You are on page 1of 7

‫"مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة"‬

‫‪ ‬فئة ‪ :‬قراءات في كتب‬

‫‪ ‬حجم الخط ‪+ 18 -‬‬ ‫يناير ‪2019‬‬


‫للنشر‪:‬‬
‫بقلم فوزي بوخريص‬ ‫‪25‬‬
‫قسم‪ :‬الفلسفة والعلوم اإلنسانية‬

‫قراءة في كتاب "مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة"([‪)]1‬‬

‫يتميز هذا الكتاب بأهمية خاصة‪ ،‬بالنظر إلى مساهمته القيمة في االنتقال الجاري في السوسيولوجيا المغربية من براديغم السوسيولوجيا القروية إلى براديغم‬
‫سوسيولوجيا التحضر والهجرة‪ .‬والواقع أن هذا االنتقال يعبر عن حاجة‪ ،‬سبق لبول باسكون‪ ،‬رائد السوسيولوجيا القروية نفسه‪ ،‬أن عبر عنها‪ ،‬عندما أكد أن من أبرز‬

‫السوسيولوجيات التي ينبغي النهوض بها‪ ،‬إلى جانب السوسيولوجيا القروية‪" ،‬السوسيولوجيا الحضرية"[‪ ،]2‬كما أن هذا االنتقال وثيق االرتباط بالتحوالت التي يشهدها‬
‫المجتمع المغربي خالل العقود األخيرة‪:‬‬

‫أوال‪ ،‬ألن المغرب بعد أن ظل لزمن طويل بلدا قروّيا‪ ،‬أضحت المدن فيه اليوم مجال عيش غالبية الساكنة‪ ،‬واإلطار الترابي الستقرارها والمكان الذي يحتضن غالبية‬

‫األنشطة والثروات واإلنتاج الوطني‪ .‬حيث انتقلت نسبة التمدن من حوالي ‪ %8‬في بداية القرن العشرين‪ ،‬إلى ‪ %3 ,60‬سنة ‪ ،2014‬ومن المتوقع أن تصل إلى ‪ %70‬في أفق‬
‫‪.]3[2025‬‬

‫وثانيا‪ ،‬ألن المجتمع المغربي الذي شكل تاريخيا بيئة مصدرة للهجرة أكثر منها مستقبلة لها‪ ،‬تحول خالل السنوات األخيرة إلى أرض للجوء واالستقرار الدائم‬
‫للمهاجرين‪ ،‬خاصة من إفريقيا جنوب الصحراء‪ .‬بل إن حجم الساكنة المهاجرة ما يفتأ يتزايد‪ ،‬بفعل العولمة التي تسرع الدخول إلى عصر الهجرات‪ ،‬كما يؤكد مانويل‬

‫كاستلس‪ ،‬مع ما يترتب عن ذلك من تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية‪...‬إلخ‪ .‬من هنا الحاجة إلى مثل هذا اإلصدار‪ ،‬بما يمثله من طموح مشروع إلى‬

‫استعادة أو لنقل تملك الخطاب العلمي حول الهجرة الذي اعتبر باستمرار خطاب مجتمعات االستقرار‪ ،‬األوروبية والغربية عموما‪ .‬فإنتاج خطاب علمي‪ ،‬سوسيولوجي‬

‫حول ظاهرة الهجرة يمثل اليوم مطلبا بالنسبة إلى الباحثين والمجتمع عموما‪ ،‬من أجل فهم الظاهرة وبنائها كموضوع سوسيولوجي‪ ،‬ثم بغاية التدخل‬

‫‪ l’intervention‬ثانيا‪.‬‬

‫تعود أهمية هذا الكتاب أيضا إلى أنه يتتبع نشأة وتطور مدرسة شيكاغو وأهم المقاربات والنظريات التي انبثقت عنها‪ ،‬والتعريف بأبرز روادها وإسهاماتهم‪ .‬فكما‬

‫هو معلوم‪ ،‬تأسست" السوسيولوجيا الحضرية" كفرع من فروع علم االجتماع في أوائل القرن العشرين‪ ،‬على يد رواد هذه المدرسة التي ظل إرثها وتأثيرها حاضرين‬

‫في السوسيولوجيا منذ ذلك الحين وإلى اليوم‪ ،‬سواء على مستوى منهجية البحث أو على مستوى المفاهيم المستعملة[‪ .]4‬لكن‪ ،‬إضافة إلى إسهامها التأسيسي‬

‫في "السوسيولوجيا الحضرية"‪ ،‬أفردت مدرسة شيكاغو عددا من أعمالها لمشكل سياسي واجتماعي مركزي‪ ،‬كان يهم آنذاك كل المدن الكبرى األمريكية ويتجاوز‬
‫مجال سوسيولوجيا المدينة‪ :‬إنه مشكل الهجرة واندماج ماليين المهاجرين في المجتمع األمريكي[‪.]5‬‬

‫ومعلوم أن مدرسة شيكاغو نشأت في خضم ظروف فكرية واجتماعية خاصة جّد ا‪ ،‬تمثلت باألساس في احتضان مدينة شيكاغو‪ ،‬في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬لجامعة‬
‫رائدة في كل مجاالت العلم والمعرفة‪ ،‬وفي حقل علم االجتماع واألنثروبولوجيا بشكل خاص‪ ،‬وفي توجه رواد هذه المدرسة منذ البداية إلى البحث الميداني لرصد‬

‫ودراسة مختلف التحوالت الديموغرافية واالجتماعية واالقتصادية التي تعرفها مدينة استطاعت في ظرف خمسين عاما استقطاب أزيد من ثالثة ماليين من المهاجرين‬

‫القادمين من مختلف مناطق أمريكا ومن الخارج بالخصوص‪ .‬وهذا األمر ينطبق على الجيل األول للمدرسة (طوماس وبارك وبيرجيس ووورث وماكنزي‪ ،)...‬كما ينسحب‬

‫على الجيل الجديد ابتداء من منتصف الخمسينيات (بيكر‪ ،‬كرنفينكل‪ ،‬وكوفمان‪ ،‬أ‪ .‬ستراوس)[‪.]6‬‬

‫كان لرواد مدرسة شيكاغو إذن شرف االنتقال بعلم االجتماع من الهواية إلى االحتراف‪ ،‬ومن حالة النظر االنطباعي للظواهر والوقائع االجتماعية إلى حالة النظر‬

‫العلمي االستكشافي‪ ،‬من خالل تأسيسهم لتقليد "البحث الميداني" في هذا العلم‪ ،‬وتمكنهم من ابتكار وتطبيق أهم التقنيات المنهجية التي ما زلنا نستعملها إلى‬
‫اليوم‪ ،‬وبالخصوص تلك التي تنعت بالكيفية‪ ،‬ولعل هذا ما جعل رواد هذه المدرسة وأتباعها يفضلون اعتبارها "تيارا ميتودولوجيا" و"مدرسة لالشتغال والعمل" أكثر‬

‫مما هي "تيارا نظريا" أو "مدرسة فكرية"[‪ ،...]7‬حتى وإن تواطأ مؤرخو علم االجتماع على تسميتها ب"مدرسة شيكاغو"‪ ،‬ورغم اشتهار رواد المدرسة بتدشين البحث‬

‫النظري في مجالي التحضر والهجرة‪.‬‬

‫وإذا كانت العديد من التيارات السوسيولوجية الرائدة اليوم ما تزال تمتح من معين التراث التليد الذي خلفته مدرسة شيكاغو‪ ،‬مثل االثنوميتودولوجيا‪ ،‬والتفاعلية‬

‫الرمزية‪ ،‬وسوسيولوجيا الحياة اليومية‪ ،‬وغيرها‪ ،‬فإن هذا التراث السوسيولوجي الحي والفاعل‪ ،‬والقابل لالستثمار‪ ،‬يبقى غير متملك بعد بالنسبة إلينا‪ ،‬من هنا أهمية‬

‫عمل عبد الرحمن المالكي‪.‬‬

‫دين الفكر السوسيولوجي الحضري األوروبي‬

‫يكشف الباحث بأن "مدرسة شيكاغو"‪ ،‬رغم أصالتها وانبثاقها في أحضان المؤسسة الجامعية األمريكية الفتية‪ ،‬فهي لم تنشأ من فراغ‪ ،‬ألن أعمال روادها تحيل على‬

‫الفكر السوسيولوجي الحضري األوروبي‪ ،‬كما تعتبر امتدادا وتجديدا له في نفس الوقت‪ .‬فالمدينة كما نعرفها اليوم عرفت إقالعها في القرن التاسع عشر وبداية‬
‫القرن العشرين‪ ،‬في الوقت نفسه الذي تم فيه اكتشاف "االجتماعي"‪ ،‬على يد أولئك العلماء‪ ،‬الذين هم في اآلن نفسه رواد السوسيولوجيا ورواد التفكير‬

‫السوسيولوجي في المدينة‪ ،‬حتى وإن لم يجعلوا منها بعدا محوريا في أعمالهم[‪ .]8‬من هنا نفهم إقدام المالكي على تخصيص القسم األول من مؤلفه لما اعتبره‬

‫"الممهدون لمدرسة شيكاغو"‪ ،‬والذين حصرهم في كل من إميل دوركهايم وماكس فيبر‪ ،‬وجورج زيمل‪.‬‬

‫ويؤكد المالكي على أهمية تناول ظاهرة التحضر‪ ،‬انطالقا من العالقة بين البادية والمدينة‪ ،‬خاصة لدى هؤالء العلماء الرواد‪ ،‬الذين ينطلقون غالبا‪ ،‬وهم يتحدثون عن‬

‫المدينة أو الظاهرة الحضرية‪ ،‬من مقارنتها مع البادية أو الظاهرة القروية‪ .‬خصوصا وأن دراسة العالقة بين القرية والمدينة‪ ،‬تبرر الحديث من جهة عن الهجرة‬

‫القروية‪ ،‬كانتقال بشري من البادية إلى المدينة بقصد اإلقامة والعمل‪ ،‬ومن جهة أخرى عن التحضر‪ ،‬كعملية انخراط تدريجي في الثقافة الحضرية‪ ،‬وما يستدعيه هذا‬

‫االنخراط من تحوالت وتغيرات تطرأ على "البدوي"‪ ،‬وهو في طريقه ليتحول إلى "حضري"[‪ .....]9‬ولعل هذا ما كان يشير إليه ابن خلدون أحيانا بتعبير التحضر وأخرى بتعبير‬

‫التمدن‪.‬‬

‫وال شك أن كارل ماركس‪ ،‬بما تركه من نصوص مهمة حول العالقات التاريخية بين المدينة والقرية‪ ،‬مثل بداية التفكير السوسيولوجي في ظاهرة التحضر‪ ،‬حتى وإن لم‬

‫تشكل المدينة موضوع بحث قائم الذات في أعماله‪ .‬وكما أكد هنري لوفيفر‪ ،‬فماركس ليس عالم اجتماع حضري‪ ،‬وإن نشأت سوسيولوجيا حضرية رائدة من صلب‬

‫الماركسية[‪ ،]10‬خاصة في السياق الفرنسي‪ ،‬مع كل من هنري لوفيفر ومانويل كاستلس‪ ،‬وجان لوجكين ‪...jean lojkine‬إلخ‪ .‬أهم ما يميز هذه السوسيولوجيا هو‬

‫أنها‪ ،‬وبخالف مدرسة شيكاغو التي تعتبر المدينة بمثابة "إيكولوجيا أو منظومة طبيعية"‪ ،‬تنظر إلى المدينة ك"نظام سياسي"‪ ،‬ومجال إلسقاط سياسات الدولة‬
‫والرأسمال‪ ،‬وتسعى إلى الكشف عن الرهانات السياسية للمسألة الحضرية ‪.question urbaine‬‬

‫ومثل ماركس‪ ،‬لم يخصص إميل دوركهايم كتابا للمدينة‪ ،‬حتى وإن استرعت انتباهه‪ ،‬عبر لحظات مختلفة من أعماله‪ ،‬في كتابه "تقسيم العمل االجتماعي" أساسا‪ ،‬لكن‬
‫أيضا في كتبه األخرى‪" ،‬االنتحار"‪ ،‬األشكال األولية للحياة الدينية"‪ ،‬بل وحتى في كتابه ذي الطبيعة المنهجية واالبستمولوجية "قواعد المنهج في علم االجتماع"[‪.]11‬‬

‫لكن المؤكد أن تأثير اتجاهه الوضعي امتد‪ ،‬في نظر المالكي‪ ،‬ليشمل كل فروع علم االجتماع‪ ،‬بما فيها علم االجتماع الحضري[‪.]12‬‬

‫وفي ضوء سعيه لتفسير عملية االنتقال من مجتمعات التضامن اآللي البسيطة إلى مجتمعات التضامن العضوي المعقدة‪ ،‬تعرض دوركهايم‪ ،‬في أطروحته" تقسيم‬

‫العمل االجتماعي"‪ ،‬لكيفية احتالل اإلنسان للمجال‪ ،‬وأبرز كيف تتكدس أعداد كبيرة من الناس في المدينة‪ ،‬وتتحقق بالتالي كثافة مادية أكبر‪ ،‬كفيلة بخلق كثافة‬

‫روحية مرتفعة‪ ،‬الشيء الذي يجعل المدينة تمثل التنظيم االجتماعي األرقى واألفضل واألكثر تعقيدا‪ ،‬بالنظر إلى ما تتيحه من تقسيم للعمل[‪.]13‬‬

‫ويشير دوركهايم إلى أن هذه الكثافة الروحية‪ ،‬ال يمكن أن تنتج تأثيرها إال إذا كانت المسافة الواقعية بين األفراد نفسها مقلصة بفعل عدد وسرعة طرق‬

‫المواصالت واالتصال؛ أي دون كثافة مادية‪ .‬وال يمكن للكثافة الروحية أن تزيد دون أن تزيد الكثافة المادية في نفس الوقت‪ ،‬ويمكن لهذه األخيرة أن تصلح كمقياس‬
‫لها‪ .‬ولو أنه‪ ،‬من غير المهم البحث عن أيهما تحدد األخرى‪ ،‬يكفي مالحظة أنهما غير قابلين لالنفصال‪ ،‬بل إنه من الخطأ‪ ،‬في نظر دروكهايم‪ ،‬االعتقاد بأن التركز‬

‫الروحي لمجتمع ما يتمخض بالضرورة عن التركز المادي عبر كثافة الطرق والسكك الحديدية‪ ،‬الخ‪ .‬فهذه األخيرة يمكن أن تخدم حركة األعمال (العالقات االقتصادية‬

‫المؤسسة على المصلحة الخاصة والنزعة األنانية) أكثر منها االندماج الروحي للساكنة[‪.]14‬‬

‫وبالنسبة إلى دوركهايم‪ ،‬تأخذ المدينة الحديثة‪ ،‬باعتبارها مرآة كاشفة ومحالل ‪ analyseur‬للوقائع االجتماعية[‪ ،]15‬وضعا مفارقا‪ :‬فهي بقدر ما تبدو كتمظهر‬

‫ملموس لنمط من التضامن العضوي ولطريقة من العيش المشترك‪ ،‬بقدر ما تمثل في الوقت نفسه‪ ،‬ميدانا للفردانية‪ ،‬حيث يتحرر الفرد من جماعات انتمائه ومرجعياته‬

‫األصلية‪ ،‬ويشرع في بناء عالقات جديدة مع اآلخر‪ ،‬تعاقدية‪ ،‬مختارة ومفكر فيها‪ ،‬ومجردة من طابعها اإلشراطي‪..‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أن تأثير دوركهايم سيكون مباشرا على تالمذته وبالخصوص على موريس هالفاكس ‪ ،Maurice Halbwachs‬الذي غالبا ما يعتبر مؤسس البحث‬
‫الحضري في السوسيولوجيا الفرنسية‪ ،‬بل ويعتبر إلى جانب جورج زيمل األقرب إلى روح السوسيولوجيا الحضرية كما ستتبلور مع مدرسة شيكاغو‪ ،‬حيث طبق على‬

‫موضوع "المدينة" التحليل المورفولوجي الدوركهايمي‪ ،‬الذي يقوم على االهتمام بالطريقة التي يشغل بها الناس المجال‪ ،‬وبالحركات والتنقالت داخل المدينة‬

‫وبشكل تجمعات الناس والمباني[‪.]16‬‬

‫على عكس ماركس ودوركهايم‪ ،‬خصص ماكس فيبر كتابا للمدينة‪ ،‬يندرج ضمن إرادة طموحة لبناء نموذج مثالي للمدينة الغربية‪ ،‬على شاكلة النماذج المثالية األخرى‬

‫التي اشتغلت عليها (الرأسمالية‪ ،‬البيروقراطية‪...‬إلخ)‪ .‬وتناول فيبر في هذا المؤلف المدينة الغربية كجماعة ‪ communauté‬وكيان سياسي حديث‪.‬‬

‫وتضع السوسيولوجيا الحضرية أحيانا كتاب "المدينة " لفيبر على نفس المستوى مع البيان المؤسس لمدرسة شيكاغو‪ ،‬على يد روبير إزرا بارك ودراسته "المدينة‪،‬‬

‫مقترحات بحث حول السلوك البشري في الوسط الحضري"‪ ،‬يظهر هذا الربط وهذا التشريف لفيبر‪ ،‬من خالل قولة لويس ويرث التي تتصدر الترجمة االمريكية لكتاب فيبر‬

‫"المدينة"[‪...]17‬‬

‫والواقع أن المدينة الوسيطية في أوروبا الشمالية‪ ،‬التي شكلت محور تحليل فيبر‪ ،‬عرفت أكثر من أية مدينة أخرى‪ ،‬استقاللية سياسية وحرية حضرية[‪ ،]18‬بالنظر إلى‬

‫أنها احتضنت جمعيات مواطنين نشيطين‪ ،‬حيث يالحظ أن السمة الغائبة أكثر في المدن غير األوروبية والشرقية بالخصوص هي انعدام مشاركة المواطنين في تسيير‬

‫أمور مدينتهم من خالل ممثليهم المنتخبين‪ .‬وتلك هي الميزة األساسية التي تتفوق بها المدينة الغربية على باقي مدن العالم في نظر فيبر‪.‬‬

‫وتؤدي هذه الحرية الحضرية إلى استقاللية حقول جديدة من النشاط البشري‪ ،‬والنشاط االقتصادي بشكل خاص‪ .‬هذا الحقل‪ ،‬اخذ يتميز أكثر فأكثر عن الحقلين السياسي‬

‫والديني‪ ،.‬ويتجسد ذلك في صعود قوي للبورجوازية‪ ،‬وفي نشأة الرأسمالية‪ .‬فمهما كانت األهمية التي يمنحها فيبر لألخالق البروتستانية في ظهور الرأسمالية‬

‫الغربية الحديثة‪ ،‬يبقى أن هذه األخالق العقالنية ال تكون لها التأثيرات التي يقرنها بها‪ ،‬سوى في شروط مؤسساتية محددة‪ ،‬تقنية واقتصادية وقانونية وسياسية‪،‬‬
‫تضافرت بشكل محدد في إطار المدينة الوسيطية الغربية‪ ،‬وفي هذه المدينة فقط[‪..]19‬‬

‫ويبرز المالكي أنه مع جورج سيمل ‪ ،George Simmel‬ستنتقل السوسيولوجيا من محاولة تعريف المدينة إلى تحليلها‪ ،‬ومن دراسة مدينة الماضي إلى دراسة مدينة‬

‫الحاضر‪ ،‬وخاصة المدينة الكبرى مثل برلين أو باريس أو لندن‪...‬إلخ‬

‫والمفارقة الغريبة التي يكشف عنها المالكي‪ ،‬بالنسبة إلى سيمل‪ ،‬هي أنه بقدر ما انتقدته وتجاهلته األوساط األكاديمية السوسيولوجية التقليدية لفترة طويلة‪،‬‬

‫ربما تحت تأثير انتقادات دوركهايم‪ ،‬بقدر ما يحتفي به األكاديميون الجدد‪ .‬والعودة إليه تزامنت مع العودة إلى مدرسة شيكاغو‪ ،‬وإلى نوع خاص من السوسيولوجيا‬
‫كان هو نفسه من بين أهم الممهدين لها‪ ،‬والذي يمكن أن نطلق عليها‪ :‬السوسيولوجيا الفلسفية‪.‬‬

‫يرى العديد من الكتاب أن مقالة سيمل الشهيرة "المتربول والحياة الذهنية"‪ ،‬باعتبارها من أهم ما كتبه في هذا الصدد‪ ،‬أسست لبدء االهتمام السوسيولوجي الفعلي‬
‫بالمدينة‪ ،‬ومارست تأثيرا واضحا في نشأة علم االجتماع الحضري‪ ،‬وال أدل على ذلك من تصدير "جوزيف إسحاق" و"ايف جريفمايير" لكتابهما الرائد في السوسيولوجيا‬

‫الحضرية‪" :‬مدرسة شيكاغو"‪ ،‬بمقالتي سيمل "المتربول والذهنيات" و"استطرادات عن الغريب"‪ .‬رغم أن سيمل ال عالقة له بهذه المدرسة ال من حيث الزمان وال من حيث‬

‫المكان‪ ،‬فقد اعتبره المؤلفان عن جدارة أحد روادها بال منازع[‪.]20‬‬

‫شروط نشأة مدرسة شيكاغو‬

‫إن علم االجتماع الحضري قد استطاع تحويل "المدينة" إلى موضوع سوسيولوجي مع مدرسة شيكاغو‪ ،‬بل إن اسم هذه المدرسة ارتبط في علم االجتماع بالمدينة‪،‬‬

‫وعرف روادها األوائل بكتاباتهم الحضرية والمنهجية أكثر مما عرفوا بأي شيء آخر‪.‬‬

‫وبخصوص مسألة التسمية التي أثارت نقاشا مستفيضا‪ ،‬وصل إلى حد التشكيك في وجود المدرسة نفسه أو في المضمون الذي تأخذه‪ ..‬يشير تعبير "مدرسة شيكاغو"‬
‫[‪ ]21‬عادة إلى مجموعة من األعمال واألبحاث السوسيولوجية المنجزة ما بين ‪ 1915‬و‪ ،1940‬من طرف أساتذة وطلبة جامعة شيكاغو‪ ..‬وال يتعلق األمر دائما بتيار‬

‫فكري متجانس‪ ،‬يعتمد مقاربة نظرية مشتركة‪ ،‬لكن مع ذلك تتميز مدرسة شيكاغو بمجموعة من المميزات تمنحها نوعا من الوحدة ومكانة خاصة ومميزة في حقل‬
‫السوسيولوجيا األمريكية‪ .‬ولو أنه بالنسبة إلى مارتان بالمر ‪ Martin Bulmer‬في مؤلفه حول "مدرسة شيكاغو السوسيولوجية "[‪ ،]22‬مدرسة شيكاغو‪ ،‬بوصفها‬

‫تنظيما صوريا ومدرسة فكرية متجانسة‪ ،‬لم توجد أبدا‪...‬ويمكن القول إن مدرسة شيكاغو قد ترسخت بهذا االسم حتى عند المجادلين في حقيقة وجودها أو في‬
‫حقيقة توفر الوحدة واالنسجام بين األعمال واألسماء الممثلة لها[‪...]23‬‬

‫وكما يؤكد هاورد بيكر‪ ،‬أحد أبرز من يشكل االمتداد المنهجي لهذه المدرسة من علماء االجتماع المعاصرين‪"...‬فإن مدرسة شيكاغو لم تكن أبدا مدرسة فكرية"‬

‫موحدة‪ ،‬وإنما باألحرى مجاال لتقاسم األفكار بين باحثين من مختلف األجيال‪ ...‬ولويس وورث نفسه الذي يعد أحد ممثلي هذه المدرسة‪ ،‬ال ينفي في نظر بيكر‪،‬‬
‫االختالفات الكبرى في طرائق البحث القائمة بين أساتذة قسم علم االجتماع بجامعة شيكاغو[‪.]24‬‬

‫ومدرسة شيكاغو هي سوسيولوجيا حضرية‪ ،‬أنجزت سلسلة من الدراسات حول المشاكل التي كانت تواجهها مدينة شيكاغو‪ .‬لكنها كرست على الخصوص عددا من‬

‫أعمالها لمشكل سياسي واجتماعي مركزي‪ ،‬كان يهم آنئذ كل المدن الكبرى االمريكية ويتجاوز مجال سوسيولوجيا المدينة‪ :‬إنه مشكل الهجرة واندماج ماليين‬
‫المهاجرين في المجتمع االمريكي‪ .‬فمدينة شيكاغو عرفت خالل بداية القرن العشرين‪ ،‬تغيرات كمية وكيفية مهمة‪ ،‬أضحت موضوعا للتحليل‪ ،‬فشكلت بالتالي "مختبرا‬
‫اجتماعيا" لعلماء اجتماع المدرسة‪.‬‬

‫فقد شهدت المدينة هجرة قوية‪ ،‬أفضت إلى اختالط سكاني‪ ،‬سيؤثر بقوة في نمط الحياة‪ .‬وقد تشكلت ساكنة المدينة من مجموعات إثنية متنوعة (بولونيون‪ ،‬تشيك‪،‬‬
‫ايطاليون) ومتمايزة جدا على مستوى العادات واللغة عن االيرلنديين واأللمان واإلسكندنافيين الذين وصلوا للمدينة في القرن ‪.19‬وتحولت أحياء المدينة التي احتضنت‬
‫تلك الفسيفساء اإلثنية إلى غيتوهات غير قابلة للولوج نسبيا‪ ،‬تعطي االنطباع باختالل اجتماعي كبير وتفترض مبادرات تخليقية‪..‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬تناول علماء االجتماع الستة األساسيين في مدرسة شيكاغو‪ ،‬من خالل مدينة شيكاغو‪ ،‬مسألة التوافق ‪ consensus‬في أمريكا القرن ‪ ،20‬سواء اتخذ‬
‫شكل نظام أخالقي عند سمول ‪( ،Small‬مؤسس المدرسة إلى جانب هاربر ‪ )Harper‬أو تفكيك وإعادة تنظيم عند ‪ ,W. I. Thomas‬أو ضبط اجتماعي عند بارك‪Park‬‬
‫(أحد أبرز ممثلي الجيل الثاني من المدرسة) أو توافق عند ويرد ‪ ))L. Wirth‬أو تكيف مع التغير عند أغبورن ‪ W. Ogburn‬أو مسؤولية جماعية عند جانوفيتز ‪M.‬‬

‫‪( Janowitz‬الذي ظل يدرس بجامعة شيكاغو‪ ،‬على األقل إلى نهاية الثمانينيات)[‪.]25‬‬

‫وساعدت عدة عوامل على نشأة مدرسة شيكاغو‪ .‬فعالوة على العامل اإلبستيمولوجي ‪-‬المعرفي المتمثل في ألسس والمنطلقات الفكرية والفلسفية والمنهجية‬
‫التي قام عليها هذا التقليد السوسيولوجي‪( ..‬ص‪ ،)65‬بفضل استثمار التراث السوسيولوجي األوروبي (الفرنسي واأللماني واإلنجليزي) والفكر الفلسفي السائد في‬

‫أمريكا كالفلسفة البراغماتية (جون ديوي ووليام جيمس) وتيار التفاعلية الرمزية مع جورج هربرت ميد‪ ،‬إضافة إلى التحقيقات االجتماعية التي ستلعب دورا رئيسيا في‬
‫التمهيد للبحث السوسيولوجي الميداني هناك العامل المؤسساتي‪ ،‬المرتبط بتوفر الشروط األكاديمية إلنتاج ونقل المعرفة العلمية في حقل السوسيولوجيا الحضرية‬

‫الناشئ‪ ،‬خصوصا تأسيس شعبة علم االجتماع واألنثروبولوجيا بجامعة شيكاغو وقسم للدراسات العليا‪ ،‬وتأسيس مجلة متخصصة‪...‬إلخ‪ ،‬وهناك أخيرا العامل السوسيو‪-‬‬
‫اقتصادي‪ ،‬الذي يحيل على الطلب االجتماعي‪ ،‬النابع مع واقع المجتمع األمريكي وواقع حواضره بالخصوص وما عرفته من تحوالت اجتماعية هائلة في بداية القرن‬
‫العشرين‪.‬‬

‫وبحكم أن مدرسة شيكاغو تتميز إلى جانب تخصصها الحضري باختيار منهجي خاص‪ ،‬ينتصر للبحث اإلمبريقي الكيفي‪ ،‬أفرد المالكي جانبا من القسم الثاني الهتمام‬
‫رواد هذه المدرسة بالمسألة المنهجية‪ ،‬التي تبلورت وتطورت في خضم الممارسة البحثية واالنشغال بدراسة مختلف الظواهر والتحوالت االجتماعية التي عرفتها‬
‫مدينة شيكاغو‪ ،‬وخاصة ظاهرتا الهجرة والتحضر [‪ .]26‬وتتميز المنهجية المعتمدة من طرف رواد مدرسة شيكاغو وتالمذتهم‪ ،‬باالنطالق من وجهة نظر الفاعل‬

‫االجتماعي‪ ،‬ومن دراسة أفعال وممارسات األفراد‪ ،‬ودراسة عالقاتهم بالواقع المحيط بهم‪ ،‬ومحاولة فهم المعنى أو المعاني التي يعطونها لهذا الواقع‪ .‬ومن أجل‬
‫ترجمة هذا التصور على أرض الواقع‪ ،‬تمت االستعانة بتقنيات خاصة‪ ،‬تندرج ضمن ما سيجمعه الدارسون تحت تسمية "المنهج السوسيولوجي الكيفي" التي ستصبح‬

‫متداولة فيما بعد‪ .‬ويتضمن هذا المنهج تقنيات‪" :‬استغالل الوثائق الشخصية" و"السير الذاتية" و"المراسالت الخاصة" و"مذكرات وحكايا الحياة"‪ ،‬وهناك من جهة أخرى‪،‬‬
‫تقنيات "راسة الحالة" التي تعتمد "المالحظة المشاركة" و"المالحظة المباشرة" و"المقابلة" و"الشهادة" ‪.]Témoignage[27‬‬

‫وينبهنا المالكي إلى أن رواد مدرسة شيكاغو لم يهملوا المناهج الكمية في أبحاثهم‪ ،‬ولم يعتبروها غير صالحة‪ ،‬بل لقد أعطوها كل ما تستحق من عناية‪...‬بل‬

‫يمكن القول إنهم إضافة إلى كونهم ابتكروا واستعملوا المناهج الكيفية‪ ،‬أكدوا بشكل رائد على عدم وجود أي تناقض بينها وبين المناهج الكمية‪ ،‬بل على أن‬
‫الجمع بين المناهج الكيفية والكمية يمكن أن يكون أكثر غنى ومردودية[‪.]28‬‬

‫في التأسيس لسوسيولوجيا التحضر والهجرة‬

‫وبفعل صعوبة التطرق لكل رواد وآراء واتجاهات وامتدادات مدرسة شيكاغو‪ ،‬اقتصر المالكي‪ ،‬في القسم الثالث من الكتاب‪ ،‬على إسهامات ثالثة من روادها الكبار‪،‬‬

‫وهم‪ :‬وليام طوماس‪ ،‬وروبرت بارك‪ ،‬ثم لويس وورث‪ ،‬كان آلرائهم واجتهاداتهم دور كبير في ظهور وتطور الحقل العلمي الذي تدخل في إطاره هذه الدراسة‬
‫والموسوم ب "سوسيولوجيا التحضر والهجرة"‪ .‬من هنا العنوان الفرعي للكتاب‪ :‬نشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة‪ ،‬الذي يندرج بدوره ضمن سياق دراسة في‬
‫سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب حاول من خاللها الباحث تتبع ظاهرة التحضر أو لقل "التضخم الحضري" التي يعرفه المغرب المعاصر وإبراز دور الهجرة‬

‫القروية فيه[‪.]29‬‬

‫وحرص المالكي على استعراض مضامين مفاهيم وليام طوماس وزنانيكي‪ ،‬خصوصا في عملهما المرجعي "الفالح البولوني‪ ،"...‬ومرتكزاتها النظرية والوشائج‬
‫القائمة بينها وتداعياتها المنهجية وامتداداتها لدى الباحثين الالحقين في مدرسة شيكاغو‪ ،‬ولدى باقي علماء االجتماع عموما‪ ،‬خاصة مفاهيم "المواقف الفردية"‬

‫و"القيم االجتماعية" و"تعريف الوضعية" و"إعادة التنظيم" "سوء التنظيم االجتماعي"‪..‬‬

‫وأكد الباحث من خالل هذا التناول على أهمية مساهمة وليام طوماس وزنانيكي في تأسيس البحث السوسيولوجي الميداني‪ ،‬من وجهة نظر تفاعلية رمزية‪ ،‬وخالل‬
‫هذا التأسيس إرساء مرتكزات "سوسيولوجيا الهجرة والتحضر"‪ ،‬وإبداع أهم المفاهيم المساعدة على دراستها[‪..]30‬‬

‫كما استعرض المالكي مضمون مقاربة بارك االيكولوجية لظاهرة التحضر في عالقتها بالهجرة‪ ،‬وكشف عن تفاصيل البرنامج الفكري الذي اقترحه في هذا الشأن‪،‬‬

‫والذي فتح آفاق جديدة وواعدة أمام للبحث السوسيولوجي‪ .‬وأبرز المالكي العدة المفاهيمية‪ ،‬التي أبدعها بارك في خضم دراسته لظاهرة التحضر والهجرة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬والتي تندرج ضمن إطار النموذج اإليكولوجي المستوحى من العلوم الطبيعية‪ ،‬ومن اإليكولوجيا النباتية تحديدا‪ ،‬ومن التصور السوسيولوجي والفلسفي‬

‫ألستاذه جورج زيمل[‪.]31‬‬

‫وانطالقا من العدة النظرية االيكولوجية‪ ،‬التي تشمل مفاهيم "االستخالف ‪ "succession‬و"التوازن" و"التنافس"‪ ،‬و"الصراع"‪ ،‬و"التأقلم"‪ ،‬و"االستيعاب"‪....‬إلخ‪ ،‬اعتبر بارك‬
‫أن بنية المدينة تمتد بجذورها في الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬حيث إنها‪ ،‬تتكون وتنمو بشكل لم يخطط له وال يمكن السيطرة عليه‪ .‬والشك أن هذا التصور يلتقي‪ ،‬في نظر‬

‫المالكي‪ ،‬مع "النظرة االجتماعية" ذات النزعة الطبيعية‪ ،‬والتي تفترض وجود قوى اجتماعية تشتغل بمعزل عن اإلرادات الفردية[‪.]32‬‬

‫ولعل أهم ما يميز سوسيولوجيا الهجرات في مشروع بارك‪ ،‬وفي مدرسة شيكاغو عموما‪ ،‬هو أنها تنظر للهجرة والمهاجر من منظورين اثنين‪ :‬منظور يعتبر المهاجر‬
‫الفرد األكثر نشاطا وإنتاجية وأداة لنقل الثقافة وتقدم الحضارات‪ .‬ومنظور مضاد يعتبر المهاجر نفسه أداة مساعدة على ظهور وانتشار سوء التنظيم االجتماعي‪،‬‬

‫كما يتمظهر في الفقر واإلجرام والفساد األخالقي[‪..]33‬‬

‫ويشير المالكي إلى أن مساهمة لويس وورث "التحضر كنمط عيش"‪ ،‬تعتبر بشهادة ألمع السوسيولوجيين الحضريين‪ ،‬أهم مجهود نظري وأنجح عمل تركيبي أنجز في‬
‫ميدان السوسيولوجيا الحضرية‪ .‬فهو يبرز بالملموس طبيعة العالقة القائمة بين إسهامات أقطاب مدرسة شيكاغو‪ .‬واألهم أنه‪ ،‬بقدر ما يمثل استمرارية للعمل‬

‫التأسيسي لل واد األوائل خاصة عمل با ك بقد ما ينزاح عنه ويؤكد غبته في التميز عنه سوا من خالل عدم اإلحالة على األيكولوجيا الحيوانية أو النباتية أو من‬
‫التأسيسي للرواد األوائل‪ ،‬خاصة عمل بارك‪ ،‬بقدر ما ينزاح عنه‪ ،‬ويؤكد رغبته في التميز عنه‪ ،‬سواء من خالل عدم اإلحالة على األيكولوجيا الحيوانية أو النباتية أو من‬
‫خالل األهمية المحدودة التي يوليها للمظاهر اإليكالوجية للمدينة‪....‬مقابل تأكيده أكثر على المقاربة الثقافية للظاهرة الحضرية[‪..]34‬‬

‫ويستكمل المالكي عرضه ألهم اإلسهامات العلمية لرواد مدرسة شيكاغو في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في القسم الرابع واألخير من الكتاب‪ ،‬من خالل ترجمة‬

‫وتقديم عينة مختارة من نصوص رواد المدرسة الذين اقتصر عليهم‪ ،‬في القسم السابق‪.‬‬

‫نصوص من التراث السوسيولوجي لمدرسة شيكاغو‬

‫إن االشتغال على النصوص األساسية في التراث السوسيولوجي‪ ،‬تفسيرا وفهما وتأويال‪ ،‬كما يؤكد ريمون بودون‪ ،‬أداة ضرورية لتكوين علماء االجتماع[‪ .]35‬من هنا‬
‫نفهم حرص الباحث عبد الرحمن المالكي‪ ،‬على ترجمة ثالثة نصوص من التراث السوسيولوجي لمدرسة شيكاغو‪ ،‬هي كما ألمح إيف غرافماير‪ ،‬تتناول الظواهر الحضرية‬

‫من منظور مختلف[‪ .]36‬يتعلق األمر بنص وليام إسحاق طوماس (تعريف الوضعية)‪ ،‬ونص روبرت ازرا بارك (المدينة كمختبر اجتماعي) ونص لويس وورث (التحضر كنمط‬
‫عيش)‪.‬‬

‫وتعود أهمية ترجمة نص "تعريف الوضعية" ‪ ،définition de situation‬لوليم إسحاق طوماس إلى أنه مساهمة إبستمولوجية لحل إحدى القضايا المنهجية التي كانت‬

‫تثار بين علماء االجتماع آنذاك‪ ،‬والتي كانت تتعلق بالتساؤل حول مدى "علمية" االعتماد على التصريحات الشخصية التي يتم تجميعها في مقابالت األبحاث الميدانية‪.‬‬
‫فمن خالل هذه المساهمة أثبت طوماس مشروعية وعلمية االعتماد على الوثائق الذاتية للمبحوثين في السوسيولوجيا (رسائل شخصية‪ ،‬مذكرات حميمية‪ ،‬سير‬
‫ذاتية‪ ،)...‬من منطلق أن "تعريف الوضعية" هو الذي يوجه الفاعلين االجتماعيين في ممارساتهم وأفعالهم‪ ،‬وذلك بغض النظر عن صحته أو خطئه[‪..]37‬‬

‫وترجع أهمية نص "المدينة كمختبر اجتماعي" لروبير إزرا بارك‪ ،‬في السوسيولوجيا الحضرية‪ ،‬إلى أنه غالبا ما يأخذ إلى جانب نص "المدينة‪ ،‬مقترحات بحث حول السلوك‬
‫البشري في الوسط الحضري"‪ ،‬والذي يعتبر بمثابة البيان المؤسس لمدرسة شيكاغو‪ ،‬قيمة مماثلة كتاب "المدينة" لفيبر‪ ،‬يظهر هذا الربط وهذا التشريف لروبرت بارك‪،‬‬

‫في معرض تحليل لويس ويرث لظاهرة "التحضر كنمط عيش"‪ ،‬وفي ثنايا قولة وورث ذاتها‪ ،‬التي تتصدر الترجمة االمريكية لكتاب فيبر "المدينة"[‪...]38‬‬

‫وبالمثل‪ ،‬تعود أهمية مقال "التحضر كنمط عيش" للويس ويرث إلى أنه يمثل‪ ،‬كما يقول فرنسوا أباليا ‪" ،F. Aballéa‬تركيبا أو بالخصوص عملية نسقية تختزل كل‬
‫المجهود الذي قامت به مدرسة شيكاغو" على مستوى رسم معالم الحقل العلمي "للسوسيولوجيا الحضرية"‪ .‬فهذا النص يعد أحد أشهر المقاالت التي كتبت في‬

‫العلوم االجتماعية‪ ،‬إذ يحظى بأهمية قصوى في تاريخ سوسيولوجيا الحضرية‪ ،‬منذ نشره سنة ‪ ،1938‬حيث ال نعثر على أي تحليل سوسيولوجي للظاهرة الحضرية ال‬
‫يرجع له[‪..]39‬‬

‫من شيكاغو إلى فاس‬

‫إن أهمية هذا الكتاب الذي يعرض لدراسات وأبحاث رواد مدرسة شيكاغو‪ ،‬ال تعود فقط إلى مساهمة هذه المدرسة الوازنة في إرساء سوسيولوجيا التحضر والهجرة‪،‬‬

‫بفضل ما أنتجته من تراث نظري ومن تقنيات وأدوات منهجية‪ ،‬بل تعود كذلك إلى مساهمتها ضمنيا في التأسيس لعدد من فروع السوسيولوجيا الحديثة‬
‫(سوسيولوجيات العائلة والجريمة والمشاكل االجتماعية والتغير االجتماعي‪ ،‬السياسة‪...‬إلخ)[‪.]40‬‬

‫وتظل اإلشكاليتان المركزيتان اللتان شغلتا رواد هذه المدرسة‪ ،‬كما يوضح المالكي‪ ،‬هما الهجرة واالندماج من جهة‪ ،‬ثم العالقة بين الثقافة والمجال الحضري من‬

‫جهة أخرى‪ .‬وهما اإلشكاليتان اللتان حاول الباحث اختصارهما في هذه الدراسة في مفهوم "التحضر"‪ ،‬على اعتبار أن هذا المفهوم يتضمن بعدين أساسيين‪ :‬بعد‬
‫ديموغرافي‪/‬مجالي (انتقال األفراد من البادية إلى المدينة)‪ ،‬ثم بعد سوسيولوجي‪/‬ثقافي (مسألة االندماج‪ ،‬واكتساب الثقافة الحضرية)‪ .‬وذلك ما ال يمكن اختباره‪ ،‬في‬
‫نظر المالكي‪ ،‬إال باالنتقال من مجال البحث السوسيولوجي النظري إلى مجال البحث الميداني التجريبي لتتبع واختبار إشكالية "التحضر والهجرة" وسيرورة "التنشئة‬

‫الحضرية" في زمان ومكان مغايرين[‪ .]41‬ولعل ذلك ما حاول الباحث أن يخصص له عمال مستقال‪ ،‬اتخذ فيه مدينة فاس مختبره االجتماعي الخاص من أجل معالجة‬
‫إشكاليته والتحقق من فرضياته[‪...]42‬‬

‫[‪ ]1‬عبد الرحمن المالكي‪ ،‬مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة‪ ،‬افريقيا الشرق‪ ،‬الدار البيضاء ‪2016‬‬

‫[‪Paul Pascon, Entretien avec Tahar Benjelloun, in BESM, N 155-156 (30 Ans de sociologie du Maroc), 1986, p51 ]2‬‬

‫[‪ ]3‬كما تضاعفت ساكنة المغرب الحضرية بـ ‪ 40‬مرة في ظرف قرن من الزمن‪ ،‬منتقلة من حوالي ‪ 440‬ألف نسمة سنة ‪ ،1900‬موزعة على ‪ 30‬مدينة‪ ،‬إلى أكثر من ‪18‬‬
‫مليون نسمة سنة ‪ ،2010‬موزعة على أكثر من ‪ 350‬مدينة ومركز حضري‪ ...‬للمزيد انظر‪:‬‬

‫‪Publication du Ministère de l’habitat de l’Urbanisme et de la politique de la ville, Projet de référentiel national de la politique de la ville, juin 2012‬‬

‫[‪ ]4‬عبد الرحمن المالكي‪ ،‬مدرسة شيكاغو ‪ ،..‬نفس المرجع‪ .‬ص ‪6‬‬

‫[‪Alain coulon, L’école de chicago, éd Puf, (Que sais –je ?), 2e édition, 1994. p, 3 ]5‬‬

‫[‪ ]6‬عبد الرحمن المالكي‪ ،‬مدرسة شيكاغو ‪ ،..‬نفس المرجع‪ ..‬ص ‪9‬‬

‫[‪ ]7‬نفس المرجع‪ ..‬ص ‪6‬‬

‫[‪Jean –Marc Stébé et Hervé Marchal, sociologie urbaine, éd Armand Colin, Paris, 2010. p11 ]8‬‬

‫[‪ ]9‬عبد الرحمن المالكي‪ ،‬مدرسة شيكاغو ‪ ،..‬نفس المرجع‪ ..‬ص ‪14‬‬

‫[‪Jean –Marc Stébé et Hervé Marchal, sociologie urbaine, éd Armand Colin, Paris, 2010. p13 ]10‬‬
, g , , , p ] [

Jean –Marc Stébé et Hervé Marchal, sociologie urbaine, éd Armand Colin, Paris, 2010 ]11[

15 ‫ ص‬..‫ نفس المرجع‬،.. ‫ مدرسة شيكاغو‬،‫] عبد الرحمن المالكي‬12[

16 ‫ ص‬..‫] نفس المرجع‬13[

Jean –Marc Stébé et Hervé Marchal, sociologie urbaine, éd Armand Colin, Paris, 2010. p32 ]14[

Jean –Marc Stébé et Hervé Marchal, sociologie urbaine, éd Armand Colin, Paris, 2010 ]15[

Vincent Kaufman et autres, Théories, Ouvrage collectif, Traité sur la ville, sous la direction de Jean-Marc Stébé et Hervé Marchal, éd Puf, ]16[

2009. p625

Hinnerk Bruhns, Ville et campagne, quel lien avec le projet sociologique de Max Weber, In Sociétés Contemporaines, N 49-50, 2003, p13- ]17[
37

Jean –Marc Stébé et Hervé Marchal, sociologie urbaine, éd Armand Colin, Paris, 2010.p32 ]18[

Catherine Colliot-Thélène, La sociologie de Max Weber, Paris, La Découverte, coll. «Repères Sociologie», 2014 ]19[

43-42 ‫ ص ص‬...‫ نفس المرجع‬،.. ‫ مدرسة شيكاغو‬،‫] عبد الرحمن المالكي‬20[

Alain coulan, L’école de chicago, éd Puf, (Que sais –je ?), 2e édition, 1994. p, 3 ]21[

‫ وهي‬،1935‫ و‬1915 ‫ وهي تغطي الفترة ما بين‬،‫] تعد هذه الدراسة من أكثر األعمال توثيقا حول السياق المؤسساتي التي ظهرت فيه سوسيولوجيا شيكاغو‬22[
:‫ انظر‬.‫تستهدف مراجعة التأويالت السائدة حول مدرسة شيكاغو‬

Breslau Daniel. L'Ecole de Chicago existe-t-elle?. In: Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 74, septembre 1988.Recherches sur la
recherche. pp. 64-65

57 ‫ ص‬..‫ نفس المرجع‬،.. ‫ مدرسة شيكاغو‬،‫] عبد الرحمن المالكي‬23[

62-61 ‫ ص ص‬...‫] نفس المرجع‬24[

Breslau Daniel. L'Ecole de Chicago existe-t-elle?. In: Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 74, septembre 1988.Recherches sur ]25[
la recherche. pp. 64-65

93 ‫ ص‬..‫ نفس المرجع‬،.. ‫ مدرسة شيكاغو‬،‫] عبد الرحمن المالكي‬26[

88-87 ‫ ص ص‬..‫] نفس المرجع‬27[

.89-88 ‫ ص ص‬..‫] نفس المرجع‬28[

‫ كلية اآلداب‬،‫ منشورات مختبر سوسيولوجيا التنمية االجتماعية‬،‫ دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب‬،‫ الثقافة والمجال‬،‫] عبد الرحمن المالكي‬29[
6 ‫ ص‬.2015 ،‫والعلوم اإلنسانية ظهر المهراز‬

114-113 ‫ ص ص‬...‫ نفس المرجع‬،.. ‫ مدرسة شيكاغو‬،‫] عبد الرحمن المالكي‬30[

140 ‫ ص‬..‫] نفس المرجع‬31[

.144 ‫ ص‬.‫] نفس المرجع‬32[

53-52 ‫ ص ص‬.‫] نفس المرجع‬33[

153-152 ‫ ص ص‬.‫] نفس المرجع‬34[

Raymond Boudon, y-a-t-il encore une sociologie?, éd odile jacob, 2003, p233 ]35[

Ouvrage collectif, L’Ecole de Chicago: Naissance de l’écologie urbaine, éd du champ Urbain, 1979. p1 ]36[

105-104 ‫ ص ص‬.‫] نفس المرجع‬37[

Hinnerk Bruhns, Ville et campagne, quel lien avec le projet sociologique de Max Weber, In Sociétés Contemporaines, N 49-50, 2003, p13- ]38[

37

152 ‫ ص‬.‫ نفس المرجع‬،.. ‫ مدرسة شيكاغو‬،‫] عبد الرحمن المالكي‬39[


‫[‪ ]40‬نفس المرجع‪ .‬ص ‪167‬‬

‫[‪ ]41‬نفس المرجع‪ .‬ص ‪168‬‬

‫[‪ ]42‬عبد الرحمن المالكي‪ ،‬الثقافة والمجال‪ ،....‬نفس المرجع‪.‬‬

You might also like