Professional Documents
Culture Documents
الجزء الثاني
من كتاب
دخول
أول أمـر بإظهار الدعـوة
يرتَ َك ْاْل َ ْق َر ِبينَ } أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالىَ { :وأَنذ ِْر َ
ع ِش َ
ودعا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه اآلية
كان في منعة أبي طالب ،وأبو طالب من رجال مكة المعدودين ،كان معظ ًما في أصله ،معظ ًما بين
الناس ،فكان من الصعب أن يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته
واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة ،فقد صعب على
ً
طويال ،فمدت يد االعتداء إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،مع ما غطرستها وكبريائها أن تصبر
كانت تأتيه من السخرية واالستهزاء والتشوية والتلبيس والتشويش وغير ذلك .وكان من الطبيعى أن
يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم
الهجرة األولى إلى الحبشة
وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة ،ولكن في صورة تختلف تما ًما عن صورته الحقيقية ،بلَهم
أن قري ً
شا أسلمت ،فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة
الهجرة الثانية إلى الحبشة
واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى ،وعلى نطاق أوسع ،ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق
من سابقتها ،فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها ،بيد أن المسلمين كانوا أسرع ،ويسر هللا لهم
السفر ،فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا.
ً
رجال إن كان فيهم عمار ،فإنه يشك فيه ،وثماني وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثالثة وثمانون
عشرة أوتسع عشرة امرأة.
مساومات وتنازالت
ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على اإلغراء والترغيب ،والتهديد والترهيب،
وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك ،تيقظت فيهم رغبة الوصول إلى حل
حصيف ينقذهم عما هم فيه ،ولم يكونوا يجزمون أن النبي صلى هللا عليه وسلم على
باطل ،بل كانوا ـ كما قال هللا تعالى {لَ ِفي شَك ِم ْنه م ِريب} [الشورى .]14:فرأوا أن
يساوموه صلى هللا عليه وسلم في أمور الدين ،ويلتقوا به في منتصف الطريق ،فيتركوا
بعض ما هم عليه ،ويطالبوا النبي صلى هللا عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه ،وظنوا
أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق ،إن كان ما يدعو إليه النبي صلى هللا عليه وسلم حقًا.
ولما حسم هللا تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس قريش كل اليأس،
بل أبدوا مزيدًا من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى هللا عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به
ضا بإنزال ما يرد ت ِبق ْرآن َغي ِْر هَـ َذا أ َ ْو بَد ِْله} ،فقطع هللا هذا السبيل أي ً من التعليمات ،فقالوا{ :ائْ ِ
به النبي صلى هللا عليه وسلم عليهم فقال{ :ق ْل َما َيكون ِلي أ َ ْن أ َب ِدلَه ِمن ِت ْلقَاء نَ ْف ِسي ِإ ْن أ َت َّ ِبع ِإالَّ َما
اب يَ ْوم َع ِظيم} [يونس ]15:ونبه على عظم خطورة صيْت َربِي َع َذ َ ي ِإنِي أَخَاف ِإ ْن َع َ يو َحى ِإلَ َّ
ي َعلَ ْينَا َغي َْره َو ِإذًا الَّتَّخَذ َ
وك هذا العمل بقولهَ {:و ِإن َكادواْ لَ َي ْفتِنون ََك َع ِن الَّذِي أ َ ْو َح ْينَا ِإلَي َْك ِلت ْفت َ ِر َ
ف ْال َم َما ِ
ت ض ْع َ ف ْال َحيَاةِ َو ِ ض ْع ََاك ِ ش ْيئًا قَ ِليالً إِذا ً َّْل َ َذ ْقن َ
دت ت َ ْر َكن إِلَ ْي ِه ْم َ َخ ِليالً َولَ ْوالَ أَن ثَبَّتْن َ
َاك لَقَ ْد ِك َّ
يرا} [اإلسراء.]75 :73: َص ً ث َّم الَ ت َ ِجد لَ َك َعلَ ْينَا ن ِ
موقف أبي طالب وعشيرته
أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسليم النبي صلى هللا عليه وسلم لهم ليقتلوه،
ثم رأي في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله وإخفار ذمته ـ مثل ما
فعله عقبة بن أبي معيط ،وأبو جهل بن هشام وعمر بن الخطاب ـ جمع بني هاشم
وبني المطلب ،ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي صلى هللا عليه وسلم ،فأجابوه إلى ذلك
كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ َح ِميَّةً للجوار العربي ،وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند
الكعبة .إال ما كان من أخيه أبي لهب ،فإنه فارقهم ،وكان مع قريش.
المقاطعة العامة
ميثاق الظلم والعدوان
زادت حيرة المشركين إذ نفدت بهم الحيل ،ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين
على حفظ نبى هللا صلى هللا عليه وسلم والقيام دونه ،كائنًا ما كان ،فاجتمعوا في خيف
ب فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب أال يناكحوهم ،وال ص ِ
بني كنانة من وادى الم َح َّ
يبايعوهم ،وال يجالسوهم ،وال يخالطوهم ،وال يدخلوا بيوتهم ،وال يكلموهم ،حتى يسلموا
إليهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للقـتل ،وكتـبوا بذلك صحيـفـة فيها عهود
ومواثيق (أال يقبلوا من بني هاشم صل ًحا أبدًا ،وال تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل).
ثالثة أعوام في شعب أبي طالب
واشتد الحصار ،وقطعت عنهم الميرة والمادة ،فلم يكن المشركون يتركون طعا ًما يدخل مكة وال بيعًا إال
بادروه فاشتروه ،حتى بلَهم الجهد ،والتجأوا إلى أكل اْلوراق والجلود ،وحتى كان يسمع من وراء الشعب
سرا ،وكانوا ال يخرجون من أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع ،وكان ال يصل إليهم شيء إال ً
الشعب
وبعد أن دار الكالم بين القوم وبين أبي جهل ،قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها ،فوجد اْلرضة قد أكلتها
إال (باسمك هللا م) ،وما كان فيها من اسم هللا فإنها لم تأكله.
ثم نقض الصحيفة وخرج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومن معه من الشعب ،وقد رأي المشركون آية
عظيمة من آيات نبوته ،ولكنهم ـ كما أخبر هللا عنهم { َوإِن يَ َر ْوا آيَةً ي ْع ِرضوا َويَقولوا ِس ْح ٌر ُّم ْست َ ِمر} [القمر]2:
كفرا إلى كفرهم .
ـ أعرضوا عن هذه اآلية وازدادوا ً
عــام الحـــزن
تراكم األحزان
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خالل أيام معدودة ،فاهتزت مشاعر الحزن واْللم في قلب رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم ،ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه .فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال واْلذى بعد
موت أبي طالب ،فازداد غ ًما على غم ،حتى يئس منهم ،وخرج إلى الطائف رجـاء أن يستجيبوا لدعوتـه ،أو
ناصرا ،بل آذوه أشد اْلذى ،ونالوا منه ما لم ينله
ً يؤووه وينصـروه على قومــه ،فلم يـر مـن يؤوى ولم يـر
قومـه.
وبينما النبي صلى هللا عليه وسلم يمـر بهذه المرحلة ،وأخذت الدعوة تشق طريقًا بين النجاح واالضطهـاد،
وبـدأت نجـوم اْلمل تتلمح في آفاق بعيدة ،وقع حادث اإلسراء والمعـراج .واختلف في تعيين زمنه
قال ابن القيم :أسرى برسول هللا صلى هللا عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس،
راكبًا على الب َراق ،صحبة جبريل عليهما الصالة والسالم ،فنزل هناك ،وصلى باْلنبياء إما ًما ،وربط البراق
بحلقة باب المسجد.
ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ،فاستفتح له جبريل ففتح له ،فرأي هنالك آدم أبا البشر،
فسلم عليه ،فرحب به ورد عليه السالم ،وأقر بنبوته ،وأراه هللا أرواح السعداء عن يمينه ،وأرواح اْلشقياء عن
يساره.
ثم عرج به إلى السماء الثانية ،فاستفتح له ،فرأي فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ،فلقيهما وسلم عليهما،
فردا عليه ورحبا به ،وأقرا بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء الثالثة ،فرأي فيها يوسف ،فسلم عليه فرد عليه ورحب به ،وأقر بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء الرابعة ،فرأي فيها إدريس ،فسلم عليه ،فرد عليه ،ورحب به ،وأقر بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء الخامسة ،فرأي فيها هارون بن عمران ،فسلم عليه ،فرد عليه ورحب به ،وأقر
بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء السادسة ،فلقى فيها موسى بن عمران ،فسلم عليه ،فرد عليه ورحب به ،وأقر
بنبوته.
فلما جاوزه بكى موسى ،فقيل له :ما يبكيك ؟ فقال :أبكى؛ ْلن غال ًما بعث من بعدى يدخل الجنة من
أمته أكثر مما يدخلها من أمتى.
ثم عرج به إلى السماء السابعة ،فلقى فيها إبراهيم عليه السالم ،فسلم عليه ،فرد عليه ،ورحب به ،وأقر
بنبوته.
ثم رفع إلى سدرة المنتهى ،فإذا نَبْقها مثل قِالَل َه َجر ،وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ،ثم غشيها فراش من
ذهب ،ونور وألوان ،فتَيرت ،فما أحد من خلق هللا يستطيع أن يصفها من حسنها .ثم رفع له البيت
المعمور ،وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم ال يعودون .ثم أدخل الجنة ،فإذا فيها حبائل اللؤلؤ،
ص ِريف اْلقالم.
وإذا ترابها المسك .وعرج به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه َ
ثم عرج به إلى الجبار جل جالله ،فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ،فأوحى إلى عبده ما أوحى،
وفرض عليه خمسين صالة ،فرجع حتى مر على موسى فقال له :بم أمرك ربك؟ قال[ :بخمسين صالة].
قال :إن أمتك ال تطيق ذلك ،ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ْلمتك ،فالتفت إلى جبريل ،كأنه يستشيره في
ذلك ،فأشار :أن نعم إن شئت ،فعال به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى ،وهو في مكانه ـ هذا لفظ
عشرا ،ثم أنزل حتى مر بموسى ،فأخبره ،فقال :ارجع إلى ربكً البخاري في بعض الطرق ـ فوضع عنه
سا ،فأمره موسى بالرجوع فاسأله التخفيف ،فلم يزل يتردد بين موسى وبين هللا عز وجل ،حتى جعلها خم ً
وسؤال التخفيف ،فقال[ :قد استحييت من ربي ،ولكني أرضى وأسلم] ،فلما بعد نادى مناد :قد أمضيت
فريضتى وخففت عن عبادى .انتهي.