You are on page 1of 36

‫املحاضرة األولى‬

‫مكانة القرآن والسنة في التشريع والحضارة‬


‫محي الدين هاشم أمبونج‬
‫‪ .1‬القرآن ومكانته في التشريع والحضارة‬
‫‪ 1.1‬تعريف الكتاب الكريم‬
‫املكتوب وعلى الكتابة‪ ،‬والفعل كتب بمعنى‪ :‬حكم وقضى وأوجب‪،‬‬ ‫على‬ ‫يطلق‬ ‫لغة‪:‬‬ ‫الكتاب‬ ‫•‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ََْ ُ‬
‫الص يام} [البقرة‪ ،]َ 183 َ :‬أ ي‪ :‬أوجب ه‪ ،‬وكت ب القاضي‬ ‫ِ‬ ‫ومن ه قول ه تعال ى‪{ :‬ك ِتب عليكم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫بالنفقة‪ :‬قضى بها وحكم‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬كتب الله ألغ ِلبن أن ا ورس ِلي} [املجادلة‪ ،]21 :‬أي‪:‬‬
‫حكم‪ ،‬والقرآن‪ :‬مصدر بمعنى القراءة‪.‬‬
‫• أما تعريف الكتاب في االصطالح فهو‪ :‬كالم هللا تعالى‪ ،‬املنزل على سيدنا َّ‬
‫محمد ‪ -‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ،-‬باللفظ العربي‪ ،‬املنقول إلينا بالتواتر‪ ،‬املكتوب باملصاحف‪ ،‬املتعبد بتالوته‪،‬‬
‫املبدوء بسورة الفاتحة‪ ،‬املختوم بسورة الناس‪.‬‬
‫‪ 2.2‬حجية الكتاب الكريم‬
‫• اتفق املسلمون قاطبة على حجية الكتاب الكريم‪ ،‬وأنه يجب العمل بما ورد فيه والرجوع‬
‫إليه ملعرفة حكم هللا تعالى وال يجوز العدول عنه إلى غيره من مصادر التشريع إال إذا لم‬
‫يقف العالم على الحكم في القرآن الكريم‪ ،‬وذلك ألن الكتاب هو كالم هللا تعالى الذي جاء‬
‫بالشريعة السماوية للناس‪ ،‬والدليل على ذلك ما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬الكتاب منقول إلينا بالتواتر‪ ،‬فهو ثابت ً‬
‫قطعا إلى رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬‬
‫الصادق األمين الذي نقله عن جبريل عن اللوح املحفوظ‪ ،‬والتواتر يفيد العلم اليقيني‬
‫القطعي الذي ال يحتمل غيره‪.‬‬
‫‪ .2‬جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تنطق أن هذا الكتاب من عند هللا تعالى‪ ،‬منها‬
‫َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ّ ُ َ ّ ً َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ َ ُّ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ اَل َ‬
‫تعالى‪{ :‬الله ِإله إْلإال هو الحي القيوم (‪ )2‬نزل عليك ال ِكتاب ِبالح ِق مص ِدقا مِل ا‬ ‫قوله‬ ‫•‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َل َّ ْ َر َ َ ْ‬
‫بين يدي ِه وأنز التو اة وا ِ ن ِجيل (‪[ })3‬آل عمران‪]3 ،2 :‬‬
‫َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ‬
‫• وقوله تعالى‪{ :‬وأنزل الله عليك ال ِكتاب وال ِحكمة} [النساء‪]113 :‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ‬
‫• وقوله تعالى‪{ِ :‬إنا أنزلنا ِإليك ال ِكتاب ِبالح ِق} [النساء‪]105 :‬‬
‫اب ت ْب َي ًان ا ل ُك ّل َش ْيء َو ُه ًدى َو َر ْح َم ًة َو ُب ْش َرى ل ْل ُم ْسلمينَ‬
‫َ‬ ‫• وقوله تعالى‪{َ :‬و َن َّ ْزل َن ا َع َل ْي َك ْالكتَ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪[ })89‬النحل‪]89 :‬‬
‫‪ .3‬إعجاز القرآن الكريم‪ ،‬وهو الدليل الجازم على كون القرآن الكريم من كالم هللا تعالى‪،‬‬
‫ونذيرا‪ ،‬وقد أعجز البشر‬ ‫ً‬ ‫محمد ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ليكون للعاملين ً‬
‫بشيرا‬ ‫أنزله على َّ‬
‫محم د ‪ -‬صلى‬ ‫على أن يأتوا بمثله‪ .‬والقرآن الكريم معجزة هللا الخالدة على صدق نبوة َّ‬
‫ً‬
‫هللا عليه وسلم ‪ ،-‬وإن األحكام الواردة فيه أحكام هللا تعالى أنزلها هداية للناس وإرشادا‪.‬‬
‫اًل‪ 1.3‬أحكام الكتاب الكريم‬
‫أو ‪ :‬أنواع األحكام في الكتاب‬
‫• اشتمل القرآن الكريم على جميع األحكام التي تخص البشرية في الحياة الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫ويمكن تصنيف هذه األحكام بما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬األحكام االعتقادية‪ ،‬وهي األحكام التي تتعلق بعقيدة املسلم وإيمانه باهلل ومالئكته وكتبه‬
‫ُ‬
‫ورسله واليوم اآلخر وبالقدر خيره وشره‪ ،‬وتدرس هذه األحكام في مادة العقيدة أو علم‬
‫الكالم‪.‬‬
‫‪ .2‬األحكام األخالقية‪ ،‬وهي األحكام الوجدانية التي تتعلق بالفضائل التي يجب على املسلم‬
‫أن يتحلى بها‪ ،‬وبالسلوك الذي يجب عليه أن يتبعه ويسير عليه‪ ،‬وتدرس هذه األحكام في‬
‫علم األخالق‪.‬‬
‫‪ .3‬األحكام العملية‪ ،‬وتنقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫• القسم األول‪ :‬أحكام العبادات التي تنظم عالقة اإلنسان بربه‪ ،‬وتبين ما يجب على املكلف‬
‫أداؤه‪ ،‬والقيام ب ه تجاه خالق ه‪ ،‬وه ي أحكام الص الة والزكاة والص وم والحج والكفارات‬
‫والنذور واألضاحي واألعمال األخرى التي تصبح عبادة بالنية‪.‬‬
‫• القسم الثاني‪ :‬أحكام املعامالت التي تنظم عالقة الناس بعضهم ببعض‪ ،‬سواء أكانوا‬
‫أفر ًادا أم جماعات‪.‬‬
‫• وتنقسم أحكام املعامالت في االصطالح الفقهي الحديث إلى سبعة أقسام وهي‪:‬‬
‫‪ .1‬أحكام األحوال الشخصية‪ :‬وهي األحكام التي نص عليها القرآن الكريم لبناء األسرة‪،‬‬
‫وبيان تكوينها‪ ،‬وتنظيم العالقة بين أفرادها من الزوجين واألوالد واألقارب‪.‬‬
‫‪ .2‬األحكام املدنية أو املالية‪ :‬وهي األحكام التي تنظم العالقة املالية بين الناس‪ ،‬كالبيوع‬
‫وعقود التوثيق والكفالة والرهن وعقود التعاون بين األفراد كالشركة والقرض والوديعة‬
‫واإلعارة‪.‬‬
‫‪ .3‬األحكام الجنائية‪ :‬وهي األحكام التي نص عليها القرآن الكريم لبيان األفعال التي حرمها‬
‫اإلسالم‪ ،‬ووضع لها عقوبة من أجل الحفاظ على حياة الناس وأعراضهم وأموالهم‬ ‫ِ‬
‫وحقوقهم‪ ،‬وتعرف بالحدود والقصاص والتعازير‪.‬‬
‫‪ .4‬أحكام املرافعات‪ :‬وهي األحكام التي تتعلق بنظام القضاء واإلثبات إلقامة العدل بين‬
‫الناس‪ ،‬ودرسها العلماء في باب أدب القضاء‪.‬‬
‫‪ .5‬األحكام الدس تورية‪ :‬الت ي تتعل ق بنظام الحك م وأص وله‪ ،‬وت بين عالق ة الحاكم‬
‫باملحكومين‪ ،‬وحقوق األفراد والجماعات‪ ،‬ودرسها العلماء في األحكام السلطانية ّ‬
‫والسير‪.‬‬
‫ِ‬
‫اإلسالمية لغيرها من الدول في حالتي‬
‫‪ .6‬األحكام الدولية‪ :‬وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة ِ‬
‫السلم والحرب‪ ،‬وتنظيم عالقة الدولة بأهل الذمة املستأمنين املقيمين على أرضها‪،‬‬
‫وعرفت ً‬
‫قديما‪ ،‬ودرسها الفقهاء في باب الجهاد‪.‬‬
‫اإلسالمية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫‪ .7‬األحكام االقتصادية واملالية‪ :‬وهي التي تنظم املوارد واملصارف في الدولة‬
‫ً‬
‫وكانت هذه األحكام مبعثرة في أبواب متفرقة‪ ،‬وقد توجهت العناية واالهتمام بها حديثا‪،‬‬
‫وظهرت بشكل مستقل في هذا العصر‪.‬‬
‫• هذه مجمل األحكام التي نص عليها‪ ،‬أو أشار إليها‪ ،‬القرآن الكريم‪ ،‬وهي في مجموعها تهدف‬
‫إلى هداية الناس إلى ما فيه صالح حالهم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬بيان الكتاب لألحكام‬
‫القرآن الكريم أساس الشريعة ومصدرها األول‪ ،‬وقد بين القرآن الكريم أحكامه بإحدى‬
‫طريقتين‪:‬‬
‫• األولى‪ :‬البيان التفصيلي لبعض األحكام‪ ،‬وذلك في نطاق محدود‪ ،‬مثل بحوث العقيدة التي‬
‫وردت اآليات الكثيرة فيها لتوضيح حقيقة اإليمان باهلل وكيفيته واألدلة عليه‪ ،‬ومناقشة‬
‫العقائد الباطلة والرد عليها‪ ،‬مثل أحكام املواريث التي جاءت مفصلة وشبه تامة في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ومثل أحكام األسرة والحدود والكفارات ً‬
‫تقريبا‪.‬‬
‫والحكمة من البيان التفصيلي أن هذه األحكام إما أنها تعبدية أي توقيفية أو سماعية‪ ،‬ال‬
‫مجال للعقل فيها‪ ،‬وال يصح فيها االجتهاد‪ ،‬وإما أنها أحكام معقولة ملصالح ثابتة ال مجال‬
‫لتغييرها بتغيير الزمن‪ ،‬أو اختالف البيئات‪.‬‬
‫• الثانية‪ :‬البيان اإلجمالي لبقية األحكام الشرعية التي ورد النص عليها في القرآن الكريم‬
‫بشكل إجمالي ال تفصيلي‪ ،‬وبشكل كلي ال جزئي‪ ،‬ونص القرآن الكريم على القواعد العامة‬
‫فيها واألسس الرئيسية عليها‪.‬‬
‫مثل أحكام العبادات في الصالة والزكاة والصوم والحج‪ ،‬فهذه العبادات اقتصر القرآن‬
‫الكريم على طلبها بشكل عام‪ ،‬ولم يبين لنا أركانها وشروطها وكيفية أدائها‪ ،‬وكذلك أحكام‬
‫املعامالت املدنية والدولية والجنائية والدستورية ‪ ..‬وغير ذلك‪ ،‬وهذا ال يمنع من تعرض‬
‫ً‬
‫القرآن الكريم لبعض الجزئيات والتفاصيل فيها أحيان ا‪ ،‬ونص القرآن الكريم على بيانها‬
‫عن طريق السنة وأحاديث رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬‬
‫والحكمة من البيان اإلجمالي لألحكام في الكتاب الكريم أن هذه الشريعة جاءت خاتمة‬
‫الشرائع لترافق البشرية مع تطورها وتقدمها فاقتضى ذلك أن تتصف نصوصها باملرونة‬
‫والشمول لتتسع لحاجات الناس‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬الكمال في أحكام القرآن الكريم‬
‫وبين عدد‬ ‫َ‬ ‫آن الكريم‪،‬‬ ‫ر‬ ‫الق‬ ‫في‬
‫َ‬ ‫العام‬ ‫اإلجمالي‬ ‫البيان‬ ‫بين‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫التعا‬ ‫من‬ ‫شيء‬ ‫لإلنسان‬ ‫يبدو‬ ‫قد‬ ‫•‬
‫{ال َي ْو َم أ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم د َين ُك ْم َوأ ْت َم ْمتُ‬
‫ْ‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫مثل‬ ‫‪،‬‬ ‫بالكمال‬ ‫آن‬ ‫ر‬ ‫الق‬ ‫تصف‬ ‫التي‬ ‫اآليات‬ ‫من‬
‫ِ‬
‫يت َل ُك ُم اإْل ْس اَل َم ِد ًين ا} [املائدة‪ ]3 :‬وقوله تعالى‪{َ :‬و َن َّ ْزل َن ا َع َل ْي َك ْالك َتابَ‬ ‫َع َل ْي ُك ْم ن ْع َمت ي َو َرض ُ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َْ ً ُ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِتبيانا ِلك ِل شي ٍء وهدى ورحمة وبشرى ِللمس ِل ِمين (‪[ })89‬النحل‪]89 :‬‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫الس نة وغيرها من‬ ‫• ويالحظ أن بعض الناس تمسكوا بظاهر هذه اآليات في محاولة رد ُّ‬
‫مص ادر التشري ع؛ كم ا تعرض لهذه املس ألة بع ض ضعاف اإليمان ودعاة التشكي ك في‬
‫العقيدة بالتنطح والتحدي بضرب بعض األمثلة والحوادث والوقائع والكونيات واملخترعات‬
‫التي يطلبون داللة القرآن الكريم عليها‪.‬‬
‫• والجواب عن ذلك أن القرآن الكريم عالج األمور وبين األحكام بشكل إجمالي ونص على‬
‫القواعد العامة‪ ،‬واملبادئ الهامة‪ ،‬ونبه على مقاصد الشريعة وأهدافها‪ ،‬وأحال العاقل إلى‬
‫التدبر والتأمل عن طريق القياس واالستحسان واالستصالح‪ ،‬وأرشد إلى السنة بأسلوبه‬
‫الرائع املعجز؛ ألن القرآن ال يتسع للنص على كل شاردة أو واردة‪ ،‬وإن هذا األسلوب يعطي‬
‫التشريع صفة املرونة والشمول‪ ،‬ويتيح املجال لتطبيق الشريعة في كل زمان ومكان‪ ،‬وأنها‬
‫صالحة للبشرية عامة‪.‬‬
‫• فمثلًا سئل ابن عباس رضي هللا عنه عن ميراث الجدة في كتاب هللا تعالى‪ ،‬فقال للسائل‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َّ ُ ُل َ ُ ُ ُ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ‬
‫عالم‬
‫وسئلْ ُ ْ اَل‬ ‫في قوله تعالى‪{ :‬وما آتاكم الرسو فخذوه وما نهاكم عنه فانته َ ُوا} َ[الحشر‪]7 :‬‬
‫ْ َ ّ ْ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الذك ِر ِإن كنتم‬
‫مرض ودواء في كتاب هللا فقال‪ :‬إنه في قوله تعالى‪{ :‬فاس ألوا أهل ِ‬ ‫عن‬
‫َ ْ َ ُ نَ‬
‫تعلمو } [األنبياء‪.]7 :‬‬
‫• ونرى أن الكمال في القرآن الكريم يتحقق باألمور الثالثة التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬النصوص التفصيلية التي جاءت في القرآن الكريم كاملواريث واللعان والعقيدة‪.‬‬
‫‪ .2‬النصوص املجملة التي وردت في القرآن الكريم وتضمنت القواعد العامة واملبادئ الكلية‬
‫والضوابط الشرعية‪ ،‬وتركت تفصيل ذلك إلى علماء األمة يضعون التفاصيل التي تحقق‬
‫أغراض الشريعة وأهدافها العامة‪ ،‬وتتفق مع مصالح الناس وتطور األزمان واختالف البيئات‪.‬‬
‫جزء ا من الشريعة‪ ،‬مثل السنة‬ ‫‪ .3‬اإلحالة بنص القرآن الكريم إلى املصادر األخرى التي تعتبر ً‬
‫واإلجماع والقياس وغير ذلك من املصادر التي أمر بها‪ ،‬أو أشار إليها‪ ،‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫اًل‬
‫الحقوق والواجبات إما تفصي وإما‬ ‫ونظم‬ ‫األحكام‬ ‫جميع‬ ‫• وبذلك يكون القرآن الكريم قد تناول‬
‫ً‬ ‫اًل‬ ‫اًل‬
‫إجما وإما باإلحالة إلى غيره‪ ،‬ويكون الكتاب الكريم ‪-‬بحق‪ -‬كام ومستوفيا لجميع األشياء‪.‬‬
‫ً‬
‫‪:‬رابعا‪ :‬داللة آيات القرآن على األحكام‬
‫• إن آيات القرآن الكريم ثابتة بطريق قطعي؛ ألنها نقلت إلينا بالتواتر الذي يوحي بالجزم أن‬
‫اآلية التي يقرؤها كل مسلم في بقاع األرض هي نفسها التي تالها رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه‬
‫اللوح املحفوظ من غير تبديل وال تغيير‪،‬‬ ‫من‬ ‫جبريل‬ ‫بها‬ ‫وسلم ‪ -‬على أصحابه‪ ،‬وهي التي نزل‬
‫َّ َ ْ ُ َ َّ ْ َ ّ ْ َ َ َّ َ ُ َ َ ُ نَ‬ ‫ً‬
‫الذكر وِإنا له لحا ِفظو (‪[ })9‬الحجر‪.]9 :‬‬
‫تحقيقا لقوله تعالى‪{ِ :‬إنا نحن نزلنا ِ‬
‫• أما داللة النص القرآني على الحكم فليست واحدة‪ ،‬فمنها ما هو قطعي الداللة‪ ،‬ومنها ما‬
‫هو ظني الداللة‪.‬‬
‫اًل‬
‫• فالنص القطعي الداللة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه‪ ،‬وال يحتمل تأوي آخر معه‪.‬‬
‫وذلك مثل النصوص التي وردت فيها أعداد معينة أو أنصبة محددة في املواريث والحدود‪.‬‬
‫فإن داللة النصين قطعية على أن فرض البنتين الثلثان‪ ،‬وفرض البنت الواحدة النصف‪،‬‬
‫وفرض الزوج النصف‪.‬‬
‫• أما النص الظني الداللة فهو ما يدل على عدة معان‪ ،‬أو هو ما يدل على معنى‪ ،‬ولكنه‬
‫يحتمل معاني أخرى‪ ،‬بأن يحتمل التأويل والصرف عن معنى إلى غيره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ مْل ُ َ َّ َ ُ َ َ َ َّ ْ َ َ ْ ُ َّ َ اَل َ َ ُ‬
‫مثل لفظ القرء في قوله تعالى‪{ :‬وا طلقات يتربص ن ِبأنف ِس ِهن ث ثة قرو ٍء} [البقرة‪،]228 :‬‬
‫فلفظ القرء في اللغة لفظ مشترك بين معنيين‪ :‬الطهر والحيض‪ ،‬والنص القرآني يحتمل‬
‫أن يراد منه ثالثة أطهار‪ ،‬كما قال الشافعي وغيره‪ ،‬ويحتمل أن يراد منه ثالث حيضات‪،‬‬
‫اإلمام أبو حنيفة ومن معه‪.‬‬
‫كما قال ِ‬
‫ً‬
‫‪:‬خامسا‪ :‬أسلوب القرآن الكريم في عرض األحكام‬
‫• سبق الكالم عن إعجاز القرآن الكريم‪ ،‬وأن من وجوه إعجازه فصاحته وبالغته‪ ،‬وتقضي‬
‫البالغة أن تختلف األساليب في عرض األحكام‪ ،‬وأن تتنوع األلفاظ للداللة على مقصوده‪،‬‬
‫سواء أكان املوضوع في العقيدة أم في أخبار املغيبات أم في قصص األنبياء أم في آيات‬
‫األحكام‪ ،‬ولذلكاًل كثرت األساليب التي تدل على معنى واحد‪ ،‬حتى ال تمله النفوس‪ ،‬فلم يعبر‬
‫عن الوجوب مث بلفظ يجب فقط‪ ،‬وال على التحريم بلفظ حرم‪ ،‬بل يعبر عن الوجوب‬
‫والتحريم بعدة صيغ وأساليب‪.‬‬
‫• وبناء على ذلك فعلى املتأمل في كتاب هللا تعالى الستنباط األحكام الشرعية من القرآن‬
‫الكريم أن يستعين بمدلوالت األلفاظ وما يجري عليها من العرف استعمالها‪ ،‬وما يقترن بها‬
‫من وعد أو وعيد‪ ،‬ومن مدح أو ذم‪ ،‬ومن ترغيب أو ترهيب‪.‬‬
‫• ويمكن إجمال األساليب التي تدل على طلب الفعل أو طلب الترك أو التخيير فيه بما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬كل فعل عظمه هللا تعالى في كتابه الكريم‪ ،‬أو مدحه أو أثنى على فاعله أو أحبه أو أقسم‬
‫به أو أقسم بفاعله‪ ،‬أو قرب فاعله أو وصفه باالستقامة أو البركة‪ ،‬فهو مطلوب فعله‪،‬‬
‫ويكون حكمه بين اإليجاب وبين الندب بحسب صيغة طلبه من الشارع وترتب العقوبة‬
‫على تركه أو عدم ترتبها‪.‬‬
‫‪ .2‬كل فعل طلب الشارع تركه أو ذمه‪ ،‬أو ذم فاعله أو لعنه أو شبه فاعله بالبهائم أو أنه‬
‫سببا لعقوبة في الدنيا‬‫من فعل الشيطان أو أنه يرضي الشيطان‪ ،‬أو يزين له‪ ،‬أو جعله ً‬
‫أو عذاب في اآلخرة‪ ،‬أو وصفه بخبث أو رجس أو نجس أو أنه يؤدي إلى الفسق أو يوقع في‬
‫العداوة والبغضاء‪ ،‬فهو دليل على منع الفعل‪ ،‬ويكون حكمه إما التحريم وإما الكراهة‬
‫ُّ‬
‫بحسب الصيغة في طلب الترك أو ترتب العقوبة على فاعله أو عدم ترتبها‪.‬‬
‫‪ .3‬أما إذا جاء النص يدل على مجرد الجواز واإلحالل أو بنفي الحرج أو الجناح أو اإلثم‬
‫على فاعله فيكون حكمه اإلباحة‪ ،‬وسيأتي تفصيل ذلك في فصل الحكم التكليفي‪.‬‬
‫خاتمة‪ :‬في االنتفاع بالقرآن الكريم‬
‫• بعض األمور التي يجب مراعاتها لالنتفاع بكتاب هللا تعالى‪:‬‬
‫‪ .1‬إن القرآن الكريم هو أساس الشريعة وأصلها ومعتمدها في العقيدة والعبادة واألخالق‬
‫والتشريع‪ ،‬وإنه املرجع األول في كل ذلك‪ ،‬وإنه املحتكم إليه عند االختالف فيها‪.‬‬
‫‪ .2‬يجب معرفة أسباب النزول؛ ألنها تعين على الفهم‪ ،‬وتساعد على بيان املراد من كالم‬
‫هللا تعالى‪.‬‬
‫‪ .3‬أن يعرف املسلم عادات العرب في أقوالها وأفعالها وتقاليدها‪ ،‬ألن القرآن الكريم نزل في‬
‫مجتمعهم‪ ،‬فأقر الحسن منها‪ ،‬وأبطل القبيح‪.‬‬
‫‪ .4‬وجوب معرفة اللغة العربية ودراستها؛ ألن فهم القرآن الكريم واالنتفاع منه واالستدالل‬
‫به يتوقف على معرفة اللغة‪.‬‬
‫‪ .5‬االعتماد على السنة في فهم كتاب هللا‪.‬‬
‫‪ .2‬السنة ومكانتها في التشريع والحضارة‬
‫‪ 2.1‬معنى السنة وتعريفها‪:‬‬
‫• السنة في اللغة‪ :‬الطريقة محمودة كانت أو مذمومة‪ ،‬ومنه قوله ﷺ‪(( :‬من سن‬
‫سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬ومن سن سنة سيئة‬
‫فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) [أخرجه مسلم‪.‬‬
‫ُ‬
‫• وهي في اصطالح املحدثين‪ :‬ما أ ِثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫خلقية أو خلقية أو سيرة‪ ،‬سواء كان قبل البعثة أو بعدها‪ ،‬وهي بهاذا ترادف‬
‫الحديث عند بعضهم‪.‬‬
‫• وفي اصطالح األصوليين‪ :‬ما نقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير‪.‬‬
‫• نحن هنا نريد بالسنة ما عناه األصوليون‪ ،‬ألنها –بتعريفهم‪ -‬هي التي يبحث عن‬
‫حجيتها ومكانتها في التشريع‪.‬‬
‫‪:‬ا‪QQ Q Q‬لسنة م‪Q‬ع‪ Q‬م‪QQ‬نكريحج‪QQ Q‬يت‪Q‬ه ‪QQ Q‬ا ق‪QQ Q‬دي‪QQ‬ما ‪2.2‬‬
‫• لم يكد ُيطل القرن الثاني الهجري حتى امتحنت السنة بمن ينكر حجيتها كمصدر من‬
‫مصادر التشريع اإلسالمي‪ ،‬وبمن ينكر حجية غير املتواتر منها‪ ،‬مما يأتي عن طريق اآلحاد‪،‬‬
‫وبمن ينكر حجية السنة التي ال ترد بيانا ملا في القرآن أو مؤكدة له‪ ،‬بل تأتي بحكم مستقل‪.‬‬
‫• يتلخص جواب الشافعي رحمه هللا على الشبهة بما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬أن الله أوجب علينا اتباع رسوله‪ ،‬وهذا عام ملن كان في زمنه وكل من يأتي بعده‪ ،‬وال‬
‫سبيل إلى ذلك ملن لم يشاهد الرسول ﷺ إال عن طريق األخبار فيكون هللا قد أمرنا‬
‫باتباع األخبار وقبولها‪ ،‬ألن ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪.‬‬
‫‪ .2‬أنه البد من قبول األخبار ملعرفة أحكام القرآن نفسه‪ ،‬فإن الناسخ فيه واملنسوخ ال‬
‫يعرفان إال بالرجوع إلى السنة‪.‬‬
‫‪ .3‬أن هنالك أحكاما متفقا عليها من الجميع حتى الذين يردون األخبار‪ ،‬ولم يكن من سبيل‬
‫ملعرفتها إال عن طريق األخبار‪.‬‬
‫‪ .4‬أن الشرع قد جاء بتخصيص القطعي بظني‪ ،‬كعموم الصالة على املكلفين خصت منها‬
‫ذوات الحيض‪ ،‬والزكاة على األموال عامة وخص منها بعض األموال‪ ،‬والوصية للوادين‬
‫ُ‬
‫نسخت بالفرائض‪ ،‬واملواريث لآلباء واألمهات والولد على العموم وخص منها الكافر ال‬
‫يرث من املسلم‪ ،‬ال سبيل لعلم ذلك إال بالسنة‪.‬‬
‫‪ .5‬أن األخبار وإن كان فيها احتمال الخطأ والوهم والكذب‪ ،‬ولكن هذا االحتمال – بعد‬
‫التثبت والتأكد من عدالة الراوي‪ ،‬ومقابلة روايته بروايات أقرانه من املحدثين – أصبح‬
‫أقل من االحتمال الوارد في الشهادات‪ ،‬خصوصا إذا عضد الرواية نص من كتاب أو‬
‫سنة‪ ،‬فإن االحتمال يكاد يكون معدوما‪.‬‬
‫‪:‬ا‪QQ Q Q‬لسنة م ‪Q‬ع‪ Q‬م‪QQ‬نكريحج‪QQ Q‬يت‪Q‬ه ‪QQ Q‬ا حدي‪QQ‬ثا ‪2.3‬‬
‫الشبهة األولى‪:‬‬
‫• قوله تعالى‪ :‬ﱡﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻﱠ [األنعام‪ ]٣٨ :‬يدل على أن الكتاب قد حوى كل‬
‫شيء من أمور الدين بحيث ال يحتاج إلى شيء آخر كالسنة‪ ،‬وإال كان الكتاب مفرطا فيه‪،‬‬
‫فيلزم الخلف في خبره تعالى وهو محال‪.‬‬
‫الجواب على الشبهة األولى‪:‬‬
‫• إن القرآن قد حوى أصول الدين وقواعد األحكام العامة‪ ،‬ونص على بعضها بصراحة‪،‬‬
‫وترك بيان بعضها اآلخر لرسول هللا ﷺ‪ ،‬وما دام هللا قد أرسل رسوله ليبين للناس أحكام‬
‫دينه م‪ ،‬وأوج ب عليه م اتباع ه‪ ،‬كان بيان ه لألحكام بيان ا للقرآ ن‪ ،‬وم ن هن ا كانت أحكام‬
‫الشريعة من كتاب وسنة وما يلحق بهما ويتفرع عنهما من إجماع وقياس‪ ،‬أحكاما من‬
‫كتاب هللا تعالى‪ ،‬إما نصا وإما داللة‪ ،‬فال منافاة بين حجية السنة وبين أن القرآن جاء‬
‫الشبهة الثانية‪:‬‬
‫• قول هللا تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﱠ [الحجر‪ ]٩ :‬يدل على أن هللا تكفل بحفظ القرآن‬
‫دون السنة‪ ،‬ولو كانت دليال وحجة كالقرآن لتكفل بحفظها‪.‬‬
‫الجواب عن الشبهة الثانية‪:‬‬
‫• إن ما وعد هللا من حفظ الذكر ال يقتصر على القرآن وحده‪ ،‬بل املراد به شرع هللا ودينه‬
‫الذي بعث به رسوله‪ ،‬وهو أعم من أن يكون قرآنا أو سنة‪ ،‬ويدل على ذلك قول هللا تعالى‪:‬‬
‫ﱡﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱠ [النحل‪ ]٤٣ :‬أي أهل العلم بدين هللا وشريعته‪ ،‬وال شك أن هللا‬
‫تعالى كما حفظ كتابه حفظ سنته‪ ،‬بما هيأ لها من أئمة العلم يحفظونها ويتناقلونها‬
‫ويتدارسونها ويميزون صحيحها من دخيلها‪ .‬وبذلك أصبحت سنة الرسول ﷺ مدرسة‬
‫محفوظة مدونة في مصادرها لم يذهب منها شيء‪.‬‬
‫الشبهة الثالثة‪:‬‬
‫ُ‬
‫• لو كانت السنة حجة ألمر النبي ﷺ بكتابتها‪ ،‬ولعمل الصحابة والتابعون من بعد على‬
‫جمعها وتدوينها‪ ،‬ملا في ذلك من صيانتها من العبث والتبديل والخطأ والنسيان‪ ،‬وفي‬
‫صيانتها من ذلك وصولها للمسلمين مقطوعا بصحتها‪ ،‬فإن ظني الثبوت ال يصح إال‬
‫االحتجاج‪،‬‬
‫وقد قال تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄﳅ ﱠ [اإلسراء‪ ،]٣٦ :‬وقال‪ :‬ﱡﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱠ [األنعام‪]١٤٨ :‬‬
‫وال يحصل القطع بثبوتها إال بكتابتها كما هو الشأن في القرآن‪ ،‬ولكن الثابت أن النبي ﷺ‬
‫نهى عن كتابتها وأمر بمحو ما كتب منها‪ ،‬وكذلك فعل الصحابة والتابعون‪.‬‬
‫ولم تدون السنة إال في عصور متأخرة بعد أن طرأ عليها الخطأ والنسيان‪ ،‬ودخل فيها‬
‫التحريف والتغيير‪ ،‬ذلك مما يوجب الشك بها وعدم االعتماد عليها في أخذ األحكام‪.‬‬
‫الجواب عن الشبهة الثالثة‪:‬‬
‫• إن عدم أمر النبي ﷺ بكتابتها ونهيه عن ذلك كما ورد في بعض األحاديث الصحيحة ال‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يدل على عدم حجيتها‪ ،‬بل ألن املصلحة حينئذ كانت تقضي بتضافر كتاب الصحابة –‬
‫نظرا لقلتهم‪ -‬على كتابة القرآن وتدوينه‪ ،‬وبتضافر املسلمين على حفظ كتاب هللا خشية‬
‫من الضياع واختالط شيء به‪ ،‬وقد حققنا أن ما ورد من النهي إنما كان عن كتابة‬
‫الحديث وتدوينه رسميا كالقرآن‪ ،‬أما أن يكتب الكاتب لنفسه فقد ثبت وقوعه في عهد‬
‫الرسول ﷺ‪.‬‬
‫• وليست الحجية مقصورة على الكتابة حتى يقال‪ :‬لو كانت حجية السنة مقصودة للنبي‬
‫ألمر بكتابتها‪ ،‬فإن الحجية تثبت بأشياء كثيرة‪ :‬منها التواتر‪ ،‬ومنها نقل العدول الثقات‪،‬‬
‫ومنها الكتابة‪ ،‬والقرآن نفسه لم يكن جمعه في عهد أبي بكر بناء على الرقاع املكتوبة‬
‫فحسب‪ ،‬بل لم يكتفوا بالكتابة حتى تواتر حفظ الصحابة لكل آية منه‪ ،‬وليس النقل عن‬
‫طريق الحفظ بأقل صحة وضبطا من الكتابة‪ ،‬خصوصا من قوم كالعرب عرفوا بقوة‬
‫الحافظة‪.‬‬
‫• وأما القول بأن السنة قد تأخر تدوينها فزالت الثقة بضبطها وأصبحت مجاال للظن‪،‬‬
‫والظن ال يجوز في دين هللا؛ فهذا قول من لم يقف على جهود العلماء في مكافحة‬
‫التحريف والوضع‪ ،‬وإذا كانت السنة قد نقلت بالضبط والحفظ غالبا والكتابة أحيانا‪،‬‬
‫من عصر الصحابة إلى نهاية القرن األول حيث دون الزهري السنة بأمر عمر بن عبد‬
‫العزيز‪ ،‬كانت سلسلة الحفظ والصيانة متصلة لم يتطرق إليها االنقطاع فال يصح أن‬
‫دس على السنة من كذب فقد تصدى له العلماء وبينوه بما ال‬ ‫يتطرق إليها الشك‪ ،‬أما ما ّ‬
‫يترك مجاال للشك‪.‬‬
‫• وأما الدعوى بأن الظن في أحكام الدين غير جائز‪ ،‬فذلك فيما يتعلق بأصول الدين التي‬
‫يكفر من جحدها أو شك فيها‪ ،‬كوحدانية هللا وصدق رسوله ونسبة القرآن إلى رب‬
‫العاملين‪ ،‬وليس كذلك بالنسبة إلى الفروع‪ ،‬إذ ال مانع أن تثبت عن طريق الظن‪ ،‬بل ال‬
‫ّ‬
‫يستطيع هذا املخالف أن يدعي أن أحكام الدين كلها تثبت عن طريق مقطوع به‪.‬‬
‫ا‪QQ Q Q‬لسنة م ‪Q‬ع‪ Q‬م‪QQ‬ني ‪Q‬ن‪QQ‬كر حج‪QQ Q‬ية خي‪Q‬ر ا ‪QQ Q‬آلحاد ‪2.4‬‬
‫• يقسم علماء الحديث األخبار إلى قسمين‪:‬‬
‫متواترة؛ وهي ما يرويها جمع من العدول الثقات عن جمع من العدول الثقات وهكذا حتى‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬
‫وآحاد؛ وهي ما يروي الواحد أو االثنان عن الواحد أو االثنين حتى يصل إلى النبي ﷺ‪ ،‬أو‬
‫ما يرويه عدد دون املتواتر‪.‬‬
‫• واتفق العلماء على أن املتواتر يفيد العلم والعمل معا‪ ،‬وهو عندهم حجة ال نزاع فيها إال ما‬
‫قدمناه عمن ينكر حجية السنة‪ .‬وأما خبر اآلحاد فالجمهور على أنها حجة يجب العمل بها‬
‫وإن أفادت الظن‪ ،‬وذهب قوم أنه قطعي موجب للعلم والعمل معا‪ .‬ولكل من الفريقين‬
‫أدلة بسطت في كتب األصول‪ ،‬واملهم أنهم جميعا متفقون على حجية أخبار اآلحاد ووجوب‬
‫العمل بها‪.‬‬
‫الشبهة األولى‪:‬‬
‫• قال هللا تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱠ [النجم‪ ]٢٨ :‬وطريق‬
‫اآلحاد طريق ظني الحتمال الخطأ والنسيان على الراوي‪ ،‬وما كان كذلك فليس بقطعي فال‬
‫يفيد في االستدالل‪.‬‬
‫الجواب عن الشبهة األولى‪:‬‬
‫• ذلك في أصول الدين وقواعده العامة‪ ،‬أما في فروع الدين وجزئياته فالعمل بالظن واجب‬
‫وال سبيل إليها إال بالظن غالبا‪ ،‬أال ترى أن األفهام تختلف في نصوص القرآن‪ ،‬واملجتهدون‬
‫يذهبون فيها مذاهب متعددة‪ ،‬وليس أحد منهم يقطع بصحة اجتهاده‪ ،‬ومع ذلك فاإلجماع‬
‫قائم على وجوب العمل بما أدى إليه اجتهاده‪ ،‬وليس لذلك سبيل إال الظن‪.‬‬
‫• وأيضا فإن حجية خبر اآلحاد ليست ظنية بل هي مقطوع بها النعقاد اإلجماع على ذلك بين‬
‫العلماء منذ عصر الصحابة فمن بعدهم‪.‬‬
‫الشبهة الثانية‪:‬‬
‫• لو جاز العمل بخبر الواحد في الفروع لجاز في األصول والعقائد‪ ،‬واإلجماع بيننا وبينكم أن‬
‫أخبار اآلحاد ال تقبل في هذه‪ ،‬فكذا في األولى‪.‬‬
‫الجواب عن الشبهة الثانية‪:‬‬
‫• إن اإلجماع منقعد على أن أصول الدين والعقائد ال يجوز أخذها من طريق ظني قطعا‪،‬‬
‫وليس األمر كذلك في الفروع‪ .‬والحق أن قياس الفروع على األصول في وجوب القطع تحكم‬
‫ومحال‪ ،‬إذ ال سبيل إلى ذلك في الفروع واألمر على العكس في األصول‪ ،‬وال يجادل في هذا‬
‫إال مكابر‪.‬‬
‫الشبهة الثالثة‪:‬‬
‫• صح عن النبي ﷺ أنه توقف في خبر ذي اليدين حين سلم النبي على رأس الركعتين في‬
‫إحدى صالتي العشاء‪ ،‬وذلك قوله‪(( :‬أقصرت الصالة أم نيست؟)) ولم يقبل خبره حتى‬
‫أخبره أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه‪ ،‬فأم وسجد للسهو‪ ،‬ولو كان خبر الواحد‬
‫حجة ألتم الرسول ﷺ صالته من غير توقف وال سؤال‪.‬‬
‫الجواب عن الشبهة الثالثة‪:‬‬
‫• إن النبي ﷺ إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه‪ ،‬لبعد انفراده بمعرفته ذلك دون‬
‫من حضره من الجمع الكثير‪ ،‬ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه‪،‬‬
‫فحيث واقفه الباقون على ذلك ارتفع حكم األمارة الدالة على وهم ذي اليدين‪ ،‬وعمل‬
‫بموجب خبره‪ ،‬كيف وأن عمل النبي ﷺ بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين‬
‫عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر‪ ،‬وهو موضع النزاع‪ ،‬في تسليمه تسليم املطلوب‪.‬‬
‫م‪Q‬رتبة ا ‪QQ Q‬لسنة م‪Q‬ع‪ Q‬ا ‪QQ Q‬لكتاب‪2.5‬‬
‫أن نصوص السنة على ثالثة أقسام‪:‬‬
‫• أوال‪ :‬ما كان مؤيدا ألحكام القرآن‪ ،‬موافقا له من حيث اإلجمال والتفصيل وذلك‪.‬‬
‫مثل األحاديث التي تفيد وجوب الصالة والزكاة والحج والصوم من غير تعرض لشرائطها‬
‫وأركانها‪ ،‬فإنها موافقة لآليات التي وردت في ذلك‪ ،‬كحديث‪(( :‬بني اإلسالم على خمس‪:‬‬
‫شهادة أن ال إله إال هللا وأن محمدا رسول هللا‪ ،‬وإقام الص الة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم‬
‫رمضان‪ ،‬وحج البيت من استطاع إليه سبيال))‪ .‬فإنه موافق لقوله تعالى‪ :‬ﱡ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼﱠ‬
‫[البقرة‪ ]٨٣ :‬ولقوله‪ :‬ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞﱠ [البقرة‪ ]١٨٣ :‬ولقوله‪ :‬ﱡ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ‬
‫ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﱠ [آل عمران‪.]٩٧ :‬‬
‫• ثانيا‪ :‬ما كان مبينا ألحكام القرآن من تقييد مطلق‪ ،‬أو تفصيل مجمل‪ ،‬أو تخصيص عام‪.‬‬
‫كاألحاديث التي فص لت أحكام الصالة والص يام والزكاة والحج والبيوع واملعامالت التي‬
‫وردت مجملة في القرآن‪ ،‬وهذا القسم هو أغلب ما في السنة وأكثرها ورودا‪.‬‬
‫• ثالثا‪ :‬ما دل على حكم سكت عنه القرآن‪ ،‬فلم يوجبه ولم ينفه‪ ،‬كاألحاديث التي أثبتت‬
‫حرمة الجمع بين املرأة وعمتها أو خالتها‪ ،‬ورجم الزاني البكر املحصن وتغريب الزاني البكر‪،‬‬
‫وإرث الجدة وغير ذلك‪.‬‬
‫وال نزاع بين العلماء في القسمين األولين‪ ،‬إنما اختلفوا في الثالث بأي طريق كان ذلك؛ أعن‬
‫طريق االستقالل بإثبات أحكام جديدة أم عن طريق دخولها تحت نصوص القرآن ولو‬
‫بتأويل؟‬
‫حجج القائلين باالستقالل‪:‬‬
‫• أوال‪ :‬إنه ال مانع عقال من وقوع استقالل السنة بالتشريع ما دام رسول هللا ﷺ معصوما‬
‫عن الخطأ‪ ،‬وهلل أن يأمر رسوله بتبليغ أحكامه على الناس من أي طريق‪ ،‬سواء كان‬
‫بالكتاب أو بغيره‪ ،‬وما دام جائزا عقال وقد وقع فعال باتفاق الجميع فلماذا ال نقول به؟‬
‫• ثانيا‪ :‬إن النصوص الواردة في القرآن الدالة على وجوب اتباع الرسول وطاعته فيما يأمر‬
‫وينهى عامة ال تفرق بين السنة املبينة أو املؤكدة أو املستقلة‪ ،‬بل إن في بعضها ما يفيد‬
‫هذا االستقالل مثل قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ‬
‫ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜﱠ [النساء‪ .]٥٩ :‬والرد إلى هللا هو الرد إلى الكتاب‪ ،‬والرد إلى الرسول هو الرد إلى‬
‫سنته بعد وفاته‪.‬‬
‫• ثالثا‪ :‬فقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على أن الشريعة تتكون من األصلين معا‪ :‬الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وأن في السنة ما ليس في الكتاب‪ ،‬وأنه يجب األخذ بما في السنة من األحكام كما‬
‫يؤخذ بما في الكتاب‪ ،‬مثل قوله ﷺ‪ (( :‬يوشك بأحدكم أن يقول‪ :‬هذا كتاب هللا‪ ،‬ما كان‬
‫فيه من حالل أحللناه‪ ،‬وما كان فيه من حرام حرمناه‪ ،‬أال من بلغه عني حديث فكذب به‪،‬‬
‫فقد كذب هللا ورسوله والذي حدثه)) [رواه الطبراني في األوسط عن جابر]‪.‬‬
‫• رابعا‪ :‬لقد ثبت من قول علي رضي هللا عنه‪(( :‬ما عندنا إال كتاب هللا أو فهم أعطيه رجل‬
‫مسلم وما في هذه الصحيفة إلخ‪ ))...‬وجاء في حديث معاذ‪(( :‬بماذا تحكم؟ قال‪ :‬بكتاب‬
‫هللا‪ ،‬قال‪ :‬فإن لم تجد؟ قال‪ :‬فبسنة رسول هللا ﷺ ))‪ .‬وهو واضح في أن السنة ما ليس في‬
‫القرآن‪.‬‬
‫حجج املنكرين لالستقالل‪:‬‬
‫• السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره‪،‬‬
‫وذلك ألنها بيان له‪ ،‬وهو الذي دل عليه قوله تعالى‪ :‬ﱡ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱠ [النحل‪ .]٤٤ :‬فال‬
‫تجد في السنة أمرا إال والقرآن قد دل على معناه داللة إجمالية أو تفصيلية‪.‬‬
‫• وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلي الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك؛ ألن هللا‬
‫جعل القرآن تبيانا لكل شيء‪ ،‬فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة ألن‬
‫ﱵ [األنعام‪ .]٣٨ :‬فالسنة‬‫األمر والنهي أول ما في الكتاب‪ ،‬ومثله قوله تعالى‪ :‬ﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱠ‬
‫إذن في محصول األمر بيان ملا فيه‪ ،‬وذلك معنى كونها راجعة إليه‪ ،‬وأيضا فاالستقراء التام‬
‫دل على ذلك‪.‬‬
‫الخالف لفظي‪:‬‬
‫• ويتلخص املوقف بين الفريقين في أنهما متفقان على وجود أحكام جديدة في السنة لم ترد‬
‫في القرآن نصا وال ص راحة‪ ،‬فالفريق األول يقول‪ :‬إن هذا هو االستقالل في التشريع ألنه‬
‫إثبات أحكام لم ترد في الكتاب‪ .‬والفريق الثاني مع تسليمه بعدم ورودها بنصها في القرآن‬
‫يرى أيضا أنها داخلة تحت نصوصه بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫• ومن هنا نرى أن الخالف لفظي‪ ،‬وأن كال منهما يعترف بوجود أحكام في السنة لم يثبت في‬
‫القرآن‪ ،‬ولكن أحدهما ال يسمي ذلك استقالال‪ ،‬واآلخر يسميه‪ ،‬والنتيجة واحدة‪.‬‬

You might also like