You are on page 1of 16

‫الجزء الثاني‬

‫الجزء الثاني‬
‫من كتاب‬

‫دخول‬
‫أول أمـر بإظهار الدعـوة‬

‫يرتَ َك ْاْل َ ْق َر ِبينَ }‬ ‫أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى‪َ { :‬وأَنذ ِْر َ‬
‫ع ِش َ‬
‫ودعا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه اآلية‬

‫أساليب شتى لمجابهة الدعوة‬


‫‪1‬ـ السخرية والتحقير‪ ،‬واالستهزاء والتكذيب والتضحيك‪:‬‬
‫‪2‬ـ إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة‪:‬‬
‫‪ 3‬ـ الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن‪ ،‬ومعارضته بأساطير اْلولين‪:‬‬
‫أعمل المشركون اْلساليب التي ذكرناها شيئًا فشيئًا إلحباط الدعوة بعد‬
‫ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة‪ ،‬ومضت على ذلك أسابيع‬
‫وشهور وهم مقتصرون على هذه اْلساليب ال يتجاوزونها إلى طريق‬
‫االضطهاد والتعذيب‪ ،‬ولكنهم لما رأوا أن هذه اْلساليب لم تجد نفعًا‬
‫في إحباط الدعوة اإلسالمية استشاروا فيما بينهم‪ ،‬فقرروا القيام‬
‫بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم‪ ،‬فأخذ كل رئيس يعذب من دان‬
‫من قبيلته باإلسالم‪ ،‬وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق‬
‫اإليمان‪.‬‬
‫موقف المشركين من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬

‫كان في منعة أبي طالب‪ ،‬وأبو طالب من رجال مكة المعدودين‪ ،‬كان معظ ًما في أصله‪ ،‬معظ ًما بين‬
‫الناس‪ ،‬فكان من الصعب أن يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته‬

‫اعتداءات على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬

‫واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة‪ ،‬فقد صعب على‬
‫ً‬
‫طويال‪ ،‬فمدت يد االعتداء إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬مع ما‬ ‫غطرستها وكبريائها أن تصبر‬
‫كانت تأتيه من السخرية واالستهزاء والتشوية والتلبيس والتشويش وغير ذلك‪ .‬وكان من الطبيعى أن‬
‫يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم‬
‫الهجرة األولى إلى الحبشة‬

‫كانت بداية االعتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة‪ ،‬بدأت‬


‫وشهرا فشهرا‪ ،‬حتى تفاقمت في أواسط السنة‬ ‫ً‬ ‫ضعيفة‪ ،‬ثم لم تزل تشتد يو ًما فيو ًما‬
‫الخامسة‪ ،‬ونبا بهم المقام في مكة‪ ،‬وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا‬
‫العذاب اْلليم‪ ،‬وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل‬
‫سنَةٌ‬
‫سنوا فِي َه ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َح َ‬‫الهجرة‪ ،‬وتعلن بأن أرض هللا ليست بضيقة { ِللَّذِينَ أ َ ْح َ‬
‫ساب} [الزمر‪.]10:‬‬ ‫َوأ َ ْرض هللا ِ َوا ِس َعةٌ ِإنَّ َما ي َوفَّى ال َّ‬
‫صا ِبرونَ أ َ ْج َرهم ِبََي ِْر ِح َ‬

‫ص َح َمة النجاشى ملك الحبشة‬


‫وكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قد علم أن أ ْ‬
‫فرارا‬
‫ً‬ ‫ملك عادل‪ ،‬ال يظلم عنده أحد‪ ،‬فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة‬
‫بدينهم من الم‪ ،‬لكن لما بلَت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين‪ ،‬وأقام‬
‫المسلمون في الحبشة في أحسن جوار‪.‬‬
‫سجود المشركين مع المسلمين وعودة المهاجرين‬
‫وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى هللا عليه وسلم إلى الحرم‪ ،‬وفيه جمع كبير من‬
‫قريش‪ ،‬فيهم ساداتهم وكبراؤهم‪ ،‬فقام فيهم‪ ،‬وفاجأهم بتالوة سورة النجم‪ ،‬ولم يكن أولئك الكفار‬
‫ضا‪،‬من قولهم‪َ { :‬ال‬‫سمعوا كالم هللا من قبل؛ ْلنهم كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضهم بع ً‬
‫آن َو ْالَ َْوا ِفي ِه لَ َعلَّك ْم ت َ َْ ِلبونَ } [فصلت‪ ]26:‬فلما باغتهم بتالوة هذه السورة‪ ،‬نسوا‬
‫ت َ ْس َمعوا ِل َه َذا ْالق ْر ِ‬
‫ما كانوا فيه فما من أحد إال وهو مصغ إليه‪ ،‬ال يخطر بباله شىء سواه‪ ،‬حتى إذا تال في خواتيم‬
‫هذه السورة قوارع تطير لها القلوب‪ ،‬ثم قرأ‪{ :‬فَا ْسجدوا ِ َّ ِ‬
‫ّلِل َواعْبدوا} [النجم‪ ]62:‬ثم سجد‪ ،‬لم‬
‫يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدًا‪ .‬وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس‬
‫المستكبرين والمستهزئين‪ ،‬فما تمالكوا أن يخروا هلل ساجدين‪.‬‬

‫وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة‪ ،‬ولكن في صورة تختلف تما ًما عن صورته الحقيقية‪ ،‬بلَهم‬
‫أن قري ً‬
‫شا أسلمت‪ ،‬فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة‬
‫الهجرة الثانية إلى الحبشة‬

‫واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى‪ ،‬وعلى نطاق أوسع‪ ،‬ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق‬
‫من سابقتها‪ ،‬فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها‪ ،‬بيد أن المسلمين كانوا أسرع‪ ،‬ويسر هللا لهم‬
‫السفر‪ ،‬فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا‪.‬‬

‫ً‬
‫رجال إن كان فيهم عمار‪ ،‬فإنه يشك فيه‪ ،‬وثماني‬ ‫وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثالثة وثمانون‬
‫عشرة أوتسع عشرة امرأة‪.‬‬
‫مساومات وتنازالت‬

‫ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على اإلغراء والترغيب‪ ،‬والتهديد والترهيب‪،‬‬
‫وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك‪ ،‬تيقظت فيهم رغبة الوصول إلى حل‬
‫حصيف ينقذهم عما هم فيه‪ ،‬ولم يكونوا يجزمون أن النبي صلى هللا عليه وسلم على‬
‫باطل‪ ،‬بل كانوا ـ كما قال هللا تعالى {لَ ِفي شَك ِم ْنه م ِريب} [الشورى‪ .]14:‬فرأوا أن‬
‫يساوموه صلى هللا عليه وسلم في أمور الدين‪ ،‬ويلتقوا به في منتصف الطريق‪ ،‬فيتركوا‬
‫بعض ما هم عليه‪ ،‬ويطالبوا النبي صلى هللا عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه‪ ،‬وظنوا‬
‫أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق‪ ،‬إن كان ما يدعو إليه النبي صلى هللا عليه وسلم حقًا‪.‬‬

‫ولما حسم هللا تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس قريش كل اليأس‪،‬‬
‫بل أبدوا مزيدًا من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى هللا عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به‬
‫ضا بإنزال ما يرد‬ ‫ت ِبق ْرآن َغي ِْر هَـ َذا أ َ ْو بَد ِْله}‪ ،‬فقطع هللا هذا السبيل أي ً‬ ‫من التعليمات‪ ،‬فقالوا‪{ :‬ائْ ِ‬
‫به النبي صلى هللا عليه وسلم عليهم فقال‪{ :‬ق ْل َما َيكون ِلي أ َ ْن أ َب ِدلَه ِمن ِت ْلقَاء نَ ْف ِسي ِإ ْن أ َت َّ ِبع ِإالَّ َما‬
‫اب يَ ْوم َع ِظيم} [يونس‪ ]15:‬ونبه على عظم خطورة‬ ‫صيْت َربِي َع َذ َ‬ ‫ي ِإنِي أَخَاف ِإ ْن َع َ‬ ‫يو َحى ِإلَ َّ‬
‫ي َعلَ ْينَا َغي َْره َو ِإذًا الَّتَّخَذ َ‬
‫وك‬ ‫هذا العمل بقوله‪َ {:‬و ِإن َكادواْ لَ َي ْفتِنون ََك َع ِن الَّذِي أ َ ْو َح ْينَا ِإلَي َْك ِلت ْفت َ ِر َ‬
‫ف ْال َم َما ِ‬
‫ت‬ ‫ض ْع َ‬ ‫ف ْال َحيَاةِ َو ِ‬ ‫ض ْع َ‬‫َاك ِ‬ ‫ش ْيئًا قَ ِليالً إِذا ً َّْل َ َذ ْقن َ‬
‫دت ت َ ْر َكن إِلَ ْي ِه ْم َ‬ ‫َخ ِليالً َولَ ْوالَ أَن ثَبَّتْن َ‬
‫َاك لَقَ ْد ِك َّ‬
‫يرا} [اإلسراء‪.]75 :73:‬‬ ‫َص ً‬ ‫ث َّم الَ ت َ ِجد لَ َك َعلَ ْينَا ن ِ‬
‫موقف أبي طالب وعشيرته‬
‫أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسليم النبي صلى هللا عليه وسلم لهم ليقتلوه‪،‬‬
‫ثم رأي في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله وإخفار ذمته ـ مثل ما‬
‫فعله عقبة بن أبي معيط‪ ،‬وأبو جهل بن هشام وعمر بن الخطاب ـ جمع بني هاشم‬
‫وبني المطلب‪ ،‬ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فأجابوه إلى ذلك‬
‫كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ َح ِميَّةً للجوار العربي‪ ،‬وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند‬
‫الكعبة‪ .‬إال ما كان من أخيه أبي لهب‪ ،‬فإنه فارقهم‪ ،‬وكان مع قريش‪.‬‬

‫المقاطعة العامة‬
‫ميثاق الظلم والعدوان‬
‫زادت حيرة المشركين إذ نفدت بهم الحيل‪ ،‬ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين‬
‫على حفظ نبى هللا صلى هللا عليه وسلم والقيام دونه‪ ،‬كائنًا ما كان‪ ،‬فاجتمعوا في خيف‬
‫ب فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب أال يناكحوهم‪ ،‬وال‬ ‫ص ِ‬
‫بني كنانة من وادى الم َح َّ‬
‫يبايعوهم‪ ،‬وال يجالسوهم‪ ،‬وال يخالطوهم‪ ،‬وال يدخلوا بيوتهم‪ ،‬وال يكلموهم‪ ،‬حتى يسلموا‬
‫إليهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للقـتل‪ ،‬وكتـبوا بذلك صحيـفـة فيها عهود‬
‫ومواثيق (أال يقبلوا من بني هاشم صل ًحا أبدًا‪ ،‬وال تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل)‪.‬‬
‫ثالثة أعوام في شعب أبي طالب‬
‫واشتد الحصار‪ ،‬وقطعت عنهم الميرة والمادة‪ ،‬فلم يكن المشركون يتركون طعا ًما يدخل مكة وال بيعًا إال‬
‫بادروه فاشتروه‪ ،‬حتى بلَهم الجهد‪ ،‬والتجأوا إلى أكل اْلوراق والجلود‪ ،‬وحتى كان يسمع من وراء الشعب‬
‫سرا‪ ،‬وكانوا ال يخرجون من‬ ‫أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع‪ ،‬وكان ال يصل إليهم شيء إال ً‬
‫الشعب‬

‫نقض صحيفة الميثاق‬


‫مر عامان أو ثالثة أعوام واْلمر على ذلك‪ ،‬وفي المحرم سنة عشر من النبوة نقضت الصحيفة وفك‬
‫الحصار؛ وذلك أن قري ً‬
‫شا كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له‪ ،‬فسعى في نقض الصحيفة من كان‬
‫كار ًها لها‪.‬‬
‫وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤى ـ زهير بن أبي أمية المخزومى ـ المطعم بن عدى‬
‫فذهب إلى أبي البخترى بن هشام ‪-‬زمعة بن اْلسود بن المطلب بن أسد‪ ،‬فاجتمعوا عند ال َحجون‪ ،‬وتعاقدوا‬
‫على القيام بنقض الصحيفة‪ ،‬وقال زهير‪ :‬أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم‪.‬‬
‫فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم‪ ،‬وغدا زهير عليه حلة‪ ،‬فطاف بالبيت سبعًا‪ ،‬ثم أقبل على الناس‪ ،‬فقال‪ :‬يا أهل‬
‫مكة‪ ،‬أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى‪ ،‬ال يباع وال يبتاع منهم؟ وهللا ال أقعد حتى تشق هذه‬
‫الصحيفة القاطعة الظالمة‪.‬‬

‫وبعد أن دار الكالم بين القوم وبين أبي جهل‪ ،‬قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها‪ ،‬فوجد اْلرضة قد أكلتها‬
‫إال (باسمك هللا م)‪ ،‬وما كان فيها من اسم هللا فإنها لم تأكله‪.‬‬

‫ثم نقض الصحيفة وخرج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومن معه من الشعب‪ ،‬وقد رأي المشركون آية‬
‫عظيمة من آيات نبوته‪ ،‬ولكنهم ـ كما أخبر هللا عنهم { َوإِن يَ َر ْوا آيَةً ي ْع ِرضوا َويَقولوا ِس ْح ٌر ُّم ْست َ ِمر} [القمر‪]2:‬‬
‫كفرا إلى كفرهم ‪.‬‬
‫ـ أعرضوا عن هذه اآلية وازدادوا ً‬
‫عــام الحـــزن‬

‫وفاة أبي طالب‬


‫ألح المرض بأبي طالب‪ ،‬فلم يلبث أن وافته المنية‪ ،‬وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة‪ ،‬بعد‬
‫الخروج من الشعب بستة أشهر‪ .‬وقيل‪ :‬توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي هللا عنها بثالثة أيام‪.‬‬

‫خديجة إلى رحمة هللا‬


‫وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثالثة أيام ـ على اختالف القولين ـ توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى‬
‫رضي هللا عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة‪ ،‬ولها خمس وستون سنة على‬
‫أشهر اْلقوال‪ ،‬ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره‪.‬‬

‫تراكم األحزان‬
‫وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خالل أيام معدودة‪ ،‬فاهتزت مشاعر الحزن واْللم في قلب رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه‪ .‬فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال واْلذى بعد‬
‫موت أبي طالب‪ ،‬فازداد غ ًما على غم‪ ،‬حتى يئس منهم‪ ،‬وخرج إلى الطائف رجـاء أن يستجيبوا لدعوتـه‪ ،‬أو‬
‫ناصرا‪ ،‬بل آذوه أشد اْلذى‪ ،‬ونالوا منه ما لم ينله‬
‫ً‬ ‫يؤووه وينصـروه على قومــه‪ ،‬فلم يـر مـن يؤوى ولم يـر‬
‫قومـه‪.‬‬
‫وبينما النبي صلى هللا عليه وسلم يمـر بهذه المرحلة‪ ،‬وأخذت الدعوة تشق طريقًا بين النجاح واالضطهـاد‪،‬‬
‫وبـدأت نجـوم اْلمل تتلمح في آفاق بعيدة‪ ،‬وقع حادث اإلسراء والمعـراج‪ .‬واختلف في تعيين زمنه‬
‫قال ابن القيم‪ :‬أسرى برسول هللا صلى هللا عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس‪،‬‬
‫راكبًا على الب َراق‪ ،‬صحبة جبريل عليهما الصالة والسالم‪ ،‬فنزل هناك‪ ،‬وصلى باْلنبياء إما ًما‪ ،‬وربط البراق‬
‫بحلقة باب المسجد‪.‬‬

‫ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا‪ ،‬فاستفتح له جبريل ففتح له‪ ،‬فرأي هنالك آدم أبا البشر‪،‬‬
‫فسلم عليه‪ ،‬فرحب به ورد عليه السالم‪ ،‬وأقر بنبوته‪ ،‬وأراه هللا أرواح السعداء عن يمينه‪ ،‬وأرواح اْلشقياء عن‬
‫يساره‪.‬‬

‫ثم عرج به إلى السماء الثانية‪ ،‬فاستفتح له‪ ،‬فرأي فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم‪ ،‬فلقيهما وسلم عليهما‪،‬‬
‫فردا عليه ورحبا به‪ ،‬وأقرا بنبوته‪.‬‬
‫ثم عرج به إلى السماء الثالثة‪ ،‬فرأي فيها يوسف‪ ،‬فسلم عليه فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر بنبوته‪.‬‬
‫ثم عرج به إلى السماء الرابعة‪ ،‬فرأي فيها إدريس‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه‪ ،‬ورحب به‪ ،‬وأقر بنبوته‪.‬‬
‫ثم عرج به إلى السماء الخامسة‪ ،‬فرأي فيها هارون بن عمران‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر‬
‫بنبوته‪.‬‬
‫ثم عرج به إلى السماء السادسة‪ ،‬فلقى فيها موسى بن عمران‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه ورحب به‪ ،‬وأقر‬
‫بنبوته‪.‬‬
‫فلما جاوزه بكى موسى‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما يبكيك ؟ فقال‪ :‬أبكى؛ ْلن غال ًما بعث من بعدى يدخل الجنة من‬
‫أمته أكثر مما يدخلها من أمتى‪.‬‬

‫ثم عرج به إلى السماء السابعة‪ ،‬فلقى فيها إبراهيم عليه السالم‪ ،‬فسلم عليه‪ ،‬فرد عليه‪ ،‬ورحب به‪ ،‬وأقر‬
‫بنبوته‪.‬‬

‫ثم رفع إلى سدرة المنتهى‪ ،‬فإذا نَبْقها مثل قِالَل َه َجر‪ ،‬وإذا ورقها مثل آذان الفيلة‪ ،‬ثم غشيها فراش من‬
‫ذهب‪ ،‬ونور وألوان‪ ،‬فتَيرت‪ ،‬فما أحد من خلق هللا يستطيع أن يصفها من حسنها‪ .‬ثم رفع له البيت‬
‫المعمور‪ ،‬وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم ال يعودون‪ .‬ثم أدخل الجنة‪ ،‬فإذا فيها حبائل اللؤلؤ‪،‬‬
‫ص ِريف اْلقالم‪.‬‬
‫وإذا ترابها المسك‪ .‬وعرج به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه َ‬
‫ثم عرج به إلى الجبار جل جالله‪ ،‬فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى‪ ،‬فأوحى إلى عبده ما أوحى‪،‬‬
‫وفرض عليه خمسين صالة‪ ،‬فرجع حتى مر على موسى فقال له‪ :‬بم أمرك ربك؟ قال‪[ :‬بخمسين صالة]‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن أمتك ال تطيق ذلك‪ ،‬ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ْلمتك‪ ،‬فالتفت إلى جبريل‪ ،‬كأنه يستشيره في‬
‫ذلك‪ ،‬فأشار‪ :‬أن نعم إن شئت‪ ،‬فعال به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى‪ ،‬وهو في مكانه ـ هذا لفظ‬
‫عشرا‪ ،‬ثم أنزل حتى مر بموسى‪ ،‬فأخبره‪ ،‬فقال‪ :‬ارجع إلى ربك‬‫ً‬ ‫البخاري في بعض الطرق ـ فوضع عنه‬
‫سا‪ ،‬فأمره موسى بالرجوع‬ ‫فاسأله التخفيف‪ ،‬فلم يزل يتردد بين موسى وبين هللا عز وجل‪ ،‬حتى جعلها خم ً‬
‫وسؤال التخفيف‪ ،‬فقال‪[ :‬قد استحييت من ربي‪ ،‬ولكني أرضى وأسلم]‪ ،‬فلما بعد نادى مناد‪ :‬قد أمضيت‬
‫فريضتى وخففت عن عبادى‪ .‬انتهي‪.‬‬

You might also like