You are on page 1of 10

60-15 ‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية‬ )‫ء‬7102 ‫ يوليو‬-‫(يناير‬ ‫الديبل‬

‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية‬


IBN ZAYDUN HIS LIFE AND HIS SERVICES IN PROSE AND
POETRY

‫حممد ياسر‬

ABSTRACT:
Abu Alwalid Ahmad bin Abdullah bin Ahmad bin Ghalib bin Zaydun Al-
Makhzumi known as Ibn Zaydun was a famous Arab poet of Cordoba and
Seville. He was born in 3001 in Cordoba to an aristocratic Arab family of
the tribe of Makhzum. He grew up during the decline of the Umayyad
caliphate and got involved in the political life of his age. His romantic and
literary life was dominated by his relations with the poet Wallada bint Al-
Mustakfi, the daughter of the Umayyad caliph Muhammad bin Abdur
Rahman known as Al-Mustakfi of Cordoba.He became the Governor in the
time of Abi Al-Walid and was the Ambassador of the caliph. He wrote
many poems in different topics, all are famous for its uniqueness and he
also wrote many letters as “Hazaliya, Jiddiya” seeking mercy and
forgiveness from the caliph. These letters have great value and place in
Arabic literature. In the last of his age he left Cordoba and went to Seville
with Abbad 2nd of Seville and his son Al-Mutamid. He was able to return
home for a period after the ruler of Seville conquered Cordoba. Much of
his life was spent in exile and the themes of last youth and nostalgia for
his city are present in many of his poems. He also composed some
charming love songs dedicated to the Umayyad princess Wallada. He
became famous as one of the best neoclassical poets in Al-Andalus and in
his poetry the theme is almost always love. And his most famous poem is
the Nuniyyah (poem with ending nun) of the 33th century. And he died in
3003 in Seville.
KEYWORDS: Ibn Zaydun, Prose, Poetry, Services, Cordoba

‫ قرطبة‬,‫خدمات‬،‫الشعرية‬, ‫النثرية‬, ‫ ابن زيدون‬:‫الكلمات المفتاحية‬

:‫الملخص‬

‫ اهلند‬،‫ نيو دهلي‬،‫ اجلامعة امللية اإلسالمية‬،‫ قسم اللغة العربية وآداهبا‬،‫ باحث‬
15
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫أبو الوليد أمحد بن عبداهلل بن أمحد بن غالب بن زيدون املخزومي يعد من أعالم الشعراء البارعني‬
‫والكتاب البارزين األندلسيني‪ .‬وولد يف سنة ‪5001‬م مبدينة قرطبة يف األندلس‪ .‬وهو ينتمي إىل األسرة‬
‫العربية الصرحية وإىل القبيلة املخزومية اليت كانت من طالئع القبائل الراحلة إىل األندلس‪ ،‬فحصل ابن‬
‫زيدون على ثقافة واسعة وصار علما بارزا يف الشعر واألدب‪.‬‬
‫نشأ ابن زيدون يف بيئة مثقفة مملوءة باحلسن واجلمال فتثقف ثقافة حسنة ونظم الشعر باكرا ويف عصر‬
‫ابن زيدون يهتم الشعراء باملوضوعات الشعرية التقليدية املدائح واملراثي والتهاين ويعاجل الشعراء‬
‫املوضوعات اليت توحيها احلياة العملية وما فيها من أحداث‪ ،‬فكان القضاء والقدر هو العنوان البارز‬
‫فيها‪.‬‬
‫وأكثر شعر ابن زيدون يف الغزل واملدح والرثاء والشكوى والعتاب وأمجله ما قاله يف سجنه متشوقا إىل‬
‫والدة بنت املستكفي فهو من نوع الغزل الصادق‪ ،‬فيه تتجلى قوة عاطفة الشاعر‪ ،‬وهي عاطفة تتأرجح‬
‫بني الشكوى والعتاب واألمل والذكرى واحلنني والرجاء‪ ،‬ويبدو الشاعر يف غزله ناقما على الوشاة حاقدا‬
‫على الدهر وتذكر فيه األمل اليت محلته إىل دار احلبيبة وتتلقى وجدانية الطبعية ووجدانية احلب يف اجملرى‬
‫السحري من الفيض الباطن‪.‬‬
‫ونرى أن ابن زيدون كمعاصريه مولع بالسجع ولكن إىل حد حمدود‪ ،‬فلما تقدم به الزمن ومترس بفنون‬
‫اآلداب وأساليب الكتاب بدأ يتخلص قليال مما التزمه من قيود وأغالل‪ ،‬وقد كان بدأ حياته الكتابية‬
‫سهبا يف رسائله مولعا باالستشهاد باحلوادث التارخيية إيل درجة غري مألوفة مشغوفا باالقتباس ولكن مع‬
‫مرور األيام أقلع عن االستشهاد باحلوادث التارخيية بعد رسالتيه اهلزلية واجلدية إال فيما ندر وقلل من‬
‫االقتباس والتضمني إال فيما اقتضته املناسبات واستدعته املواقف وختلص من ضرب األمثال إال يف فرتات‬
‫متباعدة‪.‬‬
‫وتوىل ابن زيدون الوزارة يف عهد أيب الوليد بن جهور صاحب قرطبة‪ ،‬وكان سفريا للخليفة إىل أمراء‬
‫الطوائف يف األندلس‪ ،‬مث اهتمه ابن جهور بامليل إيل املعتضد بن عباد صاحب إشبيلية فحبسه‪ ،‬حاول‬
‫ابن زيدون استعطاف ابن جهور برسائله فلم يعطف عليه‪ ،‬ويف عام ‪445‬هـ متكن ابن زيدون من اهلرب‪،‬‬
‫وحلق ببالط املعتضد الذي قربه إليه‪ ،‬فكان مبثابة الوزير‪ ،‬وقد أقام ابن زيدون يف إشبيلية حىت تويف يف‬
‫سنة ‪5005‬م‪.‬‬

‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية‪:‬‬

‫‪15‬‬
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫حاولت وبذلت فيه جهودي أن أتناول ابن زيدون كاتبا وناثرا باإلضافة إىل خدماته الشعرية ولكن‬
‫أعرف أن هذه الشخصية ال تصب يف كأس ألنه حبر زاخر‪ ،‬ورسالتاه ترمزان إىل غزيرته الشعرية والنثرية‬
‫ونالتا مكانة خالدة يف تاريخ العرب حيت أكب عليهما األدباء والنقاد لالستفادة وهتافت العلماء هتافت‬
‫الفراش على النار حرصني على حفظهما وشرحهما‪ .‬دعين أقل عنه إن هذا الشخص يندر نظريه يف‬
‫العامل ألنه قد امتلك ناصية البيان وصرف فيه حينما شاء ومىت شاء وقلما جتمع ملكة الشعر والنثر يف‬
‫شخصية حىت ما رجح كف أحدمها على اآلخر‪.‬‬
‫إن جاز لنا فنقول إنه كان حامل لواء الغزل العذري يف العصر األندلسي أو ممثلة متثيال رائعا تنطق‬
‫قصيدته النونية اليت أرسلها إىل والدة بنت املستكفي يستعطف هبا سائال إياها أن تدوم على ما كانت‬
‫قبلها يف املودة والوئام متعذرا أمامها أن تعفو خطاياه املاضية‪ ،‬استهل قصيدته مبا يلي‪:‬‬
‫وناب عن طيب لقيانا جتافينا‬ ‫أضحي التنائي بديال من تدانينا‬
‫وأهنى قصيدته هبذا البيت الذي يفوح منه عبري احلب اخلالص‪:‬‬
‫صبابة بك خنفيها فتخفينا‬ ‫عليك منا سالم اهلل ما بقيت‬

‫نسبه وحياته‪:‬‬
‫هو أبو الوليد أمحد بن عبداهلل بن أمحد بن غالب بن زيدون املخزومي‪ .‬ولد شاعرنا ابن زيدون يف أوائل‬
‫سنة ‪5001‬م بالرصافة من ضواحي قرطبة‪.‬‬
‫ينتمي ابن زيدون من جهة أبيه إىل بين خمزوم من لوي بن غالب القرشي ومن جهة أمه فلم تذكر يف‬
‫التاريخ ولكن خالصة القول أن نسب الشاعر واألديب عريب صريح وهو من أبناء الفقهاء‪.‬‬
‫وكان والده من فقهاء قرطبة وأعالمها املعدودين ومع أنه كان ضليعا يف علوم اللغة بصريا بفنون اآلداب‬
‫وأنه كان متقنا يف ضروب العلم جم الرواية واملعرفة فصيحا مجيل األخالق‪ ،‬وهذه الصفات مجيعا‬
‫جعلت له شأنا خطريا يف البالد‪ ،‬وكان احلكام يستشريونه يف اخلطري من أمورهم ويستفتونه يف املشكل‬
‫من شؤوهنم وكانت املشورة والفتوى حمصورتني يف عدد قليل من أكابر الفقهاء‪.‬‬
‫ونشأ ابن زيدون يف بيئة مثقفة وكان أبوه أول مدرس البنه فقد بدأ تثقيفه وهتذيبه وتدريبه من أول‬
‫عمره‪ ،‬لكنه ما أتيح فرصة طويلة حيت قبضت عليه يد املوت الطاحنة عندما كان ابن زيدون يف احلادية‬
‫عشرة من عمره فاهتم به جده فتثقف ثقافة حسنة ونظم الشعر باكرا‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫وإن ابن زيدون اتصل بكثري من العلماء وأعالم عصره ولكن هذا كله قام يف هنضته الشعرية وفنونه‬
‫النثرية‪ ،‬واجلدير بالذكر هنا مها الصداقة والعالقة أليب الوليد بن جهور وأبو بكر بن ذكوان‪ ،‬أبو الوليد‬
‫بن جهور كان واليا مث حاكما بعد موت أبيه‪ ،‬وأقر به أبو الوليد يف جملسه وهو كان رمحة ومعينا يف كل‬
‫حاله‪ ،‬وعندما كان ابن زيدون حمبوسا بالسجن شكى أبا الوليد ألبيه احلاكم ابن حزم‪.‬‬
‫وأبو بكر بن ذكوان هو ويل منصب الوزارة واشتهر أمره مث ويل القضاء بقرطبة وهو منصب كبري جليل‬
‫يفوق منصب الوزارة وكان هوالء األصدقاء الثالثة جيتمعون ويفرحون فينسي ابن زيدون أنه وزير وينسي‬
‫ابن جهور أنه ويل للعهد وينسي ابن ذكوان أنه من أعالم القضاة‪ .‬وكانوا يف املوعد يتلذذون بلذة‬
‫السماع ويشربون ويتناولون كؤوسا من اخلمر ويرقصون‪.‬‬
‫ويف آخر عمره ترك ابن زيدون قرطبة واتصل باملعتضد بن عباد أمري إشبيلية‪ ،‬مث أغر ابنه املعتمد الذي‬
‫خلفه باحتالل قرطبة‪ ،‬فاغتنم املعتمد استنجاد عبد امللك بن الوليد به ضد ابن ذي النون يستويل علي‬
‫قرطبة ويضمها إيل مملكته وينقل كرسي ملكه إليها‪.‬‬
‫وبقي ابن زيدون إىل جانب املعتمد حىت اضطربت األحوال يف إشبيلية‪ ،‬فأرسل املعتمد ولده احلاجب‬
‫وابن زيدون لتهدئتها‪ ،‬وكان شاعرنا كبريا يف السن مريضا‪ ،‬فاشتدت عليه وطأة احلمي وتويف يف إشبيلية‬
‫ودفن فيها تاركا ديوانا شعريا يف الغزل والرثاء والوصف والشكوى والعتاب واملديح واالعتذار وآثاره‬
‫النثرية خاصة الرسائل اليت متثل نضجا ملحوظا وخربة كبرية ودراية فائقة بأساليب الكتابة‪ ،‬وبراعة وإتقان‬
‫يف جمال الكتابة النثرية‪.‬‬

‫عصره‪:‬‬
‫عصر ابن زيدون هو عصر ملوك الطوائف ورافق ابن زيدون تقلبات األوضاع السياسية يف األندلس‬
‫فشهد سقوط دولة وقيام دويالت أخرى‪.‬‬
‫وهذا العصر مملوء بالفنت املتواليات واملتتابعات يف جانب وهذا العصر جدير بالدراسات األدبية القائمة‬
‫على مناهج علمية دقيقة وبالرغم من األوضاع السياسية السيئة واالضطرابات املستمرة فقد انتشرت‬
‫العلوم واآلداب‪ ،‬وكان األمراء يتنافسون يف تعزيزها‪ ،‬وأصبح االهتمام باملكتبات أمرا بارزا‪ ،‬فاشتغل‬
‫األندلسيون بكتب املشارقة دراسة ومعارضة وهذا ما ساعد علي اشتهار عدد من العلماء والفالسفة‬
‫أ مثال الكرماين يف الرياضيات وابن جبريوي يف املنطق والطب‪ ،‬وابن السيد البطليوسي وابن باجة يف‬
‫الفلسفة وعلم النبات‪ ،‬أما األدب فقد شهد أرقى مراحل ازدهاره بعدما حتولت أبلطة األمراء إىل‬

‫‪15‬‬
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫منتديات يقصدها الشعراء والكتاب ليفيدوا من األعطيات‪.‬‬
‫والواقع أن الشعراء والكتاب كانوا إما من أبناء اخلاصة وأدهبم يعكس حياهتم‪ ،‬وإما من خارج اخلاصة‬
‫ويف هذه احلال يستخدم األديب نبوغه لتحسني وضعه احليايت‪ ،‬وما من سبيل أمام األدباء سوى تقدمي‬
‫إنتاجهم إىل الطبقة الغنية القادرة على املكافأة‪.‬‬
‫وأما شاعرنا فكانت حياته يف ظالل أمراء مدينتني مشهورتني قرطبة وإشبيلية ونراه يتلذذ ويتنعم بروائع‬
‫النعم الوافرة بتمكنه علي املناصب العالية وحببه مع والدة بنت املستكفي اليت اقرتن امسها بامسه‪ ،‬كما نراه‬
‫يتفجع بنمامة خصومه وحاسديه ومنافسيه ويتلقى مرارة السجن ويف كل حال يسبق منافسيه يف ميادين‬
‫األدب والشعر ويثبت منزلته الرفيعة يف صدور امللوك واألمراء وعندما تسلم ابن جهور احلكم استقدم‬
‫الشاعر ووكل إليه النظر يف أهل الذمة وجعله سفري الذي بعض ملوك الطوائف ولقبه بذي الوزارتني‪.‬‬

‫حبيبته والدة‪:‬‬
‫كانت والدة حبيبة ابن زيدون وهي بنت حممد بن عبد الرمحن امللقب باملستكفي اخلليفة األموي الذي‬
‫خلعه أهل قرطبة فانتقل إيل "الثغر" ومات هناك بطريقة غامضة‪.‬‬
‫وإن أبا الوليد ابن زيدون عشق والدة شديدا وكانت والدة من نساء قرطبة اجلميالت وشاعرة جميدة‬
‫جعلت جملسها ملتقي الشعراء وأهل األدب‪ .‬يقول ابن بسام صاحب كتاب "الذخرية يف حماسن أهل‬
‫اجلزيرة" يف والدة "كان جملسها بقرطبة منتدى ألحرار العصر وفناءها ملعبا جلياد النظم‪ ،‬يعشوا أهل‬
‫األدب إىل ضوء غرهتا ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب إيل حالوة عشرهتا"‪ 5‬وقد عشقها ابن زيدون‬
‫وجرت له معها أخبار مشهورة‪ ،‬فكانت والدة تداعبه هبجائها أوتضرب له موعدا كقوهلا‪:‬‬
‫فإين رأيت الليل أكتم للسر‬ ‫ترقب إذا جن الظالم زياريت‬
‫وبالليل ما أدجى وبالنجم مل يسر‬ ‫ويب منك ما لوكان بالبدر ما بدا‬
‫ويف نفس الوقت كان الوزير أبو عامر بن عبدوس امللقب بالفار يشتاق حبها ويبغي التفرد هبا‪ ،‬وكانت‬
‫هي كثرية العبث به وأرسل إليها الوزير ابن عبدوس جارية تستميلها إليه وترغيبها يف التفردية‪ ،‬فبلغ هذا‬
‫اخلرب البن زيدون فكتب عن لساهنا رسالة مشهورة يف سب ابن عبدوس والتهكم به وتنسم هذه الرسالة‬
‫بالنقد الالذع والسخرية املريرة‪ ،‬وتعتمد على األسلوب التهكمي املثري للضحك كما حتمل عاطفة قوية‬
‫عنيفة من املشاعر املتبانية من الغرية والبغض واحلب واحلقد وتدل علي عمق ثقافة ابن زيدون وسعة‬
‫اطالعه ومما ورد يف الرسالة‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫"أما بعد أيها املصاب بعقله املورط جبهله البني سقطه العاثر يف ذيل اغرتاره األعمى عن مشس هناره‪،‬‬
‫فإنك راسلتين مرسال خليلتك مرتادة مستعمال عشيقتك"‪.‬‬
‫فاشتد العداء بني الرجلني واستطاع ابن عبدوس مع أعوانه أن يوقع بني ابن زيدون وابن جهور الذي‬
‫اهتم الشاعر باختالس رجل ذمي وباخليانة‪ ،‬فسجنه‪ ،‬وراح ابن زيدون يف سجنه يكتب الشعر مسرتمحا‪،‬‬
‫وراح يكتب إىل أيب احلزم رسالته املعروفة "بالرسالة اجلدية" يستدر عفوه ورمحته ولكنه جيد أذنا تصغي‬
‫وقلبا يرحم‪ ،‬فصمم إذ ذاك على اهلرب من السجن‪ ،‬ففر ليلة عيد األضحى وظل متخفيا عن األنظار‬
‫إىل أن عفا عنه أبو احلزم وملا خرج من السجن بعث إىل والدة بقصيدته املشهورة النونية‪:‬‬
‫وناب عن طيب لقيانا جتافينا‬ ‫أضحي التنائي بديال من تدانينا‬
‫حني فقام بنا للحني ناعينا‬ ‫اال وقد حان صبح البني صبحنا‬
‫حـزنا مع الدهر ال يبلى ويبلينا‬ ‫من مبلغ املبلسينا بانتزاحهم‬
‫‪2‬‬
‫بأن نغص فقال الدهر آمينا‬ ‫غيظ العدي من تساقينا اهلوي فدعوا‬

‫الرسالة الجدية‪:‬‬
‫كتب ابن زيدون هذه الرسالة يف أواخر أيام سجنه حينما يئس من استشفاع أصدقائه املخلصني‪،‬‬
‫يستعطف فيها أمريه أبا احلزم ابن جهور آمال أن يثري يف نفسه عوامل احلنان ويذكر له خدماته السابقة‬
‫وقصائده السابغة وقد أفرغ الكاتب يف هذه الرسالة جهده‪ ،‬وأودعها أقوى وسائله يف التأثري وشفعها‬
‫بقصيدة عاطفية ضارعا مؤمال أن تنفذ إىل قلب األمري‪.‬‬
‫وحاول ابن زيدون أن ينحو حنو النابغة يف اعتذارياته‪ ،‬وهذه الرسالة هي وليدة مناسبة‪ ،‬فقد هنج فيها من‬
‫حشد األمساء واألحداث واملبالغة يف االقتباس والتضمني وكثرة املرتادفات فهي أوثق وأفصح تعبريا عن‬
‫واقعه الفكري والنفسي‪ ،‬وحنن نعلم أنه ليس لديه يف السجن من أدوات املعرفة سوى الكتابة من حرب‬
‫ورق‪ ،‬فهذه من خري األدلة على فنية الكتابة يف التعبري عن االضطراب النفسي‪.‬‬
‫قال الدكتور حنا الفاخوري يف تاريخ األدب العريب يذكر رسالتيه (الرسالة اجلدية والرسالة اهلزلية)‪.‬‬
‫"ورسالتا ابن زيدون حافلتان بتضمني الشعر وحله‪ ،‬وإيراد األقوال القرآنية واألحداث واإلشارات‬
‫التارخيية‪ ،‬حافلتان بذكر املعلومات واملعارف‪ ،‬حافلتان بإيراد األمثال واألقوال وما إيل ذلك مما يدل داللة‬
‫‪1‬‬
‫واضحة علي سعة ثقافة الرجل يف خمتلف ميادين املعرفة"‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫وباإلضافة إىل هاتني الرسالتني فهناك رسالة االستعطاف اليت كتبها الشاعر بعد فراره من سجنه وعودته‬
‫من إشبيلية إىل قرطبة مستخفيا ينشد األمان وينشفع بأستاذ أيب بكر مسلم بن أمحد عند األمري‪.‬‬
‫وهذه الرسالة تعد أقوى رسائل ابن زيدون مجيعا من الناحية الفنية‪ ،‬ومتثل نضجا ملحوضا وخربة كبرية‬
‫ودراية فائقة بأساليب الكتابة وبراعة واتقان يف جمال الكتابة النثرية‪.‬‬

‫مكانته األدبية‪:‬‬
‫نرى ابن زيدون كمعاصريه مولعا بالسجع ولكن إىل حد حمدود‪ ،‬فلما تقدم به الزمن ومترس بفنون‬
‫اآلداب وأساليب الكتاب بدأ يتخلص قليال مما التزمه من قيود وأغالل‪ ،‬وقد كان بدأ حياته الكتابية‬
‫سهبا يف رسائله مولعا باالستشهاد باحلوادث التارخيية إىل درجة غري مألوفة مشغوفا باالقتباس ولكن مع‬
‫مرور األيام أقلع عن االستشهاد باحلوادث التارخيية بعد رسالتيه اهلزلية واجلدية إال فيما ندر وقلل من‬
‫االقتباس والتضمني إال فيما اقتضته املناسبات واستدعته املواقف وختلص من ضرب األمثال إال يف فرتات‬
‫متباعدة‪.‬‬
‫وقيل أن باعث اإلطناب يف الرسائل وغريه من التكلفات هو كان شبابه املفتون ليبهر الناس مبعارفه‬
‫الواسعة وثقافته الشاملة وملا برزت شخصيته واحتلت مكانتها بني الناس انطلق مع طبيعته الفنية‬
‫ومواهبه الفطرية‪.‬‬

‫منزلته بين الكتاب‪:‬‬


‫قسم علي عبد العظيم الكتاب إىل طبقتني متمايزتني‪:‬‬
‫أوهلما‪ -:‬الكتاب الباحثون الذين تتسع ثقافاهتم وتبسط مداركهم وتدق افكارهم فيعاجلون مصائب‬
‫احلياة احمليطة هبم ناقدين موجهني ويقودون املثقفني إيل أهداف سامية وهم قليلون وخباصة يف األدب‬
‫العريب القدمي‪ ،‬ومن أشهرهم اجلاحظ الذي عاجل فنون اآلداب والسياسة واألخالق والدين ومنهم‬
‫ابوحيان التوحيدي وابن حزم األندلسي وابن خلدون وهوالء يعنون بالفكرة أكثر من عنايتهم بالصدر‪.‬‬
‫وثانيهما‪ -:‬طائفة الكتاب املنشئني الذين ينصرفون إىل إتقان وسائل التعبري وصياغة األساليب اللفظية‬
‫واملعنوية ومعظم آثارهم تدور حول الرسائل واملقامات وهم كثريون ومما ال شك فيه أن ابن زيدون كان‬
‫من الطائفة الثانية إذ أنه مل يعاجل مشكالت عامة‪.‬‬
‫وقال الباحث حممد أمحد يف حتقيقه "نرى ابن زيدون أنه كان كثرياما يضرب املثل يف روعة الكتابة‬

‫‪15‬‬
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫باجلاحظ وسهل بن هارون فيقول يف قصيدته البن رفق‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫بأن فيها عن شأ وسهل وعمر‬ ‫شد يف حلبة البالغة حيت‬
‫ويقول يف إحدى رسائله‪" :‬ولو أين أوتيت يف النثر غزارة عمر وبراعة سهل‪ ،‬فكان ابن زيدون ينتمي‬
‫‪1‬‬
‫للبلوغ إىل ما كان عليه عمر وسهل من املعرفة واآلداب"‪.‬‬
‫وقال الدكتور حنا الفاخوري‪:‬‬
‫"وأسلوب ابن زيدون هو أسلوب النثر املرسل الذي ال يتقيد بسجع أو بضرب آخر من ضروب البديع‪،‬‬
‫وإن مل خيل أحيانا من سجع أو استعارة أو ما إيل ذالك والبن زيدون براعة كربى يف تقليب العبارة‪،‬‬
‫وصوغ الرتاكيب‪ ،‬واختيار األلفاظ‪ ،‬وله مقدرة عجيبة يف استخدام األساليب حىت ليعد حبق أمري‬
‫‪6‬‬
‫الصناعتني يف األندلس"‪.‬‬

‫شعره‪:‬‬
‫نشأ ابن زيدون يف بيئة مثقفة مملوءة باحلسن واجلمال فتثقف ثقافة حسنة ونظم الشعر باكرا ويف عصر‬
‫ابن زيدون يهتم الشعراء باملوضوعات الشعرية التقليدية املدائح واملراثي والتهاين ويعاجل الشعراء‬
‫املوضوعات اليت توحيها احلياة العملية وما فيها من أحداث‪ ،‬فكان القضاء والقدر هو العنوان البارز‬
‫فيها‪.‬‬
‫وتأثري الطبيعة واضح يف شعر هذه املرحلة‪ ،‬فالطبيعة هي اإلطار الذي كان الشاعر يقضي فيه ساعات‬
‫هلوه ومتعته‪ ،‬ويبدوأن عادة اخلروج إيل املتنزهات واحلقول والبساتني كانت شائعة‪ ،‬كما اهتم األغنياء‬
‫بزراعة الذهور وتنظيم احلدائق وال تكاد تقرأ قصيدة أندلسية إال وتلمح آثار الطبيعة واضحة فيها‪ ،‬إال‬
‫أن االجتاه الغالب يف شعر هذا العصر هو العناية الشديدة باللفظ واإلغراق يف استعمال احملسنات‬
‫البديعية والبيانية وال سيما االستعمارات والتشبيهات اليت خيتفي وراءها احلب العميق للطبيعة‪.‬‬
‫وحنن جند شعر ابن زيدون هو الصورة الصحيحة لشعر األندلس إلهدائه من أعماق فواده‪ ،‬وانبعاثه من‬
‫طبيعة بالده وشاعرنا مل يتخذ الشعر وسيلة من وسائل الرزق وال سبيل من سبل الشهرة‪ ،‬وإمنا كان‬
‫يشعر لنفسه ويعرب عن نزوات حسه‪ ،‬وهو آخر شعراء بين خمزوم وأول معاصريه رقة ودقة‪ ،‬حتس يف شعره‬
‫أجود ما خصت به الطبيعة األندلسيني من وصف املناظر‪ ،‬وشرح العواطف ومسو اخليال وصفاء‬
‫الديباجة‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫وأكثر شعر ابن زيدون يف الغزل واملدح والرثاء والشكوى والعتاب وأمجله ما قاله يف سجنه متشوقا إىل‬
‫والدة بنت املستكفي فهو من نوع الغزل الصادق‪ ،‬فيه تتجلى قوة عاطفة الشاعر‪ ،‬وهي عاطفة تتارجح‬
‫بني الشكوى والعتاب واألمل والذكرى واحلنني والرجاء‪ ،‬ويبدو الشاعر يف غزله ناقما على الوشاة حاقدا‬
‫على الدهر وتذكر فيه األمل اليت محلته إىل دار احلبيبة وتتلقى وجدانية الطبعية ووجدانية احلب يف اجملرى‬
‫السحري من الفيض الباطن‪.‬‬
‫وقال الدكتور حنا الفاخوري يف جمال شعره‪:‬‬
‫"كان غزل ابن زيدون روحا متملمال وكيانا تتقاذفه األمواج‪ ،‬وهكذا كان شعره كالم العاطفة والوجدان‪،‬‬
‫يرتقرق ترقرق املاء الزالل‪ ،‬يف صفاء البلور‪ ،‬ولني اإلعتاب علي ضفاف الغدران‪ ،‬ويف عذوبة تتماوج علي‬
‫أعطافها موسيقي هي السحر احلالل‪ ،‬موسيقي تنام على أوتارها الدهور ويغفو بني محاياها اجلمال‬
‫والنور‪ ،‬وهكذا كانت ألفاظه سهولة تنمو يف أجواء الطبيعة الزاهية‪ ،‬ومتتزج هبا امتزاج األرواح باألرواح‪،‬‬
‫وإذا كل شيئ يف القصيدة حي نابض‪ ،‬وإذا كل شيئ رونق ومجال‪ ،‬وكل شيئ حلقة توانية بني الذكرى‬
‫واآلمال"‪0‬‬

‫‪15‬‬
‫ابن زيدون حياته وخدماته النثرية والشعرية ‪60-15‬‬ ‫(يناير‪ -‬يوليو ‪7102‬ء)‬ ‫الديبل‬
‫المراجع والحواشي‬

‫‪ 5‬الذخرية يف حماسن أهل اجلزيرة‪ ،‬ابن بسام‬


‫‪ 2‬املنتخب من الشعر العريب قسم اللغة العربية وآداهبا‪ ،‬جامعة عليجره اإلسالمية‬
‫‪ 1‬تاريخ األدب العريب‪ ،‬حنا الفاخوري‬
‫‪ 4‬ديوان إبن زيدون‬
‫‪ 1‬تاريخ األدب العريب‪ ،‬حنا الفاخوري‬
‫‪ 6‬مسامهة إبن زيدون يف النثر العريب‪ ،‬دكتور حممحد أمحد‬
‫‪0‬تاريخ األدب العريب‪ ،‬حنا فاخوري‬

‫‪56‬‬

You might also like