Professional Documents
Culture Documents
الأسطوري و الفلسفي قراءة في بدايات التفكير الانساني
الأسطوري و الفلسفي قراءة في بدايات التفكير الانساني
يدرك ادلتأمل يف الفكر اإلنساين القدمي أن األساطَت ليست رلرد حكايات خرافية ال طائل من ورائها كما يعتقد كثَت من الناس،
بل ىي نتاج فكري ووعي معريف استخدمو اإلنسان األول ليعرب فيو عن فلسفتو ونظرتو للحياة وادلوت والكون ،والصراع بُت اخلَت
والشر ،ويطرح من خاللو تساؤالتو عما يراه من تناقضات وصراعات بُت الكائنات واألشياء.
لقد جهد اإلنسان نفسو دوما يف كشف حقيقة الوجود واحلياة والبدايات والنهايات وشغلتو ىده التناقضات والصراعات ردحا
من الزمن .وكانت وسيلتو حُت ذاك مرتبطة بادلرحلة التارخيية لتطوره النفسي والعقلي وبداية تشكل وعيو ادلعريف.
اعتقد اإلنسان يف البداية -على حد رأي جيمس فرايزر -أن العامل بكل مظاىره ادلتعددة خيضع لًتابطات وقواعد معينة ،وأن
معرفتو بتلك القواعد و الًتابطات تساعده على فهم الكون و ظواىره
و بالتايل إخضاعها لرغباتو ومصاحلو فهو ،على سبيل ادلثال ,يستطيع استجالب ادلطر عن طريق شلارسات سحرية معينة تدفع
الطبيعة رلربة لالستجابة ،كما أنو يستطيع دفع الكوارث ،والقضاء على األعداء وشفاء األمراض بالطريقة نفسها ،وقد تكونت
لديو عرب القرون ،ومن خالل تكرار ىذه ادلمارسات ،رلموعة من القواعد وادلعارف السحرية ( ادلرحلة السحرية).
مل يكن اإلنسان يف ىذه ادلرحلة يستعُت بأية قوى خارقة إذلية من أي نوع ،إلديانو ادلطلق بأن تسلسل األحداث واألخذ بأسباهبا
وبلوغ نتائجها خيضع لقواعد معينة ،ىي جزء أصيل من الطبيعة ذاهتا.
وبعد تاريخ طويل من البحث الشاق وادلمارسات ادلليئة باألمل والفشل يف السيطرة على الطبيعة والعامل بواسطة ىذا العلم الزائف
(السحر) اجتو اإلنسان إىل الدين أو باألحرى إىل ادلعتقدات ملتمسا فيها هنجا آخر ،معربا عن وعي معريف يف طريق التشكل .فإذا
الًتابطات ادلفًتضة ،فالبد من وجود كانت الطبيعة قد دتردت حىت اآلن على اإلنسان ،مثبتة عدم خضوعها لتلك القواعد و
قوى أخرى خارقة تقف وراء ىذه التناقضات وادلظاىر ادلتبدية ذلذا الكون ،قوى إذلية قادرة وفاعلة ،بل ومسيطرة على الكون
واإلنسان واألشياء ،وبذلك بدأت مرحلة جديدة تتميز بالتقرب لتلك القوى واستعطافها واجتذاب ميلها ،وزلاولة فهم رغباهتا
وطرق اسًتضائها .وىاىنا بدأت قصة ادلعتقدات أو الديانات بشقيها :االعتقاد الذي يستخدم األسطورة كأداة للمعرفة والكشف
عن ادلخبوءات ،والطقوس اليت هتدف إىل اسًتضاء اآلذلة من خالل العبادات والتقرب منها.
وانطالقا من ىذا الوعي ادلبكر للفكر اإلنساين تشكلت األساطَت كنموذج مقدس من التفكَت يف القوى ادلتحكمة يف الكون
الفاعلة فيو ،ادلؤثرة يف حياة اإلنسان وعادلو ،فهي شكل من أشكال التفكَت ادلقدس أو « حكاية ادلقدس ،ذات مضمون عميق
يشف عن معاين ذات صلة بالكون والوجود وحياة اإلنسان» 1إهنا أسلوب يف ادلعرفة والكشف عن احلقائق بغية إجياد نظام معقول
ومفهوم للوجود ،يقتنع بو اإلنسان وجيد مكانتو احلقيقية ضمنو ،ويؤدي دوره الفعال فيو ،فهي(األساطَت) اإلطار األقدم للتفكَت
اإلنساين ادلبدع ،اخلالق ،الذي قاد البشرية على طول األزمنة الغابرة ،إىل العلوم احلديثة و ادلنجزات احلضارية الراىنة.
إال أن الفكر ،كما يقول الفالسفة ال يقف عند نقطة معينة وال يطمئن إىل نتيجة ،أو يركن إىل معرفة يظنها مطلقة فهو يف وثبة
دائمة وحركة دائبة تتجاوز أبدا ما وصلت إليو،ولذا هتاوت اآلذلة وانتهى عصر األساطَت حتت مطارق الفلسفة والعقل ،وجترع
سقراط السم جزاء دترده على آذلة اليونان.
لكن ىذا ال يعٍت أن األسطورة والفلسفة شيئان مبتعدان أو متناقضان ،فهما يدوران حول موضوعات جدية ومشولية مثل التكوين
واألصول وادلوت والعامل اآلخر أو ما يسمى عند الفالسفة بادليتافيزيقا ،ومعٌت احلياة وسر الوجود ،اخلَت والشر وغَتىا من ادلسائل
ىم األسطورة والفلسفة واحد ،ولكنهما ختتلفان يف
الكربى اليت استقطبت التفكَت اإلنساين منذ القدمي ،ومن مث ديكن القول « إن ّ
طريقة التناول والتعبَت .فبينما تلجأ الفلسفة إىل احملاكمة العقلية وتستخدم ادلفاىيم الذىنية كأدوات ذلا ،فإن األسطورة تلجأ إىل
ادلتحركة » 2لتعرب عن وعي اإلنسان وعن طفولة الفن و الفكر عموما.
اخليال و العاطفة والًتميز ،وتستخدم الصور احلية ّ
ومع تطور العلوم وتبلور ادلناىج ونزول الفلسفة إىل معًتك احلياة مع مطلع العصور احلديثة وباألخص يف عصر االستنارة يف
مشوىا لألحداث أو بوصفها أحاديث العامة
القرن الثامن عشر أدى ذلك إىل ازدراء األسطورة وإنزاذلا من مرتبتها بوصفها سردا ّ
وحكاياهتم ادلسلية ،دلا حتتويو من عناصر غيبية تتناىف وادلنطق السليم ،الذي وصل إليو العلم .
إال أن تشعب العلوم وظهور العديد من ادلذاىب الفلسفية والفكرية يف مطلع القرن التاسع عشر ،قد جلب ثورة أدبية ومجالية
أعادت لألساطَت مكانتها كشكل من أشكال التعبَت اإلنساين اليت ينبغي االىتمام هبا ،فما لبثت الرومانتيكية أن خطت خطوات
بعيدة يف النظر لألساطَت بوصفها مصدرا ألفكار األولُت وملهمة الشعر والفن عندىم ،فهي « الدين والتاريخ والفلسفة مجيعا عند
القدماء ،وىي ليست فكرة مبتدئة أو خاطئة ،بل إهنا فكرة بدوية تارخيية صبغت بصبغة اإلطناب وادلغاالة إظهار أمهية تلك احلادثة
احلقيقية يف جيل زال أثره من ذىن الناس » ، 3وىكذا شأن اإلنسان مع كل ما مضى من أفكار وحقائق وتصورات.
مث اجتهت إليها العلوم اإلنسانية والعلوم االجتماعية ،تبحث خلف أشكاذلا عن معانيها العميقة ورموزىا الكامنة لعلها تعُت على
فهم آليات التفكَت عند اإلنسان األول وتشكل تصوراتو ووعيو دلا حييط بو من أشياء .وىكذا قدمت األساطَت ذلذه العلوم وغَتىا
مادة قيمة ال تقدر بثمن ،وغدت منهال ثراًّ ذلذه العلوم ومصدرا ىاما من مصادرىا بل وأصبحت فرعا من فروعها ادلعرفية أطلق
عليها اسم ادليثولوجيا تعٌت بدراسة األساطَت وتفسَتىا.
ومنذ هناية القرن التاسع عشر واىل يومنا ىذا ،ظهرت اجتاىات ومدارس سلتلفة هتدف إىل تقدمي تفسَتات ونظريات حول
األسطورة وبيان داللتها ورموزىا وبواعثها ووظائفها ،إال أن معظم ىذه ادلدارس قد وقعت حتت تأثَت اجتاه أصحاهبا شلا جعلها
أحادية النظرة ،بعيدة كل البعد عن النظر إىل األساطَت بوصفها الرحم الذي ولدت منو الفلسفة والعلوم .وقد كانت األسطورة يف
احلضارات القددية تقوم بالدور نفسو الذي تقوم بو ادليتافيزيقا يف الثقافات ادلتطورة اليت أعلت من شأن الفلسفة ،غَت أهنا تعاًف
ىذه القضايا بطريقتها اخلاصة معتمدة على الرمز واحلكي والشخصيات والصور احلسية ،مستكملة ذلك كلو بالطقوس والشعائر
ذات ادلعٌت العميق وىذا يعٍت أن « كالّ من األسطورة والفلسفة والعلم يستجيب على طريقتو دلطلب النظام ،أي دلطلب اإلنسان
يف أن يعيش ضمن عامل مفهوم ومًتتب ،وأن يتغلب على حالة الفوضى اخلارجية اليت تتبدى للوعي يف مواجهتو األوىل مع
الطبيعة .فالفلسفة تنتج نظاما مًتابطا من ادلفاىيم التجريدية ي ّدعي لتفسَت العامل» 4ويف مقابل ىذا النظام من ادلفاىيم الفلسفية
والعلمية ،فإن األسطورة أيضا تعتمد من جانبها على خلق نظامها اخلاص ومفاىيمها اخلاصة ،وىو نظام قوامو اآلذلة والقوى اخلفية
وادلاورائية اليت يعتمد بعضها على بعض أيضا.
واألسطورة يف دأهبا خللق ىذا النظام ،تعمل على تأسيس خزانا ال ينضب معينو من وسائل الًتميز والشعائر ،وتفتح الباب واسعا
أمام الوعي والالوعي ،وأمام احلقيقة واخليال ،ومن ىنا جاءت سطوة األسطورة وسلطاهنا على النفس ،حىت يف مرحلة العلم
والتكنولوجيا اليت نعيشها اليوم.
فاألسطورة كالفلسفة تطلعنا على تلك الوحدة بُت الطبيعي ادلرئي وادليتافيزيقي الغييب ،بُت احلي ادلتحرك واجلامد ادليت ،بُت
اإلنسان وبقية مظاىر احلياة .لكن النظام الذي ختلقو األسطورة خيتلف عن النظام الذي ختلقو الفلسفة ،فهو (النظام األسطوري )
ليس نظام العقل ادلتعايل الذي جيعل نفسو خارج األشياء ،بعيدا عنها ،يتأملها ويفسرىا ويتحدث عنها عن بعد ،بل ىو النظام
ادلتعدد األبعاد الذي ال يستطيع أن يرى نفسو خارج األشياء أو بعيدا عنها ،نظام مرتبط حبركة األشياء وحياهتا.
إن التمييز الذي يصنعو العقل بُت ادلدركات واإلنسان أو بُت ادلفاىيم واألشياء ،سرعان ما يذوب من خالل األسطورة اليت تعيد
الربط بُت طريف الوجود( اآلذلة – اإلنسان – الكون) وتكشف أمامنا تلك العالقات والروابط اجلامعة لكل ما يتبدى يف وعينا.
وشلا يشَت إىل ىذا االلتقاء منذ الزمن القدمي ،أن فالسفة اإلغريق األوائل من أصحاب ادلدرسة األيونية قد تأثروا بشكل خاص
بأساطَت ديانة األسرار األورفية والسيما تصوراهتا ادلاورائية ،وعلى رأسهم انكسمندر الذي يقال أنو نزع عن اإللو األور يف عباءتو
األسطورية (الدينية) وحولو إىل مفهوم فلسفي « ،وتأثر الفلسفة الفيتاغورية باألساطَت األورفية إىل درجة يصعب معها أحيانا
التفريق بُت العناصر الفيثاغورية والعناصر األورفية وخصوصا عندما ننظر إىل األفكار ادلتعلقة بتناسخ األرواح ومبدأ الثواب والعقاب
،7ويتجلى ىذا التأثَت يف احلياة األخرى ،وما إليها من األفكار وادلبادئ و التحرديات والرموز ادلشًتكة بُت ىذين النظامُت »
بشكل واضح يف فلسفة إمبيدوقليس .
يتبُت شلا سبق أن الطابع الفلسفي لألسطورة ،وأثرىا الفعال يف نقل األفكار اجملردة وتثبيت ادلعتقدات والطقوس ،يفسر لنا تلك
ادلعمرة» 8و حبسب ىذه
العالقة ادلصَتية بُت ادلعتقدات والفلسفة واألسطورة ولإلشارة فقد كانت ادليثولوجيا تسمى « الفلسفة ِّ
الفلسفة ،فإن ىناك عامل آخر مواز لعادلنا لكنو أكثر غٌت وقوة ودديومة منو ،وأن كل حقيقة أرضية ىي عبارة عن ظل باىت
لنموذجها األصلي ،وطرازىا األويل ،وىي نسج غَت مكتمل ،بل يف بعض األحيان نسخ مشوىة ،ومن مث فإن الكائنات احلية ،ال
ديكنها حتقيق إمكاناهتا وطاقاهتا إال بادلشاركة يف تلك احلياة اإلذلية ،وىو ما قدمتو األساطَت بالتفصيل ،كي دتكن البشر من زلاكاة
تلك الكائنات الفائقة واختبار جتربة األلوىية بأنفسهم .وىذا يعٍت بدوره أن احلديث عن سلوك اآلذلة ،كما ورد يف العديد من
األساطَت مل يكن لغرض التسلية والًتويج بل كان الغرض منو مساعدة اإلنسان على حتقيق ذاتو من خالل زلاكاة اآلذلة.
اذلوامش
1فراس سواح:األسطورة وادلعٌت دار عالء الدين سوريا ط 1997 1ص .14
2فراس سواح:األسطورة وادلعٌت دار عالء الدين سوريا ط 1997 1ص .13
3زلمد عبد ادلعيد خان ،األساطَت واخلرافات عند العرب دار احلداثة –لبنان -ط 1981 3ص.20
4ينظر فراس السواح ،األسطورة وادلعٌت ص .21
5فراس السواح ،األسطورة وادلعٌت ص ..22
6ثيودور اويزرمان :تطور الفكر الفلسفي ،ترمجة مسَت كرم ،دار الطليعة العربية ص.15
7فراس السواح ،األسطورة وادلعٌت ص 23
8كارين أرمسًتورنغ :تاريخ األسطورة –ترمجة وجيو قانصو –الدار العربية للعلوم –لبنان ط 2008 1ص .10