كان عليه
أوال أن يحصل على المعطيات جميعها .لذا نرى أن أفالم كوروساوا ً
تنقسم دائم ًا إلى قسمين متمايزين ،ويشتمل القسم األول على عرض
التصرف بكثافة وبشدة (كما في فيلمي الكلب
ّ طويل ،وفي الثاني يبدأ
المسعور وبين السماء والجحيم) .لذا يستطيع المكان عند كوروساوا أن
يكون فضا ًء مسرحي ًا مق ّلص ًا يحصل البطل فيه على جميع المعطيات التي
تكون نصب عينيه عندما يعمل (كما في فيلم الحارس الشخصي)( .((1لذا
نرى أخير ًا أن المكان يتمدّ د ويشكل دائرة كبيرة تجمع بين عالم األغنياء
وعالم الفقراء ،وبين العالي والمنخفض ،وبين السماء والجحيم؛ ويجب
اكتشاف األغوار وعرض القمم في ٍ
آن واحد ليتم رسم دائرة الشكل
الكبير هذه التي يقطعها جانبي ًا قطر يقف فيه البطل ويتحرك (فيلم بين
السماء والجحيم).
لكن ،إن لم يكن لكوروساوا فضل آخر ،لكان سينمائي ًا بارز ًا قام
بتطوير الشكل الكبير فقط ،وألتاح لنا أن نفهمه وفق ًا للمعايير الغربية التي
أصبحت كالسيكية .ويتضاهى اكتشافه األغوار مع فيلم الجريمة أو فيلم
البؤس والبؤساء ،وتحيل دائرته الكبرى لعالم الفقراء وعالم األغنياء إلى
Michel Estève, Robert Bresson (Paris: Seghers, [s. d.]), et ( )16انظر:
Alain Jourdat (Cinématographe, n 67 (Mai 1981)),
o
وحي ّلالن يف هذا العدد بعض املشاهد الكربى من فيلم األمحق :الثلج وكرنفال
املتزجلني والعيون وكتل اجلليد ،وفيها ال يتعاقب الوضع احللمي بل ُيستخلص من
واقعية الوضع.
352
الغربية تعاملت مع الموضوع ذاته .ولكن في هذه المرة ،ما يجب على
القرين أن يتشربه هو كل المعطيات الخاصة بالمسألة التي يعرفها المعلم
وحده" ،إنه سريع مثل الريح ،وصامت مثل الغابة ،ومخيف مثل النار،
وهادئ مثل الجبل" .ليس هذا هو وصف المعلم ،بل هو اللغز الذي
يمتلك هو جوابه ويأخذه معه .وبعيد ًا عن إمكانية تقليده ،فإن هذا هو
الذي يجعله كائن ًا فوق البشر أو يضفي عليه قيمة كونية .وهنا يبدو لي
يتشرب المعطيات جميعها لن يكون إال أننا نصطدم بحدٍّ جديد :فالذي ّ
ظل مذعن ًا للمعلم وللعالم .ففي فيلم Dersou Ouzalaنرى أنصنو ًا أو ّ ً
مع ّلم الغابة التي ترك عليها بصماته ينحدر هو نفسه إلى حالة الظل عندما
شح بصره ،ولم يعد قادر ًا على استيعاب المسألة الجليلة التي تطرحها
ّ
الغابة على البشر .سيموت على الرغم من إجراءات الوضع المريح التي
ُوفرت له .وفي فيلم الساموراي السبعة نرى أن هؤالء ،لو لم يستعلموا
ال عن الوضع ،ولو لم يدركوا المعطيات المادية المرتبطة بالقريةطوي ً
فقط وأيض ًا المعطيات النفسية للسكان ،فألن هناك مسألة أرفع لن يمكن
استخالصها من هذه األوضاع إال تدريجي ًا .وهذه المسألة هي كالتالي:
هل يمكن الدفاع عن القرية؟ ولكن :من هو الساموراي اليوم وفي هذه
الفترة من التاريخ؟ ويأتي الجواب أن الساموراي أصبحوا ظالالً ولم
يعد لهم مكان ال عند األسياد وال عند الفقراء (وكان الفالحون هم
المنتصرون الحقيقيون).
لكن في داخل هؤالء الموتى طمأنينة ُيستشف منها جواب أكثر
ال ثمة حالة رابعة تمكّن من إجمال المجموع .إن فيلماكتماالً .وفع ً
العيش هو من أجمل أفالم كوروساوا ،ويطرح السؤال التالي :ما العمل
إذا كان هناك شخص يعلم بأنه محكوم عليه بأال يعيش إال بضعة أشهر؟
353
ولكن هل هذا هو السؤال الحقيقي؟ كل شيء مرهون بالمعطيات .هل
ينبغي أن نفهم من ذلك ما يلي :ما العمل للحصول أخير ًا على المتعة؟
والرجل المذهول واألخرق يقوم بجولة على أماكن المتعة كالبارات
ومالهي الستربتيز .هل هذه هي معطيات صحيحة لإلجابة على السؤال؟
أليست باألحرى حالة من الهياج تغ ّطي السؤال وتخفيه؟ بعد أن عرف
الرجل عاطفة جامحة حيال فتاة شابة ،عرف منها أن المسألة ليست
حب متأخر .وتذكر الفتاة له مثالها الشخصي ،وتشرح له أنها تصنع
مسألة ّ
مجموعة من األرانب اآللية الصغيرة ،وأنها سعيدة لمعرفتها بأن األرانب
ستنتقل بين أيدي أطفال مجهولين وأنها هكذا ستجوب المدينة .ويفهم
الرجل أن معطيات السؤال "ما العمل" هي معطيات عمل نافع يؤديه.
وهكذا إذ ًا يستعيد الرجل مشروعه القاضي بإنشاء حديقة عامة ،ويتغلب
قبل أن يموت على جميع العقبات التي اعترضت طريقه .وهنا أيض ًا
نستطيع القول إن كوروساوا أبلغنا رسالة إنسانوية مسطحة إلى حد ما.
ولكن الفيلم شيء آخر :إنه البحث الدؤوب عن المسألة ومعطياتها عبر
األوضاع .إنه اكتشاف الجواب ،ك ّلما تقدّ م البحث .واإلجابة الوحيدة
تقضي بإعادة تقديم المعطيات ،وبإعادة شحن العالم بالمعطيات ،وقدر
اإلمكان بتسريب بعض األشياء مهما صغرت ،بحيث تنبثق -من خالل
هذه المعطيات الجديدة أو المتجددة -وتتكاثر مسائل أقل قسوة وأكثر
بهجة وأكثر قرب ًا من الطبيعة والحياة .ذلك ما فعله دورسو أوزاال عندما
شاء ترميم الكوخ واإلبقاء على بعض األطعمة ،كي يتمكن المسافرون
القادمون من البقاء على قيد الحياة والتجول بدورهم .إذ ًا يستطيع المرء
أن يكون ظالً ،ويستطيع أن يموت :ولكنه سيعطى المكان نفحة من
جديد ،وسيلتحق من جديد بالمكان /النفحة ،وسيصبح حديقة أو غابة
354
أو أرنب ًا آلي ًا ،بالمعنى الذي تحدث عنه هنري ميلر )(Henry Miller
القائل بأن عليه أن يولد من جديد وأن يولد من جديد كحديقة.
إن المقارنة بين كوروساوا وبين كينج ي ميزوغوشي �(Ken
) ji Mizoguchiمقارنة شائعة كتلك التي بين كورناي )(Corneille
وراسين )( (Racineعلم ًا بأن النظام التاريخي المتسلسل معكوس).
الذكَري حصر ًا إلى حد ما ،مع العالم األنثوي
يتعارض عالم كوروساوا َ
لميزوغوشي .وتنتمي أعمال ميزوغوشي إلى الشكل الصغير ،بقدر ما
تنتمي أعمال كوروساوا إلى الشكل الكبير .أما توقيع ميزوغوشي السمه
متموج كتموجات البحيرة في فيلم ّ فلم يكن خط ًا وحيد ًا ،ولكنه ّ
خط
حكايات القمر الغامض بعد المطر ،وفيه تحتل تموجات الماء الصورة
بكاملها .ويتمايز الشكالن عند هذين المخرجين تمايز ًا واضح ًا ،أكثر
يحول هذا إلى ذاك .وكما أن كوروساوا، ينمان عن التكامل الذي ّ مما ّ
َ
الشكل الكبير للتوسيع الصالح من خالل تقنيته وميتافيزيقيتهُ ،يخضع
للتحول محلي ًا ،كذلك نرى أن ميزوغوشي يخضع الشكل الصغير
يحوله بحد ذاته.
لالستطالة والمدّ الذي ّ
إن انطالق ميزوغوشي من المبدأ الثاني ،ال من النفحة بل من
الهيكل ومن قطعة المكان الصغيرة التي ال بدّ لها أن تتصل بقطعة
المكان التالية ،هو انطالق واضح من وجهات نظر عديدة .كل شيء
المخصص للنساء" ،الذي يقع في أقصى
ّ ينطلق من القاع ،أي من الح ّيز
مكان في المنزل" ببنيته الرقيقة وستائره .في فيلم العشاق المصلوبون،
تدشن الفعل ،أي هروب الزوجة. ثمة لعبة كبيرة تتم في غرف امرأة ّ ّ
في داخل البيت ،صحيح أن هناك منظومة كاملة من الروابط التي تتم
بفضل الحواجز ذات السكة والعازلة .ولكن بسبب االتصال بالشارع
355
تبرز أوالً مشكلة توصيل قطعة من الحيز بقطعة أخرى؛ وعلى وجه
تتدخل فراغات متوسطة بين قطعتي مكان ،وتُخلي إحدى الخصوص ّ
الشخصيات الكادر أو تتخ ّلى الكاميرا عنها .هناك لقطة تحدد ح ّيز ًا
ضيق ًا ،لنقل إنه الجزء المرئي من البحيرة التي يجتاحها الضباب ،كما
في فيلم حكايات القمر الغامض؛ ولنقل أيض ًا إن ت ّل ًة تسدُّ األفق ،وإن
االنتقال من مشهد لقطة إلى مشهد لقطة أخرى يستبعد التبهيت ويؤكّد
التجاور الذي يتعارض مع االستمرار .ومع ذلك لن يتكلم عن الح ّيز
المجزأ ،مع أن المقصود هنا هو العزل المستمر .ولكن ينبغي على كل
مشهد وكل لقطة أن ينقال الشخصية أو الحدث إلى قمة استقالليتهما
وحضورهما المك ّثف .ويجب على هذه الكثافة أن تستمر وتمدَّ د حتى
في سقوطها إلى درجة الصفر ،هذا السقوط الذي يخصها شخصي ًا ،وال
المكون لكل كثافة،
ّ يخلطه بسقوط آخر بحيث يكون الفراغ هو العنصر
شأنه في ذلك شأن التالشي الذي هو طريقة محايثة لكل حضور (وهذا
يختلف كثير ًا ،كما سنرى ،عما يحدث عند ياسوجيرو أوزو( .((1فالح ّيز
يتكون المكان من خالل مجزأ ،وقطعه تنجم عن عملية تكوين :وال ّح ّيز ّ
رؤية وإنما من خالل تجوال ،ووحدة التجوال هي الح ّيز أو القطعة.
وخالف ًا لكوروساوا الذي تستمد الحركة الجانبية لديه كل أهميتها من
الخط الذي يلتقي ،من اليمين أو من اليسار ،مع حدّ ي دائرة كبيرة نوع ًا
ما كان هو قطرها فقط ،نرى أن الحركة الجانبية عند ميزوغوشي تنطلق
عن كثب من اتجاه محدّ د ال ينتهي ،وهو الذي يخلق الح ّيز بدالً من أن
Hélène حول الشدّ ة وامتدادها إىل الفراغ عند ميزوغويش انظر: ()17
Bokanowski, «L’ espace de Mizoguchi,» Cinématographe, n 41 (Novembre
o
1978).
356
يفترضه .والمكان المحدّ د ال يتضمن إطالق ًا وحدة في االتجاه ،ألن
الموجه بكل واحدة منها
ّ االتجاه يتغ ّير مع كل قطعة ،إذ يرتبط الشعاع
(وتغ ّير االتجاهات هذا يصل إلى ذروته في فيلم البطل المدنّس .وهذا
ال بسيط ًا في المكان ،إن ُه مفارقة في مكان متعاقب بصفته مكان ًا،
ليس تبدي ً
وفيه يؤكّد الزمن موقعه تمام ًا ،ولكن على شكل وظيفة لمتغ ّيرات ذلك
يستحم
ّ المكان :وهكذا نرى في فيلم حكايات العمر الغامض أن البطل
مع الجنية ،ومن ثم نرى أن فائض الماء يشكّل جدوالً في الحقول ،ثم
نرى الحقول ثم الحديقة ثم السهل ثم الحديقة وأخير ًا نشاهد الزوجين
وهما يتناوالن طعام العشاء "بعد ذلك بأشهر"(.((1
Jean-Luc Godard, Jean-Luc Godard ( )18انظر حتليل غودار هلذه اللقطة:
(Paris: Belfond, [s. d.]), pp. 113-114.
357
بها خطوط االتجاه المختلفة (وأجمل األمثلة بحسب بورش نراه في
فيلمي أخوات جيون وحكاية األقحوانات المتأخرة)( .((1وهذا ما يبدو
لنا أساسي ًا في ما ُسمي بالحركات المذهلة للكاميرا عند ميزوغوشي:
اللقطة المتتالية تؤ ّمن نوع ًا من التوازي بين الخطوط المتوجهة المختلطة
المسارات ،ويشكّل بالتالي ترابط ًا بين قطع المكان المتباينة ،ويضفي
على المكان الشكل تناغم ًا خاص ًا بامتياز .في هذه االستطالة أو هذا
ٍ
عندئذ الطبيعة القصوى للمكان الخاص االمتداد الذي ال ينتهي ،نالمس
بالشكل الصغير :وهو ليس أصغر من مكان الشكل الكبير .هو "صغير"
في سيرورته :وتنجم رحابته عن تواشج القطع التي تشكّله ،وعن توازي
الموجهة (والتي تحافظ على تمايزاتها) وعن التناغم الذي
ّ شتّى الخطوط
ال يتشكّل إال تدريجي ًا .ومن هنا نشأ اهتمام ميزوغوشي بالسينما سكوب
في أواخر حياته ،إذ شعر بأنه يستطيع الحصول على مصادر جديدة،
المتموج
ّ بحسب مفهومه عن المكان .فركز تفكيره إذ ًا على الخطين
والمنكسر .والخطان المتموج والمنكسر هما عالمة على خط أو خطوط
الكون ،أو الطبيعة القصوى لهذا الجرف من الفضاء .وميزوغوشي هو
359
يصدر عنهن ،هذا على الرغم من الوضع االجتماعي المختزل للنساء
وممارسة القهر عليهن ،وصرفهن غالب ًا إلى البغاء المقنّع أو المكشوف.
خطوط الكون أنثوية ،ولكن الحالة االجتماعية عهرية .وألن النساء
مهدّ دات جد ًا كيف يستطعن الذود عن أنفسهن والمثابرة وحتى التخلص
من وضعهن؟ في فيلم حكاية األقحوانات المتأخرة ،المرأة هي التي
تحول المم ّثل الشنيع إلى س ّيد
تجذب الرجل إلى خط الكون ،وهي التي ّ
عالي الشأن ،ولكنها تعلم أن النجاح بالذات سيكسر الخط ولن يمنحه
إال موت ًا معزوالً .في فيلم العشاق المصلوبون ال يكتشف العاشقان
حبهما إال عندما يضطران إلى الهروب ،ألن خطهما الكوني لم يعد ّإل
خط هروب مآله الفشل حتم ًا .ثمة بهاء في تلك الصور التي يشهد المرء
فيها والدة خط كوني تهجس به في كل لحظة نهايته الخاصة المريرة.
واألدهى أيض ًا هو ما نشاهده في فيلم حياة أوهارو المرأة المتحذلقة وفيه
يتعرض الخط الكوني المنطلق من األم إلى ابنها لصدّ الحرس الذين
يبعدون تلك المسكينة مرات عديدة عن األمير الشاب الذي أنجبته .وإذا
تكف عن ِذكر الكونية،كانت أفالم "الغيشا" التي أخرجها ميزوغوشي ال ّ
ال طريقة حضورهن، فإن ذلك لم يعد ذلك يتم من خالل غياب ،هو أص ً
بل من خالل إغالق الينبوع الذي لن يتركهن من ثم يعشن إال في القنوط
القديم أو في القسوة الحديثة لمومس تبحث عن مالذها األخير .وهكذا
فإن ميزوغوشي قد بلغ حد ًا أقصى للصورة /الفعل :عندما يهزم عالم
البؤس كل الخطوط الكونية و ُيبرز واقع ًا أصبح ضائع ًا ومجت ّث ًا .صحيح
أن كوروساوا من جهته جابه الحدّ األقصى من الجانب اآلخر للصورة/
يفجر الحلقة الكبرى ،ويكشف الفعل :حينما يصعد عالم البؤس بحيث ّ
عن الواقع الخوائي الذي كان مشتت ًا (ففي فيلم Dodes̓ cadenيظهر بيت
الصفيح الذي يشكّل الوحدة الفريدة للحركة الجانبية التي يقوم بها أحد
الحمقى ظن ًا منه أنه قطار ترام).
360
الف�صل الثاني ع�شر
�أزمة ال�صورة /الفعل
)1
361
األول) وإن Cالتقطت ( Bالثنائي الثاني)؛ إذا قامت Aو Bبنوع من
"التبادل" فهذا يختلف عما إذا Aو Bانفصلتا كل بدورها عن aوb
واستحوذتا كل بدورها على bو .(((aوأيض ًا ال توحي "الثالوثية" بأفعال
بل "بتصرفات" تشمل بالضرورة العنصر الرمزي لقانون من القوانين
(أعطىَ ،
تبادل) ،وال توحي بإدراكات ولكن بتأويالت تحيل إلى عنصر
المعنى ،وال توحي بعواطف بل بمشاعر ذهنية عالئقية ،لتلك التي تترافق
مع استعمال أدوات اتصال منطقية "ألن"" ،مع أن"" ،كي" "إذن"،
"والحال أن" ...إلخ.
وربما في اإلسناد تجد "الثالوثية" تمثيلها األنسب ،ذلك أن اإلسناد
هو دائم ًا ثالثي األطراف ،ألنها بالضرورة خارج كلماتها .والتراث
المجردة،
ّ الفلسفي يم ّيز نوعين من األسانيد :األسانيد الطبيعية واألسانيد
والمعنى يرتبط بالنوع األول منها ،في حين أن القانون أو الداللة يرتبطان
على األحرى بالنوع الثاني .عبر النوع األول ،ننتقل طبيعي ًا وبسهولة
ال من لوحة البورتريه إلى الموديل ،ثم إلى من صورة ألخرى :ننتقل مث ً
الظروف التي أنجزت فيها لوحة البورتريه ،ثم إلى المكان الذي يعيش
فيه الموديل اآلن ...إلخ .ثمة إذ ًا تشكيل لمتتالية أو لسلسلة عادية من
الصور ،علم ًا بأنها ليست من دون حدود ،ألن األسانيد الطبيعية تستنفد
مفعولها بسرعة .أما النوع الثاني من األسانيد ،أو اإلسناد التجريدي،
فيشير -على العكس من ذلك -إلى ظرف تجري فيه مقارنة بين صورتين
لقد ركّز بيرس على النقطة التالية :إذا كانت الواحدية هي "واحد"
بذاتها ،واالثنينية اثنين ،والثالوثية ثالثة ،فمن الضروري ،في االثنين ،أن
"تستعيد" المفردة األولى الواحدية على طريقتها ،في حين أن المفردة
الثانية تؤكد االثنينية .إذ ًا ليس هناك فقط ،3 ،2 ،1بل 2 ،1في ،2و،2 ،1
في .3بوسعنا أن نرى في ذلك نوع ًا من الجدلية ،ولكن من المشكوك فيه
أن تحتوي الجدلية مجموع هذه الحركات ،سنقول باألحرى إنها تأويل،
وتأويل منقوص.
( )2ال يرجع بريس برصاحة إىل هذين النوعني من العالقات اللذين يرجع متايزمها
و«املؤول
ِّ «املؤول النشط»
ِّ «املؤول» ومتييزه بني
ِّ إىل هيوم ) .(Humeولكن نظريته حول
النهائي» تتقاطع مع هذين النوعني من العالقات.
363
كم محترم من األفكار (لنأخذ على سبيل العاطفة والصورة /الفعل على ٍّ
المثال المحاكمات العقلية في الصورة عند المخرج األلماني إرنست
لوبيتش .عندما نتك ّلم عن الصورة الذهنية ،نروم أن نقول شيئ ًا آخر :إنها
صورة تتخذ لها موضوعات فكرية لها وجود خاص خارج الفكر ،مثلما
أن موضوعات اإلدراك لها وجود خاص خارج اإلدراك .إنها صورة
تعالج موضوعاتها عدد ًا من العالقات واألفعال الرمزية واألحاسيس
الفكرية .وتستطيع أن تكون – وليس ضروري ًا – أشدّ صعوبة من الصور
األخرى .وحتم ًا ستكون لها مع الفكر عالقة جديدة ومباشرة ومغايرة
لعالقة الصور األخرى.
ما عالقة كل هذا بالسينما؟ عندما يقول غودار ...،3 ،2 ،1فهذا
ال يعني أنه يراكم صور ًا فوق بعضها فقط ،بل يعني أنه يصنف أنواع ًا من
ويتجول بينها .لنأخذ األهزولة الساخرة كمثال .إذا تركنا شابلن
ّ الصور
وكيتون جانب ًا ،علم ًا بأنهما أوصال األشكال األساسية لإلدراك الهزلي
الساخر إلى أرقى درجاته ،نستطيع أن نقول :إن النغدون )(Langdon
يحتل المرتبة ،1ولوريل ) (Laurelوهاردي ) (Hardyالمرتبة ،2 ّ
واإلخوة ماركس المرتبة .3إن النغدون يم ّثل فع ً
ال الصورة /العاطفة
الشديدة الصفاء التي ال تتف ّعل في أية مادة أو أي وسط بحيث تدفع
حاملها إلى نوم ال يقاوم .ولكن لوريل وهاردي يم ّثالن الصورة /الفعل،
والصراع المستمر مع المادة والوسط والنساء واآلخرين ،وصراعها
جميعها مع اآلخر .لقد عرفا كيف يفكّكان الصراع ،بكسرهما كل تزامن
حل مح ّله تعاقب ًا داخل الزمان؛ يسددان ضربة لهذا ثم
داخل المكان ،ل ُي ّ
ضربة لذاك بحيث ال ينتهي الصراع وتتضخم آثاره بفعل المزايدة ،بدل
أن يخور تعب ًا .يبقى أن لوريل هو رقم 1في الثنائي ،وأنه الممثل العاطفي
364
ويجر الكارثة العملية ،ولكنه يتمتع بإلهام يمكّنه من
ّ الذي يج ّن جنونه
تجاوز أشراك المادة والوسط ،بينما يم ّثل هاردي رقم ،2وهو رجل
الفعل ،ولكنه يفتقر إلى ملكات الحدس ،فيستسلم للمادة الخام ،بحيث
تحمل مسؤوليتها ويسقط في جميع يسقط في جميع أشراك األفعال التي ّ
الكوارث التي سب ّبها لوريل من دون أن يقع هو ضحية لها .أما اإلخوة
ِ
األحيان وهما ماركس فهم ثالثة ،ويعمل اثنان منهم مع ًا في أغلب
هاربو ) (Harpoوشيكو ) ،(Chicoأما غروشو ( )Grouchoفيبرز من
جهته ليتحالف مع االثنين اآلخرين .إنهم مجموع ال ينقسم ومؤ ّلف من
،3هاربو هو رقم ،1ويم ّثل االنفعاالت السماوية ،ويم ّثل أيض ًا الغرائز
الشيطانية والنهم والشبق والتدمير .شيكو الرقم ،2يأخذ على عاتقه
الفعل والمبادرة والصراع مع الوسط واستراتيجية الجهد والمقاومة.
ودب من أشياء،هب ّ مشمعه المطري الفضفاض ما ّ وهاربو يخفي داخل ّ
كالقطع والمزق التي يمكن أن تستخدم في عمل ما ،ولكنه ال يستخدمها
إال استخدام ًا عاطفي ًا أو تمائمي ًا ،وشيكو هو الذي يستخدمها كوسائل
لعمل ُمن ّظم .وغرشو رقم 3هو رجل التأويالت واألفعال الرمزية
والعالقات التجريدية .يبقى أن كل واحد من هؤالء الثالثة ينتمي أيض ًا
إلى الثالثية التي يشكلونها مع ًا .وبين هاربو وشيكو عالقة تقضي بأن
يحضر الغرض المالئم لها،
يطلق شيكو كلمة لهاربو الذي يجب عليه أن ّ
وذلك في سلسلة من األشياء التي ال تكف عن التحوير (ففي فيل م �Ani
mal crackersنجد سلسلة )...flush – flask – flesh - fish flash؟
لغز ٍ
لغة إشارية، وعلى العكس من ذلك ،فإن هاربو يطرح على شيكو َ
يخمنها
في سلسلة من الحركات اإليمائية التي ينبغي على شيكو أن ّ
دائم ًا ليستخلص منها جملة .ولكن غروشو يدفع ف ّن التأويل إلى حدّ ه
365
األقصى ،ألنه أستاذ في ف ّن المحاكمة العقلية والبراهين واألقيسة التي
ستجد في الالمعنى تعبير ًا خالص ًا" :إما أن هذا الرجل قد مات وإما أن
ساعتي قد توقفت"( .قالها وهو يجس نبض هاربو ،في فيلم ذات يوم في
السباق) .وفي كل هذه المعاني ،تكمن عظمة اإلخوة ماركس في أنهم
أدخلوا الصورة الذهنية إلى األهزولة الساخرة.
إن إدخال الصورة الذهنية إلى السينما ،وجعلها تُنهي وتُكمل
الصور األخرى جميعها ،كان أيض ًا المهمة التي قام بها هيتشكوك .فكما
قال روهمر وشابرول عن فيلم كانت الجريمة شبه كاملة" :ليست نهاية
الفيلم بأكملها سوى عرض محاكمة عقلية ،ولكنها ال تضعف االنتباه"(((.
ال يحدث هذا في النهاية فقط ،بل منذ البداية :بلقطة استرجاعية كاذبة
ومشهورة ،يبدأ فيلم الذريعة الكبرى بتأويل يتبدّ ى كذكرى حديثة العهد
أو حتى كإدراك .لدى هيتشكوك ،تكون األفعال والعواطف واإلدراكات
مصور بلقطة
ّ بمثابة تأويل ،من بداية الفيلم وحتى نهايته((( .ففيلم الحبل
واحدة ،وال س ّيما أن الصور ليست سوى تعرجات لمحاكمة عقلية
واحدة .والسبب في ذلك بسيط :ففي أفالم هيتشكوك ،عندما يطرح
فعل ما (أكان في الحاضر أم في المستقبل أم في الماضي)ُ ،يحاط فع ً
ال
تنوع في موضوعه وطبيعته وهدفه ...إلخ .المهم بمجموعة من العالقات ِّ
ليس فاعل الفعل ،أو ما يسميه هيتشكوك بازدراء من فعل هذا ؟ �(who
((( ال يرجع بريس برصاحة إىل هذين النوعني من العالقات اللذين يرجع متايزمها
و»املؤول
ِّ «املؤول النشط»
ِّ «املؤول» ومتييزه بني
ِّ إىل هيوم ) .(Humeولكن نظريته حول
النهائي» تتقاطع مع هذين النوعني من العالقات.
( )4انظرJean Narboni, “Visages d’Hitchcock,” in: Alfred Hitchcock, :
Cahiers du Cinéma (Paris: Editions de L’étoile, 1980).
366
) ،dunitولكنه ليس الفعل بالذات :إنه مجموع الروابط التي تربط الفعل
وفاعله .ومن هنا يأتي المعنى الخاص للكادر :الرسوم المسبقة لضبط
تفسر من خالل إحالة
الكادر ،واإللغاء الصريح لما هو خارج الكادرّ ،
هيتشكوك الدائمة ال إلى ف ّن الرسم أو المسرح ،بل إلى ف ّن التسجيف
) ،(tapisserieأي الحياكة والنسج .الكادر هو كالدعائم التي تحمل
تمر
سلسلة الروابط ،في حين أن الفعل يشكل الحبكة المتحركة التي ّ
ٍ
حينئذ أن هيتشكوك يعمل عادة من من فوق ومن تحت فقط .وندرك
خالل لقطات قصيرة يعادل عددها عدد الكادرات ،وكل لقطة تكشف
عالقة ما أو تنويع ًا في عالقة .ولكن اللقطة الوحيدة نظري ًا في فيلم الح ْبل
ليست البتة استثناء لهذه القاعدة :إن اللقطة الوحيدة عند هيتشكوك،
الختالفها الكبير عن اللقطة المتتالية عند أورسون ويلز أو كارل دريير
الذي أخضع الكادر بطريقتين للكل؛ فاللقطة الوحيدة عند هيتشكوك
تُخضع كل شيء (تخضع الروابط) للكادر ،مكتفية بالفتح طولي ًا ،بشرط
المحافظة على اإلغالق عرضاني ًا ،وهذا يشبه تمام ًا تصنيع سجادة طويلة
يتأخر الفعل واإلدراك والعاطفة داخل جد ًا .المهم على أية حال ،هو أن ّ
نسيج العالقات .وسلسلة العالقات هذه هي التي تؤ ّلف الصورة الذهنية،
خالف ًا لحبكة األفعال واإلدراكات والعواطف.
التجسس،
ّ سيضفي هيتشكوك على الفيلم البوليسي أو على فيلم
عملي ًة الفتة بخاصة ،من نوع " َقت ََل" َ
و"س َر َق" .وألنها تنضوي تحت
مجموعة من العالقات التي يجهلها الشخوص (ولكن المشاهد يعرفها
واكتشفها من قبل) ،فلها شكل صراع يسيطر على الفعل برمته :صارت
شيئ ًا آخر ،ألن العالمة تشكل الثالوثية التي ترفع الفعل إلى حالة الصورة
الذهنية .ال يكفي إذ ًا تحديد ترسيمة هيتشكوك بالقول إن أحد األبرياء
367
متهم بجريمة لم يرتكبها ،لن يكون ذلك سوى خطأ في القراءة ،وسوى
ٍ
تماه مز ّيف مع "الطرف الثاني" ،وهذا ما نسميه بمؤشر التباس .على
العكس من ذلك ،لقد ح ّلل روهمر وشابرول على نحو صائب ترسيمة
هيتشكوك :فالمجرم ن ّفذ دائم ًا جريمته نيابة عن آخر ،المجرم الحقيقي
ن ّفذ جريمته لصالح البريء والذي شاء أم أبى لم يعد بريئ ًا .باختصار،
ال يمكن فصل الجريمة عن العملية التي بها "قايض" المجرم جريمته،
كما نشاهد ذلك في فيلم مجهول قطار الشمال السريع أو أن المجرم
قد "أعطى" و"ر ّد" جريمته للبريء ،كما نشاهد ذلك في فيلم قانون
الصمت .عند هيتشكوك ،ال تُرتكب جريمة ،بل تُر ّد أو تُع َطى أو يقا َيض
عليها .يبدو لنا أن هذه هي النقطة األهم في كتاب روهمر وشابرول.
فعالقة (المقايضة أو الهبة أو السرد) ال تكتفي باإلحاطة بالفعل ،إنها
وتحوله إلى فعل رمزي بالضرورة .الّ تخترقه مسبق ًا من كل جانب،
يوجد هنا الفاعل والفعل ،والقاتل والضحية فقط ،يوجد شخص ثالث،
عرض ًا أو ظاهري ًا كما يكون البريء المتهم فحسب ،بل
وهو ثالث ليس َ
هناك شخص ثالث أساسي تشكّله العالقة هي بالذات ،أي عالقة القاتل
بالضحية أو العملية التي تتم من الشخص الثالث الظاهري .وهذا التثليث
المستمر يستحوذ أيض ًا على األشياء واإلدراكات والعواطف .فكل
صورة تكون في كادرها ،ومن خالل كادرها ،ويجب أن تكون عرض ًا
يتصرفوا ويدركوا ويشعروا ،ولكنهم
ّ لعالقة ذهنية .يستطيع الشخوص أن
ال يقدرون أن يشوا بأي شيء حول العالقات التي تحدّ دهم .ما يشي بهم
هو حركات الكاميرا وحركاتهم أمام الكاميرا .ومن هنا نشأ االختالف
بين هيتشكوك وبين "استوديو الممثلين"؛ فهو كان يطلب من الممثل
أن يكون في غاية البساطة أو أن يكون حيادي ًا على األقل ،ألن الكاميرا
368
ستتولى بالباقي .وهذا الباقي هو األهم أو هو العالقة الذهنية .الكاميرا ال
الحوار هي التي تشرح لماذا البطل في فيلم نافذة على الباحة كُسرت ساقه
(صور لسيارات سباق في غرفته ،آلة تصوير ضوئي مكسورة) .في فيلم
تخريب الكاميرا هي التي تجعل المرأة والرجل والسكين ال يتعاقبون
كل اثنين مع ًا ،بل يكونون في صلة حقيقية (صلة تثليث) تجعل المرأة
تعزو جريمتها للرجل((( .ال يوجد عند هيتشكوك إطالق ًا مثنى أو ازدواج:
حتى في فيلم شبهة شك ،فإن الشخصين المسميين شارلي ،العم وابنة
نفسه الذي
ظرف العالم َ
َ أخته ،أي القاتل والفتاة الشابة ،يأخذان كدليل
العم وال يستطيع تبرير جريمة الفتاة أو تبرئتها((( .وفي تاريخ
يبرر جرائم ّ ّ
يتصور صنع فيلم وفق ًا لحدين
ّ السينما ،يبدو هيتشكوك كسينمائي لم يعد
اثنين :المخرج والفيلم المراد صنعه ،وإنما وفق ًا لثالثة حدود :المخرج
والفيلم والجمهور الذي يجب أن يدخل إلى الفيلم (ذلك هو المعنى
المعلن لعنصر التشويق ،ألن المشاهد هو أول من "يعرف" بالروابط) (((.
2= كهذه يكون األول هو رقم ( 1رئيس مكتب التحقيقات الفيدرايل) ،والثاين هو رقم
(الزوجان) ،والثالث هو ( 3اجلواسيس الثالثة) .وهذا يتطابق مع الثالوثية التي نادى
هبا بريس.
370
فتجزئه أو تس ّيره في اتجاهات جديدة
واألمور األخرى التي تنضاف إليه ّ
(كما في فيلم ولكن من الذي قتل هاري؟) .ويحدث أخير ًا أن ّ
يمر الرابط
بتبدّ الت ،بحسب المتغ ّيرات التي طرأت عليه وأ ّدت إلى تغييرات عند
أحد الشخوص أو عند العديد منهم :بهذا المعنى ليست شخصيات
هيتشكوك من طبقة المثقفين ،ولكنها تمتلك نزعات يمكن أن نقول عنها
إنها نزعات عقلية ،أكثر مما هي انفعاالت ،على اعتبار أنها تنخرط في
لعبة تتغ ّير بحسب أدوات الربط المستعملة :ألن ...مع أن ...بما أن...
إذا ...حتى ولو( ...كما في أفالم العميل السري و Notoriousوشكوك).
ما يتبدّ ى في هذه الحاالت جميعها هو أن الرابط يخلق لدى الشخوص
وفي األدوار واألفعال خلخل ًة الفتة .ويظهر نموذج هذه الخلخلة لدى
الجاني والبريء .ولكن الحياة المستقلة للرابط ستدفعه نحو نوع من
التوازن ،حتى وإن كان توازن ًا ر ّث ًا ومحبط ًا وفظيع ًا :ويتح ّقق بين الجاني
والبريء ،عندما يعاد لكل شخص دوره ،ويحاسب كل واحد على
أعماله ،بشرط أن يكون هناك حدّ قد يقضم ّ
الكل أو يزيله حتى((( .هكذا
الوجه الالمبالي للزوجة التي أصبحت مجنونة في فيلم الجاني المزيف.
وهنا يكون هيتشكوك مخرج ًا مأساوي ًا :فاللقطة عنده ،كما دائم ًا في
السينما ،لها وجهان ،أحدهما ينظر إلى الشخوص واألشياء والحركات،
كل يتغ ّير مع سير الفيلم .ولكن ّ
الكل الذي يتغ ّير عند والثاني ينظر إلى ٍّ
تطور العالقات التي تنطلق من فقدان التوازن الذي تزرعه
هيتشكوك هو ّ
عند الشخوص ،وتصل إلى التوازن الرهيب الذي تكتسبه هي.
( )8لذا نجد تعليقات حول «خلخلة كربى يف الصورة» عند هيتشكوك (بازان)
وحول «توازن غريب» كحدّ « ،و ُيظهر عيب ًا بنيوي ًا» يف الطبيعة البرشيةRohmer et .
Chabrol, Hitchcock, p. 117.
371
لقد أدخل هيتشكوك الصورة الذهنية إلى السينما .وهذا يعني
أنه جعل من الرابط موضوع ًا للصورة ال ينضاف إلى الصور /اإلدراك
ويحولها .مع هيتشكوك يظهر
ّ فقط ،وإلى الفعل والعاطفة ،بل يؤ ّطرها
ال تفرض الصورة نوع جديد من "األشكال" ،وهي أشكال فكرية .وفع ً
نفسها عالمات خاصة ال تختلط مع عالمات الصورة/ الذهنية هي ُ
التحري السري لم يكن له إال دور ّ الفعل .غالب ًا ما يالحظ الن ّقاد أن
متواضع وثانوي (إال إذا دخل تمام ًا في الرابط ،كما في فيلم االبتزاز)؛
والحظوا أن المؤشرات لها أهمية زهيدة .في المقابل ،خلق هيتشكوك
عالمات مبتكرة ،بحسب نوعي الروابط ،أكانا طبيعيين أو تجريديين.
ففي الرابط الطبيعي ،يحيل حدّ إلى حدود أخرى في سلسلة اعتيادية،
فيفسر كل حدّ بالحدود األخرى :إنها سمات؛ ولكن يمكن دائم ًا ألحدَّ
هذه الحدود أن يفلت من الشبكة ،ويظهر في شروط تنتزعه من سلسلته
أو تضعه في تناقض معها ،وفي هذه الحالة نتكلم عن طمس السمة .إذ ًا
من األهمية بمكان أن تكون الحدود عادية تمام ًا ،كي يتمكّن أحدها في
البداية من االنفصال عن السلسلة :إذ يجب أن تكون الطيور – كما قال
هيتشكوك عن فيلمه الطيور -طيور ًا عادية .وبعض السمات المطموسة
عند هيتشكوك مشهورة ،كالطاحون في فيلم المراسل 17وفيه يخفق
الجناحان بحركة معاكسة للريح ،أو طائرة رش المبيدات في فيلم الموت
رش .وكذلك األمر ٍ
حقل بور ال يحتاج إلى ّ المتعقب التي تح ّلق فوق
بالنسبة لكأس الحليب الذي يدفع لمعانه إلى الشبهة في فيلم شكوك،
أو المفتاح الذي ال يتالءم مع القفل في فيلم كانت الجريمة شبه كاملة.
وأحيان ًا تتشكّل السمة المطموسة ببطء شديد ،كما في فيلم االبتزاز وفيه
نتساءل عما إذا كان مشتري السيجار قد سقط طبيعي ًا في دوامة الزبون/
372
الخيار /التحضيرات /التشغيل ،أو عما إذا كان رئيس المغنين يستعمل
ليستفز الزوجين الشابين .وثاني ًا من جهة أخرى،
ّ السيجار وطقوسه
المجرد ،نطلق كلمة "رمز" ال على تجريد ،وإنما على
ّ ووفق ًا للرابط
شيء ملموس يحمل روابط شتى ،أو يحمل تنويعات على الرابط نفسه
أو على شخصية مع غيرها أو مع ذاتها((( .فللسوار رمز مع ّين منذ فيلم
الخاتم ،كذلك األمر لقيود المساجين في فيلم تسع وثالثون درجة أو
لمحبس الزواج في فيلم نافذة على الباحة .السمات المطموسة والرموز
قد تتقارب ،وال س ّيما في فيلم :Notoriousفالزجاجة تفعل فعلها في
أحد الجواسيس بحيث تقفز من سلسلته الطبيعية "خمر /قبو خمور/
عشاء"؛ ومفتاح قبو الخمور الذي تقبض عليه البطلة بإحكام يحمل
مجمل الروابط التي تعيشها مع زوجها الذي سرقت المفتاح منه ،والتي
تعيشها مع عشيقها الذي ستعطيه المفتاح وتكلفه باكتشاف ما يوجد
في قبو الخمور .ونرى أن نفس الشيء ،كالمفتاح مثالً ،يمكن بحسب
الصور التي تُلت َقط له أن يستخدم كرمز (كما في فيلم )Notoriousأو
كسمة مطموسة (كما في فيلم كانت الجريمة شبه كاملة) .في فيلم ِ
الطيور ،النورس األول الذي َن َق َر البطلة يم ّثل ِسمة مطموسة ألنه يخرج
بعنف من السلسلة المعتادة التي تربطه بفصيلته وباإلنسان والطبيعة.
والمصورة وهي تستعد وتهاجم
ّ ولكن آالف الطيور ،على شتّى أنواعها،
وتهادن هي رمز :فليست تجريدات أو استعارات ،إنها طيور حقيقية مئة
السمة القائمة واملطموسة ال تظهر يف تصنيف العالمات الذي قدّ مه بريس. (ِّ )9
ويف املقابل ،يظهر الرمز ،ولكن بمعنى خيتلف جد ًا عن ذاك الذي نقرتحه :يف نظر بريس،
هو عالمة حتيل إىل موضوعه ،وفق ًا لقانون يكون إما ترابطي ًا وإما اعتيادي ًا وإما اصطالحي ًا
لرمز ما فقط).(فتكون السمة إذن حالة ٍ
373
بالمئة ،ولكنها تعرض الصورة المعكوسة للعالقات القائمة بين البشر
والطبيعة ،والصورة التطبيعية للعالقات القائمة بين البشر .وتستطيع
السمات المطموسة والرموز أن تشبه المؤشرات بشكل سطحي :ولكنها
تختلف كلي ًا عنها وتشكّل العالمتين الكبريين للصورة الذهنية .السمات
المطموسة تم ّثل صدمات في الروابط الطبيعية (سلسلة) وتم ّثل الرموز
عقد ًا في الروابط المجردة (مجموع).
بعد أن اكتشف هيتشكوك الصورة الذهنية ،أو الصورة – العالقة
استخدمها ليقفل بها مجمل الصور /األفعال وأيض ًا الصور /اإلدراك
والعاطفة .ومن هنا نشأ مفهومه للكادر .وال تؤ ّطر الصورة الذهنية الصور
تحولها باختراقها لها .من ذلك نستخلص أن األخرى فقط ،ولكنها ّ
هيتشكوك يكمل ويتم السينما برمتها دافع ًا الصورة /الحركة إلى مداها
المشاهد في الفيلم ،وبإدخاله الفيلم في الصورة ،فإنه
األقصى .وبإدخاله ُ
أوصل السينما إلى كمالها .بيد أن بعض أجمل أفالم هيتشكوك تدفع إلى
استشعار مسألة مهمة .إن فيلم الدوخة يبث فينا دوخة حقيقية؛ صحيح
أن ما يثير الدوار يتم في أعماق البطلة ،في الرابط الذي يصل ذاتها بذاتها
والذي يشهد جميع عالقاتها مع اآلخرين (مع المرأة الميتة والزوج
والمفتش) .ولكننا ال نستطيع أن ننسى الدوار اآلخر العادي جد ًا ،وهو
دوار المفتش العاجز عن صعود درج جرسية الكنيسة والذي يعيش
حالة من التأمل تنتشر في الفيلم كله ،وهذا نادر عند هيتشكوك .في فيلم
مكيدة عائلية نرى أن اكتشاف الروابط يحيل – حتى إلثارة الضحك –
إلى وظيفة التبصير .وبصورة أكثر مباشرة ،يصل بطل نافذة على الباحة
مصور ضوئي فقط ،بل ألنه في حالة منّ إلى الصورة الذهنية ،ال ألنه
374
صح أن
مختزل إلى حالة بصرية خالصة .إذا ّ
َ العجز الحركي :إنه نوع ًا ما
أحد تجديدات هيتشكوك تم ُثل في إقحام الم ِ
شاهد في الفيلم ،ألم يكن ُ
ضروري ًا وبديهي ًا نوع ًا ما أن يستوعب المشاهدون الشخوص أنفسهم؟
ولكن يبدو أن ثمة نتيجة ال مناص من ظهورها :إن الصورة الذهنية لن
تكون إتمام ًا للصورة /الفعل وللصور األخرى ،بل باألحرى إعادة نظر
ستتعرض الصورة /الحركة كلهاّ لطبيعتها ولوضعها .وأكثر من ذلك،
إلعادة النظر من خالل قطع الصالت الحس ّية الحرك ّية في هذه الشخصية
أو تلك .ما رام أن يتجنّبه هيتشكوك هو أزمة الصورة التقليدية في السينما،
التي حدثت مع ذلك بعد هيتشكوك ،وحدثت جزئي ًا بواسطة تجديداته.
)2
لكن أتستطيع أزمة الصورة الفعل أن تبدو جديدة؟ أليست تلك
هي الحالة الدائمة في السينما؟ لطالما ارتبطت قيمة أفالم الحركة
بوقائع من خارج الفعل أو بأوقات ميتة من خارج األفعال ،وبمجموعة
من األفعال الخارقة أو الزهيدة التي لم يكن من الممكن قطعها أثناء
المونتاج من دون تعريض الفيلم للتشويه (ومن هنا تبرز السلطة الهائلة
للمنتجين) .ولطالما أوحت إمكانيات السينما وميلها إلى تغيير األماكن،
إلى السينمائيين بالرغبة في تقليص ،أو حتى إلغاء ،وحدة الفعل والدراما
وطورت لديهم التوق الذي كان يهيمن على األدب. والحبكة والقصةّ ،
من جهة ،كانت بنية SASموضع تساؤل :لم يكن هناك وضع شامل
يستطيع أن يتك ّثف في فعل حاسم ،ولكن ما كان على الفعل أو الحبكة
كمكون داخل مجموع مشتّت في كلية مفتوحة .كان جان ِّ أن يظهرا
ميتري على حق عندما أثبت أن لويس دولوك ،هو الذي كتب سيناريو
375
فيلم العيد اإلسباني الذي أخرجته جيرمين دوالك ،كان يروم إغراق
الدراما في "غبار من الوقائع" ال تكون أية واقعة منها أساسية أو ثانوية،
بحيث ال نستطيع إعادة تشكيلها إال بنا ًء على خط منكسر ومتقطع من بين
تعرضت البنية
سائر نقاط وخطوط مجموعة العيد( .((1ومن جهة أخرىّ ،
ASAلنقد مشابه :فكما لم توجد قصة مسبقة ،لم يكن هناك فعل ُمشكَّل
مسبق ًا يمكن تخمين نتائجه على وضع مع ّين ،ولم يكن بإمكان السينما
أن تنقل أحداث ًا ناجزة ،ولكن كان عليها الوصول إلى الحدث الذي بدأ
يتشكّل ،إما بالتقاطع مع "حدث راهن" ،وإما بإثارتِه أو إنتاجه .وهذا ما
أظهره جان لويس كومولي بشكل الفت :مهما كانت عملية اإلعداد متقنة
لدى العديد من السينمائيين ،ال تستطيع السينما أن تتجنّب "االنعطاف
المباشر" .هناك دائم ًا لحظة تواجه فيها السينما الطارىء أو المرتجل،
وعدم اختزال الحاضر الحي إلى حاضر سردي؛ كذلك ال تستطيع
الكاميرا أن تبدأ عملها من دون أن تخلق ارتجاالتها الخاصة ،التي هي
عقبات ووسائل ضرورية في ٍ
آن واحد( .((1هاتان الفكرتان ،أي الكلية
يتكون ،تنتميان إلى البرغسونية العميقة
المفتوحة والحدث الذي راح ّ
للسينما بعامة.
في المقام الرابع ،يتساءل المرء عما ُيحفظ مجموع ًا في هذا العالم
المجموع هو القوالب
َ من دون كل ّية أو تساوق .الجواب بسيط :ما يصنع
الجاهزة ،وليس أي شيء آخر .قوالب جاهزة فقط ،قوالب جاهزة
في كل مكان ...المشكلة طرحها الروائي األميركي دوس باسوس
والتقنيات الجديدة التي طبقها في الرواية ،قبل أن تفكّر السينما فيها:
المشتّت والمثغور ،ازدحام الشخوص مع ضعف في التداخل أي الواقع ُ
بينهم ،إمكانية أن يصبحوا أساسيين وأن يعودوا ثانويين ،األحداث التي
يعزز
تواجههم والتي ال تخص أولئك الذين يكابدونها أو يثيرونها .ما ّ
كل هذا هو وجود قوالب جاهزة شاعت في مرحلة ما ،ووجود شعارات
مسجلة بالصوت والصورة ،و ُيطلق عليها دوس بادوس كلم ًة مأخوذة ّ
من قاموس السينما "وقائع يومية" و"عين الكاميرا" (والوقائع هي أخبار
متفرقة ،ومقابالتُمتشابكة ألحداث سياسية أو اجتماعية ،أو أحداث ّ
وأغان قصيرة؛ أما عين الكاميرا فهي المونولوغ الداخلي لشخص عادي ٍ
ال ُيعتبر من طاقم شخوص الرواية) .إنها صور عائمة وقوالب جاهزة
( ((1حول هذه النقاط مجيع ًا جيب أن نعود بانتظام إىل جملة :Cinématographe
sur Altman, n° 45, Mars 1979 (article de Maraval) et n° 54, Janvier
1980 (Fieschi, Carcassone); sur Lumet, n° 74, janvier 1982 (Rinieri, Cèbe,
Fieschi); sur Cassavetes, n° 38, Mai 1978 (Lara) et n° 77 avril 1982 (Sylvie
Trosa, Prades); sur Scorsese, n° 45 (Cuel).
380
كل فرد وتشكّل ُم ْغفلة تنتقل في أرجاء العالم الخارجي ،ولكنها تخترق َّ
عالمه الداخلي ،بحيث ال يمتلك بذاته إال قوالب جاهزة نفسية بها يفكّر
وبها يشعر ويفكّر في نفسه ويشعر بذاته ،بما أنه هو أيض ًا قالب بين
قوالب جاهزة في العالم المحيط به( .((1إن القوالب الجاهزة الفيزيائية
تتغذى من بعضها. ّ والبصرية والصوتية ،والقوالب الجاهزة النفسية
ولكي يتحمل الناس بعضهم بعض ًا ويتحملوا أنفسهم والعالم ،يجب أن
ُيعشش البؤس في أشكال الوعي ،وأن يكون داخلهم كخارجهم .هذه
الرؤية الرومانسية المتشائمة هي التي نجدها عند ألتمان وعند لوميت.
في فيلم ناشفيل تتضاعف أماكن المدينة من طريق الصور التي توحي
الموال
بها والصور الفوتوغرافية والتسجيالت والتلفزيون؛ وفي هذا ّ
المتكرر يلتقي الشخوص أخير ًا .وسلطة القالب الجاهز الصوتي هذا
ّ
المتم ّثل باألغنية القصيرة ّ
تتعزز في فيلم زوجان كامالن أللتمان :وفيه ُ
أخذت النزهة معناها الثاني ،أي أنها قصيدة مغنّاة ومصحوبة برقص.
وفي فيلم وداع ًا أيها الباسل للوميت ،الذي يروي نزهة في المدينة ألربعة
مثقفين يهود أتوا لدفن أحد أصدقائهم ،يهيم أحدهم بين القبور وهو
يقرأ للموتى أخبار الصحف الطازجة .وفي فيلم سائق التاكسي ،ين ّظم
سكورسيز قائمة بجميع القوالب النمطية النفسية التي تعتمل في رأس
السائق ،وبينها قوالب نمطية سمعية بصرية للمدينة /النيون التي تتعاقب
( ((1حول أمهية هذا املوضوع يف الرومانسية اإلنجليزية ،انظرPaul Rozenberg, :
Le romantisme anglais (Paris: Larousse, 1973).
382
وإلى أفعال يشار إليها بالبنان وبها يتكشف المجرمون (مع أن بعضهم
والقت نجاح ًا كبير ًا كما في فيلم
ْ استمر في إخراج أفالم من هذا النمط
ّ
العراب) .كذلك زال المركز السحري الذي انطلقت منه عمليات تنويم ّ
مغناطيسي انتشرت في كل مكان ،كما في أول فيلمين أخرجهما مابوز
تطور عند النغ في هذا الصدد :فلم يعد فيلموالنغ .صحيح أنه لوحظ ّ
وصية الدكتور مابوز يشهد إنتاج أفعال سرية ،بل يشهد باألحرى احتكار ًا
في إعادة اإلنتاج .واختلطت السلطة الخف ّية بتأثيراتها وحواملها ووسائل
تتصرف إال
ّ إعالمها وإذاعاتها وتلفزيوناتها وميكروفوناتها :ولم تعد
والسمة الخامسة
من خالل "االستنساخ اآللي للصور واألصوات"(ِّ .((1
للصورة الجديدة ،هي التي ستلهم السينما األميركية ما بعد الحرب .لدى
ّ
والبث ،كما في فيلم التنصت والمراقبة
ّ لوميت ،تتم ّثل المؤامرة بنظام
عصابة أندرسون؛ أما فيلم Networkف ُيغرق المدينة بالبرامج التلفزيونية
التنصت التي لم تتو ّقف عن إنتاجها ،في حين أن فيلم ملك ّ وأجهزة
كل حيثيات المدينة على شريط ُممغنط .وفيلم ناشفيل سجل َّنيويورك ّ
أللتمان وضع يده على هذه العملية التي تُغرق المدينة بجميع القوالب
الجاهزة التي تنتجها ،وتغرق القوالب الجاهزة نفسها في الداخل
والخارج ،قوالب بصرية وصوتية وقوالب نفسية.
هذه هي السمات الخمس الظاهرة للصورة الجديدة :الوضع
المشتّت ،الروابط الضعيفة عمد ًا ،الشكل /النزهة ،وعي القوالب ُ
الجاهزة ،التنديدُ بالمؤامرة .إنها أزمة الصورة /الفعل وأزمة الحلم
383
آن واحد .في كل مكان يعاد النظر في الترسيمة الحسية األميركي في ٍ
الحركية؛ وأصبح "ستوديو الممثلين" هدف ًا لحمالت النقد القاسية ،في
وتعرض لقطِيعات داخلية .ولكن كيف تستطيع تطور فيه ّ
الوقت الذي ّ
السينما أن تُندّ د بنظام القوالب الجاهزة في حين أنها تُساهم في صنعها
لعل الظروفالمصورة والتلفزيونات؟ ّ
ّ ونشرها ،على ِغرار المجالت
الخاصة التي في ظلها تنتج السينما وتعيد إنتاج القوالب الجاهزة تُمكّن
التوصل إلى تفكير نقدي لم يكن يتوفر لهم في ّ بعض السينمائيين من
مكان آخر .إن تنظيم السينما ،على الرغم من أشكال المراقبة التي تثقل
يتصرف – على األقل لمدة محدودة -لـ ّ الوطأة عليه ،يجعل المبدع
"يرتكب" ما ال يمكن الرجوع عنه .ثمة فرصة لتخليص الصورة من
جميع القوالب الجاهزة ولمناوأتها .ولكن بشرط أن يتم ذلك من خالل
مشروع جمالي وسياسي قادر على تشكيل مبادرة إيجابية .وهنا يضيق
مدى السينما األميركية .فجميع السمات الجمالية وحتى السياسية التي
يمكن أن تملكها تبقى نقدية جد ًا ،ومع ذلك تبقى أقل "خطورة" إال إذا
ٍ
عندئذ ،إما أن يكون النقد قاصر ًا، مورست في مشروع إبداع إيجابي.
ويفضح االستخدام السيىء لألجهزة والمؤسسات ،سعي ًا إلى إنقاذ ما
َ
يستطيل النقد ،ولكنه تب ّقى من الحلم األميركي ،كما عند لوميت؛ وإما أن
يدور في الفراغ ،ويمسي ناشز ًا ،كما عند ألتمان ،ويكتفي بمحاكاة ساخرة
للقالب الجاهز بدالً من خلق صورة جديدة .كان الشاعر والروائي ديفيد
هربرت لورانس ) (David Herbert Lawrenceيقول عن فن الرسم:
إن الحنق من القوالب الجاهزة ال يجدي فتي ً
ال ما دام يكتفي بمحاكاتها؛
خرب ،ال يتأخر في االنبعاث
بعد أن تساء معاملة القالب الجاهز و ُيبتر و ُي َّ
384
وفعال فإن ِ
مز ّية السينما األميركية تكمن في أنها ُولدت من ً من رماده(.((1
دون تراث مسبق يخنقها ،وترتدّ اآلن ضده .ذلك أن السينما الصورة/
الفعل قد خلقت هي نفسها تراث ًا ولم تعد قادرة في معظم األحيان
على أن تفلت منه إال بصورة سلبية .واألنواع الكبرى في هذه السينما،
كالفيلم النفسي االجتماعي ،والفيلم األسود ،والويستيرن ،والكوميديا
حافظت على كادرها الفارغ .ورأى مبدعون ْ انهارت ولكنها
ْ األميركية،
كبار أن طريق الهجرة انقلب ،وألسباب ال تتع ّلق بالمكارثية(*) فقط.
ال كانت أوروبا تتمتع بحرية أكبر ،على هذا الصعيد؛ وأوالً في إيطاليا
وفع ً
ظهرت األزمة الكبرى للصورة /الفعل .والتواريخ هي تقريب ًا كالتالي:
نحو عام 1948بالنسبة إليطاليا؛ ونحو عام 1958بالنسبة لفرنسا؛ ونحو
عام 1968بالنسبة أللمانيا.
)3
لماذا إيطاليا أوالً ،قبل فرنسا وألمانيا؟ هناك ربما سبب جوهري،
ولكنه من خارج السينما .بدف ٍع من الجنرال ديغول ،كان لدى فرنسا في
نهاية الحرب طموح تاريخي وسياسي بأن تكون في ِعداد المنتصرين:
السرية ،كفصيل من جيشفكان يجب إذن أن تظهر المقاومة ،وحتى ّ
المشوبة ِ
نظامي في غاية االنضباط؛ وكان على حياة الفرنسيين ،وحتى َ
( ((1انظر النص العنيف الذي كتبهR. S. Warshow, reproduit dans Le :
néo-réalisme italien, Etudes cinématographiques, pp. 140-142,
ثمة ضغينة أصابت دائ ًام الواقعية اإليطالية اجلديدة التي ّ
«جترأت» عىل ابتداع
)(Ingrid Bergman مفهوم آخر للسينام .ونحت الفضيحة التي أثارهتا إنغريد برغامن
َّ
تتخل عن عائلتها لتنضم إىل هذا املنحى :فبعد أن أصبحت الفتاة التي تبنّتها أمريكا ،مل
روسيليني فقط ،بل تركت سينام املنترصين.
386
إن الواقعية اإليطالية الجديدة هي التي صاغت السمات الخمس
اآلنفة الذكر .في وضع ما بعد الحرب ،اكتشف روسيليني واقع ًا ًمشتت ًا
ومثغور ًا .ففي فيلم روما مدينة مفتوحة ،ولكن على األخص في فيلم
ثمة مجموعة من اللقاءات المجتزأة والمق ّطعة تعيد النظر في
ّ ، Païsa
الصيغة SASالخاصة بالصورة /الفعل .وكانت األزمة االقتصادية التي
أعقبت الحرب خصوص ًا هي التي ألهمت فيتوريو دو سيكا (Vittorio
موجه أو
) de Sicaودفعته إلى كسر الصيغة :ASAلم يعد ثمة شعاع ّ
خط كون يمدّ د ويربط األحداث في فيلم سارق الدراجة؛ ويستطيع ّ
يحرف السعي غير المخ ّطط له في نزهة يقوم بها
المطر دائم ًا أن يقطع أو ّ
الرجل والطفل .و ُيمسي المطر اإليطالي عالمة تدل على الزمن الميت
والقطيعة الممكنة .وأيض ًا تحمل سرقة الدراجة أو األحداث التافهة
في فيلم Umberto Dأهمية حيوية لدى شخوص الفيلم .ومع ذلك،
فإن فيلم شبان فيتلوني ) (Les Vitelloniلفريدريكو ف ّليني ال يعرض
األحداث التافهة فقط بل أيض ًا التراكبات الحائرة لهؤالء الشبان وعدم
انتمائهم إلى أولئك الذين يعانون منها ،والتي تدخل في خانة النزهة .في
المدينة المهدمة التي يعاد بناؤها ،تُكثر الواقعية الجديدة عد َد األمكنة
النكرة ،أو السرطان المديني أو النسيج الذي ال طابع له أو األراضي
غير المؤهلة ،التي تتعارض مع األمكنة المحددة في الواقعية القديمة(.((1
وما يصعد في األفق ،وما يرتسم في هذا العالم ،وما سيفرض نفسه في
فترة ثالثة ،ليس الواقع الفج ،وإنما بديله وسلطة القوالب الجاهزة ،في
389
النار على عازف البيانو لتروفو ،وباريس نمتلكها لريفيت)( .((1لقد غدا
للتصرف الحقيقي في
ّ التزييف عالمة على ظهور واقعية جديدة ،خالف ًا
مصوبة
ّ الواقعية القديمة .ثمة صراعات خرقاء ولكمات وإطالق نيران
محل المبارزاتبشكل سيىء ،وارتباكات في األفعال واألقوال ،ح ّلت ّ
األنيقة في الواقعية األميركية .وأجرى جان أوستاش )(Jean Eustache
كالم ًا على لسان الشخصية الرئيسية في فيلم ماما والمومس يقول" :ك ّلما
بدونا مز ّيفين هكذا ،كلما ذهبنا بعيد ًا ،المز ّيف هو العالم اآلخر".
ْ
تحت ضغط التزييف هذا ،تصبح الصور جميعها قوالب جاهزة ،إما
ألنه يتبدّ ى خر ُقها ،وإما ألنه ُيندَّ د بكمالها الظاهري .إن الحركات الخرقاء
للدرك تضارعها مجموعة من البطاقات البريدية التي أتوا بها من الحرب.
القوالب الجاهزة الخارجية والبصرية والصوتية تضارعها قوالب جاهزة
داخلية أو نفسية .وربما في آفاق السينما األلمانية الجديدة سيعرف هذا
تطوره األوسع :لقد ابتكر دانيال شميد تباطؤ ًا يمكّن من انشطار العنصر ّ
الشخوص ،كما لو كانوا بمحاذاة ما يقولون وما يفعلون ،وكما لو اختاروا
من بين القوالب الجاهزة قالب ًا سيجسدونه من الداخل ،في استبدال دائم
للداخل والخارج (نجد ذلك في فيلم La Palomaوخصوص ًا في فيلم
المومس
ُ ظل المالئكة ،وفيه "يستطيع اليهودي أن يكون فاش ّي ًا ،وتمسي
القوا َد ،"...في لعبة ورق تجعل كل العب ورق َة لعب هو نفسه ،ولكنها
390
ورقة يلعبها العب آخر)( .((2إذا كان األمر كذلك ،كيف ال نصدّ ق وجود
عمم يمتدّ في كل أرجاء
مؤامرة دولية منتشرة ،ووجود مشروع استعباد ُم ّ
المكان النكرة ويزرع الموت في كل مكان؟ عند غودار ،تؤكد أفالم
وصنع في الواليات المتحدة األميركيةالجندي الصغير وبييرو المجنون ُ
وعطلة نهاية األسبوع مع عصابة المقاومة النهائية ،تؤكد بصورة متفاوتة
وجو َد مؤامرة معقدة .وريفيت بدء ًا من فيلمه باريس نمتلكها ومرور ًا
بفيلم جسر الشمال ووصوالً إلى فيلم الراهبة ال يكف عن التك ّلم عن
توزع األدوار واألوضاع على ِغرار لعبة اإلوزةالمؤامرة الدولية التي ّ
الشريرة.
لكن إذا كان كل شيء قوالب جاهزة ومؤامرة يتم تبادلها ونشرها،
يبدو أن ليس ثمة من مخرج إال من طريق سينما السخرية واألخطاء التي
تحصل بسبب سوء التفاهم واالحتقار ،كما ُأ ِخذ ذلك كثير ًا على شابرول
وألتمان .على العكس ،ماذا كان الواقعيون الجدد يريدون أن يقولوه
عندما كانوا يتكلمون عن االحترام والحب الضروري لوالدة الصورة
الجديدة؟ إن السينما ،ومن دون أن تكتفي بوعي سلبي نقدي أو ساخر،
تكف عن تعميقه وتطويره. ّ انخرطت في أعلى درجات التفكير ،ولم
أضحت الصور
ْ وقد نجد عند غودار عبارات تع ّبر عن هذه المشكلة :إذا
Dossier Daniel Schmid (Paris: Edition L’ȃge d’homme, [s. ( ((2انظر:
d.]), pp. 78-86,
سمها شميد «القوالب اجلاهزة الورق املنتوف») .ولكن شميد (وال سيام ما ّ
يعي متام ًا اخلطر الذي ال يرتك للسينام إال وظيفة اهلجاء (ص : )78وأيضا ال تتفاقم
ً
القوالب اجلاهزة إال ليخرج يشء منها .يف فيلم ظل املالئكة ) (L’ombre des angesهناك
شخصيتان تطرحان قوالب جاهزة حتارصمها من اخلارج والداخل ،اليهودي والعاهرة،
ألهنام عرفتا احلفاظ عىل حس «اخلوف».
391
قوالب جاهزة ،في الداخل وفي الخارج ،فكيف نستخلص صورة واحدة
من كل هذه القوالب" ،صورة واحدة فقط" ،صورة ذهنية مستق ّلة؟ من
مجموع القوالب الجاهزة يجب أن تخرج صورة ...تخرج بأية سياسة
وبأية نتائج؟ ما هي الصورة التي تتغاير مع القالب الجاهز؟ أين ينتهي
القالب الجاهز وأين تبدأ الصورة؟ ولكن إذا لم يوجد جواب مباشر على
هذا السؤال ،فألن مجمل السمات السابقة ال تشكّل الصورة الذهنية
الجديدة المطلوبة .السمات الخمس السابقة هي كناية عن غطاء (بما في
ذلك القوالب الجاهزة الفيزيائية والنفسية) ،إنها شرط ضروري خارجي،
ولكنها ال تشكّل الصورة مع أنها تجعلها ممكنة .وهنا نستطيع تقدير
التشابه واالختالف مع هيتشكوك .نستطيع أن نقول عن الموجة الجديدة
وبحق إنها هيتشكوكية ماركسيانية بدل أن تكون "هيتشكوكية هاوكسية".
كما فعل هيتشكوك ،أرادت الموجة الجديدة أن تصل إلى الصور الذهنية
واألشكال الفكرية (الثالوثية) .ولكن في حين رأى هيتشكوك فيها نوع ًا
من تتمة عليها أن تطيل أمدَ المنظومة التقليدية "إدراك /فعل /عاطفة"
وتنهيها ،وجدت فيها على العكس ضرورة تكفي لكسر المنظومة كلها،
ولقطع اإلدراك المتدادها الحركي عبر الفعل ،ودفعه بعيد ًا عن الخيط
الذي كان يربطها بوضع مع ّين عبر العاطفة ،وإقصائه عن االنضواء
واالنتماء إلى شخوص .إذ ًا لن تكون الصورة الجديدة إجهاز ًا على
وجب علىَ السينما وإنما تطوير ًا لها .ما كان هيتشكوك قد رفضه دائم ًا،
السينما أن ترومه .كان ينبغي على الصورة الذهنية أال تكتفي بنسج
مجموعة من العالقات ،بل أن تُشكّل ماهية جديدة .كان يجب أن تصبح
عن حق موضع تفكير ونظر ،حتى وإن كان عليها من أجل ذلك أن
تصبح "صعبة" .كان ثمة شرطان .فمن جهة قد تقضي وتفترض تأزيم ًا
392
للصورة /الفعل ،وللصورة /اإلدراك ،وللصورة /العاطفة ،بشرط
اكتشاف "القوالب الجاهزة" في كل مكان .ولكن هذه األزمة ،من جهة
أخرى ،ال قيمة لها بذاتها ،فلن تكون إال الشرط السلبي النبثاق الصورة
وجب البحث عنها خارج حدود الحركة.َ التفكيرية الجديدة ،حتى وإن
393
(∗)
الثبت التعريفي
(*) أورد دولوز بعض المصطلحات في آخر كتابه؛ وللتيسير تم دمجها بالثبت
التعريفي وبثبت المصطلحات.
395
األنساق اللونية لمحتويات اإلطار (الكادر)؛ )4موضع الكاميرا
وزاوية رؤيتها وحركتها؛ )5حركة الشخصيات والموضوعات داخل
اإلطار (وردت هذه النقاط في موسوعة الشاشة الكبيرة السماعيل بهاء
الدين سليمان (مكتبة لبنان ناشرون .)2012 ،وغالب ًا ما يترادف هذا
المصطلح مع كلمة .réalisation
397
في الواحدية) .التثليثية تخضع لقانون الوجوب :مث ً
ال قانون الثقل ،فكل
مرة نرمي بحجر نراه ينزل على األرض .والتثليثية هي مقولة تنطبق على ّ
والتصور والحياة الثقافية والفكرية.
ّ الفكر واللغة
398
من قاعدة وجذر وساق وأغصان وأوراق ،بل تتفاعل العناصر فيما بينها
من دون المرور بالترسيمة :جذر ← ساق← أغصان← أوراق .ويعني
والالسنني ،أي أن المعرفة
ُ الجذمور في الفلسفة ذلك العنصر الالامتثالي
ال ترتكز على االستنتاج المنطقي وعلى المبادىء األولى ،بل إنها ُبنية تبزغ
من كل نسغ .فبنية المعرفة ليست عمودية ،بل هي باألحرى أفقية وتتجاوز
النموذج السلطوي الذي يستند إلى األعراف والتقاليد والتراث الثابت.
399
عالمة تأشير ) :(décisigneيقول دولوز في ثبت مصطلحاته
المختصر المدرج في آخر هذا الجزء من الدراسة إنه اقتبس هذا
الحر الالمباشر"،
ّ المصطلح من بيرس الذي د ّلل فيه على "الخطاب
والذي أضاف إليه دولوز بعض التفاصيل :فرأى أن عالمة التأشير هي
إدراك يتم في كادر إدراك آخر؛ وترتبط بإدراك جامد وهندسي وفيزيائي.
وتتح ّقق إما بالنظرات وإما بحركات الممثلين وإما بحركات الكاميرا.
كيف ينظر الممثل إلى غرفة نومه ،وكيف تنظر إليها الكاميرا؟ يجب أن
يكون هناك انسجام بين الرؤيتين؛ وهذا ما ح ّققه بازوليني وأنطونيوني
وأوزو ،كل على طريقته.
400
الموسيقى لروبرت إيرل وايز ) (1965) (Robert Earl Wiseوبياع
الخواتم ليوسف شاهين ).(1965
401
كوكتو خصوص ًا) .وفيلم أفاتار وهاري بوتر من أهم أفالم االستيهام في
السنوات األخيرة.
402
الممثلون أشخاص عاديون وغير محترفين ،الموضوعات مقتبسة من
مشاكل الحياة اليومية ،إقصاء التصنّع واالفتعال ،اقتصاد في تكاليف
الفيلم .ومن ممثليه روبيرت و روسيليني وجوسيبي دو سانتيس �(Gi
) useppe De Santisوفيتوريو دو سيكا .وتجاوزت الواقعية الجديد ُة
حدو َد إيطاليا في النصف الثاني من القرن العشرين.
403
ثبت امل�صطلحات
anticipation استباق
symptômes أعراض
film de dessins animés أفالم التحريك /أفالم الرسوم
المتحركة
chambara أفالم الساموراي
405
affect انفعال أو تأ ّثر عاطفي
focus بؤرة
contraste تباين
focalisation تبئير
périodisation تحقيب
dégradation متدرج
تدن ٍّّ
406
allusion تلميح
colorisation تلوين
doublage دبلجة
407
fragments شذرات
408
collage قص ولصق
ّ
coupure قطع
séquence متتالية
immanent محايث
individué ذوت
ُم ّ
409
surimpression مزج تراكُبي للصورة
caméraman مصور
ّ
poster ملصق
montage مونتاج
obsession هوس/هجاس
raccord وصلة
410
الفهر�س
،238 ،217 ،173 ،171 ،169 -أ-
398 ،380 ،378 ،370 ،324 اآللية،333 ،124 ،91 ،89 :
اإلطار،66 ،45 ،44 ،41 ،35 : 360 ،336
407 ،402 ،93 األدوار،253 ،238 ،220 ،211 :
اإلنتاج389 ،73 ،17 ،8 : ،377 ،325 ،317 ،293 ،260
401 ،397 ،385
إيزنشتاين،38 ،37 ،23 ،22 :
،83 ،80 ،76 ،74 ،72 ،67 ،65 األشكال،71 ،25 ،23 ،20 ،8 :
،114 ،109 ،95 ،90 ،87 ،84 ،230 ،222 ،172 ،127 ،126
،179 ،178 ،175 ،169 ،144 378 ،370 ،346 ،345 ،337
،288 ،230 ،191 ،183 ،180 األلوان،112 ،109 ،94 ،79 :
،341 ،339 ،338 ،296 ،292 ،261 ،238 ،232 ،230 ،186
346 ،345 ،343 290
االرتكاس292 ،134 : اإلدراك،54 ،50 ،18 ،17 ،11 :
األفالم،213 ،85 ،53 ،13 : ،134 ،132 ،122 ،119 ،85 ،59
،313 ،311 ،300 ،277 ،253 ،144 ،141 ،138 ،137 ،135
،346 ،328 ،325 ،317 ،314 ،157 ،156 ،153 ،148 ،147
405 ،404 ،392 ،383 ،358 ،168 ،166 ،165 ،163 ،158
411
،209 ،196 ،194 ،156 ،143 االنعكاس االمحراري،109 :
،403 ،401 ،369 ،367 ،218 111
413 ،408 ،406 ،137 االنفعال العاطفي،11 :
-ت- ،183 ،175 ،144 ،141 ،139
التأطري،49 ،42 ،39 ،38 ،35 : ،197 ،195 ،193 ،191 ،189
97 ،210 ،204 ،203 ،200 ،198
،241 ،230 ،220 ،217 ،216
التجريد،221 ،187 ،186 ،91 : 261
،258 ،229 ،226 ،225 ،222
269 ،264 ،262 -ب-
413
الضوء،104 ،102 ،94 ،39 : شارلو،323 ،322 ،294 ،25 :
،128 ،127 ،109 ،108 ،106 327 ،326 ،324
،209 ،203 ،188 ،132 ،130 الشاشة،52 ،42 ،41 ،38 ،36 :
404 ،401 ،273 ،262 ،219 ،152 ،143 ،130 ،128 ،100
-ع- 402 ،354 ،188 ،174
العنرص الشجني78 : الشخصيات،212 ،149 ،39 :
-غ- ،362 ،357 ،234 ،225 ،220
402
غريفيث ،فريدريك،38 ،37 :
،80 ،76 ،74 ،73 ،71 ،69 ،67 الشخوص،69 ،59 ،51 ،48 :
،178 ،144 ،109 ،106 ،87 ،242 ،234 ،233 ،232 ،149
،285 ،230 ،191 ،183 ،181 ،274 ،264 ،262 ،261 ،247
356 ،330 ،292 ،373 ،338 ،311 ،309 ،298
،385 ،384 ،381 ،377 ،374
غوته ،يوهان فولفغانغ فون: 408 ،396 ،395 ،387 ،386
225 ،186 ،112 ،109 ،103
-ص-
ف-
الصورة البرصية155 ،103 ،42 :
الفن151 ،82 ،24 ،11 ،9 ،8 :
الصورة الذهنية،372 ،370 :
الفوتوغرام،185 ،174 ،17 : 398 ،380 ،378 ،373
406
الصورة السينامئية،57 ،40 ،38 :
فريتوف ،دزيغا،86 ،85 ،84 : ،150 ،149 ،120 ،115 ،92
،166 ،165 ،144 ،129 ،98 ،93 391 ،258 ،247 ،191 ،170
173 ،171 ،169 ،168
الصورة الضوئية169 ،92 ،58 :
-ق-
الصورة الفوتوغرافية130 ،57 :
القوالب اجلاهزة،388 ،386 :
398 ،397 ،396 ،394 ،390 -ض-
414
-م- -ك-
جمال الرؤية،46 ،45 ،43 ،42 : الكادر،47 ،42 ،41 ،36 ،35 :
413 ،412 ،153 ،129 ،96 ،68 ،58 ،49
،148 املخرج،105 ،83 ،61 : ،362 ،324 ،211 ،164 ،154
،197 ،187 ،184 ،182 ،168 410 ،402 ،373
،245 ،237 ،232 ،218 ،206 الكامريا413 ،188 ،153 ،55 :
،279 ،278 ،269 ،261 ،249 كوروساوا ،أكريا،353 ،52 :
،346 ،338 ،318 ،308 ،295 ،360 ،359 ،358 ،356 ،355
406 ،402 ،384 ،375 ،370 366 ،361
املدرسة التعبريية104 ،40 : كوميديا،402 ،376 ،312 :
املدرسة الفرنسية،92 ،90 ،87 : 414 ،407 ،403
،109 ،108 ،106 ،102 ،98 ،95 كيتونَ ،بسرت،329 ،288 ،137 :
170 ،163 ،158 ،157 ،111 ،336 ،334 ،333 ،331 ،330
املرئي،304 ،143 ،79 ،45 ،42 : 402
362 ،325 -ل-
املشهد،102 ،77 ،71 ،69 ،36 : اللقطة،54 ،42 ،35 ،19 ،12 :
،255 ،238 ،221 ،148 ،143 ،68 ،62 ،61 ،59 ،58 ،57 ،55
395 ،363 ،330 ،304 ،259 ،135 ،103 ،96 ،93 ،78 ،70
املعلومات الكتيمة36 : ،177 ،175 ،172 ،148 ،144
املقاطع124 ،122 ،21 : ،192 ،190 ،189 ،183 ،180
،212 ،211 ،206 ،205 ،198
املنظومة،38 ،37 ،35 ،24 ،21 : ،250 ،233 ،222 ،217 ،213
،132 ،68 ،48 ،46 ،45 ،43 ،40 ،365 ،339 ،332 ،308 ،304
398 ،365 ،299 ،151 412 ،411 ،373
مورناو ،فريدريش فيلهلم،40 : اللولب العضوي101 ،74 :
415
هيتشكوك ،ألفريد،52 ،47 ،36 : ،111 ،110 ،104 ،102 ،51
،377 ،376 ،374 ،373 ،372 404 ،348 ،185 ،149
398 ،381 ،380 ،378 موضوعية،149 ،148 ،133 :
هريزوغ ،ويرنر،348 ،346 : 335 ،163 ،161 ،156 ،153
350 ،349 املونتاج،67 ،65 ،59 ،49 ،19 :
-و- ،83 ،82 ،80 ،75 ،72 ،71 ،68
الواقعية،235 ،211 ،204 ،16 : ،114 ،104 ،102 ،100 ،97 ،86
،298 ،295 ،273 ،250 ،243 ،166 ،165 ،158 ،144 ،142
،393 ،392 ،388 ،383 ،311 ،219 ،205 ،172 ،169 ،168
409 ،396 ،394 381 ،311 ،294 ،292
416