You are on page 1of 546

‫‪،‬‬

‫ء‬‫ﺎ‬
‫ـ‬‫ـﻔ‬
‫ﻟﺨ‬
‫ا‬‫ﺋﻖﻓﻲ‬‫ﺎ‬
‫ـ‬‫ﻟﺤﻘ‬
‫ا‬
‫ﻠﻦ‬
‫ﻟﻌ‬‫ا‬‫ﻳﺐﻓﻲ‬‫ذ‬
‫ﺎ‬‫ﻛ‬‫اﻷ‬‫و‬

‫ان‬
‫ر‬‫رﻛﻮ‬
‫ﻴﻤﻮ‬
‫ﺗ‬
‫الحقائق يف الخفاء‬
‫والكاذيب يف العلن‬
‫العواقب االجتامعية لتزييف التفضيل‬

‫تأليف‬
‫تيمور كوران‬

‫ترجمة‬
‫عبد املعني السباعي‬ ‫رزان حميدة‬ ‫حازم موس‬ ‫مريا جندي‬
‫رامي أبو زرد‬ ‫حبيب زريق‬ ‫حسام شبيل‬ ‫زينب أحمد‬

‫مراجعة‬
‫أحمد رضا‬
‫قامئة املحتويات‬

‫مقدمة‪1........................................................................................................................ .‬‬

‫الجزء الول‪ :‬العيش يف كذبة‬

‫الفصل الول‪ :‬أهمية تزييف التفضيل‪11.................................................................................‬‬

‫الفصل الثاين‪ :‬التفضيالت الخفية والعلنية‪36........................................................................ .‬‬

‫ي علني ‪63................................................................................‬‬
‫ي خفي‪ ،‬ورأ ٌ‬
‫الفصل الثالث‪ :‬رأ ٌ‬

‫الفصل الرابع‪ :‬ديناميات الرأي العلني ‪79................................................................................‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬املصادر املؤسسية لتزوير التفضيل‪107...........................................................‬‬

‫الجزء الثاين‪ :‬تثبيط التغيري‬

‫الفصل السادس‪ :‬املحافظة الجمعية ‪131................................................................................‬‬

‫الفصل السابع‪ :‬معاندة الشيوعية‪144................................................................. ..................‬‬

‫الفصل الثامن‪ :‬ثَباتُ النظام الطبقي امل ُنذر بالسوء‪157..............................................................‬‬

‫الفصل التاسع‪ :‬االنتشار غري املرغوب للتمييز اإليجايب‪168........................................................‬‬

‫الجزء الثالث‪ :‬املعرفة املشوهة‬

‫الفصل العارش‪ :‬الحوار العلني واملعرفة الخفية ‪193..................................................................‬‬

‫الفصل الحادي عرش‪ :‬الالمعقول والالمطروق ‪215...................................................................‬‬

‫الفصل الثاين عرش‪ :‬الخضوع يف الخالق الطبقية‪237.............................................................‬‬

‫الفصل الثالث عرش‪ :‬نقاط الشيوعية العمياء ‪247......................................................................‬‬


‫الفصل الرابع عرش‪ :‬الطيف غري اآلفل لعنرصية البيض‪268........................................................‬‬

‫الجزء الرابع‪ :‬توليد املفاجأة‬

‫الفصل الخامس عرش‪ :‬ثورات سياسية غري متوقعة‪294.............................................................‬‬

‫الفصل السادس عرش‪ :‬سقوط الشيوعية واالنقالبات املفاجئة الخرى‪312......................................‬‬

‫الفصل السابع عرش‪ :‬تعقيدات التطور االجتامعي الخفية‪346......................................................‬‬

‫الفصل الثامن عرش‪ :‬االنتقال من العبودية إىل التمييز اإليجايب‪371..............................................‬‬

‫الفصل التاسع عرش‪ :‬تزييف التفضيل والتحليل االجتامعي‪392...................................................‬‬

‫مالحظات ‪422................................................................................................................‬‬
‫مقدمة‬

‫يف خض ّم كتابتي لهذا الكتاب‪ ،‬أرسلت جز ًءا عن سقوط الشيوعية يف رشق أوروبا إىل باحث‬
‫تشييك كنت التقيته يف مؤمتر‪ .‬أرسل الرجل ر ًّدا قال فيه إنه وجد ال ُح ّجة يف الكتاب مقنعة‬
‫حكم شمويل‪ .‬رددتُ عليه أنني قضيت حيايت‬
‫عشت أنا يف ظل ُ‬
‫ُ‬ ‫إىل درجة جعلته يتساءل هل‬
‫يف تركيا والواليات املتحدة‪ ،‬يف دولتني وفّرتا عىل أنفسهام خراب الشمولية‪.‬‬

‫ناجام عن مت ّعن أكرب‪ .‬لقد عشت يف ظل حكومتني متسامحتني‬


‫ً‬ ‫استحق سؤالُه جوابًا‬
‫شموال وتطبيقه أقرب إىل االتساق يف الواليات‬
‫ً‬ ‫مع النقد‪ ،‬لكن تأويل مبدأ حرية التعبري أوسع‬
‫املتحدة منه يف تركيا‪ .‬يف كلتا الدولتني تتكلم الصحافة عن أمور كثرية‪ ،‬وتتمتع انتقادات‬
‫السياسات الرسمية بحضور كبري‪ .‬قارن هذا االنفتاح بنظام شمويل‪ ،‬تالحق فيه الدولة‬
‫املعارضني مالحقة نظامية‪ .‬خوفًا من انتقام الحكومة‪ ،‬يتجنب النقاد السياسيون قول ما‬
‫يفكرون فيه‪ ،‬ويتجنبون كشف آرائهم الناقدة للسياسات الحكومية‪ ،‬والدعوة إىل اإلصالح‪.‬‬
‫مام يسميه األوروبيون الرشقيون «عيش الكذبة»– هو الذي دفع‬
‫إن هذا البُعد من النِّفاق– ّ‬
‫قاريئ التشييك إىل سؤاله‪ .‬لقد أراد أن يعرف كيف استطعت تقدير حجم «تزييف التفضيل»‬
‫بل وكيف فهمت آلياته‪ ،‬دون أن أمر بتجربة مبارشة مع الشمولية‪ .‬تزييف التفضيل هو‬
‫تزييف املرء لرغباته تحت ضغط اجتامعي يراه‪.‬‬

‫لكن الحكومة االستبدادية ليست هي مصدر الخوف الوحيد‪ ،‬وليست العائق الوحيد‬
‫الذي يعوق الخطاب الرصيح وامل ُعلَن‪ .‬الرأي العلني عامل أقوى‪ .‬أوالً ‪ ،‬االستبداد ال ميكن‬
‫مام‬
‫استبقاؤه إال بالرضا الضمني للرأي العلني‪ ،‬عىل األقل‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬الرأي العلني هو نفسه ّ‬
‫‪1‬‬
‫يح ّدد رغبة الناس يف الكشف عن أعامق أنفسهم‪ .‬حتى يف املجتمعات الدميقراطية‪ ،‬التي‬
‫ميلك الناس فيها حق التفكري والتعبري والفعل الحر‪ ،‬ويحمي القانون هذه الحقوق‪ ،‬والتي‬
‫يُ َع ّد التسامح فيها فضيلة ُم َعظَّمة‪ ،‬ميكن لآلراء غري السائدة أن تثري كراهية ضخمة‪ .‬يف‬
‫مثال‪ ،‬إذا دافع املرء عن تعقيم النساء الفقريات أو ترشيع استرياد‬
‫الواليات املتحدة املتحدة ً‬
‫تحّضه وأخالقه‪ ،‬إن مل يكن بشأن ص ّحة عقله‪ .‬نعم‪ ،‬قضت‬
‫ّ‬ ‫العاج‪ ،‬سيثري هذا الشكوك بشأن‬
‫املحاكم مرة بعد أخرى أن اآلراء غري السائدة‪ ،‬مهام كانت فظيعة‪ ،‬محمية بالقانون‪ .‬لكن‬
‫صاحب الرأي وإن كان ح ًّرا يف قول آرائه املكروهة‪ ،‬فإنه لن يتمتع بالتقدير نفسه الذي يتمتع‬
‫به أصحاب اآلراء املقبولة يف أعني الناس‪ .‬مهام كان تطبيق حرية التعبري شدي ًدا‪ ،‬فلن‬
‫يعرب عنها‪.‬‬
‫يستطيع عزل ُسمعة اإلنسان عن آرائه التي ّ‬

‫يفصل األفراد عاد ًة‬


‫وألن أصحاب اآلراء املختلفة يتعامل الناس معهم بطرق مختلفة‪ّ ،‬‬
‫ريا يف أثرها‬
‫تعبرياتهم مبا يوافق الضغوط االجتامعية السائدة‪ .‬قد تتنوع تك ّيفاتهم كث ً‬
‫رمبا‪ ،‬من قبيل قول‬
‫االجتامعي‪ .‬عىل الطرف األول أفعال اللباقة عدمية الّضر‪ ،‬بل النافعة ّ‬
‫خا أنه ذو ذوق جميل‪ .‬وعىل الطرف اآلخر ال ُجنب يف‬
‫قميصا صار ً‬
‫ً‬ ‫املرء لصديقه الذي يلبس‬
‫سيايس إلجراء حاميئ يعرف أنه سيّض معظم ناخبيه‪ .‬ال‬
‫ّ‬ ‫القضايا العلنية‪ ،‬من قبيل دعم‬
‫تأيت الضغوط الدافعة إىل النفاق هذا بالّضورة من الحكومة‪ .‬تزييف التفضيل موافق لكل‬
‫األنظمة السياسية‪ ،‬من أشد الديكتاتوريات رصام ًة إىل أش ّد الدميقراطيات حريّة‪.‬‬

‫عود ًة إىل سؤال زمييل‪ ،‬ليس عىل املرء أن يعيش يف ظل نظام مستبد حتى يالحظ‬
‫وميارس أفعال تزييف التفضيل‪ .‬وال عىل املرء أن يعرف تاريخ الشيوعية حتى يشعر أن هذه‬
‫األفعال لها عواقب مهمة‪ .‬لذا فنقطة انطالقي مل تكن القمع الشيوعي‪ ،‬بل مح ّرمات السياسة‬

‫‪2‬‬
‫األمريكية املعارصة‪ .‬كنت قد غمست نفيس حديثًا يف االقتصاد السيايس الحديث‪ ،‬بعد أن‬
‫قضيت سنيني يف الجامعة يف دراسة التنمية االقتصادية والنظرية االقتصادية الجزئية‪ .‬لقد‬
‫بدا يل أن عجز األدبيات عن إدراك أن بعض القضايا مفتوحة أكرث من غريها للنقاش‪ ،‬وأن‬
‫ضعف حارض‬
‫ٌ‬ ‫بعض اآلراء أس َهل عىل التسامح من غريها‪ ،‬ناهيك عن تفسري ذلك ورشحه‪،‬‬
‫دليال عىل ذلك‪ ،‬ال يحتاج املرء إىل النظر أب َعد من حرم الجامعة‪ :‬كثري من أنصار‬
‫يف األدبيات‪ً .‬‬
‫حرية التعبري الذين بادروا إىل شجب املكارثية يف الخمسينيات كانوا ينارصون منع‬
‫املساحات العلنية ألصحاب اآلراء التي يرونها عدوانية‪ ،‬مثل أصحاب تحسني النسل وممثيل‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية‪.‬‬

‫أول مقالتني يل عن تزييف التفضيل‪ ،‬كانتا قطعتني تقنيتني س ّودتهام يف ‪1983‬‬


‫ونرشتهام بعد أربع سنوات يف مجلة االختيار العلني والصحيفة االقتصادية‪ .‬أردت يف‬
‫املقالتني إدخال الواقعية إىل النظرية االقتصادية للسياسة من خالل إضاءات من علم‬
‫االجتامع وعلم النفس‪ .‬مع تق ّدم تفكريي‪ ،‬أصبح واض ًحا أن تزييف التفضيل يؤثّر يف كل‬
‫توسع نطاق بحثي وازداد عدد املجاالت الداخلة‬
‫ناحية من الفكر االجتامعي‪ .‬وعىل إثر هذا ّ‬
‫فيه‪.‬‬

‫يق ّدم هذا الكتاب نظرية توفّق بني مناهج واكتشافات من األدب االجتامعي العلمي‬
‫كانت قد تط ّورت عىل نحو منفصل نو ًعا ما‪ .‬يف أدبيات االقتصاد‪ ،‬تض ّم النظرية مفاهيم‬
‫التحسني والتوازن‪ .‬أما يف العلوم السياسية‪ ،‬تعزو النظرية ملجموعات الضغط السيايس‬
‫رئيسا يف صنع القرار الجمعي‪ .‬وأما يف علم االجتامع‪ ،‬تعامل النظرية الناس عىل أنهم‬
‫ً‬ ‫دو ًرا‬
‫كائنات اجتامعية–مخلوقات يتعلم بعضها من بعض‪ ،‬ويعتني بعضها ببعض‪ ،‬ويهتم‬

‫‪3‬‬
‫ريا‪ ،‬وإىل جانب فروع كثرية من علم النفس‪ ،‬تدرك النظرية أن للعقل‬
‫بعضها ببعض‪ .‬أخ ً‬
‫البرشي حدو ًدا وأنه مجال للتوترات والضغوط‪ .‬بالحفاظ عىل هذه األصول الهجينة‪ ،‬تحمل‬
‫تجسد مالحظات مبعرثة ومعزولة اليوم يف مجاالت بحثية متباعدة‪.‬‬
‫النظرية اقرتاحات ّ‬

‫كل هذه املجاالت‪ ،‬إىل جانب الفلسفة‪ ،‬ق ّدمت إضاءات يف الظاهرة التي أس ّميها تزييف‬
‫التفضيل‪ .‬أحاول يف هذا الكتاب التوفيق بني هذه اإلضاءات‪ ،‬كام أحاول توحيدها‪ .‬عىل وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬أسعى إىل تقديم رواية متكاملة عن دور تزييف التفضيل يف هداية وتشويه‬
‫واستقرار وتقييد وتغيري النظام االجتامعي‪ ،‬مبا يقوم عليه من معارف‪ .‬تكمن أهمية الكتاب‬
‫ال يف اآلليات املفردة التي أصفها وأحللها –عمل تزييف التفضيل مصد ًرا للرصامة‪ ،‬ومشك ًّال‬
‫لآليديولوجيا‪ ،‬ومه ًدا للمفاجآت– بل يف الروابط التي يق ّدمها بني هذه اآلليات املفردة‪.‬‬

‫إن كتابًا يزعم أنه يحلل عملية اجتامعية عاملية ال بد أن يس ّوغ ادعاءه بالعموم باختبار‬
‫أطروحته يف سياقات متنوعة‪ .‬ال بد عىل هذا الكتاب أن يربط بني حقائق كانت من قبل تُظَ ُّن‬
‫ومختصة‬
‫ّ‬ ‫غري مرتبطة‪ ،‬بتمييز أمناط مشرتكة يف أحداث متنائية جغرافيًّا ومتباعدة زمنيًّا‬
‫ح ّجتي ثالث دراسات حالة‪ .‬تشمل هذه الدراسات النظام‬
‫ثقافيًّا‪ .‬من أجل هذا أدخلت يف ُ‬
‫الطبقي يف الهند‪ ،‬والحكم الشيوعي يف أوروبا الرشقية‪ ،‬واألفعال العنرصية اإليجابية يف‬
‫الواليات املتحدة‪ .‬يف كل دراسة من هذه الدراسات سينصب الرتكيز عىل ربط حقائق‬
‫متنوعة‪ .‬ينطبق املنطق نفسه عىل كل مجموعة من التفسريات‪ ،‬مبا يدل عىل شمول النظرية‪.‬‬
‫اختريت دراسات الحالة هذه بسبب أهميتها االجتامعية وألنها تقدم إضاءات مهمة عىل‬
‫أطروحات الكتاب النظرية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫لو أنني ركزت عىل حالة واحدة‪ ،‬لكان التفصيل املضاف ع ّزز مكانة الكتاب يف أعني‬
‫البعض‪ ،‬لكن لكان بقي شمول النظرية ضعيف الثبوت‪ .‬ولكان أعطى الكتاب رمبا انطبا ًعا‬
‫بأن نظريته محدودة بثقافة أو مجتمع أو حقبة تاريخية معينة‪ .‬الفروق الكبرية موجودة‬
‫طب ًعا‪ ،‬بني ثقافة الهند وأوروبا الرشقية‪ ،‬وبني نظام فصل عنرصي ونظام سيايس‪ ،‬وبني‬
‫دين قديم وآيديولوجيا علامنية حديثة‪ .‬لكن الناظر يف هذه االختالفات يستطيع أالّ يغض‬
‫الطرف عن التشابهات‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬قد تستفيد دراسة االختالفات من تحديد عمليات‬
‫تفّسها‪ .‬قال ستيفن جاي غولد‪ ،‬حيثُ تُذهل االختالفات‪ ،‬تُعلِّم العموم ّيات‪.‬‬
‫اجتامعية علنية ّ‬
‫يفّس أصول هذا‬
‫كل من رأى من ًرا وفه ًدا يعرف أن أحدهام مخطط واآلخر منقّط‪ .‬إن ما ّ‬
‫االختالف املذهل واستقراره‪ ،‬هو نظرية عامة‪ ،‬هي نظرية التطور الطبيعي‪.‬‬

‫إننا نعيش يف عرص تتصاعد فيه البلقنة الفكرية‪ ،‬يف عرص بالكاد يستطيع فيه‬
‫الباحثون املحرتفون مواكبة التطورات يف اختصاصاتهم املختارة‪ ،‬ناهيك عن االكتشافات يف‬
‫االختصاصات واملجاالت األخرى‪ .‬أما غري الباحثني فاألمر عليهم أصعب‪ .‬إن التكامل املتنامي‬
‫لالقتصاد العاملي يزيد الحاجة إىل املعرفة غري املحلية‪ ،‬لكننا نحن األفراد نبقى محدودين‬
‫ماسة إذن‪ ،‬إىل توليفات واسعة‪ ،‬وإىل أدوات‬
‫بقدرتنا عىل معالجة املعلومات‪ .‬الحاجة ّ‬
‫للمفهمة‪ ،‬وإىل دراسات تع ّرف أمناطًا مخفية‪ .‬لقد سعيت إىل توضيح ظاهرة عامة‪ .‬األمثلة‬
‫مهمة يف حد ذاتها‪ ،‬لكن هدف الكتاب األسايس هو تطوير إطار بسيط للتفكري يف آليات‬
‫وديناميات وعواقب تزييف التفضيل‪.‬‬

‫فعال يخفي املعلومات بشأن القوى املحركة للنزعات‬


‫ً‬ ‫مل ّا كان تزييف التفضيل‬
‫االجتامعية‪ ،‬قد يتساءل بعض القراء إن كانت هذه النظرية ذات قيمة تنبؤيّة‪ ،‬وإن كانت تحمل‬

‫‪5‬‬
‫أي مقتضيات قابلة للدحض‪ .‬سأجيب عن هذه األسئلة مبارشة‪ ،‬لكن بعد أن أط ّور حجتي‬
‫وتبلغ متامها‪ .‬أطلب من القارئ أن يحكم عىل النظرية أوالً بتامسكها الداخيل ومعقوليتها‪،‬‬
‫وأن يثق أن مسائل قابلية القياس واالختبار‪ ،‬واإلمكانية التنبؤية‪ ،‬ستتلقى نصيبها من‬
‫االهتامم يف املكان املناسب‪.‬‬

‫إن غمس املرء نفسه يف دراسة ظاهرة محددة ال بد من أن يزيد وعيه بتجلّياتها يف‬
‫الحياة اليومية‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬لقد وجدت أن وعيي ازداد بالنفاق والخداع اإلنساين‪ .‬بدأت‬
‫أرى عالمات تزييف التفضيل يف كل مكان‪ :‬يف اجتامعات الكلية‪ ،‬والحفالت االجتامعية‪،‬‬
‫طاليب‪ .‬لقد أصبحت كذلك شديد الوعي بنفيس‬
‫والنقاشات السياسية‪ ،‬والصحافة‪ ،‬ويف كتب ّ‬
‫عندما الحظت األمر يف سلويك‪ .‬من حسن الحظ أن انشغايل بالجانب املظلم من الطبيعة‬
‫اإلنسانية مل يكن دون فائدة‪ .‬لقد أصبحت أكرث حساسية للنزعة االستقاللية يف الشخصية‬
‫اإلنسانية‪ ،‬للروح التي متنح املرء شجاعة أن يقول «ال» عندما تطالبه ضغوط اللحظة بقول‬
‫«نعم»‪ .‬مع ازدياد تقديري لتعقيد الشخصية اإلنسانية‪ ،‬وللتوترات التي نتحملها جمي ًعا يف‬
‫محاولتنا للتوفيق بني حاجتنا إىل القبول االجتامعي وحاجتنا إىل تأكيد النفس‪ ،‬اكتسبت‬
‫احرتا ًما أكرب للمخالفني للسائد‪ ،‬للر ّواد واملبتكرين واملعارضني‪ ،‬وحتى لغري األكفاء‪ .‬آمل أن‬
‫يكتسب القارئ حظًّا من هذا التقدير‪.‬‬

‫يف كتابتي لهذا الكتاب‪ ،‬الحقائق يف الخفاء‪ ،‬واألكاذيب يف العلن‪ ،‬استفدت من‬
‫مساعدة كثري من املنظامت واألفراد‪ .‬قد أعجز عن ذكرهم جمي ًعا‪ ،‬لكنني لن أستطيع إال أن‬
‫أس ّمي أصحاب أهم اإلسهامات‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫أدين بشكر ضخم لزوجتي وندي كوران‪ ،‬التي مل تزل مصد ًرا من الدعم العاطفي الذي‬
‫ال ينقطع‪ ،‬وناق ًدا شدي ًدا ملسودايت املتنوعة‪ .‬من زماليئ يف قسم االقتصاد يف جامعة‬
‫خصوصا لريتشارد داي‪ ،‬وريتشارد إيسرتلني‪ ،‬وبيرت غوردون‪،‬‬
‫ً‬ ‫كاليفورنيا الجنوبية‪ ،‬أدين‬
‫وجفري نوجنت‪ .‬عندما قادين الفضول‪ ،‬أنا الربوفسور املساعد الشاب‪ ،‬إىل ما وراء جدران‬
‫االقتصاد‪ ،‬أنشأت يل حامستهم بيئة استطعت فيها السعي يف اهتاممايت بحرية‪ .‬لقد‬
‫استفدت كذلك من معارفهم ونصائحهم وصداقتهم مع مرور السنني‪ .‬أما خارج جامعتي‪،‬‬
‫ودعام من جيمس بوكانان‪ ،‬وألربت هريشامن‪ ،‬ومانكور أولسون‪،‬‬
‫ً‬ ‫فقد تلقّيت تشجي ًعا‬
‫ريا عميقًا يف تفكريي‪.‬‬
‫مؤسسة أثرت تأث ً‬
‫وكل منهم مؤلف ألعامل ِّ‬
‫وتوماس شلنغ‪ٌّ ،‬‬

‫مع تق ّدم املرشوع‪ ،‬أسهم كثري من الباحثني بوقتهم لتقييم مسودات فصول الكتاب‪،‬‬
‫خصوصا يل ألستون‪،‬‬
‫ً‬ ‫وأشاروا إىل األخطاء فيها وساعدوين عىل إيضاح املفاهيم‪ .‬أشكر‬
‫وأنجوم ألطف‪ ،‬وأرجون أبادوراي‪ ،‬وراندال بارتلت‪ ،‬ويونغ باك تشوي‪ ،‬ومينت كوشغل‪،‬‬
‫وديباك غوبتا‪ ،‬وأندريا هالربن‪ ،‬وروبرت هغز‪ ،‬وشيال ريان جوهانسون‪ ،‬وويليام كيمبفر‪،‬‬
‫وديفيد كلني‪ ،‬ومايكل كراوس‪ ،‬ومارك لخباخ‪،‬وغلن لوري‪ ،‬وتومس ميتشييل‪ ،‬وفاي الم موي‪،‬‬
‫وراج ساه‪ ،‬وإكهار شلخت‪ ،‬ووولف غانغ سيبل‪ ،‬وبروس تومسون‪ .‬يف خالل رحلتي يف هذا‬
‫خصوصا لتولغا‬
‫ً‬ ‫الكتاب‪ ،‬علّق عدة من طاليب الخ ّريجني تعليقات ساعدتني؛ أدين بشكر‬
‫كوكر وإنريكو مارتشييل‪ .‬عندما بلغت املخطوطة درجة متقدمة من الكامل‪ ،‬ق ّدم مايكل‬
‫أرونسون‪ ،‬مح ّرري يف دار نرش جامعة هارفارد‪ ،‬أحكا ًما تحريرية سليمة أدت إىل عدة‬
‫تحسينات إضافية‪ ،‬يف املادة والعرض‪ .‬كام صقلت إليزابيث غرتز‪ ،‬محررة مسوديت‪ ،‬النص‬
‫صقال ماه ًرا‪.‬‬
‫ً‬

‫‪7‬‬
‫لقد استفدت كذلك من عدة منَح بحثية كرمية‪ .‬دعمت مؤسسة العلم الوطنية أوراقي‬
‫النظرية املبكرة‪ ،‬ودعمت مؤسسة إيرهارت فصول الكتاب املتعلقة بالهند وأوروبا الرشقية‪.‬‬
‫ق ّدمت املنحة الوطنية لإلنسانية يل زمال ًة مكّنتني من قضاء عام ‪ 90–1989‬الدرايس يف‬
‫معهد الدراسات املتقدمة يف برنستون‪ ،‬وهو جنّة للباحثني‪ .‬منحني مركزان بحثيان آخران‬
‫ميزات الباحث الزائر‪ :‬يف ‪ ،1991‬مركز البحث االقتصادي وتعليم الخريجني يف جامعة‬
‫تشارلز يف براغ‪ ،‬ويف ‪ ،1992‬املعهد اإلحصايئ الهندي يف نيودلهي‪.‬‬

‫اعتمدت يف عدد من الفصول عىل مواد منشورة يف شكل مؤقت‪ .‬ظهرت نسخة مبكرة‬
‫من الفصل الثاين باسم «التفضيالت الخفية والعلنية»‪ ،‬يف مجلة االقتصاد والفلسفة‪6 ،‬‬
‫(أبريل ‪ .26–1 :)1990‬كذلك كانت بعض أجزاء الفصل الخامس مضمنة يف «تخفيف‬
‫استبداد الرأي العام‪ :‬الخطاب املجهول باألسامء املجهول وأخالق الصدق»‪ ،‬مجلة االقتصاد‬
‫السيايس الدستوري‪( 4 ،‬شتاء ‪ .78–41 :)1993‬يبني الفصالن ‪ 10‬و‪ 11‬عىل «ما ال يفكَّر‬
‫فيه وما مل يفكَّر فيه»‪ ،‬مجلة العقالنية واملجتمع‪( 5 ،‬أكتوبر ‪ .505–473 :)1993‬اعتمدت‬
‫بعض القطع املبعرثة يف الفصول ‪ 7‬و‪ 15‬و‪ 16‬عىل «اآلن من األبد‪ :‬عنرص املفاجأة يف الثورة‬
‫األوروبية الرشقية عام ‪ ،»1989‬مجلة وورلد بوليتكس‪( 44 ،‬أكتوبر ‪.48–7 :)1991‬‬
‫رشر وحرائق الغابات‪ :‬نظرية للثورة السياسية غري‬
‫استفادت بعض أجزاء الفصل ‪ 16‬من «ال َ‬
‫املتوقعة» ببلك تشويس‪( 61 ،‬أبريل ‪ .74–41 :)1989‬وظهرت أجزاء من الفصل ‪ 19‬يف‬
‫«حتمية املفاجآت الثورية املستقبلية»‪ ،‬املجلة األمريكية لعلم االجتامع‪( 100 ،‬مايو ‪:)1995‬‬
‫‪ ،1551–1528‬كل الحقوق محفوظة لصالح جامعة شيكاغو © ‪ .1995‬أو ّد أن أشكر‬
‫نارشي هذه املقاالت إلذنهم يل باستخدامها هنا‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫أو ُّد يف النهاية أن أق ّدم شكري لنييش كانولو‪ ،‬وفيصل خان‪ ،‬وجاسون مك إنس‪،‬‬
‫لدعمهم الحاميس يف البحث‪ ،‬ولغوتام بوس‪ ،‬وهلينا فالم‪ ،‬وشوباشيز غاغو باذياي‪ ،‬وديفيد‬
‫ليبس‪ ،‬وسانجاي سوبراهامانيام‪ ،‬وبيرت فوس‪ ،‬للنقاشات املفيدة واملساعدة يف كتابة‬
‫العقود‪ ،‬ولهربرت أديسون‪ ،‬وكولن داي‪ ،‬وبيرت دوغريت‪ ،‬وجاك ربتشك‪ ،‬للنصائح النافعة‬
‫والتشجيعات يف املراحل األوىل من العمل‪ ،‬ولروبرت مانكن من مؤسسة غالوب يف املجر‪،‬‬
‫وإلليزابيث نويل نومان من معهد ألنزباخ يف أملانيا‪ ،‬وإليفان تومك من معهد البحث يف الرأي‬
‫العلني يف جمهورية التشيك‪ ،‬ملا وفّروه يل من استطالعات هامة‪ ،‬ولروث واالخ‪ ،‬ملساعدتها‬
‫يف الرتجمة من اللغات السالفية‪ ،‬ولجون والش‪ ،‬لرسم الرسوم‪.‬‬

‫لوس أنجلوس‪ ،‬نوفمرب ‪1994‬‬

‫‪9‬‬
‫الجزء األول‬

‫العيش يف كذبة‬

‫‪10‬‬
‫الفصل األول‬
‫أهمية تزييف التفضيل‬

‫وصلت إىل‬
‫َ‬ ‫شخصا ميلك تبديل مسارك يف العمل دعاك إىل حفلة يف منزله‪ .‬عندما‬
‫ً‬ ‫تخيّل أن‬
‫الحفلة‪ ،‬كان الحديث يبدو دائ ًرا حول ألوان غرفة املعيشة الباهتة املحايدة‪ ،‬وهي آخر صيحات‬
‫الديكور الداخيل‪ .‬مل يرقك املنظر‪ ،‬لكنك فضّ لت أالّ تُفصح عن هذا‪ ،‬حتى ال تؤذي مشاعر‬
‫ني وجدتَ‬
‫فمدحت «ذوقه الراقي»‪ .‬بعد ح ٍ‬
‫َ‬ ‫مضيفك‪ .‬ضغطت عليك مشاعرك حتى تقول شيئًا‪،‬‬
‫نفسك يف نقاش عن مشاريع التنمية الهادرة للموارد يف أمريكا الالتينية‪ .‬قال أحدهم‬
‫بتعجرف ويقني‪ ،‬أن االشرتاكية متنع مشكلة الهدر‪ .‬ومع أنك تجد هذه الدعوى مستحيلة‬
‫وخالية من املنطق‪ ،‬فقد تركتَها مت ّر‪ ،‬تجنّ ًبا إلشعال نقاش خاليف‪.‬‬

‫مع تأخر الوقت‪ ،‬بدأ امللل يجد طريقه إىل رأسك‪ ،‬وبدأت رغبتك باملغادرة‪ .‬يربز صوت‬
‫يف داخلك يقول إن من غري الحكمة أن تكون أ ّول املبادرين إىل املغادرة‪ .‬فتبقى‪ ،‬راجيًا أن‬
‫يعلّق أحد غريك عىل تأخر الوقت ويُظهر استعداده للمغادرة‪ ،‬ليعطيك فرصة لتخرج دون أن‬
‫رسا‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬يقوم أحدهم ليغادر‪ ،‬وتنتهي الحفلة‪ ،‬وهو ما يبهجك ًّ‬
‫تصبح محور االهتامم‪ .‬أخ ً‬
‫مت إىل الباب‪ ،‬بعد أن شكرتَ مضيفك عىل هذه «األمسية الرائعة»‪ ،‬ممتنًّا ألنك مل تكن‬
‫تق ّد َ‬
‫الذي بدأ بالخروج‪.‬‬

‫لقد ض ّمت أمسيتك هذه حاالت كثرية من تزييف التفضيل وهو أن يزيّف املرء رغباته‬
‫األصيلة تحت ضغوط اجتامعية يراها‪ .‬يف إعجابك بالديكور املبتذل‪ ،‬وسكوتك عن أمريكا‬

‫‪11‬‬
‫عربتَ عن انطباعات مناقضة‬
‫الالتينية‪ ،‬وتأخري رحيلك‪ ،‬وقولك إنك قد استمتعت بالوقت‪َّ ،‬‬
‫ألفكارك ورغباتك الداخلية‪ ،‬حتى تتجنب االستنكار‪ ،‬جزئ ًّيا عىل األقل‪ .‬يف كل حالة من هذه‬
‫الحاالت‪ ،‬كنت أمام اختيار بني االنفتاح واإلخفاء‪ ،‬بني تأكيد النفس والتكيف مع املجتمع‪ ،‬بني‬
‫الحفاظ عىل نزاهتك وحامية صورتك‪ .‬كان الختيار النفاق أسباب صالحة‪ ،‬تتجاوز مزاياها‬
‫منافع الرصاحة املؤكدة وغري املدا ِهنة‪.‬‬

‫تزييف التفضيل بوصفه صورة محددة من صور الكذب‬


‫وقلت تزييف التفضيل؟ أال يكفي أن أقول «الكذب»؟ نعم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ملاذا ابتكرت مصطل ًحا معق ًدا‬
‫شخصا كان جنديًّا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أخص‪ .‬تخ ّيل‬
‫ّ‬ ‫تزييف التفضيل دامئًا صورة من صور الكذب‪ ،‬لكنه مفهوم‬
‫وامتثل ألوامر ذبح مدنيني ُع َّزل‪ .‬بعد أعوام من ذلك‪ ،‬أنكر الرجل املشاركة يف الجرمية‪ .‬إذا‬
‫كان الرجل معارضً ا للجرمية‪ ،‬ومل يشارك فيها إال لتجنب املحكمة العسكرية وأن تحكم عليه‬
‫بالعصيان‪ ،‬فإن كذبته بشأن مشاركته فيها تعكس مشاعره بشأن الضحايا‪ .‬بالنظر إىل عدم‬
‫شعوره بالعداوة تجاههم‪ ،‬مل يكن الرجل يكذب تفضيله‪ .‬يهدف تزييف التفضيل إىل التالعب‬
‫مدحت مضيفك ليظن أنك‬
‫َ‬ ‫فعلت عندما‬
‫َ‬ ‫مبشاعر اآلخرين بشأن دوافع اإلنسان وترصفاته‪ ،‬كام‬
‫تشاركه ذوقه‪.‬‬

‫وتكذيب التفضيل ليس مرادفًا كذلك ملفهوم «الرقابة الذاتية»‪ ،‬أي كبت املرء ألفكاره‬
‫الحتامل االعرتاض عليها‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬تزييف التفضيل هو املفهوم األوسع األعم‪ .‬لو‬
‫حافظت عىل الصمت يف نقاش الديكور‪ ،‬لكان ذلك رقابة ذاتية‪ .‬لكن تظاهرك بأنه أعجبك‬
‫يتجاوز الرقابة الذاتية‪ .‬لقد أظهرتَ عم ًدا رأيًا كاذبًا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫أما املصطلحان الشائعان الباقيان القريبان من تزييف التفضيل فهام «النفاق»‬
‫و«الخداع»‪ .‬سأستعمل أحيانًا هذين املصطلحني عندما ال يدع السياق مجاالً للغموض‪ ،‬كام‬
‫سأستعمل الكذب أحيانًا‪ .‬لكن هذه املصطلحات ليست دقيقة مبا يكفي للتعبري عن املوضوع‬
‫املتنا َول‪ .‬قد يكون محل التزييف هو التفضيل‪ ،‬أو معرفة املرء‪ ،‬أو قيمته‪ .‬من أجل الوضوح‬
‫التحلييل‪ ،‬من الجوهري أن نف ّرق بني أنواع التزييف املتنوعة‪.‬‬

‫تحتوي عبارة «العيش يف كذبة» عىل معنى تزييف التفضيل الدقيق‪ .‬هذه العبارة‬
‫طورها املعارضون يف أوروبا الرشقية يف شتائهم الطويل من الدكتاتورية الشيوعية‪ ،‬ألنهم‬
‫وجدوا هم أيضً ا أن الكلامت املتوفرة غري كافية‪ .‬إن عيش الكذبة هو أن يحمل املرء نفسه ثقل‬
‫كذبته‪ .‬قد يكون مصدر الثقل شعور الذنب الذي يشعر به املرء عند تجنب املسؤولية‬
‫االجتامعية‪ ،‬أو الغضب الذي يعيشه عندما يعجز عن تحقيق معايريه الشخصية‪ ،‬أو الضغينة‬
‫التي يشعر بها عندما يضطر إىل كبت فردانيته‪ .‬مهام كانت طبيعة القلق‪ ،‬فهي طبيعة‬
‫مستمرة‪ .‬طب ًعا‪ ،‬ال يؤدي كل الكذب إىل القلق‪ .‬موظفة البنك التي تتظاهر أنها تتعاون مع‬
‫سارق للبنك‪ ،‬وهي يف الحقيقة تشرتي وقتًا حتى تأيت الرشطة‪ ،‬لن يُثقلها كذبها‪ .‬كذلك إذا‬
‫مدحت ديكور مضيفك حتى ال يستاء فقط‪ ،‬دون تفكري بحامية سمعتك‪ ،‬فمن البعيد أن تكون‬
‫الكذبة عبئًا عليك‪ .‬ليس عليك أن تعيش مع الذنب والغضب والضغينة يف هذه الحالة‪ ،‬لذا‬
‫فهذه الكذبة ليست نو ًعا من تزييف التفضيل‪.‬‬

‫إذا كانت إحدى الخصائص املميزة لتزييف التفضيل هي القلق الذي يج ّره عىل‬
‫املزيِّف‪ ،‬فمن هذه الخصائص أيضً ا أنه استجابة لضغوط اجتامعية حقيقية أو متخيَّلة‬
‫للتعبري عن تفضيل معني‪ .‬هذه الخصيصة تف ّرقها عن االنتخاب االسرتاتيجي الذي يحدث‬

‫‪13‬‬
‫رسي للمرشح ب ألن املرشح ج‪ ،‬الذي هو املفضَّ ل عنده‪ ،‬ال‬
‫عندما يص ّوت املرء يف انتخاب ّ‬
‫ميكن أن يفوز‪ّ .‬‬
‫يدل التصويت االسرتاتيجي عىل تالعب بالتفضيل‪ ،‬لكنه ال يحتوي تزييفًا له‪،‬‬
‫ألن االقرتاع الخفي خا ٍل من الضغوط االجتامعية التي قد يستسلم املرء لها‪ ،‬كام أنه خا ٍل من‬
‫االستجابات االجتامعية‪.‬‬

‫تح ّديات مقبلة‬


‫باإلضافة إىل األثر امل ُراد –وهو تنظيم مشاعر اآلخرين– قد يكون لتزييف التفضيل عواقب‬
‫حرمت أقرانَك الضيوف من‬
‫َ‬ ‫غري مقصودة‪ .‬عندما اخرتت الصمت عن أمريكا الالتينية‪،‬‬
‫معرفتك الشخصية‪ .‬لو أنك تكلمت‪ ،‬لرمبا أثرت يف تفكري بعض الضيوف يف املستقبل أو‬
‫الحارض بشأن التنمية يف أمريكا الالتينية‪ .‬لرمبا نرش أحد الضيوف أفكارك إىل أناس آخرين‪،‬‬
‫فساعد بذلك عىل زيادة الضغط نحو إصالحات عملية‪.‬‬

‫هدف هذا الكتاب هو تصنيف وربط وتفصيل العواقب غري املقصودة من تزييف‬
‫التفضيل‪ .‬كيف بالضبط يؤثّر تزييف التفضيل يف آليات السياسة؟ كيف يؤثر يف تطور‬
‫الرأي العلني؟ ما هي تداعياته عىل فعالية السياسات واملؤسسات االجتامعية؟ إىل أي درجة‬
‫يغري املعتقدات واآليديولوجيات والنظرات الكونية؟ يف النهاية‪ ،‬هل يس ّهل أو يث ّبط‬
‫وبأي آلية ّ‬
‫الجهود لتوقع النظام االجتامعي والتحكم به؟‬

‫ّضة اجتامع ًّيا‪ ،‬مبعنًى أو بآخر‪.‬‬


‫كام سيتّضح‪ ،‬بعض أبرز آثار تزييف التفضيل م ّ‬
‫سأحاجج أن تزييف التفضيل يؤدي إىل قلة يف الكفاءة‪ ،‬ويزيد من الجهل والتحري‪ ،‬ويخفي‬
‫رشا اجتامع ًّيا ال خري فيه‪ ،‬إذ قد ينفع‬
‫اإلمكانات االجتامعية‪ .‬لكن تزييف التفضيل ليس ًّ‬

‫‪14‬‬
‫اآلخرين بكبت التعبري عن املعارف الخاطئة‪ .‬وقد يؤدي إىل االنسجام يف تعامالتنا‬
‫االجتامعية بتقييد االندفاعات املّضة كالرش والحسد والحكم املبتّس‪ .‬ميكن لتزييف التفضيل‬
‫كذلك أن يعزز التعاون االجتامعي بإسكات الخالفات الدقيقة يف الرأي‪ .‬وهناك أسباب أخرى‬
‫أدق متنع رؤية تزييف التفضيل من منظار سلبي متا ًما‪ .‬هذه األسباب األخرى ستظهر مع‬
‫ّ‬
‫تق ّدم الح ّجة‪ ،‬وإن كان تركيز الكتاب هو رشح آثار تزييف التفضيل وليس الحكم عليها‪.‬‬
‫تحليال‬
‫ً‬ ‫سيكون لكثري من النقاشات تداعيات أخالقية‪ ،‬سنهتم ببعضها‪ ،‬لكنني ال أريد أن أق ّدم‬
‫حتام قاد ًرا عىل التفريق الحاسم بني حاالت تزييف التفضيل املس ّوغة‬
‫ولست ً‬
‫ُ‬ ‫شامال‪،‬‬
‫ً‬ ‫أخالق ًّيا‬
‫‪1‬‬
‫وغري املس ّوغة‪.‬‬

‫التقية الدينية‬
‫تشمل إحدى إضاءات تزييف التفضيل الحركات التي سعت إىل تكريس االتفاق الديني‪.‬‬
‫استجاب ًة للضغوط التي فرضتها هذه الحركات‪ ،‬لطاملا لجأ املؤمنون املخالفون لها إىل التقية‪.‬‬
‫يقدم عرص القرون الوسطى بعض األمثلة املؤثرة‪.‬‬

‫قري ًبا من فرتة االستعادة املسيحية إلسبانيا‪ ،‬أطلقت الكنيسة حملة اضطهاد ضد غري‬
‫املسيحيني يف البلد‪ .‬ازداد من ج ّراء ذلك خطر العيش يف إسبانيا إذا كان املرء يهوديًّا أو‬
‫مسلام ملتز ًما‪ .‬استجاب كثري من اليهود بالهرب من البلد‪ ،‬لكن مئات من اآلالف منهم اختاروا‬
‫ً‬
‫أن يقبلوا املعمودية‪ ،‬معتمدين يف ذلك عىل األحكام اليهودية التي تسمح بالتقية يف أوقات‬
‫ريا ال يف اإلميان فقط‪ ،‬بل ويف‬
‫الخطر‪ .‬يف تلك األيام‪ ،‬كان االنتقال إىل املسيحية يقتيض تغ ً‬
‫ريا‬
‫أسلوب الحياة‪ .‬لذلك بدأ هؤالء اليهود ظاهريًّا يعيشون حياة كحياة املسيحيني‪ .‬لكن كث ً‬

‫‪15‬‬
‫منهم حافظوا عىل طقوس آبائهم يف منازلهم‪ ،‬وانتظروا الوقت الذي يستطيعون فيه العودة‬
‫إىل اليهودية‪ .‬وعىل رغم كل االحتياطات التي اتخذوها‪ ،‬جذبت أنشطتهم الّسية هذه‬
‫االهتامم‪ .‬وقد انطلق الغزو اإلسباين الشهري القتالع املامرسة الّسية لليهودية‪ ،‬التي كانت‬
‫تعرف باسم امل ّرانية‪ 2.‬امل ّرانية صورة من صور تزييف التفضيل‪.‬‬

‫يف الوقت الذي كانت فيه اليهودية تتخفى يف إسبانيا‪ ،‬كان الهجوم قامئًا عىل‬
‫الكاثوليكية يف إنكلرتا‪ ،‬حيثُ فُرضت قوانني تجعل الربوتستانتية هي الدين الوحيد املرشوع‪.‬‬
‫بدأ كثري من املؤمنني الكاثوليك يحّضون الصلوات الربوتستانتية‪ ،‬لكن من باب االحتياط‬
‫السيايس‪ ،‬ال من باب اإلميان الديني‪ .‬ش ّجعت بعض السلطات الكاثوليكية عىل األمر‪ ،‬بح ّجة‬
‫أن التق ّية رضوريّة أحيانًا للحفاظ عىل النفس‪ .‬لكن سلطات أخرى‪ ،‬منها البابا‪ ،‬أعلنت أن‬
‫االمتثالية غري مرشوعة‪ .‬قال أحد املعادين لالمتثالية إن الكاثوليكيني الذين يذهبون إىل‬
‫‪3‬‬
‫«تجمعات الباطل» يضعون بقاء الكاثوليكية نفسه يف خطر‪.‬‬

‫يقوم هذا الخالف بني القادة الكاثوليكيني عىل اختالف بشأن العواقب الدينامية‬
‫لتزييف التفضيل‪ .‬يرى أصحاب االمتثالية أن تزييف التفضيل مهام امت ّد به الزمن لن يب ّدل‬
‫التفضيالت التي يكبتها؛ ال أثر للكلمة يف القلب‪ .‬أما املعادون لالمتثالية‪ ،‬فريون أن آثار‬
‫تغري القلب‪ .‬الرأي األول يق ّدس تسوية‬
‫تزييف التفضيل أطول عم ًرا من دوافعه؛ فالكلمة ّ‬
‫الخالفات‪ .‬يرى أصحاب هذا الرأي أن عىل صاحب التقية أن ينتظر زوال الخطر‪ ،‬دون أي‬
‫خوف‪ ،‬مهام طال انتظاره‪ ،‬حتى يُظهر من جديد رغبته بالعودة‪ .‬باملقابل‪ ،‬يتطلب الرأي‬
‫مجاال لتغيري الدين حقًّا‪ ،‬فهي تحمل خطر اإلزالة‪.‬‬
‫ً‬ ‫األخري مقاومة فاعلة‪ .‬ألن التقية قد تتيح‬

‫‪16‬‬
‫تبني أن الحدس وراء املخالفني لالمتثالية صحيح‪ ،‬وإن تن ّوعت درجة الخطر‪ .‬سأط ّور هذه‬
‫ّ‬
‫الح ّجة يف فصول الحقة‪.‬‬

‫آخر حالة من التقية الدينية هي التقية يف اإلسالم‪ .‬كان الخلفاء األمويون السن ّيون‪،‬‬
‫سب‬
‫الذين أسسوا اإلمرباطورية العربية يف أواخر القرن السابع من دمشق‪ ،‬قد جعلوا ّ‬
‫مؤسيس التش ّيع اختبا ًرا لإلميان‪ .‬ومل ّا كان اإلخفاق يف هذا االختبار قد يوقع صاحبه يف‬
‫صعوبة كبرية‪ ،‬قد تبلغ املوت‪ ،‬تبنّى الشيعة عقيدة التق ّية‪ ،‬التي تتيح لهم إخفاء مخالفتهم‬
‫يف حال الخطر‪ ،‬ما داموا يحافظون عليها يف قلوبهم وعقولهم‪ 4.‬العقيدة نفسها أقدم من‬
‫اإلسالم‪ ،‬لكن تسويغها جاء من آية من القرآن‪« :‬إن تخفوا ما يف صدوركم أو تبدوه يعلمه‬
‫‪5‬‬
‫الله»‪.‬‬

‫تؤكّد كل مراجع الفقه الشيعي أن التقية ال تجوز إال يف حاالت الخطر املحدق‪ .‬لكن‬
‫مع الوقت‪ ،‬تح ّولت العقيدة إىل رخصة للخمول السيايس العلني‪ .‬أكّد القادة الحديثون من‬
‫قصد منها قط تسويغ‬
‫الشيعة‪ ،‬حني رأوا يف التقيةحاج ًزا أمام نشاطهم الثوري‪ ،‬أنها مل يُ َ‬
‫السلبية يف وجه الحكومات الظاملة‪ 6.‬بدأ آية الله الخميني‪ ،‬العقل املدبّر للثورة اإلسالمية يف‬
‫رصح مبا نؤمن به»‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫حه بالترصيح بأن‪« :‬زمن التقية انتهى‪ .‬لقد آن لنا أن نقف ون ّ‬
‫إيران‪ ،‬كفا َ‬

‫هذه املعارضة الحديثة للتقية موضوع آخر يف الكتاب‪ :‬تزييف التفضيل بوصفه‬
‫مان ًعا من التغيري االجتامعي‪ .‬رأى الكتاب الكاثوليكيون املعادون لالمتثالية أن تزييف‬
‫التفضيل باب من أبواب التح ّول‪ ،‬أما الكتاب الشيعة املعارصون فوجدوا فيه مصد ًرا للتز ّمت‪.‬‬
‫حسب عوامل متنوعة سنحددها الحقًا‪ ،‬ميكن لتزييف التفضيل‬
‫َ‬ ‫ال تناقض بني هذين املوقفني‪.‬‬
‫أن يسهم يف التغيري أو يف االستمرار‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫الحجاب ومضايقاته‬
‫للنظر يف إمكانية أخرى‪ ،‬فلننتقل إىل تركيا الحديثة‪ .‬يرفض اللربتاريون املدنيون األتراك‪،‬‬
‫ومنهم املفكرون املستغربون وم ّدعو التقدمية‪ ،‬فكرة أن ليس عىل أحد أن يقلق إذا غطّت امرأة‬
‫رأسها يف املجال العلني‪ .‬يفضّ ل كثري منهم منع الحجاب‪ .‬يدافع األصوليون اإلسالميون عن‬
‫حرية الحجاب –وهي حرية مسلّمة يف كثري من مناطق العامل– مع أنهم يع ّرفون الحريات‬
‫الفردية تعريفًا ضيّقًا ويع ّدون املجتمع الحديث مبالغًا يف اإلباحة‪ .‬يقول األصوليون إن حرية‬
‫الحجاب حق إنساين أسايس‪.‬‬

‫عندما ميثّل الجميع شي ًئا غري الذي يف قلوبهم‪ ،‬يجدر باملرء أن ينظر إىل العوامل التي‬
‫تزيد األمور تعقي ًدا‪ .‬التعقيد هنا هو القناعة الواسعة بأن حرية الحجاب ناقضة لنفسها‪ .‬ال‬
‫شك أن األصوليني وخصومهم يعرفون أن التزام بعض النساء بالحجاب سيؤسس ضغطًا‬
‫لاللتزام به عند الاليت يفضّ لن عدمه‪ .‬يشعر الجميع أن املتح ّجبات سي ّتهمن نظائره ّن غري‬
‫املتحجبات بخرق حكم ديني ظاهر‪ ،‬وهو ما سيدفع هؤالء النظائر إىل تزييف تفضيلهن من‬
‫أجل اكتساب القبول واالحرتام‪ .‬لذلك فالفريقان متفقان اتفاقًا واس ًعا‪ ،‬عىل أن اختيار تركيا‬
‫بشأن الحجاب ليس بني الحرية واإلكراه‪ ،‬بل بني نوعني من اإلكراه‪ .‬يف هذه الظروف‪ ،‬يرفض‬
‫اللربتاريون املدنيون حرية الحجاب ليحافظوا عىل حرية أمثن‪ ،‬هي حرية عدم الحجاب‪ .‬أما‬
‫األصوليون فيقبلون حرية عدم الحجاب‪ ،‬ألنهم يتوقعون أن حرية الحجاب ستقيض عليها‪.‬‬

‫كام يف كل جدل وطني متق ّرح‪ ،‬الحجج أقرب إىل التعقيد والتنوع من هذه الرواية‬
‫املوجزة لها‪ .‬بعض اللربتاريني يرون حرية الحجاب حقًّا أساس ًّيا‪ ،‬وبعض األصوليني يرى أنه‬

‫‪18‬‬
‫ال ميكن أن يُس َمح مبخالفة ما يرونه رش ًعا إله ًّيا‪ .‬لكن من املهم أن أن نعرف أن االختالفات‬
‫يف كل معسكَر تعكس اختالفات يف فهم قوة الدوافع االمتثالية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يؤمن‬
‫املفكرون املستغربون الذين يدعمون حرية الحجاب بالعموم أن الضغوط االجتامعية عىل‬
‫غري املتحجبات لن تبلغ درجة تصبح معها ال تقا َوم‪.‬‬

‫يدور جدال آخر مشابه بشأن العلامنية‪ .‬تعني العلامنية بالعادة فصل الدين عن‬
‫شؤون الدولة‪ ،‬لكن معناها يف تركيا‪ ،‬منذ إصالحات أتاتورك يف عرشينيات القرن العرشين‪،‬‬
‫هو التحكم بالدين‪ ،‬بل رمبا قمعه‪ .‬من أبرز تربيرات تقنني الدين الشك بأن اإلسالم ال يوافق‬
‫الدميقراطية‪ .‬إذا مل تُض َبط قوة اإلسالم يف املجتمع‪ ،‬فقد تؤدي إىل كبت الخطابات اإلصالحية‬
‫الحداثية‪ ،‬وهو ما سيج ّر آثا ًرا قاتلة عىل التحول الجاري يف البلد‪ 8.‬كام يف قضية الحجاب‪،‬‬
‫وجد أنصار الدميقراطية الليربالية أنفسهم يف خندق يعارض الحريات الدينية‪ ،‬ألنهم‬
‫يريدون حفظ الحريات التي يرون فيها قيمة أكرب‪ ،‬مثل حرية الصحافة‪.‬‬

‫تن ّوه هذه الجداالت الرتكية باحتامل أن التشجيع عىل إحدى صور تزييف التفضيل‬
‫قد يكون مثنًا ملنع صورة أخرى منه‪ .‬سنعالج هذا االحتامل يف الفصول الالحقة‪ .‬سرنى أنه‬
‫يدفع املجموعات إىل مساواة الحرية الكاملة بإبادتها الكاملة‪ ،‬ألنهم يعتقدون أنهم إذا مل‬
‫يكبتوا غريهم‪ ،‬فغريهم سيكبتهم‪.‬‬

‫كشف املثليني‬
‫املتسرتين‬
‫ّ‬ ‫يف الواليات املتحدة‪ ،‬ييضء الجدال بشأن أخالقيات «الكشف» عن مثلية املثليني‬
‫عىل مخاوف واستجابات سياسية ستظهر ظهو ًرا بارزًا يف نقاشات الحقة‪ .‬يف منتصف عام‬

‫‪19‬‬
‫‪ ،1991‬عقدت مجموعة حقوق املثليني كوير نيشن مؤمت ًرا صحف ًّيا أعلنت فيه أن مسؤوالً‬
‫رفي ًعا يف وزارة الدفاع مثيل‪ .‬بُعيد ذلك‪ ،‬نرشت مجلة أدفوكيت‪ ،‬وهي مجلة مثلية‪ ،‬قصة عن‬
‫املسؤول‪ .‬دافعت املجلة عن فعلها باإلشارة إىل سياسة كشف املثليني ومتييزهم باللباس قبل‬
‫تّسيحهم‪ .‬كان املسؤول املثيل املتسرت قد دعم هذه السياسة‪ ،‬حسب ادعاء املجلة؛ وكان قد‬
‫دعم وساعد عىل فرض التمييز ضد املثليني‪ .‬يف الوقت نفسه تقري ًبا‪ ،‬أغرقت مجموعة مثلية‬
‫أخرى‪ ،‬اسمها أوت بوست‪ ،‬شوارع نيويورك مبنشورات تحمل وجوه نجوم سينام‪ ،‬يُ ّدعى‬
‫‪9‬‬
‫متسرتون‪ .‬كُتب عىل هذه املنشورات «شاذ متا ًما»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أنهم مثليون‬

‫رفضت معظم الصحف تسمية املشاهري «املكشوفني»‪ .‬رأت هذه الصحف أن من حق‬
‫اإلنسان أن يحافظ عىل خصوصية املعلومات املتعلقة بحياته الخفية‪ .‬انقسم مجتمع املثليني‪.‬‬
‫رفض بعض املثليني الكشف بوصفه اعتدا ًء عىل حرية الخصوصية‪ .‬دافع آخرون عنه‬
‫بوصفه رضورة اجتامعية‪ .‬كان الفريقان متفقان عىل حق اإلنسان األسايس يف االختيار‬
‫الجنيس‪ ،‬لكن الفريق األخري أكد عىل واجب األفراد باإلفصاح عن هويتهم الجنسية‪ ،‬مهام‬
‫كان الثمن الشخيص‪ .‬رأى هذا الفريق أن املثليني الذين يرتدون قناع الغريية يسهمون يف‬
‫قمع املثليني اآلخرين ألنهم يجعلون املثلية الجنسية عا ًرا‪.‬‬

‫متسرتا‪ .‬يعطي أحد‬


‫ًّ‬ ‫كان النقاش يف مجتمع املثليني دائ ًرا عىل حرية أن يكون املثيل‬
‫الطرفني املثليني األفراد حق تزييف تفضيالتهم الجنسية‪ ،‬ويرى الطرف اآلخر أن تزييف‬
‫التفضيل هذا تهديد عىل أجندة اقتالع األحكام املسبقة ضد املثليني‪ .‬كان بني الطرفني كذلك‬
‫موقف وسط‪ ،‬يف ّرق أصحابه بني «الستار السلبي» و«الستار الفاعل»‪ .‬املثيل املتسرت بستار‬
‫رسا‪ ،‬ويأمل ّأال يُالحظ ذلك‪ .‬أما املثيل املتسرت بستار فاعل فيحاول‬
‫سلبي ميارس مثليته ًّ‬

‫‪20‬‬
‫تغطية مثليته بأفعال مصممة لتظهره مبظهر املغايرين‪ ،‬مثل أن يحاول ممثل مثيل أن يُرى‬
‫منحالت‪ ،‬أو أن ينارص مسؤول مثيل الترشيعات املعادية للمثلية‪ 10.‬هذا املوقف‬
‫ّ‬ ‫برفقة نساء‬
‫الوسط يدعم كشف املثليني املتسرتين إذا كانوا مستفيدين عىل نحو واع من األنشطة املوجهة‬
‫‪11‬‬
‫ألذى املثليني‪.‬‬

‫ليس هذا أول لقاء لنا مع فكرة وجود تداعيات ضارة اجتامعية لتزييف التفضيل‪ .‬لقد‬
‫رأينا أن تزييف التفضيل أدى إىل حظر عىل التقية الدينية‪ .‬الفكرة الجديدة هنا هي أن‬
‫تجلّيات تزييف التفضيل تشمل معاقبة الذين يشاركهم املرء آراءه وحاجاته‪ .‬املنطق بسيط‪.‬‬
‫الكالم رخيص‪ .‬يستطيع أي أحد أن يدعي أنه ضد أسلوب الحياة هذا أو الحزب السيايس‬
‫ذلك‪ .‬من أفضل الطرق لجعل هذه الدعوى ذات مصداقية أن يسهم املرء يف معاقبة الذين‬
‫متسرت متن ّم ًرا عىل املثليني ليه ّدئ االرتيابات بشأن حياته‬
‫ّ‬ ‫يريد االبتعاد عنهم‪ .‬قد يصبح مثيل‬
‫ريا ما تنجح‪،‬‬
‫الخفية‪ .‬مع انكشاف الح ّجة شيئًا فشيئًا‪ ،‬سرنى أن النفاق حيلة عاملية‪ ،‬كث ً‬
‫للحفاظ عىل الذات وتعزيز الذات‪.‬‬

‫متسرتون‪ ،‬واعتمدوا يف‬


‫ّ‬ ‫لطاملا ا ّدعى النشطاء املثليون أن معظم املثليني األمريكيني‬
‫هذه الدعوى عىل استطالع ‪ 1948‬الشهري‪ ،‬الذي أجراه ألفرد كنيس‪ .‬وصف ُعرش الرجال يف‬
‫عينة كنيس أنهم مل ميارسوا سوى املثلية تقريبًا يف السنوات الثالث السابقة‪ .‬يرى الباحثون‬
‫املحرتفون يف السلوك الجنيس أن هذه العينة ال متثّل عموم األمريكيني‪ ،‬ألنها تحتوي عىل‬
‫قدر أكرب من املعتدين الجنسيني والسجناء وطالب محارضات كنيس نفسه‪ 12.‬مع هذا‪ ،‬انترش‬
‫حل عام ‪ ،1993‬عندما نرش‬
‫الرقم يف وسائل اإلعالم عىل أنه حقيقة مفروغ منها–إىل أن ّ‬
‫أدق الدراسات يف السلوك الجنيس للذكور‪ .‬حسب‬
‫مركز باتيل للشؤون اإلنسانية دراسة من ّ‬

‫‪21‬‬
‫رصا ‪ 1.1‬باملئة من الرجال األمريكيني فقط‪ ،‬أما الذين‬
‫هذه الدراسة‪ ،‬بلغت نسبة املثليني ح ً‬
‫مارسوا جِام ًعا مثل ًّيا يف العقد السابق فبلغت نسبتهم ‪ 1.2‬باملئة‪ .‬رفض النشطاء املثليون‬
‫التخيل عن رقم ‪ .%10‬حتى عندما أشار الباحثون إىل اتساق أرقام باتيل مع أرقام البلدان‬
‫األخرى‪ ،‬سارع النشطاء إىل تكذيب الدراسة الجديدة‪ .‬أعلنت املجلة ال ُّربعية املثلية ‪10‬‬
‫‪13‬‬
‫تغري اسمها‪.‬‬
‫بريسنت أنها لن ّ‬

‫إذا كانت مجموعات الضغط املثلية ترى دراسة باتيل غري مقبولة وترفض اإلقرار‬
‫بعيوب استطالع كنيس‪ ،‬فذلك ألن لها مصلحة يف أن يُرى املثليون عىل أنهم مجموعة ناخبة‬
‫ضخمة وإن كانت يف معظمها خف ّية– كام أن معاريض حقوق املثليني لهم مصلحة يف جعل‬
‫األهمية الرقمية للمثليني تظهر مبظهر مبالغ فيه ج ًّدا‪ .‬تعتمد قدرة مجموعات الضغط املثلية‬
‫لتحقيق أهدافها عىل الحصة املتخ َّيلة لألمريكيني املثليني يف الّس أو العلن‪ .‬سنجد يف‬
‫خفي يف معظمه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفصول الالحقة أن ادعاء أن الدعم للقضية السياسية التي ينارصها املرء‬
‫مامرسة سياسية شائعة‪ .‬لقد أكّد املصلحون والثوريون من كل جانب أنهم يتمتعون بتعاطف‬
‫األغلبية املتخفية‪.‬‬

‫تّسيبات وبالونات اختبار‬


‫عادةً‪ ،‬ميلك الشخص الذي يقيس العواقب املحتملة لفعلٍ ما معلومات كافية للميض يف األمر‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬تعرف املثلية املتخفية يف بلدة أمريكية صغرية معرف ًة قريبة من اليقني‬
‫أنها إذا كشفت نفسها فستواجه اضطها ًدا‪ .‬لكن يف بعض السياقات‪ ،‬تكون معلومات املرء‬
‫عن ردود الفعل املحتملة معلومات ال يُعت َمد عليها‪ .‬قد يجهل السيايس صاحب الفكرة الجديدة‬

‫‪22‬‬
‫كيفية تلقي فكرته بني الناس‪ .‬عند مواجهة هذه الريبة‪ ،‬قد ينرش الفكرة من دون اسمه‪ ،‬رمبا‬
‫بأن يجعل أح ًدا من أتباعه يناقشها مع مراسل موثوق قبِل أن ينسب القصة إىل «مصادر‬
‫موثوقة»‪« .‬بالونات االختبار» هذه تعطي الفكرة بعض االنتشار دون تحميل السيايس‬
‫مسؤولية شخصية‪ .‬إذا كانت ردة الفعل رافضة لها‪ ،‬فل ُه أن ينفي ارتباطه بها‪ .‬أما إذا وجد أن‬
‫الفكرة حظيت بالقبول‪ ،‬فله أن يدعي الفضل ويبدأ دعمها علنًا‪ .‬الفكرة هنا هي بذل الجهود‬
‫ريا ما تنفع هذه الجهود‪ ،‬ألن تبني موقف غري شائع عىل‬
‫من أجل اختبار الرأي العلني‪ .‬كث ً‬
‫ريا‪ .‬قد يقلب أصدقاءه إىل أعداء‪ ،‬ويّض بسمعته‪ ،‬وينهي عمله‪،‬‬
‫العلن قد يكلف صاحبه كث ً‬
‫إىل ما هنالك من االحتامالت‪.‬‬

‫متُ َّرر بعض األخبار األخرى إىل وسائل اإلعالم ألن الرأي العلني معروف من قبل‪ .‬قد‬
‫يحاول أحد الوزراء شجب وزير آخر أو سياساته‪ ،‬بتغذية وسائل اإلعالم بأخبار تؤذيه‪،‬‬
‫ّض خصمه من‬
‫برشط أن يبقى مصدر «التّسيب» مجهوالً ‪ .‬يستطيع صاحب التّسيب أن ي ّ‬
‫خالل الضجة التي تتلو هذه األخبار‪ ،‬لكن األمر ال يخلو من االنتقامات‪ .‬يف الوقت الذي يتمتّع‬
‫رصح بغضبه‪ ،‬بل ويدعو إىل عقوبات شديدة عىل‬
‫فيه صاحب التّسيب بعواقبه‪ ،‬قد ي ّ‬
‫ّسبني املدانني‪.‬‬
‫امل ّ‬

‫رسبت إحدى معاونات رونالد‬


‫تّسيبات األخبار صفة منترشة يف سياسة واشنطن‪ّ .‬‬
‫ريغان تقري ًرا كانت قد كتبته للبيت األبيض عن التمييز الجنيس ألحد الصحفيني‪ ،‬إذ كانت‬
‫ترى أن الرئيس ال يبذل ما يكفي من الجهد بشأن قضايا النساء‪ .‬سأل الصحفي الرئيس بعد‬
‫ذلك يف مؤمتر مذاع وطنيًّا ملاذا مل يعمل عىل أساس تقرير من إدارته نفسها‪ 14.‬أرادت‬
‫املسا ِعدة إثارة ضجة تدفع ريغان إىل العمل‪ .‬اهت ّم بعض مساعدي ريغان اآلخرين بتّسيب‬

‫‪23‬‬
‫خالفات الرئيس مع أول وزراء داخليته‪ ،‬ألكسندر هايغ‪ 15.‬كان هدفهم من هذا الدفع نحو‬
‫مغادرة هايغ دون أن يلحقهم أي لوم‪.‬‬

‫يبذل السياسيون جهو ًدا كبرية لحامية أنفسهم وسياساتهم من التّسيبات املزعجة‪.‬‬
‫يذكر ديفيد غرغن‪ ،‬الذي كان مدير التواصل يف أول إدارة لريغان‪ ،‬أن املعاونني التزموا بأالّ‬
‫يقولوا أي يشء مثري للجدل يف أي محادثة تضم أكرث من شخص واحد آخر‪ .‬كان املنطق‬
‫ُّسب‪ ،‬ألن مصدر التّسيب‬
‫وراء هذا االلتزام أن املعلومات التي تق َّدم لشخص واحد يب ُعد أن ت َ َّ‬
‫سيعرف بسهولة‪ .‬الحظ غرغن أن الخوف من التّسيبات‪ ،‬جعل عدد املسؤولني يف واشنطن‬
‫املنخرطني يف أي قضية متناس ًبا تناس ًبا عكس ًّيا مع أهمية هذه القضية‪ .‬كلام كانت القضية‬
‫‪16‬‬
‫أهم‪ ،‬كان العدد أقل– ألن احتامل التّسيبات يزيد ويزيد رضرها كلام زاد العدد‪.‬‬

‫مل تكن أهمية التّسيبات وبالونات االختبار يف سياسة واشنطن لتفاجئ ميكافييل‪،‬‬
‫الواقعي املطلَق يف النهضة األوروبية‪ .‬يف كتابه األمري قال ميكافييل إن يف السياسة صو ًرا‬
‫كثرية من الخداع‪ ،‬منها النفاق‪ 17.‬مل تكن املالحظة جديدة‪ ،‬لكن الكتاب السابقني كانوا‬
‫يع ّددون فضائل الصدق والرصاحة‪ .‬كّس ميكافييل العادة‪ ،‬وأكّد عىل أن النفاق ال ميكن‬
‫إزالته‪ ،‬وأوىص عىل هذا األساس القائد الطموح بأن يكون ماك ًرا كالثعلب‪ .‬رأى ميكافييل أن‬
‫عىل الالعب السيايس أن يتخذ املظهر األقرب إىل الحكمة من وجهة نظر اكتساب السلطة‬
‫والحفاظ عليها‪ .‬أما السيايس الذي يرص عىل االنفتاح والصدق املطلق فال شك أنه سيؤذي‬
‫املجموعات القوية ويخّس أمام خصومه األقرب إىل الحذر‪.‬‬

‫مل يختف الدافع وراء ارتداء السيايس لقناع يقبله املجتمع مع تقدم الدميقراطية‬
‫الحديثة‪ .‬سرنى كيف أن تزييف التفضيل مل يزل يشكّل العملية السياسية يف كل مكان‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫االقرتاع الّسي‪ ،‬والتحكيم األعمى‪ ،‬واملفاوضات املنعزلة‬
‫إذا كان تزييف التفضيل شائ ًعا‪ ،‬وكانت عواقبه السياسية مهمة إىل الدرجة التي أطرحها‪ ،‬فال‬
‫بد من وجود آليات لتخفيف أسبابه‪ .‬من املفيد أن نطّلع عىل بعض منها‪.‬‬

‫يف كل دميقراطية حديثة تجري االنتخابات واالستفتاءات الكربى باقرتاع رسي‪.‬‬


‫الهدف من ذلك أن يصوت املواطنون دون تخويف‪ .‬تُ َع ّد األصوات املأخوذة يف االقرتاع العلني‬
‫غري رشعية ألنها قد تتأثر بتزييف التفضيل‪.‬‬

‫إن االقرتاع الّسي مق َّدر ج ًّدا إىل درجة تجعل األنظمة غري الدميقراطية تحاول أن‬
‫تُظهر اقرتاعاتها املفتوحة عىل أنها رسية‪ُ .‬سبق استفتاء عام ‪ 1979‬لجعل إيران «جمهورية‬
‫إسالمية» بحملة هددت بتكفري كل من يجرؤ عىل التصويت بالسلب‪ .‬نعم كانت األصوات‬
‫تقن ًّيا من غري أسامء‪ ،‬لكن الحملة أوحت للناس أن النظام يستطيع تحديد طبيعة أي صوت‬
‫ختمت هويات الناخبني الشخصية‪ ،‬وهو ما خ ّوف من تعريض املقاطعات‬
‫مفرد‪ .‬يف االقرتاع‪ُ ،‬‬
‫ريا من املصوتني بالسلب إىل تحقيقات وانتقامات‪ 18.‬عندما حازت‬
‫التي تحوي عد ًدا كب ً‬
‫فّس النظام الثوري النتيجة بأنها نتيجة دعم األغلبية‬
‫املبادرة عىل نسبة قبول ‪ 98.2‬باملئة‪ّ ،‬‬
‫الساحقة‪ .‬لكن صحافة العامل‪ ،‬عندما شعرت أن ماليني الناس صوتوا من الخوف‪ ،‬شجبت‬
‫رصحت الصحافة أن النتائج متحيزة ألن‬
‫االنتخابات ووصفتها بالزيف‪ .‬يف الحقيقة‪ّ ،‬‬
‫رسيّة‪.‬‬
‫الناخبني مل يروا أن أصواتهم ّ‬

‫عاد ًة تؤخذ قرارات الرتقية األكادميية يف بيئة مصممة لتحييد تزييف التفضيل‪.‬‬
‫يُضمن للهيئة التي يُطلَب منها تقييم املرشحني للرتقية أن تبقى أسامء أعضائها‪ ،‬أو مواقفهم‬

‫‪25‬‬
‫عىل األقل‪ ،‬رسية متا ًما‪ .‬تحدث التّسيبات‪ ،‬وهو السبب الذي يجعل التقييامت مليئة بالحديث‬
‫املوارب ويجعل القراء الخرباء يهتمون مبا ال يُقال أكرث من اهتاممهم مبا يُقال‪ .‬لكن النظام‬
‫باإلجامل يعزز الصدق‪.‬‬

‫يبني الصحفيون األكادمييون عادة قراراتهم التحريرية عىل تقارير غري موقعة ال‬
‫يعرف مؤلفيها إال املحررون‪ .‬كام يعرف كل كاتب أكادميي‪ ،‬تسارع لجنات الحكم إىل شجب‬
‫املقاالت التي ال تجرؤ عىل انتقادها علنًا‪ .‬تتيح مجهولية االسم أيضً ا للحكم أن يكون غامضً ا‬
‫مجاال لتنفيس غريته وعداواته وأحكامه املسبقة‪ .‬لكن املجتمع األكادميي يرى أن‬
‫ً‬ ‫وأن يجد‬
‫مساوئ مجهولية االسم أقل من منافعها – وهو دليل عىل أن تزييف التفضيل بني املتعلّمني‬
‫يعترب شائ ًعا‪.‬‬
‫َ‬

‫تف ّرق قوائم النرش األكادميي عاد ًة بني املنشورات املحكمة وغري املحكمة‪ .‬تتمتع‬
‫املنشورات املحكمة باحرتام أكرب‪ ،‬إذ يُعتقَد أن محرري املنشورات غري املحكمة أقل قدرة عىل‬
‫نسب إليها الرفض‪ .‬يح ّد املنطق نفسه‬
‫االلتزام باملعايري‪ ،‬لعدم وجود تقارير مجهولة الكتّاب يُ َ‬
‫من اعتبار املجالت التي تنرش املقاالت التي يأيت معظمها من الكتاب الذين يتعامل معهم‬
‫املحررون يوميًّا‪ .‬يعتقَد أن محرري هذه «الصحف البيتية» أقل قدرة عىل رفض املنشورات‬
‫املتوسطة الجودة‪.‬‬

‫ريا ما تُعقَد املفاوضات الدولية الحساسة يف‬


‫املثال األخري يأيت من الدبلوماسية‪ .‬كث ً‬
‫بيئة مغلقة‪ ،‬لعزل املفاوضني عن الضغوط التي متنعهم من التنازل‪ .‬من هذه الحاالت قمة‬
‫كامب ديفيد عام ‪ ،1987‬التي أدت إىل اتفاقية سالم تاريخية ين مرص وإرسائيل‪ .‬ناقش‬
‫االتفاقية النهائية فريقان صغريان ج ًّدا وراء أبواب مغلقة‪ ،‬ومل تعرف أي دولة ماذا يق ّدم‬

‫‪26‬‬
‫قادتها‪ .‬مل تصدر أي تقارير تقدم يومي خالل املفاوضات‪ ،‬لئال تؤدي إىل احتجاجات رمبا‬
‫متنع نجاح التسوية‪ .‬قدم قادة كل طرف تنازالت مل يكن مستع ًّدا للدفاع عنها علنًا‪ ،‬إال‬
‫‪19‬‬
‫بوصفها مثنًا التفاقية أنهت عقو ًدا من العداوة‪.‬‬

‫ريا عىل‬
‫الدرس الجوهري هنا هو أن النزعة إىل تزييف التفضيل تعتمد اعتام ًدا كب ً‬
‫السياق املؤسيس‪ .‬فمن يقنّعون رغباتهم ومعتقداتهم يف بيئة ما‪ ،‬لن ميانعوا من كشفها يف‬
‫يعرب‬
‫بيئة أخرى‪ .‬يعي الفاعلون السياسيون هذه املسألة‪ ،‬لذلك يحاولون التالعب بالبيئة التي َّ‬
‫فيها عن التفضيالت‪ .‬قد يختارون بيئة تعزز الصدق والرصاحة‪ ،‬كام حدث عندما تفاوض‬
‫القادة املرصيون واإلرسائيليون خلف األبواب املغلقة‪ ،‬وقد يدعمون النفاق‪ ،‬كام حدث عندما‬
‫أرهب القادة اإليرانيون الناخبني من التصويت ضد الحكم اإلسالمي‪ .‬ستظهر الفصول التالية‬
‫أن املؤسسات التي تحكم يف دوافع تزييف التفضيل هي نفسها مسائل اختيار قد يكون‬
‫تزييف التفضيل متفشّ ًيا فيها‪.‬‬

‫معاينة للمفهوم‪ :‬اآلثار االجتامعية لتزييف التفضيل‬


‫مجاال للشك يف أن تزييف التفضيل ظاهرة يرى فيها الفاعلون‬
‫ً‬ ‫ال تدع األمثلة السابقة‬
‫السياسيون أهمية كبرية‪ .‬من الواضح كذلك أن بعض البيئات يجد فيها األفراد أن األقرب إىل‬
‫الحكمة التعبري عن التفضيالت املقبولة اجتامع ًّيا – أي سلوك الحرباء‪ .‬هذه البيئات كلها‬
‫تعتمد فيها مكانة الشخص اجتامع ًّيا عىل ما يعرب عنه من االتجاهات‪.‬‬

‫املعرب عنها عواقب اجتامعية‪،‬‬


‫َّ‬ ‫أوال‪ ،‬للتفضيالت‬
‫ينتج تزييف التفضيل فئتني من اآلثار‪ً .‬‬
‫كام يحدث عندما ينتج اختيار النساء للحجاب استجابات امتثالية من نساء كُ ّن ليفضّ لن عدم‬

‫‪27‬‬
‫يغري املناخ االجتامعي الذي ينشئه تزييف التفضيل التفضيالت التي‬
‫الحجاب‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬قد ّ‬
‫رسا‪ .‬يف الفئة األوىل‬
‫ميا َرس إال ًّ‬
‫يحاول الناس إخفاءها‪ .‬من أمثلة هذا االختفاء املحتوم لدين ال ُ‬
‫من اآلثار‪ ،‬تصوغ االختيارات الفردية املخرجات االجتامعية‪ ،‬أما الفئة الثانية فتعكس السببية‪،‬‬
‫إذ تصوغ فيها املخ َرجات االجتامعية االختيارات الفردية‪ .‬باجتامع الفئتني‪ ،‬نجد عالقة سببية‬
‫دائرية بني املخرجات االجتامعية واالختيارات الفردية‪ .‬يدفعنا وجود هاتني الفئتني إىل‬
‫التحقيق يف كيفية تشكيل األفراد للمتغريات االجتامعية‪ ،‬وكيفية تشكيل املتغريات االجتامعية‬
‫لألفراد‪ ،‬من أجل فهم عواقب تزييف التفضيل‪.‬‬

‫من أين نبدأ التحليل؟ من حيث املبدأ‪ ،‬ميكن للتحقيق يف عالقة دائرية أن يبدأ من أي‬
‫مكان‪ ،‬ما دام سيمر عىل كل الدائرة‪ .‬لكن من أجل أهدافنا‪ ،‬األفضل أن نبدأ بأثر الفرد عىل‬
‫املخرجات االجتامعية‪ ،‬ألن تزييف التفضيل فعل فردي‪ .‬سيسهل فهم آليات تأثري املخرجات‬
‫االجتامعية لتزييف التفضيل عىل األفراد بعد فهم هذه املخرجات نفسها والتحقيق يف‬
‫‪20‬‬
‫منظومتها‪.‬‬

‫يعرب‬
‫يتعني عليه أن ّ‬
‫ّ‬ ‫إن نقطة البدء يف التحليل هي الخيار الذي يواجهه الفرد الذي‬
‫عن تفضيل يف قضية ما‪ .‬لكنه سيستج ّر منافع أو خسائر عىل نفسه بحسب التفضيل الذي‬
‫سيعرب عنه‪ .‬املوقف هنا ليس كاملوقف الذي يواجهه املرء إذا طُلب منه أن يختار بني نكهات‬
‫اآليس كريم‪ ،‬ألن هذا االختيار ال يعني اآلخرين‪ .‬يف مسألتنا هنا‪ ،‬يعلم الفرد أنه سيُحاسب‬
‫رصح به‪ .‬من امليزات املهمة األخرى لهذه املسألة أنها ستس َّوى بتجميع‬
‫عىل التفضيل الذي ي ّ‬
‫عرب عنها الفرد من قبل‪.‬‬
‫للتفضيالت األخرى التي ّ‬

‫‪28‬‬
‫سيعرب عنه؟ سيدخل يف حسابه ثالثة متغريات‪:‬‬
‫ّ‬ ‫كيف سيختار الفرد التفضيل الذي‬
‫الرضا الذي سيحصل عليه من قرار املجتمع‪ ،‬واملكافآت والعقوبات املرتبطة بالتفضيل‬
‫يعربون‬
‫املختار‪ ،‬واملنافع التي ينتفعها من التعبري عن نفسه بصدق‪ .‬إذا كان عدد األفراد الذين ّ‬
‫ريا‪ ،‬فإن قدرة الفرد عىل التأثري يف القرار العلني مه َملة‪ .‬يف‬
‫عن تفضيالتهم يف املسألة كب ً‬
‫هذه الحالة‪ ،‬سريى الفرد أن قرار املجتمع ثابت يف جوهره‪ ،‬ويعتمد يف ترصيحه عن تفضيله‬
‫عىل املتغريين األخريين فقط‪ .‬عادةً‪ ،‬تكون املفاضلة بني هذين املتغريين مفاضلة بني منافع‬
‫التعبري عن نفس ومنافع أن يرى املجتمع املرء عىل صواب‪ .‬عندما يسود النوع األخري من‬
‫املنافع‪ ،‬يختار الفرد تزييف التفضيل‪.‬‬

‫هذا التفضيل الذي ينتهي الفرد إىل اختياره هنا‪ ،‬سأس ّميه تفضيله العلني‪ .‬وهو‬
‫مستقل عن تفضيله الخفي‪ ،‬الذي كان ليعرب عنه يف غياب الضغوط االجتامعية‪ .‬بالتعريف‪،‬‬
‫تزييف التفضيل هو اختيار اإلنسان لتفضيل علني يختلف عن تفضيله الخفي‪.‬‬

‫سنهتم فيام بعد ببعض محددات التفضيل الخفي لدى الفرد‪ .‬لكن هنا‪ ،‬ستُفرتض‬
‫افرتاضً ا‪ .‬من العوامل األخرى التي أفرتضها تع ّرض الفرد للضغوط االجتامعية والرضا الذي‬
‫يعيشه لدى قول الحقيقة‪ .‬إن افرتاض هذه املتغريات ال يعني أنها ال تختلف بني األفراد‪ .‬قد‬
‫يحمل الناس لدى مواجهة أي قضية رغبات مختلفة وحاجات مختلفة للقبول االجتامعي‪،‬‬
‫والتزامات مختلفة للتعبري عن رغباتهم‪.‬‬

‫تقتيض هذ االحتامالت أن األفراد قد يتنوعون يف استجاباتهم للضغوط االجتامعية‬


‫السائدة‪ .‬قد يقاوم أحد األفراد الضغوط التي يختار غريه مداهنتها بتزييف التفضيل‪ .‬من‬

‫‪29‬‬
‫املقتضيات أيضً ا أن األفراد يختلفون يف الدوافع الّضورية لجعلهم يتخلون عن تفضيل‬
‫علني من أجل اعتناق تفضيل علني آخر‪ .‬نسمي نقاط االنتقال هذه العتبات السياسية‪.‬‬

‫ال بد من تقديم آخر مجموعة من الالعبني‪ :‬مجموعات الضغط التي تحاول جعل‬
‫ريا ما يديرها النشطاء السياسيون–‬
‫أهدافها عا ّمة الدعم‪ .‬تكافئ مجموعات الدعم –التي كث ً‬
‫أعضاءها وتعفيهم من العقوبات التي تفرضها عىل اآلخرين‪ .‬هذه املكافأة والعقوبة يقوم‬
‫عليها األفراد أنفسهم‪ ،‬لذا فكلام كان عدد أعضاء املجموعة أكرب‪ ،‬كان الضغط الذي متثله‬
‫أكرب‪ .‬إن توزّع التفضيالت العلنية بني األفراد هو الذي يشكّل الرأي العلني‪ ،‬وتوزع‬
‫التفضيالت الخفي هو الذي يشكل الرأي الخفي‪ .‬هذا التوزع األخري رسي‪ ،‬لذا فام دامت‬
‫تفضيالت الناس هي التي تحدد الربامج السياسية التي ستطبق‪ ،‬فإن التوزع األول هو الهدف‬
‫األهم واألقرب أمام مجموعات الضغط‪ .‬كذلك فإن الرأي العلني‪ ،‬وليس الخفي‪ ،‬هو الذي يحدد‬
‫املكافآت والعقوبات التي يتلقاها األفراد من أجل تفضيالتهم العلنية‪.‬‬

‫والرأي العلني إذن ُمح ّدد لعنارصه التي يتألف منها‪ ،‬وهي التفضيالت العلنية الفردية‪.‬‬
‫يغري نفسه من خالل التغيريات التي يولّدها يف االختيارات الفردية‪ .‬لكن الرأي‬
‫لذلك فقد ّ‬
‫العلني ال يتغري دامئًا‪ .‬يف ظروف محددة‪ ،‬تصل تغريات الرأي العلني إىل حالة توازن يف‬
‫النهاية‪ .‬أي إن الرأي العلني يصبح منت ًجا لنفسه‪ .‬يف كثري من املسائل الحساسة‪ ،‬ميكن وجود‬
‫عدة توازنات‪ .‬يف هذه الحالة يعتمد التوازن املعت َمد عىل التاريخ‪ ،‬وعىل ظروف ليست كبرية‬
‫مهام‪ .‬فإذا ثبت التوازن املختار‪ ،‬فسيثبت إىل أجل‬
‫األهمية يف نفسها لكنها قد تشكل هنا فرقًا ًّ‬
‫غري مسمى‪ ،‬حتى لو كان اختالف بسيط يف الظروف املبكرة قاد ًرا عىل إنتاج توازن آخر‬

‫‪30‬‬
‫متا ًما‪ .‬سنويل هذا املوضوع اهتام ًما دقيقًا يف الفصول ‪ ،5–2‬التي تستكشف نشأة الرأي‬
‫العلني من اختيارات األفراد لتفضيالتهم العلنية‪ ،‬التي يعتمد بعضها عىل بعض‪.‬‬

‫عند أي نقطة توازن‪ ،‬قد يختلف الرأي العلني عن الرأي الخفي‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬قد يعتمد‬
‫ريا عىل تزييف التفضيل من جهة الناس الذين ال‬
‫وجود التوازن واستقراره اعتام ًدا كب ً‬
‫يدعمون السياسات التي يتيحها‪ .‬هؤالء الساخطون‪ ،‬وإن كانوا أغلبية ساحقة‪ ،‬سيمتنعون‬
‫من املعارضة بسبب الضغوط االجتامعية – الضغوط التي يحافظون هم أنفسهم عليها عندما‬
‫يزيفون تفضيالتهم‪ .‬من العواقب املهمة اجتامع ًّيا لتزييف التفضيل هي الدعم الواسع‬
‫لرتفَض لو تع ّرضت القرتاع رسي‪ .‬ومن العواقب املرتبطة بهذا‬
‫والعلني للسياسات التي كانت ُ‬
‫استمرار هذه السياسات‪ ،‬وإقصاء السياسات البديلة القادرة عىل الحصول عىل دعم مستقر‪.‬‬
‫هذه الظاهرة األخرية‪ ،‬التي أسميها املحافظة الجمعية‪ ،‬هي موضوع الفصول ‪.9–6‬‬

‫تستكشف الفصول ‪ 14–10‬كيف يؤثر تزييف التفضيل يف التفضيالت الخفية‪.‬‬


‫تتطلب هذه املهمة إدراك أن تفضيالتنا الخفية بشأن القضايا السياسية تعتمد جزئيًّا عىل‬
‫األقل عىل معتقدات شكلها الخطاب العلني‪ ،‬الذي يتألف من االفرتاضات والحقائق والحجج‬
‫تنرش يف املجال العلني‪ .‬نحن نتعلم طب ًعا من تجاربنا الخفية‪ ،‬ونفكر‬
‫والنظريات التي َ‬
‫بأنفسنا‪ ،‬لكن حدود قدرتنا الذهنية ال تسمح لنا بالتفكري والتدبر العميق يف أكرث من جزء‬
‫من القضايا السياسية يف املجتمع‪ .‬مهام أردنا التدقيق يف كل مسألة بأنفسنا‪ ،‬سنعتمد‬
‫ريا ما نعتمد عىل عنارصه السطحية‪ ،‬يف معارفنا‬
‫ريا عىل الخطاب العلني‪ ،‬وكث ً‬
‫اعتام ًدا كب ً‬
‫الخفية التي تقوم عليها تفضيالتنا الخفية‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫يؤثر تزييف التفضيل يف الخطاب العلني‪ .‬ألن إخفاء تفضيالتنا بنجاح يتطلب إخفاء‬
‫املعارف التي تعتمد عليها‪ .‬أي‪ ،‬ال بد أن نعزز تزييف التفضيل بتزييف املعرفة‪ .‬بهذه الطريقة‪،‬‬
‫نخ ّرب ونفسد ونفقر املعرفة يف املجال العلني‪ .‬نخفي عن اآلخرين الحقائق التي نعرف أنها‬
‫صحيحة ونع ّرضهم ملا نعرف أنه خاطئ‪.‬‬

‫هنا نأيت إىل عاقبة أخرى لتزييف التفضيل‪ :‬اتساع الجهل مبساوئ الوضع القائم‪.‬‬
‫قد تكون هذه املساوئ معلومة عىل نطاق واسع من قبل‪ .‬لكن ما دام الخطاب العلني يقيص‬
‫نقد االختيارات السياسية‪ ،‬فستُنىس مساوئها‪ .‬يف هذه العملية يخّس أعضاء املجتمع قدرتهم‬
‫عىل إرادة التغيري‪ .‬سيثبت الوضع القائم‪ ،‬عندما يحافظ عليه الناس لخوفهم من تحديه‪ ،‬ألن‬
‫الناس لن يفهموا عيوبه ولن يستطيعوا تخ ّيل بديل أفضل‪ .‬سيؤدي تزييف التفضيل إىل‬
‫ضيق وجمود فكري‪ .‬عندما يصل املجتمع إىل هذه النقطة‪ ،‬ال يعود تزييف التفضيل مصد ًرا‬
‫لالستقرار السيايس‪ .‬من هذه النقطة‪ ،‬يدعم الناس الوضع القائم بصدق‪ ،‬ألن تزييف‬
‫التفضيل أزال رغبتهم بيشء مختلف‪.‬‬

‫خذ فيها املعارف الخفية‬


‫يزداد احتامل الوصول إىل هذه النتيجة يف القضايا التي تؤ َ‬
‫احتامال يف املسائل التي تكون فيها التجربة الشخصية‬
‫ً‬ ‫يف معظمها من اآلخرين‪ .‬وهي أقل‬
‫هي املصدر األول للمعرفة الخفية‪ .‬يؤثر عامالن آخران يف مستوى الجهل الذي يولده تزييف‬
‫التفضيل‪ .‬إذا وصل الرأي العلني إىل نقطة توازن خالية من املعارضة‪ ،‬يكون الناس أبعد عن‬
‫معرفة بدائل الوضع القائم‪ ،‬خالفًا ملا سيحدث إذا كان املعارضون مستمرين يف تذكريهم‬
‫مبنافع التغيري‪ .‬كذلك فإن انتشار الجهل يف املجتمع املغلق أسهل منه يف املجتمع املفتوح‬
‫عىل املؤثرات الخارجية‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫أجملت عاقبتني كربيني من عواقب تزييف التفضيل‪ :‬استمرار املخرجات‬
‫ُ‬ ‫إىل هنا‬
‫االجتامعية غري املرغوبة‪ ،‬وانتشار الجهل‪ .‬أوىل هاتني النتيجتني مرتبطة بالحاجة إىل القبول‬
‫االجتامعي‪ ،‬والثانية مرتبطة باعتامد الناس بعضهم عىل بعض للحصول عىل املعلومات‪.‬‬
‫األوىل تحتوي عىل اعتامدات بينية بني التفضيالت العلنية الفردية‪ ،‬وال تتطلب أي تفاعل بني‬
‫االتجاهات الخفية‪ .‬واألخرى تحتوي عىل اعتامدات بينية بني االتجاهات الفردية‪ ،‬وال تنعكس‬
‫فيها التفاعالت بالّضورة يف املتغريات العلنية‪ .‬لكن كل عملية من العمليتني تعزز األخرى‪.‬‬
‫اختفاء املعارضة املعلنة يزيد من جهل الناس بعيوب الوضع القائم‪ ،‬وهذا الجهل يجعلهم‬
‫أقل استعدا ًدا للمعارضة‪ .‬هنا إذن‪ ،‬نجد تجل ًّيا للعالقة السببية الدائرية التي تكلمنا عنه من‬
‫قبل‪ .‬النتيجة االجتامعية تغري األفراد‪ ،‬الذين يعززون بعد ذلك استقرار هذه النتيجة‪.‬‬

‫لو كان الخطاب العلني هو املحدد الوحيد للمعارف الخفية‪ ،‬لكان اإلجامع العلني عىل‬
‫سياسة ما‪ ،‬بعد حدوثه‪ ،‬ال ميكن أن يتغري‪ .‬لكن املعرفة الخفية لها محددات أخرى‪ ،‬ميكن لها‬
‫أن تق ّوض اإلجامع العلني‪ .‬لكن تقويض اإلجامع العلني ال يحدث بالّضورة بالتزامن مع‬
‫تصاعد املعارضة الخفية للوضع القائم‪ .‬يظهر هذا املوضوع ظهو ًرا بارزًا يف الفصول ‪–15‬‬
‫‪ ،18‬التي تستكشف تشكيل تزييف التفضيل ألمناط التغري االجتامعي‪.‬‬

‫ريا دون أي‬


‫بحضور تزييف التفضيل‪ ،‬ميكن للمعارضة الخفية أن تنترش وتتصاعد كث ً‬
‫ريا‬
‫تغيري ظاهر يف دعم الوضع القائم‪ .‬لكن عندما يأيت الحادث املناسب‪ ،‬حتى لو كان صغ ً‬
‫يف نفسه‪ ،‬سيجعل عد ًدا من األفراد يبلغون عتباتهم للكالم ضد الوضع القائم‪ .‬ميكن لتغريات‬
‫هؤالء األفراد أن تدفع اآلخرين إىل التعبري عن أصواتهم وإضافتها عىل املعارضة‪ .‬ميكن‬

‫‪33‬‬
‫للمعارضة العلنية أن تنمو بعملية تأثري العربة‪ ،‬حيث تؤدي كل إضافة جديدة إىل إضافات‬
‫أخرى حتى يصبح جزء كبري من املجتمع معارضً ا للوضع القائم‪.‬‬

‫لن تكون الثورة عندئذ متوقعة‪ ،‬ألن تزييف التفضيل قد أخفى تطور املعارضة يف‬
‫الكواليس‪ .‬حتى يف هذه الحالة‪ ،‬سيكون من السهل تفسري املنفعة بعد حدوثها‪ .‬من أسباب‬
‫هذا هو أن حدوث الثورة يخفف الخطر الشخيص يف كشف ثغرات النظام االجتامعي قبل‬
‫الثورة‪ .‬ومن األسباب أيضً ا أن الثورة تنشئ دوافع للناس الذين كانوا راضني عن النظام قبل‬
‫الثورة تجعلهم يتظاهرون بأنهم كانوا ثوا ًرا يف قلوبهم ينتظرون اللحظة املناسبة للحديث‪.‬‬

‫إن احتامل الثورة غري املتوقعة يقوم عىل عاملني‪ :‬القدرة الناقصة عىل مراقبة املعايري‬
‫التي يبني عليها األفراد تفضيالتهم العلنية‪ ،‬واالعتامد البيني لهذه التفضيالت‪ .‬بجمع هذين‬
‫حظة يف املتغريات الخفية أن تؤدي إىل تغريات‬
‫العاملني‪ ،‬ميكن للتغيريات الصغرية غري املال َ‬
‫انفجارية يف الرأي العلني‪ .‬بالطريقة نفسها‪ ،‬يتيح هذان العامالن للمتغريات الخفية أن متر‬
‫بتغريات كربى دون أي تغيري يف الرأي العلني‪ .‬أي أنهام يتيحان حدوث تح ّوالت عميقة‪،‬‬
‫وبناء توترات كبرية‪ ،‬يف مجتمع يبدو راق ًدا‪ .‬االستقرار الزائف والتغري االنفجاري وجهان‬
‫لعملة واحدة‪.‬‬

‫تظهر اآلثار غري املتناسبة أيضً ا من أنواع أخرى من الصدمات يف النظام االجتامعي‪.‬‬
‫جهوا إىل تطبيق سياسة مختارة جمع ًّيا‪ ،‬اختاروا تطبيق‬
‫مثال أن مسؤولني كانوا قد ُو ّ‬
‫افرتض ً‬
‫بديل لها‪ .‬ما دام األفراد يتعلمون من عواقب السياسات املطبقة‪ ،‬سيرتك هذا االعتداء أث ًرا يف‬
‫معرفتهم الخفية‪ .‬عادةً‪ ،‬تؤدي االنحرافات الصغرية يف السياسة إىل آثار صغرية يف املعارف‬
‫الخفية‪ ،‬لكن يف الظروف املناسبة تصبح اآلثار عىل املعارف الخفية‪ ،‬بل ويف النهاية عىل‬

‫‪34‬‬
‫الرأي العلني نفسه‪ ،‬ضخمة ج ًّدا‪ .‬كذلك يف الظروف املناسبة قد ال يؤدي اعتداء ضخم إال إىل‬
‫آثار مهملة عىل املتغريات الخفية أو العلنية‪.‬‬

‫إن حقيقة اتباع العالقات بني املتغريات االجتامعية أمناطًا متغرية غري ثابتة لها‬
‫تداعيات كبرية عىل النظام االجتامعي‪ .‬تتيح هذه الحقيقة أن التطور االجتامعي قد تظهر‬
‫فيه انقطاعات ونقاط ضعف‪ .‬وتدل‪ ،‬كام سيناقش آخر فصول هذا الكتاب‪ ،‬عىل وجود عقبات‬
‫ال ميكن تجاوزها أمام توقع التطور االجتامعي والتحكم به بدقة‪ .‬التقنيات موجودة ملعرفة‬
‫وقياس تزييف التفضيل‪ ،‬وال شك أن تحسينها ممكن‪ .‬لكن ما دام الناس ميلكون دافع تشويه‬
‫ريا ما ستحبط مساعينا إلدارة‬
‫ما يريدونه وما يعرفونه‪ ،‬فلن تبلغ هذه الطرق الكامل‪ .‬لذلك كث ً‬
‫التطور االجتامعي‪.‬‬

‫يقدم هذا الكتاب نظرية موحدة لتشكيل تزييف التفضيل للقرارات الجمعية‪،‬‬
‫وتوجيهه للتغيري السيايس‪ ،‬وحفاظه عىل االستقرار االجتامعي‪ ،‬وتشجيعه عىل الثورات‬
‫السياسية‪ ،‬وتشويهه للمعارف اإلنسانية‪ ،‬وإخفائه لالحتامالت السياسية‪ .‬أسمي النموذج‬
‫الذي يغذّي هذه النظرية منوذج التفضيل املزدوج‪ ،‬ألنه يتميز بازدواج التفضيالت الخفية‬
‫والعلنية‪ .‬يضم النموذج عد ًدا محدو ًدا عم ًدا من املفاهيم البدئية‪ ،‬معظمها نوقش هنا‪ .‬هديف‬
‫هو فهم األمناط والعالقات املوجودة يف بيئات اجتامعية مختلفة‪ ،‬بأبسط ما ميكن‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫الفصل الثاين‬
‫التفضيالت الخفية والعلنية‬

‫حني يختار شخص منعزل احتساء فنجان من القهوة مع الحلوى‪ ،‬فإنه يتخذ خيا ًرا شخص ًيا‪.‬‬
‫إذ ال يشارك أحد آخر يف اتخاذ القرار‪ .‬يف املقابل‪ ،‬يعد قرار بناء سد خيا ًرا جامع ًيا‪ ،‬فهو قرار‬
‫يشارك يف اتخاذه عدد كبري من األفراد‪ .‬وعىل الرغم من أن هذا التمييز الشائع مفيد من‬
‫الناحية املفاهيمية‪ ،‬فهو يحجب التغري يف مكان اتخاذ القرار‪ .‬فبإمكان املتبضعني األمريكيني‬
‫أن يقرروا دومنا تدخل اجتامعي رشاء رشائح لحم الخنزير؛ يف حني أن نظراءهم يف اململكة‬
‫العربية السعودية ال ميكنهم ذلك‪ .‬فام يعترب خيا ًرا شخص ًيا يف الواليات املتحدة هو بذلك‬
‫خيار جامعي من الناحية العملية يف اململكة العربية السعودية‪ ،‬حيث يعترب استهالك لحم‬
‫الخنزير عىل نطاق واسع إساءة دينية يعاقب عليها‪.‬‬
‫ليس انتقاء الطعام السياق الوحيد الذي ميكن أن تتحول فيه الشؤون الشخصية إىل‬
‫شؤون ذات اهتامم جامعي‪ .‬فقد ينظم املجتمع ما يقرؤه الناس‪ ،‬وكيفية التعامل مع ال َعلَم‪،‬‬
‫وربط حزام األمان يف أثناء القيادة‪ .‬وتكرس مجموعات متنوعة موارد هائلة للتحكم يف‬
‫الخيارات يف السياقات التي ال تتضمن معوقات واضحة عىل إتاحة حرية الترصف الشخيص‬
‫للجميع‪.‬‬
‫ليس مفاج ًئا إذن أن تكون جهود عىل هذه الشاكلة شائعة يف السياقات التي ال ميكن‬
‫فيها االستغناء عن االتفاق أو التنسيق‪ .‬قد يقرأ كل شخص كتابًا مختلفًا‪ ،‬غري أنه ال ميكن‬
‫منفصال يناسب كل األذواق الفريدة‪ .‬وال ميكن ألحد إنشاء قوة جوية‬
‫ً‬ ‫لشخص أن يش ّيد س ًدا‬
‫منفصلة تتالءم مع كل التصورات عن قوة العدو‪ .‬عند وجوب توفري سلعة بكميات كبرية أو‬
‫كمجموعة يجب تأمينها بأي وسيلة‪ ،‬يجب أن يتفق الناس بطريقة ما عىل نتيجة ميكن أن‬
‫ترتك البعض‪ ،‬بل وحتى الجميع‪ ،‬غري راضني رضا تا ًما‪ 1.‬ال يعني هذا القول إنه يجب عىل‬
‫األفراد اعتبار النتائج غري املثالية من املسلامت‪ .‬إذا مل يكن هناك يشء آخر‪ ،‬ميكنهم الضغط‬

‫‪36‬‬
‫عىل اآلخرين لتقديم التنازالت‪ .‬خذ بعني االعتبار مزار ًعا له مصلحة يف موقع محطة قطار‬
‫جديدة‪ .‬من خالل التهديد بسحب صداقته من جريانه الذين يدعمون املوقع ‪ ،A‬قد يدفعهم‬
‫إىل املوافقة عىل موقعه املفضل‪B. ،‬‬
‫قد يكون للمرء بذلك ترتيب لرتتيب تفضيالت اآلخرين‪ ،‬مثلام حني يفضل مزارع أن‬
‫يصنف املزارعون اآلخرون املوقع ‪ B‬قبل املوقع ‪ ،A‬أو أن تتوافق التبادالت الثنائية يف مجتمع‬
‫آخر مع تعريفه للعدالة‪ .‬تُعرف ترتيبات الرتتيب األعىل باسم ما وراء التفضيالت‪ ،‬أو القيم‪.‬‬
‫مهام بالكاد مقترصة عىل السياقات التي تتطلب‬
‫والسياقات التي يكون فيها ترتيب اآلخرين ً‬
‫شكال من أشكال االتفاق‪ .‬يف العديد من السياقات‬
‫ً‬ ‫فيها العوامل االقتصادية أو التكنولوجية‬
‫التي ميكن االستغناء فيها عن االتفاق‪ ،‬نتلقى مناشدات لتنظيم حياة اآلخرين‪ ،‬والتدخل يف‬
‫أمور ميكن أن ندعها وشأنها‪ ،‬باختصار‪ ،‬إنها تحثنا عىل أن نصبح «متدخلني»‪ 2.‬تشري‬
‫املالحظة املحضة إىل أن التدخل سمة برشية عاملية‪ ،‬وأنه يدفع مجموعة كبرية من الخيارات‬
‫الشخصية املحتملة إىل املجال الجامعي – أال وهو عامل السياسة‪.‬‬
‫تقول حنة آرنت إن انتشار التدخل ميكن عزوه إىل تقسيم العمل‪ .‬وهي تشري إىل أننا‬
‫إذا تابعنا جميع أنشطتنا يف عزلة متبادلة‪ ،‬فإن اختياراتنا ستكون بال أهمية أو قيمة بالنسبة‬
‫لآلخرين‪ 3.‬يضيف علامء النفس التطوري أن التطور البرشي املبكر قد أضفى ميزة عىل‬
‫األفراد الذين أظهروا اهتام ًما بأنشطة بعضهم‪ .‬فمثل هؤالء األفراد راقبوا بعضهم بفعالية‬
‫أكرب‪ ،‬لذا تعاونوا بشكل ناجح أكرث بشأن أمور مهمة للبقاء‪ .‬وعليه تركوا أحفا ًدا أكرث‪ ،‬مهيئني‬
‫العقل البرشي للتدخل‪ 4.‬يف يومنا هذا‪ ،‬يف ظل ظروف مختلفة اختالفًا شاس ًعا عن التي‬
‫واجهها أسالفنا الجامعون والصيادون‪ ،‬تعد النميمة تسلية عاملية وتحظى املسلسالت‬
‫التلفزيونية الطويلة بجمهور كبري ألن عقولنا تظل متكيفة لالهتامم بشؤون اآلخرين‪ 5.‬وال‬
‫عليك إذا كان الفضول يواصل خدمة اإلنتاجية االقتصادية أو االنسجام السيايس‪ .‬أوضح‬
‫الفالسفة االجتامعيون الليرباليون‪ ،‬من ضمنهم فريدريش هايك وجيمس بيوكانان‪ ،‬أن بعض‬
‫ريا‪ 6.‬لكن يف املستقبل املنظور‪ ،‬نحن‬
‫مظاهر التدخل يف العامل الحديث تُلحق رض ًرا كب ً‬
‫‪37‬‬
‫عالقون مع نزعة للتدخل يف األمور التي ميكننا تركها وشأنها‪ .‬يشري أحد األنرثوبولوجيني‬
‫إىل أن السبب األسايس هو أن الحضارة الحديثة تستند إىل «علم النفس القديم»‪ 7.‬وقد عاش‬
‫نحو ‪ 500‬جيل منذ ظهور الزراعة – وفقًا للمعايري التطورية‪ ،‬إنها تعد فرتة قصرية ج ًدا من‬
‫أجل إعادة التكيف النفيس األسايس‪ .‬لذا‪ ،‬فإن علم النفس املوروث يظل جوهريًا ذات العلم‬
‫الذي تطور خالل عرص الجامعني والصيادين‪ ،‬وهو فرتة امتدت ‪ 100,000‬جيل عىل األقل‪.‬‬
‫تحليال أعمق عىل العملية التي تُدفع من خاللها األمور الشخصية املحتملة‬
‫ً‬ ‫سنجري‬
‫إىل املجال الجامعي‪ .‬فالغرض من هذا الفصل هو استكشاف‪ ،‬ملسألة معينة‪ ،‬العملية التي‬
‫يقرر بها الفرد االنخراط يف تزييف التفضيالت‪ .‬ومن دون تقديم افرتاضات مسبقة حول‬
‫املسألة ذاتها‪ ،‬سأحلل ببساطة العوامل التي تحكم تفضيالته العلنية املتصلة باملوضوع‪.‬‬

‫اإلعداد األسايس‬
‫فلنتناول مسألة مع َّرفة مسبقًا يجب أن تتوصل مجموعة محددة مسبقًا إىل قرار بشأنها‪.‬‬
‫تواجه املجموعة سلسلة متواصلة من البدائل‪ ،‬ممثلة بالفاصل الشامل بني ‪ 0‬و‪ .100‬ميكن‬
‫أن تكون املسألة حجم الدعم الحكومي‪ ،‬أو تعريف جمهور الناخبني‪ ،‬أو النظام الغذايئ الذي‬
‫يتبعه شخص ما‪ .‬ليس رضوريًا يف هذه املرحلة التمييز بني الخيارات الشخصية والجامعية‪.‬‬
‫فالفرق سيظهر بشكل طبيعي يف الوقت املناسب‪.‬‬
‫أوال إن كان سيعلن عن تفضيل أم ال‪ .‬ثم‬
‫يجب عىل كل فرد يف املجموعة أن يقرر ً‬
‫يواجه الشخص الذي يقرر ذلك قرا ًرا ثان ًيا‪ :‬أي تفضيل سيبديه‪ .‬يف الوقت الحايل‪ ،‬ينصب‬
‫اهتاممنا عىل آليات القرار الثاين‪ .‬ما الذي يحدد إن كان سيؤيد فرد معني ‪ 20‬أم ‪ 40‬أم‬
‫؟‪100‬‬

‫املنفعة الذاتية‬

‫‪38‬‬
‫افرتض أن الفرد وحده يف حجرة االقرتاع حيث ميكنه التصويت دون الكشف عن هويته ألي‬
‫خيار بني ‪ 0‬و ‪ .100‬ألنه عىل يقني بأن اختياره لن يعلم به أحد‪ ،‬سيكون بوسعه دعم الخيار‬
‫الذي سيحصد وفق تقديره الشخيص أفضل النتائج‪ .‬وألنه يجهل الخيارات التي سيتخذها‬
‫مثال‪ ،‬ثاين أفضل خيار‬
‫اآلخرون‪ ،‬ما من سبب لديه للتصويت بشكل اسرتاتيجي – بأن يختار‪ً ،‬‬
‫حني يكون التصويت لصالح أفضل خيار بال جدوى‪ .‬لذا سيوازن بني العواقب املتوقعة لكل‬
‫خيار عىل نفسه وعائلته وأصدقائه وأعدائه والقضايا التي تهمه‪ ،‬ويخلص إىل أن ‪20‬‬
‫سيجعله األسعد‪ .‬بتعبري أدق‪ ،‬إنه يحدد ‪ 20‬باعتباره الخيار الذي سيوفر له أعظم منفعة‬
‫ذاتية‪ .‬إن هذا الخيار‪ ،‬الذي سجله عىل ورقة االقرتاع‪ ،‬ميثل تفضيله الخفي‪.‬‬
‫عىل الرغم من إجراء االنتخابات واالستفتاءات الوطنية‪ ،‬نحن ناد ًرا ما نسجل‬
‫تفضيالتنا باالقرتاع الّسي‪ .‬ففي الهيئات الترشيعية واملنظامت واللجان‪ ،‬دامئًا ما يكون‬
‫شكال من أشكال القرار‪ .‬وعليه‪ ،‬تصبح معظم‬
‫ً‬ ‫حا لكل قضية تتطلب‬
‫التامس التفضيالت متا ً‬
‫التفضيالت التي نعرب عنها يف نشاطاتنا املهنية وغري املهنية معروفة لدى اآلخرين‪ .‬بصورة‬
‫عامة‪ ،‬نحن نسجل تفضيالتنا من خالل الكالم واألفعال واإلمياءات‪ ،‬وليس بوضع عالمة عىل‬
‫ورقة اقرتاع خلف ستارة مس َدلة‪ .‬غري أن املهم هنا هو وجود ترتيب ما يف رأس الفرد‪ .‬فإذا‬
‫كان مثل هذا الرتتيب موجو ًدا‪ ،‬يكون لديه تفضيل خفي‪ ،‬بغض النظر عن طريقة التامس‬
‫تفضيله‪.‬‬
‫قد يكون الفرد حياديًا بشأن خيارين أو أكرث‪ .‬إال أنني من أجل تبسيط األمور سأعترب‬
‫التفضيل الخفي لكل شخص فري ًدا من نوعه‪ .‬هذا يعني أن خيا ًرا معي ًنا واح ًدا يتصدر أي‬
‫ترتيب خفي‪ .‬وتظهر السمة من خالل دالة املنفعة الذاتية املوضحة يف الشكل ‪ .2.1‬للدالة‬
‫ذروة واحدة عند ‪ ،20=x‬وهي تفضيل الفرد الخفي‪ .‬وفقًا للشكل‪ ،‬إنه يرتب الخيارات األدىن‬
‫من ‪ 20‬حسب بُعدها عن ‪ ،20‬وباملثل بالنسبة للخيارات األعىل من ‪.20‬‬

‫‪39‬‬
‫رسا أن يختار املجتمع‬
‫الشكل ‪ 2.1‬دالة املنفعة الذاتية للفرد‪ .‬يشري شكلها إىل أنه يود ً‬
‫الخيار ‪ 20‬من البدائل بني ‪ 0‬و‪.100‬‬
‫سنناقش مح ِّددات داالت املنفعة الذاتية لألشخاص وما يقابلها من تفضيالت خفية‬
‫الحقًا‪ ،‬بد ًءا من الفصل العارش‪ .‬يف غضون ذلك‪ ،‬سأتناولها عىل النحو الوارد‪ .‬والقيام بذلك‬
‫ميثل خطوة تحليلية بالطبع‪ ،‬وليس تأكي ًدا عىل أن التفضيالت الخفية ثابتة‪ .‬فكلمة «خفية»‬
‫ال تعني «ما قبل اجتامعية»‪.‬‬

‫منفعة السمعة‬
‫تخيل اآلن أن الفرد قد انتقل من حجرة االقرتاع إىل صحبة اآلخرين – إىل ما يسميه إرفينغ‬
‫غوفامن «مجال الحياة العلنية» أو «عامل التفاعل وج ًها لوجه»‪ 8.‬يتساءل أحدهم عن تفضيله‬
‫بخصوص املسألة التي صوت عليها ت ًّوا‪ .‬فهل سيكشف أنه وضع ‪ 20‬يف املرتبة األعىل؟ ألن‬
‫تفضيله الخفي خفي‪ ،‬ميكنه الترصيح بتفضيل اختياره‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ميكنه تعيني تفضيله‬
‫تفضيال علن ًيا باستثناء ‪ ،20‬سيكون‬
‫ً‬ ‫العلني‪ ،y ،‬عند أي نقطة بني ‪ 0‬و‪ .100‬فإذا اختار‬
‫منخرطًا يف تزييف التفضيل‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ألسباب سنناقشها الحقًا‪ :‬قد يشعر مراقبو هذا الفرد أنه يتسرت عىل حقيقة مشاعره‬
‫الداخلية‪ .‬إال أنه يف الوقت الحايل‪ ،‬اسمحوا يل أن أضع هذه الصعوبة جان ًبا وأفرتض أنه يف‬
‫ما يتعلق باملسألة قيد البحث‪ ،‬يسيطر الفرد سيطرة كاملة عىل تفضيله العلني‪ .‬قد يعرب عن‬
‫اختياره باإلفصاح عن فكرة‪ ،‬أو حمل الفتة‪ ،‬أو إلقاء نكتة‪ ،‬أو توقيع عريضة‪ ،‬أو إطالق‬
‫صيحات االستهجان عىل أحد املتحدثني‪ .‬اعتام ًدا عىل السياق‪ ،‬حتى التزام الصمت أو الهدوء‬
‫قد يكفيان إليصال التفضيل املختار‪.‬‬
‫إن السبب الذي قد يدفع الفرد إىل تزييف التفضيل هو أن تفضيالته العلنية تؤثر يف‬
‫كيفية تقييمه ومعاملته‪ .‬فللحفاظ عىل القبول واالحرتام‪ ،‬يجب تقديم دليل عىل قبوله‬
‫ملؤسسات املجتمع األساسية وتبنيه أهدافها وتصوراتها الجوهرية‪ .‬وبنفس القدر الذي‬
‫ينحرف به عن أهداف املجتمع املهيمنة‪ ،‬سيخّس املكانة االجتامعية ويقايس النبذ‪ .‬لكن لِم‬
‫أساسا؟ باعتبار الفرد «حيوانًا اجتامعيًا»‪ ،‬إنه يستمد الراحة‬
‫ً‬ ‫تعد ردود أفعال اآلخرين مهمة‬
‫العاطفية من األفراد اآلخرين يف مجتمعه‪ .‬ومن دون نيل استحسانهم‪ ،‬سيشعر بالعزلة‬
‫والقطيعة‪ .‬املجتمع أيضً ا مصدر للراحة الجسدية‪ .‬فمن خالل املشاركة يف النظام االجتامعي‪،‬‬
‫يكسب الوصول إىل السلع والخدمات التي ما كان ليحصل عليها مبفرده‪.‬‬
‫لقد كان اعتامد الفرد عىل املجتمع وما يالزمه من مخاوف من العزلة موضوعات‬
‫متسقة يف الفكر االجتامعي‪ .‬لكن التأكيد العلمي كان عليه ترقب ظهور علم النفس‬
‫االجتامعي التجريبي الذي ركز عىل هذه الظواهر من ثالثينيات إىل ستينيات القرن‬
‫ريا عىل اآلخرين‬
‫العرشين‪ .‬وأثبتت أوائل التجارب املنضبطة أن الناس يعتمدون اعتام ًدا كب ً‬
‫‪9‬‬

‫يف تكوين األحكام والتصورات‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬فقد أظهروا أنه حني يلتقي األفراد ذوي‬
‫التقييامت املختلفة مصادفة‪ ،‬فإن تفاعالتهم تولد معايري تعمل كأطر مرجعية لجميع‬
‫‪10‬‬
‫التقييامت الالحقة‪.‬‬
‫سلّط سلومون آش الضوء عىل عملية التأثري االجتامعي من زاوية جديدة يف دراسة‬
‫بدأها يف أربعينيات القرن العرشين‪ .‬وقد اشتبه آش بأن النتيجة القائلة إن الرغبة يف االمتثال‬

‫‪41‬‬
‫قوية ج ًدا‪ ،‬قد تكون أداة للتجارب ذاتها؛ ففي الحاالت الصعبة من الناحية املفاهيمية أو‬
‫اإلدراكية‪ ،‬قد ال يعكس اعتامد الناس عىل بعضهم سوى محاولة للتهرب من محدودية‬
‫حواسهم‪ .‬افرتض آش بعد ذلك أنه يف التجربة التي تقدم مشكلة تافهة من الناحية اإلدراكية‪،‬‬
‫ستكون األحكام الفردية حصينة من ضغوطات املجموعة‪ .‬وقد غدت التجربة التي واصل‬
‫إجراءها مشهورة يف الحال‪ ،‬لكياستها‪ ،‬وألنها أذهلت املجتمع الفكري من خالل دحض‬
‫فرضيته‪.‬‬
‫تتضمن التجربة مجموعة من األفراد الذين تلقوا تعليامت ملطابقة طول خط معني‬
‫مع واحد من ثالثة خطوط أخرى‪ 11.‬واحد من الخطوط الخاضعة للمقارنة مساو يف الطول‬
‫للخط القيايس؛ أما الخطان اآلخران‪ ،‬فهام بطول مختلف بشكل ملحوظ‪ .‬يكون جميع أفراد‬
‫املجموعة‪ ،‬باستثناء واحد منهم‪ ،‬متحالفني مع املج ِّرب وينفذون التعليامت إلصدار أحكام‬
‫خاطئة باإلجامع‪ .‬أما الفرد املتبقي‪ ،‬فغري مدرك لهذا التدبري املسبق‪ .‬ويسمع من حني آلخر‬
‫األفراد اآلخرين وهم ير ّدون باإلجامع بإجابات تتعارض مع أدلة حواسه‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يف ‪32‬‬
‫يف املائة من التجارب‪ ،‬متاىش مع وجهة نظر األغلبية الخاطئة‪ .‬باملقارنة‪ ،‬انخفض معدل‬
‫اإلجابات الخاطئة إىل أقل من ‪ 1‬يف املائة حني طُلب من الخاضعني للتجربة إطالق حكمهم‬
‫بشكل فردي‪ .‬ببساطة‪ ،‬توضح التجربة القوة امللحوظة لضغط املجموعة عىل االختيار‬
‫الفردي‪.‬‬
‫ولّدت تجربة آش آالف املتغريات‪ .‬يؤكد البعض أن الفرد ميتثل ملعيار املجموعة حتى‬
‫عندما يعلم أن الردود غري الصحيحة ستكون مكلفة بالنسبة للمجموعة ككل‪ ،‬أو لنفسه‬
‫شخص ًيا‪ ،‬أو لكليهام‪ 12.‬يثبت آخرون أن االمتثال يرتاجع تراج ًعا ملحوظًا عند جعل‬
‫الخاضعني للتجربة يعتقدون أن املعارضني لن يتعرضوا لالنتقاد‪ 13.‬بينام يظهر آخرون أن‬
‫يعرب عنها يف حّضة اآلخرين تكون أكرث امتثاالً إىل حد كبري من تلك التي‬
‫التفضيالت التي َّ‬
‫‪14‬‬
‫يعرب عنها كتابةً‪.‬‬
‫َّ‬

‫‪42‬‬
‫يف متغري آش‪ ،‬ال يبذل املتحالفون مع املج ِّرب أي جهد للضغط عىل املشارك غري‬
‫املطلع‪ .‬فهم ال يرهبونه أو يقللون من شأنه أو يسخرون منه أو يهددونه‪ .‬استنتج جريي‬
‫هاريف أن االمتثالية امللحوظة تُعزى إىل «الخوف من االنفصال»‪ ،‬وليس إىل «ضغوط‬
‫االمتثال»‪ 15.‬أود أن أشري إىل أن هذين العاملني غري متنافيني‪ .‬فالشخص الذي يدرك أنه‬
‫يتعرض للضغط سيعتقد بعقالنية أن الخروج عن إجامع املجموعة يعني املجازفة بأن تتم‬
‫مل سيعترب أن ضغطًا مورس عليه حني ال يفعل املتحالفون شيئًا‬ ‫معاملته كمنفصل‪ .‬لكن َ‬
‫لتثبيط اختالف اآلراء؟ يف الحياة اليومية‪ ،‬عادة ما يشعر املنحرفون بعدم االرتياح‪ ،‬لذا مييل‬
‫الناس بني الغرباء إىل اعتبار املعارضة طيشً ا‪ .‬بشكل مربر أم ال‪ ،‬إنهم يشعرون بالضغط‬
‫ري تلك املتغرياتُ من تجربة آش التي يحاول فيها‬
‫للتأقلم‪ ،‬خشية نبذهم‪ .‬تدعم هذا التفس َ‬
‫املجرب أو املتحالفون تخفيف مخاوف الشخص املحتملة‪ .‬وقد كان معدل الردود املمتثلة أقل‬
‫بشكل كبري يف هذه املتغريات منه يف التجربة األصلية‪.‬‬
‫باإلضافة إىل تجربة آش‪ ،‬أجرى ستانيل ملغرام أشهر تجربة يف علم النفس‬
‫االجتامعي‪ .‬ففي أوائل ستينيات القرن العرشين‪ ،‬رشع ملغرام يف تحديد الظروف التي‬
‫مبوجبها يرفض األفراد االنصياع ألوامر السلطة الرشعية بتنفيذ أعامل وحشية‪ 16.‬لهذا‬
‫الغرض‪ ،‬جلب متطوعني للتجربة‪ ،‬وأخربهم أنهم سينفذون أو يتلقون صدمات كهربائية‬
‫ملعرفة املزيد من املعلومات حول كيفية تأثري العقاب يف التعلم‪ .‬أُعطي كل شخص خاضع‬
‫للتجربة دور «املعلم»‪ ،‬ودخل املخترب بصحبة متطوع آخر مكلف بدور «الطالب»‪ .‬وقد كان‬
‫للمخترب‪ُ .‬وصل «الطالب» بأسالك إىل كريس كهربايئ‪ ،‬وجلس‬
‫ِ‬ ‫الثاين يف الواقع حليفًا مد َّربًا‬
‫حا يتدرج من ‪ 15‬إىل ‪ 450‬فولت‪ .‬احتوت لوحة‬
‫«املعلم» أمام مولد صدمات يحوي ‪ 30‬مفتا ً‬
‫املولد عىل تسميات لفظية لثامنية نطاقات من الجهد الكهربايئ‪ ،‬من «صدمة خفيفة» عند‬
‫الحد األدىن‪ ،‬إىل «صدمة قوية ج ًدا» يف املنتصف‪ ،‬إىل «‪ »XXX‬عند الحد األعىل‪ .‬وفقًا لهذا‬
‫اإلعداد‪ ،‬سيطلب املج ِّرب من «املعلم» طرح أسئلة محددة عىل «الطالب» املسكني وتطبيق‬

‫‪43‬‬
‫صدمات متزايدة يف الشدة عىل كل إجابة خاطئة‪ .‬ألن غرض ملغرام هو معرفة مدى متادي‬
‫الخاضعني للتجربة‪ ،‬استمر «الطالب» بارتكاب األخطاء حتى مع اشتداد الصدمات‪.‬‬
‫كيف ترصف الخاضعون لتجربة ملغرام؟ هل طلبوا إطالق رساحهم من التجربة حني‬
‫اشتدت الصدمات وبدأ «الطالب» بإظهار عالمات الشعور بأمل شديد؟ يف التجارب التي كان‬
‫فيها «الطالب» و«املعلم» يف غرفتني منفصلتني‪ ،‬انصاع ما يصل إىل ‪ 65‬باملائة من‬
‫الخاضعني للتجربة ألوامر املج ِّرب حتى النهاية‪ ،‬ووصلوا إىل تطبيق صدمات يف النطاق‬
‫«‪ .»XXX‬مع أن معدل االنصياع كان أقل يف مجموعات التجارب التي كان فيها «الطالب»‬
‫و«املعلم» عىل مقربة من بعضهام‪ ،‬مل ينخفض عن ‪ 30‬باملائة‪ .‬هبط املعدل إىل ‪ 21‬باملائة‬
‫يف التجارب التي أعطى فيها املج ِّرب أوامره عرب الهاتف‪ ،‬ما يشري إىل أن الرفض املحتمل‬
‫لشخص بعيد جسديًا ميثل تهدي ًدا أقل خطورة من رفض شخص قريب جسديًا‪ 17.‬لكن حتى‬
‫هذا املعدل أعىل بكثري مام قد يتوقعه املرء‪ .‬فالتجربة بأكملها تشهد بشكل أوضح عىل خوفنا‬
‫من االنتقاد االجتامعي‪.‬‬
‫تتوافق الكثري من األدلة األخرى مع النتائج التجريبية‪ .‬يذكر علامء النفس أن معظم‬
‫الناس‪ ،‬من ضمنهم الخطباء والفنانون الرتفيهيون املتمرسون‪ ،‬يهابون التحدث أمام‬
‫جدال يفيض إىل الرفض‪ 18.‬وقد اكتشف علامء األحياء أن توقع‬
‫الجامعة‪ ،‬خشية أن يثريوا ً‬
‫الرصاع بني األشخاص يُنتج سلسلة من التفاعالت الفزيولوجية التي تُعرف يف لغتنا اليومية‬
‫‪19‬‬
‫باسم اإلجهاد‪.‬‬
‫املعرب عنها عىل‬
‫َّ‬ ‫تتفاوت العقوبات التي يتعرض لها األشخاص بسبب تفضيالتهم‬
‫نطاق واسع من حيث الشكل والشدة‪ .‬فبعض التفضيالت العلنية تستثري إمياءات االستهجان‪،‬‬
‫كالحاجبني املرفوعني والنظرات التهكمية‪ .‬وبعضها يستدعي أيضً ا مالحظات سلبية‪ ،‬قد‬
‫ترتاوح بني النقد املتحفظ والتشهري الالذع‪ .‬مثة شكل آخر من أشكال العقاب هو الحرمان‬
‫من الفرص‪ .‬فقد يُحرم شخص من العمل أو قد يرفضه أحد النوادي االجتامعية لتبنيه الجانب‬
‫الخطأ لق ضية ما‪ .‬ومثة شكل آخر جسدي‪ .‬فقد يتعرض الفرد للمضايقة والسجن والتعذيب‬

‫‪44‬‬
‫رصح به‪ .‬تتضمن‬‫وحتى املوت‪ .‬عىل الجانب املرشق‪ ،‬قد ينتفع الفرد من تفضيله الذي ّ‬
‫املكافآت املحتملة االبتسامات والهتافات واملجامالت والشهرة والتكرميات واالمتيازات‬
‫والهدايا والرتقيات والحامية‪.‬‬
‫قد يكون التفضيل املقبول لدى مجموعة ما مرفوضً ا بالنسبة إىل مجموعة أخرى‪.‬‬
‫فعاملة تنظيف املنازل التي تكشف عن معارضتها لنظام الرعاية االجتامعية قد تزعج‬
‫جريانها العاطلني عن العمل الذي يعيشون عىل اإلعانة‪ ،‬يف الوقت نفسه إنها تريض أرباب‬
‫عملها الذين يعتربون رضائبهم مرتفعة ج ًدا‪ .‬إن املكسب النهايئ الذي يتلقاه الشخص من‬
‫الردود املتنوعة عىل تفضيل علني هو منفعته من السمعة – املنفعة من سمعة تبني ذلك‬
‫التفضيل املحدد‪ .‬ميكن أن تختلف منفعة السمعة التي مينحها الكشف عن تفضيل ما‬
‫باختالف الزمان واملكان‪ .‬سيسلَّط الضوء عىل هذا التباين بد ًءا من الفصل الثالث‪.‬‬
‫لقد ع ّرفت يف وقت سابق املكسب النهايئ لفرد ما من تنفيذ أحد الخيارات عىل أنه‬
‫منفعته الذاتية‪ .‬يعترب التمييز بني املنفعة الذاتية ومنفعة السمعة أم ًرا بالغ األهمية ملا ييل‪.‬‬
‫تنشأ املنفعة الذاتية من النتائج الجوهرية‪ ،‬أما منفعة السمعة‪ ،‬فمن ردود الفعل عىل‬
‫مثال‪ ،‬تنشأ املنفعة الذاتية من مزايا ومضار التكتم‬
‫تفضيالت الفرد العلنية‪ .‬يف حال التكتم‪ً ،‬‬
‫ذاته‪ ،‬أما منفعة السمعة‪ ،‬فتنشأ من املكافآت والعقوبات املرتبطة مبواقف الفرد العلنية تجاه‬
‫املامرسة‪.‬‬

‫املنفعة التعبريية‬
‫لنفرتض اآلن لوهلة‪ ،‬أن مجموعة صنع القرار التي تضم الفرد الذي كان اختياره قيد الدراسة‬
‫يبلغ عدد أفرادها مليونًا‪ .‬تخيل أيضً ا أن املجموعة تتوصل إىل قرار من خالل احتساب‬
‫متوسط التفضيالت العلنية ألفرادها‪ .‬من الواضح أن تأثري الفرد عىل قرار املجموعة سيكون‬
‫ضئيال‪ .‬من خالل تبديل تفضيله العلني من ‪ 0‬إىل ‪ ،100‬أو بالعكس‪ ،‬سيغري القرار مبقدار‬
‫ً‬
‫‪ 0.000001‬وحدة فقط‪ .‬لذا‪ ،‬من الناحية العملية‪ ،‬قد يتعامل مع قرار املجموعة عىل أنه‬

‫‪45‬‬
‫خارج عن إرادته‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬خارج منفعته الذاتية عىل النحو الوارد‪ 20.‬فهل سيؤسس بذلك‬
‫تفضيله العلني عىل اعتبارات السمعة فقط؟ هل سيختار تلقائ ًيا التفضيل العلني الذي ينتج‬
‫ملموسا‪ ،‬ليكن تفضيله الخفي‪ ،x ،‬يساوي‬
‫ً‬ ‫حا‬
‫عنه أفضل مكاسب السمعة؟ لطرح السؤال طر ً‬
‫‪ 20‬والتفضيل العلني الذي يقدم له أفضل مكسب للسمعة‪ ،y ،‬يساوي ‪ .100‬هل سيعرب عن‬
‫تفضيل لـ ‪100‬؟ ليس بالّضورة‪ .‬فنحن‪ ،‬كأفراد‪ ،‬نقاوم بعض املطالب املفروضة علينا‪ ،‬حني‬
‫نتعرض ملخاطر شخصية كبرية وحني تكون فعالية االحتجاج غري مرجحة‪.‬‬
‫يف التجارب التي أُبلغ عنها‪ ،‬مل يرضخ جميع األفراد للضغوط االجتامعية‪ .‬عالوة عىل‬
‫ذلك‪ ،‬تعد املقاومة شائعة ج ًدا يف بعض املتغريات‪ .‬ففي أحد متغريات تجربة آش التي يقدم‬
‫فيها أحد املتحالفني مع املج ِّرب اإلجابة الصحيحة قبل أن يتمكن الخاضع للتجربة من الكالم‪،‬‬
‫مع استمرار جميع الحلفاء اآلخرين يف إعطاء إجابات غري صحيحة‪ ،‬تنخفض نسبة األخطاء‬
‫املؤيدة لألغلبية إىل ‪ 5.5‬باملائة‪ 21.‬مثة متغري آخر لتجربة ملغرام‪ :‬وفيه يرافق «املعلم» الساذج‬
‫اثنان من األقران‪ ،‬وهام متحالفان موجهان لتحدي أوامر املج ِّرب يف أوقات محددة مسبقًا‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫يقلل املثال الذي تضمن األقران معدل االنصياع إىل ‪ 10‬باملائة‪.‬‬
‫يشري علم النفس االجتامعي التجريبي بذلك إىل أن الضغوط االجتامعية ليست‬
‫حاسمة بالّضورة‪ ،‬عىل الرغم من أنها شديدة التأثري‪ .‬فنحن‪ ،‬كأفراد‪ ،‬مستعدون بوضوح‬
‫لتحمل بعض الرصاع االجتامعي لقول أو فعل ما نريد‪ .‬ينبغي أن تلبي اختياراتنا حاجة أخرى‬
‫غري القبول االجتامعي واالحرتام‪ .‬هذه الحاجة‪ ،‬حسب اعتقادي‪ ،‬هي الحاجة إىل الفردية‬
‫واالستقاللية والكرامة والنزاهة‪ .‬إين أقرتح أننا نقدر حرية االختيار؛ ونستمد تقدير الذات‬
‫من مقاومة الضغوط االجتامعية وإثبات أنفسنا كأشخاص يُحسب لهم حساب؛ ونشعر‬
‫بالرضا بالتعبري عن رأينا واإلفضاء بّسائرنا والترصف عىل سجيتنا‪ .‬باختصار‪ ،‬إين أقرتح‬
‫أن هناك صوتًا دائم الحضور يف كل منا يقول‪« :‬كن صادقًا مع ذاتك»‪ .‬باتباع هذا املبدأ نحس‬
‫بالرضا‪ ،‬بل باالبتهاج‪ ،‬عىل الرغم من أنه قد يكون عىل حساب األعامل االنتقامية املغرية‪ .‬يف‬

‫‪46‬‬
‫املقابل‪ ،‬عندما نختار كبت فكرة‪ ،‬أو تشويه رغبة‪ ،‬أو تصنع سلوك زائف‪ ،‬فإننا نشعر بعدم‬
‫االرتياح للمساومة عىل شخصيتنا‪.‬‬
‫يف إطار العمل املطروح سابقًا‪ ،‬تعني الحاجة إىل تأكيد الذات ما ييل‪ .‬يصقل الفرد‬
‫رسا‪ .‬سأسمي الرضا الذي‬
‫فرديته أقىص صقل بأن يدعم علنًا خيا ًرا بني ‪ 0‬و‪ 100‬يفضله ً‬
‫أعقب ذلك منفعته التعبريية‪ .‬يف ما يتعلق بالرتميز املطروح سابقًا‪ ،‬ينطوي تعظيم املنفعة‬
‫التعبريية عىل جعل ‪ y‬مساويًا لـ ‪ .x‬وسيضحي الفرد بهذه املنفعة بدعم خيار آخر مغاير‬
‫لخياره املفضل‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬بجعل ‪ y‬عند نقطة أخرى مغايرة لـ ‪ .x‬من املنطقي أن نفرتض‬
‫تفضيال‬
‫ً‬ ‫أنه كلام زادت درجة تزييف التفضيل‪ ،‬انخفضت املنفعة التعبريية‪ .‬إذا كان لدى الفرد‬
‫خف ًيا ‪ ،20 = x‬فسوف يتخىل عن منفعة تعبريية أقل باختيار تفضيل علني ‪ 40 = y‬بدالً من‬
‫اختيار ‪.y = 70‬‬
‫حري بنا أن نتذكر أن آش قد صمم تجربته ليبني قوى الفردية‪ ،‬وليس قوى املجتمع‪.‬‬
‫بخالف التفكري الشائع‪ ،‬أراد التشكيك بطرق التفكري السطحية عن االمتثال‪ ،‬وال سيام الفكرة‬
‫التي أصبحت دارجة مع صعود النازية والستالينية بأن الناس دمى تحكمها املطالب‬
‫االجتامعية فقط‪ 23.‬إذ أدرك آش أن األفعال الفردية مدفوعة مبطالب متضاربة‪ ،‬الشخصية‬
‫منها واملجتمعية‪ .‬وقد أكدت تجربته وجهة النظر هذه‪ ،‬عىل الرغم من أن الرغبة امللحة يف‬
‫ريا مام كان يفرتضه‪ .‬تكمن املساهمة الجوهرية لتجربة آش يف الدعم‬
‫االمتثال كانت أكرث تأث ً‬
‫الذي تؤسسه لوجود مفاضلة بني األمن الخارجي والسالم الداخيل‪ ،‬بني القبول االجتامعي‬
‫واالستقاللية الشخصية‪.‬‬
‫ال ينبغي الخلط بني سعي الفرد لالستقاللية ومناهضة االمتثالية‪ ،‬أال وهي الرغبة يف‬
‫معارضة الحشد‪ .‬فالسعي أقرب إىل الالامتثالية‪ 24.‬ويف حني أن املمتثل يستمد الراحة من‬
‫إرضاء الجامعات النافذة‪ ،‬فإن املناهض لالمتثال يفضل إثارة غضبها‪ .‬ويُسعد بإحباط‬
‫التوقعات االجتامعية واالنسحاب من العالقات االجتامعية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬إنه يحظى بدالة‬
‫منحرفة ملنفعة السمعة‪ .‬لكن هذا االنحراف ال يتعارض مع الرغبة يف تأكيد الذات‪ .‬كام هو‬

‫‪47‬‬
‫الحال مع املمتثل‪ ،‬فإن احتياجات املناهض لالمتثال املتعلقة بالسمعة تتعارض مع احتياجاته‬
‫رسا ‪ ،20‬يف حني أن الغالبية العظمى من املجتمع تفضل‬
‫لتنمية فرديته‪ .‬لنفرتض أنه يريد ً‬
‫‪ .30‬إذا دعم ‪ 10‬ليكون مغاي ًرا ليس إال‪ ،‬فإن تفضيله العلني يظل مصطن ًعا؛ إذ تخىل عن قدر‬
‫من االستقاللية‪.‬‬
‫وال ينبغي اعتبار الحاجة إىل تأكيد الذات داف ًعا أنان ًيا بحتًا‪ ،‬أو رغبة نرجسية يف‬
‫التعبري الحر‪ ،‬بغض النظر عن العواقب املرتتبة عىل اآلخرين‪ .‬مام ال شك فيه أنها ميكن أن‬
‫شكال كهذا‪ .‬فكر يف فلسفة الهيبيني «ترصف عىل سجيتك» يف أواخر ستينيات القرن‬
‫ً‬ ‫تأخذ‬
‫العرشين التي م ّجدت التحرر من جميع القيود االجتامعية – باستثناء معايري الثقافة املضادة‬
‫الهيبية‪ .‬رمبا تكمن أيضً ا دوافع أخرى وراء الحاجة إىل تأكيد الذات‪ .‬فقد يكون الشعور الذي‬
‫يتوق املرء للتعبري عنه اشمئزازًا من قصف املدنيني‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن االحتياجات التعبريية‬
‫ليست بالّضورة عالمة عىل عدم املسؤولية االجتامعية‪ .‬ليست هذه فكرة عدمية األهمية‪ ،‬إذ‬
‫رب ًرا أخالقيًا‪ .‬عىل أي حال‪،‬‬
‫ما من أحد سيتعاطف مع كل دافع تعبريي غريب أو يعتربه م َّ‬
‫جل ما يهم هنا هو وجود حاجة تعبريية‪ .‬وتنطبق الحجة عىل مظاهرها كافة‪ ،‬بغض النظر‬
‫ُ‬
‫عن طريقة حكمنا عليها‪.‬‬
‫بكبح تعقيد العامل الحقيقي‪ ،‬متكِّن التجارب املخربية املرء من عزل الظاهرة املعنية‪.‬‬
‫حا بشأن معرفة أتؤدي الظاهرة دو ًرا‬
‫غري أنها‪ ،‬بسبب بساطتها تحدي ًدا‪ ،‬ترتك املجال مفتو ً‬
‫مهام يف املواقف اليومية أم ال‪ .‬وهكذا‪ ،‬تشري تجارب آش وملغرام إىل أن الحاجة إىل‬ ‫ً‬
‫االستقاللية مهمة يف جو املخترب املثايل‪ .‬وهي ال تثبت أهميتها يف أنواع مواقف االختيار‬
‫التي يواجهها املرء يف الحياة العادية‪ .‬لحسن الحظ‪ ،‬تقدم مجموعة من الدراسات الّسيرية‬
‫أدلة داعمة‪ .‬وهي إىل جانب األدلة التجريبية‪ ،‬تشري إىل عمومية وعاملية حاجة الفرد إىل‬
‫تأكيد الذات‪.‬‬
‫يشمل علامء النفس الّسيري الذين ع ّرفوا الحاجة شخصيات مثل سيغموند فرويد‬
‫وغوردون ألبورت وإريك فروم وأبراهام ماسلو‪ 25.‬تشري مالحظاتهم إىل أن الناس منذ سن‬

‫‪48‬‬
‫مبكرة يستمدون الرضا من اتخاذ قراراتهم‪ ،‬والتعبري عن أفكارهم بحرية‪ ،‬وتوجيه مصائرهم‪.‬‬
‫وقد ب ّينوا أن عملية نضج الفرد تتسم برصاع الكتشاف الهوية املستقلة وتأسيسها‪ ،‬إلحباط‬
‫سيطرة املجتمع عىل قرارات الفرد‪ .‬عىل الرغم من اختالف هؤالء األطباء الّسيريني عىل‬
‫التفاصيل النظرية‪ ،‬إنهم متفقون عىل أن الحاجة إىل االستقالل تنبثق من دافع عميق‬
‫الجذور‪ .‬باإلضافة إىل أنهم متفقون عىل أن املطالب االجتامعية تجرب الفرد بشكل متكرر‬
‫عىل كبت هذه الحاجة‪.‬‬
‫جليال لفهم التبعات الشخصية لكبت الذات‪ .‬يف كتاب قلق‬
‫ً‬ ‫لقد ك ّرس الباحثون جه ًدا‬
‫يف الحضارة‪ ،‬يناقش فرويد أنه بينام يجعل تخيل الفرد ما نعرفه كحضارة ممكنًا‪ ،‬إنه يؤدي‬
‫أيضً ا إىل ظهور مشاكل نفسية متنوعة‪ 26.‬عىل خطى فرويد‪ ،‬عزا باحثون آخرون مشاعر‬
‫اإلهانة والغضب والحنق واألنواع املتنوعة للقلق والوساوس والرهاب إىل «استبداد ما يجب‬
‫فعله» – أي كبت الفردية تحت وطأة االنسجام مع اآلخرين‪ 27.‬رغم ذلك‪ ،‬لقد ح ّدد آخرون‬
‫ارتباطًا بني كبت الذات واملرض الجسدي‪ 28.‬ومع أن منهجيات هؤالء الباحثني واستنتاجاتهم‬
‫ما تزال مثرية للجدل‪ ،‬إنهم يدعون جوهريًا أن تزييف التفضيالت يساهم يف حدوث‬
‫اضطرابات جسدية كقرحات املعدة وارتفاع ضغط الدم‪.‬‬
‫ريا بني األفراد‪ .‬فبعض‬
‫يبدو أن الدافع لتأكيد الذات الرصيح يختلف اختالفًا كب ً‬
‫األشخاص يتمسكون مبواقفهم مهام كانت التبعات مدمرة‪ .‬خذ بعني االعتبار سقراط‬
‫ومنصور الحالج وجوردانو برونو‪ ،‬الذين رفضوا التخيل عن آرائهم الفاسدة ظاهريًا‪ ،‬حتى‬
‫متسك عدد ال يحىص من الشخصيات األقل شهرة‬ ‫ّ‬ ‫عند مواجهة املوت‪ .‬عرب التاريخ‪،‬‬
‫بقضاياهم تحت التعذيب‪ ،‬ألن الكثريين منهم آثروا املوت من أجل الحرية عىل العيش دونها‪.‬‬
‫وإىل جانب هؤالء األشخاص العازمني واملستقلني بإرصار‪ ،‬جمو ٌع مهووسة بتلبية التوقعات‬
‫االجتامعية وإرضاء السلطة‪.‬‬
‫متجد كل ثقافة الشخصيات التاريخية التي قاست من أجل التمسك مبعتقداتها أو‬
‫مقاومة التبعية أو معارضة السلطة‪ .‬يتناول أحد املوضوعات املتكررة يف مالحم الروايئ‬

‫‪49‬‬
‫الرتيك يشار كامل الخارج عن القانون الذي يبجله الفالحون كمقاتل مقدام يحارب ظروف‬
‫القمع التي ال يستطيعون مقاومتها‪ 29.‬باملثل‪ ،‬يجسد بطل أفالم الويسرتن الهوليودية منط ًيا‬
‫رجال حر اإلرادة ينأى بنفسه عن الرعاع ويأىب تجرع مرار الظلم‪ .‬من األسباب األساسية التي‬
‫ً‬
‫تجعلنا نعترب االستقالل الراسخ سمة بطولية هو أنه االستثناء يف تاريخ البرشية وليس‬
‫القاعدة‪ .‬ومثة سبب آخر هو أننا جمي ًعا نتامهى بدرجة ما مع االستقالل الشخيص‪.‬‬
‫قد تبدو االختالفات يف الشخصية واضحة‪ ،‬لذا يشك بعض طالب السلوك البرشي يف‬
‫ريا بني األفراد‪ .‬ويؤكدون عىل أن املحدد‬
‫أن الحاجة إىل تأكيد الذات تختلف اختالفًا كب ً‬
‫الرئييس لكل سلوك برشي هو الدوافع االجتامعية‪ .‬يضطر الناس إىل اتخاذ خيارات مختلفة‬
‫ألنهم يصادفون قوائم مختلفة باملكافآت والعقوبات؛ ث ِّبت هذه القوائم‪ ،‬وسيترصفون بشكل‬
‫قدم األبطال عىل القيام بأعامل بطولية ألنهم يحظون بفرص‬‫متامثل‪ 30.‬باتباع هذا املنطق‪ ،‬يُ ِ‬
‫مثال‬
‫غري متاحة لآلخرين‪ .‬ويخوضون مخاطر جسيمة ألن فرصهم يف تحقيق الشهرة ً‬
‫مرتفعة ارتفا ًعا ناد ًرا‪.‬‬
‫ريا من القصة‪ .‬غري أنه‬
‫ال شك يف أن املكافآت والعقوبات االجتامعية تأخذ قسطًا كب ً‬
‫ناد ًرا ما يستتبع ذلك أن الحاجة إىل تأكيد الذات ال ميكن أن تشكل داف ًعا إضافيًا‪ .‬كام ال‬
‫يستتبع ذلك أن الحاجة‪ ،‬عىل فرض أنها موجودة‪ ،‬يجب أن تكون ذاتها لدى الجميع‪ .‬ومل ّا‬
‫كانت سامت مثل الذكاء والجدارة بالثقة ميكن أن تتفاوت بني األفراد‪ ،‬فيمكن للحاجة إىل‬
‫تأكيد الذات أن تتفاوت أيضً ا‪ .‬يف تجارب آش وملغرام‪ ،‬من الواضح أن الخاضعني للتجربة‬
‫الذين يواجهون ضغوطًا اجتامعية مامثلة يتفاوتون يف استعدادهم لالمتثال لألغلبية‪ .‬قد‬
‫توجد فوارق أيضً ا لدى الفرد الواحد حسب السياق‪ .‬فالراهبة التي تفضل املوت عىل أن ترتك‬
‫دينها قد تزيف‪ ،‬من قبيل الدماثة‪ ،‬كرهها إلحدى اللوحات‪ .‬من الجيل أن بعض التنازالت‬
‫التعبريية تشكل تهديدات خطرية عىل فردية الشخص واحرتامه لذاته يف حني أن بعضها‬
‫اآلخر يكون محض مصدر لإلزعاج‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ال يوجد تفسري سهل يوضح التفاوت يف حاجة البرش إىل ترسيخ االستقاللية وإظهار‬
‫اإلخالص‪ .‬ال بد أن علم الوراثة يؤدي دو ًرا ما‪ ،‬فاألطفال الذين يرتعرعون يف نفس البيئة‬
‫االجتامعية ميكنهم تطوير شخصيات مختلفة ج ًدا‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ال يعد دور الرتبية غري مهم‪.‬‬
‫مثال عدم‬
‫فخالل التنشئة يتعلم األطفال اعتبار بعض التكيفات مهينة‪ .‬يتعلم الكثريون ً‬
‫التنازل عن رشف عائلتهم وأن يكونوا مخلصني لبلدهم مهام كلف الثمن‪ .‬لو كانت شخصية‬
‫طويال لزرع الرشف والوالء يف‬
‫ً‬ ‫اإلنسان غري قابلة للتغيري‪ ،‬ملا ك ّرس اآلباء واملعلمون وقتًا‬
‫‪31‬‬
‫نفوس الشباب‪ .‬وملا حاولت املجتمعات غرس قيم يف أفرادها ملواجهة املتطلبات الخارجية‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬املعيار الكونفوشيويس لإلخالص وهو أن يكون املرء قاد ًرا عىل القول‪:‬‬
‫من هذه املعايري ً‬
‫ألقيت نظرة إىل داخيل ووجدت أنني محق‪ ،‬فسأميض قد ًما‪ ،‬حتى لو بلغ عدد أولئك‬
‫ُ‬ ‫«إذا‬
‫الذين يعارضونني عرشات اآلالف»‪ .‬وألولئك املخلصني لهذا املعيار‪ ،‬وعد كونفوشيوس‬
‫‪32‬‬
‫مبكافأة ال تقدر بثمن هي‪ :‬راحة البال‪.‬‬
‫ميكن إضافة املزيد عن محددات الحاجة إىل االستقاللية يف اتخاذ القرارات‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬من أجل أغراضنا‪ ،‬يكفي إدراك أنه يف أي سياق‪ ،‬لدى كل شخص حاجة ما إىل تأكيد‬
‫الذات‪ .‬وقد تدفع الضغوطات االجتامعية املرء إىل إساءة تجسيد بعض املشاعر من باب‬
‫الحصافة والتعقل‪ .‬سأنتقل اآلن إىل الحسابات األساسية‪.‬‬

‫اختيار تفضيل علني‬


‫خالصة الحجة حتى اآلن هو أن اختيار تفضيل علني يؤدي إىل ظهور ثالثة مكاسب مختلفة‪:‬‬
‫املنفعة الذاتية‪ ،‬واملنفعة املتعلقة بالسمعة‪ ،‬واملنفعة التعبريية‪ .‬تولد هذه املكاسب مفاضالت‬
‫ألفالم وودي آلن اللطيف الكوميدية التي تُصنع برباعة‪ .‬يشعر بطل أفالم آلن النمطي بالتفوق‬
‫ألنه يحاول بوعي ذايت الترصف ضد أهدافه‪ ،‬غري أنه يشعر بالدونية ألن اآلخرين يبدون‬
‫أكرث تكيفًا من الناحية االجتامعية‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫تكمن مهمتنا اآلن يف إضفاء الخصوصية عىل املفاضالت‪ .‬بعبارة أبسط‪ ،‬لتكن‬
‫مصادر املنفعة جمعية‪ .‬هذا يعني أن املنفعة الكلية للفرد من تفضيل علني معني يساوي‬
‫منفعته الذاتية من قرار املجتمع باإلضافة إىل منفعته املتعلقة بالسمعة من ردود الفعل‬
‫‪33‬‬
‫االجتامعية املتولدة باإلضافة إىل املنفعة التعبريية التي يستمدها من تأكيد الذات‪.‬‬
‫يُع َّرف تفضيل الفرد الخفي‪ ،x ،‬عىل أنه الخيار بني ‪ 0‬و‪ 100‬الذي يعظم منفعته‬
‫الذاتية‪ .‬وألن منفعته التعبريية تتعاظم حني يكون صادقًا كل الصدق بشأنه مطالبه‪ ،‬فإن‬
‫التفضيل العلني الذي يعظّم منفعته التعبريية يكون مطابقًا لـ ‪ .x‬ميكن مالحظة هذا يف‬
‫الشكل ‪ ،2.2‬حيث تصل كلتا املنفعتني إىل الحد األقىص لهام عند ‪ .20‬الحظ أن دالة املنفعة‬
‫الذاتية املوضحة هنا تبدو مختلفة عن تلك املوجودة يف الشكل ‪ .2.1‬وذلك ألن قرار املجتمع‬
‫سيظل ضمن نطاق ضيق بغض النظر عن التفضيل الذي يختار الفرد التعبري عنه‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫تظل املنفعة الذاتية عند أقىص قيمة لها وهي ‪ ،20‬ما يعني أن الفرد بإمكانه جعل قرار‬
‫املجتمع أقرب ما يكون إىل تفضيله الخفي بتعيني ‪.y = x‬‬
‫إن التفضيل العلني الذي تصل فيه منفعة السمعة إىل حدها األقىص هو ‪ .80‬ليس‬
‫مستغربًا أن يختلف الشكل عن ‪ ،20‬ألن مصادر منفعة السمعة تختلف عن املصادر التي‬
‫‪34‬‬
‫تحدد ترتيب الفرد الخفي لخيارات املجتمع‪.‬‬
‫يوضح الشكل ‪ 2.2‬أن تفضيل الفرد العلني األمثل‪ ،‬الذي يعود عليه بأعىل منفعة كلية‪،‬‬
‫هو ‪ .70 = *y‬وهو ينطوي عىل تحريف لـ ‪ 50‬وحدة‪ .‬من خالل التظاهر بتأييد ‪ ،70‬إنه‬
‫يحقق منفعة أعىل للسمعة مام لو كان صادقًا كل ًيا ويدعم ‪ .20‬لكن منفعة السمعة املضافة‬
‫تكلف مث ًنا باهظًا‪ :‬إذ تظل كل من املنفعة الذاتية واملنفعة التعبريية أقل من الحد األقىص‬
‫لهام‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الشكل ‪ 2.2‬املنفعة الكلية ومكوناتها‪ .‬يعرض املحور األفقي خيارات الفرد التعبريية‪ .‬سيعظّم‬
‫الفرد مجموع أشكال املنفعة الثالثة باختيار تفضيل علني هو ‪.70‬‬
‫كام لوحظ سابقًا‪ ،‬يف مجموعة صنع القرار التي تضم العديد من األفراد‪ ،‬يؤثر الفرد‬
‫ريا‪.‬‬
‫ريا كب ً‬
‫ضئيال بشكل عام‪ .‬إال أنه قد تحدث كلمة فرد يحظى مبكانة تأث ً‬
‫ً‬ ‫ريا‬
‫عىل النتيجة تأث ً‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬ميكن لرئيس الوزراء الهيمنة عىل املاليني بإصدار ترصيح‪ ،‬وقد يكون وقع‬
‫ريا‪ .‬مع ذلك‪ ،‬بالنسبة للفرد العادي‪ ،‬يكون قرار املجتمع ثاب ًتا بشكل‬
‫تفضيله العلني كب ً‬
‫جوهري‪ .‬كام هو موضح يف الشكل ‪ ،3.2‬يجعل القرار الثابت دالة املنفعة الذاتية شبه‬
‫منبسطة‪ .‬مع دالتَي املنفعة التعبريية واملتعلقة بالسمعة نفسهام كام يف الشكل السابق‪،‬‬
‫انتقل التفضيل العلني األمثل إىل ‪ ،75‬الذي يتضمن تحريفًا لـ ‪ 55‬وحدة‪ .‬الحظ أنه حتى‬
‫عندما يفقد الفرد األمل بالتأثري عىل قرار املجتمع‪ ،‬فإن تفضيله الخفي قد يؤثر عىل تفضيله‬
‫العلني‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الشكل ‪ 2.3‬حالة يكون فيها قرار املجتمع عمل ًيا خارج سيطرة الفرد‪ .‬بتثبيت منفعته الذاتية‪،‬‬
‫تفضيال علن ًيا بناء عىل مفاضلة ثنائية بني منفعته التعبريية ومنفعته املتعلقة‬
‫ً‬ ‫إنه يختار‬
‫بالسمعة‪.‬‬
‫يفرتض اإلطار املح َّدد أن البرش قادرون عىل ترتيب العواقب لخيارات تفضيلهم‬
‫العلني عىل عدة أبعاد‪ .‬وميكنهم وضع تقديرات لالحتامالت املستقبلية والحكم عىل مدى‬
‫«قرب» خيار ما من خيارهم املثايل‪ .‬من االعرتاضات املحتملة أن البرش يفتقرون إىل املوارد‬
‫املعرفية لجعل الفروق الدقيقة موضحة يف األشكال‪ .‬هذه بالتأكيد نقطة صالحة‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫إن الغرض من النموذج هو إلقاء الضوء عىل جانب من جوانب الواقع‪ ،‬وليس إعادة إنتاجه‪.‬‬
‫وجوهر اإلطار هو أن الناس يختارون تفضيالتهم العلنية بناء عىل املكافآت والعقوبات‬
‫املتوقعة‪ .‬فنحن جمي ًعا قادرون عىل التمييز بني التحديق الغاضب واألوسرتاكية االجتامعية‪،‬‬
‫وبني حرية اللباس واألمر بالحجاب‪ .‬يعرض اإلطار املطروح ت ًّوا العنارص األساسية للعملية‬
‫التي نوازن من خاللها بني هذه الفروق للوصول إىل خيار تعبريي‪ .‬يشكل هذا اإلطار إحدى‬
‫اللبنات األساسية لنموذج التفضيل املزدوج الذي سأستخدمه الستكشاف اآلثار االجتامعية‬
‫لتزييف التفضيل‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫إمكانية تزييف التفضيالت‬
‫لقد حان الوقت لتناول مسألة كيفية تحكمنا يف تفضيالتنا العلنية‪ .‬هل القيام بتزييف‬
‫التفضيالت بسيط من الناحية العملية كاختيار نقطة عىل مستقيم األعداد؟ وهل يف مقدورنا‬
‫حقًا طرح أميا تفضيل نريد؟‬
‫تعد إدارة التفضيالت العلنية للفرد فنًا يربع فيه البعض أكرث من اآلخرين‪ .‬فقد يتعني‬
‫عىل مواطن يحاول نقل االنطباع بأنه يدعم مرش ًحا معينًا أن يقول ذلك بنربة صوت مناسبة‬
‫وينفذ إجراءات تنسجم مع هذا اإلعالن‪ ،‬كاالعرتاض عند اإلشادة بأحد املرشحني الخصوم‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬إن اإلمياءات وحركات الجسد الالإرادية قد تج ّرد هذه الجهود من املصداقية‪.‬‬
‫‪35‬‬

‫فطرف العني‪ ،‬وحركات الرأس‪ ،‬وتعبريات الوجه ميكن أن تفضح نفاقه‪ .‬قد يالحظ املراقبون‬
‫يف لغة جسده تلميحات خفية بأنه يشعر بعدم االرتياح بإعالنه‪ .‬وقد يكون بوسعهم معرفة‬
‫أنه يخفي شيئًا ما‪ ،‬حتى لو مل يستطيعوا تحديد ما هو بالضبط‪ .‬ونيته يف التعبري عن توجه‬
‫سيايس معني قد تك ّدرها أيضً ا أخطاء يف الكالم‪ .‬فالتلعثم والتأتأة والزالت النحوية والجمل‬
‫غري املكتملة قد تيش بالرتدد أو االرتباك أو االلتباس اللفظي‪ .‬يوضح مقال غوفامن الشهري‪،‬‬
‫تقديم الذات يف الحياة اليومية‪ ،‬أن إدارة االنطباع مهارة موزعة بشكل متفاوت عىل الناس‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫فهم يختلفون يف تحكمهم يف لغة الجسد‪.‬‬
‫أشخاص‬
‫ٌ‬ ‫إن السياسيني الناجحني‪ ،‬هم كاملمثلني والفنانني الرتفيهيني الناجحني‪،‬‬
‫يتمتعون عىل الدوام مبوهبة فذة يف إدارة االنطباعات‪ .‬لكن مهاراتهم ال يستخدمونها دامئًا؛‬
‫فعندما يظنون أنهم بعيدون عن أنظار العامة‪ ،‬إنهم يسرتخون ويخففون حذرهم‪ .‬لذلك‪ ،‬إنهم‬
‫بني الحني واآلخر يعطون انطباعات يندمون عليها الحقًا‪ .‬يف يونيو عام ‪ ،1990‬خالل‬
‫خطاب ألقاه ميخائيل غورباتشوف‪ ،‬جلس روبرت دول‪ ،‬زعيم األقلية يف مجلس الشيوخ‬
‫األمرييك‪ ،‬بني الحضور غري مدرك أن الحكومة السوفيتية قد طلبت من محطة تلفزيونية‬
‫بث الخطاب عىل الهواء مبارشة‪ .‬يف خضم الخطاب‪ ،‬رشع غورباتشوف يف انتقاد إرسائيل‬
‫عىل إعادة توطني اليهود السوفييت يف األرايض املحتلة‪ .‬التقطت إحدى عدسات الكامريا‬

‫‪55‬‬
‫دول وهو يهز رأسه موافقًا‪ .‬وبحسب ما ورد أعرب دول عن أسفه لهز رأسه خشية أن يكون‬
‫‪37‬‬
‫قد أرض بعالقاته املتوترة مسبقًا مع الجامعات اليهودية األمريكية‪.‬‬
‫ريا الإراديًا يكشف عن املشاعر التي يحاول الشخص إخفاءها‪.‬‬
‫يعد ت ّورد الخدين تعب ً‬
‫وهو يحدث عند إدراك أن صورة املرء أو ذاته يُقلَّل من قيمتها‪ .‬فإما أن ندرك أننا أفشينا‬
‫مبشاعر كنا نفضل أن نبقيها مكبوتة – فنشعر بالخزي؛ وإما أن نتمنى أننا قد استجمعنا‬
‫جا‬
‫الشجاعة للتعبري عن مشاعرنا الحقيقية – فنشعر بالذنب‪ .‬يف كلتا الحالتني‪ ،‬نخترب انزعا ً‬
‫ال ميكن السيطرة عليه‪ ،‬هو تورد الوجه الذي يتحول إىل معرفة شائعة‪ .‬يحدث تورد الخدين‬
‫بعد الطفولة‪ ،‬ويبلغ ذروته يف مرحلة املراهقة‪ ،‬التي تعد فرتة التكيف مع عامل البالغني؛‬
‫بعدها‪ ،‬يرتاجع مع تقدم السن‪ ،‬ما يشري إىل أن التحكم العاطفي يتحسن بالتجربة‬
‫االجتامعية‪ 38.‬يف إطارنا‪ ،‬ميكن تفسري التورد عىل أنه عالمة عىل فشل املرء يف التوسط‬
‫ٍ‬
‫مرض بني شؤونه التعبريية واملتعلقة بالسمعة‪.‬‬ ‫بشكل‬
‫قد يكون لدى الشخص البارع يف إدارة االنطباعات عدة تفضيالت علنية بشأن إحدى‬
‫القضايا‪ ،‬كل منها مصمم لجمهور مختلف‪ .‬يف عام ‪ ،1989‬اعرتف مواطن سوفييتي بارتداء‬
‫«ستة أقنعة» يف ظل القمع الشيوعي‪« :‬قناع لزوجتي؛ وقناع أقل رصاحة ألوالدي‪ ،‬تحسبًا‬
‫من أن يتفوهوا مبا يسمعونه يف املنزل؛ وقناع لألصدقاء املقربني؛ وقناع للمعارف؛ وواحد‬
‫للزمالء يف العمل؛ وآخر أرتديه عىل املأل»‪ 39.‬كانت هذه األقنعة برتتيب تنازيل من حيث‬
‫االنفتاح والصدق‪ .‬إذ بإمكانه االنفتاح عىل أصدقائه املقربني بأمان أكرب من االنفتاح عىل‬
‫الغرباء‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬من الصعب نسب ًيا خداع األشخاص الذين يتعامل معهم بانتظام‪.‬‬
‫كونهم معتادين عىل مراوغات لغة جسده‪ ،‬ميكنهم مالحظة عالمات املراوغة التي لن ينتبه‬
‫لها الغرباء‪ ،‬أو يعرفوا كيفية تفسريها حتى‪.‬‬
‫من الناحية العملية إذن‪ ،‬قد تتفاوت «علنية» تفضيل ما عىل طول طيف مستمر‪ .‬عىل‬
‫إحدى النهايتني يقع شكلها الخفي‪ ،‬املعروف حرف ًيا لشخص واحد‪ .‬وعىل النهاية األخرى‬

‫‪56‬‬
‫يقع شكلها األكرث عمومية الذي يظهر يف حضور الغرباء‪ .‬خالل هذا الكتاب‪ ،‬عندما نأيت‬
‫عىل ذكر تفضيل علني لفرد ما دون متييز‪ ،‬فإننا نقصد املتغري عىل القطب الثاين‪.‬‬
‫عىل الرغم من أن محاولة تزييف التفضيل ال ينتج عنها دامئًا األثر املنشود‪ ،‬ما تزال‬
‫الفكرة أنها ترصف ينفَّذ برباعة وعىل نطاق واسع يف مجموعة من السياقات املهمة‬
‫اجتامع ًيا‪ .‬فلطاملا كانت أداة ال غنى عنها للنجاح الشخيص‪ .‬تقول بإيجاز حكمة تعود إىل‬
‫القرن السادس عرش‪ – Nescit vivere qui nescit dissimulare :‬من ال يعرف كيف‬
‫‪40‬‬
‫ينافق‪ ،‬لن يعرف كيف يحيا‪.‬‬

‫الخيار الشخيص مقابل الجامعي‬


‫مع تكشف الحجة‪ ،‬سنواجه تبعات مختلفة مليزة مل تؤ ِد أي دور رئييس حتى اآلن‪ :‬وهي‬
‫‪41‬‬
‫القيود املفروضة عىل قدرة الفرد عىل تلقي املعلومات وتخزينها واسرتدادها ومعالجتها‪.‬‬
‫من التبعات ذات الصلة هنا هي عدم قدرة الجميع عىل صياغة رأي نا ٍّم عن ثقافة لكل قضية‬
‫إنسانية‪ .‬للّضورة البيولوجية‪ ،‬يجب علينا جمي ًعا الرتكيز عىل األمور ذات الصلة املبارشة‬
‫برفاهيتنا ويف حدود قدرتنا عىل التحكم بها‪ ،‬وإرجاء القضايا األخرى إىل أحكام اآلخرين‬
‫وخياراتهم‪.‬‬
‫مع تكريس كل واحد منا الهتاممه ملجموعة فرعية صغرية من القضايا السائدة‪ ،‬فإن‬
‫معظم القضايا ال تحظى باهتامم سوى عدد قليل ج ًدا من األشخاص‪ .‬يبت شخص واحد‬
‫بشأن العديد من القضايا‪ ،‬يف حني ال يتخذ آخرون موقفًا وال يعاقبون الشخص الذي فعل‬
‫ذلك‪ .‬كمثال عىل ذلك‪ ،‬إين أقرر بنفيس عمو ًما ما سأتناوله عىل اإلفطار‪ .‬وال أحد سيعاقبني‬
‫إذا اخرتت الحبوب أو يبارك يل إذا تناولت كوبًا من العصري‪ .‬فاختيارايت مجردة جوهريًا من‬
‫عواقب السمعة‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫لقد حددنا للتو السمة املميزة للخيار الشخيص متا ًما‪ .‬يظهر أحدها يف الشكل ‪،2.4‬‬
‫حيث تفتقر املنفعة الكلية للفرد إىل عنرص السمعة‪ .‬الحظ أنه يف هذه الحالة الخاصة يتطابق‬
‫تفضيله العلني األمثل مع تفضيله الخفي‪.‬‬

‫الشكل ‪ 2.4‬خيار شخيص متا ًما‪ .‬ال أحد سوى الفرد نفسه يعبأ بالنتيجة‪ ،‬لذا فإن منفعته‬
‫الكلية ليس لها أي مكون يتعلق بالسمعة‪ ،‬وتفضيله العلني األمثل يساوي تفضيله الخفي‪.‬‬
‫انطالقًا من افرتاض أن أي قضية ميكن أن تستحوذ عىل اهتامم واسع النطاق‪ ،‬لقد‬
‫وجدنا أن العديد من القضايا ال تنجح يف ذلك‪ .‬فاملجتمع غري قادر‪ ،‬عىل الرغم من امليول‬
‫التدخلية ألفراده‪ ،‬عىل تنظيم كل يشء‪ ،‬لذا إنه يتيح بفعالية لكل واحد منا مجاالً لصنع القرار‬
‫الشخيص – وهو مجال نكون فيه أحرا ًرا للقيام مبا يحلو لنا‪ .‬من التجسيدات الرسمية لهذا‬
‫االنتقال يف السلطة هو الحق يف الخصوصية‪ .‬فداخل منازلنا‪ ،‬نحن عمو ًما أحرار يف اتخاذ‬
‫قراراتنا‪ ،‬مسرتشدين مبعرفتنا وتوقعاتنا وأولوياتنا‪ .‬أما خارجها‪ ،‬فتصبح حرياتنا محدودة‬
‫أكرث‪.‬‬
‫ضئيال‪ .‬تقدم‬
‫ً‬ ‫تناولت سابقًا قضية يكون فيها تأثري الفرد الواحد عىل قرار املجموعة‬
‫مثل هذه القضية للفرد مفاضلة مزدوجة بني السمعة وتأكيد الذات‪ ،‬كام يف الشكل ‪.2.3‬‬
‫ميكن وصف الخيار املقابل بأنه خيار جامعي متا ًما‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫متثل الخيارات الشخصية متا ًما والخيارات الجامعية متا ًما النقيضني‪ .‬يف األوىل‪،‬‬
‫تكون منفعة السمعة غائبة؛ ويف الثانية‪ ،‬تكون املنفعة الذاتية ثابتة بشكل أسايس‪ .‬تقع‬
‫العديد من القضايا بني هذين النقيضني‪ .‬إذا هزأ الجريان من رغبتي يف إقامة سور عا ٍل حول‬
‫فناء منزيل ودفعني عداؤهم الرصيح إىل إعادة النظر يف خطتي‪ ،‬فإن خياري سينطوي‬
‫بشكل فعال عىل موازنة للعديد من التفضيالت‪ ،‬مستحقًا تسمية «جامعي»‪ .‬مع ذلك‪ ،‬إن‬
‫حاسام يف النتيجة‪ .‬وبناء السور أم‬
‫ً‬ ‫خياري ليس جامع ًيا متا ًما‪ ،‬ألن تفضييل العلني سيكون‬
‫ال يعتمد كل ًيا عىل أفعايل‪ .‬ففي بعض القرارات الجامعية باملعنى املوضح ت ًّوا‪ ،‬ترجح منفعة‬
‫السمعة بكثري عىل مصادر املنفعة األخرى‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬خيار املرء بشأن ما سريتديه‬
‫للحفلة الراقصة‪.‬‬
‫يعتقد الكثريون يف مجال االقتصاد‪ ،‬وهو الفرع الذي طور أكرث النظريات رصامة‬
‫لالختيار الفردي‪ ،‬أن منفعة السمعة ليست ذات أهمية وخسارة احرتام الذات ليس احتامالً‬
‫جا‪ .‬وهم يفرتضون أن املنفعة الذاتية تساوي املنفعة الكلية‪ .‬وفقًا لذلك‪ ،‬إن العديد من‬
‫حر ً‬
‫الكتب الدراسية الرائدة يف االقتصاد تعلمنا تصور صانع القرار عىل أنه «صاحب السيادة»‬
‫– متحرر من الحاجة إىل استيعاب رغبات اآلخرين‪ 42.‬لألسباب التي سبق ذكرها‪ ،‬يقدم‬
‫افرتاض السيادة يف بعض السياقات مقاربة معقولة للواقع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إن العديد من‬
‫الخيارات ذات األهمية بالنسبة لالقتصاديني تعد بشكل أكرث منطقية خيارات شخصية‬
‫مبشاركة اجتامعية‪ ،‬أو ببساطة‪ ،‬شبه شخصية‪ .‬فبعض من الرضا الناجم عن رشاء سيارة أو‬
‫‪43‬‬
‫منزل يأخذ شكل مكانة اجتامعية‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬من الخطأ التعامل مع جميع خيارات السوق عىل أنها شخصية متا ًما‪ .‬إال أنه‬
‫خطأ جسيم بشكل خاص نقل افرتاض السيادة إىل مجاالت النشاط التي تكون فيها اعتبارات‬
‫السمعة دامئًا تقري ًبا مهمة للغاية‪ .‬تشمل هذه املجاالت السياسة‪ ،‬حيث يكون للناس مصلحة‬
‫دامئة يف تفضيالت بعضهم‪ .‬تقدم القضايا املهمة سياس ًيا مفاضالت لألفراد بني السالم‬

‫‪59‬‬
‫ريا ما تجرب هذه األمور الناس عىل االختيار بني سمعتهم‬
‫الخارجي والداخيل‪ .‬لذلك‪ ،‬كث ً‬
‫وشخصيتهم‪.‬‬
‫مثة بالطبع سياقات يتم فيها التعامل مع مثل هذه املفاضالت بالتزام الصمت – كام‬
‫هو الحال عندما ميتنع األمرييك عن اتخاذ موقف بشأن السامح للمثليني جنس ًيا بالخدمة‬
‫يف الجيش‪ .‬للصمت ميزتان محتملتان وعيبان محتمالن‪ .‬عىل الجانب اإليجايب‪ ،‬فإنه يوفر‬
‫عىل املرء عقوبة إزاء اتخاذ موقف ميسء لآلخرين‪ ،‬وقد يخفف التبعة الداخلية املرتتبة عن‬
‫تزييف التفضيل‪ .‬عىل الجانب السلبي‪ ،‬يف ّرط املرء باملكافآت املتاحة‪ ،‬ويظل تفضيله الخفي‬
‫طي الكتامن‪ .‬يف بعض القضايا املثرية للجدل‪ ،‬قد يتجاوز مجموع هذه املكاسب املختلفة‬
‫املكسب النهايئ للتعبري عن تفضيل ما‪.‬‬
‫تتيح بعض السياقات خيا ًرا آخر‪ :‬وهو التخيل عن مجموعة صنع القرار التي تعرض‬
‫عىل املرء خيارات صعبة‪ .‬ميارس أحيانًا خيار «الخروج» أفراد املجموعة غري الراضني عن‬
‫الطريقة التي تسري بها األمور‪ ،‬لكنهم عاجزون عن إحداث تغيري‪ 44.‬فاملك املنزل الفزع من‬
‫ارتفاع معدل الجرمية يف حيه قد يحزم أمتعته ويرحل‪ .‬غري أن الخروج قد يكون مكلفًا ج ًدا‬
‫يف مجموعة واسعة من السياقات‪ .‬قد ال يستطيع صاحب املتجر التنزاين الفرار من األوضاع‬
‫املحلية التي يعتربها قمعية‪ .‬فمهاراته لن تكون ذات قيمة تذكر يف أي مكان آخر‪ ،‬وقد ال‬
‫ترغب أي دولة أخرى يف احتوائه‪ .‬وباملثل‪ ،‬إن دافع الّضائب األمرييك الذي يعترب معظم‬
‫اإلنفاق الحكومي تبذي ًرا‪ ،‬ال ميكنه إعفاء نفسه من واجب دفع الّضائب‪ ،‬من دون التعرض‬
‫لخطر السجن‪ .‬أيًا كانت األغراض‪ ،‬ليس الخروج دامئًا خيا ًرا ناج ًعا‪ .‬وغال ًبا ما تقترص‬
‫خياراتنا عىل التعبري عن تفضيل ما أو التزام الصمت‪.‬‬

‫الذات املنقسمة‬
‫يصور النموذج اآلنف الفرد عىل أنه يحظى مبصادر متعددة للسعادة‪ :‬االقتصادية‬
‫واالجتامعية والنفسية‪ .‬تُدرس هذه املصادر الثالثة ضمن تخصصات منفصلة تختلف يف‬

‫‪60‬‬
‫مفاهيمها عن الفرد‪ .‬اإلنسان االقتصادي هو آلة ذاتية التحكم لحساب املنفعة‪ ،‬محصن ضد‬
‫الضغط االجتامعي وغريب عىل االضطرابات الداخلية‪ .‬أما اإلنسان االجتامعي‪ ،‬الذي تكون‬
‫جا للمؤثرات االجتامعية‪ ،‬فتحكمه املطالب االجتامعية‪ .‬ومثة مفهوم شائع لإلنسان‬
‫هويته نتا ً‬
‫النفيس كروح اندفاعية ومعذَّبة‪ ،‬يكافح‪ ،‬وناد ًرا ما يتكلل كفاحه بالنجاح‪ ،‬للهروب من‬
‫إمالءات ضمريه‪.‬‬
‫عىل الرغم من بساطة هذه البنى‪ ،‬إنها تقدم رؤى قيمة حول السلوك البرشي‪ .‬غري أن‬
‫ما تحجبه بقدر الذي تنريه‪ .‬كام سرنى‪ ،‬توفر بنية أكرث تجمي ًعا– يجربنا منافسوها أحاديو‬
‫التخصص عىل تجاهلها– نظرة ثاقبة عىل الظواهر‪.‬‬
‫إن فكرة «الذات املنقسمة» –ذات لها احتياجات داخلية متعددة‪ ،‬ورمبا تنافسية–‬
‫ليست بالجديدة يف حد ذاتها‪ .‬فهي تعود عىل األقل إىل «أجزاء الروح الثالثة» ألفالطون‪،‬‬
‫التي تتمثل أهدافها يف الحكمة‪ ،‬والتميز االجتامعي‪ ،‬وإشباع الرغبة‪ 45.‬وميز آدم سميث يف‬
‫باكورة أعامله بني مصلحة الفرد الخاصة ومصلحته كفرد يف املجتمع‪ 46.‬يعتمد «األمر‬
‫املطلق» لكانط عىل الفصل بني الفاعل وال َحكَم عىل األفعال‪ 47.‬ومثة منوذج آخر أثار الكثري‬
‫ريا‪ ،‬طور جون إلسرت وتوماس‬
‫من الجدل هو ثالوث فرويد الهو واألنا واألنا العليا‪ .‬أخ ً‬
‫‪48‬‬

‫جا يضم ذوات متعاقبة متثل اهتاممات الفرد يف أوقات مختلفة‪ 49.‬ليس إشكاليًا‬
‫شيلينغ منوذ ً‬
‫وجود العديد من النامذج ملفهوم الذات املنقسمة‪ .‬فكل منها يخدم غرضً ا‪ ،‬متا ًما كام نستفيد‬
‫عند تقسيم املجتمع حسب العمر يف بعض الدراسات‪ ،‬وحسب املهنة يف دراسات أخرى‪.‬‬
‫إن البنية ثالثية التقسيم املطروحة هنا ال تبطل املنهجيات التي تفرتض وجود ذات‬
‫أحادية التقسيم‪ .‬لكنها تحد من مجاالتها املفيدة‪ .‬فحيث تكون اعتبارات السمعة غري مهمة‪،‬‬
‫يترصف الفرد ثاليث التقسيم‪ ،‬كام قلنا‪ ،‬كالفرد أحادي التقسيم يف كتاب االقتصاد‬
‫النموذجي‪ :‬اإلنسان االقتصادي‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬ينبغي أن أشري إىل أن اإلنسان‬
‫االقتصادي‪ ،‬كونه بال عاطفة‪ ،‬لن يكون لديه أي سبب لالعرتاف للكاهن أو طلب املساعدة من‬
‫ريا‬
‫طبيب نفيس‪ .‬أما الفرد ثاليث التقسيم فقد يكون لديه‪ ،‬ألن خياراته ميكن أن متنحه ضم ً‬
‫‪61‬‬
‫مع َّذبًا‪ .‬قد يواصل الصوت الداخيل يف تأنيبه لرضوخه للضغط االجتامعي أو لتضحيته مببدأ‬
‫سام يف سبيل الراحة املادية‪ .‬وحتى لو اقتنع مبرور الوقت بأنه قد اتخذ الخيار األفضل‪،‬‬
‫ٍ‬
‫سيذوق شعو ًرا بالذنب واملرارة الدامئني‪.‬‬
‫تخيل أن نظا ًما استبداديًا يطلب من فردنا توريط أعز أصدقائه يف إحدى الجرائم‬
‫املدبَّرة‪ .‬فإذا امتثل‪ ،‬س ُيسمح له بالعيش يف سالم‪ .‬وإذا مل ميتثل‪ ،‬فس ُيقتل‪ .‬يقرر فردنا توريط‬
‫صديقه الذي ميوت بعد ذلك ميتة شنيعة‪ .‬ليس صع ًبا تخيل أن القرار سيقض مضجعه طيلة‬
‫حياته‪ .‬هذا املثال خارج عن املألوف باعرتاف الجميع‪ .‬إال أن حياتنا اليومية مليئة بالخيارات‬
‫التي تولد توترات داخلية دامئة‪ 50.‬ونحن نرى هذه التوترات عالمة عىل الحياة الطبيعية‪،‬‬
‫رشيطة أن تظل ضمن الحدود‪.‬‬
‫جسد‬
‫فعال قد يتيح خيا ًرا بني السالم الداخيل والخارجي‪ّ .‬‬
‫يعد اختيار تفضيل علني ً‬
‫الرومي‪ ،‬املتصوف األناضويل من القرن الثالث عرش‪ ،‬هذا التصور تجسي ًدا بار ًعا‪ .‬إذ قال إن‬
‫كل روح ينبغي أن تقرر إما البقاء عىل الضفة اآلمنة للتنبؤات اليومية والعادات والقوانني‬
‫‪51‬‬
‫الدينية‪ ،‬وإما االستجابة لنداء صوتها الداخيل والغوص يف األعامق‪.‬‬
‫تتمثل مهمة الفصول الثالثة القادمة يف وضع املعضلة التي طرحها الرومي يف سياق‬
‫اجتامعي‪ .‬عندما يتعني عىل عدة أرواح االختيار بني السالم الداخيل والخارجي‪ ،‬كيف تؤثر‬
‫قراراتهم يف بعضهم بعضً ا؟‬

‫‪62‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫ورأي علني‬
‫ٌ‬ ‫ي خفي‪،‬‬
‫رأ ٌ‬

‫يشكل النشاط قضية سياسية إن كان مسألة تحظى باهتامم اجتامعي‪ ،‬أو ال قضية إذا اعترب‬
‫عىل نطاق واسع مسألة اختيار شخيص‪ .‬تعترب التجارب العلمية عىل الحيوانات حال ًيا قضية‬
‫سياسية‪ ،‬وهي قضية تضع العلامء يف مواجهة لويب حقوق الحيوان‪ .‬وقد تتحول إىل ال‬
‫قضية إذا اختفى االهتامم العلني يف تنظيم املخترب‪.‬‬
‫املقصود بهذا التمييز هو اإلشارة إىل رؤية سياسية تربز تطفل الناس‪ .‬فقول إن‬
‫التجارب عىل الفرئان تشكل قضية سياسية يعني مالحظة أن إحدى املجموعات تحاول‬
‫السيطرة عىل قرارات مجموعة أخرى‪ .‬يف هذا التوضيح البسيط‪ ،‬يكون لويب حقوق الحيوان‬
‫يف موقف هجومي‪ ،‬والعلامء يف موقف دفاعي؛ فاألول يرغب يف تقييد الحريات العلمية‬
‫العرفية‪ ،‬والالحقون يرغبون يف حاميتها‪ .‬توجد أيضً ا قضايا ينطوي الخالف فيها عىل‬
‫التفاصيل فحسب‪ .‬فقد ينقسم مجتمع متفق عىل بناء محطة سكة حديد حول مسألة املوقع‪،‬‬
‫حيث تحاول الفصائل املتنافسة السيطرة عىل القرار الجامعي‪.‬‬
‫ميكن تحقيق هذه السيطرة من خالل اإلقناع أو من خالل الضغط االجتامعي‪ .‬قد يقنع‬
‫أولئك الذين يريدون ب اآلخرين بأن ب سيخدمهم عىل أفضل وجه؛ أو قد يعاقبون مؤيدي‬
‫املواقع األخرى ويكافئون مؤيدي ب‪ .‬يشكل اإلقناع‪ ،‬من بني هاتني األداتني السياسيني‪،‬‬
‫التفضيالت العلنية بطريقة غري مبارشة‪ ،‬من خالل التفضيالت الخفية؛ بينام ينجز الضغط‬
‫االجتامعي نفس املهمة بشكل مبارش‪.‬‬
‫نبدأ هنا يف استكشاف محددات وتأثريات الضغط االجتامعي‪ .‬وسأبني يف الفصل‬
‫‪ 11‬أن اإلقناع والضغط االجتامعي ليسا أداتني قابلتني للفصل بدقة؛ قد تظهر األوىل كنتاج‬

‫‪63‬‬
‫ثانوي لألخرية‪ .‬لكن هديف املبارش هو التوسع يف مفهوم السياسة املضمن يف مثايل ملحطة‬
‫السكة الحديد‪.‬‬

‫القضايا والال قضايا‬


‫مثة عدد ال نهايئ من االهتاممات اإلنسانية املرشحة لتصبح قضايا سياسية‪ .‬ولكن القليل‬
‫فعال‪ .‬يركز الحوار السيايس عىل بعض االهتاممات يف كل مرة‪ ،‬ويعامل الباقي‬
‫منها يصبح ً‬
‫‪1‬‬
‫عىل أنها ال قضايا‪ .‬من الواضح أن أجندة املجتمع السياسية لديها «قدرة تحمل» محدودة‪.‬‬
‫والسبب الجذري هو عامل قدمته ولكن مل أناقشه بعد‪ :‬قيود العقل البرشي‪ .‬عىل‬
‫الرغم من أن الشخص قد يخفف من هذه القيود من خالل التعامل مع القضايا تبا ًعا‪ ،‬لكن‬
‫املشكلة يف النهاية غري قابلة للحل‪ ،‬فساعات اليوم ثابتة‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬تتعارض السياسة‬
‫قليال‬
‫مع النشاط اإلنتاجي املبارش‪ ،‬وهذا أحد األسباب التي تجعل معظم الناس يكرسون وقتًا ً‬
‫لها‪ .‬يالحظ جيوفاين سارتوري أن املجتمعات املسيسة للغاية متخلفة اقتصاديًا؛ إذ يجلب‬
‫«التضخم السيايس» «الضمور االقتصادي»‪ .‬تطلبت املدن الدميقراطية يف اليونان القدمية‬
‫‪2‬‬
‫يتبق سوى وقت قليل إلنتاج الرثوة‪.‬‬
‫من مواطنيها إعطاء الكثري من أنفسهم للسياسة فلم َ‬
‫يجب أن يشرتك أكرث من شخص يف اهتامم معني إلدراجه يف أجندة املجتمع‬
‫السياسية‪ .‬تلقى بعض االهتاممات املدرجة يف األجندة اهتام ًما واسع النطاق‪ .‬وباعتبارها‬
‫قضايا رئيسية‪ ،‬تحظى باهتامم منتظم من وسائل اإلعالم‪ ،‬وتشغل الحكومة‪ ،‬وتهيمن عىل‬
‫املحادثات االجتامعية‪ ،‬وتصبح بؤرة للبحث األكادميي‪ .‬خالل النصف القرن الذي أعقب‬
‫الحرب العاملية الثانية‪ ،‬كان التنافس بني القوى العظمى قضية من هذا القبيل‪.‬‬
‫ونظ ًرا للقيود املفروضة عىل القدرة االستيعابية ألجندة املجتمع‪ ،‬ال بد من أن يولد‬
‫ريا‪ .‬يالحظ إدوارد كارمينز وجيمس ستيمسون يف هذا الصدد أنه‬
‫ظهور قضايا جديدة تغي ً‬
‫«ميكن االعتامد عىل بيئة حكومية معقدة مفروضة عىل نظام اجتامعي متفاوت إلثارة قضايا‬
‫جديدة بكرثة»‪ ،‬متا ًما كام ينتج التباين الجيني الطبيعي «وفرة من االختالفات يف األنواع»‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪64‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬ينتج عن تعقيد النظام االجتامعي تيار مستمر من التطلعات والحساسيات‬
‫والشكاوى الجديدة‪ .‬يف نظريته عن «عملية التحّض»‪ ،‬يوثق نوربرت إلياس كيف أدى‬
‫التعقيد املتزايد للتفاعالت البرشية‪ ،‬مبرور الوقت‪ ،‬إىل تغيري حدود السلوك البرشي السليم‪.‬‬
‫أدت الضغوط االجتامعية واملخاوف الفردية إىل تغيري الشخصية‪ ،‬وخلقت قواعد سلوك‬
‫جديدة‪ .‬ومع بدء كل تغيري‪ ،‬دخلت قضية جديدة يف األجندة االجتامعية‪ ،‬ما أدى عمو ًما إىل‬
‫‪4‬‬
‫إزاحة قضية أخرى‪.‬‬
‫قد تلعب املصادفات دو ًرا يف تحديد االهتاممات التي ستصبح قضايا سياسية علنية‪.‬‬
‫لنفرتض أن عرشة آالف من سكان القاهرة شعروا‪ ،‬من خالل تجارب منفصلة‪ ،‬أن قانون البناء‬
‫البلدي يحتاج إىل تشديد‪ .‬ولكونهم منترشين يف جميع أنحاء املدينة‪ ،‬ال يعلمون عددهم‬
‫الكبري‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يفشلون يف تشكيل لويب‪ ،‬ويظل القانون ال قضية‪ .‬ثم يلفت زلزال االنتباه‬
‫إىل معايري البناء‪ .‬وتدخل فكرة اإلصالح يف الحوار العلني‪ ،‬ما يتيح ملؤيدي القانون األكرث‬
‫رصامة التعرف عىل بعضهم البعض وتنسيق جهودهم‪ .‬وبفضل الحملة الناشئة‪ ،‬تزداد أهمية‬
‫معايري البناء يف األجندة السياسية‪ ،‬ما يشغل االنتباه عن القضايا القدمية‪.‬‬
‫إذا كانت إحدى نتائج قيود الفكر هي محدودية أجندة املجتمع السياسية‪ ،‬فإن األخرى‬
‫هي احتامل عدم اتساق مواقف الفرد من القضايا‪ .‬قد يعترب الشخص اإلنفاق الحكومي‬
‫مرتف ًعا للغاية وجميع التخفيضات املقرتحة غري حكيمة‪ ،‬أو يعتقد يف الوقت نفسه أن النساء‬
‫متساويات متا ًما مع الرجال وأنهن بحاجة إىل حامية خاصة‪ 5.‬هذه التناقضات شائعة ألن‬
‫القيود املعرفية متنعنا من دمج املتغريات والعالقات العديدة التي متس سعادتنا يف منوذج‬
‫وحيد شامل‪ .‬ال مفر من تجاهل الرتابطات العديدة بني القضايا السياسية‪ ،‬والتعامل مع‬
‫الظواهر وثيقة صلة بأنها غري مرتابطة‪.‬‬

‫مفارقة املشاركة السياسية‬

‫‪65‬‬
‫قبل امليض قد ًما‪ ،‬يجب أن نواجه املفارقة القائلة بأن الناس يتحملون تكاليف السياسة حتى‬
‫عندما تكون مكاسبهم الشخصية املتوقعة ضئيلة ج ًدا‪ .‬وال يعد غري ًبا أن نجد الناس يكرسون‬
‫وقتهم ويتربعون بأموالهم لقضايا –مثل تشديد قانون البناء– تعود فوائدها بشكل رئييس‬
‫لآلخرين وبنسبة صغرية ج ًدا ألنفسهم‪ .‬حتى يف املجموعات الكبرية مثل األمة الحديثة‪،‬‬
‫يسعى األفراد إىل دعم قضايا تهدف إىل خدمة املجموعة ككل‪ ،‬غال ًبا بالتضحية ألنفسهم‪.‬‬
‫يزعم مانكور أولسون أن املشاركة السياسية يف مجموعات كبرية تعزى عمو ًما إىل‬
‫وجود «حوافز انتقائية» – مكافآت وعقوبات ال تعمل عشوائ ًيا عىل املجتمع بأكمله‪ ،‬وإمنا‬
‫انتقائ ًيا لصالح املشاركني‪ 6.‬يؤكد تفسري آخر لجورج ستيغلر عىل عدم تجانس املشاركني‬
‫املحتملني يف الحركة‪ .‬إذ ينضم األشخاص ذوو االحتياجات الفردية إىل الحركة للحصول‬
‫فمثال‪ ،‬يساهم منتج للبيجامات يف حركة تسعى إىل فرض‬
‫ً‬ ‫عىل صوت يف تشكيل مطالبها‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫تعريفة استرياد عىل املالبس لضامن إدراج البيجامات ضمن العنارص املحمية‪.‬‬
‫يفرتض كل من هذين التفسريين‪ ،‬مثل العديد من التفسريات األخرى‪ ،‬وجود مشاركة‬
‫سياسية – وهذا بالضبط ما يحتاج إىل توضيح‪ 8.‬ال ميكن أن تكون هناك حوافز أولسونية‬
‫حتى يكون الشخص ناشط بالفعل‪ .‬وباملثل‪ ،‬فإن القلق الستيغلري بشأن أجندة الحركة ال‬
‫يكون منطقيًا إال إذا كانت الحركة موجودة بالفعل‪.‬‬
‫يكون خطر الخسارة الشخصية أكرب بالنسبة ألول شخص يتبنى مسألة أو يفرض‬
‫حاف ًزا انتقائ ًيا مقارن ًة باملساهم يف مسألة عىل طريق النجاح ً‬
‫فعال‪ .‬لذلك تضاعف صعوبة‬
‫تفسري نشأة حركة سياسية‪ .‬ولكن هناك عامل مخفف يف تحليالت أولسون وستيغلر‪:‬‬
‫افرتاض مسبق بأن املستفيدين املحتملني من الحركة ميكنهم التواصل بسهولة‪ ،‬إن مل يكن‬
‫بدون تكلفة‪ .‬قد يتشاور املنتجون الذين يسعون إىل فرض تعريفة جمركية مع بعضهم‬
‫البعض حول كيفية التنظيم‪ ،‬وتقسيم الرسوم‪ ،‬وتسوية النزاعات‪ .‬ويف ظل هذه الظروف‬
‫املواتية‪ ،‬ال يحتاج املشاركون املحتملون إىل االلتزام باملسألة حتى يتأكدوا من املشاركة‬
‫الواسعة‪ .‬قد يضيعون الوقت يف مناقشات تهدف إىل صياغة اتفاق مبديئ‪ ،‬ولكن ال حاجة‬

‫‪66‬‬
‫إىل تخصيص موارد إضافية من قبل أي شخص يعمل مبفرده‪ .‬باختصار‪ ،‬رغم أن االتصال‬
‫املفتوح ال يضمن املشاركة السياسية‪ ،‬لكنه يخفف عىل األقل من صعوبات البدء فيها‪.‬‬
‫تكمن محاولة منفصلة لحل املفارقة يف إدراك أن الناس ليسوا أنانيني متا ًما‪ .‬إذ يظهر‬
‫املشاركون يف تجارب مختربية مختلفة استعدا ًدا لتحمل التكاليف الشخصية من أجل الفائدة‬
‫األوسع للمجتمع‪ .‬من الواضح أن «االنتفاع املجاين»‪ ،‬االمتناع عن املشاركة يف األنشطة التي‬
‫تعود فوائدها بشكل كبري عىل اآلخرين‪ ،‬يتم تجنبه أحيانًا‪ .‬استنتج بعض املحللني أن أصول‬
‫مجموعات ضغط معينة تكمن يف اإليثار‪ 9.‬لكن النتيجة ال تثبت أن االنتفاع املجاين غري شائع‬
‫وال أن اإليثار دافع قوي كفاي ًة لتنشيط جميع مجموعات الضغط القابلة لالستمرار‪ .‬عىل أي‬
‫حال‪ ،‬تشري األبحاث األخرى إىل أن اإليثاريني مييلون إىل أن يصبحوا أقل إيثا ًرا مبجرد‬
‫اكتشافهم االنتفاع املجاين من قبل اآلخرين‪ .‬وبنفس القدر من األهمية‪ ،‬يبدو أن اإليثار‬
‫يتضاءل عندما يتعذر عىل املساهمني املحتملني يف جهد جامعي التواصل مع بعضهم‬
‫‪10‬‬
‫البعض‪.‬‬
‫تتذرع محاولة وثيقة الصلة لحل هذه املفارقة مبفهوم االلتزام األخالقي‪ .‬يقول بعض‬
‫املراقبني إن الناس يشعرون بأنهم مضطرون للقيام بحصتهم العادلة لتحقيق النتائج‬
‫املرغوبة بشكل مشرتك‪ 11.‬ومع ذلك‪ ،‬يفشل هؤالء املراقبون يف رشح سبب تحمل الشخص‬
‫‪12‬‬
‫ملخاطر شخصية كبرية عندما يكون واض ًحا أن قلة من اآلخرين يؤدون حصصهم العادلة‪.‬‬
‫ما زال هناك تفسري آخر يعتمد عىل الوهم اإلدرايك‪ .‬يقرتح أن الحركات تبدأ بواسطة‬
‫أشخاص يبالغون يف تقدير سلطاتهم السياسية الشخصية‪ 13.‬ويتعرث هذا التفسري يف‬
‫مواجهة األدلة التي تشري إىل أن القادة السياسيني غال ًبا ما يندهشون لرؤية جهودهم تؤيت‬
‫مثارها‪ .‬يجب تأجيل الدراسة الجدية لألدلة إىل فصل الحق‪ ،‬ولكن سيقدم جزء موجز قري ًبا‪.‬‬
‫تواجه كل هذه التفسريات‪ ،‬باستثناء التفسري القائم عىل االلتزام األخالقي‪ ،‬صعوب ًة‬
‫يف السياقات التي تتضمن عقبات أمام التواصل املفتوح بني املشاركني املحتملني‪ .‬تكمن‬
‫بعض هذه العقبات يف التكاليف املرتبطة بالكشف عن تفضيل غري شعبي‪ .‬إذا دفعت هذه‬

‫‪67‬‬
‫التكاليف املتعاطفني مع قضية إىل االمتناع عن اإلعالن عن رغباتهم‪ ،‬فإن إمكانية النجاح‬
‫ستبدو أقل مام هي عليه يف الواقع – وليست أكرث‪ ،‬كام يؤكد تفسري الوهم اإلدرايك؛ فتزييف‬
‫التفضيل سيجعل العمل السيايس يبدو عديم الجدوى‪ ،‬إن مل يكن أحمقًا‪ .‬والعقبات التي‬
‫تحول دون االتصال املفتوح تحد أيضً ا من أهمية تفسريات أولسون وستيغلر‪ .‬فإن كنت ال‬
‫تعرف من يشاركك أهدافك‪ ،‬ال ميكنك حتى البدء يف التفاوض بشأن املشاركة املشرتكة أو‬
‫تنقيح مطالبك الجامعية‪.‬‬
‫تأمل يف القضية املناهضة للشيوعية يف تشيكوسلوفاكيا قبل ثورة ‪ .1989‬واجه‬
‫التشيكوسلوفاكيون الذين أعربوا عن دعمهم لتغيري النظام املضايقة والنبذ والسجن‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬عارض عدد قليل ج ًدا النظام الشيوعي علنًا‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬وجد أعضاء‬
‫املعارضة العلنية صعوب ًة يف التواصل فيام بينهم وتجنيد مؤيدين إضافيني‪ .‬يف ظل هذه‬
‫الظروف‪ ،‬بدت احتامالت اإلطاحة بالنظام ضئيلة‪ .‬لذلك‪ ،‬يتطلب وجود أي معارضني من‬
‫األساس توضي ًحا‪ .‬ملاذا تحمل فاتسالف هافل العبء الهائل لبدء حركة معارضة؟ ملاذا اختار‬
‫املشقة بينام كان بإمكانه ككاتب موهوب أن يحقق الراحة واالحرتام كمدافع عن الشيوعية؟‬
‫ال ميكن أن يعكس اختيار هافل تأثري الحوافز االنتقائية األولسونية‪ .‬فلحني الثورة‪،‬‬
‫عملت هذه الحوافز ضد االنشقاق وليس من أجله‪ .‬وال ميكن تفسري الخيار برغبة ستيغلريية‬
‫يف تشكيل نتائج املعارضة‪ ،‬فلم يكن واض ًحا أنه سيحقق أي نجاحات يف حياة هافل‪ .‬يثري‬
‫تفسري اإليثار التساؤل عن سبب رغبة أي شخص يف تحمل خطر العقاب رغم أنه من غري‬
‫املرجح أن تحقق التضحية منافع اجتامعية‪ .‬قبل عام ‪ ،1989‬كانت محاولة سحق الشيوعية‬
‫من خالل املعارضة الداخلية املفتوحة تبدو كمحاولة تسوية جبال الكاربات مبطرقة‪ .‬وإذا‬
‫عامال‪ ،‬فإن دوره مل يكن بالّضورة معززًا لجاذبية االنشقاق‪ .‬فكام هو‬
‫ً‬ ‫كان الوهم املعريف‬
‫موثق يف الفصل ‪ ،16‬لحني الثورة ظل هافل متشامئًا بشأن فرص التغيري السيايس الهادف‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬يطرح تفسري االلتزام األخالقي تساؤالً عن سبب استمرار هافل يف القيام «بحصته‬
‫أخ ً‬
‫العادلة» بينام مل يقم سوى قلة من اآلخرين بدورهم‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫الرشوحات املوضحة ليست بال جدوى‪ .‬فهي تلقي الضوء عىل املشاركة السياسية‪،‬‬
‫التي قد تكون مدفوعة بعوامل متعددة‪ .‬ولكنها ترتك‪ ،‬مجتمعة حتى‪ ،‬مفارقة املشاركة‬
‫السياسية دون حل‪.‬‬

‫الحاجات التعبريية والنشاط السيايس‬


‫تتطلب النظرية الكاملة للعمل الجامعي االعرتاف بأن بعض الناس لديهم رغبات شديدة غري‬
‫عادية يف مسائل معينة‪ ،‬مقرتنة بحاجات تعبريية كبرية عىل نحو استثنايئ‪ .‬بالنسبة ملعظم‬
‫الناس‪ ،‬يعترب هؤالء األفراد غري حساسني لحوافز السمعة السائدة‪ ،‬ألنهم يحصلون عىل رضا‬
‫كبري غري عادي من التعبري الصادق عن ذاتهم‪ .‬إنهم مييلون إىل التعبري عن آرائهم حتى لو‬
‫تعرضوا لخطر العقاب الشديد‪ ،‬بغض النظر عام إذا كان الكالم الصادق ميكن أن يحدث‬
‫فرقًا‪ .‬قد تكون أهدافهم أنانية أو إيثارية‪ ،‬طيبة أو رشيرة‪ ،‬محافظة أو ثورية‪ .‬إن خصائص‬
‫األهداف أقل أهمية من حقيقة كونها معقودة بشدة ومعرب عنها بإخالص‪.‬‬
‫ميكن وصف هؤالء األفراد االستثنائيني الذين يتعهدون بتنشيط حركة ما بأنهم‬
‫نشطاء‪ .‬إنهم‪ ،‬اعتام ًدا عىل السياق‪ ،‬يشكلون الخاليا‪ ،‬ويوزعون املنشورات‪ ،‬ويعربون عن‬
‫مطالب جديدة‪ ،‬ويختلقون الشعارات‪ ،‬ويؤسسون هياكل قيادية‪ ،‬واألهم‪ ،‬يحاولون جذب‬
‫اآلخرين إىل الحركة من خالل وعود بالدعم املعنوي واالجتامعي واملادي‪ .‬إن غري النشطاء‬
‫األكرث عد ًدا عمو ًما حساسون ج ًدا تجاه حوافز السمعة للمشاركة يف عملية التنشيط‪ .‬فهم‬
‫أتباع سيشاركون فقط إذا خفض اآلخرون تكلفة املشاركة أو زادوا فوائدها‪ .‬وبالتايل‪ ،‬إن‬
‫دعم النشطاء غري مرشوط‪ ،‬يف حني أن دعم غري النشطاء مرشوط برشوط سياسية سائدة‪.‬‬
‫من بني مئات آالف التشيكوسلوفاكيني الذين شاركوا يف املظاهرات التي أنهت نصف‬
‫قرن من الشيوعية‪ ،‬مل يكن للغالبية سجل سابق يف املعارضة املناهضة للشيوعية‪ .‬وحمل‬
‫العديد بطاقات عضوية يف الحزب الشيوعي‪ .‬بالنسبة للنظام السيايس يف البالد‪ ،‬شكلوا‬
‫جامهري من غري النشطاء‪ .‬كانت هناك أقلية صغرية‪ ،‬مبن فيها هافل‪ ،‬قد عارضت يف‬

‫‪69‬‬
‫مناسبات سابقة‪ .‬إنهم النشطاء الذين شكلوا الطليعة املعارضة للنظام‪ ،‬والذين مل يستسلموا‬
‫ملطالب النظام حتى تحت الضغط الشديد‪ .‬وكان هناك أيضً ا نشطاء داخل املؤسسة‪:‬‬
‫مسؤولون‪ ،‬مثل زعيم الحزب غوستاف هوسيك‪ ،‬الذين مل يكونوا لينقلبوا عن الحكم الشيوعي‬
‫حتى لو غريت األغلبية الساحقة موقفها‪.‬‬
‫يالحظ راسل نيومان بصورة صحيحة أن الناشط يف قضية ما قد يكون غري ناشط‬
‫يف قضية أخرى‪ 14.‬لكن متييزه بني النشطاء وغري النشطاء يختلف عن متييزي‪ .‬يعتمد‬
‫بدال من الحاجة التعبريية‪ .‬من وجهة نظره‪ ،‬يتخصص‬
‫نيومان عىل االختالفات يف املعرفة‪ً ،‬‬
‫الناس يف األمور التي تؤثر بشكل مبارش وكبري عىل سعادتهم‪ .‬يتبع األمريكيون األتراك‬
‫السياسة األمريكية تجاه تركيا‪ ،‬ويتتبع املحاسبون التطورات املتعلقة بالترشيعات الّضيبية‪،‬‬
‫حيث تعمل كل مجموعة كنواة ناشطة يف اهتاممها املفضلة‪ .‬النشطاء عمو ًما أكرث اطال ًعا‬
‫من غري النشطاء فيام يتعلق بقضايا تخصصهم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال يصبح جميع األشخاص‬
‫املطلعني نشطاء‪ ،‬ألنهم إذا ترصفوا بنا ًء عىل معلوماتهم املتفوقة‪ ،‬ستعود الفوائد يف الغالب‬
‫عىل اآلخرين‪ .‬إذ امتنع العديد من التشيكوسلوفاكيني‪ ،‬رغم أنهم مل يحتاجوا أي تعليم حول‬
‫إخفاقات نظامهم‪ ،‬لسنوات عن تقديم الدعم الشعبي للمعارضة‪ .‬املعرفة وحدها ال تفّس سبب‬
‫استسالمهم يف حني كان هافل متحديًا‪.‬‬
‫قد ال نفهم بالضبط أب ًدا ملا طالب هافل نفسه بالكثري بينام فضل معظم أبناء وطنه‬
‫الخيار اآلمن‪ .‬هذا ال يقلل من أهمية الحاجة التعبريية لحل مفارقة املشاركة السياسية‪ .‬وال‬
‫يجعل فكرة الحاجة التعبريية أقل توافقًا مع التحليل العلمي‪ .‬فبينام ال نفهم متا ًما سبب‬
‫اختالف األذواق يف السيارات‪ ،‬ال نرتك االختالفات خارج تفسرياتنا ألمناط االستهالك‬
‫األساسية‪ .‬ويف أي حال‪ ،‬تدعم العديد من التجارب املضبوطة‪ ،‬مبا فيها بعض التجارب التي‬
‫شملتها الدراسة االستقصائية يف الفصل ‪ ،2‬تباين تأكيدات الذات يف أي سياق معني‪.‬‬

‫مجموعات الضغط‬

‫‪70‬‬
‫للتأثري عىل قرارات املجتمع الفعلية‪ ،‬يجب عىل النشطاء القيام بأكرث من مجرد تلبية رغباتهم‬
‫التعبريية‪ .‬يجب أن يكسبوا‪ ،‬من خالل العمل بالتعاون مع النشطاء املشابهني لهم فكريًا‪،‬‬
‫دعم أعداد كافية من غري النشطاء‪ .‬وتسمى الجامعة الناتجة عن ذلك‪ ،‬املكونة من نشطاء‬
‫وغري نشطاء يعلنون دعمهم لقضية معينة‪ ،‬مجموعة الضغط ‪.‬‬
‫يشمل مصطلح مجموعة الضغط‪ ،‬عىل سبيل املثال ال الحرص‪ ،‬مفهوم «مجموعة‬
‫املصالح الخاصة» أو «الفصيل»‪ .‬ع ّرف جيمس ماديسون‪ ،‬أحد مؤسيس الواليات املتحدة‪،‬‬
‫الفصيل بأنه «عدد من املواطنني‪ ،‬سواء كانوا ميثلون األغلبية أو األقلية من الكل‪ ،‬املتحدين‬
‫واملدفوعني بدافع مشرتك من العاطفة‪ ،‬أو املصلحة‪ ،‬املعاكسة لحقوق املواطنني اآلخرين‪ ،‬أو‬
‫للمصالح الدامئة والشاملة للمجتمع»‪ 15.‬باملقارنة‪ ،‬إن جهود مجموعة الضغط ال تتعارض‬
‫بالّضورة‪ ،‬سواء بالنية أو بالتأثري الفعيل‪ ،‬مع املصلحة العامة‪ .‬وهناك متييز حاسم آخر‬
‫يتعلق بدوافع األعضاء الفردية‪ .‬يف حني يشرتك أعضاء الفصيل يف مصلحة مشرتكة‪ ،‬ال يجب‬
‫ذلك عىل أعضاء مجموعة الضغط‪ .‬وميكن أن ميقت بعض‪ ،‬أو حتى كل‪ ،‬األعضاء غري‬
‫رسا األهداف التي يدعمونها علنًا‪ ،‬ويكون وجودهم يف‬
‫النشطاء داخل مجموعة الضغط ً‬
‫املجموعة مدفو ًعا فقط مبكافآت تزييف التفضيل‪.‬‬
‫حتى القضايا أحادية األبعاد قد تولد مجموعات ضغط متميزة عديدة‪ .‬ميكن أن يضم‬
‫الطيف من ‪ 0‬حتى ‪ ،100‬لنقل‪ ،‬إحدى عرشة مجموعة‪ ،‬كل منها يف نقطة مختلفة‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫تتمتع خيارات قليلة عاد ًة بتأييد مجموعة الضغط‪ ،‬مجرد اثنتني غال ًبا‪ .‬مثة ميل ألن تتحول‬
‫القضايا إىل خيارات ثنائية تخفي التعقيد والدقة والغموض‪ .‬فمن املمكن أن يكون املرء مؤم ًنا‬
‫أو غري مؤمن‪ ،‬مؤي ًدا أو معارضً ا للمساواة‪ ،‬ثوريًا ملتز ًما أو مداف ًعا عن الوضع الراهن‪.‬‬
‫مثال النزاع حول أجل اإلجهاض‪ ،‬الذي ُوصف بأنه «رصاع املطلقات»‪ 16.‬ال يُظهر‬ ‫خذ ً‬
‫ريا لتقديم تنازالت‪ .‬فيساوي الجانب املؤيد للحياة جميع‬
‫أي من طريف النقاش استعدا ًدا كب ً‬
‫عمليات اإلجهاض تقري ًبا بالقتل؛ ويرص الجانب املؤيد لالختيار عىل أن أي قيد من شأنه أن‬
‫ينتهك الحقوق األساسية للمرأة‪ .‬يدرك معظم الناس أن املسألة تقبل أكرث من إجابتني‪ .‬ويشعر‬

‫‪71‬‬
‫الكثري أنه ميكن‪ ،‬ورمبا يتم يف نهاية املطاف‪ ،‬حلها عن طريق التوصل إىل حل وسط –‬
‫السامح ببعض عمليات اإلجهاض وحظر أخرى‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هيمنت الجامعات املطلقة عىل‬
‫النقاش إىل حد شبه استبعاد أصوات االعتدال‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬من الناحية العملية‪ ،‬إن املنافسة السياسية تحد من درجة التعددية السياسية‪.‬‬
‫أحد أسباب ذلك هو أن حجم املجموعة يحدد نجاحها السيايس‪ .‬واآلخر هو أن صورة‬
‫مجموعة الضغط املنقسمة أو املشوشة ميكن أن تؤدي إىل عدم الفعالية السياسية‪ .‬ومثة‬
‫سبب آخر هو أن قيدونا اإلدراكية تجعل مناقشة كل االحتامالت وصوالً إىل أدق التفاصيل‬
‫غري مجدية‪17 ،‬لجميع هذه األسباب‪ ،‬غال ًبا ما يحجب النشطاء ذوي االهتاممات املتامثلة‬
‫اختالفاتهم ويركزون عىل أهدافهم املشرتكة‪ .‬مبجرد تشكيل فئة من مجموعات الضغط‪،‬‬
‫ميكن للنشطاء إما االنضامم إىل إحدى هذه املجموعات أو تطوير مجموعة جديدة‪ .‬يعد‬
‫املسار األخري محفوفًا بالريبة‪ ،‬ولو ملجرد أن أعضاء املجموعة الجديدة الذين يحتمل أن يكونوا‬
‫حامسا قد ميتنعون عن االلتزام حتى تثبت صالحيتها‪ .‬إن التحفظ عىل االنضامم إىل‬
‫ً‬ ‫أكرث‬
‫مجموعات الضغط الجديدة مينح املجموعات املوجودة ميزة عىل الوافدين الجدد‪ ،‬ما مينع‬
‫يف كثري من األحيان تكوين مجموعات جديدة قوية محتملة‪.‬‬
‫ال تقول حجتي إن فئة مجموعات الضغط ثابتة يف أي قضية راسخة‪ .‬فبسبب عدم‬
‫تجانس أعضائها‪ ،‬عىل وجه التحديد‪ ،‬تكون مجموعة الضغط معرضة للنزاع الداخيل‪ ،‬وقد‬
‫تضم صفوف حركة املقاومة الوطنية الصناعيني األغنياء واملزارعني الفقراء‪ ،‬والتجار األحرار‬
‫والحامئيني‪ ،‬واملثقفني واألميني‪ .‬ميكن لهذا التنوع أن يغذي محاوالت تغيري أو توسيع‬
‫أهداف الحركة‪ ،‬وميكن أن يؤدي االنقسام الناتج إىل االنشقاقات‪ ،‬ويعجل حتى انهيار‬
‫املجموعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬غال ًبا ما تبدي فئة مجموعات الضغط متانة‪ .‬يعود ذلك جزئ ًيا إىل أن‬
‫تصورات مطالب املجموعة مقاومة للتغيري‪ .‬يف العديد من السياقات‪ ،‬مثة سبب آخر وهو‬
‫اتخاذ قادة املجموعة إجراءات ملعاقبة أعضائها املنحرفني‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫سأصور القوى املعارضة النتشار وإعادة توجيه املجموعات من خالل افرتاض وجود‬
‫مجموعتي ضغط ذات مواقع ثابتة عند ‪ 0‬و‪ .100‬إن كون املجموعتني تقعان يف طريف‬
‫حاسام للحجة‪ ،‬ولكنه يبسط العرض‪ .‬املهم هو أن مجموعتي الضغط‬
‫ً‬ ‫طيف الخيارات ليس‬
‫ال تغطيان سوى بعض املواقف التي قد يفضلها أفراد املجتمع بشكل خاص‪ .‬فيام يتعلق‬
‫بالقضايا الحساسة التي تتضمن تفضيالت خفية متنوعة‪ ،‬فإنها تجعل التزييف الواسع‬
‫محتمال للغاية‪.‬‬
‫ً‬ ‫النطاق للتفضيالت‬
‫ليس بالّضورة أن تكون مجموعة الضغط منظمة‪ ،‬إذا قصدنا بذلك وجود عنوان‪،‬‬
‫ومجموعة من اللوائح‪ ،‬وتسلسل رسمي للقيادة‪ .‬يشمل هذا املصطلح جمعيات ترتاوح بني‬
‫حشود االحتجاج العفوي إىل اللوبيات الصناعية الراسخة التي يوجهها محرتفون مدفوعو‬
‫األجر‪ 18.‬مل يكن للمعارضة التي أطاحت بالشيوعية يف تشيكوسلوفاكيا مق ًرا رسميًا‪ .‬ومل‬
‫يكن للمنتدى املدين‪ ،‬الجمعية التي مثلتها يف املفاوضات التي أدت إىل نقل السلطة‪ ،‬ضباط‬
‫منتخبني أو معينني‪ .‬استمد زعيم منتدى املنتدى املدين‪ ،‬هافل‪ ،‬سلطته ببساطة من سنوات‬
‫االنشقاق الواضح‪.‬‬
‫لدينا اآلن جميع العنارص السياسية الفاعلة‪ .‬ومثة مجموعتا ضغط متنافستان‪ .‬تتميز‬
‫كل منهام بنواة داخلية من النشطاء‪ ،‬وبقدر نجاحها‪ ،‬حلقة خارجية من غري النشطاء‪ .‬يحدد‬
‫النشطاء تفضيالت علنية ثابتة تتفق إىل حد ما مع تفضيالتهم الخفية؛ وتعتمد تفضيالت‬
‫غري النشطاء العلنية عىل حوافز السمعة السائدة‪ .‬مهمتنا التالية هي استكشاف ملا يجب أن‬
‫تضيف مجموعة الضغط إىل نواة نشطائها حلقة من غري النشطاء‪.‬‬

‫الرأي العلني والخفي‬


‫يف كتاب األمري‪ ،‬يوجه مكيافييل لورنزو دي ميدييش بأنه يجب «أال يسمح لنفسه بأن يكرهه‬
‫الشعب أب ًدا»‪ ،‬خشية أن يرفضوا حكمه‪ 19.‬وبعد قرنني‪ ،‬أكد هيوم نفس النقطة‪« :‬تقوم‬
‫الحكومة عىل الرأي فقط؛ وينطبق هذا املبدأ عىل أكرث الحكومات االستبدادية والعسكرية‪،‬‬

‫‪73‬‬
‫باإلضافة إىل الحكومات األكرث حرية وشعبية»‪ 20.‬صاغ الكتاب الالحقون مصطلحات مثل‬
‫الرأي العلني واملشاعر الجامهريية ومناخ الرأي لوصف ما حدده مكيافييل وهيوم كمصدر‬
‫مطلق للقوة السياسية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كاف‪ .‬خذ أكرث‬ ‫بالنسبة ألغراضنا‪ ،‬ال يعد أي من هذه املصطلحات محدد بشكل‬
‫املصطلحات استخدا ًما‪ ،‬الرأي العلني‪ .‬قد تعني كلمة «عام» إما «مفتوح» أو «جامعي»‪ .‬ونظ ًرا‬
‫ريا أن أبدأ يف استخدامه أيضً ا يف‬
‫ألين استخدمته حرصيًا يف املعنى األول‪ ،‬سيكون مح ً‬
‫املعنى الثاين‪ .‬أما بالنسبة لكلمة «رأي»‪ ،‬فقد تشري يف كل من الخطاب العلمي واألكادميي‬
‫إما إىل «التفضيل» أو «االعتقاد»‪ .‬دعوين أعرف‪ ،‬إذن‪ ،‬الرأي العلني عىل أنه توزيع‬
‫‪21‬‬
‫التفضيالت العلنية والرأي الخفية عىل أنه توزيع مقابل للتفضيالت الخفية‪.‬‬
‫إن التمييز بني نوعي الرأي هو أمر أسايس وذو أهمية واضحة‪ ،‬ومن املدهش أال يتم‬
‫تضمينه يف املصطلحات العلمية وال الخطاب العلني‪ .‬تقدم إليزابيث نويل نوميان سببًا‬
‫محتمال لذلك‪ .‬فهي تقول إن املفكرين االجتامعيني املعارصين مييلون إىل تجنب هذا التمييز‪،‬‬
‫ً‬
‫خوفًا من االقرتاب من حقائق تتعارض مع «صورة الذات لإلنسان الحديث»‪ 22.‬عىل وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬إنهم يخشون االعرتاف باألهمية الكبرية للمخاوف الفردية بوصفها أداة لصياغة‬
‫القرارات الدميقراطية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬إن االعرتاف بعاملية تزييف التفضيل من شأنه أن يثري‬
‫تساؤالت خطرية بشأن بعض الفضائل املزعومة للدميقراطية‪ ،‬رمبا عىل حساب الجامعات‬
‫التي تستفيد من الرتتيبات االجتامعية القامئة‪.‬‬
‫ستحظى عيوب الدميقراطية باالهتامم يف الفصل ‪ .5‬دعوين هنا أقرتح سب ًبا آخر‬
‫الستمرار االلتباس املصطلحي‪ :‬إخفاقات أدبيات سيكولوجية الحشود يف أواخر القرن‬
‫التاسع عرش‪ .‬روجت هذه األدبيات‪ ،‬التي تضم أعامل جوستاف لوبون‪ 23،‬لفكرة أن الجامعات‬
‫غري عقالنية‪ ،‬وطفولية‪ ،‬وغري حضارية ومتهورة‪ .‬وفقًا لألدبيات‪ ،‬عندما يُجمع األشخاص‬
‫املثقفون واملتعلمون م ًعا يف حشد‪ ،‬يتخلصون من حواسهم النقدية ويفقدون ضبطهم‬
‫األخالقي؛ وخوفًا من الوقوف وحدهم‪ ،‬يشاركون يف نوبات عنف وحاالت من الذعر وموجات‬

‫‪74‬‬
‫حامس‪ 24.‬بالرتكيز عىل السلوك الجامعي الجامح‪ ،‬أغفلت سيكولوجية الحشود توضيح أن‬
‫الهياج غري شائع‪ .‬وبالتأكيد عىل اإلثارة‪ ،‬أغفلت استكشاف سبب وكيفية تغري شخصية‬
‫الجامعات‪ .‬سمحت هذه اإلغفاالت‪ ،‬خاص ًة يف أوقات الهدوء السيايس‪ ،‬برفض سيكولوجية‬
‫الحشود باعتبارها خيال ًيا‪.‬‬
‫كان العيب األسايس يف سيكولوجية الحشود هو ميلها إىل التبسيط املفرط‬
‫للشخصية البرشية‪ .‬لقد فشلت يف إبراز التوترات التي يتحملها األفراد يف التوفيق بني‬
‫احتياجاتهم للتأكيد الشخيص واحتياجاتهم للموافقة االجتامعية‪ .‬لو قدرت هذه التوترات‪،‬‬
‫لكانت سيكولوجية الحشود قد ولّدت نظرية أكرث منطقية تستوعب فئة أوسع من الحاالت‬
‫االجتامعية‪ .‬ويف هذه العملية‪ ،‬كان بإمكانها تطوير التمييز بني الرأي الخفي والرأي العلني‪.‬‬

‫مصدر السلطة السياسية‪ :‬الرأي العلني‬


‫فلنعد إىل ساحتنا السياسية املنمقة‪ .‬تذكروا أنها تتميز مبجموعتي ضغط‪ ،‬إحداهام تدعم‬
‫القيمة ‪ 0‬واألخرى تدعم القيمة ‪ ،100‬وبحر من غري النشطاء ذوي تفضيالت خفية موزعة‬
‫بني ‪ 0‬و‪ .100‬إذا كانت القضية املطروحة حساسة بدرجة كفاية‪ ،‬فإن مزايا السمعة لالنضامم‬
‫إىل إحدى مجموعات الضغط ستفوق‪ ،‬بالنسبة لجميع غري النشطاء‪ ،‬التكلفة النفسية ألي‬
‫أوال‪ ،‬ألن مجموعات الضغط ستفرض عقوبات كبرية‬
‫تزييف مضمن للتفضيالت‪25 .‬وهذا‪ً ،‬‬
‫عىل أي شخص يتحدى مواقفها‪ ،‬وثان ًيا‪ ،‬بحكم التعريف‪ ،‬ألن الشخص غري النشط بالنسبة‬
‫ألي قضية معينة هو شخص تكون احتياجاته التعبريية املهمة ضعيفة نسب ًيا‪ .‬لتبسيط‬
‫األمور‪ ،‬أفرتض أن جميع غري النشطاء يجدون أنه من املفيد شخص ًيا االنضامم إىل إحدى‬
‫مجموعات الضغط‪.‬‬
‫يف بيئة سياسية مستقطبة‪ ،‬قد ال يتمكن األفراد من وضع أنفسهم عىل أرضية محايدة‬
‫حتى لو حاولوا ذلك‪ .‬قد ينظر كل طرف إىل إعالن الحياد أو االعتدال كتعاون مع العدو‪ ،‬ما‬
‫يرتك املعتدلني ُعرضة للهجوم من جهتني يف آن واحد‪ .‬مر ًة أخرى‪ ،‬تنطبق مسألة اإلجهاض‬

‫‪75‬‬
‫عىل ذلك‪ .‬يصنف كل من اللويب املؤيد لالختيار واللويب املؤيد للحياة التوفيقيني كأعداء‪ .‬من‬
‫حيث النموذج املطور‪ ،‬كالهام يعامل األشخاص ذوي التفضيالت العلنية املتوسطة (< ‪0‬‬
‫‪ )𝑦 < 100‬كام لو كانوا يف املعسكر املنافس‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يساعد هذا التصنيف يف الحفاظ‬
‫عىل االستقطاب‪ .‬ويساعد يف الحفاظ عىل الرأي العلني ثنايئ النمط‪ ،‬مع تركيز التفضيالت‬
‫العلنية عند ‪ 0‬و‪.100‬‬
‫ريا أكرب عىل القرار‬
‫قد يكون لبعض التفضيالت العلنية التي تدخل يف التوزيع تأث ً‬
‫الجامعي للمجتمع من غريها‪ .‬إذا انضم كولونيل وفالح إىل حركة تهدف إىل اإلطاحة‬
‫بالحكومة‪ ،‬فإن انتقال األول سيلفت االنتباه أكرب ويؤخذ بجدية أكرث‪ .‬ومن ثم سيكون له‬
‫وزن أكرب يف الرأي العلني‪ .‬ولكن لتبسيط عرض األفكار الرئيسية‪ ،‬سأتجاهل عمو ًما‬
‫‪26‬‬
‫االختالفات يف التأثريات الشخصية‪.‬‬
‫هناك تعريفان آخران رضوريان‪ .‬لنفرتض أن ‪ Y‬هو املتوسط الحسايب لجميع‬
‫التفضيالت العلنية وأن ‪ X‬هو املتوسط املقابل لجميع التفضيالت الخفية‪ .‬مثل التوزيعات‬
‫املستخلصان منها‪ ،‬سيختلف ‪ X‬و‪ Y‬عادةً‪ .‬تخيل أن التفضيالت الخفية لألشخاص موزعة‬
‫بالتساوي عرب الخانات العرشية بني ‪ 0‬و‪ ،100‬كام هو موضح يف الشكل ‪ .3.1‬من الواضح‬
‫أن ‪ X‬يساوي ‪ .50‬ومع ذلك‪ ،‬قد يكون ‪ Y‬أقل أو أعىل‪ ،‬وذلك ألن الضغوط لصالح ‪ 0‬قد تكون‬
‫أقوى أو أضعف من الضغوط لصالح ‪ .100‬يف الشكل‪)100 × 0.3( + )0 × 0.7( = Y ،‬‬
‫= ‪.30‬‬
‫كام ذكرت سابقًا‪ ،‬إن الرأي العلني‪ ،‬وليس الرأي الخفي‪ ،‬هو الذي يدعم السلطة‬
‫السياسية‪ .‬قد يكون الرأي الخفي معارض للغاية لنظام أو سياسة أو مؤسسة دون إثارة‬
‫احتجاج علني من أجل التغيري‪ .‬استمرت األنظمة الشيوعية يف أوروبا الرشقية لعقود عىل‬
‫الرغم من احتقارها عىل نطاق واسع‪ .‬لقد ظلت يف السلطة طاملا ظل الرأي العلني يف‬
‫صالحها بأغلبية ساحقة‪ ،‬وانهارت فوريًا عندما جمعت حشود الشوارع الشجاعة للثورة‬
‫ضدها‪ .‬كمثال آخر‪ ،‬عززت الحكومة األمريكية منذ عام ‪ 1970‬تقري ًبا‪ ،‬رغم املعارضة الشديدة‬

‫‪76‬‬
‫املستمرة للرأي الخفي‪ ،‬حصص التوظيف والقبول الجامعي القامئة عىل العرق‪ .‬كام‬
‫سيوضح يف الفصل ‪ ،9‬انترشت الحصص واستمرت بسبب رأي علني مؤيد للغاية‪ .‬ليس‬
‫مهام‬
‫عامال محد ًدا ً‬
‫ً‬ ‫القصد أن الرأي الخفي غري مهم يف السياسة‪ .‬بل عىل العكس‪ ،‬يعد‬
‫لالستقرار السيايس‪ .‬ما أريد طرحه هنا هو أن الرأي الخفي املؤيد للقضية السياسية ليس‬
‫رضوريًا أو كاف ًيا لنجاحها‪.‬‬

‫الشكل ‪ 3.1‬قد يؤدي ضغط السمعة إىل استقطاب الرأي العلني حتى لو مل يكن الرأي الخفي‬
‫مستقطبًا‪ .‬هنا‪ ،‬يفضل االستقطاب ‪ 0‬عىل ‪ 100‬بهامش ‪ 7‬إىل ‪.3‬‬
‫لتصوير العالقة بني الرأي العلني والسلطة السياسية‪ ،‬ميكننا افرتاض أن النتيجة‬
‫املوضوعية للمنافسة السياسية مرتبطة مبارشة بـ‪ .Y‬وعىل هذا النحو‪ ،‬تعني قيمة ‪Y‬‬
‫املنخفضة قرا ًرا يصب يف مصلحة املوقف ‪ ،0‬بينام تعني قيمة ‪ Y‬املرتفعة قرا ًرا أقرب إىل‬
‫القيمة ‪ .100‬ال دا ٍع ألن نهتم بالطبيعة الدقيقة لهذه العالقة‪ .‬ميكن أن تتخذ أشكاالً مختلفة‪،‬‬
‫مبا يف ذلك أخذ األغلبية للكل والتوافق التناسبي الصارم‪ .‬قد متيض الحكومة التي تتعرض‬
‫لضغوط إلضفاء الرشعية عىل عقار جديد إىل ترشيعه بالكامل ملجرد أن عدد املؤيدين العوام‬
‫يفوق عدد املعارضني‪ .‬ثم‪ ،‬بالنسبة للجدل حول امليزانية‪ ،‬قد تختار حالً توافق ًيا تناسب ًيا‬

‫‪77‬‬
‫تقري ًبا‪ .‬النقطة املهمة هي أن املجموعة قد تتمتع بتعدد الدعم دون أن تتمكن من فرض‬
‫إرادتها الكاملة عىل املجتمع األوسع‪ .‬قد يكون حجم تعددها أيضً ا ذو صلة بقوتها‪ .‬كلام‬
‫كانت تعددية املجموعة أصغر‪ ،‬كانت تفويضها أضعف‪ ،‬وبالتايل كانت أقل فعالية يف تنفيذ‬
‫إرادتها املعلنة‪ .‬هذا هو املعنى العميل لرؤى مكيافييل وهيوم‪.‬‬
‫املقصود هو أن لدى مجموعات الضغط داف ًعا لتوسيع دعمها قدر اإلمكان‪ .‬وهذا قد‬
‫يبدو متناقضً ا مع «مبدأ الحجم»‪ ،‬الذي يؤكد أن االئتالفات التوزيعية (مثل الكارتالت‬
‫الصناعية والتحالفات الترشيعية) تفضل أن تصبح حرصية بعد بلوغها حجم معني‪ 27.‬يف‬
‫الواقع‪ ،‬ال تناقض يف هذا‪ .‬قد متثل مجموعة الضغط مصالح كارتل يسعى لالحتفاظ باللوائح‬
‫األساسية لبقائه‪ .‬بينام يبقى الكارتل حرصيًا‪ ،‬تظل مجموعة الضغط مفتوحة لجميع رشائح‬
‫املجتمع‪ ،‬مبا يف ذلك املتّضرين من حواجز املنافسة‪ .‬إذا كانت الحواجز تفيد أقلية صغرية‬
‫فقط‪ ،‬فإن نجاح املجموعة النهايئ سيعتمد عىل مواقف غري املستفيدين‪.‬‬
‫من الجدير بالتكرار أن مروجي السياسة ال ميكنهم حتى االعتامد عىل دعم املستفيدين‬
‫املحتملني من السياسة‪ .‬وقد تؤدي الضغوط االجتامعية السلبية إىل انضامم املؤسسني‬
‫الطبيعيني لهذه الجامعة إىل املعارضة‪.‬‬
‫ميكن القول إن السلطة السياسية متجذرة يف املؤسسات االجتامعية واأليديولوجية‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬ال أقصد أن األيديولوجية غري مهمة سياسيًا‪ .‬سأحاجج الحقًا بأنها‬
‫لنأخذ العامل األخري ً‬
‫متارس سيطرة هائلة عىل املعتقدات والتصورات‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬سأظهر أيضً ا أن النجاح‬
‫األيديولوجي ليس رشطًا مسب ًقا للنجاح السيايس‪ .‬أما بالنسبة للمؤسسات‪ ،‬سأحاجج أنها‬
‫تستمد دعمها من الرأي العلني‪ .‬وسأقر أن بعض املؤسسات تعقد عملية التوافق بني الرأي‬
‫العلني ونتائج السياسات‪ .‬لكن من األفضل تأجيل التعقيدات حتى الفصل ‪ .17‬يف الوقت‬
‫الحايل‪ ،‬دعونا نتعامل مع عملية التوافق عىل أنها مثالية‪ .‬الخطوة املنطقية التالية هي‬
‫استكشاف تكوين الرأي العلني‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫ديناميات الرأي العلني‬

‫بغياب تزييف التفضيل‪ ،‬يعكس الرأي العلني الرأي الخفي دامئًا‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬كام رأينا‬
‫سالفًا‪ ،‬يتوافق أي عدد من اآلراء العلنية املميزة مع رأي خفي ُمعطى‪ .‬ويبحث هذا الفصل يف‬
‫الكيفية التي يتأسس بها بديل محدد‪ .‬ونظ ًرا إىل أن تباين الرأي العلني يرتبط بتباين‬
‫الضغوطات االجتامعية‪ ،‬فسأبدأ بنقاط متهيدية عن اعتامد الضغوطات عىل األعداد‪.‬‬
‫تعتمد بعض الضغوطات‪ ،‬من منظور الفرد املتلقي‪ ،‬عىل الحجم العددي للجامعة‬
‫فعال معارضً ا‪ ،‬ال يهم إذا كان من‬
‫املقدمة‪ .‬فبالنسبة إىل شخص يتعرض للّضب الرتكابه ً‬
‫يعتدي عليه فرد واحد أو خمسة‪ .‬وبنفس الكيفية‪ ،‬إذا أشادت منظمة بشجاعة هذا الفرد من‬
‫خالل جائزة نقدية‪ ،‬فال يهم بالنسبة إليه ما إذا ترصفت تلك املنظمة بالنيابة عن خمسة أفراد‬
‫أو خمسة آالف فرد‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬تعتمد بعض املكافئات والعقوبات بصورة حاسمة‬
‫عىل حجم املنظمة املقدمة‪ .‬فإذا كان هذا الفرد املعارض مادة للسخرية ولالستهزاء يف نكتة‬
‫ما‪ ،‬فمن املهم بالنسبة إليه املدى الذي تنترش به تلك النكتة‪ .‬وإذا حصل عىل قالدة‪ ،‬فستعتمد‬
‫الفوائد التي تعود عليه بها تلك القالدة عىل عدد األفراد الذين يعتربونها رشفًا‪.‬‬
‫وعىل غرار تأثريات الضغط االجتامعي عىل الفرد املتلقي‪ ،‬تعتمد التكاليف التي‬
‫تتحملها الجامعة املقدمة عىل األعداد‪ .‬إذ تزداد تكلفة مكافئة األعضاء نقديًا بزيادة عدد‬
‫األعضاء‪ ،‬بنفس الكيفية التي تنمو بها تكلفة العقاب الجسدي لغري األعضاء مع زيادة عدد‬
‫غري األعضاء‪ .‬إذن من شأن مضايقة الجامعة ألي شخص يأىب أن ينتمي إليها‪ ،‬بالنسبة‬
‫للجامعات الصغرية‪ ،‬أم ًرا باهظ التكلفة‪ ،‬كام الحال حني تحاول جامعة كبرية أن تشرتي والء‬
‫كل فرد مجند لها‪ 1.‬ولذا فإن الجامعات التي تقترص حوافزها عىل املكافئات املالية ال ميكن‬
‫لها أن تصمد عند بلوغها أحجا ًما محددة؛ ورغم ذلك فالحوافز التي تعتمد عىل األرقام التي‬

‫‪79‬‬
‫تعتمد عليها جامعات الضغط يف منوها ال تتطلب نفقات نقدية أو استعامل القوة الجسدية‪.‬‬
‫فالضغوطات التي تسيل من الرأي العلني تغطي تكاليفها يف كثري من األحوال‪ ،‬مبعنى أنها‬
‫تكون ذاتية اإلنتاج‪ .‬والتلميح الحاسم هنا هو أن جامعات الضغط تعتمد عىل الحوافز الناتجة‬
‫عن الرأي العلني يف حد ذاته حتى تجعل الرأي العلني يخدم أهدافها األساسية‪.‬‬

‫الرابط بني الرأي العلني والضغوطات االجتامعية‬

‫من بني األسباب التي تجعل الرأي العلني مصد ًرا للضغط االجتامعي هو أن األفراد الذين‬
‫يحاولون تحسني مصداقية تفضيالتهم العلنية املختارة يبدون املوافقة تجاه من لديهم نفس‬
‫االختيارات والتفضيالت‪ ،‬ويبدون الرفض تجاه من لديهم اختيارات أخرى‪ .‬فحني يتعلق األمر‬
‫باإلجهاض‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يومئ األفراد الذين يصفون أنفسهم بأنهم مؤيدون لالختيار‬
‫باملوافقة عىل األقوال املؤيدة لالختيار من جانب اآلخرين‪ ،‬ويواجهون األقوال املؤيدة للحياة‬
‫باالستهجان‪.‬‬
‫يشعر الناس بأنهم مجربون عىل دعم إعالنات تأييدهم بأفعال صلبة تحدي ًدا ألن‬
‫تزييف التفضيل أمر شائع ومن املفهوم أنه كذلك‪ .‬إذ بوسع أي فرد أن يعرب عن رؤية سياسية‬
‫محددة‪ ،‬ولذا فإن مجرد التعبري اللفظي عن تأييد االختيار ال يحمل يف حد ذاته أهمية كبرية‪.‬‬
‫وحتى يُعد املرء صادقًا يف كالمه‪ ،‬برصف النظر عام إذا كان كذلك‪ ،‬ال بد من أن يصاحب كالم‬
‫املرء أفعال صلبة‪ .‬واإلمياء باملوافقة والعبوس هام فعلني يهدفان إىل بناء املصداقية‪ ،‬حتى‬
‫وإن كانت نتائجهام طفيفة‪ .‬ومن األفعال األكرث فعالية مقاطعة السياسيني‪ ،‬واإلشادة مبقالة‬
‫افتتاحية‪ ،‬واملشاركة يف احتجاج‪ ،‬والتربع لقضية سياسية‪ .‬وحتى لو اضطلع األفراد بتلك‬
‫األفعال لتحسني سمعتهم‪ ،‬فإن تلك األفعال تساهم يف تشكيل الضغوطات االجتامعية التي‬
‫تؤثر عىل التفضيل العلني الختيارات اآلخرين‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫وبوسعنا أن نعزز تلك النقاط من خالل تنويعات من املثل القديم‪« ،‬حني تكون يف‬
‫روما‪ ،‬افعل ما يفعله الرومان»‪ .‬ويفرتض هذا املثل أنه‪ ،‬حتى يحظى الفرد باملوافقة‬
‫االجتامعية عليه أن يترصف مبا يتوافق مع املعايري السائدة‪ .‬وككل األمثلة‪ ،‬فإن له حدود‪.‬‬
‫فقد يرغب بندقي مير عرب روما بأن يترصف عىل سجيته البندقية‪ ،‬ولكنه يدرك أنه إذا مل‬
‫يراعي التقاليد الرومانية فقد يسخر منه الناس‪ .‬ولذا فإن من األدق أن نقول‪« :‬حني تكون‬
‫يف روما‪ ،‬تظاهر بفعل ما يفعله الرومان»‪ .‬ويف بعض السياقات‪ ،‬قد يتمكن الفرد من‬
‫التظاهر بكونه رومان ًيا بشكل تلقايئ‪ .‬فعىل غرار الرومان‪ ،‬سيميش البندقي منتص ًبا‪ ،‬ولن‬
‫مييش عىل أطرافه األربعة‪ .‬ولكن يف سياقات أخرى‪ ،‬قد يتطلب التامهي مع الرومان جهو ًدا‬
‫يف إدارة االنطباعات‪ ،‬مع كل التوترات الداخلية املرتتبة عىل ذلك‪ .‬وتشمل تلك الجهود إبداء‬
‫االحرتام ملن يقلد الرومان وإظهار االحتقار ملن يبدو أجنبيًا‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬سيتبع البندقي‬
‫‪2‬‬
‫املثال القائل‪« :‬حني تكون يف روما‪ ،‬كافئ من يبدو رومانيًا‪ ،‬وعاقب من ال يبدو رومانيًا»‪.‬‬
‫ومبكافأة من يبدو رومانيًا ومعاقبة من يبدو غري روماين يحظى الفرد مبصداقية أكرب مام‬
‫كان سيحظى بها من مجرد إعالنه عن رومانيته‪ .‬ويف تلك العملية‪ ،‬يعترب املرء فعل ما يفعله‬
‫الرومان قمة يف الحكمة والتعقل‪ ،‬وما يفعله البندقيون قمة يف التهور والطيش‪.‬‬
‫ويف فرتة التفتيش اإلسباين‪ ،‬مال املارانوس إىل إبعاد أنفسهم عن اليهود غري‬
‫املتحولني‪ .‬فقد شعروا أن من شأن مصاحبة اليهود املتدينني غري املتخفيني أن يثري الشكوك‬
‫حول تحولهم الظاهر إىل املسيحية‪ .‬وذهب بعضهم إىل أبعد من ذلك باملشاركة يف اضطهاد‬
‫‪3‬‬
‫اليهود املتدينني‪ .‬ومن الالفت أن أول مفتش عام وخليفته املبارش كانا ذوي أصول يهودية‪.‬‬
‫وقد يكمن سبب اضطهاد املتحولني لغري املتحولني يف الكراهية‪ .‬ولكن قد يكون الدافع وراء‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬هو الرغبة يف إظهار مصداقية التفضيل العلني املختار – أي أن‬
‫ذلك أيضً ا‪ ،‬أو ً‬
‫يعلن املرء عن صدقه باإلشارة‪.‬‬
‫وإذا سلمنا بأن مثل تلك اإلشارات قد تحقق غايتها‪ ،‬فهل يعني ذلك أنها رشط للمرء‬
‫يك يبدو صادقًا؟ فلنفرتض أن األفراد أ‪ ،‬ب‪ ،‬ج أعلنوا عن دعمهم لحقوق اإلجهاض‪ .‬فهل‬

‫‪81‬‬
‫سيبدو أ منافقًا إذا أغفل عن توبيخ معاريض تلك الحقوق؟ وهل سيبدو ب بدوره مشبو ًها‬
‫فيه إذا امتنع عن مهاجمة أ؟ وهل سيفقد ج بدوره كل ما ميلك من مصداقية إذا مل ينتقد ً‬
‫كال‬
‫من أ وب؟ اإلجابة عىل كل تلك األسئلة هي «ليس بالّضورة»‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬االنقالب عىل‬
‫اآلخرين ليس الطريقة الوحيدة لتأسيس املصداقية‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬من غري العميل أن‬
‫يضطلع كل عضو يف الجامعة باملشاركة يف عقاب كل خصم مشتبه فيه يف أغلب األحوال‪.‬‬
‫ويف العادة‪ ،‬بوسع األفراد أن يبينوا صدقهم من خالل االستجابة إىل جزء من املخالفات التي‬
‫يتوقع منهم أن يالحظوها عىل نحو معقول‪.‬‬
‫وبصفة عامة‪ ،‬من غري العميل أو الّضوري من الناحية املنطقية أن يساهم كل عضو‬
‫يف جامعة ضغط يف كل أشكال املكافأة والعقاب املختلفة‪ .‬إذ تتبنى الجامعات عاد ًة درجة‬
‫من درجات تقسيم العمل‪ ،‬ولن يكون أفرادها محل شك إذا ارتأوا التخصص يف جزء فرعي‬
‫من وظائف الجامعة‪ .‬فلن يفقد معارض لإلجهاض يبدي احتجاجه أمام عيادات اإلجهاض‬
‫وينادي بشعارات مؤيدة للحياة مصداقيته إذا أغفل عن توبيخ رجل ال يبدو عليه الحامس‬
‫خالل إلقاء خطاب مؤيد للحياة‪ .‬فطاملا كان سلوك الفرد ميتثل لألجندة املؤيدة للحياة بصفة‬
‫عامة‪ ،‬فسيعامله أفراد الجامعة بحسن ظن حني يتخذ موقفًا سلبيًا‪ .‬وقد تُفّس سلبية الفرد‬
‫تجاه غياب حامس فرد آخر بأن تلك املخالفة غابت عن ذهنه أو أن هذا الفرد كان مرهقًا‬
‫بصورة غري عادية‪.‬‬
‫ومثة سياقات تتعرض فيها املواقف السياسية لألفراد للمراقبة بسهولة‪ .‬فحني يجري‬
‫مجلس الترشيع تصويًا برفع األيادي أمام كامريات التلفاز‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من السهل‬
‫للغاية أن تحدد موقف كل مرشع‪ .‬ويف سياقات أخرى‪ ،‬تطرح عملية التحديد بعض املشاكل‪.‬‬
‫فعقب حدوث أعامل شغب‪ ،‬قد ال تتمكن الحكومة من إنشاء قامئة يُعتمد عليها من املشاركني‪.‬‬
‫فقد تعلم فقط أن معظم املشاغبني أتوا من مجاورة محددة أو أن معظمهم ينتمون إىل عشرية‬
‫محددة‪ .‬ويؤدي الترصف بنا ًء عىل تلك املعلومات إىل معاقبة جامعة بأكملها‪ ،‬مع إدراك أن‬
‫بعض املشاغبني سيفلتون من العقاب‪ ،‬وأن بعض امل ُعاقبني مل يشاركوا يف أعامل شغب‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫وبالرغم من أوجه عدم اإلنصاف تلك‪ ،‬من شأن مثل هذا العقاب الجامعي أن يؤدي دوره‬
‫كرادع للمعارضة املستقبلية‪ .‬إذ يخلق العلم بأن الحكومة ستعاقب مثريي املتاعب حوافز لدى‬
‫األفراد من املواطنني لكبح امليول املتمردة لآلخرين‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫توازن‬

‫إذن فالجامعة الضاغطة تعود عىل أعضائها بالنفع وتفرض تكاليف عىل غري األعضاء‪ .‬وهي‬
‫تفعل ذلك جزئ ًيا من خالل جهود أعضائها يف إبراز مدى والئهم وصدقهم‪ .‬وبأخذ كل تلك‬
‫العوامل يف عني االعتبار‪ ،‬فإن ذلك يعني أن حوافز االنضامم إىل جامعة ضاغطة تزداد كلام‬
‫توسعت تلك الجامعة‪.‬‬
‫ومن النتائج األخرى لذلك هو أنه‪ ،‬حني تتصارع جامعتني عىل الرأي العلني‪ ،‬فلن‬
‫تكون الجامعة الفائزة بالّضورة تلك التي تحظى بنواة من النشطاء األكرث ثرا ًء وقوة وأفضل‬
‫تنظيام‪ .‬إذ من شأن قلة عدد أفراد الجامعة أن يغلب األفضلية التي تحظى بها الجامعة من‬
‫ً‬
‫خالل نواتها األكرث كفاءة‪ .‬ويف مقابل ذلك‪ ،‬بوسع الجامعة ذات النواة األضعف أن تعوض‬
‫ذلك بعدد أعضاء أكرب نسبيًا‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫تذكر أنه‪ ،‬يف مجتمع كبري‪ ،‬تتسم قدرة الفرد عىل التأثري يف قرار جمعي بأنها شبه‬
‫تفضيال علنيًا عىل أساس مفاضلة‬
‫ً‬ ‫معدومة‪ .‬إذن فمنفعته الذاتية ثابتة عمليًا‪ ،‬ويختار الفرد‬
‫بني املنفعة التعبريية ومنفعة السمعة‪ .‬ويعتمد الشكل األخري من املنفعة عىل الرأي العلني‪.‬‬
‫فمثال‪ ،‬تزداد منفعة سمعة الفرد الذي يفضل املوقف ‪ 0‬عىل ‪ 100‬كلام مال الرأي العلني إىل‬
‫ً‬
‫جهة املوقف ‪ .0‬وحتى تظل األمور بسيطة‪ ،‬دعوين أتعامل مع منفعة السمعة كدالة يف‬
‫متوسط كل التفضيالت العلنية‪ ،‬عوضً ا عن كونها دالة يف التوزيع الكيل‪ .‬وسأشري إىل هذا‬
‫املتوسط‪ ،‬أو الرمز ‪ Y‬من الفصل الثالث‪ ،‬مبصطلح متوسط الرأي العلني‪ ،‬أو الرأي العلني‬
‫فقط‪ ،‬نظ ًرا إىل أنني أتكلم هنا بوضوح عن املتوسط ال التوزيع‪ .‬ونحن نعلم من الفصل الثاين‬

‫‪83‬‬
‫أن املنفعة التعبريية للفرد تبلغ ذروتها حني يتوافق تفضيله العلني مع تفضيله الخفي‪ ،‬وتقل‬
‫كلام ابتعد هذين التفضيلني عن بعضهام‪ .‬وتذكر أيضً ا أنه إذا كانت املسألة حساسة مبا فيه‬
‫الكفاية‪ ،‬فسيجرب الضغط االجتامعي السائد كل األفراد عىل أن ينضموا إىل جامعة من‬
‫الجامعتني‪.‬‬
‫ويف إزاء تلك الخلفية‪ ،‬فكر يف قرار إعالن الفرد لتفضيله العلني يف مسألة تتسم‬
‫بحساسية بالغة‪ .‬إذ يتصادف أن تفضيله الخفي ‪ .x = 20‬ولذا‪ ،‬بوجود اختيار بني ‪ 0‬و‪،100‬‬
‫سيفضل الفرد االختيار األول‪ .‬وإذا كانت الضغوط من كال الجامعتني متساوية‪ ،‬فمن الواضح‬
‫أنه سيختار ‪ 0‬كتفضيله العلني‪ .‬فلنبدأ إذن عند موقع مساواة‪ ،‬ودعنا نرجح كفة ميزان‬
‫الضغوط لصالح املوقف ‪ 100‬بشكل تدريجي متزايد‪ .‬وستضعف األفضلية التي يحظى بها‬
‫الفرد بتأييده للموقف ‪ 0‬تدريجيًا‪ ،‬وقد نبلغ نقطة يكون الفرد فيها محاي ًدا تجاه تأييد ‪0‬‬
‫قليال‪ ،‬فسيكون من األفضل للفرد أن يؤيد ‪.100‬‬
‫وتأييد ‪ .100‬وإذا ذهبنا لنقطة أبعد من ذلك ً‬
‫وتُعرف نقطة التحول‪ ،‬التي يُرمز لها بـ ‪ ،t‬بأنها عتبة الفرد السياسية يف املسألة قيد النظر‪.‬‬
‫وبعبارة أكرث دقة‪ ،‬إن الرأي العلني هو الذي يجعل الفرد محاي ًدا تجاه االختيارين املتاحني‪.‬‬
‫إذا كان ‪ Y < t‬فسيؤيد ‪ ،0‬وإذا كان ‪ Y > t‬فسيؤيد ‪ .100‬أما إذا كان ‪ Y = t‬فمن األجدر به‬
‫أن يرمي عملة معدنية ويختار عىل أساسها‪ .‬ولتبسيط هذا التمثيل دون أي عواقب بالغة‪،‬‬
‫دعنا نفرتض أنه يف حالة الحياد سيختار الجميع ‪.100‬‬

‫شكل ‪ 4.1‬عتبة الفرد السياسية‪ .‬إذا كان الرأي العلني متحي ًزا مبا فيه الكفاية للموقف ‪،100‬‬
‫فسيدعم الفرد املوقف ‪ 100‬علنًا‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫يظهر الشكل ‪ 4.1‬أن عتبة الفرد تبلغ ‪ .70‬ومن شأن عوامل متعددة أن تحرك تلك‬
‫العتبة‪ .‬إذا ثبتنا جميع العوامل األخرى‪ ،‬فسيؤدي ارتفاع التفضيل الخفي إىل خفض الّضر‬
‫التعبريي الناتج عن تأييد املوقف ‪ ،100‬ما يخفض قيمة العتبة‪ .‬وبنفس الكيفية‪ ،‬ستنخفض‬
‫العتبة إذا أضحت الجامعة املروجة للموقف ‪ 100‬أكرث كفاءة يف تحويل دعمها العددي إىل‬
‫ضغط اجتامعي‪ .‬ويف مقابل ذلك‪ ،‬إذا ارتفعت احتياجات الفرد التعبريية‪ ،‬فسرتتفع عتبته‪،‬‬
‫نظ ًرا إىل أنه يتطلب ضغوطًا أقوى ملوازنة األفضلية التعبريية لتأييد ‪.0‬‬
‫يختلف األفراد يف تكوينهم النفيس‪ ،‬ويف أي مسألة معطاة‪ ،‬قد تختلف تفضيالتهم‬
‫الشخصية‪ .‬وعىل غرار ذلك‪ ،‬تختلف عتباتهم السياسية أيضً ا‪ .‬ويُظهر الشكل ‪ 4.2‬توزي ًعا‬
‫محتمال للعتبات‪ .‬وميثل املنحنى املوضح بالشكل التوزيع الرتاكمي للعتبات‪ .‬وميكن إيجاده‬
‫ً‬
‫من خالل تتبع نسبة املجتمع املئوية التي تتسم بعتبة مساوية أو أقل لكل مستوى من ‪ Y‬من‬
‫‪ 0‬إىل ‪ .100‬ويف املنحنى املوضح‪ 30 ،‬يف املائة من العتبات تقع عند الصفر‪ ،‬و‪ 80‬يف املائة‬
‫منها تحت ‪ ،100‬وبطبيعة الحال‪ 100 ،‬يف املائة منها عند ‪ 100‬أو أقل‪ .‬ونظ ًرا إىل أن التوزيع‬
‫الرتاكمي سيحدد مدى انتشار تزييف التفضيل‪ ،‬فسأشري إليه باسم منحنى االنتشار‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫شكل ‪ 4.2‬منحنى االنتشار‪ .‬تقع نصف كل التوزيعات إما عند ‪ 0‬أو ‪ ،100‬والنصف الباقي‬
‫موزع بني الطرفني‪.‬‬

‫عند أي نقطة زمنية محددة‪ ،‬يديل كل فرد يف املجتمع ببعض التوقعات بشأن متوسط‬
‫الرأي العلني يف الفرتة املستقبلية املبارشة‪ .‬دعنا نفرتض أن الرأي العلني املتوقع‪ ،Ye ،‬متسا ٍو‬
‫بالنسبة إىل جميع األفراد‪ .‬ومبعلومية ‪ ،Yc‬ينتج عن منحنى االنتشار السائد الرأي العلني‬
‫املحقق‪ .‬وبوسعنا أن نرى ذلك يف اللوحة أ من الشكل ‪ 4.3‬الذي يحتوي عىل نفس منحنى‬
‫االنتشار يف الشكل السابق‪ .‬وميثل املحور األفقي السفيل الرأي العلني املتوقع‪ ،‬بينام يسجل‬
‫املحور الرأيس األيّس الرأي العلني املحقق‪.‬‬
‫ومع الرتكيز عىل الشكل ‪ ،4.3‬تخيل أن الرأي العلني املتوقع يبدأ بطريقة ما عند ‪.30‬‬
‫يشري منحنى االنتشار إىل أن ‪ 35‬يف املائة من السكان لديهم عتبة عند ‪ 20‬أو أقل‪ .‬إذن فهذا‬
‫الجزء من السكان سيعلن عن تأييده للموقف ‪ ،100‬وسيعلن ‪ 65‬يف املائة من السكان املتبقني‬
‫عن تأييدهم للموقف ‪ .0‬وبذلك حقق توقع مقداره ‪ 20‬رأيًا علنيًا يبلغ مقداره ‪ .35‬وحني‬
‫يتبني أن هذا التوقع أقل من الحقيقي‪ ،‬تتكيف التوقعات األولية يف اتجاه الزيادة‪.‬‬
‫وطبقًا لهذا الشكل فإن أي توقع أقل من ‪ 40‬سيقل عن النتيجة املحققة املناظرة‬
‫وسيولد تكيفات أخرى‪ .‬وحتى يكون هذا التوقع محققًا لذاته‪ ،‬يجب أن يرتفع الرأي العلني‬
‫املتوقع إىل ‪ .40‬ويظهر الشكل أن الخط ‪ Ye = 40‬يقع فقط يف تقاطع منحنى االنتشار مع‬
‫القطر‪ .‬ولذا فهناك توقع وحيد محقق لذاته‪ ،‬أو نقطة توازن فريدة‪ 7.‬ويتوافق الرأي العلني‬
‫الحقيقي مع التوقعات التي أنتجته فقط حني يسند األفراد تفضيالتهم العلنية عىل توقع‬
‫للرأي العلني يبلغ مقداره ‪.40‬‬
‫تستعني اللوحة ب من الشكل ‪ 4.3‬بتعبري مجازي طبوغرايف لتصوير تحركات الرأي‬
‫العلني‪ .‬وهي تصور واديًا تقع أدىن نقطة فيه عند ‪ .40‬إذا وضعت الكرة يف ‪ ،40‬فستظل‬
‫ساكنة إىل األبد‪ .‬وإذا وضعتها يف أي مكان آخر‪ ،‬فستتدحرج يف اتجاه املستوى ‪.40‬‬

‫‪86‬‬
‫ويُدعى التوازن املبني يف الشكل ‪ 4.3‬توازنًا داخليًا – أي أنه يقع داخل طيف‬
‫التوقعات املمكنة‪ .‬ولذا فهو يتسم مبعارضة مفتوحة‪ :‬إذ أن ‪ 40‬يف املائة يؤيدون ‪ 100‬يف‬
‫العلن‪ ،‬يف حني أن ‪ 60‬يف املائة يؤيدون ‪ .0‬ويُدعى التوازن الذي يقع عند األطراف‪ ،‬مثل تلك‬
‫املوضحة يف الشكل ‪ ،4.4‬توازن زاوي‪ .‬وهنا يتقاطع منحنى العتبة مع القطر عند ‪ ،100‬ما‬
‫يعني أن التوقع الوحيد املستدام ذات ًيا هو دعم كيل للموقف ‪ .100‬تذكر أن الناشط هو‬
‫شخص ال يعتمد تفضيله العلني عىل الرأي العلني‪ .‬إذن وبعبارة أدق‪ ،‬ينطوي تأسيس توازن‬
‫زاوي عىل هالك نواة من نوى النشطاء‪ .‬وإذا ظل أحد النشطاء الشجعان يف صفوف‬
‫املعارضة‪ ،‬فستقرتب نقطة التوازن بدرجة كبرية من أحد األطراف‪ ،‬لكنها لن تصل إليه‪.‬‬
‫وتُدعى تلك الحالة توازن شبه زاوي‪.‬‬
‫إن حاالت التوازن الزاوي وشبه الزاوي ليست نادرة الحدوث‪ .‬فقد ح ّول التفتيش‬
‫إسبانيا إىل بلد يعلن كل فرد فيه تقريبًا عن انضاممه إىل املسيحية‪ ،‬يف حني اقترصت‬
‫مواضع الجدل عىل خالفات بشأن التفاصيل الدقيقة يف األرثوذكسية الكاثوليكية‪ .‬ويف‬
‫تشيكوسلوفاكيا فيام قبل ‪ ،1989‬تحقق توازن شبه زاوي يف مسألة مرشوعية النظام‬
‫السائد‪ .‬ومل يتجرأ إال عدد ضئيل ج ًدا من الناس عىل تحدي االحتكار الشيوعي للسلطة‪.‬‬
‫وباعتبار تفضيل املوقف ‪ 0‬ميثل دعم االحتكار وتفضيل املوقف ‪ 100‬ميثل معارضته‪،‬‬
‫بوسعنا أن نقول إن الرأي العلني يف حالة اتزان بالقرب من النقطة صفر‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫شكل ‪ 4.3‬الرأي العلني املتوقع وحركته‪ .‬يتسم التوقع البالغ ‪ 40‬فقط بكونه ذايت التحقق‬
‫والتكرار‪ .‬يف حني أن أي توقعات أخرى سينتج عنها تصحيحات يف اتجاه ‪.40‬‬

‫مهتام‬
‫ً‬ ‫كان توكفيل‪ ،‬أحد أكرث املالحظني فطنة يف القرن التاسع عرش يف أمريكا‪،‬‬
‫للغاية بشيوع التوازنات الزاوية يف الواليات املتحدة‪ .‬وقال يف كتابه‪« :‬يف الوقت الحارض‪،‬‬
‫يعجز أعتى امللوك يف أوروبا من منع بعض اآلراء املحددة املعادية لسلطتهم من االنتشار يف‬
‫الخباء يف أرجاء ماملكهم وحتى يف بالطهم‪ .‬ولكن الحال ليس كذلك يف أمريكا؛ إذ أنه طاملا‬
‫ظلت األغلبية مرتددة‪ ،‬فسيستمر النقاش؛ ولكن حاملا تعلن األغلبية عن قرارها عىل نحو ال‬
‫كل من األصدقاء واألعداء يف املوافقة عىل صالحية هذا‬
‫رجعة فيه‪ ،‬يصمت الجميع‪ ،‬ويتحد ٌ‬
‫القرار»‪ 8.‬وما يجعل تلك الفقرة ذات أهمية ال يكمن فقط يف وصفها للتوازنات الزاوية‪ .‬فهي‬
‫تبني كذلك دور تزييف التفضيل يف استدامة وحدة ظاهرية‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫شكل ‪ 4.4‬توازن زاوي فريد‪ .‬أي توقعات أدىن من ‪ 100‬ستحفز تصحيحات ذاتية صاعدة‪.‬‬

‫توازنات متعددة‬

‫ال يوجد سبب يقيض بأن يكون للرأي العلني نقطة توازن وحيدة‪ .‬فبوسع منحنى‬
‫االنتشار أن يتقاطع مع القطر عدة مرات‪ ،‬ويف تلك الحالة سيكون لدينا توازنات متعددة‪.‬‬
‫ويبني الشكل ‪ 4.5‬حالة تنطوي عىل ثالثة نقاط توازن‪ .‬ومن بني تلك التوازنات الثالثة‪،‬‬
‫يتسم التوازن عند النقطة ‪ 20‬والنقطة ‪ 100‬بأنهام مستقران‪ ،‬أي أن أي توقعات يف املناطق‬
‫املجاورة لهام تولد تصحيحات يف اتجاههام‪ .‬ومن اليسري لنا أن نالحظ استقرار تلك‬
‫التوازنات يف اللوحة ب‪ ،‬حيث تناظر النقطتان ‪ 20‬و‪ 100‬أدىن نقطتني يف واديني محليني‪.‬‬
‫يف حني أن التوازن الواقع يف املنتصف عند النقطة ‪ 60‬غري مستقر‪ ،‬مبعنى أن أي توقعات‬
‫يف املناطق املجاورة له ستولد تصحيحات يف عكس اتجاهه‪ .‬فإذا تصادف أن الرأي العلني‬
‫املتوقع يقع عند ‪ 60‬فمن املؤكد أن الرأي العلني سيثبت عند تلك النقطة‪ .‬ولكن أي توقع‬
‫مخالف لذلك ولو بدرجة طفيفة سيحفز تصحيحات نحو نقطة توازن مستقرة‪ .‬وميثل‬
‫‪89‬‬
‫التوازن غري املستقر لدينة قمة تلة‪ ،‬مبا أنه من املمكن نظريًا ولكن من املستحيل عمل ًيا أن‬
‫تظل كرة ثابتة عىل قمة تلة‪ ،‬فمن شأن نفحة من الهواء أن تدفعها بعي ًدا‪ 9.‬وبنفس الكيفية‪،‬‬
‫من املمكن نظريًا ولكن من املستحيل عمل ًيا أن يظل الرأي العلني مستق ًرا عند نقطة توازن‬
‫غري مستقرة‪.‬‬
‫تظهر نظرة رسيعة عىل األشكال من ‪ 4.3‬إىل ‪ 4.5‬أن التوازن يكون مستق ًرا إذا تقاطع‬
‫منحنى االنتشار مع القطر من األعىل‪ ،‬وغري مستقر إذا تقاطع مع القطر من األسفل‪ .‬وحني‬
‫يتقاطع منحنى االنتشار مع القطر يف أكرث من نقطة‪ ،‬فال بد من وجود نقاط توازن مستقرة‬
‫وغري مستقرة عىل نحو تباديل‪ .‬وذلك شبيه بقولنا إنه إذا كان لدينا قمتني‪ ،‬فال بد من وجود‬
‫وا ٍد يفصل بينهام‪ ،‬وإذا كان لدينا واديني فال بد من وجود قمة تفصل بينهام‪.‬‬
‫ومن بني كل العلوم االجتامعية‪ ،‬ق ّدم االقتصاد اإلسهام األكرب يف تحليل التوازنات‬
‫االجتامعية‪ .‬ولكنه مل يرشع يف التعامل مع التوازنات املتعددة باعتبارها جديرة بالدراسة إال‬
‫حديثًا‪ .‬ورغم ذلك ال تزال الكثري من التنظريات االقتصادية تبدأ ببحث عن افرتاضات تضمن‬
‫وحدانية التوازن‪ .‬ولكن يف الواقع‪ ،‬ال يوجد أساس تجريبي الستبعاد التوازنات املتعددة‪.‬‬
‫وحتى يف املجاالت التي تقع داخل أضيق تصورات االقتصاد‪ ،‬مثل اإلنتاج واملقايضة‪ ،‬ال يوجد‬
‫ما يضمن وحدانية التوازن إال أشد االفرتاضات بع ًدا عن الواقع‪ .‬ولذا فإن تعدد التوازنات‪،‬‬
‫التي ال ميكن التعامل معها كحالة نادرة أو شاذة ميكن إهاملها ملصلحة الجدوى أو املنفعة‪،‬‬
‫هي ظاهرة شائعة تستحق اهتام ًما جا ًدا‪ 10.‬وبجانب اهتاممات االقتصاد املحورية‪ ،‬مثل تحديد‬
‫الرأي العلني‪ ،‬يصعب تربير اإلرصار عىل الوحدانية‪.‬‬
‫ملاذا إذن يرص العديد من االقتصاديني‪ ،‬من بينهم بعض عاملقة القرن الذي نحن فيه‪،‬‬
‫عىل فكرة الوحدانية؟ تكمن اإلجابة جزئ ًيا يف تشديد املجال عىل «األناقة» النظرية‪ .‬ومن‬
‫األسباب األكرث جوهرية ضعف األطروحات األساسية لالقتصاد الليربايل الحديث‪ ،‬وبعض‬
‫أساليبه التحليلية البسيطة‪ ،‬يف مواجهة التعقيدات التي يولدها التعدد‪ .‬وكام سيبني الفصل‬
‫‪ ،17‬ال تُعد النتائج االجتامعية الدامئة مثالية بالّضورة يف وجود توازنات متعددة‪ .‬وبخالف‬

‫‪90‬‬
‫ما تتشبث به سلسلة طويلة من االقتصاديني‪« ،‬ما هو موجود» ليس بالّضورة «ما هو‬
‫أفضل»‪ .‬كام ال ميكن توقع النتائج من خصائص تعداد من السكان صانعي القرار‪ .‬ويبني‬
‫الشكل ‪ 4.5‬أن من شأن مجموعة واحدة من خصائص السكان أن تثمر عن نتائج مختلفة‬
‫‪11‬‬
‫للغاية‪.‬‬

‫شكل ‪ 4.5‬حالة تنطوي عىل ‪ 3‬توازنات‪ .‬أي توقعات أدىن من ‪ 60‬ستولد تصحيحات يف‬
‫اتجاه ‪ ،20‬وأي توقعات أعىل من ‪ 60‬ستولد تصحيحات نحو ‪.100‬‬
‫يف النقاش الذي خضناه حتى اآلن‪ ،‬ينطبق مصطلح التوازن بصفة خاصة عىل الرأي‬
‫العلني‪ ،‬ال عىل النظام االجتامعي بأكمله‪ .‬وستبني الفصول الالحقة أن الرأي العلني املستقر‬
‫يطلق العنان لقوى طويلة املدى تؤثر عىل التفضيالت الخفية الكامنة‪ .‬ومن شأن النتائج‬
‫املرتتبة عىل ذلك يف النهاية أن تعزز التوازن الحاكم‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬من شأنها أن تحركه‬
‫أو تدمره‪ .‬والتوازنات التي تقع ضمن نطاق اهتاممنا حال ًيا ميكن تصنيفها عىل أنها مؤقتة‪،‬‬
‫عىل نقيض من التوازنات الدامئة‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫توقعات وركوب األمواج‬

‫مهام كان عدد التوازنات القامئة‪ ،‬ال ميكن ألكرث من توازن واحد أن يكون قامئًا يف نفس‬
‫الوقت‪ .‬إذ تحدد التوقعات عن الرأي العلني أي توازن يقع عليه االختيار‪ .‬فلنعد إىل الشكل‬
‫‪ 4.5‬الذي يحتوي عىل توازنني مستقرين‪ 20 ،‬و‪ .100‬هنا سيتحرك الرأي العلني تجاه نقطة‬
‫من نقطتي التوازن أو أخرى‪ ،‬وذلك يعتمد عىل ما إذا كان التوقع املبديئ أقل أو أعىل من ‪.60‬‬
‫وللتوقع املبديئ أهمية حرجة ألن تأسيس تصورات األفراد األولية عن الحوافز التي متس‬
‫بسمعتهم هو ما يحدد الكيفية التي ستتطور بها تلك التصورات‪ .‬وحني يبلغ التصور املبديئ‬
‫‪ ،61‬تغدو الحوافز التي متس بالسمعة مواتية مبا فيه الكفاية لدعم ‪ 100‬للدرجة التي تجعل‬
‫أكرث من ‪ 61‬يف املائة من السكان يدعمونه بالفعل‪ .‬وتجعل االختيارات الحوافز أكرث مالمئة‬
‫لدعم املوقف ‪ ،100‬ما يجعل نسبة الداعمني الحقيقية أكرث من ذلك‪ .‬ويحرض كل فرد ميتطي‬
‫تلك املوجة التصاعدية أفرا ًدا آخرين لركوب تلك املوجة‪ ،‬حتى يحظى هذا املوقف بدعم جميع‬
‫بدال من ‪ ،61‬نتيجة مختلفة متا ًما‪ .‬ذلك أن‬
‫األفراد‪ 12.‬وسيولد توق ًعا أقل بدرجة طفيفة‪ً 59 ،‬‬
‫نسبة أقل من ‪ 59‬ستدعم ‪ 100‬فعليًا‪ ،‬ما ينشط بدوره موجة تنازلية يف اتجاه ‪.20‬‬
‫وحتى تتشكل املوجة وتبدأ يف الحركة‪ ،‬من الّضوري‪ ،‬إن مل يكن كافيًا‪ ،‬أن تعتمد‬
‫اختيارات األفراد عىل بعضها بعضً ا‪ .‬وال بد من أن يكون مجتمع األفراد القامئون باالختيارات‬
‫متباي ًنا‪ ،‬مبعنى أنه يستلزم كميات متباينة من الضغط إلثارة استجابة محددة‪ ،‬عىل أقل‬
‫تقدير‪ .‬ذلك أنه‪ ،‬إذا كان الجميع يتأثرون بنفس الكمية من الضغط‪ ،‬لبدل جميع األفراد‬
‫موقفهم بصورة جامعية يف نفس الوقت‪ 13.‬ورشط التباين هنا محقق بصورة واضحة يف‬
‫السياق الحايل‪ ،‬وذلك ألن أفراد املجتمع يتباينون يف تفضيالتهم الخفية‪ ،‬وحاجاتهم‬
‫التعبريية‪ ،‬ومخاوفهم من الرفض‪ .‬وتلمح تلك التباينات بوجود توزيع للعتبات السياسية‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫ومع وجود صناع قرار متباينني‪ ،‬بوسع املوجة أن تستمر يف التقدم طاملا ظلت التغريات يف‬
‫الضغط االجتامعي التي أحدثها الركاب الجدد تستمر يف أن تحرض فر ًدا آخر عىل األقل عىل‬
‫ركوب املوجة‪ .‬وال يوجد سبب‪ ،‬بالطبع‪ ،‬يجرب تلك املوجة عىل أن تستمر حتى يلحق الجميع‬
‫بركبها‪ .‬فعند نقطة ما‪ ،‬قد يفشل الضغط االجتامعي اإلضايف الذي ولده آخر الراكبني يف‬
‫تحفيز من يأيت بعده‪ .‬ويف الشكل ‪ ،4.5‬تتوقف املوجة التنازلية قبل وصولها إىل الصفر‪.‬‬
‫من شأن املوجة أن تكمل مسارها بّسعة فائقة‪ .‬ففي ‪ ،1975‬قبل أن تعلن إنديرا‬
‫غاندي عن حالة طوارئ يف جميع أنحاء الهند‪ ،‬ظهرت عالمات الضعف عىل حكومتها‪.‬‬
‫وعجت الشوارع باملحرضني املعادين للحكومة العازمني بثقة عىل أال يستسلموا‪ .‬ويف ظل‬
‫تلك األجواء‪ ،‬سأل قائد املعارضة جيه‪ .‬ب‪ .‬نارايان جمهو ًرا صاخ ًبا من الطالب عام إذا كانوا‬
‫يفضلون الذهاب إىل الفصل أو السجن‪ .‬فهتفوا جمي ًعا بصوت واحد «السجن!»‪ .‬ثم جاء‬
‫إعالن الطوارئ واعتقال قادة املعارضة‪ .‬ومع تاليش آمال الثورة‪ ،‬عاد املاليني من الطالب يف‬
‫هدوء إىل فصولهم يف غضون أسابيع‪ 14.‬ومن الواضح أن الطوارئ عدلت ديناميات الرأي‬
‫العلني من خالل التظاهر بأن حكومة غاندي ستتمكن‪ ،‬رغم كل يشء‪ ،‬من التمسك بالسلطة‬
‫واستعادة التأييد الشعبي‪ .‬استجاب بعض الطالب املحتجني باالنسحاب من الشوارع‪ ،‬ما‬
‫حفز املزيد منهم عىل االنسحاب‪ .‬ويف خالل تلك العملية تالشت االحتجاجات‪.‬‬
‫تبني الدور الحرج الذي تلعبه التوقعات من خالل تجارب ممنهجة‪ .‬واستكشفت إحدى‬
‫التجارب التي أجرتها كاثرين مارش يف إنجلرتا هذا الدور فيام يخص الرأي العلني عن‬
‫اإلجهاض‪ 15.‬ففي مجموعة من املحادثات‪ ،‬أدلت كاثرين ملجموعتني من املشاركني‪ ،‬غري واعني‬
‫بأنهم مشاركني يف تجربة‪ ،‬مبعلومات عن اتجاه الرأي العلني‪ .‬وأخربت املجموعة األوىل أن‬
‫الرأي العلني أضحى متسام ًحا بشكل متزايد مع اإلجهاض‪ ،‬وأخربت املجموعة األخرى أن‬
‫الرأي العلني أضحى متشد ًدا بشكل متزايد تجاه اإلجهاض‪ .‬وحني سألت عن تفضيالت‬
‫املشاركني يف تجربتها‪ ،‬وجدت أن عدد من عربوا عن اعرتاضهم عىل تشديد القيود عىل‬
‫اإلجهاض يف املجموعة األوىل أعىل بنسبة ‪ 12‬يف املائة من املجموعة الثانية‪ .‬وقبل مجيئهم‬

‫‪93‬‬
‫إىل املقابلة‪ ،‬كان معظم املشاركني يف تجربة مارش عىل علم بأن املوقف املتسامح أكرث‬
‫شعبية من املوقف املتشدد‪ ،‬وذلك يرجع بال شك إىل التغطية اإلعالمية الواسعة‪ .‬ورغم ذلك‬
‫مل يكن ألحد معلومات كافية عن اتجاه الرأي العلني‪ ،‬وقد يكمن سبب ذلك يف أن اإلعالم مل‬
‫يقدم تغطية كافية ملعلومات االتجاهات‪ .‬وتلمح مارش إىل أن املشاركني‪ ،‬نظ ًرا لجهلهم عن‬
‫االتجاه وحرصهم عىل معرفة املزيد عنه‪ ،‬تجاوبوا مع انطباعات املحاور‪ .‬وتقرتح حجتها أنه‬
‫حني يشعر الناس بأن الرأي العلني يتحرك‪ ،‬فإن من شأن توقعاتهم املتحركة أن تجعلهم‬
‫يكيفون تفضيالتهم العلنية‪ .‬ويف ذات الوقت‪ ،‬إذا توقع الناس أنهم سيكونون ضمن األقلية‪،‬‬
‫فقد يرتأوا البقاء هناك إىل أجل غري مسمى‪.‬‬
‫ويتامىش هذا التفسري مع الحجة املقدمة هنا‪ .‬فمجرد كون الناس يتوقعون أن موقفًا‬
‫ما سيكون ضمن األقلية ال يدفعهم بالّضورة إىل االندفاع بعي ًدا عنه‪ .‬ففي الشكل ‪ ،4.5‬حني‬
‫يبلغ الرأي العلني املتوقع ‪ 20‬فإن واحد من أصل خمسة من الناس سيظل ضمن األقلية‪،‬‬
‫دون تبديالت الحقة؛ إذ ال ينضم أفراد األقلية إىل األغلبية حني يتأكدوا من وضعهم كأقلية‪،‬‬
‫ألن هذا التأكيد ال يقدم معلومات جديدة‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬إذا كان الرأي العلني املتوقع ‪ ،30‬فإن‬
‫التحقق الالحق سيكون أصغر‪ ،‬ما يلمح إىل وجود معلومات جديدة‪ .‬وعىل غرار ما حدث يف‬
‫تجربة مارش فإن بعض الناس سيبدلون موقفهم‪.‬‬

‫قوة األحداث الصغرية‬

‫حتى وإن كان بإمكان االختالفات الطفيفة يف التوقعات أن تؤثر يف تحقيق الرأي العلني‪،‬‬
‫فمن املهم أن نعلم محددات تلك التوقعات‪ .‬فحني تطرح مسألة نفسها‪ ،‬ما الذي يؤسس التوقع‬
‫املبديئ؟‬

‫‪94‬‬
‫يف العادة‪ ،‬تلعب جموع من العوامل أدوا ًرا مختلفة‪ ،‬ومن بينها عوامل قد تبدو بال‬
‫أهمية‪ .‬لنقل إن ناشطة تدافع عن املوقف ‪ 0‬أصيبت باإلنفلونزا‪ ،‬ما اضطرها إىل االنسحاب‬
‫من نقاش تلفزيوين‪ .‬ويحظى ناشط آخر يدافع عن املوقف ‪ 100‬برتقية؛ ما يعزز من ثقته‬
‫بنفسه ويؤهله لرتك انطباع رائع بشكل غري عادي‪ .‬وبالصدفة‪ ،‬يجمع مؤمتر مخطط له منذ‬
‫وقت طويل مئات املحرتفني الذين مييلون إىل دعم املوقف ‪100‬؛ ومينح الصحفيني عن غري‬
‫قصد قد ًرا أكرب من التغطية لآلراء املنحازة للموقف ‪ 100‬عىل نحو غري متناسب‪ .‬ويتجسد‬
‫التأثري املشرتك لكل تلك األحداث العارضة يف انحياز التصورات املبدئية للرأي العلني‪ ،‬ومعها‬
‫التوقعات‪ ،‬لصالح ‪.100‬‬
‫ولن يجذب أي من تلك األحداث اهتامم علامء االجتامع الذين يحاولون تفسري سبب‬
‫اندفاع الرأي العلني لألعىل ال األسفل بأثر رجعي‪ .‬فالظروف التي حددت توقيت املؤمتر‬
‫ومزاج املحاور أو صحته هي عوامل قد يغفل عنها حتى محقق متدرب‪ .‬وتلك هي أحداث‬
‫صغرية‪ ،‬أي أحداث ال ترتك خلفها أي سجالت ميكن استعادتها عمليًا‪ 16.‬واعتام ًدا عىل‬
‫السياق‪ ،‬يركز املحللون عىل ظواهر ميكن رصدها بسهولة مثل االتجاهات الدميوغرافية‪،‬‬
‫والتكاليف االقتصادية لالختيارات املتاحة وفوائدها‪ ،‬ونقاط القوة التي تظهرها جامعات‬
‫الضغط املعنية‪ .‬وتلك الظواهر هي ذات صلة وأهمية بال شك‪ .‬ولكنها ليست عوامل حاسمة‬
‫دامئًا‪ .‬ففي وجود توازنات متعددة‪ ،‬من شأن حدث بال أهمية ذاتية يف حد ذاته أن يرتك أث ًرا‬
‫بالغًا يف مسار الرأي العلني‪ .‬وتحدي ًدا‪ ،‬من شأنه أن يحدد أي موجة من املوجتني أو أكرث‬
‫ستندفع لألمام‪.‬‬
‫ويف العلوم االجتامعية‪ ،‬قلام يقدر أحدهم حقيقة أن من شأن األحداث الصغرية أن‬
‫حا هو أن معظم األحداث الصغرية ال تتسبب‬
‫يكون لها تأثريات كبرية‪ .‬والسبب األكرث وضو ً‬
‫يف نتائج طويلة املدى‪ .‬ذلك أن توقيت الرتقية أو توقيت مرض أحد ما ليس له تأثري سيايس‬
‫حا يف امليل إىل االعتقاد بأن نتائج التفاعالت‬
‫يف الظروف العادية‪ .‬ويكمن سبب أقل وضو ً‬
‫اإلنسانية املمكنة فريدة‪ .‬فحني يكون هناك توازن واحد فقط‪ ،‬من شأن التغريات الطفيفة يف‬

‫‪95‬‬
‫التوقعات أن تعدل رسعة وصول النظام إىل وضع االستقرار‪ ،‬ولكن ليس النتيجة النهائية‪.‬‬
‫فنظ ًرا إىل أن كل املسارات تصل إىل نفس املكان‪ ،‬فمن شأن األحداث الصغرية أن تطيل أو‬
‫تقرص الرحلة ولكنها لن تؤثر عىل الوجهة النهائية‪ .‬ولكن األمور تختلف يف وجود توازنات‬
‫متعددة‪ .‬فحني تكون هناك وجهتان أو أكرث‪ ،‬من شأن األحداث الصغرية أن تؤثر يف كلٍ من‬
‫رسعة التكيف والوجهة النهائية‪ .‬ولكن من األسباب األخرى التي تجعل الناس يستخفون‬
‫باألحداث الصغرية هو تعارض املفهوم مع «اإلرشادية التمثيلية»‪ ،‬وهي اختصار عقيل‬
‫نستخدمه جمي ًعا يف محاولة التكيف مع حدودنا الذهنية‪ .‬تدفعنا اإلرشادية التمثيلية إىل‬
‫توقع كون األسباب مشابهة آلثارها‪ ،‬مثلام نعترب أن السبب يف حرب مدمرة هو كساد‬
‫اقتصادي‪ 17.‬وباالستناد إىل قانون التمثيل‪ ،‬فالحدث الصغري غري ممثل لنتيجة كبرية‪ ،‬ولذا‬
‫فال ميكن الربط بني االثنني بعالقة سببية‪ .‬فال ميكن الغتيال رئيس أمرييك أن يكون من‬
‫تدبري قاتل مختل وحده؛ بل ال بد من أن هناك مؤامرة رشيرة نسقها عدو قوي‪ ،‬ذلك أن‬
‫الحدث الكبري وحده هو الذي ميثل نتيجة كبرية‪ .‬ومبنطلق التعريف‪ ،‬القوة الكبرية مرئية‪،‬‬
‫‪18‬‬
‫يف حني أن الحدث الصغري خفي‪.‬‬

‫لعبة التوقعات‬

‫إذا كان من الشائع االستهانة بأهمية األحداث الصغرية‪ ،‬فمن الصعب القول إن‬
‫وعلام‬
‫ً‬ ‫العنارص السياسية الفاعلة تترصف كام لو كانت األحداث الصغرية بال أهمية سياسية‪.‬‬
‫بأن من شأن التوقعات أن تغذي نفسها وأن تتسبب يف نتائج حقيقية‪ ،‬يضطلع السياسيون‪،‬‬
‫ورجال الدولة‪ ،‬والجهات الضاغطة بحمالت تسعى إىل تشكيل التصورات عن موقف الرأي‬
‫العلني واالتجاه الذي يسلكه‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫دعت جامعة أصولية أمريكية نفسها منذ عهد طويل «األغلبية األخالقية»‪ .‬وقد واجهها‬
‫النسويون املعارضون ألهدافها بإنشاء «صندوق تربعات لألغلبية النسوية»‪ .‬ويحمل كل لقب‬
‫زعام بشأن تفضيالت األمريكيني‪ .‬إذ يؤكد األول أن‬
‫من ألقاب الجامعات تلك يف طياته ً‬
‫األمريكيني يدعمون األهداف األخالقية لألصوليني‪ ،‬يف خفاء عىل أقل تقدير؛ يف حني يؤكد‬
‫األخري أن األمريكيني مييلون إىل دعم أهداف النسويني املنظمني‪ .‬ومام ال شك فيه أنه من‬
‫املمكن أن يكون كال الزعمني صحي ًحا يف نفس الوقت‪ .‬ذلك أن حدود اإلدراك البرشي تسمح‬
‫كال من «القيم‬
‫بالتعايش السلمي ملعتقدات متناقضة‪ ،‬بحيث ميكن لشخص ما أن يفضل ً‬
‫العائلية» التقليدية كام يفهمها األصوليون‪ ،‬و«تحرير املرأة» كام تفهمها النسوية املنظمة‪.‬‬
‫ويف الواقع‪ ،‬ال تحظى أي أجندة من أجندات الجامعتني واسعة النطاق بدعم يقرتب حتى من‬
‫دعم األغلبية‪ .‬فمهام كان مدى عدم االتساق اإلدرايك‪ ،‬ميثل كل زعم بدعم األغلبية نو ًعا من‬
‫املبالغة‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬متيض الجامعتني يف الرتويج لهذا الزعم بشكل متكرر‪ ،‬ألن املروجني‬
‫عىل علم بأنه‪ ،‬يف املسائل القادرة عىل توليد تزييف للتفضيل عىل نطاق واسع‪ ،‬من شأن‬
‫حتى أكرث املزاعم تطرفًا أن تغدو محققة لذاتها‪ .‬وبالفعل‪ ،‬يفهم النشطاء عىل كال الجانبني‬
‫أن بوسعهم تعويض أعدادهم الضئيلة ونقاط الضعف التنظيمية لديهم مبجرد تحويل‬
‫التوقعات لصالحهم‪.‬‬
‫وتأخذ جهود تحريف التصورات عن الرأي العلني أشكاالً إضافية‪ .‬إذ تركز جامعات‬
‫الضغط عىل االستطالعات التي تظهر شعبية موقفهم‪ ،‬وتحاول التشكيك يف االستطالعات‬
‫التي ال تصب يف صالحهم‪ .‬وهم يتالعبون باالستبيانات من خالل اختيار وصياغة األسئلة‪.‬‬
‫ويضخمون من معدالت املشاركة يف تجمعاتهم‪ ،‬واستقبال املكاملات‪ ،‬واإلرضابات‪،‬‬
‫واملقاطعات‪ .‬ويسعون من خالل أدوات مثل الكتب املدرسية‪ ،‬ومقاالت اآلراء‪ ،‬واالحتجاجات‬
‫الجامعية إىل جعل مواقفهم مقبولة باعتبارها «طبيعية»‪ ،‬أي مواقف يعتربها األشخاص‬
‫املحرتمون عقالنية‪ ،‬ونافعة‪ ،‬وناجعة‪ 19.‬وتساهم تلك الجهود أيضً ا‪ ،‬كام سرنى الحقًا‪ ،‬يف‬

‫‪97‬‬
‫تشكيل املعتقدات والتفضيالت الخفية‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬فالهدف املبارش عاد ًة هو التحكم يف‬
‫التصورات عن الرأي العلني السائد‪.‬‬
‫ويبدو أن النشطاء السياسيني لديهم فهم بسيط عن تزييف التفضيل‪ ،‬وعملية ركوب‬
‫األمواج‪ ،‬وإمكانية وجود أكرث من موجة‪ ،‬وطرق التأثري يف املوجة التي يقع عليها االختيار‪.‬‬
‫وال يعني ذلك أن بوسعهم صياغة نظرية متامسكة للعملية السياسية‪ .‬فإذا ُسئلوا عن تفسري‬
‫السبب يف الفرق الكبري الذي تحدثه املزاعم املبالغ فيها‪ ،‬فمن املرجح أن إجاباتهم لن ترقى‬
‫إىل مستوى املعايري العلمية املعمول بها‪ .‬ولكن بإمكان الفرد أن يكون له الحدس الصحيح‬
‫دون أن يكون قاد ًرا عىل توفري تفسري شامل وسليم منطق ًيا‪ .‬فرغم كل يشء‪ ،‬يأخذ البناؤون‬
‫الجاذبية يف اعتبارهم حتى دون تعرضهم للفيزياء الرسمية‪.‬‬
‫ومن خالل تفسرياتهم وتوقعاتهم‪ ،‬يساهم الباحثون يف التالعب بالتوقعات‪ ،‬عن غري‬
‫قصد يف كثري من األحيان‪ .‬فبوسع كتاب عن النمو االقتصادي الياباين أن يؤثر يف‬
‫التصورات عن الرأي العلني فيام يخص التجارة الحرة‪ .‬وبوسع أطروحة عن جرائم الشارع‬
‫أن تحرف الشعبية املتصورة لجرمية اإلعدام‪ .‬وما يدعم القوة املحتملة للبحث األكادميي هو‬
‫حقيقة أن جامعات الضغط املهددة باكتشافات محددة تفوض بإجراء دراسات مضادة‪.‬‬
‫حا هو‬
‫ويكمن سبب ذلك جزئيًا يف التحكم بالرأي الخفي؛ ولكن من األسباب األكرث إلحا ً‬
‫التحكم يف الرأي العلني‪.‬‬

‫جهل تعددي‪ :‬الرأي العلني‬

‫حني تتعرض أجندة جامعة ما للطعن‪ ،‬فستواجه جهودها لتشكيل التوقعات عن الرأي العلني‬
‫عاد ًة بعض التحديات‪ .‬فقد تبطل جهود الجامعات املنافسة تلك الجهود‪ .‬ويف املثال السابق‪،‬‬
‫تبطل مبالغات النسويني بعض مبالغات األصوليني‪ ،‬والعكس بالعكس‪ .‬ولكن الجهود‬

‫‪98‬‬
‫املوازية ال تحبط كل جهود التأثري يف التوقعات‪ .‬فمن شأن الظروف العارضة‪ ،‬أو الفرق بني‬
‫موارد الجامعات املنافسة‪ ،‬أن ترتك بعض الجهود دون عرقلة‪.‬‬
‫ما مدى الفعالية املمكنة ملثل تلك الجهود التي ال يقابلها رد فعل مضاد؟ هل تتسم‬
‫التوقعات عن الرأي العلني بكونها مرنة مبا فيه الكفاية لتستحق عناء محاولة تشكيلها؟‬
‫أوال أن نستكشف تشكيل التوقعات الفردية‪ .‬فكر يف‬
‫حتى نحظى بإجابة‪ ،‬علينا ً‬
‫شخص يريد أن يجس نبض الرأي العلني فيام يخص اإلجهاض‪ .‬وهو يستخلص بعض‬
‫املعلومات من األقوال العلنية لجهات اتصاله املبارشة‪ .‬ولكن األشخاص الذين يتبادل معهم‬
‫اآلراء السياسية مييلون إىل أن يكون لديهم خلفيات وشواغل مشابهة ملا لديه‪ ،‬ولذا فإن آرائهم‬
‫غري ممثلة للرأي العلني األوسع‪ .‬وحني يشعر الفرد بالتحيزات القامئة‪ ،‬يرشع يف البحث عن‬
‫متثيال‪ .‬ثم يجذب نظره استطالع ما‪ :‬فأثناء استامعه لحوار إذاعي‬
‫ً‬ ‫معلومات ذات طبيعة أكرث‬
‫عن حقوق النساء‪ ،‬يسمع أن «وحدهم الرجعيون من يرفضون حق املرأة يف االختيار»؛ ويف‬
‫أحد األفالم التي يشاهدها‪ ،‬يُصور معارض اإلجهاض عىل أنه رشير‪ .‬وبتجميع تلك‬
‫القصائص من املعلومات‪ ،‬يستنبط الفرد أن الرأي العلني متعاطف مع حقوق اإلجهاض‪.‬‬
‫ومن غري املرجح لهذا الفرد أن يستعني باملعلومات التي يف حوزته بطريقة تريض‬
‫عامل إحصاء‪ .‬إذ يظهر البحث النفيس أن األشخاص يسيئون إيالء األهمية للمعلومات بشكل‬
‫روتيني‪ ،‬ما ينتج عنه أخطاء منهجية حني يحاول األفراد تحديد خصائص مجموعات سكانية‬
‫استنا ًدا إىل معلومات مجزأة‪ .‬ويخالف حتى األشخاص الذين درسوا اإلحصاءات الرسمية‬
‫املبادئ اإلحصائية األساسية يف جميع سياقات الحياة‪ .‬فرغم إدراكهم التام لحقيقة أن‬
‫العينات الصغرية ال ميكن االعتامد عليها مثل العينات الكبرية‪ ،‬فهم يف بعض األحيان‬
‫ينسبون أهمية غري مستحقة للمعلومات املستمدة من عينات ضئيلة‪ .‬ورغم إدراكهم التام‬
‫ملفهوم االنحياز االستعياين‪ ،‬فهم يعجزون يف أحيان كثرية عن تقدير التحيزات الناتجة عن‬
‫إجراء استعيان محدد‪ .‬ويف إحدى التجارب املهمة‪ ،‬حصلت مجموعة من الطالب عىل متوسط‬
‫تقييامت مساق ما يلخص آراء دزينات من الطالب السابقني‪ .‬وسمعت مجموعة ثانية‬

‫‪99‬‬
‫تقييامت طالب سابقني لنفس املساق عىل نفس املقياس وقدموا تعليقات متسقة مع‬
‫تقييامتهم‪ .‬وكان للتقييامت الشخصية امللموسة التي سمعتها املجموعة الثانية تأثري أكرب‬
‫عىل اختياراتهم للمساق من التأثري الذي أحدثه املتوسط املجرد من عينة كبرية عىل اختيارات‬
‫‪20‬‬
‫املجموعة األوىل‪.‬‬
‫وتشري تجارب أخرى أنه يف محاولة قياس الرأي العلني‪ ،‬مييل الناس إىل إيالء أهمية‬
‫مفرطة للبيانات امللموسة الشخصية الحية املتجسدة يف جهات اتصالهم املبارشة‪ 21.‬وبقدر‬
‫مهام‪ ،‬فستعجز نشاطات جامعات الضغط املنافسة عن مجانسة التوقعات‬
‫ما يُعد هذا التحيز ً‬
‫الفردية للرأي العلني‪ .‬وستغدو التباينات واضحة بصفة خاصة حني تكون الجامعات‬
‫متشابهة يف الحجم‪ ،‬وذلك ألن باإلمكان امليض يف املزاعم املنافسة عن الرأي العلني أو‬
‫كال من اإللحاح والفعالية املمكنة‬
‫اتجاهه دون استنزاف املصداقية‪ .‬وتعزز التباينات التوقعية ً‬
‫للربوباغندا التي تخص حال الرأي العلني‪ .‬وأينام تجد توقعات تبني وجود اختالفات‬
‫ملموسة‪ ،‬فستجد العديد من الناس الذين ميكن مفاجأتهم؛ والرسالة التي تفاجئ األشخاص‬
‫املناسبني يف الوقت املناسب بوسعها أن تنشط موجة تغري الرأي العلني بشكل جذري‪.‬‬
‫ومتى تبدأ املوجة يف الحركة‪ ،‬ال يسع الناس إال أن يالحظوا أن الرأي العلني يتغري‪.‬‬
‫ويف سبيل تحقيق مصلحتهم الخاصة‪ ،‬يغدو الناس أكرث يقظة لإلشارات الصادرة من‬
‫املجتمع األوسع‪ ،‬وقد تتسبب ردود أفعالهم يف تعجيل املوجة‪ .‬ولذا فمن شأن املوجة التي‬
‫تنشأ عقب فرتة من التخبط بشأن الرأي العلني أن تأخذ مجراها بّسعة شديدة‪ .‬فكر يف‬
‫إيران يف شتاء ‪ .79–1978‬فحني ازدهرت املعارضة املعادية للشاه‪ ،‬أضحى التحول يف‬
‫الرأي العلني ملحوظًا بدرجة متزايدة‪ .‬ويف خالل تلك العملية‪ ،‬أضحى زعم الشام بأن‬
‫ريا غري مقن ًعا بشكل واضح‪ .‬وأدرك حتى كل فرد يف حاشية‬
‫املحتجني ميثلون هامشً ا صغ ً‬
‫الشاه‪ ،‬الذين كانوا يتفاعلون بصفة أساسية مع املواليني اآلخرين‪ ،‬ما كان يحدث‪ .‬ويف‬
‫املراحل األولية من االنتفاضة‪ ،‬مل يكن االتجاه بنفس الوضوح‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫يستعني علامء النفس االجتامعيني مبصطلح الجهل التعددي لوصف املفاهيم‬
‫املغلوطة عن توزيعات التفضيالت‪ 22.‬ويف سياقنا هذا‪ ،‬تعني زيادة إمكانية الجهل التعددي‬
‫إدراك أنه‪ ،‬حني يحاول الناس تقدير الرأي العلني‪ ،‬فهم يستعينون باختصارات عقلية تخالف‬
‫املبادئ اإلحصائية األساسية‪ .‬وال يعني شيوع تلك األحكام الخاطئة بالطبع أن تقديرات‬
‫األفراد مستقلة عن االتجاهات الحقيقية‪ .‬إذ متيل التحوالت الكبرية يف الرأي العلني إىل أن‬
‫حا للمؤرشات‬
‫تكون مالحظة عىل نطاق واسع‪ ،‬وتجعل األحداث املفاجئة الناس أكرث انفتا ً‬
‫الواسعة للرأي العلني‪.‬‬

‫جهل تعددي‪ :‬الرأي الخفي‬

‫ينطبق مصطلح الجهل التعددي عاد ًة عىل الرأي الخفي عوضً ا عن الرأي العلني‪ .‬ومثة‬
‫أدبيات ضخمة تستكشف التصورات الفردية للرأي الخفي‪ .‬وهي تجد أن الناس عاد ًة ما‬
‫يخطئون الحكم عىل الرأي الخفي بدرجة كبرية – وهو اكتشاف له تبعات خاصة مبسألة‬
‫طُرحت يف الفصل الثاين‪ ،‬وهي إمكانية تزييف التفضيل‪ .‬دعنا نعد أوالً إىل األدلة‪.‬‬
‫كشفت مجموعة من الدراسات عن نزعة لدى األمريكان البيض يف ستينيات‬
‫وسبعينيات القرن العرشين إىل املبالغة يف تقدير دعم البيض للفصل العنرصي اإلجباري‪.‬‬
‫فطبقًا لدراسة‪ ،‬أيد ‪ 18‬يف املائة من البيض الفصل العنرصي‪ ،‬ولكن ‪ 47‬يف املائة منهم ظنوا‬
‫أن معظم الناس يؤيدون ذلك‪ 23.‬وقد نكب هذا التصور الخاطئ بكل الفئات االجتامعية‪،‬‬
‫والفئات العمرية‪ ،‬واملناطق‪ .‬وظهرت نتيجة متعلقة بذلك بشأن اآلراء حول ما إذا كان «للبيض‬
‫الحق يف طرد الزنوج من أحياءهم إذا أرادوا ذلك»‪ .‬وكان لتصور وجود أغلبية بيضاء مؤيدة‬
‫ضئيال عىل إجابات البيض املؤيدين لفرض الفصل العنرصي أو البيض‬
‫ً‬ ‫ريا‬
‫للفصل تأث ً‬

‫‪101‬‬
‫املؤيدين لفرض إلغاء الفصل العنرصي‪ .‬ولكن‪ ،‬من بني من مل يكن يؤيد أي خيار من‬
‫الخيارين السابقني‪ ،‬فقد عزز التصور استعدا ًدا لتبني الفصل العنرصي داخل ًيا‪.‬‬
‫تفضيال لصالح الفصل العنرصي‪ ،‬و‪ 100‬ميثل‬
‫ً‬ ‫ولتفسري تلك النتائج‪ ،‬لنقل إن ‪ 0‬ميثل‬
‫تفضيال لصالح إلغاء الفصل العنرصي‪ ،‬والقيم التي تحوم حول ‪ 50‬متثل موقفًا محاي ًدا‪ .‬من‬
‫ً‬
‫شأن االعتقاد بأن مؤيدي الفصل العنرصي ميثلون أغلبية أن يخلق ضغطًا اجتامع ًيا لصالح‬
‫الفصل العنرصي‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬حاف ًزا متعلقًا بالسمعة لدعم املوقف ‪ .0‬ولكن بالنسبة ملن له‬
‫تفضيل خفي فوق الصفر‪ ،‬مثة حافز مضاد‪ :‬وهو خسارة املنفعة التعبريية‪ .‬وتلك الخسارة‬
‫رسا‪ .‬ولذا فإن الضغط املؤيد‬
‫أقل بالنسبة ملن لديه تفضيل شخيص عند ‪ 50‬ممن يفضل ‪ً 100‬‬
‫للفصل العنرصي الذي يجعل األول يؤيد العنرصية قد يفشل يف استاملة األخري‪.‬‬
‫واالكتشاف الرئييس هو أنه‪ ،‬رغم أن عدد البيض املؤيدين لفرض الفصل العنرصي‬
‫ضئيال‪ ،‬فقد كان الكثري عىل استعداد لتأييده عىل اعتقاد خاطئ بأن معظم البيض كانوا‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫مؤيدين للفصل العنرصي‪ .‬ومل يكن هذا االكتشاف ليفاجئ غونار مريدال‪ ،‬مؤلف األعامل‬
‫قائال‪:‬‬
‫الكبرية عن عالقات العرق األمريكية‪ .‬فقد علق عىل استعداد البيض لتوظيف السود ً‬
‫«من خالل تواصيل مع رجال األعامل يف مجاالت عديدة –من مرصفيني‪ ،‬ورجال تأمني‪،‬‬
‫ورجال صناعة‪ ،‬ومديري املحالت التجارية– قيل يل مرا ًرا وتكرا ًرا أنهم ال يجدون أي‬
‫غضاضة من توظيف الزنوج‪ ،‬وأنا أعتقد أنهم يقولون الحقيقة‪ .‬وما مينعهم من ذلك هو‬
‫االعتبارات التي عليهم أن يتخذوها بشأن توجهات الزبائن وزمالء العمل»‪ 24.‬تشمل تلك‬
‫أوال‪ ،‬ال تنطوي العنرصية من جانب أصحاب األعامل عىل مشاعر‬
‫الفقرة نقطتني محوريتني‪ً .‬‬
‫خفي بقدر ما ترتبط بالسلوك العلني‪ .‬وثان ًيا‪ ،‬ميارس أصحاب األعامل غري العنرصيني يف‬
‫حد ذاتهم التمييز ضد السود تحت وطأة الضغط املتصور من الزبائن‪ .‬ولذا فإن التمييز الذي‬
‫ميارسه أصحاب األعامل يف أغلب األحيان هو من تجليات تزييف التفضيل‪ .‬ورغم ذلك فقد‬
‫يكون الزبائن العنرصيني ظاهريًا بدورهم مشاركني أيضً ا يف تزييف التفضيل‪ .‬ومن املحتمل‬

‫‪102‬‬
‫أن مطالبهم العنرصية ال تعكس تحيزاتهم الشخصية الخفية بل سعيهم الحتواء التحيزات‬
‫الظاهرية لآلخرين ببساطة‪.‬‬
‫يلمح التفسري اآلنف ذكره أن بعض العنرصية امللحوظة عىل األقل تنطوي عىل‬
‫تزييف التفضيل يف استجابة لتزييف التفضيل من جانب آخرين‪ .‬ويقودنا هذا إىل السؤال‬
‫عام إذا كان ميكن لتزييف التفضيل أن يتسم باملصداقية‪ .‬فلنأخذ موظفًا أبيض وزبون أبيض‪.‬‬
‫إذا ترصف كالهام بشكل عنرصي‪ ،‬هل سيعلم كل منهام أن اآلخر يتقمص األدوار وحسب؟‬
‫تذكر أن الحركات الجسدية الالإرادية قد تفصح عن مشاعر يحاول الفرد أن يخفيها‪.‬‬
‫وإذا كان باإلمكان رصد تلك الحركات دون بذل أي عناء‪ ،‬وإذا كشفت تلك الحركات‬
‫عن املشاعر الحقيقية التي يخفيها الشخص متا ًما‪ ،‬فمن املستحيل أن يختلق أحدهم‬
‫العنرصية‪ .‬فعىل غرار بينوكيو الذي تكرب أنفه كلام كذب‪ ،‬يصدر الشخص الخايل من‬
‫املشاعر العنرصية إشارات الإرادية تدل عىل نزعته غري العنرصية يف كل ترصف عنرصي‬
‫منافق‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬عىل غرار الجنية الزرقاء التي تعلم متا ًما السبب يف تضخم أنف‬
‫بينوكيو‪ ،‬بوسع جمهور املستمع لهذا العنرصي الزائف أن يحدد بكل سهولة املشاعر الخفية‬
‫غري العنرصية التي يحاول هذا الشخص أن يخفيها‪ .‬ورغم ذلك فإن بينوكيو والجنية الزرقاء‬
‫شخصيتني خياليتني من نسخ مخيلة راوي قصص بارع‪ .‬ذلك أنه ناد ًرا ما تكون عالمات‬
‫النفاق واضحة بقدر وضوح أنف متضخمة‪ .‬وحتى إن لُوحظت‪ ،‬فهي ال تفسح املجال‬
‫للتفسري السهل دامئًا‪.‬‬
‫يف أملانيا النازية‪ ،‬اعتمد املسؤولون الذين يحاولون التحقق من والء الفرد عىل أقاويله‬
‫املعلنة من ناحية‪ ،‬وعىل إشارات مثل أسلوبه يف التحية‪ ،‬واستعداده للتربع للحزب‪ ،‬وسلوك‬
‫أطفاله من ناحية أخرى‪ .‬ومع شعورهم بأن النظام يبث الخوف يف نفوس الناس‪ ،‬اعترب‬
‫رشا ال يعتمد عليه للرأي الخفي‪ .‬ورغم ذلك فهم مل يكونوا عىل‬
‫املسؤولون الرأي العلني مؤ ً‬
‫األرجح بارعني للغاية يف تحديد أعوانهم املنافقني‪ .‬فال بد من أن حاالت عديدة من تزييف‬
‫التفضيل مرت دون اكتشاف‪ .‬وعىل نفس املنوال‪ ،‬من املؤكد أن بعض املتهمني بالعداوة‬

‫‪103‬‬
‫الّسية للنازيني كانوا من املؤمنني الحقيقيني‪ .‬فرغم أن التقييامت العلمية لنجاح األشخاص‬
‫يف اكتشاف الخداع تظهر أن الدقة أفضل بدرجة كبرية من الحظ‪ ،‬فهي تظل نسبة نجاح‬
‫متواضعة باملعايري املطلقة‪ 26.‬ولذا فإن تزييف التفضيل ال يكشف عن نفسه دامئًا‪.‬‬
‫وال يجادل أحد بأن النفاق ال يتسم بالشفافية أب ًدا‪ .‬فنحن نفهم جمي ًعا أن الشخص‬
‫الذي يقدم محفظته للصوص املسلحني يفعل ذلك بدافع الخوف عوضً ا عن الكرم‪ .‬ولكن‬
‫ليس بوسعنا أن نتيقن بنفس الدرجة من صدق تفضيل من املحتمل له أن يكون بدافع‬
‫املصلحة الذاتية‪ .‬فحني ترتدي طالبة مسلمة غطاء الرأس‪ ،‬هل هي تستجيب للضغط‬
‫االجتامعي‪ ،‬أم أنها تترصف بنا ًء عىل رغبة أنثوية يف االحتشام‪ ،‬أم مزيج من كليهام؟ ال ميكن‬
‫استبعاد أي احتامل من تلك االحتامالت مسبقًا‪ .‬حتى وإن كان لدينا معلومات مستفيضة‬
‫بشأن شخصيتها‪ ،‬وقناعاتها الدينية‪ ،‬والظروف السياسية يف مجتمعها‪ ،‬فال يسعنا أن نحدد‬
‫دوافعها عىل وجه اليقني‪ .‬فهناك فرق بني التعرف عىل الضغوطات االجتامعية الفاعلة‪ ،‬وبني‬
‫تحديد نفوذها الدقيق عىل اختيارات شخص محدد‪.‬‬
‫ورغم كل ذلك‪ ،‬فنحن نستخلص استنتاجات يف حاالت مثل هذه بشكل روتيني‪ .‬هل‬
‫تتسلل أي تحيزات منهجية إىل استنتاجاتنا؟ وتحدي ًدا‪ ،‬هل أخطاء التفسري التي نرتكبها‬
‫منحازة لصالح العوامل الظرفية التي تولد تزييف التفضيل أم منحازة ضدها؟ تشري األدلة‬
‫إىل أننا منيل إىل االستهانة بتأثري الضغوطات االجتامعية عىل التفضيالت العلنية‪ .‬فنحن‬
‫نخلط بني التفضيالت العلنية والتفضيالت الكامنة الخفية يف أحيان كثرية بسبب استبعادنا‬
‫لقوة الضغط‪.‬‬
‫علام بتجربة ميلغرام‪ ،‬مبا فيها حقيقة‬
‫يف تجربة كاشفة‪ ،‬أحيطت مجموعة من العلامء ً‬
‫أن ‪ 65‬يف املائة من «املعلمني» أطاعوا األوامر بإيصال صدمات يف نطاق املوت «‪ .»XXX‬ثم‬
‫ُعرض عىل املشاركني وصفًا ملعلمني من الذين أوصلوا أقوى صدمة ممكنة‪ ،‬وطُلب منهم أن‬
‫يقيموهم من حيث بعض السامت مثل الدفء‪ ،‬واللطف‪ ،‬واالمتثال‪ .‬ومالت التقييامت إىل أن‬
‫تكون بعيدة كل البعد عن اإلطراء لهؤالء «املعلمني»‪ .‬ومل متنعهم معرفة أن إيصال الصدمة‬

‫‪104‬‬
‫كان االستجابة النموذجية بني املشاركني من إحالة ترصف هؤالء «املعلمني» إىل عيوب يف‬
‫الشخصية‪ 27.‬ويف تجربة مشابهة‪ ،‬تعرض املشاركون إىل إعادة تجسيد لتجربة ميلغرام‪،‬‬
‫وشاهدوا أحد «املعلمني» يطيع األوامر لدرجة إيصال الصدمة القصوى‪ .‬وحني طُلب منهم‬
‫أن يتنبؤوا بالكيفية التي سيترصف بها بقية «املعلمني»‪ ،‬استهانوا بدرجة شديدة بفعالية‬
‫الضغوطات التي شهدوها للتو‪ .‬وقد أخطأوا حتى يف التقدير حني حصلوا بذات أنفسهم‬
‫عىل فرصة للعب دور «املعلم»‪ .‬ومل متنعهم تلك التجربة من إحالة أفعال «املعلمني» الالحقة‬
‫‪28‬‬
‫إىل عيوب يف الشخصية‪.‬‬
‫تُعرف النزعة اإلنسانية إىل االستهانة باملحددات الخارجية الختيارات اإلنسان‪،‬‬
‫واملبالغة يف تقدير املحددات الداخلية بــخطأ اإلحالة األسايس‪ 29.‬ويستدعي مبدأ اإلحالة‬
‫املعياري الصحيح حذ ًرا يف نسب فعل ما إىل نزعة الفاعل الشخصية طاملا أن هذا الفعل‬
‫فمثال‪ ،‬إذا صوتت لجنة باإلجامع عىل إعادة انتخاب رئيسهم الحايل‪ ،‬فال يسع املرء‬
‫ً‬ ‫‪30‬‬
‫منطي‪.‬‬
‫أن يستنبط الكثري من تلك املعلومة وحدها عن ميول أعضاء اللجنة مبفردهم‪ .‬إذ ال ميكن‬
‫تربير مثل تلك االستنباطات إال إذا كانت الضغوطات الفاعلة خالل التصويت مفهومة جي ًدا‪.‬‬
‫فإذا ُعرف أن الرئيس الحايل لديه بعض املنافسني‪ ،‬وأن التصويت كان من خالل اقرتاع‬
‫رسي‪ ،‬فمن املعقول أن نستنبط أن أعضاء اللجنة اعتربوا الرئيس الحايل أصلح شخص لتلك‬
‫الوظيفة‪ .‬أما إذا كان التصويت من خالل رفع األيادي‪ ،‬وإذا كانت هناك عالمات تشري إىل أن‬
‫معاريض هذا الرئيس قد يتعرضون لإلقصاء‪ ،‬فال يجدر بنا استنباط أي يشء عن أي مشاعر‬
‫شخصية يكن بها أي مصوت‪ .‬ورغم ذلك تظهر األبحاث أن األشخاص مييلون إىل عدم‬
‫التمييز بني تلك املواقف بشكل سليم‪ .‬وتقدم نزعة إساءة تفسري القوة الفاعلة يف تجربة‬
‫ميلغرام برهانًا ال مثيل له يف الوضوح‪.‬‬
‫قد رأينا سالفًا أن بإمكان الجهل التعددي أن يكون قامئًا فيام يخص الرأي العلني‪.‬‬
‫وهنا نرى أن بإمكانه أن يكون قامئًا فيام يخص الرأي الخفي أيضً ا‪ .‬تظهر التجارب املعملية‬
‫أننا نستنبط سامت شخصية من ترصفات مدفوعة بعوامل ظرفية بصفة شائعة‪ .‬أو بعبارة‬

‫‪105‬‬
‫أخرى‪ ،‬نحن نخلط بني التفضيالت العلنية والتفضيالت الخفية باستمرار‪ .‬وال ميكن إنكار‬
‫أننا نتمكن يف بعض األحيان من إدراك تزييف التفضيالت‪ ،‬ومن إدراك مدى انتشاره بوجه‬
‫عام‪ .‬ولكن النقطة التي أرمي إليها هو أن السبل التي نستعني بها يف تحديد حاالت محددة‬
‫ريا يف‬
‫بعينها من تزييف التفضيل أبعد ما تكون عن الكامل‪ .‬وباملثل‪ ،‬ال يصبح املرء خب ً‬
‫اكتشاف تزييف التفضيل مبجرد معرفة أن األشخاص يحرفون رغباتهم الخاصة بصفة‬
‫شائعة‪.‬‬
‫ومن العواقب املهمة لنزعتنا إىل الخلط بني التفضيالت العلنية الخفية هو مضاعفة‬
‫قوة األحداث الصغرية وبالتايل التأثري املحتمل للنشاطات السياسية التي تشكل توقعات‬
‫الفرد‪ .‬وطاملا بالغنا يف تقدير صدق الرأي العلني فسنبالغ يف تقدير دميومته‪ ،‬وسنتكيف‬
‫حساسا للغاية تجاه العالمات‬
‫ً‬ ‫عىل نحو أيّس لتحوالته الظاهرية‪ .‬ولذا‪ ،‬قد يكون الرأي العلني‬
‫التي تدل عىل كونه يف حالة تغري مستمر‪ .‬فمن شأن احتجاج صغري أو مؤمتر ال يجذب إال‬
‫قليال من االهتامم يف العادة أن يولدا تحوالت كبرية يف تصورات األشخاص‪ ،‬ما ينشط موجة‬
‫ً‬
‫تبلغ ذروتها يف رأي علني مختلف جذريًا‪.‬‬
‫قد رأينا أن الجهل التعددي ممكن فيام يتعلق بكلٍ من الرأي العلني والخفي‪ .‬وعالو ًة‬
‫عىل ذلك‪ ،‬من شأن كل نوع من الجعل التعددي أن يكون له آثار جسيمة‪ .‬فال يلزم أن تكون‬
‫التوقعات التي تشكل تفضيالتنا العلنية دقيقة‪ ،‬وقد تكون أحكامنا الخاطئة ذات تبعات‬
‫حاسمة ملسار الرأي العلني‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬قد نستهني بدرجة كبرية مبساهمة تزييف‬
‫التفضيل يف استمرارية الرأي العلني‪ .‬ولتلك االستنتاجات انعكاسات عىل كفاءة الحوكمة‬
‫بصفة عامة‪ ،‬والدميقراطية بصفة خفية‪ .‬وتحديد تلك االنعكاسات هو من بني أهداف الفصل‬
‫القادم‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫املصادر املؤسسية لتزوير التفضيل‬

‫حتى هذه املرحلة‪ ،‬مل يضف الجدال أي دور رسمي لإلطار املؤسيس الذي يجري ضمنه‬
‫اعتامد الخيارات الشخصية والجامعية‪ .‬يف أثناء استكشايف عملية االختيار التعبريي‬
‫الفردي‪ ،‬مل أُعر اهتام ًما لالختالفات يف التعريفات التي تضعها األنظمة السياسية للحقوق‬
‫الفردية‪ .‬كام أنني‪ ،‬يف تحلييل تكوين الرأي العلني‪ ،‬مل أفرق بني األنظمة من ناحية الضوابط‬
‫التي تفرضها عىل عملية االختيار الجامعي‪ .‬قد يبدو إهامل املؤسسات السياسية غري ًبا‪،‬‬
‫لوجود اختالفات واضحة بني األنظمة السياسية الدميقراطية مثل كندا وفنلندا والهند ما بعد‬
‫االستقالل من جهة‪ ،‬واألنظمة االستبدادية مثل أملانيا النازية وإيران قبل الثورة وبعدها‬
‫وكوريا الشاملية من جهة أخرى‪ .‬فقط يف املجموعة األوىل يحصل املحكومون عىل فرص‬
‫‪1‬‬
‫دورية الستبدال حكامهم عرب الوسائل السلمية والتعبري عن تفضيالتهم بحرية‪.‬‬
‫للتمييز بني األنظمة الدميقراطية والسلطوية أساس سليم يف الواقع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال‬
‫يتطلب أط ًرا متعددة للتحليل‪ ،‬بل يتطلب ببساطة االعرتاف بأن األنظمة ميكنها تقييد العملية‬
‫األساسية لتكوين الرأي العلني ومامرسته‪ .‬عىل سبيل القياس‪ ،‬يُطبق منوذج العرض والطلب‬
‫لالقتصاد تطبيقًا مثم ًرا يف كل من األسواق الحرة واملنظمة‪.‬‬
‫مثلام توجد قواسم مشرتكة أساسية بني بورصة نيويورك وسوق املخدرات غري‬
‫املرشوعة من ناحية تسيري العمل‪ ،‬توجد قواسم مشرتكة أساسية بني عملية االختيار‬
‫الجامعي يف دميقراطية دستورية وتلك يف نظام أوتوقراطي ال يرحم‪ .‬يف جميع األنظمة‬
‫السياسية‪ ،‬تعتمد سلطة الحكم وسن القوانني وتفسري القرارات عىل الرأي العلني‪ .‬وعىل‬
‫القدر نفسه من األهمية‪ ،‬ال يوجد ما مينع تشويه الرأي العلني من طريق تزوير التفضيالت‪.‬‬
‫هذا ال يعني أن املجتمعات الدميقراطية ليست أفضل حاالً من تلك السلطوية‪ .‬بل نقرتح‪ ،‬بدالً‬

‫‪107‬‬
‫من ذلك‪ ،‬أن الدميقراطيات ال تستجيب دامئًا للرأي الخفي وأن الخيارات التي تقدمها‬
‫للمواطنني ال متُ ا َرس دامئًا‪.‬‬

‫قيود تعبريية‬
‫قد تكون العقوبات التي يتكبدها األشخاص بسبب تفضيالتهم العلنية مادي ًة أو اقتصادي ًة أو‬
‫اجتامعية‪ .‬واألنظمة غري الدميقراطية عاد ًة ما تلجأ إىل األشكال الثالثة‪ .‬تشهد السجون‬
‫السياسية يف إيران‪ ،‬ومعسكرات إعادة التأهيل يف الصني‪ ،‬وأرخبيل الغوالغ‪ ،‬عىل العقوبات‬
‫القاسية التي تفرضها األنظمة االستبدادية بحق املعارضني‪ .‬تحظر الدميقراطيات الجديرة‬
‫باسم «دميقراطية» العقوبات املادية وتقيد نطاق العقوبات االقتصادية‪ .‬يف نظام دميقراطي‬
‫سليم‪ ،‬ال يُسجن أحد ملجرد تعبريه عن أفكاره الراديكالية‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬حتى األنظمة الدميقراطية متارس التمييز ضد من يرفض تكريم الرموز‬
‫واملثل الشعبية‪ .‬فضغوط املدافعني عن ترشيع الهريوين ال تقابل بالرتحاب ذاته يف أروقة‬
‫الحكومة األمريكية مقارن ًة بجامعات الضغط من أجل اإلعانات الزراعية‪ .‬وحاجز رفيع فقط‬
‫يحول بني مؤيدي تجارة املخدرات الحرة –أو املستبدين الثقافيني‪ ،‬أو الشيوعيني‪ ،‬أو أنصار‬
‫الفصل العنرصي– ومامرسات الوصم والسخرية والنبذ‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فإن منع نظام ما من معاقبة الناس بسبب تفضيالتهم العلنية ال يجعله‬
‫دميقراط ًيا‪ ،‬فالدميقراطية تكتفي بتقييد قامئة العقوبات املحتملة‪ .‬والتجسيد الرسمي لهذا‬
‫التقييد هو بند «حرية التعبري» يف الدستور الدميقراطي‪ .‬عندما يتعدى البند كونه مجرد‬
‫واجهة زائفة‪ ،‬ال متُ نع الحكومة من معاقبة األشخاص جسديًا بسبب آرائهم السياسية فحسب‪،‬‬
‫بل تتحمل أيضً ا مسؤولية ضامن حق التعبري عن جميع اآلراء‪ ،‬مبا فيها املضللة والصادمة‬
‫واملؤملة والوقحة‪ .‬تسمح الحكومة األمريكية‪ ،‬تحت رقابة االتحاد األمرييك للحريات املدنية‪،‬‬
‫للحزب النازي األمرييك بنرش أدب عنرصي لدرجة الوقاحة‪ .‬حتى أنها تدافع عن املتظاهرين‬

‫‪108‬‬
‫النازيني ضد هجامت املواطنني الغاضبني‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬عاىن النازيون العلنيون من عقوبات‬
‫صارمة‪ ،‬فمعظم رشائح املجتمع يعاملهم بازدراء‪ ،‬ويُثقلون بعبء الرأي العلني املعادي‪.‬‬
‫عرب التاريخ‪ ،‬متتع أصحاب النفوذ بالسلطة القانونية الضطهاد األقليات السياسية‬
‫الصامدة‪ .‬من حيث املبدأ‪ ،‬تدمج الدميقراطية حكم األغلبية مع التسامح تجاه الحقوق‬
‫التعبريية لألقليات السياسية‪ .‬هذه الحقوق‪ ،‬املنصوص عليها يف القانون‪ ،‬يجري تأكيدها من‬
‫طريق معايري التعددية السياسية‪ .‬ولكن ال يوجد قانون برشي ثابت‪ ،‬ويف فرتات الخطر غري‬
‫املعتادة‪ ،‬قد تبدو التعددية رفاهية غري رضورية‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬حتى أكرث النظم القانونية‬
‫ليربالي ًة يسمح باستثناءات يف حرية التعبري‪ .‬يف الواليات املتحدة‪ ،‬تعرتف املحاكم مببدأ‬
‫جسيام ووشيكًا‪ .‬صاغ هذا‬
‫ً‬ ‫«الخطر املحدق الواضح»‪ ،‬الذي يحظر التعبري لو شكل خط ًرا‬
‫املبدأ القايض أوليفر ويندل هوملز يف رأي عام ‪ 1919‬يؤيد إدانة اشرتايك متهم بتشجيع‬
‫التهرب من التجنيد يف أثناء الحرب العاملية األوىل‪ .‬جادل هوملز بأن التعبري أو السلوك‬
‫املسموح بهام يف وقت السلم ال يحتاجان إىل الحامية يف وقت الحرب‪ .‬وهكذا رأى أن الحقوق‬
‫التعبريية ليست مطلق ًة بل مرتبط ًة بالظروف السائدة‪ 2.‬قد يختلف املدافعون عن هذا املبدأ‬
‫بطبيعة الحال حول آثاره العملية‪ ،‬وحتى علامء الدستور يختلفون حول ما ميكن اعتباره‬
‫ريا وفوريًا‪.‬‬
‫تهدي ًدا خط ً‬
‫يف أعقاب الحرب العاملية الثانية‪ ،‬جرى استخدام مبدأ «الخطر املحدق الواضح»‬
‫لتربير املكارثية‪ ،‬الدافع لقمع الشيوعية من طريق تحقيقات مثرية‪ .‬تظهر استطالعات الرأي‬
‫يف تلك الفرتة أن املكارثية حظيت بقبول كبري‪ .‬يف عام ‪ ،1954‬قبِل ‪ %27‬فقط من‬
‫األمريكيني تحدث شيوعي يف مجتمعهم‪ .‬ونحو ثالثة أرباعهم أيدوا إزالة الكتب التي كتبها‬
‫‪3‬‬
‫الشيوعيون من املكتبات العامة‪ ،‬ونصفهم دعم زج الشيوعيني يف السجن‪.‬‬
‫خصوصا‪ ،‬منذ خمسينيات‬
‫ً‬ ‫تراجع التعصب تجاه اليساريني عمو ًما‪ ،‬والشيوعيني‬
‫القرن املايض‪ ،‬حاله حال الخطر امللموس املتمثل يف استيالء الشيوعيني عىل السلطة‪ .‬بني‬
‫عامي ‪ 1954‬و‪ ،1973‬ارتفعت نسبة األمريكيني املتقبلني لتحدث شيوعي يف مجتمعهم من‬

‫‪109‬‬
‫‪ 27%‬إىل ‪ 4.%53‬لكن الحرية الفكرية ما زالت‪ ،‬من الناحية العملية‪ ،‬مرفوضةً‪ .‬فمنذ أواخر‬
‫السبعينيات‪ ،‬أيد ‪ %4‬فقط من السكان عدم التدخل يف فصول بروفسور «يُشتبه بنرشه‬
‫أفكا ًرا خاطئةً»؛ بينام دعم ما يصل إىل ‪« %77‬إرسال شخص للتحقق»‪ .‬وافق أربعة‬
‫أخامسهم عىل نرش الصحف آرائها «فقط إن مل تح ّرف الصحيفة الحقائق أو تكذب»‪ 5.‬تتفق‬
‫هذه األرقام مع عرشات االستطالعات العلمية األخرى التي أجريت عىل مدى عقود عديدة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن حقوق التحدث والكتابة والتجمع والعبادة بحرية والحامية من القيود‬
‫التعسفية‪ ،‬كلها متأصلة بعمق يف الروح السياسية األمريكية‪ .‬يعتز األمريكيون مبُثل‬
‫التسامح‪ ،‬ويراه معظمهم عىل أنه رشط ال غنى عنه من رشوط الدميقراطية‪ .‬بنا ًء عىل ذلك‪،‬‬
‫حظيت حرية التعبري نظريًا بدعم ساحق‪ .‬ما يقارب تسعة من كل عرشة «يؤمنون» بحرية‬
‫التعبري للجميع‪ ،‬بغض النظر عن وجهات نظرهم‪ .‬والنسبة ذاتها تقريبًا تدعم «إتاحة فرصة‬
‫‪6‬‬
‫االستامع إىل أولئك الكارهني أسلوب حياتنا»‪.‬‬
‫تويل هذه النتائج املتعلقة بحرية التعبري نظريًا أهمي ًة خاص ًة لألرقام السابقة حول‬
‫املواقف الشعبية تجاه قضايا محددة؛ باحتضانها حرية التعبري ومتجيدها‪ ،‬تقود الواليات‬
‫املتحدة أرسة األمم‪ .‬تحتل الحريات التعبريية مكان ًة أقل بروزًا يف التسلسل الهرمي للقيم يف‬
‫أوروبا الغربية‪ ،‬ويف العديد من الدول األخرى‪ ،‬مل تحظ بأي اعتامد عمو ًما‪ .‬كشفت الدراسات‬
‫االستقصائية التي أجريت يف روسيا السوفيتية واألرجنتني وليبيا‪ ،‬من بني أماكن أخرى‪ ،‬عن‬
‫عدم تسامح واسع النطاق‪ ،‬مع رفض األغلبية حتى مبدأ حرية التعبري‪ 7.‬إذا أخذنا باالعتبار‬
‫يف سياق املامرسة العملية مطالبة األمريكيني أنفسهم بفرض قيود عىل نطاق املعارضة‬
‫ومحتواها‪ ،‬سرنى بأريحية أن التسامح املطلق ليس العرف املتبع يف أي مكان كان‪.‬‬
‫لذا فإن الضغوط االجتامعية الهادفة إىل تنظيم التعبري‪ ،‬حتى يف املجتمعات التي‬
‫تعتز بفكرة الحرية الفردية‪ ،‬مناسبة للتمتع مبساندة الجامهري الطوعية ومشاركتها النشطة‪.‬‬
‫تقدم الدميقراطيات يف عرصنا أمثلة كثرية‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن العديد من الحمالت‬
‫الجارية لتنظيم الخطاب العلني تقودها مجموعات تعرف نفسها عىل أنها ليربالية‬

‫‪110‬‬
‫اجتامع ًيا‪ 8.‬تروج هذه املجموعات بنشاط‪ ،‬باسم هدف أسمى‪ ،‬للتعدي عىل حريات اآلخرين‪،‬‬
‫حتى مع احتجاجها عىل الجهود املبذولة للحد من حرياتها‪ .‬من بني املدافعني عن حرية‬
‫عرض الفن الفاحش‪ ،‬من النوع الذي اشتُهر عىل يد روبرت مابلثورب‪ ،‬النسويات الراغبات‬
‫يف أن يع ّرف القانون املواد اإلباحية عىل أنها عنف ضد املرأة‪ 9.‬والحملة لفرض قواعد الكالم‬
‫«الصائبة سياس ًيا» يف الجامعات األمريكية تتزعمها مجموعات تعترب نفسها مضطهد ًة‬
‫بسبب املعايري التعبريية التقليدية‪ .‬وتحظى الحالة األخرية باهتامم تفصييل يف الفصول‬
‫املقبلة‪.‬‬
‫إن حقيقة قمع الدميقراطيات املعارصة التعبري الفردي مل تكن لتفاجئ الفالسفة‬
‫االجتامعيني العظامء يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش‪ .‬الحظ توكفيل أن الدميقراطية‬
‫األمريكية‪ ،‬يف حاميتها املواطنني من استبداد الحكومة‪ ،‬أخضعتهم إىل أسوأ أشكال‬
‫االستبداد‪ ،‬وهو عبء االمتثالية‪ .‬عظيمة ج ًدا قوة الرأي العلني األمرييك‪ ،‬يف رأيه‪ ،‬لدرجة أن‬
‫األمريكيني يحملون هذا العبء بسهولة‪ ،‬حتى مع متجيدهم الحرية واالستقاللية وعدم‬
‫االمتثالية‪ 10.‬عىل املنوال ذاته‪ ،‬رأى جون ستيوارت ميل أن االضطهاد الحكومي عمو ًما أخف‬
‫‪11‬‬
‫عبئًا من طغيان األصدقاء والجريان واملواطنني‪.‬‬
‫مثل غريهم من الشخصيات البارزة يف عرصهم‪ ،‬انتقد هؤالء املفكرون أيضً ا‬
‫دميقراطيات العصور القدمية‪ .‬لقد فهموا جي ًدا كيف أفضت القوة الشعبية يف الدميقراطيات‬
‫الهيلينية غال ًبا إىل القمع الفردي؛ هذا ما مل يستوعبه املثاليون الرومانسيون يف العامل‬
‫القديم‪.‬‬
‫يف دول املدن يف القرن الخامس يف حوض بحر إيجة‪ ،‬شارك املواطنون العاديون‬
‫روتين ًيا يف صنع القرارات ذات املصلحة العامة‪ ،‬وعليه امتلكوا قو ًة جامعي ًة هائلة‪ ،‬قوة‬
‫مثال من وقت آلخر لنفي‬ ‫استخدموها يف بعض األحيان لتقييد الحريات الفردية؛ صوتوا ً‬
‫مروجي وجهات النظر غري الشعبية‪ .‬عرفت هذه املامرسة باألوسرتاكية أو النفي التعسفي‪.‬‬
‫من املامرسات العقابية األخرى‪ ،graphe paranomon :‬أي الدعوى ضد (مشاريع القوانني)‬

‫‪111‬‬
‫املخالفة للقوانني‪ ،‬وهو إجراء يستخدم ملقاضاة األشخاص الذين يُعتقد أنهم قدموا‬
‫«مقرتحات غري قانونية»‪ 12.‬وعليه‪ ،‬مل تكن دميقراطيات العصور القدمية مالذًا للخطاب‬
‫الحر‪ .‬لقد فرضت تكاليف عىل املواطنني املشككني يف الحكمة التقليدية أو املتحدين اآلراء‬
‫مهام يف التعبري السيايس‬
‫الشعبية‪ .‬يف ظل هذه الظروف‪ ،‬كان الرأي العلني بال شك عامالً ً‬
‫الفردي‪ ،‬وال بد أن تزوير التفضيالت كان شائ ًعا‪.‬‬
‫إن أكرب فضائل الدميقراطية تقييدها وسائل الحكومة للتحكم يف التعبري الفردي‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ال ميكن ألي دميقراطية أن تضمن مامرسة الحريات التعبريية‪ .‬وكام أن الحق يف‬
‫االستثامر ال يضمن ازدها ًرا استثامريًا‪ ،‬ال يجعل الحق يف التعبري املواطنني منفتحني بالوترية‬
‫نفسها أو صادقني متا ًما‪ .‬يف تطبيقاتها‪ ،‬افتقرت الدميقراطية دامئًا إىل املثالية‪ .‬والسبب‬
‫األسايس هو عدم التزام أحد التزا ًما مطلقًا بحرية التعبري‪ .‬يف املامرسة العملية‪ ،‬حتى‬
‫األشخاص الذين يعتربون أنفسهم متسامحني مستعدون لضبط التعبري العلني‪ ،‬وعليه الرأي‬
‫العلني‪ ،‬عندما يتناسب هذا مع أهدافهم السياسية الخفية‪ .‬غالبًا ما يحققون أهدافهم من‬
‫طريق أفعال تجعل التعبري عن بعض اآلراء يعود بفائدة شخصية عليهم‪ ،‬والتعبري عن أخرى‬
‫ٍ‬
‫موات لهم‪.‬‬ ‫غري‬

‫التجاوب الرسمي مع الرأي العلني‬


‫إن مل يقدر أي نظام سيايس عىل منع تشويه الرأي العلني‪ ،‬فهل يكمن االختالف الجوهري‬
‫بني األنظمة الدميقراطية والسلطوية يف استجابتها للرأي العلني؟ يعتقد الفكر العلني أن‬
‫الحكومات املنتخبة متجاوبة مع الرأي العلني يف حني أن الطغاة ليسوا كذلك‪ .‬مثل هذا‬
‫التفكري يخلط بني الرأيني العلني والخفي‪ .‬تختلف األنظمة الدميقراطية واالستبدادية يف‬
‫استجابتها للرأي الخفي وليس العلني‪ .‬جميع الحكومات‪ ،‬مبا فيها االستبدادية‪ ،‬حساسة تجاه‬
‫الرأي العلني‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫سع ًيا منها للبقاء يف السلطة‪ ،‬تحاول الحكومات املنتخبة دميقراط ًيا تجنب الدوس‬
‫حتام انتقادات مجموعات الضغط القوية‪،‬‬
‫عىل الرأي العلني‪ .‬والحكومات التي تتجاهله تثري ً‬
‫ما يّض بفرص إعادة انتخابها‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬تتخذ الحكومة يف بعض األحيان خطوات‬
‫بنا ًء عىل تقديرات خاطئة فتثري ضجة حولها‪ .‬وعاد ًة ما ترتاجع عنها بّسعة‪ .‬عام ‪1986‬‬
‫مثال‪ ،‬اقرتح رئيس الوزراء الفرنيس جاك شرياك رفع الرسوم الجامعية لتبلغ نحو ‪125‬‬
‫ً‬
‫دوال ًرا‪ ،‬وإدخال دبلوم يعكس األداء‪ ،‬والسامح للجامعات بقبول الطالب عىل أساس الجدارة‪.‬‬
‫لكنه سحب مقرتحاته الرئيسية فوريًا بعد تظاهر الطالب يف عرشات املدن‪ 13.‬قبل ست‬
‫رئيسا‪ ،‬روج معاونوه لسياسة بيئية‬
‫ً‬ ‫سنوات يف الواليات املتحدة‪ ،‬عندما أصبح رونالد ريغان‬
‫من شأنها توسيع عمليات الحفر والتعدين يف الحدائق الوطنية‪ .‬لكن ريغان ترك بنود أجندته‬
‫الرئيسية دون تنفيذ بعد أن أثار اللويب املحافظ عىل البيئة عاصف ًة ضده‪ 14.‬أمكن كل من‬
‫ريغان وشرياك الصمود‪ .‬لكنهام اختارا املساومة ومن ثم الحد من الّضر الذي قد يلحق‬
‫بشعبيتهام‪.‬‬
‫باملقارنة مع نظرياتها الدميقراطية‪ ،‬تتمتع الحكومات االستبدادية بفرص أكرب لخنق‬
‫املعارضة‪ .‬والتاريخ حافل بأمثلة ديكتاتوريات أسكتت ناخبيها بالقوة الغاشمة‪ .‬هل يعني‬
‫هذا أن الحكومات االستبدادية محصنة ضد الضغوط االجتامعية؟ هل خيارات سياستهم‬
‫مستقلة عن الرأي العلني؟ بقدر ما تنجح اإلجراءات القاسية التي تتخذها الحكومة‬
‫االستبدادية‪ ،‬يجري إسكات معارضيها‪ .‬وعليه‪ ،‬فهي تحكم مبوافقة الرأي العلني‪ ،‬وتقدر عىل‬
‫تنفيذ أجندتها ألن االعرتاضات تظل رسية‪ .‬ومع ذلك فإن معارضة حكومة غري دميقراطية‬
‫ال يجب أن تظل مخفي ًة إىل األبد‪ .‬من طريق عمليات س ُت ّ‬
‫بني الحقًا‪ ،‬قد ينقلب الرأي العلني‬
‫ضد الحكومة أو ضد سياساتها‪ .‬يف الحالة األوىل‪ ،‬نحصل عىل ثورة‪ .‬عندما انقلبت الحشود‬
‫الغاضبة يف براغ عىل الحكم الشيوعي‪ ،‬انهار نظام تشيكوسلوفاكيا الشيوعي يف غضون‬
‫أيام‪ .‬وباملثل‪ ،‬عندما اندلعت احتجاجات ضخمة مناهضة للحكومة يف جميع أنحاء إيران‪،‬‬
‫تالشت قوة الشاه‪ .‬يلعب الرأي العلني املعاكس دو ًرا مقي ًدا بنفس القدر فيام يتعلق بسياسات‬

‫‪113‬‬
‫معينة‪ .‬يف بولندا تحت حكم الشيوعيني‪ ،‬ويف مرص يف عهد السادات ومبارك‪ ،‬اضطرت‬
‫حكومات قوية اسم ًيا بسبب االضطرابات الشعبية إىل إلغاء الزيادات يف أسعار املواد‬
‫الغذائية‪ .‬حتى األنظمة «الديكتاتورية» يجب أن تحافظ عىل والء املجموعات القوية‬
‫‪15‬‬
‫املحتملة‪.‬‬
‫يف جميع أنواع األنظمة‪ ،‬يؤثر الرأي العلني يف السياسات الخاضعة رسم ًيا لسيطرة‬
‫الحكومة‪ .‬وينوه مبدى خفة الخطوات التي يجب أن تخطيها الحكومة للبقاء يف السلطة‪ .‬إن‬
‫أي حكومة دميقراطية تتعارض مع الرأي العلني يف مجموعة من القضايا ذات األهمية‬
‫الكافية ستخلق االنطباع بأنها فقدت تفويضها للحكم‪ ،‬ما يرفع األصوات املطالبة باستقالتها‪.‬‬
‫ويف حال كانت الحكومة غري دميقراطية‪ ،‬قد تكون نتيجة الرأي العلني غري املوايت متر ًدا أو‬
‫انقالبًا هادفًا إىل إحباط مترد محتمل‪.‬‬

‫التجاوب الرسمي مع الرأي الخفي‬


‫من أي ناحية تختلف الدميقراطيات وغري الدميقراطيات يف استجابتها للرأي الخفي؟ بقدر‬
‫ما متتلك األوىل وسائل أقل لتقييد التعبري‪ ،‬تغدو الحوافز التي تخلقها لتزوير التفضيالت‬
‫أضعف‪ .‬وهنا يتبع استنتاجان؛ أوالً‪ ،‬متيل الدميقراطيات إىل تزوير التفضيالت بنسبة أقل‬
‫من الديكتاتوريات‪ .‬وثانيًا‪ ،‬إذا التزمت حكومة دميقراطية وأخرى ديكتاتورية بالرأي العلني‬
‫بدقة‪ ،‬فإن السياسات التي تنفذها األوىل ستميل إىل التقيد تقي ًدا أوثق بالرأي الخفي‪ .‬من‬
‫املؤكد أن االختالفات هي اختالفات يف الدرجة‪ .‬فحتى يف دميقراطية ملتزمة بالحريات‬
‫الشخصية‪ ،‬قد تؤدي الضغوط االجتامعية الخارجة عن سيطرة الحكومة إىل إحداث فجوة‬
‫كبرية بني الرأيني العلني والخفي‪.‬‬
‫حاسام يف جميع األنظمة السياسية‪ ،‬ميكن تطبيق‬
‫ً‬ ‫ألن تزوير التفضيل يؤدي دو ًرا‬
‫اإلطار املوضح يف الفصول السابقة تطبيقًا مفي ًدا عىل عملية االختيار الجامعي يف كل من‬
‫الدميقراطيات واألوتقراطيات‪ .‬تذكر أن الرأي العلني قد يحقق إما توازنًا داخل ًيا‪ ،‬يستلزم‬

‫‪114‬‬
‫حا‪ ،‬أو توازنًا ركن ًيا‪ ،‬يتميز باإلجامع العلني‪ .‬ال يستبعد أي نظام سيايس احتاملية‬
‫خالفًا مفتو ً‬
‫التوازن الركني يف أي قضية معينة‪ .‬وال نظام ميكنه ضامن توازن ركني‪ .‬لكن احتاملية‬
‫التوازنات الركنية أكرب يف الديكتاتوريات مقارن ًة بالدميقراطيات‪ ،‬عىل األقل فيام يتعلق‬
‫بالقضايا التي تعتربها الحكومة حساسة‪.‬‬
‫هناك ميزتان لحقيقة أن النموذج قيد الدراسة ميكنه استيعاب مجموعة متنوعة من‬
‫أساسا ملقارنة األنظمة من ناحية صدق اآلراء العلنية لكل منها‪،‬‬
‫ً‬ ‫األنظمة السياسية‪ .‬أوالً‪ ،‬يوفر‬
‫ورشح أي اختالفات ملحوظة‪ .‬يف الفصول الالحقة‪ ،‬سيتم استخدام النموذج لرشح سبب‬
‫اختالف الرأي العلني يف أوروبا الرشقية الشيوعية اختالفًا ملحوظًا عنه يف املجتمعات‬
‫الغربية املحكومة دميقراط ًيا‪ .‬امليزة الثانية لإلطار املشرتك هي إمكانية انطوائه عىل تغيريات‬
‫يف النظام‪ .‬الحقًا‪ ،‬سيُص ّور التحول املفاجئ ألوروبا الرشقية إىل دميقراطية تعددية عىل أنه‬
‫إعادة تنظيم واسعة النطاق للرأي العلني‪.‬‬

‫االقرتاع الّسي‬
‫إن اختالف الدميقراطيات واألنظمة االستبدادية يف الدرجة وليس النوع يستند إىل مالحظة‬
‫أن تزوير التفضيل ظاهرة عاملية تنتج يف كل أنواع األنظمة خيارات سياسية تتعارض مع‬
‫الرأي الخفي‪ .‬قد يشري أحد املشككني إىل أن كل دميقراطية جيدة األداء تلجأ إىل آلية ملنح‬
‫رشا يف اختيار كبار املسؤولني الحكوميني‪ :‬انتخابات دورية باالقرتاع‬
‫قوال مبا ً‬
‫الرأي الخفي ً‬
‫الّسي‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ميكن يف نظام دميقراطي إقصاء املسؤولني غري املحبوبني من مناصبهم‬
‫بالتصويت يف االنتخابات األوىل‪ .‬قد يحدث اإلقصاء حتى لو فضّ ل الرأي العلني الوضع‬
‫السيايس الراهن‪ .‬إذا كان الناخبون يخشون إىل حد ما انتقاد الحكومة الحالية عل ًنا‪ ،‬فيمكنهم‬
‫منحها موافقتهم العلنية‪ ،‬واالنقالب ضدها يف خصوصية حجرة التصويت‪ .‬مثل هذا‬
‫االحتامل يجعل الحكومات املنتخبة دميقراط ًيا حساسة الستطالعات الرأي الّسية وغريها‬
‫من مؤرشات الرأي الخفي‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫تتامىش الفكرة القائلة إن االقرتاع الّسي مينح الرأي الخفي دو ًرا سياس ًيا مع حقيقة‬
‫أن التقلبات الحكومية يف الدميقراطيات متيل إىل كونها أحداثًا أقل أهمي ًة من االنفجارات‬
‫االجتامعية التي تنهي األنظمة االستبدادية‪ .‬يف أعقاب انتخابات دميقراطية ولّت قياد ًة‬
‫جديد ًة السلطة‪ ،‬مل تكن الحكومة املنتهية واليتها محتقر ًة عمو ًما كام كانت الحكومة‬
‫التشيكوسلوفاكية برئاسة هوساك‪ .‬كام أن التغيريات الالحقة يف االتجاه ليست بأهمية تلك‬
‫التي قد تتبع الثورة‪ .‬عاد ًة ما تتبع االنتخابات الربيطانية التي تفوز بها املعارضة تغيريات‬
‫يف السياسة االقتصادية؛ لكن هذه تُعد ثانوي ًة مقارنة بالتحول الهائل الذي بدأته أول حكومة‬
‫يف تشيكوسلوفاكيا ما بعد الشيوعية‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬سيكون خاطئًا استنتاج أن الحكومة املنتخبة دميقراط ًيا تكون أكرث‬
‫استجابة للرأي الخفي كلام اختلف مع العلني‪ .‬ال تحسم االنتخابات قضايا محددة بل تختار‬
‫صناع القرار‪ .‬عىل حد تعبري روبرت دال‪« ،‬كل ما تكشفه االنتخابات هو تفضيالت بعض‬
‫املواطنني األولية من قامئة املرشحني املتقدمني ملنصب»‪ ،‬ألن أغلبية تفضيالت املرشحني‬
‫األولية ال تعني ضمنًا أغلبية التفضيالت األولية يف أي قضية معينة‪ 16.‬وهكذا يستطيع حزب‬
‫حاكم العمل ضد الرأي العلني يف العديد من القضايا والبقاء عىل سكة االنتصار يف‬
‫االنتخابات املقبلة‪ .‬تخيل مجتم ًعا يهتم بأربع قضايا‪ .‬حتى لو كانت سياسات الحكومة‬
‫تتعارض مع الرأي الخفي يف الثالثة األوىل‪ ،‬يبقى فوزها بإعادة االنتخاب ممكنًا بسبب‬
‫موقفها من الرابع‪.‬‬
‫من املرجح أن تحافظ األحزاب السياسية التي تيسء إىل الرأي الخفي يف عدد كبري‬
‫من القضايا عىل قوتها السياسية أو تزيد منها‪ ،‬طاملا أن النظام السيايس يحد من خيارات‬
‫الناخبني‪ .‬تدور املعارك االنتخابية عمو ًما حول نطاقات ضيقة من القضايا‪ ،‬مع تجسيم‬
‫االختالفات يف التفاصيل لتبدو كأنها اختالفات كبرية يف الفلسفة‪ .‬يف معظم القضايا التي‬
‫تهم املواطنني‪ ،‬يتخذ املنافسون املواقف ذاتها‪ ،‬غال ًبا من طريق املوافقة ضمن ًيا عىل الرتكيز‬
‫عىل األمور التافهة‪ .‬بالتبعية‪ ،‬قد يجد الناخبون املستاؤون من موقف الحزب الحايل بشأن‬

‫‪116‬‬
‫قضايا معينة أن برامج املنافسني غري جذابة بنفس القدر‪ .‬قد تقترص خياراتهم الواقعية عىل‬
‫املرشحني امللتزمني باملناصب الشعبية العامة‪.‬‬
‫إن السيطرة التي متارسها مجموعات الضغط القوية عىل عملية ترشيح الحزب تضمن‬
‫تشابه املرشحني‪ .‬رسعان ما يتعرض املرشحون املحتملون الذين يتحدون مجموعات الضغط‬
‫الرئيسية النتقادات‪ ،‬ما يّض بفرصهم يف الفوز‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬مييل املرشحون الجادون إىل‬
‫االلتزام مبواقف تتوافق مع الرأي العلني يف العديد من القضايا الرئيسية‪ ،‬ال سيام تلك التي‬
‫تثري القليل من الجدل العلني‪ .‬يف الواليات املتحدة‪ ،‬ال يجرؤ أي مرشح موثوق ملنصب وطني‬
‫رفيع عىل معارضة التحويالت الحكومية للمتقاعدين؛ أبعد ما يذهب إليه املرشح الجاد هو‬
‫اقرتاح إبطاء منوها أو قرص اإلعانات عىل فاحيش الرثاء‪ 17.‬وما يستحق التكرار هو متتع‬
‫مجموعة الضغط بنفوذ سيايس إىل حد تسيطر فيه عىل الرأي العلني‪ .‬أنصار االحتفاظ‬
‫باالستحقاقات التقاعدية عند املستويات الحالية يشكلون جامعة ضغط مؤثرة ألن قضيتهم‬
‫تحظى بتأييد شعبي قوي‪ .‬فيام يتعلق بالقضايا التي ينقسم الرأي العلني حولها انقسا ًما‬
‫متسا ٍو إىل حد ما‪ ،‬ال توجد جامعة ضغط قوية مبا يكفي للقضاء عىل االختالفات بني‬
‫املرشحني‪ .‬وهكذا يجد املرء يف قضية اإلجهاض املتنازع عليها بشدة العديد من املرشحني‬
‫املؤيدين لالختيار والعديد من املؤيدين للحياة‪.‬‬
‫أحد املوضوعات البارزة يف كتاب توكفيل الشهري عن الثورة الفرنسية هو فشل‬
‫املجالس املنتخبة لفرنسا ما بعد الثورة يف التعبري عن الرأي الخفي‪ ،‬ناهيك عن فشل تنفيذ‬
‫ريا يف املسائل‬
‫تعليامته‪ .‬يقول توكفيل‪« :‬إن «التصويت الحر» الذي جرى التباهي به كث ً‬
‫الّضيبية‪ ،‬مل يعد يعني أكرث من موافقة عدمية املعنى من تجمعات ُر ّوضت لتكون مطيعة‬
‫وصامتة‪ 18.‬لفهم مالحظته‪ ،‬يحتاج املرء إىل االعرتاف بأن املواطنني الفرنسيني مل يصوتوا‬
‫بصورة مبارشة عىل الّضائب أو عىل أي قضية أخرى يف هذا الصدد‪ .‬ذهبوا إىل صناديق‬
‫االقرتاع الختيار املمثلني املخولني للتصويت عىل القضايا الراهنة‪ .‬لكن النواب املنتخبني أدلوا‬
‫بأصواتهم عالني ًة‪ ،‬لذلك جاءت جامعات الضغط للسيطرة عىل قراراتهم‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫توضح مالحظة توكفيل مشكل ًة إضافي ًة يف االدعاء بأن االنتخابات الدميقراطية متنح‬
‫مهام يف صنع القرار االجتامعي‪ .‬ناد ًرا ما تلجأ الهيئات الترشيعية املنتخبة‬
‫اآلراء الخفية دو ًرا ً‬
‫رسا إىل االقرتاع الّسي‪ .‬يف الهيئات الترشيعية الدميقراطية‪،‬‬
‫من خالل األصوات املدىل بها ً‬
‫مييل التصويت إىل أن يكون بالتزكية أو بنداء األسامء أو برفع األيدي‪ .‬كل إجراء من هذا‬
‫القبيل يجرب املرشعني األفراد عىل إعالن مواقفهم أمام الرأي العلني بالكامل‪ ،‬ما يجعلهم‬
‫عرضة ألعامل انتقامية‪ .‬والواقع أن املرشعني الذين يصوتون ضد مرشوع قانون تدعمه‬
‫جامعات الضغط القوية يعرفون أنهم سيدفعون مثناً باهظاً مقابل إظهارهم االستقاللية‪.‬‬
‫ينطبق النمط نفسه عىل املجالس والهيئات واللجان التي تدير املؤسسات والوكاالت واملدارس‬
‫والجمعيات واملؤسسات واملنظامت األخرى أو ترشف عليها‪ .‬حتى لو انتُخب بعضها باالقرتاع‬
‫الّسي –يُنتخب العديد منها باالقرتاع املفتوح أو يتم تعيينهم ببساطة– تصل هذه الهيئات‬
‫إىل معظم قراراتها من طريق التصويت املفتوح‪ .‬وعليه‪ ،‬ال تعكس إجراءاتها تفضيالت‬
‫أعضائها الخفية فحسب‪ ،‬بل الضغوط االجتامعية السائدة أيضً ا‪.‬‬

‫ندرة االقرتاع الّسي‬


‫متثل ندرة االقرتاع الّسي لغ ًزا؛ فمن حقيقة ميل التصويت االنتخايب إىل الّسية‪ ،‬نعلم أن‬
‫تزوير التفضيل يحمل قد ًرا من األهمية‪ .‬ملاذا إذن يكون التصويت عمو ًما يف الهيئات‬
‫حا؟ بالنظر إىل أن الغرض الظاهري من التصويت هو‬
‫الترشيعية واملجالس األخرى مفتو ً‬
‫معرفة ما يريده الناخبون‪ ،‬فلامذا ال يرص أعضاء املجالس عىل الّسية بطبيعة الحال؟‬
‫من الواضح أن االقرتاع املفتوح يف بعض األحيان أرخص وأرسع‪ .‬ميكن للجنة التي‬
‫تحصل عىل أصوات متكررة أن توفر الوقت من طريق االعتامد عىل رفع األيدي‪ .‬لكن مسألة‬
‫التكلفة النسبية بالكاد تفّس سبب اعتبار االقرتاع املفتوح القاعدة املتبعة يف الهيئات‬
‫الترشيعية الوطنية‪ .‬والكثري من القضايا التي تصوت الربملانات عليها ذات أهمية كافية‬
‫لتربير أي نفقات إضافية لالقرتاع الّسي‪ .‬ويف مثل هذه القضايا املهمة عىل وجه التحديد‪،‬‬

‫‪118‬‬
‫من املحتمل أن يؤدي تزوير التفضيل إىل تشويه عملية فرز األصوات‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬يف‬
‫عرص اإللكرتونيات الحايل‪ ،‬فإن االقرتاع الّسي ليس بالّضورة أكرث تكلفة من االقرتاع‬
‫املفتوح‪ .‬بل قد يكون من األوفر أن يديل املرشعون بأصوات مجهولة بضغطة زر‪.‬‬
‫التفسري املحتمل لندرة االقرتاع الّسي هو تفضيل مجموعات الضغط القوية االقرتاع‬
‫املفتوح‪ .‬وباعتبارهم مستفيدين من تزوير التفضيل الالحق‪ ،‬فإنهم سيخّسون الكثري من‬
‫التغيريات اإلجرائية التي تسمح لألفراد بالتصويت دون خوف من االنتقام‪.‬‬
‫وباملنطق نفسه‪ ،‬يكون اإلرصار عىل االقرتاع الّسي واج ًبا عىل الجامعات التي تعاين‬
‫قضاياها تزوير التفضيل‪ ،‬عىل األقل فيام يتعلق بقضايا الحيوانات األليفة الخاصة بها‪ .‬إن‬
‫الرصاعات حول إجراءات التصويت ليست بغريبة‪ .‬قررت لجنة الوشاح األزرق‪ ،‬التي شكلها‬
‫الكونغرس األمرييك عقب انتخابات عام ‪ 1988‬القرتاح تخفيضات امليزانية‪ ،‬أن تجتمع خلف‬
‫أبواب مغلقة‪ ،‬ظاهريًا ملنع مداوالتها من خلق الفوىض يف األسواق املالية‪ ،‬ولكن يف الواقع‬
‫لعزل نفسها عن الضغوط السياسية‪ .‬طعنت العديد من املؤسسات اإلخبارية وإحدى جامعات‬
‫منارصة املستهلك يف القرار‪ ،‬وبهدف إرضاء العديد من جامعات الضغط‪ ،‬أمر قايض اللجنة‬
‫بالتشاور علنًا‪ 19.‬يحق للكونغرس إعفاء لجنة من متطلبات االجتامعات املفتوحة يف القانون‬
‫الفيدرايل‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬مل يتحرك أي عضو يف الكونغرس ملنح اللجنة إعفاء‪ ،‬رغم اعرتاف‬
‫البعض سابقًا بتهديد االجتامعات املفتوحة دعم التخفيضات الكبرية يف امليزانية‪ .‬رشعت‬
‫اللجنة يف عقد جلسات مفتوحة‪ ،‬ومل تتوصل إىل قرارات تُذكر‪.‬‬
‫مثة مربرات متينة لإلبقاء عىل اجتامعات السياسة مفتوحة‪ .‬فاالنفتاح يخدم بتثقيف‬
‫املواطنني‪ 20.‬يف محاولة إلغالق اجتامعاتها‪ ،‬اقرتحت اللجنة‪ ،‬أن الهدف التعليمي قد يأيت‬
‫بعكس املراد‪ .‬فالقضايا املدافَع عنها يف جلسة مغلقة رمبا تغدو مكبوت ًة يف جلسة مفتوحة‪.‬‬
‫من األسباب املنطقية ذات الصلة لالنفتاح سامحه للمواطنني مبراقبة ممثليهم‪ .‬ولكن يف ظل‬
‫ضغوط اجتامعية تجعل التعبري عن بعض املواقف طائشً ا‪ ،‬فقد يواجه املمثل الذي يصوت‬
‫عالني ًة صعوبات أكرب يف خدمة ناخبيه مقارن ًة بحالة توفر التصويت باالقرتاع الّسي‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬ال توجد عالقة رضورية بني املشاورات املفتوحة والتصويت املفتوح‪.‬‬
‫ميكن للجنة مناقشة قضية ما علنًا ومن ثم التصويت باالقرتاع الّسي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا كانت‬
‫القضية حساسة‪ ،‬فقد ميتنع األعضاء عن اقرتاح تصويت رسي‪ .‬حتى لو افرتضنا جدالً أن‬
‫شخصا ما قد اتخذ الخطوة األوىل الالزمة‪ ،‬يبقى الحصول عىل تأييد األغلبية شديد‬
‫ً‬
‫حا‪ 21.‬قد يخفي األفراد الذين‬
‫الصعوبة‪ ،‬ألن التصويت عىل إجراء االقرتاع سيكون مفتو ً‬
‫يفضلون االقرتاع الّسي ميولهم خوفًا من الكشف عن استعدادهم لالعرتاض عىل القضية‬
‫نفسها‪ .‬وباختصار‪ ،‬فإن الضغوط التي تولد صو ًرا خاطئة حول جوهر القضية ستولدها‬
‫أيضً ا حول مسألة إجراءات التصويت‪ .‬لذا فإن القضايا الحساسة –تلك التي قد يُحدث فيها‬
‫ريا– ناد ًرا ما يتم البت فيها باالقرتاع الّسي‪.‬‬
‫شكل االقرتاع فرقًا كب ً‬
‫تضم الصورة املعربة عن «الجمهوريات الشعبية» واملتشكلة يف القرن العرشين‬
‫املجلس الترشيعي يقر مرشوع قانون برفع األيدي باإلجامع‪ .‬ال بد أن العديد من املرشعني‬
‫األفراد يف االتحاد السوفيتي والصني وأماكن أخرى قد ظنوا أن االقرتاع الّسي سيغري أمناط‬
‫التصويت يف القضايا الحرجة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬قلة قليلة من األشخاص طعنت يف إجراءات‬
‫التصويت املعمول بها‪ ،‬خاص ًة أن احتاملية النجاح كانت ضئيلة واملخاطر الشخصية للمطالبة‬
‫بالتغيري كانت هائلة‪ .‬أما يف تجمعات الدميقراطيات الحديثة‪ ،‬املخاطرة أقل بكثري‪ .‬لن يُحكم‬
‫عىل أي عضو يف مجلس الشيوخ األمرييك باألشغال الشاقة ملطالبته بإجراء تصويت رسي‬
‫عىل الضامن االجتامعي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال ينبغي للمرء االعتقاد بأن التكلفة املحتملة ستكون‬
‫ضئيلة‪ .‬فهذا من شأنه توجيه هجامت مكثفة من جامعات ضغط املسنني ضد السيناتور‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فإن إمكانية إجراء اقرتاع رسي ال يضمن استخدامه‪.‬‬
‫يف القضايا التي يحدث فيها انقسام يف الرأي العلني‪ ،‬تكون الرصاعات حول إجراءات‬
‫التصويت أكرث شيو ًعا نسب ًيا‪ ،‬حتى يف األنظمة غري الدميقراطية‪ .‬والسبب هو أن األشخاص‬
‫املتعاطفني بالفعل مع األقلية‪ ،‬باقرتاحهم تصوي ًتا رسيًا‪ ،‬ال يجازفون بخسارة الكثري‪ ،‬ورمبا‬
‫يحصدون مكاسب أكرب‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫حا لنقاش حاد حول مرشوع قانون لترشيع‬
‫يف عام ‪ ،1986‬كان الربملان اإليراين مّس ً‬
‫مصادرة األرايض بعد الثورة‪ .‬شعر املعارضون الرصيحون ملرشوع القانون أن النواب كانوا‬
‫مرتددين يف الكشف عن هويتهم كمدافعني عن األغنياء؛ لتسهيل التصويت بالرفض‪ ،‬طالبوا‬
‫باالقرتاع الّسي‪ .‬رفض رئيس مجلس النواب هذا الطلب‪ ،‬وهو مؤيد ملرشوع القانون‪ ،‬وأرص‬
‫عىل تحديد النواب تفضيالتهم شفويًا‪ .‬نجح تكتيكه‪ ،‬إذ رفض نواب كرث‪ ،‬ممن أعربوا عن‬
‫تحفظات جادة يف جلسات خاصة‪ ،‬اعتبارهم معارضني‪ُ .‬مرر مرشوع القانون يف تصويت‬
‫‪22‬‬
‫متقارب النتيجة‪.‬‬
‫يف العديد من الدميقراطيات‪ ،‬غال ًبا ما تنطوي النضاالت النقابية عىل خالفات حول‬
‫مثال‪ ،‬اعتربت النقابات الساعية إىل الحصول عىل‬
‫إجراءات التصويت‪ .‬يف الواليات املتحدة ً‬
‫اعرتاف أن بطاقات التفويض –البطاقات التي يوقعها املوظفون كإظهار للدعم– توفر‬
‫مؤرشات موثوقة ملشاعر املوظف‪ .‬مييل أرباب العمل إىل تفضيل انتخابات التمثيل الّسية‪،‬‬
‫ريا ما‬
‫عىل أساس تأثر املوظفني الذين يُطلب منهم التوقيع عىل البطاقات بضغط األقران‪ .‬كث ً‬
‫‪23‬‬
‫تخّس النقابات انتخابات التمثيل يف الوحدات التي تتمتع فيها بأغلبية البطاقة‪.‬‬
‫يف كل من املثالني السابقني‪ ،‬يقف أفراد بالفعل يف الصف املرجح خسارته يف‬
‫تصويت مفتوح‪ .‬ويف مطالبتهم باقرتاع رسي‪ ،‬ال يكشفون عن أي معلومات جديدة حول‬
‫تفضيالتهم الخفية‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬يف حالة تكتل الرأي العلني باتجاه معني‪ ،‬يغدو عدد‬
‫قليال‪ .‬من الواضح أيضً ا أن تغيري إجراءات التصويت لن يخدم سوى املعارضة‪.‬‬
‫هؤالء األفراد ً‬
‫لذلك يُشتبه يف امتالك املطالبني باقرتاع رسي آرا ًء معارضة‪ .‬تكشف مطالبهم عن معلومات‬
‫جديدة حول تفضيالتهم الخفية‪ ،‬ما يعرضهم لالنتقام‪.‬‬
‫أيد جون ستيوارت ميل االقرتاع الّسي يف سياقات شعر فيها الناخبون بأنهم‬
‫مستعبدون بسبب «سلطان القلة املؤذي عىل الكرثة»‪ 24.‬بالنظر إىل أنه صنف الضغوط‬
‫االجتامعية عىل أنها مصدر رهيب لالستبداد‪ 25،‬فقد يتوقع املرء أنه دافع عن استخدام أوسع‬
‫لالقرتاع الّسي‪ .‬يف الواقع‪ ،‬أكد أن للتصويت املفتوح بعض الفضائل الغالبة‪ ،‬عىل األقل يف‬

‫‪121‬‬
‫الدميقراطيات التمثيلية‪ .‬واقرتح أن االنفتاح يشجع عىل اإليثار‪ ،‬مع إبقاء أصوات «الحقد»‬
‫و«االنتقاد» و«التنافس الشخيص» و«التحيزات الطبقية أو الطائفية» تحت املراقبة‪ .‬يعزز‬
‫االنفتاح أيضً ا الجدية‪ ،‬ألن من عليهم حسب حساب ألصواتهم يفكرون مل ًيا فيام يفعلونه‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬يسهم يف النمو الفكري‪ :‬يحاول األفراد التحدث مبسؤولية‪ ،‬لذلك يرتقي الخطاب‬ ‫أخ ً‬
‫‪26‬‬
‫العلني ويصبح املواطنون أكرث دراية‪.‬‬
‫عند تقديم هذه املقرتحات‪ ،‬يستهني ميل إىل حد كبري باضطرابات التصويت التي‬
‫تحدث يف ظل االقرتاع املفتوح‪ 27.‬تُظهر تجربة اللجنة املعنية بامليزانية األمريكية أن الخوف‬
‫من تنفري جامعات الضغط القوية ميكن أن يطغى بسهولة عىل الخوف من الفشل الجوهري‪.‬‬
‫تكمن األدلة املؤكدة يف تجربة ميلغرام‪ ،‬التي توضح بجالء أن مراقبة اآلخرين لن متنع املرء‬
‫بالّضورة من القيام بأعامل وحشية؛ تكشف التجربة عن استعداد أكرب عند «معلمي»‬
‫ميلغرام لتطبيق العقوبات بوجود شخصية سلطوية قريبة‪ .‬أما بالنسبة إىل االدعاء بأن‬
‫التصويت املفتوح يجعل الناس يفكرون يف خياراتهم البديلة بعناية‪ ،‬فإن مثل هذه الفائدة‬
‫قد يفوقها التدهور املعريف املستحث‪ .‬كام أن الضغوط التي تشوه الرأي العلني تشوه‬
‫الخطاب العلني‪ ،‬وهو مصدر مهم للمعلومات الشخصية‪ .‬سيجري التوسع يف النقطة األخرية‬
‫الحقًا‪ ،‬بد ًءا من الفصل العارش‪.‬‬

‫مبدأ التسامح وانتهاكه املتكرر‬


‫لن يخدم االقرتاع الّسي أي هدف لو كان الجميع عىل استعداد لتحمل كل فكرة هجومية‪.‬‬
‫يف ظل هذه الظروف من التسامح النموذجي‪ ،‬لن يسعى أحد أب ًدا إىل اتخاذ إجراءات عقابية‬
‫ضد اآلخرين بسبب آرائهم السياسية‪ .‬بوضع هذا يف الحسبان‪ ،‬فإن إظهار التسامح هو‬
‫االعرتاض عىل فكرة دون االعرتاض عىل التعبري عنها‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬يجب أن تكون‬
‫مستع ًدا للعيش مع التوترات الداخلية املرتتبة عىل ذلك‪ .‬لن يستهجن األفراد املتسامحون‬
‫متا ًما حتى املتحدث الذي يروج ألشنع األفكار‪ .‬قد يعربون بالطبع عن تحفظاتهم ويقدمون‬

‫‪122‬‬
‫خيارات بديلة‪ .‬التسامح ليس المباالة أو استهانة أو استحاء‪ .‬وما يتطلبه هو قبول مبدأ أن ال‬
‫‪28‬‬
‫غاي ًة سياسية‪ ،‬مهام كانت نبيلة‪ ،‬تربر قمع فكرة‪.‬‬
‫ما من أحد متسامح كل ًيا‪ .‬يُظهر معظم الناس استعدا ًدا لفرض رقابة عىل اآلراء املألوفة‬
‫حتى داخل مجتمعاتهم‪ .‬ال ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا‪ ،‬ألن التسامح‪ ،‬كام اعرتف واضعو‬
‫الدستور األمرييك‪ ،‬ليس ترصفًا طبيع ًيا أو فطريًا‪ .‬يف قرننا هذا‪ ،‬وصف أورتيغا إي غاسيت‬
‫التسامح بأنه قيمة مزروعة‪ ،‬قيمة ليست متأصلة أو غريزية يف شخصية اإلنسان‪ .‬إنه حجر‬
‫الزاوية يف نظرة ليربالية للعامل تنادي بـ«اإلرصار عىل العيش مع عدو‪ ،‬بل أكرث من ذلك‪،‬‬
‫‪29‬‬
‫مع عدو ضعيف»‪.‬‬
‫حا لبصرية أورتيغا إي غاسيت‪ ،‬الحظ مؤلفان لدراسة حول التسامح أن‬
‫رش ً‬
‫«األشخاص الذين يعتقدون أنهم يعرفون «الحقيقة» يف قضية معينة ‪ ...‬قد يجدون صعوبة‬
‫حا)‬
‫يف فهم سبب التزامهم بالسامح لشخص لديه وجهة نظر معاكسة (وعليه خاطئة وضو ً‬
‫بالتمتع بفرصة متساوية من حرية التعبري»‪ 30.‬إذا علم املرء أن «العنرصيني» أو «قتلة األطفال‬
‫الذين مل يولدوا بعد» أو «الوثنيني» سيتفوهون بعبارات خاطئة ومهينة وغري أخالقية‪ ،‬فلامذا‬
‫نسمح لهم بنرش آرائهم؟ عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬ملاذا يجب توفري منصة للجامعات الخطرة التي‪،‬‬
‫إذا أتيحت لها الفرصة‪ ،‬ستحرم اآلخرين من حقهم يف حرية التعبري؟ عندما يواجهون مثل‬
‫هذه األسئلة فيام يتعلق مبجموعات يعتربونها هم أنفسهم تهدي ًدا‪ ،‬حتى مواطنو البلدان ذات‬
‫التقاليد الدميقراطية الطويلة يخونون نيتهم الحد من الحريات التعبريية‪.‬‬
‫بالنظر إىل نزعة عدم التسامح يف شخصية اإلنسان‪ ،‬تختفي معظم الحرية حول‬
‫حقيقة شيوع أعامل عدم التسامح عرب التاريخ‪ .‬واملحري حقًا هو تحول التسامح إىل منوذج‬
‫سيايس مؤيَّد عىل نطاق واسع‪ ،‬عىل األقل من الناحية النظرية‪ .‬ناهيك أيضً ا عن تبني‬
‫املؤسسات الدميقراطية واملحافظة عليها‪.‬‬
‫يف الفصل الثالث‪ ،‬نوهت بعدم وجود سبب مبدأي يجعل الناس ميتنعون عن تحويل‬
‫كل ه ّم برشي‪ ،‬مهام كان تاف ًها أو شخص ًيا‪ ،‬إىل قضية سياسية‪ .‬السبب وراء تسييس جزء‬

‫‪123‬‬
‫ريا عدد املسائل التي‬
‫ضئيل ج ًدا من املخاوف يف الواقع هو تقييد حدود اإلدراك تقيي ًدا كب ً‬
‫ميكن أن يوليها املرء انتبا ًها‪ .‬هنا تكمن الب ّينة التي أقدمها اآلن‪ ،‬والتي تفّس ظهور التسامح‬
‫ريا للتهديد‪ .‬زاد تعقيد املجتمعات زياد ًة‬
‫يف القرون القليلة املاضية كمثل أعىل‪ ،‬وإن تعرض كث ً‬
‫كبري ًة وثروات األفراد باتت أكرث اتكالي ًة عىل بعضها‪ .‬ومن ثم‪ ،‬إن الدوافع اليوم للتحكم يف‬
‫تعابري بعضنا باتت أكرث مام كانت عليه عند أسالفنا منذ آالف السنني‪ .‬إضاف ًة إىل ما سبق‪،‬‬
‫ميكننا توقع تأثرنا بتعبريات املزيد من الغرباء‪ .‬لكن هذا الزيادة يف االتكالية االجتامعية‬
‫املتبادلة مل يقابله تحسن متناسب يف قدراتنا املعرفية‪ .‬نحن لسنا أكرث ذكا ًء من أسالفنا الذين‬
‫اعتمدوا عىل الصيد والجمع‪ ،‬ونجد أنفسنا قادرين عىل املراقبة والتأثري يف جزء صغري فقط‬
‫من السلوكيات املتعلقة بسعادتنا‪ .‬سواء أحببنا ذلك أم ال‪ ،‬علينا أن نحرص سلطتنا وفضولنا‬
‫ونشاطنا يف عدد قليل من األمور التي قد تهمنا‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬يرقى مبدأ التسامح إىل االعرتاف بالكلفة الباهظة التي تكلفها السيطرة عىل‬
‫الرأي العلني يف كل سياق ممكن‪ .‬يتوافق هذا التفسري مع املالحظة الشائعة بأن املدن‪ ،‬التي‬
‫يظل سكانها جاهلني ببعضهم‪ ،‬تُظهر تسام ًحا أكرب من البلدات الصغرية‪ ،‬حيث يعرف كل‬
‫شخص هناك الجميع‪.‬‬
‫أكرر أننا مل نفقد الرغبة يف جعل غاياتنا غايات اآلخرين‪ .‬وبنفس القدر من األهمية‪،‬‬
‫فإن سلطاتنا املعرفية ليست مقيدة لدرجة تجعلنا نتخىل عن كل نشاط سيايس‪ .‬توضح هذه‬
‫املالحظات ملاذا ينتهي املطاف بالعديد من املسائل يف املجال السيايس‪ ،‬رغم إمكانية التعامل‬
‫معها عىل أنها مسائل شخصية‪ ،‬وتوضح أيضً ا ملاذا ال نعاين أي نقص يف القضايا السياسية‪.‬‬
‫التسامح ليس القاعدة املتبعة يف القضايا املسيسة‪ :‬عاد ًة ما يفرض الناس تكاليف عىل‬
‫املعارضني العلنيني‪.‬‬
‫يوفق التفسري السابق بني الدعم الكبري الذي تتمتع به حرية التعبري تجريديًا مع‬
‫نتائج االستطالع التي وجدت استعدا ًدا عند أغلبية كبرية لتقييد الحريات التعبريية‪ ،‬مبساعدة‬
‫الحكومة إذا لزم األمر‪ ،‬ألي شخص يهدد قيمها أو أهدافها أو مؤسساتها العزيزة‪ .‬يتقبل‬

‫‪124‬‬
‫الناس مبدأ التسامح ألنه يربر أمناط سلوك ال مفر منها ويضفي الرشعية عليها‪ .‬يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬يصبح تسامحهم عدم تسامح بسهولة كلام شعروا بالحاجة إىل التحكم يف تعبريات‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫ألن التسامح عىل وجه التحديد ليس سم ًة إنساني ًة فطرية‪ ،‬تتطلب الدميقراطية‬
‫ضامنات قانونية للحريات التعبريية‪ ،‬مثل حظر األعامل االنتقامية الجسدية ضد األقليات‬
‫السياسية‪ ،‬عىل أقل تقدير‪ .‬ولكن ملاذا يجب قبول حظر عام؟ إذا كان من الغريزي إسكات‬
‫أصحاب اآلراء «الخطرة»‪ ،‬فلامذا مينحهم املرء حرية التعبري؟ قد تحظى الحريات التعبريية‬
‫باالعرتاف عندما ترى أعدا ٌد كبرية أن الحرب األيديولوجية ستؤدي إىل دمار كبري دون أي‬
‫ضامنة بإزالة الخالفات الضارة‪ .‬وعليه‪ ،‬ميكن أن تولد حالة الجمود بني الخصوم املتكافئني‬
‫‪31‬‬
‫حامي ًة تعبريي ًة كبديل عن الرصاع الكاريث املحتمل‪.‬‬
‫يتوافق مثل هذا التفسري مع تاريخ املستعمرات األمريكية‪ .‬كان الدين أكرث القضايا‬
‫إثار ًة لالنقسام يف املستعمرات‪ .‬وكل مستعمرة روجت ألرثوذكسية معينة وقاتلت‬
‫األرثوذكسيات األخرى‪ .‬كتب مؤرخ يصف إنجلرتا الجديدة يف القرن السابع عرش‪:‬‬
‫أولئك الذين مل يوافقوا عىل ُمثُل الصالحني … متتعوا بكل الحرية … لالبتعاد‬
‫عن إنجلرتا الجديدة‪ .‬إذا جاؤوا‪ ،‬فمن املتوقع أن يحتفظوا بآرائهم ألنفسهم؛ إذا‬
‫ناقشوها علنًا أو حاولوا الترصف عىل أساسها‪ ،‬يُرسلون إىل املنفى؛ إذا عادوا‪،‬‬
‫طُردوا مرة أخرى‪ .‬إذا استمروا يف العودة‪ ،‬كام فعل أربعة من الكويكرز‪،‬‬
‫خالصا‬
‫ً‬ ‫شُ نقوا يف بوسطن كومون‪ .‬ومن وجهة النظر البيوريتانية‪ ،‬كان هذا‬
‫‪32‬‬
‫جي ًدا»‪.‬‬
‫كان الدافع وراء عدم التسامح االستعامري هو الرأي القائل بأن التنوع الديني يشكل‬
‫تهدي ًدا‪ ،‬وأن «الدين السيئ» لشخص ما سوف يضعف «الدين الصالح» لدى شخص آخر‪ .‬مل‬
‫يرغب معظم املستعمرين األفراد طب ًعا بالتنازل عن معتقداتهم الدينية فقط يف سبيل‬
‫مصلحة الوحدة الدينية‪ .‬نشأت حالة توازن تشبثت فيها املجتمعات برشائعها الخاصة يف‬

‫‪125‬‬
‫األرثوذكسية‪ .‬من خالل مراقبة التوازن القائم‪ ،‬أدرك املستعمرون البارزون أن مجتمعاتهم‬
‫الخاصة قد تخّس رصا ًعا عىل األرثوذكسية الصحيحة وأن الحرب الوحيدة التي قد ينترصون‬
‫فيها ستكون مكلف ًة للغاية‪ .‬من منطلق املصلحة الذاتية‪ ،‬قرروا قبول الوضع الراهن‪ ،‬مؤيدين‬
‫فعل ًيا الحق يف االختالف حول الفضائل النسبية لألرثوذكسيات املتنافسة‪ .‬ولتحقيق‬
‫االستقرار يف نظام «عش ودع غريك يعش»‪ ،‬وافقوا عىل فصل الكنيسة عن الدولة‪ .‬وأملوا أن‬
‫يؤدي هذا الفصل إىل منع املسؤولني الحكوميني من تحويل سلطاتهم ضد أرثوذكسيات‬
‫‪33‬‬
‫معينة‪.‬‬
‫من ناحية الرسوم التخطيطية يف الفصل الرابع‪ ،‬فإن الجمود السيايس ميثل توازنًا‬
‫داخل ًيا‪ ،‬والتجانس الديني مييز توازنًا ركن ًيا‪ .‬استشعر املستعمرون وجود توازنات متعددة‪،‬‬
‫وشعروا أن توازنًا واح ًدا أو أكرث من شأنه إلحاق الّضر بأديانهم‪ .‬اتفقوا عىل ضامنات‬
‫دستورية كوسيلة لعرقلة املسارات املؤدية إىل توازن غري مرغوب‪ .‬ويف مقابل هذا الضامن‪،‬‬
‫وافقوا عىل تعطيل املسارات املؤدية إىل التوازن املفضل لهم‪.‬‬

‫هشاشة الدميقراطية‬
‫مثة طريقتان إلدامة الحقوق الدميقراطية الراسخة‪ .‬ميكن للمرء ابتكار مؤسسات تحمي‬
‫الحق يف الكالم‪ ،‬أو تلقني األفراد احرتام التنوع التعبريي‪ .‬يتبع دستور الواليات املتحدة‬
‫االسرتاتيجية األوىل‪ .‬إن التعامل مع التعصب عىل أنه أمر ال ميكن القضاء عليه مينح الفرد‬
‫مجموعة واسعة من الحريات التعبريية‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬يقلل من احتاملية استبداد‬
‫الحكومة من طريق فصل السلطات بني الفروع الترشيعية والقضائية والتنفيذية للحكومة‪.‬‬
‫توقع صائغو الدستور أن يدفع الحكم األخري القادة إىل مراقبة عدم التسامح عند بعضهم‪.‬‬
‫كتب ماديسون‪« :‬إن الضامن الكبري ضد الحشد التدريجي للسلطات املتعددة يف نفس‬
‫الدائرة‪ ،‬يتمثل يف إعطاء أولئك الذين يديرون كل دائرة‪ ،‬الوسائل الدستورية الالزمة‪،‬‬

‫‪126‬‬
‫والدوافع الشخصية‪ ،‬ملقاومة تجاوزات اآلخرين … يجب أن يُصنع الطموح ملواجهة‬
‫‪34‬‬
‫الطموح»‪.‬‬
‫نجحت اإلسرتاتيجية املؤسسية لصائغي الدستور يف حامية الحريات الدينية‪ .‬كام‬
‫حمت الحقوق التعبريية لألقليات يف السياقات غري الدينية‪ .‬من املؤكد أن الدستور األصيل‬
‫مل يوفر الحامية لجميع األقليات‪ ،‬واألكرث مأساوية أن إضفاءه الرشعية عىل العبودية حرم‬
‫السود من الحريات األساسية‪ .‬لكن الحقوق التعبريية لألقليات املتنوعة متتعت بالحامية‪ ،‬مع‬
‫دعم الحكومة حتى لحقوق املنشقني املحتقرين عىل نطاق واسع‪ .‬من األمثلة الحديثة عىل‬
‫ذلك امتداد الحامية الرسمية لتشمل حارقي األعالم واملتظاهرين النازيني‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬مثة فرق بني الحق ومامرسته‪ .‬إن ضغط الرأي العلني قد يجعل األقليات‬
‫متتنع عن مامرسة حقوقها الدستورية يف املعارضة‪ .‬من الناحية العملية‪ ،‬ال تضمن الضوابط‬
‫والتوازنات املؤسسية حتى مامرسة األغلبيات حقوقها التعبريية‪ .‬حتى دون إكراه الحكومة‪،‬‬
‫قد تخضع األغلبية لرغبات األقليات الصاخبة‪ .‬والحامية ضد طغيان الحكومة ال متنع‬
‫املجتمعات من استبداد نفسها بقوة الرأي العلني‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬فإن الحامية الدميقراطية ضد طغيان الحكومة ليست دامئ ًة أب ًدا‪ .‬كام‬
‫ذكرنا سابقًا‪ ،‬يف الظروف التي تنطوي عىل تهديد استثنايئ‪ ،‬من املمكن تقييدها‪ ،‬بل وحتى‬
‫إزالتها‪ .‬ويرتتب عىل ذلك أن قد ًرا من االتفاق عىل األساسيات سيسهل ظهور الحقوق‬
‫«دليال دامغًا عىل‬
‫ً‬ ‫الدميقراطية والحفاظ عليها‪ .‬يجد جيوفاين سارتوري‪ ،‬يف هذا الخصوص‪،‬‬
‫أن فشل الدميقراطية يف خلق إجامع أسايس مبرور الوقت‪ ،‬يعني تأديتها دور دميقراطية‬
‫صعبة وهشة»‪ 35.‬وحيثام ينقص مثل هذا اإلجامع‪ ،‬فإن الدميقراطية قد تكون متحيز ًة‬
‫وعرض ًة لالنهيار‪ .‬لو كان اإلسالم الوهايب‪ ،‬الطائفة املتشددة يف شبه الجزيرة العربية‬
‫الحديثة‪ ،‬إحدى الديانات السائدة يف املستعمرات األمريكية‪ ،‬ملا كان صائغو الدستور عىل‬
‫األرجح حريصني عىل توسيع الحرية الدينية لتشمل جميع األمريكيني‪ .‬رغم أن إثبات هذا‬
‫مثال‪ ،‬يبقى‬
‫غري ممكن أب ًدا‪ ،‬لكن اختالف معاملة الوهابيني األمريكيني عن معاملة املشيخية ً‬

‫‪127‬‬
‫محتمال‪ .‬ولن يواجه األمريكيون مشكل ًة كبري ًة يف تربير ازدواجية املعايري‪ .‬تذكر كيف‬
‫ً‬ ‫أم ًرا‬
‫دعام واس ًعا بذريعة وجود خطر وشيك عىل الحريات‬
‫تلقت املكارثية‪ ،‬بعد قرنني من الزمان‪ً ،‬‬
‫األساسية‪.‬‬
‫تبنت تركيا شكالً دميقراط ًيا للحكم عام ‪ ،1946‬جزئ ًيا بهدف االنضامم إىل التحالف‬
‫العسكري الغريب والحصول عىل الحامية من التوسع السوفيتي‪ .‬كانت الدميقراطية الرتكية‬
‫شكالً مقي ًدا من الدميقراطية‪ ،‬إذ واجهت القضايا السياسية «املتطرفة»‪ ،‬ال سيام الشيوعية‬
‫واألصولية اإلسالمية واالنفصالية الكردية‪ ،‬قم ًعا حكوم ًيا‪ .‬لقد س ّوغ معظم األتراك‪ ،‬مبن فيهم‬
‫العديد من املستَغربني‪ ،‬هذه القيود بحجة أنهم غري ملزمني بتسهيل إلغاء حرياتهم‪ .‬يف‬
‫الجزائر‪ ،‬أدى التفكري املامثل إىل إلغاء الجيش أول انتخابات دميقراطية يف البالد يف يناير‬
‫‪ .1992‬كان متوق ًعا فوز الجبهة اإلسالمية لإلنقاذ‪ ،‬التي وعدت بدولة إسالمية يف غضون‬
‫فصيال متشد ًدا دعم‬
‫ً‬ ‫سنة‪ ،‬فوزًا ساحقًا‪ 36.‬مع أن جز ًءا من الجبهة روج لحرية التعبري‪ ،‬إال أن‬
‫قمع التعبري «غري اإلسالمي»‪ .‬جعلت املخاوف بشأن الفصيل املتشدد العديد من دعاة‬
‫الدميقراطية يرحبون بالتدخل العسكري غري الدميقراطي الواضح‪.‬‬
‫تتطلب الدميقراطية املستقرة اتفاقًا عا ًما عىل األساسيات ألن مثل هذا اإلجامع يعطي‬
‫الناس األمن ملنح اآلخرين الحريات التعبريية‪ .‬ولكن حتى مع وجود اتفاق واسع عىل‬
‫األساسيات‪ ،‬كام هو الحال عندما ترفض الغالبية العظمى الشيوعية رفضً ا قاط ًعا‪ ،‬يُحتمل‬
‫تحول القضايا األقل أهمية إىل بؤرة عدم تسامح واسعة النطاق‪ .‬قد تم بالفعل تقديم بعض‬
‫األدلة من الواليات املتحدة‪ .‬واملستقبل ينتظرنا بالكثري‪.‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬طورت إطار عمل للبحث يف تأثري تزوير التفضيل‪ .‬بادئًا باستقصاء تزوير‬
‫التفضيل نفسه‪ ،‬واصلت بعدها لفحص العملية االجتامعية حيث يخلق أفراد املجتمع م ًعا‬
‫الضغوط التي تشكل الرأي العلني‪ .‬لقد أوضحت احتاملية وجود العديد من اآلراء العلنية‬
‫القامئة عىل االكتفاء الذايت‪ ،‬وأن ال حاجة إىل كون الرأي املتبنى منها األقرب إىل الرأي الخفي‬
‫األسايس‪ .‬أظهر هذا الفصل أن التفاوتات بني الرأي العلني والخفي ال تقترص عىل األنظمة‬

‫‪128‬‬
‫غري الدميقراطية‪ .‬ينتقل الكتاب اآلن إىل اآلثار طويلة املدى لتزوير التفضيالت‪ .‬والفصول‬
‫القادمة ستدرس آثاره يف وترية التغيري االجتامعي واتجاهه ويف خلق املعرفة وتدمريها‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫الجزء الثاين‬
‫تثبيط التغيري‬

‫‪130‬‬
‫الفصل السادس‬

‫املحافظة الجمعية‬

‫تتبنى املجتمعات بشكل روتيني قوانني‪ ،‬وترشيعات‪ ،‬وسياسات ميكنها االحتفاظ بها إىل‬
‫أجل مسمى‪ .‬وألجل ذلك‪ ،‬ففي أي وقت كان‪ ،‬يتضمن النظام االجتامعي العديد من القرارات‬
‫املوروثة من املايض‪ .‬وينطبق هذا التوصيف عىل كل من املجتمعات التي تعد خاملةً‪ ،‬والتي‬
‫تعترب استثنائي ًة يف ديناميكيتها‪ .‬بل ينطبق حتى عىل املجتمعات التي تدعو ملفهوم «الثورة‬
‫‪1‬‬
‫الدامئة»‪ .‬ال يرتك أي مجتمع كل ترتيباته االجتامعية مفتوح ًة للتغيري‪.‬‬
‫تعكس بعض االستمراريات االجتامعية املشهودة حقيقة أن مقياس االستقرار‬
‫االجتامعي ال غنى عنه‪ .‬لو كان النظام االجتامعي شديد امليوعة‪ ،‬بحيث ميكن تغيري أي قرار‬
‫أو اتفاق عىل الفور‪ ،‬فسيعيش الناس حالة عدم يقني كبرية تجاه املستقبل‪ ،‬وستتأثر‬
‫حوافزهم للتعلم‪ ،‬واالبتكار‪ ،‬واالستثامر‪ .‬وتساعد بعض االستمراريات يف حامية مرجوات‬
‫رضورية‪ ،‬ولذلك‪ ،‬يُسمح بها‪ ،‬إن مل يكن يُسعى لتحقيقها عم ًدا‪ .‬لنأخذ القانون الذي يحدد‬
‫للرئيس األمرييك أربع سنوات يف الحكم‪ .‬فعىل الرغم من أن هذا القانون يصعب إقالة‬
‫الرئيس الذي يثبت عدم كفاءته‪ ،‬إال أنه يقدر للحامية التي يوفرها للمرجوات الخاصة‬
‫بالحكومة األمريكية‪.‬‬
‫تظهر استمراريات أخرى من العقبات التي تعوق تطبيق التغيري‪ .‬يتكون أحد‬
‫املعوقات‪ ،‬املبحوث فيه يف كتاب ألربت هريشامن خروج بريطانيا‪ ،‬والصوت‪ ،‬والوالء من‬
‫القرارات الفردية «بالخروج»‪ :‬تستمر العنارص املهددة للوضع الراهن إذ يختار األشخاص‬
‫القادرون عىل إحداث الفارق التخيل عن مجموعة صنع القرار ذات الصلة‪ 2.‬وتكمن آلية‬
‫أخرى شبيهة يف قلب كتاب مانكور أولسون عن أمناط النمو االقتصادي‪ ،‬صعود وهبوط‬

‫‪131‬‬
‫تنظيام من القلة‬
‫ً‬ ‫األمم‪ :‬تواظب الخيارات غري الشعبية ألن الكرثة التي تؤيد التغيري أقل‬
‫‪3‬‬
‫املعارضة له‪.‬‬
‫وهنا أجادل بأن تزييف التفضيالت سبب مكمل‪ ،‬ولكنه أكرث بدائيةً‪ ،‬الستمرار‬
‫شكل من أشكال التامهي العلني‬
‫الخيارات االجتامعية غري املرغوبة‪ .‬إن الخروج عند هريشامن ٌ‬
‫مع التغيري‪ ،‬مثله مثل «صوته»‪ ،‬الذي يعرفه بأنه احتجاج رصيح‪ .‬وغال ًبا ما يكون تزييف‬
‫التفضيالت أرخص من الهروب‪ ،‬وهو يتجنب املخاطر الكامنة يف االحتجاج العلني‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫يف كثري من األحيان‪ ،‬يكون هو االستجابة األولية ملن ضاقوا بالوضع الراهن‪ .‬أما بالنسبة‬
‫لنظرية أولسون‪ ،‬فهي تطرح معارض ًة محتمل ًة ميكن تحديدها للوضع الراهن‪ ،‬ومع ذلك فإن‬
‫تزييف التفضيالت قد يجعل الجميع‪ ،‬مبن فيهم الذين يدعمون التغيري بشكل خاص‪،‬‬
‫يستخفون بقيمة عدم الرىض الشعبي‪ .‬مثل هذه املعلومات املضللة عقبة أساسية أمام التغيري‬
‫كال‬
‫أصال‪ .‬فهي تحجب‪ ،‬بل تخفي‪ً ،‬‬
‫أكرث من نقاط الضعف التنظيمية للمصلحني املعروفني ً‬
‫من الرغبة باإلصالح وإمكانيته‪.‬‬
‫كام يف اآلليات التي درسها أولسون وهريشامن‪ ،‬تشكل اآللية املوصوفة أدناه وسيلة‬
‫محافظة جمعية‪ ،‬لتمييزها عن املحافظة الشخصية‪ .‬تتضمن املحافظة الجمعية مقاوم ًة‬
‫للتغري من جهة املجتمع؛ بينام املحافظة الفردية توجه مضاد لإلصالح من جهة األفراد‪.‬‬
‫وليست األخرية رشطًا للسابقة‪ .‬قد يظهر مجتمع ما تعلقًا محافظًا بالوضع الراهن حتى لو‬
‫مل يكن أي من أفراده متآلفًا مع الوضع الراهن كام هو‪.‬‬
‫يركز هذا الفصل عىل استكشاف آلية عامة‪ ،‬بنا ًء عىل األفكار التي قدمت يف الفصل‬
‫‪ .4‬األمثلة امللموسة تقدم بحدها األدىن‪ ،‬ألن الفصول الثالثة القادمة تعرض دراسات حاالت‬
‫مفصلة‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫دور التاريخ يف استمرار الرأي العلني‬

‫لنعد إىل الساحة السياسية املمثلة يف اللوحة العلوية من الشكل ‪ ،4.5‬ويعاد متثيلها هنا يف‬
‫اللوحة (أ) من الشكل ‪ .6.1‬تذكروا أن لدينا جامعتي ضغط تحاوالن سحب الرأي العلني‬
‫باتجاه ‪ 0‬وباتجاه ‪ .100‬يسجل منحنى االنتشار عىل شكل ‪ ،S‬لكل توقع ممكن للرأي العلني‬
‫الوسطي‪ ،‬النسبة املئوية من املجتمع التي ستدعم فعل ًيا املوقف ‪ .100‬ويقطع القطر من‬
‫األعىل عند قيمتني للرأي العلني‪ ،‬وهذا التقاطع ميثل حالة التوازن املستقر‪ .‬تسحب التوقعات‬
‫األدىن من ‪ 60‬الرأي العلني نحو ‪ ،20‬واألعىل من ‪ 60‬تدفعه نحو ‪.100‬‬
‫عند أي توازن محدد‪ ،‬يكون الرأي العلني ذايت التوليد ألن الجميع‪ ،‬فرت ًة تلو الفرتة‪،‬‬
‫رشا عىل املحافظة الشخصية‪ .‬يظهر السلوك الفردي‬
‫يتخذ الخيارات نفسها‪ .‬وليس هذا مؤ ً‬
‫استمرا ًرا ألن التوقعات والتحققات السابقة للرأي العلني تحكم الحوافز الحالية للسمعة‪ ،‬ال‬
‫شخصا ما أو مجموع ًة ما يعلق أو تعلق أهمي ًة خاص ّة عىل الوضع الراهن‪ .‬يف التوازن‪،‬‬
‫ً‬ ‫ألن‬
‫يتطابق الرأي العلني املتوقع مع أحدث تحقق‪ .‬ويفكر الفرد كام ييل‪« :‬توقعت باألمس أن‬
‫يعرب ‪ 20‬باملئة من املجتمع عن تفضيلهم ‪ 100‬والبقية عن تفضيلهم ‪ .0‬تحققت توقعايت‪.‬‬
‫عىل األرجح أن تصلح القسمة نفسها اليوم‪ ،‬لذا يجب أال أغري تفضييل العام»‪ .‬وهذه الطريقة‬
‫بالتفكري ترتك التفضيالت العلنية الفردية‪ ،‬وبالتايل الرأي العلني‪ ،‬بدون تغيري‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬يظهر الرأي العلني استمرا ًرا ألن تحققه يف املايض القريب املبارش يشكل‬
‫توقعاته الحالية‪ .‬لو اختلف املايض القريب‪ ،‬لشكل األفراد توقعات أخرى‪ ،‬ولرمبا اختلفت‬
‫اختياراتهم‪ .‬وال يعني هذا أن مغناطيسية التاريخ القريب هي العامل الوحيد يف استمرار‬
‫الرأي العلني‪ .‬فمن العوامل األخرى ذات الصلة مغناطيسية التوازن السائد – أي قدرة التوازن‬
‫الحايل عىل إعادة تشكيل توقعات الرأي العلني عىل شاكلته نفسه‪ .‬حتى لو نُيس التاريخ‪،‬‬
‫ميكن للتوازن نفسه أن يتشكل ثم يستمر حتى أجل غري مسمى‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫للتمييز بني العاملني وتثقيلهام‪ ،‬من املفيد إجراء تجربة فكرية رسيعة يتخذ فيها‬
‫األفراد خيارات معربة بدون االسرتشاد بالتاريخ‪ .‬مبقارنة النتيجة التجريبية مع النتيجة‬
‫الحاصلة عندما يستخدم األفراد معلومات تاريخية‪ ،‬سيمكننا أن نعرف أثر الرأي العلني‬
‫املايض‪ ،‬وأن نكممه حتى‪ ،‬عىل الرأي العلني الحايل‪ .‬ستضبط التجربة دور تزييف‬
‫التفضيالت كعائق للتغيري بشكل دقيق‪ .‬وستمهد أيضً ا األرضية لحجتي الالحقة بأن تزييف‬
‫التفضيالت ينتج تحوالت تؤدي إىل االستقرار السيايس يف الرأي الخفي‪.‬‬

‫الشكل ‪ 6.1‬تحديد الحد الذي يبقي التاريخ إىل عنده‬


‫الرأي العلني عند ‪ .20‬تقدم اللوحة (ب) تجرب ًة‬
‫الستنباط دور التاريخ منها تجريديًا‪ .‬باستخدام‬
‫نتائج تلك التجربة‪ ،‬تقيس اللوحة (ج) املحافظة‬
‫الجمعية‪.‬‬

‫تخيلوا لو نيس كل عضو من املجتمع‪ ،‬مع‬


‫استقرار الرأي العلني عند ‪ ،20‬فجأ ًة كل التوقعات‬
‫املاضية وتحققات الرأي العلني‪ .‬قبل فقدان الذاكرة‪،‬‬
‫كانت توقعات الناس ذاتية التحقيق وبالتايل ذاتية‬
‫التوليد‪ .‬اآلن وبعد أن أفرغت ذواكرهم‪ ،‬مل يعد لديهم‬
‫سبب للتمسك بأي توقع محدد‪ .‬فإذا عاملوا كل تحققات الرأي العلني عىل أنها متساوية‬
‫الرجحان‪ 4،‬فسيكون هناك احتامل مقداره ‪ 60‬باملئة بأن تشكل توق ًعا دون ‪ ،60‬ويف هذه‬
‫الحالة سيستقر الرأي العلني عند ‪ ،20‬كام تشري له اللوحة (ب) يف الشكل ‪ .6.1‬وهناك‬
‫احتامل بنسبة ‪ 40‬باملئة بأن تشكل توق ًعا فوق ‪ ،60‬ويف هذه الحالة سيذهب الرأي العلني‬
‫إىل ‪ .100‬إذا كررت هذه التجربة العديد من املرات‪ ،‬فأين باملتوسط سيكون الرأي العام؟‬

‫‪134‬‬
‫تتطلب اإلجابة تثقيل النتيجتني املحتملتني باحتامل كل منهام‪ 60( :‬باملئة × ‪40( + )20‬‬
‫باملئة × ‪.52 = )100‬‬
‫لننتقل اآلن إىل اللوحة (ج)‪ ،‬حيث يستخدم هذا الحساب لتكميم دور التاريخ يف إبقاء‬
‫الرأي العلني عند ‪ .20‬إذا ظل منحنى االنتشار ثابتًا بعد تحقيق التوازن‪ ،‬فسيظل الرأي‬
‫العلني عند ‪ 20‬إىل أجل غري مسمى‪ .‬ويف أي فرتة الحقة‪ ،‬سيذكر الناس أن توقعهم السابق‬
‫كان ذايت التحقيق‪ ،‬وستبقي قراراتهم الالحقة الرأي العلني دون أن ميس‪ .‬أي أن الرأي‬
‫العلني‪ ،‬فرت ًة تلو فرتة‪ ،‬سيكون ‪ .20‬وكام تشري اللوحة (ج)‪ ،‬فإن توازن ‪ 20‬يختلف مبقدار‬
‫‪ 32‬وحدة عن التحقق الوسطي للرأي العلني عند فرض رشط فقدان الذاكرة‪ .‬وألن الرأي‬
‫قيام بني ‪ 0‬و‪ ،100‬فإن هذه املسافة توافق ‪ 32‬باملئة من املجال الكامل‬
‫العلني ميكن أن يأخذ ً‬
‫للرأي العلني‪.‬‬
‫مقياسا لقبضة التاريخ‪ 5.‬ويشري‬
‫ً‬ ‫قياسا للمحافظة الجمعية – أي‬
‫ً‬ ‫يقدم رقم ‪ 32‬باملئة‬
‫إىل أن الرأي العلني يدين بنسبة ‪ 32‬باملئة من استمراره إىل مغناطيسية التاريخ الحديث‪،‬‬
‫ونسبة ‪ 68‬باملئة املتبقية إىل مغناطيسية التوازن السائد‪ .‬إن مصدر املغناطيسية األخرية هو‬
‫أن التوقعات االبتدائية دون ‪ 60‬تنتج‪ ،‬أيًا تكن محتويات ذواكر الناس‪ ،‬انزياحات باتجاه ‪.20‬‬
‫حدود مقياس املحافظة الجمعية الذي قدمته للتو من ‪ 0‬إىل ‪ 100‬باملئة‪ .‬وعند أي رأي‬
‫عام محقق‪ ،‬كلام ارتفعت درجة املحافظة الجمعية‪ ،‬يزداد مقدار مرجعية استمرارها إىل‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫وإلمتام التمرين‪ ،‬سأكمم اآلن املحافظة الجمعية املتأصلة يف التوازن املستقر اآلخر‬
‫يف الشكل ‪ .6.1‬دون فقدان الذاكرة‪ ،‬يظل الرأي العلني عند ‪ 100‬إىل أجل غري مسمى‪ .‬ولكن‬
‫مع فقدان الذاكرة‪ ،‬يذهب الرأي العلني‪ ،‬ألسباب سبق بيانها‪ ،‬باملتوسط إىل ‪ .52‬الفرق بني‬
‫الرقمني هو ‪ .48 = 52 – 100‬وباملنطق الذي استنتجناه سابقًا‪ ،‬فإن درجة املحافظة‬
‫الجمعية املتأصلة يف استمرار الرأي العلني هي ‪ 48‬باملئة‪ .‬وهناك سببان لكون درجة‬
‫املحافظة الجمعية أعىل يف هذه الحالة من سابقتها‪ .‬أوالً ‪ 100 ،‬أبعد عن ‪ 52‬من بعد ‪ 20‬عن‬

‫‪135‬‬
‫ريا أكرب عىل خياراتهم‬
‫‪ .52‬وهذا يعني ضمنًا أن ذواكر الناس عن الرأي العلني متلك تأث ً‬
‫مجاال أضيق من التوقعات مام تجذبه ‪ ،20‬ما يعني‬
‫ً‬ ‫للتفضيل العلني‪ .‬وثان ًيا‪ ،‬فإن ‪ 100‬تجذب‬
‫ضمنًا أنه يف غياب التاريخ تكون احتامالت اختيارها أقل نسب ًيا‪.‬‬
‫أظهر الفصل ‪ 4‬أنه يف وجود عدة توازنات قد تحدد أحداث صغرية أي توازن يجري‬
‫اختياره‪ .‬تقول وجهة نظر جديدة أن األحداث الصغرية املسؤولة عن تحقيق توازن ما بعينه‬
‫ال يلغى أثرها بفعل املتوسطات مع مرور الزمن‪ .‬وبالضبط ألن التاريخ يساهم بالفعل يف‬
‫استمرار الرأي العلني‪ ،‬فام أن يزيح حدث ما الرأي العلني تجاه توازن ما أو آخر‪ ،‬ال يلغى‬
‫أثره بالّضورة باألحداث الالحقة‪ .‬افرتضوا أن شيئًا ما‪ ،‬بعد استقرار الرأي العلني عند ‪،20‬‬
‫يخلص انطبا ًعا بأن الرأي العلني قفز إىل ‪ .30‬وفقًا للشكل ‪ ،6.1‬فإن تحوالً يف التوقعات‬
‫كهذا سيحفز تعديالت عكسية تجاه ‪ .20‬لذا فسيكون االضطراب ذايت التصحيح‪ ،‬ولذلك‬
‫‪6‬‬
‫فستحتفظ األحداث املسؤولة عن تحقيق التوازن أثرها إىل أجل غري مسمى‪.‬‬

‫الرأي العلني املستقر يف وجه الرأي الخفي املتغري‬


‫حتى اآلن مل نقل شيئًا عن التغريات يف التفضيالت الخفية‪ .‬سندرس محددات هذه التغيريات‬
‫فيام بعد‪ .‬ما يحتاج استدراكًا هنا هو نكتة قدمنا لها يف الفصل ‪ :4‬التحوالت يف التفضيالت‬
‫الخفية تغري العتبات الفردية و‪ ،‬بالتايل‪ ،‬منحنى انتشار املجتمع‪.‬‬
‫مع استقرار الرأي العلني عند ‪ ،100‬فلينتقل الرأي الخفي بشكل دراماتييك نحو ‪.0‬‬
‫فسيتحرك منحنى االنتشار بذلك نحو األسفل‪ ،‬كام هو مبني يف اللوحة (أ) يف الشكل ‪.6.2‬‬
‫ما يزال هناك توازنان مستقران‪ .‬ولكن األدىن منهام هبط من ‪ 20‬إىل ‪ ،0‬وازدادت‬
‫مغناطيسيته‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬كام تشري اللوحة (ب)‪ ،‬سيقود أي توقع حتى ‪ 90‬الرأي العلني‬
‫الوسطي نحو ‪ .0‬ولكن الرأي العلني نفسه لن يتحرك بالّضورة‪ ،‬إذ يظل الرأي العلني‬
‫املحقق‪ ،‬وقيمته ‪ ،100‬محققًا للتوازن‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫الشكل ‪ ،6.2‬مع كون الرأي العلني عند ‪ ،100‬ينحاز‬
‫الرأي الخفي نحو ‪ ،0‬ما يدفع منحنى االنتشار إىل‬
‫األسفل‪ .‬ويبقى الرأي العلني عند ‪ ،100‬وذلك تحت‬
‫تأثري التاريخ إىل حد كبري‪.‬‬
‫إذا صادف أن تغري الرأي العلني املتوقع‪ ،‬فقد‬
‫يكون هناك بعض االنشقاقات‪ .‬ولكن املنشقني رسعان‬
‫ما سيعودون إىل الجامعة طاملا بقي الرأي العلني‬
‫املتوقع فوق ‪ .90‬فقط إذا ظهر اعتقاد بأن أكرث من ‪10‬‬
‫أصال سيتحول عدد ٍ‬
‫كاف من الناس‬ ‫ً‬ ‫باملئة قد انشقوا‬
‫فعليًا لتفعيل موجة انحدار باتجاه األسفل نحو التوازن‬
‫الجديد‪ .‬ولكن تشكيل اعتقاد من هذا النوع قد يحجب حتى أجل غري مسمى‪ ،‬ألن األفراد‬
‫يفضلون أال يكونوا أول من يتحدى الوضع الراهن‪ .‬فتحت حوافز السمعة السائدة‪ ،‬لن يتحول‬
‫الناس خوفًا من عدم تحول اآلخرين‪ ،‬واآلخرون لن يفعلوا خوفًا من عدم تحول األولني‪.‬‬
‫لذا فقد يكون للرأي العلني حياة أطول من الظروف التي أنشأته‪ .‬عندما تجعل ظروف‬
‫جديدة قرا ًرا كان شعبيًا يو ًما يبدو وكأنه كان خطأً‪ ،‬أو عندما تصبح بنية كانت تؤدي‬
‫وظيفتها فيام سبق عاطل ًة بشكل جيل‪ ،‬فإن الرأي العلني لن يتأقلم بالّضورة‪ .‬وهذا‬
‫االنصياع املجمد يف مواجهة تزايد املعارضة الخفية يعني ضم ًنا ازدياد املحافظة الجمعية‪،‬‬
‫كام يتضح من التجربة املبتكرة أعاله‪ .‬ويف ظل سيناريو فقدان الذاكرة‪ ،‬يذهب الرأي العلني‬
‫يف املتوسط إىل (‪ 90‬باملئة × ‪ 10( + )0‬باملئة × ‪ .10 = )100‬أما دون فقدان الذاكرة‪ ،‬فيظل‬
‫الرأي العلني عند ‪ .100‬الفرق بني الرقمني‪ ،‬فيام يخص مجال الرأي العلني‪ 90 ،‬باملئة‪ .‬وهذا‬
‫يفوق رقم ‪ 48‬باملئة الذي وجدناه للتوازن األعىل يف الشكل ‪ .6.1‬وهناك سببان لكون درجة‬

‫‪137‬‬
‫أوال‪ ،‬بديل الوضع الراهن أقل نسب ًيا‪ ،0 :‬يف مقابل ‪ .20‬وثان ًيا‪،‬‬
‫املحافظة الجمعية اآلن أعىل‪ً .‬‬
‫مجال أعرض نسب ًيا للتوقعات يبعد الرأي العلني عن ‪.100‬‬
‫أظهرت هذه التامرين أن مساهامت التاريخ الستمرار الرأي العلني قد تختلف‪ .‬ولكن‬
‫مهام‪ ،‬كان السبب نفسه‪ .‬يحافظ األقراد عىل الرأي العلني‬
‫يف كل حالة كان التاريخ فيها ً‬
‫املحقق يف محاولة للتحيل بالحصافة – وذلك يف محاولة اختيار تفضيالتهم العلنية عىل‬
‫أساس حوافز السمعة املستمدة من تاريخ الرأي العلني‪ ،‬ولو بشكل جزيئ عىل األقل‪.‬‬

‫دوامة الحصافة‬
‫يف تعليق خفيف الظل عىل األكادمييا‪ ،‬اقرتح فرانسيس كورنفورد مر ًة أن «ال يشء يُفعل‬
‫أب ًدا حتى يقتنع كل فرد بأنه يجب أن يفعل‪ ،‬وبعد أن يقتنع لفرتة طويلة إىل درجة أن الوقت‬
‫حان لفعل يشء آخر»‪ 7.‬اآللية التي نوقشت للتو سبب محتمل لفشل تجسد التغيريات‬
‫املرغوبة من قبل الكثريين عىل أرض الواقع‪ .‬عندما يخفي عدد كبري من الناس شكوكهم‬
‫تجاه الوضع الراهن‪ ،‬فقد يعترب األفراد أنهم متفردون يف خيبات أملهم‪ .‬وقد يعتقدون أنهم‬
‫عىل شقاق مع بقية املجتمع وبالتايل أن صدقهم لن يجلب سوى املشاكل‪ .‬وعن طريق تزييف‬
‫بنى كان ميكنهم‪ ،‬لو عملوا م ًعا‪ ،‬أن يغريوها بسهولة‪.‬‬
‫التفضيالت‪ ،‬قد يبقون عىل ً‬
‫قد يكون الشقاق املتصور شقاقًا زائفًا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ال شقاقًا حقيق ًيا قامئًا عىل خالف‬
‫أصيل‪ .‬يذكر جريي هاريف يف هذا الشأن أن املنظامت تعاين من عدم قدرتها عىل إدارة‬
‫خالفاتها الداخلية أقل مام تعانيه من فشلها يف إدارة توافقاتها‪ 8.‬وتنطبق مالحظاته أيضً ا‬
‫عىل جموع أكرب بكثري‪ .‬إذ ميكن ألمم بأرسها أن تعذب نفسها بفشلها يف إدراك توافقاتها‬
‫الواسعة عىل اإلصالح والعمل وفقًا لها‪.‬‬
‫وقد وصفت العملية التي يحافظ فيها اإلصالحيون القادرون عىل إحداث التغيري عىل‬
‫الوضع الراهن بشكل مشرتك بأنها «دوامة الصمت»‪ .9‬ويجسد هذا املفهوم الدور الحاسم‬
‫للرتابطات املتشابكة بني القرارات الفردية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فهي غري كافية‪ ،‬إن مل تكن مضللةً‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫ففي السياقات الفعلية‪ ،‬ال ينزلق األشخاص املرتددون يف اإلعالن عن خيبات أملهم يف‬
‫الصمت فحسب‪ .‬فلو توقفوا جمي ًعا عن الكالم‪ ،‬سينتهي بهم املطاف إىل كشف تفضيالتهم‬
‫الخفية‪ .‬بل ليجعلوا جهودهم يف تزييف التفضيالت مقنعةً‪ ،‬مييلون ألخذ خطوات ليؤكدوا‬
‫دعمهم للوضع الراهن – كام يحدث عندما توقع مواطنة سوفييتية مناهضة للشيوعية رسال ًة‬
‫تدين منشقًا يعجبها‪ .‬قد تؤدي أعامل التأكيد الحصيفة عىل املستوى الشخيص من هذا النوع‬
‫إىل جهل تعددي واسع النطاق فيام يخص الرأي الخفي‪ .‬لذلك فإن مصطلح دوامة الحصافة‬
‫هو البديل األفضل عن دوامة الصمت‪ .‬فهو يستوعب الفكرة القائلة بأن األفراد ميكن أن‬
‫يتجاوزوا حدود الرقابة الذاتية يف محاولتهم للهروب من دفع مثن الصدق املكلف‪.‬‬

‫املحافظة الجمعية عرب األجيال‬


‫يف الرسوم أعاله كان عدد السكان ثابتًا‪ .‬ولكن يف الحقيقة العملية تجدد املجتمعات أنفسها‬
‫من خالل الوالدات والوفيات‪ .‬وقد تختلف املجموعات الجديدة عن سابقتها فيام يخص‬
‫تفضيالتهم الشخصية‪ .‬ولرؤية مضامني ذلك عىل املحافظة‪ ،‬لنعد التفكري يف شكيل هذا‬
‫الفصل‪ ،‬ولنفكر بالتحول املرسوم يف منحنى االنتشار عىل أنه ناتج عن استبدال جيل جديد‬
‫ذي تفضيالت خفية أدىن عمو ًما بالجيل القديم‪ .‬وفقًا للشكل ‪ ،6.2‬إذا بدأ الجيل الجديد عملية‬
‫االختيار الجمعي من الصفر‪ ،‬فإن الرأي العلني سيذهب إىل ‪ 0‬باحتامل ‪ 90‬باملئة وإىل ‪100‬‬
‫باحتامل ‪ 10‬باملئة فقط‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬يف املامرسة العملية‪ ،‬ال يتمتع أي جيل برفاهية إعادة بدء العملية السياسية‪.‬‬
‫بل يدخل أفراده ميدان السياسة يف أوقات مختلفة‪ ،‬ويواجه كل منهم مجموعة قضايا كان‬
‫الرأي العلني تجاهها قد تشكل بالفعل‪ .‬تخيلوا‪ ،‬إذن‪ ،‬أن أفراد الجيل الجديد جميعهم وصلوا‬
‫بعد أن استقر الرأي العلني عند ‪ .100‬فسيشكلون منحنى االنتشار املوجود يف الشكل ‪.6.2‬‬
‫سيجد كل منهم أن األفضل له شخص ًيا دعم ‪ ،100‬حتى لو أراد العديد منهم دعم ‪ .0‬ويف‬
‫هذه العملية‪ ،‬سيعيدون تشكيل الرأي العلني الذي وصل إليه سابقوهم‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫أوال‪ ،‬قد يستمر جيل بالتأثري عىل الرأي العلني لوقت‬
‫هناك درسان إضافيان هنا‪ً .‬‬
‫طويل بعد انقضاء أيامه‪ .‬وثان ًيا‪ ،‬قد يحمل رأي عام محقق إىل املستقبل بواسطة أجيال مل‬
‫تكن مسؤول ًة عن بدايته‪.‬‬

‫املحافظة‪ ،‬التقليدية‪ ،‬االستمرار‪ ،‬الجمود‬


‫كام يف التغيري‪ ،‬فإن غياب التغيري أيضً ا شائع بشدة إىل درجة أن مصطلحات عديدة وضعت‬
‫لتصف معانيه‪ .‬ولكن يكرث أن تستخدم هذه املصطلحات بشكل غري دقيق‪ ،‬وغال ًبا ما تكون‬
‫بأكرث من معنى واحد‪ .‬وهذا التساهل االصطالحي يشكل سب ًبا ونتيج ًة يف الوقت نفسه لعدم‬
‫تقدم تفكرينا تجاه التطور االجتامعي‪ .‬فالخلط املعنوي يؤخر التقدم الفكري‪ .‬ستحّضنا‬
‫بضع تعريفات للتهذيبات الالحقة‪.‬‬
‫أستخدم مصطلح املحافظة لإلشارة إىل االرتباط السببي للقرار بالوضع الراهن‪ .‬أما‬
‫يف االستخدام اليومي فيشيع ارتباط املصطلح مببدأ سياسة حرية الترصف وأجندة «اليمني»‬
‫السيايس‪ .‬أما هنا‪ ،‬فال يفرتض هذا االرتباط‪ .‬املجتمع املحافظ هو املجتمع الذي يحافظ‪ ،‬وما‬
‫يحافظ عليه يعتمد عىل حيثيات إرثه االجتامعي‪ .‬فعندما ينقلب مجتمع عىل ديكتاتوريته‬
‫الشيوعية التي حكمته لوقت طويل‪ ،‬يصبح أقل محافظةً‪ ،‬ال أكرث‪ .‬وقد أقام فريدريك هايك‬
‫حج ًة مامثل ًة مر ًة عندما هوجم النتامئه للتيار املحافظ بسبب دعوته للحريات األساسية‪ .‬يف‬
‫منشور بعنوان «ملاذا لست محافظًا»‪ ،‬الحظ أن سياسة تدخل الدولة‪ ،‬صلب ما ينتقد عليه يف‬
‫أعامله الجدلية‪ ،‬هي العالمة املميزة للحكومة الحديثة‪ .‬وينتج عن ذلك‪ ،‬كام أتبع‪ ،‬أن نعت‬
‫‪10‬‬
‫املحافظ أجدر مبنتقديه‪.‬‬
‫وكام هو حال املحافظة‪ ،‬فإن التقليدية تستلزم عالق ًة سببية‪ .‬ولكن هناك فرقًا‪:‬‬
‫فاملحافظة تحمل معنى التعلق بالوضع الراهن‪ ،‬أي االلتزام بتقاليد أي بنية اجتامعية يعتقد‬
‫أنها موجودة‪ .‬أما التقليدية فال تستلزم املحافظة‪ ،‬ألن غرض التعلق قد يكون بني ًة مل تعد‬
‫موجودة‪ .‬يف الواقع‪ ،‬قد تكون بني ًة فقط تُصور أنها وجدت‪ .‬عندما تحظر باكستان الفائدة‬
‫‪140‬‬
‫يف جهد منها إلعادة تأسيس العالقات االقتصادية التي يعتقد أنها كانت قامئ ًة بني أوائل‬
‫املسلمني يف شبه الجزيرة العربية يف القرن السابع‪ ،‬فإنها تكون تقليدي ًة ال محافظةً‪ .‬فهي‬
‫ال تحاول املحافظة عىل مؤسسة موجودة‪ ،‬بل تحاول إعادة إحياء مؤسسة يفرتض أنها كانت‬
‫موجودة يف املايض البعيد‪.‬‬
‫استخدمت مصطلحي االتصال واالستمرارية مبعنى وصفي بالكامل لإلشارة إىل‬
‫الوجود غري املنقطع‪ .‬ووفقًا لذلك‪ ،‬فإن جملة «كانت االنتخابات ميز ًة مستمر ًة للسياسة‬
‫الربيطانية» ال متثل أكرث من مالحظة‪ .‬وهناك مصطلحات أخرى تصف االنقطاع عن املايض‪.‬‬
‫وهي تشمل التغيري‪ ،‬واالنزياح‪ ،‬والتأقلم‪ ،‬والتحول‪ ،‬واإلصالح‪ ،‬والثورة‪ .‬وآخر مصطلحني‬
‫ينضويان عىل معلومات عن حجم التغيري ورسعته‪.‬‬
‫ومن املصطلحات التي مل يتس َن يل استخدامها بعد‪ ،‬الجمود‪ ،‬وهو يحمل أهمي ًة‬
‫مقارنة‪ :‬فهو ينضوي عىل بطء التغيري أو عدم اكتامله‪ ،‬نسب ًة إىل معيار ما‪ .‬وأن تصف‬
‫مجتم ًعا بأنه جامد أي أن تدعي أنه كان ليتغري أكرث لو خضع لظروف مثالية أو عادية‪ ،‬أو‬
‫أنه يتغري بشكل أبطأ من املجتمعات األخرى‪ .‬ويحيط مصطلح املرونة باملعنى املضاد‪.‬‬
‫ولرنى كيف تكمل املصطلحات اآلنفة بعضها بعضً ا‪ ،‬لنأخذ الرسم التوضيحي التايل‪.‬‬
‫يستورد البلدان (أ) و(ب) ضوابط لحامية صناعاتهام املحلية‪ .‬واإلضعاف الناتج للضغوط‬
‫التنافسية يزيد من عدم كفاءة صناعاتهام‪ .‬تستجيب (أ) بأن تزيل الضوابط‪ ،‬ولكن (ب)‬
‫تستمر عىل ضوابطها لفرتة أطول‪ .‬بالتعريف‪ ،‬فإن (ب) تظهر جمو ًدا باملقارنة مع (أ)‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬دون معلومات إضافية‪ ،‬ال ميكننا أن نقول شي ًئا عن السببية‪ .‬فقد يكون األمر أن‬
‫ضوابط (ب) تتمتع بالدعم الكامل للرأي الخفي وأن اإلبقاء عليها ال يعكس التعلق بالوضع‬
‫الراهن بذاته‪ .‬يف هذه الحالة فإن استمرار ضوابط (ب) لن يعد من مظاهر املحافظة‪.‬‬
‫يجدر اإلقرار بأن املفهوم الحايل للمحافظة يعتمد فقط عىل تفضيالت وخيارات‬
‫صانع القرار ذي الصلة‪ .‬وال تدخل تفضيالت الغرباء يف الصورة‪ .‬لو كانت (ب) تظهر‬
‫محافظةً‪ ،‬فلن يكون لذلك أي صلة بتفضيالت األشخاص املنتمني ملجتمعات أخرى‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫استمرار عدم الكفاءة‬
‫دليال بديه ًيا عىل‬
‫يف أجزاء معينة من العلوم االجتامعية‪ ،‬يعترب استمرار بنية اجتامعية ما ً‬
‫«كفاءتها»‪ .‬وباستخدام املصطلح باملعنى الذي وضعه باريتو‪ ،‬فإن مصطلح الكفاءة يشري‬
‫إىل انعدام فرص إفادة مجموعة جزئية من املجتمع دون إيذاء مجموعة أخرى‪ 11.‬يقيم‬
‫املحللون الذين يساوون بني االستمرار والكفاءة حجتهم عىل ادعاءين‪ .‬عندما تكون بنية غري‬
‫رسا‪ .‬ووجود أدلة عىل عدم الكفاءة يؤدي‬
‫محققة للكفاءة‪ ،‬وفق قولهم‪ ،‬ناد ًرا ما يظل ذلك ً‬
‫إىل تغيريات رسيعة يف الخيارات الفردية التي تؤدي إىل استدامته‪ 12.‬بتعبري آخر‪ ،‬كل قرار‬
‫طويال دومنا‬
‫ً‬ ‫يستحق اتخاذه يتخذ دومنا تأخري؛ وال تظل فرصة للتحسن االجتامعي وق ًتا‬
‫استغالل‪.‬‬
‫وليس هذا التفاؤل جدي ًدا وال محصو ًرا بالدارسني‪ .‬إذ يجد له أصدا ًء يف الخطاب يف‬
‫طويال»‪ .‬وقد عرف مسلمو العصور‬
‫ً‬ ‫مبادئ مثل «الحق سينترص» و«انتصار الرش ال يدوم‬
‫الوسطى الفكرة مبقولة نسبت إىل النبي محمد‪« :‬ال تجتمع أمتي عىل ضاللة»‪ 13.‬ومن‬
‫جهتهم‪ ،‬أشاد األوروبيون باملثل القائل «‪ – »Vox populi vox Dei‬أي صوت الشعب هو‬
‫صوت الله‪ 14.‬ولكن ادعاء الكفاءة الضمني يف هذه األمثال مل يح َظ قط بإجامع القبول‪ .‬إذ‬
‫تحمل بعض األمثال القدمية تشاؤ ًما تجاه حكمة القرارات الجمعية‪ .‬ومنها « ‪Vox populi‬‬
‫‪– »vox diabloi‬أي صوت الشعب هو صوت الشيطان– و«‪»Vox populi vox stultorum‬‬
‫‪15‬‬
‫– أي صوت الشعب هو صوت الحامقة‪.‬‬
‫وال يقرتح النموذج املدروس هنا أن الرأي العلني –صوت الشعب– يولد عدم الكفاءة‬
‫مفضال‬
‫ً‬ ‫فعال توازنًا ال بديل‬
‫بالّضورة‪ .‬ففي وجود عدة نتائج مجدية قد يكون التوازن املختار ً‬
‫اجتامع ًيا له‪ .‬ولكن ال يشء مينع اختيار توازن دون املثايل‪ ،‬وقد يحتمل عدم الكفاءة املحقق‬
‫الدوام حتى أجل غري مسمى‪ .‬ومن بني التوازنني املستقرين يف الشكل ‪ ،6.2‬قد ينتج التوازن‬
‫الذي عند ‪ 0‬نتيج ًة مفضل ًة اجتامعي ًة عىل بديلتها‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬قد يكون الحال أن األفراد الذين‬
‫‪142‬‬
‫يفضلون ‪ 0‬قد يعوضون الجميع ويظلون يف املقدمة‪ .‬ولكن حتى تحت هذا الرشط‪ ،‬ميكن‬
‫أن تظل ‪ 100‬توازنًا حتى أجل غري مسمى‪.‬‬
‫باملبدأ‪ ،‬قد يتمكن خيار غري كفوء من االستدامة بسبب عجز الناس يف السعي وراء‬
‫مثال‪ ،‬نتيجة قيود مؤسسية‪ .‬ولكن‪ ،‬أظهر هذا‬
‫مصالحهم الشخصية – كأن يكون العجز‪ً ،‬‬
‫الفصل أن سبب استدامة عدم الكفاءة قد يكون أيضً ا إتقان الناس للسعي وراء مصالحهم‪.‬‬
‫عندما يكون عدم الكفاءة مدعو ًما بتزييف للتفضيالت‪ ،‬فإن مصدر املشكلة ال يكون عدم قدرة‬
‫تعظيم املنفعة الشخصية‪ .‬بل قدرة الفرد عىل تلبية حاجاته‪ .‬النكتة أنه عندما تجمع العديد‬
‫من الجهود الفردية املوجهة لخدمة الذات لتشكيل رأي علني‪ ،‬فإن املنافع الفردية الناتجة قد‬
‫ال ترقى ملستوى إمكاناتها الكامنة‪ .‬وسيستفاض يف هذا املوضوع يف الفصل ‪.17‬‬
‫إذا كان أحد أهداف األبحاث الدراسية إيجاد عالقات سببية بني املتغريات التي قد تبدو‬
‫دونها غري مرتبطة‪ ،‬فإن من أهدافها األخرى تأكيد أن الروابط املعروفة تظهر يف سياقات‬
‫زمنية‪ ،‬وجغرافية‪ ،‬ووظيفية متنوعة‪ .‬وبهذه الروح‪ ،‬سأستعرض اآلن‪ ،‬من خالل ثالث‬
‫دراسات حاالت تظهر كل واحدة منها يف فصل خاص‪ ،‬عمومية النظرية التي رسمتها‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫الفصل السابع‬
‫ُمعاندة الشيوعية‬

‫وصلت األحزاب الشيوعية إىل السلطة يف روسيا‪ ،‬وبعد ذلك يف أوروبا الرشقية وغريها من‬
‫الدول‪ ،‬ووعدت بأن «االشرتاكية العلمية» ستؤدي دو ًرا رياديًا يؤدي إىل أبعاد جديدة من‬
‫الحرية‪ ،‬وأنها ستقيض عىل االستغالل‪ ،‬ومتنح السلطة السياسية للجامهري‪ ،‬وترفع‬
‫مستويات املعيشة إىل مستويات غري مسبوقة — إمنا يف غضون ذلك راح كيان الدولة‬
‫حكم تلك األحزاب‪ ،‬أصبحت‬
‫ظل ُ‬
‫يتالىش‪ .‬مل تُرتجم تلك الوعود عىل أرض الواقع‪ .‬إذ يف ّ‬
‫الشيوعية رم ًزا للقمع‪ ،‬والرقابة‪ ،‬والتسلّط العسكري‪ ،‬والتعقيدات اإلدارية‪ ،‬والتخلف‬
‫االقتصادي‪.‬‬
‫دفعت إخفاقات الشيوعية عد ًدا من مواطني االتحاد السوفييتي وأوروبا الرشقية إىل انتقاد‬
‫وعرب أولئك املنشقون‪ ،‬وهو االسم الذي ُعرِفوا به يف الغرب‪،‬‬
‫السياسات واملؤسسات الرسمية‪ّ .‬‬
‫عن إحباطهم من خالل املنشورات الّسية التي تولّوا نرشها بأنفسهم (ساميزدات) والكتابات‬
‫املنشورة يف الخارج (تاميزدات)‪ .1‬بالنظر إىل الفجوة بني خطابات الشيوعية وإنجازاتها‬
‫يف الواقع‪ ،‬ميكن للمرء بسهول ٍة تف ّهم وجود معا َرضة لها‪ .‬إمنا ما يص ُعب تف ّهمه هو ندرة‬
‫وجود املعارضة عىل نطاق أوسع قبل انهيار احتكار الحزب الشيوعي للسياسة يف عام‬
‫‪.1989‬‬
‫خصوصا يف برلني الرشقية يف‬
‫ً‬ ‫واالنتفاضات التي قُمعت يف السنوات قبل عام ‪– 1989‬و‬
‫عام ‪ ،1953‬وهنغاريا يف عام ‪ ،1956‬وتشيكوسلوفاكيا يف عام ‪ –1968‬ليست سوى‬
‫ٍ‬
‫استثناءات تثبت القاعدة‪ .‬فعىل مدار عقود طويلة‪ ،‬أظهر معظم أبناء املجتمعات الشيوعية‬
‫تسام ًحا ملحوظًا مع االستبداد وغياب الكفاءة‪ .‬فقد ظلوا ُمذعنني مستسلمني لألوضاع‬
‫الراهنة‪ ،‬بل ومؤيدين لها يف الظاهر‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫تُعزى هذه االستكانة بجز ٍء منها إىل العقوبات التي كالتها املؤسسة الشيوعية ملعارضيها‪.‬‬
‫حكم الشيوعية‪ ،‬تع ّرض أولئك الذين ينتقدون القيادة السياسية أو يؤيدون‬
‫ففي ذروة ُ‬
‫والسجن‪.‬‬
‫اإلصالح للمضايقة‪ ،‬وتخفيض الرتبة‪َ ،‬‬
‫ٌ‬
‫أهوال أسوأ من ذلك‪.‬‬ ‫ولحقت باملاليني م ّمن اشتُبه بكونهم معارضني‬
‫يُذكر منها معسكرات العمل القّسي املذكورة يف رواية أرخبيل غوالغ‪ ،‬واملحاكامت الصورية‬
‫التي عقدها ستالني‪ ،‬وعمليات التصفية التي نفذها زعام ٌء ظلمة بحجة الحتمية التاريخية‪.‬‬
‫صواب إال مع الحزب ويف صفّه»‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫قائال‪« :‬ال ميكننا أن نكون عىل‬
‫أعلن أحد منظري الشيوعية ً‬
‫سبيال آخر ليكون املرء عىل الحق»‪ .2‬وقد أفضت هذه العقلية إىل تربير‬
‫ً‬ ‫«ألن التاريخ مل يُنتِج‬
‫بحق املخالفني‪.‬‬
‫الجرائم الفظيعة ّ‬

‫مصادر استقرار النظام الشيوعي‬


‫ومع ذلك‪ ،‬فإن القوة الغاشمة مل تكن سوى وجه واحد من أوجه معاندة الشيوعية‪.‬‬
‫ع ّزز النظام وأدوات العنف التي وظّفها من نفسه باسترشاء ثقافة الكذب‪ .‬فعاد ًة ما احتفى‬
‫األفراد مبتحدثني ال يحبونهم‪ ،‬وانضموا إىل منظامت عارضوا رسالتها‪ ،‬وقاطعوا املعارضني‬
‫الذين احرتموهم‪ ،‬ونفّذوا األوامر التي اعتربوها سخيفة‪ ،‬أو ُم ِ‬
‫جحفةً‪ ،‬أو همجية‪ ،‬وغري ذلك‬
‫من مظاهر التأييد أو املتابعة‪ .‬يف أوائل عام ‪ ،1970‬كتب ألكسندر سولجنيتسني ما ييل‪:‬‬
‫«لقد أُدمجت الكذبة يف نظام الدولة باعتبارها الرابط الحيوي الذي يُبقي كل يش ٍء مرتابطًا‪،‬‬
‫مع وجود مليارات وسائل التثبيت الصغرية‪ ،‬والتي تك ّبل العرشات منها كل إنسان»‪ 3.‬ثم‬
‫قائال‪« :‬ما معنى أال تكذب؟» إنه يعني «أالّ تقول ما ال تفكر فيه‪ ،‬ويشمل هذا أالّ تهمس‪،‬‬
‫تساءل ً‬
‫وال تتكلم‪ ،‬وال ترفع يدك‪ ،‬وال تُديل بصوتك‪ ،‬وال تتظاهر باالبتسام‪ ،‬وال تفرض حضورك‪ ،‬وال‬
‫‪4‬‬
‫تتخذ موقفًا‪ ،‬وال تهلل»‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫رسا يف عام ‪ ،1979‬تحدث فاتسالف هافيل عن‬
‫يف مقال بعنوان «قوة املستضعفني» نُرش ً‬
‫املحل‪ ،‬بني أكداس البصل والجزر‪ ،‬شعار «يا عامل العامل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بائع خّضوات يضع يف نافذة‬
‫اتحدوا!» وتساءل هافيل‪ ،‬ما هو دافع بائع الخضار؟‬
‫هل هو متحمس حقًا لفكرة اتحاد عامل العامل؟ وهل دفعت به الحامسة املفرطة‬
‫لشعو ٍر ال ميكن كبتُه ليك يع ّرف الزبائن بأفكاره السياسية؟ هل قىض ولو دقيق ًة‬
‫واحد ًة يف التفكري عن كيفية حدوث مثل هذا االتحاد‪ ،‬ولو حصل ماذا سيعني ذلك؟‬
‫تستحق إجابة هافيل أن تُو َرد بكاملها‪:‬‬
‫ال تفكر الغالبية العظمى من أصحاب املحالت أب ًدا يف الشعارات التي يضعونها عىل‬
‫نوافذ املحالت‪ ،‬بل وال يستخدمونها للتعبري عن آرائهم الحقيقية‪ .‬إمنّا جاء هذا امللصق‬
‫إىل بائع الخضار من الرشكة مع البصل والجزر‪.‬‬
‫ووضعها جمي ًعا يف نافذة العرض ب ُحكم ال ُعرف املتبّع عىل هذا النحو منذ سنوات‪،‬‬
‫ألن الجميع يفعل ذلك‪ ،‬وألن الحال ينبغي أن يكون كذلك‪ .‬وإذا رفض البائع‪ ،‬سيحدث‬
‫ما ال يُحمد عقباه‪ .‬فقد يتعرض للتوبيخ بسبب غياب «الزينة» املناسبة من نافذة املحل؛‬
‫وقد يتهمه شخص ما بالخيانة‪ .‬يضع ذلك البائع الشعا َر ألنه ينبغي عىل املرء فعل‬
‫‪5‬‬
‫ذلك إذا أراد أن يحيا بسالم‪.‬‬
‫ليعرب عن مثا ٍل اشرتايك أعىل‪ ،‬إمنا‬
‫ّ‬ ‫ال يعرض بائع الخّضوات يف هذا املثال الشعا َر إياه‬
‫إشار ًة إىل استعداده للتوافق مع الوضع السيايس الراهن‪ .‬لو أن البائع أزال الشعا َر –أو‪،‬‬
‫معاذ الله‪ ،‬استب َدله بشعار «يا عامل العامل‪ ،‬كُلوا البصل والجزر!»– فهو يع ّرض نفسه لتهمة‬
‫التخريب‪.‬‬
‫إن الحركة االحرتازية من طرف بائع الخضار لها نتيجة غري مقصودة‪ :‬تعزيز فكرة أن‬
‫مساهام يف‬
‫ً‬ ‫عامال‬
‫ً‬ ‫املجتمع يدعم الحزب‪ ،‬عىل األقل يف العلن‪ .‬يف الواقع‪ ،‬يصبح إذعا ُن البائع‬
‫رغبة غريه من بائعي الخضار بتأييد اتحاد عامل العامل‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬فإنه يشكّل ضغطًا‬

‫‪146‬‬
‫عىل الفالحني‪ ،‬وعامل املناجم‪ ،‬والفنانني‪ ،‬والكتّاب‪ ،‬واملوظفني لالستمرار يف فعل وقول‬
‫األشياء املتوقعة منهم أيضً ا‪.‬‬
‫أشكاال أكرث‬
‫ً‬ ‫غال ًبا ما اتخذت الجهود املبذولة إلثبات والء الفرد للوضع السيايس الراهن‬
‫مأساوية من عرض الشعار املاركيس البايل‪.‬‬
‫فلْنأخذ حالة آنا أخامتوفا‪ ،‬التي ألفت يف عرشينيات وثالثينيات القرن العرشين قصائد شج ّية‬
‫عن الحب والدين‪ .‬وألنها إنسانة حرة‪ ،‬لقيت أخامتوفا أش ّد االستنكار بوصفها «برجوازية‬
‫وأرستقراطية»‪ ،‬و ُمنعت من النرش‪ ،‬وتعرضت لضائقة مالية‪ .‬وعندما مل يثنها ذلك عن‬
‫موقفها‪ ،‬أُلقي القبض عىل ابنها‪ ،‬وتع ّرض للتعذيب‪ ،‬وأُجرب عىل االعرتاف بأن والدته أمرته‬
‫باغتيال مسؤول حكومي‪ .‬فوهنت عزميتها‪ ،‬وعربت عن تراجعها عن موقفها بأبيات شعرية‪:‬‬
‫حل ستالني‪ ،‬حلّت معه الحرية‬
‫حيثام ّ‬
‫‪6‬‬
‫والسالم وبها ُء األرض‪.‬‬
‫تح ّمل عدد ال يحىص من مثقفي االتحاد السوفييتي وأوروبا الرشقية العقوبات بسبب‬
‫رفضهم خطَّ مسريتهم املهنية بتبنّي مواقف التربير للشيوعية‪.‬‬
‫إمنا اضط ّر معظم الناجني لإلذعان للمطالب املفروضة عليهم‪ .‬يستذكر الشاعر ألكسندر فات‬
‫كيف استجاب لحالة االضطهاد‪« :‬ترصفت ب ُجنب‪ .‬أدليت بأكاذيب‪ .‬كنت أعرف أنهم‬
‫قدمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يل‪ ،‬وأن [عائلتي] ستلقى الويل‪ .‬كنت أرتجف من رأيس إىل أخمص‬
‫سيقبضون ع ّ‬
‫نعم‪ ،‬لقد تظاهرت بأنني استعدت إمياين بالشيوعية»‪.‬‬
‫‪7‬‬

‫تأت الضغوط التي مورست عىل املثقفني من طرف الحزب الشيوعي فحسب‪ .‬بل اشرتك‬‫مل ِ‬
‫يف مامرسة تلك الضغوط مثقفون آخرون‪ ،‬سع ًيا منهم للحفاظ عىل عالقة طيبة مع النظام؛‬
‫فامتنعوا عن الدفاع عن زمالئهم املدانني بشكل رسمي‪ ،‬بل وشاركوا يف تشويه سمعتهم‪.‬‬
‫انخرط العرشات من الكتاب املشهورين يف الحملة التي شُ ّنت عىل بوريس باسرتناك‪ ،‬امل ُ ْدرج‬
‫عىل القامئة السوداء لكتابته الدكتور جيفاغو‪ ،‬وهي الرواية التي كان سيفخر واحدهم بها‬
‫جه اتحاد الكتاب إدان ًة إىل باسرتناك بوصفه عد ًوا لالتحاد‬
‫لو أنه َمن كتبها‪ .‬عندما و ّ‬
‫‪147‬‬
‫السوفييتي‪ ،‬جاء التصويت باإلجامع –رغم أن قلة من الكتاب تع ّمدوا الذهاب إىل دورة املياه‬
‫أثناء االقرتاع املفتوح‪ .‬أصبح من املعروف اآلن أن العديد من املثقفني السوفييت تألّموا يف‬
‫صمت بسبب مشاركتهم‪ ،‬الف ّعالة أو السلبية‪ ،‬يف حملة اعتربوها مشينةً‪ .‬تُعترب مشاركتهم‬
‫‪8‬‬
‫شاه ًدا عىل سطوة الضغوط التي أسهموا جمي ًعا يف خلقها واستدامتها‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،1977‬أنشأت مجموعة من املثقفني التشيكوسلوفاكيني رابط ًة فضفاضة‪ ،‬حملت‬
‫اسم امليثاق ‪ ،77‬مكرسة للحقوق األساسية التي وافقت تشيكوسلوفاكيا عىل احرتامها من‬
‫بحق الرابطة‬
‫خالل توقيعها عىل اتفاقية هلسنيك للعام ‪ .1975‬شنّت الحكومة حملة قمعٍ ّ‬
‫امليثاق ‪ 77‬بإصدار بيانات إدانة‪ ،‬وإرسال‬
‫َ‬ ‫واعتقلت قادتها‪ 9.‬خالل الحملة‪ ،‬شجب املاليني‬
‫رسائل كراهية لتُنرش يف الصحف‪ ،‬وقاطعوا املوقعني عىل امليثاق‪ .‬تو ّرط العديد من املواطنني‬
‫يف خيانة الذات‪ ،‬بهدف إقناع النظام بحقيقة والئهم له‪.‬‬
‫من املحتمل أن بعض املشاركني يف هذه الحملة قد اعتربوا امليثاق ‪ 77‬منظمة خطري ًة مص ِّممة‬
‫عىل تشويه صورة تشيكوسلوفاكيا‪.‬‬
‫رأي بعض نقاد باسرتناك أن انشغال الروايئ بالحديث عن عيوب بواكري‬
‫وباملثل‪ ،‬قد يكون ُ‬
‫حس املسؤولية‪ .‬وقد يكون لدى البعض اآلخر دوافع أخرى‬
‫التاريخ السوفييتي أم ٌر يعوزه ّ‬
‫كل ما ذُكر‪،‬‬
‫مثال‪ .‬إمنّا مع ّ‬
‫غري الرغبة يف إرضاء النظام الشيوعي‪ ،‬كالغرية أو التنافُس املهني ً‬
‫فقد تنكّر أفراد املجتمعات التي حكمتها األحزاب الشيوعية لبعضهم البعض حتى يف غياب‬
‫الدوافع الشخصية‪.‬‬
‫أدرك مواطنو املجتمعات الشيوعية أنه يف حال تع ّرضهم لغضب السلطات‪ ،‬فال ميكنهم‬
‫ّس‪.‬‬
‫االعتامد عىل األصدقاء‪ ،‬وال حتى املق ّربني منهم والذين يتب ّنون وجهات نظر مامثلة يف ال ّ‬
‫تتلق‬
‫النسبي يف بولندا‪ ،‬مل ّ‬
‫ّ‬ ‫يف عقد الثامنينيات من القرن العرشين والذي اتّسم باالنفتاح‬
‫ي دعم من زمالئها‪ .‬بالرغم من‬
‫معلّمة مدرسة انتقدت مديرتها يف اجتامع هيئة التدريس أ ّ‬
‫ذلك‪ ،‬تناهى إىل مسمعها فيام بعد أنّهم «يف غاية السعادة ألن املديرة سمعت الحقيقة»‪ .‬وفقًا‬
‫للمعلمة‪ ،‬فلو أنّها قد أعربت عن تلك االنتقادات يف وقت سابق‪ ،‬لكانت قد طُردت من املدرسة‬

‫‪148‬‬
‫تحت سيلٍ من االنتقادات العلنية من زمالئها‪ .‬لرمبا كانوا سيواصلون دعم موقفها يف ال ّ‬
‫ّس‪،‬‬
‫‪10‬‬
‫لكن أمام مديرة املدرسة‪ ،‬كانوا سيرصون عىل رضورة «تأديبها»‪.‬‬
‫يف معرض وصفه ألوضاع االتحاد السوفييتي تحت حكم ستالني‪ ،‬يذكر لشك كوالكفسيك‬
‫الحق يف أن يُرتكوا‬
‫أن أحد الرشوط املشرتكة للبقاء متثّل يف الوشاية‪ .‬إذ حاز األشخاص عىل ّ‬
‫وشأنهم واالنضامم إىل الطبقة الحاكمة ذات الحظوة عرب التجسس عىل جريانهم‪،‬‬
‫وأصدقائهم‪ ،‬وزمالئهم يف العمل وتدمري حياتهم‪ .‬وهكذا «أصبحت الجامهري رشيكة يف‬
‫الجرمية من أجل تحسني أوضاعهم الشخصية»‪ 11.‬يف وقت الحق‪ ،‬أصبح هناك ‪20,000‬‬
‫ضابط رشطة رسي تقري ًبا و‪ 150,000‬مخرب يتلقون مرتبات من وزارة الداخلية‬
‫التشيكوسلوفاكية‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬تجسس مئات اآلالف من األشخاص بشكل منتظم عىل‬
‫معارفهم بدون مقابل‪ .‬وبشكل إجاميل‪ ،‬ع ِمل لدى النظام ما يصل إىل نسبة ‪ %5‬من‬
‫املواطنني كمخربين بأجر أو بدون أجر‪ 12.‬يف أملانيا الرشقية‪ُ ،‬وجد ‪ 300,000‬شخص‬
‫تجسس واحد من كل خمسني‬
‫وقت من األوقات‪ّ ،‬‬‫يعملون مخربين للرشطة الّسية؛ ويف أي ٍ‬
‫أملانيًا رشقيًا مقابل أجر‪ 13.‬لكن هذه األرقام هي أبعد ما تكون عن التحديد الدقيق ملدى‬
‫التعاون مع النظام‪ .‬بشكل من األشكال‪ ،‬شارك الجميع تقريبًا يف معاقبة املواطنني‬
‫املستهدفني‪.‬‬
‫بالعودة إىل قصة بائع الخضار‪ ،‬يقول هافل «لنفرتض أن شيئًا ما يف بائع الخضار يدفعه‬
‫للتهور‪ ،‬فيتوقف عن وضع الشعارات»‪ .‬وأن بائع الخضار «ميتنع عن التصويت يف‬
‫عام يفكر فيه برصاحة يف‬‫االنتخابات التي يعرف أنها مهزلة»؛ وأنه «يبدأ يف التعبري ّ‬
‫االجتامعات السياسية»؛ بل إنه «يجد القوة يف نفسه للتعبري عن التضامن مع أولئك الذين‬
‫‪14‬‬
‫مييل عليه ضمريه دعمهم»‪ .‬باختصار‪ ،‬إنه «يحاول أن يعيش عىل هدي الحقيقة؟«‬
‫ُ‬
‫فيام ييل العواقب املحتملة‪:‬‬
‫س ُيعفى [بائع الخضار] من منصبه كمدير للمحل ويُنقل للعمل يف املستودع‪ .‬سيتعرض‬
‫راتبه للتخفيض‪ .‬وتتبخر آماله يف قضاء عطلة يف بلغاريا‪ .‬ستتعرض فُرص حصول أبنائه‬

‫‪149‬‬
‫عىل التعليم العايل للخطر‪ .‬سوف يع ّرضه رؤساؤه للمضايقة‪ ،‬وسوف يتساءل عنه زمالؤه‬
‫يف العمل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن معظم الذين ينفّذون هذه العقوبات ال يط ّبقونها وفقًا ألي قناعة‬
‫داخلية حقيقية‪ ،‬إمنا بسبب ضغط الظروف؛ وهي نفس الظروف التي ضغطت فيام مىض‬
‫عىل بائع الخضار لوضع الشعارات الرسمية‪ .‬ف ُهم يضطهدون بائع الخضار إما ألن ذلك‬
‫متوقّ ٌع منهم‪ ،‬أو إلثبات والئهم‪ ،‬أو ببساطة باعتبار ذلك جز ًءا من الصورة العامة التي ينتمي‬
‫إليها الوعي بأن هذه هي الطريقة املثىل للتعامل مع هكذا مواقف؛ وأن هذه هي الطريقة‬
‫‪15‬‬
‫التي تسري بها األمور دامئًا‪ ،‬ال س ّيام إذا رغب املرء أال يضع نفسه يف دائرة الشكوك‪.‬‬
‫تكمن براعة هذه ال ِعربة التي يسوقها هافيل يف قدرتها عىل متييز الضغوط التي استلزمت‬
‫بقاء األفراد مخلصني ألنظمتهم االستبدادية غري الكفؤة‪ .‬حظي القمع الحكومي بقبول‬
‫املواطنني العاديني‪ .‬بل يف الواقع‪ ،‬اتخذ ذلك القمع من تواطؤهم ركيزة له‪ .‬من خالل تزوير‬
‫تفضيالتهم واالشرتاك يف تأديب املعارضني‪ ،‬أسهم املواطنون بصورة جامعية يف استدامة‬
‫ريا لالشمئزاز‪ .‬عىل حد تعبري هافيل نفسه‪ ،‬فإن «خط املواجهة»‬
‫نظام اعتربه الكثريون مث ً‬
‫ٍ‬
‫الحاسمة مل يتمثّل يف الحزب مقابل الشعب‪ ،‬ولكن «كل شخص مقابل نفسه»‪ ،‬ألن الجميع‬
‫‪16‬‬
‫كانوا «ضحايا للنظام ومؤيدين له» يف اآلن نفسه‪.‬‬
‫ريا عمليًا يف الفتة ُعلّقت‪ ،‬بعد سقوط جدار برلني‪ ،‬فوق املذبح يف‬
‫وجدت مالحظة هافل تعب ً‬
‫كنيسة يف أملانيا الرشقية‪« :‬أنا قابيل وهابيل»‪ 17.‬من نافل القول إن الرصاع الشخيص امل ُض َمر‬
‫متج ّذ ٌر يف التعا ُرض بني الحاجة إىل تأكيد الذات والحاجة إىل القبول االجتامعي‪ .‬يف ظل‬
‫حل‬
‫حكم الشيوعية‪ ،‬كان مواطنو أوروبا الرشقية واالتحاد السوفييتي مييلون إىل اختيار ّ‬
‫ُ‬
‫هذا التعا ُرض لصالح القبول االجتامعي‪ .‬ففي تجنبهم خوض املعارك املفتوحة مع أنظمتهم‬
‫القمعية‪ ،‬أذعنوا للرصاع مع أنفسهم بصمت‪ .‬حقق معظمهم درج ًة نسبي ًة من األمان‬
‫الخارجي‪ ،‬بَيد أن ذلك جاء عىل حساب السالم الداخيل يف ذواتهم‪.‬‬
‫ِمن ث ّم‪ ،‬شكّل الكذب مصد ًرا ًّ‬
‫مهام الستقرار النظام الشيوعي عىل مدار عقود طويلة‪ .‬إذ لو‬
‫مل تع ِمد األنظمة الشيوعية ضمن الكتلة السوفييتية إىل تزييف التفضيل عىل نطاقٍ واسع‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫والفتقرت إىل السلطة الالزمة ملقاومة م ّد‬
‫لَكانت ستواجه معارضة ج ّدية متواصلةً‪َ ،‬‬
‫اإلصالحات السياسية واالجتامعية‪.‬‬

‫الخوف‪ ،‬وجهل األكرثية‪ ،‬والعجز‬


‫تع ّمد مواطنو االتحاد السوفييتي وأوروبا الرشقية تزييف تفضيالتهم‪ ،‬ومر ّد ذلك من جه ٍة‬
‫للحصول عىل الفوائد املادية‪ ،‬وخوفًا من العقاب من جهة أخرى‪.‬‬
‫حتى ستينيات القرن العرشين‪ ،‬ض ّمت األشكال الشائعة للعقاب‪ :‬اإلعدام‪ ،‬والتعذيب‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مخالفات‬ ‫والسجن‪ ،‬وإيذاء أقارب املرء املستهدف‪ 18.‬كام أمكَن معاقبة الشخص الرتكابه‬
‫تافهة‪ ،‬كعدم حضور فعالي ٍة ينظّمها الحزب‪ .‬يذكر أحد علامء االجتامع البولنديني مدي َر‬
‫ٍ‬
‫فعاليات نظّمها الحزب‪ ،‬ثم حرمهم‬ ‫بسجل لجميع األشخاص الذين تغيّبوا عن‬
‫ٍّ‬ ‫مؤسس ٍة احتفظ‬
‫من مكافآت العمل‪ 19.‬حتى إمياءات الشخص‪ ،‬أو نربة صوته‪ ،‬أو ربطة العنق التي يختارها‬
‫ٍ‬
‫عالمات عىل عدم الوالء‪ .‬وذكر الشاعر تشيسالف ميلوش أن املرء قد يواجه‬ ‫أمكَن اعتبارها‬
‫‪20‬‬
‫املتاعب بسبب «ابتسامة تظهر يف اللحظة غري املناسبة»‪ ،‬أو «نظرة ليست كام هو مطلوب»‪.‬‬
‫يف نسخ ٍة صادر ٍة يف عام ‪ 1949‬من مجلة أوكتابري السوفييتية وردت التعليامت التالية‪:‬‬
‫َ‬
‫القول قد ينسجم انسجا ًما تا ًما مع‬ ‫يجب أال يكتفي املرء مبجرد االنتباه إىل ما يُقال‪ ،‬ألن‬
‫صدقه‪ ،‬عىل سبيل‬ ‫برنامج الحزب‪ .‬بل يجب عىل املرء أن ينتبه أيضً ا إىل أسلوب الكالم – إىل ِ‬
‫املثال‪ ،‬يف حالة مديرة املدرسة التي تتلو قصيد ًة تعتربها السلطاتُ ُمريبةً‪ ،‬أو أَمارات الّسور‬
‫‪21‬‬
‫تفضح رسير َة الناقد الذي يخوض يف تفاصيل مّسحي ٍة يزعم شج َبها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫التي قد‬
‫ال يعني ذلك أن الناس كانوا متج ّردين متا ًما أمام الكبوات املؤسفة يف السلوك‪ .‬فقد أمكنهم‬
‫التكفري عن املخالفات غري املقصودة من خالل استمرارهم يف إظهار الوالء‪ .‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫كلّام سنحت لهم الفرصة ن ّوهوا إىل إنجازات االتحاد السوفييتي‪ ،‬وتأبّطوا كتب املاركسية‬
‫الكالسيكية تحت أذرعهم‪ ،‬ودندنوا باألغاين الثورية‪ ،‬واستفاضوا يف الحديث عن إخفاقات‬
‫‪22‬‬
‫الرأساملية‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫ابتدا ًء من عقد الستينيات‪ ،‬انخفضت درجة القمع‪ .‬وقلّت نسبة األشخاص الذين واجهوا‬
‫عقوبة اإلعدام أو تع ّرضوا للتعذيب‪ ،‬وأصبح من القليل النادر معاقبتهم ملجرد اإلتيان بسلوك‬
‫اعتُرب غري الئق‪ .‬وهكذا‪ ،‬يتع ّرض بائع الخّضوات املتم ّرد يف مثال هافيل لقا َء عصيانه‬
‫ِ‬
‫لخفض رتبته الوظيفية‪ ،‬واملضايقة‪ ،‬واملرور بضائقة مالية؛ إمنّا ال يجد نفسه قاب ًعا يف زنزانة‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫ولكن حتى هذه العقوبات املخففة كانت كافية لثني معظم املواطنني عن املعارضة العلنية‪.‬‬
‫أطلقت األنظمة الشيوعية يف أوروبا الرشقية عىل نفسها تسمية «الدميقراطيات الشعبية»‪.‬‬
‫وعىل األقل من ناحية املظهر‪ ،‬فقد استوفت جميعها الرشوط األساسية للدميقراطية‬
‫رشعني عرب االنتخابات بالتصويت الّسي‪ .‬وعاد ًة ما أُدرِج مرشح واحد‬
‫التمثيلية‪ ،‬كاختيار امل ّ‬
‫فقط يف بطاقة االقرتاع‪ .‬لكن حظي الناخبون بخيار شطب االسم املطبوع‪ ،‬لذلك عىل األقل‬
‫من حيث املبدأ ميكن ألغلبية من الناخبني الدفع لعقْد انتخابات جديدة‪ .‬أما من الناحية‬
‫العملية‪ ،‬فقد ن ُدرت األصوات السلبية‪ ،‬ألن الناخبني حاولوا تجنب إثارة الشكوك‪ .‬مل ميارس‬
‫معظم املواطنني حقهم القانوين يف التصويت خلف ستار‪ ،‬خشية أن يفّس مراقبو‬
‫دليل عىل املعارضة‪ 24.‬بدافع الخوف‪ ،‬مال املواطنون إىل‬ ‫ِ‬
‫االنتخابات االقرتا َع الّسي عىل أنه ٌ‬
‫التصويت‬
‫َ‬ ‫التصويت يف العلن‪ ،‬مام ص ّعب عىل غريهم من املواطنني املستائني من النظام‬
‫رسا‪.‬‬
‫ً‬
‫وكنتيجة ثانوية لهذا النكوص عن رفع الصوت باملعارضة نشأ جهل األكرثية عن نطاق اآلراء‬
‫الشخصية‪ .‬فالكثريون م ّمن عارضوا الشيوعية مل يكونوا عىل دراية عن مدى مشاركة األلوف‬
‫غريهم الستيائهم‪ .‬لقد متكنوا من استشفاف اإلحباط املكبوت لدى أقاربهم املؤيدين‬
‫وأصدقائهم املقربني؛ ومتكنوا من مالحظة الصعوبات يف حياة أبناء وطنهم؛ وأدركوا بداه ًة‬
‫أن االنتفاضات الجامهريية يف املايض مل تكن لتحدث يف غياب السخط العلني‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫فقد افتقر أولئك املعارضون إىل معلومات موثوقة عن عدد املواطنني الذين رغبوا يف التغيري‬
‫السيايس الجذري –ناهيك عن معرفة مقدار استعداد اآلخرين للتجاوب معهم‪ .‬استغلت‬
‫جهل املواطنني وراحت تردد حديثها عن «وحدة‬
‫َ‬ ‫الصحافة التي تسيطر عليها الحكومة‬

‫‪152‬‬
‫املجتمع االشرتايك»‪« ،‬وتضا ُمن أفراد املجتمع يف دعم الحزب»‪ .‬وبقدر ما دفعت هذه الدعاية‬
‫املعارضني املحتملني إىل قراء ٍة ناقص ٍة عن مدى انتشار السخط‪ ،‬فقد أضعفت عزميتهم‬
‫ملواجهة الوضع الراهن‪.‬‬
‫وهكذا فقد غذّى جهل األكرثية الشعو َر السائد بالعجز‪ .‬فقد أوهم األفرا َد أنهم ال يقدرون عىل‬
‫فعل يشء لتغيري حكومتهم أو سياساتها‪ ،‬وأن محاوالت اإلصالح ال جدوى منها‪ ،‬وأن مسار‬
‫العمل الحصيف الوحيد هو التعاون مع الحزب‪ .‬وثبت وجود هذا التص ّور بالعجز من خالل‬
‫االستقصاء املنهجي‪ .‬ففي عام ‪ ،1985‬وجدت دراسة استقصائية يف هنغاريا‪ ،‬التي كانت يف‬
‫حا‪ ،‬وجدت أن نسبة‬
‫ذلك الوقت واحد ًة من أكرث دولتني تابعتني لالتحاد السوفييتي انفتا ً‬
‫‪ %10‬فحسب من السكان يشعرون بأنهم قادرون عىل فعل يش ٍء ملعارضة قرار ي ّ‬
‫ّض‬
‫‪25‬‬
‫مبصالحهم‪ .‬تُقارن تلك النسبة بنسبة ‪ %46‬يف هولندا و‪ %75‬يف الواليات املتحدة‪.‬‬

‫روح املعارضة‬
‫وتعليقًا عىل الشعور العلني بالعجز‪ ،‬يعلّق ميلوش بأن ثقافة الكذب الناجمة قد أنتجت‬
‫توترات داخلية مأساويةً‪« :‬لو افرتضنا أن الجحيم تضمن لنزالئها أماك َن إقامة فخمةً‪،‬‬
‫ومالبس فاخرة‪ ،‬وأطايب األطعمة‪ ،‬وجميع وسائل الرتفيه املمكنة‪ ،‬لكن عليهم أن يتنشّ قوا‬
‫َ‬
‫‪26‬‬
‫أنسام الجحيم إىل األبد‪ ،‬لكان ذلك عقابًا كافيًا بح ّد ذاته»‪.‬‬
‫وتتع ّزز حقيق ُة هذا االنطباع عن املعاناة الصامتة مبالحظة النشوة العارمة التي اتّسمت بها‬
‫انتفاضات عام ‪ .1989‬وقد كانت تلك الحامس ُة تعب ً‬
‫ريا عن االرتياح الذي شعر به املاليني‬
‫ريا‪ ،‬بعد عقود من اإلذعان‪ ،‬من التنفيس عن إحباطاتهم املرتاكمة‪ .‬وميكن‬
‫الذين متكنوا أخ ً‬
‫استخدام نفس هذه القراءة لفهم الحامسة الحاصلة يف االنتفاضات السابقة‪ .‬فخالل ربيع‬
‫براغ يف عام ‪ ،1968‬أشاد الشاعر ياروسالف سيفرت بتجربة االنتقال الدميقراطي الجارية‬
‫(التي رسعان ما تعرضت للسحق) من أجل تخليص أمته من ضغوط الكذب‪ .‬لقد بثّت‬

‫‪153‬‬
‫األمل بأن تنز َع أمته قنا َع التظا ُهر بالرضا وتبدأ يف العيش يف كَنف‬
‫اإلصالحاتُ يف َروعه َ‬
‫الحقيقة‪:‬‬
‫ريا لتسمية األشياء مبس ّمياتها الصحيحة‪،‬‬
‫»لذلك‪ ،‬أريد أن أؤمن حقًّا أن الوقت قد حان أخ ً‬
‫‪27‬‬
‫فالقتل هو القتل!»‬
‫قد يظ ّن ظا ٌّن أن املنشقني الذين تح ّدوا األنظمة الشيوعية يف أوروبا الرشقية واالتحاد‬
‫السوفييتي كانوا من أنصار فريدريك هايك وميلتون فريدمان بالنظر إىل حقيقة أن‬
‫ريا بإلزام نفسها بالتحرير االقتصادي‪ .‬إمنا يف الواقع‪،‬‬
‫حكومات ما بعد الشيوعية مل تحفل كث ً‬
‫قليل من املعارضني مع الرأساملية‪ ،‬وبالنسبة لهم جاءت القضايا‬
‫مل يتعاطف سوى نف ٌر ٌ‬
‫االقتصادية يف منزلة فرعية‪ .‬تركّز اعرتاضهم الرئييس عىل القيود املفروضة عىل التعبري‬
‫رص املنشقون عىل حق املرء يف التعبري عن رأيه‪ ،‬واختالفه مع إجامع اللحظة‬
‫الشخيص‪ ،‬فأ ّ‬
‫تحمل‬
‫َ‬ ‫بتقصدها أال‬
‫ّ‬ ‫الراهنة‪ ،‬وانتقاده للمؤسسات الرسمية‪ .‬وتب ًعا ذلك‪ ،‬متيّزت جمعياتهم‬
‫طاب ًعا أيديولوجيًا معينًا‪ :‬فقد ظلت مفتوحة للمواطنني الذين يعتنقون وجهات نظر سياسية‬
‫الحق»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫متنوعة‪ .‬يف عام ‪ ،1986‬وصف هافل امليثاق ‪ 77‬بأنه «جنني التسامح االجتامعي‬
‫وقال إنه ظاهرة سيستحيل محوها من الذاكرة الوطنية بغض النظر عن مآالت األحداث‬
‫الالحقة‪« :‬سيحافظ امليثاق عىل مكانته يف الذاكرة الوطنية بوصفه تحديًا ميكنه‪ ،‬يف أي‬
‫‪28‬‬
‫زمنٍ ويف أي وضع جديد‪ ،‬أن يشكّل ركيز ًة للتفاعل معه واالستلهام منه»‪.‬‬
‫مل تتأتّ أهمية امليثاق ‪ ،77‬وغريه من الجمعيات يف أماكن أخرى‪ ،‬من حجمه‪ ،‬وال من ابتكار‬
‫أو خصوصية برنامجه‪ .‬بل تكمن أهميته يف تهديده لوحدة الرأي العلني الظاهرية‪ 29.‬من‬
‫خالل التعبري عن معارضتهم للوضع الراهن‪ ،‬عكّر املنشقون صف َو االنسجام ووحدة املجتمع‬
‫الشيوعي الظاهرة للعيان‪ .‬لقد أماطوا اللثا َم عن وجود السخط االجتامعي‪ .‬وأشاروا إىل أن‬
‫االستقرار السيايس للشيوعية مستمد جزئ ًيا من نَزعة املحافظة الجامعية‪ .‬عرب اضطالعهم‬
‫أصل‬
‫بدور القدوة يف سلوكهم‪ ،‬ومن خالل الدعوات املستمرة إىل الصدق والتسامح‪ّ ،‬‬
‫املنشقّون يف املواطنني الرغب َة يف التفكري بصوت عا ٍل واالحتجاج بشك ٍل جدي‪ ،‬وبالتايل‬

‫‪154‬‬
‫نجحوا يف تقويض الحوافز األساسية الستمرا ِر تزوير التفضيل عىل نطاقٍ واسع‪ .‬ويف نهاية‬
‫املطاف‪ ،‬كشفوا هشاشة الوضع الراهن‪ .‬أثبت املنشقون أن الساخطني مل يكونوا عاجزين عن‬
‫فعل يش ٍء بشأن أوضاعهم‪ ،‬وأنهم بصورة جامعية لديهم القدرة عىل تحقيق الحرية‬
‫والكرامة‪.‬‬
‫ينبغي مالحظة االختالف الجوهري بني مساعي الجامعات املعارِضة وتلك التي يبذلها‬
‫اإلصالحيون العاملون داخل الهيئات الشيوعية الرسمية‪ .‬اعرتض اإلصالحيون الرسميون‬
‫عىل سياسات معينة‪ ،‬لكنهم مل يتح ّدوا النظام نفسه‪ .‬كام أنهم مل يستكشفوا أسباب ظهور‬
‫املشكالت واستمرارها‪ ،‬فام بالك بإعالنهم عن ذلك‪ .‬فلْنأخذ نيكيتا خروتشوف عىل سبيل‬
‫جه يف خطابه يف عام ‪ 1956‬أمام املؤمتر العرشين للحزب الشيوعي لالتحاد‬
‫املثال‪ ،‬الذي و ّ‬
‫السوفييتي إدان ًة غري مسبوقة لحملة اإلرهاب التي شنّها ستالني‪ .‬بَيد أن خروتشوف مل يبحث‬
‫يف العوامل التي سمحت لستالني بالبقاء عىل رأس السلطة يف العامل الشيوعي حتى وفاته‪.‬‬
‫جه جرائم ستالني سوى بالقليل من املعارضة العلنية‪ ،‬أو ملاذا رض َخ‬
‫ومل يسأل ملاذا مل تُوا َ‬
‫املاليني لحقيقة وقوعهم ضحايا‪ .‬وعىل النقيض من ذلك متا ًما‪ ،‬ركّز املنشقون يف السنوات‬
‫الالحقة عىل الخلل األكرث فداح ًة يف النظام الشيوعي‪ ،‬أال وهو ثقافة الكذب‪.‬‬
‫ي القائل‬ ‫ٍ‬
‫لسنوات تبنّى العرشات من الكتاب املعارضني‪ ،‬مبن فيهم هافيل وسولجنيتسني‪ ،‬الرأ َ‬
‫إن الشيوعية ستنهار عىل الفور إذا توقف مواطنوهم عن تزييف ميولهم السياسية‪ ،‬وقد‬
‫التصور‪ .‬وعندما خلع مواطنو تشيكوسلوفاكيا أقنعة اإلذعان‬
‫ّ‬ ‫أثبت ربيع براغ ص ّحة هذه‬
‫تدخال مسل ًحا من حلف وارسو الستعادة سيطرة الشيوعية‬
‫ً‬ ‫ودعوا إىل التغيري‪ ،‬استلزم األمر‬
‫املتشددة‪.‬‬
‫وجاء اإلثبات اآلخر يف عام ‪ ،1989‬عندما انهارت جميع األنظمة الشيوعية يف أوروبا‬
‫ظل غياب التدخل السوفييتي‪ .‬وبصورة ملموس ٍة‪ ،‬جاءت‬
‫الرشقية تحت ضغط الشارع يف ّ‬
‫هذه الثورات التي عصفت باملنطقة بعد سنوات قليلة فحسب من دخول االتحاد السوفييتي‬
‫يف عرص غالسنوت (االنفتاح العام)‪ .‬ساد تص ّور علني عن صالبة النظام الشيوعي‪ ،‬إال أن‬

‫‪155‬‬
‫رأسهم بالدفاع‬
‫النظا َم انهار فجأ ًة عندما رفع ماليني املواطنني‪ ،‬الذين أذعنوا لفرتة طويلة‪َ ،‬‬
‫عن معتقداتهم الخفية‪.‬‬
‫يل مقاطعة القصة ههنا‪ .‬يف الفصل ‪ 16‬سنتع ّرض بالتفسري لالنتفاضات التي‬
‫لكن يتوجب ع ّ‬
‫أسقطت الشيوعية‪.‬‬
‫وللبسط يف دور تزوير التفضيل يف تعزيز نزعة املحافظة الجامعية‪ ،‬سأنتقل اآلن إىل مكان‬
‫ْ‬
‫آخر من العامل‪ :‬الهند‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫ثَباتُ النظام الطبقي امل ُنذر بالسوء‬

‫يف ‪ 27‬مارس من عام ‪ ،1991‬شُ نقت فتاة يف س ّن السادسة عرشة مع عشيقها ذي العرشين‬
‫عا ًما و ُعلّقا من شجرة بانيان يف ميهرانا‪ ،‬وهي قرية تقع قري ًبا من نيودلهي‪ .‬كانت الفتاة‬
‫مسهم) «املنبوذين»‪ .‬متثّلت‬
‫هندوسية من الطبقة العليا‪ ،‬وعشيقها من طبقة ( َمن يُحظَر ُّ‬
‫جرميتهام يف تحدي أحد األركان الرئيسية يف النظام الطبقي يف الهند‪ ،‬أال وهو حظر‬
‫العالقات بني أفراد الطبقات املختلفة‪ .‬شهِد جميع سكان ميهرانا‪ ،‬البالغ عددهم ثالثة آالف‬
‫‪1‬‬
‫نسمة‪ ،‬عملية اإلعدام التي نُفِّذت وفقًا لقرار اتّخذه مجلس القرية باإلجامع‪.‬‬
‫يقسم‬
‫النموذج الخالص للتصلّب الثقايف‪ .‬فهو ّ‬ ‫َ‬ ‫يُعترب النظام الطبقي عىل نطاق واسع‬
‫املجتم َع الهندي إىل وحدات مرتاتبة وفقًا للوظيفة‪ ،‬أي طبقات‪ ،‬ويتح ّدد انتامء الفرد إليها‬
‫يف املقام األول بالوراثة‪ .‬دا َم هذا النظام ألكرث من ألفي سنة‪ ،‬ومل يتأثّر بالحركات املنا ِهضة‬
‫للهندوسية‪ ،‬أو الغزو األجنبي‪ ،‬أو تغلغُل األديان املنادية باملساواة نسبيًا‪ ،‬مبا فيها اإلسالم‬
‫واملسيحية‪ .‬يف العرص الحديث‪ ،‬لقي النظام الطبقي االنتقا َد من مجموعات مختلفة‪ ،‬وأصبح‬
‫ِ‬
‫الطبقات الخاضعة ب ُحكم العرف أم ًرا مخالفًا للقانون‪.‬‬ ‫اآلن التمييز ضد‬
‫التحّض‬
‫ُّ‬ ‫باإلضافة لذلك‪ ،‬فقد تخلخلت بعض األعراف الطبقية الصارمة نظ ًرا لتأثري موجات‬
‫والتصنيع‪ .‬بالرغم من هذا‪ ،‬فمن الناحية العملية‪ ،‬ما تزال التحالفات الطبقية عا ِم ًال مؤث ًرا‬
‫ِ‬
‫بش ّدة ضمن الحياة االجتامعية والسياسية الهندية‪ 2،‬كام يتضح من عمليات اإلعدام الغوغايئ‬
‫يف ميهرانا‪.‬‬
‫ما يهمني هنا هو القدرة االستثنائية لهذا النظام الطبقي عىل البقاء‪ ،‬والتي مييل البعض إىل‬
‫ع ْزوها إما إىل املزايا االقتصادية لألعراف الطبقية أو إىل جشع الطبقات ذات االمتيازات؛ بعد‬
‫تحديد أوجه القصور يف هذه التفسريات‪ ،‬سأطرح وجهة نظري‪ ،‬ومفا ُدها أن جميع أفراد‬

‫‪157‬‬
‫هذه الطبقات قد أسهموا يف استمرارية النظام‪ ،‬ويف كثري من األحيان من خالل تزوير‬
‫التفضيل‪.‬‬

‫النظام الطبقي‬
‫توجد ألوف الطبقات يف الهند‪ ،‬والتي تُعرف عىل املستوى املحيل باسم جايت‪ .‬يرتاوح عدد‬
‫كل منها من بضع مئات إىل عدة ماليني؛ وتزاول معظم الطوائف وظيف ًة واحدة‪،‬‬
‫أفراد ٍّ‬
‫وينقسم العديد منها إىل طبقات فرعية متخصصة‪ .‬بُحكم التقاليد‪ ،‬تنقسم الطبقات إىل‬
‫خمس مجموعات‪ ،‬تُعرف أرب ٌع منها باسم فارنا‪ .‬حسب تسلسل املكانة من األعىل لألدىن‪،‬‬
‫فإن طبقة فارنا تض ّم الرباهمة (العلامء‪-‬الكهنة)‪ ،‬وتض ّم طبقة الكشاتريا (الحكام‪-‬‬
‫املحاربني)‪ ،‬وتض ّم طبقة الفايشيا (املزارعني والتجار)‪ ،‬وتض ّم طبقة الشودرا (الحرفيني‬
‫والخدم)‪ .‬وتضم املجموعة األخرية‪ ،‬التي تُعترب «خارج حدود املجتمع الجدير باالحرتام»‪،‬‬
‫مسهم)‪ ،‬أي املنبوذين‪ .‬يف أوائل القرن العرشين‪،‬‬
‫تض ّم َمن يُطلَق عليهم تسمية ( َمن يُحظَر ّ‬
‫‪3‬‬
‫خمس الشعب الهندي عىل األقل ضمن طبقة املنبوذين‪.‬‬
‫صنّف ُ‬
‫ُ‬
‫وفقًا لل ُعرف‪ ،‬فاالنتامء الطبقي ال يقترص عىل تحديد الدور االجتامعي‪ .‬بل يحدد كذلك حقوقَ‬
‫الفرد وواجباته يف مجاالت شتّى‪ ،‬مبا يف ذلك أساليب النظافة‪ ،‬وامللبس‪ ،‬واآلداب االجتامعية‪،‬‬
‫والعبادة‪ ،‬والسياسة‪ ،‬واملِلكية‪ ،‬والدفن‪ .‬نظ ًرا لتزاوج أفراد معظم الطبقات فيام بينهم‪ ،‬كام هو‬
‫الحال غال ًبا لدى طبقاتها الفرعية‪ ،‬فإن أصل املرء يح ّتم اختياره لرشيك الزواج‪ .‬وبُحكم‬
‫‪4‬‬
‫شخص ينتمي إىل طبقة أدىن‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫يحّضه‬
‫ّ‬ ‫العادة‪ ،‬ال يجوز ألي شخص أن يتناول طعا ًما‬
‫أعامال‬
‫ً‬ ‫وتح ّملت طبقة املنبوذين الوطأ َة األش ّد لنظام الفروق الطبقية هذا‪ .‬نظ ًرا ملزاول ِة هؤالء‬
‫غري مرغوب فيها إىل ح ٍّد كبري‪ ،‬كالكنس وتنظيف املراحيض‪ ،‬فإن املنبوذين يُعتربون‬
‫«أنجاس» ويُحظَر عليهم االتصال بالطبقات «األنقى»‪ .‬تب ًعا لذلك‪ ،‬ف ُهم غال ًبا ما يقطنون يف‬
‫أحياء منعزلة‪ ،‬ويُح َرمون من الدخول إىل الفنادق‪ ،‬واملقاهي‪ ،‬واملعابد‪ .‬وإىل ٍ‬
‫عهد قريب‪،‬‬
‫لئال تسقطَ ِظاللُهم عىل أ ٍّ‬
‫ي من هنود الطبقة العليا‪ ،‬مغ ّبة تع ّرض‬ ‫جب عليهم أخذ الحيطة ّ‬
‫تو ّ‬
‫‪158‬‬
‫أولئك للتدنيس‪ 5.‬ويف بعض املناطق‪ ،‬قُ ّيد حقهم يف املرور عىل الطريق لدرج ِة أنه عند‬
‫جب عليهم تغيري الطريق والسري يف‬
‫رؤيتهم فر ًدا من طبقة الرباهمة مييش يف الطريق‪ ،‬تو ّ‬
‫‪6‬‬
‫الحقول‪ ،‬حتى لو اضطروا للخوض يف املاء‪.‬‬
‫يتخىل‬
‫ّ‬ ‫يغري أحد أفرادها وظيفته أو‬ ‫ال ُ‬
‫تزول وصمة االنتامء لطبقة املنبوذين بالّضورة عندما ّ‬
‫عن الهندوسية‪ .‬أثناء الحرب العاملية الثانية‪ ،‬غال ًبا ما تناول الجنود الهندوس من طبقات فارنا‬
‫األربع طعا َمهم م ًعا ومع أتباع الديانات األخرى‪ ،‬بَيد أنّهم مل يجلسوا مع جنو ٍد من طبقة‬
‫تبت قضائ ًيا يف حقوق الرعية املسيحيني الذين أرادوا اإلبقاء‬
‫املنبوذين‪ .‬واضطرت املحاكم أن ّ‬
‫عىل جدار أقي َم لفصل املصلني املسيحيني املنبوذين عن باقي املصلني‪ 7.‬وما يزال بعض‬
‫طعام واحد ٍة مع مسلمني من طبقة‬
‫ٍ‬ ‫مسلمي الطبقة العليا يرفض الجلوس عىل مائدة‬
‫‪8‬‬
‫املنبوذين‪.‬‬

‫أسباب مرونة النظام الطبقي‬


‫ينصب اهتاممي‬
‫ّ‬ ‫ميكن تسويد مجلّدات عن املصاعب واإلهانات التي عاىن منها املنبوذون‪ .‬إمنا‬
‫هنا عىل تفسري االستمرارية امللحوظة للنظام الطبقي ومقاومته االستثنائية للتأثريات‬
‫الخارجية‪.‬‬
‫ى معيشيًا‬ ‫يقول أحد التفسريات الشائعة إن النظام اتّسم بكفاءته االقتصادية‪ ،‬إذ وفّر مستو ً‬
‫مرتف ًعا وض ِمن للجميع ً‬
‫عمال ما‪ .‬من املؤكد أنه مبعايري ذلك الزمان‪ ،‬تُع َترب الهند مكانًا مزده ًرا‬
‫ألف وخمسمئة سن ٍة من ُعمر النظام الطبقي‪ 9.‬إمنّ ا ال ي ّتضح من ذلك إسها ُم تقسيم‬ ‫خالل أول ٍ‬
‫العمل عىل أساس الطبقة االجتامعية يف هذا النجاح االقتصادي؛ رغم أن بعض أوجه تقسيم‬
‫ٍ‬
‫أساس‬ ‫العمل قد تكون قد عززت الكفاءة االقتصادية‪ ،‬عىل األقل لفرتة من الوقت‪ ،‬فليس مثة‬
‫تجريبي يدفعنا لالعتقاد بأن جميعها‪ ،‬أو حتى معظمها‪ ،‬كانت ُمجدي ًة من الناحية‬
‫االقتصادية‪ .‬كام أن املشقّة التي فُرضت عىل الطبقات الدنيا مل تُسهِم يف التقدم االقتصادي‬
‫للهند‪ .‬فام هي الفوائد االقتصادية التي ميكن جنيها ِمن قواعد السري يف الطريق والتي‬

‫‪159‬‬
‫ساعات مليش مسافة قصري ٍة إىل املدرسة‪ ،‬بسبب‬
‫ٍ‬ ‫أجربت أوالد طبقة املنبوذين عىل قضاء‬
‫‪10‬‬
‫الرباهمة الذين كان عليهم تجنّبهم طوال الطريق؟‬
‫عىل أي حال‪ ،‬إذا نسبنا الفضل إىل تقسيم العمل عىل أساس الطبقة يف تقّدم الهند‬
‫خر األ ّمة املالزِم لذلك‪ .‬كام ذكر العديد من‬
‫االقتصادي‪ ،‬فال ميكننا إعفاؤه من املسؤولية عن تأ ّ‬
‫الكتّاب‪ ،‬يُعزى الفقر املستمر يف الهند جزئ ًيا‪ ،‬إن مل نقل إىل حد كبري‪ ،‬إىل التصلّب الطبقي‬
‫عرب عنه ماكس‬
‫الذي أعاق صعود الرأساملية الفردانية وأعاق تبنّي التقنيات الحديثة‪ .‬وهو ما ّ‬
‫كل تغيري يف املهنة‪،‬‬
‫طقويس قد يؤدي مبوجبه ّ‬
‫ّ‬ ‫ألي قانون‬
‫فيرب بقوله‪« :‬بكل تأكيد‪ ،‬ال ميكن ّ‬
‫وكل تغيري يف أسلوب العمل‪ ،‬إىل تدهور الطقوس ذاتها ال ميكنه توليد ثورات اقتصادية‬
‫‪11‬‬
‫وتقنية من داخله‪ ،‬أو حتى تسهيل ظهو ِر أ ّول بذر ٍة للرأساملية يف وسطه»‪.‬‬
‫شاطَر العديد من زعامء الهند الحديثة فيرب الرأي‪ .‬إذ عزا نهرو تخلف الهند االقتصادي إىل‬
‫واملتأصلَتني يف البنية االجتامعية الهندية ممثّلَتني بشكل‬
‫ّ‬ ‫«الصالبة واإلقصاء املتزايدينت‬
‫رئييس يف النظام الطبقي»‪ .‬بل وذهب إىل اعتبار سقوط الهند يف أيدي الربيطانيني‬
‫‪12‬‬
‫وسقوطها قبل ذلك يف أيدي املسلمني عىل أنها نتائج حتمية للنظام الطبقي‪.‬‬
‫إذا صحت وجهة نظر نهرو جزئيًا‪ ،‬ينبغي عىل املرء أن يرفض الحجة الوظيفية باعتبارها‬
‫قارص ًة – فهي ترى أن النظام الطبقي استدا َم بسبب فوائده االجتامعية‪ .‬فمهام يكن ِمن أمر‪،‬‬
‫لو كانت آثار النظام الطبقي اإليجابية هي العامل الوحيد ذي ِ‬
‫الصلة‪ ،‬لَكان انهيار النظام‬
‫محتو ًما‪ ،‬أو عىل األقل لَخضَ ع إىل إصالحات جذرية‪ ،‬مبج ّرد أن فاقت آثا ُره السلبية آثا َره‬
‫اإليجابية‪.‬‬
‫اعرتاض عىل التفسري الوظيفي أكرث أهم ّية‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫إمنّ ا هناك‬
‫مع التسليم أن الهند قد ازدهرت يف املرحلة األوىل من ُعمر النظام الطبقي‪ ،‬ف ِمن غري الواضح‬
‫ربت الطبقاتُ الدنيا ذلك السبب كاف ًيا للحفاظ عىل الوضع الراهن‪ .‬ملاذا يدعم‬
‫ملاذا اعت َ‬
‫املنبوذون نظا ًما حكم عليهم بالفقر‪ ،‬والقهر‪ ،‬واإلذالل؟ يف واقع الحال‪ ،‬سعى العديد من‬
‫املنبوذين للهروب من مصريهم عن طريق التح ّول إىل اإلسالم أو املسيحية‪ .‬وبصور ٍة ذات‬

‫‪160‬‬
‫ى يف السلم‬
‫داللة‪ ،‬اجتذبت هاتان الديانتان أتبا َعهام بشكل غري متناسب من أدىن مستو ً‬
‫االجتامعي‪ .‬ومع هذا‪ ،‬وكام أوضحنا سابقًا‪ ،‬مل ينجح اإلسالم وال املسيحية يف إلغاء أهمية‬
‫‪13‬‬
‫الطبقة‪ .‬إذ أبقيتا عىل الطبقة بوصفها مرجعي ًة اجتامعية‪ ،‬وراعتَا معظ َم الفروق الطبقية‪.‬‬
‫بالرغم من كل ذلك‪ ،‬فإن ذهول بعض داريس من النظام الطبقي مل يكن بسبب صالبته‪ ،‬بل‬
‫رئييس يف الرثوات‬
‫ّ‬ ‫نظ ًرا ملرونته يف مواجهة الظروف املتغرية‪ .‬يالحظ هؤالء أن حدوثَ تغيري‬
‫ِ‬
‫املطاف مكانتَها االجتامعية‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬تظهر‬ ‫يغري يف نهاية‬
‫االقتصادية للطبقة ّ‬
‫النقسام واندماج الطبقات القامئة‪ .‬إمنّا ال تنفي مثل هذه‬
‫ِ‬ ‫طبقاتٌ جديدة من حني آلخر نتيج ًة‬
‫املالحظات مرون َة النظام الطبقي بشكل عام‪ .‬باعتباره مؤسسةً‪ ،‬أظهر النظام قد ًرا كب ً‬
‫ريا من‬
‫االستقرار‪ .‬يقول أحد داريس الطبقات االجتامعية‪« :‬يتغري النمط‪ ،‬لك ّن املبادئ التي تحكمه‪،‬‬
‫والهياكل التي تدعم النمط إذا جا َز التعبري‪ ،‬ثابت ٌة بشكل استثنايئ بالنسبة ملؤسسة‬
‫‪14‬‬
‫برشية»‪.‬‬

‫دور تزوير التفضيل يف استقرار النظام الطبقي‬


‫تُعترب نشأة النظام الطبقي ترب ًة خصب ًة للتكهنات‪ ،‬مع أننا نعلم أن تأسيسه مل يكتمل بطُرق‬
‫سلمية‪ .‬والجزء األكرث غموضً ا هو أنه مبجرد رسوخ النظام‪ ،‬استم ّر وجوده دون اللجوء‬
‫امل ُفرط الستخدام القوة‪ ،‬وهو األمر الالفت للنظر‪ .‬ويعزو تفسريي الخاص لهذه االستدام ِة‬
‫دو ًرا رئيس ًيا لظاهرة تزوير التفضيل‪.‬‬

‫اعتمدت الطبقات املتشكّلة يف أي منطقة ما عىل بعضها البعض من الناحية االقتصادية‪ .‬إذ‬
‫اعتمد عامل تنظيف املراحيض للحصول عىل طعامهم عىل الفالحني‪ ،‬الذين عملوا يف أرايض‬
‫مالك األرايض‪ ،‬الذين وظّفوا الخدم والحرفيني‪ ،‬وهكذا‪ .‬ومؤ ّدى هذا االعتامد املتبادل أنه إذا‬
‫ّ‬
‫انفصلت طبقة ما عن املجتمع‪ ،‬فإنها تع ّرض وجو َدها للخطر وتّض مبصالح الطبقات‬

‫‪161‬‬
‫األخرى‪ .‬بالنتيجة‪ ،‬ولّد االعتامد املتبادل ضغوطًا إلبقاء األفراد ملتزمني بالنظام الطبقي‪،‬‬
‫خشي َة انفراط عقْد النظام يف حال قررت إحدى طبقاته االنسحاب‪.‬‬
‫ومثّلت املقاطع ُة مصد ًرا خط ً‬
‫ريا من مصادر الضغط‪ .‬وعاد ًة ما يلقى الشخص الذي يسعى‬
‫ري املقاطعة من حياة املجتمع‪ ،‬ويفقد عىل األقل مؤقتًا حقوقَ‬
‫للهروب من مأزقه الورايث مص َ‬
‫وامتيازات طبقته‪ .‬ويصبح منبوذًا خارج الطبقة‪ ،‬باملعنى الحريف للكلمة‪.‬‬
‫غال ًبا ما ال مت ّيز التعليقات عىل النظام الطبقي بني املنبوذين ‪َ ( untouchables‬من يُحظَر‬
‫مسهم) واملنبوذين ‪(outcastes‬الذين تعرضوا للمقاطعة)‪ ،‬ولكن يوج ُد فرق شاس ٌع بينهام‪:‬‬
‫ُّ‬
‫مسهم أم ٌر ورايث‪ ،‬يف حني يصبح املرء منبوذًا خارج الطبقة عرب‬‫فالنبذ يف حالة َمن يُحظَر ّ‬
‫إجامال‪ ،‬جاء املنبوذون خارج الطبق ِة من طبقة املنبوذين‬
‫ً‬ ‫‪16‬‬
‫طرده من الطبقة التي ُولِد فيها‪.‬‬
‫مسهم‪ ،‬وطبقة فايشيا‪ ،‬وطبقة شودرا‪ ،‬الذين امتلكوا دواف َع أقوى لرفض النظام‬ ‫م ّمن يُحظَر ّ‬
‫‪17‬‬
‫الطبقي‪ ،‬لكن كان بينهم كذلك أفرا ٌد ِمن طبقات الرباهمة والكشاتريا‪.‬‬
‫عمو ًما‪ ،‬ال يتلقى املنبوذُ خارج طبقته أي مساعدة من طبقته األصلية‪.‬‬
‫يتحدث فيديادر سوراجرباساد نيبول عن رجل أعامل أجنبي تنبّه لذكا ِء خاد ِمه الشاب من‬
‫طبقة املنبوذين‪ ،‬فقرر أن يرعى تعليمه ويوظفه يف عملٍ أفضل‪ .‬بعد سنوات‪ ،‬عندما عاد رجل‬
‫اكتشف أن خادمه السابق قد عاد إىل تنظيف املراحيض‪« .‬قاطعته جامعتُه‬
‫َ‬ ‫األعامل إىل الهند‪،‬‬
‫بسبب ابتعاده عنها؛ ومل يُس َمح له االنضامم لرفاق التدخني مسا ًء‪ .‬ومل يكن أمامه مجموعة‬
‫أخرى ميكنه االنضامم إليها‪ ،‬ومل يجد امرأ ًة يتزوجها‪ .‬بلغت به العزل ُة ح ًدا ال يُطاق‪ ،‬فعاد إىل‬
‫‪18‬‬
‫عمله السابق»‪.‬‬
‫ط عامل تنظيف املراحيض يف مقاطع ِة زميلهم الباحث عن حياة أفضل؟ إذا أُخذ‬
‫ملاذا ينخر ُ‬
‫يف الحسبان أن االنشقاقات الناجحة س ُتفيض إىل تقويض النظام الطبقي‪ ،‬فقد يظ ّن املرء‬
‫َ‬
‫السلوك املعادي للطبقة‪ .‬وهكذا فمعاقبة املخالفني هي طريقة فعالة إلعادة‬ ‫أنها تشجع كذلك‬
‫تأكيد والء الفرد للنظام القائم‪ .‬من خالل مقاطعتهم لزميلٍ حصل عىل وظيفة أفضل‪ ،‬يتمكن‬
‫عامل تنظيف املراحيض من حامية سمعتهم الشخصية والجامعية‪ .‬وميكنهم إثباتُ‬

‫‪162‬‬
‫استعدا َدهم للعيش وفقًا للقواعد االجتامعية السائدة أما َم كامل املجتمع‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫املجموعات يف أعىل الهرمية االجتامعية‪.‬‬
‫مل تقترص التجاوزات التي يعاقب عليها أفراد الطبقة بعضَ هم بعضً ا عىل تبديل املهنة‪ .‬إذ‬
‫تع ّرض األفراد الذين يخالفون قواعد آداب السلوك بني الطبقات للتوبيخ ِمن الغرباء من‬
‫خارج الطبقة‪ ،‬ومن أقرانهم يف الطبقة كذلك‪ .‬ويف حال استمرت مخالفاتُهم‪ ،‬فقد يتع ّرضون‬
‫ٍ‬
‫انتهاكات يف حالة‬ ‫للنبذ أيضً ا‪ 19.‬ويُط ِّبق هذا النبذ‪ ،‬كام هو الحال مع القضايا التي تض ّم‬
‫العمل‪ ،‬يط ّبقه جزئ ًيا أفرا ُد الطبقة الدنيا م ّمن يسعون إلثبات والئهم للوضع الراهن‪.‬‬
‫من األساس‪ ،‬ملاذا يُعترب هذا الدليل رضوريًا؟ ما الذي يدفع الهنو َد‪ ،‬ال س ّيام أولئك املحرومني‬
‫إجراءات تهدف إىل اإلرضار مبصالح أقرانهم‬‫ٍ‬ ‫اجتامع ًيا‪ ،‬ملحاولة تحقيق األمان الشخيص عرب‬
‫من ذوي الطموح؟ حتى ٍ‬
‫عهد قريب‪ُ ،‬ولد الهنود يف مجتمع نظ َر فيه الرأي العلني عىل نطاقٍ‬
‫افرتض يف هكذا مجتمع أن يشاركوا‬
‫واسع للنظام الطبقي بعني الرضا؛ وباإلضافة إىل ذلك‪ُ ،‬‬
‫ظل هذه الظروف‪ ،‬مل يكن للفرد الهندي من خيار‬ ‫ٍ‬
‫سلوكيات داعمة للوضع الراهن‪ .‬يف ِّ‬ ‫يف‬
‫سوى تلبية متطلبات النظام أو التع ّرض للنبذ‪ .‬اختار معظ ُم الهنود ُمامألة النظام الطبقي‪،‬‬
‫رسهم‪.‬‬
‫حتى لو اعتربوه مسيئًا يف ّ‬
‫يُرينا هذا التفسري كيف تُعيد العقوبات الطبقية إنتاج نفسها‪ ،‬إمنا ال يرشح كيفية نشوء‬
‫العقوبات ذاتِها‪ .‬يف مرحلة ما يف املايض‪ ،‬ال بُ ّد وأ ّن الطبقات العليا قد حظيت بسلط ٍة هائل ٍة‬
‫جيال بعد جيل؛‬
‫لرتسيخ النظام الطبقي‪ .‬ولكن مبجرد تشكيل النظام‪ ،‬راح يُعيد إنتاج نفسه‪ً ،‬‬
‫وانضمت الطبقات العليا إىل الحمالت ضد منتهيك القواعد‪ ،‬إمنّا مل تكن رأس الحربة فيها‬
‫عىل الدوام‪ .‬عرب مشاركتها يف معاقبة متح ّدي النظام‪ ،‬أ ّدت الطبقات الدنيا دو ًرا رئيس ًيا يف‬
‫مساندة النظام‪.‬‬

‫املح ّددات االجتامعية للسلبية الفردية‬

‫‪163‬‬
‫إن العقوبات التي تُنزِلها الطبقات بأفرا ِدها املتمردين‪ ،‬باإلضافة إىل تلك التي تفرضها‬
‫آمال الفرد الهندي باالنفصال عن النظام الحايل‪ .‬فالعقوبات تُولّد‬ ‫الطبقاتُ األخرى‪ ،‬تل ُجم َ‬
‫الخضوع‪ .‬بالتايل‪ ،‬يُذعن الهندي الساخطُ ألشخاص ميقتهم‪ ،‬ويلتزم مبهنة أجداده رغم أنه‬
‫مؤهال للحصول عىل عملٍ أفضل‪ ،‬ويتّبع قواع َد غذائية ال يفهم هدفها‪ ،‬بل ويعا ِقب‬
‫ً‬ ‫يرى نفسه‬
‫األشخاص الذين يحظون الشجاعة للتحدي علنًا ما يرفضه هو يف الّس فحسب‪ .‬وقُصارى‬
‫القول‪ ،‬إنه يلتزم بنظام موروث يتعارض مع رغباته الحقيقية‪.‬‬
‫وتتمثّل الحصيلة الثانية لتزوير التفضيل هذا يف ترسيخ العوائق االجتامعية أمام املقاومة‪.‬‬
‫حال بائع الخّضوات يف مثال هافل الذي سبق ِذكره‪ ،‬يصبح الفرد الهندي جز ًءا‬ ‫وكام هو ُ‬
‫فاعال من آل ِة الرأي العلني الذي يج ّرم املعارضة العلنية‪ ،‬و ُمق ِ‬
‫رتفًا للضغوط املتس ّببة بتكبيل‬ ‫ً‬
‫يخص الوضع‬
‫ّ‬ ‫حرياته املدنية‪ .‬ويسهم يف استدامة الظروف املواتية للمحافظة الجامعية فيام‬
‫االجتامعي الراهن‪.‬‬
‫تنطوي انتهاكات القيود املهنية للنظام الطبقي عىل فوائ َد محتملة لألشخاص الذين يتخلون‬
‫عن وظائفهم املعهودة‪ ،‬وكذلك للمستفيدين من خدماتهم املحظورة‪ .‬فلْنفرتض أن مالك ٍ‬
‫أرض‬
‫استبدل موظفًا غري منتِجٍ من طبقة شودرا بعامل تنظيف مراحيض يعمل بج ٍّد أكرث مقابل‬
‫كال ِمن املنبوذ‪ ،‬الذي سيحصل عىل وظيفة أفضل‪ ،‬ومالك األرض‪،‬‬
‫أج ٍر أقل‪ .‬يُفيد هذا التغيري ًّ‬
‫فات قابلة للتطبيق من‬‫املثال إىل وجود تحال ٍ‬
‫ُ‬ ‫الذي يرفع مستوى أرباح مزرعته‪ .‬يشري هذا‬
‫ٍ‬
‫مستعمرات مكتفية ذات ًيا‬ ‫تنفصل عن النظام الطبقي إلنشاء‬
‫َ‬ ‫الناحية االقتصادية ميكنها أن‬
‫ِ‬
‫الطبقات وعربها‪،‬‬ ‫عمال جامع ًيا داخل‬
‫تكون أكرث إنتاجية وأكرث مساواةً‪ .‬لك ّن تكوينها يستلزم ً‬
‫وقد يُح َبط أحدهام بسبب مشكلة االنتفاع بال مقابل‪ .‬إذا أخذنا بعني االعتبار أن املجتمع يف‬
‫ج َل العضو‬ ‫أغلب األحيان سينبذ أي شخص يتخىل عن النظام الطبقي‪ ،‬فمن املرجح أن يؤ ّ‬
‫املحتمل يف مستعمر ٍة مناهضة للنظام الطبقي مشارك َته حتى تثبت احتاملية نجاحها‪ .‬وأل ّن‬
‫‪20‬‬
‫رص املستعمر ُة النور‪.‬‬
‫غريه من األعضاء املحتملني يفكّرون بنفس الطريقة‪ ،‬لن تُب َ‬

‫‪164‬‬
‫مث ّة عقبة أساسية يف طريق تكوين املستعمرات املناهضة للنظام الطبقي وهي أن النظام‬
‫الطبقي يعاقب عىل مج ّرد التعبري عن السخط واالستياء‪ .‬نظ ًرا لخطورة التعبري عن حقيقة‬
‫املواقف‪ ،‬يُخفي الناس رغبتهم يف تقويض النظام‪ ،‬رمبا باستثناء أما َم أفراد عائلتهم‬
‫شخص من طبقة املنبوذين‪،‬‬‫ٍ‬ ‫واألصدقاء املوثوق بهم‪ .‬يُخفي مالك األرض استعدا َده لتوظيف‬
‫وميتنع املنبوذ عن اإلعالن عن استعداده للعمل يف األرض‪ .‬يعتّم تزوير التفضيل هذا عىل‬
‫املعرفة بوجود تحالفات مناهض ٍة للنظام الطبقي ِ‬
‫ذات جدوى من الناحية االقتصادية‪ .‬نتيجة‬
‫لذلك‪ ،‬يرى املح َبطون أن النظام قد ًرا ال َمحيد عنه‪ ،‬غري مدركني لق ّوتهم الجامعية الستهالل‬
‫اإلصالحات‪.‬‬
‫تنسق العقوبات ضد منتهيك القواعد‪ ،‬وتحكُم يف‬
‫يف بعض قرى الهند توجد مجالس ّ‬
‫النزاعات الناشبة ضمن الطبقات املحلية أو بينها‪ .‬عىل الرغم من تن ّوع هذه املجالس يف‬
‫ِ‬
‫االستفسارات عن األساس املنطقي‬ ‫الحجم والتنظيم‪ ،‬فإنها يف غالب األحيان تَحول دون‬
‫ألحكام النظام الطبقي‪.‬‬
‫حب باالعرتاضات أو اإلقرار باالختالف‪ ،‬ومر ّد ذلك ظاهريًا‬‫يف اجتامعات هذه املجالس‪ ،‬ال يُر َّ‬
‫عام‪ ،‬تحدث تسوية النزاعات من طرف زعامء الطبقات عرب‬ ‫لتعزيز صورة االنسجام‪ .‬بشكل ٍ‬
‫ربم وراء الكواليس‪ .‬يف حال ُعقد التصويت‪ ،‬فإنه يكون برفع األيدي‪ ،‬وعاد ًة‬
‫الصفقات التي تُ َ‬
‫ما يكون ال ُحكم باإلجامع‪ 21.‬مل يسمع مجلس قرية ميهرانا أي احتجاجات خالل اجتامعه‬
‫الذي استغرق طوال الليل وحكَم عىل العشيقني باإلعدام شنقًا‪ .‬وهكذا تساهم املجالس‬
‫القروية يف صعوبة تحديد تحالفات قابل ٍة للتطبيق منا ِهضة للنظام الطبقي‪ .‬فهي تع ّزز‬
‫التصور السائ َد بأن محاوالت االنفصال محكو ٌم عليها بالفشل‪.‬‬
‫«ما إن تظهر الطبقات للوجود‪ ،‬فهي رسعان ما تتح ّجر يف قالبها وتُديم نفسها‪ ،‬حتى بعدما‬
‫تختفي الظروف االجتامعية التي أوجدتها»‪ .‬هذا ما كتبه جوزيف شومبيرت يف معرض‬
‫السابق‬
‫ُ‬ ‫رفضه للتفسريات الال تاريخية للهياكل الطبقية قي َد املالحظة‪ 22.‬يُضفي التفسري‬
‫لالستمرارية االستثنائية للنظام الطبقي يف الهند يضفي دو ًرا مركزيًا عىل املايض‪ .‬فهو‬

‫‪165‬‬
‫يشري إىل أن التوقعات الضاربة بجذورها يف التاريخ قد أ ّدت دو ًرا رئيس ًيا يف الحفاظ عىل‬
‫والء الهنود للنظام‪.‬‬
‫لو كان التاريخ الهندي مختلفًا عام كان عليه‪َ ،‬الختلفت التصورات والتوقعات الهندية الناجمة‬
‫عنه؛ وبالتايل‪َ ،‬الختلفت الخيارات الهندية املستتبعة فيام يتعلق بالتوظيف‪ ،‬والزواج‪،‬‬
‫واالرتباط االجتامعي‪ِ .‬من ثَ ّم‪ ،‬نشأت االستمرارية االستثنائية للنظام الطبقي‪ ،‬عىل األقل‬
‫بصور ٍة جزئية‪ ،‬من املحافظة الجامعية‪.‬‬

‫توظّف حرك ُة مناهضة النظام الطبقي الحالية يف الهند أطروح ًة تآ ُمرية‪ :‬مفا ُدها أ ّن نشأة‬
‫النظام واستمراريته هام ببساطة مثر ُة سطو ِة ومكانة الرباهمة‪ .‬بحسب هذا الرأي‪ ،‬أدخل‬
‫الرباهمة مجتم َع الطبقات بق ّوة إىل مجتمع كان خاليًا من الطبقات فيام سبق‪ ،‬كوسيل ٍة‬
‫ني لصالحهم‬ ‫رسخوا امتيازاتهم عرب وضْ ع قوان َ‬‫الستغالل السكان األصليني املغلوبني‪ .‬ثم ّ‬
‫‪23‬‬
‫ٍ‬
‫بتربيرات للفروق الوراثية‪.‬‬ ‫وتسميم العقل الهندي‬
‫ال ينفي تفسريي الذي أتبنّاه دو َر الرباهمة يف ف ْرض حال ِة عدم املساواة واملحافظة عليها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن تفسريي يؤكّد عىل إسهام الطبقات املسحوقة يف استمرارية النظام من خالل‬
‫عليها‪.‬‬ ‫املتمردين‬ ‫أقرانهم‬ ‫ومعاقبة‬ ‫الطبقية‬ ‫القوانني‬ ‫لتأييد‬ ‫استعدادها‬
‫مث ّة يشء من الص ّحة يف وجهة النظر القائلة بأن عقلية الهنود‪ ،‬مبا فيها عقليات الطبقات‬
‫الدنيا‪ ،‬قد كُ ّبلت بأيديولوجية تب ّجل الفروقات الوراثية‪ .‬كام سي ّتضح عندما نعيد النظ َر يف‬
‫نظام الطبقات يف الفصل ‪ ،12‬فإن الهندوسية قد ع ّززت االستقرار االجتامعي يف الهند من‬
‫ِ‬
‫إضعاف مقاومة األفراد الهنود الداخلية أمام التمييز‪.‬‬ ‫خالل‬
‫يُص َّنف العديد من الرباهمة ضمن املستفيدين من مختلَف املعتقدات الهندوسية‪ .‬ومع هذا‪،‬‬
‫فإن هذه املالحظة يف ح ّد ذاتها ال تسلّط الضوء عىل كيفية انتشار أو استمرارية النظام‬
‫ٍ‬
‫معتقدات تربر تبع ّيتهم؟ اإلجابة‪ ،‬التي‬ ‫الطبقي‪ .‬ملاذا يقبل الناس يف أسفل السلم الطبقي‬

‫‪166‬‬
‫نرتك تفاصيلها ملوضعٍ الحق من الكتاب‪ ،‬هي أن تزوير التفضيل ال يش ّوه الرأي العلني بشأن‬
‫النظام الطبقي فحسب‪ ،‬بل يزيّف كذلك تط ّور املعتقدات املتعلقة بالطبقة‪.‬‬
‫سأنتقل اآلن عرب الكرة األرضية مكانًا‪ ،‬وزمانًا إىل السياسة‬
‫ُ‬ ‫من الحديث عن مايض الهند‪،‬‬
‫األمريكية يف الوقت الحارض‪ .‬ستوضح آخر حال ٍة أتناولها بالدراسة أن النظرية قيد اإلنشاء‬
‫تصلُح لفهم جميع املجتمعات‪ ،‬وليس فقط املجتمعات «املتخلّفة» التي تفتقر إىل األعراف‬
‫الدميقراطية أو املجتمعات «التقليدية» التي ترفع ِمن شأن االمتثال والخضوع‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫االنتشار غري املرغوب للتمييز اإليجايب‬

‫ٍ‬
‫مقاالت تناولت أسباب «إخفاق‬ ‫يف عام ‪ ،1990‬نرشت صحيفة نيويورك تاميز سلسلة‬
‫السياسة األمريكية يف توليد األفكار وبذل روح القيادة الالزمة لتوجيه دفّة الواليات املتحدة‬
‫يتغري بوترية متسارِعة»‪ .‬استُهلّت املقاالت بإيراد اقتباسات تشري إىل فقدان أمريكا‬
‫ّ‬ ‫يف عامل‬
‫قد َرتها عىل مناقشة القضايا املل ّحة بلْه حلّها‪ .‬ون ّوه العديد من املعلقني إىل عدم مبادر ِة‬
‫للبت يف مشكلة الفقر املزمن‪،‬‬
‫رشعني إىل تقديم مقرتحات جريئة ّ‬
‫املسؤولني الحكوميني أو امل ّ‬
‫أو املعايري التعليمية املتدهورة‪ ،‬أو عجز امليزانية‪ ،‬ومر ّد ذلك يف األساس إىل خشيتهم من‬
‫تنفري جامعات الناخبني امليّالة لالعرتاض‪ .‬وتّسي طرف ٌة يف أروقة الكونغرس تقول‪ُ :‬‬
‫«ميكن‬
‫اعتبار الضامن االجتامعي السك َة الحديدية الثالثة يف السياسة األمريكية؛ جازف بلَ ْمسها‪،‬‬
‫تلق حتفك»‪ .‬واشتىك عضو متقاع ٌد يف مجلس الشيوخ من «السياسيني املذبذين» – ويقصد‬
‫َ‬
‫بذلك املسؤولني الذين يضيعون أوقاتهم يف محاولة معرفة اتجاه رياح املكاسب السياسية‬
‫حل املشكالت االجتامعية‪ 1.‬إمنا مل تذهب املقاالت إىل ح ّد االدعاء بأن‬
‫بدال من العمل عىل ّ‬
‫ً‬
‫السياسيني يفتقرون إىل اإلبداع‪ .‬بي َد أنها ذكرت أن املسؤولني ال يكشفون عن أفكارهم‪ ،‬إال‬
‫ألصدقائهم املق ّربني‪.‬‬
‫املتأصل يف السياسة األمريكية‪ .‬ويُضاف إىل‬
‫ّ‬ ‫ليست التاميز أول صحيف ٍة تعلّق عىل الدجل‬
‫ذلك شكوى السياسيني من ذوي القناعات املتباينة من مغ ّبة معالجة املشاكل الحرجة‬
‫منح أول‬ ‫‪2‬‬
‫بطريقة صادقة‪ .‬ولالستجابة ملثل هذه شكاوى‪ ،‬قررت مكتبة كينيدي يف بوسطن َ‬
‫ألميا مسؤو ٍل حكومي يترصف وفقًا ملا ُ‬
‫ميليه عليه ضمريه‪ .‬ويف‬ ‫جائزة الشخصية الشجاعة ّ‬
‫الحي يف‬
‫ّ‬ ‫افتتاحية رئيسية‪ ،‬كتب أحد املحررين‪« :‬دعونا نفكّر يف املوضوع‪ .‬هل ن َدر الضمري‬
‫ميليه عليه الضمري أصبح سلوكًا يستحق جائزة‬
‫رصف املرء وفقًا ملا ُ‬
‫واشنطن لدرجة أن ت ّ‬
‫‪3‬‬
‫الشجاعة؟«‬

‫‪168‬‬
‫قد تبدو هذه الصورة من االمتثال املتعنّت مبالغًا فيها‪ .‬فالصحف األمريكية ال تتواىن عن‬
‫عرض مجموعة متنوعة من اآلراء‪ ،‬وميكن القول إن جميع وجهات النظر اإلصالحية تستطيع‬
‫ربا إعالم ًيا لها‪ .‬إمنا تُثبت مثل هذه املالحظات وجود معارضة رصيحة للوضع‬
‫أن تجد من ً‬
‫الراهن‪.‬‬
‫يلحق االنقسام بالرأي العلني‪ ،‬إمنّا تفضّ ل األغلبية الساحقة الوض َع الراهن‪ ،‬ويُنظَر‬
‫َ‬ ‫ميكن أن‬
‫ُ‬
‫للقلة من الشخصيات املعارضة باعتبارها ضالة‪ ،‬أو انتهازية‪ ،‬أو رشيرة‪ .‬إذا كان لدى املاليني‬
‫ّظات بشأن سياس ٍة ما‪ ،‬فال يجرؤ سوى املئات عىل التعبري عن اعرتاضهم عليها علنًا‪،‬‬‫تحف ٍ‬
‫وهكذا ميكن للمرء أن يخلص إىل نتيجة منطقية مفادها أن النقاش السيايس ال يتّسم‬
‫بالحرية‪.‬‬

‫تزوير التفضيل وأثره يف العالقات بني املجموعات العرقية‬


‫يشيع تزوير التفضيل بصورة خاصة يف املجال السيايس املتّصل بعالقات املجموعات‬
‫العرقية‪ .‬ومبعث التزوير يف هذه املسألة هو الخوف من الوصم بالعنرصية أو‪ ،‬كام يف حالة‬
‫األمريكان السود‪ ،‬اعتبا ُر الفرد مح ّرضً ا عىل العنرصية‪ .‬تؤدي العنرصية إىل مآالت مروعة‪،‬‬
‫إذ عىل األفراد الذين تتلبّس بهم تهمة العنرصية أن يتوقعوا تع ّرضهم لإلهانات االجتامعية‪،‬‬
‫ميكن اتهام املرء بدواف َع عنرصية‬
‫والهجوم من الصحافة‪ ،‬وحتى تدمري حياتهم املهنية‪ .‬كام ُ‬
‫رشيرة ضمن مجموعة واسعة من السياقات‪ .‬ففي القضايا املتن ّوعة كاالغتصاب‪ ،‬ومعايري‬
‫البث‪ ،‬وتقليل عجز امليزانية‪ ،‬قد يُتهم املرء بالعنرصية التخاذه موقفًا يُنظر إليه عىل أنه‬
‫بحق األقليات‪ ،‬ال س ّيام السود‪ .‬وهكذا‪ ،‬يُشري شيلبي ستيل إىل أن ال ِعرق يصنع «فجوة‬ ‫ُم ِ‬
‫جحف ّ‬
‫كبرية بني الذات العلنية والذات الخفية»‪« .‬فعىل املستوى العلني‪ ،‬عاد ًة ما نلتزم بالحكمة التي‬
‫نُلقّنها والتي متنحنا "الوجه العرقي" األكرث ُمالءمةً؛ أ ّما عىل املستوى الخاص‪ ،‬تسوؤنا‬
‫‪4‬‬
‫األفكا ُر واملشاعر غري الخاضعة للرقابة التي تخطُر لنا بصورة عفوية»‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫سجل الواليات املتحدة الحا ِفل يف التمييز املؤسيس ضد السود‪ ،‬فإن أقلية صغرية من‬
‫ّ‬ ‫رغم‬
‫البيض ما تزال ملتزمة بتحقيق هدف سيادة البيض‪ .‬تُظهر بوضوحٍ استطالعاتُ الرأي التي‬
‫تضمن رسية املشرتكني أن جميع األمريكيني تقري ًبا يق ّرون اآلن مببدأ الحقوق املتساوية‬
‫للسود‪ .‬بحلول عام ‪ ،1972‬أيدت نسبة ‪ %96‬من جميع البيض تكافؤ الفرص يف العمل‪ ،‬بعد‬
‫أن كانت النسبة ‪ %42‬يف عام ‪ .1944‬واتبعت جميع املواقف تجاه الزواج بني األعراق‪،‬‬
‫ِ‬
‫اتجاهات‬ ‫واالختالط االجتامعي بني األعراق‪ ،‬والتدريس املشرتك‪ ،‬وتكافؤ فرص السكن اتبعت‬
‫‪5‬‬
‫قبو ٍل مامثلة‪.‬‬
‫ومل يقترص التح ّول الجذري عىل املواقف‪ .‬إذ بني األعوام ‪ 1970‬و‪ ،1990‬تضاعفت نسبة‬
‫الزواج بني السود والبيض ثالث مرات‪ 6.‬ويف أوائل عام ‪ ،1998‬حصدت العديد من الربامج‬
‫ٍ‬
‫تصنيفات عالية ضمن مجتمعات بيضاء إىل حد كبري‪ .‬ويف‬ ‫التلفزيونية مبضيفيها السود‬
‫بدعم األغلبية‬
‫ِ‬ ‫العقدين املاضيني‪ ،‬هزم املرشحون السود لرئاسة البلدية منافسيهم البيض‬
‫البيضاء يف عدة مدن ذات غالبية سكان بيضاء‪ ،‬مبا فيها سياتل‪ ،‬ولوس أنجلوس‪ ،‬وكانساس‬
‫سيتي‪ ،‬وشارلوت‪ 7.‬تكمن دالل ُة املالحظتني األخريتني يف أنهام تُعطيان صور ًة عن االختيارات‬
‫التي تُتخذ ضمن املجال الشخيص‪ .‬مهام كانت الضغوط ضد التعبريات العنرصية العلنية‪،‬‬
‫ففي اختياره برنام ًجا تلفزيونيًا يف بيته‪ ،‬أو يف تصويته خلف ستارة مقصورة االنتخابات‪،‬‬
‫يعرب عن أي تحيز دون الخشية من التعرض للعقاب‪ .‬إذا كان لدى أغلبية من‬
‫ميكن للمرء أن ّ‬
‫بدال من آخر أبيض‪ ،‬وإذا كانوا يشاهدون برنام ًجا‬
‫البيض القابلية لدعم مرشح أسود ً‬
‫تلفزيون ًيا يستضيفه مق ّدم أسود رغم إمكانهم مشاهدة يشء آخر‪ ،‬فمن الواضح أن العنرصية‬
‫مل تعد يف العنفوان الذي كانت عليه من قبل‪ .‬رغم عدم القضاء التا ّم عىل العنرصية البيضاء‪،‬‬
‫ي ّتضح أنها مل تعد عقب ًة كأدا َء أمام تط ّور مجموعات السود‪ .‬تشري اإلحصاءات إىل أن أعدا ًدا‬
‫غفري ًة من البيض اآلن لديها االستعداد الحرتام مبدأ املساواة يف املعاملة بالقول والعمل‪.‬‬
‫ال تُفيض املساواة يف معاملة األفراد بالّضورة إىل تكافؤ النتائج عىل مستوى املجموعات‬
‫العرقية‪ .‬إذ يرفض معظم األمريكيني املحاصصة العرقية‪ ،‬والجداول الزمنية‪ ،‬واملبادئ‬

‫‪170‬‬
‫التوجيهية املفروضة تحت بند «التمييز اإليجايب» يرفضونها وسيل ًة لدفع السود نحو التكافؤ‬
‫مع البيض يف مجاالت التعليم‪ ،‬والتوظيف‪ ،‬والرثوة‪ ،‬واملكانة‪ .‬يف عام ‪ ،1976‬اعتقدت نسبة‬
‫‪ %10‬من البيض عىل مستوى البالد‪ ،‬ونسبة ‪ %37‬من السود‪ ،‬اعتقدوا أنه عىل كلية الطب‬
‫ُتوسم فيه‬
‫خفض معايريها لقبول طالب أسود «قد ال يكون لديه املؤهالت املناسبة‪ ،‬إمنّا ت ّ‬
‫‪8‬‬
‫إمكانات واعد ٌة للدراسة»‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،1984‬أيدت نسبة ‪ %9‬من عينة من البيض‪ ،‬مقابل نسبة ‪ %49‬من عينة للسود‪،‬‬
‫تفضيال عىل البيض املؤهلني بشكل مامثلٍ‪ ،‬بسبب‬
‫ً‬ ‫أيدتا «إعطاء السود أفضلية يف وظائف‬
‫التمييز العنرصي الواقع سابقًا ضد السود»‪ 9.‬ويف عام ‪ ،1992‬أظهرت نسبة ‪ %16‬فحسب‬
‫من العينة عىل مستوى البالد استعدا َدها للتصويت للمرشحني الذين أيّدوا «إعطاء السود‬
‫أفضلية يف وظائف عىل حساب البيض املؤهلني بشكل مامثلٍ‪ ،‬بسبب التمييز العنرصي‬
‫‪10‬‬
‫الواقع سابقًا ضد السود»؛ وبلغت نسبة أولئك الذين قد يص ّوتون لهؤالء املرشحني ‪.%70‬‬
‫كام هو الحال مع أي قضية‪ ،‬فإن اإلجابات تتح ّدد بشكلٍ كبري تب ًعا لكيفية صياغة األسئلة‪.‬‬
‫يرتفع معدل املوافقة بشكل ملحوظ عندما يُطرح التمييز اإليجايب باعتباره طريقة لتجنب‬
‫«املحاصصة الصارمة»‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن معدل القبول يبقى شديد االنخفاض عندما يُوصف‬
‫التمييز اإليجايب عىل أنه تعويض أو عالج ملظامل عرقية من املايض‪ ،‬أو باعتباره وسيل ًة‬
‫لتحقيق التوازن العرقي يف النتائج‪.‬‬
‫يف األوساط اآلمنة‪ ،‬يذكر العديد من البيض بأنهم ال يتحملون املسؤولية وال يقع عليهم اللوم‬
‫بسبب مظامل املايض أو الفروقات الحالية‪ .‬فهم يقولون‪« :‬نحن مل نستعبد أح ًدا‪ ،‬ومل نفعل‬
‫بفرص ممتازة لتحسني‬‫ٍ‬ ‫حظي السو ُد‬
‫َ‬ ‫شي ًئا لكبت أحد»‪ .‬ثم إنّه عىل مدى جيل واحد عىل األقل‪،‬‬
‫أوضاعهم‪ .‬لهذا‪ ،‬فإن تخصيص األماكن للسود ترقى إىل مامرس ِة «متييز عنرصي عكيس»‪.‬‬
‫‪11‬‬

‫ورغم أن مثل هذه الحجة تضع الرأي الشخيص يف معارضة رصيحة للتمييز اإليجايب‪ ،‬فإن‬
‫يسريون‬
‫ّ‬ ‫يعربون عن تذ ّمرهم هذا يف العلن‪ .‬فطالب الجامعات الذين‬
‫قلة من األمريكيني ّ‬
‫ٍ‬
‫أساس‬ ‫ٍ‬
‫مسريات لالحتجاج عىل املامرسات املنطلقة من‬ ‫التظاهرات ضد الترشد ال ينظّمون‬

‫‪171‬‬
‫عرقي والتي يعتربها الكثريون تهدي ًدا لتق ّدمهم‪ 12.‬وعامل املصانع الذين يُّضبون للحصول‬
‫عىل أجور أفضل ال يفعلون شيئًا إللغاء املحاصصة العرقية التي ميقتونها‪ 13.‬وحتى أواخر‬
‫ٍ‬
‫خطوات‬ ‫عام ‪ ،1994‬مل يتخذ السياسيون الذين تابعوا استطالعات الرأي بشكل حثيث أي‬
‫ملموسة إلنهاء السياسات العرقية التي أدركوا أنها ال تحظى بشعبية واسعة‪ .‬مل يتضمن‬
‫«العقد مع أمريكا» للحزب الجمهوري‪ ،‬الذي س ّهلت ُوعو ُده الجريئة فو َز الجمهوريني يف‬
‫انتخابات التجديد النصفي للعام ‪ ،1994‬مل يتض ّمن أي أحكام تتعلق بالتمييز اإليجايب‪.‬‬
‫أجرى بول سنايدرمان وتوماس بيازا استقصا ًء دقيقًا للمواقف األمريكية بخصوص املسائل‬
‫العرقية‪ .‬يف املقام األول‪ ،‬وجدا أنه رغم عدم اختفاء التحيز ضد السود‪ ،‬فإن ذلك التح ّيز مل‬
‫ي ُعد يدفع أعدا ًدا كبرية من البيض ملعارضة السياسات الحكومية ملساعدة السود؛ ثان ًيا‪ ،‬وجدا‬
‫السياسات التي تجعل سواد البرش ِة مصد ًرا للحصول‬
‫ِ‬ ‫أن البيض يعارضون بأغلبية ساحقة‬
‫عىل االمتيازات‪ 14.‬ميكننا االستفاد ُة بجال ٍء من اثنتني من تجاربهام‪.‬‬
‫ففي إحدى التجارب‪ُ ،‬سئلت عينة عشوائية من املستجيبني البيض عن استحقاق الشخص‬
‫الحصول عىل مساعدة حكومية يف العثور عىل عم ٍل آخر‪ .‬خالل هذا اإلجراء‪،‬‬
‫َ‬ ‫الذي فقد عملَه‬
‫يتعرف املستجيبون عىل ِعرق العامل املفصول‪ ،‬وجنسه‪ ،‬وحالته الزوجية‪ ،‬ومدى االعتامد‬
‫عليه‪.‬‬
‫دعام أكرب‪ ،‬وليس أقل‪ ،‬للمساعدة الحكومية للعامل السو ِد املفصولني أكرث من‬
‫تُظهر النتائج ً‬
‫العامل البيض‪ .‬واألمر األكرث أهمي ًة أنّه يف حالة العامل األسود يَظهر أن الدعم لتلقيه املساعدة‬
‫ّ‬
‫‪15‬‬
‫يرتفع بشكل ملحوظ عندما يُوصف العامل بأنه ميكن االعتامد عليه‪.‬‬
‫يف التجربة األخرى‪ُ ،‬سئلت نصف عينة من البيض عن وجهة نظرهم يف التمييز اإليجايب‪،‬‬
‫ثم عن تص ّورهم عن السود؛ وطُرحت األسئلة بالرتتيب املعاكس عىل النصف اآلخر من الع ّينة‪.‬‬
‫فاتضح أن مجرد ِذكر التمييز اإليجايب يش ّجع عىل كراهية املستفيدين منه‪.‬‬
‫حس‬
‫أوال‪ ،‬وصفت نسبة ‪ %46‬السو َد بأنه «يعوزهم ّ‬
‫من بني الذين ُسئلوا عن العمل اإليجايب ً‬
‫املسؤولية»‪ ،‬مقابل نسبة ‪ %23‬ممن مل يسمعوا بالقضية قبل ذلك‪ .‬بصورة مامثلة‪َ ،‬وصفت‬

‫‪172‬‬
‫نسبة ‪ %31‬من املجموعة األوىل السود بأنهم «كساىل» مقابل نسبة ‪ %20‬يف املجموعة‬
‫الثانية‪ 16.‬تُثري نتائج التجربة الثانية الدهشة بصورة خاص ٍة نظ ًرا لندرة املعارضة العلنية‬
‫للتمييز اإليجايب‪ .‬فتكشف هذه النتائج أن التمييز اإليجايب هو مصدر شعو ٍر واسعٍ باالستياء‬
‫لدى البيض‪.‬‬

‫األدلة املستقاة من االنتخابات‬


‫ميكن استقاء املزيد من األدلة من السياسات االنتخابية عىل انتشار تزوير التفضيل‪ .‬إذ بني‬
‫األعوام ‪ 1968‬و‪ ،1988‬تحرك مجموع الناخبني األمريكيني باضطرا ٍد «تجاه اليسار» يف‬
‫مختلف القضايا االجتامعية‪ ،‬مبا يف ذلك اإلجهاض‪ ،‬وحقوق املثليني‪ ،‬والبيئة ‪ 17.‬بالرغم من‬
‫ّس الحزب الدميقراطي‪ ،‬الذي دافع عن املواقف اليسارية بشأن هذه القضايا‪ ،‬يف‬
‫ذلك‪ ،‬خ َ‬
‫خمسة من االنتخابات الرئاسية الست التي ُعقدت يف تلك الفرتة‪ ،‬وخّس بعضَ ها بفارقٍ كبري‪.‬‬
‫وبهدف البحث عن تفسري لذلك‪ ،‬الحظ توماس وماري إيدسول أن الجمهوريني قد استفادوا‬
‫املعرب عنه من ازدواجية املعايري العرقية‪ ،‬مبا يف ذلك التمييز اإليجايب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من االستياء غري‬
‫داعبت شعاراتُ حملة الحزب الجمهوري التي تناولت مسيئي استخدام الضامن االجتامعي‪،‬‬
‫والجرمية‪ ،‬واالنحطاط الحّضي‪ ،‬واملحاصصة داعبت مشاع َر العنرصية الخفية‪ ،‬واستندت‬
‫كذلك –بشكل أشد أهمية– إىل املخاوف بشأن الجهود الرامية إىل إعفاء السود من املعايري‬
‫املط ّبقة عىل باقي أفراد املجتمع‪ .‬وبدها ٍء مكّنت تلك الشعارات الجمهوريني من مالمسة وتر‬
‫‪18‬‬
‫هذه املخاوف الحساس دون االضطرار إىل معارضة املعايري املزدوجة بصورة علنية‪.‬‬
‫يُظهِر اإلعالن التلفزيوين األكرث شهرة لحملة بوش األب للعام ‪ 1988‬يُظهِر وييل هورتون‪،‬‬
‫عرب‬
‫وهو قاتل أسود اغتصب امرأة بيضاء وطعن صديقها أثناء إجازة تغ ّيب من السجن‪ .‬وقد ّ‬
‫اإلعال ُن بصورة مرئية عن القلق الكامن يف أذهان أعدا ٍد كبرية من الناخبني‪ ،‬واألهم من ذلك‪،‬‬
‫املتأصل بسبب ارتفاع معدل السلوك اإلجرامي يف أوساط شباب الذكور السود‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الخوف‬
‫البيض يف دور الضحية‬
‫َ‬ ‫بتلميحه أن مشاكل السود هي ج ّراء ما اقرتفت أيديهم‪ ،‬يق ّدم اإلعال ُن‬

‫‪173‬‬
‫بدال من دور الجاين‪ .‬وهكذا يؤنب اإلعالن بصورة ضمنية عز َو التباينات العرقية إىل‬
‫ً‬
‫العنرصية البيضاء‪ ،‬ويشكّك يف إنصاف االمتيازات املمنوحة للسود‪ .‬سمح اإلعالن لبوش‬
‫بتقديم نفسه عىل أنّه رسيع االستجابة ملخاوف الناخبني غري امل ُعلن عنها فيام يتعلّق‬
‫ٍ‬
‫نقاش علني رصيح‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬مثّل‬ ‫بالسياسات العرقية‪ ،‬ولكن دون أن يتو ّرط يف‬
‫اإلعالن من فوره استجاب ًة انتهازية لتزوير التفضيل ومظه ًرا بارزًا له‪.‬‬
‫مل يتّخذ الرئيس بوش الذي ربح االنتخابات بسهولة أيّة خطوات جريئة يف السنوات األربع‬
‫التالية لفوزه‪ .‬بعد أن وصف ترشي َع الحقوق املدنية املقرتح بأنه «قانون محاصصة»‪ ،‬فقد‬
‫وقّع عليه يف نهاية املطاف ليصبح قانونًا بعد تعديله لحظر املحاصصة الرسمية مع اإلبقاء‬
‫عىل األحكام التي من شأنها أن تشجع املحاصصة غري الرسمية‪ 19.‬وأظهر بوش يف بداية‬
‫مامثال عندما أعلن مساع ُد وزير التعليم‪ ،‬مايكل ويليامز‪ ،‬أن جميع املنح‬
‫ً‬ ‫فرتته الرئاسية حذ ًرا‬
‫الدراسية املخصصة حرصيًا لطالب األقليات تعترب غري قانونية‪ .‬إذ يحظر قانون الحقوق‬
‫املدنية للعام ‪ 1964‬عىل متلقّي املساعدات الفيدرالية من ربط املساعدة املالية بال ِعرق‪ ،‬ومي ّدد‬
‫قانون استعادة الحقوق املدنية للعام ‪ 1987‬الحظ َر ليشمل التعليم العايل الخاص‪ .‬وهكذا‬
‫كان لدى بوش أساس قانوين ليدعم موقف ويليامز‪ ،‬وهو أسود‪ .‬إمنا رسعان ما رضخ بوش‪،‬‬
‫‪20‬‬
‫عندما شنّت مجموعات الحقوق املدنية حملة معارضة رشسة‪.‬‬
‫يف الوقت الذي كان بوش يتأرجح مبوافقه‪ ،‬ويقدم التنازالت‪ ،‬ويُؤثر السالمة‪ ،‬راحت‬
‫االنتخابات املحلية تقدم األدلة عىل انتشار تزوير التفضيل فيام يتعلق باملسائل العرقية‪ .‬ففي‬
‫انتخابات مجلس شيوخ الواليات املتحدة للعام ‪ 1990‬يف والية لويزيانا‪ ،‬كان من املتوقع أن‬
‫يحقق املرشح يف املنصب انتصا ًرا ساحقًا عىل ديفيد دوك‪ ،‬الزعيم األكرب السابق لجامعة كو‬
‫كلوكس كالن الذي بنى برنامجه رصاح ًة عىل معارضة التمييز اإليجايب‪ .‬توقعت استطالعات‬
‫الرأي أن دوك لن يحصل عىل نسب ٍة أكرب من ‪ %25‬من األصوات‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فقد حصل عىل نسبة ‪ ،%44‬مبا يف ذلك ‪ %60‬من أصوات البيض‪ 21،‬مام ييش‬
‫بأن العديد من الناخبني لن يعرتفوا بدعمهم لدوك حتى ملستط ِلع رأي مجهول‪ .‬بال ّ‬
‫شك ض ّم‬

‫‪174‬‬
‫مؤيدو دوك الّسيني بعض العنرصيني الحقيقيني‪ .‬إمنا يصعب تصديق أن جميعهم كانوا‬
‫متعصبني‪ .‬فال بُ ّد أن غالبيتهم كانوا مواطنني غري عنرصيني انجذبوا إىل رسالته املناهضة‬
‫للتمييز اإليجايب‪.‬‬
‫ري انتخاباتٌ أخرى مل تفلح فيها استطالعات الرأي بالحصول عىل نتائج‬
‫يعض ُد هذا التفس َ‬
‫ُمرضية بشكل كبري‪ .‬فعشية انتخابات عام ‪ 1989‬يف نيويورك‪ ،‬أشارت استطالعات الرأي‬
‫إىل أن ديفيد دينكينز‪ ،‬وهو مرشح أسود‪ ،‬متق ّدم ما بني ‪ 14‬و‪ 18‬نقطة عىل رودولف‬
‫جولياين‪ ،‬وهو مرشح أبيض‪ .‬وأظهرت استطالعات الرأي أن دينكينز سيفوز بفارق ‪ 6‬إىل‬
‫‪ 10‬نقاط‪ .‬يف حني كان هامش فوزه الفعيل نقطتني فحسب‪ 22.‬مل يتخذ أي من املرشحني‬
‫مواقف مثري ًة للجدل بشأن املسائل العرقية ومل يلجأ لرمزية عنرصية‪ ،‬إال أنه كان مفهو ٌم‬
‫ضمنًا أن دينكينز سيعمل عىل ترسيخ التمييز اإليجايب بقوة أكرب‪ .‬كام اختلف املرشحان يف‬
‫سبب من األسباب‬
‫ٍ‬ ‫أوجه أخرى‪ ،‬بالطبع‪ ،‬لذلك كان من املمكن أن يق ّدم مؤيدو جولياين أي‬
‫حا لفهم معارض ِة‬
‫املفهومة اجتامعيًا لتربير اختيارهم‪ .‬لكن العنرصية هي السبب األكرث وضو ً‬
‫رمبا خدع أنصار جولياين مستطلعي الرأي لتجنّب‬
‫ناخب أبيض ملرشح أسود‪ .‬وببساطة‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫إعطاء االنطباع بأنهم متحيزون‪.‬‬
‫وخالصة القول حتى هذه النقطة‪ ،‬يعارض األمريكيون البيض بأغلبية ساحقة االمتيازات‬
‫املقصورة عىل السود‪ .‬لكنهم يُظهرون حذ ًرا شدي ًدا يف التعبري عن ذلك علنًا‪ ،‬خوفًا من‬
‫َ‬
‫حيال‬ ‫يوسعون اله ّوة بني الرأي العلني والرأي الخفي‬
‫وصفهم بالعنرصية‪ .‬وبفعلهم ذلك‪ّ ،‬‬
‫مجموعة من القضايا التي تتط ّرق للعرق‪ ،‬مبا يف ذلك التمييز اإليجايب‪.‬‬

‫أصول وآثار التمييز اإليجايب‬


‫رغم انبثاق التمييز اإليجايب عن حركة الحقوق املدنية‪ ،‬فإنه مل يكن ضمن األهداف األصلية‬
‫للحركة‪ .‬ففي عام ‪ ،1963‬تعاضَ د املاليني من األمريكيني جن ًبا إىل جنب –من السود‬
‫والبيض– بهدف إنهاء املامرسات التي جعلت البرشة البيضاء مصد ًرا لالمتيازات‪ .‬يف خطابه‬

‫‪175‬‬
‫يوم سيعيش أطفايل األربعة‬
‫قائال‪« :‬يراودين حلم بأنه ذاتَ ٍ‬
‫التاريخي‪ ،‬أعلن مارتن لوثر كينغ ً‬
‫‪23‬‬
‫الصغار يف أمة ال يُحكم عليهم فيها بسبب لون برشتهم‪ ،‬إمنا بنا ًء عىل جوهر شخصيتهم»‪.‬‬
‫ومصداقًا لحلم كينغ‪ ،‬ق ّوض قانو ُن الحقوق املدنية للعام ‪ 1964‬األسس القانونية للعنرصية‬
‫البيضاء‪ ،‬وألزم الواليات املتحدة مببدأ «تكافؤ الفرص»‪ .‬إمنا يف غضون سنوات قليلة‪ ،‬تح ّولت‬
‫أجندة الحقوق املدنية إىل حملة لتحقيق «تكافؤ النتائج» بدون تأخري ومن خالل التمييز‬
‫الوعي الصارخ بالفروق عىل‬ ‫َ‬ ‫النهج الجديد‬
‫ُ‬ ‫بغض النظر عن النوايا‪ ،‬فقد عزز‬‫ّ‬ ‫اإليجايب‪.‬‬
‫أساس لون البرشة‪ :‬إذ ال ميكن للرشكة التي يتحتم عليها توظيف قوة عاملة متوازنة عرق ًيا ال‬
‫ميكنها أن تحكم عىل املتقدمني بنا ًء عىل «جوهر شخصيتهم» فحسب‪.‬‬
‫ما هي تأثريات التمييز اإليجايب ال ِعرقي؟ بلغت استفاد ُة السود املتعلمني وميسوري الحال‬
‫درجة عاليةً‪ 24.‬بحلول منتصف عقد السبعينيات من القرن العرشين‪ ،‬ضاهت ال ِنسب املئوية‬
‫لخريجي املدارس الثانوية من السود الذين التحقوا بالجامعات ضاهت النسب املئوية لدى‬
‫البيض‪ ،‬وتجاوزتها يف بعض السنوات‪ 25.‬كام ارتفعت نِسب توظيف السود بصورة كبرية‬
‫املكاسب يف‬
‫ُ‬ ‫يف الحكومة ويف الرشكات التي تراقبها لجنة تكافؤ فرص العمل‪ 26.‬واستمرت‬
‫التوظيف‪ ،‬أو عىل األقل حافظت عىل ثباتها‪ ،‬حتى يف الفرتات الرئاسية إلدارات ُعرفت‬
‫بتحفظاتها عىل مامرسات التوظيف املبنية عىل الفروق ال ِعرقية‪ .‬وقد صاحب تلك املامرسات‬
‫تحسينات يف األجور‪ .‬إذ ارتفعت عائدات تعليم السود مقارنة بالبيض‪ ،‬ويف بعض املجاالت‬
‫راح السود يحصلون عىل رواتب أعىل‪ .‬يف بدايات عام ‪ ،1973‬تقاىض الرجال السود الذين‬
‫ترتاوح أعامرهم بني ‪ 25‬و‪ 29‬عا ًما من حاميل الشهادات جامعية أجو ًرا أعىل بنسبة ‪ %9‬من‬
‫أقرانهم البيض‪ 27.‬يف نفس السنة‪ ،‬حصل األساتذة السود من ذوي الخربة عىل رواتب أكرث‬
‫من أساتذة بيض من ذوي الخربات املامثلة‪.‬‬
‫‪28‬‬

‫ِ‬
‫املحارضون السود كام مل يستفد غريهم من معارك رفع األجور بني الجامعات التي‬ ‫واستفاد‬
‫تسعى إىل تحقيق أهداف التمييز اإليجايب‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫مث ّة خالف بخصوص األثر الذي خلّفته املبادئ التوجيهية والجداول الزمنية لسياسة التمييز‬
‫اإليجايب يف ِنسبة املكاسب املوثّقة‪ .‬إذ من املحتمل أن تكون بعض املكاسب قد تحقّقت حتى‬
‫يف ظل اإلجراءات التي ال تأخذ بعني االعتبار الفروقات ال ِعرقية‪ .‬واألمر ذو الداللة هو أ ّن‬
‫متثيل السود يف املدارس املرموقة‪ ،‬واملناصب الحكومية العليا‪ ،‬واملهن األكرث تحقيقًا للربح‪،‬‬
‫والقيادة العسكرية كان يف طور الزيادة الفعلية بحلول عام ‪ ،1970‬عندما بدأ تطبيق برامج‬
‫ميكن نكران حقيقة أن التمييز اإليجايب‬
‫التمييز اإليجايب عىل نطاق واسع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال ُ‬
‫‪29‬‬

‫قد ساعد أفراد الطبقة الوسطى من السود عىل النم ّو والنجاح‪.‬‬


‫كام يتّضح بجال ٍء أن مستويات معيشة الفقراء من السود قد تدهورت مقارن ًة بفقراء البيض‪،‬‬
‫ومقارنة باألثرياء السود‪ ،‬وحتى باملعنى امل ُطلق‪ .‬بني األعوام ‪ 1973‬و‪ ،1987‬أصبحت عائالت‬
‫السود يف الفئة ال ُخمسية األغنى يف توزيع الدخل أكرث ثرا ًء بنسبة ‪ %33‬بالقيمة الثابتة‬
‫للدوالر‪ ،‬مقابل زيادة بلغت نسبة ‪ %25‬لدى العائالت يف الفئة ال ُخمسية األغنى للبيض‪.‬‬
‫خالل نفس الفرتة‪ُ ،‬منيت العائالت السوداء يف الفئة ال ُخمسية األفقر بخسار ٍة بلغت نسبة‬
‫‪ ،%18‬مقارن ًة بخسار ٍة أقل بلغت نسبتها ‪ %7‬لدى أفقر العائالت البيضاء‪ .‬بالنسبة لتوزيع‬
‫البيض اإلجاميل‪ ،‬انخفضت نسبة الفئة ال ُخمسية األفقر مقارن ًة بالفئة ال ُخمسية األغنى من‬
‫املناظرة لها لدى السود أكرث من ذلك‪ ،‬من نسبة ‪%10‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ %14‬إىل ‪%11‬؛ وانخفضت النسبة‬
‫‪30‬‬
‫إىل ‪.%6‬‬
‫يُعزى السبب الرئييس العتامد برامج التمييز اإليجايب إىل فقر السود‪ .‬ومن حيث استجابتها‬
‫ملكافحة الفقر‪ ،‬تشري هذه األرقام إىل فشل تلك الربامج‪ .‬فعىل الرغم من حصول السود األقل‬
‫جا إىل مساعدات خاصة عىل مكاسب واضحة‪ ،‬فإن أولئك الذين هم يف أمس الحاجة‬ ‫احتيا ً‬
‫إىل املساعدة قد تع ّرضوا لخسائر ال ت ِ‬
‫ُخطئها العني‪.‬‬
‫وتَظهر الخسائر يف اإلحصاءات املتعلقة بالفقر‪ ،‬والبطالة‪ ،‬وظروف األرسة‪ ،‬والجرمية‪ .‬بعد‬
‫عقدين من انتشار التمييز ال ِعرقي اإليجايب‪ ،‬كان ثلث السود تقري ًبا‪ ،‬مقارن ٌة ب ُعرش البيض‪،‬‬
‫يعيشون تحت خط الفقر الرسمي‪ .‬وبلغ معدل البطالة بني السود أكرث من ضعف معدل‬

‫‪177‬‬
‫البطالة لدى البيض‪ .‬وتضاعف احتامل مولد الطفل األسود ألرس ٍة فقرية ثالث مرات‪ .‬وكان‬
‫السدس لدى‬
‫أكرث من نصف األطفال السود يعيشون يف أرس ذات عائل واحد‪ ،‬مقابل نسبة ُ‬
‫األطفال البيض‪ .‬وكان الرجل األسود أكرث عرضة للقتل بست مرات من الرجل األبيض‪ ،‬ومن‬
‫املرجح أن يكون قاتله أسود‪.‬‬
‫واألمر األهم من ذلك هو أنه منذ عام ‪ ،1973‬اتسعت ُرقعة هذه التفاوتات العرقية أو بقيت‬
‫‪31‬‬
‫ثابتة‪.‬‬
‫تشري مثل هذه اإلحصاءات القامتة إىل أن التمييز اإليجايب قد ال يكون االستجاب َة األكرث‬
‫فعالية ملحاربة فقر السود‪ .‬ويف واقع الحال‪ ،‬يؤكد عدد من العلامء البارزين‪ ،‬مبن فيهم بعض‬
‫السود‪ ،‬أن التمييز اإليجايب هو عالج أكرث مالءم ًة ألمراض املايض أكرث من أمراض الحارض‪.‬‬
‫من بعض هؤالء يُذكر ستيفن كارتر‪ ،‬وريتشارد إبستني‪ ،‬ونيثان غليزر‪ ،‬وغلني لوري‪،‬‬
‫وتوماس سوويل‪ ،‬وشيلبي ستيل‪ ،‬وويليام جوليوس ويلسون‪ 32.‬وال ينكر هؤالء املعارضون‬
‫أن العديد من األفراد السود قد استفادوا من نظام املحاصصة ال ِعرقية القائم‪ .‬إال أنهم يدركون‬
‫أن املكاسب قد وقعت بصور ٍة غري متكافئة يف ِحجر السود من ميسوري الحال بالفعل‪ .‬كام‬
‫يشددون عىل أن تلك الفوائد قد صاحبتها تكاليف اجتامعية‪ ،‬ونفسية‪ ،‬واقتصادية باهظة‪.‬‬
‫يحسنون‬
‫ّ‬ ‫تضع املعايري املزدوجة جمي َع السود يف موضع االتهام‪ ،‬مبن فيهم أولئك الذين‬
‫أوضاعهم بنا ًء عىل مؤهالتهم الخاصة‪ .‬يف املقابل‪ ،‬مجرد معرفة أن بعض األماكن محجوزة‬
‫لألقليات يثني السود عن محاولة التق ّدم إليها‪ .‬وهكذا فالقرارات التي تُتخذ لتلبية أهداف‬
‫التمييز اإليجايب تُفيض إىل أوجه قصور تقلل من القدرة التنافسية لالقتصاد األمرييك‪ ،‬مع‬
‫تعرثت حياتهم املهنية إلفساح‬‫ري السود م ّمن ّ‬ ‫عواقب سلبية تلحق بجميع الفئات‪ .‬يَعترب غ ُ‬
‫َ‬
‫تأهيال‪ ،‬والكثري غريهم ِم ّمن يشتبهون يف أنهم قد تع ّرضوا للمعاناة‪،‬‬
‫ً‬ ‫املجال أمام السود األقل‬
‫يعتربون أنفسهم ضحايا «للتمييز العنرصي العكيس»؛ ويُذيك استياؤهم نريا َن التفرقة‬
‫العرقية‪ .‬بالنتيجة‪ ،‬بسبب تصعيب عملية فصل‪ ،‬أو خفض رتب‪ ،‬أو عدم ترقية السود‪ ،‬لئال‬
‫يتع ّرض املرء للمقاضاة بسبب التمييز الوظيفي‪ ،‬فإن التمييز اإليجايب يولّد ظاهرة التض ّخم‬

‫‪178‬‬
‫التعليمي أو االهتامم باملؤهالت الدراسية –ويُعنى بذلك امليل إىل تعليق أهمية كبرية عىل‬
‫املؤهالت التي ميكن ألطراف ثالثة فهمها بسهولة‪ ،‬مثل الدرجات التعليمية والخربة الرسمية‪.‬‬
‫تعليام؛ وتؤذي هذه الظاهر ُة‬
‫ً‬ ‫تفضّ ل ظاهرة التض ّخم التعليمي السو َد األكرث قدر ًة واألكرث‬
‫األشخاص عدميي الخربة‪ ،‬وذوي املستوى التعليمي األدىن‪ ،‬والشباب‪ ،‬خاصة وأن التمييز‬
‫َ‬
‫ليشمل مجموعات أخرى ذات مؤهالت متف ّوقة بشكل عام‪ ،‬مثل النساء‬
‫َ‬ ‫اإليجايب قد امتد‬
‫البيض‪.‬‬

‫شيطنة املعارضني‬
‫كام هو الحال مع أي سياسة اجتامعية‪ ،‬قد يختلف املحللون املنفتحون بشأن حجم التكاليف‬
‫املرتتبة عليها والفوائد املختلفة املرجوة منها‪ ،‬وبالتأكيد مثة فسح ٌة لالختالف بخصوص‬
‫التمييز اإليجايب‪ .‬يف غالب األحيان تشمل املربرات املستشهد بها استمرا َر العنرصية‬
‫البيضاء‪ ،‬وفوائد وجود النامذج من الشخصيات السوداء‪ ،‬والحق يف التعويض عن الظلم‬
‫الذي لحق بأسالف املرء‪ ،‬ومزايا التنوع العرقي يف املدارس ويف بيئة العمل‪ 33.‬وتتمثّل النقطة‬
‫الحاسمة ههنا يف أن بعض املفكرين الجادين يعتربون أن هذه املزايا مغمور ٌة بالتكاليف‬
‫املرتتّبة عىل التمييز اإليجايب‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فمنذ بداية تطبيقها‪ ،‬اعتُربت سياسة التمييز اإليجايب بوصفها فوق النقد‪ .‬وعاد ًة‬
‫ما يتع ّرض األشخاص الذين يعربون عن تحفّظاتهم عليها لتشويه سمعتهم عىل أنهم أعداء‬
‫وصف‬
‫َ‬ ‫للمساواة العرقية م ّمن ال يهتمون سوى مبصالحهم الذاتية‪ .‬يُطلَق عىل النقاد السود‬
‫الخونة ل ِعرقهم‪ ،‬يف حني يُوصم النقاد البيض بأنهم مؤيّدون لسيادة البيض‪.‬‬
‫تبلور منط الرتهيب يف عام ‪ 1965‬عندما تعرض دانيال باتريك موينيهان‪ ،‬مساعد وزير‬
‫العمل آنذاك‪ ،‬النتقادات شديدة بسبب ورقة سياسة عامة بعنوان‪ ،‬العائلة الزنجية‪ :‬دفا ًعا عن‬
‫‪34‬‬
‫العمل الوطني‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ذهبت الورقة‪ ،‬والتي تُعرف اآلن باسم «تقرير موينيهان»‪ ،‬إىل أنه للقضاء عىل الفقر يف‬
‫أوال اكتساب نفس الفرص املتاحة للبيض وثان ًيا الوصول‬
‫مجتمعات السود‪ ،‬ينبغي عليهم ً‬
‫لنفس املوارد لالستفادة من تلكم الفرص‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ذكر التقرير أن تفكك األرس السوداء‬
‫َ‬
‫األطفال السود من الثقة بالنفس‪،‬‬ ‫بسبب الطالق‪ ،‬واالنفصال‪ ،‬وهجر أحد الوالدين يحرم‬
‫واالنضباط‪ ،‬والعادات التي تُع ّد من العوامل الحاسمة لتحقيق اإلنجاز‪ .‬عزا موينيهان ارتفا َع‬
‫عرب استنزاف قوته االقتصادية‪ ،‬أدى‬
‫معدالت تفكك األرسة إىل أجيال من العبودية والتمييز‪ْ :‬‬
‫االضطهاد إىل تقويض مكانة الرجل األسود داخل أرسته‪ .‬وأشار موينيهان إىل أنه ابتدا ًء منذ‬
‫منتصف الستينيات من القرن املايض‪ ،‬بلغت نسبة العائالت السوداء التي تُعيلها اإلناث ال ُربع‬
‫تقري ًبا‪ ،‬وقري ًبا منها كانت نسبة املواليد السود غري الرشعيني‪ .‬واتّسم األداء املدريس لألطفال‬
‫الذين ولدوا يف هذه الظروف بالضعف‪ ،‬ثم فشلوا يف الحصول عىل وظائف‪ ،‬ويف نهاية‬
‫أجياال جديدة من األطفال املحرومني اجتامعيًا‪ .‬وخلص موينيهان إىل أن‬ ‫ً‬ ‫األمر يُنجبون‬
‫خلٍ من العامل األبيض»‪.‬‬
‫«التعقيد الراهن لهذه الحالة امل َرضية قاد ٌر عىل إدامة نفسه دومنا تد ُّ‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن برامج القضاء عىل فقر السود محكوم ٌة بالفشل ما مل «تُصمم بحيث يكون لها‬
‫‪35‬‬
‫تأثري‪ ،‬مبارش أو غري مبارش‪ ،‬عىل تعزيز استقرار وموارد األرسة الزنجية األمريكية»‪.‬‬
‫يف عزوه تفكك األرسة السوداء إىل العبودية‪ ،‬كان موينيهان يردد أطروحة وضَ عها إدوارد‬
‫فرانكلني فريجر‪ 36.‬إمنا دحضت األبحاث الالحقة مصداقي َة أطروحة فريجر‪ .‬إذ أصبح‬
‫حرموا‬ ‫معروفًا لدينا اآلن أن معظم العبيد نشأوا يف أُ ٍ‬
‫رس مك ّونة من أبوين‪ ،‬وأن العبيد الذين ُ‬
‫بغض النظر‬
‫ّ‬ ‫ج متينة مبجرد تحريرهم‪ 37.‬لكن‬
‫من عائالتهم عاد ًة ما انخرطوا يف عالقات زوا ٍ‬
‫عن تص ّوراته املغلوطة‪ ،‬مل يكن موينيهان متحدثًا عن مشكلة غري موجودة‪ .‬ففي الوقت الذي‬
‫كُتب فيه تقريره‪ ،‬كانت األرسة التي تُعيلها امرأة قد أصبحت بالفعل سم ًة بارزة ملجتمع‬
‫السود‪ .‬وفقًا لذلك‪ ،‬جاء رد فعل العديد من الزعامء السود إيجاب ًيا عىل التقرير‪.‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬فقد شعر غريهم من الزعامء السود بأن املطالبة بإحداث تغيريٍ يف سلوك السود‬
‫من شأنه أن يُضعف التزا َم األمة باملساواة العرقية‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫متسرت»‪ .‬ووصف أحد النقاد التقرير‬
‫ّ‬ ‫وهكذا ر ّدوا بغضب‪ ،‬ووصفوا موينيهان بأنه «عنرصي‬
‫هائل من املسؤولية بهدف إرضاء ضمري البيض»‪ ،‬مضيفًا أ ّن التقرير‬
‫بأنه «متلّص أكادميي ٌ‬
‫يوفر «الحا ِفز لعنرصية جديدة»‪ 38.‬وش ّدد ناق ٌد آخر عىل أن املطالبة بتعديالت يف سلوك‬
‫السود مج ّرد ذريعة لتجنُّب تغيري «النظام الرأساميل» املسؤول عن فقر السود‪ 39.‬مع احتدام‬
‫الجدل‪ ،‬تراجع معظم الزعامء السود الذين أيّدوا فرضية التقرير عن مواقفهم السابقة‪.‬‬
‫رصح أحدهم أن أمريكا «ال ميكنها مناقشة الحالة امل َرضية ملجتمع الزنوج دون مناقشة‬
‫و ّ‬
‫أمراض مجتمع البيض التي تسمح لتلك األمراض بالظهور»‪ .‬وانطالقًا من مخالفته لفكرة‬
‫تفكُّك األرسة السوداء‪ ،‬أكد هذا املراقب أن مجتمع البيض مل يُتح لها قط فرص َة االزدهار‬
‫‪40‬‬
‫أصال‪.‬‬
‫ً‬
‫خوفًا من تشويه سمعتهم بتهمة العنرصية‪ ،‬انخرط البيض «التقدميون» يف حملة النقد تلك‪.‬‬
‫نفس أبيض موينيهان لتصويره السود عىل أنهم همج‪« :‬فالرسالة الضمنية‬ ‫واستنكر عالِم ٍ‬
‫هي أن الزنوج يتقبّلون امل ُجون‪ ،‬واملواليد غري الرشعيني‪ ،‬والعائالت ذات امل ُعيل الواحد‪،‬‬
‫واالعتامد عىل نظام الضامنات االجتامعي‪ ،‬وجميع ما يُفرتض أنه الزم ذلك‪ ...‬واملثال األفضل‬
‫عىل اإلطالق عن "الهمجي" هو تلك األم املنفلتة التي أنجبت حفن ًة من األشقياء غري‬
‫الرشعيني»‪ 41.‬مع تصاعد الضغوط‪ ،‬سعت اإلدارة األمريكية إىل النأي بنفسها عن أطروحة‬
‫موينيهان‪ .‬وا ّدعى وزير العمل بأن التقرير قد يكون مج ّرد تعبريٍ عن تركيز ُمغرِق يف‬
‫التفاصيل بشأن تدهور الحياة األرسية لدى السود‪ .‬حتى أن الوزير قد نفى أن يكون التقرير‬
‫وثيقة رسمي ًة صادرة عن وزارته‪ 42.‬يف معرض تنا ُوله ملحنته‪ ،‬كتب ميونيهان فيام بعد ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫« ُوجدت حال ٌة من ال ُجنب عىل نطاقٍ واسعٍ يف أوساط البيض‪ ،‬باستثناء عدد قليل من‬
‫ي تزييف للحقيقة إذا بدا‬
‫الشخصيات األكادميية‪ .‬وثبت أن البعض مل يكن ليتواىن عن تب ّني أ ّ‬
‫‪43‬‬
‫لهم أن معارضته قد تُجابَه باستنكا ِر تفكري القطيع يف اللحظة الراهنة»‪.‬‬
‫وهكذا ُوضع تقرير موينيهان جان ًبا‪ ،‬رغم تفاقُم املشاكل التي تناولها‪ .‬إذا كانت نسبة األُرس‬
‫السوداء تعولها نسا ٌء ال ُربع يف عام ‪ ،1960‬فقد تجاوزت النصف يف عام ‪ 44 .1990‬ثم‬

‫‪181‬‬
‫أصبح عد ٌد أكرب من األطفال يولدون ألبوين مراهقَني غري قادرين أو غري راغبني يف توفري‬
‫الرعاية املناسبة لهم‪ .‬ومصداقًا ألطروحة موينيهان‪ ،‬فشل هؤالء األطفال عمو ًما يف تطوير‬
‫املهارات الالزمة للنجاح يف الحياة‪ 45.‬فانحرفوا باتجاه الجرمية بأعداد كبرية‪ .‬وبدأت‬
‫األنشطة التجارية تغادر أحياءهم‪ .‬وراحت العائالت التي كان لديها القدرة عىل االنتقال‪ ،‬مبا‬
‫يف ذلك العائالت السوداء‪ ،‬تف ّر إىل الضواحي‪ .‬أصبح «الشاب األسود» مصد َر خوف متزايد‪،‬‬
‫ج ّسدت تلك العواقب‬
‫ما أسفر عن عواقب وخيمة عىل األغلبية السوداء امللتزمة بالقانون‪ .‬و ُ‬
‫يف مثال سائق سيارة األجرة الذي يرفض التوقف لرجل أسود خوفًا من التعرض للّسقة –‬
‫أو حتى التوقف المرأة سوداء‪ ،‬خوفًا من أن تطلب توصيلها إىل منطقة موبوءة بالعصابات‪.‬‬
‫تشري األمناط امللحوظة لتجنّب دخول أحياء السود إىل أن أمراض املجتمع األسود مفهومة‬
‫عىل نطاق واسع‪ .‬ويف حقيقة األمر‪ ،‬تُثري هذه األمراض االجتامعية استيا ًء شدي ًدا لدى البيض‬
‫والسود عىل ٍ‬
‫حد سواء‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،1984‬عندما أطلق برينارد غويتز النا َر عىل أربعة مراهقني سود ع ّرضوه للمضايقة‬
‫ليّسقوا ماله يف قطار أنفاق يف نيويورك‪ ،‬أيد سكان نيويورك من جميع الخلفيات العرقية‬
‫ترصفه –رغم أن نسبة تعاطف السود قد انخفضت بشكل ملحوظ عندما اتّضح أن غويتز‬
‫رصاصا إضافيًا بعد سقوط اللصوص أرضً ا‪ 46.‬إمنا مل تتوان والدة أحد الجرحى عن‬
‫ً‬ ‫قد أطلق‬
‫الترصيح أن ابنها قد لقي جزاءه؛ إذ إ ّن زوجها‪ ،‬والد ابنها‪ ،‬قد قُتل فيام مىض خالل محاولته‬
‫مجرم من رسقة سيارته األجرة‪ 47.‬وعندما برأت هيئة املحلفني غويتز من تهمة إطالق‬
‫ٍ‬ ‫من َع‬
‫حظي الحكم بقبول نسبة ‪ %90‬من سكان املدينة البيض‪ ،‬و‪ %83‬من ذوي األصول‬
‫َ‬ ‫النار‪،‬‬
‫‪48‬‬
‫الالتينية‪ ،‬و‪ %52‬من السود‪.‬‬
‫بعد فرتة قصرية من حادثة غويتز‪ ،‬كتبت صحف ّية معلّقة أن طلقات غويتز أطلقت مشاع َر‬
‫الغضب واليأس «املدفونة منذ زمن طويل»‪ 49.‬وما تعنيه هو أن سكان نيويورك قد انفجروا‬
‫بإداناتهم لجرائم الشوارع‪ ،‬وليس أنهم أصبحوا دون سابق إنذا ٍر مستعدين للتعبري عن‬
‫آرائهم حيال جميع املسائل العرقية‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬بعد عدة سنوات خالل جلسات مجلس‬

‫‪182‬‬
‫الشيوخ لتصديق تعيني كالرنس توماس‪ ،‬القايض األسود امل ُرشّ ح للمحكمة العليا‪ ،‬الحظت‬
‫نفس الصحف ّية أن الرصاحة نادرة يف األمور املتعلقة بالعرق‪ .‬وكانت تلك الصحفية قد ألقت‬
‫كلم ًة عن جلسات االستامع أمام فصل جامعي‪ .‬وس ّببت رصاحتها يف املوضوع للطالب حال َة‬
‫توتر واضحة‪.‬‬
‫قالوا لها الحقًا‪« :‬يف حقيقة األمر‪ ،‬مل نشعر بفسحة حرية إلبداء آرائنا علنًا‪ ،‬ومل نتوقع حقًا‬
‫‪50‬‬
‫رأي كهذا»‪.‬‬
‫سامع ٍ‬
‫مل تكن سوى قلة من أولئك الطالب عىل اطال ٍع بحادثة موينيهان التي وقعت قبل أن يولدوا‪.‬‬
‫بيد أن تحفّظهم يف الكالم كان عبار ًة عن استجابة رشط ّية ناجمة عن الضغوط االجتامعية‬
‫والتوقعات التي أسهمت الحادثة يف تشكيلها‪.‬‬
‫تخل السنوات التي انقضت منذ تقرير موينيهان من التحديات التي واجهت األجندة‬
‫مل ُ‬
‫املوضوعة لتحسني مستويات معيشة السود‪.‬‬
‫فقد اعرتض عد ٌد من املفكرين‪ ،‬مبن فيهم أولئك الذين وردت أسامؤهم سابقًا‪ ،‬عىل تلك‬
‫األجندة علنًا‪ ،‬مشريين إىل التكاليف املرتتبة عىل بعض السياسات املتبعة‪ ،‬واقرتحوا إحداثَ‬
‫تحول يف الرتكيز‪ ،‬إلّم نق ُْل تطبيق نهج جديد متام‪.‬‬
‫عملت كل واقع ٍة من اإلدانات‬
‫ْ‬ ‫تع ّرض أغلبهم للهجوم بوصفهم أعدا َء للعدالة العرقية‪ ،‬وقد‬
‫مبثابة التذكري لغريهم من املعارضني املحت َملني بالثمن الباهظ للمعارضة العلنية‪.‬‬
‫يف منتصف السبعينيات‪ ،‬وجد عامل االجتامع جيمس كوملان واثنان من زمالئه أن برامج‬
‫إلغاء الفصل العنرصي املصممة لتحقيق التوازن العرقي يف املدارس الحّضية كانت تتسبب‬
‫يف هجرة البيض‪ ،‬وبالتايل ألحقت الّض َر مبصالح الفقراء السود عىل املدى البعيد‪ .‬إمنا‬
‫جه رئيس الجمعية األمريكية لعلم االجتامع اللوم للباحثني‪ .‬ونظمت الجمعية‬
‫رسعان ما و ّ‬
‫جلسة عامة يف مؤمترها للعام ‪ ،1976‬بدعوى مناقشة بحث كوملان‪ ،‬ولكن عىل ما يبدو‬
‫غص الجدا ُر خلف املنصة التي تحدث منها كوملان‬
‫لطرح أسئلة حول دوافعه كذلك‪ّ .‬‬

‫‪183‬‬
‫ٍ‬
‫مبلصقات تربط اسم كوملان بالصليب النازي املعقوف والصفات‬ ‫غص‬
‫واملشاركون اآلخرون ّ‬
‫‪51‬‬
‫القبيحة‪.‬‬
‫بعد عقد ونصف‪ ،‬حدثت واقعة تشويه أخرى‪ ،‬كالكثري مثلها‪ ،‬عندما نرشت صحيفة فيالدلفيا‬
‫إنكوايرر افتتاحي ًة تدعو إىل تشجيع النساء السود الفقريات عىل استخدام غرسات منع‬
‫الحمل طويلة األجل‪« :‬يكمن السبب الرئييس الذي يجعل نسب ًة كبرية من أطفال السود تعيش‬
‫ريا من األطفال هم األقل قدرة‬
‫يف حالة الفقر يف أن معظم األشخاص الذين ينجبون عد ًدا كب ً‬
‫عىل إعالتهم‪ ...‬مثة طرق عديدة ملعالجة هذا الوضع‪ ...‬ملاذا ال نبذل جه ًدا أكرب لتقليل عدد‬
‫األطفال الذين يولدون يف مثل هذه الظروف‪ ،‬بغض النظر عن ِعرقهم؟»‪ .‬أحدثت هذه‬
‫قائال‪« :‬لو أ ّن هتلر نفسه‬
‫عامل يف جريدة أخرى يف فيالدلفيا ً‬
‫االفتتاحية ضجة‪ .‬كتب صحفي ٌ‬
‫قد كتب هذه االفتتاحية‪ ،‬ملا مت ّهل لحظ ًة للتفكري بني الجملة واألخرى»‪ .‬رسعان ما أق ّر محررو‬
‫رصفوا «ترصفًا يعوزه الذوق وجاء بنتائج‬‫ذي إنكوايرر مبسؤوليتهم‪ ،‬واعرتفوا بأنهم ت ّ‬
‫‪52‬‬
‫عكسية»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫انتهاكات مامثلة‪ 53.‬يُذكر منهم سوويل‪،‬‬ ‫القى املعارضون السود لربامج التمييز اإليجايب‬
‫الذي كان معارضً ا للمعايري العرقية املزدوجة منذ وقت طرحها‪ ،‬والذي ُعو ِمل بوصفه ً‬
‫رجال‬
‫مختال عاز ًما عىل تدمري ِعرقه‪ .‬ووصف رئيس الجمعية الوطنية للنهوض بامللونني آرا َء لوري‬
‫ً‬
‫بأنها «خيانة»‪ 54.‬أما ويلسون‪ ،‬الذي سعى إلعادة دراسة األمراض التي حددها موينيهان‬
‫ضمن حقل أبحاث الفقر‪ ،‬والذي يدعم سياسات محاربة الفقر بغض النظر عن الفروق‬
‫‪55‬‬
‫العرقية‪ ،‬فقد تع ّرض لشجب رابطة علامء االجتامع السود‪.‬‬
‫هناك العديد من السود الذين يتفقون مع املعارضني السود وامل ُعجبني بشجاعتهم‪ ،‬إمنا يف‬
‫ظل الظروف السائدة‪ ،‬ال ينربي سوى القليل منهم للدفاع عنهم‪ .‬يسجل ستيفن كارتر‬
‫ّ‬
‫املعارِض للتمييز اإليجايب مالحظته التالية‪:‬‬
‫يكتم العديد من املتخصصني السود حقيقة آرائهم العلنية‪ ،‬رغم تعبريهم بشكل غري‬
‫عرب عنها املعارضون البارزون عل ًنا‪ .‬بصورة مفهوم ٍة‪،‬‬
‫علني عن نفس اآلراء التي ّ‬
‫‪184‬‬
‫ّس هؤالء عن «اإلساءة إىل حساسيات وتطلّعات» غريهم من‬‫يُحجم املعارضون يف ال ّ‬
‫السود‪ ،‬ومبعث ذلك أحيانًا لِعلمهم بسوء مآالت االستعالن مبعارضتهم؛ إمنا بظني‪،‬‬
‫ف ُهم يفعلون ذلك يف كثري من األحيان لعدم رغبتهم يف مواجهة الهجامت الشخصية‬
‫‪56‬‬
‫والقدح يف والئهم‪ ،‬وهو ما ته ّيجه غال ًبا املعارض ُة العلنية‪.‬‬
‫وبشكل عام‪ ،‬فالبيض نفسهم ليسوا مستعدين للدفاع عن املنتقدين السود لألجندة العرقية‬
‫الحق بالنيابة عن‬
‫ّ‬ ‫التقليدية‪ .‬يف واقع األمر‪ ،‬يُعطي الكثريون املؤسسة االجتامعية السوداء‬
‫جميع األمريكيني لتعريف الفرد األسود الجدير باالحرتام ومتييزه عن املنحرف الخطري الذي‬
‫يُصار إىل التشهري به وإسكاته‪.‬‬
‫الحق إىل البيض املوصومني بكونهم عنرصيني أرشار‪ .‬يف كتابه عن سياسات‬
‫ّ‬ ‫ميتد هذا‬
‫العرق يف نيويورك‪ ،‬يشري جيم سليرب إىل أن النشطاء البيض «الليرباليني» يف املدينة مييلون‬
‫إىل تقديم دعم غري مرشوط للزعامء والناشطني السود يف نزاعاتهم مع املديرين‪ ،‬واملد ّرسني‪،‬‬
‫والعاملني يف مجال الرعاية االجتامعية من البيض‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬عندما هاجم النشطاء‬
‫السود مديري مشاريع اإلسكان العامة يف املدينة من البيض‪ ،‬افرتض النشطاء البيض أن‬
‫املديرين أولئك ال بُ ّد متلبّسني بالعنرصية‪ .‬وكان املصدر األكرث إثار ًة للخالف يف سكن‬
‫املشاريع هو فحص مقدمي الطلبات‪ ،‬ومتابعة املستأجرين ملعرفة مدى التزامهم بالسلوك‬
‫املدين املالئم‪ .‬نظ ًرا لوجود نِسب غري متكافئة من العائالت السوداء وذات األصول الالتينية‬
‫سجالت جنائية‪ ،‬كانت احتاملي ُة أن تحرِم هذه املامرس ُة السك َن لعائلة‬
‫ّ‬ ‫ممن تض ّم أفرا ًدا لهم‬
‫مام قد تواجهه عائل ٌة بيضاء‪ .‬عىل هذا األساس‪ ،‬أطلق زعام ُء مجتمعات‬
‫من األقليات أعىل منها ّ‬
‫األقليات حمل ًة ضد مديري إسكان املشاريع‪ .‬ورسعان ما طُرِد املديرون من مناصبهم بدعم‬
‫محل معايري االختيار القامئة عىل‬
‫وحل نظام املحاصصة العرقية ّ‬
‫ّ‬ ‫من النشطاء البيض‪،‬‬
‫السلوك‪ .‬ثم تدهورت الظروف املعيشية يف إسكان املشاريع بّسعة‪ ،‬مام أفىض إىل نزوح‬
‫العائالت امل ّتسمة باملسؤولية االجتامعية‪ ،‬وهو ما ألحق أرضا ًرا بالغ ًة بالعائالت غري القادرة‬
‫‪57‬‬
‫عىل االنتقال‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫متاسك أجندة الحقوق املدنية‬
‫ادعى الناشطون الذين حاربوا معايري االختيار القامئة عىل السلوك يف مشاريع اإلسكان يف‬
‫نيويورك أنهم ناطقون باسم جميع األقليات‪ .‬بالرغم من ذلك‪ ،‬فضّ ل العديد من سكّان‬
‫تطبيق املعايري السلوكية‪ .‬وال تُعترب هذه حالة االنقسام الوحيدة بني‬
‫َ‬ ‫املشاريع من السود‬
‫زعامء السود وعوام السود‪ .‬ففي مختلف القضايا‪ ،‬تكشف استطالعات الرأي الّسيّة عن‬
‫اختالفات حادة بني تصورات ومواقف املسؤولني السود املنتخبني وموظفي منظامت‬
‫الحقوق املدنية من جهة‪ ،‬ووجهات نظر املواطنني السود العاديني من جه ٍة أخرى‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬يف استطالع يف عام ‪ ،1985‬أفادت نسبة ‪ %74‬من زعامء السود أنهم‬
‫تعرضوا للتمييز الوظيفي‪ ،‬مقابل نسبة ‪ %40‬من عينة عشوائية من السود‪ .‬فيام يتعلق‬
‫بالتمييز اإليجايب‪ ،‬كانت الفجوة أوسع‪ .‬يف حني أيدت نسبة ‪ %78‬من الزعامء إعطاء السود‬
‫معاملة تفضيلية‪ ،‬عارضت نفس النسبة املئوية من العينة العشوائية هذا التو ّ‬
‫جه‪ .‬والقضية‬
‫األخرى التي نجم عنها اختالفات ملحوظة كانت متعلّقة بحقوق غري السود يف امتالك متاجر‬
‫يف أحياء السود‪.‬‬
‫يف طرف الزعامء‪ ،‬اعتربت نسبة ‪ %44‬أن هذه املتاجر يجب أن تكون للسود‪ ،‬يف حني أفادت‬
‫النسبة املتبقية ‪ %56‬أن اإلثنية ال ينبغي أن تُأخذ يف الحسبان؛ بالنسبة لعيّنة السود‬
‫‪58‬‬
‫املستطلَعة آراؤهم عىل مستوى البالد‪ ،‬فقد جاءت النسب املقابلة ‪ %9‬و‪.%90‬‬
‫داعام بش ّدة لقيادات املجتمع األسود الوطنية‪ .‬وميكن‬
‫ً‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬ما يزال الرأي العلني األسود‬
‫تفسري هذا جزئ ًيا بامتناع األفراد السود عن إشهار خالفاتهم مع قادتهم‪ ،‬ال سيام فيام يتعلّق‬
‫بالقضايا الرئيسية مثل التمييز اإليجايب‪ .‬وخوفًا من اتهامهم بالخيانة‪ ،‬ف ُهم يلتزمون الصمت‬
‫ويصادقون حتى عىل األهداف املرسومة بالفعل‪.‬‬
‫وترتسخ مخاوفهم مرة ِتلو األخرى عندما يتع ّرض املعارضون السود للهجوم‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪186‬‬
‫فّس تزوي ُر التفضيل الناجم عن الخوف نُدرة معارضة السود العلنية‪ .‬ومع هذا‪ ،‬فإنه ال‬
‫يُ ّ‬
‫يفّس أسباب فوز الزعامء السود التقليديني مرا ًرا وتكرا ًرا يف االنتخابات باالقرتاع الّسي‪.‬‬
‫ّ‬
‫أقرتح لهذه األُحجية تفس ً‬
‫ريا من أربعة أجزاء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أوال‪ ،‬يشكل الناخبون الذين يتفقون مع األجندة السوداء الرسمية األغلبي َة يف بعض منظامت‬
‫ً‬
‫السود وبعض مناطق التصويت ذات غالبية السود‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬ميثل املرشحون طيفًا واس ًعا من‬
‫املواقف‪ ،‬وميكن أن يختلف الناخبون مع املرشح الذي يختارونه يف بعض الجزئيات‪ .‬إذ‬
‫ميكن للمواطن املعارض ملوقف املرشح من التمييز اإليجايب أن يدعمه بسبب مواقفه من‬
‫قضايا أخرى‪ .‬ثالثًا‪ ،‬يحظى السود يف مواقع النفوذ باإلعجاب حتى من لدن الناخبني الذين‬
‫يختلفون معهم يف قضايا رئيسية‪ .‬وهذا يعطي ميزة للسياسيني السود يف مناصبهم الحالية‬
‫ريا‪ ،‬وهو األمر الذي قد يشكّل بيضة‬
‫والذين مييلون إىل دعم التمييز اإليجايب‪ .‬راب ًعا وأخ ً‬
‫القبّان‪ ،‬نظ ًرا لتأييد غالبية املرشحني للمناصب ال ُعليا يف منظامت الحقوق املدنية الرئيسية‬
‫ري‬
‫هامش كب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ويف مناطق أغلبية السود أجند َة السود التقليدية‪ ،‬ناد ًرا ما يُتاح للناخبني‬
‫‪59‬‬
‫لالختيار فيام يتعلق بالتمييز اإليجايب‪.‬‬
‫مواقف بشأن العديد من‬
‫َ‬ ‫مثل نظرائهم من السياسيني السود‪ ،‬يتخذ السياسيون البيض‬
‫القضايا‪ .‬إذ ميكنهم أن يتعارضوا مع الرأي الخفي حيال بعض القضايا ومع ذلك يفوزون‬
‫رفض معظم‬
‫ُ‬ ‫نث‬
‫يف االنتخابات‪ .‬والتمييز اإليجايب من أحد األمثلة الواضحة عىل هذا‪ .‬ومل ي ِ‬
‫األمريكيني للتمييز اإليجايب عىل املستوى الشخيص السياسيني البيض عن بذل جهود‬
‫واضحة للحفاظ عىل برامج التمييز اإليجايب وتعزيزها‪ .‬وعادة ما دعم منافسوهم التميي َز‬
‫اإليجايب بشكل مامثل‪ ،‬لذلك تحددت نتائج االنتخابات وفقًا ملعايري أخرى‪.‬إمنا يف املقام‬
‫األول ملاذا كان أم ًرا استثنائ ًيا بالنسبة للسياسيني اتخاذ مواقف واضحة ضد التمييز‬
‫اإليجايب؟ إذا متكن دوك من الفوز بثالثة أصوات من أصل خمسة للبيض بسبب انتقاده‬
‫نظام املحاصصة العرقية‪ ،‬فمن املحتمل أن يحصد املرشحون اآلخرون نفس النسبة‪ .‬مع‬
‫ًّ‬
‫متعرثا يف الوقت الذي ترشح فيه دوك ملجلس الشيوخ‪ ،‬إال‬ ‫تسليمنا أن اقتصاد لويزيانا كان‬

‫‪187‬‬
‫أن الركود كان قد عصف بأماكن أخرى أيضً ا‪ .‬إضاف ًة إىل ذلك‪ ،‬فإن مايض دوك املتبني‬
‫ريا للمساواة العرقية‪ .‬ميكن ملرشحٍ ذي خلفية‬
‫لسيادة البيض قد ش ّوه مصداقيته باعتباره نص ً‬
‫أقل هجومي ًة أن يعمل بشكل أفضل يف مواجهة التمييز اإليجايب‪.‬‬
‫السبب يف قلة عدد السياسيني الذين عارضوا التمييز اإليجايب علنًا وبشكل رصيح هو‬
‫خشيتهم من تعريض أنفسهم لتهمة العنرصية‪ .‬فمهام كانت التهمة عاري ًة عن الصحة‪،‬‬
‫ميكنها أن تؤدي إىل عدة عواقب سلبية‪ .‬إذ سيعمد الناخبون الحريصون عىل الحفاظ عىل‬
‫سمعة مناهض ٍة للعنرصية إىل سحب دعمهم ألولئك السياسيني‪ .‬وسيواجه السيايس قيد‬
‫االتهام صعوب ًة يف جمع األموال‪ .‬كام أن جهوده لنفي التهمة عن نفسه ستؤثر بشك ٍل سلبي‬
‫عىل األنشطة الالزمة لتحسني حظوظه يف االنتخابات‪.‬‬
‫افتتحت هذا الفصل باإلشارة إىل أن السياسيني األمريكيني ناد ًرا ما يتحدثون برصاحة‬
‫ُ‬ ‫لقد‬
‫وسبب يف اآلن نفسه‬
‫ٌ‬ ‫عن املشكالت االجتامعية الكربى‪ .‬هذا التحفظ يف الكالم هو ع َرض‬
‫لفشلٍ عىل مستوى أكرث عمومية‪ :‬فهو منطٌ من التذبذب الذي أملّ بشخصية املواطنني‬
‫ٍ‬
‫إجابات يف استطالع‬ ‫ككل‪ .‬مثة فرق جوهري بني معارضة سياسة خاطئ ٍة ضمن‬
‫األمريكيني ّ‬
‫رأي‪ ،‬بعد االطمئنان إىل معرفة أن إجابات الفرد ستصبح إحصائية مجهولة‪ ،‬ومعارضة تلك‬
‫السياسة بقوة يف املناسبات االجتامعية‪ ،‬أو يف الفصل الدرايس‪ ،‬أو يف العمل‪ ،‬أو يف كتابات‬
‫ٍ‬
‫سياسات‬ ‫املرء‪ .‬يف األماكن ذات الضغوط االجتامعية الشديدة‪ ،‬قد تتبنى األغلبي ُة الحاسمة‬
‫مرفوضة يف استطالعات الرأي‪ .‬والسياسيون ُعرض ٌة بشكل خاص للضغوط االجتامعية‪،‬‬
‫الخالقة‪.‬‬
‫وهذا أحد أسباب ندرة القيادة الجريئة ّ‬

‫لوم الضحية؟‬
‫يف كل من الحاالت التوضيحية التي تناولناها عن املحافظة الجمعية –الشيوعية‪ ،‬ونظام‬
‫الطبقات‪ ،‬والتمييز اإليجايب– يُك ّرس املجتم ُع بُني ًة مكروه ًة وممقوت ًة عىل نطاق واسع‪ .‬عىل‬
‫الرغم من أن تلك البنية ال تحظى بشعبية يف النطاق الخاص‪ ،‬فهي ما تزال قامئ ًة ألن األفراد‬

‫‪188‬‬
‫ترتسخ الحوافز‬
‫ّ‬ ‫ذوي التوجه اإلصالحي يُحجِمون عن االستعالن بآرائهم‪ ،‬وبالتايل‬
‫االجتامعية لتزوير التفضيل هذا‪ .‬بقدر ما يؤذي التميي ُز اإليجايب السو َد كمجموعة‪ ،‬فإن‬
‫األفراد السود الذين يدعمون األجندة الرسمية يتح ّملون بعض املسؤولية‪ .‬وبقدر ما يعاين‬
‫أي أمرييك يشارك يف تزوير التفضيل يتحمل نصي ًبا من اللوم‪.‬‬
‫املجتمع األمرييك‪ ،‬فإن ّ‬
‫هل يندرج تفسريي هذا ضمن «لوم الضحية»؟ إذا كان هذا يعني أن الضحايا أنفسهم‬
‫يساهمون يف وقوعهم ضحايا‪ ،‬فإن الجواب هو بالتأكيد نعم‪ .‬فضحايا السياسات القمعية‪،‬‬
‫تسرتوا عليها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والخاطئة‪ ،‬وغري امل ُجدية ضالِعون يف إدامة بؤسهم كلام أخفوا قناعاتهم‪ ،‬أو‬
‫أو كذبوا بشأنها‪ .‬وكونهم يواجهون ضغوطًا شديدة لالنصياع ال يسلبهم اإلراد َة الحرة‪ .‬فهم‬
‫نظام صنعه اآلخرون وحافظوا عىل وجوده‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ليسوا عبار ًة عن كيانات مستسلمة مك ّبلة بأغالل‬
‫قد يكون هذه النظام القمعي قد تأسس يف وقت سابق‪ ،‬رمبا قبل والدتهم؛ إمنا يف مرحلة‬
‫معينة‪ ،‬قد بدأوا هم أنفسهم‪ ،‬أو سيبدؤون‪ ،‬باملشاركة يف استدامته‪.‬‬
‫إن الضغوط التي تثقل كاهل ضحايا سياس ٍة معيّن ًة تحظى بخاصية الدوام‪ ،‬جزئيًا عىل األقل‪،‬‬
‫بسبب اختياراتهم الخاصة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬إذا أُ ِخذ «لوم الضحية» مبعنى أن الضحية مذنب ٌة بشكل ال لبس فيه ج ّراء تو ّرطها‬
‫يف تزوير التفضيل‪ ،‬فإن اإلجابة هي ال‪ .‬إذ ما ِمن عيب أخالقي يف تفادي التع ّرض للعزلة‬
‫االجتامعية‪ ،‬والحرمان املادي‪ ،‬والّضر البدين –مع إقرارنا بأن األشخاص الذين يتحملون‬
‫خاصا‪ .‬كام أنه ليس من عالمات‬ ‫ً‬ ‫مبحض إرادتهم يستحقون تقدي ًرا‬ ‫مثل هذه العقوبات َ‬
‫إدراك املر ِء أن عقوبات املجاهرة بالرأي تفوق املكاسب املحتملة‪ .‬فعاد ًة ما‬
‫ُ‬ ‫القصور العقيل‬
‫الثاقب لحالة عجزه باعتباره فر ًدا‪ ،‬وإدراكه ملزايا االنسجام‬
‫ِ‬ ‫يستند انصياع الضحية إىل فهمه‬
‫فاعل فيه‪ ،‬ألنه ال يستطيع تصحيحه‬
‫رص ٌ‬‫ني وضعٍ قمعي بقدر ما هو عن ٌ‬
‫االجتامعي‪ .‬فهو سج ُ‬
‫منفر ًدا‪.‬‬
‫ونقيض «لوم الضحية» هو نظرية املؤامرة‪ ،‬وهو تفسري ينحى باللوم عىل مجموعة ما‬
‫ُ‬
‫تستفيد من معاناة الضحية‪ .‬من نافل القول إننا سنجد يف العديد من السياقات والظروف‬

‫‪189‬‬
‫ٍ‬
‫مجموعات منظمة تسعى ملنع التغيريات الضارة مبصالحها الضيقة‪ .‬يف النموذج املعمم الذي‬
‫أقرتحه‪ ،‬تؤ ّدي هذا الدور القيادة الناشطة ملجموعة الضغط املهيمنة؛ ويف الحاالت‬
‫كل ِمن الحزب الشيوعي‪ ،‬ومجلس القرية‪،‬‬
‫التوضيحية الثالث التي ب ّينتها‪ ،‬أ ّدى هذا الدور ٌّ‬
‫تفّس أمنا َ‬
‫ط االستقرار إىل حد معني‬ ‫ولويب الحقوق املدنية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن أفعال الناشطني ّ‬
‫فحسب‪ .‬فلو دافع جميع املؤمنني باإلصالح عن معتقداتهم‪ ،‬فإن دوافعهم لدعم الوضع الراهن‬
‫ستضعف بشكل ملموس‪ ،‬وسينتج عن ذلك بعض التغيري بكل بالتأكيد‪.‬‬
‫فاصال بني الضحايا والجناة‪ ،‬والضعفاء واألقوياء‪ .‬إمنا وفقًا‬
‫ً‬ ‫ترسم نظريات املؤامرة خطًا‬
‫خل‪ .‬فالفرد من طبقة املنبوذين الذي‬
‫للتفسريات التي ق ّدمتها هنا‪ ،‬تتسم هذه الفئات بالتدا ُ‬
‫ينقلب عىل فرد آخر من طبقته ممن يسعى لحياة أفضل‪ ،‬واملواطن التشييك الساخط عىل‬
‫الوضع والذي يرمي املعارضني بالنقائص‪ ،‬واملواطن يف نيويورك الذي يختار البقاء صامتًا‬
‫عندما يُشيطن ممثلوه املنتخبون معا ِرضً ا لحقوق املجموعة‪ ،‬يشرتكون جميعهم يف يشء‬
‫مهم‪ .‬فجميعهم ضحايا وجنا ٌة يف الوقت نفسه‪.‬‬
‫يف سياق األمثلة التي نظرنا فيها‪ ،‬ميكن مالحظة أن البنى غري املرغوب فيها مل تدم إىل األبد‪:‬‬
‫فقد سقطت الشيوعية‪ ،‬ويُعترب نظام الطبقات اآلن مخالفًا للقانون‪ ،‬ويف الواليات املتحدة‬
‫مثة رغبة متزايدة يف مساءلة االفرتاضات القدمية املتعلقة بالتفاوتات العرقية‪.‬‬
‫ال يشء من هذا ينفي أن النزع َة املحافظة الجمعية تزي ُد من ح ّدة املعاناة وتؤدي إىل تفاقم‬
‫اإلخفاقات‪ .‬إذ تضاعفت نسبة األطفال السود املولودين ألُرس وحيدة امل ُعيل خالل ربع قرن‬
‫انصب الرتكيز‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫شخص عنرصي رشير‪ .‬حتى لو‬ ‫عمل‬
‫منذ رفض تقرير موينيهان باعتباره َ‬
‫اآلن عىل التحول من امتيازات السود إىل سياسات تعزيز األرسة‪ ،‬فسنظل متأخرين ربع قرن‬
‫عن املرحلة التي كان حريًّا بنا فيها االنخراط يف تقديم حلو ٍل للفقر واسع النطاق‪ .‬وبتعبري‬
‫موينيهان نفسه‪ ،‬ستظل هناك «لحظة ضائعة»‪.‬‬
‫ضمن اإلطار نفسه‪ ،‬ستتناول الفصول القادمة العملي َة االجتامعية التي ميكن من خاللها‬
‫أوال أن ننتقل إىل عامل الفرد الداخيل‪ ،‬أن ن ِلج إىل عامل‬
‫إيقاف ضياع اللحظات‪ .‬إمنا علينا ً‬

‫‪190‬‬
‫القيم‪ ،‬والتصورات‪ ،‬واملعتقدات الشخصية‪ .‬حتى هذه النقطة‪ ،‬لقد تعا َملنا مع هذا العامل عىل‬
‫أنه ثابت‪ ،‬وبالتايل عىل أ ّن التفضيالت الخفية أم ٌر ُمسلّم به‪ .‬وهكذا فاملهمة التالية هي‬
‫استنطاق ديناميات عامل الفرد الداخيل‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫الجزء الثالث‬
‫املعرفة املشوهة‬

‫‪192‬‬
‫الفصل العارش‬
‫الحوار العلني واملعرفة الخفية‬

‫صور مفكر القرن السابع عرش اليبنيز اإلنسان عىل أنه «وحدة بال نوافذ» – كائن ذو‬
‫ريا اليوم‪ ،‬لكن أثبتت البنية‬
‫شخصية مغلقة وثابتة‪ .‬مل تعد االستعارة الاليبنيزية تستخدم كث ً‬
‫‪1‬‬

‫التحليلية التي متثلها مرونة عالية‪ .‬عززت مدرسة االقتصاد الكالسييك الجديد الفكرية‬
‫الحديثة هذه البنية‪ .‬فضمن التيار الرئييس لهذه املدرسة‪ ،‬تعترب التفضيالت منيع ًة أمام‬
‫‪2‬‬
‫الضغوط واالتجاهات والنتائج االجتامعية‪.‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬مل يعارض يشء يف هذا الكتاب تقليد الوحدة‪ .‬من حيث املبدأ‪ ،‬ميكن‬
‫لتزييف التفضيل أن يغري مظهر شخصية املرء دون تعديل جوهرها‪ .‬ولكن عمليًا‪ ،‬يؤثر‬
‫تزييف التفضيالت عىل التفضيالت الخفية‪ .‬فهو يشوه الحوار العلني – مجموعة التأكيدات‬
‫والحجج واآلراء يف املجال العلني‪ .‬وبدوره‪ ،‬يغري تشويه الحوار العلني املعرفة الخفية –‬
‫املفاهيم التي يحملها األفراد يف رؤوسهم‪ .‬وينتهي تحول املعرفة الخفية بإعادة تشكيل‬
‫التفضيالت الخفية‪.‬‬
‫التحدي التايل للكتاب هو رشح سلسلة التأثريات هذه‪ .‬يقدم هذا الفصل تحقيقًا حول‬
‫مصادر املعرفة الخفية‪ .‬وهو فصل تحضريي‪ ،‬إذ ال يقدم دو ًرا لتزييف التفضيل‪ ،‬إال يف‬
‫النهاية‪ .‬ستستخدم العمليات املحددة هنا يف الفصل التايل الستكشاف كيفية تأثري تزييف‬
‫التفضيل عىل ديناميكيات بناء املعرفة واستخدامها وتعزيزها‪.‬‬
‫يجب أن أعرتف فو ًرا بأن كل فرد لديه جوهر ثابت أسايس‪ .‬نولد جمي ًعا مع دوافع‬
‫للتنفس واألكل‪ .‬ولكن يصح القول بنفس القدر إن اإلجراءات التي نلبي من خاللها دوافعنا‬
‫البيولوجية غال ًبا ما تستند‪ ،‬جزئ ًيا عىل األقل‪ ،‬إىل املعرفة املكتسبة‪ .‬إننا نسعى إىل الحصول‬
‫عىل لحوم خالية من الدهون ألنه يقال إن الدهون املشبعة تسبب أمراض القلب‪ .‬ونضع ثقتنا‬
‫يف السوق ألن الخرباء يعتربونها اآللية األفضل لتوفري اللحوم‪ .‬ميكن متييز عنرصين‬

‫‪193‬‬
‫للمعرفة الخفية‪ ،‬وهام العنرص الفطري الثابت والعنرص املكتسب املتغري‪ 3.‬لفهم العنرص‬
‫األخري‪ ،‬يجب أن نلقي نظرة عىل العامل املصغر الصامت الذي نسميه العقل‪.‬‬

‫اإلرشاديات والنامذج‬
‫العقل البرشي قادر عىل تحقيق مآثر إدراكية ومفاهيمية ال مثيل لها حتى بواسطة أقوى‬
‫الحواسيب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تتالىش كفاءته مقارن ًة بتعقيدات البيئة املادية واالجتامعية‪ .‬إذ ميكن‬
‫‪4‬‬
‫للعقل تلقي وتخزين واسرتجاع ومعالجة جزء فقط من املعلومات املفيدة املحتملة‪.‬‬
‫رغم شدة حدود العقل‪ ،‬لكنها ال تعطل اإلنسان‪ .‬فنحن كأفراد‪ ،‬نتغلب عىل تلك الحدود‬
‫بواسطة وسائل متعددة تساعد عىل الحفاظ عىل املوارد املعرفية‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬نتخذ اختصارات يف استنتاج العالقات السببية ويف تقدير األحجام والتكرارات‬
‫ً‬
‫فمثال‪ ،‬عند تقييم التفسريات املحتملة للركود االقتصادي العاملي‪ ،‬نستبعد عاد ًة‬
‫ً‬ ‫واالحتامالت‪.‬‬
‫تلك التفسريات التي تبدو غري ممثلة لحدث كبري‪ ،‬كفشل بنك محيل‪ .‬إن مبدأ التبسيط‬
‫األسايس هو أحد االختصارات العقلية العديدة‪ ،‬أو اإلرشاديات الحكمية‪ ،‬التي نستخدمها‬
‫للتأثري عىل تقديراتنا واستنتاجاتنا‪ .‬تخدمنا هذه اإلرشاديات جي ًدا يف سياقات عديدة‪ ،‬رغم‬
‫‪5‬‬
‫أنها تؤدي يف سياقات أخرى إىل أخطاء مكلفة‪.‬‬
‫يف التعامل مع قيودنا املعرفية‪ ،‬نعتمد‪ ،‬ثانيًا‪ ،‬عىل مناذج ترتب وتبسط مالحظاتنا‪.‬‬
‫يعامل النموذج بعض أجزاء املعلومات وبعض أبعاد السببية عىل أنها مميزة‪ ،‬ويطمس‬
‫البقية‪ .‬إنه ال يوفر الحقيقة الكاملة بل نسخة مقتطعة تحجب الدقة والتنوع والتعقيد‪ُ .‬درست‬
‫النامذج تحت مسميات مثل األطر‪ ،‬واملخططات‪ ،‬واألمناط‪ ،‬والنظريات والنامذج الفكرية‪،‬‬
‫ووجهات النظر العاملية‪ ،‬واأليديولوجيات والعقليات‪ 6.‬بعض هذه املفاهيم أوسع من بعضها‬
‫مثال‪ ،‬هي مجموعة من النامذج الفرعية املرتابطة‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬فإن‬
‫اآلخر؛ فالعقلية‪ً ،‬‬
‫بعض النامذج ال واعية‪ ،‬أي ال ميكن الوصول إليها لالستبطان‪ .‬فال نستطيع دامئًا تحديد‬
‫‪7‬‬
‫سبب إعجابنا بشخص ما‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫ال يلزم أن تكون النامذج التي يطبقها الفرد عىل أي قضية متناسقة فيام بينها‪ .‬قد‬
‫يؤيد الشخص مناذج متضاربة‪ ،‬مثل‪ ،‬منوذج «الحكومة الكبرية» الذي يربر خفض الّضائب‬
‫إىل جانب منوذج «األزمة التعليمية» الذي يدعو إىل املزيد من الخدمات الحكومية‪ .‬يفّس‬
‫استخدامنا لنامذج متعددة ملاذا يجد باحثو الرأي أن التغيريات التي تبدو تافهة يف صيغة‬
‫السؤال تؤثر عىل التعبري عن املواقف الفردية‪ 8.‬ميكن أن تحدث صيغة السؤال فرقًا بتحفيز‬
‫بدال من اآلخر‪ .‬يستخدم أخصائيو علم النفس املعريف مصطلح تأثري التأطري‬
‫منوذج معني ً‬
‫لوصف التناقضات السلوكية الناتجة‪ 9.‬وحتى النسخة نفسها من السؤال ميكن أن تثري ردو ًدا‬
‫مختلفة عندما تطرح يف أوقات مختلفة‪ ،‬ألن االعتبارات التي تتصدر ذهن املستجيب قابلة‬
‫للتغيري‪.‬‬
‫لضامن التوافق بني مناذجهم‪ ،‬يتعني عىل الناس توحيدها يف منوذج شامل متسق‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬سرتهق هذه املهمة قدراتهم املعرفية‪ ،‬ما يحول دون تحقيق الهدف األسايس‬
‫الستخدام مناذج عديدة‪ .‬إن الجانب السلبي الستخدام مناذج عديدة غري متكاملة هو أن‬
‫التناقضات الحتمية تفرض تكاليف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تكون هذه التكاليف طفيفة عادةً‪ .‬لن يدرك‬
‫الناس التكاليف حتى‪ ،‬برشط أن تسفر النامذج عن خيارات مرضية بشكل معقول وتولد‬
‫توقعات دقيقة إىل حد ما‪.‬‬
‫ما أصل النامذج التي يحملها األفراد يف عقولهم؟ أحد املصادر هو التجربة الشخصية‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ميكن أن يكون التعلم عن طريق التجربة والخطأ بطي ًئا‪ ،‬ويحتمل أن يكون مكلفًا‬
‫مفلسا‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬إن‬
‫ً‬ ‫للغاية‪ .‬ميكن أن يدمر أول سامد يجربه املزارع محاصيله‪ ،‬ويرتكه‬
‫فهم حتى جزء ضئيل من الواقع ميكن أن يفوق قدرات الفرد الواحد املعرفية‪ .‬كتب توكفيل‬
‫«لو اضطر اإلنسان إىل أن يربهن لنفسه جميع الحقائق التي يستخدمها يوم ًيا‪ ،‬ملا انتهى‬
‫أب ًدا‪ .‬سيستنزف قواه يف اإلثباتات التحضريية دون أي تقدم فيها»‪ 10.‬من الناحية العملية‪،‬‬
‫‪11‬‬
‫نستمد جزء يسري من مناذجنا من الجهد الشخيص وحده‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫سياسة اإلقناع‪ :‬مناشدات العقل‬
‫تعتمد معظم مناذجنا‪ ،‬جزئ ًيا عىل األقل‪ ،‬عىل املعرفة التي يوفرها اآلخرون‪ .‬يف‬
‫مجموعة واسعة من السياقات‪ ،‬نعتمد بشدة عىل الحوار العلني لنقرر ما هو عادل‪ ،‬وصحيح‪،‬‬
‫وجيد‪ ،‬وطبيعي‪ ،‬وآمن واقتصادي‪ .‬وإدراكًا لحاجتنا املاسة إىل املعرفة الجاهزة‪ ،‬فإن‬
‫املجموعات الساعية إىل أجندات معينة متأل الحوار العلني مبالحظات وحجج مفيدة‬
‫لقضاياها الخفية‪ .‬ينتهي بهم األمر بتنظيم معرفتنا الخفية‪ ،‬وبالتايل تفضيالتنا الخفية‬
‫أيضً ا‪.‬‬
‫ناد ًرا ما تعرتف املجموعات التي تطالب بشدة بالتحكم يف ترصفاتنا بأنها مدفوعة‬
‫باملصلحة الذاتية‪ .‬فهي ال تقول رصاحةً‪« :‬فضيلة برنامجنا أنه مينحنا امتيازات»‪ .‬وتزعم عاد ًة‬
‫أنها تروج بعض املفاهيم املتعلقة بالصالح العام‪ .‬وتقول‪« :‬رغم أننا قد نستفيد نحن أنفسنا‪،‬‬
‫لكن املكاسب الكربى ستعود عىل املجتمع األوسع»‪ .‬وعندما يكون من الواضح أنها هي‬
‫نفسها املستفيد الرئييس‪ ،‬تستند مطالبها إىل مفاهيم العدالة السائدة ‪.‬‬
‫تقرتن محاوالت اإلقناع هذه غالبًا بجهود لتسفيه املواقف املنافسة‪ .‬تكشف املجموعات‬
‫التحريفات يف الحجج املعارضة وتتجاهل كل ما هو صحيح‪ .‬وتنسب الدوافع األنانية إىل‬
‫مروجي الحجج املنافسة‪ ،‬كام هو الحال عندما يُتهم البريوقراطيون املطالبون مبزيد من‬
‫التنظيم بالرغبة يف ملء جيوبهم‪ .‬تقرتح املجموعات بشكل متكرر «نحن نسعى لتحقيق‬
‫الصالح العام‪ ،‬لكن منافسينا مدفوعون بالجشع»‪ ،‬و«نحن نثقف‪ ،‬بينام ينخرط اآلخرون يف‬
‫الدعاية»‪.‬‬
‫غال ًبا ما تنطوي الرسائل الهادفة إىل اإلقناع عىل تشويه متعمد‪ 12.‬تبالغ رشكات‬
‫الطريان عاد ًة يف قدرات طائراتها وتضخم مخاطر الحرب‪ .‬وتجادل املصالح الزراعية بأن‬
‫اإلعانات الزراعية رضورية لحامية «املزرعة األرسية املهددة باالنقراض»‪ ،‬رغم أن املكاسب‬
‫تذهب غال ًبا إىل الرشكات اململوكة بواسطة سكان املدن إىل حد كبري‪ .‬هذه االدعاءات الخادعة‬
‫شائعة ألنها فعالة‪ .‬وهي فعالة تحدي ًدا بسبب قيود العقل البرشي‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫أنشئ الرابط بني الخداع املتعمد والقيود املعرفية منذ خمسة قرون بواسطة‬
‫مكيافييل‪ .‬فكتب‪« :‬الرجال بسيطون ج ًدا ومستعدون ج ًدا التباع احتياجات اللحظة‪ ،‬لذلك‬
‫سيجد املخادع دامئًا من يخدعه»‪ .‬وبعد أن الحظ أنه ميكن جعل الناس يؤمنون بقضايا ضارة‬
‫رحيام‪ ،‬وجدير‬
‫ً‬ ‫مبصالحهم‪ ،‬مىض إىل تقديم املشورة للحكام املرتقبني‪« :‬من الجيد أن تبدو‬
‫بالثقة‪ ،‬وإنساين‪ ،‬ومتدين وصادق‪ ،‬وأن تكون كذلك أيضً ا‪ ،‬ولكن دامئًا مع عقل مستعد ج ًدا‬
‫للتحول إىل العكس عندما تربز مناسبة ال يجب أن تكون فيها كذلك»‪ 13.‬وهكذا فهم مكيافييل‬
‫أنه من األسهل حشد الناس وراء قضية مفيدة اجتامع ًيا بدالً من قضية ضارة اجتامع ًيا‪ .‬لكنه‬
‫‪14‬‬
‫أدرك أيضً ا أنه ميكن جذب الناس إىل قضايا تتعارض مع مصالحهم الشخصية‪.‬‬
‫قد يضيف املرء إىل رؤى مكيافييل أن رصيد املعرفة الخفية السائد يجعل نرش بعض‬
‫األفكار أسهل من غريها‪ .‬فإذا علمت أنه كانت هناك عدة محاوالت فاشلة لإلصالح‪ ،‬يحتمل‬
‫أن يبدو يل االقرتاح القائل إن أحدث محاولة مصريها الفشل معقوالً ‪ .‬وبقدر ما تدعم‬
‫األساطري والحكمة الشعبية واألمثال وأشكال التعميم األخرى االقرتاح تُعزز مصداقيته‪ .‬يقدم‬
‫التعبري الفرنيس القديم بقدر ما تتغري األشياء‪ ،‬بقدر ما تبقى كام هي ( ‪Plus ça change,‬‬
‫‪16‬‬
‫‪ً plus c'est la même chose) 15‬‬
‫دعام عا ًما ألي مطالبة تتعلق بعدم جدوى اإلصالح‪.‬‬
‫تبقى النقطة هي أننا نخدع بسهولة‪ .‬قد تعمل النكتة عىل تقوية األكذوبة‪ ،‬كحني‬
‫إثارتها السخرية من خطة عملية حقًا لإلصالح‪ .‬أيضً ا‪ ،‬نظ ًرا ألن تصوراتنا املسبقة قد تكون‬
‫معيبة‪ ،‬فقد يكون االدعاء املقبول بسهولة خاط ًئا متا ًما‪.‬‬
‫ليس بالّضورة أن يكون دعاة االدعاء الكاذب عىل دراية بزيفه‪ .‬إذ يضمن قصورهم‬
‫املعريف احتواء فهمهم عىل العديد من التشوهات‪ .‬حتى لو حاولوا بجد قول الحقيقة فقط‪،‬‬
‫ال ميكنهم دامئًا تجنب تضليل مستمعيهم‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬قد ينرشون األكاذيب عم ًدا حتى‬
‫دون رغبة يف االحتيال‪ .‬فكر يف عضو من جامعة الضغط تؤمن بصدق بفوائد بعض الدعم‪.‬‬
‫إدراكًا منها للقيود الذهنية ملستمعيها‪ ،‬تستنتج أن بعض الحقائق قد تحول دون تأييدهم‬
‫لل دعم‪ .‬وبتجاهل أو تشويه هذه الحقائق‪ ،‬تحمي مستمعيها من استخدام هذه املعلومات‬

‫‪197‬‬
‫بطريقة غري صحيحة‪ .‬لطاملا احتضنت الفلسفة السياسية تقلي ًدا أبويًا يدعم «األكاذيب‬
‫‪17‬‬
‫النبيلة» – األكاذيب امللفقة ملصلحة الجمهور‪.‬‬
‫إحدى أدوات األبوية األخرى هي الرقابة‪ ،‬حيث تفرض العديد من الحكومات‪،‬‬
‫بتحريض من جامعات الضغط‪ ،‬رقابة عىل املطبوعات‪ ،‬وذلك غال ًبا لحامية الجامهري من‬
‫املعلومات الضارة أو للحفاظ عىل الحوار العلني «متوازنًا»‪ .‬ومهام كانت التربيرات‪ ،‬فإن‬
‫الهدف النهايئ من الرقابة هو قمع املعلومات املتعارضة مع بعض األجندات العزيزة عىل‬
‫‪18‬‬
‫الرقيب‪.‬‬
‫يصوغ اإلعالن التجاري تفضيالتنا االستهالكية متا ًما كام يصوغ اإلقناع السيايس‬
‫تفضيالتنا السياسية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مثة فرق مهم‪ .‬يكون مشرتي السيارة املعلن عنها برباعة يف‬
‫وضع يسمح له بتقييم أدائها‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬إذا حدث خطأ ما‪ ،‬يكون لديه حافز كبري‬
‫لتحديد السبب‪ .‬عىل النقيض من ذلك‪ ،‬ال ميكنه بسهولة تحديد آثار الرسوم الجمركية عىل‬
‫مثال‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬نظ ًرا ألن أي فوائد من تغيري النظام التجاري ستعود يف‬
‫املنسوجات ً‬
‫املقام األول عىل اآلخرين‪ ،‬ومبا أن تأثريه عىل قرار النظام ضئيل‪ ،‬فلن يكون لديه حافز كبري‬
‫إلجراء تحقيق مكلف‪ .‬ونتيج ًة لذلك‪ ،‬يكون الفرد أكرث اعتام ًدا عىل املجتمع يف السياقات‬
‫السياسية منه يف مجال االستهالك العادي‪ .‬وهذا االعتامد األكرب يعني زيادة التعرض‬
‫‪19‬‬
‫للخداع‪.‬‬
‫يُدعم منطق هذه الحجة مبؤرشات عىل أن الناس عمو ًما جاهلون ج ًدا بالقضايا‬
‫السياسية‪ .‬فعىل حد تعبري راسل نيومان‪ ،‬مثة دليل دامغ عىل أن «حتى الحقائق األساسية‬
‫للتاريخ السيايس‪ ،‬والبنية األساسية للمؤسسات السياسية‪ ،‬والشخصيات واألحداث‬
‫السياسية الحالية تفلت من علم الغالبية العظمى من الناخبني»‪ 20.‬يعد هذا االكتشاف اآلن‬
‫قبوال‪ ،‬لكن املراقبني املتمرسني يبدون دهشة من‬
‫ً‬ ‫أحد أكرث اكتشافات العلوم االجتامعية‬
‫النتائج امللموسة‪ .‬ال يعرف سوى ثلث األمريكيني البالغني مصطلح «دولة الرفاهية»‪ .‬ويف‬
‫ذروة التنافس السوفيتي األمرييك‪ ،‬كان ميكن ألكرث من النصف بقليل أن يرشحوا الحرب‬

‫‪198‬‬
‫الباردة‪ 21.‬سأل أحد االستطالعات عينة من األمريكيني ما إذا كانت دستور الواليات املتحدة‬
‫يحتوي عىل عبارة «من كل حسب قدرته إىل كل حسب حاجته»‪ .‬فأجاب ما ال يقل عن ‪45‬‬
‫‪22‬‬
‫يف املئة باإليجاب‪.‬‬
‫ال مينع الجهل واسع االنتشار حول قضية معينة وجود بعض األفراد املطلعني‪ .‬غال ًبا‬
‫ما يكون النشطاء داخل مجموعات الضغط عىل دراية كبرية بقضاياهم املفضلة‪ .‬وهؤالء‬
‫األشخاص الذين يتحملون مسؤولية تقديم املعلومات لغري املطلعني‪ .‬لكن الشخص صاحب‬
‫املعرفة الكبرية يف سياق معني مييل إىل االعتامد عىل املجتمع يف سياقات أخرى مختلفة‪.‬‬
‫ال ميكن ألحد أن يكون ناشطًا واسع املعرفة بأكرث من جزء صغري من القضايا املدرجة يف‬
‫‪23‬‬
‫األجندة السياسية للمجتمع‪.‬‬

‫إرشادية اإلثبات االجتامعي‬


‫ما مينح الشخص املطلع سلطة هائلة محتملة عىل عقول غري املطلعني هو أن االنتفاع املجاين‬
‫من معرفة اآلخرين يعترب وسيلة أساسية لتجاوز قيود الفرد املعرفية‪ .‬فإذا كان آخرون قد‬
‫استقصوا قضية بعمق وميكن االعتامد عىل تقييامتهم‪ ،‬ميكن للشخص التخلص من عناء‬
‫التفكري باالستفادة من فهمهم الظاهري‪ 24.‬لذلك نستشري وكالء السفر يف التخطيط‬
‫للعطالت ونستفيد من آراء الخرباء يف تقييم مزايا الربامج السياسية املتنافسة‪ .‬ويف سعينا‬
‫‪25‬‬
‫للحصول عىل التوجيه من الخرباء نسلمهم بفعالية السيطرة عىل أفكارنا‪.‬‬
‫ما الذي يجعلنا نثق بشخص ما كالخبري؟ عندما ي ّدعي املتحدث التلفزيوين أن سوق‬
‫األسهم سرتتفع‪ ،‬نويل اهتام ًما ألنه يبدو أن اآلخرين يعتربون هذا الشخص مرج ًعا يف هذا‬
‫املجال‪ .‬فرغم كل يشء‪ ،‬نستنتج‪ ،‬إذا مل يكن املعلق يعرف شي ًئا‪ ،‬فلامذا دعوه للحديث عىل‬
‫التلفزيون؟ إذن‪ ،‬الثقة بخبري تعني السامح ألنفسنا باالسرتشاد بواسطة إسناد املجتمع‬
‫الجامعي للخربة‪ .‬من الشائع أيضً ا االعتامد عىل حكم املجتمع الجامعي بشأن جوهر قضية‬

‫‪199‬‬
‫بدال من حكمه املتعلق بالخرباء املعنيني‪ .‬غال ًبا ما نضع ثقتنا يف أجندة سياسية بسبب‬
‫ما‪ً ،‬‬
‫شعبيتها الواضحة‪.‬‬
‫يف كلتا الحالتني‪ ،‬نعتمد عىل إرشادية خاصة‪ ،‬وهي إرشادية اإلثبات االجتامعي‪ .26‬إذا‬
‫كان فكر عدد كبري من الناس بطريقة معينة‪ ،‬فيجب أن يعرفوا شيئًا ال نعرفه نحن أنفسنا –‬
‫كام يقول املثل «رأسان أفضل من رأس واحد»‪ .‬يصبح أساس حكمنا هو أن «الجميع يعرف»‬
‫ما هو األفضل أو الصحيح‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬نؤمن بتفسري‪ ،‬أو تأكيد‪ ،‬أو تنبؤ أو تقييم ألن معظم‬
‫اآلخرين يؤمنون به‪.‬‬
‫ال تقترص استخدامات اإلثبات االجتامعي عىل املسائل التي ال نجربها أو نفكر فيها‬
‫بأنفسنا‪ .‬حتى عندما منتلك معرفة مستقلة‪ ،‬فإن حقيقة أن تصوراتنا مشرتكة تؤكد لنا‬
‫صحتها‪ .‬هذا ما أدركه جيمس ماديسون‪ ،‬الذي كتب‪« :‬إن قوة الرأي يف كل فرد‪ ،‬وتأثريه‬
‫ريا عىل العدد الذي يفرتض أنه يضمر نفس الرأي‪ .‬إن عقل‬
‫العميل عىل سلوكه‪ ،‬يعتمدان كث ً‬
‫اإلنسان‪ ،‬مثل اإلنسان نفسه‪ ،‬خجول وحذر‪ ،‬عند تركه وحده؛ ويكتسب الحزم والثقة‪ ،‬مبا‬
‫يتناسب مع العدد الذي يتشارك معه يف الرأي»‪ 27.‬عزا ماديسون‪ ،‬بشكل ملحوظ‪ ،‬التوافق‬
‫إىل كل من «اإلنسان» و«عقل اإلنسان»‪ .‬يتجىل امتثال اإلنسان يف تزييف التفضيل؛ ويتجىل‬
‫امتثال العقل يف االعتامد السائد عىل اإلثبات االجتامعي‪.‬‬
‫مثل اإلرشاديات األخرى‪ ،‬تخدمنا إرشادية اإلثبات االجتامعي بشكل مثري لإلعجاب‬
‫ريا من الحقيقة‪ .‬لذلك‪ ،‬كقاعدة عامة‪،‬‬
‫يف سياقات متنوعة‪ .‬تحمل النظرة الشائعة عاد ًة قد ًرا كب ً‬
‫بدال من رفضه‪ .‬ومن خالل اإلثبات االجتامعي ميكننا‬
‫نرتكب أخطاء أقل بقبول اعتقاد سائد ً‬
‫تسوية القرارات املعقدة دون الحاجة إىل التفكري بعمق‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن اإلثبات االجتامعي‬
‫ليس أداة خالية من املخاطر القتصاد الجهد العقيل‪ .‬إذا حصل اعتقاد خاطئ عىل مكانة يف‬
‫أذهان الناس‪ ،‬فقد يؤدي استخدام اإلثبات االجتامعي إىل انتشاره وتعزيزه‪.‬‬

‫سياسة اإلقناع‪ :‬مناشدات اإلثبات االجتامعي‬

‫‪200‬‬
‫إدراكًا منها إلمكانية تحويل املعرفة الخفية‪ ،‬وبالتايل الرأي الخفي‪ ،‬لصالح أجنداتها فحسب‬
‫من خالل اإلثبات االجتامعي‪ ،‬تفعل الجامعات كل ما يف وسعها لجعل مواقفها تبدو شائعة‪.‬‬
‫تشري عبارة «الطريقة األمريكية (‪ ،»)the American way‬عند نطقها نياب ًة عن أجندة‬
‫معينة‪ ،‬إىل أن معظم األمريكيني‪ ،‬أو عىل األقل معظم األمريكيني «املحرتمني»‪ ،‬يتفقون عىل‬
‫ما هو مناسب‪ .‬وبالطبع‪ ،‬قد يحمل االدعاء املتجسد يف مثل هذه العبارة الكثري من املبالغة‪.‬‬
‫وتشمل وسائل املبالغة األخرى الخوض يف استطالعات الرأي املتحيزة واملبالغة يف حجم‬
‫التبيان‪ .‬تشكل كل هذه األساليب مناشدة مبارشة إىل اإلثبات االجتامعي‪.‬‬
‫توجه الجامعات مناشدات غري مبارشة إىل اإلثبات االجتامعي من خالل السعي إىل‬
‫ترسيخ مواقفها يف حكمة الشخصيات املحرتمة عىل نطاق واسع‪ ،‬مبا فيها الشخصيات‬
‫املتوفاة‪ .‬فاملراجع امليتة مالمئة بصفة خاصة للتذرع بها‪ ،‬ألنه ميكن تنقيح تعاليمها أو إعادة‬
‫تفسريها دون تحديات من املراجع نفسها‪ 28.‬فبعد قرون من النبي محمد‪ ،‬نسب إليه القادة‬
‫وأفعاال تتعلق مبشاكل نشأت بعد فرتة طويلة من عرصه‪ 29.‬ال تنطوي إعادة‬
‫ً‬ ‫أقواال‬
‫ً‬ ‫املسلمون‬
‫كتابة التاريخ دامئًا عىل تلفيق رصيح‪ .‬غالبًا ما يتم ذلك عن طريق تحديد فريق جديد من‬
‫األبطال واألرشار وإعادة تركيز االنتباه عىل مجموعة جديدة من األحداث‪.‬‬
‫يف حني تهدف الحجج الجوهرية إىل التأثري عىل كيفية تفكري الناس يف قضايا‬
‫اليوم‪ ،‬فإن املناشدات املبارشة أو غري املبارشة إىل اإلثبات االجتامعي تهدف إىل جعل الناس‬
‫يقبلون مواقف معينة بال متحيص‪ .‬تعتمد فعاليتها‪ ،‬كام ذكرت‪ ،‬عىل درجة اعتامد الناس عىل‬
‫اإلثبات االجتامعي‪ .‬وبقدر ما يحاول األشخاص االنتفاع املجاين من أفكار اآلخرين‪ ،‬ميكن‬
‫للمرء تعزيز شعبية املوقف بتوفري انتفاع مريح له‪ .‬عمو ًما‪ ،‬يعد توفري هذا االنتفاع يف الواقع‬
‫رضوري للنجاح السيايس‪ .‬فإذا سعت مجموعة ما إلقناع اآلخرين من خالل مناشدات العقل‪،‬‬
‫فإن مقدمي االنتفاع املجاين فيها سيقبلون انتفاع اآلخرين‪.‬‬
‫لذا فإن مناشدات العقل واإلثبات االجتامعي ليستا فئتني متنافيتني لإلقناع‪ .‬يف‬
‫الواقع‪ ،‬كقاعدة عامة يتم اللجوء إليهام م ًعا‪ .‬فأحد أعضاء جامعة الضغط الذي يجادل بأن‬

‫‪201‬‬
‫ناخبيه يستحقون إعانة سيدعي يف نفس الوقت أن معظم أفراد املجتمع يشعرون بنفس‬
‫الشعور‪ .‬حتى يف املنح الدراسية‪ ،‬حيث يُفرتض أن تستند مصادقة األفكار فقط إىل املنطق‬
‫واألدلة‪ ،‬تكون مناشدة اإلثبات االجتامعي شائعة‪ .‬يستشهد الكتاب األكادمييون بانتظام‬
‫بالعلامء العظامء لتعزيز مصداقية افرتاضاتهم واستنتاجاتهم‪ُ .‬سئل كاتب املقاالت يف القرن‬
‫السادس عرش مونتني ذات مرة عن سبب احتواء كتاباته عىل الكثري من االقتباسات من‬
‫النجوم البارزين القدامى‪ .‬فأجاب‪« :‬إنه حقًا من أجل الرأي العلني‪ ،‬أظهر بهذا املظهر‬
‫املستعار»‪ 30.‬يستمد العلامء أيضً ا الدعم من االتفاقيات املفرتضة يف تخصصاتهم‪ .‬إذ متتلئ‬
‫‪31‬‬
‫العديد من الكتابات األكادميية بعبارات مثل «االفرتاض القيايس» و«كام هو معروف»‪.‬‬
‫تعزز آثار مناشدة العقل واإلثبات االجتامعي بعضها البعض‪ .‬فمعرفة أن الرأي شائع‬
‫يربر الجهد الذي قد يكرسه املرء لفهم أسبابه املنطقية‪ .‬وعىل العكس من ذلك‪ ،‬فإن التربيرات‬
‫املقنعة للرأي تعزز مصداقية االدعاءات املشرتكة عىل نطاق واسع‪.‬‬

‫التكرار كإثبات اجتامعي‬


‫يعرف أي شخص مطلع عىل الحمالت السياسية أنها مكررة للغاية‪ .‬يكرر املشاركون يف‬
‫الحملة نفس النقاط يف كل فرصة‪ ،‬وذلك جزئيًا للوصول إىل أشخاص جدد‪ ،‬ولكن أيضً ا‬
‫لجعل رسائل الحملة مقبولة كحقائق مثبتة‪ .‬ومثل السياسيني‪ ،‬يستخدم املعلنون عن السلع‬
‫االستهالكية التكرار كأداة لإلقناع الجامعي‪ .‬يعرضوننا لنفس الشعارات والحيل ونقاط البيع‬
‫مرا ًرا وتكرا ًرا‪ .‬ففي االستطالعات حول املواقف تجاه اإلعالنات‪ ،‬يكون التكرار مصد ًرا قياس ًيا‬
‫للشكاوى‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن اإلعالنات املتكررة شائعة‪ ،‬ألنه من الواضح أن األلفة تعزز االنجذاب‬
‫واإلعجاب‪ .‬فاملتسوقة التي تنوي رشاء منظف ستميل ال إراديًا نحو العالمة التجارية املألوفة‪،‬‬
‫ومن املرجح أن تأيت ألفتها من اإلعالنات‪ 32.‬يستخدم العلامء أيضً ا التكرار كوسيلة لزيادة‬
‫مصداقيتهم‪ .‬فمن خالل تقديم نفس النقطة يف عدة أشكال مختلفة‪ ،‬غال ًبا داخل نفس‬
‫مجموعة العمل‪ ،‬يحاول الكاتب إعطاءها الصالحية بقوة التكرار‪ .‬فقد نالت العديد من‬

‫‪202‬‬
‫األكاذيب مكانة الحقيقة املؤكدة من خالل التكرار املستمر‪ .‬ويُعرف هذا الخطأ مبصطلح‬
‫‪33‬‬
‫«املجادلة إىل حد الغثيان»‪.‬‬
‫من وجهة نظر منطقية‪ ،‬ال ينبغي للتكرار املجرد أن يعزز جاذبية االختيار‪ .‬إذا كنت‬
‫تعلم بالفعل أنني أعترب اإلنفاق الدفاعي مرتف ًعا ج ًدا‪ ،‬فإن تكرار هذه النقطة لن مينحك أي‬
‫معلومات جديدة؛ وبالتايل‪ ،‬ال ينبغي أن يؤثر عىل حكمك‪ .‬يف الواقع‪ ،‬مننح روتين ًيا قيمة‬
‫إعالمية ملثل هذا التكرار‪ ،‬فنحن نساوي التعرضات املتعددة العتقاد واحد باتفاق مجموعة‪،‬‬
‫ونستبدل التكرار باإلثبات االجتامعي‪ .‬لهذا السبب يعد التكرار وسيلة شائعة لإلقناع‪.‬‬
‫تتجذر القيمة اإلعالمية للتكرار يف أحد األساليب اإلرشادية التي نستخدمها للتغلب‬
‫عىل قيودنا املعرفية‪ :‬إرشادية التوافر‪ .‬يستخدم الشخص هذه اإلرشادية «كلام قدر التكرار‬
‫فمثال‪ ،‬قد يقدر نسبة هواة‬
‫ً‬ ‫‪34‬‬
‫أو االحتامل بسهولة تبادر األمثلة أو االرتباطات إىل الذهن»‪.‬‬
‫جمع الطوابع يف عموم السكان من خالل استحضار هواة جمع الطوابع بني معارفه‪.‬‬
‫بالنسبة لنا‪ ،‬تكمن أهمية اإلرشادية يف االرتباط الذي تصوغه بني التكرار والصالحية‬
‫املتصورة‪ .‬كلام تعرض الشخص إىل وجهة نظر معينة‪ ،‬زادت سهولة استعادتها من الذاكرة‪،‬‬
‫وبالتايل زادت صحتها املتصورة‪.‬‬
‫تكمن بعض األدلة عىل قوة التكرار يف الدراسات التي وجدت صلة واضحة بني‬
‫مهام‪ 35.‬ويأيت دليل‬
‫القضايا التي تغطيها وسائل اإلعالم عىل نطاق واسع وما يعتربه الناس ً‬
‫إضايف من التجارب النفسية‪ .‬يف إحدى التجارب‪ ،‬تعرضت مجموعة من األشخاص لستني‬
‫جملة معقولة‪ ،‬كل منها صحيحة أو خاطئة‪ 36.‬فيام ييل مثالني‪« :‬يف الواليات املتحدة‪ ،‬يفوق‬
‫عدد املطلقني عدد األرامل» (والتي كانت خاطئة يف وقت التجربة )‪ ،‬و«يف املاليو‪ ،‬إذا دخل‬
‫الرجل إىل السجن لكونه مخمو ًرا‪ ،‬تدخل زوجته السجن أيضً ا» (والتي كانت صحيحة)‪ .‬بعد‬
‫سامع العبارات‪ ،‬طُلب من األشخاص تقييم صحة كل منهم عىل مقياس من سبع درجات‪،‬‬
‫وبعد أسبوعني‪ ،‬ومر ًة أخرى بعد أسبوعني‪ ،‬تعرض املشاركون ملجموعات إضافية من ستني‬
‫جملة‪ ،‬تضمنت كل منها عرشين من القامئة األصلية‪ .‬كام يف الجلسة األوىل‪ ،‬طُلب من‬

‫‪203‬‬
‫املشاركني تقييم صحة كل عبارة‪ .‬تُظهر مقارنة التقييامت من الجلسات الثالث أن األشخاص‬
‫تعاملوا مع التعرض كمعيار للصالحية‪ .‬بالنسبة للعبارات املكررة‪ ،‬سواء كانت صحيحة أو‬
‫خاطئة‪ ،‬كان متوسط التصنيف أعىل بشكل ملحوظ يف الجلستني الثانية والثالثة منه يف‬
‫األوىل‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬تلقت العبارات املتكررة تقييامت أعىل بشكل ملحوظ من العبارات‬
‫الجديدة‪.‬‬
‫وسعت متغريات هذه التجربة من عمومية استنتاجها الرئييس‪ .‬يبدو أن التكرار يعزز‬
‫الصالحية املتصورة حتى عندما يتعرف األشخاص عىل جميع العبارات قبل بدء التجربة‬
‫وحتى يف الجلسات التي ال تحتوي عبارات جديدة‪ 37.‬وهكذا تؤكد التجربة أنه إذا سمع الناس‬
‫وجه نظر يف أغلب األحيان لدرجة كافية فقد يصدقونها‪ .‬تزداد احتاملية اإلقناع من خالل‬
‫التكرار‪ ،‬بالطبع‪ ،‬فيام يتعلق باملسائل التي مل تحلل بعمق‪.‬‬

‫املعرفة الصلبة واللينة‬


‫وبالتايل‪ ،‬تعتمد معرفتنا حول العامل جزئيًا فقط عىل املالحظة الشخصية واالستدالل‬
‫والتحليل‪ .‬للحفاظ عىل املوارد املعرفية‪ ،‬نعتمد أيضً ا عىل اإلثبات االجتامعي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ميكن‬
‫أن تكون املعتقدات التي نتبناها من خالل اإلثبات االجتامعي متحيزة إىل حد كبري‪ ،‬ولو ملجرد‬
‫أننا ال نفرق كام ينبغي بني اإلجامع الحقيقي والتعرض املتكرر ملصدر واحد للمعلومات‪.‬‬
‫إليضاح كيفية مساهمة اإلثبات االجتامعي يف املعرفة الخفية‪ ،‬ميكن للمرء أن مييز‬
‫بني املعرفة الخفية الصلبة واللينة‪ ،‬أو ببساطة املعرفة الصلبة واملعرفة اللينة‪ .‬ترتكز املعرفة‬
‫الصلبة عىل الحقائق الجوهرية والتفكري املنهجي‪ .‬عىل النقيض منها‪ ،‬ترتكز املعرفة اللينة‬
‫عىل شكل واحد أو أكرث من أشكال اإلثبات االجتامعي‪ .‬قد يكون أي من نوعي املعرفة خاط ًئا‬
‫بالطبع‪ .‬مثلام ميكن أن يُساء فهم أسباب ظاهرة اجتامعية‪ ،‬فإن تصورات الرأي العلني قد‬
‫تكون مغلوطة إىل حد كبري‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬يف املامرسة العملية‪ ،‬تشكل «الصالبة»‬

‫‪204‬‬
‫و«الليونة» استمرارية‪ .‬عاد ًة ما تستند املعتقدات املتعلقة بالظواهر االجتامعية إىل كل من‬
‫املالحظة الشخصية وتصورات ما يعتقده اآلخرون‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬سيثبت التاميز فائدته‪.‬‬
‫لتوضيح الفرق بني املعرفة الصلبة واللينة‪ ،‬لنفرتض أننا سألنا ثالثة أفراد عن آرائهم‬
‫بشأن اتفاقية التجارة الحرة التي يتم التفاوض عليها مع دولة أخرى‪ 38.‬الشخص األول هو‬
‫منظرة اقتصادية‪ .‬باالعتامد عىل سنوات من التفكري‪ ،‬تقول إن إزالة الحواجز التجارية‬
‫ستؤدي إىل إعادة تخصيص املوارد عىل نحو مفيد للطرفني‪ .‬يعمل الشخص الثاين يف‬
‫مصنع نسيج‪ .‬وهو يفتقر إىل نظرية متامسكة للتجارة الدولية‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬لعلمه أن األجور‬
‫منخفضة يف الدولة األخرى‪ ،‬يعتقد أن إلغاء قيود االسترياد سيّض بصناعة النسيج املحلية‪.‬‬
‫وخوفًا من فقدان وظيفته‪ ،‬يعتقد أن املعاهدة ستّض باملصلحة الوطنية‪ .‬الشخص األخري يف‬
‫عينتنا هو طبيب‪ .‬لتجنبه االقتصاد يف الكلية‪ ،‬ال ميلك وجهة نظر متامسكة بشأن ما قد تجلبه‬
‫املعاهدة‪ .‬وال ميكنه تحديد الطرق التي ميكن أن تؤثر بها التجارة عىل سعادته‪ .‬لكن املعاهدة‬
‫هي مصدر جدل مفتوح‪ ،‬لذلك يشعر أنه سيكون لها بعض التأثري‪ .‬لتقييم طبيعة التأثري‪،‬‬
‫يبحث يف ذاكرته عن التفضيالت التي تعرض لها‪ .‬معظم تلك التي يتذكرها إيجابية‪ ،‬لذلك‬
‫يستنتج أن «التجارة الحرة ستكون شيئًا جي ًدا»‪.‬‬
‫ريا يف املحتوى الجوهري‪ .‬إذا طُلب من الباحثة تربير‬
‫تختلف أفكار الثاليث اختالفًا كب ً‬
‫إميانها باالتفاقية‪ ،‬ميكنها التحدث لساعات عن مزايا التجارة الحرة‪ .‬بينام ال ميلك عامل‬
‫النسيج نظرية مامثلة‪ .‬لكن ميكنه القول‪ ،‬بنا ًء عىل تفكريه الخفي‪ ،‬أن املدن التي تضم مصانع‬
‫نسيج ستتدهور‪ .‬أما بالنسبة للطبيب‪ ،‬فإذا طُلب منه تربير اعتقاده‪ ،‬سيعجز عن التذكر يف‬
‫البداية‪ ،‬ألن سبب دعمه لالتفاقية هو ببساطة شعبيتها الظاهرة‪ .‬إذا ضغط عليه للحصول‬
‫عىل تفسري‪ ،‬فسيقول شي ًئا مثل «التجارة تجعل البلد غن ًيا‪ .‬الجميع يعرف هذا»‪.‬‬
‫يعترب كل من الباحثة والطبيب االتفاقية مفيدة‪ ،‬األوىل عىل أساس املعرفة الصلبة‪،‬‬
‫واألخري عىل أساس املعرفة اللينة‪ .‬يُدعم اعتقاد الباحثة من خالل منوذج مفصل وأدلة علمية‪.‬‬
‫من جانبه‪ ،‬يثق الطبيب ببساطة يف الحكم الجامعي الظاهر ملجتمعه‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يشعر بأنه‬

‫‪205‬‬
‫مضطر للحصول عىل وجهة نظر خاصة به‪ ،‬لذلك عندما يُطلب منه تربير دعمه‪ ،‬يقدم‬
‫ريا سطح ًيا‪ .‬وبالتايل‪ ،‬قد يحسب أن رأيه يف املعاهدة نابع من تفكريه الخفي وأن تفكريه‬
‫تفس ً‬
‫أوال‪ ،‬وكان التربير فكرة الحقة‪ .‬ال ميكن أن يكون قد‬
‫سبق هذا الرأي‪ .‬يف الواقع‪ ،‬جاء رأيه ً‬
‫أصبح مؤي ًدا لالتفاق بفضل مجهوده العقيل‪ ،‬ألنه ال يعرف شيئًا تقري ًبا عن التجارة‪.‬‬
‫ميكن تشبيه وهم طبيبنا بوهم زائر املتحف العريض الذي يصل أمام لوحة تكعيبية‬
‫تحمل توقيع «بيكاسو»‪ .‬إلدراكه شهرة بيكاسو‪ ،‬يحسب الزائر أنه ينظر إىل تحفة فنية‪.‬‬
‫يرصخ «استثنائية!»‪ .‬ثم يسأله رفيقه ما الذي يعجبه يف اللوحة‪ .‬يجيب‪« :‬إنها إبداعية‪،‬‬
‫واأللوان دقيقة»‪ .‬يف الواقع‪ ،‬إنه معجب بها ألن معظم النقاد التمييزيني يعتربون بيكاسو‬
‫ريا‪ ،‬عندما يُطلب‬
‫أوال أن اللوحة لفنان مشهور‪ ،‬ثم يقرر اإلعجاب باللوحة‪ ،‬وأخ ً‬
‫عبقريًا‪ .‬يالحظ ً‬
‫ريا مناسبًا ألي لوحة يف املتحف تقريبًا‪ .‬لنفرتض أننا استبدلنا‬
‫منه تربير ذوقه‪ ،‬يخرتع تفس ً‬
‫التوقيع عىل اللوحة بـ «ر‪ .‬بارين» ووضعت ضمن أعامل فنانني محليني غري معروفني‪ .‬رمبا‬
‫كان زائرنا سريفض اللوحة املتطابقة باعتبارها غري خيالية‪.‬‬
‫إن القراء الذين اعتادوا التفكري يف أننا نترصف دامئًا ألسباب نفهمها وميكننا التعبري‬
‫عنها قد يجدون صعوبة يف استيعاب فكرة أن التفضيالت الخفية قد تسبق أسباب امتالكها‪.‬‬
‫إكرا ًما لهؤالء املشككني‪ ،‬إليكم توضيح آخر‪.‬‬
‫ميثل برج إيفل اآلن باريس‪ ،‬متا ًما كام ميثل الكولوسيوم روما‪ .‬يعجب جميع أنواع‬
‫جميال دامئًا‪ .‬عندما بدأ‬
‫ً‬ ‫الناس بأناقته املعدنية وارتفاعه املهيب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مل يعترب الربج‬
‫بناؤه يف عام ‪ ،1887‬شعر كبار الفنانني واملثقفني يف فرنسا باالستياء من عدم جدواه ومن‬
‫شبح وجوده املحتوم يف جميع أنحاء باريس‪ .‬بعد الكفاح لوقف بنائه‪ ،‬استمروا يف إغداقه‬
‫باالزدراء‪ .‬وكان من بني منتقدي الربج الكاتب غي دو موباسان‪ ،‬الذي كان يقول للناس إنه‬
‫يتناول غداءه يف مطعمه حتى لو كان الطعام بال طعم‪ .‬كان يرشح «إنه املكان الوحيد يف‬
‫باريس حيث ميكنني التأكد من عدم رؤيته»‪ 39.‬واآلن‪ ،‬بعد قرن من بناء الربج‪ ،‬ال ميكننا حتى‬

‫‪206‬‬
‫التفكري يف أسباب اعتباره قبي ًحا‪ .‬إذا كان يحظى بإعجاب عاملي‪ ،‬فجزء من السبب هو أننا‬
‫تعلمنا جمي ًعا منذ سن مبكرة أنه من عجائب الدنيا‪.‬‬
‫بالعودة إىل السياسة‪ ،‬منلك جمي ًعا آراء حول قضايا اجتامعية نجهلها‪ ،‬فبعضنا الذي‬
‫ال يعرف الكثري عن االقتصاد الدويل لديهم آراء حول الترشيعات التجارية؛ وأولئك الذين ال‬
‫ميلكون خربة عسكرية لديهم آراء بشأن رشاء الطائرات‪ .‬وقد يكون لدى الكثري منا آراء حول‬
‫قضايا وهمية‪ .‬يف عام ‪ ،1984‬أجرى باحثون يف جامعة سينسينايت دراسة استقصائية‬
‫تضمنت‪ ،‬من بني أسئلة عديدة حول قضايا حقيقية‪ ،‬أسئلة حول قانون التجارة الزراعية لعام‬
‫‪ ،1984‬وقانون الرقابة النقدية لعام ‪ ،1984‬وقانون الشؤون العامة لعام ‪ – 1975‬وكلها‬
‫وهمية‪ .‬واملثري للدهشة أن أكرث من نصف املشاركني قدموا آرا ًءا حول اإلجرائني الوهميني‬
‫األول والثاين‪ ،‬وأكرث من ‪ 40‬يف املئة حول الثالث‪40 .‬ميكن بسهولة تصور املعايري التي استند‬
‫إليها املشاركون ذوو اآلراء بنا ًء عىل إجاباتهم‪« :‬تخفيض السيطرة النقدية يخفض التضخم‪،‬‬
‫لذلك يجب أن يكون جي ًدا»؛ أو «السيطرة النقدية ستجمد األجور‪ ،‬وكلام قلت األجور‪ ،‬كان‬
‫ذلك أفضل»‪.‬‬
‫يؤكد استطالع سينسينايت سهولة تكوين آراء الناس حول قضايا غري مألوفة‪ .‬أجرى‬
‫أخصائيون نفسيون تجارب تكميلية حول قدرة الناس عىل تربير اآلراء املتكونة تحت الجهل‪.‬‬
‫يف إحدى هذه التجارب‪ ،‬أُعطي املشاركون الحل الصحيح املزعوم ملشكلة صعبة وطُلب منهم‬
‫تربيره‪ .‬وطُلب منهم أيضً ا تقييم ثقتهم يف صحة تفسرياتهم‪ .‬مل يواجه متلقو الحلول غري‬
‫الصحيحة صعوبة يف تقديم تفسري أكرث من أولئك الذين حصلوا عىل الحل الصحيح‬
‫‪41‬‬
‫بالفعل‪ .‬ومل تكن معدالت ثقتهم أقل بكثري‪.‬‬
‫يتمثل أحد اآلثار الحاسمة لذلك يف أن أضعف اقرتاح متعلق مبزايا الخيار السيايس‬
‫اسا العتامده بثقة‪ .‬فإذا كانت آراء اآلخرين معروفة‪ ،‬سيكون ذلك أفضل‪.‬‬ ‫قد يكون أس ً‬
‫وبافرتاضنا أنه لدى اآلخرين أسبابًا التخاذ مواقفهم‪ ،‬سنستوعب أي رأي يبدو مهيم ًنا‪ .‬إذا‬
‫نشأت الحاجة لتربير رأي مستعار‪ ،‬فسنفعل ذلك بسهولة‪ .‬غال ًبا ما تأيت مربراتنا من‬

‫‪207‬‬
‫الشعارات والتعميامت والتأكيدات التي تقدمها وسائل اإلعالم‪ .‬ال تساعد وسائل اإلعالم عىل‬
‫تشكيل مواقفنا حيال قضايا اليوم فحسب‪ ،‬تساعد أيضً ا يف تشكيل التفسريات الضحلة التي‬
‫‪42‬‬
‫نواجه بها تحديات آرائنا‪.‬‬
‫تعزز النتيجة التي مفادها أننا مستعدون لتطوير آراء حول قضايا ناد ًرا ما نفهمها‬
‫وجهة نظري القائلة بأن حمالت اإلقناع ليس بالّضورة أن تقترص عىل الجدل الجوهري‪ .‬قد‬
‫تكون استطالعات الرأي‪ ،‬وترصيحات السلطات الظاهرية‪ ،‬والدعاية املتكررة‪ ،‬وغريها من‬
‫وسائل اإلثبات االجتامعي فعالة حتى يف غياب املنطق السليم واألدلة السليمة‪ ،‬وذلك ألنه ال‬
‫يلزمنا فهم سبب كون يشء مثال ًيا لنقبله عىل أنه كذلك‪ .‬قد ال نرغب حتى يف معرفة السبب‪،‬‬
‫ألن قيودنا املعرفية تفرض علينا التفكري بشكل انتقايئ‪ .‬وعاد ًة ما نحتاج فقط إىل بضع‬
‫نقاط بسيطة لتربير أنفسنا عندما نواجه موقف محرج‪ .‬عىل الرغم من كونها غري معقدة‪،‬‬
‫فقد تبدو مربراتنا مثقفة‪ ،‬عىل األقل للناس غري املطلعني مثلنا‪.‬‬
‫يجب عدم الخلط بني ليونة أو صالبة االعتقاد وقوته‪ ،‬هي تأثريه املحتمل عىل السلوك‪.‬‬
‫قد يولد االعتقاد املعتمد فقط عىل اإلثبات االجتامعي –شديد الليونة– عواطف جامحة‪ ،‬كام‬
‫هو الحال عندما تشارك طالبة بحامس يف حركة ثورية مل تقرأ برنامجها مطلقًا‪ .‬وباملثل‪،‬‬
‫فإن االعتقاد املتكون من خالل تجربة شخصية واسعة –الصلب للغاية– قد يثري إجراءات‬
‫قليلة‪ .‬فليس بالّضورة أن يترصف املعلم الذي يؤمن بأن املدارس يف حالة تدهور بنا ًء عىل‬
‫هذه املعلومات؛ فقد يخىش االعرتاضات وقد يختار الصمت‪.‬‬
‫سيكتسب تباين قوة املعتقدات أهمية يف الفصل التايل‪ .‬يف الوقت الحايل‪ ،‬سأستمر‬
‫يف استكشاف اآلثار املرتتبة عىل التباين يف الصالبة النسبية‪.‬‬

‫املثابرة عىل االعتقاد‬


‫يف خمسينيات القرن املايض‪ ،‬عرف دانيال لرينر التحديث بأنه عملية يصبح األفراد مبوجبها‬
‫متكيفني فعالني مع التغيريات‪ 43.‬فبينام يرى فالح العصور الوسطى املستقبل االجتامعي‬

‫‪208‬‬
‫قابال للتالعب‪ .‬يرفض األول‬
‫ً‬ ‫مقدر مسبقًا‪ ،‬يرى الحّضي الحديث املستقبل االجتامعي‬
‫االبتكار بالقول «لقد فعلنا ذلك دامئًا بالطريقة القدمية»؛ بينام من املرجح أن يسأل األخري‪:‬‬
‫«هل سيعمل؟» ويجرب الطريقة الجديدة دون تردد‪ .‬يقرتح لرينر أن الشخص املح ّدث منفتح‬
‫عىل طرق التفكري الجديدة ومستعد للتخلص من العادات التي باتت غري فعالة‪.‬‬
‫قد يتناقض اقرتاح لرينر مع نظرية التكيف التي طورها رونالد هايرن‪ 44.‬يالحظ‬
‫ريا إىل أن السلوك البرشي «تحكمه القاعدة»‪ ،‬أن الفرد لن يع ّدل الروتني إال عندما‬
‫هايرن‪ ،‬مش ً‬
‫يتأكد مبا فيه الكفاية من أن البيئة قد تغريت‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬يختلف تعقيد البيئة املعنية‬
‫من سياق إىل آخر‪ .‬كلام كانت البيئة أكرث تعقي ًدا‪ ،‬كانت معرفة الفرد املعنية أقل مالءمة‪،‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬قلت ثقته يف العالمات التي تدل عىل أن روتينه قد عفا عليه الزمن‪ .‬هذه الحجة‬
‫لها تأثري بعيد املدى‪ :‬فكلام كانت البيئة أكرث تعقي ًدا‪ ،‬كان السلوك الفردي أقل حساسية‬
‫للصدمات البيئية الفعلية‪.‬‬
‫لو كنا قادرين عىل معالجة كميات ال نهائية من املعلومات‪ ،‬سنستجيب بشكل موثوق‬
‫ألدىن اضطراب بيئي‪ .‬ويف البيئات املتغرية باستمرار‪ ،‬ستكون سلوكياتنا يف حالة تغيري‬
‫دائم‪ .‬تؤكد نظرية هايرن عىل أننا ال نستجيب لكل اضطراب‪ ،‬ألن قيودنا املعرفية متنعنا يف‬
‫كثري من األحيان من تحديد أفضل استجابة‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬بينام تعزز زيادة املعرفة‬
‫مرونتنا يف مواجهة التغيريات البيئية‪ ،‬يكون للتعقيد املتزايد تأثري معاكس‪.‬‬
‫يف ضوء نظرية هايرن‪ ،‬دعوين أعود إىل اقرتاح لرينر‪ .‬بقدر ما يُغذى التحديث بزيادة‬
‫حا عىل االبتكار‪ .‬لكن التعقيد املتزايد للحضارة الحديثة‬
‫املعرفة‪ ،‬ينبغي أن نصبح أكرث انفتا ً‬
‫ال بد من يكون له تأثري عكيس‪ .‬إذن‪ ،‬من حيث املبدأ‪ ،‬ميكن أن يكون تأثري التحديث عىل‬
‫املرونة العقلية إيجاب ًيا يف بعض السياقات وسلب ًيا يف سياقات أخرى‪ .‬يف مجال االستهالك‬
‫العادي‪ ،‬يبدو أننا نظهر مرونة أكرث من أسالفنا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تشري املالحظة العرضية أيضً ا‬
‫إىل أننا لسنا مرنني يف املجال السيايس بنفس القدر‪ .‬فجميعنا ميلك معارف تبدو معتقداتهم‬
‫السياسية منيعة ضد إخفاقات برامجهم املفضلة‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫إن الحقائق والحجج الجوهرية املتعارضة مع االعتقادات القامئة تكون ذات صلة‪،‬‬
‫بالطبع‪ ،‬فقط حتى املدى الذي تصبح فيه االعتقادات صلبة‪ .‬لن يؤثر فشل الربنامج عىل ما‬
‫أعتقده إذا كانت معرفتي ذات الصلة مبنية بالكامل عىل اإلثبات اجتامعي‪ .‬لنفرتض أنني‬
‫أعترب برنام ًجا ما مثال ًيا ألن هذا هو الحكم الشائع‪ .‬لن يتغري اعتقادي ملجرد نتيجة علمية‬
‫معاكسة‪ .‬فبام أنني تجاهلت األدبيات العلمية ذات الصلة‪ ،‬فإن النتيجة لن تلفت انتباهي حتى‪.‬‬
‫ما قد يكون ذا صلة هو التغيري امللحوظ يف طبيعة اإلثبات االجتامعي‪.‬‬
‫ميكن أن تختلف عملية تقييم اإلثبات االجتامعي يف مستويات التعقيد‪ .‬إذا كانت‬
‫تقديرايت تأيت من استطالعات الرأي‪ ،‬فقد يكفي استطالع واحد إلقناعي بأن طبيعة اإلثبات‬
‫االجتامعي تتغري‪ .‬يتوافق هذا مع التقلبات الشائعة للمواقف السياسية الفردية‪ 45.‬لكن‬
‫استطالعات الرأي ليست املصدر الوحيد للمعلومات حول الرأي العلني‪ ،‬فعندما تأيت‬
‫التقديرات غالبًا من التفاعالت االجتامعية‪ ،‬قد يتم تجاهل أو التغايض عن عالمات التحول‬
‫يف الرأي العلني‪ .‬ولنفس السبب الذي يجعل التعقيد البيئي يضفي عدم املرونة عىل املعرفة‬
‫الصلبة‪ ،‬فإن تعقيدات اإلثبات االجتامعي قد تجعل املعرفة اللينة غري مرنة‪.‬‬
‫دعوين أعود إىل مثال االتفاقية‪ .‬تخيل أن ينزلق البلد إىل الركود بعد إزالة الحواجز‬
‫التجارية‪ .‬تظل الخبرية االقتصادية متمسكة بنموذجها من املنافسة‪ ،‬مقتنع ًة كام كانت دامئًا‬
‫بأن التجارة مفيدة اجتامعيًا‪ .‬ورغم كل يشء‪ ،‬تقول‪ ،‬يتأثر النشاط االقتصادي أيضً ا بعوامل‬
‫مستبعدة من منوذج األسواق التنافسية‪ .‬أما دعم الطبيب‪ ،‬فقد استند إىل اإلثبات االجتامعي‪.‬‬
‫بعد رفع الحواجز التجارية‪ ،‬يظل متيقظًا ملؤرشات الحكم الجامعي‪ .‬ويصادف أنه ال يتابع‬
‫استطالعات الرأي الرسمية؛ فتأيت تقديراته من تعليقات معارفه العابرة‪ .‬يبدو أن هؤالء‬
‫يتحولون ضد التجارة الحرة‪ ،‬لكنه ليس متأكد متا ًما‪ .‬لذلك يظل لفرتة متمسكًا بفكرة أن‬
‫التجارة الحرة مفيدة‪ .‬وحني تتضاعف عالمات التحول يف اإلثبات االجتامع يغري رأيه‪.‬‬
‫يُظهر كال الشخصني ما يسميه األخصائيون النفسيون «املثابرة عىل االعتقاد»‪ 46.‬ال‬
‫تؤثر البيانات التي كانت لها تأثري قبل تشكيل معتقداتهام عليهام عندما تصل لهام الحقًا‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫ويعود أساس املثابرة عىل االعتقاد إىل أن معتقداتنا تحكم ما نالحظه يف املقام األول‪ .‬نحن‬
‫ندرك بشكل انتقايئ‪ ،‬ونالحظ الحقائق املتوافقة مع معتقداتنا بسهولة أكرب نسب ًيا‪ .‬يضفي‬
‫هذا التحيز مقاومة عىل معتقداتنا من خالل حاميتها من األدلة املعارضة‪.‬‬
‫يأيت التأكيد العلمي للمثابرة عىل االعتقاد من مجموعة تجارب واسعة‪ .‬يف إحدى‬
‫التجارب‪ ،‬تم تغيري صورة بطريق تدريج ًيا إىل صورة رجل‪ ،‬أو العكس‪ ،‬من خالل صور‬
‫متتابعة‪ 47.‬أولئك الذين رأوا التتابع من البطريق إىل اإلنسان‪ ،‬اعتربوا معظم الصور‬
‫«بطريق»؛ بينام مال األشخاص الذين رأوا التتابع يف االتجاه املعاكس إىل اعتبار معظم‬
‫الصور «رجل»‪ .‬اعتربت الصور الوسطى متثل ما بدأ التتابع به‪ .‬إذا رأى املشاهد بطريقًا أول‬
‫مرة‪ ،‬استمر يف رؤية البطريق حتى أصبحت السامت البرشية مهيمنة‪.‬‬
‫عرضت تجربة أخرى دراستني عن عقوبة اإلعدام لطالب الجامعات الذين اعتقدوا‬
‫بقوة إما أن عقوبة اإلعدام تردع الجرمية أو ال تردعها‪ 48.‬أيدت إحدى الدراسات املوقف‬
‫اإليجايب‪ ،‬بينام أيدت األخرى املوقف السلبي‪ .‬عندما سئل الطالب الحقًا‪ ،‬صنفوا النتائج‬
‫واإلجراءات التي أكدت معتقداتهم السابقة عىل أنها أكرث إقنا ًعا‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬أصبحت‬
‫آراء الطالب أكرث استقطابًا من قبل‪ .‬أصبح مؤيدو عقوبة اإلعدام أكرث اقتنا ًعا بأن هذه‬
‫العقوبة تردع الجرمية؛ وأصبح املعارضون أكرث اقتنا ًعا بأنه ال تردعها‪.‬‬
‫تظهر التجربة األخرية بوضوح أن الناس يتعاملون مع املعلومات بشكل غري متامثل‪.‬‬
‫لو كان املشاركون منفتحني ومتجاوبني بنفس القدر تجاه جميع املعلومات‪ ،‬لكانوا جمي ًعا‬
‫أقل ثقة مبعتقداتهم السابقة‪ ،‬وليس أكرث ثقة‪ .‬إحدى مزايا هذه التجربة هي أنها تؤكد أهمية‬
‫اإلدراك االنتقايئ‪ .‬وإذا كان عدم اإلحساس باإلشارات غري املوثوقة هو املصدر الوحيد‬
‫للمقاومة العقلية‪ ،‬فقد يظل املشاركون متعلقني مبعتقداتهم دون أن يزيدوا من ثقتهم فيها‪.‬‬
‫إن ارتفاع مستويات الثقة يشري إىل أن املشاركني الحظوا مزي ًدا من األدلة املؤيدة ملعتقداتهم‬
‫مقارن ًة مع األدلة املعاكسة‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫غال ًبا ما يؤيد طالب نفس الظاهرة تفسريات مختلفة جذريًا‪ .‬فبينام يرى بعض‬
‫مثال‪ ،‬يالحظ آخرون ازدياد الفقر وأزمات الرتاكم‪.‬‬
‫متناغام وأسواقًا فعالة‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫االقتصاديني من ًوا‬
‫قد تكون هذه الرصاعات مدفوعة بأجندات سياسية غري متوافقة‪ .‬لكنها قد تظهر حتى يف‬
‫غياب التباين التحفيزي ألن تصوراتنا املسبقة‪ ،‬كام توحي التجارب أعاله‪ ،‬تنظم ما نراه‪ .‬قد‬
‫تبدو نفس االتجاهات مختلفة جوهريًا لباحث متدرب يف االقتصاد الكالسييك الجديد‬
‫مقارن ًة بباحث مدرب يف االقتصاد املاركيس‪ .‬سيالحظ األول األمور الحاسمة التي يتجاهلها‬
‫تعليم اآلخر‪ .‬ويكتشف أحدهام منطًا حتى يف حالة غيابه؛ ويهمل اآلخر النمط حتى عندما‬
‫‪49‬‬
‫يكون أقوى‪.‬‬
‫رفضت مقدمة هذا الفصل االستعارة الاليبنيزية للوحدة بال النوافذ باعتبارها معيبة‬
‫بشدة‪ .‬بعد أن رأينا أن للشخصية البرشية نوافذ‪ ،‬يجب أن ندرك اآلن أنه ميكن فتح بعض‬
‫هذه النوافذ يف يف أي وقت‪ .‬تضيق النوافذ املغلقة مجال رؤية الفرد‪ ،‬فتبعد أحداثًا وأمناطًا‬
‫وظواهر معينة عن نظره‪ .‬وبالتايل‪ ،‬تتمتع معتقداته ببعض الحامية من األدلة املعاكسة‪.‬‬

‫وهم االستقاللية الفردية‬


‫كام ذكرت سابقًا‪ ،‬ال تؤدي أعامل تزييف التفضيل بالّضورة إىل إغفال الشخص ملصلحته‬
‫الشخصية‪ .‬وميكن أن تظل معرفته الخفية‪ ،‬وبالتايل تفضيالته الخفية‪ ،‬سليمة‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫سيكون من الخطأ استنتاج أن الفرد‪ ،‬يف جوهره‪ ،‬كيان مستقل‪ .‬يف مجموعة واسعة من‬
‫السياقات‪ ،‬تعتمد مصلحة الشخص الذاتية املتصورة عىل املعلومات املستمدة من الحوار‬
‫العلني‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن ما يعتربه مصلحته الشخصية قد يكون يف الواقع مصلحة لآلخرين‪.‬‬
‫بقدر ما تعتمد املعرفة الخفية عىل الحوار العلني‪ ،‬ميكن أن تظهر حساسية تجاه أي‬
‫يشء يؤثر عىل جوهر أو تكوين الحوار العلني‪ .‬قد تشوه النامذج الخاطئة أو الروايات‬
‫املغلوطة للرأي العلني معرفة الفرد الشخصية‪ .‬وميكن أن يشوهها أيضً ا تزييف التفضيل من‬
‫جانب األفراد اآلخرين الذين يحاولون تجنب العقوبات االجتامعية‪ .‬تغري بعض أشكال تزييف‬

‫‪212‬‬
‫التفضيل الحوار العلني‪ ،‬وتؤثر جميعها عىل الرأي العلني‪ .‬لذلك‪ ،‬ميكن أن يشوه تزييف‬
‫التفضيل أي معرفة خفية‪ ،‬سواء كانت صلبة أم لينة‪ .‬إن تحديد العمليات التي تحدث بها‬
‫التشوهات هو التحدي الذي يواجه الفصل التايل‪.‬‬
‫لئال يبدو هذا عملية تافهة‪ ،‬يجب أن أكرر أن الفكر االجتامعي املعارص يضم تقاليد‬
‫تنكر تأثري املجتمع عىل الترصفات الفردية‪ .‬مييل االقتصاد الكالسييك الحديث إىل اعتبار‬
‫التفضيالت مستقلة‪ .‬وبالتايل تفرتض النظريات السياسية يف التقاليد الكالسيكية الجديدة‬
‫أن األحزاب تتنافس من خالل تكييف أجندتها مع تفضيالت الناخبني الثابتة‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫بالطبع‪ ،‬تحاول األحزاب أيضً ا تشكيل ما يريده الناخبون‪ .‬لن تفعل ذلك لو كان الناخبون‬
‫وحدات بال نوافذ‪.‬‬
‫من االدعاءات املرتبطة باالقتصاد الكالسييك الجديد أن تفضيالت الناس املستقلة‬
‫ظاهريًا تعكس مصالحهم االقتصادية «املوضوعية»‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تُظهر الدراسات أن مقاييس‬
‫مثال‪ ،‬أن الشباب وكبار‬
‫املصلحة الذاتية هي مؤرشات ضعيفة لتفضيالت السياسة‪ 50.‬وجدوا‪ً ،‬‬
‫السن األمريكيني يدعمون بشكل متسا ٍو تقريبًا اإلعانات املالية للمتقاعدين‪ 51.‬وجدت أبحاث‬
‫عامال غري قابل لالختزال يف الخيارات السياسية‪ 52.‬بنا ًء‬
‫ً‬ ‫ذات صلة أن األيديولوجيا تعترب‬
‫عىل استنتاجات هذا الفصل‪ ،‬ستوضح الحجة يف الفصل التايل ملاذا ميكن لأليديولوجيا أن‬
‫تغمر أي مقياس «موضوعي» للمصلحة الذاتية‪.‬‬
‫مثة تقليد آخر يتعامل مع املفاهيم الشخصية للمصلحة الذاتية عىل أنها غري قابلة‬
‫للتغيري وهو األدب املستوحى من املاركسية‪ ،‬الذي يسعى إىل دحض إمكانية استعباد‬
‫الجامعات املضطهدة عقل ًيا من قبل مضطهديها‪ .‬يالحظ جيمس سكوت‪ ،‬أحد املساهمني يف‬
‫هذا األدب‪ ،‬أن املضطهدين يقومون بأدوارهم املسندة إليهم دون إغفال مصلحتهم الطاغية‪،‬‬
‫وهي اإلطاحة بالنظام املضطهد‪ .‬ويكتب‪« :‬هناك فرصة ضئيلة‪ ،‬ألن التمثيل بقناع سيؤثر‬
‫بشكل ملحوظ عىل وجه املمثل‪ .‬وإذا حدث ذلك‪ ،‬فهناك فرصة أفضل ألن ينمو الوجه خلف‬
‫بدال من أن يشبهه أكرث»‪ 53.‬تعتمد حجة سكوت‬
‫القناع‪ ،‬كرد فعل‪ ،‬ليبدو أقل شب ًها بالقناع ً‬

‫‪213‬‬
‫عىل نظرية رد الفعل‪ ،‬التي تنص عىل أنه يف ظل التهديدات املادية القوية‪ ،‬يتعايش االتفاق‬
‫العلني مع رد الفعل رسي – رغبة غري معرب عنها يف التمرد‪ 54.‬يف تطبيق نظرية رد الفعل‬
‫عىل السياسة‪ ،‬يخلط سكوت بني مقاومة املضطهد واالستقاللية املعرفية عن أيديولوجية‬
‫املضطهد‪ .‬ميكن للمرء أن يحتقر املضطهد‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يفشل‪ ،‬بسبب الظروف االجتامعية التي‬
‫خلقها املضطهد عىل وجه التحديد‪ ،‬يف تطوير نظرة عاملية خاصة به يف األساس‪ .‬فإظهار‬
‫أن املضط َهدين ال يقبلون كل عنرص من عنارص النظرة العاملية للمضطهِد ال يثبت أنهم ما‬
‫زالوا غري متأثرين عقل ًيا‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬إن القوى التي تنظم معتقدات املجموعة املضطهدة ليست أب ًدا مادية فحسب‪.‬‬
‫وكام سيظهر الفصل التايل‪ ،‬إنها تتخذ غال ًبا شكل ضغوط اجتامعية تنتهك الرشوط الصارمة‬
‫لرد الفعل العكيس‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫الفصل الحادي عرش‬

‫الالمعقول والالمطروق‬

‫يقدم الباحث اإلسالمي محمد أركون متييزين اصطالحيني يف توصيف الخطاب العلني يف‬
‫العامل اإلسالمي‪ .‬األول بني املعقول والالمعقول‪ ،‬والثاين بني املطروق والالمطروق‪ .‬وهو‬
‫يجادل‪ ،‬مالحظًا أن األجيال املاضية من املسلمني كانت تتعامل مع التنوير األورويب عىل أنه‬
‫المعقول‪ ،‬بأن األجيال الحالية ال ميكن حتى أن تتصور تطبيق منهجيات النقد التاريخي عىل‬
‫النصوص املقدسة والتقاليد املتبعة‪ .‬ويكمل مؤك ًدا‪« :‬إن صحوة اإلسالم تحدث عىل أساس‬
‫كبري من الالمطروق املرتاكم عىل مدى قرون»‪ .‬وهنا يكمن «واحد من األسباب العميقة‪ ،‬ولكن‬
‫الّسية‪ ،‬للعديد من املشاكل الحالية»‪ 1.‬أشار آخرون عديدون إىل الطبيعة الفقرية للفكر‬
‫اإلسالمي املعارص‪ ،‬مرجعني ذلك إىل اختناق النشاط الفكري للمسلمني منذ نحو القرن‬
‫‪2‬‬
‫العارش وما بعد‪.‬‬
‫االعتقاد الالمعقول هو الفكرة التي ال ميكن للمرء االعرتاف بها‪ ،‬وال حتى ميكنه‬
‫تصنيفها بأنها تستحق التفكري‪ ،‬دون أن يثري تساؤالت عن تحّضه‪ ،‬أو أخالقيته‪ ،‬أو والئه‪،‬‬
‫أو عمالنيته‪ ،‬أو صحة عقله‪ .‬أما االعتقاد الالمطروق فهو فكرة مل يفكر بها أحد حتى‪ .‬ويقوم‬
‫تفسري أركون للتاريخ اإلسالمي عىل فكرة أن االعتقاد الذي يعامل عىل أنه المعقول يختفي‬
‫يف النهاية من الوعي البرشي‪ ،‬وأنه ينتقل من عامل املطروق إىل عامل الالمطروق‪.‬‬
‫ال أسعى ال إىل تحدي أطروحة أركون عن اإلسالم وال إىل الرتويج لها‪ .‬بل إن هدف‬
‫هذا الفصل هو استكشاف العملية املتضمنة يف ادعائه التاريخي الكاسح‪ .‬وعىل الخصوص‪،‬‬
‫فإنني أريد أن أقرتح‪ ،‬بنا ًء عىل الفصل السابق‪ ،‬وبالعمل ضمن اإلطار املطور آنفًا لتشكيل‬
‫الرأي العلني‪ ،‬الطريقة التي ميكن من خاللها لالمعقول أن يصبح المطروقًا‪ .‬إن أهمية العملية‬
‫التي ستُرشح تتجاوز‪ ،‬بالطبع‪ ،‬عامل اإلسالم‪ .‬سلطت الفصول السابقة عن الطبقية‪،‬‬

‫‪215‬‬
‫والشيوعية‪ ،‬والعمل اإليجايب الضوء عىل بعض املحرمات التعبريية للمجتمعات األخرى‪.‬‬
‫وستعيد الفصول القادمة النظر يف هذه الحاالت الثالث إلظهار أن املحظورات املحددة‬
‫جميعها قد حرفت وقيدت الفهم الفردي وأثرت عليه سل ًبا‪.‬‬
‫توفر اصطالحات أركون بيانًا موج ًزا لحجة هذا الفصل الرئيسية‪ .‬فمن خالل نقل‬
‫املعتقدات من مجال املعقول إىل مجال الالمعقول‪ ،‬تؤدي الضغوط االجتامعية إىل سحب‬
‫هذه املعتقدات من الخطاب العلني‪ .‬إن ما أعقب ذلك من إعادة تشكيل للخطاب العلني يشوه‬
‫املعرفة الخفية‪ .‬وعىل وجه الخصوص‪ ،‬فإن ذلك يجعل الناس باستمرار أقل وع ًيا تجاه‬
‫سلبيات التفضيالت العلنية وأكرث وع ًيا بازدياد للمزايا‪ .‬ونتيج ًة لذلك‪ ،‬فإن الرأي الخفي‬
‫يتحرك ضد البدائل غري املفضلة لدى العامة‪ .‬وبعد أن قلل شعبيتها العلنية‪ ،‬ينتهي تزييف‬
‫التفضيالت بالتايل إىل خفض شعبيتها الخفية أيضً ا‪.‬‬

‫الخطاب العلني وتزييف املعرفة‬


‫افرتضت‪ ،‬عند تطوير فكرة تزييف التفضيالت‪ ،‬أن التفضيالت‪ ،‬سواء كانت خفية أم علنية‪،‬‬
‫تتخذ شكل أرقام متثل خيارات اجتامعية محددة‪ .‬وسأستمر يف استغالل هذا التخيل املالئم‪،‬‬
‫ولكن يجب اإلقرار بأن اختيار تفضيل عام ينطوي عمو ًما عىل إيصال شكل من أشكال‬
‫املعرفة‪ .‬وقد يتضمن هذا اإليصال صياغة فلسف ٍة‪ ،‬أو تفسري حدث‪ ،‬أو رفض ادعاء‪ ،‬أو اختيار‬
‫كلمة‪ ،‬من بني احتامالت أخرى‪ .‬تتحدث أستاذة جامعية عن فضائل التجارة الحرة‪ ،‬دون أن‬
‫ترصح عن مشاعرها تجاه التعريفات الجمركية‪.‬‬
‫بقدر ما يحمل الخطاب العلني معلومات عن التفضيالت العلنية‪ ،‬فإن لدى جامعات‬
‫الضغط داف ًعا لتنظيمه بالقوانني‪ .‬فهم‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬يكافئون التعبري عن أفكار معينة بينام‬
‫يفرضون العقوبات عىل التعبري عن أفكار أخرى‪ .‬ولديهم الحصانة يف تحديد الوقائع التي‬
‫ميكن الترصيح بها‪ ،‬والكلامت التي ميكن استخدامها‪ ،‬والحجج التي ميكن تقدميها‪ .‬ومتا ًما‬
‫كام أن الضغوط ضد التعبري عن تفضيالت معينة تنتج تزييفًا للتفضيالت‪ ،‬فإن الضغوط‬
‫‪216‬‬
‫املضادة للتعبري عن أفكار محددة تولد تزييفًا للمعرفة‪ .‬وإن لتزييف املعرفة‪ ،‬عند اتخاذه‬
‫وسيل ًة لتزييف التفضيالت‪ ،‬له أثر غري مقصود‪ :‬فهو يغري تركيب الخطاب العلني‪ ،‬فيجعل‬
‫الرسائل املفضلة أكرث شيو ًعا وغري املفضلة أقل شيو ًعا‪ .‬ومن اآلثار املبارشة لذلك تشويه‬
‫الرأي العلني‪ ،‬ومن النتائج عىل املدى األبعد تشويه املعرفة الخفية والرأي الخفي‪.‬‬
‫ولتفحص األثرين األخريين‪ ،‬لنتصور مجتم ًعا متفقًا عىل هدف ما‪ .‬وقد حددت‬
‫طريقتان أ وب كوسيلتني لتحقيق الهدف‪ .‬ولكن هناك اختالفًا عىل مزايا هذين الخيارين‪،‬‬
‫ويستمر الطرفان املتنازعان مد ًة من الزمن يف مناظرة علنية محتدمة‪ .‬ويف أحد األيام‪ ،‬يصبح‬
‫من غري املقبول اجتامع ًيا الدعوة إىل ب‪ ،‬ويبدأ الناس الذين ما يزالون متحزبني لهذا الخيار‬
‫بادعاء دعمهم لـ أ‪ .‬مع ازدياد اتجاه الرأي العلني شيئَا فشيئًا نحو أ‪ ،‬يستمر األفراد‬
‫املتعاطفون حقيق ًة مع أ يف التعبري عن آرائهم بحرية‪ .‬ولكن الناس الذين يتظاهرون وحسب‬
‫مبنارصة أ يتوقفون عن الترصيح بأفكارهم الصادقة‪ ،‬وإال سيتهمون بالتعاطف مع ب‪ .‬ال‬
‫يعلنون عام يريبهم يف أ‪ .‬وال هم يرصحون بتربيراتهم لـ ب‪ ،‬إال للسخرية منها أو تسفيهها‪.‬‬
‫دعوين اآلن أتفحص عواقب املعرفة الخفية اللينة‪ .‬وسيتبع ذلك اختبار لآلثار املرتتبة‬
‫عىل املعرفة الصلبة‪.‬‬

‫كيف يعيد تشويه الخطاب العلني تشكيل املعرفة اللينة‬


‫ال تعتمد املعرفة اللينة‪ ،‬إذ تخضع لقيود اإلثبات االجتامعي‪ ،‬عىل مادة الخطاب العلني‪ .‬لو‬
‫كان معظم الناس يدافعون عن أ ويعارضون ب‪ ،‬فإن الرأي العلني يظهر وكأنه يفضل أ‪،‬‬
‫وهذا كل ما يهم‪ .‬ال يهم ما إذا كانت الحجج املؤيدة للخيار أ مقنع ًة أو دقيقة‪ .‬املهم لدى‬
‫اإلثبات االجتامعي هو فقط أن يظهر بأن أ مدعوم عىل نطاق أوسع‪ .‬ومع ميل الخطاب العلني‬
‫لصالح أ‪ ،‬كذلك يفعل اإلثبات االجتامعي‪ .‬ويف خالل تلك العملية‪ ،‬تصري املعرفة اللينة أكرث‬
‫تأيي ًدا للخيار أ‪ ،‬ما يؤدي إىل تقليص الفجوة بني الرأي العلني والخفي‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫من املمكن‪ ،‬طب ًعا‪ ،‬أن تؤدي املثابرة عىل االعتقاد إىل إبطاء التكيف‪ .‬فقد يحتاج‬
‫منقسام بالتساوي بني أ وب إىل بعض الوقت حتى‬
‫ً‬ ‫الشخص املعتاد عىل رؤية الرأي العلني‬
‫يدرك وجود انحياز تجاه أ‪ .‬ولكن ينبغي متييز هذا الشكل من املثابرة عن ذلك الشكل املدفوع‬
‫بتصورات مسبقة موضوعية‪ .‬فإن عقل الشخص الذي تجنب إيالء تفكري جاد لقضية ال‬
‫يؤوي أي معرفة ذات صلة سوى يشء من إدراك الرأي العلني‪ .‬ونظ ًرا لكونه غري مثقل‬
‫بالتصورات املسبقة املوضوعية‪ ،‬فيمكن لفهمه أن يتطور مع التغريات يف الرأي العلني‪،‬‬
‫برشط أن تكون التغيريات ملحوظة‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬فإن املثابرة عىل املعتقدات ال تؤثر سوى عىل رسعة التكيف‪ .‬طاملا بقي‬
‫الرأي العلني منحازًا بشكل كبري لصالح أ‪ ،‬فإن كل املعرفة اللينة ستُتم يف نهاية األمر تحولها‪.‬‬
‫عامال يف الخيارات التعبريية لألفراد‬
‫ً‬ ‫ومن ذلك الحني‪ ،‬أيضً ا‪ ،‬لن يعود تزييف التفضيالت‬
‫املعتمدين عىل اإلثبات االجتامعي‪ .‬وجميعهم سيدعم أ عن قناعة بدالً من دعمه عن اضطرار‪.‬‬
‫قد يكون دعمهم مبنيًا عىل معلومات معيبة بالفعل‪ ،‬ولكن ميكن لهذا الحال أن يستمر‬
‫أجل غري مسمى‪ .‬حتى لو أدرك املفكرون يف القضية –أولئك الذين ميتلكون معرف ًة صلبة–‬
‫عيوب أ‪ ،‬فلن يتحرك الرأي العلني بالّضورة‪ .‬قد يبقي تزييف التفضيالت أولئك الذين يحتمل‬
‫أن يبدلوا قناعاتهم موالني أمام العامة للخيار أ‪.‬‬

‫األثر عىل املعرفة الصلبة‬


‫بااللتفات إىل املعرفة الصلبة‪ ،‬علينا أن نتذكر أن األفكار املوضوعية التي تبنى عليها ال تختفي‬
‫ببساطة عندما تحرض الضغوط االجتامعية تزييف املعرفة عىل نطاق واسع‪ .‬فاإليرانية‬
‫الالأدرية ال تنىس فضائل العلامنية عندما تجربها الظروف عىل إعالن تأييدها الشفوي‬
‫للحكم الثيوقراطي‪ .‬قد تبقيها املثابرة باملعتقدات مرتبط ًة مبعتقدات مناقضة للتفضيل‬
‫العلني الذي تتبناه‪ .‬ولكن املثابرة عىل االعتقاد ال تعزل‪ ،‬بأي شكل من األشكال‪ ،‬املعرفة‬
‫الصلبة عن تحيزات الخطاب العلني‪ .‬فهناك عامالن متقابالن متوازنان‪.‬‬
‫‪218‬‬
‫أوال‪ ،‬ال يرشح أي نظام اعتقادي كل حقيقة قد يدعى إىل توضيحها أو تفسريها‪ .‬فكل‬
‫ً‬
‫منوذج يقبض عىل جزء فقط من الحقيقة‪ ،‬لذا فإنه سيثبت عدم كفاءته عندما يوضع يف‬
‫مواجهة حقائق معينة‪ .‬وكام يشري فالسفة العلوم‪ ،‬حتى «قوانني الطبيعة» تنتهك بعض‬
‫جوانب الحقيقة‪ .‬وفيام يخص النامذج االجتامعية‪ ،‬فإن الشواذ –املالحظات التي ترتك دون‬
‫تفسري– أكرث وفرة منها يف القوانني الطبيعية‪ .‬ومع ذلك فإن الحاالت الشاذة ال تجذب‬
‫االنتباه بالّضورة‪ .‬ال يقابل املؤمن مبعتقد غري قابل للتشكيك يف السياق العلني أي يشء‬
‫يذكره مبكامن ضعف معتقده‪ .‬فهو يرى أن الخطاب العلني محمل بالحقائق والحجج‬
‫املتسقة مع معتقده‪ .‬يف املقابل‪ ،‬فإن املؤمن مبعتقد يتحدى الخطاب العلني يتذكر دامئًا‬
‫عيوب تفكريه‪ .‬ولذلك فهو يشعر بالضغط ملراجعة معتقداته‪ .‬عىل األقل‪ ،‬يجد نفسه يف قبضة‬
‫الشك واالرتباك‪.‬‬
‫العامل الثاين املوازن هو خطأ اإلحالة األسايس‪ ،‬والذي قدمناه يف الفصل ‪ .4‬تذكروا‬
‫أن هذه املغالطة تؤدي إىل ميل الناس لالستهانة مبدى قدرة الضغوط االجتامعية عىل تحديد‬
‫الخيارات الفردية واملبالغة يف تقدير أهمية النزعات الفردية‪ .‬ولهذه املغالطة جذور يف‬
‫استكشافيتني حكميتني ناقشناهام مسبقًا‪ ،‬وهام التمثيل والتوافر‪ .‬الفاعلون أسباب أكرث‬
‫متثيالً لخياراتهم من الضغوط االجتامعية‪ ،‬ألنهم يؤدون الفعل بأنفسهم‪ .‬والبيانات الخاصة‬
‫مبصادر الضغوط االجتامعية غالبًا ما ال تكون بارزةً‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬غري متوافرة‪.‬‬
‫بقدر ما يدفع خطأ اإلحالة األسايس باستكشافية التوافر‪ ،‬فإن عىل الفاعلني أال‬
‫يخضعوا له بسهولة مراقبيهم‪ .‬ففي النهاية‪ ،‬ال يرى الفاعلون أنفسهم‪ ،‬ويرتكز اهتاممهم عىل‬
‫ميال من‬
‫فرصهم وقيودهم الخفية‪ .‬وتؤكد األدلة التجريبية هذا املنطق‪ .‬فالفاعلون أكرث ً‬
‫املراقبني إلسناد خياراتهم إىل عوامل كيفية‪ 3.‬ولكن حتى الفاعلون يعطون وزنًا مفرطًا‬
‫لعوامل النزعة‪ .‬فعند تفسري أفعالهم‪ ،‬يتجاهلون باستمرار أهمية الضغوط الخفية التي‬
‫‪4‬‬
‫يبتدعها املجربون‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫ولهذه النتيجة البحثية دالالت حاسمة‪ .‬ففي التفسري الالحق للتفضيل العلني‪ ،‬قد‬
‫يستهني مزيف التفضيل يف تقييم الدرجة التي يختلف بها التفضيل العلني عن تفضيله‬
‫الخفي‪ .‬وهذا ألن معتقداته قد تتكيف دون وعي مع املعتقدات التي كان عليه التعبري عنها‬
‫عىل املأل‪ .‬وقد يستهني املزيف‪ ،‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬يف هذه العملية بتقييم التنافر الحاصل بني‬
‫الخطاب العلني وأفكاره األصلية‪ .‬األمر كام لو أن حربا ًء أدركت أنها تحولت إىل اللون األخّض‬
‫لتندمج مع أوراق الشجر املحيطة بها‪ ،‬ولكنها أخطأت يف إدراك مقدار تغري لونها فعل ًيا‪.‬‬
‫تتغري الّسعة التي تتحول بها املعرفة الصلبة من سياق إىل آخر‪ .‬فعندما تكون‬
‫مهام للمعلومات‪ ،‬تكون املعرفة الصلبة‬
‫التجربة الشخصية املستمرة أو التأمل املرتاكم مصد ًرا ً‬
‫مقاوم ًة بشكل خاص للرسائل املتناقضة املحتواة يف الخطاب العلني‪ .‬ولكن‪ ،‬حتى حينذاك‪،‬‬
‫سيظل هناك أثر ما‪ .‬قد يشعر املرء بأن التخطيط املركزي غري حيوي ويحتفظ بهذا التصور‬
‫يف وجه عقود من الدعاية املعادية للسوق‪ ،‬ولكن يخّس القدرة عىل تعلم املزيد عن أوجه‬
‫قصور التخطيط‪ .‬إضاف ًة إىل ذلك‪ ،‬قد يُعتنق املعتقد الصلب بدرجات متغرية من الثقة‪ .‬ومن‬
‫األرجح أن يؤجج الشكوك‪ ،‬بقدر ما يناقض الخطاب العلني‪.‬‬
‫لذا يؤثر تشويه الخطاب العلني عىل كل من املعرفة الصلبة واللينة‪ ،‬ولكن من خالل‬
‫آليات مختلفة‪ .‬فاملعرفة اللينة تتغري بسهولة ألن ال يشء يحد حركتها سوى صعوبات التحقق‬
‫من مسار الخطاب العلني‪ .‬وبكل األحوال‪ ،‬فإن العوائق اإلدراكية أو التصورية تفقد أهميتها‬
‫عندما يتحول الرأي العلني عىل نطاق واسع‪ .‬وعىل عكس املعرفة اللينة‪ ،‬ال تتحرك املعرفة‬
‫الصلبة بالّضورة مع التحوالت املتصورة للرأي العلني‪ .‬إذ لن يفقد شخص ذو معلومات‬
‫بديال‪.‬‬
‫تفضل برنام ًجا معي ًنا إميانه بذلك الربنامج ملجرد أن الرأي العلني يفضل اآلن خيا ًرا ً‬
‫ولكن قد تهتز ثقته بالربنامج‪ ،‬وقد ال يكون قاد ًرا عىل اكتشاف تربيرات جديدة لرفض‬
‫‪5‬‬
‫البديل‪.‬‬
‫يسمح لنا اإلدراك بأن درجات الصالبة والليونة متفاوتة وال ميكن تحديد أحد‬
‫املفهومني بشكل مطلق بأن نصقل االستنتاجات السابقة‪ .‬فقد تؤثر الضغوط االجتامعية ضد‬

‫‪220‬‬
‫عكسا مع صالبة‬
‫حرية التعبري عىل أي معتقد محدد‪ ،‬رغم أن أثر التكيف ورسعته يتناسبان ً‬
‫ريا؛ بينام تحتفظ املعرفة الخفية‬
‫ريا واألشمل تغ ً‬
‫املعتقد‪ .‬املعرفة شديدة الليونة هي األرسع تغ ً‬
‫شديدة الصالبة بأكرب مقدار من املثابرة‪ .‬ولكن يبقى األثر الصايف للقيود التعبريية أن‬
‫مبعنى آخر‪،‬‬
‫ً‬ ‫تتحول املعرفة الخفية ضد األفكار التي يحف التعبري عنها باملخاطر‪ .‬فهو‪،‬‬
‫تخفيف أثر الالمعقول‪.‬‬

‫تخفيف التنافر املعريف؟‬


‫يف الحجة الواردة أعاله ال ترتبط التغريات يف املعرفة الخفية بالدافع الشخيص‪ .‬فقد حظرت‬
‫املعتقدات استجاب ًة لتحوالت يف جسم املعلومات العلنية‪ ،‬وليس بسبب قرار األفراد بأن يغريوا‬
‫آراءهم‪ .‬ميكن مقابلة هذه اآللية غري املدفوعة للتكيف باآللية املدفوعة التي أوردها ليون‬
‫فستنغر يف عمله الكالسييك عن «التنافر املعريف»‪ 6.‬إن افرتاض فستنغر الرئييس هو أن‬
‫الناس يسعون نحو التوافق املعريف‪ .‬ويكون الشخص الذي ميتلك سلوكيات ال تتوافق مع‬
‫بعضها يف حالة تنافر معريف‪ .‬ومبا أن التنافر مزعج‪ ،‬يحاول الشخص تخفيفه‪ ،‬ويحاول‬
‫أيضً ا أن يتجنب املواقف التي قد تستحّضه‪ .‬يف الواقع‪ ،‬فهو يكيف معتقداته عم ًدا يف‬
‫محاولة إلبقاء التوترات التي تخلقها يف حدها األدىن‪.‬‬
‫إن تزييف التفضيالت شكل من أشكال عدم االنسجام الشخيص‪ ،‬ويويل فستنغر‬
‫الكثري من االهتامم للجهود التي يتخذها الناس لتجاوز التنافر الناتج‪ .‬وتظهر تجاربه أنه‬
‫عندما يستوعب شخص ضغطًا اجتامع ًيا بهدف الحصول عىل مكافأة كبرية أو تجنب عقاب‬
‫قليال‪ ،‬إن تغري إطالقًا‪ .‬ولكن عندما يكون الحافز‬
‫شديد‪ ،‬فإن تفضيله الخفي ال يتغري سوى ً‬
‫بالكاد كاف ًيا لجعله يذعن‪ ،‬فإن تفضيله الخفي يخضع لتحول عظيم‪ .‬وإليكم تفسري فستنغر‬
‫نفسه‪ :‬يختلف قدر التنافر الناتج عن رصاع بني نفس اإلنسان الداخلية والخارجية بتناسب‬
‫عكيس مع حوافز املرء التي تدفعه الستيعاب الطلبات الخارجية‪ 7.‬إذا دافعت إيرانية عن‬
‫الحكم اإلسالمي تحت تهديد السجن‪ ،‬ميكنها بسهولة تربير إذعانها كثمن منخفض تدفعه‬
‫‪221‬‬
‫لقاء تجنب مشقة عظيمة‪ .‬ولكن لو كان دافعها بدل ذلك أن تكسب قبول أقرانها‪ ،‬فقد تشعر‬
‫ٍ‬
‫مرض‪ .‬ماذا لو كانت رصيحةً‪ ،‬ومل يفعل أقرانها شيئًا سوى‬ ‫بضغط كبري إليجاد تربير‬
‫العبوس يف وجهها؟ إذن‪ ،‬فإن تنافرها يكون أكرب من الحالة السابقة‪ .‬ولذلك‪ ،‬وفق منطق‬
‫فستنغر‪ ،‬ستحاول أكرث أن تكيف تفضيلها الخفي حسب تفضيلها العلني املختار‪.‬‬
‫دعوين أوضح هذا التفسري عىل ضوء نظريتي الخاصة‪ .‬إذا كان جعل إيرانية تدعم‬
‫الحكم اإلسالمي أم ًرا يتطلب تهدي ًدا قاس ًيا‪ ،‬فإن من األسباب املحتملة لذلك أنها مقتنعة بأن‬
‫الحكومة العلامنية أفضل‪ .‬ميكن للمرء‪ ،‬إذن‪ ،‬أن يتوقع أن تحمي املثابرة عىل االعتقاد قناعاتها‬
‫عن الحجج العلنية الداعمة للحكم اإلسالمي و‪ ،‬من ثم‪ ،‬أن يستمر عدم االنسجام بني‬
‫تفضيالتها الخفية والعلنية‪ .‬إذا خضعت بدل ذلك لضغط معتدل‪ ،‬فإن السبب قد يكون أن‬
‫تحفظاتها صغرى أو أنها‪ ،‬إذا كانت كربى‪ ،‬مبنية عىل فهم سطحي‪ .‬ويف كلتا الحالتني‪ ،‬فإن‬
‫مقاومتها لألفكار الجديدة عىل األرجح منخفضة‪ .‬النقطة الحاسمة هي أن الفروقات يف‬
‫التغريات السلوكية هي أميل ألن تعكس اختالفات يف املقاومة املعرفية‪ ،‬ال فروقات يف‬
‫الدوافع‪.‬‬
‫ومن نتائج فستنغر األخرى أن الناس يبحثون عن املعلومات التي تخفف التنافر‬
‫ويتجنبون املعلومات التي يرجح أن تزيد التنافر‪ 8.‬وتفسريه أن االنخفاض الناتج يف التنافر‬
‫متعمد‪ .‬وبحسب وجهة نظره‪ ،‬فإن اإليرانية التي تتظاهر مبوافقة الحكم اإلسالمي ستويل‬
‫خاصا للدعاية الرسمية وستتجنب االستامع إىل اإلذاعات األجنبية الناقدة‪ .‬ومن خالل‬
‫ً‬ ‫اهتام ًما‬
‫تعرض انتقايئ كهذا للمعلومات‪ ،‬ستتمكن من غسيل دماغها‪ ،‬وبذلك توافق بني تفضيلها‬
‫الخفي وتفضيلها العلني‪.‬‬
‫بديال‪ .‬فإن من يريد الناس أن يظنوا بأنها تدعم الحكم‬
‫ريا ً‬‫ومن جديد‪ ،‬فإن هناك تفس ً‬
‫اإلسالمي يعلم بأن عليها ليك تبدو مقنع ًة أن تدعم موقفها املختار بأسباب عقالنية مالمئة‪.‬‬
‫والدعاية الرسمية تحمل حج ًجا مالمئة وشعارات وفرية؛ عىل عكس اإلذاعات األجنبية‪ .‬لذا‬
‫فقد تعرض نفسها عن وعي لألوىل يك تسيطر بشكل أفضل عىل صورتها العلنية‪ .‬ومن‬

‫‪222‬‬
‫الفوائد املكملة للتعرض االنتقايئ أنه يشري إىل أنها حصيفة يف نزعتها‪ .‬تخاطر اإليرانية‬
‫املؤيدة ظاهريًا لإلسالميني عند ضبطها وهي تستمع إىل إذاعة صوت أمريكا‪ ،‬بينام ميكن‬
‫أن تستمع إىل إذاعة طهران‪ ،‬بأن توصف بأنها منافقة‪ .‬فمن خالل االستامع إىل إذاعة طهران‬
‫عندما يكون اآلخرون عىل مرمى السمع‪ ،‬تتمكن من إظهار تفضيلها العلني املختار بشكل‬
‫أكرث مصداقية‪.‬‬
‫يف تفسريي الخاص‪ ،‬إذن‪ ،‬يعكس التعرض االنتقايئ سع ًيا للسالم الخارجي ال السالم‬
‫الداخيل‪ .‬وهو يتبع لتربير موقف املرء العلني لآلخرين ال لنفسه‪ .‬وهو بذاته شكل من أشكال‬
‫تزييف التفضيالت‪.‬‬
‫عندما تقبل ظاهرة تفسريين‪ ،‬ال يكون من الّضوري أن يكون أحدها خاطئًا‪ .‬فإن‬
‫تفسري فستنغر وتفسريي ليسا متناقضني فيام بينهام بشكل ال ميكن التوفيق معه بينهام‪.‬‬
‫قد تستمع اإليرانية إىل إذاعات منارصة للحكومة للحصول عىل معارف مريحة ولرتسل‬
‫إشارات بأن موقفها مقبول اجتامعيًا‪ .‬ولكن إذا كانت حجتي صحيحةً‪ ،‬فإن الشخص الذي‬
‫رسا‪ ،‬كلام أتيحت له الفرصة‪ ،‬إىل‬
‫يستمع إىل راديو طهران يف حضور اآلخرين سيستمع ً‬
‫صوت أمريكا‪ .‬وإذا كان فستنغر محقًا‪ ،‬فلن يحدث هذا‪ ،‬ألن ذلك سيقيض عىل الغاية من‬
‫االستامع إىل راديو طهران‪.‬‬
‫قد أضيف أن نظرية التنافر املعريف هذه تتعارض مع الحقيقة الرصيحة بأن‬
‫املعتقدات املتناقضة قد تتعايش يف عقل شخص حتى أجل غري مسمى‪ .‬وكام ناقشنا مسبقًا‪،‬‬
‫فإننا ببساطة غري قادرين عىل أن نجمع يف منوذج متكامل كل املتغريات والعالقات العديدة‬
‫التي تؤثر عىل سعادتنا‪ .‬علينا جمي ًعا تجزئة الحقيقة إىل العديد من النامذج املستقلة‪ .‬وهذه‬
‫املالحظة متثل أحجي ًة يف ظل إطار فستنغر‪ .‬إذا كنا ال نرتاح لالحتفاظ بأفكار متناقضة‪ ،‬فام‬
‫الذي يفّس أننا ال نتمكن إال من التخلص من بعض تناقضاتنا؟‬
‫إليكم إجاب ًة محتملةً‪ :‬عندما تغري معتقدات املرء هذه السعادة ال من خالل جهوده‬
‫الخاصة‪ ،‬بل‪ ،‬من خالل عملية اجتامعية يكون فيها مجرد واحد من بني العديد من املشاركني‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫إذا كان الخطاب العلني يعامل قضيتني عىل أنهام غري متصلتني‪ ،‬فاألحرى به فعل اليشء‬
‫فعال غري مدرك لوجود‬
‫نفسه‪ ،‬ألنه ال ميكن أن يستكشف كل الروابط املمكنة‪ .‬قد يظل ً‬
‫ارتباطات مهمة دون أن يشعر بأي اضطراب‪.‬‬
‫يف مصفوفة واسعة من السياقات تكون الروابط التي يضعها الناس بني األحداث‪،‬‬
‫والنتائج‪ ،‬والظواهر‪ ،‬محكوم ًة بشكل كبري بالخطاب العلني‪ .‬وعندما يكون الخطاب العلني‬
‫نفسه غري متجانس –كام هو الحال عندما يروج الدقة الحرفية لإلنجيل بينام يحتفي بالقوة‬
‫أصال‪ .‬ولكن العديد منهم‬
‫ً‬ ‫التفسريية لعلم األحياء املعارص– قد ال يالحظ الناس التناقض‬
‫سيالحظ‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬إذا بدأ التناقض يسرتعي اهتام ًما عا ًما‪.‬‬

‫من الالمعقول إىل الالمطروق‬


‫يف الحجة املقدمة حتى اآلن‪ ،‬ميكن للضغوط االجتامعية أن تحجب صياغة األفكار وتغذي‬
‫الشكوك تجاه صالحيتها ولكن‪ ،‬بفرض أن بعض الناس يحتفظون بهذه األفكار ألسباب‬
‫موضوعية‪ ،‬دون أن تؤدي إىل انقراضها‪ .‬وينتج عن ذلك أنه لو أصلح تكوين املجتمع‪ ،‬لن‬
‫متوت األفكار أب ًدا‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬بالطبع‪ ،‬يتغري التكوين من خالل الوالدات والوفيات‪.‬‬
‫الخطوة التالية أن نكتشف كيف يؤثر تشويه الخطاب العلني عىل سيادة أفكار لفرتات‬
‫طويلة مبا يكفي لتجدد السكان بالكامل‪ .‬وتنضوي هذه الخطوة عىل تحديد آلية تكاملية‬
‫للتحول األيديولوجي ملكاملة اآللية التكاملية لتحويل األفراد املعروضة مسبقًا‪.‬‬
‫عندما ميوت الناس يأخذون معهم معرفتهم الخفية‪ ،‬مبا فيها أفكارهم املناقضة‬
‫للخطاب العلني‪ .‬وكام هو حال جيناتهم‪ ،‬فإن أفكارهم املعرب عنها تعيش يف خلفهم؛ بينام‬
‫قد متوت معتقداتهم‪ .‬سيشكل النسل رؤاهم عن العامل من خالل التجربة‪ ،‬والتجريب‪،‬‬
‫والدراسة‪ ،‬وأشكال مختلفة من اإلثبات االجتامعي‪ .‬وأينام ظهر اإلثبات االجتامعي‪ ،‬فإن‬
‫الرؤى العاملية للنسل ستتحمل تأثري املحظورات التي كانت سائدة خالل فرتة حياة جيل‬
‫اآلباء‪ .‬إن الفكرة القائلة إن كل جيل يساعد يف تشكيل معرفة الجيل التايل ليست جديدةً‪،‬‬
‫‪224‬‬
‫بالطبع‪ .‬وتكمن أهمية الحجة التالية يف تركيزها عىل القيود التعبريية املدفوعة اجتامع ًيا‬
‫كمحدد أكرب ملحتوى نقل املعرفة بني األجيال‪.‬‬
‫منقسام وتلك‬
‫ً‬ ‫من املفيد التمييز بني القضايا املطروحة عندما يكون الرأي العلني‬
‫املطروحة عندما ال يكون كذلك‪ .‬فعندما ينقسم الرأي العلني‪ ،‬ميتاز الخطاب العلني بوجود‬
‫مناظرات حقيقية‪ .‬لذا ال ميكن لليافعني أال يالحظوا وجود قضية غري محسومة‪ .‬وسيوليها‬
‫البعض اهتام ًما من باب أنها تؤثر عىل سعادتهم‪ ،‬بينام يفعل ذلك آخرون من باب الفضول‪.‬‬
‫ومهام كانت دوافعهم للتفكري باملسألة‪ ،‬فإن أفراد الجيل الجديد هؤالء سيختربون ما‬
‫يسمعونه حسب تجاربهم الخاصة‪ .‬وقد يكون لجزء منهم تجارب تبعد أفكارهم عن التيار‬
‫السائد يف الخطاب العلني – كام يحدث عندما يكتشف عامل أمرييك مّسح فضائل‬
‫االشرتاكية‪ .‬بينام يكون آلخرين ممن يفكرون بالقضية املثرية للجدل تجارب داعمة لوجهة‬
‫النظر السائدة‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فمن األرجح عىل جامعة تعرضت للطيف الكامل من وجهات النظر أن تظهر‬
‫ربا يف أفكارها‪ .‬ولكن الخطاب العلني املنقسم ليس حياديًا يف تأثريه عىل العقول‬
‫تنو ًعا معت ً‬
‫الشابة‪ .‬فاألفكار التي تنطبع يف أذهان الشباب تؤثر عىل كيفية تفسريهم لتجاربهم الالحقة‪،‬‬
‫ومن األرجح أن تكون هذه األفكار هي التي تفرض أكرب قبول اجتامعي‪ .‬لذا ففي حني أن‬
‫الخطاب العلني ليس املحدد الوحيد ملا يفكر به الشباب‪ ،‬فإن دوره مهم‪ .‬بقدر ما يفضل‬
‫الخطاب العلني خيا ًرا اجتامع ًيا ما‪ ،‬فإن أفكار الشباب ستعكس االنحياز‪ .‬قد تنتج تجاربهم‬
‫معاكسا‪ .‬ولكن طاملا مل يكن قويًا فإن أفكارهم ستميل لالتساق مع‬
‫ً‬ ‫الحياتية‪ ،‬بالطبع‪ ،‬انحيازًا‬
‫األفكار السائدة لجيل آبائهم‪ .‬يف أي حال‪ ،‬لن يتأمل كل أفراد جامعة شابة يف كل قضية‬
‫ريا‪ ،‬مفضلني أن يركبوا موجة اإلثبات االجتامعي‪.‬‬
‫جدلية مطروحة‪ .‬فبعضهم لن يهتم كث ً‬
‫وسيميل غري املفكرين هؤالء إىل استيعاب وجهة النظر السائدة يف الخطاب العلني‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬فحتى عند انقسامه‪ ،‬يرتك الخطاب العلني لجيل ما أث ًرا عىل املعرفة الخفية –‬
‫وبالتايل عىل التفضيالت الخفية أيضً ا– للجيل الذي يليه‪ .‬سوا ًء كان الشباب يعتمدون عىل‬

‫‪225‬‬
‫اإلثبات االجتامعي أو عىل محتوى الحجج السائدة‪ ،‬فإنهم متأثرون بالخطاب العلني‪ ،‬رغم‬
‫أن بعضهم يتبنى بعض اآلراء األقلية‪ .‬بالطبع‪ ،‬ليس من الّضوري عىل الخطاب الذي يشكل‬
‫وجهة النظر العاملية للجيل الشاب أن يعكس القناعات الحقيقية للجيل األكرب‪.‬‬
‫ألتفت اآلن إىل الحالة املتطرفة التي يكون فيها الرأي العلني غري منقسم‪ .‬لنفرض أن‬
‫الجيل األكرب وصل إىل توافق يف السياق العلني‪ ،‬ولكن ليس يف الخفي‪ ،‬عىل مزايا خيار‬
‫اجتامعي محدد‪ .‬يتكون الخطاب العلني بالتايل من مربرات مل يحتج عليها أحد لخيار ال‬
‫يعارضه أحد يف السياق العلني‪ .‬ليس الشباب أكرث عد ًة من أي جيل آخر حتى يفكروا بجدية‬
‫يف كل مسألة محتملة‪ .‬وبسبب محدودية إدراكهم‪ ،‬عليهم أن يفكروا بانتقائية‪ ،‬معتمدين‬
‫بشكل كبري عىل اإلثبات االجتامعي‪ .‬لذلك سيعاملون معظم املسائل التي مل يرثوا فيها خالفًا‬
‫عا ًما عىل أنها محسومة‪ ،‬ليحتفظوا بقواهم العقلية بشكل أسايس للمسائل التي تبدو جدليةً‪.‬‬
‫أصال‪.‬‬
‫ويف خالل هذه العملية‪ ،‬سيعاملون العديد من قضايا األمس عىل أنها ليست قضايا ً‬
‫ويف األماكن التي رأى فيها آباؤهم مسائل تقتيض النقاش‪ ،‬فإنهم يرون حلوالً مربر ًة بالكامل‬
‫وحسب‪.‬‬
‫إن نتيج ًة كهذه تكون أكرث ترجي ًحا بكثري يف املسائل التي ال تساعد فيها الخربة‬
‫ريا يف التمييز بني الخيارات املتاحة‪ .‬فوضع حظر غري معرتض عليه عىل عملية‬
‫الشخصية كث ً‬
‫طبية ما لن يثري اهتامم غري العلامء‪ .‬حتى الباحثون الطبيون قد ميتنعون من دراسة عمالنية‬
‫الحظر ويلتفتوا إىل مسائل أخرى‪ .‬يف املقابل‪ ،‬يف القضايا التي توفر فيها الخربة الشخصية‬
‫إشارات موثوقة‪ ،‬قد يعيد الشباب ببساطة اكتشاف خيارات كان آباؤهم قد تغاضوا عنها‪.‬‬
‫فاألفراد الذين ولدوا يف مجتمع يتبنى العيش يف العراء سيعيدون بّسعة اكتشاف فوائد‬
‫املأوى‪.‬‬
‫لذلك فإن الالمعقول لجيل ما ال يدخل بشكل تلقايئ إىل المطروق الجيل الذي يخلفه‪.‬‬
‫فالناس قادرون قط ًعا عىل إعادة اكتشاف الخيارات االجتامعية واكتشاف األخطاء يف‬
‫الحجج املقبولة عىل نطاق واسع‪ .‬ومع ذلك فإن حدود إدراك اإلنسان تلفت انتباهه بعي ًدا عن‬

‫‪226‬‬
‫املسائل غري الخاضعة للنقاش‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن أرجحية دخول األفكار غري املعرب عنها إىل النظرة‬
‫العاملية لألجيال الالحقة أقل من أرجحية دخول األفكار املعرب عنها بشكل مفتوح عىل املأل‪.‬‬
‫ميكن أن تكون العملية التي يدخل فيها الالمعقول عامل الالمطروق من جيل إىل آخر‬
‫مصد ًرا متينًا للمثابرة االجتامعية‪ .‬وبجعل الناس أقل وع ًيا بتربيرات التغيري مع الزمن‪ ،‬ميكن‬
‫للعملية أن تخمد الدعم الخفي لإلصالح‪ .‬ميكن أن يحدث التحول دون أي تخطيط‪ ،‬مع أن‬
‫مكمال قويًا‪ .‬فبمجرد صمت مجتمع عن تحفظاته تجاه وضع‬
‫ً‬ ‫عامال‬
‫ً‬ ‫اإلمالء املتعمد قد يكون‬
‫قائم ما‪ ،‬ميكنه أن يبقي خلَفه غري واعني باألفكار التي ينبغي إصالحها‪ .‬ويصبح الوضع‬
‫القائم‪ ،‬الذي كان مستم ًرا لخوف الناس من تحديه‪ ،‬مثاب ًرا ألن بدائله مل تعد معروفة‪.‬‬
‫يقول مايكل بوالنيي‪ ،‬فيام كتبه عن القوة االجتامعية لألفكار التي تشكل افرتاضات‬
‫ضمنية‪« :‬إن نقل املعرفة من جيل إىل آخر يجب أن يكون ضمنيًا يف جله»‪ 9.‬ال جيل‪ ،‬حوفق‬
‫رشح بوالنيي‪ ،‬ناهيك عن كل عضو فيه‪ ،‬ميكنه اختبار كل املعرفة التي يتعرض لها‪ .‬عىل كل‬
‫جيل أن يأخذ بالكثري من املسلامت‪ .‬إن أهمية الفكر الضمني مستقلة عن تزييف التفضيالت‪.‬‬
‫حتى األشخاص الذين كان أسالفهم محايدين متا ًما يقبلون الكثري دون متحيص‪ .‬ولكن‬
‫حدود الفكر الضمني ال تعتمد عىل تزييف التفضيالت‪ .‬عندما ال تعود البنى االجتامعية ذات‬
‫العيوب املعروفة تلقى أي ٍ‬
‫تحد‪ ،‬فإن منافعها املزعومة تصبح مقبول ًة بصفتها بديهي ًة يستدل‬
‫عليها بذاتها‪.‬‬
‫ريا أكرب عىل ما يفكر به الشباب مام‬
‫تظهر األبحاث السلوكية أن املجتمع يطبق تأث ً‬
‫يفعل عىل ما يفكر به هو‪ .‬من خالل العائلة‪ ،‬ومكان العمل‪ ،‬ووسائل اإلعالم‪ ،‬يظهر أن املجتمع‬
‫يلعب دو ًرا محوريًا يف تحديد املكان الذي يرسم عنده الشباب الحدود بني املطروق‬
‫تحكام أقل عىل التصورات التي يطورها الشباب عىل املسائل‬
‫ً‬ ‫والالمطروق‪ .‬ميارس املجتمع‬
‫التي يولونها اهتام ًما جا ًدا‪ 10.‬تظهر األبحاث اإلدراكية ذات الصلة أن األجيال الشابة غال ًبا ما‬
‫تولد وجهات نظر جديدة تجاه املسائل التي تختار التطرق إليها‪ ،‬وجزء من ذلك يعود إىل‬
‫أنهم يجمعون األفكار املوجودة بطرق جديدة وجزء آخر ألن هذه األفكار تتفاعل مع التجارب‬

‫‪227‬‬
‫الشخصية‪ 11.‬ليست املسألة يف أن الشباب قادرون عىل التفكري املستقل‪ ،‬بل فقط أن‬
‫بإمكانهم التحرر من بعض أمناط التفكري التي ورثوها‪.‬‬
‫ميكن القول إن األفكار ذات النتائج العظيمة ال تضيع بالكامل أب ًدا يف الخطاب‬
‫العلني‪ ،‬وإن الناس ذوي الشجاعة غري العادية والبصرية فوق العادية دامئًا ما يجدون‬
‫فعال‪ ،‬إن األفكار التي تخفى عن عامة الجمهور قد تعيش إىل‬
‫مستمعني يستبعد أن يؤذوهم‪ً .‬‬
‫أجل غري مسمى يف جامعات صغرية‪ .‬ولكن هذا بالكاد ينفي الحجة العلنية‪ .‬من الصعب‬
‫حا ودق ًة عندما يعرب عنها علنًا‬
‫الوصول إىل فهم عميق يف الّس‪ .‬تكتسب األفكار وضو ً‬
‫وتناقش عىل نطاق واسع‪.‬‬
‫من االعرتاضات األخرى املحتملة أن األفكار الالمعقولة قد تعيش يف الكتب والسجالت‬
‫مثال‪ ،‬ميكن مالحظة فكرة مل يعرب عنها منذ زمن‬
‫الدامئة األخرى ويعاد اكتشافها يف النهاية‪ً .‬‬
‫ثم يعاد تقدميها إىل الخطاب العلني من قبل باحث ما يف تاريخ الفكر االجتامعي‪ .‬أجل هذا‬
‫صحيح‪ ،‬ولكن اكتشافًا مثم ًرا كهذا أبعد مناالً من مالحظة فكرة موجودة بشكل روتيني يف‬
‫املنشورات املعارصة ويعرب عنها برصاحة يف الحديث اليومي‪ .‬وتظل النقطة أن األفكار‬
‫احتامال للبقاء يف الوعي البرشي من األفكار التي ما يزال‬
‫ً‬ ‫املحجوبة عن الرأي العلني أقل‬
‫يعرب عنها بشكل حر‪.‬‬

‫الفجوة األيديولوجية بني األجيال‬


‫إذا كان أحد األمناط الشائعة يف االنتقال بني األجيال تأثري الجيل األكرب عىل أفكار الجيل‬
‫الشاب‪ ،‬فإن منطًا آخر هو اختالف رؤية الجيل األكرب والجيل الشاب يف كيفية رؤية األشياء‪.‬‬
‫فبينام يرتقب الشباب األيام املرشقة التي تنتظرهم‪ ،‬يحن الجيل األكرب إىل «أيام زمان‬
‫الحلوة»‪ .‬وبينام يعتنق الشباب االبتكارات بحامسة‪ ،‬يقاوم األكرب سنًا الجدة ويعيبون‬
‫التجريب‪ .‬تقسم بني األجيال‪ ،‬فعل ًيا‪ ،‬فجوة أيديولوجية بني األجيال‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫يف إطار بحثنا هنا‪ ،‬تحتمل هذه الفجوة التفسري التايل‪ .‬يف قضية ينقسم فيها الرأي‬
‫العلني إىل حد ما‪ ،‬يأخذ الوافدون الجدد إىل املجتمع التفكري عىل عاتقهم‪ ،‬ويخرج بعضهم‬
‫بأفكار جديدة‪ .‬يرى بقية الشباب أن هذه األفكار منطقية‪ ،‬يف حني أن األكرب سنًا‪ ،‬بسبب‬
‫تصوراتهم املسبقة‪ ،‬مييلون إىل االحتفاظ بتشككهم‪ .‬لذا فإن الجيلني يتباعدان عقل ًيا‪.‬‬
‫سوف تتالىش أي فجوة بني األجيال إذ يؤدي التجدد السكاين إىل تقليص نسبة‬
‫رشيحة املجتمع املرتبطة باملعتقدات القدمية‪ .‬ويف أثناء هذه العملية‪ ،‬سيتحول الرأي الخفي‪،‬‬
‫ما قد يؤدي إىل حدوث تغيري يف الرأي العلني‪ .‬وكام نوضح الحقًا‪ ،‬قد ينطوي التحول األخري‬
‫عىل قفزات مفاجئة‪ .‬ويكفي هنا أن نالحظ أنه مبجرد حظي األفكار الجديدة بقبول واسع‪،‬‬
‫فإنها تلقى مقاومة‪ .‬فبينام يجد أحد األجيال أن قبولها صعب‪ ،‬قد يجدها الجيل صعبة‬
‫الرفض‪ .‬بالطبع‪ ،‬فإن هذه الحجة ال تنطبق سوى عىل القضايا التي تكون فيها التفضيالت‬
‫الخفية ذات جذور متأصلة يف املعرفة الصلبة‪ .‬بينام يف القضايا التي يعتمد فيها معظم‬
‫الناس عىل اإلثبات املجتمعي‪ ،‬ميكن أن تحدث تحوالت كبرية يف كل من الرأي الخفي والعلني‬
‫يف خالل فرتات صغرية من الزمن‪ .‬تعتمد التحوالت الكربى يف النزعات عىل تجديد السكان‬
‫بقدر ما تكون املعرفة الخفية صلبة‪.‬‬
‫وبهذا املنطق‪ ،‬يجب أن يكون تجدد السكان الوسيلة األساسية للثورات يف العلوم‪.‬‬
‫ففي النهاية‪ ،‬العلم أكرث استهالكًا للتفكري من أي نشاط برشي آخر‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬يجادل‬
‫مؤرخ العلوم توماس كون بأن الثورات العلمية قام بها الجيل الجديد من العلامء األقل ارتباطًا‬
‫بالنامذج القدمية لفروعهم‪ 12.‬النموذج العلمي هو جسم املشاهدات‪ ،‬واملفاهيم‪ ،‬واألساليب‪،‬‬
‫واملسائل املحلولة التي يعاملها أعضاء املجتمع العلمي يف سياق البحث املعتاد عىل أنها‬
‫مسلامت‪ .‬ينطبع يف أذهان العلامء منوذج من خالل التدريب‪ ،‬ويصبح التزامهم أكرث صالب ًة‬
‫عندما تزداد كفاءتهم يف تطبيقه عىل أسئلة جديدة‪ .‬ويف خالل ذلك يفقدون القدرة عىل‬
‫رؤية مظاهر قصور منوذجهم‪ .‬وما ال يقل عن ذلك أهمية أنهم يفقدون القدرة عىل تقدير‬
‫قوة منوذج جديد ما‪ .‬أما تابعوهم فيتعرضون للنموذج الجديد قبل أن تتقولب عقولهم وفق‬

‫‪229‬‬
‫القديم‪ ،‬ولذلك فهم يعانون من صعوبات أقل يف تقدير تفوقه‪ .‬وبينام يحتلون مناصب تأثري‪،‬‬
‫يهجر املجتمع العلمي فعل ًيا النموذج القديم لصالح الجديد‪.‬‬
‫تبدو نظرية كوبرنيكوس عن الكون اآلن منطقية حتى بالنسبة لألطفال‪ .‬ولكنها كانت‬
‫تبدو فكر ًة مبدع ًة لعلامء الفلك املتدربني عىل رؤية الكواكب تدور حول األرض وليس‬
‫الشمس‪ .‬لذلك احتاجت نظرية مركزية الشمس لكوبرنيكوس أربعة عقود لتحتل مكانًا‬
‫راس ًخا يف علم الفلك‪ .‬انترصت يف النهاية‪ ،‬ولكن ليس بسبب اكتشاف األدلة التجريبية غري‬
‫القابلة للجدل‪ .‬بل‪ ،‬ألن علامء الفلك الشباب الذين علموا بشأنها يف بداية مسريتهم املهنية‬
‫‪13‬‬
‫وجدوها قابل ًة للتصديق‪ ،‬وخضع علم الفلك لثورة إذ ارتقوا إىل مناصب علية‪.‬‬

‫التحول األيديولوجي وتبدد املحافظة الجمعية‬


‫أعود اآلن إىل العملية التي يصبح فيها الالمعقول المطروقًا‪ .‬كام ناقشنا سابقًا‪ ،‬فإن من‬
‫النتائج املبارشة النقراض فكرة ما هي تحول يف التوزع املرتبط بها للتفضيالت الخفية‪ .‬ما‬
‫هو تأثري التحول عىل املحافظة الجامعية التي يظهرها املجتمع؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة‬
‫لالستقرار السيايس؟‬
‫لإلجابة عن هذين السؤالني علينا أن نعيد التفكري يف إطار العمل الرسمي الذي‬
‫قدمناه آخر مرة يف الفصل ‪ .6‬نظ ًرا ألن الناس يشتقون املنفعة من عدم االنحياز‪ ،‬فإن‬
‫التغيريات يف تفضيالتهم الخفية تحول املفاضالت التي يواجهونها يف اختيار تفضيالتهم‬
‫العلنية‪ .‬لنتذكر أن الرأي العلني املتوقع الذي ال يبايل عنده الفرد بني دعم ‪ 0‬ودعم ‪ 100‬هو‬
‫عتبة ذلك الفرد‪ .‬تتغري العتبة بتناسب عكيس مع التفضيل الخفي الضمني‪ 14.‬يعيد الشكل‬
‫‪ 11.1‬عرض جزء من الشكل ‪ ،6.1‬سوى أن منحنى االنتشار هنا تابع للوقت‪ ،‬الستيعاب‬
‫التغريات يف العتبات الفردية‪ .‬إذا أدى تاليش األفكار املفضلة للخيار ‪ 0‬إىل تخفيض العتبة‬
‫الفردية‪ ،‬فإن منحني االنتشار سيتحرك صعو ًدا‪ ،‬ورمبا يغري مجموعة التوازن‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫ترتكنا هذه املالحظة يف مأزق‪ .‬إذا كان التوازن عرض ًة للتكيف البرشي‪ ،‬فهل يظل‬
‫املفهوم مفي ًدا وذا مغزى؟ اإلجابة نعم قط ًعا‪ .‬أوالً ‪ ،‬ليست التفضيالت الخفية بالّضورة يف‬
‫حركة دامئة‪ .‬ففي أي قضية معينة‪ ،‬قد تكون هناك فرتات زمنية طويلة تظل التفضيالت ثابت ًة‬
‫خاللها‪ ،‬رمبا ألن الناس يركزون عىل قضايا أخرى‪ .‬وثان َيا‪ ،‬حتى عندما تتحرك التفضيالت‬
‫الخفية‪ ،‬فإن التفضيالت العلنية‪ ،‬ويتبعها الرأي العلني‪ ،‬قد تظل ثابت ًة بال تغيري‪ .‬وأخ ً‬
‫ريا‪ ،‬إن‬
‫التفضيالت الخفية يف أي نقطة محددة من الزمن ثابتة‪ ،‬إذن ميكن أن نتكلم عن حاالت توازن‬
‫مرشوطة بالتفضيالت الخفية السائدة‪.‬‬
‫وفقًا للشكل ‪ ،11.1‬هناك يف الفرتة ‪ 15‬توازنان مستقران‪ .‬لنأخذ الحالة األبسط أوالً ‪،‬‬
‫لنتصور أن الرأي العلني استقر عند ‪ – 100‬أي الجميع يدعم ‪ 100‬ويرفض ‪ 0‬عىل العلن‪.‬‬
‫مع توفري الخطاب العلني الكثري من التربيرات للخيار ‪ 100‬وعدم تقدميه تربيرات للخيار‬
‫‪ ،0‬فإن الرأي الخفي يتحرك مع الزمن لصالح ‪ ،100‬ويحدث ذلك جزئيًا من خالل التحوالت‬
‫الفردية وجزئيًا من خالل االستبدال الطبيعي‪ .‬ويف خالل ذلك‪ ،‬يتحرك منحني االنتشار إىل‬
‫مثال‪ ،‬الشكل الظاهر يف الشكل ‪.11.2‬‬
‫األعىل‪ .‬بحلول الفرتة ‪ ،25‬يكون قد اتخذ‪ً ،‬‬

‫بقي الرأي العلني عند ‪ 100‬بني الفرتتني ‪ 15‬و‪ .25‬وتحتوي مجموعة التوازنات اآلن‬
‫فقط ‪ .100‬بفضل هذه الفرادة‪ ،‬فإن مثابرة الرأي العلني مل تعد اآلن تدين بيشء لجاذبية‬
‫التاريخ الحديث‪ .‬إذا كان للناس أن ينسوا ما كان الرأي العلني‪ ،‬فإن خياراتهم التالية‬
‫حتام التوازن الذي كان مسبقًا‪ .‬ويف الفرتة ‪ ،15‬عىل النقيض‪ ،‬فقد أدى التاريخ‬
‫ستستعيد ً‬
‫دو ًرا يف مثابرة الرأي العلني‪ .‬فلو مل يعرف أحد ما كان عليه الرأي العلني قبل فرتة واحدة‪،‬‬
‫فإن أي توقع دون ‪ 60‬سيسحب الرأي العلني نحو ‪.20‬‬

‫‪231‬‬
‫الشكل ‪ 11.1‬حاالت التوازن يف الفرتة ‪ .15‬كل التوقعات دون ‪ 60‬تقود الرأي العلني نحو‬
‫‪ ،20‬وكل ما فوق ‪ 60‬يقود الرأي العلني نحو ‪.100‬‬

‫مقياسا للمحافظة الجمعية لتكميم دور التاريخ يف املحافظة عىل‬


‫ً‬ ‫قدم الفصل ‪6‬‬
‫الوضع القائم‪ .‬وقد أظهر أيضً ا أنه يف الشكل الذي أعيد تصميمه هنا يف الشكل ‪ 11.1‬فإن‬
‫درجة املحافظة الجمعية املتأصلة يف مثابرة ‪ 100‬موجبة‪ .‬يخفض االنتقال املسجل يف‬
‫الشكل ‪ 11.2‬درجة املحافظة الجمعية إىل ‪ 15 .0‬ويعكس هذا االنخفاض حقيقة أنه عندما ال‬
‫يكون للتوازن الحايل منافس‪ ،‬فإنه بالّضورة الوجهة النهائية لجميع التعديالت املتوقعة‪.‬‬
‫وال ميكن للتاريخ أن يهم الرأي العلني إذا مل يكن هناك سوى توازن واحد فقط‪.‬‬
‫الذي يبدو ظاهريًا أن ال يشء تغري بني الفرتتني ‪ 15‬و‪ .25‬فهام يشرتكان يف نفس‬
‫اإلجامع العلني‪ .‬ولكن‪ ،‬تحت القشور السطحية‪ ،‬يظهر أن اإلجامع يتمتع بدعم خفي أكرب يف‬
‫الفرتة ‪ 25‬مام يتمتع به يف الفرتة ‪ .15‬اقرتب الرأي الخفي من الرأي العلني‪ ،‬لذا فإن التوتر‬
‫يف الوضع القائم اآلن أقل‪ .‬وقد اختفى التوازن املستقر غري املختار الذي كان يف الشكل‬
‫بديال لإلجامع العلني املحقق‪ ،‬وبالتايل فإن الوضع القائم صار حصينًا‬
‫‪ ،11.1‬بعد أن كان ً‬
‫أمام صدمات التوقعات‪.‬‬
‫‪232‬‬
‫الشكل ‪ 11.2‬حاالت التوازن يف الفرتة ‪ .25‬انتقل منحني االنتشار إىل األعىل‪ ،‬تاركًا ‪100‬‬
‫عامال يف مثابرة ‪ ،100‬ألن ال بديل بقي عنها‪.‬‬
‫ً‬ ‫لتكون التوازن الوحيد‪ .‬مل يعد التاريخ‬
‫الحظ والرت باغوت مر ًة أن ما يستخدم يقوي وما ال يستخدم يضعف‪ 16.‬وتنطبق‬
‫فرضيته بشكل جيد عىل الحالة املدروسة‪ .‬فمن بني التوازنني املستقرين يف الفرتة ‪،15‬‬
‫املستخدمة‪ ،‬وهي عند ‪ ،100‬تصري باستمرار أقل عرض ًة لإلزاحة‪ ،‬وغري املستخدمة تختفي‬
‫يف النهاية‪ .‬ومع ذلك فإن فرضية باغوت ال يجب أن يفهم منها أنها مبدأ عام‪ .‬إذا مل يكن‬
‫التوازن الحايل يف الفرتة ‪ 15‬عند النقطة ‪ 100‬بل كان عند ‪ ،20‬فمن املمكن أن تختفي جميع‬
‫التوازنات يف النهاية‪.‬‬
‫ميكن الحصول عىل مثل هذه النتيجة إذا دفع التوازن عند ‪ 20‬التفضيالت الخفية‬
‫بقوة كافية نحو الصفر‪ .‬ثم يسحب منحنى االنتشار نحو األسفل‪ ،‬كام يف الشكل ‪.11.3‬‬
‫ونرى هنا أن التوازن الداخيل عند ‪ 20‬قد أفسح املجال لتوازن طريف عند ‪ ،0‬واختفت‬
‫التوازنات األخرى املوجودة مسبقًا‪ .‬وكام يف الحالة السابقة‪ ،‬فإن التوازن الجديد حصني‬
‫أمام اضطراب التوقع‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن تاريخ الرأي العلني مل يعد جوهريًا يف مثابرته‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫ولكن مل قد تسحب التفضيالت الخفية نحو ‪ ،0‬بدالً من ‪20‬؟ عندما يقف الرأي العلني‬
‫عند ‪ ،20‬فإن للخيار ‪ 0‬أربعة أضعاف عدد املروجني الذي ميتلكه الخيار ‪ .100‬ونتيج ًة لذلك‪،‬‬
‫فإن الناس يسمعون تربيرات لصالح ‪ 0‬أربع مرات أكرث‪ .‬وبقدر ما يعتمدون عىل اإلثبات‬
‫االجتامعي‪ ،‬فإن تفضيالتهم الخفية تسحب باتجاه ‪.0‬‬
‫ولكن‪ ،‬يف املسائل التي تكون املعرفة فيها صلبة‪ ،‬فإن الرأي العلني املنقسم قد يعيد‬
‫إنتاج نفسه‪ .‬وهذا ألن اإلدراك االنتقايئ ميكنه أن يبقي اهتامم الناس مرتك ًزا عىل الحجج‬
‫أصال باتجاه ‪ 0‬أكرث اقتنا ًعا بأفضلية ‪0‬؛‬
‫التي تعزز ميولهم السائدة‪ .‬فيصبح الناس امليالون ً‬
‫وامليالون نحو ‪ ،100‬أقل اقتنا ًعا‪ .‬ويف خالل هذه العملية‪ ،‬تصبح التفضيالت الخفية أكرث‬
‫استقطابًا بازدياد‪ ،‬ما قد يبقي عىل التوازن الداخيل للخيار ‪ 20‬مرتابطًا‪ .‬إذن‪ ،‬فتحت رشوط‬
‫خاصة‪ ،‬فإن فرضية باغوت تنطبق أيضً ا عىل حالة التوازن الداخيل‪.‬‬
‫يدعى املصطلح العلني للتعديالت التي تعزز امليول‪ ،‬أو االتجاه‪ ،‬أو النتيجة التغذية‬
‫الراجعة اإليجابية‪ 17.‬يف السياق الحايل‪ ،‬فإن أداة التغذية الراجعة اإليجابية هي تعديالت‬
‫التفضيالت الخفية‪ .‬ميكن لهذه التعديالت إما أن تقوي التوازن القائم أو تستعيض عنه ببديل‬
‫ريا بعيد املدى عىل الكفاءة االجتامعية‪ :‬إذ يصبح‬
‫أكرث تطرفًا‪ .‬وبكلتا الحالني‪ ،‬فإن لها تأث ً‬
‫فعاال إذا دعمه ما يكفي من الناس علنًا لفرتة زمنية طويلة مبا يكفي‪.‬‬
‫القرار غري الفعال ً‬
‫لنتخيل قانونًا قليل الكفاءة بحد كبري عند تبنيه‪ ،‬إىل درجة أنه يّض الناس الذين‬
‫يعارضونه عىل الصعيد الخفي أكرث مام ينفع من يدعمونه عىل الصعيد الخفي‪ .‬إذا أبقي‬
‫عىل هذا النظام مع ذلك‪ ،‬فقد يكتشف حتى خصومه عىل الصعيد الخفي مزاياه‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫فكمراقبني‪ ،‬ميكننا أن ننظر إىل العملية الديناميكية بأكملها‪ ،‬من تقديم النظام إىل األجندة‬
‫العلنية‪ ،‬مرو ًرا بتحقيق اإلجامع العلني وتبني النظام‪ ،‬حتى تحقيق اإلجامع الخفي‪ ،‬ونستنتج‬
‫أنه قد أىت بنتيجة عالية الكفاءة‪ .‬ومع ذلك فإن التغذية الراجعة اإليجابية التي حسنت كفاءة‬
‫النظام استغرقت عدة سنوات‪ ،‬ويف خالل مساره مل تكن الفائدة الصافية املدركة من النظام‬
‫دامئًا موجبة‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫محطام كل‬
‫ً‬ ‫الشكل ‪ 11.3‬حاالت التوازن يف الفرتة ‪ .25‬تحرك منحني االنتشار نحو األسفل‪،‬‬
‫عامال يف‬
‫ً‬ ‫التوازنات املوجودة مسبقًا‪ .‬هناك اآلن توازن وحيد عند ‪ ،0‬لذا لن يشكل التاريخ‬
‫استقرار الرأي العلني‪.‬‬
‫يف ضوء االتجاه العلني للمساواة بني «ما هو موجود» و«ما هو أفضل»‪ ،‬فإن هذه‬
‫نتيجة مهمة‪ .‬ومن املهم أيضً ا أن الكفاءة‪ ،‬بقدر ما يتحقق منها‪ ،‬ال ينبغي بالّضورة أن تنتج‬
‫عن موازنة دقيقة للمصالح الخفية املوجودة مسبقًا‪ .‬قد تكون الكفاءة نتيجة تعديالت تقود‬
‫الرأي الخفي إىل التوافق مع خيار كان غري فعال يف األصل‪.‬‬

‫الالمطروق والتوازن االجتامعي‬


‫أظهرت سابقًا أن تزييف التفضيالت قد يؤدي إىل مثابرة خيار غري كفوء‪ .‬وقد أظهر هذا‬
‫الفصل أن تزييف التفضيالت قد يفّس أيضً ا التعديالت املعرفية التي ستخفي عدم الكفاءة‪.‬‬
‫وتساهم كل من هاتني العمليتني يف االستقرار االجتامعي‪ ،‬األوىل من خالل إعاقة تحقيق‬
‫األهداف اإلصالحية‪ ،‬والثانية عن طريق دفع هذه األهداف إىل الالمطروق‪ .‬بصفته مثبطًا‬
‫للتغيري‪ ،‬يعمل تزييف التفضيالت عىل جعل الوضع القائم مقبوالً يف السياق العلني من‬

‫‪235‬‬
‫خالل عصا العقوبات وجزرة القبول املجتمعي‪ .‬وبصفته مشو ًها للمعرفة‪ ،‬فإنه يجعل الوضع‬
‫مقبوال يف السياق الخفي‪.‬‬
‫ً‬ ‫القائم‬
‫يوجد من النظريات ما يعزو القضايا الرائجة إىل حاجات األفراد لالعتامد عىل‬
‫بعضهم للمعلومات‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يفّس كل من سوشيل بيكتشانداين‪ ،‬وديفيد‬
‫هريشاليفر‪ ،‬وإيفو ويلش الصيحات‪ ،‬واألزياء‪ ،‬والتقاليد من خالل «السالسل املعلوماتية»‬
‫التي تظهر عندما يحايك الناس األخرين لتجنب مشقة دراسة خياراتهم‪ 18.‬بينام تعزو‬
‫نظريات أخرى القضايا الرائجة إىل العقوبات عىل املنحرفني‪ .‬وهكذا يعزو جورج آكرلوف‬
‫التقاليد االجتامعية إىل خسائر السمعة التي تفرض عىل منتهيك النظم السلوكية الناشئة‪.‬‬
‫‪19‬‬

‫إن النظرية املطروحة هنا تكامل بني املقاربتني‪ .‬وبالتحديد‪ ،‬فإنها تسمح بوجود قضايا‬
‫رائجة متعلقة ببعضها عىل مستويني‪ ،‬الخفي والعلني‪ .‬يوفر التكامل العديد من البصائر‬
‫الجديدة يف الديناميكيات االجتامعية‪ ،‬بعضها سنطوره يف الفصول النظرية الالحقة‪.‬‬
‫يل أن أخترب حجة هذا الفصل فيام يخص الحاالت الشارحة املقدمة يف‬
‫أوال ع ّ‬
‫ولكن ً‬
‫الفصول ‪ 7‬حتى ‪ :9‬الطبقات‪ ،‬والشيوعية‪ ،‬والعمل اإليجايب‪ .‬ويف كل من هذه القضايا وجدنا‬
‫أن تزييف التفضيالت عامل يف مثابرة الرتتيبات االجتامعية املبغوضة يف السياق الخفي‪.‬‬
‫ما ترك خارج الصورة كان تطور املتغريات الخفية‪ .‬هل هناك دليل عىل أن املظاهر املحددة‬
‫لتزييف التفضيالت قد شوهت املعرفة الخفية والرأي الخفي؟ وما الذي تفّسه الحجة املقدمة‬
‫للتو مام مل تفّسه الحجج األخرى ذات الصلة؟‬

‫‪236‬‬
‫الفصل الثاين عرش‬
‫الخضوع يف األخالق الطبقية‬

‫من أهم عقائد الفكر الهندويس عقيدة الكارما‪ .‬بحسب هذه العقيدة‪ ،‬تؤثر أفعال املرء يف‬
‫حيواته املستقبلية أو تناسخاته‪ .‬إذا قبل اإلنسان مكانته الحالية يف الهرمية االجتامعية وأدى‬
‫واجباته‪ ،‬فسينتقل إىل الطبقة األعىل يف الحياة التالية‪ .‬أما إذا أخفق يف تأدية واجباته‪،‬‬
‫فستنزل رتبته‪ .‬بنا ًء عىل هذا‪ ،‬فإن إهانة املنبوذين عقوبة لهم عىل خطاياهم يف الحيوات‬
‫السابقة‪ .‬وإذا أراد املنبوذ أن ترتفع مكانته يف الحياة التالية‪ ،‬فال بد أن يترصف مبا يوافق‬
‫أحكام النظام الكوين‪ .‬هكذا تتجنب الكارما مفهوم «مصادفة الوالدة»‪ ،‬وهي أن تكون‬
‫تفّس الكارما‬
‫أفضليات الناس وقيودهم االجتامعية مرتبطة بيشء ليس تحت سلطتهم‪ّ .‬‬
‫‪1‬‬
‫وتربر املكانات املنخفضة واملرتفعة بأنها نتيجة مستحقة للسلوك يف الحيوات السابقة‪.‬‬

‫يف الفصل ‪ ،8‬ذكرت أن استمرار النظام الطبقي مدين بدين كبري لتزييف التفضيل‬
‫من جهة الطبقات الدنيا يف املجتمع الهندي‪ .‬لكن مناقشتي مل تهتم بالعواقب األيديولوجية‬
‫لتزييف التفضيل‪ .‬هنا سأستطلع أثر تزييف التفضيل يف االنتشار والثبات البارز لألفكار‬
‫التي يقوم عليها النظام الطبقي‪ .‬سيقدم هذا الفصل أول تطبيق للنظرية املذكورة يف الفصل‬
‫‪.11‬‬

‫ليس هديف هنا طب ًعا ذكر كل تفصيل يف النظام الطبقي‪ .‬بل أريد أن أقدم رواية‬
‫قصرية ومتسقة داخل ًّيا ألهم صفات النظام الطبقي وأشدها إثارة‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫تزييف التفضيل والرؤية الكونية لدى املنبوذين‬

‫لقد قيل إن عقيدة الكارما ال يؤمن بها أحد إميانًا جا ًّدا–وال بأي عقيدة أخرى من األيديولوجيا‬
‫الهندوسية‪ .‬حسب هذا الرأي‪ ،‬يتظاهر الهنود تظاه ًرا بقبول العقائد الهندوسية‪ ،‬أما السادة‬
‫فألجل الحفاظ عىل أفضلياتهم‪ ،‬وأما املسودون فمن أجل اجتناب املشكالت‪ .‬يقول رافيندرا‬
‫جفاة وسلبيني» باالختيار‪ .‬اقتبس خاري من منبوذ‬
‫خاري إن معظم املنبوذين يبدون «جهلة و ُ‬
‫يقول‪« :‬قد أكلّمك لكن لن أُع ِلمك‪ ،‬وقد أُعلمك دون أن أخربك برأيي‪ .‬قد أُعلمك أشياء صحيحة‬
‫أو خاطئة حتى أتأكد من صدق ن ّيتك»‪ .‬يقول خاري إن املنبوذين يشاركون مع من يثقون به‬
‫من الناس شكوكًا كثرية يف النظام الطبقي الهندي‪ 2.‬بطريقة مشابهة‪ ،‬الحظت جوان منرش‬
‫ريا من املنبوذين يعتقدون بتفسريات غري دينية ملكانتهم املنخفضة‪ ،‬وإن كانوا يرون‬
‫أن كث ً‬
‫خط ًرا يف التعبري عن هذه التفسريات خارج مجتمعاتهم‪ 3.‬ذكر مارك يورغنسمري أن‬
‫املنبوذين‪ ،‬يف البيئات اآلمنة عىل األقل‪ ،‬يعزون قيودهم االجتامعية إىل سوء الحظ‪ ،‬ويبلغ‬
‫بعضهم أن يقول إنهم ال يعبؤون باملكانة االجتامعية حقًّا‪ ،‬فهم يف الحقيقة براهامنيون‬
‫متنكرون‪ 4.‬ويُظهر ميسور ناراسيمهاشار رسينيفاس أن بعض القواعد يُلتزم بها برصامة‬
‫جد عظام الدجاج يف حاويات قاممة‬
‫ريا ما تُخالف يف الّس يف املنازل‪ .‬تو َ‬
‫يف العلن لكنها كث ً‬
‫‪5‬‬
‫بيوت الطبقات النباتية‪.‬‬

‫بسبب اعتقادي أن تزييف التفضيل عنرص محوري يف بقاء النظام الطبقي‪ ،‬مل يكن‬
‫يل أن أرصف النظر عن هذه املالحظات دون نظر جاد‪ .‬لكن تحديد التباينات بني السلوك‬
‫الهندي العلني والفكر الهندي الخفي ليس إثباتًا أن األيديولوجية الهندوسية مجرد زيف‪ .‬قد‬
‫يرفض املرء جز ًءا من األيديولوجية الهندوسية دون رفض بقيتها‪ .‬هذا املنبوذ الذي يعتقد أنه‬
‫متسرت يؤمن بالتناسخ وبتوارث النجاسة‪ ،‬وبالهرمية الطبقية‪ .‬ال شك أن اعتقاد‬
‫ّ‬ ‫براهامين‬
‫املرء بأنه كان ينبغي أن يكون يف مكانة أعىل يف الهرم االجتامعي يختلف عن رفضه للهرمية‬

‫‪238‬‬
‫يف نفسها‪ .‬ويف جميع األحوال‪ ،‬فإن شكوكية بعض الهنود ال متنع االلتزام الصادق من‬
‫غريهم‪.‬‬

‫قليل من الكتاب الذين يرون الخطاب الهندي العلني غري ممثل للفكر الهندي الفعيل‬
‫بشأن الطبقات‪ ،‬يبلغ بهم األمر أن يقولوا إن األيديولوجية الهندوسية ليس لها نفوذ وأثر‬
‫كبري عىل معتقدات ووجهات نظر الطبقات الدنيا‪ .‬يدرك خاري أن املنبوذين ال يرفضون‬
‫ريا منهم يقبلون النظام الطبقي بوصفه‬
‫الرؤية الكونية الطبقية رفضً ا تا ًّما‪ .‬ويالحظ أن كث ً‬
‫املبدأ األسايس يف التنظيم االجتامعي‪ ،‬ويعزو إىل هذه الحقيقة سيادة األيديولوجية‬
‫الهندوسية يف الخطاب الهندي العلني‪ 6.‬يجد يورغنسمري أن ثلث الطبقات الدنيا تقري ًبا تقبل‬
‫‪7‬‬
‫أن مكانة اإلنسان الحالية نتيجة لسلوكه يف الحيوات السابقة‪.‬‬

‫تشري أوصاف أخرى للعرقيات الهندية‪ ،‬وبعض السري الذاتية‪ ،‬إىل أن نفوذ‬
‫األيديولوجية الهندوسية أشد اتسا ًعا‪ .‬تظهر هذه املصادر أن معظم املنبوذين يقبلون بصورة‬
‫أو بأخرى‪ ،‬فكرة حركة الفرد بالتناسخ‪ .‬تكشف هذه املصادر أيضً ا عن أن املنبوذين يقبلون‬
‫مفهوم النجاسة الطقوسية‪ ،‬التي هي العنرص املع ّرف لدن ّوهم اجتامع ًّيا‪ .‬يرتّب املنبوذون‬
‫أنفسهم عىل مقياس للنجاسة‪ ،‬فيجعلون بذلك قاع الهرم الهندويس صورة مصغرة عن الهرم‬
‫كلّه‪ 8.‬كتب أحد املراقبني يف القرن التاسع عرش عن طبقتني من املنبوذين‪« :‬إذا ملس أحد أفراد‬
‫البوليا بالخطأ أحد أفراد الباريار‪ ،‬فال بد أن مير بطقوس كثرية وغسو ٍل كثرية حتى يتطهر‬
‫من النجاسة»‪ 9.‬استمع كذلك إىل هزاري‪ ،‬املؤلف املنبوذ لسريته الذاتية املفيدة‪« :‬نرى أن‬
‫منبوذي البنجاب أدىن منّا نحن منبوذي املحافظات املتحدة؛ نحن ال نتزوج منهم‪ ،‬وال نرشب‬
‫‪10‬‬
‫معهم من اآلنية نفسها»‪.‬‬

‫األدلة موجودة إذن‪ ،‬عىل أن األيديولوجية الهندوسية أسهمت يف قبول املنبوذين‬


‫ريا منهم يرى يف وجوده البائس شيئًا‬
‫لحرماناتهم عىل أنها عدل‪ ،‬وعىل أنها جعلت كث ً‬
‫طبيع ًّيا‪ ،‬وس ّهلت تواطؤهم مع نظام يذلهم‪ .‬لقد أصاب ماكس فيرب حني الحظ أن‬

‫‪239‬‬
‫األيديولوجية الهندوسية كانت نظا ًما أخالق ًّيا للخضوع‪ ،‬نظا ًما أخالق ًّيا يحافظ عىل تواطؤ‬
‫املُخضَ عني‪ 11.‬هنا مرة أخرى يقول هزاري‪« :‬فلسفتنا يف الحياة أن الله خلقنا وأنه سريزقنا‬
‫ما يلبي حاجاتنا حسب إرادته‪ .‬أقدارنا‪ ،‬الحسنة والقبيحة‪ ،‬هي إرادة الله‪ ،‬ولقد ُعلّمنا دامئًا أن‬
‫‪12‬‬
‫حظنا يف الحياة أفضل من حظ معظم الناس»‪.‬‬

‫كيف نفهم حقيقة أن املنبوذين اقتنعوا بعنارص أساسية يف أيديولوجية تق ّدس‬


‫إهانتهم؟ عىل مر قرون طويلة‪ ،‬عامل الخطاب الهندي العلني األفكار املعادية للطبقية عىل‬
‫أنها يشء المعقول‪ .‬دفع هذا الحال أنصار املساواة إىل تزييف تفضيالتهم‪ ،‬فأخفوا عن‬
‫اآلخرين شكوكهم بشأن العقائد الهندوسية‪ .‬ال بد أن أصحاب املكانة املنخفضة املولودين يف‬
‫هذه الظروف كانوا يواجهون صعوبة يف التعرف عىل األفكار االجتامعية واملثل غري املبنية‬
‫ظل المطروقًا‪ ،‬خارج مفهوم املنبوذين وتخيلهم‪ .‬كان تصورهم‬
‫عىل الطبقية‪ .‬هذا الالمعقول ّ‬
‫مقسام‬
‫ً‬ ‫فلام كانوا معتادين عىل رؤية املجتمع‬
‫عن املفاهيم االجتامعية دائ ًرا عىل فكرة الطبقة‪ّ .‬‬
‫إىل طبقات مرتبة‪ ،‬كان من الطبيعي يف نظريهم تقسيم مجتمعاتهم إىل وحدات مرتبة أيضً ا‪.‬‬

‫انتشار أخالق الطبقية‬

‫تفّس الحجة السابقة كيف ترسخت يف ذهن الهنود ذوي املكانة املنخفضة األيديولوجية‬
‫ّ‬
‫السائدة يف مجتمعهم‪ ،‬لكنها ال تفّس كيف سادت هذه األيديولوجية أوالً ‪ .‬ال يعرف أحد متى‬
‫وكيف نشأ نظام املعتقدات الهندويس‪ .‬املعلوم أن هذه املعتقدات تك ّونت قبل زمن طويل ج ًّدا‪.‬‬
‫ورد مفهوم الطبقية يف املجتمع الهندي يف نصوص قدمية‪ ،‬بد ًءا من ريغ فادا‪ ،‬الذي كُتب‬
‫نحو ‪ 1000‬قبل امليالد‪ .‬ذكر مؤرخون جاؤوا بعد هذا بكثري‪ ،‬بني القرنني العارش والثالث‬
‫عرش للميالد‪ ،‬عن مجموعات «غري محسوبة عىل أي طبقة أو صنعة»‪ ،‬كان الناس يتجنبون‬
‫مالمسة هذه املجموعات‪ 13.‬ويف القرن السادس عرش‪ ،‬الحظ التجار الربتغاليون أن الهنود‬

‫‪240‬‬
‫يج ّمعون أنفسهم يف طبقات (كاستاس‪ ).14‬لكننا ال منلك أي وثائق عن رأي األجيال الغابرة‬
‫من الهنود باألمر‪ .‬لدينا بعض األدلة غري املبارشة‪ ،‬من اإلثنوغرافيات (أوصاف األعراق) التي‬
‫جمعت يف السنوات األوىل من الحكم الربيطاين‪ .‬تدل هذه األدلة عىل أن الهنود عىل مختلف‬
‫ُ‬
‫‪15‬‬
‫مسالكهم يف الحياة يق ّرون باملفاهيم املعروفة بالهندوسية‪.‬‬

‫بالنظر إىل البيانات املتاحة‪ ،‬ال بد أن يكون التنظري عن تطور الفكر الهندي تخمينًا‪.‬‬
‫لن نعرف أب ًدا عىل وجه اليقني كيف اكتسبت العقائد الهندية قبوالً واس ًعا‪ ،‬ولن نعرف معناها‬
‫لدى األجيال الغابرة‪ .‬ما ييل رواية معقولة النتشار األيديولوجية الهندية واكتسابها قوتها‪.‬‬

‫فلنعد يف الزمن ألفيتني من األعوام‪ ،‬إىل زمن كان فيه نظام الطبقات يف مراحل‬
‫تشكّله‪ .‬كام الحظنا‪ ،‬حاربت مجموعات متنوعة القيود املفروضة عليها‪ .‬ومن الواضح أن‬
‫األنظمة االجتامعية األقرب إىل املساواة كانت تتمتع بدعم شعبي كبري أول األمر‪ .‬لو اختلفت‬
‫التوقعات بشأن الرأي العلني حينها‪ ،‬لرمبا كان املجتمع الهندي ليسلك طريقًا تطورية‬
‫بديال يكتسب مزي ًدا‬
‫مختلفة جذريًّا عن التي سلكها‪ .‬بالتحديد‪ ،‬لو اعتُقد أن نظا ًما اجتامع ًّيا ً‬
‫من الشعبية‪ ،‬لرمبا كان النظام الطبقي أُلغي و ُرمي‪ .‬لكن بسبب أحداث ضاعت يف التاريخ‪،‬‬
‫أدت التوقعات إىل اكتساب النظام الطبقي لقوته‪ .‬مل تكن املعارضة الخفية لتختفي بني ليلة‬
‫ريا يف بقاء النظام يف‬
‫عامال كب ً‬
‫ً‬ ‫وضحاها‪ ،‬لذا فيمكننا أن نستنتج أن املحافظة الجمعية بقيت‬
‫الفرتة األوىل‪.‬‬

‫بعد مدة من الزمن‪ ،‬نالحظ معاقبة معاريض النظام البارزين‪ ،‬وحتى الذين يشككون‬
‫يف حكمته أو عدله‪ .‬أدى خوف العقوبة إىل إخفاء معظم املعارضني لتفضيالتهم‬
‫ومعتقداتهم الخفية‪ .‬هكذا تش ّوه الرأي العلني وقُطع النقاش العلني‪ .‬منت أجيال جديدة من‬
‫وقليال ج ًّدا‪ ،‬إن ُوجد‪ ،‬مام يعارضه‪ .‬مع مرور‬
‫ً‬ ‫ريا مام يدعم هذا النظام‪،‬‬
‫الهنود‪ ،‬تسمع كث ً‬
‫تفصيال ودقّة‪ ،‬من خالل جهود أهل الطبقات العليا لتسويغ‬
‫ً‬ ‫الزمن‪ ،‬ازداد مس ّوغ النظام‬

‫‪241‬‬
‫أفضلياتهم‪ ،‬وأشياء أخرى‪ .‬بالتكرار الذي ال ينقطع لهذه الحجج‪ ،‬أصبحت جز ًءا من الحكمة‬
‫الهندية املتعارفة‪.‬‬

‫ال شك أن األجيال املاضية من الهنود اشتملت عىل أناس مستقلني يف تفكريهم‪ .‬قد‬
‫تكون الشكوك بص ّحة النظرة الهندوسية للنظام الكوين راودت بعض هؤالء املستقلني‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬ال شك أنه قد مر عىل الهند من ال يقبل عقيدة الكارما‪ .‬لكن عندما شعر هؤالء‬
‫املشككون أنهم قد يتأذون من اإلفصاح عن آرائهم‪ ،‬تجنبوا بالعموم امليض ليلقوا مقتضيات‬
‫هرطقاتهم‪ .‬رمبا رأى املحبون للمطالعة والثقافة منهم إمكانية وأفضلية يف زيادة املساواة‬
‫االجتامعية‪ .‬لكن لتجنب الخزي‪ ،‬كانوا ميسكون حججهم واستدالالتهم عن اآلخرين‪ .‬كل هذه‬
‫األفعال التي جاءت من حذر فردي‪ ،‬كانت تسهم يف بقاء الخطاب العلني خال ًيا من األفكار‬
‫املعادية لنظام الطبقية‪ .‬نتج عن هذا أثر غري مقصود‪ ،‬هو أن معظم الهنود استمروا يف رؤية‬
‫صالح نظامهم املوروث عىل أنه أمر بديهي‪.‬‬

‫ترسخ نظام الطبقية‪ .‬ال يذكر نص ريغا فيدا هذا‬


‫يبدو أن مفهوم املنبوذية نشأ بعد أن ّ‬
‫املفهوم‪ .‬ورد أقدم ذكر للمنبوذية يف أحكام مانو‪ ،‬التي تطورت بني القرن الثاين قبل امليالد‬
‫خر ظهوره‬ ‫والقرن الثالث بعد امليالد‪ .‬لكن املفهوم أُدمج باأليديولوجية الهندوسية‪ ،‬ونُيس تأ ّ‬
‫بعد ذلك‪ 16.‬األرجح أن كبت الخطابات النقدية لعب دو ًرا أساس ًّيا يف هذا النسيان الجمعي‪.‬‬

‫فلنستمر يف رحلتنا عرب الزمن‪ .‬حني نصل إىل نطلع العرص االستعامري‪ ،‬نجد أن‬
‫النظام الطبقي يتمتع بدعم صادق كبري‪ .‬يلتزم بعض املنبوذين باألعراف الطبقية خوفًا‪ ،‬لكن‬
‫ريا منهم يلتزم بها قناعةً‪ .‬هذه الفئة األخرية ال تدخل املعابد‪ ،‬وتستعمل آبا ًرا خاصة‪ ،‬ألنها‬
‫كث ً‬
‫ببساطة تجد هذا السلوك طبيع ًّيا‪ .‬ليس عند أصحاب هذه الفئة أي طريقة ليعرفوا سبب‬
‫التزامهم بالنظام الطبقي‪ ،‬وهم ال يستطيعون تقدير أن هذا النظام يس ّوغ املظامل التي رفض‬
‫أسالفهم الغابرون منحها الرشعية‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫هذا الجهل‪ ،‬يف طرحي‪ ،‬نتيجة لتشويه الخطاب العلني‪ ،‬الذي يرافق تزييف التفضيل‪.‬‬
‫لعب أهل الطبقات الدنيا دو ًرا أساس ًّيا يف هذا التشويه‪ ،‬ومن ثم يف تلقينهم للعقيدة‬
‫الهندوسية‪ .‬حني تجنب هؤالء اإلفصاح عن اعرتاضاتهم عىل األيديولوجية الهندوسية‪ ،‬ق ّووا‬
‫الوضع القائم‪ ،‬وبهذا ج ّردوا أنفسهم من الحقائق والحجج األساسية التي تع ّرفهم أن حالهم‬
‫يف الحياة غري مقبولة‪.‬‬

‫النظريات املطروحة للنظام الطبقي‬

‫لوضع هذه األطروحة يف سياقها‪ ،‬من املفيد أن نراجع أش َهر البدائل يف أدبيات الباحثني‪.‬‬
‫ريا للذوق الغريزي يف التمييز‪.‬‬
‫نسب التمييز العرقي كث ً‬
‫يف نطاق االقتصاد النيوكالسييك‪ ،‬يُ َ‬
‫لذا ففي مقالة مؤثرة عن التمييز يف الواليات املتحدة‪ ،‬ينسب غاري بيكر االختالفات املناطقية‬
‫يف العنرصية الظاهرة إىل االختالفات يف الذوق‪ 17.‬األذواق خارجية التك ّون بالنسبة إىل‬
‫سؤاال عن سبب اختالف الرغبة يف التمييز اختالفًا نظاميًّا عرب‬
‫ً‬ ‫إطار بيكر‪ ،‬وهو ما يطرح‬
‫املناطق‪ .‬ملاذا‪ ،‬إذا أردنا صياغة السؤال يف سياق النظام الطبقي‪ ،‬يُعامل صنّاع الجلود عىل‬
‫عامل‬
‫مثال؟ وملاذا ظهر عىل ّ‬
‫أنهم ُدون يف الهند‪ ،‬لكن مكانتهم صالحة وال بأس بها يف مرص ً‬
‫الجلود يف الهند «ذوق» يجعلهم مستغَلني؟ هل ظهور هذا الذوق يف مجتمع مقسم إىل‬
‫طبقات مجرد مصادفة؟ أي نظرية تعامل األذواق عىل أنها خارجية التكون عاجزة عن إجابة‬
‫هذه األسئلة األساسية‪.‬‬

‫يقدم لويس دامونت نظرية أساسها املنهجي هو الجمعية‪ ،‬وليس الفردانية‪ .‬يف حني‬
‫يعامل بيكر الفرد عىل أنه نقطة مستقلة عن محيطها‪ ،‬يعامله دامونت عىل أنه أسري عاجز‬
‫يف ثقافته‪ .‬لكن ما يثري الفضول هو أن كال النظريتني مشرتكتان يف العيوب نفسها‪ :‬كالهام‬
‫تتخذ من النزعات و«األذواق» ُمعطًى بدئيًّا ال حاجة إىل تفسريه‪ .‬يرى دامونت أن الثقافة‬

‫‪243‬‬
‫الهندية تُخضع هوية الفرد ملصالح املجتمع األوسع‪ ،‬لتح ّوله إىل «إنسان جمعي»‪ 18.‬لكن هذا‬
‫يتجاهل تفسري السلوك االجتامعي بني الهنود الذي يتفوقون فيه عىل غري الهنود‪ .‬غياب‬
‫االهتامم بـتفسري الفروق الثقافية أمر يتشارك فيه معظم األنرثوبولوجيني املعارصين‬
‫‪19‬‬
‫اآلخرين‪ ،‬الذين يبدو أنهم يكتفون بـوصف هذه الفروق بالتفصيل الدقيق‪.‬‬

‫يرى الكتاب أصحاب االتجاه املاركيس بالعموم أن النظام الطبقي يقوم عىل القوة‬
‫االقتصادية والنفوذ األيديولوجي للرباهامنيني‪ .‬يجادل هؤالء الكتاب أن الهندي ابن الطبقة‬
‫الدنيئة يلتزم باألعراف الطبقية ألن الرباهامين جعله مستض َعفًا اقتصاديًّا‪ ،‬وأنشأ «أسطورة»‬
‫عن قداسته وعصمته‪ ،‬ثم يف النهاية غسل دماغه ليؤمن بعقيدة الكارما‪ 20.‬خالفًا لبيكر‪ ،‬يقبل‬
‫الكتاب املاركسيون تنوع التفضيالت؛ وخالفًا لدامونت‪ ،‬يحاولون تفسري أمناط التفضيل‬
‫املالحظة‪ .‬لكن هذه األطروحة عاجزة يف أساسها‪ ،‬ألن اإلكراه يف نفسه ال يستطيع أن يجعل‬
‫الناس يقبلون نظا ًما يضطهدهم‪ .‬اإلكراه ببساطة يس ّهل القناعة بكتم الشك والخالف‪ .‬من‬
‫العيوب الكبرية األخرى يف األطروحة املاركسية‪ ،‬هي أنها تص ّور الهنود املحرومني بصورة‬
‫الساذج العاجز املتلقي السلبي لعقيدة ال تخدم إال سادته‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬كام دلّلت‪ ،‬يتحمل‬
‫املحرومون مسؤولية كبرية يف تشكيل ونرش املعتقدات التي تضطهدهم‪.‬‬

‫تخالف األطروحة املاركسية آراء ماركس بشأن أصول املعتقدات التي تخدم السائدين‬
‫اقتصاديًّا‪ .‬مل يطور ماركس نظرية متامسكة‪ ،‬لكن الفقرات املبعرثة يف كتاباته تدل عىل أنه‬
‫نسب إىل املضط َهدين الدافع والقدرة عىل اخرتاع هذه األيديولوجيات‪ .‬أما الدافع فهو يعكس‬
‫رغبة يف السالم الداخيل‪ .‬عندما يلفّق املضط َهدون نظريات تشري إىل حتمية وعدالة ق َدرهم‪،‬‬
‫هم يساوون بني االحتامل والواقع‪ ،‬ويحررون أنفسهم من واجب تحسني حالهم‪ .‬بعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬يخفف املضط َهدون بهذا تنافرهم املعريف‪ .‬وأما القدرة عىل تشكيل معتقدات تنفع‬
‫أصحاب األفضليات‪ ،‬فهي قامئة عىل وهم ذهني‪ :‬النزعة إىل االقتناع بأن ما يصدق عىل‬
‫اإلنسان يصدق عىل جامعته أيضً ا‪ .‬يع ّمم الفرد املضط َهد عجزه أمام النظام االجتامعي عىل‬

‫‪244‬‬
‫طبقته كلها‪ 21.‬حسب ماركس‪ ،‬يزرع املنبوذون «األفيون» الذي ين ّومهم‪ ،‬أما أتباع ماركس‬
‫فريون أن الرباهامنيني يجربون املنبوذين عىل هذا األفيون‪.‬‬

‫فاعال يف تلقني‬
‫ً‬ ‫تشارك نظريتي نظرية ماركس يف أن املضط َهدين يلعبون دو ًرا‬
‫أنفسهم العقائد التي تربر اضطهادهم‪ .‬لكنني أرى أن هذا التلقني عملية جامعية‪ ،‬وليست‬
‫مجموعة من التأقلامت املعرفية املنفصلة‪ .‬الرواية التي أقدمها هنا تفّس تشكيل ماليني‬
‫املنبوذين للتربير نفسه ملعاناتهم‪ .‬يكاد ينعدم احتامل أن يطور ماليني املنبوذين عقيدة‬
‫فهام مشرتكًا لوضعهم‬
‫مستقال‪ .‬شكّل املنبوذون ً‬
‫ًّ‬ ‫ريا‬
‫الكارما إذا كان كل واحد منهم يفكر تفك ً‬
‫املأساوي‪ ،‬والسبب هو أنهم شكّلوا الرؤى الكونية فيام بينهم يف أفعال تزييف معريف يعتمد‬
‫بعضها عىل بعض‪ ،‬أفعال كانت استجابة لدوافع أُنتجت جامع ًّيا‪ ،‬تدفع إىل تزييف التفضيل‬
‫عىل نحو يدعم الوضع االجتامعي القائم‪.‬‬

‫منذ القرن التاسع عرش مل تزل الحملة مستمرة لتطهري العقول الهندية من مفهوم‬
‫الطبقات‪ ،‬ويف منتصف هذا القرن أصبح التمييز ضد أصحاب الطبقات املتدنية ممنو ًعا‬
‫بالقانون‪ .‬كان من شأن هذه الحملة أن قادتها يأتون من الطبقات العليا ومن املنبوذين‬
‫أصحاب الثقافة العالية‪ .‬من وجهة نظر النظرية املقدمة هنا‪ ،‬ال غرابة يف ذلك‪ .‬ملا كان أعضاء‬
‫هاتني الفئتني أصحاب أوىل التع ّرضات للقيم األجنبية‪ ،‬كانوا أول من يط ّور أفكا ًرا تناقض‬
‫األيديولوجية الهندوسية‪ .‬وليس من الصعب أن نفهم ملاذا دخل «سؤال النظام الطبقي» إىل‬
‫األجندة السياسية يف الهند يف القرن التاسع عرش‪ .‬إن سقوط الهند يف يد الربيطانيني‪ ،‬الذي‬
‫رافقه انخفاض ضخم يف تكاليف التواصل والنقل‪ ،‬ع ّرف أعدا ًدا متزايدة من الهنود عىل‬
‫عقائد املساواة املنترشة يف أوروبا‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬دخلت أفكار جديدة إىل الخطاب الهندي‬
‫العلني‪ .‬بدأت أفكار الكارما والنجاسة تُناقش نقاشً ا أقرب إىل االنفتاح من ذي قبل‪ ،‬لرتمي‬
‫‪22‬‬
‫بعض أقدم يقينيات الهندوسية يف سلّة التشكيك‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫أنتجت حركة اإلصالح‪ ،‬التي نشأت من محاولة إلضعاف دور الطبقة يف الحياة‬
‫صنّفت مئات‬
‫الهندية‪ ،‬نظا ًما للحصص لدعم القطاعات األشد حرمانًا يف املجتمع الهندي‪ُ .‬‬
‫الطبقات الفرعية عىل أنها « ُمخطّطة»‪ ،‬وأُعطيت معاملة خاصة يف املدارس والوظائف‪ .‬هذه‬
‫ريا من الطبقات الفرعية املحرومة مصلحة عميقة يف استمرار‬
‫الحصص املقررة أعطت كث ً‬
‫شكال جدي ًدا من الوعي الطبقي‪ .‬لن أحلل هذا التحول يف‬
‫ً‬ ‫وضعهم «املتقهقر»‪ ،‬وهكذا دعمت‬
‫دور الطبقة بأي تفصيل‪ .‬لكنني سأوليه اهتام ًما موج ًزا بعد ذكر تحول مشابه يف السياق‬
‫أوال إىل حالة الشيوعية‪.‬‬
‫األمرييك‪ .‬لكن فلنعد ً‬

‫‪246‬‬
‫الفصل الثالث عرش‬
‫نقاط الشيوعية العمياء‬

‫باملقارنة بالنظام الطبقي‪ ،‬تُعد الشيوعية إضافة حديثة ملحفظة مؤسساتنا االجتامعية‪ .‬إذ‬
‫يُقاس تاريخها بالعقود ال األلفيات‪ .‬ورغم ذلك فقد كان لها نفوذ بالغ عىل األمناط االجتامعية‬
‫للفكر‪ .‬وسأجادل هنا بأن املحرك األسايس لهذا النفوذ األيديولوجي هو تزييف التفضيل‪.‬‬
‫قد رأينا يف الفصل السابع الدور الحرج الذي يلعبه تزييف التفضيل يف استدامة‬
‫الديكتاتوريات الشيوعية يف أوروبا الرشقية‪ .‬وما أهملناه يف نقاشنا السابق هو أثر تزييف‬
‫دليال عىل أن تزييف‬
‫ً‬ ‫التفضيل عىل منط الفكر يف أوروبا الرشقية‪ .‬وفيام ييل سأقدم‬
‫التفضيل قد أفقر الحوار العلني يف البلدان ذات الحكم الشيوعي‪ ،‬وسأبني أن هذا اإلفقار قد‬
‫شوه‪ ،‬وح ّرف‪ ،‬وأربك أفكار مواطني االتحاد السوفيتي وأوروبا الرشقية‪ ،‬ما جعل معظم‬
‫األفراد‪ ،‬من بينهم العديد من املعارضني‪ ،‬عاجزين عن التعرف عىل عيوب الشيوعية‬
‫الجوهرية‪.‬‬
‫ظهرت سامت هذا الفصل قبل عقود من انهيار الشيوعية يف بعض التأويالت‬
‫املشهورة للمجتمع السوفيتي‪ ،‬ومن بينها أصول الشمولية لحنة آرنت و‪ 1984‬لجورج‬
‫أورويل‪ 1.‬وأكد عليها ألكسندر سولجنيتسني يف منتصف سبعينيات القرن العرشين‪:‬‬
‫«لعقود‪ ،‬حني كنا صامتني‪ ،‬فقدت أفكارنا التواصل مع بعضها بعضً ا‪ ،‬ومل تتعلم أب ًدا أن‬
‫تعرف بعضها بعضً ا‪ ،‬وتوقفت عن تدقيق وتصحيح بعضها بعضً ا‪ .‬يف حني أن الصور‬
‫النمطية للفكر املطلوب‪ ...‬شلّت عقولنا ومل تفلت عقول من رضرها إال القليل»‪ 2.‬وتنبأ‬
‫سولجنيتسني بأنه‪ ،‬حني يعود الصدق‪ ،‬فلن يتمكن الناس من مواصلة حياتهم كام لو مل‬
‫يعيشوا يف كذبة‪ .‬ولن يكون مبقدورهم أن «يستيقظوا فجأة» و«يتخلصوا من اآلثار الرتاكمية‬
‫لكل تلك الجلسات التلقينية»‪ 3.‬وبعدها بعقد ونصف‪ ،‬يف األيام األخرية لالتحاد السوفيتي‪،‬‬

‫‪247‬‬
‫ظل سولجنيتسني مقتن ًعا أن الشيوعية قد لوثت العقل السوفيتي‪« :‬بعد سبعني سنة من‬
‫الربوباغندا‪ ،‬غُرست يف أدمغتنا فكرة أن عىل املرء أن يخىش من امللكية الخاصة وأن يتجنب‬
‫‪4‬‬
‫العمل املأجور كام لو كانا من أعامل الشيطان»‪.‬‬
‫تنطوي أطروحة سولجنيتسني عىل زعمني منفصلني‪ .‬أوالً ‪ ،‬أن تشويه الحوار العلني‬
‫أدى إىل شلل القدرات الحركة لألفراد املواطنني‪ ،‬ما جعلهم يقبلون األكاذيب كام لو كانت‬
‫حقائق ال ميكن التشكيك فيها‪ ،‬والشعارات الفارغة كام لو كانت حكمة بالغة‪ .‬وثان ًيا‪ ،‬سيظل‬
‫املواطنون متقلصني ومشوشني فكريًا حتى بعد استعادة حرياتهم التعبريية‪ .‬وسأجادل هنا‬
‫بأن سولجنيتسني كان محقًا يف كال األمرين‪.‬‬

‫الربوباغندا الشيوعية‬

‫رغم وصول األحزاب الشيوعية يف روسيا وأوروبا الرشقية إىل السلطة بالقوة‪ ،‬فقد كان‬
‫اعتامدهم عىل اإلكراه ظاهرة انتقالية‪ .‬فقد تنبأ منظرو الحركة بأن الشيوعية ستلقى قبوالً‬
‫جامعيًا يف النهاية‪ ،‬وذلك حني يؤمن الجميع صدقًا بفضائلها التي ال تضاهى‪ .‬وحينها‬
‫داعام للشيوعية بنفس درجة الدعم العلني لها‪ ،‬ما يجعل االستخدام‬
‫ً‬ ‫سيغدو الرأي العلني‬
‫املستمر للقوة غري رضوري‪ .‬ويف كتابات لينني قبل الهيمنة البلشفية‪ ،‬تنبأ لينني بأن املجتمع‬
‫االشرتايك سيتكمن يف النهاية من التخيل عن قوات الرشطة لديه‪ 5.‬وستتحقق تلك الحالة‬
‫الهانئة حني يكتشف الناس عدل النظام الجديد وكفاءته من خالل التجربة الشخصية‪.‬‬
‫واستمدت نبوءة لينني قوتها من تصور ماركس عن التاريخ‪« :‬إن وعي املرء ال يحدد وجوده‪،‬‬
‫‪6‬‬
‫بل بالعكس‪ ،‬فوجوده االجتامعي هو ما يحدد وعيه»‪.‬‬
‫ورغم ذلك فإن األحزاب الحاكمة التي تدعي والءها لتعاليم ماركس مل تبد أي إميان‬
‫مبقولته املشهورة تلك‪ .‬فحني استولوا عىل السلطة يف بلدان تفتقر إىل «الرشوط‬

‫‪248‬‬
‫املوضوعية» لالشرتاكية‪ ،‬من وجهة نظر ماركسية‪ ،‬اضطلعوا بتعليم الجامهري عن‬
‫«مصالحهم املوضوعية»‪ .‬وبإدانتهم األفكار املعادية للشيوعية باعتبارها «وع ًيا زائفًا»‪،‬‬
‫أسسوا آالت إعالمية ضخمة لنرش املواقف «الصحيحة» إزاء كل مشكلة اجتامعية ميكن‬
‫تصورها‪.‬‬
‫وبتغري األهداف وفشل التنبؤات‪ ،‬تحولت املواقف الصحيحة أيدولوج ًيا‪ ،‬وغال ًبا ما كان‬
‫يصاحب ذلك إعادة كتابة للتاريخ‪ .‬وبنا ًء عىل ذلك‪ ،‬حني تحول األبطال الشيوعيني إىل أرشار‪،‬‬
‫وحني شكّل االتحاد السوفيتي تحالفات جديدة‪ ،‬خضعت املوسوعة السوفيتية العظمى إىل‬
‫عدة تنقيحات‪ .‬فحني استغنى ستالني عن الفرينتي برييا‪ ،‬رئيس الرشطة الخاص به‪ ،‬أمر‬
‫أصحاب املوسوعة باستبدال القيد الطويل عنه مبعلومات شاملة عن مضيق بريينغ‪ .‬وبنهاية‬
‫الحكم الشيوعي‪ ،‬يف نادرة شعبية روسية مشهورة‪ُ ،‬سئل مقدم برامج حوارية عام إذا كان‬
‫قائال‪« :‬إن ذلك سهل للغاية‪ ،‬فقد أخربنا ماركس مبا‬
‫بإمكان املرء أن يتنبأ باملستقبل‪ .‬فرد ً‬
‫‪7‬‬
‫سيكون املستقبل عليه بالفعل‪ .‬ولكن املشكلة تكمن يف املايض‪ .‬فهو يتغري باستمرار»‪.‬‬
‫وتأيت حالة تثقيفية أخرى من تشيكوسلوفاكيا‪ .‬ففي ‪ ،1948‬خاطب زعيم الحزب‬
‫ضخام يف براغ‪ ،‬ويحيط به رفيقه فالدميري كليمينتيس‪ .‬ورسعان ما‬
‫ً‬ ‫كليمينت غوتوالد حش ًدا‬
‫زينت صورة هذين الرجلني الواقفني م ًعا امللصقات والكتب املدرسية‪ .‬وبعدها بأربعة أعوام‪،‬‬
‫أُدين كليمينتيس بالخيانة وأُعدم‪ .‬وأنتج مسؤولو الحزب عىل الحال «صو ًرا» جديدة لخطاب‬
‫غوتوالد يقف فيها وحي ًدا‪ .‬واستبدل كليمينتيس حيث كان واقفًا بجدار فارغ‪ 8.‬وبإقصاء‬
‫كليمينتيس من التاريخ‪ ،‬أعفا الحزب الشيوعي نفسه من تفسري الكيفية التي صعد بها‬
‫يل املعرفة‬
‫«خائن» إىل رأس الحزب‪ .‬وبذلك كان بإمكان الحزب أن يستمر يف ادعاءه أنه ك ّ‬
‫ومعصوم من الخطأ‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫تشويه الرأي العام‬

‫كانت الربوباغندا مصحوبة بجهود لتنظيم الحوار العلني‪ .‬وتحت وطأة الشيوعية‪ ،‬عىل حد‬
‫مالحظة عامل اجتامع مجري‪ُ « ،‬دمرت الشبكات االجتامعية التقليدية‪ ،‬والشبكات املحلية‪،‬‬
‫واملهنية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والدينية‪ ،‬والعائلية –إىل درجة ما– بالسيف والنار»‪ 9.‬وقد عرقل التفتيت‬
‫املرتتب عىل ذلك انتشار املعلومات عن إخفاقات الشيوعية‪ .‬والرقابة كانت عقبة مكملة لها‪.‬‬
‫فقد تعرض البحث العلمي إىل تنظيم مشدد‪ ،‬مع فرض العقوبات عىل الباحثني الذين‬
‫فمثال‪ ،‬ا ُعتقل العديد من االقتصاديني لكتابتهم عن فضائل‬
‫ً‬ ‫ينحرفون عن الثوابت الرسمية‪.‬‬
‫األسواق الحرة‪ .‬و ُمنع الصحفيون أيضً ا من التعليق عىل االمتيازات الرسمية‪ ،‬ورداءة البضائع‬
‫املحلية‪ ،‬والتجليات املحلية «للرشور الرأساملية» مثل الديون‪ ،‬والتلوث‪ ،‬والجرمية‪ .‬ومل يكن‬
‫يحق للصحفيني أو املؤلفني اآلخرين أن يتناقشوا بخصوص الرقابة يف حد ذاتها‪ .‬ومن دافع‬
‫الخوف‪ ،‬التزمت األغلبية الساحقة مبواضيع آمنة – مثل إخفاقات الرأساملية‪ .‬وهكذا‪ ،‬يف‬
‫املناخ املرتاخي نسبيًا يف عام ‪ ،1986‬وصف الكاتب السوفيتي التشويه املرتتب للحوار العام‪:‬‬
‫تخيلوا يا رفاقي أنكم بُعثتم يف مهمة استطالعية‪ .‬وبعد تنفيذكم للمهمة‪،‬‬
‫تعودون وتبلغون بوجود مائة دبابة للعدو‪ .‬فيُقال لكم‪« :‬إنه هذا عدد كبري‬
‫للغاية‪ .‬فلتبلغوا بوجود ‪ 20‬دبابة فقط‪ .‬فإن ذلك أكرث قبوالً »‪ .‬ذلك كان‬
‫الوضع يف أدبياتنا حتى وقت قريب‪ .‬وخالل السنة والنصف املاضيني‪،‬‬
‫‪10‬‬
‫انكشف هذا الرش عىل نطاق مل نتخيله أب ًدا‪.‬‬
‫تحدى املواطنون العاديون أيضً ا األرثوذكسية الحاكمة عىل مسؤوليتهم الخاصة‪ .‬ذلك‬
‫أن من شأن انحرافهم عن حدود الحوار املسموح به أن يكون سب ًبا يف الحكم عليهم باألعامل‬
‫الشاقة‪ ،‬أو وضعهم يف مصحة عقلية‪ ،‬أو حتى إعدامهم‪ .‬وكان من الخطر أن تشكك يف حكمة‬
‫السياسة املختارة أو أن تعلن جهلك مبسوغاتها‪ ،‬ذلك أن أي تلميح باالنحراف عن األرثوذكسية‬
‫ميكن اعتباره نو ًعا من االنشقاق‪ .‬وقد يجعل حتى اختيار الكلامت املرء مشتب ًها فيه‪ .‬ولتجنب‬

‫‪250‬‬
‫املتاعب‪ ،‬استعمل الناس عبارات ملطفة مصممة إلخفاء إخفاقات الشيوعية‪ .‬وتحول بذلك‬
‫التمييز الصارخ إىل «النهج الطبقي إلنفاذ القانون»؛ وتحولت الحرية الدينية إىل «الرجعية‬
‫الدينية»‪ ،‬وحرية التجمع إىل «نشاط معا ٍد للدولة»‪ .‬وكام كتب معارض تشيكوسلوفايك يف‬
‫‪« ،1979‬تغلغلت اللغة الرسمية حتى بلغت أكرث املناطق رتابة يف الحياة اليومية‪... :‬‬
‫فالحادثة التي تقع يف محطة طاقة نووية تُدعى (انقطاع عن العمل)‪ ،‬وحني يتجرع أمني‬
‫حزب املقاطعة الكحول حتى ميوت‪ ،‬فهو قد (ضحى بحياته من أجل نرصة قضية‬
‫‪11‬‬
‫االشرتاكية)»‪.‬‬
‫ومل يكن للمواطنني حتى أن يثبتوا خطأ األيدولوجية الشيوعية من خالل الكدح‬
‫والدهاء‪ .‬ففي ‪ ،1969‬حصل مواطن سوفيتي يُدعى أيفان خودينكو عىل قطعة أرض يف‬
‫كازاخستان ليستغلها يف زراعة الربسيم الحجازي مع االستعانة بعاملة جيدة األجر‪ .‬وحققت‬
‫هائال‪ .‬ورغم ذلك ا ُعتربت تلك املزرعة إخفاقًا رأسامليًا وأُغلقت‪،‬‬
‫حا اقتصاديًا ً‬
‫تلك التجربة نجا ً‬
‫‪12‬‬
‫وا ُعتقل خودينكو يف ‪ .1973‬ومات يف السجن بعد محاكمته بفرتة قصرية‪.‬‬
‫وال يعني ذلك أن الحكم الشيوعي تخلص من كل أشكال االحتجاج العلني‪ .‬فقد تلقت‬
‫الجرائد شكا ٍو عديدة عن املساكن املتهالكة‪ ،‬وعن قبور الشعراء املشهورين املهملة‪ ،‬وعن‬
‫إهامل صيانة مالعب األحياء‪ .‬ورغم ذلك فقد مال املحتجون إىل البقاء داخل منطقة قبول‬
‫محددة من قبل الحزب‪ .‬وامتنعوا بصفة عامة عن التحقق بشكل عميق للغاية يف املشاكل‪،‬‬
‫وتجنبوا مواجهة الشيوعية يف حد ذاتها‪ .‬فاملدرس الذي يكتب رسائل غاضبة عن آلة معطوبة‬
‫كان يتجنب إلقاء اللوم عىل النظام الذي ينتج تلك اآلالت عدمية النفع‪ .‬ولن يوقع هذا املدرس‬
‫أب ًدا عىل أي خطاب يعرب عن تضامنه مع االنشقاقيني أو االنضامم إىل مظاهرة للدفاع عن‬
‫الحريات التعبريية‪ 13.‬وكقاعدة عامة‪ ،‬مالت الخطابات إىل استهداف املوظفني ذوي الدرجات‬
‫املتوسطة‪ ،‬مع تجنب االحتكاك بالقيادات العليا‪ 14.‬وعكس هذا النمط بالطبع زعم الحزب‬
‫بكونه يسرتشد بحقيقة سامية‪ .‬ونظ ًرا إىل أن الحزب كان يستمد رشعيته من هذا الزعم‪ ،‬فقد‬
‫كان أي فرد يطعن يف القيادة العليا معرضً ا لوصمه عد ًوا للشيوعية العاملية‪ 15.‬وتحت تلك‬

‫‪251‬‬
‫الظروف‪ ،‬تقيد القراء بالتعبري عن مظامل محددة‪ ،‬ومل يجرؤ أحد أن يغامر بالتعميم أو اتهام‬
‫الشيوعية يف حد ذاتها إال ناد ًرا‪.‬‬
‫ويف املناسبات النادرة التي تحدى فيها املواطنون املناصب الرسمية بشكل مبارش‪،‬‬
‫ريا يف الظهور مبوقف متعاطف مع أهداف الشيوعية األشمل‪ .‬ومن هذا‬
‫بذلوا جه ًدا كب ً‬
‫املنطلق‪ ،‬صاغ الناس حججهم مبصطلحات رسمية واستندوا يف أساسها إىل الفلسفة‬
‫املاركسية‪ .‬هكذا كان الحال مع نيكوالي إيفانوفيتش فافيلوف‪ ،‬عامل الجينات السوفيتي الذي‬
‫وقع يف ورطة يف ثالثينيات القرن العرشين حني تحدى الفكرة املعتمدة من الحزب التي‬
‫تذهب إىل أن النباتات بوسعها أن تورث الصفات التي تكتسبها من خالل الرعاية‪ .‬وحني‬
‫دحض فافيلوف هذا الزعم من خالل التجارب‪ ،‬سعى خصومه إىل تكذيب نتائجه من خالل‬
‫التشكيك يف مصداقيته املاركسية‪ .‬واتهموه بتوظيف مجربني غري جديرين بالثقة سياسيًا‪،‬‬
‫واتهموه أيضً ا بإسناد حججه إىل داروين عوضً ا عن آباء الشيوعية‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن‬
‫فافيلوف مل يشكك يف صالحية الحزب للحكم عىل البحث البيولوجي‪ ،‬ومل يطعن يف‬
‫علام أُسس بعد موتهام‪.‬‬
‫مصداقية ماركس أو إنجلز فيام يخص الجينات‪ ،‬رغم كونه ً‬
‫وبإرصاره عىل أنه استمد أبلغ إلهاماته من ماركس‪ ،‬وضح فافيلوف وجهة نظره من خالل‬
‫نرث بعض التعبريات املاركسية الطنانة يف مقاالته‪ .‬ورغم ذلك فقد أخفق‪ .‬ففي ذات الوقت‬
‫‪16‬‬
‫الذي حظيت فيه أعامله بتقدير عاملي‪ ،‬هلك فافيلوف يف السجن‪.‬‬

‫استدخال األيدولوجية الشيوعية‬

‫تزخر األدبيات عن تاريخ الكتلة السوفيتية بأمثلة مشابهة لتلك األهوال الفكرية‪ .‬ونحن نعلم‬
‫أن تلك األهوال مل متنع مواطني البلدان الشيوعية من إدراك أوجه قصور الشيوعية‪ .‬فقد مال‬
‫الناس الذين عانوا يوم ًيا من البضائع الرديئة‪ ،‬وحاالت العجز‪ ،‬والطوابري إىل إدراك أن تلك‬
‫‪252‬‬
‫من أعراض الفشل‪ .‬ويتجىل رد الفعل الشعبي يف النكات املنترشة يف كل مكان عن أداء‬
‫الشيوعية االقتصادي‪ .‬ففي إحدى النكات يسأل أحدهم مقدم برامج إذاعية عام إذا كان‬
‫قائال‪« :‬أجل‪ .‬ولكن الرمال ستشح‬
‫بإمكان االشرتاكية أن تجعل الصحراء الكربى تزدهر‪ .‬فرد ً‬
‫بعد الخطة الخمسية ا ألوىل»‪ .‬ويف نكتة أخرى يستفّس أمرييك من عامل روماين عن‬
‫قائال‪« :‬إنها بخري‪ ،‬فنحن نعيش هناك كلنا كام لو‬
‫طبيعة الحياة يف ظل االشرتاكية‪ .‬فرد عليه ً‬
‫كنا عىل منت سفينة»‪ .‬فاستعجب األمرييك وسأله‪« :‬ماذا تقصد بذلك؟»‪ ،‬فوضح له العامل‬
‫قائال‪« :‬بوسعنا رؤية منظورات بعيدة املدى وآفاق بعيدة‪ .‬ولكن يف نفس الوقت‪،‬‬
‫الروماين ً‬
‫‪17‬‬
‫ميرض الجميع‪ ،‬وال ميكن ألحد أن يغادر السفينة»‪.‬‬
‫ولكن مثة أدلة تشري إىل أن الوعي باإلخفاقات املتأصلة يف الشيوعية مل ينعكس عىل‬
‫اعرتاف واضح بعدم قابلية النظام االشرتايك للتنفيذ‪ .‬وحتى بعد ‪ ،1985‬حني اعرتف‬
‫غورباتشوف علنًا بالحاجة إىل إصالحات جادة‪ ،‬ظلت قطاعات كبرية من املواطنني متفانية‬
‫جهال بنظام السوق الحر‪ .‬ويف مقالة كانت موضع‬
‫يف الدفاع عن األهداف الشيوعية‪ ،‬وأبدت ً‬
‫نقاش واسع يف ‪ ،1988‬جادل عامل اجتامع رويس بأن سبعة عقود من الهيكلة البريوقراطية‬
‫قد قمعت اإلبداع الفردي‪ ،‬ما أعاد توجيه نظام القيم السوفيتي «بعي ًدا عن التحول الثوري‬
‫وإىل الجمود املحافظ»‪ .‬فقد سحقت الشيوعية الخصال الشخصية التي علقت حركة اإلصالح‬
‫قائال‪« :‬حاولت‬
‫الناشئة آمالها عليها‪ 18.‬ويف منتصف عام ‪ ،1989‬اعرتف مراقب سوفيتي آخر ً‬
‫لثالثة أعوام أن أبحث عن وجود دعم جامهريي للبرييسرتويكا‪ ،‬واآلن أظن أن بوسعي أن‬
‫أقول إنه غري موجود»‪ .‬وألقى باللوم جزئ ًيا عىل األخالق السوفيتية التي تساوي بني العدالة‬
‫ومبشاركة تصوراته‪ ،‬شكك العديد من املصلحني‬ ‫‪19‬‬
‫االجتامعية واملساواة االقتصادية‪.‬‬
‫الدميقراطيني يف حكمة تشجيع التحرير السيايس قبل التحرير االقتصادي‪ .‬وجادلوا بأنه‬
‫‪20‬‬
‫إذا حصل املواطنون عىل القوة السياسية ملنعوا اإلصالحات الهيكلية‪.‬‬
‫وتدعم الذكريات الشخصية من جانب املراقبني ذوي املعرفة وجهة النظر التي تقول‬
‫إن مواطني الكتلة السوفيتية طوروا إميانًا بالشيوعية حتى بعد معاناتهم من عواقبها‬

‫‪253‬‬
‫األليمة‪ .‬وتذكر ديتليف بوالك‪ ،‬عامل االجتامع الذي تتبع الجمعيات التي تعرضت للمضايقة‬
‫يف أملانيا الرشقية‪ ،‬أن أفراد تلك الجمعيات كانوا مييلون إىل عدم معاداتهم للشيوعية‪ .‬فعىل‬
‫ما يبدو أن الجميع اعتربوا أنفسهم جنود مشاة للشيوعية «الحقيقية»‪ 21.‬وتندرج األدلة عىل‬
‫استدخال األيدولوجية الشيوعية تحت فئتني‪ :‬استطالعات الرأي‪ ،‬وتاريخ التصحيح‬
‫االشرتايك‪.‬‬

‫استطالعات الرأي‬

‫كان قادة الكتلة السوفيتية عىل دراية بدور تزييف التفضيل يف استدامة أنظمتهم‪ .‬وبنا ًء‬
‫عىل ذلك‪ ،‬أجروا استطالعات دورية للحصول عىل معلومات تخص األحكام الشخصية‬
‫رسا – ما كان عالمة مؤكدة عىل أن النتائج‬
‫لجامعات مختلفة‪ .‬وكقاعدة عامة‪ ،‬أبقوا النتائج ً‬
‫كانت تناقض الترصيحات التي تزعم بوجود وحدة اشرتاكية‪ .‬وكانت أي معلومات مسموح‬
‫بنرشها «مراجعة مسبقًا مع وجود تفسري مناسب لها» ملنعها من تقوية شوكة املعارضني‬
‫املحتملني‪ 22.‬ومنذ سقوط الشيوعية‪ُ ،‬رفعت الّسية عن العديد من استطالعات الرأي الّسية‬
‫سابقًا‪ .‬وللمرء أن يتوقع أنها تؤكد وجود استياء واسع‪ .‬ولكنها تكشف أيضً ا عن دعم واسع‬
‫ملثاليات االشرتاكية‪.‬‬
‫ومنذ عام ‪ 1970‬فصاع ًدا‪ ،‬أجرى املعهد املركزي لتنمية الشباب يف اليبزغ استطالعات‬
‫بالنيابة عن قيادة أملانيا الرشقية‪ .‬وسجل املشاركون يف تلك االستطالعات آرائهم دون ذكر‬
‫أسامء‪ ،‬ودون وجود مسؤولني يف الغرف التي مألوا فيها مناذج االختيارات املتعددة‪ .‬وتشري‬
‫تلك االستطالعات إىل أنه‪ ،‬حتى منتصف مثانينيات القرن العرشين‪ ،‬كان شبان أملانيا الرشقية‬
‫مؤيدين إىل حد كبري لألهداف الرسمية‪ .‬ويف ‪ ،1983‬وافق ‪ 46‬يف املائة من عينة من طالب‬
‫مدرسة التجارة عىل العبارة القائلة «أنا مواطن مخلص للجمهورية األملانية الدميقراطية»‪،‬‬
‫‪254‬‬
‫يف حني أن ‪ 45‬يف املائة وافقوا عليها مع بعض التحفظات‪ ،‬ورفضها ‪ 9‬يف املائة فقط‪ .‬ويف‬
‫‪ ،1984‬وافق ‪ 50‬يف املائة عىل أن «االشرتاكية ستنترص يف كل أنحاء العامل»‪ ،‬يف حني وافق‬
‫‪ 42‬يف املائة عىل ذلك مع بعد التحفظات‪ ،‬وعارضه ‪ 8‬يف املائة فقط‪ .‬ومل تظهر استطالعات‬
‫ريا‪ 23.‬ورغم أن هؤالء الطالب مل ميثلوا الجزء األكرب من‬
‫الرأي بني ‪ 1970‬و‪ 1985‬تباينًا كب ً‬
‫السكان‪ ،‬فمن الجدير بالذكر أنه بعد ‪ 1985‬سجلت االستطالعات انخفاضً ا حا ًدا يف كلٍ من‬
‫تعلقهم بالنظام وإميانهم باالشرتاكية‪ .‬وسأقدم النتائج الحديثة الحقًا يف إطار تفسري انهيار‬
‫الشيوعية األوروبية الرشقية‪.‬‬
‫وعىل مر السنني‪ ،‬أجرت معاهد الرأي التابعة للدولة يف املجر وتشيكوسلوفاكيا‬
‫استطالعات لتحديد التصورات الشعبية عن النجاح االقتصادي لالشرتاكية باملقارنة‬
‫بالرأساملية الغربية‪ ،‬من بني أمور أخرى‪ .‬وذلك يشري إىل أن األوروبيني الرشقيني كانوا‬
‫حا باملقارنة من الناحية االقتصادية‪ 24.‬ففي ‪،1983‬‬
‫مييلون إىل اعتبار االشرتاكية أكرث نجا ً‬
‫فاشال بصفة‬
‫ً‬ ‫عىل سبيل املثال‪ ،‬كان عدد املجريني الذين اعتربوا النظام االشرتايك االقتصادي‬
‫عامة أكرب من عدد من اعتربوه ناج ًحا بفارق ‪ 18‬يف املائة‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬فاقت اآلراء السلبية‬
‫ويف‬ ‫تجاه الرأساملية اآلراء اإليجابية بفارق أوسع بكثري‪ ،‬نحو ‪ 75‬نقطة مئوية‪.‬‬
‫‪25‬‬

‫تشيكوسلوفاكيا‪ ،‬اعتقد ‪ 50‬يف املائة من عينة واسعة أن مستويات املعيشة يف املستقبل‬


‫ستكون أفضل يف املجتمعات االشرتاكية باملقارنة بالغرب الرأساميل‪ ،‬يف حني اعتقد ‪ 18‬يف‬
‫املائة فقط بالرأي املعاكس‪ 26.‬وعىل غرار إحصائيات أملانيا الرشقية‪ ،‬تكشف إحصائيات املجر‬
‫وتشيكوسلوفاكيا هبوطًا يف تعلق املواطنني باالشرتاكية يف النصف الثاين من مثانينيات‬
‫القرن العرشين‪.‬‬
‫ويف االتحاد السوفيتي‪ ،‬أجرت صحيفة برافدا استفتا ًء رسيًا يف منتصف ستينيات‬
‫القرن العرشين ضد معارضة يوري زوكوف‪ ،‬محرر معروف بآرائه املتشددة‪ .‬وتأكي ًدا عىل‬
‫شكوك زوكوف‪ ،‬كشف االستفتاء عن وجود انقسام بني قراء الصحيفة فيام يتعلق‬
‫مبعتقداتهم وتفضيالهم‪ .‬ولكن ما أثار دهشته هو أن االستفتاء أظهر أنه كاتب مشهور‬

‫‪255‬‬
‫للغاية‪ ،‬ما عزز سلطته يف مجلس إدارة برافدا‪ 27.‬ورغم أن تلك النتائج مفتوحة لتأويالت‬
‫متنافسة‪ 28،‬فهي تشري إىل أن السياسات الرسمية كان تحظى بدعم خفي ملحوظ‪ .‬وكشف‬
‫استطالع سوفيتي آخر‪ ،‬أُجري بني ‪ 1967‬و‪ ،1974‬اعتقا ًدا واسع االنتشار بأن مستويات‬
‫‪29‬‬
‫املعيشة يف تشيكوسلوفاكيا أعىل من نظرياتها يف أمريكا‪ ،‬والسويد‪ ،‬وأملانيا الغربية‪.‬‬
‫وتتوافق نتائج االستطالعات الرسمية مثل هذه بصفة عامة مع االستفتاءات التي‬
‫أجرتها املنظامت الغربية يف السبعينيات وأوائل الثامنينيات عىل املسافرين من رشق أوروبا‪.‬‬
‫وأظهرت تلك الدراسات‪ ،‬بثبات مدهش ولكل أمة‪ ،‬أن يف انتخابات حرة تضم طيفًا واس ًعا من‬
‫الخيارات‪ ،‬مبا فيها الحزب االشرتايك الدميقراطي والحزب املسيحي الدميقراطي‪ ،‬سيحصل‬
‫الحزب الشيوعي عىل ُعرش عدد األصوات عىل أقىص تقدير‪ .‬وبالرغم من ذلك‪ ،‬فسوف يفوز‬
‫االشرتاكيون باالنتخابات يف جميع األحوال‪ 30.‬وتكشف تلك االستطالعات عن استياء واسع‬
‫النطاق من املؤسسة الشيوعية الشاغلة‪ .‬ولكنها تظهر أيضً ا أن ذلك االستياء كان مصحوبًا‬
‫بقبول واسع النطاق للمثاليات الرسمية‪.‬‬
‫ويف بولندا واملجر‪ ،‬اللذين كانا مبثابة أقامر استطالع صناعية سوفيتية حيث ازدهرت‬
‫املعارضة العلنية بفعل الثامنينيات‪ ،‬متكن الباحثون املستقلون من إجراء عدد من‬
‫االستطالعات غري الرسمية‪ .‬وتؤكد تلك االستطالعات أن املبادئ االشرتاكية كانت تحظى‬
‫بقبول عام‪ .‬فطبقًا الستطالع بولندي من ‪ ،1984‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ريض ‪ 16‬يف املائة فقط‬
‫من عينة من العامل باالشرتاكية يف الهيئة التي كانت عليها يف بولندا‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬استجاب‬
‫‪ 28‬يف املائة فقط بشكل سلبي للسؤال‪« :‬هل تظن أن من األحرى للعامل أن يتطور نحو شكل‬
‫آخر من أشكال االشرتاكية؟»‪ ،‬واعترب ‪ 11‬يف املائة فقط «امللكية الخاصة لوسائل اإلنتاج»‬
‫سمة رضورية لوجود نظام اجتامعي اقتصادي جيد‪ ،‬يف مقابل ‪ 60‬يف املائة ممن حبذوا‬
‫«ملكية اشرتاكية لوسائل اإلنتاج»‪ 31.‬وعىل نفس املنوال‪ ،‬كشف استطالع يف عام ‪ 1985‬عىل‬
‫املجريني عن استياء واسع النطاق من شتى السياسات املحددة‪ .‬فقد وصف ‪ 63‬يف املائة‬
‫اإلسكان بأنه يسء‪ ،‬واستاء ‪ 61‬يف املائة من املعاملة التي تلقاها كبار السن‪ .‬ويف ذات الوقت‪،‬‬

‫‪256‬‬
‫حني ُسئلوا «إىل أي مدى تعترب نفسك واثقًا يف أن الحكومة املجرية تقود البلد يف االتجاه‬
‫الصحيح؟»‪ ،‬أجاب ‪ 88‬يف املائة بأنهم واثقني «متا ًما» أو «إىل حد كبري»‪ .‬وعالو ًة عىل ذلك‪،‬‬
‫مال املشاركون إىل اعتبار إنجازات املجر االقتصادية متفوقة عىل نظرياتها يف البلدان‬
‫‪32‬‬
‫املجاورة‪ ،‬وال سيام فيام يتعلق مبعدل التوظيف‪.‬‬
‫ومنذ منتصف الثامنينيات‪ ،‬ويف التسعينيات باألخص‪ ،‬أضحى إجراء االستطالعات‬
‫يف أمم أوروبا الرشقية سع ًيا مزده ًرا‪ .‬فقد وجدت معظم االستطالعات العلمية أن التوجهات‬
‫يف حالة تغري مستمر‪ ،‬ولكن يظل هناك تعلق ال تخطئه العني باملثاليات االشرتاكية‪ .‬وبعد‬
‫بضعة أشهر من انهيار الشيوعية يف أملانيا الرشقية‪ ،‬سأل معهد ألينزباخ عينة من األملان‬
‫الرشقيني عام إذا أظهرت أزمة البلد الحالية إخفاقًا لالشرتاكية أم عدم كفاءة من جانب‬
‫السياسيني‪ .‬ونسب ‪ 20‬يف املائة فقط األزمة إىل االشرتاكية يف حد ذاتها‪ ،‬يف حني ألقى ‪67‬‬
‫يف املائة اللوم عىل عدم الكفاءة الفردية‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬أدلت عينة مشابهة يف أملانيا الغربية‬
‫بإجابات مقسمة بالتساوي تقريبًا بني الخيارين‪ 33.‬وملقارنة مشابهة أخرى‪ ،‬حني أعطى‬
‫الباحثون املشاركني خيا ًرا بني الحرية واملساواة‪ ،‬اختار ‪ 43‬يف املائة من األملان الرشقيني‬
‫‪34‬‬
‫املساواة‪ ،‬يف مقابل ‪ 24‬يف املائة من األملان الغربيني‪.‬‬
‫ومع انهيار الشيوعية‪ ،‬أضحت األغلبيات الكبرية تتقبل تدريجيًا الّضورة امللحة‬
‫إلصالحات هيكلية‪ .‬ورغم ذلك فمن االكتشافات السائدة يف العديد من االستطالعات أن‬
‫املشاركني يعتربون الغرب ثريًا ولكنه غري متحّض واستغاليل‪ .‬ويف ‪ 1990‬وجدت منظمة‬
‫استفتاء خاصة يف براغ أن ‪ 10‬يف املائة فقط من العينة التشيكوسلوفاكية كانوا يحبذون‬
‫اقتصاد سوق حر عىل الطراز األمرييك‪ ،‬ولكن ‪ 36‬يف املائة فضلوا دولة رفاهية عىل الطراز‬
‫‪36‬‬
‫السويدي‪ 35.‬وحصل الباحثون عىل نتائج مشابهة يف املجر وبولندا‪.‬‬
‫والعنرص املحوري يف التحوالت الجارية من االشرتاكية إىل الرأساملية هو‬
‫الخصخصة‪ ،‬وهو هدف يتبناه معظم قادة ما بعد الشيوعية‪ .‬ومع حصول الخصخصة عىل‬
‫دعم من قطاع مؤثر يف الحوار العلني‪ ،‬أضحى عدد متزايد من املواطنني يعتربونه أم ًرا ال‬

‫‪257‬‬
‫غنى عنه‪ .‬ورغم ذلك فاألغلبية ال يعرفون عىل وجه التحديد ما تعنيه كلمة الخصخصة‪ .‬فقد‬
‫وجدت رشكة استفتاء خاصة يف بودابيست أن معظم املجريني يعتربون الخصخصة فكرة‬
‫جيدة‪ ،‬ورغم ذلك فنصفهم يفتقرون إىل فهم بسيط لتلك العملية‪ 37.‬وباملثل‪ ،‬حظي مفهوم‬
‫قليال‬
‫المعقول سابقًا يف روسيا مثل األسعار املتناسبة مع السوق بقبول ملحوظ‪ .‬ولكن عد ًدا ً‬
‫‪38‬‬
‫من الروس كان يفهم الكيفية التي ترتبط بها األسعار بالطوابري وحاالت العجز‪.‬‬
‫أوال أن نعيد النظر يف الفرق بني املعرفة الصلبة واملعرفة‬
‫وملحاولة فهم النتائج‪ ،‬علينا ً‬
‫اللينة‪ .‬وباختصار‪ ،‬تعتمد املعرفة الصلبة عىل معلومات موضوعية‪ ،‬يف حني أن املعرفة اللينة‬
‫تعتمد عىل اإلثبات االجتامعي‪ .‬إذ تقع حاالت العجز‪ ،‬ومشاكل الجودة‪ ،‬والقمع السيايس‬
‫داخل نطاق التجربة الفردية‪ .‬ولذا فكلها مصادر معرفة صلبة‪ .‬فالبولندي الذي يقف يف‬
‫طابور لحم يف يوم مثلج مييل إىل االستياء من تلك املشقة حتى وإن مل يبد أحد آخر منزع ًجا‪.‬‬
‫ولذا‪ ،‬يف مجتمع قمعي فاشل اقتصاديًا‪ ،‬قد ينشأ استياء واسع عىل املستوى الخفي حتى‬
‫داعام للوضع الراهن‪ .‬وبقدر ما ميكن للمواطنني أن يحصلوا عىل‬
‫ً‬ ‫وإن ظل الحوار العلني‬
‫معلومات تخص األوضاع األفضل يف الخارج‪ ،‬كام صار ممكنًا لشعوب الكتلة السوفيتية‬
‫بصفة متزايدة يف السبعينيات والثامنينيات‪ ،‬سيصل االستياء إىل مستويات أعىل من الشدة‪.‬‬
‫ولكن إدراك إخفاقات النظام لديك يشء‪ ،‬وإدراك املشاكل الكامنة وراءه يشء آخر‪ .‬فلم يكن‬
‫للرويس الذين عرف أن الرنويجيني يعيشون حياة أفضل منه الوقت أو التعليم املالئم لتحديد‬
‫األسباب مبفرده‪ .‬ولذا فهو يستمد معلوماته من اإلثبات االجتامعي‪ .‬وأيًا تكن طبيعة هذا‬
‫اإلثبات االجتامعي‪ ،‬فسيمثل تفسريه الخفي نو ًعا من املعرفة اللينة‪ .‬وإذا تبدل حال الحوار‬
‫العلني‪ ،‬فمن شأن هذا التفسري أن يتغري بّسعة شديدة‪.‬‬
‫وحتى عرص غورباتشوف‪ ،‬برأ الحوار العلني يف البلدان الشيوعية االشرتاكية من‬
‫مسؤوليتها تجاه املشاكل املحسوسة‪ .‬فقد نسب املصاعب إىل أخطاء يف التطبيق عوضً ا عن‬
‫نسبها إىل املبادئ البسيطة‪ .‬وبناء عىل ذلك‪ ،‬متسك معظم مواطني تلك البلدان بإميانهم‬
‫باالشرتاكية‪ .‬ومع قدوم الغالسنوست‪ ،‬أضحت االنتقادات التي قُمعت لفرتة طويلة ُمعلنة‬

‫‪258‬‬
‫برصاحة‪ ،‬ما دفع الحوار العلني يف اتجاه مؤيد للسوق‪ .‬ويف ذات الوقت‪ ،‬بدأت االستفتاءات‬
‫تسجل صعو ًدا يف اآلراء املؤيدة للسوق‪ .‬وكان كشف تلك االستفتاءات لحقيقة أن تلك اآلراء‬
‫كانت تستند عىل جهل جامهريي متسقًا مع حقيقة أن مسائل السياسة االقتصادية الواسعة‬
‫تقع خارج نطاق الفهم العميق للشخص العادي‪.‬‬

‫إصالح الشيوعية‬

‫تتسق االستطالعات اآلنف ذكرها مع األطروحة التي تقول إن تشويه الحوار العلني من خالل‬
‫جهود تزييف التفضيل جعلت من الصعب عىل األوروبيني الرشقيني أن يفهموا األسباب‬
‫الجذرية التي أدت إىل اإلخفاقات الشيوعية‪ .‬وتأيت أدلة منهجية أخرى من تاريخ حركات‬
‫اإلصالح داخل الكتلة السوفيتية‪.‬‬
‫حني كشف خروتشوف عن فداحة جرائم ستالني‪ ،‬برزت فرصة ملناقشة األفكار التي‬
‫كانت قبل ذلك المعقولة‪ .‬ولكن البريوقراطيني املرتبكني مل يكونوا عىل استعداد الستغاللها‪.‬‬
‫فبالرغم من كم املعاناة التي واجهوها‪ ،‬مل يكن بوسعهم أن يحددوا التدابري التي من شأنها‬
‫أن متنع تكرار االستبداد‪ .‬وبالتمييز بني الشيوعية اللينينية والستالينية‪ ،‬جادلوا بأن العودة‬
‫إىل اللينينية النقية ستكون مبثابة ترياق للحكم االستبدادي‪ .‬وقد كافحوا ألعوام طويلة يف‬
‫‪39‬‬
‫محاولتهم إلسعاف هذا النظام قبل أن يدركوا أخطائه املميتة‪.‬‬
‫أظهرت الحركات اإلصالحية داخل األقامر الصناعية االستطالعية لالتحاد السوفيتي‬
‫نفس النمط‪ .‬فلم يحاول أحد أن يطيح بهياكل السيادة املهيمنة أو أن يعدل النظام االجتامعي‬
‫بشكل جذري‪ .‬وأدان إمر ناجي‪ ،‬قائد ثورة املجر الفاشلة يف ‪ ،1956‬الحكم الشيوعي املطلق‬
‫باعتباره غري دميقراطي‪ .‬ولكنه ظل متشبثًا «باالشرتاكية العلمية» كعقيدة للتحرير‪ ،‬دون أن‬
‫يالحظ أن االضطهاد كان النتيجة املنطقية الوحيدة للتظاهر باملعرفة الكلية والعصمة من‬
‫‪259‬‬
‫الخطأ اللذين يتسم بهام مبدأ الحتمية التاريخية املاركسية‪ 40.‬وعىل نفس املنوال‪ ،‬كان ربيع‬
‫متأصال يف أوهام عن إمكانية إضفاء «وجه برشي» عىل الشيوعية دون‬
‫ً‬ ‫براغ يف عام ‪1968‬‬
‫تفتيت االحتكار الشيوعي للسلطة‪ 41.‬ومل تظهر حركات تحاول تغيري النظام االجتامعي من‬
‫خارج املؤسسة السياسية قبل حلول السبعينيات‪ .‬وأوضح أحد رواد املعارضة األوائل‪ ،‬آدم‬
‫ميشنيك البولندي‪ ،‬كام فعل هافل يف تشيكوسلوفاكيا‪ ،‬أن أي محاوالت إلضفاء طابع برشي‬
‫عىل االشرتاكية محكوم عليها بالفشل‪ ،‬وأن أي تغري له معنى ال بد من أن يأيت من خارج‬
‫هياكل السلطة الرسمية‪ 42.‬ولكن لعقد واحد عىل أقل تقدير‪ُ ،‬عوملت آراء ميشنيك عىل نطاق‬
‫واسع باعتبارها آراء تخريبية‪ .‬وظل معظم البريوقراطيني‪ ،‬والباحثني‪ ،‬والصحفيني‪،‬‬
‫ومسؤويل الحزب ملتزمني بإنقاذ النظام االجتامعي القائم‪ .‬وقد رشع حتى غورباتشوف‪،‬‬
‫الذي أطلقت أفعاله العنان للقوى التي أطلقت رصاصة الرحمة عىل الشيوعية‪ ،‬يف أن يجعل‬
‫‪43‬‬
‫النظام القديم يعمل بشكل أفضل‪.‬‬
‫وإذا كانت هناك أي مسألة كربى كان القادة بعد ستالني عىل استعداد بالسامح بقدر‬
‫من الحرية التعبريية تجاهها‪ ،‬فهي االقتصاد‪ .‬فرغم استمرارهم يف التبشري بتفوق التخطيط‬
‫املركزي والتنبؤ بهالك الرأساملية الوشيك‪ ،‬فقد أقروا بوجود مشاكل اقتصادية محددة‪،‬‬
‫وشجعوا املقرتحات البناءة لإلصالح‪ .‬ولكن لعدة أعوام‪ ،‬ظلت التجارب «التصحيحية»‬
‫متمسكة مببادئ الشيوعية األساسية‪ .‬وظل التخطيط املركزي قامئًا باعتباره أم ًرا ال غنى عنه‪،‬‬
‫مع تقديم بعض التنازالت الطفيفة آلليات السوق‪ .‬وظلت اآلثار الضارة لالحتكار‪ ،‬مثل‬
‫النفايات والركود‪ ،‬يُنظر إليها باعتبارها حك ًرا عىل الرأساملية‪ .‬ومل تعد الخصخصة مشكلة‬
‫رصا عىل أشكال امللكية التعاونية‪ ،‬كام يف‬
‫إال ناد ًرا‪ ،‬وحني ا ُعتربت كذلك كان الرتكيز مقت ً‬
‫«الرشكات العاملية» اليوغوسالفية‪ .‬وتعرضت األسواق السوداء لهجوم مستمر‪ ،‬ولكن‬
‫‪44‬‬
‫مصادرها مل تتعرض للتحقيق إال ناد ًرا‪.‬‬
‫وكانت املاركسية نقطة بداية كل تلك النقاشات‪ .‬فقد استلهمت أفكارها من «البلشفيني‬
‫الليرباليني» مثل لينني وبوخارين‪ ،‬ومل يكن آدم سميث أو أتباعه مصدر إلهام إال ناد ًرا‪ .‬وقد‬

‫‪260‬‬
‫وصف ناقد للفكر التصحيحي اإلصالحيني بأنهم «سجناء حوارهم»‪ 45.‬وحدد نقاد آخرون‬
‫أربعة مجموعات من التصحيحيني‪ :‬أولئك الذين يبحثون عن «طريق ثالث» بني االشرتاكية‬
‫والرأساملية‪ ،‬واملاركسيني األصوليني الذين يعتنقون الكتابات األوىل ملاركس‪،‬‬
‫و«التكنوقراطيني» الذي يريدون درجة أكرب من الترصف الحكومي‪ ،‬ومعادي البريوقراطيني‬
‫الذين يعتقدون أن من الالزم طرد البريوقراطيني من مناصبهم واستبدالهم مبن هم أفضل‪.‬‬
‫‪46‬‬

‫ومن الجدير بالذكر أنه مل تفكر أي جامعة من تلك الجامعات أن تستبدل يد التخطيط املركزي‬
‫املرئية بيد السوق الخفية‪.‬‬
‫حظي بعض التصحيحيون باملواساة حني شهدوا االتساع املستمر للحكومات يف‬
‫الغرب الصناعي‪ .‬واتخذوا من ذلك برهانًا عىل حتمية املركزية االقتصادية‪ .‬وتكلم أكرث‬
‫التصحيحيني جرأة عن «اشرتاكية السوق»‪ ،‬وهو نظام يتمسك بنقاط القوى التي تتسم بها‬
‫كل من الرأساملية والشيوعية مع تجنب نقاط الضعف‪ .‬ويف رواية اسرتجاعية إلصالح‬
‫ٌ‬
‫الشيوعية‪ ،‬وصف جينوس كورناي املصلحني يف الخمسينيات والستينيات‪ ،‬مبا فيهم نفسه‬
‫ضئيال‬
‫ً‬ ‫شخصيًا‪ ،‬بأنهم «سذج»‪ .‬واعرتف يف ‪ 1986‬بأنه من مدعاة السخرية أن تظن أن قد ًرا‬
‫من الالمركزية سيحقق الوئام بني نظام السيطرة وعملية السوق‪ ،‬مع ضامن الكفاءة والنمو‬
‫‪47‬‬
‫والعدالة يف ذات الوقت‪.‬‬
‫فمثال‪،‬‬
‫ً‬ ‫ريا من جانب الكثري من املعارضني‪.‬‬
‫ومل تلق املسائل االقتصادية اهتام ًما كب ً‬
‫ابتعد هافل عن النقاشات التي تخص الالمركزية‪ ،‬ورغم ذلك فقد أشار إىل أنه مل يعترب‬
‫حال‪ .‬ومال املعارضون الذين علقوا عىل االقتصاد إىل الكشف عن تعلقهم‬
‫رأساملية السوق ً‬
‫باملاركسية األرثوذكسية‪ .‬ففي ‪ 1968‬كتب املعارض الرويس أندريه ساخاروف أن‬
‫«االشرتاكية رفعت معنى العمل إىل قمم عمل أخالقي»‪ .‬وأكد عىل أن «بعض السخافات (يف‬
‫‪48‬‬
‫متأصال يف مسار تطور االشرتاكية‪ ،‬بل حادثًا مأساويًا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫تطور االشرتاكية) مل تكن جان ًبا‬
‫وليس املغزى هنا هو االستخفاف بإنجازات الشيوعيني اإلصالحيني‪ :‬فمن خالل آثار‬
‫انتقاداتهم‪ ،‬وخيبات األمل التي تلت إصالحاتهم الخجولة‪ُ ،‬مهدت الطرق أمام تحوالت‬

‫‪261‬‬
‫التسعينيات‪ .‬وال أزعم أيضً ا أن األفراد املصلحني كان بإمكانهم رؤية أخطاء الشيوعية املميتة‪.‬‬
‫فقد أعاقتهم تحيزات الحوار العلني كاآلخرين‪ .‬وكام أدرك عامل اجتامع مجري يف‬
‫الثامنينيات‪ ،‬من املستحيل أن يكون هناك وجود «ملجتمع ثانٍ » غري ملوث «باملجتمع األول»‬
‫الذي تبنى الشيوعية الرسمية‪ .‬فمع االستثناء املحتمل لبعض املعارضني املنفيني‪ ،‬كان املجتمع‬
‫مأهوال بنفس سكان املجتمع «األول»‪ 49.‬فام تعلموه من املصادر الرسمية قد ش ّوه‬
‫ً‬ ‫«الثاين»‬
‫ما يرونه وما يفهمونه‪.‬‬

‫التناقضات الداخلية للفكر الشعبي‬

‫كل من املالحظات الشخصية واستطالعات الرأي والكتابات‬


‫من هذا املنطلق‪ ،‬تدعم ٌ‬
‫التصحيحية الرأي الذي مفاده أن مواطني الكتلة السوفيتية‪ ،‬رغم إدراكهم بإخفاقات‬
‫الشيوعية املحددة‪ ،‬كانوا مييلون إىل التمسك بإميانهم بالشيوعية يف حد ذاتها‪ .‬ومن الواضح‬
‫أن األيدولوجية الشيوعية أضعفت قدرتهم عىل النظر يف الشيوعية بعني ناقدة‪ .‬ولكن‬
‫ريا جزئيًا فقط‪ .‬إذ يكمن جزء آخر يف تشويهات الحوار العلني‬
‫التلقني الرسمي يقدم تفس ً‬
‫امل ُولدة من خالل تزييف التفضيل من جانب املواطنني يف حد ذاتهم‪.‬‬
‫وتتوافق تلك األطروحة مع حقيقة أن التصورات خضعت لتغريات جسيمة يف جميع‬
‫أنحاء الكتلة السوفيتية خالل أواخر الثامنينيات‪ ،‬حني أضحت املالحظات والتحليالت‬
‫ربا عنها بوترية متصاعدة‪ .‬وإذا كانت الربوباغندا‬
‫واملقرتحات التي كانت المعقولة سابقًا ُمع ً‬
‫الرسمية العامل الوحيد يف تشكيل املعتقدات الفردية‪ ،‬لكان من املحتمل وقوع تحوالت يف‬
‫االتحاد السوفيتي‪ ،‬وبولندا واملجر‪ ،‬حيث أضحى القادة أكرث تعاطفًا مع اإلصالح‪ ،‬ولكن ليس‬
‫يف أملانيا الرشقية‪ ،‬أو تشيكوسلوفاكيا‪ ،‬أو رومانيا‪ ،‬أو بلغاريا‪ ،‬حيث ظلت األجندة الرسمية‬
‫كام هي دون تغري حتى خريف ‪.1989‬‬
‫‪262‬‬
‫وميكن الطعن يف األدلة التي جمعتها عىل أساس أن مواطني الكتلة السوفيتية‬
‫شاركوا بشكل منتظم‪ ،‬وعىل مسؤوليتهم الشخصية‪ ،‬يف اقتصاد رسي معقد يعمل طبقًا‬
‫للمبادئ الرأساملية‪ .‬وبالفعل‪ ،‬مل يحصل العامل عىل رساويل الجينز الزرقاء الخاصة بهم إال‬
‫من خالل السوق الحر الذي كان بإمكانهم الوصول إليه – وهو السوق السوداء؛ وقد لجأ‬
‫مديرو الرشكات بصفة مستمرة إىل املوردين غري املرصح بهم من أجل الحصول عىل قطع‬
‫الغيار التي يحتاجونها من أجل الوفاء بحصص اإلنتاج امل ُلزم بها‪ .‬ومن خالل تلك املالحظات‪،‬‬
‫للمرء أن يستنتج أن أفضليات حريات السوق كانت مفهومة عىل نطاق واسع‪ .‬ومع تعزيز‬
‫مبدأ أن «األفعال تتكلم أكرث من الكلامت»‪ ،‬للمرء أن يجادل بأن الترصف الفردي يكشف ما‬
‫يخفيه الحوار العلني من مفاهيم‪.‬‬
‫ورغم ذلك كان بإمكان مواطني الكتلة السوفيتية أن يشاركوا يف هذا االقتصاد الّسي‬
‫دون أن يكونوا أنصا ًرا للتحرير االقتصادي‪ .‬فكام الحظ فالدميري شالپينتوخ‪ ،‬مل يتحول‬
‫العامل واملديرون الذين تاجروا يف السوق السوداء بشكل تلقايئ إىل أشخاص يثقون يف‬
‫منقسام إىل طبقتني‪،‬‬
‫ً‬ ‫الرشكات الحرة‪ 50.‬ويطرح فكرة أن ذلك كان بسبب أن عقل املواطن كان‬
‫األوىل طبقة «براغامتية» واألخرى «أيدولوجية»‪ .‬وتحتوي الطبقة األوىل عىل املعلومات‬
‫العملية الالزمة إلنجاز األمور‪ ،‬وهي مستمدة يف معظمها من الخربة؛ فهي تصور التنافس‬
‫السوقي عىل أنه مريح ومربح‪ .‬واألخرى تتكون من معلومات مجردة‪ ،‬ومستمدة يف معظمها‬
‫من الحوار العام؛ وهي تصور املنافسة عىل أنها مّسفة ورشيرة‪ .‬وال تتفاعل طبقة من‬
‫الطبقتني مع أخرى إال يف حاالت نادرة‪ ،‬ما أدى إىل استدامة تلك التناقضات‪.‬‬
‫إن انفصال الفكر املاركيس املجرد من مشاكل البقاء اليومية عزز التضاربات العقلية‬
‫من خالل تشجيع األفراد عىل تقسيم املعلومات الواردة إىل شقني‪ .‬إذ تدخل الشعارات‪،‬‬
‫والخطابات الرسمية‪ ،‬والتنبؤات املاركسية داخل الطبقة النظرية يف وعي الشعب؛ يف حني‬
‫تتجه األدلة عىل عدم الكفاءة البريوقراطية والرؤى حول استخدامات األسواق إىل الطبقة‬
‫منعزال عن مشاغل الوجود اليومي؟ إن نفس العامل‬
‫ً‬ ‫الرباغامتية‪ .‬ولكن مل ظل الفكر املاركيس‬

‫‪263‬‬
‫الذي جعل مواطني الكتلة السوفيتية يخبئون معارضتهم للحكم الشيوعي هو ما جعل‬
‫مواجهة األيدولوجية الشيوعية مع إخفاقات الشيوعية العملية أم ًرا محفوفًا باملخاطر‪ .‬إذ ال‬
‫يسع عامل قوي املالحظة‪ ،‬إال عىل مسؤوليته الخاصة‪ ،‬أن يشري إىل حقيقة أن «دولة العامل»‬
‫قدمت له مستوى أدىن من املعيشة مام يتمتع به العامل يف الدول «املحكومة من قبل‬
‫الربجوازيني»‪ .‬وال يسعه أيضً ا أن يلفت االنتباه إىل حقيقة أن حاالت العجز أقل شيو ًعا بدرجة‬
‫كبرية يف اقتصادات األسواق من االقتصادات املخططة‪ .‬ولذا فقد احتفظ بأفكاره لنفسه‪،‬‬
‫وشارك حتى يف نرش الخرافات‪ ،‬والتحريفات‪ ،‬واملغالطات الرسمية‪ .‬ويف خضم هذه العملية‪،‬‬
‫امتنع عن إعطاء رفاقه من املواطنني أسبابًا تجعلهم يعيدون النظر يف أحكامهم النظرية‪.‬‬
‫وإذا صح تفسريي‪ ،‬فمن شأن سيطرة الرؤية الكونية الرسمية عىل عقل الفرد أن‬
‫تضعف مع السامح بالتعبري عن أفكار متناقضة مع الثوابت الرسمية بأمان بصفة متزايدة‪.‬‬
‫ومع تعرض الجمهور للتناقضات بني الثوابت الرسمية وحقائق الحياة اليومية‪ ،‬كان من‬
‫املفرتض للشكوك حول الفكر املاركيس أن تنمو‪ .‬فقد أضحى بوسع األفراد املعتادين عىل‬
‫الفصل بني التنبؤات املاركسية وتجاربهم الخاصة أن يروا عيوب تصوراتهم الراسخة‪.‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬كام سيوثق الفصل السادس عرش‪ ،‬انخفض معدل قبول األيدولوجية الرسمية عقب‬
‫منتصف الثامنينيات‪.‬‬
‫إذا فشل مواطنو الكتلة السوفيتية يف الربط بني مصاعبهم واأليدولوجية الرسمية‪،‬‬
‫فقد أدركوا عىل أقل تقدير أن باإلمكان تجنب أوجه الحرمان التي يعانون منها‪ .‬وال يوجد‬
‫سبب بديهي ملا فعلوه‪ ،‬ألن بوسعنا أن نقنع أنفسنا بحتمية نطاق واسع من املصاعب‪ ،‬بل‬
‫مثاال واض ًحا عىل ذلك‪:‬‬
‫وأن نقنع أنفسنا بأنها أمور مرغوب فيها أيضً ا‪ .‬ويقدم منبوذو الهند ً‬
‫فقد تعلموا أن يقبلوا مكانتهم الوضيعة باعتبارها عادلة‪ .‬إذن ملاذا مل تتعلم شعوب الكتلة‬
‫السوفيتية أن تتقبل الوقوف يف طوابري الّسائر باعتباره مقتىض ثاب ًتا للوجود الحديث؟ ما‬
‫الذي يجعل حالتي الطبقية يف الهند والشيوعية يف االتحاد السوفيتي مختلفني؟‬

‫‪264‬‬
‫يكمن فرق أسايس يف الفرتات الزمنية التي دام فيها النظامني‪ :‬وهي ألفيات يف حالة‬
‫النظام الطبقي‪ ،‬وأقل من قرن يف حالة الشيوعية‪ .‬إذا دامت الشيوعية لفرتة أطول‪ ،‬فمن‬
‫املمكن أن يجد املواطنون السوفييت والرشق أوروبيون طوابريهم أقل إشكالية‪ .‬ويكمن فرق‬
‫حاسم آخر يف مدى االنفتاح عىل املعلومات الخارجية‪ .‬فقد جعلت ثوريت النقل واملعلومات‬
‫يف القرن األخري إبقاء املجتمعات يف حالة جهل باألحوال واالتجاهات يف الخارج أم ًرا صع ًبا‪.‬‬
‫فبوسع األمم املعدمة أو امل ُساء حكمها أن تقارن مستويات املعيشة بها مبستويات معيشة‬
‫األمم األخرى بكل سهولة‪ .‬ومل تكن تلك الحالة حني ترسخت أخالق الطبقية يف عقول الهنود‬
‫املحرومني‪ .‬فلم يكن للمنبوذين األوائل أي تعرض يُذكر لنظريات غري الهنود الكونية‪ .‬فلم‬
‫يدركوا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أن مفهوم النجاسة الطقسية ال وجود له لدى شعوب حوض البحر‬
‫املتوسط التوحيدية‪ .‬وباملقارنة‪ ،‬كان كل بولندي يقف يف طابور اللحم يحظى ببعض سبل‬
‫الوصول إىل معلومات عن أحوال الغرب االقتصادية‪ ،‬وذلك بفضل وسائل اإلعالم الحديثة‪.‬‬
‫وعملت مثل تلك املعلومات عىل إبقاء آمال البولنديني بأن الطوابري أمر ميكن تجنبه حية‪.‬‬
‫وكان من شأن تلك املعلومات أيضً ا أن تضعف الثقة يف الشيوعية كنظام اقتصادي‪ ،‬ولكن‬
‫تشويه الحوار العلني‪ ،‬مصحوبًا بنزعة لفصل التوجيهات األيدولوجية عن التجربة اليومية‪،‬‬
‫أبقى معظم األفراد يف حالة من االرتباك‪.‬‬
‫وميكن القول إن املعلومات من الخارج مل تقدم صورة سلبية عن الشيوعية باستمرار‪.‬‬
‫فبالفعل‪ ،‬كانت بعض األصوات الغربية تنتقد اقتصادات السوق الحر يف الغرب بشدة‪،‬‬
‫وتشيد باالقتصادات املوجهة يف الكتلة السوفيتية‪ 51.‬ولكن‪ ،‬بشكل إجاميل‪ ،‬ساهمت األصوات‬
‫األجنبية يف تصحيح تحيزات الحوار العلني املحيل‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫تفسريات بديلة الستقرار الشيوعية‬

‫لوضع الحجة التي بدأتها يف الفصل السابع ومددتها هنا يف منظورها الصحيح‪ ،‬فمن املفيد‬
‫أن أقارنها بتفسريين شائعني الستقرار النظام الشيوعي‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬النظرية القائلة إن الشيوعية استمرت بفعل التهديد بالقوة واستعاملها تسقط‬
‫ً‬
‫الضوء عىل السبب يف أن شعوب العامل الشيوعي املضطهدة ظلت خانعة وخاملة بصفة‬
‫عامة لعقود‪ .‬ولكنها ال توفر أي نظرة ثاقبة عىل تأثري املاركسية األيديولوجي‪ .‬فمن شأن‬
‫القوة الغاشمة أن تجرب األفراد عىل الترصف ضد مصالحهم الخاصة‪ ،‬ولكن ليس بوسعها‬
‫أن تشكل الكيفية التي يفكرون بها‪ .‬وتكمن مشكلة أخرى يف هذا التفسري هو أن الجيش‬
‫لعب دو ًرا هامش ًيا يف اإلطاحة بالنظم الشيوعية يف أوروبا الرشقية‪ .‬فمع االستثناء الجزيئ‬
‫للديكتاتورية الرومانية‪ ،‬لقيت تلك األنظمة حتفها عىل يد انتفاضات شعبية بال تدخل‬
‫عسكري يذكر‪ .‬إذا كانت القوة العسكرية بالفعل العامل الوحيد املساهم يف استقرار النظام‬
‫الشيوعي لتطلب تدمريه قوة عسكرية متفوقة عليه‪.‬‬
‫يحتج التفسري الثاين لصمود الشيوعية بامتيازات املسؤولني‪ .‬إذ تآمر املسؤولون ملنع‬
‫اإلصالحات بدافع خوفهم من فقدان امتيازاتهم‪ ،‬حتى مع إدراكهم للتكاليف االجتامعية‬
‫املريرة التي ينطوي عليها حفظ الوضع الراهن‪ .‬ويالحظ يان فينيتسيك‪ ،‬أحد مؤيدي هذا‬
‫املنظور‪ ،‬أن أي شخص يسعى إىل تحقيق أي إصالحات كان معرضً ا لإلزالة من منصبه‪.‬‬
‫وطبقًا لرواية فينيتسيك‪ ،‬إذن‪ ،‬من شأن أقلية ذات موضع اسرتاتيجي أن تتمكن من منع‬
‫التغريات التي من شأنها أن تحظى بشعبية‪ ،‬وذلك مبقتىض قدرتها املجردة عىل معاقبة أي‬
‫مصلح محتمل‪ .‬ويزعم أن إحدى فضائل هذا التفسري أنها تعتمد عىل حوافز قابلة للتحديد‬
‫‪52‬‬
‫اقتصاديًا‪ ،‬واألخرى هو أنه يتجنب االعتامد عىل العوامل األيدولوجية‪.‬‬
‫يصف كورناي هذا النوع من التفسريات التي يقدمها فينيتسيك بأنها مبسطة للغاية‪.‬‬
‫ويالحظ بشكل صحيح أن من الخطأ افرتاض وجود جامعتني تستبعد إحداهام األخرى‪،‬‬

‫‪266‬‬
‫إحداهام تتمتع باالمتيازات ولذا فهي معارضة للحريات الفردية‪ ،‬واألخرى معدومة ولذا فهي‬
‫متعاطفة مع الحرية‪ .‬فلم تكن البريوقراطية متجانسة أو أحادية‪ .‬فمن املحتمل أن‬
‫البريوقراطيني كانوا يعتزون بسلطتهم الخاصة‪ ،‬ولكن مل يكن لديهم أدىن نصيب يف سلطة‬
‫البريوقراطيني اآلخرين‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬ال بد من أن لديهم رغبة كمواطنني يف خيارات‬
‫أوسع من السلع االستهالكية‪ ،‬وأن يكون لهم رأي يف تعليم أطفالهم‪ ،‬وأن يكون لهم حرية‬
‫تجانسا من املجموعة السالفة‪ .‬فلم يويل‬
‫ً‬ ‫السفر‪ .‬وقد شكل غري البريوقراطيني مجموعة أقل‬
‫الكثري منهم قيمة كبرية للحريات الفردية‪ ،‬ومل يكن لديهم خالفات جذرية مع نظام القيادة‪.‬‬
‫وهنا يستند كورناي إىل دراسة من عام ‪ 1982‬وجدت أن عينة من املجريني يولون قيمة أقل‬
‫بكثري للحريات الفردية مام توليها عينة مشابهة من األمريكيني‪ .‬ومييض كورناي يف اقرتاح‬
‫سلسلة من التفسريات املمكنة‪ .‬فمن املحتمل أن أعوا ًما من القيادة املركزية تركت الشعوب‬
‫حرموا من الحرية تعلموا أن يقللوا من قيمة الحرية‬
‫خائفة من الحرية‪ .‬أو أن األشخاص الذين ُ‬
‫لديهم يف محاولة منهم لتكييف طموحاتهم مع إمكانياتهم‪ .‬أو رمبا أن تحيزات املدارس‬
‫‪53‬‬
‫ووسائل اإلعالم الجامهريية تركت بصمتها عىل عقول األفراد‪.‬‬
‫ويعيد أول اقرتاح من اقرتاحات كورناي تأكيد ما يلزم علينا تفسريه‪ .‬ومام ال شك فيه‬
‫أن االقرتاح الثاين والثالث يشكلون جز ًءا من الصورة‪ ،‬ولكنهام ليسا آثا ًرا منطقية لنظرية‬
‫عامة يف حجة كورناي‪ .‬وقد ربط هذا الفصل تأثري الشيوعية األيديولوجي بتزييف التفضيل‪،‬‬
‫وهي الظاهرة نفسها املسؤولة عن صمود الشيوعية‪ .‬وكانت التحيزات القامئة يف التعليم‬
‫واإلعالم من بني تجليات تزييف التفضيل‪ .‬وكانت اإلمكانيات التي ك ّيف األفراد طموحاتهم‬
‫معها ناتجة عن ماليني التفضيالت العلنية التي اختريت كاستجابة لحوافز سياسية تم‬
‫إنتاجها بشكل مشرتك‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫الفصل الرابع عرش‬
‫الطيف غري اآلفل لعنرصية البيض‬

‫رأينا يف الفصل التاسع أن الفوارق العرقية يف الواليات املتحدة قد ولّدت شبكة من برامج‬
‫التمييز اإليجايب‪ .‬وبالرتويج لهذه الربامج كأدوات لتعزيز فرص األفراد املحرومني لكن‬
‫رسا للحصص العرقية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬واجهت معارضة علنية‬ ‫املؤهلني‪ ،‬أفرزت نظا ًما مكرو ًها ً‬
‫ضئيلة‪ ،‬ألن اإلفصاح عن املخاوف يعني استدعاء االستهجان‪ .‬وإدراكًا منهم للمخاطر‪ ،‬نزع‬
‫األمريكيون إىل إخفاء تحفظاتهم خلف غطاء املوافقة العلنية‪.‬‬
‫استكامال للحجة السابقة‪ ،‬يقرتح هذا الفصل أنه عىل الرغم من املعارضة الرشسة التي‬
‫ً‬
‫سجلتها استطالعات الرأي مجهولة املصدر‪ ،‬فإن تزوير التفضيالت حول التمييز اإليجايب‬
‫وجهال واس َعي النطاق بشأن عواقبه‪ .‬عىل وجه الخصوص‪ ،‬ناد ًرا ما يدرك‬
‫ً‬ ‫قد أحدث ارتباكًا‬
‫األمريكيون تبعات التمييز اإليجايب‪ .‬فكثري منهم لديهم مفاهيم خاطئة عن ميزاته وعن‬
‫املستفيدين منه والخارسين‪ .‬وقلة هم الذين يدركون كيف رصف الرتكيز عىل التمييز‬
‫اإليجايب االنتباه عن األسباب الجذرية ألوجه عدم املساواة السائدة‪ ،‬عىل حساب األمريكيني‬
‫املحرومني حقًا‪ ،‬السود منهم وغري السود‪ .‬والبعض فقط يدركون كيف تغذي املعايري‬
‫املزدوجة القبلية‪ ،‬ويف نهاية املطاف‪ ،‬تهدد بقاء األمة األمريكية‪ .‬لقد أحدث تزوير التفضيالت‬
‫بشأن املسائل العرقية مثل هذه اآلثار من خالل تضييق الخطاب العلني ذي الصلة وتحريفه‪،‬‬
‫من ضمن ذلك النقاشات التي تُعقد يف الكونغرس واملحاكم والجامعات ووسائل اإلعالم‪.‬‬
‫يركز الفصل عىل قطاع محدد من املجتمع األمرييك هو‪ :‬التعليم العايل‪ .‬فقد أصبح‬
‫عامال مل ًّحا يف صنع القرار الجامعي‪ ،‬وحفّز هذا التصور‬
‫ً‬ ‫تصور عنرصية البيض الدامئة‬
‫السياسات املراعية للون يف ما يتعلق بالقبوالت‪ ،‬وتوظيف أعضاء الهيئة التدريسية‪ ،‬والحياة‬
‫يف الحرم الجامعي‪ ،‬والبحث‪ ،‬واملناهج الدراسية‪ .‬وأنا أناقش أن ردود املثقفني األمريكيني‬
‫السائدة عىل إخفاقات التمييز اإليجايب تحمل أوجه تشابه مع ردود املثقفني السوفييت‬

‫‪268‬‬
‫واألوروبيني الرشقيني عىل إخفاقات الشيوعية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬نشأت «التعددية الثقافية»‬
‫الجديدة كمحاولة إلنقاذ األجندة العرقية الحالية دون مواجهة األوهام التي تدعمها‪.‬‬
‫إن التطورات التي سأناقشها بالغة األهمية ألن الجامعة‪ ،‬عىل األقل من حيث املبدأ‪،‬‬
‫تُلزم بالنقاش املفتوح والرصيح‪ ،‬من ضمن ذلك استكشاف وجهات النظر غري الشائعة أو‬
‫غري املالمئة‪ .‬فإذا ما اختُزل النقاش أو شُ ِّوه داخل األوساط األكادميية‪ ،‬من غري املرجح أن‬
‫يحافظ عىل مصداقيته يف قطاعات املجتمع األخرى‪ .‬فالنقاش األكادميي يغذي الخطاب‬
‫العلني‪ .‬وبالتايل إن إفقار هذا النقاش له عواقب وخيمة محتملة عىل طريقة تفكري‬
‫األمريكيني العاديني وترصفهم‪ .‬وسأبدأ بالقبوالت‪.‬‬

‫القبوالت الواعية باللون‬


‫منذ التزام إدارات الجامعات بالتمييز اإليجايب يف القبوالت‪ ،‬تباهت بنفسها لتعزيز «تنوع»‬
‫هيئاتها الطالبية‪ .‬والتزمت الصمت بشكل أسايس بشأن التبعات التعليمية للتمييز اإليجايب‪.‬‬
‫وبإبقاء عىل الرتكيز عىل التمثيل العددي‪ ،‬تجنبوا مناقشة الّضر الذي طال امللتحقني عن‬
‫طريق التمييز اإليجايب الذين تم إغراؤهم بكليات مل يكونوا متهيئني لالنضامم إليها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ال تروي البيانات املتعلقة مبعدالت التخرج قصة نجاح‪ .‬ففي جامعة‬
‫مثال‪ ،‬تخرج ‪ 38‬يف املائة فقط من السود املقبولني كطالب مستجدين‬
‫كاليفورنيا يف بريكيل ً‬
‫يف عام ‪ 1983‬بحلول عام ‪ ،1988‬مقارنة بـ ‪ 72‬يف املائة من البيض‪ 1.‬ينشأ االختالف‬
‫مبارشة من نظام القبول متعدد املسارات يف بريكيل‪ .‬إذ تقوم بريكيل بتقييم املتقدمني إليها‬
‫وفقًا ملؤرش أكادميي يشمل التقديرات والتكرميات واختبار األهلية الدراسية (سات)‪ ،‬الذي‬
‫أعيدت تسميته حديثًا ليصبح اختبار التقييم الدرايس‪ .‬يف عام ‪ ،1986‬احتاج البيض إىل ما‬
‫ال يقل عن ‪ 7,000‬من أصل ‪ 8,000‬للحصول عىل فرصة للقبول بنسبة ‪ 50‬يف املائة‪ ،‬بينام‬
‫كان السود بحاجة إىل ‪ 4,800‬فقط‪ 2.‬مثل هذه الفروق الشاسعة يف مؤهالت القبول ليست‬

‫‪269‬‬
‫غري مألوفة يف القبوالت الجامعية‪ ،‬لكن قلة من األمريكيني يدركون كم من املعايري يجب‬
‫‪3‬‬
‫تغيريها لهندسة الصفوف «املتنوعة» عىل نحو مالئم‪.‬‬
‫عىل غرار برامج الدراسة لغري الخريجني‪ ،‬تطبق كليات الدراسات العليا معايري‬
‫مختلفة اختالفًا شاس ًعا عىل املجموعات اإلثنية املختلفة‪ .‬من القضايا التي حظيت بالشهرة‬
‫هي قضية آالن بايك‪ ،‬وهو متقدم أبيض كان عليه الذهاب إىل املحكمة العليا يك يُسمح له‬
‫بااللتحاق بكلية الطب بجامعة كاليفورنيا يف ديفيس‪ ،‬بعد خمس سنوات من تقديم طلبه‬
‫األويل‪ .‬يعرف كل شخص مطلع عىل القضية أن بايك لديه مؤهالت أعىل من هؤالء املقبولني‬
‫من األقليات بشكل خاص‪ .‬ومل يكن مدى التباين مفهو ًما عىل نطاق واسع‪ .‬حصل بايك عىل‬
‫‪ 96‬باملائة يف القسم الشفهي من اختبار القبوالت يف كلية الطب‪ ،‬وعىل ‪ 94‬يف املائة يف‬
‫القسم الكمي‪ ،‬و‪ 97‬يف املائة يف القسم العلمي‪ ،‬و‪ 72‬يف املائة يف قسم املعلومات العامة‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫وقد كانت املعدالت املقابلة للطالب «املقبولني بشكل خاص» ‪ 46‬و‪ 24‬و‪ 35‬و‪ 33‬يف املائة‪.‬‬
‫يؤكد بعض املعلمني أن مثل هذه الفروق املؤملة تعكس التحيزات الثقافية لالختبارات‬
‫القياسية‪ .‬وهم يشريون إىل أن االختبارات تربز التجارب الثقافية التي يكون غري البيض أقل‬
‫إملا ًما بها من البيض‪ 5.‬يتعارض هذا االدعاء مع الحقيقة بأن األمريكيني اآلسيويني كمجموعة‬
‫يقدمون أدا ًء أفضل من البيض‪ .‬مع ذلك‪ ،‬لقد غذى الجهود للقضاء عىل التحيزات الثقافية‬
‫املفرتضة الختبار األهلية الدراسية‪ .‬حتى اآلن‪ ،‬باءت بالفشل جميع املحاوالت البتكار نسخة‬
‫محايدة ثقاف ًيا يبيل فيها السود بال ًء حس ًنا كالبيض‪.‬‬
‫يقول تفسري بديل للفجوة اإلحصائية بني درجات السود والبيض إن املتقدمني‬
‫ريا‪ .‬ينسجم هذا االستنتاج مع ظروف األحياء التي‬
‫للكليات من السود هم عمو ًما أقل تحض ً‬
‫يعيش فيها العديد من املتقدمني السود‪ ،‬واملنازل التي يرتعرعون فيها‪ ،‬واملدارس التي‬
‫يرتادونها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن مثل هذا االستنتاج يرقى إىل مستوى اعرتاف بعدم كفاية عنرصية‬
‫البيض املعارصة كتفسري للفوارق العرقية‪ .‬بدالً من ذلك‪ ،‬انجذب املعلمون املقتنعون بالقوة‬
‫الشاملة للعنرصية إىل وجهة النظر القائلة بأن االختبارات القياسية ال تقيس سوى مجموعة‬

‫‪270‬‬
‫فرعية من األهليات التي تحدد النجاح يف الحياة‪ ،‬عىل وجه الخصوص تلك التي يقدرها‬
‫‪6‬‬
‫البيض‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬ظل تركيز النقاش عىل تربير معايري قبول أدىن لألقليات املحمية‪ .‬وقد أويل‬
‫اهتامم ضئيل لتبعات إلحاق الطالب ضعيفي التحضري بالكليات شديدة الحرص عىل‬
‫نجاحهم‪ .‬بالنظر إىل معدل تخرج السود‪ ،‬إن هذا اإلهامل صادم للغاية‪ .‬يكمن أحد أسباب‬
‫اإلهامل يف أن إدارات الكليات كانت عازفة بشكل فاضح عن نرش معلومات مّضة بربامجها‬
‫للتمييز اإليجايب‪ ،‬خشية اتهامها بإثارة الشكوك حول كفاءة األقليات ذات األداء املتدين‪.‬‬
‫والسبب الثاين هو أن بعض اإلداريني قد روجوا لألكاذيب‪ ،‬مثلام حني وصفت النرشة‬
‫اإلخبارية للتمييز اإليجايب لجامعة هارفارد الفكرة القائلة «التمييز اإليجايب يعني تطبيق‬
‫معيار مزدوج» بأنها «أسطورة»‪ 7.‬والسبب الثالث هو أن اإلدارات قد اتخذت‪ ،‬كام سأرشح‬
‫اآلن‪ ،‬خطوات مختلفة لتثبيط النقاش املفتوح يف األوساط الجامعية األوسع‪.‬‬
‫دعنا نعرتف لوهلة بوجود أسباب وجيهة لتخصيص حصص قبول للمجموعات ذات‬
‫األداء املتدين‪ .‬ما هي املعايري الالزمة لتحديد املستويات املالمئة؟ عىل أي مجموعات مرتفعة‬
‫التحصيل يجب أن يقع العبء؟ عالوة عىل ذلك‪ ،‬إذا كان من املعقول تغيري املعايري من أجل‬
‫السود ألن أداءهم أضعف من البيض‪ ،‬فهل يُعقل أيضً ا تغيريها من أجل املسيحيني واملسلمني‬
‫ألن أداءهم أضعف من اليهود؟ أيًّا كان رأي املرء برشعية الحصص اإلثنية‪ ،‬إن اإلجابات عىل‬
‫مثل هذه األسئلة ليست واضحة‪ .‬مع ذلك‪ ،‬مل تناقَش برصاحة وصدق‪ ،‬إذا مل يكن هناك سبب‬
‫آخر‪ ،‬فهو أن العديد من الجامعات تعتقد رسم ًيا أن التمييز اإليجايب يتفادى املعايري املتعددة‪.‬‬
‫ومثة عاقبة وخيمة هي انتشار الجهل بشأن املامرسات املستمرة‪.‬‬
‫يف أحد األعوام األخرية‪ ،‬وصل متثيل البيض يف فصل املستجدين يف بريكيل‪ ،‬التي‬
‫تعد الحرم الجامعي الرئييس لنظام جامعة كاليفورنيا الحكومية‪ ،‬إىل ‪ 30‬باملائة‪ ،‬عىل الرغم‬
‫من أن البيض كانوا ميثلون ‪ 52‬باملائة من خريجي املدارس الثانوية بالوالية‪ .‬من أسباب‬
‫متثيال»‪ .‬ومثة‬
‫ً‬ ‫انخفاض هذا التمثيل هو الضغط الناجم عن املعايري الخفية لألقليات «األقل‬

‫‪271‬‬
‫سبب آخر هو أن األمريكيني اآلسيويني‪ ،‬الذين تتجاوز مؤهالتهم األكادميية عمو ًما مؤهالت‬
‫البيض والذين ينحدرون غال ًبا من عائالت ناجحة اقتصاديًا‪ ،‬قد تفادوا الضغط من خالل‬
‫برنامج جديد للتمييز اإليجايب «قائم عىل الطبقة» يفضلهم بشدة عىل اآلخرين – بغرابة‪،‬‬
‫عىل اعتبار أنهم «محرومون من الناحية االجتامعية واالقتصادية»‪ .‬إذ شكل األمريكيون‬
‫اآلسيويون‪ ،‬الذين ميثلون ‪ 14‬باملائة من خريجي املدارس الثانوية يف كاليفورنيا‪ 35 ،‬يف‬
‫‪8‬‬
‫املائة من الطالب املستجدين يف بريكيل‪.‬‬
‫هل يُستحسن أن تقوم جامعة حكومية باستثناء املتقدمني األمريكيني اآلسيويني من‬
‫عبء التمييز اإليجايب‪ ،‬ما يجعله يقع بالكامل عىل عاتق البيض؟ ناد ًرا ما تناقَش أسئلة من‬
‫هذا النوع‪ .‬وكنت قد ذكرت سابقًا السبب بأن البيض ال ينزعون إىل الشكوى علنًا من التبعات‬
‫رسا‪ ،‬خشية اتهامهم بالعنرصية‪ .‬من األسباب املساهمة هو أن ندرة‬
‫التي ميتعضون منها ً‬
‫الخطاب الرصيح حول التمييز اإليجايب تبقيهم‪ ،‬كاآلخرين‪ ،‬مش َّوشني بشأن تأثرياته‬
‫وجاهلني بها‪.‬‬

‫قواعد الكالم‬
‫لطاملا كان املسوغ للتمييز اإليجايب العنرصي يف القبوالت الجامعية هو متتع معظم‬
‫املتقدمني السود مبؤهالت ضعيفة نسبيًا‪ ،‬وهي سمة تُعزى إىل عنرصية البيض‪ ،‬يف املايض‬
‫والحارض‪ .‬تتحمل عنرصية البيض أيضً ا املسؤولية عن أداء الطالب الجامعيني السود‬
‫الضعيف عمو ًما‪ .‬إذ يقال إنها تجعل الجو االجتامعي يف الحرم الجامعي غري مضياف‬
‫لألقليات ما يعيق عملية تعلمهم‪.‬‬
‫بنا ًء عىل هذا التصور‪ ،‬وضعت مئات الكليات قواعد للكالم تجعل قول أو فعل أشياء‬
‫مزعجة «ألقليات» محددة –تعد النساء واملثليون جنس ًيا واملجموعات اإلثنية مضط َهدين–‬
‫جرمية من املحتمل أن يعاقب عليها القانون‪ .‬وبالغت جامعة كونيتيكت يف ذلك بحظر‬
‫«الضحكات غري الالئقة»‪ 9.‬تُخضع الكليات أيضً ا طالبها لجلسات «الحساسية» حيث‬

‫‪272‬‬
‫يتعلمون‪ ،‬باإلضافة إىل قواعد األدب غري القابلة لالعرتاض‪ ،‬األفكار التي يجب أن يحتفظوا‬
‫بها ألنفسهم‪ ،‬وأجندات الحرم الجامعي التي ال يجب مخالفتها‪ ،‬واملفردات التي يجب تجنبها‪،‬‬
‫‪10‬‬
‫والتعابري امللطفة التي يجب استخدامها غال ًبا – باختصار‪ ،‬ليصبحوا «صائبني سياس ًيا»‪.‬‬
‫يتضمن برنامج الحساسية يف جامعة هارفارد أسبوع توعية ‪ AWARE‬سنويًا‪ ،‬إذ تشري‬
‫‪ AWARE‬إىل العمل النشط ضد العنرصية واالستعراقية ( ‪Actively Working Against‬‬
‫‪ .)Racism and Ethnocentrism‬يقوم املنظمون له بتعيني «معلمني للعالقات بني‬
‫األعراق» يف كل منزل من منازل هارفارد‪ .‬إذ يقوم املعلمون «برفع الوعي» و«مراقبة الجو‬
‫‪11‬‬
‫العرقي» و«اإلبالغ عن االنتهاكات»‪.‬‬
‫كادت املضايقات اإلثنية والتنابز باأللقاب أن تغيب عن املشهد الجامعي قبل فرتة‬
‫طويلة من فرض قواعد الكالم‪ .‬ميكننا العثور عىل أمثلة معارصة لالستفزازات املتعمدة ضد‬
‫السود‪ ،‬لكنها ليست شائعة‪ .‬فلم نشهد‪ ،‬إذن‪ ،‬انتشار إجراءات ضد الخطاب العنرصي؟ ال‬
‫تحمي هذه اإلجراءات الطالب املقبولني بشكل خاص من الكلامت املهينة العنرصية فحسب‪،‬‬
‫بل أيضً ا من الحقائق املزعجة حول خلفياتهم الثقافية واألسباب الحقيقية إلخفاقاتهم‬
‫األكادميية والتبعات االجتامعية للمعايري املزدوجة‪ .‬إنها متنع نقل الشكوك حول فعالية‬
‫برامج التمييز اإليجايب‪ .‬ووجودها يف حد ذاته يعني أن العنرصية ما تزال تشكل تهدي ًدا‬
‫يشل السود‪ ،‬ما يس ّوغ أجندة الحرم الجامعي املرمزة باأللوان‪.‬‬
‫أيًا كان الغرض من قواعد الكالم‪ ،‬فإن أحد آثارها هو جعل الطالب‪ ،‬ناهيك عن أعضاء‬
‫هيئة التدريس واإلداريني‪ ،‬يرتددون يف التحدث بحرية يف القضايا املتعلقة بالعرق‪ ،‬وأكرث‬
‫تخوفًا من استخدام كلمة أو اإلفصاح عن فكرة ميكن تفسريها كعالمة عىل التعصب األعمى‪.‬‬
‫ومن املفارقات أن هذا الجنب قد يؤدي إىل اشتداد التوترات العرقية‪ .‬حتى قبل وضع القواعد‪،‬‬
‫اعتاد غري السود عىل أخذ حذرهم عند تفاعلهم مع السود‪ ،‬خشية أن يجدوا أنفسهم متورطني‬
‫‪12‬‬
‫يف «حادثة عنرصية»‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫ليس من الّضوري أن يكون الطالب املقبولون مبوجب برامج التمييز اإليجايب‬
‫كاذبني أو مبالغني حني يزعمون أنهم تعرضوا لإلساءة من الترصيحات التي تنتقد التمييز‬
‫اإليجايب‪ .‬تحدي ًدا‪ ،‬نظ ًرا لوصولهم إىل الحرم الجامعي مبؤهالت أكادميية ضعيفة نسب ًيا‪،‬‬
‫يواجه الكثريون صعوبة يف مجاراة املقررات الدراسية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬تتولد لديهم مخاوف بشأن‬
‫قدراتهم‪ ،‬ويصبحون حساسني ملا يذكرهم بعجزهم‪ .‬أنا ال أقصد‪ ،‬إذن‪ ،‬أن املدافعني عن لوائح‬
‫الكالم تحفزهم األسباب االسرتاتيجية وحسب‪ ،‬دون إيالء اهتامم حقيقي بالطالب املحروم‪.‬‬
‫أنا أقرتح‪ ،‬يف املقام األول‪ ،‬أن حساسية بعض طالب األقليات هي نتيجة ثانوية اللتحاقهم‬
‫بجامعات ذات معايري عالية بشكل غري الئق‪ ،‬وثان ًيا‪ ،‬أن الوظيفة الرئيسية لقواعد الكالم هي‬
‫‪13‬‬
‫إسكات املعارضة يف الحرم الجامعي‪.‬‬
‫يُع ِّرف قاموس أكسفورد العنرصية عىل أنها «النظرية القائلة إن الخصائص‬
‫والقدرات البرشية املميزة يحددها العرق»‪ .‬حسب هذا التعريف‪ ،‬ليس من الّضوري أن تكون‬
‫العنرصية أحادية اللون‪ .‬تستند قواعد الكالم يف الحرم الجامعي عىل وجهة نظر مفادها أن‬
‫التهديدات عىل الوئام بني األعراق وتقدم األسود ال تنشأ إال من عنرصية البيض‪ .‬مع ذلك‪،‬‬
‫مثة عالمات عديدة عىل عنرصية السود يف أحرام الجامعات يف الوقت الحايل‪ :‬كموائد‬
‫السود‪ ،‬ومهاجع السود‪ ،‬وأماكن دراسة السود‪ ،‬وصحف السود‪ ،‬وحتى حفالت تخرج السود‬
‫– وكلها تستند إىل فكرة أن لون البرشة سبب مرشوع لالستبعاد‪ .‬حتى أن مبان بأكملها أُعلن‬
‫حظر دخولها عىل غري السود‪ 14.‬من التفسريات املحتملة ملثل هذه األعامل االنفصالية أنها‬
‫ردود دفاعية عىل تجارب النبذ والرتهيب‪ .‬يف الواقع‪ ،‬مثة ما هو أكرث من عنرصية البيض‬
‫الفجة‪ .‬فالكليات التي اندمجت عرق ًيا منذ فرتة طويلة تظهر اآلن عالمات البلقنة‪ .‬ويف‬
‫الجامعات يف جميع أنحاء البالد‪ ،‬يتعرض الطالب السود الذين يعارشون البيض بانتظام‬
‫لإلبعاد من مجتمع السود األوسع‪.‬‬
‫عىل الرغم من املخاوف بشأن الخطاب العنرصي‪ ،‬مل يُبذل أي جهد تقري ًبا لضبط‬
‫األوصاف املهينة للبيض‪ .‬ويف ظل الظروف الحالية يف الجامعات األمريكية‪ ،‬ميكن التفوه‬

‫‪274‬‬
‫فمثال‪ ،‬ميكن لزعامء الحرم‬
‫ً‬ ‫بالكثري من العبارات املسيئة إىل البيض‪ ،‬دون مخافة من العقاب‪.‬‬
‫الجامعي السود إدانة جميع البيض بالعنرصية دون إثارة أي نقد إداري‪ .‬تطال املعايري‬
‫املزدوجة الّسقة والتخريب وحتى العنف‪ .‬ففي حني أن التدخل يف حدث يرعاه نا ٍد أسود‬
‫سيؤدي بالتأكيد إىل وقوع منفِّذيه يف املشاكل‪ ،‬عاد ًة ما يفلت بأفعالهم املخربون ألحداث‬
‫الحرم الجامعي املّضة بحساسيات السود‪ 15.‬وملا قامت مجموعة من «الطالب السود‬
‫والالتينيني القلقني» بّسقة أربعة عرش ألف نسخة من صحيفة دييل بنسلفانيا اعرتاضً ا‬
‫عىل ما اعتربوه «عنرصية فاضحة ومبطنة» يف الصحيفة‪ ،‬ردت إدارة جامعة بنسلفانيا بلوم‬
‫رشطة الحرم الجامعي عىل اعتقالهم بعض املخربني‪ .‬ورفضت الكلية تأديب الطالب بوصف‬
‫‪16‬‬
‫الّسقة «كشكل من أشكال االحتجاج»‪.‬‬
‫عىل غرار املعايري املزدوجة يف القبوالت الجامعية‪ُ ،‬س ِّوغت تلك املوجودة يف الكالم‬
‫والسلوك باسم االنسجام واالندماج العرقي‪ .‬مع ذلك‪ ،‬من املحتمل أنها تروج إجامالً للخالف‬
‫والفصل العنرصي‪ .‬ومهام كانت الفوائد العائدة عىل الطالب السود‪ ،‬إن إنشاء سكن طاليب‬
‫للسود يقلل االتصال بني األعراق‪ .‬ويقسم الحياة يف الحرم الجامعي إىل مناطق مغلقة‬
‫عرقيًا‪ ،‬ما يجعل تكوين الصداقات بني السود والبيض واكتشاف اهتامماتهم املشرتكة كبرش‬
‫مينع‬ ‫ٍ‬
‫امتيازات تعبريية وسلوكية ُ‬ ‫أم ًرا صعبًا‪ .‬كام تنتج آثار مامثلة عن منح الطالب السود‬
‫أقرانهم البيض من الحصول عليها‪.‬‬
‫ميكن القول إن رشيحة صغرية‪ ،‬لكنها رصيحة‪ ،‬من املؤسسة السوداء مل تعبأ إطالقًا‬
‫بعمى األلوان يف املقام األول‪ .‬وميكن مالحظة أن بعض القادة السود‪ ،‬من ضمنهم بعض‬
‫األكادمييني‪ ،‬لديهم مصلحة شخصية يف زيادة األهمية االجتامعية للعرق‪ .‬مثة قدر من‬
‫الحقيقة يف كل حجة من هذه الحجج‪ ،‬إال أن املناهضني لالندماج ما كانوا ليستطيعوا تجاوز‬
‫الحد لوال رغبة اإلداريني يف االستجابة ملعظم مطالبهم‪ .‬فبينام اعتاد اإلداريون عىل إعطاء‬
‫السود أشياء ال مينحونها للطالب البيض أب ًدا‪ ،‬ال أحد سيسمح للبيض بعقد حفل تخرج منغلق‬
‫عرق ًيا‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫من أسباب هذه املعايري املزدوجة خشية اإلداريني الجامعيني من إغضاب النشطاء‬
‫السود وحلفائهم‪ .‬ومثة سبب آخر هو أن الكثريين قد أصبحوا متعامني عن حقائق معينة‬
‫يف الحياة الجامعية‪ .‬فبعد أن سمعوا باستمرار أن مصدر التوترات يف الحرم الجامعي هو‬
‫عنرصية البيض‪ ،‬ال ميكنهم أن يتخيلوا أن مشكلة أكرث خطورة اآلن قد تكون عنرصية السود‬
‫املؤسسية‪ .‬كام أنهم ال ينزعون إىل إدراك أن التمييز اإليجايب قد حفز نزعة السود االنفصالية‬
‫والعداء العرقي‪ .‬فعندما تقبل الجامعة أعدا ًدا كبرية من الطالب غري املؤهلني أكادمي ًيا (سواء‬
‫أطفاال خريجني أو أقليات عرقية)‪ ،‬إنهم سيشكلون ثقافتهم الفرعية‪.‬‬
‫ً‬ ‫كانوا رياضيني أو‬
‫وسيتبع ذلك حدوث التوترات‪ .‬وبنفس القدر الذي تكون فيه املشاكل غري قابلة للنقاش‬
‫وتتفىش وتتفاقم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫برصاحة وصدق‪ ،‬إنها عىل األرجح تستمر‬

‫التعدد الثقايف الجديد‬


‫لقد هيأت الغاممات األيديولوجية املروجني للتمييز اإليجايب لالعتقاد بأن مناهج الكلية‬
‫ريا آخر أمام األداء األكادميي للسود‪ .‬يف املايض‪،‬‬
‫مشبعة بالعنرصية بحيث تشكل عائقًا كب ً‬
‫عمدت أقسام كبرية من العلوم اإلنسانية واالجتامعية إىل تشويه الثقافات غري األوروبية‪.‬‬
‫لكن الحال مل يعد كذلك يف العقود األخرية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬لقد توصل العديد من األكادمييني إىل‬
‫االعتقاد بأن منهج الكلية التقليدي يروج «ملنظور أورويب التمركز» يشوه ثقافات‬
‫املضط َهدين ويهمشّ ها ويواريها‪ .‬وهذا‪ ،‬يف اعتقادهم‪ ،‬يقلل من احرتام الذات لدى الطالب‬
‫من األقليات‪ ،‬ويق ّوض قدرتهم املرتاجعة مسبقًا عىل النجاح األكادميي‪ .‬كان قرار املحكمة‬
‫العليا لعام ‪ ،1954‬براون ضد مجلس التعليم‪ ،‬الذي مهد الطريق لالندماج العرقي يف‬
‫التعليم‪ ،‬مبن ًيا عىل الرأي القائل بأن الطالب السود يشعرون بالدونية إذا مل يتلقوا نفس تعليم‬
‫البيض‪ .‬أما اآلن‪ ،‬فيسود االعتقاد بأنهم يشعرون بالدونية إذا تلقوا التعليم الذي يتلقاه البيض‬
‫‪17‬‬
‫تقليديًا‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫لذا تجري جهود حثيثة إلضفاء طابع «متعدد الثقافات» عىل املناهج الجامعية‪ .‬يشمل‬
‫دليل عام ‪ 1993‬ملجلس التعليم األمرييك أكرث من ألفي مرشوع للمناهج الدراسية وبرامج‬
‫تطوير أعضاء هيئة التدريس وخطط اختيار الطالب التي تهدف إىل إدخال «التنوع» عىل‬
‫الحياة الفكرية يف حرم الجامعات‪ 18.‬تتضمن أهداف اإلصالح الرئيسية العلوم االجتامعية‬
‫واإلنسانية‪ ،‬إال أن الرياضيات والعلوم الطبيعية تتعرض للهجوم أيضً ا‪ .‬وقد ظهرت نصوص‬
‫وأدلة حول «الرياضيات اإلثنية»‪ 19.‬كام قد يتوقع املرء‪ ،‬إن الدافع إلعادة صياغة املنهج يتواكب‬
‫مع الجهود املبذولة إلفساح املجال ملزيد من أعضاء هيئة التدريس من األقليات‪ ،‬ال سيام الذين‬
‫يعتربون االستغالل والقمع املحركني الرئيسيني للتاريخ‪.‬‬
‫إذا كان أحد األهداف املعلنة للتعدد الثقايف الجديد هو التوازن والدقة الفكرية‪ ،‬مثة‬
‫منسجام مع األول‪ ،‬هو جعل الطالب من األقليات يشعرون بالرضا‬
‫ً‬ ‫هدف آخر‪ ،‬ليس بالّضورة‬
‫عن أنفسهم‪ .‬وبنا ًء عىل ذلك‪ ،‬تُك َّرس الجهود الستبدال املواد الدراسية املسيئة لألقليات بأخرى‬
‫تبث فيهم الفخر اإلثني‪ .‬تشمل النصوص املقبولة تلك التي ترسخ أصول اإلنجازات األفريقية‬
‫املعروفة حتى اآلن عىل أنها أوراسية والتي تنسب املشاكل اإلنسانية الحالية‪ ،‬وخاصة تلك‬
‫املتعلقة باألقليات املضط َهدة‪ ،‬إىل اإلمربيالية األوروبية األمريكية‪ .‬فباإلضافة إىل إصالح‬
‫نفسيات األقليات املتعبة‪ ،‬تهدف هذه النصوص إىل تنمية وعي عام باالختالفات التي ال ميكن‬
‫محوها بني الثقافات التي تقوم عليها الواليات املتحدة‪ .‬ومل يعد أحد يؤيد الكتاب‬
‫الكالسيكيني أمثال دانتي وشكسبري وجيفرسون‪ .‬فبوصمهم «ذكو ًرا بيض ميتني»‪ ،‬إنهم‬
‫‪20‬‬
‫متهمون بارتكاب «جرائم ثقافية»‪ ،‬عىل وجه التحديد‪ ،‬إلبدائهم ازدرا ًء للتنوع الثقايف‪.‬‬
‫مثة بال شك مربرات مقنعة للتدريس حول الثقافات األخرى وحول مصادر الرصاع‬
‫بني الجامعات‪ .‬وإذا مل يكن هناك يشء آخر‪ ،‬فإن التكافل املتنامي بني املجتمعات يجعل‬
‫االطالع عىل قيم وحساسيات جامعات أخرى غري جامعة الفرد أم ًرا متعاظم األهمية‪ .‬ولكن‬
‫عىل الرغم من التسمية املطلقة عليها‪ ،‬إن حركة التعدد الثقايف ال تهدف إىل تعزيز التفاهم‬
‫بني الثقافات بقدر ما تهدف إىل تقديم عالج لألقليات وتعزيز التصور القائل بأن عنرصية‬

‫‪277‬‬
‫البيض‪ ،‬إىل جانب التحيز الجنيس واالنحياز الجنيس املغاير‪ ،‬ما تزال مشكلة مروعة‪ .‬كام‬
‫يقول أحد املعلقني‪ ،‬إن التعدد الثقايف الجديد ال يطلع الطالب عىل اإلنجازات العظيمة‬
‫للثقافات غري األوروبية‪ ،‬مثل مقدمة ابن خلدون أو تعاليم كونفوشيوس‪ ،‬وال يركز عىل جعل‬
‫الطالب يستوعبون الظواهر العاملية الكربى يف عرصنا‪ ،‬مثل عودة صعود رشق آسيا‬
‫وانتشار األصولية الدينية‪ .‬من الناحية العملية‪ ،‬إنه يُعلِّم الطالب رؤية تاريخ العامل والحضارة‬
‫الحديثة من منظور التمييز والقمع واإلمربيالية‪ ،‬ويك ّيفهم إلهامل عوامل أخرى عديدة غال ًبا‬
‫‪21‬‬
‫ما تكون أساسية‪.‬‬
‫لقد خلق حامس الحركة عقلية غري متسامحة تذكرنا باملكارثية يف خمسينيات القرن‬
‫العرشين‪ .‬يف دليل تعليمي وزعته املؤسسة األمريكية لعلم االجتامع‪ ،‬يؤكد أستاذ من جامعة‬
‫‪22‬‬
‫قابال للنقاش… فهو كذلك باختصار»‪.‬‬
‫برانديز أن «كون الطالب األبيض عنرصيًا أم ال ليس ً‬
‫قابال للنقاش» يعني القول إن املعارضني الذين يعربون عن‬
‫إن االعتقاد أن تأكي ًدا ما «ليس ً‬
‫رأيهم يستحقون العقاب والذم‪ .‬فأعضاء هيئة التدريس الذين أعربوا عن مخاوفهم بشأن‬
‫اإلصالحات املقرتحة باسم التعدد الثقايف يعرفون هذا من تجربتهم‪ :‬إذ اتُّهم العديد منهم‬
‫مثال‪ ،‬انتقدت كلية‬
‫بالعنرصية‪ ،‬وتعرض بعضهم إلجراءات تأديبية‪ .‬يف جامعة سانتا مونيكا‪ً ،‬‬
‫العلوم االجتامعية االقتصادي يوجني بوخولز القرتاحه أن الدراسات القامئة عىل اإلثنية‬
‫والنوع االجتامعي «تحرف عن املسار الطالب الذين ميكن أن يكتسبوا لوال ذلك تخصصات‬
‫‪23‬‬
‫أو مهارات مفيدة»‪.‬‬
‫كام تع ّرض األساتذة للمضايقة بسبب تدريس فصول أو إجراء أبحاث تتعارض مع‬
‫كال من رينولدز‬
‫األولويات الجديدة‪ .‬فقد أجربت اتهامات «بعدم الحساسية العرقية» طالت ً‬
‫فاريل من جامعة ميشيغان وستيفان ثرينسرتوم من جامعة هارفارد عىل إيقاف فصول‬
‫حول التاريخ االجتامعي األمرييك‪ 24.‬وشهدت كريستي فارنهام بوب من جامعة والية أيوا‪،‬‬
‫التي د ّرست تاريخ السود منذ عام ‪ ،1978‬إيقاع الفوىض يف فصولها الدراسية بشكل متكرر‬
‫يف السنوات األخرية‪ 25.‬أما ليندا غوتفريدسون من جامعة ديالوير‪ ،‬التي لفتت األنظار إىل‬

‫‪278‬‬
‫انتشار معايري العرق‪ ،‬وهي مامرسة تقوم مبوجبها الحكومة برفع درجات األقليات يف‬
‫اختبارات التوظيف التي يتم إبالغ أرباب العمل بها‪ ،‬فشهدت الجامعة تقطع التمويل‬
‫الخارجي عنها وتلغي االئتامن الذي قدمه أحد فصولها الدراسية لتخصص علم االجتامع‪.‬‬
‫ندد بها بعض زمالئها من هيئة التدريس واصفني إياها بالـ«عنرصية»‪ ،‬وشهدت فصولها‬
‫رسحت من عملها‪ ،‬عىل الرغم من أن القرار قد نُقض يف مرحلة‬
‫وقوع اعتصامات‪ .‬كام ُ ِّ‬
‫‪26‬‬
‫االستئناف‪.‬‬
‫باإلمكان رضب املزيد من األمثلة‪ ،‬لكن قامئة شاملة منها لن تعكس مدى خطورة‬
‫تحريف الخطاب الفكري واقتطاعه‪ .‬فمقابل كل فصل تم إيقافه‪ ،‬مثة العديد من الفصول‬
‫حجبت عن املنهج الدرايس‪ ،‬وأفكار‬
‫األخرى التي مل تص َّمم مطلقًا‪ .‬ومثة أيضً ا مقاالت ُ‬
‫استُبعدت من املحارضات‪ ،‬وأسئلة بحثية مل تُتابَع‪ .‬ليس بإمكان املرء تحديد كل هذه العواقب‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬ال شك يف أن تزوير التفضيالت بشأن التمييز اإليجايب قد رافقه إسكات للخطاب‬
‫النقدي حول عنارص األجندة العرقية القامئة‪ ،‬كالتعدد الثقايف‪.‬‬
‫يقول آالن بلوم إن الجامعة قد بُثَّت روحها حني ألزم سقراط نفسه باالستقصاء‬
‫متحر ًرا من أغالل الرأي العلني والثقافة الشعبية‪ .‬ومتاشيًا مع بعثة سقراط‪ ،‬سعت الجامعات‬
‫األمريكية يف املايض إىل غرس االنفتاح عىل النقاش‪ ،‬من ضمن ذلك التعايش مع اآلراء‬
‫املزعجة‪ ،‬يف أعضاء هيئة التدريس والطالب عىل حد سواء‪ .‬ومل يكن االنسجام مع الرأي‬
‫العلني من أهداف الجامعات‪ ،‬حتى وإن كانت من الناحية العملية تخفق يف بعض األحيان‬
‫يف مقاومة التعديات عىل حريّاتها الفكرية‪ 27.‬كام ومل تتضمن أهدافها جعل الطالب‬
‫«يشعرون بالرضا عن أنفسهم»‪ .‬صحيح أن املستشارين كانوا حارضين دامئًا ملساعدة‬
‫الطالب عىل التعامل مع مشاكلهم الشخصية‪ .‬لكن هذا مختلف متا ًما عن استخدام املنهج‬
‫الدرايس كأداة للعالج النفيس‪ .‬وهو مختلف أيضً ا عن توقع أن يتجنب األساتذة موضوعات‬
‫ويراقبوا ذات ًيا أفكا ًرا قد يجدها بعض املستمعني مزعجة‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫ألن التعدد الثقايف الجديد نتاج عقلية مشوشة‪ ،‬كان هو ذاته مصد ًرا للتشويش‪ .‬فهو‬
‫كال من الطالب وأعضاء هيئة التدريس بحرمانهم من االطالع عىل الحقائق والحجج‬
‫يعيق ً‬
‫ذات الصلة باملشكالت االجتامعية امللحة وبالحد أيضً ا مام قد يستكشفونه دومنا عقاب‪.‬‬

‫املعرفة املرمزة باللون‬


‫متثيال‬
‫ً‬ ‫باإلضافة إىل تنظيم الخطاب الفكري‪ ،‬يسعى التعدد الثقايف الجديد إىل منح األقليات‬
‫أكرب بني أعضاء هيئة التدريس‪ .‬يقول املدافعون عن هذا الهدف األخري إنه سيعزز اإلنصاف‪،‬‬
‫ويُشعر الطالب من األقليات بالراحة‪ ،‬ويضمن التعامل مع قضايا األقليات «بشكل صحيح»‪.‬‬
‫صلب مقال نُرش يف مجلة القانون لجامعة بنسلفانيا وفيه يقرتح‬
‫ترِد هذه املزاعم يف ُ‬
‫ريتشارد ديلغادو أن يتم تفضيل معرفة األقليات املرتبطة بالعرق عىل معرفة البيض‪ .‬كام‬
‫يشري ديلغادو إىل أن معرفة البيض تكون عىل األغلب غري مرضية‪ ،‬ألنهم مل يتعرضوا‬
‫لالضطهاد العنرصي‪ 28.‬فهل الغاية النهائية هي حرمان الباحثني البيض من التعبري؟ ال‬
‫يعرتض ديلغادو عىل قيام «الباحثني البيض الحساسني» بتقديم «مقاالت عرضية‬
‫ومقرتحات مفيدة»‪ ،‬لكنهم ال يجب أن يتخذوا البحث املرتبط بالعرق مهنةً‪« .‬لقد حان الوقت‬
‫للمؤلفني الليرباليني البيض الذين يكتبون يف مجال الحقوق املدنية إلعادة توجيه جهودهم‬
‫وتشجيع زمالئهم عىل القيام بذلك أيضً ا»‪ .‬إذ ينبغي لهم «التنحي» وترك أماكنهم «ليشغلها‬
‫‪29‬‬
‫الك ّتاب املوهوبون واملعلّقون املبدعون من األقليات»‪.‬‬
‫أعقب هذا املقال منشورات أخرى عىل نفس املنوال‪ .‬فقد جادلت ماري ماتسودا من‬
‫جامعة هاواي بأن «األبارتايد يف املعرفة املرشوعة» ميكن القضاء عليه «ببذل جهد متعمد‬
‫لرشاء وطلب وقراءة واقتباس ومناقشة وتدريس» املعرفة التي ينتجها «امللونون والنساء‬
‫والفقراء واملثليون واملثليات واألمريكيون األصليون وغريهم من املضطهدين»‪ .‬ما الذي يجب‬
‫القيام به عىل وجه التحديد؟ «عند رشاء عرشين كتابًا‪ ،‬يجب التيقن من أن بعضها قد كتبها‬
‫نسوة بيض‪ ،‬ونسوة ملونات‪ ،‬ورجال ملونون»‪ .‬ويجب عىل النارشين واملكتبات املساعدة‬

‫‪280‬‬
‫بفرض «حصص» التنوع‪ .‬ويجب أال يقرأ القراء سوى األعامل التي تحتوي عىل اقتباسات‬
‫‪30‬‬
‫متنوعة بشكل مالئم‪.‬‬
‫يف القرن التاسع عرش‪ ،‬مل يتمكن ويليام ساندرز سكاربورو‪ ،‬وهو باحث أسود ضليع‬
‫يف اللغة اليونانية والالتينية‪ ،‬من العثور عىل وظيفة أكادميية‪ .‬حتى أن جامعة هوارد ذات‬
‫األغلبية السوداء مل توظّفه‪ ،‬إذ رأت أن «كريس اللغات الكالسيكية ال ميكن أن يشغله إال‬
‫قوقازي»‪ 31.‬يكمن يف مطالب ديلغادو وماتسودا واملؤيدين لهام‪ ،‬افرتاض مشابه‪ ،‬تحدي ًدا‪،‬‬
‫أن كل أقلية هي بطبيعتها املؤهل األمثل ملعالجة قضاياها الخفية‪ .‬بناء عىل هذا الرأي‪ ،‬يكون‬
‫األستاذ األسود املؤهل األمثل لدراسة الفقر الذي يطال السود من األستاذ األبيض‪ ،‬حتى لو‬
‫نشأ األخري معد ًما بينام ترعرع األول ثريًا‪ .‬عىل أساس مثل هذا املعيار القائم عىل العرق‪،‬‬
‫بات املتخصصون البيض يف العالقات العرقية والتاريخ األفريقي تحت الضغط إليجاد مسا ٍع‬
‫جديدة ألنفسهم‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قال العديد من أنصار املركزية األفريقية املعرتفني‬
‫بأنفسهم للمؤرخ غاري ناش من جامعة كاليفورنيا يف لوس أنجلوس أن السود وحدهم هم‬
‫‪32‬‬
‫من يجب أن يتكلموا عن قضايا السود‪.‬‬

‫قبضة الالمعقول‬
‫يبدو أن بعض الباحثني البيض ذوي البصرية النافذة يف املسائل العرقية قد قبلوا وجهة‬
‫النظر القائلة بأن إثنيتهم تشكل عائقًا مهن ًيا‪ .‬وأعلن ناقد أديب أن لونه األبيض يجرده من‬
‫األهلية لتقييم أشكال معينة من «كتابات السود»‪ .‬فبحجة أن السود ال يفكرون أو يعانون‬
‫بنفس طريقة البيض‪ ،‬أكد أن البيض يجب أن يقرأوا مثل هذه األدبيات دون أن يتساءلوا عن‬
‫افرتاضاتها أو استنتاجاتها‪ .‬وقد أجاب طالب متميز يف قانون العالقات العرقية عن تساؤالت‬
‫‪33‬‬
‫حول مؤهالت البيض يف املجال بالقول إنه «ال يتوهم عبور فجوة ال ميكن عبورها»‪.‬‬
‫أما الوجه اآلخر لهذه العملة‪ ،‬فهو أن الباحثني البيض مينحون السود سلطة استثنائية‬
‫يف املسائل العرقية‪ .‬بعد أن أصبح ستيفن كارتر أستاذًا يف القانون‪ ،‬أرسل له باحث أبيض‬

‫‪281‬‬
‫مل يلتقِ به قط مسودة ملقال ينتقد عمله يف القانون الدستوري‪ .‬أشارت املسودة إىل أن عمل‬
‫كارتر قد أظهر عدم حساسية تجاه «تجارب السود»‪ .‬حني علم األستاذ األبيض أن كارتر‬
‫بدال من الدفاع عن ادعائه‪ ،‬قام ببساطة بإسقاطه من املقال‪ .‬يقول كارتر «من وجهة‬
‫أسود‪ً ،‬‬
‫نظره‪ ،‬لقد قدم سوادي حصانة من التهمة بشكل واضح؛ فرمبا اعتقد أن لدي منظو ًرا‬
‫جه‪،‬‬
‫استثنائ ًيا ال يعرفه بشأن املسائل العرقية‪ ،‬أو رمبا قرر أنه سيكون ظامل ًا وعنرصيًا إن و ّ‬
‫‪34‬‬
‫بصفته أستاذًا أبيض‪ ،‬مثل هذا االتهام لشخص أسود»‪.‬‬
‫يفرتض التفكري الجديد بشأن العرق وجود صلة بني استحقاق فكرة ما وهوية‬
‫صاحبها‪ .‬فهو يتعامل مع البياض كعقبة كؤود إلنتاج عمل ميكن االعتامد عليه يف املسائل‬
‫العرقية والسواد كعالمة للفضيلة الفكرية املتأصلة‪ .‬عىل الرغم من مداهنة التفكري الجديد‬
‫لرؤية مارتن لوثر كينغ‪ ،‬إنه يخلّد نوع الوعي العرقي الذي وجده كينغ شديد الغدر‪ .‬يف‬
‫الواقع‪ ،‬ليس من غري املعتاد أن يلحظ الدخالء أشياء يف ّوتها املطلعون عادة‪ .‬فعقول الدخالء‬
‫مل تكيّفها الحساسيات املحلية‪ .‬كام أنهم أكرث تحر ًرا من الضغوط التي تجعل املطلعني‬
‫توغال يف الشيوعية السوفيتية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ينخرطون يف تزوير التفضيالت‪ .‬وهكذا كانت الرواية األكرث‬
‫‪ ،1984‬من تأليف رجل إنجليزي مل تطأ قدمه يو ًما بل ًدا شيوعيًا‪ .‬وما هو أكرث صلة بشواغلنا‬
‫الحالية‪ ،‬أن بعض االفرتاضات والحجج الرئيسية للبحث املعارص حول العرق تُنسب إىل‬
‫‪35‬‬
‫املعضلة األمريكية‪ ،‬وهو بحث أجراه السويدي غونار مريدال‪.‬‬
‫ال شك أن املتخصصني يف العالقات العرقية ليسوا متحدين وراء املعايري الناشئة‬
‫الواعية بالعرق‪ .‬إذ تتناهى إىل مسامعنا االعرتاضات‪ .‬لكن‪ ،‬مثلام فشل املنشقون عن‬
‫الشيوعية عمو ًما يف تحديد األسباب الجذرية إلخفاقات نظامهم‪ ،‬ومثلام ينقلب الهنود ضد‬
‫معايري طبقية معينة دون أن يفقدوا بالّضورة اإلميان بالهندوسية‪ ،‬فإن املفكرين الذين‬
‫يعرتضون عىل األبحاث الواعية بالعرق ال يرفضون دامئًا األجندة السياسية التي تولّدها‪ .‬كام‬
‫أنهم ال يعتقدون أن الجهود املبذولة لفرض خط للّون عىل املعرفة استجاب ٌة منطقية لوجهة‬
‫النظر القائلة بأن عنرصية البيض تجتاح كل جانب من جوانب املجتمع األمرييك‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫يقدم عمل الباحث القانوين راندال كينيدي مثاالً من ِّو ًرا‪ .‬فقد كتب كينيدي نق ًدا الذ ًعا‬
‫لدعوة ديلغادو وماتسودا للحصول عىل معرفة مرمزة باللون‪ .‬مع ذلك‪ ،‬يف نهاية الجدال‬
‫الطويل الذي يسم أجندة ديلغادو‪/‬ماتسودا بأنها عنرصية بالكامل‪ ،‬إنه يطالب بتمييز‬
‫إيجايب محدود‪ ،‬حيث يدخل «اتخاذ القرار الواعي بالعرق» بعض املجاالت ولكن دون أن‬
‫‪36‬‬
‫يفقد «مكانته كطريقة منحرفة يف الحكم عىل األشخاص أو العمل الذي ينتجونه»‪.‬‬
‫مل يضع كينيدي حدو ًدا للوعي العرقي املرشوع أو يقرتح كيفية الحفاظ عىل الحدود‬
‫املوضوعة‪ .‬وبغض النظر عن القوى االجتامعية التي تحول دون احتواء التمييز اإليجايب‪ ،‬ما‬
‫زال مقتن ًعا أن باإلمكان إبقاؤه ضمن الحدود التي يختارها املخططون االجتامعيون‪ .‬وما هو‬
‫أكرث انكشافًا‪ ،‬إخفاقه يف إدراك أن أجندة ديلغادو‪/‬ماتسودا تتامىش مع مبدأ التمييز‬
‫اإليجايب‪ ،‬كام هو مفهوم اآلن‪ .‬إذا كان من املقبول جعل متقدم أبيض لكلية الطب يفسح‬
‫املجال لزيادة عدد األطباء السود‪ ،‬فل َم ال ترفض مراجعة القانون املقاالت التي ألفها البيض‬
‫إلفساح املجال ملزيد من املقاالت التي كتبها السود؟ ليس واض ًحا سبب إعفاء الباحثني من‬
‫املعايري املزدوجة التي يفرضونها عىل املهن األخرى‪ .‬إذا انطوت اإلجابة عىل أن املعرفة مهمة‬
‫للسامح بتلطيف املعايري‪ ،‬فهناك وجهة النظر القائلة بأن خفض املعايري لألطباء من األقليات‬
‫غري املؤهلة ميكن أن ينتج عنه تشخيصات خاطئة قاتلة‪ .‬ليس واض ًحا أيضً ا سبب إرصار‬
‫الجامعة‪ ،‬التي تهدف إىل إنشاء هيئة تدريس «متوازنة عرقيًا»‪ ،‬عىل إجراءات متعامية عن‬
‫اللون يف اختيار املنشورات العلمية‪ .‬إذا كان رضوريًا اطْالع الطالب عىل هيئة تدريس‬
‫متنوعة تنو ًعا مناس ًبا‪ ،‬فال بد من أن هناك فوائد مامثلة الطْالع القراء عىل مجموعة متنوعة‬
‫من املؤلفني‪.‬‬
‫يستند التمييز اإليجايب العرقي إىل الرأي القائل بأن االختالفات العرقية تنشأ إىل حد‬
‫رصا‪ ،‬من عنرصية البيض وأن الحل املناسب هو املزايا التعويضية للسود‪.‬‬
‫كبري‪ ،‬إن مل يكن ح ً‬
‫إن مقرتحات ديلغادو وماتسودا ال تنجم عن هذا التفكري‪ ،‬لكنها تنسجم جوهريًا مع املنطق‬
‫الكامن وراء املعايري املزدوجة يف القبوالت والتوظيف وقواعد الكالم والتعدد الثقايف‬

‫‪283‬‬
‫الجديد‪ .‬ضمن ًيا‪ ،‬مثة ش ٌّد بني معارضة كينيدي لهذه املقرتحات والتزامه الدائم بالوعي العرقي‬
‫الذي متخضت املقرتحات عنه‪ .‬فعل ًيا‪ ،‬ما يزال كينيدي أسري األيديولوجية التي يجد تطبيقاتها‬
‫املتطرفة مسيئة وخطرية‪.‬‬
‫لقد استهل اإلصالح الشيوعي أفرا ٌد مدركون ملواطن ضعف الشيوعية ولكنهم كانوا‬
‫شديدي االرتباط باالفرتاضات القدمية لتوليد استجابات مجدية‪ .‬يظهر عديدون من أكرث‬
‫النقاد جرأة وبصرية لألجندة العرقية الحالية ارتباطًا مشاب ًها باألفكار القدمية‪ .‬إذ إن أفكارهم‬
‫خالية من الالمعقول‪ ،‬أي الروابط والنتائج واالستنتاجات األكرث خطورة‪.‬‬
‫مثاال شخص ًيا لكيفية توجيه الضغوط االجتامعية ألفكار املرء‬
‫رضب جيمس كوملان ً‬
‫بشأن القضايا املتعلقة بالعرق بعي ًدا عن الالمعقول‪ 37.‬يف منتصف سبعينيات القرن‬
‫العرشين‪ ،‬كان يدير مرشو ًعا بحثيًا حول عدم املساواة يف الفرص التعليمية – وهو املرشوع‬
‫الذي انتهى بتجربته املقيتة املذكورة يف الفصل التاسع‪ .‬كانت إحدى النتائج التي توصل‬
‫إليها أن إنجازات الطالب الشفوية تعتمد عىل درجات معلميهم يف اختبارات املفردات‪ ،‬وأنه‬
‫عىل مستوى املجموعة كان املدرسون السود الذين تدربوا يف مدارس منفصلة عرقيًا‬
‫يتمتعون مبهارات لفظية متدنية نسبيًا‪ .‬أثارت هذه النتائج مجتمعة احتامل أن يكون الطالب‪،‬‬
‫البيض والسود عىل حد سواء‪ ،‬الذين يدرسهم مدرسون سود‪ ،‬يف وضع غري موات كمجموعة‬
‫مقارنة بأقرانهم الذين يدرسهم مدرسون بيض‪ .‬لكن كوملان يقول إنه يف ذلك الوقت مل يوجد‬
‫تأىت إغفاله عن تأكيدين شائعني كان‬
‫الرابط‪ .‬مل يكن السبب يف أنه خائف من الجدل‪ .‬فقد ّ‬
‫قد قبل بصالحيتهام دومنا تفكري‪ :‬األول‪ ،‬أن الطالب السود بحاجة إىل مناذج من عرقهم‬
‫لالحتذاء بها‪ ،‬والثاين‪ ،‬أنهم يبلون بالء حس ًنا حني يدرسهم معلمون ميكنهم تلبية هذه‬
‫الحاجة‪.‬‬
‫كتب كوملان يف معرض استذكاره عن هذا اإلخفاق‪:‬‬
‫أعتقد أن باحثًا محاي ًدا يهتم بإيجاد الحقائق ذات الصلة بقضايا السياسة املطروحة‬
‫(أحدها كان إلغاء الفصل العنرصي يف كادر املدرسة) كان ليواصل طرح السؤال‬

‫‪284‬‬
‫الذي مل نطرحه نحن‪ .‬ميكن ألحدهم القول إننا بعدم طرحه‪ ،‬قد ض ّحينا بفرص العديد‬
‫من األطفال التعليمية‪ ،‬معظمهم من السود‪ ،‬للحفاظ عىل وظائف املعلمني السود‪.‬‬
‫وميكن ألحدهم املجادلة بأنه من خالل عدم طرح السؤال‪ ،‬شجعنا اإلهامل املستمر‬
‫لذلك النوع من برامج إعادة التدريب الخاصة باملهارات –ليس بالنسبة للمدرسني‬
‫السود فحسب‪ ،‬وإمنا املعلمني كافة– الذي كان من املحتمل أن يعود بالنفع الكثري‬
‫‪38‬‬
‫عىل النتائج التعليمية‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬مل يفكر كوملان وزمالؤه حتى يف احتامل أن يكون أداء الطالب السود‬
‫أفضل يف ظل وجود مدرسني بيض‪ ،‬ألن تضميناته املحتملة كانت ببساطة المعقولة‪ .‬كان‬
‫لهذا اإلخفاق تأثري غري مقصود بتثبيط إجراءات لتحسني مهارات املعلمني‪.‬‬

‫أصوات تصحيحية من الخارج‬


‫تتجاوز العواقب السلبية الناجمة عن إفقار الخطاب األكادميي التبعات املعينة التي حددها‬
‫كوملان‪ .‬فاإلفقار يبقي عىل وجود أجندة اجتامعية تحرم السود من املساعدة التي يكونون‬
‫يف أمس الحاجة إليها‪ .‬برتكيز االنتباه عىل االختالفات اإلحصائية يف القبوالت الجامعية‬
‫والتوظيف وتكرار القول بأن العنرصية هي التفسري الشامل لكل يشء مزعج‪ ،‬إن هذه‬
‫األجندة تحجب األسباب الدفينة للتفاوتات‪ .‬فهي تفشل يف تثقيف األمريكيني السود وغري‬
‫السود الواقعني ضحايا للعنف وتفكك األرسة والتعليم املتدين والبطالة‪ ،‬حول الروابط بني‬
‫هذه املشاكل‪ .‬ومن خالل الرتويج للرأي القائل إن النظام االجتامعي واالقتصادي بأكمله يظل‬
‫عنرصيًا حتى النخاع‪ ،‬يسهل انتشار نظريات املؤامرة‪ ،‬مثل النظرية القائلة بأن فريوس اإليدز‬
‫«ص ِّنع عم ًدا يف املخترب إلصابة السود» – وهو ادعاء اعتربه ‪ 29‬باملائة من عينة من سكان‬
‫ُ‬
‫‪39‬‬
‫نيويورك السود الذين شملهم االستطالع يف عام ‪ 1990‬صحي ًحا أو يحتمل الصحة‪.‬‬
‫ال يشء يف هذا الفصل يتعارض مع رسوخ املعارضة الخفية للتمييز اإليجايب‪ .‬فكام‬
‫أشري يف الفصل التاسع‪ ،‬إن املربر ملثل هذه املعارضة يستند بشكل تقليدي إىل اثنني من‬

‫‪285‬‬
‫القناعات األخالقية‪ :‬أوالً‪ ،‬ال تتحمل األجيال الحالية من البيض أي مسؤولية عن املظامل التي‬
‫ارتكبتها األجيال السابقة من البيض ضد األجيال السابقة من السود‪ ،‬وثان ًيا‪ ،‬يحق للسود‬
‫األحياء الحصول عىل فرص متكافئة ولكن ليس امتيازات خاصة‪ .‬ميكن ألحدهم أن يعارض‬
‫التمييز اإليجايب بناء عىل هذه األسس‪ ،‬دون أن يعي الكثري بآثاره عىل مستقبل البالد‪ .‬يف‬
‫الواقع‪ ،‬بينام يدرك معظم األمريكيني أن السياسات الواعية بالعرق قد ولّدت االستياء وبددت‬
‫بعض النوايا الحسنة بني األعراق التي ظهرت يف ستينيات القرن العرشين‪ ،‬قلة هم الذين‬
‫يدركون أنه بتأجيج القبلية ستزرع هذه السياسات بذور رصاع داخيل حاد‪ .‬كام ال يستوعب‬
‫األمريكيون عمو ًما كيف أن مسألة العرق تغذي الشلل السيايس بإخضاع مقرتحات اإلصالح‬
‫بشأن قضايا مثل الجرمية واإلنفاق الحكومي للتهمة املهلكة بالتحيز العنرصي‪ .‬وميكن‬
‫للجميع تقريبًا مالحظة أنه بعد ربع قرن من العمل بالتمييز اإليجايب‪ ،‬تفتقر نسبة كبرية من‬
‫األقلية السوداء إىل املهارات الالزمة للمنافسة يف اقتصاد عاملي قائم عىل املعرفة‪ .‬وقلة يرون‬
‫أن الرتكيز عىل تكييف الطالب ذوي املؤهالت الضعيفة‪ ،‬مقارنة بتوفري تعليم أفضل لهم‪ ،‬قد‬
‫ساعد يف خفض املعايري يف جميع مناحي النظام التعليمي‪ ،‬عىل حساب الجامعات اإلثنية‬
‫كلها‪ .‬ويكشف ذلك أنه عىل الرغم من اإلحصائيات التي تبني أن اإلنجازات األكادميية لطالب‬
‫املدارس الثانوية األمريكية متأخرة عن إنجازات نظرائهم يف كل دولة صناعية كربى‬
‫‪41‬‬
‫أخرى‪ 40،‬ما يزال معظم اآلباء األمريكيني راضني عن املعايري التعليمية الحالية‪.‬‬
‫عند مناقشة الشيوعية‪ ،‬جادلت بأن انتقادات الغرب للشيوعية قد ق ّوضت سطوة‬
‫األيديولوجية الشيوعية عىل عقول األفراد‪ ،‬ال سيام بعد أن أصبح طرح النقاط التي تّض‬
‫باملواقف الرسمية خالل الخطاب العلني املحيل آم ًنا‪ .‬ومل تكن األجندة العرقية للواليات‬
‫مثال‪ ،‬يقولون منذ سنوات‬
‫املتحدة مبنأى عن االنتقاد األجنبي‪ .‬فالعديد من املعلقني اليابانيني‪ً ،‬‬
‫إنها محكوم عليها بالفشل‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬كانوا يشريون إىل أن األجندة تّض باالقتصاد‬
‫األمرييك‪ ،‬حتى أنهم توقعوا أن الخصم االقتصادي الرئييس لليابان يف القرن الحادي‬
‫والعرشين سيكون الصني أو أوروبا‪ ،‬وليس أمريكا‪ .‬يجادل العديد من املراقبني اليابانيني‬

‫‪286‬‬
‫فشال ذري ًعا يف التعليم الجامعي‪ ،‬ال سيام عندما يتعلق األمر بنقل‬
‫بأن الواليات املتحدة تفشل ً‬
‫مهارات قابلة للتسويق إىل أقلياتها اإلثنية‪ .‬حتى أن كبار رجال الدولة اليابانيني قد عربوا‬
‫‪42‬‬
‫عن آراء مشابهة‪ ،‬أحيانًا بشكل رصيح وف ٍّظ وغري دبلومايس‪.‬‬
‫كل زلة كان لها جعجعتها يف اإلعالم األمرييك‪ ،‬واستخدم املعلقون إما الحامقة وإما‬
‫النزعات العنرصية بحق ضمن املجتمع الياباين كذريعة لرفض الرسالة املبطنة‪ ،‬تحدي ًدا‪ ،‬أن‬
‫الواليات املتحدة مل تتكيف بعد مع متطلبات اقتصاد عاملي غزير املعرفة ومتغري بشكل‬
‫متزايد‪ .‬مل يدافع سوى عدد قليل من املعلقني عن وجهة النظر اليابانية‪ ،‬أو حتى اعرتفوا بأنها‬
‫تستحق النقاش‪ .‬يعود السبب جزئ ًيا إىل أن الكتّاب الذين يظهرون تسام ًحا تجاه منتقدي‬
‫األجندة العرقية الراسخة يخاطرون بأن يصبحوا موسومني بالعنرصية‪ .‬والجزء اآلخر‪ ،‬أقل‬
‫حا‪ ،‬هو أن الخطاب العلني السائد يف الواليات املتحدة مييل إىل فصل املسائل العرقية‬
‫وضو ً‬
‫عن قضايا األداء االقتصادي القومي‪ ،‬وبالتايل إبقاء معظم األمريكيني جاهلني بشأن الروابط‬
‫املتشابكة‪ .‬فعادة ما تستمر النقاشات حول العدالة العرقية دون اعتبار ملسائل التنافسية‬
‫الدولية‪.‬‬
‫لقد أدى تزوير التفضيالت بشكل مبارش وغري مبارش إىل إعاقة الرأي الياباين الناقد‬
‫من تصحيح التشوهات يف الخطاب العلني األمرييك‪ .‬مثة درس مهم هنا‪ .‬لن تلقى املعارضة‬
‫من خارج املجتمع آذان صاغية عىل األغلب‪ ،‬حتى تحظى بدعم رصيح من جامعة ناقدة من‬
‫األفراد املطلعني يف الداخل‪ .‬ففي االتحاد السوفيتي‪ ،‬مل تصبح وجهات النظر الغربية‬
‫املناهضة للعقيدة الشيوعية جز ًءا من الخطاب العلني السوفيتي‪ ،‬إال بعد أن شعر املواطنون‬
‫السوفييت بأنهم يستطيعون التعبري عن وجهات نظر مامثلة دومنا عقاب‪ .‬كان االتساع‬
‫الالحق للخطاب العلني السوفييتي مدفو ًعا بسنوات من الركود االقتصادي الذي جعل القيادة‬
‫العليا تقر بالحاجة إىل تغيري جذري‪ .‬إن الواليات املتحدة بعيدة كل البعد عن أزمة كهذه؛‬
‫ح عديدة‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن قلة من‬
‫وعىل الرغم من مشاكلها‪ ،‬ما يزال اقتصادها قويًا ج ًدا من نوا ٍ‬
‫األمريكيني متكدرون مبا يكفي للتوجه إىل الخارج من أجل التشخيص والعالج‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫مواطن الضعف يف التفسريات البديلة‬
‫ميكن مقارنة التفسري بأكمله من خالل إيجاد أوجه االختالف بينه وبني بدائله‪ .‬يستند أحد‬
‫التفسريات الشائعة إىل «الذنْب األبيض»‪ .‬ففي ستينيات القرن العرشين‪ ،‬اقرتح شيلبي‬
‫غري طبيعة عبء الرجل األبيض من إدارة األفراد األدىن إىل‬
‫ستيل‪ ،‬أن الشعور بالذنب «قد ّ‬
‫جه البيض السياسات االجتامعية «نحو‬
‫رفع األفراد املكافئني»‪ .‬ورغبة منهم يف الخالص‪ ،‬و ّ‬
‫بدال من بذل املزيد من العمل الدنيوي املجد‬
‫التعويض عن االضطهاد الذي لحق بالسود ً‬
‫قائال إن مصدر الذنب األبيض هو «املعرفة‬
‫للنهوض بالسود وتنميتهم»‪ .‬يستطرد ستيل ً‬
‫بامليزة غري املرشوعة»‪ .‬وقد جمعت حركة الحقوق املدنية هذه املعرفة مع االمتنان الذي يشعر‬
‫به البيض لبياضهم‪ ،‬ما جعل البياض مصد ًرا للكرب‪ .‬ونتج عن السعي من أجل الخالص‬
‫الّسيع منح السود القدرة عىل انتزاع استحقاقات تتجاوز العدالة‪ .‬باختصار‪ ،‬لقد غذى‬
‫‪43‬‬
‫الذنب األبيض «القوة السوداء»‪.‬‬
‫وفقًا لهذا التفسري‪ ،‬إن التمييز اإليجايب نتاج تبادل بسيط أعطى من خالله البيض‬
‫للسود امتيازات خاصة مقابل الخالص‪ .‬للتفسري عيبان‪ ،‬أولهام يتعلق بحجم االمتيازات‪ .‬فهل‬
‫ميكن أن يكون ذنب شخص أبيض من كاليفورنيا بفظاعة تجعله يستحق الرفض من جامعة‬
‫ريا؟ عىل األغلب‪ ،‬ال‪ .‬وإذا استمر يف دعم التمييز‬
‫بريكيل من أجل قبول شخص آخر أقل تحض ً‬
‫اإليجايب‪ ،‬فقد يتمثل السبب يف أنه يخىش التنفيس عن إحباطه عىل العلن‪ .‬كام قد يكون‬
‫جاهال مبدى تغيري بريكيل معايريها لصالح‬
‫ً‬ ‫تزوير التفضيالت من جانب اآلخرين قد جعله‬
‫التنوع العرقي‪ .‬تكمن املشكلة األخرى يف التفسري املتمركز حول الذنب يف أنه يبالغ يف‬
‫تبسيط التبادل الحاصل بوضع السود والبيض عىل طرفني متقابلني من طاولة املساومة‪.‬‬
‫يطالب السود باالستحقاقات وتقديم الفداء‪ ،‬بينام يطالب البيض بعكس ذلك‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫يطالب البيض جزئ ًيا بتقديم االمتيازات للسود‪ ،‬يف حني يرى بعض السود أن االستحقاقات‬

‫‪288‬‬
‫الخاصة عالمة عىل الدونية‪ .‬إن مصادر القوة السوداء أعقد مام يجعلها تفسري «الذنب‬
‫األبيض» تبدو عليه‪.‬‬
‫يركز التفسري الشائع الثاين الستمرار التمييز اإليجايب عىل املصالح املكتسبة‪ .‬يالحظ‬
‫أحد املؤلفني أن هناك بعض السود الذين «طوروا مصلحة ميكن التنبؤ بها يف توسيع حدود‬
‫العنرصية سع ًيا وراء استثناءات أخالقية وعملية من االلتزام االجتامعي»‪ 44.‬يشمل هؤالء‬
‫البريوقراطيني واألساتذة ورجال األعامل والطالب الذين ترتبط مناصبهم وثرواتهم بربامج‬
‫خاصة لألقليات‪ .‬تقول الحجة إن مثل هذه املجموعات تجني فوائد كبرية ألنفسها‪ ،‬وتوزع‬
‫تكاليف ضئيلة عىل بقية املجتمع‪ .‬وهي تفّس دفاع املستفيدين من التمييز اإليجايب عن‬
‫دعام عا ًما من العديد‬
‫الوضع الراهن‪ .‬لكنها تفشل يف توضيح سبب تلقي التمييز اإليجايب ً‬
‫من البيض الذين يتحملون عبئه‪ .‬وال تفّس تفيش الجهل بشأن التبعات والفوائد املختلفة‪.‬‬
‫يركز التفسري الثالث‪ ،‬املرتبط بالثاين‪ ،‬عىل االختالفات بني الجامعات يف القدرة عىل‬
‫العمل الجامعي‪ 45.‬نظ ًرا ألعدادهم الصغرية‪ ،‬يكون األفراد السود يف املنظامت التي متارس‬
‫التمييز اإليجايب قادرين عىل تنظيم قضيتهم واملطالبة بتحقيقها بسهولة أكرب من أقرانهم‬
‫البيض األكرث عد ًدا‪ .‬هذا التفسري معقول للغاية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬إنه ال يفّس مل ما يزال الرأي العلني‬
‫مؤي ًدا للتمييز اإليجايب‪ .‬فأن يظل الخارسون بسبب التمييز اإليجايب غري منظمني يشء‪ ،‬أما‬
‫رسا فهذا يشء آخر‪ .‬كام ال يذكر التفسري شيئًا عن عيوب‬
‫أن يشاركوا يف قضية يعارضونها ً‬
‫املعرفة الخفية حول عواقب األجندة العرقية الحالية‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬مثة تفسري يؤكد عىل مقتضيات متاسك االئتالف السيايس السائد املكون من‬
‫أخ ً‬
‫منظامت الحقوق املدنية‪ ،‬والنسويات‪ ،‬والناشطني املثليني‪ ،‬واالشرتاكيني‪ ،‬واملدافعني عن‬
‫البيئة‪ .‬وفقًا لهذا التفسري‪ ،‬تدعم النسويات البيض الربامج الواعية بالعرق مقابل دعم السود‬
‫مثال‪ .‬االسم العلني ملثل هذا التداول‬
‫لقضايا ذات أهمية خاصة بالنسبة للنسويات‪ ،‬كاإلجهاض ً‬
‫يف األصوات هو املقايضة السياسية‪ 46.‬تشكل هذه الظاهرة بال شك جز ًءا من التفسري‪ ،‬إال أنه‬
‫يجب إدراك أن املقايضة السياسية الناجحة دامئًا ما تتضمن تزوي ًرا يف التفضيالت‪ .‬فالنسوية‬

‫‪289‬‬
‫التي تخرج يف مسرية ضد العنرصية ال ترتدي شارة تكشف اعرتاضها عىل الوعي باللون‪.‬‬
‫بل عىل العكس‪ ،‬إنها تشارك يف الرتويج لألجندة الواعية باللون‪ .‬قد تعكس مشاركتها إما‬
‫انتهازية وإما قناعة‪ .‬ويف كلتا الحالتني‪ ،‬تؤثر مشاركتها يف إمالة الخطاب العلني لصالح‬
‫الوعي باأللوان‪ .‬وألن الخطاب العلني يؤثر يف وجهات النظر العاملية ألعضاء االئتالف الكبري‬
‫–ناهيك عن وجهات النظر لغري األعضاء– فإن تزوير التفضيالت الذي يحدث بغرض‬
‫املقايضة السياسية قد يحول األشخاص الذين ليس لديهم مصلحة يف التمييز اإليجايب‬
‫العرقي إىل مؤمنني حقيقيني مبزاياه‪ .‬فالجامعات تضم أفرا ًدا من إثنيات مختلفة يؤمنون‬
‫باالستقامة األخالقية لألجندة العرقية الراسخة‪ .‬لكن التفسري املتمحور حول االئتالف‪ ،‬يف‬
‫حد ذاته‪ ،‬ال يفّس هذه الحقيقة‪.‬‬

‫هل اآلثار األيديولوجية لتزوير التفضيالت خبيثة بالّضورة؟‬


‫إن املوضوع املشرتك بني الفصول القليلة السابقة هو أن تزوير التفضيالت يعزز األساطري‬
‫ويقويها ويحافظ عليها‪ .‬تنشأ األساطري ألن املفاهيم املسبقة التي تتحكم يف تفسرياتنا‬
‫تستند جزئيًا إىل اإلثبات االجتامعي‪ .‬يش ّوه تزوير التفضيالت اإلثبات االجتامعي بإزالة‬
‫الحقائق والحجج‪ ،‬التي تعتربها الجامعات النافذة ممنوعة الذكر‪ ،‬من الخطاب العلني‪ .‬عىل‬
‫ريا عميقًا عىل تطور املعرفة الخفية‪ .‬ويضفي مصداقية عىل األساطري‬
‫هذا النحو‪ ،‬إنه يؤثر تأث ً‬
‫بحاميتها من الفضيحة التصحيحية‪.‬‬
‫عىل غرار ال َج َامل‪ ،‬ميكن القول إن الحقيقة يف عني الناظر – مع التابوهات التعبريية‬
‫أو من دونها‪ .‬فإذا أصبحت كل املعرفة الخفية علنية‪ ،‬ستظل النامذج العقلية التي يفّس‬
‫األفراد من خاللها العامل مختلفة‪ ،‬حتى لو كان ذلك بسبب االختالفات يف التجربة الشخصية‬
‫فحسب‪ .‬وبالتايل‪ ،‬من الناحية العملية‪ ،‬ال ميكن للمرء تحديد مجموعة من املعتقدات التي‬
‫سيقر الجميع بأنها صحيحة يف ظل حرية التعبري املطلقة‪ .‬ضمن ًيا‪ ،‬قد تكون األيديولوجية‬

‫‪290‬‬
‫املتشكلة نتيجة تشوهات الخطاب العلني أقرب إىل إحساس املراقب بالواقع من أي معتقدات‬
‫قد يطورها يف ظل حرية التعبري املثالية‪.‬‬
‫شخصا ما لديه قدرة ال نهائية عىل‬
‫ً‬ ‫مع ذلك‪ ،‬ال يشء يف حجتي يفرتض مسبقًا أن‬
‫التمييز بني الحقيقة والخيال‪ ،‬وبني الحدس السليم والتحيز املموه‪ ،‬وبني الصواب والخطأ‪.‬‬
‫ال ميكن حتى للمتخصصني املطلعني تحديد كل حقيقة ذات صلة بالظروف الحالية‬
‫واملستقبلية أو توقع تأثري كل سياسة‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬مهام كانوا يهدفون إىل املوضوعية‪،‬‬
‫حتام‪ .‬وأنا أطرح هذا كطريقة لالعرتاف بأن‬
‫ً‬ ‫ستؤثر مصالحهم املتصورة يف تفسرياتهم‬
‫فمثال‪ ،‬قد تثبت التطورات غري املتوقعة حتى‬
‫ً‬ ‫التطورات املستقبلية قد تدحض بعض آرايئ‪.‬‬
‫شكال‬
‫ً‬ ‫اآلن أن السياسات الواعية بالعرق نعمة عىل األقليات املعوزة‪ .‬وقد يبتكر شخص ما‬
‫صال ًحا اقتصاديًا لالشرتاكية بوجه إنساين‪ .‬وقد تحول التطورات التكنولوجية التي ما تزال‬
‫غري ممكنة التخيل نظام الطبقات يف الهند إىل مصدر لألفضلية االقتصادية‪ .‬فتاريخ‬
‫البرشية حافل بالسياسات التي أثبتت فائدتها بسبب التطورات التي مل يتوقعها أحد‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬ميكن إدراك دور تزوير التفضيالت يف نرش األيديولوجية دون الحاجة‬
‫إىل إصدار حكم عىل األيديولوجية‪ .‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬ميكن مدح أيديولوجية ما أو‬
‫انتقادها دون إغفال اعتامدها عىل تزوير التفضيالت‪ .‬بغض النظر عن رأينا بالتمييز‬
‫اإليجايب‪ ،‬ميكننا جمي ًعا إدراك أن األمريكيني مذعورون من اتهامهم بالعنرصية وأن‬
‫تشوهات الخطاب العلني الناتجة قد قيدت أمناط التفكري األمريكية بشأن مجموعة من‬
‫القضايا‪.‬‬
‫لتأكيد نقطة سبق ذكرها‪ ،‬إن الخطاب العلني ليس املحدد الوحيد للفكر البرشي‪ .‬وإذا‬
‫كان كذلك‪ ،‬فإن املعرفة الخفية بالقضايا االجتامعية املعقدة ستصبح مستقرة للغاية‪ .‬ففور‬
‫قبوال باإلجامع ويصل إىل مكانة الحقيقة التي‬
‫ظهور اعتقاد ما وانتشاره‪ ،‬إنه يكتسب رسي ًعا ً‬
‫ال نقاش فيها‪ .‬بعدها‪ ،‬تصبح املعرفة الخفية غري قابلة للتغيري‪ .‬والتجربة املبارشة هي أحد‬
‫العنارص التي تتدخل يف عملية االستقرار هذه‪ .‬مثة عنرص آخر هو استحالة إخامد الفضول‬

‫‪291‬‬
‫والعفوية الفردية‪ .‬حتى يف املجتمعات املنظمة برصامة‪ ،‬مثة دامئًا أشخاص يّسحون‬
‫بعقولهم عىل الرغم من املخاطر‪ .‬بعضهم يكتشف طرقًا غري تقليدية للنظر إىل العامل‪ ،‬بينام‬
‫يجرؤ عدد أقل عىل مشاركة اكتشافاتهم مع اآلخرين‪.‬‬
‫يرتك املفكرون غري التقليديني‪ ،‬املوصومون عادة بأنهم مثريون للمشاكل أو زنادقة‪،‬‬
‫الخيارات التي رفضها الرأي السائد مفتوحة‪ ،‬ما مينحها فرصة لتجريبها أو إعادة تجريبها‬
‫إذا تحول الرأي العلني بطريقة ما‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬باكتشاف عيوب الوضع الراهن ونرشها‪،‬‬
‫إن هؤالء املفكرين يبطئون استيعاب معتقداته الداعمة‪ .‬كام سرنى الحقًا‪ ،‬إنهم يبقون الوضع‬
‫الراهن عرضة لالنتقاد بشكل فعال‪ ،‬ويعتربون التغيري االجتامعي وارد الحدوث‪ .‬يف أوروبا‬
‫الرشقية‪ ،‬قام بهذه الوظائف املنشقون الذين مهدوا الطريق النفجار عام ‪ – 1989‬وهو حدث‬
‫سنتحدث عنه يف الفصل السادس عرش‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫الجزء الرابع‬
‫توليد املفاجأة‬

‫‪293‬‬
‫الفصل الخامس عرش‬
‫ثورات سياسية غري متوقعة‬

‫حيثام يدين الوضع الراهن باستقراره لتزوير التفضيل‪ ،‬مثة أشخاص‪ ،‬ورمبا آخرون ميكن‬
‫حثهم بسهولة‪ ،‬ينتظرون الفرصة للتحرك يف سبيل التغيري‪ .‬قد يؤدي حدث ُمن ِّور أو تحول‬
‫واضح يف الضغوط االجتامعية إىل تضخم املعارضة العلنية‪ .‬إن تفضيالت األفراد العلنية‬
‫مرتابطة‪ ،‬ويُحتمل كون القفزة يف املعارضة العلنية ذاتية التضخيم‪ .‬يف ظل الظروف‬
‫املناسبة‪ ،‬ستحفز كل قفزة قفزات إضافية‪.‬‬
‫إن احتاملية التغيري ليست مرصود ًة بوضوح تام‪ .‬ال ميكننا أب ًدا تنبؤ كيف سيفّس‬
‫حدث معني بدقة؛ هل ستغري تكنولوجيا جديدة توازن القوة السياسية؟ أو ما هو املطلوب‬
‫لتحويل الرأي العلني ضد الوضع الراهن؟ تن ّوه هذه القيود التنبؤية بأن التحوالت يف الرأي‬
‫العلني‪ ،‬خاص ًة التحوالت الكبرية‪ ،‬قد تفاجئ الجميع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يظل تفسري تحول غري‬
‫سهال‪ .‬سيؤدي هذا التحول إىل إبراز مظامل مكتومة مند قِدم‪،‬‬
‫ً‬ ‫متوقع يف الرأي العلني أم ًرا‬
‫تكف عن دعم الوضع الراهن‪.‬‬
‫ولفت االنتباه إىل العوامل التي جعلت الناس ّ‬
‫مثاال عىل ثورة غري متوقعة مل نعد اليوم‪ ،‬بعد وقوعها‪ ،‬نواجه‬
‫تقدم حالة إيران ً‬
‫صعوب ًة تُذكر يف رشحها‪ .‬مل تتوقع أجهزة االستخبارات الرئيسية يف الحرب الباردة–حتى‬
‫وكالة املخابرات املركزية أو جهاز املخابرات السوفيتي–انهيار امللكية اإليرانية يف شتاء‬
‫‪ ،1978-1979‬بل توقعوا جمي ًعا‪ ،‬لحني اندالع الثورة‪ ،‬تغلب الشاه عىل العاصفة املحدقة به‪.‬‬
‫برصف النظر عن التصورات املتعلقة باملايض‪ ،‬فإن الثورة فاجئت حتى آية الله الخميني‪،‬‬
‫رجل الدين الرشس الذي أدى‪ ،‬من منفاه‪ ،‬دور العقل املدبر لعملية التعبئة الجامعية الهادفة‬
‫إىل تسليمه قيادة إيران‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬يبدو االضطراب غري مفاجئ عىل اإلطالق عندما ندركه‬
‫ريا من التفسريات‪ ،‬مبا فيها تلك التي تركزت عىل خيبات األمل‪،‬‬
‫كام كب ً‬
‫متأخرين‪ .‬ولّدت الثورة ً‬
‫وفشل الحوكمة‪ ،‬والرصاعات الطبقية‪ ،‬واالستغالل األجنبي‪ ،‬والتشدد اإلسالمي‪ .‬تبدو‬

‫‪294‬‬
‫يبني رضورة الفصل بني اإلدراك‬
‫معقولةً‪ ،‬كام يبدو بعض التفسريات‪ ،‬حقيقة أن ال يشء ّ‬
‫املتأخر والبصرية‪ .‬نحن نرى هذه الثورة اليوم كنتاج حتمي ال مفر منه لقوى اجتامعية‬
‫مؤثرة‪ ،‬فلامذا فاجئت الكثري من قادتها وأطرافها وضحاياها ومراقبيها؟ يهدف هذا الفصل‬
‫إىل تطوير إطار عام لإلجابة عىل مثل هذا السؤال‪.‬‬

‫ثورة سياسية‬
‫يطرح منوذج التفضيل املزدوج يف هذا الكتاب قضي ًة محدد ًة مسبقًا‪ ،‬فيها رصاع سيايس‬
‫بني مجموعتي ضغط‪ .‬بالنسبة إىل الفصلني الحايل والتايل‪ ،‬تتمحور القضية حول رشعية‬
‫النظام السيايس الحايل‪ .‬ومجموعتا الضغط تتمثالن يف الحكومة‪ ،‬التي تعرتف بحقها يف‬
‫الحكم‪ ،‬واملعارضة‪ ،‬غري املعرتفة به‪ .‬يف هذا السياق بالذات‪ ،‬فإن ‪ ،Y‬مقياسنا للرأي العلني‪،‬‬
‫ميثل حجم املعارضة العلنية للحكومة‪ .‬كالعادة‪ ،‬يُعرب عنه كنسبة مئوية من السكان‪.‬‬
‫يف بداية قصتنا‪ ،‬يعادل ‪ Y‬الصفر تقريبًا‪ ،‬ما يعكس إجامع الرأي العلني تقريبًا عىل‬
‫دعم الحكومة‪ .‬ستتخذ الثورة شكل قفزة مفاجئة وكبرية يف ‪ Y‬تجعل استمرار الحكومة يف‬
‫مستحيال‪ .‬من خالل هذا التعريف‪ ،‬تستلزم الثورة تحوالً يف السلطة السياسية‬
‫ً‬ ‫السلطة أم ًرا‬
‫ريا له معنى يف حياة الناس جانب‬
‫مدعو ًما عىل املستوى الشعبي‪ .‬إن إحداث هذا التحول تغي ً‬
‫غري أسايس؛ كل ما يهم اتسام التحول بالّسعة والشمولية‪.‬‬
‫ألسباب ال تحتاج إىل تكرار‪ ،‬يعتمد تفضيل الفرد العلني عىل ‪ ،Ye‬املستوى املتوقع‬
‫للمعارضة العلنية‪ ،‬وعىل ‪ ،x‬تفضيل الفرد الخفي‪ .‬بالنظر إىل تغري حافز الفرد لدعم‬
‫ريا طرديًا مع ‪ Ye‬وعكس ًيا مع ‪ ،x‬مثة قيمة حاسمة لـ ‪ Ye‬سوف يتخىل عندها‬
‫املعارضة تغ ً‬
‫الفرد عن الحكومة لصالح املعارضة‪ .‬ميكن تسمية هذه القيمة الحاسمة اآلن عتب ًة ثورية‪.‬‬
‫سيميل األفراد بتفضيالتهم الخفية املختلفة إىل امتالك عتبات ثورية مختلفة‪ .‬يرتبط‬
‫أي توزيع معني من العتبات مبنحنى انتشار يعطي تطبيقًا مناس ًبا لكل توقع محتمل لحجم‬
‫املعارضة العلنية‪ .‬للتوضيح‪ ،‬تأمل املنحنى املستمر يف الشكل (‪ .)15.1‬يقطع هذا املنحنى‬

‫‪295‬‬
‫القطر من أعىل عند ‪ 10‬و‪ ،90‬وهذه قيم تعرب عن مستويات معارضة علنية‪ .‬متثل القيمة‬
‫األوىل نقطة انطالقنا؛ يف البداية‪ ،‬يدعم ‪ ٪10‬من السكان علنًا املعارضة بينام تدعم نسبة‬
‫‪ 90٪‬املتبقية الحكومة‪.‬‬
‫ال تظل التفضيالت الخفية التي تؤثر يف مستويات العتبات الفردية ثابت ًة بالّضورة‬
‫مع مرور الوقت‪ .‬إذا ارتفعت‪ ،‬ما يعني زياد ًة يف تعاطف األفراد مع املعارضة‪ ،‬فسوف تهبط‬
‫العتبات الثورية‪ .‬قد تهبط العتبات ألسباب أخرى أيضً ا‪ ،‬كام هو الحال لو قلّت كفاءة الحكومة‬
‫يف تقديم حوافز انتقائية‪ ،‬أو باتت املعارضة أكرث كفاءة‪ .‬سوف تحصل النتيجة ذاتها إذا‬
‫رسا مع املعارضة احتياجات تعبريي ًة أكرب‪.‬‬
‫ط ّور األفراد املتعاطفون ً‬

‫الشكل ‪ 15.1‬هبوط يف العتبات الفردية يدفع منحنى االنتشار إىل األعىل‪ ،‬ما تسبب يف‬
‫اختفاء التوازن القائم‪ .‬مع انتقال الرأي العلني انتقاالً رسي ًعا من ‪ 10‬إىل ‪.90‬‬

‫سريفع هبوط يف العتبات الفردية منحنى االنتشار‪ .‬يتضح مثل هذا التحول يف الخط‬
‫املنحني املتقطع يف الشكل ‪ .15.1‬يدمر التحول التوازن القائم‪ ،‬تاركًا مستوى الـ ‪ 90‬كتوازن‬
‫‪296‬‬
‫انتقاال رسي ًعا من ‪ 10‬إىل ‪ ،90‬ما يعني أن نسبة ‪ ٪80‬من السكان‬
‫ً‬ ‫وحيد‪ .‬ينتقل الرأي العلني‬
‫تتخىل عن الحكومة لصالح املعارضة‪ .‬ميثل هذا النمو املتفجر يف حجم املعارضة العلنية‬
‫ثورة‪.‬‬

‫أحداث صغرية‪ ،‬نتائج كبرية‬

‫ميكن إجراء التحليل من خالل الرسوم البيانية‪ 1،‬وإعداد النقاط الرئيسية ممكن عىل أي حال‬
‫بطريقة أبسط عرب أمثلة رقمية منمقة‪ .‬تخيل مجتم ًعا من عرشة أشخاص يضم تسلسل العتبة‬
‫التايل‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬
‫عتبات‬ ‫‪A‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫يدعم الشخص ‪ ،a‬صاحب العتبة ‪ ،0‬املعارضة بغض النظر عن حجمها‪ ،‬متا ًما كام يدعم‬
‫الشخص ‪ j‬الحكومة دامئًا‪ .‬تفضيالت األشخاص الثامنية املتبقية حساسة للحجم املتوقع‬
‫للمعارضة العلنية‪ .‬اعتام ًدا عىل مستواها‪ ،‬سيختارون معسك ًرا أو آخر‪ .‬يف البداية‪ ،‬كام هو‬
‫الحال يف الرسم التوضيحي الهنديس‪ ،‬تضم املعارضة ‪ ٪10‬من السكان‪ ،‬لذلك ‪ .10 = Y‬عىل‬
‫وجه التحديد‪ ،‬يدعم الشخص ‪ a‬املعارضة‪ ،‬واألشخاص ‪ b‬حتى ‪ j‬يدعمون الحكومة‪ .‬ألن‬

‫‪297‬‬
‫عتبات جميع األفراد باستثناء ‪ a‬أكرب من ‪ ،10‬فإن معارضة علنية قدرها ‪ ٪10‬تُعد ذاتية‬
‫االستدامة‪.‬‬
‫لنفرتض اآلن أن ‪ b‬لديها لقاء غري سار يف إحدى وزارات الحكومة‪ .‬سيزداد نفورها‬
‫من النظام‪ ،‬وستُدفع عتبتها ألسفل من ‪ 20‬إىل ‪ .10‬يصبح تسلسل العتبة‪:‬‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬
‫عتبات‬ ‫‪A1‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫تظهر عتبة ‪ b‬الجديدة لتعادل ‪ Y‬الحايل واملساوي ‪ .10‬وعليه تح ّول والؤها‪ ،‬معلن ًة قرارها‬
‫عرب رمي بيضة عىل زعيم البالد خالل تجمع رسمي‪ .‬وبذلك ترتفع قيمة ‪ Y‬إىل ‪ .20‬هذه‬
‫الـ‪ Y‬الجديدة ليست ذاتية االكتفاء بل ذاتية التضخيم‪ ،‬ألنها تدفع ‪ c‬إىل املعارضة‪ .‬وبارتفاع‬
‫قيمة ‪ Y‬إىل ‪ 30‬بعد ذلك‪ ،‬يحدث ارتداد رابع‪ ،‬وترتفع ‪ Y‬إىل ‪ .40‬تستمر العملية حتى تصل‬
‫‪ Y‬إىل ‪ – 90‬توازن جديد‪ .‬بات األفراد التسعة األوائل يف صف املعارضة‪ ،‬مقابل ‪ j‬الداعم‬
‫الوحيد للحكومة‪ .‬لقد أدى تحول بسيط يف عتبة فرد واحد إىل توليد عربة ثورية‪.‬‬
‫تكشف مقارنة ‪ A‬مع ‪ A1‬أن الحدث الذي يغري حتى عتبة واحدة قد يدمر توازنًا‬
‫ويؤدي إىل تحول هائل يف الرأي العلني‪ .‬يف الحالة املطروحة‪ ،‬يصادف أن التوازن املدمر‬
‫هو الوضع الراهن‪.‬‬
‫اآلن فكر يف التسلسل‪:‬‬

‫‪298‬‬
‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬
‫عتبات‬ ‫‪B‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫إنه يختلف عن ‪ A‬فقط يف عتبة ‪c‬؛ أصبحت ‪ 30‬بدالً من ‪ .20‬كام يف الرسم التوضيحي‬
‫السابق‪ ،‬دع عتبة ‪ b‬تنخفض من ‪ 20‬إىل ‪ .10‬يغدو التسلسل الناتج‪:‬‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬
‫عتبات‬ ‫‪B1‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫مر ًة أخرى‪ ،‬يصبح التوازن القائم عند قيمة ‪ 10‬غري مستديم‪ ،‬وترتفع قيمة ‪ Y‬إىل ‪ .20‬لكن‬
‫منو املعارضة يتوقف عند هذا الحد‪ ،‬ألن ‪ Y‬الجديد مستدام ذات ًيا‪ .‬يستمتع بعض مؤيدي‬
‫رسا مبشاهدة وجه القائد املغطى بالبيض‪ ،‬لكن ال أحد ينضم إىل صف رامي البيض‬
‫الحكومة ً‬
‫يف املعارضة العلنية‪ .‬نرى أن التباين البسيط يف العتبات قد يغري بصورة كبرية تأثري‬
‫اضطراب معني‪ .‬إن الحدث الذي يسبب ثور ًة يف بيئة ما عىل وجه الخصوص‪ ،‬رمبا يقترص‬
‫تأثريه عىل هبوط يف دعم الحكومة العلني لو حدث يف بيئة ثانية مختلفة قليالً‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫ليست التفضيالت الخفية وال العتبات املقابلة معرف ًة شائعة‪ .‬وعليه‪ ،‬قد يغدو املجتمع‬
‫عىل شفا ثورة دون أن يدرك أحد ذلك‪ ،‬وال حتى أولئك القادرون عىل إشعال فتيلها‪ .‬يف‬
‫مثال‪ ،‬ال تحتاج ‪ b‬إىل إدراك أنها قادرة عىل إطالق عربة ثورية‪ .‬رغم أنها قد‬
‫التسلسل ‪ً A‬‬
‫تشعر أن تزوير التفضيل أمر شائع‪ ،‬إال أنها عاجزة عن معرفة ما إذا كان التسلسل الفعيل ‪A‬‬
‫أو ‪.B‬‬
‫مبدئ ًيا‪ ،‬ميكن تخفيف هذا الجهل التعددي من طريق استطالعات الرأي التي تضمن‬
‫للمشاركني عدم الكشف عن هويتهم‪ .‬ولكن توفري املجهولية أسهل من إقناعهم بأن‬
‫تفضيالتهم املكشوفة ستبقى مجهول ًة ولن تُستخدم ضدهم‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬فإن حكوم ًة‬
‫شعبي ًة ظاهريًا تستند استدامتها إىل تزوير التفضيل ال مصلحة لها مبشاركة هشاشة دعمها‪،‬‬
‫ألن هذا من شأنه إلهام املمتعضني ليشاركوا مشاعرهم املناهضة للحكومة علنًا‪ .‬عىل العكس‬
‫من ذلك‪ ،‬متتلك هذه الحكومة حاف ًزا لتثبيط االقرتاع املستقل‪.‬‬

‫عرضية السخط الجامعي‬


‫أي يشء يغري الرأي الخفي –مثل الركود االقتصادي‪ ،‬أو التفاعالت مع املجتمعات األخرى‪،‬‬
‫أو تبدل األجيال– يستطيع تغيري تسلسل العتبة‪ .‬ولكن بغض النظر عن العوامل األساسية‪،‬‬
‫ريا ضد الحكومة دون إشعال ثورة‪ .‬يف التسلسل‪:‬‬
‫تحوال كب ً‬
‫ً‬ ‫ميكن أن يتحول تسلسل العتبة‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬
‫عتبات‬ ‫‪C‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫‪300‬‬
‫العتبة املتوسطة ‪ ،30‬رمبا ألن معظم الناس يحتقرون الحكومة‪ .‬لكن التوازن يبقى ‪.10 = Y‬‬
‫صحيح بطبيعة الحال أن حدوث ثورة مرجح أكرث يف ظل ‪ C‬مقارن ًة بـ ‪ .A‬فالتسلسل ‪C‬‬
‫يضم سبعة أفراد عند عتبة ‪ ،20‬مقابل واحد فقط بهذه العتبة يف ‪.A‬‬
‫تظل النقطة الجوهرية حقيقة أن الكراهية واسعة النطاق تجاه الحكومة ليست كافي ًة‬
‫لحشد أعداد كبرية للقيام بعمل ثوري‪ .‬بالطبع‪ ،‬تستطيع املشاعر املناهضة للحكومة أن تأيت‬
‫بثورة يف عامل االحتامالت‪ ،‬ولكن ال بد من اجتامع ظروف أخرى لتحقيقها‪ .‬وهذا ما عربت‬
‫عنه املجلة الروسية يف القرن التاسع عرش ذات مرة‪« :‬مل تتمرد أي قرية ملجرد أنها كانت‬
‫جائعة»‪ 2.‬والشعب الجائع ال يكفيه تحميل الحكومة مسؤولية بؤسه فحسب‪ ،‬بل عليه اإلميان‬
‫بأن التمرد عالج‪ .‬إذا كانت املعارضة ضئيلة‪ ،‬فإن التكلفة املتوقعة للثورات هائلة‪ .‬ومن يختار‬
‫ريا‬
‫حا كب ً‬
‫بؤسا مضاعفًا – ما مل يكن‪ ،‬بالطبع‪ ،‬يستمد ارتيا ً‬
‫اتباع دعوة ضمريه لن يجني إال ً‬
‫من التعبري عن مشاعره املناهضة للحكومة‪.‬‬
‫وبالطريقة نفسها‪ ،‬قد تنفجر ثورة يف مجتمع متيل فيه التفضيالت الخفية‪ ،‬وعليه‬
‫العتبات الفردية‪ ،‬إىل كونها مواتي ًة نسبيًا للحكومة‪ .‬إن إثارة انشقاقات إضافية يف صفوف‬
‫الحكومة رضوري فقط لتوسيع نطاق املعارضة‪ .‬مبعنى آخر‪ ،‬يجب أن يشكل تسلسل العتبة‬
‫عرب ًة متنقل ًة يف املعارضة العلنية السائدة‪ .‬أعد النظر يف التسلسل ‪ ،A1‬حيث يبلغ متوسط‬
‫العتبة ‪ ،46‬والتسلسل ‪ ،C‬حيث يبلغ ‪ .30‬يف ‪ ،A1‬تقفز املعارضة العلنية من ‪ 10‬إىل ‪ .90‬أما‬
‫يف التسلسل ‪ ،C‬تظل عالق ًة عند ‪ .10‬يف الحالة األخرية‪ ،‬يتعني عىل املعارضة العلنية‬
‫الوصول بطريقة أو بأخرى إىل ‪ 20‬لجعل العربة تتحرك‪.‬‬
‫يشتهر اشرتايك من القرن التاسع عرش بصياحه عىل صديق كان يعطي متسوالً‬
‫عمالت نقدية‪« :‬ال تؤخر الثورة!»‪ .‬تتشارك يف املنطق الكامن وراء هذه الصيحة اثنتان من‬
‫نظريات الثورة األكرث شعبية‪ :‬النظرية املاركسية‪ ،‬التي تفرتض أن اإلطاحة باألنظمة‬

‫‪301‬‬
‫‪3‬‬
‫االجتامعية تتم نتيجة السخط الناتج عن تغيريات مصريية يف أشكال اإلنتاج والتبادل‪،‬‬
‫والثانية نظرية الحرمان النسبي‪ ،‬التي ترى أن االنتفاضات الجامهريية يغذيها اإلحباط الذي‬
‫ينتج فجوات بني التوقعات االقتصادية والنتائج‪ 4.‬يعتقد أنصار هذه النظريات أن السخط‬
‫الجامعي يؤدي تلقائ ًيا إىل حراك سيايس هدفه التغيري‪ .‬وهكذا يتجاهلون الرتابط بني‬
‫الخيارات السياسية الفردية‪ .‬وينكرون أهمية توزّع السخط‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬كام يتضح من املقارنة‬
‫بني ‪ A1‬و‪ ،C‬يف ظل الظروف املناسبة‪ ،‬قد يؤدي فرد واحد ساخط ذو عتبة ‪ 10‬دو ًرا أكرب‬
‫يف الثورة من دور سبعة أفراد أقل سخطًا بقليل مع عتبات ‪.20‬‬
‫ال تتوافق أي من هاتني النظريتني مع السجل التاريخي‪ .‬فلو ص ّحت النظرية‬
‫املاركسية‪ ،‬مل تكن أول هيمنة اشرتاكية لتتحقق يف روسيا شبه اإلقطاعية‪ .‬أما بالنسبة إىل‬
‫نظرية الحرمان النسبي‪ ،‬فإنها تتعارض مع األدلة عىل أن األزمات االقتصادية الحادة ال تولد‬
‫مثال‪ ،‬مل يكن‬
‫بالّضورة تحريضً ا سياسيًا متناميًا‪ .‬ففي فرنسا بني عامي ‪ 1830‬و‪ً 1960‬‬
‫‪5‬‬
‫مستوى العنف الجامعي مرتبطًا بدرجة السخط الجامعي‪.‬‬
‫تعامل النظريتان أيضً ا السخط الجامعي كرشط مسبق للثورة‪ ،‬وهذا يعيب كلتيهام‪.‬‬
‫إذ تفرتضان أن حدوث انتفاضة جامهريية يستلزم وجود الرغبة بالتغيري السيايس عند أعداد‬
‫غفرية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬قد تساعد العربة الثورية عىل خلق السخط الذي يبقيها تتحرك‪ .‬إن‬
‫التحول من صف الحكومة إىل املعارضة قد يلفت انتباه األفراد إىل إخفاقات الحكومة؛ أو قد‬
‫يجعل األشخاص الذين سلموا بالوضع الراهن يدركون إمكانية التغيري السيايس‪.‬‬
‫ليس السخط الجامعي غري أسايس لبدء ثورة فحسب‪ ،‬بل حتى أول املتحركني ينبغي‬
‫أال يكونوا من أعضاء املجتمع األكرث استيا ًء‪ .‬تشكل التفضيالت الخفية محد ًدا واحد فقط من‬
‫الخيارات السياسية الفردية‪ .‬واألخرى هي احتامل النجاح الثوري؛ التكلفة املتوقعة للفشل‬
‫واملكافأة املتوقعة للنجاح؛ والتكلفة التعبريية لتزوير التفضيل‪ .‬قد يرتاجع األفراد املستاؤون‬
‫بشدة عندما يرون فرص معاقبتهم محتمل ًة ج ًدا‪ ،‬أو إذا كانت منفعتهم ضئيل ًة من التعبري عن‬
‫أنفسهم بصدق‪ .‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬قد ينضم األفراد الذين يعيشون حيا ًة مريح ًة نسب ًيا‬

‫‪302‬‬
‫إىل الطليعة الثورية إذا صدفت معارضتهم الوضع الراهن ومل ميكنهم تحمل فكرة البقاء‬
‫صامتني‪ .‬كام سيظهر يف الفصل التايل‪ ،‬مل يتوقع القادة الثوريون بالّضورة مكافأتهم عىل‬
‫تحديهم العلني‪ ،‬ومل يتوقعوا جمي ًعا أن تنجح حركاتهم‪ .‬كانوا يف جميع األحوال أفرا ًدا ذوي‬
‫احتياجات تعبريية ملحة وغري معتادة‪.‬‬

‫دور البنية السياسية‬


‫تخيل اآلن أن قو ًة خارق ًة قد التزمت منذ فرتة طويلة بالحفاظ عىل حكومتنا يف السلطة‪.‬‬
‫فجأة‪ ،‬تلغي القوة الخارقة التزامها‪ .‬من املتوقع أن تنقص التكلفة املتوقعة لالنضامم إىل‬
‫املعارضة‪ ،‬وبطبيعة الحال‪ ،‬أن تهبط العتبات الفردية‪ .‬دعنا نقول أن كل عتبة ترتاوح بني ‪10‬‬
‫و‪ 90‬تهبط مبقدار ‪ 10‬وحدات‪ .‬لو كان تسلسل العتبة املوجود مسبقًا ‪ A‬أو ‪ B‬أو ‪ ،C‬فستكون‬
‫النتيجة قفزة ثورية يف الرأي العلني من ‪ 10‬إىل ‪ .90‬لنفرتض غري ذلك التسلسل التايل‪:‬‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬
‫عتبات‬ ‫‪D‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫تحول الصدمة البنيوية ‪ D‬إىل‪:‬‬

‫‪303‬‬
‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬
‫عتبات‬ ‫‪D1‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫أصبح اآلن أربعة أخامس السكان عىل استعداد للتحول إىل إىل صف املعارضة‪ ،‬ولكن فقط‬
‫إذا بدأ شخص آخر هذا التحول أوالً‪ .‬ال أحد يبادر‪ ،‬لتبقى ‪ Y‬عند قيمة ‪.10‬‬
‫إن التحول يف العالقات الدولية نوع من أنواع التغيري يحظى بأهمية ثورية يف نظرية‬
‫أخرى من نظريات الثورة الشعبية‪ ،‬وهي النظرية البنيوية‪ .‬تقول ثيدا سكوكبول‪ ،‬من‬
‫منارصات البنوية‪ ،‬بأن الثورة تحدث عندما يتوفر رشطان‪ .‬أوالً‪ ،‬أن تض ِعف العالقات املتطورة‬
‫لدولة ما مع دول الجوار والطبقات املحلية قدرتها عىل الحفاظ عىل القانون والنظام؛ وثانياً‪،‬‬
‫أن تعجز النخب املتّضرة من هذا الوضع عن العودة إىل الوضع السابق‪ ،‬مع بقائها قوي ًة‬
‫مبا يكفي لشل الحكومة‪ .‬من خالل التعويقية املامرسة‪ ،‬تؤجج النخب حدة املشاعر املعارضة‬
‫لها‪ ،‬والتي تحرك انتفاض ًة ساعي ًة إىل التحول االجتامعي‪ 6.‬تكمن الجاذبية املقرتحة لنظرية‬
‫سكوكبول يف استنادها إىل التوجهات البنوية لرشح التحوالت يف بنية القوة السياسية‪.‬‬
‫فهي غري معتمدة عىل عوامل «ذاتية» مثل املعتقدات والتوقعات والتفضيالت واألهداف‪ ،‬مع‬
‫أن هذه العوامل تتسلل بانتظام إىل دراسات الحالة البنوية‪ .‬وعليه فإن النظريات البنيوية‪،‬‬
‫كام يقول مروجوها‪« ،‬علمية» أكرث من النظريات التي تنسب قوة تفسريية إىل ترصفات‬
‫فردية‪.‬‬
‫تعترب هذه الحجة العوامل البنيوية مجرد جزء من القصة‪ 7.‬إن رد فعل شخص واحد‬
‫عىل حدث ذي أهمية عاملية قد يصنع الفرق بني انتفاضة هائلة وعربة كامنة ال تقلع أب ًدا‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫لذلك فإن االقرتاح القائل‪ ،‬كام يقرتح البنيويون‪ ،‬بأن األفراد ببساطة حاملون كامنون للقوى‬
‫الثورية العميقة‪ ،‬هو التغايض عن األهمية الحاسمة املحتملة للخصائص الفردية ذات األهمية‬
‫القليلة يف حد ذاتها‪ .‬األمر دامئًا اجتامع عوامل‪ ،‬والعديد منها غري مهم يف جوهره‪ ،‬وبالتايل‬
‫غري مراقب‪ ،‬لدرجة أنها ترسم مجرى األحداث‪ .‬ميكن أن ينتج عن حدث عاملي ضخم نتائج‬
‫مختلفة متا ًما يف بيئتني تختلفان اختالفًا بسيطًا‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن البنيوية والفردانية ليستا‬
‫مقاربتني متعارضتني ومتنافستني لدراسة التغيري االجتامعي‪ .‬إنها مكونات أساسية لقصة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫بتلخيص ملا مررنا به حتى اآلن‪ ،‬قد تُثار اضطرابات سياسية بفعل أي يشء يحرض‬
‫تسلسل عتبة املجتمع‪ .‬قد تتحرك العتبات نتيجة تغيريات يف التفضيالت الخفية‪ ،‬أو تحوالت‬
‫يف كفاءة مجموعات الضغط‪ ،‬أو كلتيهام‪ .‬إن ارتفا ًعا يف حجم املعارضة املتوقع مسبب آخر‬
‫محتمل‪ .‬عد إىل ‪ ،C‬وتذكر أن املعارضة العلنية يف حالة توازن عند ‪ .10‬لو متكن ‪ a‬من إقناع‬
‫ولو شخص واحد من ذوي العتبات ‪( 20‬شخص من ‪ b‬إىل ‪ )h‬أنه ليس لوحده‪ ،‬فإن مغاالته‬
‫‪8‬‬
‫الجريئة سوف تتحول إىل نبوءة ذاتية التحقيق‪.‬‬
‫تصور الحجة العلنية الفرد يف املجتمع عاج ًزا عن توليد ثورة‪ ،‬ولكنها تبقي يف الوقت‬
‫نفسه احتامل امتالكه قو ًة هائلة؛ عاجز ألن الثورة تتطلب تعبئة أعداد كبرية‪ ،‬لكنه يف ظل‬
‫الظروف املناسبة قد يحرض رد فعل متسلسل‪ ،‬وعليه يُحتمل كونه صاحب قوة هائلة‪ .‬ال‬
‫ميكن أن يعرف الفرد بدقة متى ميكنه إحداث تغيري‪ .‬ومع أنه قد يستشعر تعاظم فرصه يف‬
‫إثارة حريق كبري عىل غري العادة‪ ،‬إال أن تيقنه من عواقب معارضته غري ممكن أب ًدا‪.‬‬

‫بصرية ضعيفة ‪...‬‬

‫ريا لرشح سبب االنهيار املفاجئ لنظام راسخ بدا مستق ًرا‪ ،‬جعل سقوطه‬
‫نحن مستعدون أخ ً‬
‫الجميع يف حالة صدمة‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫إن األفراد الذين يزداد تعاطفهم مع التغيري السيايس ال يشاركون بالّضورة‬
‫تحوالتهم املستجدة‪ .‬إذا متتعت الحكومة بدعم واسع النطاق وعليه كان نفوذها قويًا‪ ،‬فإن‬
‫هؤالء يظلون موالني ظاهريًا للوضع الراهن‪ .‬يف هذه العملية‪ ،‬يبقون ضعف النظام مخف ًيا‬
‫عن الحكومة‪ ،‬واملراقبني الخارجيني‪ ،‬وقادة املعارضة‪ ،‬وحتى عن بعضهم‪ .‬ويتسرتون عىل‬
‫العربة الكامنة املتنامية التي قد تطيح بالنظام‪ .‬ميوهون حقيقة أن الدعم العلني للحكومة‬
‫سوف ينهار انهيا ًرا حا ًدا لو حدث منو طفيف يف املعارضة‪ .‬عاجالً أم آجالً‪ ،‬يدفع حدث‬
‫قليال من األفراد حتى نقاط الغليان‪ .‬ينزلون إىل الشوارع‪ ،‬إلطالق‬
‫بسيط يف جوهره عد ًدا ً‬
‫تنقض املعارضة عىل السلطة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العربة الكامنة منذ زمن‪ .‬وهكذا‬
‫جميال‪« :‬رشارة واحدة بإمكانها‬
‫ً‬ ‫يصور املثل الصيني القديم هذه الديناميات تصوي ًرا‬
‫إشعال نريان الرباري»‪ 9.‬بالنظر إىل املزيج الصحيح من الظروف املادية‪ ،‬ستشعل رشارة‬
‫عابرة عاد ًة الحريق‪ .‬وباملثل‪ ،‬بالنظر إىل املزيج الصحيح من الظروف االجتامعية‪ ،‬فإن‬
‫الحدث الذي يسبب عاد ًة تذم ًرا سيشعل انتفاضة ثورية‪.‬‬

‫‪ ...‬إدراك متأخر ممتاز‬

‫إن ثورة ناجحة ال تفضح التوترات التي أفضت إليها فحسب‪ ،‬بل تضخمها أيضً ا‪ .‬من جهة‪،‬‬
‫فإنها تخرج املظامل الحقيقية املقموعة بالخوف إىل العلن‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬تجعل‬
‫األشخاص الذين كانوا راضني عن النظام القديم يحتضنون النظام الجديد بحامس واضح‪،‬‬
‫ورمبا يعزون تفضيالتهم العلنية السابقة إىل االضطهاد‪.‬‬
‫أعد النظر يف تسلسل العتبة‪:‬‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬

‫‪306‬‬
‫عتبات‬ ‫‪A1‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫‪10‬‬
‫ترتبط العتبات املرتفعة نسبيًا يف ‪ A1‬بتفضيالت خفية أكرث مالءم ًة للحكومة من املعارضة‪.‬‬
‫مثال‪ .‬عىل هذا النحو‪ ،‬تكون رغبتها يف‬
‫إن رضا الشخص ‪ i‬عن الحكومة أكرب من رضا ‪ً c‬‬
‫االنضامم إىل حركة تهدف إىل اإلطاحة بالحكومة ضئيلة‪ .‬تذكر أنها آخر من ينضم إىل‬
‫العربة الثورية عندما تنفجر املعارضة العلنية من ‪ 10‬إىل ‪ .90‬ال تغري تفضيلها العلني إال‬
‫بعد تنامي املعارضة الّسيع إىل أغلبية ساحقة‪ ،‬حيث يصبح استمرارها يف تأييد الحكومة‬
‫ترصفًا أحمقًا‪.‬‬
‫بعد تبديلها الصفوف‪ ،‬بات لديها ما يكفي من األسباب الدعاء كراهية الحكومة املطاح‬
‫بها‪ .‬لن تعرتف بأنها تح ّن إىل الوضع السابق‪ ،‬ألن هذا من شأنه أن يتناقض مع تفضيلها‬
‫العلني املتبنى حديثًا‪ .‬ولن تقول إن تغيريها الصفوف حدث بعد انهيار الحكومة‪ ،‬ألن هذا قد‬
‫يجعل تعاطفها املعلن مع الثورة محل شك‪ .‬إن مكاسبها من مزاعم عدم الرضا عن النظام‬
‫القديم كبرية‪.‬‬
‫يتجىل تأثري غري مقصود ملثل هذا التضليل يف جعل دعم الحكومة املطاح بها يبدو‬
‫أصغر حتى مام كان عليه يف الواقع‪ .‬لهذا الوهم جذور عميقة يف الظاهرة ذاتها املسؤولة‬
‫عن جعل الثورة مفاجأة‪ :‬تزوير التفضيل‪ .‬بعد أن جعل الجميع يرفضون احتامل الثورة‪،‬‬
‫يخفي تزوير التفضيل اآلن القوى التي كانت تعمل ضدها‪ .‬وعليه تكون إحدى نتائج تزوير‬
‫التفضيالت ما بعد الثورة تعقيد فهم السبب الكامن خلف حدوث الثورة حدوثًا مفاجئًا‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫قد يستوعب مؤرخو ثورة التحيزات التي تطرأ عىل روايات ما بعد الثورة من‬
‫الترصفات السابقة دون أن يتمكنوا من قياس أهمية التحيزات‪ .‬انظر يف التسلسل‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪a‬‬
‫عتبات‬ ‫‪C1‬‬
‫األفراد‬

‫‪10‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

‫مثل ‪ ،A1‬يدفع ‪ C1‬قيمة ‪ Y‬من ‪ 10‬إىل ‪ ،90‬ما يعني أن تسعة من األفراد العرشة لديهم حافز‬
‫الدعاء احتقار النظام قبل الثورة‪ .‬إذا كانت العتبات التي تقل عن ‪ 50‬تعكس الدعم الخفي‬
‫للثورة‪ ،‬وتلك التي تزيد عن ‪ 50‬تعكس الرضا الخفي عن الوضع الراهن‪ ،‬فإن مثانية من‬
‫التسعة سيقولون الحقيقة‪ ،‬والكاذب الوحيد هو ‪ i‬ذو العتبة ‪ .60‬يتبع من االفرتاض نفسه أن‬
‫تسلسل العتبة لو كان ‪ ،A1‬فإن أربعة من التسعة (األفراد من ‪ f‬حتى ‪ )i‬سيكونون كاذبني‪.‬‬
‫مبا أن العتبات ليست معرف ًة علني ًة‪ ،‬فالنتيجة الرئيسية هنا هي مواجهة املؤرخني صعوب ًة يف‬
‫تحديد ما إذا كان التسلسل قبل الثورة ‪ A‬أو ‪ – C‬أو يف هذا الصدد‪ ،‬ما إذا كان التسلسل بعد‬
‫الثورة ‪ A1‬أو ‪.C1‬‬
‫إذا سلطت ثورة الضوء عىل كل من املظامل الحقيقية والزائفة ضد الحكومة املطاح‬
‫بها‪ ،‬وإذا تعذر غال ًبا التمييز بني النوعني عمل ًيا‪ ،‬فسيقدم الخطاب العلني للمؤرخني أسبابًا‬
‫وفرية تعلل اضطرار املجتمع إىل اإلطاحة بنظامه القديم‪ .‬لهذه األسباب‪ ،‬سيتمكن أي كاتب‬
‫تقري ًبا من وضع تفسري لالنفجار املرصود‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن تزوير التفضيل سبب رئييس وراء‬

‫‪308‬‬
‫صبغ روايات الثورة‪ ،‬سواء كانت صحفية أو علمية‪ ،‬بصبغة الحتمية‪ ،‬مع أنها بدت مستحيلة‬
‫لحني اندالعها‪ .‬يسهم تزوير التفضيل‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬يف جعل إدراكنا املتأخر أفضل من‬
‫بصريتنا‪.‬‬

‫التحيزات املعرفية وتفسري الثورات‬


‫من جهة الفاعلني الثوريني‪ ،‬يتأثر تزوير التفضيل بالقيود املعرفية التي تقيد مفّسي‬
‫الثورات‪ .‬إن عقل الباحث‪ ،‬مثل عقل أي شخص آخر‪ ،‬محدود للغاية يف قدرته عىل التعامل‬
‫مع املعلومات‪ .‬وعليه‪ ،‬يُجرب عىل استخدام االستدالل التحكيمي يف محاولته التفسري‬
‫والتقدير واالستنتاج‪ .‬يُذكر هنا نهجان استدالليان ُعرضا يف الفصول السابقة ويرتبطان‬
‫‪11‬‬
‫بصورة خاصة يف هذا السياق‪ :‬إرشادية التوفر واإلرشادية التمثيلية‪.‬‬
‫إلرشادية التوفر دور يف هذا السياق‪ ،‬فبعد حدوث ثورة‪ ،‬تكتسب املعلومات املتفقة‬
‫معها أهمي ًة متزايدة‪ ،‬بينام تفقد املعلومات غري املتفقة معها أهميتها‪ .‬تعتمد املعلومات التي‬
‫يستوعبها املراقبون‪ ،‬بالطبع‪ ،‬عىل النامذج التي يعرفوها مسبقًا‪ .‬إن املؤرخني الداعمني‬
‫لنظريات ثورية مختلفة عىل استعداد ملالحظة مجموعات بيانات مستقلة مهمة ووضعها‬
‫يف االعتبار‪.‬‬
‫يستنتج املؤرخون املاركسيون‪ ،‬الذين الحظوا إرضابات عديدة يف العقود التي سبقت‬
‫الثورة الروسية عام ‪ ،1917‬أن الثورة الربوليتارية كانت يف طور التشكل‪ 12.‬مييلون إىل‬
‫قليال من اإلرضابات مقارن ًة بالعقد الذي‬
‫إغفال أن العقد السابق للثورة مل يشهد إال عد ًدا ً‬
‫يسبقه‪ ،‬أو أن الحرب ولّدت موج ًة من املشاعر املؤيدة للقيرص‪ ،‬أو أن أجزا ًء كبري ًة من الجامهري‬
‫كانت غري مبالية‪ 13.‬لتوضيح الصورة أكرث‪ ،‬فكر يف تفسري الحرمان النسبي للثورة اإليرانية‪،‬‬
‫وهو أن االنتفاضة أشعلتها خيبات األمل الناجمة عن الهبوط يف إيرادات النفط اإليرانية بعد‬
‫عام ‪ 14 .1975‬يفشل أولئك الذين يفضلون هذا التفسري يف تقدير أن إيران طوال فرتة عهد‬
‫الشاه الطويلة مل تخلو من مجموعات أحست بالحرمان نسب ًيا‪ .‬كام أن هؤالء املراقبني ال‬

‫‪309‬‬
‫يولون أهمي ًة لغياب أي ثورات يف تركيا الفقرية نفط ًيا والربازيل والهند‪ ،‬من بني بلدان أخرى‬
‫عانت مجموعات فيها صدمات نفطية شديدة يف سبعينيات القرن املايض‪.‬‬
‫إن إرشادية التوفر تجعل املؤرخني يبالغون يف املعرفة املسبقة بالفاعلني الثوريني‪.‬‬
‫هل ميكن للتدريب املناسب التغلب عىل هذا التحيز يف التفسري التاريخي؟ يف التجارب‬
‫املضبوطة‪ ،‬متكن املد َّربون من تقليل التحيز‪ ،‬دون القضاء عليه كل ًيا‪ .‬مثل نظرائهم غري‬
‫املد َّربني‪ ،‬يستمرون يف املبالغة يف تقدير ما يعرفونه‪ ،‬وأيضً ا يف تقدير ما أمكن أن يعرفه‬
‫اآلخرون‪ .‬يظهرون الوهم املعروف يف علم النفس املعريف باسم مغالطة ‪I-Knew-it-‬‬
‫‪ would-happen‬أو مغالطة «علمت أن هذا سيحدث»‪ ،‬ويستمرون يف تصوير األحداث غري‬
‫املتوقعة عىل أنها حتمية‪ ،‬وممكنة التوقع‪ ،‬ومتوقعة فعل ًيا‪ 15.‬والنتيجة املرتتبة هنا هي أن فهم‬
‫يحصن لوحده املؤرخني ضد املبالغة يف تقدير بصرية الفاعلني‬
‫ّ‬ ‫آليات عمل العقل البرشي لن‬
‫الثوريني‪ .‬للتغلب عىل التحيز‪ ،‬مثة حاجة أيضً ا إىل الوعي مبنطق تزوير التفضيل‪ .‬من املهم‬
‫أن نفهم أن تزوير التفضيل يخلق مظامل وهمية ويخفي تلك الحقيقية‪ ،‬ويعيق التنبؤ‪ ،‬وأخريا ً‪،‬‬
‫يويل أهمية كبرية ألحداث غري مهمة يف جوهرها‪.‬‬
‫لسوء الحظ‪ ،‬ميكن إحباط الجهود املبذولة للتغلب عىل التشوهات املتجذرة يف‬
‫إرشادية التوفر عىل يد اإلرشادية التمثيلية‪ ،‬ألن األخرية تتعارض مع فكرة تسبب األحداث‬
‫الصغرية بنتائج كبرية‪ .‬توجه اإلرشادية التمثيلية انتباه املؤرخني نحو قوى عظيمة مثل‬
‫خيبات األمل الهائلة والتحوالت املصريية يف البنى االقتصادية‪ .‬ومينعهم من تقدير كيف‬
‫لقوى صغرية‪ ،‬مثل أحكام حاكم سيئة أو سلسلة من الظروف العرضية‪ ،‬أن تفّس انفجار‬
‫الوضع يف بلد ما‪ ،‬يف حني بقي آخر مستق ًرا‪ .‬من خالل مبدأ التمثيلية‪ ،‬ال ميثل حدث صغري‬
‫نتيجة كربى‪ ،‬وعليه ال ينبغي أن يرتبط االثنان ارتباطًا سبب ًيا‪ .‬وفقًا لذلك‪ ،‬إذا اختربت إيران‬
‫ثورة بينام بقيت تركيا مستقرة‪ ،‬فال بد أن السبب قوة عظمى ما أثرت يف األول وغابت يف‬
‫الثاين‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫من بني دروس هذا الفصل‪ ،‬نالحظ أننا يف تفسري التغيري االجتامعي نحتاج إىل‬
‫توخي الحذر من التحيزات الناجمة عن إرشاديتي التوفر والتمثيلية‪ .‬نحتاج إىل إدراك أن‬
‫تحوالت الرأي العلني تولد معلومات مل تكن متوفرة مسبقًا‪ ،‬وأنه حيثام تكون القرارات‬
‫الفردية مرتابطة‪ ،‬قد تأيت األحداث الصغرية بعواقب وخيمة‪ .‬إذا كانت إحدى الطرائق لنتجنب‬
‫التضليل باستداللنا العقيل هي إدراكنا الظروف التي ينتج االستدالل ضمنها األخطاء‪ ،‬فإن‬
‫طريقة أخرى هي أن نكون عىل دراية باألحداث التي تحدت منطقه‪ .‬سيقدم الفصل التايل‬
‫أمثلة عىل مثل هذه األحداث‪ .‬عىل وجه التحديد‪ ،‬سيظهر أن بعض الثورات العظيمة يف‬
‫التاريخ الحديث‪ ،‬ألسباب متجذرة يف تزوير التفضيل‪ ،‬قد حريت األشخاص الذين استندوا‬
‫يف تنبؤاتهم أو تفسرياتهم إىل إرشاديتي التوفر والتمثيلية‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫الفصل السادس عرش‬
‫سقوط الشيوعية واالنقالبات املفاجئة األخرى‬

‫«إننا مذهولون إىل أبعد حد» هذا ما رصحت به إذاعة أوروبا الحرة ذات يوم يف أواخر عام‬
‫‪ .1989‬كان هذا تعليقًا عىل انهيار األنظمة الشيوعية يف أوروبا الرشقية‪ 1.‬سقطت األنظمة‬
‫الشيوعية الراسخة يف بلد تلو اآلخر يف غضون أسابيع‪ ،‬وبدأ املنشقون املضطهدون بتويل‬
‫املناصب العليا‪ .‬أذهل هذا الحدث حتى أكرث املراقبني حنك ًة يف املنطقة‪.‬‬
‫شملت قامئة املذهولني أولئك املنارصون للرأي القائل بأن الشمولية الشيوعية أفضل‬
‫استقرا ًرا بكثري من االستبدادية العادية‪« 2.‬يجب االعرتاف بأن أولئك الذين مييزون بني‬
‫النوعني غري الدميقراطيني من الحكومات قد استهانوا بانحالل الدول الشيوعية وتوقعوا أن‬
‫يستغرق انهيار الشمولية وقتًا أطول مام توضح لنا يف الواقع»‪ ،‬هذا ما كتبه أحد منارصي‬
‫وجهة النظر هذه يف عام ‪ 3.1990‬يف حني اعرتفت منارصة أخرى بدهشتها من خالل عنوان‬
‫‪4‬‬
‫كتابها الجديد‪ :‬تاليش الدولة الشمولية ‪ . . .‬ومفاجآت أخرى‪.‬‬
‫وكان من بني املذهولني أيضً ا أولئك الخرباء الذين رفضوا مفهوم املنطقة الجامدة‪.‬‬
‫دعت األكادميية األمريكية للفنون والعلوم يف عام ‪ 1987‬عرشات من هؤالء املتخصصني‬
‫بهدف إعداد مقاالت تفسريية حول التطورات يف أوروبا الرشقية‪ .‬انطلقت االحتجاجات‬
‫مبجرد طباعة أحد أعداد دورية دايدالوس الذي ضم هذه املقاالت‪ ،‬إذ طالبت االحتجاجات‬
‫املؤلفني بتغيري «جمل وفقرات كاملة يف ما كان يعتقد سابقًا أنه مقاالت مكتملة»‪ 5.‬كتب‬
‫ستيفن غراوبارد محرر دورية دايدالوس يف مقدمته لهذا العدد أن هذه املقاالت تقدم ر ًؤى‬
‫ثاقب ًة حول التحركات التي تغري املنطقة‪ ،‬حتى قبل إضافة التعديالت األخرية عليها‪ ،‬إال أنه‬
‫‪6‬‬
‫أقر بأنه وكتاب مقاالته مل يتمكنوا من توقع ما سيحدث‪.‬‬
‫كان كل من رجال الدولة الحكامء والدبلوماسيني العقالء والصحفيني املوهوبني أيضً ا‬
‫من بني أولئك املذهولني‪ ،‬باإلضافة إىل علامء املستقبليات‪ .‬مل يتنبأ كتاب التوجهات الكاسحة‬
‫‪312‬‬
‫لجون نايسبيت‪ ،‬الذي بيع مثانية ماليني نسخة منه يف أوائل مثانينيات القرن العرشين‪،‬‬
‫بسقوط الشيوعية‪ 7.‬وكام الحظت مجلة إيكونوميست حتى قبل أن تأخذ ثورة أوروبا الرشقية‬
‫وهام متحفظون‬
‫مجراها‪ ،‬تبني أن عام ‪ 1989‬هو العلني الذي «أثبت فيه أن أكرث املتفائلني ً‬
‫‪8‬‬
‫للغاية» مرا ًرا وتكرا ًرا‪.‬‬
‫جادل بعض الباحثني منذ سقوط الشيوعية يف أوروبا الرشقية‪ ،‬بعد إدراكهم أنه فاجأ‬
‫العامل واعرتافهم بأنهم من بني املذهولني‪ ،‬أن توقع االنهيار ممكن لو كان منوذج الثورة‬
‫الصحيح موجو ًدا ومفهو ًما عىل نطاق واسع‪ 9.‬سأناقش يف الفصل الحايل‪ ،‬تحديًا لهذا‬
‫الرأي‪ ،‬العمليات املنهجية املتجذرة يف تزييف التفضيل التي منعتنا من توقع انتفاضات عام‬
‫أشخاصا ترتبط مصالحهم‬
‫ً‬ ‫‪ .1989‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬سأثبت أن صفوف املندهشني تضم‬
‫بسقوط الشيوعية‪ ،‬باإلضافة إىل أشخاص لديهم وصول استثنايئ إىل املعلومات‪ ،‬وحتى‬
‫فهام عميقًا للنظام الشيوعي‪ .‬كان الذهول عامليًا ألن العوامل التي تعترب‬
‫أشخاص ميتلكون ً‬
‫مثال‪ ،‬مل تبدو مهم ًة‬
‫اآلن مبثابة محفزات ثورية واضحة‪ ،‬كمبادرات غورباتشوف العديدة ً‬
‫للغاية يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫لهذا الفصل ثالث مهام إضافية أيضً ا‪ .‬سأحاول إثبات أن الرأي العلني قد اتبع النمط‬
‫الناسف الذي وصفته يف الفصل السابق خالل اإلطاحة بالشيوعية‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪،‬‬
‫سأحقق فيام إذا شهدنا ثورات سياسي ًة أخرى غري متوقعة‪ .‬وسأقدم يف النهاية ً‬
‫دليال عىل‬
‫أن الثورات تخلق حوافز جديد ًة تدفعنا إىل تزييف التفضيل‪ ،‬إذ تغري الثورات طبيعة هذه‬
‫الحوافز تحدي ًدا‪ ،‬مام يدفع بعض الناس إىل أن يكونوا أكرث صدقًا والبعض اآلخر ألن‬
‫يصبحوا أقل صدقًا‪.‬‬

‫نصف القارة املدهوشة‬


‫أقر فاتسالف هافيل يف «قوة الضعفاء» بأن شيوعية أوروبا الرشقية أبعد ما يكون عن‬
‫الحصانة‪ .‬كان من املمكن أن تسقط‪ ،‬بحسب ما كتب‪ ،‬من خالل «حركة اجتامعية» أو «انفجار‬

‫‪313‬‬
‫من االضطرابات املدنية» أو «رصاع حاد داخل سلطة متجانسة ظاهريًا»‪ 10.‬ولكنه بقي‬
‫متجن ًبا ألي تكهنات بخصوص توقيت هذا االنهيار‪ .‬كانت مقالته مليئة بالترصيحات حول‬
‫عدم القدرة عىل التنبؤ بالتغيري السيايس‪ ،‬ولكنه أنهاها مبالحظة تفاؤلية بعض اليشء‪:‬‬
‫«ماذا لو كان [«املستقبل األكرث إرشاقًا»] أمام أعيننا منذ فرتة طويلة‪ ،‬ومل مينعنا سوى جهلنا‬
‫‪11‬‬
‫وضعفنا من رؤيته حولنا ويف داخلنا ومن محاولتنا لتطويره؟»‪.‬‬
‫تبني بعد مرور مثاين سنوات أن هافيل نفسه «جاهل» باألحداث التي كانت تبرش‬
‫«مبستقبل أكرث إرشاقًا»‪ .‬علق هافيل يف عام ‪ 1986‬عىل ترحيب حشد من براغ‬
‫بغورباتشوف‪« :‬إنني أشعر بالحزن؛ أمتنا هذه ال تتعلم أب ًدا‪ .‬كم مرة وضعت كل ثقتها يف‬
‫قوة خارجية اعتقدت أنها ستحل مشاكلها؟ ‪ . . .‬وها نحن هنا مر ًة أخرى‪ ،‬نرتكب الخطأ ذاته‬
‫بالضبط‪ .‬يبدو أنهم يعتقدون أن غورباتشوف جاء لتحريرهم من هوسيك!»‪ 12.‬مل يكن هافيل‬
‫متأك ًدا مام ستؤول إليه األمور قبل أقل من عام يف سنة ‪« :1988‬رمبا ستصبح [حركة‬
‫الحريات املدنية] سم ًة أساسي ًة من سامت الحياة يف بلدنا رسي ًعا‪ ،‬وإن مل تكن محبوب ًة من‬
‫قبل النظام ‪ . . .‬ولرمبا ستبقى يف الوقت الحارض مجرد بذرة ستؤيت مثارها يف املستقبل‬
‫‪13‬‬
‫القاتم والبعيد‪ .‬ومن املمكن أيضً ا أن يقمع [األمر] برمته ‪.». . .‬‬
‫مل يكن املنشقون التشيكوسلوفاكيون اآلخرون مستعدين للثورة أيضً ا‪ .‬اقرتح جان‬
‫أوربان يف نوفمرب عام ‪ 1989‬أن تخوض املعارضة االنتخابات املقرر إجراؤها يف يونيو عام‬
‫‪ ،1991‬ولكن سخر منه أصدقاؤه واعتربوه حامل ًا طوباويًا‪ 14.‬ويف غضون بضعة أيام‪،‬‬
‫اختفت الحكومة التي ظن أصدقاء أوربان أنه ال مجال لتحديها‪.‬‬
‫جرت املفاوضات يف بولندا املجاورة قبل اندالع الثورة ببضعة أشهر بني النظام‬
‫الشيوعي ونقابة تضامن التي طالبت بالتعددية السياسية‪ .‬وافق النظام يف أبريل عام ‪1989‬‬
‫وسط ذهول عاملي نسبي عىل إجراء انتخابات لربملان تعددي‪ .‬قرر السامح لغري الشيوعيني‬
‫يف االنتخابات املقرر إجراؤها يف يونيو بالتنافس عىل جميع مقاعد مجلس الشيوخ البالغ‬
‫عددها ‪ 100‬مقعد باإلضافة إىل ‪ 161‬مقعد من بني ‪ 460‬مقعد يف املجلس‪ .‬فازت نقابة‬

‫‪314‬‬
‫تضامن وتجاوزت حد التوقعات بحصولها عىل ‪ 260‬مقعد من أصل ‪ 261‬مقعد سمح لها‬
‫بالتنافس عليه‪ .‬دهش املسؤولون يف نقابة تضامن بضخامة هذا االنتصار ولكنهم تخوفوا‬
‫من أن آمال الناخبني املتزايدة ستجربهم عىل اتخاذ خطوات جريئة من شأنها أن تثري رد‬
‫فعل سوفيتي أو أن تدفع القيادة البولندية إىل استخدام العنف‪ .‬ولكن األمر األكرث أهمي ًة هو‬
‫أن الحكومة ونقابة تضامن مل تكونا مستعدتني ملثل هذه النتيجة غري املتوازنة‪ .‬كان الهدف‬
‫من اتفاقية أبريل هو إعطاء نقابة تضامن صوتًا يف الربملان‪ ،‬وليس إثبات ادعائها بأنها‬
‫‪15‬‬
‫صوت الشعب الهولندي‪.‬‬
‫وصفت التقارير اإلعالمية‪ ،‬ابتدا ًء من اتفاقية أبريل يف بولندا وحتى االنتفاضة‬
‫األخرية املناهضة للشيوعية يف رومانيا يف شهر ديسمرب‪ ،‬نصف القارة دامئًا عىل أنها يف‬
‫حالة من الذهول‪ .‬بدأت مؤسسة ألينسباخ يف عملية تحقيق ممنهجة يف ما كان متوق ًعا بعد‬
‫مرور أربعة أشهر عىل اخرتاق جدار برلني‪ .‬سألت املؤسسة عين ًة واسع ًة من األملان الرشقيني‪:‬‬
‫«أكنتم تتوقعون مثل هذه الثورة السلمية قبل عام من اآلن؟»‪ .‬مل يجب سوى ‪ 5‬يف املائة منهم‬
‫باإليجاب‪ ،‬ولكن أجاب ‪ 18‬يف املائة منهم قائلني‪« :‬نعم ولكن ليس بهذه الّسعة»‪ ،‬يف حني‬
‫أوضح ‪ 76‬يف املائة منهم أنهم فوجئوا متا ًما‪ 16.‬تكتسب هذه األرقام أهمي ًة أكرب حني يفكر‬
‫املرء يف ميل اإلنسان إىل املبالغة يف معرفته املسبقة‪ .‬وإذا أخذنا هذا امليل يف عني االعتبار‪،‬‬
‫سنجد أن النسبة املئوية للردود السلبية الجازمة إن سئل األملان الرشقيون قبل عام من اندالع‬
‫‪17‬‬
‫الثورة‪« :‬هل تتوقعون حدوث ثورة يف غضون عام من اآلن؟» أعىل من ذلك بال شك‪.‬‬
‫مهام يف املبادرة بتنظيم املظاهرات التي هدفت إىل إسقاط‬
‫لعب أعضاء الكنيسة دو ًرا ً‬
‫النظام يف أملانيا الرشقية‪ .‬وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬مل تكن الردود السلبية يف استطالع عام‬
‫‪ 1990‬مرتبط ًة بدور الكنيسة من الناحية اإلحصائية‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬مل تكن احتاملية أن‬
‫يصاب مرتادو الكنيسة بالدهشة أقل مقارن ًة بغري املرتادين‪ .‬من الواضح أنه حتى أكرث األملان‬
‫الرشقيني رصاح ًة مل تكن بصريتهم أفضل وسط ًيا مقارن ًة بأقل املواطنني رصاحةً‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫بدأت األحداث التي حسمت مصري الشيوعية يف أملانيا الرشقية يف أواخر الصيف‪ ،‬إذ‬
‫استغل آالف املصطافني األملانيني الرشقيني يف هنغاريا الرقابة الحدودية الخفيفة لتحويل‬
‫رحالتهم إىل مغادرة دامئة إىل أملانيا الغربية‪ .‬وافقت حكومة أملانيا الرشقية يف األيام التالية‬
‫عىل سلسلة من الرتتيبات ليك تحفظ ماء وجهها والتي يسمح مبوجبها للمصطافني‬
‫باملغادرة إىل الغرب‪ ،‬ولكن برشط عودتهم إىل ديارهم أوالً ‪ .‬أدى كل تنازل جديد إىل ظهور‬
‫موجات أخرى من املهاجرين‪ ،‬مام أسفر عن تبديد توقعات الحكومة بأن الهجرة الجامعية‬
‫طويال‪ 18.‬مل تكن الحكومة وحدها من فشل يف توقع مجريات األحداث‪ .‬اندفع‬
‫ً‬ ‫لن تستمر‬
‫خصوصا بعد أن‬
‫ً‬ ‫اآلالف من مواطني أملانيا الرشقية لالنضامم إىل موجة الهجرة الجامعية‪،‬‬
‫اعتقدوا أن فرصهم يف الوصول إىل الغرب جيد ًة للغاية‪ .‬ولكن لو علموا أن جدار برلني عىل‬
‫وشك السقوط ملا غادر كثري منهم عىل عجلة من أمرهم وتركوا وراءهم كل ممتلكاتهم تقريبًا‪.‬‬
‫ميكن القول إن بعض املراقبني املتطلعني للكتلة الشيوعية توقعوا تفككها قبل حلول‬
‫مثال يف‬
‫نهاية القرن‪ .‬كتب املنشق السوفييتي أندريه أمالريك يف وقت مبكر من عام ‪ً 1969‬‬
‫نرشة بعنوان هل سيبقى االتحاد السوفيتي حتى عام ‪1984‬؟ أن اإلمرباطورية الروسية‬
‫ستتفكك يف غضون عقد ونصف‪ .‬عىل الرغم من أننا قد نرغب يف وصف أمالريك بأنه ميتلك‬
‫بعد نظر مثايل‪ ،‬تظهر إعادة قراءة مقالته الشهرية أنه توقع أن تنتهي اإلمرباطورية‬
‫السوفيتية بعد حرب مدمرة مع الصني‪ ،‬وليس من خالل سلسلة من االضطرابات الشعبية‪.‬‬
‫ويف واقع األمر‪ ،‬ذكر أمالريك أن نظام الحكم السوفيتي ترك الناس يف حالة من اإلحباط‬
‫الشديد واالعتامد الكيل عىل السلطة لدرجة أنهم لن يتمكنوا حتى من البدء بانتفاضة‬
‫عفوية‪ 19.‬ولهذا السبب مل يتنبأ أمالريك حقًا بأحداث عام ‪ .1989‬األمر أشبه بساعة معطلة‬
‫تخربنا بالوقت الصحيح كل اثنتي عرش ساعة‪ ،‬إذ متكن أمالريك من معرفة توقيت حدوث‬
‫الرشخ األول يف اإلمرباطورية بشكل صحيح‪ ،‬ولكنه اعتمد عىل توقعات زائفة لألحداث‪.‬‬
‫وبالعودة إىل نقطة طرحتها يف السابق‪ ،‬أنا ال أقول إن انفجار أوروبا الرشقية جاء‬
‫مباغت ًة بالنسبة للجميع‪ .‬تنبأ عدد قليل من املعلقني‪ ،‬مبن يف ذلك هافيل‪ ،‬بأن الثورة ستكون‬

‫‪316‬‬
‫رسيع ًة وغري دموية أب ًدا حني يأيت موعدها‪ .‬ومن الكتاب اآلخرين الذين شعروا بإمكانية‬
‫التغيري كان فالدميري تيسامنيانو‪ ،‬األستاذ الروماين املقيم يف الواليات املتحدة‪ .‬وصف‬
‫تيسامنيانو النظام الروماين قبل عام من انهياره بأنه «رمبا سيكون األكرث ضعفًا» يف‬
‫أوروبا الرشقية‪ .‬تنبأ تيسامنيانو أيضً ا بحدوث «استياء شامل» والحظ أن أعامل الشغف يف‬
‫براشوف عام ‪ ،1987‬حني خرج آالف املواطنني إىل الشوارع‪ ،‬إشارة عىل «احتاملية تفيش‬
‫عنف ال ميكن السيطرة عليه يف رومانيا»‪ 20.‬مل ينظر تيسامنيانو إىل االنتفاضة الرومانية‬
‫فضال عن أنه مل يتوقع أن تكون رومانيا آخر تابع سوفيتي‬
‫ً‬ ‫يف سياق االضطرابات اإلقليمية‪،‬‬
‫يسقط حكومته‪ .‬إال أنه من امللفت للنظر أنه شخص مدى ضعف النظام الروماين‪ .‬نجح‬
‫تيسامنيانو كام هافيل يف ما فشل معظم املراقبني اآلخرين يف فعله‪ ،‬ألنه فهم نقاط الضعف‬
‫الخفية للشيوعية‪.‬‬
‫يبدو انهيار النظام السيايس يف أوروبا الرشقية بعد الحرب العاملية الثانية نتيج ًة‬
‫حتمي ًة للعديد من العوامل عىل الرغم من أنه أذهل العامل‪ .‬كانت القيادة يف كل من الدول‬
‫الست مكروه ًة بشكل عام‪ ،‬وظلت الوعود االقتصادية السامية دون تحقيق‪ ،‬أما الحريات‬
‫ربا عىل ورق‪ .‬ولكن إذا كانت الثورة حتمي ًة بالفعل‪ ،‬ملاذا‬
‫املسلم بها يف أماكن أخرى فبقيت ح ً‬
‫مل يتنبأ بها أحد؟ مل أغفل العديد من الناس عن العالمات التي أصبحت اآلن واضح ًة للعيان‬
‫بعد الواقعة؟‬

‫برييسرتويكا وغالسنوست واحتدام السخط الجامهريي‬


‫هتف األوروبيون الرشقيون لعقود من الزمن للقادة الذين احتقروهم والتزموا الصمت يف‬
‫وجه الطغيان‪ .‬ومن الجدير بالذكر أيضً ا أنهم انقلبوا عىل املواطنني الذين تجرأوا عىل التعبري‬
‫عن مخاوفهم بشأن الوضع السيايس الراهن من أجل إثبات والئهم للحكم الشيوعي‪ .‬مل يكن‬
‫عدد كبري من األوروبيني الرشقيني راضيني عن حياتهم‪ ،‬ومع ذلك ظل معظمهم مرتبطًا‬
‫باملبادئ االشرتاكية‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫يرتتب عىل هذه الحجج املذكورة يف الفصول السابقة تأثريان مبارشان‪ .‬أوالً ‪ ،‬كانت‬
‫أنظمة أوروبا الرشقية أكرث ضعفًا بكثري مام بدت عليه بسبب تبعية وسكوت شعوبها‪ .‬كان‬
‫املاليني من الناس يف تلك الفرتة مستعدين للوقوف والتحدي لو شعروا أنهم قادرون عىل‬
‫القيام بذلك بأمان‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬مل يكن دعم أولئك املتعاطفني بصدق مع الوضع الراهن قويًا مبا‬
‫يكفي‪ .‬عىل الرغم من أن إفقار الخطاب العلني منعهم من رؤية بديل لالشرتاكية‪ ،‬دفعتهم‬
‫مظاملهم العديدة إىل الوعد بإحداث تغيري جوهري‪ .‬لو طرأ تحول ما عىل الخطاب العلني‪،‬‬
‫فلكان من املحتمل أن يفيقوا عىل احتاملية تحسني حياتهم‪.‬‬
‫لكن ما الذي ميكن أن يحفز عملية التعبئة الثورية؟ جاءت الدفعة بعد فوات األوان‬
‫من االتحاد السوفيتي‪ .‬دفعت املشاكل االقتصادية املتفاقمة يف مثانينات القرن العرشين‪،‬‬
‫والتي كانت تنكر رسميًا إىل ذلك الحني‪ ،‬القيادة السوفيتية العليا إىل الدعوة إىل‬
‫برييسرتويكا (إعادة الهيكلة) وغالسنوست (االنفتاح العام)‪ .‬خرجت جميع املظامل املكبوتة‬
‫إىل العلن‪ ،‬مبا يف ذلك االستياء من الحكم الشيوعي نفسه‪ .‬تخىل االتحاد السوفيتي عن‬
‫‪21‬‬
‫سياسة املواجهة مع الغرب تزامنًا مع تسلم غورباتشوف مقاليد الحكم يف عام ‪.1985‬‬
‫عززت هذه التغيريات يف أوروبا الرشقية اآلمال يف تحقيق قدر أكرب من االستقالل وحدوث‬
‫إصالح اجتامعي هادف‪ ،‬باإلضافة إىل أنها ولدت أفكا ًرا جديد ًة عديدةً‪.‬‬
‫تظهر استطالعات أملانيا الرشقية التي ناقشناها يف الفصل الثالث عرش أن عالقة‬
‫أملانيا الرشقية باالشرتاكية تدهورت باطراد منذ عام ‪ .1985‬مل يوافق سوى ‪ 15‬يف املائة من‬
‫طالب املدارس التجارية الذين شملهم االستطالع عىل عبارة «أنا مواطن مخلص لجمهورية‬
‫أملانيا الدميقراطية» بحلول أكتوبر عام ‪ ،1989‬مقارن ًة بنسبة ‪ 46‬يف املائة يف عام ‪.1983‬‬
‫أبدى ‪ 60‬يف املائة منهم تأييدهم للعبارة مع بعض التحفظات‪ ،‬يف حني رفضها ‪ 25‬يف املائة‬
‫منهم متا ًما‪ .‬مل يحافظ سوى ‪ 3‬يف املائة منهم يف الشهر نفسه عىل اعتقادهم بأن‬
‫«االشرتاكية ستنترص يف جميع أنحاء العامل» مقارن ًة بنسبة ‪ 50‬يف املائة يف عام ‪،1984‬‬
‫يف حني أيد ‪ 27‬يف املائة منهم هذا االعتقاد مع بعض التحفظات ورفضه ‪ 70‬يف املائة منهم‬

‫‪318‬‬
‫متا ًما‪ 22.‬إنه لتناقض الفت بني أرقام االستطالعات يف عام ‪ 1989‬ويف عامي ‪ 1983‬و‪،1984‬‬
‫فهو يدل عىل الزيادة الكبرية يف االستياء خالل النصف الثاين من العقد‪.‬‬
‫تروي استطالعات معاهد بحوث الرأي العلني الرسمية يف هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا‬
‫قص ًة مامثلةً‪ .‬فاق عدد الهنغاريني الذين وصفوا االشرتاكية بأنها غري ناجحة عدد من‬
‫وصفوها بأنها ناجحة بنسبة ‪ 72‬نقطة مئوية بحلول عام ‪ 1987‬مقارن ًة بنسبة ‪ 18‬نقطة‬
‫مئوية قبل أربع سنوات من ذلك‪ .‬تحرك الفارق املقابل يف غضون ذلك يف االتجاه املعاكس‬
‫بالنسبة لالقتصاد الرأساميل‪ ،‬إذ تقلصت النسبة من ‪ 75‬إىل ‪ 21‬نقطة مئوية‪ 23.‬ولذلك فقد‬
‫عدد كبري من الهنغاريني إميانهم باالشرتاكية وتقبلوا تفوق الرأساملية يف منتصف‬
‫مثانينيات القرن العرشين‪ .‬انخفضت نسبة األشخاص الذين يعتقدون أن معايري املعيشة‬
‫االشرتاكية ستتفوق يف النهاية عىل معايري الغرب الرأساميل من ‪ 50‬يف املائة عام ‪1983‬‬
‫إىل ‪ 26‬يف املائة يف منتصف عام ‪ 1989‬يف تشيكوسلوفاكيا‪ 24.‬تتوافق اإلجابات عىل‬
‫األسئلة املحددة املختلفة مع النتائج املذكورة هنا يف كل من هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا‪ ،‬وهي‬
‫تكشف عن تزايد خيبة األمل يف االشرتاكية‪.‬‬

‫أكان ينبغي أن تكون الثورة متوقع ًة؟‬


‫هل كانت مبادرات غورباتشوف وما تالها من خيبة أمل جامهريية إشار ًة واضح ًة عىل الثورة‬
‫القادمة؟ قد نرغب يف الوصول إىل نتيجة كهذه ولكن علينا أن نتذكر أن االستطالعات‬
‫املذكورة مل تكن متاح ًة إال لكبار املسؤولني الشيوعيني‪ .‬وعلينا أن نتذكر أيضً ا رفض هافيل‬
‫الحتفاء الجامهري التشيكوسلوفاكية بغورباتشوف واعتباره عالم ًة عىل السذاجة‪ .‬مل يكن‬
‫هافيل املتشائم الوحيد أب ًدا‪ .‬كان من الواضح‪ ،‬بحسب إحدى الحجج الشائعة‪ ،‬أن غورباتشوف‬
‫لن يتمكن من تحرير أوروبا الرشقية حتى ولو أراد ذلك‪ .‬من الطبيعي أن يرص الجيش عىل‬
‫إبقاءه عىل الواجهة االسرتاتيجية لالتحاد السوفيتي ضد الهجوم الغريب‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫مل يكن هذا أيضً ا العائق الوحيد يف وجه التحرير‪ ،‬إذ من املمكن أن تكون املشاكل‬
‫االقتصادية والتوترات اإلثنية داخل االتحاد السوفيتي ذريع ًة النقالب محافظ‪ ،‬فهناك سابقة‬
‫خروتشوف الذي أطيح به يف عام ‪ .1964‬يف الوقت الذي كان هافيل فيه ينضح بالتشاؤم‪،‬‬
‫انترشت نكتة يف براغ‪« :‬ما الفرق بني غورباتشوف ودوبتشيك [الزعيم املخلوع يف ربيع‬
‫براغ عام ‪]1968‬؟ والجواب‪« :‬ال يشء سوى أن غورباتشوف ال يعرف ما سيحدث له»‪.‬‬
‫‪25‬‬

‫ومن الجدير باملالحظة هو انتشار شائعات عن حدوث انقالب وشيك يف موسكو يف خريف‬
‫عام ‪ 26.1989‬توقع بعض املراقبني نجاة غورباتشوف‪ ،‬ولكن برشط أن يعكس مساره ويزيد‬
‫من حدة استبداده‪ .‬مثة نكتة سوفيتية قدمية ترشح منط التفكري هذا‪ .‬يرتك ستالني لورثته‬
‫يف الحزب ظرفني‪ ،‬كتب عىل أحدهام «افتح هذا يف حال حدوث مشكلة»‪ .‬تطرأ مشكلة فيفتح‬
‫ورثته الظرف بحامس ويجدون فيه رسال ًة كتب فيها‪« :‬ألقوا باللوم عيل»‪ .‬أما الظرف اآلخر‬
‫فكتب عليه «افتح هذا يف حال حدوث مزيد من املشاكل»‪ .‬وحني تزداد املشاكل ويفتح ورثته‬
‫‪27‬‬
‫الظرف الثاين يجدون فيه رسال ًة كتب فيها‪« :‬افعلوا كام فعلت»‪.‬‬
‫دعام لتوقعاتهم بأن العنارص‬
‫أثار املتشامئون النزعة املحافظة لدى الشعب السوفيتي ً‬
‫املحافظة يف القيادة هي ما سيسود يف نهاية املطاف‪ ،‬واستنتجوا بعد مالحظتهم مليل‬
‫الجامهري إىل الشك يف نوايا غورباتشوف أنه ال يستطيع االعتامد عليهم يف حاميته ضد‬
‫منافس محافظ‪.‬‬
‫كانت بولندا تخترب حدود حريتها من موسكو يف الوقت الذي كان فيه غورباتشوف‬
‫يحاول إعادة هيكلة االتحاد السوفيتي‪ .‬أعطى النضال من أجل إضفاء الرشعية عىل نقابة‬
‫تضامن البالد ملح ًة عن التعددية‪ ،‬إذ خففت الرقابة الحكومية أيضً ا بشكل متقطع وعشوايئ‪.‬‬
‫أدرك الجميع أن هذه التطورات قد متت مبوافقة غورباتشوف‪ .‬وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬وضع‬
‫قلة من األشخاص املتطلعني ثق ًة كبري ًة يف قدرة غورباتشوف عىل استكامل تحرير أوروبا‬
‫الرشقية‪ ،‬حتى ولو كان واض ًحا أنه مل ينو املحاولة‪ .‬كتبت مجلة إيكونوميست يف منتصف‬
‫عام ‪ 1987‬أن «املنشقني يف جميع أنحاء أوروبا» بدوا «متشككني» عند حديثهم عن‬

‫‪320‬‬
‫مثال نظام أملانيا‬
‫غورباتشوف‪ 28.‬أثارت العديد من األدلة شكوكهم‪ ،‬إذ مل مينع غورباتشوف ً‬
‫الرشقية من تزوير نتائج االنتخابات املحلية التي أجريت يف ربيع عام ‪ ،1989‬ومل مينعهم‬
‫من دعم مذبحة ساحة تيانامنن الصينية يف ذلك الصيف‪ ،‬ومل يقف يف وجه استخدام القوة‬
‫‪29‬‬
‫لتفريق املظاهرات الصغرية التي اندلعت ملناهضة هذه الترصفات‪.‬‬
‫مل يكن واض ًحا قبل الثورة الفعلية إذًا ما إذا كان االتحاد السوفيتي سريحب أو حتى‬
‫يتسامح مع محاوالت اإلطاحة باألنظمة الشيوعية لحلفائه يف حلف وارسو‪ .‬ظهرت البيانات‬
‫واألحداث والتوجهات التي اعتربت يف وقت الحق عالم ًة عىل وقوع انقالب وشيك بالتزامن‬
‫مع العديد من عالمات الجمود السيايس‪ .‬أشارت بعض ترصفات غورباتشوف بالفعل إىل‬
‫رغبته يف إعادة العالقات بني االتحاد السوفيتي وأتباعه‪ ،‬ولكن كان هناك العديد من األسباب‬
‫التي تدفع إىل االعتقاد بانتهاء جهوده بالفشل‪.‬‬
‫اعتقد كثري من الناس بعد انتفاضات عام ‪ 1989‬أن غورباتشوف هو املسؤول عن‬
‫التخطيط لتحرير أوروبا الرشقية‪ .‬ولكن كان غورباتشوف يف واقع األمر بار ًعا يف التظاهر‬
‫رغام عنه‪ .‬أفادت العديد من التقارير يف خريف عام ‪1989‬‬
‫برغبته يف التطورات التي حدثت ً‬
‫بأن األحداث كانت أكرث تسار ًعا وتطرفًا مام أراد‪ 30.‬كان غورباتشوف مستع ًدا للسامح‬
‫بالتحركات نحو الدميقراطية بحسب ما ورد‪ ،‬برشط عدم إذالل الشيوعيني والحفاظ عىل‬
‫الروابط العسكرية ألوروبا الرشقية مع االتحاد السوفيتي‪ .‬خيش غورباتشوف‪ ،‬كام هو حال‬
‫زعامء العامل اآلخر‪ ،‬من زعزعة السالم األورويب الذي مل يتحقق إال بشق األنفس‪ ،‬وآمن بفكرة‬
‫تشجيع القادة التحريريني امللتزمني برؤيته املتمثلة باالشرتاكية القامئة عىل القانون واحرتام‬
‫الفرد‪ .‬مل يرغب غورباتشوف بأي حال من األحوال ومل يحاول حتى أن ينهي الحكم الشيوعي‬
‫يف أوروبا الرشقية‪ 31.‬ولكن تقبل غورباتشوف الواقع بعد استيالء شعوب أوروبا الرشقية‬
‫عىل السلطة السياسية ودفعها للشيوعيني جان ًبا وتحركها لرتك حلف وارسو‪ ،‬ثم أعطى‬
‫مباركته لألحداث التي نجمت عن قوى خارجة عن سيطرته‪ .‬هذا يذكرنا بالفارس الذي سقط‬
‫مبتسام وقال إنه «ترجل عنه»‪.‬‬
‫ً‬ ‫عن جواده ولكنه رشح املوقف‬

‫‪321‬‬
‫ولكن ماتزال هناك نقطة مهمة مفادها أن مبادرات غورباتشوف قد غذت التوقعات‬
‫بتحرير أوروبا الرشقية وخففت من حدة املخاطر املتصورة لتحدي الوضع الراهن‪ .‬عززت‬
‫أفعاله استعداد ماليني األوروبيني الرشقيني للمطالبة بالتغيري السيايس علنًا‪ .‬أما فيام يتعلق‬
‫بالحجة املذكورة يف الفصل الخامس عرش‪ ،‬فمبادراته خفضت العتبات الثورية الفردية‬
‫وسهلت إطالق العنان للعربة الثورية‪ .‬مل يتمكن أحد من التنبؤ بثورة يف طور التكوين‪ ،‬وال‬
‫حتى غورباتشوف نفسه‪ ،‬بسبب املراقبة الناقصة لهذه العتبات‪.‬‬

‫نقاط التحول‬
‫ما هي األحداث التي أطلقت العنان لهذه العربة متا ًما؟ إن محاولة اإلجابة عىل هذا السؤال‬
‫تشبه تحديد الرشارة التي أشعلت حريقًا يف الرباري أو السعلة املسؤولة عن وباء اإلنفلونزا‪.‬‬
‫تعددت نقاط التحول يف ثورة أوروبا الرشقية‪ ،‬وكان من املمكن أن يؤدي أي منها إىل‬
‫إخراجها عن مسارها‪.‬‬
‫كانت إحداها يف أوائل أكتوبر حني امتنعت قيادة أملانيا الرشقية عن قمع املتظاهرين‪.‬‬
‫ذهب غورباتشوف إىل برلني يف السابع من أكتوبر لالحتفال بالذكرى األربعني لتأسيس‬
‫جمهورية أملانيا الدميقراطية‪ .‬كان الصحفيون يراقبون الوضع بينام هتفت الجامهري‬
‫«غوريب! غوريب!»‪ ،‬ثم رشع رجال الرشطة املسلحون بهراواتهم يف إسكات ما كان واض ًحا‬
‫أنه دعوة لإلصالحات املحلية‪ .‬لفت هذا الحدث الذي شاهده العديد من األملان الرشقيني عىل‬
‫تلفزيون أملانيا الغربية نظر املواطنني الساخطني إىل وجود مجموعات مستعدة لالحتجاج‬
‫فضال عن أن االستجابة الضعيفة للحكومة قد كشفت يف الوقت ذاته عن هشاشتها‪.‬‬
‫ً‬ ‫عل ًنا‪،‬‬
‫دعت مجموعة املنتدى الجديد املعارضة التي أسسها الشيوعيون السابقون املحبطون قبل‬
‫أسابيع قليلة إىل مظاهرة سلمية يف اليبزغ يف ‪ 9‬أكتوبر‪ .‬انترشت قصص حول «حل ميدان‬
‫تيانامنني» الوشيك وإفراغ أرسة املستشفيات إلفساح املجال للوافدين الجدد املتوقعني من‬
‫اليبزغ‪ .‬مل تكن هذه القصص عاري ًة متا ًما عن الصحة‪ ،‬إذ ناقش املكتب السيايس استخدام‬

‫‪322‬‬
‫الرصاص الحي ضد املتظاهرين‪ .‬يبدو أن زعيم الحزب إريك هونيكر فضل شن حملة صارمة‬
‫ولكنه خّس التصويت بهامش ضئيل‪ .‬وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬شعر الناس أن النظام سريد‬
‫بوحشية‪ ،‬لدرجة أن العديد من املواطنني البارزين طالبوا بضبط النفس واالعتدال‪ 32.‬وحسب‬
‫ما يتذكره أحد املشاركني يف مظاهرة ‪ 9‬أكتوبر وأحد مؤسيس املنتدى الجديد‪« :‬متكنا يف‬
‫هذا الحدث من تجنب إراقة الدماء‪ .‬ولكن مل نعرف يف تلك الفرتة أننا سنتمكن من ذلك‪ .‬كان‬
‫هناك تهديد حقيقي وموضوعي باستخدام العنف»‪ 33.‬ويتذكر متظاهر آخر‪« :‬ما شعرنا به‬
‫يف ذلك اليوم كان فظي ًعا‪ .‬مل يكن أحد يعرف ما إذا كنا سننجو‪ .‬ولكننا بدأنا نعتقد بعد ذلك‬
‫اليوم أن املرء يستطيع أن يتظاهر سلم ًيا»‪.‬‬
‫‪34‬‬

‫تشري التقديرات إىل أن ‪ 70,000‬مواطن شارك يف مظاهرة ‪ 9‬أكتوبر‪ .‬شجعت سلمية‬


‫هذه املظاهرة املزيد من مواطني أملانيا الرشقية عىل املشاركة يف االحتجاجات‪ .‬اندلعت‬
‫مظاهرات حاشدة يف كل يوم اثنني يف اليبزغ وحدها‪ .‬ارتفع عدد املشاركني إىل نحو‬
‫‪ 450,000‬مشارك بحلول ‪ 6‬نوفمرب‪ ،‬االثنني السابق الخرتاق جدار برلني‪ 35.‬حاول النظام‬
‫يف تلك الفرتة وقف هذا املد من خالل تقدميه للتنازالت‪ ،‬ولكن ردت الحشود املتزايدة مبطالب‬
‫أكرث جرأةً‪ .‬مل تعد جمهورية أملانيا الدميقراطية موجودة فعليًا بعد سقوط جدار برلني‪ ،‬ثم‬
‫‪36‬‬
‫دمجت خالل أقل من عام يف الدولة األملانية املتحدة‪.‬‬
‫حدثت نقطة تحول أخرى يف ‪ 25‬أكتوبر‪ .‬شكل مسؤول يف نقابة تضامن قبل ذلك‬
‫بشهرين حكوم ًة غري شيوعية يف أعقاب الهزمية املدوية للحزب الشيوعي يف االنتخابات‪،‬‬
‫وهي تعترب األوىل من نوعها يف بولندا منذ أربعينيات القرن العرشين‪ .‬رفض أحد مساعدي‬
‫غورباتشوف التعليق متحج ًجا بأن ال عالقة لهم بأحداث بولندا‪ 37.‬بدأ الشيوعيون يف الرتاجع‬
‫يف هنغاريا أيضً ا‪ .‬وافق الحزب الشيوعي الهنغاري يف اجتامعات مع الجامعات املنشقة عىل‬
‫إجراء انتخابات برملانية حرة‪ ،‬ولكنه حول نفسه إىل الحزب االشرتايك الهنغاري بعد ذلك‪،‬‬
‫مبجرد أن شعر بأن مرشحيه لن يتمكنوا من الفوز تحت راية الشيوعية‪ 38.‬مل يسبق أن تخىل‬
‫الشيوعيون يف السلطة رسم ًيا عن الشيوعية من قبل‪ .‬وحني بدأ العامل يتساءل عام إذا وصل‬

‫‪323‬‬
‫االتحاد السوفيتي إىل أقىص حدود التسامح‪ ،‬أعلن غورباتشوف يف ‪ 25‬أكتوبر أن بالده ال‬
‫متتلك الحق يف التدخل يف شؤون جريانها يف أوروبا الرشقية‪ .‬عرف املتحدث باسمه هذا‬
‫حا بأنه «عقيدة سيناترا»‪ ،‬وسأل املراسلني عام إذا كانوا يعرفون أغنية فرانك‬
‫املوقف مامز ً‬
‫قائال‪« :‬هنغاريا وبولندا يفعلونها عىل‬
‫ً‬ ‫سيناترا «لقد فعلتها عىل طريقتي»‪ ،‬وأضاف‬
‫طريقتهام»‪ .‬وتابع مستخد ًما املصطلح الغريب لاللتزام السوفيتي السابق بإبقاء حكومات‬
‫حلف وارسو يف أيدي الشيوعية‪« :‬أعتقد أن عقيدة بريجنيف قد ماتت»‪ 39.‬ملحت هذه‬
‫التعليقات مر ًة أخرى يف أعقاب االنسحاب الشيوعي يف بولندا وهنغاريا إىل أن غورباتشوف‬
‫لن يحاول إسكات املعارضة يف أوروبا الرشقية‪.‬‬
‫إذا كان أحد تأثريات هذا التلميح هو تشجيع حركات املعارضة يف أوروبا الرشقية‪،‬‬
‫فال شك يف أن التأثري اآلخر متمثل يف ردع حكومات املنطقة عن اللجوء إىل العنف بصورة‬
‫انفرادية‪ .‬ولكن هذا ال يعني انحسار االنتفاضات يف حال غياب بيان غورباتشوف يف ‪25‬‬
‫أكتوبر‪ .‬حصلت حركات املعارضة يف بولندا وأملانيا الرشقية وهنغاريا عىل الدعم الجامهريي‬
‫قبل أن يتخىل غورباتشوف عن حق االتحاد السوفيتي يف التدخل‪ ،‬بل وكان يبدو أنه ما من‬
‫أمر قادر عىل كّس زخمها وإعادة الوضع إىل ما كان عليه سابقًا إال االستخدام الهائل‬
‫للوحشية‪ .‬وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬فكر بعض القادة الشيوعيني يف تلك الفرتة جديًا يف حل‬
‫عسكري‪ ،‬ولرمبا كان اإلعالن عن عقيدة سيناترا هو ما قلب ميزان القوى ضد استخدام القوة‪.‬‬
‫لو لجأت حتى حكومة واحدة إىل القوة يف تلك املرحلة‪ ،‬لكانت النتيجة سلسل ًة من الحروب‬
‫األهلية املطولة‪.‬‬
‫ال ميكننا الجزم بأن التأخري يف إعالن العقيدة السوفيتية الجديدة كان ليغري مجرى‬
‫التاريخ‪ ،‬وباملثل لن نعرف أب ًدا ما إذا كانت سياسة ضبط النفس التي طبقتها أملانيا الرشقية‬
‫يف ‪ 9‬أكتوبر لها تأثري كبري عىل األحداث الالحقة‪ .‬ما ميكننا قوله هو أن انتصار املتشددين‬
‫يف املكتب السيايس كان ليبطئ منو املعارضة وليغري طبيعة املظاهرات السلمية الحقًا‪.‬‬
‫وميكننا أن نعزو األهمية التاريخية ذاتها إىل ضبط النفس الذي أظهره الجنود أثناء املظاهرة‬

‫‪324‬‬
‫باإلضافة إىل املتظاهرين الفرديني‪ .‬كان من املمكن يف األجواء املتوترة يف املظاهرة إثارة‬
‫مواجهة عنيفة بسبب إطالق رصاصة يف حالة من الذعر أو إلقاء حجر يف حالة من الحامس‪.‬‬
‫أدى هذا االنسجام غري العادي للخيارات الفردية إىل اإلبقاء عىل سلمية االنتفاضة وردع‬
‫الثورة عن االنحراف عن مسارها‪.‬‬

‫تأثري الدومينو‬
‫حظيت األحداث بتغطية إعالمية هائلة‪ ،‬ولذلك ألهمت املظاهرات يف أحد البلدان مظاهرات‬
‫أخرى يف بلدان أخرى‪ .‬هزت أول مظاهرة مناهضة للحكومة منذ أربعة عقود صوفيا يف‬
‫أوائل نوفمرب‪ ،‬إذ سار عدة آالف من البلغاريني يف اتجاه الجمعية الوطنية‪ .‬انهارت قيادة‬
‫تودور جيفكوف التي استمرت يف الحكم خمسة وثالثني عا ًما يف غضون أسبوع ويف اليوم‬
‫نفسه الذي اخرتقت فيه الحشود جدار برلني‪ ،‬ليبدأ بعد ذلك خليفته بالتحدث عن إجراء‬
‫إصالحات جذرية‪.‬‬
‫مل تتنازل الحكومة الشيوعية يف تشيكوسلوفاكيا حتى ذلك الوقت عن يشء يذكر‬
‫لصالح املعارضة الشعبية‪ ،‬ومل تعد إال ببعض اإلصالحات االقتصادية ومل تقدم سوى تنازالت‬
‫قليلة يف مجايل السفر والدين عىل الرغم من إدراكها للتطورات الجارية يف أماكن أخرى‪.‬‬
‫دفعت هذه الرتاجعات الحشود املتنامية إىل طلب املزيد‪ .‬أعلن الحزب الشيوعي عن تغيري يف‬
‫القيادة يف ‪ 24‬نوفمرب‪ ،‬بعد إلقاء ألكسندر دوبيك خطابًا أمام حشد مؤلف من ‪350,000‬‬
‫شخص يف أول خطاب عام له منذ عام ‪ ،1968‬ولكن جاء الرد بتجمعات أكرب من الناس‬
‫يهتفون «عار!»‪ .‬حاولت الحكومة الجديدة تهدئة املتظاهرين من خالل تعهدها مبعاقبة قائد‬
‫القوات شبه العسكرية التي اعتدت عىل املتظاهرين قبل أسبوع‪ .‬مل يكن هذا كاف ًيا بالنسبة‬
‫لقادة املعارضة الذين وصفوا التغيريات املعلنة بأنها «شكلية» ووعدوا بزيادة الضغوطات‪.‬‬
‫دعت املعارضة إىل إرضاب عام يف ‪ 27‬نوفمرب‪ ،‬وأسفر نجاحه عن استسالم الحزب الشيوعي‬
‫‪40‬‬
‫خالل ساعات ملطالب املعارضة األساسية‪ ،‬مبا يف ذلك إنهاء احتكاره للسلطة السياسية‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫كتبت مجلة إيكونوميست بعد أيام قليلة‪« :‬مل تسقط قلعة بهذه السهولة إال حني اكتشفت‬
‫حشود باريس أن الباستيل اللعني ال يحتوي إال عىل حفنة من السجناء وبعض الجنود‬
‫‪41‬‬
‫املذعورين‪ .‬مل يكن األمر صعب التحقيق»‪.‬‬
‫وبذلك نعود مجد ًدا إىل مقال هافيل لعام ‪ ،1979‬الذي توقع فيه أن الشيوعية ستنهار‬
‫فعال ما حصل‪.‬‬
‫مثل بيت من ورق مبجرد أن يقرر البقالون أنهم سئموا مام يحدث‪ .‬وهذا ً‬
‫تالىش الدعم الذي تتمتع به الحكومة التشيكوسلوفاكية مبجرد أن نزلت الجامهري إىل‬
‫الشوارع‪ .‬اتبعت الحشود مسار أملانيا الرشقية وبلغاريا يف التعبئة‪ .‬انضمت حشود من آالف‬
‫الناس املعارضني إىل النواة الصغرية املؤلفة من النشطاء الذين تعرضوا لالضطهاد لفرتة‬
‫طويلة‪ ،‬وشجعهم عىل ذلك اإلشارات الصادرة عن االتحاد السوفيتي ونجاحات حركات‬
‫املعارضة يف أماكن أخرى‪ .‬وبذلك تشجع املزيد من املواطنني عىل إسقاط أقنعتهم واندفع‬
‫طويال قبل أن يبدل الخوف والءه‪ .‬ويف املكان‬
‫ً‬ ‫املزيد من املتفرجني إىل املشاركة‪ .‬مل مير وقتًا‬
‫الذي لطاملا خاف فيه الناس من معارضة النظام‪ ،‬أصبحوا يخشون فيه الدفاع عنه علنًا‪ .‬هرع‬
‫أعضاء الحزب إىل حرق أوراقه مؤكدين أنهم لطاملا كانوا إصالحيني يف صميمهم‪ ،‬وسارع‬
‫كبار املسؤولني الذين شعروا بأنهم قد يضطرون لدفع مثن مقاومة التغيري واستخدام العنف‬
‫إىل قبول مطالب املعارضة‪ ،‬ولكنهم واجهوا مطالب أكرث جرأ ًة يف املقابل‪.‬‬
‫لو أظهرت القيادة الشيوعية مقاوم ًة أكرب ملا كان انتقال السلطة رسي ًعا‪ ،‬وملا كان‬
‫سلم ًيا بكل تأكيد‪ .‬ولعل أكرث الجوانب الالفتة للنظر يف ثورة أوروبا الرشقية هو تاليش‬
‫املؤسسة الشيوعية بسهولة يف مواجهة املعارضة الشعبية املتزايدة‪ ،‬باستثناء رومانيا جزئ ًيا‪.‬‬
‫ويف واقع األمر‪ ،‬تحول العديد من مسؤويل الدولة إىل املعارضة تزام ًنا مع زيادة احتاملية‬
‫انتقال السلطة‪ .‬إنه أمر يف غاية األهمية‪ ،‬فاالنشقاق عن املؤسسة الداخلية مؤرش قوي للتيار‬
‫السيايس السائد‪ ،‬إذ يكشف العضو يف املكتب السيايس الذي ينأى بنفسه عن زعيم الحزب‬
‫عن ضعف النظام أكرث من البقال الذي يتوقف عن تعليقه لشعار ماركيس‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫لقد قسنا يف منوذج الفصل السابق القوة املتصورة للمعارضة الشعبية من خالل‬
‫نسبة املجتمع املعارضة علنًا (‪ .)Y‬يعامل هذا املتغري جميع األفراد عىل قدم املساواة‪ ،‬ففي‬
‫كال منهم ‪ 10‬يف املائة‪ .‬ولكن يف واقع األمر‪ ،‬وكام جادلت‬
‫حال وجود عرشة أفراد سيشكل ً‬
‫للتو‪ ،‬يختلف الناس يف مساهامتهم يف القوة املتصورة للمعارضة‪ .‬ولهذا السبب سيكون‬
‫مقياسا غري متكافئ القوى للمعارضة الشعبية‪ ،‬بحيث‬
‫ً‬ ‫املعيار األكرث واقعي ًة للقوة املتصورة‬
‫يرتبط الوزن مبستويات التأثري النسبي‪ .‬مينح مقياس كهذا العضو يف املكتب السيايس وزنًا‬
‫أكرب مقارن ًة بالبقال‪ ،‬والبقال وزنًا أكرب مقارن ًة بسجني مجهول الهوية يف الحبس االنفرادي‪.‬‬
‫لن تتأثر الحجة املركزية يف حال إدخال هذا التنقيح إىل النموذج‪ .‬وستظل احتاملية وجود‬
‫‪42‬‬
‫عربة كامنة موجود ًة ألن التفضيالت العلنية ستحافظ عىل ترابطها‪.‬‬
‫من املمكن أن يكون بعض املسؤولني الذين نؤوا بأنفسهم عن الحكومة يف أواخر عام‬
‫‪ 1989‬قد كرهوا الشيوعية يف الصميم‪ .‬ومثة العديد اآلخرين الذين ترصفوا ألسباب انتهازية‬
‫وليس عن قناعة بال شك‪ ،‬ثم تخلوا عن الشيوعية بعد استشعارهم االنهيار الوشيك للنظام‬
‫القديم عىل أمل الحصول عىل مكان لهم يف النظام الذي كانت والدته قريبةً‪ .‬اختار عدد‬
‫قليل من املسؤولني املقاومة‪ ،‬ولكن مل يكن لديهم الوقت الكايف لتنسيق ردود أفعالهم بسبب‬
‫رسعة التعبئة ملناهضة الشيوعية‪ .‬لو مل تكن التعبئة رسيع ًة إىل هذا الحد‪ ،‬لتمكنوا لرمبا من‬
‫‪43‬‬
‫تكوين استجابة فعالة وذات مصداقية‪.‬‬
‫كتب عىل الفتة يف براغ يف األيام التي أعقبت سقوط الشيوعية التشيكوسلوفاكية‪:‬‬
‫«بولندا – ‪ 10‬سنوات‪ ،‬هنغاريا – ‪ 10‬أشهر‪ ،‬أملانيا الرشقية – ‪ 10‬أسابيع‪ ،‬تشيكوسلوفاكيا‬
‫– ‪ 10‬أيام»‪ 44.‬يعود السبب يف التسارع الضمني إىل حقيقة أن كل تحد ناجح للشيوعية قد‬
‫قلل من خطر االنشقاق يف البلدان التي كانت ماتزال تحت الحكم الشيوعي‪ .‬ولد هذا الرتاخي‬
‫تأثري الدومينو‪ ،‬إذ حفزت عربة يف بلد معني عربات أرسع يف مكان آخر‪ .‬ساهمت ثالثة‬
‫عوامل مرتابطة يف اصطفاف أحجار الدومينو‪ .‬أوالً ‪ ،‬ساعدت نجاحات التعبئة املبكرة‬
‫مواطني البلدان الخاملة عىل إدراك ضعف أنظمتهم‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬أدت التعبئة الناجحة إىل زيادة‬

‫‪327‬‬
‫املنفعة املتعلقة بالسمعة التي ميكن توقعها بالنظر إىل االنضامم املبكر إىل صفوف‬
‫ريا‪ ،‬تسببت التعبئة يف تحرك التفضيالت الخفية ضد الوضع الراهن من خالل‬
‫املعارضة‪ .‬وأخ ً‬
‫‪45‬‬
‫تركيز االنتباه عىل إخفاقات الشيوعية‪.‬‬
‫لو علقت الفتة براغ بعد بضعة أسابيع ألضيف إليها لرمبا عبارة‪« :‬رومانيا – ‪10‬‬
‫ساعات»‪ .‬انشغلت اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي الروماين مع اقرتاب االنتفاضة‬
‫رئيسا ومقاطعة‬
‫ً‬ ‫التشيكوسلوفاكية من ذروتها بإعادة انتخاب نيكوالي تشاوتشيسكو‬
‫خطاب قبوله بوقفات من التصفيق الحار‪ .‬قمعت قوات األمن بعد ثالثة أسابيع االحتجاجات‬
‫التي اندلعت يف املحافظات الغربية بكل وحشية‪ .‬ذهب تشاوتشيسكو يف زيارة إىل إيران‪،‬‬
‫إذ كان واثقًا من قدرته عىل منع تكرار األحداث التي أسقطت أنظم ًة أخرى‪ ،‬ولكن‬
‫االحتجاجات استمرت يف التزايد‪ .‬نظم تشاوتشيسكو عند عودته مسري ًة للتنديد «باملشاركني‬
‫يف الثورة املضادة» ولكنه مبجرد أن بدأ بالتحدث قوبل بصيحات االستهجان وتحولت‬
‫الهتافات االحتفالية مثل «!‪( »Ceaușescu si poporul‬تشاوتشيسكو والشعب!) إىل‬
‫«!‪( »Ceaușescu distatorul‬تشاوتشيسكو الديكتاتور!)‪ .‬عرض التلفزيون نظرة الصدمة‬
‫التي اعتلت وجهه‪ ،‬وبذلك اندلعت الثورة الرومانية‪ .‬تبني أن التغيري الالحق للنظام أكرث‬
‫دموي ًة من التغيريات الخمسة السابقة‪ ،‬إذ قاومت الوحدات األمنية املسؤولة عن مجزرة‬
‫األسبوع السابق‪ .‬حاول تشاوتشيسكو الهرب ولكن ألقي القبض عليه وأعدم دون محاكمة‪.‬‬
‫‪46‬‬

‫شهد العامل مر ًة أخرى أم ًة تنتقل فجأ ًة من السكون والخضوع إىل االضطراب‬


‫والتحدي‪ .‬كان املعلقون مايزالون مدهوشني من الّسعة التي تغري بها املشهد السيايس‬
‫ألوروبا الرشقية حتى مع نهاية العلني‪ .‬شغل املعارضون الذي تعرضوا لالضطهاد لفرتة‬
‫رئيسا‬
‫ً‬ ‫رئيسا ودوبيك‬
‫ً‬ ‫طويلة مناصب حكومي ًة عليا يف ذلك الوقت‪ .‬أصبح هافيل ً‬
‫مثال‬
‫للجمعية الفيدرالية وجريي دينستبري‪ ،‬أحد املوقعني عىل ميثاق ‪ 77‬والذي قىض عقوبته‬
‫يعمل وقا ًدا للفحم‪ ،‬وزي ًرا للخارجية يف تشيكوسلوفاكيا‪ .‬ما من أمر يعرب عن رسعة التحول‬

‫‪328‬‬
‫أكرث من حقيقة أن دينستبري اضطر إىل العودة من أجل إيقاد غاليته بعد ساعات قليلة من‬
‫‪47‬‬
‫تعيينه وزي ًرا للخارجية‪ ،‬إذ مل يكن هناك وقت كاف ليحل شخص آخر محله‪.‬‬

‫حتمية الدهشة‬
‫يجدر بنا أن نذكر بأن سقوط الشيوعية مل يكن متوق ًعا عىل الرغم من الحجم الهائل لألدلة‪،‬‬
‫حتى ولو يبدو اآلن للعديد من املحللني وكأن هذا التحول سهل التوقع‪ 48.‬أمل يكن واض ًحا أن‬
‫اإلخفاقات االقتصادية للشيوعية قد زرعت بذور «ثورة واسعة النطاق»؟ أمل يكن بديه ًيا أن‬
‫األوروبيني الرشقيني ينتظرون فرص ًة إلسقاط ديكتاتورياتهم املكروهة؟ أمل يكن انسحاب‬
‫االتحاد السوفيتي من أوروبا الرشقية لرتكيز موارده عىل اإلصالحات االقتصادية بعد‬
‫تعرضه للعديد من املشاكل أم ًرا محتو ًما؟‬
‫بقيت عالمات التحذير من الثورة ضبابي ًة عىل الرغم من كل ذلك‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬واستمرت‬
‫عىل هذا الحال حتى انتشارها يف كل مكان‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬أخفت املراقبة الناقصة‬
‫للتفضيالت الخفية والعتبات الثورية املوجات الكامنة التي كانت يف طور التشكل وجعلت‬
‫تقدير األهمية الثورية للتطورات الحرجة أم ًرا صعبًا‪ .‬مل يتمكن أحد من معرفة توجه األحداث‬
‫بسبب تزييف التفضيالت عىل نطاق واسع‪ ،‬باإلضافة إىل استحالة تحديد التفضيالت العلنية‬
‫بشكل مؤكد‪.‬‬
‫مل تكن حجتي يف الفصل الخامس عرش مرتبط ًة بخصوصيات أوروبا الرشقية بكل‬
‫تأكيد‪ .‬مل تكن انتفاضة عام ‪ 1989‬يف واقع األمر أول انتفاضة اجتامعية مفاجئة‪ ،‬إذ تعترب‬
‫الثورة الفرنسية عام ‪ 1789‬والثورة الروسية يف فرباير عام ‪ 1917‬والثورة اإليرانية بني‬
‫عامي ‪ 1878‬و‪ 1979‬من بني الثورات غري املتوقعة‪ .‬سأجادل بإيجاز كل حالة من هذه‬
‫عامال رئيس ًيا يف حاالت الفشل التنبؤي‬
‫ً‬ ‫الحاالت‪ 49،‬ألثبت أن تزييف التفضيالت يعترب‬
‫امللحوظة‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫الثورة الفرنسية‬
‫صدمت الثورة الفرنسية عام ‪ 1789‬ضحاياها باإلضافة إىل املراقبني وحتى مثريي‬
‫الشغب الذين ساعدوا يف إشعالها‪ .‬أفاد توكفيل أن لويس السادس عرش مل يعلم بوجود‬
‫تخطيط النفجار عنيف يف عشية الثورة – ناهيكم عن إدراكه بأنه عىل وشك أن يفقد عرشه‬
‫ورأسه‪ .‬اعترب امللك الطبقة الوسطى‪ ،‬التي كان من املفرتض أن تشكل أساس التمرد‪ ،‬أقوى‬
‫قاعدة دعم له‪ 50.‬أما الفالسفة ‪– philosophes‬الذين تعترب انتقاداتهم للوضع الراهن حينها‬
‫السبب الرئييس الندالع الثورة– من جانبهم فلم يتوقعوا اندالع الثورة حتى يف أقىص‬
‫تخيالتهم‪ .‬مل يكن الفالسفة «مدركني لهذه الفكرة حتى» بحسب أحد املؤرخني‪ 51.‬دعا‬
‫الفالسفة بالفعل إىل تغيري يف الرؤية وتخفيف االعتامد عىل التقاليد‪ ،‬ولكنهم مل يبدأوا يف‬
‫دعم اإلصالحات املؤسسية الجوهرية إال بعد وقوع الثورة‪.‬‬
‫‪52‬‬

‫ولكن ليس من الصعب إيجاد عالمات عىل الثورة الوشيكة عند النظر إىل املايض‪.‬‬
‫كتب توكفيل أنها «كانت النتيجة الحتمية لفرتة طويلة من التطور‪ ،‬عىل الرغم من أنها فاجأت‬
‫فضال عن أنها االختتام املباغت والعنيف لعملية لعبت فيها ستة أجيال أدوا ًرا‬
‫ً‬ ‫العامل‪،‬‬
‫متفرقةً»‪ 53.‬يف واقع األمر‪ ،‬كان للعديد من املجموعات يف فرنسا أسبابًا لالستياء من الوضع‬
‫الراهن حينها حتى قبل عام ‪ .1789‬واجه تجار املالبس زياد ًة يف املنافسة‪ ،‬وافتقر العامل‬
‫املوسميون إىل األمن الوظيفي‪ ،‬وشعر الجنود بأنهم يتقاضون أجو ًرا متدنيةً‪ ،‬والقامئة‬
‫تطول‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬خرجت الجامعات املحبطة إىل الشوارع بني الفينة واألخرى من أجل‬
‫االحتجاج‪ ،‬ولكنهم احرتموا عمو ًما قواعد االحتجاج التي وضعتها السلطات الحذرة‪ 54.‬ولهذا‬
‫السبب مل تعترب أعامل الشغب تهدي ًدا للنظام املليك‪ ،‬متا ًما كام كانت رصخات الحشود يف‬
‫املالعب ال تشكل أي خطر عىل الجمهورية الخامسة‪ .‬ولكن ما مل يدركه أي أحد هو أن الحفاظ‬
‫عىل النظام يعتمد بشكل أسايس عىل إنفاذ قواعد االحتجاج املعمول بها‪ .‬ظن الجميع أن‬
‫النظام املليك يحظى بدعم الرأي العلني وأن معظم الفرنسيني يحرتمون قواعده حتى يف‬
‫التعبري عن غضبهم‪ .‬مل يدرك أحد أن الجامهري مستعدة للثورة ضد النظام املليك فور‬

‫‪330‬‬
‫شعورها بأنها تستطيع القيام بذلك بأمان‪ ،‬وما مل يكن متوق ًعا أب ًدا هو خوف امللكيني‬
‫املخلصني من الدفاع عن امللكية‪.‬‬
‫ومن العالمات األخرى عىل الثورة الوشيكة كان ضعف االنضباط الذي قوض قدرة‬
‫الجيش املليك عىل حامية النظام‪ .‬اندلعت أعامل الشغب يف يونيو عام ‪ 1788‬يف غرونوبل‪،‬‬
‫وتعرضت الوحدات التي استدعيت من أجل استعادة النظام للهجوم من قبل حشد رشقهم‬
‫بالحجارة؛ امتنعت بعض الوحدات عن إطالق النار عىل الجامهري‪ .‬ازدادت املؤرشات التي‬
‫تدل عىل عدم إمكانية التعويل عىل الجيش واالستياء املنترش يف صفوفه مع اقرتاب شهر‬
‫يوليو املصريي يف عام ‪ .1789‬مل ترش كل التطورات العسكرية إىل ضعف النظام‪ ،‬إذ‬
‫‪55‬‬
‫استمرت بعض الوحدات املستاءة يف أداء عملها بطريقة منضبطة حتى اندالع الثورة‪.‬‬
‫يعتقد توكفيل أن قرار الحكومة بالتخفيف من حدة القمع هو ما حسم مصري النظام‬
‫ريا من قوتها من املناطق التي‬
‫املليك‪ .‬ومن الجدير بالذكر أيضً ا أن الثورة استمدت قد ًرا كب ً‬
‫كانت فيها «حرية وثروة الفالحني مضمون ًة عىل نحو أفضل منذ زمن» مقارن ًة بأي مكان‬
‫آخر‪ 56.‬الحظ مؤرخ آخر أيضً ا أن النظام املليك قد «فقد رغبته يف القمع» نظ ًرا لتأثري األفكار‬
‫الدميقراطية عىل الجو العلني‪ 57.‬تتالءم هذه األفكار مع الحجة التي أحاول صياغتها هنا‪ ،‬إذ‬
‫مل تكن احتاملية مشاركة الفالحني األحرار نسبيًا يف االحتجاجات املناهضة للحكومة عالي ًة‬
‫نسبيًا‪ ،‬أما األفكار الدميقراطية فمن املفرتض أن تخفض عتبات الثورة يف جميع أنحاء‬
‫املجتمع الفرنيس‪.‬‬

‫الثورة اإليرانية‬
‫نظرت وكالة املخابرات املركزية األمريكية إىل إيران يف سبتمرب عام ‪ ،1977‬أي قبل‬
‫ستة عرش شه ًرا وحسب من انهيار النظام املليك اإليراين‪ ،‬عىل أنها جزيرة من االستقرار‬
‫وسط بحر من االضطرابات‪ .‬وعىل الرغم من املظاهرات التي اندلعت يف تلك الفرتة والتي‬
‫كان من املفرتض أن تنتهي برحيل الشاه‪ ،‬اعتقدت وكالة املخابرات املركزية أنها مجرد‬

‫‪331‬‬
‫اضطرابات صغرية وميكن للحكومة قمعها بسهولة‪ .‬توقعت جميع أجهزة املخابرات الكبرية‬
‫األخرى انتصار الشاه عىل الرغم من التقدم الّسيع للمظاهرات‪ .‬من الواضح أنه حظي بدعم‬
‫جميع القوى العظمى حتى سقوطه تقري ًبا‪.‬‬
‫‪58‬‬

‫مل يكن الشاه وحاشيته أكرث حكم ًة أيضً ا‪ .‬سمعت اإلمرباطورة فرح يف شهر مايو عام‬
‫اسام ستدرك قري ًبا أنه يستحيل نسيانه‪ ،‬إذ سألت‬
‫‪ ،1978‬أي قبل مثانية أشهر من النهاية‪ً ،‬‬
‫«من هو هذا الخميني بحق السامء؟»‪ 59.‬بقي الشاه حتى شهر يونيو عام ‪ ،1978‬بحسب‬
‫بعض الروايات الداخلية‪ ،‬معتق ًدا أن املتظاهرين متطرفون لن يتمكنوا أب ًدا من الحصول عىل‬
‫دعم كبري‪ 60.‬شاركه يف هذا التصور قادة حزب توده‪ ،‬الحزب الشيوعي املوايل للسوفييت‪،‬‬
‫الذين اعتادوا النظر إىل الدين باعتباره «أفيون الجامهري»‪ 61.‬أما األمر األكرث غراب ًة هو أن‬
‫الخميني نفسه كان متشك ًكا يف إمكانية اإلطاحة بالشاه‪ ،‬إذ ائتمن املقربني منه عىل تحفظاته‬
‫الجدية يف حني أعلن أمام وسائل اإلعالم أن سقوط النظام املليك وشيك‪ .‬خيش الخميني‬
‫يف ربيع عام ‪ 1978‬من إسقاط الشاه للمعارضة بطريقة أو بأخرى‪ 62.‬ومن الجدير بالذكر‬
‫أن مساعدي الخميني حتى أواخر ديسمرب عام ‪ 1978‬استمروا يف البحث عن دولة تقبله‬
‫بعد انتهاء تأشريته الفرنسية يف أبريل عام ‪ 63.1979‬ولكن رحب حشد صاخب يف طهران‬
‫بالخميني بعد أسابيع فقط كام اتضح فيام بعد‪.‬‬
‫تشمل قامئة الباحثني الذين فوجئوا مبجرى األحداث‪ ،‬بحسب أحد املؤرخني‪،‬‬
‫«الباحثون يف السياسة الذين أجروا مقابالت مع شخصيات حكومية ومعارضة؛‬
‫واالقتصاديون الذين كتبوا عن املشاكل االقتصادية الخطرية؛ وعلامء األنرثوبولوجيا وعلامء‬
‫االجتامع واملؤرخون الذين راقبوا واستمعوا إىل العديد من فئات الشعب يف املناطق‬
‫الحّضية والريفية‪ ،‬مبا يف ذلك رجال الدين»‪ 64.‬ضمت القامئة أيضً ا العلامء الذين وقفوا إىل‬
‫مثال‪ ،‬األستاذ يف الدراسات اإلسالمية يف بريكيل‪،‬‬
‫جانب املعارضة الدينية‪ .‬أدرك حميد القار ً‬
‫منذ فرتة طويلة أن رجال الدين الشيعة يشكلون تهدي ًدا لحكم الشاه‪ ،‬ولكنه فشل يف توقع‬
‫‪65‬‬
‫مجرى األحداث بعد اندالع االنتفاضة التي أطاحت بالشاه‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫مثة كثري من األدلة عىل الثورة التي تلوح يف األفق‪ ،‬ولكنها حجبت إىل حد كبري بسبب‬
‫تزييف التفضيل‪ .‬سارع اإليرانيون البارزون لالنضامم إىل الحزب السيايس الذي شكله‬
‫الشاه قبل أربع سنوات من الثورة‪ ،‬عىل الرغم من انضامم بعضهم عىل مضض‪ .‬انتقد بعض‬
‫البريوقراطيني رفيعي املستوى االحتفاالت الباذخة بذكرى مرور ‪ 2500‬عام عىل تأسيس‬
‫امللكية الفارسية‪ ،‬ولكنهم عربوا عن آرائهم أمام العائلة واألصدقاء املقربني وحسب‪ 66.‬بقي‬
‫العديد من رجال الدين‪ ،‬الذين سيحققون مكان ًة بارز ًة يف ظل النظام اإلسالمي‪ ،‬مقيدين يف‬
‫فضال عن أن بعضهم قد خدم يف ظل حكمه‪ 67.‬توضح‬
‫ً‬ ‫انتقاداتهم للشاه حتى عشية الثورة‪،‬‬
‫مثل هذه األمثلة السبب يف فشل التنبؤ باملشاكل الوشيكة‪.‬‬
‫وكام حدث يف فرنسا قبل قرنني من الزمن‪ ،‬يبدو أن تخفيف حدة القمع الحكومي قد‬
‫حرض عىل االنتفاضة‪ .‬روج الرئيس جيمي كارتر يف السنوات السابقة للثورة لحقوق‬
‫اإلنسان باعتبارها هدفًا مركزيًا للسياسة الخارجية للواليات املتحدة‪ .‬اتخذ الشاه بعض‬
‫اإلجراءات مببادرة منه لكيال يظهر وكأنه راض ًخا للضغوطات‪ :‬املزيد من الحرية للصحافة‬
‫يبدو أن هذه اإلجراءات‪ ،‬برصف النظر عن مزاياها‬ ‫‪68‬‬
‫واملحاكامت العسكرية العلنية‪.‬‬
‫الجوهرية‪ ،‬قد أفادت املعارضة‪ .‬إذا كانت الحكومة مكروه ًة عىل نطاق واسع‪ ،‬فإعطاء النقد‬
‫فرصا أكرب سيساعد يف إظهار هذه الحقيقة‪ ،‬وبالتايل تشجيع املزيد من الناس عىل‬
‫العلني ً‬
‫الوقوف رصاح ًة إىل جانب املعارضة‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬ال شك يف أن تذبذب الشاه فيام‬
‫يتعلق باستخدام القوة ضد الحشود املتزايدة لعب دو ًرا جوهريًا‪ ،‬إذ بقدر ما يعترب الرتدد‬
‫عالم ًة عىل الضعف فهو يقلل من املخاطر املتصورة لالنضامم إىل املعارضة‪.‬‬

‫الثورة الروسية يف فرباير عام ‪ 1917‬واالنتفاضات الفاشلة ضد الشيوعية‬


‫كانت الثورة ذاتها التي مهدت الطريق ألول نظام شيوعي يف التاريخ حدثًا يستحيل‬
‫توقعه‪ 69.‬أخرب لينني جمهو ًرا يف سويّسا قبل أسابيع من ثورة فرباير عام ‪ 1917‬أن كبار‬
‫السن من أمثاله لن يعيشوا ليشهدوا انفجار روسيا العظيم‪ 70.‬من الواضح أن لينني مل يفكر‬

‫‪333‬‬
‫يف خصائص االقتصاد االشرتايك الفعيل قبل وصوله إىل السلطة‪ :‬مل يكن البالشفة‬
‫وال حتى‬ ‫‪71‬‬
‫واملناشفة املتمركزون يف سانت بطرسربغ مستعدين لسقوط القيرص‪،‬‬
‫الدبلوماسيون األجانب‪ .‬أرسل السفري الربيطاين برقي ًة إىل لندن قبل ثالثة أيام فقط من‬
‫اإلطاحة بالقيرص‪« :‬حدثت بعض االضطرابات اليوم ولكن ال يشء يدعو للقلق»‪ 72.‬ومل يدرك‬
‫القيرص وعائلته أيضً ا ما كان يحدث حينها‪ 73.‬قالت إمرباطورة الروس ألكسندرا قبل يومني‬
‫من النهاية تعليقًا عىل االرضاب العلني يف العاصمة‪« :‬إنها حركة همجية‪ .‬يركض الشباب‬
‫ويرصخون أنه ال يوجد خبز بغرض خلق اإلثارة ببساطة‪ ،‬باإلضافة إىل العامل الذين مينعون‬
‫اآلخرين من العمل‪ .‬إذا كان الطقس بار ًدا إىل هذا الحد‪ ،‬فمن األفضل أن يبقوا جمي ًعا يف‬
‫منازلهم‪ .‬ولكننا سنجتاز ذلك وستصبح األمور أكرث هدو ًءا إذا ترصف الدوما [الربملان] بشكل‬
‫‪74‬‬
‫مالئم»‪.‬‬
‫كان هناك بالطبع سوابق مثل الثورة الفرنسية والثورة الروسية أيضً ا يف عام ‪،1905‬‬
‫وكان من املعروف بالنسبة للكثري أن العديد من الروس عانوا من املظامل بسبب النظام‪ .‬كان‬
‫الفالحون متعطشني للحصول عىل أراض‪ ،‬وشعرت الطبقة العاملة الحّضية بأنها تتعرض‬
‫لالستغالل؛ ولكن ساد االنقسام يف أوساط الثوار املحتملني‪ 75.‬ومن الجدير بالذكر أيضً ا هو‬
‫ظهور حامية ضخمة يف العاصمة ملساعدة الرشطة يف قمع هذه االضطرابات‪ .‬صحيح أن‬
‫الجنود شعروا بالسخط‪ ،‬ولكن هل شعروا يو ًما بالرضا حقًا؟ وصحيح أن معظم الروس‬
‫رغبوا يف تغيري النظام‪ ،‬ولكن من منهم سيتوىل زمام املبادرة يف التمرد؟ متكن بسامرك يف‬
‫عام ‪ 1848‬من تفادي اندالع ثورة أملانية ألنه نجح يف إبقاء الجيش إىل جانبه‪ ،‬ولذلك تساءل‬
‫‪76‬‬
‫الناس عن سبب فشل القيرص يف تطبيق هذه االسرتاتيجية‪.‬‬
‫يبدو أن االنتفاضة قد اشتعلت بسبب خطأ اسرتاتيجي من جانب القيرص‪ ،‬ولكن تبني‬
‫قاتال بسبب سلسلة من الصدف‪ .‬وقفت كتائب سانت بطرسربغ‬
‫أن هذا الخطأ سيصبح ً‬
‫املسؤولة عاد ًة عن حامية النظام عىل الجبهة يف أوائل عام ‪ ،1917‬إذ قامت ببعض التبديالت‬
‫يف صفوفها ليصبح املجندون الجدد أكرث انسجا ًما مع الحالة املدنية‪ ،‬إال أن هذه األفواج‬

‫‪334‬‬
‫الجديدة انهارت فور احتكاكها بالحشود‪ 77.‬ولكن ما الذي دفع الجامهري إىل النزول إىل‬
‫الشوارع يف املقام األول؟ وقف العديد من سكان سانت بطرسربغ يف ‪ 23‬فرباير‪ ،‬اليوم‬
‫الذي بدأت فيه االنتفاضة‪ ،‬يف طوابري الطعام بسبب االشاعات عن القحط‪ .‬نزل نحو عرشين‬
‫ألف عامل إىل الشوارع بعد إبعادهم عن مجمع صناعي كبري بسبب نزاع عىل األجور‪ ،‬يف‬
‫الوقت الذي كان فيه مئات من الجنود خارج أوقات عملهم يف الشوارع يبحثون عن إلهاء‬
‫ما‪ .‬غادر العديد من العامل مصانعهم يف وقت مبكر مع مرور اليوم من أجل املشاركة يف‬
‫احتفاال بيوم املرأة‪ 78.‬رسعان ما تحول الحشد املشرتك إىل جمهور مدفوع ذات ًيا‪ .‬أطاح‬
‫ً‬ ‫مسرية‬
‫هذا الجمهور بساللة رومانوف خالل أربعة أيام‪ ،‬ومتكن الشيوعيون من السيطرة عىل‬
‫الحكومة بالكامل قبل انتهاء العلني‪ .‬ساهم تزييف التفضيل يف رسعة التحوالت التي طرأت‬
‫عىل الرأي العلني‪ .‬أدرك قادة النظام الشيوعي الجديد هذا األمر جي ًدا‪ ،‬كام سرنى بعد قليل‪.‬‬
‫مل تتمكن املعرفة املاركسية من التنبؤ بأن االستيالء الشيوعي األول يف العامل سيحدث‬
‫يف روسيا املتخلفة اقتصاديًا من بني جميع األماكن األخرى‪ .‬ومل تنجح املعرفة املاركسية –‬
‫أو حتى غري املاركسية يف هذا الصدد– يف توقع الثورات التي اندلعت يف منتصف القرن‬
‫يف أوروبا الرشقية الشيوعية‪« .‬كانت انتفاضة أكتوبر عام ‪ 1956‬يف هنغاريا مبثابة انفجار‬
‫دراماتييك مفاجئ‪ ،‬ويبدو أنه مل يكن مخطط له مسبقًا من قبل مركز ثوري؛ مل تتمكن‬
‫األطراف الخارجية وال حتى املشاركني يف االنتفاضة من التنبؤ مبثل هذه الديناميكية الثورية‬
‫التي ال تقاوم والتي من شأنها أن تجتاح البالد»‪ .‬وهكذا بدأت الدراسة األحادية حول محاولة‬
‫هنغاريا الفاشلة لإلطاحة بالشيوعية‪ 79.‬حملت هذه الدراسة عنوان الثورة غري املتوقعة‪ ،‬وجاء‬
‫فيها العديد من األدلة عىل تزييف التفضيل واسع النطاق قبل االنتفاضة‪ .‬بقيت العديد من‬
‫الجهات الفاعلة الرئيسية يف عملية الحشد مطيع ًة وخاضع ًة حتى اندالع االنتفاضة‪ ،‬وغال ًبا‬
‫‪80‬‬
‫ما أخفت مظاملها حتى عن أفراد األرسة‪.‬‬
‫مثاال آخر عىل التحديات غري املتوقعة التي واجهت‬
‫يعترب ربيع براغ عام ‪ً 1968‬‬
‫الشيوعية‪ .‬يتذكر هافيل أن األمة التشيكوسلوفاكية بأكملها قد ترصفت مثل الجندي الصالح‬

‫‪335‬‬
‫شفيك يف عام ‪ 1967‬يف محاولتها مراعاة مطالب النظام‪« :‬من كان ليصدق ‪ . . .‬أن هذا‬
‫ريا بعد عام من ذلك مبثل هذه الشجاعة‬
‫املجتمع الالمبايل واملتشكك واملحبط سيقف أخ ً‬
‫والذكاء أمام قوة أجنبية!»‪ ،‬ويتابع‪« :‬ومن كان ليتوقع أن هذا املجتمع نفسه سيعود بهذه‬
‫‪81‬‬
‫الّسعة الكبرية إىل حالة من اإلحباط الشديد تفوق إحباطه األول بعد مرور عام تقري ًبا!»‪.‬‬

‫انتصارات للحقيقة؟‬
‫أسفرت هذه االنتفاضات غري الناجحة املناهضة للشيوعية يف أوروبا الرشقية إىل هزمية‬
‫الرصاحة‪ .‬كان عىل املاليني‪ ،‬يف كل حالة من الحاالت‪ ،‬أن يستأنفوا العيش يف كذبة‪ .‬ولكن‬
‫هل كانت االنتفاضات الناجحة انتصا ًرا للحقيقة؟ وصف تيمويث غارتون آش‪ ،‬وهو شاهد‬
‫عيان عىل عمليات التعبئة يف كل من بولندا وهنغاريا وأملانيا الرشقية وتشيكوسلوفاكيا‪ ،‬عام‬
‫‪ 1989‬بأنه «عام الحقيقة» يف أوروبا الرشقية‪ 82.‬ميكن اعتبار وصف آش دقيقًا يف حال‬
‫كان يرمز إىل نهاية الدعم املزيف للشيوعية‪ ،‬ولكنه يتجاهل الدفعة التي استفادت منها الثورة‬
‫بفضل تزييف التفضيل من جانب الناس القانعني بالوضع الراهن‪ .‬ألقى غري الشيوعيني‬
‫حا‪ ،‬ولكن ارتدى يف الوقت ذاته العديد من الشيوعيني الحقيقيني‬
‫حا وارتيا ً‬
‫أقنعتهم فر ً‬
‫أقنعتهم – أقنع ًة تفضح تزييف التفضيل الذي قاموا به سابقًا وسعادتهم بالتعبري عن آرائهم‬
‫مثال‪ ،‬تلك‬
‫بعد سنوات من االستياء الصامت‪ .‬صوتت الهيئة الترشيعية يف تشيكوسلوفاكيا ً‬
‫رئيسا بعد شهر واحد من تخيل‬
‫ً‬ ‫دعام باإلجامع‪ ،‬لجعل هافيل‬
‫التي منحت النظام الشيوعي ً‬
‫الحزب الشيوعي عن احتكاره للسلطة‪.‬‬
‫‪83‬‬

‫ال شك يف أن ازدهار الخطاب العلني املناهض للشيوعية قد كشف اإليديولوجية‬


‫الرسمية مبزيد من الوضوح باعتبارها شبك ًة من املغالطات والتشويهات واألساطري‪ .‬لقد‬
‫متكن من إيقاظ املاليني من العقول الراكدة‪ ،‬وواجه املواطنني بالرصاعات القامئة بني‬
‫الطبقات الرباغامتية والنظرية ملعتقداتهم‪ .‬هذا ال يعني أن أفكار جميع األوروبيني الرشقيني‬
‫قد أصبحت أكرث اتساقًا وال أن التفكري املاركيس قد انحّس بشكل مفاجئ‪ .‬ما يعنيه ذلك هو‬

‫‪336‬‬
‫أن التحول يف الخطاب العلني الذي صاحب االنقالب السيايس قد فتح العديد من العقول‬
‫إلمكانيات مغفلة‪.‬‬
‫قال أحد الهنغاريني بعد مرور عام عىل الثورة‪« :‬كل يشء أصبح غري ًبا للغاية‪ .‬حكم‬
‫الشيوعيون البالد قبل عام من اآلن‪ .‬أما اليوم فال ميكنك أن ترى شيوع ًيا يف أي مكان»‪.‬‬
‫‪84‬‬

‫تحول تزييف التفضيل يف أوروبا الرشقية يف واقع األمر إىل درع لحامية األشخاص الذين‬
‫يخشون االعرتاف بتوقهم إىل العودة إىل الوضع السابق‪ .‬ميكن العثور عىل بعض األدلة‬
‫املنهجية من االنتخابات األوىل التي تلت الثورة يف كل من هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا‪ .‬كان‬
‫أداء حزب الشيوعيني السابقني يف كل من البلدين أفضل بكثري مام كان متوق ًعا يف‬
‫‪85‬‬
‫استطالعات ما قبل االنتخابات التي استدنت إىل املقابالت املبارشة‪.‬‬
‫كان من السابق ألوانه يف منتصف تسعينيات القرن العرشين أن يعرف املرء ما إذا‬
‫كان تزييف التفضيل العكيس سيؤدي إىل مطاردة مستمرة للمنافقني‪ ،‬عىل الرغم من‬
‫الجهود املبذولة لتفحص األرشيفات الشيوعية بحثًا عن أسامء املخربين واملتعاونني‪ 86.‬عقبت‬
‫حمالت القمع والتلقني الضخمة ثورات مختلف ًة أخرى بالفعل‪ ،‬وشملت األهداف دامئًا الثوار‬
‫أنفسهم‪ .‬أصيب النظام الثوري يف فرنسا بهوس نزع أقنعة الكذب عن وجوه كل الفرنسيني‪،‬‬
‫واتهم اآلالف برغبتهم الّسية يف استعادة االمتيازات القدمية‪ .‬أرسل العديد من املتهمني‪،‬‬
‫مبن فيهم قادة مثل دانتون وروبسبيار‪ ،‬إىل املقصلة باعتبارهم خونةً‪ .‬ومن املفارقات أن هذه‬
‫الحرب الالحقة للثورة والهادفة إىل القضاء عىل النفاق قد قدمت تربيراتها الخفية‪ .‬ولهذا‬
‫السبب اختار ماليني املواطنني الفرنسيني‪ ،‬ممن يتوقعون تحقيق كثري من املكاسب من خالل‬
‫‪87‬‬
‫هذه الثورة املضادة‪ ،‬أن يعرفوا عن أنفسهم عىل أنهم مؤيدون متحمسون لألهداف الثورية‪.‬‬
‫تسبب النظام البلشفي يف عهد ستالني بإحدى أسوأ الكوارث يف القرن العرشين‪ ،‬حني قىض‬
‫عىل أكرث من عرشة ماليني شخص بحجة معاقبة االزدواجية غال ًبا‪ .‬أعدم جميع رفاق لينني‬
‫ريا‪ ،‬كان من بني ضحايا النظام‬‫املقربني تقري ًبا بصفتهم معادين رسيني للثورة‪ .‬وأخ ً‬
‫‪88‬‬

‫اإلسالمي اإليراين آالف من األشخاص الذين خاطروا بحياتهم‪ ،‬حتى قبل أن يبدو لهم النرص‬

‫‪337‬‬
‫فضال عن أن النظام قد بذل‬
‫ً‬ ‫مؤك ًدا‪ ،‬من خالل مشاركتهم يف مظاهرات مناهضة للشاه‪،‬‬
‫‪89‬‬
‫جهو ًدا هائل ًة للتحكم يف طريقة تفكري الناس وترصفهم‪.‬‬
‫كيف نربر مثل هذه الحمالت؟ وكيف ميكننا عىل وجه التحديد أن نفّس احتالل الثوار‬
‫مكان ًة بارز ًة بني أهدافهم؟ تعجز بعض من أكرث نظريات الثورة شيو ًعا عن اإلجابة عىل هذه‬
‫األسئلة‪ .‬تشري نظريتي املاركسية والحرمان النسبي إىل أن األفراد يقفون يف وجه النظام‬
‫القائم عند اقتناعهم بأن نظا ًما جدي ًدا من شأنه أن يخدمهم بشكل أفضل‪ .‬قد يحقق النظام‬
‫الثوري أمنه ضمن ًيا من خالل ترهيب وتلقني خصومه النشطني‪ ،‬ولكن ال يوجد أي تربير‬
‫الستهداف أنصاره‪.‬‬
‫تقرتح نظرية الثورة القامئة عىل منوذج التفضيل املزدوج التفسري التايل لشيوع‬
‫القمع الالحق للثورة‪ .‬يدرك القادة الثوريون انتشار تزييف التفضيل يف كل مكان‪ ،‬وبالتايل‬
‫فهم يشتبهون يف وجود العديد من الراغبني يف االرتداد يف صفوف مؤيديهم – أي الناس‬
‫املستعدة لالنقالب بّسعة عىل النظام يف حال تغري املناخ السيايس‪ .‬دعونا نعيد النظر يف‬
‫تسلسل العتبة‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫األفراد ‪a‬‬
‫‪:A1‬‬
‫‪100‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪10‬‬ ‫العتبات ‪0‬‬

‫كام رأينا سابقًا‪ ،‬يقود ‪ A1‬حجم املعارضة العلنية إىل ‪ .90‬وبذلك يكون آخر من ينضم إىل‬
‫العربة الثورية هو الشخص ‪ .i‬يفضل الشخص ‪ً i‬‬
‫رسا النظام القديم عىل الجديد‪ ،‬لذلك من‬
‫املمكن أن ينضم إىل املعسكر املناهض للثورة يف حال تخفيف الضغوط التي متنعه من ذلك‪.‬‬
‫وهكذا يتمكن هذا الشخص بسهولة من إطالق عربة معادية للثورة‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫لنفرتض بغرض الربهان أن النظام الثوري خفف من ضغطه عىل املواطنني‪ ،‬ألن‬
‫مثال جعلته يبدو مرتد ًدا‪ .‬يصبح تسلسل العتبة بذلك‬
‫االنقسامات داخل القيادة الجديدة ً‬

‫‪j‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪b‬‬ ‫األفراد ‪a‬‬

‫‪:A2‬‬

‫‪100‬‬ ‫‪91‬‬ ‫‪81‬‬ ‫‪71‬‬ ‫‪61‬‬ ‫‪51‬‬ ‫‪41‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪21‬‬ ‫العتبات ‪0‬‬

‫يصبح الرأي العلني املؤيد للثورة الذي بلغ ‪ 90‬غري مستدام بالنظر إىل ‪ ،A2‬ويرتاجع حجم‬
‫املعسكر الثوري إىل ‪ .10‬وبالتايل يحول هذا االنتقال من ‪ A1‬إىل ‪ A2‬الدعم الهائل لصالح‬
‫الثورة إىل دعم ساحق ضدها‪.‬‬
‫يوضح هذا الرسم التوضيحي سبب تحول األنظمة الثورية‪ ،‬مبا يف ذلك تلك املتمسكة‬
‫بالحريات اإلنسانية‪ ،‬إىل أنظمة قمعية يف كثري من األحيان‪ .‬يظن قادة هذه األنظمة أن منح‬
‫ناخبيهم حريات تعبريية شاملة قد يؤدي إىل خسارة الثورة لدعمها الشعبي الّضوري‬
‫واندالع ثورة مضادة‪ ،‬ولذلك يبدؤون يف قمع األشخاص الذين أوصلوهم إىل السلطة من‬
‫أجل التخفيف من حدة هذا الخطر‪.‬‬
‫كان لقادة الثورة اإليرانية أسبابًا وجيه ًة للخوف من عدم موافقة العديد ممن ساعدوا‬
‫يف الثورة عىل األسلمة القّسية‪ .‬وحدت املظاهرات التي أسقطت الشاه كل من رجال الدين‬
‫واملفكرين الغربيني والقوميني والشيوعيني املواليني للسوفييت والصناعيني األثرياء‬
‫والبازاريني والنساء املحجبات وغري املحجبات‪ 90.‬كان من بني أولئك الذين خرجوا إىل‬
‫الشوارع وهتفوا «املوت للشاه» و«الله أكرب» أناس ازدهروا يف ظل حكم الشاه وأشخاص قد‬
‫يخّسون كل يشء يف ظل النظام الديني‪ .‬أما املاليل فهم أيضً ا انقسموا حول نطاق ووسائل‬
‫األسلمة‪ 91.‬أشارت جميع هذه العوامل إىل إمكانية اندالع ثورة مضادة‪.‬‬
‫‪339‬‬
‫هذا ال يعني أن تقييم إمكانية اندالع ثورة مضادة يف أعقاب الثورة دقيق‪ .‬من املحتمل‬
‫أن يؤدي تزييف التفضيل بعد الثورة إىل زيادة متسك الناس بالثورة‪ .‬ولكن ستظل الثورة‬
‫املضادة أم ًرا ممكن الحدوث يف نظر الكثريين‪ ،‬مبن فيهم قادة النظام الثوري‪ ،‬وذلك حتى‬
‫‪92‬‬
‫انحسار شعبية النظام السابق وصدمة انهياره من الذاكرة‪.‬‬
‫رشع حزب املجاهدين اليساري بعد فرتة وجيزة من انتهاء الثورة اإليرانية يف تدمري‬
‫النظام الديني الناشئ‪ 93.‬ولذلك مل تكن املخاوف التي حفزت حمالت القمع والتلقني التي‬
‫أطلقها النظام اإلسالمي متخيل ًة بالكامل‪.‬‬

‫الجامهري والقادة‬
‫«لو عجز نابليون عن أداء دوره‪ ،‬ملأل أحد آخر مكانه»‪ .‬هذا ما زعمه فريدريك إنجلز يف إحدى‬
‫أكرث عباراته شهرةً‪ 94.‬ما كان يعنيه هو أن القيادة الّضورية لتحقيق التغيري حني تدفع‬
‫التوجهات التاريخية املجتمع إىل حافة تحول كبري ستكون جاهز ًة دامئًا‪ .‬ليس من السهل‬
‫مثال يعتمد عىل‬
‫تقبل وجهة نظره هذه التي يشاركه فيها ماركس‪ .‬إن ظهور قائد عظيم ً‬
‫العديد من العوامل املعقدة – البيولوجية والنفسية واالجتامعية‪ .‬ال ميكن ألي أحد أن يعرف‬
‫متا ًما آلية تالقي هذه العوامل م ًعا‪ ،‬ولذلك ال نستطيع أن نضمن وجود قائد ثوري متاح دامئًا‬
‫حني يصبح املجتمع جاه ًزا للتغيري‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬ليس هناك ما يضمن استفادة أنصار‬
‫التغيري مبجرد ظهور قائد عظيم عىل الساحة‪ ،‬فقد يقرر القائد االنضامم إىل املؤسسة‬
‫السياسية‪.‬‬
‫قد يتوقع املرء أن الثوريني الشيوعيني مل يولوا دور القيادة أهميةً‪ ،‬بالنظر إىل وجهة‬
‫نظر ماركس وإنجلز اللذان اعتقدا أن الثورات السياسية نتاج قوى تاريخية عظمى‪ ،‬إال أن‬
‫الثوريني الناجحني قد أدركوا بالفعل دورها الحيوي‪ .‬رفض لينني مبدأ الحتمية التاريخية‪،‬‬
‫وأكد أن التعبئة الثورية الناجحة تعتمد عىل اسرتاتيجية سياسية سليمة باإلضافة إىل غرس‬
‫‪95‬‬
‫الوعي الثوري يف العامل‪.‬‬

‫‪340‬‬
‫إن أدراك أهمية القيادة ال يعني بالّضورة املوافقة عىل نظرية «الرجل العظيم»‬
‫هائال إىل األفراد املتميزين‪ .‬قد تولد ومتوت أجيال من القادة‬
‫ً‬ ‫فضال‬
‫ً‬ ‫التاريخية‪ ،‬التي تنسب‬
‫الثوريني قبل أن يصبح التغيري الجوهري أم ًرا ممكنًا‪ .‬يتامىش هذا الرأي مع وجهات نظر‬
‫توكفيل بخصوص دور القيادة يف الثورة الفرنسية‪ ،‬إذ يالحظ أن األفكار التي قلبت الطبقات‬
‫الوسطى ضد امللك جاءت من فوق –من الفالسفة واألرستقراطيني باإلضافة إىل امللك‬
‫ووزرائه‪ ،‬وهو أمر يثري الدهشة حني ننظر إليه بأثر رجعي‪ .‬يؤكد توكفيل أيضً ا أن عظات‬
‫‪96‬‬
‫القادة الثوريني لن تجد آذان صاغية قبل أن يصبح الناس مستعدين لقبول التغيري‪.‬‬
‫أوال يكشفون ضعف النظام الحايل‪،‬‬
‫إذًا ما الذي يفعله القادة الثوريون بالضبط؟ إنهم ً‬
‫رسا من خالل إشهار االستياء الخفي‬
‫إذ يعززون االعتقاد بأن الغالبية العظمى ترغب بالتغيري ً‬
‫يف محاولة لرفع االحتاملية املتصورة النتفاضة ثورية؛ ال ميكن للقائد بالطبع أن يعرف‬
‫التوزيع الدقيق للتفضيالت الخفية‪ .‬إن مهمة القائد شبيهة مبهمة رجل األعامل الذي‬
‫يستشعر أن ملنتجه الجديد إمكانات سوقية‪ ،‬فيبدأ يف زيادة مبيعاته إىل الحد األقىص‪ .‬ومتا ًما‬
‫كام رجل األعامل الذي ميكنه اكتشاف الطلب الفعيل عىل منتجه مع تطور السوق‪ ،‬يحسن‬
‫القائد الثوري معرفته بالرأي الخفي خالل نضاله السيايس‪.‬‬
‫تذكروا أن احتاملية اندالع ثورة يف مجتمع ما دون إدراكه لوجودها هو أمر ممكن‪.‬‬
‫يستطيع املواطنون العاديون معرفة تفضيالتهم الخفية‪ ،‬ورمبا تفضيالت أقاربهم‬
‫وأصدقائهم املقربني أيضً ا‪ ،‬ولكن ال ميكن االعتامد عىل هذه املعلومات املحدودة يف بناء‬
‫قاعدة موثوقة لتقدير التوزيع واسع النطاق‪ .‬يعترب القادة الثوريون دون غريهم ماهرين يف‬
‫الحصول عىل املعلومات املهمة وتفسريها‪ .‬نحن ال منتلك أي تفسري شامل لسبب توزيع هذه‬
‫املهارات املهمة بني األفراد عىل نحو غري متساو‪ ،‬ولكنه ليس سب ًبا إلنكار وجود هذه‬
‫االختالفات‪ .‬إننا يف نهاية املطاف ال نعرف متا ًما كيفية حساب هذه االختالفات من الناحية‬
‫امليكانيكية‪ ،‬ولكننا ال نتظاهر بأنها موزعة بالتساوي‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫حاسام يف خلق االنطباع بأن‬
‫ً‬ ‫لعب آية الله الخميني وغريه من قادة املعارضة دو ًرا‬
‫الدعم الحقيقي للشاه ضعيف يف السنوات التي سبقت الثورة اإليرانية‪ .‬لعب املنشقون يف‬
‫مشتعال‪،‬‬
‫ً‬ ‫أوروبا الرشقية دو ًرا مشاب ًها‪ ،‬إذ حافظوا عىل لهيب التحول الحاد يف الرأي العلني‬
‫وروجوا لوجهة النظر القائلة بأن السلطة الشيوعية قامئة عىل تزييف التفضيل إىل حد‬
‫كبري‪ .‬أثبت هؤالء املنشقون عالو ًة عىل ذلك من خالل أعامل التحدي املدروسة التي قاموا بها‬
‫أن الناس مل تكن صوتًا واح ًدا حتى يف العلن‪ .‬شكل هؤالء املنشقون القاعدة التي قامت عليها‬
‫املعارضة املناهضة للشيوعية بعد أن أصبحت الظروف مهيأ ًة لحدوث انقالب بعد مرور عقود‬
‫عديدة من الزمن‪.‬‬
‫ومن بني األدوار األخرى للقادة الثوريني هو تشكيل التفضيالت الخفية‪ ،‬إذ وجدوا‬
‫تحقيقًا لهذه الغاية أخطا ًء يف النظام القائم وزرعوا يف وعي الناس مزايا النظام البديل‪.‬‬
‫كانت النتيجة انخفاضً ا يف العتبات الثورية متوازيًا مع نجاحهم‪ .‬نجح الخميني يف إقناع‬
‫حاال يف ظل الحكم اإلسالمي‪ ،‬ومتكن من‬
‫طيف واسع من اإليرانيني بأنهم سيكونون أفضل ً‬
‫وحامال للكرامة بالنسبة‬
‫ً‬ ‫محطام لألوثان بالنسبة للمتدينني؛‬
‫ً‬ ‫أن يكون كل يشء لكل الناس‪:‬‬
‫رصا إلعادة التوزيع املساوايت بالنسبة للفقراء؛ أما بالنسبة للامركسيني‬
‫للمضطهدين؛ ومنا ً‬
‫فدميقراطيًا سيسمح لهم بالتجهيز لثورتهم‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬يعزز القادة مزايا االنضامم إىل املعارضة العلنية‪ ،‬إذ يحاولون التخفيف من‬
‫وأخ ً‬
‫حدة التكاليف املتعلقة بسمعة املعارضة من خالل بعض الطرق بد ًءا باألنشطة االجتامعية‬
‫وصوال إىل التخويف الجسدي‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬تعمل كل حركة ثورية‬
‫ً‬ ‫واجتامعات الصالة‬
‫باعتبارها شبكة دعم للمعارضني العلنيني للنظام‪ .‬غال ًبا ما يقرتن الدعم بتهديد أعضاء‬
‫املعسكر الحكومي‪ :‬قد نعاقبك إذا نجحت الحركة‪ .‬أوضح الخميني مبجرد أن اكتسبت الثورة‬
‫زخام أنه سيسعى إىل معاقبة من وقف يف طريق الثورة‪ .‬ساهم تحذيره هذا يف‬
‫ً‬ ‫اإليرانية‬
‫إقناع العامل باإلرضاب عن العمل يف الوقت الذي زادت فيه أعداد املعارضني للشاه‪.‬‬

‫‪342‬‬
‫يتوقع بعض القادة الثوريني الحصول عىل مكافآت مجزية يف حال نجاح حركتهم‪.‬‬
‫ولكن ينبغي أال يعظم املرء دور بعض الدوافع مثل الشهرة والسلطة السياسية واملكاسب‬
‫املالية‪ ،‬إذ مل يتوقع العديد من الثوار الناجحني يف نهاية املطاف أن يحققوا أي نجاح‪ .‬وكان‬
‫من املمكن يف كثري من الحاالت أن يكون أداء هؤالء القادة جي ًدا لو اختاروا التعاون مع‬
‫النظام السائد يف بداية حياتهم املهنية قبل أن تصبح الثورة وشيكةً‪ .‬ولكن غال ًبا ما يكون‬
‫القادة الثوريون مدفوعني إىل حد كبري بالحاجة إىل التحدث علنًا عن بعض املظامل أو أوجه‬
‫القصور املفرتضة‪.‬‬
‫حا إىل حكومته قبل عامني من تأسيس ميثاق ‪77‬‬
‫أرسل فاتسالف هافيل خطابًا مفتو ً‬
‫أشار فيه إىل األزمات الخفية الكامنة وراء الهدوء السطحي يف تشيكوسلوفاكيا‪ ،‬وحني سئل‬
‫بعد عقد من الزمن عن سبب خوضه ملثل هذه املخاطرة أجاب‪:‬‬

‫كانت هذه الرسالة يف املقام األول شكل من أشكال املداواة الذاتية‪ :‬مل أكن أدري ما‬
‫سيحدث بعد ذلك‪ ،‬ولكنها كانت تستحق املخاطرة‪ .‬استعدت توازين وثقتي بنفيس‪.‬‬
‫شعرت بأنه ميكنني أن أنهض مر ًة أخرى‪ ،‬وأنه ال يستطيع أحد بعد اآلن أن يتهمني‬
‫بأنني مل أفعل شيئًا‪ ،‬أو أنني أراقب بصمت هذه الحالة البائسة‪ .‬أصبح بإمكاين أن‬
‫أتنفس بسهولة أكرب ألنني مل أحاول إسكات الحقيقة يف داخيل‪ .‬لقد توقفت عن‬
‫انتظار أن يتحسن العامل‪ ،‬ومارست حقي يف التدخل يف ذلك العامل‪ ،‬أو التعبري عن‬
‫‪97‬‬
‫رأيي فيه عىل األقل‪.‬‬

‫متيز هافيل بقدرة هائلة عىل التفريق بني الرأي العلني والرأي الخفي‪ ،‬إىل جانب حاجته‬
‫امللحة إىل احرتام الذات بكل تأكيد‪ .‬جمع العديد من القادة السياسيني العظامء بني هاتني‬
‫الصفتني‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫ناد ًرا ما يعمل القادة الثوريون مبفردهم‪ .‬عاد ًة ما يكونون أكرث أعضاء املعارضة‬
‫العلنية رصاح ًة وحيلةً‪ .‬تختلف املنظامت‪ ،‬عىل أيه حال‪ ،‬من حيث تقاربها وفعاليتها‪ .‬وبالتايل‬
‫تساعد مراعاة العوامل التي تحكم أمناط تنظيم املجتمع السيايس يف فهم سبب اندالع ثورة‬
‫ما فيه أو غيابها‪ 98.‬ولكن علينا الحذر من تعظيم دور التنظيم عىل حساب دور الجامهري‬
‫غري املنظمة‪ .‬قد يؤدي اختالف بسيط يف املوارد املتاحة يف ترصف الخصم املنظم إىل إحداث‬
‫فرق كبري يف نتيجة جهوده‪ 99.‬حني تفشل مجموعة ضغط صغرية يف دفع العربة‪ ،‬قد‬
‫قليال من دفعها‪.‬‬
‫تنظيام أو أكرب ً‬
‫ً‬ ‫تتمكن مجموعة أفضل‬
‫يتمثل أحد الجوانب البارزة يف ثورة أوروبا الرشقية يف أن االنتفاضات يف بعض‬
‫البلدان الستة مل تنجب أي قادة بارزين‪ .‬قد يفكر املرء يف ليخ فاونسا البولندي أو هافيل‬
‫التشيكوسلوفايك‪ ،‬ولكن ال يخطر عىل باله أي شخص مبثل هذه املكانة يف هنغاريا أو أملانيا‬
‫الرشقية أو بلغاريا أو رومانيا‪ .‬مل توجه املنظامت املنشقة يف البلدان األربعة األخرية التعبئة‬
‫يف بلدانها بالطريقة التي وجه فيها الخميني الثورة ضد الشاه‪ .‬بدأت العديد من املظاهرات‬
‫التي أطاحت بالشيوعية عىل يد مجموعات ضعيفة التنظيم‪ ،‬أو حتى غري منظمة أب ًدا‪ ،‬وغالبًا‬
‫ما كانت تتألف من مواطنني ليس لديهم خربة سابقة يف النشاطية‪ .‬كان املتظاهرون األوائل‬
‫مجرد أشخاص ضاقوا ذر ًعا بسوء الحكم الشيوعي؛ إذ شعروا أن خطر التظاهر قد انخفض‬
‫قليال‪ ،‬أو احتاجوا بسبب غضبهم املتزايد إىل التحدث علنًا‪ .‬لعب النشطاء املنشقون‪ ،‬عىل أية‬
‫ً‬
‫مهام يف إنهاء الحكم الشيوعي‪ ،‬إذ مهدوا الطريق النتفاضات عام ‪ 1989‬حني‬
‫حال‪ ،‬دو ًرا ً‬
‫كشفوا عن عيوب الشيوعية ونفاقها وضعفها خالل سنوات من االضطرابات‪ .‬ساعد هؤالء‬
‫النشطاء عىل وجه التحديد يف تهيئة العربات الكامنة التي ال بد أن تحركها مجموعة من‬
‫الظروف العرضية يف نهاية املطاف‪.‬‬

‫توقعية غري املتوقع‬

‫‪344‬‬
‫إن مجموع ًة معقد ًة من التوجهات واألحداث والقرارات إذًا هي ما حدد مصري النظام‪ .‬ال ميكن‬
‫مالحظة بعض العوامل املعنية‪ ،‬مثل الرأي الخفي والعتبات الثورية‪ ،‬إال بشكل منقوص‪ .‬وهنا‬
‫تكمن عقبة أساسية يف وجه التنبؤ بالثورات السياسية‪.‬‬
‫ميكننا توقع املفاجأة مرا ًرا وتكرا ًرا نظ ًرا للطبيعة العاملية لقابلية املالحظة املنقوصة‬
‫للمتغريات الخفية‪ .‬ففي املستقبل‪ ،‬متا ًما كام يف املايض‪ ،‬ستنفجر املجتمعات التي تبدو‬
‫هادئ ًة ظاهريًا دون سابق إنذار‪ ،‬وستطيح باألنظمة التي بدت ال تقهر‪.‬‬
‫تنطبق الحجة العلنية عىل مجموعة من السياقات أبعد من الثورات التي تطيح‬
‫بالحكومات الوطنية‪ .‬قد يرتك قانون أو ترشيع أو سياسة أو قاعدة أو عرف معني بشكل‬
‫مفاجئ حني يكتشف األشخاص الذين ساعدوا يف الحفاظ عليه فجأ ًة بأنهم يرغبون جمي ًعا‬
‫يف تغيريه‪ .‬ولذلك نرى الدول التي لطاملا كانت حامئي ًة تتبنى إلغاء القيود التجاري فجأةً؛‬
‫ونجد املوضات تظهر وتختفي ألسباب غري مفهومة؛ ونالحظ أن التعبري عن التحيزات‬
‫ريا يف غضون سنوات‪ .‬ميكن مالحظة ظاهرة التغيري املفاجئ وغري‬
‫الراسخة قد أصبح خط ً‬
‫املتوقع هذه أيضً ا يف الجامعات األصغر من األمم‪ ،‬إذ تغري األقسام األكادميية وإدارات‬
‫الرشكات واملنظامت االجتامعية أحيانًا من توجهها بّسعة فائقة بعد فرتات طويلة من‬
‫االستمرارية التي دفعت الجميع لالعتقاد بأنها ثابتة‪ .‬غالبًا ما ميكن العثور عىل تفسري لهذا‬
‫التحول املفاجئ يف مسار العربة الذي يغري طبيعة تزييف التفضيل‪.‬‬
‫إن العوامل التي ال ميكن مالحظتها إال بشكل منقوص والتي تصعب عملية‬
‫التنبؤ بالثورات تجعل العملية األوسع للتطور االجتامعي غري متوقعة أيضً ا‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪،‬‬
‫تتفاعل هذه العوامل مع غريها من العوامل التي ال ميكن مالحظتها بشكل جيد فتزيد من‬
‫صعوبة التحكم يف التوجهات االجتامعية وتفسريها‪ .‬سيتوسع الفصل التايل يف هذه‬
‫النقاط‪ ،‬باإلضافة إىل أنه سيعيد النظر يف مسألة وردت يف الفصل السادس‪ :‬تزييف‬
‫التفضيل باعتباره مصد ًرا النعدام الكفاءة االجتامعية‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫الفصل السابع عرش‬
‫تعقيدات التطور االجتامعي الخفية‬

‫يتعلق أحد أكرث االنقسامات دميومة يف الفكر األكادميي برتتيب ما نسميه «النظام‬
‫االجتامعي»‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬هناك تقاليد تعامل العالقات االجتامعية باعتبارها بسيطة‪،‬‬
‫ومستمرة‪ ،‬ومتناغمة‪ ،‬ومتوقعة‪ ،‬وقابلة للتحكم وفعالة‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬هناك تقاليد تدرك‬
‫وتسعى إىل تفسري التعقيد‪ ،‬واالنقطاع‪ ،‬والتخالف‪ ،‬وعدم إمكانية التوقع‪ ،‬وعدم قابلية‬
‫التحكم وانعدام الكفاءة‪ .‬تلخص نظرية التوازن االقتصادي العلني‪ ،‬املستوحاة من الفيزياء‬
‫النيوتونية‪ ،‬الصنف األول‪ .‬وتشمل األمثلة عىل األخري االقتصاد التطوري‪ 1‬وفرع التعقيد‬
‫‪2‬‬
‫الناشئ‪.‬‬
‫تتناغم الحجج املقدمة يف هذا الكتاب مع مجموعة التقاليد األخرية‪ .‬وتتفق‬
‫االنقسامات غري املرتقبة يف الرأي العلني مع الفكرة‪ ،‬الشائعة يف العديد من النظريات‬
‫التطورية‪ ،‬مبا فيها بعض نظريات التطور البيولوجي‪ 3،‬القائلة إن الظواهر غري املرئية قد‬
‫تؤدي إىل عواقب وخيمة‪ .‬تشمل مواضيع الكتاب التطورية األخرى أوجه انعدام الكفاءة‬
‫املستمرة التي تسببها املحافظة الجامعية والتوترات التي تغذيها التناقضات بني الرأي العلني‬
‫والخفي‪.‬‬
‫إن الغرض من هذا الفصل هو توسيع وربط املواضيع التطورية للفصول املاضية مع‬
‫الرتكيز عىل استخالص مزيد من الدروس للتفسري التاريخي والتنبؤ االجتامعي‪ .‬قدمت أوالً‬
‫عدة تعقيدات يف اإلطار األسايس‪ ،‬مسلطًا الضوء عىل العوامل التي تجعل التفضيالت‬
‫الخفية مستقلة نو ًعا ما عن الحوار العلني‪ ،‬والسياسات العلنية الفعلية مستقلة نو ًعا ما عن‬
‫الرأي العلني‪ .‬كام هو الحال يف السياقات السابقة‪ ،‬يتضح أن التبدالت يف أحد املتغريات قد‬
‫يكون لها تأثريات غري متناسبة عىل املتغريات األخرى‪ .‬وللرتكيز عىل دائريات النموذج‪،‬‬
‫أستكشف أوجه انعدام الكفاءة التي تنتجها والصعوبات اإلضافية التي تشكلها للتنبؤ‬

‫‪346‬‬
‫والتحكم‪ .‬وتتمثل إحدى نقاطي الرئيسية يف أن االنقطاعات والنتائج غري املقصودة وأوجه‬
‫انعدام الكفاءة تنبع من عملية اجتامعية متسقة‪ .‬يوضح الفصل بأكمله‪ ،‬من منظور أوسع‬
‫من الفصول السابقة‪ ،‬أنه ميكن للمرء فهم تعقيدات التطور االجتامعي دون أن يكون قاد ًرا‬
‫عىل تحديد أسباب نتائج تاريخية معينة‪.‬‬

‫األحداث الصغرية وتطور التفضيالت الخفية‬


‫يالحظ عامل السياسة أن الناخب يف غرفة االقرتاع «مير بحسابات عقلية بسيطة لتقرير ما‬
‫إذا كانت البالد يف حالة ركود اقتصادي أو حرب‪ ،‬وإن مل تكن كذلك‪ ،‬يصوت لشاغل‬
‫املنصب»‪ 4.‬من وجهة النظر هذه‪ ،‬يسأل الناخب نفسه أوالً عن أداء شاغل املنصب بالنسبة‬
‫إىل بعض املعايري‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬تب ًعا ملا يكتشفه‪ ،‬يقرر ما إذا كان سيدعم التغيري أو االستقرار‪.‬‬
‫قد يبدو هذا التوصيف آللية اختيار الناخب متناقضً ا مع التأكيد الذي أعطيته لدور الحوار‬
‫العلني يف تشكيل التفضيالت الفردية الخفية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ليس هناك تعارض‪ ،‬ألن التصورات‬
‫الفردية غري مستقلة‪ .‬يف األشهر التي سبقت االنتخابات الرئاسية األمريكية عام ‪ ،1992‬غمر‬
‫الناخبون بوابل من التقارير التي تتحدث عن ركود عميق‪ ،‬رغم أن الركود يف الواقع كان قد‬
‫انتهى وتضاعفت بوادر االنتعاش‪ 5.‬إن إجراء االنتخابات يف جو من الكآبة والشؤم كان بال‬
‫عامال يف هزمية الرئيس الشاغل ملنصبه جورج بوش‪.‬‬
‫ً‬ ‫شك‬
‫ال يعني ذلك أن التفضيالت الخفية مستقلة عن التجارب الشخصية‪ .‬فمع تساوي كل‬
‫العوامل األخرى‪ ،‬كان احتامل تصويت الناخب العاطل عن العمل لبوش أقل من شخص‬
‫يشغل وظيفة آمنة‪ .‬ومن الجدير باملالحظة أن بوش تكبد واحدة من أكرب خسائره يف عام‬
‫‪ 1988‬يف والية كاليفورنيا‪ ،‬التي سجلت يف يوم االنتخابات ثاين أعىل معدل بطالة يف‬
‫البالد‪ 6.‬رغم ذلك‪ ،‬ال تعد العالقة بني التجربة الشخصية والتوجه السيايس بسيطة عىل‬
‫اإلطالق‪ .‬إذا كانت فنية طريان عاطلة عن العمل‪ ،‬فإىل أي مدى يكون وضعها نتيج ًة حتمي ًة‬
‫لحدث كانت قد رحبت به‪ ،‬نهاية الحرب الباردة؟ وإذا كانت املسؤولية تعود جزئ ًيا عىل‬

‫‪347‬‬
‫الحكومة‪ ،‬فهل الجاين الرئييس هو الرئيس الجمهوري أم الكونغرس الذي يسيطر عليه‬
‫الدميقراطيون؟ ليس لهذه األسئلة إجابات سهلة‪ .‬يف محاولة تحديد حصتها يف االنتخابات‪،‬‬
‫ستبحث الفنية عن أدلة يف التعليقات السياسية واستطالعات الرأي‪.‬‬
‫ستعتمد نتيجة بحثها جزئ ًيا عىل ظروف عرضية ال عالقة لها بخيار الرئاسة‪ .‬إذا كان‬
‫الربنامج الحواري الوحيد الذي تجد وقتًا ملشاهدته هو برنامج يعادي املتحدثون فيه بوش‬
‫بشكل موحد‪ ،‬فمن املرجح أن تلومه أكرث مام لو شاهدت برنام ًجا متعاطفًا عمو ًما‪ .‬تخيل أنها‬
‫ستنتهي بالتصويت للدميقراطيني‪ .‬لو علمنا كل يشء عنها‪ ،‬مبا يف ذلك أسباب مشاهدتها‬
‫بدال من آخر‪ ،‬فرمبا كان ميكننا التنبؤ بتصويتها‪ .‬لن نتمكن عمل ًيا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬من‬
‫برنام ًجا ً‬
‫الوصول إىل هذه التفاصيل‪ .‬ميكننا مالحظة األحداث الرئيسية مثل فقدان وظيفتها وليس‬
‫األحداث الصغرية التي تشكل تصوراتها‪ .‬وبالتايل‪ ،‬بالنسبة للمراقب‪ ،‬ال ميكن تفسري صوتها‬
‫بالكامل أو التنبؤ به عمليًا‪ .‬ويحدد جزئيًا‪ ،‬أو ستحدده‪ ،‬قوى واضحة –مصاعب البطالة‪،‬‬
‫ونربة الحوار العلني املناهضة لبوش– وجزئيًا بواسطة قوى غري مرئية‪ .‬وكام ال يستطيع‬
‫علامء األحياء تفسري كل طفرة جينية أو التنبؤ بدقة بكيفية تطور تجميعة الجينات‪ ،‬ال ميكن‬
‫للمراقبني االجتامعيني أن يحلوا أب ًدا كل أرسار تطور التفضيل الخفي‪.‬‬

‫تأثري التحوالت يف التفضيالت الخفية عىل تطور الرأي العام‬


‫قد تؤثر األحداث الصغرية‪ ،‬يف تبديل التفضيالت الخفية‪ ،‬أيضً ا عىل التفضيالت العلنية‪.‬‬
‫عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬قد تكون التحوالت الالحقة يف الرأي العلني كبرية أو صغرية بصورة غري‬
‫متناسبة‪ .‬وهذه ليست نقطة جديدة‪ .‬لقد رأينا بالفعل كيف أن التغيريات الطفيفة يف الدعم‬
‫الخفي للنظام قد تؤدي إىل تحول ثوري يف الرأي العلني‪ .‬ولكن ميكن تعلم املزيد من‬
‫‪7‬‬
‫السيناريوهات اإلضافية‪.‬‬
‫لنفرتض مجتم ًعا مؤلفًا من عرشة أشخاص حيث توجد عالقة عكسية بني التفضيالت‬
‫حا‬
‫الخفية والعتبات الفردية املقابلة‪ .‬عىل وجه التحديد‪ ،‬تساوي عتبة كل فرد ‪ 100‬مطرو ً‬
‫‪348‬‬
‫منها قيمة تفضيله الخفي‪ .‬قد تعكس هذه العالقة‪ ،‬بالطبع‪ ،‬فائدة الرصاحة التعبريية‪ .‬سيبدأ‬
‫الشخص ذو التفضيل الخفي املرتفع يف دعم الخيار ‪ 100‬بدالً من الخيار ‪ 0‬عند رأي عام‬
‫أقل مقارن ًة مع شخص مامثل يف باقي النواحي ذو تفضيل خفي منخفض‪.‬‬
‫تسلسال صاع ًدا‬
‫ً‬ ‫وبنا ًء عىل هذا الرتتيب‪ ،‬فإن التسلسل الهابط للتفضيالت الخفية يعني‬
‫للعتبات‪ .‬وفيام ييل مثال‪:‬‬
‫التفضيالت‬
‫‪80 70‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60 50 45‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪25 20‬‬
‫‪E‬‬ ‫الخفية‬
‫‪:‬‬ ‫األفراد‬ ‫‪a b‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪h i‬‬ ‫‪j‬‬
‫‪ 20 30‬العتبات‬ ‫‪30‬‬ ‫‪40 50 55‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪75 80‬‬

‫يف البداية‪ ،‬دعونا نفرتض أن الرأي العلني املتوقع هو ‪ .50‬وبنا ًء عىل هذا التوقع‪ ،‬يدعم‬
‫األشخاص من ‪ a‬حتى ‪ e‬الخيار ‪ ،100‬ألن عتباتهم تبلغ ‪ 50‬أو أقل‪ ،‬بينام يدعم األشخاص‬
‫من ‪ f‬حتى ‪ j‬الخيار ‪ .0‬وبالتايل‪ ،‬فإن التوقع املسيطر مؤكد ذات ًيا‪ .‬إنه‪ ،‬كام نقول‪ ،‬توازن‪.‬‬
‫ويف وقت الحق‪ ،‬يصبح الشخص ‪ e‬أكرث تعاطفًا بقليل مع الخيار ‪ .0‬عىل وجه‬
‫التحديد‪ ،‬ينخفض تفضيله الخفي حتى ‪ ،45‬ما يرفع عتبته حتى ‪ .55‬يف ظل هذا التشكيل‬
‫الجديد‪ ،‬تصبح املجموعة ‪ ،E‬باستثناء الصف األول منها‪ ،‬كالتايل‪:‬‬
‫األفرا‬
‫‪a‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪j‬‬
‫د‬
‫‪:E‬‬ ‫‪1‬‬
‫العتبا‬
‫‪20‬‬ ‫‪30 30‬‬ ‫‪40 55 55 60‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪75 80‬‬
‫ت‬

‫‪349‬‬
‫مل يعد الرأي العلني املتوقع البالغ ‪ 50‬مؤك ًدا ذات ًيا‪ .‬فهي تولد رأيًا عا ًما فعل ًيا يبلغ ‪ ،40‬ما‬
‫يشكل توازنًا جدي ًدا‪ .‬يف التوازن الجديد‪ ،‬يدعم األشخاص من ‪ a‬حتى ‪ d‬الخيار ‪ ،100‬يف‬
‫حني يدعم األشخاص الستة املتبقون الخيار ‪.0‬‬
‫بالعودة إىل املجموعة ‪ ،E‬لنفرتض حدوث تغيري صغري مختلف يف التفضيل الخفي‬
‫لشخص واحد‪ :‬زيادة التفضيل الخفي لـ‪ f‬من ‪ 45‬حتى ‪ .50‬يقلل هذا التغيري عتبة ‪ f‬حتى‬
‫‪ ،50‬ويصبح تسلسل العتبة املعدل كالتايل‪:‬‬
‫األفرا‬
‫‪a‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪j‬‬
‫د‬
‫‪:E2‬‬
‫العتبا‬
‫‪20‬‬ ‫‪30 30‬‬ ‫‪40 50 50 60‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪75 80‬‬
‫ت‬

‫كام هو الحال مع السيناريو السابق‪ ،‬فإن التوقع السائد البالغ ‪ 50‬يصبح مزيف ذات ًيا‪ .‬لكن‬
‫النتيجة هنا هي ارتفاع كبري يف الرأي العلني حتى ‪.100‬‬
‫ما يجب إدراكه هو أن الرأي العلني قد يكون شديد الحساسية تجاه التحركات يف‬
‫تفضيالت األفراد الخفية‪ .‬إذ يؤدي انخفاض طفيف يف تفضيل خفي واحد إىل خفضه‪ ،‬وقد‬
‫يزيده ارتفاع طفيف يف تفضيل خفي آخر بشكل كبري‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال تنشأ هذه االحتامالت‬
‫إال يف ظروف خاصة ج ًدا‪ .‬ففي ظل مجموعة متنوعة من الظروف‪ ،‬حتى التغيريات الهائلة‬
‫يف التفضيالت الخفية سترتك الرأي العلني دون اضطراب‪ .‬بالعودة إىل ‪ ،E‬وبافرتاض أن‬
‫التفضيالت الخفية لتسعة أفراد ترتفع مبقادير مختلفة‪ .‬يصبح تسلسل العتبة‬
‫األفرا‬
‫‪a‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪e‬‬ ‫‪f‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪i‬‬ ‫‪j‬‬
‫د‬
‫‪:E3‬‬
‫العتبا‬
‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0 55 55‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪55 55‬‬
‫ت‬
‫‪350‬‬
‫رغم ضخامتها الرتاكمية‪ ،‬لن تثري التغيريات الخفية تحوالت علنية‪ ،‬وسيظل الرأي العلني عند‬
‫‪.50‬‬
‫تؤكد هذه األمثلة‪ ،‬بنا ًء عىل خاصيات تسلسل العتبة‪ ،‬أنه قد يؤثر تحول معني يف‬
‫الرأي الخفي عىل الرأي العلني بشكل طفيف‪ ،‬أو يؤثر بشكل كبري‪ ،‬أو يرتكه دون تأثري‪.‬‬
‫يرتبط هذا التنوع الغني يف االحتامالت‪ ،‬بالطبع‪ ،‬بتزييف التفضيل‪ .‬ففي القضايا التي ال‬
‫يخفي فيها الناس مشاعرهم‪ ،‬تنعكس كل التحوالت يف الرأي الخفي‪ ،‬مهام كانت كبرية أو‬
‫صغرية‪ ،‬يف الرأي العلني‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يف القضايا الحساسة‪ ،‬قد تتباعد اآلراء الخفية والعلنية‬
‫ج ًدا‪.‬‬
‫حساسا لتوقيت التغيريات يف التفضيالت الفردية‬
‫ً‬ ‫قد يكون تطور الرأي العلني‬
‫الخفية أو قد ال يكون‪ .‬يف السيناريو األخري‪ ،‬ال يهم ما إذا كانت التغيريات التي تحول ‪ E‬إىل‬
‫‪ E3‬تأيت يف وقت واحد أو بالتتابع‪ .‬وإذا كانت متتابعة‪ ،‬فإن التتابع الدقيق للتغيريات غري‬
‫أسايس‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال تنطبق أي من املالحظتني عىل التغيريات التي نظرنا فيها سابقًا‪ :‬ارتفاع‬
‫عتبة ‪ e‬وانخفاض عتبة ‪ .f‬إذا حدث هذان التحوالن يف وقت واحد‪ ،‬فإن عتبتي ‪ e‬و‪f‬‬
‫ستنتقالن‪ 8،‬ما يرتك الرأي العلني دون تغيري‪ .‬وإذا حدثا بالتتابع بدالً من ذلك‪ ،‬ستكون هناك‬
‫نتيجتان محتملتان‪ .‬إذا كان التغيري األول ارتفا ًعا يف عتبة ‪ ،e‬سيستقر الرأي العلني عند‬
‫القيمة ‪ ،40‬وسيرتك االنخفاض الالحق يف عتبة ‪ f‬الرأي العلني دون اضطراب‪ .‬ولكن إذا‬
‫حدثت التغيريات برتتيب عكيس‪ ،‬سيثب الرأي العلني إىل القيمة ‪ ،100‬ثم يبقى هناك‪ .‬يف‬
‫كل حالة‪ ،‬تجعل ردود الفعل املضخمة ذات ًيا للتغيري األول التغري الثاين غري منطقي‪ .‬نرى أن‬
‫‪9‬‬
‫حاسام ملسار الرأي العلني‪.‬‬
‫ً‬ ‫توقيت التغيريات الخفية ميكن أن يكون‬
‫ال ينفي أيًا مام ذكرته للتو أهمية الحوار العلني كمحدد للمعتقدات والتفضيالت‬
‫الخفية‪ .‬باالعرتاف بأن التفضيالت الخفية ال تعتمد كل ًيا عىل الحوار العلني‪ ،‬أظهرت أنه ميكن‬

‫‪351‬‬
‫يف ظروف معينة أن تثري سلسلة من الفكر املستقل أو بعض التجارب الشخصية تغيريات‬
‫مهمة‪.‬‬

‫استقاللية السياسة العلنية‬


‫إذا كانت تفضيالتنا الخفية تظهر بعض االستقاللية عن الحوار العلني‪ ،‬فأحد أسباب ذلك هو‬
‫أننا نتعلم من تجاربنا‪ .‬والسبب اآلخر هو أن تصوراتنا املسبقة تشوه ما ندركه ونتذكره‪.‬‬
‫واآلخر هو أن التوافق بني الحوار العلني والنتائج السياسية غري مثايل‪.‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬لقد تجاهلت آخر مصدر لالستقاللية من خالل التعامل مع النتائج‬
‫السياسية –السياسات املطبقة واملؤسسات املعتمدة– باعتبارها انعكاسات مثالية للرأي‬
‫العلني‪ .‬يف الواقع‪ ،‬لقد افرتضت أنه إذا انتقل الرأي العلني من ‪ 50‬حتى ‪ ،40‬فإن الخيارات‬
‫السياسية ذات الصلة ستحذو حذوه‪ .‬ما يغيب عن هذه الصياغة البسيطة هو هرج ومرج‬
‫السياسة – الفوىض املتولدة‪ ،‬من ناحية‪ ،‬من خالل العوامل اإلجرائية مثل الثغرات الترشيعية‬
‫واملراوغات يف قوانني االنتخابات‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬من خالل العوامل الشخصية مثل‬
‫طموحات السياسيني األفراد والالمسؤولية التنفيذية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ت ّعقد اإلجراءات السياسية‬
‫‪10‬‬
‫والسياسيون البرشيون العالقة بني الرأي العلني والنتائج السياسية‪.‬‬
‫يقدم مثال عىل القيد اإلجرايئ يف القواعد التي تعيق االنحرافات الصغرية عن الوضع‬
‫القائم‪ 11.‬قد ينظر الكونغرس األمرييك يف اقرتاح لتمديد فرتة الرئاسة من أربع سنوات حتى‬
‫ست سنوات‪ ،‬ولكن لن ينظر يف اقرتاح يدعو إىل متديد ملدة نصف سنة‪ .‬من حيث املجاز‬
‫الفراغي‪ ،‬يبدو األمر كام لو أن الكونغرس ال يستطيع النظر يف اقرتاحات السياسات ضمن‬
‫نطاق ‪ 15‬وحدة من الوضع القائم‪ .‬ومبوجب مثل هذه القاعدة‪ ،‬إذا بلغ كل من الرأي العلني‬
‫والسياسة املطبقة القيمة ‪ ،50‬وانخفض الرأي العلني حتى ‪ ،40‬ال ميكن للكونغرس أن ينظر‬
‫يف اقرتاح لخفض السياسة حتى ‪ .40‬ميكنه‪ ،‬بالطبع‪ ،‬النظر يف تغيري أكرب‪ ،‬مثل التخفيض‬
‫حتى ‪.35‬‬

‫‪352‬‬
‫مثة مصدر آخر محتمل لالنفصال بني خيارات سياسة الهيئة الترشيعية والرأي‬
‫خاصا للرأي العلني يف مقاطعاتهم‬
‫ً‬ ‫العلني يتمثل يف حقيقة أن السياسيني يولون اهتام ًما‬
‫للبقاء يف مناصبهم‪ .‬إذا صوت أعضاء الكونغرس وفقًا للتفضيل العلني السائد يف‬
‫مقاطعاتهم‪ ،‬لن تعكس قراراتهم الجامعية بالّضورة الرأي العلني الوطني‪ .‬للتوضيح‪،‬‬
‫افرتض أن ‪ 40‬يف املئة من املجتمع يدعمون القيمة ‪ ،100‬والـ‪ 60‬يف املئة املتبقيني يدعمون‬
‫القيمة ‪ .0‬وبالتايل‪ ،‬عىل املستوى الوطني‪ ،‬يبلغ متوسط الرأي العلني ‪ .40‬هناك مقاطعتان‬
‫متساويتا الحجم والتمثيل ترشيعي‪ ،‬يف كل منهام يعكس الرأي العلني رأي السكان األوسع‪.‬‬
‫إذا احرتم املمثلون رغبات األغلبية يف مقاطعاتهام‪ ،‬فستدعم كلتاهام القيمة ‪ .0‬وبالتايل‪،‬‬
‫ستنتجان رأيًا ترشيع ًيا يبلغ ‪ ،0‬ما يؤدي إىل اختالف قراراتهم السياسية عن الرأي العلني‬
‫الوطني مبقدار ‪ 40‬وحدة‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬مع تطور الرأي العلني‪ ،‬قد يخفف النظام السيايس مطالبه أو يضخمها‪ .‬ما‬
‫النتائج املرتتبة عىل تطور املعرفة والتفضيالت الخفية؟ إذا كانت التغريات الخفية مدفوعة‬
‫بالحوار العلني لوحده‪ ،‬فلن يكون للقيود اإلجرائية عىل استجابة النظام السيايس للرأي‬
‫العلني عواقب دامئة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يتعلم األفراد‪ ،‬عمليًا‪ ،‬من القرارات السياسية الفعلية أيضً ا‪،‬‬
‫لذا قد تضع القيود اإلجرائية تطور املتغريات الخفية عىل مسارات جديدة‪ .‬مثل أي تأثري عىل‬
‫املتغريات الخفية‪ ،‬ال يلعب التحول السيايس املستقل عن الحوار العلني دو ًرا تطوريًا رئيسيًا‬
‫هائال‪.‬‬
‫عادةً‪ .‬ولكن‪ ،‬ألسباب ال تحتاج إىل تكرار‪ ،‬قد يكون تأثري التحول ً‬

‫تفسريات إبداعية وتفسريات خدمة الذات‬


‫أنتقل اآلن إىل العوامل الشخصية التي تجعل الخيارات السياسية الفعلية تختلف عن الرأي‬
‫العلني‪.‬‬
‫نعهد بتنفيذ رغباتنا املعلنة إىل املرشعني والبريوقراطيني والقضاة وغريهم من‬
‫املسؤولني‪ .‬يُفرتض عمو ًما أن يلتزم هؤالء املوظفون باألوامر التي يتلقونها‪ ،‬حتى تلك‬

‫‪353‬‬
‫املتعارضة مع تفضيالتهم الخفية أو العلنية‪ .‬غري أنهم‪ ،‬عمل ًيا‪ ،‬يتبعون عاد ًة سياسات تحيد‬
‫عن تكليفاتهم‪.‬‬
‫يتمثل أحد مصادر االنحراف يف أن املسؤولني يتلقون توجيهات عرب رموز قابلة‬
‫للتفسري – أصوات‪ ،‬وكلامت‪ ،‬وإحصائيات وصور‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ترتك توجيهاتهم مجاالً للتقدير‪.‬‬
‫تسلسال هرم ًيا‪ ،‬مع تلقي أولئك املوجودون‬
‫ً‬ ‫تتفاقم املشكلة عندما يشكل املوظفون املعنيون‬
‫يف األسفل أوامرهم عرب سالسل من الوسطاء‪ .‬مع تحريف أعضاء السلسلة توجيهاتهم عن‬
‫غري قصد‪ ،‬ميكن أن تختلف األوامر املنقولة إىل العضو األخري عن تلك التي يسمعها العضو‬
‫األول‪ .‬تشري التجارب إىل أن التحول الرتاكمي ميكن أن يكون جوهري‪ .‬يف تجربة كالسيكية‪،‬‬
‫‪12‬‬
‫تحول رسم البومة‪ ،‬عند تكرارها عىل التوايل بواسطة مثانية عرش فر ًدا‪ ،‬إىل صورة قطة‪.‬‬
‫يُقصد من بعض التعليامت الشفهية أن تظل سارية حتى أجل غري مسمى‪ ،‬كام هو‬
‫الحال عندما يقصد من توجيهات مرشف املدرسة حول كيفية التعامل مع الغش توجيه‬
‫املعلمني حتى إشعار آخر‪ .‬يحفظ هذا التوجيه بالذاكرة‪ ،‬ليسرتجع عند الحاجة‪ .‬لكن الذاكرة‬
‫‪13‬‬
‫ويفصل ويشوه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال تكرر بشكل مثايل‪ .‬يف كل عملية استدعاء يخترص جوهرها‬
‫ميكن وقف بعض التشوهات عن طريق كتابة التعليامت‪ .‬لكن التواصل الكتايب ال‬
‫أوال يف الذاكرة‪ ،‬ولو لبضع ثوانٍ فقط‪ ،‬قبل اسرتجاعه‬
‫مينع كل التشوهات‪ ،‬ألنه يُحفظ ً‬
‫للتطبيق‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬مثة مصدر آخر للتشويه يعتمد عىل شكل االتصال‪ .‬ال ميكن ملخطط‬
‫مفصال‪ ،‬أن يغطي جميع الحاالت الطارئة املحتملة؛ ألن تخيل املستقبل‬
‫ً‬ ‫العمل‪ ،‬مهام كان‬
‫يستهلك وق ًتا مثي ًنا‪ .‬وال ميكن للمخطط أن يوضح األساس املنطقي وراء كل مواصفاته‪ ،‬ألن‬
‫حتام‪ ،‬مواقف تتطلب منهم استنتاج النوايا من‬
‫ً‬ ‫التواصل مكلف‪ .‬لذلك يواجه املوظفون‪،‬‬
‫مواصفات غري مكتملة ومربرة جزئ ًيا فحسب‪ .‬هل يجب تطبيق القاعدة ‪ A‬يف املواقف التي‬
‫تغطيها القاعدة ‪ B‬بالفعل؟ ما الذي يشكل «حالة الطوارئ»‪ ،‬وعندما تحدث إىل أي مدى‬
‫ميكن للمرء أن يقيد الحريات ‪ C‬و‪D‬؟ يف مواجهة مثل هذه األسئلة‪ ،‬قد يجد املوظفون‬
‫مخططًا ملي ًئا بالثغرات والغموض‪ 14.‬وبالتايل‪ ،‬قد يضطرون يف محاولتهم اتباع املخطط‬

‫‪354‬‬
‫إىل االنخراط يف تفسري إبداعي‪ .‬ستكون خياراتهم مقيدة‪ ،‬بالطبع‪ ،‬بالحوار العلني والسياق‬
‫والسوابق‪ .‬لكن هذه العوامل ترتك لهم عاد ًة خيارات عديدة‪.‬‬
‫الشكل اآلخر من أشكال االنحراف هو إساءة االستخدام الواعية للسلطة‪ ،‬التي ميكن‬
‫أن تدعى تفسري خدمة الذات‪ .‬بخالف التفسريات اإلبداعية‪ ،‬التي تولدها القيود املعرفية‬
‫ملوظفي املجتمع‪ ،‬تتاح تفسريات خدمة الذات بفضل قيود األشخاص املكلفني بخدمتهم‪ .‬ال‬
‫ميكن ألي مجتمع ابتكار كلمة مميزة لوصف كل غرض‪ ،‬أو تفصيل‪ ،‬أو ظاهرة أو حالة‪.‬‬
‫وميكّن انعدام الدقة اللغوية الناتج املوظفني من التظاهر بأنهم التزموا بتعليامتهم‪ ،‬رغم‬
‫‪15‬‬
‫معرفتهم أنه كان ينبغي عليهم الترصف بشكل مختلف‪.‬‬
‫لن تكون إساءة استخدام املوظفني لسلطتهم واضح ًة بالّضورة‪ .‬يعود ذلك جزئ ًيا إىل‬
‫أن مراقبي أفعالهم ملزمون بالتغايض عن بعض العالقات ذات الصلة‪ .‬لنفرتض أن ضابط‬
‫الجامرك الفاسد يعفي من رسوم االسترياد التي يقتضيها القانون‪ .‬يخفض االنتهاك يف حد‬
‫ذاته اإليرادات التعريفية‪ .‬ويصادف أن يؤدي االزدهار االقتصادي إىل زيادة الواردات‪ ،‬ما‬
‫يزيد اإليرادات التعريفية كفاي ًة لتعويض االنخفاض الناجم عن اإلعفاء غري القانوين‪ .‬لن‬
‫يكون لدى املراقبني املتغاضني عن االرتباط بني اإليرادات التعريفية والنمو اإلجاميل أي‬
‫سبب للشك يف أي مخالفة‪.‬‬
‫من حيث املبدأ‪ ،‬ميكن منع تفسريات خدمة الذات من خالل املراقبة‪ .‬ولكن املراقبني‬
‫أنفسهم موظفون‪ ،‬وليس ملشكلة مراقبة املراقبني حل نهايئ‪ .‬قد يساعد األفراد العاديون يف‬
‫مراقبة املسؤولني الذين يتواصلون معهم‪ ،‬كأن يبلغ املواطنون الرشطة عن الفساد‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫ال تعد املراقبة التطوعية موثوقة عادةً‪ .‬ألنه ليس من الّضوري أن يتطابق الرأي العلني مع‬
‫أي تفضيل شخيص محدد‪ ،‬فقد يكون لدى الشخص الذي يشهد خيانة للرأي العلني دافع‬
‫شخيص للتكتم‪ .‬وحتى إن وجد أن الخيانة ُمسيئة‪ ،‬قد يرغب يف تجنب التكلفة الشخصية‬
‫لتقديم تقرير‪.‬‬

‫‪355‬‬
‫يف انتهاكهم لتكليفاتهم‪ ،‬يغري املوظفون تجارب السياسة التي يتعرض لها ناخبوهم‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬يؤثر املوظفون عىل كيفية تطور التفضيالت الخفية‪ ،‬مع تداعيات متسلسلة‬
‫محتملة عىل املتغريات العلنية‪ .‬تح ُّد هذه النقطة من املفهوم القائل إن القوة السياسية تنبع‬
‫قليال منها‬
‫من الرأي العلني‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬رغم أن انحرافات املوظفني السياسية شائعة‪ ،‬لكن ً‬
‫يكون ذا تأثريات عميقة ودامئة‪ .‬تُلغي العديد من االنحرافات بعضها البعض‪ ،‬كام يحدث‬
‫عندما يطبق بعض املعلمني قانونًا تأديب ًيا بشكل صارم ج ًدا والبعض اآلخر بشكل متساهل‬
‫ج ًدا‪ ،‬لتحقيق التنفيذ الصحيح وسط ًيا‪ .‬ويف أي حال‪ ،‬حتى االنحرافات الكبرية قد ترتك الرأي‬
‫العلني دون تأثري‪.‬‬

‫الدائريات الخفية‬
‫عندما يؤثر تبدل يف أحد املتغريات داخل نظام عىل آخر‪ ،‬فقد يحدث التأثري عرب سلسلة من‬
‫التعديالت الخطية‪ ،‬كام هو الحال عندما يؤدي تبدل يف ‪ a‬إىل تحويل ‪ ،b‬والتبدل يف ‪ b‬إىل‬
‫تحويل ‪ ،c‬والتبدل يف ‪ c‬إىل تحويل ‪ .d‬وعوضً ا عن ذلك‪ ،‬قد يتضمن التأثري سلسلة دائرية‪،‬‬
‫كام هو الحال عندما ‪ a‬يحول ‪ ،b‬و‪ b‬يحول ‪ ،c‬و‪ c‬يحول ‪ ،a‬وهكذا إىل الالنهاية‪ .‬ركز هذا‬
‫مثال‪ ،‬أن تفسري الرأي العلني‬
‫الكتاب عىل عالقات عديدة من النوع األخري‪ .‬لقد اقرتحت للتو‪ً ،‬‬
‫الذي يخدم الذات قد يغري املعرفة الخفية‪ ،‬وبالتايل الرأي الخفي؛ وأن التعديالت يف الرأي‬
‫الخفي قد تعيد تشكيل الرأي العام؛ وأن الرأي العلني الجديد قد يستأنف العملية برمتها من‬
‫خالل الضغط عىل النظام السيايس إلجراء املزيد من التغيريات السياسية‪ .‬يتمثل االختالف‬
‫األسايس بني العالقات الخطية والدائرية يف أن الصدمات الصغرية يف األخري قد تكون‬
‫مضخمة ذات ًيا‪.‬‬
‫‪16‬‬

‫تظهر الدائريات الرئيسية التي نوقشت يف هذا الكتاب يف الشكل ‪ .1-17‬ميثل‬


‫الجانب األيّس من الشكل مجال التفاهامت‪ ،‬والتصورات‪ ،‬واألحكام واملشاعر‪ .‬تشري‬
‫الصناديق املتقطعة حول املتغريين الرئيسيني‪ ،‬املعرفة الخفية والرأي الخفي‪ ،‬إىل أنهام غري‬

‫‪356‬‬
‫أساسا‪ .‬ميثل الجانب األمين من الشكل مجال السياسة‪ .‬متغرياته يف صناديق‬
‫ً‬ ‫ملحوظني‬
‫مغلقة‪ ،‬ألنها ملحوظة نسب ًيا‪ .‬تصور األسهم املرقمة الدائريات الرئيسية‪ .‬ميثل ‪ I‬تأثري الرأي‬
‫الخفي عىل السياسة؛ ميثل ‪ IIa‬التأثري املتبادل للرأي العلني والحوار العلني عىل املعارف‬
‫ريا‪ ،‬ميثل ‪ IIb‬و‪ IIc‬التعليقات من نتائج الخيارات السياسية الفعلية‬
‫الخفية األساسية؛ وأخ ً‬
‫إىل املعرفة الخفية‪ .‬جميع األسهم املرقمة مقطعة‪ ،‬لإلشارة إىل أنها متثل عالقات ال ميكن‬
‫مالحظتها إال بشكل ناقص‪.‬‬
‫يتعلق الشكل بجدل طويل األمد حول الدور التطوري لألفكار‪ .‬يقول العديد من‬
‫مؤرخي الفكر وعلامء األنرثوبولوجيا الثقافية إن منبع التغيري االجتامعي يكمن عمو ًما يف‬
‫مجال األفكار‪ .‬ووفقًا لهذا املنطق‪ ،‬يجب أن يبدأ التفسري التاريخي عاد ًة بّسد ملا كان يفكر‬
‫فيه الناس‪ .‬يعامل علامء آخرون‪ ،‬مبن فيهم العديد من املاركسيني‪ ،‬البنية االقتصادي‬
‫كـ«قاعدة» واألفكار كـ«بنية فوقية»‪ .‬ينبع التغيري االجتامعي‪ ،‬يف رأيهم‪ ،‬من املؤسسات التي‬
‫تشكل البنية االقتصادية‪ .‬يتطلب التفسري التاريخي السليم‪ ،‬قبل كل يشء‪ ،‬االنتباه إىل تطور‬
‫املؤسسات االقتصادية‪ .‬يعطي املوقف األول أولوية مطلقة لعوامل األفراد الداخلية (الجانب‬
‫األيّس من الشكل)؛ بينام يعطي املوقف األخري أولوية لعوامل األفراد الخارجية (الجانب‬
‫مثال‪ ،‬أن الروح الرأساملية تصنع الرأساملية؛ بينام يدعي اآلخر أن‬
‫األمين)‪ .‬يؤكد أحدهام‪ً ،‬‬
‫الرأساملية تصنع الروح الرأساملية‪.‬‬
‫يظهر كل من هذين الرأيني ما يسمى «مغالطة األولوية املطلقة»‪ 17.‬وهي املفهوم‬
‫مثال‪ ،‬أن العالقة بني‬
‫القائل بأن أي سلسلة سببية يجب أن متلك حد أول مطلق‪ .‬إنها تعني‪ً ،‬‬
‫الدجاجة والبيضة يجب أن تبدأ بإحداهام‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬من خالل السامح بالدائرية‪ ،‬وبالتايل‬
‫هام أفضل للعالقة‪ .‬وباملثل‪ ،‬نحقق‬
‫التعامل مع كل كيان عىل أنه مصدر ومنتج م ًعا‪ ،‬نكتسب ف ً‬
‫تقدي ًرا أكرث واقعية للنظام االجتامعي مبجرد إدراكنا عدم وجود قاعدة دامئة وال بنية فوقية‬
‫دامئة‪ .‬فاملؤسسات هي السبب واملسبب‪ ،‬وينطبق األمر نفسه عىل األفكار‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫إن تحديد عملية دائرية ال يعني إنكار فائدة دراسة مكوناتها‪ .‬إذ يتعلم املرء الكثري من‬
‫دراسة كيف أدت عيوب الشيوعية إىل خيبة أمل جامعية‪ ،‬وأيضً ا من دراسة كيف شكلت‬
‫التيارات الفكرية تصورات األوروبية الرشقية‪ .‬ولكن يجب معاملة هذه التحليالت املركزة عىل‬
‫أنها مكونات مكملة لتحقيق تطوري وحيد‪ ،‬وليس كتفسريات منافسة‪.‬‬
‫قد يطغى أحد مكونات عالقة دائرية يف أي وقت‪ ،‬بالطبع‪ ،‬عىل جميع املكونات‬
‫األخرى‪ .‬بداللة الشكل ‪ ،17.1‬يف نهاية عام ‪ 1989‬كانت القوة املهيمنة يف السياسات‬
‫األوروبية الرشقية هي التأثري ‪ ،I‬الذي اتخذ شكل معارضة علنية متفشية‪ .‬وكان التأثري ‪IIa‬‬
‫فعاال أيضً ا‪ ،‬حيث دفع تحول الحوار العلني املرتبط املاليني إىل إعادة تقييم قناعاتهم حول‬
‫ً‬
‫االشرتاكية‪ .‬لكن التعديالت املعرفية قد تكون بطيئة‪ ،‬لذا ظلت جارية عندما كانت الشيوعية‬
‫فعال‪.‬‬
‫تنهار ً‬

‫الشكل ‪ 17.1‬الدائريات الخفية للتطور االجتامعي‪ .‬ال ميكن مالحظة املتغريات عىل اليسار‬
‫مبارشةً؛ ميكن مالحظة تلك التي عىل اليمني‪.‬‬

‫التغيري املتقطع‬

‫‪358‬‬
‫تقودنا مالحظة أن مكونات عالقتنا الدائرية ميكن أن تعمل‪ ،‬يف أي وقت‪ ،‬بّسعات مختلفة‬
‫إىل موضوع تطوري بارز آخر‪ :‬التغيري املتقطع‪ .‬يف أثناء تأرجح النظام الشيوعي يف‬
‫تشيكوسلوفاكيا عىل شفا االنهيار‪ ،‬علق فاتسالف هافيل‪« :‬بدأ التاريخ يتطور بّسعة كبرية‬
‫يف هذا البلد‪ .‬يف بلد ظل عالقًا يف الزمن لـ‪ 20‬عا ًما‪ ،‬نشهد اآلن هذه الّسعة الرائعة»‪ 18.‬يف‬
‫حامسة تلك اللحظة‪ ،‬مل يدرك هافيل رمبا أنه قد دخل يف جدل طويل األمد حول إمكانية‬
‫وجود انقطاعات تطورية‪ .‬يكرم الشعار ‪ – nature non facit saltum‬الطبيعة ال تقفز‪،‬‬
‫عىل صفحة العنوان لكتاب ألفريد مارشال املؤثر مبادئ االقتصاد‪ .19‬يقرتح هذا الشعار‪،‬‬
‫الذي أشاعه اليبنيتز سابقًا‪ ،‬أن التطور يحدث دامئًا من خالل تغريات صغرية ومستمرة‪.‬‬
‫يستخدم مصطلح «التطور» غال ًبا يف معنى التغيري التدريجي‪ .‬استمد هذا املعنى‬
‫دعام من نظرية التطور البيولوجي لتشارلز داروين‪ ،‬التي تفّس عاد ًة بأنها تقول‬
‫للمصطلح ً‬
‫إن األنواع تظهر وتختفي من خالل التأثريات البطيئة واملستمرة للتنافس البيولوجي‪ 20.‬ولكن‬
‫عززت نظرية داروين أيضً ا معنى آخر‪ :‬التغيري املحكوم بالطفرة واالنتقاء‪ .‬ال يتوافق املعنى‬
‫الثاين بالّضورة مع املعنى األول‪ 21.‬توضح بعض النظريات البيولوجية أن الطفرات‬
‫واالنتقاء الطبيعي ينتجان تغيريات مستمرة ومتقطعة‪ .‬تفرتض هذه النظريات وجود‬
‫توازنات بيئية «متقطعة» متعاقبة – حاالت مستقرة تفسح املجال‪ ،‬عىل مدى فرتات زمنية‬
‫قصرية‪ ،‬لحاالت مستقرة جديدة‪ 22.‬وبالتايل‪ ،‬تفّس الفجوات التي يجدها العديد من علامء‬
‫الحفريات يف السجالت األحفورية‪ 23.‬وترشح أيضً ا ملاذا تبدو االنقراضات الجامعية أكرث‬
‫‪24‬‬
‫تكرا ًرا وأرسع مام تصور العلامء سابقًا‪.‬‬
‫مثل علم األحياء الحديث‪ ،‬تعالج بعض النظريات االجتامعية املعارصة التغيريات‬
‫املستمرة واملتقطعة كجزء من عملية واحدة موحدة‪ .‬يف نظرية التطور التكنولوجي لجويل‬
‫موكر‪ ،‬مهدت العديد من االبتكارات الصغرية الطريق للتقدم التكنولوجي‪ 25.‬ويف نظرية‬
‫املنافسة التكنولوجية التي طورها بريان آرثر وبول ديفيد‪ ،‬قد تنترش التكنولوجيا تدريج ًيا‬

‫‪359‬‬
‫أو رسي ًعا‪ ،‬اعتام ًدا عىل تفاعالت مختلفة‪ .‬قد تظل الخيارات التكنولوجية ثابتة لفرتات طويلة‬
‫‪26‬‬
‫تتخللها حلقات من التكيف الواسع‪.‬‬
‫يف النظرية االجتامعية لهذا الكتاب‪ ،‬تتعايش التغريات املستمرة واملنقطعة أيضً ا‪ .‬ويف‬
‫الواقع‪ ،‬إنها مرتبطة سبب ًيا‪ .‬قد تزعزع األحداث الصغرية املنترشة عىل مدى فرتة طويلة –‬
‫تجارب شخصية جديدة‪ ،‬وفشل التواصل‪ ،‬وتشوهات السياسة– استقرار الوضع السيايس‬
‫القائم فجأ ًة‪ ،‬وتولد تحوالت ثورية يف الرأي العلني‪ ،‬والحوار العلني‪ ،‬والنظام االجتامعي‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬تتامىش االنقطاعات السياسية مع التطور املستمر للخصائص الفردية‪ .‬ال تتطلب‬
‫الثورة انقطا ًعا مسبقًا يف املعرفة والرأي الخفيين‪ .‬وال يلزم أن تتبعها تغيريات مفاجئة يف‬
‫املتغريات الخفية‪.‬‬
‫ميكن أن تكون النتائج السياسية العلنية يف حالة تقلب رسيع يف ظل خلفية من‬
‫التغريات البطيئة للخصائص الفردية‪ ،‬هذا ما أدركه غوستاف لو بون يف نهاية القرن التاسع‬
‫حا محافظة» وهي «أعند املحافظني عىل األفكار‬
‫عرش‪ .‬الحظ أن الحشود متتلك «رو ً‬
‫التقليدية»‪ ،‬ومع ذلك تتخلص أحيانًا من جمودها بـ«فجائية مذهلة» وتطيح باملؤسسات‬
‫املوقرة‪ 27.‬وتابع لو بون أن الفجائية ليست سوى «تأثري سطحي يجب البحث فيام وراءه عن‬
‫إجراء متهيدي وتحضريي طويل األمد»‪ 28.‬وهكذا شعر لو بون أن االستمرارية غري امللحوظة‬
‫قد تكون مصد ًرا لالنقطاعات امللحوظة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مل يقدم أي إطار تحلييل لتوضيح سبب‬
‫فشل التطورات ذات العواقب الوخيمة يف جذب االنتباه‪.‬‬
‫يوحي متييز هذا الكتاب بني الذات الخفية والعلنية بالتفسري املفقود‪ .‬وأسارع إىل‬
‫اإلشارة إىل أنه ال يشء يف حجتي يستبعد التغيريات املفاجئة يف املعرفة أو الرأي الخفي‪.‬‬
‫ميكن أن يكون هناك أيضً ا انقطاعات يف املجال الخفي‪ ،‬كام هو الحال عندما تؤدي قفزة يف‬
‫معدل البطالة إىل تحول الرأي العلني بحدة ضد النظام االقتصادي السائد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬عند‬
‫حدوث االنقطاعات الخفية‪ ،‬ال تولد بالّضورة انقطاعات علنية‪ .‬لقد أوضحت كيف ميكن‬
‫للعتبات أن تتحرك عكس الوضع القائم دون إنتاج طلب علني للتغيري‪.‬‬

‫‪360‬‬
‫بالطبع‪ ،‬مثة ظروف تحدث فيها االنقطاعات العلنية والخفية تتابع رسيع‪ .‬يف أثناء‬
‫الثورة التي تحدث تغيري حاد يف الحوار العلني‪ ،‬تصبح املسائل املحسومة منذ فرتة طويلة‬
‫محور االهتامم‪ ،‬ويتعرض الجميع لحجج إصالحية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬تيل االنقطاعات العلنية‬
‫انقطاعات خفية‪ .‬ومن األمور الحاسمة ملثل هذه النتيجة هو قلة األفراد املفكرين عميقًا يف‬
‫املسائل األساسية للنظام االجتامعي يف أي مجتمع‪ .‬يفتقر األشخاص الذين يتحكم الدليل‬
‫االجتامعي يف آرائهم بشكل رئييس عاد ًة إىل القدرة عىل املقاومة العقلية للمطالب‬
‫االجتامعية الجديدة‪.‬‬
‫لوحظ أن معتقداتنا تكون أقوى عندما تتعرض لهجوم طفيف‪ ،‬ألننا ندرك يف هذه‬
‫الحالة ضعفها ونتعلم كيفية التصدي لالنتقادات‪ .‬إذ يؤدي التعرض املسبق لالعرتاضات‬
‫الطفيفة إىل تكوين مقاومة لإلقناع الالحق‪ ،‬ما يعرقل التغريات الحادة يف املعرفة‬
‫والتفضيالت الخفية‪ 29.‬وبالتبعية‪ ،‬تعترب املعتقدات التي مل يفكر يف حججها املضادة أسهل‬
‫ريا من تلك التي حظيت حججها املضادة‪ ،‬رغم اعتبارها غري قابلة للتفكري‪ ،‬ببعض‬ ‫تغي ً‬
‫التعرض العلني عىل األقل‪ .‬عندما تتحدى الثورة عدة معتقدات الراسخة‪ ،‬فقد تكون املعتقدات‬
‫أوال هي تلك التي حظيت بأكرب حامية من التحديات العلنية‪.‬‬
‫الخاضعة ً‬

‫النتائج االجتامعية غري املبنية وغري املقصودة‬


‫تشري إمكانية التغيري االجتامعي املتقطع إىل أن التصورات الفردية والخربات واالختيارات‬
‫قد تكون ذات عواقب اجتامعية كبرية عىل نحو غري متناسب‪ .‬ويعني وجود عالقات دائرية‬
‫جا‬
‫خفية أن التغيريات قد تحدث من خالل طرق غري مراقبة متا ًما‪ .‬تنتج هاتان املالحظتان زو ً‬
‫أوال‪ ،‬بقدر ما تنجم النتائج االجتامعية عن التفاعالت بني اإلجراءات‬
‫من اآلثار اإلضافية‪ً .‬‬
‫الفردية واالستجابات الجامعية والبنى االجتامعية املوجودة مسبقًا‪ ،‬لن يستحق أي شخص‬
‫أو مجموعة التقدير الكامل لنتيجة مكتشفة‪ .‬فالنتائج االجتامعية امللحوظة ال بد من أن تكون‬

‫‪361‬‬
‫غري مبنية‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬ال ميكن ألحد أن يتخيل بثقة جميع العواقب طويلة املدى ألي خيار معني‪.‬‬
‫ستكون هناك نتائج اجتامعية غري مقصودة‪.‬‬
‫تُوضَّ ح النقاط الجديدة من خالل التحول الطويل الذي أدى إىل علمنة أوروبا‪ .‬بعد‬
‫قرون من بدء التحول‪ ،‬يوجد اآلن إجامع صادق إىل حد ما لصالح تقييد القوة السياسية‬
‫الكنسية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن تحميل الداعمني السابقني للعلامنية املسؤولية عن املسارات املؤدية‬
‫إىل الحارض‪ ،‬أو أشكال الحكم السائدة‪ ،‬أو املواقف الحالية تجاه الدين سيكون خاطئًا‪ .‬عىل‬
‫الرغم من أنه ميكن تحديد الجهود املتميزة‪ ،‬والكتابات املؤثِّرة‪ ،‬والشخصيات القوية‪،‬‬
‫واألحداث الحاسمة‪ ،‬ال يتح َّمل أي شخص أو مجموعة مسؤولية‪ ،‬أو يستحق الثناء‪ ،‬عن كل ما‬
‫تحقَّق باسم العلامنية‪ .‬إن األوروبيني الذين دعموا وجهة نظر عاملية جديدة –عن طريق‬
‫مثال‪ ،‬لتحرير الكتب املدرسية من وجهات النظر الالهوتية– تركوا بال شك بصمة‬
‫النضال‪ً ،‬‬
‫عىل تطور املجتمع األورويب‪ .‬ولكن الثورة األيديولوجية ليست أب ًدا نتاج النشطاء السياسيني‬
‫أساسا‪ ،‬من خالل االتصاالت املتنوعة‬
‫ً‬ ‫وحدهم‪ .‬يُحدد انتشار األفكار الجديدة جزئيًا‪ ،‬إن مل يكن‬
‫التي تشكل الحوار العلني العادي‪ .‬ال ميكن التحكم بدقة يف هذه االتصاالت أو يف تطور‬
‫الحوار العلني الذي يتبعها‪ .‬إن الشعور بأن نجاح األجندة يعتمد عىل تطور الحوار العلني‬
‫يشء‪ ،‬وتوجيه هذا التطور يشء آخر متا ًما‪.‬‬
‫لئال تبدو العقبات التي تواجه التحكم يف عملية اجتامعية معقدة واضحة‪ ،‬فمن‬
‫الجدير بالذكر أن هذه النقطة مل تحظ أب ًدا بقبول عاملي‪ .‬متتلئ سجالت الفكر االجتامعي‬
‫فمثال‪ ،‬يعترب‬
‫ً‬ ‫بتفسريات تنسب املؤسسات االجتامعية إىل خياالت وتصاميم أفراد معروفني‪.‬‬
‫مساهام مؤث ًرا يف التاريخ الهندي‪ ،‬نظام الطبقات إبداع واعي ملرشعني‬
‫ً‬ ‫آيب دوبوا‪ ،‬الذي كان‬
‫حكامء‪ .‬ووصفه ذات مرة بأنه «تحفة‪ ،‬أجمل جهد‪ ،‬للترشيع الهندي»‪ 30.‬يف الواليات املتحدة‪،‬‬
‫تقدم بعض الكتب املدرسية التاريخ األمرييك عىل أنه تجيل لخطة رائعة وضعها مؤسسو‬
‫البالد‪ .‬هناك أيضً ا حجج تعزو الرشور مثل الحرب والفقر إىل كيانات مثل وكالة املخابرات‬
‫املركزية و«مؤسسة الرشكات»‪.‬‬

‫‪362‬‬
‫تحتوي هذه التفسريات «البنائية» مغالطات عديدة‪ .‬أولها هو أن الرابحني والخارسين‬
‫فمثال‪،‬‬
‫ً‬ ‫من نتيجة اجتامعية يشكلون فئات ثابتة‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ميكن لألفراد التنقل بني الفئات‪.‬‬
‫إن الشخص الذي يشعر بالتهديد من سياسة مقرتحة قد يّسه اكتشاف‪ ،‬أثناء التنفيذ‪ ،‬أنها‬
‫متنحه العديد من املزايا‪ .‬املغالطة الثانية للبنائية هي معاملتها للجامهري إما كضحايا‬
‫عاجزين ملخططات رشيرة أو كمستفيدين محظوظني من الحكمة والتعاطف‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫تساهم الجامهري يف الظواهر التي تؤثر عليهم‪ ،‬مبا فيها الضارة‪ .‬لعبت الطبقات الدنيا دو ًرا‬
‫يف استمرارية النظام الطبقي‪ ،‬حتى لو كان ذلك فقط باملساعدة يف معاقبة املخالفني‬
‫للقوانني‪ ،‬أما املغالطة الثالثة فهي فكرة أن املروجني لنتيجة ما يجب أن يرغبوا يف تحقيقها‪.‬‬
‫جا ثانويًا لجهودهم‬
‫رسا‪ ،‬وقد يكون كل ما يبنونه نتا ً‬
‫قد يروج الناس لنتائج يخشونها ً‬
‫ريا‪ ،‬من الخطأ معاملة الفاعلني االجتامعيني عىل أنهم عىل‬
‫للحفاظ عىل سمعة رشيدة‪ .‬أخ ً‬
‫دراية غري محدودة بالظروف واإلمكانات االجتامعية‪ .‬ال ميكن للفاعلني الساعني ألهداف‬
‫معينة أن يكونوا متأكدين أب ًدا من ردود الفعل التي ستولدها‪ ،‬وبالتايل ال ميكنهم اتباع‬
‫‪31‬‬
‫اسرتاتيجيات مقاومة الفشل‪.‬‬
‫إذا كانت النتيجة االجتامعية هي عمل مجموعة صغرية‪ ،‬وبقية املجتمع مجرد‬
‫مشاهدين‪ ،‬فقد يكون مرب ًرا أن يُنسب الفضل يف النتيجة إىل هذه املجموعة وأن يُلقى اللوم‬
‫عليها يف السيئات‪ .‬ولكن إذا كان الجميع قد ساهم يف النتيجة –بعضهم عن طريق تخيلها‪،‬‬
‫وآخرون عن طريق اقرتاحها وتربيرها‪ ،‬وآخرون بإخفاء شكوكهم– فال يعفى أحد من‬
‫املسؤولية‪ .‬كام قلت يف الفصل التاسع‪ ،‬إن «الضحايا» رشكاء يف بناء دورهم كضحايا‪ ،‬حتى‬
‫لو مل يقصدوا الّضر ألنفسهم‪.‬‬
‫تنشأ بعض النتائج بواسطة مجموعات أوسع من الفرق التي سعت إليها بوعي‬
‫جا ثانويًا غري متوقع إلجراءات متخذة ألغراض‬
‫وإرادة‪ ،‬يف حني يكون بعضها اآلخر نتا ً‬
‫فمثال‪ ،‬بحث كريستوفر كولومبوس عن الهند واكتشف قارة تسد الطريق‪ .‬ويف‬ ‫ً‬ ‫مختلفة‪.‬‬
‫العصور الوسطى‪ ،‬سعت املسيحية إىل منع اليهود من العمل يف الزراعة‪ ،‬فأجربتهم عىل‬

‫‪363‬‬
‫التخصص يف التجارة والبنوك؛ واستفاد أحفادهم بصورة غري متكافئة من التحوالت‬
‫االقتصادية الالحقة‪ .‬ما مييز هذه النتائج عن النتيجة غري املبنية هو أنها مل يقصدها أي‬
‫شخص‪ .‬فلم يكن ينوي املسيحيون الذين قيدوا الخيارات االقتصادية لليهود منح اليهود‬
‫الحقًا انطالقة جيدة يف اقتصاد املستقبل‪ .‬ومل يفعل اليهود الذين احرتموا القيود ذلك لصالح‬
‫أحفادهم البعيدين‪ .‬بل فعلوا ذلك من أجل البقاء الفوري‪ .‬وعىل النقيض من ذلك‪ ،‬ضمت‬
‫الحكومات الشيوعية يف رشق أوروبا أفرا ًدا ملتزمني حقًا بالتخطيط االقتصادي املركزي‪ .‬إن‬
‫مساهمة املواطنني الخانعني يف خلق اقتصاد مخطط ال ينفي حقيقة أن آخرين فعلوا بذلك‬
‫بوعي وإرادة‪.‬‬
‫السبب الجذري للعواقب غري املقصودة هو أن الخيارات التي نتخذها يف قضية معينة‬
‫متس قضايا اعتربناها غري ذات صلة‪ ،‬ورمبا تؤثر أيضً ا عىل مسائل مل تعرف كقضايا بعد‪.‬‬
‫بالنسبة للمسيحيني الذين قيدوا االختيارات املهنية اليهودية‪ ،‬كان الهدف هو إبقاء الزراعة‬
‫يف أيدي املسيحيني‪ .‬مل تكن اآلثار التوزيعية لالقتصاد الصناعي املستقبيل مصدر قلق‪ .‬وكام‬
‫تبني‪ ،‬أدى التصنيع إىل زيادة قيمة املهارات التجارية واملالية‪ ،‬ما جعل القيود الزراعية تفقد‬
‫أهميتها‪.‬‬
‫عىل مر التاريخ‪ ،‬طالب الساعون إىل املجد مبنحهم الفضل يف النتائج الثانوية غري‬
‫املقصودة ألفعالهم‪ .‬وكان هناك دامئًا مراقبون مستعدون لالعرتاف بادعاءات زائفة‬
‫لإلنجازات‪ ،‬وحتى منح األمجاد ألشخاص أبرياء من متجيد الذات‪ .‬هناك كتب تاريخ تنسب‬
‫الفضل لقادة اإلصالح الربوتستانتي يف إرساء أسس العمل لالقتصاد الحديث‪ .‬رغم كفاح‬
‫الكثريين الستعادة بساطة وأخوة املايض املتخيل‪ .‬وصادف أن هجومهم عىل الفساد الكنيس‬
‫أضعف سلطة الكنيسة‪ ،‬ما أدى إىل تّسيع التطورات ذاتها التي حاولوا عكسها‪ .‬عىل الرغم‬
‫‪32‬‬
‫من أن عملهم قد مهد بالفعل الطريق للثورة الصناعية‪ ،‬لكن الفائدة مل تكن مقصودة‪.‬‬
‫يتضمن هذا التطور االجتامعي نتائج غري مبنية وغري مقصودة متوافقة متا ًما مع‬
‫العمل البرشي الهادف واملحسوب‪ .‬تكمن وراء جميع النتائج االجتامعية –املتوقعة وغري‬

‫‪364‬‬
‫املتوقعة واملخطط لها وغري املخطط لها واملرغوبة وغري املرغوبة– قرارات فردية عديدة‪،‬‬
‫ينفذ كل منها استجاب ًة لدوافع داخلية وحوافز خارجية‪ .‬وقد لوحظ هذا بشكل متكرر‪.‬‬
‫‪33‬‬

‫أوال‪ ،‬يؤدي تزييف التفضيل إىل تشويه مجموعة املعارف‬


‫وميكن إضافة بعض النقاط‪ً .‬‬
‫العلنية حول النتائج غري املقصودة التي نالحظها‪ .‬هذا ألن مزيفي التفضيل ميتنعون عاد ًة‬
‫عن إفشاء الحقيقة غري املشوبة حول دوافعهم‪ .‬إنهم ال يعلنون أن مواقفهم كانت مدفوعة‬
‫جزئ ًيا‪ ،‬إن مل يكن غال ًبا‪ ،‬بدوافع سمعتهم‪ .‬تتوقف النقطة الثانية عىل حقيقة أن تصنيفاتنا‬
‫للفكر هي عمو ًما تصنيفات الحوار العلني‪ .‬فغال ًبا ما يكون عجزنا عن التنبؤ باآلثار غري‬
‫املقصودة هو قيد مشكل جامع ًيا‪.‬‬

‫انعدام الكفاءة املخفي‬


‫إذا كان يحتمل أن تكون النتائج االجتامعية غري مقصودة وغري مبنية‪ ،‬فقد ترتك الفوائد‬
‫املحتملة دون تحقيق أو تنتج خسائر صافية‪ .‬يتعارض هذا االدعاء مع وجهة النظر الشائعة‬
‫ج ًدا بأن كل ما يوجد هو األمثل بالّضورة‪ .‬يكمن أحد أشكال هذا التفاؤل الجامح يف‬
‫االقتصاد‪ .‬تعتقد بعض املدارس االقتصادية أن األسعار واملخرجات واملؤسسات‪ ،‬أو عىل األقل‬
‫حلوال فعالة لعمليات التحسني واملوازنة‪ .‬تفرتض الحجة‬
‫ً‬ ‫تلك التي تظهر ثباتًا‪ ،‬يجب أن متثل‬
‫مسبقًا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن ضغوط االختيار رسيعة التخلص من أوجه انعدام الكفاءة‪ ،‬مثلام يحدث‬
‫عندما تستسلم الرشكات ذات األسعار املرتفعة للمنافسة فو ًرا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ناد ًرا ما يتحقق‬
‫دعاة هذا الرأي مام إذا كانت ضغوط االختيار املستدعاة قوية كفاي ًة للحفاظ عىل الكفاءة‪.‬‬
‫‪34‬‬

‫تعترب االقتصاديات أيضً ا‪ ،‬رغم كل ميولها إىل رؤية الكفاءة‪ ،‬منبع حجة تشري إىل‬
‫حتمية أوجه انعدام الكفاءة املختلفة‪ .‬يُظهر منطق العمل الجامعي ملانكور أولسون أن‬
‫االنتفاع املجاين‪ ،‬وامليل إىل تجنب الدفع مقابل الفوائد املتاحة للدافعني وغري الدافعني عىل‬
‫حد سواء‪ ،‬يؤدي إىل نقص املعروض من السلع الجامعية مثل الحدائق والهواء النظيف‪ 35.‬ال‬
‫تستند إىل النظرية تزييف التفضيل‪ .‬ضمن إطار عمل أولسون‪ ،‬قد يكون من املعروف أن‬

‫‪365‬‬
‫املجتمع بأكمله يريد حديقة‪ ،‬وكذلك أن رغبة املجتمع املشرتكة يف الدفع تفوق التكلفة‬
‫املتوقعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يف غياب «الحوافز االنتقائية» املناسبة لن يساهم أحد‪ ،‬ولن تبنى‬
‫الحديقة‪.‬‬
‫يعد تزييف التفضيل بحد ذاته نوع آخر من االنتفاع املجاين‪ ،‬إذ يتم اللجوء إليه لتجنب‬
‫التكلفة الشخصية لتحقيق نتيجة اجتامعية مرغوبة‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فهو مصدر أسايس آخر‬
‫النعدام الكفاءة‪ .‬إذا كان الجميع يرغب يف تغيري النظام‪ ،‬ومع ذلك ال يعرب أحد عن ذلك‪ ،‬فإن‬
‫الوضع السيايس الحايل املكروه باإلجامع سيستمر‪ .‬يف حني يختلف تزييف التفضيل عن‬
‫االنتفاع املجاين األولسوين يف أن مامرسته ونتائجه قد تظل خفية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ميكن أن‬
‫تتجاوز الرغبة الفعلية يف التغيري الرغبة الظاهرة‪ ،‬وال يلزم االعرتاف بأوجه انعدام الكفاءة‬
‫الناتجة‪ .‬ميكن القول إن األفراد املميزين سيشعرون بشيوع تزييف التفضيل‪ .‬صحيح‪ ،‬ولكن‬
‫التوترات الجدية التي تؤدي إىل تزييف التفضيل قد تحول دون التعبري عن مثل هذه‬
‫االستنتاجات‪.‬‬
‫أوضحت يف الفصل السادس أن تزييف التفضيل يولد انعدام الكفاءة من خالل منع‬
‫التغيري‪ .‬لكن قد يقلل تزييف التفضيل يقلل من الرفاهية االجتامعية حتى عندما يعزز‬
‫التغيري‪ .‬لتبسيط األمور‪ ،‬افرتض أن هناك تطابقًا مثاليًا يف كل فرتة بني الرأي العلني وخيار‬
‫السياسة املنفذ‪ .‬أيضً ا‪ ،‬دع املنفعة الذاتية للشخص تساوي |𝑥 ‪ ،100 − |𝑌 −‬حيث ‪Y‬‬
‫ميثل الرأي العلني و‪ x‬ميثل تفضيله الخفي‪ .‬ووفقًا لهذه الصيغة‪ ،‬فإن املنفعة الذاتية هي‬
‫دالة تنخفض كلام زادت املسافة بني تفضيل الفرد الخفي والرأي العلني الذي يحدد اختيار‬
‫سياسة املجتمع الفعلية‪.‬‬
‫يف ضوء هذه الخلفية‪ ،‬أعد النظر يف املجتمع املمثل سابقًا بواسطة ‪ .E‬لقد أضفت‬
‫صفًا يعطي كل فرد منفعة ذاتية عندما يبلغ الرأي العلني‪ ،‬وبالتايل السياسة املطبقة‪.50 ،‬‬
‫ولقد حذفت الصف الذي يحتوي عىل العتبات‪.‬‬

‫‪366‬‬
‫التفضيالت‬
‫‪80 70‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60 50 45‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪25 20‬‬
‫الخفية‬
‫‪:‬‬
‫األفراد‬ ‫‪a‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪F‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪I‬‬ ‫‪j‬‬
‫‪E‬‬
‫‪10‬‬
‫‪ 70 80‬املنفعة الذاتية‬ ‫‪80‬‬ ‫‪90‬‬ ‫‪95‬‬ ‫‪90‬‬ ‫‪90‬‬ ‫‪75 70‬‬
‫‪0‬‬

‫إذا ج ّمعنا املنفعة الذاتية لجميع األفراد العرشة‪ ،‬سنجد أن املنفعة الذاتية االجتامعية تبلغ‬
‫‪.840‬‬
‫بعد مرور بعض الوقت‪ ،‬يرتفع التفضيل الخفي بـ ‪ f‬إىل ‪ ،50‬وتصبح ‪ E‬بالتايل ‪.E2‬‬
‫لقد رأينا بالفعل أن الرأي العلني سيثب إىل ‪ .100‬يعطي الصف األخري يف ‪ E2‬أدناه املنفعة‬
‫الذاتية لكل فرد عندما يكون الرأي العلني ‪.100‬‬
‫التفضيالت‬
‫‪80 70‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60 50 50‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪25 20‬‬
‫‪:E‬‬ ‫الخفية‬
‫‪2‬‬
‫األفراد‬ ‫‪a‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪F‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪h‬‬ ‫‪I‬‬ ‫‪j‬‬
‫‪ 80 70‬املنفعة الذاتية‬ ‫‪70‬‬ ‫‪60 50 50‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪25 20‬‬

‫يف حالة التوازن الجديد‪ ،‬تبلغ املنفعة الذاتية االجتامعية ‪ .505‬أدى تغيري طفيف يف‬
‫التفضيل الخفية لشخص واحد إىل انخفاض مقياس املنفعة الذاتية االجتامعية من ‪840‬‬
‫قليال‪ ،‬من ‪ 840‬حتى‪.845‬‬
‫حتى ‪ .505‬لو بقيت السياسة عند ‪ ،50‬الرتفع املقياس ً‬
‫دون معلومات حول املكونات التعبريية واملتعلقة بالسمعة للفائدة الفردية‪ ،‬ال ميكن‬
‫للمرء الجزم فيام إذا كان تحول السياسة غري فعال اجتامع ًيا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تثبت الحسابات‬
‫إمكانية حدوث مثل هذه النتيجة‪ ،‬ألن التغيريات يف املنفعة الذاتية ميكن أن تغمر بسهولة‬
‫التغيريات يف املنفعة التعبريية واملتعلقة بالسمعة‪ .‬تذكر من الفصل ‪ 2‬أنه عندما يكون عدد‬
‫‪367‬‬
‫ريا‪ ،‬فإن قرارات الكشف عن التفضيل تكون مستقلة فعل ًيا عن اعتبارات‬
‫صانعي القرار كب ً‬
‫ضئيال‪.‬‬
‫ً‬ ‫املنفعة الذاتية – ببساطة ألن األفراد يتوقعون أن يكون تأثريهم عىل نتيجة السياسة‬
‫حتى لو كانت التأثريات الذاتية لسياسة ما هائلة‪ ،‬فقد يؤسس أعضاء املجتمع تفضيالتهم‬
‫العلنية ذات الصلة عىل اعتبارات تعبريية وتخص السمعة فحسب‪.‬‬
‫الدرس الرئييس هنا هو أن التغيريات السياسة ال تكون لألفضل بالّضورة‪ .‬يف ظل‬
‫بعض الظروف‪ ،‬سيصبح املجتمع أسوأ بكثري‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬قد يكون التغيري املقلل‬
‫للكفاءة دامئًا ج ًدا‪ .‬ومتا ًما كام أنه ليس بالّضورة أن تكون السياسة االجتامعية املهجورة‬
‫غري فعالة‪ ،‬فإن استمرار السياسة ال يثبت أنها فعالة‪ 36.‬يف اإليضاح الذي قدم للتو‪ ،‬ينشأ‬
‫انعدام الكفاءة من املرونة املفرطة للرأي العلني‪ .‬فتغيري صغري يف توجه شخص واحد يجعله‬
‫يبدل موقفه السيايس‪ ،‬ما يغري الحوافز السياسية للجميع‪ .‬ثم تدفع الحوافز الجديدة الرأي‬
‫العلني حتى ‪ .100‬يف ظل ظروف أخرى‪ ،‬ينشأ انعدام الكفاءة من قلة مرونة للرأي العلني‬
‫– عدم استجابته للتغيريات يف التفضيالت الخفية‪ .‬تخيل أنه مع وجود الرأي العلني عند‬
‫‪ ،100‬تحول االتصاالت مع املجتمع الخارجي ‪ E2‬إىل‬
‫التفضيالت‬
‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬
‫الخفية‬
‫‪:E‬‬
‫‪4‬‬
‫األفراد‬ ‫‪a‬‬ ‫‪b‬‬ ‫‪c‬‬ ‫‪d‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪F‬‬ ‫‪g‬‬ ‫‪H‬‬ ‫‪I‬‬ ‫‪J‬‬
‫‪ 95 95‬العتبات‬ ‫‪95‬‬ ‫‪95 95 95‬‬ ‫‪95‬‬ ‫‪95‬‬ ‫‪95 95‬‬
‫املنفعة الذاتية‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪5‬‬

‫كال من الرأي العلني‬


‫يشري صف العتبة إىل أنه حتى مع مثل هذا التغيري الدراماتييك‪ ،‬سيظل ً‬
‫واالختيار العلني للمجتمع عالقني عند القيمة ‪ .100‬ويف هذه العملية‪ ،‬نرى من الصف األخري‬
‫أن املنفعة االجتامعية الذاتية ستنخفض حتى ‪.50‬‬

‫‪368‬‬
‫رسا‪ .‬يقدم املثال‬
‫عندما تقلل التعديالت املنفعة االجتامعية الذاتية فقد يكون الجميع خا ً‬
‫فمثال‪ ،‬إذا كانت‬
‫ً‬ ‫جا عىل ذلك‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬غال ًبا ما يكون هناك بعض الرابحني‪.‬‬
‫األخري منوذ ً‬
‫املجتمع سيخضع لالنتقال من ‪ E‬إىل ‪ ،E2‬فسيستفيد الشخص ‪ a‬من الزيادة الناتجة يف‬
‫‪37‬‬
‫السياسة مبقدار ‪ 50‬وحدة‪.‬‬
‫وحيث يكون هناك رابحون وخارسون‪ ،‬فإن األوائل قد يعوضون األخريين‪ ،‬حتى ال‬
‫يرتك أحد بحال أسوأ‪ .‬تُستخدم إمكانية التعويض أحيانًا لتربير التغيريات االجتامعية التي‬
‫تؤثر بشكل مختلف عىل أفراد املجتمع‪ .‬لكن عمل ًيا‪ ،‬ناد ًرا ما يتلقى الخارسون تعويضً ا كاف ًيا‪،‬‬
‫إن تلقوا أي تعويض عىل اإلطالق‪ .‬عادةً‪ ،‬ينتهي التغيري السيايس بإلحاق األذى بالعديد من‬
‫األفراد‪ .‬وحتى عندما يالحظ هذا‪ ،‬تُرتك هذه الحقيقة عاد ًة دون تربير‪ .‬يعد تزييف التفضيل‬
‫من األسباب األساسية لندرة التحويالت التعويضية‪ .‬تحث ضغوط الرأي العلني االمتثالية‬
‫املتّضرين عىل االمتناع عن املطالبة بالتعويض‪ ،‬خشية اإلرضار بسمعتهم‪ .‬فاألمرييك الذي‬
‫يتظاهر بدعم الحصص العرقية سيتخىل عن مشاعره الحقيقية إذا طالب بتعويض عن‬
‫التكاليف التي يتوقع أن يتحملها‪ .‬وبعدم التعبري عن مزاعمه‪ ،‬يخفي ما يعرفه عن تكاليف‬
‫العمل اإليجايب‪ ،‬وبالتايل يقلل من خطر اتهامه بالعنرصية‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬ميكن أن تؤدي التغيريات السياسية املدفوعة بالرأي العلني إىل تفاقم‬
‫الرفاهية االجتامعية‪ ،‬وقد تستمر أوجه انعدام الكفاءة الناجمة إىل أجل غري مسمى‪ .‬عالو ًة‬
‫عىل ذلك‪ ،‬حتى عندما تفوق مكاسب بعض األفراد خسائر اآلخرين‪ ،‬فإن تزييف التفضيل قد‬
‫مينع الخارسين من املطالبة بالتعويض – ناهيك عن تأمينه‪.‬‬

‫عيوب التطور االجتامعي‬


‫إذا كانت إحدى نظريات التطور البيولوجي امل ُفندة مؤخ ًرا هي أن األنواع تظهر وتختفي‬
‫تدريج ًيا‪ ،‬فإن األخرى هي أن النضال من أجل البقاء يصب دامئًا لصالح املتكيفني نسب ًيا‪.‬‬
‫يبدو اآلن أن التكيف ليس رضوريًا للبقاء وليس كاف ًيا‪ .‬ورغم وجود قوى تفيد األنواع التي‬

‫‪369‬‬
‫تتكيف جي ًدا مع بيئاتها‪ ،‬لكن النتائج البيولوجية تتشكل أيضً ا بالصدفة والطوارئ‪ 38.‬إذا‬
‫كانت الثدييات قد عاشت بعد انقراض الديناصورات‪ ،‬كام يالحظ ستيفن جاي غولد‪ ،‬فسبب‬
‫ليس أنها دفعت منافسيها إىل االنقراض من خالل أكل بيضها‪ .‬اختفت الديناصورات عىل‬
‫األرجح بسبب تأثري فضايئ نادر‪ .‬عاشت الثدييات ملاليني السنني قبل التأثري يف عامل تهيمن‬
‫مؤجال صعود الوعي‬
‫ً‬ ‫عليه الديناصورات‪ .‬كان ميكن أن يستمر هذا العامل لفرتة أطول‪،‬‬
‫‪39‬‬
‫البرشي‪.‬‬
‫ومثل التطور البيولوجي‪ ،‬يتأثر التطور االجتامعي بالصدفة والطوارئ‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫الرغبات الحقيقية بالطبع‪ .‬متا ًما كام قد تدمر الضغوط غري املحتملة أنواع متكيفة بطريقة‬
‫رائعة مع الظروف الشائعة‪ ،‬فإن حاالت الطوارئ غري املحتملة ذات ًيا قد تحد من الفعالية‬
‫السياسية لالحتياجات العميقة وواسعة االنتشار‪ .‬قد تحافظ حاالت الطوارئ عىل الفجوات‬
‫بني الرأي العلني والرأي الخفي‪ ،‬بل وتوسعها‪ .‬ال يجلب التطور االجتامعي التقدم دامئًا‪ ،‬إذا‬
‫كان ذلك يعني زيادة إرضاء السياسات واملؤسسات االجتامعية‪ .‬إنها عملية ناقصة تولد‬
‫السعادة والحزن‪ ،‬واالنتصارات والهزائم‪ ،‬وارتفاع وانخفاض الكفاءة‪ .‬يوضح الفصل التايل‬
‫هذه النقطة من خالل مراجعة تاريخ العالقات العرقية األمريكية منذ العبودية حتى الوقت‬
‫الحارض – منظور أطول من ذلك املعروض يف الفصلني ‪ 9‬و‪.14‬‬

‫‪370‬‬
‫الفصل الثامن عرش‬
‫االنتقال من العبودية إىل التمييز اإليجايب‬

‫قبل ربع قرن من الحرب األهلية األمريكية‪ ،‬تك ّهن املؤرخ توكفيل أن الواليات املتحدة لن تتحرر‬
‫أب ًدا من الرصاع بني األعراق‪ 1.‬ومع ُمشارفة القرن العرشين عىل نهايته‪ ،‬ما يزال الواقع يُق ّدم‬
‫فرتات متّسمة بالتفاؤل‬‫ٍ‬ ‫برهانًا واض ًحا عىل ذلك‪ .‬ورغم البدايات الجديدة وما رافقها من‬
‫النسبي‪ ،‬فام تزال الواليات املتحدة ما تزال مجتم ًعا َمشوبًا بالحساسيات ال ِعرقية‪ .‬ويواجه‬
‫عد ٌد ال يُستهان به من األمريكيني مظاملَ عنرصية علن ّية أو مستخفية‪.‬‬
‫العائق األسايس أمام االنسجام‬
‫ُ‬ ‫وتعددت أسباب التوتر العنرصي‪ .‬ففي زمن توكفيل‪ ،‬متثّل‬
‫يف سامحِ القانون باستعباد السود‪ .‬ومن حظر العبودية يف ستينيات القرن التاسع عرش‬
‫ٌ‬
‫أشكال شتّى‬ ‫ِ‬
‫تختف تجارب اإلحباط التي غذّتها‬ ‫إىل قانون الحقوق املدنية للعام ‪ ،1964‬مل‬
‫من الفصل والتمييز‪ .‬وبعد ذلك بفرتة وجيزة‪ ،‬ظهرت حالة استياء جديدة بسبب اإلدراك أن‬
‫ريا‪ ،‬مع بداية سبعينيات القرن‬
‫تكافؤ الفرص ال يُفيض بالّضورة إىل تكافؤ النتائج‪ .‬أخ ً‬
‫العرشين‪ ،‬ظهرت توترات جديدة بفضل الجهود الرامية لفرض املساواة يف النتائج عرب‬
‫حقوقٍ مقترص ٍة عىل السود كمجموعة‪.‬‬
‫يُعترب تح ُّول الواليات املتحدة من دولة تضطهد السود إىل دولة متنح العديد من السود‬
‫ٍ‬
‫امتيازات خاصة خري دلي ٍل عىل القضايا التي نُوقشت يف الفصل السابع عرش‪ .‬حصل هذا‬
‫كل مرحلة عىل‬
‫التحول عىل مراحل‪ ،‬إمنّا اتّسم االنتقال من املرحلة للتالية بالّسعة‪ .‬ومع ّ‬
‫بوعي لتحقيق التغيريات املن َتظرة‪ ،‬بيد أ ّن نجاحاتهم‬
‫ٍ‬ ‫طريق التح ّول‪ ،‬سعى بعض األمريكيني‬
‫حكمتها قوى اجتامعية خارجة عن سيطرتهم‪ .‬وقد أفضت بعض التطورات‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫إلغاء العبودية وظهور التمييز اإليجايب‪ ،‬إىل عواقب غري مقصودة‪ .‬تَسبب املسؤولون‬

‫‪371‬‬
‫الحكوميون بتح ّيز النتائج من خالل استجابتهم للتحوالت يف الرأي العلني‪ .‬واألمر األكرث‬
‫حاسام لألمناط املرصودة‪.‬‬
‫ً‬ ‫عامال‬
‫ً‬ ‫أهمي ًة ألغراض هذا الكتاب هو أ ّن تزوير التفضيل كان‬
‫لن يلتزم العرض التايل بالرتتيب الزمني ولن يتّسم بالشمولية‪ .‬إمنّا س ُيط َرح حسب املوضوع‪،‬‬
‫ويركز عىل عد ٍد من األحداث بالغة األهمية‪ .‬وييل ذلك مالحظات موجزة عن تحول مشابِه‬
‫وقع يف الهند‪ :‬إنشاء نظام محاصصة رسمي باعتباره وسيلة لتقديم العون للمنبوذين‬
‫وغريهم من الفئات «املتخلفة»‪.‬‬

‫االنهيار املفاجئ لنظام العبودية األمرييك‬

‫نبدأ بتناول النضال يف القرن التاسع عرش ضد نظام العبودية األمرييك‪.‬‬


‫عاد ًة ما تُطرح الحجة القائلة إ ّن العبودية مل تكن غري أخالقية‪ ،‬وغري قابلة لالستمرار من‬
‫الناحية االقتصادية‪ 2.‬بنا ًء عىل وجهة النظر هذه‪ ،‬فقد نشبت الحرب األهلية لتخليص الواليات‬
‫ح بطبيعته‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬مل يكن أمام الجنوب فرصة‬‫نظام غري مرب ٍ‬
‫ٍ‬ ‫املتحدة من‬
‫لالنتصار يف الحرب‪ ،‬ألن اقتصاده القائم عىل العبودية كان يف مستوى أدىن من اقتصاد‬
‫الشامل‪ .‬إال أ ّن الحقائق التي كشفها املؤرخون االقتصاديون متنحنا صورة أكرث تعقي ًدا‪ .‬فقد‬
‫منا نصيب الفرد «الحر» من الدخل يف الجنوب بني األعوام ‪ 1840‬و‪ 1860‬بشكل أرسع من‬
‫دخل الفرد يف الشامل‪ .‬وبصورة عامة‪ ،‬حصل العبي ُد الذين منحوا الجنوب ميزاته االقتصادية‬
‫عىل تغذية جيدة باملعايري السائدة يف ذلك الزمان‪ 3.‬تشري هذه النتائج إىل أن العبودية‪ ،‬حتى‬
‫لو مل يُكتب لها االستمرار إىل األبد‪ ،‬مل تكن عىل وشك االنهيار يف بداية الحرب األهلية‪ .‬ورغم‬
‫كل أوجه العبودية الجائرة‪ ،‬فقد كان من املمكن أن تبقى لفرتة أطول الركيز َة األساسية‬
‫القتصاد الجنوب‪.‬‬
‫وعىل وجه التحديد‪ ،‬نظ ًرا ألن العبودية مل يكن محكو ًما عليها بالفشل‪ ،‬فإن مآالت حملة إلغاء‬
‫العبودية مل تكن واضحة سلفًا بأي حال من األحوال‪ .‬وصلت أسعار الرقيق إىل مستويات‬

‫‪372‬‬
‫قياسية يف خمسينيات القرن التاسع عرش –وهو مؤرش قوي عىل اعتبار مؤسسة العبودية‬
‫الضعف‬
‫ُ‬ ‫يف حالة مستقرة‪ 4.‬ويف املنافسات االنتخابية يف أوائل عقد الخمسينيات‪ ،‬اعتور‬
‫الهش‬
‫ّ‬ ‫أدا َء املرشحني املناهضني للعبودية‪ .‬وطوال عقد الخمسينيات‪ ،‬مل يح َظ التحالف‬
‫املنادي بإلغاء العبودية‪ ،‬والذي كان يف منافس ٍة مع الحركات املناهضة للكاثوليك واملولودين‬
‫حاسم عىل مؤيدي العبودية‪ .‬يف نهاية املطاف‪ ،‬بفضل‬
‫ٍ‬ ‫خارج البالد‪ ،‬مل يح َظ بانتصار‬
‫ِض للتوسع يف العبودية وقُدر له‬
‫رجل معار ٌ‬
‫انتخابات عام ‪ 1860‬وصل إىل البيت األبيض ٌ‬
‫عظيام»‪ ،‬ولكن بنسبة أقل من ‪ %40‬من أصوات الناخبني‪ .‬إن‬
‫ً‬ ‫أن يصبح « ُمحر ًرا‬
‫تغيري ‪ 18,239‬صوتًا فحسب يف أربع واليات (ويعني ذلك أقل من نصف ‪ %1‬من أصوات‬
‫‪5‬‬
‫كفيال بالقضاء عىل األغلبية االنتخابية التي حققها أبراهام لينكولن‪.‬‬
‫ً‬ ‫ناخبي الشامل) كان‬
‫يُشري فوز لينكولن الصعب إىل حقيقة أن أحداثًا صغرية كان من شأنها أن توقف مسري َة‬
‫مؤيدي إلغاء العبودية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كان من املمكن أن يتع ّرض لينكولن للهزمية بسبب‬
‫فضيح ٍة تُثار يف وقت حرِج أو بسبب كارثة طبيعية‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬استمدت حملته‪ ،‬مثلها‬
‫مثل حركة إلغاء العبودية‪ ،‬استمدت قوتها من الجهود الواعية واملنهجية للجامعات املناهضة‬
‫للعبودية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬اعتمد نجاح لينكولن النهايئ بصورة أساسية عىل التح ّول الحاصل يف‬
‫الرأي العلني‪ .‬ففي الشامل‪ ،‬ر ّوج بعض السياسيني لهكذا تحول عرب اتهام خصومهم بأنهم‬
‫«أذناب الجنوب»‪ .‬كام انخرط كتاب مرموقون يف حملة ازدراء الشامليني الذين رفضوا شجب‬
‫مؤسسات الجنوب عل ًنا‪ ،‬رغم انتقادهم إياها يف الّس‪ 6.‬ومن ماليني الخيارات الفردية‬
‫تأىت انتصا ُر تلك املحاوالت التي جعلت ِمن دعم العبودية خيا ًرا طائشً ا‪ .‬بالنظر‬
‫املرتابطة‪ّ ،‬‬
‫سياقات محكوم ٍة باالعتامد املتبادل‪ ،‬فال ميكن‬
‫ٍ‬ ‫ضمن‬‫إىل إمكانية وجود توازنات متعددة ِ‬
‫ٍ‬
‫واحد جعل االنتصا َر نتيج ًة حتمية الحدوث يف ستينيات القرن التاسع‬ ‫الجزم بوجود سبب‬
‫عرش‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫من ضمن األسباب الثانوية لبقاء الرأي العلني مؤي ًدا للعبودية يُذكر أن ماليك العبيد‬
‫إجراءات مضادة لتثبيط املعارضة العلنية‪ .‬يف بادئ األمر‪ِ ،‬‬
‫سخروا من أي‬ ‫ٍ‬ ‫وحلفاءهم اتخذوا‬
‫شخص يجرؤ عىل مج ّرد التشكيك يف مزايا العبودية‪ 7.‬بعد ذلك‪ ،‬بعد اكتساب فكرة إلغاء‬
‫وصم مؤيدي إلغاء العبودية بأنهم‬
‫العبودية حضو ًرا متزاي ًدا يف الخطاب العلني‪ ،‬سعوا إىل ْ‬
‫متعصبون خطريون‪ .‬وبذلوا جه َدهم لحظر األدب املناهض للعبودية ومضايقة الكتاب‬
‫املنادين بإلغاء العبودية‪ 8.‬كان ملاليك العبيد مصلحة مبارشة يف استمرار دعم الرأي العلني‬
‫لهم‪ ،‬متثّلت يف‪ :‬الحفاظ عىل القيمة السوقية للعبيد‪ .‬ومثل دعاة إلغاء العبودية‪ ،‬أدرك مالكو‬
‫ِ‬
‫عمليات بيعٍ‬ ‫العبيد أن التحفظات عىل أخالقية نظام العبودية أو دوامه قمين ٌة بأن تؤدي إىل‬
‫للتخلص من العبيد عىل نطاق واسع‪ ،‬مام قد يتس ّبب بانخفاض أسعار العبيد‪ ،‬ودفْع اقتصاد‬
‫‪9‬‬
‫الجنوب إىل حافة االنهيار‪.‬‬

‫عىل مدار عقود طويلة‪ ،‬أدت الضغوط التي واجهت أنصا َر إلغاء العبودية إىل إبقاء الحركة‬
‫املناهضة للعبودية ضئيل ًة للغاية‪ .‬عند تأسيسها يف عام ‪ ،1831‬مل تتمكن جمعية نيو إنجالند‬
‫ملكافحة العبودية من استقطاب سوى عرشات األعضاء من املتعاطفني مع تحرير السود‪،‬‬
‫وغالبًا ما أراد أولئك إبقاء مواقفهم يف طي الكتامن‪ 10.‬وهكذا‪ ،‬فإ ّن تح ُّول الرأي العلني يف‬
‫نهاية املطاف مل يكن بسبب افتقار مؤيدي العبودية للموارد االقتصادية لتنظيم حمل ِة‬
‫مقاومة ف ّعالة‪ .‬كام أنه مل يكن مثر ًة لنجاح دعاة إلغاء العبودية يف إثبات عدم ربحية العبودية‬
‫من الناحية االقتصادية‪ .‬إذ راحت كفة الرأي العلني متيل بعد تحقيق دعاة إلغاء العبودية‬
‫كاسب أيديولوجية‪ .‬عىل وجه التحديد‪ ،‬تح َّول الرأي العلني عندما نجح قادة حملة إلغاء‬
‫َ‬ ‫م‬
‫العبودية يف إثبات تعا ُرض العبودية مع املسيحية‪ ،‬وبالتايل أقنعوا نسب ًة متزايدة من‬
‫األمريكيني بأن مؤيّد العبودية يُ ِ‬
‫خاطر باستحقاق العقوبة اإللهية‪ 11.‬بطبيعة الحال‪ ،‬ال ميكننا‬
‫استقصاء القصة الكاملة للتحول يف الرأي الخفي‪ ،‬وال قصة التح ُّول الذي تبع ذلك يف الرأي‬
‫العلني‪ .‬عىل قدر علمنا‪ ،‬لو أ ّن حدثًا ما مفاج ًئا قد حصل‪ ،‬أو لو أ ّن أنصار قضية مناهضة‬

‫‪374‬‬
‫العبودية قد ارتكبوا خطأ اسرتاتيج ًيا ما‪ ،‬لَكان من املمكن أن يخلّف ذلك أكرب األثر يف اتجاه‬
‫سري األحداث‪.‬‬

‫ماذا لو خّس لينكولن يف االنتخابات؟ مع إقرارنا بأ ّن تحليل الواقع املضاد هو مج ّرد تخمني‪،‬‬
‫إال أنه من املحتمل يف تلك الحالة أن انهيار نظام العبودية األمرييك كان ليتأخر بعض‬
‫فضال عن ذلك‪َ ،‬ألصبح ممكنًا تقويض الحركات املناهضة للعبودية يف أجزاء أخرى‬
‫ً‬ ‫اليشء‪.‬‬
‫من العامل‪ ،‬وتثبيط النضاالت الطامحة ملنح الحقوق الدميقراطية إىل الطبقات الدنيا‪ .‬يرى‬
‫روبرت فوغل أن‪« :‬زخ َم اإلصالح الليربايل كان س ُيستبدل بدافعٍ لتحقيق االمتيازات‬
‫‪12‬‬
‫األرستقراطية تحت راية النزعة األبوية والحفاظ عىل النظام»‪.‬‬

‫وعىل نفس القدر من األهمية‪ ،‬لو أن كونفدرالية الواليات الجنوبية متكنت من توطيد نفسها‬
‫بصورة سلمية‪َ ،‬ألصبحت قوة دولية كربى‪ .‬ومن املؤكد أنها كانت لِتَحظى مبصدر دخل‬
‫معتَرب‪ .‬فلو أنها فرضت رضيب ًة بسيط ًة عىل مبيعات القطن فحسب‪ ،‬لَتمكّنت من جمع مبلغ‬
‫أكرب بكثري من امليزانية الفيدرالية بأكملها يف بداية الحرب األهلية‪ ،‬ولَحقّقت ذلك يف الغالب‬
‫عىل حساب املشرتين األجانب‪.‬‬

‫ومتويل القوى املعادية‬


‫َ‬ ‫ومن تلك اإليرادات‪ ،‬كان بإمكان الكونفدرالية بنا َء آلة حربية قوية‬
‫للدميقراطية يف جميع أنحاء العامل‪ .‬وإىل جانب ذلك‪ ،‬باستغاللها احتكار القطن الخام‪ ،‬كان‬
‫بإمكانها زعزعة استقرار أعدائها –مبا يف ذلك واليات نيو إنجالند‪ ،‬موطن صناعة النسيج‬
‫اآلخذة يف التوسع آنذاك‪ .‬مثل هذه التطورات كانت كفيل ًة بإيقاف ز َ‬
‫خم حملة إلغاء‬
‫‪13‬‬
‫العبودية‪.‬‬
‫مل يكن خاف ًيا عىل قادة االتحاد يف واليات الشامل اإلمكانات االقتصادية الضخمة‬
‫للكونفدرالية‪ .‬بل يف واقع الحال‪ ،‬مثّلت تلك اإلمكانات للكثريين الداف َع الالزم لخوض الحرب‬
‫ٍ‬
‫لتهديد‬ ‫األهلية‪ .‬مل يكن سعيهم لتحرير العبيد غاي ًة يف حد ذاتها‪ ،‬بل اتّخذوه وسيل ًة للتصدي‬

‫‪375‬‬
‫جيوسيايس‪ 14.‬وهكذا‪ ،‬فقد ن َزع الشامليون إىل التسامح مع العبودية عندما مل تشكّل أي‬
‫ُ‬
‫إدراك أن البيض يف الشامل مل يقصدوا عمو ًما‬ ‫خط ٍر عىل ميزان القوى اإلقليمي‪ .‬وينبغي‬
‫معامل َة السود املحررين باعتبارهم نظرا َء لهم‪ .‬يف عام ‪ ،1858‬يف إحدى مناظراته الشهرية‬
‫الرب منح «الزنجي» املساواة‪ .‬بعد‬
‫التهام بإميانه أن ّ‬
‫ٍ‬ ‫مع ستيفن دوغالس‪ ،‬تع ّرض لينكولن‬
‫إقراره أن االختالفات بني األعراق «من املحتمل أن تقف إىل األبد يف طريق عيش أفرادها م ًعا‬
‫قائال‪« :‬ال أعتزم ُمطلقًا تحقيق املساواة السياسية‬
‫رصح لينكولن ً‬
‫عىل قدم املساواة الكاملة»‪ّ ،‬‬
‫واالجتامعية بني العرقني األبيض والسود»‪ .‬وبعد إنكاره التهمة التي وجهها إليه دوغالس‪،‬‬
‫الحقوق املنصوص عليها يف إعالن االستقالل‪،‬‬
‫َ‬ ‫تابع لينكولن بقوله إنه ورغم ضامنه للسود‬
‫فإنه لن مينحهم جمي َع الحقوق التي يحظى بها البيض‪ .‬مل تكُن املساوا ُة املرشوطة التي نادى‬
‫بها لينكولن بأي حال من األحوال مسته َجن ًة يف أوساط منارصي إلغاء العبودية‪ .‬أعرب عد ٌد‬
‫قليل من مؤيدي إلغاء العبودية عن رغبتهم يف دمج السود املحررين يف مجتمع البيض‪ ،‬يف‬
‫‪17‬‬
‫أقل القليل تقدي َرهم لثقافة السود‪.‬‬
‫حني مل يُظهِر سوى ّ‬

‫العرض السابق عد َة موضوعات طُورت يف الفصل السابق‪ .‬عمو ًما‪ ،‬مل يكُن انهيا ُر‬ ‫ُ‬ ‫يوضح‬
‫العبودية أم ًرا مفروغًا منه‪ .‬إذ قد ش َعر مؤيدو ومعارضو العبودية أن الرأي العلني حيال هذه‬
‫القضية ميكنه أن يصل إىل معادل ٍة مختلف ٍة متا ًما عن املوجودة يف حينه‪ .‬وكان مفهو ًما عىل‬
‫توقف بشكل حاسم عىل طبيع ِة تزوير التفضيل‬
‫ين ُم ٌ‬
‫نطاق واسع أن استمرار التوازن اآل ّ‬
‫ونطاقه‪.‬‬

‫تراكُم النجاحات يف تطور العالقات العرقية األمريكية‬


‫لوال زوال العبودية‪ ،‬ملا تحقّقت التطورات الالحقة يف العالقات العرقية األمريكية‪ ،‬والتي‬
‫تناولنا بعضها يف فصول سابقة‪ .‬ولكن يجدر القول إ ّن جميع نتائجها مل تكن مثرة التخطيط‬
‫–مام يثبت ص ّحة فكرة رئيسية أخرى يف الفصل السابق‪ .‬مل يعتزم سوى قلة من مؤيدي‬

‫‪376‬‬
‫مي ّيز بنا ًء عىل الفروقات العرقية‪ .‬ولو أُتيح‬
‫نظام يف الواليات املتحدة ال ُ‬
‫ٍ‬ ‫إلغاء العبودية إقام َة‬
‫ريا للقلق إلّم يكن مسيئًا‪.‬‬
‫لهم االطالع عىل حلم مارتن لوثر كينغ‪ ،‬العتربه ُمعظ ُمهم ُمث ً‬
‫وبالتأكيد فإنهم مل يكونوا لِيمنحوا السو َد استحقاقات تعويضية‪ .‬يف ستينيات القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬مل تُعترب املحاصصة العرقية من عرصنا هذا مشكل ًة بذاتها‪.‬‬
‫كام أن التطورات الحديثة ال متث ُّل تنفيذًا للمبادئ الواردة يف الدستور األصيل للعام ‪.1787‬‬
‫يقرص الدستور األصيل استخدام مصطلح «املساواة» عىل الحديث عن حقوق الدول فحسب‪.‬‬ ‫ُ‬
‫خ ِلق جميع الب ُ‬
‫رش سواسية»‪ 18.‬ففي‬ ‫وعىل النقيض من الرأي السائد حال ًيا‪ ،‬فإنه ال يعلن « ُ‬
‫األوراق الفيدرالية‪ ،‬التي كتبها دفا ًعا عن الدستور‪ ،‬أشار جيمس ماديسون إىل املخاطر‬
‫املرتت ّبة عىل «التوزيع غري املتكافئ واملتباين للملكية»‪ ،‬إمنا مل ترِد يف السلسلة بأكملها سوى‬
‫‪19‬‬
‫هذه اإلشارة الرصيحة إىل املساواة‪.‬‬

‫قبل عقد من ذلك الزمان‪ ،‬جاء يف إعالن االستقالل أن املساواة بني «جميع البرش» حقيقة‬
‫«بديهية»‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مل يجد بعض املوقعني عليه‪ ،‬مبن فيهم توماس جيفرسون‪ ،‬غضاض ًة‬
‫يف استمالك العبيد‪ .‬من منظور العقلية املعارصة‪ ،‬مث ّة تناقض صار ٌخ ههنا‪ .‬ف ِحرما ُن شخص‬
‫ٍ‬
‫رفض للمساواة الشاملة‪ .‬إذًا‪،‬‬ ‫ناهيك عن ِعرق بأكمله‪ ،‬من حقّه يف الحرية ليس سوى‬
‫َ‬ ‫ما‪،‬‬
‫كيف اعترب اآلباء املؤسسون املساوا َة بني البرش بديهيةً؟ تكمن اإلجابة البسيطة يف أنهم آمنوا‬
‫باملساواة لجميع األمريكيني البيض‪ 20.‬وقد ف ّرق الخطاب العلني السائد بني حقوق البيض‬
‫وحقوق غري البيض؛ وهكذا أمكن للمرء أن ينادي باملساواة دون املرور عىل ذكر العبودية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تقسيامت مامثلة يف املجتمعات األخرى‪ .‬يف حقيقة األمر‪ ،‬مل يتح ّرج‬ ‫وقد عضد ذلك وجو ُد‬
‫ح حقوق أقل «لألجانب» أو «الوثنيني»‪ ،‬حتى خالل مطالبتهم‬ ‫الناس يف أي ٍ‬
‫بلد من تربي ِر من ِ‬
‫‪21‬‬
‫بحريات أوس َع ألنفسهم‪.‬‬

‫بغض النظر عن نوايا واضعيه‪ ،‬فإن إعالن االستقالل مل يخصص مصطلح «جميع البرش»‬
‫بدرجة كافية‪ .‬بعد عدة عقود‪ ،‬مكّنت هذه الثغرة معاريض العبودية من االحتكام إىل سلطة‬

‫‪377‬‬
‫اإلعالن للدفاع عن قضيتهم‪ .‬شكّل اقرتاح لينكولن مبنحِ السود الحقوق املنصوص عليها يف‬
‫اإلعالن‪ ،‬عىل الرغم من تقييده تلك الحقوق‪ ،‬شكّل خطو ًة نحو رفع التناقض بني واقع عدم‬
‫املساواة العرقية واملعنى الحريف للمساواة بني «جميع البرش»‪ .‬بعد فرتة قصري ٍة من انتباه‬
‫الرأي العلني لهذا التناقض‪ُ ،‬ع ِمد إىل تعديل الدستور إلعادة كتابة رشوط املواطَنة‪ .‬وعىل حد‬
‫تعبري أحد املؤرخني‪ ،‬فقد تح ّول الدستور إىل «وثيق ٍة مل يكن من املعقول التصديق عليها‪ ،‬بل‬
‫‪22‬‬
‫بالكاد إِمكان اقرتاحها» قبل قرن من الزمان‪.‬‬

‫رغم أهميتها التاريخية‪ ،‬فقد حرمت مراجعة الدستور يف منتصف القرن التاسع عرش‬
‫األمريكيني السود من رفاهي ِة وم ّيزات املساواة الكاملة مع البيض‪ .‬إذ وضعت مفهو ًما ضيقًا‬
‫عن «املساواة الفردية أمام القانون»‪ :‬استمر حصول األمريكيني عىل حقوق متفاوتة‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فإن القانون منح معاملة متساوية لجميع من يحظون بنفس الحقوق‪ 23.‬واستغرق األم ُر‬
‫عام أخرى حتى أصبح «تكافؤ الفرص» هو ال ُعرف –ويعني ذلك فتح املجال للجميع‬ ‫مئة ٍ‬
‫للمنافسة يف املجاالت االقتصادية‪ ،‬واالجتامعية‪ ،‬والسياسية بغض النظر عن لون البرشة‪.‬‬
‫إمنا يف غضون ذلك‪ ،‬استمرت معاملة السود باعتبارهم مواطنني من الدرجة الثانية‪ .‬يف‬
‫األخص‪ ،‬تع ّرض السود للفصل عن البيض‪ ،‬والحرمان من حقوقهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الجنوب عىل وجه‬
‫واالستبعاد من مدارس النخبة‪ ،‬والحرمان من العديد من الخدمات الحكومية‪ .‬أصبح املصطلح‬
‫رسخته القوانني‪ ،‬واللوائح‪ ،‬والتفاهامت‬
‫املرتبط بهذا النظام الجديد هو «جيم كرو»‪ ،‬وقد ّ‬
‫االجتامعية‪ 24.‬لقد استم ّر وجود الهياكل القمعية‪ ،‬ومر ّد ذلك جزئ ًيا لتشجيعها األفراد السود‬
‫عىل طلب حامية البيض مقابل الخدمة بإخالص واالحرتام املعهود‪ .‬مث ّة حلق ٌة مفرغ ٌة حرجة‬
‫هنا‪ .‬إذ زا َد التميي ُز العنرصي من اعتام ِد السود عىل البيض‪ ،‬مام أسهم بالتايل يف اإلبقاء‬
‫‪25‬‬
‫عىل تقسيم العمل وقواعد سلوك عرقية التي ع ّززت مفهو َم دون ّية السود‪.‬‬

‫‪378‬‬
‫رغم استياء العديد من األمريكيني السود من قواعد السلوك املتّبعة‪ ،‬مل يع ِمد سوى القليل‬
‫منهم للتعبري عن غضبهم يف العلن‪ 26.‬يُذكر الروايئ ريتشارد رايت باعتباره مثاالً عن أولئك‬
‫الذين رفضوا قبول حالة التبع ّية‪ .‬فقد ترعرع يف الجنوب‪ ،‬وغال ًبا ما «ترصف باستقام ٍة‬
‫وإنسانية»‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنه يستذكر أن سلوكَه مل يكن شيئًا منط ًيا‪.‬‬
‫ويف الغالب األع ّم‪ ،‬تظاهر السود الساخطون بقبولهم ملكانتهم املتدنية‪ 27.‬كام كان للبيض‬
‫أيضً ا حوافز معينة تدفعهم لإلبقاء عىل تحفّظاتهم ألنفسهم‪ .‬ويف سبيل تحقيق القبول‬
‫االجتامعي‪ ،‬وارتقاء السلّم املهني‪ ،‬والنجاح يف السياسة‪ ،‬كان عىل البيض يف كثري من‬
‫األحيان مراعاة الفصل والتمييز العنرصي‪ ،‬إن مل يكن الرتويج لهام بصورة فا ِعلة‪.‬‬

‫ٍ‬
‫عقوبات ترتاوح من‬ ‫وسواء كانوا من السود أو البيض‪ ،‬واجه منتهكو قواعد السلوك السائدة‬
‫بعض السود عن‬
‫ُ‬ ‫التعبري عن الرفض برفع الحواجب إىل اإلعدام دون محاكمة‪ .‬ومل يتوا َن‬
‫املساهمة يف عقاب األفراد الذين طالبوا بحقوق متساوية‪ .‬إذ يف ٍ‬
‫عهد قريب يف عام ‪،1960‬‬
‫عندما أراد أربعة طالب جامعيني يف غرينزبورو يف والية كارولينا الشاملية التعبري عن‬
‫رفضهم سياسة مطعم وولوورث برفض تقديم خدمة الغداء عىل الطاولة للزبائن السود‪،‬‬
‫تلقّوا توبي ًخا من عاملة سوداء باملطعم‪.‬‬
‫ونحت العاملة بالالمئة عىل «أمثالهم» يف استمرار حالة دونية السود‪ ،‬وقالت للطالب‪:‬‬
‫«بسبب ترصفكم هذا ال ميكننا التقدم خطو ًة واحد ًة اليوم‪ ،‬بسبب أشخاص من أمثالكم من‬
‫مثريي القالقل‪ ،‬ومسببي املشاكل‪ ...‬هذه الطاوالت مخصصة للبيض‪ ،‬وهذا ما كان الحال‬
‫‪28‬‬
‫عليه دو ًما‪ ،‬وأنتم تعرفون ذلك خري معرفة‪ .‬فانرصفوا وتوقفوا عن إثارة املشاكل»‪.‬‬

‫ريا من خالل قانون الحقوق املدنية‬


‫بعد قرن من الحرب األهلية‪ ،‬سقط نظام جيم كرو أخ ً‬
‫للعام ‪ ،1964‬والذي مثّل نقطة تح ّول جديدة يف العالقات ال ِعرقية يف أمريكا‪ .‬ويف تلك‬
‫الفرتة تقري ًبا‪ ،‬رشع الرئيسان كينيدي وجونسون يف الخطوات الرسمية األوىل املتعلقة‬

‫‪379‬‬
‫استخدم املصطلح لإلشارة إىل التدابري الخاصة‬
‫بسياسة التمييز اإليجايب‪ .‬يف بادئ األمر‪ُ ،‬‬
‫لضامن املساواة يف املعاملة للفئات التي تع ّرضت للحرمان عرب تاريخها‪ .‬عند ظهور‬
‫يتعني عىل‬
‫ّ‬ ‫املصطلح ألول مرة‪ ،‬وضّ ح مرسو ُم كينيدي التنفيذي للمقاولني الحكوميني أنه‬
‫أرباب العمل «اتخاذ إجراءات إيجابية لضامن توظيف املتقدمني‪ ،‬ومعاملة املوظفني أنفسهم‪،‬‬
‫بغض النظر عن العرق‪ ،‬أو العقيدة‪ ،‬أو لون البرشة‪ ،‬أو الجنسية األصلية»‪ 29.‬ورغم أن‬
‫بعض املقاولني عىل الفور إىل منح فُرص‬
‫َ‬ ‫الضغوط التي أحدثها مرسوم كينيدي دفعت‬
‫خاصة للسود‪ ،‬وذلك ببساطة لئال يُتّهموا بالتحيز العرقي‪ ،‬فإن الحكومة مل تكن قد بدأت بعد‬
‫باإلرصار عىل «املساواة يف النتائج»‪ .‬وكان الرأي العلني ما يزال مييل لصالح القضاء عىل‬
‫األهمية االجتامعية للعرق‪ ،‬إمنا ال ليستبدل حزم ًة من املعايري العرقية بأخرى‪ .‬ولكن يف‬
‫غضون سنوات قليلة‪ ،‬تط ّور التمييز اإليجايب إىل اإلرصار عىل ضامن املساواة يف النتائج‬
‫بدال من تكافؤ الفرص‪ .‬مع أوائل السبعينيات‪ ،‬راحت الحكومة تروج للمساواة اإلحصائية‬ ‫ً‬
‫تغض النظر عنها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للفئات املقبولة اجتامعيًا بطريقة تراعي الفروق ال ِعرقية وليس بطريق ٍة‬
‫شمل الهدف الجديد مجموع ًة من املجاالت اآلخذة يف االتساع‪.‬‬
‫ثم َ‬

‫ٍ‬
‫نجاحات تطورية‪ ،‬فمن الالفت أن‬ ‫بالنظر إىل تركيز الفصول السابقة عىل إمكانية حدوث‬
‫بعض التحوالت الرئيسية يف العالقات العرقية األمريكية قد حدثت بّسعة كبرية‪ .‬ففي‬
‫غضون ٍ‬
‫عقد واحد فقط‪ ،‬أي ستينيات القرن العرشين‪ ،‬انتقلت الواليات املتحدة من التمييز‬
‫املدعوم حكوم ًيا ضد السود إىل حظر جميع أشكال التمييز عىل أساس لون البرشة‪ ،‬ثم‬
‫انتقلت إىل التمييز الذي تر ّوج له الحكومة لصالح السود‪ .‬وعىل حد تعبري أحد املراقبني‪،‬‬
‫«مواقف كانت س ُتعترب جذرية بشكل ال ميكن تصوره قبل‬
‫َ‬ ‫انتقلت الحكومة الفيدرالية لتب ّني‬
‫بضع سنوات فقط»‪ 30.‬والسبب يف إمكانية حدوث مثل هذه التحوالت بّسعة شديدة هو أن‬
‫الرأي العلني قد يخضع لتحوالت هائل ًة بوتري ٍة مذهلة‪ .‬بعد تأ ُّ‬
‫خر الرأي العلني عن الرأي‬
‫ليسبق الرأي الخفي خالل مدة زمنية قصرية‪.‬‬
‫َ‬ ‫ي العلني‬
‫الخفي‪ ،‬قد يقفز الرأ ُ‬
‫‪380‬‬
‫قبل قرن من الزمان‪ ،‬جاء سقوط نظام العبودية بّسعة مشابهة‪ .‬كتب فوغل‪« :‬وفقًا للمعايري‬
‫جع مؤسسة العبودية بّسعة أمام صولة املطالبني‬
‫التاريخية‪ ،‬يُعترب أم ًرا استثنائ ًيا كيفية ترا ُ‬
‫بإلغاء العبودية‪ ،‬مبجرد أن اكتسبت الحملة األيديولوجية زخمها»‪ 31.‬يف الواقع‪ ،‬مل يستغرق‬
‫حظْر مؤسسة كانت جز ًءا من‬ ‫األمر سوى بضعة عقو ٍد من التجييش املتضافر حتى ت ّم َ‬
‫الحضارة اإلنسانية آلالف السنني‪ .‬وكام رأينا‪ ،‬أ ّدت التغيريات يف طبيعة تزوير التفضيل دو ًرا‬
‫حاسام يف انهيار نظام العبودية‪.‬‬
‫ً‬

‫التفاعالت بني الرأي العلني والسياسات الحكومية‬


‫هل تشكلت األمناط التطورية املوضّ حة بفضل اليد الخفية لألحداث الصغرية فحسب؟ أم‬
‫رصا‬
‫ُبني السجالت أن الحكومة مل تكن عن ً‬
‫أنها تُعزى بجزء منها إىل اليد الظاهرة للحكومة؟ ت ّ‬
‫كامل الخمول حيال تطور الرأي العلني‪ .‬عىل الرغم من تجاوب املسؤولني مع الرأي العلني‪،‬‬
‫فقد سبقوه بأشواط من حني آلخر‪ ،‬سوا ًء عن قصد أو غري قصد‪ .‬وأدت تجاوزاتهم إىل‬
‫مفاقمة‪ ،‬وتّسيع‪ ،‬ويف بعض األحيان إعادة توجيه االتجاهات السائدة للرأي العلني‪ .‬وبنا ًء‬
‫عليه‪ ،‬ميكن القول إن العالقة بني الرأي العلني وسياسة الحكومة اتّسمت بالدائرية‪ .‬وقد‬
‫املفصلة يف الفصل السابع عرش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أوضحت األمنا َ‬
‫ط‬
‫ومن أحد األمثلة عىل اإلجراءات الحكومية التي اتخذت أهمية خاصة يف التطورات الالحقة‬
‫إغفال اآلباء املؤسسني توضيح قصدهم باملساواة بني «جميع البرش»‪ .‬ونشأت مواجهة‬ ‫ُ‬ ‫هو‬
‫العواقب غري املقصودة من قرا ٍر اتخذه يف عام ‪ 1873‬خمس ُة قضا ٍة يف املحكمة العليا م ّمن‬
‫عينهم لينكولن‪ ،‬وكان جميعهم من صقور معاريض العبودية‪ .‬ارتبط القرار بحق والية‬
‫لويزيانا يف مترير قانون يسمح لرشك ٍة احتكا َر تجارة اللحوم املحلية‪ .‬وبسبب الحكم الصادر‬
‫أن هذه القضية ومثيالتها تقع ضمن اختصاص الوالية‪ ،‬ق ّدم القضاة بصورة غري مقصودة‬
‫الذرائع الالزمة للسياسيني الجنوبيني م ّمن يسعون إىل التملّص من القيود الفيدرالية‬
‫الجديدة عىل التمييز العنرصي‪ 32.‬وعىل مدار قرنٍ تقري ًبا بعد ذلك‪ ،‬منحت تلك السابقة‬

‫‪381‬‬
‫أساسا قانون ًيا‪ ،‬وأسهمت يف إبقاء الرأي العلني معارضً ا للحكومة‬
‫ً‬ ‫القضائية نظا َم جيم كرو‬
‫التي ال تأخذ الفروقات العرقية بعني االعتبار‪.‬‬
‫بوعي‬
‫ٍ‬ ‫مام ال ريب فيه أنه يف كل مرحلة من مراحل التحول التاريخي‪ُ ،‬وجد أناس كافحوا‬
‫ٍ‬
‫وإدراك يف سبيل تحقيق التغيريات املؤسسية املنتَظرة‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف العقود التي‬
‫سبقت الحرب األهلية‪ ،‬كان مثة ُدعاة إللغاء العبودية م ّمن فضلوا وجو َد مجتمعٍ ال يُلقي‬
‫باال‪ .‬وعىل نفس النمط‪ ،‬يف منتصف الستينيات من القرن املايض‪ ،‬ض ّمت‬ ‫للفروق العرقية ً‬
‫تطبيق‬
‫َ‬ ‫الحشود التي تظاهرت ضد العنرصية بعض النشطاء الذين وضعوا نُصب أعينهم‬
‫برامج تعويضية للسود‪.‬‬
‫عارض معظم‬
‫َ‬ ‫لكن أهداف هؤالء «املتطرفني» مل تكن تحظى بع ُد بقبول الرأي العلني‪ .‬فمثلام‬
‫دعاة إلغاء العبودية املبدأَ الذي أصبح يُعرف باسم تكافؤ الفرص‪ ،‬بعد قرن من الزمان‪ ،‬ويف‬
‫ناهض معظم قادة حملة الحقوق املدنية‬
‫َ‬ ‫فرتة قريبة من تاريخ صدور قانون الحقوق املدنية‪،‬‬
‫الربامج املستندة إىل الفروق العرقية‪ ،‬عىل األقل يف العلن‪ 33.‬رغم ما تق ّدم‪ ،‬فمن الخطأ مبكانٍ‬
‫َ‬
‫أن يُنسب الفضل إىل أنصار السياسات العرقية الناشئة يف تخطيط التحوالت الالحقة يف‬
‫الرأي العلني‪ .‬فقد أسهم عد ٌد ال حرص له من األمريكيني املعارضني للحصص يف ميل الرأي‬
‫ِ‬
‫سياسات توفري املحاصصة‪ .‬لقد فعلوا ذلك عرب أشكال مختلفة من تزوير‬ ‫العلني لصالح‬
‫التفضيل بهدف درء تُهم العنرصية عن أنفسهم‪.‬‬
‫ساهمت الهيئات الحكومية يف تح ُّول الرأي العلني بإضفائها الرشعية عىل السياسات التي‬
‫تلقى معارض ًة شديد ًة يف طرف الرأي الخفي‪ .‬واألمر األهم من ذلك‪ ،‬عرب سلسل ٍة من القرارات‬
‫يف السبعينيات‪ ،‬سمحت املحكمة العليا بالسياسات التي تعزز املحاصصة‪ ،‬بل وباملحاصصة‬
‫نفسها‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف قضية غريغز ضد رشكة دوك باور (‪ ،)1971‬تبنت املحكمة‬
‫العليا باإلجامع نظرية «التأثري املتباين» للتمييز بوصفه مب ًدا مركزيًا لسياسة مناهضة‬
‫التمييز الرسمية‪ .‬وهكذا‪ ،‬فقد سمحت املحكمة مبعاملة الدليل عىل غياب التوازن العرقي يف‬

‫‪382‬‬
‫تقصد‬
‫غياب أي مؤرش عىل ّ‬
‫ِ‬ ‫التوظيف عىل أنه دليل عىل وجود التمييز العنرصي‪ ،‬حتى يف‬
‫التمييز العنرصي‪.‬‬
‫وبعد ذلك‪ ،‬وجدت الرشكات نفسها يف وضعِ حرِج يُطالبها بإثبات براءتها من التح ّيز‪.‬‬
‫وكإجراء احرتازي‪ ،‬متثّلت ردة فعل الكثري من تلك الرشكات يف تبنّي التوازن ال ِعرقي هدفًا‬
‫إلجراءات التوظيف فيها‪.‬‬

‫وكان القرار الرئييس اآلخر يف قضية فيرب ضد رشكة كايزر لألملونيوم (‪ ،)1976‬والذي أيد‬
‫متييز الرشكة ضد متق ّد ٍم أبيض للوظيفة‪ .‬ومن الناحية العملية‪ ،‬فقد قررت املحكمة أن أفراد‬
‫األغلبية يف املجتمع غري مأ ّهلني للحامية القانونية ضد التمييز‪ :‬فهي تقترص عىل أفراد‬
‫األقليات املعرتف بأنهم من الفئات املحرومة‪ .‬مثة قضية بارزة أخرى وهي قضية أعضاء‬
‫مجلس جامعة كاليفورنيا ضد بايك (‪ .)1978‬من خالل إلغائه املحاصصة العرقية املطلقة‪،‬‬
‫أكد ال ُحكم يف قضية بايك عىل قانونية برامج القبول التفضيلية ألفراد األقليات العرقية‪ ،‬مام‬
‫ص ّعب عملية معارضة سياسة التمييز اإليجايب عىل أسس دستورية‪ 34.‬إىل جانب ذلك‪ ،‬عملت‬
‫هذه القضية مبثابة دليلٍ واضح عىل إعادة توجيه الرأي العلني لصالح السياسات املراعية‬
‫للفروق العرقية‪.‬‬

‫عرب إسهامها يف تعزيز أجندة مراعية للفروق العرقية‪ ،‬شاركت املؤسسات الحكومية وغريها‬
‫من العنارص الفاعلة السياسية يف العديد من التفسريات املبتكَرة للقانون‪ .‬عىل وجه‬
‫قرارات اجتهادية وتعاملت مع الحاالت الغامضة بطريق ٍة تنحاز‬
‫ٍ‬ ‫الخصوص‪ ،‬فقد اتخذت‬
‫عمو ًما لوجهة نظ ٍر مفادها أن املعايري املزدوجة رضورية لتق ّدم السود‪ .‬بيد أ ّن البعض قد‬
‫اشرتك يف تفسريات للقانون تخدم مصالحهم الذاتية‪ .‬ومن أحد األمثلة يُذكر انخراط الحزب‬
‫الجمهوري يف الجهود املبذولة إلنشاء املزيد من الدوائر االنتخابية ذات األغلبية من السود‬

‫‪383‬‬
‫واألغلبية من أصل أمرييك التيني‪ .‬أدرك معظم الخرباء االسرتاتيجيني الجمهوريني أن‬
‫كفيل بإفساد قانون حقوق التصويت للعام‬
‫ٌ‬ ‫التالعب املطلوب بحدود الدوائر االنتخابية‬
‫‪ ،1965‬الذي كان يهدف لكفالة مقدرة األفراد عىل االقرتاع‪ ،‬وليس تركيز القوة االنتخابية‬
‫لفئات معينة‪ 36.‬كام أنهم ظنّوا أن الدوائر املبنية عىل ال ِعرق ال بُد ستوفر ناخبني منفصلني‬
‫ٍ‬
‫عنرصيًا‪ ،‬عىل شاكلة تلك املوجودة يف جنوب إفريقيا يف ظل نظام الفصل العنرصي‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬فقد أيدوا التالعب بحدود الدوائر االنتخابية كحيلة إلنشاء مناطق ذات كثافة سكانية‬
‫بيضاء منحازة للجمهوريني‪.‬‬

‫وسعت نطاق الوعي العرقي‬


‫كل من التفسريات اإلبداعية واألنانية للقانون والتي ّ‬
‫جاءت ّ‬
‫جاءت عىل خلفية معارضة خفية هائلة للمعايري املزدوجة‪ .‬كام أوضحت يف الفصل التاسع‪،‬‬
‫بعد ربع قرن من بدء العمل بسياسة التمييز اإليجايب‪ ،‬ما يزال معظم األمريكيني رافضني‬
‫لهدف تسوية النتائج‪ .‬ومع هذا‪ ،‬فلم تتعارض أجندة الحكومة العرقية بشكل جوهري مع‬
‫الرأي العلني‪ .‬إمنا لتحايش الوصم بالعنرصية‪ ،‬ن َزع املعارضون إىل كتامن انتقاداتهم‬
‫العلنية‪ ،‬وتقليل ح ّدتها‪ ،‬وحرصها؛ لذلك بقيت املعارضة العلنية لألجندة األساسية يف حدها‬
‫األدىن‪.‬‬

‫يف الوقت الذي أسهمت فيه قرارات الحكومة الفيدرالية‪ ،‬مثل قرارات املحكمة العليا ولجنة‬
‫تكافؤ فرص العمل‪ ،‬يف تشكيل الرأي العلني‪ ،‬أصبحت اآلثار محسوس ًة يف جز ٍء منها بفضل‬
‫ترصفات املسؤولني يف املستويات الحكومية الدنيا‪ .‬يف الواقع‪ ،‬فإن السياسات التي وضعها‬
‫املسؤولون يف املناصب الحكومية العليا يف واشنطن مكّنت أو دفعت املسؤولني اآلخرين إىل‬
‫فضال عن الرأي الخفي‪ .‬ثم ساهم‬
‫ً‬ ‫تنفيذ قرارات مل تحظ حتى ذلك الحني بدعم الرأي العلني‪،‬‬

‫‪384‬‬
‫التطبيق واسع النطاق يف تغيري الرأي العلني‪ ،‬وذلك من خالل تأثريه عىل التصورات‬
‫الفردية‪.‬‬
‫عادة ما ميتنع املسؤولون يف املستويات املتوسطة وال ُدنيا –ناهيك عن معظم املسؤولني‬
‫رفيعي املستوى– عن استباق الرأي العلني بشكل ملحوظ‪ ،‬إال إذا اتّضح أنهم لن يتع ّرضوا‬
‫للمساءلة‪ .‬عندما يفهم املوظفون الحكوميون أن رؤساءهم قد أصدروا أوامر ال لبس فيها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حينئذ‬ ‫يُظهرون حينها –وحينها فقط– استعدا ًدا لتطبيق التوجيهات املثرية للجدل‪ ،‬ألنهم‬
‫يستطيعون تنفيذها دون أن تبدو أنها مسؤوليتهم الشخصية‪.‬‬

‫ميكن طرح مثا ٍل توضيحي من تاريخ استجابة القضاء لقرار املحكمة العليا التاريخي بشأن‬
‫إلغاء الفصل العنرصي يف املدارس‪ ،‬قضية براون ضد مجلس التعليم (‪ .)1954‬عرب منحه‬
‫القضا َة املحليني سلط ًة تقديرية واسعة‪ ،‬جعل ال ُحكم يف قضية براون القضا َة مسؤولني‬
‫شخصيًا عن قرارات اإلنفاذ التي يتخذونها‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يف مناطق معارضة الرأي العلني‬
‫األبيض الشديدة إللغاء الفصل العنرصي‪ ،‬كام كان الحال عليه يف الجنوب‪ ،‬مل يطلب معظم‬
‫ميكن إنكار أن مجالس‬
‫القضاة سوى تطبيق تغيريات شكليّة يف املامرسات املدرسية‪ .‬ال ُ‬
‫حكم قضية براون‪ .‬بشكل‬
‫املدارس الجنوبية ض ّمت بعض األشخاص املتعاطفني مع فحوى ُ‬
‫عام‪ ،‬وعرب قنوات خاصة‪ ،‬ش ّجع العديد منهم القضاة عىل إصدار أمر رصيح يتطلّب إلغاء‬
‫الفصل العنرصي عىل الفور‪ .‬بالرغم من ذلك‪ ،‬فقد حافظوا عل ًنا عىل مظه ِر التعاطف مع‬
‫استمرار حالة الفصل العنرصي‪ ،‬بل وصل األمر ببعضهم إىل حد تقديم التامس لتأجيل‬
‫جهود إلغاء الفصل العنرصي‪ 37.‬واملسألة األساسية ههنا هي أن التأثري العميل لقرار الشهري‬
‫خر وصول تأثريه عىل الرأي العلني‪،‬‬ ‫للمحكمة العليا يف عام ‪ 1954‬قد تع ّرض للكتامن‪ ،‬وتأ ّ‬
‫ف أكرث من الالزم‪.‬‬‫رص ٍ‬
‫ألنه منح صانعي القرار املحليني حريّة ت ّ‬
‫لفرتة وجيزة يف الستينيات من القرن العرشين‪ ،‬أصبح موقف املحكمة العليا بشأن إلغاء‬
‫الفصل العنرصي يف املدارس واض ًحا ال لبس فيه‪ ،‬وبدأت الحكومة الفيدرالية بوقف التمويل‬

‫‪385‬‬
‫عن املدارس التي كانت تنتهك القانون األسايس للتوازن العرقي‪ .‬استجاب العديد من القضاة‬
‫حكم قضية براون بصور ٍة أكرث رصامة‪ ،‬ألنهم متكنوا حينئذ من اإلرصار‬‫املحليني بتطبيق ُ‬
‫عىل سياسة إلغاء الفصل العنرصي دون أن يبدو ذلك هو تفضيلهم الشخيص‪ .‬وبالنتيجة‪،‬‬
‫مع تزايد معارضة الرأي العلني والقيادة السياسية الفيدرالية إللغاء الفصل العنرصي يف‬
‫‪38‬‬
‫املدارس‪ ،‬شعر القضاة املحليون بضعف موقفهم بشكل متزايد‪ ،‬فرتاخت رصامة تنفيذهم‪.‬‬

‫وبنا ًء عىل ذلك‪ ،‬يوضّ ح سجل الجهود املبذولة إللغاء الفصل العنرصي يف املدارس العامة أن‬
‫يتفاعل مع سياسة الحكومة‪ ،‬وكذلك أن القرارات التي يتخذها املسؤولون رفيعو‬
‫ُ‬ ‫الرأي العلني‬
‫املستوى لها أكرب األثر عندما ال متنح املسؤولني الحكوميني يف املستويات األدىن سوى‬
‫هامش ضيق من حرية التنفيذ‪ .‬كام تُثبت السجالت أن تزوير التفضيل من جانب املسؤولني‬
‫الحكوميني واملواطنني العاديني ميكن أن يؤثر عىل مفعول القرارات الرسمية‪.‬‬

‫دور الكفاءة يف تطور العالقات العرقية يف أمريكا‬


‫مثل غريها من التغيريات االجتامعية الكربى‪ ،‬أسفرت جميع التحوالت يف العالقات العرقية‬
‫يف أمريكا عن رابحني وخارسين‪ .‬هل ميكن القول إن كفة املكاسب قد رجحت دو ًما عىل‬
‫كفة الخسائر؟ وهل هيمنت املؤسسات التي اعتُمدت يف كل مرحلة من مراحل العملية‬
‫التطورية عىل جميع البدائل السائدة؟‬
‫للحصول عىل إجابات قاطعة لهكذا أسئلة‪ ،‬يحتاج املرء أن يعرف تفضيالت جميع األمريكيني‬
‫ميكن إثباته هو‬
‫مطلب كهذا أم ٌر صعب‪ .‬إمنا ما ُ‬
‫ٍ‬ ‫يل أن تلبية‬
‫الخفية يف كل مرحلة‪ .‬ومن الج ّ‬
‫أن الكفاءة االجتامعية –باملعنى املوضّ ح يف الفصل السابع عرش– مل تكن الدافع الوحيد‬
‫للتغيري‪.‬‬
‫عند مناقشة اآلثار الضارة التي ألحقها نظام الطبقات باألداء االقتصادي الهندي‪ ،‬أرشتُ إىل‬
‫أن الحواج َز أمام الخيارات املهنية والتي تتأىت بسبب عوامل الوراثة الطبقية تؤدي إىل‬

‫‪386‬‬
‫خسائر يف اإلنتاج بسبب سوء توزيع العاملة‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬تُسفر هذه الحواجز عن مزيد‬
‫من الخسائر‪ ،‬بقد ِر ما يُنظر إليها عىل أنها امتها ٌن إلنسانية الفرد نفسه واآلخرين‪.‬‬
‫ُ‬
‫إدراك أن بعض الجامعات تحظى بحقوق أقل –ب ُحكم الوالدة– بحد ذاته‬ ‫وميكن أن يصبح‬
‫مصد ًرا للشعور باالنزعاج‪ ،‬واملهانة‪ ،‬والنقمة‪ ،‬والغضب‪.‬‬
‫صح هذا املنطق‪ ،‬فهل ميكن للمرء استنتاج أن التحوالت التي تكللت بقانون الحقوق املدنية‬
‫إذا ّ‬
‫ِ‬
‫باعتبارات الكفاءة االجتامعية؟ أب ًدا‪ .‬إذ عىل فرض أ ّن‬ ‫للعام ‪ 1964‬كانت مدفوعة جميعها‬
‫الكفاءة هي الدافع الوحيد للتغيري‪ ،‬فلامذا استغرق األمر قرنًا بأكمله ليت ّم االنتقال من سقوط‬
‫نظام العبودية إىل أجندة عام ‪ 1964‬التي ال تف ّرق بني األعراق؟ وما الذي يفّس صعود نظام‬
‫جيم كرو؟ عىل أقل تقدير‪ ،‬ستُثبت محاول ُة اإلجابة عىل مثل هذه األسئلة أنه إذا كانت الكفاءة‬
‫عامال يف تطور العالقات العرقية يف أمريكا‪ ،‬فإنها مل تكن العامل املهيمن عىل الدوام‪.‬‬
‫ً‬

‫عىل أي حال‪ ،‬إذا قبلنا كفاءة عدم التفريق بني األعراق باعتبارها القوة الدافعة وراء قانون‬
‫الحقوق املدنية‪ ،‬فامذا عسانا نعترب الربامج الواعية بالفروقات العرقية التي تلت ذلك؟ مل‬
‫توجد سوى محاوالت قليلة لتقدير التكاليف االقتصادية املرتتبة عىل سياسة التمييز‬
‫اإليجايب‪ ،‬وهو أمر غري مستغرب نظ ًرا لكونه محفوفًا باملخاطر حتى إذا اقترص عىل طرح‬
‫مسألة التكاليف‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فوفقًا ألحد التقديرات التقريبية‪ ،‬أدت التكاليف الكل ّية املرتتبة عىل تحديد‬
‫الحصص تحت ُمس ّمى التمييز اإليجايب‪ ،‬مبا يف ذلك التكاليف غري املبارشة‪ ،‬إىل انخفاض‬
‫إجاميل الناتج القومي بنحو أربع نقاط مئوية‪ 39.‬رغم أن الرقم قد يكون ُمغال ًيا يف تقدير‬
‫ج عرقي عىل نطاق‬
‫الخسارة‪ ،‬فيمكن اعتبار هكذا خسارة هائلة الثم َن املدفوع مقابل اندما ٍ‬
‫أوسع‪ .‬بالرغم من ذلك‪ ،‬ليس مثة داللة عىل استعداد األمة األمريكية لدفع مثل هذا الثمن‪ .‬بل‬
‫عىل العكس‪ ،‬لطاملا اصطف الرأي العلني األمرييك ضد نظام املحاصصة العرقية‪ .‬ومن املهم‬

‫‪387‬‬
‫ِذكر أن التخيل عن سياسة عدم التفريق بني األعراق قد أ ّ‬
‫رض بحالة التآلُف بني األعراق يف‬
‫عقد الستينيات وخلق مشاعر سخط متزايدة‪.‬‬
‫ومع أن مشاعر السخط تلك مل تظهر للعلن يف الغالب‪ ،‬فإنها قد متهد الطريق لنشوب‬
‫‪40‬‬
‫مواجهة مأساوية بني األعراق‪.‬‬

‫وال يعني ما تق ّدم أن التفضيالت الخفية حيال العالقات بني األعراق أم ٌر دائم الثبات‪ .‬فهي‬
‫تتشكّل جزئ ًيا من خالل الرأي العلني والخطاب العلني‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬فمن املمكن أن يصبح‬
‫داعام بشكل متزايد للسياسات الجديدة الواعية بالفروق العرقية‪ .‬مثلام اعترب‬
‫ً‬ ‫الرأي الخفي‬
‫األمريكيون البيض يف السابق العبودي َة أم ًرا طبيع ًيا‪ ،‬ومثلام لقّن الهنود َ‬
‫أنفسهم أيديولوجية‬
‫تق ّدس تقسيمهم إىل طبقات‪ ،‬قد يستوعب األمريكيون مبدأ حقوق املجموعة‪ .‬وقد حدث هكذا‬
‫تح ُّول بالفعل عىل نطاق ضيق‪ ،‬كام ورد يف الفصل الرابع عرش‪ .‬إذا كتُب االنتشار لقبول‬
‫حقوق املجموعة‪ ،‬فإن التمييز اإليجايب سيكتسب قبوالً عىل املستوى الفردي الخفي‪،‬‬
‫وبالتايل يصبح أكرث كفاءة‪ .‬لكن ارتفاع نسبة الكفاءة سيكون نتيجة للسياسات العرقية‬
‫السائدة‪ ،‬وليس سببها‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬فمن املحتمل أال تأخذ التعديالت اإلدراكية املطلوبة‬
‫مجراها بّسعة‪.‬‬
‫ونظ ًرا لتشكُّل املواقف حيال العالقات العرقية بشكل جزيئ بنا ًء عىل التجربة الشخصية‪،‬‬
‫تحصل حقوق املجموعة عىل دعم خفي‬
‫َ‬ ‫فقد يستغرق األمر عقو ًدا‪ ،‬إن مل نقل قرونًا‪ ،‬حتى‬
‫واسع النطاق‪ .‬ويف غضون ذلك‪ ،‬ستبقى الواليات املتحدة مع ّرضة لالنفجار االجتامعي‪.‬‬

‫تحول نظام الطبقات يف الهند‬


‫ري يف املواقف الهندية املعارصة‬
‫يوجد لتزوير التفضيل األمرييك بشأن قضايا العرق نظ ٌ‬
‫عامال‬
‫ً‬ ‫تجاه الطبقة‪ .‬فعىل مدار القرنني املاضيني‪ ،‬تراجعت أهمية التمييز الطبقي باعتباره‬
‫محد ًدا للوضع االجتامعي‪ ،‬وال تحظى اآلن الحواجز الطبقية التقليدية بالدعم الخفي مقارن ًة‬

‫‪388‬‬
‫بالقدر الذي حازت عليه يف املايض‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد راح هذا النظام الهرِم يتعايش مع مخطط‬
‫متييز إيجايب واسع النطاق مينح مختلف الفئات "املتخلفة" معاملة تفضيلية يف التوظيف‪،‬‬
‫‪41‬‬
‫والتعليم‪ ،‬والتمثيل السيايس‪.‬‬

‫تتّسم املعارضة العلنية لسياسة التمييز اإليجايب نفسها بضآلتها‪ ،‬رغم إثارة الحصص‬
‫الجدل العلني والتوترات االجتامعي بشكلٍ دائم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد بات معروفًا أن‬
‫َ‬ ‫املحددة‬
‫العديد من الهنود‪ ،‬ال س ّيام يف أوساط املتعلمني‪ ،‬يشعرون بالقلق عىل املستوى الخفي من‬
‫عودة الوعي بالفروق الطبقية‪.‬‬

‫سأختتم الفصل بتسجيل بضع مالحظات عن تحول نظام الطبقات‪ ،‬مع الرتكيز عىل‬
‫استخالص أوجه التشابه مع املظاهر التطورية التي أوضحتْها املناقشة السابقة للعالقات‬
‫العرقية يف أمريكا‪.‬‬
‫بدأ تدهور نظام الطبقات القديم مع حركة التوسع الحّضي والتأثري الثقايف للغرب‪ .‬وكان‬
‫يال من أسالفهم املنعزلني ثقافيًا لقبول فكرة‬
‫الهنو ُد الذين تواصلوا مع العامل الخارجي أقل َم ً‬
‫دناسة املنبوذين بوصفها بديهية‪ .‬فإذا كانوا يعيشون يف مدينة رئيسية يتوجب عليهم فيها‬
‫السري عىل األرصفة املزدحمة وركوب الحافالت املكتظة‪ ،‬فلن يتمكنوا من تفادي االحتكاك‬
‫مبن يُعتربون مدنّسني‪ ،‬بخالف حال أسالفهم من ساكني القرى‪.‬‬
‫َ‬

‫نظ ًرا لتوليد هكذا عوامل الشكوك بشأن جوانب مختلفة من نظام الطبقات‪ ،‬حتى بشأن‬
‫النظام بر ّمته‪ ،‬ففي وقت مبكر من هذا القرن‪ ،‬تضافرت جهود املثقفني الهنود املؤثرين‬
‫ِ‬
‫سامت النظام فظاعة‪ .‬ومت ّخضت مساعيهم عن دستور الهند املستقلة‪ ،‬الذي‬ ‫للقضاء عىل أكرث‬
‫يض ّم بن ًدا لتخفيف التفاوتات الطبقية عرب «التمييز الوقايئ» لصالح املنبوذين وبعض‬
‫الجامعات املضطهدة تاريخ ًيا‪ .‬اعترب واضعو الدستور الهندي التمييز الوقايئ إجرا ًء يجب‬

‫‪389‬‬
‫وقف العمل به يف غضون عقد تقري ًبا‪ ،‬وبعد ذلك يتعني عىل الفئات املتخلفة املنافسة عىل‬
‫‪42‬‬
‫املناصب دون الحصول عىل تنازالت خاصة‪.‬‬

‫ٌ‬
‫معمول بها بال هوادة‪ ،‬بل‬ ‫وبعد نصف قرن عىل وضعها‪ ،‬ها هي سياسة التمييز الوقايئ‬
‫ُخصص نصف الوظائف الحكومية عىل أساس‬
‫تشمل أكرث من ثالثة أرباع الهنود‪ .‬إذ ت َّ‬
‫املحاصصة الطبقية؛ ولتوسيع مكاسبها من الحصص‪ ،‬تسعى الفئات التي ترتاوح من القبائل‬
‫‪43‬‬
‫البدائية إىل املتحولني دين ًيا للتفوق عىل بعضها بعضً ا عرب تبنّي رسديّات التخلف النسبي‪.‬‬
‫وهكذا تح َّول التمييز الوقايئ إىل نظام غنائم يتعامل مع عذابات املايض‪ ،‬الحقيقية منها أو‬
‫أبدي‪ .‬وبشكل عام‪ ،‬ضمن كل فئ ٍة محمية‪ ،‬تقع املناصب‬ ‫ّ‬ ‫املختلَقة‪ ،‬عىل أنها وسا ُم امتياز‬
‫جا إىل الحصول عىل فُرص خاصة‪ .‬وهكذا‪ ،‬ال يستفيد سوى‬
‫األقل احتيا ً‬
‫املحجوز ُة يف حجر ّ‬
‫حفنة من أكرب ضحايا نظام الطبقات االجتامعية من االستحقاقات التي تأسست باسمهم‪.‬‬

‫مثل انتصارات الحقوق املدنية األمريكية يف الستينيات‪ ،‬حققت الحركة املناهضة للطبقية‬
‫بعض النتائج غري املقصودة‪ .‬مل يتص ّور مؤسسو الهند الحديثة بنا َء مجتمع ترتبط‬
‫َ‬ ‫يف الهند‬
‫فيه نسبة متزايدة من الوظائف الحكومية بالهوية الطبقية‪ ،‬رغم أنهم مل يعارضوا بأي حال‬
‫بالتخيل عن مبدأ األحقية‪ .‬إمنا مل يسعوا‬
‫ّ‬ ‫من األحوال إعادة التوزيع القّسي‪ .‬فهم مل يرغبوا‬
‫إىل إبراز االنقسامات التاريخية للمجتمع الهندي‪ .‬ومل يرغبوا يف تسهيل استفادة الفئات يف‬
‫املستويات الوسطى أو العليا عىل التسلسل الهرمي للطبقات االجتامعية من برنامج مص َّمم‬
‫لعون املجموعات التي عانت بشكل فظيع من وصمة العار االجتامعي والفقر املدقع‪ .‬عىل‬
‫الرغم من رىض بعض الزعامء الهنود األوائل‪ ،‬مبن فيهم املهامتا غاندي‪ ،‬عن بعض مق ّومات‬
‫نظام الطبقات‪ ،‬فقد أرادوا الح ّد من أهميته االقتصادية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واالجتامعية‪ ،‬وليس‬
‫إنعاش أهميته يف الحياة اليومية‪ .‬مل يت ّنبأ أي منهم بالديناميكيات االجتامعية التي جعلت‬
‫محصنة سياس ًيا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحصص الطبقية‬

‫‪390‬‬
‫بل من املحتمل أن يُصاب معظمهم بالفزع لرؤية التمييز اإليجايب يف شكله الحايل‪ .‬وسوف‬
‫تُلجمهم الدهشة إلدراك أن التمييز اإليجايب ميارس سطوة عظيم ًة عىل الرأي العلني لدرجة‬
‫أنه عند استامع الربملان يف عام ‪ 1990‬إىل اقرتاح لتوسيع نطاق العمل بالتمييز الوقايئ‪ ،‬مل‬
‫قائال‪« :‬مل يجرؤ عىل‬
‫ً‬ ‫يعرب أي حزب عن معارضته‪ .‬يستذكر أحد املراقبني تلك الواقعة‬
‫‪44‬‬
‫نائب أو نائبني ال غري من أعضاء الربملان»‪.‬‬
‫الحديث بصدق سوى ٍ‬
‫من غري الواضح إذا كان االقتصاد بوجه اإلجامل قد استفاد من التمييز الوقايئ‪ .‬فقد كانت‬
‫جع عىل أي حال عند بدء العمل بالتمييز‬‫الحواجز املهنية القامئة عىل الطبقية يف حال ِة ترا ُ‬
‫تدين مجموعة واسعة من معايري العمل‪.‬‬
‫الوقايئ‪ ،‬وقد أدى فرض الحصص يف الوظائف إىل ّ‬
‫وعزت اللجان التي أُنشئت للتحقيق يف أسباب مشاكل السكك الحديدية العديد من الحوادث‬
‫‪45‬‬
‫إىل التمييز الوقايئ‪ ،‬وخاصة يف الرتقيات‪.‬‬
‫كام هو الحال مع التمييز اإليجايب يف الواليات املتحدة‪ ،‬يبدو أن تحول نظام الطبقات قد‬
‫عوامل مل تقترص عىل الكفاءة‪ .‬توضّ ح تجربتا التمييز الوقايئ اللتني‬
‫َ‬ ‫تع ّرض للتوجيه بسبب‬
‫استعرضناهام ِسم ًة أخرى للتطور االجتامعي‪ :‬التوازنات املتعددة‪ .‬بالنتيجة‪ ،‬فهام توضحان‬
‫كيف ميكن للرأي العلني أن ينتقل من النقيض إىل نقيضه‪ ،‬وبالتايل إعادة تصنيف فئات‬
‫سالح ذو حدين‪ ،‬سالح‬
‫ٌ‬ ‫ريا تُظهر التجربتان أن تزوير التفضيل هو‬
‫الرابحني والخارسين‪ .‬وأخ ً‬
‫إلحاق الّضر به‪ .‬فهو قد يحمي الرباهمة من املنافسة يف السوق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ميكنه حامية أي شخص أو‬
‫أو ميكنه أن يعمل لتقليل الفرص املتاحة أمامهم يف السوق‪ .‬وميكنه أن يحمي العامل البيض‬
‫من منافسة العامل السود األكرث إنتاجية‪ ،‬أو أن يحمي العامل السود من منافسة العامل‬
‫تأهيال‪.‬‬
‫ً‬ ‫البيض األفضل‬

‫‪391‬‬
‫الفصل التاسع عرش‬
‫تزييف التفضيل والتحليل االجتامعي‬

‫مع نهاية هذا البحث يف اآلليات التي يشكّل بها تزييف التفضيل القرارات واملعارف وأمناط‬
‫التغيري‪ ،‬يجدر بنا أن ننظر يف إغناء هذا البحث وتقييده للتحليل االجتامعي‪ ،‬واقرتاحه إلعادة‬
‫توجيه هذا التحليل‪ .‬لذلك‪ ،‬يقوم هذا الفصل بأربع مهام مرتابطة‪.‬‬

‫أوال‪ ،‬ييضء عىل الطرق التي يساعد بها منوذج التفضيل املزدوج عىل إدماج‬
‫ً‬
‫ريا ما تُ َع ّد طرقًا غري متوافقة فيام بينها للفهم‬
‫االختصاصات واملدارس األكادميية التي كث ً‬
‫االجتامعي‪ .‬سأظهر كيف يربط هذا النموذج املدارس التي تركز عىل البنى االجتامعية‬
‫باملدارس التي تركز عىل االختيار الفردي‪ .‬بنا ًء عىل خصائص هذا النموذج‪ ،‬أؤكد عىل أننا‬
‫ينبغي أن نرى املدرسة البنيوية ونظريتها الفردانية عىل أنهام عنرصان متكامالن يف التحليل‬
‫االجتامعي‪.‬‬

‫النقطة الثانية يف هذا الفصل هي أن منوذج التفضيل املزدوج يجد محدوديات معينة‬
‫يف التحليل االجتامعي عند اإلضاءة عىل أحداث ماضية أو تص ّور احتامالت مستقبلية‪.‬‬
‫مام‬
‫تحدي ًدا‪ ،‬يطرح النموذج أن الضغوط يف القضايا الحساسة تفرض تزييفًا للتفضيل يح ّد ّ‬
‫ميكن تفسريه وتوقعه‪.‬‬

‫املهمة الثالثة لهذا الفصل هي استكشاف قابلية القياس لتزييف التفضيل‪ .‬يف هذا‬
‫املخفي من اآلراء والضغائن واملخاوف‬
‫ّ‬ ‫املسعى‪ ،‬يقدم الفصل طرقًا ملعرفة وجود ومقدار‬
‫والطموحات – بعضها ط ّورها علامء األنرثوبولوجيا‪ ،‬وبعضها الباحثون يف الرأي‪ .‬أقول إن‬

‫‪392‬‬
‫هذه الطرق ميكن توسيع استخدامها إىل استخدامات أخرى بتحسني قدرتنا عىل تفسري‬
‫وتوقع التطور االجتامعي – إىل درجة معينة‪ ،‬طب ًعا‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬سوف أعالج مسألة قابلية اإلنكار‪ .‬هل ميكن دحض الحجج؟ ما االختبارات‬
‫أخ ً‬
‫التي ميكن استعاملها لتحديد أهميتها أو قلة أهميتها؟ تلعب مفاهيم اإلخفاء‪ ،‬واملحدوديات‬
‫الذهنية‪ ،‬واألحداث الصغرية‪ ،‬والتعقيد‪ ،‬وعدم القدرة عىل التنبؤ‪ ،‬أدوا ًرا أساسية يف هذا‬
‫البحث‪ ،‬لذا فإن هذه املهمة األخرية ينبغي أن تكون مهمة للق ّراء الذين ينزعون إىل رفض‬
‫الصفة العلمية للنظريات التي تحتوي عىل متغريات تصعب مالحظتها‪.‬‬

‫ربط املايض والحارض‬

‫قال هرني بوانكاري إن «مسرية العلم» تتجه يف الوقت نفسه إىل «الوحدة والبساطة» و«إىل‬
‫التنوع والتعقيد»‪ .‬من جهة أوىل‪« ،‬مل نزل نكتشف عالقات جديدة بني أشياء كان يبدو أنها‬
‫محكومة أن تبقى إىل األبد مستقلة بعضها عن بعض؛ تتجه الحقائق املبعرثة إىل االنتظام‬
‫يف توليفات كربى‪ ،‬حتى تتآلف فيام بينها وال يعود بعضها غري ًبا عن بعض»‪ .‬ومن جهة‬
‫أخرى «مل نزل ندرك تفاصيل متنوعة ج ًّدا (تزداد تن ّو ًعا) يف الظواهر التي نعرفها‪ ،‬التي مل‬
‫تستطع حواسنا املجردة مالحظة أي نقص يف الوحدة فيها»‪ .‬كال العمليتني‪ ،‬يف رأي‬
‫‪1‬‬
‫بوانكاري‪ ،‬أساسية يف تراكم املعارف املفيدة‪.‬‬

‫يتجه معظم املؤرخني إىل االختصاص يف عنرص «التنوع والتعقيد» يف عملية إنشاء‬
‫املعرفة‪ ،‬وينكر كثري منهم احتامل «الوحدة والبساطة»‪ ،‬وبعضهم ينكر حتى كونها أم ًرا‬
‫مرغوبًا فيه‪ .‬ال شك أن تأريخ املايض ق ّيم يف ذاته‪ .‬يشفي هذا الفعل فضولنا الداخيل‪ ،‬ويغني‬
‫حياتنا‪ .‬لكن االرتباطات السببية بني التفاصيل التاريخية ال تظهر دون بحث وتدقيق‪ .‬وال‬
‫‪393‬‬
‫تبني التفاصيل أهمية املايض يف الحارض‪ .‬إذا مل منلك آلية لتوضيح أثر املايض‪ ،‬فلن نستطيع‬
‫ّ‬
‫االستفادة من التاريخ العثامين لتفسري اإلصالحات يف الجمهورية الرتكية‪ .‬إذا أراد املرء‬
‫مثال‪ ،‬وبني الفكر الرتيك‬
‫إنشاء ربط صالح بني التعليم العثامين يف القرن الثامن عرش‪ً ،‬‬
‫الحديث‪ ،‬فال بد أن يحدد سلسلة من الروابط السببية التي متتد عىل مر ثالثة قرون‪ .‬يف‬
‫ريا عن بعد – وهو أمر مستحيل‪.‬‬
‫غياب هذه السلسلة‪ ،‬أي ارتباط بني األمرين يقتيض تأث ً‬

‫لقد ط ّور هذا الكتاب سلسلة من اآلليات املرتابطة التي تربط املايض بالحارض‪ ،‬وخدم‬
‫بذلك غاية «الوحدة والبساطة» وغاية «التنوع والتعقيد»‪ .‬أما الغاية األوىل‪ ،‬فالنموذج‬
‫اإلجاميل ال يحتوي إال عىل بضع عالقات‪ ،‬كلها مستمد من مجموعة صغرية من املتغريات‪.‬‬
‫ريا ما تحلَّل‬
‫ريا موح ًدا للظواهر التي كث ً‬
‫كال متسقًا‪ ،‬ومن ثم تق ّدم تفس ً‬
‫تشكل هذه العالقات ًّ‬
‫مثال بني التطور‬
‫يف اختصاصات أكادميية مستقلة‪ .‬تتيح هذه اآلليات للباحث أن يربط ً‬
‫الفكري للمجتمع (مجال التاريخ الفكري) وبني تحول املؤسسات االقتصادية فيه (مجال‬
‫التاريخ االقتصادي)‪ .‬وأما الغاية الثانية‪ ،‬فإن الحجة املطروحة يف الكتاب تظهر كيف ميكن‬
‫تفّس نتائج مختلفة ج ًّدا‪ ،‬مثل استمرار الدكتاتورية واستقرار الدميقراطية‪،‬‬
‫آللية واحدة أن ّ‬
‫أو اإلميان باملساواة اإلنسانية واالعتقاد باالختالفات الطبيعية‪ .‬تساعد هذه الحجة إذن عىل‬
‫تفسري غنى التاريخ اإلنساين‪.‬‬

‫ريا‪ .‬لذا‬
‫يف مسعاي إىل فهم التنوع التاريخي‪ ،‬عزوت إىل األحداث الصغرية وزنًا كب ً‬
‫أساسا منطقيًّا لتوثيق التفاصيل التاريخية‪ ،‬إىل جانب فوائد إشباع‬
‫ً‬ ‫يقدم هذا الكتاب‬
‫ريا يف التطورات‬
‫الفضول‪ .‬يظهر الكتاب أن بعض التفاصيل يف املايض قد تكون أثرت أث ًرا كب ً‬
‫الالحقة‪.‬‬

‫‪394‬‬
‫كالتاريخ‪ ،‬توثّق األنرثوبولوجيا تنوع الحضارة اإلنسانية‪ .‬عىل وجه الخصوص‪،‬‬
‫تستكشف األنرثوبولوجيا تنوعات املعتقدات والقيم واألعراف واملؤسسات عرب الثقافات‪.‬‬
‫وتظهر كيف ينزع الناس إىل أن ينظروا إىل أعرافهم الثقافية عىل أنها الطبيعية‪ ،‬مهام كانت‬
‫يف رأي الغرباء غري طبيعية‪ .‬لكن األنرثوبولوجيا تجنبت مهمة تطوير إطار متامسك يرشح‬
‫تطور ومنو وانحسار االختالفات الثقافية‪ .‬لكن يف غياب هذا اإلطار‪ ،‬سيفرض ازدياد‬
‫التفسريات للتنوع الثقايف‪ ،‬مهام كانت مدعومة باملالحظة‪ ،‬عبئًا متزاي ًدا عىل قدرة اإلنسان‬
‫عىل التعلم والتذكر‪ .‬إن قراء األنرثوبولوجيا محدودون يف النهاية بحدود ذهنية تجعلنا‬
‫جمي ًعا نطلب اإلرشاد من ثقافاتنا‪ .‬بسبب هذه الحدود التي تجعل الثقافة أم ًرا ال بد منه‪ ،‬يجب‬
‫حدة لتفسري التنوع الثقايف‪.‬‬
‫بسطة ومو ّ‬
‫علينا أن ننشئ نظريات اجتامعية م ّ‬

‫قد يستجيب التفكيكيون أصحاب امليل إىل نزع «املعيارية» و«الذكورية» و«الهيمنة»‬
‫بأن النظريات االجتامعية تعكس انحيازات مطوريها‪ 2.‬وهو صدق‪ .‬ميكن لحدث واحد أن‬
‫يُالحظ من عدة وجهات نظر‪ ،‬وال بد أن تعكس وجهات نظر املحققني خلفياتهم وظروفهم‬
‫واهتامماتهم الشخصية‪ .‬لكن االختيار ليس بني وجود نظرية ناقصة وعدم وجود نظرية‬
‫أصال‪ .‬التأويل موجود حتى يف عملية «الوصف التام» يف األنرثوبولوجيا‪ ،‬رغم كل اهتاممها‬
‫ً‬
‫الدقيق بالتفاصيل والتنوعات‪ 3.‬إن العبارة إذا قيلت بصوت خافت يف مطعم هادئ تحمل‬
‫معنًى غري الذي تحمله إذا قيلت بصوت خافت يف جناح يف مشفى كُتبت فيه الئحة «حافظ‬
‫ريا ما يعتمد األنرثوبولوجيون عىل مفاهيمهم‬
‫عىل الهدوء»‪ .‬يف التفريق بني هذه املعاين كث ً‬
‫املسبقة عن الطبيعة البرشية والتعامالت االجتامعية والثقافات التي يدرسونها‪ .‬كذلك يعتمد‬
‫املؤرخون عىل «حسهم التاريخي» مللء الفجوات يف األدلة التوثيقية املتاحة‪ 4.‬يعتمد‬
‫مثال عىل معرفتهم العامة بالتوقعات واملفاهيم واآلراء يف املايض‪ ،‬لكن هذه املعرفة‬
‫املؤرخون ً‬
‫‪395‬‬
‫سابق لها‪ .‬مهام‬
‫ٌ‬ ‫معرضة للخطأ والتشويه‪ .‬عمل ًّيا إذن‪ ،‬ال يوجد تفسري خا ٍل من النظرية أو‬
‫حاولنا رواية األحداث كام حدثت‪ ،‬ال ميكننا أن نتخلص من أثر انحيازاتنا الشخصية‪.‬‬

‫االختيار الحقيقي أمامنا‪ ،‬هو بني تنظري فضفاض وضمني‪ ،‬وبني تنظري دقيق‬
‫ورصيح‪ .‬هذا الخيار األخري له أفضليات متعددة‪ .‬أوالً ‪ ،‬يس ّهل التنظري الدقيق والرصيح‬
‫يبني هذا النوع من التنظري ما‬
‫الفصل بني النظريات السيئة والنظريات الجيدة‪ .‬ثان ًيا‪ّ ،‬‬
‫رتض وما يؤكَّد بالضبط‪ ،‬فيس ّهل بذلك التمحيص النقدي‪ .‬ثالثًا‪ ،‬يتيح التنظري الدقيق للمرء‬
‫يُف َ‬
‫أن يفصل الظاهرة العلنية عن تفاصيلها الخفية بالثقافة املعينة‪ .‬هذه األفضلية األخرية‪ ،‬هي‬
‫القدرة عىل استخدام العنارص العاملية يف الحدث أو النزعة –بعد اكتشافها وربطها فيام‬
‫ريا من النساء املرصيات‬
‫مثال‪ ،‬أننا اكتشفنا أن كث ً‬
‫بينها– لتحديد املتوقَّع يف املستقبل‪ .‬افرتض ً‬
‫إمنا يتح ّجنب تجنّ ًبا الستنكار األصوليني‪ .‬عىل أساس النظرية املطروحة يف هذا الكتاب‪،‬‬
‫تجل محدد لظاهرة عامة تصيب مجتمعات كثرية ومتنوعة‪.‬‬
‫سنصنّف هذا االكتشاف عىل أنه ٍّ‬
‫مثال‪ ،‬وجود‬
‫ويف هذه العملية سنتحسس بعض املقتضيات املحتملة لالكتشاف‪ .‬سنفهم ً‬
‫احتامل للثورة عىل اإلسالم األصويل‪ ،‬كام سنفهم األسباب التي تجعل االرتكاس إىل الرجعية‬
‫إن حدث‪ ،‬أم ًرا مفاجئًا‪.‬‬

‫البنية واالختيار‬

‫يدرك علامء االجتامع أن استعامالت التنظري الرصيح منقسمة بشأن أهمية االختيار الفردي‬
‫والبنية االجتامعية‪ .‬عىل الجانب األول «العقالنيون» و«السلوكيون» و«الفردانيون» الذين‬
‫يرون يف منطق االختيار الفردي مفتاح فهم النظام االجتامعي‪ .‬يرى أصحاب هذا االتجاه أن‬

‫‪396‬‬
‫االختيار هو حامل األهمية األكرب‪ ،‬وأن البنى االجتامعية هي نتائج للقرارات الشخصية‬
‫الواعية‪ .‬عىل الجانب اآلخر «البنيويون»‪ ،‬الذين يرون أن االختيار الفردي أقل أهمية من القيود‬
‫التي يجري االختيار فيها‪ .‬قرارات الناس املهمة ثابتة بالعموم يف رأي أصحاب هذا االتجاه‪،‬‬
‫إذ يثبتها النظام االجتامعي‪ 5.‬لقد لوحظ أن املكان الذي يالحظ فيه البنيوي «تقييد البنية‬
‫االجتامعية للنشاط السيايس»‪ ،‬يرى الفرداين فيه «صنع القرار السيايس يف هذه حدود هذه‬
‫البنية»‪ .‬وعليه‪ ،‬سريكز األول عند دراسة قطيع من املاشية عىل «السور حول القطيع»‪ ،‬أما‬
‫‪6‬‬
‫األخري فسريكز عىل «نشاط املاشية ضمن حدود السور»‪.‬‬

‫ال يختلق البنيويون وال الفردانيون ما يروون عن مالحظاتهم‪ .‬القيود وصنع القرار‬
‫كالهام حقيقة من حقائق الحياة‪ .‬لكن الخطأ أن نعطي أولوية مطلقة ألحد العاملني عىل‬
‫اآلخر‪ .‬ليس للبنى أولوية مطلقة‪ ،‬ألن القيود التي تحتويها ليست ثابتة ال ميكن تغيريها‪ .‬يف‬
‫أوروبا الرشقية‪ ،‬زال قيد ضخم من البنية‪ ،‬هو احتكار الشيوعيني للسلطة‪ ،‬ألن ماليني الناس‬
‫قرروا أن يقولوا «كفى»‪ .‬بالطريقة نفسها‪ ،‬ليس لالختيارات الفردية أولوية مطلقة‪ ،‬ألن‬
‫القيود االجتامعية قد تجعل نتيجة عملية االختيار عمل ًّيا نتيجة معلومة سلفًا‪ .‬عىل مر عقود‪،‬‬
‫كان أمام الرومانيني خيار االحتجاج عىل القمع‪ ،‬لكن هذا الخيار كانت ترافقه انتقامات‬
‫مكلفة ج ًّدا‪.‬‬

‫مهام‪ ،‬وكل واحد منهام يشكّل اآلخر‪ .‬يجب‬


‫االختيار والبنية كالهام ميكن أن يكون ًّ‬
‫عىل العلوم االجتامعية تفسري تفاعل العنرصين فيام بينهام‪ .‬تسهم النظرية املقدمة يف‬
‫الفصول السابقة يف مسألة تفسري تطور الضغوط االجتامعية التي تقيد التفضيالت الفردية‬
‫العلنية‪ ،‬من خالل إطار مبني عىل االختيار الفردي‪ .‬لذا تساعد هذه النظرية عىل إدماج‬
‫املدرستني الفردانية والبنيوية‪ ،‬لتظهر أنهام غري متناقضتني مطلقًا‪ .‬ال تأخذ كل القيود شكل‬

‫‪397‬‬
‫ضغط اجتامعي‪ ،‬كام قد يالحظ املرء‪ .‬الدساتري والقوانني والترشيعات تحد من اختياراتنا‬
‫العملية؛ القوانني السياسية تجعل تغيري السياسات املوروثة أصعب؛ واأليديولوجيات تجعل‬
‫بعض االختيارات صعبة القبول‪ .‬لكن هذه القيود تخلقها وتحافظ عليها الضغوط‬
‫االجتامعية‪ ،‬التي تنتجها االختيارات الفردية‪ .‬نرى هنا مرة أخرى أن البنيوية والفردانية‬
‫تسهامن يف غايتني متكاملتني‪.‬‬

‫لقد طورت الفردانية سمعة سيئة يف الدوائر األكادميية‪ .‬يعود يشء من هذا إىل أن‬
‫ريا من مؤيديها يعامل الفرد عىل أنه نقطة وحدانية معزولة‪ .‬لكن املرء إذا أراد جعل الفرد‬
‫كث ً‬
‫وحدة للتحليل‪ ،‬فليس عليه أن يتجاهل العوامل االجتامعية التي تشكل النزعات الشخصية‪.‬‬
‫يظهر النموذج الذي يطرحه هذا الكتاب‪ ،‬كام تظهر مناذج متنوعة أخرى‪ ،‬أن الفردانية‬
‫املنهجية ال تكافئ الوحدانية املنهجية‪.‬‬

‫ال شك أن افرتاض أن الفرد «نقطة وحدانية معزولة» يف بعض الدوائر األكادميية يع ّد‬
‫مصد ًرا للقوة التحليلية‪ ،‬وال يعترب ضعفًا‪ .‬توجد دراسات نافعة كثرية تعتمد عىل الوحدانية‪.‬‬
‫ريا‬
‫خصوصا يف السياقات قصرية املدى التي ال يرجح أن تتغري فيها التفضيالت الخفية تغ ً‬
‫ً‬
‫ونفّس‬
‫ّ‬ ‫فهام أعمق‪،‬‬
‫معقوال تحليليًّا‪ .‬لكننا نستطيع أن نفهم ً‬
‫ً‬ ‫ملحوظًا‪ ،‬تقدم الوحدانية تبسيطًا‬
‫بني هذا الكتاب‬
‫مجموعة أوسع من الظواهر‪ ،‬من خالل فهم للفرد يكون أقرب إىل الوقع‪ .‬لقد ّ‬
‫كيف ميكن لنموذج يعامل الفرد عىل أنه منتج اجتامعي أن ينتج إرهاصات ورؤى بشأن آراء‬
‫الناس ونظرياتهم وأساطريهم‪ .‬لقد أظهر الكتاب قدرة البنى الذهنية عىل أن تعيش بعد موت‬
‫القيود الخارجية عىل الفعل الفردي‪ .‬كام نظر يف آلية تشكيل الخطاب العلني إلدراكات‬
‫املصلحة الشخصية‪.‬‬

‫‪398‬‬
‫حدود املعرفة االجتامعية‬

‫أتجه اآلن إىل املهمة الثانية من مهام الفصل‪ :‬تقدير رؤى النموذج املتعلقة بحدود املعرفة‬
‫االجتامعية‪.‬‬

‫اسأل عامل اجتامع مختا ًرا عشوائ ًّيا عن غاية علم االجتامع‪ .‬ستكون اإلجابة غال ًبا‪،‬‬
‫«التفسري والتنبؤ»‪ .‬هذه اإلجابة قد تثري أسئلة بشأن نظرية تكشف عن عوائق للفهم والتنبؤ‬
‫كل ما ميكن معرفته‬
‫أصال ّ‬
‫االجتامعي‪ .‬ملاذا نفكّر يف قيود املعرفة االجتامعية إذا كنا مل ندرس ً‬
‫حا؟ وإذا سلّمنا بقدرتنا جمي ًعا عىل التعلم‪ ،‬أليس من السابق ألوانه قبول الهزمية‬
‫وضو ً‬
‫العلمية؟‬

‫إن تحديد حدود املعرفة ليس إعالنًا للفشل‪ .‬بل هو يف نفسه إسهام يف املعارف‬
‫النافعة‪ ،‬وخطوة رضورية نحو رسم أجندة علمية واقعية‪ .‬بعبارة فردريك حايك‪« ،‬قد يكون‬
‫ترصفنا كام لو كنا منلك معرفة علمية متكننا من تجاوز [العقبات املطلقة أمام توقع األحداث‬
‫املعينة]‪ ،‬هو يف حد ذاته عقبة أمام التقدم بالفكر البرشي»‪ 7.‬مل يعرقل داروين العلم ومل‬
‫يعقه عندما طور نظرية تحد قدرتنا عىل توقع التطور البيولوجي‪ .‬قفز داروين باملعارف‬
‫البيولوجية قفزة كمومية‪ ،‬إذ قام ببحوث طورت قدرتنا عىل التحكم بتطور أنواع معينة‪.‬‬
‫ينبغي أن تكون غاية العلم كله‪ ،‬ال البيولوجيا وحدها‪ ،‬هي تفسري ما ميكن تفسريه‪ ،‬والتنبؤ‬
‫مبا ميكن التنبؤ به‪ ،‬وكذلك فصل ما ميكن معرفته عام ال ميكن معرفته‪.‬‬

‫ينبغي عىل املخالفني أن ميسحوا االتجاهات االجتامعية يف زماننا ويسألوا أنفسهم‬


‫كامال‪ ،‬حتى‬
‫ً‬ ‫إن كان أي واحد منها قد تُ ُوقِّع توقّ ًعا دقيقًا‪ ،‬وإن كان أي واحد منها فُهم ً‬
‫فهام‬

‫‪399‬‬
‫فهام دقيقًا ملا حدث يف أواخر القرن العرشين‪ ،‬من صعود لألصولية‬
‫بعد حدوثه‪ .‬هل منتلك ً‬
‫الدينية‪ ،‬واشتداد للحركات الوطنية‪ ،‬وصعود آسيا الرشقية لتصبح عمالقًا اقتصاديًّا؟ من تن ّبأ‪،‬‬
‫يف خمسينيات القرن العرشين‪ ،‬أن كوريا الجنوبية ستصبح عام قليل من أكرب املص ِّدرين‬
‫الصناعيني‪ ،‬وأن العلامنية ستصبح يف محل دفاع يف أرجاء العامل‪ ،‬وأن الحروب بني اإلثنيات‬
‫ستتصاعد؟ أي تقدير رسيع لسجل املايض من العلوم االجتامعية سيظهر أن التوقع التام‬
‫والتفسري الكامل مل يكونا األصل‪ ،‬عىل األقل يف القضايا املس ّيسة التي يقوم عليها حشود‬
‫من صناع القرار‪ .‬عمل ًّيا‪ ،‬ليس علينا االختيار بني النظريات التي تنتج معرفة كاملة‬
‫والنظريات التي ال تنتج إال معرفة محدودة‪ .‬الفرق الجوهري هو أن بعض النظريات تنكر أو‬
‫رصح النظريات األخرى عنها‪.‬‬
‫تنكّر محدوديتها‪ ،‬فيام ت ّ‬

‫تنبع محدوديات منوذج التفضيل املزدوج من مزيج من عاملني‪ .‬أوالً ‪ ،‬االرتباط بني‬
‫بعض العنارص يف النموذج غري خطي‪ ،‬أي إن حساسياتها فيام بينها وحساسياتها‬
‫للصدمات الخارجية‪ ،‬متنوعة‪ .‬يف أي نظام غري خطي‪ ،‬ميكن لعواقب أي اضطراب أن تتنوع‬
‫ضخام‪ .‬حسب الظروف‪ ،‬قد تكون آثار االضطراب ضخمة ج ًّدا أو ضئيل ًة ج ًّدا‪ 8.‬يف‬
‫ً‬ ‫تن ّو ًعا‬
‫السياق الحارض‪ ،‬تعود العالقات غري الخطية إىل االعتامدات البينية بني التفضيالت العلنية‬
‫لألفراد‪ .‬تتخذ هذه العالقات شكل تن ّوعات يف الحساسية للرأي العلني ولتوزع الخصائص‬
‫الفردية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قد تحدث تغريات ضخمة يف اآلراء الخفية فال تغري الرأي العلني‬
‫يف يشء‪ ،‬ليتلوها بعد ذلك تغري بسيط يقلب الرأي العلني جذريًّا‪ .‬العامل الثاين الذي يحد‬
‫قدرة النموذج عىل التوقع والتنبؤ هو أن عالقات االعتامد البيني بني التفضيالت العلنية ال‬
‫ميكن مالحظتها مالحظة تا ّمة‪ .‬األثر املشرتك لهذين العاملني هو استحالة توقع نتائج أي‬
‫تطور سيايس توق ًعا يقين ًّيا‪.‬‬
‫‪400‬‬
‫فلنكن واضحني بشأن دور عدم الخطية واستحالة املالحظة التامة‪ .‬يف غياب تزييف‬
‫التفضيل‪ ،‬وهو أصل املالحظة غري التامة‪ ،‬ميكن لنا دامئًا أن نعي باقرتاب االنقطاعات‪ .‬كنا‬
‫مثال‪ ،‬أن ثورة ضد الحكومة ستنشأ لو اكتشف ثالثة أشخاص آخرين حقيقة الوضع‬
‫لنالحظ ً‬
‫السيايس القائم‪ .‬ويف غياب االعتامدات البينية يف التفضيالت العلنية‪ ،‬وهي أصل انعدام‬
‫الخطية‪ ،‬ال ميكن للتغريات الصغرية يف اتجاهات األفراد أن تؤدي إىل تغريات انفجارية يف‬
‫الرأي العلني‪ .‬كان التغري الذي ميكن مالحظته بسهولة يف التزام الناس بالوضع القائم‬
‫ليؤدي إىل تغري كبري يف الرأي العلني‪ ،‬أما التغري الصغري الذي ال ميكن مالحظته يف مشاعر‬
‫ريا يناسبه يف أفضل األحوال‪ .‬أما يف وجود تزييف‬
‫تغريا صغ ً‬
‫بعض الناس‪ ،‬فام كان لينتج إال ّ ً‬
‫التفضيل واالعتامدات البينية‪ ،‬ومن ثم إمكانية املالحظة املنقوصة وانعدام الخطية‪ ،‬فتصبح‬
‫اآلثار غري مناسبة يف الحجم ألسبابها‪ ،‬وال ممكنًا التنبؤ بها‪.‬‬

‫إن حقيقة عدم التنبؤ السابق بنتيجة معينة ال تقتيض أن هذه النتيجة ال بد أن تبقى‬
‫فهام ج ّي ًدا إىل‬
‫خر‪ ،‬ميكن فهم كثري من األحداث غري املتوقعة ً‬
‫كامال‪ .‬بفائدة اإلدراك املؤ َّ‬
‫ً‬ ‫رسا‬
‫ًّ‬
‫ريا عن اإلحباطات التي تشعل األصوليات الحديثة‪ ،‬حتى إذا كان‬
‫درجة معقولة‪ .‬نحن نعلم كث ً‬
‫صعودها غري متوقع‪ .‬نحن نعلم ملاذا وكيف انقلب األوروبيون الرشقيون عىل أنظمتهم‬
‫الشيوعية‪ ،‬مع أن سقوط جدار برلني أذهلنا جمي ًعا‪ .‬تفّس النظرية املقرتحة‪ ،‬بطريقة تناسب‬
‫منطقها‪ ،‬ملاذا يكون التفسري عادة أسهل من التوقع‪ 9.‬يُظهر التغري يف الرأي العلني معلومات‬
‫مناسبة له‪ ،‬ويخفي معلومات غري مناسبة له‪ .‬يُضاعف هذه املشكلة‪ ،‬كام رأينا يف الفصل‬
‫ص عىل نحو أرسع من املعلومات املنافرة له‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫لحدث ما تُق َبل ومتُ تَ ّ‬ ‫‪ ،15‬أن املعلومات املناسبة‬

‫‪401‬‬
‫ال ينبغي أن يُستهان بقدرة النموذج عىل تفسري كون التفسري أسهل من التنبؤ‪ .‬يف‬
‫ريا ما يستعمل املصطلحان كأنهام مرتادفان‪ ،‬كام لو أن النموذج الذي‬
‫العلوم االجتامعية كث ً‬
‫يستطيع تقديم ر ًؤى يف املايض قادر قدرة مساوية عىل توقع املستقبل‪ .‬يُضاف إىل هذا أن‬
‫قليال ما تكون واضحة بشأن ما كان يعرفه الفاعلون وما‬
‫الروايات التي تكون بعد الحدث ً‬
‫ريا ما تقول هذه الروايات أن األحداث املسجلة «مل يكن منها بد» أن‬
‫كان ميكن أن يعرفوه‪ .‬كث ً‬
‫تحدث‪ ،‬دون تفسري كون هذه األحداث غري متوقعة يف السابق‪ ،‬رغم أنها حتمية‪ .‬توحي كثري‬
‫من الروايات عن الثورة األوروبية الرشقية بأن الثورة كانت أم ًرا حتم ًّيا‪ .‬كل هذه الروايات‬
‫مضللة ج ًّدا‪ .‬لو بقي النظام الشيوعي قامئًا‪ ،‬أما كنّا اآلن نق ّدم أسبابًا مقنعة لاستمرار‬
‫الشيوعية؟ أكنّا أولينا اهتام ًما جا ًّدا للرأي القائل بسهولة سقوط الشيوعية؟ الحقيقة هي أن‬
‫الثورة لو مل تحدث‪ ،‬ملا رأى كثري من املراقبني ألوروبا الرشقية أي لغز يف االستقرار السيايس‬
‫القائم يف املنطقة‪.‬‬

‫من املصاعب العملية للتنبؤ االجتامعي‪ ،‬يستنتج بعض الباحثني انعدام القيمة يف‬
‫النظريات االجتامعية العامة‪ .‬يرى هؤالء أننا يجب أن نلتزم بدراسة الحاالت‪ ،‬دون السعي إىل‬
‫مثال‪ ،‬أدت التوقعات الفاشلة املتكررة إىل تشكيك‬
‫تحقيق وحدة مفهومية‪ .‬يف سياق الثورات ً‬
‫بعض علامء االجتامع يف فائدة السعي إىل نظرية عامة للثورات‪ 10.‬يستحق هؤالء الباحثون‬
‫الفضل يف إدراكهم لشيوع اإلخفاقات التنبؤية‪ .‬لكنهم مخطئون يف رفضهم الحتامل وجود‬
‫ر ًؤى عامة يف العملية الثورية‪ .‬املشكلة ليست يف التنظري يف حد ذاته بل يف نوع التنظري‬
‫الذي ساد العلوم االجتامعية‪ .‬الذي نحتاج إليه هو تنظري يأخذ بعني االعتبار محدودياته‬
‫ويفرق بني التفسري والتوقع‪ .‬أي نظرية تحقق هذين املعيارين قادرة عىل تقديم تفسري‬
‫متامسك للمالحظات التي تثبت ظاهريًّا عبث البحث عن وحدة وعمومية يف املفاهيم‪.‬‬
‫‪402‬‬
‫نحو تفسريٍ أكرث وضو ً‬
‫حا وتنبؤ أكرث دقّة‬
‫إن اإلقرار بحدود املعرفة ال يعني بالّضورة أن الجهل التام حيال املايض أم ٌر محتوم‪ ،‬أو أن‬
‫تط ّور األحداث يجب أن يفاجئنا عىل الدوام‪ .‬فكام ذكرتُ ‪ ،‬إن القيو َد ال تنبثق من عدم القابلية‬
‫ملالحظة أوجه االعتامد املتبادل بني التفضيالت العلنية‪ ،‬بل من قصور قابليتها للمالحظة‪.‬‬
‫استكشفت الفصول السابقة‪ ،‬ناد ًرا ما تنجح عالمات تزييف التفضيل يف االختفاء‬
‫ْ‬ ‫وكام‬
‫يئ تحديد الضغوط التي تكبّل حرية التعبري‬
‫بصورة كاملة‪ ،‬وغالبًا ما ميكن بشكل جز ّ‬
‫الصادق‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬تب ًعا للظرف‪ ،‬ميكن استشفاف الكثري من املعلومات الكامنة‬
‫وذات الصلة من نتائج استطالعات الرأي املجهولة‪ ،‬أو من مصادر مثل املذكرات‪ ،‬واملفكّرات‬
‫اليومية‪ ،‬والرسائل الّسية‪ ،‬واالعرتافات عىل فراش املوت‪ ،‬والسجالت الّسية‪ .‬ويف كثري من‬
‫األحيان‪ ،‬باستطاعة املرء أن مييز بني اإلخالص الصادق واالنصياع املدفوع بالخوف‪ ،‬وبني‬
‫املوافقة الفعلية واملخالفة املكبوتة‪.‬‬

‫ميكننا القول إن جمع البيانات الخفية يتخذ طاب ًعا أكرث صعوبة غال ًبا يف البلدان التي تعوزها‬
‫الحريات الدميقراطية أو ت ّتسم فيها تلك الحريات بحال ٍة هشة مقارن ًة بالدول ذات التقاليد‬
‫الدميقراطية الراسخة‪ .‬ففي الحالة األوىل‪ ،‬إن القوى التي تَعوقُ التعبري الصادق هي نفسها‬
‫من مينع جمع البيانات عن اآلراء الشخصية‪ .‬وعليه‪ ،‬عمدت األنظمة الشيوعية يف أوروبا‬
‫وسائل مختلفة‬
‫َ‬ ‫الرشقية إىل تقييد استطالعات الرأي‪ .‬إىل جانب ذلك‪ ،‬وظّفت تلك األنظمة‬
‫لتضليل املجتمع الدويل بشأن حجم املعارضة للحكم الشيوعي عىل النطاق الخفي‪.‬‬
‫أقل من القبول‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فقد أدرك معظمنا أن أنظمة أوروبا الرشقية قد حظيت مبستوى ّ‬
‫مثال‪ .‬إمنا ما مل‬
‫الحقيقي كذلك الذي حظيت به الحكومة السويدية يف أوساط السويديني ً‬
‫نكن نعرفه هو الطبيعة املحددة للرأي الخاص‪ ،‬ناهيك عن التوزيع الدقيق للعتبات الثورية‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫ويجدر بنا إعادة التأكيد عىل أن تزييف التفضيل ميثّل مشكل ًة للتحليل االجتامعي فيام يتعلق‬
‫بالدول الدميقراطية أيضً ا‪ .‬إذ رغم الحامية القانونية للحق يف التعبري عن اآلراء غري السائدة‪،‬‬
‫فثمة قضايا حساسة ال يُجازف الناس بإبداء رأيهم فيها علناً‪ .‬يف الواليات املتحدة‪ ،‬تعترب‬
‫مثاال عىل هذا‪.‬‬
‫قضية العالقات العرقية ً‬

‫مثال‪ ،‬يف تشيكوسلوفاكيا عن االحتكار الشيوعي‬


‫عندما يتع ّرض الحوار الرصيح للحظر – ً‬
‫للسلطة‪ ،‬أو يف إيران عن الحكم اإلسالمي‪ ،‬أو يف الهند عن نظام الطبقات‪ ،‬أو يف الواليات‬
‫املتحدة عن التمييز اإليجايب– توجد عمو ًما أَماراتٌ عن معارض ٍة خفية للمواقف التي تحظى‬
‫ِ‬
‫حدوث انفجار اجتامعي‪ .‬كام‬ ‫بتأييد شعبي واسع‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬بإمكان املرء تحدي ُد إمكانية‬
‫مؤرشات عىل أن تحريف الخطاب العلني يؤثر عىل التفكري الخفي‪ ،‬أو‬‫ٍ‬ ‫ميكن للمرء ُمعاينة‬
‫فعال عليه‪ .‬وهكذا‪ ،‬مع إقرارنا مبحدودية النظرية املتبنّاة يف كتابنا هذا‪ ،‬فإنّها تعض ُد‬
‫قد أثّر ً‬
‫ري والتنبؤ عىل ح ٍّد سواء‪ .‬وبإمكانها أن تط ّور قراءاتنا للتاريخ وتنبهنا إىل االحتامالت‬
‫التفس َ‬
‫سيظل مشوبًا أب ًدا بأوجه‬
‫ّ‬ ‫املستقبلية‪ ،‬وإن كان ذلك بالّضورة ضمن حدود‪ .‬ألن فهمنا‬
‫القصور‪ ،‬وستظل توقعاتنا ُعرضة للخطأ‪.‬‬

‫يف ِظ ّل جميع األنظمة السياسية‪ ،‬دميقراطي ًة كانت أو غري دميقراطية‪ ،‬مثة قضايا ّ‬
‫محل نزا ٍع‬
‫ٍ‬
‫طيف واسعٍ من اآلراء دون التعرض‬ ‫يف العلن‪ ،‬وميكن للمرء أن ي ّتخذ موقفًا منها ضمن‬
‫ٍ‬
‫بقفزات غري متوقعة‪ ،‬إال‬ ‫لعقوبات كبرية‪ .‬فيام يتعلق بقضايا كهذه‪ ،‬ال يأيت الرأي العلني‬
‫تغري اآلراء بصورة متزامنة –عىل سبيل املثال‪ ،‬يف حال حدوث‬‫كاستجاب ٍة لصدمة كربى ّ‬
‫زلزال يدفع ماليني األفراد إلعادة النظر يف أهمية قوانني البناء الصارمة‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪،‬‬
‫ميكن تفسري تطور الرأي العلني دون الحاجة إىل االهتامم أكرث من الالزم بأوجه االعتامد‬
‫املتبادل‪ .‬فتزييف التفضيل قد يح ّد بشكلٍ معت ٍ‬
‫رب من قدراتنا التنبؤية والتفسريية ال س ّيام‬
‫عندما يتعلق األمر بالقضايا ذات الحساسية االجتامعية‪ .‬إمنا ينبغي التنويه مرة أخرى أنه‬

‫‪404‬‬
‫بالرغم من ذلك فإن الصورة الكاملة ال تغيب عنا متا ًما‪ .‬ألنه فيام يخص املايض‪ ،‬ميكننا أن‬
‫نفهم استمرارية وعواقب ظروف القمع‪ .‬وفيام يتعلق باملستقبل‪ ،‬فإننا نعلم أين هي َمظا ّن‬
‫التغيري املفاجئ‪.‬‬

‫إجامال‪ ،‬تتضمن مهمة تحديد أمثلة تزييف التفضيل عىل نطاقٍ الواسع مراجع َة البيانات التي‬
‫ً‬
‫يصعب توثيقها وتفسريها‪ .‬إذ قبل عام ‪ ،1989‬يف حال رغب باحثٌ ما إثباتُ تغلغل تزييف‬
‫لرمبا استقى بياناته من‪ :‬استطالعات الرأي التي أجرتها‬
‫التفضيل يف أوروبا الرشقية‪ّ ،‬‬
‫املنظامت الغربية يف أوساط املسافرين من أوروبا الرشقية‪ ،‬وادعاءات املنشقني املعارضني‬
‫للشيوعية‪ ،‬ومالحظات املراقبني الخارجيني املطّلعني‪ .‬مل تُؤخذ هذه البيانات يف الحسبان‬
‫العتبارها متحيزة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مل ميكن رفدها باستطالعات الرأي املوثوقة‪ ،‬ألن الحكومات‬
‫املتولية لزمام السلطة مل متنح األذونات الالزمة‪ .‬ال يعني هذا أن البيانات املستقاة من‬
‫استطالعات الرأي مل تكن موجودة‪ .‬إذ كام رأينا يف الفصلني الثالث عرش والسادس عرش‪،‬‬
‫أجرت األنظمة الشيوعية استطالعات رأي بانتظام‪ .‬إمنا قبل عام ‪ ،1989‬مل تكن هذه‬
‫االستطالعات ُمتاحة يف املجال العلني‪ .‬يف ذلك الحني ساورتنا الشكوك التي ثبتت صحتها‬
‫فيام بعد‪ ،‬وأصبحنا اآلن عىل يقني أن الحكومات الشيوعية كانت تفرض الّسية عىل تلك‬
‫االستطالعات ببساط ٍة ألنها أدركت عدم شعبيتها عىل النطاق الخفي‪ .‬فالنظام الذي يحظى‬
‫برشعية حقيقية ليس لديه ما يدعو إىل الحفاظ عىل رسية استطالعات الرأي‪.‬‬
‫كام أنه ال يحتاج إىل حظر استطالعات الرأي املستقلة‪.‬‬

‫يف حال غياب بيانات استطالعات الرأي املنهجية‪ ،‬قد يكون من «غري العلمي» االدعاء بأن‬
‫نظا ًما ما‪ ،‬أو مؤسس ًة ما‪ ،‬أو سياس ًة ما‪ ،‬أو أجند ًة سياسية ما ال تحظى بالشعبية عىل النطاق‬
‫الخفي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن التقاليد العلمية ال تتطلب أكرث من جمع أفض ِل البيانات املتاحة‬
‫وتفسري أدلتنا يف ضو ِء نظري ٍة سليمة‪ .‬فهي ال تطلب منا تجاهل املشكالت التي تن ُدر عنها‬

‫‪405‬‬
‫البيانات أو يشوبها النقص النسبي‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬قد يكون عدم توفر بيانات ج ّيدة عن اآلراء‬
‫يف حد ذاته عالم ًة عىل تزييف التفضيل‪.‬‬
‫حل لغز الجرمية‪،‬‬
‫وبنفس القدر من األهمية الذي أواله شريلوك هوملز لعدم نباح الكلب يف ّ‬
‫كان من املهم سياس ًيا أن تحظ َر أملانيا الرشقية استطالعات الرأي املستقلة‪ ،‬عىل النقيض من‬
‫أملانيا الغربية‪ .‬ومن املنطلق ذاته‪ ،‬فهو أم ٌر ذو دالل ٍة كبرية أن الجامعات األمريكية‪ ،‬التي تد ّرس‬
‫آالف املقررات عن التكاليف االجتامعية للعنرصية البيضاء املعارصة‪ ،‬ال تق ّدم سوى القليل‬
‫من املقررات التي تنتقد بشكل رصيح سياسة التمييز اإليجايب‪ .‬فقد متنحنا الكالب التي ال‬
‫تنبح –املقررات التي ال تُد ّرس‪ ،‬وبيانات استطالعات الرأي غري املتاحة– قد ًرا من املعلومات‬
‫املفيدة بنفس فائدة ما متنحه الكالب التي تنبح‪.‬‬

‫يف َمواطن انتشار تزييف التفضيل‪ ،‬غالبًا ما ال يُتاح أمامنا سوى استخدام أي بيانات ميكن‬
‫العثور عليها‪ ،‬حتى غري الدقيقة منها‪ .‬وسواء كنا نريد تفسري املايض أو استكشاف‬
‫االحتامالت املستقبلية‪ ،‬ينبغي علينا االلتفات إىل التصورات املتف ّرقة للمراقبني م ّمن يبدو أنهم‬
‫عىل دراي ٍة جيدة باألحداث التي تدور يف الكواليس ال عىل مّسح األحداث العلنية‪ .‬وال تقدم‬
‫تشخيص وجود حال ٍة من االستياء عىل نطاق‬
‫ُ‬ ‫التفسريات االنطباعية أرقا ًما دقيقة‪ ،‬إمنا ميكنها‬
‫واسع‪ 11.‬طب ًعا بعد حاالت القمع أو اإلخفاء القّسي‪ ،‬قد تتحسن قاعدة البيانات ذات الصلة‬
‫ِ‬
‫بيانات العديد من استطالعات‬ ‫َ‬
‫الحصول عىل‬ ‫بشكل ملحوظ‪ .‬فمنذ عام ‪ ،1989‬استطعنا‬
‫الرأي الّسية التي أجرتها األنظمة الشيوعية يف أوروبا الرشقية عىل مدار سنوات‪.‬‬

‫قد تلحق بالتنبؤات االجتامعية املستندة إىل تصورات تزييف التفضيل مشكل ٌة غائبة عن‬
‫التفسري التاريخي‪ .‬فالتنبؤات تتفاعل مع الظواهر التي تتنبأ بها‪ .‬إذًا‪ ،‬قد يصبح التقرير الذي‬
‫يُشري إىل أن املجتمع عىل وشك االنفجار نبوء ًة تحقّق ذاتَها‪ ،‬أو عىل العكس‪ ،‬تنفي ذاتها‬
‫ِ‬
‫السياقات التي‬ ‫باستفزاز الحكومة التخاذ تدابري وقائية‪ .‬وال تقترص هذه التأثرياتُ عىل‬

‫‪406‬‬
‫ري الواقع‬
‫ري عن أنفسهم بصدق‪ .‬إذ ميكن ألي مالحظة اجتامعية تغي َ‬
‫يخىش فيها الناس التعب َ‬
‫قيد املالحظة‪ 12.‬فخبري االقتصاد الذي يتنبأ بحدوث ركود اقتصادي قد يساهم يف حدوث‬
‫ركو ٍد مل يكن لِيحدث لو أنه التز َم الصمت‪ .‬وعىل غرار ذلك‪ ،‬قد تؤدي التقارير التي تتحدث‬
‫عن مدى ق ّوة مرشّ حة ما إىل إخاف ِة حتى خصومها من ذوي الجدارة‪ ،‬مام يزيد من فرص‬
‫تق ّدمها يف سباق االنتخابات‪.‬‬

‫قياس تزييف التفضيل‬


‫يحسن قدراتنا التنبؤية‬
‫ّ‬ ‫وعليه‪ ،‬فإن االقرتاح بأن مفهوم تزييف التفضيل ميكن أن‬
‫والتفسريية ال يعني إمكانية توظيفه يف التحليل االجتامعي دون مخاطرة تُذكر‪ .‬إذ تظهر‬
‫مشكلة أخرى تقودين للمهمة الثالثة يف الفصل‪ ،‬وهي تتعلق بأوجه النقص التي تعتور‬
‫التقنيات املتاحة لتحديد وقياس مقدار تزييف التفضيل‪ .‬يجدر يب التنويه إىل أن هذه‬
‫املشكلة ال تشري بالّضورة إىل خللٍ يف النظرية املوضّ حة يف هذا الكتاب‪ .‬إذ يندر تطوير‬
‫ٍ‬
‫بيانات جديدة حتى تثبت النظريات الجديدة فائدتها‪ 13.‬فعىل سبيل املثال‪،‬‬ ‫ِ‬
‫قواعد‬ ‫تقنيات بنا ِء‬
‫ِ‬
‫ٍ‬
‫نظريات تتضمن مقاييس‬ ‫مل تُبتكر طرق قياس درجات الحرارة إىل أن وضع الفيزيائيون‬
‫ِ‬
‫قياس رسعة تدا ُول النقود إال بعد أن أصبح املفهوم مألوفًا‬ ‫درجة الحرارة‪ .‬ومل تظهر آلياتُ‬
‫يف األدبيات االقتصادية‪.‬‬

‫ِ‬
‫آليات القياس الالزمة للتحقق منها أو حتى استخدامها‪،‬‬ ‫بنا ًء عليه‪ ،‬عندما تسبق نظري ٌة ما‬
‫يص ُعب عىل وجه الخصوص اختبا ُرها ضمن السياقات التاريخية مقارن ًة بالسياقات‬
‫املعارصة‪ .‬فاألدلة عىل رسعة تدا ُول العمالت املعدنية يف األناضول يف القرن الرابع عرش‬
‫ليست موثوق ًة بقدر املعلومات عن رسعة التدا ُول املعارصة للني الياباين‪ .‬بالرغم من ذلك‪ ،‬ال‬
‫كل ما عىل املرء فعلُه هو‬
‫ميكن اعتبار هذا مرب ًرا لرفض مفهوم رسعة تداول النقد‪ .‬باألحرى‪ّ ،‬‬
‫توخي املزيد من الحذر خالل إجراء األبحاث عن بدايات االقتصاد العثامين‪ .‬وهكذا ميكن‬

‫‪407‬‬
‫للمرء أن يق ّر بوجود املعوقات التي تص ّعب من عملية قياس رسعة تدا ُول النقد العثامين دون‬
‫إنكار املزايا العلمية للمفهوم ذاته‪ .‬وعىل نح ٍو مامثل‪ ،‬ميكن للمرء أن يعرتف بالصعوبات‬
‫التي تشوب قياس التناقضات بني الرأي العلني والرأي الخفي يف املايض دون الجزم بعدم‬
‫ِ‬
‫استطالعات رأي علمية خالل الحرب األهلية‬ ‫جدوى مفهوم تزييف التفضيل‪ .‬فعدم إجراء أي‬
‫األمريكية ال يعني أن املفهوم غري ٍ‬
‫مفيد للبحث يف تلك الفرتة‪.‬‬

‫مثة محاوالت بحثية ناجحة لتشخيص حاالت تزييف التفضيل التي وقعت يف األزمنة‬
‫بغض النظر عن قِدمها‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬طور بعض مؤ ّرخي العصور الوسطى‬
‫ّ‬ ‫املاضية‪،‬‬
‫تنطلق هذه التقنيات من‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫تقنيات لتحديد الرسائل املخف ّية يف النصوص الفلسفية القدمية‪.‬‬
‫يعرب كاتب مخّض ٌم عن وجهة نظر تتعارض مع الرأي العلني‪ ،‬فغالب‬ ‫املبدأ التايل‪ .‬عندما ّ‬
‫ينقل وجهة نظر داعم ٍة للرأي العلني‪ ،‬ال ميكن استبعاد‬
‫الظ ّن أنه يفعل ذلك صادقًا‪ .‬أما عندما ُ‬
‫عرب عنه يف‬
‫لئال يتع ّرض للعقوبة‪ ،‬خاصة إذا كان الرأي مناقضً ا ملا ّ‬
‫احتامل أنه يفعل ذلك ّ‬
‫موضعٍ آخر‪ .‬كتب فالسفة العصور الوسطى أعاملهم يف زمنٍ غالبًا ما أسفرت فيه مخالفة‬
‫ظروف‪ ،‬ع ِمدوا إىل بثّ أفكارهم األكرث أصالة‬
‫ٍ‬ ‫املعتقدات الشائعة إىل تلقّي العقاب‪ .‬يف هكذا‬
‫ريهم من املفكرين‬
‫حرصي غ ُ‬
‫ّ‬ ‫واألكرث إثارة للجدل «بني السطور» ليك يتلقّفها بشكل‬
‫أميا أطروحة‪ ،‬بإمكان الكاتب‬
‫املستقلني‪ .‬ووفقًا ملا وثَّقه ليو شرتاوس وآخرون‪ ،‬ففي ثنايا ّ‬
‫خفي مبدأً سائ ًدا قد يكون دافع عنه يف العديد من الفقرات‬
‫ٍّ‬ ‫الحاذق أن يعارض بشكلٍ‬
‫الرصيحة‪ ،‬سع ًيا منه للبوح عن معارضته بشكل مبطّن للقراء النابهني الذين من املرجح أن‬
‫يكونوا من املتفقني معه يف الرأي‪ ،‬ويف اآلن نفسه ُمخف ًيا معارضته عن القراء غري املتم ّرسني‬
‫م ّمن قد يعترب معارضته إساءةً‪ .‬تُشري القراءات املتأنية ألعامل الفارايب‪ ،‬وموىس بن ميمون‪،‬‬
‫وابن خلدون‪ ،‬وهوبز‪ ،‬وسبينوزا وغريهم من الفالسفة البارزين إىل َميلهم للتعبري عن آرائهم‬
‫وبعبارات مقصودة الغموض‪ ،‬وقد يكون ذلك بهدف‬ ‫ٍ‬ ‫فقرات ُمبهم ٍة نسب ًيا‬
‫ٍ‬ ‫املخالِفة للسائد يف‬
‫‪14‬‬
‫عدم التعرض للمضايقة‪.‬‬

‫‪408‬‬
‫إمنا ينبغي التنويه إىل أ ّن القراءة بني السطور ليست تقنية دامئة النجاح‪ .‬بيد أ ّن رفْضها لهذا‬
‫السبب وحده سيكون مبثابة رفْض تقديم اإلسعافات األولية لب ّحا ٍر جريح يف عرض البحر‬
‫بدعوى إمكانه الحصول عىل عالجٍ أفضل يف مستشفى كامل التجهيز عىل اليابسة‪ .‬كام‬
‫افرتاض‬
‫َ‬ ‫عطى عىل غريه من املعطيات املتاحة‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬فإن‬
‫ذكرنا آنفًا‪ ،‬تتوقف قيمة أي ُم ً‬
‫أن الكتّاب يف املايض مل يكن لديهم الحوافز أو املقدرة عىل إخفاء أفكارهم الحقيقية من‬
‫شأنه أن يتعارض مع أبسط مق ّومات الطبيعة البرشية‪.‬‬
‫كام من شأنه أن يؤدي إىل تفسريات تاريخية فادحة الخطأ‪ .‬ما تزال النقطة املطروحة قامئةً‪:‬‬
‫يف السياق التاريخي ناد ًرا ما تتوفّر إمكانية الوصول إىل البيانات املثالية‪ .‬فلو افرتضنا رغب َة‬
‫بذل جهو ٍد‬
‫فسيتعني عليهم َ‬
‫ّ‬ ‫مؤرخي املستقبل يف الحصول عىل بيانات أفضل عن زمننا‪،‬‬
‫منهجية لجمع البيانات التي تف ّرق من ناحية بني الرأي العلني والرأي الخفي‪ ،‬ومن ناحية‬
‫أخرى متيّز بني املعرفة الخفية والخطاب العلني‪ .‬تندرج اإلجراءات البحثية املطلوبة ضمن‬
‫فئتني عامتني‪ :‬البحث امليداين النوعي واالستطالعات الكمية‪.‬‬

‫ميكن إجراء البحوث امليدانية النوعية عن طريق باحثني مد ّربني عىل تقنيات الوصف العميق‬
‫–عرب إنشاء عالقة مع املجتمع املدروس‪ ،‬واختيار املشرتكني مق ّدمي املعلومات‪ ،‬وكتابة‬
‫مذكرات يومية‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬وعرب العيش لفرتة من الزمن مع املجتمع قيد الدرس‪ ،‬يحاول‬
‫الباحثون كسب ثقة املجتمع بهدف التعرف عىل التصورات‪ ،‬واألفكار‪ ،‬ومشاعر االستياء‪،‬‬
‫والتطلّعات‪ ،‬والطموحات التي عاد ًة ما ينز ُع أفراد ذلك املجتمع إىل إبقائها يف الح ّيز الخفي‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬فإن البحث يكشف االختالفات بني حياة املجتمع يف العلن وحياته خلف الكواليس‪.‬‬
‫وقد أوضح جيمس سكوت كيفية إجراء هكذا بحث من خالل العمل امليداين يف ريف‬
‫ماليزيا‪ 15.‬إذ وثّق سكوت أن الفالحني الفقراء يضللون بصورة متع ّمدة وبشكل متك ّرر ماليك‬
‫األرايض واملسؤولني الحكوميني حيال معرفتهم وميولهم‪ .‬كام جاء يف الفصل العارش من‬

‫‪409‬‬
‫دليال عىل أن‬
‫ري النتائج التي توصل إليها عندما يعتربها ً‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬يُيسء سكوت تفس َ‬
‫ي تأثري عىل املعرفة الخفية‪ .‬بغض‬
‫الخطاب العلني‪ ،‬مهام بلغت درجة التحريف فيه‪ ،‬ليس له أ ّ‬
‫النظر عن هذا‪ ،‬فإن عملَه يشهد عىل إمكانية تحديد نطاقِ ومدى تزييف التفضيل لدى الفئات‬
‫املستضعفة‪.‬‬

‫مسح معين ٍة لقياس تزييف التفضيل‪ .‬سأناقش اثنتني منها‪ ،‬بد ًءا‬
‫طُ ّورت بالفعل تقنياتُ ْ‬
‫باختبا ٍر واحد من العديد من االختبارات التي طورها معهد ألينزباخ‪ .‬يحمل اختبار ألينزباخ‬
‫التمثييل اسم «اختبار مكان ركن السيارات»‪ 16.‬عشية االنتخابات يف أملانيا الغربية للعام‬
‫‪ ،1976‬سمعت عينة من الناخبني املحتملني ما ييل‪:‬‬
‫يقو ُد شخص ما سيارته يف مدينة غريبة وال ميكنه العثور عىل مكان لركن السيارات‪.‬‬
‫هال أخربتني أين‬
‫يف نهاية املطاف‪ ،‬ينزل من السيارة ويسأل أحد املشاة‪« :‬لو سمحت‪ّ ،‬‬
‫شخصا آخر‪ ،‬يا هذا!» ويتابع سريه‬
‫ً‬ ‫أجد مكانًا لركن سياريت؟» فري ّد عليه‪« :‬اسأل‬
‫مبتع ًدا‪ .‬يجب أن أذكر أن السائق يرتدي شار ًة سياسية عىل سرتته‪ .‬ما رأيك‪ :‬أي حزب‬
‫تدعم هذه الشارة؟ ما هو توقّعك؟‬

‫الحزب االشرتايك الدميقراطي‪ ،‬مقابل نسبة ‪%23‬‬


‫َ‬ ‫مل تذكر سوى نسبة ‪ %14‬من املستطلَعني‬
‫ذكرت االتحاد الدميقراطي املسيحي‪ ،‬وذكرت نسبة ‪ %21‬األحزا َب الشيوعية‪.‬‬
‫ومن املثري لالهتامم أنه حتى املستجيبني من أنصار الحزب الدميقراطي املسيحي اعتربوا أن‬
‫التعبري عن دعمهم لحزب االتحاد الدميقراطي املسيحي أكرث خطورة من التعبري عن دعم‬
‫الحزب الدميقراطي االجتامعي‪ .‬تتوافق هذه النتائج مع حقيقة أنه يف نفس الشهر أصبح‬
‫هناك اتجاه واضح لدى املواطنني الذين ص ّوتوا لحزب االتحاد الدميقراطي املسيحي قبل‬
‫أربع سنوات بالتظاهر بأنهم مل يص ّوتوا له‪ .‬راح العديد من أنصار االتحاد الدميقراطي‬

‫‪410‬‬
‫املسيحي يعيدون قولبة وتقديم ذواتهم العلنية ألن الرأي العلني قد انقلب عىل ذواتهم‬
‫وخياراتهم الشخصية‪.‬‬

‫أما التقنية الثانية التي سأناقشها قد طُ ّورت للتنبؤ بنتيجة االنتخابات‪ ،‬عىل غرار اختبار‬
‫أماكن ركن السيارات‪ .‬ففي خض ّم حملة انتخابية‪ ،‬قد تؤدي الضغوط االجتامعية لصالح هذا‬
‫الطرف أو ذاك إىل إعطاء إشارات مضللة فيام يتعلق بنتيجة االنتخابات املنتظرة‪.‬‬
‫ِ‬
‫استطالعات الرأي قبل االنتخابات‪ ،‬خاص ًة إذا‬ ‫قد يؤدي تزييف التفضيل الناج ُم إىل تحي ِز‬
‫كان مشتب ًها فيه أن املشرتكني يف استطالع الرأي متعاطفون مع أحزاب تُعترب خطرية‪.‬‬
‫وكمثال عىل ذلك‪ ،‬فإن استطال ًعا للرأي أجرته واشنطن بوست—وإيه يب يس نيوز قبل‬
‫عرشة أيام من انتخابات نيكاراغوا يف عام ‪ 1990‬وجد أن مرشح حزب الجبهة الساندينية‬
‫للرئاسة‪ ،‬دانييل أورتيغا‪ ،‬متقدم بنسبة ‪ 16‬نقطة مئوية عىل مرشحة ‪ ،UNO‬تحالف االتحاد‬
‫الوطني املعارض‪ ،‬فيوليتا تشامورو‪ .‬خلصت استطالعات رأي أخرى إىل تقدم كبري ألورتيغا‪.‬‬
‫وحمال للتوقعات‬
‫ً‬ ‫إمنا يف االنتخابات الفعلية‪ ،‬تقدمت تشامورو بفارق ‪ 14‬نقطة‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫عىل ظاهرها‪ ،‬أجرت العديد من املؤسسات اإلخبارية مقابالت مع قادة حزب الجبهة‬
‫تبني أن‬
‫الساندينية قبل االنتخابات ملناقشة كيفية استثامر انتصارهم الوشيك‪ .‬ثم ّ‬
‫استطالعات الرأي الوحيدة التي اتّسمت بالدقّة كانت تلك التي أجرتها منظامتٌ مرتبطة‪ ،‬يف‬
‫الواقع أو يف مخ ّيلة املواطنني‪ ،‬بتحالف االتحاد الوطني املعارض‪ .‬ورفضت ‪ 17‬وكالة أنباء‬
‫صدمت‬
‫أجنبية نتائج استطالعات الرأي هذه‪ ،‬ووصفتها بأنها متح ّزبة‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬فقد ُ‬
‫تلك الوكاالت بانتصار تشامورو –كام أصابهم الذهول قبل بضعة أشهر من تاريخه بسبب‬
‫‪18‬‬
‫سقوط الشيوعية يف أوروبا الرشقية‪.‬‬

‫ري تجرب ٌة عبقرية أجرتها كاثرين بيشوبينغ وهاورد شومان إىل مصدر االلتباس‪ 19.‬قبل‬
‫تش ُ‬
‫أسابيع قليلة من االنتخابات‪ ،‬أجرت بيشوبينغ وشومان ‪ 300‬مقابلة‪ ،‬أُديرت جميعها بنفس‬

‫‪411‬‬
‫الطريقة‪ ،‬باستثناء نوع القلم املستخ َدم لتسجيل الردود‪ .‬يف ثُلث املقابالت‪ ،‬استخدم امل ُحاور‬
‫قلام يظهر اللونني األحمر واألسود املميزين لحزب الجبهة الساندينية ونقش «دانييل ملنصب‬
‫ً‬
‫الرئيس»‪.‬‬
‫قلام يظهر اللونني األزرق واألبيض للمعارضة‬
‫يف ثلث آخر‪ ،‬استخدم امل ُحاوِر يف املقابلة ً‬
‫قلام ملونًا بدون نقوش‪ .‬مل يتح ّدث‬
‫ونقش ‪ .UNO‬ويف الثلث األخري‪ ،‬استخدم امل ُحاور ً‬
‫يعربوا عن تعاطفهم السيايس‪ .‬بالرغم من ذلك‪ ،‬تُظهر النتائج أن‬
‫الباحثون عن أقالمهم ومل ّ‬
‫قلام يدعم حزب الجبهة الساندينية‪،‬‬
‫األقالم أثرت عىل املستجيبني‪ .‬عندما كان املحاور يحمل ً‬
‫ٍ‬
‫بهامش بلغ ‪ 26‬نقطة‪ .‬كام تقدم أورتيغا يف تجارب‬ ‫أعرب املشاركون عن دعمهم ألورتيغا‬
‫قلام يدعم تحالف‬
‫استخدمت القلم املحايد‪ ،‬بفارق ‪ 20‬نقطة‪ .‬إمنا عندما استخدم املحاور ً‬
‫االتحاد الوطني املعارض‪ ،‬تقدمت تشامورو باثنتي عرشة نقطة‪.‬‬

‫وهكذا اقرتبت املقابالت التي استُخدم بها قل ٌم يُظهِر الدعم لتحالف االتحاد الوطني املعارض‬
‫من التنبؤ بنتيجة االنتخابات‪ ،‬يف حني أن املقابالت التي استُخدم بها قل ٌم يدعم حزب الجبهة‬
‫الساندينية كررت نتائج استطالعات الرأي غري الدقيقة قبل االنتخابات‪ .‬بشكل الفت للنظر‪،‬‬
‫داعم لحزب الجبهة‬
‫قلم ٍ‬‫قلم محايد عن نتيجة مامثلة لحالة استخدام ٍ‬
‫أسفرت حاالت استخدام ٍ‬
‫الساندينية‪.‬‬
‫تقرتح بيشوبينغ وشومان أنه بعد عق ٍْد من القمع الذي مارسه حزب الجبهة الساندينية‪ ،‬راح‬
‫الناخبون مييلون إىل اعتبار منظّمي استطالعات الرأي ناشطني مؤيدين للحكومة ما مل‬
‫ري لعدم الدقة‬
‫تُوجد دالالت واضحة عىل العكس‪ .‬مع إقرارنا بصحة هذا الحدس‪ ،‬لدينا تفس ٌ‬
‫الجل ّية يف استطالع الواشنطن بوست–إيه يب يس نيوز‪ .‬عىل وجه التحديد‪ ،‬ألن استطالع‬
‫الرأي أداره محاورون يسعون للحصول عىل صورة محايدة‪ ،‬فقد اعترب املستجيبون‬
‫املتعاطفون مع تحالف االتحاد الوطني املعارض أنه من الحكمة إخفا ُء تفضيالتهم الخفية‪.‬‬

‫‪412‬‬
‫ومن الواضح أن استخدا َم محاوِرين من ذوي الصالت الواضحة بتحالف االتحاد الوطني‬
‫‪20‬‬
‫املعارض منَح بعض املتعاطفني مع التحالف ال ُجرأة للكشف عن تفضيالتهم الخفية‪.‬‬

‫َ‬
‫املخاوف والحساسيات‪ .‬ومن‬ ‫مثل اختبا ِر أماكن ركن السيارات‪ ،‬تح ّدد تجرب ُة استخدام القلم‬
‫ثم‪ ،‬فإنها تشري إىل التناقضات املحتملة بني الرأي العلني والرأي الخفي‪ .‬وباعتبار االنتخابات‬
‫مقياسا للرأي الخفي‪ ،‬فإن استطالعات الرأي التي أجريت للتنبؤ بنتائج‬
‫ً‬ ‫باالقرتاع الّسي‬
‫االنتخابات تُفيض إىل توقعات مضللة ما مل يشعر املستجيبون باألمان للتعبري عن آرائهم‬
‫رأي مص ّمم لتفادي تزييف التفضيل مسأل ٌة‬
‫بصدق‪ .‬بيد أنه ال ميكن القول إن تفسري استطالع ٍ‬
‫سليام للواقع السيايس‪ .‬قد يخلُص محلل غري مطّلعٍ عىل السياسة‬
‫ً‬ ‫فهام‬
‫بسيطة‪ .‬فهو يتطلب ً‬
‫يف نيكاراغوا إىل تشخيص مصد ِر الخوف عىل أنه تحالف االتحاد الوطني املعارض‪ ،‬ألن‬
‫ِ‬
‫املقابالت باستخدام القلم الداعم لتحالف االتحاد الوطني املعارض‪ ،‬وليست املقابالت‬
‫باستخدام القلم الداعم لحزب الجبهة الساندينية‪ ،‬هي ما سجلت نتيجة مختلفة بشكل كبري‬
‫عن املقابالت ذات القلم املحايد‪.‬‬
‫حكم حزب الجبهة الساندينية ليدرك أن استطالعات الرأي التي‬
‫يحتاج املرء إىل معرفة تاريخ ُ‬
‫تسعى جاهدة للتظاهر بالحياد يُنظر إليها عاد ًة بوصفها مؤيدة لحزب الجبهة الساندينية‪.‬‬
‫وتُثار هنا نقطة ذات صلة مفادها أن تزييف التفضيل‪ ،‬عند تحديده‪ ،‬ال يكون دامئًا واض ًحا‬
‫بح ّد ذاته‪ .‬فاملحللون املتفقون عىل أن تجرب ًة ما كشفت عن تزييف واسعِ النطاق للتفضيل‬
‫قد يختلفون عن ماهية األمر الذي يتع ّرض لإلخفاء‪.‬‬

‫رغم الغموض الذي يكتنفهام‪ ،‬فإن تجارب كاللتني استعرضناهام آنفًا لهام تطبيقاتٌ خارج‬
‫ٍ‬
‫دراسات أشمل عن االستقرار االجتامعي‪،‬‬ ‫مجال االنتخابات‪ .‬إذ ميكن االستفادة منهام يف‬
‫والتطور السيايس‪ ،‬والتغيري األيديولوجي‪ .‬إمنا يجدر بنا الحذر من اإلفراط يف التفاؤل‪ ،‬إذ‬
‫كام الحظنا لدى مناقشتنا احتامالت التنبؤ بالثورات‪ ،‬إ ّن املالحظات االجتامعية تتفاعل مع‬

‫‪413‬‬
‫رأي مص َّمم لقياس املعارضة الخفية درج ًة‬
‫الظواهر قيد املالحظة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فقد يولّد استطال ُع ٍ‬
‫أكرب من االستياء عرب دفع الناس للتفكري يف القضايا التي كانوا يتجاهلونها‪ .‬وقد يؤدي‬
‫املسح الذي يكشف عن ٍ‬
‫منط يف تزييف التفضيل إىل تعزيز املخاطر املتصورة لعواقب عدم‬ ‫ُ‬
‫االمتثال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تفسريات غري‬ ‫قد تتع ّرض تقنيات القياس التي اقرتحتُها لالنتقاد بدعوى أنها تُفيض إىل‬
‫دقيقة‪ .‬كام قد يُشار إىل أن تجارب القلم واختبارات أماكن ركن السيارات تق ّدم تفسريات‬
‫غري دقيقة للرأي الخفي‪ ،‬وتزييف التفضيل‪ ،‬والضغوط االجتامعية املتص َّورة‪.‬‬
‫وهو أم ٌر ال أعرتض عليه نفيس‪ .‬لكنني انطالقًا من تأكيدي عىل أن العوامل املحددة للنتائج‬
‫السياسية ال ميكن مالحظتها بشكل مثايل‪ ،‬فإنني أعترب أن هذه التقنيات موجود ٌة لتقديم‬
‫املتغريات عىل النطاق الخفي‪ .‬قد‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫تفسريات تقريبية للمناخ السيايس وتقديرات أولية عن‬
‫ٍ‬
‫قياسات أكرث دقة‪ .‬إمنا ما مل نصل إىل اخرتاع جها ٍز‬ ‫ٍ‬
‫تقنيات تُسفر عن‬ ‫يُصار إىل تطوير‬
‫لقراءة اآلراء الشخصية‪ ،‬فإن التقنيات املرج ّوة لن تصل أب ًدا إىل دقة املجهر‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬ال‬
‫كل ميدان من ميادين التحليل القدر نفسه من الدقة‪ .‬فكام أن الوحدة املستخ َدمة‬
‫يستلزم ُّ‬
‫نجم وآخر ليست املكرومرت‪ ،‬فإننا ال نحتاج إىل معرفة الرأي الخفي‬
‫لقياس املسافة بني ٍ‬
‫بصورة دقيق ٍة للكشف عن وجود جم ٍر ثوري كامن تحت الرماد‪ .‬لو أُجريت نسخة مع ّدلة من‬
‫تجربة القلم يف أملانيا الرشقية يف عام ‪ ،1988‬وخلصت التجربة إىل أن طبيعة قلم املحاور‬
‫ريا‪ ،‬لَكانت النتيج ُة زاخر ًة باملعلومات بال شك‪ .‬مل تكن هكذا تجربة لِتنبينا أن‬
‫خلّفت أث ًرا كب ً‬
‫عام واحد‪ .‬لك ّننا عىل األقل كنا سنحصل عىل أدلة مضبوط ٍة عىل‬
‫جدار برلني سيسقط خالل ٍ‬
‫احتامل نشوب ثورة جامهريية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إجراءات‬ ‫اعرتاض آخر عىل تقنيات القياس التي استعرض ُتها مفا ُده أنها ال تق ّدم‬
‫ٌ‬ ‫وقد يظهر‬
‫ي إجراءات ميكن تطبيقها بشكل أو بآخر بصورة تلقائية‬
‫موحد ًة لقياس املتغريات الخفية –أ ْ‬
‫ص ّمم اختبار أماكن ركن السيارات ل ُيجرى يف‬
‫يف جميع السياقات املمكنة‪ .‬يف واقع الحال‪ُ ،‬‬

‫‪414‬‬
‫معنى يف بلد متخلف‬
‫ً‬ ‫دولة ميتلك معظم البالغني فيها سيارات‪ .‬بالتايل‪ ،‬لن يكون االختبار ذا‬
‫اقتصاديًا‪ .‬ومن املحتمل أن يُصار إىل تطوير اختبارات معيارية يو ًما ما وتطبيقها بانتظام‪.‬‬
‫إمنا ستبقى الحاج ُة إىل تفسري هذه االختبارات عىل أساس كل حالة مبفردها‪ .‬إذ ال ميكن‬
‫مقارن ُة نتائج تجارب القلم التي أجريت يف املكسيك وتركيا بصورة ُمجدية إال يف ضوء‬
‫ري األرقا ُم املتطابقة‬
‫املعلومات حيال الظروف االجتامعية يف كال البلدين‪ .‬إمنا ميكن أن تش َ‬
‫إىل وجو ِد الخوف السيايس املتغلغل يف ٍ‬
‫بلد‪ ،‬والكياسة التقليدية يف البلد اآلخر‪.‬‬

‫إمكانية التفنيد‬

‫نصل هنا يف خامتة املطاف إىل قابلية النظرية للتفنيد املحتمل‪ .‬هل ميكن إثبات خطأ‬
‫الطروحات والتفسريات املقدمة ههنا؟ أميكن اختبارها يف ضوء وجود نظريات بديلة؟‬
‫واإلجابة عىل هذين السؤالني هي نعم‪ ،‬ولكن برشوط‪ .‬وسأبدأ هنا بإيضاح تلك الرشوط‪.‬‬
‫يف العلوم االجتامعية‪ ،‬ال ميكن تنفيذ كل االختبارات التي ميكن تخيلها دامئًا‪ .‬فال‬
‫مثال أن يعيد القرن العرشين إلظهار أنه إذا غاب تزييف التفضيل من جانب‬
‫ميكن ألحد ً‬
‫املواطنني السوفيتيني النهارت الشيوعية قبل وقت طويل من انهيارها الفعيل‪ .‬وال ميكن ألحد‬
‫أن يعيد التاريخ الهندي حتى يبني أنه إذا كان الهنود عىل اتصال دائم بثقافات أخرى ملا كان‬
‫لعقيدة الكارما وجود‪.‬‬
‫ولذا‪ ،‬من ناحية عملية‪ ،‬علينا أن نعتمد يف كثري من األحيان عىل التجارب الطبيعية –‬
‫فرصا للتحقق من معقولية‬
‫ً‬ ‫أي تسلسل من األحداث غري الخاضعة لضوابط تقدم لنا‬
‫النظريات املطروحة‪ .‬ولكن ناد ًرا ما تكون التجارب الطبيعية دقيقة بالقدر الكايف‪ .‬إذ تقوض‬
‫قوتها تباينات يف العوامل التي يرغب املرء يف تثبيتها‪ .‬وكنتيجة لذلك‪ ،‬ال ميكن لتجربة‬
‫طبيعية واحدة أن تستبعد كل التفسريات البديلة‪ .‬ومن املحتم أن تعتمد تقييامتنا للنظريات‬

‫‪415‬‬
‫البديلة عىل مدى كفاءتها يف تفسري البيانات من مصادر مختلفة‪ ،‬ومدى توافقها مع فهمنا‬
‫الشامل للحضارة البرشية‪ .‬وذلك من بني األسباب التي جعلتني أعترب تطبيق حجتي عىل‬
‫حاالت متباينة –مثل نظام الطبقية الهندي‪ ،‬والشيوعية‪ ،‬وعالقات العرق األمريكية– أم ًرا‬
‫حاسام‪.‬‬
‫ً‬
‫واملعايري التي حددتها هنا هي ما استعان به داروين يف تأسيس أفضليات نظرية‬
‫التطور البيولوجي‪ .‬ففي ذات الوقت الذي سعى فيه الفيزيائيون إىل إجراء اختبارات‬
‫تجريبية‪ ،‬اعترب داروين أن إظهار مدى قدرة نظريته عىل تفسري بيانات من شتى املجاالت‬
‫مثل علوم األجنة‪ ،‬والنباتات القدمية‪ ،‬والجغرافيا الحيوانية‪ ،‬من خالل مجموعة واحدة من‬
‫اآلليات‪ ،‬معيا ًرا كاف ًيا وصار ًما بنفس القدر‪ ،‬وذلك يف ضوء القيود املفروضة عىل االختبارات‬
‫البيولوجية‪ .‬وحتى يف الفيزياء التي لطاملا كانت أقرب مثال للعلم التجريبي‪ ،‬يعتمد منظور‬
‫منهجي شائع يف الوقت الحايل عىل فكرة أن النظريات قد تكون مناسبة بشكل أو بآخر‬
‫اعتام ًدا عىل استاقها مع مجمل املعرفة البرشية‪ ،‬أو اتساقها مع ما هو معروف يف تخصص‬
‫معني عىل أقل تقدير‪ .‬وقد أفسح املنظور‪ ،‬الذي شجع عليه بشدة كارل بوبر‪ ،‬القائل إن العلم‬
‫يتقدم من خالل التنفيدات الحاسمة ‪ 21‬الطريق يف بعض دوائر الفيزيائيني أمام وجهة نظر‬
‫جديدة كان أفضل من يفّسها توماس كوهن‪ 22.‬إذ يرى كوهن أن العلم يتقدم من خالل بروز‬
‫مناذج جديدة توسع مدى الظواهر القابلة للتفسري‪.‬‬
‫وتعرتف فلسفة كوهن للعلم بأن من املمكن وجود أكرث من تفسري ملالحظة واحدة‪.‬‬
‫فلنتناول ادعايئ بأن األمريكيني ميتنعون عن انتقاد التمييز اإليجايب لتدارك االتهامات‬
‫بالعنرصية‪ .‬فالبيانات التي قدمتها لدعم ادعايئ متوافقة أيضً ا مع فكرة أن الدافع املحرك‬
‫ملزوري التفضيالت هو اإليثار‪ ،‬عوضً ا عن الخوف‪ .‬وبالفعل‪ ،‬من الجائز أن يكون مزورو‬
‫التفضيالت ينوون حامية املنتفعني من التمييز اإليجايب من حقائق مزعجة‪ ،‬مثل حقيقة أن‬
‫التكاليف تقع عىل عاتق أشخاص أكرث كفاءة وأقل امتيازًا‪ .‬والخوف واإليثار ال يتعارضان‬
‫مع بعضهام البعض بالّضورة بالطبع‪ .‬ولكن إذا اضطر أحد أن يختار من بينهام‪ ،‬فسوف‬

‫‪416‬‬
‫تفوز أطروحة الخوف‪ ،‬ألنها متوافقة مع حقائق أكرث‪ .‬فبخالف أطروحة اإليثار‪ ،‬فهي تفّس‬
‫السبب يف الصعوبة الشديدة التي يلقاها املرء حني يحاول التنبؤ بنتائج انتخابات مشحونة‬
‫بالعنرصية‪ .‬وهي تفّس أيضً ا سبب عدم اعرتاض البيض املحرومني علنًا عىل اإلعفاءات‬
‫املقدمة ألقليات تحظى بامتيازات واضحة‪.‬‬
‫وال تزال نقطة مهمة قامئة‪ ،‬وهي أنه ال وجود الختبار واحد من شأنه أن يثبت صحة‬
‫أو خطأ منوذج التفضيل الثنايئ‪ .‬ولكن دعني أقرتح كيفية ميكن من خاللها تفنيد بعض‬
‫األطروحات التي قدمتها يف الكتاب‪ .‬وإذا مل تصمد أطروحة أو أكرث أمام املزيد من التدقيق‬
‫التجريبي‪ ،‬فال بد من إعادة النظر يف أُسس هذا النموذج أو املنطق الكامن وراءه‪.‬‬
‫ميكن دحض الطرح الذي يقول إن وقوع املزيد من املفاجئات الثورية هو أمر حتمي‬
‫(الفصل ‪ )15‬ببساطة من خالل بناء منوذج يتنبأ بالثورات املستقبلية‪ .‬فمن شأن سلسلة من‬
‫التنبؤات الناجحة بشأن مكان وتوقيت الثورات املستقبلية أن تشري إىل أن تزييف التفضيل‪،‬‬
‫عىل عكس ما جادلت به‪ ،‬ليس عائقًا أمام التنبؤات املنقحة‪ .‬إذ يؤكد جاك غولدستون أنه‪ ،‬رغم‬
‫العقبات التي تحول دون رصد الرأي الخفي‪ ،‬فمن املمكن أن نحدد «رشوطًا موضوعية»‬
‫للثورة‪ 23.‬وإذا كان ذلك صحي ًحا‪ ،‬فسيحقق منوذجه الدميوغرايف الهيكيل (أو منوذج آخر)‬
‫تنبؤات دقيقة تتبع هذا النمط‪« :‬سيشهد البلد أ انتفاضة جامهريية خالل ‪ 3‬سنوات من اآلن»‪،‬‬
‫أو «ستظل البلدان (ب)‪ ،‬و(ج)‪ ،‬و(د) مستقرة سياسيًا خالل العقد القادم‪ ،‬يف حني أن البلدين‬
‫(ه)‪ ،‬و(و) لن يكونا كذلك»‪ .‬وبالطبع‪ ،‬إذا أبطلت األحداث مثل تلك التنبؤات فليس للمرء أن‬
‫يّسع باستنتاج أن مصدر الخطأ هو تزييف التفضيل‪ .‬ذلك أن من شأن أي يشء يخفي أو‬
‫يقيد املعلومات عن الدوافع الثورية الفردية أن يؤدي إىل أخطاء يف التنبؤ‪ .‬وعالوة عىل‬
‫تزييف التفضيل‪ ،‬تشمل االحتامالت عقبات تحول دون رصد املحددات الهيكلية للوالء‬
‫السيايس وصعوبات يف تقييم التبعات السياسية للمظامل املعروفة‪.‬‬
‫ولذا رغم أن اإلخفاقات التنبؤية املستمرة ستكذب زعم غولدستون‪ ،‬فهي لن تثبت‬
‫منوذج التفضيل املزدوج يف حد ذاتها‪ .‬ولكن الحظ أنني مل أطرح فقط فكرة وقوع مفاجئات‬

‫‪417‬‬
‫ثورية‪ .‬بل طرحت أيضً ا فكرة أن املفاجئات ستقع يف البلدان القمعية سياسيًا‪ .‬ففي البلدان‬
‫التي تحظى بتقاليد دميقراطية قوية‪ ،‬مثة حرية نسبية يف التعبري عن الشكوك املوجهة‬
‫للنظام‪ .‬وبالتايل‪ ،‬من السهل قياس توقعات استقرارها املستمر‪ .‬وباملقارنة‪ ،‬تقيد البلدان ذات‬
‫التقاليد الدميقراطية الضعيفة قدرتنا عىل تتبع املظامل الشعبية تجاه النظام السيايس بشدة‪.‬‬
‫وإذا كان تزييف التفضيل بالفعل العامل الرئييس يف املفاجئات الثورية‪ ،‬فستربز مثل تلك‬
‫املفاجئات بصفة رئيسية يف الديكتاتوريات والدميقراطيات الضعيفة أو املؤسسة حديثًا‪.‬‬
‫ويف الوقت الحايل‪ ،‬تشمل تلك املجموعة معظم بلدان أفريقيا‪ ،‬والعامل العريب‪ ،‬والكتلة‬
‫الشيوعية السابقة‪ ،‬والصني‪ .‬ويف الدميقراطيات املرتسخة‪ ،‬تحظى التقلبات غري املتوقعة‬
‫بزخم أقل‪ .‬فقد تنطوي عىل تحوالت انتخابية مثل السيطرة الجمهورية املفاجئة عىل‬
‫كونغرس الواليات املتحدة يف االنتخابات النصفية لعام ‪ .1994‬وستنطوي عاد ًة عىل قضايا‬
‫حساسة غري متصلة بهيئة الحكومة‪ .‬ومن املمكن‪ ،‬إذا كانت حجتي صحيحة‪ ،‬للواليات املتحدة‬
‫أن تشهد رد فعل عنيف مفاجئ تجاه األجندة االجتامعية املشفرة باأللوان يف العقود األخرية‪.‬‬
‫مثال‬
‫ويف ذات الوقت‪ ،‬تتسم الواليات املتحدة بأنها أقل عرضة من الصني أو السعودية ً‬
‫لحدوث رد فعل جامهريي غري متوقع تجاه املؤسسات األساسية للحكومة‪.‬‬
‫ومن املزاعم املحورية يف هذا الكتاب هو أن السياسات االجتامعية واملؤسسات تتطور‬
‫يف بعض األحيان من خالل تكيفات بطيئة ومستمرة‪ ،‬ويف أحيان أخرى من خالل قفزات‬
‫مفاجئة ومتقطعة (الفصلني ‪ ،15‬و‪ .)17‬وإذا متكن أحدهم من إثبات أن التطور االجتامعي‬
‫مستمر دامئًا –من خالل إثبات أن روسيا مل تشهد أي تغريات حادة يف مؤسساتها السياسية‬
‫وسياساتها االقتصادية‪ ،‬عىل سبيل املثال– فسيغدو النموذج املطروح محل اشتباه‪.‬‬
‫ويزعم ادعاء آخر أنه يف السياقات التي تنطوي عىل انقطاعات سياسية‪ ،‬مييل الرأيان‬
‫العلني والخفي يف كثري من األحيان إىل أن يكونا غري متوافقني (الفصول ‪ ،6‬و‪ ،15‬و‪.)17‬‬
‫وميكن تفنيد هذا االدعاء مبارش ًة من خالل مقارنة نتائج استطالعات الرأي التي تتباين يف‬
‫مدى إخفاء هوية املستجيبني‪ .‬وميكن تفنيده بشكل غري مبارش من خالل بعض األساليب‬

‫‪418‬‬
‫مثل اختبار أماكن وقوف السيارات وتجربة القلم‪ .‬فقد أخذت السياسات األمريكية التي‬
‫تخص العرق منعطفات حادة يف املايض‪ ،‬ومن املرجح أن املستقبل سيجلب املزيد من‬
‫االنقطاعات‪ .‬وإذا كشفت االستطالعات‪ ،‬خالفًا للمؤرشات التي قدمتُها يف الفصول السابقة‪،‬‬
‫عن تجانس مستمر بني الرأي العلني والرأي الخفي‪ ،‬فال بد من إعادة صياغة النظرية التي‬
‫طورتها‪.‬‬
‫ومن الروابط املقرتحة بني املتغريات العلنية والخفية هو أن الحوار العلني يساهم يف‬
‫تشكيل املعرفة الخفية والتفضيالت الخفية (الفصلني ‪ .)11–10‬وبعبارة أدق‪ ،‬تتطور‬
‫املفاهيم الخفية واالحتياجات الخفية بشكل مختلف يف املجتمعات التي تختلف من حيث‬
‫الحوار العلني‪ .‬فالهنود الذين نشأوا يف أرياف الهند سيطورون رؤية كونية مختلفة عام‬
‫سيطوره األفراد الذين نشأوا يف فرنسا الحّضية عىل سبيل املثال‪ .‬ومن شأن تنبؤ كهذا أن‬
‫يخضع لالختبار من خالل أي نوع من األساليب التي تخفي هوية املستجيبني‪.‬‬
‫وتشجع إمكانية تزييف التفضيل يف حد ذاتها جهو ًدا لتشجيع التعبري الصادق‪،‬‬
‫وجهو ًدا مضادة لتعزيز عدم املصداقية (الفصلني ‪ ،3‬و‪ .)5‬ففي الواليات املتحدة‪ ،‬عىل سبيل‬
‫ح ُرم الجامعات جهو ًدا إلسكات الخطاب‬
‫املثال‪ ،‬تشمل األجندات الرائجة يف الوقت الحايل يف ُ‬
‫«غري الصائب سياسيًا»؛ وقد شكل معارضو تلك األجندات منظامت تقدم عونًا للطالب‬
‫وطاقم عمل الجامعات املتهمني بجرائم التعبري‪ .‬وإذا فقدت الحمالت املختصة بتزييف‬
‫التفضيل صدارتها‪ ،‬فستغدو األهمية التجريبية لحجتي محل تساؤل‪ .‬فسيكون هناك سبب‬
‫افرتضت مسبقًا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حينها لالشتباه يف أن تزييف التفضيل ليس له تأثري اجتامعي قوي كام‬
‫ويف النهاية‪ ،‬تقوم الحجة برمتها عىل فكرة أن األشخاص يستمدون املنفعة من‬
‫التعبري الصادق‪ ،‬ولكن بدرجات متفاوتة تتباين من سياق إىل سياق آخر (الفصل الثاين)‪.‬‬
‫وإذا كانت التباينات يف االحتياجات التعبريية ملحوظة بالفعل‪ ،‬فسيشمل املنشقون‬
‫املضطهدون أشخاص يتحملون خسائر مادية كبرية بسبب انشقاقهم‪ .‬ولكن إذا كان معظم‬
‫املنشقني يشملون أشخاص ليس لديهم الكثري ليخّسوه من انقالبهم عىل الوضع الراهن‪،‬‬

‫‪419‬‬
‫بديال بالفعل لالختالفات يف‬
‫فال بد من إعادة النظر يف النموذج‪ .‬ومتثل االختالفات التوقعية ً‬
‫االحتياجات التعبريية‪ .‬ومن املمكن أن يكون املنشقون أشخاص مييلون إىل توقع أن الرأي‬
‫العلني عىل وشك االنقالب‪ ،‬لسبب أو آلخر‪ .‬ولحسن الحظ‪ ،‬للمرء أن يخترب األهمية النسبية‬
‫للتوقعات واالحتياجات التعبريية‪ .‬إذا كان لالختالفات التوقعية أهمية‪ ،‬فسيغدو املنشقون‬
‫حا يف التنبؤ بوقوع الثورات من غري املنشقني‪ .‬وتقرتح الحجة املوضوعة هنا أن‬
‫أكرث نجا ً‬
‫الثورات ستفاجئ املنشقني وغري املنشقني عىل حد سواء‪.‬‬

‫العيش يف كذبة‪ :‬املستقبل‬

‫فرصا الختبار الطروحات السابقة‪ .‬ومام ال شك فيه‬


‫ً‬ ‫يقدم تاريخ كل مجتمع من املجتمعات‬
‫فرصا إضافية متنوعة‪ .‬وباألخص‪ ،‬إذا بُذلت جهود متواصلة‬
‫ً‬ ‫أن األحداث املتكشفة ستقدم‬
‫لتجميع بيانات منقحة‪ ،‬فلن يكون هناك أي عجز يف الحاالت املحملة بالدروس حول‬
‫ديناميات وتبعات تزييف التفضيل‪ .‬وستسمح الدراسات املستقبلية بتحسني النظرية‬
‫املطروحة يف هذا الكتاب ومتديدها‪.‬‬
‫وال توجد طريقة للتنبؤ بكل الطرق التي ميكن لحاالت تزييف التفضيل من خاللها‬
‫أن تحدث فرقًا‪ .‬ولكن بوسع املرء أن يحدد نطاقات واسعة من النزاعات البرشية املستمرة‬
‫حيث ستستمر تلك الظاهرة يف لعب دور كبري‪ .‬ويف مختلف أنحاء العامل‪ ،‬تضغط الحركات‬
‫القومية والوحدوية والقبلية عىل األفراد لفرض الهويات املتباينة‪ .‬وبفعل ذلك‪ ،‬فهم يوقظون‬
‫املخاوف‪ ،‬والعداوات‪ ،‬والحركات املضادة من جانب الجامعات املعرضة للتهديد‪ .‬ويسعى‬
‫األصوليون الدينيون إىل أهداف متشابهة بتأثريات متشابهة‪ ،‬وذلك كرد فعل لتهديدات‬
‫علامنية حقيقية أو متخيلة للحرية الدينية يف جميع الحاالت عىل حد سواء‪ .‬وتنطوي ساحة‬
‫حرب كبرية أخرى عىل األدوار الجندرية وهيكل العائلة‪ .‬ويسعى مختلف املشاركون يف هذا‬
‫النزاع حول تلك القضايا‪ ،‬من النسويات املتشددات إىل املحافظني الثقافيني‪ ،‬إىل وصف‬

‫‪420‬‬
‫الدفاع عن األفكار أو السلوكيات التي يعرتضون عليها بالطيش‪ .‬ويشكل التوزيع االقتصادي‬
‫ريا‪ .‬ويف املسائل التي ترتاوح من إصالح‬
‫عامال كب ً‬
‫ً‬ ‫قضية أخرى يُعد تزييف التفضيل فيها‬
‫األرايض لألمن االجتامعي‪ ،‬توجد ضغوطات تجعل األشخاص يسيئون متثيل ميولهم‪ .‬ويف‬
‫النهاية‪ ،‬وال سيام يف املناطق املتخلفة اقتصاديًا‪ ،‬تولد الرصاعات حول اسرتاتيجية التطوير‬
‫ضغوطات اجتامعية ثقيلة لتقييد الحوار العلني‪.‬‬
‫ويف كل نطاق من تلك النطاقات وغريها الكثري‪ ،‬سيكون ألمناط تزييف التفضيل‬
‫املستقبلية موروثات باقية‪ .‬وستساهم يف تعزيز االستقرار السيايس‪ ،‬وإبراز االتجاهات‬
‫السياسية‪ ،‬وخلق فائزين وخارسين‪ ،‬وتشكيل معامل تطور املعرفة البرشية‪.‬‬

‫‪421‬‬
‫مالحظات‬
‫الفصل األول‬
1. Some of the relevant factors are weighed by Sissela Bok, Lying: Moral
Choice in Public and Private Life (New York: Pantheon, 1978), especially
chap. 16; and Bok, Secrets: On the Ethics of Concealment and Revelation
(New York:Pantheon, 1983).
2 . Cecil Roth, A History of the Mammos, 4th ed. (New York: Hermon
Press, 1974), chaps. 1—2. See also Perez Zagorin, Ways of Lying:
Dissimulation, Persecution, and Conformity in Eariy Modern Europe
(Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1990), chap. 3.
3. Zagorin, Ways of Lying, chap. 7. Quotations at pp. 137—138.
4. Nikki Keddie, “Symbol and Sincerity in Islam,” Studia Islamica, 1 9
(1963): 27—63, especially pp. 51—52.
5. Gustave'E. von Grunebaum, Medieval Islam: A Study in Cultural
Orientation, 2nd ed. (Chicago: University of Chicago Press, 1953),
pp.191, 354.
6. See, for Example, ‘Allamah Sayyid Muhammed Husayn'" Tabataba’i,
Shi‘ite Islam, trans. and ed. Seyyed Hossein Nasr (Albany,. N . Y . :SUNY
Press, 1975), pp. 223—225. For general commentary on modern trends,
see Hamid Enayat, Modem Islamic Political Thought (Austin: University
of Texas Press, 1982), pp. 175—181; and Abdulaziz A. Sachedina,
“Activist Shi‘ism in Iran, Iraq, and Lebanon,” in Fundamentalisms

422
Observed, ed. Martin E. Marty and R. Scott Appleby (Chicago: University
of Chicago Press, 1991), pp. 403-456, especially pp. 433—437.
7. Mohammed Heikal, Iran: The Untold Story (New York: Pantheon,
1982; British ed., 1981), p. 86.
8. Bernard Lewis, The Emergence of Modern Turkey, 2nd ed. (London:
Oxford University Press, 1968),. pp. 401—424; and Binnaz Toprak,
Islam and Political Development in Turkey (Leiden: E. J. Brill, 1981),
chaps. 1—2.
9. Economist, July 27, 1991, p. 21; and Randy Shilts, “The Nasty
Business of ‘Outing,’ ” Los Angeles Times, August 7, 1991, p . B11. For
accounts of the episodes by a homosexual activist, see Michelangelo
Signorile, Queer in America: Sex, the Media, and the Closets of Power
(New York:Random House, 1993), chaps. 5—7.
10. The distinction was made by John Scagliotti, a gay activist, in an
interview with Alexander Cockburn, incorporated into the latter’s “False
Fronts Can’t Always Be Left Standing,” Los Angeles Times, August 8,
1991,p.B11.
11. For a defense of the intermediate position, see Mark Blasius, “An
Ethos of Lesbian and Gay Existence,” Political Theory, 20 (November
1992): 642—671. Various facets of the controversy are discussed by
Larry Gross, Contested Closets: The Politics and Ethics of Outing
(Minneapolis: University of Minnesota Press, 1993).

423
12 . Richard A. Posner, Sex and Reason (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1992), pp. 291-609. See also Edward O . Laumann,
John H. Gagnon, Robert T. Michael, and Stuart Michaels, The Social
Organization of Sexuality: Sexual Practices in the United States
(Chicago: University of Chicago Press, 1994), especially pp. 287–490.
13 . Priscilla Painton, “The Shrinking Ten Percent,” Time, April 26,
1993,pp.27–29.
14. Betty Cuniberti, “The Fine Art of the DC. Newsleak,” Los Angeles
Times, August 9 , 1 9 8 7 , pt. 6 , pp. 1, 10—11.
15. Stephen Hess, The Government/Press Connection: Press Officers and
Their Offices (Washington, D C : Brd'okings Institution, 1984), pp. 78—
81. Hess’s seventh chapter is devoted “entirely to “leaks and other
informal communications.”
16. David A. Gergen, “Secrecy Means Big Things Get Little Thought,” Los
Angeles Times, November 27, 1986, pt. 2, p. 7.
17. Niccolé Machiavelli, The Prince, trans. and ed. Thomas G. Bergin.
(Northbrook, 111.: AHM Publishing, 1947; orig. Italian ed., 1532).
18. Dilip Hiro, Iran under the Ayatollabs (London: Routledge 86 Kegan
Paul, 1985), p. 108.
19. William B. Quandt, Camp David: Peacemaking and Politics
(Washington, D C : Brookings Institution, 1986), especially p. 219.
20. In most contexts, a related consideration would be that social
outcomes can change more rapidly than the personal characteristics that

424
support individual decisions. If the early steps of an investigation require
treating something as fixed, better that it be what is in fact relatively
stable. See Ekkehart Schlicht, Isolation and Aggregation in Economics
(Berlin: Springer-Verlag, 1985), especially chap. 2 .
‫الفصل الثاين‬
1. The point is developed by James M. Buchanan and Gordon Tullock, The
Calculus of Consent: Logical Foundations of Constitutional Democracy
(Ann Arbor: University of Michigan Press, 1962), pt. 2.
2. Amartya Sen, “The Impossibility of a Paretian Liberal,” Journal of
Political Economy, 78 (January/February 1970): 152–157; and Sen,
“Liberty, Unanimity, and Rights,” Economica, 43 (August 1976): 217–
245. See also James M. Buchanan, “Politics and Meddlesome Preferences,”
in Smoking and Society: Toward a More Balanced Assessment, ed. Robert
D. Tollison (Lexington, Mass.: Lexington Books, 1985), pp.335–342.
3. Hannah Arendt, The Human Condition (Chicago: University of Chicago
Press, 1958), especially pt. 2.
4. Jerome H. Barkow, Leda Cosmides, and John Tooby, eds., The Adapted
Mind: Evolutionary Psychology and the Generation of Culture (New York:
Oxford University Press, 1992), especially pts. 1–3, 8.
5. Jerome H. Barkow, “Beneath New Culture Is Old Psychology: Gossip and
Social Stratification,” in Barkow, Cosmides, and Tooby, Adapted Mind, pp.
627–637.

425
6. F. A. Hayek, The Fatal Conceit: The Errors of Socialism (Chicago:
University of Chicago Press, 1989; orig. pub., 1988); and James M.
Buchanan, The Economics and the Ethics of Constitutional Order (Ann
Arbor: University of Michigan Press, 1991).
7. Barkow, “Beneath New Culture Is Old Psychology.”
8. Erving Goffman, The Presentation of Self in Everyday Life (Woodstock,
N.Y.: Overlook Press, 1973; orig. ed., 1959).
9. Forerunners of this research include Gabriel Tarde, The Laws of
Imitation, trans. Elsie C. Parsons (New York: Henry Holt, 1903; first
French ed., 1890); and Gustave Le Ben, The Crowd: A Study of the Popular
Mind (Atlanta: Cherokee Publishing Co., 1982; first French ed., 1895).
For a critical survey of the entire literature, see Serge Moscovici, “Social
Influence and Conformity,” in The Handbook of Social Psychology, 3rd ed.,
vol. 2, ed. Gardner Lindzey and Elliot Aronson (New York: Random House,
1985), pp. 347–412.
10. The most prominent of these early studies is Muzafer Sherif, “A Study
of Some Social Factors in Perception,” Archives of Psychology, 27, no. 187
(1935).
11. Solomon E. Asch, “Effects of Group Pressure upon the Modification
and Distortion of Judgments,” in Groups, Leadership, and Men, ed. Harold
Guetzkow (New York: Russell and Russell, 1963; first ed., 1951), pp. 177–
190. Further details may be found in Asch, “Studies of Independence and

426
Conformity: I. A Minority of One against a Unanimous Majority,”
Psychological Monographs, 70, no. 416 (1956).
12. Morton Deutsch and Harold B. Gerard, “A Study of Normative and
Informational Social Influences upon Individual Judgment,” journal of
Abnormal and Social Psychology, 51 (November 1955): 629–636.
13. Lee Ross, Gunter Bierbrauer, and Susan Hoffman, “The Role of
Attribution Processes in Conformity and Dissent: Revisiting the Asch
Situation,” American Psychologist, 31 (February 1976): 148–157.
14. James E. Dittes and Harold H. Kelley, “Effects of Different Conditions
of Acceptance upon Conformity to Group Norms,” journal of Abnormal and
Social Psychology, 53 (July 1956): 100–107; Michael Argyle, “Social
Pressure in Public and Private Situations,” Journal of Abnormal and Social
Psychology, 54 (March 1957): 172–175; and Bertram H. Raven, “Social
Influence on Opinions and the Communication of Related Content,”
journal of Abnormal and Social Psychology, 58 (January 1959): 119–128.
15. Jerry B. Harvey, The Abilene Paradox and Other Meditations in
Management (Lexington, Mass.: Lexington Books, 1988), chap. 7.
16. Stanley Milgram, Obedience to Authority: An Experimental View
(New York: Harper 8: Row, 1974), chaps. 2–3. The experiment was carried
out in 1960–1963.
17. Ibid., pp. 32–43, 59–62.

427
18. Richard I. Borden, “Audience Influence,” in Psychology of Group
Influence, ed. Paul B; Paulus (Hillsdale, N.].: Lawrence Erlbaum, 1980),
pp.99–131.
19. Kurt W. Back and Morton D. Bogdanoff, “Plasma Lipid Responses to
Leadership, Conformity, and Deviation,” in Psychobiological Approaches
to Social Behavior, ed. P. Herbert Leiderrnan and David Shapiro (Stanford:
Stanford University Press, 1964), pp. 24–42.
20. This argument is analogous to the observation, put forth by Anthony
Downs, An Economic Theory of Democracy (New York: Harper 8: Row,
1957), that one vote is unlikely to change the outcome in a national
election. Downs goes on to suggest that voters have little incentive to vote.
Putting aside the paradox that people do nonetheless vote, I would point
out that while national elections are held infrequently, in between
elections individuals routinely respond to social pressures to express
preferences on a wide variety of matters.
21. Asch, “Effects of Group Pressure,” pp. 185–187.
22. Milgram, Obedience to Authority, pp. 116–121.
23. Ronald Friend, Yvonne Rafferty, and Dana Bramel, “A Puzzling
Misinterpretation of the Asch ‘Conformity’ Study,” European journal of
Social Psychology, 20 (January–February 1990): 29–44.
24. Jon Elster, Sour Grapes: Studies in the Subversion of Rationality
(Cambridge: Cambridge University Press, 1983), p. 67.

428
25. Sigmund Freud, The Ego and the Id, trans. James Strachey (New York:
W. W. Norton, 1961; first German ed., 1923); Gordon W. Allport,
Personality: A Psychological Interpretation (New York: Henry Holt, 1937);
Erich Fromm, Man for Himself: An Inquiry into the Psychology of Ethics
(New York: Fawcett Premier, 1975; first ed., .1947); and Abraham H.
Maslow, Motivation and Personality, 3rd ed. (New York: Harper 8C Row,
1987; first ed., 1954), especially chaps. 11–13.
26. Sigmund Freud, Civilization and Its Discontents, trans. James Strachey
(New York: W. W. Norton, 1961; first German ed., 1930).
27. For much evidence, see Karen Horney, Neurosis and Human Growth.
The Struggle toward Self-Realization (New York: W. W. Norton, 1950).
28. Richard Totman, Social Causes of Illness (New York: Pantheon, 1979).
29. See, for instance, Ya§ar Kemal, Memed My Hawk, trans. Edouard
Roditi (New York: Pantheon, 1961; orig. Turkish ed., 1955).
30. For two statements to this effect, one by an economist and the other by
a sociologist, see Gary Becker, The Economic Approach to Human
Behavior (Chicago: University of Chicago Press, 1976), especially pt. 1;
and John F. Scott, Internalization of Norms: A Sociological Theory of Moral
Commitment (Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1971), especially pp.
35–38. I was led to the latter reference by Barrington Moore, Jr., Injustice:
The Social Bases of Obedience and Revolt (White Plains, N.Y.: M. E.
Sharpe, 1978), p. 102. On pp. 89–108 of his book; Moore provides a lucid

429
analysis of “moral autonomy,” a concept related to what I have identified
as self-assertion. His analysis complements, the. present discussion.
31. For elaboration on this point, see James Q. Wilson, The Moral Sense
(New York: Free Press, 1993), especially chaps. 1, 10.
32. H. G. Creel, Confucius and the Chinese Way (New York: Harper
Torchbooks, 1960; orig. ed., 1949), p. 130.
33. To record this algebraically, let U represent total utility, and I, R, and
E its three components. In terms of this notation, U = I + R + E. The first
component, intrinsic utility, depends on society’s decision, d. In turn,
society’s decision is a function of the individual’s own public preference, y,
and of those of all other individuals, y–. Thus, I = I (d), Where d = d(y, y–
). The second component of total utility, reputational utility, depends
simply on the individual’s choice of a public preference: R = R(y). Finally,
expressive utility depends on the discrepancy between the individual’s
private and public preferences: E = E(x, y).
34. R could have discontinuities and multiple modes, which is likely in the
presence of multiple pressure groups. These possibilities receive attention
in later chapters.
35. Robert H. Frank, Passions within Reason: The Strategic Role of the
Emotions (New York: W. W. Norton, 1988).
36. Goffman, Presentation of Self. See also Robert J. Edelmann, The
Psychology of Embarrassment (Chichester, UK: John Wiley, 1987).

430
37. Maureen Dowd, “Masters of the Sound Bite Cede Match to Gorbachev,”
New York Times, June 2, 1990, p. 5.
38. Fred E. Karch, “Blushing,” Psychoanalytic Review, 58 (Spring 1971):
37–50. See also Edelmann, The Psychology of Embarrassment, especially
chaps. 4, 6; and Gershen Kaufman, The Psychology of Shame: Theory and
Treatment of Shame-Based Syndromes (New York: Springer Publishing
(30., 1989), pt. 1.
39. Economist, December 23, 1989, p. 55.
40. Cited by Perez Zagorin, Ways of Lying: Dissimulation, Persecution, and
Conformity in Early Modern Europe (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1990), p. 8.
41. Herbert A. Simon, “Rational Choice and the Structure of the
Environment,” Psychological Review, 63 (March 1956): 129–138; and
Simon, Reason in Human Affairs (Stanford: Stanford University Press,
1983).
42. An illuminating critique of the concept is provided by G. Peter Penz,
Consumer Sovereignty and Human Interests (Cambridge: Cambridge
University Press, 1986). The notion that decision makers are sovereign
underlies the principle of “revealed preference,” which many researchers
use to deduce individual private preferences from individual actions. In
contexts where reputational utility is significant, individual actions
“reveal” the combined impact of several factors. And the reputational

431
advantages of preference falsification may well swamp the benefits of
making one’s private preference public.
43. Harvey Leibenstein, “Bandwagon, Snob, and Veblen Effects in the
Theory of Consumers’ Demand,” Quarterly journal of Economics, 64 (May
1950): 183–207; and Robert H. Frank, Choosing the Right Pond: Human
Behavior and the Quest for Status (New York: Oxford University Press,
1985).
44. Albert O. Hirschman, Exit, Voice, and Loyalty: Responses to Decline
in Firms, Organizations, and States (Cambridge, Mass.: Harvard University
Press, 1970).
45. Plato, The Republic, trans. Francis M. Cornford (New York: Oxford
University Press, 1945; first Greek ed., 4th c. B.C.E.), Chap. 13.
46. Adam Smith, A Theory of Moral Sentiments (Oxford: Clarendon Press,
1976; first ed., 1759), especially pt. 3, chap. 3. Modern treatments of
Smith’s two–way decomposition are offered by Howard Margolis,
Selfishness, Altruism, and Rationality (Cambridge: Cambridge University
Press, 1982); and Geoffrey Brennan and Loren Lomasky, “The Impartial
Spectator Goes to Washington: Toward a Smithian Theory of Electoral
Behavior,” Economics and Philosophy, 1 (October 1985): 189–211.
47. Immanuel Kant, Groundwork of the Metaphysic of Morals, trans. H. J.
Paton as The Moral Law (New York: Barnes and Noble, 1950; first German
ed., 1785), especially chap. 2.

432
48. Sigmund Freud, Beyond the Pleasure Principle, trans. James Strachey
(New York: W. W. Norton, 1961; first German ed., 1922). The id, wholly
unconscious, embodies the individual’s selfish impulses. The ego, wholly
conscious, is his instrument of learning and adaptation. The partly
subconscious superego constitutes his conscience.
49. Jon Elster, Ulysses and the Sirens: Studies in Rationality and
Irrationality (Cambridge: Cambridge University Press, 1979); and Thomas
Schelling, Choice and Consequence: The Perspectives of an Errant
Economist (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1984),
especially essays 2–4.
50. Stuart Hampshire, Morality and Conflict (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1983).
51. As quoted by Marshall G. S. Hodgson, The Venture of Islam:
Conscience and History in a World Civilization, vol. 1: The Classical Age
of Islam (Chicago: University of Chicago Press, 1974), p. 401.
‫الفصل الثالث‬
1. The term comes from Stephen Hilgartner and Charles L. Bosk, “The
Rise and Fall of Social Problems: A Public Arenas Model,” American
Journal of Sociology, 94 (July 1988): 53-78. This article contains
many useful insights on the evolution of political agendas.

433
2. Giovanni Sartori, Democratic Theory (Detroit: Wayne State
University Press, 1962; Italian ed., 1958), pp. 252-257. Political
activity can also diminish the incentive to produce.
3. Edward G. Carmines and James A. Stimson, Issue Evolution: Race
and the Transformation of American Politics (Princeton: Princeton
University Press, 1989), p. 5.
4. Norbert Elias, The Civilizing Process, vol.1: The History of Manners
and vol. 2: Power and Civility, trans. Edmund Jephcott (New York:
Pantheon, 1982; German ed., 1939).
5. John Zaller and Stanley Feldman, “A Simple Theory of the Survey
Response: Questions versus Revealing Preferences,” American
journal of Political Science, 36 (August 1992): 579—616.
6. Mancur Olson, The Logic of Collective Action: Public Goods and the
Theory of Groups (Cambridge, Mass.: Harvard University Press,
1965).
7. George J. Stigler, “Free Riders and Collective Action: An Appendix
to Theories of Economic Regulation,” Bell Journal of Economic and
Management Science, 5 (Autumn 1974}: 359—365.
8. For additional explanations and informed critiques of the entire
literature, see Russell Hardin, Collective Action (Baltimore: Johns

434
Hopkins University Press, 1982); Todd Sandler, Collective Action:
Theory and Applications (Ann Arbor: University of Michigan Press,
1992); and Mark I. Lichbach, The Cooperator’s Dilemma (Ann
Arbor: University of Michigan Press, 1995).
9. Gerald Marwell and Ruth B. Ames, “Economists Free Ride, Does
Anyone Else?: Experiments on the Provision of Public Goods, IV,”
journal of Public Economics, 15 (June 1981): 295—310; and Robyn
M. Dawes, “Social Dilemmas, Economic Self-Interest, and
Evolutionary Theory,” in Frontiers of Mathematical Psychology:
Essays in Honor of Clyde Coombs, ed. Donald R. Brown and J. E.
Keith Smith (New York: Springer Verlag, 1991): 53—79.For
insightful interpretations of such experiments, see Robert H. Frank,
Passions within Reason: The Strategic Role of the Emotions (New
York: W. W. Norton, 1988); and James Q. Wilson, The Moral Sense
(New York: Free Press, 1993).
10. R. Mark Isaac, Kenneth F. McCue, and Charles R. Plott, “Public
Goods Provision in an Experimental Environment,” journal of Public
Economics, 26 (February 1985): 51—74; and R. Mark Isaac and
James M. Walker, “Communication and Free-Riding Behavior: The

435
Voluntary Contribution Mechanism,” Economic Inquiry, 26 (October
1988): 585—608.
11. Steven E. Finkel, Edward N. Muller, and Karl-Dieter Opp,
“Personal Influence, Collective Rationality, and Mass Political
Action,” American Political Science Review, 83 (September 1989):
885—903.
12. For an attempt at solving this puzzle, ‘see Albert 0. Hirschman,
Shifting Involvements: Private Interest and Public Action
(Princeton: Princeton University Press, 1982).
13. Finkel, Muller, and Opp, “Personal Influence.”
14. W. Russell Neuman, The Paradox of Mass Politics: Knowledge
and Opinion in the American Electorate (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1986).
15. James Madison, “The Federalist no. 10” (1787), in The
Federalist, ed. Jacob E. Cooke (Middletown, Conn.: Wesleyan
University Press, 1961), p. 57.
16. Laurence H. Tribe, Abortion: The Clash of Absolutes (New
York: W. W. Norton, 1990).
17. The last point and some others are developed by Bernard
Manin, “On Legitimacy and Political Deliberation,” trans. Elly Stein

436
and Jane Mansbridge, Political Theory, 15 (August 1987): 355-357
(French ed., 1985). Additional insights are offered by Michael
Hechter, Principles of Group Solidarity (Berkeley: University of
California Press, 1987).
18. David B. Truman, The Governmental Process: Political
Interests and Public Opinion, 2nd ed. (New York: Alfred A. Knopf,
1971), especially pt. 1.
19. Niccolò Machiavelli, The Prince, trans. and ed. Thomas G.
Bergin (Northbrook, 111.:AHM Publishing, 1947; orig. Italian ed.,
1532), chap. 19.
20. David Hume, A Treatise of Human Nature, ed. L. A. Selby—
Bigge (Oxford: Clarendon Press, 1896; orig. ed., 1739/1740), p. 39.
21. The term mass opinion may be used to convey the generic
concept.
22. Elisabeth Noelle-Neumann, The Spiral of Silence: Public
Opinion—Our Social Skin (Chicago: University of Chicago Press,
1984; German ed., 1980), p. 97.
23. Gustave Le Bon, The Crowd: A Study of the Popular Mind
(Atlanta: Cherokee Publishing Co., 1982; first French ed., 1895).

437
24. For two critical surveys of the history of this idea, see Serge
Moscovici, The Age of the Crowd: A Historical Treatise on Mass
Psychology, trans. J. C. Whitehouse (Cambridge: Cambridge
University Press, 1985; French ed., 1981); and J. S. McClelland, The
Crowd and the Mob: From Plato to Canetti (London: Unwin Hyman,
1989).
25. In formal terms, max [R(0), R(100)] > E(x, x) for each
nonactivist.
26. For a presentation that admits such differences, see Timur
Kuran, “Sparks and Prairie Fires: A Theory of Unanticipated
Political Revolution,” Public Choice, 61 (April 1989): 41—74
27. There are several variants of this principle. For an influential
one, see William H. Riker, The Theory of Political Coalitions (New
Haven: Yale University Press, 1962).

‫الفصل الرابع‬
1. Pamela Oliver, “Rewards and Punishments as Selective Incentives
for Collective Action: Theoretical Investigations,” American journal of
Sociology, 85 (May 1980): 1356-1375.
2. I have borrowed the idea of putting transformations of the
standard maxim to pedagogical use from Robert Sugden, “Review of The

438
Economics of Conformism by Stephen R. G. Jones,” Economic journal, 95
(June 1985): 502-504.
3. Perez Zagorin, Ways of Lying: Dissimulation, Persecution, and
Conformity in Early Modern Europe (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1990), p. 42.
4. Intracommunal compliance efforts are explored more fully by
Douglas Heckathorn, “Collective Sanctions and Compliance Norms: A
Formal Theory of Group-Mediated Social Control,” American Sociological
Review, 55 (June 1990): 366-384.
5. Another reason why the initially weaker group may gain
dominance over the initially stronger rival is that it might be motivated to
invest more in the competition. See Jack Hirshleifer, “The Paradox of
Power,” Economics and Politics, 3 (November 1991): 177-200.
6. For an N-person society whose members are indexed by 𝑖, the
propagation curve satisfies the equation:
100
𝑖=1 𝑡 , where 𝑡 is 1 if 𝑡 ≤ 𝑌 and 0 if 𝑡 > 𝑌.
) ∑𝑁 𝑖 𝑖 𝑖 𝑖
𝑇(𝑌) = ( 𝑁
7. Formally, public opinion is given by 𝑌 = 𝑇(𝑌 𝑒 ).It is in
equilibrium when 𝑌 = 𝑌 𝑒 .
8. Alexis de Tocqueville, Democracy in America, vol. 1, ed. Henry
Reeve, Francis Bowen, and Phillips Bradley (New York: Alfred A. Knopf,
1989; orig. French ed., 1835), p. 263 (emphasis added).
9. My depiction of instability bears the influence of Alfred Marshall’s
classic description, although his metaphor was different. See his Principles
439
of Economics: An Introductory Volume, 8th ed. (London: Macmillan,
1936), pp. 806-807.
10. Timothy J. Kehoe, “Multiplicity of Equilibria and Comparative
Statics,” Quarterly journal of Economics, 100 (February 1985): 119-147.
11. For more on why economists have tended to shun- the study" of
multiple equilibria, see W. Brian Arthur, “Positive Feedbacks in the
Economy,” Scientific American, 262 (February 1990): 92-99.
12. The bandwagon phenomenon has received attention under
various other terms, including snowballing, the domino effect, the herd
effect, critical mass, and tipping. A superb introduction is provided by
Thomas C. Schelling, Micromotives and Macrobehavior (New York:
Norton, 1978), especially chap. 4. Other important contributions include:
Mark Granovetter, “Threshold Models of Collective Behavior,” American
journal of Sociology, 83 (May 1978): 1420-1443. Stephen R. G. Jones.
The Economics of Conformism (New York: Basil Blackwell, 1984). Paul
David, “Some New Standards for the Economics of Standardization in the
Information Age,” in Economic Policy and Technological Performance, ed.
Partha Dasgupta and Paul Stoneman (Cambridge: Cambridge University
Press, 1987), pp. 206-239. W. Brian Arthur, “Self-Reinforcing
Mechanisms in Economics,” in The Economy as an Evolving Complex
System, ed. Philip W. Anderson, Kenneth J. Arrow, and David Pines (Red:
wood City, Calif.: Addison-Wesley, 1988), pp. 9-31. Ulrich Witt, “The
Evolution of Economic institutions as a Propagation Process,” Public

440
Choice, 62 (August 1989): 155-172. James S. Coleman, Foundations of
Social Theory (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1990), chap.
9. Sushil Bikchandani, David Hirshleifer, and Ivo Welsh, “A Theory of Fads,
Fashion, Custom, and Cultural Change as Informational Cascades,”
Journal of Political Economy, 100 (October 1992): 992-1026. The model
under consideration here appeared in its earliest form in Timur Kuran,
“Chameleon Voters and Public Choice,” Public Choice, 53 (1987): 53-78.
13. Pamela Oliver, Gerald Marwell, and Ruy Teixeira, “A Theory of
Critical Mass. I. Interdependence, Group Heterogeneity, and the
Production of Collective Action,” American Journal of Sociology, 91
(November 1985): 522-556.
14. V. S. Naipaul, India: A Wounded Civilization (New York: Vintage
Books, 1978; orig. ed., 1977), p. 146.
15. Catherine Marsh, “Back on the Bandwagon: The Effect of
Opinion Polls on Public Opinion,” British journal of Political Science, 15
(January 1984): 51-74.
16. The term is drawn from W. Brian Arthur, “Competing
Technologies, Increasing Returns, and Lock-In by Historical Events,”
Economic Journal, 99 (March 1989): 119.
17. See Amos Tversky and Daniel Kahneman, “Judgment under
Uncertainty: Heuristics and Biases,” Science, 185 (September 1974):
1124-1131; and Richard Nisbett and Lee Ross, Human Inference:

441
Strategies and Shortcomings of Social judgment (Englewood Cliffs, N.J.:
Prentice-Hall, 1980), pp. 24-28, 115-122.
،‫ وهي «إرشادية التوفر» التي سأمهد لها يف الفصل العارش‬،‫ تعمل إرشادية آخر‬.18
»‫ فقد يحظى حدث «صغري‬.‫يف بعض األحيان بأهداف متداخلة مع اإلرشادية التمثيلية‬
‫ ولذا فهو‬،‫بالنسبة ملعظم املراقبني باهتامم بالغ من مراقب ما يعترب هذا الحدث بارزًا‬
‫ فقد يويل صحفي يحاول تفسري انهيار رشكة سيارات أهمية أكرب لتجربة شخصية‬.»‫«متوفر‬
.‫سيئة مع السيارة مام قد يفعل مع تقرير عمالء قائم عىل عينة كبرية‬
19. Michael Wheeler, Lies, Damn Lies, and Statistics: The
Manipulation of Public Opinion in America (New York: Liveright, 1976).
Robert B. Cialdini, Influence: How and Why People Agree to Things (New
York: William Morrow, 1984). Benjamin Ginsberg, The Captive Public:
How Mass Opinion Promotes State Power (New York: Basic Books, 1986),
especially chap. 3. George F. Bishop, “Manipulation and Control of People’s
Responses to Public Opinion Polls: An Orwellian Experiment in 1984,” in
The Orwellian Moment: Hindsight and Foresight in the Post-1984 World,
ed. Robert L. Savage, James Combs, and Dan Nimmo (Fayetteville:
University of Arkansas Press, 1989), pp. 119-129.
20. Eugene Borgida and Richard E. Nisbett, “The Differential
Impact of Abstract vs. Concrete Information on Decisions,” Journal of
Applied Social Psychology, 7 (July-September 1977): 258-271. For other
relevant experiments, see Daniel Kahneman and Amos Tversky,
“Subjective Probability: A judgment of Representativeness,” Cognitive
Psychology, 3 (July 1972): 430-454.
442
21. See Nisbett and Ross, Human Inference, chap. 4.
22. Under the term “impression of universality,” the concept was
introduced by Floyd Henry Allport, Social Psychology (Boston: Houghton
Mifflin, 1924), pp. 305-309. The term “pluralistic ignorance” was first
used by Richard Louis Schanck, “A Study of a Community and Its Groups
and Institutions Conceived of as Behavior of Individuals,” Psychological
Monographs, 43-2(1932): 101.
23. Hubert J. O’Gorman, “Pluralistic Ignorance and White Estimates
of White Support for Racial Segregation,” Public Opinion Quarterly, 39
(Fall 1975): 313-330. See also Hubert J. O’Gorman with Stephen L.
Garry, “Pluralistic Ignorance-A Replication and Extension,” Public
Opinion Quarterly, 40 (Winter1976-77): 449-458.
24. Gunnar Myrdal, Against the Stream: Critical Essays on
Economics (New York: Pantheon, 1973), p. 303.
25. Detlev J. K. Peukert, Inside Nazi Germany: Conformity,
Opposition, and Racism in Everyday Life, trans. Richard Deveson (New
Haven: Yale University Press, 1987; German ed., 1982), p. 239.
26. Bella M. DePaulo, Miron Zuckerman, and Robert Rosenthal,
“Humans as Lie Detectors,” Journal of Communication, 30 (Spring 1980):
129-139. Zuckerman, DePaulo, and Rosenthal, “Verbal and Nonverbal
Communication of Deception,” in Advances in Experimental Social
Psychology, Vol. 14, ed. Leonard Berkowitz (New York: Academic Press,
1981), pp. 1-59. For an interpretation of the evidence, see Robert H.

443
Frank, Passions within Reason: The Strategic Role of the Emotions (New
York: W. W. Norton, 1988), chap. 7.
27. Arthur G. Miller, Barry Gillen, Charles Schenker, and Shirley
Radlove, “Perception of Obedience to Authority,” Proceedings of the 81st
Annual Convention of the American Psychological Association, 8, pt. 1
(1973): 127-128.)
28. This experiment, conducted in the early 19703 by Günter
Bierbrauer, is described by Nisbett and Ross, Human Inference, pp. 121
122.
29. Lee Ross, “The Intuitive Psychologist and His Shortcomings,” in
Advances in Experimental Social Psychology, vol. 10, ed. Leonard
Berkowitz (New York: Academic Press, 1977), pp. 173-220. For a survey
of the pertinent research, see Michael Ross and Garth O. Fletcher,
“Attribution and Social Perception,” in The Handbook of Social
Psychology, 3rd ed., vol. 2, ed. Gardner Lindzey and Elliott Aronson (New
York: Random House, 1985), pp. 73-122.
30. For an influential statement of this principle, see Harold H.
Kelley, “Attribution Theory in Social Psychology,” in Nebraska Symposium
on Motivation, ed. David Levine (Lincoln: University of Nebraska Press,
1967), pp. 192-238. Kelley’s theory is discussed in detail by Ross and
Fletcher, “Attribution and Social Perception.” The foundations for Kelley’s
theory were laid by Fritz Heider, The Psychology of Interpersonal
Relations (New York: Wiley, 1958).
444
‫الفصل الخامس‬
1. For more on these common distinctions, see Giovanni Sartori, The

Theory of Democracy Revisited (Chatham, N.J.: Chatham House

Publishers, 1987), chap. 2.

2. Frank R. Strong, “Fifty Years of ‘Clear and Present Danger’: From

Schenck to Brandenburg—and Beyond” (1969), in Free Speech and

Association: The Supreme Court and the First Amendment, ed. Philip B.

Kurland (Chicago: University of Chicago Press, 1975), pp. 302—341.

3. Samuel A. Stouffer, Communism, Conformity, and Civil Liberties: A

Cross-Section of the Nation Speaks Its Mind (Garden City,

N.Y.:Doubleday, 1955), pp. 39—46. Many other surveys offered similar

results. For an overview, see Herbert McClosky and Alida Brill,

Dimensions of Tolerance: What Americans Believe about Civil Liberties

(New York: Russell Sage, 1983), pp. 74—77.

4. Clyde Z. Nunn, Harry J. Crockett, Jr, and J. Allen Williams, Jr.,

Tolerance for Nonconformity (San Francisco: Jossey-Bass, 1978), p. 43.

The third chapter of this book contains much additional data. See also John

445
Mueller, “Trends in Political Tolerance,” Public Opinion Quarterly, 52

(Spring 1988): 1—25.

5. McClosky and Brill, Dimensions of Tolerance, pp. 54—56, 62-64.

6. Herbert McClosky and John Zaller, The American Ethos: Public

Attitudes toward Capitalism and Democracy (Cambridge, Mass.: Harvard

University Press, 1984), pp. 36-37.

7. McClosky and Brill, Dimensions of Tolerance, p. 82.

8. Nat Hentoff, Free Speech for Me—But Not for Thee: How the American

Left and Right Relentlessly Censor Each Other (New York: HarperCoilins,

1992).

9. For commentary on the feminist drive against pornography, see Donald

Alexander Downs, The New Politics of Pornography (Chicago: University

of Chicago Press, 1989); and Ronald Dworkin, “Two Concepts of Liberty,”

in Isaiah Berlin: A Celebration, ed. Edna and Avishai Margalit (Chicago:

University of Chicago Press,,1991), pp. 100-109.

10. Alexis de Tocqueville, Democracy in America, ed. Henry Reeve,

Francis Bowen, and Phillips Bradley, 2 vols. (New York: Alfred A. Knopf,
446
1989; first French ed., 1835), especially vol. 1, pp. 254—270, and v01.

2, pp.316—321.

11. John Stuart Mill, On Liberty (Indianapolis: Hackett Publishing Co.,

1978; orig. ed., 1859), especially chap. 4.

12. Douglas Maurice MacDowell, The Oxford Classical Dictionary, 2nd ed.,

ed. N. G. L. Hammond and H. H. Scullard (Oxford: Clarendon Press, 1970),

pp. 762—763; and M. I. Finley, Politics in the Ancient World (Cambridge:

Cambridge University Press, 1983), pp. 53—55.

13. Paul L. Montgomery, “French Students Teach Chirac on the Streets,”

Los Angeles Times, December 14, 1986, p. V—Z.

14. Maura Dolan, “Reagan Record on Parks GetsMixed Marks,” Los

Angeles Times, June 21, 1988', pp. 1, 3, 19.

15. The last point is developed by Charles E. Lindblom, Politics and

Markets: The World’s Political-Economic Systems (New York: Basic Books,

1977), chap. 9.

16. Robert A. Dahl, A Preface to Democratic Theory (Chicago: University

of Chicago Press, 195 6), p. 125.


447
17. The observation that electoral competition offers a limited ménu of

choices lies at the heart of a literature initiated by Harold Hotelling,

“Stability in Competition,” Economic journal, 39 (March 1929): 41—57,

and brought to maturity by Anthony Downs, An Economic Theory of

Democracy (New York: Harper 86"Row, 1957). The theory has been

refined to accommodate factors that keep the platforms of rival candidates

from becoming entirely similar; See, for instance, James S. Coleman,

“Internal Processes Governing Party PositiOns in Elections,” Public.

Choice, 11 (Fall 1971): 35—60.

18. Alexis de Tocqueville, The Old Regime and the French Revolution;

trans. Stuart Gilbert (Garden City, N.Y.:Doubleday, 1955; orig. French ed.,

1856), p. xi.

19. New York Times, January 6, 1989, p. A13.

20. Carole Pateman, Participation and Democratic Theory (Cambridge:

Cambridge University Press, 1970), chap. 2.

21. Even if it were closed, a sufficient number of individuals would first

have to plead publicly for the vote.


448
22. Shaul Bakhash, “The Politics .of Land, Law, and Social Justice in Iran,”

Middle East journal, 43 (Spring 1989): 186—201.

23. Julius G. Getman, Stephen B. Goldberg, and Jeanne B. Herman, Union

Representation Elections: Law and Reality (New York: Russell Sage,

1976), especially chap. 6.

24. John Stuart Mill, Representative Government (London: Longmans,

Green, and Co., 1919; orig. ed., 1861), p. 81..

25. Mill, On Liberty, chap. 4.

26. Mill, Representative Government, pp. 84-85.

27. The point has also been made by Alan Ryan, “Two Concepts of Politics

and Democracy: James and John Stuart Mill,” in Machiavelli and the

Nature of Political Thought, ed. Martin ,Fleisher (New York: Atheneum,

1972), sect.3.

28. For an elaboration, see Preston King, Toleratz'on (New York: St.

Martin’s Press, 1976), chap. 1.

449
29. José Ortega y Gasset, The Revolt of the Masses, trans. Anthony

Kerrigan (Notre Dame, Ind.:University of Notre Dame Press, 1985; orig.

Spanish ed., 1929), p. 65.

30. McClosky and Brill, Dimensions of Tolerance, p. 16.

31. This argument is developed and supported empirically. by Dankwart

A. Rustow, “Transitions to Democracy: Toward a Dynamic Model,”

Comparative Politics, 2 (April 1970): 337—363. An influential variant of

the argument is by Bernard Crick, In Defense of Politics, 2nd ed. (Chicago:

University of Chicago Press, 1972), especially chap. 1.

32. Perry Miller, Errand into the Wilderness (Cambridge, Mass.: Harvard

University Press, 1956), pp. 143—144. By way of McClosky and Zaller,

The American Ethos, p. 22.

33. For evidence in support of this interpretation, see Daniel J. Boorstin,

The Americans: The Colonial Experience (New York: Random House,

1958), pts. 1-4.

34. James Madison, “The Federalist no. 51” (1788), in The Federalist, ed.

Jacob E. Cooke (Middletown, Conn.:Wesleyan University Press, 1961), p.


450
349. The Madisonian strategy is discussed and critiqued by Dahl, A

Preface to Democratic Theory, especially chap. 1.

35. Sartori, The Theory of Democracy Revisited, p. 90.

36. Hugh Roberts, “From Radical Mission to Equivocal Ambition: The


Expansion and Manipulation of Algerian Islamism, 1979—1992,”
in Accounting for Fundamentalisms: The Dynamic Character of
Movements, ed. Martin E. Marty and R. Scott Appleby (Chicago:
University of Chicago Press, 1994), pp. 428—489.
‫الفصل السادس‬
1. This theme is developed in works surveyed by Timur Kuran, “The
Tenacious Past: Theories of Personal and Collective Conservatism,”
journal of Economic Behavior and Organization, 10 (September 1988):
1433171; and Paul A. David, “Path Dependence: Putting the Past in the
Future of Economics,” Institute for Mathematical Studies in the Social
Sciences Technical Report no. 533, Stanford University, November 1988.
2. Albert 0. Hirschman, Exit, Voice, and Loyalty: Responses to
Decline in Firms, Organizations, and States (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1970).
3. Mancur Olson, The Rise and Decline of Nations: Economic Growth,
Stagflation, and Social Rigidities (New Haven: Yale University Press,
1982).

451
4. The attribution of an equal likelihood to all possibilities is
arbitrary, but it is reasonable in the absence of a rationale for introducing
differences. Also, it has the virtue of making clear what is being assumed;
5. Formally, the measure can be defined as follows. Let Y* denote the
established equilibrium and Y-b the average public opinion in the
absence of memory. In terms of this notation, the role of history in the
persistence of Y* is given as C(Y*) = |Y* – Y-b| / (Ymax – Ymin), where
the denominator gives the difference between the maximum and
minimum possible values of mean public opinion. For two related
measures, see Timur Kuran, “Preference Falsification, Policy Continuity,
and Collective Conservatism,” Economic Journal, 97 (September 1987):
642—665.
6. In mathematical terms, the evolution of public opinion forms a
nonergodic process, as opposed to an ergodic one whereby every small
event is annulled by later small events. See W. Brian Arthur, “Competing
Technologies, Increasing Returns, and Lock-In by Historical Events,”
Economic Journal, 99 (March 1989): 116—131.
7. F. M. Cornford, Microcosmogmphia Academica, Being a Guide for
the Young Academic Politician, 2nd ed. (Cambridge: Bowes 8c Bowes,
1922), p. 4.
8. Jerry B. Harvey, “The Abilene Paradox: The Management of
Agreement,” Organizational Dynamics, 3 (Summer 1974): 63—80.

452
9. Elisabeth Noelle-Neumann, The Spiral of Silence: Public
Opinion—Our Social Skin (Chicago: University of Chicago Press, 1984;
first German ed., 1980).
10. Friedrich _A.Hayek, The Constitution of Liberty (Chicago:
University of Chicago Press,1960), pp. 395-411.
11. For an exposition of Pareto’s efficiency criterion, see T. C.
Koopmans, Three Essays on the State of Economic Science (New
York:McGraw Hill, 1956), pp. 41-66.
12. For a fuller exposition, see Donald Wittman, “Why Democracies
Produce Efficient Results,” ]oumal of Political Economy, 97 (December
1989): 1395—1424.
13. George F. Hourani, “The Basisof Authority of Consensus in Sunnite
Islam,” Studia Islamica, 21 (1964): 13—60.
14. On the history of this proverb, see George Boas, Vox Populi: Essays
in the History of an Idea (Baltimore: Johns Hopkins Press, 1969), chap.
1.
15. Noelle-Neumann, Spiral of Silence, p. 175.
‫الفصل السابع‬
1. For a survey of the dissident literature, see H. Gordon Skilling,
“Samizdat” and an Independent Society in Central and Eastern Europe
(Columbus: Ohio State University Press, 1989).
2. The words of Leon Trotsky, cited by Hannah Arendt, The Origins of
Totalitarianism, 2nd ed. (New York: Meridian, 1958), p. 307.
453
3. Alexander Solzhenitsyn, “The Smatterers,” in Solzhenitsyn et al.,
From Under the Rubble, trans. A. M. Brock et a1. (Boston: Little, Brown,
1975; orig. Russian ed., 1974), p. 275.
4. Ibid., p. 276 (emphasis in original).
5. Véclav Havel, “The Power of the Powerless,” in Havel et al., The
Power of the Powerless: Citizens against the State in Central-Eastern
Europe, ed. John Keane, trans. Paul Wilson (Armonk, N.Y.: M. E. Sharpe,
1985; orig. Czech ed., 1979), pp. 27—28.
6. Amanda Haight, Anna Akhmatova: A Poetic Pilgrimage (New York:
Oxford University Press, 1976), chaps. 3—4; and Encyclopaedia
Britannica, 15th ed., vol. 1 (1987), p. 190.
7. Aleksander Wat, My Century: The Odyssey of a Polish Intellectual,
trans. Richard Lourie (New York: W. W. Norton, 1990; orig. Polish
ed.,1977), p.101.
8. For an account of the campaign against Pasternak, see Ronald
Hingley, Pasternak: A Biography (New York: Alfred A. Knopf, 1983),
chap. 10.
9. H. Gordon Skilling, Charter 77 and Human Rights in Czechoslovakia
(London: George Allen and Unwin, 1981). See also Timothy Garton Ash,
The Uses of Adversity: Essays on the Fate of Central Europe (New York:
Random House, 1989; orig. publ., 1983—1989), especially pp. 61-70.

454
10. Krzysztof Nowak, “Covert Repressiveness and the Stability of a
Political System: Poland at the End of the Seventies,” Social Research,
55 (Spring/Summer 1988): 189 (emphasis omitted).
11. Leszek Kolakowski, Main Currents of Marxism: Its Origin; Growth,
and Dissolution, vol. 3, trans. P. S. Falla (Oxford: Clarendon Press,
1978), p. 91.
12. Jifi Ruml, “Who Really Is Isolated?” in Havel et 211., Power of the
Powerless, p. 180.
13. jane Kramer, “Letter from Europe,” New Yorker, May 25, 1992? p.
43.
14. Havel, “Power of the Powerless,” p. 39 (emphasis in original).
15. Ibid.
16. Ibid., p. 37.
17. Timothy Garton Ash, “Eastern Europe: The Year of Truth,” New
York Review of Books, February 15, 1990, p. 18 (emphasis in original).
18. Authoritative accounts include Roy A. Medvedev, Let History judge:
The Origins and Consequences of Stalinism, trans. Colleen Taylor (New
York: Vintage, 1973; orig. Russian ed., 1968); Robert Conquest, The
Great Terror: A Reassessment (New York: Oxford University Press;
1990); and Zbigniew K. Brzezinski, The Soviet Bloc: Unity and Conflict
(Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1960).
19. Nowak, “Covert Repressiveness,” p. 193.

455
20. Czeslaw Milosz, The Captive Mind, trans. Jane Zielonko (New York:
Alfred A. Knopf, 195 3; orig. Polish ed., 1951), p. 54.
21. Quoted by Robert Conquest, Tyrants and Typewriters: Communiqués
from the Struggle for Truth (Lexington, Mass.: Lexington Books, 1989),
p. 90.
22. Milosz, Captive Mind, especially pp. 43, 61.
23. See Nowak, “Covert Repressiveness”; and Helena Flam, “Fear,
Loyalty, and Greedy Corporate Actors” (unpublished paper, University
of Konstanz, 1992).
24. Nowak, “Covert Repressiveness,” p. 187.
25. 1.213216 Bruszt, “‘Without Us but for Us’? Political Orientation in
Hungary in the Period of Late Paternalism,” Social Research, 55
(Spring/Summer 1988): table 3. The figures for the Western countries
are from 1978.
26. Miiosz, Captive Mind, p. 24.
27. Quoted in Jan Vladislav, “Encounters with History or Une Education
Sentimentale 1938—68,” in The Prague Spring: A Mixed Legacy, ed.
Jiri Pehe (New York: Freedom House, 1938), p. 12. Poem translated by
A. G. Brain.
28.Véclav Havel, Disturbing the Peace: A Conversation with Karel
Hviédala, trans. Paul Wilson (New York: Alfred A. Knopf, 1990; orig.
Czech ed., 1986), p. 138.

456
29. This point is developed at length by Vladimir Tismaneanu,
Reinventing Politics: Eastern Europe from Stalin to Havel (New York:
Free Press, 1992), chaps. 4—5.
‫الفصل الثامن‬
1. Mark Fineman, “Lynchings over Caste Stir India,” Los Angeles Times,
April 12, 1991-, pp. A1, 18; and W. P. S. Sidhu, “Medieval Murders,” India
Today, April 30, 1991, pp. 122-125.
2. M. N. Srinivas, Social Change in Modern India (Berkeley: University of
California Press, 1971); Louis Dumont, Homo Hierarchicus: The Caste
System and Its Implications, rev. ed., trans. Mark Sainsbury, Dumom, and
Basia Gulati (Chicago: University of Chicago Press, 1980, orig. French ed.,
1966); and Marc Galanter, Competing Equalities: Law and the Backward
Classes in India (Berkeley: University of California Press, 1984).
3. J. H. Hutton, Caste in India: Its Nature, Function, and Origins, 4th ed.
(Bombay: Oxford University Press, 1963), pp. 64-67, 130, and Appendix
A. Estimates go as high as 30 percent.
4. Ibid., chap. 6; and Dumont, Homo Hierarchicus, chaps. 4—6.
5. Dumont, Homo Hierarchicus, especially pp. 46—49, 202—208;
Hutton, Caste in India, chaps. 6—7and Appendix A; Barrington Moore, Jr.,
Injustice: The Social Bases of Obedience and Revolt (White Plains, N.Y.:
M. E. Sharpe, 1978), pp. 55—64; and L. S. S. O’Malley, Indian Caste
Customs (Cambridge: Cambridge University Press, 1932), chap. 8.
6. O’Malley, Indian Caste Customs, p. 141.

457
7. Hutton, Caste in India, p. 121.
8. Imtiaz Ahmad, ed., Caste and Social Stratification among Muslims in
India (New Delhi: Manohar, 1978), especially articles by M. K. A. Siddiqui
and Ranjit K. Bhattacharya.
9. Deepak Lal, The Hindu Equilibrium, vol. 1: Cultural Stability and
Economic Stagnation, India c. 1500 B.C.—A.D.1980 (Oxford: Clarendon
Press, 1988), chap. 3.
10. The practice is noted by O’Malley, Indian Caste Customs, p. 142.
11. Max Weber, The Religion of India: The Sociology of Hinduism and
Buddhism, trans. and ed. H. Gerth and Don Martindale (New York: Free
Press, 1958; orig. German ed., 1916—17), p. 112. Another such argument
is provided by Angus Maddison, Class Structure and Economic Growth:
India and Pakistan since the Moghuls (New York: W. W. Norton, 1971),
especially pp. 24—29.
12. Jawaharlal Nehru, The Discovery of India, ed. Robert I. Crane (New
York: Doubleday, 1959; orig. ed., 1946), especially sect. 4.7 and chap. 5;
quote, p. 126.
13. M. N. Srinivas, “The Role of Caste in India: Present and Future,”
Reviews in Anthropology, 7 (Fall 1980): 415—430. Also see Dumont,
Homo Hierarchicus, chap. 10.
14. Hutton, Caste in India, p. 123.
‫ فقد‬،3–2 ‫ يف الفصلني‬،‫ املجلد األول‬،‫ وفقًا ملا ذكره الل يف كتابه التوازن الهندويس‬.15
‫ وأدى‬.‫ قبل امليالد تقري ًبا‬1500 ‫ ابتدا ًء من عام‬،‫نشأ النظام الطبقي أثناء الغزو اآلري للهند‬

458
‫ٍ‬
‫مطالبات متضاربة بشأن‬ ‫تقسيم العمل املوجود مسبقًا بني الكهنة‪ ،‬واملحاربني‪ ،‬والتجار إىل‬
‫ريا عنها يف قيو ٍد سلوكية مختلفة‪ .‬عندما ّ‬
‫أسس اآلريون‬ ‫املكانة االجتامعية‪ ،‬والتي وجدت تعب ً‬
‫مستوطنات زراعية‪ ،‬واجهوا مشكلة الحفاظ عىل عد ٍد ٍ‬
‫كاف من العامل‪ .‬واستجاب ًة لذلك‪،‬‬
‫استعبدوا أعداءهم من سكان البالد األصليني وأجربوهم عىل العمل مزارعني‪ .‬وأفراد طبقة‬
‫الشودرا هم من نسل هؤالء العبيد‪ .‬يف نهاية األمر‪ ،‬أُع ِتقت الشودرا و ُدمج أفرادها يف نظام‬
‫ٍ‬
‫احتكاك‬ ‫الطبقات اآلري الناشئ‪ .‬فيام بعد نشأت طبقة املنبوذين عندما أصبح اآلريون عىل‬
‫بسط سيطرتهم الكاملة‬‫مع قبائل مختلفة من السكان األصليني‪ .‬مت ّخضت رغبة اآلريني يف ْ‬
‫عىل األرض عن حمل ٍة مستمرة وعنيفة يف كثري من األحيان إلبقاء هؤالء السكان األصليني‬
‫أصول نظام الطبقات االجتامعي إىل محاول ٍة من‬
‫َ‬ ‫خارج املجتمع اآلري‪ .‬تر ُّد فرضي ٌة أخرى‬
‫جانب التج ّمعات املهنية الناجحة نسبيًا للح ّد من منزلتهم االجتامعية‪ .‬يُنظر بهذا الصدد‬
‫منصور أولسون؛ صعود وتراجع األمم‪ :‬النمو االقتصادي‪ ،‬والركود التضخمي‪ ،‬والصالبة‬
‫االجتامعية (نيو هيفن‪ :‬مطبعة جامعة ييل‪ ،)1982 ،‬الصفحات ‪.161—156‬‬

‫‪16. Michael Moffatt, An Untouchable Community in South India: Structure‬‬


‫‪and Consensus (Princeton: Princeton University Press, 1979), p. 7, n. 1.‬‬
‫‪17. Hutton, Caste in India, chap. 7.‬‬
‫‪18. V. S. Naipaul, India: A Wounded Civilization (New York Vintage Books,‬‬
‫‪1977), p. 188.‬‬
‫‪19. On the enforcement of caste etiquette, see Thomas A. Zwicker,‬‬
‫‪“Morality and Etiquette in the Reproduction of Hierarchical Caste‬‬
‫‪Relations in South Asia,” M.A. thesis, University of Pennsylvania, 1984.‬‬
‫‪20. This argument is developed by George A. Akerlof, “The Economics of‬‬
‫‪Caste and of the Rat Race and Other Woeful Tales,” Quarterly-Journal of‬‬
‫‪459‬‬
Economics, 90 (November 1976): 599—618. Akerlof’s argument was
anticipated by Weber, Religion of India, p. 19.
21. On the operation of village assemblies, see Dumont, Homo
Hierarchicus, chap. 8; and Hutton, Caste in India, chap. 7.
22. Joseph A. Schumpeter, “Social Classes in an Ethnically Homogeneous
Environment,” in his Imperialism and Social Classes, trans. Heinz Norden
(New York: Augustus Kelley, 1951; orig. ed., 1927), p. .145.
23. Srinivas, Social Change in Modern India, pp. 100—106.
‫الفصل التاسع‬
1. Michael Oreskes, “American Politics Loses Way as Polls Displace
Leadership,” New York Times, March 18, 1990, pp. A1, 22. The series
continued to March 22.
2. See, for example, Richard D. Lamm, “The Politics of Sensitivities:
Critical Policy Issues Fester under Fear of Offending,” Los Angeles Times,
May 28, 1988, pt. 2- p. 8; Michael Ross, “U.S. Lawmakers Toss in Towel
in Frustration,” Los Angeles Times, April 13, 1992, pp. A1, 16-17; and
Timothy E. Wirth, “It’s Not Enough to Throw Burns Out,” Los Angeles
Times, June 17, 1992, p. B11.
3. “Serious Times, Trivial Politics,” New York Times, March 25, 1990,
sect.4, p. 18.
4. Shelby Steele, The Content of Our Character: A New Vision of Race in
America (New York: St. Martin’s, 1990), p. x.

460
5. Richard G. Niemi, John Mueller, and Tom W. Smith, Trends in Public
Opinion: A Compendium of Survey Data (New York: Greenwood Press,
1989), chap.8. The figures come from table 8.3. See also Howard
Schuman, Charlotte Steeh, and Laurence Bobo, Racial Attitudes in
America: Trends and Interpretations (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1985), chap. 3.
6. Arlene F. Saluter, Marital Status and Living Arrangements: March 1991
(Washington, DC: U.S. Government Printing Office, 1992), table E.
7. Jack Citrin, Donald Philip Green, and David 0. Sears, “White Reactions
to Black Candidates: When Does Race Matter?” Public Opinion Quarterly,
54 (Spring 1990): 74—96.
8. Lee Sigelman and Susan Welch, Black Americans’ Views of Racial
Inequality: The Dream Deferred (Cambridge: Cambridge University
Press, 1991), p. 131.
9. Ibid., p.129.
10. Responsive Community, 2 (Spring 1992), p. 82.
11. Andrew Hacker, Two Nations: Black and White, Separate, Hostile,
Unequal (New York: Charles Scribner’s Sons, 1992), pp. 4, passim.
See also Jonathan Rieder, Canarsie: The Jews and Italians of Brooklyn
Against Liberalism (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1985),
especially chaps. 3—5.

461
‫‪. 12‬وفقًا الستبيانٍ أجراه معهد ميتشغان للبحوث االجتامعية يف عام ‪ ،1986‬فإن ثالثة من‬
‫كل أربعة أفرا ٍد بيض يعتربون أنه «من املحتمل» أو «من املحتمل إىل ح ٍّد ما» أن يُحرموا من‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مبؤهالت أقل‪.‬‬ ‫التوظيف يف منصب ما لصالح شخص أسود يحمل نفس املؤهالت أو حتى‬
‫نقله دينيش دي سوزا يف كتابه‪ ،‬التعليم غري الليربايل‪ :‬سياسة العرق والجنس يف الحرم‬
‫الجامعي (نيويورك‪ :‬فري بريس‪ ،)1991 ،‬الصفحة ‪.131‬‬
‫‪ .13‬وثّق فريدريك آر لينش امتعاض العامل وحلّل ذلك يف كتابه‪ ،‬الضحايا غري املرئيني‪:‬‬
‫الذكور البيض وأزمة التمييز اإليجايب (نيويورك‪ :‬غرينوود بريس‪ .)1989 ،‬وظهرت بوادر‬
‫انتشار االستياء يف جلسات مجموعات االختبار التي نظمتها رشكة استطالعات رأي تابعة‬
‫للحزب الدميقراطي يف عام ‪ .1985‬وفقًا للتقرير الذي صدر بعد ذلك‪« ،‬ينظ ُر جميع [أعضاء‬
‫املجموعة] تقريبًا إىل الوضع الخاص بالسود بوصفه عقبة حقيقية أمام ازدهارهم‬
‫ريا مقبوالً وجاه ًزا لتربير وضعهم‪،‬‬
‫الشخيص‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬أصبح التمييز ضد البيض تفس ً‬
‫وضعفهم‪ ،‬وإخفاقاتهم»‪ .‬نقل ذلك توماس برين إيدسول وماري دي إيدسول يف كتابهام‪،‬‬
‫سلسلة التفاعالت‪ :‬تأثري العرق‪ ،‬والحقوق‪ ،‬والّضائب عىل السياسة األمريكية (نيويورك‪:‬‬
‫مطبعة دبليو دبليو نورتون‪ ،)1991 ،‬الصفحة ‪.182‬‬

‫‪12. According to a 1986 survey by Michigan’s Institute for Social‬‬


‫‪Research, three out of four whites consider it “likely” or “somewhat‬‬
‫‪likely” that they will be denied a position in favor of an equally or less‬‬
‫‪qualified black. As reported by Dinesh D’Souza, Illiberal Education: The‬‬
‫‪Politics‬‬
‫‪of Race and Sex on Campus (New York: Free Press, 1991), p. 131.‬‬
‫‪13. Worker resentment is documented and analyzed by Frederick R.‬‬
‫‪Lynch, Invisible Victims: White Males and the Crisis of Affirmative Action‬‬

‫‪462‬‬
(New York: Greenwood Press, 1989). The pervasiveness of resentment
turned up in focus-group sessions conducted in 1985 by a Democratic
polling firm. According to the ensuing report, “The special status of blacks
is perceived by almost all [members of the groups] as a serious obstacle to
their personal advancement. Indeed, discrimination against whites has
become a well-assimilated and ready explanation for their status,
vulnerability and failures.” As quoted by Thomas Byme Edsall
and Mary D. Edsall, Chain Reaction: The Impact of Race, Rights, and
Taxes on American Politics (New York: W. W. Norton, 1991), p. 1.82.
14. Paul M. Sniderman and Thomas Piazza, The Scar of Race (Cambridge,
Mass.: Harvard University Press, 1993).
15. Ibid., pp. 69—78.
16. Ibid.,pp. 102—104.
17. Benjamin1. Page and Robert Y. Shapiro, The Rational Public: Fifty
Years of Trends in Americans’ Policy Preferences (Chicago: University of
Chicago Press, 1992), especially chap. 3.
18. Edsall and Edsall, Chain Reaction, especially chaps. 9-11.
19. Economist, November 30, 1991, pp. 47—48.
20. Terry Eastland, “In This White House, Principle Is Just the Politics of
the Day,” Los Angeles Times, December 19, 1990, p. B11.
21. Patrick Thomas, “The Persistent ‘Gnat’ that Louisiana Can’t Get Out
of Its Face,” Los Angeles Times, October 14, 1990, p. M1.

463
22. Andrew Rosenthal, “Broad Disparities in Votes and Polls Raising
Questions,” New York Times, November 9, 1989, pp. A1, 314; and J.
Phillip Thompson, “David Dinkins’ Victory in New York City: The Decline
of the Democratic Party-Organization and the Strengthening of
Black Politics,” PS: Political Science and Politics, 23 (June 1990): 145—
148.
23. Excerpts from speech reprinted in David]. Garrow, Bearing the Cross:
Martin Luther King, In, and the Southern Christian. Leadership
Conference (New York: William Morrow, 1986), pp. 283-284.
24. James P. Smith and Finis R. Welch, “Black Economic Progress since
Myrdal,” Journal of Economic Literature, 27 (June 1989): 519—564.
25. Deborah J. Carter and Reginald Wilson, Minorities in Higher
Education (Washington, D.C.:American Councilon Education, December
1989), p. 20.
26. Smith and Welch, “Black Economic Progress,” pp;.552—557. See also
Jonathan S. Leonard, “The Impact of Affirmative Action Regulation and
Equal Employment Law on Black Employment,” Journal of Economic
Perspectives, 4 (Fall 1990). 4.7—63
27. Richard B. Freeman, Black Elite: The New Market for Highly Educated
Black Americans (New York: McGraw Hill, 1976), p. 34
28. Thomas Sowell, Education: Assumptions versus History (Stanford:
Hoover Institution Press, 1986), pp. 81~89.

464
29. Thomas Sowell, Civil Rights: Rhetoric or Reality? (New York: William
Morrow, 1984), pp.p 49-50.
30. Edsall and Edsall, Chain Reaction, table 11.3.
31. These statistics are drawn from Robin Williams, Jr., and Gerald David
Jaynes, eds. A Common Destiny: Blacks and America}: Society
(Washington, D.C.: National Academy Press, 1989).
32. Stephen L. Carter, Reflections of an Affirmative Action Baby (New
York: Basic Books, 1991}; Richard A. Epstein, Forbidden Grounds: The
Case against Employment Discrimination Laws (Cambridge, Mass.:
Harvard University Press, 1992); Nathan Glazer, Affirmative
Discrimination: Ethnic Inequality and Public Policy (Cambridge, Mass.:
Harvard University
Press,1987; orig. pub., 1975); Glenn C. Loury, “Why Should We Care
about Group Inequality,” Social Philosophy and Policy, 5 (Autumn 1987):
249-271; Stephen Coate and Loury, “Will Affirmative-Action Policies
Eliminate Negative Stereotypes,” American Economic Review, 83
(December 1993): 1220-1240; Sowell, Civil Rights; Steele, Content of
Our Character; and William Julius Wilson, The Truly Disadvantaged: The
Inner City, the Underclass, and Public Policy (Chicago: University of
Chicago Press, 1987).
33. Gertrude Ezorsky, Racism and justice: The Case for Affirmative
Action (Ithaca: Cornell University Press, 1991.

465
34. U.S. Department of Labor, Office of Policy Planning and Research,
The Negro Family: The Case for National Action (Washington, DC:
Government Printing Office, 1965).
35. Ibid., pp. 47-48.
36. E. Franklin Frazier, The Negro Family in the United States (Chicago:
University of Chicago Press, 1939).
37. Herbert G. Gutman, The Black Family in Slavery and Freedom,
1750—1925 (New York: Pantheon, 1976).
38. The quotes are drawn from Lee Rainwater and William L. Yancey, The
Moynihan Report and the Politics of Controversy (Cambridge, Mass.: MIT
Press, 1967), pp. 172—173, 259.
39. As cited by Glenn C. Loury, “The Family, the Nation, and Senator
Moynihan,” Commentary, June 1986, p. 22. Loury’s article contains many
further details and a rich interpretation.
40. Rainwater and Yancey, Moynihan Report, pp. 247-248, 256.
41. William Ryan, “Savage Discovery: The Moynihan Report,” Nation,
November 22, 1965, pp. 380—384. Quotes drawn from an abridged
reprint in Rainwater and Yancey, Moynihan Report, pp. 458, 464.
42. Ibid., pp. 259-260.
43. Daniel Patrick Moynihan, Family and Nation: The Godkin Lectures,
Harvard University (San Diego: Harcourt Brace Jovanovich, 1986), p. 36.
44. Hacker, Two Nations, p. 68.

466
45. Glenn C. Loury, “The Family as Context for Delinquency Prevention:
Demographic Trends and Political Realities,” in From Children to
Citizens, vol. 3, ed. James Q. Wilson and Glenn C. Loury (New York:
Springer-Verlag, 1985) 3-26.
46 Jim Sleeper, The Closest of Strangers: Liberalism and the Politics of
Race 272 New York (New York: W. W. Norton, 1990), pp. 253—254.
47. Ellen Goodman, “And He Serves to Free Long-Buried Feelings,” Los
Angeles Times, January 18, 1985, pt. 2, p. 5.
48. Hacker, Two Nations, p. 192.
49. Goodman, “And He Serves to Free Long-Buried Feelings.”
50. Ellen Goodman, “Polite Silence All Around While the Monsters
Prowl,” International Herald Tribune, December 13, 1991, p. 7.
51. Morton Hunt, Profiles of Social Research: The Scientific Study of
Human Interactions (New York: Sage, 1985), p. 84—92. For Coleman’s
own account of the episode, see his remarks in Footnotes, 17 (January
1989): 4—5.
52. Thomas B. Rosenstiel, “Paper’s Editorial Sparks Racial Uproar in
Philadelphia,” Los Angeles Times, December 20, 1990, p. A32.
53. See Carter, Reflections, Chaps. 5—8; and Glenn C. Loury, “The
Problem of Ideology and Political Discourse among Afro-Americans”
(unpublished manuscript chapter, Harvard University, 1986).
54. As quoted by Carter, Reflections, p. 108.

467
55. Alphonso Pinkney, The Myth of Black Progress (New York: Cambridge
University Press, 1984), pp. 14—15.
56. Carter, Reflections, pp. 111- 112
57. Sleeper, Closest of Strangers, especially pp. 80—85.
58. Linda S. Lichter, “Who Speaks for Black America?” Public Opinion
(August/September 1985), pp. 41— 44.
59 All these points are developed with respect to Jesse Jackson’s
presidential candidacy by Adolph L. Reed, Jr., The Jesse Jackson
Phenomenon: The Crisis of Purpose in Afro—American Politics (New
Haven: Yale University Press, 1986).

468
‫الفصل العارش‬
1. For an overview of Leibniz’s work, see Bertrand Russell, A History of
Western Philosophy (New York: Simon and Schuster, 1945), pp.
581—596.
2. The most influential modern defense of the fixed-preference
assumption is George J. Stigler and Gary Becker, “De Gustibus Non
Est Disputandum,” American Economic Review, 67 (March 1977):
76-90.
3. The inspiration for this distinction comes from Viktor Vanberg and
James M. Buchanan, “Interests and Theories in Constitutional
Choice,” Journal of Theoretical Politics, 1 (January 1989): 49—62.
Diverse other scholars have recognized the plasticity of human
knowledge and preferences. See, for instance, Norbert Elias, Power
and Civility, trans. Edmund Jephcott (New York: Pantheon, 1982;
orig. German ed., 1939); Edward Shils, Tradition (Chicago:
University of Chicago Press, 1981); S. Ryan Johansson, “The
Computer Paradigm and the Role of Cultural Information in Social
Systems,” Historical Methods, 21 (Fall 1988): 172-188; Randall
Bartlett, Economics and Power: An Inquiry into Human Relations
and Markets (Cambridge: Cambridge University Press, 1989),

469
chap.9; and James S. Coleman, Foundations of Social Theory
(Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1990), especially
chaps. 10-12.
4. Herbert A. Simon, Reason in Human Affairs (Stanford: Stanford
University Press, 1983).
5. The seminal papers on heuristics may be found in Daniel Kahneman,
Paul Slovic, and Amos Tversky, eds., Judgment under Uncertainty:
Heuristics and Biases (Cambridge: Cambridge University Press,
1982; chaps. orig. pub. 1971—1982). An overview is provided by
Richard Nisbett and Lee Ross, Human Inference: Strategies and
Shortcomings of Social Judgment (Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-
Hall, 1980). Anthony Pratkanis and Elliot Aronson observe that
heuristics are most likely to be used under one or more of the
following conditions: we do not have time to think carefully about an
issue; we are too overloaded with information to process it fully; the
issues at stake are unimportant; we have little other information on
which to base a decision; and a given heuristic comes quickly to
mind. See their Age of Propaganda: The Everyday Use and Abuse of
Persuasion (New York: W. H. Freeman, 1991), p. 121.

470
6. Two outstanding studies are John H. Holland, Keith J. Holyoak,
Richard E. Nisbett, and Paul R. Thagard, Induction: Processes of
Inference, Learning, and Discovery (Cambridge, Mass.: MIT Press,
1986); and Howard Margolis, Patterns, Thinking, and Cognition: A
Theory of judgment (Chicago: University of Chicago Press, 1987).
For studies concerned specifically with models pertaining to
political issues, see Richard R. Lau and David O. Sears, eds., Political
Cognition: The 19th Annual Carnegie Symposium on Cognition
(Hillsdale, N. J.: Lawrence Erlbaum, 1986).
7. Nisbett and Ross, Human Inference, p. 245. See also George
Mandler, Mind and Emotion (New York: John Wiley, 1975).
8. John Zaller and Stanley Feldman, “A Simple Theory of the Survey
Response: Answering Questions versus Revealing Preferences,”
American Journal of Political Science, 36 (August 1992): 579—
616.
9. Daniel Kahneman and Amos Tversky, “Choices, Values, and Frames,”
American Psychologist, 39 (April 1984): 341—350.
10. Alexis de Tocqueville, Democracy in America, vol. 2, ed.
Henry Reeve, Francis Bowen, and Phillips Bradley (New York:
Alfred A. Knopf 1989; orig. French ed., 1835), p. 8.

471
11. Albert Bandura, Social Learning Theory (Englewood Cliffs,
N.J.: Prentice-Hall, 1977).
12. This point is developed at length by Gordon Tullock, Toward a.
Mathematics of Politics (Ann Arbor: University of Michigan Press,
1967), chaps. 7-8; and Hannah Arendt, “Lying in Politics,” in her,
Crises of the Republic (New York: Harcourt Brace Jovanovich,
1972), pp. 1—47;
13. Niccolò Machiavelli, The Prince, trans. and ed. Thomas G.
Bergin (Northbrook, 111.: AHM Publishing, 1947; orig. Italian ed.,
1532), chap. 18. .
14. I have drawn here on Russell, History of Western Philosophy,
p. 510.
15. The more things change, the more they stay the same.
16. The thesis that long-standing patterns of thought regulate the
dissemination of ideas is developed by Albert O. Hirschman, The
Rhetoric of Reaction: Perversity, Futility, Jeopardy (Cambridge,
Mass.: Harvard University Press, 1991).
17. Plato, The Republic, trans. Francis M. Cornford (New York:
Oxford University Press, 1945; first Greek ed., 4th c. B.C.E.), chap.-
10. See also Sissela Bok, Lying: Moral Choice in Public and Private

472
Life (New York: Pantheon, 1978), chap. 12; and Kaushik Basu, “Bad
Advice,” Economic and Political Weekly, March 7—14, 1992, pp.
525—530.
18. For an overview of contemporary censorship, see Kevin Boyle,
ed., Article Nineteen: Information, Freedom, and Censorship (New
York: Times Books, 1988).
19. The proposition was developed by Walter Lippmann, Public
Opinion (New York: Harcourt, Brace and Company, 1922). Later
variants include Joseph A. Schumpeter, Capitalism, Socialism, and
Democracy, 3rd ed. (New York: Harper 86 Row, 1942), chaps. 20—
23; and Anthony Downs, An Economic Theory of Democracy (New
York: Harper 86 Row, 1957), chaps. 11-13.For a survey of the
pertinent research, see Donald R. Kinder and David O. Sears,
“Public Opinion and Political Action,” in The Handbook of Social
Psychology, 3rd ed., vol. 2, ed. Gardner Lindzey and Elliot Aronson
(New York: Random House, 1985), pp. 659—741.
20. W. Russell Neuman, The Paradox of Mass Politics: Knowledge
and Opinion in the American Electorate (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1986), p. 15.
21. Ibid., pp. 14—22.

473
22. “The American Public’s Knowledge of the U.S. Constitution: A
National Survey of Public Awareness and Personal Opinion” (San
Francisco: Hearst Corporation, n.d.), p. 13.
23. This argument is developed by Neuman, Paradox of Mass
Politics.
24. The underlying normative principle is developed by Harold H.
Kelley, “Attribution Theory in Social Psychology,” in Nebraska
Symposium on Motivation, ed. David Levine (Lincoln: University of
Nebraska Press, 1967), pp. 192—238.
25. The terminology comes from Coleman, Foundations.
26. The term “social proof” comes from Robert B. Cialdini,
Influence: The New Psychology of Modern Persuasion (New York:
Quill, 1984), Chap. 4.
27. James Madison, “The Federalist no. 49” {1788), in The
Federalist, ed. Jacob E. Cooke (Middletown, Conn.: Wesleyan
University Press, 1961), p.340.
28. Bernard Lewis, History Remembered, Recovered, Invented
(Princeton: Princeton University Press, 1975); and David
Lowenthal, The Past Is a Foreign Country (Cambridge: Cambridge
University Press, 1985).

474
29. Joseph Schacht, The Origins of Muhammadan Jurisprudence,
3rd ed. (London: Oxford University Press, 1959). Pseudoepigraphy
has also been a common practice in other religions. For references,
see the sources cited in the preceding note.
30. As quoted by Elisabeth Noelle-Neumann, The Spiral of
Silence: Public Opinion—Our Social Skin (Chicago: University of
Chicago Press, 1984; orig. German ed., 1980), p. 66.
31. For insights into the scholarly uses of consensual verification
techniques, see Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific
Revolutions, 2nd ed. (Chicago: University of Chicago Press, 1970);
and Thomas Sowell, Knowledge and Decisions (New York: Basic
Books, 1980).
32. Pratkanis and Aronson, Age of Propaganda, pp. 134—139.
33. David Hackett Fischer, Historians’ Fallacies: Toward a Logic of
Historical Thought (London: Routledge & Kegan Paul, 1971), p. 302.
34. Amos Tversky and Daniel Kahneman, “Availability: A
Heuristic for Judging Frequency and Probability,” in Judgment
under Uncertainty, ed. Kahneman, Slovic, and Tversky, pp. 163—
178. See also Shelley E. Taylor, “The Availability Bias in Social

475
Perception and Interaction,” in Judgment under Uncertainty, ed.
Kahneman, Slovic, and Tversky, pp.190—200.
35. Everett M. Rogers and James W. Dearing, “Agenda-Setting
Research: Where Has It Been, Where Is It Going?” in Communication
Year' book 11, ed. James A. Anderson (Beverly Hills, Calif.: Sage
Publications, 1988), pp.555-594.
36. Lynn Hasher, David Goldstein, and Thomas Toppino,
“Frequency and the Conference of Referential Validity,” Journal of
Verbal Learning and Verbal Behavior, 16 (February 1977): 107—
112.
37. Marian Schwartz, “Repetition and Rated Truth Value of
Statements,” American journal of Psychology, 95 (Fall 1982):
393—407.
38. This illustration bears the influence of Erich Fromm, Escape
from Freedom (New York: Avon Books, 1969; orig. ed., 1941), pp.
208—230.
39. Joseph Harriss, The Tallest Tower: Eiffel and the Belle Époque
(Boston: Houghton Mifflin, 1975), pp. 19—23.
40. George Bishop, “Manipulation and Control of People’s
Responses to Public Opinion Polls: An Orwellian Experiment in

476
1984,” in The Orwellian Moment: Hindsight and Foresight in the
Post-1984 World, ed. Robert L. Savage, James Combs, and Dan
Nimmo (Fayetteville: University of Arkansas Press, 1989), pp.
119—129.
41. J. St. B. T. Evans and P. C. Wason, “Rationalization in a
Reasoning Task,” British journal of Psychology, 67 (November
1976): 479-486. See also P. N. Johnson-Laird and P. C. Wason, “A
Theoretical Analysis of Insight into a Reasoning Task,” in their
Thinking: Readings in Cognitive Science (Cambridge: Cambridge
University Press, 1977), pp. 143-157; and Margolis, Patterns,
Thinking, and Cognition, especially chap. 1.
42. This point is developed by Noelle-Neumann, Spiral of Silence,
chap. 23.
43. Daniel Lerner, The Passing of Traditional Society: Modernizing
the Middle East (New York: Free Press, 1958).
44. Ronald Heiner, “The Origin of Predictable Behavior,”
American Economic Review, 73 (September 1983): 560—595.
45. Neuman, Paradox of Mass Politics, pp. 61—64;
46. Nisbett and Ross, Human Inference, chap. 8.

477
47. K. R. L. Hall, “Perceiving and Naming a Series of Figures,”
Quarterly Journal of Experimental Psychology, 2 (November 1950):
153—162;
48. Charles G. Lord, Lee Ross, and Mark R. Lepper, “Biased
Assimilation and Attitude Polarization: The Effects of Prior Theories
on Subsequently Considered Evidence,” Journal of Personality and
Social Psychology, 37 (November 1979): 2098—2109.
49. Much evidence as to the perception of spurious patterns is
offered by Thomas Gilovich, How We Know What Isn’t So: The
Fallibility of Human Reason in Everyday Life (New York: Free Press,
1991).
50. David 0. Sears, Richard R. Lau, Tom R. Tyler, and Harris M.
Allen, Jr,“Self-Interest vs. Symbolic Politics in Policy Attitudes and
Presidential Voting,” American Political Science Review, 74
(September 1980): 670-684; and Lau, Thad A. Brown, and Sears,
“Self-Interest and Civilians’ Attitudes toward the Vietnam War,”
Public Opinion Quarterly, 42 (Winter 1978): 464—483.
51. Neuman, Paradox of Mass Politics, p. 69.

478
52. Joseph P. Kalt and Mark A. Zupan, “Capture and Ideology in
the Economic Theory of Politics,” American Economic Review, 74
(June 1984): 279—300.
53. James C. Scott, Domination and the Arts of Resistance: Hidden
Transcripts (New Haven: Yale University Press, 1990).The quote is
from p. 110 (emphasis in original).
54. Sharon S. Brehm and Jack W. Brehm, Psychological Reactance:
A Theory of Freedom and Control (New York: Academic Press,
1981).

‫الفصل الحادي عرش‬


1. Mohammed Arkoun, “Emergences et Problémes dans le Monde
Musulman Contemporain (1960—1985),” Islamoclaristiana, 12
(1986): 158–159.
2. For recent examples, see Fazlur Rahman, Islam and Modernity:
Transformation of an Intellectual Tradition (Chicago: University of
Chicago Press, 1982); and William Montgomery Watt, Islamic
Fundamentalism and Modernity (London: Routledge, 1988).
3. Edward E. Jones and Richard E. Nisbett, “The Actor and the '0b–'
server: Divergent Perceptions of the Causes of Behavior,” in
Attribution: Perceiving the Causes of Behavior, ed. Jones et al.

479
(Morristown, N.: General Learning Press, 1972), pp. 79–94. For a
survey of related research, see Edward E. Jones, “How Do People
Perceive the Causes of Behavior?” American Scientist, 64 (May–
June 1976): 300–305.
4. Richard Nisbett and Lee Ross, Human Inference: Strategiesand
Shortcomings of Social judgment (Englewood Cliffs, N.J.: Prentice–
Hall, 1980}, chap. 9.
5. For some complementary insights, see Daniel B. Klein, “If
Government Is So Villainous, How Come Government Officials Don’t
Seem Like Villains,” Economics and Philosophy, 10 (April 1994):
91–406.
6. Leon Festinger, A Theory of Cognitive Dissonance (Stanford:
Stanford University Press,1957). For extensions of Festinger’s
theory, see George A. Akerlof and William T. Dickens, “The
Economic Conseé quences of Cognitive Dissonance,” American
EconOmic Review, 72 (June 1982): 307–319; Ekkehart Schlicht,
“Cognitive Dissonance 'in Economics,” Gesellschaft für
Wirtschafts– und Sozialwissenschaften, 141 (1984): 61–81; and
Matthew Rabin, “Cognitive Dissonance and Social Change,” journal
of Economic Behavior and Organization, 23 (March 1994): 177–
194.

480
7. Festinger, Theory of Cognitive Dissonance, chaps. 4–5.
8. Ibid., chaps. 6–7.
9. Michael Polanyi, The Tacit Dimension (Gloucester, Mass.: Peter
Smith, 1983; orig. ed., 1966), p. 61.
10. Bernard Cohen, The Press and Foreign Policy (Princeton:
Princeton University Press, 1963); Maxwell E. McCombs and
Donald” L. Shaw", “The Agenda-Setting Function of the Media,”
Public Opinion Quarterly”, 36 (Summer 1972): 176—187;and G.
Ray Funkhouser, “The Issues of the Sixties:An Exploratory Study in
the Dynamics of Public Opinion,” Public Opinion Quarterly, 37
(Spring 1973): 62–75.
11. John H. Holland, Keith }. Holyoak, Richard E. Nisbett, and
Paul Thagard, Induction: Processes of Inference, Learning, and
Discovery. Cambridge, Mass; MIT Press, 1936.
12. Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, 2nd ed.
(Chicago: University of Chicago Press, 1970).
13. Howard Margolis, Patterns, Thinking, and COgnition: A
Theory of judgment (Chicago: University of Chicago Press, 1987),
chaps. 11—13.
14. Except, perhaps, for a threshold at an extreme.

481
15. With or without any memory loss, public opinion remains at
100. The difference between the two figures is 0, which corresponds
to 0 percent of the range of public opinion.
16. Walter Bagehot, Physics and Politics (Boston: Beacon
Press,1956; orig. ed. 1884), p. 26.
17. W. Brian Arthur, “Self-Reinforcing Mechanisms in
Economics,” in The Economy as an Evolving Complex System,-ed.
Philip W. Anderson, Kenneth J. Arrow, and David Pines (Redwood
City, Calif.: Addison-Wesley,1988), pp.9-31.
18. Sushil Bikchandani, David Hirshleifer, and Ivo Welsh,“A
Theory of Fads, Fashion, Custom, and Cultural Change as
Informational Cascades,” journal of Political Economy, 100
(October 1992): 992–1026.
19. George A. Akerlof, “A Theory of Social Custom, of Which
Un— employment May Be One Consequence,” Quarterly journal of
Economics, 94 (June 1980): 749-775.

‫الفصل الثاين عرش‬

1 . K. S. Mathur, “Hindu Values of Life: Karma and Dharma” (1964), in


Religion in India, ed. T . N . Madan (Delhi: Oxford University Press, 1991),
pp. 63—77.

482
2. R. S. Khare, The Untouchable as Himself: Ideology, Identity, and
Pragmatism among the Lucknow Chamars (Cambridge: Cambridge
University Press, 1984).

3. Joan P. Mencher, “The Caste System Upside Down, or the Not- So—
Mysterious East,” Current Anthropology, 15 (December 1974): 469—
493.

4. Mark Juergensmeyer, “What if the Untouchables Don’t Believe in


Untouchability?” Bulletin of Concerned Asian Scholars, 12 (January—
March 1980): 24.

5. M. N. Srinivas, The Remembered Village (Los Angeles: University of


California Press, 1976), p. 182.

6. Khare, Untouchable as Himself, pp. 7—8, passim.

7. Juergensmeyer, “What if the Untouchables,” p. 25.

8. Michael Moffatt, An Untouchable Cbmmum'ty in South India: Structure


and Consensus (Princeton: Princeton University Press, 1979); and Hazari,
Untouchable: The Autobiography of an Indian Outcaste (London: Pall Mall
Press, 1969), especially chaps. 1, 5; and James M ; Freeman, Untouchable:
An Indian Life History (Stanford: Stanford University Press, 1979),
passim. For an enlightening discussion and additional references, see
Barrington Moore, Jr., Injustice: The Social Bases of Obedience and Revolt
(White Plains, N.Y.: M . E. Sharpe, 1978), pp.55—64.

483
9. Quoted by L. S. S. O’Malley, Indian Caste Customs (London: Cambridge
University Press, 1932), p. 138.

'10. Hazari, Untouchable, p. 11.

11. Max Weber, The Religion of India: The Sociology of Hinduism and
Buddhism, trans. and ed. Hans H . Gerth and Don Martindale (NewYork:
Free Press, 1958; orig. German ed., 1916—17), especially pp. 117- 123.

12. Hazari, Untouchable, p. 65.

13. G. S. Ghurye, Caste, Class, and Occupation, 4th ed. (Bombay: Popular
Book Depot, 1961), chap. 9, especially pp. 218—221.

14 . J . H . Hutton, Caste in India: Its Naiure, Function, and Origins, 4th


ed. (Bombay: Oxford University Press, 1963), p. 47.

15 . For an account of early European research on caste, see Bernard S.


Cohn, “Notes on the History of the Study of Indian Society and Culture,”
in Structure and Change in Indian Society, ed. Milton Singer and Bernard
5. Cohn (New York: Wenner—Gren Foundation for Anthropological
Research, 1968), pp. 3-28. It has been argued that European scholarship
standardized Hindu ideology and elevated the significance of such
concepts as caste and reincarnation. By this account, elaborated by Ashis
Nandy, The Intimate Enemy: Loss and Recovery of Self under Colonialism
(Delhi: Oxford University Press, 1983), the British helped construct the
caste-centered worldview and also promoted the solidification of

484
historically fluid caste distinctions. These claims are implausible. First of
all, few of the Indians whom European researchers identified as sharing
the Hindu worldview had prior contact with the British. Second, a
disproportionate share of those who had some prior contact, like the
British-educated elites, became leading anticaste activists. Third, if
Indians were easily brainwashed by the British, it is highly unlikely that
until then their minds were immune to the pressures of their own culture.
Finally, a cadre of rulers cannot reshape a nation’s thought patterns at will.
Anticaste reformists who have sought to emancipate the untouchablesfrom
the grip of “brahman ideology” know this_ through experience. As noted
by Khare, Untouchable as Himself, especially chap. 7, their campaigns
against the caste ethic have encountered resistance from the very peopie
they wanted to help.

16. Vivekanand Jha, “Stages in the History of Untouchables,” Indian


Historical Review, 2 (July 1975): 14—31.
17. Gary 8. Becker, The Economics of Discrimination, 2nd ed.- (Chicago:
University of Chicago Press, 1971).

18. Lquis Dumont, Homo Hierarchicus: The Caste System and Its
Implications, rev. ed., trans. Mark Sainsbury, Dumont, and Basia Gulati
(Chicago: University of Chicago Press, 1980, "orig. French ed., 1966),
especially pp. 8—11.

485
19. A notable exception in the context of caste is Thomas A. Zwicker,
“Morality and Etiquette in the Reproduction of Hierarchical Caste
Relations in South Asia,” M.A. thesis, University of Pennsylvania, 1984 .

20. For two variants of the Marxian thesis, see Narmadeshwar Prasad, The
Myth of the Caste System (Patna: Samjna Prakashan, 1957); and Gerald
D. Berreman, “The Brahmanical View of Caste: Louis Dumont’s Homo
Hierarchicus,” Contributions to Indian Sociology, new ser. 5 (December
1971): 16—23.

21. Marx’s pertinent passages are presented and interpretedby Jon Elster,
Making Sense of Marx (Cambridge: Cambridge University Press, 1985 ),
chap. 8. Elster developsrthis theory of ideology in his Sour Grapes: Studies
in the Subversion of Rationality (Cambridge: Cambridge University Press,
1983), chaps. 3~4, drawing on Paul Veyne, Le Pain et le Cirque (Paris:
Seuil, 1976}.

22. For a short history of the anticaste movement, see Eleanor Zelliot,
“Untouchability,” in Encyclopedia of Asian History, v01. 4 (New York:
Charles Scribner’s Sons, 1988), 169—171. Detailed accounts are offered
by M . N. Srinivas, Social Change in Modern India (Berkeley: University
of California Press, 1971); and Marc Galanter, Competing Equalities:
Law and the Backward Classes in India (Berkeley: University of
California Press, 1984).

486
‫الفصل الثالث عرش‬
1. Hannah Arendt, The Origins of Totalitarianism, 2nd ed. (New
York: World Publishing, 1958), chaps. 11–13; and George Orwell, 1984
(New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1961; orig. ed., 1949).
2. Alexander Solzhenitsyn, “As Breathing and Consciousness
Return,” in Solzhenitsyn et al., From Under the Rubble, trans. A. M. Brock
et al. (Boston: Little, Brown, 1975; orig. Russian ed., 1974), p. 4.
3. Ibid., p. 15 (emphasis in original).
4. Alexander Solzhenitsyn, Rebuilding Russia: Reflections and
Tentative Proposals, trans. Alexis Klimoff (New York: Farrar, Straus and
Giroux, 1991; orig. Russian ed., 1990), p. 34.
5. V. I. Lenin, State and Revolution (New York: International
Publishers, 1932; orig. Russian ed., 1917), especially sect. 1.4 and chap.
5.
6. Karl Marx, A Contribution to the Critique of Political Economy,
vol. 29 of his and Frederick Engels’s Collected Works (New York:
International Publishers, 1987; orig. German ed., 1859), p. 263.
7. Geoffrey A. Hosking, “Memory in a Totalitarian Society: The Case
of the Soviet Union,” in Memory: History, Culture, and the Mind, ed.
Thomas Butler (Oxford: Basil Blackwell, 1989), p. 115. The rest of the
essay contains concrete examples of the rewriting of history.
8. Milan Kundera, A Book on Laughter and Forgetting, trans.
Michael Henry Heim (New York: Penguin Books, 1981), p. 3. As quoted by

487
Jeffrey C. Goldfarb, Beyond Glasnost: The Post-Totalitarian Mind
(Chicago: University of Chicago Press, 1989), pp. 109-110.
9. Elemér Hankiss, “The ‘Second Society’: Is There an Alternative
Social Model Emerging in Contemporary Hungary?” Social Research, 55
(Spring/Summer 1988), p. 28.
10. Daniil Granin, as quoted by David Wedgwood Benn, Persuasion
and Soviet Politics (Oxford: Basil Blackwell, 1989), p. 195.
11. Miroslav Kusý, “Chartism and ‘Real Socialism,’” in Václav Havel
et al., The Power of the Powerless: Citizens against the State in Central
Eastern Europe, ed. John Keane, trans. Paul Wilson: (Armonk, N.Y.: M. E.
Sharpe, 1985; orig. Czech ed., 1979), pp. 158–159.
12. Robert C. Tucker, Political Culture and Leadership in Soviet
Russia (New York: W. W. Norton, 1987), pp. 142–143.
13. Piotr Wierzbicki, “A Treatise on Ticks” (orig. Polish ed., 1979),
in Poland: Genesis of a Revolution, ed. Abraham Brumberg (New York;
Random House, 1983), pp. 206–207.
14. For evidence from the Soviet Union, see James W. Riordan, “The
Revolution from Below: The Role of Letters to the Editor under
Perestroika,” Coexistence, 27 (December'1990): 269–272.
15. This point is developed by Giuseppe di Palma, “Legitimation
from the Top to Civil Society: Politico-Cultural Change in Eastern
Europe,” World Politics, 44 (October 1991), especially pp. 55–63.

488
16. Zhores A. Medvedev, The Rise and Fall of T. D. Lysenko, trans. I.
Michael Lerner (New York: Columbia University Press, 1969), chaps; 2–
3,10.
17. C. Bane and Alan Dundes, You Call This Living?: A Collection of
East European Political jokes (Athens: University of Georgia Press; 1990),
pp. 65, 86.
18. Igor Kon, “The Psychology of Social Inertia” (orig. Russian ed.,
1988), Social Sciences, 20 (1989): 60–74.Quotation at p. 63.
19. Gennadii Batyagin, TASS, June 28, 1989. Quoted by Elizabeth
Teague, “Perestroika and the Soviet Worker,” Government and Opposition,
25 (Spring 1990): 192.
20. Ibid., pp. 191–211.
21. Personal interview, Leipzig, December 6, 1991.
22. Jiří Otava, “Public Opinion Research in Czechoslovakia,” Social
Research, 55 (Spring–Summer1988): 249. Every issue of the
Czechoslovak government’s official bulletin on public opinion stated: “We
remind all researchers that this bulletin is not meant for the public, which
means not even for your friends and acquaintances, but serves exclusively
as internal material for poll-takers and those who collaborate with us”
(p.251, n. 2). For similar evidence from the Soviet Union, see David
Wedgwood Benn, Persuasion and Soviet Politics (Oxford: Basil Blackwell,
1989), especially chap. 4.

489
23. Walter Friedrich and Hartmut Griese, Jugend und
Jugendforschung in der DDR: Gesellschaftspolitiscbe Situationen,
Sozialisation und Mentalitäitsentwicklung in den achtziger Jahren
(Opladen: Leske & Budrich, 1991), pp. 139, 145.
‫ ما يدعو إىل الحذر‬،‫ اعتمدت تلك االستطالعات عىل مقابالت أُجريت وج ًها لوجه‬.24
‫ ولكن من‬.‫ ألن املنهجيات املتبعة مل تتغري‬،‫ فاالتجاهات ذات معنى‬.‫من تفسري األرقام املطلقة‬
.‫املحتمل أن تلك النتائج تعكس انحسار الخوف‬
25. Figures compiled in 1991 by Gallup-Hungary, Budapest, from
Jel kép, the limited-circulation magazine of the Hungarian Institute of
Public Opinion.
26. Classified survey of September 9, 1983. From the archives of the
Public Opinion Research Institute, Prague.
27. Benn, Persuasion and Soviet Politics, p. 142.
.‫ ال ميكن استبعاد تزييف التفضيل كعامل مساهم يف تلك النتائج‬.28
29. Ibid., pp. 153–154.
30. Henry O. Hart, “The Tables Turned: If East Europeans Could
Vote,” Public Opinion, 6 (October/November 1983): 53–57. The surveys
reported by Hart cover Czechoslovakia, Hungary, Poland, Romania, and
Bulgaria.
31. Marek Ziółkowski, “Individuals and the Social System: Values,
Perceptions, and Behavioral Strategies,” Social Research, 55
(Spring/Summer 1988): 139–177. The reported figures are drawn from
pp. 153–134.

490
32. Lészlé Bruszt, “ ‘Without Us but for Us’? Political Orientation in
Hungary in the Period of Late Paternalism,” Social Research, 55
(Spring/Summer 1988): 43–76. The figures are from pp. 70, 72, and 75.
33. Elisabeth Noelle-Neumann, “The German Revolution: The
Historic Experiment of the Division and Unification of a Nation as
Reflected in Survey Findings,” International journal of Public Opinion
Research, 3 (Autumn 1991): 248, table 4. The East German survey was
conducted in February and March 1990, the West German survey in
December 1989.
34. Ibid., p. 258, table 9. The East German survey was conducted in
March 1990; the West German survey, two months later.
35. Association for Independent Social Analysis, Czechoslovakia –
January 1990 (Survey Report), March 1990, mimeo, table 4.
36. Democracy, Economic Reform, and Western Assistance: Data
Tables (New York: Freedom House, 1991), table 154.
37. Barometer of Privatization, Szonda Ipsos, Budapest, October
1991, pp. 27–31.
38. Hans Aage, “Popular Attitudes and Perestroika,” Soviet Studies,
43 (January 1991), especially pp. 8, 10. With respect to the Soviet Union,
at least one survey finds attitudes toward free markets to be only mildly
less permissive than in the United States. See Robert J. Shiller, Maxim
Boycko, and Vladimir Korobov, “Popular Attitudes toward Free Markets:

491
The Soviet Union and the United States Compared,” American Economic
Review, 81 (June 1991): 385–400.
39. Vladimir Tismaneanu, The Crisis of Marxist Ideology in Eastern
Europe: The Poverty of Utopia (London: Routledge, 1988), especially
chap. 4; and Leszek Kołakowski, Main Currents of Marxism: Its Origin;
Growth, and Dissolution, vol. 3, trans. P. S. Falla (Oxford: Clarendon Press,
1978), especially chap. 13.
40. Vladimir Tismaneanu, Reinventing Politics: Eastern Europe
from Stalin to Havel (New York: Free Press, 1992), pp. 67–80.
41. Ibid.,pp.90–106.
42. Adam Michnik, Letters from Prison and Other Essays, trans.
Maya Latynski (Berkeley: University of California Press, 1985; orig.
Polish eds., 1973–1984), especially pp. 133–198.
43. Tismaneanu, Reinventing Politics, pp. 175–191.
44. The unrealistic stands of communist revisionism are identified
by John Clark and Aaron Wildavsky, The Moral Collapse of Communism:
Poland as a Cautionary Tale (San Francisco: ICS Press, 1990), especially
chap. 3.
45. János Mátyás Kovács, “From Reformation to Transformation:
Limits to Liberalism in Hungarian Economic Thought,” East European
Politics and Societies, 5 (Winter-1991): 41–72. Quotation at p. 47.

492
46. Václav Klaus and Tomáš Ježek, “Social Criticism, False
Liberalism, and Recent Changes in Czechoslovakia,” East European
Politics and Societies, 5 (Winter 1991):26–40. .
47. János Kornai, “The Hungarian Reform Process: Visions, Hopes,
and Reality,” Journal of Economic Literature, 24 (December 1986):
1728–1730.
48. Andrei D. Sakharov, Progress, Coexistence, and Intellectual
Freedom, trans. New York Times (New York: W. W. Norton, 1968), pp. 72,
78.
49. Hankiss, “The ‘Second Society’.” See also Di Palma,
“Legitimation from the Top,” pp. 64–67.
50. Vladimir Shlapentokh, Soviet Public Opinion and Ideology:
Mythology and Pragmatismin Interaction (New York: Praeger, 1986); and
Shlapentokh, Public and Private Life of the Soviet People: Changing
Values in Post-Stalin Russia (New York: Oxford University Press, 1989).
51. For an analysis of Western writings sympathetic to communism,
see Paul Hollander, Political Pilgrims: Travels of Western Intellectuals to
the Soviet Union, China, and Cuba, 1928-1978 (New York: Oxford
University Press, 1981).
52. Jan Winiecki, Resistance to Change in the Soviet Economic
System: A Property Rights Approach (London: Routledge, 1991),
especially chaps. 1 and 2.

493
53. János Kornai, “Individual Freedom and Reform of the Socialist
Economy,” European Economic Review, 32 (March 1988):259–262.
‫الفصل الرابع عرش‬
1. From a report of the Committee on Admissions and Enrollment,
Academic Senate, University of California, Freshman Admissions at
Berkeley: A Policy for the 1990s and Beyond. As recorded by Andrew
Hacker, “Affirmative Action: The New Look,” New York Review of Books,
October 12, 1989, table A.
2. John Bunzel, “Affirmative Action: How It ‘Works’ at UC
Berkeley,” Public Interest, no. 93 (Fall. 1988): 120.
3. Colleges rarely release ethnically disaggregated figures on the
qualifications of their enrolled students, so overall figures are
unavailable. “What is available is information on the averages across ail
SAT takers, including ones who did not enter college. In 1991–92, the
white averages on the verbal and mathematics sections were 442 and 491,
and the corresponding black averages were 352 and 385. College
Entrance Examination Board, National Report on College-Bound Seniors
(Princeton: CEEB, 1992).
4. Terry Eastland and William J. Bennett, Counting by Race:
Equality from the Founding Fathers to Bakke and Weber (New York: Basic
Books, 1979), pp. 8–9.
5. James Crouse and Dale Trusheim, The Case against the SAT
(Chicago: University of Chicago Press, 1988), especially chaps. 5, 8.

494
6. See statements recorded by Glynn Custred, “Onward to
Adequacy,” Academic Questions, 3 (Summer 1990): 64.
7. Affirmative Action Newsletter, Harvard University, Office of the
Assistant to the President, Fall 1989. Quoted by Dinesh D’Souza, Illiberal
Education: The Politics of Race and Sex on Campus (New York: Free
Press, 1991), p. 220.
8. Stephen R. Barnett, “Who Gets In? A Troubling Policy,” Los
Angeles Times, June 11, 1992, p. B13. The enrollment figures at other
University of California campuses show similar discrepancies. See the
Economist, September 17, 1994, p. 28.
9. Economist, February 16, 1991, p. 22. For many additional
examples, see Stephen L. Carter, Reflections of an Affirmative Action
Baby (New York: Basic Books, 1991), chap. 8; and D’Souza, Illiberal
Education, chap. 5. For a defense of campus speech codes, see Stanley
Fish, There’s No Such Thing as Free Speech . . . And It’s a Good Thing, Too
(New York: Oxford University Press, 1994), chap. 8.
10. Sensitivity programs are debated in Paul Berman, ed., Debating
P.C.: The Controversy over Political Correctness on College Campuses
(New York: Laurel, 1992).
11. D’Souza, Illiberal Education, pp. 215–218.
12. This theme is developed by Shelby Steele, The Content of Our
Character: A New Vision of Race in America (New York: St. Martin’s
Press, 1990).

495
13. Suffering slights will not, by itself, prevent anyone from
learning. 'Many minorities have advanced, and have even outperformed
the majority, in societies accustomed to looking down on them. See
Thomas Sowell, Ethnic America: A History (New York: Basic Books,
1981).
14. For examples see Charles J. Sykes, The Hollow Men: Politics and
Corruption in Higher Education (Washington, DC: Regnery Gateway,
1990), p. 202; and Andrew Hacker, Two Nations: Black and White,
Separate, Hostile, Unequal (New York: Charles ’ Scribner’s Sons, 1992),
p. 159.
15. Much evidence is offered by Sykes, Hollow Men.
16. Christopher Shea, “Penn Report Faults Campus Police for
Response to Students’ Taking Papers,” Chronicle of Higher Education,
August 4, 1993, p. A27; and Shea, “Penn Won’t Punish Black Students
Who Threw Away Campus Papers,” Chronicle of Higher Education,
September 22, 1993, p. A35.
17. The perceptual shift is discussed by Hacker, Two Nations, chap.
10.
18. Sources: Diversity Initiatives in Higher Education (Washington,
D.C.: American Council on Education, 1993).
19. Marcia Ascher, Ethnomathematics: A Multicultural View of
Mathematical Ideas (Pacific Grove, Calif.: Brooks/Cole, 1991). See also

496
the observations of Glenn M. Ricketts, “Multiculturalism Mobilizes,”
Academic Questions, 3 (Summer 1990): 57.
20. The logic and objectives of multiculturalism are outlined by
Henry Louis Gates, Jr, Loose Canons: Notes on the Culture Wars (New
York: Oxford University Press, 1992; orig. publ., 1985–1991). Critical
accounts include Arthur M. Schlesinger, Jr., The Disuniting of America:
Reflections on a Multicultural Society (Knoxville, Tenn.: Whittle Books,
1991); Diane Ravitch, “Multiculturalism: E Pluribus Plures,” American
Scholar, 59 (Summer 1990): 337–354; and Gary B. Nash, “The Great
Multicultural Debate,” Contention, 1 (Spring 1992): 1-28.
21. D’Souza, Illiberal Education, chap. 3.
22. As cited in ibid., p. 8.
23. William A. Henry III, “Upside Down in the Groves of Academe,”
Time, April 1, 1991, p. 66.
24. D’Souza, Illiberal Education, pp. 148–151, 194–197; David P.
Bryden, “It Ain’t What They Teach, It’s the Way They Teach It,” Public
Interest, no. 102 (Spring 1991): 44–45; and Chester E. Finn, “The
Campus: ‘An Island of Repression in a Sea of Freedom,’ ” Commentary, 88
(September 1989): 19.
25. Denise K. Magner, “When Whites Teach Black Studies:
Controversy at Iowa State Dramatizes a Sensitive Issue on College
Campuses,” Chronicle of Higher Education, December 1, 1993, p. A19.

497
26. “Delaware U. Goes PC,” Washington Times, June 14, 1991, p.
F2.
27. Allan Bloom, The Closing of the American Mind: How Higher
Education Has Failed Democracy and Impoverished the Souls of Today’s
Students (New York: Simon and Schuster, 1987), especially pp. 311, 324.
28. Richard Delgado, “The Imperial Scholar: Reflections on a
Review of Civil Rights Literature,” University of Pennsylvania Law
Review, 132 (March 1984): 561–578.
29. Ibid., p. 577.
30. Mari Matsuda, “Affirmative Action and Legal Knowledge:
Planting Seeds in Plowed-Up Ground,” Harvard Women’s Law journal, 11
(Spring 1988): 1–17. Quotations at pp. 1, 4–5.
31. Quoted by Randall L. Kennedy, “Racial Critiques of Legal
Academia,” Harvard Law Review, 102 (June 1989): 1752.
32. Nash, “The Great Multicultural Debate,” p. 17.
33. As reported by Kennedy, “Racial Critiques,” pp. 1798–1800.
34. Carter, Reflections, pp. 1–2.
35. For further examples of exceptionally insightful analyses by
outsiders, see Robert K. Merton, “Insiders and Outsiders: A Chapter in the
Sociology of Knowledge,” American Journal of Sociology, 77 (July 1972):
9– 47. Merton provides a detailed evaluation of the principle that
particular groups have monopolistic access to certain kinds of knowledge.
See also Glenn C. Loury, “Self-Censorship in Public Discourse: A Theory

498
of: ‘Political Correctness’ and Related Phenomena,” Rationality and
Society; 6 (October 1994): 428–461.
36. Kennedy, “Racial Critiques,” p. 1807.
37. James S. Coleman, “On the Self-Suppression of Academic
Freedom,” Academic Questions, 4 (Winter 1990–91): 17–22.
38. Ibid., p. 20.
39. Jason DeParle, “Talk of Government Being Out to Get Blacks
Falls on More Attentive Ears,” New York Times, October 29, 1990, p. B7.
40. John E. Chubb and Terry M. Moe, Politics, Markets, and
America's Schools (Washington, DC: Brookings Institution, 1990),
especially chap. 1.
41. David S. Crystal and Harold W. Stevenson, “Mothers’
Perceptions of Children’s Problems with Mathematics: A Cross-National
Comparison,” journal of Educational Psychology, 83 (September 1991):
372–376.
42. See, for instance, T. R. Reid, “Miyazawa: Work Ethic Flags in.
U.S.,” Washington Post, February 4, 1992, pp. A1, 11.
43. Steele, Content of Our Character, chap. 5. Quotations at pp. 78–
80, emphasis in original. For a similar thesis, see Hacker, Two Nations;
chap. 4.
44. Jim Sleeper, The Closest of Strangers: Liberalism and the
Politics of Race in New York (New York: W. W. Norton, 1990), p. 34.

499
45. For its theoretical foundations, see Mancur Olson, The Logic of
Collective Action: Public Goods and the Theory of Groups (Cambridge,
Mass.: Harvard University Press, 1965).
46. James M. Buchanan and Gordon Tullock, The Calculus of Consent:
Logical Foundations of Constitutional Democracy (Ann Arbor: University
of Michigan Press, 1962), chaps. 10–11.
‫الفصل الخامس عرش‬
1. See Timur Kuran, “Sparks and Prairie Fires: A Theory of Unanticipated
Political Revolution,” Public Choice, 61 (April 1989): 41—74.
2. Cited by James DeNardo, Power in Numbers: The Political Strategy of
Protest and Rebellion (Princeton: Princeton University Press, 1985), p.
17.
3. Karl Marx’s most influential statement on the subject is in A
Contribution to the Critique of Political Economy, ed. Maurice Dobb, trans.
S. W. Ryazanskaya (New York: International Publishers, 1970; first
German ed., 1859), pp. 20-21. Jon Elster, Making Sense of Marx
(Cambridge: Cambridge University Press, 1985), pp. 428—446, critiques
Marx’s pertinent writings.
4. For two influential statements, see James C. Davies, “Toward. A Theory
of Revolution,” American Sociological Review, 27 (February 1962): 5-19;
and Ted R. Gurr, Why Men Rebel (Princeton: Princeton
University Press, 1970).

500
5. David Snyder and Charles Tilly, “Hardship and Collective Violence in
France, 1830 to 1960,” American Sociological Review, 37 (October 1
972): 520—532; and Charles Tilly, Louise Tilly, and Richard Tilly, The
Rebellious Century: 1830—1930 (Cambridge, Mass.: Harvard University
Press, 1975). For much additional evidence against the theory of relative
deprivation, see Steven E. Finkel and James B. Rule, “Relative
Deprivation and Related Psychological Theories of Civil Violence: A
Critical Review,” in Research in Social Movements, Conflicts, and Change,
vol. 9, ed. Louis Kriesberg (Greenwich, Conn.:JAI Press, 1986), pp. 47—
69.
6. Theda Skocpol, States and Social Revolutions: A Comparative Analysis
France, Russia, and China (Cambridge: Cambridge University Press,
1979). Another influential structural theory is the “demographic/
structural theory” of Jack A. Goldstone, Revolution and Rebellion in the
Early Modern World (Berkeley: University of.California Press, 1991).
7. See also Mark I. Lichbach, The Rebel’s Dilemma (Ann Arbor: University
of Michigan Press,1995). Lichbach’s book contains a highly comprehensive
critical survey of research on political revolutions.
8. Sequence C, like A, features two stable equilibria: 10 and 90. This is
why expectations of the public opposition may influence its realization. By
contrast, A1 has a unique stable equilibrium at 90. Under A1, expectations
are practically immaterial. As long as public opposition is expected to be
below 100, it will settle at 90.

501
9. As cited in Mao Tse-Tung, “A Single Spark Can Start a Prairie Fire”
(1930) in Selected Military Writings of Mao Tse-Tung (Beijing: Foreign
Languages Press, 1972), pp. 65—76.
10. Assuming, for the sake of illustration, that the individuals all have the
same expressive needs.
11. See p. 166 for a definition of the former, p. 74 for a definition of the
latter.
12. The standard Marxist explanation is critiqued by Martin Malia,
Comprendre la Révolution Russe (Paris: Editions du Seuil, 1980), pp.
91—93.
13. See William Henry Chamberlin, The Russian Revolution, 1917-1921,
vol. 1 (New York: Macmillan, 1935), pp. 62—63; and Malia, Comprendre
la Révolution Russe, pp. 92-93.
14. Thomas Walton, “Economic Development and Revolutionary
Upheavals in Iran,” Cambridge Journal of Economics, 4 (September
1980): 271-292.
15. Baruch Fischhoff, “Hindsight ≠ Foresight: The Effect of Outcome
Knowledge on Judgment under Uncertainty,” Journal of Experimental
Psychology: Human Perception and Performance, 1 (August 1975):
288—299; and Baruch Fischhoff and Ruth Beyth, “ ‘I Knew It Would
Happen’-—Remembered Probabilities of Once Future Things,”
Organizational Behavior and Human Performance, 13 (February 1975):
1—16.

502
‫الفصل السادس عرش‬
1. Bernard Gwertzman and Michael T. Kaufman, eds., The Collapse of
Communism, by the Correspondents of “The New York Times”
(New York: Times Books, 1990), p. vii
2. For an early statement of this thesis, see Hannah Arendt, The
Origins of Totalitarianism, 2nd ed. (New York: World Publishing,
1958), pt. 3. Arendt observed that communism weakens the
interpersonal bonds rooted in family, community, religion, and
profession. This, she went on to suggest, makes individuals terribly
dependent on the state’s goodwill, thus blocking the possibility of a
mass mobilization.
3. Richard Pipes, “Gorbachev’s Russia: Breakdown or Crackdown?”
Commentary, March 1990, p. 16.
4. Jeane J. Kirkpatrick, The Withering Away of the Totalitarian State.
. . And Other Surprises (Washington, DC: AEI Press, 1990). A
decade earlier Kirkpatrick had proposed that the communist
system was incapable of self-propelled evolution. See her
“Dictatorships and Double Standards,” Commentary, November
1979, pp. 34—45.
5. Stephen R. Graubard, “Preface to the Issue ‘Eastern Europe . . .
Central Europe . . .Europe,’ ” Daedalus, 119 (Winter 1990): vi.

503
6. Ibid., p. ii.
7. John Naisbitt, Megatrends: Ten New Directions Transforming Our
Lives (New York: Warner Books, 1982).
8. Economist, November 18, 1989, p. 13.
9. See, for instance, Jack A. Goldstone, “Predicting Revolutions: Why
We Could (and Should) Have Foreseen the Revolutions of 1989-
1991 in the U.S.S.R. and Eastern Europe,” Contention, 2 (Winter
1993): 127-152; Randall Collins, “Prediction in Macrosociology:
The Case of the Soviet Collapse,” American journal of Sociology,
100 (May 1995): 1552-1593; and Susanne Lohmann, “The
Dynamics of Informational Cascades: The Monday Demonstrations
in Leipzig, East Germany, 1989-91,” World Politics, 47 (October
1994): 42-101. Lohmann’s analysis is largely consistent with the
unpredictability of revolutions. Still, on page 91 of her paper she
maintains that in 1989 East German political participation varied
“in predictable ways.”
10. Véclav Havel, “The Power of the
Powerless,” in Havel et al., The Power of the Powerless: Citizens
against the State in Central-Eastern Europe, ed. John Keane and
trans. Paul Wilson (Armonk, N.Y.: M. E. Sharpe, 1985; orig. Czech
ed., 1979), p. 42.

504
11. Ibid., pp. 87, 89, 96.
12. Vaclav Havel, “Meeting Gorbachev”
(1987), in Without Force or Lies: Voices from the Revolution of
Central Europe in 1989-90, ed. William M. Brinton and Alan
Rinzler (San Francisco: Mercury House, 1990), pp.266-267.
13. Véclav Havel, “Cards on the Table”
(1988), in Without Force or Lies, cd. Brinton and Rinzler, pp. 270-
271.
14. Sidney Tarrow, “‘Aiming at a Moving
Target’: Social Science and the Recent Rebellions in Eastern
Europe,” PS: Political Science and Politics, 24 (March 1991):12.
15. On the elections and the ensuing
reactions, see the reports of John Taglibue, New York Times, June
3-6. The events leading up to the April accord have been
chronicled and interpreted by Timothy Carton Ash, “Refolution:
The Springtime of Two Nations,” New York Review of Books, June
15, 1989, pp. 3-10. See also Elie Abel, The Shattered Bloc: Behind
the Upheaval in Eastern Europe (Boston: Houghton Mifflin, 1990),
chap. 4

505
16. East German Survey of the Institut für
Demoskopie Allensbach, February 17-March 15, 1990, Archive no.
4195 GEW.
17. In psychological experiments the I-
knew-it-would-happen fallacy worsens over time. One would
expect, therefore, the share of East Germans reporting that the
explosion came as a surprise to decrease with the passage of time.
Indeed, when asked in March 1991, a year after the first survey
and sixteen months after the fall of East German communism, “Two
years ago did you expect such a peaceful revolution,” 7 percent
answered “yes,” and 33 percent “yes, but not that fast.” The share
responding that they were totally surprised was down to 54 percent
(Allensbach Archives, Survey 5049). In March 1993, however,
when a sample was asked, “Four years ago did you expect such a
peaceful revolution,” the first two figures fell back to 4 percent and
23 percent, respectively, and the share of the totally surprised rose
to 70 percent (Allensbach Archives, Survey 5078). Interestingly, in
1991 the affirmative answers were substantially higher when the
question was asked in the form “If you think back two years from
today, did You expect that the communist regime in the previous
GDR would break down, or were you surprised by this?” Under this

506
variant of the question, 20 percent said “yes,” 47 percent “yes, but
not that fast,” and only 28 percent “I was surprised.” The
difference between the two variants is that the first asks whether
the subjects expected communism to fall peacefully, the second
merely whether they expected communism to fall. The latter
variant of the question was not included in the surveys of 1990 and
1993.
18. For a compilation of pertinent reports
from the New York Times, see Gwertzman and Kaufman, The
Collapse of Communism, pp. 153-184. Eyewitness accounts
include Timothy Garton Ash, “The German Revolution,” New York
Review of Books, December 21, 1989, pp. 14-19; and George Paul
Csicsery, “The Siege of Nógrádi Street, Budapest, 1989,” in
Without Force or Lies, ed. Brinton and Rinzler, pp. 289-302.
19. Andrei Amalrik, Will the Soviet Union
Survive until 1984? (New York: Harper & Row, 1970; orig. Russian
ed., 1969), especially pp. 36-44.
20. Vladimir Tismaneanu, “Personal Power
and Political Crisis in Romania,” Government and Opposition, 24
(Spring 1989): 193-194.

507
21. For details, see Robert C. Tucker,
Political Culture and Leadership in Soviet Russia: From Lenin to
Gorbachev (New York: Norton, 1987.), chap. 7.
22. Walter Friedrich and Hartmut Griese,
Jugend und jugendforschung in der DDR: Gesellschaflspolitische
Situationen, Sozialisation und Mentalitätentwicklung in den
achtziger Jahren (Opladen: Leske & Budrich, 1991), pp.139, 145.
23. Figures compiled in 1991 by Gallup-
Hungary from Jel kép.
24. Correspondingly, the percentage
believing that the trend favored the capitalist societies rose from
18 percent to 42 percent. Surveys of September 9, 1983, and June
14, 1989, from the archives of the Public Opinion Research
Institute, Prague.
25. Economist, July 18, 1987, p. 45.
26. Z [Martin Malia], “To the Stalin
Mausoleum,” Daedalus, 119 (Winter 1990): 332.
27. Recorded by Daniel Bell, “As We Go
into the Nineties: Some Outlines of the Twenty-First Century,”
Dissent, 37 (Spring 1990): 173.
28. Economist, July 18, 1987, p. 45.

508
29. Timothy Garton Ash, “Germany
Unbound,” New York Review of Books, November 22, 1990, p. 12.
30. In his own retrospective account,
Gorbachev writes: “We did not realize immediately, of course, how
far we had to go and what profound changes were needed.” See
Mikhail Gorbachev, The August Coup (New York: HarperCollins,
1991), p. 104.
31. See Vladimir Tismaneanu, Reinventing
Politics: Eastern Europe from Stalin to Havel (New York: Free
Press, 1992), pp. 179-191.
32. Albert 0. Hirschman, “Exit, Voice, and
the Fate of the German Democratic Republic: An Essay in
Conceptual History,” World Politics, 45 (January 1993): 192; and
Jens Reich, “Reflections on Becoming an East German Dissident,
on Losing the Wall and a Country,” in Spring in Winter: The 1989
Revolutions, ed. Gwyn Prins (Manchester: Manchester University
Press, 1990), pp. 80-81.
33. Reich, “Reflections,” p. 86.
34. Peter Voss in a personal interview,
Leipzig, December 6, 1991.

509
35. Karl-Dieter Opp, “Spontaneous
Revolutions: The Case of East Germany in 1989,” in German
Unification and European Integration, ed. Heinz Kurz (London:
Edward Elgar, 1992), table 1. Analysts differ on whether the
demonstrations grew monotonically. If the number of participants
fell between two consecutive Mondays, the decline might have
reflected shifting assessments of where events were headed.
36. For additional accounts and
interpretations, see Ash, “The German Revolution”; Edith
Anderson, “Town Mice and Country Mice,” in Without Force or
Lies, ed. Brinton and Rinzler, pp. 170-192; and the New York
Times reports compiled in Gwertzman and Kaufman, Collapse of
Communism, pp. 158-160, 166-184, and 216-222.
37. Bill Keller, “In Moscow, Tone Is a
Studied Calm,” New York Times, August 18, 1989, p. A6.
38. Henry Kamm,” Communist Party in
Hungary Votes for Radical Shift,” New York Times, October 8,
1989, pp. A1, A18. For a fuller account of the transformation, see
Abel, Shattered Bloc, chap. 2.

510
39. Bill Keller, “Gorbachev, in Finland,
Disavows Any Right of Regional Intervention,” New York Times,
October 26, 1989, pp. A1, A12.
40. For an eyewitness account of these
events, see Timothy Garton Ash, “The Revolution of the Magic
Lantern,” New York Review of Books, January 18, 1990, pp. 42-
51. See also Abel, Shattered Bloc, chap.3.
41. Economist, December 2, 1989, p. 55.
42. See Timur Kuran, “Sparks and Prairie
Fires: A Theory of Unanticipated Political Revolution,” Public
Choice, 61 (April 1989): 41-74.
43. The pace of events was doubtless a
factor also in the failure of Soviet conservatives to block Eastern
Europe’s liberation. Had events moved more slowly, they might
have had time to oust Gorbachev and order the Red Army into
action.
44. “Czechoslovakia: The Velvet
Revolution,” Uncaptive Minds, 3 (January-February1990): 11.
45. William H. Kaempfer and Anton D.
Lowenberg, “Using Threshold Models to Explain International
Relations,” Public Choice, 73 (June 1992): 436.

511
46. For the New York Times reports of
these events, see Gwertzman and Kaufman, Collapse of
Communism, pp. 332-339. A detailed account is provided by Matei
Calinescu and Vladimir Tismaneanu, “The 1989 Revolution and
Romania’s Future,” Problems of Communism, 40 (January-April
1991): 42-59.
47. Jan Urban, “Czechoslovakia: The Power
and Politics of Humiliation,” in Spring in Winter, ed. Prins, p. 132.
48. See the references in note 9 in this
chapter, and also J. F. Brown, Surge to Freedom: The End of
Communist Rule in Eastern Europe (Durham, N.C.: Duke
University Press, 1991); Mark Frankland, The Patriots’ Revolution:
How Eastern Europe Toppled Communism and Won Its Freedom
(Chicago: Ivan R. Dee, 1992); and Sabrina R. Ramet, Social
Currents in Eastern Europe: The Sources and Meaning of the Great
Transformation (Durham, N.C.: Duke University Press, 1991).
49. For fuller and additional details, see
Kuran, “Sparks and Prairie fires. ʺ
50. Alexis de Tocqueville, The Old Régime
and the French Revolution, trans. Stuart Gilbert (New York:
Doubleday, 1955; first French ed., 1856), especially pp. 138-148.

512
51. William Doyle, Origins of the French
Revolution; 2nd ed. (Oxford: Oxford University Press, 1988), p. 84.
52. Ibid., pp. 83-84.
53. Tocqueville, Old Régime, p. 20.
54. Richard Cobb, “The Beginning of the
Revolutionary Crisis in Paris” (1967) and “Revolutionary
Situations in France, 1789-1968” (1968), in his A Second Identity:
Essays on France and French History (London: Oxford University
Press, 1969), pp. 145-158, 267-281.
55. Samuel F. Scott, The Response of the
Royal Army to the French Revolution: The Role and Development
of the Line Army, 1787-93 (Oxford: Clarendon Press, 1978), chap.
2, especially pp. 46-59.
56. Tocqueville, Old Régime, p. 175.
57. Cobb, “Revolutionary Situations,” p.
272.
58. Fereydoun Hoveyda, The Fall of the
Shah, trans. Roger Liddell (New York: Wyndham Books, 1980; orig.
ed., 1979), pp. 15-17; and Marvin Zonis, “Iran: A Theory of
Revolution from Accounts of the Revolution,” World Politics, 35
(July 1983): 602.

513
59. Mohamed Heikal, Iran: The Untold
Story (New York: Pantheon, 1982; orig. ed., 1981), p. 123.
60. Hoveyda, Fall of the Shah, pp. 35-38.
61. For this blunder, they were sacked in a
meeting held in Prague. See Heikal, Iran, p. 156.
62. Shaul Bakhash, The Reign of the
Ayatollahs: Iran and the Islamic Revolution (New York: Basic
Books, 1984), p. 45.
63. Heikal, Iran, p. 157.
64. Nikki R. Keddie, “Can Revolutions Be
Predicted; Can Their Causes Be Understood?” Contention, 1
(Winter 1992): 159-160.
65. Ibid., p.160.
66. Hoveyda, Fall of the Shah, pp. 102-
103, 117.
67. Bakhash, Reign of the Ayatollahs, pp.
41-42.
68. Ibid., pp. 13-14.
69. Much evidence is presented by Leopold
Haimson, “The Problem of Social Stability in Urban Russia, 1905-
1917,” in The Structure of Russian History: Interpretive Essays,

514
ed. Michael Cherniavsky (New York: Random House, 1970), pp.
341-380; and Hans Rogger, “Russia in 1914,” Journal of
Contemporary History, 1 (October 1966): 95-119. Each of these
articles also presents an overview of the conflicting signs of
stability and instability in pre-1917 Russia.
70. Leonard Schapiro, The Russian
Revolutions of 1917: The Origins of Modern Communism (New
York: Basic Books, 1984), p. 19.
71. Schapiro, Russian Revolutions, p. 39;
and William Henry Chamberlin, The Russian Revolution, 1917-
1921, vol. 1 (New York: Macmillan, 1935), p, 73.
72. Chamberlin, Russian Revolution, vol. 1,
p. 76.
73. Ibid., pp.73-77.
74. Ibid., p.73.
75. Ibid., chap. 3.
76. On efforts to follow Bismarck’s strategy,
see Martin Malia, Comprendre la Révolution Russe (Paris: Éditions
du Seuil, 1980), especially chap 1. An additional component of this
strategy was to make concessions to moderate the opposition, as
when Alexander II emancipated the peasants.

515
77. Chamberlin, Russian Revolution, vol.
1, pp. 74-80; and Warren B. Walsh, “The Petrograd Garrison and
the February Revolution of 1917,” in New Dimensions in Military
History: An Anthology, ed. Russell P. Weigley (San Rafael, Calif.:
Presidio Press, 1975), pp. 267-269.
78. Chamberlin, Russian Revolution, vol. 1,
p. 75; and Walsh, “Petrograd Garrison,” pp. 267-273.
79. Paul Kecskemeti, The Unexpected
Revolution: Social Forces in the Hungarian Uprising (Stanford:
Stanford University Press, 1961), p. 1.
80. Ibid., pp. 60, 84-85.
81. Véclav Havel, Disturbing the Peace: A
Conversation with Karel Hvížďala, trans. Paul Wilson (New York:
Alfred A. Knopf, 1990; orig. Czech ed., 1986), p. 109.
82. Timothy Garton Ash, “Eastern Europe:
The Year of Truth,” New York Review of Books, February 15,
1990, pp. 17-22.
83. Theodore Draper, “A New History of
the Velvet Revolution,” New York Review of Books, January 14,
1993, p. 18.

516
84. Quoted in Celestine Bohlen, “In Post-
Communist Europe, Culture Takes a Fall,” Herald Tribune,
November 14, 1990, p. 1.
85. Information on Hungary provided by
Adam Levendel, director of the Szonda Ipsos polling firm, during a
December 13, 1991, interview in Budapest. Information on
Czechoslovakia based on tables supplied by the Public Opinion
Research Institute, Prague.
86. Adam Michnik, “An Embarrassing
Anniversary,” New York Review of Books, June 10, 1993, pp. 19-
21.
87. Hannah Arendt, On Revolution (New
York: Penguin, 1965; orig. ed., 1963), pp. 88-109.
88. Roy A. Medvedev, Let History judge:
The Origins and Consequences of Stalinism, trans. Colleen Taylor
(New York: Vintage, 1973; orig. Russian ed., 1968), chaps. 2-8;
and Robert Conquest, The Great Terror: A Reassessment (New
York: Oxford University Press, 1990).
89. Bakhash, Reign of the Ayatollahs,
especially chaps. 4, 9, 10.

517
90. Said Ami Arjomand, “Iran’s Islamic
Revolution in Comparative Perspective,” World Politics, 38 (April
1986), especially pp. 392, 402.
91. Shahrough Akhavi, Religion and
Politics in Contemporary Iran: Clergy-State Relations in the
Pahlavi Period (Albany: State University of New York Press,
1980); pp. 168-180.
92. On the vulnerability of revolutionary
regimes, see Stephen M. Walt, “Revolution and War,” World
Politics, 44 (April 1992): 321-368.
93. Bakhash, Reign of the Ayatollahs, pp.
219-224.
94. Friedrich Engels to Heinz Starkenburg,
January 25, 1894. As quoted in Patrick Gardiner, The Nature of
Historical Explanation (London: Oxford University Press, 1952), p.
100.
95. Vladimir Ilyich Lenin, “What Is to Be
Done?” (1902), in The Lenin Anthology, ed. Robert C. Tucker
(New York: Norton, 1975), pp. 12-114.
96. Tocqueville, Old Régime, p. 13.

518
97. Havel, Disturbing the Peace, p. 123.
Similar sentiments are expressed on p. 144.
98. Charles Tilly, From Mobilization to
Revolution (Reading, Mass.: Addison-Wesley, 1978).
99. Pamela E. Oliver, “Bringing the Crowd
Back In: The Nonorganizational Elements of Social Movements,”
Research in Social Movements, Conflict, and Change, vol. 11, ed.
Louis Kriesberg (Greenwich, Conn.: JAI Press, 1989), pp. 1-30.
See also Sidney Tarrow, Democracy and Disorder: Protest and
Politics in Italy, 1965-1975 (Oxford: Clarendon Press, 1989).

‫الفصل السابع عرش‬


1. Richard R. Nelson and Sidney G. Winter, An Evolutionary Theory of
Economic Change (Cambridge, Mass.: Harvard University Press,
1982); and Ulrich Witt, ed., Evolutionary Economics (Aldershot,
U.K.: Edward Elgar, 1993).
2. W. Brian Arthur, Increasing Returns and Path Dependence in the
Economy (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1994); and M.
Mitchell Waldrop, Complexity: The Emerging Science at the Edge of
Order and Chaos (New York: Simon and Schuster, 1992).

519
3. Charles Darwin, On the Origin of Species (London: John Murray,
1859); and Stephen Jay Gould, Wonderful Life: The Burgess Shale
and the Nature of History (New York: W. W. Norton, 1989).
4. W. Russell Neuman, The Paradox of Mass Politics: Knowledge and
Opinion in the American Electorate (Cambridge, Mass.: Harvard
University Press, 1986), p. 189.
5. Rance Crain, “Media Seers Clouding the Picture,” Advertising Age,
April 6, 1992, p. 25A; Robert A. Brusca, “Recession or Recovery?”
Challenge, July—August 1992, pp. 4—15; and Robert D. Hershey,
Jr., “This Just In: Recession Ended 21 Months Ago,” New York Times;
December 23, 1992, pp. D1, D3.
6. Bush’s share of the vote declined by 19 percentage points in
California, as against 15 percentage points nationally. In November
1992, California’s unemployment rate stood at 9.3 percent, up from
4.8 percent in November 1988.
7. For a more technical presentation and further details, see Timur
Kuran, “Cognitive Limitations and Preference Evolution,” Journal of
Institutional and Theoretical Economics, 147 (June 1991): 241—
273.

520
8. The threshold of e would rise from 50 to 55, and that of f would fall
from 55 to 50.
9. The changes could be ones that affect a single individual. Turn back
to E, and assume that public opinion is in equilibrium at 50. If the
threshold of e rises from 50 to 55, public opinion will dart to 100.
Suppose now that this threshold falls back to 50, restoring E. Public
opinion will remain stuck at 100.
10. This theme is developed at length in William H. Riker,
Liberalism against Populism: A Confrontation between the Theory
of Democracy and the Theory of Social Choice (San Francisco: W. H.
Freeman, 1982), For many additional insights, see Thréinn
Eggertsson, Economic Behavior and Institutions (New York:
Cambridge University Press, 1990), chaps. 6-10.
11. Gordon Tullock, Toward a Mathematics of Politics (Ann Arbor:
University of Michigan Press,1967), chap. 3; and Kenneth A. Shepsle
and Barry R. Weingast, “Structure—Induced Equilibrium and
Legislative Choice,” Public Choice, 37 (1981): 503—519.
12. F. C. Bartlett, Remembering (Cambridge: Cambridge
University Press, 1932), especially chap.8. For further evidence, see
Nelson and Winter, An Evolutionary Theory of Economic Change, p.

521
112; and Ronald A. Heiner, “Imperfect Decisions and the Law: On
the Evolution of Legal Precedent and Rules,” journal of Legal
Studies, .15 (June 1986): 227—261.
13. Alan J. Parkin, Memory and Amnesia: An Introduction
(Oxford: Basil BlackWell,1987).
14. Herbert A. Simon, Reason in Human Affairs (Stanford:
Stanford University Press, 1983), elaborates on obstacles to
imagining contingencies, and Michael Polanyi, The Tacit Dimension
(Gloucester, Mass“: Peter Smith,1983; orig. ed., 1966), on those to
articulating full justifications. Evidence pertaining to the
enforcement and evolution of the law is offered by Ronald Dworkin,
Law’s Empire (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1986);
and Edward H. Levi, An Introduction to Legal Reasoning (Chicago:
University of Chicago Press, 1948).
15. For evidence of self-serving interpretation on the part of
judges, and many insights that complement those offered here, see
Thomas J. Miceli and Metin Coşgel, “Reputation and Judicial
Decision-Making,” journal of Economic Behavior and Organization,
23 (January 1994): 31— 51.

522
16. Magoroh Maruyama, “The Second Cybernetics: Deviation-
Amplifying Mutual Causal Processes,” American Scientist, 51
(March 1963): 164—179
17. David Hackett Fischer, Historians’ Fallacies: Toward a Logic of
Historical Thought (London: Routledge 8CKegan Paul, 1971), p.
178.
18. R. W. Apple, Jr., “Opposition Calls for Vote and Gains Access
to a More Open Press,” New York Times, November 29,1989, p. A1.
19. Alfred Marshall, Principles of Economics: An Introductory
Volume, 8th ed. (London: Macmillan, 1936), p. iii.
20. Darwin, Origin of Species.
21. Joel Mokyr, The Lever of Riches: Technological Creativity and
Economic Progress (New York: Oxford University Press, 1990), p.
273.
22. Niles Eldredge and Stephen jay Gould, “Punctuated
Equilibria: An Alternative to Phyletic Gradualism,” in Models in
Paleobiology, ed. Thomas J. M. Schopf (San Francisco: Freeman,
Cooper 8:; Co., 1972), pp. 82—115; and Niles Eldredge, Time
Frames: The Evolution of Punctuated Equilibria (Princeton:
Princeton University Press, 1985).

523
23. Gould, Wonderful Life.
24. David M. Raup, Extinction: Bad Genes or Bad Luck? (New
York: W. W. Norton, 1991).
25. Mokyr, Lever of Riches, pt. 4.
26. W. Brian Arthur, “Competing Technologies, Increasing
Returns, and Lock-In by Historical Events,” Economic journal, 99
(March 1989): 116—131; and Paul A. David, “The Hero and the
Herd in Technological History: Reflections on Thomas Edison and
the Battle of the Systems,” in Favorites of Fortune.-Technology,
Growth, and Economic Development since the Industrial Revolution,
ed. Patrice Higonnet, David S. Landes, and Henry Rosovsky
(Cambridge,-'Mass.: Harvard University Press, 1991), pp. 72—119.
27. Gustave Le Bon, The Crowd: A Study of the Popular Mind
(Atlanta: Cherokee Publishing Co., 1982; first French ed., 1895), pp.
65, 72.-
28. Ibid., p.68.
29. Anthony Pratkanis and Elliot Aronson, Age of Propaganda:
The Everyday Use and Abuse of Persuasion (New York: W. H.
Freeman, 1992), pp.206—215.

524
30. Abbé J. A. Dubois, Hindu Manners, Customs, and Ceremonies,
3rd ed., trans. Henry K. Beauchamp (Oxford: Clarendon Press, 1906;
first French ed., 1815), p. 28.
31. The last fallacy is the focus of F. A. Hayek’s critique of
constructivism. See his Law, Legislation, and Liberty, vol. 1: Rules
and Order (Chicago: University of Chicago Press, 1973), chaps. 1
and 3.
32. R. H. Tawney, Religion and the Rise of Capitalism (Gloucester,
Mass.: Peter Smith, 1962; orig. ed., 1926), especially pp. 79-102.
33. Robert K. Merton, “The Unanticipated Consequences of
Purposive Social Action,” American Sociological Review, 1
(December 1936): 894- 904; Hayek, Law, Legislation, and Liberty,
vol. 1, chaps. 1 and 3; and Raymond Boudon, The Unintended
Consequences of Social Action (New York: St. Martin’s Press, 1982;
orig. French ed., 1977).
34. Mark Granovetter, “Economic Action and Social Structure:
The Problem of Embeddedness,” American Journal of Sociology, 91
(November 1985): 481—510; and Gregory Dow, “The Function of
Authority in Transaction Cost Economics,” Journal of Economic
Behavior and Organization, 8 (March 1987): 13-38.

525
35. Mancur Olson, The Logic of Collective Action: Public Goods
and the Theory of Groups (Cambridge, Mass.: Harvard University
Press, 1965).
36. These implications are consistent with the historical
interpretations of E. L. Jones, Growth Recurring: Economic Change
in World History (Oxford:Clarendon Press,-1988).
37. Under E, a’s intrinsic utility is 100 — |50 - 80| = 70. With the
shift to E2, it becomes 100 —|100 —80| = 80.
38. Gould, Wonderful Life; and Raup, Extinction.
Gould, Wonderful Life, p. 318.
‫الفصل الثامن عرش‬
1. Alexis de TocqueviIie, Democracy in America, vol. 2, ed. Henry Reeve,
Francis Bowen, and Phillips Bradley (New York: Alfred A. Knopf, 1989;
orig. French ed., 1835), chap. 18.
2. See, for instance, Jay R. Mandle, N of Slave, Not Free: The African
American Economic Experience since the Civil War (Durham, N.C.:Duke
University Press, 1992), chaps. 4-5.
3. Robert William Fogel, Without Consent or Contract: The Rise and Fall
of American Slavery (New York: W. W. Norton, 1989), chaps.4—5.
The South did not compare well on all indices of material advancement.

526
Intrauterine malnutrition was more common in the South than in the
North, for example, because pregnant slaves had to keep working almost
until childbirth.
‫ فعىل سبيل‬.‫ مل يح َظ الجنوب بأي مقارن ٍة حسن ٍة يف جميع مؤرشات التقدم املادي‬.3
‫ ألن نساء العبيد‬،‫ كان سوء تغذية األجنّة أكرث شيو ًعا يف الجنوب منه يف الشامل‬،‫املثال‬
.‫تعني عليهن متابعة العمل حتى وقت الوالدة تقري ًبا‬
ّ ‫الحوامل‬

4. Stanley L. Engerman, “Slavery and Emancipation in Comparative


Perspective: A Look at Some Recent Debates,” Journal of Economic
History, 46 (June 1986): 327.
5. Fogel, Without Consent or Contract, pp. 322, 369, 382.
6. Ibid., pp. 328-329.
7. This campaign drew intellectual justification from a literature aimed
at showing that blacks are naturally inferior to whites. See Stephen Jay
Gould, The Mismeasure of Man (New York: W. W. Norton, 1981).
8. Russel B. Nye, Fettered Freedom: Civil Liberties and the Slavery
Controversy, 1830—1860 (East Lansing: Michigan State College Press,
1949), especially chaps. 3—5.
9. William W. Freehling, Prelude to Civil War: The Nullification
Controversy in South Carolina, 1816—1836 (New York: Harper 86 Row,
1966), p. 110.
10. Merton L. Dillon, The Abolitionists: The Growth of a Dissenting
Minority (De Kalb: Northern Illinois University Press, 1974), p. 49.
527
11. Fogel, Without Consent 0r Contract, p. 326.
12. Ibid., pp. 413—414.
13. Ibid., pp. 414-416.-
14. William H. Riker, Liberalism against Populism: A Confrontation
between the Theory of Democracy and the Theory of Social Choice (San
Francisco: W. H. Freeman, 1982), chap.9; and Barry R. Weingast,
“Institutions and Political Commitment: A New Political Economy of the
American Civil War Era” (unpublished manuscript, Stanford University,
1994), pt. 4.
15. Don E. Fehrenbacher, The Dred Scott Case: Its Significance in
American Law and Politics (New York: Oxford University Press, 1978),
pp.89—100.
16. J. R. Pole, The Pursuit of Equality in American History (Berkeley:
University of California Press, 1978), pp. 148—149.For an
interpretation of Lincoln’s comments on equality, see David Zarefsky,
Lincoln, Douglas, and Slavery: In the Crucible of Public Debate (Chicago:
University
of Chicago Press, 1990), pp. 78—80, 242—244.
17. George M. Frederickson, The Black Image in the White Mind: The
Debate on Afro-American Character and Destiny, 1817—19-14 (New
York: Harper 86 Row, 1971), chap. 1.

528
18. Stanley N. Katz, “The Strange Birth and Unlikely History of
Constitutional Equality,” journal of American History, 75 (December
1988): 747—762.
19. James Madison, “The Federalist no. 10” (1787), in Alexander
Hamilton, James Madison, and John Jay, The Federalist Papers, ed.
Jacob E. Cooke (Middletown, Conn.: Wesleyan University Press, 1961;
orig. pub., 1787—88), p. 59. I owe the observation to Pole, Pursuit of
Equality,
pp.121-122.
20. Pole, Pursuit of Equality, pp. 13—26.
21. David Brion Davis, The Problem of Slavery in Western Culture
(Ithaca: Cornell. University Press, 1966), pt. 1; and Bernard Lewis, Race
and Slavery in the Middle East: An Historical Enquiry (New York:
Oxford University Press, 1990).
22. Pole, Pursuit of Equality, p. 117.
23. Katz, “Strange Birth,” especially pp. 753—755. See also Pole,
Pursuit of Equality, chaps. 6—7; and Terry Eastland and William J.
Bennett, Counting by Race: Equality from the Founding Fathers to Bakke
and Weber (New York: Basic Books, 1979), chaps. 2—3. .
24. Eastland and Bennett, Counting by Race, chap. '5; Pole, Pursuit of
Equality, chap. 7; and Robert Higgs, Competition and Coercion: Blacks in
the American Economy, 1865—1914 (Cambridge: Cambridge
University Press, 1977).

529
25. A similar point is made, with a focus on tenancy relations in
agriculture, by Lee J. Alston and Joseph P. Ferric, “Social Control-and
Labor Relations in the American South before the Mechanization of the
Cotton Harvest in the 19503,” journal of Institutional and Theoretical
Economics, 145 (March 1989):133—157; and Lee J. Alston, “Race
Etiquette in the South: The Role of Tenancy, in Research in Economic
History, vol. 10, ed. Paul Uselding (Greenwich, Conn.: JAI Press, 1986),
pp. 200+201.
26. Hortense Powdermaker, After Freedom. A Cultural Study in the
Deep South (New York: Viking, 1939), especially chap. 16
27. Richard Wright, Black Boy: A Record of Childhood and Youth (New
York: Harper S. Row, 1945), p. 253. As recorded in Mandle, Not Slave,
Not Free, p. 62.
28. Dennis Chong, Collective Action and the Civil Rights Movement
(Chicago: University of Chicago Press, 1991), p. 97.
29. Thomas Sowell, Preferential Policies: An International Perspective
(New York: William Morrow, 1990), p. 126 (emphasis added). For the
early history of affirmative action, see Nathan Glazer, Affirmative
Discrimination: Ethnic Inequality and Public Policy, rev. ed. (Cambridge,
Mass.: Harvard University Press, 1987), chaps. 2—4; and Herman Belz,
Equality Transformed: A Quarter-Century of Affirmative Action (New
Brunswick, N.J.: Transaction Publishers, 1992), chaps. 1—2.
30. Godfrey Hodgson, quoted in Chong, Collective Action, p. 224.

530
31. Fogel, Without Consent or Contract, p. 204.
32. Pole, Pursuit of Equality, pp. 178—180.
33. Belz, Equality Transformed, pp. 8—12.
34. For detailed accounts of these cases, see ibid., chaps. 2, 6—7.
35. Ibid., especially chap. 3.
36. Abigail M. Thernstrom, Whose Votes Count? Affirmative Action and
Minority Voting Rights (Cambridge, Mass.: Harvard University Press,
1987).
37. J. W. Peltason, Fifty-Eight Lonely Men: Southern Federal Judges
and School Desegregation (New York: Harcourt, Brace and World,
1961), pp. 12—14,96—97.
38. D. Garth Taylor, Public Opinion and Collective Action: The Boston
School Desegregation Conflict (Chicago: University of Chicago Press,
1986), chap. 6.
39. Peter Brimelow and Leslie Spencer, “When Quotas Replace Merit,
Everybody Suffers,” Forbes, February 15, 1993, pp. 80—102.
40. Timur Kuran, “Seeds of Racial Explosion,” Society, 30
(September/October 1993): 55—67.
41. Marc Galanter, Competing Equalities: Law and the Backward Classes
in India (Berkeley: University of California Press, 1984); André Béteille,
The Backward Classes in Contemporary India (Delhi: Oxford University
Press, 1992); and Thomas Sowell, Preferential Policies: An International
Perspective (New York: William Morrow, 1990), especially pp.91—103.
531
42. Béteille, Backward Classes, p. 74.
43. Dharma Kumar, “The Affirmative Action Debate in India,” Asian
Survey, 32 (March 1992): 290—302.
44. Ibid., p. 294.
45. Ibid., p. 301.
‫الفصل التاسع عرش‬
1. Henri Poincaré, Science and Hypothesis (New York:Dover Publications,
1952; orig. French ed., 1902), p. 173.

2. Deconstructionism began with Jacques Derrida in the 19608. A


representative work of Derrida is Writing and Difference, trans. Alan Bass
(Chicago: University of Chicago Press, 1978; first French ed., 1967). For
a survey, sec Christopher Norris, Deconstruction: Theory and Practice, rev.
ed. (London: Routledge, 1991).

3. Clifford Geertz, “Thick Description: Toward an Interpretive Theory of


Culture,” in his The Interpretation of Cultures (New York: Basic Books,
1973), pp. 3-30.

4. Paul Veyne, Writing History: Essay on Epistemology, trans. Mina


Moore—Rinvolucri (Middletown, Conn.: Wesleyan University Press,
1984; orig. French ed., 1971 ), pp. 151—153. For a similar perspective,

532
see Edward Hallett Carr, What Is History? (New York: Alfred A. Knopf,
1962), especially chap. 1.

5. The former group is composed primarily of neoclassical economists. The


latter features mostly sociologists and political scientists, but also certain
economists outside the neoclassical tradition. Several prominent works in
the structuralist tradition were critiqued in Chapter 15.

6. Andrew S. McFarland, as quoted by Jon Elster, Ulysses and the Sirens:


Studies in Rationality and Irrationality (Cambridge: Cambridge University
Press, 1979), p. 113, n. 4. The third chapter of Elster’s book offers a
critique of structuralism.

7. F. A. Hayek, “The Pretence of Knowledge” '(Nobel memorial lecture,


1974), in his New Studies in Philosophy, Politics, Economics, and the
History of Ideas (Chicago: University of Chicago Press, 1978), p. 32.

8. In a linear system, by contrast, the sensitivity of a dependent variable


to changes in an independent variable is constant. Minor variations might
,be accommodated, of course, through “noise”—the statistician’s
euphemism for chance events, data imperfections, and just .plain
ignorance.

533
9. There are theories that predict better than they explain. For example,
the Ptolemaic theory of the universe is quite successful at predicting the
movements-20f planets, but by modern standards its explanations are
very inadequate. See Thomas S. Kuhn, The Copernican Revolution:
Planetary Astronomy in the Development of Western Thought
(Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1957).

10. See, for example, john Dunn, Modern Revolutions: An Introduction to


the Analysis of a Political Phenomenon, 2nd ed. (New York: Cambridge
University Press, 1989), pp. 2—3; and Valerie Bunce, “Democracy,
Stalinism, and the Management of Uncertainty,” in Democracy and
Political Transformation: Theories and East-Central European Realities,
ed. Gyorgy .Szoboszlai (Budapest: Hungarian Political Science
Association, 1991), especially pp. 152-153.

11. A similar point is developed by Nancy Bermeo,“Surprise, Surprise:


Lessons from 1989 and 1991,” in Liberalization and Democratization:
Change in the Soviet Union and Eastern Europe, ed. Bermeo (Baltimore:
Johns Hopkins University Press, 1992), pp. 184—187.
12. Carr, What Is History? pp. 90—91.
13. Imre Lakatos, “Falsification and the Methodology of Scientific
Research Programmes” (1970), in his The Methodology of Scientific

534
Research Programmes (Cambridge: Cambridge University Press, 1978),
pp. 8—101.
14. Leo Strauss, Persecution and the Art of Writing (Glencoe, 111: Free
Press, 1952); and Muhsin-Mahdi, Ibn Klmldun’s Philosophy of History
(London: George Allen and Unwin, 1957), especially pp. 113—125.
15. James C. Scott, Weapons of the Weak: Everyday Forms of Peasant
Resistance (New Haven": Yale University Press, 1985). See also Scott,
Domination and the Arts of Resistance: Hidden Transcripts (New Haven:
Yale University Press, 1990).
16. Elisabeth Noclle-Neumann, The Spiral of Silence—"Our Social
Skin”
(Chicago: University of Chicago Press, 1984; first German ed., 1980),
pp.55—56.
17. Peter Miller, “Which Side Are You On? The 1990 Nicaraguan Poll
Debacle,” Public Opinion Quarterly, 55 (Summer 1991): 281—302. See
also Stephen Schwartz, A Strange Silence: The Emergence of Democracy
in Nicaragua (San Francisco: ICS Press, 1992), especially chaps. 4, 7.
18. Mark A. Uhlig, “Nicaraguan Opposition Routs Sandinistas; U.S.
Pledges Aid, Tied to Orderly Turnover,” New York Times, February 27,
1990, pp. A1, 12; and Norman Ornstein, “Why Polls Flopped in
Nicaragua,” New York Times, March 7, 1990, p. A25.

535
19. Katherine Bischoping and Howard Schuman, “Pens and Polls in
Nicaragua: An Analysis of the 1990 Preelection Surveys,” American
Journal of Political Science, 36 (May 1992): 331-350.
20. For further insights on the pen experiment, see William A. Barnes,
“Rereading the Nicaraguan Pre-Election Polls in the Light of the
Election Results,” in The 1990 Elections in Nicaragua and Their
Aftermath, ed. Vanessa Castro and Gary Prevost (Lanham, Md.: Rowman
and Littlefieid, 1992), pp. 41-123.
21. Karl R. Popper, Conjectures and Refutations: The Growth of Scientific
Knowledge (New York: Basic Books, 1962).
22. Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, 2nd ed.
(Chicago: University of Chicago Press, 1970; first ed., 1962).
23. Jack A. Goldstone, “Predicting Revolutions: Why We Could (and
Should) Have Foreseen the Revolutions of 1989–1991 in the U.S.S.R.
and Eastern Europe,” Contention, 2 (Winter 1993): 127–152.

536
A translation of “Private Truths, Public Lies: The Social Consequences of Preference
Falsification” © [1995] Timur Kuran.

You might also like