Professional Documents
Culture Documents
مقدمة في نشأة البلاغة وتاريخها محمد محيي الدين عبد الحميد
مقدمة في نشأة البلاغة وتاريخها محمد محيي الدين عبد الحميد
مقدمة
يف نشأة علوم البالغة وتارخيها وكلمة موجزة عن أشهر علامئها
ووصف مؤلفاهتم
((( البيتان من اعتذارات النابغة الذبياين للنعامن بن املنذر ملك العرب يف احلرية ،يريد النابغة
بكالمه حلسان أنه وإن كان شاعر ًا مل يبلغ درجته.
13 شرح السعد
هكذا حيدثنا الرواة ،وليس يعنينا أن تصدق هذه الواقعة أو تكذب ،فإن
هلا عىل كل حال داللة صادقة عىل ما نريد أن نثبته يف هذا املكان؛ فهي تدل -عىل
أقل تقدير -عىل أن علامء الصدر األول الذين َر َو ْو شعر العرب قبل اإلسالم
و َد َّونُوا أخبارهم ،ومحلوا هذه األمانة يف أول الناس ،تدلنا هذه الرواية عىل َّ
أن
هؤالء العلامء كانوا يعرفون للعرب يف جاهليتهم َب َص ًا بالنقد ،وعلام بام تقتضيه
أحوال الكالم :من القصد يف القول أحيان ًا ،واملبالغة فيه أحيان ًا ،وكان هلم مع
ي ُسن ْ
أن يستعمل من الكالم يف مواطن كالفخر دون غريه ،وبام ذلك خربة بام َ ْ
ي ُمل باملتكلم ْ
أن هيجره وال يعمد إليه. َْ
كان العلامء يف الصدر األول يعلمون ذلك عن العرب ،وال بد أن يكون
حمل إمجا ٍع منهم ،وإال فام بال من ال يعلم ذلك وال ُي ِق ُّره وال يقول ملن
ذلك َّ
إنك َو َّضاع خمتلق ،من أين للعرب معرف ُة ِ
مثل يروي عنهم مثل هذه الروايةَ :
ذلك ؟ ومن الذي قال هلم :إن األسياف واجلفنات َيدُ الَّ ِن عىل أقل العدد ؟ وإن
معنى (يلمعن) دون معنى (يربقن) وإن مناسبة (الدُّ جى) لكرم الضيفان أشد
من مناسبة (الضحى) ،ونحو ذلك.
ونحن اآلن نس ّلم أن العرب يف جاهليتهم ،وقبيل رشوق شمس اإلسالم
بنوع خاص ،كان هلم برص نافذ يدركون به ما نسميه يف مصطلحات علوم
البالغة مقتضيات األحوال ،ويعرفون عن طريقه أن لكل كلمة مع صاحبتها
مقام ًا ،وأن مقام الرثاء يباين مقام اهلجاء ،ومقام الفخر غري مقام النسيب،
ونحو ذلك.
يتأت لك
وأنت ال تستطيع أن جتحد ذلك .ولو أنك حاولت إنكاره مل َّ
أن تقيم من َأو ِد هذا اإلنكار؛ ذلك بأن القرآن الكريم نزل عليهم يف أعىل
شرح السعد 14
درجات البالغة .وأعلن عن نفسه أنه يف منزلة ال تُدانيها منزلة .وأنه ليس
عش ُس َور من مثل سوره .وفهموه ،وعرفوا يف مقدور أحد أن يأيت بمثله وال بِ ْ ِ
له هذه املنزلة؛ فلو مل يكن هلم ما نثبت من البرص والعلم لكان القرآن قد نزل
بغري لساهنم الذي يتعارفونه .ولكانوا قد أعلنوا عنه أنه ال جيري عىل السنن
الذي يسلكونه يف كالمهم .أو مل يكن لِت ََحدي القرآن إياهم فائدة ،أو مل يكونوا
سمو منزلته.
ليدركوا َّ
دليل ناهض عىل ما كان للعرب قبيل نزوله من ِ
احل ِّس فالقرآن وحده ٌ
وإيامنم بأنَّه ال
ُ وتقدير كثري من عقالئهم للقرآن،
ُ املرهف واإلدراك النافذ،
سبيل إىل حماكاته ،وبأنَّه ال يشبه َس ْجع الكهان ،وال َخن َْق السحرة و َن ْف َثهم ،كل
ُون القول وبمراتب الكالم. أولئك دليل ناهض عىل أهنم كانوا ذوي خربة ب ُفن ِ
ومل تزل هذه القدرة جتري يف عروقهم جمرى الدم؛ ففي صدر اإلسالم
جتد كثري ًا من املـُثل التي ُت ْعلن عنها ُ َ
وت ِّليها ،وكام جتد هذه املقدرة يف الرجال
جتدها يف النساء! ومل ال يكون ذلك ؟ أليس البيان العريب حق ًا شائع ًا بني الرجال
والنساء.
( )1قالوا :قدم ذو الرمة الكوفة ،فلقيه الكميت ،فقال له :إين قد عارضت
قصيدتك! قال :أي القصائد ؟ قال :قصيدتك التي تقول يف أوهلا:
ٍ
كأنَّـــه مـــن ك ًُل َم ْف ِر َّيـــة َ َ
س ُب ينســـكب
ُ ما بـــال َع ْينك منها املاء
قال :فأي يشء قلت ؟ قال :قد قلت:
أم هل حيســـن ِمن ِذي َّ ِ ِ ِ
الش ْي َبة ال َّلع ُ
ب َّ ُ ْ َه ْل أنت عن طلـــب اإليقاع ُمنْ َقل ُ
ب
15 شرح السعد
ٍ
صـــدق فيك يا عـــز أر َب ُع خالئق
ُ وأعجبني يـــا عز منك مـــع الصبا
يطمع
ُ ورفعك أســـباب اهلوى حني ُـــو ِك حتى يذكـــر الذاهل الصبا ُدن ُّ
ـــراك أو يتصدّ ُع ِ
أيشـــتدُّ مـــن َج َّ وأنـــك ال تدريـــن َد ْينًـــا مطلتـــه
تنفـــع
ُ وخ َّ
ـــات املـــكارم لئيـــم َ ومنهن إكـــرا ُم الكريـــم وهفوة الـ
ويمنع
ُ فليتـــك ذو لونـــن يعطـــي أدمت لنـــا بالبخل منـــك رضيبة
قال :نعم ،أنا قلته .قالت :ما جعلتها بخيلة تعرف بالبخل وال سخية
تعرف بالسخاء.
لت َو َخ َر َج ْت فقالت :أيكم مجيل؟ فقال مجيل :ها أنذا ،قالت:
ثم َد َخ ْ
أنت القائل:
عـــي كالمهـــا
َّ بثينـــة ال خيفـــى أال ليتنـــي أعمـــى أصـــم تقودين
قال :نعم ،أنا الذي قلته ،قالت :أفرضيت من نعيم الدنيا وزهرهتا أن
تكون أعمى أصم إال أنه ال خيفى عليك كالم بثينة؟ قال :نعم ،فوصلته كام
وصلتهم مجيع ًا ،ثم انرصفوا.
( )4وذكروا أن عبد امللك بن مروان كان يقول :لو أن كُثري ًا قد قال بيته:
ـــت يوم ًا هلا النفـــس َذ َّل ِ
ت إذا ُو ِّطن ِ ْ ٍ
مصيبة فقلـــت هلـــا يـــا َعـــ َّز ُّ
كل
يف حرب لكان أشعر الناس ،ولو أن ال َق َط ِام َّي قال بيته الذي وصف فيه
مشية اإلبل بقوله:
وال الصـــدور عىل األعجـــاز تتكل يمشـــن َر ْهو ًا فال األعجـــاز خاذل ٌة
يف النساء لكان أشعر الناس!!.
شرح السعد 18
( )5قالوا :ودخل ذو الرمة عىل بالل بن أيب ُب ْردة ،فمدحه بقصيدة قال
فيها:
لص ْيـــدَ َح انتجعـــي بالال
فقلـــت َ رأيـــت النـــاس ينتجعـــون غيث ًا
(وص ْيدَ ح :اسم ناقة ذي الرمة) فلام سمع بالل هذا البيت قال :يا غال ُم،
َ
اعلفها ق ّت ًا ون ً
َوى (أراد بذلك قلة فطنة ذي الرمة للمدح).
( )6قالوا :وكان ُك َثري يعيب عمر بن أيب ربيعة يف قوله:
الطـــواف يف ُع َم ِ
ـــر َ ِ
ُفســـد َّن لت ب هلـــا حتدثهـــا قالـــت لِ ْ
ـــر ٍ
أخـــت يف َخ َف ِر
ُ ثـــم ا ْغ ِم ِزيـــه يـــا ي لـــه ل ُي ْب ِصنَـــا
قومـــي ت ََصـــدَّ ْ
اســـبطرت تشـــتدُّ يف أثري
َّ ثـــم قالـــت هلـــا :قـــد غمزتـــ ُه فأبى
ب هبا َفن ََس ْب َت بنفسك ،واهلل لو َو َص ْفت هبذا ِه َّرة
تنس َ
ويقول :أردت أن ُ
ف املرأة باخلَ َفر
ُوص ُ
منزلك كنت قد أسأت صفتها ،أهكذا يقال للمرأة؟ إنام ت َ
ال قلت كام قال األحوص:وأهنا مطلوبة ممتَنِعة ،ه َّ
ِ ـــت معرو َف َهـــا أ ُّم جعفر
وإنّــــي إىل معروفهـــا ل َفق ُ
ـــر لقـــد من َع ْ
دور ِ وقد أنكـــروا عند اعـــراف زياريت
عـــي ُص ُ
َّ ـــرت فيها
وقـــد َوغ َ
بأبياتكـــم مـــا درت حيـــث أدور أدور ،ولـــوال أن أرى أم جعفـــر
متشت يف نواحي حياة العرب؛ وجاء اإلسالم بتعاليمه ،وبنهضته التي َّ
فبعثهم من َم ْر َقدهم ،وأثارت ما ك ََمن فيهم من وسائل احلياة والتدافع يف
طلب املجد من مجيع وجوهه؛ فشغلهم ذلك حين ًا .حتى إذا جاء َد ْو ُر البحث
أول ما اجتهت أنظارهم إليه ،وكان القول يف وطلب العلم كان القرآن وعلومه َ
19 شرح السعد
بيان َم ِز ّية القرآن عىل كل قول ،ويف بيان ما انفرد به من وجوه احلسن ،ثم بيان
بعض ما اجتهت أنظارهم إليه ،وحاو َلت طريق إعجازه ،كان القول يف ذلك َ
جهودهم اإلبانة عنه.
ولفت ذلك أنظارهم إىل أساليب الكالم ،وألوان اإلبانة عن الغرض؛
كام لفت أنظارهم إىل وجوه احلسن يف الكالم ،وما يتميز به القول عن القول؛
فكان من جمموع ذلك كله (علوم البالغة).
ُوج ُز لك القول يف ذلك مبينني لك الطريق التي سلكها هذا العلم ونحن ن ِ
حتى صار إىل ما تراه عليه اليوم.
-2-
نشأ يف القرنني الثاين والثالث من هجرة النبي صىل اهلل عليه وسلم ثالثة
ص ِح البالغة. ـملة العلم واللغة واألدب كان هلم الفضل األول يف بناء َ ْ من َح َ
أوهلم :أبو ُع َب ْيدة َم ْع َمر بن املثنى اللغوي البرصي ،موىل بني َت ْي ٍم رهط أيب
بكر الصديق ،وتلميذ يونس بن حبيب شيخ سيبويه إمام نحاة البرصة ،وأستاذ
أمري املؤمنني هارون الرشيد ،و ُم َريب العلامء الفحول أيب ُع َبيد القاسم بن َسلَّ م
وأيب حاتم واملازين ،املولود سنة اثنتي عرشة ومائة ،واملتوىف سنة تسعة ومائتني.
وقد صنف أبو ُع َب ْيدة كتاب ًا سامه (جماز القرآن)((( ت ََو ّخى فيه أن جيمع أنواع
أساليب القرآن يف الداللة عىل املعنى ،من غري أن يزيد عىل رشح لفظ القرآن
بقدر ما احتمله ِح ْفظ ُه ،ومن ذلك الداللة عىل بعض األلفاظ التي أريد هبا غري
معناها األول يف اللغة.
((( يريد أبو عبيدة بكلمة (جماز) التي سمى هبا كتابه معناها اللغوي ،فكأنه قصد إىل الطرق التي
سلكها القرآن للتعبري عن املعاين ،ومل يرد املعنى الذي يتعارفه علامء البيان اليوم ،فال جرم
أنك جتد فيه كثري ًا من العبارات املستعملة يف حقائقها ،وقد طبع كتابه هذا بمرص يف مطبعة
السعادة سنة .1935
شرح السعد 20
وثانيهم :أبو عثامن عمرو بن بحر بن حمبوب اجلاحظ ،أحد شيوخ املعتزلة
وأئمتهم ،وصاحب القلم الذي ال يأخذه امللل ،وال تعرتيه السآمة ،وشيخ
األدباء واملصنفني ،واملتوىف سنة مخس ومخسني ومائتني عن نيف وتسعني عام ًا؛
وله يف كتابه (البيان والتبيني)((( مباحث كثرية يف بيان الفصاحة والبالغة،
َب
حس َن من السجع ،وخفت فيه املؤنة ،وجان َ
وفضل حسن البيان ،مع بيان ما ُ
طريق التكلف ،وبيان ما ينبغي أن يكون اخلطيب متحلي ًا به من األخالق.
وثالثهم :أمري املؤمنني أبو العباس املرتيض باهلل عبد اهلل بن املعتز بن
املتوكل ،هو شاعر مطبوع مقتدر عىل الشعرُ ،مبدع للمعاين ،وقد كان مع
ذلك من كبار األدباء العلامء ،وناهيك بتلميذ املربد وثعلب وأمثاهلام من فحول
العلامء ،وله كتاب (البديع)((( ،الذي مجع فيه ما استنبطه من مراجعاته وقراءته
من أنواع البديع ،وذكر أنه مل يسبقه إىل ذلك أحد ،وأنه مل يستوف كل األنواع،
ب،
أح َّ
وأباح ملن يأيت بعده أن يزيد عليه ما شاء ،وأن يسمي ما جاء به بأي اسم َ
وقد تويف يف عام 296من اهلجرة.
-3-
وظهر يف القرن الرابع اهلجري ثالثة رجال كان هلم فضل كبري يف هذا
الفن:
أوهلم :أبو الفرج ُقدَ امة بن جعفر بن قدامة ،صاحب كتاب (نقد النثر)،
وكتاب (نقد الشعر) ،وكتاب (جواهر األلفاظ)((( ،واملتوىف يف عام 337من
اهلجرة.
وهو يقول يف مفتتح كتابه نقد النثر« :أما بعد؛ فإنك ذكرت يل وقوفك
عىل كتاب عمرو بن بحر اجلاحظ الذي سامه كتاب (البيان والتبيني) ،وأنك
وجدته إنام ذكر فيه أخبار ًا منتخلة ،وخطب ًا منتخبة ،ومل يأت فيه بوصف البيان،
وال أتى عىل أقسامه يف هذا اللسان ،وكان عندما وقفت عليه غري مستحق هلذا
ال من أقسام البيان آتي ًة عىل
ج ًُسب إليه .وسألتني أن أذكر لك ُ َ
االسم الذي ن َ
أكثر أصوله ،حميطة بجامهري فصوله ،يعرف هبا املبتدئ معانيه ،ويستغني هبا
الناظر فيه ،وأن أخترص لك ذلك لئال يطول له الكتاب».
ثم يبتدئ تصنيفه بتقسيم العقل إىل :موهوب ومكسوب ،ثم يقسم البيان
أربعة أقسام ويسمي األول اعتبار ًا ،والثاين ما حيصل يف قلب اإلنسان ومل ينطق
به ويسميه االعتقاد ،والثالث نطق اللسان ويسميه العبارة ،والرابع البيان
بالكتابة.
ثم يذكر القياس واحلد والوصف واالسم وأنواع البحث والسؤال،
ويعقد باب ًا للنثر وأنواعه ،ثم باب ًا لالعتقاد وأنواعه ،ثم باب ًا للعبارة وأنواعها ،ثم
((( طبع (نقد النثر) يف مرص مرار ًا ،وطبع (نقد الشعر) يف اآلستانة ويف مرص ،وطبع (جواهر
األلفاظ) بتحقيقنا يف عام 1930 - 1929م.
شرح السعد 22
باب ًا لالشتقاق ،ثم باب ًا للتشبيه وأقسامه ،ثم باب ًا للحن يتكلم فيه عىل التعريض
للوحي ،ثم باب ًا لالستعارة واحلاجة إليها ،وباب ًا
ودواعيه ،وباب ًا للرمز ،وآخر َ
لألمثال ،وآخر للغز ،وباب ًا للحذف ودواعيه ،وباب ًا للمبالغة وأقسامها ،وباب ًا
يذكر فيه القطع والعطف ،وباب ًا للتقديم والتأخري(((.
ويتكلم بعد ذلك عن حماسن الشعر وبعض عيوبه؛ فيذكر يف أثناء ذلك
بعض أنواع البديع كام يذكر بعض األسباب املخلة بفصاحة الكالم ،ثم يتكلم
الرتس َل ،ويأيت بام اختاره من روائع اخلطب وجيدها،
ُّ عىل املنثور ويذكر
ويتعرض ملا ينبغي أن يكون عليه اخلطيب.
وأما كتابه (نقد الشعر) فيفتتحه برشح حد الشعر وأسباب جودته وأحواهلا
نفسه يف كلمتني ليست ُتنْكر عليه ،فإذا
وأجناسها ،ويذكر أن مناقضة الشاعر َ
أشبع القول يف الشعر عقد فص ً
ال تكلم فيه عىل النعوت املستحسنة للفظ والوزن
والقافية ،ويذكر يف أثناء ذلك الرتصيع ويكثر التمثيل له ،ثم يعقد فص ً
ال للمعاين
التي يدل عليها الشعر ،وما ينبغي أن يكون عليه يف كل معنى ،وال ُييل ذلك من
ذكر بعض أنواع البديع كاملبالغة ،ويفضل الغلو عن احلد األوسط؛ فإذا صار
إىل نعوت التشبيه ذكر معناه أوالً ،ويذكر بعض أنواعه و ُيم ِّثل هلا ،ثم يتكلم عىل
التقسيم ،واملقابلة ،والتفسري ،والتتميم ،واملبالغة ،والتكافؤ ،وااللتفات،
واملساواة ،واإلشارة((( ،واإلرداف((( ،والتمثيل ،ثم يتكلم عىل ائتالف القافية،
ثم يعقد فص ً
ال يذكر فيه عيوب الشعر ،وأجناس هذه العيوب ،عىل ترتيب ما
ذكره يف نعوهتا.
وأما كتابه (جواهر األلفاظ) فهو كتاب صنفه ليجمع فيه ألفاظ ًا وعبارات
تساوقها يف الوزن أو القافية أو فيهام مجيع ًاَ ،
وصدَّ ره بمقدمة ذكر ُ مرتادفة مع
فيها الرتصيع ،والسجع ،واتساق البناء ،واعتدال الوزن ،واشتقاق لفظ من
لفظ((( ،والعكس ،واالستعارة ،والتقسيم ،واملقابلة ،واملبالغة ،وغري ذلك من
األنواع.
وثاين ثالثة الرجال :أبو احلسن عيل بن عبد العزيز القايض اجلرجاين(((،
صاحب كتاب (الوساطة بني املتنبي وخصومه) وهو الشاعر املجيد املتوىف
يف عام 366من اهلجرة ،وكتابه هذا من خري كُتب العربية يف النقد وبيان
وجوه التفاضل بني الكالم وما يشبهه يف معناه ،وقد أودعه صاحبه الكثري من
وصدَّ ره ببيان أخطاء شعراء اجلاهلية ،وبعد أن عرض عىل قارئه
الشواهدَ ،
نامذج من الشعر العذب أفاض يف ذكر شواهد االستعارة َح َسنها وقبيحها،
وميز النوعني أتم متييز ،ثم َجىل لك أنواع ًا من اجلناس والتقسيم ،واستشهد
لكل واحد ،ثم عاد إىل ذكر حماسن الشعر وعيوبه ،وبعد أن قطع يف ذلك شوط ًا
طوي ً
ال ذكر التشبيه واختالف الناس فيه ،وعرض الكثري مما يستحسن منه ،ثم
ذكر كثري ًا من الرسقات الشعرية.
وثالث هذه الطبقة :أبو هالل احلسن بن عبد اهلل بن َس ْهل العسكري
صاحب كتاب (الصناعتني) ،واملتوىف يف عام 395من اهلجرة .وقد صدَّ ر
إىل ذلك.»...
والكتاب الثاين هو كتاب (املجازات النبوية) الذي مجع فيه مجلة من كالم
النبي صىل اهلل عليه وسلم املوجز الذي مل يسبق إىل لفظه ومل يفرتع من قبله ،مما
وخ َّر َج بعضه تصفح ًا وقراءة ،ثم
أتقن بعضه رواية ،وحصل عىل بعضه إجازةَ ،
بني معاين هذه العبارة التي أريدت منهام ،كام بني املعاين التي وضعت هلا العبارة
أوالً ،فجاء هذا الكتاب جامع ًا لكثري من التطبيقات يف أسلوب قلام يتأتى لغري
ومت إليها بأوثق
الرشيف الرىض وأرضابه ممن تعلق من اللغة بأقوى سببَّ ،
آرصة ،وهو يطلق املجاز يف هذا الكتاب -كام يطلق االستعارة -عىل أوسع ما
تعرفه اللغة العربية هلذين اللفظني من املعنى؛ فالكناية والتشبيه واملجاز املرسل
واملجاز اللغوي واالستعارة ،كل أولئك جماز عنده ،وإن شاء فاستعارة ،وقد
كان هذا معروف ًا غري مستنكر إىل هذا الوقت ،اسمع إليه يقول(((« :ومن ذلك
قوله عليه الصالة والسالم« :األنصار كريش وعيبتي» ،ويف هذا القول جمازان؛
أحدمها :قوله عليه الصالة والسالم« :كريش» ،وحيتمل ذلك معنيني:
أحدمها :أن يكون أراد عليه الصالة والسالم أهنم ماديت التي أقوى هبا وأفزع
اجل َّر ِة منها ،واالعتامد عند
إليها كام تفزع ذوات االجرتار إىل أكراشها يف انتزاع ِ
فقد املرعى عليها ،فأراد أن األنصار رمحة اهلل عليهم يمدّ ونه بأنفسهم ،ويكون
معوله يف الرساء والرضاء عليهم» اهـ .ولو أنه كان من املتأخرين لقال :إن يف
ّ
هذه العبارة تشبيه ًا بليغ ًا؛ فهو عليه الصالة والسالم يشبه األنصار بالكرش،
أن كل واحد منهام عليه ُم َع َّو ُل املستنِ ِد إليه واعتامده،
واجلامع بني طريف التشبيه َّ
وإليه َف َزعه عند الشدة ،وجلؤه عند الألواء والكربة ،ونحو ذلك.
((( يف ص ( )63من (املجازات النبوية).
27 شرح السعد
((( قد تكلم قدامة بن جعفر عىل الفصل والوصل ،وعىل التقديم والتأخري ،ولكنه كالم ليس يف
سعة بحث الشيخ عبد القاهر ،وانظر ص 21من هذه املقدمة.
29 شرح السعد
هذا كله فال تزال كتب الشيخ عبد القاهر إىل اليوم إمام كل علامء البالغة الذي
يتوجهون يف بحوثهم إليه ،وال يتابعون يف حتقيقاهتم سواه.
وهلذا اجلهد اجلاهد الذي بذله الشيخ عبد القاهر جيعله كثري ممن تصدى
واضع علم البيان.
َ لتأريخ هذه العلوم
-5-
فلام كان القرن السادس اهلجري نبغ فيه اإلمام الذي ال يشق ُغ َباره ،وال
يدرك َمدَ اه ،وال جيري أحد عىل واسع خطاه ،العامل الذي فاق السابقني ،وأعجز
الالحقني ،ذلك هو جار اهلل حممود بن عمر الزخمرشي صاحب تفسري القرآن
الكريم املسمى بـ (الكشاف) ،وصاحب كتاب (أساس البالغة((() ،واملتوىف
يف عام 538من اهلجرة.
أما كتابه الكشاف فقد أودعه أرسار العربية وأساليبها ،فبيَّ حقائقها
وجمازاهتا واستعاراهتا وتشبيهاهتا؛ يف حتقيق رصني ،وتدقيق بارع ،وأبان ما
ش َعة يصدرون عنها، ِ
عجز عن تصوره الذين سبقوه ،ال جرم اختذه العلامء ْ
ويرتوون منها ،وكان هلم املـَن ََار الذي أوضح السبيل ،فلست ترى من بعده
أحد ًا إال والكشاف هاديه ودليله.
وكتاب اهلل تعاىل نموذج البالغة العالية ،ومثال اإلعجاز اإلهلي الذي
حتدى مصاقع البيان فأخرسهم وأبطل حجتهم ،فإذا انربى إليضاح بالغته
واإلفصاح عن مكنونات أساليبه عامل فحل مثل جار اهلل أتى بالعجب العاجب،
وهذا هو الذي حدث ،فأنت لو قرأت الكشاف وجدت مسائل العربية،
((( للزخمرشي كتب كثرية يف اللغة واألدب والنحو وغريها ،وأكثرها معروف مشهور ،ولكن
الذي يعنينا من مؤلفاته هذان الكتابان.
شرح السعد 30
-6-
ثم جاء بعد ذلك أبو يعقوب يوسف بن أيب بكر حممد بن عيل السكاكي
املتوىف يف عام 626من اهلجرة ،وهو إمام جليلَ ،د َر َج أوالً يف حجر الفلسفة،
وأولع هبا ،فملكت عليه نفسه ،واستولت عىل تفكريه كله ،فهو مفتون هبا،
ُم ْغرى بنظامها وحسن هتذيبها للفكر والعمل مع ًا ،وهو من أجل هذا يريد أن
جيعلها حك ًام يف كل علم ،وال يريد أن يقف عند حد من احلدود التي وضعها
أسالفه ،إال أن يكون ذلك احلد ال يدخله اخلطأ ،وال يعرتيه اخللل يف َط ْرده أو
عكسه.
وكان ذلك -يف احلق ،وإن مل يرض هبذا احلق أكثر الناس اليوم -من
أعظم الدواعي وأجلها لتحديد مسائل هذه العلوم حتديد ًا علمي ًا دقيق ًا ،غاية يف
الدقة ،وكان أبو يعقوب السكاكي صاحب الفضل الكبري عىل الناس إىل يوم
الناس هذا يف دراسة علوم البالغة كامدة علمية هلا قواعد متقررة ثابتة ،وقضايا
متميزة بعضها عن بعض أتم متيز ،وله الفضل الكبري يف حتديد األنواع وضبطها
ِ
ضبط ًا يرد كل يشء إىل ن َصابه من غري أن يبقى ٌ
كثري من فروع هذا العلم مرتددة
متذبذبة بني األنواع ،تارة إىل هذا ،وتارة إىل ذلك.
ونحن نعلم أن كلمتنا هذه ستغضب كثري ًا من الناس الذين ال يعرفون
للسكاكي هذه املزية ،وال يدينون له هبذا الفضل ،وهم يمألون الدنيا عليه
وصاخ ًا ،وينسبون له أنه َش َ
اك عىل املتعلمني ُط ُر َق البالغة ،و َع ّقد عليهم جلبة ُ َ
مسالكها ،ووضع هلم العراقيل دون الوصول إليها ،بام حاول من إخضاعها
لقواعد الفلسفة ،وبام حاط بحوثها من اجلدل والفروض اخليالية ،دون أن
يرجع إىل أساليب من العربية واضحة املآخذ منرية املعامل ،ودون أن يكون
35 شرح السعد
له من أسلوبه نفسه ما يرغب الباحثني يف أبحاثه ،ويشوق نفوسهم إىل اقتفاء
آثاره.
نحن نعلم أن كلمتنا هذه ستغضب هؤالء الباحثني ،ولكنا -مع ذلك-
ُص عليها ،ونقرها يف هدوء املستيقن ،ورزانة َم ْن ال تداخله خلجة شك فيها؛ ِ
ن ُّ
التشزز
(((
ُّ ونقول :إنا ال ندري ما كان عسى أن يصيب مسائل هذه العلوم من
والشتات ،وتفرق األهواء لو مل ُيت َْح هلا مثل عقل السكاكي العجيب.
وبحسبك أنك ال جتد كاتب ًا بعد السكاكي إال رأيته قد سار عىل طريقته
وتبع َق ْف َوه ،وتنكب طريق الناس أمجعني.
وليس بنا من حاجة إىل أن نذكر لك مج ً
ال من كتابه (مفتاح العلوم) الذي
مجع فيه خالصة علم الرصف وعلم النحو وعلوم البالغة (املعاين والبيان
والبديع) وعلم االستدالل (املنطق) وعلم العروض والقافية ،وذلك ألن يف
استطاعتك أن تدرك من النظرة األوىل يف القسم الثالث من هذا الكتاب -وهو
القسم الذي خصه بالكالم عىل البالغة وعلومها -مقدار ما بذله من اجلهد
لضبط مسائل هذه العلوم عىل النحو الذي قررناه لك.
وإن مل يكن لنا بد من مالحظة عىل السكاكي فهي ال تعدو أنه أخىل كتابه
من العبارة الرنانة وكثرة التمثيل ،فجاء كتابه تقرير ًا للقواعد ،وحتديد ًا دقيق ًا
ملشتبه مسائلها ،وتفرقة بني األمثال والنظائر ،وتقريب ًا بني املتباينات .ولو أنه
حاول ذلك يف مثل أسلوب عبد القاهر ونَصاعة بيانه وسحر عبارته ،ثم أكثر
من األمثلة والشواهد ،لكان مرضي ًا عنه من الناس أمجعني.
-7-
ثم جاء من بعد أولئك ضياء الدين أبو الفتح نرص اهلل بن أيب الكرم
جلزري،
حممد بن حممد بن عبد الكريم املوصيل الشافعي املعروف بابن األثري ا َ
صاحب كتاب (املثل السائر) ،وكتاب (اجلامع الكبري يف صناعة املنظوم من
الكالم واملنثور)(((.
وضياء الدين بن األثري ثالث ثالثة إخوة كان كل واحد منهم من أساطني
العلامء يف فنه .وثانيهم عمدة املؤرخني أبو احلسن عز الدين عيل بن أيب الكرم
حممد بن حممد بن عبد الكريم صاحب كتاب (الكامل) يف التاريخ ،واملتوىف يف
عام 630من اهلجرة.
وثالثهم أبو السعادات جمد الدين املبارك بن أيب الكرم حممد بن حممد بن
عبد الكريم ،أشهر العلامء ذكر ًا ،وأكربهم قدر ًا ،وأنبلهم شأن ًا ،وهو من كبار
املحدثني ،ومن تصانيفه كتاب (جامع األصول يف أحاديث الرسول) ،مجع فيه
بني كتب السنة الستة املوثوق هبا ،واملعول بني علامء األمصار عليها ،وله كتاب
(النهاية يف غريب احلديث واألثر) وهو كتاب فريد الوضع غريب الصنع،
رشح فيه املفردات الغريبة التي تدور يف أحاديث الرسول صىل اهلل عليه وسلم،
وكان كتابه هذا أحد الكتب التي مجعها ابن منظور يف كتابه (لسان العرب)،
وتويف جمد الدين عام 606من اهلجرة.
وابن األثري األديب حيدثك عن َج ْهده الذي بذله يف علوم البالغة يف
مفتتح كتابه (اجلامع الكبري) فيقول« :أما بعد ،فلام كان تأليف الكالم مما ال
((( طبع كتاب (املثل السائر) مرار ًا بمرص ،وطبع بتحقيقنا طبع ًا أنيق ًا يف سنة ،1939وأما كتاب
(اجلامع الكبري) فلم يطبع إىل اليوم ،ومنه نسخة خطية يف مكتبتنا اخلاصة جزء منها.
37 شرح السعد
يوقف عىل َغ ْوره ،وال يعرف كنه أمره ،إال باالطالع عىل علم البيان الذي هو
هلذه الصناعة بمنزلة امليزان ،احتجت حني شدوت نبذة من الكالم املنثور ،إىل
معرفة هذا العلم املذكور ،فرشعت عند ذلك يف تطلبه ،والبحث عن تصانيفه
ال إال َنَ ْجته ،وال غادرت يف إدراكه باب ًا إال
وكتبه ،فلم أترك يف حتصيله سبي ً
وجلته ،حتى اتضح عندي باديه وخافيه ،وانكشفت يل أقوال األئمة املشهورين
فيه ،كأيب احلسن عيل بن عيسى الرماين ،وأيب القاسم احلسن بن برش اآلمدي،
وأيب عثامن اجلاحظ ،وقدامة بن جعفر الكاتب ،وأيب هالل العسكري،
وأيب العالء حممد بن غانم املعروف بالغانمي ،وأيب حممد عبد اهلل بن سنان
اخلفاجي ،وغريهم ممن له كتاب ُيشار إليه ،وقول تعقد اخلَنَارص عليه ،ثم ملا
الوة من الدهر ،وانقىض دونه برهة من العمر ،ملحت يف أثناء
مىض عىل ذلك َم َ
القرآن الكريم من هذا النحو أشياء ظريفة ،ووجدت يف مطاويه من هذا النوع
نكت ًا دقيقة لطيفة ،فعرضتها عند ذلك عىل األقسام التي ذكرها هؤالء العلامء
ورشحوها ،واألصناف التي ب َّينوها يف تصانيفهم وأوضحوها ،فألفيتهم قد
غفلوا عنها ،ومل ينبهوا عىل يشء منها؛ فكان ذلك باعث ًا يل عىل تصفح آيات
القرآن العزيز والكشف عن رسه املكنون ،فاستخرجت منه حينئذ ثالثني رضب ًا
من علم البيان ،مل يأت هبا أحد من أولئك العلامء األعيان ،وكان ما ظفرت به
أصل هذا الفن وعمدته ،وخالصة هذا العلم وزبدته»...
فهو يعكف أوالً عىل دراسة كتب السلف من العلامء ،ثم يعكف عىل
قراءة األمثال والشواهد ،ومن بني ذلك آيات القرآن الكريم ،ثم يقارن بني
ما فهمه من هذه الشواهد وبني ما ذكره السابقون ،فيبِ ُ
ني له أهنم مل يستوعبوا
األنواع ويستدرك عليهم ثالثني نوع ًا أغفلوها ،ثم يصنف كتابه هذا يف قطبني:
شرح السعد 38
القطب األول ينقسم إىل فنَّني :أحدمها فيام جيب عىل مؤلف الكالم
االبتداء به ،ويستويف ما أراد من ذلك يف أربعة أبواب ،وثانيهام يف الكالم عىل
األلفاظ واملعاين وتفضيل الكالم املنثور عىل املنظوم ،ويبلغ من ذلك ما أراد يف
ثالثة أبواب.
والقطب الثاين ينقسم إىل فنَّني أيض ًا :الفن األول يف الفصاحة والبالغة،
والفن الثاين :يف ذكر أصناف البيان وانقساماهتا ،وجيعله عىل بابني :الباب
األول يف الصناعة املعنوية ،وتنقسم عنده إىل تسعة وعرشين نوع ًا يذكر
منها :االستعارة ،والتشبيه ،واإلجياز ،واإلطناب ،والكناية ،والتعريض،
والتفسري بعد اإلهبام ،والتقديم والتأخري ،والتخلص واالقتضاب ،واملبادي
واالفتتاحات ،وقوة اللفظ لقوة املعنى والباب الثاين يف الصناعة اللفظية ،وهي
عنده سبعة أنواع :السجع ،واالزدواج ،والتجنيس ،والرتصيع ،ولزوم ما ال
يلزم ،واملوازنة واختالف صيغ األلفاظ ،وتكرير احلروف.
وكتابه (املثل السائر) جيري عىل النحو الذي خلصنا لك طريقته؛ فهو
يفتتحه باخلطبة التي ال خترج يف املعنى عام نقلناه لك من خطبة (اجلامع الكبري)،
وهو بعد ذلك يبني الكتاب عىل مقدمة ومقالتني ،فيذكر يف املقدمة أصول
البيان ،ويذكر يف املقالتني فروعه ،وخيتص أوالمها بذكر الصناعة اللفظية،
والثانية بذكر الصناعة املعنوية.
وقد تويف ضياء الدين بن األثري يف عام 637من اهلجرة.
39 شرح السعد
-8-
ثم جاء بعد ذلك اإلمام أبو املعايل جالل الدين قايض القضاة حممد بن
عبد الرمحن بن عمر بن أمحد بن حممد بن عبد الكريم بن احلسن بن عيل بن
إبراهيم ،القزويني ،الشافعي ،املولود يف سنة 666؛ واملتوىف يف سنة 739من
اهلجرة ،فأراد أن جيمع بني طريقتي اإلمامني الشيخ عبد القاهر اجلرجاين،
صاحب (دالئل اإلعجاز) و(أرسار البالغة) وأيب يعقوب السكاكي صاحب
(مفتاح العلوم) ويضم إىل مباحثهام ما استدركه العالمة ابن األثري صاحب
(اجلامع الكبري) و(املثل السائر) من األنواع عىل من سبقه من العلامء؛ فبدأ
عمله هذا بتلخيص القسم الثالث من (مفتاح العلوم) ،الذي صنفه أبو يعقوب
يوسف السكاكي؛ ألنه فيام رأى «أعظم ما ُصنف يف علم البالغة من الكتب
املشهورة نفع ًا ،لكونه أحسنها ترتيب ًا ،وأمتها حترير ًا ،وأكثرها لألصول مجع ًا»(((،
وأراد أن يكون كتابه خري ًا من كتاب السكاكي؛ فجعله «مشتم ً
ال عىل ما حيتاج
إليه من األمثلة والشواهد ،ومل يأل جهد ًا يف حتقيقه وهتذيبه ،ورتبه ترتيب ًا أقرب
تناوالً من ترتيبه ...وأضاف إىل ذلك فوائد عثر يف بعض كتب القوم عليها،
وزوائد مل يظفر يف كالم أحد بالترصيح هبا ،وال اإلشارة إليها».
ويظهر أنه بدا له بعد أن أكمل تصنيف هذا الكتاب أنه قد جاء خمترص ًا أكثر
وشط عىل نفسه ،وأنه مل يأت فيه بام َين َقع الغلة من األمثلة والشواهد،
مما أراد َ َ
فأراد أن يبسط عبارته بعض البسط ،ويكثر من التمثيل واالستشهاد ،مع عدم
اإلخالل بام وضعه عليه من الرتتيب والضبط؛ ألن يف ذلك كله تقريب ًا للكتاب
من كتب الشيخ؛ إذ كان املخترص أقرب إىل تدقيق السكاكي ،فوضع هلذه الغاية
((( هذه العبارات من خطبة اخلطيب يف مفتتح كتابه (تلخيص املفتاح).
شرح السعد 40
كتابه (اإليضاح) وهو يقول يف مفتتحه« :أما بعد :فهذا كتاب يف علم البالغة
وتوابعها ترمجته باإليضاح ،وجعلته عىل ترتيب خمترصي الذي سميته تلخيص
املفتاح ،وبسطت فيه القول ليكون كالرشح له ،فأوضحت مواضعه املشكلة،
وفصلت معانيه املجملة ،وعمدت إىل ما خال عنه املخترص مما تضمنه مفتاح
َّ
العلوم ،وإىل ما خال عنه املفتاح من كالم الشيخ اإلمام عبد القاهر اجلرجاين
-رمحه اهلل -يف كتابيه (دالئل اإلعجاز وأرسار البالغة) ،وإىل ما تيرس النظر فيه
من كالم غريمها ،فاستخرجت زبدة ذلك كله وهذبتها ورتبتها ،حتى استقر
كل يشء منها يف حمله ،وأضفت إىل ذلك ما أدى إليه فكري ،ومل أجده لغريي،
فجاء بحمد اهلل جامع ًا ألشتات هذا العلم»(((.
-9-
وقد و َق َفت بعد اخلطيب القزويني جهود العلامء .وثبت العلم يف املكان
الذي تركه اخلطيب فيه ،فبعد أن كان كل واحد منهم يأيت مستدرك ًا عىل َم ْن
سبقه بعد أن جييد كتبهم بحث ًا ،ويطيل النظر يف األساليب العربية حماوالً أن يقع
منها عىل ما مل يظفر به أحد ،بعد هذا كله صارت كتب الناس منذ ذلك الوقت
إىل هذه اللحظة التي نكتب فيها كلمتنا هذه ،عبارة عن اختصار كتاب مطول،
إو إطالة كتاب خمترص.
ومن هذا النحو مجيع رشاح كتاب (تلخيص املفتاح) ،فليس يف واحد من
ال واختصار ًا -زيادة مسألة واحدة
هذه الرشوح -عىل كثرهتا واختالفها تطوي ً
يف مسائل العلم ،وليس يف املخترصات التي حاول أصحاهبا تبسيط كتاب
التلخيص وتقريبه إىل أذهان الطالب جمهود موفق حاول صاحبه أن جيعل به
((( من خطبة كتابه (اإليضاح).
41 شرح السعد
مسألتني أو أكثر مسألة واحدة .وإنام انحرص جهد الباحثني وقوة املجتهدين يف
اختصار العبارة أو إطالتها ،ويف االعرتاض عىل عبارة اخلطيب أو الدفاع عنها
عىل طريقة الفالسفة وأهل اجلدل ال عىل طريقة األدباء وعلامء النقد اللغوي.
ومن رشاح هذا الكتاب الشيخ اإلمام العالمة سعد الدين مسعود بن
عمر بن عبد اهلل التفتازاين الشافعي ،املولود يف عام ،712واملتوىف يف عام 791
من اهلجرة.
وهو من العلامء الذين غلبت عليهم قواعد الفلسفة واجلدل ،فصنَّف
يف أكثر العلوم عىل طريقة واحدة :صنَّف يف النحو ،ويف الرصف ،ويف علوم
البالغة ،ويف أصول الفقه ،ويف علم الكالم ،ويف املنطق ،ويف التفسري ،وأخذ
علمه عن القطب والعضد ،وكان عامل ًا من فحول العلامء ،له باع طويل
يف التحقيق الدقيق ويف االعرتاض عىل العبارة واجلواب عنها ،ولكنه كان
صاحب لكنة يف لسانه ،وكانت هذه اللكنة سبب ًا يف تفوق تلميذه -السيد
الرشيف اجلرجاين عيل بن حممد بن حممد بن عيل احلنفي املتوىف يف عام 816
من اهلجرة -عليه ،رمحهام اهلل تعاىل!.
نسأل اهلل سبحانه أن يوفق ويعني بمنه وفضله ،إنه ويل ذلك كله.