You are on page 1of 166

‫إعانة نشء البالد على فهم لمعة االعتقاد‬

‫لفضيلة شيخنا أبي الحسن علي بن مختارالرملي‬

‫‪-‬حفظه للا تعالى‪-‬‬

‫اعتنى به وخرج أحاديثه‬

‫أبو حذيفة محمود بن محمد الشيخ‬


‫وأبو حمزة محمد حرز للا‬

‫‪1‬‬
‫المقدمة‬

‫الحمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول هللا‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن وااله‪ ،‬أما بعد؛ فهذا‬
‫شرح لكتاب لمعة االعتقاد الذي ألفه اإلمام العالمة موفق الدين عبد هللا بن أحمد بن قدامة‬
‫المقدسي‪ -‬رحمه هللا تعالى‪.-‬‬

‫هذا الكتاب هو كتاب في العقيدة‪ ،‬وكلمة العقيدة مأخوذة من (العقد) وهو الربط والشد بقوة‪،‬‬
‫هذا األصل اللغوي لها‪ ،‬وهي في االصطالح‪ :‬ما عقد المرء قلبه عليه وجزم به‪.‬‬

‫والعقيدة‪ ،‬واإليمان‪ ،‬والسنة ‪-‬على بعض معانيها‪ ،-‬والشريعة؛ كلها بمعنى واحد؛ فالسلف‬
‫كانوا يسمون كتب العقيدة بالسنة‪ ،‬وأيضا سماها بعضهم بالشريعة وبعضهم باإليمان‬
‫وبعضهم باالعتقاد‪ .‬والعقيدة هي أهم أمور دين هللا تبارك وتعالى؛ ألن العقيدة يترتب عليها‬
‫العمل فال يعمل المرء حتى يعتقد‪ ،‬فإذا اعتقد عمل بمقتضى اعتقاده‪ ،‬قال النبي ﷺ ‪ « :‬أَالَ‬
‫ي‬‫سد ُ ُكلهُ‪ ،‬أَالَ َو ِه َ‬ ‫ت فَ َ‬
‫سدَ ال َج َ‬ ‫سد َ ْ‬ ‫صلَ َح ال َج َ‬
‫سدُ ُكلهُ‪َ ،‬وإِذَا فَ َ‬ ‫صلَ َح ْ‬
‫ت َ‬ ‫ضغَة؛ ِإذَا َ‬ ‫َو ِإ َّن فِي ال َج َ‬
‫س ِد ُم ْ‬
‫ب »(‪.)1‬‬‫القَ ْل ُ‬
‫لسد الحاجة‪ ،‬معناها‬ ‫واللمعة في اللغة لها عدة معان‪ :‬منها البُ ْلغةُ من العَيش‪ ،‬والبُلغة ما يكفي ِ‬
‫لسد حاجة المسلم مما يجب أن يعقد قلبه عليه ويدين هللا به‪.‬‬
‫هنا «لمعة االعتقاد»‪ :‬ما يكفي ِ‬

‫أما المؤلف فهو‪:‬الشيخ العالمة المجتهد موفق الدين أبو محمد عبدهللا بن أحمد بن محمد بن‬
‫قدامة المقدسي ال َج َّما ِعيلي ث ُ َّم الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة (‪630‬هـ)‪ ،‬وهو صاحب كتاب‬
‫«المغني»‪ ،‬وكتاب «المغني» أشهر كتب المؤلف رحمه هللا تعالى‪ ،‬وهو كتاب فقه على ما‬
‫يسمى اليوم بالفقه المقارن‪ ،‬ويعنون بالفقه المقارن‪:‬ذكر المذاهب وأدلتها‪ ،‬وله كتب أخرى في‬
‫الفقه الحنبلي‪ ،‬مثل‪«:‬المقنع» و«الكافي»و«العمدة»‪ ،‬وله كتب علمية أخرى مطبوعة‬
‫ومتداولة بين طالب العلم‪.‬‬

‫(‪)1‬أخرجه البخاري (‪ ، )52‬ومسلم (‪ )1599‬عن النعمان بن بشير ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫أثنى عليه العلماء ثناء عطرا في التقوى والصالح والزهد والعلم‪ ،‬وكان بارعا في الفقه‪ ،‬وله‬
‫مشاركة في فنون أخرى منها الحديث‪ ،‬وهو ابن خالة الحافظ عبد الغني المقدسي‪ -‬رحمه هللا‬
‫تعالى‪-‬صاحب كتاب «عمدة األحكام»‪ ،‬فهو إمام مشهود له بالعلم والتقوى والصالح‪ ،‬وقد‬
‫ألف الضياء المقدسي رحمه هللا تعالى في سيرته كتابا‪ ،‬ونقل الذهبي رحمه هللا تعالى في‬
‫سيرة المؤلف من هذا الكتاب بعض الفقرات‪ ،‬من ذلك قول الضياء المقدسي‪ -‬رحمه هللا‬
‫تعالى‪:-‬‬

‫«وسمعت الحافظ اليُونِيني يقول‪ :‬لما كنت أسمع شناعة الخلق على الحنابلة بالتشبيه عزمت‬
‫على سؤال الشيخ الموفق»‪.‬‬

‫كان النَّاس في ذاك القرن‪ :‬القرن السادس والسابع‪ ،‬كان الكثير منهم على المذهب‬
‫األشعري‪،‬وكان الحنابلة يعرفون بتمسكهم بمذهب السلف‪ ،‬مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬وال‬
‫يعني ذلك أن كل الحنابلة على هذا المذهب‪ ،‬ال ولكن كان الحنابلة مشهورين معروفين بذلك‪،‬‬
‫فاليونيني كان يعيش في ذاك العصر فسمع من علماء زمنه التشنيع على الحنابلة وأنهم كانوا‬
‫مشبهة‪ ،‬هذا حال المعطلة‪ ،‬وإذا قلنا المعطلة فنعني بهم‪ :‬الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬واألشاعرة‪،‬‬
‫وكل من كان على منهجهم في تعطيل صفات هللا‪ -‬تبارك وتعالى‪-‬التي وردت في كتابه‪ ،‬أو‬
‫في سنة رسوله صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فهؤالء المعطلة كانوا يسمون أهل السنة مشبهة‪،‬‬
‫ويسمونهم مجسمة‪ ،‬وغير ذلك من األسماء الباطلة‪ ،‬وإنما يريدون بذلك تنفير النَّاس عمن‬
‫حمل مذهب السلف‪.‬‬

‫قال‪« :‬لما كنت أسمع شناعة الخلق على الحنابلة»–أي أن النَّاس يشنعون عليهم بالتشبيه–‬
‫«عزمت على سؤال الشيخ الموفق‪ ،‬وبقيت أشهرا أريد أن أسأله‪ ،‬فصعدت معه الجبل‪ ،‬فلما‬
‫كنا عند دار ابن محارب قلت‪ :‬ياسيدي‪ ،‬وما نطقت بأكثر من‪ :‬ياسيدي‪ ،‬فقال لي‪ :‬التشبيه‬
‫‪3‬‬
‫لم؟ قال‪ :‬ألن من شرط التشبيه أن‬
‫مستحيل‪ -‬إذ عرف ما يريد – فقال‪:‬التشبيه مستحيل‪ ،‬فقلت‪َ :‬‬
‫نرى الشيء ث ُ َّم نشبهه‪ ،‬من الذيرأى اللهث ُ َّم شبهه لنا؟»‪.‬انتهى‬

‫وذكر الضياء حكايات في كرامات ابن قدامة‪-‬رحمه هللا تعالى‪.-‬‬

‫وقال أبو شامة وهو من األشاعرة‪« :‬كان ‪-‬أي ابن قدامة‪ -‬إماما عالما‪ ،‬في العلم والعمل‪،‬‬
‫صنف كتبا كثيرة‪ ،‬لكن كالمه في العقائد على الطريقة المشهورة من أهل مذهبه – أي‬
‫الحنابلة – فسبحان من لم يوضح له األمر فيها على جاللته في العلم ومعرفته بمعاني‬
‫األخبار»‪ ،‬هكذا يقول أبو شامة‪ ،‬يستغرب من هذا األمر‪ ،‬ولكن الذهبي‪ -‬رحمه هللا تعالى‪ -‬له‬
‫تعليقات لطيفة وجميلة‪ ،‬فقال‪« :‬قلت‪ :‬وهو وأمثاله يتعجبون منكم» أي كما أنكم تتعجبون منه‬
‫–أي ابن قدامة‪ -‬هو أيضا وأمثاله أي من كان على مذهبه‪:‬مذهب السلف؛ يتعجبون منكم «مع‬
‫علمكم وذكائكم كيف قلتم ‪-‬أي في الصفات– وكذا كل فرقة تتعجب من األُخرى‪ ،‬وال عجب‬
‫في ذلك‪ ،‬ونرجو هللا تعالى لكل من بذل جهده في طلب الحق من هذه األمة المرحومة أن‬
‫يغفر له»‪ .‬انتهى‬

‫الشاهد أن ابن قدامة‪ -‬رحمه هللا تعالى‪ -‬كان إماما من أئمة أهل السنة على المذهب الحنبلي‬
‫رحمه هللا تعالى‪.-‬‬

‫وهذه العقيدة التي بين أيدينا ليست عقيدة الحنابلة فحسب‪ ،‬بل هي عقيدة السلف قاطبة‪ ،‬عقيدة‬
‫اس قَ ْرنِي‪ ،‬ث ُ َّم الَّذِينَ‬ ‫أئمة أصحاب القرون الثالثة األولى‪،‬الذين قال فيهم النَّبيﷺ‪َ « :‬خي ُْر النَّ ِ‬
‫هادَتَه ُ»(‪.)1‬‬
‫شَ‬ ‫يَلُونَ ُه ْم‪ ،‬ث ُ َّم الَّذِينَ يَلُونَ ُه ْم‪ ،‬ث ُ َّم يَ ِجي ُء أ َ ْق َوا ٌم ت َ ْسبِ ُق َ‬
‫ش َهادَة ُ أ َ َح ِد ِه ْم يَ ِمينَهُ‪َ ،‬ويَ ِمينُهُ َ‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ )2651‬و (‪،)2652‬ومسلم (‪ )2533‬و (‪ )2535‬من حديث عبد هللا بن مسعود وعمران بن حصين‬
‫رضي هللا عنهما‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ولكن يحاول بعض أهل البدع أن يخصوا هذه العقيدة بالحنابلة؛ كي يوهموا الناس أنها عقيدة‬
‫باطلة مخترعة تختص بطائفة معينة فقط ممن مشى على مذهب إمامه اإلمام أحمد في هذه‬
‫العقيدة‪ ،‬وأرادوا من ذلك أن يفصلوا عقيدة اإلمام أحمد عن عقيدة بقية أئمة اإلسالم كاإلمام‬
‫مالك والشافعي‪-‬رحمهم هللا تعالى‪ ،-‬وهذا من أبطل الباطل وأكبر المحال؛فمالك والشافعي‪-‬‬
‫رحمهما هللا تعالى– لهما كالم واضح في تقرير عقيدة السلف‪ ،‬العقيدة التي كان عليها اإلمام‬
‫أكثر من الرد على تلك الفرق؛ألن أهل البدع‬
‫َ‬ ‫أحمد ‪-‬رحمه هللا تعالى‪ ،-‬ولكن اإلمام أحمد‬
‫اشتدت شوكتهم وصارت لهم كلمة في زمنه‪ ،‬هذا الذي لم يكن حاصال في زمن اإلمام مالك‬
‫واإلمام الشافعي‪ ،‬وإال فكلهم ‪-‬رحمهم هللا تعالى‪-‬كانوا على عقيدة واحدة في األسماء‬
‫والصفات وغيرها من مسائل االعتقاد‪ ،‬كما سيأتي معنا في هذا الكتاب‪-‬إن شاء هللا تعالى‪.-‬‬

‫وأما الحنبلية أوالشافعية أو المالكية فهذه مذاهب فقهية يختار منها الرجل ما تبين له أنه أكثر‬
‫قربا إلى الحق ‪ ،‬مع أننا نقول‪ :‬ينبغي على طالب العلم أن يكون ُمتبعا للكتاب والسنة ومنهج‬
‫أهل الحديث في العقيدة والفقه‪ ،‬فإذا كانت المسألة فيها دليل من كتاب هللا أو من سنة رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وتبين له أن الحق في قول الشافعي أخذ بقول الشافعي‪ ،‬وإذا تبين‬
‫له أن الحق في قول أحمد أخذ بقول أحمد‪ ،‬وإذا تبين له أن الحق في قول مالك أخذ بقول‬
‫نزل كالم الرجال منزلة كالم هللا ورسوله‬
‫مالك‪ ...‬وهكذا ‪ ،‬فال يتقيد بمذهب رجل معين‪ ،‬وال يُ ِ‬
‫ﷺ‪ ،‬فلم يأمرنا هللا تبارك وتعالى أن نكون حنابلة‪ ،‬وال أن نكون مالكية‪ ،‬وال أن نكون شافعية‬
‫وال غير ذلك‪.‬‬

‫ولكن إذا كان المسلم ينتسب إلى هذه المذاهب‪،‬ث ُ َّم إذا جاءه الدليل من الكتاب والسنة تمسك به‬
‫وترك المذهب الذي عليه؛ فال ينكر عليه ذلك؛ ألنه متب ٌع لكتاب هللا‪ ،‬ولسنة رسوله صلى هللا‬

‫‪5‬‬
‫عليه وسلَّم‪ ،‬ولكن يكون اإلنكار على الذين يتركون كتاب هللا وسنة رسوله ﷺ ويتمسكون‬
‫بقول فالن وفالن‪ ،‬هؤالء الذين يُنكر عليهم وبشدة‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫مقدمة المؤلف‬

‫قال الشيخ اإلمام العالمة موفق الدين عبد هللا بن أحمد بن قدامة المقدسي عليه رحمة هللا‪:‬‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬


‫مكان‪ ،‬وال يَشغلُهُ‬ ‫ٌ‬ ‫كل زمان‪ ،‬الذي ال َيخلُو من ِعلم ِه‬ ‫ال َحمدُ هللِ ال َمحمو ِد ب ُك ِل لسان‪ ،‬ال َمعبو ِد في ِ‬
‫صاحب ِة واألوال ِد‪ ،‬ونَفَذَ ُحك ُمهُ في جميعِ‬ ‫وتنزهَ عن ال َّ‬ ‫َّ‬ ‫شأن عن شأن‪َ ،‬ج َّل عن األشبا ِه واأل َندَا ِد‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫بالتصوير‪.‬‬
‫ِ‬ ‫القلوب‬
‫ُ‬ ‫بالتفكير‪ ،‬وال ت َت َ َّو َه َمهُ‬
‫ِ‬ ‫العبا ِد‪ ،‬ال ت ُمثِلُهُ العُقو ُل‬
‫ير} [الشورى‪]11 :‬‬ ‫ص ُ‬ ‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه ش ْ‬
‫َي ٌء َوهُ َو ال َّ‬ ‫{لَي َ‬
‫له األسما ُء ال ُحسنى‪ ،‬والصفاتُ العُلى‪.‬‬
‫ض َو َما َب ْينَ ُه َما َو َما ت َ ْح َ‬
‫ت‬ ‫ت َو َما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫{الر ْح َم ُن َعلَى ْال َع ْر ِش ا ْست َ َوى * لَهُ َما ِفي ال َّ‬
‫س َم َاوا ِ‬ ‫َّ‬
‫الث َّ َرى * َو ِإ ْن ت َ ْج َه ْر ِب ْالقَ ْو ِل فَإِنَّهُ َي ْعلَ ُم الس َِّر َوأ َ ْخفَى} [طه‪]7 - 5 :‬‬
‫وقهر ك َّل مخلوق ِعزة وحكما‪ ،‬وو ِس َع ك َّل شيء رحمة وعلما‬ ‫َ‬ ‫بكل شيء علما‪،‬‬ ‫ط ِ‬ ‫أحا َ‬
‫طونَ بِ ِه ِع ْلما} [طه‪]110 :‬‬ ‫{يَ ْعلَ ُم َما بَيْنَ أ َ ْيدِي ِه ْم َو َما خ َْلفَ ُه ْم َو َال يُ ِحي ُ‬
‫الكريم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لسان نبي ِه‬
‫ِ‬ ‫ظيم‪ ،‬وعلى‬ ‫سهُ في كتاب ِه العَ ِ‬ ‫وصف به نف َ‬ ‫َ‬ ‫موصوف بما‬
‫ٌ‬

‫‪7‬‬
‫الشرح‬
‫ابتدأ المؤلف‪-‬رحمه هللا تعالى‪ -‬بالبسملة؛ اقتداء بكتاب هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وبسنة رسوله‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم؛ فقد كان عليه الصالة والسالم في الرسائل يبدأ بالبسملة‪ ،‬كما في‬
‫رسالته إلى هرقل‪ ،‬وأما في الخطب فكان صلى هللا عليه وسلَّم يبدأ بالحمد‪.‬‬

‫وأما األحاديث الواردة في ذلك؛ كحديث أبي هريرة ‪ ‬رفعه‪ُ «:‬كل َك َالم‪ ،‬أ َ ْو أ َ ْمر ذِي بَال َال‬
‫ط ُع»(‪ ،)1‬وما شابه ذلك من أحاديث فال يثبت منها شيء‪،‬‬ ‫َّللاِ‪ ،‬فَ ُه َو أ َ ْبت َ ُر‪ ،‬أ َ ْو قَا َل‪ :‬أ َ ْق َ‬
‫يُ ْفت َ ُح بِ ِذ ْك ِر َّ‬
‫وإنمااالقتداء بكتاب هللا وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم العملية‪.‬‬

‫ومعنى البسملة أي‪ :‬أبدأ تأليفي هذا الكتاب مستعينا باهلل ذي الرحمة العامة والخاصة‪ ،‬هذا‬
‫معنى بسم اللهالرحمن الرحيم‪.‬‬

‫قال‪(:‬الحمد هلل المحمود بكل لسان‪ ،‬المعبود في كل زمان)‪.‬‬

‫الحمد‪ :‬وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم‪ ،‬و«ال»فيه لالستغراق‪ :‬أي جميع‬
‫المحامدهلل تبارك وتعالى‪.‬‬

‫المحمود‪ :‬هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬بكل لسان‪ :‬أي الذي يستحق أن يحمد بكل لسان‪ ،‬لماذا قلنا‬
‫هذا؟ألن هللا تبارك وتعالى لم يُح َمد بكل لسان؛ فألسنة الكفرة والملحدين ال تحمد هللا تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬لذلك نقول هنا«المحمود بكل لسان»أي‪ :‬الذي يستحق أن يحمد بكل لسان‪.‬‬

‫المعبود في كل زمان‪ :‬في كل زمن يوجد من يعبده تبارك وتعالى‪ ،‬فال ينقطع زمن من‬
‫األزمان من عابديه‪.‬‬

‫(‪)1‬أخرجه أحمد (‪،)8712‬وأبو داود (‪ )4840‬وابن ماجه(‪ )1894‬والدارقطني في السنن(‪ )883‬وقال‪:‬تفرد به الزهري عن أبي‬
‫سلمة عن أبي هريرة وأرسله غيره‪ ،‬ث ُ َّم قال‪ :‬وال يصح الحديث‪ ،‬وقال‪ :‬والمرسل هو الصواب‪ .‬وضعفه اإلمام األلباني في‬
‫االرواء(‪.)2‬‬

‫‪8‬‬
‫قال‪:‬الذي ال يخلو من علمه مكان‪ :‬وهذا ِل ِسعة علمه تبارك وتعالى‪ ،‬علمه أحاط بكل شيء‪.‬‬

‫قال‪ :‬وال يشغله شأن عن شأن‪ :‬لكمال قدرته يحيي ويميت‪ ،‬ويرزق ويمنع من غير أن يشغله‬
‫شيء من هذه األشياء عن شيء آخر‪ ،‬هذا لكمال قدرته تبارك وتعالى‪.‬‬

‫قال‪ :‬جل عن األشباه‪ :‬ج َّل‪ :‬أي عظم شأنه فال يشبهه شيء من مخلوقاته‪َّ ،‬‬
‫تنزه عن ذلك‪ ،‬قال‬
‫هللا تبارك وتعالى‪}:‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصير{]الشورى‪ [11:‬هذه اآلية أصل‬
‫في نفي التمثيل عن هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وفي إثبات صفاته‪ ،‬وأنهما أمران ال يتناقضان ألبتة‪،‬‬
‫أمران ال يتناقضان نفي التمثيل مع إثبات صفاته تبارك وتعالى‪ ،‬فأنت تثبت هلل أنه سميع وأنه‬
‫بصير‪ ،‬ولكن في نفس الوقت تقول‪ :‬سمعه ليس مثل سمع المخلوقين‪ ،‬وبصره ليس كبصر‬
‫المخلوقين وهكذا‪.‬‬

‫قال‪ :‬جل عن األشباه واألنداد‪ :‬الند هو المثيل والنَّظير‪.‬‬

‫قال‪ :‬وتنزه عن الصاحبة واألوالد‪ :‬وهذا لعدم حاجته للولد وال للصاحبة أي الزوجة‪ ،‬فاهلل‬
‫سبحانه وتعالى ال يحتاج إلى الصاحبة والولد؛ لكماله تبارك وتعالى‪.‬‬

‫قال‪ :‬ونفذ حكمه في جميع العباد‪:‬‬

‫الحكم حكمان‪ :‬حكم قدري وحكم شرعي‪ ،‬أما الحكم الشرعي فليس نافذا في جميع العباد؛‬
‫فكثير من العباد ال ينقادون لشرع هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وأما الحكم القدري فهو نافدٌ في جميع‬
‫العباد‪ ،‬فكل ما أراده هللا تبارك وتعالى إرادة كونية فهو حاصل وال بد‪ ،‬قال تعالى‪} :‬إنما‬
‫أمره إذا أراد شيئا ً أن يقول له كن فيكون{ [يس‪ ،]36 :‬ال يخرج شيء عن قدرته تبارك‬
‫وتعالى‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫قال‪ :‬ال تمثله العقول بالتفكير‪ ،‬وال تتوهمه القلوب بالتصوير‪:‬‬

‫ال تستطيع القلوب أن تتصور ربها تبارك وتعالى‪ ،‬فال يمكن ذلك‪ ،‬ال يمكن أن تتصور هللا‬
‫يدرك ذلك بالعقل‪ ،‬وال يجوز ألحد أن يحاول‬
‫سبحانه وتعالى على صورة ما‪ ،‬ال يمكن أن َ‬
‫ذلك‪ ،‬وال قدرة لنا على ذلك‪ ،‬قال هللا تعالى‪} :‬وال يحيطون به علما ً{ [طه‪ .[ 110 :‬وقال‬
‫تبارك وتعالى‪} :‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] {الشورى‪ ،[ 11 :‬ففي هذا نفي‬
‫لوجود مماثل هلل تبارك وتعالى‪ ،‬وفيه إثبات لصفات هللا تبارك وتعالى‪ ،‬فال يلزم من إثبات‬
‫صفة السمع والبصر وغيرهما من الصفات التي أثبتها هللا لنفسه في الكتاب أوفي السنة أن‬
‫يكون مماثال لخلقه‪ ،‬ال يلزم ذلك ألبتة‪ ،‬يدلنا على ذلك النَّفي واإلثبات الذي في هذه اآلية التي‬
‫بين أيدينا}ليس كمثله شيء{ نفي للمماثل‪ } ،‬وهو السميع البصير{ إثبات لصفة السمع‬
‫وصفة البصر‪.‬‬

‫قال‪ :‬له األسماءالحسنى والصفات العلى}الرحمن على العرش استوى‪ .‬له ما في السماوات‬
‫وما في األرض وما بينهما وما تحت الثرى‪ .‬وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى{ [‬
‫طه‪:[7-5 :‬‬

‫األسماء الحسنى أي البالغة في الحسن غايته‪ ،‬والصفات العلى أي الصفات العلية الرفيعة‬
‫التي ال يشبهها شيء‪ ،‬هذه ثابتة هلل تبارك وتعالى‪.‬‬

‫والرحمن هو هللا تبارك وتعالى‪ ،‬فالرحمن اسم هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وقد تضمن صفة أيضا‪،‬‬
‫هي صفة الرحمة‪ ،‬فنثبت هلل تبارك وتعالى اسما هو الرحمن‪ ،‬ونثبت له أيضا صفة هي صفة‬
‫الرحمة على معناها الحقيقي الذييفهمه العرب‪.‬‬

‫ما الفرق بين األسماء والصفات؟‬

‫‪10‬‬
‫االسم في أصله هو ما دل على الذات‪ ،‬وأما الصفة فهي معنى‪ ،‬فاألسماء مثل‪ :‬السميع‪،‬‬
‫البصير‪ ،‬الحكيم‪ ،‬القدير‪ ،‬هذه أسماء كلها تدل على الذات‪.‬‬

‫وهي أيضا تتضمن صفات‪ ،‬وهي بالنِسبة هلل حق‪ ،‬أي الصفات التي تدل عليها األسماء‪ ،‬أما‬
‫بالنِسبة للعباد فيكون للعبد اسم وربما تضمن صفة‪ ،‬ولكن تارة يتحلى العبد بالصفة التي‬
‫تضمنها اسمه‪ ،‬وتارة ال يتحلى بها‪.‬‬

‫فأسماء هللا تدل على ذات وتتضمن صفات‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬يغفر لي الغفار‪ ،‬فالغفار هنا اسم د َّل‬
‫على ذات‪ ،‬وهو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو الذي يغفر الذنوب‪ ،‬ودلَّت على صفة المغفرة أيضا‪،‬‬
‫فيجب أن نثبتها هلل تبارك وتعالى‪.‬‬

‫وأما الصفة فهي معنى‪ ،‬تدل على معنى فقط‪ ،‬وال تدل على الذات كاالسم‪ ،‬هذا الفرق بين‬
‫األسماء والصفات‪.‬‬

‫قال هللا تباركوتعالى‪} :‬الرحمن على العرش استوى}‪.‬‬

‫الرحمن هو هللا رب العزة تبارك وتعالى‪.‬‬

‫على العرش‪ :‬العرش في أصل اللغة هو سرير الملك‪ ،‬وسرير الملك يكون بتلك الفخامة‬
‫والعظمة المعروفة وهو سقف المخلوقات‪ ،‬هو أعلى المخلوقات كلها‪ ،‬والرحمن سبحانه‬
‫استوى عليه‪ ،‬أي عال وارتفع بمقتضى اللغة‪ ،‬استوى في اللغة إذا تعدت بحرف (على)‬
‫فمعناها العلو واالرتفاع‪ ،‬فقد رجعنا إلى تفسير السلف فوجدناهم فسروها بذلك‪.‬‬

‫الفرق بيننا وبين أهل البدع؛ أننا نرجع في ذلك إلى تفسير السلف أصحاب القرون األولى‬
‫التي أثنى عليها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪ « :‬خير النَّاس قرني‬

‫‪11‬‬
‫ث ُ َّم ذ َّم بعد ذلك القرون األُخرى‪ ،‬فالحق يكون ظاهرا‬ ‫يلونهم»(‪)1‬‬ ‫ث ُ َّم الذين يلونهم ث ُ َّم الذين‬
‫وبكثرة عند أصحاب القرون الثالثة األولى‪ ،‬وأفقه هذه األمة وأعلمها هم أصحاب هذه‬
‫القرون األولى‪ ،‬ومن نظر وتأمل وقارن بدا له ذلك جليا‪،‬قال غير واحد من السلف‪« :‬العلم‬
‫قليل ولكن كثَّره الجاهلون»؛ فكثر الكالم والقيل والقال في كتب المتأخرين‪ ،‬وتجد المسألة‬
‫عند المتقدمين يقتصرون فيها على كلمتين أو ثالث وتنتهي المسألة من أصلها‪ ،‬فعلم‬
‫المتقدمين فيه خير وبركة عظيمة وكثيرة‪ ،‬وعلم المتأخرين كثير ولكنه قليل البركة‪.‬‬

‫إذا رجعنا إلى تفسير السلف في هذه اآلية وجدنا أبا العالية الرياحي‪-‬رحمه هللا تعالى‪ -‬من‬
‫أئمة التابعين‪ ،‬وممن تتلمذ على جمع من صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم يقول في‬
‫االستواء‪ :‬استوى أي ارتفع‪ ،‬وقال مجاهد‪ :‬استوى أي عال (‪ )2‬وهذا موجود معلق في صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬فـ«الرحمن على العرش استوى»‪:‬أي عال وارتفع‪.‬‬

‫} له ما في السماوات وما فياألرض وما بينهما وما تحت الثرى{ ‪ :‬له ما في السماوات وما‬
‫في األرض وما بينهما‪ ،‬ما بين السماوات واألرض‪ ،‬وما تحت الثرى أي ما تحت األرض‪،‬‬
‫كل ذلك ملك له‪ ،‬عبيد مدبرون مسخرون‪ ،‬تحت قضائه وقدره‪ ،‬ال يخرج من ذلك شيء‪.‬‬

‫}وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى{ ‪ :‬لكمال علمه تبارك وتعالى‪ ،‬يعلم السر وهو ما‬
‫تحدث به نفسك ال يسمعه أحد‪ ،‬يعلمه رب العزة تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ِ‬

‫تحدث به نفسك بعد‪ ،‬كل ذلك يعلمه تبارك وتعالى‪.‬‬


‫} وأخفى{ ‪ :‬وأخفى من ذلك‪ ،‬أي الذي لم ِ‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ ،‬تقدم تخريجه‪.‬‬

‫والبغوي في شرح السنة (‪.)171/1‬‬


‫َ‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري تعليقا في كتاب التوحيد‪ ،‬تحت باب«وكان عرشه على الماء»‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫قال‪( :‬وقهر كل مخلوق عزة وحكما ً‪ ،‬ووسع كل شيء علما ً‪} ،‬يعلم ما بين أيديهم وما‬
‫خلفهم وال يحيطون به علما ً{( [طه‪:]110 :‬‬

‫قهر‪ :‬أي أخضعه لسلطانه‪ ،‬أخضع كل مخلوق لسلطانه‪ ،‬عزة‪ :‬قوة منه تبارك وتعالى‪،‬‬
‫وحكما ً‪ :‬أي جعله تحت حكمه القدري‪ ،‬ال يتمكن أحد منهم من الخروج عن حكم هللا تبارك‬
‫وتعالى‪.‬‬

‫ووسع كل شيء علما ً؛ فعلمه وسع كل شيء وكذلك رحمته‪ ،‬ال يخرج شيء عن علمه تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬ورحمته وسعت الجميع‪.‬‬

‫} يعلم ما بين أيديهم{ ‪ :‬أي ما أمامهم من أمور الدنيا‪،‬وما خلفهم من أمور اآلخرة‪} ،‬وال‬
‫يحيطون به علما ً{‪ :‬لنقصهم وقصور إدراكهم عما يستحقه هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫قال‪( :‬موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم‪ ،‬وعلى لسان نبيه الكريم)‪.‬‬

‫أي نثبت هلل تبارك وتعالى من الصفات ما أثبته لنفسه في كتابه الذي هو القرآن‪ ،‬أو في سنة‬
‫نبيه صلى هللا عليه وسلَّم أي األحاديث الصحيحة‪ ،‬ال فرق في ذلك بين متواتر وآحاد‪ ،‬وإنما‬
‫أحدث هذا التفريق أهل البدع والضالل؛ كي يتخلصوا من داللة السنة على صفات هللا تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬أرادوا أن يتخلصوا من هذه الصفات فما وجدوا من سبيل إال بهذا التفريق؛ كي‬
‫يردوا أحاديث اآلحاد ويتخلصوا منها‪ ،‬فال يبقى عندهم إال األحاديث المتواترة وهي قليلة‪،‬‬
‫عول التحريف الذي يسمونه تأويال‪ ،‬وبذلك‬
‫عملون فيها ِم َ‬
‫وأحاديث الصفات فيها أقل‪ ،‬ويُ ِ‬
‫يتخلصون من السنة تماما‪ ،‬في الداللة على صفات هللا تبارك وتعالى‪ ،‬على ما سيأتي تفصيله‬
‫بإذن هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫المتن‬
‫وجب‬
‫َ‬ ‫حمن؛‬
‫ت الر ِ‬ ‫ص َّح عن ال ُمصط َفى عليه السالم ِمن صفا ِ‬ ‫القرآن‪ ،‬أو َ‬
‫ِ‬ ‫و ُكل ما َجا َء في‬
‫ض لهُ بالر ِد والتأوي ِل والت َّشبي ِه والت َّمثي ِل‪.‬‬ ‫اإليمان ب ِه‪ ،‬وت َلَّ ِقي ِه بالت ِ‬
‫سليم والقَبُو ِل‪ ،‬وت َركُ الت ُ‬
‫عر ِ‬ ‫ُ‬

‫عرض ل َمعناهُ ونَرد ِعلمهُ إلى قائل ِه‪ ،‬ونجع ُل‬ ‫ِ‬ ‫رك الت َّ‬ ‫ظا‪ ،‬وت َ َ‬ ‫وجب إثبات ُهُ لَف َ‬
‫َ‬ ‫وما أ َشك َل ِمن َ‬
‫ذلك‬
‫المبين‬
‫ِ‬ ‫ذين أثنى هللاُ عليهم في كتاب ِه‬ ‫العلم ال ِ‬
‫ِ‬ ‫ق الراسخينَ في‬ ‫عهدَت َهُ على ناقل ِه؛ اتباعا لطري ِ‬ ‫ُ‬
‫{والرا ِس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا ِب ِه كل ِم ْن ِع ْن ِد َربِنَا} [آل عمران‪:‬‬ ‫بقول ِه سبحانه وتعالى‪َ :‬‬
‫‪]7‬‬
‫نزي ِل ِه‪{ :‬فَأ َ َّما الذين فِي قُلُو ِب ِه ْم زَ ْي ٌغ فَيَت َّ ِبعُونَ َما تَشَابَهَ ِم ْنهُ‬
‫وقال في ذَ ِم ُمبت َ ِغي التأوي ِل ل ُمتشاب ِه ت َ ِ‬
‫ا ْب ِتغَا َء ْال ِفتْنَ ِة َوا ْب ِتغَا َء ت َأوي ِل ِه َو َما َي ْعلَ ُم ت َأويلَهُ إِال هللا} [آل عمران‪]7 :‬‬
‫بابتغاء الفتن ِة في الذ ِم‪ ،‬ث ُ َّم ح َجبَ ُهم َعما أ َّملُوهُ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فجع َل ابتغا َء التأوي ِل عالمة على الزيغِ‪ ،‬وقَ َرنهُ‬
‫{و َما يَ ْعلَ ُم ت َأويلَهُ إِالهللا} [آل عمران‪]7 :‬‬ ‫وقط َع أطما َع ُهم َع َّما قَصدُوهُ‪ ،‬بقول ِه سبحانهُ‪َ :‬‬

‫‪14‬‬
‫الشرح‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وكل ما جاء في القرآن‪ ،‬أو صح عن المصطفى عليه السالم‬
‫من صفات الرحمن وجب اإليمان به)‪.‬‬

‫أي كل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات هللا تبارك وتعالى‪،‬وجب اإليمان به‪،‬فإذا ثبتت‬
‫عندنا صفة من صفات هللا بآية من كتاب هللا‪،‬أو بسنة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪،‬‬
‫فيجب علينا أن نؤمن بها‪ ،‬فنصدق بالصفة‪ ،‬ونعتقد أن هللا‪َّ -‬‬
‫عز وج َّل ‪ -‬متصف بتلك الصفة‪،‬‬
‫ونتلقاها أيضا بالتسليم والقبول‪ ،‬بقبولها وعدم ردها وعدم إنكارها‪ ،‬واالنقياد لما جاء عن هللا‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬من غير اعتراض عليه بعقولنا‪.‬‬

‫هذا هو الواجب علينا تجاه الصفات‪ ،‬وتجاه كل أمر جاء في كتاب هللا‪ ،‬وفي سنة رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬والمقصود بما صح عن المصطفى صلى هللا عليه وسلَّم‪ :‬جميع‬
‫األحاديث‪ ،‬سواء كانت هذه األحاديث أحاديث متواترة‪ ،‬أوأحاديث آحاد‪ ،‬كلها تقبل وكلها‬
‫تؤخذ بالتسليم والقبول‪.‬‬

‫يفرق أهل السنة والجماعة ما بين األحاديث المتواترة واآلحاد‪ ،‬واألحاديث الواردة في‬
‫ال ِ‬
‫الصفات كاألحاديث الواردة في األحكام ال فرق‪ ،‬هذا ما ذكره إسحاق بن راهويه‪ -‬رحمه هللا‬
‫تعالى‪-‬عندما عرض عليه أحد األمراء– وهو عبدهللا بن طاهر – هذه المسألة‪ ،‬سأله عن‬
‫حديث نزول الرحمن تبارك وتعالى‪ ،‬فقال‪« :‬أيها األمير‪ ،‬إن هللا تعالى بعث إلينا نبيا‪ ،‬نقل‬
‫تحرم‪ ،‬وبها تباح‬
‫َّ‬ ‫تحرم‪ ،‬وبها تحلل الفروج وبها‬
‫َّ‬ ‫إلينا عنه أخبارا‪ ،‬بها تحلل الدماء وبها‬

‫‪15‬‬
‫تحرم‪ ،‬فإن صحهذا صح ذاك‪ ،‬وإن بطل هذا بطل ذاك‪ ،‬قال‪ :‬فأمسك‬
‫َّ‬ ‫األموال وبها‬
‫عبدهللا»(‪.)1‬‬

‫أحاديث الصفات جاءنا بها الذين جاءونا بأحاديث األحكام‪ ،‬ال فرق‪ ،‬هكذا كان السلف‪ -‬رضي‬
‫هللا عنهم ‪-‬يتعاملون مع أحاديث الصفات‪ ،‬ال يفرقون بين متواتر وآحاد‪ ،‬هذه البدع المحدثة‬
‫التي أحدثها أهل البدع؛ من أخذ الصفات من األحاديث المتواترة‪ ،‬دون أحاديث اآلحاد‪ ،‬وعدم‬
‫رد األحاديث المتواترة إذا جاءت في الصفات‪ ،‬ورد أحاديث اآلحاد‪ ،‬هذه بدعة ابتدعها‬
‫العقالنيون‪ ،‬أ َّما أهل السنة والجماعة فيقبلون جميع األحاديث عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‬
‫في الصفات سواء كانت متواترة أم كانت أحادا‪ ،‬ال فرق عندهم‪.‬‬

‫يفرقون هذا التفريق هو‪:‬التخلص من الكثير من سنة النَّبي صلى‬


‫السبب الذي جعل العقالنيين ِ‬
‫هللا عليه وسلَّم‪ ،‬عندما أصلوا أصولهم الفاسدة‪ ،‬وواجهتهم هذه األحاديث‪،‬أرادوا أن يتخلَّصوا‬
‫منها فوضعوا بدعتهم هذه‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن أحاديث اآلحاد ال تقبل في الصفات‪ ،‬ث ُ َّم األحاديث‬
‫يحرفونها ويتالعبون بها ويغيرونها‬
‫المتواترة إذا خالفت خياالتهم وجهالتهم العقلية؛ أخذوا ِ‬
‫ويشكلونها كما يحبون‪ ،‬فأحاديث اآلحاد مردودة عندهم‪ ،‬واألحاديث المتواترة محرفة‪.‬‬
‫وانتهى‪ ،‬هكذا تخلصوا من أدلة السنة كلها‪ ،‬وحكموا عقولهم وأهواءهم على هللا ‪.‬‬

‫قال‪(:‬وجب اإليمان به وتلقيه بالتسليم والقبول‪ ،‬وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه‬
‫والتمثيل)‪.‬‬

‫(‪)1‬صحيح‪ ،‬صححه األلباني في مختصر العلو(‪ ،)235‬أخرجه البيهقي في األسماء والصفات برقم(‪ ،)950‬وذكره ابن تيمية عن‬
‫عبد الرحمن بن أبي عبدهللا بن منده بسنده الى إسحاق ( مجموع الفتاوى ‪ ،)389/5‬وأخرج الاللكائي طرفا منه بلفظ آخر في‬
‫شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم (‪.)774‬‬

‫‪16‬‬
‫فال يجوز لنا أن نتعرض لصفات هللا تبارك وتعالى بالرد أي يحرم رفضها‪ ،‬فما ثبت في‬
‫الكتاب والسنة من صفات هللا تبارك وتعالى يحرم أن ننكره‪ ،‬والواجب علينا أن نعتقده كما‬
‫تقدم‪.‬‬

‫قال‪« :‬التأويل»؛ أي يجب عدم التعرض لها بالتأويل‪ ،‬والمراد بالتأويل هنا‪ :‬صرف اللفظ عن‬
‫ظاهره‪ ،‬عن حقيقته التي تقتضيها اللغة العربية‪ ،‬هذا التأويل محرم هنا‪ ،‬الذي هو صرف‬
‫اللفظ عن ظاهره أو تفسير المعنى بغير حقيقته‪ ،‬هذا مردود محرم استعماله في الصفات‪،‬‬
‫وأي دليل شرعي في الكتاب والسنة ال يجوز لك أن تصرفه عن ظاهره المتبادر للذهن إال‬
‫إن ُو ِجد دليل صحيح يدل على صحة الصرف‪.‬‬

‫والتأويل يرد على ثالثة معان‪:‬‬

‫المفسرين كابن جرير وغيره عندما يقول‪:‬‬


‫ِ‬ ‫المعنى األول‪ :‬التفسير‪ ،‬وهو استعمال الكثير من‬
‫« وتأويل هذه اآلية كذا وكذا» أي‪ :‬تفسيرها‪.‬‬

‫المعنى الثاني‪ :‬الحقيقة التي يؤول إليها الكالم‪ ،‬أي التي يصير إليها الكالم‪ ،‬ومن ذلك قول‬
‫يوسف عليه السالم كما في قوله تعالى عنه‪} :‬يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل{[يوسف‪:‬‬
‫‪ ،]100‬عندما وقعت وتحققت الرؤيا قال ألبيه‪ :‬هذا تأويل رؤياي‪ ،‬أي هذا ما آلتإليهالرؤيا‬
‫فهذا وقوعها‪ ،‬هذا المعنى الثاني للتأويل‪.‬‬

‫المعنى الثالث‪ -‬هو المعنى االصطالحي الذي ذكرناه‪ :-‬وهو صرف اللفظ عن ظاهرهلدليل‬
‫صحيح‪ ،‬هذا التأويل غير جائزإال مع وجود الدليل الصحيح‪.‬‬

‫فقوله‪« :‬وترك التعرض له بالرد والتأويل» أي التفسير الباطل الذي هو التحريف أوالتأويل‬
‫الفاسد وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل أصال‪ ،‬أو مع دليل باطل‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫قال‪ :‬والتشبيه‪ ،‬إثبات مشابه هلل تبارك وتعالى فيما يختص به من الصفات‪ ،‬كأن تقول له يد‬
‫كأيدينا‪.‬‬

‫قال‪ :‬والتمثيل‪ ،‬أيضا يحرم إثبات مماثل لصفاته‪.‬‬

‫قال‪( :‬وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظا ً وترك التعرض لمعناه)‪.‬‬

‫المصنف‪ -‬رحمه هللا تعالى‪ -‬عن القسم األول من الصفات‪ ،‬وهو القسم‬
‫ِ‬ ‫في الشطر األول تكلم‬
‫الواضح في معناه‪ ،‬الذي ال خفاء فيه {الرحمن على العرش استوى} كالم واضح وصريح‪،‬‬
‫نثبت به صفة الرحمة هلل تبارك وتعالى‪ ،‬ونثبت به صفة العلو واالرتفاع على العرش‪ ،‬هذه‬
‫الصفات يجب اإليمان بها‪ ،‬وتلقيها بالتسليم والقبول‪ ،‬وال يجوز التعرض لها بالرد‪ ،‬أوالتمثيل‪،‬‬
‫أوالتأويل‪ ،‬أو التكييف‪ ،‬فنحن نعلم معناها بداللة اللغة التي نزل بها القرآن وبتفسير السلف‬
‫الصالح لها‪ ،‬وال نعلم كيفيتها؛ ألن هللا تبارك وتعالى لم يخبرنا بها‪ ،‬فنؤمن بما أخبرنا به‪،‬‬
‫ونسكت عما سكت عنه‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬وهو ما أشكل من ذلك‪ ،‬يشكل على بعض النَّاس دون بعض‪ ،‬بعض الصفات‬
‫تمر بالشخص؛ فيقف حائرا أمامها‪ ،‬هل ت ُثبت مثل هذه أم ال ت ُثبت؟ أو ما هو معناها؟ يختلط‬
‫عليه األمر فال يتمكن من فهم معناها‪ ،‬ففي هذه الحالة يرد علمها إلى هللا تبارك وتعالى‪ ،‬ال‬
‫يتكلم فيها وال يخوض فيها‪ ،‬يرد علمها إلى هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫قال‪( :‬ونرد علمه إلى قائله‪ ،‬ونجعل عهدته على ناقله)‪.‬‬

‫اللفظ نؤمن به‪ ،‬نؤمن باللفظ؛ ألنه ثابت بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة‪ ،‬لكن المعنى‬
‫الذي يشكل عليك هو الذي ترده إلى هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫به‪.‬‬ ‫أعلم‬ ‫هللا‬ ‫فنقول‪:‬‬ ‫قائله‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫علمه‬ ‫ونرد‬ ‫لمعناه‪،‬‬ ‫التعرض‬ ‫وترك‬
‫ونجعل عهدته على ناقله؛ أي نحمل مسؤوليته الثقات الذين نقلوه لنا عن النَّبي صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم‪.‬‬

‫قال‪( :‬اتباعا ً لطريق الراسخين في العلم‪ ،‬الذين أثنى للا عليهم في كتابه المبين‪ -‬في‬
‫القرآن‪ -‬بقوله سبحانه وتعالى{ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا })‪.‬‬

‫الراسخون في العلم‪ ،‬هم الذين ثبتت أقدامهم في العلم الشرعي‪ ،‬وصار العلم بالنسبة لهم‬
‫كالجبلَّة‪ ،‬هؤالء هم الراسخون في العلم‪.‬‬
‫ِ‬

‫الذين أثنى هللا عليهم في كتابه المبين‪ -‬في القرآن‪ -‬بقوله سبحانه وتعالى‪}:‬والراسخون في‬
‫العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا{‪ :‬كل هذا‪ ،‬القرآن وما جاء فيه من صفات؛ كلها من‬
‫عند هللا تبارك وتعالى‪ ،‬فصار عندنا قسمان لصفات‪:‬‬

‫القسم األول‪ :‬قسم واضح بين ال إشكال فيه‪ ،‬وهذا يثبت لفظه ومعناه‪ ،‬وأكثرالصفات من هذا‬
‫القبيل‪.‬‬

‫ونفوض معناه إلى هللا تبارك وتعالى‪ ،‬لكن هذا‬


‫ِ‬ ‫القسم الثاني‪ :‬وهو ما أشكل معناه‪ ،‬نثبت لفظه‬
‫اإلشكال ال يكون مشكال على األمة كلها‪ ،‬قد يشكل على شخص دون آخر‪ ،‬يشكل على زيد‬
‫وال يشكل على عمرو‪ ،‬فيكون مفهوما بالنسبة لعمرو‪ ،‬ولكن بالنسبة لزيد أشكلت عليه صفة‬
‫من الصفات؛ فيفوض معناها إلى هللا تبارك وتعالى؛ ألنها ُمشكلة عليه‪ ،‬فهو داخل في قول‬
‫هللا تبارك وتعالى‪ } :‬فاتقوا للا ما استطعتم{ [التغابن‪ ،]16 :‬هذا ظاهر كالم المصنف‪ ،‬وأنه‬
‫المفوضة هاهنا‪ ،‬وهذا خطأ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫قرره‬
‫يريد هذا المعنى‪ ،‬ولكن البعض فهم أن المؤلف يقرر ما َّ‬
‫فالذي يريده المصنف‪ -‬وهللا أعلم ‪ -‬هذا المعنى الذي ذكرناه‪ ،‬فمن أشكلت عليه أي مسألة‬

‫‪19‬‬
‫علمية من الكتاب والسنة وجب عليه أن ال يخوض فيها‪ ،‬إذا لم يتمكن من فهم معناها‪،‬‬
‫يفوض أمرها إلى هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ف ِ‬

‫المفوضة؟‬
‫ِ‬ ‫ولكن ما هو مذهب‬

‫نفوض المعنى والكيف إلى هللا‪ ،‬تقول‪( :‬استوى)‪ ،‬يقول لك هذه‬


‫المفوضة هم الذين يقولون‪ِ :‬‬
‫ِ‬
‫يفوضون المعنى والكيف أي ال يثبتون معناها الحقيقي هلل وال‬
‫الكلمة ال نفهم معناها‪ِ ،‬‬
‫يفسرونها بغير معناها الحقيقي‪ ،‬هؤالء المفوضة ال يثبتون الصفات هلل سبحانه وتعالى فهم‬
‫يفوضون المعنى هلل وال يثبتونه‪ ،‬فهو مذهب الجهل بصفات هللا تبارك وتعالى‪ ،‬هذا هو‬
‫ِ‬
‫مفوضة‪ ،‬ومؤولة‬
‫مذهب المفوضة‪ ،‬والمفوضة هؤالء قسم من األشاعرة‪ ،‬فاألشاعرة قسمان‪ِ :‬‬
‫يفوضون معاني‬
‫والمفوضة ِ‬
‫ِ‬ ‫يحرفون الصفات عن معانيها الصحيحة‪،‬‬
‫محرفة)‪ ،‬فالمؤولة ِ‬
‫( ِ‬
‫الصفات ويقولون‪ :‬هللا أعلم بمعانيها‪ ،‬فال أحد يعلمها‪.‬‬

‫يحرفون الصفات يقولون‪ :‬الرحمة هي إرادة اإلحسان‪،‬أي حرفوها عن‬


‫ِ‬ ‫فالمؤولة الذين‬
‫معناها الحقيقي‪ ،‬ومالوا بها‪ ،‬واليد هي النعمة أو القوة‪ ،‬حرفوها‪ ،‬وهذا من الباطل‪ ،‬اليد شيء‬
‫والقوة شيء آخر ربما تكون الزمها‪ ،‬الرحمة غير إرادة اإلحسان‪ ،‬إرادة اإلحسان الزم من‬
‫لوازم الرحمة وليست هي نفسها‪ ،‬فهي الزمها وليست هي نفسها‪.‬‬

‫ومفوضة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫فاألشاعرة يقسمون أنفسهم إلى قسمين‪ :‬مؤولة‬

‫مفوضة‪ ،‬لذلك يقول قائلهم‪:‬‬


‫وينسبون مذهب التفويض إلى السلف‪ ،‬يقولون‪ :‬إن السلف كانوا ِ‬
‫مذهب السلف أسلم‪ ،‬ومذهب الخلف أعلم وأحكم‪ ،‬يعنون بمذهب السلف‪ :‬التفويض‪،‬‬
‫والمفوضة جهلة يعترفون بجهلهم بالصفات‪ ،‬فجعلوا السلف جهاال‪ ،‬من هنا َّ‬
‫عظموا علمهم‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫وعظموا أنفسهم؛ فاغتروا بحالهم‪ ،‬فانحرفوا عن جادة الصواب‪ ،‬بتركهم التباع السلف الذي‬

‫‪20‬‬
‫به‪.‬‬ ‫هللا‬ ‫أمرهم‬
‫استهانوا بالسلف وعلمهم‪ ،‬وقللوا من شأنهم واحتقروا علمهم‪ ،‬فأدى بهم الحال إلى الكفر بما‬
‫أثبت هللا تبارك وتعالى لنفسه من الصفات‪.‬‬

‫يحرفون الكالم وال يثبتون الصفات‬ ‫فالخالصة‪َّ :‬‬


‫أن األشاعرة منهم مؤولة‪ ،‬وهؤالء الذين ِ‬
‫ويفسرونها تفسيرات باطلة من عندهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫على حقيقتها‪،‬‬

‫يفوضون معاني الصفات وال يثبتونها‪ ،‬فهذا التفويض باطل‬


‫المفوضة الذين ِ‬
‫ِ‬ ‫وقسم آخر هم‬
‫محرم‪ ،‬فهو إعراض عما أمرنا هللا تبارك وتعالى به من اإليمان بكتابه المبين‪.‬‬

‫قال‪( :‬وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله} فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما‬
‫تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إالللا{(‪.‬‬

‫فأما الذين في قلوبهم زيغ‪ :‬أي ميل عن الحق ولهم مقاصد فاسدة‪.‬‬

‫فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‪ :‬أي يتبعون ما تشابه من اآليات التي‬
‫وردت‪ ،‬ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‪.‬‬

‫وما يعلم تأويله إالللا‪ ،‬وقد ذكرنا معنى التأويل فيما تقدم‪ ،‬فهؤالء الذين في قلوبهم زيغ‬
‫يتبعون ما تشابه منه‪ ،‬يتركون اآليات المحكمات ويتبعون المتشابهات‪.‬‬

‫فالقرآن منه محكم ومنه متشابه‪ ،‬قال هللا تبارك وتعالى‪}:‬هو الذي أنزل عليك الكتاب منه‬
‫آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه‬
‫منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إالللا والراسخون في العلم يقولون آمنا‬
‫به كل من عند ربنا{[آل عمران‪]7 :‬‬

‫‪21‬‬
‫آيات القرآن مقسمة إلى قسمين‪ :‬محكمات‪ ،‬ومتشابهات‪.‬‬

‫المحكمات؛ قال هللا تبارك وتعالى فيهن‪{:‬هن أم الكتاب}‪ :‬أي أصل الكتاب‪ ،‬فيجب أن يُعتمد‬
‫عليها في تقرير المعاني‪ ،‬آيات محكمات أي واضحات المعنى والداللة ال إشكال فيها‪.‬‬

‫وأخرمتشابهات‪ ،‬يلتبس معناها على الكثير من الناس‪ ،‬تحتمل أكثر من معنى‪ ،‬ففيها‬
‫غموض‪ ،‬فالواجب علينا عندما تمر بنا األدلة المتشابهة أن نردها إلى المحكمة‪ ،‬ونفهمها بناء‬
‫على المحكم‪ ،‬فيكون األصل عندنا في تقرير المعنى اآليات المحكمات‪ ،‬ث ُ َّم المتشابهات ترد‬
‫إليهن‪.‬‬

‫علو هللا سبحانه على خلقه‪ ،‬منها قول هللا‬


‫مثال ذلك‪ :‬عندنا أدلة كثيرة وكثيرة جدا تدل على ِ‬
‫تبارك وتعالى}الرحمن على العرش استوى{[طه‪ ،]5 :‬ومنها قول النَّبي صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم للجارية‪ « :‬أين هللا؟ قالت‪ :‬في السماء‪ ،‬قال‪ :‬اعتقها فإنها مؤمنة»(‪.)1‬‬

‫آيات وأحاديث كثيرة جدا أوصلها بعضهم إلى ألف دليل يدل على علوهللا على خلقه‪ ،‬هذه‬
‫محكمة‪ ،‬داللتها واضحة صريحة ال خفاء فيها‪ ،‬فمثل هذه هي التي تقرر المعنى الذين تحدث‬
‫عنه‪ ،‬ث ُ َّم إن جاءتنا آية أو حديث يحتمل أكثر من معنى‪ ،‬يحتمل هذا المعنى الظاهر ويحتمل‬
‫معنى آخر‪ ،‬ثانيا أو ثالثا أو رابعا‪ ،‬ماذا نفعل به؟ نرده إلى المحكم‪.‬‬

‫مثاله‪ :‬قال هللا تبارك وتعالى}وهو معكم أين ما كنتم{[الحديد‪ ،]4 :‬آية في هذا الباب متشابهة‬
‫فتردإلى المحكم‪ ،‬نقرأ اآلية من أولها إلى آخرها‪ ،‬نجدها تدل على العلم‪{ ،‬وهو معكم أينما‬
‫كنتم}‪،‬بماذا؟ بعلمه‪ ،‬رددناها إلى المحكم وفهمناها بناء عليه ‪ ،‬هكذا يكون فهم آيات هللا‪،‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ ،)537‬من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وسنن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬تأخذ الدليل الواضح في المعنى وتجعله أصال‪ ،‬ث ُ َّم ترد إليه‬
‫المتشابه‪ ،‬هذه هي طريقة الراسخين في العلم‪.‬‬

‫} والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا {[آل عمران‪ ،]7 :‬لكن هل الوقف‬
‫في هذه اآلية عند قول هللا تبارك وتعالى} وما يعلم تأويله إالللا {نقف ث ُ َّم نكمل قوله تعالى‪:‬‬
‫} والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا{‪ ،‬فيكون الذي يعلم التأويل هو هللا‬
‫سبحانه وتعالى فقط؟ أم نكمل قوله تعالى‪} :‬وما يعلم تأويله إالللا والراسخون في العلم{‬
‫فنقف عند قوله {والراسخون في العلم}‪ ،‬فيكون الذي يعلم التأويل هللا والراسخون في العلم‪،‬‬
‫كما جاء عن ابن عباس رضي هللا عنهما أنه كان يقول‪ « :‬أنا من الذين يعلمون‬
‫تأويله»(‪)1‬ألنه من الراسخين في العلم‪.‬‬

‫هنا عندنا تفصيل‪ ،‬وهذا هو الراجح في فهم معنى هذه اآلية‪ :‬فنقول إن كان المقصود من‬
‫التأويل‪:‬التفسير؛فالوقف يكون على{والراسخون في العلم}‪ ،‬فيكون الذي يعلم تفسير القرآن‬
‫هو هللا سبحانه وتعالى والراسخون في العلم؛ ألن القرآن وصفه هللا سبحانه وتعالى بأنه‬
‫واضح وبأنه بين وبأنه هدى‪ ،‬فهذا كله يقتضي أن ال غموض في القرآن؛ ألنه ال يوجد آية‬
‫في كتاب هللا ال تفهمها األمة بالكامل‪ ،‬ربما تخفى معاني بعض اآليات على البعض‪ ،‬لكنها ال‬
‫تخفى على جميع أمة محمد صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬بل ال بد أن يوجد من يفهم كتاب هللا تبارك‬
‫وتعالى‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه الطبري في تفسيره (‪ ،)6632‬وابن المنذر في تفسيره (‪ )258‬وغيرهما‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫أما إذا كان المعنى‪ :‬ما تؤول إليه حقيقة األمر‪ ،‬فيكون الوقف على قوله‪{ :‬إال للا} ألنه ال‬
‫أحد يعلم حقائق ما يكون يوم القيامة ‪ -‬مثال‪-‬إال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فيكون الوقف عند{إال‬
‫هللا}‪ ،‬وبهذه الطريقة نصل إلى الصواب في فهم اآلية‪ .‬وهللا أعلم‬

‫قال} فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه{هذه عالمة وضعها ربنا تبارك‬
‫وتعالى لتمييز الذين في قلوبهم زيغ عن غيرهم من أهل العلم‪.‬‬

‫فالذي في قلبه مرض يترك المحكمات ويذهب إلى المتشابهات‪ ،‬من األمثلة على ذلك أنك‬
‫تجد من أهل االنحراف من يترك قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬ليكونن من أمتي أقوام‬
‫يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف»(‪)1‬ويتعلَّق في ِ‬
‫حل الموسيقى بقول النَّبي صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم ألبي موسى‪ « :‬لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود»(‪ ،)2‬فتعرف مباشرة‬
‫أن مثل هذا في قلبه مرض‪ ،‬في قلبه زيغ‪ ،‬يتعلق بالمتشابه ويترك المحكم‪ ،‬عندنا أحاديث‬
‫واضحة تدل على تحريم الموسيقى والمعازف‪ ،‬فيأتي مثل هذا ويتعلق بهذا الحديث‪،‬‬
‫والمتأمل فيه يعرف أن شبهته في هذا الحديث أوهى من خيوط العنكبوت‪ ،‬فالمزمار في لغة‬
‫العرب يطلق على الصوت الحسن‪ ،‬ولم يكن في يد أبي موسى مزمار أمام النَّبي صلى هللا‬
‫عليه وسلَّم‪ ،‬وال داود عليه السالم كان يستعمل المزمار‪.‬‬

‫فالمزمار يطلق على الصوت الحسن‪ ،‬وهذا ما عناه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في قوله ألبي‬
‫موسى‪ ،‬فداود عليه السالم كان صوته حسنا‪ ،‬وأبو موسى األشعري كذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ )5590‬وأحمد بنحوه (‪ )22231‬عن أبي مالك األشعري رضي هللا عنه‪ ،‬وعلى قول من قال هو معلق‬
‫عند البخاري‪ ،‬فقد وصله غير واحد من أهل العلم بأسانيد صحيحة ‪ ،‬راجع لها مختصر علوم الحديث البن كثير‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪ )5048‬ومسلم (‪ )793‬عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫فمثل هذا عندما تسمع كالمه تعرف أنه من الذين يتعلقون بالمتشابهات ويتركون المحكمات‪،‬‬
‫كذلك أهل البدع والضالل الذين حرفوا صفات هللا تبارك وتعالى‪ ،‬والذين نفوا عن هللا تبارك‬
‫وتعالى أسماءه‪ ،‬والذين ضلوا في مسائل القدر‪ ،‬والذين ضلوا في مسائل اإليمان؛ كالمرجئة‬
‫والخوارج وغيرهم من أهل الضالل؛ يتركون األدلة المحكمة ويتعلقون بالمتشابهة‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬فجعل ابتغاء التأويل عالمة على الزيغ) ابتغاء تأويل‬
‫المتشابه‪( ،‬وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم)؛ ألنهم يريدون أن يفتنوا عباد هللا تبارك وتعالى‬
‫عن الحق‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬ثم حجبهم عما أملوه‪ ،‬وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله‬
‫سبحانه وتعالى} وما يعلم تأويله إالللا {(‪ :‬أغلق عليهم الباب وقطع عليهم الوصول إلى‬
‫أطماعهم الفاسدة‪.‬‬

‫هذا تقعيد وتأصيل من المؤلف للواجب على المسلم ناحية األسماء والصفات التي ترد في‬
‫كتاب هللا وفي سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫فعقيدة أهل السنة والجماعة أن نثبت هلل تبارك وتعالى كل ما أثبت لنفسه في الكتاب أو في‬
‫سنة النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم من األسماء والصفات على حقائقها‪ ،‬ال ِ‬
‫نحرفها‪ ،‬وال نكيِفها‪،‬‬
‫نؤمن بها على حقيقتها التي جاءت من عند هللا تبارك وتعالى‪ ،‬على مراد هللا كما سيأتي من‬
‫كالم السلف رضي هللا عنهم‪.‬‬

‫فالقاعدة عندنا‪ ،‬والتي خرجنا بها من اآلية المذكورة‪ ،‬هي أن بعض اآليات محكمة واضحة‪،‬‬
‫وبعضها متشابهة فيها غموض في معانيها‪ ،‬فالمتشابه يرد إلى المحكم‪ ،‬هذه طريقة‬

‫‪25‬‬
‫الراسخين في العلم‪ ،‬أما طريقة أهل البدع والضالل والزيغ فإنهم يتعلَّقون بالمتشابه‬
‫ويتركون المحكم‪ ،‬هذه عالمة فارقة بين هؤالء وهؤالء‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وهنا نذكر فائدة‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫أن هللا سبحانه وتعالى وصف آيات الكتاب الكريم َّ‬


‫بأن منها محكما ومنها متشابها‬ ‫َّ‬
‫كما تقدَّم معنا‪ ،‬من ذلك قول هللا تبارك وتعالى}هو الذي أنزل عليك الكتاب منه‬
‫آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات {[آل عمران‪ ،]7 :‬وجاء أيضا في‬
‫بأن هللا سبحانه وتعالى وصف كتابه َّ‬
‫بأن آياته كلها محكمة‪ ،‬فقال‪} :‬كتاب‬ ‫كتاب هللا َّ‬
‫أحكمت آياته{[هود‪ ،]1/‬وقال في أخرى }للا نزل أحسن الحديث كتابا ً‬
‫متشابها ً)[الزمر‪ ،]23/‬فوصف كتابه كله بالمتشابه‪.‬‬

‫ففي آية جعل جميع اآليات محكمة‪ ،‬وفي أخرى جعل جميعها متشابهة‪ ،‬وفي ثالثة‬
‫جعل بعض اآليات محكمة والبعض اآلخرمتشابة‪.‬‬

‫وطريقة الجمع بين هذه اآلياتأن نقول معنى المحكم والمتشابه يختلف ‪.‬‬

‫ففي اآلية التي ذكر فيها أن منه محكمات ومنه متشابهات‪ ،‬يكون معنى المحكم‬
‫الواضح البين‪ ،‬أي أنها آيات واضحات ال إشكال فيها‪ ،‬ومعنى المتشابهات فيها أنها‬
‫تحتمل أكثر من معنى فتُش ِكل فال يفهم المراد منها إال بردها إلى المحكم‪.‬‬

‫والمراد بالمحكم في اآلية التي وصف فيها آياته بأنها كلها محكمة‪ :‬اإلتقان‪ ،‬فجميع‬
‫اآليات متقنة }كتاب أحكمت آياته { أي أتقنت‪.‬‬

‫وفي وصفه لآليات بالمتشابهات أي يشبه بعضها بعضا في الصدق والحق‬


‫والحسن‪.‬‬

‫هذا هو الجمع بين هذه اآليات‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫المتن‬

‫قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪ :‬قال اإلمام أبو عبد هللا أحمد بن محمد بن حنبل‬
‫رضي هللا عنه في قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪َّ « :‬‬
‫إن هللا ينزل إلى سماء الدنيا»‬
‫نؤمن بها‪ ،‬ونصد ُق بها‪،‬‬ ‫و« َّ‬
‫إن هللا يرى في القيامة»‪ ،‬وما أشبه هذه األحاديث‪ُ « :‬‬
‫بال كيف وال معنى‪ ،‬وال نَرد شيئا منها‪ ،‬ونعل ُم أن ما جاء به الرسو ُل حق‪ ،‬وال نرد‬
‫نصف هللاَ بأكثر مما وصف به نفسه‪ ،‬بال‬
‫ُ‬ ‫على رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وال‬
‫َحد وال َغاية‪:‬‬

‫{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [ الشورى‪]11/‬‬

‫ونقول كما قال‪ ،‬ونصفه بما وصف به نفسه ال نتعدى ذلك‪.‬‬

‫وال يَبلغُهُ وصف الواصفين‪.‬‬

‫كل ِه ُمحكم ِه و ُمتشا ِبه ِه‪ ،‬وال نُ ِزي ُل عنه صفة من صفاتِ ِه ِلشنَاعة‬
‫نؤمن بالقرآن ِ‬
‫شنِعت‪ ،‬وال نتعدَّى القرآن والحديث‪ ،‬وال نعلم كيف ُكنَهَ ذلك إال بتصديق الرسول‬ ‫ُ‬
‫(‪) 1‬‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم وت َثبي ِ‬
‫ت القرآن»‬

‫قال اإلمام أبو عبدهللا محمد بن إدريس الشافعي رضي هللا عنه‪« :‬آمنت باهلل وبما‬
‫جاء عن هللا على مراد هللا‪ ،‬وآمنت برسول هللا وبما جاء عن رسول هللا على مراد‬
‫رسول هللا»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه الاللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم (‪ ،)777‬وذكره ابن القيم رحمه هللا في اجتماع الجيوش‬
‫االسالمية (‪ ،)2/211‬وانظر مختصر الصواعق المرسلة (‪.)1/469‬‬
‫(‪ )1‬ذكره شيخ االسالم ابن تيمية في الرسالة المدنية صفحة (‪ )3‬وضمن مجموع الفتاوى(‪ )6/354‬وشرح العقيدة األصفهانية‬
‫(‪.)1/106‬‬

‫‪28‬‬
‫وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي هللا عنهم‪ ،‬كلهم متفقون على اإلقرار‬
‫واإلمرار‪ ،‬واإلثبات لما ورد في كتاب هللا وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله‪.‬‬

‫الشرح‬

‫(بال كيف)‪:‬أي ال نخوض في كيفيَّتها وال نبحث عنها‪ ،‬ألننا ال علم لنا بها‪ ،‬وليس‬
‫معنى ذلك َّ‬
‫أن الصفة ال كيفيَّة لها‪ ،‬بل لها كيفية ولكننا ال نعلمها؛ ألنها من الغيب‬
‫الذي لم يخبرنا هللا به‪ ،‬وال سبيل إلى العلم به إال بالوحي‪.‬‬

‫المعطلة الذين‬
‫ِ‬ ‫قال‪( :‬وال معنى) أي وال معنى يخالف معناها الحقيقي‪ ،‬كما تفعله‬
‫فيفسرونها بمعنى آخر‪َّ ،‬‬
‫فإن المعنى الذي نزل به‬ ‫ِ‬ ‫يحرفون الصفة عن حقيقتها‪،‬‬
‫ِ‬
‫القرآن معروف مفهوم بمقتضى اللغة‪ ،‬كما قال اإلمام مالك رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫«االستواء معلوم ‪ -‬ليس به خفاء وال جهالة‪ ،-‬والكيف مجهول‪ ،‬واإليمان به واجب‪،‬‬
‫والسؤال عنه بدعة»(‪ )1‬فالمعنى المراد نفيه هنا هو المعنى الباطل الذي تفسره به‬
‫للصفة؛ ألن هذه الكلمة وما شابهها من بعض كالم‬
‫المعطلة‪ ،‬ال المعنى الحقيقي ِ‬
‫ِ‬
‫نفوض الكيف والمعنى‪ ،‬وهذا هو مذهب السلف‪،‬‬
‫المفوضة‪ ،‬وقالوا‪ِ :‬‬
‫ِ‬ ‫السلف تعلق به‬
‫فها هو اإلمام أحمد يقول‪ :‬ال كيف وال معنى‪.‬‬

‫وجاء عن أكثر من واحد مثل قول أحمد‪.‬‬

‫نفوض الكيف والمعنى‪.‬‬


‫فهم ينفون المعنى عن الصفة‪ ،‬قالوا‪ :‬فنحن ِ‬

‫‪ 1‬سيأتي تخريجه عند ذكر المؤلف له‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫أن هذا الكالم باطل‪ ،‬بدليل َّ‬
‫أن اإلمام أحمد نفسه ورد عنه تفسير بعض‬ ‫شك َّ‬
‫وال َّ‬
‫الصفات بحقيقتها‪ ،‬وكذلك جاء عن غيره من السلف‪ ،‬كما جاء عن أبي العالية‬
‫الرياحي أنه قال في االستواء‪« :‬استوى أي ارتفع»‪ ،‬وقال مجاهد‪« :‬استوى أي‬
‫عال»(‪ )1‬فف َّ‬
‫سروا االستواء بمعناه الحقيقي‪.‬‬

‫فالسلف ليس من مذهبهم تفويض المعنى‪ ،‬فالمعنى عندهم معلوم واضح ال خفاء‬
‫يفوضون الكيف؛ ألن الكيفية لم يذكرها لنا ربنا تبارك وتعالى‪ ،‬فال سبيل‬
‫فيه‪ ،‬لكنهم ِ‬
‫فوض؛ فقد‬
‫نفوضها إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬أ َّما المعنى فال يُ َّ‬
‫إلى معرفتها‪ ،‬لذلك ِ‬
‫ذكر هللا سبحانه وتعالى الصفات بكالم عربي فصيح واضح ال خفاء فيه‪ ،‬فنفهمها‬
‫بمقتضاها اللغوي‪.‬‬

‫(وال نرد شيئا ً منها)‪ ،‬بل نؤمن بها جميعا‪.‬‬

‫(ونعلم أن ما جاء به الرسول حق‪ ،‬وال نرد على رسول للا صلى للا عليه‬
‫وسلم)‪ ،‬ال نرد على رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ما جاء به‪ ،‬فما جاء به النَّبي‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم صدق وحق‪ ،‬فنؤمن به ونصدق به‪.‬‬

‫( وال نصف للا بأكثر مما وصف به نفسه) أي نقف في صفات هللا عند كتاب هللا‬
‫وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬ال نزيد وال ننقص‪ ،‬نقف عند الكتاب والسنة‪،‬‬
‫فالكالم في ذات هللا وفي صفاته أمر عظيم‪ ،‬الواجب فيه الوقوف على ما جاء في‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬فكله توقيفي ال يجوز للشخص أن يُعم َل عقله وذهنه في أمر كهذا‪.‬‬

‫( بال حد وال غاية) أي ال نكيف صفات هللا تبارك وتعالى فنذكر حدودها التي‬
‫تنتهي إليها‪ ،‬وغاياتها كأن نقول‪ :‬تنتهى الصفة إلى كذا أو طولها كذا وعرضها كذا‬
‫وما شابه؛ ألنه ال يعلم ذلك إال هللا تبارك وتعالى‪.‬‬
‫‪ 1‬سبق تخريجه‬

‫‪30‬‬
‫قال هللا تبارك وتعالى‪{( :‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصير})‬
‫[الشورى‪ ،]11/‬فيها نفي وإثبات‪ ،‬هذا هو التوحيد في الصفات‪ :‬تنفي المماثلة‪ ،‬فال‬
‫شيء يماثل هللا سبحانه وتعالى ال في ذاته وال في صفاته‪.‬‬

‫{ل ْيس كمثْله ش ْي ٌء وهو السميع ا ْلبصير} أثبت لنفسه سمعا وبصرا‪ ،‬فنثبت له‬
‫السمع والبصر‪ ،‬وننفي أن يكون ألحد سمع وبصر يماثل سمع وبصر الخالق‬
‫تبارك وتعالى‪.‬‬

‫(ونقول كما قال‪،‬ونصفه بما وصف نفسه‪ ،‬ال نتعدى ذلك) نقول كما قال هللا تبارك‬
‫وتعالى في كتابه‪ ،‬وكما جاء عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في سنته‪ ،‬ونصفه بما‬
‫نعطل هللا تبارك وتعالى عن صفاته‪.‬‬
‫وصف به نفسه‪ ،‬فال ِ‬

‫قال‪( :‬وال يبلغه وصف الواصفين) أي ال أحد يستطيع أن يصف هللا تبارك وتعالى‪،‬‬
‫هللا هو الذي يصف نفسه‪ ،‬فال نصفه إال بما وصف به نفسه في كتابه أو في سنة‬
‫نبيه صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫( نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه) ال نرد على هللا تبارك وتعالى شيئا‪ ،‬نؤمن‬
‫بالحكم ونثبت معناه‪ ،‬ونرد المتشابه إليه ونفهمه بناء عليه‪ ،‬هذه طريقة الراسخين‬
‫في العلم‪ ،‬الذين يبتغون الحق‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬وال نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت) أي نثبت الصفات‪،‬ولو أقام‬
‫أهل البدع الدنيا ولم يقعدوها علينا من أجل إثباتنا لصفات هللا‪ ،‬التي ذكرها في كتابه‬
‫أو في سنة نبيه صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬ووصفنا هللا سبحانه وتعالى بها‪ ،‬فال نبالي‬
‫بتشنيع أهل البدع والضالل علينا‪ ،‬ولو وصفونا بالمشبهة أو المجسمة أوالحشوية‬
‫أوغير ذلك من المعاني واأللفاظ‪ ،‬المهم عندنا أننا نؤمن بما أمرنا هللا تبارك‬
‫وتعالى باإليمان به‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫قال‪ ( :‬وال نتعدى القرآن والحديث) هذه هي عقيدتنا‪ ،‬ال نتجاوز كتاب هللا وسنة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم في النَّفي واإلثبات‪ ،‬وفي كل أمور الغيب‪ ،‬ال‬
‫نتجاوز الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه األمة ‪.‬‬

‫(وال نعلم كيف كنه ذلك إال بتصديق الرسول صلى للا عليه وسلم وتثبيت القرآن‬
‫) أي ال نعلم حقيقة الصفات أي كيفيَّتها‪ ،‬أما معناها فهو معلوم لنا بما علمنا هللا‬
‫تبارك وتعالى‪.‬‬

‫فنحن نصدق النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وإن لم نعلم الكيفية‪ ،‬ونؤمن بما جاء في‬
‫كتاب هللا تبارك وتعالى‪ .‬هذا هو واجب المسلم ناحية صفات هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫( قال اإلمام أبو عبدللا محمد بن إدريس الشافعي) نقل أوال كالم اإلمام أحمد وهو‬
‫إمام أهل السنة في زمنه‪ ،‬في زمن اإلمام أحمد قامت البدع على قدم وساق وصار‬
‫ألهلها شوكة ومنعة‪ ،‬فصاروا يصرخون ببدعهم وضالالتهم وينشرونها ويدعون‬
‫النَّاس إليها‪ ،‬فقام لهم اإلمام أحمد رحمه هللا تعالى ووقف وقفة شهد له به أئمة‬
‫اإلسالم‪ ،‬فصدهم‪ ،‬وثبت في وجوههم‪ ،‬وجاهدهم جهادا كبيرا‪ ،‬لذلك سمي رحمه هللا‬
‫تعالى بإمام أهل السنة في زمنه‪ ،‬وهو أحد أئمة المذاهب الفقهية األربعة التي لها‬
‫أتباع كثر‪.‬‬

‫وأما اإلمام الشافعي فهو أبو عبد هللا محمد بن إدريس الشافعي إمام أيضا من أئمة‬
‫السنة والحديث في زمنه رحمه هللا تعالى وهو صاحب المذهب الشافعي المعروف‪،‬‬
‫عده بعض العلماء مجدد القرن الثاني‪ ،‬وحق له ذلك‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪ ( :‬آمنت باهلل وبما جاء عن للا على مراد للا)‪ ،‬آمنت باهلل‬
‫وبما جاء عن هللا أي بالقرآن‪ ،‬على مراد هللا‪ ،‬أي أؤمن به وأصدق به على ما أراد‬
‫هللا سبحانه وتعالى من معنى‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫(وآمنت برسول للا وبما جاء عن رسول للا) أي في سنته صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫(على مراد رسول للا) أي على المعنى الذي أراده النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬هذا‬
‫كله تأصيل عام لمنهج أهل السنة سواء كان في األسماء والصفات أو حتى في‬
‫أمور الشريعة والدين كلها‪ ،‬هذا كالم الشافعي رحمه هللا تعالى‪ ،‬فال يحرف‬
‫الصفات عن معانيها‪ ،‬وال يغير أحكام هللا عن مراد هللا بها ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف) أي على هذا‬
‫الذي ذكره من كالم اإلمام أحمد وكالم اإلمام الشافعي‪ ،‬كان السلف كلهم يمشون‬
‫عليه‪ ،‬ومن اتبعهم من أهل الحق‪ ،‬والسلف هم الصحابة رضي هللا تعالى عنهم‪،‬‬
‫ومن اتبعهم بإحسان من أصحاب القرون المفضلة‪ ،‬وهي القرون الثالثة األولى‪.‬‬

‫(كلهم متفقون على اإلقرار)أي اإلقرار بالصفات واإليمان بمعناها‪.‬‬

‫(واإلمرار) أي إمرارها كما جاءت من غير تكييف وال تحريف‪.‬‬

‫(واإلثبات) أي إثبات معناها‪.‬‬

‫(لما ورد من الصفات في كتاب للا وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله) أي من‬
‫المعطلة‪ ،‬وهو التحريف الذي‬
‫ِ‬ ‫غير تعرض لتحريفه بتفسيره تفسيرا فاسدا كتفسير‬
‫يسمونه تأويال‪ ،‬صرف اللفظ عن ظاهره‪ ،‬ولكنه بغير دليل صحيح‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫المتن‬

‫قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪ :‬وقد أمرنا باالقتفاء آلثارهم‪ ،‬واالهتداء بمنارهم‪،‬‬
‫وحذرنا المحدثات‪ ،‬وأخبرنا أنها من الضالالت‪ ،‬فقال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪:‬‬
‫«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‪ ،‬عضوا عليها بالنَّواجذ‪،‬‬
‫(‪.)1‬‬
‫وإياكم ومحدثات األ ُمور‪ ،‬فإن َّكل محدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة»‬

‫وقال عبدهللا بن مسعود رضي هللا عنه‪ « :‬اتبعوا وال تبتدعوا فقد ُك ِفيت ُم»(‪.)2‬‬

‫ف‬ ‫ف َحي ُ‬
‫ْث َوقَ َ‬ ‫وقال عمر بن عبد العزيز رضي هللا عنه كالما معناه‪ « :‬قِ ْ‬
‫القَو ُم‪ ،‬فَإِنَّ ُهم َع ْن ِع ْلم َوقَفوا‪ ،‬وببَصر نافذ َكفوا‪ ،‬و ُهم َعلَى َك ْش ِفها كانوا أ ْق َوى‪،‬‬
‫خالف‬
‫َ‬ ‫ث َبعدَ ُهم؛ فما أ َ ْحدَثهُ ِإال َم ْن‬
‫ض ِل لَو كان فيها أ َ ْحرى‪ ،‬فلئِن قُلت ُم‪َ :‬حدَ َ‬ ‫وبالف ْ‬
‫صفُوا منه ما َيش ِفي‪ ،‬وتَكلَّ ُموا ِمنهُ بما َي ْك ِفي‪ ،‬فما‬ ‫سنَّ ِت ِهم‪َ ،‬ولَقَ ْد َو َ‬
‫ب َع ْن ُ‬ ‫َه ْد َي ُهم‪َ ،‬‬
‫ور ِغ َ‬
‫ص َر َع ْن ُهم قَو ٌم فَجفَوا وت َجاوزَ ُهم آخرونَ‬ ‫قص ٌر‪ ،‬لقد قَ َّ‬ ‫فَوق ُهم ُم َح ِس ٌر وما دُون ُهم ُم ِ‬
‫فَغلَ ْوا‪َ ،‬وإنهم فيما بين ذلك لَعَلى هُدى ُمستقَيم»‪.‬‬

‫سلف وإن‬
‫َ‬ ‫بآثار من‬
‫ِ‬ ‫وقال اإلمام أبو عمرو األوزاعي رضي هللا عنه‪« :‬عليك‬
‫بالقول»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫خرفُوهُ لك‬
‫الناس‪ ،‬وإياك وآرا َء الرجا ِل‪ ،‬وإن زَ َ‬
‫ُ‬ ‫رفضك‬
‫َ‬

‫األدر ِمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها‪« :‬هل‬ ‫َ‬ ‫وقال محمد بن عبد الرحمن‬
‫علمها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬أو لم‬
‫يعلموها؟ قال‪ :‬لم يعلموها‪ ،‬قال‪ :‬فشيء لم يعلمه هؤالء أع ِلمت َه أنت؟! قال الرجل‪:‬‬
‫فإني أقول‪ :‬قد علموها‪ ،‬قال‪ :‬أفَو ِسعهم أن ال يتكلموا به‪ ،‬وال يدعوا الناس إليه‪ ،‬أم لم‬
‫يسعهم؟ قال‪ :‬بلى وسعهم‪ ،‬قال فشيء وسع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وخلفاءه‬
‫س َع هللاُ على‬
‫ال يسعك أنت؟! فانقطع الرجل‪ .‬فقال الخليفة ‪ -‬وكان حاضرا ‪ :-‬ال و َّ‬
‫من لم يس ْعهُ ما و ِسعَهم»‪.‬‬
‫وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه‬
‫والتابعين لهم بإحسان واألئمة من بعدهم والراسخين في العلم من تالوة آيات‬
‫الصفات وقراءة أخبارها وإمرارها كما جاءت‪ ،‬فال وسع هللا عليه‪.‬‬

‫(‪ )1‬أاخرجه أحمد(‪ ،)17144‬والترمذي(‪ )2676‬من حديث العرباض بن سارية رضي هللا عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الدارمي(‪ ،)211‬والاللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة(‪ ،)104‬والبيهقي في شعب االيمان (‪.)2024‬‬

‫‪34‬‬
‫الشرح‬

‫قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪ ( :‬وقد أمرنا باالقتفاء آلثارهم) أي آثار السلف الذين‬
‫قرر المؤلف رحمه هللا تعالى القواعد واألُصول التي ينتهجونها في أسماء هللا‬ ‫َّ‬
‫وصفاته‪.‬‬
‫قال‪ « :‬وقد أمرنا باإلقتفاء آلثارهم» فالواجب علينا أن نسير كما ساروا‪.‬‬
‫واألثر‪ :‬ما بقي من رسم الشيء‪ ،‬كآثار سير األقدام مثال‪.‬‬
‫واالقتفاء هو‪:‬االتباع‪ ،‬أي اتباعهم على ما كانوا عليه من أمر الدين‪ ،‬وقد أمرنا‬
‫بذلك‪.‬‬
‫(واالهتداء بمنارهم) أي أن نعرف الطريق ونهتدي له بالمنارات التي وضعوها‬
‫لنا‪ ،‬وأصل المنارة مكان مرتفع توضع عليه المصابيح أو أعالم الطرق‪ ،‬مثل‬
‫المنارات التي تبنى عند شواطئ البحار‪ ،‬مبنى عال مرتفع‪ ،‬عليه مصابيح تضيء‬
‫وتدور‪ ،‬عالمة كي ترشد السفن إلى الشواطئ‪ ،‬هذا معنى المنارة‪.‬‬
‫فالسلف كأنهم في منهجهم الذي كانوا عليه وفي طريقهم الذي بينوه لنا‪ ،‬وضعوا لنا‬
‫منارات كهذه المنارات‪ ،‬فالواجب علينا أن نستضيء بهذه المنارات ونسير على‬
‫عليها‪.‬‬ ‫كانوا‬ ‫التي‬ ‫الطريق‬ ‫نفس‬
‫هذه المسألة من أهم أصول أهل السنة‪ ،‬التي يخالفون فيها أهل البدع ‪ :‬مسألة‬
‫االتباع لطريق السلف‪ ،‬أهل البدع يتبعون الرأي‪ ،‬وأما أهل السنة فيتبعون‬
‫النصوص واآلثار في كل أمور الدين ‪.‬‬
‫قال‪ ( :‬وحذرنا المحدثات) المحدثة‪ :‬أي األمر الجديد في الدين‪ ،‬ويعرف األمر‬
‫المحدث الجديد بعدم وروده في الكتاب والسنة‪ ،‬ولم يكن على عهد الصحابة ومن‬
‫اتبعهم بإحسان‪ ،‬بكونه ال أصل له في الكتاب وال في السنة‪ ،‬وال يعرفه الصحابة‪،‬‬
‫تطبق عندهم سنة يقولون لك ما هذا الدين‬ ‫فهو دين جديد‪ ،‬ولكن العامة اليوم عندما ِ‬
‫الجديد الذي أتيتنا به!ضابطهم في الجديد أنهم لم يعتادوا عليه‪ ،‬أما الضابط الشرعي‬
‫في الجديد‪ ،‬فهو ما ال أصل له في الكتاب والسنة ولم يكن على عهد السلف‬
‫الصالح‪ ،‬هذا هو الذي يسمى دينا جديدا‪.‬‬
‫قال‪ ( :‬وأخبرنا أنها من الضالالت) أي المحدثات‪ ،‬وهي العبادات التي تأتي جديدة‬
‫وال أصل لها في الكتاب والسنة‪ ،‬ولم يكن عليها السلف الصالح رضي هللا عنهم‪،‬‬
‫هذه ضالالت‪ ،‬والضاللة ضدَّ الرشاد وضدَّ الهداية‪ ،‬فهي انحراف عن الحق‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫قال‪ ( :‬فقال النبي صلى للا عليه وسلم‪ :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين‬
‫المهديين من بعدي عضوا عليهم بالنواجذ وإياكم ومحدثات األمور فإن كل محدثة‬
‫بدعة وكل بدعة ضاللة)‬

‫ذكر المؤلف رحمه هللا تعالى الدليل على ما قدم لك‪ ،‬ونحن قبل الحديث نأتي بآية‬
‫من كتاب هللا‪ ،‬قال هللا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم }ومن يشاقق الرسول من‬
‫بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم‬
‫وساءت مصيرا ً{[النِساء‪ } ،]115 :‬ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له‬
‫الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين{‪ ،‬المؤمنون الذين كانوا عند نزول هذه اآلية هم‬
‫أصحاب رسول اللهصلىاهلل عليه وسلَّم‪ ،‬فالواجب أن نسيرعلى طريقتهم‪ ،‬وكذلك‬
‫قال هللا تبارك وتعالى} والسابقون األولون من المهاجرين واألنصار والذين‬
‫اتبعوهم بإحسان رضي للا عنهم ورضوا عنه{[التوبة‪ ]100 :‬فكان الرضا من‬
‫نصيب الصحابة رضي هللا عنهم ومن اتبعهم بإحسان‪ ،‬إذن هذه كلها آيات تدل على‬
‫أن النَّاجي هو من يتبع منهج السلف رضي هللا عنهم‪.‬‬

‫وجاء في الحديث الذي ذكره المؤلف‪« :‬عليكم بسنتي» أي الزموا سنتي‪ ،‬والسنه‬
‫هي الطريقة‪ ،‬والمراد بها هنا‪ :‬طريقة النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬ودينه الذي جاء‬
‫به سواء كان قوال‪ ،‬أو فعال‪ ،‬أو تقريرا‪.‬‬

‫«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها‬


‫بالنواجذ» والخلفاء الراشدون المهديون من بعده عليه الصاله والسالم هم‪ :‬أبو بكر‬
‫وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬ودليل التخصيص بالخلفاء األربعة هو حديث النَّبي صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم الذي رواه سفينة يقول‪« :‬الخالفة في أمتي ثالثون سنة»(‪ ،)1‬وإذا‬

‫خرجه أحمد (‪ ،)21928‬والترمذي(‪ )2226‬والخالل في السنة (‪.)647‬‬


‫‪1‬‬
‫‪36‬‬
‫عددت السنين الثالثين وجدتها تنتهي بعلي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪ ،‬إذن‬
‫هؤالء هم الخلفاء الراشدون الذين أوصى النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم باتباع سنتهم‬
‫أي باتباع طريقتهم‪.‬‬

‫( عضوا عليها بالنواجذ) أي على سنَّته صلى هللا عليه وسلَّم وسنة الخلفاء‬
‫الراشدين من بعده‪ ،‬والنَّواجذ جمع ناجذ وهو الضرس‪ ،‬أي احرصوا عليها‬
‫سكوا بها‪ ،‬مثلما نقول نحن اليوم‪ :‬امسك بها بيديك وأسنانك‪.‬‬
‫وتم َّ‬

‫( وإياكم ومحدثات األمور) أي احذروا من محدثات األ ُمور‪.‬‬

‫( فإنكل محدثة بدعة وكل بدعة ضاللة) وكل ضاللة في النَّار؛ كما جاء في‬
‫رواية‪ ،‬فكل محدثة بدعة‪ ،‬وقلنا َّ‬
‫بأن المحدثة هي األمر الجديد في الدين‪ ،‬الذيال‬
‫أصل له في الكتاب والسنة‪.‬‬

‫البدعة لغة‪ :‬ما أحدث على غير مثال سابق‪.‬‬

‫وفي الشرع‪ :‬ما أحدث م َّما ال أصل له في الشريعة يدل عليه؛ ألن دين هللا هو دين‬
‫اإلسالم‪ ،‬الذي هو كتاب وسنة بفهم سلف األمة‪ ،‬فإذا جاء دين ال أصل له ال في‬
‫الكتاب وال في السنة وال كان عليه الصحابة؛ فهو محدث و هو بدعة‪ ،‬و البدعة‬
‫ضاللة والضاللة في النَّار‪ ،‬أي صاحبها‪.‬‬

‫فالبدعة كبيرة من الكبائر؛ألن من تعريف الكبائر أنها ما توعد عليه بعقاب أو‬
‫عذاب‪ ،‬فالبدعة كبيرة من الكبائر وعظيمة من عظائم الذنوب‪ ،‬وخطر البدعة يكمن‬
‫أن البدع إذا سكت عنها وتوسع النَّاس في اإلحداث واالبتداع في دين هللا‪ ،‬أدى‬
‫في َّ‬
‫ذلك إلى انطماس شريعة هللا واستبدالها بآراء وأهواء البشر؛ كما حصل من اليهود‬
‫فتحوا باب االبتداع على‬ ‫والنصارى‪ ،‬ومن الرافضة والصوفية القبورية‪،‬‬

‫‪37‬‬
‫مصراعيه فأخذوا يستحسنون بأرائهم وعقولهم حتى خرجوا من دين هللا تماما‪،‬‬
‫هذا هو طريق البدع‪.‬‬

‫فرحم هللا السلف نظرتهم كانت ثاقبة‪ ،‬فكان بعضهم يقول‪« :‬البدعة بريد الكفر»‪،‬‬
‫البريد أصله الدابة التي تحمل الرسائل‪ ،‬فهي التي توصل الرسالة‪ ،‬فالبدعة توصل‬
‫إلى الكفر‪ ،‬فالحذر الحذر من البدعة واالبتداع‪ ،‬ومن هنا نجد السلف رضي هللا‬
‫عنهم يشددون في مسائل البدع واالبتداع‪ ،‬ويحرصون على التحذير ممن يدعو إلى‬
‫بدعة أو ضاللة؛ ألن السكوت عن مثل هذا يؤدي إلى انطماس الدين‪ ،‬وذهاب‬
‫الحق‪ ،‬وهذا ال يجوز السكوت عليه ألبتة‪.‬‬

‫فال تأخذك الحمية لشخص من األشخاص إن أحببته أو رأيت فيه شيئا من الخشوع‬
‫إن كانت فيه بدعة‪ ،‬فتدخل في الدفاع عنه والذب عنه ألنك أحسنت الظن به‪ ،‬هذا‬
‫خطأ عظيم‪ ،‬فالبدعة أمرها خطير‪ ،‬وغيرتك على دين هللا أولى من غيرتك على‬
‫فالن أوعالن‪ ،‬محبتك يجب أن تكون لشرع هللا مقدمة‪ ،‬تقدم كتاب هللا وسنة رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه و سلَّم على كل شيء وعلى كل أحد‪ ،‬فالمبتدع يُضل النَّاس عن‬
‫سواء السبيل‪ ،‬ويريد أن يفسد شريعة هللا‪ ،‬يجب التحذير منه‪ ،‬من أجل الحفاظ على‬
‫شريعة هللا صافية نقية‪ ،‬ونصيحة للمسلمين‪ ،‬فإذا لم تبين أنت ولم أبين أنا فمن أين‬
‫يعلم النَّاس الحق من الباطل؟!‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وقال عبدللا بن مسعود رضي للا عنه‪ :‬اتبعوا وال‬
‫تبتدعوا فقد كفيتم)‪ ،‬ما أجمل هذا الكالم‪ ،‬ال تحاول أن تجعل نفسك رأسا‪ ،‬فتأتينا‬
‫باآلراء والخياالت والغرائب الجديدة كي تجد لك من يتبعك‪ ،‬أو كي يقال فالن قال‪،‬‬
‫ولكن كن متبعا؛ تبقى على الحق‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ي هللا عنهم‪ ،‬فالنَّبي صلى هللا‬
‫(اتبعوا) أي اتبعوا الكتاب والسنة ومنهج السلف رض َّ‬
‫عليه وسلَّم وأصحابه من بعده رض َّ‬
‫ي هللا عنهم بينوا هذا الدين والشرع بيانا واضحا‬
‫ال خفاء فيه‪ ،‬قال‪ ( :‬وال تبتدعوا) فلسنا بحاجة إلى بدعك وخرافاتك‪ ،‬فال تأتوا بدين‬
‫ي هللا عنهم أمر بيان هذا الدين‬
‫جديد (فقد كفيتم) كفيتم البيان‪ ،‬كفاكم سلفكم رض َّ‬
‫معناه‪.‬‬ ‫وتوضيح‬
‫فواجبكم فقط االتباع‪ ،‬تعلموا ما كانوا عليه واتبعوهم ‪ ،‬هذا ما أمر به هللا تبارك‬
‫وتعالى وأمر به رسوله صلى هللا عليه وسلم وبينه أصحابه ومن اتبعهم‪ ،‬هذه بعض‬
‫‪.‬‬ ‫هنا‬ ‫المؤلف‬ ‫ذكرها‬ ‫السلف‬ ‫آثار‬
‫سا ِبقُونَ ْاأل َ َّولُونَ ِمنَ ْال ُم َه ِ‬
‫اج ِرينَ‬ ‫وأما األدلة التي توجب االتباع فقال تعالى { َوال َّ‬
‫ع ْنهُ َوأ َ َعدَّ لَ ُه ْم َجنَّات‬
‫ضوا َ‬‫َّللاُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ‬
‫ي َّ‬ ‫ض َ‬ ‫ار َوالَّذِينَ اتَّبَعُو ُه ْم بِإ ِ ْح َ‬
‫سان َر ِ‬ ‫ص ِ‬‫َو ْاأل َ ْن َ‬
‫ْال َع ِظي ُم (‪})100‬‬ ‫ار خَا ِلدِينَ ِفي َها أ َ َبدا ذَ ِل َك ْالفَ ْو ُز‬ ‫ت َ ْج ِري ت َ ْحت َ َها ْاأل َ ْن َه ُ‬
‫س ِبي ِل ْال ُمؤْ ِمنِينَ‬ ‫َ‬
‫غي َْر َ‬‫سو َل ِم ْن َب ْع ِد َما تَبَيَّنَ لَهُ ْال ُهدَى َو َيت َّ ِب ْع‬ ‫الر ُ‬
‫ق َّ‬ ‫وقال‪َ { :‬و َم ْن يُشَاقِ ِ‬
‫(‪})115‬‬ ‫صيرا‬
‫َم ِ‬ ‫ت‬‫سا َء ْ‬
‫َو َ‬ ‫َج َهنَّ َم‬ ‫َونُ ْ‬
‫ص ِل ِه‬ ‫ت َ َولَّى‬ ‫َما‬ ‫نُ َو ِل ِه‬
‫اختِ َالفا َكثِيرا‪،‬‬ ‫ش ِم ْن ُك ْم بَ ْعدِي فَ َ‬
‫سيَ َرى ْ‬ ‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬فَإِنَّهُ َم ْن يَ ِع ْ‬
‫س ُكوا ِب َها َو َعضوا َعلَ ْي َها‬ ‫اء ْال َم ْهد ِِيينَ َّ‬
‫الرا ِشدِينَ ‪ ،‬ت َ َم َّ‬ ‫سنَّ ِة ْال ُخ َل َف ِ‬
‫سنَّ ِتي َو ُ‬ ‫َف َع َل ْي ُك ْم ِب ُ‬
‫ت ْاأل ُ ُم ِ‬
‫َ َ ٌ (‪)1‬‬
‫ضاللة»‬ ‫ور‪ ،‬فَإ ِ َّن ُك َّل ُم ْحدَثَة ِب ْد َعةٌ‪َ ،‬و ُك َّل ِب ْد َعة َ‬ ‫اجذِ‪َ ،‬و ِإيَّا ُك ْم َو ُم ْحدَثَا ِ‬
‫ِبالنَّ َو ِ‬

‫وقال «ستفترق أمتي على ثالث وسبعين فرقة‪ ،‬كلهم في النار إال واحدة»‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫ومن هي يا رسول هللا؟ قال‪« :‬الجماعة»(‪ ،)2‬وفي رواية‪« :‬ما أنا عليه‬
‫(‪)3‬‬
‫وأصحابي»‬

‫(‪ )1‬أخرجه أحمد (‪ ،)17144‬وأبو داود (‪ ،)4607‬والترمذي (‪ ،)2676‬وابن ماجه (‪ ،)42‬من حديث العرباض بن سارية ‪‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أحمد (‪ ،)16937‬وأبو داود (‪ ،)4597‬من حديث معاوية ‪‬‬
‫(‪ )3‬أخرجها الترمذي (‪ )2641‬من حديث عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما ‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقال عمر بن عبد العزيز رضي للا عنه كالما ً‬
‫معناه‪ ( :‬اقف حيث القوم‪ ،‬فإنهم عن علم وقفوا‪ ،‬وببصر نافذ كفوا‪ ،‬وهم على‬
‫كشفها كانوا أقوى‪ ،‬وبالفضل لو كان فيها أحرى‪ ،‬فلئن قلتم حدث بعدهم‪ ،‬فما‬
‫أحدثه إال من خالف هديهم‪ ،‬ورغب عن سنتهم‪ ،‬ولقد وصفوا منه ما يشفي‪،‬‬
‫وتكلموا منه بما يكفي‪ ،‬فما فوقهم محسر‪،‬وما دونهم مقصر‪ ،‬لقد قصر عنهم قوم‬
‫(‪.)1‬‬
‫هدى مستقيم)‬
‫ً‬ ‫فجفوا‪ ،‬وتجاوزهم آخرون فغلوا‪ ،‬وإنهم فيما بين ذلك لعلى‬

‫وقال اإلمام أبو عمرو األوزاعي رضي للا عنه‪ ( :‬عليك بآثار من سلف وإن‬
‫(‪) 2‬‬
‫رفضك الناس‪ ،‬وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول)‬

‫وقال محمد بن عبد الرحمن األدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها‪ :‬هل‬
‫علمها رسول اللهصلىاهلل عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬أم لم‬
‫يعلموها؟ قال‪ :‬لم يعلموها‪ ،‬قال‪ :‬فشيء لم يعلمه هؤالء أعلمته أنت؟! قال الرجل‪:‬‬
‫فإني أقول قد علموها‪ ،‬قال‪ :‬أفوسعهم أال يتكلموا به وال يدعوا الناس إليه أم لم‬
‫يسعهم؟ قال‪ :‬بلى وسعهم‪ ،‬قال‪ :‬فشيء وسع رسول للا صلى للا عليه وسلم‬
‫وخلفاءه ال يسعك أنت؟! فانقطع الرجل‪ ،‬فقال الخليفة‪ -‬وكان حاضرا ً ‪ :-‬ال وسع‬
‫(‪(3‬‬
‫للا على من لم يسعه ما وسعهم)‬

‫وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول للا صلى للا عليه وسلم وأصحابه والتابعين‬
‫لهم بإحسان واألئمة من بعدهم والراسخين في العلم من تالوة آيات الصفات‬
‫وقراءة أخبارها وإمرارها كما جاءت فال وسع للا عليه‪.‬‬

‫(‪ )1‬روى األثر االمام أحمد في الزهد(‪ ،)1709‬وابن بطة في االبانة الكبرى(‪)1/321‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث صفحة (‪ ، )7‬واألجري في الشريعة برقم (‪)127‬‬
‫(‪ )1‬أخرج القصة اآلجري في الشريعة رقم ‪ ،193‬والخطيب في تاريخ بغداد(‪ )271/11‬وقال‪ :‬الشيخ هو أبو عبد الرحمن عبدهللا بن محمد بن اسحق األذرمي‪ ،‬وقد ناظر‬
‫ابن أبي دؤاد في مسألة خلق القرآن بحضرة الواثق‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫(وقال عمر بن عبد العزيز رضي للا عنه) عمر بن عبد العزيز األموي‪ ،‬األمير‪،‬‬
‫الزاهد‪ ،‬الورع‪ ،‬التقي‪ ،‬كان صاحب علم‪ ،‬وكان أميرا عادال‪ ،‬قال رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫(كالما ً معناه‪ :‬قف حيث وقف القوم) أي السلف الصالح رض َّ‬
‫ي هللا عنهم من‬
‫ضحوه من السنة فخذ به‬
‫الصحابة ومن اتبعهم بإحسان‪ ،‬ما اتبعوه و بيَّنوه وو َّ‬
‫واعمل به‪ ،‬وما سكتوا عنه فاسكت عنه وانت ِه‪ ،‬وما انتهوا عن الخوض فيه فانته‬
‫أنت عن الخوض فيه‪ ،‬فقف عنده وال تتجاوزه‪.‬‬

‫قال رحمه هللا تعالى‪ ( :‬فإنهم عن علم وقفوا) عندما وقفوا عند مسألة معينة ولم‬
‫يتكلموا كانوا يعرفون لماذا وقفوا‪ ،‬وأن الوقوف هو الواجب ( وببصر نافذ كفوا ً)‬
‫أي ببصر وبصيرة قوية توقفوا ( وهم على كشفها كانوا أقوى) علمهم أقوى من‬
‫علم من جاء بعدهم‪ ،‬وأكثر وأغزر‪ ،‬فلو كان هناك ما يحتاج إلى الكالم بعلم فهم‬
‫كانوا أقدر على استخراجه وبيانه (وبالفضل لو كان فيها أحرى) و لو كان في‬
‫كشفه فضل فهم من أحرص النَّاس على الفضل وعلى الخير ( فلئن قلتم حدث‬
‫بعدهم) إن قلت هذه قضية حصلت ولم تكن في زمنهم ( فما أحدثه إال من خالف‬
‫هديهم ورغب عن سنتهم) أي زهد في طريقتهم وخالفها فيها ( ولقد وصفوا منه‬
‫ما يشفي‪ ،‬وتكلموا منه بما يكفي)‪ ،‬وصفوا من أمر هذا الدين ما يشفي المحتاج‪ ،‬و‬
‫تكلموا منه بما يكفي‪ ،‬فلسنا بحاجة إلى زيادة على ذلك ( فما فوقهم محسر) أي‬
‫متعب نفسه من غير فائدة ( وما دونهم مقصر) في طلب الحق ( لقد قصر عنهم‬
‫الغلو وهو‬
‫ِ‬ ‫قوم فجفوا) من الجفاء وهو التباعد ( وتجاوزهم آخرون فغلوا ) من‬
‫مجاوزة الحد‪ ،‬وهو منهي عنه في الشرع «وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى‬
‫الغلو والتقصير‪ ،‬بين اإلفراط و التفريط‪ ،‬هذا منهج السلف‬
‫ِ‬ ‫مستقيم) أي هم بين‬
‫ي هللا عنهم و هذه هي طريقتهم‪.‬‬
‫رض َّ‬

‫‪41‬‬
‫يقول موسى بن أبي عائشة رحمه هللا تعالى وهو أحد أئمة السلف‪ « :‬ما أمر هللا‬
‫سبحانه بأمرإال وكان للشيطان فيه نزغتان‪ :‬نزغة إلى مجاوزة وغلو‪ ،‬ونزغة إلى‬
‫تفريط وتقصير»‪ 1‬فأهل السنة كانوا وسطا دائما‪ ،‬ال إفراط وال تفريط‪ ،‬ومن أعظم‬
‫ما يفسد الدين هاتان الطريقتان الغلو والتقصير وترك التوسط واالعتدال ‪.‬‬
‫خالصة هذا الكالم وجوب اتباع السلف‪ ،‬وترك االبتداع في الدين‪ ،‬واالجتهاد في‬
‫مسائل قررها السلف ووضحوها‪ ،‬فتتكلم فيما تكلموا فيه بمثل ما تكلموا‪ ،‬وتسكت‬
‫عما سكتوا عنه ‪.‬‬

‫( وقال اإلمام أبو عمرو األوزاعي) اإلمام العالم الكبير‪ ،‬شيخ أهل الشام في زمنه‪،‬‬
‫كان إماما يقتدى به‪ ،‬له مذهب سائد في بالد الشام في زمنه وبعده بقليل؛ ألنه كان‬
‫من أهل الشام فكان مذهبه هو السائد في بالد الشام قبل أن ينتشرفيها مذهب اإلمام‬
‫الشافعي رحمه هللا تعالى‪ ،‬فهو إمام من أئمة أتباع التابعين‪ ،‬إمام في زمنه في بالد‬
‫الشام كما كان مالك في المدينة‪ ،‬وسفيان بن عيينة في مكة‪ ،‬والليث بن سعد في‬
‫مصر‪ ،‬و سفيان الثوري في الكوفة‪ ،‬وعبدهللا بن المبارك في خراسان‪ ،‬كان هؤآلء‬
‫أئمة زمانهم‪.‬‬

‫(قال اإلمام أبو عمرو األوزاعي رحمه للا تعالى‪ :‬عليك بآثار من سلف) عليك‬
‫بطريقتهم الزمها وال تتركها (وإن رفضك الناس) وإن تبرأ منك النَّاس وإن‬
‫تركوك‪ ،‬وإن حذروا منك‪ ،‬وإن رموك بما رموك به‪ ،‬كل هذا ال تبالي به‪ ،‬فإن كنت‬
‫على الجادة فسيعزك هللا سبحانه و تعالى‪ ،‬وينصرك ويرفعك‪ ،‬قال‪ ( :‬وإياك وآراء‬
‫ي هللا عنهم يوصون باألخذ بكتاب هللا وسنة رسوله‬
‫الرجال) كما كان السلف رض َّ‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم واتباع منهج السلف‪ ،‬كانوا ِ‬
‫يحذرون من اآلراء‪ ،‬فالرأي العقلي‬
‫من أعظم ما يفسد االتباع ويضاده‪ ،‬خالف في ذلك أهل الرأي في الفقه وأهل‬

‫‪ 1‬ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفات (‪ ،)116/1‬وفي كتابه الصالة وأحكام تاركها (‪.)159/1‬‬
‫‪42‬‬
‫الكالم في االعتقاد‪ ،‬فكلهم اعتمدوا على رأيهم في الدين‪ ،‬وبقي على الجادة أهل‬
‫الحديث‪ ،‬قال‪ ( :‬وإن زخرفوه لك بالقول) وإن زينوه لك باللسان الجميل فال تبالي‬
‫به وال تنظر إليه بما أنه رأي خار ٌج من الرجال فال تنظر إليه‪ ،‬فالعبرة بقول هللا‪،‬‬
‫وقول رسول هللا صلى هللا عليه و سلَّم‪ ،‬وقول أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم والقرون الثالثة األولى كلها التي كانت على الجادة‪ ،‬و كان الحق فيها ظاهرا‬
‫قويا منتشرا‪ ،‬التي قال فيها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬خير النَّاس قرني ث ُ َّم الذين‬
‫(‪)1‬‬
‫يلونهم‪ ،‬ث ُ َّم الذين يلونهم»‬

‫ث ُ َّم ذم القرون التي بعد ذلك‪ ،‬وإذا نظرت إلى منهج السلف في هذه القرون الثالثة‪،‬‬
‫خفاء‪.‬‬ ‫وال‬ ‫فيه‬ ‫غباش‬ ‫ال‬ ‫صافيا‬ ‫نقيا‬ ‫واضحا‬ ‫تجده‬
‫انظر وصيتهم كلهم واحدة ال تختلف‪ ،‬خالصتها االتباع وترك االبتداع ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقال محمد بن عبد الرحمن األدرمي لرجل تكلم‬
‫ببدعة ودعا الناس إليها‪ :‬هل علمها رسول للا صلى للا عليه وسلم وأبوبكر‬
‫وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟) انظر اآلن يريد أن يجادله بإاللزام‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫ما هذه البدع التي تدعو إليها ؟ تدعو إلى القول بخَلق القرآن‪ ،‬هل القول ب َخلق‬
‫القرآن علمه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وأبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي هللا‬
‫عنهم أم لم يعلموه؟ قال‪ :‬لم يعلموه!‬

‫انظر كيف وصلت البدعة بهم إلى أي درجة‪ ،‬وصلت بهم إلى أن يدعوا أنهم علموا‬
‫أشياء لم يعلمها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وهو المبلغ عن هللا دينه‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬فشي ٌء لم يعلمه هؤالء‪ ،‬أعلمته أنت؟)‪ ،‬انت َبهَ الرجل لعظم ما قال وفساده‪،‬‬
‫فقال‪« :‬فإني أقول قد علموها) تراجع‪ ،‬قال‪( :‬أفوسعهم أن ال يتكلموا به وال يدعوا‬

‫‪ 1‬سبق تخريجه‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫الناس إليه أم لم يسعهم؟)‪ ،‬إن قال نعم‪ ،‬قلنا له‪ :‬هات‪ ،‬أين كالمهم؟ ولكنه قال‪( :‬‬
‫بل وسعهم)‪ ،‬وسعهم أن يسكتوا عن كل هذا‪ ،‬قال‪ ( :‬فشيء وسع رسول للا صلى‬
‫للا عليه وسلم و خلفائه ال يسعك أنت؟) فانقطع الرجل‪ ،‬يعني ألزمه باالتباع في‬
‫السكوت‪ ،‬فكما سكتوا كان واجبك السكوت‪ ،‬فلو كان ما تكلمت به حقا واجبا‬
‫لسبقوك إليه‪ ،‬فهم أعلم وأحرص على الخير منك‪ ،‬فقال الخليفة ‪ -‬وكان حاضرا ‪:-‬‬
‫(ال وسع للا على من لم يسعه ما وسعهم)‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول للا صلى للا‬
‫عليه وسلم و أصحابه والتابعين لهم بإحسان واألئمة من بعدهم والراسخين في‬
‫العلم من تالوة آيات الصفات‪ ،‬وقراءة أخبارها‪ ،‬وإمرارها كما جاءت‪ ،‬فال وسع‬
‫للا عليه)‪ ،‬هذا تقعيد و تأصيل من المؤلف رحمه هللا تعالى لعقيدة أهل السنة‬
‫والجماعة في األسماء والصفات‪ ،‬اعتمد في تقرير ذلك على الكتاب والسنة و‬
‫ي هللا عنهم‪ ،‬هذا هو الذي نحن عليه‪ ،‬و بهذا انتهى من التقعيد و‬
‫منهج السلف رض َّ‬
‫التأصيل و سيبدأ المؤلف رحمه هللا تعالى بذكرالصفات التي وردت في الكتاب و‬
‫السنة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫المتن‬
‫قال المؤلف رحمه هللا‪ :‬فم َّما جاء من آيات الصفات قول هللا عزوجل‪ { :‬ويبقى وجه‬
‫ربك} [الرحمن‪]27 :‬‬

‫وقوله سبحانه وتعالى‪ { :‬بل يداه مبسوطتان} [المائدة‪]64 :‬‬

‫وقوله تعالى إخبارا عن عيسى عليه السالم أنه قال‪ { :‬تعلم ما في نفسي وال أعلم‬
‫ما في نفسك} [المائدة‪]116 :‬‬

‫وقوله سبحانه‪ {:‬وجاء ربك} [الفجر‪]22 :‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬هل ينظرون إال أن يأتيهم هللا} [البقرة‪]210 :‬‬

‫رضي هللا عنهم ورضوا عنه} [المائدة‪]119 :‬‬


‫َ‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬يحبهم ويحبونه} [المائدة‪]54 :‬‬

‫وقوله تعالى في الكفَّار‪ { :‬وغضب هللا عليهم} [الفتح‪]6 :‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬اتبعوا ما أسخط هللا} [محمد‪]28 :‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬كره هللا انبعاثهم} [التوبة‪]46 :‬‬

‫‪45‬‬
‫الشرح‬

‫قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪ ( :‬فمما جاء من آيات الصفات قول للا عزوجل }‬
‫ويبقى وجه ربك ذو الجالل وإالكرام {( [الرحمن‪ ،]27 :‬في هذه اآلية إثبات صفة‬
‫الوجه هلل تبارك وتعالى‪ ،‬فنثبته له؛ألنه أثبت هذه الصفة لنفسه في كتابه وفي سنة‬
‫رسوله صلى هللا عليه وسلَّم على حقيقتها‪ ،‬وال نعطلها كما يفعل أهل التعطيل‪ ،‬كيف‬
‫يفسرون الوجه بالذات‪ ،‬وال يثبتون هلل وجها حقيقيا‪ ،‬قالوا‪ :‬الوجه موجود‬
‫يعطلونها؟ ِ‬
‫في المخلوق‪ ،‬من صفاته‪ ،‬فإذا أثبتنا الوجه للخالق شبهنا الخالق بالمخلوق‪ ،‬وهذا‬
‫يلزم منه النَّقص‪ ،‬فنقول لهم‪ :‬هذا ال يلزم‪ ،‬ال يلزم من إثبات وجه هلل تبارك وتعالى‬
‫أن وجهه يشبه وجه المخلوق‪ ،‬فوجه هللا يليق بجالله وعظمته‪ ،‬ووجه المخلوق يليق‬
‫به وبنقصه‪ ،‬فال يلزم من كون المخلوق له وجه وهللا سبحانه وتعالى له وجه؛ أن‬
‫يكون الوجه كالوجه‪.‬‬

‫فنحن نثبت صفة الوجه هلل تبارك وتعالى كما يليق بجالله وعظمته؛ لقوله تبارك‬
‫وتعالى‪ }:‬ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام {[الرحمن‪ ،]27 :‬من غير تمثيل؛‬
‫لقول هللا تبارك وتعالى‪}:‬ليس كمثله شيء{[الشورى‪ ،]11/‬ومن غير تكييف؛‬
‫لقوله تبارك وتعالى‪}:‬وال يحيطون به علما ً{[طه‪ ،]110/‬وهكذا القول في جميع‬
‫الصفات‪ ،‬هذا هو التأصيل السني السلفي‪ ،‬وقد كان السلف رضي هللا عنهم يقرأون‬
‫يحرفها أحد منهم كما يفعل أهل الكالم‪ ،‬ولم‬
‫ويمرونها كما جاءت‪ ،‬ولم ِ‬
‫ِ‬ ‫هذه اآليات‬
‫يخرج بها عن معناها الحقيقي‪ ،‬فنحن نفعل كما فعلوا‪ ،‬ولو كان في هذا محذور‪ ،‬أو‬
‫يلزم منه معنى باطلة لبيَّنه السلف وما سكتوا عنه‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪) :‬وقوله سبحانه وتعالى ‪ }:‬بل يداه مبسوطتان{)‬
‫[المائدة‪ ،]64/‬في هذه اآلية إثبات صفة اليدين هلل تبارك وتعالى‪ ،‬وكذلك في قول‬

‫‪46‬‬
‫هللا تبارك وتعالى }ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي{[ص‪ ،]75/‬خلق آدم بيديه‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وأما بقية المخلوقات إال ما استثني؛ فقال لها‪ :‬كوني فكانت‪.‬‬

‫أهل التعطيل يقولون‪ :‬معنى اليد‪ :‬النِعمة أو القدرة‪ ،‬فقالوا في آدم‪ :‬خلقه بقدرته‪،‬‬
‫سروا اليد بمعنى القدرة‪ ،‬فرد عليهم أهل السنة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما الفرق إذن بين آدم‬
‫فف َّ‬
‫وبقية الخلق؟!‬

‫شرف آدم وذكر هذا التشريف إلبليس عندما أمره بالسجود‬


‫هللا سبحانه وتعالى َّ‬
‫شرفته ورفعت مقامه بخلقي له بيدي‪ ،‬فهذه‬
‫آلدم‪ ،‬قال له‪ :‬ما منعك أن تسجد لمن َّ‬
‫ففرق هللا سبحانه وتعالى ما بين خلق آدم وخلق غيره من الخلق‪،‬‬
‫منزلة رفيعة‪َّ ،‬‬
‫فعندما تقولون أنتم‪ :‬خلقه بقدرته؛ لم تبق آلدم مكانة وال شرف زائد عن بقية الخلق‪،‬‬
‫إضافة إلى أن هللا سبحانه وتعالى قال‪ } :‬ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي {‬
‫[ص‪ ]75/‬اليدان مثنى‪ ،‬يدان اثنتان هلل تبارك وتعالى‪ ،‬وقدرة هللا واحدة ال تثنى‪ ،‬فال‬
‫سر المثنى بالمفرد‪ ،‬فهذا التأويل الذي هم عليه تأويل باطل؛ ألنه‬
‫يصح هنا أن يف َّ‬
‫تأويل بغير دليل شرعي صحيح‪ ،‬وإنما هو تأويل لشبه عقلية‪.‬‬

‫منعهم من إثبات حقيقة اليدين هلل تبارك وتعالى زعمهم أن إثبات اليدين هلل تبارك‬
‫وتعالى يلزم منه التشبيه‪ ،‬إذ إن البشر لهم أيد‪ ،‬فإذا أثبتنا اليد للخالق وأثبتنا للمخلوق‬
‫اليد فقد شبهنا هللا بخلقه‪ ،‬وهذا باطل ليس بصحيح‪ ،‬نقول لهم في إثبات اليد هلل‬
‫سبحانه وتعالى‪ :‬نثبت يدا تليق بجالله وعظمته‪ ،‬والمخلوق له يد تليق به وبنقصه‪.‬‬

‫قولوا في اليد كما قلتم في الذات‪ ،‬انتبه لهذه النقطة‪ ،‬قولوا في اليد وبقية الصفات‬
‫كما تقولون في الذات‪.‬‬

‫هل هلل ذات أم ال؟ له ذات‪ ،‬يقرون هم بذلك‪ ،‬هل للمخلوق ذات أم ال؟ له ذات‪ ،‬هل‬
‫ذات هللا كذات المخلوق؟ ال‪ ،‬هللا له ذات تليق به‪ ،‬والمخلوق له ذات تليق به‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫فنقول لهم‪ :‬قولوا في الصفات كما تقولون في الذات‪.‬‬

‫وكما تقولون في الوجود كذلك‪ ،‬هل هللا موجود أم ليس موجودا؟ موجود‪ ،‬العبد‬
‫موجود أم ليس موجودا؟ موجود‪ ،‬هل وجود هللا كوجود العبد؟ ال‪ ،‬إذن قولوا في‬
‫بقية الصفات كذلك‪ ،‬ما الذي جعلكم تثبتون هذا وتقولون ليس فيه تشبيه‪ ،‬وتنفون‬
‫ذاك وتقولون فيه تشبيه؟! ليس لكم حجة على ذلك‪ ،‬وكذلك القول في بعض‬
‫الصفات كالقول في البعض اآلخر‪ ،‬الذين يثبتون هلل صفة السمع والبصر واإلرادة‬
‫والقدرة والحياة‪ ،‬وينفون بقية الصفات نلزمهم بهذا‪ ،‬نقول لهم‪ :‬لماذا أثبتم هذه ونفيتم‬
‫تلك؟ إذا كان إثبات هذه يلزم منه التشبيه فإثبات تلك كذلك‪ ،‬وإذا إثبات هذه ال‬
‫يلزمه منه التشبيه فكذلك تلك إذ ال فرق صحيح‪ ،‬وهذا من تناقضكم‪ ،‬لكن الحق َّ‬
‫أن‬
‫هذا إثباته ال يلزم منه التشبيه ألبتة‪ ،‬فصفات الخالق تبارك وتعالى تليق بجالله‬
‫وعظمته وكماله‪ ،‬وصفات المخلوق تليق به وبنقصه‪.‬‬

‫ثم قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقوله تعالى إخبارا ً عن عيسى عليه السالمأنه‬
‫قال } تعلم ما في نفسي وال أعلم ما في نفسك{)[المائدة‪ ،]116 :‬هذه اآلية فيها‬
‫إثبات صفة النَّفس هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وهي كقوله تبارك وتعالى ‪ }:‬كتب ربكم على‬
‫نفسه الرحمة{[األنعام‪ ]54 :‬فأثبت النَّفس لنفسه‪ ،‬وعيسى أثبت لنفسه نفسا وأثبت‬
‫هلل نفسا‪ ،‬ولم ينكر هللا تبارك وتعالى هذا القول‪ ،‬وال يلزم من ذلك َّ‬
‫أن نفس عيسى‬
‫رب عيسى ‪.‬‬ ‫تشبه نفس هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬كما َّ‬
‫أن ذات عيسى ال تشبه ذات ِ‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وقوله سبحانه} وجاء ربك{[الفجر‪ ،]22 :‬وقوله‬
‫تعالى} هل ينظرون إال أن يأتيهم للا{)[البقرة‪{ ،]210 :‬وجاء ربك} فيها إثبات‬
‫صفة المجيء‪ ،‬وهي صفة فعلية‪ ،‬يفعلها هللا متى شاء‪ ،‬فالصفات التي تتعلق‬
‫بالمشيئة تكون من الصفات الفعلية‪ ،‬وكذلك في قوله تبارك وتعالى ( هل ينظرون‬

‫‪48‬‬
‫إال أن يأتيهم للا) هذا يوم يأتيهم هللا سبحانه وتعالى لفصل القضاء يوم القيامة‪ ،‬هذه‬
‫الصفة ‪ -‬صفة اإلتيان‪ -‬صفة فعلية‪.‬‬

‫يفسرون المجيء واإلتيان بمجيء أمره‪ ،‬أو إتيان أمره‪ ،‬وهذا‬


‫ولكن أهل التعطيل ِ‬
‫باطل‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعالى يقول‪ (:‬وجاء ربك) يعني جاء ربك تبارك وتعالى‪ ،‬فلو‬
‫أراد هللا سبحانه وتعالى األُخرى لقال‪ :‬وجاء أمر ربك‪ ،‬إذن فالواجب هو فهم هذه‬
‫النصوص على ظاهرها – أي على حقيقتها – ومن ادعى غير الحقيقة يلزمه‬
‫اإلتيان بالدليل الصحيح‪ ،‬ال الدليل العقلي الموهوم والشبه الخيالية‪ ،‬هذه ال ت ُقبل على‬
‫منهج أهل السنة والجماعة‪ ،‬منهج السلف الصالح رضي هللا عنهم‪ ،‬على منهج أهل‬
‫الحديث ترد وال تعتبر‪ ،‬فلو أراد هللا سبحانه وتعالى خالف الحقيقة ألورد لنا دليال‬
‫يبين لنا َّ‬
‫أن الحقيقة غير مرادة‪ ،‬ولما لم يرد ذلك‪ ،‬علمنا أن المراد هي الحقيقة‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقوله تعالى} رضي للا عنهم ورضوا‬
‫عنه{)[المائدة‪ ،]119 :‬هذه آية من آيات الصفات‪ ،‬نثبت بها صفة الرضا هلل تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬وهي من الصفات الفعلية التي نثبتها كما أثبتها هللا تبارك وتعالى في‬
‫كتابه‪ ،‬لماذا نثبتها؟ ألن هللا تبارك وتعالى أثبتها لنفسه‪ ،‬لماذا نحملها على حقيقتها؟‬
‫ألنه لم يرد ما يدل على عدم الحقيقة‪ ،‬ولماذا نقول‪ :‬ال نعلم كيفيتها؟ ألن هللا لم‬
‫يخبرنا بذلك‪ ،‬ولقول هللا تبارك وتعالى}وال يحيطون به علما ً{[طه‪ ،]110 :‬هذه‬
‫هي األُصول‪.‬‬

‫يفسرونها بإرادة الثواب أو بالثواب نفسه‪ ،‬يصرفونها عن حقيقتها‪،‬‬


‫أهل التعطيل ِ‬
‫الثواب هو نتيجة الرضى‪ ،‬يلزم من الرضا الثواب‪ ،‬فالرضى شي ٌء والزمه أو‬
‫نتيجته شي ٌء آخر‪ ،‬فال يفسر هذا بهذا إال عند وجود القرينة التي تدل على َّ‬
‫أن‬
‫الحقيقة غير مرادة‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ثم قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقوله تعالى} يحبهم ويحبونه{) [المائدة‪،]54/‬‬
‫هذه اآلية فيها صفة المحبة‪ ،‬فننثبت أن هللا يحب‪ ،‬نثبت له صفة المحبة‪ ،‬وهي صفة‬
‫فعلية أيضا‪ ،‬نثبتها هلل كما يليق بجالله وعظمته‪ ،‬ال نشبهها بصفات المخلوق‪ ،‬محبة‬
‫العبد محبة تليق به وبنقصه‪ ،‬ومحبة هللا محبة تليق بعظمته وجالله‪.‬‬

‫فيفسرونها بإرادة اإلحسان أو باإلحسان الذي هو نتيجة المحبة‪،‬‬


‫ِ‬ ‫أما أهل التعطيل‬
‫فالمحبة شيء ونتيجتها شيء آخر‪ ،‬فال يصح صرف المحبة عن حقيقتها إال بدليل‪،‬‬
‫وال يوجد‪ ،‬فالواجب حمل اآلية على حقيقتها مع اعتقاد عدم التمثيل لقول هللا تبارك‬
‫وتعالى} ليس كمثله شيء{‪.‬‬

‫إذن فننفي أن تكون صفة هللا مثل صفة عبده‪ ،‬فمن قال‪ :‬يد كيد‪ ،‬نقول له‪ :‬مبتدع‪،‬‬
‫ضال منحرف‪ ،‬ومن قال‪ :‬كيفية يد هللا تبارك وتعالى كذا وكذا‪ ،‬قلنا له‪ :‬أنت مبتدع‬
‫ضال‪ ،‬كما قال اإلمام مالك رحمه هللا تعالى‪« :‬االستواء معلوم‪ ،‬والكيف مجهول‪،‬‬
‫واإليمان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة»‪ ،‬إذن‪ ،‬نقول‪ } :‬يحبهم ويحبونه{‪ ،‬يحبهم‬
‫محبة تليق بجالله وعظمته‪ ،‬فنثبت له صفة المحبة‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقوله تعالى في الكفار}وغضب للا‬


‫عليهم{[الفتح‪ )]6 :‬هذه أيضا صفة فعلية‪ ،‬صفة الغضب‪ ،‬فنثبت هلل تبارك وتعالى‬
‫صفة الغضب‪ ،‬كما وصف نفسه في كتابه‪ ،‬فهو أعلم بنفسه سبحانه وتعالى‪ ،‬فنثبتها‬
‫هلل من غير تعطيل وال تحريف‪ ،‬وال تمثيل‪ ،‬وال تكييف‪.‬‬

‫يفسرونها باالنتقام أو إرادة االنتقام؛ ألن األشاعرة كونهم يؤمنون‬


‫أما أهل التعطيل ف ِ‬
‫يحولون هذه الصفات كلها إلى اإلرادة‪ ،‬فالرضا إرادة‬
‫بصفة اإلرادة ويثبتونها هلل‪ِ ،‬‬
‫فيفسرونها بإرادة االنتقام أو باالنتقام نفسه‪.‬‬
‫اإلحسان‪ ،‬والغضب إرادة االنتقام‪ِ ،‬‬

‫‪50‬‬
‫هذا كله نتائج ولوازم وليست هي الحقيقة‪ ،‬حقيقة الغضب تختلف عن حقيقة‬
‫االنتقام‪ ،‬فالواجب هو إثبات الصفة على حقيقتها‪ ،‬إن قلت‪ :‬ال‪ ،‬هي بمعنى االنتقام‪،‬‬
‫قلنا لك‪ :‬هات‪ ،‬أثبت الدليل‪ ،‬هذا خالف ظاهر النَّص‪ ،‬ونرد عليهم بقول هللا‬
‫تعالى}فلما آسفونا انتقمنا منهم{[الزخرف‪ ]55 :‬إذ إ َّن هذه اآلية قوية في الرد‬
‫على أهل البدع‪ ،‬وعلى تفسيرهم الغضب باالنتقام‪ ،‬ماذا قال تبارك وتعالى؟ } فلما‬
‫آسفونا انتقمنا منهم{ أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم‪ ،‬فكانت نتيجة اإلغضاب‬
‫االنتقام‪ ،‬ففرق بين الغضب واالنتقام‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقوله تعالى}اتبعوا ما أسخط للا{)[محمد‪،]28 :‬‬
‫هذه اآلية فيها إثبات صفة الس ْخط هلل تبارك وتعالى أوال َّ‬
‫سخَط‪ ،‬يجوز هذا وهذا‪،‬‬
‫والس ْخط أو(ال َّ‬
‫س َخط) نقيض الرضا‪ ،‬والغضب شدة السخط‪ ،‬هذا بمقتضاه اللغوي‪،‬‬
‫ونحن نثبت هلل سبحانه وتعالى هذه الصفة كما أثبتها لنفسه من غير تشبيه‪ ،‬وال‬
‫حرفها أهل التعطيل إلى االنتقام‪ ،‬ألنها‬
‫تكييف‪ ،‬ومن غير تحريف وال تعطيل‪َّ ،‬‬
‫فحرفوها بنفس التحريف‪ ،‬فنقول لهم كما قلنا في البداية‪ ،‬األصل‬
‫َّ‬ ‫كصفة الغضب‬
‫الحقيقة‪ ،‬إن كنت تريد أن تؤول فعليك بالدليل‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقوله تعالى} كره للا انبعاثهم{)[التوبة‪،]46 :‬‬
‫هذه اآلية فيها إثبات صفة الكره‪ ،‬صفة نثبتها هلل تبارك وتعالى كما يليق بجالله‬
‫وعظمته‪ ،‬فسرها أهل التعطيل باإلبعاد‪ ،‬فقالوا‪ :‬إ َّن معنى } كره للا انبعاثهم{‪:‬أي‬
‫أبعدهم‪ ،‬هذا تفسير بالالزم‪ ،‬أي بالنَّتيجة‪ ،‬وقلنا لهم‪ :‬األصل الحقيقة حتى تثبت‬
‫أن الحقيقة غير مرادة‪ ،‬عندئذ نسلَّم لك وإال فال‪.‬‬
‫الدليل على َّ‬

‫‪51‬‬
‫المتن‬

‫قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪ :‬ومن السنة قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬ينز ُل‬
‫(‪.)1‬‬
‫ماء الدنيا»‬
‫ربنا– تبارك وتعالى– كل ليلة إلى س ِ‬
‫(‪.)2‬‬
‫صبوة ٌ»‬ ‫ْ‬
‫ليست له َ‬ ‫ب‬
‫ب ربك إلى الشا ِ‬
‫وقوله‪ « :‬يَع َج ُ‬

‫وقوله صلى هللا عليه وسلَّم‪َ « :‬يضحكُ هللاُ إلى رجلين قت َل أحد ُهما اآل َخر‪ ،‬ث ُ َّم يدخالن‬
‫(‪.)3‬‬
‫الجنَّة»‬

‫ع ِدلَت روات ُهُ‪ ،‬نُ ُ‬


‫ؤمن ب ِه وال نَ ُردهُ وال نَج َحدُه وال‬ ‫ص َّح سندُهُ و ُ‬
‫فهذا وما أش َبههُ مما َ‬
‫نشبههُ بصفات المخلوقين‪ ،‬وال ِبسما ِ‬
‫ت ال ُم ْحدَثِين‪،‬‬ ‫نتأوله بتأويل يخالف ظاهره‪ ،‬وال ِ‬
‫ونعلم أن هللا سبحانه وتعالى ال ِشبيهَ له وال نَ ِظير‪ { :‬ليس كمثله شيء وهو السميع‬
‫البصير}[الشورى‪.]11 :‬‬

‫وكل ما ت ُ ِخي َل في الذهن أو خطر بالبال فإن هللا تعالى بخالفه‪.‬‬

‫الشرح‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬ومن السنة قول النبي صلى للا عليه وسلم‪« :‬‬
‫ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا»)‪ ،‬هذا الحديث فيه إثبات صفة‬
‫النزول هلل تبارك وتعالى‪ ،‬فنقول‪ :‬ينزل هللا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا نزوال‬
‫حقيقيا يليق بجالله وعظمته من غير تحريف وال تعطيل‪ ،‬وال تكييف وال تمثيل‪،‬‬
‫هذه قاعدة أهل السنة والجماعة في التعامل مع نصوص الصفات‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري(‪ ،)1145‬ومسلم(‪ )758‬من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬أخرجه أحمد برقم (‪ ،)17371‬وأبو يعلى في مسنده(‪ ،)1749‬والطبراني في الكبير(‪ )853‬من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري (‪ ،)2826‬ومسلم(‪ )1890‬من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫قال شريك وإسحاق بن راهويه وهما إمامان من أئمة أهل السنة‪ ،‬من أئمة السلف‬
‫رضي هللا عنهم‪ ،‬عندما ذكر لهما حديث النزول‪ ،‬قاال‪َّ « :‬‬
‫إن الذين جاءوا بهذه‬
‫َّ‬
‫وبأن الصلوات خمس‪ ،‬وبحج البيت‪ ،‬وبصوم‬ ‫األحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫هذا تقرير السلف لهذه الصفة‪،‬‬ ‫رمضان‪ ،‬فما نعرف هللا إال بهذه األحاديث»‬
‫وعندما قال أحد األمراء وهو يناظر إسحاق بن راهويه في هذا األمر‪ ،‬قال له‪:‬‬
‫ويخلو من العرش؟ أراد أن يورد عليه إشكاال‪ ،‬فقال‪ :‬أويخلو منه العرش؟ قال له‬
‫إسحاق بن راهويه‪ :‬ويجوز أن ال يخلو منه أم ال يجوز؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إذن فمالك‬
‫ولهذا؟‬

‫أي فدعك منه ال عالقة لك بمثل هذا‪.‬‬

‫قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬ينزل ربنا»‪ ،‬ماقال يخلو العرش منه وال قال ال‬
‫يخلو منه العرش (‪ ،)2‬فنسكت عما سكت عنه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫يعطلون صفات هللا تبارك وتعالى وال يثبتونها له‪ ،‬من‬


‫ِ‬ ‫أ َّما أهل التعطيل الذين‬
‫الجهمية والمعتزلة واألشاعرة وغيرهم‪ ،‬ي ِفسرون مثل هذه الصفة بنزول أمره‪،‬‬
‫أو نزول رحمته أو نزول ملك من مالئكته‪ ،‬وهذا كله مردود عليهم َّ‬
‫بأن هذا النزول‬
‫سرتموه به على غير حقيقة اللفظ الذي أخبربه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪،‬‬
‫الذي ف َّ‬
‫فحقيقة اللفظ‪ :‬ينزل ربنا نفسه‪ ،‬وقولكم‪ :‬ينزل أمره تحريف‪ ،‬لماذا؟ ألنكم حملتم‬
‫اللفظ على غير حقيقته‪ ،‬مع عدم وجود دليل صحيح في ذلك‪ ،‬فهذا يسمى تحريفا‪،‬‬
‫وإن كانوا هم يسمونه تأويال‪ ،‬لكنه تأويل باطل‪ ،‬فالتأويل جائز وصحيح إذا وجد‬
‫الدليل على صحته‪ ،‬وإذا لم يوجد الدليل على صحته فهو تحريف‪ ،‬وتأويل باطل‬
‫مردودٌ على صاحبه‪.‬‬
‫‪ 1‬السنة لعبد هللا بن أحمد عن شريك برقم(‪ ،)508‬والبيهقي في األسماء والصفات بنحوه برقم(‪ ،)949‬وقد تقدم تخريج اثر إسحاق بن راهويه‪.‬‬
‫‪ 2‬رواه الالكائي في شرح أصول االعتقاد برقم( ‪ ،)774‬وأخرجه ابن بطة كما في شرح حديث النزول لشيخ االسالم ابن تيمية صفحة(‪ )152‬ومجموع الفتأوى(‪)5/376‬‬
‫‪ ،‬عن طريق أبي بكر النجاد‪ ،‬وذكره من طريقه اإلمام الذهبي في العلو للعلي الغفار برقم (‪ ،)484‬وانظر مختصر العلو لإلمام األلباني صفحة(‪.)192‬‬

‫‪53‬‬
‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقوله‪ :‬يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة)‬
‫هذا الحديث فيه إثبات صفة العَ َجب هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬ولكن هذا الحديث ضعيف‬
‫أعله غير واحد من أهل العلم بابن لهيعة‪ ،‬وابن لهيعة ضعيف‪.‬‬

‫ولكن يغني عنه في إثبات هذه الصفة قول هللا تبارك وتعالى }بل عجبت‬
‫عجبت ويسخرون} بفتح‬
‫َ‬ ‫ويسخرون{[الصافات‪ ،]12 :‬قراءة حفص جاءت {بل‬
‫تاء عجبت‪ ،‬وجاءت أيضا قراءة‪ :‬بضم التاء {بل عجبتُ ويسخرون}‪ ،‬وكال‬
‫المعنيين صحيح‪ ،‬بل عجبتُ ويسخرون أي عجب هللا تبارك وتعالى‪ ،‬ففيه إثبات‬
‫صفة العَ َجب هلل تبارك وتعالى‪ ،‬وكذلك قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬قد عجب‬
‫هللا من صنيعكما بضيفكما الليلة» قاله النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم لرجل من‬
‫الصحابة وزوجته‪ ،‬استضافا رجال‪ ،‬ولم كان عندهما من الطعام ما يكفي‪ ،‬فأطفآ‬
‫السراج وقدَّما الطعام‪ ،‬وأوهما الرجل أنهما يأكالن‪ ،‬فأكل الطعام ونام هنيئا قرير‬
‫ض ْي ِف ُك َما‬
‫صنِي ِع ُك َما بِ َ‬ ‫العين‪ ،‬فقال لهما النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬قَ ْد َع ِج َ‬
‫ب هللاُ ِم ْن َ‬
‫اللَّ ْيلَةَ» (‪.)1‬‬

‫َّللاُ ِم ْن قَ ْوم‬
‫ب َّ‬ ‫وأيضا جاء في الصحيح قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪َ « :‬ع ِج َ‬
‫سالَ ِس ِل»(‪ ،)2‬وهذا الحديث في صحيح البخاري فيه إثبات صفة‬ ‫َي ْد ُخلُونَ ال َجنَّةَ ِفي ال َّ‬
‫العجب هلل تبارك وتعالى‪.‬‬

‫أنكر هذه الصفة قوم‪ ،‬وقالوا‪ :‬ال يعجب إال من لم يعلم‪ ،‬فعندما علم تعجب‪ ،‬فيكون‬
‫في إثباتها إثبات الجهل‪ ،‬وهذا ال يجوز على هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬إذن ال يجوز أن‬
‫نوصف هللا سبحانه وتعالى بالعجب‪ ،‬لكن رد عليهم أهل السنة وقالوا‪ :‬فهمكم‬
‫للعجب خطأ إذ أنكم أدركتم نوعا من أنواع العجب وفاتكم اآلخر‪ ،‬فالعجب نوعان‬

‫(‪ )1‬اخرجه البخاري(‪ )4889‬ومسلم(‪ )2054‬واللفظ له‪ ،‬من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري برقم(‪ )3010‬من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه ‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫وليس نوعا واحدا‪ :‬األول‪ :‬هو الذي ذكرتموه‪ ،‬وهللا تبارك وتعالى منزه عنه ال شك‪،‬‬
‫وال يوصف هللا سبحانه وتعالى بهذا العجب‪.‬‬

‫أما الثاني وهو الذي يوصف هللا تبارك وتعالى به‪ ،‬هو‪ :‬أن يخرج الشيء عن‬
‫نظائره فتتعجب لذلك‪ ،‬مثال يكون عندك صبي صغير‪ ،‬هذا الصبي يتكلم ويحسن‬
‫الكالم وأنت تعلم أنه قادر على النطق بجملة معينة‪ ،‬ولكن العادة جرت على أن‬
‫مثله م َّمن هم في سنِه ال يتكلمون بهذه الجملة‪ ،‬فعندما تخاطبه ويكلمك بها تندهش‬
‫وتتعجب من خروجها منه‪ ،‬فأنت تعلم مسبقا أنه قادر على قولها أم ال تعلم؟ تعلم‪،‬‬
‫فالتعجب لماذا حصل؟ ألن هذا الصبي عندما نطق بهذه الجملة خرج عن نظائره‬
‫من األوالد الذين ال يتكلمون بهذه الجملة‪ ،‬خروج الشيء عن نظائره هو الذي‬
‫حصل بسببه التعجب‪ ،‬وهو الذي يوصف به هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهلل المثل األعلى‪.‬‬

‫إذن عندما صنع هذا الصحابي وامرأته ما صنعا مع ضيفهما‪ ،‬كان يعلم هللا تبارك‬
‫وتعالى أنهما سيفعالن مع ضيفهما ما فعال‪ ،‬كان يعلم ذلك‪ ،‬لكن ل َّما كان ذلك في‬
‫العادة ال يحصل حصل التعجب‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ) :‬وقوله‪ :‬يضحك للا إلى رجلين قتل أحدهما اآلخر‬
‫ثم يدخالن الجنة( هذا حديث متفق عليه وتتمته‪ « :‬يقاتل هذا في سبيل هللا فيقتل‪ ،‬ث ُ َّم‬
‫يتوب هللا على القاتل فيستشهد» ‪ ،‬فيضحك هللا سبحانه وتعالى إلى رجلين قتل‬
‫أحدهما اآلخر ث ُ َّم يدخالن الجنَّة‪ ،‬يكون أحدهما كافرا‪ ،‬فيلتقيان في المعركة‪ ،‬فالكافر‬
‫يقتل المسلم‪ ،‬ث ُ َّم يتوب إلى هللا فيسلم‪ ،‬فيدخل هذا الجنَّة ويدخل اآلخر الجنَّة‪،‬‬
‫يضحك هللا سبحانه وتعالى من هذين‪ ،‬هذا فيه إثبات صفة الضحك هلل تبارك‬
‫وتعالى كما يليق بجالله وعظمته‪ ،‬كما ذكرنا وكما هو مقرر؛ من غير تكييف وال‬
‫تعطيل وال تمثيل وال تحريف‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫سروا هذه الصفة ‪ -‬صفة الضحك ‪ -‬بالثواب‪ ،‬قالوا‪ :‬يضحك هللا‬
‫أما أهل التعطيل فف َّ‬
‫إلى الرجلين أي يثيبهما هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬أي أنه سيدخلهما الجنَّة‪ ،‬وسيثيبهما‪،‬‬
‫ذاك على جهاده في سبيل هللا واستشهاده‪ ،‬واآلخر على إسالمه وتوبته إالهلل تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬ومن ث ُ َّم استشهاده‪ ،‬فف َّ‬
‫سروا الضحك باإلثابة‪ ،‬وهذا تفسير بالنَّتيجة‪،‬‬
‫فالضحك شيء واإلثابة شيء آخر‪ ،‬إذن هو ليس تفسيرا بالحقيقة‪ ،‬إنما هو تفسير‬
‫بالنَّتيجة‪ ،‬وهذا ال يصح‪ ،‬فهو تأويل وصرف للَّفظ عن ظاهره وعن حقيقته لغير‬
‫دليل صحيح‪ ،‬فهو مردود على أصحابه‪ ،‬والتالعب بهذه الطريقة في صفات هللا‬
‫تبارك وتعالى بدعة منكرة مردودة على صاحبها‪.‬‬

‫ثم قال رحمه للا تعالى‪ ( :‬فهذا وما أشبهه مما صح سنده)‪ ،‬فهذه األحاديث التي‬
‫ذكرها والصفات المذكورة فيها وكل حديث ص َّح سنده‪ ( ،‬وعدلت رواته؛ نؤمن به‬
‫وال نرده وال نجحده) ال نكذب به (وال نتأوله بتأويل يخالف ظاهره) كما تفعل‬
‫المعطلة (وال نشبهه بصفات المخلوقين) فنقول‪ :‬هللا سبحانه وتعالى يضحك ضحكا‬
‫ِ‬
‫يليق بجالله وعظمته‪ ،‬ال يشبه ضحك المخلوقين‪ ،‬يعجب عجبا يليق بجالله‬
‫وعظمته ال يشبه عجب المخلوقين‪ ،‬ينزل نزوال يليق بجالله وعظمته ال كنزول‬
‫المخلوقين‪ ...‬إلى آخره‪.‬‬

‫نشبهه‬
‫(وال بسمات المحدثين) السمة هي العالمة‪ ،‬والمحدث هو المخلوق‪ ،‬أي ال ِ‬
‫بصفات المخلوقين‪ ،‬بمعنى الجملة التي قبلها ( ونعلم أن للا سبحانه وتعالى ال‬
‫شبيه له وال نظير) أي وال مثيل ( لقول للا تبارك وتعالى }ليس كمثله شيء وهو‬
‫السميع البصير{)‪ ،‬هذه اآلية أصل في نفي التمثيل وإثبات األسماء والصفات هلل‬
‫تبارك وتعالى‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫والتمثيل أو على تسمية البعض التشبيه‪ :‬أن تقول‪ :‬له يد كيدي‪ ،‬ووجه كوجهي‪،‬‬
‫وعين كعين فالن من المخلوقين‪ ،‬هذا تشبيه وهو باطل ومحرم‪ ،‬وقد نهى هللا‬
‫سبحانه وتعالى عنه‪.‬‬

‫والتعطيل‪ :‬أن تنفي حقيقة الصفة التي أثبتها هللا لنفسه‪ ،‬فيقول النَّبي صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم‪ « :‬يضحك»‪ ،‬وأنت تقول‪ :‬ال يضحك بل يثيب‪ ،‬يقول‪ « :‬له يدان»‪ ،‬وأنت‬
‫تقول‪ :‬ال يدان له‪ ،‬وإنما معنى ذلك النِعمة أو القدرة‪ ،‬أو يقول هللا سبحانه وتعالى له‬
‫عينان‪ ،‬تقول‪ :‬ال عينان له‪ ،‬بل هو بالحفظ إلى آخره‪ ،‬فهذا كله باطل ال يجوز فعله‪،‬‬
‫والواجب الوقوف مع الصفة وإثباتها كما أثبتها هللا تبارك وتعالى لنفسه أو كما‬
‫أثبتها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم هلل تبارك تعالى‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن‬
‫للا تعالى بخالفه) كل ما تصوره الذهن أي العقل أو خطر على القلب َّ‬
‫بأن هللا‬
‫سبحانه وتعالى مثله‪ ،‬فهو باطل َّ‬
‫فإن هللا تبارك وتعالى بخالفه وليس مثله‪ ،‬وال‬
‫يجوز هذا التصور أو هذا التخيل؛ ألننا ال نعلم عن هللا تبارك وتعالى إال ما علَّمنا‬
‫هللا تبارك وتعالى عن نفسه‪ ،‬فالعلم باهلل سبحانه وتعالى أمر غيبي‪ ،‬ألننا لم نره‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فال يجوز إذن أن نتكلم في شيء ال نعلمه‪ ،‬وما أخبرنا عن نفسه‬
‫أثبتناه له‪ ،‬وما سكت عنه سكتناه عنه‪ ،‬وما نفاه عن نفسه نفيناه عنه سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬هذا هو الواجب‪.‬‬

‫المتن‬

‫{الر ْح َم ُن َعلَى ْالعَ ْر ِش ا ْست َ َوى}[طه‪]5 :‬‬


‫ومن ذلك قوله تعالى‪َّ :‬‬

‫‪57‬‬
‫اء}[الملك‪. ]16 :‬‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬أَأ َ ِم ْنت ُ ْم َم ْن فِي ال َّ‬
‫س َم ِ‬

‫وقول النبي صلى هللا عليه وسلم‪ « :‬ربنا هللا الذي في السماء تقدس اسمك»‪.‬‬

‫وقال للجارية‪« :‬أين هللا؟» قالت‪ :‬في السماء‪ .‬قال‪« :‬أعتقها فإنها مؤمنة» رواه‬
‫مالك بن أنس‪ ،‬ومسلم‪ ،‬وغيرهما من األئمة‪.‬‬

‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم لحصين‪« :‬كم إلها تعبد؟» قال سبعة‪ ،‬ستة في‬
‫األرض وواحدا في السماء‪ .‬قال‪« :‬من لرغبتك ورهبتك؟» قال‪ :‬الذي في السماء‪،‬‬
‫قال‪« :‬فاترك الستة واعبد الذي في السماء‪ ،‬وأنا أعلمك دعوتين»‪ ،‬فأسلم‪ ،‬وعلمه‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم أن يقول‪ « :‬اللهم ألهمني رشدي‪ ،‬وقني شر نفسي»‪.‬‬

‫وفيما نقل من عالمات النبي صلى هللا عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة‪:‬‬
‫أنهم يسجدون باألرض ويزعمون أن إلههم في السماء‪.‬‬

‫وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪« :‬إن ما بين سماء إلى‬
‫سماء مسيرة كذا وكذا‪ .». . .‬وذكر الخبر إلى قوله‪« :‬وفوق ذلك العرش‪ ،‬وهللا‬
‫سبحانه فوق ذلك»‪.‬‬

‫فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم هللا على نقله وقبوله‪ ،‬ولم يتعرضوا لرده‬
‫وال تأويله‪ ،‬وال تشبيهه‪ ،‬وال تمثيله‪.‬‬

‫{الر ْح َم ُن َعلَى ْالعَ ْر ِش‬


‫َّ‬ ‫سئل اإلمام مالك بن أنس رحمه هللا فقيل‪ :‬يا أبا عبد هللا‬
‫ا ْست َ َوى} [طه‪ ]5 :‬كيف استوى؟ فقال‪ :‬االستواء غير مجهول‪ ،‬والكيف غير‬

‫‪58‬‬
‫معقول‪ ،‬واإليمان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ .‬ثم أ َ َمر بالرج ِل فأ ُ ِ‬
‫خرج(‪.)1‬‬

‫الشرح‬

‫ث ُ َّم قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪( :‬ومن ذلك قوله تعالى}الرحمن على العرش‬
‫استوى{)‪ ،‬أي من الصفات أيضا التي يجب أن نثبتها هلل تبارك وتعالى صفة العلو‪،‬‬
‫هنا بدأ المؤلف رحمه هللا تعالى بذكرالصفات الثالثة التي اشتدَّ النِزاع فيها بين‬
‫أهل السنة وأهل البدعة‪ ،‬هذه الصفات الثالثة من أعظم الصفات الفارقة ما بين‬
‫أهل السنة وأهل البدع‪ ،‬وهي‪ :‬صفة العلو‪ ،‬وصفة الكالم‪ ،‬وصفة رؤية هللا تبارك‬
‫وتعالى يوم القيامة‪.‬‬

‫هذه الصفات الثالثة خالف فيها أهل البدع المعطلة من الجهمية والمعتزلة‬
‫واألشاعرة؛ أهل السنة والجماعة‪.‬‬

‫علوهللا تبارك وتعالى على خلقه علو ذات‪ ،‬وعلو مكانة‪ ،‬كله‬
‫الصفة األولى‪ :‬صفة ِ‬
‫نثبته هلل تبارك وتعالى‪ ،‬أهل البدع يثبتون علو المكانة وال يثبتون علو الذات‪،‬‬
‫والعلو ثابت بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة حتى قال بعض أهل العلم‪ « :‬عندي ألف‬
‫علو هللا على خلقه» ألف دليل‪ ،‬وألف في ذلك بعض أهل العلم مصنفات‬
‫دليل على ِ‬
‫منها كتاب « العلو» لإلمام الذهبي رحمه هللا تعالى‪ ،‬ومنها أيضا‪ « :‬صفة العلو»‬
‫البن قدامة مؤلف هذا الكتاب‪ ،‬وهما كتابان نفيسان‪ ،‬وكتاب العلو للذهبي اختصره‬
‫اإلمام األلباني رحمه هللا تعالى في مختصر نافع طيب حذف منه اآلثار واألحاديث‬
‫الضعيفة وأبقى ما صح من ذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬اخرجه الاللكائي في شرح اصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم (‪ ،)664‬والدارمي في ادلر على الجهمية برقم (‪ ،)104‬والبيهقي في األسماء والصفات برقم‬
‫(‪ ،)867‬واإلمام أبو اسماعيل الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص(‪ ،)38‬وانظر مختصر العلو لإلمام األلباني صفحة (‪.)141‬‬

‫‪59‬‬
‫فعلوهللا تبارك وتعالى بنصوص كثيرة‪.‬‬

‫منها ما ذكره المؤلف رحمه هللا تعالى‪( ،‬قال للا تبارك وتعالى‪}:‬الرحمن على‬
‫العرش استوى{([طه‪( ،]5 :‬الرحمن) هو رب العزة تبارك وتعالى‪ ( ،‬على‬
‫العرش) العرش في اللغة هو سرير الملك‪ ،‬وهو عرش عظيم هلل تبارك وتعالى له‬
‫قوائم‪ ،‬تحمله المالئكة‪ ،‬وهو أعلى المخلوقات وسقف الجنَّة‪ ،‬فوق الفردوس األعلى‬
‫الذي هو أوسط الجنَّة وأعالها‪ ،‬والرحمن تبارك وتعالى استوى عليه أي عال‬
‫وارتفع‪ ،‬عال وارتفع على عرشه كما جاء التفسير عن أبي العالية الرياحي وعن‬
‫مجاهد وغيرهم من السلف(‪ ،)1‬فالرحمن على العرش استوى بمعنى عال وارتفع‬
‫على عرشه‪.‬‬

‫نثبت هلل تبارك وتعالى هذه الصفة وهي صفة العلو‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعالى عال‬
‫على خلقه بنصوص كثيرة‪ ،‬منها هذه اآلية‪.‬‬

‫ومنها قول المصنف أيضا‪( :‬وقول للا تعالى‪} :‬ءأمنتم من في السماء{([الملك‪:‬‬


‫علو هللا على خلقه‪ ،‬ويؤيدها أيضا ما سيأتي من‬
‫‪ ،]16‬هذه اآلية أيضا تدل على ِ‬
‫أدلة‪ ،‬ومعنى قوله تبارك وتعالى ( في السماء) أي على السماء‪ ،‬فالسماء ال تكون‬
‫ظرفا هلل تبارك وتعالى‪ ،‬ال تحيط به‪ ،‬ولكنه على السماء‪ ،‬يؤيد ذلك قول هللا تبارك‬
‫وتعالى}الرحمن على العرش استوى{ أي أنه عال وارتفع على العرش‪ ،‬والعرش‬
‫أعلى المخلوقات‪ ،‬فـ (في السماء) هنا بمعنى على السماء‪ ،‬وهل يصح هذا في اللغة‬
‫أن يقال في السماء معناها‪ :‬على السماء؟‬

‫نعم يصح‪ ،‬من ذلك قول هللا تبارك وتعالى عن فرعون‪} :‬وألصلبنكم في جذوع‬
‫النخل{[طه‪ ]71 :‬التصليب يكون أين؟ على جذوع النَّخل‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر صحيح البخاري (‪ -124/9‬طبعة طوق النجاة)‬

‫‪60‬‬
‫وكذلك قول هللا تبارك وتعالى‪}:‬فسيحوا في األرض{[التوبة‪ ،]2 :‬أي فسيحوا على‬
‫األرض‪ ،‬إذن هذا أمر مقرر ومعروف في اللغة َّ‬
‫أن ( في ) تأتي بمعنى(على) فهو‬
‫من هذا الباب‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقول النبي صلى للا عليه وسلم‪ « :‬ربنا للا الذي‬
‫في السماء تقدس اسمك‪ )»...‬هذا حديث أخرجه أبوداود وغيره‪ ،‬ولفظه‪« :‬من‬
‫اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل‪ :‬ربنا هللا الذي في السماء تقدس اسمك‪،‬‬
‫أمرك في السماء واألرض‪ ،‬كما رحمتك في السماء‪ ،‬فاجعل رحمتك في األرض‪،‬‬
‫اغفر لنا ُحوبَنا وخطايانا أنت رب الطيبيين‪ ،‬أنزل رحمة من رحمتك شفاء من‬
‫شفائك على هذا الوجع‪ ،‬فيبرأ» كذا قال في الحديث‪ ،‬ولكنه حديث ضعيف جدا‪ ،‬في‬
‫إسناده زيادة بن محمد‪ :‬منكر الحديث كما قال البخاري وأبو حاتم والنَّسائي‬
‫وغيرهم من العلماء‪ ،‬فهذا الحديث ال يصح االستدالل به‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقال للجارية – أي النبي صلى للا عليه وسلم–‬
‫«أين للا؟» قالت‪ :‬في السماء‪ ،‬قال‪« :‬اعتقها فإنها مؤمنة»‪ ،‬فشهد لها النَّبي صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم باإليمان بقولها بأن هللا في السماء‪ ،‬أي على السماء‪ ،‬رواه مسلم في‬
‫صحيحه‪ ،‬ولم يقدح في هذا الحديث إال أهل البدع والضالل الذين لم يعجبهم ما فيه‬
‫من معنى‪ ،‬فأهل البدع مع حديث النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وضعوا لهم قواعد‬
‫تخدم مصالحهم فيها‪.‬‬

‫عندهم تقرير العقائد يكون بعقولهم ال بالكتاب والسنة‪ ،‬فإذا خالفت السنة عقولهم؛‬
‫إما ضعفوها أو حرفوها‪ ،‬هذه طريقتهم في التعامل معها‪ ،‬وأما اآليات فيحرفونها؛‬
‫ألن األصل عندهم في تقرير العقيدة العقل‪ ،‬وكل ما خالفه بعد ذلك يرد ال يُؤ َمن به‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫هذا أعظم فارق بيننا وبينهم‪ ،‬نحن نأخذ عقيدتنا من الكتاب والسنة الصحيحة وال‬
‫يمكن لهذه النصوص أن تخالف العقل الصريح إال في أوهام أصحاب األهواء فقط‪.‬‬

‫َّ‬
‫يقررون العقيدة بأدلة الكتاب والسنة‪ ،‬والعقالنيون من‬ ‫فأما أهل السنة والجماعة‬
‫الجهمية والمعتزلة واألشاعرة يقررون العقيدة بما ينسجم مع عقولهم‪ ،‬وما ال‬
‫ينسجم مع عقولهم ال يثبتونه‪ ،‬فإذا تعارضت األدلة من نصوص الكتاب والسنة مع‬
‫ما ظنوه بعقولهم أنها عقليات‪ ،‬وهي في الحقيقة جهليات وخياالت وشطحات من‬
‫عندهم‪ ،‬فإذا تعارض هذا مع نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬ردوا نصوص الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬فأما القرآن فيؤولونه كما تقدم معنا من تأويالتهم في الصفات‪ ،‬أما السنة‬
‫فيقسمونها إلى قسمين‪ :‬يقولون‪ :‬منها ما هو متواتر‪ ،‬ومنها ما هو آحاد‪ ،‬أما المتواتر‬
‫ِ‬
‫يؤخذ به في العقائد‪ ،‬وإذا خالف العقل يحرف‪ ،‬وأما اآلحاد فال يؤخذ به في العقائد‬
‫عندهم‪ ،‬هذا الذي يقررونه من اعتقاد‪ ،‬وبذلك يتخلَّصوا من أكثر سنة النَّبي صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم‪ ،‬يقررون ما شاءوا بعقولهم‪ ،‬إذا عارضتهم سنة قالوا‪ :‬هذا خبرآحاد‬
‫ضعه على جنب‪ ،‬أحسنهم حاال يقول‪ :‬طيب فلنؤوله كما أولنا بقية األدلة من الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬هكذا يتعاملون مع نصوص الشرع‪ ،‬نسأل هللا السالمة والعافية‪ ،‬وقد أمرنا‬
‫هللا تبارك وتعالى باألخذ بالشرع وباتباع منهج السلف الصالح‪ ،‬وحثنا على ذلك في‬
‫كل شيء‪ ،‬في آيات كثيرة‪ ،‬وأن نتحاكم إليه عند الخالف ال إلى العقل‪ ،‬ولكن هذه‬
‫نتيجة االعتماد على العقل والهوى‪ ،‬وترك االتباع الذي أمر به هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقال النبي صلى للا عليه وسلم لحصين‪ « :‬كم‬
‫إلها ً تعبد؟» قال‪ :‬سبعة‪ ،‬ستة في األرض وواحد في السماء‪ ،‬قال‪« :‬من لرغبتك‬
‫ورهبتك؟» قال‪ :‬الذي في السماء‪ ،‬قال‪ « :‬فاترك الستة‪ ،‬واعبد الذي في السماء‪،‬‬
‫وأنا أعلمك دعوتين»‪ ،‬فأسلم‪ ،‬وعلمه النبي صلى للا عليه وسلم أن يقول‪« :‬اللهم‬
‫ألهمني رشدي وقني شر نفسي» هذا أخرجه الترمذي وغيره وهو ضعيف أيضا‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وفيما نقل من عالمات النبي صلى للا عليه وسلم‬
‫وأصحابه في الكتب المتقدمة؛ أنهم يسجدون باألرض‪ ،‬ويزعمون أن إلههم في‬
‫السماء)‪ ،‬ذكره المؤلف بصيغة التمريض‪ ،‬وهو ضعيف‪ ،‬أخرجه األموي في‬
‫«المغازي»‪ ،‬ومن طريقه أخرجه ابن قدامة في «العلو»‪ ،‬وأخرجه الذهبي في‬
‫العلو» من طريق ابن قدامة‪ ،‬وذكر إسناده عن عدي بن عميرة من قوله عنهم‬
‫« ِ‬
‫وليس من قول اليهودي‪ ،‬قال‪« :‬عن عدي بن عميرة بن وفرة العبدي‪ ،‬قال‪ :‬كان‬
‫بأرضنا حبر من اليهود يقال له ابن شهالن‪ ...‬فذكر الحديث نحوا مما تقدم‪ ،‬وآخره‪:‬‬
‫فخرجت مهاجرا إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فإذا هو ومن معه يسجدون على‬
‫وجوههم ويزعمون أن إلههم في السماء فأسلمت وتبعته»‪.‬انتهى قال الذهبي‪:‬‬
‫غريب‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وروى أبوداود في سننه أن النبي صلى للا عليه‬
‫وسلم قال‪ « :‬إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا ‪ -‬وذكر الخبر إلى قوله‬
‫‪ :-‬وفوق ذلك العرش‪ ،‬وللا سبحانه فوق ذلك)‪ ،‬هذا حديث العباس بن عبد المطلب‬
‫الذي فيه ذكر األوعال‪ ،‬وهو حديث أخرجه أبوداود والترمذي وغيرهما وهو‬
‫ضعيف أيضا‪ ،‬ولكن األدلة التي تدل على الع َّلو كثيرة‪ ،‬وليت المؤلف أتى بما هو‬
‫أصح من هذه‪ ،‬فيوجد في الصحيحين أحاديث أقوى وأجود من هذه األحاديث التي‬
‫ذكرها المؤلف رحمه هللا تعالى‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم للا‬
‫على نقله وقبوله ولم يتعرضوا لرده وال تأويله وال تشبيهه وال تمثيله)‬

‫نقل إجماع السلف على إثبات الصفات غير واحد من العلماء‪ ،‬منهم ابن عبد البر‬
‫وغيره من علماء اإلسالم‪ ،‬فالسلف مجمعون جميعا على إثبات مثل هذه الصفات‪،‬‬

‫‪63‬‬
‫ومنها‪ :‬ثبوت علو الذات هلل‪ ،‬وكونه في السماء‪ ،‬أي أنه عال على خلقه بذاته تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬فوق جميع خلقه بذاته تبارك وتعالى ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬سئل اإلمام مالك بن أنس رحمه للا تعالى فقيل‪ :‬يا‬
‫أبا عبد للا‪ :‬الرحمن على العرش استوى‪ ،‬كيف استوى؟ فقال‪« :‬االستواء غير‬
‫مجهول‪ ،‬والكيف غير معقول‪ ،‬واإليمان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة»‪ ،‬ثم أمر‬
‫بالرجل فأخرج)‪.‬‬

‫وفي رواية‪« :‬االستواء معلوم‪ ،‬والكيف مجهول»‬

‫أي طرد من المجلس الذي فيه اإلمام مالك رحمه هللا تعالى‪ ،‬اإلمام مالك معروف‪،‬‬
‫وشهرته أكثر من أن تذكر‪ ،‬فهو إمام عظيم من أئمة أهل السنة والجماعة‪ ،‬إمام أهل‬
‫المدينة في زمنه رحمه هللا تعالى‪.‬‬

‫وهذه القاعدة التي قعدها رحمه هللا هي أصل وقاعدة عظيمة مشى عليها السلف‬
‫جميعا‪ ،‬جميع السلف كانوا عليها‪ ،‬وهي قاعدة ينبغي للخلف أن يتقيدوا بها‪:‬‬
‫االستواء معلوم‪ ،‬والكيف مجهول‪ ،‬والسؤال عن الكيف بدعة‪ ،‬ضع مكان االستواء‬
‫وامض‬
‫ِ‬ ‫كل صفة تثبت في كتاب هللا أو في سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‬
‫على هذا‪.‬‬

‫( االستواء معلوم) أي معلوم في اللغة العربية‪ ،‬بمعنى العلو واالرتفاع‪.‬‬

‫(والكيف مجهول) كيفية االستواء‪ ،‬أي كيف استوى هللا سبحانه وتعالى على‬
‫عرشه‪ ،‬هذه مجهولة بالنسبة لنا‪ ،‬فال نتكلم فيها وال نخوض فيها وال نسأل عنها‪،‬‬
‫الن هللا تبارك وتعالى لم يبينها لنا‪ ،‬فال يوجد شيء في األدلة الشرعية يبينها لنا‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫(والسؤال عنها بدعة) إذ لم يكن في عهد النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وال كان في‬
‫عهد الصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬بهذه القاعدة نمشي على منهج السلف رضي هللا‬
‫تبارك وتعالى عنهم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫المتن‬

‫فصل كالم للا‬

‫ومن صفات هللا تعالى أنه متكلم بكالم قديم يسمعه منه من شاء من خلقه‪ ،‬سمعه‬
‫موسى عليه السالم منه من غير واسطة‪ ،‬وسمعه جبريل عليه السالم‪ ،‬ومن أذن له‬
‫من مالئكته ورسله‪ ،‬وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في اآلخرة ويكلمونه‪ ،‬ويأذن لهم‬
‫فيزورونه‪.‬‬
‫سى‬ ‫سى ت َ ْك ِليما} [النساء‪ ]164 :‬وقال سبحانه‪{ :‬يَا ُمو َ‬ ‫{و َكلَّ َم هللا ُمو َ‬
‫قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫س َاالتِي َو ِب َك َال ِمي} [األعراف‪ ]144 :‬وقال سبحانه‪:‬‬ ‫اس ِب ِر َ‬‫طفَ ْيت ُ َك َعلَى النَّ ِ‬‫ص َ‬
‫ِإنِي ا ْ‬
‫{م ْن ُه ْم َم ْن َكلَّ َم هللا} [البقرة‪ ]253 :‬وقال سبحانه‪َ :‬‬
‫{و َما َكانَ ِل َبشَر أ َ ْن يُ َك ِل َمهُ هللا ِإ َّال‬ ‫ِ‬
‫ِي َيا‬ ‫اء ِح َجاب} [الشورى‪ ]51 :‬وقال سبحانه‪{ :‬فَلَ َّما أَتَاهَا نُود َ‬ ‫َو ْحيا أ َ ْو ِم ْن َو َر ِ‬
‫طوى} [طه‪]12 - 11 :‬‬ ‫اخلَ ْع نَ ْعلَي َْك إِنَّ َك بِ ْال َوا ِد ْال ُمقَد َِّس ُ‬
‫سى * إِنِي أَنَا َرب َك فَ ْ‬ ‫ُمو َ‬
‫وقال سبحانه‪ِ { :‬إنَّنِي أَنَا هللا َال ِإلَهَ ِإ َّال أَنَا فَا ْعبُ ْدنِي} [طه‪ ]14 :‬وغير جائز أن يقول‬
‫هذا أحد غير هللا‪.‬‬
‫وقال عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‪ « :‬إذا تكلم هللا بالوحي سمع صوته‬
‫أهل السماء »‪ ،‬وروي ذلك عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫حشر هللا‬ ‫وروى عبد هللا بن أ ُنيس عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪َ « :‬ي ُ‬
‫عراة حفاة غرال بهما‪ ،‬فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما‬ ‫الخالئق يوم القيامة ُ‬
‫الملك أنا الدَّيان» ‪ ،‬رواه األئمة‪ ،‬واستشهد به البخاري‪.‬‬ ‫ب‪ :‬أنا ِ‬ ‫يسمعه من قَ ُر َ‬
‫وفي بعض اآلثار أن موسى عليه السالم ليلة رأى النار فهالته ففزع منها‪ ،‬فناداه‬
‫ربه‪ :‬يا موسى‪ ،‬فأجاب سريعا استئناسا بالصوت‪ ،‬فقال‪ :‬لبيك لبيك‪ ،‬أسمع صوتك‬
‫وال أرى مكانك‪ ،‬فأين أنت؟ فقال‪ :‬أنا فوقك وأمامك وعن يمينك وعن شمالك ‪ ،‬فعلم‬
‫أن هذه الصفة ال تنبغي إال هلل تعالى‪ ،‬قال‪ :‬كذلك أنت يا إلهي‪ ،‬أفكالمك أسمع‪ ،‬أم‬
‫كالم رسولك؟ قال‪ :‬بل كالمي يا موسى» ‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫هذه الصفة هلل تبارك وتعالى من أعظم الصفات التي نازع فيها أهل البدع‬
‫والضالل أهل السنة والجماعة‪ ،‬بل قيل‪َّ :‬‬
‫إن المتكلمين لم يس َّموا بهذا اإلسم‬
‫(المتكلمون) إال نسبة لهذه الصفة ( صفة الكالم)‪ ،‬فأهل السنة والجماعة‪ ،‬يثبتون هلل‬
‫تبارك وتعالى كالما حقيقيا يليق بجالله وعظمته‪ ،‬يتكلم سبحانه بحرف وصوت‪،‬‬
‫كالما حقيقيا بحرف وصوت على مقتضى األدلة التي جاءت في كتاب هللا‪ ،‬وفي‬
‫سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وهي كثيرة واضحة صريحة محكمة‪ ،‬فال‬
‫يجوز الخروج عنها‪ ،‬وال القول بقول يخالف ما دلت عليه‪.‬‬

‫خالف في ذلك الجهمية واألشاعرة؛ فالجهمية أتباع الجهم بن صفوان ينفون عن‬
‫هللا تبارك وتعالى صفة الكالم وال يثبتونها له‪ ،‬يقولون‪ :‬يخلق كالما ث ُ َّم يسمعه من‬
‫شاء من عباده‪.‬‬

‫أ َّما األشاعرة فإنهم يثبتون كالما ليس كالما َ حقيقيا‪ ،‬بل يثبتون كالما نفسيا! وليس‬
‫كالما بحرف وصوت‪ ،‬أي ليس الكالم الحقيقي الذي أراده هللا سبحانه وتعالى في‬
‫كتابه‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬ومن صفات للا تعالى) أي‪ :‬مما يتصف به هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬ومن الصفات التي نثبتها هلل تبارك وتعالى؛ لثبوتها في الكتاب‬
‫والسنة؛ صفة الكالم‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬ومن صفات للا تعالى أنه متكلم بكالم قديم) كالم هللا كما ذكرنا كالم حقيقي‬
‫بحرف وصوت‪ ،‬وسيأتي دليل الحرف والصوت‪ ،‬وهو قديم النوع حادث اآلحاد‪،‬‬
‫ونعني بهذه الجملة‪ :‬قديم النَّوع‪ :‬أي أصل صفة الكالم أزلية قديمة‪ ،‬لم يأ ِ‬
‫ت وقت‬
‫من األوقات لم تكن موجودة ث ُ َّم وجدت‪ ،‬بل هي موجودة من األزل أي القدم‪،‬‬
‫وتبقى موجودة ال يأتي وقت تزول فيه‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫وهي صفة ذاتية فعلية أيضا‪ ،‬فهي من حيث أصل الصفة أزلية قديمة‪ ،‬أ َّما‬
‫بالنَّظرإلى آحاد هذه الصفة‪ ،‬فهنا تكون حادثة‪ ،‬أي‪َّ :‬‬
‫أن الكالم الذي يتكلم هللا تبارك‬
‫وتعالى به في وقت دون وقت‪ ،‬أي آحاد كالمه؛ حادث‪ ،‬ككالمه موسى عليه السالم‬
‫يوم أن كلمه هللا تبارك وتعالى ما كان موجودا قبل أن يكلم هللا موسى إنما حدث‬
‫بعد أن كلمه هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فهذا الكالم يسمى آحادا لصفة الكالم‪.‬‬

‫هذا معنى قولنا‪ :‬قديم النوع حادث اآلحاد‪ .‬فمعنى ذلك أ َّن هللا سبحانه وتعالى‬
‫متصف بصفة الكالم‪ ،‬دائما هو موصوف بهذه الصفة‪ ،‬لكنه يفعلها متى شاء‪ ،‬فيتكلم‬
‫بكالم حقيقي‪ ،‬يتكلم به متى شاء وكيفما شاء سبحانه‪ ،‬فهو راجع إلى مشيئته متى‬
‫شاء تكلم‪ ،‬ومتى شاء لم يتكلم‪ ،‬ولكن دائما نصفه بصفة الكالم ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬يسمعه منه من شاء من خلقه‪ ،‬سمعه موسى‬
‫عليه السالم منه من غير واسطة‪ ،‬وسمعه جبريل عليه السالم‪ ،‬ومن أذن له من‬
‫مالئكته و رسله)‬

‫يسمعه من هللا تبارك وتعالى من شاء هللا من خلقه‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعالى يُسمعه لمن‬
‫يشاء‪ ،‬كما أسمعه لموسى عليه السالم‪ ،‬فسمع موسى كالم هللا مباشرة من غير‬
‫ستم ْع لما‬ ‫واسطة‪ ،‬قال الشيخ ابن عثيمين رحمه هللا‪ :‬لقوله تعالى‪{ :‬وأنا ْ‬
‫اخت ْرتك فا ْ‬
‫يوحى} وأسمعه لمحمد صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬ولجبريل ومن شاء من مالئكته‬
‫ورسله‪ ،‬فهو كالم حقيقي بحرف وصوت يسمعه من شاء من خلقه تبارك وتعالى‪.‬‬

‫بخالف من يقول بأنه كالم نفسي‪ ،‬يعني هو معنى موجود في النفس ال يُسمع‪ ،‬فال‬
‫يكون بحرف وصوت‪ ،‬وال يتعلق بمشيئته‪ ،‬هذا قول األشاعرة من المتكلمين‪ ،‬هذا‬
‫خالف األدلة التي سيذكرها المؤلف التي تدل على أنه كالم حقيقي بحرف وصوت‬
‫يُسمع‪ ،‬وخالف إجماع السلف ‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫قال‪( :‬وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في اآلخرة و يكلمونه) كما جاءت بذلك‬
‫صلَّى هللاُ‬ ‫سو ُل َّ‬
‫َّللاِ َ‬ ‫س ِعيد ال ُخ ْد ِريِ‪ ،‬قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُ‬ ‫األحاديث الصحيحة‪ ،‬كحديث أَبِي َ‬
‫ار َك َوت َ َعالَى َيقُو ُل ِأل َ ْه ِل ال َجنَّ ِة‪َ :‬يا أ َ ْه َل ال َجنَّ ِة؟ فَ َيقُولُونَ ‪ :‬لَبَّي َْك‬ ‫سلَّ َم‪ِ « :‬إ َّن َّ‬
‫َّللاَ ت َ َب َ‬ ‫َعلَ ْي ِه َو َ‬
‫ضى َوقَ ْد أ َ ْع َ‬
‫ط ْيتَنَا َما لَ ْم‬ ‫ضيت ُ ْم؟ فَيَقُولُونَ ‪َ :‬و َما لَنَا الَ ن َْر َ‬ ‫س ْعدَي َْك‪ ،‬فَيَقُولُ‪ :‬ه َْل َر ِ‬‫َربَّنَا َو َ‬
‫ش ْيء‬ ‫ب‪َ ،‬وأَي َ‬ ‫ض َل ِم ْن ذَ ِل َك‪ ،‬قَالُوا‪ :‬يَا َر ِ‬ ‫ت ُ ْع ِط أ َ َحدا ِم ْن خ َْل ِق َك‪ ،‬فَيَقُولُ‪ :‬أَنَا أُع ِ‬
‫ْطي ُك ْم أ َ ْف َ‬
‫ط َعلَ ْي ُك ْم بَ ْعدَهُ أَبَدا»(‪ )1‬متفق‬ ‫ض ُل ِم ْن ذَ ِل َك؟ فَيَقُولُ‪ :‬أ ُ ِحل َعلَ ْي ُك ْم ِرض َْوانِي‪ ،‬فَالَ أ َ ْس َخ ُ‬ ‫أ َ ْف َ‬
‫عليه‪.‬‬

‫قال المؤلف‪ ( :‬ويأذن لهم فيزورونه) ورد في ذلك حديث ضعيف(‪.)2‬‬

‫(قال للا تعالى‪} :‬وكلم للا موسى تكليما ً{) [النِساء‪ ( ،]162 :‬وكلم هللا موسى) هللا‬
‫هو المتكلم‪ ( ،‬وكلم) فعل‪ ،‬و( هللا) هو الفاعل أي هو المتكلم‪ ،‬و(موسى) هو‬
‫السامع‪ ،‬و(تكليما) مصدر مؤكد يؤكد الحقيقة وينفي المجاز كما قال أهل العلم‪،‬‬
‫فالتأكيد ينفي المجاز‪ ،‬فبالتالي لم يعد عندنا مجال للشك أنه كالم حقيقي وليس‬
‫مجازا؛إذ أ َ َّكدَهُ بقوله‪ :‬تكليما‪ ،‬فجاء بكلمة (تكليما) لتأكيد كالمه لموسى‪.‬‬

‫وقد أشكلت هذه اآلية على بعض المحرفين من أهل التعطيل؛ فما وجد فيها حيلة‬
‫مع نفيه لصفة الكالم‪ ،‬وكما قلنا‪ :‬هم ال يعظمون كتاب هللا‪ ،‬وال سنة رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬إذ إنهم ال يأخذون عقائدهم من منها‪ ،‬بل عقائدهم يقررونها‬
‫بعقولهم‪ ،‬فلما أشكلت عليه هذه اآلية ماذا فعل؟ حرفها وأراد أن يقرأها‪ ،‬فقال‪ :‬وكلم‬
‫هللا‪ -‬بفتح الهاء‪ -‬موسى‪ ،‬ماذا تصبح هكذا؟ جعل هللا هو السامع و موسى هو‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ ، )7518‬ومسلم (‪)2829‬‬

‫(‪ )2‬فقد روى الترمذي(‪ )2569‬وابن ماجه(‪ )4336‬وغيرهما عن أبي هريرة _ رضي هللا عنه _ ‪ :‬إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم‪ ،‬ث ُ َّم يؤذن لهم في‬

‫ابن أبي العشرين (السلسة الضعيفة ‪.)1722 :‬‬ ‫مقدار يوم في يوم الجمعة من أيام الدنيا‪ ،‬فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه ‪ . . .‬الحديث‪ .‬ضعيف فيه عبد الحميد بن حبيب‬

‫‪69‬‬
‫(‪)1‬‬
‫المتكلم! هذه البدع وما تجر إليه‪ ،‬و كما قال بعض السلف‪« :‬البدعة بريد الكفر»‬
‫توصلك إلى الكفر‪ ،‬فهي طريق إليه‪.‬‬

‫برساالتي‬ ‫الناس‬ ‫على‬ ‫اصطفيتك‬ ‫إني‬ ‫موسى‬ ‫يا‬ ‫سبحانه‪:‬‬ ‫(وقال‬


‫وبكالمي{)[األعراف‪.]144 :‬‬

‫(يا موسى إني اصطفيتك على النَّاس) أي اخترتك من بينهم‪( ،‬برساالتي) فأرسلتك‬
‫إلى خلقي الذين أرسلتك إليهم‪( ،‬وبكالمي ) لك من غير واسطة‪ ،‬فاصطفيتك على‬
‫النَّاس في ذلك‪ ،‬فيه إثبات كالم هللا تبارك وتعالى لموسى‪ ،‬وأن هللا اصطفاه بذلك‪.‬‬

‫(وقال سبحانه‪} :‬منهم من كلم للا{) (البقرة ‪ )253‬أي‪ :‬من الرسل من كلمه هللا‬
‫وهو موسى و محمد صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫(وقال سبحانه‪ :‬وما كان لبشر أن يكلمه للا إال وحيا ً أو من وراء حجاب {)‬
‫(الشورى ‪ )51‬أي‪ :‬إما أن يكلمه هللا سبحانه وتعالى من غير واسطة‪ ،‬و لكن من‬
‫وراء حجاب‪ ،‬أو يعلمه إعالما خفيا سريعا‪.‬‬

‫الشاهد هنا أن من البشر من يكلمه هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫(وقال سبحانه‪ } :‬فلما أتاه نودي يا موسى* إني أنا ربك{( [طه ‪]12 ،11‬‬

‫فلما أتى موسى النار نودي يا موسى‪ ،‬أي‪ :‬ناداه رب العزة تبارك وتعالى‪ ،‬وإال‬
‫فمن ذا الذي سيقول‪ { :‬إني أنا ربك} ؟!‬

‫ال شك َّ‬
‫أن المتكلم بهذا هو هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫والنِداء ال يكون إال بصوت‪ ،‬هذا دليل على أن كالم هللا بصوت‪.‬‬

‫ولهذا قال من قال من السلف‪ :‬البدع بريد الكفر والمعاصي بريد النفاق‪.‬‬ ‫(‪ )2‬مجموع الفتاوي‪ ، 2/552 :‬قال ابن تيمية‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫قال المؤلف‪( :‬وقال سبحانه‪} :‬إنني أنا للا ال إله إال أنا فاعبدوني})[طه‪،]14 :‬‬

‫ثم قال المؤلف‪ « :‬وغير جائز أن يقول هذا أحد غير للا»‪.‬‬

‫من ذا الذي سيقول مثل هذا‪{ :‬إنني أنا للا ال إله إال أنا فاعبدون} ؟!‬

‫هذا رد قاطع على الذين يقولون بأن هللا ال يتكلم حقيقة‪ ،‬أي مخلوق يقول هذا‬
‫الكالم‪( :‬إنني أنا هللا ال إله إال أنا)؟! تعالى هللا عما يقول الظالمون علوا كبيرا‪.‬هذا‬
‫الكالم ال يقوله إال هللا ‪ ،‬فاهلل يتكلم حقيقة بصوت سمعه موسى‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ) :‬وقال عبد للا بن مسعود رضي للا عنه ( وهو‬
‫الصحابي المعروف‪ ) :‬إذا تكلم للا بالوحي‪ ،‬سمع صوته أهل السماء‪ .‬روي ذلك‬
‫عن النبي صلى للا عليه وسلم(‪ ،))1‬الشاهد فيه قوله‪( :‬سمع صوته) إثبات الكالم‬
‫والصوت هلل تبارك وتعالى‪ ،‬فاهلل يتكلم بصوت‪ ،‬هذا الحديث أخرجه أبوداود وابن‬
‫سماء‬ ‫حبان وغيرهما بلفظ‪َّ « :‬‬
‫إن هللا إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات لل َّ‬
‫صلصلة ك َج َّرالسلسلة على الصفا – أي على الصخر – فيصعقون فال يزالون كذلك‬
‫فزع عن قلوبهم ‪ ،‬فيقولون‪ :‬يا جبريل ماذا قال‬
‫حتي يأتيهم جبريل‪ ،‬فإذا جاءهم ِ‬
‫ربك؟ يقول‪ :‬الحق‪ ،‬فينادون‪ :‬الحق الحق» وهو صحيح‪ ،‬وأخرجه البخاري موقوفا‬
‫بلفظ‪ « :‬سمع أهل السماوات شيئا»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ذكره البخاري رحمه هللا تعالى معلقا في صحيحه‪ ،‬موقوفا على ابن مسعود رضي هللا عنه‪ :‬كتاب التوحيد‪،‬‬
‫قوله تعالى‪ :‬وال تنفع الشفاعة عنده إال عن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قالوا ربكم قال الحق وهو‬
‫العلي الكبير‪ .‬وروه أبو داوود في سننه مرفوعا عن ابن مسعود(‪ .)7438‬وقد تفرد به أبو معاوية الضرير عن‬
‫األعمش؛ فالصحيح الموقوف ولكن هذا له حكم الرع؛ إذ ال مجال للرأي فيه‪ .‬راجع السلسلة الصحيحة(‪.)1293‬‬
‫‪71‬‬
‫وأ َّما كلمة « سمع صوته أهل السماء» ففي نفس الحديث لكن بلفظ آخر‪ ،‬احتج‬
‫به اإلمام أحمد على إثبات الصوت‪ ،‬أخرجه عبد هللا بن اإلمام أحمد في السنة‬
‫بإسناده‪ 1‬وأخرجه ابن بطة في اإلبانة الكبرى ‪2‬وغيرهما‪.‬‬

‫وكما ذكرنا احتج به اإلمام أحمد رحمه هللا تعالى‪ ،‬وقال السجزي‪ :‬وما في رواة هذا‬
‫الخبر إال إمام مقبول‪.3‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وروى عبد للا بن أنيس عن النبي صلى للا عليه‬
‫وسلم أنه قال‪ « :‬يحشر الخالئق يوم القيامة عراةً حفاةً غرالً بهما ً‪ ،‬فيناديهم‬
‫بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب‪ ،‬أنا الملك‪ ،‬أنا الملك‪ ،‬أنا الديان)‬

‫رواه أئمة ‪ ،‬واستشهد به البخاري‪. 4‬‬

‫الشاهد في هذا الحديث قوله‪ ( :‬فيناديهم بصوت)‪ ،‬للتأكيد‪ ،‬فالنِداء أصال يكون‬
‫النداء يكون بصوت‪ ،‬لكن أراد أن يقول َّ‬
‫بأن الصوت‬ ‫بصوت‪ ،‬فهنا تأكيد على أن ِ‬
‫هذا يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب‪ ،‬ال فرق بين البعيد والقريب في سماع هذا‬
‫الصوت‪.‬‬

‫هذا الحديث‪ :‬حديث عبدهللا بن أنيس؛ حديث حسن‪ ،‬علقه اإلمام البخاري رحمه هللا‬
‫تعالى في صحيحه‪ ،‬ووصله اإلمام أحمد وغيره‪ ،‬وهو حسن‪ ،‬وفيه إثبات صفة‬
‫الصوت هلل تبارك وتعالى‪ ،‬وإثبات صفة الكالم بصوت وحرف هلل تبارك وتعالى‪.‬‬

‫(‪ )2‬السنة له (ص‪. )356‬‬


‫(‪ )3‬اإلبالة الكبرى (ص‪. )16‬‬
‫(‪ )4‬رسالة السجري إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت(ص‪. )254‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري تعليقا (التوحيد‪،‬باب قول هللا تعالى‪:‬وال تنفع الشفاعة إال بإذنه…)‪،‬وفي األدب المفرد(‪ )970‬وفي مسند اإلمام أحمد (‪،)16042‬وفيالمعجم األوسط‬
‫للطبراني(‪،)8593‬وفي الكبير له(‪ )331‬وآخرون عن عبد هللا بن أنيس رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫ثم قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وفي بعض اآلثار أن موسى عليه السالم ليلة‬
‫رأى هذه الصفة ال تنبغي إال هلل تعالى‪ ،‬قال‪ :‬كذلك أنت يا إلهي أفكالمك أسمع أم‬
‫كالم رسولك؟ قال‪ :‬بل كالمي يا موسى(‪))1‬‬

‫كله فيه الكالم والتنصيص على الصوت أيضا‪ ،‬لكن هذا األثر يرويه وهب بن‬
‫منبه وهو معروف برواية اإلسرائيليات‪ ،‬فهذا األثر من اإلسرائيليات‪،‬‬
‫واإلسرائيليات كما قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ِ « :‬‬
‫حدثوا عن بني إسرائيل وال‬
‫تكذبوهم »(‪.)3‬‬
‫تصدقوهم وال ِ‬
‫ِ‬ ‫حرج »(‪ ،)2‬وقال‪ « :‬ال‬

‫فهذا األثر ال ندري عن ثبوته بإسناد صحيح‪ ،‬فلذلك هو خبر كما ذكرنا من أخبار‬
‫نكذبها‪ ،‬لكن ما ورد فيه من إثبات صفة الكالم‬
‫بني إسرائيل فال نصدقها وال ِ‬
‫وبالصوت أغنت عنه األدلة التي تقدمت‪ ،‬واألثر أخرجه اإلمام أحمد في كتاب‬
‫الزهد عن وهب بن منبه فهو ضعيف‪ ،‬لكن الظاهر َّ‬
‫أن المؤلف رحمه هللا تعالى‬
‫ذكره استئناسا من باب تكثير األدلة‪ ،‬وإال ما ذكر من أدلة كاف في إثبات هذه‬
‫الصفة‪.‬‬
‫وعندما نثبت الصوت نرد على الذين يقولون بأن كالم هللا غير حقيقي‪ ،‬بل هو كالم‬
‫نفسي‪ ،‬وهم األشاعرة‪.‬‬

‫والمخالفون ألهل السنة في صفة الكالم كما قدمنا منهم الجهمية‪ ،‬قالوا‪ :‬ليس‬
‫الكالم من صفات هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وإنما هو خلق من مخلوقات هللا‪ ،‬يخلقه في‬
‫الهواء أو في المحل الذي يسمع منه‪ ،‬ويضاف إلى هللا سبحانه وتعالى إضافة‬
‫تشريف‪ ،‬كما تقول في البيت‪ :‬بيت هللا‪ ،‬أو في النَّاقة‪ :‬ناقة هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬هذا‬
‫قولهم وهو قول باطل‪.‬‬
‫(‪ )2‬الزهد لإلمام أحمد( ‪ ،)342‬والشريعة لآلجري(‪. )692‬‬
‫(‪ )3‬البخاري(‪ )3461‬من حديث عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫(‪ )4‬أحمد (‪ ،)17225‬أبو داوود(‪ )3644‬عن أبي نملة األنصاري رضي هللا عنه ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫إضافة التشريف هذه ال تحمل إال على شيء يقوم بذاته كالكعبة‪ ،‬والنَّاقة‪ ،‬أ َّما إذا‬
‫كان الشيء وصفا ال يقوم بذاته‪ ،‬وأضافه هللا سبحانه وتعالى لنفسه‪ ،‬فيكون صفة‬
‫من صفاته‪.‬‬

‫وهم نفوا هذه الصفة فقالوا‪ :‬ألن الكالم ال يكون إال لألجسام‪ ،‬وإذا أثبتنا الكالم هلل‬
‫سبحانه وتعالى نكون قد شبهناه بالمخلوقات‪ ،‬وهو كالم باطل‪ ،‬هذا ما استدلوا به‪،‬‬
‫وسيأتي كالم األشاعرة‪.‬‬

‫فهذا الكالم باطل‪ ،‬ألننا قلنا َّ‬


‫بأن كالم هللا سبحانه وتعالى كالم يليق بجالله‪،‬‬
‫وعظمته‪ ،‬ال يشبه كالم المخلوقين‪ ،‬كما قلنا في الذات‪ ،‬وكما قلنا في الوجود‪ ،‬وكما‬
‫قلنا في بقية الصفات‪.‬‬

‫وأ َّما الفرقة الثانية التي خالفت أهل السنة والجماعة في مسألة الكالم األشاعرة‪.‬‬

‫األشاعرة أثبتوا كالما هلل تبارك وتعالى ولكنه ليس كالما حقيقيا بحرف وصوت‪،‬‬
‫ويعبر عن كالمه الذي في‬
‫بل هو كالم نفسي‪ ،‬يخلق هللا سبحانه وتعالى األشياء‪ِ ،‬‬
‫نفسه بخلقه الذي خلقه‪ ،‬هكذا يقررون‪ ،‬وهذا كالم باطل‪ ،‬بل هللا سبحانه وتعالى‬
‫يتكلم كالما حقيقيا بحرف وصوت‪ ،‬ويسمعه من شاء من خلقه‪ ،‬كما قدمنا األدلة‬
‫على ذلك من كالم المصنف رحمه هللا تعالى‪ ،‬والذي حملهم على هذا أنهم قالوا‪:‬‬
‫بأن الكالم إذا أثبتناه يلزم أن نثبت اآلالت التي يحصل بها الكالم كاللسان والشفتين‬
‫والحلق‪ ..‬إلى آخره‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬هذا الالزم ليس بالزم‪ ،‬هذه إلزامات ناتجة أصال عن التشبيه عندكم‪ ،‬شبهتم‬
‫كالم هللا سبحانه وتعالى بكالم المخلوق‪ ،‬ث ُ َّم أردتم أن تفروا من التشبيه فوقعتم في‬
‫التعطيل‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫فنقول لهم‪ :‬أثبتوا هلل كالما يليق بجالله وعظمته وينتهي األمر‪.‬‬

‫ث ُ َّم نقول لهم‪ :‬ليس كل من يتكلم يتكلم بآالت ‪ ،‬ليس كل من يتكلم يحتاج إلى آالت‬
‫الكالم التي عند البشر‪ ،‬ثبت في الكتاب والسنة أن الجنَّة والنَّار تتكلمان أم ال(‪)1‬؟‬
‫ثبت‪ ،‬وثبت أيضا في الكتاب والسنة أن الحجر يتكلم (‪ )2‬أم ال؟ ثبت‪ ،‬والشجر يتكلم‬
‫أم ال؟(‪)3‬ثبت‪ ،‬وتنطق أيضا أعضاء اإلنسان يوم القيامة وتشهد عليه أم ال؟(‪ )4‬نعم‪.‬‬

‫فيحدث كالم ومن غير أن توجد هذه اآلالت‪ ،‬فال حاجة لها فاهلل قادر على كل شيء‬
‫‪.‬‬

‫إذن ال يلزم للكالم وجود هذه اآلالت حتى عند المخلوق فما بالك بالخالق‪ ،‬فلذلك‬
‫نحن نقول لهم‪ :‬قولوا كما نقول‪ :‬نثبت كالما هلل سبحانه وتعالى يليق بجالله‬
‫وعظمته‪ ،‬وال يشبه كالم المخلوقين وينتهي األمر‪ ،‬بذلك تفرون من التشبيه‪،‬‬
‫وتفرون أيضا من التعطيل‪ ،‬وتقفون مع كتاب هللا وسنة رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم‪ ،‬وال تكذبون الشرع وال العقل الصحيح‪.‬‬

‫(‪ )1‬قال تعالى يوم نقول لجهنَّم هل امتألت وتقول هل من مزيد[ق] وفي المتفق عليه عند البخاري (‪ )7559‬ومسلم (‪ )2846‬ومن حديث أبي هريرة رضي هللا عنه‪:‬‬

‫احتجت النَّار والجنة‪ ،‬فقالت هذه‪ :‬يدخلني الجبارون‪ ،‬وقالت هذه يدخلني الضعفاء‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال تعالى‪ :‬وإن من شيء إال يسبح بحمده[اإلسراء‪ ،]44:‬وفي الحديث في قصة موسى عليه السالم عندما لحق موسى الحجر أخذ ينادي‪ :‬ثوبي يا حجر‪:‬‬

‫البخاري(‪ ،)278‬ومسلم(‪ )75‬من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬


‫(‪)3‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ ،)2926‬مسلم(‪ )82‬وهناك أدلة أخرى‪.‬‬
‫(‪ )4‬قال تعالى‪ :‬اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون(يس‪.)65/‬‬
‫‪75‬‬
‫المتن‬

‫فصل القرآن كالم هللا‬

‫ومن كالم هللا سبحانه القرآن العظيم‪ ،‬وهو كتاب هللا المبين‪ ،‬وحبله المتين‪،‬‬
‫وتنزيل رب العالمين‪ ،‬نزل به الروح األمين‪ ،‬على قلب سيد‬ ‫ِ‬ ‫وصراطه المستقيم‪،‬‬
‫المرسلين‪ ،‬بلسان عربي مبين‪ُ ،‬منَ َّز ٌل غير مخلوق‪ ،‬منه بدأ وإليه يعود‪.‬‬
‫وهو سور محكمات‪ ،‬وآيات بينات‪ ،‬وحروف وكلمات‪.‬‬
‫من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات‪ ،‬له أول وآخر‪ ،‬وأجزاء وأبعاض‪،‬‬
‫متلو باأللسنة‪ ،‬محفوظ في الصدور‪ ،‬مسموع باآلذان‪ ،‬مكتوب في المصاحف‪.‬‬
‫فيه محكم ومتشابه‪ ،‬وناسخ ومنسوخ‪ ،‬وخاص وعام‪ ،‬وأمر ونهي‪.‬‬
‫اط ُل ِم ْن َبي ِْن يَدَ ْي ِه َو َال ِم ْن خ َْل ِف ِه ت َ ْن ِزي ٌل ِم ْن َح ِكيم َح ِميد} [فصلت‪]42 :‬‬ ‫{ال َيأْتِي ِه ْال َب ِ‬‫َ‬
‫آن َال‬ ‫س َو ْال ِجن َعلَى أ َ ْن يَأْتُوا بِ ِمثْ ِل َهذَا ْالقُ ْر ِ‬ ‫ت ِْ‬
‫اإل ْن ُ‬ ‫وقوله تعالى‪{ :‬قُ ْل لَئِ ِن ْ‬
‫اجت َ َمعَ ِ‬
‫ظ ِهيرا} [اإلسراء‪.]88 :‬‬ ‫ض ُه ْم ِلبَ ْعض َ‬ ‫يَأْتُونَ بِ ِمثْ ِل ِه َولَ ْو َكانَ بَ ْع ُ‬
‫آن} [سبأ‪:‬‬ ‫وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا‪{ :‬لَ ْن نُؤْ ِمنَ ِب َهذَا ْالقُ ْر ِ‬
‫‪ ]31‬وقال بعضهم‪ِ { :‬إ ْن َهذَا إِ َّال قَ ْو ُل ْالبَش َِر} [المدثر‪ ]25 :‬فقال هللا سبحانه‪:‬‬
‫{و َما‬ ‫سقَ َر} [المدثر‪ ]26 :‬وقال بعضهم‪ :‬هو شعر‪ ،‬فقال هللا تعالى‪َ :‬‬ ‫ص ِلي ِه َ‬ ‫سأ ُ ْ‬‫{ َ‬
‫ين} [يس‪.]69 :‬‬ ‫آن ُم ِب ٌ‬ ‫َعلَّ ْمنَاهُ ِ‬
‫الش ْع َر َو َما َي ْن َب ِغي لَهُ ِإ ْن هُ َو ِإ َّال ِذ ْك ٌر َوقُ ْر ٌ‬
‫فلما نفى هللا عنه أنه شعر‪ ،‬وأثبته قرآنا؛ لم يبق شبهة لذي لُب في أن القرآن هو هذا‬
‫الكتاب العربي‪ ،‬الذي هو كلمات وحروف وآيات؛ ألن ما ليس كذلك ال يقول أحد‬
‫إنه شعر‪.‬‬
‫ورة ِم ْن ِمثْ ِل ِه‬ ‫س َ‬ ‫{و ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم فِي َريْب ِم َّما ن ََّز ْلنَا َعلَى َع ْب ِدنَا فَأْتُوا ِب ُ‬ ‫وقال عز وجل‪َ :‬‬
‫ُون هللا} [البقرة‪ ]23 :‬وال يجوز أن يتحداهم باإلتيان بمثل ما‬ ‫ش َهدَا َء ُك ْم ِم ْن د ِ‬ ‫عوا ُ‬ ‫َوا ْد ُ‬
‫ال يدري ما هو وال يعقل‪.‬‬
‫ت بِقُ ْرآن‬ ‫{وإِذَا تُتْلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَا بَيِنَات قَا َل الَّذِينَ َال يَ ْر ُجونَ ِلقَا َءنَا ائْ ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫اء نَ ْفسِي} [يونس‪ ]15 :‬فأثبت أن‬ ‫ون ِلي أ َ ْن أُبَ ِدلَهُ ِم ْن تِ ْلقَ ِ‬
‫َغي ِْر َهذَا أ َ ْو بَد ِْلهُ قُ ْل َما يَ ُك ُ‬
‫القرآن هو اآليات التي تتلى عليهم‪.‬‬
‫ُور الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم} [العنكبوت‪.]49 :‬‬ ‫صد ِ‬ ‫َات فِي ُ‬ ‫ات َبيِن ٌ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ب ْل ُه َو آ َي ٌ‬
‫ط َّه ُرونَ }‬ ‫آن َك ِري ٌم ‪ِ -‬في ِكتَاب َم ْكنُون ‪َ -‬ال َي َمسهُ ِإ َّال ْال ُم َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬إِنَّهُ لَقُ ْر ٌ‬
‫[الواقعة‪ ]79 - 77 :‬بعد أن أقسم على ذلك‪.‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬كهيعص} [مريم‪{ ]1 :‬حم ‪ -‬عسق} [الشورى‪.]2 - 1 :‬‬
‫وافتتح تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬من قرأ القرآن فأعربه؛ فله بكل حرف منه‬
‫عشر حسنات‪ ،‬ومن قرأه ولحن فيه؛ فله بكل حرف حسنة» حديث صحيح‪.‬‬
‫وقال عليه الصالة والسالم‪« :‬اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة‬
‫السهم ال يجاوز تراقيهم‪ ،‬يتعجلون أجره وال يتأجلونه»‪.‬‬
‫وقال أبو بكر وعمر رضي هللا عنهما‪ :‬إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض‬
‫حروفه‪.‬‬
‫وقال علي رضي هللا عنه‪ :‬من كفر بحرف منه؛ فقد كفر به كله‪.‬‬
‫واتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه‪.‬‬
‫وال خالف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا‬
‫متفقا عليه أنه كافر‪ ،‬وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫الشرح‬

‫هذه المسألة مبنية على ما مضى‪ ،‬فمن أثبت كالما حقيقيا هلل بحرف وصوت؛ قال‪:‬‬
‫القرآن كالم للا تكلم به سبحانه وتعالى‪ ،‬ومن نفى الكالم عن هللا تبارك وتعالى‬
‫وقال‪ :‬هللا ال يتكلم‪ ،‬قال‪ :‬القرآن مخلوق‪ ،‬ومن قال إ َّن الكالم نفسي قديم ال يتجزأ‪،‬‬
‫كما قاله األشاعرة‪ ،‬فيقول‪ :‬القرآن أيضا مخلوق‪ ،‬هذه حقيقة قولهم‪ ،‬هذه حقيقة قول‬
‫األشاعرة َّ‬
‫أن القرآن الذي بين أيدينا مخلوق‪.‬‬

‫وقد قال غير واحد من السلف نصا‪ « :‬من قال القرآن مخلوق فقد كفر»(‪)1‬؛ ألنه‬
‫مكذب لكتاب هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫المراد اآلن‪ :‬أن القرآن من كالم هللا‪ ،‬تكلم به حقيقة ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬ومن كالم للا سبحانه‪ :‬القرآن العظيم‪ ،‬وهو كتاب‬
‫للا المبين) أي البين الواضح‪ ،‬الذي يبين هللا سبحانه وتعالى فيه ما يحتاجه العباد‪،‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬تلك آيات الكتاب المبين}[الشعراء‪]2 :‬‬

‫( وحبله المتين) المتين‪ :‬القوي‪ ،‬القرآن هوالحبل الواصل بين هللا سبحانه وتعالى‬
‫وخلقه‪ ،‬قال سبحانه وتعالى} واعتصموا بحبل هللا جميعا{[آل عمران‪.]103 :‬‬

‫قال‪( :‬وصراطه المستقيم) أي الطريق المستقيم الذي يوصل إلى هللا سبحانه‬
‫وتعالى هو كتاب هللا تبارك وتعالى‪ ،‬قال هللا سبحانه وتعالى ‪}:‬اهدنا الصراط‬
‫المستقيم{[الفاتحة‪.]6 :‬‬

‫(وتنزيل رب العالمين) نزل من عند هللا تبارك وتعالى‪ ،‬نزله رب العزة تبارك‬
‫وتعالى ‪.‬‬

‫انظر لشريعة (‪ )1،48911/506‬رقم ‪ 174‬واإلبانة الكبرى( ‪ )239،290،300‬و خلق أفعال العباد ص ‪301‬‬

‫‪78‬‬
‫قال سبحانه وتعالى ‪}:‬وإنه لتنزيل رب العالمين ‪ -‬نزل به الروح األمين ‪-‬على قلبك‬
‫لتكون من المنذرين{[الشعراء‪ ]194-192 :‬وقال‪ { :‬كتاب أنزلناه إليك{[ص‪:‬‬
‫‪ ]29‬فهذا الكتاب منزل من عند هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫(نزل به الروح األمين) جبريل عليه السالم (على قلب سيد المرسلين) سيدنا محمد‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وإنه لتنزيل رب العالمين ‪ -‬نزل به الروح‬
‫األمين ‪ -‬على قلبك لتكون من المنذرين{[الشعراء‪( ]194-192 :‬بلسان عربي‬
‫مبين) فصيح واضح بين جلي ال خفاء في ألفاظه ومعانيه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬الر تِ ْل َك‬
‫ين (‪ )1‬إِنَّا أ َ ْنزَ ْلنَاهُ قُ ْرآنا َع َربِيًّا لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْع ِقلُونَ }[يوسف‪1:‬و‪]2‬‬
‫ب ْال ُمبِ ِ‬
‫آيَاتُ ْال ِكتَا ِ‬

‫(منزل غير مخلوق) منزل من عند هللا‪ ،‬وهو كالمه وليس مخلوقا‪ ،‬خالفا لمن قاله‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫على‬ ‫األدلة‬ ‫المؤلف‬ ‫سيذكر‬ ‫المعطلة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫من‬
‫( منه بدأ‪ ،‬وإليه يعود) منه بدأ كالما له‪ ،‬فهو الذي تكلم به فبدأ منه سبحانه‪ ،‬وهذا‬
‫رد على الذين يقولون‪ :‬خلق الكالم في محل فبدأ الكالم من ذلك المحل‪ ،‬فرد عليهم‬
‫السلف فقالوا‪( :‬منه بدأ) أي بدأ من هللا سبحانه وتعالى كالما له وليس خلقا‪.‬‬

‫(وإليه يعود) ويرجع إليه كما جاء في الحديث‪« :‬أنه في آخر الزمان يرفع فال يبقى‬
‫في األرض منه آية» (‪.)1‬‬

‫قال‪( :‬وهو سور محكمات) متقنات‪ ،‬سور جمع سورة وهي قطعة من القرآن ‪،‬‬
‫ت‬‫اب أ ُ ْح ِك َم ْ‬
‫محكمات يعني متقنات‪ ،‬ال خلل وال عيب فيهن‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬الر ِكت َ ٌ‬
‫ت ِم ْن لَد ُْن َح ِكيم َخبِير}[هود‪ ،]1 :‬وقال‪َ { :‬ويَقُو ُل الَّذِينَ آ َمنُوا لَ ْو َال‬ ‫صلَ ْ‬ ‫آيَاتُهُ ث ُ َّم فُ ِ‬
‫ْت الَّذِينَ ِفي قُلُو ِب ِه ْم‬‫ورة ٌ ُم ْح َك َمةٌ َوذ ُ ِك َر ِفي َها ْال ِقتَا ُل َرأَي َ‬
‫س َ‬ ‫ورة ٌ فَإِذَا أ ُ ْن ِزلَ ْ‬
‫ت ُ‬ ‫س َ‬‫ت ُ‬ ‫نُ ِزلَ ْ‬

‫ويُسري على كتاب هللا عزوجل في ليلة فال يبقى‬


‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه (‪ )4049‬وغيره عن حذيفة بن اليمان بسند صحيح بلفظ ‪»:‬‬
‫في األرض منه آية» ‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫ظ َر ْال َم ْغشِي ِ َعلَ ْي ِه ِمنَ ْال َم ْو ِ‬
‫ت فَأ َ ْولَى لَ ُه ْم}[محمد‪، ]20 :‬‬ ‫ظ ُرونَ إِلَي َْك َن َ‬‫ض يَ ْن ُ‬‫َم َر ٌ‬
‫ورة ِم ْن ِمثْ ِل ِه}[البقرة‪]23 :‬‬ ‫س َ‬ ‫وقال‪{ :‬فَأْتُوا بِ ُ‬

‫{و َكذَ ِل َك أ َ ْنزَ ْلنَاهُ آيَات بَيِنَات َوأ َ َّن َّ‬


‫َّللاَ‬ ‫(وآيات بينات) يعني واضحات‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫يَ ْهدِي َم ْن يُ ِريدُ}[الحج‪]16 :‬‬

‫(وحروف وكلمات) فهو سور وآيات وكلمات وحروف‪.‬‬

‫(من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات)(‪ ،)1‬ومن قرأه فأعربه؛ من قرأه‬
‫قراءة صحيحة ال لحن فيها‪ -‬هذا معنى فأعربه‪ -‬فله بكل حرف عشر حسنات‪.‬‬
‫دل هذا الحديث النبوي على أن القرآن حروف‪ ،‬ومعنى الحروف حروف الهجاء‬
‫المعروفة التي تبدأ باأللف وتنتهي بالياء ‪.‬‬

‫( له أول وآخر) أوله الفاتحة وآخره النَّاس‪ ،‬اإلجماع منعقد عليه ‪.‬‬

‫( وأجزاء وأبعاض) ثالثون جزء‪ ،‬والبعض جزء من الكل‪.‬‬

‫(متلو باأللسنة‪ ،‬محفوظ في الصدور مسموع باألذن مكتوب في الصحف فيه‬


‫محكم ومتشابه) تقدم معنا معنى المحكم والمتشابه‪ ،‬إذ وصف القرآن بأن منه من‬
‫محكم ومنه متشابه‪ ،‬ومعنى ذلك َّ‬
‫أن المحكم‪ :‬هو الواضح الذي ال خفاء فيه وال‬
‫إشكال‪ ،‬والمتشابه‪ :‬الذي يحتمل أكثر من معنى ويشكل على البعض‪.‬‬

‫(وناسخ ومنسوخ) القرآن منه ناسخ ومنه منسوخ (وخاص وعام وأمر ونهي)‬
‫صل في كتب أصول الفقه‪.‬‬
‫وهذا كله مف َّ‬

‫قال تعالى‪}) :‬ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه{([فصلت‪]42 :‬‬

‫(‪ )2‬رواه الترمذي(‪ ،)2910‬والطبراني في األوسط (‪ )7574‬وآخرون عن ابن مسعود رضي هللا عنه مرفوعا وموقوفا‪،‬األكثرون رووه موقوفا‪ .‬قال الترمذي‪ :‬ويروى هذا‬
‫الحديث من غير وجه عن ابن مسعود‪،‬رواه أبو األحوص عن ابن مسعود‪ ،‬ورفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود…‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫أي ال يوجد قبله شيء يكذبه‪ ،‬وال بعده شيء يكذبه‪ ،‬وال يبطله شيء؛ ألنه حق من‬
‫عند هللا‪ ،‬ومحفوظ بحفظ هللا له ‪.‬‬

‫(}تنزيل من حكيم حميد {([اإلسراء‪ ]88 :‬الحكيم الحميد هو هللا سبحانه وتعالى‬
‫موصوف بالحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه المناسب له‪ ،‬ومحمود على‬
‫أفعاله وأقواله‪.‬‬

‫(وقوله تعالى‪{ :‬لئن اجتمعت اإلنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ال‬
‫يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ً}‪ ،‬فقد تحداهم للا سبحانه وتعالى أن‬
‫يأتوا بمثل هذا القرآن وهم الفصحاء‪ ،‬مع شدة عداوتهم وحرصهم على تكذيبه لم‬
‫يستطيعوا أن يفعلوا ذلك) فتبين بذلك أنه كالم هللا تبارك وتعالى وليس كالم البشر‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وهذا هو الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا‬
‫‪ :‬لن نؤمن بهذا القرآن)[سبأ‪ ]31 :‬عنادا واستكبارا ‪.‬‬

‫أشد خصوم النَّبي صلى هللا‬


‫قال‪( :‬وقال بعضهم) هو الوليد بن المغيرة‪ ،‬وهو من ِ‬
‫عليه وسلَّم }إن هذا إال قول بشر{[المدثر‪ ]25 :‬وهل فارق الذين قالوا بأن القرآن‬
‫مخلوق قول الوليد بشيء يذكر؟ هذا الوليد بن المغيرة يقول‪ ( :‬إن هذا إال قول‬
‫البشر) مخلوق‪ ،‬قال هللا له‪} :‬سأصليه سقر{[المدثر‪ ]26 :‬عقابا على قوله هذا‬
‫وتكذيبه بأن القرآن كالم هللا من عنده‪ ،‬وليس من فعل البشر‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬وقال بعضهم‪ :‬هو شعر‪ ،‬فقال للا تعالى}وما علمناه الشعر وما ينبغي له‬
‫إن هو إال ذكر وقرآن مبين{([يس‪ ]69 :‬هذا تكذيب لهم؛ فهو كالم هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وليس كالم البشر وال هو شعر وال غيره‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫قال‪ ( :‬فلما نفى للا عنه أنه شعر وأثبته قرآنا ً‪ ،‬لم يبق شبهة لذي لب) أي‬
‫لصاحب عقل (في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف‬
‫وآيات؛ ألن ما ليس كذلك ال يقول أحد أنه شعر)‪.‬‬

‫َّ‬
‫إن العرب قالت هو شعر عندما أرادت أن تكذب بالقرآن؟ ألنه كلمات وحروف‬
‫وآيات‪ ،‬ولو لم يكن كلمات وحروف وآيات لما قالوا هو شعر‪ ،‬فألنهم علموا أنه‬
‫كلمات وحروف وآيات وهم أهل اللسان قالوا إنه شعر‪.‬‬

‫قال‪ :‬وقال عزوجل}وإن كنتم{أيها الكفَّار}في ريب{ أي في شك }مما نزلنا على‬


‫عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون للا{«[البقرة‪ ]23 :‬أي إن‬
‫كنتم في شك من هذا القرآن‪ ،‬وأنه ليس من عند هللا تبارك وتعالى‪ ،‬فأتوا بسورة‬
‫واحدة فقط مثله‪ ،‬واستعينوا بمن شئتم من خلق هللا؛ كي تأتوا بسورة واحدة‪ ،‬وانظر‬
‫مع فصاحة العرب وقوتهم في اللغة‪ ،‬ومع حرص الكثيرين منهم على تكذيب‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬مع ذلك ما استطاع أحد منهم أن يأتي بسورة مثل‬
‫سوره‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬وال يجوز أن يتحداهم باإلتيان بمثل ما ال يدرى ما هو وال يعقل ) كيف‬
‫يتحداهم بأمر كهذا إال أنه معلوم عندهم أنه كلمات وحروف معلومة وواضحة لهم‪،‬‬
‫لذلك تحداهم أن يأتوا بمثله‪.‬‬

‫(وقال تعالى}وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين ال يرجون لقاءنا ائت بقرآن‬
‫غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي{)[يونس‪ ،]15 :‬فأثبت‬
‫أن القرآن هو اآليات التي تتلى عليهم)‪ ،‬وال يتلى إال ما هو حروف وكلمات‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫قال‪( :‬وقال تعالى‪} :‬بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم {([العنكبوت‪:‬‬
‫‪]9‬؛ فالقرآن محفوظ في صدورأهل العلم‪ ،‬والمحفوظ في صدورهم هي الكلمات‬
‫والحروف؛ فهي التي تحفظ‪ ،‬فالقرآن كلمات وحروف‪.‬‬

‫قال‪( :‬وقال تعالى‪} :‬إنه لقرآن كريم‪ .‬في كتاب مكنون{) [الواقعة‪ ( ،]78-77 :‬في‬
‫كتاب) أي‪ :‬مكتوب‪ ،‬فهو كلمات وحروف فهي التي تكتب‪ ،‬ومعلوم أن الكلمات‬
‫والحروف هي التي تكتب ‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬وقال تعالى (كهيعص) [مريم‪( ]1 :‬حم*عسق) [الشورى‪ )]2-1 :‬وهذه‬


‫كلها حروف‪.‬‬

‫قال‪( :‬وافتتح تسعا ً وعشرين سورة بالحروف المقطعة) فهو حروف‪.‬‬

‫قال‪( :‬وقال النبي صلى للا عليه وسلم‪«:‬من قرأ القرآن فأعربه») أي قرأه بشكل‬
‫صحيح («فله بكل حرف منه عشر حسنات‪ ،‬ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف‬
‫حسنة» حديث صحيح)‪ .‬الشاهد أنه سمى حروفه حروفا‪ ،‬فالقرآن حروف‪.‬‬

‫قال اإلمام األلباني رحمه هللا تعالى في الضعيفة تحت الحديث رقم (‪: )6584‬‬
‫«وهذا غريب جدا» يستغرب تصحيح المؤلف‪ ،‬قال‪« :‬فإنه الأصل له بهذا اللفظ‬
‫مطلقا في شيء من طرقه التي وقفنا عليها‪ ،‬وقد تقدم تخريجها وبيان عللها‪ ،‬فكيف‬
‫مع ذلك يصححه! (‪ .)1‬انتهى‪ ،‬فالحديث ضعيف ال يصح‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقال عليه الصالة والسالم‪« :‬اقرأوا القرآن قبل‬
‫أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم» أي يتقنون قراءته « ال يجاوز‬
‫تراقيهم» الت َّرقُ َوة‪ :‬عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق‪ « ،‬يتعجلون أجره وال‬

‫(‪ )1‬يروى عن ابن عمر بلفظ آخر‪ ،‬أخرجه ابن حيان في الضعفاء(‪ ،)3،160‬وابن األنباري في إيضاح الوقف واالبتداء (‪ )1/16/10‬قال الشيخ األلباني ‪ :‬موضوع‪ ،‬ث ُ َّم‬

‫ذكر لفظ المؤلف وقال عقبة‪ :‬هذا غريب جدا‪ ،‬فإنه ال أصل له بهذا اللفظ مطلقا في شيء من طرقه التي وقضاعليها ‪( . .‬الضعيفة‪.)6584:‬‬
‫‪83‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أي ال يصل لهم منه شيء عند هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ألنهم يطلبون به‬ ‫يتأجلونه»‬
‫الدنيا‪ ،‬فالمراد يتعجلون أجره في الدنيا‪ ،‬ويطلبون على قراءتهم أجرة من‬
‫األعراض الدنياوية‪ ،‬وال يصبرون إلى األجر والثواب الذي يحصل لهم في دار‬
‫اآلخرة‪.‬‬

‫قراءة القرآن وإتقان ذلك؛ وسيلة وعبادة‪ ،‬ولكن الغاية الكبرى منه هي الفهم والعمل‬
‫ال مجرد القراءة؛ فإننا نجد اليوم كثيرا من النَّاس يحرصون على قراءة القرآن مع‬
‫أحكام التجويد بشكل جيد ‪ -‬وهذا طيب‪ ، -‬لكن ال تجد منهم أدنى حرص على فهم‬
‫معناه‪ ،‬وتطبيق ما فيه وهذا مشكل وخلل عظيم جدا؛ إذ قد أنزل هللا سبحانه وتعالى‬
‫القرآن للعمل به ال لمجرد تالوته‪.‬‬

‫الشاهد من هذا الحديث قوله‪« :‬يقيمون حروفه» فسمى الحروف التي في القرآن‬
‫حروفا؛ فهو حروف ‪.‬‬

‫قال‪( :‬وقال أبو بكر وعمر رضي للا عنهما‪ :‬إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ‬
‫بعض حروفه(‪ ،))2‬الشاهد َّ‬
‫أن أبا بكر وعمر سميا حروف القرآن حروفا‪.‬‬

‫لكن هذا ضعيف ال يصح عنهما‪ ،‬أخرجه ابن األنباري في الوقف واالبتداء وهو‬
‫ضعيف‪.‬‬

‫وقال علي رضي للا عنه‪ ( :‬من كفر بحرف منه فقد كفر به كله) هذا صحيح‪ :‬من‬
‫كفر بحرف منه‪ ،‬فقد كفر به كله‪ ،‬واإلجماع منعقد – كما سيأتي – على ذلك؛ لكن‬
‫لم أجده عن علي لغير المؤلف‪.‬‬

‫(‪ )2‬رواه أحمد في مسنده(‪ )831‬وأبو داود(‪ )831‬والطبراني في الكبير (‪ )6021،6022،6024‬وغيرهم عن سهل بن سعد رضي هللا عنه‪.‬‬
‫(‪ )1‬ايضاح الوقف واالبتداء البن األنباري (‪ ،)20/1‬رواه ابن عساكر في تاريخه بمسنده إلى الشافعي (‪.)374/51‬‬
‫‪84‬‬
‫والعلماء ينسبونه لعبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‪ ،‬وهو صحيح عن عبد هللا بن‬
‫(‪)1‬‬
‫وغيره‪ ،‬أما أثر علي الذي يصلح حجة في مثل‬ ‫مسعود‪ ،‬أخرجه عبد الرزاق‬
‫هذا الموضع‪ ،‬فهو الذي ساقه ابن خالة المؤلف عبد الغني المقدسي في كتابه‬
‫االقتصاد في االعتقاد‪.‬‬

‫ولعل المؤلف أراد هذا لكنه وهم‪.‬‬

‫قال‪ :‬عن علي أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن فقال‪« :‬ال وال حرفا»(‪ )2‬أي ال تقرأ‬
‫وال حرفا واحدا‪.‬‬

‫هذا علي يسمي حروف القرآن حروفا‪ ،‬وأ َّما عبد هللا بن مسعود فص َّح عنه قوله‪:‬‬
‫«من كفر بحرف منه فقد كفر به كله» فصح عن الصحابة تسمية حروفه حروفا‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬واتفق المسلمون على عد سور القرآن‪ ،‬وآياته‪،‬‬
‫وكلماته وحروفه) ذكر األدلة من الكتاب والسنة وعن الصحابة على أن القرآن‬
‫كلمات وحروف‪ ،‬ثم يذكر اآلن االتفاق‪ ،‬فقال‪ :‬هم متفقون على هذا‪ :‬أنهم يقولون‪:‬‬
‫عدد سور القرآن كذا‪ ،‬وعدد آيات القرآن كذا‪ ،‬وعدد كلمات القرآن كذا‪ ،‬وعدد‬
‫حروفه كذا‪ ،‬فهو سور وآيات وكلمات وحروف ‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬وال خالف بين المسلمين في أن من جحد سورة أو آية أو كلمة أو حرفا ً‬
‫متفقا ً عليه‪ ،‬أنه كافر‪ ،‬وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف) وفيه حجة قاطعة‬
‫على كفر الرافضة‪.‬‬

‫(‪ )2‬المصنف (‪.)15946‬‬


‫(‪ )3‬ص‪ 145‬قال‪ :‬وروى أبو عبيد وأي القاسم بن سالم – في فضائل القرآن بإسناده وقال ‪ :‬سئل علي‪. . .‬‬

‫‪85‬‬
‫متن‬

‫فصل رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة‬

‫قال المؤلف رحمه هللا تعالى‪( :‬والمؤمنون يرون ربهم في اآلخرة بأبصارهم‪،‬‬
‫ويزورونه‪ ،‬ويكلمهم ويكلمونه‪ ،‬قال هللا تعالى‪} :‬وجوه يومئذ ناضرة*إلى ربها‬
‫ناظرة{[القيامة‪ ،]23-22 :‬وقال تعالى‪} :‬كال إنهم عن ربهم يومئذ‬
‫لمحجوبون{[المطففين‪.]15 :‬‬

‫فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال‬


‫الرضى‪ ،‬وإال لم يكن بينهما فرق‪ ،‬وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬إنكم سترون‬
‫ربكم كما ترون هذا القمر ال تضامون في رؤيته» حديث صحيح متفق عليه‪.‬‬
‫وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية‪ ،‬ال للمرئي بالمرئي‪ ،‬فإن هللا تعالى ال شبيه له وال‬
‫نظير‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫الشرح‬
‫هذه صفة جديدة وهي‪ :‬رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة‪ ،‬يؤمن أهل السنة بأن‬
‫المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأعينهم رؤية حقيقية‪ ،‬ويعتقدون ذلك بناء على ما‬
‫صح في الكتاب والسنة‪ ،‬من أدلة ‪-‬كما سيأتي إن شاء هللا تعالى‪ -‬من كالم المصنف‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬والمؤمنون يرون ربهم في اآلخرة بأبصارهم)‪،‬‬
‫هذا تأكيد على أنها رؤية حقيقية‪ ،‬يرون هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ال يرون الثواب‪ ،‬وال‬
‫يرون النَّعيم‪ ،‬وال يرون الجنَّة‪ ،‬كما يقول أهل التحريف للنصوص‪ ،‬ومستعملو‬
‫عقولهم‪ ،‬في تفسير النصوص الواردة في رؤية المؤمنين لربهم‪ ،‬بل يرون ربَّهم‬
‫تبارك وتعالى رؤية حقيقة‪.‬‬

‫( بأبصارهم) قاله المؤلف ردا لقول الذين يقولون َّ‬


‫بأن المؤمنين يرون ربهم‬
‫َّ‬
‫بأن الرؤية رؤية حقيقية بأبصارهم ال‬ ‫بقلوبهم‪ ،‬فرد عليهم بهذه الكلمة الصريحة‬
‫بقلوبهم‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬ويزورونه ) ذكرنا َّ‬


‫أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف‪.‬‬

‫( يكلمهم ويكلمونه) ورد في ذلك أحاديث صحيحة تقدمت معنا‪.‬‬

‫قال‪( :‬قال للا تعالى‪ } :‬وجوه يومئذ ناضرة{) من النضرة وهي الحسن والبهجة‪،‬‬
‫وجوه حسنة بهجة‪ ،‬وهذه وجوه المؤمنين يوم القيامة حسنة وجميلة ومسرورة‬
‫ومشرقة بالنَّعيم‪.‬‬

‫( وجوه يومئذ) أي يوم القيامة (ناضرة) حسنة جميلة (إلى ربها ناظرة) أي‬
‫ينظرون إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذه من النِعم العظيمة التي يحصل عليها أهل‬
‫اإليمان‪ ،‬التي ينالها أهل الطاعة يوم القيامة‪ ،‬النَّظرإلى وجه هللا تبارك وتعالى‪ ،‬أي‬

‫‪87‬‬
‫هذه؟‪.‬‬ ‫من‬ ‫وأجمل‬ ‫وأجود‬ ‫أعظم‬ ‫لذة‬
‫هذا الدليل األول ألهل السنة على هذه العقيدة ‪.‬‬

‫قال‪( :‬وقال تعالى‪} :‬كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون{)‪ ،‬من هم؟ الكفَّار‪،‬‬
‫يحجبون عن رؤية هللا تبارك وتعالى يوم القيامة؛ عقابا لهم على كفرهم‪ ،‬فهذا يدل‬
‫على َّ‬
‫أن المؤمنين يرون ربهم‪ ،‬فكما قال المصنف رحمه هللا تعالى هنا‪( :‬فلما‬
‫حجب أولئك في حال السخط؛ دل ذلك على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى؛‬
‫وإال لم يكن بينهما فرق) فل َّما عاقب الكفَّار بحجبهم عن رؤيته تبارك وتعالى‪ ،‬دل‬
‫ذلك على أنه يثيب المؤمنين بإنعامه عليهم برؤيته حقيقة يوم القيامة‪ ،‬هذا استدالل‬
‫اإلمام الشافعي رحمه هللا ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقال النبي صلى للا عليه وسلم‪ :‬إنكم سترون‬
‫ربكم كما ترون هذا القمر ال تضامون في رؤيته) هذا الحديث متفق عليه(‪،)1‬‬
‫أحاديث الرؤية يقول أهل العلم‪ :‬أحاديثها متواترة‪ ،‬كثيرة جدا‪ ،‬وردت عن النَّبي‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم؛ فال ينكرها سني‪ ،‬ال ينكرها إال مبتدع ضال‪.‬‬

‫(إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر ال تضامون في رؤيته ) أي ال تحتاجون‬
‫لكي يراه جميعكم أن تنضم بعضكم إلى بعض وتتزاحموا لرؤيته‪ ،‬ال تحتاجون‬
‫إلى ذلك‪ ،‬سترونه بأريحية كل واحد من مكانه الذي هو فيه‪.‬‬

‫(كما ترون القمر) كيف نشترك جميعا في رؤية القمر بدون مضامة وال مزاحمة؟‬
‫كذلك ترون هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري(‪ ،)7436 ،554،4851،7434‬ومسلم(‪ )633‬من حديث جرير بن عبدهللا البجلي رضي هللا عنه‪ ،‬وقد ثبت حديث رؤية هللا تعالى عن غير واحد من‬
‫الصحابة أبي هريرة وأبي سعيد‪ ،‬وأحاديث الرؤية من األحاديث المتواترة عند أهل العلم‪ ،‬ومن هنا اضطر األشاعرة إلى إثبات الرؤية يوم القيامة مع نفيهم العلو فتخبطوا‬
‫تخبطا كبيرا‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫قال‪( :‬وهذا تشبيه للرؤيا بالرؤيا) أي أنكم كما ترون القمر ترون هللا سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬

‫(ال للمرئي بالمرئي) المرئي األول هللا تبارك وتعالى والمرئي الثاني القمر‪ ،‬أي‬
‫ليس المقصود من التشبيه هنا ؛ تشبيه هللا بالقمر‪ ،‬ال‪.‬‬

‫بل المقصود تشبيه الرؤية بالرؤية‪ ،‬فكما أن رؤية القمر ال تحتاج إلى مزاحمة‬
‫كذلك رؤية هللا ال تحتاج إلى ذلك‪ ،‬هذا المقصود‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬فإن للا تعالى ال شبيه له وال نظير) ال مثيل له سبحانه‪ ،‬ففي هذا الحديث‬
‫يبين كيفية الرؤية‪ ،‬وال يشبه نفسه بالقمر؛ فاهلل ال مثل له‪.‬‬

‫وقد خالف في هذه العقيدة المعتزلة‪ ،‬نفوا الرؤية‪ ،‬وقالوا‪ :‬ال يرى النَّاس ربهم يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ونفوا ذلك‪ ،‬قالوا هذا يلزم منه التشبيه‪ ،‬ويلزم منه التجسيم‪ ،‬وهي لوازم‬
‫باطلة كما تقدم معنا‪ ،‬فكما قالوا في مسائل الصفات األُخرى قالوا أيضا في هذه‪،‬‬
‫من َّ‬
‫أن إثبات الرؤية يلزم منه التشبيه والتجسيم ويلزم منه أن هللا في جهة مخلوقة‪،‬‬
‫وهذا كله من الباطل ‪ ،‬جاءوا به من خياالت عقولهم؛ فردوا كتاب هللا‪ ،‬وردوا سنة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬بمجرد خياالت عقلية‪ ،‬ظنوها لوازم حقيقية‪ ،‬وإنما‬
‫هي لوازم باطلة‪.‬‬

‫واستدلوا أيضا بقول هللا تبارك وتعالى} ال تدركه األبصار{[األنعام‪ ]103 :‬فقال‬
‫لهم أهل العلم‪ :‬اإلدراك شيء والرؤية شي آخر‪ ،‬اإلدراك فيه إحاطة‪ ،‬واإلحاطة هذه‬
‫مستحيلة‪ ،‬ال يمكن أن يحيط العبد بربه تبارك وتعالى‪ ،‬أ َّما الرؤية فالرؤية ثابتة كما‬
‫تقدَّم معنا في األدلة‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫واستدلوا أيضا بقول هللا تبارك وتعالى لموسى عليه السالم عندما طلب من ربه أن‬
‫يراه قال‪} :‬لن تراني{[األعراف‪ ،]143 :‬فقالوا‪ :‬قد نفى هللا سبحانه وتعالى الرؤية‬
‫في هذه اآلية‪ ،‬فنقول لهم‪ :‬هذا نفي للرؤية في الدنيا‪ ،‬فموسى عليه السالم عندما‬
‫طلب الرؤية طلبها وهو في الدنيا ال في اآلخرة‪ ،‬فرق بين هذا وهذا‪.‬‬

‫الرؤية التي نثبتها رؤية أخروية أي في اآلخرة‪ ،‬فنصوص الشرع فرقت بين‬
‫رؤية هللا في الدنيا ورؤيته في اآلخرة؛ فال يصح إعطاءهما حكما واحدا‪ ،‬بعد‬
‫تفريق النصوص الشرعية بينهما ‪.‬‬

‫هذا ما يتعلق برؤية هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫متن‬

‫فصل القضاء والقدر‬

‫ومن صفات هللا تعالى أنه الفعال لما يريد‪ ،‬ال يكون شيء إال بإرادته‪ ،‬وال‬
‫يخرج شيء عن مشيئته‪ ،‬وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره‪ ،‬وال يصدر إال‬
‫عن تدبيره‪ ،‬وال َمحيد عن القدر المقدور‪ ،‬وال يُتجاوز ما ُخط في اللوح المسطور‪،‬‬
‫أراد ما العالم فاعلوه‪ ،‬ولو عصمهم لما خالفوه‪ ،‬ولو شاء أن يطيعوه جميعا‬
‫ألطاعوه‪ ،‬خلق الخلق وأفعالهم‪ ،‬وقدر أرزاقهم وآجالهم‪ ،‬يهدي من يشاء برحمته‪،‬‬
‫ويضل من يشاء بحكمته‪.‬‬

‫{ال يُ ْسأ َ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم يُ ْسأَلُونَ } [األنبياء‪ ]23 :‬قال هللا تعالى‪ِ { :‬إنَّا‬
‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫ش ْيء َف َقد ََّرهُ ت َ ْق ِديرا}‬ ‫َيء َخلَ ْقنَاهُ ِبقَدَر} [القمر‪ ]49 :‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫{و َخ َلقَ ُك َّل َ‬ ‫ُك َّل ش ْ‬
‫ض َو َال فِي أ َ ْنفُ ِس ُك ْم ِإ َّال‬
‫صيبَة فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫اب ِم ْن ُم ِ‬
‫ص َ‬‫[الفرقان‪ ]2 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ما أ َ َ‬
‫فِي ِكتَاب ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن نَب َْرأَهَا} [الحديد‪ ]22 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَ َم ْن يُ ِر ِد هللا أ َ ْن يَه ِديَهُ‬
‫ضلَّهُ َي ْج َع ْل َ‬
‫ص ْد َرهُ َ‬
‫ض ِيقا َح َرجا} [األنعام‪:‬‬ ‫إل ْس َال ِم َو َم ْن يُ ِر ْد أ َ ْن يُ ِ‬
‫ص ْد َرهُ ِل ْ ِ‬
‫َي ْش َرحْ َ‬
‫‪.]125‬‬

‫روى ابن عمر رضي هللا عنهما أن جبريل عليه السالم قال للنبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪« :‬ما اإليمان؟ قال‪ :‬أن تؤمن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم‬
‫اآلخر‪ ،‬وبالقدر خيره وشره‪ .‬فقال جبريل‪ :‬صدقت» رواه مسلم‪.‬‬

‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره»‪.‬‬

‫ومن دعاء النبي صلى هللا عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت‬
‫الوتر‪« :‬وقني شر ما قضيت»‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫وال نجعل قضاء هللا وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬بل يجب أن‬
‫نؤمن‪ ،‬ونعلم أن هلل علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل‪.‬‬
‫س ِل} [النساء‪ ]165 :‬ونعلم‬ ‫اس َعلَى هللا ُح َّجةٌ بَ ْعدَ الر ُ‬ ‫قال هللا تعالى‪ِ { :‬لئ َ َّال يَ ُكونَ ِللنَّ ِ‬
‫أن هللا سبحانه ما أمر ونهى إال المستطيع للفعل والترك‪ ،‬وأنه لم َيجبُر أحدا على‬
‫ف هللا نَ ْفسا إِ َّال‬ ‫معصية‪ ،‬وال اضطره إلى ترك طاعة‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫{ال يُ َك ِل ُ‬
‫ط ْعت ُ ْم} [التغابن‪]16 :‬‬ ‫ُو ْسعَ َها} [البقرة‪ ]286 :‬وقال هللا تعالى‪{ :‬فَاتَّقُوا هللا َما ا ْست َ َ‬
‫ظ ْل َم ْاليَ ْو َم} [غافر‪ ]17 :‬فدل على‬ ‫ت َال ُ‬ ‫{اليَ ْو َم ت ُ ْجزَ ى ُكل نَ ْفس بِ َما َك َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫وقال تعالى‪ْ :‬‬
‫أن للعبد فعال وكسبا يُجزى على حسنه بالثواب‪ ،‬وعلى سيئه بالعقاب‪ ،‬وهو واقع‬
‫بقضاء هللا وقدره‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫الشرح‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪) :‬ومن صفات للا تعالى أنه الفعال لما يريد‪ ،‬ال يكون‬
‫شيء إال بإرادته‪ ،‬وال يخرج شيء عن مشيئته‪ ،‬وليس في العالم شيء يخرج عن‬
‫تقديره‪ ،‬وال يصدر إال عن تدبيره‪ ،‬وال محيد عن القدر المقدور‪ ،‬وال يتجاوز ما‬
‫خط في اللوح المسطور‪ ،‬أراد ما العالم فاعلوه‪ ،‬ولو عصمهم لما خالفوه‪ ،‬ولو‬
‫شاء أن يطيعوه جميعا ً ألطاعوه‪ ،‬خلق الخلق وأفعالهم‪ ،‬وقدر أرزاقهم وآجالهم‪،‬‬
‫سأل عما‬
‫يهدي من يشاء برحمته‪ ،‬ويضل من يشاء بحكمته‪ ،‬قال للا تعالى‪{ :‬ال ي ْ‬
‫سألون} [األنبياء‪ ]23 :‬قال للا تعالى‪{ :‬إنا كل ش ْيء خل ْقناه بقدر}‬‫ي ْفعل وه ْم ي ْ‬
‫[القمر‪ ]49 :‬وقال تعالى‪{ :‬وخلق كل ش ْيء فقدره ت ْقد ً‬
‫يرا} [الفرقان‪ ]2 :‬وقال للا‬
‫تعالى‪{ :‬ما أصاب م ْن مصيبة في ْاأل ْرض وال في أ ْنفسك ْم إال في كتاب م ْن ق ْبل أ ْن‬
‫ن ْبرأها} [الحديد‪ ]22 :‬وقال تعالى‪{ :‬فم ْن يرد للا أ ْن يهديه يشْرحْ صدْره ل ْْل ْ‬
‫سالم‬
‫وم ْن ير ْد أ ْن يضله ي ْجع ْل صدْره ضيقًا حر ًجا} [األنعام‪.)]125 :‬‬

‫هذه مسألة جديدة ‪ ،‬انتهينا من مسائل األسماء والصفات‪ ،‬اآلن دخلنا في مسألة‬
‫جديدة من مسائل اإليمان وهي‪ :‬مسألة اإليمان بالقضاء والقدر‪.‬‬

‫واإليمان بالقدر من أصول اإليمان الستة التي ذكرت في حديث جبريل عليه‬
‫السالم(‪ ،)1‬قال في آخره‪« :‬وأن تؤمن بالقدر خيره وشره»؛ فاإليمان بالقدر من‬
‫أصول اإليمان‪.‬‬

‫والقدر هو تقدير هللا تعالى لألشياء في القدم‪ ،‬وعلمه تبارك وتعالى أنها ستقع في‬
‫أوقات معلومة عنده‪ ،‬وعلى صفات مخصوصة‪ ،‬وكتابته لذلك‪ ،‬ومشيئته له‪،‬‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ ، )4778050‬مسلم (‪ )9،10‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪ ،‬ومسلم(‪ )8‬عن ابن عمر رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ووقوعها على حسب ما قدرها‪ ،‬وخلقه لها‪ ،‬هذه مسألة القضاء والقدر باختصار‬
‫هي أربع مراتب‪ ،‬من آمن بها آمن بالقدر‪.‬‬

‫المرتبةاألولى‪ :‬اإليمان َّ‬


‫بأن هللا عزوجل عالم بكل ما يكون جملة وتفصيال‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫بعلم سابق‪} :‬ألم تعلم أن للا يعلم ما في السماء واألرض إن ذلك في كتاب إن ذلك‬
‫على للا يسير{[الحج‪.]70 :‬‬
‫المرتبة الثانية‪َّ :‬‬
‫أن هللا عزوجل كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫قال سبحانه وتعالى‪ } :‬ما أصاب من مصيبة في األرض وال في أنفسكم إال في‬
‫كتاب من قبل أن نبرأها{[الحديد‪ ]22 :‬أي‪ :‬من قبل أن نخلقها‪.‬‬
‫المرتبة الثالثة‪ :‬ال يكون شيء في السماوات واألرض إال بإرادة هللا‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫ومشيئته الدائرة بين الرحمة والحكمة؛ فيهدي من يشاء برحمته‪ ،‬ويضل من يشاء‬
‫بحكمته‪ ،‬وال يُسأل ع َّما يفعل والنَّاس يُسألون‪ ،‬قال هللا سبحانه وتعالى }إنا كل‬
‫شيء خلقناه بقدر{[القمر‪]46 :‬وقال أيضا‪} :‬فمن يرد للا أن يهديه يشرح صدره‬
‫لْلسالم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا ً حرجا ً كأنما يصعد في‬
‫السماء{[األنعام‪ ،]125 :‬فأثبت سبحانه وقوع الهداية والضاللة بإرادته‪ ،‬فال يكون‬
‫شيء في هذا الكون إال بإرادته سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫المرتبة الرابعة‪َّ :‬‬
‫أن كل شيء في السماوات واألرض مخلوق هلل تبارك‬ ‫‪-‬‬
‫وتعالى‪ ،‬ال خالق غيره‪ ،‬فكل ما هو على وجه هذه األرض من المخلوقات وكل ما‬
‫هو موجود من المخلوقات‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعالى هو الذي خلقه‪ ،‬قال سبحانه‬
‫وتعالى‪} :‬وخلق كل شيء فقدره تقديرا ً{[الفرقان‪ ،]2 :‬وقال‪ } :‬وللا خلقكم وما‬
‫تعملون{[الصافات‪ ،]96 :‬وقال‪} :‬للا خالق كل شيء{[الزمر‪ ،]62 :‬فاهلل سبحانه‬
‫وتعالى هو الخالق لكل شيء‪ ،‬ومن هذه األشياء أفعال العباد‪ ،‬خالفا لفرقة من الذين‬
‫خالفوا أهل السنة والجماعة في هذه المسألة؛ أخرجوا أفعال العباد من خلق هللا‬

‫‪94‬‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬وهذا ضالل كبير‪ ،‬فقد أثبتوا بذلك وجود خالق مع هللا تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬وهللا سبحانه وتعالى– كما تقدم معنا في اآليات السابقة – يبين أنه هو‬
‫شيء‪.‬‬ ‫لكل‬ ‫الخالق‬
‫س ِعيد يَقُو ُل‪:‬‬ ‫عبَ ْيدَ َّ‬
‫َّللاِ بْنَ َ‬ ‫س ِم ْعتُ ُ‬ ‫قال اإلمام البخاري في كتابه خلق أفعال العباد‪َ :‬‬
‫ص َحابِنَا يَقُولُونَ ‪ِ « :‬إ َّن أ َ ْف َعا َل ْال ِعبَا ِد‬
‫س ِعيد يَقُولُ‪َ :‬ما ِز ْلتُ أ َ ْس َم ُع ِم ْن أ َ ْ‬
‫سمعت يَ ْحيَى بْنَ َ‬
‫َّللاِ‪ -‬البخاري‪َ « : -‬ح َر َكات ُ ُه ْم َوأ َ ْ‬
‫ص َوات ُ ُه ْم َوا ْكتِ َ‬
‫سابُ ُه ْم َو ِكتَابَت ُ ُه ْم‬ ‫ع ْب ِد َّ‬‫َم ْخلُوقَةٌ» قَا َل أَبُو َ‬
‫وب ْال ُمو َعى‬ ‫ور ْال َم ْكت ُ ُ‬ ‫ط ُ‬ ‫ف ْال َم ْس ُ‬ ‫ص َح ِ‬ ‫آن ْال َمتْلُو ْال ُم َبي َُّن ْال ُمثَبَّتُ ِفي ْال ُم ْ‬
‫َم ْخلُوقَةٌ‪ ،‬فَأ َ َّما ْالقُ ْر ُ‬
‫ُور الَّذِينَ‬
‫صد ِ‬ ‫ْس ِبخ َْلق‪ ،‬قَا َل َّ‬
‫َّللاُ‪{ :‬بَ ْل ُه َو آيَ ٌ‬
‫ات بَ ِين ٌ‬
‫َات فِي ُ‬ ‫َّللاِ لَي َ‬ ‫فِي ْالقُلُو ِ‬
‫ب فَ ُه َو َك َال ُم َّ‬
‫أُوتُوا ْال ِع ْل َم}« [العنكبوت‪ .] 49:‬انتهى‬

‫هذه هي المراتب األربعة من آمن بها آمن بالقدر‪ ،‬واألدلة عليها من الكتاب والسنة‬
‫كثيرة‪ ،‬وكثيرة جدا‪ ،‬ذكرنا بعضا منها‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وال نجعل قضاء للا وقدره‪ ،‬حجة لنا في ترك‬
‫أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ ،‬بل يجب أن نؤمن ونعلم أن هلل علينا الحجة بإنزال‬
‫الكتب وبعثة الرسل‪ ،‬قال للا تعالى‪ } :‬لئال يكون للناس على للا حجة بعد‬
‫النساء‪]165 :‬‬
‫الرسل{)[ ِ‬

‫فبإرسال الرسل تنقطع الحجة‪ ،‬والعبد مخير في فعل الطاعات والمعاصي‪ ،‬وهو‬
‫أيضا مأمور بأن يطيع هللا سبحانه وتعالى ومنهي عن معصية هللا تبارك وتعالى‪،‬‬
‫وما كان هللا سبحانه وتعالى معذبا أحدا حتى يقيم الحجة عليه‪.‬‬
‫فليس لك أن تحتج على المعصية بالقدر؛ ألن هللا تبارك وتعالى أعطاك قدرة وإرادة‬
‫وبين لك طريق الحق وأمرك باتباعه‪ ،‬وعندك قدرة على االختيار فلم تكره عليها؛‬
‫‪.‬‬ ‫الباطل‬ ‫طريق‬ ‫وتترك‬ ‫الحق‬ ‫طريق‬ ‫تختار‬ ‫أن‬ ‫فواجبك‬

‫‪95‬‬
‫يصح االحتجاج بالقدر على المصائب التي تقع وال اختيار لك فيها‪ ،‬تقول قدر هللا‬
‫وما شاء فعل‪ ،‬وتعلم أن ال اختيار لك فيها‪ ،‬فتصبر على ما أصابك‪ ،‬وتُصبِر نفسك‬
‫باإليمان بالقدر‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬ونعلم أن للا سبحانه وتعالى ما أمر ونهى إال المستطيع‬
‫للفعل والترك‪ ،‬وأنه لم يجبر أحدا ً على معصية‪ ،‬وال اضطره إلى ترك معصية‪ ،‬قال‬
‫للا تعالى‪ } :‬ال يكلف للا نفسا ً إال وسعها{[البقرة‪ ،]286 :‬وقال للا تعالى‪}:‬‬
‫فاتقوا للا ما استطعتم{[التغابن‪ ،]16 :‬وقال تعالى‪} :‬اليوم تجزى كل نفس بما‬
‫كسبت ال ظلم اليوم {[غافر‪ ،]17 :‬فدل على أن للعبد فعالً وكسبا ً يجزى على‬
‫حسنه بالثواب‪ ،‬وعلى سيئه بالعقاب‪ ،‬وهو واقع بقضاء للا وقدره)‪.‬‬

‫فيجتمع األمران‪ ،‬العبد هو الذي يفعل حقيقة‪ ،‬العبد هو الفاعل لفعله حقيقة وهللا‬
‫سبحانه وتعالى هو الذي خلق العبد وخلق فعله أيضا‪ ،‬لكن هللا سبحانه وتعالى لم‬
‫رب‬
‫ِ‬ ‫يضطره إلى ترك طاعة وال جبره على فعل معصية‪ ،‬وال يكون هذا من‬
‫العالمين تبارك وتعالى‪ ،‬مع أنه هو خالق أفعال العباد‪ ،‬لكن العباد أيضا يفعلون‬
‫بمشيئتهم وإرادتهم؛ كما قال هللا تبارك وتعالى‪} :‬وما تشاؤون إال أن يشاء للا رب‬
‫العالمين{[التكوير‪ ]29 :‬فأثبت لهم مشيئة‪ ،‬هم يشاؤون يريدون‪ ،‬لكن ال تخرج‬
‫مشيئتهم عن مشيئة هللا تبارك وتعالى‪ ،‬يعني َّ‬
‫أن هللا سبحانه وتعالى إذا شاء شيئا‪،‬‬
‫وهم شاؤوا شيئا آخر يخالف مشيئة هللا‪ ،‬ال يكون هذا الشيء أبدا‪ ،‬لكن هللا سبحانه‬
‫وتعالى في نفس الوقت ال يجبر اإلنسان على فعل المعصية وهو ال يريد أن‬
‫يعصي‪ ،‬وال يجبره على الطاعة وهو يريد أن يعصي‪.‬‬

‫هذا كله يجب أن يكون معلوما عندنا‪ ،‬فال متعلق ألي أحد بمسألة القضاء والقدر‪،‬‬
‫فكل منا يدرك الفرق بين األشياء التي يفعلها باختياره‪ ،‬واألشياء التي يضطر إليها‬

‫‪96‬‬
‫اضطرارا‪ ،‬فاألشياء التي تضطر إليها اضطرارا ال يحاسبك عليها ربنا سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وال يؤاخذك عليها‪ ،‬لكن األشياء التي تفعلها باختيارك تحاسب عليها‪،‬‬
‫فعندك فرق ما بين األفعال التي تفعلها مضطرا إليها‪ ،‬واألفعال التي تفعلها‬
‫باختيارك‪ ،‬فأنت تفعل باختيارك ومشيئتك‪.‬‬

‫عندما يشرب الشخص الخمر يشربها بإرادته واختياره‪ ،‬ولذلك يعذب عليها‪ ،‬بينما‬
‫لو وقع في بركة بها خمر وشرب من غير اختياره ال يعذب على ذلك؛ ألنه شربها‬
‫بغير اختياره ‪.‬‬

‫فنعلم أن هللا كلف من العباد المستطيع على الفعل‪ ،‬ولم يكلف غير المستطيع‪ ،‬وكلف‬
‫العاقل ولم يكلف المجنون؛ ألن العاقل له اختيار والمجنون ال عبرة باختياره ‪.‬‬

‫فيدل هذا على أن للعبد فعال وكسبا يثاب ويعاقب بناء عليه‪ ،‬وهو واقع بقضاء هللا‬
‫وقدره ‪.‬‬

‫بقي تنبيه أخير وهو‪َّ :‬‬


‫أن إرادة هللا إرادتان‪ :‬إرادة كونية‪ ،‬وإرادة شرعية‪.‬‬

‫اإلرادة الكونية‪ :‬وهي التي تأتي بمعنى المشيئة‪} :‬فمن يرد للا أن يهديه يشرح‬
‫صدره لْلسالم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا ً حرجا ً كأنما يصعد في‬
‫السماء{[األنعام‪ ]125 :‬هذه اإلرادة بمعنى المشيئة‪ ،‬وهللا سبحانه وتعالى إذا أراد‬
‫شيئا فإنما يقول له كن فيكون‪ ،‬هذه هي اإلرادة الكونية‪ ،‬كل ما يحصل في هذا‬
‫الكون فقد أراده هللا كونا‪ ،‬سواء كان معصية أو طاعة‪ ،‬سواء كان يحبه أو يكرهه‪،‬‬
‫ومثاله الذي يمثل به العلماء كثيرا كفر أبي لهب‪ ،‬أراده هللا كونا فوقع ‪.‬‬

‫واإلرادة الشرعية‪ :‬وهي التي بمعنى المحبة‪ ،‬كما قال تبارك وتعالى في كتابه‬
‫الكريم‪ } :‬وللا يريد أن يتوب عليكم{[النِساء‪ ،]27 :‬هذه إرادة شرعية‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫كل ما أمرنا هللا تبارك وتعالى بفعلها في الكتاب أو في السنة‪َّ ،‬‬
‫فإن هللا سبحانه‬
‫وتعالى يريده إرادة شرعية فهو يحبه ويرضاه‪.‬‬

‫علما أنه ربما يحصل وربما ال يحصل في الكون‪ ،‬ربما يوجد وربما ال يوجد‪.‬‬

‫مثال أراد هللا من العباد جميعا أن يؤمنوا‪ ،‬هل آمنوا جميعا؟ ال‪ ،‬آمن البعض وكفر‬
‫البعض‪ ،‬فهذا اإليمان يحبه هللا ويرضاه من الناس‪ ،‬ولكنه ربما يقع وربما ال يقع‪،‬‬
‫فوقع مثال من أبي بكر ‪ ،‬ولم يقع من أبي لهب ‪.‬‬

‫بينما اإلرادة الكونية ال بد أن تقع‪ ،‬ولكنها تكون فيما يحبه هللا وفيما ال يحبه هللا‪.‬‬

‫هذا الفرق بين اإلرادتين‪.‬‬

‫هذا ما يتعلق بمسألة القضاء والقدر‪ ،‬وال يحتاج العبد أن يتوسع في هذه المسألة‬
‫كثيرا‪ ،‬يتوقف فقط عند أدلة الكتاب والسنة‪.‬‬

‫وبقي شيء أخير في هذا المبحث أود أن نتحدث عنه وهو أنَّه قد خالف أهل السنة‬
‫في مسألة القضاء والقدر فرقتان‪ ،‬وهما‪ :‬الجبرية والقدرية‪.‬‬

‫الجبرية‪ :‬هم الذين يقولون بأن العبد مجبور على أفعاله ال اختيار له ‪ ،‬نعوذ باهلل من‬
‫قولهم‪ ،‬وقد تقدم الرد عليهم فيما قررناه‪.‬‬

‫والقدرية‪ ،‬الذين يقولون بأن العبد مستقل بعمله‪ ،‬هو الذي يوجد عمله‪ ،‬وهللا سبحانه‬
‫وتعالى لم يخلق أفعال العباد‪ ،‬وهذه الطائفة أيضا ضلت عن طريق الهداية‪ ،‬وأثبتوا‬
‫خالقا مع هللا‪ ،‬وهللا سبحانه وتعالى يقول}للا خالق كل شيء{[الزمر‪} ،]62 :‬وللا‬
‫خلقكم وما تعملون{[الصافات‪ ،]96 :‬هذه اآليات واضحة في الرد على هذه العقيدة‬
‫الفاسدة‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫متن‬
‫فصل‬
‫واإليمان قول باللسان‪ ،‬وعمل باألركان‪ ،‬وعقد بال َجنان‪ ،‬يزيد بالطاعة وينقص‬
‫بالعصيان‪.‬‬
‫ص َالة َ‬ ‫{و َما أ ُ ِم ُروا ِإ َّال ِليَ ْعبُد ُوا هللا ُم ْخ ِل ِ‬
‫صينَ لَهُ الدِينَ ُحنَفَا َء َويُ ِقي ُموا ال َّ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ِين ْالقَ ِي َم ِة} [البينة‪ ]5 :‬فجعل عبادة هللا وإخالص القلب وإقام‬ ‫الز َكاة َ َوذَ ِل َك د ُ‬
‫َويُؤْ تُوا َّ‬
‫الصالة وإيتاء الزكاة كله من الدين‪.‬‬
‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬اإليمان بضع وسبعون شعبة‪ ،‬أعالها‬
‫شهادة أن ال إله إال هللا‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن الطريق»‪.‬‬
‫فجعل القول والعمل من اإليمان‪.‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬فَزَ ادَتْ ُه ْم ِإي َمانا} [التوبة‪ ]124 :‬وقال‪ِ { :‬ليَ ْزدَادُوا إِي َمانا} [الفتح‪. ]4 :‬‬
‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬يخرج من النار من قال ال إله إال هللا وفي‬
‫قلبه مثقال برة‪ ،‬أو خردلة‪ ،‬أو ذرة من اإليمان» فجعله متفاضال‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫الشرح‬

‫اإليمان قول وعمل تفسير شرعي لإليمان‪ ،‬بينما في اللغة هوالتصديق‪ ،‬وقال بعض‬
‫أهل العلم‪ :‬هواإلقرار‪.‬‬

‫فاإليمان في الشرع أعم من اإليمان في اللغة‪ ،‬اإليمان في اللغة هو التصديق‪ ،‬لكن‬


‫في الشرع أعم من ذلك‪ :‬قول باللسان‪ ،‬واعتقاد بالقلب‪ ،‬وعمل بالجوارح واألركان‪.‬‬
‫هذا هو اإليمان في الشرع‪.‬‬

‫دلت على ذلك أدلة الكتاب والسنة‪ ،‬األدلة الشرعية تدل على َّ‬
‫أن اإليمان يكون من‬
‫هذه األركان الثالثة‪ :‬القول‪ ،‬واالعتقاد‪ ،‬والعمل‪ ،‬ال القول وحده‪ ،‬وال العمل وحده‪،‬‬
‫وال االعتقاد وحده‪ ،‬بل هذه الثالثة هي اإليمان في الشرع ‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪ ( :‬واإليمان قول باللسان‪ ،‬وعمل باألركان‪ ،‬وعقد بالجنان‪،‬‬
‫يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان)‬

‫كل جملة من هذه الجمل عليها دليل‪.‬‬

‫اإليمان قول باللسان‪ :‬ال يكون العبد مؤمنا حتى يقول بلسانه كلمة التوحيد‪ :‬ال إله‬
‫إال هللا محمد رسول هللا‪ ،‬هذا األمراألول‪.‬‬

‫وعمل باألركان‪ :‬عمل بالجوارح‪ ،‬المقصود باألركان هنا الجوارح كاأليدي‬


‫واألقدام‪ ،‬فالصالة من اإليمان والصيام والزكاة والحج والهجرة والجهاد ‪...‬‬

‫وعقد بالجنان‪ :‬أي اعتقاد قلبي منه التصديق وأعمال القلوب‪.‬‬

‫فدخلت جميع العبادات القولية واالعتقادية واللسانية في ذلك‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫يعرف بهذا أن االعتقاد القلبي وحده ال يكفي‪ ،‬والقول اللساني وحده ال يكفي‪،‬‬
‫والعمل بالجوارح وحده ال يكفي‪ ،‬حتى تجتمع هذه الثالثة كي يكون العبد مؤمنا‪ ،‬ال‬
‫يجزئ واحد من الثالثة إال باآلخر‪.‬‬

‫ويزيد بالطاعات‪ :‬العبادات المختلفة كلها تزيد اإليمان‪ ،‬ومنها الصالة والصيام‬
‫والزكاة والحج وغيرها‪ ،‬كلما زادت زاد إيمان العبد وزادت طاعته‪ ،‬وكلما نقصت‬
‫نقص على حسب العمل‪ ،‬و إذا كان العمل واجبا نقص إيمانه الواجب‪ ،‬وإذا كان‬
‫مستحبا نقص إيمانه المستحب؛ الكمال المستحب‪.‬‬

‫قال هللا تعالى} وما أمروا إال ليعبدوا للا مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا‬
‫الصالة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة{[البينة‪ ،]5 :‬هذا الدين القيم المستقيم الذي‬
‫ال اعوجاج فيه‪.‬‬

‫(يعبدوا هللا مخلصين له الدين) اإلخالص ( عمل قلبي)‪.‬‬

‫( حنفاء) مائلون عن الشرك‪ ،‬إلى التوحيد‪.‬‬

‫( ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة) هذا الشاهد من األمر‪ :‬أنه أدخل الصالة وأدخل‬
‫الزكاة في الدين الذي هو اإليمان‪ ،‬ودين هللا سبحانه وتعالى دين اإلسالم الذي هو‬
‫اإليمان‪.‬‬
‫فهذه اآلية فيها دليل على أن اإلخالص وهو قلبي‪ ،‬والصالة والزكاة وهما عمل‬
‫جوارح من اإليمان ‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬فجعل عبادة للا تعالى‪ ،‬وإخالص القلب‪ ،‬وإيقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة؛ كله‬
‫من الدين‪ .‬وقال رسول للا صلى للا عليه وسلم‪« :‬اإليمان بضع وسبعون شعبة‪،‬‬

‫‪101‬‬
‫أعالها شهادة أن ال اله إال للا‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن الطريق»(‪ )1‬فجعل القول‬
‫والعمل من اإليمان)‬

‫و«الحياء شعبة من اإليمان» لم يذكرها المؤلف هنا‪ ،‬وهي من تتمة الحديث «‬


‫والحياء شعبة من اإليمان»‪ ،‬فذكر أمرا قلبيا‪ ،‬وذكر عمال من أعمال الجوارح‪،‬‬
‫وذكر أيضا النطق بالشهادة القول اللساني‪ ،‬فهذه الثالثة جعلها أجزاء لإليمان‪،‬‬
‫فقال‪« :‬اإليمان بضع وسبعون شعبة»‪ ،‬إذن هذه كلها داخلة في اإليمان‪ ،‬واإليمان‬
‫شعب وأجزاء‪ ،‬الحديث صريح في الداللة على ذلك ‪.‬‬

‫قال‪( :‬وقال تعالى} فزادتهم إيمانا ً{[التوبة‪ ]124 :‬وقال‪} :‬ليزدادوا إيمانا ً{[الفتح‪:‬‬
‫‪ ]4‬وقال رسول للا صلى للا عليه وسلم‪ « :‬يخرج من النار من قال‪ :‬ال إله إال‬
‫( ‪)2‬‬
‫فجعله متفاضالً)‬ ‫للا‪ ،‬وفي قلبه مثقال برة‪ ،‬أو خردلة‪ ،‬أو ذرة من إيمان»‬

‫)}فزادتهم إيمانا ً }{ليزدادوا إيمانا ً}) هذه اآليات تدل على زيادة اإليمان‪ ،‬وهي‬
‫صريحة بذلك‪ ،‬المؤلف يقرر بها أن اإليمان يزيد وينقص وهذا مجمع عليه عند‬
‫أهل السنة وهي عقيدتهم‪ ،‬وهذه األدلة على ذلك‪.‬‬

‫( يخرج من النار من قال‪ :‬ال إله إال للا‪ ،‬وفي قلبه مثقال برة‪ ،‬أو خردلة‪ ،‬أو ذرة‬
‫من إيمان) هذا قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقد جعل اإليمان متفاوتا بعضه‬
‫أكبر من بعض‪ ،‬ويتناقص اإليمان إلى أن يصل إلى هذه الدرجة‪ ،‬فاإليمان يزيد‬
‫وينقص‪.‬‬

‫(‪ )1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ، )9‬ومسلم(‪ )35‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)44،7410‬مسلم (‪)193‬ال عن أنس بن مالك رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫قال‪( :‬فجعله متفاضالً) بعضه بقدرالبرة ‪ ،‬أي بقدر وزن القمحة‪ ،‬وبعضه بقدر‬
‫الخردلة‪ ،‬والخردل نبت صغير الحب‪ ،‬وبعضه بقدر الذرة‪ ،‬أي بقدر وزن النملة‬
‫الصغيرة‪ ،‬وكل واحدة منها وزنها أكبر من األُخرى‪ ،‬ففي هذا رد على الذين‬
‫يقولون اإليمان شيء واحد ال يتفاضل‪ ،‬وال يزيد وينقص‪ ،‬وهو في القلب فقط‪ ،‬وهم‬
‫المرجئة ‪.‬‬

‫فاإليمان هو هذا الذي تقرر عندنا في الشرع وهو‪ :‬قول باللسان‪ ،‬واعتقاد بالقلب‪،‬‬
‫وعمل بالجوارح واألركان‪.‬‬

‫أعمال الجوارح كلها من اإليمان‪ ،‬لكن إذا زال بعضها ال يزول اإليمان بالكلية‪،‬‬
‫لكن إذا زال العمل بالكلية‪ ،‬زال ركن من األركان الثالثة وهي‪ ( :‬قول اللسان‪،‬‬
‫واعتقاد القلب ‪ ،‬وعمل الجوارح)‪.‬‬

‫فإذا ذهب عمل الجوارح بالكامل زال ركن وذهب اإليمان‪ ،‬وإذا زال القول زال‬
‫ركن وذهب اإليمان‪ ،‬إذا زال االعتقاد زال ركن وذهب اإليمان‪ ،‬فاإليمان ال يتحقق‬
‫إال بهذه األركان الثالثة‪.‬‬

‫أ َّما آحاد العمل كالزكاة مثال والصيام والحج‪ ،‬فإذا زال الحج عند المؤمن‪ ،‬لم يحج‬
‫يبقى مؤمنا‪ ،‬ولكنه نقص إيمانه الواجب‪ ،‬حصل عنده نقص في اإليمان الواجب‬
‫وهذا مستحق للعقاب عند هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫وأما الصالة فحصل فيها خالف بين أهل العلم‪ ،‬والراجح في ذلك أن من ترك‬
‫الصالة بالكلية ذهب إيمانه ولم يعد مؤمنا‪ ،‬بل هو كافر خارج من ملة اإلسالم ‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬العهد الذي بيننا وبينهم الصالة فمن تركها فقد‬
‫كفر»‪ ،1‬وقوله‪ « :‬بين العبد وبين الكفر أوالشرك الصالة»‪ ،2‬دليل على ذلك‪ ،‬مع‬
‫فهم الصحابة ‪.‬‬

‫إذن ال يفصل العبد عن الكفر أوالشرك إال الصالة‪ ،‬فمن تركها فقد دخل في الكفر‬
‫أوالشرك على مقتضى ما قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فالحذر الحذر من‬
‫التهاون في أمر الصالة‪ ،‬فأمرها عظيم ‪ ،‬وأول ما يحاسب به العبد يوم القيامة هي‬
‫الصالة‪.‬‬
‫لكن كون اإليمان ال يصح إال بعمل الجوارح غير مرتبط بهذه المسألة‪ ،‬فحتى الذين‬
‫ال يقولون بكفر تارك الصالة من أهل السنة‪ ،‬يقولون إذا لم يوجد عمل الجوارح‬
‫وجد األركان الثالثة‬
‫مطلقا ال بعمل واحد وال بأكثر ال يكون العبد مؤمنا‪ ،‬ألنه لم يُ ِ‬
‫لإليمان‪ ،‬يكون فقط أوجد القول واالعتقاد‪ ،‬وهذا ال يكفي عند أهل السنة‪ ،‬ومنهم‬
‫الشافعي الذي ال يكفر تارك الصالة‪ ،‬وهو الذي نقل اتفاق أهل السنة عليه ‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫والمرجئة‬ ‫الخوارج‬ ‫العقيدة‬ ‫هذه‬ ‫في‬ ‫السنة‬ ‫أهل‬ ‫خالف‬


‫الخوارج كفروا المسلمين بالكبيرة‪ ،‬ومنهم اليوم داعش وجماعة القاعدة ‪ ،‬النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم بين عالمتهم‪ ،‬فقال‪« :‬يقتلون أهل اإلسالم ويدعون أهل‬
‫األوثان»‪.‬‬
‫وذلك عن طريق تكفيرهم بالكبائر‪ ،‬بل و ربما يكفرونهم بما يظنونه ذنبا وليس‬
‫كذلك‪ ،‬وقد حذر منهم النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬حتى لو رأينا منهم عبادات‬
‫وطاعات نحتقر أعمالنا أمامها ال نغتر بذلك‪ ،‬هذا ما تعلمناه من نبينا صلى هللا عليه‬
‫وسلم؛ فعقيدتهم فاسدة وشرهم على المسلمين كبيرة ‪ ،‬لذلك أمر النبي صلى هللا عليه‬
‫‪ 1‬رواه أحمد (‪ )2007،22937‬والترمذي (‪ )2621‬وابن ماجه (‪ )1079‬وغيرهم عن بريدة األسلمي رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬رواه مسلم (‪ )82‬عن جابر بن عبدهللا رضي هللا عنهما‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫‪.‬‬ ‫بقتلهم‬ ‫وسلم‬

‫والفرق الثانية المرجئة‪ ،‬وهؤالء اتفقوا جميعا على أن أعمال الجوارح ليست من‬
‫اإليمان‪ ،‬فبعضهم قال ‪ :‬اإليمان قول فقط‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬اإليمان قول واعتقاد فقط‬
‫‪ ،‬ولهم أقوال أخرى ‪ ،‬ولكن اجتمعت جميعها على أن أعمال الجوارح ليست من‬
‫اإليمان‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫متن‬
‫اإليمان بكل ما أخبر به الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫ويجب اإليمان بكل ما أخبر به النبي صلى هللا عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما‬
‫شاهدناه‪ ،‬أو غاب عنا‪ ،‬نعلم أنه حق وصدق‪ ،‬وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه‪ ،‬ولم‬
‫نطلع على حقيقة معناه‪.‬‬
‫مثل‪ :‬حديث اإلسراء والمعراج‪ ،‬وكان يقظة ال مناما؛ فإن قريشا أنكرته وأكبرته‪،‬‬
‫ولم تنكر المنامات‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السالم ليقبض روحه لطمه ففقأ‬
‫عينه‪ ،‬فرجع إلى ربه فرد عليه عينه‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬أشراط الساعة‪ ،‬مثل‪ :‬خروج الدجال‪ ،‬ونزول عيسى ابن مريم عليه‬
‫السالم فيقتله‪ ،‬وخروج يأجوج ومأجوج‪ ،‬وخروج الدابة‪ ،‬وطلوع الشمس من‬
‫مغربها‪ ،‬وأشباه ذلك مما صح به النقل‪.‬‬
‫وعذاب القبر ونعيمه حق‪ ،‬وقد استعاذ النبي صلى هللا عليه وسلم منه‪ ،‬وأمر به في‬
‫كل صالة‪.‬‬
‫وفتنة القبر حق‪ ،‬وسؤال منكر ونكير حق‪.‬‬
‫{ونُ ِف َخ‬‫والبعث بعد الموت حق‪ ،‬وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السالم في الصور َ‬
‫ث ِإلَى َر ِب ِه ْم يَ ْن ِسلُونَ } [يس‪.]51 :‬‬ ‫ور فَإِذَا ُه ْم ِمنَ ْاأل َ ْجدَا ِ‬ ‫فِي الص ِ‬
‫ويحشر الناس يوم القيامة حفاة‪ ،‬عراة‪ ،‬غرال‪ ،‬بهما‪ ،‬فيقفون في موقف القيامة حتى‬
‫يشفع فيهم نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويحاسبهم هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وتنصب‬
‫الموازين‪ ،‬وتنشر الدواوين‪ ،‬وتتطاير صحائف األعمال إلى األيمان والشمائل {فَأ َ َّما‬
‫ب ِإلَى أ َ ْه ِل ِه َم ْس ُرورا ‪-‬‬ ‫سابا يَسِيرا ‪َ -‬ويَ ْنقَ ِل ُ‬ ‫ُ‬
‫ب ِح َ‬ ‫س ُ‬ ‫ف يُ َحا َ‬‫س ْو َ‬‫ي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه ‪ -‬فَ َ‬‫َم ْن أوتِ َ‬
‫ُ‬
‫س ِعيرا }‬ ‫صلَى َ‬ ‫عو ثُبُورا‪َ -‬ويَ ْ‬ ‫ف يَ ْد ُ‬
‫س ْو َ‬‫ظ ْه ِر ِه ‪ -‬فَ َ‬ ‫ي ِكتَابَهُ َو َرا َء َ‬ ‫َوأ َ َّما َم ْن أوتِ َ‬
‫[االنشقاق‪.]12 - 7 :‬‬
‫ت َم َو ِازينُهُ فَأُولَ ِئ َك ُه ُم‬‫والميزان له كفتان ولسان توزن به األعمال {فَ َم ْن ثَقُلَ ْ‬
‫س ُه ْم فِي َج َهنَّ َم خَا ِلدُونَ }‬ ‫ت َم َو ِازينُهُ فَأُولَ ِئ َك الَّذِينَ َخس ُِروا أ َ ْنفُ َ‬ ‫ْال ُم ْف ِل ُحونَ ‪َ -‬و َم ْن َخفَّ ْ‬
‫[المؤمنون‪.]103 - 102 :‬‬
‫ولنبينا محمد صلى هللا عليه وسلم حوض في القيامة‪ ،‬ماؤه أشد بياضا من اللبن‪،‬‬
‫وأحلى من العسل‪ ،‬وأباريقه عدد نجوم السماء‪ ،‬من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها‬
‫أبدا‪.‬‬
‫والصراط حق يجوزه األبرار‪ ،‬ويزل عنه الفجار‪.‬‬
‫ويشفع نبينا صلى هللا عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر‪،‬‬
‫فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحما وحمما‪ ،‬فيدخلون الجنة بشفاعته‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫ولسائر األنبياء والمؤمنين والمالئكة شفاعات‪.‬‬
‫ضى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْشيَتِ ِه ُم ْش ِفقُونَ } [األنبياء‪:‬‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬و َال يَ ْشفَعُونَ ِإ َّال ِل َم ِن ْ‬
‫ارت َ َ‬
‫‪ ]28‬وال تنفع الكافر شفاعة الشافعين‪.‬‬
‫والجنة والنار مخلوقتان ال تفنيان‪ ،‬فالجنة مأوى أوليائه‪ ،‬والنار عقاب ألعدائه‪،‬‬
‫ب َج َهنَّ َم خَا ِلدُونَ ‪َ -‬ال يُفَت َّ ُر َ‬
‫ع ْن ُه ْم‬ ‫وأهل الجنة فيها مخلدون { ِإ َّن ْال ُم ْج ِر ِمينَ فِي َعذَا ِ‬
‫سونَ } [الزخرف‪.]75 - 74 :‬‬ ‫َو ُه ْم فِي ِه ُم ْب ِل ُ‬
‫ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح‪ ،‬فيذبح بين الجنة والنار‪ ،‬ثم يقال‪« :‬يا أهل‬
‫الجنة خلود وال موت ويا أهل النار خلود وال موت»‪.‬‬

‫الشرح‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬فصل‪ :‬اإليمان بكل ما أخبر به الرسول صلى للا‬
‫عليه وسلم)‬

‫أي سواء كان من األمور المشاهدة أو الغائبة عنا التي ال نراها‪ ،‬والتي ال تعرف إال‬
‫باألخبارالصادقة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فكل ما ثبت عن النَّبي صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم وجب اإليمان به‪ ،‬سواء أدركته عقولنا أم ال‪ ،‬وسواء شاهدناه‬
‫بحواسنا أم ال‪ ،‬النَّاس ال يتفاضلون باإليمان بالمشاهد‪ ،‬المشاهد الحسي يؤمن به‬
‫الجميع‪ ،‬ولكن الميزة تكون باإليمان باألمور الغيبية التي غابت عنا‪ ،‬بغض النَّظر‬
‫عن كونها من نوع ما ال يدرك إال بالعقل أم ال‪ ،‬ومما ال يدرك إال بالحس أو ال‪ ،‬فإن‬
‫اإليمان باألمور الغيبية يميز المؤمن عن غيره‪ ،‬و قد أثنى هللا سبحانه وتعالى على‬
‫ْب فِي ِه ُهدى ِل ْل ُمت َّ ِقينَ (‪)2‬‬
‫َري َ‬ ‫اب َال‬ ‫الذين يؤمنون بالغيب فقال سبحانه‪ { :‬ذَ ِل َك ْال ِكت َ ُ‬
‫يُ ْن ِفقُونَ (‪َ )3‬والَّذِينَ يُؤْ ِمنُونَ‬ ‫ص َالة َ َو ِم َّما َرزَ ْقنَا ُه ْم‬ ‫الَّذِينَ يُؤْ ِمنُونَ بِ ْالغَ ْي ِ‬
‫ب َويُ ِقي ُمونَ ال َّ‬

‫‪107‬‬
‫بِ َما أ ُ ْن ِز َل إِلَي َْك َو َما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ِل َك َوبِ ْاآل ِخ َرةِ ُه ْم يُوقِنُونَ (‪ )4‬أُولَئِ َك َعلَى ُهدى ِم ْن‬
‫َر ِب ِه ْم َوأُولَ ِئ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ (‪[ } )5‬البقرة‪.]5-2 :‬‬

‫هذه المسألة من أعظم الفوارق بين أهل السنة والعقالنيين ‪ ،‬فأولئك ال يؤمنون إال‬
‫بما توافقه عقولهم من الغيبيات فقط ففي إيمانهم خلل ونقص‪ ،‬بخالف أهل السنة‬
‫يؤمنون بكل غيب ثبت في الشرع؛ إيمانا وتسليما وانقيادا لشرع ربهم تبارك‬
‫وتعالى ‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬ويجب اإليمان بكل ما أخبر به النبي صلى للا عليه وسلم‬
‫وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا‪ ،‬نعلم أنه حق وصدق‪ ،‬وسواء في‬
‫ذلك ما عقلناه وجهلناه‪ ،‬ولم نطلع على حقيقة معناه) فهذا من مقتضى اإليمان به‪،‬‬
‫فإن كنت بحق مؤمنا بمحمد صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وأنه مبعوث من عند هللا تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬وأنه صادق فيما يخبر به‪ ،‬فيلزمك أن تؤمن بكل ما أخبر به عن ربه‬
‫تبارك وتعالى؛ ألنه ال ينطق عن الهوى بل يتكلم بوحي من هللا تبارك وتعالى‬
‫{ َو َما يَ ْن ِط ُق َع ِن ْال َه َوى (‪ِ )3‬إ ْن هُ َو ِإ َّال َو ْح ٌ‬
‫ي يُو َحى (‪[})4‬النجم ‪ ]4-3‬وأمر هللا‬
‫تبارك وتعالى بتصديقه‪ ،‬فنصدقه فيما أخبر به‪ ،‬سواء وافقته عقولنا أم لم توافقه‪،‬‬
‫فعقولنا لها حد تنتهي إليه كما قال اإلمام الشافعي‪ ،‬ال يمكنها أن تدرك كل شيء ‪،‬‬
‫فواجبها التسليم ألمر هللا الذي أحاط بكل شيء علما‪.‬‬

‫قال‪( :‬مثل حديث اإلسراء والمعراج ‪ ،11‬وكان يقظة ال مناما ً؛ فإن قريشا ً أنكرته‬
‫وأكبرته‪ ،‬ولم تنكر المنامات)‪.‬‬

‫من الغيبيات التي يجب أن نؤمن بها حديث اإلسراء والمعراج‪ ،‬اإلسراء هو سير‬
‫الليل‪ ،‬والمعراج هي اآللة التي يعرج بها‪ ،‬أي‪ :‬يُصعد بها‪ ،‬وعرج أي‪ :‬صعد‪.‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ )3887،3430،3393،3207‬ومسلم (‪ )164‬عن أنس بن مالك رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪108‬‬
‫وهو في الشرع‪ :‬اآللة التي يصعد بها من األرض إلى السماء‪ ،‬وهو بمنزلة السلم‪،‬‬
‫لكن ال يعلم كيف هو‪ ،‬وحكمه كحكم غيره من المغيبات‪ ،‬نؤمن به وال نشتغل‬
‫بكيفيته‪.‬‬

‫فاإليمان باإلسراء والمعراج من اإليمان بإالمور الغيبية التي لم نرها‪ ،‬و لكن النَّبي‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم أخبرنا بها‪ ،‬و كون النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أخبرنا بها ‪-‬‬
‫وهو الصادق الذي ال يخبر إال بصدق ‪ ،-‬إذن يجب علينا أن نؤمن بها‪.‬‬

‫وقول المؤلف رحمه هللا تعالى‪ ( :‬وكان يقظة ال مناما) هذا رد على الذين يقولون‬
‫بأن قصة اإلسراء والمعراج وما حصل مع النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم فيها كان في‬
‫منامه‪ ،‬ال في الواقع‪ ،‬وهذا باطل‪.‬‬

‫رد عليهم المصنف‪ ،‬فقال‪ :‬قريش أنكرته على النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم و أكبرته‬
‫واستعظمت هذا الخبر –الذي أخبر به النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ -‬وقريش لم تكن‬
‫تنكر المنامات‪ ،‬كانوا يؤمنون بها ويعرفون المنامات‪ ،‬ولكنهم أنكروا هذا الخبر‪،‬‬
‫خبر اإلسراء والمعراج‪ ،‬مما يدل على أنهم فهموا من النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أنه‬
‫حقيقة و ليس مناما‪ ،‬و هذا رد في محله وهو قوي عليهم‪.‬‬

‫أما قصة اإلسراء والمعراج فهي قصة طويلة و معلومة‪ ،‬النَّبي صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم كان في مكة فجاءه جبريل عليه السالم فأخذه على دابة يقال لها «البراق»‪،‬‬
‫دابة دون البغل وفوق الحصان‪ ،‬سرت بالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم من مكة إلى بيت‬
‫المقدس‪ ،‬فنزل صلى هللا عليه وسلَّم وربطها عند البيت‪ ،‬ونزل وصلى باألنبياء في‬
‫بيت المقدس‪ ،‬ث ُ َّم عرج به جبريل إلى السماء‪ ،‬فمر بالسماء األولى والثانية والثالثة‬
‫والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة‪ ،‬وكلم هللا تبارك وتعالى‪ ،‬ففرض سبحانه‬
‫وتعالى عليه خمسين صالة‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫فلما رجع النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم إلى السماء السادسة وكان فيها موسى أخبره‬
‫أن أمته ال تقدر على ذلك‪ ،‬فرجع صلى هللا عليه وسلَّم إلى رب العزة تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬فبقي على هذا ينزل إلى موسى ويصعد إلى أن فرضها هللا تبارك وتعالى‬
‫خمس صلوات‪ ،‬وأعطانا بها أجر خمسين صالة فضال و تكرما منه سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬

‫فلما رجع النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم إلى موسى في السماء السادسة‪ ،‬أشار عليه أن‬
‫يرجع إلى هللا سبحانه وتعالى وأن يطلب التخفيف‪ ،‬ولكن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‬
‫قال له‪ :‬إني استحييت من هللا من كثرة ما راجعته في األمر‪.‬‬

‫فاستقرت الصلوات على خمس صلوات‪ ،‬هذا ملخص لقصة اإلسراء والمعراج‬
‫وهي طويلة‪ ،‬موجودة في الصحيحين‪ ،‬و في غيرهما‪.‬‬

‫فهو خبر ثابت صحيح ال شك فيه ال ينكره إال أهل البدع والضالل‪ ،‬وأهل الكفر‬
‫والجحود واإلنكار‪ ،‬أما أهل السنة والجماعة فيؤمنون به أنه حقيقي‪ ،‬وأنه صحيح‬
‫كما أخبرصلى هللا عليه وعلى آله وسلَّم‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬ومن ذلك أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه‬
‫السالم ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه‪ ،‬فرجع إلى ربه فرد عليه عينه‪)11‬‬

‫أي من األُمورالتي يجب على المسلم أن يؤمن بها؛ ألن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‬
‫أخبرنا بها‪ ،‬حادثة لطم موسى لملك الموت ‪.‬‬

‫هذه القصة في الصحيحين متفق عليها‪ ،‬وفي غيرهما أيضا‪ ،‬حيث جاء ملك الموت‬
‫بصورة إنسان إلى موسى عليه السالم؛ ليقبض روحه فلطمه موسى عليه السالم‬
‫ففقأ عينه‪ ،‬فرجع ملك الموت إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فأعاد هللا تبارك وتعالى عليه‬
‫‪ 1‬متفق عليه البخاري (‪ )3407،1339‬ومسلم (‪ )2372‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫عينه‪ ،‬ث ُ َّم قال له‪ « :‬ارجع إليه‪ ،‬وقل له‪ :‬يضع يده على متن ثور‪ ،‬فله بكل ما غطى‬
‫يده بكل شعرة سنة»‪ ،‬فقال موسى‪ :‬ث ُ َّم ماذا؟ فقال‪ :‬ث ُ َّم الموت‪ ،‬فقال‪ :‬إذن اآلن‪ ،‬فسأل‬
‫هللا سبحانه وتعالى أن يدنيه من األرض المقدسة رمية حجر‪ ،‬فقال النَّب يصلى هللا‬
‫عليه وسلَّم‪ « :‬فلو كنتُ ث َّمة ألريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب األحمر»‬
‫أي عند الرمل المجتمع‪.‬‬

‫والخبر هذا في الصحيحين‪ ،‬أنكره بعض أهل البدع‪ ،‬فقالوا‪ :‬كيف يلطم موسى‬
‫الملك و يفقأ عينه؟! فرد عليهم أهل العلم‪ :‬بأن موسى لم يكن يعلم أنه ملك الموت‪،‬‬
‫جاءه على صورة إنسان‪ ،‬إنسان جاء ليقبض روحك ماذا تفعل؟ إنسان جاء ليقتلك‬
‫ماذا تفعل؟ فدافع عن نفسه بهذه الطريقة‪ ،‬فال نكارة في األمر‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬إذن‪ ،‬لماذا لم يقتص من موسى ؟ يعني أسئلة عقلية محضة‪ ،‬وهي من‬
‫السخافة بمكان‪ ،‬لم يقتص من موسى ألمرين‪:‬‬

‫األمراألول‪ :‬أن هللا تبارك وتعالى قد شرع لمن نظر في بيته من غير إذنه أن‬ ‫‪-‬‬
‫يفقأ عين من نظرة؛ ألنه من حقه‪ ،‬ذاك معتد‪ ،‬هذا األمراألول‪.‬‬

‫األمرالثاني‪ :‬من قال لهم بأن ملك الموت كان يريد القصاص وأنه طالب‬ ‫‪-‬‬
‫بالقصاص؟ ف ُ‬
‫شبَههم مردودة و باطلة‪ ،‬ولكن يتعلقون بأدنى شبهة‪ ،‬لرد أحاديث‬
‫النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬لضعف الوازع الديني في قلوبهم‪ ،‬وضعف تصديقهم‬
‫بما أخبر به صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬ومن ذلك أشراط الساعة)‬

‫أي ومما يجب على المسلم أن يؤمن به؛ ما أخبر به النبي صلى هللا عليه وسلم من‬
‫أشراط الساعة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫األشراط جمع شرط وهو في اللغة‪ :‬العالمة‪ ،‬والساعة في اللغة هي الوقت‪.‬‬

‫والمراد بها هنا‪ :‬القيامة‪ ،‬فأشراط الساعة‪ :‬عالمات يوم القيامة‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬مثل خروج الدجال)‪ ،‬الدجال صيغة مبالغة من الدجل وهو‬
‫ملبس يخرج في آخر الزمان‪ 1‬يدَّعي الربوبية‪ ،‬ومعه فتن يفتن‬ ‫الكذب‪ ،‬وهو رجل ِ‬
‫النَّاس بها‪ ،‬من ذلك أن معه جنة ونارا‪ ،‬ولكن جنَّته نار وناره جنة كما أخبرالنَّبي‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،2‬و فتنته عظيمة حتى أنه ما جاء نبي إال و حذر أمته منه‬
‫وكان آخرهم نبينا صلى هللا عليه وسلَّم‪.3‬‬

‫وهو خارج في أمة محمد صلىاهلل عليه وسلَّم فهي آخر األمم‪ ،‬وكما ذكرنا فتنته‬
‫عظيمة‪ ،‬ومن عظمها أوصى النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بإالستعاذة منه في دبر كل‬
‫صالة‪ ،4‬فنحن نستعيذ منه في اليوم أكثر من خمس مرات لعظم فتنته‪.‬‬

‫س ِم َع بِالدَّ َّجا ِل فَ ْل َي ْنأ َ َع ْنهُ‪،‬‬


‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلَّم في حديث آخر‪َ « :‬م ْن َ‬
‫ت»‪،‬‬ ‫ث بِ ِه ِمنَ الشبُ َها ِ‬ ‫الر ُج َل لَ َيأْتِي ِه َوهُ َو َي ْحس ُ‬
‫ِب أَنَّهُ ُمؤْ ِم ٌن فَيَت َّ ِبعُهُ‪ِ ،‬م َّما َي ْب َع ُ‬ ‫َّللاِ ِإ َّن َّ‬‫فَ َو َّ‬
‫ت»‪5‬نسأل هللا العافية والسالمة‪.‬‬ ‫ث ِب ِه ِمنَ الشبُ َها ِ‬ ‫أ َ ْو « ِل َما يَ ْب َع ُ‬

‫وهذا الحديث األخيرالذي ذكرناه يدل على وجوب مجانبة من معه فتنة في الدين‪،‬‬
‫ومن هؤالء أهل البدع والضالل‪ ،‬فالشخص يظن من نفسه أنه آمن‪ ،‬كما نسمع‬
‫كثيرا من الشباب يقولون‪ :‬أنا أذهب وأسمع فما أجده حقا آخذ به‪ ،‬وما أجده باطال‬
‫أتركه‪ ،‬هذا مسكين‪ ،‬لماذا؟ ألنه ال يخلو حاله‪ :‬إما أن يكون ال يعرف معنى الشبهة‬
‫‪1‬متفق عليه ‪ ،‬البخاري (‪ )7130،3450‬و مسلم (‪ )2934‬عن حذيفة بن اليمان رضي هللا عنهما ‪ ،‬وقد تواترت‬
‫األحاديث بخروج الدجال‪.‬‬
‫‪ 2‬مسلم (‪ )2934‬عن حذيفة بن اليمان رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫‪3‬متفق عليه البخاري‬
‫(‪ )7407،7128،7127،7123،7126،6999،6175،5902،3441،3440،3439،3337،4402‬ومسلم‬
‫(‪ )169‬عن ابن عمر رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫‪4‬متفق عليه البخاري (‪ )7129،6376،6375،6368،832‬ومسلم(‪ )587‬عن أم المؤمنين عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫‪5‬رواه أحمد (‪ )19968،19878‬و أبو داود (‪ )4319‬وغيرهما من طرق اسناد صحيح عن جرير بن حازم عن‬
‫محمد بن هالل عن أبي الدهيماء عن عمران بن حصين رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪112‬‬
‫وما تفعله في القلب‪ ،‬أوأنه جاهل بالعلم أصال‪ ،‬فمن جهله يظن أن عنده من العلم ما‬
‫يتمكن معه من رد الشبهات؛ فأنت إذا كنت ممن له قدرة على رد الشبهات‬
‫والضالالت‪ ،‬لماذا تذهب وتتعلم عند فالن وفالن أصال؟ أنت مثلك ينبغي أن يُعلم‪،‬‬
‫فإذا لم تكن كذلك‪ ،‬فليس عندك القدرة على رد الشبهات التي تعرض عليك‪ ،‬فمعلمك‬
‫هو الذي يعطيك فكيف ستعرف خطأه من صوابه؟ فهذا الكالم كالم شخص ال‬
‫يعي ما يقول‪ ،‬ودينه عنده رخيص‪ ،‬علماء راسخون في العلم كانوا يفرون من أهل‬
‫البدع خشية وقوع شبهاتهم في قلوبهم؛ فالقلوب ضعيفة والشبه خطافة ‪.‬‬

‫اء‪ ،‬وال تجادلوهم‪ ،‬فَإِنِي‬ ‫اب ْاأل َ ْه َو ِ‬ ‫سوا أ َ ْ‬


‫ص َح َ‬ ‫قال أبو قالبة رحمه هللا تعالى‪َ « :‬ال ت ُ َجا ِل ُ‬
‫‪1‬‬
‫س َعلَ ْي ِه ْم»‬
‫ض َما لَبَ َ‬ ‫سوا َعلَ ْي ُك ْم فِي الد ِ‬
‫ِين بَ ْع َ‬ ‫سو ُك ْم فِي الض ََّاللَ ِة‪ ,‬أ َ ْو يَ ْلبِ ُ‬
‫َال آ َم ُن أ َ ْن يَ ْغ ِم ُ‬
‫فيضيعون عليكم دينكم‪.‬‬

‫وكان السلف هم أئمة اإلسالم في وقتهم ال يجالسون أهل البدع‪ ،‬وال يسمحون لهم‬
‫أن يجالسوهم‪ ،‬لماذا؟ ألم يكن الواحد منهم قادرا على معرفة الحق من الباطل؟ كان‬
‫قادرا ولكن ما أدراه أن ت ُلقى الشبهة في قلبه فتعلق‪ ،‬كما قال محمد بن سيرين‬
‫وغيره ‪.2‬‬

‫فإذن‪ ،‬من خشي على دينه و أراد أن يبقى في مأمن‪ ،‬فليبتعد عن أهل البدع‬
‫والضالل‪.‬‬

‫والدجال ينكره العقالنيون الذين ال يؤمنون إال بما وافق عقولهم‪ ،‬فيقولون‪ :‬األشياء‬
‫التي أ ُخبرأنه يأتي بها‪ ،‬هذه ال تتوافق مع العقل‪.‬‬

‫‪1‬أخرجه الترمذي في سننه(‪ )4،5‬والبدع والنهي عنها البن وضاح (‪)121‬و القدر للفريابي(‪،)370،366‬‬
‫والشريعة لآلجري(‪.)2044،143،114‬‬
‫‪2‬عن معمر قال‪ :‬كان ابن طاوس جالسا فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم قال‪ :‬فأدخل ابن طاوس إصبعيه في‬
‫أذنيه وقال إلبنه‪ ،‬أي بني ‪ ،‬أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد وال تسمع من كالمه شيئا‪ ،‬قال معمر‪ :‬يعني أن القلب‬
‫ضعيف‪ .‬جامع معمر بن راشد(‪ ،)400‬شرح أصول االعتقاد لاللكائي(‪،)248‬اإلبانة الكبرى(‪.)1778‬‬
‫‪113‬‬
‫عقولكم فاسدة‪ ،‬من أين لكم أنها ال تتوافق مع العقل‪ ،‬وال يمكن أن تحصل؟! كله‬
‫كالم فاسد وباطل‪ ،‬أخبرالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أنها ستحصل فستحصل‪ ،‬شئتم أم‬
‫أبيتم‪ ،‬كما حصل في غير هذه‪.‬‬

‫ومن دالئل نبوة محمد صلى هللا عليه وسلَّم ومن دالئل صدقه أنه ما أخبر بشيء‬
‫ماض‪ ،‬وال أخبر بشيء سيكون؛ إال وقع كما أخبر‪ ،‬وما استطاع أحد في الدنيا أن‬
‫يثبت كذبا في خبره‪ ،‬وهذا من دالئل نبوته صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫اليوم كم تطورت من أمور‪ ،‬وكم وصل النَّاس إلى مباحث ما كانت تعرف من‬
‫القديم خاصة مسائل األجنة‪ ،‬وهذه التي حدَّث عنها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‬
‫بالتفصيل‪ ،‬والكثير من االكتشافات الحديثة قد أثبتت صدق ما أخبر به النَّبي صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم‪ ،‬هذا مما يؤكد صدق نبوته صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وما استطاع‬
‫جماعة أن يجمعوا على كذب خبر واحد جاء عنه صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬ولن‬
‫يستطيعوا‪ ،‬ألن المخبر هو رب العالمين تبارك وتعالى‪ ،‬الذي خلق هذا الكون ويعلم‬
‫ما فيه‪.‬‬

‫قال‪ « :‬ونزول عيسى بن مريم عليه السالم فيقتله»‪ ،1‬عيسى عليه السالم معروف‬
‫أنه رفع في األزمان الماضية‪ ،‬وكما أخبرالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم سينزل في آخر‬
‫الزمان عند المنارة البيضاء في دمشق‪ ،‬ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ‪ ،‬ويدرك‬
‫الدجال بباب لُد و يقتله هناك‪.2‬‬

‫«لُد» مدينة من مدن فلسطين بجانب الرملة‪ ،‬يدركه على بابها فيقتله هناك عيسى‬
‫عليه السالم‪.‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪ ،‬البخاري (‪ )3449،3448،2472،2222‬ومسلم (‪ )155‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪ ،‬وقد‬
‫تواترت األخبار عند أهل السنة والجماعة في نزول عيسى بن مريم‪ ،‬وقد روي عن عدد من الصحابة وقد دل‬
‫على ذلك القران العظيم‪.‬‬
‫‪ 2‬أخرجه مسلم (‪ )2937‬وغيره من حديث النواس بن سمعان رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫وهذا يكون في آخرالزمان بعد أن يظهر المهدي‪ ،‬وظهور المهدي يسبق ظهور‬
‫الدجال الذي هو أول عالمات الساعة الكبرى‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬وخروج يأجوج ومأجوج) يأجوج ومأجوج أ َّمتان من‬
‫النَّاس أخبر هللا تبارك وتعالى عنهم في كتابه الكريم‪ ،‬وذكر النَّبي صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم فيهم عدة أحاديث أنهم سيخرجون في آخر الزمان‪ ،‬قال صلى هللا عليه وسلَّم‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫« فُتِ َح اليَ ْو َم ِم ْن َر ْد ِم يَأ ْ ُجو َج َومأ ْ ُجو َج ِمثْ ُل َهذَا‪َ ،‬و َحلَّقَ ِبإ ِ ْ‬
‫صبَ ِع ِه َو ِبالَّتِي ت َ ِلي َها»‬

‫وم َحتَّى ت َ َر ْونَ‬ ‫وجاء في الحديث أن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم قال‪ِ « :‬إنَّ َها َل ْن تَقُ َ‬
‫ش ْم ِس ِم ْن َم ْغ ِر ِب َها‪،‬‬
‫ع ال َّ‬‫طلُو َ‬ ‫قَ ْبلَ َها َع ْش َر آ َيات ‪ -‬فَذَ َك َر ‪ -‬الدخَانَ ‪َ ،‬والدَّ َّجا َل‪َ ،‬والدَّابَّةَ‪َ ،‬و ُ‬
‫سوف‪:‬‬ ‫سلَّ َم‪َ ،‬ويَأ َ ُجو َج َو َمأ ْ ُجو َج‪َ ،‬وث َ َالثَةَ ُخ ُ‬
‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬ ‫سى اب ِْن َم ْريَ َم َ‬ ‫َونُ ُزو َل ِعي َ‬
‫َار ت َ ْخ ُر ُ‬
‫ج‬ ‫آخ ُر ذَ ِل َك ن ٌ‬
‫ب‪َ ،‬و ِ‬ ‫يرةِ ْالعَ َر ِ‬
‫ف بِ َج ِز َ‬ ‫ب‪َ ،‬و َخ ْس ٌ‬ ‫ف بِ ْال َم ْغ ِر ِ‬
‫ق‪َ ،‬و َخ ْس ٌ‬ ‫ف بِ ْال َم ْش ِر ِ‬
‫َخ ْس ٌ‬
‫اس ِإلَى َم ْحش َِر ِه ْم » رواه مسلم في صحيحه‪.2‬‬ ‫ِمنَ ْال َي َم ِن‪ ،‬ت َ ْ‬
‫ط ُردُ النَّ َ‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬وخروج الدابة) وهي دابة تخرج آخر الزمان‪ ،‬قال تعالى‬
‫{ َو ِإذَا َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َعلَ ْي ِه ْم أ َ ْخ َر ْجنَا لَ ُه ْم دَابَّة ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض ت ُ َك ِل ُم ُه ْم أ َ َّن النَّ َ‬
‫اس َكانُوا ِبآ َيا ِتنَا‬
‫َال يُوقِنُونَ }[النمل‪ ]82 :‬ودل عليها الحديث السابق‪ ،‬وأخرج مسلم عن النبي صلى‬
‫طلُوعُ ال َّ‬
‫ش ْم ِس ِم ْن َم ْغ ِر ِب َها‪،‬‬ ‫ت ُخ ُروجا‪ُ ،‬‬ ‫هللا عليه وسلم أنه قال‪ِ « :‬إ َّن أ َ َّو َل ْاآليَا ِ‬
‫احبَتِ َها‪ ،‬فَ ْاأل ُ ْخ َرى َعلَى‬
‫ص ِ‬ ‫ضحى‪َ ،‬وأَي ُه َما َما َكان ْ‬
‫َت قَ ْب َل َ‬ ‫اس ُ‬ ‫َو ُخ ُرو ُج الدَّابَّ ِة َعلَى النَّ ِ‬
‫ِإثْ ِرهَا قَ ِريبا»‪.3‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه البخاري(‪ ،)7135 ،7059 ،3598 ،3346‬ومسلم(‪ )2880‬عن أم المؤمنين زينب بنت حمش رضي‬
‫هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬رواه أحمد(‪،)6141،6143،16144‬ومسلم(‪ )2901‬عن حذيفة بن أسيد رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪ 3‬أخرجه مسلم في صحيحه (‪.)2941‬‬

‫‪115‬‬
‫قال‪( :‬وطلوع الشمس من مغربها) هذه من عالمات الساعة الكبرى التي أخبر‬
‫عنها النبي صلى هللا عليه وسلم فالواجب علينا أن نؤمن بذلك؛ ألن النَّبي صلى هللا‬
‫عليه وسلَّم أخبر بذلك كما في الحديث السابق‪ ،‬وعن أبي هريرة رضي هللا عنه‬
‫س ِم ْن‬ ‫سا َعةُ َحتَّى ت َ ْ‬
‫طلُ َع ال َّ‬
‫ش ْم ُ‬ ‫قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬الَ تَقُو ُم ال َّ‬
‫اس آ َمنُوا أ َ ْج َمعُونَ ‪ ،‬فَذَ ِل َك ِحينَ ‪{ :‬الَ يَ ْنفَ ُع نَ ْفسا ِإي َمانُ َها‬
‫ت َف َرآهَا النَّ ُ‬ ‫طلَ َع ْ‬‫َم ْغ ِربِ َها‪ ،‬فَإِذَا َ‬
‫ت فِي إِي َمانِ َها َخيْرا}»‪[ 1‬األنعام‪]158 :‬‬ ‫َت ِم ْن قَ ْبلُ‪ ،‬أ َ ْو َك َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫لَ ْم ت َ ُك ْن آ َمن ْ‬

‫قال‪( :‬وأشباه ذلك مما صح به النقل) والشاهد من هذا كله‪ :‬أن هذه الغيبيات كلها‬
‫وغيرها مما ورد؛ يجب علينا أن نؤمن بها؛ ألن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أخبرنا‬
‫بها‪ ،‬وهذا من أصول اإليمان العظيمة‪.‬‬

‫وقد عدد المؤلف رحمه هللا تعالى بعض المسائل التي يجب على كل مسلم أن يؤمن‬
‫بها؛ لورود الدليل بها من كتاب هللا أو من سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪،‬‬
‫وهذه األُمور ال تدرك إال بالسمع‪ ،‬ال تدرك إال باألدلة السمعية من كتاب هللا وسنة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬ال تدرك بالعقل‪ ،‬وال بالمشاهدة ألنها لم تقع بعد‪،‬‬
‫إنما هي مسائل غيبية أخبرنا بها ربنا تبارك وتعالى‪ ،‬إما في كتابه‪ ،‬أو على لسان‬
‫رسوله صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فوجب علينا اإليمان بها‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وعذاب القبر ونعيمه حق)‬

‫عذاب القبر للفجار‪ ،‬ونعيم القبر لألخيار‪ ،‬للصالحين‪ ،‬حق ثابت‪ ،‬العذاب ثابت‬
‫والنَّعيم ثابت في القبر‪ ،‬والقبر حفرة من حفر النَّار‪ ،‬أو روضة من رياض الجنَّة‪،‬‬
‫دل على ذلك األحاديث الصحيحة‪ ،‬وعذاب القبر ثابت بأدلة متواترة في الصحيحين‬
‫وغيرهما من كتب السنن‪ ،‬ولكن التواتر نوعان‪ :‬تواتر لفظي وتواتر معنوي‪.‬‬

‫‪1‬متفق عليه البخاري (‪ ، )4635،4636 ،6506‬ومسلم (‪.)157‬‬


‫‪116‬‬
‫وهذه األدلة التي وردت في عذاب القبر تواترها تواتر معنوي‪ ،‬ماذا نعني بالتواتر؟‬
‫أن يأتي حديث مثال بلفظ معين‪ ،‬وأن يروى بطرق كثيرة بنفس اللفظ‪ ،‬كقول النَّبي‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النَّار»‪ ،1‬جاء هذا‬
‫الحديث بهذا اللفظ من طرق كثيرة‪ ،‬فهو متواتر تواترا لفظيا‪ ،‬ورد بنفس اللفظ‪.‬‬

‫أما المتواتر تواترا معنويا فال َيرد بنفس اللفظ‪ ،‬ولكن تأتي عدة أحاديث فيها ما يدل‬
‫على ما ذكرنا فيه التواتر؛ كعذاب القبر هذا‪.‬‬

‫أن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم استعاذ من عذاب القبر‪ ،‬جاء في‬
‫ورد حديث مثال‪َّ :‬‬
‫الصحيحين‪ :‬أنه كان يقول في صالته‪« :‬الله َّم إني أعوذ بك من عذاب القبر»‪،2‬‬
‫وورد أيضا عن عائشة رضي هللا عنها أنها جاءتها يهودية فقالت لها‪ :‬أعاذك هللا‬
‫من عذاب القبر‪ ،‬فاستفسرت وسألت النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم عن عذاب القبر‪،‬‬
‫وأن النَّاس يعذبون في قبورهم‪ ،3‬هذا‬
‫فصدَّق اليهودية‪ ،‬وأكدَّ وجود عذاب القبر‪َّ ،‬‬
‫حديث آخر‪ ،‬وإن كان هذا الحديث وذاك حديث اآلخر مختلفان‪ ،‬إال َّ‬
‫أن األول يدل‬
‫على عذاب القبر‪ ،‬والثاني كذلك يدل على عذاب القبر‪ ،‬وكذلك الثالث قول النَّبي‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم عندما مر بقبرين‪ ،‬قال‪« :‬إنهما ليعذبان وما يعذبان في‬
‫كبير»‪ ،4‬د َّل أيضا هذا الحديث على عذاب القبر‪ ،‬فعندما تأتيك مجموعة من‬
‫األحاديث كهذه األحاديث‪ ،‬كل منها يفيد وقوع عذاب القبر‪ ،‬فيكون عذاب القبر‬
‫متواترا تواترا معنويا ال لفظيا‪ ،‬فأحاديث عذاب القبر متواترة كما قال الحافظ ابن‬
‫حجر رحمه هللا تعالى‪.‬‬

‫‪1‬متفق عليه‪ ،‬البخاري(‪ )106‬و مسلم (‪ )1‬عن علي رضي هللا عنه‪ ،‬وقد ورد الحديث عن الزبير بن العوام و أبي‬
‫هريرة ومغيرة بن شعبة وغيرهم رضي هللا عنهم‪.‬‬
‫‪ 2‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪3‬متفق عليه‪ ،‬البخاري(‪ )6366،1235،1055،1049،1372‬ومسلم(‪ )586،584‬عن عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫‪ 4‬متفق عليه‪ ،‬البخاري( ‪ )6055،6052،1378،1361،218،216‬و مسلم ( ‪ )292‬عن ابن عباس رضي هللا‬
‫عنهما‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫فعذاب القبر ونعيمه حق أي ثابت‪ ،‬نؤمن بذلك ونصدقه؛ ألنه جاء به الكتاب‬
‫وجاءت به السنة‪ ،‬أما الكتاب‪ ،‬ففي قوله تبارك وتعالى‪{ :‬النار يعرضون عليها‬
‫غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلو آل فرعون أشد العذاب}[غافر‪ ،]46 :‬النَّار‬
‫يعرضون عليها أي آل فرعون‪ .‬أين؟ في القبر‪ ،‬ألنه قال بعد ذلك‪{ :‬ويوم تقوم‬
‫الساعة} يدخلون أشد العذاب‪ ،‬فهذه اآلية تدل على عذاب القبر‪.‬‬

‫أما األحاديث فكما ذكرنا متواترة‪ ،‬فبما َّ‬


‫أن عذاب القبر قد ثبت في الكتاب‪ ،‬وثبت‬
‫في السنة ؛ وجب علينا اإليمان به والتسليم لما قاله ربنا تبارك وتعالى‪ ،‬وبما أخبرنا‬
‫به نبينا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬هكذا يكون اإليمان‪.‬‬

‫قال‪( :‬وقد استعاذ النبي صلى للا عليه وسلم منه)‬


‫في الصحيحين‪ :‬أن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم كان يقول في صالته‪« :‬الله َّم إني‬
‫ص َعب قال‪:‬‬ ‫أعوذ بك من عذاب القبر »‪ ،1‬وأمر به أيضا ورد في الصحيح َع ْن ُم ْ‬
‫سلَّ َم أَنَّهُ َكانَ َيأ ْ ُم ُر‬
‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬‫س ْعدٌ‪َ ،‬يأ ْ ُم ُر ِبخ َْمس‪َ ،‬و َي ْذ ُك ُر ُه َّن َع ِن النَّ ِبي ِ َ‬ ‫َكانَ َ‬
‫عوذُ ِب َك أ َ ْن أ ُ َردَّ ِإلَى‬ ‫عوذُ ِب َك ِمنَ ال ُجب ِْن‪َ ،‬وأ َ ُ‬ ‫عوذ ُ ِب َك ِمنَ البُ ْخ ِل‪َ ،‬وأ َ ُ‬ ‫ِب ِه َّن‪« :‬اللَّ ُه َّم ِإنِي أ َ ُ‬
‫عذَا ِ‬
‫ب‬ ‫عوذُ ِب َك ِم ْن َ‬ ‫عوذُ بِ َك ِم ْن فِتْنَ ِة الد ْنيَا ‪ -‬يَ ْعنِي فِتْنَةَ الدَّ َّجا ِل ‪َ -‬وأ َ ُ‬ ‫أ َ ْرذَ ِل العُ ُم ِر‪َ ،‬وأ َ ُ‬
‫‪2‬‬
‫القَب ِْر»‬
‫قال‪( :‬وفتنة القبر حق) الفتنة هنا بمعنى االختبار واالمتحان‪ ،‬أي االختبار الذي‬
‫سيتعرض له العبد في قبره حق ثابت؛ لثبوته في األحاديث الصحيحة الواردة عن‬
‫النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬منها أحاديث في الصحيحين؛ كحديث البراء بن عازب‬
‫رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬إذا أ ُقعد المؤمن في قبره أُتي‬
‫ث ُ َّم شهد أن ال إله إالهللا وأن محمدا رسول هللا‪ ،‬فذلك قوله‪} :‬يثبت للا الذين آمنوا‬

‫‪ 1‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪ 2‬أخرجه البخاري (‪.)6370‬‬
‫‪118‬‬
‫بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي اآلخرة{[ابراهيم‪ ،]27 :‬قال البراء‪ :‬نزلت في‬
‫عذاب القبر‪.1‬‬

‫ض َع فِي قَب ِْر ِه‪،‬‬ ‫سلَّ َم‪ « :‬العَ ْبدُ ِإذَا ُو ِ‬ ‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬ ‫وحديث أنس‪ :‬قَا َل‪ :‬قال النبي َ‬
‫ان‪ ،‬فَأ َ ْقعَدَاهُ‪ ،‬فَيَقُوالَ ِن لَهُ‪:‬‬
‫ع نِعَا ِل ِه ْم‪ ،‬أَتَاهُ َملَ َك ِ‬ ‫َب أ َ ْ‬
‫ص َحابُهُ َحتَّى إِنَّهُ لَيَ ْس َم ُع قَ ْر َ‬ ‫ي َوذَه َ‬
‫َوت ُ ُو ِل َ‬
‫سلَّ َم؟ فَ َيقُولُ‪ :‬أ َ ْش َهد ُ أَنَّهُ َع ْبد ُ َّ‬
‫َّللاِ‬ ‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬ ‫ت تَقُو ُل ِفي َهذَا َّ‬
‫الر ُج ِل ُم َح َّمد َ‬ ‫َما ُك ْن َ‬
‫َّللاُ ِب ِه َم ْق َعدا ِمنَ ال َجنَّ ِة»‪ ،‬قَا َل‬ ‫ار أ َ ْبدَلَ َك َّ‬ ‫ظ ْر ِإلَى َم ْق َعد َ‬
‫ِك ِمنَ النَّ ِ‬ ‫سولُهُ‪ ،‬فَيُقَالُ‪ :‬ا ْن ُ‬ ‫َو َر ُ‬
‫سلَّ َم‪ « :‬فَيَ َرا ُه َما َج ِميعا‪َ ،‬وأ َ َّما ال َكافِ ُر ‪ -‬أ َ ِو ال ُمنَافِ ُق ‪ -‬فَيَقُولُ‪ :‬الَ‬ ‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬
‫النَّ ِبي َ‬
‫ب بِ ِم ْ‬
‫ط َرقَة‬ ‫ْت‪ ،‬ث ُ َّم يُض َْر ُ‬‫ْت َوالَ تَلَي َ‬ ‫اس‪ ،‬فَيُقَالُ‪ :‬الَ دَ َري َ‬ ‫أ َ ْد ِري‪ُ ،‬ك ْنتُ أَقُو ُل َما يَقُو ُل النَّ ُ‬
‫‪2‬‬
‫ص ْي َحة يَ ْس َمعُ َها َم ْن َي ِلي ِه ِإ َّال الثَّقَلَي ِْن »‬
‫صي ُح َ‬‫ض ْر َبة بَيْنَ أُذُنَ ْي ِه‪ ،‬فَ َي ِ‬
‫ِم ْن َحدِيد َ‬

‫فهذه اآلية مع األحاديث تؤكد حصول االمتحان‪ ،‬ووقوع عذاب القبر‪ ،‬فيأتي العبد‬
‫ملكان فيقعدانه ويسأالنه ‪:‬من ربك؟‪ ،‬وما دينك؟‪ ،‬وماذا كنت تقول في الرجل الذي‬
‫بعث فيكم؟ فإن كان صالحا قال‪ :‬ربي هللا‪ ،‬ونبيي محمد صلى هللا عليه وسلَّم‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫وديني اإلسالم‪ ،‬واذا كان غير ذلك قال‪ :‬ها هاه‪ ،‬ال أدري»‬

‫قال‪( :‬وسؤال منكر ونكير حق) أي حق ثابت ‪ ،‬وهما ملكان يسأالن العبد في قبره‬
‫يأتيانه فيسأالنه عن دينه‪ ،‬وعن ربه‪ ،‬وعن نبيه صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬أ َّما السؤال‬
‫فثابت في الصحيحين‪ ،4‬كما تقدم‪ ،‬أ َّما تسمية منكر ونكير فقد وردت في رواية عند‬
‫الترمذي مختلف في صحتها‪.5‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪ ،‬البخاري(‪ )4669،1369‬و مسلم(‪ )2871‬عن البراء رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه‪ ،‬البخاري(‪ )1338‬و مسلم(‪. )2870‬‬
‫‪ 3‬أخرجه أحمد(‪ )18614،18534‬وأبو داوود (‪ )4753‬عن البراء بن عازب ‪ ،‬وأخرجه النَّسائي(‪ )2001‬وابن‬
‫ماجه ( ‪ )1549،1548 ،4195‬جزءا منه‪.‬‬
‫‪ 4‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪ 5‬أخرجه الترمذي (‪ )1071‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪ ،‬وقد أخرج الحديث اإلمام أحمد وابن ماجه وآخرون‬
‫من غير ذكر تسمية الملكين‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫وال يستثنى من فتنة القبر إال الشهيد؛ لقوله صلى هللا عليه وسلَّم عندما سئل‪ :‬ما بال‬
‫المؤمنين يفتنون في قبورهم إال الشهيد؟ قال‪ « :‬كفى ببارقة السيوف على رأسه‬
‫فتنة»‪ 1‬وكذلك «من مات مرابطا في سبيل هللا» والحديث وارد في صحيح مسلم‬
‫بذلك‪ ،‬من مات مرابطا في سبيل هللا‪ ،‬هؤالء ال يفتنون في قبورهم‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪ ( :‬والبعث بعد الموت حق) المراد بالبعث‪ :‬إخراج النَّاس من‬
‫قبورهم بعد الموت‪ ،‬وهو حق كما قال المؤلف‪ ،‬أي ثابت‪ ،‬وذلك حين ينفخ إسرافيل‬
‫عليه السالم في الصور‪ ،‬إسرافيل ملك من مالئكة هللا تبارك وتعالى‪ ،‬ينفخ في‬
‫الصور‪ ،‬أي ينفخ في قرن كبير‪ ،‬ينفخ نفخة فيخرج النَّاس من قبورهم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫} فإذا هم من األجداث إلى ربهم ينسلون {[يس‪( ،]51 :‬من األجداث) يعني من‬
‫القبور و(ينسلون) يعني يخرجون سراعا‪.‬‬

‫وقال تعالى‪{ :‬زَ َع َم الَّذِينَ َكفَ ُروا أ َ ْن لَ ْن يُ ْب َعثُوا قُ ْل َبلَى َو َر ِبي لَت ُ ْب َعث ُ َّن} [التغابن‪]7 :‬‬
‫وقال عز وجل‪{ :‬ث ُ َّم إِنَّ ُك ْم َب ْعدَ ذَ ِل َك لَ َميِتُونَ ث ُ َّم ِإنَّ ُك ْم َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة ت ُ ْبعَثُونَ } [المؤمنون‪:‬‬
‫‪.]16 - 15‬‬

‫واألحاديث متواترة عن النبي صلى هللا عليه وسلم في ذلك‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬ويحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرالً بهما ً)‬
‫بعد أن يخرج النَّاس من قبورهم يُجمع الخالئق للحساب والقضاء بينهم فقال‪( :‬‬
‫يحشر النَّاس) أي يجمعون يوم القيامة (حفاة) ال نعال وال أحذية في أقدامهم (عراة)‬
‫ال مالبس عليهم‪ ،‬قالت عائشة رضي هللا عنها‪ :‬وينظر الرجال والنِساء إلى‬

‫‪ 1‬رواه النَّسائي في السنن الكبرى(‪ ،)2191‬وفي السنن(‪ ،)2053‬والجهاد البن أبي عاصم(‪ ،)230‬وأبو نعيم‬
‫األصفهاني في معرفة الصحابة(‪ )7211‬بأسانيدهم عن صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن رجل من‬
‫الصحابة‪ ،‬أن رجال قال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ما بال المؤمنين ‪ ، . . .‬وإسناده صحيح‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫بعضهم؟ فقال النبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬يا عائشة األمر أشد من ذلك»‪ ،1‬أي‬
‫فيه هول عظيم يشغل كل شخص بنفسه (غرال) أي غير مختونين (بُهما) أي ليس‬
‫معهم شيء‪ ،‬يأتون وال شيء معهم‪.‬‬

‫سلَّ َم‪ ،‬يَقُولُ‪:‬‬


‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬
‫سو َل هللاِ َ‬ ‫س ِم ْعتُ َر ُ‬
‫ت‪َ :‬‬‫شةَ‪ ،‬قَالَ ْ‬
‫عائِ َ‬ ‫كذا جاء في حديث َ‬
‫الر َجا ُل‬
‫سا ُء َو ِ‬ ‫الن َ‬
‫سو َل هللاِ ِ‬ ‫غ ْرال» قُ ْلتُ ‪َ :‬يا َر ُ‬‫ع َراة ُ‬‫اس َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة ُحفَاة ُ‬
‫«يُ ْحش َُر النَّ ُ‬
‫شةُ ْاأل َ ْم ُر أَشَد‬‫سلَّ َم‪« :‬يَا َعائِ َ‬
‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬ ‫ض ُه ْم ِإلَى بَ ْعض‪ ،‬قَا َل َ‬ ‫َج ِميعا يَ ْن ُ‬
‫ظ ُر بَ ْع ُ‬
‫بَ ْعض»‪.‬‬ ‫ِإلَى‬ ‫ض ُه ْم‬
‫بَ ْع ُ‬ ‫ظ َر‬‫يَ ْن ُ‬ ‫أ َ ْن‬ ‫ِم ْن‬
‫َطيبا‬ ‫سلَّ َم خ ِ‬ ‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬‫سو ُل هللاِ َ‬ ‫وفي حديث ابن عباس قال‪ :‬قَ َ‬
‫ام فِينَا َر ُ‬
‫غ ْرال‪َ { ،‬ك َما بَدَأْنَا‬ ‫ع َراة ُ‬ ‫اس ِإنَّ ُك ْم ت ُ ْحش َُرونَ ِإلَى هللاِ ُحفَاة ُ‬ ‫ظة‪ ،‬فَقَا َل‪َ « :‬يا أَي َها النَّ ُ‬ ‫ِب َم ْو ِع َ‬

‫أ َ َّو َل خ َْلق نُ ِعيدُهُ َوعْدا َعلَ ْينَا إِنَّا ُكنَّا فَا ِع ِلينَ } [األنبياء‪ ]104 :‬أ َ َال َو ِإ َّن أ َ َّو َل ْالخ ََال ِئ ِ‬
‫ق‬
‫‪2‬‬
‫سى‪ ،‬يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة ِإب َْرا ِهي ُم َعلَ ْي ِه ال َّ‬
‫س َال ُم»‬ ‫يُ ْك َ‬

‫قال‪ ( :‬فيقفون في موقف القيامة)‬

‫اس يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة َعلَى أ َ ْرض بَ ْي َ‬


‫ضا َء‬ ‫قال النبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬يُ ْحش َُر النَّ ُ‬
‫ْس ِفي َها َعلَ ٌم ِأل َ َحد»‪ ،3‬هذا متفق عليه‪ ،‬األرض التي‬ ‫ص ِة النَّ ِقيِ‪ ،‬لَي َ‬
‫َع ْف َرا َء‪َ ،‬كقُ ْر َ‬
‫يحشرون عليها يوم القيامة (بيضاء عفراء) بيضاء مشوبة بحمرة (كقرصة النَّقي)‬
‫أي كالرغيف المنخول (ليس فيها علم ألحد) أرض فارغة ال شيء فيها‪.‬‬

‫‪1‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ ،)6527‬ومسلم(‪)2859‬‬


‫‪2‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ ،)3349‬ومسلم(‪)2860‬‬
‫‪ 3‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ )6521‬ومسلم(‪ )2790‬عن سهل بن سعد الساعدي رضي هللا عنه‬
‫‪121‬‬
‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ « :‬أَنَا َ‬
‫سيِدُ القَ ْو ِم يَ ْو َم ال ِقيَا َم ِة‪ ،‬ه َْل ت َ ْد ُرونَ بِ َم؟ يَ ْج َم ُع‬
‫اظ ُر َويُ ْس ِمعُ ُه ُم الدَّا ِعي‪َ ،‬وت َ ْدنُو‬ ‫ْص ُر ُه ُم النَّ ِ‬ ‫احد‪ ،‬فَيُب ِ‬ ‫ص ِعيد َو ِ‬ ‫َّللاُ األ َ َّو ِلينَ َو ِ‬
‫اآلخ ِرينَ فِي َ‬ ‫َّ‬
‫‪1‬‬
‫س‪»...‬‬ ‫ِم ْن ُه ُم ال َّ‬
‫ش ْم ُ‬

‫قال‪( :‬حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى للا عليه وسلم)‬

‫أحاديث الشفاعة في الصحيحين‪ ،2‬هذه الشفاعة الخاصة بالنَّبي صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم‪ ،‬وسيأتي التفصيل فيها‪.‬‬

‫عندما يحشر النَّاس يوم القيامة تقترب منهم الشمس قدر ميل‪ ،‬فيغرقون في‬
‫عرقهم‪ ،‬كل على حسب ذنوبه‪ ،‬ومنهم من يُلج ُمهُ العرق إلجاما؛ لكثرة ذنوبه أعاذنا‬
‫هللا وإياكم‪ ،‬ويشتد األمر عليهم كثيرا فيأتون إلى األنبياء؛ كي يشفعوا لهم عند هللا‬
‫سبحانه وتعالى؛ كي يبدأ الحساب ويخلصهم من ذاك الموقف‪.‬‬

‫فيأتون إلى آدم‪ ،‬ويأتون إلى نوح‪ ،‬و إبراهيم‪ ،‬وموسى‪ ،‬وعيسى ‪ ،‬فيقول كل نبي‬
‫منهم‪ :‬نفسي نفسي‪ ،‬ويذكر ذنبا إلى أن يأتوا إلى النَّبي محمد صلى هللا عليه وسلَّم‬
‫رب العزة تبارك وتعالى ث ُ َّم يأذن له‬
‫فيقول‪« :‬أنا لها أنا لها» ويذهب و يسجد عند ِ‬
‫بالشفاعة‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬ويحاسبهم للا تبارك وتعالى)‬

‫المؤمن تعرض عليه أعماله ث ُ َّم يعفو هللا عنه‪ ،‬وأما من نوقش الحساب عذب‪ ،‬كما‬
‫شةُ‪ :‬فَقُ ْلتُ أ َ َولَي َ‬
‫ْس‬ ‫ِب»‪ ،‬قَالَ ْ‬
‫ت َعائِ َ‬ ‫عذ َ‬ ‫قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪َ « :‬م ْن ُحو ِس َ‬
‫ب ُ‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ )3340‬ومسلم(‪ )194‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‬
‫‪ 2‬سيأتي تخريجها إن شاء هللا ‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫سابا يَسِيرا} [االنشقاق‪ ]8 :‬قَالَ ْ‬
‫ت‪ :‬فَقَا َل‪ « :‬إِنَّ َما‬ ‫ب ِح َ‬
‫س ُ‬
‫ف يُ َحا َ‬ ‫َّللاُ تَعَالَى‪{ :‬فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫يَقُو ُل َّ‬
‫اب َي ْه ِل ْك »‪.1‬‬
‫س َ‬‫الح َ‬
‫ش ِ‬ ‫ض‪َ ،‬ولَ ِك ْن‪َ :‬م ْن نُو ِق َ‬
‫ذَ ِل ِك ال َع ْر ُ‬

‫وأما السبعون ألفا فهؤالء يدخلون الجنَّة بغير حساب وال عذاب‪ ،‬كما جاء في‬
‫الصحيحين‪ ،2‬فال ينجو من الحساب إال السبعون ألفا الذين ذكروا في هذا الحديث‪،‬‬
‫ظله يوم ال ظل‬
‫حر الشمس في الموقف إال السبعة الذين يظلهم هللا في ِ‬
‫وال ينجو من َّ‬
‫إال ظله‪.3‬‬

‫قال‪( :‬وتنصب الموازين)‬

‫أي موازين األعمال‪ ،‬موازين‪ :‬جمع ميزان‪ ،‬والموازين هذه لها كفتان‪ -‬كما سيأتي‬
‫إن شاء هللا تعالى‪ -‬تنصب الموازين؛ لوزن األعمال‪.‬‬

‫ت َم َو ِازينُهُ فَأُولَئِ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ (‪َ )8‬و َم ْن‬ ‫قال تعالى { َو ْال َو ْز ُن يَ ْو َمئِذ ْال َحق فَ َم ْن ثَقُلَ ْ‬
‫ظ ِل ُمونَ }[األعراف ‪-8‬‬ ‫ت َم َو ِازينُهُ فَأُولَ ِئ َك الَّذِينَ َخس ُِروا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم بِ َما َكانُوا ِبآ َيا ِتنَا َي ْ‬ ‫َخفَّ ْ‬
‫‪]9‬‬

‫(وتنشر الدواوين)‬

‫الدواوين‪ :‬جمع ديوان ‪ ،‬وهي الكتب التي تكتب فيها أعمال بني آدم‪.‬‬
‫كل شيء يعمله العبد ‪ ،‬مكتوب في صحف‪ ،‬ويوم القيامة يأخذ كتابه إما بيمينه إن‬
‫كان مؤمنا‪ ،‬أو بشماله إن كان كافرا ‪.‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪ ،‬البخاري( ‪ )6536،4939،103‬ومسلم( ‪ )3876‬عن عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬


‫‪ 2‬متفق عليه‪ ،‬البخاري(‪ )6541،6472،5752،5705،3410‬ومسلم(‪ )220‬عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫‪ 3‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ )6806،6479،1423،660‬ومسلم(‪ )1031‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫ب إِلَى أ َ ْه ِل ِه‬ ‫ُ‬
‫سابا يَسِيرا (‪َ )8‬ويَ ْنقَ ِل ُ‬ ‫ب ِح َ‬‫س ُ‬ ‫ف يُ َحا َ‬
‫س ْو َ‬ ‫{فَأ َ َّما َم ْن أوتِ َ‬
‫ي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه (‪ )7‬فَ َ‬
‫ُ‬
‫عو ثُبُورا (‪)11‬‬ ‫ف يَ ْد ُ‬ ‫ظ ْه ِر ِه (‪ )10‬فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫َم ْس ُرورا (‪َ )9‬وأ َ َّما َم ْن أوتِ َ‬
‫ي ِكتَابَهُ َو َرا َء َ‬
‫صلَى َ‬
‫س ِعيرا {[اإلنشقاق‪]12-7 :‬‬ ‫َو َي ْ‬

‫ي ِكتَابَهُ بِ ِش َما ِل ِه فَيَقُو ُل يَالَ ْيتَنِي لَ ْم أ ُ َ‬


‫وت ِكتَابِيَ ْه }[الحاقة‪]25 :‬‬ ‫ُ‬
‫{ َوأ َ َّما َم ْن أوتِ َ‬

‫نؤمن بكل هذا ونصدق به؛ ألن هللا سبحانه وتعالى أخبرنا به‪ ،‬وألن النَّبي صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم‪ -‬وهو الصادق المصدوق‪ -‬أخبرنا أيضا بذلك‪ ،‬فنحن نؤمن ب َّ‬
‫أن كل‬
‫هذا سيحصل‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬والميزان له كفتان ولسان توزن به األعمال)‬

‫أي الميزان الذي توزن به األعمال يوم القيامة له كفتان‪ ،‬ولسان‪ ،‬توزن به‬
‫األعمال‪.‬‬

‫الميزان نفسه أدلته في الكتاب والسنة‪ ،‬تقدم بعضها ‪.‬‬

‫وأما الكفتان فورد ذكرهما في حديث البطاقة الذي قال فيه النَّبي صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم‪ « :‬فتوضع السجالت في كفة والبطاقة في كفة»‪ ،1‬فعلمنا أن الميزان له‬
‫كفتان‪.‬‬

‫وأما اللسان فلم أجد عليه دليال من الكتاب أو السنة‪ ،‬ولكن قال أبو إسحاق الزجاج‬
‫‪« :‬أجمع أهل السنة على اإليمان بالميزان‪ ،‬وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة‪،‬‬
‫وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل باألعمال»‪ . 2‬وهذا كاف‪.‬‬

‫‪ 1‬ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (‪.)538/13‬‬


‫‪ 2‬أخرجه أحمد (‪ ،)7401،7066،6994،6583‬والترمذي (‪ ،)2639‬وابن ماجه (‪ )4300‬عن عبد هللا بن عمرو‬
‫رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫والعلماء يذكرون الكفتين واللسان‪ ،‬للتأكيد على أنه ميزان حقيقي‪ ،‬وليس هو العدل‬
‫أو غيره كما تقوله المعتزلة ‪.‬‬

‫وقد حصل خالف بين أهل العلم‪ :‬هل األعمال هي التي توزن؟ أم يوزن النَّاس‬
‫أنفسهم؟ أم توزن الصحف؟ خالف بين أهل العلم‪ ،‬والظاهر َّ‬
‫أن كل هذا يحصل؛‬
‫ألن األدلة تدل على ذلك‪.‬‬

‫ففي حديث البطاقة توزن السجالت‪.‬‬

‫وفي حديث أبي هريرة – أخرجه البخاري ‪ -‬يوزن الشخص نفسه قال النبي‬
‫ين يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة‪َ ،‬ال يَ ِز ُن ِع ْندَ هللاِ‬ ‫الر ُج ُل ْالعَ ِظي ُم ال َّ‬
‫س ِم ُ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬إِنَّهُ لَيَأْتِي َّ‬
‫ضة‪ ،‬ا ْق َر ُءوا {فَ َال نُ ِقي ُم لَ ُه ْم َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة َو ْزنا}»‪.‬‬
‫َجنَا َح َبعُو َ‬

‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه‬ ‫ع ِن النَّبِي ِ َ‬


‫حديث أبي هريرة ‪ -‬متفق عليه ‪ -‬توزن األعمال َ‬ ‫وفي‬
‫ان ِإ َلى‬ ‫ان‪َ ،‬ح ِبيبَت َ ِ‬
‫الميزَ ِ‬ ‫ان ِفي ِ‬ ‫ان‪ ،‬ث َ ِقيلَت َ ِ‬
‫س ِ‬ ‫ان َعلَى ِ‬
‫الل َ‬ ‫قَا َل‪َ « :‬ك ِل َمت َ ِ‬
‫ان َخ ِفيفَت َ ِ‬ ‫سلَّ َم‬
‫َو َ‬
‫س ْب َحانَ َّ‬
‫َّللاِ َو ِب َح ْم ِد ِه »‪.‬‬ ‫س ْب َحانَ َّ‬
‫َّللاِ ال َع ِظ ِيم‪ُ ،‬‬ ‫الر ْح َم ِن‪ُ :‬‬ ‫َّ‬

‫قال‪}( :‬فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك‬
‫الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون {[المؤمنون ‪]103 ،102‬‬

‫فاألعمال توزن يوم القيامة‪ ،‬فإذا غلبت سيئات الشخص حسناته فهو من الهالكين‪،‬‬
‫وإذا غلبت حسناته فهو من الناجين‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪) :‬و لنبينا محمد صلى للا عليه وسلم حوض في‬
‫القيامة‪ ،‬ماؤه أشد بياضا ً من اللبن‪ ،‬وأحلى من العسل‪ ،‬وأباريقه عدد نجوم‬
‫السماء(‬

‫‪125‬‬
‫عرى‬
‫(أباريقه) كاألكواب يشرب بها‪ ،‬لكن لها نصف حلقة تمسك بها يقال لها ُ‬
‫(عدد نجوم السماء) أي كثيرة جدا (من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا) ال‬
‫عطش البتة‪ ،‬نسأل هللا أن يجعلنا وإياكم من أهله‪ ،‬وشربهم بعد ذلك في الجنَّة‬
‫ٌ‬ ‫يصيبه‬
‫إنما هو لالستمتاع فقط‪ ،‬وجاءت بذلك أحاديث بمعنى ما ذكر المصنف رحمه هللا‬
‫تعالى‪.‬‬
‫س‬ ‫ض قَا َل‪َ « :‬والَّذِي نَ ْف ُ‬ ‫سو َل هللاِ َما آنِيَةُ ْال َح ْو ِ‬ ‫منها حديث أَبِي ذَر‪ ،‬قَا َل‪ :‬قُ ْلتُ ‪ :‬يَا َر ُ‬
‫اء َو َك َوا ِك ِب َها‪ ،‬أ َ َال ِفي اللَّ ْيلَ ِة ْال ُم ْ‬
‫ظ ِل َم ِة‬ ‫س َم ِ‬
‫وم ال َّ‬‫ُم َح َّمد ِب َي ِد ِه َآل ِن َيتُهُ أ َ ْكث َ ُر ِم ْن َعدَ ِد نُ ُج ِ‬
‫ان ِمنَ‬ ‫َب فِي ِه ِميزَ ابَ ِ‬ ‫آخ َر َما َعلَ ْي ِه‪ ،‬يَ ْشخ ُ‬ ‫ظ َمأ ْ ِ‬‫ب ِم ْن َها لَ ْم يَ ْ‬ ‫ص ِحيَ ِة‪ ،‬آنِيَةُ ْال َجنَّ ِة َم ْن َ‬
‫ش ِر َ‬ ‫ْال ُم ْ‬
‫ظ َمأْ‪َ ،‬ع ْر ُ‬
‫ضهُ ِمثْ ُل ُ‬
‫طو ِل ِه‪َ ،‬ما بَيْنَ َع َّمانَ ِإلَى أ َ ْيلَةَ‪َ ،‬ما ُؤهُ أَشَد‬ ‫ب ِم ْنهُ لَ ْم يَ ْ‬
‫ْال َجنَّ ِة‪َ ،‬م ْن ش َِر َ‬
‫‪1‬‬
‫بَيَاضا ِمنَ اللَّبَ ِن‪َ ،‬وأ َ ْحلَى ِمنَ ْالعَ َ‬
‫س ِل»‬

‫قال‪( :‬والصراط حق يجوزه األبرار‪ ،‬ويزل عنه الفجار)‬

‫جسر ممدود على جهنَّم؛ ليعبر النَّاس عليه إلى الجنَّة‪ ،‬وهو‬
‫ٌ‬ ‫الصراط هو الجسر‪،‬‬
‫ثابت بالكتاب والسنة‪ ،‬ويؤمن به أهل السنة والجماعة ‪ ،‬قال هللا تبارك وتعالى‪} :‬‬
‫وإن منكم إال واردها{[مريم‪ ،]71 :‬فسرها غير واحد من السلف بأنه‪ :‬وروده على‬
‫الصراط‪ ،‬وهذا أصح تفسير لها‪.‬‬

‫وقال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬ث ُ َّم يضرب الجسر على جهنَّم‪ ،‬وتحل الشفاعة‪،‬‬
‫ويقولون‪- :‬أي األنبياء‪-‬الله َّم سلَّم سلَّم»‪.‬‬

‫وجاء في صفته أنه‪« :‬مدحضة مزلة‪ ،‬عليها خطاطيف‪ ،‬وكالليب‪ ،‬وحسكة‬


‫مفلطحة لها شوكة عقيفاء‪ ،‬تكون بنجد يقال لها السعدان» رواه البخاري‪ ،2‬وفي‬

‫‪ 1‬أخرجه مسلم (‪ )2300‬عن أبي ذر رضي هللا عنه‪.‬‬


‫‪ 2‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ ،)7518،7439،6560،6549،4919،4730،4581،22‬ومسلم‬
‫(‪ )2849،2829،185،184،183‬عن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪126‬‬
‫رواية‪« :‬وبه كالليب مثل شوك السعدان‪ ،‬غير أنها ال يعلم قدر عظمها إال هللا‪،‬‬
‫يخطف النَّاس بأعمالهم» تأخذهم على حسب أعمالهم‪ ،‬فمنهم مخدوش ومرسل ‪-‬‬
‫يخدش ولكنه ينجو‪ -‬ومنهم مكدوس في جهنَّم» فتأخذه وتنزل به إلى نار جهنَّم‪،‬‬
‫نسال هللا أن يعافينا وإياكم‪.‬‬

‫جاء في الحديث الصحيح ‪َ :‬ي ُمر المؤمن على الجسر على الصراط كطرف العين‪،‬‬
‫وكالبرق‪ ،‬وكالريح‪ ،‬وكالطير‪ ،‬وكأجأويد الخيل‪ ،‬والركاب‪ ،‬فناج مسلم‪ ،‬ومخدوش‬
‫مرسل‪ ،‬ومكدوس في جهنَّم(مخدوش مرسل) يعني مطلق‪.‬‬

‫والسير على الصراط بهذه السرعات المختلفة على حسب األعمال‪ ،‬فاألعمال هي‬
‫التي تجعلك تسير بشكل أسرع من اآلخرين‪ ،‬وجاء ذلك في صحيح مسلم في رواية‬
‫واضحة في ذلك قال‪« :‬تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول‪ :‬يا رب‬
‫سلَّم سلَّم‪ ،‬حتى تعجز أعمال العباد‪ ،‬حتى يجيء الرجل فال يستطيع السيرإال‬
‫زحفا»‪ 1‬ألعماله القليلة‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪« :‬ويشفع نبينا صلى للا عليه وعلى آله وسلم فيمن دخل‬
‫النار من أمته من أهل الكبائر‪ ،‬فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحما ً‬
‫وحمما ً‪ ،‬فيدخلون الجنة بشفاعته‪ ،‬ولسائر األنبياء والمؤمنين والمالئكة‬
‫شفاعات‪ ،2‬قال تعالى‪ } :‬وال يشفعون إال لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون {‬
‫[األنبياء‪ ،]28 :‬وال تنفع الكافر شفاعة الشافعين‪.9‬‬

‫الشفاعة‪ :‬هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة‪ ،‬والشفاعة يوم القيامة‬
‫نوعان‪:‬‬
‫شفاعة خاصة بالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وشفاعة عامة له ولغيره من األنبياء‬
‫‪ 1‬رواه مسلم (‪ )195‬عن حذيفة بن اليمان رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬سبق تخريجه في المتفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫والمالئكة والصالحين والشهداء‪ ،‬فالخاصة بالنَّبي صلىاهلل عليه وسلَّم هي الشفاعة‬
‫العظمى‪ ،‬الشفاعة في أهل الموقف لقيام الحساب‪.‬‬

‫وأما الشفاعة العامة فهي الشفاعة فيمن دخل النَّار من المؤمنين من أهل الكبائر‬
‫أن يخرجوا منها‪ ،‬جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلَّم‪ « :‬أما أهل النَّارالذين هم أهلها فال يموتون فيها وال يحيون‪ ،‬ولكن ناس‬
‫أصابتهم النَّار بذنوبهم ‪-‬أو قال بخطاياهم‪ -‬فأماتهم إماتة‪ ،‬حتى إذا كانوا فحما أُذن‬
‫بالشفاعة»‪ ،1‬وأحاديث الشفاعة في الصحيحين كثيرة تدل على خروج المذنبين من‬
‫النَّار‪ ،‬وكما قال صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬شفاعتي ألهل الكبائر من أمتي»‪.2‬‬

‫فشفاعة النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وشفاعة المالئكة وشفاعة الصالحين‪ ،‬كلها ثابتة‬
‫في أحاديث كثيرة لم ينكرها إال الخوارج والمعتزلة‪ ،‬بناء على أصولهم أ َّن صاحب‬
‫الكبيرة كافر ال يخرج من النَّار‪ ،‬أما أهل السنة والجماعة فيعتقدون أ َّن صاحب‬
‫الكبيرة مؤمن ناقص اإليمان أوأنه فاسق يعذب في نار جهنَّم‪ -‬إن شاء هللا له ذلك ‪،-‬‬
‫على قدر ذنوبه‪ ،‬ث ُ َّم يخرج منها كما صحت بذلك أحاديث كثيرة‪.‬‬

‫و يشترط لهذه الشفاعة شرطان‪:‬‬

‫الشرط األول‪ :‬إذن هللا للشافع أن يشفع‪ ،‬وهذا مأخوذ من قول هللا تعالى‪ } :‬من ذا‬
‫الذي يشفع عنده إال بإذنه{[البقرة‪ ،]255 :‬فال أحد له قدرة على أن يشفع إال إن أذن‬
‫هللا سبحانه وتعالى بذلك‪.‬‬

‫‪ 1‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪ 2‬رواه أحمد(‪ )13222‬وأبو داود(‪ )4739‬والترمذي (‪ )2435،2436‬عن أنس رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وابن ماجه(‪ )4310‬عن جابر بن عبدهللا رضي هللا عنهما‪ ،‬وقال الترمذي عقب حديث جابر‪ :‬غريب من هذا‬
‫الوجه مستغرب عن حديث جعفر بن محمد‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أن يرضى أن يُشفع في المشفوع فيه‪ ،‬فال يشفع أحد في أحد إال أن‬
‫يرضى هللا سبحانه وتعالى لفالن أن يشفع في فالن‪ ،‬قال } وال يشفعون إال لمن‬
‫ارتضى{[األنبياء‪ ]28 :‬من ارتضى أن يشفعوا فيه‪.‬‬

‫فأما الكافر فال شفاعة له‪ ،‬كما قال تبارك وتعالى‪}:‬فما تنفعهم شفاعة الشافعين {‬
‫[المدثر‪.]48 :‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪ ( :‬والجنة والنار مخلوقتان ال تفنيان) (مخلوقتان) أي‬
‫موجودتان اآلن (ال تفنيان) تبقيان إلى ما ال نهاية‪ ،‬ال تفنيان البتة (فالجنة مأوى‬
‫أوليائه) يأوي إليها األولياء المؤمنون‪ ،‬أي ينزلونها ويستقرون فيها (والنار عقاب‬
‫ألعدائه) يثعذبون فيها ‪.‬‬

‫(وأهل الجنة فيها مخلدون) أي ال يفنون وال يخرجون من الجنَّة‪ ،‬بل هم باقون‬
‫دائما }‪.‬‬

‫(والمجرمون {في عذاب جهنم خالدون* ال يفتر عنهم وهم فيه‬


‫مبلسون{([الزخرف‪ ]75 ،74 :‬أي‪ :‬آيسون من رحمة هللا تبارك وتعالى‪ ،‬ال‬
‫يخرجون من العذاب أبدا‪ ،‬وال ينقطع العذاب عنهم أبدا وال يخفف‪.‬‬

‫وقول المؤلف رحمه هللا تعالى‪ :‬هما مخلوقتان؛ أي الجنَّة والنَّار‪ ،‬دليل ذلك قول هللا‬
‫تبارك وتعالى في الجنَّة‪} :‬أعدت للمتقين{[آل عمران‪ ]133 :‬أي أعدت‪ ،‬فهي معدة‬
‫و جاهزة و موجودة للمتقين‪ ،‬وقال أيضا في النَّار‪} :‬أعدت للكافرين{[آل عمران‪:‬‬
‫‪.]131‬‬

‫و جاء في أحاديث كثيرة أن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم رأى الجنَّة ورأى‬
‫النَّارأيضا ورأى أقواما يعذبون في نار جهنَّم‪ ،‬ورأى أقواما ينعمون في الجنَّة في‬

‫‪129‬‬
‫أحاديث كثيرة‪ ،‬حتى إنه ه َّم أن يأخذ منها عنقودا من العنب كما جاء في الحديث‬
‫قال‪ « :‬إنِي رأيت الجنَّة فتناولت منها عنقودا‪ ،‬ولو أخذته ألكلتم منه ما بقيت الدنيا‪،‬‬
‫و رأيت النَّار فلم َ‬
‫أر كاليوم منظرا قط أفظع منها» وهذا الحديث متفق عليه‪ ،1‬وهذه‬
‫القصة في صالة الكسوف‪.‬‬

‫والقول بأنهما تخلقان يوم القيامة قول باطل‪.‬‬

‫وأ َّما الجنَّة والنَّار وكونهما باقيتين ال تفنيان أبدا فأدلة ذلك في السنة كثيرة جدا‪ ،‬قال‬
‫هللا تعالى‪} :‬جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها األنهار خالدين فيها‬
‫أبدا {[البينة‪ ،]8 :‬أي ال ينقطع خلودهم البتة‪.‬‬

‫وأما في النَّار فقال تبارك وتعالى‪} :‬وال ليهديهم طريقا* إال طريق جهنم خالدين‬
‫فيها أبدا ً {[إالحزاب‪ ]65 ،64 :‬وقال أيضا‪} :‬إن المجرمين في عذاب جهنم‬
‫خالدون* ال يفتر عنهم وهم فيه مبلسون {[ الزخرف ‪]75 ،74‬‬

‫هذا رد على الذين قالوا بفناء النَّار‪ ،‬وهو قول مردود باطل ال يقبل من قائله‪،‬‬
‫لمخالفته لهذه األدلة الواضحة الصريحة المحكمة‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬و يؤتى بالموت في صورة كبش أملح)‬

‫عندما يستقر أهل الجنَّة في الجنَّة‪ ،‬و أهل النَّار في النَّار‪ ،‬يؤتى بالموت في‬
‫صورة كبش أملح‪ ،‬األملح‪ :‬الذي فيه بياض وسواد إال َّ‬
‫أن بياضه أكثر من سواده‪.‬‬

‫واألصل في الموت أنه شيء معنوي ليس شيئا محسوسا‪ ،‬ولكن هللا سبحانه وتعالى‬
‫قادر على أن يفعل ما يشاء‪ ،‬فيأتي به في صورة كبش أملح‪ ،‬هكذا يجعله هللا تبارك‬
‫وتعالى ‪.‬‬
‫‪ 1‬متفق عليه‪ ،‬البخاري(‪ )1052،748،431،29 ،3202 ،5197‬ومسلم(‪ ،)2737،909،908،907،902‬عن ابن‬
‫عباس رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪130‬‬
‫(فيذبح بين الجنة والنار‪ ،‬ثم يقال‪ :‬يا أهل الجنة خلود وال موت‪ ،‬ويا أهل النار‬
‫خلود وال موت)‬

‫هكذا جاء عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ «:‬يُؤْ تَى بِ ْال َم ْو ِ‬
‫ت َك َه ْيئ َ ِة َكبْش أ َ ْملَ َح‪،‬‬
‫ظ ُرونَ ‪ ،‬فَيَقُولُ‪ :‬ه َْل ت َ ْع ِرفُونَ َهذَا؟‬ ‫فَيُنَادِي ُمنَاد‪ :‬يَا أ َ ْه َل ال َجنَّ ِة‪ ،‬فَيَ ْش َرئِبونَ َويَ ْن ُ‬

‫فَ َيقُولُونَ ‪ :‬نَ َع ْم‪َ ،‬هذَا ال َم ْوتُ ‪َ ،‬و ُكل ُه ْم قَ ْد َرآهُ‪ ،‬ث ُ َّم يُنَادِي‪َ :‬يا أ َ ْه َل النَّ ِ‬
‫ار‪ ،‬فَ َي ْش َر ِئبونَ‬
‫ظ ُرونَ ‪ ،‬فَيَقُولُ‪ :‬ه َْل ت َ ْع ِرفُونَ َهذَا؟ فَيَقُولُونَ ‪ :‬نَ َع ْم‪َ ،‬هذَا ال َم ْوتُ ‪َ ،‬و ُكل ُه ْم قَ ْد‬ ‫َويَ ْن ُ‬

‫ت‪َ ،‬ويَا أ َ ْه َل النَّ ِ‬


‫ار ُخلُود ٌ‬ ‫[ص‪َ ]94:‬رآهُ‪ ،‬فَيُ ْذبَ ُح ث ُ َّم يَقُولُ‪ :‬يَا أ َ ْه َل ال َجنَّ ِة ُخلُودٌ فَالَ َم ْو َ‬
‫ي األ َ ْم ُر َو ُه ْم فِي َغ ْفلَة} [مريم‪:‬‬ ‫ض َ‬ ‫{وأ َ ْنذ ِْر ُه ْم يَ ْو َم ال َح ْس َرةِ إِ ْذ قُ ِ‬
‫ت‪ ،‬ث ُ َّم قَ َرأَ‪َ :‬‬
‫فَالَ َم ْو َ‬
‫‪َ ،]39‬و َه ُؤالَ ِء ِفي َغ ْفلَة أ َ ْه ُل الد ْن َيا َ‬
‫‪1‬‬
‫{و ُه ْم الَ يُؤْ ِمنُونَ } [مريم‪» ]39 :‬‬

‫ما أعظم هذا الحدث عند أهل الجنَّة وعند أهل النَّار‪ ،‬أما أهل الجنَّة فيزيد نعيمهم‬
‫نعيما‪ ،‬و أ َّما أهل النَّار فيزيد عذابهم عذابا‪ ،‬فأهل النَّار ما كان لهم مفر وال مخرج‬
‫م َّما هم فيه إال الموت‪ ،‬فل َّما ذُبح الموت أمامهم‪ ،‬ما بقي مفر من بقاء العذاب الذي‬
‫هم فيه‪ ،‬نسأل هللا أن يعافينا وإياكم‪ ،‬وأن يُحسنَ خاتمتنا وخاتمتكم‪.‬‬

‫نسأل هللا سبحانه وتعالى العافية والسالمة‪ ،‬هذا يدل على بقاء الجنة والنار وعدم‬
‫فنائهما ‪.‬‬

‫متن‬

‫فصل في حق النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وأصحابه‬

‫‪ 1‬سبق تخريجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه في المتفق عليه‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫محمد خاتم النبيين‪ ،‬ومحمد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خاتم النبيين وسيد‬
‫المرسلين‪ ،‬ال يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته‪ ،‬وال يقضى بين‬
‫الناس في القيامة إال بشفاعته‪.‬‬
‫وال يدخل الجنة أمة إال بعد دخول أمته صاحب لواء الحمد والمقام المحمود‬
‫والحوض المورود‪ ،‬وهو إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم‪ ،‬أمته خير األمم‬
‫وأصحابه خير أصحاب األنبياء عليهم السالم‪.‬‬
‫وأفضل أمته أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي‬
‫المرتضى رضي هللا عنهم أجمعين‪ ،‬لما «روى عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما‬
‫قال‪ :‬كنا نقول والنبي صلى هللا عليه وسلم حي‪ :‬أفضل هذه األمة بعد نبيها أبو بكر‬
‫ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيبلغ ذلك النبي صلى هللا عليه وسلم فال ينكره»‪.‬‬
‫وصحت الرواية عن علي رضي هللا عنه أنه قال‪ « :‬خير هذه األمة بعد نبيها أبو‬
‫بكر ثم عمر ولو شئت لسميت الثالث »‪ ،‬وروى أبو الدرداء عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم أنه قال‪« :‬ما طلعت الشمس وال غربت بعد النبيين والمرسلين على‬
‫أفضل من أبي بكر» ‪ ،‬وهو أحق خلق هللا بالخالفة بعد النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫لفضله وسابقته‪ ،‬وتقديم النبي صلى هللا عليه وسلم له في الصالة على جميع‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته‪ ،‬ولم يكن هللا‬
‫ليجمعهم على ضاللة‪.‬‬
‫ثم من بعده عمر رضي هللا عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه‪ ،‬ثم عثمان رضي هللا‬
‫عنه‪ ،‬لتقديم أهل الشورى له‪ ،‬ثم علي رضي هللا عنه‪ ،‬لفضله وإجماع أهل عصره‬
‫عليه‪.‬‬
‫هؤالء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيهم‪:‬‬
‫«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ»‪.‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪« :‬الخالفة من بعدي ثالثون سنة»‪ ،‬فكان آخرها خالفة‬
‫علي رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ونشهد للعشرة بالجنة كما شهد لهم النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪« :‬أبو بكر في‬
‫الجنة‪ ،‬وعمر في الجنة‪ ،‬وعثمان في الجنة‪ ،‬وعلي في الجنة‪ ،‬وطلحة في الجنة‪،‬‬
‫والزبير في الجنة‪ ،‬وسعد في الجنة‪ ،‬وسعيد في الجنة‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف في‬
‫الجنة‪ ،‬وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة»‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫وكل من شهد له النبي صلى هللا عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ كقوله صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪« :‬الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»‪.‬‬
‫وقوله لثابت بن قيس‪« :‬إنه من أهل الجنة»‪.‬‬
‫وال نجزم ألحد من أهل القبلة بجنة وال نار إال من جزم له الرسول صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء‪.‬‬
‫وال نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب‪ ،‬وال نخرجه عن اإلسالم بعمل‪.‬‬
‫ونرى الحج والجهاد ماضيين مع طاعة كل إمام‪ ،‬برا كان أو فاجرا‪ ،‬وصالة‬
‫الجمعة خلفهم جائزة‪.‬‬
‫قال أنس‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ثالثة من أصل اإليمان‪ :‬الكف عمن‬
‫قال‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬وال نكفره بذنب‪ ،‬وال نخرجه من اإلسالم بعمل‪ ،‬والجهاد ماض‬
‫منذ بعثني هللا عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال‪ ،‬ال يبطله جور جائر‪ ،‬وال‬
‫عدل عادل‪ ،‬واإليمان باألقدار»‪ ،‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫ومن السنة تولي أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومحبتهم وذكر محاسنهم‪،‬‬
‫والترحم عليهم‪ ،‬واالستغفار لهم والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم‪ ،‬واعتقاد‬
‫{والَّذِينَ َجا ُءوا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم يَقُولُونَ َربَّنَا‬
‫فضلهم ومعرفة سابقتهم‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ان َو َال ت َ ْجعَ ْل فِي قُلُوبِنَا ِغ ًّال ِللَّذِينَ آ َمنُوا}‬ ‫ا ْغ ِف ْر لَنَا َو ِ ِإل ْخ َوانِنَا الَّذِينَ َ‬
‫سبَقُونَا بِ ْ ِ‬
‫اإلي َم ِ‬
‫[الحشر‪]10 :‬‬

‫سو ُل هللا َوالَّذِينَ َم َعهُ أ َ ِشدَّا ُء َعلَى ْال ُكفَّ ِ‬


‫ار ُر َح َما ُء بَ ْينَ ُه ْم}‬ ‫وقال تعالى‪ُ { :‬م َح َّمدٌ َر ُ‬
‫[الفتح‪]29 :‬‬
‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ال تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد‬
‫ذهبا ما بلغ مد أحدهم وال نصيفه»‪.‬‬

‫الشرح‬
‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬ومحمد رسول للا صلى للا عليه وسلم خاتم‬
‫النبيين) فالواجب على المؤمن أن يؤمن برسالة محمد صلىاهلل عليه وسلَّم‪ ،‬وأن‬
‫يصدق بأنه مرسل من عند هللا تبارك وتعالى وأنه آخر نبي ال نبي بعده ؛ لقول هللا‬
‫‪133‬‬
‫تعالى‪} :‬ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول للا وخاتم النبيين{‬
‫[األحزاب‪ ،]40 :‬وقال صلى هللا عليه وسلَّم كما جاء في الحديث المتفق عليه‪ « :‬ال‬
‫نبي بعدي»‪ ،1‬فال نبي بعد محمد صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬
‫فمن اعتقد أنه يبعث نبي بعده صلى هللا عليه وسلم فهو كافر؛ ألنه مكذب هلل‬
‫‪.‬‬ ‫وسلم‬ ‫عليه‬ ‫هللا‬ ‫صلى‬ ‫لرسوله‬ ‫ومكذب‬
‫أما نزول عيسى فليس من هذا الباب؛ ألنه ال ينسخ شريعة محمد صلى هللا عليه‬
‫وسلم بل يحكم بها‪ ،‬وال يأتي بدين آخر‪ ،‬بل يصلي خلف إمام هذه األمة ‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫إمامكم منكم ‪.‬‬
‫قال‪( :‬وسيد المرسلين) لقول النبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬أنا سيد النَّاس يوم‬
‫القيامة وال فخر»‪ ،2‬كما جاء في رواية‪ ،‬فهو سيد المرسلين‪ ،‬و سيد النَّاس جميعا‪،‬‬
‫فهذا من حقوق النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم التي نثبتها له؛ لكونها ثبتت له في األدلة‬
‫الصحيحة‪.‬‬

‫قال‪( :‬ال يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته‪ ،‬ويشهد بنبوته) لقول هللا تبارك‬
‫وتعالى‪{ :‬فال وربك ال يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ث ُ َّم ال يجدوا في‬
‫أنفسهم حرجا م َّما قضيت ويسلَّموا تسليما{[ ِ‬
‫النساء‪.]65 :‬‬

‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬والذي نفس محمد بيده ال يسمع بي أحد من‬
‫هذه األمة‪ ،‬يهودي وال نصراني ث ُ َّم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إال كان من‬
‫أصحاب النَّار»‪ ،3‬والمراد باألمة هنا التي قال فيها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬ال‬
‫يسمع بي أحد من هذه األمة» أي‪ :‬أ َّمة الدعوة التي دعاها صلى هللا عليه وسلَّم إلى‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ )3455‬ومسلم(‪ )1842‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪ ،‬ورواه البخاري(‪،)4416،3706‬‬
‫ومسلم (‪ )2204‬عن سعد بن أبي وقاص رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬رواه أحمد(‪ )10987‬والترمذي(‪ )3615،3148‬وابن ماجه(‪ )4308‬عن أبي سعد رضي هللا عنه‪ ،‬وهو في‬
‫الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪ :‬البخاري(‪ ،)3361،4712،3340‬ومسلم‪.‬‬
‫(‪ )2278،194‬في قصة الشفاعة الكبرى‪.‬‬
‫‪ 3‬اخرجه أحمد (‪ ،)8609،8203‬ومسلم (‪ )153‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫دينه‪ ،‬ومنهم اليهود والنَّصارى‪ ،‬فإذا لم يؤمنوا بالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم كانوا‬
‫من أصحاب النَّار‪.‬‬

‫هذا الحديث أخرجه مسلم وفيه رد على الذين يدعون أن اليهود والنصارى‬
‫مؤمنون‪ ،‬وبيننا وبينهم أخوة اإليمان‪ ،‬هذا كالم باطل مردود على صاحبه‪ ،‬فاإليمان‬
‫الذي عند اليهود والنصارى ال ينفعهم‪ ،‬اإليمان الذي ينفع هو اإليمان الشرعي الذي‬
‫أخبر به النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬اإليمان باهلل واإليمان برسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلَّم‪ ،‬واإليمان بما جاء به من شريعة ‪ ،‬فمن لم يؤمن برسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلَّم فال يقبل منه‪ ،‬ومن لم يؤمن باإلسالم الذي جاء به محمد صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم فلن يقبل منه؛ قال هللا تعالى‪{ :‬وم ْن يكْف ْر به من ْاأل ْحزاب فالنار‬
‫م ْوعده}[هود‪ ،]17:‬وقال‪} :‬فمن يبتغ غير اإلسالم دينا ً فلن يقبل منه{[آلعمران‪:‬‬
‫‪ ،]95‬وقال تعالى‪} :‬إن الدين عند للا اإلسالم {[آل عمران‪.]19 :‬‬

‫فالدين عند هللا سبحانه وتعالى هو دين اإلسالم‪ ،‬الذي يقرر بأنه ال إله إال هللا‪ ،‬وأ َّن‬
‫محمدا رسول هللا‪ ،‬فمن لم يؤمن برسالة محمد صلى هللا عليه وسلَّم وأنه أرسل‬
‫لجميع النَّاس كافة‪ ،‬فليس بمؤمن وإيمانه غير معتبر‪ ،‬وال يتعلق به أحكام شرعية‪،‬‬
‫يعني‪ :‬أنه ال يصح أن نقول بأنه مؤمن وأنه أخونا في اإليمان‪ ،‬هذا ال يقال‪.‬‬

‫قال هللا تبارك وتعالى‪{ :‬وما أ ْرس ْلناك إال كافةً للناس}[سبأ‪ ،]28 :‬وقال‪{ :‬ق ْل يا‬
‫أيها الناس إني رسول َّللا إل ْيك ْم جميعًا الذي له م ْلك السماوات و ْاأل ْرض ال إله إال‬
‫هو ي ْحيي ويميت فآمنوا باَّلل ورسوله النبي ْاألمي الذي ي ْؤمن باَّلل وكلماته‬
‫واتبعوه لعلك ْم ت ْهتدون}[األعراف‪]158 :‬‬

‫اإليمان المعتبر الذي تكون به األ ُخوة‪ ،‬ويعقد عليه الوالء‪ ،‬هو اإليمان الشرعي‬
‫الذي جاء به محمد صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬أما القول بأن اليهود والنصارى وغيرهم‬

‫‪135‬‬
‫من الكفرة هم مؤمنون ألنهم يؤمنون بوجود هللا تبارك وتعالى؛ فهذا قول باطل‬
‫وفاسد مردود على صاحبه‪ ،‬وإال فكفَّار قريش أيضا مؤمنون‪ ،‬ماذا قال سبحانه‬
‫وتعالى فيهم؟ {ولئن سألتهم من خلق السموات واألرض ليقولن للا} [لقمان‪:‬‬
‫‪ ،]25‬فهم يؤمنون بوجود هللا ويؤمنون بأنه هو الخالق و هو الرزاق‪ ،‬فماذا إذن؟‬
‫هو إيمان ال ينفع‪ ،‬ال ينفع اإليمان إال بأن تؤمن بما جاء به محمد صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬وال يقضى بين الناس يوم القيامة إال بشفاعته)؛ لحديث‬
‫الشفاعة في الموقف الذي تقدم عندما يأتي النَّاس إلى األنبياء فيقول النَّبي‪ :‬نفسي‬
‫نفسي‪ ،‬إلى أن يأتوا إلى نبينا محمد صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا لها أنا لها‪.‬‬

‫قال‪( :‬وال يدخل الجنة أمة إال بعد دخول أمته) لقول النبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬‬
‫‪1‬‬
‫نحن اآلخرون األولون يوم القيامة‪ ،‬ونحن أول من يدخل الجنَّة»‬

‫قال‪( :‬صاحب لواء الحمد)اللواء كالراية‪ ،‬ولكنه يلف على الرمح‪ ،‬وال يرفرف‬
‫كالراية‪ ،‬جاء في حديث أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪« :‬أنا سيد ولد آدم يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وال فخر‪ ،‬وبيدي لواء الحمد»‪ 2‬أخرجه الترمذي‪ ،‬و له شواهد يرتقي بها إن‬
‫شاء هللا تعالى إلى الحسن‪.‬‬

‫قال‪( :‬والمقام المحمود)‪ 3‬هو العمل الذي يحمد عليه فاعله‪ ،‬وهنا المقصود به‪:‬‬
‫الشفاعة‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬والحوض المورود) الذي يأتيه النَّاس ويردونه‪ ،‬وقد تقدم دليله‪.‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ ،)7495،7036،6887،6624،3486،2956،896،876،238‬ومسلم (‪ )855،849‬عن‬


‫أبي هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪ 3‬اخرجه أحمد(‪)14817،14619‬والبخاري (‪ )4719،614‬عن جابر بن عبدهللا رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫قال‪( :‬وهو إمام النبيين وخطيبهم‪ ،‬وصاحب شفاعتهم) جاء في ذلك حديث عند‬
‫الترمذي وابن ماجه من حديث أبي بن كعب رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬إذا كان يوم القيامة كنت إمام النَّبيين و خطيبهم و صاحب‬
‫شفاعتهم غير فخر»‪ ،1‬وهو حسن بطرقه إن شاء هللا تعالى‪.‬‬

‫قال‪( :‬أمته خير األمم‪ ،‬وأصحابه خير أصحاب األنبياء عليهم السالم) لقول هللا‬
‫تبارك وتعالى‪{ :‬كنتم خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران ‪ ،)110‬وقال النبي‬
‫اس قَ ْرنِي‪ ،‬ث ُ َّم الَّذِينَ يَلُونَ ُه ْم‪ ،‬ث ُ َّم الَّذِينَ يَلُونَ ُه ْم‪،»….‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪َ « :‬خي ُْر النَّ ِ‬
‫متفق عليه‪ ،‬ونقلوا اتفاق أهل السنة على أن الصحابة أفضل النَّاس بعد األنبياء‪.‬‬

‫والصحابي هو‪ :‬من لقي النبي صلى هللا عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وأفضل أمته أبو بكر الصديق‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬ثم‬
‫عثمان‪ ،‬ثم علي المرتضى رضي للا عنهم أجمعين‪ ،‬لما روى عبدللا بن عمر‬
‫رضي للا عنهما قال‪« :‬كنا نقول والنبي صلى للا عليه وسلم حي‪ :‬أفضل هذه‬
‫األمة أبو بكر‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬ثم عثمان ثم علي‪ ،‬فيبلغ ذلك النبي صلى للا عليه وسلم‬
‫فال ينكره)‪ 2‬هذه الزيادة‪( :‬ث ُ َّم علي) ليست في الحديث‪ ،‬الصواب في الحديث ‪ ،‬وهو‬
‫الموجود في الصحاح والسنن‪ ،‬بلفظ‪« :‬أفضل هذه األمة بعد نبيها أبوبكر ث ُ َّم عمر ث ُ َّم‬
‫عثمان» فهذه الزيادة (ث ُ َّم علي) ليست من الحديث‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه أحمد(‪ ،)21245، 21259،21256،21249‬والترمذي(‪ )3613‬وابن ماجة(‪ )4314‬عن أُبي بن كعب‬


‫رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬رواه البخاري(‪ ،)3697،3655‬وأبو داوود (‪ ،)4628‬والترمذي(‪ )3707‬عن ابن عمر رضي هللا عنهما ‪،‬‬
‫واللفظ المذكور عند أبي عاصم في سنته(‪.)1193‬‬
‫‪137‬‬
‫قال‪( :‬وصحت الرواية عن علي رضي للا عنه أنه قال‪« :‬خير هذه األمة بعد‬
‫نبيها أبو بكر ثم عمر ولو شئت لسميت الثالث)‪.1‬‬

‫أبو بكر الصديق معروف‪ ،‬هو عبدهللا بن عثمان بن عامر من بني تيم‪ ،‬آمن بالنَّبي‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وكان أول من آمن به من الرجال وكان صاحبه ورفيقه‪،‬‬
‫وأشار النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بإمامته للمسلمين من بعده‪ ،‬وهو خيرالصحابة‬
‫بل هو خير النَّاس بعد األنبياء‪.‬‬

‫وعمر هو أبو حفص الفاروق‪ ،‬ولقب بالفاروق؛ ألنه فرق بين الحق والباطل‪ ،‬وهو‬
‫من بني عدي وجميعهم من قريش‪ ،‬أبو بكر وعمر‪ ،‬من قريش‪.‬‬

‫والذي استخلفه أبوبكر الصديق من بعده‪ ،‬وأبو بكر وعمر صاحبا رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم ووزيراه‪ ،‬جاءت أحاديث كثيرة في بيان فضائلهما رضي هللا عنهما‪.‬‬

‫والرواية التي ذكرها المصنف في قوله‪ « :‬وصحت الرواية عن علي رضي هللا‬
‫عنه أنه قال‪« :‬خير هذه األمة بعد نبيها أبو بكر ث ُ َّم عمر ولو شئت لسميت الثالث»‬
‫الثالث هو عثمان‪ ،‬هذه الرواية صحيحة‪ ،‬وفيها رد على الرافضة الذين يطعنون‬
‫في أبي بكر وعمر‪ ،‬ويدعون أنهم يتولون علي بن أبي طالب‪ ،‬فإن كانوا يتولونه‬
‫ويعتقدونه معصوما‪ ،‬فلماذا إذن ال يأخذون بما قاله في أبي بكر وعمر؟! إنما هو‬
‫الهوى فقط‪ ،‬الحاكم عندهم هو الهوى ال الدليل‪.‬‬

‫وعثمان هو أبو عبدهللا ذو النورين عثمان بن عفان من بني أمية‪ ،‬وهو قرشي‬
‫أيضا‪ ،‬و قد زوجه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بابنتيه‪ ،‬لذلك لقب بـ(ذو النورين)‬

‫‪ 1‬أخرجه أحمد(‪ ،)836‬والبخاري(‪ ،)3671‬لكن البخاري آخرجه بلفظ آخر عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي‬
‫رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫وهذه فضيلة أيَّما فضيلة‪ ،‬فخير هذه األمة ‪-‬كما كانوا يقولون‪ -‬في عهد النَّبي صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم‪« :‬أبو بكر ث ُ َّم عمر ث ُ َّم عثمان» ث ُ َّم علي من بعدهم‪.‬‬

‫عم رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬أبو الحسن‪،‬‬


‫وعلي هو ابن أبي طالب‪ ،‬ابن ِ‬
‫قرشي‪ ،‬والد الحسن والحسين‪ ،‬وزوج فاطمة بنت النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪،‬‬
‫صاحب الفضائل الكثيرة‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وروى أبوالدرداء عن النبي صلى للا عليه وسلم‬
‫قال‪ « :‬ما طلعت الشمس وال غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي‬
‫‪1‬‬
‫بكر») هذا صحيح المعنى‪ ،‬ولكنه ضعيف اإلسناد‪ ،‬إسناده ضعيف ال يصح‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬وهو أحق خلق للا بالخالفة بعد النبي صلى للا عليه وسلم) لماذا هو أحق‬
‫؟ يبين المؤلف‪ ،‬فيقول‪« :‬لفضله وسابقته»‪( ،‬سابقته) في اإلسالم فهو سابق غيره‪،‬‬
‫ودخل في اإلسالم قبل الجميع‪ ،‬وفضله معروف‪ ،‬وله مكانته الخاصة عند النَّبي‬
‫صل ىاهلل عليه وسلَّم‪ ،‬حتى قيل له‪« :‬من أحب النَّاس إليك؟ قال‪:‬عائشة‪ ،‬قيل ومن‬
‫الرجال؟ قال‪:‬أبوها»‪ ،2‬وتقديم النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم له في الصالة على جميع‬
‫الصحابة‪ ،‬قبل موته صلى هللا عليه وسلَّم في مرضه رفض أن يتقدم أحد من‬
‫المسلمين إال أبا بكر الصديق‪ ،3‬وفي هذا إشارة إلى َّ‬
‫أن أبا بكر هو الذي يخلفه من‬
‫بعده‪.‬‬

‫‪ 1‬رواه أحمد في فضائل الصحابة(‪ ،)662،508،137،135‬وابن أبي عاصم في السنة(‪)1224‬والساجري في‬


‫الشريعة(‪ )1310،1309‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ ،)4358،3662‬ومسلم( ‪ )2384‬من حديث عمرو بن العاص رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 3‬متفق عليه‪ :‬البخاري‬
‫(‪)443،24437،3384،3100،3099،2588،1389،890،716،713،712،687،683،679،664‬‬
‫ومسلم(‪ )481‬عن عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫قال‪( :‬وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته‪ ،1‬ولم يكن للا ليجمعهم على‬
‫ضاللة‪ ،)2‬ال شك َّ‬
‫أن هللا سبحانه وتعالى ال يجمع هذه األمة على ضاللة‪ ،‬وقد اتفق‬
‫استقر األمر له‪ ،‬بل أتت‬
‫َّ‬ ‫الصحابة رضي هللا عنهم على خالفة أبي بكر الصديق و‬
‫امرأة إلى النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فأمرها أن ترجع إليه‪ ،‬قالت‪ :‬أرأيت إن جئت‬
‫ولم أجدك ؟ كأنها تقول‪ :‬الموت‪ ،‬قال صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬إن لم تجديني فأ ِ‬
‫ت أبا‬
‫بكر»‪ ،3‬ففي هذا دليل على أن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم كان ِ‬
‫يقدمه من بعده في‬
‫كل شيء‪.‬‬

‫قال‪( :‬ثم من بعده عمر رضي للا عنه؛ لفضله‪ ،‬وعهد أبي بكر إليه) أي‪ :‬في‬
‫الخالفة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي هللا عنه؛ لفضله ومكانته أيضا‪ ،‬وهو‬
‫خير هذه األمة بعد أبي بكر الصديق‪ ،‬وعهد أبي بكر إليه‪ ،‬أي ألن أبا بكر الصديق‬
‫رضي هللا عنه هو الذي استخلفه من بعده‪.‬‬

‫قال‪( :‬ثم عثمان رضي للا عنه؛ لتقديم أهل الشورى له) فعمر بن الخطاب رضي‬
‫هللا عنه جعل األمر شورى بين خيرة أصحاب النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وهم‬
‫اختاروا عثمان من بين البقية‪ ،‬فعثمان بن عفان له فضيلة‪ ،‬وله مكانة عظيمة‪ ،‬وهو‬
‫أفضل هذه األمة بعد النبي صلى هللا عليه وسلم وأبي بكر وعمر‪ ،‬ث ُ َّم زد على ذلك‬
‫أنه قد اختاره أهل الشورى للخالفة‪ ،‬بعد مشاورة الكثير من الصحابة‪ ،‬فكان أحق‬
‫بها من غيره ‪.‬‬

‫قال‪( :‬ثم علي رضي للا عنه؛ لفضله وإجماع أهل عصره عليه) كان هو خير هذه‬
‫األمة في وقته‪.‬‬

‫‪ 1‬رواه البخاري(‪ )7323،6830‬عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪.‬‬


‫‪ 2‬رواه ابن ماجه(‪ ،)3950‬والحاكم في المستدرك(‪ )400‬عن أنس بن مالك رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 3‬متفق عليه‪ ،‬البخاري(‪ ، )7360،7220،3659‬ومسلم(‪ )2382‬عن جبير بن مطعم رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫قال‪( :‬هؤالء الخلفاء الراشدون المهديون‪ ،‬الذين قال رسول للا صلى للا عليه‬
‫وسلم فيهم‪« :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا‬
‫عليها بالنواجذ‪( .)1‬عليكم بسنتي) أي الزموا طريقتي التي أنا عليها وال تخالفوها‪.‬‬

‫(وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وكذلك الزموا سنة الخلفاء الراشدين‬
‫المهديين من بعده‪ ،‬ومن هم هؤالء الخلفاء الراشدون ؟ كما سيأتي إن شاء هللا تعالى‬
‫هم هؤالء األربعة‪.‬‬

‫(الراشدين) من الرشد وهو ضد الغي‪ ،‬والغي الضالل ‪.‬‬

‫(المهديين) أي‪ :‬الذين هداهم هللا إلى الحق‪.‬‬

‫فهم صالحون موفقون ‪.‬‬

‫(عضوا عليها بالنَّواجذ) أي تمسكوا بها بأسنأنكم‪ ،‬أي كما نقول نحن اليوم (تمسك‬
‫بها بيديك وأسنانك) أي تمسك بها تمسكا شديدا‪ ،‬واحرص عليها؛ كي ال تتفلت‬
‫منك‪ ،‬فأسباب تفلتها كثيرة‪ ،‬فالسنة تحتاج إلى حرص‪ ،‬وتحتاج إلى ت َّمسك‪ ،‬تحتاج‬
‫إلى زهد في الدنيا‪ ،‬وبعد عن الفتن‪ ،‬وكثرة دعاء بالثبات‪ ،‬وتجنب لشبهات أهل‬
‫َّ‬
‫فإن مما يعكر على العبد عبادته وطاعته في‬ ‫البدع بعدم مجالستهم والسماع لهم؛‬
‫هذا الزمن‪ ،‬وفي غيره‪ ،‬وخصوصا في زمننا هذا الذي انفتحت فيه الدنيا على‬
‫النَّاس انفتاحا وانبساطا كبيرا‪ ،‬الذي يعكر على العبد عبادته هي الدنيا؛ لكثرة‬
‫اإلشتغال بها‪ ،‬وترك التعبد هلل سبحانه وتعالى ألجلها‪ ،‬وهذاهو الذي يضيع العبد في‬
‫هذا الزمن‪ ،‬وقد حذرنا هللا تعالى منها تحذيرا كبيرا في كتابه‪ ،‬وفي سنة نبيه صلى‬
‫هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وأخبرالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بما سيقع في آخر الزمان‪َّ ،‬‬
‫وأن‬
‫النَّاس سينشغلون بالدنيا‪ ،‬وسيتركون العبادة ألجلها‪ ،‬فحذر من هذا أشدَّ التحذير‪،‬‬

‫‪ 1‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪141‬‬
‫فينبغي أن نكون عقالء‪ ،‬وأن نأخذ بتحذير النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وأن نعلم ما‬
‫الذي ينفعنا فنقبل عليه‪ ،‬وما الذي يضرنا فنبتعد عنه‪.‬‬

‫ونشغل أنفسنا بالعلم والعمل ‪.‬‬

‫وبين في هذا الحديث كثرة الخالف والشر بسبب البدع واألهواء‪ ،‬وطريق النجاة‬
‫من ذلك التمسك بالكتاب والسنة واتباع منهج الصحابة رضي هللا عنهم‪.‬‬

‫قال‪( :‬وقال صلى للا عليه وسلم‪« :‬الخالفة من بعدي ثالثون سنة»‪ ،1‬فكان آخرها‬
‫خالفة علي رضي للا عنه) هذا الحديث الثاني الذي ذكره و هو حديث صحيح‬
‫يبين لنا َمن المقصود بالخلفاء الراشدين من بعد النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫قال‪ « :‬الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»‪ ،‬وقال في الحديث اآلخر‪« :‬الخالفة‬


‫من بعدي ثالثون سنة» فانتهت السنون الثالثون بعلي بن أبي طالب رضي هللا‬
‫عنه؛ فمدة خالفة أبي بكر سنتان‪ ،‬وعمر بن الخطاب عشر‪ ،‬وعثمان اثنا عشر‬
‫وعلي بن أبي طالب أربعة‪ ،‬فهؤالء هم الخلفاء الراشدون المهديون ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬ونشهد للعشرة بالجنة كما شهد النبي صلى للا‬
‫عليه وسلم لهم فقال‪« :‬أبو بكر في الجنة‪ ،‬وعمر في الجنة‪ ،‬وعثمان في الجنة‪،‬‬
‫وعلي في الجنة‪ ،‬وطلحة في الجنة‪ ،‬والزبير في الجنة‪ ،‬وسعد في الجنة‪ ،‬وسعيد‬
‫في الجنة‪ ،‬وعبدالرحمن بن عوف في الجنة‪ ،‬وأبوعبيدة بن الجراح في الجنة»‪)2‬‬
‫هؤالء العشرة نشهد لهم بالجنَّة كما شهد لهم النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ولكن الذين‬

‫‪ 1‬أخرجه أحمد(‪ ،)21928،21925،21924،21921،21919‬وأبو داوود(‪ ،)4647،4646‬والترمذي (‪)2226‬‬


‫من حديث سفينة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬أخرجه أحمد( ‪ )1645،1644،1638،1637،1631،1630،1629‬وأبو داوود(‪ )4649،4648‬والترمذي‬
‫(‪ )3748‬وابن ماجه(‪ )134،133‬عن سعيد بن زيد رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫شهد لهم النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بالجنَّة أكثر من هؤالء‪ ،‬شهد صلى هللا عليه‬
‫وسلَّم لغيرهم بالجنَّة‪ ،‬ولكن هؤالء العشرة هم الذين ذكروا في حديث واحد‪.‬‬

‫أبو بكر وعمر وعثمان وعلي تقدم ذكرهم‪.‬‬

‫أما طلحة فهو طلحة بن عبيد هللا من بني تيم وهو أحدالسابقين إلى اإلسالم‪.‬‬

‫والزبير هو ابن العوام من بني قصي بني كالب ابن عمة رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلَّم‪ ،‬وهو أيضا من السابقين‪.‬‬

‫و عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة من بني كالب‪.‬‬

‫وسعد بن أبي وقاص هو ابن مالك من بني عبد مناف بن زهرة‪.‬‬

‫وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي‪ ،‬كان أيضا من السابقين‪.‬‬

‫وأبو عبيدة هو عامر بن عبدهللا بن الجراح من بني فهر‪ ،‬كذلك هو من السابقين‬


‫إلى اإلسالم‪ ،‬توفي في األردن في طاعون عمواس‪.‬‬

‫كلهم من السابقين الذين اسلموا في بداية اإلسالم ‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬وكل من شهد له النبي صلى للا عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ كقوله‪:‬‬
‫«الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»‪ ،)1‬فنشهد بالجنة لكل من شهد له النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم ومنهم الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب ‪.‬‬

‫الحسن هو الحسن بن علي بن أبي طالب‪.‬‬

‫والحسين بن علي بن أبي طالب ‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه احمد( ‪ ،)11777،11756،11618،11594،10999‬وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي هللا‬


‫عنه‪ ،‬وأخرجه ابن ماجه(‪ )2327‬عن ابن عمر رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫حفيدا النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬ابنا ابنته فاطمة رضي هللا عنها‪ ،‬شهد لهما بأنهما‬
‫من أهل الجنَّة‪ ،‬فنشهد لهما بذلك؛ ألن الشهادة بالجنَّة أمر غيبي ال يعلمه إال هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وما علمه هللا نبيه صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فإذا أخبرنا النَّبي صلى هللا‬
‫عليه وسلَّم َّ‬
‫بأن شخصا في الجنَّة فهو في الجنَّة‪ ،‬و إن أخبرنا أنه في النَّار فهو في‬
‫النَّار‪ ،‬أ َّما إذا لم يخبرنا صلى هللا عليه وسلَّم فال يمكننا العلم به من جهة أخرى‪،‬‬
‫فلذلك نقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة‪.‬‬

‫ولذلك ال نجزم ألحد بالشهادة‪ ،‬فال نقول‪ :‬فالن شهيد؛ ألن (شهيد) ما معناها ؟‬
‫معناها أنه في الجنَّة‪ ،‬ومن أين لنا؟ ال ندري‪ ،‬فإن الشهيد‪ :‬هوالذي يُقتل في سبيل هللا‬
‫وما أدرانا من الذي قُتل في سبيل هللا‪ ،‬ومن الذي قُتل في غيره؟ هذه المسألة تتعلق‬
‫بماذا؟ بالنِيات والمقاصد‪ ،‬فمن قاتل لتكون كلمة هللا هي العليا فهو في سبيل هللا‪،‬‬
‫ومن قاتل لغير ذلك فليس في سبيل هللا‪.‬‬

‫إذن ليس لنا أن نجزم ألحد بالشهادة‪.‬‬

‫ث ُ َّم إن الشهادة وصف شرعي ال يطلق إال على من مات في سبيل هللا‪ ،‬وال يطلق‬
‫على الكافر أبدا وصف الشهادة‪ ،‬النَّصراني واليهودي والمجوسي والمشرك كلهم‬
‫صاروا شهداء اليوم‪ ،‬أي أحد يموت في عمل يحبونه حتى لو كان كفرا يقولون فيه‪:‬‬
‫فالن شهيد‪ ،‬هذه الكلمة (شهيد) كلمة شرعية وصف شرعي أعطاه هللا سبحانه‬
‫وتعالى لمن يقتل في سبيله‪ ،‬وجعل له مكانة عظيمة في الجنَّة‪ ،‬فكيف تأتي وتصف‬
‫كافرا على غير دين اإلسالم بالشهادة؟!‬

‫ث ُ َّم إننا ال نزكي به أحدا‪ ،‬وال نطلقه على أحد سواء أكان مسلما أو غير مسلم‪ ،‬ولكننا‬
‫نرجو للمسلم الذي يجاهد في سبيل هللا‪ ،‬فنقول‪ :‬نرجو له الشهادة‪ ،‬أو نحسبه شهيدا‬
‫وهللا حسيبه‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫قال‪ ( :‬وقوله لثابت بن قيس أنه من أهل الجنة) فنشهد لثابت بن قيس أنه من أهل‬
‫‪1‬‬
‫الجنَّة كما صح ذلك عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬وال نجزم ألحد من أهل القبلة بجنة وال نار؛ إال من جزم له الرسول صلى‬
‫للا عليه وسلم‪ ،‬لكننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء) نرجو للمحسن‬
‫بإحسانه أن يدخله هللا سبحانه وتعالى الجنَّة‪ ،‬ونخاف على المسيء؛ إلساءته أن‬
‫يكون من أهل النَّار وأن يعذبه هللا سبحانه وتعالى على إساءته‪ ،‬لكننا ال نجزم ألحد‬
‫معين ال بجنة وال بنار؛ فال ندري بما يختم له ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وال نكفر أحدا ً من أهل القبلة بذنب‪ ،‬وال نخرجه‬
‫عن اإلسالم بعمل) هذا الكالم ليس على إطالقه‪ ،‬الصواب أن نقول‪( :‬ال نكفر أحدا‬
‫من أهل القبلة بكل ذنب)‪ ،‬أما اذا كان الذنب من نواقض اإلسالم قد ثبت بدليل‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬أنه ناقض من نواقض اإلسالم فهذا نكفره؛ ألن هللا كفره وليس‬
‫نحن‪ ،‬فالتكفير يكون مرجعه إلى الكتاب والسنة‪ ،‬فأي عمل حكم عليه في الشرع‬
‫سواء كان في الكتاب أوالسنة بأنه كفر فنكفر صاحبه‪ ،‬فمن سب هللا فهو كافر‪،‬‬
‫ومن سبَّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم فهو كافر‪ ،‬فمثل هذه نجزم بها ونقولها‬
‫ونحكم على فاعلها بالكفر؛ ألنه ثبت بدليل الكتاب والسنة أن فاعل هذا الفعل كافر‪.‬‬

‫أما مرتكب الكبيرة فهذا ال نحكم عليه بالكفر؛ ألنه لم يرد في الكتاب والسنة أنه‬
‫كافر بل هو مسلم فاسق‪ ،‬أو نقول هو مؤمن ناقص اإليمان أو نقول هو مؤمن‬
‫بإيمانه فاسق بكبيرته‪ ،‬ولكنه ليس بكافر‪ ،‬فال نكفر صاحب الكبيرة كما يفعل‬
‫الخوارج‪ ،‬فالخوارج هم الذين يكفرون أصحاب الكبائر‪ ،‬أما أهل السنة والجماعة‬

‫‪ 1‬أخرجه احمد(‪ )14060،12480،12399‬والبخاري(‪ )1613‬عن انس بن مالك رضي هللا عنه‪.‬‬


‫‪145‬‬
‫فال يكفرون أصحاب الكبائر؛ ألن األدلة من الكتاب والسنة دلت على أنهم ليسوا‬
‫كفارا‪.‬‬

‫قال النبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬من قال ال إله إال هللا دخل الجنَّة»‪ ،‬قال أبو ذر‪:‬‬
‫وإن زنى وإن سرق يا رسول هللا؟ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ « :‬وإن زنى‬
‫وإن سرق»‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول هللا وإن زنى وإن سرق؟ قال‪ « :‬وإن زنى وإن‬
‫سرق»‪ ،‬إلى أن قال له‪ « :‬إن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر»‪.1‬‬

‫إذن الزاني والسارق وغيرهما من أصحاب الكبائر هم من أهل الجنَّة إذا ماتوا على‬
‫معرضون للعذاب‪ ،‬إن شاء هللا سبحانه وتعالى عذَّبهم على ذنوبهم‪،‬‬
‫التوحيد‪ ،‬ولكنهم َّ‬
‫وإن شاء عفا عنهم؛ لقول هللا تبارك وتعالى‪ { :‬إن للا ال يغفر أن يشرك به ويغفر‬
‫ما دون ذلك لمن يشاء} (النِساء ‪ ،)116 ،48‬فصاحب الكبيرة تحت المشيئة‪ ،‬إن‬
‫شاء هللا عفا عنه و إن شاء عذبه على كبيرته‪.‬‬

‫لكن من أهل الكبائر من يعذب في نار جهنَّم‪ ،‬فال يتكلن أحد على ذلك‪ ،‬فبعض أهل‬
‫الكبائر أخبرنا النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أنهم سيعذبون‪ ،‬وأنهم سيخرجون من نار‬
‫جهنَّم بالشفاعة‪.‬‬

‫إذن هناك من سيعذب من أهل الكبائر فال يتكل أحد على المغفرة‪ ،‬فال يدري أحد‬
‫هل سيكون ممن أراد هللا سبحانه وتعالى أن يكونوا من أهل المغفرة أم من أهل‬
‫العذاب ‪.‬‬

‫قال‪( :‬ونرى الحج والجهاد ماضيا ً مع كل إمام‪ ،‬برا ً أو فاجرا ً‪ ،‬وصالة الجماعة‬
‫خلفهم جائزة)‪.‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه البخاري(‪،1307 ،1460 ،2388 ،3222 ،5827 ،6268 ،6443 ،6444 ،6638 ،7487‬‬
‫‪ )1237‬ومسلم(‪ )94 ،990‬عن أبي ذر رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫هذا من أصول أهل السنة والجماعة‪ ،‬نرى الحج والجهاد خلف كل إمام مسلم‬
‫ماضيا معه‪ ،‬ونرى أيضا وجوب طاعته لماذا؟ ألن هللا سبحانه وتعالى أمر بطاعته‬
‫فقال‪{ :‬وأطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم}‪ ،‬وقال عليه الصالة‬
‫والسالم أيضا‪« :‬ا ْس َم ْع َوأ َ ِط ْع َولَ ْو ِل َحبَشِي َكأ َ َّن َرأْ َ‬
‫سهُ زَ ِبيبَةٌ»‪.1‬‬

‫وجاء عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في أحاديث كثيرة «أنكم ستجدون من بعدي‬
‫أثرة وأمورا تنكرونها»‪ ،‬قالوا‪ :‬فما نفعل يا رسول هللا؟ قال‪« :‬اصبروا حتى تلقوني‬
‫على الحوض»‪ ،2‬فال يجوز الخروج على الحاكم المسلم‪ ،‬وال ترك طاعته إذا كان‬
‫موافقا لشريعة هللا تبارك وتعالى وليس في معصية‪ ،‬ما لم نر منه كفرا بواحا‪.‬‬

‫كما قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬ما لم تروا منه كفرا بواحا»‪ ،3‬ما لم نر كفرا‬
‫بواحا ظاهرا واضحا‪ ،‬فالواجب علينا أن نسمع ونطيع‪.‬‬

‫والذين يستدلون بأدلة األمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر‪ ،‬ليجيزوا ألنفسهم‬


‫الخروج على الحاكم المسلم؛ هؤالء ضالل على طريقة الخوارج ‪.‬‬

‫األدلة التي وردت فيه كلها أدلة عامة‪ ،‬جاء ما يخصصها في مسألة ولي األمر‪،‬‬
‫حيث إننا وإن رأينا منه أنه يؤثر نفسه علينا في أمور الدنيا إال أنه ال يجوز لنا أن‬
‫نخرج عليه‪ ،‬فالخروج عليه ليس من النَّهي عن المنكر الذي أمر هللا به‪.‬‬

‫فهذه أدلة خاصة وردت في والة األُمور يجب علينا أن نقف عندها‪ ،‬فالدليل الخاص‬
‫أن الخاص يقضي على العام‪.‬‬ ‫أقوى من الدليل العام؛ لذلك قُرر في األُصول َّ‬

‫وردت عندنا أدلة خاصة في ولي األمر أن اإلنكار عليه ال يكون بالخروج عليه إال‬
‫أن نرى منه كفرا بواحا‪ ،‬هذا هو الواجب‪ ،‬وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫‪1‬أخرجه أحمد(‪ )12126 ،12752‬والبخاري(‪ )693 ،696 ،7142‬عن أنس بن مالك رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه البخاري(‪ )3603 ،7052‬ومسلم (‪ )1843‬عن عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 3‬متفق عليه البخاري(‪ )719927055‬ومسلم (‪ )1709‬عن عبادة بن الصامت رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫وليس هذا إال حقنا للدماء‪ ،‬وارتكابا للمفسدة الصغرى دفعا للمفسدة الكبرى؛ ألن‬
‫الخروج على الحاكم يؤدي إلى مفاسد كبيرة جدا‪ ،‬منها التفرق واالختالف والتشتت‬
‫ومنها سفك الدماء‪ ،‬ومنها انتهاك األعراض‪ ،‬وأشياء كثيرة ‪.‬‬

‫ترى اليوم النَّاس كلهم قد أدركوا هذا‪ ،‬ورأوا بأعينهم‪ ،‬هذه التي ترونها المفاسد‬
‫العظيمة التي تترتب على الخروج على الحالكم‪ ،‬أراد الشارع الحكيم القضاء عليها‬
‫وسد أبوابها بالصبر على الحاكم الجائر إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر‪.‬‬

‫فنرى الحج والجهاد ماضيا مع كل إمام (في طاعة هللا) إنما الطاعة في المعروف‪،1‬‬
‫أما إذا أمر اإلمام بمعصية هللا فال طاعة ألحد في معصية هللا‪.‬‬

‫(برا كان أم فاجرا) إذ ال يوجد فرق شرعي‪ ،‬ما لم نر منه كفرا بواحا‪ ،‬هذا الضابط‬
‫الذي وضعه لنا نبينا صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫(وصالة الجمعة خلفهم جائزة) نصلي خلفهم الجمعة ونحج معهم‪ ،‬ونجاهد أيضا‪،‬‬
‫ما لم نر منهم كفرا بواحا‪.‬‬

‫الصحابة رضي هللا عنهم صلوا خلف الحجاج بن يوسف‪ ،‬مع شدة فساده ‪.‬‬

‫سلَّ َم فَبَايَ ْعنَاهُ‪ ،‬فَ َكانَ فِي َما‬


‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬
‫سو ُل هللاِ َ‬
‫قال عبادة بن الصامت‪ :‬دَ َعانَا َر ُ‬
‫س ْمع َو َّ‬
‫الطا َع ِة فِي َم ْنش َِطنَا َو َم ْك َر ِهنَا‪َ ،‬و ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ع ْس ِرنَا َويُ ْس ِرنَا‪،‬‬ ‫أ َخذَ َعلَ ْينَا‪« :‬أ ْن َبا َي َعنَا َعلَى ال َّ ِ‬
‫ع ْاأل َ ْم َر أ َ ْهلَهُ»‪ ،‬قَا َل‪ِ « :‬إ َّال أ َ ْن ت َ َر ْوا ُك ْفرا َب َواحا ِع ْندَ ُك ْم ِمنَ‬ ‫َوأَث َ َرة َعلَ ْينَا‪َ ،‬وأ َ ْن َال نُن ِ‬
‫َاز َ‬
‫َان»‪ .‬متفق عليه ‪.‬‬ ‫هللاِ فِي ِه بُ ْره ٌ‬

‫‪1‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ )4340 ،7145 ،7257‬ومسلم (‪ )1840‬عن علي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫ون أ ُ َم َرا ُء فَت َ ْع ِرفُونَ‬ ‫سلَّ َم قَا َل‪َ « :‬‬
‫ست َ ُك ُ‬ ‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ‬ ‫سو َل هللاِ َ‬ ‫و َع ْن أ ُ ِم َ‬
‫سلَ َمةَ‪ ،‬أ َ َّن َر ُ‬
‫ي َوتَابَ َع» قَالُوا‪ :‬أَفَ َال‬ ‫ض َ‬ ‫س ِل َم‪َ ،‬ولَ ِك ْن َم ْن َر ِ‬‫ئ‪َ ،‬و َم ْن أ َ ْن َك َر َ‬
‫ف بَ ِر َ‬ ‫َوت ُ ْن ِك ُرونَ ‪ ،‬فَ َم ْن َع َر َ‬
‫صلَّ ْوا»‪ .‬أخرجه مسلم‪.‬‬
‫نُقَاتِلُ ُه ْم؟ قَا َل‪َ « :‬ال‪َ ،‬ما َ‬

‫قال‪) :‬قال أنس‪ :‬قال النبي صلى للا عليه وسلم‪ :‬ثالث من أصل اإليمان‪ :‬الكف‬
‫عمن قال ال إله إال للا‪ ،‬وال نكفره بذنب وال نخرجه عن اإلسالم بعمل‪ ،‬والجهاد‬
‫ماض منذ بعثني للا عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال ال يبطله جور جائر‪،‬‬
‫وال عدل عادل‪ ،‬واإليمان باألقدار» رواه أبوداود‪ ،)1‬وهو ضعيف‪ ،‬هذا الحديث‬
‫ضعيف‪ ،‬وما ذُكر فيه قد بينا أدلته‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬ومن السنة تولي أصحاب رسول للا صلى للا عليه وسلم‪،‬‬
‫ومحبتهم وذكر محاسنهم‪ ،‬والترحم عليهم واالستغفار لهم‪ ،‬والكف عن ذكر‬
‫مساوئهم وما شجر بينهم‪ ،‬واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم‪ ،‬قال للا تعالى‪:‬‬
‫{والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإليمان‬
‫وال تجعل في قلوبنا غالً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر‪ ،)10 :‬وقال‬
‫للا تعالى‪ { :‬محمد رسول للا والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} (‬
‫الفتح‪.))29 :‬‬

‫أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم لهم عند هللا تبارك وتعالى منزلة رفيعة‬
‫عالية‪ِ ،‬لما قاموا به من نصرة دين هللا تبارك وتعالى‪ ،‬ونصرة رسوله صلى هللا‬
‫عليه وسلَّم‪ ،‬والجهاد في سبيل هللا بأموالهم وأنفسهم‪ ،‬وحفظوا دين هللا تبارك وتعالى‬
‫بحفظ كتابه وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وبلغوها لمن بعدهم بكل أمانة وبكل‬
‫‪ 1‬أخرجه أبو داود(‪ ، )2532‬وسعيد بن منصور (‪ ،)2367‬والبيهقي في السنن الكبرى(‪ )18480‬عن أنس بن‬
‫مالك رضي هللا عنه ‪ .‬وفي سنده يزيد بن أبي نشبه مجهول‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫صدق‪ ،‬فعملهم هذا بلغ بهم مكانا عاليا ومنزلة رفيعة عند هللا تبارك وتعالى‪ ،‬فأثنى‬
‫عليهم جل وعال في كتابه الكريم‪ ،‬وأثنى عليهم النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في سنته‪،‬‬
‫وجاءت بذلك أدلة من كتاب هللا ومن سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬تلزم كل‬
‫مسلم من بعدهم بأن يعرف لهم فضلهم ومكانتهم وسابقتهم‪ ،‬لذلك أوجب هللا تبارك‬
‫وتعالى علينا هذا ‪.‬‬

‫وهم بشر يحصل بينهم من الخالف ما يحصل بين األخوة عادة ‪ ،‬حتى لو وصل‬
‫إلى االقتتال‪ ،‬يكون عن اجتهاد من أصاب منهم فله أجران‪ ،‬ومن أخطأ فله أجر‬
‫واحد‪ ،‬كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم في الحاكم إذا اجتهد‪.‬‬

‫من األدلة التي تدل على فضلهم ومكانتهم ما ذكره المؤلف رحمه هللا تعالى حيث‬
‫قال تعالى‪{ :‬محمد رسول هللا والذين معه} ( الفتح‪ )29/‬الذين هم الصحابة‪،‬‬
‫{أشداء على الكفَّار رحماء بينهم}‪ ،‬وأيضا قال هللا تبارك وتعالى‪ { :‬والسابقون‬
‫األولون من المهاجرين واألنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي هللا عنهم ورضوا‬
‫عنه وأعدَّ لهم جنَّات تجري تحتها األنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } (‬
‫التوبة‪.)100/‬‬

‫فرضي هللا سبحانه وتعالى عن السابقين األولين من المهاجرين واألنصار‪ ،‬وهم‬


‫صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وأعدَّ لهم جنَّات تجري من تحتها األنهار‪،‬‬
‫وال تعد الجنَّات لمن يرتد عن دين هللا إنما تعد الجنَّات لمن يموت على اإليمان‪،‬‬
‫يكفرون أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫فهذه اآلية فيها رد على الرافضة الذين ِ‬
‫وسلَّم‪ ،‬ورد على كل من سولت له نفسه بذلك‪.‬‬

‫واألدلة كثيرة في بيان فضل أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وفي بيان‬
‫مكانتهم‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫فالواجب على المسلم أن يتوالهم‪ ،‬يعني أن يحبهم‪ ،‬و ينصرهم‪ ،‬وأن يدافع عنهم‪،‬‬
‫وأن ال يسمح ألحد بالنيل منهم‪ ،‬وأن يترحم عليهم‪ ،‬ويستغفر لهم‪ ،‬ألن هللا تبارك‬
‫وتعالى قال‪{:‬والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين‬
‫سبقونا باإليمان وال تجعل في قلوبنا غالً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}‬
‫(الحشر‪.)10/‬‬

‫فإن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬قال‪« :‬ال تسبوا أصحابي‪،‬‬
‫وال يجوز ذكر مساوئهم َّ‬
‫فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم وال نصيفه»(‪،)1‬‬
‫وهذا متفق عليه‪ ،‬فال يجوز ألحد أن يذكر أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‬
‫بسوء‪ ،‬بل الواجب هو ذكر محاسنهم وفضلهم‪ ،‬ونشر ذلك بين النَّاس‪ ،‬والسكوت‬
‫عما حصل بينهم من خالفات ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬وقال النبي صلى للا عليه وسلم‪« :‬ال تسبوا‬
‫أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ً ما بلغ مد أحدهم وال نصيفه»(‪))2‬‬

‫سب الصحابة بما يقتضي كفر أكثرهم؛ كفر وردة عن اإلسالم؛ ألن ذلك يؤدي إلى‬
‫الطعن في شريعة هللا كلها‪ ،‬فشريعة هللا الكتاب والسنة ما بلغتنا إال عن طريق‬
‫أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فإذا كفر الشخص أصحاب رسول هللا‪ ،‬أو‬
‫طعن في عدالتهم ودينهم‪ ،‬فقد أفسد الدين كله‪ ،‬وضيعه‪ .‬فلذلك من طعن فيهم بذلك‬
‫فهو كافر مرتد عن دين هللا‪.‬‬

‫وقد بين النبي صلى هللا عليه وسلم سبب النهي عن سبهم؛ وهو أنهم نصروا دين‬
‫هللا ‪ ،‬فمن يحب هذا الدين يحب من نصره‪ ،‬ومن أبغضه يبغض من نصره ‪.‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪ :‬البخاري(‪ )3673‬ومسلم(‪ )2541‬عن أبي سعد الخدري رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫متن‬

‫ومن السنة الترضي عن أزواج الرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أمهات المؤمنين‬
‫المطهرات المبرآت من كل سوء‪ ،‬أفضلهن خديجة بنت خويلد‪ ،‬وعائشة الصديقة‬
‫بنت الصديق‪ ،‬التي برأها هللا في كتابه‪ ،‬زوج النبي صلى هللا عليه وسلم في الدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬فمن قذفها بما برأها هللا منه فقد كفر باهلل العظيم‪.‬‬

‫ومعاوية خال المؤمنين‪ ،‬وكاتب وحي هللا‪ ،‬أحد خلفاء المسلمين رضي هللا عنهم‪.‬‬

‫الشرح‬

‫الفضائل التي وردت في الكتاب والسنة التي تدل على فضل الصحابة‪ ،‬تدخل فيها‬
‫َّ‬
‫ولهن أيضا فضائل خاصة‬ ‫نساء النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم؛ ألنهن صحابيات‪،‬‬
‫وكفاهن شرفا أنه َّن زوجات‬
‫َّ‬ ‫وردت في السنة عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪،‬‬
‫المصطفى صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فالواجب معرفة فضلهن ومكانتهن وحفظ‬
‫أعراضهن وعدم الخوض في ذلك‪ ،‬والواجب أيضا معرفة شرفهن‪ ،‬وأنهن شريفات‬
‫مؤمنات صالحات طاهرات‪.‬‬

‫ومن قذف عائشة رضي هللا عنها بما برأها هللا منه وهي فاحشة الزنا‪ ،‬فهو كافر‬
‫مكذب لكتاب هللا‪ ،‬إذ إ َّن هللا سبحانه وتعالى برأها من ذلك‬
‫مرتد عن دين هللا‪ ،‬ألنه ِ‬
‫ت أُولَ ِئ َك ُم َب َّر ُءون‬ ‫الطيِبُونَ ِل َّ‬
‫لطيِ َبا ِ‬ ‫لطيِ ِبينَ َو َّ‬
‫الط ِي َباتُ ِل َّ‬
‫في كتابه في سورة النور { َو َّ‬

‫ِم َّما يَقُولُونَ لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرة ٌ َو ِر ْز ٌق َك ِري ٌم}[النور‪ ]26 :‬فيقول هي بريئة‪ ،‬وهو يقول هي‬
‫‪152‬‬
‫متهمة مكذبا بكتاب ربه تبارك وتعالى‪ ،‬فهذا كافر مرتد عن دين هللا‪ ،‬كما ذكر‬
‫المؤلف رحمه هللا تعالى‪ ،‬فمن قذفها بما برأها هللا منه وهي فاحشة الزنا‪ ،‬فقد كفر‬
‫باهلل العظيم‪.‬‬

‫وزوجات النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم الالتي كان فراقهن بالموت هن‪ :‬خديجة بنت‬
‫خويلد‪ ،‬وعائشة بنت الصديق أبي بكر‪ ،‬وسودة بنت زمعة‪ ،‬وحفصة بنت عمر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬وزينب بنت خزيمة الهاللية‪ ،‬وأ ُم سلَمة بنت أبي سلمة المخزومية‪،‬‬
‫وزينب بنت جحش األسدية‪ ،‬وجويرية بنت الحارث الخزاعية‪ ،‬وأم حبيبة رملة‬
‫بنت أبي سفيان‪ ،‬وصفية بنت ُحيي بن أخطب‪ ،‬وميمونة بنت الحارث الهاللية‪.‬‬

‫هؤالء زوجات النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم الالتي كان فراقهن بالوفاة‪.‬‬

‫منهن من ماتت قبل النبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وهما خديجة وزينب بنت خزيمة‪.‬‬
‫وأما مارية أم إبراهيم ابن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم فهذه ليست زوجته‪ ،‬كانت أمة‬
‫من إمائه ث ُ َّم صارت أم ولده‪.‬‬

‫قال‪ ( :‬ومعاوية خال المؤمنين‪ ،‬وكاتب وحي للا‪ ،‬أحد خلفاء المسلمين رضي للا‬
‫عنه) هو معاوية بن أبي سفيان صهر النبي صلى هللا عليه وسلم أخو زوجته أم‬
‫حبيبة رملة بنت أبي سفيان‪.‬‬

‫نص على فضله بالذات وعلى وجوب توليه ومحبته‪ ،‬لشدة محاربة الرافضة‬
‫والشيعة بأصنافها لهذا الرجل‪ ،‬فهم ال يحبونه ويسبونه‪ ،‬ونحن نحبه ونتواله ألنه‬
‫أحد أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وهم من أراد منهم أن يكيد لهذا الدين‬
‫ويطعن في أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬يبدؤون به يستغلون عاطفة‬
‫الناس ناحبة علي بن أبي طالب ويطعنون فيه ألنه حارب عليًّا رضي هللا عنهم‬

‫‪153‬‬
‫جميعا‪ ،‬لذلك من سمعته يطعن فيه أو يستنقصه فاتهمه على اإلسالم واحذره فإنما‬
‫يريد ينك‪.‬‬

‫وهل يوصف معاوية‪ -‬وهو أخ ألم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي‬
‫هللا عنهم جميعا ‪ -‬بخال المؤمنين أي هل يوصف أخوة أمهات المؤمنين‪ ،‬بأنهم‬
‫أخوال المؤمنين؟‬

‫هذا لم يرد فيه دليل ال من كتاب هللا وال من سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫وال تقاس األخوة أواألمومة أواألبوة أو غيرها الشرعية الدينية‪ ،‬باألمومة واألبوة‬
‫واألخوة النسبية‪ ،‬لذلك بما أنه لم يرد في الكتاب والسنة تسميتهم أخوال‪ ،‬فال ينبغي‬
‫أن يسموا بهذا األسم‪ ،‬وقد ذكر ابن تيمية رحمه هللا تعالى خالف أهل العلم في‬
‫(‪.)1‬‬
‫جواز مثل هذه التسمية‬

‫متن‬

‫ومن السنة السمع والطاعة ألئمة المسلمين وأمراء المؤمنين ‪ -‬برهم وفاجرهم ‪ -‬ما‬
‫لم يأمروا بمعصية هللا‪ ،‬فإنه ال طاعة ألحد في معصية هللا‪ ،‬ومن ولي الخالفة‬
‫واجتمع عليه الناس ورضوا به‪ ،‬أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة‪ ،‬وسمي أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين‪.‬‬

‫ومن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم‪ ،‬وترك الجدال والخصومات في الدين‪،‬‬
‫وترك النظر في كتب المبتدعة‪ ،‬واإلصغاء إلى كالمهم‪ ،‬وكل محدثة في الدين‬

‫‪ 1‬راجع منهاج السنة النبوية(‪.)369/4‬‬


‫‪154‬‬
‫بدعة‪ ،‬وكل متسم بغير اإلسالم والسنة مبتدع‪ ،‬كالرافضة‪ ،‬والجهمية‪ ،‬والخوارج‪،‬‬
‫والقدرية‪ ،‬والمرجئة‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬والكرامية‪ ،‬والكالبية‪ ،‬ونظائرهم‪ ،‬فهذه فرق‬
‫الضالل‪ ،‬وطوائف البدع‪ ،‬أعاذنا هللا منها‪.‬‬

‫وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين‪ ،‬كالطوائف األربع فليس بمذموم‪ ،‬فإن‬
‫االختالف في الفروع رحمة‪ ،‬والمختلفون فيه محمودون في اختالفهم‪ ،‬مثابون في‬
‫اجتهادهم واختالفهم رحمة واسعة‪ ،‬واتفاقهم حجة قاطعة‪.‬‬

‫نسأل هللا أن يعصمنا من البدع والفتنة‪ ،‬ويحيينا على اإلسالم والسنة‪ ،‬ويجعلنا ممن‬
‫يتبع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في الحياة‪ ،‬ويحشرنا في زمرته بعد الممات‬
‫برحمته وفضله آمين‪.‬‬

‫وهذا آخر المعتقد والحمد هلل وحده وصلى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‬
‫تسليما‪.‬‬

‫الشرح‬

‫قال رحمه للا تعالى‪ ( :‬ومن السنة السمع والطاعة ألئمة المسلمين وأمراء‬
‫المؤمنين‪ ،‬برهم وفاجرهم‪ ،‬ما لم يأمروا بمعصية للا‪ ،‬فإنه ال طاعة ألحد في‬
‫معصية للا) السمع والطاعة ألئمة المسلمين هذا دلَّت عليه النصوص من الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬ولكن ذلك مقيد بطاعة هللا‪ ،‬أما إذا أمروا بمعصية هللا تبارك وتعالى فال‬
‫طاعة ألحد يعصي هللا تبارك وتعالى في معصيته‪ ،‬قال هللا تبارك وتعالى‪{ :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا أطيعوا للا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم فإن تنازعتم في شيء‬
‫فردوه إلى للا والرسول إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر ذلك خير وأحسن‬

‫‪155‬‬
‫تأويالً}(النِساء‪ ،)59/‬يدخل في هذه الطاعة‪ ،‬طاعة األُمراء وطاعة العلماء كذلك‪،‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬السمع والطاعة على المسلم فيما أحب وكره ما لم‬
‫يؤمر بمعصية فال سمع وال طاعة»‪.‬‬

‫وجاء عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أنه قال‪ « :‬يكون عليكم أمراء تعرفون‬
‫وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلَّم ولكن من رضي وتابع»‪ ،‬قالوا‪ :‬أفال‬
‫نقاتلهم؟ قال‪«:‬ال ما صلوا‪ ،‬ال ما صلوا»‪ ،‬أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه‪ ،‬وهذا‬
‫الحديث عند مسلم‪ .‬هذا الحديث األخيريدل على عدم جواز الخروج عليهم ما لم نر‬
‫منهم كفرا بواحا‪ ،‬أو ما لم يصلوا‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪ ( :‬ومن ولي الخالفة واجتمع عليه الناس ورضوا به‬
‫أو غلبهم بسيفه‪ ،‬حتى صار الخليفة‪ ،‬سمي أمير المؤمنين‪ ،‬وجبت طاعته‬
‫وحرمت مخالفته‪ ،‬والخروج عليه وشق عصا المسلمين) هذا للحديث الذي ذكرناه‬
‫فإن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم قال‪ « :‬تعرفون وتنكرون» هذا يدل على وجود‬
‫المنكر منهم‪،‬ونحن نعرفه منهم « فمن أنكر فقد برأ‪ ،‬ومن كره فقد سلم» من أنكر‬
‫بقلبه فقد برأ وكره أيضا بقلبه فقد سلم « ولكن من رضي وتابع»‪ ،‬رضي بأعمالهم‬
‫المنكرة‪ ،‬وتابعهم عليها « قالوا أفال نقاتلهم»‪ ،‬قال‪ « :‬ال ما صلوا‪ ،‬ال ما صلوا»‬
‫فنهى النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم عن قتالهم والخروج عليهم‪ ،‬وإن رأينا منهم منكرا؛‬
‫فال يستدلن أحد بوجوب األمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر‪ ،‬ويقول هؤالء يفعلون‬
‫المنكرات وجب الخروج عليهم من أجل النهي عن المنكر‪ ،‬هذا االستدالل باطل؛‬
‫ألن تلك األدلة أدلة عامة تدل على وجوب األمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر‪،‬‬
‫لكن الحاكم له معاملة خاصة دلت عليها هذه األحاديث‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫واألدلة الخاصة كما معلوم ومقرر عند العلماء‪ :‬أن الدليل الخاص أولى وأقوى في‬
‫الداللة من الدليل العام‪ ،‬الدليل العام يبقى على عمومه‪.‬‬

‫لكن إن وجد في المسألة دليل خاص فيعمل فيها بالدليل الخاص‪ ،‬هنا ظهور المنكر‬
‫من والة أمور المسلمين هذا ورد فيه دليل خاص بكيفية التعامل معهم‪ ،‬وقد قال‬
‫ست َ َر ْونَ َب ْعدِي أَث َ َرة‪ ،‬فَا ْ‬
‫ص ِب ُروا‬ ‫عليه الصالة والسالم في أحاديث أخرى قال‪« :‬فَإِنَّ ُك ْم َ‬
‫ض»‪ ،‬هذه هي طريقة حل هذه المشكلة وهي الصبر‪.‬‬ ‫َحتَّى ت َ ْلقَ ْونِي َعلَى ال َح ْو ِ‬

‫فهذا يبين كيفية التعامل مع األمراء الذين عندهم من المنكرات ما عندهم‪ ،‬فال يجوز‬
‫الخروج عليهم؛ ألن الخروج عليهم يؤدي إلى مفسدة أكبر بكثير من وجود المنكر‬
‫الذي رأيناه‪ ،‬الخروج عليهم يؤدي إلى تشتيت األمة وتفريقها ويؤدي أيضا إلى‬
‫سفك الدماء وانتهاك األعراض‪ ،‬وإلى ذهاب األموال‪ ،‬وذهاب األمن‪ ،‬كل هذا يؤدي‬
‫إليه الخروج على الحاكم‪ ،‬وال يحل المشكلة بل يزيد الشر شرا‪ ،‬فالصبر عليه هو‬
‫الواجب في مثل هذه الحالة بالقيد الذي ذكره النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬قال‪ « :‬ال‬
‫ما صلوا‪ ،‬ال ما صلوا»‪ ،‬وجاء في حديث عبادة بن الصامت أيضا‪ « :‬بايعنا رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلَّم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا‬
‫ويسرنا‪ ،‬وأثره علينا»‪ ،‬أي وإن وجدنا أن الحاكم يؤثر نفسه بالخيرات علينا « وأن‬
‫ال ننازع األمرأهله؛ إال أن ترون كفرا بواحا عندكم فيه من هللا برهان» إال إن‬
‫رأيتم منهم كفرا واضحا صريحا‪ ،‬عندكم فيه دليل‪ ،‬تقفون أمام هللا تبارك وتعالى‪،‬‬
‫وتقولون هذا دليل على كفره‪ ،‬وهذا أيضا تشترط له القدرة ‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪ ( :‬ومن السنة هجران أهل البدع‪ ،‬ومباينتهم‪ ،‬وترك الجدال‬
‫والخصومات في الدين‪ ،‬وترك النظر في كتب المبتدعة واإلصغاء إلى كالمهم‪،‬‬
‫وكل محدثة في الدين بدعة)‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫بعد أن ذكر المصنف وجوب هجران أهل البدع‪ ،‬آخر شيء ذكره لنا ما هي البدعة‪.‬‬

‫أما هجران أهل البدع فواجب لماذا؟ الهجر للمبتدع يكون ألمرين‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬هجر تأديبي لردعه‪ ،‬وزجره عما وقع فيه من بدعة‪ ،‬دليل ذلك حديث‬
‫كعب بن مالك رضي هللا عنه‪ ،‬الذي هجره النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم واثنين معه‬
‫عندما عصوا أمر النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فهو هجر تأديبي على هذا الفعل‪.‬‬

‫األمر الثاني‪ :‬الهجر الوقائي‪ ،‬وهذا الهجر يكون لمن؟ لرؤوس المبتدعة الذين‬
‫عندهم شبهات يلقونها على النَّاس‪ ،‬فهؤالء هجرهم واجب؛ ألنك ال تأمن على نفسك‬
‫أن يغمسوك في بدعهم‪ ،‬وهذا الغمس في البدعة‪ ،‬وتلقي القلب لها‪ ،‬وتشربها لم يأمن‬
‫أئمة السلف على أنفسهم منه‪ ،‬أئمة السلف لم يأمنوا على أنفسم من أن تدخل البدع‬
‫في قلوبهم وتتشربها‪ ،‬فما بالك بحالنا نحن؟! نحن من باب أولى؛ ألننا أضعف منهم‬
‫إيمانا وعلما‪.‬‬

‫فال يقول أحدكم‪ :‬وهللا أنا أجلس إلى المبتدع‪ ،‬فما وجدت عنده من خير أخذته‪ ،‬وما‬
‫وجدت من باطل رددته‪ ،‬أنت عندما يأتيك الباطل ربما ال تستطيع أن ترده كما‬
‫س ِم َع بِالدَّ َّجا ِل فَ ْليَ ْنأ َ َع ْنهُ‪،‬‬
‫ذكرالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في حديث الدجال قال‪َ « :‬م ْن َ‬
‫ت»‪،‬‬ ‫الر ُج َل ليأْتيه وهو ي ْحسب أَنَّهُ ُمؤْ ِم ٌن فيتبعه‪ِ ،‬م َّما َي ْب َع ُ‬
‫ث بِ ِه ِمنَ الشبُ َها ِ‬ ‫َّللاِ ِإ َّن َّ‬
‫فَ َو َّ‬
‫ت» ‪ ،1‬يأتيه وهو واثق من نفسه‪ ،‬واثق من إيمانه‪،‬‬ ‫أ َ ْو « ِل َما َي ْب َع ُ‬
‫ث ِب ِه ِمنَ الشبُ َها ِ‬
‫عندما يأتي ويرى الشبهات التي مع الدجال ويسمعها ينغمس معه في شبهاته‪.‬‬

‫هذا الحديث دليل على مجانبة أي شيء فيه شبهة تفتنك في دينك وجب عليك أن‬
‫تبتعد عنه‪ ،‬وال تحسن الظن بنفسك أبدا فقلوب العباد ضعيفة تتقلب‪ ،‬وهي بين‬

‫‪1‬أخرجه أحمد(‪ )19875 ،19968‬عن عمران بن حصين رضي هللا عنه‪.‬‬


‫‪158‬‬
‫إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‪ 1‬فال تدري عن نفسك أن تتشرب هذه‬
‫البدعة فتخسر دنياك وآخرتك‪.‬‬

‫وهذا الدليل الذي ذكرناه في الدجال‪ ،‬هو دليل الهجر الوقائي‪ ،‬وإجماع السلف‬
‫حاصل فيه نقله الصابوني والبغوي وغيرهما‪.‬‬

‫لكن هذا الهجر ال يكون ألي أحد‪ ،‬شخص ال يفهم شيئا في العلم وال يدري ماهي‬
‫الشبهة‪ ،‬وال يعرف كيف يلقيها‪ ،‬مثل هذا ال ينطبق عليه هذا الكالم‪ ،‬إنما الكالم‬
‫ينطبق على رؤوس أهل البدع‪.‬‬

‫والهجر التأديبي يعرف العلماء متى يكون نافعا‪ ،‬ومتى ال يكون‪.‬‬

‫أما الهجر الوقائي فكما ذكرنا إذا كان الشخص من رؤوس أهل البدع‪ ،‬أو ممن‬
‫ينظر ألهل البدع ويلقي الشبهات فهذا هجره واجب‪.‬‬

‫وأما الجدال والخصومات‪ :‬الجدل الذي هو المنازعة مع الخصم للتغلب عليه‪ ،‬وهذا‬
‫الجدال ينقسم إلى قسمين‪:‬‬

‫القسم األول‪ :‬يكون الغرض منه إثبات الحق وإبطال الباطل لمن يريد الحق فقط‬
‫فهذا مأمور به‪ ،‬إما أمرا واجبا أو أن يكون مستحبا على حسب الحال؛ لقول هللا‬
‫تبارك وتعالى‪« :‬ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي‬
‫هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم‬
‫بالمهتدين}(النَّحل‪ ،)125/‬لكن هذا الجدال ال يفعله شخص فارغ أو عنده شيء من‬
‫الثقافة ‪ ،‬ال‪ ،‬هذا الجدال يكون من شخص مليء‪ ،‬يعرف كيف يرد الشبهات في‬
‫المسألة التي يريد أن يجادل فيها‪.‬‬

‫‪1‬أخرجه أحمد (‪ )6569 ،6610‬ومسلم (‪ )2654‬عن عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪159‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬أن يكون الغرض منه الغلبة واالنتصار للنفس‪ ،‬فهذا الجدال هو‬
‫الجال القبيح المذموم الذي يجب على المسلم أن يبتعد عنه‪ ،‬قال هللا تبارك وتعالى‪:‬‬
‫{هاأنتم هؤالء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل للا عنهم يوم القيامة‬
‫أمن يكون عليهم وكيالً}(النِساء‪ ،)109/‬وقال سبحانه وتعالى{ما يجادل في آيات‬
‫للا إال الذين كفروا فال يغررك تقلبهم في البالد}(الحج‪ ،)4/‬ألن الحق عندهم‬
‫واضح وبيِن ولكن يجادلون عنادا وتعنتا فقط‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬وكل محدثة في الدين بدعة) هذا هو تعريف البدعة‪.‬‬

‫البدعة‪ :‬هي كل محدثة في دين هللا‪ ،‬تتقرب بها إلى هللا‪ ،‬فأي عمل تتقرب به إلى هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وال أصل له في الكتاب والسنة وال كان عليه السلف؛ فهو من‬
‫البدع‪ .‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪َ « :‬وشَر ْاأل ُ ُم ِ‬
‫ور ُم ْحدَثَات ُ َها‪َ ،‬و ُكل ُم ْحدَثَة بِ ْد َعةٌ‬
‫ض َاللَةٌ»‪.‬‬
‫َو ُكل ِب ْد َعة َ‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وكل متسم بغير اإلسالم والسنة مبتدع) أي كل من‬
‫له سمة أي‪ :‬عالمة يعرف بها غير اإلسالم والسنة فهو مبتدع‪.‬‬

‫قال‪( :‬كالرافضة‪ ،‬والجهمية‪ ،‬والخوارج‪ ،‬والقدرية‪ ،‬والمرجئة‪ ،‬والمعتزلة‪،‬‬


‫والكرامية‪ ،‬والكالبية‪ ،‬ونظراتهم‪ ،‬فهذه فرق الضالل وطوائف البدع أعاذنا للا‬
‫منها)‬

‫الرافضة‪ :‬هم الذين عندهم غلو في آل البيت‪ ،‬فرقة من فرق الشيعة‪ ،‬عندهم غلو في‬
‫آل البيت حتى اتخذوهم أربابا ‪ ،‬فعبدوهم مع هللا ‪ ،‬وتقربوا إليهم بأنواع القرب‪،‬‬
‫وجعلوهم معصومين ال يخطئون في مسائل التشريع‪ ،‬فأنزلوهم منزلة األنبياء‬
‫والمرسلين‪ ،‬وهذا من الغلو‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫قال موسى بن أبي عائشة رحمه هللا تعالى وهو أحد أئمة السلف‪« :‬ما أمر هللا‬
‫تبارك وتعالى عباده بأمر إال وللشيطان فيها نزغتان‪ ،‬فإما إلى غلو‪ ،‬وإما إلى‬
‫تقصير»‪.‬‬

‫ال يبالي بأيهما ظفر‪ ،‬أي واحدة عنده جيدة سواء كان إفراط‪ ،‬غلو‪ ،‬مجاوزة حد‪ ،‬أو‬
‫كان تقصر وميوعة‪ ،‬وعدم مباالة‪ ،‬فهذه وهذه من مقاصد الشيطان في أوامر هللا‬
‫صروا وفرطوا في أصحاب‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬هؤالء الرافضة غلوا في آل البيت وق َّ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم فكفَّروا الصحابة‪ ،‬وغلوا في آل البيت فعبدوهم مع‬
‫هللا تبارك وتعالى‪.‬‬

‫وهؤالء الرافضة كفَّار لعدة أسباب‪ :‬منها أنهم يدعون أن كتاب هللا محرف‪.‬‬

‫ومنها أنهم يرمون عائشة رضي هللا عنها بالزنا‪ ،‬وقد ذكر غير واحد من علماء‬
‫اإلسالم ومنهم عبد هللا بن مسعود أن من أنكر حرفا من كتاب هللا مجمعا عليه بأنه‬
‫كافر‪ ،‬ذكر ذلك ابن مسعود‪ ،‬وجمع من علماء اإلسالم نقلوا االتفاق على ذلك‪. 1‬‬
‫وكذلك عائشة رضي هللا عنها نقلوا االتفاق على أن من رماها بالزنا فهو أيضا‬
‫كافر‪2‬؛ لتكذيبه لكتاب هللا تبارك وتعالى‪ ،‬والرافضة وقعوا في هذا وفي ذاك‪.‬‬

‫وأهل السنة وسط ما بين النواصب والرافضة‪.‬‬

‫النواصب هم الذين نصبوا العداء آلل بيت النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪.‬‬

‫وأهل السنة وسط‪ ،‬يحبون المسلمين من آل البيت ويحترمونهم‪ ،‬ويعرفون لهم‬


‫قدرهم‪ ،‬وال يتجاوزن الحد فيهم‪ ،‬فال إفراط وال تفريط‪.‬‬

‫‪ 1‬فضائل القرآن للقاسم بن سالم(‪ ،)936،115‬مصنف ابن أبي شيبة(‪ ،)30109‬والمناظرة في القرآن البن قداحة‬
‫المقدس(ص‪.)33‬‬
‫‪2‬الصارم المسلول(‪.)571‬‬
‫‪161‬‬
‫وأما الجهمية فهي فرقة من فرق المتكلمين؛ الذين يقررون العقيدة في األسماء‬
‫والصفات بالعقل والكالم ال بالشرع‪ ،‬ينتسبون إلى الجهم بن صفوان الذي قتل عام‬
‫مائة وواحد وعشرين‪ ،‬مذهبهم في األسماء والصفات التعطيل والنَّفي‪ ،‬وفي القدر‬
‫القول بالجبر‪ ،‬وفي اإليمان القول باإلرجاء فجمعوا الباليا‪.‬‬

‫أما الخوارج‪ :‬فهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪ ،‬وقاتلهم‬
‫علي بن أبي طالب‪ ،‬وكان خروج أولهم في عهد النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ‪.‬‬

‫ذاك الرجل الذي قال‪ :‬اعدل يا محمد‪ ،1‬والخوارج هؤالء معروفون بتكفير مرتكب‬
‫الكبيرة‪ ،‬وقد ذكر ابن تيمية في منهاج السنة‪ ،‬أنهم يكفرون الحكام بالحكم بغير ما‬
‫أنزل هللا‪ ،‬ويكفرون المسلمين بالتولي ‪ ،‬وهذا الحاصل اليوم من داعش والقاعدة ‪.‬‬
‫يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم‪ ،‬فتجدهم يفجرون المساجد بالمصلين‪ ،‬وغير‬
‫المساجد وهم يعلمون أن أكثر من سيموت بتفجيرهم من المسلمين وال يبالون ‪ ،‬هذه‬
‫عالمتهم التي ذكرها النبي صلى هللا عليه وسلم في الخوارج‪ :‬قال‪« :‬يقتلون أهل‬
‫اإلسالم ويدعون أهل األوثان» ‪.‬متفق عليه‬

‫أما القدرية‪ :‬فهم الذين يقولون بنفي القدرعن أفعال العبد‪ ،‬أي العبد هو الذي يخلق‬
‫فعله وهو الذي يوجد فعله‪َّ ،‬‬
‫وأن هللا سبحانه وتعالى لم يقدر فعل العبد ولم يخلقه‪.‬‬

‫وأما المرجئة‪ :‬فهم الذين يرجئون العمل عن اإليمان‪ ،‬أي يؤخرون األعمال عن‬
‫اإليمان‪ ،‬فال يدخلون أعمال الجوارح في اإليمان عندهم‪ ،‬ال يدخلون أعمال‬
‫الجوارح في اإليمان‪ ،‬هؤالء هم المرجئة‪.‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه ‪ :‬البخاري(‪ (7562،7432،6933،6931،6463،5058،4667،4351،3610،3344‬ومسلم‬


‫(‪ )1064‬عن أبي سعيد رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫وأما المعتزلة فهم أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري‪،‬‬
‫وكان يقول بالمنزلة بين المنزلتين بالنِسبة للفاسق‪ ،‬فيقولون‪ :‬الفاسق في الدنيا في‬
‫منزلة بين المنزلتين‪ :‬ال هو مؤمن‪ ،‬وال كافر‪ ،‬وفي اآلخرة هو مخلَّد في نار جهنَّم‪،‬‬
‫فوافقوا الخوارج في الحكم‪ ،‬وهم في األسماء والصفات معطلة كالجهمية‪.‬‬

‫وأما الكرامية فهم أتباع محمد بن كرام يميلون إلى التشبيه والقول باإلرجاء‪..‬‬

‫أماالسالمة أتباع رجل يقال له محمد بن سالم يقولون بالتشبيه وفيهم تصوف‪.‬‬

‫ومن الفرق المبتدعة كذلك فرقة األشاعرة وهم من فرق المتكلمين التي تشمل‬
‫الجهمية والمعتزلة واألشاعرة والكالبية والماترودية وغيرهم‪ ،‬وهؤالء يجتمعون‬
‫في تقديم العقل على النقل في االعتقاد‪ ،‬ويقررون عقيدتهم بالكالم ‪.‬‬

‫فينفون الصفات عن هللا‪ ،‬وهم متفاوتون في ذلك‪ ،‬األشاعرة يثبتون سبع صفات‬
‫وينفون الباقي‪ ،‬واألشاعرة مرجئة في اإليمان‪ ،‬وجبرية في القدر ‪.‬‬

‫ومن الفرق المبتدعة الصوفية‪ ،‬وهؤالء يقوم دينهم على أساسين‪ :‬األول‪ :‬الشرك‬
‫بعبادة القبور والغلو في األولياء‪ ،‬والثاني‪ :‬البدع بإحداث دين جديد‪ ،‬فكثير من‬
‫عباداتهم محدثة ال أصل لها في الشرع ‪.‬‬

‫قال المؤلف رحمه للا تعالى‪( :‬وأما بالنسبة إلى إمام في فروع الدين‪ ،‬كالطوائف‬
‫األربع فليس بمذموم)‬

‫يعني ال بأس أن يتخذ الشخص إماما في المسائل الفقهية‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫(في فروع الدين) بعض العلماء يقسم الدين إلى أ ُصول وفروع‪ ،‬ويعنون‬
‫باألُصول‪ :‬مسائل االعتقاد‪ ،‬وبالفروع‪ :‬مسائل الفقه‪.‬‬

‫(كالطوائف فليس بمذموم ) يعني بالطوائف األربع‪ :‬األحناف‪ ،‬والمالكية‪،‬‬


‫والشافعية‪ ،‬والحنابلة‪.‬‬

‫والصحيح أنه مذموم إذا كان على وجه التعصب‪ ،‬إذا كان على وجه التعصب له‪،‬‬
‫وتقديم قوله على كتاب هللا تعالى‪ ،‬وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وعقد‬
‫الوالء والبراء على اجتهادات الرجال؛ فهو مذموم‪ ،‬سواء كان في االعتقاد أو في‬
‫الفقه ال فرق‪.‬‬

‫فإن النَّبي‬
‫واالبتداع في دين هللا سواء كان في االعتقاد أو في الفقه كله مذموم َّ‬
‫صلى هللا عليه وسلَّم قال‪« :‬كل محدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة‪ ،‬وكل ضاللة في‬
‫النَّار»‪ ،1‬ولم يقل بدعة العقيدة وال الفقه‪ ،‬كل البدع مذمومة وكلها في النَّار أي‬
‫أصحابها في النَّار‪.‬‬

‫أما إذا اتبع إماما من األئمة‪ ،‬وتبنى أ ُصوله؛ ألنه يعتقد بأن أصوله أقرب إلى‬
‫الصواب وأصح وهي داخلة تحت أدلة شرعية صحيحة‪ ،‬فال بأس بذلك بشرط‪ :‬أنه‬
‫إذا ورد عنده الدليل من الكتاب أو من السنة قدم الدليل من الكتاب والسنة‪ ،‬ولم‬
‫يتعصب للرجال‪ ،‬ولكن قل من ينجو من ذلك من أصحاب المذاهب ‪.‬‬

‫قال‪( :‬فإن االختالف في الفروع رحمة) هذا الكالم غير صحيح؛ فاالختالف ليس‬
‫برحمة‪ ،‬والحديث الوارد في هذا المعنى حديث ضعيف واالختالف كله شر‪.‬‬

‫قال‪( :‬والمختلفون فيه محمودون في اختالفهم‪ ،‬محمودون على اجتهاداتهم) إن‬


‫اختلفوا باجتهاد في مسائل االجتهاد فقط‪ ،‬وكانوا بعيدين عن الهوى‪.‬‬
‫‪ 1‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫فالمسائل الشرعية منها ما يجب فيه االتباع فقط وال يجوز االجتهاد فيها ‪ ،‬وهي‬
‫النصية الوارد فيها نصوص محكمة‪ ،‬المتفق على معناها بين السلف؛ كمسائل‬
‫االعتقاد وغيرها ‪ ،‬ومنها ما يدخله االجتهاد كالتي ال نص محكم فيها‪ ،‬أو فيها أدلة‬
‫متعارضة‪ ،‬واختلف السلف فيها‪.‬‬

‫(مثابون في اجتهادهم‪ ،‬واختالفهم رحمة واسعة‪ ،‬واتفاقهم حجة قاطعة) اتفاقهم‬


‫حجة قاطعة صحيح؛ لقول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم‪« :‬ال تجتمع أمتي على‬
‫ضاللة»‪ .1‬وقوله صلى هللا عليه عليه وسلَّم‪« :‬ال تزال طائفة من أ َّمتي على‬
‫الحق»‪ ،2‬فالحق ال يزول البتة من هذه األمة‪.‬‬

‫قال رحمه للا تعالى‪( :‬نسأل للا أن يعصمنا من البدع والفتنة) آمين‪.‬‬

‫(ويحينا على اإلسالم والسنة‪ ،‬ويجعلنا ممن يتبع رسول للا صلى للا عليه وسلم‬
‫في الحياة‪ ،‬ويحشرنا في زمرته بعد الممات‪ ،‬برحمته وفضله آمين‪ ،‬وهذا آخر‬
‫المعتقد‪ ،‬والحمد هلل وحده‪ ،‬وصلى للا على سيدنا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه وسلم‬
‫تسليما)‪ .‬والحمد هلل‪ ،‬ونسأل هللا أن يتقبل منا ومنكم‪..‬‬

‫‪ 1‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه البخاري(‪ ،)7459،731،3640‬ومسلم(‪ )1921‬عن المغيرة بن شعبة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪165‬‬
166

You might also like