Professional Documents
Culture Documents
C 7 D 091 A 1 F 915372431710
C 7 D 091 A 1 F 915372431710
1
المقدمة
الحمد هلل ،والصالة والسالم على رسول هللا ،وعلى آله وصحبه ومن وااله ،أما بعد؛ فهذا
شرح لكتاب لمعة االعتقاد الذي ألفه اإلمام العالمة موفق الدين عبد هللا بن أحمد بن قدامة
المقدسي -رحمه هللا تعالى.-
هذا الكتاب هو كتاب في العقيدة ،وكلمة العقيدة مأخوذة من (العقد) وهو الربط والشد بقوة،
هذا األصل اللغوي لها ،وهي في االصطالح :ما عقد المرء قلبه عليه وجزم به.
والعقيدة ،واإليمان ،والسنة -على بعض معانيها ،-والشريعة؛ كلها بمعنى واحد؛ فالسلف
كانوا يسمون كتب العقيدة بالسنة ،وأيضا سماها بعضهم بالشريعة وبعضهم باإليمان
وبعضهم باالعتقاد .والعقيدة هي أهم أمور دين هللا تبارك وتعالى؛ ألن العقيدة يترتب عليها
العمل فال يعمل المرء حتى يعتقد ،فإذا اعتقد عمل بمقتضى اعتقاده ،قال النبي ﷺ « :أَالَ
يسد ُ ُكلهُ ،أَالَ َو ِه َ ت فَ َ
سدَ ال َج َ سد َ ْ صلَ َح ال َج َ
سدُ ُكلهَُ ،وإِذَا فَ َ صلَ َح ْ
ت َ ضغَة؛ ِإذَا َ َو ِإ َّن فِي ال َج َ
س ِد ُم ْ
ب »(.)1القَ ْل ُ
لسد الحاجة ،معناها واللمعة في اللغة لها عدة معان :منها البُ ْلغةُ من العَيش ،والبُلغة ما يكفي ِ
لسد حاجة المسلم مما يجب أن يعقد قلبه عليه ويدين هللا به.
هنا «لمعة االعتقاد» :ما يكفي ِ
أما المؤلف فهو:الشيخ العالمة المجتهد موفق الدين أبو محمد عبدهللا بن أحمد بن محمد بن
قدامة المقدسي ال َج َّما ِعيلي ث ُ َّم الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة (630هـ) ،وهو صاحب كتاب
«المغني» ،وكتاب «المغني» أشهر كتب المؤلف رحمه هللا تعالى ،وهو كتاب فقه على ما
يسمى اليوم بالفقه المقارن ،ويعنون بالفقه المقارن:ذكر المذاهب وأدلتها ،وله كتب أخرى في
الفقه الحنبلي ،مثل«:المقنع» و«الكافي»و«العمدة» ،وله كتب علمية أخرى مطبوعة
ومتداولة بين طالب العلم.
2
أثنى عليه العلماء ثناء عطرا في التقوى والصالح والزهد والعلم ،وكان بارعا في الفقه ،وله
مشاركة في فنون أخرى منها الحديث ،وهو ابن خالة الحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه هللا
تعالى-صاحب كتاب «عمدة األحكام» ،فهو إمام مشهود له بالعلم والتقوى والصالح ،وقد
ألف الضياء المقدسي رحمه هللا تعالى في سيرته كتابا ،ونقل الذهبي رحمه هللا تعالى في
سيرة المؤلف من هذا الكتاب بعض الفقرات ،من ذلك قول الضياء المقدسي -رحمه هللا
تعالى:-
«وسمعت الحافظ اليُونِيني يقول :لما كنت أسمع شناعة الخلق على الحنابلة بالتشبيه عزمت
على سؤال الشيخ الموفق».
كان النَّاس في ذاك القرن :القرن السادس والسابع ،كان الكثير منهم على المذهب
األشعري،وكان الحنابلة يعرفون بتمسكهم بمذهب السلف ،مذهب أهل السنة والجماعة ،وال
يعني ذلك أن كل الحنابلة على هذا المذهب ،ال ولكن كان الحنابلة مشهورين معروفين بذلك،
فاليونيني كان يعيش في ذاك العصر فسمع من علماء زمنه التشنيع على الحنابلة وأنهم كانوا
مشبهة ،هذا حال المعطلة ،وإذا قلنا المعطلة فنعني بهم :الجهمية ،والمعتزلة ،واألشاعرة،
وكل من كان على منهجهم في تعطيل صفات هللا -تبارك وتعالى-التي وردت في كتابه ،أو
في سنة رسوله صلى هللا عليه وسلَّم ،فهؤالء المعطلة كانوا يسمون أهل السنة مشبهة،
ويسمونهم مجسمة ،وغير ذلك من األسماء الباطلة ،وإنما يريدون بذلك تنفير النَّاس عمن
حمل مذهب السلف.
قال« :لما كنت أسمع شناعة الخلق على الحنابلة»–أي أن النَّاس يشنعون عليهم بالتشبيه–
«عزمت على سؤال الشيخ الموفق ،وبقيت أشهرا أريد أن أسأله ،فصعدت معه الجبل ،فلما
كنا عند دار ابن محارب قلت :ياسيدي ،وما نطقت بأكثر من :ياسيدي ،فقال لي :التشبيه
3
لم؟ قال :ألن من شرط التشبيه أن
مستحيل -إذ عرف ما يريد – فقال:التشبيه مستحيل ،فقلتَ :
نرى الشيء ث ُ َّم نشبهه ،من الذيرأى اللهث ُ َّم شبهه لنا؟».انتهى
وقال أبو شامة وهو من األشاعرة« :كان -أي ابن قدامة -إماما عالما ،في العلم والعمل،
صنف كتبا كثيرة ،لكن كالمه في العقائد على الطريقة المشهورة من أهل مذهبه – أي
الحنابلة – فسبحان من لم يوضح له األمر فيها على جاللته في العلم ومعرفته بمعاني
األخبار» ،هكذا يقول أبو شامة ،يستغرب من هذا األمر ،ولكن الذهبي -رحمه هللا تعالى -له
تعليقات لطيفة وجميلة ،فقال« :قلت :وهو وأمثاله يتعجبون منكم» أي كما أنكم تتعجبون منه
–أي ابن قدامة -هو أيضا وأمثاله أي من كان على مذهبه:مذهب السلف؛ يتعجبون منكم «مع
علمكم وذكائكم كيف قلتم -أي في الصفات– وكذا كل فرقة تتعجب من األُخرى ،وال عجب
في ذلك ،ونرجو هللا تعالى لكل من بذل جهده في طلب الحق من هذه األمة المرحومة أن
يغفر له» .انتهى
الشاهد أن ابن قدامة -رحمه هللا تعالى -كان إماما من أئمة أهل السنة على المذهب الحنبلي
رحمه هللا تعالى.-
وهذه العقيدة التي بين أيدينا ليست عقيدة الحنابلة فحسب ،بل هي عقيدة السلف قاطبة ،عقيدة
اس قَ ْرنِي ،ث ُ َّم الَّذِينَ أئمة أصحاب القرون الثالثة األولى،الذين قال فيهم النَّبيﷺَ « :خي ُْر النَّ ِ
هادَتَه ُ»(.)1
شَ يَلُونَ ُه ْم ،ث ُ َّم الَّذِينَ يَلُونَ ُه ْم ،ث ُ َّم يَ ِجي ُء أ َ ْق َوا ٌم ت َ ْسبِ ُق َ
ش َهادَة ُ أ َ َح ِد ِه ْم يَ ِمينَهَُ ،ويَ ِمينُهُ َ
( )1أخرجه البخاري ( )2651و (،)2652ومسلم ( )2533و ( )2535من حديث عبد هللا بن مسعود وعمران بن حصين
رضي هللا عنهما.
4
ولكن يحاول بعض أهل البدع أن يخصوا هذه العقيدة بالحنابلة؛ كي يوهموا الناس أنها عقيدة
باطلة مخترعة تختص بطائفة معينة فقط ممن مشى على مذهب إمامه اإلمام أحمد في هذه
العقيدة ،وأرادوا من ذلك أن يفصلوا عقيدة اإلمام أحمد عن عقيدة بقية أئمة اإلسالم كاإلمام
مالك والشافعي-رحمهم هللا تعالى ،-وهذا من أبطل الباطل وأكبر المحال؛فمالك والشافعي-
رحمهما هللا تعالى– لهما كالم واضح في تقرير عقيدة السلف ،العقيدة التي كان عليها اإلمام
أكثر من الرد على تلك الفرق؛ألن أهل البدع
َ أحمد -رحمه هللا تعالى ،-ولكن اإلمام أحمد
اشتدت شوكتهم وصارت لهم كلمة في زمنه ،هذا الذي لم يكن حاصال في زمن اإلمام مالك
واإلمام الشافعي ،وإال فكلهم -رحمهم هللا تعالى-كانوا على عقيدة واحدة في األسماء
والصفات وغيرها من مسائل االعتقاد ،كما سيأتي معنا في هذا الكتاب-إن شاء هللا تعالى.-
وأما الحنبلية أوالشافعية أو المالكية فهذه مذاهب فقهية يختار منها الرجل ما تبين له أنه أكثر
قربا إلى الحق ،مع أننا نقول :ينبغي على طالب العلم أن يكون ُمتبعا للكتاب والسنة ومنهج
أهل الحديث في العقيدة والفقه ،فإذا كانت المسألة فيها دليل من كتاب هللا أو من سنة رسول
هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،وتبين له أن الحق في قول الشافعي أخذ بقول الشافعي ،وإذا تبين
له أن الحق في قول أحمد أخذ بقول أحمد ،وإذا تبين له أن الحق في قول مالك أخذ بقول
نزل كالم الرجال منزلة كالم هللا ورسوله
مالك ...وهكذا ،فال يتقيد بمذهب رجل معين ،وال يُ ِ
ﷺ ،فلم يأمرنا هللا تبارك وتعالى أن نكون حنابلة ،وال أن نكون مالكية ،وال أن نكون شافعية
وال غير ذلك.
ولكن إذا كان المسلم ينتسب إلى هذه المذاهب،ث ُ َّم إذا جاءه الدليل من الكتاب والسنة تمسك به
وترك المذهب الذي عليه؛ فال ينكر عليه ذلك؛ ألنه متب ٌع لكتاب هللا ،ولسنة رسوله صلى هللا
5
عليه وسلَّم ،ولكن يكون اإلنكار على الذين يتركون كتاب هللا وسنة رسوله ﷺ ويتمسكون
بقول فالن وفالن ،هؤالء الذين يُنكر عليهم وبشدة.
6
مقدمة المؤلف
قال الشيخ اإلمام العالمة موفق الدين عبد هللا بن أحمد بن قدامة المقدسي عليه رحمة هللا:
7
الشرح
ابتدأ المؤلف-رحمه هللا تعالى -بالبسملة؛ اقتداء بكتاب هللا تبارك وتعالى ،وبسنة رسوله
صلى هللا عليه وسلَّم؛ فقد كان عليه الصالة والسالم في الرسائل يبدأ بالبسملة ،كما في
رسالته إلى هرقل ،وأما في الخطب فكان صلى هللا عليه وسلَّم يبدأ بالحمد.
وأما األحاديث الواردة في ذلك؛ كحديث أبي هريرة رفعهُ «:كل َك َالم ،أ َ ْو أ َ ْمر ذِي بَال َال
ط ُع»( ،)1وما شابه ذلك من أحاديث فال يثبت منها شيء، َّللاِ ،فَ ُه َو أ َ ْبت َ ُر ،أ َ ْو قَا َل :أ َ ْق َ
يُ ْفت َ ُح بِ ِذ ْك ِر َّ
وإنمااالقتداء بكتاب هللا وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم العملية.
ومعنى البسملة أي :أبدأ تأليفي هذا الكتاب مستعينا باهلل ذي الرحمة العامة والخاصة ،هذا
معنى بسم اللهالرحمن الرحيم.
الحمد :وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم ،و«ال»فيه لالستغراق :أي جميع
المحامدهلل تبارك وتعالى.
المحمود :هو هللا سبحانه وتعالى ،بكل لسان :أي الذي يستحق أن يحمد بكل لسان ،لماذا قلنا
هذا؟ألن هللا تبارك وتعالى لم يُح َمد بكل لسان؛ فألسنة الكفرة والملحدين ال تحمد هللا تبارك
وتعالى ،لذلك نقول هنا«المحمود بكل لسان»أي :الذي يستحق أن يحمد بكل لسان.
المعبود في كل زمان :في كل زمن يوجد من يعبده تبارك وتعالى ،فال ينقطع زمن من
األزمان من عابديه.
()1أخرجه أحمد (،)8712وأبو داود ( )4840وابن ماجه( )1894والدارقطني في السنن( )883وقال:تفرد به الزهري عن أبي
سلمة عن أبي هريرة وأرسله غيره ،ث ُ َّم قال :وال يصح الحديث ،وقال :والمرسل هو الصواب .وضعفه اإلمام األلباني في
االرواء(.)2
8
قال:الذي ال يخلو من علمه مكان :وهذا ِل ِسعة علمه تبارك وتعالى ،علمه أحاط بكل شيء.
قال :وال يشغله شأن عن شأن :لكمال قدرته يحيي ويميت ،ويرزق ويمنع من غير أن يشغله
شيء من هذه األشياء عن شيء آخر ،هذا لكمال قدرته تبارك وتعالى.
قال :جل عن األشباه :ج َّل :أي عظم شأنه فال يشبهه شيء من مخلوقاتهَّ ،
تنزه عن ذلك ،قال
هللا تبارك وتعالى}:ليس كمثله شيء وهو السميع البصير{]الشورى [11:هذه اآلية أصل
في نفي التمثيل عن هللا تبارك وتعالى ،وفي إثبات صفاته ،وأنهما أمران ال يتناقضان ألبتة،
أمران ال يتناقضان نفي التمثيل مع إثبات صفاته تبارك وتعالى ،فأنت تثبت هلل أنه سميع وأنه
بصير ،ولكن في نفس الوقت تقول :سمعه ليس مثل سمع المخلوقين ،وبصره ليس كبصر
المخلوقين وهكذا.
قال :وتنزه عن الصاحبة واألوالد :وهذا لعدم حاجته للولد وال للصاحبة أي الزوجة ،فاهلل
سبحانه وتعالى ال يحتاج إلى الصاحبة والولد؛ لكماله تبارك وتعالى.
الحكم حكمان :حكم قدري وحكم شرعي ،أما الحكم الشرعي فليس نافذا في جميع العباد؛
فكثير من العباد ال ينقادون لشرع هللا تبارك وتعالى ،وأما الحكم القدري فهو نافدٌ في جميع
العباد ،فكل ما أراده هللا تبارك وتعالى إرادة كونية فهو حاصل وال بد ،قال تعالى} :إنما
أمره إذا أراد شيئا ً أن يقول له كن فيكون{ [يس ،]36 :ال يخرج شيء عن قدرته تبارك
وتعالى.
9
قال :ال تمثله العقول بالتفكير ،وال تتوهمه القلوب بالتصوير:
ال تستطيع القلوب أن تتصور ربها تبارك وتعالى ،فال يمكن ذلك ،ال يمكن أن تتصور هللا
يدرك ذلك بالعقل ،وال يجوز ألحد أن يحاول
سبحانه وتعالى على صورة ما ،ال يمكن أن َ
ذلك ،وال قدرة لنا على ذلك ،قال هللا تعالى} :وال يحيطون به علما ً{ [طه .[ 110 :وقال
تبارك وتعالى} :ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] {الشورى ،[ 11 :ففي هذا نفي
لوجود مماثل هلل تبارك وتعالى ،وفيه إثبات لصفات هللا تبارك وتعالى ،فال يلزم من إثبات
صفة السمع والبصر وغيرهما من الصفات التي أثبتها هللا لنفسه في الكتاب أوفي السنة أن
يكون مماثال لخلقه ،ال يلزم ذلك ألبتة ،يدلنا على ذلك النَّفي واإلثبات الذي في هذه اآلية التي
بين أيدينا}ليس كمثله شيء{ نفي للمماثل } ،وهو السميع البصير{ إثبات لصفة السمع
وصفة البصر.
قال :له األسماءالحسنى والصفات العلى}الرحمن على العرش استوى .له ما في السماوات
وما في األرض وما بينهما وما تحت الثرى .وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى{ [
طه:[7-5 :
األسماء الحسنى أي البالغة في الحسن غايته ،والصفات العلى أي الصفات العلية الرفيعة
التي ال يشبهها شيء ،هذه ثابتة هلل تبارك وتعالى.
والرحمن هو هللا تبارك وتعالى ،فالرحمن اسم هللا تبارك وتعالى ،وقد تضمن صفة أيضا،
هي صفة الرحمة ،فنثبت هلل تبارك وتعالى اسما هو الرحمن ،ونثبت له أيضا صفة هي صفة
الرحمة على معناها الحقيقي الذييفهمه العرب.
10
االسم في أصله هو ما دل على الذات ،وأما الصفة فهي معنى ،فاألسماء مثل :السميع،
البصير ،الحكيم ،القدير ،هذه أسماء كلها تدل على الذات.
وهي أيضا تتضمن صفات ،وهي بالنِسبة هلل حق ،أي الصفات التي تدل عليها األسماء ،أما
بالنِسبة للعباد فيكون للعبد اسم وربما تضمن صفة ،ولكن تارة يتحلى العبد بالصفة التي
تضمنها اسمه ،وتارة ال يتحلى بها.
فأسماء هللا تدل على ذات وتتضمن صفات ،فإذا قلت :يغفر لي الغفار ،فالغفار هنا اسم د َّل
على ذات ،وهو هللا سبحانه وتعالى ،فهو الذي يغفر الذنوب ،ودلَّت على صفة المغفرة أيضا،
فيجب أن نثبتها هلل تبارك وتعالى.
وأما الصفة فهي معنى ،تدل على معنى فقط ،وال تدل على الذات كاالسم ،هذا الفرق بين
األسماء والصفات.
على العرش :العرش في أصل اللغة هو سرير الملك ،وسرير الملك يكون بتلك الفخامة
والعظمة المعروفة وهو سقف المخلوقات ،هو أعلى المخلوقات كلها ،والرحمن سبحانه
استوى عليه ،أي عال وارتفع بمقتضى اللغة ،استوى في اللغة إذا تعدت بحرف (على)
فمعناها العلو واالرتفاع ،فقد رجعنا إلى تفسير السلف فوجدناهم فسروها بذلك.
الفرق بيننا وبين أهل البدع؛ أننا نرجع في ذلك إلى تفسير السلف أصحاب القرون األولى
التي أثنى عليها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،فقال عليه الصالة والسالم « :خير النَّاس قرني
11
ث ُ َّم ذ َّم بعد ذلك القرون األُخرى ،فالحق يكون ظاهرا يلونهم»()1 ث ُ َّم الذين يلونهم ث ُ َّم الذين
وبكثرة عند أصحاب القرون الثالثة األولى ،وأفقه هذه األمة وأعلمها هم أصحاب هذه
القرون األولى ،ومن نظر وتأمل وقارن بدا له ذلك جليا،قال غير واحد من السلف« :العلم
قليل ولكن كثَّره الجاهلون»؛ فكثر الكالم والقيل والقال في كتب المتأخرين ،وتجد المسألة
عند المتقدمين يقتصرون فيها على كلمتين أو ثالث وتنتهي المسألة من أصلها ،فعلم
المتقدمين فيه خير وبركة عظيمة وكثيرة ،وعلم المتأخرين كثير ولكنه قليل البركة.
إذا رجعنا إلى تفسير السلف في هذه اآلية وجدنا أبا العالية الرياحي-رحمه هللا تعالى -من
أئمة التابعين ،وممن تتلمذ على جمع من صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم يقول في
االستواء :استوى أي ارتفع ،وقال مجاهد :استوى أي عال ( )2وهذا موجود معلق في صحيح
البخاري ،فـ«الرحمن على العرش استوى»:أي عال وارتفع.
} له ما في السماوات وما فياألرض وما بينهما وما تحت الثرى{ :له ما في السماوات وما
في األرض وما بينهما ،ما بين السماوات واألرض ،وما تحت الثرى أي ما تحت األرض،
كل ذلك ملك له ،عبيد مدبرون مسخرون ،تحت قضائه وقدره ،ال يخرج من ذلك شيء.
}وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى{ :لكمال علمه تبارك وتعالى ،يعلم السر وهو ما
تحدث به نفسك ال يسمعه أحد ،يعلمه رب العزة تبارك وتعالى.
ِ
12
قال( :وقهر كل مخلوق عزة وحكما ً ،ووسع كل شيء علما ً} ،يعلم ما بين أيديهم وما
خلفهم وال يحيطون به علما ً{( [طه:]110 :
قهر :أي أخضعه لسلطانه ،أخضع كل مخلوق لسلطانه ،عزة :قوة منه تبارك وتعالى،
وحكما ً :أي جعله تحت حكمه القدري ،ال يتمكن أحد منهم من الخروج عن حكم هللا تبارك
وتعالى.
ووسع كل شيء علما ً؛ فعلمه وسع كل شيء وكذلك رحمته ،ال يخرج شيء عن علمه تبارك
وتعالى ،ورحمته وسعت الجميع.
} يعلم ما بين أيديهم{ :أي ما أمامهم من أمور الدنيا،وما خلفهم من أمور اآلخرة} ،وال
يحيطون به علما ً{ :لنقصهم وقصور إدراكهم عما يستحقه هللا تبارك وتعالى.
قال( :موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم ،وعلى لسان نبيه الكريم).
أي نثبت هلل تبارك وتعالى من الصفات ما أثبته لنفسه في كتابه الذي هو القرآن ،أو في سنة
نبيه صلى هللا عليه وسلَّم أي األحاديث الصحيحة ،ال فرق في ذلك بين متواتر وآحاد ،وإنما
أحدث هذا التفريق أهل البدع والضالل؛ كي يتخلصوا من داللة السنة على صفات هللا تبارك
وتعالى ،أرادوا أن يتخلصوا من هذه الصفات فما وجدوا من سبيل إال بهذا التفريق؛ كي
يردوا أحاديث اآلحاد ويتخلصوا منها ،فال يبقى عندهم إال األحاديث المتواترة وهي قليلة،
عول التحريف الذي يسمونه تأويال ،وبذلك
عملون فيها ِم َ
وأحاديث الصفات فيها أقل ،ويُ ِ
يتخلصون من السنة تماما ،في الداللة على صفات هللا تبارك وتعالى ،على ما سيأتي تفصيله
بإذن هللا تبارك وتعالى.
13
المتن
وجب
َ حمن؛
ت الر ِ ص َّح عن ال ُمصط َفى عليه السالم ِمن صفا ِ القرآن ،أو َ
ِ و ُكل ما َجا َء في
ض لهُ بالر ِد والتأوي ِل والت َّشبي ِه والت َّمثي ِل. اإليمان ب ِه ،وت َلَّ ِقي ِه بالت ِ
سليم والقَبُو ِل ،وت َركُ الت ُ
عر ِ ُ
عرض ل َمعناهُ ونَرد ِعلمهُ إلى قائل ِه ،ونجع ُل ِ رك الت َّ ظا ،وت َ َ وجب إثبات ُهُ لَف َ
َ وما أ َشك َل ِمن َ
ذلك
المبين
ِ ذين أثنى هللاُ عليهم في كتاب ِه العلم ال ِ
ِ ق الراسخينَ في عهدَت َهُ على ناقل ِه؛ اتباعا لطري ِ ُ
{والرا ِس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا ِب ِه كل ِم ْن ِع ْن ِد َربِنَا} [آل عمران: بقول ِه سبحانه وتعالىَ :
]7
نزي ِل ِه{ :فَأ َ َّما الذين فِي قُلُو ِب ِه ْم زَ ْي ٌغ فَيَت َّ ِبعُونَ َما تَشَابَهَ ِم ْنهُ
وقال في ذَ ِم ُمبت َ ِغي التأوي ِل ل ُمتشاب ِه ت َ ِ
ا ْب ِتغَا َء ْال ِفتْنَ ِة َوا ْب ِتغَا َء ت َأوي ِل ِه َو َما َي ْعلَ ُم ت َأويلَهُ إِال هللا} [آل عمران]7 :
بابتغاء الفتن ِة في الذ ِم ،ث ُ َّم ح َجبَ ُهم َعما أ َّملُوهُ، ِ فجع َل ابتغا َء التأوي ِل عالمة على الزيغِ ،وقَ َرنهُ
{و َما يَ ْعلَ ُم ت َأويلَهُ إِالهللا} [آل عمران]7 : وقط َع أطما َع ُهم َع َّما قَصدُوهُ ،بقول ِه سبحانهَُ :
14
الشرح
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وكل ما جاء في القرآن ،أو صح عن المصطفى عليه السالم
من صفات الرحمن وجب اإليمان به).
أي كل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات هللا تبارك وتعالى،وجب اإليمان به،فإذا ثبتت
عندنا صفة من صفات هللا بآية من كتاب هللا،أو بسنة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم،
فيجب علينا أن نؤمن بها ،فنصدق بالصفة ،ونعتقد أن هللاَّ -
عز وج َّل -متصف بتلك الصفة،
ونتلقاها أيضا بالتسليم والقبول ،بقبولها وعدم ردها وعدم إنكارها ،واالنقياد لما جاء عن هللا
تبارك وتعالى ،من غير اعتراض عليه بعقولنا.
هذا هو الواجب علينا تجاه الصفات ،وتجاه كل أمر جاء في كتاب هللا ،وفي سنة رسول هللا
صلى هللا عليه وسلَّم ،والمقصود بما صح عن المصطفى صلى هللا عليه وسلَّم :جميع
األحاديث ،سواء كانت هذه األحاديث أحاديث متواترة ،أوأحاديث آحاد ،كلها تقبل وكلها
تؤخذ بالتسليم والقبول.
يفرق أهل السنة والجماعة ما بين األحاديث المتواترة واآلحاد ،واألحاديث الواردة في
ال ِ
الصفات كاألحاديث الواردة في األحكام ال فرق ،هذا ما ذكره إسحاق بن راهويه -رحمه هللا
تعالى-عندما عرض عليه أحد األمراء– وهو عبدهللا بن طاهر – هذه المسألة ،سأله عن
حديث نزول الرحمن تبارك وتعالى ،فقال« :أيها األمير ،إن هللا تعالى بعث إلينا نبيا ،نقل
تحرم ،وبها تباح
َّ تحرم ،وبها تحلل الفروج وبها
َّ إلينا عنه أخبارا ،بها تحلل الدماء وبها
15
تحرم ،فإن صحهذا صح ذاك ،وإن بطل هذا بطل ذاك ،قال :فأمسك
َّ األموال وبها
عبدهللا»(.)1
أحاديث الصفات جاءنا بها الذين جاءونا بأحاديث األحكام ،ال فرق ،هكذا كان السلف -رضي
هللا عنهم -يتعاملون مع أحاديث الصفات ،ال يفرقون بين متواتر وآحاد ،هذه البدع المحدثة
التي أحدثها أهل البدع؛ من أخذ الصفات من األحاديث المتواترة ،دون أحاديث اآلحاد ،وعدم
رد األحاديث المتواترة إذا جاءت في الصفات ،ورد أحاديث اآلحاد ،هذه بدعة ابتدعها
العقالنيون ،أ َّما أهل السنة والجماعة فيقبلون جميع األحاديث عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم
في الصفات سواء كانت متواترة أم كانت أحادا ،ال فرق عندهم.
قال(:وجب اإليمان به وتلقيه بالتسليم والقبول ،وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه
والتمثيل).
()1صحيح ،صححه األلباني في مختصر العلو( ،)235أخرجه البيهقي في األسماء والصفات برقم( ،)950وذكره ابن تيمية عن
عبد الرحمن بن أبي عبدهللا بن منده بسنده الى إسحاق ( مجموع الفتاوى ،)389/5وأخرج الاللكائي طرفا منه بلفظ آخر في
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم (.)774
16
فال يجوز لنا أن نتعرض لصفات هللا تبارك وتعالى بالرد أي يحرم رفضها ،فما ثبت في
الكتاب والسنة من صفات هللا تبارك وتعالى يحرم أن ننكره ،والواجب علينا أن نعتقده كما
تقدم.
قال« :التأويل»؛ أي يجب عدم التعرض لها بالتأويل ،والمراد بالتأويل هنا :صرف اللفظ عن
ظاهره ،عن حقيقته التي تقتضيها اللغة العربية ،هذا التأويل محرم هنا ،الذي هو صرف
اللفظ عن ظاهره أو تفسير المعنى بغير حقيقته ،هذا مردود محرم استعماله في الصفات،
وأي دليل شرعي في الكتاب والسنة ال يجوز لك أن تصرفه عن ظاهره المتبادر للذهن إال
إن ُو ِجد دليل صحيح يدل على صحة الصرف.
المعنى الثاني :الحقيقة التي يؤول إليها الكالم ،أي التي يصير إليها الكالم ،ومن ذلك قول
يوسف عليه السالم كما في قوله تعالى عنه} :يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل{[يوسف:
،]100عندما وقعت وتحققت الرؤيا قال ألبيه :هذا تأويل رؤياي ،أي هذا ما آلتإليهالرؤيا
فهذا وقوعها ،هذا المعنى الثاني للتأويل.
المعنى الثالث -هو المعنى االصطالحي الذي ذكرناه :-وهو صرف اللفظ عن ظاهرهلدليل
صحيح ،هذا التأويل غير جائزإال مع وجود الدليل الصحيح.
فقوله« :وترك التعرض له بالرد والتأويل» أي التفسير الباطل الذي هو التحريف أوالتأويل
الفاسد وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل أصال ،أو مع دليل باطل.
17
قال :والتشبيه ،إثبات مشابه هلل تبارك وتعالى فيما يختص به من الصفات ،كأن تقول له يد
كأيدينا.
قال( :وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظا ً وترك التعرض لمعناه).
المصنف -رحمه هللا تعالى -عن القسم األول من الصفات ،وهو القسم
ِ في الشطر األول تكلم
الواضح في معناه ،الذي ال خفاء فيه {الرحمن على العرش استوى} كالم واضح وصريح،
نثبت به صفة الرحمة هلل تبارك وتعالى ،ونثبت به صفة العلو واالرتفاع على العرش ،هذه
الصفات يجب اإليمان بها ،وتلقيها بالتسليم والقبول ،وال يجوز التعرض لها بالرد ،أوالتمثيل،
أوالتأويل ،أو التكييف ،فنحن نعلم معناها بداللة اللغة التي نزل بها القرآن وبتفسير السلف
الصالح لها ،وال نعلم كيفيتها؛ ألن هللا تبارك وتعالى لم يخبرنا بها ،فنؤمن بما أخبرنا به،
ونسكت عما سكت عنه.
القسم الثاني :وهو ما أشكل من ذلك ،يشكل على بعض النَّاس دون بعض ،بعض الصفات
تمر بالشخص؛ فيقف حائرا أمامها ،هل ت ُثبت مثل هذه أم ال ت ُثبت؟ أو ما هو معناها؟ يختلط
عليه األمر فال يتمكن من فهم معناها ،ففي هذه الحالة يرد علمها إلى هللا تبارك وتعالى ،ال
يتكلم فيها وال يخوض فيها ،يرد علمها إلى هللا تبارك وتعالى.
اللفظ نؤمن به ،نؤمن باللفظ؛ ألنه ثابت بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة ،لكن المعنى
الذي يشكل عليك هو الذي ترده إلى هللا سبحانه وتعالى.
18
به. أعلم هللا فنقول: قائله، إلى علمه ونرد لمعناه، التعرض وترك
ونجعل عهدته على ناقله؛ أي نحمل مسؤوليته الثقات الذين نقلوه لنا عن النَّبي صلى هللا عليه
وسلَّم.
قال( :اتباعا ً لطريق الراسخين في العلم ،الذين أثنى للا عليهم في كتابه المبين -في
القرآن -بقوله سبحانه وتعالى{ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا }).
الراسخون في العلم ،هم الذين ثبتت أقدامهم في العلم الشرعي ،وصار العلم بالنسبة لهم
كالجبلَّة ،هؤالء هم الراسخون في العلم.
ِ
الذين أثنى هللا عليهم في كتابه المبين -في القرآن -بقوله سبحانه وتعالى}:والراسخون في
العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا{ :كل هذا ،القرآن وما جاء فيه من صفات؛ كلها من
عند هللا تبارك وتعالى ،فصار عندنا قسمان لصفات:
القسم األول :قسم واضح بين ال إشكال فيه ،وهذا يثبت لفظه ومعناه ،وأكثرالصفات من هذا
القبيل.
19
علمية من الكتاب والسنة وجب عليه أن ال يخوض فيها ،إذا لم يتمكن من فهم معناها،
يفوض أمرها إلى هللا سبحانه وتعالى.
ف ِ
المفوضة؟
ِ ولكن ما هو مذهب
ومفوضة.
ِ فاألشاعرة يقسمون أنفسهم إلى قسمين :مؤولة
20
به. هللا أمرهم
استهانوا بالسلف وعلمهم ،وقللوا من شأنهم واحتقروا علمهم ،فأدى بهم الحال إلى الكفر بما
أثبت هللا تبارك وتعالى لنفسه من الصفات.
قال( :وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله} فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إالللا{(.
فأما الذين في قلوبهم زيغ :أي ميل عن الحق ولهم مقاصد فاسدة.
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله :أي يتبعون ما تشابه من اآليات التي
وردت ،ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وما يعلم تأويله إالللا ،وقد ذكرنا معنى التأويل فيما تقدم ،فهؤالء الذين في قلوبهم زيغ
يتبعون ما تشابه منه ،يتركون اآليات المحكمات ويتبعون المتشابهات.
فالقرآن منه محكم ومنه متشابه ،قال هللا تبارك وتعالى}:هو الذي أنزل عليك الكتاب منه
آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إالللا والراسخون في العلم يقولون آمنا
به كل من عند ربنا{[آل عمران]7 :
21
آيات القرآن مقسمة إلى قسمين :محكمات ،ومتشابهات.
المحكمات؛ قال هللا تبارك وتعالى فيهن{:هن أم الكتاب} :أي أصل الكتاب ،فيجب أن يُعتمد
عليها في تقرير المعاني ،آيات محكمات أي واضحات المعنى والداللة ال إشكال فيها.
وأخرمتشابهات ،يلتبس معناها على الكثير من الناس ،تحتمل أكثر من معنى ،ففيها
غموض ،فالواجب علينا عندما تمر بنا األدلة المتشابهة أن نردها إلى المحكمة ،ونفهمها بناء
على المحكم ،فيكون األصل عندنا في تقرير المعنى اآليات المحكمات ،ث ُ َّم المتشابهات ترد
إليهن.
آيات وأحاديث كثيرة جدا أوصلها بعضهم إلى ألف دليل يدل على علوهللا على خلقه ،هذه
محكمة ،داللتها واضحة صريحة ال خفاء فيها ،فمثل هذه هي التي تقرر المعنى الذين تحدث
عنه ،ث ُ َّم إن جاءتنا آية أو حديث يحتمل أكثر من معنى ،يحتمل هذا المعنى الظاهر ويحتمل
معنى آخر ،ثانيا أو ثالثا أو رابعا ،ماذا نفعل به؟ نرده إلى المحكم.
مثاله :قال هللا تبارك وتعالى}وهو معكم أين ما كنتم{[الحديد ،]4 :آية في هذا الباب متشابهة
فتردإلى المحكم ،نقرأ اآلية من أولها إلى آخرها ،نجدها تدل على العلم{ ،وهو معكم أينما
كنتم}،بماذا؟ بعلمه ،رددناها إلى المحكم وفهمناها بناء عليه ،هكذا يكون فهم آيات هللا،
( )1أخرجه مسلم ( ،)537من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه.
22
وسنن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،تأخذ الدليل الواضح في المعنى وتجعله أصال ،ث ُ َّم ترد إليه
المتشابه ،هذه هي طريقة الراسخين في العلم.
} والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا {[آل عمران ،]7 :لكن هل الوقف
في هذه اآلية عند قول هللا تبارك وتعالى} وما يعلم تأويله إالللا {نقف ث ُ َّم نكمل قوله تعالى:
} والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا{ ،فيكون الذي يعلم التأويل هو هللا
سبحانه وتعالى فقط؟ أم نكمل قوله تعالى} :وما يعلم تأويله إالللا والراسخون في العلم{
فنقف عند قوله {والراسخون في العلم} ،فيكون الذي يعلم التأويل هللا والراسخون في العلم،
كما جاء عن ابن عباس رضي هللا عنهما أنه كان يقول « :أنا من الذين يعلمون
تأويله»()1ألنه من الراسخين في العلم.
هنا عندنا تفصيل ،وهذا هو الراجح في فهم معنى هذه اآلية :فنقول إن كان المقصود من
التأويل:التفسير؛فالوقف يكون على{والراسخون في العلم} ،فيكون الذي يعلم تفسير القرآن
هو هللا سبحانه وتعالى والراسخون في العلم؛ ألن القرآن وصفه هللا سبحانه وتعالى بأنه
واضح وبأنه بين وبأنه هدى ،فهذا كله يقتضي أن ال غموض في القرآن؛ ألنه ال يوجد آية
في كتاب هللا ال تفهمها األمة بالكامل ،ربما تخفى معاني بعض اآليات على البعض ،لكنها ال
تخفى على جميع أمة محمد صلى هللا عليه وسلَّم ،بل ال بد أن يوجد من يفهم كتاب هللا تبارك
وتعالى.
23
أما إذا كان المعنى :ما تؤول إليه حقيقة األمر ،فيكون الوقف على قوله{ :إال للا} ألنه ال
أحد يعلم حقائق ما يكون يوم القيامة -مثال-إال هللا سبحانه وتعالى ،فيكون الوقف عند{إال
هللا} ،وبهذه الطريقة نصل إلى الصواب في فهم اآلية .وهللا أعلم
قال} فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه{هذه عالمة وضعها ربنا تبارك
وتعالى لتمييز الذين في قلوبهم زيغ عن غيرهم من أهل العلم.
فالذي في قلبه مرض يترك المحكمات ويذهب إلى المتشابهات ،من األمثلة على ذلك أنك
تجد من أهل االنحراف من يترك قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم« :ليكونن من أمتي أقوام
يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف»()1ويتعلَّق في ِ
حل الموسيقى بقول النَّبي صلى
هللا عليه وسلَّم ألبي موسى « :لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود»( ،)2فتعرف مباشرة
أن مثل هذا في قلبه مرض ،في قلبه زيغ ،يتعلق بالمتشابه ويترك المحكم ،عندنا أحاديث
واضحة تدل على تحريم الموسيقى والمعازف ،فيأتي مثل هذا ويتعلق بهذا الحديث،
والمتأمل فيه يعرف أن شبهته في هذا الحديث أوهى من خيوط العنكبوت ،فالمزمار في لغة
العرب يطلق على الصوت الحسن ،ولم يكن في يد أبي موسى مزمار أمام النَّبي صلى هللا
عليه وسلَّم ،وال داود عليه السالم كان يستعمل المزمار.
فالمزمار يطلق على الصوت الحسن ،وهذا ما عناه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في قوله ألبي
موسى ،فداود عليه السالم كان صوته حسنا ،وأبو موسى األشعري كذلك.
( )1أخرجه البخاري ( )5590وأحمد بنحوه ( )22231عن أبي مالك األشعري رضي هللا عنه ،وعلى قول من قال هو معلق
عند البخاري ،فقد وصله غير واحد من أهل العلم بأسانيد صحيحة ،راجع لها مختصر علوم الحديث البن كثير.
( )2أخرجه البخاري ( )5048ومسلم ( )793عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه.
24
فمثل هذا عندما تسمع كالمه تعرف أنه من الذين يتعلقون بالمتشابهات ويتركون المحكمات،
كذلك أهل البدع والضالل الذين حرفوا صفات هللا تبارك وتعالى ،والذين نفوا عن هللا تبارك
وتعالى أسماءه ،والذين ضلوا في مسائل القدر ،والذين ضلوا في مسائل اإليمان؛ كالمرجئة
والخوارج وغيرهم من أهل الضالل؛ يتركون األدلة المحكمة ويتعلقون بالمتشابهة.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :فجعل ابتغاء التأويل عالمة على الزيغ) ابتغاء تأويل
المتشابه( ،وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم)؛ ألنهم يريدون أن يفتنوا عباد هللا تبارك وتعالى
عن الحق.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :ثم حجبهم عما أملوه ،وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله
سبحانه وتعالى} وما يعلم تأويله إالللا {( :أغلق عليهم الباب وقطع عليهم الوصول إلى
أطماعهم الفاسدة.
هذا تقعيد وتأصيل من المؤلف للواجب على المسلم ناحية األسماء والصفات التي ترد في
كتاب هللا وفي سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم.
فعقيدة أهل السنة والجماعة أن نثبت هلل تبارك وتعالى كل ما أثبت لنفسه في الكتاب أو في
سنة النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم من األسماء والصفات على حقائقها ،ال ِ
نحرفها ،وال نكيِفها،
نؤمن بها على حقيقتها التي جاءت من عند هللا تبارك وتعالى ،على مراد هللا كما سيأتي من
كالم السلف رضي هللا عنهم.
فالقاعدة عندنا ،والتي خرجنا بها من اآلية المذكورة ،هي أن بعض اآليات محكمة واضحة،
وبعضها متشابهة فيها غموض في معانيها ،فالمتشابه يرد إلى المحكم ،هذه طريقة
25
الراسخين في العلم ،أما طريقة أهل البدع والضالل والزيغ فإنهم يتعلَّقون بالمتشابه
ويتركون المحكم ،هذه عالمة فارقة بين هؤالء وهؤالء.
26
وهنا نذكر فائدة ،وهي:
ففي آية جعل جميع اآليات محكمة ،وفي أخرى جعل جميعها متشابهة ،وفي ثالثة
جعل بعض اآليات محكمة والبعض اآلخرمتشابة.
وطريقة الجمع بين هذه اآلياتأن نقول معنى المحكم والمتشابه يختلف .
ففي اآلية التي ذكر فيها أن منه محكمات ومنه متشابهات ،يكون معنى المحكم
الواضح البين ،أي أنها آيات واضحات ال إشكال فيها ،ومعنى المتشابهات فيها أنها
تحتمل أكثر من معنى فتُش ِكل فال يفهم المراد منها إال بردها إلى المحكم.
والمراد بالمحكم في اآلية التي وصف فيها آياته بأنها كلها محكمة :اإلتقان ،فجميع
اآليات متقنة }كتاب أحكمت آياته { أي أتقنت.
27
المتن
قال المؤلف رحمه هللا تعالى :قال اإلمام أبو عبد هللا أحمد بن محمد بن حنبل
رضي هللا عنه في قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّمَّ « :
إن هللا ينزل إلى سماء الدنيا»
نؤمن بها ،ونصد ُق بها، و« َّ
إن هللا يرى في القيامة» ،وما أشبه هذه األحاديثُ « :
بال كيف وال معنى ،وال نَرد شيئا منها ،ونعل ُم أن ما جاء به الرسو ُل حق ،وال نرد
نصف هللاَ بأكثر مما وصف به نفسه ،بال
ُ على رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،وال
َحد وال َغاية:
كل ِه ُمحكم ِه و ُمتشا ِبه ِه ،وال نُ ِزي ُل عنه صفة من صفاتِ ِه ِلشنَاعة
نؤمن بالقرآن ِ
شنِعت ،وال نتعدَّى القرآن والحديث ،وال نعلم كيف ُكنَهَ ذلك إال بتصديق الرسول ُ
() 1
صلى هللا عليه وسلَّم وت َثبي ِ
ت القرآن»
قال اإلمام أبو عبدهللا محمد بن إدريس الشافعي رضي هللا عنه« :آمنت باهلل وبما
جاء عن هللا على مراد هللا ،وآمنت برسول هللا وبما جاء عن رسول هللا على مراد
رسول هللا»(.)2
( )1أخرجه الاللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم ( ،)777وذكره ابن القيم رحمه هللا في اجتماع الجيوش
االسالمية ( ،)2/211وانظر مختصر الصواعق المرسلة (.)1/469
( )1ذكره شيخ االسالم ابن تيمية في الرسالة المدنية صفحة ( )3وضمن مجموع الفتاوى( )6/354وشرح العقيدة األصفهانية
(.)1/106
28
وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي هللا عنهم ،كلهم متفقون على اإلقرار
واإلمرار ،واإلثبات لما ورد في كتاب هللا وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله.
الشرح
(بال كيف):أي ال نخوض في كيفيَّتها وال نبحث عنها ،ألننا ال علم لنا بها ،وليس
معنى ذلك َّ
أن الصفة ال كيفيَّة لها ،بل لها كيفية ولكننا ال نعلمها؛ ألنها من الغيب
الذي لم يخبرنا هللا به ،وال سبيل إلى العلم به إال بالوحي.
المعطلة الذين
ِ قال( :وال معنى) أي وال معنى يخالف معناها الحقيقي ،كما تفعله
فيفسرونها بمعنى آخرَّ ،
فإن المعنى الذي نزل به ِ يحرفون الصفة عن حقيقتها،
ِ
القرآن معروف مفهوم بمقتضى اللغة ،كما قال اإلمام مالك رحمه هللا تعالى:
«االستواء معلوم -ليس به خفاء وال جهالة ،-والكيف مجهول ،واإليمان به واجب،
والسؤال عنه بدعة»( )1فالمعنى المراد نفيه هنا هو المعنى الباطل الذي تفسره به
للصفة؛ ألن هذه الكلمة وما شابهها من بعض كالم
المعطلة ،ال المعنى الحقيقي ِ
ِ
نفوض الكيف والمعنى ،وهذا هو مذهب السلف،
المفوضة ،وقالواِ :
ِ السلف تعلق به
فها هو اإلمام أحمد يقول :ال كيف وال معنى.
29
أن هذا الكالم باطل ،بدليل َّ
أن اإلمام أحمد نفسه ورد عنه تفسير بعض شك َّ
وال َّ
الصفات بحقيقتها ،وكذلك جاء عن غيره من السلف ،كما جاء عن أبي العالية
الرياحي أنه قال في االستواء« :استوى أي ارتفع» ،وقال مجاهد« :استوى أي
عال»( )1فف َّ
سروا االستواء بمعناه الحقيقي.
فالسلف ليس من مذهبهم تفويض المعنى ،فالمعنى عندهم معلوم واضح ال خفاء
يفوضون الكيف؛ ألن الكيفية لم يذكرها لنا ربنا تبارك وتعالى ،فال سبيل
فيه ،لكنهم ِ
فوض؛ فقد
نفوضها إلى هللا سبحانه وتعالى ،أ َّما المعنى فال يُ َّ
إلى معرفتها ،لذلك ِ
ذكر هللا سبحانه وتعالى الصفات بكالم عربي فصيح واضح ال خفاء فيه ،فنفهمها
بمقتضاها اللغوي.
(ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ،وال نرد على رسول للا صلى للا عليه
وسلم) ،ال نرد على رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ما جاء به ،فما جاء به النَّبي
صلى هللا عليه وسلَّم صدق وحق ،فنؤمن به ونصدق به.
( وال نصف للا بأكثر مما وصف به نفسه) أي نقف في صفات هللا عند كتاب هللا
وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلَّم ،ال نزيد وال ننقص ،نقف عند الكتاب والسنة،
فالكالم في ذات هللا وفي صفاته أمر عظيم ،الواجب فيه الوقوف على ما جاء في
الكتاب والسنة ،فكله توقيفي ال يجوز للشخص أن يُعم َل عقله وذهنه في أمر كهذا.
( بال حد وال غاية) أي ال نكيف صفات هللا تبارك وتعالى فنذكر حدودها التي
تنتهي إليها ،وغاياتها كأن نقول :تنتهى الصفة إلى كذا أو طولها كذا وعرضها كذا
وما شابه؛ ألنه ال يعلم ذلك إال هللا تبارك وتعالى.
1سبق تخريجه
30
قال هللا تبارك وتعالى{( :ليس كمثله شيء وهو السميع البصير})
[الشورى ،]11/فيها نفي وإثبات ،هذا هو التوحيد في الصفات :تنفي المماثلة ،فال
شيء يماثل هللا سبحانه وتعالى ال في ذاته وال في صفاته.
{ل ْيس كمثْله ش ْي ٌء وهو السميع ا ْلبصير} أثبت لنفسه سمعا وبصرا ،فنثبت له
السمع والبصر ،وننفي أن يكون ألحد سمع وبصر يماثل سمع وبصر الخالق
تبارك وتعالى.
(ونقول كما قال،ونصفه بما وصف نفسه ،ال نتعدى ذلك) نقول كما قال هللا تبارك
وتعالى في كتابه ،وكما جاء عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في سنته ،ونصفه بما
نعطل هللا تبارك وتعالى عن صفاته.
وصف به نفسه ،فال ِ
قال( :وال يبلغه وصف الواصفين) أي ال أحد يستطيع أن يصف هللا تبارك وتعالى،
هللا هو الذي يصف نفسه ،فال نصفه إال بما وصف به نفسه في كتابه أو في سنة
نبيه صلى هللا عليه وسلَّم.
( نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه) ال نرد على هللا تبارك وتعالى شيئا ،نؤمن
بالحكم ونثبت معناه ،ونرد المتشابه إليه ونفهمه بناء عليه ،هذه طريقة الراسخين
في العلم ،الذين يبتغون الحق.
قال ( :وال نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت) أي نثبت الصفات،ولو أقام
أهل البدع الدنيا ولم يقعدوها علينا من أجل إثباتنا لصفات هللا ،التي ذكرها في كتابه
أو في سنة نبيه صلى هللا عليه وسلَّم ،ووصفنا هللا سبحانه وتعالى بها ،فال نبالي
بتشنيع أهل البدع والضالل علينا ،ولو وصفونا بالمشبهة أو المجسمة أوالحشوية
أوغير ذلك من المعاني واأللفاظ ،المهم عندنا أننا نؤمن بما أمرنا هللا تبارك
وتعالى باإليمان به.
31
قال ( :وال نتعدى القرآن والحديث) هذه هي عقيدتنا ،ال نتجاوز كتاب هللا وسنة
رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم في النَّفي واإلثبات ،وفي كل أمور الغيب ،ال
نتجاوز الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه األمة .
(وال نعلم كيف كنه ذلك إال بتصديق الرسول صلى للا عليه وسلم وتثبيت القرآن
) أي ال نعلم حقيقة الصفات أي كيفيَّتها ،أما معناها فهو معلوم لنا بما علمنا هللا
تبارك وتعالى.
فنحن نصدق النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وإن لم نعلم الكيفية ،ونؤمن بما جاء في
كتاب هللا تبارك وتعالى .هذا هو واجب المسلم ناحية صفات هللا تبارك وتعالى.
( قال اإلمام أبو عبدللا محمد بن إدريس الشافعي) نقل أوال كالم اإلمام أحمد وهو
إمام أهل السنة في زمنه ،في زمن اإلمام أحمد قامت البدع على قدم وساق وصار
ألهلها شوكة ومنعة ،فصاروا يصرخون ببدعهم وضالالتهم وينشرونها ويدعون
النَّاس إليها ،فقام لهم اإلمام أحمد رحمه هللا تعالى ووقف وقفة شهد له به أئمة
اإلسالم ،فصدهم ،وثبت في وجوههم ،وجاهدهم جهادا كبيرا ،لذلك سمي رحمه هللا
تعالى بإمام أهل السنة في زمنه ،وهو أحد أئمة المذاهب الفقهية األربعة التي لها
أتباع كثر.
وأما اإلمام الشافعي فهو أبو عبد هللا محمد بن إدريس الشافعي إمام أيضا من أئمة
السنة والحديث في زمنه رحمه هللا تعالى وهو صاحب المذهب الشافعي المعروف،
عده بعض العلماء مجدد القرن الثاني ،وحق له ذلك.
قال رحمه للا تعالى ( :آمنت باهلل وبما جاء عن للا على مراد للا) ،آمنت باهلل
وبما جاء عن هللا أي بالقرآن ،على مراد هللا ،أي أؤمن به وأصدق به على ما أراد
هللا سبحانه وتعالى من معنى.
32
(وآمنت برسول للا وبما جاء عن رسول للا) أي في سنته صلى هللا عليه وسلَّم.
(على مراد رسول للا) أي على المعنى الذي أراده النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،هذا
كله تأصيل عام لمنهج أهل السنة سواء كان في األسماء والصفات أو حتى في
أمور الشريعة والدين كلها ،هذا كالم الشافعي رحمه هللا تعالى ،فال يحرف
الصفات عن معانيها ،وال يغير أحكام هللا عن مراد هللا بها .
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف) أي على هذا
الذي ذكره من كالم اإلمام أحمد وكالم اإلمام الشافعي ،كان السلف كلهم يمشون
عليه ،ومن اتبعهم من أهل الحق ،والسلف هم الصحابة رضي هللا تعالى عنهم،
ومن اتبعهم بإحسان من أصحاب القرون المفضلة ،وهي القرون الثالثة األولى.
(لما ورد من الصفات في كتاب للا وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله) أي من
المعطلة ،وهو التحريف الذي
ِ غير تعرض لتحريفه بتفسيره تفسيرا فاسدا كتفسير
يسمونه تأويال ،صرف اللفظ عن ظاهره ،ولكنه بغير دليل صحيح.
33
المتن
قال المؤلف رحمه هللا تعالى :وقد أمرنا باالقتفاء آلثارهم ،واالهتداء بمنارهم،
وحذرنا المحدثات ،وأخبرنا أنها من الضالالت ،فقال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم:
«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ،عضوا عليها بالنَّواجذ،
(.)1
وإياكم ومحدثات األ ُمور ،فإن َّكل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضاللة»
وقال عبدهللا بن مسعود رضي هللا عنه « :اتبعوا وال تبتدعوا فقد ُك ِفيت ُم»(.)2
ف ف َحي ُ
ْث َوقَ َ وقال عمر بن عبد العزيز رضي هللا عنه كالما معناه « :قِ ْ
القَو ُم ،فَإِنَّ ُهم َع ْن ِع ْلم َوقَفوا ،وببَصر نافذ َكفوا ،و ُهم َعلَى َك ْش ِفها كانوا أ ْق َوى،
خالف
َ ث َبعدَ ُهم؛ فما أ َ ْحدَثهُ ِإال َم ْن
ض ِل لَو كان فيها أ َ ْحرى ،فلئِن قُلت ُمَ :حدَ َ وبالف ْ
صفُوا منه ما َيش ِفي ،وتَكلَّ ُموا ِمنهُ بما َي ْك ِفي ،فما سنَّ ِت ِهمَ ،ولَقَ ْد َو َ
ب َع ْن ُ َه ْد َي ُهمَ ،
ور ِغ َ
ص َر َع ْن ُهم قَو ٌم فَجفَوا وت َجاوزَ ُهم آخرونَ قص ٌر ،لقد قَ َّ فَوق ُهم ُم َح ِس ٌر وما دُون ُهم ُم ِ
فَغلَ ْواَ ،وإنهم فيما بين ذلك لَعَلى هُدى ُمستقَيم».
سلف وإن
َ بآثار من
ِ وقال اإلمام أبو عمرو األوزاعي رضي هللا عنه« :عليك
بالقول».
ِ خرفُوهُ لك
الناس ،وإياك وآرا َء الرجا ِل ،وإن زَ َ
ُ رفضك
َ
األدر ِمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها« :هل َ وقال محمد بن عبد الرحمن
علمها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ،أو لم
يعلموها؟ قال :لم يعلموها ،قال :فشيء لم يعلمه هؤالء أع ِلمت َه أنت؟! قال الرجل:
فإني أقول :قد علموها ،قال :أفَو ِسعهم أن ال يتكلموا به ،وال يدعوا الناس إليه ،أم لم
يسعهم؟ قال :بلى وسعهم ،قال فشيء وسع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وخلفاءه
س َع هللاُ على
ال يسعك أنت؟! فانقطع الرجل .فقال الخليفة -وكان حاضرا :-ال و َّ
من لم يس ْعهُ ما و ِسعَهم».
وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه
والتابعين لهم بإحسان واألئمة من بعدهم والراسخين في العلم من تالوة آيات
الصفات وقراءة أخبارها وإمرارها كما جاءت ،فال وسع هللا عليه.
( )1أاخرجه أحمد( ،)17144والترمذي( )2676من حديث العرباض بن سارية رضي هللا عنه.
( )2رواه الدارمي( ،)211والاللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة( ،)104والبيهقي في شعب االيمان (.)2024
34
الشرح
قال المؤلف رحمه هللا تعالى ( :وقد أمرنا باالقتفاء آلثارهم) أي آثار السلف الذين
قرر المؤلف رحمه هللا تعالى القواعد واألُصول التي ينتهجونها في أسماء هللا َّ
وصفاته.
قال « :وقد أمرنا باإلقتفاء آلثارهم» فالواجب علينا أن نسير كما ساروا.
واألثر :ما بقي من رسم الشيء ،كآثار سير األقدام مثال.
واالقتفاء هو:االتباع ،أي اتباعهم على ما كانوا عليه من أمر الدين ،وقد أمرنا
بذلك.
(واالهتداء بمنارهم) أي أن نعرف الطريق ونهتدي له بالمنارات التي وضعوها
لنا ،وأصل المنارة مكان مرتفع توضع عليه المصابيح أو أعالم الطرق ،مثل
المنارات التي تبنى عند شواطئ البحار ،مبنى عال مرتفع ،عليه مصابيح تضيء
وتدور ،عالمة كي ترشد السفن إلى الشواطئ ،هذا معنى المنارة.
فالسلف كأنهم في منهجهم الذي كانوا عليه وفي طريقهم الذي بينوه لنا ،وضعوا لنا
منارات كهذه المنارات ،فالواجب علينا أن نستضيء بهذه المنارات ونسير على
عليها. كانوا التي الطريق نفس
هذه المسألة من أهم أصول أهل السنة ،التي يخالفون فيها أهل البدع :مسألة
االتباع لطريق السلف ،أهل البدع يتبعون الرأي ،وأما أهل السنة فيتبعون
النصوص واآلثار في كل أمور الدين .
قال ( :وحذرنا المحدثات) المحدثة :أي األمر الجديد في الدين ،ويعرف األمر
المحدث الجديد بعدم وروده في الكتاب والسنة ،ولم يكن على عهد الصحابة ومن
اتبعهم بإحسان ،بكونه ال أصل له في الكتاب وال في السنة ،وال يعرفه الصحابة،
تطبق عندهم سنة يقولون لك ما هذا الدين فهو دين جديد ،ولكن العامة اليوم عندما ِ
الجديد الذي أتيتنا به!ضابطهم في الجديد أنهم لم يعتادوا عليه ،أما الضابط الشرعي
في الجديد ،فهو ما ال أصل له في الكتاب والسنة ولم يكن على عهد السلف
الصالح ،هذا هو الذي يسمى دينا جديدا.
قال ( :وأخبرنا أنها من الضالالت) أي المحدثات ،وهي العبادات التي تأتي جديدة
وال أصل لها في الكتاب والسنة ،ولم يكن عليها السلف الصالح رضي هللا عنهم،
هذه ضالالت ،والضاللة ضدَّ الرشاد وضدَّ الهداية ،فهي انحراف عن الحق.
35
قال ( :فقال النبي صلى للا عليه وسلم :عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي عضوا عليهم بالنواجذ وإياكم ومحدثات األمور فإن كل محدثة
بدعة وكل بدعة ضاللة)
ذكر المؤلف رحمه هللا تعالى الدليل على ما قدم لك ،ونحن قبل الحديث نأتي بآية
من كتاب هللا ،قال هللا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم }ومن يشاقق الرسول من
بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم
وساءت مصيرا ً{[النِساء } ،]115 :ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له
الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين{ ،المؤمنون الذين كانوا عند نزول هذه اآلية هم
أصحاب رسول اللهصلىاهلل عليه وسلَّم ،فالواجب أن نسيرعلى طريقتهم ،وكذلك
قال هللا تبارك وتعالى} والسابقون األولون من المهاجرين واألنصار والذين
اتبعوهم بإحسان رضي للا عنهم ورضوا عنه{[التوبة ]100 :فكان الرضا من
نصيب الصحابة رضي هللا عنهم ومن اتبعهم بإحسان ،إذن هذه كلها آيات تدل على
أن النَّاجي هو من يتبع منهج السلف رضي هللا عنهم.
وجاء في الحديث الذي ذكره المؤلف« :عليكم بسنتي» أي الزموا سنتي ،والسنه
هي الطريقة ،والمراد بها هنا :طريقة النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،ودينه الذي جاء
به سواء كان قوال ،أو فعال ،أو تقريرا.
( عضوا عليها بالنواجذ) أي على سنَّته صلى هللا عليه وسلَّم وسنة الخلفاء
الراشدين من بعده ،والنَّواجذ جمع ناجذ وهو الضرس ،أي احرصوا عليها
سكوا بها ،مثلما نقول نحن اليوم :امسك بها بيديك وأسنانك.
وتم َّ
( فإنكل محدثة بدعة وكل بدعة ضاللة) وكل ضاللة في النَّار؛ كما جاء في
رواية ،فكل محدثة بدعة ،وقلنا َّ
بأن المحدثة هي األمر الجديد في الدين ،الذيال
أصل له في الكتاب والسنة.
وفي الشرع :ما أحدث م َّما ال أصل له في الشريعة يدل عليه؛ ألن دين هللا هو دين
اإلسالم ،الذي هو كتاب وسنة بفهم سلف األمة ،فإذا جاء دين ال أصل له ال في
الكتاب وال في السنة وال كان عليه الصحابة؛ فهو محدث و هو بدعة ،و البدعة
ضاللة والضاللة في النَّار ،أي صاحبها.
فالبدعة كبيرة من الكبائر؛ألن من تعريف الكبائر أنها ما توعد عليه بعقاب أو
عذاب ،فالبدعة كبيرة من الكبائر وعظيمة من عظائم الذنوب ،وخطر البدعة يكمن
أن البدع إذا سكت عنها وتوسع النَّاس في اإلحداث واالبتداع في دين هللا ،أدى
في َّ
ذلك إلى انطماس شريعة هللا واستبدالها بآراء وأهواء البشر؛ كما حصل من اليهود
فتحوا باب االبتداع على والنصارى ،ومن الرافضة والصوفية القبورية،
37
مصراعيه فأخذوا يستحسنون بأرائهم وعقولهم حتى خرجوا من دين هللا تماما،
هذا هو طريق البدع.
فرحم هللا السلف نظرتهم كانت ثاقبة ،فكان بعضهم يقول« :البدعة بريد الكفر»،
البريد أصله الدابة التي تحمل الرسائل ،فهي التي توصل الرسالة ،فالبدعة توصل
إلى الكفر ،فالحذر الحذر من البدعة واالبتداع ،ومن هنا نجد السلف رضي هللا
عنهم يشددون في مسائل البدع واالبتداع ،ويحرصون على التحذير ممن يدعو إلى
بدعة أو ضاللة؛ ألن السكوت عن مثل هذا يؤدي إلى انطماس الدين ،وذهاب
الحق ،وهذا ال يجوز السكوت عليه ألبتة.
فال تأخذك الحمية لشخص من األشخاص إن أحببته أو رأيت فيه شيئا من الخشوع
إن كانت فيه بدعة ،فتدخل في الدفاع عنه والذب عنه ألنك أحسنت الظن به ،هذا
خطأ عظيم ،فالبدعة أمرها خطير ،وغيرتك على دين هللا أولى من غيرتك على
فالن أوعالن ،محبتك يجب أن تكون لشرع هللا مقدمة ،تقدم كتاب هللا وسنة رسول
هللا صلى هللا عليه و سلَّم على كل شيء وعلى كل أحد ،فالمبتدع يُضل النَّاس عن
سواء السبيل ،ويريد أن يفسد شريعة هللا ،يجب التحذير منه ،من أجل الحفاظ على
شريعة هللا صافية نقية ،ونصيحة للمسلمين ،فإذا لم تبين أنت ولم أبين أنا فمن أين
يعلم النَّاس الحق من الباطل؟!
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وقال عبدللا بن مسعود رضي للا عنه :اتبعوا وال
تبتدعوا فقد كفيتم) ،ما أجمل هذا الكالم ،ال تحاول أن تجعل نفسك رأسا ،فتأتينا
باآلراء والخياالت والغرائب الجديدة كي تجد لك من يتبعك ،أو كي يقال فالن قال،
ولكن كن متبعا؛ تبقى على الحق.
38
ي هللا عنهم ،فالنَّبي صلى هللا
(اتبعوا) أي اتبعوا الكتاب والسنة ومنهج السلف رض َّ
عليه وسلَّم وأصحابه من بعده رض َّ
ي هللا عنهم بينوا هذا الدين والشرع بيانا واضحا
ال خفاء فيه ،قال ( :وال تبتدعوا) فلسنا بحاجة إلى بدعك وخرافاتك ،فال تأتوا بدين
ي هللا عنهم أمر بيان هذا الدين
جديد (فقد كفيتم) كفيتم البيان ،كفاكم سلفكم رض َّ
معناه. وتوضيح
فواجبكم فقط االتباع ،تعلموا ما كانوا عليه واتبعوهم ،هذا ما أمر به هللا تبارك
وتعالى وأمر به رسوله صلى هللا عليه وسلم وبينه أصحابه ومن اتبعهم ،هذه بعض
. هنا المؤلف ذكرها السلف آثار
سا ِبقُونَ ْاأل َ َّولُونَ ِمنَ ْال ُم َه ِ
اج ِرينَ وأما األدلة التي توجب االتباع فقال تعالى { َوال َّ
ع ْنهُ َوأ َ َعدَّ لَ ُه ْم َجنَّات
ضوا ََّللاُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ
ي َّ ض َ ار َوالَّذِينَ اتَّبَعُو ُه ْم بِإ ِ ْح َ
سان َر ِ ص َِو ْاأل َ ْن َ
ْال َع ِظي ُم (})100 ار خَا ِلدِينَ ِفي َها أ َ َبدا ذَ ِل َك ْالفَ ْو ُز ت َ ْج ِري ت َ ْحت َ َها ْاأل َ ْن َه ُ
س ِبي ِل ْال ُمؤْ ِمنِينَ َ
غي َْر َسو َل ِم ْن َب ْع ِد َما تَبَيَّنَ لَهُ ْال ُهدَى َو َيت َّ ِب ْع الر ُ
ق َّ وقالَ { :و َم ْن يُشَاقِ ِ
(})115 صيرا
َم ِ تسا َء ْ
َو َ َج َهنَّ َم َونُ ْ
ص ِل ِه ت َ َولَّى َما نُ َو ِل ِه
اختِ َالفا َكثِيرا، ش ِم ْن ُك ْم بَ ْعدِي فَ َ
سيَ َرى ْ وقال النبي صلى هللا عليه وسلم« :فَإِنَّهُ َم ْن يَ ِع ْ
س ُكوا ِب َها َو َعضوا َعلَ ْي َها اء ْال َم ْهد ِِيينَ َّ
الرا ِشدِينَ ،ت َ َم َّ سنَّ ِة ْال ُخ َل َف ِ
سنَّ ِتي َو ُ َف َع َل ْي ُك ْم ِب ُ
ت ْاأل ُ ُم ِ
َ َ ٌ ()1
ضاللة» ور ،فَإ ِ َّن ُك َّل ُم ْحدَثَة ِب ْد َعةٌَ ،و ُك َّل ِب ْد َعة َ اجذَِ ،و ِإيَّا ُك ْم َو ُم ْحدَثَا ِ
ِبالنَّ َو ِ
وقال «ستفترق أمتي على ثالث وسبعين فرقة ،كلهم في النار إال واحدة» ،قالوا:
ومن هي يا رسول هللا؟ قال« :الجماعة»( ،)2وفي رواية« :ما أنا عليه
()3
وأصحابي»
( )1أخرجه أحمد ( ،)17144وأبو داود ( ،)4607والترمذي ( ،)2676وابن ماجه ( ،)42من حديث العرباض بن سارية
( )2أخرجه أحمد ( ،)16937وأبو داود ( ،)4597من حديث معاوية
( )3أخرجها الترمذي ( )2641من حديث عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما .
39
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقال عمر بن عبد العزيز رضي للا عنه كالما ً
معناه ( :اقف حيث القوم ،فإنهم عن علم وقفوا ،وببصر نافذ كفوا ،وهم على
كشفها كانوا أقوى ،وبالفضل لو كان فيها أحرى ،فلئن قلتم حدث بعدهم ،فما
أحدثه إال من خالف هديهم ،ورغب عن سنتهم ،ولقد وصفوا منه ما يشفي،
وتكلموا منه بما يكفي ،فما فوقهم محسر،وما دونهم مقصر ،لقد قصر عنهم قوم
(.)1
هدى مستقيم)
ً فجفوا ،وتجاوزهم آخرون فغلوا ،وإنهم فيما بين ذلك لعلى
وقال اإلمام أبو عمرو األوزاعي رضي للا عنه ( :عليك بآثار من سلف وإن
() 2
رفضك الناس ،وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول)
وقال محمد بن عبد الرحمن األدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها :هل
علمها رسول اللهصلىاهلل عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ،أم لم
يعلموها؟ قال :لم يعلموها ،قال :فشيء لم يعلمه هؤالء أعلمته أنت؟! قال الرجل:
فإني أقول قد علموها ،قال :أفوسعهم أال يتكلموا به وال يدعوا الناس إليه أم لم
يسعهم؟ قال :بلى وسعهم ،قال :فشيء وسع رسول للا صلى للا عليه وسلم
وخلفاءه ال يسعك أنت؟! فانقطع الرجل ،فقال الخليفة -وكان حاضرا ً :-ال وسع
((3
للا على من لم يسعه ما وسعهم)
وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول للا صلى للا عليه وسلم وأصحابه والتابعين
لهم بإحسان واألئمة من بعدهم والراسخين في العلم من تالوة آيات الصفات
وقراءة أخبارها وإمرارها كما جاءت فال وسع للا عليه.
( )1روى األثر االمام أحمد في الزهد( ،)1709وابن بطة في االبانة الكبرى()1/321
( )2أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث صفحة ( ، )7واألجري في الشريعة برقم ()127
( )1أخرج القصة اآلجري في الشريعة رقم ،193والخطيب في تاريخ بغداد( )271/11وقال :الشيخ هو أبو عبد الرحمن عبدهللا بن محمد بن اسحق األذرمي ،وقد ناظر
ابن أبي دؤاد في مسألة خلق القرآن بحضرة الواثق.
40
(وقال عمر بن عبد العزيز رضي للا عنه) عمر بن عبد العزيز األموي ،األمير،
الزاهد ،الورع ،التقي ،كان صاحب علم ،وكان أميرا عادال ،قال رحمه هللا تعالى:
(كالما ً معناه :قف حيث وقف القوم) أي السلف الصالح رض َّ
ي هللا عنهم من
ضحوه من السنة فخذ به
الصحابة ومن اتبعهم بإحسان ،ما اتبعوه و بيَّنوه وو َّ
واعمل به ،وما سكتوا عنه فاسكت عنه وانت ِه ،وما انتهوا عن الخوض فيه فانته
أنت عن الخوض فيه ،فقف عنده وال تتجاوزه.
قال رحمه هللا تعالى ( :فإنهم عن علم وقفوا) عندما وقفوا عند مسألة معينة ولم
يتكلموا كانوا يعرفون لماذا وقفوا ،وأن الوقوف هو الواجب ( وببصر نافذ كفوا ً)
أي ببصر وبصيرة قوية توقفوا ( وهم على كشفها كانوا أقوى) علمهم أقوى من
علم من جاء بعدهم ،وأكثر وأغزر ،فلو كان هناك ما يحتاج إلى الكالم بعلم فهم
كانوا أقدر على استخراجه وبيانه (وبالفضل لو كان فيها أحرى) و لو كان في
كشفه فضل فهم من أحرص النَّاس على الفضل وعلى الخير ( فلئن قلتم حدث
بعدهم) إن قلت هذه قضية حصلت ولم تكن في زمنهم ( فما أحدثه إال من خالف
هديهم ورغب عن سنتهم) أي زهد في طريقتهم وخالفها فيها ( ولقد وصفوا منه
ما يشفي ،وتكلموا منه بما يكفي) ،وصفوا من أمر هذا الدين ما يشفي المحتاج ،و
تكلموا منه بما يكفي ،فلسنا بحاجة إلى زيادة على ذلك ( فما فوقهم محسر) أي
متعب نفسه من غير فائدة ( وما دونهم مقصر) في طلب الحق ( لقد قصر عنهم
الغلو وهو
ِ قوم فجفوا) من الجفاء وهو التباعد ( وتجاوزهم آخرون فغلوا ) من
مجاوزة الحد ،وهو منهي عنه في الشرع «وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى
الغلو والتقصير ،بين اإلفراط و التفريط ،هذا منهج السلف
ِ مستقيم) أي هم بين
ي هللا عنهم و هذه هي طريقتهم.
رض َّ
41
يقول موسى بن أبي عائشة رحمه هللا تعالى وهو أحد أئمة السلف « :ما أمر هللا
سبحانه بأمرإال وكان للشيطان فيه نزغتان :نزغة إلى مجاوزة وغلو ،ونزغة إلى
تفريط وتقصير» 1فأهل السنة كانوا وسطا دائما ،ال إفراط وال تفريط ،ومن أعظم
ما يفسد الدين هاتان الطريقتان الغلو والتقصير وترك التوسط واالعتدال .
خالصة هذا الكالم وجوب اتباع السلف ،وترك االبتداع في الدين ،واالجتهاد في
مسائل قررها السلف ووضحوها ،فتتكلم فيما تكلموا فيه بمثل ما تكلموا ،وتسكت
عما سكتوا عنه .
( وقال اإلمام أبو عمرو األوزاعي) اإلمام العالم الكبير ،شيخ أهل الشام في زمنه،
كان إماما يقتدى به ،له مذهب سائد في بالد الشام في زمنه وبعده بقليل؛ ألنه كان
من أهل الشام فكان مذهبه هو السائد في بالد الشام قبل أن ينتشرفيها مذهب اإلمام
الشافعي رحمه هللا تعالى ،فهو إمام من أئمة أتباع التابعين ،إمام في زمنه في بالد
الشام كما كان مالك في المدينة ،وسفيان بن عيينة في مكة ،والليث بن سعد في
مصر ،و سفيان الثوري في الكوفة ،وعبدهللا بن المبارك في خراسان ،كان هؤآلء
أئمة زمانهم.
(قال اإلمام أبو عمرو األوزاعي رحمه للا تعالى :عليك بآثار من سلف) عليك
بطريقتهم الزمها وال تتركها (وإن رفضك الناس) وإن تبرأ منك النَّاس وإن
تركوك ،وإن حذروا منك ،وإن رموك بما رموك به ،كل هذا ال تبالي به ،فإن كنت
على الجادة فسيعزك هللا سبحانه و تعالى ،وينصرك ويرفعك ،قال ( :وإياك وآراء
ي هللا عنهم يوصون باألخذ بكتاب هللا وسنة رسوله
الرجال) كما كان السلف رض َّ
صلى هللا عليه وسلَّم واتباع منهج السلف ،كانوا ِ
يحذرون من اآلراء ،فالرأي العقلي
من أعظم ما يفسد االتباع ويضاده ،خالف في ذلك أهل الرأي في الفقه وأهل
1ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفات ( ،)116/1وفي كتابه الصالة وأحكام تاركها (.)159/1
42
الكالم في االعتقاد ،فكلهم اعتمدوا على رأيهم في الدين ،وبقي على الجادة أهل
الحديث ،قال ( :وإن زخرفوه لك بالقول) وإن زينوه لك باللسان الجميل فال تبالي
به وال تنظر إليه بما أنه رأي خار ٌج من الرجال فال تنظر إليه ،فالعبرة بقول هللا،
وقول رسول هللا صلى هللا عليه و سلَّم ،وقول أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه
وسلَّم والقرون الثالثة األولى كلها التي كانت على الجادة ،و كان الحق فيها ظاهرا
قويا منتشرا ،التي قال فيها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم « :خير النَّاس قرني ث ُ َّم الذين
()1
يلونهم ،ث ُ َّم الذين يلونهم»
ث ُ َّم ذم القرون التي بعد ذلك ،وإذا نظرت إلى منهج السلف في هذه القرون الثالثة،
خفاء. وال فيه غباش ال صافيا نقيا واضحا تجده
انظر وصيتهم كلهم واحدة ال تختلف ،خالصتها االتباع وترك االبتداع .
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقال محمد بن عبد الرحمن األدرمي لرجل تكلم
ببدعة ودعا الناس إليها :هل علمها رسول للا صلى للا عليه وسلم وأبوبكر
وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟) انظر اآلن يريد أن يجادله بإاللزام ،ويقول:
ما هذه البدع التي تدعو إليها ؟ تدعو إلى القول بخَلق القرآن ،هل القول ب َخلق
القرآن علمه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وأبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي هللا
عنهم أم لم يعلموه؟ قال :لم يعلموه!
انظر كيف وصلت البدعة بهم إلى أي درجة ،وصلت بهم إلى أن يدعوا أنهم علموا
أشياء لم يعلمها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وهو المبلغ عن هللا دينه.
قال ( :فشي ٌء لم يعلمه هؤالء ،أعلمته أنت؟) ،انت َبهَ الرجل لعظم ما قال وفساده،
فقال« :فإني أقول قد علموها) تراجع ،قال( :أفوسعهم أن ال يتكلموا به وال يدعوا
1سبق تخريجه.
43
الناس إليه أم لم يسعهم؟) ،إن قال نعم ،قلنا له :هات ،أين كالمهم؟ ولكنه قال( :
بل وسعهم) ،وسعهم أن يسكتوا عن كل هذا ،قال ( :فشيء وسع رسول للا صلى
للا عليه وسلم و خلفائه ال يسعك أنت؟) فانقطع الرجل ،يعني ألزمه باالتباع في
السكوت ،فكما سكتوا كان واجبك السكوت ،فلو كان ما تكلمت به حقا واجبا
لسبقوك إليه ،فهم أعلم وأحرص على الخير منك ،فقال الخليفة -وكان حاضرا :-
(ال وسع للا على من لم يسعه ما وسعهم).
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول للا صلى للا
عليه وسلم و أصحابه والتابعين لهم بإحسان واألئمة من بعدهم والراسخين في
العلم من تالوة آيات الصفات ،وقراءة أخبارها ،وإمرارها كما جاءت ،فال وسع
للا عليه) ،هذا تقعيد و تأصيل من المؤلف رحمه هللا تعالى لعقيدة أهل السنة
والجماعة في األسماء والصفات ،اعتمد في تقرير ذلك على الكتاب والسنة و
ي هللا عنهم ،هذا هو الذي نحن عليه ،و بهذا انتهى من التقعيد و
منهج السلف رض َّ
التأصيل و سيبدأ المؤلف رحمه هللا تعالى بذكرالصفات التي وردت في الكتاب و
السنة.
44
المتن
قال المؤلف رحمه هللا :فم َّما جاء من آيات الصفات قول هللا عزوجل { :ويبقى وجه
ربك} [الرحمن]27 :
وقوله تعالى إخبارا عن عيسى عليه السالم أنه قال { :تعلم ما في نفسي وال أعلم
ما في نفسك} [المائدة]116 :
45
الشرح
قال المؤلف رحمه هللا تعالى ( :فمما جاء من آيات الصفات قول للا عزوجل }
ويبقى وجه ربك ذو الجالل وإالكرام {( [الرحمن ،]27 :في هذه اآلية إثبات صفة
الوجه هلل تبارك وتعالى ،فنثبته له؛ألنه أثبت هذه الصفة لنفسه في كتابه وفي سنة
رسوله صلى هللا عليه وسلَّم على حقيقتها ،وال نعطلها كما يفعل أهل التعطيل ،كيف
يفسرون الوجه بالذات ،وال يثبتون هلل وجها حقيقيا ،قالوا :الوجه موجود
يعطلونها؟ ِ
في المخلوق ،من صفاته ،فإذا أثبتنا الوجه للخالق شبهنا الخالق بالمخلوق ،وهذا
يلزم منه النَّقص ،فنقول لهم :هذا ال يلزم ،ال يلزم من إثبات وجه هلل تبارك وتعالى
أن وجهه يشبه وجه المخلوق ،فوجه هللا يليق بجالله وعظمته ،ووجه المخلوق يليق
به وبنقصه ،فال يلزم من كون المخلوق له وجه وهللا سبحانه وتعالى له وجه؛ أن
يكون الوجه كالوجه.
فنحن نثبت صفة الوجه هلل تبارك وتعالى كما يليق بجالله وعظمته؛ لقوله تبارك
وتعالى }:ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام {[الرحمن ،]27 :من غير تمثيل؛
لقول هللا تبارك وتعالى}:ليس كمثله شيء{[الشورى ،]11/ومن غير تكييف؛
لقوله تبارك وتعالى}:وال يحيطون به علما ً{[طه ،]110/وهكذا القول في جميع
الصفات ،هذا هو التأصيل السني السلفي ،وقد كان السلف رضي هللا عنهم يقرأون
يحرفها أحد منهم كما يفعل أهل الكالم ،ولم
ويمرونها كما جاءت ،ولم ِ
ِ هذه اآليات
يخرج بها عن معناها الحقيقي ،فنحن نفعل كما فعلوا ،ولو كان في هذا محذور ،أو
يلزم منه معنى باطلة لبيَّنه السلف وما سكتوا عنه.
قال المؤلف رحمه للا تعالى) :وقوله سبحانه وتعالى }:بل يداه مبسوطتان{)
[المائدة ،]64/في هذه اآلية إثبات صفة اليدين هلل تبارك وتعالى ،وكذلك في قول
46
هللا تبارك وتعالى }ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي{[ص ،]75/خلق آدم بيديه
سبحانه وتعالى ،وأما بقية المخلوقات إال ما استثني؛ فقال لها :كوني فكانت.
أهل التعطيل يقولون :معنى اليد :النِعمة أو القدرة ،فقالوا في آدم :خلقه بقدرته،
سروا اليد بمعنى القدرة ،فرد عليهم أهل السنة ،فقالوا :ما الفرق إذن بين آدم
فف َّ
وبقية الخلق؟!
منعهم من إثبات حقيقة اليدين هلل تبارك وتعالى زعمهم أن إثبات اليدين هلل تبارك
وتعالى يلزم منه التشبيه ،إذ إن البشر لهم أيد ،فإذا أثبتنا اليد للخالق وأثبتنا للمخلوق
اليد فقد شبهنا هللا بخلقه ،وهذا باطل ليس بصحيح ،نقول لهم في إثبات اليد هلل
سبحانه وتعالى :نثبت يدا تليق بجالله وعظمته ،والمخلوق له يد تليق به وبنقصه.
قولوا في اليد كما قلتم في الذات ،انتبه لهذه النقطة ،قولوا في اليد وبقية الصفات
كما تقولون في الذات.
هل هلل ذات أم ال؟ له ذات ،يقرون هم بذلك ،هل للمخلوق ذات أم ال؟ له ذات ،هل
ذات هللا كذات المخلوق؟ ال ،هللا له ذات تليق به ،والمخلوق له ذات تليق به.
47
فنقول لهم :قولوا في الصفات كما تقولون في الذات.
وكما تقولون في الوجود كذلك ،هل هللا موجود أم ليس موجودا؟ موجود ،العبد
موجود أم ليس موجودا؟ موجود ،هل وجود هللا كوجود العبد؟ ال ،إذن قولوا في
بقية الصفات كذلك ،ما الذي جعلكم تثبتون هذا وتقولون ليس فيه تشبيه ،وتنفون
ذاك وتقولون فيه تشبيه؟! ليس لكم حجة على ذلك ،وكذلك القول في بعض
الصفات كالقول في البعض اآلخر ،الذين يثبتون هلل صفة السمع والبصر واإلرادة
والقدرة والحياة ،وينفون بقية الصفات نلزمهم بهذا ،نقول لهم :لماذا أثبتم هذه ونفيتم
تلك؟ إذا كان إثبات هذه يلزم منه التشبيه فإثبات تلك كذلك ،وإذا إثبات هذه ال
يلزمه منه التشبيه فكذلك تلك إذ ال فرق صحيح ،وهذا من تناقضكم ،لكن الحق َّ
أن
هذا إثباته ال يلزم منه التشبيه ألبتة ،فصفات الخالق تبارك وتعالى تليق بجالله
وعظمته وكماله ،وصفات المخلوق تليق به وبنقصه.
ثم قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقوله تعالى إخبارا ً عن عيسى عليه السالمأنه
قال } تعلم ما في نفسي وال أعلم ما في نفسك{)[المائدة ،]116 :هذه اآلية فيها
إثبات صفة النَّفس هلل سبحانه وتعالى ،وهي كقوله تبارك وتعالى }:كتب ربكم على
نفسه الرحمة{[األنعام ]54 :فأثبت النَّفس لنفسه ،وعيسى أثبت لنفسه نفسا وأثبت
هلل نفسا ،ولم ينكر هللا تبارك وتعالى هذا القول ،وال يلزم من ذلك َّ
أن نفس عيسى
رب عيسى . تشبه نفس هللا سبحانه وتعالى ،كما َّ
أن ذات عيسى ال تشبه ذات ِ
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وقوله سبحانه} وجاء ربك{[الفجر ،]22 :وقوله
تعالى} هل ينظرون إال أن يأتيهم للا{)[البقرة{ ،]210 :وجاء ربك} فيها إثبات
صفة المجيء ،وهي صفة فعلية ،يفعلها هللا متى شاء ،فالصفات التي تتعلق
بالمشيئة تكون من الصفات الفعلية ،وكذلك في قوله تبارك وتعالى ( هل ينظرون
48
إال أن يأتيهم للا) هذا يوم يأتيهم هللا سبحانه وتعالى لفصل القضاء يوم القيامة ،هذه
الصفة -صفة اإلتيان -صفة فعلية.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقوله تعالى} رضي للا عنهم ورضوا
عنه{)[المائدة ،]119 :هذه آية من آيات الصفات ،نثبت بها صفة الرضا هلل تبارك
وتعالى ،وهي من الصفات الفعلية التي نثبتها كما أثبتها هللا تبارك وتعالى في
كتابه ،لماذا نثبتها؟ ألن هللا تبارك وتعالى أثبتها لنفسه ،لماذا نحملها على حقيقتها؟
ألنه لم يرد ما يدل على عدم الحقيقة ،ولماذا نقول :ال نعلم كيفيتها؟ ألن هللا لم
يخبرنا بذلك ،ولقول هللا تبارك وتعالى}وال يحيطون به علما ً{[طه ،]110 :هذه
هي األُصول.
49
ثم قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقوله تعالى} يحبهم ويحبونه{) [المائدة،]54/
هذه اآلية فيها صفة المحبة ،فننثبت أن هللا يحب ،نثبت له صفة المحبة ،وهي صفة
فعلية أيضا ،نثبتها هلل كما يليق بجالله وعظمته ،ال نشبهها بصفات المخلوق ،محبة
العبد محبة تليق به وبنقصه ،ومحبة هللا محبة تليق بعظمته وجالله.
إذن فننفي أن تكون صفة هللا مثل صفة عبده ،فمن قال :يد كيد ،نقول له :مبتدع،
ضال منحرف ،ومن قال :كيفية يد هللا تبارك وتعالى كذا وكذا ،قلنا له :أنت مبتدع
ضال ،كما قال اإلمام مالك رحمه هللا تعالى« :االستواء معلوم ،والكيف مجهول،
واإليمان به واجب ،والسؤال عنه بدعة» ،إذن ،نقول } :يحبهم ويحبونه{ ،يحبهم
محبة تليق بجالله وعظمته ،فنثبت له صفة المحبة.
50
هذا كله نتائج ولوازم وليست هي الحقيقة ،حقيقة الغضب تختلف عن حقيقة
االنتقام ،فالواجب هو إثبات الصفة على حقيقتها ،إن قلت :ال ،هي بمعنى االنتقام،
قلنا لك :هات ،أثبت الدليل ،هذا خالف ظاهر النَّص ،ونرد عليهم بقول هللا
تعالى}فلما آسفونا انتقمنا منهم{[الزخرف ]55 :إذ إ َّن هذه اآلية قوية في الرد
على أهل البدع ،وعلى تفسيرهم الغضب باالنتقام ،ماذا قال تبارك وتعالى؟ } فلما
آسفونا انتقمنا منهم{ أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم ،فكانت نتيجة اإلغضاب
االنتقام ،ففرق بين الغضب واالنتقام.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقوله تعالى}اتبعوا ما أسخط للا{)[محمد،]28 :
هذه اآلية فيها إثبات صفة الس ْخط هلل تبارك وتعالى أوال َّ
سخَط ،يجوز هذا وهذا،
والس ْخط أو(ال َّ
س َخط) نقيض الرضا ،والغضب شدة السخط ،هذا بمقتضاه اللغوي،
ونحن نثبت هلل سبحانه وتعالى هذه الصفة كما أثبتها لنفسه من غير تشبيه ،وال
حرفها أهل التعطيل إلى االنتقام ،ألنها
تكييف ،ومن غير تحريف وال تعطيلَّ ،
فحرفوها بنفس التحريف ،فنقول لهم كما قلنا في البداية ،األصل
َّ كصفة الغضب
الحقيقة ،إن كنت تريد أن تؤول فعليك بالدليل.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقوله تعالى} كره للا انبعاثهم{)[التوبة،]46 :
هذه اآلية فيها إثبات صفة الكره ،صفة نثبتها هلل تبارك وتعالى كما يليق بجالله
وعظمته ،فسرها أهل التعطيل باإلبعاد ،فقالوا :إ َّن معنى } كره للا انبعاثهم{:أي
أبعدهم ،هذا تفسير بالالزم ،أي بالنَّتيجة ،وقلنا لهم :األصل الحقيقة حتى تثبت
أن الحقيقة غير مرادة ،عندئذ نسلَّم لك وإال فال.
الدليل على َّ
51
المتن
قال المؤلف رحمه هللا تعالى :ومن السنة قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم « :ينز ُل
(.)1
ماء الدنيا»
ربنا– تبارك وتعالى– كل ليلة إلى س ِ
(.)2
صبوة ٌ» ْ
ليست له َ ب
ب ربك إلى الشا ِ
وقوله « :يَع َج ُ
وقوله صلى هللا عليه وسلَّمَ « :يضحكُ هللاُ إلى رجلين قت َل أحد ُهما اآل َخر ،ث ُ َّم يدخالن
(.)3
الجنَّة»
الشرح
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :ومن السنة قول النبي صلى للا عليه وسلم« :
ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا») ،هذا الحديث فيه إثبات صفة
النزول هلل تبارك وتعالى ،فنقول :ينزل هللا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا نزوال
حقيقيا يليق بجالله وعظمته من غير تحريف وال تعطيل ،وال تكييف وال تمثيل،
هذه قاعدة أهل السنة والجماعة في التعامل مع نصوص الصفات.
1أخرجه البخاري( ،)1145ومسلم( )758من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه.
2أخرجه أحمد برقم ( ،)17371وأبو يعلى في مسنده( ،)1749والطبراني في الكبير( )853من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي هللا عنه.
3أخرجه البخاري ( ،)2826ومسلم( )1890من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه.
52
قال شريك وإسحاق بن راهويه وهما إمامان من أئمة أهل السنة ،من أئمة السلف
رضي هللا عنهم ،عندما ذكر لهما حديث النزول ،قاالَّ « :
إن الذين جاءوا بهذه
َّ
وبأن الصلوات خمس ،وبحج البيت ،وبصوم األحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن،
()1
هذا تقرير السلف لهذه الصفة، رمضان ،فما نعرف هللا إال بهذه األحاديث»
وعندما قال أحد األمراء وهو يناظر إسحاق بن راهويه في هذا األمر ،قال له:
ويخلو من العرش؟ أراد أن يورد عليه إشكاال ،فقال :أويخلو منه العرش؟ قال له
إسحاق بن راهويه :ويجوز أن ال يخلو منه أم ال يجوز؟ قال :نعم ،قال :إذن فمالك
ولهذا؟
قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم « :ينزل ربنا» ،ماقال يخلو العرش منه وال قال ال
يخلو منه العرش ( ،)2فنسكت عما سكت عنه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم.
53
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقوله :يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة)
هذا الحديث فيه إثبات صفة العَ َجب هلل سبحانه وتعالى ،ولكن هذا الحديث ضعيف
أعله غير واحد من أهل العلم بابن لهيعة ،وابن لهيعة ضعيف.
ولكن يغني عنه في إثبات هذه الصفة قول هللا تبارك وتعالى }بل عجبت
عجبت ويسخرون} بفتح
َ ويسخرون{[الصافات ،]12 :قراءة حفص جاءت {بل
تاء عجبت ،وجاءت أيضا قراءة :بضم التاء {بل عجبتُ ويسخرون} ،وكال
المعنيين صحيح ،بل عجبتُ ويسخرون أي عجب هللا تبارك وتعالى ،ففيه إثبات
صفة العَ َجب هلل تبارك وتعالى ،وكذلك قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم « :قد عجب
هللا من صنيعكما بضيفكما الليلة» قاله النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم لرجل من
الصحابة وزوجته ،استضافا رجال ،ولم كان عندهما من الطعام ما يكفي ،فأطفآ
السراج وقدَّما الطعام ،وأوهما الرجل أنهما يأكالن ،فأكل الطعام ونام هنيئا قرير
ض ْي ِف ُك َما
صنِي ِع ُك َما بِ َ العين ،فقال لهما النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم« :قَ ْد َع ِج َ
ب هللاُ ِم ْن َ
اللَّ ْيلَةَ» (.)1
َّللاُ ِم ْن قَ ْوم
ب َّ وأيضا جاء في الصحيح قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّمَ « :ع ِج َ
سالَ ِس ِل»( ،)2وهذا الحديث في صحيح البخاري فيه إثبات صفة َي ْد ُخلُونَ ال َجنَّةَ ِفي ال َّ
العجب هلل تبارك وتعالى.
أنكر هذه الصفة قوم ،وقالوا :ال يعجب إال من لم يعلم ،فعندما علم تعجب ،فيكون
في إثباتها إثبات الجهل ،وهذا ال يجوز على هللا سبحانه وتعالى ،إذن ال يجوز أن
نوصف هللا سبحانه وتعالى بالعجب ،لكن رد عليهم أهل السنة وقالوا :فهمكم
للعجب خطأ إذ أنكم أدركتم نوعا من أنواع العجب وفاتكم اآلخر ،فالعجب نوعان
( )1اخرجه البخاري( )4889ومسلم( )2054واللفظ له ،من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه .
( )2أخرجه البخاري برقم( )3010من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه .
54
وليس نوعا واحدا :األول :هو الذي ذكرتموه ،وهللا تبارك وتعالى منزه عنه ال شك،
وال يوصف هللا سبحانه وتعالى بهذا العجب.
أما الثاني وهو الذي يوصف هللا تبارك وتعالى به ،هو :أن يخرج الشيء عن
نظائره فتتعجب لذلك ،مثال يكون عندك صبي صغير ،هذا الصبي يتكلم ويحسن
الكالم وأنت تعلم أنه قادر على النطق بجملة معينة ،ولكن العادة جرت على أن
مثله م َّمن هم في سنِه ال يتكلمون بهذه الجملة ،فعندما تخاطبه ويكلمك بها تندهش
وتتعجب من خروجها منه ،فأنت تعلم مسبقا أنه قادر على قولها أم ال تعلم؟ تعلم،
فالتعجب لماذا حصل؟ ألن هذا الصبي عندما نطق بهذه الجملة خرج عن نظائره
من األوالد الذين ال يتكلمون بهذه الجملة ،خروج الشيء عن نظائره هو الذي
حصل بسببه التعجب ،وهو الذي يوصف به هللا سبحانه وتعالى ،وهلل المثل األعلى.
إذن عندما صنع هذا الصحابي وامرأته ما صنعا مع ضيفهما ،كان يعلم هللا تبارك
وتعالى أنهما سيفعالن مع ضيفهما ما فعال ،كان يعلم ذلك ،لكن ل َّما كان ذلك في
العادة ال يحصل حصل التعجب.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ) :وقوله :يضحك للا إلى رجلين قتل أحدهما اآلخر
ثم يدخالن الجنة( هذا حديث متفق عليه وتتمته « :يقاتل هذا في سبيل هللا فيقتل ،ث ُ َّم
يتوب هللا على القاتل فيستشهد» ،فيضحك هللا سبحانه وتعالى إلى رجلين قتل
أحدهما اآلخر ث ُ َّم يدخالن الجنَّة ،يكون أحدهما كافرا ،فيلتقيان في المعركة ،فالكافر
يقتل المسلم ،ث ُ َّم يتوب إلى هللا فيسلم ،فيدخل هذا الجنَّة ويدخل اآلخر الجنَّة،
يضحك هللا سبحانه وتعالى من هذين ،هذا فيه إثبات صفة الضحك هلل تبارك
وتعالى كما يليق بجالله وعظمته ،كما ذكرنا وكما هو مقرر؛ من غير تكييف وال
تعطيل وال تمثيل وال تحريف.
55
سروا هذه الصفة -صفة الضحك -بالثواب ،قالوا :يضحك هللا
أما أهل التعطيل فف َّ
إلى الرجلين أي يثيبهما هللا سبحانه وتعالى ،أي أنه سيدخلهما الجنَّة ،وسيثيبهما،
ذاك على جهاده في سبيل هللا واستشهاده ،واآلخر على إسالمه وتوبته إالهلل تبارك
وتعالى ،ومن ث ُ َّم استشهاده ،فف َّ
سروا الضحك باإلثابة ،وهذا تفسير بالنَّتيجة،
فالضحك شيء واإلثابة شيء آخر ،إذن هو ليس تفسيرا بالحقيقة ،إنما هو تفسير
بالنَّتيجة ،وهذا ال يصح ،فهو تأويل وصرف للَّفظ عن ظاهره وعن حقيقته لغير
دليل صحيح ،فهو مردود على أصحابه ،والتالعب بهذه الطريقة في صفات هللا
تبارك وتعالى بدعة منكرة مردودة على صاحبها.
ثم قال رحمه للا تعالى ( :فهذا وما أشبهه مما صح سنده) ،فهذه األحاديث التي
ذكرها والصفات المذكورة فيها وكل حديث ص َّح سنده ( ،وعدلت رواته؛ نؤمن به
وال نرده وال نجحده) ال نكذب به (وال نتأوله بتأويل يخالف ظاهره) كما تفعل
المعطلة (وال نشبهه بصفات المخلوقين) فنقول :هللا سبحانه وتعالى يضحك ضحكا
ِ
يليق بجالله وعظمته ،ال يشبه ضحك المخلوقين ،يعجب عجبا يليق بجالله
وعظمته ال يشبه عجب المخلوقين ،ينزل نزوال يليق بجالله وعظمته ال كنزول
المخلوقين ...إلى آخره.
نشبهه
(وال بسمات المحدثين) السمة هي العالمة ،والمحدث هو المخلوق ،أي ال ِ
بصفات المخلوقين ،بمعنى الجملة التي قبلها ( ونعلم أن للا سبحانه وتعالى ال
شبيه له وال نظير) أي وال مثيل ( لقول للا تبارك وتعالى }ليس كمثله شيء وهو
السميع البصير{) ،هذه اآلية أصل في نفي التمثيل وإثبات األسماء والصفات هلل
تبارك وتعالى.
56
والتمثيل أو على تسمية البعض التشبيه :أن تقول :له يد كيدي ،ووجه كوجهي،
وعين كعين فالن من المخلوقين ،هذا تشبيه وهو باطل ومحرم ،وقد نهى هللا
سبحانه وتعالى عنه.
والتعطيل :أن تنفي حقيقة الصفة التي أثبتها هللا لنفسه ،فيقول النَّبي صلى هللا عليه
وسلَّم « :يضحك» ،وأنت تقول :ال يضحك بل يثيب ،يقول « :له يدان» ،وأنت
تقول :ال يدان له ،وإنما معنى ذلك النِعمة أو القدرة ،أو يقول هللا سبحانه وتعالى له
عينان ،تقول :ال عينان له ،بل هو بالحفظ إلى آخره ،فهذا كله باطل ال يجوز فعله،
والواجب الوقوف مع الصفة وإثباتها كما أثبتها هللا تبارك وتعالى لنفسه أو كما
أثبتها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم هلل تبارك تعالى.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن
للا تعالى بخالفه) كل ما تصوره الذهن أي العقل أو خطر على القلب َّ
بأن هللا
سبحانه وتعالى مثله ،فهو باطل َّ
فإن هللا تبارك وتعالى بخالفه وليس مثله ،وال
يجوز هذا التصور أو هذا التخيل؛ ألننا ال نعلم عن هللا تبارك وتعالى إال ما علَّمنا
هللا تبارك وتعالى عن نفسه ،فالعلم باهلل سبحانه وتعالى أمر غيبي ،ألننا لم نره
سبحانه وتعالى ،فال يجوز إذن أن نتكلم في شيء ال نعلمه ،وما أخبرنا عن نفسه
أثبتناه له ،وما سكت عنه سكتناه عنه ،وما نفاه عن نفسه نفيناه عنه سبحانه
وتعالى ،هذا هو الواجب.
المتن
57
اء}[الملك. ]16 : وقوله تعالى{ :أَأ َ ِم ْنت ُ ْم َم ْن فِي ال َّ
س َم ِ
وقول النبي صلى هللا عليه وسلم « :ربنا هللا الذي في السماء تقدس اسمك».
وقال للجارية« :أين هللا؟» قالت :في السماء .قال« :أعتقها فإنها مؤمنة» رواه
مالك بن أنس ،ومسلم ،وغيرهما من األئمة.
وقال النبي صلى هللا عليه وسلم لحصين« :كم إلها تعبد؟» قال سبعة ،ستة في
األرض وواحدا في السماء .قال« :من لرغبتك ورهبتك؟» قال :الذي في السماء،
قال« :فاترك الستة واعبد الذي في السماء ،وأنا أعلمك دعوتين» ،فأسلم ،وعلمه
النبي صلى هللا عليه وسلم أن يقول « :اللهم ألهمني رشدي ،وقني شر نفسي».
وفيما نقل من عالمات النبي صلى هللا عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة:
أنهم يسجدون باألرض ويزعمون أن إلههم في السماء.
وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال« :إن ما بين سماء إلى
سماء مسيرة كذا وكذا .». . .وذكر الخبر إلى قوله« :وفوق ذلك العرش ،وهللا
سبحانه فوق ذلك».
فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم هللا على نقله وقبوله ،ولم يتعرضوا لرده
وال تأويله ،وال تشبيهه ،وال تمثيله.
58
معقول ،واإليمان به واجب ،والسؤال عنه بدعة .ثم أ َ َمر بالرج ِل فأ ُ ِ
خرج(.)1
الشرح
ث ُ َّم قال المؤلف رحمه هللا تعالى( :ومن ذلك قوله تعالى}الرحمن على العرش
استوى{) ،أي من الصفات أيضا التي يجب أن نثبتها هلل تبارك وتعالى صفة العلو،
هنا بدأ المؤلف رحمه هللا تعالى بذكرالصفات الثالثة التي اشتدَّ النِزاع فيها بين
أهل السنة وأهل البدعة ،هذه الصفات الثالثة من أعظم الصفات الفارقة ما بين
أهل السنة وأهل البدع ،وهي :صفة العلو ،وصفة الكالم ،وصفة رؤية هللا تبارك
وتعالى يوم القيامة.
هذه الصفات الثالثة خالف فيها أهل البدع المعطلة من الجهمية والمعتزلة
واألشاعرة؛ أهل السنة والجماعة.
علوهللا تبارك وتعالى على خلقه علو ذات ،وعلو مكانة ،كله
الصفة األولى :صفة ِ
نثبته هلل تبارك وتعالى ،أهل البدع يثبتون علو المكانة وال يثبتون علو الذات،
والعلو ثابت بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة حتى قال بعض أهل العلم « :عندي ألف
علو هللا على خلقه» ألف دليل ،وألف في ذلك بعض أهل العلم مصنفات
دليل على ِ
منها كتاب « العلو» لإلمام الذهبي رحمه هللا تعالى ،ومنها أيضا « :صفة العلو»
البن قدامة مؤلف هذا الكتاب ،وهما كتابان نفيسان ،وكتاب العلو للذهبي اختصره
اإلمام األلباني رحمه هللا تعالى في مختصر نافع طيب حذف منه اآلثار واألحاديث
الضعيفة وأبقى ما صح من ذلك.
( )1اخرجه الاللكائي في شرح اصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم ( ،)664والدارمي في ادلر على الجهمية برقم ( ،)104والبيهقي في األسماء والصفات برقم
( ،)867واإلمام أبو اسماعيل الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص( ،)38وانظر مختصر العلو لإلمام األلباني صفحة (.)141
59
فعلوهللا تبارك وتعالى بنصوص كثيرة.
منها ما ذكره المؤلف رحمه هللا تعالى( ،قال للا تبارك وتعالى}:الرحمن على
العرش استوى{([طه( ،]5 :الرحمن) هو رب العزة تبارك وتعالى ( ،على
العرش) العرش في اللغة هو سرير الملك ،وهو عرش عظيم هلل تبارك وتعالى له
قوائم ،تحمله المالئكة ،وهو أعلى المخلوقات وسقف الجنَّة ،فوق الفردوس األعلى
الذي هو أوسط الجنَّة وأعالها ،والرحمن تبارك وتعالى استوى عليه أي عال
وارتفع ،عال وارتفع على عرشه كما جاء التفسير عن أبي العالية الرياحي وعن
مجاهد وغيرهم من السلف( ،)1فالرحمن على العرش استوى بمعنى عال وارتفع
على عرشه.
نثبت هلل تبارك وتعالى هذه الصفة وهي صفة العلو ،فاهلل سبحانه وتعالى عال
على خلقه بنصوص كثيرة ،منها هذه اآلية.
نعم يصح ،من ذلك قول هللا تبارك وتعالى عن فرعون} :وألصلبنكم في جذوع
النخل{[طه ]71 :التصليب يكون أين؟ على جذوع النَّخل.
60
وكذلك قول هللا تبارك وتعالى}:فسيحوا في األرض{[التوبة ،]2 :أي فسيحوا على
األرض ،إذن هذا أمر مقرر ومعروف في اللغة َّ
أن ( في ) تأتي بمعنى(على) فهو
من هذا الباب.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقول النبي صلى للا عليه وسلم « :ربنا للا الذي
في السماء تقدس اسمك )»...هذا حديث أخرجه أبوداود وغيره ،ولفظه« :من
اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل :ربنا هللا الذي في السماء تقدس اسمك،
أمرك في السماء واألرض ،كما رحمتك في السماء ،فاجعل رحمتك في األرض،
اغفر لنا ُحوبَنا وخطايانا أنت رب الطيبيين ،أنزل رحمة من رحمتك شفاء من
شفائك على هذا الوجع ،فيبرأ» كذا قال في الحديث ،ولكنه حديث ضعيف جدا ،في
إسناده زيادة بن محمد :منكر الحديث كما قال البخاري وأبو حاتم والنَّسائي
وغيرهم من العلماء ،فهذا الحديث ال يصح االستدالل به.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقال للجارية – أي النبي صلى للا عليه وسلم–
«أين للا؟» قالت :في السماء ،قال« :اعتقها فإنها مؤمنة» ،فشهد لها النَّبي صلى
هللا عليه وسلَّم باإليمان بقولها بأن هللا في السماء ،أي على السماء ،رواه مسلم في
صحيحه ،ولم يقدح في هذا الحديث إال أهل البدع والضالل الذين لم يعجبهم ما فيه
من معنى ،فأهل البدع مع حديث النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وضعوا لهم قواعد
تخدم مصالحهم فيها.
عندهم تقرير العقائد يكون بعقولهم ال بالكتاب والسنة ،فإذا خالفت السنة عقولهم؛
إما ضعفوها أو حرفوها ،هذه طريقتهم في التعامل معها ،وأما اآليات فيحرفونها؛
ألن األصل عندهم في تقرير العقيدة العقل ،وكل ما خالفه بعد ذلك يرد ال يُؤ َمن به،
61
هذا أعظم فارق بيننا وبينهم ،نحن نأخذ عقيدتنا من الكتاب والسنة الصحيحة وال
يمكن لهذه النصوص أن تخالف العقل الصريح إال في أوهام أصحاب األهواء فقط.
َّ
يقررون العقيدة بأدلة الكتاب والسنة ،والعقالنيون من فأما أهل السنة والجماعة
الجهمية والمعتزلة واألشاعرة يقررون العقيدة بما ينسجم مع عقولهم ،وما ال
ينسجم مع عقولهم ال يثبتونه ،فإذا تعارضت األدلة من نصوص الكتاب والسنة مع
ما ظنوه بعقولهم أنها عقليات ،وهي في الحقيقة جهليات وخياالت وشطحات من
عندهم ،فإذا تعارض هذا مع نصوص الكتاب والسنة ،ردوا نصوص الكتاب
والسنة ،فأما القرآن فيؤولونه كما تقدم معنا من تأويالتهم في الصفات ،أما السنة
فيقسمونها إلى قسمين :يقولون :منها ما هو متواتر ،ومنها ما هو آحاد ،أما المتواتر
ِ
يؤخذ به في العقائد ،وإذا خالف العقل يحرف ،وأما اآلحاد فال يؤخذ به في العقائد
عندهم ،هذا الذي يقررونه من اعتقاد ،وبذلك يتخلَّصوا من أكثر سنة النَّبي صلى
هللا عليه وسلَّم ،يقررون ما شاءوا بعقولهم ،إذا عارضتهم سنة قالوا :هذا خبرآحاد
ضعه على جنب ،أحسنهم حاال يقول :طيب فلنؤوله كما أولنا بقية األدلة من الكتاب
والسنة ،هكذا يتعاملون مع نصوص الشرع ،نسأل هللا السالمة والعافية ،وقد أمرنا
هللا تبارك وتعالى باألخذ بالشرع وباتباع منهج السلف الصالح ،وحثنا على ذلك في
كل شيء ،في آيات كثيرة ،وأن نتحاكم إليه عند الخالف ال إلى العقل ،ولكن هذه
نتيجة االعتماد على العقل والهوى ،وترك االتباع الذي أمر به هللا تبارك وتعالى.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقال النبي صلى للا عليه وسلم لحصين « :كم
إلها ً تعبد؟» قال :سبعة ،ستة في األرض وواحد في السماء ،قال« :من لرغبتك
ورهبتك؟» قال :الذي في السماء ،قال « :فاترك الستة ،واعبد الذي في السماء،
وأنا أعلمك دعوتين» ،فأسلم ،وعلمه النبي صلى للا عليه وسلم أن يقول« :اللهم
ألهمني رشدي وقني شر نفسي» هذا أخرجه الترمذي وغيره وهو ضعيف أيضا.
62
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وفيما نقل من عالمات النبي صلى للا عليه وسلم
وأصحابه في الكتب المتقدمة؛ أنهم يسجدون باألرض ،ويزعمون أن إلههم في
السماء) ،ذكره المؤلف بصيغة التمريض ،وهو ضعيف ،أخرجه األموي في
«المغازي» ،ومن طريقه أخرجه ابن قدامة في «العلو» ،وأخرجه الذهبي في
العلو» من طريق ابن قدامة ،وذكر إسناده عن عدي بن عميرة من قوله عنهم
« ِ
وليس من قول اليهودي ،قال« :عن عدي بن عميرة بن وفرة العبدي ،قال :كان
بأرضنا حبر من اليهود يقال له ابن شهالن ...فذكر الحديث نحوا مما تقدم ،وآخره:
فخرجت مهاجرا إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فإذا هو ومن معه يسجدون على
وجوههم ويزعمون أن إلههم في السماء فأسلمت وتبعته».انتهى قال الذهبي:
غريب.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وروى أبوداود في سننه أن النبي صلى للا عليه
وسلم قال « :إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا -وذكر الخبر إلى قوله
:-وفوق ذلك العرش ،وللا سبحانه فوق ذلك) ،هذا حديث العباس بن عبد المطلب
الذي فيه ذكر األوعال ،وهو حديث أخرجه أبوداود والترمذي وغيرهما وهو
ضعيف أيضا ،ولكن األدلة التي تدل على الع َّلو كثيرة ،وليت المؤلف أتى بما هو
أصح من هذه ،فيوجد في الصحيحين أحاديث أقوى وأجود من هذه األحاديث التي
ذكرها المؤلف رحمه هللا تعالى.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم للا
على نقله وقبوله ولم يتعرضوا لرده وال تأويله وال تشبيهه وال تمثيله)
نقل إجماع السلف على إثبات الصفات غير واحد من العلماء ،منهم ابن عبد البر
وغيره من علماء اإلسالم ،فالسلف مجمعون جميعا على إثبات مثل هذه الصفات،
63
ومنها :ثبوت علو الذات هلل ،وكونه في السماء ،أي أنه عال على خلقه بذاته تبارك
وتعالى ،فوق جميع خلقه بذاته تبارك وتعالى .
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :سئل اإلمام مالك بن أنس رحمه للا تعالى فقيل :يا
أبا عبد للا :الرحمن على العرش استوى ،كيف استوى؟ فقال« :االستواء غير
مجهول ،والكيف غير معقول ،واإليمان به واجب ،والسؤال عنه بدعة» ،ثم أمر
بالرجل فأخرج).
أي طرد من المجلس الذي فيه اإلمام مالك رحمه هللا تعالى ،اإلمام مالك معروف،
وشهرته أكثر من أن تذكر ،فهو إمام عظيم من أئمة أهل السنة والجماعة ،إمام أهل
المدينة في زمنه رحمه هللا تعالى.
وهذه القاعدة التي قعدها رحمه هللا هي أصل وقاعدة عظيمة مشى عليها السلف
جميعا ،جميع السلف كانوا عليها ،وهي قاعدة ينبغي للخلف أن يتقيدوا بها:
االستواء معلوم ،والكيف مجهول ،والسؤال عن الكيف بدعة ،ضع مكان االستواء
وامض
ِ كل صفة تثبت في كتاب هللا أو في سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم
على هذا.
(والكيف مجهول) كيفية االستواء ،أي كيف استوى هللا سبحانه وتعالى على
عرشه ،هذه مجهولة بالنسبة لنا ،فال نتكلم فيها وال نخوض فيها وال نسأل عنها،
الن هللا تبارك وتعالى لم يبينها لنا ،فال يوجد شيء في األدلة الشرعية يبينها لنا.
64
(والسؤال عنها بدعة) إذ لم يكن في عهد النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،وال كان في
عهد الصحابة رضي هللا عنهم ،بهذه القاعدة نمشي على منهج السلف رضي هللا
تبارك وتعالى عنهم.
65
المتن
ومن صفات هللا تعالى أنه متكلم بكالم قديم يسمعه منه من شاء من خلقه ،سمعه
موسى عليه السالم منه من غير واسطة ،وسمعه جبريل عليه السالم ،ومن أذن له
من مالئكته ورسله ،وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في اآلخرة ويكلمونه ،ويأذن لهم
فيزورونه.
سى سى ت َ ْك ِليما} [النساء ]164 :وقال سبحانه{ :يَا ُمو َ {و َكلَّ َم هللا ُمو َ
قال هللا تعالىَ :
س َاالتِي َو ِب َك َال ِمي} [األعراف ]144 :وقال سبحانه: اس ِب ِر َطفَ ْيت ُ َك َعلَى النَّ ِص َ
ِإنِي ا ْ
{م ْن ُه ْم َم ْن َكلَّ َم هللا} [البقرة ]253 :وقال سبحانهَ :
{و َما َكانَ ِل َبشَر أ َ ْن يُ َك ِل َمهُ هللا ِإ َّال ِ
ِي َيا اء ِح َجاب} [الشورى ]51 :وقال سبحانه{ :فَلَ َّما أَتَاهَا نُود َ َو ْحيا أ َ ْو ِم ْن َو َر ِ
طوى} [طه]12 - 11 : اخلَ ْع نَ ْعلَي َْك إِنَّ َك بِ ْال َوا ِد ْال ُمقَد َِّس ُ
سى * إِنِي أَنَا َرب َك فَ ْ ُمو َ
وقال سبحانهِ { :إنَّنِي أَنَا هللا َال ِإلَهَ ِإ َّال أَنَا فَا ْعبُ ْدنِي} [طه ]14 :وغير جائز أن يقول
هذا أحد غير هللا.
وقال عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه « :إذا تكلم هللا بالوحي سمع صوته
أهل السماء » ،وروي ذلك عن النبي صلى هللا عليه وسلم.
حشر هللا وروى عبد هللا بن أ ُنيس عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قالَ « :ي ُ
عراة حفاة غرال بهما ،فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما الخالئق يوم القيامة ُ
الملك أنا الدَّيان» ،رواه األئمة ،واستشهد به البخاري. ب :أنا ِ يسمعه من قَ ُر َ
وفي بعض اآلثار أن موسى عليه السالم ليلة رأى النار فهالته ففزع منها ،فناداه
ربه :يا موسى ،فأجاب سريعا استئناسا بالصوت ،فقال :لبيك لبيك ،أسمع صوتك
وال أرى مكانك ،فأين أنت؟ فقال :أنا فوقك وأمامك وعن يمينك وعن شمالك ،فعلم
أن هذه الصفة ال تنبغي إال هلل تعالى ،قال :كذلك أنت يا إلهي ،أفكالمك أسمع ،أم
كالم رسولك؟ قال :بل كالمي يا موسى» .
66
هذه الصفة هلل تبارك وتعالى من أعظم الصفات التي نازع فيها أهل البدع
والضالل أهل السنة والجماعة ،بل قيلَّ :
إن المتكلمين لم يس َّموا بهذا اإلسم
(المتكلمون) إال نسبة لهذه الصفة ( صفة الكالم) ،فأهل السنة والجماعة ،يثبتون هلل
تبارك وتعالى كالما حقيقيا يليق بجالله وعظمته ،يتكلم سبحانه بحرف وصوت،
كالما حقيقيا بحرف وصوت على مقتضى األدلة التي جاءت في كتاب هللا ،وفي
سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،وهي كثيرة واضحة صريحة محكمة ،فال
يجوز الخروج عنها ،وال القول بقول يخالف ما دلت عليه.
خالف في ذلك الجهمية واألشاعرة؛ فالجهمية أتباع الجهم بن صفوان ينفون عن
هللا تبارك وتعالى صفة الكالم وال يثبتونها له ،يقولون :يخلق كالما ث ُ َّم يسمعه من
شاء من عباده.
أ َّما األشاعرة فإنهم يثبتون كالما ليس كالما َ حقيقيا ،بل يثبتون كالما نفسيا! وليس
كالما بحرف وصوت ،أي ليس الكالم الحقيقي الذي أراده هللا سبحانه وتعالى في
كتابه.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :ومن صفات للا تعالى) أي :مما يتصف به هللا
سبحانه وتعالى ،ومن الصفات التي نثبتها هلل تبارك وتعالى؛ لثبوتها في الكتاب
والسنة؛ صفة الكالم.
قال ( :ومن صفات للا تعالى أنه متكلم بكالم قديم) كالم هللا كما ذكرنا كالم حقيقي
بحرف وصوت ،وسيأتي دليل الحرف والصوت ،وهو قديم النوع حادث اآلحاد،
ونعني بهذه الجملة :قديم النَّوع :أي أصل صفة الكالم أزلية قديمة ،لم يأ ِ
ت وقت
من األوقات لم تكن موجودة ث ُ َّم وجدت ،بل هي موجودة من األزل أي القدم،
وتبقى موجودة ال يأتي وقت تزول فيه.
67
وهي صفة ذاتية فعلية أيضا ،فهي من حيث أصل الصفة أزلية قديمة ،أ َّما
بالنَّظرإلى آحاد هذه الصفة ،فهنا تكون حادثة ،أيَّ :
أن الكالم الذي يتكلم هللا تبارك
وتعالى به في وقت دون وقت ،أي آحاد كالمه؛ حادث ،ككالمه موسى عليه السالم
يوم أن كلمه هللا تبارك وتعالى ما كان موجودا قبل أن يكلم هللا موسى إنما حدث
بعد أن كلمه هللا سبحانه وتعالى ،فهذا الكالم يسمى آحادا لصفة الكالم.
هذا معنى قولنا :قديم النوع حادث اآلحاد .فمعنى ذلك أ َّن هللا سبحانه وتعالى
متصف بصفة الكالم ،دائما هو موصوف بهذه الصفة ،لكنه يفعلها متى شاء ،فيتكلم
بكالم حقيقي ،يتكلم به متى شاء وكيفما شاء سبحانه ،فهو راجع إلى مشيئته متى
شاء تكلم ،ومتى شاء لم يتكلم ،ولكن دائما نصفه بصفة الكالم .
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :يسمعه منه من شاء من خلقه ،سمعه موسى
عليه السالم منه من غير واسطة ،وسمعه جبريل عليه السالم ،ومن أذن له من
مالئكته و رسله)
يسمعه من هللا تبارك وتعالى من شاء هللا من خلقه ،فاهلل سبحانه وتعالى يُسمعه لمن
يشاء ،كما أسمعه لموسى عليه السالم ،فسمع موسى كالم هللا مباشرة من غير
ستم ْع لما واسطة ،قال الشيخ ابن عثيمين رحمه هللا :لقوله تعالى{ :وأنا ْ
اخت ْرتك فا ْ
يوحى} وأسمعه لمحمد صلى هللا عليه وسلَّم ،ولجبريل ومن شاء من مالئكته
ورسله ،فهو كالم حقيقي بحرف وصوت يسمعه من شاء من خلقه تبارك وتعالى.
بخالف من يقول بأنه كالم نفسي ،يعني هو معنى موجود في النفس ال يُسمع ،فال
يكون بحرف وصوت ،وال يتعلق بمشيئته ،هذا قول األشاعرة من المتكلمين ،هذا
خالف األدلة التي سيذكرها المؤلف التي تدل على أنه كالم حقيقي بحرف وصوت
يُسمع ،وخالف إجماع السلف .
68
قال( :وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في اآلخرة و يكلمونه) كما جاءت بذلك
صلَّى هللاُ سو ُل َّ
َّللاِ َ س ِعيد ال ُخ ْد ِريِ ،قَا َل :قَا َل َر ُ األحاديث الصحيحة ،كحديث أَبِي َ
ار َك َوت َ َعالَى َيقُو ُل ِأل َ ْه ِل ال َجنَّ ِةَ :يا أ َ ْه َل ال َجنَّ ِة؟ فَ َيقُولُونَ :لَبَّي َْك سلَّ َمِ « :إ َّن َّ
َّللاَ ت َ َب َ َعلَ ْي ِه َو َ
ضى َوقَ ْد أ َ ْع َ
ط ْيتَنَا َما لَ ْم ضيت ُ ْم؟ فَيَقُولُونَ َ :و َما لَنَا الَ ن َْر َ س ْعدَي َْك ،فَيَقُولُ :ه َْل َر َِربَّنَا َو َ
ش ْيء بَ ،وأَي َ ض َل ِم ْن ذَ ِل َك ،قَالُوا :يَا َر ِ ت ُ ْع ِط أ َ َحدا ِم ْن خ َْل ِق َك ،فَيَقُولُ :أَنَا أُع ِ
ْطي ُك ْم أ َ ْف َ
ط َعلَ ْي ُك ْم بَ ْعدَهُ أَبَدا»( )1متفق ض ُل ِم ْن ذَ ِل َك؟ فَيَقُولُ :أ ُ ِحل َعلَ ْي ُك ْم ِرض َْوانِي ،فَالَ أ َ ْس َخ ُ أ َ ْف َ
عليه.
(قال للا تعالى} :وكلم للا موسى تكليما ً{) [النِساء ( ،]162 :وكلم هللا موسى) هللا
هو المتكلم ( ،وكلم) فعل ،و( هللا) هو الفاعل أي هو المتكلم ،و(موسى) هو
السامع ،و(تكليما) مصدر مؤكد يؤكد الحقيقة وينفي المجاز كما قال أهل العلم،
فالتأكيد ينفي المجاز ،فبالتالي لم يعد عندنا مجال للشك أنه كالم حقيقي وليس
مجازا؛إذ أ َ َّكدَهُ بقوله :تكليما ،فجاء بكلمة (تكليما) لتأكيد كالمه لموسى.
وقد أشكلت هذه اآلية على بعض المحرفين من أهل التعطيل؛ فما وجد فيها حيلة
مع نفيه لصفة الكالم ،وكما قلنا :هم ال يعظمون كتاب هللا ،وال سنة رسول هللا
صلى هللا عليه وسلَّم ،إذ إنهم ال يأخذون عقائدهم من منها ،بل عقائدهم يقررونها
بعقولهم ،فلما أشكلت عليه هذه اآلية ماذا فعل؟ حرفها وأراد أن يقرأها ،فقال :وكلم
هللا -بفتح الهاء -موسى ،ماذا تصبح هكذا؟ جعل هللا هو السامع و موسى هو
( )2فقد روى الترمذي( )2569وابن ماجه( )4336وغيرهما عن أبي هريرة _ رضي هللا عنه _ :إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ،ث ُ َّم يؤذن لهم في
ابن أبي العشرين (السلسة الضعيفة .)1722 : مقدار يوم في يوم الجمعة من أيام الدنيا ،فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه . . .الحديث .ضعيف فيه عبد الحميد بن حبيب
69
()1
المتكلم! هذه البدع وما تجر إليه ،و كما قال بعض السلف« :البدعة بريد الكفر»
توصلك إلى الكفر ،فهي طريق إليه.
(يا موسى إني اصطفيتك على النَّاس) أي اخترتك من بينهم( ،برساالتي) فأرسلتك
إلى خلقي الذين أرسلتك إليهم( ،وبكالمي ) لك من غير واسطة ،فاصطفيتك على
النَّاس في ذلك ،فيه إثبات كالم هللا تبارك وتعالى لموسى ،وأن هللا اصطفاه بذلك.
(وقال سبحانه} :منهم من كلم للا{) (البقرة )253أي :من الرسل من كلمه هللا
وهو موسى و محمد صلى هللا عليه وسلَّم.
(وقال سبحانه :وما كان لبشر أن يكلمه للا إال وحيا ً أو من وراء حجاب {)
(الشورى )51أي :إما أن يكلمه هللا سبحانه وتعالى من غير واسطة ،و لكن من
وراء حجاب ،أو يعلمه إعالما خفيا سريعا.
(وقال سبحانه } :فلما أتاه نودي يا موسى* إني أنا ربك{( [طه ]12 ،11
فلما أتى موسى النار نودي يا موسى ،أي :ناداه رب العزة تبارك وتعالى ،وإال
فمن ذا الذي سيقول { :إني أنا ربك} ؟!
ال شك َّ
أن المتكلم بهذا هو هللا سبحانه وتعالى.
والنِداء ال يكون إال بصوت ،هذا دليل على أن كالم هللا بصوت.
ولهذا قال من قال من السلف :البدع بريد الكفر والمعاصي بريد النفاق. ( )2مجموع الفتاوي ، 2/552 :قال ابن تيمية:
70
قال المؤلف( :وقال سبحانه} :إنني أنا للا ال إله إال أنا فاعبدوني})[طه،]14 :
ثم قال المؤلف « :وغير جائز أن يقول هذا أحد غير للا».
من ذا الذي سيقول مثل هذا{ :إنني أنا للا ال إله إال أنا فاعبدون} ؟!
هذا رد قاطع على الذين يقولون بأن هللا ال يتكلم حقيقة ،أي مخلوق يقول هذا
الكالم( :إنني أنا هللا ال إله إال أنا)؟! تعالى هللا عما يقول الظالمون علوا كبيرا.هذا
الكالم ال يقوله إال هللا ،فاهلل يتكلم حقيقة بصوت سمعه موسى.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ) :وقال عبد للا بن مسعود رضي للا عنه ( وهو
الصحابي المعروف ) :إذا تكلم للا بالوحي ،سمع صوته أهل السماء .روي ذلك
عن النبي صلى للا عليه وسلم( ،))1الشاهد فيه قوله( :سمع صوته) إثبات الكالم
والصوت هلل تبارك وتعالى ،فاهلل يتكلم بصوت ،هذا الحديث أخرجه أبوداود وابن
سماء حبان وغيرهما بلفظَّ « :
إن هللا إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات لل َّ
صلصلة ك َج َّرالسلسلة على الصفا – أي على الصخر – فيصعقون فال يزالون كذلك
فزع عن قلوبهم ،فيقولون :يا جبريل ماذا قال
حتي يأتيهم جبريل ،فإذا جاءهم ِ
ربك؟ يقول :الحق ،فينادون :الحق الحق» وهو صحيح ،وأخرجه البخاري موقوفا
بلفظ « :سمع أهل السماوات شيئا».
( )1ذكره البخاري رحمه هللا تعالى معلقا في صحيحه ،موقوفا على ابن مسعود رضي هللا عنه :كتاب التوحيد،
قوله تعالى :وال تنفع الشفاعة عنده إال عن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قالوا ربكم قال الحق وهو
العلي الكبير .وروه أبو داوود في سننه مرفوعا عن ابن مسعود( .)7438وقد تفرد به أبو معاوية الضرير عن
األعمش؛ فالصحيح الموقوف ولكن هذا له حكم الرع؛ إذ ال مجال للرأي فيه .راجع السلسلة الصحيحة(.)1293
71
وأ َّما كلمة « سمع صوته أهل السماء» ففي نفس الحديث لكن بلفظ آخر ،احتج
به اإلمام أحمد على إثبات الصوت ،أخرجه عبد هللا بن اإلمام أحمد في السنة
بإسناده 1وأخرجه ابن بطة في اإلبانة الكبرى 2وغيرهما.
وكما ذكرنا احتج به اإلمام أحمد رحمه هللا تعالى ،وقال السجزي :وما في رواة هذا
الخبر إال إمام مقبول.3
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وروى عبد للا بن أنيس عن النبي صلى للا عليه
وسلم أنه قال « :يحشر الخالئق يوم القيامة عراةً حفاةً غرالً بهما ً ،فيناديهم
بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ،أنا الملك ،أنا الملك ،أنا الديان)
الشاهد في هذا الحديث قوله ( :فيناديهم بصوت) ،للتأكيد ،فالنِداء أصال يكون
النداء يكون بصوت ،لكن أراد أن يقول َّ
بأن الصوت بصوت ،فهنا تأكيد على أن ِ
هذا يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ،ال فرق بين البعيد والقريب في سماع هذا
الصوت.
هذا الحديث :حديث عبدهللا بن أنيس؛ حديث حسن ،علقه اإلمام البخاري رحمه هللا
تعالى في صحيحه ،ووصله اإلمام أحمد وغيره ،وهو حسن ،وفيه إثبات صفة
الصوت هلل تبارك وتعالى ،وإثبات صفة الكالم بصوت وحرف هلل تبارك وتعالى.
72
ثم قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وفي بعض اآلثار أن موسى عليه السالم ليلة
رأى هذه الصفة ال تنبغي إال هلل تعالى ،قال :كذلك أنت يا إلهي أفكالمك أسمع أم
كالم رسولك؟ قال :بل كالمي يا موسى())1
كله فيه الكالم والتنصيص على الصوت أيضا ،لكن هذا األثر يرويه وهب بن
منبه وهو معروف برواية اإلسرائيليات ،فهذا األثر من اإلسرائيليات،
واإلسرائيليات كما قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّمِ « :
حدثوا عن بني إسرائيل وال
تكذبوهم »(.)3
تصدقوهم وال ِ
ِ حرج »( ،)2وقال « :ال
فهذا األثر ال ندري عن ثبوته بإسناد صحيح ،فلذلك هو خبر كما ذكرنا من أخبار
نكذبها ،لكن ما ورد فيه من إثبات صفة الكالم
بني إسرائيل فال نصدقها وال ِ
وبالصوت أغنت عنه األدلة التي تقدمت ،واألثر أخرجه اإلمام أحمد في كتاب
الزهد عن وهب بن منبه فهو ضعيف ،لكن الظاهر َّ
أن المؤلف رحمه هللا تعالى
ذكره استئناسا من باب تكثير األدلة ،وإال ما ذكر من أدلة كاف في إثبات هذه
الصفة.
وعندما نثبت الصوت نرد على الذين يقولون بأن كالم هللا غير حقيقي ،بل هو كالم
نفسي ،وهم األشاعرة.
والمخالفون ألهل السنة في صفة الكالم كما قدمنا منهم الجهمية ،قالوا :ليس
الكالم من صفات هللا تبارك وتعالى ،وإنما هو خلق من مخلوقات هللا ،يخلقه في
الهواء أو في المحل الذي يسمع منه ،ويضاف إلى هللا سبحانه وتعالى إضافة
تشريف ،كما تقول في البيت :بيت هللا ،أو في النَّاقة :ناقة هللا سبحانه وتعالى ،هذا
قولهم وهو قول باطل.
( )2الزهد لإلمام أحمد( ،)342والشريعة لآلجري(. )692
( )3البخاري( )3461من حديث عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي هللا عنهما.
( )4أحمد ( ،)17225أبو داوود( )3644عن أبي نملة األنصاري رضي هللا عنه .
73
إضافة التشريف هذه ال تحمل إال على شيء يقوم بذاته كالكعبة ،والنَّاقة ،أ َّما إذا
كان الشيء وصفا ال يقوم بذاته ،وأضافه هللا سبحانه وتعالى لنفسه ،فيكون صفة
من صفاته.
وهم نفوا هذه الصفة فقالوا :ألن الكالم ال يكون إال لألجسام ،وإذا أثبتنا الكالم هلل
سبحانه وتعالى نكون قد شبهناه بالمخلوقات ،وهو كالم باطل ،هذا ما استدلوا به،
وسيأتي كالم األشاعرة.
وأ َّما الفرقة الثانية التي خالفت أهل السنة والجماعة في مسألة الكالم األشاعرة.
األشاعرة أثبتوا كالما هلل تبارك وتعالى ولكنه ليس كالما حقيقيا بحرف وصوت،
ويعبر عن كالمه الذي في
بل هو كالم نفسي ،يخلق هللا سبحانه وتعالى األشياءِ ،
نفسه بخلقه الذي خلقه ،هكذا يقررون ،وهذا كالم باطل ،بل هللا سبحانه وتعالى
يتكلم كالما حقيقيا بحرف وصوت ،ويسمعه من شاء من خلقه ،كما قدمنا األدلة
على ذلك من كالم المصنف رحمه هللا تعالى ،والذي حملهم على هذا أنهم قالوا:
بأن الكالم إذا أثبتناه يلزم أن نثبت اآلالت التي يحصل بها الكالم كاللسان والشفتين
والحلق ..إلى آخره.
قلنا :هذا الالزم ليس بالزم ،هذه إلزامات ناتجة أصال عن التشبيه عندكم ،شبهتم
كالم هللا سبحانه وتعالى بكالم المخلوق ،ث ُ َّم أردتم أن تفروا من التشبيه فوقعتم في
التعطيل.
74
فنقول لهم :أثبتوا هلل كالما يليق بجالله وعظمته وينتهي األمر.
ث ُ َّم نقول لهم :ليس كل من يتكلم يتكلم بآالت ،ليس كل من يتكلم يحتاج إلى آالت
الكالم التي عند البشر ،ثبت في الكتاب والسنة أن الجنَّة والنَّار تتكلمان أم ال()1؟
ثبت ،وثبت أيضا في الكتاب والسنة أن الحجر يتكلم ( )2أم ال؟ ثبت ،والشجر يتكلم
أم ال؟()3ثبت ،وتنطق أيضا أعضاء اإلنسان يوم القيامة وتشهد عليه أم ال؟( )4نعم.
فيحدث كالم ومن غير أن توجد هذه اآلالت ،فال حاجة لها فاهلل قادر على كل شيء
.
إذن ال يلزم للكالم وجود هذه اآلالت حتى عند المخلوق فما بالك بالخالق ،فلذلك
نحن نقول لهم :قولوا كما نقول :نثبت كالما هلل سبحانه وتعالى يليق بجالله
وعظمته ،وال يشبه كالم المخلوقين وينتهي األمر ،بذلك تفرون من التشبيه،
وتفرون أيضا من التعطيل ،وتقفون مع كتاب هللا وسنة رسول هللا صلى هللا عليه
وسلَّم ،وال تكذبون الشرع وال العقل الصحيح.
( )1قال تعالى يوم نقول لجهنَّم هل امتألت وتقول هل من مزيد[ق] وفي المتفق عليه عند البخاري ( )7559ومسلم ( )2846ومن حديث أبي هريرة رضي هللا عنه:
احتجت النَّار والجنة ،فقالت هذه :يدخلني الجبارون ،وقالت هذه يدخلني الضعفاء.
( )2قال تعالى :وإن من شيء إال يسبح بحمده[اإلسراء ،]44:وفي الحديث في قصة موسى عليه السالم عندما لحق موسى الحجر أخذ ينادي :ثوبي يا حجر:
ومن كالم هللا سبحانه القرآن العظيم ،وهو كتاب هللا المبين ،وحبله المتين،
وتنزيل رب العالمين ،نزل به الروح األمين ،على قلب سيد ِ وصراطه المستقيم،
المرسلين ،بلسان عربي مبينُ ،منَ َّز ٌل غير مخلوق ،منه بدأ وإليه يعود.
وهو سور محكمات ،وآيات بينات ،وحروف وكلمات.
من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ،له أول وآخر ،وأجزاء وأبعاض،
متلو باأللسنة ،محفوظ في الصدور ،مسموع باآلذان ،مكتوب في المصاحف.
فيه محكم ومتشابه ،وناسخ ومنسوخ ،وخاص وعام ،وأمر ونهي.
اط ُل ِم ْن َبي ِْن يَدَ ْي ِه َو َال ِم ْن خ َْل ِف ِه ت َ ْن ِزي ٌل ِم ْن َح ِكيم َح ِميد} [فصلت]42 : {ال َيأْتِي ِه ْال َب َِ
آن َال س َو ْال ِجن َعلَى أ َ ْن يَأْتُوا بِ ِمثْ ِل َهذَا ْالقُ ْر ِ ت ِْ
اإل ْن ُ وقوله تعالى{ :قُ ْل لَئِ ِن ْ
اجت َ َمعَ ِ
ظ ِهيرا} [اإلسراء.]88 : ض ُه ْم ِلبَ ْعض َ يَأْتُونَ بِ ِمثْ ِل ِه َولَ ْو َكانَ بَ ْع ُ
آن} [سبأ: وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا{ :لَ ْن نُؤْ ِمنَ ِب َهذَا ْالقُ ْر ِ
]31وقال بعضهمِ { :إ ْن َهذَا إِ َّال قَ ْو ُل ْالبَش َِر} [المدثر ]25 :فقال هللا سبحانه:
{و َما سقَ َر} [المدثر ]26 :وقال بعضهم :هو شعر ،فقال هللا تعالىَ : ص ِلي ِه َ سأ ُ ْ{ َ
ين} [يس.]69 : آن ُم ِب ٌ َعلَّ ْمنَاهُ ِ
الش ْع َر َو َما َي ْن َب ِغي لَهُ ِإ ْن هُ َو ِإ َّال ِذ ْك ٌر َوقُ ْر ٌ
فلما نفى هللا عنه أنه شعر ،وأثبته قرآنا؛ لم يبق شبهة لذي لُب في أن القرآن هو هذا
الكتاب العربي ،الذي هو كلمات وحروف وآيات؛ ألن ما ليس كذلك ال يقول أحد
إنه شعر.
ورة ِم ْن ِمثْ ِل ِه س َ {و ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم فِي َريْب ِم َّما ن ََّز ْلنَا َعلَى َع ْب ِدنَا فَأْتُوا ِب ُ وقال عز وجلَ :
ُون هللا} [البقرة ]23 :وال يجوز أن يتحداهم باإلتيان بمثل ما ش َهدَا َء ُك ْم ِم ْن د ِ عوا ُ َوا ْد ُ
ال يدري ما هو وال يعقل.
ت بِقُ ْرآن {وإِذَا تُتْلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَا بَيِنَات قَا َل الَّذِينَ َال يَ ْر ُجونَ ِلقَا َءنَا ائْ ِ وقال تعالىَ :
اء نَ ْفسِي} [يونس ]15 :فأثبت أن ون ِلي أ َ ْن أُبَ ِدلَهُ ِم ْن تِ ْلقَ ِ
َغي ِْر َهذَا أ َ ْو بَد ِْلهُ قُ ْل َما يَ ُك ُ
القرآن هو اآليات التي تتلى عليهم.
ُور الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم} [العنكبوت.]49 : صد ِ َات فِي ُ ات َبيِن ٌ وقال تعالىَ { :ب ْل ُه َو آ َي ٌ
ط َّه ُرونَ } آن َك ِري ٌم ِ -في ِكتَاب َم ْكنُون َ -ال َي َمسهُ ِإ َّال ْال ُم َ وقال تعالى{ :إِنَّهُ لَقُ ْر ٌ
[الواقعة ]79 - 77 :بعد أن أقسم على ذلك.
وقال تعالى{ :كهيعص} [مريم{ ]1 :حم -عسق} [الشورى.]2 - 1 :
وافتتح تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة.
76
وقال النبي صلى هللا عليه وسلم« :من قرأ القرآن فأعربه؛ فله بكل حرف منه
عشر حسنات ،ومن قرأه ولحن فيه؛ فله بكل حرف حسنة» حديث صحيح.
وقال عليه الصالة والسالم« :اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة
السهم ال يجاوز تراقيهم ،يتعجلون أجره وال يتأجلونه».
وقال أبو بكر وعمر رضي هللا عنهما :إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض
حروفه.
وقال علي رضي هللا عنه :من كفر بحرف منه؛ فقد كفر به كله.
واتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه.
وال خالف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا
متفقا عليه أنه كافر ،وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف.
77
الشرح
هذه المسألة مبنية على ما مضى ،فمن أثبت كالما حقيقيا هلل بحرف وصوت؛ قال:
القرآن كالم للا تكلم به سبحانه وتعالى ،ومن نفى الكالم عن هللا تبارك وتعالى
وقال :هللا ال يتكلم ،قال :القرآن مخلوق ،ومن قال إ َّن الكالم نفسي قديم ال يتجزأ،
كما قاله األشاعرة ،فيقول :القرآن أيضا مخلوق ،هذه حقيقة قولهم ،هذه حقيقة قول
األشاعرة َّ
أن القرآن الذي بين أيدينا مخلوق.
وقد قال غير واحد من السلف نصا « :من قال القرآن مخلوق فقد كفر»()1؛ ألنه
مكذب لكتاب هللا تبارك وتعالى.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :ومن كالم للا سبحانه :القرآن العظيم ،وهو كتاب
للا المبين) أي البين الواضح ،الذي يبين هللا سبحانه وتعالى فيه ما يحتاجه العباد،
قال تعالى{ :تلك آيات الكتاب المبين}[الشعراء]2 :
( وحبله المتين) المتين :القوي ،القرآن هوالحبل الواصل بين هللا سبحانه وتعالى
وخلقه ،قال سبحانه وتعالى} واعتصموا بحبل هللا جميعا{[آل عمران.]103 :
قال( :وصراطه المستقيم) أي الطريق المستقيم الذي يوصل إلى هللا سبحانه
وتعالى هو كتاب هللا تبارك وتعالى ،قال هللا سبحانه وتعالى }:اهدنا الصراط
المستقيم{[الفاتحة.]6 :
(وتنزيل رب العالمين) نزل من عند هللا تبارك وتعالى ،نزله رب العزة تبارك
وتعالى .
انظر لشريعة ( )1،48911/506رقم 174واإلبانة الكبرى( )239،290،300و خلق أفعال العباد ص 301
78
قال سبحانه وتعالى }:وإنه لتنزيل رب العالمين -نزل به الروح األمين -على قلبك
لتكون من المنذرين{[الشعراء ]194-192 :وقال { :كتاب أنزلناه إليك{[ص:
]29فهذا الكتاب منزل من عند هللا تبارك وتعالى.
(نزل به الروح األمين) جبريل عليه السالم (على قلب سيد المرسلين) سيدنا محمد
صلى هللا عليه وسلَّم ،قال تعالى{ :وإنه لتنزيل رب العالمين -نزل به الروح
األمين -على قلبك لتكون من المنذرين{[الشعراء( ]194-192 :بلسان عربي
مبين) فصيح واضح بين جلي ال خفاء في ألفاظه ومعانيه ،قال تعالى{ :الر تِ ْل َك
ين ( )1إِنَّا أ َ ْنزَ ْلنَاهُ قُ ْرآنا َع َربِيًّا لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْع ِقلُونَ }[يوسف1:و]2
ب ْال ُمبِ ِ
آيَاتُ ْال ِكتَا ِ
(منزل غير مخلوق) منزل من عند هللا ،وهو كالمه وليس مخلوقا ،خالفا لمن قاله
ذلك. على األدلة المؤلف سيذكر المعطلة،
ِ من
( منه بدأ ،وإليه يعود) منه بدأ كالما له ،فهو الذي تكلم به فبدأ منه سبحانه ،وهذا
رد على الذين يقولون :خلق الكالم في محل فبدأ الكالم من ذلك المحل ،فرد عليهم
السلف فقالوا( :منه بدأ) أي بدأ من هللا سبحانه وتعالى كالما له وليس خلقا.
(وإليه يعود) ويرجع إليه كما جاء في الحديث« :أنه في آخر الزمان يرفع فال يبقى
في األرض منه آية» (.)1
قال( :وهو سور محكمات) متقنات ،سور جمع سورة وهي قطعة من القرآن ،
تاب أ ُ ْح ِك َم ْ
محكمات يعني متقنات ،ال خلل وال عيب فيهن ،قال تعالى{ :الر ِكت َ ٌ
ت ِم ْن لَد ُْن َح ِكيم َخبِير}[هود ،]1 :وقالَ { :ويَقُو ُل الَّذِينَ آ َمنُوا لَ ْو َال صلَ ْ آيَاتُهُ ث ُ َّم فُ ِ
ْت الَّذِينَ ِفي قُلُو ِب ِه ْمورة ٌ ُم ْح َك َمةٌ َوذ ُ ِك َر ِفي َها ْال ِقتَا ُل َرأَي َ
س َ ورة ٌ فَإِذَا أ ُ ْن ِزلَ ْ
ت ُ س َت ُ نُ ِزلَ ْ
(من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات)( ،)1ومن قرأه فأعربه؛ من قرأه
قراءة صحيحة ال لحن فيها -هذا معنى فأعربه -فله بكل حرف عشر حسنات.
دل هذا الحديث النبوي على أن القرآن حروف ،ومعنى الحروف حروف الهجاء
المعروفة التي تبدأ باأللف وتنتهي بالياء .
( له أول وآخر) أوله الفاتحة وآخره النَّاس ،اإلجماع منعقد عليه .
(وناسخ ومنسوخ) القرآن منه ناسخ ومنه منسوخ (وخاص وعام وأمر ونهي)
صل في كتب أصول الفقه.
وهذا كله مف َّ
قال تعالى}) :ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه{([فصلت]42 :
( )2رواه الترمذي( ،)2910والطبراني في األوسط ( )7574وآخرون عن ابن مسعود رضي هللا عنه مرفوعا وموقوفا،األكثرون رووه موقوفا .قال الترمذي :ويروى هذا
الحديث من غير وجه عن ابن مسعود،رواه أبو األحوص عن ابن مسعود ،ورفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود….
80
أي ال يوجد قبله شيء يكذبه ،وال بعده شيء يكذبه ،وال يبطله شيء؛ ألنه حق من
عند هللا ،ومحفوظ بحفظ هللا له .
(}تنزيل من حكيم حميد {([اإلسراء ]88 :الحكيم الحميد هو هللا سبحانه وتعالى
موصوف بالحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه المناسب له ،ومحمود على
أفعاله وأقواله.
(وقوله تعالى{ :لئن اجتمعت اإلنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ال
يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ً} ،فقد تحداهم للا سبحانه وتعالى أن
يأتوا بمثل هذا القرآن وهم الفصحاء ،مع شدة عداوتهم وحرصهم على تكذيبه لم
يستطيعوا أن يفعلوا ذلك) فتبين بذلك أنه كالم هللا تبارك وتعالى وليس كالم البشر.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وهذا هو الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا
:لن نؤمن بهذا القرآن)[سبأ ]31 :عنادا واستكبارا .
قال ( :وقال بعضهم :هو شعر ،فقال للا تعالى}وما علمناه الشعر وما ينبغي له
إن هو إال ذكر وقرآن مبين{([يس ]69 :هذا تكذيب لهم؛ فهو كالم هللا سبحانه
وتعالى ،وليس كالم البشر وال هو شعر وال غيره.
81
قال ( :فلما نفى للا عنه أنه شعر وأثبته قرآنا ً ،لم يبق شبهة لذي لب) أي
لصاحب عقل (في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف
وآيات؛ ألن ما ليس كذلك ال يقول أحد أنه شعر).
َّ
إن العرب قالت هو شعر عندما أرادت أن تكذب بالقرآن؟ ألنه كلمات وحروف
وآيات ،ولو لم يكن كلمات وحروف وآيات لما قالوا هو شعر ،فألنهم علموا أنه
كلمات وحروف وآيات وهم أهل اللسان قالوا إنه شعر.
قال ( :وال يجوز أن يتحداهم باإلتيان بمثل ما ال يدرى ما هو وال يعقل ) كيف
يتحداهم بأمر كهذا إال أنه معلوم عندهم أنه كلمات وحروف معلومة وواضحة لهم،
لذلك تحداهم أن يأتوا بمثله.
(وقال تعالى}وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين ال يرجون لقاءنا ائت بقرآن
غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي{)[يونس ،]15 :فأثبت
أن القرآن هو اآليات التي تتلى عليهم) ،وال يتلى إال ما هو حروف وكلمات.
82
قال( :وقال تعالى} :بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم {([العنكبوت:
]9؛ فالقرآن محفوظ في صدورأهل العلم ،والمحفوظ في صدورهم هي الكلمات
والحروف؛ فهي التي تحفظ ،فالقرآن كلمات وحروف.
قال( :وقال تعالى} :إنه لقرآن كريم .في كتاب مكنون{) [الواقعة ( ،]78-77 :في
كتاب) أي :مكتوب ،فهو كلمات وحروف فهي التي تكتب ،ومعلوم أن الكلمات
والحروف هي التي تكتب .
قال( :وقال النبي صلى للا عليه وسلم«:من قرأ القرآن فأعربه») أي قرأه بشكل
صحيح («فله بكل حرف منه عشر حسنات ،ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف
حسنة» حديث صحيح) .الشاهد أنه سمى حروفه حروفا ،فالقرآن حروف.
قال اإلمام األلباني رحمه هللا تعالى في الضعيفة تحت الحديث رقم (: )6584
«وهذا غريب جدا» يستغرب تصحيح المؤلف ،قال« :فإنه الأصل له بهذا اللفظ
مطلقا في شيء من طرقه التي وقفنا عليها ،وقد تقدم تخريجها وبيان عللها ،فكيف
مع ذلك يصححه! ( .)1انتهى ،فالحديث ضعيف ال يصح ،وهللا أعلم .
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقال عليه الصالة والسالم« :اقرأوا القرآن قبل
أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم» أي يتقنون قراءته « ال يجاوز
تراقيهم» الت َّرقُ َوة :عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق « ،يتعجلون أجره وال
( )1يروى عن ابن عمر بلفظ آخر ،أخرجه ابن حيان في الضعفاء( ،)3،160وابن األنباري في إيضاح الوقف واالبتداء ( )1/16/10قال الشيخ األلباني :موضوع ،ث ُ َّم
ذكر لفظ المؤلف وقال عقبة :هذا غريب جدا ،فإنه ال أصل له بهذا اللفظ مطلقا في شيء من طرقه التي وقضاعليها ( . .الضعيفة.)6584:
83
()1
أي ال يصل لهم منه شيء عند هللا سبحانه وتعالى ،ألنهم يطلبون به يتأجلونه»
الدنيا ،فالمراد يتعجلون أجره في الدنيا ،ويطلبون على قراءتهم أجرة من
األعراض الدنياوية ،وال يصبرون إلى األجر والثواب الذي يحصل لهم في دار
اآلخرة.
قراءة القرآن وإتقان ذلك؛ وسيلة وعبادة ،ولكن الغاية الكبرى منه هي الفهم والعمل
ال مجرد القراءة؛ فإننا نجد اليوم كثيرا من النَّاس يحرصون على قراءة القرآن مع
أحكام التجويد بشكل جيد -وهذا طيب ، -لكن ال تجد منهم أدنى حرص على فهم
معناه ،وتطبيق ما فيه وهذا مشكل وخلل عظيم جدا؛ إذ قد أنزل هللا سبحانه وتعالى
القرآن للعمل به ال لمجرد تالوته.
الشاهد من هذا الحديث قوله« :يقيمون حروفه» فسمى الحروف التي في القرآن
حروفا؛ فهو حروف .
قال( :وقال أبو بكر وعمر رضي للا عنهما :إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ
بعض حروفه( ،))2الشاهد َّ
أن أبا بكر وعمر سميا حروف القرآن حروفا.
لكن هذا ضعيف ال يصح عنهما ،أخرجه ابن األنباري في الوقف واالبتداء وهو
ضعيف.
وقال علي رضي للا عنه ( :من كفر بحرف منه فقد كفر به كله) هذا صحيح :من
كفر بحرف منه ،فقد كفر به كله ،واإلجماع منعقد – كما سيأتي – على ذلك؛ لكن
لم أجده عن علي لغير المؤلف.
( )2رواه أحمد في مسنده( )831وأبو داود( )831والطبراني في الكبير ( )6021،6022،6024وغيرهم عن سهل بن سعد رضي هللا عنه.
( )1ايضاح الوقف واالبتداء البن األنباري ( ،)20/1رواه ابن عساكر في تاريخه بمسنده إلى الشافعي (.)374/51
84
والعلماء ينسبونه لعبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه ،وهو صحيح عن عبد هللا بن
()1
وغيره ،أما أثر علي الذي يصلح حجة في مثل مسعود ،أخرجه عبد الرزاق
هذا الموضع ،فهو الذي ساقه ابن خالة المؤلف عبد الغني المقدسي في كتابه
االقتصاد في االعتقاد.
قال :عن علي أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن فقال« :ال وال حرفا»( )2أي ال تقرأ
وال حرفا واحدا.
هذا علي يسمي حروف القرآن حروفا ،وأ َّما عبد هللا بن مسعود فص َّح عنه قوله:
«من كفر بحرف منه فقد كفر به كله» فصح عن الصحابة تسمية حروفه حروفا.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :واتفق المسلمون على عد سور القرآن ،وآياته،
وكلماته وحروفه) ذكر األدلة من الكتاب والسنة وعن الصحابة على أن القرآن
كلمات وحروف ،ثم يذكر اآلن االتفاق ،فقال :هم متفقون على هذا :أنهم يقولون:
عدد سور القرآن كذا ،وعدد آيات القرآن كذا ،وعدد كلمات القرآن كذا ،وعدد
حروفه كذا ،فهو سور وآيات وكلمات وحروف .
قال ( :وال خالف بين المسلمين في أن من جحد سورة أو آية أو كلمة أو حرفا ً
متفقا ً عليه ،أنه كافر ،وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف) وفيه حجة قاطعة
على كفر الرافضة.
85
متن
قال المؤلف رحمه هللا تعالى( :والمؤمنون يرون ربهم في اآلخرة بأبصارهم،
ويزورونه ،ويكلمهم ويكلمونه ،قال هللا تعالى} :وجوه يومئذ ناضرة*إلى ربها
ناظرة{[القيامة ،]23-22 :وقال تعالى} :كال إنهم عن ربهم يومئذ
لمحجوبون{[المطففين.]15 :
86
الشرح
هذه صفة جديدة وهي :رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ،يؤمن أهل السنة بأن
المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأعينهم رؤية حقيقية ،ويعتقدون ذلك بناء على ما
صح في الكتاب والسنة ،من أدلة -كما سيأتي إن شاء هللا تعالى -من كالم المصنف.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :والمؤمنون يرون ربهم في اآلخرة بأبصارهم)،
هذا تأكيد على أنها رؤية حقيقية ،يرون هللا سبحانه وتعالى ،ال يرون الثواب ،وال
يرون النَّعيم ،وال يرون الجنَّة ،كما يقول أهل التحريف للنصوص ،ومستعملو
عقولهم ،في تفسير النصوص الواردة في رؤية المؤمنين لربهم ،بل يرون ربَّهم
تبارك وتعالى رؤية حقيقة.
قال( :قال للا تعالى } :وجوه يومئذ ناضرة{) من النضرة وهي الحسن والبهجة،
وجوه حسنة بهجة ،وهذه وجوه المؤمنين يوم القيامة حسنة وجميلة ومسرورة
ومشرقة بالنَّعيم.
( وجوه يومئذ) أي يوم القيامة (ناضرة) حسنة جميلة (إلى ربها ناظرة) أي
ينظرون إلى هللا سبحانه وتعالى ،وهذه من النِعم العظيمة التي يحصل عليها أهل
اإليمان ،التي ينالها أهل الطاعة يوم القيامة ،النَّظرإلى وجه هللا تبارك وتعالى ،أي
87
هذه؟. من وأجمل وأجود أعظم لذة
هذا الدليل األول ألهل السنة على هذه العقيدة .
قال( :وقال تعالى} :كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون{) ،من هم؟ الكفَّار،
يحجبون عن رؤية هللا تبارك وتعالى يوم القيامة؛ عقابا لهم على كفرهم ،فهذا يدل
على َّ
أن المؤمنين يرون ربهم ،فكما قال المصنف رحمه هللا تعالى هنا( :فلما
حجب أولئك في حال السخط؛ دل ذلك على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى؛
وإال لم يكن بينهما فرق) فل َّما عاقب الكفَّار بحجبهم عن رؤيته تبارك وتعالى ،دل
ذلك على أنه يثيب المؤمنين بإنعامه عليهم برؤيته حقيقة يوم القيامة ،هذا استدالل
اإلمام الشافعي رحمه هللا .
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقال النبي صلى للا عليه وسلم :إنكم سترون
ربكم كما ترون هذا القمر ال تضامون في رؤيته) هذا الحديث متفق عليه(،)1
أحاديث الرؤية يقول أهل العلم :أحاديثها متواترة ،كثيرة جدا ،وردت عن النَّبي
صلى هللا عليه وسلَّم؛ فال ينكرها سني ،ال ينكرها إال مبتدع ضال.
(إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر ال تضامون في رؤيته ) أي ال تحتاجون
لكي يراه جميعكم أن تنضم بعضكم إلى بعض وتتزاحموا لرؤيته ،ال تحتاجون
إلى ذلك ،سترونه بأريحية كل واحد من مكانه الذي هو فيه.
(كما ترون القمر) كيف نشترك جميعا في رؤية القمر بدون مضامة وال مزاحمة؟
كذلك ترون هللا تبارك وتعالى.
( )1أخرجه البخاري( ،)7436 ،554،4851،7434ومسلم( )633من حديث جرير بن عبدهللا البجلي رضي هللا عنه ،وقد ثبت حديث رؤية هللا تعالى عن غير واحد من
الصحابة أبي هريرة وأبي سعيد ،وأحاديث الرؤية من األحاديث المتواترة عند أهل العلم ،ومن هنا اضطر األشاعرة إلى إثبات الرؤية يوم القيامة مع نفيهم العلو فتخبطوا
تخبطا كبيرا.
88
قال( :وهذا تشبيه للرؤيا بالرؤيا) أي أنكم كما ترون القمر ترون هللا سبحانه
وتعالى.
(ال للمرئي بالمرئي) المرئي األول هللا تبارك وتعالى والمرئي الثاني القمر ،أي
ليس المقصود من التشبيه هنا ؛ تشبيه هللا بالقمر ،ال.
بل المقصود تشبيه الرؤية بالرؤية ،فكما أن رؤية القمر ال تحتاج إلى مزاحمة
كذلك رؤية هللا ال تحتاج إلى ذلك ،هذا المقصود.
قال ( :فإن للا تعالى ال شبيه له وال نظير) ال مثيل له سبحانه ،ففي هذا الحديث
يبين كيفية الرؤية ،وال يشبه نفسه بالقمر؛ فاهلل ال مثل له.
وقد خالف في هذه العقيدة المعتزلة ،نفوا الرؤية ،وقالوا :ال يرى النَّاس ربهم يوم
القيامة ،ونفوا ذلك ،قالوا هذا يلزم منه التشبيه ،ويلزم منه التجسيم ،وهي لوازم
باطلة كما تقدم معنا ،فكما قالوا في مسائل الصفات األُخرى قالوا أيضا في هذه،
من َّ
أن إثبات الرؤية يلزم منه التشبيه والتجسيم ويلزم منه أن هللا في جهة مخلوقة،
وهذا كله من الباطل ،جاءوا به من خياالت عقولهم؛ فردوا كتاب هللا ،وردوا سنة
رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،بمجرد خياالت عقلية ،ظنوها لوازم حقيقية ،وإنما
هي لوازم باطلة.
واستدلوا أيضا بقول هللا تبارك وتعالى} ال تدركه األبصار{[األنعام ]103 :فقال
لهم أهل العلم :اإلدراك شيء والرؤية شي آخر ،اإلدراك فيه إحاطة ،واإلحاطة هذه
مستحيلة ،ال يمكن أن يحيط العبد بربه تبارك وتعالى ،أ َّما الرؤية فالرؤية ثابتة كما
تقدَّم معنا في األدلة.
89
واستدلوا أيضا بقول هللا تبارك وتعالى لموسى عليه السالم عندما طلب من ربه أن
يراه قال} :لن تراني{[األعراف ،]143 :فقالوا :قد نفى هللا سبحانه وتعالى الرؤية
في هذه اآلية ،فنقول لهم :هذا نفي للرؤية في الدنيا ،فموسى عليه السالم عندما
طلب الرؤية طلبها وهو في الدنيا ال في اآلخرة ،فرق بين هذا وهذا.
الرؤية التي نثبتها رؤية أخروية أي في اآلخرة ،فنصوص الشرع فرقت بين
رؤية هللا في الدنيا ورؤيته في اآلخرة؛ فال يصح إعطاءهما حكما واحدا ،بعد
تفريق النصوص الشرعية بينهما .
90
متن
ومن صفات هللا تعالى أنه الفعال لما يريد ،ال يكون شيء إال بإرادته ،وال
يخرج شيء عن مشيئته ،وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ،وال يصدر إال
عن تدبيره ،وال َمحيد عن القدر المقدور ،وال يُتجاوز ما ُخط في اللوح المسطور،
أراد ما العالم فاعلوه ،ولو عصمهم لما خالفوه ،ولو شاء أن يطيعوه جميعا
ألطاعوه ،خلق الخلق وأفعالهم ،وقدر أرزاقهم وآجالهم ،يهدي من يشاء برحمته،
ويضل من يشاء بحكمته.
{ال يُ ْسأ َ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم يُ ْسأَلُونَ } [األنبياء ]23 :قال هللا تعالىِ { :إنَّا
قال تعالىَ :
ش ْيء َف َقد ََّرهُ ت َ ْق ِديرا} َيء َخلَ ْقنَاهُ ِبقَدَر} [القمر ]49 :وقال تعالىَ :
{و َخ َلقَ ُك َّل َ ُك َّل ش ْ
ض َو َال فِي أ َ ْنفُ ِس ُك ْم ِإ َّال
صيبَة فِي ْاأل َ ْر ِ
اب ِم ْن ُم ِ
ص َ[الفرقان ]2 :وقال تعالىَ { :ما أ َ َ
فِي ِكتَاب ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن نَب َْرأَهَا} [الحديد ]22 :وقال تعالى{ :فَ َم ْن يُ ِر ِد هللا أ َ ْن يَه ِديَهُ
ضلَّهُ َي ْج َع ْل َ
ص ْد َرهُ َ
ض ِيقا َح َرجا} [األنعام: إل ْس َال ِم َو َم ْن يُ ِر ْد أ َ ْن يُ ِ
ص ْد َرهُ ِل ْ ِ
َي ْش َرحْ َ
.]125
روى ابن عمر رضي هللا عنهما أن جبريل عليه السالم قال للنبي صلى هللا
عليه وسلم« :ما اإليمان؟ قال :أن تؤمن باهلل ،ومالئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم
اآلخر ،وبالقدر خيره وشره .فقال جبريل :صدقت» رواه مسلم.
وقال النبي صلى هللا عليه وسلم« :آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره».
ومن دعاء النبي صلى هللا عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت
الوتر« :وقني شر ما قضيت».
91
وال نجعل قضاء هللا وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه ،بل يجب أن
نؤمن ،ونعلم أن هلل علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل.
س ِل} [النساء ]165 :ونعلم اس َعلَى هللا ُح َّجةٌ بَ ْعدَ الر ُ قال هللا تعالىِ { :لئ َ َّال يَ ُكونَ ِللنَّ ِ
أن هللا سبحانه ما أمر ونهى إال المستطيع للفعل والترك ،وأنه لم َيجبُر أحدا على
ف هللا نَ ْفسا إِ َّال معصية ،وال اضطره إلى ترك طاعة ،قال هللا تعالىَ :
{ال يُ َك ِل ُ
ط ْعت ُ ْم} [التغابن]16 : ُو ْسعَ َها} [البقرة ]286 :وقال هللا تعالى{ :فَاتَّقُوا هللا َما ا ْست َ َ
ظ ْل َم ْاليَ ْو َم} [غافر ]17 :فدل على ت َال ُ {اليَ ْو َم ت ُ ْجزَ ى ُكل نَ ْفس بِ َما َك َ
سبَ ْ وقال تعالىْ :
أن للعبد فعال وكسبا يُجزى على حسنه بالثواب ،وعلى سيئه بالعقاب ،وهو واقع
بقضاء هللا وقدره.
92
الشرح
قال المؤلف رحمه للا تعالى) :ومن صفات للا تعالى أنه الفعال لما يريد ،ال يكون
شيء إال بإرادته ،وال يخرج شيء عن مشيئته ،وليس في العالم شيء يخرج عن
تقديره ،وال يصدر إال عن تدبيره ،وال محيد عن القدر المقدور ،وال يتجاوز ما
خط في اللوح المسطور ،أراد ما العالم فاعلوه ،ولو عصمهم لما خالفوه ،ولو
شاء أن يطيعوه جميعا ً ألطاعوه ،خلق الخلق وأفعالهم ،وقدر أرزاقهم وآجالهم،
سأل عما
يهدي من يشاء برحمته ،ويضل من يشاء بحكمته ،قال للا تعالى{ :ال ي ْ
سألون} [األنبياء ]23 :قال للا تعالى{ :إنا كل ش ْيء خل ْقناه بقدر}ي ْفعل وه ْم ي ْ
[القمر ]49 :وقال تعالى{ :وخلق كل ش ْيء فقدره ت ْقد ً
يرا} [الفرقان ]2 :وقال للا
تعالى{ :ما أصاب م ْن مصيبة في ْاأل ْرض وال في أ ْنفسك ْم إال في كتاب م ْن ق ْبل أ ْن
ن ْبرأها} [الحديد ]22 :وقال تعالى{ :فم ْن يرد للا أ ْن يهديه يشْرحْ صدْره ل ْْل ْ
سالم
وم ْن ير ْد أ ْن يضله ي ْجع ْل صدْره ضيقًا حر ًجا} [األنعام.)]125 :
هذه مسألة جديدة ،انتهينا من مسائل األسماء والصفات ،اآلن دخلنا في مسألة
جديدة من مسائل اإليمان وهي :مسألة اإليمان بالقضاء والقدر.
واإليمان بالقدر من أصول اإليمان الستة التي ذكرت في حديث جبريل عليه
السالم( ،)1قال في آخره« :وأن تؤمن بالقدر خيره وشره»؛ فاإليمان بالقدر من
أصول اإليمان.
والقدر هو تقدير هللا تعالى لألشياء في القدم ،وعلمه تبارك وتعالى أنها ستقع في
أوقات معلومة عنده ،وعلى صفات مخصوصة ،وكتابته لذلك ،ومشيئته له،
( )1متفق عليه :البخاري( ، )4778050مسلم ( )9،10عن أبي هريرة رضي هللا عنه ،ومسلم( )8عن ابن عمر رضي هللا عنه.
93
ووقوعها على حسب ما قدرها ،وخلقه لها ،هذه مسألة القضاء والقدر باختصار
هي أربع مراتب ،من آمن بها آمن بالقدر.
94
تبارك وتعالى ،وهذا ضالل كبير ،فقد أثبتوا بذلك وجود خالق مع هللا تبارك
وتعالى ،وهللا سبحانه وتعالى– كما تقدم معنا في اآليات السابقة – يبين أنه هو
شيء. لكل الخالق
س ِعيد يَقُو ُل: عبَ ْيدَ َّ
َّللاِ بْنَ َ س ِم ْعتُ ُ قال اإلمام البخاري في كتابه خلق أفعال العبادَ :
ص َحابِنَا يَقُولُونَ ِ « :إ َّن أ َ ْف َعا َل ْال ِعبَا ِد
س ِعيد يَقُولَُ :ما ِز ْلتُ أ َ ْس َم ُع ِم ْن أ َ ْ
سمعت يَ ْحيَى بْنَ َ
َّللاِ -البخاريَ « : -ح َر َكات ُ ُه ْم َوأ َ ْ
ص َوات ُ ُه ْم َوا ْكتِ َ
سابُ ُه ْم َو ِكتَابَت ُ ُه ْم ع ْب ِد ََّم ْخلُوقَةٌ» قَا َل أَبُو َ
وب ْال ُمو َعى ور ْال َم ْكت ُ ُ ط ُ ف ْال َم ْس ُ ص َح ِ آن ْال َمتْلُو ْال ُم َبي َُّن ْال ُمثَبَّتُ ِفي ْال ُم ْ
َم ْخلُوقَةٌ ،فَأ َ َّما ْالقُ ْر ُ
ُور الَّذِينَ
صد ِ ْس ِبخ َْلق ،قَا َل َّ
َّللاُ{ :بَ ْل ُه َو آيَ ٌ
ات بَ ِين ٌ
َات فِي ُ َّللاِ لَي َ فِي ْالقُلُو ِ
ب فَ ُه َو َك َال ُم َّ
أُوتُوا ْال ِع ْل َم}« [العنكبوت .] 49:انتهى
هذه هي المراتب األربعة من آمن بها آمن بالقدر ،واألدلة عليها من الكتاب والسنة
كثيرة ،وكثيرة جدا ،ذكرنا بعضا منها.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وال نجعل قضاء للا وقدره ،حجة لنا في ترك
أوامره ،واجتناب نواهيه ،بل يجب أن نؤمن ونعلم أن هلل علينا الحجة بإنزال
الكتب وبعثة الرسل ،قال للا تعالى } :لئال يكون للناس على للا حجة بعد
النساء]165 :
الرسل{)[ ِ
فبإرسال الرسل تنقطع الحجة ،والعبد مخير في فعل الطاعات والمعاصي ،وهو
أيضا مأمور بأن يطيع هللا سبحانه وتعالى ومنهي عن معصية هللا تبارك وتعالى،
وما كان هللا سبحانه وتعالى معذبا أحدا حتى يقيم الحجة عليه.
فليس لك أن تحتج على المعصية بالقدر؛ ألن هللا تبارك وتعالى أعطاك قدرة وإرادة
وبين لك طريق الحق وأمرك باتباعه ،وعندك قدرة على االختيار فلم تكره عليها؛
. الباطل طريق وتترك الحق طريق تختار أن فواجبك
95
يصح االحتجاج بالقدر على المصائب التي تقع وال اختيار لك فيها ،تقول قدر هللا
وما شاء فعل ،وتعلم أن ال اختيار لك فيها ،فتصبر على ما أصابك ،وتُصبِر نفسك
باإليمان بالقدر.
قال رحمه للا تعالى( :ونعلم أن للا سبحانه وتعالى ما أمر ونهى إال المستطيع
للفعل والترك ،وأنه لم يجبر أحدا ً على معصية ،وال اضطره إلى ترك معصية ،قال
للا تعالى } :ال يكلف للا نفسا ً إال وسعها{[البقرة ،]286 :وقال للا تعالى}:
فاتقوا للا ما استطعتم{[التغابن ،]16 :وقال تعالى} :اليوم تجزى كل نفس بما
كسبت ال ظلم اليوم {[غافر ،]17 :فدل على أن للعبد فعالً وكسبا ً يجزى على
حسنه بالثواب ،وعلى سيئه بالعقاب ،وهو واقع بقضاء للا وقدره).
فيجتمع األمران ،العبد هو الذي يفعل حقيقة ،العبد هو الفاعل لفعله حقيقة وهللا
سبحانه وتعالى هو الذي خلق العبد وخلق فعله أيضا ،لكن هللا سبحانه وتعالى لم
رب
ِ يضطره إلى ترك طاعة وال جبره على فعل معصية ،وال يكون هذا من
العالمين تبارك وتعالى ،مع أنه هو خالق أفعال العباد ،لكن العباد أيضا يفعلون
بمشيئتهم وإرادتهم؛ كما قال هللا تبارك وتعالى} :وما تشاؤون إال أن يشاء للا رب
العالمين{[التكوير ]29 :فأثبت لهم مشيئة ،هم يشاؤون يريدون ،لكن ال تخرج
مشيئتهم عن مشيئة هللا تبارك وتعالى ،يعني َّ
أن هللا سبحانه وتعالى إذا شاء شيئا،
وهم شاؤوا شيئا آخر يخالف مشيئة هللا ،ال يكون هذا الشيء أبدا ،لكن هللا سبحانه
وتعالى في نفس الوقت ال يجبر اإلنسان على فعل المعصية وهو ال يريد أن
يعصي ،وال يجبره على الطاعة وهو يريد أن يعصي.
هذا كله يجب أن يكون معلوما عندنا ،فال متعلق ألي أحد بمسألة القضاء والقدر،
فكل منا يدرك الفرق بين األشياء التي يفعلها باختياره ،واألشياء التي يضطر إليها
96
اضطرارا ،فاألشياء التي تضطر إليها اضطرارا ال يحاسبك عليها ربنا سبحانه
وتعالى ،وال يؤاخذك عليها ،لكن األشياء التي تفعلها باختيارك تحاسب عليها،
فعندك فرق ما بين األفعال التي تفعلها مضطرا إليها ،واألفعال التي تفعلها
باختيارك ،فأنت تفعل باختيارك ومشيئتك.
عندما يشرب الشخص الخمر يشربها بإرادته واختياره ،ولذلك يعذب عليها ،بينما
لو وقع في بركة بها خمر وشرب من غير اختياره ال يعذب على ذلك؛ ألنه شربها
بغير اختياره .
فنعلم أن هللا كلف من العباد المستطيع على الفعل ،ولم يكلف غير المستطيع ،وكلف
العاقل ولم يكلف المجنون؛ ألن العاقل له اختيار والمجنون ال عبرة باختياره .
فيدل هذا على أن للعبد فعال وكسبا يثاب ويعاقب بناء عليه ،وهو واقع بقضاء هللا
وقدره .
اإلرادة الكونية :وهي التي تأتي بمعنى المشيئة} :فمن يرد للا أن يهديه يشرح
صدره لْلسالم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا ً حرجا ً كأنما يصعد في
السماء{[األنعام ]125 :هذه اإلرادة بمعنى المشيئة ،وهللا سبحانه وتعالى إذا أراد
شيئا فإنما يقول له كن فيكون ،هذه هي اإلرادة الكونية ،كل ما يحصل في هذا
الكون فقد أراده هللا كونا ،سواء كان معصية أو طاعة ،سواء كان يحبه أو يكرهه،
ومثاله الذي يمثل به العلماء كثيرا كفر أبي لهب ،أراده هللا كونا فوقع .
واإلرادة الشرعية :وهي التي بمعنى المحبة ،كما قال تبارك وتعالى في كتابه
الكريم } :وللا يريد أن يتوب عليكم{[النِساء ،]27 :هذه إرادة شرعية.
97
كل ما أمرنا هللا تبارك وتعالى بفعلها في الكتاب أو في السنةَّ ،
فإن هللا سبحانه
وتعالى يريده إرادة شرعية فهو يحبه ويرضاه.
علما أنه ربما يحصل وربما ال يحصل في الكون ،ربما يوجد وربما ال يوجد.
مثال أراد هللا من العباد جميعا أن يؤمنوا ،هل آمنوا جميعا؟ ال ،آمن البعض وكفر
البعض ،فهذا اإليمان يحبه هللا ويرضاه من الناس ،ولكنه ربما يقع وربما ال يقع،
فوقع مثال من أبي بكر ،ولم يقع من أبي لهب .
بينما اإلرادة الكونية ال بد أن تقع ،ولكنها تكون فيما يحبه هللا وفيما ال يحبه هللا.
هذا ما يتعلق بمسألة القضاء والقدر ،وال يحتاج العبد أن يتوسع في هذه المسألة
كثيرا ،يتوقف فقط عند أدلة الكتاب والسنة.
وبقي شيء أخير في هذا المبحث أود أن نتحدث عنه وهو أنَّه قد خالف أهل السنة
في مسألة القضاء والقدر فرقتان ،وهما :الجبرية والقدرية.
الجبرية :هم الذين يقولون بأن العبد مجبور على أفعاله ال اختيار له ،نعوذ باهلل من
قولهم ،وقد تقدم الرد عليهم فيما قررناه.
والقدرية ،الذين يقولون بأن العبد مستقل بعمله ،هو الذي يوجد عمله ،وهللا سبحانه
وتعالى لم يخلق أفعال العباد ،وهذه الطائفة أيضا ضلت عن طريق الهداية ،وأثبتوا
خالقا مع هللا ،وهللا سبحانه وتعالى يقول}للا خالق كل شيء{[الزمر} ،]62 :وللا
خلقكم وما تعملون{[الصافات ،]96 :هذه اآليات واضحة في الرد على هذه العقيدة
الفاسدة.
98
متن
فصل
واإليمان قول باللسان ،وعمل باألركان ،وعقد بال َجنان ،يزيد بالطاعة وينقص
بالعصيان.
ص َالة َ {و َما أ ُ ِم ُروا ِإ َّال ِليَ ْعبُد ُوا هللا ُم ْخ ِل ِ
صينَ لَهُ الدِينَ ُحنَفَا َء َويُ ِقي ُموا ال َّ قال هللا تعالىَ :
ِين ْالقَ ِي َم ِة} [البينة ]5 :فجعل عبادة هللا وإخالص القلب وإقام الز َكاة َ َوذَ ِل َك د ُ
َويُؤْ تُوا َّ
الصالة وإيتاء الزكاة كله من الدين.
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم« :اإليمان بضع وسبعون شعبة ،أعالها
شهادة أن ال إله إال هللا ،وأدناها إماطة األذى عن الطريق».
فجعل القول والعمل من اإليمان.
وقال تعالى{ :فَزَ ادَتْ ُه ْم ِإي َمانا} [التوبة ]124 :وقالِ { :ليَ ْزدَادُوا إِي َمانا} [الفتح. ]4 :
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم« :يخرج من النار من قال ال إله إال هللا وفي
قلبه مثقال برة ،أو خردلة ،أو ذرة من اإليمان» فجعله متفاضال.
99
الشرح
اإليمان قول وعمل تفسير شرعي لإليمان ،بينما في اللغة هوالتصديق ،وقال بعض
أهل العلم :هواإلقرار.
دلت على ذلك أدلة الكتاب والسنة ،األدلة الشرعية تدل على َّ
أن اإليمان يكون من
هذه األركان الثالثة :القول ،واالعتقاد ،والعمل ،ال القول وحده ،وال العمل وحده،
وال االعتقاد وحده ،بل هذه الثالثة هي اإليمان في الشرع .
قال رحمه للا تعالى ( :واإليمان قول باللسان ،وعمل باألركان ،وعقد بالجنان،
يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان)
اإليمان قول باللسان :ال يكون العبد مؤمنا حتى يقول بلسانه كلمة التوحيد :ال إله
إال هللا محمد رسول هللا ،هذا األمراألول.
100
يعرف بهذا أن االعتقاد القلبي وحده ال يكفي ،والقول اللساني وحده ال يكفي،
والعمل بالجوارح وحده ال يكفي ،حتى تجتمع هذه الثالثة كي يكون العبد مؤمنا ،ال
يجزئ واحد من الثالثة إال باآلخر.
ويزيد بالطاعات :العبادات المختلفة كلها تزيد اإليمان ،ومنها الصالة والصيام
والزكاة والحج وغيرها ،كلما زادت زاد إيمان العبد وزادت طاعته ،وكلما نقصت
نقص على حسب العمل ،و إذا كان العمل واجبا نقص إيمانه الواجب ،وإذا كان
مستحبا نقص إيمانه المستحب؛ الكمال المستحب.
قال هللا تعالى} وما أمروا إال ليعبدوا للا مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا
الصالة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة{[البينة ،]5 :هذا الدين القيم المستقيم الذي
ال اعوجاج فيه.
( ويقيموا الصالة ويؤتوا الزكاة) هذا الشاهد من األمر :أنه أدخل الصالة وأدخل
الزكاة في الدين الذي هو اإليمان ،ودين هللا سبحانه وتعالى دين اإلسالم الذي هو
اإليمان.
فهذه اآلية فيها دليل على أن اإلخالص وهو قلبي ،والصالة والزكاة وهما عمل
جوارح من اإليمان .
قال ( :فجعل عبادة للا تعالى ،وإخالص القلب ،وإيقام الصالة ،وإيتاء الزكاة؛ كله
من الدين .وقال رسول للا صلى للا عليه وسلم« :اإليمان بضع وسبعون شعبة،
101
أعالها شهادة أن ال اله إال للا ،وأدناها إماطة األذى عن الطريق»( )1فجعل القول
والعمل من اإليمان)
قال( :وقال تعالى} فزادتهم إيمانا ً{[التوبة ]124 :وقال} :ليزدادوا إيمانا ً{[الفتح:
]4وقال رسول للا صلى للا عليه وسلم « :يخرج من النار من قال :ال إله إال
( )2
فجعله متفاضالً) للا ،وفي قلبه مثقال برة ،أو خردلة ،أو ذرة من إيمان»
)}فزادتهم إيمانا ً }{ليزدادوا إيمانا ً}) هذه اآليات تدل على زيادة اإليمان ،وهي
صريحة بذلك ،المؤلف يقرر بها أن اإليمان يزيد وينقص وهذا مجمع عليه عند
أهل السنة وهي عقيدتهم ،وهذه األدلة على ذلك.
( يخرج من النار من قال :ال إله إال للا ،وفي قلبه مثقال برة ،أو خردلة ،أو ذرة
من إيمان) هذا قول النبي صلى هللا عليه وسلم ،وقد جعل اإليمان متفاوتا بعضه
أكبر من بعض ،ويتناقص اإليمان إلى أن يصل إلى هذه الدرجة ،فاإليمان يزيد
وينقص.
( )1متفق عليه :البخاري ( ، )9ومسلم( )35عن أبي هريرة رضي هللا عنه.
1متفق عليه :البخاري ( ،)44،7410مسلم ()193ال عن أنس بن مالك رضي هللا عنه.
102
قال( :فجعله متفاضالً) بعضه بقدرالبرة ،أي بقدر وزن القمحة ،وبعضه بقدر
الخردلة ،والخردل نبت صغير الحب ،وبعضه بقدر الذرة ،أي بقدر وزن النملة
الصغيرة ،وكل واحدة منها وزنها أكبر من األُخرى ،ففي هذا رد على الذين
يقولون اإليمان شيء واحد ال يتفاضل ،وال يزيد وينقص ،وهو في القلب فقط ،وهم
المرجئة .
فاإليمان هو هذا الذي تقرر عندنا في الشرع وهو :قول باللسان ،واعتقاد بالقلب،
وعمل بالجوارح واألركان.
أعمال الجوارح كلها من اإليمان ،لكن إذا زال بعضها ال يزول اإليمان بالكلية،
لكن إذا زال العمل بالكلية ،زال ركن من األركان الثالثة وهي ( :قول اللسان،
واعتقاد القلب ،وعمل الجوارح).
فإذا ذهب عمل الجوارح بالكامل زال ركن وذهب اإليمان ،وإذا زال القول زال
ركن وذهب اإليمان ،إذا زال االعتقاد زال ركن وذهب اإليمان ،فاإليمان ال يتحقق
إال بهذه األركان الثالثة.
أ َّما آحاد العمل كالزكاة مثال والصيام والحج ،فإذا زال الحج عند المؤمن ،لم يحج
يبقى مؤمنا ،ولكنه نقص إيمانه الواجب ،حصل عنده نقص في اإليمان الواجب
وهذا مستحق للعقاب عند هللا تبارك وتعالى.
وأما الصالة فحصل فيها خالف بين أهل العلم ،والراجح في ذلك أن من ترك
الصالة بالكلية ذهب إيمانه ولم يعد مؤمنا ،بل هو كافر خارج من ملة اإلسالم .
103
قول النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم « :العهد الذي بيننا وبينهم الصالة فمن تركها فقد
كفر» ،1وقوله « :بين العبد وبين الكفر أوالشرك الصالة» ،2دليل على ذلك ،مع
فهم الصحابة .
إذن ال يفصل العبد عن الكفر أوالشرك إال الصالة ،فمن تركها فقد دخل في الكفر
أوالشرك على مقتضى ما قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،فالحذر الحذر من
التهاون في أمر الصالة ،فأمرها عظيم ،وأول ما يحاسب به العبد يوم القيامة هي
الصالة.
لكن كون اإليمان ال يصح إال بعمل الجوارح غير مرتبط بهذه المسألة ،فحتى الذين
ال يقولون بكفر تارك الصالة من أهل السنة ،يقولون إذا لم يوجد عمل الجوارح
وجد األركان الثالثة
مطلقا ال بعمل واحد وال بأكثر ال يكون العبد مؤمنا ،ألنه لم يُ ِ
لإليمان ،يكون فقط أوجد القول واالعتقاد ،وهذا ال يكفي عند أهل السنة ،ومنهم
الشافعي الذي ال يكفر تارك الصالة ،وهو الذي نقل اتفاق أهل السنة عليه .
104
. بقتلهم وسلم
والفرق الثانية المرجئة ،وهؤالء اتفقوا جميعا على أن أعمال الجوارح ليست من
اإليمان ،فبعضهم قال :اإليمان قول فقط ،وبعضهم قال :اإليمان قول واعتقاد فقط
،ولهم أقوال أخرى ،ولكن اجتمعت جميعها على أن أعمال الجوارح ليست من
اإليمان.
105
متن
اإليمان بكل ما أخبر به الرسول صلى هللا عليه وسلم
ويجب اإليمان بكل ما أخبر به النبي صلى هللا عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما
شاهدناه ،أو غاب عنا ،نعلم أنه حق وصدق ،وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ،ولم
نطلع على حقيقة معناه.
مثل :حديث اإلسراء والمعراج ،وكان يقظة ال مناما؛ فإن قريشا أنكرته وأكبرته،
ولم تنكر المنامات.
ومن ذلك :أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السالم ليقبض روحه لطمه ففقأ
عينه ،فرجع إلى ربه فرد عليه عينه.
ومن ذلك :أشراط الساعة ،مثل :خروج الدجال ،ونزول عيسى ابن مريم عليه
السالم فيقتله ،وخروج يأجوج ومأجوج ،وخروج الدابة ،وطلوع الشمس من
مغربها ،وأشباه ذلك مما صح به النقل.
وعذاب القبر ونعيمه حق ،وقد استعاذ النبي صلى هللا عليه وسلم منه ،وأمر به في
كل صالة.
وفتنة القبر حق ،وسؤال منكر ونكير حق.
{ونُ ِف َخوالبعث بعد الموت حق ،وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السالم في الصور َ
ث ِإلَى َر ِب ِه ْم يَ ْن ِسلُونَ } [يس.]51 : ور فَإِذَا ُه ْم ِمنَ ْاأل َ ْجدَا ِ فِي الص ِ
ويحشر الناس يوم القيامة حفاة ،عراة ،غرال ،بهما ،فيقفون في موقف القيامة حتى
يشفع فيهم نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم ،ويحاسبهم هللا تبارك وتعالى ،وتنصب
الموازين ،وتنشر الدواوين ،وتتطاير صحائف األعمال إلى األيمان والشمائل {فَأ َ َّما
ب ِإلَى أ َ ْه ِل ِه َم ْس ُرورا - سابا يَسِيرا َ -ويَ ْنقَ ِل ُ ُ
ب ِح َ س ُ ف يُ َحا َس ْو َي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه -فَ ََم ْن أوتِ َ
ُ
س ِعيرا } صلَى َ عو ثُبُوراَ -ويَ ْ ف يَ ْد ُ
س ْو َظ ْه ِر ِه -فَ َ ي ِكتَابَهُ َو َرا َء َ َوأ َ َّما َم ْن أوتِ َ
[االنشقاق.]12 - 7 :
ت َم َو ِازينُهُ فَأُولَ ِئ َك ُه ُموالميزان له كفتان ولسان توزن به األعمال {فَ َم ْن ثَقُلَ ْ
س ُه ْم فِي َج َهنَّ َم خَا ِلدُونَ } ت َم َو ِازينُهُ فَأُولَ ِئ َك الَّذِينَ َخس ُِروا أ َ ْنفُ َ ْال ُم ْف ِل ُحونَ َ -و َم ْن َخفَّ ْ
[المؤمنون.]103 - 102 :
ولنبينا محمد صلى هللا عليه وسلم حوض في القيامة ،ماؤه أشد بياضا من اللبن،
وأحلى من العسل ،وأباريقه عدد نجوم السماء ،من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها
أبدا.
والصراط حق يجوزه األبرار ،ويزل عنه الفجار.
ويشفع نبينا صلى هللا عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر،
فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحما وحمما ،فيدخلون الجنة بشفاعته.
106
ولسائر األنبياء والمؤمنين والمالئكة شفاعات.
ضى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْشيَتِ ِه ُم ْش ِفقُونَ } [األنبياء: قال تعالىَ { :و َال يَ ْشفَعُونَ ِإ َّال ِل َم ِن ْ
ارت َ َ
]28وال تنفع الكافر شفاعة الشافعين.
والجنة والنار مخلوقتان ال تفنيان ،فالجنة مأوى أوليائه ،والنار عقاب ألعدائه،
ب َج َهنَّ َم خَا ِلدُونَ َ -ال يُفَت َّ ُر َ
ع ْن ُه ْم وأهل الجنة فيها مخلدون { ِإ َّن ْال ُم ْج ِر ِمينَ فِي َعذَا ِ
سونَ } [الزخرف.]75 - 74 : َو ُه ْم فِي ِه ُم ْب ِل ُ
ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح ،فيذبح بين الجنة والنار ،ثم يقال« :يا أهل
الجنة خلود وال موت ويا أهل النار خلود وال موت».
الشرح
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :فصل :اإليمان بكل ما أخبر به الرسول صلى للا
عليه وسلم)
أي سواء كان من األمور المشاهدة أو الغائبة عنا التي ال نراها ،والتي ال تعرف إال
باألخبارالصادقة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،فكل ما ثبت عن النَّبي صلى
هللا عليه وسلَّم وجب اإليمان به ،سواء أدركته عقولنا أم ال ،وسواء شاهدناه
بحواسنا أم ال ،النَّاس ال يتفاضلون باإليمان بالمشاهد ،المشاهد الحسي يؤمن به
الجميع ،ولكن الميزة تكون باإليمان باألمور الغيبية التي غابت عنا ،بغض النَّظر
عن كونها من نوع ما ال يدرك إال بالعقل أم ال ،ومما ال يدرك إال بالحس أو ال ،فإن
اإليمان باألمور الغيبية يميز المؤمن عن غيره ،و قد أثنى هللا سبحانه وتعالى على
ْب فِي ِه ُهدى ِل ْل ُمت َّ ِقينَ ()2
َري َ اب َال الذين يؤمنون بالغيب فقال سبحانه { :ذَ ِل َك ْال ِكت َ ُ
يُ ْن ِفقُونَ (َ )3والَّذِينَ يُؤْ ِمنُونَ ص َالة َ َو ِم َّما َرزَ ْقنَا ُه ْم الَّذِينَ يُؤْ ِمنُونَ بِ ْالغَ ْي ِ
ب َويُ ِقي ُمونَ ال َّ
107
بِ َما أ ُ ْن ِز َل إِلَي َْك َو َما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ِل َك َوبِ ْاآل ِخ َرةِ ُه ْم يُوقِنُونَ ( )4أُولَئِ َك َعلَى ُهدى ِم ْن
َر ِب ِه ْم َوأُولَ ِئ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ ([ } )5البقرة.]5-2 :
هذه المسألة من أعظم الفوارق بين أهل السنة والعقالنيين ،فأولئك ال يؤمنون إال
بما توافقه عقولهم من الغيبيات فقط ففي إيمانهم خلل ونقص ،بخالف أهل السنة
يؤمنون بكل غيب ثبت في الشرع؛ إيمانا وتسليما وانقيادا لشرع ربهم تبارك
وتعالى .
قال رحمه للا تعالى( :ويجب اإليمان بكل ما أخبر به النبي صلى للا عليه وسلم
وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا ،نعلم أنه حق وصدق ،وسواء في
ذلك ما عقلناه وجهلناه ،ولم نطلع على حقيقة معناه) فهذا من مقتضى اإليمان به،
فإن كنت بحق مؤمنا بمحمد صلى هللا عليه وسلَّم ،وأنه مبعوث من عند هللا تبارك
وتعالى ،وأنه صادق فيما يخبر به ،فيلزمك أن تؤمن بكل ما أخبر به عن ربه
تبارك وتعالى؛ ألنه ال ينطق عن الهوى بل يتكلم بوحي من هللا تبارك وتعالى
{ َو َما يَ ْن ِط ُق َع ِن ْال َه َوى (ِ )3إ ْن هُ َو ِإ َّال َو ْح ٌ
ي يُو َحى ([})4النجم ]4-3وأمر هللا
تبارك وتعالى بتصديقه ،فنصدقه فيما أخبر به ،سواء وافقته عقولنا أم لم توافقه،
فعقولنا لها حد تنتهي إليه كما قال اإلمام الشافعي ،ال يمكنها أن تدرك كل شيء ،
فواجبها التسليم ألمر هللا الذي أحاط بكل شيء علما.
قال( :مثل حديث اإلسراء والمعراج ،11وكان يقظة ال مناما ً؛ فإن قريشا ً أنكرته
وأكبرته ،ولم تنكر المنامات).
من الغيبيات التي يجب أن نؤمن بها حديث اإلسراء والمعراج ،اإلسراء هو سير
الليل ،والمعراج هي اآللة التي يعرج بها ،أي :يُصعد بها ،وعرج أي :صعد.
1متفق عليه :البخاري ( )3887،3430،3393،3207ومسلم ( )164عن أنس بن مالك رضي هللا عنه.
108
وهو في الشرع :اآللة التي يصعد بها من األرض إلى السماء ،وهو بمنزلة السلم،
لكن ال يعلم كيف هو ،وحكمه كحكم غيره من المغيبات ،نؤمن به وال نشتغل
بكيفيته.
فاإليمان باإلسراء والمعراج من اإليمان بإالمور الغيبية التي لم نرها ،و لكن النَّبي
صلى هللا عليه وسلَّم أخبرنا بها ،و كون النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أخبرنا بها -
وهو الصادق الذي ال يخبر إال بصدق ،-إذن يجب علينا أن نؤمن بها.
وقول المؤلف رحمه هللا تعالى ( :وكان يقظة ال مناما) هذا رد على الذين يقولون
بأن قصة اإلسراء والمعراج وما حصل مع النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم فيها كان في
منامه ،ال في الواقع ،وهذا باطل.
رد عليهم المصنف ،فقال :قريش أنكرته على النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم و أكبرته
واستعظمت هذا الخبر –الذي أخبر به النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم -وقريش لم تكن
تنكر المنامات ،كانوا يؤمنون بها ويعرفون المنامات ،ولكنهم أنكروا هذا الخبر،
خبر اإلسراء والمعراج ،مما يدل على أنهم فهموا من النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أنه
حقيقة و ليس مناما ،و هذا رد في محله وهو قوي عليهم.
أما قصة اإلسراء والمعراج فهي قصة طويلة و معلومة ،النَّبي صلى هللا عليه
وسلَّم كان في مكة فجاءه جبريل عليه السالم فأخذه على دابة يقال لها «البراق»،
دابة دون البغل وفوق الحصان ،سرت بالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم من مكة إلى بيت
المقدس ،فنزل صلى هللا عليه وسلَّم وربطها عند البيت ،ونزل وصلى باألنبياء في
بيت المقدس ،ث ُ َّم عرج به جبريل إلى السماء ،فمر بالسماء األولى والثانية والثالثة
والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ،وكلم هللا تبارك وتعالى ،ففرض سبحانه
وتعالى عليه خمسين صالة.
109
فلما رجع النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم إلى السماء السادسة وكان فيها موسى أخبره
أن أمته ال تقدر على ذلك ،فرجع صلى هللا عليه وسلَّم إلى رب العزة تبارك
وتعالى ،فبقي على هذا ينزل إلى موسى ويصعد إلى أن فرضها هللا تبارك وتعالى
خمس صلوات ،وأعطانا بها أجر خمسين صالة فضال و تكرما منه سبحانه
وتعالى.
فلما رجع النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم إلى موسى في السماء السادسة ،أشار عليه أن
يرجع إلى هللا سبحانه وتعالى وأن يطلب التخفيف ،ولكن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم
قال له :إني استحييت من هللا من كثرة ما راجعته في األمر.
فاستقرت الصلوات على خمس صلوات ،هذا ملخص لقصة اإلسراء والمعراج
وهي طويلة ،موجودة في الصحيحين ،و في غيرهما.
فهو خبر ثابت صحيح ال شك فيه ال ينكره إال أهل البدع والضالل ،وأهل الكفر
والجحود واإلنكار ،أما أهل السنة والجماعة فيؤمنون به أنه حقيقي ،وأنه صحيح
كما أخبرصلى هللا عليه وعلى آله وسلَّم.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :ومن ذلك أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه
السالم ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه ،فرجع إلى ربه فرد عليه عينه)11
أي من األُمورالتي يجب على المسلم أن يؤمن بها؛ ألن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم
أخبرنا بها ،حادثة لطم موسى لملك الموت .
هذه القصة في الصحيحين متفق عليها ،وفي غيرهما أيضا ،حيث جاء ملك الموت
بصورة إنسان إلى موسى عليه السالم؛ ليقبض روحه فلطمه موسى عليه السالم
ففقأ عينه ،فرجع ملك الموت إلى هللا سبحانه وتعالى ،فأعاد هللا تبارك وتعالى عليه
1متفق عليه البخاري ( )3407،1339ومسلم ( )2372عن أبي هريرة رضي هللا عنه.
110
عينه ،ث ُ َّم قال له « :ارجع إليه ،وقل له :يضع يده على متن ثور ،فله بكل ما غطى
يده بكل شعرة سنة» ،فقال موسى :ث ُ َّم ماذا؟ فقال :ث ُ َّم الموت ،فقال :إذن اآلن ،فسأل
هللا سبحانه وتعالى أن يدنيه من األرض المقدسة رمية حجر ،فقال النَّب يصلى هللا
عليه وسلَّم « :فلو كنتُ ث َّمة ألريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب األحمر»
أي عند الرمل المجتمع.
والخبر هذا في الصحيحين ،أنكره بعض أهل البدع ،فقالوا :كيف يلطم موسى
الملك و يفقأ عينه؟! فرد عليهم أهل العلم :بأن موسى لم يكن يعلم أنه ملك الموت،
جاءه على صورة إنسان ،إنسان جاء ليقبض روحك ماذا تفعل؟ إنسان جاء ليقتلك
ماذا تفعل؟ فدافع عن نفسه بهذه الطريقة ،فال نكارة في األمر.
قالوا :إذن ،لماذا لم يقتص من موسى ؟ يعني أسئلة عقلية محضة ،وهي من
السخافة بمكان ،لم يقتص من موسى ألمرين:
األمراألول :أن هللا تبارك وتعالى قد شرع لمن نظر في بيته من غير إذنه أن -
يفقأ عين من نظرة؛ ألنه من حقه ،ذاك معتد ،هذا األمراألول.
األمرالثاني :من قال لهم بأن ملك الموت كان يريد القصاص وأنه طالب -
بالقصاص؟ ف ُ
شبَههم مردودة و باطلة ،ولكن يتعلقون بأدنى شبهة ،لرد أحاديث
النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،لضعف الوازع الديني في قلوبهم ،وضعف تصديقهم
بما أخبر به صلى هللا عليه وسلَّم.
أي ومما يجب على المسلم أن يؤمن به؛ ما أخبر به النبي صلى هللا عليه وسلم من
أشراط الساعة.
111
األشراط جمع شرط وهو في اللغة :العالمة ،والساعة في اللغة هي الوقت.
قال رحمه للا تعالى( :مثل خروج الدجال) ،الدجال صيغة مبالغة من الدجل وهو
ملبس يخرج في آخر الزمان 1يدَّعي الربوبية ،ومعه فتن يفتن الكذب ،وهو رجل ِ
النَّاس بها ،من ذلك أن معه جنة ونارا ،ولكن جنَّته نار وناره جنة كما أخبرالنَّبي
صلى هللا عليه وسلَّم ،2و فتنته عظيمة حتى أنه ما جاء نبي إال و حذر أمته منه
وكان آخرهم نبينا صلى هللا عليه وسلَّم.3
وهو خارج في أمة محمد صلىاهلل عليه وسلَّم فهي آخر األمم ،وكما ذكرنا فتنته
عظيمة ،ومن عظمها أوصى النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بإالستعاذة منه في دبر كل
صالة ،4فنحن نستعيذ منه في اليوم أكثر من خمس مرات لعظم فتنته.
وهذا الحديث األخيرالذي ذكرناه يدل على وجوب مجانبة من معه فتنة في الدين،
ومن هؤالء أهل البدع والضالل ،فالشخص يظن من نفسه أنه آمن ،كما نسمع
كثيرا من الشباب يقولون :أنا أذهب وأسمع فما أجده حقا آخذ به ،وما أجده باطال
أتركه ،هذا مسكين ،لماذا؟ ألنه ال يخلو حاله :إما أن يكون ال يعرف معنى الشبهة
1متفق عليه ،البخاري ( )7130،3450و مسلم ( )2934عن حذيفة بن اليمان رضي هللا عنهما ،وقد تواترت
األحاديث بخروج الدجال.
2مسلم ( )2934عن حذيفة بن اليمان رضي هللا عنهما.
3متفق عليه البخاري
( )7407،7128،7127،7123،7126،6999،6175،5902،3441،3440،3439،3337،4402ومسلم
( )169عن ابن عمر رضي هللا عنهما.
4متفق عليه البخاري ( )7129،6376،6375،6368،832ومسلم( )587عن أم المؤمنين عائشة رضي هللا عنها.
5رواه أحمد ( )19968،19878و أبو داود ( )4319وغيرهما من طرق اسناد صحيح عن جرير بن حازم عن
محمد بن هالل عن أبي الدهيماء عن عمران بن حصين رضي هللا عنه.
112
وما تفعله في القلب ،أوأنه جاهل بالعلم أصال ،فمن جهله يظن أن عنده من العلم ما
يتمكن معه من رد الشبهات؛ فأنت إذا كنت ممن له قدرة على رد الشبهات
والضالالت ،لماذا تذهب وتتعلم عند فالن وفالن أصال؟ أنت مثلك ينبغي أن يُعلم،
فإذا لم تكن كذلك ،فليس عندك القدرة على رد الشبهات التي تعرض عليك ،فمعلمك
هو الذي يعطيك فكيف ستعرف خطأه من صوابه؟ فهذا الكالم كالم شخص ال
يعي ما يقول ،ودينه عنده رخيص ،علماء راسخون في العلم كانوا يفرون من أهل
البدع خشية وقوع شبهاتهم في قلوبهم؛ فالقلوب ضعيفة والشبه خطافة .
وكان السلف هم أئمة اإلسالم في وقتهم ال يجالسون أهل البدع ،وال يسمحون لهم
أن يجالسوهم ،لماذا؟ ألم يكن الواحد منهم قادرا على معرفة الحق من الباطل؟ كان
قادرا ولكن ما أدراه أن ت ُلقى الشبهة في قلبه فتعلق ،كما قال محمد بن سيرين
وغيره .2
فإذن ،من خشي على دينه و أراد أن يبقى في مأمن ،فليبتعد عن أهل البدع
والضالل.
والدجال ينكره العقالنيون الذين ال يؤمنون إال بما وافق عقولهم ،فيقولون :األشياء
التي أ ُخبرأنه يأتي بها ،هذه ال تتوافق مع العقل.
1أخرجه الترمذي في سننه( )4،5والبدع والنهي عنها البن وضاح ()121و القدر للفريابي(،)370،366
والشريعة لآلجري(.)2044،143،114
2عن معمر قال :كان ابن طاوس جالسا فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم قال :فأدخل ابن طاوس إصبعيه في
أذنيه وقال إلبنه ،أي بني ،أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد وال تسمع من كالمه شيئا ،قال معمر :يعني أن القلب
ضعيف .جامع معمر بن راشد( ،)400شرح أصول االعتقاد لاللكائي(،)248اإلبانة الكبرى(.)1778
113
عقولكم فاسدة ،من أين لكم أنها ال تتوافق مع العقل ،وال يمكن أن تحصل؟! كله
كالم فاسد وباطل ،أخبرالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أنها ستحصل فستحصل ،شئتم أم
أبيتم ،كما حصل في غير هذه.
ومن دالئل نبوة محمد صلى هللا عليه وسلَّم ومن دالئل صدقه أنه ما أخبر بشيء
ماض ،وال أخبر بشيء سيكون؛ إال وقع كما أخبر ،وما استطاع أحد في الدنيا أن
يثبت كذبا في خبره ،وهذا من دالئل نبوته صلى هللا عليه وسلَّم.
اليوم كم تطورت من أمور ،وكم وصل النَّاس إلى مباحث ما كانت تعرف من
القديم خاصة مسائل األجنة ،وهذه التي حدَّث عنها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم
بالتفصيل ،والكثير من االكتشافات الحديثة قد أثبتت صدق ما أخبر به النَّبي صلى
هللا عليه وسلَّم ،هذا مما يؤكد صدق نبوته صلى هللا عليه وسلَّم ،وما استطاع
جماعة أن يجمعوا على كذب خبر واحد جاء عنه صلى هللا عليه وسلَّم ،ولن
يستطيعوا ،ألن المخبر هو رب العالمين تبارك وتعالى ،الذي خلق هذا الكون ويعلم
ما فيه.
قال « :ونزول عيسى بن مريم عليه السالم فيقتله» ،1عيسى عليه السالم معروف
أنه رفع في األزمان الماضية ،وكما أخبرالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم سينزل في آخر
الزمان عند المنارة البيضاء في دمشق ،ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ،ويدرك
الدجال بباب لُد و يقتله هناك.2
«لُد» مدينة من مدن فلسطين بجانب الرملة ،يدركه على بابها فيقتله هناك عيسى
عليه السالم.
1متفق عليه ،البخاري ( )3449،3448،2472،2222ومسلم ( )155عن أبي هريرة رضي هللا عنه ،وقد
تواترت األخبار عند أهل السنة والجماعة في نزول عيسى بن مريم ،وقد روي عن عدد من الصحابة وقد دل
على ذلك القران العظيم.
2أخرجه مسلم ( )2937وغيره من حديث النواس بن سمعان رضي هللا عنه.
114
وهذا يكون في آخرالزمان بعد أن يظهر المهدي ،وظهور المهدي يسبق ظهور
الدجال الذي هو أول عالمات الساعة الكبرى.
قال رحمه للا تعالى( :وخروج يأجوج ومأجوج) يأجوج ومأجوج أ َّمتان من
النَّاس أخبر هللا تبارك وتعالى عنهم في كتابه الكريم ،وذكر النَّبي صلى هللا عليه
وسلَّم فيهم عدة أحاديث أنهم سيخرجون في آخر الزمان ،قال صلى هللا عليه وسلَّم:
1
« فُتِ َح اليَ ْو َم ِم ْن َر ْد ِم يَأ ْ ُجو َج َومأ ْ ُجو َج ِمثْ ُل َهذَاَ ،و َحلَّقَ ِبإ ِ ْ
صبَ ِع ِه َو ِبالَّتِي ت َ ِلي َها»
وم َحتَّى ت َ َر ْونَ وجاء في الحديث أن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم قالِ « :إنَّ َها َل ْن تَقُ َ
ش ْم ِس ِم ْن َم ْغ ِر ِب َها،
ع ال َّطلُو َ قَ ْبلَ َها َع ْش َر آ َيات -فَذَ َك َر -الدخَانَ َ ،والدَّ َّجا َلَ ،والدَّابَّةََ ،و ُ
سوف: سلَّ َمَ ،ويَأ َ ُجو َج َو َمأ ْ ُجو َجَ ،وث َ َالثَةَ ُخ ُ
صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ سى اب ِْن َم ْريَ َم َ َونُ ُزو َل ِعي َ
َار ت َ ْخ ُر ُ
ج آخ ُر ذَ ِل َك ن ٌ
بَ ،و ِ يرةِ ْالعَ َر ِ
ف بِ َج ِز َ بَ ،و َخ ْس ٌ ف بِ ْال َم ْغ ِر ِ
قَ ،و َخ ْس ٌ ف بِ ْال َم ْش ِر ِ
َخ ْس ٌ
اس ِإلَى َم ْحش َِر ِه ْم » رواه مسلم في صحيحه.2 ِمنَ ْال َي َم ِن ،ت َ ْ
ط ُردُ النَّ َ
قال رحمه للا تعالى( :وخروج الدابة) وهي دابة تخرج آخر الزمان ،قال تعالى
{ َو ِإذَا َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َعلَ ْي ِه ْم أ َ ْخ َر ْجنَا لَ ُه ْم دَابَّة ِمنَ ْاأل َ ْر ِ
ض ت ُ َك ِل ُم ُه ْم أ َ َّن النَّ َ
اس َكانُوا ِبآ َيا ِتنَا
َال يُوقِنُونَ }[النمل ]82 :ودل عليها الحديث السابق ،وأخرج مسلم عن النبي صلى
طلُوعُ ال َّ
ش ْم ِس ِم ْن َم ْغ ِر ِب َها، ت ُخ ُروجاُ ، هللا عليه وسلم أنه قالِ « :إ َّن أ َ َّو َل ْاآليَا ِ
احبَتِ َها ،فَ ْاأل ُ ْخ َرى َعلَى
ص ِ ضحىَ ،وأَي ُه َما َما َكان ْ
َت قَ ْب َل َ اس ُ َو ُخ ُرو ُج الدَّابَّ ِة َعلَى النَّ ِ
ِإثْ ِرهَا قَ ِريبا».3
1متفق عليه البخاري( ،)7135 ،7059 ،3598 ،3346ومسلم( )2880عن أم المؤمنين زينب بنت حمش رضي
هللا عنه.
2رواه أحمد(،)6141،6143،16144ومسلم( )2901عن حذيفة بن أسيد رضي هللا عنه.
115
قال( :وطلوع الشمس من مغربها) هذه من عالمات الساعة الكبرى التي أخبر
عنها النبي صلى هللا عليه وسلم فالواجب علينا أن نؤمن بذلك؛ ألن النَّبي صلى هللا
عليه وسلَّم أخبر بذلك كما في الحديث السابق ،وعن أبي هريرة رضي هللا عنه
س ِم ْن سا َعةُ َحتَّى ت َ ْ
طلُ َع ال َّ
ش ْم ُ قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم « :الَ تَقُو ُم ال َّ
اس آ َمنُوا أ َ ْج َمعُونَ ،فَذَ ِل َك ِحينَ { :الَ يَ ْنفَ ُع نَ ْفسا ِإي َمانُ َها
ت َف َرآهَا النَّ ُ طلَ َع َْم ْغ ِربِ َها ،فَإِذَا َ
ت فِي إِي َمانِ َها َخيْرا}»[ 1األنعام]158 : َت ِم ْن قَ ْبلُ ،أ َ ْو َك َ
سبَ ْ لَ ْم ت َ ُك ْن آ َمن ْ
قال( :وأشباه ذلك مما صح به النقل) والشاهد من هذا كله :أن هذه الغيبيات كلها
وغيرها مما ورد؛ يجب علينا أن نؤمن بها؛ ألن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أخبرنا
بها ،وهذا من أصول اإليمان العظيمة.
وقد عدد المؤلف رحمه هللا تعالى بعض المسائل التي يجب على كل مسلم أن يؤمن
بها؛ لورود الدليل بها من كتاب هللا أو من سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم،
وهذه األُمور ال تدرك إال بالسمع ،ال تدرك إال باألدلة السمعية من كتاب هللا وسنة
رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،ال تدرك بالعقل ،وال بالمشاهدة ألنها لم تقع بعد،
إنما هي مسائل غيبية أخبرنا بها ربنا تبارك وتعالى ،إما في كتابه ،أو على لسان
رسوله صلى هللا عليه وسلَّم ،فوجب علينا اإليمان بها.
عذاب القبر للفجار ،ونعيم القبر لألخيار ،للصالحين ،حق ثابت ،العذاب ثابت
والنَّعيم ثابت في القبر ،والقبر حفرة من حفر النَّار ،أو روضة من رياض الجنَّة،
دل على ذلك األحاديث الصحيحة ،وعذاب القبر ثابت بأدلة متواترة في الصحيحين
وغيرهما من كتب السنن ،ولكن التواتر نوعان :تواتر لفظي وتواتر معنوي.
أما المتواتر تواترا معنويا فال َيرد بنفس اللفظ ،ولكن تأتي عدة أحاديث فيها ما يدل
على ما ذكرنا فيه التواتر؛ كعذاب القبر هذا.
أن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم استعاذ من عذاب القبر ،جاء في
ورد حديث مثالَّ :
الصحيحين :أنه كان يقول في صالته« :الله َّم إني أعوذ بك من عذاب القبر»،2
وورد أيضا عن عائشة رضي هللا عنها أنها جاءتها يهودية فقالت لها :أعاذك هللا
من عذاب القبر ،فاستفسرت وسألت النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم عن عذاب القبر،
وأن النَّاس يعذبون في قبورهم ،3هذا
فصدَّق اليهودية ،وأكدَّ وجود عذاب القبرَّ ،
حديث آخر ،وإن كان هذا الحديث وذاك حديث اآلخر مختلفان ،إال َّ
أن األول يدل
على عذاب القبر ،والثاني كذلك يدل على عذاب القبر ،وكذلك الثالث قول النَّبي
صلى هللا عليه وسلَّم عندما مر بقبرين ،قال« :إنهما ليعذبان وما يعذبان في
كبير» ،4د َّل أيضا هذا الحديث على عذاب القبر ،فعندما تأتيك مجموعة من
األحاديث كهذه األحاديث ،كل منها يفيد وقوع عذاب القبر ،فيكون عذاب القبر
متواترا تواترا معنويا ال لفظيا ،فأحاديث عذاب القبر متواترة كما قال الحافظ ابن
حجر رحمه هللا تعالى.
1متفق عليه ،البخاري( )106و مسلم ( )1عن علي رضي هللا عنه ،وقد ورد الحديث عن الزبير بن العوام و أبي
هريرة ومغيرة بن شعبة وغيرهم رضي هللا عنهم.
2سبق تخريجه.
3متفق عليه ،البخاري( )6366،1235،1055،1049،1372ومسلم( )586،584عن عائشة رضي هللا عنها.
4متفق عليه ،البخاري( )6055،6052،1378،1361،218،216و مسلم ( )292عن ابن عباس رضي هللا
عنهما.
117
فعذاب القبر ونعيمه حق أي ثابت ،نؤمن بذلك ونصدقه؛ ألنه جاء به الكتاب
وجاءت به السنة ،أما الكتاب ،ففي قوله تبارك وتعالى{ :النار يعرضون عليها
غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلو آل فرعون أشد العذاب}[غافر ،]46 :النَّار
يعرضون عليها أي آل فرعون .أين؟ في القبر ،ألنه قال بعد ذلك{ :ويوم تقوم
الساعة} يدخلون أشد العذاب ،فهذه اآلية تدل على عذاب القبر.
1سبق تخريجه.
2أخرجه البخاري (.)6370
118
بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي اآلخرة{[ابراهيم ،]27 :قال البراء :نزلت في
عذاب القبر.1
ض َع فِي قَب ِْر ِه، سلَّ َم « :العَ ْبدُ ِإذَا ُو ِ صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ وحديث أنس :قَا َل :قال النبي َ
ان ،فَأ َ ْقعَدَاهُ ،فَيَقُوالَ ِن لَهُ:
ع نِعَا ِل ِه ْم ،أَتَاهُ َملَ َك ِ َب أ َ ْ
ص َحابُهُ َحتَّى إِنَّهُ لَيَ ْس َم ُع قَ ْر َ ي َوذَه َ
َوت ُ ُو ِل َ
سلَّ َم؟ فَ َيقُولُ :أ َ ْش َهد ُ أَنَّهُ َع ْبد ُ َّ
َّللاِ صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ ت تَقُو ُل ِفي َهذَا َّ
الر ُج ِل ُم َح َّمد َ َما ُك ْن َ
َّللاُ ِب ِه َم ْق َعدا ِمنَ ال َجنَّ ِة» ،قَا َل ار أ َ ْبدَلَ َك َّ ظ ْر ِإلَى َم ْق َعد َ
ِك ِمنَ النَّ ِ سولُهُ ،فَيُقَالُ :ا ْن ُ َو َر ُ
سلَّ َم « :فَيَ َرا ُه َما َج ِميعاَ ،وأ َ َّما ال َكافِ ُر -أ َ ِو ال ُمنَافِ ُق -فَيَقُولُ :الَ صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ
النَّ ِبي َ
ب بِ ِم ْ
ط َرقَة ْت ،ث ُ َّم يُض َْر ُْت َوالَ تَلَي َ اس ،فَيُقَالُ :الَ دَ َري َ أ َ ْد ِريُ ،ك ْنتُ أَقُو ُل َما يَقُو ُل النَّ ُ
2
ص ْي َحة يَ ْس َمعُ َها َم ْن َي ِلي ِه ِإ َّال الثَّقَلَي ِْن »
صي ُح َض ْر َبة بَيْنَ أُذُنَ ْي ِه ،فَ َي ِ
ِم ْن َحدِيد َ
فهذه اآلية مع األحاديث تؤكد حصول االمتحان ،ووقوع عذاب القبر ،فيأتي العبد
ملكان فيقعدانه ويسأالنه :من ربك؟ ،وما دينك؟ ،وماذا كنت تقول في الرجل الذي
بعث فيكم؟ فإن كان صالحا قال :ربي هللا ،ونبيي محمد صلى هللا عليه وسلَّم،
3
وديني اإلسالم ،واذا كان غير ذلك قال :ها هاه ،ال أدري»
قال( :وسؤال منكر ونكير حق) أي حق ثابت ،وهما ملكان يسأالن العبد في قبره
يأتيانه فيسأالنه عن دينه ،وعن ربه ،وعن نبيه صلى هللا عليه وسلَّم ،أ َّما السؤال
فثابت في الصحيحين ،4كما تقدم ،أ َّما تسمية منكر ونكير فقد وردت في رواية عند
الترمذي مختلف في صحتها.5
1متفق عليه ،البخاري( )4669،1369و مسلم( )2871عن البراء رضي هللا عنه.
2متفق عليه ،البخاري( )1338و مسلم(. )2870
3أخرجه أحمد( )18614،18534وأبو داوود ( )4753عن البراء بن عازب ،وأخرجه النَّسائي( )2001وابن
ماجه ( )1549،1548 ،4195جزءا منه.
4سبق تخريجه.
5أخرجه الترمذي ( )1071عن أبي هريرة رضي هللا عنه ،وقد أخرج الحديث اإلمام أحمد وابن ماجه وآخرون
من غير ذكر تسمية الملكين.
119
وال يستثنى من فتنة القبر إال الشهيد؛ لقوله صلى هللا عليه وسلَّم عندما سئل :ما بال
المؤمنين يفتنون في قبورهم إال الشهيد؟ قال « :كفى ببارقة السيوف على رأسه
فتنة» 1وكذلك «من مات مرابطا في سبيل هللا» والحديث وارد في صحيح مسلم
بذلك ،من مات مرابطا في سبيل هللا ،هؤالء ال يفتنون في قبورهم.
قال رحمه للا تعالى ( :والبعث بعد الموت حق) المراد بالبعث :إخراج النَّاس من
قبورهم بعد الموت ،وهو حق كما قال المؤلف ،أي ثابت ،وذلك حين ينفخ إسرافيل
عليه السالم في الصور ،إسرافيل ملك من مالئكة هللا تبارك وتعالى ،ينفخ في
الصور ،أي ينفخ في قرن كبير ،ينفخ نفخة فيخرج النَّاس من قبورهم ،قال تعالى:
} فإذا هم من األجداث إلى ربهم ينسلون {[يس( ،]51 :من األجداث) يعني من
القبور و(ينسلون) يعني يخرجون سراعا.
وقال تعالى{ :زَ َع َم الَّذِينَ َكفَ ُروا أ َ ْن لَ ْن يُ ْب َعثُوا قُ ْل َبلَى َو َر ِبي لَت ُ ْب َعث ُ َّن} [التغابن]7 :
وقال عز وجل{ :ث ُ َّم إِنَّ ُك ْم َب ْعدَ ذَ ِل َك لَ َميِتُونَ ث ُ َّم ِإنَّ ُك ْم َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة ت ُ ْبعَثُونَ } [المؤمنون:
.]16 - 15
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :ويحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرالً بهما ً)
بعد أن يخرج النَّاس من قبورهم يُجمع الخالئق للحساب والقضاء بينهم فقال( :
يحشر النَّاس) أي يجمعون يوم القيامة (حفاة) ال نعال وال أحذية في أقدامهم (عراة)
ال مالبس عليهم ،قالت عائشة رضي هللا عنها :وينظر الرجال والنِساء إلى
1رواه النَّسائي في السنن الكبرى( ،)2191وفي السنن( ،)2053والجهاد البن أبي عاصم( ،)230وأبو نعيم
األصفهاني في معرفة الصحابة( )7211بأسانيدهم عن صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن رجل من
الصحابة ،أن رجال قال :يا رسول هللا ،ما بال المؤمنين ، . . .وإسناده صحيح.
120
بعضهم؟ فقال النبي صلى هللا عليه وسلَّم « :يا عائشة األمر أشد من ذلك» ،1أي
فيه هول عظيم يشغل كل شخص بنفسه (غرال) أي غير مختونين (بُهما) أي ليس
معهم شيء ،يأتون وال شيء معهم.
أ َ َّو َل خ َْلق نُ ِعيدُهُ َوعْدا َعلَ ْينَا إِنَّا ُكنَّا فَا ِع ِلينَ } [األنبياء ]104 :أ َ َال َو ِإ َّن أ َ َّو َل ْالخ ََال ِئ ِ
ق
2
سى ،يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة ِإب َْرا ِهي ُم َعلَ ْي ِه ال َّ
س َال ُم» يُ ْك َ
قال( :حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى للا عليه وسلم)
أحاديث الشفاعة في الصحيحين ،2هذه الشفاعة الخاصة بالنَّبي صلى هللا عليه
وسلَّم ،وسيأتي التفصيل فيها.
عندما يحشر النَّاس يوم القيامة تقترب منهم الشمس قدر ميل ،فيغرقون في
عرقهم ،كل على حسب ذنوبه ،ومنهم من يُلج ُمهُ العرق إلجاما؛ لكثرة ذنوبه أعاذنا
هللا وإياكم ،ويشتد األمر عليهم كثيرا فيأتون إلى األنبياء؛ كي يشفعوا لهم عند هللا
سبحانه وتعالى؛ كي يبدأ الحساب ويخلصهم من ذاك الموقف.
فيأتون إلى آدم ،ويأتون إلى نوح ،و إبراهيم ،وموسى ،وعيسى ،فيقول كل نبي
منهم :نفسي نفسي ،ويذكر ذنبا إلى أن يأتوا إلى النَّبي محمد صلى هللا عليه وسلَّم
رب العزة تبارك وتعالى ث ُ َّم يأذن له
فيقول« :أنا لها أنا لها» ويذهب و يسجد عند ِ
بالشفاعة.
المؤمن تعرض عليه أعماله ث ُ َّم يعفو هللا عنه ،وأما من نوقش الحساب عذب ،كما
شةُ :فَقُ ْلتُ أ َ َولَي َ
ْس ِب» ،قَالَ ْ
ت َعائِ َ عذ َ قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّمَ « :م ْن ُحو ِس َ
ب ُ
1متفق عليه :البخاري( )3340ومسلم( )194عن أبي هريرة رضي هللا عنه
2سيأتي تخريجها إن شاء هللا .
122
سابا يَسِيرا} [االنشقاق ]8 :قَالَ ْ
ت :فَقَا َل « :إِنَّ َما ب ِح َ
س ُ
ف يُ َحا َ َّللاُ تَعَالَى{ :فَ َ
س ْو َ يَقُو ُل َّ
اب َي ْه ِل ْك ».1
س َالح َ
ش ِ ضَ ،ولَ ِك ْنَ :م ْن نُو ِق َ
ذَ ِل ِك ال َع ْر ُ
وأما السبعون ألفا فهؤالء يدخلون الجنَّة بغير حساب وال عذاب ،كما جاء في
الصحيحين ،2فال ينجو من الحساب إال السبعون ألفا الذين ذكروا في هذا الحديث،
ظله يوم ال ظل
حر الشمس في الموقف إال السبعة الذين يظلهم هللا في ِ
وال ينجو من َّ
إال ظله.3
أي موازين األعمال ،موازين :جمع ميزان ،والموازين هذه لها كفتان -كما سيأتي
إن شاء هللا تعالى -تنصب الموازين؛ لوزن األعمال.
ت َم َو ِازينُهُ فَأُولَئِ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ (َ )8و َم ْن قال تعالى { َو ْال َو ْز ُن يَ ْو َمئِذ ْال َحق فَ َم ْن ثَقُلَ ْ
ظ ِل ُمونَ }[األعراف -8 ت َم َو ِازينُهُ فَأُولَ ِئ َك الَّذِينَ َخس ُِروا أ َ ْنفُ َ
س ُه ْم بِ َما َكانُوا ِبآ َيا ِتنَا َي ْ َخفَّ ْ
]9
(وتنشر الدواوين)
الدواوين :جمع ديوان ،وهي الكتب التي تكتب فيها أعمال بني آدم.
كل شيء يعمله العبد ،مكتوب في صحف ،ويوم القيامة يأخذ كتابه إما بيمينه إن
كان مؤمنا ،أو بشماله إن كان كافرا .
نؤمن بكل هذا ونصدق به؛ ألن هللا سبحانه وتعالى أخبرنا به ،وألن النَّبي صلى
هللا عليه وسلَّم -وهو الصادق المصدوق -أخبرنا أيضا بذلك ،فنحن نؤمن ب َّ
أن كل
هذا سيحصل.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :والميزان له كفتان ولسان توزن به األعمال)
أي الميزان الذي توزن به األعمال يوم القيامة له كفتان ،ولسان ،توزن به
األعمال.
وأما الكفتان فورد ذكرهما في حديث البطاقة الذي قال فيه النَّبي صلى هللا عليه
وسلَّم « :فتوضع السجالت في كفة والبطاقة في كفة» ،1فعلمنا أن الميزان له
كفتان.
وأما اللسان فلم أجد عليه دليال من الكتاب أو السنة ،ولكن قال أبو إسحاق الزجاج
« :أجمع أهل السنة على اإليمان بالميزان ،وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة،
وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل باألعمال» . 2وهذا كاف.
وقد حصل خالف بين أهل العلم :هل األعمال هي التي توزن؟ أم يوزن النَّاس
أنفسهم؟ أم توزن الصحف؟ خالف بين أهل العلم ،والظاهر َّ
أن كل هذا يحصل؛
ألن األدلة تدل على ذلك.
وفي حديث أبي هريرة – أخرجه البخاري -يوزن الشخص نفسه قال النبي
ين يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِةَ ،ال يَ ِز ُن ِع ْندَ هللاِ الر ُج ُل ْالعَ ِظي ُم ال َّ
س ِم ُ صلى هللا عليه وسلم « :إِنَّهُ لَيَأْتِي َّ
ضة ،ا ْق َر ُءوا {فَ َال نُ ِقي ُم لَ ُه ْم َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة َو ْزنا}».
َجنَا َح َبعُو َ
قال}( :فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك
الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون {[المؤمنون ]103 ،102
فاألعمال توزن يوم القيامة ،فإذا غلبت سيئات الشخص حسناته فهو من الهالكين،
وإذا غلبت حسناته فهو من الناجين.
قال المؤلف رحمه للا تعالى) :و لنبينا محمد صلى للا عليه وسلم حوض في
القيامة ،ماؤه أشد بياضا ً من اللبن ،وأحلى من العسل ،وأباريقه عدد نجوم
السماء(
125
عرى
(أباريقه) كاألكواب يشرب بها ،لكن لها نصف حلقة تمسك بها يقال لها ُ
(عدد نجوم السماء) أي كثيرة جدا (من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا) ال
عطش البتة ،نسأل هللا أن يجعلنا وإياكم من أهله ،وشربهم بعد ذلك في الجنَّة
ٌ يصيبه
إنما هو لالستمتاع فقط ،وجاءت بذلك أحاديث بمعنى ما ذكر المصنف رحمه هللا
تعالى.
س ض قَا َلَ « :والَّذِي نَ ْف ُ سو َل هللاِ َما آنِيَةُ ْال َح ْو ِ منها حديث أَبِي ذَر ،قَا َل :قُ ْلتُ :يَا َر ُ
اء َو َك َوا ِك ِب َها ،أ َ َال ِفي اللَّ ْيلَ ِة ْال ُم ْ
ظ ِل َم ِة س َم ِ
وم ال َُّم َح َّمد ِب َي ِد ِه َآل ِن َيتُهُ أ َ ْكث َ ُر ِم ْن َعدَ ِد نُ ُج ِ
ان ِمنَ َب فِي ِه ِميزَ ابَ ِ آخ َر َما َعلَ ْي ِه ،يَ ْشخ ُ ظ َمأ ْ ِب ِم ْن َها لَ ْم يَ ْ ص ِحيَ ِة ،آنِيَةُ ْال َجنَّ ِة َم ْن َ
ش ِر َ ْال ُم ْ
ظ َمأَْ ،ع ْر ُ
ضهُ ِمثْ ُل ُ
طو ِل ِهَ ،ما بَيْنَ َع َّمانَ ِإلَى أ َ ْيلَةََ ،ما ُؤهُ أَشَد ب ِم ْنهُ لَ ْم يَ ْ
ْال َجنَّ ِةَ ،م ْن ش َِر َ
1
بَيَاضا ِمنَ اللَّبَ ِنَ ،وأ َ ْحلَى ِمنَ ْالعَ َ
س ِل»
جسر ممدود على جهنَّم؛ ليعبر النَّاس عليه إلى الجنَّة ،وهو
ٌ الصراط هو الجسر،
ثابت بالكتاب والسنة ،ويؤمن به أهل السنة والجماعة ،قال هللا تبارك وتعالى} :
وإن منكم إال واردها{[مريم ،]71 :فسرها غير واحد من السلف بأنه :وروده على
الصراط ،وهذا أصح تفسير لها.
وقال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم« :ث ُ َّم يضرب الجسر على جهنَّم ،وتحل الشفاعة،
ويقولون- :أي األنبياء-الله َّم سلَّم سلَّم».
جاء في الحديث الصحيح َ :ي ُمر المؤمن على الجسر على الصراط كطرف العين،
وكالبرق ،وكالريح ،وكالطير ،وكأجأويد الخيل ،والركاب ،فناج مسلم ،ومخدوش
مرسل ،ومكدوس في جهنَّم(مخدوش مرسل) يعني مطلق.
والسير على الصراط بهذه السرعات المختلفة على حسب األعمال ،فاألعمال هي
التي تجعلك تسير بشكل أسرع من اآلخرين ،وجاء ذلك في صحيح مسلم في رواية
واضحة في ذلك قال« :تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول :يا رب
سلَّم سلَّم ،حتى تعجز أعمال العباد ،حتى يجيء الرجل فال يستطيع السيرإال
زحفا» 1ألعماله القليلة.
قال رحمه للا تعالى« :ويشفع نبينا صلى للا عليه وعلى آله وسلم فيمن دخل
النار من أمته من أهل الكبائر ،فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحما ً
وحمما ً ،فيدخلون الجنة بشفاعته ،ولسائر األنبياء والمؤمنين والمالئكة
شفاعات ،2قال تعالى } :وال يشفعون إال لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون {
[األنبياء ،]28 :وال تنفع الكافر شفاعة الشافعين.9
الشفاعة :هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة ،والشفاعة يوم القيامة
نوعان:
شفاعة خاصة بالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،وشفاعة عامة له ولغيره من األنبياء
1رواه مسلم ( )195عن حذيفة بن اليمان رضي هللا عنه.
2سبق تخريجه في المتفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه.
127
والمالئكة والصالحين والشهداء ،فالخاصة بالنَّبي صلىاهلل عليه وسلَّم هي الشفاعة
العظمى ،الشفاعة في أهل الموقف لقيام الحساب.
وأما الشفاعة العامة فهي الشفاعة فيمن دخل النَّار من المؤمنين من أهل الكبائر
أن يخرجوا منها ،جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال :قال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلَّم « :أما أهل النَّارالذين هم أهلها فال يموتون فيها وال يحيون ،ولكن ناس
أصابتهم النَّار بذنوبهم -أو قال بخطاياهم -فأماتهم إماتة ،حتى إذا كانوا فحما أُذن
بالشفاعة» ،1وأحاديث الشفاعة في الصحيحين كثيرة تدل على خروج المذنبين من
النَّار ،وكما قال صلى هللا عليه وسلَّم« :شفاعتي ألهل الكبائر من أمتي».2
فشفاعة النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم وشفاعة المالئكة وشفاعة الصالحين ،كلها ثابتة
في أحاديث كثيرة لم ينكرها إال الخوارج والمعتزلة ،بناء على أصولهم أ َّن صاحب
الكبيرة كافر ال يخرج من النَّار ،أما أهل السنة والجماعة فيعتقدون أ َّن صاحب
الكبيرة مؤمن ناقص اإليمان أوأنه فاسق يعذب في نار جهنَّم -إن شاء هللا له ذلك ،-
على قدر ذنوبه ،ث ُ َّم يخرج منها كما صحت بذلك أحاديث كثيرة.
الشرط األول :إذن هللا للشافع أن يشفع ،وهذا مأخوذ من قول هللا تعالى } :من ذا
الذي يشفع عنده إال بإذنه{[البقرة ،]255 :فال أحد له قدرة على أن يشفع إال إن أذن
هللا سبحانه وتعالى بذلك.
1سبق تخريجه.
2رواه أحمد( )13222وأبو داود( )4739والترمذي ( )2435،2436عن أنس رضي هللا عنه.
وابن ماجه( )4310عن جابر بن عبدهللا رضي هللا عنهما ،وقال الترمذي عقب حديث جابر :غريب من هذا
الوجه مستغرب عن حديث جعفر بن محمد.
128
الشرط الثاني :أن يرضى أن يُشفع في المشفوع فيه ،فال يشفع أحد في أحد إال أن
يرضى هللا سبحانه وتعالى لفالن أن يشفع في فالن ،قال } وال يشفعون إال لمن
ارتضى{[األنبياء ]28 :من ارتضى أن يشفعوا فيه.
فأما الكافر فال شفاعة له ،كما قال تبارك وتعالى}:فما تنفعهم شفاعة الشافعين {
[المدثر.]48 :
قال رحمه للا تعالى ( :والجنة والنار مخلوقتان ال تفنيان) (مخلوقتان) أي
موجودتان اآلن (ال تفنيان) تبقيان إلى ما ال نهاية ،ال تفنيان البتة (فالجنة مأوى
أوليائه) يأوي إليها األولياء المؤمنون ،أي ينزلونها ويستقرون فيها (والنار عقاب
ألعدائه) يثعذبون فيها .
(وأهل الجنة فيها مخلدون) أي ال يفنون وال يخرجون من الجنَّة ،بل هم باقون
دائما }.
وقول المؤلف رحمه هللا تعالى :هما مخلوقتان؛ أي الجنَّة والنَّار ،دليل ذلك قول هللا
تبارك وتعالى في الجنَّة} :أعدت للمتقين{[آل عمران ]133 :أي أعدت ،فهي معدة
و جاهزة و موجودة للمتقين ،وقال أيضا في النَّار} :أعدت للكافرين{[آل عمران:
.]131
و جاء في أحاديث كثيرة أن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم رأى الجنَّة ورأى
النَّارأيضا ورأى أقواما يعذبون في نار جهنَّم ،ورأى أقواما ينعمون في الجنَّة في
129
أحاديث كثيرة ،حتى إنه ه َّم أن يأخذ منها عنقودا من العنب كما جاء في الحديث
قال « :إنِي رأيت الجنَّة فتناولت منها عنقودا ،ولو أخذته ألكلتم منه ما بقيت الدنيا،
و رأيت النَّار فلم َ
أر كاليوم منظرا قط أفظع منها» وهذا الحديث متفق عليه ،1وهذه
القصة في صالة الكسوف.
وأ َّما الجنَّة والنَّار وكونهما باقيتين ال تفنيان أبدا فأدلة ذلك في السنة كثيرة جدا ،قال
هللا تعالى} :جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها األنهار خالدين فيها
أبدا {[البينة ،]8 :أي ال ينقطع خلودهم البتة.
وأما في النَّار فقال تبارك وتعالى} :وال ليهديهم طريقا* إال طريق جهنم خالدين
فيها أبدا ً {[إالحزاب ]65 ،64 :وقال أيضا} :إن المجرمين في عذاب جهنم
خالدون* ال يفتر عنهم وهم فيه مبلسون {[ الزخرف ]75 ،74
هذا رد على الذين قالوا بفناء النَّار ،وهو قول مردود باطل ال يقبل من قائله،
لمخالفته لهذه األدلة الواضحة الصريحة المحكمة.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :و يؤتى بالموت في صورة كبش أملح)
عندما يستقر أهل الجنَّة في الجنَّة ،و أهل النَّار في النَّار ،يؤتى بالموت في
صورة كبش أملح ،األملح :الذي فيه بياض وسواد إال َّ
أن بياضه أكثر من سواده.
واألصل في الموت أنه شيء معنوي ليس شيئا محسوسا ،ولكن هللا سبحانه وتعالى
قادر على أن يفعل ما يشاء ،فيأتي به في صورة كبش أملح ،هكذا يجعله هللا تبارك
وتعالى .
1متفق عليه ،البخاري( )1052،748،431،29 ،3202 ،5197ومسلم( ،)2737،909،908،907،902عن ابن
عباس رضي هللا عنه.
130
(فيذبح بين الجنة والنار ،ثم يقال :يا أهل الجنة خلود وال موت ،ويا أهل النار
خلود وال موت)
هكذا جاء عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال «:يُؤْ تَى بِ ْال َم ْو ِ
ت َك َه ْيئ َ ِة َكبْش أ َ ْملَ َح،
ظ ُرونَ ،فَيَقُولُ :ه َْل ت َ ْع ِرفُونَ َهذَا؟ فَيُنَادِي ُمنَاد :يَا أ َ ْه َل ال َجنَّ ِة ،فَيَ ْش َرئِبونَ َويَ ْن ُ
فَ َيقُولُونَ :نَ َع ْمَ ،هذَا ال َم ْوتُ َ ،و ُكل ُه ْم قَ ْد َرآهُ ،ث ُ َّم يُنَادِيَ :يا أ َ ْه َل النَّ ِ
ار ،فَ َي ْش َر ِئبونَ
ظ ُرونَ ،فَيَقُولُ :ه َْل ت َ ْع ِرفُونَ َهذَا؟ فَيَقُولُونَ :نَ َع ْمَ ،هذَا ال َم ْوتُ َ ،و ُكل ُه ْم قَ ْد َويَ ْن ُ
ما أعظم هذا الحدث عند أهل الجنَّة وعند أهل النَّار ،أما أهل الجنَّة فيزيد نعيمهم
نعيما ،و أ َّما أهل النَّار فيزيد عذابهم عذابا ،فأهل النَّار ما كان لهم مفر وال مخرج
م َّما هم فيه إال الموت ،فل َّما ذُبح الموت أمامهم ،ما بقي مفر من بقاء العذاب الذي
هم فيه ،نسأل هللا أن يعافينا وإياكم ،وأن يُحسنَ خاتمتنا وخاتمتكم.
نسأل هللا سبحانه وتعالى العافية والسالمة ،هذا يدل على بقاء الجنة والنار وعدم
فنائهما .
متن
1سبق تخريجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه في المتفق عليه.
131
محمد خاتم النبيين ،ومحمد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خاتم النبيين وسيد
المرسلين ،ال يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته ،وال يقضى بين
الناس في القيامة إال بشفاعته.
وال يدخل الجنة أمة إال بعد دخول أمته صاحب لواء الحمد والمقام المحمود
والحوض المورود ،وهو إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم ،أمته خير األمم
وأصحابه خير أصحاب األنبياء عليهم السالم.
وأفضل أمته أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي
المرتضى رضي هللا عنهم أجمعين ،لما «روى عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما
قال :كنا نقول والنبي صلى هللا عليه وسلم حي :أفضل هذه األمة بعد نبيها أبو بكر
ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيبلغ ذلك النبي صلى هللا عليه وسلم فال ينكره».
وصحت الرواية عن علي رضي هللا عنه أنه قال « :خير هذه األمة بعد نبيها أبو
بكر ثم عمر ولو شئت لسميت الثالث » ،وروى أبو الدرداء عن النبي صلى هللا
عليه وسلم أنه قال« :ما طلعت الشمس وال غربت بعد النبيين والمرسلين على
أفضل من أبي بكر» ،وهو أحق خلق هللا بالخالفة بعد النبي صلى هللا عليه وسلم
لفضله وسابقته ،وتقديم النبي صلى هللا عليه وسلم له في الصالة على جميع
الصحابة رضي هللا عنهم ،وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته ،ولم يكن هللا
ليجمعهم على ضاللة.
ثم من بعده عمر رضي هللا عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه ،ثم عثمان رضي هللا
عنه ،لتقديم أهل الشورى له ،ثم علي رضي هللا عنه ،لفضله وإجماع أهل عصره
عليه.
هؤالء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيهم:
«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ».
وقال صلى هللا عليه وسلم« :الخالفة من بعدي ثالثون سنة» ،فكان آخرها خالفة
علي رضي هللا عنه.
ونشهد للعشرة بالجنة كما شهد لهم النبي صلى هللا عليه وسلم ،فقال« :أبو بكر في
الجنة ،وعمر في الجنة ،وعثمان في الجنة ،وعلي في الجنة ،وطلحة في الجنة،
والزبير في الجنة ،وسعد في الجنة ،وسعيد في الجنة ،وعبد الرحمن بن عوف في
الجنة ،وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة».
132
وكل من شهد له النبي صلى هللا عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ كقوله صلى هللا
عليه وسلم« :الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».
وقوله لثابت بن قيس« :إنه من أهل الجنة».
وال نجزم ألحد من أهل القبلة بجنة وال نار إال من جزم له الرسول صلى هللا عليه
وسلم ،لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.
وال نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ،وال نخرجه عن اإلسالم بعمل.
ونرى الحج والجهاد ماضيين مع طاعة كل إمام ،برا كان أو فاجرا ،وصالة
الجمعة خلفهم جائزة.
قال أنس :قال النبي صلى هللا عليه وسلم« :ثالثة من أصل اإليمان :الكف عمن
قال :ال إله إال هللا ،وال نكفره بذنب ،وال نخرجه من اإلسالم بعمل ،والجهاد ماض
منذ بعثني هللا عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال ،ال يبطله جور جائر ،وال
عدل عادل ،واإليمان باألقدار» ،رواه أبو داود.
ومن السنة تولي أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومحبتهم وذكر محاسنهم،
والترحم عليهم ،واالستغفار لهم والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم ،واعتقاد
{والَّذِينَ َجا ُءوا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم يَقُولُونَ َربَّنَا
فضلهم ومعرفة سابقتهم ،قال هللا تعالىَ :
ان َو َال ت َ ْجعَ ْل فِي قُلُوبِنَا ِغ ًّال ِللَّذِينَ آ َمنُوا} ا ْغ ِف ْر لَنَا َو ِ ِإل ْخ َوانِنَا الَّذِينَ َ
سبَقُونَا بِ ْ ِ
اإلي َم ِ
[الحشر]10 :
الشرح
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :ومحمد رسول للا صلى للا عليه وسلم خاتم
النبيين) فالواجب على المؤمن أن يؤمن برسالة محمد صلىاهلل عليه وسلَّم ،وأن
يصدق بأنه مرسل من عند هللا تبارك وتعالى وأنه آخر نبي ال نبي بعده ؛ لقول هللا
133
تعالى} :ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول للا وخاتم النبيين{
[األحزاب ،]40 :وقال صلى هللا عليه وسلَّم كما جاء في الحديث المتفق عليه « :ال
نبي بعدي» ،1فال نبي بعد محمد صلى هللا عليه وسلَّم.
فمن اعتقد أنه يبعث نبي بعده صلى هللا عليه وسلم فهو كافر؛ ألنه مكذب هلل
. وسلم عليه هللا صلى لرسوله ومكذب
أما نزول عيسى فليس من هذا الباب؛ ألنه ال ينسخ شريعة محمد صلى هللا عليه
وسلم بل يحكم بها ،وال يأتي بدين آخر ،بل يصلي خلف إمام هذه األمة ،ويقول:
إمامكم منكم .
قال( :وسيد المرسلين) لقول النبي صلى هللا عليه وسلَّم « :أنا سيد النَّاس يوم
القيامة وال فخر» ،2كما جاء في رواية ،فهو سيد المرسلين ،و سيد النَّاس جميعا،
فهذا من حقوق النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم التي نثبتها له؛ لكونها ثبتت له في األدلة
الصحيحة.
قال( :ال يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ،ويشهد بنبوته) لقول هللا تبارك
وتعالى{ :فال وربك ال يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ث ُ َّم ال يجدوا في
أنفسهم حرجا م َّما قضيت ويسلَّموا تسليما{[ ِ
النساء.]65 :
وقال النبي صلى هللا عليه وسلَّم « :والذي نفس محمد بيده ال يسمع بي أحد من
هذه األمة ،يهودي وال نصراني ث ُ َّم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إال كان من
أصحاب النَّار» ،3والمراد باألمة هنا التي قال فيها النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم « :ال
يسمع بي أحد من هذه األمة» أي :أ َّمة الدعوة التي دعاها صلى هللا عليه وسلَّم إلى
1متفق عليه :البخاري( )3455ومسلم( )1842عن أبي هريرة رضي هللا عنه ،ورواه البخاري(،)4416،3706
ومسلم ( )2204عن سعد بن أبي وقاص رضي هللا عنه.
2رواه أحمد( )10987والترمذي( )3615،3148وابن ماجه( )4308عن أبي سعد رضي هللا عنه ،وهو في
الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة رضي هللا عنه :البخاري( ،)3361،4712،3340ومسلم.
( )2278،194في قصة الشفاعة الكبرى.
3اخرجه أحمد ( ،)8609،8203ومسلم ( )153عن أبي هريرة رضي هللا عنه.
134
دينه ،ومنهم اليهود والنَّصارى ،فإذا لم يؤمنوا بالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم كانوا
من أصحاب النَّار.
هذا الحديث أخرجه مسلم وفيه رد على الذين يدعون أن اليهود والنصارى
مؤمنون ،وبيننا وبينهم أخوة اإليمان ،هذا كالم باطل مردود على صاحبه ،فاإليمان
الذي عند اليهود والنصارى ال ينفعهم ،اإليمان الذي ينفع هو اإليمان الشرعي الذي
أخبر به النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،اإليمان باهلل واإليمان برسول هللا صلى هللا
عليه وسلَّم ،واإليمان بما جاء به من شريعة ،فمن لم يؤمن برسول هللا صلى هللا
عليه وسلَّم فال يقبل منه ،ومن لم يؤمن باإلسالم الذي جاء به محمد صلى هللا عليه
وسلَّم فلن يقبل منه؛ قال هللا تعالى{ :وم ْن يكْف ْر به من ْاأل ْحزاب فالنار
م ْوعده}[هود ،]17:وقال} :فمن يبتغ غير اإلسالم دينا ً فلن يقبل منه{[آلعمران:
،]95وقال تعالى} :إن الدين عند للا اإلسالم {[آل عمران.]19 :
فالدين عند هللا سبحانه وتعالى هو دين اإلسالم ،الذي يقرر بأنه ال إله إال هللا ،وأ َّن
محمدا رسول هللا ،فمن لم يؤمن برسالة محمد صلى هللا عليه وسلَّم وأنه أرسل
لجميع النَّاس كافة ،فليس بمؤمن وإيمانه غير معتبر ،وال يتعلق به أحكام شرعية،
يعني :أنه ال يصح أن نقول بأنه مؤمن وأنه أخونا في اإليمان ،هذا ال يقال.
قال هللا تبارك وتعالى{ :وما أ ْرس ْلناك إال كافةً للناس}[سبأ ،]28 :وقال{ :ق ْل يا
أيها الناس إني رسول َّللا إل ْيك ْم جميعًا الذي له م ْلك السماوات و ْاأل ْرض ال إله إال
هو ي ْحيي ويميت فآمنوا باَّلل ورسوله النبي ْاألمي الذي ي ْؤمن باَّلل وكلماته
واتبعوه لعلك ْم ت ْهتدون}[األعراف]158 :
اإليمان المعتبر الذي تكون به األ ُخوة ،ويعقد عليه الوالء ،هو اإليمان الشرعي
الذي جاء به محمد صلى هللا عليه وسلَّم ،أما القول بأن اليهود والنصارى وغيرهم
135
من الكفرة هم مؤمنون ألنهم يؤمنون بوجود هللا تبارك وتعالى؛ فهذا قول باطل
وفاسد مردود على صاحبه ،وإال فكفَّار قريش أيضا مؤمنون ،ماذا قال سبحانه
وتعالى فيهم؟ {ولئن سألتهم من خلق السموات واألرض ليقولن للا} [لقمان:
،]25فهم يؤمنون بوجود هللا ويؤمنون بأنه هو الخالق و هو الرزاق ،فماذا إذن؟
هو إيمان ال ينفع ،ال ينفع اإليمان إال بأن تؤمن بما جاء به محمد صلى هللا عليه
وسلَّم.
قال رحمه للا تعالى( :وال يقضى بين الناس يوم القيامة إال بشفاعته)؛ لحديث
الشفاعة في الموقف الذي تقدم عندما يأتي النَّاس إلى األنبياء فيقول النَّبي :نفسي
نفسي ،إلى أن يأتوا إلى نبينا محمد صلى هللا عليه وسلَّم ،فيقول :أنا لها أنا لها.
قال( :وال يدخل الجنة أمة إال بعد دخول أمته) لقول النبي صلى هللا عليه وسلَّم« :
1
نحن اآلخرون األولون يوم القيامة ،ونحن أول من يدخل الجنَّة»
قال( :صاحب لواء الحمد)اللواء كالراية ،ولكنه يلف على الرمح ،وال يرفرف
كالراية ،جاء في حديث أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال« :أنا سيد ولد آدم يوم
القيامة ،وال فخر ،وبيدي لواء الحمد» 2أخرجه الترمذي ،و له شواهد يرتقي بها إن
شاء هللا تعالى إلى الحسن.
قال( :والمقام المحمود) 3هو العمل الذي يحمد عليه فاعله ،وهنا المقصود به:
الشفاعة.
قال ( :والحوض المورود) الذي يأتيه النَّاس ويردونه ،وقد تقدم دليله.
قال( :أمته خير األمم ،وأصحابه خير أصحاب األنبياء عليهم السالم) لقول هللا
تبارك وتعالى{ :كنتم خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران ،)110وقال النبي
اس قَ ْرنِي ،ث ُ َّم الَّذِينَ يَلُونَ ُه ْم ،ث ُ َّم الَّذِينَ يَلُونَ ُه ْم،»….
صلى هللا عليه وسلمَ « :خي ُْر النَّ ِ
متفق عليه ،ونقلوا اتفاق أهل السنة على أن الصحابة أفضل النَّاس بعد األنبياء.
والصحابي هو :من لقي النبي صلى هللا عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وأفضل أمته أبو بكر الصديق ،ثم عمر ،ثم
عثمان ،ثم علي المرتضى رضي للا عنهم أجمعين ،لما روى عبدللا بن عمر
رضي للا عنهما قال« :كنا نقول والنبي صلى للا عليه وسلم حي :أفضل هذه
األمة أبو بكر ،ثم عمر ،ثم عثمان ثم علي ،فيبلغ ذلك النبي صلى للا عليه وسلم
فال ينكره) 2هذه الزيادة( :ث ُ َّم علي) ليست في الحديث ،الصواب في الحديث ،وهو
الموجود في الصحاح والسنن ،بلفظ« :أفضل هذه األمة بعد نبيها أبوبكر ث ُ َّم عمر ث ُ َّم
عثمان» فهذه الزيادة (ث ُ َّم علي) ليست من الحديث.
أبو بكر الصديق معروف ،هو عبدهللا بن عثمان بن عامر من بني تيم ،آمن بالنَّبي
صلى هللا عليه وسلَّم ،وكان أول من آمن به من الرجال وكان صاحبه ورفيقه،
وأشار النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بإمامته للمسلمين من بعده ،وهو خيرالصحابة
بل هو خير النَّاس بعد األنبياء.
وعمر هو أبو حفص الفاروق ،ولقب بالفاروق؛ ألنه فرق بين الحق والباطل ،وهو
من بني عدي وجميعهم من قريش ،أبو بكر وعمر ،من قريش.
والذي استخلفه أبوبكر الصديق من بعده ،وأبو بكر وعمر صاحبا رسول هللا صلى
هللا عليه وسلَّم ووزيراه ،جاءت أحاديث كثيرة في بيان فضائلهما رضي هللا عنهما.
والرواية التي ذكرها المصنف في قوله « :وصحت الرواية عن علي رضي هللا
عنه أنه قال« :خير هذه األمة بعد نبيها أبو بكر ث ُ َّم عمر ولو شئت لسميت الثالث»
الثالث هو عثمان ،هذه الرواية صحيحة ،وفيها رد على الرافضة الذين يطعنون
في أبي بكر وعمر ،ويدعون أنهم يتولون علي بن أبي طالب ،فإن كانوا يتولونه
ويعتقدونه معصوما ،فلماذا إذن ال يأخذون بما قاله في أبي بكر وعمر؟! إنما هو
الهوى فقط ،الحاكم عندهم هو الهوى ال الدليل.
وعثمان هو أبو عبدهللا ذو النورين عثمان بن عفان من بني أمية ،وهو قرشي
أيضا ،و قد زوجه النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بابنتيه ،لذلك لقب بـ(ذو النورين)
1أخرجه أحمد( ،)836والبخاري( ،)3671لكن البخاري آخرجه بلفظ آخر عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي
رضي هللا عنه.
138
وهذه فضيلة أيَّما فضيلة ،فخير هذه األمة -كما كانوا يقولون -في عهد النَّبي صلى
هللا عليه وسلَّم« :أبو بكر ث ُ َّم عمر ث ُ َّم عثمان» ث ُ َّم علي من بعدهم.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وروى أبوالدرداء عن النبي صلى للا عليه وسلم
قال « :ما طلعت الشمس وال غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي
1
بكر») هذا صحيح المعنى ،ولكنه ضعيف اإلسناد ،إسناده ضعيف ال يصح.
قال ( :وهو أحق خلق للا بالخالفة بعد النبي صلى للا عليه وسلم) لماذا هو أحق
؟ يبين المؤلف ،فيقول« :لفضله وسابقته»( ،سابقته) في اإلسالم فهو سابق غيره،
ودخل في اإلسالم قبل الجميع ،وفضله معروف ،وله مكانته الخاصة عند النَّبي
صل ىاهلل عليه وسلَّم ،حتى قيل له« :من أحب النَّاس إليك؟ قال:عائشة ،قيل ومن
الرجال؟ قال:أبوها» ،2وتقديم النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم له في الصالة على جميع
الصحابة ،قبل موته صلى هللا عليه وسلَّم في مرضه رفض أن يتقدم أحد من
المسلمين إال أبا بكر الصديق ،3وفي هذا إشارة إلى َّ
أن أبا بكر هو الذي يخلفه من
بعده.
قال( :ثم من بعده عمر رضي للا عنه؛ لفضله ،وعهد أبي بكر إليه) أي :في
الخالفة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي هللا عنه؛ لفضله ومكانته أيضا ،وهو
خير هذه األمة بعد أبي بكر الصديق ،وعهد أبي بكر إليه ،أي ألن أبا بكر الصديق
رضي هللا عنه هو الذي استخلفه من بعده.
قال( :ثم عثمان رضي للا عنه؛ لتقديم أهل الشورى له) فعمر بن الخطاب رضي
هللا عنه جعل األمر شورى بين خيرة أصحاب النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،وهم
اختاروا عثمان من بين البقية ،فعثمان بن عفان له فضيلة ،وله مكانة عظيمة ،وهو
أفضل هذه األمة بعد النبي صلى هللا عليه وسلم وأبي بكر وعمر ،ث ُ َّم زد على ذلك
أنه قد اختاره أهل الشورى للخالفة ،بعد مشاورة الكثير من الصحابة ،فكان أحق
بها من غيره .
قال( :ثم علي رضي للا عنه؛ لفضله وإجماع أهل عصره عليه) كان هو خير هذه
األمة في وقته.
(وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وكذلك الزموا سنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعده ،ومن هم هؤالء الخلفاء الراشدون ؟ كما سيأتي إن شاء هللا تعالى
هم هؤالء األربعة.
(عضوا عليها بالنَّواجذ) أي تمسكوا بها بأسنأنكم ،أي كما نقول نحن اليوم (تمسك
بها بيديك وأسنانك) أي تمسك بها تمسكا شديدا ،واحرص عليها؛ كي ال تتفلت
منك ،فأسباب تفلتها كثيرة ،فالسنة تحتاج إلى حرص ،وتحتاج إلى ت َّمسك ،تحتاج
إلى زهد في الدنيا ،وبعد عن الفتن ،وكثرة دعاء بالثبات ،وتجنب لشبهات أهل
َّ
فإن مما يعكر على العبد عبادته وطاعته في البدع بعدم مجالستهم والسماع لهم؛
هذا الزمن ،وفي غيره ،وخصوصا في زمننا هذا الذي انفتحت فيه الدنيا على
النَّاس انفتاحا وانبساطا كبيرا ،الذي يعكر على العبد عبادته هي الدنيا؛ لكثرة
اإلشتغال بها ،وترك التعبد هلل سبحانه وتعالى ألجلها ،وهذاهو الذي يضيع العبد في
هذا الزمن ،وقد حذرنا هللا تعالى منها تحذيرا كبيرا في كتابه ،وفي سنة نبيه صلى
هللا عليه وسلَّم ،وأخبرالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم بما سيقع في آخر الزمانَّ ،
وأن
النَّاس سينشغلون بالدنيا ،وسيتركون العبادة ألجلها ،فحذر من هذا أشدَّ التحذير،
1سبق تخريجه.
141
فينبغي أن نكون عقالء ،وأن نأخذ بتحذير النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،وأن نعلم ما
الذي ينفعنا فنقبل عليه ،وما الذي يضرنا فنبتعد عنه.
وبين في هذا الحديث كثرة الخالف والشر بسبب البدع واألهواء ،وطريق النجاة
من ذلك التمسك بالكتاب والسنة واتباع منهج الصحابة رضي هللا عنهم.
قال( :وقال صلى للا عليه وسلم« :الخالفة من بعدي ثالثون سنة» ،1فكان آخرها
خالفة علي رضي للا عنه) هذا الحديث الثاني الذي ذكره و هو حديث صحيح
يبين لنا َمن المقصود بالخلفاء الراشدين من بعد النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم.
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :ونشهد للعشرة بالجنة كما شهد النبي صلى للا
عليه وسلم لهم فقال« :أبو بكر في الجنة ،وعمر في الجنة ،وعثمان في الجنة،
وعلي في الجنة ،وطلحة في الجنة ،والزبير في الجنة ،وسعد في الجنة ،وسعيد
في الجنة ،وعبدالرحمن بن عوف في الجنة ،وأبوعبيدة بن الجراح في الجنة»)2
هؤالء العشرة نشهد لهم بالجنَّة كما شهد لهم النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ولكن الذين
أما طلحة فهو طلحة بن عبيد هللا من بني تيم وهو أحدالسابقين إلى اإلسالم.
والزبير هو ابن العوام من بني قصي بني كالب ابن عمة رسول هللا صلى هللا
عليه وسلَّم ،وهو أيضا من السابقين.
قال ( :وكل من شهد له النبي صلى للا عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ كقوله:
«الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» ،)1فنشهد بالجنة لكل من شهد له النبي
صلى هللا عليه وسلم ومنهم الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب .
ولذلك ال نجزم ألحد بالشهادة ،فال نقول :فالن شهيد؛ ألن (شهيد) ما معناها ؟
معناها أنه في الجنَّة ،ومن أين لنا؟ ال ندري ،فإن الشهيد :هوالذي يُقتل في سبيل هللا
وما أدرانا من الذي قُتل في سبيل هللا ،ومن الذي قُتل في غيره؟ هذه المسألة تتعلق
بماذا؟ بالنِيات والمقاصد ،فمن قاتل لتكون كلمة هللا هي العليا فهو في سبيل هللا،
ومن قاتل لغير ذلك فليس في سبيل هللا.
ث ُ َّم إن الشهادة وصف شرعي ال يطلق إال على من مات في سبيل هللا ،وال يطلق
على الكافر أبدا وصف الشهادة ،النَّصراني واليهودي والمجوسي والمشرك كلهم
صاروا شهداء اليوم ،أي أحد يموت في عمل يحبونه حتى لو كان كفرا يقولون فيه:
فالن شهيد ،هذه الكلمة (شهيد) كلمة شرعية وصف شرعي أعطاه هللا سبحانه
وتعالى لمن يقتل في سبيله ،وجعل له مكانة عظيمة في الجنَّة ،فكيف تأتي وتصف
كافرا على غير دين اإلسالم بالشهادة؟!
ث ُ َّم إننا ال نزكي به أحدا ،وال نطلقه على أحد سواء أكان مسلما أو غير مسلم ،ولكننا
نرجو للمسلم الذي يجاهد في سبيل هللا ،فنقول :نرجو له الشهادة ،أو نحسبه شهيدا
وهللا حسيبه.
144
قال ( :وقوله لثابت بن قيس أنه من أهل الجنة) فنشهد لثابت بن قيس أنه من أهل
1
الجنَّة كما صح ذلك عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم.
قال ( :وال نجزم ألحد من أهل القبلة بجنة وال نار؛ إال من جزم له الرسول صلى
للا عليه وسلم ،لكننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء) نرجو للمحسن
بإحسانه أن يدخله هللا سبحانه وتعالى الجنَّة ،ونخاف على المسيء؛ إلساءته أن
يكون من أهل النَّار وأن يعذبه هللا سبحانه وتعالى على إساءته ،لكننا ال نجزم ألحد
معين ال بجنة وال بنار؛ فال ندري بما يختم له .
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وال نكفر أحدا ً من أهل القبلة بذنب ،وال نخرجه
عن اإلسالم بعمل) هذا الكالم ليس على إطالقه ،الصواب أن نقول( :ال نكفر أحدا
من أهل القبلة بكل ذنب) ،أما اذا كان الذنب من نواقض اإلسالم قد ثبت بدليل
الكتاب والسنة ،أنه ناقض من نواقض اإلسالم فهذا نكفره؛ ألن هللا كفره وليس
نحن ،فالتكفير يكون مرجعه إلى الكتاب والسنة ،فأي عمل حكم عليه في الشرع
سواء كان في الكتاب أوالسنة بأنه كفر فنكفر صاحبه ،فمن سب هللا فهو كافر،
ومن سبَّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم فهو كافر ،فمثل هذه نجزم بها ونقولها
ونحكم على فاعلها بالكفر؛ ألنه ثبت بدليل الكتاب والسنة أن فاعل هذا الفعل كافر.
أما مرتكب الكبيرة فهذا ال نحكم عليه بالكفر؛ ألنه لم يرد في الكتاب والسنة أنه
كافر بل هو مسلم فاسق ،أو نقول هو مؤمن ناقص اإليمان أو نقول هو مؤمن
بإيمانه فاسق بكبيرته ،ولكنه ليس بكافر ،فال نكفر صاحب الكبيرة كما يفعل
الخوارج ،فالخوارج هم الذين يكفرون أصحاب الكبائر ،أما أهل السنة والجماعة
قال النبي صلى هللا عليه وسلَّم« :من قال ال إله إال هللا دخل الجنَّة» ،قال أبو ذر:
وإن زنى وإن سرق يا رسول هللا؟ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم « :وإن زنى
وإن سرق» ،قال :يا رسول هللا وإن زنى وإن سرق؟ قال « :وإن زنى وإن
سرق» ،إلى أن قال له « :إن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر».1
إذن الزاني والسارق وغيرهما من أصحاب الكبائر هم من أهل الجنَّة إذا ماتوا على
معرضون للعذاب ،إن شاء هللا سبحانه وتعالى عذَّبهم على ذنوبهم،
التوحيد ،ولكنهم َّ
وإن شاء عفا عنهم؛ لقول هللا تبارك وتعالى { :إن للا ال يغفر أن يشرك به ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء} (النِساء ،)116 ،48فصاحب الكبيرة تحت المشيئة ،إن
شاء هللا عفا عنه و إن شاء عذبه على كبيرته.
لكن من أهل الكبائر من يعذب في نار جهنَّم ،فال يتكلن أحد على ذلك ،فبعض أهل
الكبائر أخبرنا النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أنهم سيعذبون ،وأنهم سيخرجون من نار
جهنَّم بالشفاعة.
إذن هناك من سيعذب من أهل الكبائر فال يتكل أحد على المغفرة ،فال يدري أحد
هل سيكون ممن أراد هللا سبحانه وتعالى أن يكونوا من أهل المغفرة أم من أهل
العذاب .
قال( :ونرى الحج والجهاد ماضيا ً مع كل إمام ،برا ً أو فاجرا ً ،وصالة الجماعة
خلفهم جائزة).
1متفق عليه البخاري(،1307 ،1460 ،2388 ،3222 ،5827 ،6268 ،6443 ،6444 ،6638 ،7487
)1237ومسلم( )94 ،990عن أبي ذر رضي هللا عنه.
146
هذا من أصول أهل السنة والجماعة ،نرى الحج والجهاد خلف كل إمام مسلم
ماضيا معه ،ونرى أيضا وجوب طاعته لماذا؟ ألن هللا سبحانه وتعالى أمر بطاعته
فقال{ :وأطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم} ،وقال عليه الصالة
والسالم أيضا« :ا ْس َم ْع َوأ َ ِط ْع َولَ ْو ِل َحبَشِي َكأ َ َّن َرأْ َ
سهُ زَ ِبيبَةٌ».1
وجاء عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في أحاديث كثيرة «أنكم ستجدون من بعدي
أثرة وأمورا تنكرونها» ،قالوا :فما نفعل يا رسول هللا؟ قال« :اصبروا حتى تلقوني
على الحوض» ،2فال يجوز الخروج على الحاكم المسلم ،وال ترك طاعته إذا كان
موافقا لشريعة هللا تبارك وتعالى وليس في معصية ،ما لم نر منه كفرا بواحا.
كما قال النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم« :ما لم تروا منه كفرا بواحا» ،3ما لم نر كفرا
بواحا ظاهرا واضحا ،فالواجب علينا أن نسمع ونطيع.
األدلة التي وردت فيه كلها أدلة عامة ،جاء ما يخصصها في مسألة ولي األمر،
حيث إننا وإن رأينا منه أنه يؤثر نفسه علينا في أمور الدنيا إال أنه ال يجوز لنا أن
نخرج عليه ،فالخروج عليه ليس من النَّهي عن المنكر الذي أمر هللا به.
فهذه أدلة خاصة وردت في والة األُمور يجب علينا أن نقف عندها ،فالدليل الخاص
أن الخاص يقضي على العام. أقوى من الدليل العام؛ لذلك قُرر في األُصول َّ
وردت عندنا أدلة خاصة في ولي األمر أن اإلنكار عليه ال يكون بالخروج عليه إال
أن نرى منه كفرا بواحا ،هذا هو الواجب ،وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة.
1أخرجه أحمد( )12126 ،12752والبخاري( )693 ،696 ،7142عن أنس بن مالك رضي هللا عنه.
2متفق عليه البخاري( )3603 ،7052ومسلم ( )1843عن عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه.
3متفق عليه البخاري( )719927055ومسلم ( )1709عن عبادة بن الصامت رضي هللا عنه.
147
وليس هذا إال حقنا للدماء ،وارتكابا للمفسدة الصغرى دفعا للمفسدة الكبرى؛ ألن
الخروج على الحاكم يؤدي إلى مفاسد كبيرة جدا ،منها التفرق واالختالف والتشتت
ومنها سفك الدماء ،ومنها انتهاك األعراض ،وأشياء كثيرة .
ترى اليوم النَّاس كلهم قد أدركوا هذا ،ورأوا بأعينهم ،هذه التي ترونها المفاسد
العظيمة التي تترتب على الخروج على الحالكم ،أراد الشارع الحكيم القضاء عليها
وسد أبوابها بالصبر على الحاكم الجائر إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر.
فنرى الحج والجهاد ماضيا مع كل إمام (في طاعة هللا) إنما الطاعة في المعروف،1
أما إذا أمر اإلمام بمعصية هللا فال طاعة ألحد في معصية هللا.
(برا كان أم فاجرا) إذ ال يوجد فرق شرعي ،ما لم نر منه كفرا بواحا ،هذا الضابط
الذي وضعه لنا نبينا صلى هللا عليه وسلَّم.
(وصالة الجمعة خلفهم جائزة) نصلي خلفهم الجمعة ونحج معهم ،ونجاهد أيضا،
ما لم نر منهم كفرا بواحا.
الصحابة رضي هللا عنهم صلوا خلف الحجاج بن يوسف ،مع شدة فساده .
1متفق عليه :البخاري( )4340 ،7145 ،7257ومسلم ( )1840عن علي بن أبي طالب رضي هللا عنه.
148
ون أ ُ َم َرا ُء فَت َ ْع ِرفُونَ سلَّ َم قَا َلَ « :
ست َ ُك ُ صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َ سو َل هللاِ َ و َع ْن أ ُ ِم َ
سلَ َمةَ ،أ َ َّن َر ُ
ي َوتَابَ َع» قَالُوا :أَفَ َال ض َ س ِل َمَ ،ولَ ِك ْن َم ْن َر ِئَ ،و َم ْن أ َ ْن َك َر َ
ف بَ ِر َ َوت ُ ْن ِك ُرونَ ،فَ َم ْن َع َر َ
صلَّ ْوا» .أخرجه مسلم.
نُقَاتِلُ ُه ْم؟ قَا َلَ « :الَ ،ما َ
قال) :قال أنس :قال النبي صلى للا عليه وسلم :ثالث من أصل اإليمان :الكف
عمن قال ال إله إال للا ،وال نكفره بذنب وال نخرجه عن اإلسالم بعمل ،والجهاد
ماض منذ بعثني للا عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال ال يبطله جور جائر،
وال عدل عادل ،واإليمان باألقدار» رواه أبوداود ،)1وهو ضعيف ،هذا الحديث
ضعيف ،وما ذُكر فيه قد بينا أدلته.
قال رحمه للا تعالى( :ومن السنة تولي أصحاب رسول للا صلى للا عليه وسلم،
ومحبتهم وذكر محاسنهم ،والترحم عليهم واالستغفار لهم ،والكف عن ذكر
مساوئهم وما شجر بينهم ،واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم ،قال للا تعالى:
{والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإليمان
وال تجعل في قلوبنا غالً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر ،)10 :وقال
للا تعالى { :محمد رسول للا والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} (
الفتح.))29 :
أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم لهم عند هللا تبارك وتعالى منزلة رفيعة
عاليةِ ،لما قاموا به من نصرة دين هللا تبارك وتعالى ،ونصرة رسوله صلى هللا
عليه وسلَّم ،والجهاد في سبيل هللا بأموالهم وأنفسهم ،وحفظوا دين هللا تبارك وتعالى
بحفظ كتابه وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلَّم ،وبلغوها لمن بعدهم بكل أمانة وبكل
1أخرجه أبو داود( ، )2532وسعيد بن منصور ( ،)2367والبيهقي في السنن الكبرى( )18480عن أنس بن
مالك رضي هللا عنه .وفي سنده يزيد بن أبي نشبه مجهول.
149
صدق ،فعملهم هذا بلغ بهم مكانا عاليا ومنزلة رفيعة عند هللا تبارك وتعالى ،فأثنى
عليهم جل وعال في كتابه الكريم ،وأثنى عليهم النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في سنته،
وجاءت بذلك أدلة من كتاب هللا ومن سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،تلزم كل
مسلم من بعدهم بأن يعرف لهم فضلهم ومكانتهم وسابقتهم ،لذلك أوجب هللا تبارك
وتعالى علينا هذا .
وهم بشر يحصل بينهم من الخالف ما يحصل بين األخوة عادة ،حتى لو وصل
إلى االقتتال ،يكون عن اجتهاد من أصاب منهم فله أجران ،ومن أخطأ فله أجر
واحد ،كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم في الحاكم إذا اجتهد.
من األدلة التي تدل على فضلهم ومكانتهم ما ذكره المؤلف رحمه هللا تعالى حيث
قال تعالى{ :محمد رسول هللا والذين معه} ( الفتح )29/الذين هم الصحابة،
{أشداء على الكفَّار رحماء بينهم} ،وأيضا قال هللا تبارك وتعالى { :والسابقون
األولون من المهاجرين واألنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي هللا عنهم ورضوا
عنه وأعدَّ لهم جنَّات تجري تحتها األنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } (
التوبة.)100/
واألدلة كثيرة في بيان فضل أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،وفي بيان
مكانتهم.
150
فالواجب على المسلم أن يتوالهم ،يعني أن يحبهم ،و ينصرهم ،وأن يدافع عنهم،
وأن ال يسمح ألحد بالنيل منهم ،وأن يترحم عليهم ،ويستغفر لهم ،ألن هللا تبارك
وتعالى قال{:والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين
سبقونا باإليمان وال تجعل في قلوبنا غالً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}
(الحشر.)10/
فإن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،قال« :ال تسبوا أصحابي،
وال يجوز ذكر مساوئهم َّ
فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم وال نصيفه»(،)1
وهذا متفق عليه ،فال يجوز ألحد أن يذكر أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم
بسوء ،بل الواجب هو ذكر محاسنهم وفضلهم ،ونشر ذلك بين النَّاس ،والسكوت
عما حصل بينهم من خالفات .
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :وقال النبي صلى للا عليه وسلم« :ال تسبوا
أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ً ما بلغ مد أحدهم وال نصيفه»())2
سب الصحابة بما يقتضي كفر أكثرهم؛ كفر وردة عن اإلسالم؛ ألن ذلك يؤدي إلى
الطعن في شريعة هللا كلها ،فشريعة هللا الكتاب والسنة ما بلغتنا إال عن طريق
أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،فإذا كفر الشخص أصحاب رسول هللا ،أو
طعن في عدالتهم ودينهم ،فقد أفسد الدين كله ،وضيعه .فلذلك من طعن فيهم بذلك
فهو كافر مرتد عن دين هللا.
وقد بين النبي صلى هللا عليه وسلم سبب النهي عن سبهم؛ وهو أنهم نصروا دين
هللا ،فمن يحب هذا الدين يحب من نصره ،ومن أبغضه يبغض من نصره .
1متفق عليه :البخاري( )3673ومسلم( )2541عن أبي سعد الخدري رضي هللا عنه.
2سبق تخريجه.
151
متن
ومن السنة الترضي عن أزواج الرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،أمهات المؤمنين
المطهرات المبرآت من كل سوء ،أفضلهن خديجة بنت خويلد ،وعائشة الصديقة
بنت الصديق ،التي برأها هللا في كتابه ،زوج النبي صلى هللا عليه وسلم في الدنيا
واآلخرة ،فمن قذفها بما برأها هللا منه فقد كفر باهلل العظيم.
ومعاوية خال المؤمنين ،وكاتب وحي هللا ،أحد خلفاء المسلمين رضي هللا عنهم.
الشرح
الفضائل التي وردت في الكتاب والسنة التي تدل على فضل الصحابة ،تدخل فيها
َّ
ولهن أيضا فضائل خاصة نساء النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم؛ ألنهن صحابيات،
وكفاهن شرفا أنه َّن زوجات
َّ وردت في السنة عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم،
المصطفى صلى هللا عليه وسلَّم ،فالواجب معرفة فضلهن ومكانتهن وحفظ
أعراضهن وعدم الخوض في ذلك ،والواجب أيضا معرفة شرفهن ،وأنهن شريفات
مؤمنات صالحات طاهرات.
ومن قذف عائشة رضي هللا عنها بما برأها هللا منه وهي فاحشة الزنا ،فهو كافر
مكذب لكتاب هللا ،إذ إ َّن هللا سبحانه وتعالى برأها من ذلك
مرتد عن دين هللا ،ألنه ِ
ت أُولَ ِئ َك ُم َب َّر ُءون الطيِبُونَ ِل َّ
لطيِ َبا ِ لطيِ ِبينَ َو َّ
الط ِي َباتُ ِل َّ
في كتابه في سورة النور { َو َّ
ِم َّما يَقُولُونَ لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرة ٌ َو ِر ْز ٌق َك ِري ٌم}[النور ]26 :فيقول هي بريئة ،وهو يقول هي
152
متهمة مكذبا بكتاب ربه تبارك وتعالى ،فهذا كافر مرتد عن دين هللا ،كما ذكر
المؤلف رحمه هللا تعالى ،فمن قذفها بما برأها هللا منه وهي فاحشة الزنا ،فقد كفر
باهلل العظيم.
وزوجات النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم الالتي كان فراقهن بالموت هن :خديجة بنت
خويلد ،وعائشة بنت الصديق أبي بكر ،وسودة بنت زمعة ،وحفصة بنت عمر بن
الخطاب ،وزينب بنت خزيمة الهاللية ،وأ ُم سلَمة بنت أبي سلمة المخزومية،
وزينب بنت جحش األسدية ،وجويرية بنت الحارث الخزاعية ،وأم حبيبة رملة
بنت أبي سفيان ،وصفية بنت ُحيي بن أخطب ،وميمونة بنت الحارث الهاللية.
هؤالء زوجات النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم الالتي كان فراقهن بالوفاة.
منهن من ماتت قبل النبي صلى هللا عليه وسلَّم ،وهما خديجة وزينب بنت خزيمة.
وأما مارية أم إبراهيم ابن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم فهذه ليست زوجته ،كانت أمة
من إمائه ث ُ َّم صارت أم ولده.
قال ( :ومعاوية خال المؤمنين ،وكاتب وحي للا ،أحد خلفاء المسلمين رضي للا
عنه) هو معاوية بن أبي سفيان صهر النبي صلى هللا عليه وسلم أخو زوجته أم
حبيبة رملة بنت أبي سفيان.
نص على فضله بالذات وعلى وجوب توليه ومحبته ،لشدة محاربة الرافضة
والشيعة بأصنافها لهذا الرجل ،فهم ال يحبونه ويسبونه ،ونحن نحبه ونتواله ألنه
أحد أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،وهم من أراد منهم أن يكيد لهذا الدين
ويطعن في أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،يبدؤون به يستغلون عاطفة
الناس ناحبة علي بن أبي طالب ويطعنون فيه ألنه حارب عليًّا رضي هللا عنهم
153
جميعا ،لذلك من سمعته يطعن فيه أو يستنقصه فاتهمه على اإلسالم واحذره فإنما
يريد ينك.
وهل يوصف معاوية -وهو أخ ألم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي
هللا عنهم جميعا -بخال المؤمنين أي هل يوصف أخوة أمهات المؤمنين ،بأنهم
أخوال المؤمنين؟
هذا لم يرد فيه دليل ال من كتاب هللا وال من سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،
وال تقاس األخوة أواألمومة أواألبوة أو غيرها الشرعية الدينية ،باألمومة واألبوة
واألخوة النسبية ،لذلك بما أنه لم يرد في الكتاب والسنة تسميتهم أخوال ،فال ينبغي
أن يسموا بهذا األسم ،وقد ذكر ابن تيمية رحمه هللا تعالى خالف أهل العلم في
(.)1
جواز مثل هذه التسمية
متن
ومن السنة السمع والطاعة ألئمة المسلمين وأمراء المؤمنين -برهم وفاجرهم -ما
لم يأمروا بمعصية هللا ،فإنه ال طاعة ألحد في معصية هللا ،ومن ولي الخالفة
واجتمع عليه الناس ورضوا به ،أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة ،وسمي أمير
المؤمنين ،وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين.
ومن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم ،وترك الجدال والخصومات في الدين،
وترك النظر في كتب المبتدعة ،واإلصغاء إلى كالمهم ،وكل محدثة في الدين
وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين ،كالطوائف األربع فليس بمذموم ،فإن
االختالف في الفروع رحمة ،والمختلفون فيه محمودون في اختالفهم ،مثابون في
اجتهادهم واختالفهم رحمة واسعة ،واتفاقهم حجة قاطعة.
نسأل هللا أن يعصمنا من البدع والفتنة ،ويحيينا على اإلسالم والسنة ،ويجعلنا ممن
يتبع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في الحياة ،ويحشرنا في زمرته بعد الممات
برحمته وفضله آمين.
وهذا آخر المعتقد والحمد هلل وحده وصلى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
تسليما.
الشرح
قال رحمه للا تعالى ( :ومن السنة السمع والطاعة ألئمة المسلمين وأمراء
المؤمنين ،برهم وفاجرهم ،ما لم يأمروا بمعصية للا ،فإنه ال طاعة ألحد في
معصية للا) السمع والطاعة ألئمة المسلمين هذا دلَّت عليه النصوص من الكتاب
والسنة ،ولكن ذلك مقيد بطاعة هللا ،أما إذا أمروا بمعصية هللا تبارك وتعالى فال
طاعة ألحد يعصي هللا تبارك وتعالى في معصيته ،قال هللا تبارك وتعالى{ :يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا للا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى للا والرسول إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر ذلك خير وأحسن
155
تأويالً}(النِساء ،)59/يدخل في هذه الطاعة ،طاعة األُمراء وطاعة العلماء كذلك،
وقال صلى هللا عليه وسلَّم« :السمع والطاعة على المسلم فيما أحب وكره ما لم
يؤمر بمعصية فال سمع وال طاعة».
وجاء عن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم أنه قال « :يكون عليكم أمراء تعرفون
وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلَّم ولكن من رضي وتابع» ،قالوا :أفال
نقاتلهم؟ قال«:ال ما صلوا ،ال ما صلوا» ،أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه ،وهذا
الحديث عند مسلم .هذا الحديث األخيريدل على عدم جواز الخروج عليهم ما لم نر
منهم كفرا بواحا ،أو ما لم يصلوا.
قال المؤلف رحمه للا تعالى ( :ومن ولي الخالفة واجتمع عليه الناس ورضوا به
أو غلبهم بسيفه ،حتى صار الخليفة ،سمي أمير المؤمنين ،وجبت طاعته
وحرمت مخالفته ،والخروج عليه وشق عصا المسلمين) هذا للحديث الذي ذكرناه
فإن النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم قال « :تعرفون وتنكرون» هذا يدل على وجود
المنكر منهم،ونحن نعرفه منهم « فمن أنكر فقد برأ ،ومن كره فقد سلم» من أنكر
بقلبه فقد برأ وكره أيضا بقلبه فقد سلم « ولكن من رضي وتابع» ،رضي بأعمالهم
المنكرة ،وتابعهم عليها « قالوا أفال نقاتلهم» ،قال « :ال ما صلوا ،ال ما صلوا»
فنهى النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم عن قتالهم والخروج عليهم ،وإن رأينا منهم منكرا؛
فال يستدلن أحد بوجوب األمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ،ويقول هؤالء يفعلون
المنكرات وجب الخروج عليهم من أجل النهي عن المنكر ،هذا االستدالل باطل؛
ألن تلك األدلة أدلة عامة تدل على وجوب األمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر،
لكن الحاكم له معاملة خاصة دلت عليها هذه األحاديث.
156
واألدلة الخاصة كما معلوم ومقرر عند العلماء :أن الدليل الخاص أولى وأقوى في
الداللة من الدليل العام ،الدليل العام يبقى على عمومه.
لكن إن وجد في المسألة دليل خاص فيعمل فيها بالدليل الخاص ،هنا ظهور المنكر
من والة أمور المسلمين هذا ورد فيه دليل خاص بكيفية التعامل معهم ،وقد قال
ست َ َر ْونَ َب ْعدِي أَث َ َرة ،فَا ْ
ص ِب ُروا عليه الصالة والسالم في أحاديث أخرى قال« :فَإِنَّ ُك ْم َ
ض» ،هذه هي طريقة حل هذه المشكلة وهي الصبر. َحتَّى ت َ ْلقَ ْونِي َعلَى ال َح ْو ِ
فهذا يبين كيفية التعامل مع األمراء الذين عندهم من المنكرات ما عندهم ،فال يجوز
الخروج عليهم؛ ألن الخروج عليهم يؤدي إلى مفسدة أكبر بكثير من وجود المنكر
الذي رأيناه ،الخروج عليهم يؤدي إلى تشتيت األمة وتفريقها ويؤدي أيضا إلى
سفك الدماء وانتهاك األعراض ،وإلى ذهاب األموال ،وذهاب األمن ،كل هذا يؤدي
إليه الخروج على الحاكم ،وال يحل المشكلة بل يزيد الشر شرا ،فالصبر عليه هو
الواجب في مثل هذه الحالة بالقيد الذي ذكره النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،قال « :ال
ما صلوا ،ال ما صلوا» ،وجاء في حديث عبادة بن الصامت أيضا « :بايعنا رسول
هللا صلى هللا عليه وسلَّم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا
ويسرنا ،وأثره علينا» ،أي وإن وجدنا أن الحاكم يؤثر نفسه بالخيرات علينا « وأن
ال ننازع األمرأهله؛ إال أن ترون كفرا بواحا عندكم فيه من هللا برهان» إال إن
رأيتم منهم كفرا واضحا صريحا ،عندكم فيه دليل ،تقفون أمام هللا تبارك وتعالى،
وتقولون هذا دليل على كفره ،وهذا أيضا تشترط له القدرة .
قال رحمه للا تعالى ( :ومن السنة هجران أهل البدع ،ومباينتهم ،وترك الجدال
والخصومات في الدين ،وترك النظر في كتب المبتدعة واإلصغاء إلى كالمهم،
وكل محدثة في الدين بدعة).
157
بعد أن ذكر المصنف وجوب هجران أهل البدع ،آخر شيء ذكره لنا ما هي البدعة.
أما هجران أهل البدع فواجب لماذا؟ الهجر للمبتدع يكون ألمرين:
األمر األول :هجر تأديبي لردعه ،وزجره عما وقع فيه من بدعة ،دليل ذلك حديث
كعب بن مالك رضي هللا عنه ،الذي هجره النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم واثنين معه
عندما عصوا أمر النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم ،فهو هجر تأديبي على هذا الفعل.
األمر الثاني :الهجر الوقائي ،وهذا الهجر يكون لمن؟ لرؤوس المبتدعة الذين
عندهم شبهات يلقونها على النَّاس ،فهؤالء هجرهم واجب؛ ألنك ال تأمن على نفسك
أن يغمسوك في بدعهم ،وهذا الغمس في البدعة ،وتلقي القلب لها ،وتشربها لم يأمن
أئمة السلف على أنفسهم منه ،أئمة السلف لم يأمنوا على أنفسم من أن تدخل البدع
في قلوبهم وتتشربها ،فما بالك بحالنا نحن؟! نحن من باب أولى؛ ألننا أضعف منهم
إيمانا وعلما.
فال يقول أحدكم :وهللا أنا أجلس إلى المبتدع ،فما وجدت عنده من خير أخذته ،وما
وجدت من باطل رددته ،أنت عندما يأتيك الباطل ربما ال تستطيع أن ترده كما
س ِم َع بِالدَّ َّجا ِل فَ ْليَ ْنأ َ َع ْنهُ،
ذكرالنَّبي صلى هللا عليه وسلَّم في حديث الدجال قالَ « :م ْن َ
ت»، الر ُج َل ليأْتيه وهو ي ْحسب أَنَّهُ ُمؤْ ِم ٌن فيتبعهِ ،م َّما َي ْب َع ُ
ث بِ ِه ِمنَ الشبُ َها ِ َّللاِ ِإ َّن َّ
فَ َو َّ
ت» ،1يأتيه وهو واثق من نفسه ،واثق من إيمانه، أ َ ْو « ِل َما َي ْب َع ُ
ث ِب ِه ِمنَ الشبُ َها ِ
عندما يأتي ويرى الشبهات التي مع الدجال ويسمعها ينغمس معه في شبهاته.
هذا الحديث دليل على مجانبة أي شيء فيه شبهة تفتنك في دينك وجب عليك أن
تبتعد عنه ،وال تحسن الظن بنفسك أبدا فقلوب العباد ضعيفة تتقلب ،وهي بين
وهذا الدليل الذي ذكرناه في الدجال ،هو دليل الهجر الوقائي ،وإجماع السلف
حاصل فيه نقله الصابوني والبغوي وغيرهما.
لكن هذا الهجر ال يكون ألي أحد ،شخص ال يفهم شيئا في العلم وال يدري ماهي
الشبهة ،وال يعرف كيف يلقيها ،مثل هذا ال ينطبق عليه هذا الكالم ،إنما الكالم
ينطبق على رؤوس أهل البدع.
أما الهجر الوقائي فكما ذكرنا إذا كان الشخص من رؤوس أهل البدع ،أو ممن
ينظر ألهل البدع ويلقي الشبهات فهذا هجره واجب.
وأما الجدال والخصومات :الجدل الذي هو المنازعة مع الخصم للتغلب عليه ،وهذا
الجدال ينقسم إلى قسمين:
القسم األول :يكون الغرض منه إثبات الحق وإبطال الباطل لمن يريد الحق فقط
فهذا مأمور به ،إما أمرا واجبا أو أن يكون مستحبا على حسب الحال؛ لقول هللا
تبارك وتعالى« :ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي
هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم
بالمهتدين}(النَّحل ،)125/لكن هذا الجدال ال يفعله شخص فارغ أو عنده شيء من
الثقافة ،ال ،هذا الجدال يكون من شخص مليء ،يعرف كيف يرد الشبهات في
المسألة التي يريد أن يجادل فيها.
1أخرجه أحمد ( )6569 ،6610ومسلم ( )2654عن عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنه.
159
القسم الثاني :أن يكون الغرض منه الغلبة واالنتصار للنفس ،فهذا الجدال هو
الجال القبيح المذموم الذي يجب على المسلم أن يبتعد عنه ،قال هللا تبارك وتعالى:
{هاأنتم هؤالء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل للا عنهم يوم القيامة
أمن يكون عليهم وكيالً}(النِساء ،)109/وقال سبحانه وتعالى{ما يجادل في آيات
للا إال الذين كفروا فال يغررك تقلبهم في البالد}(الحج ،)4/ألن الحق عندهم
واضح وبيِن ولكن يجادلون عنادا وتعنتا فقط.
قال رحمه للا تعالى( :وكل محدثة في الدين بدعة) هذا هو تعريف البدعة.
البدعة :هي كل محدثة في دين هللا ،تتقرب بها إلى هللا ،فأي عمل تتقرب به إلى هللا
سبحانه وتعالى ،وال أصل له في الكتاب والسنة وال كان عليه السلف؛ فهو من
البدع .قال النبي صلى هللا عليه وسلمَ « :وشَر ْاأل ُ ُم ِ
ور ُم ْحدَثَات ُ َهاَ ،و ُكل ُم ْحدَثَة بِ ْد َعةٌ
ض َاللَةٌ».
َو ُكل ِب ْد َعة َ
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وكل متسم بغير اإلسالم والسنة مبتدع) أي كل من
له سمة أي :عالمة يعرف بها غير اإلسالم والسنة فهو مبتدع.
الرافضة :هم الذين عندهم غلو في آل البيت ،فرقة من فرق الشيعة ،عندهم غلو في
آل البيت حتى اتخذوهم أربابا ،فعبدوهم مع هللا ،وتقربوا إليهم بأنواع القرب،
وجعلوهم معصومين ال يخطئون في مسائل التشريع ،فأنزلوهم منزلة األنبياء
والمرسلين ،وهذا من الغلو.
160
قال موسى بن أبي عائشة رحمه هللا تعالى وهو أحد أئمة السلف« :ما أمر هللا
تبارك وتعالى عباده بأمر إال وللشيطان فيها نزغتان ،فإما إلى غلو ،وإما إلى
تقصير».
ال يبالي بأيهما ظفر ،أي واحدة عنده جيدة سواء كان إفراط ،غلو ،مجاوزة حد ،أو
كان تقصر وميوعة ،وعدم مباالة ،فهذه وهذه من مقاصد الشيطان في أوامر هللا
صروا وفرطوا في أصحاب
تبارك وتعالى ،هؤالء الرافضة غلوا في آل البيت وق َّ
رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم فكفَّروا الصحابة ،وغلوا في آل البيت فعبدوهم مع
هللا تبارك وتعالى.
وهؤالء الرافضة كفَّار لعدة أسباب :منها أنهم يدعون أن كتاب هللا محرف.
ومنها أنهم يرمون عائشة رضي هللا عنها بالزنا ،وقد ذكر غير واحد من علماء
اإلسالم ومنهم عبد هللا بن مسعود أن من أنكر حرفا من كتاب هللا مجمعا عليه بأنه
كافر ،ذكر ذلك ابن مسعود ،وجمع من علماء اإلسالم نقلوا االتفاق على ذلك. 1
وكذلك عائشة رضي هللا عنها نقلوا االتفاق على أن من رماها بالزنا فهو أيضا
كافر2؛ لتكذيبه لكتاب هللا تبارك وتعالى ،والرافضة وقعوا في هذا وفي ذاك.
النواصب هم الذين نصبوا العداء آلل بيت النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم.
1فضائل القرآن للقاسم بن سالم( ،)936،115مصنف ابن أبي شيبة( ،)30109والمناظرة في القرآن البن قداحة
المقدس(ص.)33
2الصارم المسلول(.)571
161
وأما الجهمية فهي فرقة من فرق المتكلمين؛ الذين يقررون العقيدة في األسماء
والصفات بالعقل والكالم ال بالشرع ،ينتسبون إلى الجهم بن صفوان الذي قتل عام
مائة وواحد وعشرين ،مذهبهم في األسماء والصفات التعطيل والنَّفي ،وفي القدر
القول بالجبر ،وفي اإليمان القول باإلرجاء فجمعوا الباليا.
أما الخوارج :فهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي هللا عنه ،وقاتلهم
علي بن أبي طالب ،وكان خروج أولهم في عهد النَّبي صلى هللا عليه وسلَّم .
ذاك الرجل الذي قال :اعدل يا محمد ،1والخوارج هؤالء معروفون بتكفير مرتكب
الكبيرة ،وقد ذكر ابن تيمية في منهاج السنة ،أنهم يكفرون الحكام بالحكم بغير ما
أنزل هللا ،ويكفرون المسلمين بالتولي ،وهذا الحاصل اليوم من داعش والقاعدة .
يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم ،فتجدهم يفجرون المساجد بالمصلين ،وغير
المساجد وهم يعلمون أن أكثر من سيموت بتفجيرهم من المسلمين وال يبالون ،هذه
عالمتهم التي ذكرها النبي صلى هللا عليه وسلم في الخوارج :قال« :يقتلون أهل
اإلسالم ويدعون أهل األوثان» .متفق عليه
أما القدرية :فهم الذين يقولون بنفي القدرعن أفعال العبد ،أي العبد هو الذي يخلق
فعله وهو الذي يوجد فعلهَّ ،
وأن هللا سبحانه وتعالى لم يقدر فعل العبد ولم يخلقه.
وأما المرجئة :فهم الذين يرجئون العمل عن اإليمان ،أي يؤخرون األعمال عن
اإليمان ،فال يدخلون أعمال الجوارح في اإليمان عندهم ،ال يدخلون أعمال
الجوارح في اإليمان ،هؤالء هم المرجئة.
وأما الكرامية فهم أتباع محمد بن كرام يميلون إلى التشبيه والقول باإلرجاء..
أماالسالمة أتباع رجل يقال له محمد بن سالم يقولون بالتشبيه وفيهم تصوف.
ومن الفرق المبتدعة كذلك فرقة األشاعرة وهم من فرق المتكلمين التي تشمل
الجهمية والمعتزلة واألشاعرة والكالبية والماترودية وغيرهم ،وهؤالء يجتمعون
في تقديم العقل على النقل في االعتقاد ،ويقررون عقيدتهم بالكالم .
فينفون الصفات عن هللا ،وهم متفاوتون في ذلك ،األشاعرة يثبتون سبع صفات
وينفون الباقي ،واألشاعرة مرجئة في اإليمان ،وجبرية في القدر .
ومن الفرق المبتدعة الصوفية ،وهؤالء يقوم دينهم على أساسين :األول :الشرك
بعبادة القبور والغلو في األولياء ،والثاني :البدع بإحداث دين جديد ،فكثير من
عباداتهم محدثة ال أصل لها في الشرع .
قال المؤلف رحمه للا تعالى( :وأما بالنسبة إلى إمام في فروع الدين ،كالطوائف
األربع فليس بمذموم)
163
(في فروع الدين) بعض العلماء يقسم الدين إلى أ ُصول وفروع ،ويعنون
باألُصول :مسائل االعتقاد ،وبالفروع :مسائل الفقه.
والصحيح أنه مذموم إذا كان على وجه التعصب ،إذا كان على وجه التعصب له،
وتقديم قوله على كتاب هللا تعالى ،وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلَّم ،وعقد
الوالء والبراء على اجتهادات الرجال؛ فهو مذموم ،سواء كان في االعتقاد أو في
الفقه ال فرق.
فإن النَّبي
واالبتداع في دين هللا سواء كان في االعتقاد أو في الفقه كله مذموم َّ
صلى هللا عليه وسلَّم قال« :كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضاللة ،وكل ضاللة في
النَّار» ،1ولم يقل بدعة العقيدة وال الفقه ،كل البدع مذمومة وكلها في النَّار أي
أصحابها في النَّار.
أما إذا اتبع إماما من األئمة ،وتبنى أ ُصوله؛ ألنه يعتقد بأن أصوله أقرب إلى
الصواب وأصح وهي داخلة تحت أدلة شرعية صحيحة ،فال بأس بذلك بشرط :أنه
إذا ورد عنده الدليل من الكتاب أو من السنة قدم الدليل من الكتاب والسنة ،ولم
يتعصب للرجال ،ولكن قل من ينجو من ذلك من أصحاب المذاهب .
قال( :فإن االختالف في الفروع رحمة) هذا الكالم غير صحيح؛ فاالختالف ليس
برحمة ،والحديث الوارد في هذا المعنى حديث ضعيف واالختالف كله شر.
قال رحمه للا تعالى( :نسأل للا أن يعصمنا من البدع والفتنة) آمين.
(ويحينا على اإلسالم والسنة ،ويجعلنا ممن يتبع رسول للا صلى للا عليه وسلم
في الحياة ،ويحشرنا في زمرته بعد الممات ،برحمته وفضله آمين ،وهذا آخر
المعتقد ،والحمد هلل وحده ،وصلى للا على سيدنا محمد ،وعلى آله وصحبه وسلم
تسليما) .والحمد هلل ،ونسأل هللا أن يتقبل منا ومنكم..
1سبق تخريجه.
2متفق عليه البخاري( ،)7459،731،3640ومسلم( )1921عن المغيرة بن شعبة رضي هللا عنه.
165
166