Professional Documents
Culture Documents
في بداية النصف الثاني من هذا القرن بدا أن البشرية في طريقها لتحقيق انتصارات
كاسحة في صراعها ضد الميكروبات المرضية .لقد أنعش القضاء على الموجات الوبائية
للطاعون والجدري و المل ريا والكوليرا والحمى الصفراء وغيرها و غيرها حتى بإمكانية
القضاء التام على مسببات المراض المعدية .
ولكن هذا المل والحلم الجميل أخذ يخبو هذه اليام مع ظهور أنواع من الميكروبات
المقاومة حتى القوى واحدث أنواع المضادات الحيوية سلح الطباء الساسي في الصراع مع
المراض .ومسبباتها الرئيسية من الجراثيم والفيروسات .
وليس مرض نقص المناعة المكتسب ( اليدز ) هو المثل الوحيد على عجز الطب الحديث
في صراعه مع الجراثيم والفيروسات .بل أن الميكروبات المعروفة والقديمة أخذت تكتسب
صفات وقدرات جديدة على اختراق الدفاعات البشرية ومقاومة المضادات الحيوية.
ومن المثلة على ذلك ميكروب السل الذي اخذ بالنتشار بالعديد من الدول المتقدمة ،وكذلك
موجات الوبئة التي تجتاح بعض بلدان العالم الثالث خاصة تلك المنكوبة بالحروب والكوارث
والزلزل والفقر والجفاف ،حيث أخذت تظهر موجات وبائية شديدة من الكوليرا و الدوسنطاريا
و الملريا وحتى الطاعون الذي ظهر في مدينة سورات الهندية مؤخراً .
هل نحن أمام مرحلة جديدة من تراجع البشرية وعلومها الطبية في مواجهة تكيف البكتيريا
وصراعها مع أسلحتنا الدوائية ؟ وهل نحن بحاجة إلى إعادة تقييم عميقة ومن الساس
لفلسفتنا الطبية العلجية منها والوقائية نع هذه الموجة الجديدة ؟
هناك الكثير من الدلئل على أن أنواع من العدوى المميتة يزداد خطرها لكل إنسان وفي كل
مكان .ول يقتصر المر في ذلك على دول العالم الثالث أو المناطق المنكوبة ،بل يمتد إلى أكثر
الدول تطوراً ،لقد كتبت مجلة " التايمز " في عددها قبل الخير بأنه ل يكاد يمر أسبوع إل
وتظهر تقارير عن موجات وبائية في الوليات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة ،وتنتشر
الميكروبات القاتلة بسرعة في كل اتجاه وتسافر في الطائرات وسفن الركاب الفخمة .
ومن المثلة على ذلك ما أوردته التايمز في عدد ، 1994 / 5 / 14نفسه من أن إحدى السفن
اضطرت للعودة إلى ميناء لوس انجلوس لصابة ( ) 400من الركاب بتسمم غذائي مجهول
السباب ،وقبل ذلك بأسابيع توجب إخلء ( ) 1200من ركاب السفينة هورايزن في برمودا
لصابتهم بمرض رئوي حيث وجد لدى ( ) 11منهم نوع قاتل من اللتهاب الرئوي ،بالضافة
إلى
من المثلة الخرى إصابة بعض العلماء العاملين في المختبرات الطبية بال المريكية بنوع
من الفيروس المعروف بفيروس سابيا الذي ل يصيب النسان في العادة ،ولكنه سبب إصابات
بشرية في البرازيل ،وأرسلت العينات إلى أمريكا حيث دلت إصابة العاملين في المختبر على
تغيير طبيعة وسلوك الفيروس الذي لم يعرف عنه سابقا قابليته للنتشار عن طريق العدوى
المباشرة بين الناس .
إن ما كتب خلل السنة الماضية عن البكتيريا -آكلة اللحم – يشد النتباه إلى أن هذه البكتيريا
والتي تتبع مجموعة المكورات العقدية فئة ( أ ) تسبب في العادة التهاب اللوزتين والحلق
العادي ،الحساسية الدائمة لبسط وأقدم المضادات الحيوية ( البنسلين ) وهذه البكتيريا أخذت
تكتسب بالضافة إلى مقاومتها للدوية خواص فتاكة تؤدي إلى الموت في حالة عدم التشخيص
والعلج المبكرين .
حسب تقديرات المنظمات الصحية ،فإن البكتيريا آكلة اللحم تؤدي إلى آلف من الوفيات في
كل عام في أمريكا وأوروبا فقط .
وقد أظهرت الحصائيات في ولية سينيناتي المريكية انه حدث ( ) 325إصابة بالسعال
الديكي في عام 93مقارنة بـ ( ) 542إصابة حدثت خلل 13سنة سابقة ،أي من 1979
وحتى 1992أي أن الزيادة أكثر من عشرة أضعاف .كذلك أظهر فحص طلب مدرسة في
إحدى مدن كاليفورنيا إثر إصابة احد الطلب بمرض التدرن الرئوي ،أن % 30من طلب هذه
المدرسة لديهم فحص إيجابي للميكروب الذي اظهر مقاومة للمضادات الحيوية التي تستعمل
في علج السل .
ومن الممكن إيراد العديد من المثلة المشابهة والتي تخص المراض الخرى ومنها،
الكوليرا حيث أظهرت موجات وبائية في جنوب روسيا التي ل تعاني من هذا المرض في العادة.
لكن المر المثير للقلق بالنسبة لهذا المرض ( الكوليرا ) هو ما حدث في مخيمات اللجئين
الهاربين من الحرب الهلية في رواندا ،حيث أدت إصابات الكوليرا إلى وفاة أكثر من ( ) 50
ألف شخص وحيث لم تنفع المضادات الحيوية العادية من مقاومة المرض ،واضطر الطباء
لستخدام عدة أنواع من الدوية بالضافة إلى السوائل في عملية تشبه عملية حل الكلمات
المتقاطعة للتوصل إلى التركيبة المثل للحد من انتشار الوباء .ويذكر الطباء الذين تخرجوا في
نهاية الستينات وبداية السبعينات جو الثقة الذي كان سائدًا آنذاك بإمكانية القضاء على
المراض المعدية.
وكانت النصيحة بعدم التخصص في هذا الفرع الذي هو في طريقه إلى النقراض ،وتوجيه
الهتمام للمشاكل الكبرى مثل السرطان وأمراض القلب .
من ناحية أخرى فأن نجاحات الصناعة الدوائية في تطوير أنواع ومجموعات من المضادات
الحيوية .أدت إلى إهمال الجسم الطبي بداية لظاهرة اكتساب البكتيريا القدرة على مقاومة
المضادات الحيوية ،حيث ساد اعتقاد خاطئ بأنه بالمكان تطوير مضادات سوبر ل يمكن
للميكروبات مقاومتها .
ولكن ومع تطور مقاومة البكتيريا للنواع الجديدة ،وجد الطباء أنفسهم يتراجعون في
مقاومة الميكروبات .والسؤال هذه اليام هو أين ومتى سيظهر الميكروب أو الفيروس المقاوم
في المرة القادمة .إن عجز الطب الحديث عن تطوير لقاح وقائي أو دواء شافي ضد مرض
اليدز قد نسف من الساس الفكرة التي تكونت لدى الطباء وانتقلت مع اليام إلى معظم
الناس ،والتي تتلخص في أن المراض المعدية مهما بلغت شدتها ابتداء بالسل والطاعون
مروراً بالزهري والتهاب السجايا وانتهاء بالكوليرا هي أمراض يمكن معالجتها بالقراص أو
الحقن .
كما اظهر ازدياد نسبة الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية الثمن الباهظ الذي تدفعه
والذي سوف تدفعه البشرية نتيجة الستعمال الخاطئ لهذه المضادات الحيوية .حيث أن
النسان يتوقف عن أخذ المضاد عند شعوره بالتحسن ,ولتكون النتيجة ظهور الميكروبات التي
اكتسبت صفة المقاومة للمضاد الحيوي .
إن ازدياد مقاومة أنواع البكتيريا للمضادات الحيوية أدى إلى اهتمام الطباء بإنتاج اللقاحات
و المطاعيم الوقائية ،ولكن النجاح في إنتاج لقاحات للمراض الناتجة عن البكتيريا يقابله تعثر
وفشل أحيانا في إنتاج لقاحات للمراض الفيروسية ومنها على سبيل المثال مرض اليدز ،
الذي ل يوجد له لقاح وقائي الن علما بان أشهر واقدر مراكز البحاث في العالم عملت ول
تزال تعمل لنجاز هذه المهمة منذ أكثر من عشر سنوات .
وهذا ينطبق على فيروس النفلونزا الذي يغير خواصه وتركيبه كل سنة مما يوجب تصميم
ل مختلفاً
لقاح جديد خلل فترات متقاربة .كل هذا يجعل من الفيروسات مشكلة تتطلب تعام ً
وجديداً ونوعيا من خلل تضافر جهود العلماء مع الجهزة الصحية المحلية والدولية ورفع
مستوى الوعي الصحي بطبيعة المراض المعدية وطرق منع انتشارها.
إن مثل هذا التعامل ل يحتمل التأجيل لن القتناع بالوضع الحالي وعدم اتخاذ إجراءات
فاعلة سيكون ثمنه المليين من حالت الوفاة .وكلنا يذكر وباء النفلونزا عام 1918حيث
كانت حصيلته أكثر من 20مليون حالة وفاة ،فكيف سيكون الحال إذا ما حدثت موجة مشابهة
هذه اليام بعد أن أصبح العالم بمثابة قرية صغيرة مع تطور وسائل المواصلت وسرعتها
وانتشارها ؟ فالن ل يلزم أكثر من ساعات لنقل العدوى من أوروبا لمريكا ،ول يمكن لي دولة
أن تنعزل عن العالم أو يعزلها العالم عن نفسه.
من كل ما تقدم يمكن القول بان تعاون الناس العاديين وتنفيذهم لتعليمات الوقاية ،وفهمهم
لطبيعة المراض والفرق بين البكتيريا والفيروسات ،وتنفيذهم الدقيق للتعليمات الطبية بشأن
الوقاية والعلج ،ووقاية أفراد السرة في حالة إصابة احدهم ..كل ذلك سيكون له تأثير هام
جداً في الحد من انتشار المراض المعدية .ولم يعد يكفي مجرد الحصول على الدواء
واستعماله كيفما اتفق لحين الشعور بالتحسن ،فهذا إهمال يمكن أن ندفع ثمنه غالياً .وإذا حالفنا
الحظ ولم ندفع ثمن الستخفاف بخطر ما نمارسه يومياً فإن أطفالنا وأحفادنا سيدفعون الثمن
بالتأكيد ،وفي ظروف أكثر صعوبة ومن خلل صراع مرير مع ميكروبات قاتلة مقاومة للكثير
من الدوية ،ل أحد يستطيع التكهن لمن ستكون الغلبة في النهاية .