You are on page 1of 171

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫سنّة‬
‫خ ْتصَ ُر ِمنْهَاجِ ال ّ‬
‫مُ‬
‫لبي العباس شيخ السلم أحمد بن تيمية‬
‫رحمه ال‬
‫اختصره‬
‫الشيخ عبد ال الغنيمان‬
‫المدرس بقسم الدراسات العليا بالجامعة السلمية‬
‫بالمدينة المنورة‬
‫الجزء الول‬
‫حقوق الطبع محفوظة‬
‫*الطبعة الثانية *‬
‫*‪1412‬هـ ‪1992 -‬م*‬
‫دار الرقم‬
‫برمنجهام ‪ -‬بريطانيا‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‬

‫ل له في‬ ‫(وال يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رج ً‬
‫المة لسان صدق يتهم بمذهب المامية فضلً عن أن يقال‪ :‬إنه يعتقده في الباطن)‪ .‬ابن تيمية‪.‬‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫المقدمة‪:‬‬
‫ف بِا ْلحَقّ عَلَى‬
‫الحمد ل مظهر الحق ومعليه‪ ،‬وقاطع الباطل وذويه‪ ،‬قال ال تعالى‪َ (( :‬بلْ نَقْ ِذ ُ‬
‫طلُ‬
‫ق َوزَهَقَ ا ْلبَا ِ‬
‫ق َولَكُمْ ا ْل َو ْيلُ ِممّا َتصِفُونَ))[النبياء‪(( ،]18:‬وَ ُقلْ جَاءَ الْحَ ّ‬‫طلِ َفيَ ْدمَ ُغهُ َفإِذَا ُه َو زَاهِ ٌ‬
‫ا ْلبَا ِ‬
‫ط ُل َومَا يُعِيدُ))[سبأ‪ .]49:‬أحمده‬ ‫ق َومَا ُيبْ ِدئُ ا ْلبَا ِ‬
‫ن زَهُوقاً))[السراء‪ُ (( ،]81:‬قلْ جَاءَ الْحَ ّ‬ ‫طلَ كَا َ‬ ‫إِنّ ا ْلبَا ِ‬
‫حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬أرسله بالهدى ودين الحق‪ ،‬ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‪.‬‬
‫أمعا بععد‪( :‬فإن منهاج السـنة النبويـة فـي نقـض دعاوي الرافضـة والقدريـة) مـن أعظـم كتـب المام‬
‫المجاهد الصابر المصابر شيخ السلم أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلم بن تيمية‪ ،‬قد ناضل فيه‬
‫عن الحق وأهله‪ ،‬ودحض الباطل وفضحه‪.‬‬
‫وشباب السـلم اليوم بأمـس الحاجـة إلى قراءة هذا الكتاب‪ ،‬ومعرفـة محتواه؛ حيـث أطـل الرفـض‬
‫على كـل بل ٍد مـن بلد السـلم وغيرهـا بوجهـه الكريـه‪ ،‬وكشـر عـن أنيابـه الكالحـة‪ ،‬وألقـى حبائله أمام‬
‫مـن ل يعرف حقيقتـه‪ ،‬مظهرًا غير مبطـن ديدن كل منافق مفسد ختال‪ ،‬فاغتـر بـه من يجهـل حقيقته‪،‬‬
‫ومن لم يقرأ مثل هذا الكتاب‪.‬‬
‫والغالب على مذاهــب أهــل البدع والهواء‪ ،‬أنهــا تتراجــع عــن الشطــح وعظيــم الضلل مــا عدا‬
‫مذهـب الرفـض فإنـه يزداد بمرور اليام تطرفًا وانحدارًا‪ ،‬وتماديًا فـي محاربـة أولياء ال وأنصـار‬
‫دينــه‪ ،‬وقــد ملئت كتــب الرافضــة بالســباب والشتائم واللعنات لخيــر خلق ال بعــد النــبياء –أعنــي‪:‬‬
‫أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ورضي ال عنهم‪ -‬وهم ل يتورعون عن تكفير الصحابة‪،‬‬

‫‪4‬‬
‫ول سيما كبارهم وسادتهم‪ ،‬مثل أبي بكر الصديق‪ ،‬وعمر بن الخطاب‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وإخوانهم‬
‫‪-‬رضوان ال عليهم‪ -‬الذين أطفؤوا نار المجوس‪ ،‬وهدموا معبوداتهم‪ ،‬وإكفار الصحابة ومن يتولهم‬
‫فـي كتبهـم المعتمدة عندهـم ل يحصـره نقـل‪ ،‬فهـم يتعبدون بلعـن صـحابة رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم‪ ،‬ويعتقدون أن الشيعـة بأئمتهـم هـم الناس‪ ،‬ومـا عداهـم همـج للنار وإلى النار‪ ،‬وال ل يقبـل مـن‬
‫مسـلم حسـنة مهمـا بالغ فـي الحسـان مـا لم يكـن شيعيًا كمـا فـي كتابهـم (الوافـي‪ ،‬الباب السـابع والثامـن‬
‫بعد المائة)‪ ،‬وفي (الكافي) أحد الكتب الموثوق بها ‪-‬عندهم‪ -‬ما يبين عن حقدهم الدفين على السلم‬
‫ومن جاء به‪ ،‬ومن حمله واعتنقه‪ ،‬وهم يرون أن القرآن نزل لشيئين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬الثناء و المدح على علي بن أبى طالب رضي ال عنه وإعلء شأنه وذريته‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ثلب أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم وذكر معايبهم‪ ،‬ولهذا قالوا‪ :‬إنه ضاع من‬
‫القرآن ثلثاه أو ثلثـــة أرباعـــه‪ ،‬وهـــم يعتمدون فـــي دينهـــم على الكذب الذي يلصـــقونه بأئمتهـــم‪،‬‬
‫والدعاءات الكاذبـة‪ ،‬فصـاروا مـن أكذب الناس‪ ،‬وأكثرهـم تصـديقًا للكذب‪ ،‬وتصـديقًا بالباطـل‪ ،‬ومـع‬
‫ذلك يرمون الصـحابة بالنفاق‪ ،‬ونبتهـل إلى ال تعالى أن يزيدهـم غيظًا وأن يكبتهـم بكمدهـم وكـل مـن‬
‫غاظه السلم‪.‬‬
‫ل على مباحــث مطولة وغيــر مطولة فــي الرد على القدريــة‬ ‫و لمــا كان كتاب منهاج الســنة مشتم ً‬
‫والمتكلميـن وغيرهـم مـن سـائر الطوائف أحببـت أن أجرد مـا يخـص الرافضـة مـن الرد عليهـم فيمـا‬
‫يتعلق بالخلفــة والصــحابة وأمهات المؤمنيــن وغيــر ذلك‪ ،‬ولم أضــف إليــه شيئًا مــن عندي‪ ،‬ل فــي‬
‫أصـله‪ ،‬ول تعليقًا؛ لن كلم المام ابـن تيميـة فيـه مـن القوة والرصـانة والمتانـة مـا يغنـي عـن كـل‬
‫تعليق‪ ،‬وعليه من نور الحق ووضوح البيان وقوة الحجة ما ل يحتاج إلى غيره‪.‬‬
‫فال يجزيـه على جهاده ومنافحتـه عـن السـلم وأهله خيـر الجزاء‪ ،‬ونسـأله تعالى أن يشركنـا معـه‬
‫في جهاده وجزائه إنه خير مسئول‪ ،‬وأكرم مأمول‪ ،‬وصلى ال وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى‬
‫آله وأزواجه وأصحابه‪.‬‬
‫قال شيخ السلم‪:‬‬
‫حكُمَع َبيْنَع‬ ‫الحمـد ل الذي‪َ (( :‬فبَعَثَع الُّ ال ّنبِيّينَع ُم َبشّرِينَع َومُن ِذرِينَع وَأَن َزلَ مَ َعهُمْع الْ ِكتَابَع بِالْحَقّ ِليَ ْ‬
‫خ َتلَفَع فِيهِع إِلّ الّذِينَع أُوتُوهُع مِنْع بَعْ ِد مَا جَا َء ْتهُمْع ا ْل َب ّينَاتُع بَغْي ًا بَ ْي َنهُمْع‬ ‫ختَلَفُوا فِيهِع وَمَا ا ْ‬
‫النّاسِع فِيمَا ا ْ‬
‫خ َتلَفُوا فِيهعِع مِنععْ الْحَقّع بِإِ ْذنِهعِع وَالُّع َيهْدِي مَنعْع َيشَاءُ إِلَى صعِعرَاطٍ‬ ‫َفهَدَى الُّع الّذِينعَع آمَنُوا لِمَعا ا ْ‬
‫ستَقِيمٍ))[البقرة‪.]213:‬‬ ‫مُ ْ‬
‫شهِدَ الُّ َأنّ هُ ل إِلَ هَ إِلّ‬ ‫وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬كما شهد هو سبحانه وتعالى (( َ‬
‫ُه َو وَا ْلمَلئِ َك ُة وَُأوْلُوا ا ْلعِلْمِ قَائِم ًا بِالْ ِقسْطِ ل إِ َلهَ إِلّ ُهوَ الْ َعزِيزُ ا ْلحَكِيمُ))[آل عمران‪.]18:‬‬
‫وأشهـد أن محمدًا عبده ورسـوله الذي ختـم بـه أنـبياءه‪ ،‬وهدى بـه أولياءه‪ ،‬ونعتـه بقوله فـي القرآن‬
‫عَليْكُمْع بِا ْل ُمؤْ ِمنِينَع َرؤُوفٌع‬ ‫حرِيصٌع َ‬ ‫ع ِنتّمْع َ‬
‫عزِيزٌ عَ َليْهِع مَا َ‬ ‫الكريـم‪(( :‬لَقَدْ جَاءَكُمْع رَسعُولٌ مِنْع َأنْفُسِعكُم َ‬
‫و رَبّ الْ َعرْشِع ا ْلعَظِيعم))[التوبـة‪-128:‬‬ ‫رَحِيعم َفإِنْع َتوَّلوْا فَ ُقلْ حَسْعبِيَ الُ لَ إِلَهَع ِإلّ ُهوَ عَ َليْهِع َتوَكّلْتُع وَ ُه َ‬
‫‪ .]129‬صلى ال عليه أفضل صلة وأكمل تسليم‪.‬‬
‫(أما بعد)‪ :‬فإنه أحضر إلي طائفة من أهل السنة والجماعة كتابا صنفه بعض شيوخ الرافضة في‬
‫عصـرنا منفقًا لهذه البضاعـة‪ ،‬يدعـو بـه إلى مذهـب الرافضـة الماميـة‪ ،‬مـن أمكنـه دعوتـه مـن ولة‬
‫المور وغيرهم أهل الجاهلية‪ ،‬ممن قلت معرفتهم بالعلم والدين‪ ،‬ولم يعرفوا أصل دين المسلمين‪.‬‬
‫وأعانـه على ذلك مـن عادتهـم إعانـة الرافضـة‪ ،‬مـن المتظاهريـن بالسـلم‪ ،‬مـن أصـناف الباطنيـة‬

‫‪5‬‬
‫الملحدين‪ ،‬الذين هم في الباطن من الصابئة الفلسفة الخارجين عن حقيقة متابعة المرسلين‪ ،‬الذين‬
‫ل يوجبون اتباع ديــن الســلم‪ ،‬ول يحرمون اتباع مــا ســواه مــن الديان‪ ،‬بــل يجعلون الملل بمنزلة‬
‫المذاهـب السياسات التـي يسـوغ اتباعها‪ ،‬وأن النبوة نوع من السياسة العادلة التـي وضعت لمصـلحة‬
‫العامة في الدنيا‪.‬‬
‫فإن هذا الصــنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهليــة وأهلهــا‪ ،‬ولم يكــن هناك مــن أهــل العلم‬
‫بالنبوة والمتابعـة لهـا مـن يظهـر أنوارهـا الماحيـة لظلمـة الضلل‪ ،‬ويكشـف مـا فـي خلفهـا مـن الفـك‬
‫والشرك والمحال‪.‬‬
‫وهؤلء ل يكذبون بالنبوة تكذيبًـا مطلقًـا‪ ،‬بــل هــم يؤمنون ببعــض أحوالهــا‪ ،‬ويكفرون ببعــض‬
‫الحوال‪ ،‬وهـم متفاوتون فيمـا يؤمنون بـه ويكفرون بـه مـن تلك الخلل‪ ،‬فلهذا يلتبـس أمرهـم بسـبب‬
‫تعظيمهم للنبوات على كثير من أهل الجهالت‪.‬‬
‫والرافضـة والجهميـة هـم الباب لهؤلء الملحديــن‪ ،‬منهــم يدخلون إلى سـائر أصــناف اللحاد فــي‬
‫أسـماء ال وآيات كتابـه المـبين‪ ،‬كمـا قرر ذلك رءوس الملحدة مـن القرامطـة الباطنيـة‪ ،‬وغيرهـم مـن‬
‫المنافقين‪.‬‬
‫وذكر من أحضر هذا الكتاب أنه من أعظم السباب في تقرير مذاهبهم عند من مال إليهم‪ ،‬من‬
‫الملوك وغيرهــم‪ ،‬وقــد صـنفه للملك المعروف الذي ســماه‪( :‬خدابنده) وطلبوا منــي بيان مــا فـي هذا‬
‫الكتاب مـن الضلل وباطـل الخطاب؛ لمـا فـي ذلك مـن نصـر عباد ال المؤمنيـن‪ ،‬وبيان بطلن أقوال‬
‫المفترين الملحدين‪ ،‬فأخبرتهم أن هذا الكتاب‪ ،‬وإن كان من أعلى ما يقولونه في باب الحجة والدليل‪،‬‬
‫فالقوم من أضل الناس عن سواء السبيل؛ فإن الدلة‪ :‬إما نقلية‪ ،‬وإما عقلية‪ ،‬والقوم من أضل الناس‬
‫في المنقول والمعقول في المذهب والتقرير‪ ،‬وهم من أشبه الناس بمن قال ال فيهم‪(( :‬وَقَالُوا َلوْ ُكنّا‬
‫سمَعُ َأ ْو نَعْ ِق ُل مَا ُكنّا فِي َأصْحَابِ السّعِير))[الملك‪.]10:‬‬
‫نَ ْ‬
‫وهم من أكذب الناس في النقليات‪ ،‬ومن أجهل الناس في العقليات‪ ،‬يصدقون من المنقول بما يعلم‬
‫العلماء بالضطرار أنـه مـن الباطيـل‪ ،‬ويكذبون بالمعلوم مـن الضطرار المتواتـر أعظـم تواتـر فـي‬
‫ل بعد جيل‪.‬‬ ‫المة جي ً‬
‫ول يميزون فـي نقلة العلم ورواة الحاديـث والخبار بيـن المعروف بالكذب‪ ،‬أو الغلط أو الجهـل‬
‫بمــا ينقــل‪ ،‬وبيــن العدل الحافــظ الضابــط المعروف بالعلم والثار‪ ،‬وعمدتهــم فــي نفــس المــر على‬
‫التقليـــد‪ ،‬وإن ظنوا إقامتـــه بالبرهانيات‪ ،‬فتارة يتبعون المعتزلة والقدريـــة‪ ،‬وتارة يتبعون المجســـمة‬
‫والجبرية‪.‬‬
‫وهــم مــن أجهــل هذه الطوائف بالنظريات‪ ،‬ولهذا كانوا عنــد عامــة أهــل العلم والديــن مــن أجهــل‬
‫الطوائف الداخليـن فـي المسـلمين‪ ،‬ومنهـم مـن أدخـل على الديـن مـن الفسـاد مـا ل يحصـيه إل رب‬
‫العباد‪ ،‬فملحدة السماعيلية والنصيرية وغيرهم من الباطنية المنافقين من بابهم دخلوا‪.‬‬
‫وأعداء المسلمين من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا‪ ،‬واستولوا بهم على بلد السلم‪،‬‬
‫وسـبوا الحريـم‪ ،‬وأخذوا الموال‪ ،‬وسـفكوا الدم الحرام‪ ،‬وجرى على المـة بمعاونتهـم مـن فسـاد الدنيـا‬
‫والدين ما ل يعلمه إل رب العالمين‪.‬‬
‫إذا كان أصل المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين الذين عاقبهم في حياته علي أمير المؤمنين‬
‫‪-‬رضي ال عنه‪ -‬فحرق منهم طائفة بالنار‪ ،‬وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار‪ ،‬وتوعد بالجلد‬
‫طائفـة مفتريـة فيمـا عرف عنـه مـن الخبار‪ ،‬إذ قـد تواتـر عنـه مـن الوجوه الكثيرة أنـه قال على منـبر‬

‫‪6‬‬
‫الكوفة وقد أسمع من حضر‪( :‬خير هذه المة بعد نبيها‪ :‬أبو بكر ثم عمر)(‪ )1‬وبذلك أجاب ابنه محمد‬
‫بن الحنفية‪ ،‬فيما رواه البخاري في صحيحه‪ ،‬وغيره من علماء الملة الحنيفية‪.‬‬
‫ولهذا كانـت الشيعـة المتقدمون الذيـن صـحبوا عليًا‪- ،‬أو كانوا فـي ذلك الزمان‪ -‬لم يتنازعوا فـي‬
‫تفضيـل أبـي بكـر وعمـر‪ ،‬وإنمـا كان نزاعهـم فـي تفضيـل علي وعثمان‪ ،‬وهذا ممـا يعترف بـه علماء‬
‫الشيعة الكابر من الوائل والواخر‪ ،‬حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي‪.‬‬
‫قال‪ :‬سـأل سـائل شريـك بـن عبـد ال‪ ،‬فقال له‪ :‬أيهمـا أفضـل‪ :‬أبـو بكـر أو علي؟ فقال له‪ :‬أبـو بكـر‪.‬‬
‫فقال له السائل‪ :‬تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له‪ :‬نعم‪ .‬من لم يقل هذا فليس شيعيًا‪ ،‬وال لقد رقى هذه‬
‫العواد علي‪ ،‬فقال‪ :‬أل إن خيـر هذه المـة بعـد نبيهـا أبـو بكـر‪ ،‬ثـم عمـر‪ ،‬فكيـف نرد قوله؟ وكيـف‬
‫نكذبه؟ وال ما كان كذابًا‪ .‬نقل هذا عبد الجبار الهمداني في كتاب تثبيت النبوة(‪.)2‬‬
‫قال‪ :‬ذكره أبو القاسم البلخي في النقض على ابن الراوندي على اعتراضه على الجاحظ‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫فلمــا ألحوا فــي طلب الرد لهذا الضلل المــبين‪ ،‬ذاكريــن أن فــي العراض عــن ذلك خذلنًـا‬
‫للمؤمنيـن‪ ،‬وظـن أهـل الطغيان نوعًا مـن العجـز عـن رد هذا البهتان‪ ،‬فكتبـت مـا يسـره ال مـن البيان‪،‬‬
‫وفا ًء بمـا أخذه ال مـن الميثاق على أهـل العلم واليمان‪ ،‬وقيامًا بالقسـط وشهادة ل‪ ،‬كمـا قال تعالى‪:‬‬
‫ن وَالَ ْق َربِين إِ نْ‬
‫علَى َأنْفُسِكُم َأوِ ا َلوَالِ َديْ ِ‬
‫شهَدَاءَ ِلِ وَ َلوْ َ‬ ‫ط ُ‬ ‫ن بِالْقِسْ ِ‬ ‫ن آ َمنُوا كُونُوا َقوّامِي َ‬ ‫((يَا َأ ّيهَا الّذِي َ‬
‫ن َتوَّلوْا َأ ْو تُ ْعرِضُوا َفإِنّ الَ كَا نَ‬ ‫ن تَعْدِلُوا وَِإ ْ‬
‫ل تَ ّتبِعُوا ا ْل َهوَى أَ ْ‬
‫غ ِنيًا َأوْ فَقِيرًا فَالُ َأ ْولَى ِب ِهمَا َف َ‬
‫يَكُ نْ َ‬
‫خبِيرًا))[النساء‪.]135:‬‬ ‫بِمَا تَ ْعمَلُونَ َ‬
‫واللي‪ :‬هو تغيير الشهادة‪ ،‬والعراض‪ :‬هو كتمانها‪.‬‬
‫وال تعالى قــد أمــر بالصــدق والبيان‪ ،‬ونهــى عــن الكذب والكتمان‪ ،‬فيمــا يُحتاج إلى معرفتــه‬
‫وإظهاره‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه‪( :‬البيعان بالخيار مالم يتفرقا‪،‬‬
‫فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما‪ ،‬وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)(‪.)3‬‬
‫ل سيما الكتمان إذا لعن آخر هذه المة أولها‪ ،‬كما في الثر‪( :‬إذا لعن آخر هذه المة أولها‪ ،‬فمن‬
‫كان عنده علم فليظهره‪ ،‬فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أنزل ال على محمد)(‪.)4‬‬
‫وذلك أن أول هذه المة هم الذين قاموا بالدين تصديقًا وعلمًا وعملً‪ ،‬وتبليغًا‪ ،‬فالطعن فيهم طعن‬
‫في الدين‪ ،‬موجب للعراض عما بعث ال به النبيين‪.‬‬
‫وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع‪ ،‬فإنما كان قصده الصد عن سبيل ال‪ ،‬وإبطال ما‬
‫جاءت به الرسل عن ال‪ ،‬ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة‪ ،‬فظهر في الملحدة حقيقة‬
‫هذه البدع المضلة‪.‬‬
‫لكـن راج كثيـر منهـا على مـن ليـس مـن المنافقيـن الملحديـن‪ ،‬لنوعٍـ مـن الشبهـة والجهالة المخلوطـة‬
‫ضلّ‬ ‫بهوى‪ ،‬فقبــل معــه الضللة‪ ،‬وهذا أصــل كــل باطــل‪ ،‬قال ال تعالى‪(( :‬وَالنّجْم عِ إِذَا َهوَى * مَعا َ‬
‫ي يُوحَى))[النجـم‪ ]4-1:‬فنزه ال رسوله‬ ‫غوَى * َومَا يَنْطِ قُ عَ نْ ا ْل َهوَى * إِ نْ ُهوَ إِ ّل وَحْ ٌ‬ ‫حبُكُ ْم َومَا َ‬ ‫صَا ِ‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )5/7‬فضائل أصحاب النب صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسنن أب داود (‪ )4/288‬وابن ماجة (‪ )1/39‬وغيها‪.‬‬
‫‪ )(2‬هو القاضي عماد الدين أبو السن عبد البار بن أحد المدان‪ ،‬شيخ العتزلة ف وقته‪ ،‬وكتابه (تثبيت دلئل النبوة) من أحسن الكتب ف هذا الباب‪،‬‬
‫وانظر‪ :‬هذا الثر فيه‪.)2/549( :‬‬
‫‪ )(3‬الديث ف البخاري ف أماكن متعددة‪ ،‬انظر‪ :‬كتاب البيوع (‪ )3/58‬ومسلم كتاب البيوع أيضا (‪.)3/1164‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن ماجة ف سننه (‪ )97-1/96‬عن جابر مرفوعا‪ ،‬و هو ضعيف‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫عـن الضلل والغـي‪ ،‬والضلل‪ :‬عدم العلم‪ ،‬والغـي‪ :‬اتباع الهوى؛ كمـا قال تعالى ((وَحَمَ َلهَا ا ِلنْسعَان‬
‫جهُولً))[الحزاب‪ ]72:‬فالظلوم غاوٍ‪ ،‬والجهول ضال إل من تاب ال عليه‪.‬‬ ‫ِإ ّنهُ كَانَ ظَلُومًا َ‬
‫وهذا حال أهــل البدع المخالفــة للكتاب والســنة‪ ،‬فإنهــم (إن يتبعون إل الظــن ومــا تهوى النفــس)‬
‫ل وظلمًا‪ ،‬يعادون خيار أولياء‬ ‫ففيهـم جهـل وظلم‪ ،‬ل سـيما الرافضـة‪ ،‬فإنهـم أعظـم ذوي الهواء جه ً‬
‫ال تعالى ‪-‬من بعد النبيين‪ ،‬من السابقين الولين من المهاجرين والنصار‪ ،‬والذين اتبعوهم بإحسان‪،‬‬
‫رضــي ال عنهــم ورضوا عنــه‪ -‬ويوالون الكفار والمنافقيــن مــن اليهود والنصــارى والمشركيــن‬
‫وأصـناف الملحديـن‪ ،‬كالنصـيرية والسـماعيلية وغيرهـم مـن الضاليـن‪ ،‬فتجدهـم أو كثيرًا منهـم إذا‬
‫اختصـم خصـمان في ربهـم مـن المؤمنيـن والكفار‪ ،‬واختلف الناس فيما جاءت بـه النبياء‪ ،‬فمنهـم مـن‬
‫آمن ومنهم من كفر‪ ،‬سواء كان الختلف بقول أو عمل‪ ،‬كالحروب التي بين المسلمين وأهل الكتاب‬
‫والمشركين‪.‬‬
‫تجدهـم يعاونون المشركيـن وأهـل الكتاب على المسـلمين أهـل القرآن‪ ،‬كمـا قـد جرّبـه الناس منهـم‬
‫غيـر مرة‪ ،‬فـي مثـل إعانتهـم للمشركيـن مـن الترك وغيرهـم على أهـل السـلم بخراسـان والعراق‬
‫والجزيرة والشام‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫وإعانتهم للنصارى على المسلمين بالشام ومصر وغير ذلك في وقائع متعددة‪.‬‬
‫من أعظم الحوادث التي كانت في السلم‪ ،‬في المائة الرابعة والسابعة‪ ،‬فإنه لما قدم كفار الترك‬
‫إلى بلد الســلم‪ ،‬وقتــل مــن المســلمين مــا ل يحصــى عدده إل رب النام‪ ،‬كانوا مــن أعظــم الناس‬
‫عداوة للمسـلمين‪ ،‬ومعاونـة للكافريـن‪ ،‬وهكذا معاونتهـم لليهود أمـر شهيـر‪ ،‬حتـى جعلهـم الناس لهـم‬
‫كالحمير‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫مشابهة الرافضة لليهود والنصارى من وجوه كثيرة‬
‫وهذا المصـنف سـمّى كتابـه‪( :‬منهاج الكرامـة فـي معرفـة المامـة) وهـو خليـق بأن يسـمى‪( :‬منهاج‬
‫الندامـة) كمـا أن مـن ادعـى الطهارة وهـو مـن الذيـن لم يرد ال أن يطهـر قلوبهـم‪ ،‬بـل مـن أهـل الجبـت‬
‫والطاغوت والنفاق‪ ،‬كان وصفه بالنجاسة والتكدير أولى من وصفه بالتطهير‪.‬‬
‫ومـن أعظـم خبـث القلوب أن يكون فـي قلب العبـد غـل لخيار المؤمنيـن‪ ،‬وسـادات أولياء ال بعـد‬
‫النـبيين‪ ،‬ولهذا لم يجعـل ال تعالى فـي الفيـء نصـيبًا لمـن بعدهـم‪ ،‬إل الذيـن يقولون‪َ (( :‬ربّنَا اغْ ِفرْ لَنَا‬
‫ج َعلْ فِعي ُقلُوبِنَعا غِلً لِلّذِينعَع آ َمنُوا َربّنَعا ِإنّكعَع َرؤُوفععٌ‬
‫خوَانِنَعا الّذِينععَ سعَعبَقُونَا بِالِيمَانعِع وَ َل تَ ْ‬
‫وَلِ ْ‬
‫رَحِيم))[الحشر‪.]10:‬‬
‫ولهذا كان بينهم وبين اليهود من المشابهة واتباع الهوى وغير ذلك من أخلق اليهود‪.‬‬
‫وبينهــم وبيــن النصــارى مــن المشابهــة فــي الغلو والجهــل واتباع الهوى وغيــر ذلك مــن أخلق‬
‫النصارى‪ ،‬ما أشبهوا به هؤلء من وجه وهؤلء من وجه‪ ،‬وما زال الناس يصفونهم بذلك‪.‬‬
‫ومن أخبر الناس بهم الشعبي وأمثاله من علماء الكوفة‪.‬‬
‫وقد ثبت عن الشعبي أنه قال‪ :‬ما رأيت أحمق من الخشبية‪ ،‬لو كانوا من الطير لكانوا رخمًا‪ ،‬ولو‬
‫كانوا مــن البهائم لكانوا حمرًا‪ ،‬وال لو طلبــت منهــم أن يملئوا هذا البيــت ذهبًـا على أن أكذب على‬
‫علي لعطونــي‪ ،‬ووال مــا أكذب عليــه أبدًا‪ ،‬وقــد روى هذا الكلم عنــه مبســوطًا لكــن الظهــر أن‬
‫المبسوط من كلم غيره‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫كما روى أبو حفص ابن شاهين (‪ )1‬في كتاب (اللطف في السنة)‪ :‬حدثنا محمد بن أبي القاسم بن‬
‫هارون‪ ،‬حدثنـا أحمـد بـن الوليـد الواسـطي‪ ،‬حدثنـي جعفـر بـن نصـير الطوسـي الواسـطي‪ ،‬عـن عبـد‬
‫الرحمن بن مالك بن مغول‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬قال الشعبي‪ :‬أحذركم أهل هذه الهواء المضلة‪ ،‬وشرها‬
‫الرافضة‪ ،‬لم يدخلوا في السلم رغبة ول رهبة‪ ،‬ولكن مقتًا لهل السلم وبغيًا عليهم‪ ،‬وقد حرقهم‬
‫علي رضي ال عنه ونفاهم إلى البلدان‪.‬‬
‫منهـم‪ :‬عبـد ال بـن سـبأ يهودي مـن يهود صـنعاء‪ ،‬نفاه إلى سـاباط‪ ،‬وعبـد ال بـن يسـار نفاه إلى‬
‫خازر‪ ،‬وآيــة ذلك أن محنــة الرافضــة محنــة اليهود‪ .‬قالت اليهود‪ :‬ل يصــلح الملك إل فــي آل داود‪،‬‬
‫وقالت الرافضة‪ :‬ل تصلح المامة إل في ولد علي‪ ،‬وقالت اليهود‪ :‬ل جهاد في سبيل ال حتى يخرج‬
‫المســيح الدجال‪ ،‬وينزل ســيف مــن الســماء‪ ،‬وقالت الرافضــة‪ :‬ل جهاد فــي ســبيل ال حتــى يخرج‬
‫المهدي‪ ،‬وينادي منادٍ من السماء‪.‬‬
‫واليهود يؤخرون الصــــلة إلى اشتباك النجوم‪ ،‬وكذلك الرافضــــة يؤخرون المغرب إلى اشتباك‬
‫النجوم‪ ،‬والحديـث عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬ل تزال أمتـي على الفطرة مالم يؤخروا‬
‫المغرب إلى اشتباك النجوم)(‪.)2‬‬
‫واليهود تزول عن القبلة شيئا‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود تنود في الصلة‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود تسدل أثوابها في الصلة‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يرون على النساء عدة‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود حرفوا التوراة‪ ،‬وكذلك الرافضة حرفوا القرآن‪.‬‬
‫واليهود قالوا‪ :‬افترض ال علينا خمسين صلة‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يخلصــون الســلم على المؤمنيــن إنمــا يقولون‪ :‬الســام عليكــم ‪-‬والســام الموت‪ -‬وكذلك‬
‫الرافضة‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫واليهود ل يأكلون الجرّي والمرماهى والذناب‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يرون المسح على الخفين‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود يستحلون أموال الناس كلهم‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫سبِيل))[آل عمران‪ ]75:‬وكذلك‬‫عَليْنَا فِي ا ُلمِيّينَ َ‬
‫وقد أخبرنا ال عنهم في القرآن أنهم‪(( :‬قَالُوا َليْ سَ َ‬
‫الرافضة‪.‬‬
‫واليهود تسجد على قرونها في الصلة‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل تسجد حتى تخفق برءوسها مرارًا شبه الركوع‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود تبغض جبريل‪ ،‬ويقولون‪ :‬هو عدونا من الملئكة‪ ،‬وكذلك الرافضة يقولون‪ :‬غلط جبريل‬
‫بالوحي على محمد‪.‬‬
‫وكذلك الرافضـة وافقوا النصـارى فـي خصـلة‪ :‬النصـارى ليـس لنسـائهم صـداق إنمـا يتمتعون بهـن‬
‫تمتعًا‪ ،‬وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة‪ ،‬ويستحلون المتعة‪.‬‬
‫وفضلت اليهود والنصـارى على الرافضـة بخصـلتين‪ ،‬سـئلت اليهود‪ :‬مـن خيـر أهـل ملتكـم؟ قالوا‪:‬‬
‫‪ )(1‬هو أبو حفص عمر بن أحد بن عثمان البغدادي توف سنة (‪ )385‬انظر‪ :‬تذكرة الفاظ (‪.)3/183‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو داود ف السنن (‪ )1/169‬وابن ماجة (‪ )1/225‬وأحد ف السند (‪ )4/147‬و(‪.)5/422‬‬
‫‪ )(3‬نوع من السمك زعموا أن السمك خاطب عليا إل هذين النوعي منه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫أصحاب موسى‪ ،‬وسئلت النصارى‪ :‬من خير أهل ملتكم؟ قالوا‪ :‬حواري عيسى‪ .‬وسئلت الرافضة‪:‬‬
‫من شر أهل ملتكم؟ قالوا‪ :‬أصحاب محمد‪.‬‬
‫أمروا بالسـتغفار لهـم‪ ،‬فسـبوهم والسـيف عليهـم مسـلول إلى يوم القيامـة‪ ،‬ل تقوم لهـم رايـة‪ ،‬ول‬
‫يثبـت لهـم قدم ول تجتمـع لهـم كلمـة‪ ،‬ول تجاب لهـم دعوة‪ ،‬دعوتهـم مدحوضـة‪ ،‬وكلمتهـم مختلفـة‪،‬‬
‫ب أَطْفَأَهَا الُّ)‪.‬‬
‫ح ْر ِ‬
‫وجمعهم متفرق ( ُكّلمَا َأوْقَدُوا نَارًا ِللْ َ‬
‫(قلت)‪ :‬هذا الكلم بعضه ثابت عن الشعبي‪ ،‬كقوله‪ :‬لو كانت الشيعة من البهائم لكانوا حمرًا‪ ،‬ولو‬
‫كانت من الطير لكانوا رخمًا‪ ،‬فإن هذا ثابت عنه‪.‬‬
‫قال ابــن شاهيــن‪ :‬حدثنــا محمــد بــن العباس النحوي‪ ،‬حدثنــا ابراهيــم الحربــي‪ ،‬حدثنــا أبــو الربيــع‬
‫الزهرانــي‪ ،‬حدثنــا وكيــع بــن الجراح‪ ،‬حدثنــا مالك بــن مغول‪ ،‬فذكره‪ ،‬وأمــا الســياق المذكور فهــو‬
‫معروف عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن الشعبي‪.‬‬
‫وروى أبـو عاصـم خشيـش بـن أصـرم (‪ )1‬فـي كتابـه‪ ،‬ورواه مـن طرقـه أبـو عمرو الطلمنكـي‪ ،‬فـي‬
‫كتابـه فـي الصـول‪ ،‬قال‪ :‬حدثنـا ابـن جعفـر الرقـي‪ ،‬عـن عبـد الرحمـن بـن مالك بـن مغول‪ ،‬عـن أبيـه‪،‬‬
‫قال‪ :‬قلت لعامــر الشعــبي‪ :‬مــا ردك عــن هؤلء القوم‪ ،‬وقــد كنــت فيهــم رأسـًا؟ قال‪ :‬رأيتهــم يأخذون‬
‫بأعجاز ل صدور لها‪.‬‬
‫ثـم قال لي‪ :‬يـا مالك‪ ،‬لو أردت أن يعطونـي رقابهـم عـبيدًا‪ ،‬أو يملئوا لي بيتـي ذهبًا‪ ،‬أو يحجوا إلى‬
‫بيتــي هذا‪ ،‬على أن أكذب على علي رضــي ال عنــه لفعلوا‪ ،‬ول‪ .‬وال ل أكذب عليــه أبدًا‪ .‬يــا مالك‪،‬‬
‫إنـي قـد درسـت أهـل الهواء فلم أر فيهـم أحمـق مـن الخشبيـة‪ ،‬فلو كانوا مـن الطيـر لكانوا رخمًا‪ ،‬ولو‬
‫كانوا من الدواب لكانوا حمرًا‪ .‬يا مالك‪ ،‬لم يدخلوا في السلم رغبة فيه ل ول رهبة من ال‪ ،‬ولكن‬
‫مقتًا من ال عليهم‪ ،‬وبغيًا منهم على أهل السلم‪.‬‬
‫يريدون أن يغمصـوا ديـن السـلم‪ ،‬كمـا غمـص بولص بـن يوشـع ملك اليهود ديـن النصـرانية‪ ،‬ول‬
‫تتجاوز صلتهم آذانهم‪.‬‬
‫قد حرقهم علي بن أبي طالب رضي ال عنه بالنار‪ ،‬ونفاهم من البلد‪.‬‬
‫منهـم‪ :‬عبـد ال بـن سـبأ‪ ،‬يهودي مـن يهود صـنعاء‪ ،‬نفاه إلى سـاباط‪ ،‬وأبـو بكـر الكروس‪ ،‬نفاه إلى‬
‫الجابية‪ ،‬وحرق منهم قومًا‪ ،‬أتوه فقالوا‪ :‬أنت هو‪ .‬فقال‪ :‬من أنا‪ .‬فقالوا‪ :‬أنت ربنا‪ .‬فأمر بنار فأججت‪،‬‬
‫فألقوا فيها‪ ،‬وفيهم قال علي رضي ال عنه‪:‬‬
‫لما رأيت المر أمرًا منكعرا أججت ناري ودعوت قنبرا‬
‫يــا مالك‪ ،‬إن محنتهــم محنــة اليهود‪ ،‬قالت اليهود‪ :‬ل يصــلح الملك إل فــي آل داود‪ ،‬وكذلك قالت‬
‫الرافضة‪ :‬ل تصلح المامة إل في ولد علي‪.‬‬
‫وقالت اليهود‪ :‬ل جهاد في سبيل ال حتى يخرج المسيح الدجال وينزل سيف من السماء‪ ،‬وكذلك‬
‫الرافضـة قالوا‪ :‬ل جهاد فـي سـبيل ال حتـى يخرج الرضـا مـن آل محمـد وينادي منا ٍد مـن السـماء‪:‬‬
‫اتبعوه‪.‬‬
‫وقالت اليهود‪ :‬فرض ال علينا خمسين صلة في كل يوم وليلة‪ ،‬وكذلك قالت الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يصـلون المغرب حتـى تشتبـك النجوم‪ ،‬وقـد جاء عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬ل‬
‫تزال أمتـــــي على الســـــلم مالم تؤخـــــر المغرب إلى اشتباك النجوم)(‪ )2‬مضاهاة لليهود‪ ،‬وكذلك‬
‫الرافضة‪.‬‬
‫‪ )(1‬هو خشيش بن أصرم بن السود‪ ،‬أبو عاصم النسائي توف سنة (‪ )253‬وانظر‪ :‬تذيب التهذيب (‪.)3/142‬‬

‫‪10‬‬
‫واليهود إذا صلوا زالوا عن القبلة شيئًا‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود تنود في صلتها‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود يسـدلون أثوابهـم فـي الصـلة‪ ،‬وقـد بلغنـي أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـر برجـل سـادل‬
‫ثوبه فعطفه عليه‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود حرفوا التوراة‪ ،‬وكذلك الرافضة حرفوا القرآن‪.‬‬
‫واليهود يسجدون في صلة الفجر الكندرة‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يخلصـون بالسـلم إنمـا يقولون‪ :‬سـام عليكـم ‪-‬وهـو الموت‪ -‬وكذلك الرافضـة‪ ،‬واليهود‬
‫عادوا جبريـل فقالوا‪ :‬هـو عدونـا‪ .‬وكذلك الرافضـة قالوا‪ :‬أخطـأ جبريـل بالوحـي‪ .‬و اليهود يسـتحلون‬
‫أموال الناس‪ ،‬وقـد نبأنـا ال عنهـم أنهـم قالوا‪َ (( :‬ليْسَع عَ َل ْينَا فِي ا ُل ِميّينَع سَعبِيل))[آل عمران‪ ،]75:‬وكذلك‬
‫الرافضة يستحلون مال كل مسلم‪.‬‬
‫واليهود ليس لنسائهم صداق وإنما يتمتعون متعة‪ ،‬وكذلك الرافضة يستحلون المتعة‪.‬‬
‫واليهود يستحلون دم كل مسلم‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود يرون غش الناس‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يعدون الطلق شيئًا إل عند كل حيضة‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يرون العزل عن السراري‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود يحرمون الجرّي والمرماهى‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود حرموا الرنب والطحال‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يرون المسح على الخفين‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫واليهود ل يلحدون‪ ،‬وكذلك الرافضة‪ .‬وقد ألحد لنبينا صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫واليهود يدخلون مع موتاهم في الكفن سعفة رطبة‪ ،‬وكذلك الرافضة‪.‬‬
‫ثـم قال‪ :‬يـا مالك‪ ،‬وفضلتهـم اليهود والنصـارى بخصـلة‪ ،‬قيـل لليهود‪ :‬مـن خيـر أهـل ملتكـم؟ قالوا‪:‬‬
‫أصـحاب موسـى‪ ،‬وقيـل للنصـارى مـن خيـر أهـل ملتكـم؟ قالوا‪ :‬حواري عيسـى‪ ،‬وقيـل للرافضـة‪ :‬مـن‬
‫شـر أهـل ملتكـم؟ قالوا‪ :‬حواري محمـد ‪-‬يعنون بذلك طلحـة والزبيـر‪ -‬أمروا بالسـتغفار لهـم فسـبوهم‪،‬‬
‫والسـيف مسـلول عليهـم إلى يوم القيامـة‪ ،‬ودعوتهـم مدحوضـة‪ ،‬ورايتهـم مهزومـة‪ ،‬وأمرهـم متشتـت‬
‫لرْ ضِ فَ سَادًا وَالُّ ل يُحِبّ ا ْلمُفْ سِدِينَ)) [المائدة‪:‬‬ ‫حرْ بِ َأطْفَأَهَا الُّ َويَ سْ َعوْنَ فِي ا َ‬
‫((كُّلمَا َأوْقَدُوا نَارًا ِللْ َ‬
‫‪ ،]64‬ويسعون في الرض فسادًا‪ ،‬وال ل يحب المفسدين‪.‬‬
‫وقـد روى أبـو القاسـم الطـبري(‪ )1‬فـي (شرح أصـول السـنة) نحـو هذا الكلم‪ ،‬مـن حديـث وهـب بـن‬
‫بقية الواسطي‪ ،‬عن محمد بن حجر الباهلي‪ ،‬عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول من وجوه متعددة‬
‫يصـدق بعضهـا بعضًا‪ ،‬وبعضهـا يزيـد على بعـض‪ ،‬لكـن عبـد الرحمـن بـن مالك بـن مغول ضعيـف‪،‬‬
‫وذم الشعـبي لهـم ثابـت مـن طرق أخرى‪ ،‬لكـن لفـظ الرافضـة إنمـا ظهـر لمـا رفضوا زيـد بـن علي بـن‬
‫الحسـين فـي خلفـة هشام‪ ،‬وقصـة زيـد بـن علي بـن الحسـين كانـت بعـد العشريـن ومائة سـنة إحدى و‬
‫عشرين أو اثنتين وعشرين ومائة في آخر خلفة هشام‪.‬‬
‫قال أبـو حاتـم البسـتى‪ :‬قتـل زيـد بـن علي بـن الحسـين بالكوفـة سـنة اثنتيـن وعشريـن ومائة‪ ،‬فصـلب‬
‫على خشبة‪ ،‬وكان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم‪ ،‬وكانت الشيعة تنتحله‪.‬‬
‫‪ )(2‬تقدم ذكر من رواه قريبًا‪.‬‬
‫‪ )(1‬هو الللكائي‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫متى سموا رافضة وكذا الزيدية‬
‫(قلت)‪ :‬ومـن زمـن خروج زيـد افترقـت الشيعـة إلى رافضـة وزيديـة‪ ،‬فإنـه لمـا سـئل عـن أبـي بكـر‬
‫وعمر فترحم عليهما‪ ،‬رفضه قوم‪ ،‬فقال لهم‪ :‬رفضتموني! فسموا رافضة‪ ،‬لرفضهم إياه‪ ،‬وسُميّ من‬
‫لم يرفضــه مــن الشيعــة زيديًا؛ لنتســابهم إليــه‪ ،‬ولمــا صــلب كانــت العباد تأتــي إلى خشبتــه بالليــل‬
‫فيتعبدون عندها‪.‬‬
‫والشعـبي توفـي فـي أوائل خلفـة هشام‪ ،‬أو آخـر خلفـة يزيـد بـن عبـد الملك أخيـه‪ ،‬سـنة خمـس‬
‫ومائة‪ ،‬أو قريبًا من ذلك‪ .‬فلم يكن لفظ الرافضة معروفًا إذ ذاك‪.‬‬
‫وبهذا وغيره يعرف كذب لفـظ الحاديـث المرفوعـة التـي فيهـا لفـظ الرافضـة‪ ،‬ولكـن كانوا يسـمون‬
‫بغيـر ذلك السـم‪ ،‬كمـا يسـمون بالخشبيـة؛ لقولهـم‪ :‬إنـا ل نقاتـل بالسـيف إل مـع إمام معصـوم‪ ،‬فقاتلوا‬
‫بالخشب‪.‬‬
‫ولهذا جاء في بعض الروايات عن الشعبي‪( :‬ما رأيت أحمق من الخشبية)‪ ،‬فيكون المعبر عنهم‬
‫بلفظ الرافضة ذكره بالمعنى‪ ،‬مع ضعف عبد الرحمن‪ ،‬ومع أن الظاهر أن هذا الكلم إنما هو نظم‬
‫عبـد الرحمـن بـن مالك بـن مغول وتأليفـه‪ ،‬وقـد سـمع منـه طرفًا عـن الشعـبي‪ ،‬وسـواء كان هـو ألفـه‬
‫ونظمه لما رآه من أمور الشيعة في زمانه‪ ،‬ولما سمع عنهم‪ ،‬أو لما سمع من أقوال أهل العلم فيهم‪،‬‬
‫أو بعضــه‪ ،‬أو مجموع المريــن‪ ،‬أو بعضــه لهذا وبعضــه لهذا‪ ،‬فهذا الكلم معروف بالدليــل الذي ل‬
‫يحتاج فيه إلى نقل وإسناد‪.‬‬
‫وقول القائل‪ :‬إن الرافضـة تفعـل كذا‪ ،‬المراد بـه بعـض الرافضـة‪ ،‬كقوله تعالى‪(( :‬وَقَاَلتعْ اَل َيهُودُ‬
‫ع َز ْيرٌ ابْنُع الِ وَقَالَتْع النّصعَارَى ا ْلمَسعِيحُ ابْنُع ال))[التوبـة‪(( ،]30:‬وَقَالَتِع ا ْل َيهُو ُد يَدُ الِ مَ ْغلُو َلةً غُلّتْع‬
‫ُ‬
‫َأيْدِيهِم))[المائدة‪.]64:‬‬
‫لم يقل ذلك كل يهودي‪ ،‬بل فيهم من قال ذلك‪ .‬وما ذكره موجود في الرافضة‪.‬‬
‫وفيهم أضعاف ما ذكره‪ ،‬مثل‪ :‬تحريم بعضهم للحم الوز والجمل‪ ،‬مشابهة لليهود‪.‬‬
‫ومثل‪ :‬جمعهم بين الصلتين دائما‪ ،‬فل يصلون إل في ثلثة أوقات‪ ،‬مشابهة لليهود‪.‬‬
‫ومثل قولهم‪ :‬أنه ل يقع الطلق إل بالشهاد على الزوج مشابهة لليهود‪.‬‬
‫ومثـل‪ :‬تنجيسـهم لبدان غيرهـم مـن المسـلمين وأهـل الكتاب‪ ،‬وتحريمهـم لذبائحهـم‪ ،‬وتنجيسـهم مـا‬
‫يصـيب ذلك مـن المياه والمائعات‪ ،‬وغسـل النيـة التـي يأكـل منهـا غيرهـم‪ ،‬مشابهـة للسـامرة الذيـن هـم‬
‫شر اليهود‪ ،‬ولهذا يجعلون الناس في المسلمين كالسامرة في اليهود‪.‬‬
‫ومثل استعمالهم التقية‪ ،‬وإظهار خلف ما يبطنون من العداوة‪ ،‬مشابهة لليهود ونظائر ذلك كثير‪.‬‬
‫ذكر بعض حماقات الرافضة‬
‫وأمـا سـائر حماقاتهـم فكثيرة جدًا‪ :‬مثـل كون بعضهـم ل يشرب مـن نهرٍ حفره يزيـد‪ ،‬مـع أن النـبي‬
‫صلى ال عليه وسلم والذين كانوا معه كانوا يشربون من آبار وأنهار حفرها الكفار‪.‬‬
‫وبعضهـم ل يأكـل مـن التوت الشامـي‪ ،‬ومعلوم أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم ومـن معـه كانوا‬
‫يأكلون مما يُجلب من بلد الكفار من الجبن‪ ،‬ويلبسون ما تنسجه الكفار‪ ،‬بل غالب ثيابهم كانت من‬
‫نسيج الكفار‪.‬‬
‫ومثـل كونهـم يكرهون التكلم بلفـظ العشرة‪ ،‬أو فعـل شيـء يكون عشرة‪ ،‬حتـى فـي البناء ل يبنون‬
‫على عشرة أعمدة‪ ،‬ول بعشرة جذوع ونحـو ذلك‪ ،‬لكونهـم يبغضون خيار الصـحابة ‪ -‬وهـم العشرة ‪-‬‬
‫المشهود لهم بالجنة‪ :‬أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن‬

‫‪12‬‬
‫زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضوان ال عليهم أجمعين‪،‬‬
‫يبغضون هؤلء إل علي بن أبي طالب رضي ال عنه‪ ،‬ويبغضون السابقين الولين من المهاجرين‬
‫والنصـار‪ ،‬الذيـن بايعوا رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم تحـت الشجرة‪ ،‬وكانوا ألفًا وأربعمائة‪ ،‬وقـد‬
‫أخبر ال أنه قد رضي عنهم‪.‬‬
‫وثبـت فـي صـحيح مسـلم وغيره‪ ،‬عـن جابر أيضًا‪ :‬أن غلم حاطـب بـن أبـي بلتعـة قال‪ :‬يـا رسـول‬
‫ال‪ ،‬وال ليدخلن حاطب النار‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬كذبت‪ ،‬إنه شهد بدرًا والحديبية)(‪.)1‬‬
‫وهـم يتـبرءون مـن جمهور هؤلء؛ بـل يتـبرءون مـن سـائر أصـحاب رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم‪ ،‬إل نفرًا قليلً نحـو بضعـة عشـر‪ ،‬ومعلوم أنـه لو فرض فـي العالم عشرة مـن أكفـر الناس‪ ،‬لم‬
‫يجــب هجــر هذا الســم لذلك‪ ،‬كمــا أنــه ســبحانه وتعالى لمــا قال‪(( :‬وَكَانعَ فِي ا ْلمَدِي َن ِة تِسعْ َعةُ رَهْطعٍ‬
‫ض وَ َل يُصِْلحُون))[النمل‪.]48:‬‬ ‫يُ ْفسِدُونَ فيِ ا َلرْ ِ‬
‫لم يجب هجر اسم التسعة مطلقًا‪ ،‬بل اسم العشرة قد مدح ال مسماه في مواضع‪ ،‬كقوله تعالى في‬
‫ملَة))[البقرة‪:‬‬ ‫شرَةٌ كَا ِ‬ ‫ع ْ‬
‫حجّ وَسَعبْ َعةٍ ِإذَا رَجَ ْعتُمْع تِلْكَع َ‬‫متعـة الحـج‪َ (( :‬فمَنْع لَمْع يَجِدْ فَصِعيَا ُم ثَلثَةِ َأيّامٍع فِي الْ َ‬
‫‪.]196‬‬
‫وقال تعالى‪َ (( :‬ووَاعَدْنَععا مُوس ععَى ثَلثِين ععَ َليْ َل ًة وََأ ْتمَ ْمنَاهَععا بِعَشْععر َفتَمّ ع مِيقَات عُع َربّه ععِ َأرْبَعِين ععَ‬
‫َليْلَة))[العراف‪.]142:‬‬
‫شرٍ))[الفجر‪.]2-1:‬‬ ‫ع ْ‬‫جرِ * َوَليَالٍ َ‬ ‫وقال تعالى‪(( :‬وَاٌلْ َف ْ‬
‫وقـد ثبـت فـي الصـحيح‪( :‬أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم كان يعتكـف العشـر الواخـر مـن شهـر‬
‫رمضان حتى توفاه ال تعالى)(‪.)2‬‬
‫وقال في ليلة القدر‪( :‬التمسوها في العشر الواخر)(‪.)3‬‬
‫وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬ما من أيا مٍ العمل الصالح فيهن أحب‬
‫إلى ال من هذه اليام العشر)(‪ )4‬ونظائر ذلك متعددة‪.‬‬
‫ومـن العجـب أنهـم يوالون لفـظ التسـعة‪ ،‬وهـم يبغضون التسـعة مـن العشرة؛ فإنهـم يبغضونهـم إل‬
‫عليًا‪ ،‬وكذلك هجرهـم لسـم أبـي بكـر وعمـر وعثمان ولمـن يتسـمى بذلك‪ ،‬حتـى يكرهوا معاملتـه‪،‬‬
‫ومعلوم أن هؤلء لو كانوا من أكفر الناس لم يشرع أن ل يتسمى الرجل بمثل أسمائهم‪ ،‬فقد كان في‬
‫الصحابة من اسمه الوليد‪.‬‬
‫وكان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم يقنـت فـي الصـلة‪ ،‬ويقول‪( :‬اللهـم أنـج الوليـد بـن الوليـد بـن‬
‫المغيرة)(‪،)5‬وأبوه كان مـن أعظـم الناس كفرًا‪ ،‬وهـو الوحيـد المذكور فـي قوله تعالى‪َ (( :‬ذرْنِي َومَنْع‬
‫خََلقْتُع وَحِيدًا))[المدثـر‪ ]11:‬وفـي الصـحابة مـن اسـمه عمرو‪ ،‬وفـي المشركيـن مـن اسـمه عمرو بـن عبـد‬
‫ودّ‪ ،‬وأبو جهل اسمه عمرو بن هشام‪.‬‬
‫وفـي الصـحابة خالد بـن سـعيد بـن العاص مـن السـابقين الوليـن‪ ،‬وفـي المشركيـن خالد بـن سـفيان‬
‫الهذلي‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الديث ف مسلم (‪.)4/1942‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )48-3/47‬ومسلم (‪.)831-2/830‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬كتاب الصوم من البخاري الباب مسلم‪.)2/823( :‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )2/20‬والترمذي (‪.)2/129‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪:‬ه ف‪ :‬البخاري (‪.)49-6/48‬‬

‫‪13‬‬
‫وفي الصحابة من اسمه هشام‪ ،‬مثل‪ :‬هشام بن حكيم‪ ،‬وأبو جهل كان اسم أبيه هشامًا‪.‬‬
‫وفـي الصـحابة مـن اسـمه عقبـة‪ ،‬مثـل‪ :‬أبـي مسـعود عقبـة بـن عمرو البدري‪ ،‬وعقبـة بـن عامـر‬
‫الجهني‪ ،‬وكان في المشركين عقبة بن أبي معيط‪.‬‬
‫وفـي الصـحابة علي وعثمان‪ ،‬وكان فـي المشركيـن مـن اسـمه علي مثـل‪ :‬علي بـن أميـة بـن خلف‪،‬‬
‫قتل يوم بدر كافرًا‪ ،‬ومثل عثمان بن طلحة قتل قبل أن يسلم‪ ،‬ومثل هذا كثير‪.‬‬
‫فلم يكن النبي صلى ال عليه وسلم والمؤمنون يكرهون اسمًا من السماء لكونه قد تسمى به كافر‬
‫مـن الكفار‪ ،‬فلو قدر أن المسـلمين بهذه السـماء كفار‪ ،‬لم يوجـب ذلك كراهـة هذه السـماء مـع العلم‬
‫لكل أحد بأن النبي صلى ال عليه وسلم كان يدعوهم بها‪ ،‬ويُقرّ الناس على دعائهم بها‪.‬‬
‫وكثيـر منهـم يزعـم أنهـم كانوا منافقيـن‪ ،‬وكان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم يعلم أنهـم منافقون‪ ،‬وهـو‬
‫مع هذا يدعوهم بها‪ ،‬وعلي بن أبي طالب رضي ال عنه قد سمّى بها أولده فعلم أن جواز الدعاء‬
‫بهذه السماء ‪-‬سواء كان ذلك المسمى بها مسلمًا أو كافراً‪ -‬أمر معلوم من دين السلم‪ ،‬فمن كره أن‬
‫يدعو أحدًا بها كان من أظهر الناس مخالفة لدين السلم‪ ،‬ثم مع هذا إذا تسمى الرجل عندهم باسم‬
‫علي أو جعفـر أو حسـن أو حسـين أو نحـو ذلك‪ ،‬عاملوه وأكرموه‪ ،‬ول دليـل لهـم فـي ذلك على أنـه‬
‫منهم‪.‬‬
‫ومن حماقاتهم أيضًا‪ :‬أنهم يجعلون للمنتظر عدة مشاهد ينتظرونه فيها‪ ،‬كالسرداب الذي بسامرّا‬
‫الذي يزعمون أنـه غائب فيـه‪ ،‬ومشاهـد أخـر وقـد يقيمون هناك دابـة ‪-‬إمـا بغلة وإمـا فرسـًا وإمـا غيـر‬
‫ذلك‪ -‬ليركبهـا إذا خرج‪ ،‬ويقيمون هناك إما فـي طرفي النهار وإمـا في أوقات أخرى مـن ينادي عليـه‬
‫بالخروج‪ :‬يا مولنا اخرج‪ ،‬ويشهرون السلح ول أحد هناك يقاتلهم‪ ،‬وفيهم من يقوم في أوقات دائمًا‬
‫ل يصلي‪ ،‬خشية أن يخرج وهو في الصلة فيشتغل بها عن خروجه وخدمته‪ ،‬وهم في أماكن بعيدة‬
‫عـن مشهده كمدينـة النـبي صـلى ال عليـه وسـلم إمـا فـي العشـر الواخـر مـن شهـر رمضان‪ ،‬وإمـا فـي‬
‫غير ذلك يتوجهون إلى المشرق‪ ،‬وينادون بأصوات عالية يطلبون خروجه‪.‬‬
‫ومــن المعلوم أنــه لو كان موجودًا وقــد أمره ال بالخروج فإنــه يخرج‪ ،‬ســواء نادوه أو لم ينادوه‪،‬‬
‫وإن لم يؤذن له فهــو ل يقبــل منهــم‪ ،‬وإنــه إذا خرج فإن ال يؤيده ويأتيــه بمــا يركبــه‪ ،‬وبمــن يعينــه‬
‫وينصـره‪ ،‬ل يحتاج أن يوقـف له دائمًا مـن الدمييـن مـن ضـل سـعيهم فـي الحياة الدنيـا وهـم يحسـبون‬
‫أنهـم يحسـنون صـنعًا‪ ،‬وال سـبحانه وتعالى قـد عاب فـي كتابـه مـن يدعـو مـن ل يسـتجيب دعاءه فقال‬
‫طمِيرٍ * إِن تَدْعُو ُه مْ لَ‬ ‫ن مِن ِق ْ‬
‫ن مِن دُونِ ِه مَا يَمِْلكُو َ‬ ‫ن تَدْعُو َ‬ ‫ك وَالّذِي َ‬
‫تعالى‪(( :‬ذَِلكُ مُ الُ َربّكُ مْ لَ هُ ا ْلمُلْ ُ‬
‫شرْكِكُم ْع وَ َل يُ َن ّبئُكعَ ِم ْثلُ‬
‫يَس ْعمَعُواْ ُدعَآءَكُم ْع وَ َلوْ سَعمِعُو ْا مَا اس ْعتَجَابُواْ َلكُم ْع َو َيوْمعَ الْ ِقيَامَ ِة يَكْ ُفرُونَع بِ ِ‬
‫خبِيرٍ))[فاطـــر‪ ]14-13:‬هذا مــع أن الصــنام موجودة‪ ،‬وكان يكون بهــا أحيانًـا شياطيــن تتراءى لهــم‬ ‫َ‬
‫وتخاطبهم‪.‬‬
‫ومـن خاطـب معدومًا كانـت حالتـه أسـوأ مـن حال مـن خاطـب موجودًا وإن كان جمادًا‪ ،‬فمـن دعـا‬
‫المنتظــر الذي لم يخلقــه ال‪ ،‬كان ضلله أعظــم مــن ضلل هؤلء‪ ،‬وإذا قال‪ :‬أنــا أعتقــد وجوده كان‬
‫بمنزلة قول أولئك‪ :‬نحن نعتقد أن هذه الصنام لها شفاعة عند ال‪ ،‬فيعبدون من دون ال ما لينفعهم‬
‫و ل يضرهم و يقولون‪ :‬هؤلء شفعاؤنا عند ال‪.‬‬
‫والمقصــود أن كليهمــا يدعــو مــن ل ينفــع دعاؤه‪ ،‬وإن كان أولئك اتخذوهــم شفعاء آلهــة‪ ،‬وهؤلء‬
‫يقولون‪ :‬هــو إمام معصــوم‪ ،‬فهــم يوالون عليــه‪ ،‬وقيعادون عليــه كموالة المشركيــن على آلهتهــم‪،‬‬
‫ويجعلونـه ركنًا فـي اليمان ل يتـم الديـن إل بـه‪ ،‬كمـا يجعـل بعـض المشركيـن آلهتهـم كذلك‪ ،‬وقـد قال‬

‫‪14‬‬
‫عبَادًا لّي مِن‬ ‫شرٍ أَن ُي ْؤتِيَهُع الُ الْ ِكتَابَع وَالْحُكْمَع وَال ّنبُوّ َة ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِع كُونُواْ ِ‬ ‫تعالى‪(( :‬مَا كَانَع ِلبَ َ‬
‫ن * وَ َل يَ ْأ ُمرَكُمْ أَن تَتّخِذُواْ‬ ‫ب َو ِبمَا كُنتُمْ تَ ْدرُسُو َ‬
‫ن ِبمَا كُنتُمْ تُ َعّلمُونَ الْ ِكتَا َ‬
‫دُونِ الِ وََلكِن كُونُو ْا َربّانِ ْييِ َ‬
‫لئِ َكةَ وَالنّبِْييِنَ َأ ْربَابًَا َأيَ ْأ ُمرُكُم بِالْكُ ْف ِر بَعْدَ إِذْ أَنتُم ّمسْ ِلمُونَ))[آل عمران‪.]80-79:‬‬
‫ا ْلمَ َ‬
‫فإذا كان من يتخذ الملئكة والنبيين أربابًا بهذه الحال‪ ،‬فكيف بمن يتخذ إمامًا معدومًا ل وجود له!‬
‫ن َم ْريَ َم وَمَآ ُأ ِمرُواْ إِلّ‬ ‫حبَارَهُ ْم َورُ ْهبَا َنهُ مْ َأ ْربَابًَا مّن دُو نِ الِ وَا ْلمَ سِيحَ ابْ َ‬
‫وقد قال تعالى‪(( :‬اتّخَذُواْ أَ ْ‬
‫عمّا ُيشْرِكُونَ))[التوبة‪ ]31:‬وقد ثبت في الترمذي وغيره من‬ ‫سبْحَا َنهُ َ‬ ‫ِليَ ْعبُدُواْ ِإَلهًَا وَاحِدًا ل إِلَهَ إِلّ ُهوَ ُ‬
‫حديـث عدي بـن حاتـم أنـه قال‪( :‬يـا رسـول ال‪ ،‬مـا عبدوهـم‪ .‬فقال‪ :‬إنهـم أحلوا لهـم الحرام وحرموا‬
‫عليهم الحلل فأطاعوهم‪ ،‬فكانت تلك عبادتهم إياهم)(‪ )1‬فهؤلء اتخذوا أناسًا موجودين أربابًا‪.‬‬
‫وهؤلء يجعلون الحلل والحرام معلقًـا بالمام المعدوم‪ ،‬الذي ل حقيقــة له‪ ،‬ثــم يعملون بكــل مــا‬
‫يقول المثبتون‪ :‬إنه يحلله ويحرمه‪ ،‬وإن خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف المة‪ ،‬حتى إن طائفتهم‬
‫إذا اختلفــت على قوليــن فالقول الذي ل يعرفــه قائله هــو الحــق؛ لنــه قول هذا المام المعصــوم‪،‬‬
‫فيجعلون الحلل مــا حلله‪ ،‬والحرام مــا حرمــه هذا الذي ل يوجــد‪ .‬وعنــد مــن يقول‪ :‬إنــه موجود ل‬
‫يعرفه أحد‪ ،‬ول يمكن أحد أن ينقل عنه كلمة واحدة‪.‬‬
‫ومن حماقاتهم‪ :‬تمثيلهم لمن يبغضونه مثل اتخاذهم نعجة ‪-‬وقد تكون نعجة حمراء؛ لكون عائشة‬
‫تســمى الحميراء‪ -‬يجعلونهــا عائشــة ويعذبونهــا بنتــف شعرهــا وغيــر ذلك‪ ،‬ويرون أن ذلك عقوبــة‬
‫لعائشة‪.‬‬
‫ومثـل اتخاذهـم حلسـًا مملوءًا سـمنًا ثـم يشقون بطنـه فيخرج السـمن فيشربونـه‪ ،‬ويقولون‪ :‬هذا مثـل‬
‫ضرب عمر وشرب دمه‪.‬‬
‫ومثـل تسـمية بعضهـم لحماريـن مـن حمـر الرحـا أحدهمـا‪ :‬بأبـي بكـر‪ ،‬والخـر بعمـر‪ ،‬ثـم يعاقبون‬
‫الحمارين جعلً منهم تلك العقوبة عقوبة لبي بكر وعمر‪.‬‬
‫وتارة يكتبون أسـماءهم على أسـفل أرجلهـم حتـى أن بعـض الولة جعـل يضرب رجلي مـن فعـل‬
‫ذلك ويقول‪ :‬إنما ضربت أبا بكر وعمر‪ ،‬ول أزال أضربهما حتى أعدمهما‪.‬‬
‫ومنهم من يسمي كلبه باسم أبي بكر وعمر‪ ،‬ويلعنهما! ومنهم من إذا سمى كلبه فقيل له‪" :‬بكير"‬
‫يضارب من يفعل ذلك‪ ،‬ويقول‪ :‬تسمى كلبي باسم أصحاب النار‪.‬‬
‫ومنهـم مـن يعظـم أبـا لؤلؤة المجوسـي الكافـر الذي كان غلمًا للمغيرة بـن شعبـة لمـا قتـل عمـر‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬واثارات أبـي لؤلؤة! فيعظمون كافرًا مجوسيًا باتفاق المسلمين لكونـه قتـل عمر رضي ال‬
‫عنه‪.‬‬
‫ومـن حماقاتهـم‪ :‬إظهارهـم لمـا يجعلونـه مشهدًا‪ ،‬فكـم كذبوا الناس‪ ،‬وادعوا أن فـي هذا المكان ميتًا‬
‫مـن أهـل البيـت‪ ،‬وربمـا جعلوه مقتولً‪ ،‬فيبنون ذلك مشهدًا‪ ،‬وقـد يكون ذلك قـبر كافـر أو قـبر بعـض‬
‫الناس‪ ،‬ويظهر ذلك بعلمات كثيرة‪.‬‬
‫ومعلوم أن عقوبــة الدواب المســماة بذلك ونحــو هذا الفعــل ل يكون إل مــن فعــل أحمــق الناس‬
‫وأجهلهـم‪ ،‬فإنـه مـن المعلوم أنـا لو أردنـا أن نعاقـب فرعون وأبـا لهـب وأبـا جهـل وغيرهـم ممـن ثبـت‬
‫بإجماع المسلمين أنهم من أكفر الناس مثل هذه العقوبة لكان هذا من أعظم الجهل‪ ،‬لن ذلك ل فائدة‬
‫فيـه؛ بـل إذا قتـل كافـر يجوز قتله أو مات حتـف أنفـه لم يجـز بعـد قتله أو موتـه أن يُمثّلـ بـه‪ ،‬فل يشـق‬
‫بطنه‪ ،‬أو يجدع أنفه وأذنه‪ ،‬ول تقطع يده إل أن يكون ذلك على سبيل المقابلة‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬سنن الترمذي (‪ ،)4/341‬وقال‪ :‬غريب‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫فقـد ثبـت فـي صـحيح مسـلم وغيره‪ ،‬عـن بريدة‪ ،‬عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه كان إذا بعـث‬
‫أميرًا على جيـش أو سـرية‪ ،‬أوصـاه فـي خاصـة نفسـه بتقوى ال‪ ،‬وأوصـاه بمـن معـه مـن المسـلمين‬
‫خيرًا‪ ،‬وقال‪( :‬اغزوا في سبيل ال‪ ،‬قاتلوا من كفر بال‪ ،‬ل ت ُغلّوا‪ ،‬ول تغدروا‪ ،‬ول تمثّلوا‪ ،‬ول تقتلوا‬
‫وليدًا)(‪ )1‬وفي السنن أنه كان في خطبته يأمر بالصدقة‪ ،‬وينهى عن المثلة(‪.)2‬‬
‫مع أن التمثيل بالكافر بعد موته فيه نكاية بالعدو‪ ،‬ولكن نُهى عنه لنه زيادة إيذاء بل حاجة‪ ،‬فإن‬
‫المقصود كف شره بقتله‪ ،‬وقد حصل‪.‬‬
‫فهؤلء الذيـن بيغضونهـم لو كانوا كفارًا وقـد ماتوا لم يكـن لهـم بعـد موتهـم أن يمثلوا بأبدانهـم‪ :‬ل‬
‫يضربونهم‪ ،‬ول يشقون بطونهم‪ ،‬ول ينتفون شعورهم‪ ،‬مع أن في ذلك نكاية فيهم‪ ،‬أما إذا فعلوا ذلك‬
‫بغيرهـم ظنًا أن ذلك يصـل إليهـم كان غايـة الجهـل‪ ،‬فكيـف إذا كان بمحرّم كالشاة التـي يحرم إيذاؤهـا‬
‫بغيـر حـق! فيفعلون مـا ل يحصـل لهـم بـه منفعـة أصـلً‪ ،‬بـل ضرر فـي الديـن والدنيـا والخرة‪ ،‬مـع‬
‫تضمنه غاية الحمق والجهل‪.‬‬
‫ومـن حماقتهـم‪ :‬إقامـة المأتـم والنياحـة على مـن قتـل مـن سـنين عديدة‪ ،‬ومـن المعلوم أن المقتول‬
‫وغيره من الموتى إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم كان ذلك مما حرمه ال ورسوله‪ ،‬فقد ثبت في‬
‫الصـحيح عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬ليـس منـا مـن لطـم الخدود‪ ،‬وشـق الجيوب‪ ،‬ودعـا‬
‫بدعوى الجاهليـة)(‪ .)3‬وثبـت فـي الصـحيح عنـه أنـه برئ مـن الحالقـة والصـالقة والشاقـة(‪ .)4‬فالحالقـة‪:‬‬
‫التـي تحلق شعرهـا عنـد المصـيبة‪ ،‬والصـالقة‪ :‬التـي ترفـع صـوتها عنـد المصـيبة بالمصـيبة‪ ،‬والشاقـة‪:‬‬
‫التي تشق ثيابها‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وفـي الصـحيح عنـه أنـه قال‪( :‬مـن نيـح عليـه فإنـه يعذب بمـا نيـح عليـه) ‪ .‬وفـي الصـحيح عنـه أنـه‬
‫ل مــن‬‫قال‪( :‬إن النائحــة إذا لم تتــب قبــل موتهــا فإنهــا تلبــس يوم القيامــة درعًا مــن جرب‪ ،‬وســربا ً‬
‫قطران)(‪ )6‬والحاديث في هذا المعنى كثيرة‪.‬‬
‫وهؤلء يأتون مـن لطـم الخدود‪ ،‬وشـق الجيوب‪ ،‬ودعوى الجاهليـة‪ ،‬وغيـر ذلك مـن المنكرات بعـد‬
‫موت الميـت بسـنين كثيرة‪ ،‬مـا لو فعلوه عقـب موتـه لكان ذلك مـن أعظـم المنكرات التـي حرمهـا ال‬
‫ورسوله‪ ،‬فكيف بعد هذه المدة الطويلة!‬
‫ومن المعلوم أنه قد قُتل من النبياء وغير النبياء ظلمًا وعدوانًا من هو أفضل من الحسين‪ ،‬قُتل‬
‫أبوه ظلمًا‪ ،‬وهـو أفضـل منـه‪ ،‬وقتـل عثمان بـن عفان‪ ،‬وكان قتله أول الفتـن العظيمـة التـي وقعـت بعـد‬
‫موت النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وترتـب عليـه مـن الشــر والفســاد أضعاف مـا ترتـب على قتــل‬
‫الحسين‪.‬‬
‫وقُتل غير هؤلء ومات‪ ،‬وما فعل أحد ‪-‬من المسلمين ول غيرهم‪ -‬مأتمًا ول نياحة على ميت ول‬
‫قتيـل بعـد مدة طويلة مـن قتله‪ ،‬إل هؤلء الحمقـى الذيـن لو كانوا مـن الطيـر لكانوا رخمًا‪ ،‬ولو كانوا‬

‫‪ )(1‬انظر‪:‬ه ف مسلم (‪.)3/1356‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬سنن أب داود (‪ )3/72‬والدارمي (‪.)1/390‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )2/82‬ف أماكن متعددة ومسلم (‪.)1/99‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ )2/81‬ومواضع أخرى‪ .‬ومسلم (‪.)1/100‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬مسلم (‪ )2/644‬والبخاري (‪.)2/80‬‬
‫‪ )(6‬انظر‪:‬ه ف مسلم (‪.)2/644‬‬

‫‪16‬‬
‫من البهائم لكانوا حمرًا (‪.)7‬‬
‫طرْفاء‪ ،‬لنـه أبلغـه أن دم الحسـين وقـع على شجرة مـن‬ ‫ومـن ذلك‪ :‬أن بعضهـم ل يوقـد خشـب ال َ‬
‫الطرفاء! ومعلوم أن تلك الشجرة بعينهــا ل يكره وقودهــا ولو كان عليهــا مــن أي دم كان‪ ،‬فكيــف‬
‫بسائر الشجر الذي لم يصبه الدم؟!‬
‫ومــن حماقاتهــم مــا يطول وصــفها ول يحتاج أن تنقــل بإســناد‪ ،‬ولكــن ينبغــي أن يعلم مــع هذا أن‬
‫المقصـود أنـه مـن ذلك الزمان القديـم يصـفهم الناس بمثـل هذا مـن عهـد التابعيـن وتابعيهـم‪ ،‬كمـا ثبـت‬
‫بعـض ذلك‪ ،‬إمـا عـن الشعـبي‪ ،‬وإمـا أن يكون مـن كلم عبـد الرحمـن‪ ،‬وعلى التقديريـن فالمقصـود‬
‫حاصل‪ ،‬فإن عبد الرحمن كان في زمن تابعي التابعين‪.‬‬
‫وإنمـا ذكرنـا هذا؛ لن عبـد الرحمـن كثيـر مـن الناس ل يحتـج بروايتـه المفردة‪ ،‬إمـا لسـوء حفظـه‪،‬‬
‫وإمــا لتهمتــه فــي تحســين الحديــث‪ ،‬وإن كان له علم ومعرفــة بأنواع مــن العلوم‪ ،‬ولكــن ل يصــلح‬
‫للعتضاد والمتابعـة‪ ،‬كمقاتـل بـن سـليمان‪ ،‬ومحمـد بـن عمـر الواقدي‪ ،‬وأمثالهمـا‪ ،‬فإن كثرة الشهادات‬
‫والخبار قــد توجــب العلم‪ ،‬وإن لم يكــن كــل مــن المخــبرين ثقــة حافظًا حتــى يحصــل العلم بمخــبر‬
‫الخبار المتواترة‪ ،‬وإن كان المخبرون من أهل الفسوق‪ ،‬إذا لم يحصل بينهم تشاغر وتواطؤ‪.‬‬
‫والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يُقبل من كل من قاله‪ ،‬وإن لم يقبل بمجرد إخبار المخبر به‪.‬‬
‫فلهذا ذكرنا ما ذكره عبد الرحمن بن مالك بن مغول‪ ،‬فإن غاية ما فيه أنه قاله ذاكرًا الثر وعبد‬
‫الرحمـن هذا يروي عـن أبيـه‪ ،‬وعـن العمـش‪ ،‬وعـن عبيـد ال بـن عمـر‪ ،‬ول يحتـج بمفرداتـه‪ ،‬فإنـه‬
‫ضعيف‪.‬‬
‫وممـا ينبغـي أن يعرف أن مـا يوجـد فـي جنـس الشيعـة مـن القوال والفعال المذمومـة وإن كان‬
‫أضعاف مـا ذُكـر لكـن قـد ل يكون هذا كله فـي الماميـة الثنـي عشريـة ول فـي الزيديـة‪ ،‬ولكـن يكون‬
‫كثير منه في الغالية‪ ،‬وفي كثير من عوامهم‪ ،‬مثل ما يذكر عنهم من تحريم لحم الجمل‪ ،‬وأن الطلق‬
‫يشترط فيـه رضـا المرأة‪ ،‬ونحـو ذلك ممـا يقوله مـن يقوله مـن عوامهـم‪ ،‬وإن كان علماؤهـم ل يقولون‬
‫ذلك‪ ،‬ولكن لما كان أصل مذهبهم مستندًا إلى جهل‪ ،‬كانوا أكثر الطوائف كذبًا وجهلً‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫الرافضة أكذب الناس وذلك فيهم قديم وليسوا أهل علم‬
‫ونحـن نـبين إن شاء ال تعالى طريـق السـتقامة فـي معرفـة هذا الكتاب (منهاج الندامـة) بحول ال‬
‫وقوتـه‪ ،‬وهذا الرجـل سـلك مسـلك سـلفه شيوخ الرافضـة‪ ،‬كابـن النعمان المفيـد‪ ،‬ومتبعيـه كالكراجكـي‪،‬‬
‫وأبي القاسم الموسوي‪ ،‬والطوسي‪ ،‬وأمثالهم‪.‬‬
‫فإن الرافضة في الصل ليسوا أهل علم‪ ،‬وخبرة بطريق النظر والمناظرة‪ ،‬ومعرفة الدلة‪ ،‬وما‬
‫يدخل فيها من المنع والمعارضة‪ ،‬كما أنهم من أجهل الناس بمعرفة المنقولت والحاديث والثار‪،‬‬
‫والتمييز بين صحيحها وضعيفها‪ ،‬وإنما عمدتهم في المنقولت على تواريخ منقطعة السناد‪ ،‬وكثير‬
‫منها من وضع المعروفين بالكذب وباللحاد‪.‬‬
‫وعلماؤهـم يعتمدون على نقـل مثـل‪ :‬أبـي مخنـف لوط بـن يحيـى‪ ،‬وهشام بـن محمـد بـن السـائب‪،‬‬
‫وأمثالهما من المعروفين بالكذب عند أهل العلم‪ ،‬مع أن أمثال هؤلء هم أجل من يعتمدون عليه في‬
‫النقل‪ ،‬إذ كانوا يعتمدون على من هو في غاية الجهل والفتراء‪ ،‬ممن ل يُذكر في الكتب ول يعرفه‬
‫‪ )(7‬اتاذهم يوم عاشوراء مأتا على السي هو من أجل إيقاد نار الغل والقد على أهل السنة لنم ف تصويرهم هم الذين قتلوه‪ ،‬وليس ذلك حبا للحسي‬
‫وأهل بيته‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫أهل العلم بالرجال‪.‬‬
‫وقـد اتفـق أهـل العلم بالنقـل والروايـة والسـناد على أن الرافضـة أكذب الطوائف‪ ،‬والكذب فيهـم‬
‫قديم‪ ،‬ولهذا كان أئمة السلم يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب‪.‬‬
‫قال أبو حاتم الرازي‪ :‬سمعت يونس بن عبد العلى يقول‪ :‬قال أشهب بن عبد العزيز‪ :‬سئل مالك‬
‫عن الرافضة؟ فقال‪ :‬ل تكلمهم ول تروِ عنهم فإنهم يكذبون‪.‬‬
‫وقال أبو حاتم‪ :‬حدثنا حرملة‪ ،‬قال‪ :‬سمعت الشافعي يقول‪ :‬لم أر أحدًا أشهد بالزور من الرافضة‪.‬‬
‫وقال مؤمـل بـن إهاب‪ :‬سـمعت يزيـد بـن هارون يقول‪ :‬يكتـب عـن كـل صـاحب بدعـة إذا لم يكـن‬
‫داعية إل الرافضة‪ ،‬فإنهم يكذبون‪.‬‬
‫وقال محمــد بــن ســعيد الصــبهاني‪ :‬ســمعت شريكــا يقول‪ :‬أحمــل العلم عــن كــل مــن لقيــت إل‬
‫الرافضة‪ ،‬فإنهم يضعون الحديث‪ ،‬ويتخذونه دينًا‪.‬‬
‫وشريك هذا هو شريك بن عبد ال القاضي‪ ،‬قاضي الكوفة‪ ،‬من أقران الثوري وأبي حنيفة‪ ،‬وهو‬
‫من الشيعة الذي يقول بلسانه‪ :‬أنا من الشيعة‪ .‬وهذه شهادته فيهم‪.‬‬
‫وقال أبــو معاويــة‪ :‬ســمعت العمــش يقول‪ :‬أدركــت الناس ومــا يســمونهم إل الكذابيــن‪ ،‬يعنــي‪:‬‬
‫أصحاب المغيرة بن سعيد‪.‬‬
‫وقال العمش‪ :‬ول عليكم أن تذكروا هذا فإني ل آمنهم أن يقولوا‪ :‬إنا أصبنا العمش مع امرأة‪.‬‬
‫وهذه آثار ثابتة قد رواها أبو عبد ال ابن بطة في البانة الكبرى‪ ،‬هو وغيره‪.‬‬
‫وروى أبو القاسم الطبري‪ :‬كان الشافعي يقول‪ :‬ما رأيت في أهل الهواء قومًا أشهد بالزور من‬
‫الرافضة‪ ،‬وهذا المعنى وإن كان صحيحًا فاللفظ الول هو الثابت عن الشافعي‪.‬‬
‫والمقصود هنا أن العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف‬
‫أهل القبلة‪.‬‬
‫والرافضـة أصـل بدعتهـم عـن زندقـة وإلحاد‪ ،‬وتعمـد الكذب فيهـم كثيـر‪ ،‬وهـم يقرون بذلك‪ ،‬حيـث‬
‫يقولون‪ :‬ديننــا التقيــة‪ ،‬وهــو أن يقول أحدهــم بلســانه خلف مــا فــي قلبــه‪ ،‬وهذا هــو الكذب والنفاق‪،‬‬
‫ويدّعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة‪.‬‬
‫ويصفون السابقين الولين بالردة والنفاق‪ ،‬فهم في ذلك كما قيل‪( :‬رمتني بدائها وانسلت)‪ ،‬إذ ليس‬
‫فــي المظهريــن للســلم أقرب إلى النفاق والردة منهــم‪ ،‬ول يوجــد المرتدون والمنافقون فــي طائفــة‬
‫أكثــر ممــا يوجــد فيهــم‪ ،‬واعتــبر ذلك بالغاليــة مــن النصــيرية وغيرهــم‪ ،‬وبالملحدة والســماعيلية‬
‫وأمثالهم‪.‬‬
‫وعمدتهم في الشرعيات ما نقل لهم عن بعض أهل البيت‪ ،‬وذلك النقل منه ما هو صدق‪ ،‬ومنه ما‬
‫هـو كذب عمدًا أو خطًأ‪ ،‬وليسـوا أهـل معرفـة بصـحيح المنقول وضعيفـه كأهـل المعرفـة بالحديـث‪ ،‬ثـم‬
‫إذا صح النقل عن هؤلء فإنهم بنوا وجوب قبول قول الواحد من هؤلء على ثلثة أصول‪ :‬على أن‬
‫الواحد من هؤلء معصوم مثل عصمة الرسول‪.‬‬
‫وعلى أن مـا يقوله أحدهـم فإنمـا يقوله نقلً عـن الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ويدعون العصـمة‬
‫في هذا النقل‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن إجماع العترة حجـة‪ ،‬ثـم يدعون أن العترة هـم الثنـا عشـر‪ ،‬ويدعون أن مـا نقـل عـن‬
‫أحدهم فقد أجمعوا كلهم عليه‪.‬‬
‫فهذه أصـول الشرعيات عندهـم‪ ،‬وهـي أصـول فاسـدة‪ ،‬كمـا سـنبين ذلك فـي موضعـه‪ ،‬ل يعتمدون‬

‫‪18‬‬
‫على القرآن‪ ،‬ول على الحديث‪ ،‬ول على الجماع‪ ،‬إل لكون المعصوم منهم‪.‬‬
‫ول على القياس‪ ،‬وإن كان جليًــا واضحًــا‪ .‬وأمـــا أعمدتهــم فــي النظـــر والعقليات‪ :‬فقــد اعتمـــد‬
‫متأخروهم على كتب المعتزلة في الجملة‪.‬‬
‫والمعتزلة أعقـل وأصـدق‪ ،‬وليـس فـي المعتزلة مـن يطعـن فـي خلفـة أبـي بكـر وعمـر وعثمان‬
‫رضوان ال عليهم أجمعين‪ ،‬بل هم متفقون على تثبيت خلفة الثلثة‪.‬‬
‫وأمــا التفضيــل فأئمتهــم وجمهورهــم كانوا يفضلون أبــا بكــر وعمــر رضــي ال عنهمــا‪ ،‬وفــي‬
‫متأخريهم من توقف في التفضيل‪ ،‬وبعضهم فضل عليًا‪ ،‬فصار بينهم وبين الزيدية نسب راجح من‬
‫جهة المشاركة في التوحيد والعدل والمامة والتفضيل‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫الفصل الول‬
‫زعم الرافضة أن المامة من أهم أصول الدين‬
‫قال المصعنف الرافضعي‪ :‬أمـا بعـد‪ ،‬فهذه رسـالة شريفـة‪ ،‬ومقالة لطيفـة‪ ،‬اشتملت على أهـم المطالب‬
‫فـي أحكام الديـن‪ ،‬وأشرف مسـائل المسـلمين‪ ،‬وهـي مسـألة المامـة‪ ،‬التـي يحصـل بسـبب إدراكهـا نيـل‬
‫درجة الكرامة‪ ،‬وهي أحد أركان اليمان‪ ،‬المستحق بسببه الخلود في الجنان‪ ،‬والتخلص من غضب‬
‫الرحمــن‪ ،‬فلقــد قال رســول ال صــلى ال عليــه وســلم‪( :‬مــن مات ولم يعرف إمام زمانــه مات ميتــة‬
‫جاهلية) خدمت بها خزانة السلطان العظم‪ ،‬مالك رقاب المم‪ ،‬ملك ملوك طوائف العرب والعجم‪،‬‬
‫مولى النعم‪ ،‬ومسدي الخير والكرم‪ ،‬شاهنشاه المكرم‪ ،‬غياث الملة والحق والدين (أولجايو خدابنده)‪،‬‬
‫قد لخصت فيه خلصة الدلئل‪ ،‬وأشرت إلى رءوس المسائل‪ ،‬وسميتها‪( :‬منهاج الكرامة في معرفة‬
‫المامة) ورتبتها على فصول‪:‬‬
‫الفصعل الول‪ :‬فـي نقـل المذاهـب فـي هذه المسـألة‪ ،‬ثـم ذكـر الفصـل الثانـي‪ :‬فـي أن مذهـب الماميـة‬
‫واجـب التباع‪ ،‬ثـم ذكـر الفصـل الثالث‪ :‬فـي الدلة على إمامـة علي رضـي ال عنـه بعـد رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم ذكر الفصل الرابع‪ :‬في الثني عشر‪ ،‬ثم ذكر الفصل الخامس‪ :‬في إبطال‬
‫خلفة أبي بكر وعمر وعثمان‪ ،‬فيقال‪ :‬الكلم على هذا من وجوه‪:‬‬
‫(أحدهعا)‪ :‬أن يقال أولً‪ :‬إن قول القائل‪ :‬إن مسـألة المامـة أهـم المطالب فـي أحكام الديـن‪ ،‬وأشرف‬
‫مسـائل المسـلمين‪ ،‬كذب بإجماع المسـلمين‪ ،‬سـنيهم وشيعيهـم‪ ،‬بـل هـو كفـر‪ ،‬فإن اليمان بال ورسـوله‬
‫أهم من مسألة المامة‪.‬‬
‫وهذا معلوم بالضطرار مـن ديـن السـلم‪ ،‬فالكافـر ل يصـير مؤمنًا حتـى يشهـد أن ل إله إل ال‬
‫وأن محمدًا رسـول ال‪ ،‬وهذا هـو الذي قاتـل عليـه الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم الكفار أولً‪ ،‬كمـا‬
‫اسـتفاض عنـه فـي الصـحاح وغيرهـا‪ ،‬أنـه قال‪( :‬أمرت أن أقاتـل الناس حتـى يشهدوا أن ل إله إل ال‬
‫وأني رسول ال‪ ،‬ويقيموا الصلة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل‬
‫بحقها)(‪.)1‬‬
‫حيْثعُع وَجَد ّتمُوهُمععْ َوخُذُوهُمععْ‬ ‫شرِكِينععَ َ‬ ‫حرُمععُ فَا ْقتُلُواْ ا ْلمُ ْ‬
‫ش ُهرُ الْ ُ‬
‫وقــد قال تعالى‪(( :‬فَِإذَا انسععَ َلخَ ا َل ْ‬
‫سبِي َلهُمْ))[التوبة‪.]5:‬‬
‫صرُوهُْ وَاقْعُدُواْ َلهُمْ ُكلّ َم ْرصَدٍ فَإِن تَابُواْ َوأَقَامُواْ الصّلَ َة وَآ َتوُاْ الزّكَاةَ َفخَلّو ْا َ‬ ‫ح ُ‬‫وَا ْ‬
‫وكذلك قال لعلي لمـا بعثـه إلى خيـبر‪ ،‬وكذلك كان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم يسـير فـي الكفار‪،‬‬
‫فيحقـن دماءهـم بالتوبـة مـن الكفـر‪ ،‬ل يذكـر لهـم المامـة بحال‪ ،‬وقـد قال تعالى بعـد هذا‪(( :‬فَإِن تَابُواْ‬
‫خوَانُكُمْ فِي الدّينِ))[التوبة‪.]11:‬‬ ‫وَأَقَامُواْ الصّلَ َة وَآ َتوُاْ الزّكَاةَ فَإِ ْ‬
‫فجعلهـم إخوانًا فـي الديـن بالتوبـة‪ ،‬فإن الكفار على عهـد رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم كانوا إذا‬
‫أسلموا أجرى عليهم أحكام السلم‪ ،‬ولم يذكر لهم المامة بحال‪ ،‬ول نقل هذا عن الرسول أحد من‬
‫أهل العلم‪ ،‬ل نقلً خا صًا ول عامًا‪ ،‬بل نحن نعلم بالضطرار أن النبي صلى ال عليه وسلم لم يكن‬
‫يذكر للناس إذا أرادوا الدخول في دينه المامة ل مطلقًا ول معينًا‪.‬‬
‫فكيف تكون أهم المطالب في أحكام الدين؟‬
‫وممــا يــبين ذلك أن المامــة ‪-‬بتقديــر الحتياج إلى معرفتهــا‪ -‬ل يحتاج إليهــا مــن مات على عهــد‬
‫رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فكيـف يكون أشرف مسـائل المسـلمين وأهـم المطالب فـي الديـن ل‬
‫يحتاج إليه أحد على عهد النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )1/10‬وأماكن أخر‪ ،‬ومسلم (‪.)53-1/52‬‬

‫‪20‬‬
‫أوليـس الذين آمنوا بالنـبي صـلى ال عليـه وسـلم فـي حياتـه واتبعوه باطنًا وظاهرًا‪ ،‬ولم يرتدوا ولم‬
‫يبدلوا‪ ،‬هـم أفضـل الخلق باتفاق المسـلمين‪ :‬أهــل السـنة والشيعـة؟ فكيـف يكون أفضــل المسـلمين ل‬
‫يحتاج إلى أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين؟‬
‫فإن قيعل‪ :‬إن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم كان هـو المام فـي حياتـه‪ ،‬وإنمـا يُحتاج إلى المام بعـد‬
‫مماته‪ ،‬فلم تكن هذه المسألة أهم مسائل الدين في حياته‪ ،‬وإنما صارت أهم مسائل الدين بعد موته؟‬
‫قيل‪ :‬الجواب عن هذا من وجوه‪:‬‬
‫(أحدها)‪ :‬أنه بتقدير صحة ذلك ل يجوز أن يقال‪ :‬إنها أهم مسائل الدين مطلقًا‪ ،‬بل في وقت دون‬
‫وقت‪ ،‬وهي في خير الوقات ليست أهم المطالب في أحكام الدين ول أشرف مسائل المسلمين‪.‬‬
‫(الثانعي)‪ :‬أن يقال‪ :‬اليمان بال ورسـوله فـي كـل زمان ومكان أعظـم مـن مسـألة المامـة‪ ،‬فلم تكـن‬
‫في وقت من الوقات ل الهم ول الشرف‪.‬‬
‫(الثالث)‪ :‬أن يقال‪ :‬فقد كان يجب بيانها من النبي صلى ال عليه وسلم لمته الباقين من بعده‪ ،‬كما‬
‫بيّن لهم أمور الصلة والزكاة والصيام والحج‪ ،‬وعين أمر اليمان بال وتوحيده واليوم الخر‪.‬‬
‫ومن المعلوم أنه ليس بيان مسألة المامة في الكتاب والسنة ببيان هذه الصول‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬بل المامة في كل زمان هي الهم‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم كان نبيًا إمامًا‪ ،‬وهذا‬
‫كان معلومًا لمن آمن به أنه كان إمام ذلك الزمان‪.‬‬
‫قيل‪ :‬العتذار بهذا باطل من وجوه‪:‬‬
‫(أحدهعا)‪ :‬أن قول القائل‪ :‬المامـة أهـم المطالب فـي أحكام الديـن‪ :‬إمـا أن يريـد بـه إمامـة الثنـي‬
‫عشر‪ ،‬أو إمامة إمام كل زمان بعينه في زمانه‪ ،‬بحيث يكون الهم في زماننا اليمان بإمامة محمد‬
‫المنتظر‪ ،‬والهم في زمان الخلفاء الربعة اليمان بإمامة علي عندهم‪ ،‬والهم في زمان النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم اليمان بإمامته‪.‬‬
‫وإما أن يريد به‪ :‬اليمان بأحكام المامة مطلقًا غير معين‪ ،‬وإما أن يريد به معنى رابعًا‪.‬‬
‫أمــا الول‪ :‬فقــد علم بالضطرار أن هذا لم يكــن معلومًا شائعًا بيــن الصــحابة ول التابعيــن‪ ،‬بــل‬
‫الشيعة تقول‪ :‬إن كل واحد إنما يُعيّن بنص مَنْ َق ْبلَهَ‪ ،‬فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين‪.‬‬
‫وأمععا الثانععي‪ :‬فعلى هذا التقديــر يكون أهــم المطالب فــي كــل زمان اليمان بإمام ذلك الزمان‪،‬‬
‫ويكون اليمان مـن سـنة سـتين ومائتيـن إلى هذا التاريـخ إنمـا هـو اليمان بإمامـة محمـد بـن الحسـن‪،‬‬
‫ويكون هذا أعظـم مـن اليمان بأنـه ل إله إل ال وأن محمدًا رسـول ال‪ ،‬ومـن اليمان بال وملئكتـه‬
‫وكتبه ورسله والبعث بعد الموت‪ ،‬ومن اليمان بالصلة والزكاة والصيام والحج وسائر الواجبات‪،‬‬
‫وهذا مع أنه معلوم فساده بالضطرار من دين السلم‪ ،‬فليس هو قول المامية‪ ،‬فإن اهتمامهم بعلي‬
‫وإمامته أعظم من اهتمامهم بإمامة المنتظر‪ ،‬كما ذكره هذا المصنف‪ ،‬وأمثاله من شيوخ الشيعة‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فإن كان هذا هـو أهـم المطالب فـي الديـن‪ ،‬فالماميـة أخسـر الناس صـفقة فـي الديـن؛ لنهـم‬
‫جعلوا المام المعصـوم‪ ،‬هـو المام المعدوم الذي لم ينفعهـم فـي الديـن والدنيـا‪ ،‬فلم يسـتفيدوا مـن أهـم‬
‫المور الدينية شيئًا من منافع الدين ول الدنيا‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬إن المراد أن اليمان بحكـم المامـة مطلقًا هـو أهـم أمور الديـن‪ ،‬كان هذا أيضًا باطلً‬
‫للعلم الضروري أن غيرها من أمور الدين أهم منها‪.‬‬
‫وإن أريد معنىً رابع فل بد من بيانه لنتكلم عليه‪.‬‬
‫(الوجه الثانعي) أن يقال‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم لم تجب طاعتـه على الناس لكونـه إمامًا‪،‬‬

‫‪21‬‬
‫بـل لكونـه رسـول ال إلى الناس‪ ،‬وهذا المعنـى ثابـت له حيًا وميتًا‪ ،‬فوجوب طاعتـه على مـن بعده‬
‫كوجوب طاعتـه على أهـل زمانـه‪ ،‬وأهـل زمانـه فيهـم الشاهـد الذي يسـمع أمره ونهيـه‪ ،‬وفيهـم الغائب‬
‫الذي بلّغه الشاهد أمره ونهيه‪.‬‬
‫فكمـا يجـب على الغائب عنـه فـي حياتـه طاعـة أمره ونهيـه‪ ،‬يجـب ذلك على مـن يكون بعـد موتـه‪،‬‬
‫وهو صلى ال عليه وسلم أمره شامل عام لكل مؤمن شهده أو غاب عنه في حياته وبعد موته‪ ،‬وهذا‬
‫ليس لحد من الئمة ول يستفاد هذا بالمامة‪.‬‬
‫حتى إنه صلى ال عليه وسلم إذا أمر ناسًا معينين بأمور‪ ،‬وحكم في أعيان معينة بأحكام‪ ،‬لم يكن‬
‫حكمه وأمره مختصًا بتلك المعينات‪ ،‬بل كان ثابتًا في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة‪ ،‬فقوله صلى‬
‫ال عليه وسلم لمن شهده‪( :‬ل تسبقوني بالركوع ول بالسجود)(‪ )1‬هو حكم ثابت لكل مأموم بإمام أن‬
‫ل يســبقه بالركوع ول بالســجود‪ ،‬وقوله لمــن قال‪( :‬لم أشعــر فحلقــت قبــل أن أرمــي‪ .‬قال‪ :‬ارم ول‬
‫حرج‪ .‬ولمن قال‪ :‬نحرت قبل أن أحلق‪ .‬قال‪ :‬احلق ول حرج)(‪ .)2‬أمر لمن كان مثله‪.‬‬
‫وكذلك قوله لعائشة رضي ال عنها لما حاضت وهي معتمرة‪( :‬اصنعي ما يصنع الحاج غير أن‬
‫ل تطوفي بالبيت)(‪ )3‬وأمثال هذا كثير‪ ،‬بخلف المام إذا أطيع‪.‬‬
‫وخلفاؤه بعده فـي تنفيـذ أمره ونهيـه كخلفائه فـي حياتـه‪ ،‬فكـل آمـر بأمـر يجـب طاعتـه فيـه‪ ،‬إنمـا هـو‬
‫منفـذ لمـر رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم؛ لن ال أرسـله إلى الناس وفرض عليهـم طاعتـه‪ ،‬ل‬
‫لجـل كونـه إمامًا له شوكـة وأعوان‪ ،‬أو لجـل أن غيره عهـد له بالمامـة‪ ،‬أو غيـر ذلك‪ ،‬فطاعتـه ل‬
‫تقـف على مـا تقـف عليـه طاعـة الئمـة مـن عهـد مـن قبله‪ ،‬أو موافقتـه ذوي الشوكـة أو غيـر ذلك‪ ،‬بـل‬
‫تجب طاعته صلى ال عليه وسلم وإن لم يكن معه أحد‪ ،‬وإن كذبه جميع الناس‪.‬‬
‫وكانـت طاعتـه واجبـة بمكـة قبـل أن يصـير له أعوان وأنصـار يقاتلون معـه‪ ،‬فهـو كمـا قال سـبحانه‬
‫خلَتْع مِن َقبْلِهِع الرّسُعلُ َأفَ ِإيْن مّاتَع َأوْ ُق ِتلَ ان َقَلبْتُمْع عَلَى أَعْقَابِكُمْع َومَن‬‫حمّدٌ إِ ّل رَسعُولٌ قَدْ َ‬ ‫فيـه‪َ (( :‬ومَا مُ َ‬
‫جزِي الُ الشّا ِكرِي نَ))[آل عمران‪ ]144:‬بين سبحانه وتعالى‬ ‫سيَ ْ‬ ‫شيْئًا وَ َ‬
‫ضرّ الَ َ‬ ‫يَنقَِل بْ عَلَى عَ ِق َبيْ هِ َفلَن َي ُ‬
‫أنـه ليـس بموتـه ول قتله ينتقـض حكـم رسـالته‪ ،‬كمـا ينتقـض حكـم المامـة بموت الئمـة وقتلهـم‪ ،‬وأنـه‬
‫ليـس مـن شرطـه أن يكون خالدًا ل يموت‪ ،‬فإنـه ليـس هـو ربًا‪ ،‬وإنمـا هـو رسـول قـد خلت مـن قبله‬
‫الرسل‪.‬‬
‫وقـد بلّغ الرسـالة‪ ،‬وأدى المانـة‪ ،‬ونصـح المـة‪ ،‬وجاهـد فـي ال حـق جهاده‪ ،‬وعبـد ال حتـى أتاه‬
‫اليقين من ربه‪ ،‬فطاعته واجبة بعد مماته وجوبها في حياته وأوكد؛ لن الدين كمل واستقر بموته فلم‬
‫يبق فيه نسخ‪ ،‬ولهذا جُمع القرآن بعد موته لكماله واستقراره بموته‪.‬‬
‫فإذا قال القائل‪ :‬إنه كان إمامًا في حياته‪ ،‬وبعده صار المام غيره‪.‬‬
‫إن أراد بذلك أنه صار بعده من هو نظيره يُطاع كما يطاع الرسول فهذا باطل‪ ،‬وإن أراد أنه قام‬
‫من يخلفه في تنفيذ أمره ونهيه‪ ،‬فهذا كان حاصلً في حياته‪ ،‬فإنه إذا غاب كان هناك من يخلفه‪.‬‬
‫وإن قيل‪ :‬إنه بعد موته ل يباشر معينًا بالمر بخلف حياته‪.‬‬
‫قيعل‪ :‬مباشرتـه بالمـر ليسـت شرطًا فـي وجوب طاعتـه‪ ،‬بـل تجـب طاعتـه على مـن بلغـه أمره‬
‫ونهيه‪ ،‬كما تجب طاعته على من سمع كلمه‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مسلم (‪ )1/320‬وابن ماجة (‪.)309-1/308‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )2/173‬ومسلم (‪.)2/948‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري (‪.)2/159‬‬

‫‪22‬‬
‫وقد كان يقول‪( :‬ليبلغ الشاهد الغائب‪ ،‬فرب مبلغ أوعى من سامع)(‪.)4‬‬
‫وإن قيعل‪ :‬إنـه فـي حياتـه كان يقضـي فـي قضايـا معينـة‪ ،‬مثـل‪ :‬إعطاء شخـص بعينـه‪ ،‬وإقامـة الحـد‬
‫على شخص بعينه‪ ،‬وتنفيذ جيش بعينه‪.‬‬
‫قيعل‪ :‬نعـم وطاعتـه واجبـة فـي نظيـر ذلك إلى يوم القيامـة بخلف الئمـة؛ لكـن قـد يخفـى السـتدلل‬
‫على نظير ذلك كما يخفى العلم على من غاب عنه‪ ،‬فالشاهد أعلم بما قال‪ ،‬وأفهم له من الغائب‪ ،‬وإن‬
‫كان فيمن غاب و ُبلّغ أمره من هو أوعى له من بعض السامعين‪ ،‬لكن هذا لتفاضل الناس في معرفة‬
‫أمره ونهيه‪ ،‬ل لتفاضلهم في وجوب طاعته عليهم‪.‬‬
‫فما تجب طاعة ولي أمر بعده إل كما تجب طاعة ولة المور في حياته‪ ،‬فطاعته شاملة لجميع‬
‫العباد شمولً واحدًا‪ ،‬وإن تنوعـت طرقهـم فـي البلغ والسـماع والفهـم‪ ،‬فهؤلء يبلغهـم مـن أمره مـا لم‬
‫يبلغ هؤلء‪ ،‬وهؤلء يسـمعون مـن أمره مـا لم يسـمعه هؤلء‪ ،‬وهؤلء يفهمون مـن أمره مـا ل يفهمـه‬
‫هؤلء‪ ،‬وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته‪ ،‬طاعة ل ورسوله ل له‪.‬‬
‫وإذا كان للناس ولي أمـر قادر ذو شوكـة‪ ،‬فيأمـر بمـا يأمـر‪ ،‬ويحكـم بمـا يحكـم‪ ،‬انتظـم المـر بذلك‪،‬‬
‫ولم يجـز أن يُولّى غيره‪ ،‬ول يمكـن بعده أن يكون شخـص واحـد مثله‪ ،‬إنمـا يوجـد مـن هـو أقرب إليـه‬
‫مـن غيره‪ ،‬فأحـق الناس بخلفـة نبوتـه أقربهـم إلى المـر بمـا يأمـر بـه‪ ،‬والنهـي عمـا نهـى عنـه‪ ،‬ول‬
‫يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إل بقدرة وسلطان يوجب الطاعة‪ ،‬كما لم يُطع أمره في حياته طاعة‬
‫ظاهرة غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره‪ ،‬فالدين كله طاعة ل ورسوله‪ ،‬وطاعة ال‬
‫ورسوله هي الدين كله‪ ،‬فمن يطع الرسول فقد أطاع ال‪.‬‬
‫وديـن المسـلمين بعـد موتـه طاعـة ال ورسـوله‪ ،‬وطاعتهـم لولي المـر فيمـا أُمروا بطاعتـه فيـه هـو‬
‫طاعـة ل ورسـوله‪ ،‬وأمـر ولي المـر الذي أمره ال أن يأمرهـم بـه‪ ،‬وقسـمه وحكمـه هـو طاعـة ل‬
‫ورسوله‪ ،‬فأعمال الئمة والمة في حياته ومماته التي يحبها ال ويرضاها كلها طاعة ل ورسوله‪.‬‬
‫ولهذا كان أصل الدين شهادة أن ل إله إل ال وشهادة أن محمدًا رسول ال‪.‬‬
‫فإذا قيععل‪ :‬هـو كان إمامًا وأريـد بذلك إمامـة خارجـة عـن الرسـالة‪ ،‬أو إمامـة يشترط فيهـا مـا ل‬
‫يشترط فـي الرسـالة‪ ،‬أو إمامـة يعتـبر فيهـا طاعتـه بدون طاعـة الرسـول‪ ،‬فهذا كله باطـل؛ فإن كـل مـا‬
‫يطاع بـه داخـل فـي رسـالته‪ ،‬وهـو فـي كـل مـا يطاع فيـه يطاع بأنـه رسـول ال ولو قدر أنـه كان إمامًا‬
‫مجردًا لم يطع حتى تكون طاعته داخلة في طاعة رسول آخر‪.‬‬
‫فالطاعة إنما تجب ل ورسوله‪ ،‬ولمن أمرت الرسل بطاعتهم‪.‬‬
‫فإن قيعل‪ :‬أطيـع بإمامتـه طاعـة داخلة فـي رسـالته كان هذا عديـم التأثيـر‪ ،‬فإن مجرد رسـالته كافيـة‬
‫فـي وجوب طاعتـه‪ ،‬بخلف المام فإنـه إنمـا يصـير إمامًا بأعوان ينفذون أمره‪ ،‬وإل كان كآحاد أهـل‬
‫العلم والدين‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬إنه صلى ال عليه وسلم لما صار له شوكة بالمدينة صار له مع الرسالة إمامة بالعدل‪.‬‬
‫ل له أعوان وأنصـار ينفذون أمره‪ ،‬ويجاهدون مـن خالفـه‪ ،‬وهـو مـا دام فـي‬ ‫قيعل‪ :‬بـل صـار رسـو ً‬
‫الرض مـن يؤمـن بال ورسـوله له أنصـار وأعوان ينفذون أمره‪ ،‬ويجاهدون مـن خالفـه فلم يسـتفد‬
‫بالعوان مـا يحتاج أن يضمـه إلى الرسـالة‪ ،‬مثـل كونـه إمامًا أو حاكمًا أو ولي أمـر‪ ،‬إذ كان هذا كله‬
‫داخلً فـي رسـالته‪ ،‬ولكـن بالعوان حصـل له كمال قدرة أوجبـت عليـه مـن المـر والجهاد مـا لم يكـن‬
‫واجبًــا بدون القدرة‪ ،‬والحكام تختلف باختلف حال القدرة والعجـــز والعلم وعدمـــه‪ ،‬كمـــا تختلف‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري (‪ )2/176‬وغيه‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫باختلف الغنى والفقر والصحة والمرض‪ ،‬والمؤمن مطيع ل في ذلك كله‪ ،‬وهو مطيع لرسول ال‬
‫في ذلك كله‪ ،‬ومحمد رسول ال فيما أمر به ونهى عنه‪ ،‬مطيع ل في ذلك كله‪.‬‬
‫وإن قالت المامية‪ :‬المامة واجبة بالعقل بخلف الرسالة‪ ،‬فهي أهم من هذا الوجه‪.‬‬
‫قيعل‪ :‬الوجوب العقلي فيـه نزاع كمـا سـيأتي‪ ،‬وعلى القول بالوجوب العقلي فمـا يجـب مـن المامـة‬
‫جزء من أجزاء الواجبات العقلية‪ ،‬وغير المامة أوجب من ذلك‪ ،‬كالتوحيد والصدق والعدل‪ ،‬وغير‬
‫ذلك من الواجبات العقلية‪.‬‬
‫وأيضًا فل ريــب أن الرســالة يحصــل بهــا هذا الواجــب‪ ،‬فمقصــودها جزء مــن أجزاء الرســالة‪،‬‬
‫فاليمان بالرسول يحصل به مقصود المامة في حياته وبعد مماته بخلف المامة‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فمن ثبت عنده أن محمدًا رسول ال‪ ،‬وأن طاعته واجبة عليه‪ ،‬واجتهد في طاعته بحسب‬
‫المكان‪.‬‬
‫إن قيل‪ :‬إنه يدخل الجنة‪ ،‬فقد استغنى عن مسألة المامة‪.‬‬
‫وإن قيل‪ :‬ل يدخـل الجنة‪ ،‬كان هذا خلف نصـوص القرآن‪ ،‬فإنه سـبحانه أوجـب الجنـة لمن أطاع‬
‫ال ورسـوله فـي غيـر موضـع‪ ،‬كقوله تعالى‪(( :‬مَنْع يُطِعِع الَ وَالرّسعُولَ فَُأ ْوَلئِكَع مَعَع الّذِينَع َأنْعَمَع الُ‬
‫ن يُطِعِ‬‫شهَدَاء وَالصّالِحِين وَحَسُنَ ُأوْ َلئِكَ َرفِيقًا))[النساء‪(( ،]69:‬وَمَ ْ‬ ‫ن وَال ّ‬
‫ن وَالصّدّيقِي َ‬‫عَل ْيهِمْ مِنَ ال ّنبِيّي َ‬
‫َ‬
‫حتِهَا ا َل ْنهَار خَالِدِينَ فِيها وَ َذلِكَ الْ َفوْز العَظِيم))[النساء‪.]13:‬‬
‫ن تَ ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬ ‫ت تَ ْ‬
‫جنّا ٍ‬
‫ل َورَسُو َل ُه يُدْخُِلهُ َ‬‫ا َ‬
‫وأيضًا‪ :‬فصاحب الزمان الذي يدعون إليه‪ ،‬ل سبيل للناس إلى معرفته ول معرفة ما يأمرهم به‬
‫ومـا ينهاهم عنـه‪ ،‬ومـا يخـبرهم بـه‪ ،‬فإن كان أحد ل يصـير سـعيدًا إل بطاعـة هذا الذي ل يعرف أمره‬
‫ول نهيـه لزم أن ل يتمكن أحد مـن طريـق النجاة والسـعادة وطاعـة ال‪ ،‬وهذا من أعظم تكليف ما ل‬
‫يطاق‪ ،‬وهم من أعظم الناس إحالة له‪.‬‬
‫وإن قيل‪ :‬بل هو يأمر بما عليه المامية‪.‬‬
‫قيعل‪ :‬فل حاجـة إلى وجوده ول شهوده‪ ،‬فإن هذا معروف سـواء كان هـو حيًا أو ميتًا‪ ،‬وسـواء كان‬
‫شاهدًا أو غائبًا‪ ،‬وإذا كان معرفـة مـا أمـر ال بـه الخلق ممكنًا بدون هذا المام المنتظـر‪ ،‬عُلم أنـه ل‬
‫حاجة إليه‪ ،‬ول يتوقف عليه طاعة ال ول نجاة أحد ول سعادته‪ ،‬وحينئذٍ فيمتنع القول بجواز إمامة‬
‫مثـل هذا‪ ،‬فضلً عـن القول بوجوب إمامـة مثـل هذا‪ ،‬وهذا أمـر بيّن لمـن تدبره‪ ،‬لكـن الرافضـة مـن‬
‫أجهل الناس‪.‬‬
‫وذلك أن فعــل الواجبات العقليــة والشرعيــة وترك المســتقبحات العقليــة والشرعيــة إمــا أن يكون‬
‫موقوفًا على معرفة ما يأمر به وينهى عنه هذا المنتظر‪ ،‬وإما أن ل يكون موقوفًا‪ ،‬فإن كان موقوفًا‬
‫لزم تكليف ما ل يطاق‪ ،‬وأن يكون فعل الواجبات وترك المحرمات موقوفا على شرط ل يقدر عليه‬
‫عامــة الناس‪ ،‬بــل ول أحــد منهــم؛ فإنــه ليــس فــي الرض مــن يدّعــي دعوى صــادقة أنــه رأى هذا‬
‫المنتظر‪ ،‬أو سمع كلمه‪.‬‬
‫وإن لم يكــن موقوفًـا على ذلك أمكــن فعــل الواجبات العقليــة والشرعيــة‪ ،‬وترك القبائح العقليــة‬
‫والشرعية بدون هذا المنتظر‪ ،‬فل يحتاج إليه‪ ،‬ول يجب وجوده ول شهوده‪.‬‬
‫وهؤلء الرافضـة علقوا نجاة الخلق وسـعادتهم وطاعتهـم ل ورسـوله بشرط ممتنـع ل يقدر عليـه‬
‫الناس‪ ،‬ول يقدر عليه أحد منهم‪ ،‬وقالوا للناس‪ :‬ل يكون أحد ناجيًا من عذاب ال إل بذلك‪ ،‬ول يكون‬
‫سعيدًا إل بذلك‪ ،‬ول يكون أحد مؤمنا إل بذلك‪.‬‬
‫فلزمهـم أحـد أمريـن‪ :‬إمـا بطلن قولهـم‪ ،‬وإمـا أن يكون ال قـد آيـس عباده مـن رحمتـه‪ ،‬وأوجـب‬

‫‪24‬‬
‫عذابـه لجميـع الخلق‪ ،‬المسـلمين وغيرهـم‪ ،‬وعلى هذا التقديـر فهـم أوّل الشقياء المعذبيـن‪ ،‬فإنـه ليـس‬
‫لحـد منهـم طريـق إلى معرفـة أمـر هذا المام الذي يعتقدون أنـه موجود غائب‪ ،‬ول نهيـه ول خـبره‪،‬‬
‫بل عندهم من القوال المنقولة عن شيوخ الرافضة ما يذكرون أنه منقول عن الئمة المتقدمين على‬
‫هذا المنتظـر‪ ،‬وهـم ل ينقلون شيئًا عـن المنتظـر‪ ،‬وإن قُدّر أن بعضهـم نقـل عنـه شيئًا عُلم أنـه كاذب‪،‬‬
‫وحينئذٍ فتلك القوال إن كانـت كافيـة فل حاجـة إلى المنتظـر‪ ،‬وإن لم تكـن كافيـة فقـد أقروا بشقائهـم‬
‫وعذابهم‪ ،‬حيث كانت سعادتهم موقوفة على آمر ل يعلمون بماذا أمر‪.‬‬
‫وقـد رأيـت طائفـة مـن شيوخ الرافضـة كابـن العود الحلي يقول‪ :‬إذا اختلفـت الماميـة على قوليـن‬
‫أحدهمــا يعرف قائله والخــر ل يعرف قائله‪ ،‬كان القول الذي ل يعرف قائله هــو القول الحــق الذي‬
‫يجب اتباعه؛ لن المنتظر المعصوم في تلك الطائفة‪.‬‬
‫وهذا غايـة الجهـل والضلل‪ ،‬فإنـه بتقديـر وجود المنتظـر المعصـوم ل يُعلم أنـه قال ذلك القول؛ إذ‬
‫لم ينقله عنه أحد‪ ،‬ول عمـن نقله عنـه‪ ،‬فمـن أين يجزم بأنه قوله؟ ولم ل يجوز أن يكون القول الخـر‬
‫هو قوله‪ ،‬وهو لغيبته وخوفه من الظالمين ل يمكنه إظهار قوله‪ ،‬كما يدّعون ذلك فيه؟‬
‫فكان أصـل ديـن هؤلء الرافضـة مبنيًا على مجهول ومعدوم‪ ،‬ل على موجود ول معلوم‪ ،‬يظنون‬
‫أن إمامهـم موجود معصـوم‪ ،‬وهـو مفقود معدوم‪ ،‬ولو كان موجودًا معصـومًا‪ ،‬فهـم معترفون بأنهـم ل‬
‫يقدرون أن يعرفوا أمره ونهيه‪ ،‬كما كانوا يعرفون أمر آبائه ونهيهم‪.‬‬
‫والمقصود بالمام إنما هـو طاعة أمره‪ ،‬فإذا كان العلم بأمره ممتنعًا‪ ،‬كانـت طاعته ممتنعة‪ ،‬فكان‬
‫المقصـود بـه ممتنعًا‪ ،‬وإذا كان المقصـود بـه ممتنعًا لم يكـن فـي إثبات الوسـيلة فائدة أصـلً‪ ،‬بـل كان‬
‫إثبات الوسـيلة التـي ل يحصـل بهـا مقصـودها مـن باب السـفه والعبـث والعذاب القبيـح باتفاق أهـل‬
‫الشرع‪ ،‬وباتفاق العقلء القائلين بتحسين العقول وتقبيحها‪ ،‬بل باتفاق العقلء مطلقًا‪ ،‬فإنهم إذا فسروا‬
‫القبيح بما يضر كانوا متفقين على أن معرفة الضار يعلم بالعقل‪.‬‬
‫واليمان بهذا المام الذي ليس فيه منفعة‪ ،‬بل مضرة في العقل والنفس والبدن والمال وغير ذلك‬
‫قبيـح شرعًا وعقلً‪ .‬ولهذا كان المتبعون له مـن أبعـد الناس عـن مصـلحة الديـن والدنيـا‪ ،‬ل تنتظـم لهـم‬
‫مصـلحة دينهـم ول دنياهـم إن لم يدخلوا فـي طاعـة غيرهـم‪ ،‬كاليهود الذيـن ل تنتظـم لهـم مصـلحة إل‬
‫بالدخول في طاعة من هو خارج عن دينهم‪.‬‬
‫فهم يوجبون وجود المام المنتظر المعصوم‪ ،‬لن مصلحة الدين والدنيا ل تحصل إل به عندهم‪،‬‬
‫وهم لم يحصل لهم بهذا المنتظر مصلحة في الدين ول في الدنيا‪ ،‬والذين كذّبوا به لم تفتهم مصلحة‬
‫في الدين ول في الدنيا‪ ،‬بل كانوا أقوم بمصالح الدين والدنيا من أتباعه‪.‬‬
‫فعلم بذلك أن قولهـم فـي المامـة‪ ،‬ل ينال بـه إل مـا يورث الخزي والندامـة‪ ،‬وأنـه ليـس فيـه شيـء‬
‫مـن الكرامـة‪ ،‬وأن ذلك إذا كان أعظـم مطالب الديـن؛ فهـم أبعـد الناس عـن الحـق والهدى فـي أعظـم‬
‫مطالب الدين‪ ،‬وإن لم يكن أعظم مطالب الدين‪ ،‬ظهر بطلن ما ادّعوه من ذلك‪ ،‬فثبت بطلن قولهم‬
‫على التقديرين‪ ،‬وهو المطلوب‪.‬‬
‫فإن قال هؤلء الرافضة‪ :‬إيماننا بهذا المنتظر المعصوم مثل إيمان كثير من شيوخ الزهد والدين‬
‫بإلياس والخضــر والغوث والقطــب‪ ،‬ورجال الغيــب‪ ،‬ونحــو ذلك مــن الشخاص الذيــن ل يعرفون‬
‫وجودهم‪ ،‬ول بماذا يأمرون‪ ،‬ول عن ماذا ينهون‪ ،‬فكيف يسوغ لمن يوافق هؤلء أن ينكر علينا ما‬
‫ندعيه؟‬
‫قيل‪ :‬الجواب من وجوه‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫(أحدهعععا)‪ :‬أن اليمان بوجود هؤلء ليـــس واجبًــا عنـــد أح ٍد مـــن علماء المســـلمين وطوائفهـــم‬
‫المعروفين‪ ،‬وإذا كان بعض الغلة يوجب على أصحابه اليمان بوجود هؤلء‪ ،‬ويقول‪ :‬إنه ل يكون‬
‫مؤمنًا وليًا ل إل من يؤمن بوجود هؤلء في هذه الزمان‪ ،‬كان قوله مردودًا‪ ،‬كقول الرافضة‪.‬‬
‫(الوجه الثانعي)‪:‬أن يقال‪ :‬من الناس مـن يظن أن التصـديق بهؤلء يزداد الرجـل بـه إيمانًا وخيرًا‪،‬‬
‫وموالة ل وأن المصــدق بوجود هؤلء أكمــل وأشرف وأفضــل عنــد ال ممــن لم يصــدّق بوجود‬
‫هؤلء‪ ،‬وهذا القول ليـس مثـل قول الرافضـة مـن كـل وجـه‪ ،‬بـل هـو مشابـه له مـن بعـض الوجوه‪،‬‬
‫لكونهم جعلوا كمال الدين موقوفًا على ذلك‪.‬‬
‫وحينئذٍ فيقال‪ :‬هذا القول أيضًــا باطـــل باتفاق علماء المســـلمين وأئمتهـــم‪ ،‬فإن العلم بالواجبات‬
‫والمستحبات وفعل الواجبات والمستحبات كلها ليس موقوفًا على التصديق بوجود هؤلء‪ ،‬ومن ظن‬
‫مـن أهـل النسـك والزهـد والعامـة أن شيئًا مـن الديـن واجبًا أو مسـتحبًا موقوف على التصـديق بوجود‬
‫هؤلء‪ ،‬فهذا جاهل ضال باتفاق أهل العلم واليمان العالمين بالكتاب والسنّة‪ ،‬إذ قد عُلم بالضطرار‬
‫من دين السلم أن النبي صلى ال عليه وسلم لم يشرع لمته التصديق بوجود هؤلء‪ ،‬ول أصحابه‬
‫كانوا يجعلون ذلك من الدين‪ ،‬ول أئمة المسلمين‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فجميع هذه اللفاظ‪ :‬لفظ الغوث والقطب والوتاد والنجباء وغيرها لم ينقل أحد عن النبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم بإسـناد معروف أنـه تكلم بشيـء منهـا ول أصـحابه‪ ،‬ولكـن لفـظ البدال تكلم بـه‬
‫بعض السلف ويروى فيه عن النبي صلى ال عليه وسلم حديث ضعيف(‪ ،)1‬وقد بسطنا الكلم على‬
‫ذلك في غير هذا الموضع‪.‬‬
‫شرك بعض الصوفية حتى في الربوبية‬
‫(الوجه الثالث)‪ :‬أن يقال‪ :‬القائلون بهذه المور منهم من ينسب إلى أحد هؤلء ما ل تجوز نسبته‬
‫إلى أحد من البشر‪ ،‬مثل‪ :‬دعوى بعضهم أن الغوث أو القطب هو الذي يمد أهل الرض في هداهم‬
‫ونصـرهم ورزقهـم‪ ،‬فإن هذا ل يصـل إلى أحـد إل بواسـطة نزوله على ذلك الشخـص‪ ،‬وهذا باطـل‬
‫بإجماع المسلمين‪ ،‬وهو من جنس قول النصارى في الباب‪ ،‬وكذلك ما يدّعيه بعضهم من أن الواحد‬
‫مــن هؤلء يعلم كــل وليّ ل كان أو يكون‪ ،‬اســمه واســم أبيــه‪ ،‬ومنزلتــه مــن ال‪ ..‬ونحــو ذلك مــن‬
‫المقالت الباطلة التي تتضمن أن الواحد من البشر يشارك ال في بعض خصائصه‪.‬‬
‫مثل‪ :‬أنه بكل شيء عليم‪ ،‬أو على كل شيء قدير‪ ..‬ونحو ذلك‪ ،‬كما يقول بعضهم في النبي صلى‬
‫ال عليـه وسـلم وفـي شيوخـه‪ :‬إن علم أحدهـم ينطبـق على علم ال‪ ،‬وقدرتـه منطبقـة على قدرة ال‪،‬‬
‫فيعلم مــا يعلمــه ال‪ ،‬ويقدر على مــا يقدر ال عليــه‪ ،‬فهذه المقالت ومــا يشبههــا مــن جنــس قول‬
‫النصارى‪ ،‬والغالية في عليّ‪ ،‬وهي باطلة بإجماع المسلمين‪.‬‬
‫ومنهـم مـن ينسـب إلى الواحـد مـن هؤلء مـا تجوز نسـبته إلى النـبياء وصـالحي المؤمنيـن مـن‬
‫الكرامات‪ ،‬كدعوة مجابة‪ ،‬ومكاشفات من مكاشفات الصالحين‪ ..‬ونحو ذلك‪ ،‬فهذا القدر يقع كثيرًا من‬
‫الشخاص الموجوديــن المعاينيــن‪ ،‬ومــن نســب ذلك إلى مــن ل يُعرف وجوده‪ ،‬فهؤلء وإن كانوا‬
‫مخطئين في نسبة ذلك إلى شخ صٍ معدوم فخطؤهم كخطأ من اعتقد أن في البلد الفلنـي رجالً من‬
‫أولياء ال وليـس فيـه أحـد‪ ،‬أو اعتقـد فـي ناس معينيـن أنهـم أولياء ال ولم يكونوا كذلك‪ ،‬ول ريـب أن‬
‫هذا خطأ وجهل وضلل يقع فيه كثير من الناس‪ ،‬لكن خطأ المامية و ضللهم أقبح وأعظم‪.‬‬
‫ل وجود للياس والخضر‬
‫‪ )(1‬ورد الديث ف السند (‪ )2/171‬تقيق أحد شاكر‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫(الوجه الرابع)‪:‬أن يقال‪ :‬الصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس والخضر ماتا‪ ،‬وأنه ليس‬
‫أحد من البشر واسطة بين ال عز سلطانه وبين خلقه في خلقه ورزقه وهداه ونصره‪ ،‬وإنما الرسل‬
‫وسائط في تبليغ رسالته‪ ،‬ل سبيل لحد إلى السعادة إل بطاعة الرسل‪.‬‬
‫وأمـا خلقـه وهداه ونصـره ورزقـه فل يقدر عليـه إل ال تعالى‪ ،‬فهذا ل يتوقـف على حياة الرسـل‬
‫وبقائهـم‪ ،‬بـل ول يتوقـف نصـر الخلق ورزقهـم على وجود الرسـل أصـلً‪ ،‬بـل قـد يخلق ذلك بمـا شاء‬
‫مـن السـباب بواسـطة الملئكـة أو غيرهـم‪ ،‬وقـد يكون لبعـض البشـر فـي ذلك مـن السـباب مـا هـو‬
‫معروف في البشر‪.‬‬
‫وأما كون ذلك ل يكون إل بواسطة من البشر‪ ،‬أو أن أحدًا من البشر يتولى ذلك كله‪ ،‬ونحو ذلك‪،‬‬
‫ظَلمْتُمْع‬‫فهذا كله باطـل‪ ،‬وحينئذٍ فيقال للرافضـة إذا احتجوا بضلل الضلل‪(( :‬وَلَنْع يَنفَعَكُمْع ا ْل َيوْمَع إِذْ َ‬
‫ب ُمشْ َترِكُونَ))[الزخرف‪.]39:‬‬ ‫َأنّكُمْ فِي الْ َعذَا ِ‬
‫وأيضًا‪ :‬فمــن المعلوم أن أشرف مســائل المســلمين‪ ،‬وأهــم المطالب فــي الديــن‪ ،‬ينبغــي أن يكون‬
‫ذكرهـا فـي كتاب ال أعظـم مـن غيرهـا‪ ،‬وبيان الرسـول لهـا أولى مـن بيان غيرهـا‪ ،‬والقرآن مملوء‬
‫بذكـر توحيـد ال‪ ،‬وذكـر أسـمائه وصـفاته وآياتـه‪ ،‬وملئكتـه وكتبـه ورسـله واليوم الخـر‪ ،‬والقصـص‬
‫والمـــر والنهــي والحدود والفرائض‪ ،‬بخلف المامــة‪ ،‬فكيـــف يكون القرآن مملوءًا بغيـــر الهــم‬
‫الشرف؟‬
‫ن يُطِ عِ الَ وَالرّ سُولَ‬ ‫وأيضًا‪ :‬فإن ال تعالى قد علّق السعادة بما ل ذكر فيه للمامة‪ ،‬فقال‪(( :‬وَمَ ْ‬
‫شهَدَا َء وَالصعّالِحِين وَحَسُعنَ ُأوْ َلئِكَع‬ ‫ن وَال ّ‬
‫عَل ْيهِمْع مِنَع ال ّن ِبيّينَع وَ الصّعدّيقِي َ‬
‫فَأُو َلئِكَع مَعَع الّذِينَع َأنْعَمَع الُ َ‬
‫ن يَعْصِ‬ ‫ن يُطِعِ الَ َورَسُو َل ُه يُدْخِلْهُ جَناّت))[النساء‪ ]13:‬إلى قوله‪(( :‬وَمَ ْ‬ ‫رَفِيقًا))[النساء‪ ،]69:‬وقال‪(( :‬وَمَ ْ‬
‫ب ُمهِين))[النساء‪.]14:‬‬ ‫حدُودَ ُه يُدْخِ ْل ُه نَارًا خَالِدًا فِيها وَ َلهُ عَذَا ٌ‬
‫ل َورَسُو َل ُه َويَتَعَدّ ُ‬‫ا َ‬
‫فقد بيّن ال في القرآن أن من أطاع ال ورسوله كان سعيدًا في الخرة‪ ،‬ومن عصى ال ورسوله‬
‫وتعدّى حدوده كان معذبًا‪ ،‬وهذا هو الفرق بين السعداء والشقياء‪ ،‬ولم يذكر المامة‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬إن المامة داخلة في طاعة ال ورسوله‪ ،‬قيل‪ :‬نهايتها أن تكون كبعض الواجبات‪:‬‬
‫كالصـلة والزكاة والصـيام والحـج وغيـر ذلك ممـا يدخـل فـي طاعـة ال ورسـوله‪ ،‬فكيـف تكون هـي‬
‫وحدهـا أشرف مسـائل المسـلمين وأهـم مطالب الديـن؟ فإن قيـل‪ :‬ل يمكننـا طاعـة الرسـول إل بطاعـة‬
‫المام‪ ،‬فإنه هو الذي يعرف الشرع‪.‬‬
‫قيععل‪ :‬هذا هــو دعوى المذهــب‪ ،‬ول حجــة فيــه‪ ،‬ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا كمــا دل على‬
‫سـائر أصـول الديـن‪ ،‬وقـد تقدم أن هذا المام الذي يدعونـه لم ينتفـع بـه أحـد فـي ذلك‪ ،‬وسـيأتي إن شاء‬
‫ال تعالى أن ما جاء به الرسول ل يحتاج في معرفته إلى أحد من الئمة‪.‬‬
‫أصول الدين عند المامية‬
‫(الوجه الثاني)(‪ )1‬أن يقال‪ :‬أصول الدين عند المامية أربعة‪ :‬التوحيد‪ ،‬والعدل‪ ،‬والنبوة والمامة‬
‫هــي آخــر المراتــب‪ ،‬والتوحيــد والعدل والنبوة قبــل ذلك‪ ،‬وهــم يدخلون فــي التوحيــد نفــي الصــفات‪،‬‬
‫والقول بأن القرآن مخلوق‪ ،‬وأن ال ل يرى فــي الخرة‪ ،‬ويدخلون فــي العدل التكذيــب بالقدر‪ ،‬وأن‬
‫ال ل يقدر أن يهدي من يشاء‪ ..‬ول يقدر أن يضل من يشاء‪ ،‬وأنه قد يشاء ما ل يكون‪ ،‬ويكون ما ل‬
‫يشاء‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فل يقولون‪ :‬إنه خالق كل شيء‪ ،‬ول إنه على كل شيء قدير‪ ،‬ول إنه ما شاء ال‬
‫كان‪ ،‬ومـا لم يشـأ لم يكـن‪ ،‬لكـن التوحيـد والعدل والنبوة مقدمـة على المامـة‪ ،‬فكيـف تكون المامـة‬
‫‪ )(1‬الوجه الول ما تقدم على قول الرافضة‪ :‬إن المامة أهم أمور الدين‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫أشرف وأهــم؟ وأيضًـا‪ :‬فالمامــة إنمــا أوجبوهــا لكونهــا لطفًـا فــي الواجبات‪ ،‬فهــي واجبــة وجوب‬
‫الوسائل‪ ،‬فكيف تكون الوسيلة أشرف وأهم من المقصود؟‬
‫تناقض الرافضة في المامة بين القول والتطبيق‬
‫(الوجعه الثالث)‪ :‬أن يقال‪ :‬إن كانـت المامـة أهـم مطالب الديـن‪ ،‬وأشرف مسـائل المسـلمين‪ ،‬فأبعـد‬
‫الناس عن هذا الهم الشرف هم الرافضة‪ ،‬فإنهم قد قالوا في المامة أسخف قول وأفسده في العقل‬
‫والدين‪ ،‬كما سنبينه إن شاء ال تعالى إذا تكلمنا عن حججهم‪.‬‬
‫ويكفيــك أن مطلوبهــم بالمامــة أن يكون لهــم رئيــس معصــوم‪ ،‬يكون لطفًـا فــي مصــالح دينهــم‬
‫ودنياهـم‪ ،‬وليـس فـي الطوائف أبعـد عـن مصـلحة اللطـف والمامـة منهـم‪ ،‬فإنهـم يحتالون على مجهول‬
‫ومعدوم ل يُرى له عيـن ول أثـر‪ ،‬ول يسـمع له حـس ول خـبر‪ ،‬فلم يحصـل لهـم مـن المـر المقصـود‬
‫بإمامته شيء‪ ،‬وأي من فرض إمامًا نافعًا فـي بعض مصـالح الديـن والدنيا‪ ،‬كان خيرًا ممـن ل ينتفـع‬
‫به في شيء من مصالح المامة‪.‬‬
‫ولهذا تجدهــم لمــا فاتهــم مصــلحة المامــة‪ ،‬يدخلون فــي طاعــة كافــر أو ظالم لينالوا بــه بعــض‬
‫مقاصـدهم‪ ،‬فبينمـا هـم يدعون الناس إلى طاعـة إمام معصـوم‪ ،‬أصـبحوا يرجعون إلى طاعـة ظلوم‪،‬‬
‫فهل يكون أبعد عن مقصود المامة‪ ،‬وعن الخير والكرامة ممن سلك منهاج الندامة؟ وفي الجملة‪،‬‬
‫فال تعالى قـد علق بولة المور مصـالح فـي الديـن والدنيـا‪ ،‬سـواء كانـت المامـة أهـم المور أو لم‬
‫تكـن‪ ،‬والرافضـة أبعـد الناس عـن حصـول هذه المصـلحة لهـم‪ ،‬فقـد فاتهـم على قولهـم الخيـر المطلوب‬
‫من أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين‪.‬‬
‫ولقــد طلب منــي بعــض أكابر شيوخهــم الفضلء أن يخلو بــي وأتكلم معــه فــي ذلك‪ ،‬فخلوت بــه‬
‫وقررت له ما يقولونه في هذا الباب‪ ،‬كقولهم‪ :‬إن ال أمر العباد ونهاهم‪ ،‬فيجب أن يفعل بهم اللطف‬
‫الذي يكونون عنده أقرب إلى فعـل الواجـب‪ ،‬وترك القبيـح‪ ،‬لن مـن دعـا شخصـًا ليأكـل طعامًا‪ ،‬فإذا‬
‫كان مراده الكـل فعـل مـا يعيـن على ذلك مـن السـباب‪ ،‬كتلقيـه بالبشـر وإجلسـه فـي مجلس يناسـبه‬
‫وأمثال ذلك‪.‬‬
‫وإن لم يكـــن مراده أن يأكـــل‪ ،‬عبـــس فـــي وجهـــه وأغلق الباب‪ ..‬ونحـــو ذلك‪ ،‬وهذا أخذوه مـــن‬
‫المعتزلة‪ ،‬ليس هو من أصول شيوخهم القدماء‪.‬‬
‫ثعم قالوا‪ :‬والمام لطـف؛ لن الناس إذا كان لهـم إمام يأمرهـم بالواجـب وينهاهـم عـن القبيـح‪ ،‬كانوا‬
‫أقرب إلى فعل المأمور‪ ،‬وترك المحظور‪ ،‬فيجب أن يكون لهم إمام‪ ،‬ول بد أن يكون معصومًا؛ لنه‬
‫إذا لم يكن معصومًا لم يحصل به المقصود‪ ،‬ولم تدع العصمة لح ٍد بعد النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫إل لعليــّ‪ ،‬فتعيــن أن يكون هــو إياه‪ ،‬للجماع على انتفاء مــا ســواه‪ ،‬وبســطت له العبارة فــي هذه‬
‫المعاني‪.‬‬
‫ثعم قالوا‪ :‬وعليـّ نصّـ على الحسـن‪ ،‬والحسـن على الحسـين‪ ،‬إلى أن انتهـت النوبـة إلى المنتظـر‬
‫محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب‪ ،‬فاعترف أن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬فأنـا وأنـت طالبان للعلم والحـق والهدى‪ ،‬وهـم يقولون‪ :‬مـن لم يؤمـن بالمنتظـر فهـو كافـر‪،‬‬
‫فهذا المنتظـر‪ :‬هـل رأيتـه؟ أو رأيـت مـن رآه؟ أو سـمعت بخـبره؟ أو تعرف شيئًا مـن كلمـه الذي قاله‬
‫هـو؟ أو مـا أمـر بـه أو مـا نهـى عنـه مأخوذًا عنـه كمـا يؤخـذ مـن الئمـة؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قلت‪:‬فأي فائدة فـي‬
‫إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا؟‬
‫ثـم كيـف يجوز أن يكلفنـا ال بطاعـة شخـص ونحـن ل نعلم مـا يأمرنـا بـه ول مـا ينهانـا عنـه‪ ،‬ول‬

‫‪28‬‬
‫طريـق لنـا إلى معرفـة ذلك بوجـه مـن الوجوه؟ وهـم مـن أشـد الناس إنكارًا لتكليـف مـا ل يطاق‪ ،‬فهـل‬
‫يكون في تكليف ما ل يطاق أبلغ من هذا؟‬
‫فقال‪ :‬إثبات هذا مبني على تلك المقدمات‪ .‬قلت‪ :‬لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق‬
‫بنا نحن‪ ،‬وإل فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر ول نهي‪.‬‬
‫ل لنـا فائدة ول لطفًا‪ ،‬ول يفيدنـا إل تكليـف مـا ل يُقدر‬
‫وإذا كان كلمنـا فـي تلك المقدمات ل يُحصّـ ُ‬
‫عليه‪ ،‬عُلم أن اليمان بهذا المنتظر من باب الجهل والضلل‪ ،‬ل من باب اللطف والمصلحة‪.‬‬
‫والذي عند المامية من النقل عن الئمة الموتى‪ :‬إن كان حقًا يحصل به سعادتهم‪ ،‬فل حاجة بهم‬
‫إلى المنتظر‪ ،‬وإن كان باطلً فهم أيضًا لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل‪ ،‬فلم ينتفعوا بالمنتظر‬
‫ل فـي إثبات حـق‪ ،‬ول فـي نفـي باطـل‪ ،‬ول أمـر بمعروف ول نهـي عـن منكـر‪ ،‬ولم يحصـل بـه لواحـد‬
‫منهم شيء من المصلحة واللطف والمنفعة المطلوبة من المامة‪.‬‬
‫والجهال الذيـن يُعلّقون أمورهـم بالمجهولت‪ ،‬كرجال الغيـب والقطـب والغوث والخضـر‪ ..‬ونحـو‬
‫ذلك‪ ،‬مع جهلهم وضللهم‪ ،‬وكونهم يثبتون ما لم يحصل لهم به مصلحة ول لطف ول منفعة ل في‬
‫الديـن ول فـي الدنيـا‪ ،‬أقـل ضللً مـن الرافضـة‪ ،‬فإن الخضـر ينتفـع برؤيتـه وبموعظتـه‪ ،‬وإن كان‬
‫ن أنه الخضر‪ ،‬ول يخاطبه الجني إل‬ ‫غالطًا في اعتقاده أنه الخضر فقد يرى أحدهم بعض الجنّ فيظ ّ‬
‫بمـا يرى أنـه يقبله منـه ليربطـه على ذلك‪ ،‬فيكون الرجـل أتـى مـن نفسـه ل مـن ذلك المخاطـب له‪،‬‬
‫ومنهم من يقول‪ :‬لكل زمان خضر‪ ،‬ومنهم من يقول‪ :‬لكل وليّ خضر‪.‬‬
‫وللكفار كاليهود مواضع يقولون‪ :‬إنهم يرون الخضر فيها‪ ،‬وقد يرى الخضر على صور مختلفة‪،‬‬
‫وعلى صـورة هائلة‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬وذلك لن هذا الذي يقول‪ :‬إنـه الخضـر هـو جنـي‪ ،‬بـل هـو شيطان‬
‫يظهر لمن يرى أنه يضله‪ ،‬وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها‪.‬‬
‫وعلى كـل تقديـر فأصـناف الشيعـة أكثـر ضللً مـن هؤلء‪ ،‬فإن المنتظـر ليـس عندهـم نقـل ثابـت‬
‫عنـه‪ ،‬ول يعتقدون فيمـن يرونـه أنـه المنتظـر‪ ،‬ولمـا دخـل السـرداب كان عندهـم صـغيرًا لم يبلغ سـنّ‬
‫التمييز‪ ،‬وهم يقبلون من الكاذيب أضعاف ما يقبله هؤلء‪ ،‬ويعرضون عن القتداء بالكتاب والسنّة‬
‫أكثـر مـن إعراض هؤلء‪ ،‬ويقدحون فـي خيار المسـلمين قدحًا يعاديهـم عليـه هؤلء‪ ،‬فهـم أضـل عـن‬
‫مصالح المامة من جميع طوائف المة‪ ،‬فقد فاتهم على قولهم أهم الدين وأشرفه‪.‬‬
‫ل يحصل بمعرفة المام خير إن لم يعمل صالحاً‬
‫(الوجه الرابع)‪ :‬أن يقال‪ :‬قوله‪( :‬التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة) كلم باطل؛ فإن‬
‫مجرد معرفـة إمام وقتـه وإدراكه بعينه ل يستحق بـه الكرامـة إن لم يوافق أمره‪ ،‬وإل فليسـت معرفـة‬
‫إمام الوقـت بأعظـم مـن معرفـة الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ومـن عرف أن محمدًا رسـول ال فلم‬
‫يؤمن به ولم يطع أمره لم يحصل له شيء من الكرامة‪.‬‬
‫ولو آمــن بالنــبي وعصــاه‪ ،‬وضيــع الفرائض وتعدى الحدود كان مســتحقًا للوعيــد عنــد الماميــة‬
‫وسـائر طوائف المسـلمين‪ ،‬فكيـف بمـن عرف المام وهـو مضيّع للفرائض متعدّ للحدود! وكثيـر مـن‬
‫هؤلء يقول‪ :‬حـب عليّـ حسـنة ل يضـر معهـا سـيئة‪ ،‬وإن كانـت السـيئات ل تضـر مـع حـب عليـّ‪ ،‬فل‬
‫حاجة إلى المام المعصوم الذي هو لطف في التكليف‪ ،‬فإنه إذا لم يوجد إنما توجد سيئات ومعاصٍ‪،‬‬
‫فإن كان حب عليّ كافيًا‪ ،‬فسواء وجد المام أو لم يوجد‪.‬‬
‫ليست المامة من واجبات الدين‬
‫(الوجه الخامس)‪ :‬قوله‪( :‬وهي أحد أركان اليمان‪ ،‬المستحق بسببه الخلود في الجنان)‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫فيقال له‪ :‬مـن جعـل هذا مـن اليمان إل أهـل الجهـل والبهتان؟ وسـنتكلم إن شاء ال على مـا ذكره‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫وال تعالى وصـف المؤمنيـن وأحوالهـم‪ ،‬والنـبي صـلى ال عليـه وسـلم قـد فسـّر اليمان‪ ،‬وذكـر‬
‫شعبـه‪ ،‬ولم يذكـر ال ول رسـوله المامـة فـي أركان اليمان‪ ،‬ففـي الحديـث الصـحيح ‪-‬حديـث جبريـل‪-‬‬
‫لما أتى النبي صلى ال عليه وسلم في صورة أعرابي‪ ،‬وسأله عن السلم واليمان والحسان‪ ،‬قال‬
‫له‪( :‬الســلم‪ :‬أن تشهــد أن ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدًا رســول ال‪ ،‬وتقيــم الصــلة‪ ،‬وتؤتــي الزكاة‪،‬‬
‫وتصـوم رمضان‪ ،‬وتحـج البيـت‪ ،‬قال‪ :‬واليمان‪ :‬أن تؤمـن بال‪ ،‬وملئكتـه‪ ،‬وكتبـه‪ ،‬ورسـله‪ ،‬واليوم‬
‫الخر‪ ،‬والبعث بعد الموت‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره)(‪)1‬ولم يذكر المامة‪.‬‬
‫قال‪( :‬والحسـان‪ :‬أن تعبـد ال كأنـك تراه‪ ،‬فإن لم تكـن تراه فإنـه يراك) وهذا الحديـث متفـق على‬
‫صحته‪ ،‬متلقى بالقبول‪ ،‬أجمع أهل العلم بالنقل على صحته‪ ،‬وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير‬
‫وجه‪ ،‬فهو من المتفق عليه من حديث أبي هريرة وفي أفراد مسلم من حديث عمر‪ ،‬وهم وإن كانوا‬
‫ل يقرون بصحة هذه الحاديث‪ ،‬فالمصنف قد احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة‪.‬‬
‫فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته نحن وهم‪ ،‬أو ل نحتج بشيء من ذلك نحن ول هم‪ ،‬فإن‬
‫تركوا الرواية رأسًا أمكن أن نترك الراوية‪.‬‬
‫وأمـا إذا رووا هـم‪ ،‬فل بـد مـن معارضـة الروايـة بالروايـة‪ ،‬والعتماد على مـا تقوم بـه الحجـة‪،‬‬
‫ونحــن نــبين الدلئل الدالة على كذب مــا يعارضون بــه أهــل السـنّة مــن الروايات الباطلة‪ ،‬والدلئل‬
‫الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه‪.‬‬
‫وهــب أنّا ل نحتــج بالحديــث؛ فقــد قال ال تعالى‪(( :‬إ ِنّمَا ال ُم ْؤ ِمنُونعَ الّذِينعَ إِذَا ُذ ِكرَ الُ وَجِلَتعْ‬
‫قُلُو ُبهُمْع وَإِذَا تُ ِليَتْع عَ َل ْيهِمْع آيَاتُهُع زَا َد ْتهُم إِيمَانًا َوعَلَى َر ّبهِم َي َتوَكّلُون * الّذِينَع يُقِيمُونَع الصعّل َة َو ِممّاع‬
‫رزْقٌ َكرِيم)) [النفال‪-2:‬‬ ‫عنْ َد رَ ّبهِم َومَغْ ِفرَ ٌة َو ِ‬
‫َرزَ ْقنَاهُ ْم ُينْفِقُونْ * ُأوْ َلئِكَ هُمُ ال ُم ْؤمِنُونَ حَقًا َلهُم َدرَجَاتٍ ِ‬
‫‪ ]4‬فشهـد لهؤلء باليمان مـن غيـر ذكـر للمامـة‪ ،‬وقال تعالى‪ِ(( :‬إنّمَا الُم ْؤمِنونَع الّذِينَع آمنُوا بِالِ‬
‫موَا ِلهِمْع وََأنْفُسِعهِمْ فِي سَعبِيلِ ال ُأوْ َلئِكَع هُمُع الصعّا ِدقُون))[الحجرات‪:‬‬‫َورَسعُو ِل ِه ثُمّ لَمْع يَ ْرتَابُوا وَجَا َهدُوا بِ َأ ْ‬
‫‪ .]15‬فجعلهم صادقين في اليمان من غير ذكر للمامة‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فنحـن نعلم بالضطرار مـن ديـن محمـد بـن عبـد ال صـلى ال عليـه وسـلم أن الناس كانوا‬
‫إذا أسلموا لم يجعل إيمانهم موقوفًا على معرفة المامة‪ ،‬ولم يذكر لهم شيئا من ذلك‪.‬‬
‫وما كان أحد أركان اليمان ل بد أن يبينه الرسول لهل اليمان ليحصل لهم به اليمان‪ ،‬فإذا علم‬
‫بالضطرار أن هذا ممــا لم يكــن الرســول يشترطــه فــي اليمان‪ ،‬عُلم أن اشتراطــه فــي اليمان مــن‬
‫أقوال أهل البهتان‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬قد دخلت في عموم النص‪ ،‬أو هي من باب ما ل يتم الواجب إل به‪ ،‬أو دل عليها نص‬
‫آخر‪.‬‬
‫قيعل‪ :‬هذا كله لو صـح لكان غايتـه أن تكون مـن بعـض فروع الديـن‪ ،‬ل تكون مـن أركان اليمان‪،‬‬
‫فإن ركن اليمان ما ل يحصل اليمان إل به كالشهادتين‪ ،‬فل يكون الرجل مؤمنًا حتى يشهد أن ل‬
‫إله إل ال‪ ،‬وأن محمدًا رســول ال‪ ،‬فلو كانــت المامــة ركنًا فــي اليمان ل يتــم إيمان أحــد إل بــه‪،‬‬
‫لوجب أن يبين ذلك الرسول بيانًا عامًا قاطعًا للعذر‪ ،‬كما بين الشهادتين واليمان بالملئكة والكتب‬
‫والرسـل واليوم الخـر‪ ،‬فكيـف ونحـن نعلم بالضطرار مـن دينـه أن الذيـن دخلوا فـي دينـه أفواجًا لم‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪ )1/36‬والبخاري ف مواضع‪ .‬انظر‪.)1/15( :‬‬

‫‪30‬‬
‫يشترط على أحدٍ منهم في اليمان بالمامة ل مطلقًا ول معينًا؟!‬
‫(الوجعه السعادس)‪ :‬قوله‪( :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬مـن مات ولم يعرف إمام زمانـه‬
‫مات ميتة جاهلية)‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬أولً‪ :‬مـن روى هذا الحديـث بهذا اللفـظ‪ ،‬وأيـن إسـناده؟ وكيـف يجوز أن يُحتـج بنقـل عـن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى ال عليه وسلم قاله؟‬
‫هذا لو كان مجهول الحال عنـد أهـل العلم بالحديـث‪ ،‬فكيـف وهذا الحديـث بهذا اللفـظ ل يُعرف؟ إنمـا‬
‫الحديـث المعروف مثـل مـا روى مسـلم فـي صـحيحه‪ ،‬عـن نافـع‪ ،‬قال‪ :‬جاء عبـد ال بـن عمـر إلى عبـد‬
‫ال بـن مطيـع حيـن كان مـن أمـر الحرة مـا كان زمـن يزيـد بـن معاويـة‪ ،‬فقال‪ :‬اطرحوا لبـي عبـد‬
‫الرحمـن وسـادة‪ ،‬فقال‪ :‬إنـي لم آتـك لجلس‪ ،‬أتيتـك لحدثـك حديثًا سـمعت رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسلم يقوله‪ :‬سمعته يقول‪( :‬من خلع يدًا من طاعة لقي ال يوم القيامة ل حجة له‪ ،‬ومن مات ليس في‬
‫عنقه بيعة‪ ،‬مات ميتة جاهلية)(‪.)1‬‬
‫وهذا حديث حدّث به عبد ال بن عمر لعبد ال بن مطيع بن السود لما خلعوا طاعة أمير وقتهم‬
‫يزيد‪ ،‬مع أنه كان فيه من الظلم ما كان‪ ،‬ثم إنه اقتتل هو وهم‪ ،‬وفعل بأهل الحرة أمورًا منكرة‪ ،‬فعُلم‬
‫أن هذا الحديــث دل على مــا دل عليــه ســائر الحاديــث التيــة‪ ،‬مــن أنــه ل يُخرج على ولة أمور‬
‫المسلمين بالسيف‪ ،‬فإن لم يكن مطيعًا لولة المور مات ميتة جاهلية‪.‬‬
‫وهذا ضـد قول الرافضـة‪ ،‬فإنهـم أعظـم الناس مخالفـة لولة المور‪ ،‬وأبعـد الناس عـن طاعتهـم إل‬
‫كرهًا‪ ،‬ونحن نطالبهم أولً بصحة النقل‪ ،‬ثم بتقدير أن يكون ناقله واحدًا‪ ،‬فكيف يجوز أن يثبت أصل‬
‫اليمان بخـبر مثـل هذا الذي ل يُعرف له ناقـل؟ وإن عُرف له ناقـل أمكـن خطؤه وكذبـه‪ ،‬وهـل يثبـت‬
‫أصل اليمان إل بطريق علمي؟!‬
‫(الوجعه السعابع)‪ :‬أن يقال‪ :‬إن كان هذا الحديـث مـن كلم النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فليـس فيـه‬
‫حجة لهذا القائل‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم قد قال‪( :‬مات ميتة جاهلية)‪.‬‬
‫وهذا الحديـث يتناول مـن قاتـل فـي العصـبية‪ ،‬والرافضـة رءوس هؤلء‪ ،‬ولكـن ل يكفـر المسـلم‬
‫بالقتتال في العصبية‪ ،‬كما دل على ذلك الكتاب والسنّة‪ ،‬فكيف يكفر بما دون ذلك؟!‬
‫وفـي صـحيح مسـلم‪ ،‬عـن أبـي هريرة رضـي ال عنـه قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪:‬‬
‫(مـن خرج مـن الطاعـة‪ ،‬وفارق الجماعـة‪ ،‬ثـم مات‪ ،‬مات ميتـة جاهليـة)(‪ )2‬وهذا حال الرافضـة‪ ،‬فإنهـم‬
‫يخرجون عن الطاعة ويفارقون الجماعة‪.‬‬
‫وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬من رأى‬
‫من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه‪ ،‬فإن من خرج من السلطان شبرًا‪ ،‬مات ميتة جاهلية)(‪.)3‬‬
‫وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة‪ ،‬فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم‪ ،‬ل‬
‫بذلك اللفظ الذي نقله‪.‬‬
‫(الوجعه الثامعن)‪ :‬أن هذا الحديـث الذي ذكره حجـة على الرافضـة؛ لنهـم ل يعرفون إمام زمانهـم‪،‬‬
‫فإنهم يدّعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن‪ ،‬الذي دخل سرداب سامرّا سنة ستين ومائتين أو‬
‫نحوهـا ولم يعـد‪ ،‬بـل كان عمره إمـا سـنتين‪ ،‬وإمـا ثلثًا‪ ،‬وإمـا خمسـًا أو نحـو ذلك‪ ،‬وله الن ‪-‬على‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪.)3/1478‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مسلم (‪.)3/1476‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )9/47‬ومسلم (‪.)3/1477‬‬

‫‪31‬‬
‫قولهم‪ -‬أكثر من أربعمائة سنة‪ ،‬ولم ُيرَ له عين ول أثر‪ ،‬ول سُمع له حس ول خبر‪.‬‬
‫فليـس فيهـم أحـد يعرفـه ل بعينـه ول صـفته‪ ،‬لكـن يقولون‪ :‬إن هذا الشخـص الذي لم يره أحـد ولم‬
‫يسـمع له خبر هو إمام زمانهـم‪ ،‬ومعلوم أن هذا ليـس هـو معرفـة بالمام‪ ،‬ونظير هذا أن يكون لرجل‬
‫قريـب مـن بنـي عمـه فـي الدنيـا ول يعرف شيئًا مـن أحواله‪ ،‬فهذا ل يعرف ابـن عمـه‪ ،‬وكذلك المال‬
‫الملتقـط إذا عرف أن له مالكًا ولم يعرف عينـه لم يكـن عارفًا لصـاحب اللقطـة‪ ،‬بـل هذا أعرف؛ لن‬
‫هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب عليه‪.‬‬
‫وأما المنتظر فل يعرف له حال ينتفع به في المامة‪ ،‬فإن معرفة المام التي تخرج النسان من‬
‫الجاهلية‪ ،‬هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة‪ ،‬خلف ما كان عليه أهل الجاهلية‪ ،‬فإنهم لم‬
‫يكن لهم إمام يجمعهم‪ ،‬ول جماعة تعصمهم‪ ،‬وال تعالى بعث محمدًا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهداهم‬
‫بـه إلى الطاعـة والجماعـة‪ ،‬وهذا المنتظـر ل يحصـل بمعرفتـه طاعـة ول جماعـة‪ ،‬فلم يُعرف معرفـة‬
‫تخرج النسان من الجاهلية‪ ،‬بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية‪ ،‬وأشبههم بالجاهلية‪ ،‬وإن لم‬
‫يدخلوا فـي طاعـة غيرهـم ‪-‬إمـا طاعـة كافـر أو طاعـة مسـلم‪ -‬هـو عندهـم مـن الكفار أو النواصـب ‪-‬لم‬
‫ينتظم لهم مصلحة؛ لكثرة اختلفهم وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة‪ ،‬وهذا يبينه‪.‬‬
‫(الوجعه التاسعع)‪ :‬وهـو أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أمـر بطاعـة الئمـة الموجوديـن المعلوميـن‪،‬‬
‫الذيــن لهــم ســلطان يقدرون بــه على ســياسة الناس‪ ،‬ل بطاعــة معدوم ول مجهول‪ ،‬ول مــن ليــس له‬
‫سلطان ول قدرة على شيء أصلً‪ ،‬كما أمر النبي صلى ال عليه وسلم بالجتماع والئتلف‪ ،‬ونهى‬
‫عــن الفرقــة والختلف‪ ،‬ولم يأمــر بطاعــة الئمــة مطلقًـا‪ ،‬بــل أمــر بطاعتهــم فــي طاعــة ال دون‬
‫معصيته‪ ،‬وهذا يبين أن الئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة ال ليسوا معصومين‪.‬‬
‫فإن قال‪ :‬أنـا أردت بقولي‪ :‬إنهـا أهـم المطالب فـي الديـن‪ ،‬وأشرف مسـائل المسـلمين التـي تنازعـت‬
‫المة فيها بعد النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذه هي مسألة المامة‪.‬‬
‫قيعل له‪ :‬فل لفـظ فصـيح‪ ،‬ول معنـى صـحيح‪ ،‬فإن مـا ذكرتـه ل يدل على هذا المعنـى‪ ،‬بـل مفهوم‬
‫اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقًا‪ ،‬وأشرف مسائل المسلمين مطلقًا‪.‬‬
‫وبتقدير أن يكون هذا مرادك‪ ،‬فهو معنى باطل‪ ،‬فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬في مسائل أشرف من هذه‪.‬‬
‫وبتقديــر أن تكون هــي الشرف‪ ،‬فالذي ذكرتــه فيهــا أبطــل المذاهــب‪ ،‬وأفســد المطالب‪ ،‬وذلك أن‬
‫النزاع في المامة لم يظهر إل في خلفة علي‪.‬‬
‫وأمــا على عهــد الخلفاء الثلثــة فلم يظهــر نزاع‪ ،‬إل مــا جرى يوم الســقيفة‪ ،‬ومــا انفصــلوا حتــى‬
‫اتفقوا‪ ،‬ومثـل هذا ل يعـد نزاعًا‪ ،‬ولو قدّر أن النزاع فيهـا كان عقـب موت النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته صلى ال عليه وسلم يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر‬
‫طويل‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك‪ ،‬فمعلوم أن مســـائل التوحيـــد والصـــفات والثبات والتنزيـــه والقدر والتعديـــل‬
‫والتجويز والتحسين والتقبيح‪ ،‬أهم وأشرف من مسائل المامة‪ ،‬ومسائل السماء والحكام‪ ،‬والوعد‬
‫والوعيد‪ ،‬والعفو والشفاعة والتخليد‪ ،‬أهم من مسائل المامة‪.‬‬
‫فإن كانـت أهـم مسـائل الديـن‪ ،‬وهـم لم ينتفعوا بالمقصـود منهـا‪ ،‬فقـد فاتهـم مـن الديـن أهمـه وأشرفـه‪،‬‬
‫وحينئذٍ فل ينتفعون بمــا حصــل لهــم مــن التوحيــد والعدل؛ لنــه يكون ناقص ـًا بالنســبة إلى مقصــود‬
‫المامة‪ ،‬فيستحقون العذاب‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫كيعف‪ ..‬وهـم يسـلّمون أن مقصـود المامـة فـي الفروع الشرعيـة‪ ،‬وأمـا الصـول العقليـة فل يُحتاج‬
‫فيهـا إلى المام‪ ،‬وتلك هـي أهـم وأشرف! ثـم بعـد هذا كله‪ ،‬فقولكـم فـي المامـة مـن أبعـد القوال عـن‬
‫الصـواب‪ ،‬ولو لم يكـن فيـه إل أنكـم أوجبتـم المامـة لمـا فيهـا مـن مصـلحة الخلق فـي دينهـم ودنياهـم‪،‬‬
‫وإمامكم صاحب الوقت‪ ،‬لم يحصل لكم من جهته مصلحة ل في الدين ول في الدنيا‪.‬‬
‫فأي ســعي أضــل مــن ســعي مــن يتعــب التعــب الطويــل‪ ،‬ويكثــر القال والقيــل‪ ،‬ويفارق جماعــة‬
‫المسـلمين‪ ،‬ويلعـن السـابقين والتابعيـن‪ ،‬ويعاون الكفار والمنافقيـن‪ ،‬ويحتال بأنواع الحيـل‪ ،‬ويسـلك مـا‬
‫أمكنـه مـن السـبل‪ ،‬ويعتضـد بشهود الزور‪ ،‬ويُدلى أتباعـه بحبـل الغرور‪ ،‬ويفعـل مـا يطول وصـفه‪،‬‬
‫ومقصـوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمـر ال ونهيـه‪ ،‬ويعرّفـه مـا يقربـه إلى ال تعالى؟! ثـم إنـه‬
‫لمــا علم اســم ذلك المام ونســبه‪ ،‬لم يظفــر بشيــء مــن مطلوبــه‪ ،‬ول وصــل إليــه شيــء مــن تعليمــه‬
‫وإرشاده‪ ،‬ول أمره ول نهيـه‪ ،‬ول حصـل له مـن جهتـه منفعـة ول مصـلحة أصـلً‪ ،‬إل إذهاب نفسـه‬
‫وماله‪ ،‬وقطـع السـفار‪ ،‬وطول النتظار بالليـل والنهار‪ ،‬ومعاداة الجمهور لداخـل فـي سـرداب‪ ،‬ليـس‬
‫له عمل ول خطاب‪.‬‬
‫ولو كان موجودًا بيقيـن‪ ،‬لمـا حصـل بـه منفعـة لهؤلء المسـاكين‪ ،‬فكيـف وعقلء الناس يعلمون أنـه‬
‫ليس معهم إل الفلس‪ ،‬وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم ُيعْقِ بَ‪ ،‬كما ذكر ذلك محمد بن‬
‫جرير الطبري‪ ،‬وعبد الباقي بن قانع‪ ،‬وغيرهما من أهل العلم بالنسب؟!‬
‫وهم يقولون‪ :‬إنه دخل السرداب بعد موت أبيه وعمره إما سنتان‪ ،‬وإما ثلث‪ ،‬وإما خمس‪ ..‬وإما‬
‫نحو ذلك‪ ،‬ومثل هذا بنص القرآن يتيم‪ ،‬يجب أن يُحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد‪ ،‬ويحضنه من‬
‫يستحق حضانته من قرابته‪ ،‬فإذا صار له سبع سنين أمر بالطهارة والصلة‪.‬‬
‫فمـن ل توضـأ ول صـلى‪ ،‬وهـو تحـت حجـر وليـه فـي نفسـه وماله بنـص القرآن‪ ،‬لو كان موجودًا‬
‫يشهده العيان‪ ،‬فمـا جاز أن يكون هـو إمام أهـل اليمان‪ ،‬فكيـف إذا كان معدومًا أو مفقودًا مـع طول‬
‫هذه الغيبة؟!‬
‫والمرأة إذا غاب وليها‪ ،‬زوّجها الحاكم أو الولي الحاضر‪ ،‬لئل تفوت مصلحة المرأة بغيبة الولي‬
‫المعلوم الموجود‪ ،‬فكيف تضيع مصلحة المامة مع طول هذه المدة مع هذا المام المفقود؟!‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪ :‬لما بعث ال محمدًا صلى ال عليه وسلم قام بثقل الرسالة‪ ،‬ونص على أن الخليفة‬
‫بعده علي بـن أبـي طالب عليـه السـلم‪ ،‬ثـم مـن بعده على ولده الحسـن الزكـي‪ ،‬ثـم على ولده الحسـين‬
‫الشهيـد‪ ،‬ثـم على علي بـن الحسـين زيـن العابديـن‪ ،‬ثـم على محمـد بـن علي الباقـر‪ ،‬ثـم على جعفـر بـن‬
‫محمد الصادق‪ ،‬ثم على موسى بن جعفر الكاظم‪ ،‬ثم على عليّ بن موسى الرضا‪ ،‬ثم على محمد بن‬
‫علي الجواد‪ ،‬ثـم على علي بـن محمـد الهادي‪ ،‬ثـم على الحسـن بـن علي العسـكري‪ ،‬ثـم على الخلف‬
‫الحجة محمد بن الحسن المهدي‪ ،‬عليهم الصلة والسلم‪ ،‬وأن النبي صلى ال عليه وسلم لم يمت إل‬
‫عن وصية بالمامة‪ ،‬وقال‪ :‬وأهل السنّة ذهبوا إلى خلف ذلك كله‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأما قوله عن أهل السنّة‪ :‬إنهم يقولون‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد‪،‬‬
‫وأنه مات عن غير وصية‪.‬‬
‫فالجواب أن يقال‪ :‬ليـس هذا قول جميعهم‪ ،‬بل قد ذهبت طوائف من أهل السنّة إلى أن إمامة أبي‬
‫بكر ثبتت بالنص‪ ،‬والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره من الئمة‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره في ذلك روايتين عن المام أحمد‪:‬‬
‫إحداهما‪ :‬أنها ثبتت بالخبار‪ ،‬قال‪ :‬وبهذا قال جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والشعرية وهذا‬
‫اختيار القاضي أبي يعلى وغيره‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬أنها ثبتت بالنص الخفي والشارة‪ ،‬قال‪ :‬وبهذا قال الحسن البصري‪ ،‬وجماعة من أهل‬
‫الحديث‪ ،‬وبكر ابن أخت عبد الواحد‪ ،‬والبيهسية من الخوارج‪.‬‬
‫وقال شيخه أبو عبد ال ابن حامد‪ :‬فأما الدليل على استحقاق أبي بكر الخلفة دون غيره من أهل‬
‫البيـت والصـحابة فمـن كتاب ال وسـنّة نـبيه‪ ،‬قال‪ :‬وقـد اختلف أصـحابنا فـي الخلفـة هـل أخذت مـن‬
‫حيث النص أو الستدلل؟ فذهب طائفة من أصحابنا إلى أن ذلك بالنص‪ ،‬وأنه صلى ال عليه وسلم‬
‫ذكر ذلك نصًا‪ ،‬وقطع البيان على عينه حتمًا‪ ،‬ومن أصحابنا من قال‪ :‬إن ذلك بالستدلل الجلي‪.‬‬
‫قال ابن حامد‪ :‬والدليل على إثبات ذلك بالنص أخبار‪ ،‬من ذلك‪ :‬ما أسنده البخاري‪ ،‬عن جبير بن‬
‫مطعم قال‪( :‬أتت امرأة إلى النبي صلى ال عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه‪ ،‬قالت‪ :‬أرأيت إن جئت‬
‫فلم أجدك‪ ،‬كأنهـا تريـد الموت‪ ،‬قال‪ :‬إن لم تجدينـي فأتـي أبـا بكـر)(‪ )1‬وذكـر له سـياقًا آخـر وأحاديـث‬
‫أُخر‪ .‬قال‪ :‬وذلك نص على إمامته‪.‬‬
‫قال‪ :‬وحديث سفيان‪ ،‬عن عبد الملك بن عمير‪ ،‬عن ربعي‪ ،‬عن حذيفة بن اليمان‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬اقتدوا باللذين من بعدي‪ :‬أبي بكر وعمر)(‪.)2‬‬
‫وأسند البخاري‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬بينا أنا نائم‬
‫رأيتني على قليب عليها دلو‪ ،‬فنزعت منها ما شاء ال‪ ،‬ثم أخذها ابن أبي قحافة‪ ،‬فنزع منها ذنوبًا أو‬
‫ذنوبين وفي نزعه ضعـف وال يغفر له ضعفه‪ ،‬ثم استحالت غربًا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر‬
‫عبقريًا من الناس ينزع نزع عمر‪ ،‬حتى ضرب الناس بعطن)(‪ )3‬قال‪ :‬وذلك نص في المامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ويدل عليـه مـا أخبرنـا أبـو بكـر بـن مالك‪ ،‬وروى عـن مسـند أحمـد‪ ،‬عـن حماد بـن سـلمة‪ ،‬عـن‬
‫علي بـن زيـد بـن جدعان‪ ،‬عـن عبـد الرحمـن بـن أبـي بكرة‪ ،‬عـن أبيـه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال‬
‫عليه وسلم يومًا‪( :‬أيكم رأى رؤيا فقلت‪ :‬أنا رأيت يا رسول ال كأن ميزانًا دلي من السماء‪ ،‬فوزنت‬
‫بأبـي بكـر فرجحـت بأبـي بكـر‪ ،‬ثـم وزن أبـو بكـر بعمـر فرجـح أبـو بكـر بعمـر‪ ،‬ثـم وزن عمـر بعثمان‬
‫فرجـح عمـر بعثمان‪ ،‬ثـم رفـع الميزان‪ ،‬فقال النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬خلفـة نبوه‪ ،‬ثـم يؤتـي ال‬
‫الملك لمن يشاء)(‪.)4‬‬
‫قال‪ :‬وأسـند أبـو داود‪ ،‬عـن جابر النصـاري‪ ،‬قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬رأى‬
‫الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول ال‪ ،‬ونيط عمر بأبي بكر‪ ،‬ونيط عثمان بعمر‪ ،‬قال جابر‪:‬‬
‫فلما قمنا من عند رسول ال صلى ال عليه وسلم قلنا‪ :‬أما الصالح فرسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولة هذا المر الذي بعث ال به نبيه)‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن ذلك حديث صالح بن كيسان‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬عن عروة‪ ،‬عن عائشة ‪-‬رضي ال عنها‪-‬‬
‫ي رسول ال صلى ال عليه وسلم اليوم الذي بدئ فيه‪ ،‬فقال‪ :‬ادعي لي أباك وأخاك‪،‬‬ ‫قالت‪( :‬دخل عل ّ‬
‫حتـى أكتـب لبـي بكـر كتابًا‪ ،‬ثـم قال‪ :‬يأبـى ال والمسـلمون إل أبـا بكـر‪ ،‬وفـي لفـظ‪ :‬فل يطمـع فـي هذا‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ )5/5‬ومواضع أخر‪ ،‬ومسلم (‪.)4/1856‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحد (‪ ،)5/382‬والترمذي (‪.)5/271‬‬
‫‪ )(3‬البخاري (‪ )5/6‬ومواضع أُخر ومسلم (‪.)4/1860‬‬
‫‪ ))(4‬أبو داود (‪ ،)4/289‬والترمذي (‪.)3/368‬‬

‫‪34‬‬
‫المر طامع)(‪.)1‬‬
‫وهذا الحديـث فـي الصـحيحين‪ ،‬ورواه مـن طريـق أبـي داود الطيالسـي‪ ،‬عـن ابـن أبـي مليكـة‪ ،‬عـن‬
‫عائشـة‪ ،‬قالت‪( :‬لمـا ثقـل رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم قال‪ :‬ادعـي لي عبـد الرحمـن بـن أبـي بكـر‬
‫لكتـب لبـي بكـر كتابًا‪ ،‬ل يختلف عليـه‪ ،‬ثـم قال‪ :‬معاذ ال أن يختلف المؤمنون فـي أبـي بكـر) وذكـر‬
‫أحاديث تقديمه في الصلة‪ ،‬وأحاديث أُخر لم أذكرها لكونها ليست مما يثبته أهل الحديث‪.‬‬
‫وقال أبـو محمـد بـن حزم فـي كتابـه الملل والنحـل‪ :‬اختلف الناس فـي المامـة بعـد رسـول ال صـلى‬
‫ال عليــه وســلم‪ ،‬فقالت طائفــة‪ :‬إن النــبي صــلى ال عليــه وســلم لم يســتخلف أحدًا‪ ،‬ثــم اختلفوا‪ ،‬فقال‬
‫ل على أنـه أولهـم بالمامـة والخلفـة‬ ‫بعضهـم‪ :‬لكـن لمـا اسـتخلف أبـا بكـر على الصـلة كان ذلك دلي ً‬
‫على المـر‪ ،‬وقال بعضهـم‪ :‬ل ولكـن كان أثبتهـم فضلً‪ ،‬فقدموه لذلك‪ ،‬وقالت طائفـة‪ :‬بـل نـص رسـول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم على استخلف أبي بكر بعده‪ ،‬على أمور الناس نصًا جليًا‪.‬‬
‫قال أبــو محمــد‪ :‬وبهذا نقول لبراهيــن‪ :‬أحدهــا‪ :‬إطباق الناس كلهــم‪ ،‬وهــم الذيــن قال ال فيهــم‪:‬‬
‫ضوَانًعا‬
‫ل مِن عَ الِع و َ ِر ْ‬
‫خرِجُوا مِن عْ ِديَارِهِم ْع وََأ ْموَالَهُعم َي ْبتَغُون عَ َفضْ ً‬
‫جرِين عَ الّذِين عَ أُ ْ‬
‫((للفقراءِ ا ْل ُمهَا ِ‬
‫صرُونَ ال َو َرسُو َلهُ أُو َلئِكَ هُم الصّا ِدقُون))[الحشر‪.]8:‬‬ ‫َويَ ْن ُ‬
‫فقد اتفق هؤلء الذين شهد ال لهم بالصدق‪ ،‬وجميع إخوانهم من النصار رضي ال عنهم على‬
‫أن سموه خليفة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ومعنى الخليفة في اللغة‪ :‬هو الذي يستخلفه المرء‪ ،‬ل الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو‪ ،‬ل يجوز‬
‫غيـر هذا ألبتـة فـي اللغـة بل خلف‪ ،‬يقال‪ :‬اسـتخلف فلن فلنًا يسـتخلفه فهـو خليفتـه ومسـتخلفه‪ ،‬فإن‬
‫قام مكانه دون أن يستخلفه لم يقل‪ .‬إل خلف فلن فلنًا يخلفه فهو خالف‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومحال أن يعنوا بذلك الستخلف على الصلة‪ ،‬لوجهين ضروريين‪:‬‬
‫(أحدهمعا)‪ :‬أنـه لم يسـتحق أبـو بكـر قـط هذا السـم على الطلق فـي حياة النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم‪ ،‬وهـو حينئذٍ خليفتـه على الصـلة‪ ،‬فصـح يقينًا أن خلفتـه المسـمى بهـا هـي غيـر خلفتـه على‬
‫الصلة‪.‬‬
‫(والثاني)‪ :‬أن كل من استخلفه رسول ال صلى ال عليه وسلم في حياته‪ ،‬كعليّ في غزوة تبوك‪،‬‬
‫وابن أم مكتوم في غزوة الخندق‪ ،‬وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع‪ ،‬وسائر من استخلفه على‬
‫البلد باليمن‪ ،‬والبحرين‪ ،‬والطائف‪ ،‬وغيرها‪ ،‬لم يستحق أحد منهم بل خلف بين أحد من الئمة أن‬
‫يسمى خليفة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ -‬فصح يقينًا بالضرورة التي ل محيد عنها أنها الخلفة‬
‫بعده على أمته‪.‬‬
‫ومـن المحال أن يجمعوا على ذلك‪ ،‬وهـو لم يسـتخلفه نصـًا‪ ،‬ولو لم يكـن هاهنـا إل اسـتخلفه فـي‬
‫الصلة‪ ،‬لم يكن أبو بكر أولى بهذا السم من سائر من ذكرناه‪ ،‬قال‪ :‬وأيضًا فإن الرواية قد صحت‬
‫أن امرأة قالت‪( :‬يــا رســول ال‪ ،‬أرأيــت إن رجعــت فلم أجدك ‪-‬كأنهــا تعنــي الموت‪ -‬قال‪ :‬فأتــي أبــا‬
‫بكر)(‪ )2‬قال‪ :‬وهذا نص جلي على استخلف أبي بكر‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأيضًا فإن الخـبر قـد جاء مـن الطرق الثابتـة أن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم قال لعائشـة‬
‫فـي مرضـه الذي توفـي فيـه‪( :‬لقـد هممـت أن أبعـث إلى أبيـك وأخيـك وأكتـب كتابًا وأعهـد عهدًا لكيل‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )7/119‬ومسلم (‪.)4/1857‬‬


‫‪ )(2‬تقدم تريه قريبًا‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫يقول قائل‪ :‬أنا أحق‪ ،‬أو يتمنى متمنٍ‪ ،‬ويأبى ال ورسوله والمؤمنون إل أبا بكر)(‪.)1‬‬
‫وروي أيضاً‪-‬ويأبـى ال والنـبيون إل أبـا بكـر‪ -‬قال‪ :‬فهذا نـص جلي على اسـتخلفه صـلى ال عليـه‬
‫وسلم – أبا بكر على ولية المة بعده‪.‬‬
‫قال‪ :‬واحتج من قال‪" :‬لم يستخلف" بالخبر المأثور عن عبد ال بن عمر‪ ،‬عن عمر‪ ،‬أنه قال‪ :‬إن‬
‫أسـتخلف فقـد اسـتخلف مـن هـو خيـر منـي –يعنـي‪ :‬أبـا بكـر‪ -‬وإل أسـتخلف فلم يسـتخلف مـن هـو خيـر‬
‫مني ‪-‬يعني رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .)2(-‬وبما روي عن عائشة رضي ال عنها‪ ،‬أنها سئلت‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫من كان رسول ال صلى ال عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟‬
‫قال‪ :‬ومن المحال أن يعارض إجماع الصحابة الذي ذكرنا عنهم‪ ،‬والثران الصحيحان المسندان‬
‫إلى رسـول ال صــلى تعالى ال عليـه وســلم مــن لفظــه بمثـل هذيـن الثريــن الموقوفيـن على عمــر‬
‫وعائشـة‪ ،‬ممـا ل تقوم بـه حجـة ظاهرة‪ ،‬مـع أن هذا الثـر خفـي على عمـر‪ ،‬كمـا خفـي عليـه كثيـر مـن‬
‫أمـر رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬كالسـتئذان وغيره‪ ،‬وأنـه أراد اسـتخلفًا بعهـد مكتوب‪ ،‬ونحـن‬
‫نقر أن استخلفه لم يكن بعهد مكتوب‪ ،‬وأما الخبر في ذلك عن عائشة رضي ال عنها فكذلك أيضًا‪،‬‬
‫وقد يخرج كلهما عن سؤال سائل‪ ،‬وإنما الحجة في روايتهما ل في قولهما‪.‬‬
‫(قلت)‪ :‬الكلم فـي تثـبيت خلفـة أبـي بكـر و غيره مبسـوط فـي غيـر هذا الموضـع‪ ،‬وإنمـا المقصـود‬
‫هنــا‪ :‬البيان لكلم الناس فــي خلفتــه‪ ،‬هــل حصــل عليهــا نــص خفــي أو جلي؟ وهــل تثبــت بذلك أو‬
‫بالختيار مـن أهـل الحـل والعقـد؟ فقـد تـبين أن كثيرًا مـن السـلف والخلف قالوا فيهـا بالنـص الجلي أو‬
‫الخفـي‪ ،‬وحينئذٍ فقـد بطـل قدح الرافضـي فـي أهـل السـنة بقوله‪ :‬إنهـم يقولون‪ :‬إن النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسلم لم ينص على إمامة أحد‪ ،‬وأنه مات عن غير وصية‪.‬‬
‫وكذلك أن هذا القول لم يقله جميعهـم‪ ،‬فإن كان حقـا فقـد قاله بعضهـم‪ ،‬وإن كان الحـق هـو نقيضـه‬
‫فقد قال بعضهم ذلك‪ ،‬فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنّة‪.‬‬
‫وأيضًا فلو قدر أن القول بالنـص هـو الحـق لم يكـن فـي ذلك حجـة للشيعـة‪ ،‬فإن الراونديـة تقول‬
‫بالنص على العباس كما قالوا هم بالنص على علي‪.‬‬
‫قال القاضـي أبـو يعلى وغيره‪ :‬واختلفـت الراونديـة‪ ،‬فذهـب جماعـة منهـم إلى أن النـبي صـلى ال‬
‫عليـه وسـلم نـص على العباس بعينـه واسـمه‪ ،‬وأعلن ذلك وكشفـه وصـرح بـه‪ ،‬وأن المـة جحدت هذا‬
‫النـص وارتدت وخالفـت أمـر الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم عنادا‪ ،‬ومنهـم مـن قال‪ :‬إن النـص على‬
‫العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬يعني‪ :‬هو نص خفي‪.‬‬
‫فهذان قولن للراونديـة‪ ،‬كالقوليـن للشيعـة‪ ،‬فإن الماميـة تقول‪ :‬إنـه نـص علي بـن أبـي طالب مـن‬
‫طريق التصريح والتسمية بأن هذا هو المام من بعدي‪ ،‬فاسمعوا له وأطيعوا‪ ،‬والزيدية تخالفهم في‬
‫هذا‪.‬‬
‫ثـم مـن الزيديـة مـن يقول‪ :‬إنمـا نـص عليـه بقوله‪ :‬مـن كنـت موله فعليّـ موله‪ ،‬وأنـت منـي بمنزلة‬
‫هارون مــن موســى‪ ،‬وأمثال ذلك مــن النــص الخفــي الذي يحتاج إلى تأمــل لمعناه‪ ،‬وحكــي عــن‬
‫الجارودية من الزيدية‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم نص على عل يّ بصفة لم توجد إل فيه‪ ،‬ل من‬
‫جهة التسمية‪ ،‬فدعوى الراوندية في النص من جنس دعوى الرافضة‪ ،‬وقد ذكر في المامية أقوال‬
‫‪ )(1‬تقدم قريبًا‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري (‪ )9/83‬ومسلم (‪.)3/1454‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪.)4/1856‬‬

‫‪36‬‬
‫أخرى‪.‬‬
‫والمقصـود هنـا أن أقوال الرافضـة معارضـة بنظيرهـا‪ ،‬فإن دعواهـم النـص على عليّـ كدعوى‬
‫أولئك النـص على العباس‪ ،‬وكل القوليـن ممـا يعلم فسـاده بالضطرار‪ ،‬ولم يقـل أحـد مـن أهـل العلم‬
‫شيئًا من هذين القولين‪ ،‬وإنما ابتدعهما أهل الكذب كما سيأتي إن شاء ال تعالى بيانه‪ ،‬ولهذا لم يكن‬
‫أهـل الديـن مـن ولد العباس وعلي يدّعون هذا ول هذا‪ ،‬بخلف النـص على أبـي بكـر فإن القائليـن بـه‬
‫طائفة من أهل العلم‪.‬‬
‫والمقصـود هنـا أن كثيرًا مـن أهـل السـنّة يقولون‪ :‬إن خلفتـه ثبتـت بالنـص‪ ،‬وهـم يسـندون ذلك إلى‬
‫أحاديـث معروفـة صـحيحة‪ ،‬ول ريــب أن قول هؤلء أوجـه مــن قول مـن يقول‪ :‬إن خلفـة علي أو‬
‫العباس ثبتت بالنص‪.‬‬
‫فإن هؤلء ليس معهم إل مجرد الكذب والبهتان الذي يعلم بطلنه بالضرورة كل من كان عارفًا‬
‫بأحوال السلم‪ ،‬أو استدلل بألفاظ ل تدل على ذلك‪ ،‬كحديث استخلفه في غزوة تبوك‪ ،‬ونحوه مما‬
‫سنتكلم عليه إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫فيقال لهذا‪ :‬إن وجـب أن يكون الخليفـة منصـوصًا عليـه‪ ،‬كان القول بهذا النـص أولى مـن القول‬
‫بذلك‪ ،‬وإن لم يجب هذا بطل ذاك‪.‬‬
‫والتحقيـق أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم دل المسـلمين على اسـتخلف أبـي بكـر وأرشدهـم إليـه‬
‫بأمور متعددة مـن أقواله وأفعاله‪ ،‬وأخـبر بخلفتـه أخبار راض بذلك حامدًا له‪ ،‬وعزم على أن يكتـب‬
‫بذلك عهدًا‪ ،‬ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفا ًء بذلك‪.‬‬
‫ثـم عزم على ذلك فـي مرضـه يوم الخميـس‪ ،‬ثـم لمـا حصـل لبعضهـم شـك هـل ذلك القول مـن جهـة‬
‫المرض‪ ،‬أو هو قول يجب اتباعه‪ ،‬فترك الكتابة اكتفاء بما علم أن ال يختاره والمؤمنون من خلفة‬
‫أبي بكر رضي ال عنه‪ ،‬فلو كان التعيين مما يشتبه على المة لبينه رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بيانًا قاطعًا للعذر‪ ،‬لكـن لمـا دلهـم دللت متعددة على أن أبـا بكـر هـو المتعيـن وفهموا ذلك حصـل‬
‫المقصود‪.‬‬
‫ولهذا قال عمـر بـن الخطاب فـي خطبته التـي خطبهـا بمحضـر من المهاجريـن والنصار‪( :‬وليـس‬
‫فيكم من تقطع إليه العناق مثل أبي بكر) رواه البخاري ومسلم(‪ .)1‬وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه‬
‫قال يوم السـقيفة بمحضـر مـن المهاجريـن والنصـار‪( :‬أنـت خيرنـا وسـيدنا‪ ،‬وأحبنـا إلى رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم)(‪ - )2‬ولم ينكر ذلك منهم منكر‪ ،‬ول قال أحد من الصحابة‪ :‬إن غير أبي بكر من‬
‫المهاجرين أحق بالخلفة منه‪ ،‬ولم ينازع أحد في خلفته إل بعض النصار طمعًا في أن يكون من‬
‫النصار أمير ومن المهاجرين أمير‪ ،‬وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم بطلنه‪.‬‬
‫ثم النصار جميعهم بايعوا أبا بكر إل سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولية‪ ،‬ولم يقل‬
‫قـط أحـد مـن الصـحابة‪ :‬إن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم نـص على غيـر أبـي بكـر ل على العباس ول‬
‫على علي‪ ،‬ول غيرهمـا‪ ،‬ول ادعـى العباس ول علي –ول أحد ممـن يحبهما –الخلفـة لواح ٍد منهمـا‪،‬‬
‫ول أنه منصوص عليه‪ ،‬بل ول قال أحد من الصحابة‪ :‬إن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر‪،‬‬
‫ل مــن بنــي هاشـم ول مــن غيــر بنـي هاشــم‪ ،‬وهذا كله ممـا يعلمــه العلماء العالمون بالثار والسـنن‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )8/169‬ومواضع أُخر ومسلم (‪.)3/1317‬‬
‫‪ )(2‬البخارى (‪.)5/7‬‬

‫‪37‬‬
‫والحديث‪ ،‬وهو معلوم عندهم بالضطرار‪.‬‬
‫فخلفـة أبـي بكـر الصـديق دلت النصـوص الصـحيحة على صـحتها وثبوتهـا‪ ،‬ورضـا ال ورسـول‬
‫ال صـلى ال عليـه وسـلم له بهـا‪ ،‬وانعقدت بمبايعـة المسـلمين له‪ ،‬واختيارهـم إياه‪ ،‬اختيارًا أسـندوا فيـه‬
‫إلى ما علموه من تفضيل ال ورسوله‪ ،‬وأنه أحقهم بهذا المر عند ال ورسوله‪.‬‬
‫فصـارت ثابتـة بالنـص والجماع جميعًا‪ ،‬لكـن النـص دل على رضـا ال ورسـوله بهـا وأنهـا حـق‪،‬‬
‫وأن ال أمـر بهـا وقدرهـا‪ ،‬وأن المؤمنيـن يختارونهـا‪ ،‬وكان هذا أبلغ مـن مجرد العهـد بهـا؛ لنـه حينئذٍ‬
‫كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد‪.‬‬
‫وأمـا إذا كان المسـلمون قـد اختاروه مـن غيـر عهـد ودلت النصـوص على صـوابهم فيمـا فعلوه‪،‬‬
‫ل على أن الصـديق كان فيـه مـن الفضائل التـي بان بهـا عـن‬ ‫ورضـا ال ورسـوله بذلك‪ ،‬كان ذلك دلي ً‬
‫غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلفة‪ ،‬فإن ذلك ل يحتاج فيه إلى عهدٍ خاص‪ ،‬كما قال النبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم لمـا أراد أن يكتـب لبـي بكـر فقال لعائشـة‪( :‬ادعـي لي أباك وأخاك حتـى أكتـب‬
‫لبــي بكــر كتابًا فإنــي أخاف أن يتمنــى متمنـٍ‪ ،‬ويقول قائل أنــا أولى‪ ،‬ويأبــى ال والمؤمنون إل أبــا‬
‫بكر)(‪ )1‬أخرجاه في الصحيحين‪ ،‬وفي البخاري‪( :‬لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه‪ ،‬وأعهد أن‬
‫يقول القائلون‪ ،‬أو يتمنى المتمنون‪ ،‬ويدفع ال ويأبى المؤمنون)(‪ )2‬فبين صلى ال عليه وسلم أنه يريد‬
‫أن يكتب كتابًا خوفًا‪ ،‬ثم علم أن المر واضح ظاهر‪ ،‬ليس مما يقبل النزاع فيه‪ ،‬والمة حديثة عهد‬
‫بنبيهــا‪ ،‬وهــم خيــر أمــة أخرجــت للناس‪ ،‬وأفضــل قرون هذه المــة‪ ،‬فل يتنازعون فــي هذا المــر‬
‫الواضح الجلي‪.‬‬
‫فإن النزاع إنمـا يكون لخفاء العلم أو لسـوء القصـد‪ ،‬وكل المريـن منتفـٍ‪ ،‬فإن العلم بفضيلة أبـي‬
‫بكـر جلي‪ ،‬وسـوء القصـد ل يقـع مـن جمهور المـة الذيـن هـم أفضـل القرون‪ ،‬ولهذا قال‪( :‬يأبـى ال‬
‫والمؤمنون إل أبا بكر) فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبى بكر الصديق واستخلفه لهذا المر‬
‫يغني عن العهد‪ ،‬فل يحتاج إليه‪ ،‬فتركه لعدم الحاجة وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه‪ ،‬وهذا أبلغ‬
‫من العهد‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأمعا قول الرافضعي‪ :‬إنهـم يقولون‪ :‬المام بعـد رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم أبـو بكـر بمبايعـة‬
‫عمر‪ ،‬برضا أربعة‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬ليــس هذا قول أئمــة السـنّة‪ ،‬وإن كان بعــض أهــل الكلم يقول‪ :‬إن المامــة تنعقــد ببيعــة‬
‫أربعـة‪ ،‬كمـا قال بعضهـم‪ :‬تنعقـد ببيعـة اثنيـن‪ ،‬وقال بعضهـم‪ :‬تنعقـد ببيعـة واحـد‪ ،‬فليـس هذه أقوال أئمـة‬
‫السنّة‪ ،‬بل المامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها‪ ،‬ول يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل‬
‫الشوكـة الذيـن يحصـل بطاعتهـم له مقصـود المامـة‪ ،‬فإن المقصـود مـن المامـة إنمـا يحصـل بالقدرة‬
‫والسلطان‪ ،‬فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إمامًا‪ ،‬ولهذا قال أئمة السنّة‪ :‬من صار‬
‫له قدرة وسـلطان يفعـل بهمـا مقصـود الوليـة فهـو مـن أولي المـر الذيـن أمـر ال بطاعتهـم‪ ،‬مـا لم‬
‫يأمروا بمعصــية ال‪ ،‬فالمامــة ملك وســلطان‪ ،‬والملك ل يصــير ملكًا بموافقــة واحــد ول اثنيــن ول‬
‫أربعة‪ ،‬إل أن تكون موافقة غيرهم بحيث يصير ملكًا بذلك‪ ،‬وهكذا كل أمرٍ يفتقر إلى المعاونة عليه‪،‬‬
‫ل يحصـل إل بحصـول مـن يمكنهـم التعاون عليـه‪ ،‬ولهذا لمـا بويـع علي رضـي ال عنـه وصـار معـه‬
‫‪ )(1‬تقدم تريه (ص ‪.)64‬‬
‫‪ )(2‬تقدم أيضا (ص ‪.)63‬‬

‫‪38‬‬
‫شوكة صار إمامًا‪.‬‬
‫وأما قوله‪ :‬ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم‪.‬‬
‫فيقال أيضًا‪ :‬عثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له‪ ،‬وجميع المسلمين بايعوا‬
‫عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد‪.‬‬
‫قال المام أحمــد فــي روايــة حمدان بــن علي‪ :‬مــا كان فــي القوم أوكــد مــن بيعــة عثمان كانــت‬
‫بإجماعهم‪.‬‬
‫فلمـا بايعـه ذوو الشوكـة والقدرة صـار إمامًا‪ ،‬وإل لو قدر أن عبـد الرحمـن بايعـه ولم يبايعـه علي‬
‫ول غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إمامًا‪.‬‬
‫ولكـن عمـر لمـا جعلهـا شورى فـي سـتة‪ :‬عثمان وعلي وطلحـة والزبيـر وسـعد وعبـد الرحمـن بـن‬
‫عوف‪ ،‬ثـم إنـه خرج طلحـة والزبيـر وسـعد باختيارهـم وبقـي عثمان وعلي وعبـد الرحمـن بـن عوف‪،‬‬
‫واتفق الثلثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف ل يتولى ويولى أحد الرجلين‪.‬‬
‫وأقام عبد الرحمن ثلثًا حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم‪ ،‬يشاور السابقين الولين والتابعين‬
‫لهـم بإحسـان‪ ،‬ويشاور أمراء المصـار وكانوا قـد حجوا مـع عمـر ذلك العام‪ ،‬فأشار عليـه المسـلمون‬
‫بولية عثمان‪.‬‬
‫و ذكرهم أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه‪ ،‬ل عن رغبة أعطاهم إياها ول عن رهبة أخافهم بها‪،‬‬
‫ولهذا قال غيـر واحـد مـن السـلف والئمـة كأيوب السـختياني وأحمـد بـن حنبـل والدارقطنـي وغيرهـم‪:‬‬
‫مـن قدم عليًا على عثمان فقـد أزرى بالمهاجريـن والنصـار‪ ،‬وهذا مـن الدلة الدالة على أن عثمان‬
‫أفضل لنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم‪.‬‬
‫وأما قوله‪:‬ثم علي بمبايعة الخلق له‪.‬‬
‫فتخصيصه عليّا بمبايعة الخلق دون أبي بكر وعمر وعثمان كلم ظاهر البطلن‪ ،‬وذلك أنه من‬
‫المعلوم لكـل مـن عرف سـيرة القوم أن اتفاق الخلق ومبايعتهـم لبـي بكـر وعمـر وعثمان أعظـم مـن‬
‫اتفاقهـم على بيعـة علي رضـي ال عنـه وعنهـم أجمعيـن وكـل أحـد يعلم أنهـم اتفقوا على بيعـة عثمان‬
‫أعظم من اتفاقهم على بيعة علي‪ ،‬والذين بايعوا عثمان في أول المر أفضل من الذين بايعوا عليّا‪،‬‬
‫فإنه بايعه علي وعبد الرحمن بن عوف و طلحة والزبير بن العوام وعبد ال بن مسعود والعباس بن‬
‫عبد المطلب وأبي بن كعب وأمثالهم مع سكينة وطمأنينة‪ ،‬وبعد مشاورة المسلمين ثلثة أيام‪ ،‬وأما‬
‫علي رضي ال عنه فإنه بويع عقب قتل عثمان رضي ال عنه‪ ،‬والقلوب مضطربة مختلفة‪ ،‬وأكابر‬
‫الصـحابة متفرقون‪ ،‬وأحضـر طلحـة إحضارًا حتـى قال مـن قال‪ :‬إنهـم جاءوا بـه مكرهًا‪ ،‬وأنـه قال‪:‬‬
‫بايعـت واللج على قفىّ‪ ،‬وكان لهـل الفتنـة بالمدينـة شوكـة لمـا قتلوا عثمان‪ ،‬وماج الناس لقتله موجًا‬
‫عظيمًا‪ ،‬وكثيــر مــن الصــحابة لم يبايــع عليًا كعبــد ال بــن عمــر وأمثاله‪ ،‬وكان الناس معــه ثلثــة‬
‫أصناف‪ ،‬صنف قاتلوا معه‪ ،‬وصنف قاتلوه‪ ،‬وصنف لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه‪ ،‬فكيف يجوز أن يقال‬
‫فـي علي بمبايعـة الخلق له‪ ،‬ول يقال مثـل ذلك فـي مبايعـة الثلثـة ولم يختلف عليهـم أحـد لمـا بايعهـم‬
‫الناس كلهم ل سيما عثمان‪.‬‬
‫وأما أبو بكر رضي ال عنه فتخلف عن بيعته سعد؛ لنهم كانوا قد عينوه للمارة‪ ،‬فبقي في نفسه‬
‫مـا يبقـى فـي نفوس البشـر‪ ،‬ولكـن هـو مـع هذا رضـي ال عنـه لم يعارض‪ ،‬ولم يدفـع حقًا‪ ،‬ول أعان‬
‫على باطل‪.‬‬
‫بـل قـد روى المام أحمـد بـن حنبـل رحمـه ال فـي مسـند الصـديق‪ ،‬عـن عثمان‪ ،‬عـن أبـي معاويـة‪،‬‬

‫‪39‬‬
‫عن داود بن عبد ال الودي‪ ،‬عن حميد بن عبد الرحمن هو الحميري فذكر حديث السقيفة وفيه‪ :‬أن‬
‫الصـديق قال‪( :‬ولقـد علمـت يـا سـعد أن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم قال وأنـت قاعـد‪ :‬قريـش ولة‬
‫هذا المر‪ ،‬فبرّ الناس تبع لبرهم‪ ،‬وفاجرهم تبع لفاجرهم‪ ،‬قال‪ :‬فقال له سعد‪ :‬صدقت! نحن الوزراء‬
‫وأنتم المراء)(‪!)1‬‬
‫فهذا مرسـل حسـن‪ ،‬ولعـل حميدًا أخذه عـن بعـض الصـحابة الذيـن شهدوا بذلك‪ ،‬وفيـه فائدة جليلة‬
‫جدًا وهـي‪ :‬أن سـعد بـن عبادة نزل عـن مقامـه الول فـي دعوى المارة‪ ،‬وأذعـن للصـديق بالمارة‬
‫فرضي ال عنهم أجمعين‪.‬‬
‫فإن قال‪ :‬أردت أن أهل السنّة يقولون‪ :‬إن خلفته انعقدت بمبايعة الخلق له ل بالنص‪.‬‬
‫فل ريـب أن أهـل السـنّة وإن كانوا يقولون‪ :‬إن النـص على أن عليًا مـن الخلفاء الراشديـن لقوله‪:‬‬
‫(خلفـة النبوة ثلثون سـنة) فهـم يروون النصـوص الكثيرة فـي صـحة خلفـة غيره‪ ،‬وهذا أمـر معلوم‬
‫عنــد أهــل الحديــث‪ ،‬يروون فــي صــحة خلفــة الثلثــة نصــوصًا كثيرة بخلف خلفــة علي‪ ،‬فإن‬
‫نصوصها قليلة‪.‬‬
‫فإن الثلثـة اجتمعـت المـة عليهـم‪ ،‬فحصـل بهـم مقصـود المامـة‪ ،‬وقوتـل بهـم الكفار وفتحـت بهـم‬
‫المصار‪ ،‬وخلفة علي لم يقاتل فيها كافر‪ ،‬ول فتح مصر‪ ،‬وإنما كان السيف بين أهل القبلة‪.‬‬
‫وأما النص الذي تدعيه الرافضة فهو كالنص الذي تدعيه الراوندية على العباس‪ ،‬وكلهما معلوم‬
‫الفسـاد بالضرورة عنـد أهـل العلم‪ ،‬ولو لم يكـن فـي إثبات خلفـة علي إل هذا لم تثبـت له إمامـة قـط‪،‬‬
‫كما لم تثبت للعباس إمامة بنظيره‪.‬‬
‫وأما قوله‪ :‬ثم اختلفوا‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬إن المام بعده الحسن‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬إنه معاوية‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أهـل السـنّة لم يتنازعوا فـي هذا‪ ،‬بـل هـم يعلمون أن الحسـن بايعـه أهـل العراق مكان أبيـه‪،‬‬
‫وأهل الشام كانوا مع معاوية قبل ذلك‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ثم ساقوا المامة في بني أمية ثم في بني العباس‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أهـل السـنة ل يقولون‪ :‬إن الواحـد مـن هؤلء كان هـو الذي يجـب أن يولى دون مـن سـواه‪،‬‬
‫ول يقولون‪ :‬أنه تجب طاعته في كل ما يأمر‪.‬‬
‫بـل أهـل السـنة يخـبرون بالواقـع‪ ،‬ويأمرون بالواجـب‪ ،‬فيشهدون بمـا وقـع‪ ،‬ويأمرون بمـا أمـر ال‬
‫ورســوله‪ ،‬فيقولون‪ :‬هؤلء هــم الذيــن تولوا‪ ،‬وكان لهــم ســلطان وقدرة‪ ،‬يقدرون بهــا على مقاصــد‬
‫الوليــة‪ ،‬مــن إقامــة الحدود‪ ،‬وقســم الموال‪ ،‬وتوليــة الوليــة‪ ،‬وجهاد العدوّ‪ ،‬وإقامــة الحــج والعياد‬
‫والجمع‪ ،‬وغير ذلك من مقاصد الولية‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬إن الواحـد مـن هؤلء ونوابهـم وغيرهـم ل يجوز أن يطاع فـي معصـية ال تعالى – بـل‬
‫يشارك فيمـا يفعله مـن طاعـة ال‪ ،‬فيغزى معـه الكفار‪ ،‬ويصـلى معـه الجمعـة والعيدان‪ ،‬ويحـج معـه‪،‬‬
‫ويعاون في إقامة الحدود‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وأمثال ذلك‪.‬‬
‫فيعاونون على البر والتقوى ول يعاونون على الثم والعدوان‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬إنه قد تولى غير هؤلء بالمغرب من بني أمية‪ ،‬ومن بني علي‪.‬‬
‫ومــن المعلوم أن الناس ل يصــلحون إل بولة‪ ،‬وأنــه لو تولى مــن هــو دون هؤلء مــن الملوك‬
‫الظلمة لكان ذلك خيرًا من عدمهم‪ ،‬كما يقال‪ :‬ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بل إمام‪،‬‬
‫ويروى عن علي رضي ال عنه أنه قال‪( :‬ل بد للناس من إمارة‪ ،‬برة كانت أو فاجرة‪ ،‬قيل له‪ :‬هذه‬
‫‪ )(1‬السند (‪ )1/164‬تقيق أحد شاكر‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫البرة قـد عرفناهـا فمـا بال الفاجرة؟ قال‪ :‬يؤمـن بهـا السـبيل‪ ،‬ويقام بهـا الحدود‪ ،‬ويجاهـد بهـا العدوّ‪،‬‬
‫ويقسم بها الفيء) ذكره علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية‪.‬‬
‫وكـل مـن تولى كان خيرًا مـن المعدوم المنتظـر‪ ،‬الذي تقول الرافضـة‪ :‬إنـه الخلف الحجـة‪ ،‬فإن هذا‬
‫لم يحصـل بإمامتـه شيـء مـن المصـلحة‪ ،‬ل فـي الدنيـا ول فـي الديـن أصـلً‪ ،‬ول فائدة فـي إمامتـه إل‬
‫العتقادات الفاسدة‪ ،‬والماني الكاذبة‪ ،‬والفتن بين المة‪ ،‬وانتظار من ل يجيء‪ ،‬فتطوى العمار ولم‬
‫يحصل من فائدة هذه المامة شيء‪.‬‬
‫والناس ل يمكنهم بقاء أيام قليلة بل ولة أمور‪ ،‬بل كانت أمورهم تفسد‪ ،‬فكيف تصلح أمورهم إذا‬
‫لم يكن لهم إمام إل من ل يعرف ول يدري ما يقول‪ ،‬ول يقدر على شيء من أمور المامة‪ ،‬بل هو‬
‫معدوم‪.‬‬
‫وأما آباؤه فلم يكن لهم قدرة وسلطان المامة‪ ،‬بل كان لهل العلم والدين منهم إمامة أمثالهم من‬
‫جنـس الحديـث والفتيـا ونحـو ذلك‪ ،‬لم يكـن لهـم سـلطان لشوكـة‪ ،‬فكانوا عاجزيـن عـن المامـة‪ ،‬سـواء‬
‫كانوا أولى بالولية أو لم يكونوا أولى‪.‬‬
‫فبكـل حال مـا مكنوا ول ولوا‪ ،‬ول كان يحصـل بهـم المطلوب مـن الوليـة لعدم القدرة والسـلطان‪،‬‬
‫ولو أطاعهم المؤمن لم يحصل له بطاعتهم المصالح التي تحصل بطاعة الئمة‪ ،‬من جهاد العداء‪،‬‬
‫وإيصال الحقوق إلى مستحقيها أو بعضهم‪ ،‬وإقامة الحدود‪.‬‬
‫فإن قال القائل‪ :‬إن الواحـد مـن هؤلء أو مـن غيرهـم إمام –أي‪ :‬ذو سـلطان وقدرة‪ -‬يحصـل بهمـا‬
‫مقاصد المامة‪ ،‬كان هذا مكابر للحس‪.‬‬
‫ولو كان ذلك كذلك لم يكن هناك متولٍ يزاحمهم‪ ،‬ول يستبد المر دونهم‪ ،‬وهذا ل يقوله أحد‪ .‬وإن‬
‫قال‪ :‬إنهم أئمة بمعنى أنهم هم الذين يجب أن يولوا‪ ،‬وأن الناس عصوا بترك توليتهم‪.‬‬
‫ل ظلمًا وعدوانًا‪.‬‬
‫فهذا بمنزلة أن يقال‪ :‬فلن كان يستحق أن يولى القضاء‪ ،‬ولكن لم يو ّ‬
‫ومـن المعلوم أن أهـل السـنّة ل ينازعون فـي أنـه كان بعـض أهـل الشوكـة بعـد الخلفاء الربعـة‬
‫يولون شخصـًا وغيره أولى بالوليـة منـه‪ ،‬وقـد كان عمـر بـن عبـد العزيـز يختار أن يولى القاسـم بـن‬
‫محمـد بعده لكنـه لم يطـق ذلك‪ ،‬لن أهـل الشوكـة لم يكونوا موافقيـن على ذلك‪ ،‬وحينئذٍ فأهـل الشوكـة‬
‫الذيـن قدّموا المرجوح وتركوا الراجـح‪ ،‬والذي تولى بقوّتـه وقوة أتباعـه ظلمًا وبغيًا‪ ،‬فيكون إثـم هذه‬
‫الولية على من ترك الواجب مع قدرته على فعله‪ ،‬أو أعان على الظلم‪.‬‬
‫وأما من لم يظلم ول أعان ظالمًا وإنما أعان على البر والتقوى فليس عليه من هذا شيء‪ ،‬ومعلوم‬
‫أن صالحي المؤمنين ل يعاونون الولة إل على البر والتقوى‪ ،‬ل يعاونونهم على الثم والعدوان‪.‬‬
‫وأهعل السعنّة يقولون‪ :‬ينبغـي أن يولى الصـلح للوليـة إذا أمكـن‪ ،‬إمـا وجوبًا عنـد أكثرهـم‪ ،‬وإمـا‬
‫اسـتحبابًا عنـد بعضهـم‪ ،‬وإن مـن عدل عـن الصـلح مـع قدرتـه لهواه فهـو ظالم‪ ،‬ومـن كان عاجزًا عـن‬
‫تولية الصلح مع محبته لذلك فهو معذور‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬مـن تولى فإنـه يسـتعان بـه على طاعـة ال بحسـب المكان‪ ،‬ول يعان إل على طاعـة‬
‫ال‪ ،‬ول يستعان به على معصية ال‪ ،‬ول يعان على معصية ال تعالى‪.‬‬
‫أفليـس قول أهـل السـنّة فـي المامـة خيرًا مـن قول مـن يأمـر بطاعـة معدوم أو عاجـز ل يمكنـه‬
‫العانة المطلوبة من الئمة‪ ،‬ولهذا كانت الرافضة لما عدلت عن مذهب أهل السنّة في معونة أئمة‬
‫المسلمين والستعانة بهم‪ ،‬دخلوا في معاونة الكفار والستعانة بهم‪.‬‬
‫فهم يدعون إلى المام المعصوم‪ ،‬ول يعرف لهم إمام موجود يأتمون به‪ ،‬إل كفور أو ظلوم‪ ،‬فهم‬

‫‪41‬‬
‫كالذي يحيــل بعــض العامــة على أولياء ال رجال الغيــب‪ ،‬ول رجال للغيــب عنده إل أهــل الكذب‬
‫والمكـر‪ ،‬الذيـن يأكلون أموال الناس بالباطـل‪ ،‬ويصـدّون عـن سـبيل ال‪ ،‬أو الجـن أو الشياطيـن الذيـن‬
‫يحصل بهم لبعض الناس أحوال شيطانية‪.‬‬
‫فلو قدر أن ما تدّعيه الرافضة من النص هو حق موجود‪ ،‬وأن الناس لم يولوا المنصوص عليه‬
‫لكانوا قــد تركوا مــن يجــب توليتــه ولولوا غيره‪ ،‬وحينئذ فالمام الذي قام بمقصــود المامــة هــو هذا‬
‫المولى‪ ،‬دون الممنوع المقهور‪.‬‬
‫نعـم‪ ،‬ذاك يسـتحق أن يولى‪ ،‬لكـن مـا ولى‪ ،‬فالثـم على مـن ضيـع حقـه‪ ،‬وعدل عنـه ل على مـن لم‬
‫يضـع حقـه ولم يعتـد‪ .‬وهـم يقولون‪ :‬إن المام وجـب نصـبه؛ لنـه لطـف ومصـلحة للعباد‪ ،‬فإذا كان ال‬
‫ورســوله يعلم أن الناس ل يولون هذا المعيــن إذا أمروا بوليتــه كان أمرهــم بوليــة مــن يولونــه‬
‫وينتفعون بوليته أولى من أمرهم بولية من ل يولونه ول ينتفعون بوليته‪.‬‬
‫كمـا قيـل فـي إمامـة الصـلة والقضاء وغيـر ذلك‪ ،‬فكيـف إذا كان مـا يدعونـه مـن النـص مـن أعظـم‬
‫الكذب والفتراء؟ والنـبي صـلى ال عليـه وسـلم قـد أخـبر أمتـه بمـا سـيكون ومـا يقـع بعده مـن التفرق‪،‬‬
‫فإذا نـص لمتـه على إمامـة شخـص يعلم أنهـم ل يولونـه بـل يعدلون عنـه ويولون غيره –يحصـل لهـم‬
‫بوليتـه مقصـود الولة – وأنـه إذا أفضـت النوبـة إلى المنصـوص حصـل مـن سـفك دماء المـة مـا لم‬
‫يحصل بغير المنصوص‪ ،‬ولم يحصل من مقاصد الولية ما حصل بغير المنصوص‪ ،‬كان الواجب‬
‫العدول عن المنصوص‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬أن وليّـ المـر إذا كان عنده شخصـان‪ ،‬ويعلم أنـه إن ولى أحدهمـا أطيـع وفتـح البلد‪،‬‬
‫وأقام الجهاد‪ ،‬وقهــر العداء‪ ،‬وأنــه إذا ولى الخــر لم يطــع‪ ،‬ولم يفتــح شيئًا مــن البلد‪ ،‬بــل يقــع فــي‬
‫الرعية الفتنة والفساد‪ ،‬كان من المعلوم لكل عاقل أنه ينبغي أن يولي من يعلم أنه إذا وله حصل به‬
‫الخير والمنفعة‪ ،‬ل من إذا وله لم يطع وحصل بينه وبين الرعية الحرب والفتنة‪ .‬فكيف مع علم ال‬
‫ورسـوله بحال وليـة الثلثـة؟ ومـا حصـل فيهـا مـن مصـالح المـة فـي دينهـا ودنياهـا‪ ،‬ل ينـص عليهـا‬
‫وينص على ولية من ل يطاع بل يحارب ويقاتل‪ ،‬حتى ل يمكنه قهر العداء ول إصلح الولياء‪.‬‬
‫ل إن لم يعلم الحال أو ظالمًا مفس ـدًا إن‬ ‫وهــل يكون مــن ينــص على وليــة هذا دون ذاك إل جاه ً‬
‫علم‪ ،‬وال ورسوله بريء من الجهل والظلم‪.‬‬
‫وهم يضيفون إلى ال ورسوله العدول عما فيه مصلحة العباد إلى ما ليس فيه إل الفساد‪.‬‬
‫وإذا قيل‪ :‬إن الفساد حصل من معصيتهم ل من تقصيره‪.‬‬
‫قيعل‪ :‬أفليـس وليـة مـن يطيعونـه فتحصـل المصـلحة أولى مـن وليـة مـن يعصـونه‪ ،‬فل تحصـل‬
‫المصلحة بل المفسدة؟‬
‫ولو كان للرجـل ولد وهناك مؤدبان إذا أسـلمه إلى أحدهمـا تعلم وتأدب‪ ،‬وإذا أسـلمه إلى الخـر فرّ‬
‫وهرب‪ ،‬أفليس إسلمه إلى ذاك أولى؟ ولو قدر أن ذاك أفضل‪ ،‬فأيّ منفعة في فضيلته إذا لم يحصل‬
‫للولد به منفعة لنفوره عنه‪.‬‬
‫ولو خطب المرأة رجلن أحدهما افضل من الخر لكن المرأة تكرهه‪ ،‬وإن تزوجت به لم تطعه‪،‬‬
‫بل تخاصمه وتؤذيه‪ ،‬فل تنتفع به ول ينتفع هو بها‪ ،‬والخر تحبه ويحصل به مقاصد النكاح‪ ،‬أفليس‬
‫تزويجهـا بهذا المفضول أولى باتفاق العقلء؟ ونـص مـن ينـص على تزويجهـا بهذا أولى مـن النـص‬
‫على تزويجها بهذا‪.‬‬
‫فكيـف يضاف إلى ال ورسـوله مـا ل يرضاه إل ظالم أو جاهـل‪ ،‬وهذا ونحوه ممـا يعلم بـه بطلن‬

‫‪42‬‬
‫النـص بتقديـر أن يكون علي هـو الفضـل الحـق بالمارة‪ ،‬لكـن ل يحصـل بوليتـه إل مـا حصـل‪،‬‬
‫وغيره ظالم يحصـل بـه مـا حصـل مـن المصـالح‪ ،‬فكيـف إذا لم يكـن المـر كذلك‪ ،‬ل فـي هذا ول فـي‬
‫هذا‪.‬‬
‫فقول أهـل السـنّة خـبر صـادق وقول حكيـم‪ ،‬وقول الرافضـة خـبر كاذب وقول سـفه‪ ،‬فأهـل السـنّة‬
‫يقولون‪ :‬الميـر والمام والخليفـة ذو السـلطان الموجود الذي له القدرة على عمـل مقصـود الوليـة‪،‬‬
‫كما أن إمام الصلة هو الذي يصلي بالناس‪ ،‬وهم يأتمون به ليس إمام الصلة من يستحق أن يكون‬
‫إمامًا وهـو ل يصـلي بأحـد‪ ،‬لكـن هذا ينبغـي أن يكون إمامًا‪ ،‬والفرق بيـن المام وبيـن مـن ينبغـي أن‬
‫يكون هو المام ل يخفى على الطغام‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬أنــــه يعاون على البر والتقوى دون الثــــم والعدوان‪ ،‬ويطاع فــــي طاعــــة ال دون‬
‫معصيته‪ ،‬ول يخرج عليه بالسيف‪ ،‬وأحاديث النبي صلى ال عليه وسلم إنما تدل على هذا‪.‬‬
‫كما في الصحيحين‪ ،‬عن ابن عباس ‪-‬رضي ال عنهما‪ -‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬من‬
‫رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه‪ ،‬فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرًا فمات‬
‫عليـه إل مات ميتـة جاهليـة)(‪ )1‬فجعـل المحذور هـو الخروج عـن السـلطان ومفارقـة الجماعـة وأمـر‬
‫بالصبر على ما يكره من المير لم يخص بذلك سلطانًا معينًا ول أميرًا معينًا ول جماعة معينة‪.‬‬
‫(قال الرافضي‪ :‬الفصل الثاني في أن مذهب المامية واجب التباع)‬
‫ومضمون مـا ذكره أن الناس اختلفوا بعـد النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فيجـب النظـر فـي الحـق‬
‫واعتماد النصـاف‪ ،‬ومذهـب الماميـة واجـب التباع لربعـة وجوه‪ :‬لنـه أحقهـا‪ ،‬وأصـدقها‪ ،‬ولنهـم‬
‫باينوا جميـع الفرق فـي أصـول العقائد‪ ،‬ولنهـم جازمون بالنجاة لنفسـهم‪ ،‬ولنهـم أخذوا دينهـم عـن‬
‫الئمة المعصومين‪ ،‬وهذا حكاية لفظه‪.‬‬
‫قال الرافضععي‪ :‬إنــه لمــا عمــت البليــة بموت النــبي صــلى ال عليــه وســلم واختلف الناس بعده‪،‬‬
‫وتعددت آراؤهـم بحسـب تعدد أهوائهـم‪ ،‬فبعضهـم طلب المـر لنفسـه بغيـر حـق‪ ،‬وبايعـه أكثـر الناس‬
‫للدنيا‪ ،‬كما اختار عمرو بن سعد ملك الري أياما يسيرة‪ ،‬لما خير بينه وبين قتل الحسين‪ ،‬مع علمه‬
‫بأن من قتله في النار‪ ،‬واختياره ذلك في شعره حيث يقول‪:‬‬
‫أفعكر في أمر على خطعرينِ‬ ‫فوال ما أدري وإني لصعادق‬
‫ي والري منيتي أم أصبعح مأثومًا بقتل حسين‬ ‫أأترك ملك الر ّ‬
‫حجاب وملك الريّ قرة عيني‬ ‫وفي قتله النار التي ليس دونها‬
‫وبعضهـم اشتبـه المـر عليـه‪ ،‬ورأى لطالب الدنيـا مبايعًا‪ ،‬فقلده وبايعـه وقصـّر فـي نظره‪ ،‬فخفـى‬
‫عليــه الحــق‪ ،‬فاســتحق المؤاخذة مــن ال تعالى بإعطاء الحــق لغيــر مســتحقه بســبب إهمال النظــر‪،‬‬
‫وبعضهـم قلد لقصـور فطنتـه‪ ،‬ورأى الجـم الغفيـر فتابعهـم‪ ،‬وتوهـم أن الكثرة تسـتلزم الصـواب‪ ،‬وغفـل‬
‫عبَادِيعَ الشّكُور))[ســبأ‪ ]13:‬وبعضهــم طلب‬ ‫عــن قوله تعالى‪(( :‬وَقَلِيلٌ مَا هُمعْ))[ص‪(( ]24:‬وَقَلِيلُ مِنعْ ِ‬
‫المـر لنفسـه بحـق له وبايعـه القلون الذيـن أعرضوا عـن الدنيـا وزينتهـا‪ ،‬ولم يأخذهـم فـي ال لومـة‬
‫لئم؛ بل أخلصوا ل واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم‪.‬‬
‫وحيث حصل للمسلمين هذه البلية‪ ،‬وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد النصاف‪ ،‬وأن‬
‫علَى الظّا ِلمِين))[هود‪ ]18:‬وإنما‬
‫يقر الحق مستقره‪ ،‬ول يظلم مستحقه‪ ،‬فقد قال تعالى‪(( :‬أَلَ لَ ْع َنةُ الِ َ‬
‫كان مذهب المامية واجب التباع لوجوه هذا لفظه‪.‬‬
‫‪ )(1‬سبق ذكره انظر‪ :‬ص‬

‫‪43‬‬
‫فيقال‪ :‬إنه قد جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف! وهذا من أعظم الكذب‪ ،‬فإنه لم يكن من في‬
‫الصـحابة المعروفيـن أحـد مـن هذه الصـناف الربعـة‪ ،‬فضلً عـن أن ل يكون فيهـم أحـد إل مـن هذه‬
‫الصناف‪.‬‬
‫إما طالب للمر بغير حق كأبي بكر في زعمه‪ ،‬وإما طالب للمر بحق كعلي في زعمه‪.‬‬
‫وهذا كذب على علي رضي ال عنه‪ ،‬وعلى أبي بكر رضي ال عنه‪ ،‬فل علي طلب المر لنفسه‬
‫قبل قتل عثمان‪ ،‬ول أبو بكر طلب المر لنفسه فضلً عن أن يكون طلبه بغير حق‪.‬‬
‫وجعل القسمين الخرين إما مقلدًا لجل الدنيا‪ ،‬وإما مقلدًا لقصوره في النظر‪ ،‬وذلك أن النسان‬
‫يجـب عليـه أن يعرف الحـق وأن يتبعـه‪ ،‬وهـو الصـراط المسـتقيم‪ ،‬صـراط الذيـن أنعـم ال عليهـم مـن‬
‫النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬غير المغضوب عليهم ول الضالين‪.‬‬
‫وهذا هو الصراط الذي أمرنا أن نسأله هدايتنا إياه في كل صلة بل في كل ركعة‪.‬‬
‫وهذه المــة خيــر المــم‪ ،‬وخيرهــا القرن الول‪ ،‬كان القرن الول أكمــل الناس فــي العلم النافــع‪،‬‬
‫والعمل الصالح‪.‬‬
‫وهؤلء المفترون وصــفوهم بنقيــض ذلك‪ ،‬بأنهــم لم يكونوا يعلمون الحــق ويتبعونــه‪ ،‬بــل كان‬
‫أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه‪ ،‬كما يزعمون في الخلفاء الثلثة وجمهور الصحابة والمة‬
‫وكثير منهم عندهم ل يعلم الحق‪ ،‬بل اتبع الظالمين تقليدًا لعدم نظرهم المفضي إلى العلم‪ ،‬والذي لم‬
‫ينظر قد يكون تركه النظر لجل الهوى وطلب الدنيا‪ ،‬وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه‪.‬‬
‫وادعـى أن منهـم مـن طلب المـر لنفسـه بحـق –يعنـي‪ :‬علياً‪ -‬وهذا ممـا علمنـا بالضطرار أنـه لم‬
‫يكن‪ ،‬فلزم من ذلك ‪-‬على قول هؤلء‪ -‬أن تكون المة كلها كانت ضالة بعد نبيها ليس فيها مهتدٍ‪.‬‬
‫فتكون اليهود ولنصارى بعد النسخ والتبديل خيرًا منهم‪ ،‬لنهم كانوا كما قال تعالى‪َ (( :‬ومِ نْ َقوْ مِ‬
‫مُوسعَى ُأ ّم ًة َيهْدُونَع بِالحَقّ وَهُمْع يَ ْعدِلُون))[العراف‪ ]159:‬وقـد أخـبر النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أن‬
‫اليهود والنصارى افترقت على أكثرمن سبعين فرقة‪ ،‬فيها واحدة ناجية‪ ،‬وهذه المة على موجب ما‬
‫ذكروه لم يكـن فيهـم بعـد موت النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أمـة تقوم بالحـق ول تعدل بـه‪ ،‬وإذا لم يكـن‬
‫ذلك في خيار قرونهم ففيما بعد ذلك أولى‪.‬‬
‫فيلزم من ذلك أن يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرًا من خير أمة أخرجت للناس‪،‬‬
‫فهذا لزم لما يقوله هؤلء المفترون‪ ،‬فإذا كان هذا في حكايته لمـا جرى عقب موت النـبي صـلى ال‬
‫عليه وسلم من اختلف المة‪ ،‬فكيف سائر ما ينقله ويستدل به‪ ،‬ونحن نبين ما في هذه الحكاية من‬
‫الكاذيب من وجوه كثيرة‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫مـا ذكره هذا المفتري مـن قوله‪ :‬إنـه لمـا عمـت البليـة على كافـة المسـلمين بموت النـبي صـلى ال‬
‫عليه وسلم واختلف الناس بعده‪ ،‬وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم‪ ،‬فبعضهم طلب المر لنفسه‪،‬‬
‫وتابعـه أكثـر الناس طلبًا للدنيـا‪ ،‬كمـا اختار عمـر بـن سـعد ملك الري أيامًا يسـيرة لمـا خيـر بينـه وبيـن‬
‫قتل الحسين‪ ،‬مع علمه بأن في قتله النار واختياره ذلك في شعره‪.‬‬
‫فيقال في هذا الكلم من الكذب والباطل وذم خيار المة بغير حق ما ل يخفى من وجوه‪:‬‬
‫(أحدهمعا)‪ :‬قوله‪ :‬تعددت آراؤهـم بحسـب تعدد أهوائهـم‪ ،‬فيكون كلهـم متبعيـن أهوائهـم‪ ،‬ليـس فيهـم‬
‫طالب حق‪ ،‬ول مريد لوجه ال تعالى والدار الخرة‪ ،‬ول من كان قوله عن اجتهاد واستدلل‪.‬‬
‫وعموم لفظــه يشمــل عليًـا وغيره‪ ،‬وهؤلء الذيــن وصــفهم بهذا هــم الذيــن أثنــى ال عليهــم هــو‬
‫ورســوله‪ ،‬و رضــي ال عنهــم ووعدهــم الحســنى‪ ،‬كمــا قال تعالى‪(( :‬وَالسععّابِقُونَ ا َلوّلُونعَع مِنععَ‬

‫‪44‬‬
‫جرِي‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جنّا ٍ‬‫عنْهُ وََأعَدّ َلهُمْ َ‬
‫ن وَا َلنْصَار الّذِينَ ا ّتبَعُوهُم بِِإحْسَان رضي ال عنهم َورَضُوا َ‬ ‫ال ُمهَاجِري َ‬
‫حمّ ٌد رَسعُولُ الِ‬ ‫تَحْتهععا ا َل ْنهَار خَاِلدِينعَ فِيهَا َأبَدًا َذلِكعَ ال َف ْوزُ ال َعظِيععم))[التوبــة‪ ]100:‬وقال تعالى‪(( :‬مُ َ‬
‫ضوَانًا‬ ‫ل مِنَع الِ َورِ ْ‬ ‫حمَا َء َب ْينَهُمْع َترَاهُمْع رُكّعًا سُعجّدًا يَ ْبتَغُونَع َفضْ ً‬ ‫وَالّذِينَع مَعَهُع َأشِدّاءَ عَلَى الكُفّارِ رُ َ‬
‫خرَجَع‬ ‫سعِيمَاهُم فعي وُجُوهِهِم مِنْع َأ َثرِ السّعجُودْ ذَلِكَع َمثَُلهُمْع فعي ال ّت ْورَاةِ‪َ ،‬و َمثَُلهُمْع فعي ا ِلنْجِيعل َك َزرْعٍع أَ ْ‬
‫شَطْأَهُع فآ َزرَهُع فَاسْعتَغَْلظَ فَاسْعَتوَى عَلَى سعُوقِ ِه يُعْجِبُع ال ّزرّاعَع ِليَغِيظَعِبِهعم ال ُكفّار‪ ،‬وَعَدَ الُ الّذِينَع آ َمنُوا‬
‫جرًا عَظِيمًا))[الفتح‪.]29:‬‬ ‫ت مِ ْنهُ ْم مَغْ ِفرَ ًة وَأَ ْ‬‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬ ‫مِ ْنهُ ْم وَ َ‬
‫ن آ َووْا‬ ‫سبِيلِ الِ وَالّذِي َ‬ ‫جرُوا وَجَاهَدُوا بِ َأ ْموَا ِل ِه ْم وََأنْفُ سِهِمْ في َ‬ ‫ن آ َمنُوا وَهَا َ‬ ‫وقال تعالى‪(( :‬إِنّ الّذِي َ‬
‫َونَصَعرُوا َأوْ َلئِكَع بَعضُهعم َأ ْوِليَا َء بَعْض))[النفال‪ ]72:‬إلى قوله‪ُ(( :‬أوْ َلئِكَع هُمُع ال ُم ْؤمِنُونَع حَقّا َلهُم مَغْ ِفرَةٌ‬
‫ك ِمنْكُم))[النفال‪.]75:‬‬ ‫جرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم َفُأوْ َلئِ َ‬ ‫ن آمَنُوا مِن بَعد وَهَا َ‬ ‫َو ِرزْقٌ َكرِيم وَالّذِي َ‬
‫جةً مِنَع الّذِينَع‬ ‫عظَمُع َدرَ َ‬‫وقال تعالى‪َ (( :‬ل يَسْع َتوِي ِمنْكُم مَنْع َأنْفَقَع مِنْع َق ْبلِ الْ َفتْحِع وَقَاتَل أُو َلئِكَع أَ ْ‬
‫سنَى))[الحديد‪.]10:‬‬ ‫ح ْ‬ ‫ن بَعْد وَقَاتَلُوا وَكُلً َوعَدَ الُ ال ُ‬ ‫َأنْفَقُوا مِ ْ‬
‫ل مِنَع الِ‬ ‫خرِجُوا مِنْع ِديَارِهِمْع وََأ ْموَالِهِم َيبْتَغُونَع َفضْ ً‬ ‫جرِينَع الّذِينَع أُ ْ‬ ‫وقال تعالى‪(( :‬للفقراءِ ا ْل ُمهَا ِ‬
‫َورِضوانًا َويَنْصُعرُونَ ال َورَسعُو َلهُ ُأوْ َلئِكَع هُم الصعّادِقُون * وَالّذِينَع تَ َبوّؤا الدّا َر وَالِيمَان مِن َقبْ ِلهِم‬
‫سهِم َوَلوْ كَا نَ‬ ‫علَى َأنْف ِ‬‫جةً ِممّا أُوتُوا َو ُي ْؤ ِثرُو نَ َ‬ ‫جرَ إِ َل ْيهِم وَ َل يَجِدُو نَ في صُدُورِهِم حَا َ‬ ‫حبّون مَن هَا َ‬ ‫يُ ِ‬
‫ن َربّنَا‬ ‫سهِ فَُأوْ َلئِ كَ هُ مُ ا ْلمُفْلِحُون * وَالّذِي نَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِم يَقُولُو َ‬ ‫شحّ نَفْ ِ‬ ‫ِبهِ مْ خَ صَاصَة َومَن يُو قَ ُ‬
‫غلّ ِللّذِينَع آمَنُوا َربّنَا ِإنّكَع رَءُوفٌع‬ ‫خوَانِنَا الّذِينَع سَعبَقُونَا بِالِيمَان وَ َل تَجْ َعلْ فعي قُلُوبِنَا ِ‬ ‫غ ِفرْ لَنَا وَلِ ْ‬
‫اْ‬
‫رَحِيم))[الحشر‪.]10-8:‬‬
‫وهذه اليات تتضمـــن الثناء على المهاجريـــن والنصـــار‪ ،‬وعلى الذيـــن جاءوا مـــن بعدهـــم‪،‬‬
‫ل لهم‪.‬‬ ‫يستغفرون لهم ويسألون ال أن ل يجعل في قلوبهم غ ً‬
‫وتتضمن أن هؤلء الصناف هم المستحقون للفيء‪.‬‬
‫ول ريـب أن هؤلء الرافضـة خارجون مـن الصـناف الثلثـة؛ فإنهـم لم يسـتغفروا للسـابقين‪ ،‬وفـي‬
‫قلوبهـم غـل عليهـم‪ ،‬ففـي اليات الثناء على الصـحابة‪ ،‬وعلى أهـل السـنّة الذيـن يتولونهـم‪ ،‬وإخراج‬
‫الرافضة من ذلك‪ ،‬وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا عبد ال بن زيد‪ ،‬عن‬
‫طلحة بن مصرف‪ ،‬عن مصعب بن سعد‪ ،‬عن سعد بن أبي وقاص‪ ،‬قال‪( :‬الناس على ثلث منازل‬
‫فمضت منزلتان وبقيت واحدة‪ ،‬فأحسن ما أنتم عليه كائنون‪ ،‬أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت)‪.‬‬
‫ل مِن عْ الِّع‬ ‫خرِجُوا مِن عْ دِيارِهِم ْع وََأ ْموَا ِلهِم ْع َيبْتَغُون عَ َفضْ ً‬ ‫جرِينععَ الّذِين عَ أُ ْ‬ ‫ثــم قرأ‪ِ (( :‬للْفُ َقرَاءِ ا ْل ُمهَا ِ‬
‫ضوَانًا))[الحشــر‪ ]8:‬هؤلء المهاجرون‪ ،‬وهذه منزلة قــد مضــت‪ ،‬ثــم قرأ‪(( :‬وَالّذِين َع َت َبوّءُوا الدّارَ‬ ‫َورِ ْ‬
‫جةً ِممّاع أُوتُوا َو ُي ْؤثِرُونَع‬ ‫جرَ إِ َل ْيهِمْع وَل يَجِدُونَع فِي صُعدُورِهِمْ حَا َ‬ ‫حبّونَع مَنْع هَا َ‬ ‫وَالِيمَانَع مِنْع َقبْ ِلهِمْع يُ ِ‬
‫صةٌ))[الحشر‪.]9:‬‬ ‫خصَا َ‬ ‫ن ِبهِمْ َ‬ ‫سهِ ْم وَ َلوْ كَا َ‬‫علَى َأنْ ُف ِ‬‫َ‬
‫ثم قال‪ :‬هؤلء النصار‪ ،‬وهذه منزلة قد مضت‪.‬‬
‫خوَانِنَا الّذِينَع سَعبَقُونَا بِالِيمَان‪،‬‬ ‫ثـم قرأ‪(( :‬وَالّذِينَع جَاءُوا مِنْع بَعْدِهِمعْ‪ ،‬يَقُولُونَع رَبّنَا اغْ ِفرْ لَنَا وَلِ ْ‬
‫ك رَءُو فٌ رَحِي مٌ))[الحشر‪ ،]10:‬فقد مضت هاتان وبقيت‬ ‫ن آمَنُوا‪َ ،‬ربّنَا ِإنّ َ‬ ‫غلّ للّذِي َ‬ ‫وَل تَجْ َعلْ في قُلُو ِبنَا ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫هذه المنزلة‪ ،‬فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم) ‪.‬‬
‫وروى أيضًا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال‪( :‬من سب السلف فليس له في الفيء نصيب) لن‬

‫‪ )(1‬يظهر أن هذا الثر ف البانة الكبى إذ ل أجده ف الصغرى‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ال تعالى يقول‪(( :‬وَالّذِينَع جَاءُوا مِنْع بَ ْعدِهِم))[الحشـر‪- )1( ]10:‬اليـة‪ -‬وهذا معروف عـن مالك وغيـر‬
‫مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم بن سلم(‪.)2‬‬
‫وكذلك ذكره أبو حكيم النهرواني من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء‪ ،‬وروى أيضًا عن الحسن‬
‫بـن عمارة‪ ،‬عـن الحكيـم عـن مقسـم‪ ،‬عـن ابـن عباس رضـي ال عنهمـا‪ ،‬قال‪( :‬أمـر ال بالسـتغفار‬
‫لصحاب النبي صلى ال عليه وسلم وهو يعلم أنهم يقتتلون)(‪.)3‬‬
‫وقال عروة‪ :‬قالت لي عائشـة رضـي ال عنهـا‪( :‬يـا ابـن أختـي‪ ،‬أمروا بالسـتغفار لصـحاب النـبي‬
‫صلى ال عليه وسلم فسبوهم)(‪.)4‬‬
‫وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫(ل تسبوا أصحابي‪ ،‬فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ول نصيفه)(‪.)5‬‬
‫وفي صحيح مسلم‪ :‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬ل‬
‫تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ول نصيفه)(‪.)6‬‬
‫وفـي صـحيح مسـلم أيضًا عـن جابر بـن عبـد ال قال‪ :‬قيـل لعائشـة‪( :‬إن ناسـًا يتناولون أصـحاب‬
‫رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬حتـى أبـا بكـر وعمـر‪ .‬فقالت‪ :‬ومـا تعجبون مـن هذا؟ انقطـع عنهـم‬
‫العمل‪ ،‬فأحب ال أن ل يقطع عنهم الجر)(‪.)7‬‬
‫وروى ابن بطة بالسناد الصحيح‪ ،‬عن عبد ال بن أحمد قال‪ :‬حدثني أبي‪ ،‬حدثنا معاوية‪ ،‬حدثنا‬
‫رجاء‪ ،‬عن مجاهـد‪ ،‬عن ابن عباس رضـي ال عنهمـا قال‪( :‬ل تسبوا أصحاب محمـد‪ ،‬فإن ال تعالى‬
‫قد أمرنا بالستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون)(‪.)8‬‬
‫ومن طريق أحمد‪ ،‬عن عبد الرحمن بن مهدي‪ ،‬وطريق غيره عن وكيع وأبي نعيم‪ ،‬ثلثتهم عن‬
‫الثوري‪ ،‬عـن نُسـير بـن ذعلوق‪ :‬سـمعت عبـد ال بـن عمـر يقول‪( :‬ل تسـبوا أصـحاب محمـد‪ ،‬فلمقام‬
‫أحدهم ساعة ‪-‬يعني مع النبي صلى ال عليه وسلم‪ -‬خير من عمل أحدكم أربعين سنة)‪.‬‬
‫وفي رواية وكيع‪( :‬خير من عبادة أحدكم عمره)‪.‬‬
‫جرَة َفعَلِ َم مَا في قُلُو ِبهِمْ َفَأنْ َزلَ‬
‫وقال تعالى‪(( :‬لقد َرضِيَ الُ عَنِ اُلمُؤ ِمنِينَ إِ ْذ ُيبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّ َ‬
‫عزِيزًا حَكِيمًا * وَعَ َدكُم الُ‬ ‫عَل ْيهِم وََأثَا َبهُمْ َفتْحًا َقرِيبًا * َومَغَانِمَ َكثِيرَ ًة يَأْخُذُو َنهَا وَكَانَ الُ َ‬
‫السّكِينَةَ َ‬
‫عنْكُم َوِلتَكُونَع آيةً للمُؤ ِمنِيعن وَيهْديكُم‬ ‫جلَ لَكُم هَذِهِع وَكَفّ أيدي النّاسعِ َ‬ ‫مَغَانِمعَ َك ِثيَرةً تَأخُذُونَهَا فَ َع ّ‬
‫علَى ُكلّ شَيءٍ قَدِيرًا))[الفتح‪:‬‬ ‫عَل ْيهَا َقدْ أَحَاطَ الُ ِبهَا وَكَانَ الُ َ‬ ‫خرَى َل ْم تَقْ ِدرُوا َ‬ ‫صرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُ ْ‬ ‫ِ‬
‫‪.]21-18‬‬
‫وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه رضي عنهم‪ ،‬وأنه علم ما في قلوبهم‪ ،‬وأنه أثابهم فتحًا قريبًا‪.‬‬
‫وهؤلء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان بعد موت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لم يكن‬
‫‪ )(1‬هذا الثر ف البانة متصرا ً (ص ‪ )162‬والظاهر أن الؤلف ينقل عن الكبى‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الرجع الذكور (ص ‪.)162‬‬
‫‪ )(3‬الرجع الذكور (ص ‪.)119‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬البانة (ص ‪.)120‬‬
‫‪ )(5‬البخاري (‪ )5/8‬و مسلم (‪.)4/1967‬‬
‫‪ )(6‬مسلم (‪.)4/1967‬‬
‫‪ )(7‬يظهر أنه ف بعض النسخ فإن ل أجده ف مسلم‪.‬‬
‫‪ )(8‬انظر‪ :‬البانة (ص ‪.)119‬‬

‫‪46‬‬
‫فـي المسـلمين مـن يتقدم عليهـم‪ ،‬بـل كان المسـلمون كلهـم يعرفون فضلهـم عليهـم‪ ،‬لن ال تعالى بيـن‬
‫جةً مِنَع‬ ‫فضلهـم فـي القرآن بقوله‪(( :‬لَ يَسْعَتوِي ِمنْكُم مَن َأنْفَقَع مِن َق ْبلِ ال َفتْحِع َوقَا َتلَ أُو َلئِكَع َأعْظَمُع َدرَ َ‬
‫سنَى))[الحديد‪.]10:‬‬ ‫ح ْ‬‫ل َوعَدَ الُ ال ُ‬ ‫الّذينَ َأنْفَقُوا مِن بَع ُد وَقَاتَلوا وَكُ ّ‬
‫ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح‪ ،‬والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية‪ ،‬ولهذا سئل النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪( :‬أو فتح هو؟ فقال‪ :‬نعم)(‪.)1‬‬
‫حنَا لَكَ َفتْحًا مُبينًا * ِليَغْ ِفرَ لَكَ الُ مَا تَقَدّ َم مِنْ‬ ‫وأهل العلم يعلمون أن فيه أنزل ال تعالى‪ِ(( :‬إنّا َفتَ ْ‬
‫عزِيزًا))[الفتح‪-1:‬‬ ‫صرَكَ الُ نَ صْرًا َ‬ ‫ستَقِيمًا * وَينْ ُ‬ ‫صرَاطًا مُ ْ‬ ‫ك َو َيهْدِيَ كَ ِ‬‫خرَ َو ُيتَ َم نِ ْع َمتَ هُ عَ َليْ َ‬‫ك َومَا تََأ ّ‬
‫َذ ْنبِ َ‬
‫‪ ]3‬فقال بعـض المسـلمين‪( :‬يـا رسـول ال‪ ،‬هذا لك فمـا لنـا يـا رسـول ال؟ فأنزل ال تعالى‪(( :‬هوَ الّذِي‬
‫َأ ْن َزلَ السّكِينَةَ في قُلُوبِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ِل َيزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَا ِنهِم))[الفتح‪.)]4:‬‬
‫وهذه اليــة نــص فــي تفضيــل المنفقيــن المقاتليــن قبــل الفتــح على المنفقيــن بعده‪ ،‬ولهذا ذهــب‬
‫جرِينععععَ‬ ‫جمهورالعلماء إلى أن الســــابقين فــــي قوله تعالى‪(( :‬وَالسععععّابِقُونَ ا َلوّلُونعععَع مِنععععَ ا ْل ُمهَا ِ‬
‫وَا َلنْصعَار))[التوبــة‪ ]100:‬هـم هؤلء الذيـن أنفقوا مـن قبـل الفتـح وقاتلوا‪ ،‬وأهـل بيعـة الرضوان كلهـم‬
‫منهم‪ ،‬وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة‪ ،‬وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الوّلين هم من صلى إلى‬
‫القبلتين‪ ،‬وهذا ضعيف‪ ،‬فإن الصلة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة‪ ،‬ولن النسخ ليس من‬
‫فعلهم الذي يُفضّلون به‪ ،‬ولن التفضيل بالصلة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي‪ ،‬كما دل على‬
‫التفضيل بالسبق إلى النفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة‪.‬‬
‫وقـد علم بالضطرار أنـه كان فـي هؤلء السـابقين الوليـن‪ :‬أبـو بكـر‪ ،‬وعمـر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلي‪،‬‬
‫وطلحـة‪ ،‬والزبيـر‪ ،‬وبايـع النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بيده عـن عثمان؛ لنـه كان غائبًا قـد أرسـله إلى‬
‫أهل مكة ليبلغهم رسالته‪ ،‬وبسببه بايع النبي صلى ال عليه وسلم الناس لما بلغه أنهم قتلوه‪.‬‬
‫وقد ثبت في صحيح مسلم‪ ،‬عن جابر بن عبد ال رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫علَى النّبِععي‬ ‫قال‪( :‬ل يدخـــل النار أحـــد بايـــع تحـــت الشجرة)(‪ ،)2‬وقال تعالى‪(( :‬لق ْد تَاب ععَ الُ ع َ‬
‫ق مِ ْنهَ مْ‬
‫ن َيزِي غُ قُلُو بَ َفرِي ٍ‬ ‫سرَة مِن بَعْ ِد مَا كَا َ‬ ‫عةِ العُ ْ‬ ‫ن وَا َلنْ صَار الّذِي نَ اتّبعُو هُ في سَا َ‬ ‫جرِي َ‬ ‫وَال ُمهَا ِ‬
‫عَليْهِم ِإنّهُع بِهِم رَءُوفٌع رَحِيعم))[التوبـة‪ ]117:‬فجمـع بينهـم وبيـن الرسـول فـي التوبـة‪ .‬وقال‬ ‫ثُمّ تَابَع َ‬
‫جرُوا وَجَاهَدُوا بِ َأ ْموَالِهِم وََأنْفُس عِهِم فععي س َعبِيلِ ال‪ ،‬وَالّذِين َع آ َووْا‬ ‫تعالى‪(( :‬إِنّ الّذِين َع آ َمنُوا وَهَا َ‬
‫جرُوا))[النفال‪ ]72:‬إلى قوله تعالى‪:‬‬ ‫َونَصعَرُوا ُأ ْوَلئِكَع بَ ْعضُهُم َأوْ ِليَا َء بَعْض وَالّذِينَع آمَنُوا وَلَم ْع ُيهَا ِ‬
‫جرُوا وَجَا َهدُوا مَعَكُم فَُأوْ َلئِكَع ِمنْكُم))[النفال‪ ]75:‬فأثبـت الموالة بينهـم‬ ‫((وَالّذِينَع آ َمنُوا مِن بَععد وَهَا َ‬
‫وقال للمؤمنيـن‪(( :‬يعا َأ ّيهَا الّذِينَع آ َمنُوا َل َتتّخِذُوا ال َيهُو َد وَالنّصعَارَى َأوْ ِليَا َء بَعْضهُم َأوْ ِليَا َء بَعْض‬
‫َومَن يَ َتوَّلهُم ِمنْكُ مْ َفِإنّ ُه ِمنْهُم إِنّ الَ َل َيهْدِي ال َق ْو مَ الظّا ِلمِين))[المائدة‪ ]51:‬إلى قوله‪ِ(( :‬إ ّنمَا وَ ِليّكُ مُ‬
‫ال َورَسعُو َلهُ وَالّذِينَع آ َمنُوا الّذينَع يُقِيمُونَع الصعّل َة َو ُي ْؤتُونَع الزّكَا َة وَهُمْع رَاكِعُون‪َ ،‬ومَنْع َي َت َولّ الَ‬
‫حزْبَع الِ هُمُع الغَا ِلبُون))[المائدة‪ .]56:‬وقال تعالى‪(( :‬وَالمُؤ ِمنُونَع و َ‬ ‫َورَسعُو َل ُه وَالّذِينَع آمَنُوا َفإِنّ َ ِ‬
‫ضهُم َأوْ ِليَاء بَعْض))[التوبة‪.]71:‬‬ ‫المُؤ ِمنَات بَ ْع َ‬
‫فأثبـت الموالة بينهـم‪ ،‬وأمرهـم بموالتهـم‪ ،‬والرافضـة تتـبرأ منهـم ول تتولهـم‪ ،‬وأصـل الموالة‬
‫المحبة‪ ،‬وأصل المعاداة البغض‪ ،‬وهم يبغضونهم ول يحبونهم‪.‬‬
‫وقـد وضـع بعـض الكذابيـن حديثًا مفترى‪ ،‬أن هذه اليـة نزلت فـي علي لمـا تصـدق بخاتمـه فـي‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬سنن أب داود (‪.)3/101‬‬
‫‪ )(2‬مسلم (‪ )4/1942‬رقم (‪.)2496‬‬

‫‪47‬‬
‫الصلة‪ ،‬وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل‪ ،‬وكذبه بيّن من وجوه كثيرة‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن قوله (الذين) صيغة جمع‪ ،‬وعليّ واحد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الواو ليست واو الحال‪ ،‬إذ لو كان كذلك لكان ل يسوغ أن يتولى إل من أعطى الزكاة‬
‫في حال الركوع‪ ،‬فل يتولى سائر الصحابة والقرابة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ان المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب‪ ،‬وإيتاء الزكاة في نفس الصلة ليس واجبًا‬
‫ول مستحبًا‪ ،‬باتفاق علماء الملة‪ ،‬فإن في الصلة شغل‪.‬‬
‫ومنهعا‪ :‬أنـه لو كان إيتاؤهـا فـي الصـلة حسـنًا لم يكـن فرق بيـن حال الركوع وغيـر حال الركوع‪،‬‬
‫بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن عليًا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم‪ ،‬فإن أكثر الفقهاء يقولون‪ :‬ل يجزئ‬
‫إخراج الخاتم في الزكاة‪.‬‬
‫ومنهعا‪ :‬أن هذا الحديـث فيـه أنـه أعطاه السـائل‪ ،‬والمدح فـي الزكاة أن يخرجهـا ابتداء ويخرجهـا‬
‫على الفور‪ ،‬ل ينتظر أن يسأله سائل‪.‬‬
‫ومنهعا‪ :‬أن الكلم فـي سـياق النهـي عـن موالة الكفار والمـر بموالة المؤمنيـن‪ ،‬كمـا يدل عليـه‬
‫سياق الكلم‪.‬‬
‫وسيجيء إن شاء ال تمام الكلم على هذه الية‪ ،‬فإن الرافضة ل يكادون يحتجون بحجة إل‬
‫كانت حجة عليهم ل لهم‪ ،‬كاحتجاجهم بهذه الية على الولية التي هي المارة‪ ،‬وإنما هي في الولية‬
‫التي هي ضد العداوة‪ ،‬والرافضة مخالفون لها‪.‬‬
‫والسـماعيلية والنصـيرية ونحوهـم يوالون الكفار مـن اليهود والنصـارى والمشركيـن والمنافقيـن‪،‬‬
‫ويعادون المؤمنيـن مـن المهاجريـن والنصـار والذيـن اتبعوهـم بإحسـان إلى يوم الديـن‪ ،‬وهذا أمـر‬
‫مشهور فيهم‪.‬‬
‫يعادون خيار عباد ال المؤمنيــن‪ ،‬ويوالون اليهود والنصــارى والمشركيــن مــن الترك وغيرهــم‪،‬‬
‫ك مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِين))[النفال‪ .]64:‬أي‪ :‬ال كافيك وكافي‬ ‫سبُكَ الُ َومَنِ ا ّتبَ َع َ‬
‫وقال تعالى‪(( :‬يا َأ ّيهَا ال ّنبِيّ حَ ْ‬
‫من اتبعك من المؤمنين‪ ،‬والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم‪.‬‬
‫وقال تعالى‪(( :‬إِذَا جَا َء نَصْعرُ الِ وَال َفتْح * َورََأيْتَع النّاسَع يَدْخُلُونَع فعي دِينِع الِ أَ ْفوَاجًا * فَسَعبّحْ‬
‫ن تَوّابًا))[النصر‪.]3-1:‬‬ ‫ستَغْ ِفرْهُ ِإ ّنهُ كَا َ‬
‫ك وَا ْ‬
‫حمْدِ َربّ َ‬
‫بِ َ‬
‫والذين رآهم النبي صلى ال عليه وسلم يدخلون في دين ال أفواجًا هم الذين كانوا على عصره‪،‬‬
‫وقال تعالى‪(( :‬هوَ الّذِي َأيّدَكَع ِبنَص ْعرِ ِه وَبِا ْل ُمؤْ ِمنِينَع وََألّفَع َبيْن عَ ُقلُو ِبهِم عْ))[النفال‪ ]62:‬وإنمــا أيده فــي‬
‫حياته بالصحابة‪.‬‬
‫عنْدَ َر ّبهِ مْ‬
‫ق بِ هِ ُأوْ َلئِ كَ هُ مُ المتّقُون * َلهُ ْم مَا َيشَاءُو نَ ِ‬‫ق وَ صَدّ َ‬ ‫وقال تعالى‪(( :‬وَالّذِي جَا َء بِال صّدْ ِ‬
‫جرَهُم بِأَحْسَعنِ الّذِي كَانُوا‬ ‫جزِيَهُم َأ ْ‬
‫عمِلُوا َويَ ْ‬
‫عنْهُمْع أَسْعوَأَ الّذِي َ‬ ‫جزَاءُ ا ْلمُحْسِعنِين * ِليُكَ ّفرَ الُ َ‬ ‫ذَلِكَع َ‬
‫يَ ْعمَلُون))[الزمر‪.]35-33:‬‬
‫وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدّق به‪ ،‬خلف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذّب بالحق‬
‫لما جاءه‪ ،‬كما سنبسط القول فيهما إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫والصــحابة الذيــن كانوا يشهدون أن ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدًا رســول ال‪ ،‬وأن القرآن حــق‪ ،‬هــم‬
‫أفضل من جاء بالصدق وصدّق به بعد النبياء‪ ،‬وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراءً‬

‫‪48‬‬
‫للكذب على ال وتكذيبًا بالحـق مـن المنتسـبين إلى التشيـع‪ ،‬ولهذا ل يوجـد الغلو فـي طائفـة أكثـر ممـا‬
‫يوجد فيهم‪.‬‬
‫ومنهم من ادعى إلهية البشر‪ ،‬وادعى النبوة في غير النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وادعى العصمة‬
‫في الئمة‪ ،‬ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف‪ ،‬واتفق أهل العلم على أن الكذب‬
‫علَى‬ ‫حمْدُ لِّ َوسَلمٌ َ‬ ‫ليس في طائفة من المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم‪ ،‬وقال تعالى‪ُ (( :‬قلْ الْ َ‬
‫عبَا ِدهِ الّذِينَ اصْطَفَى))[النمل‪ .]59:‬قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول‬ ‫ِ‬
‫ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه المة‪ ،‬التي قال ال فيها‪(( :‬ثمّ َأ ْو َر ْثنَا الْ ِكتَابَ الّذِينَ اصْطَ َف ْينَا‬
‫ضلُ‬‫ت بِإِذْنِ ال َذلِكَ ُهوَ ال َف ْ‬ ‫خ ْيرَا ِ‬‫سهِ َو ِمنْهُم مُ ْق َتصِد َو ِم ْنهُم سَابِقٌ بِالْ َ‬
‫عبَا ِدنَا َفمِ ْنهُم ظَاِلمٌ ِلنَ ْف ِ‬
‫مِنْ ِ‬
‫حرِير *‬ ‫سهُم فِيها َ‬ ‫ب وَُلؤُْلؤًا َوِلبَا ُ‬ ‫حّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَا ِورَ مِنْ ذَ َه ٍ‬ ‫خلُونَهَا يُ َ‬‫ن يَدْ ُ‬ ‫جنّات عَدْ ٍ‬ ‫ال َكبِير * َ‬
‫حّلنَا دَارَ المُقَا َمةِ مِنْ َفضْ ِلهِ‬ ‫ن َر ّبنَا لَ َغفُورٌ شَكُور * الّذِي أَ َ‬ ‫حزَن إِ ّ‬ ‫عنّا ال َ‬‫حمْدُ ِلِ الّذي َأذْهَبَ َ‬ ‫وَقَالوا الْ َ‬
‫َل َيمَسّنا فيها نَصبٌ وَ َل َي َمسّنَا فيها لُغُوب))[فاطر‪.]35-32:‬‬
‫فأمة محمد صلى ال عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد المتين قبلهم‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬
‫وقد أخبر ال تعالى أنهم الذين اصطفى‪.‬‬
‫وتواتـر عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬خيـر القرون القرن الذي بعثـت فيهـم‪ ،‬ثـم الذيـن‬
‫يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم) ومحمد صلى ال عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من‬
‫ء َب ْينَهُم))[الفتـح‪]29:‬‬ ‫حمَا َ‬
‫عباد ال‪ ،‬وقال تعالى‪(( :‬محم ٌد رَسعُولُ الِ وَالّذِينَع مَعَهُع َأشِدّاءَ عَلَى الْكُفّارُ رُ َ‬
‫عمِلُوا الصعّالِحَاتِ َليَس ْعتَخْلِ َف ّنهُم فععي‬ ‫إلى آخــر الســورة‪ ،‬وقال تعالى ((وَعَدَ الُ الّذِينَع آمَنُوا ِمنْكُم ْع وَ َ‬
‫ا َلرْضِع كَمَا اسْعتَخْ َلفَ الّذِينَع مِن َقبْلِهِم وَ َل ُيمَ ّكنَنّ َلهُمْع دِي َنهُمُع الّذِي ا ْرتَضَى لَهُم وَ َل ُيبْدِ َلنّهُم مِنْع بَ ْعدِ‬
‫شيْئًا َومَنْ كَ َف َر بَعْدَ َذلِكَ فَُأ ْوَلئِ كَ هُمُ الفَاسِقُون))[النور‪ .]55:‬فقد‬ ‫ن بِي َ‬ ‫شرِكُو َ‬ ‫خوْ ِفهِمْ َأ ْمنًا يَ ْعبُدُونَنِي َل ُي ْ‬
‫َ‬
‫وعــد ال الذيــن آمنوا وعملوا الصــالحات بالســتخلف‪ ،‬كمــا وعدهــم فــي تلك اليــة مغفرة وأجرًا‬
‫عظيمًا‪ ،‬وال ل يخلف الميعاد‪.‬‬
‫فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكّن لهم دين السلم‪ ،‬وهو الدين‬
‫الذي ارتضاه لهـم‪ ،‬كمـا قال تعالى‪َ (( :‬ورَضِيتُع لَكُمُع السعلم دينًا))[المائدة‪ ]3:‬وبّدلهـم مـن بعـد خوفهـم‬
‫أمنًا‪ ،‬منه (‪ )1‬المغفرة والجر العظيم‪.‬‬
‫وهذا يسـتدل بـه مـن وجهيـن‪ :‬على أن المسـتخلفين مؤمنون عملوا الصـالحات‪ ،‬لن الوعـد لهـم ل‬
‫لغيرهـم‪ ،‬ويسـتدل بـه على أن هؤلء مغفور لهـم‪ ،‬ولهـم أجـر عظيـم‪ ،‬لنهـم آمنوا وعملوا الصـالحات‪،‬‬
‫فتناولتهم اليتان‪ :‬آية النور وآية الفتح‪.‬‬
‫ومـن المعلوم أن هذه النعوت منطبقـة على الصـحابة على زمـن أبـي بكـر وعمـر وعثمان‪ ،‬فإنـه إذ‬
‫ذاك حصـل السـتخلف‪ ،‬وتمكـن الديـن والمـن بعـد الخوف‪ ،‬لمـا قهروا فارس والروم‪ ،‬وفتحوا الشام‬
‫والعراق ومصر وخراسان وإفريقية‪.‬‬
‫ولمــا قتــل عثمان وحصــلت الفتنــة لم يفتحوا شيئًا مــن بلد الكفار‪ ،‬بــل طمــع فيهــم الكفار بالشام‬
‫وخراسان‪ ،‬وكان بعضهم يخاف بعضًا‪.‬‬
‫وحينئذٍ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان‪ ،‬ومن كان معهم في زمن الستخلف‬
‫والتمكيـن والمـن‪ ،‬والذيـن كانوا فـي زمـن السـتخلف والتمكيـن والمـن وأدركوا زمـن الفتنـة ‪-‬كعلي‬
‫وطلحة وأبي موسى الشعري ومعاوية وعمرو بن العاص‪ -‬دخلوا في الية لنهم استخلفوا ومكّنوا‬
‫‪ )(1‬قوله (لم منه الغفرة والجر العظيم) خب عن قوله فدل ذلك ال‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وأمنوا‪.‬‬
‫وأمـا مـن حدث فـي زمـن الفتنـة‪ ،‬كالرافضـة الذيـن حدثوا فـي السـلم فـي زمـن الفتنـة والفتراق‪،‬‬
‫وكالخوارج المارقيـن‪ ،‬فهؤلء لم يتناولهـم النـص‪ ،‬فلم يدخلوا فيمـن وصـف باليمان والعمـل الصـالح‬
‫المذكورين في هذه الية‪ ،‬لنهم‪ :‬أولً‪ :‬ليسوا من الصحابة المخاطبين بهذا‪.‬‬
‫ولم يحصل لهم من الستخلف والتمكين والمن بعد الخوف ما حصل للصحابة‪ ،‬بل ل يزالون‬
‫خائفين مقلقلين غير ممكنين‪.‬‬
‫ت ِم ْنهُمعْ))[النور‪ ]55:‬ولم يقـل‪ :‬وعدهـم‬ ‫عمِلُوا الصعّالِحَا ِ‬ ‫فإن قيعل‪ :‬لمـا قال‪(( :‬وَعَدَ الُّ الّذِينَع آمَنُوا وَ َ‬
‫كلهم‪.‬‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ))[النور‪ ،]55:‬ولم يقل‪ :‬وعدكم‪.‬‬ ‫ن آ َمنُوا وَ َ‬‫قيل‪ :‬كما قال‪(( :‬وَعَدَ الُّ الّذِي َ‬
‫و"من" تكون لبيان الجنس‪ ،‬فل يقتضي أن يكون قد بقي من المجرور بها شيء خارج عن ذلك‬
‫س مِنَ ا َل ْوثَان))[الحج‪ ]30:‬فإنه ل يقتضى أن يكون من‬ ‫ج َ‬ ‫الجنس‪ ،‬كما في قوله تعالى‪(( :‬فاجتنبوْا الرّ ْ‬
‫الوثان ما ليس برجس‪ ،‬وإذا قلت‪ :‬ثوب من حرير‪ ،‬فهو كقولك‪ :‬ثوب حرير‪ ،‬وكذلك قولك‪ :‬باب من‬
‫حديـد فهـو‪ ،‬كقولك‪ :‬باب حديـد‪ ،‬وذلك ل يقتضـي أن يكون هناك حريـر وحديـد غيـر المضاف إليـه‪،‬‬
‫وإن كان الذي يتصـوره كليًا‪ ،‬فإن الجنـس الكلي هـو مـا ل يمنـع تصـوره مـن وقوع الشركـة فيـه‪ ،‬وإن‬
‫لم يكن مشتركًا فيه في الوجود‪.‬‬
‫عمِلُوا ال صّالِحَاتِ))[النور‪:‬‬ ‫ن آ َمنُوا وَ َ‬ ‫فإذا كانت (من) لبيان الجنس‪ ،‬كان التقدير ((وَعَدَ الُّ الّذِي َ‬
‫‪ ]55‬مـن هذا الجنـس‪ ،‬وإن كان الجنـس كلهـم مؤمنيـن صـالحين‪ ،‬وكذلك إذا قال‪(( :‬وَعَدَ الُّ الّذِينَع‬
‫جرٌ عَظِي مٌ))[النور‪،]55:‬‬ ‫عمِلُوا ال صّالِحَاتِ)) [النور‪ ]55:‬من هذا الجنس والصنف ((مَغْ ِفرَ ٌة وَأَ ْ‬ ‫آمَنُوا وَ َ‬
‫لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين‪.‬‬
‫ولمـا قال لزواج النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪َ (( :‬ومَنْع يَقْنُتْع ِمنْكُنّ لِ َورَسعُو ِلهِ َوتَ ْع َم ْل صعَالِحًا‬
‫عتَ ْدنَا َلهَا ِرزْقًا َكرِيمًا))[الحزاب‪ ]31:‬لم يمنـع أن يكون كـل منهـن تقنـت ل‬ ‫جرَهَا َمرّ َتيْنِع وَأَ ْ‬
‫ُنؤْ ِتهَا َأ ْ‬
‫ورسـوله وتعمـل صـالحًا‪ ،‬ولمـا قال تعالى‪(( :‬وَإِذَا جَاءَكَع الّذِينَع ُي ْؤمِنُونَع بِآيَاتِنَا فَ ُق ْل سَعلَمٌ عَليَكُم‬
‫جهَا َلةٍ ثُمّ تَابَع مِنْع بَعْدِهِع َوأَصْعَلحَ َفِإنّهُع‬‫ع ِملَ ِمنْكُم سعُوءًا بِ َ‬
‫حمَة َأنّهُع مَنْع َ‬ ‫علَى نَفْسِعهِ الرّ ْ‬ ‫َكتَبَع َربّكُم َ‬
‫غَفُو ٌر رَحِيمعٌ))[النعام‪ ]54:‬لم يمنـع هذا أن يكون كـل منهـم متصـفًا بهذه الصـفة‪ ،‬ول يجوز أن يقال‪:‬‬
‫إنهم لو عملوا سوءًا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إل لبعضهم‪.‬‬
‫ولهذا تدخـل (مـن) هذه فـي النفـي؛ لتحقيـق نفـي الجنـس‪ ،‬كمـا فـي قوله تعالى‪(( :‬وَمَا أل ّتنَاهُم مِن‬
‫عمَ ِلهِم مِن شَيء))[الطور‪ ]21:‬وقوله تعالى‪َ (( :‬ومَا مِنْ إِلَهٍ ِإلّ ال))[آل عمران‪َ (( .]62:‬فمَا مِنْكُم مِن أَحَدٍ‬ ‫َ‬
‫جزِين))[محمد‪..]9:‬‬ ‫ع ْنهُ حَا ِ‬
‫َ‬
‫ولهذا إذا دخلت في النفي تحق يقًا أو تقديرًا أفادت نفـي الجنس قطعًا‪ ،‬فالتحقيق ما ذكر‪ ،‬والتقدير‬
‫كقوله تعالى‪(( :‬ل إِ َلهَ إِلّ الُّ))[البقرة‪ ]2:‬وقوله‪َ (( :‬ل َريْبَ فيه))[آل عمران‪ ]62:‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫بخلف مـا إذا لم تكـن (مـن) موجودة‪ ،‬كقولك‪( :‬ما رأيـت رجلً) فإنهـا ظاهرة لنفي الجنس‪ ،‬ولكن‬
‫قــد يجوز أن يُنفــى بهــا الواحــد مــن الجنــس‪ ،‬كمــا قال ســيبويه‪ :‬يجوز أن يقال‪ :‬مــا رأيــت رجلً بــل‬
‫رجلين‪.‬‬
‫فتـبين أنـه يجوز إرادة الواحـد‪ ،‬وإن كان الظاهـر نفـي الجنـس‪ ،‬بخلف مـا إذا دخلت (مـن) فإنهـا‬
‫تنفي الجنس قطعًا‪ ،‬ولهذا لو قال لعبيده‪ :‬من أعطاني منكم ألفًا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفًا عتقوا‬
‫كلهم‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫وكذلك لو قال واحـد لنسـائه‪ :‬مـن أبرأتنـي منكـن مـن صـداقها فهـي طالق‪ ،‬فأبرأنـه كلهـن‪ ،‬طلقـن‬
‫كلهن‪.‬‬
‫فإن المقصــود بقوله‪ :‬منكــم بيان جنــس المعطــى والمــبرئ‪ ،‬ل إثبات هذا الحكــم لبعــض العبيــد‬
‫والزواج‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهذا كما ل يمنع أن يكون كل المذكور متصفًا بهذه الصفة فل يوجب ذلك أيضًا‪ ،‬فليس‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ))[النور‪ ]55:‬ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك‪.‬‬ ‫ن آمَنُوا وَ َ‬
‫في قوله‪(( :‬وَعَدَ الُّ الّذِي َ‬
‫قيعل‪ :‬نعـم‪ ،‬ونحـن ل ندعـي أن مجرد هذا اللفـظ دل على أن جميعهـم موصـوفون باليمان والعمـل‬
‫الصالح‪ ،‬ولكن مقصودنا أن (مِ نْ) ل ينافى شمول هذا الوصف لهم‪ ،‬فل يقول قائل‪ :‬ان الخطاب دل‬
‫ن مَعَهُ))[الفتح‪ ]29:‬إلى آخر الكلم‪ ،‬ول‬ ‫حمّ ٌد رَسُولُ الِّ وَالّذِي َ‬ ‫على ان المدح شملهم وعمهم بقوله‪(( :‬مُ َ‬
‫ريــب أن هذا مدح لهــم بمــا ذكــر مــن الصــفات‪ ،‬وهــو الشدة على الكفار والرحمــة بينهــم‪ ،‬والركوع‬
‫والسجود يبتغون فضلً من ال ورضوانًا‪ ،‬والسيما في وجوههم من أثر السجود‪ ،‬وأنهم يبتدئون من‬
‫ضعـف إلى كمال القوة والعتدال كالزرع‪ ،‬والوعـد بالمغفرة والجـر العظيـم ليـس على مجرد هذه‬
‫الصفات بل على اليمان والعمل الصالح‪.‬‬
‫فذكر ما به يستحقون الوعد‪ ،‬وإن كانوا كلهم بهذه الصفة‪ ،‬ولول ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد‬
‫ما ذكر يستحقون المغفرة والجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء‪ ،‬بخلف ما إذا ذكر اليمان‬
‫والعمل الصالح‪.‬‬
‫فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الشتقاق سبب الحكم‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين‪.‬‬
‫قيل‪ :‬المنافقون لم يكونوا متصفين بهذه الصفات‪ ،‬ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين‪ ،‬ولم يكونوا‬
‫عنْدِهِع َفيُصْعبِحُوا عَلَى مَا أَسَعرّوا فعي‬ ‫منهـم‪ ،‬كمـا قال تعالى‪(( :‬فعسعى الُ أَنْع يَ ْأتِيَع بِال َفتْحِع َأوْ َأ ْمرٍ مِنْع ِ‬
‫جهْدَ َأ ْيمَانِهِم ِإنّهُم‬ ‫َأنْفُسِعهِم نَا ِدمِيععن))[المائدة‪(( ]52:‬وَيَقُولُ الّذِينَع آمَنوا أَ َهؤُلَءِ الّذِينعَ أَقْسَعمُوا بِالِ َ‬
‫عمَاُلهُم َفاَصْعبَحُوا خَاسِعرِين))[المائدة‪ ،]53:‬وقوله تعالى‪َ (( :‬ومِنَع النّاسِع مَنْع يَقُولُ آ َمنّاع‬ ‫َلمَعَكُم حَبطعت َأ ْ‬
‫ن َربّ كَ َليَقُولن ِإنّا مَعَكُم َأوَ‬ ‫بِالِ فَإِذَا أُوذوى في الِ جَ َعلَ ِف ْتنَةَ النّا سِ كَ َعذَا بَ الِ وَ َلئِ نْ جَا َء نَصع ٌر مِ ْ‬
‫َليْسععععَ ال بَِأعْلَم بِمَعععا فععععي صععععُدُور العَا َلمِيععععن * َوَليَعْ َلمَنّععع ال الّذِينعععَع آمَنُوا ِمنْكُعععم َوَليَعْ َلمَنّعع‬
‫ا ْلمُنَا ِفقِين))[العنكبوت‪.]11-10:‬‬
‫فأخبر أن المنافقين ليسوا من المؤمنين ول من أهل الكتاب‪.‬‬
‫وهؤلء ل يوجدون فـي طائفـة مـن المتظاهريـن بالسـلم أكثـر منهـم فـي الرافضـة‪ ،‬ومـن انطوى‬
‫إليهم‪ .‬فدل هذا على أن المنافقين لم يكونوا من الذين آمنوا معه‪ ،‬والذين كانوا منافقين منهم من تاب‬
‫عـن نفاقه وانتهـى عنه وهـم الغالب‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪(( :‬لئ نْ لَمْع َينْتَهِع ال ْمنُافِقُونَع وَالّذِي نَ فعي ُقلُو ِبهِم‬
‫ل * مَلْعُونِينَع َأيْ َنمَا ثُقِفُوا‬
‫َمرَضٌع وَا ْل ُمرْجَفُونَع فعي ا ْلمَدِينَةِ ِلنُ ْغ ِر َينّكَع ِبهِم ثُمّ َل يُجَا ِورُونَكَع فِيهَا إلّ َقلِي ً‬
‫أُخِذُوا وَ ُقتّلُوا تَ ْقتِيلً))[الحزاب‪.]61-60:‬‬
‫فلمـا لم يغره ال بهـم ولم يقتلهـم تقتيلً‪ ،‬بـل كانوا يجاورونـه بالمدينـة‪ ،‬دل ذلك على أنهـم انتهوا‪،‬‬
‫والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعوه تحت الشجرة‪ ،‬إل الجد بن قيس فإنه اختبأ خلف جمل أحمر‪.‬‬
‫وكذا جاء فــي الحديـث‪( :‬كلهــم يدخـل الجنــة إل صــاحب الجمـل الحمــر) وبالجملة فل ريـب أن‬
‫المنافقيـن كانوا مغمورين‪ ،‬مقهورين‪ ،‬أذلء‪ ،‬ل سـيما فـي آخر أيام النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفي‬
‫ع ّز مِنْهَا الَ َذ ّل وَل‬ ‫خرُجَنّ الَ َ‬ ‫غزوة تبوك؛ لن ال تعالى قال‪(( :‬يقولون لئن رَجعنععا ِإلَى ا ْلمَدِي َنةِ َليَ ْ‬

‫‪51‬‬
‫ال ِعزّةُ َ ِل َرسُو ِل ِه وَلِ ْلمُؤ ِمنِين وَِلكِن ا ْل ُمنَافِقِينَ َل يَ ْعَلمُون))[المنافقون‪.]8:‬‬
‫فأخـبر أن العزة للمؤمنيـن ل للمنافقيـن‪ ،‬فعلم أن العزة والقوة كانـت فـي المؤمنيـن‪ ،‬وأن المنافقيـن‬
‫كانوا أذلء بينهم‪.‬‬
‫فيمتنـع أن تكون الصـحابة الذيـن كانوا أعـز المسـلمين مـن المنافقيـن‪ ،‬بـل ذلك يقتضـى أن مـن كان‬
‫أعز كان أعظم إيمانًا‪.‬‬
‫ومـن المعلوم أن السـابقين الوليـن مـن المهاجريـن والنصـار ‪-‬الخلفاء الراشديـن وغيرهـم‪ -‬كانوا‬
‫أعز الناس‪ ،‬وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين‪.‬‬
‫فل يجوز أن يكون العزاء مـن الصـحابة منهـم‪ ،‬ولكـن هذا الوصـف مطابـق للمتصـفين بـه مـن‬
‫الرافضة وغيرهم‪ ،‬والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف‪.‬‬
‫بـل ل بـد لكـل منهـم مـن شعبـة نفاق‪ ،‬فإن أسـاس النفاق الذي بنـي عليـه الكذب‪ ،‬وأن يقول الرجـل‬
‫بلسانه ما ليس في قلبه‪ ،‬كما أخبر ال تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‪.‬‬
‫والرافضـة تجعـل هذا مـن أصـول دينهـا وتسـميه التقيـة‪ ،‬وتحكـى هذا عـن أئمـة أهـل البيـت الذيـن‬
‫برأهم ال عن ذلك‪ ،‬حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال‪ :‬التقية ديني ودين آبائي‪ ،‬و قد نزه‬
‫ال المؤمنين ‪-‬من أهل البيت وغيرهم‪ -‬عن ذلك‪.‬‬
‫بـل كانوا مـن أعظـم الناس صـدقًا وتحقيقًا لليمان‪ ،‬وكان دينهـم التقوى ل التقيـة‪ ،‬وقول ال تعالى‪:‬‬
‫ن يَفْعَل ذَِل كَ فَ َليْسمِنَ الِ في شَيء إلّ‬
‫((لَ َيتّخِذِ ا ْل ُمؤْمِنو نَ الكَا ِفرِي نَ َأوْ ِليَا َء مِ نْ دُو نِ ا ْل ُم ْؤمِنِين َومَ ْ‬
‫ن َتتّقُوا ِمنْهُم تُقَاه))[آل عمران‪ ]28:‬إنما هو المر بالتقاء من الكفار‪ ،‬ل المر بالنفاق والكذب‪.‬‬ ‫أَ ْ‬
‫وال تعالى قـد أباح لمـن أكره على كلمـة الكفـر أن يتكلم بهـا إذا كان قلبـه مطمئنًا باليمان‪ ،‬لكـن لم‬
‫يُكرَه أحد من أهل البيت على شيء من ذلك‪ ،‬حتى أن أبا بكر رضي ال عنه لم يُكرِه أحدًا ل منهم‬
‫ل على أن يكرههم على مدحه والثناء عليه‪.‬‬ ‫ول من غيرهم على مبايعته فض ً‬
‫بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم‬
‫والدعاء لهم‪ ،‬ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس‪.‬‬
‫وقــد كان فــي زمــن بنــي أميــة وبنــي العباس خلق عظيــم دون عليـّ وغيره فــي اليمان والتقوى‬
‫يكرهون منهـــم أشياء ول يمدحونهـــم ول يثنون عليهـــم‪ ،‬ول يقربونهـــم‪ ،‬ومـــع هذا لم يكـــن هؤلء‬
‫يخافونهـم‪ ،‬ولم يكــن أولئك يكرهونهـم‪ ،‬مـع أن الخلفاء الراشديــن كانوا باتفاق الخلق أبعــد عــن قهــر‬
‫الناس وعقوبتهم على طاعتهم من هؤلء‪.‬‬
‫فإذا لم يكــن الناس مــع هؤلء مكرهيــن على أن يقولوا بألســنتهم خلف مــا فــي قلوبهــم‪ ،‬فكيــف‬
‫يكونون مكرهيــن مــع الخلفاء على ذلك‪ ،‬بــل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفــر ‪-‬كمــا تقوله‬
‫الرافضة‪ -‬من غير أن يكرههم أحد على ذلك؟‬
‫فعلم أن مـا تتظاهـر بـه الرافضـة هـو مـن باب الكذب والنفاق‪ ،‬وأن يقولوا بألسـنتهم مـا ليـس فـي‬
‫قلوبهم‪ ،‬ل من باب ما يكره المؤمن عليه من التكلم بالكفر‪ ،‬وهؤلء أسرى المسلمين في بلد الكفار‬
‫غالبهم يظهرون دينهم‪ ،‬والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور وتكفير عثمان وعلي ومن ولهما‬
‫يتظاهرون بدينهم‪.‬‬
‫وإذا سـكنوا بيـن الجماعـة سـكنوا على الموافقـة والمخالفـة‪ ،‬والذي يسـكن فـي مدائن الرافضـة فل‬
‫يظهـر الرفـض‪ ،‬وغايتـه إذا ضعـف أن يسـكت عـن ذكـر مذهبـه‪ ،‬ل يحتاج أن يتظاهـر بسـب الخلفاء‬
‫والصحابة‪ ،‬إل أن يكونوا قليلً‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫فكيف يظن بعلي رضي ال عنه وغيره من أهل البيت أنهم كانوا أضعف دينًا وقلوبًا من السرى‬
‫في بلد الكفر‪ ،‬ومن عوام أهل السنة‪ ،‬ومن النواصب؟ مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدًا لم يُكرِه عليّا‬
‫ول أولده على ذكـر فضائل الخلفاء‪ ،‬والترحـم عليهـم‪ ،‬بـل كانوا يقولون ذلك مـن غيـر إكراه‪ ،‬ويقوله‬
‫أحدهم لخاصته‪ ،‬كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر‪.‬‬
‫عمِلوا الصعّاِلحَات))[النور‪ ]55:‬أن‬ ‫وأيضـا فقـد يقال فـي قوله تعالى‪(( :‬وَعَدَ الُ الّذِينَع آ َمنُوا مِنْكُم وَ َ‬
‫ذلك وصـف الجملة بصـفة تتضمـن حالهـم عنـد الجتماع‪ ،‬كقوله تعالى‪(( :‬وَ َمثَُلهُم فعي ا ِلنْجِيلِ َك َزرْعٍع‬
‫زرّاععَ ِليَغيظَع بِهِم ال ُكفّار))[الفتــح‪]29:‬‬‫خرَجَع شَطْأَهعُ فَآ َزرَهعُ فَاس ْعتَغَْلظَ فَاس ْع َتوَى عَلَى سعُوقِه يُعْجِبعُ ال ّ‬
‫أَ ْ‬
‫والمغفرة والجـر فـي الخرة يحصـل لكـل واحـد واحـد‪ ،‬فل بـد أن يتصـف بسـبب ذلك‪ ،‬وهـو اليمان‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬إذ قد يكون في الجملة منافقًا‪.‬‬
‫وفي الجملة ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم‪ ،‬فهم‬
‫أول مـن دخـل فـي ذلك مـن هذه المـة‪ ،‬وأفضـل مـن دخـل فـي ذلك مـن هذه المـة كمـا اسـتفاض عـن‬
‫النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـن غيـر وجـه أنـه قال‪( :‬خيـر القرون القرن الذي بعثـت فيهـم‪ ،‬ثـم الذيـن‬
‫يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم)(‪.)1‬‬
‫(الوجعه الثانعي)‪ :‬فـي بيان كذبـه وتحريفـه فيمـا نقله عـن حال الصـحابة بعـد موت النـبي صـلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫قوله‪( :‬فبعضهم طلب المر لنفسه بغير حق‪ ،‬وبايعه أكثر الناس طلبًا للدنيا)‪.‬‬
‫وهذا إشارة إلى أبـي بكـر‪ ،‬فإنـه هـو الذي بايعـه أكثـر الناس‪ ،‬ومـن المعلوم أن أبـا بكـر لم يطلب‬
‫المـر لنفسـه‪ ،‬ل بحـق ول بغيـر حـق‪ ،‬بـل قال‪ :‬قـد رضيـت لكـم أحـد هذيـن الرجليـن‪ :‬إمـا عمـر بـن‬
‫الخطاب وإما أبا عبيدة‪.‬‬
‫قال عمـر‪ :‬فوال لن أقدم فتضرب عنقـي‪ ،‬ل يقرّبنـي ذلك إلى إثـم‪ ،‬أحـب إلي مـن أن أتأمـر على‬
‫قوم فيهم أبو بكر‪ .‬وهذا اللفظ في الصحيحين(‪.)2‬‬
‫وقد روي عنه أنه قال‪ :‬أقيلوني‪ ،‬أقيلوني‪ ،‬فالمسلمون اختاروه وبايعوه‪ ،‬لعلمهم بأنه خيرهم‪ ،‬كما‬
‫قال له عمـر يوم السـقيفة بمحضـر المهاجريـن والنصـار‪ :‬أنـت سـيدنا وخيرنـا وأحبنـا إلى رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم ينكر ذلك أحد‪ ،‬وهذا أيضًا في الصحيحين(‪.)3‬‬
‫والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة‪( :‬ادعي لي‬
‫أباك وأخاك حتــى أكتــب لبــي بكــر كتابًـا‪ ،‬ل يختلف عليــه الناس مــن بعدي‪ ،‬ثــم قال‪ :‬يأبــى ال‬
‫والمؤمنون أن يتولى غير أبـي بكـر)(‪ )4‬فال هو ولّه قدرًا وشرعًا‪ ،‬وأمر المؤمنيـن بوليتـه‪ ،‬وهداهـم‬
‫إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ذلك لنفسه‪.‬‬
‫(الوجعه الثالث)‪ :‬أن يقال‪ :‬فهـب أنـه طلبهـا وبايعـه أكثـر الناس‪ ،‬فقولكـم‪ :‬إن ذلك طلب للدنيـا كذب‬
‫ظاهر‪.‬‬
‫فإن أبـا بكـر لم يعطهـم دنيـا‪ ،‬وكان قـد أنفـق ماله فـي حياة النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ولمـا رغـب‬
‫النـبي صـلى ال عليـه وسـلم فـي الصـدقة جاء بماله كله‪ ،‬فقال له‪(:‬مـا تركـت لهلك؟ قال‪:‬تركـت لهـم‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )3/171‬ومواضع أُخر‪ ،‬ومسلم (‪.)4/1962‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري (‪.)142-8/140‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الذي قبله‪.‬‬
‫‪ )(4‬وقد سبق ذكره (ص ‪.)63‬‬

‫‪53‬‬
‫ال‪ ،‬ورسوله)(‪.)1‬‬
‫والذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا‪ ،‬وهم الذين أثنى ال عليهم‪.‬‬
‫وقـد علم الخاص والعام زهـد عمـر وأبـي عـبيدة وأمثالهمـا‪ ،‬وإنفاق النصـار أموالهـم‪ :‬كأسـيد بـن‬
‫حضير‪ ،‬وأبي طلحة‪ ،‬وأبي أيوب وأمثالهم‪.‬‬
‫ولم يكن عند موت النبي صلى ال عليه وسلم لهم بيت مال يعطيهم ما فيه‪ ،‬ول كان هناك ديوان‬
‫للعطاء يُفرض لهم فيه‪ ،‬والنصار كانوا في أملكهم وكذلك المهاجرون‪ :‬من كان له شيء من مغنم‬
‫أو غيره فقد كان له‪.‬‬
‫وكانـت سـيرة أبـي بكـر فـي قسـم الموال التسـوية‪ ،‬وكذلك سـيرة علي رضـي ال عنـه‪ ،‬فلو بايعوا‬
‫عليّا أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر‪ ،‬مع كون قبيلته أشرف القبائل‪ ،‬وكون بني عبد مناف ‪-‬وهم أشرف‬
‫قريـش الذيـن هـم أقرب العرب مـن بنـي أميـة وغيرهـم إذ ذلك‪ ،‬كأبـي سـفيان بـن حرب وغيره‪ ،‬وبنـي‬
‫هاشم ‪-‬كالعباس وغيره‪ -‬كانوا معه‪.‬‬
‫فقد أراد أبو سفيان وغيره أن تكون المارة في بني عبد مناف ‪-‬على عادة الجاهلية‪ -‬فلم يجبه إلى‬
‫ذلك عليّ ول عثمان ول غيرهما لعلمهم أو دينهم‪.‬‬
‫فأ يّ رياسة وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر؟ ل سيما وهو يسوّي بين السابقين‬
‫والوليـن‪ ،‬وبيـن آحاد المسـلمين فـي العطاء‪ ،‬ويقول‪ :‬إنمـا أسـلموا ل وأجورهـم على ال‪ ،‬وإنمـا هذا‬
‫المتاع بلغ‪.‬‬
‫وقال لعمـر لمـا أشارعليـه بالتفضيـل فـي العطاء‪ :‬أفأشتري منهـم إيمانهـم؟ فالسـابقون الولون مـن‬
‫المهاجرين والنصار الذين اتبعوهم أولً‪ ،‬كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم‪ ،‬سوّى بينهم‬
‫وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح‪ ،‬بل وبين من أسلم بعد موت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهل‬
‫حصل لهؤلء من الدنيا بوليته شيء؟‬
‫(الوجععه الرابععع)‪ :‬أن يقال‪ :‬أهــل السـنّة مــع الرافضــة كالمســلمين مــع النصــارى‪ ،‬فإن المســلمين‬
‫يؤمنون بأن المسيح عبد ال ورسوله‪ ،‬ول يغلون فيه غلو النصارى‪ ،‬ول يجفون جفاء اليهود‪.‬‬
‫والنصــارى تدّعــي فيــه اللهيــة وتريــد أن تفضله على محمــد وإبراهيــم وموســى‪ ،‬بــل تفضــل‬
‫الحواريين على هؤلء الرسل‪.‬‬
‫كمـا تريـد الروافـض أن تفضـل مـن قاتـل مـع علي كمحمـد بـن أبـي بكـر والشتـر النخعـي على أبـي‬
‫بكر وعمر وعثمان وجمهور المهاجرين والنصار‪ ،‬فالمسلم إذا ناظر النصراني ل يمكنه أن يقول‬
‫فـي عيسـى إل الحـق‪ ،‬لكـن إذا أردت أن تعرف جهـل النصـراني وأنـه ل حجـة له فقدّر المناظرة بينـه‬
‫وبين اليهود‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫فإن النصراني ل يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إل بما يجيب به المسلم‪ ،‬فإن لم يدخل في‬
‫دين السلم وإل كان منقطعًا مع اليهودي‪ ،‬فإنه إذا أُمر باليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فإن قدح فـي نبوتـه بشيـء مـن الشياء‪ ،‬لم يمكنـه أن يقول شيئا إل قال اليهودي فـي المسـيح مـا هـو‬
‫أعظم من ذلك‪ ،‬فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح‪.‬‬
‫وبُعد أمر محمد عن الشبهة‪ ،‬أعظم من بعد المسيح عن الشبهة‪ ،‬فإن جاز القدح فيما دليله أعظم‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )2/112‬وغيه‪.‬‬
‫‪ )(2‬يعن أن اليهود يرمون مري بالفجور‪ ،‬وما دام النصران يكذب ما نزل على ممد صلى ال عليه وسلم ل يكنه الرد على اليهود ف أمر عيسى‪ .‬لن عيسى‬
‫أمر باليان بحمد صلى ال عليه وسلم فإذا امتنع النصارى من اليان بحمد صلى ال عليه وسلم صار ذلك فيه تكذيب لعيسى‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫وشبهته أبعد عن الحق‪ ،‬فالقدح فيما دونه أولى‪.‬‬
‫وإن كان القدح فـي المسـيح باطلً فالقدح فـي محمـد أولى بالبطلن‪ ،‬فإنـه إذا بطلت الشبهـة القويـة‬
‫فالضعيفة أولى بالبطلن‪ ،‬وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالثبات‪.‬‬
‫ولهذا كان مناظرة كثيـر مـن المسـلمين للنصـارى مـن هذا الباب كالحكايـة المعروفـة عـن القاضـي‬
‫أبي بكر بن الطيب‪ ،‬لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية‪ ،‬فإنهم عظّموه‪ ،‬وعرف‬
‫النصـارى قدره‪ ،‬فخافوا أن ل يسـجد للملك إذا دخـل‪ ،‬فأدخلوه مـن باب صـغير ليدخـل منحنيًا‪ ،‬ففطـن‬
‫لمكرهم فدخل مستدبرًا متلقيًا لهم بعجزه‪.‬‬
‫ففعل نقيض ما قصدوه‪ ،‬ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين‪ ،‬فقال له‪ :‬ما قيل في‬
‫عائشة امرأة نبيكم؟ يريد إظهار قول الفك الذي يقوله من يقول من الرافضة أيضًا‪.‬‬
‫فقال القاضي‪ :‬ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكًا وكذبًا‪ :‬مريم وعائشة‪ ،‬فأما مريم فجاءت بالولد‬
‫تحمله من غير زوج‪ ،‬وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج‪ ،‬فأبهت النصارى‪.‬‬
‫وكان مضمون كلمــه أن ظهور براءة عائشــة أعظــم مــن ظهور براءة مريــم‪ ،‬وأن الشبهــة إلى‬
‫مريــم أقرب منهــا إلى عائشــة‪ ،‬فإذا كان مــع هذا قــد ثبــت كذب القادحيــن فــي مريــم‪ ،‬فثبوت كذب‬
‫القادحين في عائشة أولى‪.‬‬
‫ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين‪ ،‬ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل‬
‫وأصـغر‪ ،‬فإذا ذكـر مـا فيهـا مـن ذلك عورض بأن مسـاوئ تلك أعظـم‪ ،‬كقوله تعالى‪(( :‬يسعئلونكَ عَنِع‬
‫حرَامِع ِقتَالٌ فِيعه قُل ِقتَا ٌل فيهِع َكبِيعر))[البقرة‪ ،]217:‬ثـم قال‪(( :‬وَصَعدّ عَنْع سَعبِيلِ الِ وَكُ ْف ٌر بِهِع‬ ‫ش ْهرِ الْ َ‬
‫ال ّ‬
‫عنْدَ ال وَالْ ِف ْتنَةُ َأ ْكبَ َر مِنعَ الْقَتْل))[البقرة‪ ]217:‬فإن الكفار‬
‫خرَاجعُ أَهْلِهعِ ِمنْهعُ أَ ْك َبرَ ِ‬
‫حرَامِع وَإِ ْ‬
‫وَا ْلمَسعْجِدِ ا ْل َ‬
‫عيّروا سـرية مـن سـرايا المسـلمين بأنهـم قتلوا ابـن الحضرمـي فـي الشهـر الحرام‪ ،‬فقال تعالى‪ :‬هذا‬
‫كـبير ومـا عليـه المشركون مـن الكفـر بال والصـد عـن سـبيله وعـن المسـجد الحرام وإخراج أهله منـه‬
‫أكبر عند ال‪ ،‬فإن هذا صد عما ل تحصل النجاة والسعادة إل به‪ ،‬وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما‬
‫هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام‪.‬‬
‫لكـن فـي هذا النوع قـد اشتملت كـل مـن الطائفتيـن على مـا يذم‪ ،‬وأمـا النوع الول فيكون كـل مـن‬
‫الطائفتيـن ل يسـتحق الذم‪ ،‬بـل هناك شبـه فـي الموضعيـن وأدلة فـي الموضعيـن‪ ،‬وأدلة أحـد الصـنفين‬
‫أقوى وأظهـر‪ ،‬وشبهتـه أضعـف وأخفـى‪ ،‬فيكون أولى بثبوت الحـق ممـن تكون أدلتـه أضعـف وشبهتـه‬
‫أقوى‪.‬‬
‫وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين‪ ،‬وهو حال أهل البدع مع أهل السنّة لسيما الرافضة‪،‬‬
‫وهكذا أمر أهل السنّة مع الرافضة في أبي بكر وعلي‪ ،‬فإن الرافضي ل يمكنه أن يثبت إيمان علي‬
‫وعدالته وأنه من أهل الجنة ‪-‬فضلً عن إمامته‪ -‬إن لم يثبت ذلك لبي بكر وعمر وعثمان‪.‬‬
‫وإل فمتــى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تســاعده الدلة‪ ،‬كمــا أن النصــراني إذا أراد إثبات نبوة‬
‫المسيح دون محمد لم تساعده الدلة‪.‬‬
‫فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليّا أو النواصب الذين يفسقونه‪ :‬إنه كان ظالمًا طالبًا للدنيا‪،‬‬
‫وإنـه طلب الخلفـة لنفسـه وقاتـل عليهـا بالسـيف‪ ،‬وقتـل على ذلك ألوفًا مـن المسـلمين حتـى عجـز عـن‬
‫انفراده بالمـر‪ ،‬وتفرق عليـه أصـحابه وظهروا عليـه فقاتلواه‪ ،‬فهذا الكلم إن كان فاسـدًا ففسـاد كلم‬
‫الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم‪ ،‬وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجهًا مقبولً‪ ،‬فهذا أولى‬
‫بالتوجه والقبول‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫لنـه مـن المعلوم للخاصـة والعامـة أن مـن ولّه الناس باختيارهـم ورضاهـم مـن غيـر أن يضرب‬
‫ل واجتمعوا عليــه فلم يول أحدًا مــن أقاربــه‬ ‫أحدًا ل بســيف ول عصــا ول أعطــى أحدًا ممــن وله ما ً‬
‫ل مـن مال المسـلمين‪ ،‬وكان له مال قـد أنفقـه فـي سـبيل ال‪ ،‬فلم يأخـذ‬ ‫وعترتـه‪ ،‬ول خلف لورثتـه ما ً‬
‫بدله‪ ،‬وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم‪ ،‬وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر‪ :‬أتسلب هذا آل أبي بكر قال‪ :‬كل وال‪ .‬ل يتحنث فيها أبو‬
‫بكر وأتحملها أنا‪ .‬وقال‪ :‬يرحمك ال يا أبا بكر لقد أتعبت المراء بعدك‪.‬‬
‫ثـم مـع هذا لم يقتـل مسـلمًا على وليتـه‪ ،‬ول قاتـل مسـلمًا بمسـلم‪ ،‬بـل قاتـل بهـم المرتديـن عـن دينهـم‬
‫والكفار‪ ،‬حتـى شرع بهـم فـي فتـح المصـار‪ ،‬واسـتخلف القوي الميـن العبقري الذي فتـح المصـار‬
‫ونصب الديوان‪ ،‬وعم بالعدل والحسان‪.‬‬
‫فإن جاز للرافضــي أن يقول‪ :‬إن هذا كان طالبًا للمال والرياســة‪ ،‬أمكــن الناصــبي أن يقول‪ :‬كان‬
‫علي ظالمًا طالبًا للمال والرياسـة‪ ،‬قاتـل على الوليـة حتـى قتـل المسـلمون بعضهـم بعضًا‪ ،‬ولم يقاتـل‬
‫كافرًا‪ ،‬ولم يحصل للمسلمين في مدة وليته إل شر وفتنة في دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫فإن جاز أن يقال‪ :‬علي كان مريدًا لوجــه ال والتقصــير مــن غيره مــن الصــحابة‪ ،‬أو يقال‪ :‬كان‬
‫مجتهدًا مصــيبًا‪ ،‬وغيره مخطئًا مــع هذه الحال فإنــه يقال‪ :‬كان أبــو بكــر وعمــر مريديــن وجــه ال‬
‫مصيبين‪ ،‬والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الولى والحرى‪.‬‬
‫فإن أبـا بكـر وعمـر كان بعدهمـا عـن شبهـة طلب الرياسـة والمال أشـد مـن بعـد علي عـن ذلك‪،‬‬
‫وشبهـة الخوارج الذيـن ذموا عليّا وعثمان وكفروهمـا أقرب مـن شبهـة الرافضـة الذيـن ذموا أبـا بكـر‬
‫وعمر وكفروهما‪ ،‬فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه؟ فشبهتهم أقوى‬
‫مـن شبهـة مـن قدح فـي أبـي بكـر وعمـر وعثمان‪ ،‬فإن أولئك قالوا‪ :‬مـا يمكننـا أن نبايـع إل مـن يعدل‬
‫علينـا‪ ،‬ويمنعنـا ممـن ظلمنـا‪ ،‬ويأخـذ حقنـا ممـن ظلمنـا‪ ،‬فإذا لم يفعـل هذا كان عاجزًا أو ظالمًا‪ ،‬وليـس‬
‫علينا أن نبايع عاجزًا أو ظالمًا‪.‬‬
‫وهذا الكلم إذا كان باطلً‪ ،‬فبطلن قول من يقول‪ :‬إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للرياسة‬
‫والمال أبطل وأبطل‪ ،‬وهذا المر ل يستريب فيه من له بصر ومعرفة‪ ،‬وأين شبهة مثل أبي موسى‬
‫الشعري الذي وافـق عمرًا على عزل علي ومعاويـة وأن يجعـل المـر شورى فـي المسـلمين‪ ،‬مـن‬
‫شبهة عبد ال بن سبأ وأمثاله الذين يدّعون أنه إمام معصوم‪ ،‬أو أنه إله أو نبي؟!‬
‫بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدّعون أنه إله أو نبي‪ ،‬فإن هؤلء كفار‬
‫باتفاق المسـلمين بخلف أولئك‪ ،‬وممـا يـبين هذا أن الرافضـة تعجـز عـن إثبات إيمان علي وعدالتـه‪،‬‬
‫مــع كونهــم على مذهــب الرافضــة‪ ،‬ول يمكنهــم ذلك إل إذا صــاروا مــن أهــل الســنة‪ ،‬فإذا قالت لهــم‬
‫الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه‪ :‬ل نُسلّم أنه كان مؤمنًا‪ ،‬بل كان كافرًا أو ظالمًا ‪-‬كما يقولون‬
‫هـم فـي أبـي بكـر وعمـر‪ -‬لم يكـن لهـم دليـل على إيمانـه وعدله‪ ،‬إل وذاك الدليـل على أبـي بكـر وعمـر‬
‫وعثمان أدل‪.‬‬
‫فإن احتجوا بمـا تواتـر مـن إسـلمه وهجرتـه وجهاده‪ ،‬فقـد تواتـر ذلك عـن هؤلء‪ ،‬بـل تواتـر إسـلم‬
‫معاويـة ويزيد وخلفاء بني أمية وبنـي العباس‪ ،‬وصـلتهم وصيامهم وجهادهـم للكفار‪ ،‬فإن ادعوا في‬
‫واحد من هؤلء النفاق أمكن الخارجى أن يدعى النفاق فيه(‪.)1‬‬
‫‪ )(1‬يعن ف علي‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫وإذا ذكروا شبهـة‪ ،‬ذكـر مـا هـو أعظـم منهـا‪ ،‬وإذا قالوا مـا تقوله أهـل الفريـة مـن أن أبـا بكـر وعمـر‬
‫كانـا منافقيـن فـي الباطـن عدويـن للنـبي صـلى ال عليـه وسـلم أفسـدا دينـه بحسـب المكان‪ ،‬أمكـن‬
‫الخارجـى أن يقول ذلك فـي علي ويوجـه ذلك بأن يقول‪ :‬كان يحسـد ابـن عمـه وأنـه كان يريـد إفسـاد‬
‫دينـه فلم يتمكـن مـن ذلك فـي حياتـه وحياة الخلفاء الثلثـة‪ ،‬حتـى سـعى فـي قتـل الخليفـة الثالث‪ ،‬وأوقـد‬
‫الفتنة‪ ،‬حتى غل في قتل أصحاب محمد‪ ،‬وأمته بغضًا له وعداوة‪ ،‬وأنه كان مباطنًا للمنافقين الذين‬
‫ادعوا فيـه اللهيـة والنبوة‪ ،‬وكان يظهـر خلف مـا يبطـن‪ ،‬لن دينـه التقيـة‪ ،‬فلمـا أحرقهـم بالنار أظهـر‬
‫إنكار ذلك‪ ،‬وإل فكان في الباطن معهم‪.‬‬
‫ولهذا كانـت الباطنيـة مـن أتباعـه‪ ،‬وعندهـم سـره‪ ،‬وهـم ينقلون عنـه الباطـن الذي ينتحلونـه‪ ،‬ويقول‬
‫الخارجــى مثــل هذا الكلم الذي يروج على كثيــر مــن الناس أعظــم ممــا يروج كلم الرافضــة فــي‬
‫الخلفاء الثلثــة‪ ،‬لن شبهــة الرافضــة أظهــر فســادًا مــن شبهــة الخوارج‪ ،‬وهــم أصــح منهــم عقلً‪،‬‬
‫ومقصدًا‪ ،‬والرافضة أكذب وأفسد دينًا‪.‬‬
‫وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه‪ ،‬قيل‪ :‬القرآن عام‪ ،‬وتناوله له ليس بأعظم من‬
‫تناوله لغيره‪ ،‬وما من آية يدعون اختصاصها به إل أمكن أن يدعى اختصاصها أو اختصاص مثلها‬
‫أو أعظم منها بأبي بكر وعمر‪.‬‬
‫فباب الدعوى بل حجة ممكنة‪ ،‬والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬ثبت ذلك بالنقل والرواية؛ فالنقل والرواية في أولئك أكثر وأشهر‪ ،‬فإن ادعوا تواترًا‪،‬‬
‫فالتواتر هناك أصحٍ‪ ،‬وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر‪.‬‬
‫ثـم هـم يقولون‪ :‬إن الصـحابة ارتدوا إل نفرًا قليلً‪ ،‬فكيـف تقبـل روايـة هؤلء فـي فضيلة أحـد؟ ولم‬
‫يكـن فـي الصـحابة رافضـة كثيرون يتواتـر نقلهـم‪ ،‬فطريـق النقـل مقطوع عليهـم إن لم يسـلكوا طريـق‬
‫أهل السنة‪ ،‬كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين‪.‬‬
‫وهذا كمــن أراد أن يثبــت فقــه ابــن عباس دون علي أو فقــه ابــن عمــر دون أبيــه‪ ،‬أو فقــه علقمــة‬
‫والسود دون ابن مسعود‪ ،‬ونحو ذلك من المور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك‬
‫الحكم منه‪ ،‬فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل‪.‬‬
‫ولهذا كانـت الرافضـة مـن أجهـل الناس وأضلهـم‪ ،‬كمـا أن النصـارى مـن أجهـل الناس‪ ،‬والرافضـة‬
‫من أخبث الناس‪ ،‬كما أن اليهود من أخبث الناس‪ ،‬ففيهم نوع من ضلل النصارى‪ ،‬ونوع من خبث‬
‫اليهود‪.‬‬
‫(الوجعه الخامعس)‪ :‬أن يقال‪ :‬تمثيـل هذا بقصـة عمـر بـن سـعد طالبًا للرياسـة والمال مقدمًا على‬
‫المحرّم لجل ذلك فيلزم أن يكون السابقون الولون بهذه الحال؟ وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان‬
‫مـن أزهـد الناس فـي المارة والوليـة‪ ،‬ولمـا وقعـت الفتنـة اعتزل الناس فـي قصـره بالعقيـق‪ ،‬وجاءه‬
‫عمــر ابنــه هذا فلمــه على ذلك‪ ،‬وقال له‪ :‬الناس فــي المدينــة يتنازعون الملك وأنــت ههنــا؟ فقال‪:‬‬
‫(اذهب فإني سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬إن ال يحب العبد التقي الغني الخفيّ)(‪.)1‬‬
‫هذا ولم يكـن قـد بقـي أحـد مـن أهـل الشورى غيره وغيـر علي رضـي ال عنهمـا‪ ،‬وهـو الذي فتـح‬
‫العراق‪ ،‬وأذل جنود كسرى‪ ،‬وهو آخر العشرة موتًا‪.‬‬
‫فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان؟ هذا وهم ل يجعلون محمد بن‬
‫أبي بكر بمنزلة أبيه‪ ،‬بل يفضلون محمدًا ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان‪ ،‬وكان من خواص‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السند (‪ )3/26‬تقيق أحد شاكر‪ ،‬وانظر‪ :‬صحيح مسلم (‪.)4/2277‬‬

‫‪57‬‬
‫أصحاب علي؛ لنه كان ربيبه‪ ،‬ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه‪ ،‬فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد‬
‫مثـل ذلك‪ :‬فمدحوه على قتـل الحسـين لكونـه كان مـن شيعـة عثمان‪ ،‬ومـن المنتصـرين له‪ ،‬وسـبوا أباه‬
‫سـعدًا لكونـه تخلف عـن القتال مـع معاويـة والنتصـار لعثمان‪ ،‬هـل كانـت النواصـب لو فعلت ذلك إل‬
‫من جنس الرافضة؟‬
‫بـل الرافضـة شـر منهـم‪ ،‬فإن أبـا بكـر أفضـل مـن سـعد‪ ،‬وعثمان كان أبعـد عـن اسـتحقاق القتـل مـن‬
‫الحسـين‪ ،‬وكلهمـا مظلوم شهيـد رضـي ال تعالى عنهمـا‪ ،‬ولهذا كان الفسـاد الذي حصـل فـي المـة‬
‫بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في المة بقتل الحسين‪.‬‬
‫وعثمان مـن السـابقين الوليـن‪ ،‬وهـو خليفـة مظلوم طلب منـه أن ينعزل بغيـر حـق فلم ينعزل ولم‬
‫يقاتـل عـن نفسـه حتـى قتـل‪ ،‬والحسـين رضـي ال عنـه لم يكـن متوليًا‪ ،‬وإنمـا كان طالبًا للوليـة‪ ،‬حتـى‬
‫رأى أنها متعذرة‪ ،‬وطلب منه يستأسر نفسه ليحمل إلى يزيد مأسورًا‪ ،‬فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى‬
‫قتل مظلومًا شهيدًا‪ ،‬فظلم عثمان كان أعظم‪ ،‬وصبره وحلمه كان أكمل‪ ،‬وكلهما مظلوم شهيد‪ ،‬ولو‬
‫مثـل ممثـل طلب علي والحسـين للمـر بطلب السـماعيلية كالحاكـم وأمثاله‪ ،‬وقال‪ :‬إن عليًا والحسـين‬
‫كانـا ظالميـن طالبيـن للرياسـة بغيـر حـق‪ ،‬بمنزلة الحاكـم وأمثاله مـن ملوك بنـي عبيـد‪ ،‬أمـا كان يكون‬
‫كاذبًا مفتريًا في ذلك لصحة إيمان علي والحسين‪ ،‬ودينهما وفضلهما‪ ،‬ولنفاق هؤلء وإلحادهم؟‬
‫وكذلك مـن شبّهـ عليًا والحسـين ببعـض مـن قام مـن الطالبييـن أو غيرهـم بالحجاز أو الشرق أو‬
‫الغرب يطلب الوليـة بغيـر حـق‪ ،‬ويظلم الناس فـي أموالهـم وأنفسـهم‪ ،‬أمـا كان يكون ظالمًا كاذبًا؟‬
‫فالمشبّهـ لبـي بكـر وعمـر بعمـر بـن سـعد أولى بالكذب والظلم‪ ،‬ثـم غايـة عمـر بـن سـعد وأمثاله أن‬
‫يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية‪ ،‬وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين‪.‬‬
‫وأما الشيعة فكثيرمنهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين السلم‪ ،‬ومعاداة النبي صلى‬
‫ال عليــه وســلم‪ ،‬كمــا يعرف ذلك مــن خطاب الباطنيــة وأمثالهــم مــن الداخليــن فــي الشيعــة‪ ،‬فإنهــم‬
‫يعترفون بأنهــم فــي الحقيقــة ل يعتقدون ديــن الســلم‪ ،‬وإنمــا يتظاهرون بالتشيــع لقلة عقــل الشيعــة‬
‫وجهلهم ليتوصلوا بهم إلى أغراضهم‪.‬‬
‫وأوّل هؤلء ‪-‬بـل خيارهـم‪ -‬هـو المختار بـن أبـي عبيـد الكذاب‪ ،‬فإنـه كان أميـر الشيعـة‪ ،‬وقتـل عبيـد‬
‫ال بـن زياد‪ ،‬وأظهـر النتصـار للحسـين حتـى قتـل قاتله‪ ،‬وتقرب بذلك إلى محمـد بـن الحنفيـة وأهـل‬
‫البيت‪ ،‬ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه‪ ،‬وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫أنه قال‪( :‬سيكون في ثقيف كذاب ومبير)(‪.)1‬‬
‫فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد‪ ،‬وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي‪ ،‬ومن المعلوم‬
‫أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين‪ ،‬مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين‪ ،‬لم يصل في‬
‫المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر النتصار للحسين وقتل قاتله‪ ،‬بل كان هذا أكذب‬
‫وأعظم ذنبًا من عمر بن سعد‪.‬‬
‫فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي‪ ،‬بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد‪ ،‬فإن‬
‫الحجاج كان مـبيرًا كمـا سـمّاه النـبي صـلى ال عليـه وسـلم –يسـفك الدماء بغيـر حـق ‪-‬والمختار كان‬
‫كذابًا يدّعي النبوة وإتيان جبريل إليه‪ ،‬وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس‪ ،‬فإن هذا كفر‪ ،‬وإن كان لم‬
‫يتب منه كان مرتدًا‪ ،‬والفتنة أعظم من القتل‪.‬‬
‫وهذا باب مطّرد ل تجد أحدًا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إل وفيهم من هو شر منه‪ ،‬ول تجد‬
‫‪ )(1‬مسلم (‪.)4/1971‬‬

‫‪58‬‬
‫أحدًا ممــن تمدحــه الشيعـة إل وفيمـن تمدحــه الخوارج مـن هــو خيـر منـه‪ ،‬فإن الروافــض شـر مــن‬
‫النواصب‪ ،‬والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب‪.‬‬
‫وأمـا أهـل السـنة فيتولون جميـع المؤمنيـن‪ ،‬ويتكلمون بعلم وعدل‪ ،‬ليسـوا مـن أهـل الجهـل ول مـن‬
‫أهل الهواء‪ ،‬ويتبرءون من طريقة الروافض والنواصب جميعًا‪ ،‬ويتولون السابقين الوليـن كلهم‪،‬‬
‫ويعرفون قدر الصـحابة وفضلهـم ومناقبهـم‪ ،‬ويرعون حقوق أهـل البيـت التـي شرعهـا ال لهـم‪ ،‬ول‬
‫يرضون بما فعله المختار ونحو من الكذابين‪ ،‬ول ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين‪.‬‬
‫ويعلمون مـع هذا مراتـب السـابقين الوليـن‪ ،‬فيعلمون أن لبـي بكـر وعمـر مـن التقدم والفضائل مـا‬
‫لم يشاركهمـا فيهمـا أحـد مـن الصـحابة‪ ،‬ل عثمان ول علي ول غيرهمـا‪ ،‬وهذا كان متفقًا عليـه فـي‬
‫الصدر الول‪ ،‬إل أن يكون خلف شاذ ل يعبأ به‪.‬‬
‫حتـى إن الشيعـة الولى أصـحاب علي لم يكونوا يرتابون فـي تقديـم أبـي بكـر وعمـر عليـه‪ ،‬فكيـف‬
‫وقـد ثبـت عنـه مـن وجوه متواترة أنـه كان يقول‪( :‬خيـر هذه المـة بعـد نبيهـا‪ :‬أبـو بكـر وعمـر) ولكـن‬
‫كان طائفـة مـن شيعـة علي تقدمـه على عثمان‪ ،‬وهذه المسـألة أخفـى مـن تلك‪ ،‬ولهذا كان أئمـة أهـل‬
‫السـنة متفقيـن على تقديـم أبـي بكـر وعمـر كمـا فـي مذهـب أبـي حنيفـة‪ ،‬والشافعـي‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأحمـد بـن‬
‫حنبـل‪ ،‬والثورى‪ ،‬والوزاعـي‪ ،‬والليـث بـن سـعد‪ ،‬وسـائر أئمـة المسـلمين مـن أهـل الفقـه والحديـث‬
‫والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين‪.‬‬
‫وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما‪ ،‬وهي إحدى الروايتين عن مالك‪،‬‬
‫وكان طائفة من الكوفيين يقدمون عليًا‪ ،‬وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري‪ ،‬ثم قيل‪ :‬إنه رجع‬
‫عــن ذلك لمــا اجتمــع بــه أيوب الســختياني‪ ،‬وقال مــن قدم عليًا على عثمان فقــد أزرى بالمهاجريــن‬
‫والنصار‪ ،‬وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث‪ ،‬وعليه يدل النص‬
‫والجماع والعتبار‪.‬‬
‫وأمـا مـا يحكـى عـن بعـض المتقدميـن مـن تقديـم جعفـر أو تقديـم طلحـة أو نحـو ذلك فذلك فـي أمور‬
‫مخصوصة ل تقديمًا عامًا‪ ،‬وكذلك ما ينقل عن بعضهم في علي‪.‬‬
‫وأمـا قوله‪ :‬فبعضهـم اشتبـه المرعليـه ورأى لطالب الدنيـا مبايعًا فقلده‪ ،‬وبايعـه وقصـر فـي نظره‬
‫فخفـي عليـه الحـق فاسـتحق المؤاخذة مـن ال تعالى‪ ،‬بإعطاء الحـق لغيـر مسـتحقه‪ ،‬قال‪ :‬وبعضهـم قلد‬
‫لقصـور فطنتـه‪ ،‬ورأى الجـم الغفيـر فتابعهـم‪ ،‬وتوهـم أن الكثرة تسـتلزم الصـواب‪ ،‬وغفـل عـن قوله‬
‫عبَا ِديَ الشّكُور)) [ص‪.]24:‬‬
‫تعالى‪(( :‬وَقَلِي ٌل مَا هُم وَ َقلِيلٌ مِنْ ِ‬
‫فيقال لهذا المفتري الذي جعـل الصـحابة الذيـن بايعوا أبـا بكـر ثلثـة أصـناف أكثرهـم طلبوا الدنيـا‬
‫وصـنف قصـروا فـي النظـر‪ ،‬وصـنف عجزوا عنـه‪ ،‬لن الشـر إمـا أن يكون لفسـاد القصـد‪ ،‬وإمـا أن‬
‫يكون للجهل‪ ،‬والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر‪ ،‬وإما أن يكون لعجز عنه‪.‬‬
‫وذكـر أنـه كان فـي الصـحابة وغيرهـم مـن قصـر فـي النظـر حيـن بايـع أبـا بكـر‪ ،‬ولو نظـر لعرف‬
‫الحـق‪ ،‬وهذا يؤاخـذ على تفريطـه‪ ،‬بترك النظـر الواجـب‪ ،‬وفيهـم مـن عجـز عـن النظـر‪ ،‬فقلد الجـم‬
‫الغفير‪ ،‬يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬هذا من الكذب الذي ل يعجز عنه أحد‪ ،‬والرافضة قوم بهت‪ ،‬فلو طلب من هذا المفتري‬
‫دليـــل على ذلك لم يكـــن له على ذلك دليـــل‪ ،‬وال تعالى قـــد حرم القول بغيـــر علم‪ ،‬فكيـــف إذا كان‬
‫المعروف ضد ما قاله‪ ،‬فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما ل نعلم‬
‫صرَ‬
‫سمْ َع وَا ْلبَ َ‬
‫علْ مٌ إِنّ ال ّ‬
‫ك بِهِ ِ‬
‫ف مَا َليْ سَ َل َ‬
‫من فساد القصد‪ ،‬والجهل بالمستحق‪ ،‬قال تعالى‪(( :‬وَل تَقْ ُ‬

‫‪59‬‬
‫جتُمْع فِيمَا لَكُم‬
‫عنْهُع مَسْعئُولً))[السـراء‪ ،]36:‬وقال تعالى‪(( :‬هعا َأ ْنتُمْع َهؤُلءِ حَاجَ ْ‬
‫وَالْ ُفؤَادَ ُكلّ ُأ ْوَلئِكَع كَانَع َ‬
‫علْمُع َفلِمَع تُحَاجّونَع فِيمَا َليْسَع لَكُم بِهِع عِلْم))[آل عمران‪ ]66:‬فكيـف إذا كنـا نعلم أنهـم كانوا أكمـل هذه‬ ‫بِهِع ِ‬
‫المـة عقلً‪ ،‬وعلمًا‪ ،‬ودينًا‪ ،‬كمـا قال فيهـم عبـد ال بـن مسـعود‪( :‬مـن كان منكـم مسـتنًا فليسـتن بمـن قـد‬
‫مات‪ ،‬فإن الحي ل تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬أولئك أصحاب محمد كانوا –وال‪ -‬أفضل هذه المة‪ ،‬وأبرها‬
‫قلوبًا‪ ،‬وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا‪ ،‬قوم اختارهم ال لصحبة نبيه‪ ،‬وإقامة دينه‪ ،‬فاعرفوا لهم فضلهم‪،‬‬
‫واتبعوهــم فــي آثارهــم‪ ،‬وتمســكوا بمــا اســتطعتم مــن أخلقهــم ودينهــم فإنهــم كانوا على الهدى‬
‫المستقيم)(‪ .)1‬رواه غير واحد منهم‪ :‬ابن بطة‪ ،‬عن قتادة‪.‬‬
‫وروى هـو وغيره بالسـانيد المعروفـة إلى زر بـن حـبيش‪ ،‬قال‪ :‬قال عبـد ال بـن مسـعود‪( :‬إن ال‬
‫تبارك وتعالى نظــر فــي قلوب العباد‪ ،‬فوجــد قلب محمــد صــلى ال عليــه وســلم خيــر قلوب العباد‬
‫فاصـطفاه لنفسـه‪ ،‬وابتعثـه برسـالته‪ ،‬ثـم نظـر فـي قلوب العباد بعـد قلب محمـد صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫فوجـد قلوب أصـحابه خيـر قلوب العباد فجعلهـم وزراء نـبيه‪ ،‬يقاتلون على دينـه‪ ،‬فمـا رآه المسـلمون‬
‫حسنًا فهو عند ال حسن‪ ،‬وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند ال سيء)(‪.)2‬‬
‫وفعي روايعة‪ :‬قال أبـو بكـر بـن عياش الراوي لهذا الثـر‪ ،‬عـن عاصـم بـن أبـي النجود‪ ،‬عـن زر بـن‬
‫حبيش‪ ،‬عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه‪ ،‬وقد رأى أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر‪.‬‬
‫فقول عبـد ال بـن مسـعود كانوا أبر هذه المـة قلوبًا‪ ،‬وأعمقهـا علمًا‪ ،‬وأقلهـا تكلفًا‪ ،‬كلم جامـع بيـن‬
‫فيـه حسـن قصـدهم ونياتهـم بـبر القلوب‪ ،‬وبيّنـ فيـه كمال المعرفـة ودقتهـا بعمـق العلم‪ ،‬وبيّنـ فيـه تيسـر‬
‫ذلك عليهـم وامتناعهـم مـن القول بل علم بقلة التكلف‪ ،‬وهذا خلف مـا قاله هذا المفتري الذي وصـف‬
‫أكثرهم بطلب الدنيا‪ ،‬وبعضهم بالجهل‪ ،‬إما عجزًا وإما تفريطًا‪ ،‬والذي قاله عبد ال حق‪ ،‬فإنهم خير‬
‫هذه المـة‪ ،‬كمـا تواترت بذلك الحاديـث عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم حيـث قال‪( :‬خيـر القرون‬
‫القرن الذي بعثت فيهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم)(‪.)3‬وهم أفضل المة الوسط الشهداء على‬
‫الناس‪ ،‬الذيـن هداهـم ال لمـا اختلفوا فيـه مـن الحـق بإذنـه‪ ،‬وال يهدي مـن يشاء إلى صـراط مسـتقيم‪،‬‬
‫فليسـوا مـن المغضوب عليهـم الذيـن يتبعون أهواءهـم‪ ،‬ول مـن الضاليـن الجاهليـن‪ ،‬كمـا قسـمهم هؤلء‬
‫المفترون إلى ضلل وغواة‪ ،‬بل لهم كمال العلم‪ ،‬وكمال القصد‪.‬‬
‫إذ لو لم يكـن كذلك للزم أن ل تكون هذه المـة خيـر المـم‪ ،‬وأن ل يكونوا خيـر المـة‪ ،‬وكلهمـا‬
‫خلف الكتاب والسـنة‪ ،‬وأيضًا فالعتبار العقلي يدل على ذلك‪ ،‬فإن مـن تأمـل أمـة محمـد صـلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين‪ ،‬تبين له من فضيلة‬
‫هذه المة على سائر المم في العلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬ما يضيق هذا الموضع عن بسطه‪.‬‬
‫والصحابة أكمل المة في ذلك بدللة الكتاب والستة والجماع والعتبار‪ ،‬ولهذا ل تجد أحدًا من‬
‫أعيان المــة إل وهــو معترف بفضــل الصــحابة عليــه وعلى أمثاله‪ ،‬وتجــد مــن ينازع فــي ذلك‬
‫كالرافضـة مـن أجهـل الناس‪ ،‬ولهذا ل يوجـد فـي أئمـة الفقـه الذيـن يرجـع إليهـم رافضـي‪ ،‬ول فـي أئمـة‬
‫الحديــث ول فــي أئمــة الزهــد والعبادة ول فــي أئمــة الجيوش المؤيدة المنصــورة رافضــي‪ ،‬ول فــي‬
‫الملوك الذيـن نصـروا السـلم وأقاموه وجاهدوا عدوه مـن هـو رافضـي‪ ،‬ول فـي الوزراء الذيـن لهـم‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السند (‪ )5/211‬تقيق أحد شاكر‪ ،‬وقال اليثمي‪ :‬رواه أحد والبزار‪ ،‬والطبان ف الكبي‪ .‬ممع الزوائد (‪.)1/177‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬تقدمت الشارة إل مواضعه انظر‪ :‬ص‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫سيرة محمودة من هو رافضي‪.‬‬
‫وأكثــر مــا تجــد الرافضــة إمــا فــي الزنادقــة المنافقيــن الملحديــن‪ ،‬وإمــا فــي جهال ليــس لهــم علم‬
‫بالمنقولت ول بالمعقولت‪ ،‬قـد نشـأ بالبوادي والجبال‪ ،‬وتجـبروا على المسـلمين‪ ،‬فلم يجالسـوا أهـل‬
‫العلم والديـن‪ ،‬وإمـا فـي ذوي الهواء ممـن قـد حصـل له بذلك رياسـة ومال‪ ،‬أوله نسـب يتعصـب بـه‬
‫كفعـل أهـل الجاهليـة‪ ،‬وأمـا مـن هـو عنـد المسـلمين مـن أهـل العلم والديـن‪ ،‬فليـس فـي هؤلء رافضـي‪،‬‬
‫لظهور الجهل والظلم فـي قولهم‪ ،‬وتجد ظهور الرفض فـي شر الطوائف كالنصـيرية والسماعيلية‪،‬‬
‫والملحدة الطرقيــة‪ ،‬وفيهــم مــن الكذب والخيانــة وإخلف الوعــد مــا يدل على نفاقهــم‪ ،‬كمــا فــي‬
‫الصـحيحين عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬آيـة المنافـق ثلث‪ :‬إذا حدث كذب‪ ،‬وإذا وعـد‬
‫أخلف‪ ،‬وإذا اؤتمـن خان)(‪ –)1‬زاد مسـلم – (وإن صـام وصـلى وزعـم أنـه مسـلم) وأكثـر مـا توجـد هذه‬
‫الثلث في طوائف أهل القبلة في الرافضة‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فيقال لهذا المفترى‪:‬هـب أن الذيـن بايعوا الصـديق كانوا كمـا ذكرت؛ إمـا طالب دنيـا وإمـا‬
‫جاهـل‪ ،‬فقـد جاء بعـد أولئك فـي قرون المـة مـن يعرف كـل أحـد زكاءهـم وذكاءهـم‪ ،‬مثـل‪ :‬سـعيد بـن‬
‫المسـيب‪ ،‬والحسـن البصـري‪ ،‬وعطاء بـن أبـي رباح‪ ،‬وإبراهيـم النخعـي‪ ،‬وعلقمـة‪ ،‬والسـود‪ ،‬وعـبيدة‬
‫السلماني‪ ،‬وطاوس‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬وأبي الشعثاء جابر بن زيد‪ ،‬وعلي بن زيد‪ ،‬وعلي‬
‫بـن الحسـين‪ ،‬وعبيـد ال بـن عبـد ال بـن عتبـة‪ ،‬وعروة بـن الزبيـر‪ ،‬والقاسـم بـن محمـد بـن أبـي بكـر‪،‬‬
‫وأبـي بكـر بـن عبـد الرحمـن بـن الحرث بـن هشام‪ ،‬ومطرف بـن الشخيـر‪ ،‬ومحمـد بـن واسـع‪ ،‬وحـبيب‬
‫العجمـى‪ ،‬ومالك بـن دينار‪ ،‬ومكحول‪ ،‬والحكـم بـن عتبـة‪ ،‬ويزيـد بـن أبـي حـبيب‪ ،‬ومـن ل يحصـي‬
‫عددهم إل ال‪.‬‬
‫ثم بعدهم‪ :‬أيوب السختياني‪ ،‬وعبد ال بن عون‪ ،‬ويونس بن عبيد‪ ،‬وجعفر بن محمد‪ ،‬والزهري‪،‬‬
‫وعمرو بن دينار‪ ،‬ويحيى بن سعيد النصاري‪ ،‬وربيعة بن أبي عبد الرحمن‪ ،‬وأبو الزناد‪ ،‬ويحيى‬
‫بن أبي كثير‪ ،‬وقتادة‪ ،‬ومنصور بن المعتمر‪ ،‬والعمش‪ ،‬وحماد بن أبي سليمان‪ ،‬وهشام الدستوائي‪،‬‬
‫وسعيد بن أبي عروبة‪.‬‬
‫ومــن بعــد هؤلء‪ ،‬مثــل‪ :‬مالك بــن أنــس‪ ،‬وحماد بــن زيــد‪ ،‬وحماد بــن ســلمة‪ ،‬والليــث بــن ســعد‪،‬‬
‫والوزاعي‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬وابن أبي ليلى‪ ،‬وشريك‪ ،‬وابن أبي ذئب‪ ،‬وابن الماجشون‪.‬‬
‫ومـن بعدهـم‪ ،‬مثـل‪ :‬يحيـى بـن سـعيد القطان‪ ،‬وعبـد الرحمـن بـن مهدي‪ ،‬ووكيـع بـن الجراح‪ ،‬وعبـد‬
‫الرحمن بن القاسم‪ ،‬وأشهب بن عبد العزيز‪ ،‬وأبي يوسف‪ ،‬ومحمد بن الحسن‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأحمد بن‬
‫حنبـل‪ ،‬وإسـحق بـن راهويـه‪ ،‬وأبـي عبيـد‪ ،‬وأبـي ثور‪ ،‬ومـن ل يحصـى عدده إل ال تعالى‪ ،‬ممـن ليـس‬
‫لهم غرض في تقديم غير الفاضل ل لجل رياسة ول مال‪.‬‬
‫وممـن هـم أعظـم الناس نظرًا فـي العلم وكشفًا لحقائقـه‪ ،‬وهـم كلهـم متفقون على تفضيـل أبـي بكـر‬
‫وعمر‪.‬‬
‫بـل الشيعـة الولى الذيـن كانوا على عهـد علي كانوا يفضلون أبـا بكـر وعمـر‪ ،‬قال ابـن القاسـم‪:‬‬
‫سألت مالكًا عن أبي بكر وعمر؟ فقال‪ :‬مارأيت أحدًا ممن اقتدى به يشك في تقديمهما‪ .‬يعني‪ :‬على‬
‫علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما‪.‬‬
‫وأهــل المدينــة لم يكونوا مائليــن إلى بنــي أميــة كمــا كان أهــل الشام‪ ،‬بــل قــد خلعوا بيعــة يزيــد‪،‬‬
‫وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )1/12‬وغيه‪ ،‬ومسلم (‪.)1/78‬‬

‫‪61‬‬
‫ولم يكن أيضًا قتل علي منهم أحدًا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام‪ ،‬بل كانوا يعدّونه من‬
‫علماء المدينة‪ ،‬إلى أن خرج منها‪ ،‬وهم متفقون على تقديم أبي بكر وعمر‪.‬‬
‫وروى البيهقــي بإســناده عــن الشافعــي‪ ،‬قال‪ :‬لم يختلف الصــحابة والتابعون فــي تقديــم أبــي بكــر‬
‫وعمر‪ ،‬وقال شريك بن أبي نمر‪ :‬وقال له قائل‪ :‬أيما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له‪ :‬أبو بكر‪ .‬فقال‬
‫له السائل‪ :‬تقول هذا و أنت من الشيعة؟ فقال‪ :‬نعم إنما الشيعيّ من يقول هذا‪ ،‬وال لقد رقى عليّ هذه‬
‫العواد‪ ،‬فقال‪ :‬أل إن خيـر هذه المـة بعـد نبيهـا أبـو بكـر وعمـر أفكنـا نردّ قوله‪ ،‬أفكنـا نكذبـه‪ ،‬وال مـا‬
‫كان كذاباً(‪.)1‬‬
‫وذكـر هذا القاضـي عبـد الجبار فـي كتاب تثـبيت النبوة له‪ ،‬وعزاه إلى كتاب أبـي القاسـم البلخـي‪،‬‬
‫الذي صنفه في النقض على ابن الراوندي اعتراضه على الجاحظ(‪.)2‬‬
‫فكيف يقال مع هذا أن الذين بايعوه كانوا طلب الدنيا‪ ،‬أو جهالً‪ ،‬ولكن هذا وصف الطاعن فيهم‪،‬‬
‫فإنك ل تجد في طوائف القبلة أعظم جهلً من الرافضة‪ ،‬ول أكثر حر صًا على الدنيا‪ ،‬وقد تدبرتهم‬
‫فوجدتهـم ل يضيفون إلى الصـحابة عيبًا إل وهـم أعظـم الناس اتصـافًا بـه‪ ،‬والصـحابة أبعـد عنـه‪ ،‬فهـم‬
‫أكذب الناس بل ريــب كمســيلمة الكذاب‪ ،‬إذ قال‪ :‬أنــا نــبي صــادق‪ ،‬ولهذايصــفون أنفســهم باليمان‪،‬‬
‫ويصفون الصحابة بالنفاق‪ ،‬وهم أعظم الطوائف نفاقًا‪ ،‬والصحابة أعظم الخلق إيمانًا‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪ :‬وبعضهـم طلب المـر لنفسـه بحـق وبايعـه القلون الذيـن أعرضوا عـن الدنيـا وزينتهـا‪،‬‬
‫ولم تأخذهم بال لومة لئم‪ ،‬بل أخلصوا ل واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم‪ ،‬وحيث‬
‫حصل للمسلمين هذه البلية‪ ،‬وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد النصاف‪ ،‬وأن يقر الحق‬
‫مقره‪ ،‬ول يظلم مستحقه‪ ،‬فقد قال تعالى‪(( :‬أَلَ َل ْعنَةَ الِ عَلَى الظّا ِلمِين))[هود‪.]18:‬‬
‫فيقال له‪ :‬أولً‪ :‬قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا‪ ،‬وطائفة إلى كذا‪ ،‬وجب أن ينظر‬
‫أي القوليـن أصـح‪ ،‬فأمـا إذا رضيـت إحدى الطائفتيـن باتباع الحـق‪ ،‬والُخرى باتباع الباطـل‪ ،‬فإن كان‬
‫هذا قد تبين فل حاجة إلى النظر‪ ،‬وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين‪.‬‬
‫ويقال له ثانيًا‪ :‬قولك‪ :‬إنــه طلب المــر لنفســه بحــق وبايعــه القلون‪ ،‬كذب على علي رضــي ال‬
‫عنـه‪ ،‬فإنـه لم يطلب المـر لنفسـه فـي خلفـة أبـي بكـر وعمـر وعثمان‪ ،‬وإنمـا طلبـه لمـا قتـل عثمان‬
‫وبويـع‪ ،‬وحينئذٍ فأكثـر الناس كانوا معـه‪ ،‬لم يكـن معـه القلون‪ ،‬وقـد اتفـق أهـل السـنة والشيعـة على أن‬
‫عليا لم يدع إلى مبايعته في خلفة أبي بكر وعمر وعثمان‪ ،‬ول بايعه على ذلك أحد‪.‬‬
‫ولكن الرافضة تدعي أنه كان يريد ذلك‪ ،‬وتعتقد أنه المام المستحق للمامة دون غيره‪ ،‬لكن كان‬
‫عاجزًا عنـه وهذا لو كان حقًا لم يفدهـم‪ ،‬فإنـه لم يطلب المـر لنفسـه‪ ،‬ول تابعـه أحـد على ذلك‪ ،‬فكيـف‬
‫إذا كان باطلً‪.‬‬
‫وكذلك قوله‪ :‬بايعـه القلون‪ ،‬كذب على الصـحابة؛ فإنـه لم يبايـع منهـم أحـد لعلي على عهـد الخلفاء‬
‫الثلثـة‪ ،‬ول يمكـن أحـد أن يدعـي هذا‪ ،‬ولكـن غايـة مـا يقول القائل‪ :‬انـه كان فيهـم مـن يختار مبايعتـه‪،‬‬
‫ونحـن نعلم أن عليًا لمـا تولى كان كثيـر مـن الناس يختار وليـة معاويـة‪ ،‬ووليـة غيرهمـا‪ ،‬ولمـا بويـع‬
‫عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره‪ ،‬فمثل هذا ل يخلو من الوجود‪.‬‬
‫وقـد كان رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم بالمدينـة وبهـا ومـا حولهـا منافقون‪ ،‬كمـا قال تعالى‪:‬‬
‫عرَاب ُمنَافِقُون وَمِعن أَ ْهلِ ا ْلمَدِي َن ِة مَرَدُوا عَلَى النّفَاقعِع ل تَ ْعَلمُهُعم نَحْنععُ‬
‫ح ْولَكُعم مِنععَ الَ ْ‬
‫((وَ ِممّنععْ َ‬
‫‪ )(1‬تقدمت الشارة إليه (ص ‪ 55‬وص ‪.)9‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬ف تثبيت دلئل النبوة (‪.)2/549‬‬

‫‪62‬‬
‫ج ٍل مِنعَ‬
‫علَى رَ ُ‬ ‫نَعْ َلمُهُم))[التوبــة‪ ]101:‬وقـد قال تعالى عـن المشركيـن‪(( :‬وَقَالُوا َلوْ َل َن َزلَ هَذَا الْ ُقرْآنعَ َ‬
‫الْ َقرْ َي َتيْنِ عَظِيم))[الزخرف‪.]31:‬‬
‫فأحبوا أن ينزل القرآن على مـن يعظمونـه مـن أهـل مكـة والطائف‪ ،‬قال تعالى‪(( :‬أَهُمْع يَقْسِعمُونَ‬
‫حيَاةِ ال ّدنْيَععا َورَفَعْنَععا بَ ْعضَهُععم َفوْق عَع بَعْععض‬ ‫شتَهُععم فعععي الْ َ‬ ‫حمَ َة َربّك عَع نَحْن ععُ قَس ععَ ْمنَا َبيْنَهُععم مَعِي َ‬
‫رَ ْ‬
‫َدرَجَات))[الزخرف‪.]32:‬‬
‫وأمـا مـا وصـفه لهؤلء بأنهـم الذيـن أعرضوا عـن الدنيـا وزينتهـا‪ ،‬وأنهـم ل تأخذهـم فـي ال لومـة‬
‫لئم‪ ،‬فهذا مـن أبيـن الكذب‪ ،‬فإنـه لم يـر الزهـد والجهاد فـي طائفـة أقـل منـه فـي الشيعـة‪ ،‬والخوارج‬
‫المارقون كانوا أزهـد منهـم وأعظـم قتالً‪ ،‬حتـى يقال فـي المثـل‪ :‬حملة خارجيـة وحروبهـم مـع جيوش‬
‫بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرهما معروفة‪ ،‬وكانت‬
‫لهم ديار يتحيزون فيها ل يقدر عليهم أحد‪.‬‬
‫وأما الشيعة فهم دائمًا مغلوبون مقهورون منهزمون‪ ،‬وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر‪ ،‬ولهذا‬
‫كاتبوا الحسـين رضـي ال عنـه‪ ،‬فلمـا أرسـل إليهـم ابـن عمـه‪ ،‬ثـم قدم بنفسـه غدروا بـه‪ ،‬وباعوا الخرة‬
‫بالدنيا‪ ،‬وأسلموه إلى عدوه‪ ،‬وقاتلوه مع عدوه‪ ،‬فأي زهد عند هؤلء‪ ،‬وأي جهاد عندهم‪.‬‬
‫وقد ذاق منهم علي بن أبي طالب رضي ال عنه من الكاسات المرة ما ل يعلمه إل ال‪ ،‬حتى دعا‬
‫عليهـم‪ ،‬فقال‪ :‬اللهـم إني سـئمتهم وسـئموني فأبدلنـي بهـم خيرًا منهم‪ ،‬وأبدلهـم بـي شرًا منـي‪ ،‬وقد كانوا‬
‫يغشونــه ويكاتبون مــن يحاربــه‪ ،‬ويخونونــه فــي الوليات والموال‪ ،‬هذا ولم يكونوا بعــد صــاروا‬
‫رافضة‪ ،‬إنما سموا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين‪ :‬فرقة شايعت أولياء عثمان‪ ،‬وفرقة شايعت‬
‫أولياء عليًا رضـى ال عنهمـا‪ ،‬فأولئك خيار الشيعـة‪ ،‬وهـم مـن شـر الناس معاملة لعلي بـن أبـي طالب‬
‫رضي ال عنه‪ ،‬وابنيه سبطى رسول ال صلى ال عليه وسلم وريحانته في الدنيا الحسن والحسين‪،‬‬
‫ل للوم اللئم في الحق‪ ،‬وأسرع الناس إلى الفتنة‪ ،‬وأعجزهم عنها‪ ،‬يغرون من‬ ‫وهم أعظم الناس قبو ً‬
‫يظهرون نصـره مـن أهـل البيـت‪ ،‬حتـى إذا اطمأن إليهـم ولمهـم عليـه اللئم خذلوه وأسـلموه وآثروا‬
‫عليه الدنيا‪ ،‬ولهذا أشار عقلء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن ل يذهب إليهم‪ ،‬مثل‪ :‬عبد ال‬
‫بـن عباس‪ ،‬وعبـد ال بـن عمـر‪ ،‬وأبـي بكـر بـن عبـد الرحمـن بـن الحرث بـن هشام وغيرهـم‪ ،‬لعلمهـم‬
‫بأنهـم يخذلونـه ول ينصـرونه‪ ،‬ول يوفون له بمـا كتبوا بـه إليـه‪ ،‬وكان المـر كمـا رأى هؤلء‪ ،‬ونفـذ‬
‫فيهم دعاء عمر بن الخطاب‪ ،‬ثم دعاء علي بن أبي طالب‪.‬‬
‫حتـى سـلط ال عليهـم الحجاج بـن يوسـف‪ ،‬كان ل يقبـل مـن محسـنهم‪ ،‬ول يتجاوز عـن مسـيئهم‪،‬‬
‫ودب شرهـم إلى مـن لم يكـن منهـم‪ ،‬حتـى عـم الشـر‪ ،‬وهذه كتـب المسـلمين التـي ذكـر فيهـا زهاد المـة‬
‫ليس فيهم رافضي‪.‬‬
‫كيـف والرافضـي مـن جنـس المنافقيـن‪ ،‬مذهبـه التقيـة‪ ،‬فهـل هذا حال مـن ل تأخذه بال لومـة لئم‪،‬‬
‫إنمـا هذه حال مـن نعتـه ال فـي كتابـه بقوله‪(( :‬يعا َأيّهَا الّذِينَع آ َمنُوا مَنْع يَرتَدّ ِمنْكُمْع عَنْع ِديِنهِع فَسَع ْوفَ‬
‫سبِيلِ الِ وَلَ‬‫عزّةٍ عَلَى الْكَا ِفرِين يُجَاهِدُونَ في َ‬ ‫حبّونَهُ أَ ِذّلةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َأ ِ‬
‫حبّهُم َويُ ِ‬ ‫يَ ْأتِي الَ بِقَو ٍم يُ ِ‬
‫ل وَاسِعٌ عَلِيم))[المائدة‪.]54:‬‬ ‫ن َيشَاء وَا ُ‬ ‫ل ُيؤْتِي ِه مَ ْ‬
‫ضلُ ا ِ‬ ‫يَخَافُونَ َل ْو َمةَ َلئِمْ َذلِكَ َف ْ‬
‫وهذه حال مـن قاتـل المرتديـن‪ ،‬وأولهـم‪ :‬الصـديق‪ ،‬ومـن اتبعـه إلى يوم القيامـة‪ ،‬فهـم الذيـن جاهدوا‬
‫المرتديــن‪ ،‬كأصــحاب مســيلمة الكذاب‪ ،‬ومانعــي الزكاة‪ ،‬وغيرهمــا‪ ،‬وهــم الذيــن فتحوا المصــار‪،‬‬
‫وغلبوا فارس والروم‪ ،‬وكانوا أزهـد الناس‪ ،‬كمـا قال عبـد ال بـن مسـعود لصـحابه‪ :‬أنتـم أكثـر صـلة‬
‫وصـيامًا مـن أصـحاب محمـد‪ ،‬وهـم كانوا خيرًا منكـم‪ ،‬قالوا‪ :‬لم يـا أبـا عبـد الرحمـن؟ قال‪ :‬لنهـم كانوا‬

‫‪63‬‬
‫أزهد في الدنيا‪ ،‬وأرغب في الخرة‪ ،‬فهؤلء هم الذين ل تأخذهم في ال لومة لئم‪.‬‬
‫بخلف الرافضــة‪ ،‬فإنهــم أشــد الناس خوفًا مــن لوم اللئم‪ ،‬ومــن عدوّهــم‪ ،‬وهــم كمــا قال تعالى‪:‬‬
‫عَل ْيهِ مْ ُه مْ الْعَ ُدوّ فَاحْ َذرْهُ مْ قَاتَ َلهُ مْ الُّ َأنّى ُيؤْفَكُو نَ))[المنافقون‪ .]4:‬ول يعيشون‬
‫حةٍ َ‬
‫سبُونَ ُكلّ صَيْ َ‬
‫((يَحْ َ‬
‫فـي أهـل القبلة إل مـن جنـس اليهود فـي أهـل الملل‪ .‬ثـم يقال‪ :‬مـن هؤلء الذيـن زهدوا فـي الدنيـا ولم‬
‫تأخذهـم فـي ال لومـة لئم‪ ،‬ممـن لم يبايـع أبـا بكـر وعمـر وعثمان رضـي ال عنهـم‪ ،‬وبايـع عليًا‪ ،‬فإنـه‬
‫مـن المعلوم أن فـي زمن الثلثة لم يكـن أحد منحازًا عـن الثلثـة مظهرًا لمخالفتهم ومبايعـة علي‪ ،‬بل‬
‫كـل الناس كانوا مبايعيـن لهـم‪ ،‬فغايـة مـا يقال‪ :‬إنهـم كانوا يكتمون تقديـم علي وليسـت هذه حال مـن ل‬
‫تأخذه في ال لومة لئم‪.‬‬
‫وأما في حال ولية علي فقد كان رضي ال عنه من أكثر الناس لومًا لمن معه على قلة جهادهم‪،‬‬
‫ونكولهـم عـن القتال‪ ،‬فأيـن هؤلء الذيـن ل تأخذهـم فـي ال لومـة لئم مـن هؤلء الشيعـة‪ ،‬وإن كذبوا‬
‫على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم‪ ،‬فمن المتواتر أن هؤلء كانوا من أعظم الناس‬
‫تعظيمًا لبي بكر وعمر‪ ،‬واتباعًا لهما‪ ،‬وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان ل على أبي بكر‬
‫وعمر‪ ،‬وسيأتي الكلم على ما جرى لعثمان رضي ال عنه‪.‬‬
‫ففي خلفة أبي بكر وعمر وعثمان‪ ،‬لم يكن أحد يسمى من الشيعة‪ ،‬ول تضاف الشيعة إلى أحد‬
‫ل عثمان ول علي ول غيرهمـا‪ ،‬فلمـا قتـل عثمان تفرق المسـلمون‪ ،‬فمال قوم إلى عثمان‪ ،‬ومال قوم‬
‫إلى علي‪ ،‬واقتتلت الطائفتان‪ ،‬وقتـل حينئذ شيعـة عثمان شيعـة علي‪ ،‬وفـي صـحيح مسـلم عـن سـعد بـن‬
‫هشام أنـه أراد أن يغزو فـي سـبيل ال وقدم المدينـة فأراد أن يـبيع عقارًا له فيهـا فيجعله فـي السـلح‬
‫والكراع‪ ،‬ويجاهـد الروم حتـى يموت‪ ،‬فلمـا قدم المدينـة لقـي أناسـًا مـن أهـل المدينـة‪ ،‬فنهوه عـن ذلك‬
‫وأخبروه أن رهطًا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى ال عليه وسلم نهاهم نبي ال صلى ال عليه‬
‫وسـلم‪ .‬وقال‪( :‬أليـس لكـم بـي أسـوة؟)‪ ،‬فلمـا حدثوه بذلك راجـع امرأتـه‪ ،‬وقـد كان طلقهـا وأشهـد على‬
‫رجعتها‪ .‬فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول ال صلى ل تعالى عليه وسلم‪ .‬فقال ابن عباس‪ :‬أل‬
‫أدلك علىأعلم أهل الرض بوتر رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فقال من؟ قال‪ :‬عائشة رضي ال‬
‫عنهـا‪ ،‬فأتهـا فاسـألها ثـم ائتنـي فاخـبرني بردهـا عليـك‪ ،‬قال‪ :‬فانطلقـت إليهـا‪ ،‬فأتيـت على حكيـم بـن أفلح‬
‫فاسـتلحقته إليهـا‪ ،‬فقال‪ :‬مـا أنـا بقاربهـا لنـي نهيتهـا أن تقول فـي هاتيـن الشيعتيـن شيئًا فأبـت فيهمـا ل‬
‫مضيًا‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬فأقسـمت عليـه فجاء فانطلقنـا إلى عائشـة رضـي ال عنهـا و ذكرا الحديـث ‪ ،‬وقال معاويـة‬
‫لبن عباس أنت على ملة علي؟ فقال ل على ملة علي‪ ،‬ول على ملة عثمان‪ ،‬أنا على ملة رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وكانـت الشيعـة أصـحاب علي يقدمون عليـه أبـا بكـر وعمـر‪ ،‬وإنمـا كان النزاع فـي تقديمـه على‬
‫عثمان‪ ،‬ولم يكن حينئ ٍذ يسمى أحد ل إماميًا ول رافضيًا وإنما سموا رافضة‪ ،‬وصاروا رافضة‪ ،‬لما‬
‫خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلفة هشام‪ ،‬فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر‪ ،‬فترحم‬
‫عليهمــا فرفضــه قوم‪ ،‬فقال‪ :‬رفضتمونــي رفضتمونــي‪ .‬فســموا رافضــة‪ ،‬وتوله قوم فســموا زيديــة‪،‬‬
‫لنتسابهم إليه‪.‬‬
‫ومن حينئ ٍذ انقسمت الشيعة إلى‪ :‬رافضة إمامية وزيدية‪ ،‬وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر‪،‬‬
‫فالزيدية خير من الرافضة‪ ،‬أعلم وأصدق وأزهد‪ ،‬وأشجع‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مسلم (‪.)2/512‬‬

‫‪64‬‬
‫ثـم بعـد أبـي بكـر‪ ،‬عمـر بـن الخطاب هـو الذي لم تكـن تأخذه فـي ال لومـة لئم‪ ،‬وكان أزهـد الناس‬
‫باتفاق الخلق كما قيل فيه‪ :‬رحم ال عمر لقد تركه الحق ما له من صديق‪.‬‬
‫ونحن ل ندعي العصمة لكل صنف من أهل السنّة‪ ،‬وإنما ندعي أنهم ل يتفقون على ضللة‪ ،‬وأن‬
‫كل مسألة اختلف فيها أهل السنّة والجماعة والرافضة‪ ،‬فالصواب فيها مع أهل السنّة‪.‬‬
‫وحيث تصيب الرافضة‪ ،‬فل بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنّة‪ ،‬وللروافض خطأ ل‬
‫يوافقهم أحد عليه من أهل السنّة‪ ،‬وليس للرافضة مسألة واحدة ل يوافقهم فيها أحد‪ ،‬فانفردوا بها عن‬
‫جميع أهل السنّة والجماعة إل وهم مخطئون فيها كإمامة الإثنى عشر‪ ،‬وعصمتهم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضععي‪( :‬وذهــب جميــع مــن عدا الماميــة والســماعيلية إلى أن النــبياء والئمــة غيــر‬
‫معصـومين‪ ،‬فجوّزوا بعثـة مـن يجوز عليـه الكذب والسـهو والخطـأ والسـرقة‪ ،‬فأي وثوق يبقـى للعامـة‬
‫فـي أقوالهـم‪ ،‬وكيـف يحصـل النقياد إليهـم‪ ،‬وكيـف يجـب اتباعهـم مـع تجويـز أن يكون مـا يأمرون بـه‬
‫خطأ؟ ولم يجعلوا الئمة محصورين في عدد معين‪ ،‬بل كان من بايع قرشيًا انعقدت إمامته عندهم‪،‬‬
‫ووجـب طاعتـه على جميـع الخلق إذا كان مسـتور الحال‪ ،‬وإن كان على غايـة مـن الكفـر والفسـوق‬
‫والنفاق)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬الكلم على هذا من وجوه‪:‬‬
‫أحدهعا‪ :‬أن يقال‪ :‬مـا ذكرتـه عـن الجمهور مـن نفـي العصـمة عـن النـبياء وتجويـز الكذب والسـرقة‬
‫والمر بالخطأ عليهم‪ ،‬فهذا كذب على الجمهور‪ ،‬فإنهم متفقون على أن النبياء معصومون في تبليغ‬
‫الرسالة‪ ،‬ول يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين‪ ،‬وكل ما يبلّغونه عن ال‬
‫عز وجل من المر والنهي يجب طاعتهم فيه باتفاق المسلمين‪ ،‬وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه‬
‫بإجماع المسلمين‪ ،‬ومـا أمروهم به ونهوهـم عنـه وجبـت طاعتهم فيـه عند جميع فرق المـة‪ ،‬إل عنـد‬
‫طائفة من الخوارج يقولون‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم معصوم فيما يبلّغه عن ال‪ ،‬ل فيما يأمر‬
‫هو به وينهى عنه‪ .‬وهؤلء ضُلّل باتفاق أهل السنّة والجماعة‪.‬‬
‫وقـد ذكرنـا غيـر مرة أنـه إذا كان فـي بعـض المسـلمين مـن قال قولً خطـأ لم يكـن ذلك قدحًا فـي‬
‫المسلمين‪ ،‬ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة عيبًا في دين المسلمين‪ ،‬فل يُعرف في الطوائف أكثر‬
‫خطًـأ وكذبًـا منهــم‪ ،‬وذلك ل يضــر المســلمين شيئًا‪ ،‬فكذلك ل يضرهــم وجود مخطــئ آخــر غيــر‬
‫الرافضة‪.‬‬
‫وأكثر الناس ‪-‬أو كثير منهم‪ -‬ل يجوّزون عليهم الكبائر‪ ،‬والجمهور الذين يجوزون الصغائر ‪-‬هم‬
‫ومـن يجوّز الكبائر‪ -‬يقولون‪ :‬إنهـم ل يُ َقرّون عليهـا‪ ،‬بـل يحصـل لهـم بالتوبـة منهـا مـن المنزلة أعظـم‬
‫مما كان قبل ذلك‪ ،‬كما تقدم التنبيه عليه‪.‬‬
‫وبالجملة فليـس فـي المسـلمين مـن يقول‪ :‬إنـه يجـب طاعـة الرسـول مـع جواز أن يكون أمره خطـأ‪،‬‬
‫بل هم متفقون على أن المر الذي يجب طاعته ل يكون إل صوابًا‪ ،‬فقوله‪( :‬كيف يجب اتباعهم مع‬
‫تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ؟) قول ل يلزم أحدًا من المة‪.‬‬
‫وللناس فـي تجويـز الخطـأ عليهـم فـي الجتهاد قولن معروفان‪ ،‬وهـم متفقون على أنهـم ل يقرّون‬
‫عليه‪ ،‬وإنما يطاعون فيما أقرّوا عليه‪ ،‬ل فيما غيّره ال ونهى عنه‪ ،‬ولم يأمر بالطاعة فيه‪.‬‬
‫وأمـا عصـمة الئمـة فلم يَقُل بهـا ‪-‬إل كمـا قال‪ -‬الماميـة والسـماعيلية‪ .‬وناهيـك بقول لم يوافقهـم‬
‫عليـه إل الملحدة المنافقون‪ ،‬الذيـن شيوخهـم الكبار أكفـر مـن اليهود والنصـارى والمشركيـن!‪ .‬وهذا‬

‫‪65‬‬
‫دأب الرافضة دائمًا يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في القوال‬
‫والموالة والمعاونة والقتال وغير ذلك‪.‬‬
‫فهـل يوجـد أضـل مـن قوم يعادون السـابقين الوليـن مـن المهاجريـن والنصـار‪ ،‬ويوالون الكفار‬
‫عَل ْيهِم مّاع هُم ِمنْكُم وَل َ‬ ‫غضِبَع الُ َ‬ ‫والمنافقيـن؟ وقـد قال ال تعالى‪(( :‬أَلَمْع َترَ ِإلَى الّذِينَع َتوَلّوا َق ْومًا َ‬
‫عذَابًا شَدِيدًا ِإ ّنهُم سَا َء مَا كَانُوا يَ ْعمَلُون *‬ ‫عدّ الُ َلهُم َ‬ ‫ب وَهُ ْم يَ ْعَلمُون * أَ َ‬ ‫حلِفُو نَ عَلَى الْكَذِ ِ‬ ‫مِ ْنهُم وَيَ ْ‬
‫ع ْنهُم َأ ْموَا َلهُم وَلَ َأوْلَدهُم‬ ‫ب ُمهِين * لَن تُ ْغنِي َ‬ ‫سبِيلِ الِ فَ َلهُم عَذَا ٌ‬ ‫جنّةً فَصَدّوا عَن َ‬ ‫اتّخَذُوا َأيْمَا َنهُم ُ‬
‫حلِفُونَع لَهُع كَمَا‬ ‫جمِيعًا َفيَ ْ‬ ‫مِنَع الِ شَيئًا ُأ ْوَلئِكَع أَصْعحَابُ النّارِ هُمْع فِيهَا خَالِدُون * َيوْمَع َيبْ َعثُهُم الُ َ‬
‫شيْطَان فَ َأنْ سَاهُمْ‬ ‫حوَذَ عَ َل ْيهِ مُ ال ّ‬
‫ستَ ْ‬
‫شيْءٍ أَلَ ِإ ّنهُم ُه مُ الكَاذِبون * ا ْ‬ ‫علَى َ‬ ‫يَحْلِفُو نَ َلكُم وَيَحْ سَبُونَ َأنّهُم َ‬
‫شيْطَانعِ هُمعُ الْخَاسِعرُون * إِنّ الّذِينَع يُحَادّونع الَ‬ ‫حزْبعَ ال ّ‬ ‫شيْطَان أَلَ إِنّ ِ‬ ‫حزْبعُ ال ّ‬ ‫ذِ ْكرَ ال ُأوْ َلئِكعَ ِ‬
‫عزِيعز * َل تَجِدُ َقوْمًا‬ ‫غِلبَنّ أَنَا َورُسِعلِي إِنّ الَ َقوِيّ َ‬ ‫َورَسعُو َلهُ ُأوْ َلئِكَع فعي ا َلذَلّيعن * َكتَبَع الُ لَ ْ‬
‫خوَا َنهُ مْ‬ ‫ن بِالِ وَا ْل َيوْ مِ الخِر ُيوَادّون مَ نْ حَادّ الَ َورَسُو َلهُ َوَلوْ كَانُوا آبَاءَهُم أَو َأ ْبنَاءَهُم أو ِإ ْ‬ ‫ُيؤْ ِمنُو َ‬
‫حتِهَا‬ ‫جرِي مِنْع تَ ْ‬ ‫جنّاتٍع تَ ْ‬‫خُلهُم َ‬ ‫عشِيرَ َتهُمْع ُأ ْوَلئِكَع َكتَبَع فِي قُلُو ِبهِم الِيمَانَع وََأيّدَهُمْع ِبرُوحٍع مِنْه َويُدْ ِ‬ ‫َأوْ َ‬
‫حزْبععَ الِع هُمععُ‬ ‫حزْبععُ ال أَلَ إِنّع ِ‬ ‫عنْهععُ ُأوْ َلئِكععَ ِ‬
‫ا َل ْنهَارَ خَالِدِينععَ فِيهععا رضععي ال عنهععم َو َرضُوا َ‬
‫ا ْلمُفْلِحُون))[المجادلة‪.]22-14:‬‬
‫فهذه اليات نزلت فـي المنافقيـن‪ ،‬وليـس المنافقون فـي طائفـة أكثـر منهـم فـي الرافضـة‪ ،‬حتـى أنـه‬
‫ليس في الروافض إل من فيه شعبة من شعب النفاق‪.‬‬
‫كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا‪ ،‬ومن كانت فيه خصلة‬
‫منهـن كانـت فيـه خصـلة مـن خصـل النفاق حتـى يدعهـا‪ :‬إذا حدّث كذب‪ ،‬وإذا اؤتمـن خان‪ ،‬وإذا عاهـد‬
‫غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر) أخرجاه في الصحيحين(‪.)1‬‬
‫قال تعالى‪(( :‬ترَىَ َكثِيرًا ِم ْنهُمْع َي َتوَّلوْنَع الّذِينَع كَ َفرُوا َل ِبئْسَع مَا َق ّدمَتْع لَهُم َأنْفُسُعهُم أَنْع سَعخِطَ الُ‬
‫ن بِالِ وَالنّبِيّ َومَا ُأ ْنزِلَ ِإَليْهِ مَا اتّخَذُوهُم َأ ْوِليَاءَ‬ ‫عَل ْيهِ ْم وَفِي الْعَذَابِ هُم خَاِلدُون * وَلَو كَانُوا ُيؤْ ِمنُو َ‬ ‫َ‬
‫وَلَ ِكنّ َكثِيرًا ِم ْنهُمْ فَاسِقُون))[المائدة‪.]81-80:‬‬
‫علَى لِسعَانِ دَاوُ َد وَعِيسعَى ابْنِع َم ْريَمَع َذلِكَع بِمَا‬ ‫وقال تعالى‪(( :‬لعنَع الّذِينَع كَ َفرُوا مِنْع بَنِي إِسْعرَائِيلَ َ‬
‫عَصَعوْا وَكَانُوا يَ ْعتَدُون * كَانُوا َل َيتَنَا َهوْنَع عَنْع ُمنْ َكرٍ فَ َعلُوهُع َل ِبئْسَع مَا كَانُوا يَفْ َعلُونَع * َترَى َكثِيرًا‬
‫مِ ْنهُم َي َتوَّلوْنَ الّذِينَ كَ َفرُوا))[المائدة‪.]80-78:‬‬
‫وهـم غالبًا ل يتناهون عـن منكرٍ فعلوه‪ ،‬بـل ديارهـم أكثـر البلد منكرًا مـن الظلم والفواحـش وغيـر‬
‫ذلك‪ ،‬وهــم يتولون الكفار الذيــن غضــب ال عليهــم‪ ،‬فليســوا مــع المؤمنيــن ول مــع الكفار‪ ،‬كمــا قال‬
‫غضِبَ الُ عَ َل ْيهِ ْم مَا هُم مِنْكُم وَ َل ِم ْنهُم))[المجادلة‪.]14:‬‬ ‫ن َتوَلّوا َق ْومًا َ‬ ‫تعالى‪َ(( :‬ألَ ْم َترَ إِلَى الّذِي َ‬
‫ولهذا هـم عنـد جماهيـر المسـلمين نوع آخـر‪ ،‬حتـى إن المسـلمين لمـا قاتلوهـم بالجبـل الذي كانوا‬
‫عاصين فيه بساحل الشام‪ ،‬يسفكون دماء المسلمين‪ ،‬ويأخذون أموالهم‪ ،‬ويقطعون الطريق‪ ،‬استحللً‬
‫لذلك وتدينًا بـه‪ ،‬فقاتلهـم صـنف مـن التركمان‪ ،‬فصـاروا يقولون‪ :‬نحـن مسـلمون‪ ،‬فيقولون‪:‬ل‪ ،‬أنتـم‬
‫جنس آخر خارجون عن المسلمين لمتيازهم عنهم‪.‬‬
‫ب وَ ُه ْم يَعْ َلمُون))[المجادلة‪.]14:‬‬ ‫علَى الْكَذِ ِ‬ ‫وقد قال ال تعالى‪(( :‬وَيَحْلِفُونَ َ‬
‫سبِيلِ ال))[المجادلة‪ ]16:‬إلى قوله‪:‬‬ ‫ن َ‬ ‫عْ‬‫جنّةً َفصَدّوا َ‬ ‫وهذا حال الرافضة‪ ،‬وكذلك‪(( :‬اتّخَذُوا َأ ْيمَا َنهُمْ ُ‬
‫خ ِر ُيوَادّون مَ نْ حَادّ الَ َورَ سُولَه))[المجادلة‪ ،]22:‬وكثير منهم‬ ‫ن بِالِ وَا ْل َيوْ مِ ال ِ‬‫((لَ تَجِدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُو َ‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ )1/12‬ومواضع أُخر‪ ،‬ومسلم (‪.)1/102‬‬

‫‪66‬‬
‫يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادّته للمسلمين‪ ،‬ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق‬
‫فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها‪ ،‬كانت الرافضة‬
‫معاونة لهم على قتال المسلمين‪ ،‬ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس‬
‫معاونـة لهـم على المسـلمين‪ ،‬وكذلك الذيـن كانوا بالشام بحلب وغيرهـا مـن الرافضـة كانوا مـن أشـد‬
‫الناس معاونــة لهــم على قتال المســلمين‪ ،‬وكذلك النصــارى الذيــن قاتلهــم المســلمون بالشام كانــت‬
‫الرافضة من أعظم أعوانهم‪ ،‬وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم‬
‫أعوانهــم‪ ،‬فهــم دائمًـا يوالون الكفار مــن المشركيــن واليهود والنصــارى‪ ،‬ويعاونونهــم على قتال‬
‫المسلمين ومعاداتهم‪.‬‬
‫ثم إن هذا ادّعى عصمة الئمة دعوى لم يقم عليها حجة‪ ،‬إل ما تقدم من أن ال لم يخل العالم من‬
‫أئمـة معصـومين لمـا فـي ذلك مـن المصـلحة واللطـف‪ ،‬ومـن المعلوم المتيقـن أن هذا المنتظـر الغائب‬
‫المفقود لم يحصـل بـه شيـء مـن المصـلحة واللطـف‪ ،‬سـواء كان ميتًا‪ ،‬كمـا يقوله الجمهور‪ ،‬أو كان‬
‫حيًا‪ ،‬كمــا تظنــه الماميــة‪ ،‬وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصــل بهــم شيــء مــن المصــلحة واللطــف‬
‫الحاصـلة مـن إمام معصـوم ذي سـلطان‪ ،‬كمـا كان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بالمدينـة بعـد الهجرة‪،‬‬
‫فإنـه كان إمام المؤمنيـن الذي يجـب عليهـم طاعتـه‪ ،‬ويحصـل بذلك سـعادتهم‪ ،‬ولم يحصـل بعده أحـد له‬
‫سلطان تُدعى له العصمة إل عليّ رضي ال عنه زمن خلفته‪.‬‬
‫ومــن المعلوم بالضرورة أن حال اللطــف و المصــلحة التــي كان المؤمنون فيهــا زمــن الخلفاء‬
‫الثلثة‪ ،‬أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلفة علي زمن القتال و الفتنة والفتراق‪ ،‬فإذا‬
‫لم يوجد من يدعي المامية فيه أنه معصوم وحصل له السلطان بمبايعة ذي الشوكة إل عليّ وحده‪،‬‬
‫وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن‬
‫الخلفاء الثلثـة‪ ،‬عُلم بالضرورة أن مـا يدّعونـه مـن اللطـف والمصـلحة الحاصـلة بالئمـة المعصـومين‬
‫باطل قطعًا‪.‬‬
‫وهـو مـن جنـس الهدى واليمان الذي يُدّعـى فـي رجال الغيـب بجبـل لبنان وغيره مـن الجبال مثـل‬
‫جبـل قاسـيون بدمشـق‪ ،‬ومغارة الدم‪ ،‬وجبـل الفتـح بمصـر‪ ،‬ونحـو ذلك مـن الجبال والغيران‪ ،‬فإن هذه‬
‫المواضع يسكنها الجن‪ ،‬ويكون بها شياطين‪ ،‬ويتراءون أحيانًا لبعض الناس‪ ،‬ويغيبون عن البصار‬
‫في أكثر الوقات‪ ،‬فيظن الجهال أنهم رجال من النس‪ ،‬وإنما هم رجال من الجن‪.‬‬
‫جنّ َفزَادُو ُه ْم رَهَقًا))[الجن‪.]6:‬‬ ‫ن ِبرِجَالٍ مِنَ الْ ِ‬‫ن رِجَا ٌل مِنَ ا ِلنْسِ يَعُوذُو َ‬ ‫كما قال تعالى‪(( :‬وَإِ ّنهُ كَا َ‬
‫وهؤلء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون‪ ،‬لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال‬
‫الغيـب ل يحصـل بهـم مـن الفسـاد مـا يحصـل بالذيـن يدّعون المام المعصـوم‪ ،‬بـل المفسـدة والشـر‬
‫الحاصـل فـي هؤلء أكثـر‪ ،‬فإنهـم يدّعون الدعوة إلى إمام معصـوم‪ ،‬ول يوجـد لهـم أئمـة ذووا سـيف‬
‫يستعينون بهم‪ ،‬إل كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل‪ ،‬ل تخرج رءوسهم عن هذه القسام‪.‬‬
‫والسـماعيلية شـر منهـم‪ ،‬فإنهـم يدعون إلى المام المعصـوم‪ ،‬ومنتهـى دعوتهـم إلى رجال ملحدة‬
‫منافقين فسّاق‪ ،‬ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى‪.‬‬
‫فالداعون إلى المعصوم ل يدعون إلى سلطان معصوم‪ ،‬بل إلى سلطان كفور أو ظلوم‪ ،‬وهذا أمر‬
‫مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم‪.‬‬
‫وقــد قال تعالى‪(( :‬يععا َأيّهَعا الّذِينعَع آ َمنُوا أَطِيعُوا الَع وََأطِيعُوا الرّس عُولَ وَأُولِي ا َل ْمرِ ِمنْكُم عْ فَإِنععْ‬
‫خ ْيرٌ َوأَحْ سَنُ‬ ‫ن بِالِ وَا ْل َيوْ مِ الخِر َذلِ كَ َ‬
‫شيْءٍ َفرُدّو هُ إِلَى الِ وَالرّ سُولِ ِإ نْ ُكنْتُ ْم ُتؤْ ِمنُو َ‬
‫عتُ مْ فِي َ‬
‫تَنَا َز ْ‬

‫‪67‬‬
‫تَ ْأوِيلً))[النساء‪ ،.]59:‬فأمر ال المؤمنين عند التنازع بالرد إلى ال والرسول‪ ،‬ولو كان للناس معصوم‬
‫غيـر الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم لمرهـم بالرد إليـه‪ ،‬فدل القرآن على أنـه ل معصـوم إل الرسـول‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأما قوله‪( :‬ولم يجعلوا الئمة محصورين في عدد معين) فهذا حق‪ .‬وذلك أن ال تعالى قال‪(( :‬يا‬
‫َأيّهَعا الّذِين َع آمَنُوا َأطِيعُوا الَع وَأَطِيعُوا الرّس عُولَ وَأُولِي ا َل ْمرِ ِمنْكُعم))[النســاء‪ ،]59:‬ولم يوقّتهــم بعدد‬
‫معين‪.‬‬
‫وكذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقّت ولة المور‬
‫في عدد معين‪ ،‬ففي الصحيحين عن أبي ذر قال‪( :‬إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا‬
‫حبشيًا مجدّع الطراف)(‪.)1‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأمعا قوله عنهعم‪( :‬كـل مـن بايـع قرشيًا انعقدت إمامتـه ووجبـت طاعتـه على جميـع الخلق إذا كان‬
‫مستور الحال‪ ،‬وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق)‪.‬‬
‫فجوابه من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن هذا ليس من قول أهل السنة والجماعة‪ ،‬وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي‬
‫تنعقـد بيعتـه‪ ،‬ويجـب على جميـع الناس طاعتـه‪ ،‬وهذا وإن كان قـد قاله بعـض أهـل الكلم‪ ،‬فليـس هـو‬
‫ل بغيـر‬ ‫قول أهـل السـنة والجماعـة‪ ،‬بـل قـد قال عمـر بـن الخطاب رضـي ال عنـه‪( :‬مـن بايـع رج ً‬
‫مشورة المســلمين‪ ،‬فل يبايــع هــو ول الذي بايعــه ت ِغرّة أن يُقتل)‪ .‬الحديــث رواه البخاري‪ ،‬وســيأتي‬
‫بكماله إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫الوجعه الثانعي‪ :‬أنهـم ل يوجبون طاعـة المام فـي كـل مـا يأمـر بـه‪ ،‬بـل ل يوجبون طاعتـه إل فيمـا‬
‫تسـوغ طاعتـه فيـه فـي الشريعـة‪ ،‬فل يجوّزون طاعتـه فـي معصـية ال وإن كان إمامًا عادلً‪ ،‬وإذا‬
‫أمرهم بطاعة ال فأطاعوه‪ ،‬مثل‪ :‬أن يأمرهم بإقامة الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬والصدق والعدل والحج‬
‫والجهاد في سبيل ال‪ ،‬فهم في الحقيقة إنما أطاعوا ال‪ ،‬والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة ل لم‬
‫تحرم طاعـة ال ول يسقط وجوبهـا لجل أمـر ذلك الفاسـق بها‪ ،‬كمـا أنه إذا تكلم بحـق لم يجز تكذيبـه‬
‫ول يسـقط وجوب اتباع الحـق لكونـه قـد قاله فاسـق‪ ،‬فأهـل السـنة ل يطيعون ولة المور مطلقـا‪ ،‬إنمـا‬
‫يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫كمـا قال تعالى‪(( :‬أَطِيعُوا الَ وَأَطِيعُوا الرّسعُولَ وَأُولِي ا َل ْمرِ ِمنْكُم))[النسـاء‪ .]59:‬فأمـر بطاعـة ال‬
‫ن يُطِ عِ الرّ سُولَ فَقَدْ أَطَا عَ ال))[النسـاء‪:‬‬
‫مطلقًا‪ ،‬وأمر بطاعة الرسول لنه ل يأمر إل بطاعة ال ((م ْ‬
‫‪ .]80‬و جعل طاعة أولي المر داخلة في ذلك‪ ،‬فقال‪(( :‬وَأُول يِ ا َل ْم ِر مِنْكُم))[النساء‪ ]59:‬ولم يذكر لهم‬
‫طاعة ثالثة‪ ،‬لن ولي المر ل يطاع طاعة مطلقة‪ ،‬إنما يطاع في المعروف‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫كمـا قال النـبي صـلى ال تعالىعليـه وسـلم‪( :‬إنمـا الطاعـة فـي المعروف) ‪ ،‬وقال‪( :‬ل طاعـة فـي‬
‫معصــية ال)(‪)3‬و(ل طاعــة لمخلوق فــي معصــية الخالق)(‪ )4‬وقال‪( :‬مــن أمركــم بمعصــية ال فل‬
‫‪ )(1‬مسلم (‪ )1/448‬و(‪ )3/1467‬وأبو داود (‪.)2/955‬‬
‫‪ )(2‬السند (‪.)436 ،427 ،4/426‬‬
‫‪ )(3‬السند (‪.)436 ،427 ،4/426‬‬
‫‪ )(4‬السند (‪.)5/66‬‬

‫‪68‬‬
‫تطيعوه)(‪.)5‬‬
‫وقال هؤلء الرافضـة المنسـوبين إلى شيعـة عليّـ رضـي ال عنـه‪ :‬إنـه تجـب طاعـة غيـر الرسـول‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم مطلقًا فـي كـل مـا أمـر بـه‪ ،‬أفسـد مـن قول مـن كان منسـوبا إلى شيعـة عثمان‬
‫رضـي ال عنـه مـن أهـل الشام مـن أنـه يجـب طاعـة ولي المـر مطلقًا‪ ،‬فإن أولئك كانوا يطيعون ذا‬
‫السلطان وهو موجود‪ ،‬وهؤلء يوجبون طاعة معصوم مفقود‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فأولئك لم يكونوا يدّعون فـي أئمتهـم العصـمة التـي تدعيهـا الرافضـة‪ ،‬بـل كانوا يجعلونهـم‬
‫كالخلفاء الراشديــن وأئمــة العدل الذيــن يقلدون فيمــا ل تعرف حقيقــة أمره‪ ،‬أو يقولون‪ :‬إن ال يقبــل‬
‫منهم الحسنات ويتجاوز عن السيئات‪ .‬وهذا أهون ممن يقول‪ :‬إنهم معصومون ول يخطئون‪.‬‬
‫فتبين ان هؤلء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان‪ ،‬وإن كان فيهم خروج عن بعض الحق‬
‫والعدل‪ ،‬فخروج الماميـة عـن الحـق والعدل أكثـر وأشـد‪ ،‬فكيـف بقول أئمـة السـنة الموافـق للكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وهو المر بطاعة ولي المر فيما يأمر به من طاعة ال‪ ،‬دون ما يأمر به من معصية ال‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وذهـب الجميـع منهـم إلى القول بالقياس‪ ،‬والخـذ بالرأي‪ ،‬فأدخلوا فـي ديـن ال مـا‬
‫ليـس منـه‪ ،‬وحرّفوا أحكام الشريعـة‪ ،‬وأحدثوا مذاهـب أربعـة لم تكـن فـي زمـن النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم ول زمـن صـحابته‪ ،‬وأهملوا أقاويـل الصـحابة‪ ،‬مـع أنهـم نصـّوا على ترك القياس‪ ،‬وقالوا‪ :‬أول‬
‫من قاس إبليس)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬الجواب عن هذا من وجوه‪:‬‬
‫أحدهععا‪ :‬أن دعواه على جميــع أهــل الســنة المثبتيــن لمامــة الخلفاء الثلثــة أنهــم يقولون بالقياس‬
‫دعوى باطلة‪ ،‬قـد عُرف فيهـم طوائف ل يقولون بالقياس‪ ،‬كالمعتزلة البغدادييـن‪ ،‬وكالظاهريـة كداود‬
‫وابن حزم وغيرهما‪ ،‬وطائفة من أهل الحديث والصوفية‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬ففـي الشيعـة مـن يقول بالقياس كالزيديـة‪ ،‬فصـار النزاع فيـه بيـن الشيعـة كمـا هـو بيـن أهـل‬
‫السنة والجماعة‪.‬‬
‫الثانععي‪ :‬أن يقال‪ :‬القياس ولو قيــل‪ :‬إنــه ضعيــف هــو خيــر مــن تقليــد مــن لم يبلغ فــي العلم مبلغ‬
‫المجتهدين‪ ،‬فإن كل من له علم وإنصاف يعلم أن مثل‪ :‬مالك والليث بن سعد والوْزاعي وأبي حنيفة‬
‫والثّوري وابــن أبــى ليلى‪ ،‬ومثــل‪ :‬الشافعــي وأحمــد إســحاق وأبــى عبيــد وأبــى َثوْر أعلم وأفقــه مــن‬
‫العسكريين أمثالهما‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فهؤلء خير من المنتظر الذي ل يعلم ما يقول‪ ،‬فإن الواحد من هؤلء إن كان عنده نص‬
‫منقول عن النبي صلى ال عليه وسلم فل ريب أن النص الثابت عن النبي صلى ال عليه وسلم مقدّم‬
‫على القياس بل ريـب‪ ،‬وإن لم يكـن عنده نـص ولم يقـل بالقياس كان جاهلً‪ ،‬فالقياس الذي يفيـد الظـن‬
‫خير من الجهل الذي ل علم معه ول ظن‪.‬‬
‫فإن قال هؤلء‪ :‬كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى ال عليه وسلم كان هذا أضعف من قول‬
‫مـن قال‪ :‬كـل مـا يقوله المجتهـد فإنـه قول النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فإن هذا يقوله طائفـة مـن أهـل‬
‫الرأي‪ ،‬وقولهم أقرب من قول الرافضة‪ ،‬فإن قول أولئك كذب صريح‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فهذا كقول من يقول‪ :‬عمل أهل المدينـة متلقـى عـن الصحابة‪ ،‬وقول الصحابة متلقـى عـن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقول من يقول‪ :‬ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه ل يقوله‬
‫‪ )(5‬السند (‪ )3/67‬وابن ماجة (‪.)2/955‬‬

‫‪69‬‬
‫إل توقيفًا عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقول من يقول‪ :‬قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام‬
‫من ال ووحي يجب اتباعه‪.‬‬
‫فإن قال‪ :‬هؤلء تنازعوا؟‬
‫قيععل‪ :‬وأولئك تنازعوا‪ ،‬فل يمكــن أن تدّعــي دعوى باطلة إل أمكــن معارضتهــم بمثلهــا أو بخيــر‬
‫منها‪ ،‬ول يقولون حقّا إل كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه‪،‬‬
‫جئْنَاك َع بِالْحَقّ‬
‫فإن البدعــة مــع الســنة كالكفــر مــع اليمان‪ .‬وقــد قال تعالى‪(( :‬وَ َل يَ ْأتُونَك َع ِبمَ َثلٍ إِلّ ِ‬
‫ن تَ ْفسِيرًا))[الفرقان‪..]33:‬‬
‫حسَ َ‬
‫وَأَ ْ‬
‫الثالث‪ :‬أن يقال‪ :‬الذيـن أدخلوا فـي ديـن ال مـا ليـس منـه وحرّفوا أحكام الشريعـة‪ ،‬ليسـوا فـي طائفـة‬
‫أكثر منهم في الرافضة‪ ،‬فإنهم أدخلوا في دين ال من الكذب على رسول ال صلى ال عليه وسلم ما‬
‫لم يكذبــه غيرهــم‪ ،‬وردّوا مــن الصــدق مــا لم يرده غيرهــم‪ ،‬وحرّفوا القرآن تحريفًا لم يحرّفــه أحــد‬
‫ن يُقِيمُو نَ ال صّلَةَ‬ ‫ن آمَنُوا الّذِي َ‬‫غيرهم‪ ،‬مثل قولهم‪ :‬إن قوله تعالى‪ِ(( :‬إ ّنمَا َوِليّكُ مُ الَ َورَ سُو َلهُ وَالّذِي َ‬
‫ي لما تصدق بخاتمه في الصلة‪.‬‬ ‫َويُ ْؤتُونَ الزّكَا َة وَ ُه ْم رَاكِعُون))[المائدة‪ .]55:‬نزلت في عل ّ‬
‫ح َريْنععععِ))[الرحمـــــن‪ :]19:‬علي وفاطمــــة‪(( ،‬يخرُجععععُ ِم ْنهُمَعععا الّلؤُْلؤُ‬ ‫وقوله تعالى‪(( :‬مرَجععععَ ا ْلبَ ْ‬
‫صيْنَاهُ فِي ِإمَا ٍم ُمبِين))[يـس‪ .]12:‬علي‬ ‫شيْءٍ أَحْ َ‬‫وَا ْل َمرْجَان))[الرحمـن‪ :]22:‬الحسن والحسين‪(( ،‬وَ ُكلّ َ‬
‫عمْرَانعَ))[آل عمران‪ ]33:‬هـم آل أبـي‬ ‫طفَى آدَمَع َونُوحًا وَآلَ ِإ ْبرَاهِيعم وَآلَ ِ‬‫بـن أبـي طالب ((إِنّ الَ اصْع َ‬
‫جرَةَ‬‫طالب واسـم أبـي طالب عمران‪(( ،‬فقاتلوا َأئِ ّمةَ ا ْلكُفْر))[التوبــة‪ :]12:‬طلحـة والزبيـر‪(( ،‬وَالشّ َ‬
‫ا ْلمَلْعُونَةَ فِي الْ ُقرْآن))[الســراء‪ ]60:‬هـم بنـو أميـة‪(( ،‬إِنّ الَ يَ ْأ ُمرُكُم أَنْع تَذْبَحُوا بَ َقرَة))[البقرة‪:]67:‬‬
‫عمَلُكَ))[الزمر‪ :]65:‬لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولية‪.‬‬ ‫حبَطَنّ َ‬ ‫شرَكْتَ َليَ ْ‬
‫عائشة و((لئنْ َأ ْ‬
‫وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم‪ ،‬ثم من هذا دخلت السماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات‬
‫والمحرّمات‪ ،‬فهم أئمة التأويل‪ ،‬الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه‪ ،‬ومن تدبر ما عندهم وجد فيه‬
‫مـن الكذب فـي المنقولت‪ ،‬والتكذيـب بالحـق منهـا والتحريـف لمعانيهـا‪ ،‬مـا ل يوجـد فـي صـنف مـن‬
‫المسـلمين‪ ،‬فهـم قطعًا أدخلوا فـي ديـن ال مـا ليـس منـه أكثـر مـن كـل أحـد‪ ،‬وحرّفوا كتابـه تحريفًا لم‬
‫يصل غيرهم إلى قريب منه‪.‬‬
‫الوجعه الرابعع‪ :‬قوله‪( :‬وأحدثوا مذاهـب أربعـة لم تكـن فـي زمـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم ول‬
‫زمن صحابته‪ ،‬وأهملوا أقاويل الصحابة)‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬متـى كان مخالفـة الصـحابة والعدول عـن أقاويلهـم منكرًا عنـد الماميـة؟ وهؤلء متفقون‬
‫على محبـة الصـحابة وموالتهـم وتفضيلهـم على سـائر القرون‪ ،‬وعلى أن إجماعهـم حجـة‪ ،‬وعلى أنـه‬
‫ليـس لهـم الخروج عن إجماعهـم‪ ،‬بـل عامة الئمـة المجتهديـن يصـرّحون بأنـه ليـس لنـا أن نخرج عن‬
‫أقاويـل الصـحابة‪ ،‬فكيـف يطعـن عليهـم بمخالفـة الصـحابة مـن يقول‪ :‬إن إجماع الصـحابة ليـس بحجـة‪،‬‬
‫وينسبهم إلى الكفر والظلم؟‬
‫فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين‪ ،‬وإن لم يكن حجة فل يحتج به عليهم‪.‬‬
‫وإن قال‪ :‬أهل السنة يجعلونه حجة وقد خالفوه؟‬
‫قيعل‪ :‬أمـا أهـل السـنة فل يتصـور أن يتفقوا على مخالفـة إجماع الصـحابة‪ ،‬وأمـا الماميـة فل ريـب‬
‫أنهـم متفقون على مخالفـة إجماع العترة النبويـة‪ ،‬مـع مخالفـة إجماع الصـحابة‪ ،‬فإن لم يكـن فـي العترة‬
‫النبويـة –بنـو هاشـم – على عهـد النـبي صـلى ال عليـه وسـلم وأبـي بكـر وعمـر وعثمان وعلي رضـي‬
‫ال عنهـم مـن يقول بإمامـة الثنـي عشـر ول بعصـمة أحـد بعـد النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ول بكفـر‬

‫‪70‬‬
‫الخلفاء الثلثة‪ ،‬بل ول من يطعن في إمامتهم‪ ،‬بل ول من ينكر الصفات‪ ،‬ول من يكذب بالقدر‪.‬‬
‫فالماميـة بل ريـب متفقون على مخالفـة إجماع العترة النبويـة‪ ،‬مـع مخالفتهـم لجماع الصـحابة‪،‬‬
‫فكيف ينكرون على من لم يخالف ل إجماع الصحابة ول إجماع العترة؟‬
‫الوجعه الخامعس‪ :‬أن قوله‪( :‬أحدثوا مذاهـب أربعـة لم تكـن على عهـد رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسلم) إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم‪،‬‬
‫فإن هؤلء الئمـة لم يكونوا فـي عصـر واحـد‪ ،‬بـل أبـو حنيفـة توفـي سـنة خمسـين ومائة‪ ،‬ومالك سـنة‬
‫تسـع وسـبعين ومائة‪ ،‬والشافعـي سـنة أربـع ومائتيـن‪ ،‬وأحمـد بـن حنبـل سـنة إحدى وأربعيـن ومائتيـن‪،‬‬
‫وليس في هؤلء من يقلد الخر‪ ،‬ول من يأمر باتّباع الناس له‪ ،‬بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وإذا قال غيره قولً يخالف الكتاب والسنة عنده رده‪ ،‬ول يوجب على الناس تقليده‪.‬‬
‫وإن قلت‪ :‬إن هذه المذاهـب اتّبعهـم الناس‪ ،‬فهذا لم يحصـل بموطأة‪ ،‬بـل اتفـق أن قومًا اتّبعوا هذا‪،‬‬
‫وقومًـا اتبعوا هذا‪ ،‬كالحجاج الذيــن طلبوا مــن يدلهــم على الطريــق‪ ،‬فرأى قوم هذا الدليــل خــبيرًا‬
‫فاتّبعوه‪ ،‬وكذلك الخرون‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك لم يكـن فـي ذلك اتفاق أهـل السـنة على باطـل‪ ،‬بـل كـل قوم منهـم ينكرون مـا عنـد‬
‫غيرهـم مـن الخطأ‪ ،‬فلم يتفقوا على أن الشخص المعيّن عليـه أن يقبل مـن كل من هؤلء مـا قاله‪ ،‬بل‬
‫ي بتقليد شخص معيّن غير النبي صلى ال عليه وسلم في كل ما يقوله‪.‬‬ ‫جمهورهم ل يأمرون العام ّ‬
‫وال تعالى قــد ضمــن العصــمة للمــة‪ ،‬فمــن تمام العصــمة أن يجعــل عددًا مــن العلماء إن أخطــأ‬
‫الواحد منهم في شيء كان الخر قد أصاب فيه حتى ل يضيع الحق‪ ،‬ولهذا لما كان في قول بعضهم‬
‫من الخطأ مسائل‪ ،‬كبعض المسائل التي أوردها‪ ،‬كان الصواب في قول الخر‪ ،‬فلم يتفق أهل السنة‬
‫على ضللة أصـلً‪ ،‬وأمـا خطـأ بعضهـم فـي بعـض الديـن‪ ،‬فقـد قدّمنـا فـي غيـر مرة أن هذا ل يضـر‪،‬‬
‫كخطأ بعض المسلمين‪ ،‬وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه‪ ،‬كما أخطأ‬
‫اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين‪.‬‬
‫الوجه السادس‪ :‬أن يُقال‪ :‬قوله‪( :‬إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى ال عليه وسلم ول‬
‫الصحابة) إن أراد أن القوال التي لهم لم تنقل عن النبي صلى ال عليه وسلم ول عن الصحابة‪ ،‬بل‬
‫تركوا قول النـبي صـلى ال عليـه وسـلم والصـحابة وابتدعوا خلف ذلك‪ ،‬فهذا كذب عليهـم‪ ،‬فإنهـم لم‬
‫يتفقوا على مخالفة الصحابة‪ ،‬بل هم ‪-‬وسائر أهل السنة‪ -‬متبعون للصحابة في أقوالهم‪ ،‬وإن قدّر أن‬
‫بعض أهل السنّة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم‪ ،‬فالباقون يوافقون ويثبتون خطأ من يخالفهم‪،‬‬
‫وإن أراد أن نفس أصحابها لم يكونوا في ذلك الزمان‪ ،‬فهذا ل محذور فيه‪ ،‬فمن المعلوم أن كل قرن‬
‫يأتي يكون بعد القرن الول‪.‬‬
‫الوجعه السعابع‪ :‬قوله‪( :‬وأهملوا أقاويـل الصـحابة) كذب منـه‪ ،‬بـل كتـب أرباب المذاهـب مشحونـة‬
‫بنقل أقاويل الصحابة والستدلل بها‪ ،‬وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الخرى‪ .‬وإن قال‪:‬‬
‫أردت بذلك أنهـم ل يقولون‪ :‬مذهـب أبـي بكـر وعمـر ونحـو ذلك‪ ،‬فسـبب ذلك أن الواحـد مـن هؤلء‬
‫جمــع الثار ومــا اســتنبطه منهــا‪ ،‬فأضيــف ذلك إليــه‪ ،‬كمــا تضاف كتــب الحديــث إلى مــن جمعهــا‪،‬‬
‫كالبخاري ومسلم وأبي داود‪ ،،‬وكما تضاف القراءات إلى من اختارها‪ ،‬كنافع وابن كثير‪.‬‬
‫ل عمـن قبله‪ ،‬لكنـه‬ ‫وغالب مـا يقوله هؤلء منقول عمـن قبلهـم‪ ،‬وفـي قول بعضهـم مـا ليـس منقو ً‬
‫اسـتنبطه مـن تلك الصـول‪ ،‬ثـم قـد جاء بعده مـن تعقـب أقواله فـبيّن منهـا مـا كان خطـأ عنده‪ ،‬كـل ذلك‬
‫حفظًـا لهذا الديــن‪ ،‬حتــى يكون أهله كمــا وصــفهم ال بــه ((ي ْأ ُمرُونعَع بِا ْلمَ ْعرُوفعِع َويَ ْن َهوْنععَ عَنععِ‬

‫‪71‬‬
‫ا ْلمُنْكَر))[التوبة‪ ]71:‬فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمدًا أنكره عليه غيره‪.‬‬
‫حرْثِع إِذ‬‫وليـس العلماء بأعظـم مـن النـبياء‪ ،‬وقـد قال تعالى‪(( :‬وَدَاوُ َد وَسُعَل ْيمَانَ ِإ ْذ يَحْ ُكمَانِع فِي الْ َ‬
‫وعِ ْلمًا)) [النـبياء‪:‬‬
‫ن وَ ُكلّ آ َت ْينَا حُ ْكمًا َ‬‫غنَمُع الْ َقوْم وَ ُكنّاع لِحُ ْك ِمهِمْع شَاهِدِيعن * فَ َف ّهمْناهَا سُعَل ْيمَا َ‬
‫نَ َفشَتْع فِيهِع َ‬
‫‪.]79-78‬‬
‫وثبـت فـي الصـحيحين‪ ،‬عـن ابـن عمـر رضـي ال عنهمـا‪ ،‬أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قال‬
‫لصـحابه عام الخندق‪( :‬ل يصـلين أحـد العصـر إل فـي بنـي قريظـة‪ ،‬فأدركتهـم صـلة العصـر فـي‬
‫الطريـق‪ ،‬فقال بعضهـم‪:‬لم يُرد منـا تفويـت الصـلة‪ ،‬فصـلّوا فـي الطريـق‪ .‬وقال بعضهـم‪ :‬ل نصـلي إل‬
‫في بني قريظة‪ ،‬فصلوا العصر بعد ما غربت الشمس‪ ،‬فما عنّف واحدة من الطائفتين)(‪ )1‬فهذا دليل‬
‫على أن المجتهديـن يتنازعون فـي فهـم كلم رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وليـس كـل واحـد منهـم‬
‫آثمًا‪.‬‬
‫الوجعه الثامعن‪ :‬أن أهـل السـنة لم يقـل أحـد منهـم‪ :‬إن إجماع الئمـة الربعـة حجـة معصـومة‪ ،‬ول‬
‫قال‪ :‬إن الحق منحصر فيها‪ ،‬وإن ما خرج عنها باطل‪ ،‬بل إذا قال من ليس من أتباع الئمة‪ ،‬كسفيان‬
‫الثوري والوزاعـي والَليْث بـن سـعد ومـن قبلهـم ومـن بعدهـم مـن المجتهديـن قولً يخالف قول الئمـة‬
‫الربعة‪ ،‬رُدّ ما تنازعوا فيه إلى ال ورسوله‪ ،‬وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل‪.‬‬
‫الوجه التاسع‪ :‬قوله‪( :‬الصحابة نصوا على ترك القياس)‪.‬‬
‫يقال له‪ :‬الجمهور الذيــن يثبتون القياس قالوا‪ :‬قــد ثبــت عــن الصــحابة أنهــم قالوا بالرأي واجتهاد‬
‫الرأي وقاسوا‪ ،‬كما ثبت عنهم ذم ما ذموه من القياس‪ .‬قالوا‪ :‬وكل القولين صحيح‪ ،‬فالمذموم القياس‬
‫المعارض للنص‪ ،‬كقياس الذين قالوا‪ :‬إنما البيع مثل الربا‪ ،‬وقياس إبليس الذي عارض به أمر ال له‬
‫بالسجود لدم‪ ،‬وقياس المشركين الذين قالوا‪ :‬أتأكلون ما قتلتم ول تأكلون ما قتله ال؟ قال ال تعالى‪:‬‬
‫شيَاطِينَ َليُوحُونَ ِإلَى َأوْ ِليَا ِئهِمْ ِليُجَادِلُو ُك ْم وَإِنْ أَطَ ْع ُتمُوهُمْ ِإنّكُم ال ُمشْرِكُون))[النعام‪.]121:‬‬ ‫((وَإِنّ ال ّ‬
‫وكذلك القياس الذي ل يكون الفرع فيـه مشاركًا للصـل فـي مناط الحكـم‪ ،‬فالقياس يُذم إمـا لفوات‬
‫شرطه‪ ،‬وهو عدم المساواة في مناط الحكم‪ ،‬وإما لوجود مانعه‪ ،‬وهو النص الذي يجب تقديمه عليه‪،‬‬
‫وإن كانــا متلزمَيْـن فــي نفــس المــر‪ ،‬فل يفوت الشرط إل والمانــع موجود‪ ،‬ول يوجــد المانــع إل‬
‫والشرط مفقود‪.‬‬
‫فأما القياس الذي يستوي فيه الصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ما هو أرجح منه‪ ،‬فهذا‬
‫هو القياس الذي يتبع‪.‬‬
‫ول ريـب أن القياس فيـه فاسـد‪ ،‬وكثيـر مـن الفقهاء قاسـوا أقيسـة فاسـدة‪ ،‬بعضهـا باطـل بالنـص‪،‬‬
‫وبعضهـا ممـا اتفـق على بطلنـه‪ ،‬لكـن بطلن كثيـر مـن القياس ل يقتضـي بطلن جميعـه‪ ،‬كمـا أن‬
‫وجود الكذب في كثير من الحديث ل يوجب كذب جميعه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬الوجه الثاني‪ :‬في الدللة على وجوب اتّباع مذهب المامية‪ :‬ما قاله شيخنا المام‬
‫العظـم خواجـه نصـير الملة والحـق والديـن محمـد بـن الحسـن الطوسـي‪ ،‬قدّس ال روحـه‪ ،‬وقـد سـألته‬
‫عـن المذاهـب؟ فقال‪ :‬بحثنـا عنهـا وعـن قول رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬سـتفترق أمتـي على‬
‫ثلث وسـبعين فرقـه‪ ،‬منهـا فرقـة ناجيـة‪ ،‬والباقـي فـى النار)(‪ )2‬وقـد عيـن الفرقـة الناجيـة والهالكـة فـي‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)5/112‬ومسلم (‪.)3/1391‬‬
‫‪ )(2‬سنن أب داود (‪ )4/276‬والترمذي (‪.)4/134‬‬

‫‪72‬‬
‫حديث آخر صحيح متفق عليه‪ ،‬وهو قوله‪( :‬مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح‪ :‬من ركبها نجا‪ ،‬ومن‬
‫تخلف عنهـا غرق)‪ ،‬فوجدنـا الفرقـة الناجيـة هـي فرقـة الماميـة‪ ،‬لنهـم باينوا جميـع المذاهـب‪ ،‬وجميـع‬
‫المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬الجواب من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن هذا المامي قد كّفر من قال‪ :‬إن ال موجب بالذات‪ ،‬كما تقدم من قوله‪ :‬يلزم أن يكون‬
‫ال موجبًا بذاته ل مختارًا فيلزم الكفر‪.‬‬
‫وهذا الذي جعله شيخه العظم واحتج بقوله‪ ،‬هو ممن يقول‪ :‬بأن ال موجب بالذات‪ ،‬ويقول‪ :‬بقدم‬
‫العالم‪ ،‬كما ذكرذلك فى كتاب‪( :‬شرح الشارات) له‪ .‬فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج‬
‫به كافرًا‪ ،‬والكافر ل يُقبل قوله في دين المسلمين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملحدة الباطنية السماعيلية‬
‫باللموت(‪ ،)1‬ثــم لمــا قدم الترك المشركون إلى بلد المســلمين‪ ،‬وجاءوا الى بغداد دار الخلفــة‪ ،‬كان‬
‫هذا منجمًا مشيرًا لملك الترك المشركيـن هولكـو أشار عليـه بقتـل الخليفـة‪ ،‬وقتـل أهـل العلم والديـن‪،‬‬
‫واســتبقاء أهــل الصــناعات والتجارات الذيــن ينفعونــه فــي الدنيــا‪ ،‬وأنــه اســتولى على الوقــف الذي‬
‫للمسـلمين‪ ،‬وكان يعطـي منـه مـا شاء ال لعلماء المشركيـن وشيوخهـم مـن البخشيـة السـحرة وأمثالهـم‪،‬‬
‫وأنه لما بنى الرّصد الذي بمراغة على طريق الصابئة المشركين‪ ،‬كان أبخس الناس نصيبًا منه من‬
‫ل الملل أقرب‪ ،‬وأوفرهـم نصـيبًا مـن كان أبعدهـم عـن الملل‪ ،‬مثـل‪ :‬الصـابئة المشركيـن‪،‬‬ ‫كان إلى أه ِ‬
‫ومثل‪ :‬المعطّلة وسائر المشركين‪ ،‬وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك‪.‬‬
‫ومــن المشهور عنــه وعــن أتباعــه الســتهتار بواجبات الســلم ومحرّماتــه‪ ،‬ل يحافظون على‬
‫الفرائض كالصـلوات‪ ،‬ول ينزعون عـن محارم ال مـن الفواحـش والخمـر وغيـر ذلك مـن المنكرات‪،‬‬
‫حتى أنهم في شهر رمضان يُذكر عنهم من إضاعة الصلوات‪ ،‬وارتكاب الفواحش‪ ،‬وشرب الخمر‬
‫مـا يعرفـه أهـل الخـبرة بهـم‪ ،‬ولم يكـن لهـم قوة وظهور إل مـع المشركيـن‪ ،‬الذيـن دينهـم شـر مـن ديـن‬
‫اليهود والنصارى‪.‬‬
‫ولهذا كان كلمـا قوى السـلم فـي المغـل وغيرهـم مـن ترك‪ ،‬ضعـف أمـر هؤلء لفرط معاداتهـم‬
‫للســلم وأهله‪ ،‬ولهذا كانوا مــن أنقــص الناس منزلة عنــد الميــر نوروز المجاهــد فــي ســبيل ال‬
‫الشهيـد‪ ،‬الذي دعـا ملك المغـل غازان إلى السـلم‪ ،‬والتزم له أن ينصـره إذا أسـلم‪ ،‬وقتـل المشركيـن‬
‫الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم‪ ،‬وهدم البذخانات‪ ،‬وكسر الصنام ومزق سدنتها كل‬
‫ممزق‪ ،‬وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار‪ ،‬وبسببه ظهر السلم في المغل وأتباعهم‪.‬‬
‫وبالجملة‪ ..‬فأمـر هذا الطوسـي وأتباعـه عنـد المسـلمين أشهـر وأعرف مـن أن يعرف ويوصـف‪،‬‬
‫ومع هذا فقد قيل‪ :‬إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى والفقه‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإن كان قد تاب من اللحاد فال يقبل التوبة عن عباده‪ ،‬ويعفو عن السيئات‪ ،‬وال تعالى‬
‫يقول‪(( :‬يععا عباِدي عَ الّذِين عَ أَس ْعرَفوا عَلَى أنفس ِعهِ ْم ل تَ ْقنَطوا مِن رّحْمَة ال إنّ الَ يَغْفِر الذُنوب عَ‬
‫ج ِميْعَاً))[الزمر‪.]53:‬‬
‫َ‬
‫لكـن مـا ذكره عـن هذا‪ ،‬إن كان قبـل التوبـة لم يُقبـل قوله‪ ،‬وإن كان بعـد التوبـة لم يكـن قـد تاب مـن‬
‫الرفـض‪ ،‬بـل مـن اللحاد وحده‪ ،‬وعلى التقديريـن فل يُقبـل قوله‪ .‬والظهـر أنـه إنمـا كان يجتمـع بـه‬
‫وبأمثاله لما كان منجمًا للمغل المشركين‪ ،‬واللحاد معروف من حاله إذ ذلك‪.‬‬
‫‪ )(1‬اسم قلعه ف جبال الديلم بناها أحد ملوك الديلم‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫فمــن يقدح فــي مثــل أبــي بكــر وعمــر وعثمان وغيرهــم مــن الســابقين الوّليــن مــن المهاجريــن‬
‫والنصـار‪ ،‬ويطعـن على مثـل‪ :‬مالك والشافعـي وأبـي حنيفـة وأحمـد بـن حنبـل وأتباعهـم‪ ،‬ويعيرهـم‬
‫بغلطات بعضهـم فـي مثـل إباحـة الشطرنـج والغناء‪ ،‬كيـف يليـق بـه أن يحتـج لمذهبـه بقول مثـل هؤلء‬
‫الذيـن ل يؤمنون بال ول باليوم الخـر‪ ،‬ول يحرّمون مـا حرم ال ورسـوله‪ ،‬ول يدينون ديـن الحـق‪،‬‬
‫ويسـتحلون المحرّمات المجمـع على تحريمهـا‪ ،‬كالفواحـش والخمـر فـي مثـل شهـر رمضان‪ ،‬الذيـن‬
‫أضاعوا الصلة واتّبعوا الشهوات‪ ،‬وخرقوا سياج الشرائع‪ ،‬واستخفّوا بحرمات الدين‪ ،‬وسلكوا غير‬
‫طريق المؤمنين‪ ،‬فهم كما قيل فيهم‪:‬‬
‫الدين يشكو بليععة من فرقة فلسفعية‬
‫ل يشهدون صعلة إل لجعل التقيعة‬
‫سياسعة معدنعية‬ ‫ول ترى الشرع إل‬
‫ويؤثعرون عليعه مناهجعًا فلسعفيعة‬
‫ولكن هذا حال الرافضة‪ :‬دائما يعادون أولياء ال المتقين ـ من السابقين الولين‪ ،‬من المهاجرين‬
‫والنصار‪ ،‬والذين اتبعوهم بإحسان‪ ،‬ويوالون الكفّار والمنافقين؛ فإن أعظم الناس نفاقًا في المنتسبين‬
‫إلى السلم هم الملحدة الباطنية السماعيلية‪ ،‬فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله‪ ،‬مع ما تقدم من‬
‫طعنه على أقوال أئمة المسلمين – كان من أعظم الناس موالة لهل النفاق‪ ،‬ومعاداة لهل اليمان‪.‬‬
‫ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذّاب المفتري‪ ،‬يذكر أبا بكر وعمر وعثمان‪،‬‬
‫وسائر السابقين الوّلين والتابعين‪ ،‬وسائر أئمة المسلمين من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها‬
‫عليهـم هـو وإخوانـه‪ ،‬ويجيـء إلى مـن قـد اشتُهـر عنـد المسـلمين بمحادتـه ل ورسـوله‪ ،‬فيقول‪( :‬قال‬
‫شيخنـا العظـم)‪ ،‬ويقول (قدس ال روحـه) مـع شهادتـه بالكفـر عليـه وعلى أمثاله‪ ،‬ومـع لعنـة طائفتـه‬
‫لخيار المؤمنين من الولين والخرين‪.‬‬
‫وهؤلء داخلون فــي معنــى قوله تعالى‪(( :‬أَلَم ْع َترَ إِلَى الّذِين عَ أُوتُوا نَص عِيبًا مِن عَ ا ْل ِكتَاب ِع ُي ْؤ ِمنُون عَ‬
‫ن آمَنُوا سَبِيلً * ُأوْ َلئِكَ الّذِينَ لَ َع َنهُمُ‬‫ت َويَقُولُونَ ِللّذِينَ كَ َفرُوا َهؤُلءِ أَهْدَى مِنَ الّذِي َ‬‫ت وَالطّاغُو ِ‬ ‫جبْ ِ‬
‫بِا ْل ِ‬
‫ن تَجِدَ َلهُ َنصِيرًا))[النساء‪.]52-51:‬‬‫ن يَ ْلعَنِ الُ َفلَ ْ‬
‫ل وَمَ ْ‬
‫ا ُ‬
‫فإن هؤلء المامية أوتوا نصيبًا من الكتاب‪ ،‬إذ كانوا مقرّين ببعض ما في الكتاب المنزّل‪ ،‬وفيهم‬
‫شعبـة مـن اليمان بالجبـت وهـو السـحر‪ ،‬والطاغوت وهـو كـل مـا يعبـد مـن دون ال‪ ،‬فإنهـم يعظّمون‬
‫الفلســفة المتضمنــة لذلك‪ ،‬ويرون الدعاء والعبادة للموتــى‪ ،‬واتخاذ المســاجد على القبور‪ ،‬ويجعلون‬
‫السفر إليها حجًا له مناسك‪ ،‬ويقولون‪( :‬مناسك حج المشاهد)‪.‬‬
‫وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق! فيرون الشراك‬
‫بال أعظم من عبادة ال‪ ،‬وهذا من أعظم اليمان بالطاغوت‪.‬‬
‫وهــم يقولون لمــن يقرّون بكفره مــن القائليــن بقدم العالم ودعوة الكواكــب والمســوّغين للشرك‪:‬‬
‫هؤلء أهدى مـن الذيـن آمنوا سـبيلً‪ ،‬فإنهـم فضّلوا هؤلء الملحدة المشركيـن على السـابقين الوّليـن‬
‫مـن المهاجريـن والنصـار والذيـن اتبعوهـم بإحسـان‪ ،‬وليـس هذا ببدع مـن الرافضـة‪ ،‬فقـد عُرف مـن‬
‫موالتهـم لليهود والنصـارى والمشركيـن ومعاونتهـم على قتال المسـلمين مـا يعرفـه الخاص والعام‪،‬‬
‫حتــى قيــل‪ :‬إنــه مــا اقتتــل يهودي ومســلم‪ ،‬ول مشرك ومســلم – إل كان الرافضــي مــع اليهودي‬
‫والنصراني والمشرك‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬أنه قد عرف كل أحد أن السماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون‬

‫‪74‬‬
‫التشيـع‪ ،‬وإن كانوا في الباطـن كفّارا منسلخين مـن كـل ملة‪ ،‬والنصـيرية هم مـن غلة الرافضة الذين‬
‫يدّعون إلهية عليّ‪ ،‬وهؤلء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين‪.‬‬
‫والســماعيلية الباطنيــة أكفــر منهــم‪ ،‬فإن حقيقــة قولهــم التعطيــل‪ ،‬أمــا أصــحاب الناموس الكــبر‬
‫والبلغ العظـم‪ ،‬الذي هـو آخـر المراتـب عندهـم‪ ،‬فهـم مـن الدهريـة القائليـن بأن العالم ل فاعـل له‪ :‬ل‬
‫علة ول خالق‪ .‬ويقولون‪ :‬ليـس بيننـا وبيـن الفلسـفة خلف إل فـي واجـب الوجود‪ ،،‬فإنهـم يثبتونـه‪،‬‬
‫وهـو شيـء ل حقيقـة له‪ ،‬ويسـتهزئون بأسـماء ال عـز وجـل‪ ،‬ول سـيما هذا السـم الذي هـو ال‪ ،‬فإن‬
‫منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه‪.‬‬
‫وأمـا مـن هـو دون هؤلء فيقولون بالسـابق وبالتالي‪ ،‬اللذيـن عبّروا بهمـا عـن العقـل والنفـس عنـد‬
‫الفلسـفة‪ ،‬وعـن النور والظلمـة عنـد المجوس‪ ،‬وركّبوا لهـم مذهبًا مـن مذاهـب الصـابئة والمجوس‬
‫ظاهره التشيع‪.‬‬
‫ول ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى‪ ،‬ولكن تظاهروا بالتشيع‪.‬‬
‫قالوا‪:‬لن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا‪ ،‬لما فيهم من الخروج عن الشريعة‪ ،‬ولما فيهم من‬
‫الجهل وتصديق المجهولت‪.‬‬
‫ولهذا كان أئمتهــم فــي الباطــن فلســفة‪ ،‬كالنصــير الطوســي هذا‪ ،‬وكســنان البصــري الذي كان‬
‫بحصونهم بالشام‪ ،‬وكان يقول‪ :‬قد رَفَعت عنهم الصوم والصلة والحج والزكاة‪.‬‬
‫فإذا كانـت السـماعيلية إنمـا يتظاهرون فـي السـلم بالتشيـع‪ ،‬ومنـه دخلوا وبـه ظهروا‪ ،‬وأهله هـم‬
‫المهاجرون إليهــم‪ ،‬ل إلى ال ورســوله‪ ،‬وهــم أنصــارهم ل أنصــار ال ورســوله – عُلم أن شهادة‬
‫السماعيلية للشيعة بأنهم على حق شهادة مردودة باتفاق العقلء‪.‬‬
‫فإن هذا الشاهعد‪ :‬إن كان يعرف أن مـا هـو عليـه مخالف لديـن السـلم فـي الباطـن‪ ،‬وإنمـا أظهـر‬
‫التشيع لينفق به عند المسلمين‪ ،‬فهو محتاج إلى تعظيم التشيع‪ ،‬وشهادته له شهادة المرء نفسه‪ ،‬فهو‬
‫كشهادة الدمـي لنفسـه‪ ،‬لكنـه فـي هذه الشهادة يعلم أنـه يكذب‪ ،‬وإنمـا كذب فيهـا كمـا كذب فـي سـائر‬
‫أحواله‪ ،‬وإن كان يعتقـد ديـن السـلم فـي الباطـن‪ ،‬ويظـن أن هؤلء على ديـن السـلم‪ ،‬كان أيضًا‬
‫شاهدًا لنفسه‪ ،‬لكن مع جهله وضلله‪.‬‬
‫وعلى التقديريـن فشهادة المرء لنفسـه ل تُقبـل‪ ،‬سـواء علم كذب نفسـه‪ ،‬أو اعتقـد صـدق نفسـه‪ .‬كمـا‬
‫فـي السـنن عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬ل تُقبـل شهادة خصـم ول ظنيـن ول ذي غمـر‬
‫ظنّاء متهمون ذوو غمــر على أهــل الســنة والجماعــة‪ ،‬فشهادتهــم‬ ‫على أخيــه)(‪ .)1‬وهؤلء خصــماء أ ِ‬
‫مردودة بكل طريق‪.‬‬
‫الوجععه الرابععع‪ :‬أن يُقال‪ :‬أولً أنتــم قوم ل تحتجون بمثــل هذه الحاديــث‪ ،‬فإن هذا الحديــث إنمــا‬
‫يرويـه أهـل السـنة بأسـانيد أهـل السـنة‪ ،‬والحديـث نفسـه ليـس فـي الصـحيحين‪ ،‬بـل قـد طعـن فيـه بعـض‬
‫أهل الحديث كابن حزم وغيره‪ ،‬ولكن قد رواه أهل السنن‪ ،‬كأبي داود والترمذي وابن ماجة‪ ،‬ورواه‬
‫أهل المسانيد‪ ،‬كالمام أحمد وغيره(‪.)2‬‬
‫فمـن أيـن لكـم على أصـولكم ثبوتـه حتـى تحتجوا بـه؟ وبتقديـر ثبوتـه فهـو مـن أخبار الحاد‪ ،‬فكيـف‬
‫يجوز أن تحتجوا فـي أصـل مـن أصـول الديـن وإضلل جميـع المسـلمين – إل فرقـة واحدة – بأخبار‬
‫الحاد التي ل يحتجون هم بها في الفروع العملية؟!‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السند (‪ )10/224‬و(‪ )163 ،11/138‬تقيق أحد شاكر‪.‬‬
‫‪ )(2‬يعن حديث الفتراق رواه أبو داود (‪ )5 ،5/4‬والترمذي رقم (‪ )3991‬ف الفت‪ ،‬وقال‪ :‬إنه حسن صحيح وغيها وله طرق كثية‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫وهل هذا إل من أعظم التناقض والجهل؟!‬
‫الوجه الخامس‪ :‬أن الحديث روى تفسيره فيه من وجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم سئل‬
‫عـن الفرقـة الناجيـة‪ ،‬فقال‪( :‬مـن كان على مثـل مـا أنـا عليـه اليوم وأصـحابي) وفـي الروايـة الخرى‬
‫قال‪( :‬هـم الجماعـة)‪ .‬وكـل مـن التفسـيرين يناقـض قول الماميـة‪ ،‬ويقتضـي أنهـم خارجون عـن الفرقـة‬
‫الناجية‪ ،‬فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين‪ :‬يكفرون أو يف سّقون أئمة الجماعة‪ ،‬كأبي بكر وعمر‬
‫وعثمان‪ ،‬دع معاويــة وملوك بنــي أميــة وبنــي العباس‪ ،‬وكذلك يكفّرون أو يفس ـّقون علماء الجماعــة‬
‫وعبّادهم‪ ،‬كمالك والثوري والوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي‬
‫عبيـد وإبراهيـم بـن أدهـم والفضيـل بـن عياض وأبـي سـليمان الدارانـي ومعروف الكرخـي وأمثال‬
‫هؤلء‪ ،‬وهـم أبعـد الناس عـن معرفـة سـير الصـحابة والقتداء بهـم‪ ،‬ل فـي حياة النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وســلم ول بعده‪ ،‬فإن هذا إنمــا يعرفــه أهــل العلم بالحديــث والمنقولت‪ ،‬والمعرفــة بالرجال الضعفاء‬
‫والثقات‪ ،‬وهـم مـن أعظـم الناس جهلً بالحديـث وبغضًا له‪ ،‬ومعاداة لهله‪ ،‬فإذا كان وصـف الفرقـة‬
‫الناجيـة‪ :‬أتباع الصـحابة على عهـد رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وذلك شعار السـنة والجماعـة –‬
‫كانـت الفرقـة الناجيـة هـم أهـل السـنة والجماعـة‪ ،‬فالسـنة مـا كان صـلى ال عليـه وسـلم هـو وأصـحابه‬
‫عليهـا فـي عهده‪ ،‬ممـا أمرهـم بـه وأقرّهـم عليـه أو فعله هـو‪ ،‬والجماعـة هـم المجتمعون الذيـن ما فرّقوا‬
‫دينهـم وكانوا شيعـا‪ ،‬فالذيـن فرّقوا دينهـم وكانوا شيعًا خارجون عـن الجماعـة قـد برّأ ال نـبيه منهـم‪،‬‬
‫فعُلم بذلك أن هذا وصـف أهـل السـنة و الجماعـة‪ ،‬ل وصـف الرافضـة‪ ،‬وأن الحديـث وصـف الفرقـة‬
‫الناجية باتّباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه‪ ،‬وبلزوم جماعة المسلمين‪.‬‬
‫فإن قيعل‪ :‬فقـد قال فـي الحديـث‪( :‬مـن كان على مثـل مـا أنـا عليـه اليوم وأصـحابي)‪ ،‬فمـن خرج عـن‬
‫تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية‪ ،‬وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق رضي ال عنه وأتباعه كمسيلمة الكذّاب‬
‫وأتباعه وغيرهم‪ .‬وهؤلء تتولهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم‪ ،‬مثل هذا المامي‬
‫وغيره‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنهـم كانوا على حـق‪ ،‬وأن الصـديق قاتلهـم بغيـر حـق‪ .‬ثـم مِن أظهـر الناس ردة‬
‫الغالية الذين حرّقهم علي رضي ال عنه بالنار لما ادّعوا فيه اللهية وهم السبائية أتباع عبد ال بن‬
‫سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر‪.‬‬
‫وأول مـن ظهـر عنـه دعوى النبوة مـن المنتسـبين إلى السـلم المختار بـن أبـي عبيـد وكان مـن‬
‫الشيعة‪ ،‬فعُلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف‪ ،‬ولهذا ل يُعرف ردة‬
‫أسوأ حال من ردة الغالية كالنصيرية‪ ،‬ومن ردة السماعيلية الباطنية ونحوهم‪ ،‬وأشهر الناس بقتال‬
‫المرتدين هو أبو بكر الصديق رضي ال عنه‪ ،‬فل يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم‬
‫أبـي بكـر الصـديق‪ ،‬فدل ذلك على أن المرتديـن الذيـن لم يزالوا مرتديـن على أعقابهـم‪ ،‬هـم بالرافضـة‬
‫أوْلى منهم بأهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫وهذا بيّن ـ يعرفــه كــل عاقــل يعرف الســلم وأهله‪ ،‬ول يســتريب أحــد أن جنــس المرتديــن فــي‬
‫المنتسـبين إلى التشيـع أعظـم وأفحـش كفرا مـن جنـس المرتديـن المنتسـبين إلى أهـل السـنة والجماعـة‪،‬‬
‫إن كان فيهم مرتد‪.‬‬
‫الوجه السادس‪ :‬أن يقال‪ :‬هذه الحجة التي احتج بها الطوسي على أن المامية هم الفرقة الناجية‬
‫كذب فــي وصــفها‪ ،‬كمــا هــي باطلة فــي دللتهــا‪ .‬وذلك أن قوله‪( :‬باينوا جميــع المذاهــب‪ ،‬وجميــع‬
‫المذاهـب قـد اشتركـت فـي أصـول العقائد) إن أراد بذلك أنهـم باينـو جميـع المذاهـب فيمـا اختصـوا بـه‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫فهذا شأن جميـع المذاهـب‪ ،‬فإن الخوارج أيضـا باينوا جميـع المذاهـب فيمـا اختصـوا بـه مـن التكفيـر‬
‫بالذنوب‪ ،‬ومـن تكفيـر علي رضـي ال عنـه‪ ،‬ومـن إسـقاط طاعـة الرسـول فيمـا لم يخـبر بـه عـن ال‪،‬‬
‫وتجويز الظلم عليه في قسْم ِه والجور في حكمه‪ ،‬وإسقاط اتّباع السنة المتواترة التي تخالف ما يُظن‬
‫أنه ظاهر القرآن‪ ،‬كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك‪.‬‬
‫الوجععه السععابع‪ :‬أن يُقال‪ :‬مباينتهــم لجميــع المذاهــب هــو على فســاد قولهــم أدل منــه على صــحة‬
‫قولهـم ؛ فإن مجرد انفراد طائفـة عـن جميـع الطوائف ل يدل على أنـه هـو الصـواب‪ ،‬واشتراك أولئك‬
‫في قول ل يدل على أنه باطل‪.‬‬
‫فإن قيعل‪ :‬إن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم جعـل أمتـه ثلثـا وسـبعين فرقـة كلهـا فـي النار إل واحدة‪،‬‬
‫فدل على أنها ل بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الثنتين وسبعين فرقة‪.‬‬
‫قلنععا‪ :‬نعــم‪ .‬وكذلك يدل الحديــث على مفارقــة الثنتيــن وســبعين بعضهــا بعضــا‪ ،‬كمــا فارقــت هذه‬
‫الواحدة‪ .‬فليـس فـي الحديـث مـا يدل على اشتراك الثنتيـن والسـبعين فـي أصـول العقائد‪ ،‬بـل ليـس فـي‬
‫ظاهر الحديث إل مباينة الثلث والسبعين كل طائفة للخرى‪ .‬وحينئذ فمعلوم أن جهة الفتراق جهة‬
‫ذم ل جهــة مدح‪ ،‬فإن ال تعالى أمــر بالجماعــة والئتلف‪ ،‬وذم التفريــق والختلف‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫حبْلِ الِعع جميعًععا وَل تَ َفرّقوا))[آل عمران‪ ]103:‬وقال‪(( :‬وَلَ تَكُونوا كالّذينععَع تَ َفرّقُوا‬ ‫((واْعتَصعععِموا بِ َ‬
‫عذَابٌع عَظيمٌع * َيوْمَع َتبْيَضْع وُجوهٌع َوتَسْعوَدّ وُجوهٌع‬
‫ختَلَفوا مِنْع بَعْ ِد معا جاءَهُمُع ا ْل َبيّنَاتْع وَأُو َلئِكَع َلهُمْع َ‬‫وَا ْ‬
‫ت وُجو ُههُم))[آل عمران‪.]106-105:‬‬ ‫سوَدّ ْ‬ ‫فَ َأمّا الّذينَ ا ْ‬
‫قال ابـن عباس وغيره‪ :‬تـبيض وجوه أهـل السـنة وتسـو ّد وجوه أهـل البدعـة والفرقـة‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ختَلَفَ فيهِ إِلّ‬‫شيْءٍ))[النعام‪ ]159:‬وقال‪(( :‬وَما ا ْ‬ ‫ت ِم ْنهُمْ في َ‬ ‫شيَعًا لَسْ َ‬‫((إنّ الّذينَ َفرّقوا دِي َنهُمْ وَكانوا ِ‬
‫الّذينَع أُوتُوهُع مِنْع بَعْ ِد معا جا َء ْتهُمُع ال َبيّناتُع بَغْيًا بَينَهُم))[البقرة‪ ]213:‬وقال‪(( :‬وَمعا تَ َفرّقَع الّذينَع اُوتوا‬
‫ن بَعدِ ما جا َء ْتهُمُ ال َبيّ َنةُ))[البينة‪.]4:‬‬ ‫الكِتابَ ِإ ّل مِ ْ‬
‫وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة و افتراقا في نفسها أولى الطوائف الذم‪ ،‬و أقلها‬
‫افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق‪ .‬وإذا كانت المامية أوْلى بمفارقة سائر طوائف المة فهم‬
‫أبعـد عـن الحـق‪ ،‬ل سـيما وهـم فـي أنفسـهم أكثـر اختلفـا مـن جميـع فرق المـة‪ ،‬حتـى يقال‪ :‬إنهـم ثنتان‬
‫ض أصحابه‪ ،‬وقال‪ :‬كان يقول‪ :‬الشيعة تبلغ‬ ‫وسبعون فرقة‪ .‬وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بع ُ‬
‫فرقهـم ثنتيـن وسـبعين فرقـة‪ ،‬أو كمـا قال‪ .‬وقـد صـنّف الحسـن بـن موسـى النوبختـي وغيره فـي تعديـد‬
‫فرق الشيعة‪.‬‬
‫وأمـا أهـل الجماعـة فهـم أقـل اختلفـا فـي أصـول دينهـم مـن سـائر الطوائف‪ ،‬وهـم أقرب إلى كـل‬
‫طائفة من كل طائفة إلى ضدّها‪ ،‬فهم الوسط في أهل السلم كما أن أهل السلم هم الوسط في أهل‬
‫الملل‪ :‬هم وسط في باب صفات ال بين أهل التعطيل وأهل التمثيل‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬خير المور أوسطها) وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق‪.‬‬
‫وفــي باب القدر بيــن أهــل التكذيــب بــه وأهــل الحتجاج بــه‪ ،‬وفــي باب الســماء والحكام بيــن‬
‫الوعيديـة والمرجئة‪ ،‬وفـي باب الصـحابة بيـن الغلة والجفاة‪ ،‬فل يغلون فـي عليّـ غلو الرافضـة‪ ،‬ول‬
‫يكفّرونـه تكفيـر الخوارج‪ ،‬ول يكفّرون أبـا بكـر وعثمان كمـا تكفّرهـم الروافـض‪ ،‬ول يكفّرون عثمان‬
‫وعليا كما يُكفرهما الخوارج‪.‬‬
‫الوجه الثامن‪ :‬أن يقال‪ :‬إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه‪ ،‬فإن القول الذي ذكره هذا قول‬
‫مــن أقوال الماميــة‪ ،‬ومــن الماميــة طوائف تخالف هؤلء فــي التوحيــد والعدل‪ ،‬كمــا تقدم حكايتــه‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫وجمهور الشيعـة تخالف الماميـة فـي الثنـى عشـر‪ ،‬فالزيديـة والسـماعيلية وغيرهـم متفقون على‬
‫إنكار إمامة الثنى عشر‪.‬‬
‫وهؤلء الماميــة الثنــا عشريــة يقولون‪ :‬إن أصــول الديــن أربعــة‪ :‬التوحيــد‪ ،‬والعدل‪ ،‬والنبوة‪،‬‬
‫والمامـة‪ .‬وهـم مختلفون فـي التوحيـد والعدل والمامـة‪ .‬وأمـا النبوة فغايتهـم أن يكونوا مقرّيـن بهـا‬
‫كإقرار سائر المة‪ .‬واختلفهم في المامة أعظم من اختلف سائر المة‪ ،‬فإن قالت الثنا عشرية‪:‬‬
‫نحن أكثر من هذه الطوائف‪ ،‬فيكون الحق معنا دونهم‪ .‬قيل لهم‪ :‬وأهل السنة أكثر منكم‪ ،‬فيكون الحق‬
‫معهم دونكم‪ ،‬فغايتكم أن تكون سائر فرق المامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين‪ ،‬والسلم هو‬
‫دين ال الذي يجمع أهل الحق‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬الوجه الثالث‪ :‬أن المامية جازمون بحصول النجاة لهم ولئمتهم‪ ،‬قاطعون بذلك‪،‬‬
‫وبحصــول ضدهــا لغيرهــم‪ .‬وأهــل الســنة ل يجيزون ول يجزمون بذلك ل لهــم ول لغيرهــم‪ .‬فيكون‬
‫اتّباع أولئك أوْلى‪ ،‬لنّاـ لو فرضنـا مثل خروج شخصـين مـن بغداد يريدان الكوفـة‪ ،‬فوجدا طريقيـن‬
‫سـلك كـل منهمـا طريقـا‪ ،‬فخرج ثالث يطلب الكوفـة‪ :‬فسـأل أحدهمـا‪ :‬إلى أيـن تذهـب؟ فقال إلى الكوفـة‪.‬‬
‫فقال له‪ :‬هـل طريقـك توصـلك إليهـا؟ وهـل طريقـك آمـن أم مخوف؟ وهـل طريـق صـاحبك تؤديـه إلى‬
‫الكوفة؟ وهل هو آمن أم مخوف؟ فقال‪ :‬ل أعلم شيئا من ذلك‪ .‬ثم سأل صاحبه فقال أعلم أن طريقي‬
‫يوصّلني إلى الكوفة‪ ،‬وأنه آمن‪ ،‬وأعلم أن طريق صاحبي ل يؤديه إلى الكوفة‪ ،‬وأنه ليس بآمن‪ ،‬فإن‬
‫الثالث إن تابع الول عدّه العقلء سفيها‪ ،‬وإن تابع الثاني نُسب إلى الخذ بالحزم)‪.‬‬
‫هكذا ذكره في كتابه‪ ،‬والصواب أن يُقال‪ :‬وسأل الثاني فقال له الثاني‪ :‬ل أعلم أن طريقي تؤديني‬
‫إلى الكوفة ول أعلم أنه آمن أم مخوف‪.‬‬
‫والجواب على هذا من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن يُقال‪ :‬إن كان اتّباع الئمة الذين تُدّعى لهم الطاعة المطلقة‪ ،‬وأن ذلك يوجب لهم النجاة‬
‫واجبـا‪ ،‬كان اتّباع خلفاء بنـي أميـة الذيـن كانوا يوجبون طاعـة أئمتهـم طاعـة مطلقـة ويقولون‪ :‬إن ذلك‬
‫يوجـب النجاة مصـيبين على الحـق‪ ،‬وكانوا فـي سـبّهم عليـا وغيره وقتالهـم لمـن قاتلوه مـن شيعـة عليّـ‬
‫مصيبين‪ ،‬لنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الئمة واجبة في كل شيء‪ ،‬وأن المام ل يؤاخذه ال بذنب‪،‬‬
‫وأنـه ل ذنـب لهـم فيمـا أطاعوا فيـه المام‪ ،‬بـل أولئك أوْلى بالحجـة مـن الشيعـة‪ ،‬لنهـم كانوا مطيعيـن‬
‫أئمة أقامهم ال ونصيهم وأيّدهم وملّكهم‪ ،‬فإذا كان مذهب القدرية أن ال ل يفعل إل ما هو الصـلح‬
‫لعباده‪ ،‬كان تولية أولئك الئمة مصلحة لعباده‪.‬‬
‫ومعلوم ان اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام‬
‫معدوم أو عاجـز‪ .‬ولهذا حصـل لتّباع خلفاء بنـي أميـة مـن المصـلحة فـي دينهـم ودنياهـم‪ ،‬أعظـم ممـا‬
‫حصل لتّباع المنتظر ؛ فإن هؤلء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف‪ ،‬ول ينهاهم عن‬
‫شيء من المنكر‪ ،‬ول يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ول دنياهم‪ ،‬بخلف أولئك ؛ فإنهم انتفعوا‬
‫بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم‪ ،‬أعظم مما انتفع هؤلء بأئمتهم‪.‬‬
‫فتبين أنه إن كانت حجة هؤلء المنتسبين إلى مشايعة علي رضي ال عنه صحيحة‪ ،‬فحجة أولئك‬
‫المنتسـبين إلى مشايعـة عثمان رضـي ال عنـه أوْلى بالصـحة‪ ،‬وإن كانـت باطلة فهذه أبطـل منهـا‪ .‬فإذا‬
‫كان هؤلء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم أولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الئمة‬
‫طاعة مطلقة خطأ وضلل‪ ،‬فخطأ هؤلء وضللهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدّعي أنه نائب‬

‫‪78‬‬
‫المعصـوم – والمعصـوم ل عيـن له ول أثـر – أعظـم وأعظـم ؛ فإن الشيعـة ليـس لهـم أئمـة يباشرونهـم‬
‫بالخطاب‪ ،‬إل شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل‪ ،‬ويصدّونهم عن سبيل ال‪.‬‬
‫الوجععه الثانععي‪ :‬أن هذا المثــل إنمــا كان يكون مطابقًـا لو ثبــت مقدمتان‪ :‬إحداهمــا‪ :‬أن لنــا إمامــا‬
‫معصومًا‪ .‬والثانية‪ :‬أنه أمر بكذا وكذا‪ .‬وكلتا المقدمتين غير معلومة‪ ،‬بل باطلة‪ .‬دع المقدمة الولى‪،‬‬
‫بل الثانية‪ ،‬فإن الئمة الذين يدّعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة‪ ،‬والمنتظر له غائب أكثر‬
‫مـن أربعمائة وخمسـين سـنة‪ ،‬وعنـد آخريـن هـو معدوم لم يوجـد‪ .‬والذيـن يُطاعون شيوخ مـن شيوخ‬
‫الرافضة‪ ،‬أو كتب صنّفها بعض شيوخ الرافضة‪ ،‬وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين‪.‬‬
‫وهؤلء الشيوخ المصنّفون ليسوا معصومين بالتفاق‪ ،‬ول مقطوعًا لهم بالنجاة‪.‬‬
‫فإذًا الرافضة ل يتّبعون إل أئمة ل يقطعون بنجاتهم ول سعادتهم‪ ،‬فلم يكونوا قاطعين ل بنجاتهم‪،‬‬
‫ول بنجاة أئمتهـم الذيـن يباشرونهـم بالمـر والنهـي‪ ،‬وهـم أئمتهـم‪ ،‬وإنمـا هـم فـي انتسـابهم إلى أولئك‬
‫الئمـة‪ ،‬بمنزلة كثيـر مـن أتباع شيوخهـم الذيـن ينتسـبون إلى شيـخ قـد مات مـن مدة‪ ،‬ول يدرون بماذا‬
‫أمر‪ ،‬ول عماذا نهى‪ ،‬بل له اتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل ال‪ ،‬يأمرونهم بالغلو‬
‫فـي ذلك الشيـخ وفـي خلفائه‪ ،‬وأن يتخذوهـم أربابـا‪ ،‬وكمـا تأمـر شيوخ الشيعـة أتباعهـم‪ ،‬وكمـا تأمـر‬
‫شيوخ النصـارى أتباعهـم‪ ،‬فهـم يأمرونهـم بالشراك بال وعبادة غيـر ال‪ ،‬ويصـدونهم عـن سـبيل ال‪،‬‬
‫فيخرجون عـن حقيقـة شهادة أن ل إله إل ال وان محمدًا رسـول ال‪ ،‬فإن التوحيـد أن نعبـد ال وحده‪،‬‬
‫فل يُدعى إل هو‪ ،‬ول يُخشى إل هو‪ ،‬ول يتقى إل هو‪ ،‬ول يتوكل إل عليه‪ ،‬ول يكون الدين إل له‪،‬‬
‫ل لحـد مـن الخلق‪ ،‬وأن ل نتخـذ الملئكـة والنـبيين أربابًا‪ ،‬فكيـف بالئمـة والشيوخ والعلماء والملوك‬
‫وغيرهم!؟‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم هو المبلّغ عن ال أمره ونهيه‪ ،‬فل يُطاع مخلوق طاعة مطلقة إل‬
‫هـو‪ ،‬فإذا جُعـل الغمام والشيـخ كأنـه إله يُدعـى مـع مغيبـه وبعـد موتـه‪ ،‬ويُسـتغاث بـه‪ ،‬ويُطلب منـه‬
‫الحوائج‪ ،‬والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد‪ ،‬وينهى عمّا يريد كان الميت مشبّها بال‬
‫تعالى‪ ،‬والحـي مشبهًا برسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فيخرجون عـن حقيقـة السـلم الذي أصـله‬
‫شهادة أن ل إله إل ال‪ ،‬وشهادة أن محمدًا رسول ال‪.‬‬
‫ثـم إن كثيرًا منهـم يتعلّقون بحكايات تُنقـل عـن ذلك الشيـخ‪ ،‬وكثيـر منهـا كذب عليـه‪ ،‬وبعضهـا خطـأ‬
‫منـه‪ ،‬فيَعدِلون عـن النقـل الصـدق عن القائل المعصـوم إلى نقل غيـر مصـدّق عـن قائل غير معصوم‪.‬‬
‫فإذا كان هؤلء مخطئيـن فـي هذا‪ ،‬فالشيعـة أكثـر وأعظـم خطـأ‪ ،‬لنهـم أعظـم كذبـا فيمـا ينقلونـه عـن‬
‫الئمة‪ ،‬وأعظم غلوا في دعوى عصمة الئمة‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصل قاس عليه‪ ،‬فان الرجل إذا قال‬
‫له أحد الرجلين‪:‬طريقى آمن يوصلني‪ ،‬وقال له الخر‪:‬ل علم لي بأن طريقي آمن يوصلني‪ ،‬أو قال‬
‫ذلك الول‪ ،‬لم يحســن فــي العقــل تصــديق الول بمجرد قوله‪ ،‬بــل يجوز عنــد العقلء أن يكون هذا‬
‫محتال عليـه‪ ،‬يكذب حتـى يصـحبه فـي الطريـق فيقتله ويأخـذ ماله‪ ،‬ويجوز أن يكون جاهل ل يعرف‬
‫ما في الطريق من الخوف‪ ،‬وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا‪ ،‬بل رده إلى نظره‪ ،‬فالحزم في‬
‫ي الطريقين أولى بالسلوك‪ :‬أحد ذينك الطريقين أو غيرهما‪.‬‬ ‫مثل هذا أن ينظر الرجل أ ّ‬
‫فتـــبين أن مجرد القدام على الحزم ل يدل على علم صـــاحبه ول على صـــدقه‪ ،‬وأن التوقـــف‬
‫والمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلء‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪ :‬أن يقال‪ :‬قوله‪( :‬إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة) كذب‪ ،‬فإنه إن‬

‫‪79‬‬
‫أراد بذلك أن كـل واحـد ممـن اعتقـد اعتقادهـم يدخـل الجنـة‪ ،‬وإن َترَك الواجبات وفَعَل المحرمات‪،‬‬
‫فليس هذا قول المامية‪ ،‬ول يقوله عاقل‪.‬‬
‫وإن كان حب عليّ حسنة ل يضر معها سيئة‪ ،‬فل يضره ترك الصلوات‪ ،‬ول الفجور بالعلويّات‪،‬‬
‫ول نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليّا‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬المحبـة الصـادقة تسـتلزم الموافقـة‪ ،‬عاد المـر إلى أنـه ل بـد مـن أداء الواجبات وترك‬
‫المحرمات‪ .‬وإن أراد بذلك أنهــم يعتقدون أن كــل مــن اعتقــد العتقاد الصــحيح‪ ،‬وأدى الواجبات‪،‬‬
‫وترك المحرّمات يدخـل الجنـة – فهذا اعتقاد أهـل السـنة ؛ فإنهـم يجزمون بالنجاة لكـل مـن اتّقـى ال‪،‬‬
‫كما نطق به القرآن‪.‬‬
‫وإنمــا يتوقفون فــي الشخــص المعيــن لعدم العلم بدخوله فــي المتيقــن‪ ،‬فإنــه إذا علم أنــه مات على‬
‫التقوى عُلم أنـه مـن أهـل الجنـة‪ .‬ولهذا يشهدون بالجنـة لمـن شهـد له الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم‪،‬‬
‫ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولن‪.‬‬
‫فتـبين أنـه ليـس فـي الماميـة جزم محمود اختُصـوا بـه عـن أهـل السـنة والجماعـة‪ .‬وإن قالوا‪ :‬إنّا‬
‫نجزم لكل شخص رأيناه ملتزمًا للواجبات عندنا تاركًا للمحرمات‪ ،‬بأنه من أهل الجنة‪ ،‬من غير أن‬
‫يخبرنا بباطنه معصوم‪ .‬قيل‪ :‬هذه المسألة ل تتعلق بالمامية‪ ،‬بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو‬
‫لهـل السـنة‪ ،‬وهـم بسـلوكه أحذق‪ ،‬وإن لم يكـن هنـا طريـق صـحيح إلى ذلك‪ ،‬كان ذلك قول بل علم‪،‬‬
‫فل فضيلة فيه‪ ،‬بل في عدمه‪.‬‬
‫ففـي الجملة ل يدّعون علمـا صـحيحا إل وأهـل السـنة أحـق بـه‪ ،‬ومـا ادّعوه مـن الجهـل فهـو نقـص‬
‫وأهل السنة أبعد عنه‪.‬‬
‫الوجه الخامس‪ :‬أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لئمتهم أعظم من جزم الرافضة‪ .‬وذلك‬
‫أن أئمتهـم بعـد النـبي صـلى ال عليـه وسـلم هـم السـابقون الوّلون مـن المهاجريـن والنصـار‪ ،‬وهـم‬
‫جازمون بحصـول النجاة لهؤلء‪ ،‬فإنهـم يشهدون ان العشرة فـي الجنـة‪ ،‬ويشهدون أن ال قال لهـل‬
‫بدر‪( :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)‪ ،‬بل يقولون‪ :‬إنه (ل يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) كما‬
‫ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم(‪ .)1‬فهؤلء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لهل‬
‫السنة‪ ،‬يشهدون أنه ل يدخل النار منهم أحد‪ ،‬وهي شهادة بعلم‪ ،‬كما دل على ذلك الكتاب والسنة‪.‬‬
‫الوجعه السعادس‪ :‬أن يقال‪ :‬أهـل السـنة يشهدون بالنجاة‪ :‬إمـا مطلقـا‪ ،‬وإمـا معينـا‪ ،‬شهادة مسـتندة إلى‬
‫علم‪ .‬وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما ل يعلمون‪ ،‬أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب‪،‬‬
‫فهم كما قال الشافعي رحمه ال‪ :‬ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة‪.‬‬
‫الوجه السابع‪ :‬أن المام الذي شهد له بالنجاة‪ :‬إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه‬
‫غيره مـن المؤمنيـن‪ ،‬أو هـو مطاع فيمـا يأمـر بـه مـن طاعـة ال ورسـوله‪ ،‬وفيمـا يقوله باجتهاده إذا لم‬
‫يعلم أن غيره أوْلى منه‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فإن كان المام هو الول‪ ،‬فل إمام لهل السنة بهذا العتبار إل‬
‫رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وهـم يقولون كمـا قال مجاهـد والحاكـم ومالك وغيرهـم‪ :‬كـل أحـد‬
‫يُؤخــذ مــن قوله ويُترك إل رســول ال عليــه الســلم‪ .‬وهــم يشهدون لمامهــم أنــه خيــر الخلئق‪،‬‬
‫ويشهدون ان كـل مـن ائتـم بـه‪ ،‬ففعـل مـا أُمـر بـه وترك مـا نُهـى عنـه‪ ،‬دخـل الجنـة‪ .‬وهذه الشهادة بهذا‬
‫وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكر ِييْن وأمثالهما بأنه من أطاعهم دخل الجنة‪.‬‬
‫فثبت أن إمام أهل السنة أكمل‪ ،‬وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه أكمل‪ ،‬ول سواء‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )3/46‬ومسلم (‪.)2/822‬‬

‫‪80‬‬
‫شرِكون))[النمــل‪ ،]59:‬فعنــد المقابلة يُذكــر الخيــر المحــض‬ ‫خ ْيرٌ َأمّاع ُي ْ‬
‫ولكــن قال ال تعالى‪(( :‬ءآل َ‬
‫على الشر المحض‪ ،‬وإن كان الشر المحض ل خير فيه‪.‬‬
‫وإن أرادوا بالمام المام المقيّدـ‪ ،‬فذاك ل يُوجـب أهـل السـنة طاعتـه‪ ،‬إن لم يكـن مـا أمـر بـه موافقـا‬
‫لمر المام المطلق رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم إذا أطاعوه فيما أمر ال بطاعته فيه‪ ،‬فإنما‬
‫هم مطيعون ل ورسوله‪ ،‬فل يضرهم توقفهم في المام المقيّد‪ :‬هل هو في الجنة أم ل؟‪.‬‬
‫الوجـه الثامـن‪ :‬أن يُقال‪ :‬إن ال قد ضمـن السـعادة لمـن أطاعـه وأطاع رسوله‪ ،‬وتوعّد بالشقاء لمن‬
‫لم يفعـل ذلك‪ ،‬فمناط السـعادة طاعـة ال ورسـوله‪ .‬كمـا قال تعالى‪َ (( :‬ومَن يُطِعْع الَ وَالرّسعُولَ َفُأوْلئِكَع‬
‫ن وَحَسععَنَ أو َلئِكععَ‬ ‫شهَدا ْء وَالصععّالِحي َ‬ ‫ن وال ّ‬‫عَل ْيهِمععْ مّنععَ ال ّنبِيّينعَع وَالصععّدّيقي َ‬‫مَعععَ الّذينععَ َأنْعَمععَ الُع َ‬
‫رَفيقًا))[النساء‪ .]69:‬وأمثال ذلك‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك وال تعالى يقول‪(( :‬فاتّقوا ال معا اسْعتَطَ ْعتُمْ))[النسـاء‪ ]69:‬فمـن اجتهـد فـي طاعـة ال‬
‫ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة‪.‬‬
‫جنّةَ‬ ‫خلَ ا ْل َ‬
‫فقول الرافضعة‪ :‬لن يدخـل الجنّة إل مـن كان إماميـا‪ ،‬كقول اليهود والنصـارى‪(( :‬لنْع يَدْ ُ‬
‫إِ ّل مَنْع كَانَع هُودًا َأ ْو نَصعَارَى‪ ،‬تِلْكَع َأمَا ّن ّيهُمْع ُقلْ هَاتُوا ُبرْهَانَكُمْع إِنْع ُك ْنتُمْع صعَادِقِين))[البقرة‪(( ]111:‬بَلَى‬
‫ح َزنُون))[البقرة‪.]112:‬‬ ‫عَل ْيهِ ْم وَلَ هُ ْم يَ ْ‬‫خ ْوفٌ َ‬‫عنْ َد َر ّبهِ وَلَ َ‬
‫جرُهُ ِ‬ ‫حسِنٌ َفَلهُ أَ ْ‬
‫ل وَ ُهوَ مُ ْ‬
‫ج َههُ ِ ِ‬
‫مَنْ َأسَْل َم وَ ْ‬
‫ومـن المعلوم أن المنتظـر الذي يدّعيـه الرافضـي ل يجـب على أحـد طاعتـه‪ ،‬فإنـه ل يُعلم له قول‬
‫منقول عنه‪ ،‬فإذًا من أطاع الرسول صلى ال عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا المام‪ ،‬ومن‬
‫آمن بهذا المام لم يدخل الجنة إل إذا أطاع الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فطاعة الرسول صلى ال‬
‫عليـه وسـلم هـي مدار السـعادة وجودا وعدمـا‪ ،‬وهـي الفارقـة بيـن أهـل الجنـة والنار‪ ،‬ومحمـد صـلى ل‬
‫تعالى عليه وسلم فرّق بين الناس‪ ،‬وال سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم‪ ،‬فتبين‬
‫أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنّة‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪ :‬الوجـه الرابـع‪ :‬أن الماميـة أخذوا مذهبهـم عـن الئمـة المعصـومين المشهوريـن‬
‫بالفضـل والعلم ولزهـد والورع‪ ،‬والشتغال فـي كـل وقـت بالعبادة والدعاء وتلوة القرآن‪ ،‬والمداومـة‬
‫على ذلك مـن زمـن الطفولة إلى آخـر العمـر‪ ،‬ومنهـم مـن يعلم الناس العلوم‪ ،‬ونزل فـي حقهـم‪(( :‬هلْ‬
‫َأتَى))[النسـان‪ ]1:‬وآيـة الطهارة‪ ،‬وإيجاب المودة لهـم‪ ،‬وآيـة البتهال وغيـر ذلك‪ .‬وكان علي رضـي ال‬
‫عنه يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة‪ ،‬ويتلو القرآن مع شدّة ابتلئه بالحروب والجهاد‪.‬‬
‫فأولهـم عليـّ بـن أبـي طالب رضـي ال عنـه كان أفضــل الخلق بعـد رســول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسـلموجعله ال نفـس رسـول ال حيـث قال‪(( :‬وََأنْفُسعَنا وََأنْفُسَعكُمْ))[آل عمران‪ ]61:‬وواخاه رسـول ال‬
‫ضلُ هُ ل يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة‪ ،‬حتى ادّعى قوم فيه الربوبية وقتلهم‪،‬‬ ‫وزوّجه ابنته‪ ،‬و َف ْ‬
‫وصـار إلى مقالتهـم آخرون إلى هذه الغايـة كالغلة والنصـيرية‪ .‬وكان ولداه سـبطا رسـول ال صـلى‬
‫ال عليـه وسـلم سـيدا شباب أهـل الجنـة‪ ،‬إماميـن بنص النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وكانـا أزهـد الناس‬
‫وأعلمهـم فـي زمانهمـا‪ ،‬وجاهدا فـي ال حـق جهاده حتـى قتلً‪ ،‬ولبـس الحسـن الصـوف تحـت ثيابـه‬
‫الفاخرة مـن غيـر أن يشعـر أحـد بذلك‪ ،‬وأخـذ النـبي صـلى ال عليـه وسـلم يومًا الحسـين على فخذه‬
‫اليمـن‪ ،‬وإبراهيـم على فخذه اليسـر‪ ،‬فنزل جبرائيـل عليـه السـلم وقال‪ :‬إن ال تعالى لم يكـن ليجمـع‬
‫لك بينهما‪ ،‬فاختر من شئت منهما‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إذا مات الحسين بكيت أنا وعليّ‬
‫وفاطمة‪ ،‬وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه‪ ،‬فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلثة أيام‪ ،‬وكان إذا جاء‬

‫‪81‬‬
‫الحسين بعد ذلك يقبله ويقول‪ :‬أهلً ومرحبًا بمن فديته بابني إبراهيم‪.‬‬
‫وكان علي بـن الحسـين زيـن العابديـن يصـوم نهاره ويصـوم ليله‪ ،‬ويتلو الكتاب العزيـز‪ ،‬ويصـلّي‬
‫كـل يوم وليلة ألف ركعـة‪ ،‬ويدعـو كـل ركعتيـن بالدعيـة المنقولة عنـه وعـن آبائه ثـم يرمـي الصـحيفة‬
‫كالمتضجــر‪ ،‬ويقول‪ :‬أنّى لي بعبادة عليـّ‪ ،‬وكان يبكــي كثيرًا حتــى أخذت الدموع مــن لحــم خديــه‪،‬‬
‫وسجد حتى سمى ذا الثَفِنات‪ ،‬وسماه رسول ال صلى ال عليه وسلم سيد العابدين‪.‬‬
‫وكان قــد حــج هشام بــن عبــد الملك فاجتهــد أن يســتلم الحجــر فلم يمكنــه مــن الزحام‪ ،‬فجاء زيــن‬
‫حوْا عن الحجر حتى استلمه‪ ،‬ولم يبق عند الحجر سواه‪ ،‬فقال هشام بن‬ ‫العابدين فوقف الناس له و َتنَ ّ‬
‫عبد الملك‪ :‬من هذا فقال الفرزدق وذكر أبيات الشعر المشهورة فبعث إليه المام زين العابدين بألف‬
‫دينار‪ ،‬فردهـا‪ ،‬وقال‪ :‬إنمـا قلت هذا غضبًا ل ولرسـوله‪ ،‬فمـا آخـذ عليـه أجرًا‪ ،‬فقال علي بـن الحسـين‪:‬‬
‫نحن أهل بيت ل يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق‪.‬‬
‫وكان بالمدينـة قوم يأتيهـم رزقهـم ليلً ول يعرفون ممـن هـو‪ ،‬فلمـا مات زيـن العابديـن‪ ،‬انقطـع ذلك‬
‫عنهم وعرفوا أنه كان منه‪.‬‬
‫وكان ابنـه محمـد الباقـر أعظـم الناس زهدًا وعبادة‪ ،‬بَ َق َر السـجودُ جبهتَه‪ ،‬وكان أعلم أهـل وقتـه‪،‬‬
‫سمّاه رسول ال صلى ال عليه وسلم الباقر‪ ،‬وجاء جابر بن عبد ال النصاري إليه وهو صغير في‬
‫ال ُكتّاب‪ ،‬فقال له‪ :‬جدّك رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم يسـلّم عليـك‪ .‬فقال‪ :‬وعلى جدّي السـلم‪ .‬فقيـل‬
‫لجابر‪ :‬كيـف هـو؟ قال‪ :‬كنـت جالسـًا عنـد رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم والحسـين فـي حجره وهـو‬
‫يلعبـه‪ ،‬فقال‪ :‬يـا جابر‪ ،‬يولد له ولد اسـمه عليّ إذا كان يوم القيامـة نادى منادٍ‪ :‬ليقـم سـيد العابديـن‪،‬‬
‫فيقوم ولده‪ ،‬ثـم يولد له مولود اسـمه محمـد الباقـر‪ ،‬يبقـر العلم بقرًا‪ ،‬فإذا رأيتـه فاقرئه منـي السـلم‪،‬‬
‫وروى عنه أبو حنيفة وغيره‪.‬‬
‫وكان ابنــه الصــادق عليــه الســلم أفضــل أهــل زمانــه وأعبدهــم‪ ،‬قال علماء الســيرة‪ :‬إنــه اشتغــل‬
‫بالعبادة عن طلب الرياسة‪ ،‬وقال عمر بن أبي المقدام‪ :‬كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق‬
‫علمـت أنـه مـن سـللة النـبيين‪ ،‬وهـو الذي نشـر فقـه الماميـة‪ ،‬والمعارف الحقيقيـة‪ ،‬والعقائد اليقينيـة‪،‬‬
‫وكان ل يخبر بأمر إل وقع‪ ،‬وبه سمّوه الصادق المين‪.‬‬
‫وكان عبـد ال بـن الحسـن جمـع أكابر العلوييـن للبيعـة لولديـه‪ ،‬فقال الصـادق‪ :‬هذا المـر ل يتـم‪،‬‬
‫فاغتاظ من ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬إنه لصاحب القباء الصفر‪ ،‬وأشار بذلك إلى المنصور‪ ،‬فلما سمع المنصور‬
‫بذلك فرح لعلمـه بوقوع مـا يُخـبر بـه‪ ،‬وعلم أن المـر يصـل إليـه‪ ،‬ولمـا هرب كان يقول‪ :‬أيـن قول‬
‫صادقهم؟ وبعد ذلك انتهى المر إليه‪.‬‬
‫وكان ابنه موسى الكاظم يُدْعى بالعبد الصالح‪ ،‬وكان أعبد أهل زمانه‪ ،‬يقوم الليل ويصوم النهار‪،‬‬
‫وسـمّي الكاظـم لنـه كان إذ بلغـه عـن أحـد شيئًا بعـث إليـه بمال‪ ،‬ونقـل فضله الموافـق والمخالف‪ .‬قال‬
‫ابـن الجوزي مـن الحنابلة‪ :‬روي عـن شقيـق البلخـي قال‪ :‬خرجـت حاجّا سـنة تسـع وأربعيـن ومائة‪،‬‬
‫فنزلت القادسية‪ ،‬فإذا شاب حسن الوجه شديد السمرة‪ ،‬عليه ثياب صوف مشتمل بشملة‪ ،‬في رجليه‬
‫نعلن‪ ،‬وقـد جلس منفردًا عـن الناس‪ ،‬فقلت فـي نفسـي‪ :‬هذا الفتـى مـن الصـوفية يريـد أن يكون كَلّ‬
‫على الناس‪ ،‬وال لمضيـن إليـه أوبّخـه‪ ،‬فدنوت منـه فلمـا رآنـي مقبل قال‪ :‬يـا شقيـق اجتنبوا كثيرًا مـن‬
‫الظن إن بعض الظن إثم‪.‬‬
‫فقلت فعي نفسعي‪ :‬هذا عبـد صـالح قـد نطـق على مـا فـي خاطري‪ ،‬للحقنـه ولسـألنّه أن يحاللنـي‪،‬‬
‫فغاب على عينـي‪ ،‬فلمـا نزلنـا واقصـة إذا بـه يصـلي‪ ،‬وأعضاؤه تضطرب‪ ،‬ودموعـه تتحادر‪ ،‬فقلت‪:‬‬

‫‪82‬‬
‫ع ِملَ‬
‫أمضـي إليـه وأعتذر‪ ،‬فأوجـز فـي صـلته‪ ،‬ثـم قال‪ :‬يـا شقيـق‪(( :‬وَإِنّيع غَفّارٌ ِلمَنْع تَابَع وَآمَنَع وَ َ‬
‫صَالِحًا ثُمّ ا ْهتَدَى))[طه‪ ]82:‬فقلت‪ :‬هذا من البدال‪ ،‬قد تكلم على سرّي مرتين‪ .‬فلما نزلنا زبالة إذا به‬
‫قائم على البئر وبيده ركوة يريـد أن يسـقي ماء‪ ،‬فسـقطت الركوة مـن يده فـي البئر فرفـع طرفـه إلى‬
‫السماء‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫وقوتي إذا أردت الطعاما‬ ‫أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء‬
‫يعا سعيدي! مالي سـواها‪ ،‬قال شقيـق‪ :‬فوال لقـد رأيـت البئر قـد ارتفـع ماؤهـا‪ ،‬فاخـذ الركوة وملهـا‬
‫وتوضأ وصلى أربع ركعات‪ ،‬ثم مال إلى كثيب رمل هناك‪ ،‬فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة‬
‫ويشرب‪ ،‬فقلت‪ :‬أطعمني من فضل ما رزقك ال أو ما أنعم ال عليك‪ ،‬فقال‪ :‬يا شقيق لم تزل نعم ال‬
‫علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك‪ ،‬ثم ناولني الركوة فشربت منها‪ ،‬فإذا هو سويق وسكر‪ ،‬ما‬
‫شربت وال ألذ منه ول أطيب منه ريحًا‪ ،‬فشبعت ورويت‪ ،‬وأقمت أيامًا ل أشتهي طعامًا ول شرابًا‪،‬‬
‫ثـم لم أره حتـى دخلت مكـة‪ ،‬فرأيتـه ليلة إلى جانـب قبـة الميزاب نصـف الليـل يصـلّي بخشوع وأنيـن‬
‫وبكاء‪ ،‬فلم يزل كذلك حتـى ذهـب الليـل‪ ،‬فلمـا طلع الفجـر جلس فـي مصـله يسـبح‪ ،‬ثـم قام إلى صـلة‬
‫الفجـر‪ ،‬وطاف بالبيـت أسـبوعًا‪ ،‬وخرج فتبعتـه‪ ،‬فإذا له حاشيـة وأموال وغلمان‪ ،‬وهـو على خلف مـا‬
‫رأيته في الطريق‪ ،‬ودار به الناس يسلّمون عليه ويتبركون به‪ ،‬فقلت لهم‪ :‬من هذا؟ قالوا‪ :‬موسى بن‬
‫جعفر‪ ،‬فقلت‪ :‬قد عجبت أن تكون هذه العجائب إل لمثل هذا السيد‪ .‬هذا رواه الحنبلي‪.‬‬
‫وعلى يده تاب بشـر الحافـي؛ لنـه عليـه السـلم اجتاز على داره ببغداد‪ ،‬فسـمع الملهـي وأصـوات‬
‫الغناء والقصـب يخرج مـن تلك الدار‪ ،‬فخرجـت جاريـة وبيدهـا قمامـة البقـل‪ ،‬فرمـت بهـا فـي الدرب‪،‬‬
‫فقال لها‪ :‬يا جارية‪ ،‬صاحب هذا الدار ح ّر أم عبد؟ فقالت‪ :‬بل حر‪ ،‬فقال‪ :‬صدقت لو كان عبدًا لخاف‬
‫مـن موله‪ .‬فلمـا دخلت الجاريـة قال مولهـا وهـو على مائدة السـكر‪ :‬مـا أبطأك علينـا؟ قالت‪ :‬حدثنـي‬
‫رجل بكذا وكذا‪ ،‬فخرج حافيًا حتى لقي مولنا موسى بن جعفر فتاب على يده‪.‬‬
‫والجواب عنه من وجوه‪ :‬أحدها‪ :‬أن يقال‪ :‬ل نسلم أن المامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت‪ :‬ل‬
‫ي رضي ال عنه وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم‬ ‫الثنا عشرية ول غيرهم‪ ،‬بل هم مخالفون لعل ّ‬
‫التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة‪ :‬توحيدهم‪ ،‬وعدلهم‪ ،‬وإمامتهم‪ ،‬فإن الثابت عن علي رضي ال‬
‫عنـه وأئمـة أهـل البيـت مـن إثبات الصـفات ل‪ ،‬وإثبات القدر‪ ،‬وإثبات خلفـة الخلفاء الثلثـة‪ ،‬وإثبات‬
‫فضيلة أبـي بكـر وعمـر رضـي ال عنهمـا‪ ،‬وغيـر ذلك مـن المسـائل كله يناقـض مذهـب الرافضـة‪.‬‬
‫والنقـل بذلك ثابـت مسـتفيض فـي كتـب أهـل العلم‪ ،‬بحيـث إن معرفـة المنقول فـي هذا الباب عـن أئمـة‬
‫أهل البيت يوجب علمًا ضروريًا بأن الرافضة مخالفون لهم ل موافقون لهم‪.‬‬
‫الثانعي‪ :‬أن يقال‪ :‬قـد عُلم أن الشيعـة مختلفون اختلفًا كثيرًا فـي مسـائل المامـة والصـفات والقدر‪،‬‬
‫وغير ذلك من مسائل أصول دينهم‪ ،‬فأي قول لهم هو المأخوذ عن الئمة المعصومين‪ ،‬حتى مسائل‬
‫المامة‪ ،‬قد عُرف اضطرابهم فيها‪.‬‬
‫وقـد تقدم بعض اختلفهـم في النـص وفي المنتظر‪ ،‬فهم فـي الباقي المنتظر على أقوال‪ :‬منهـم مـن‬
‫يقول ببقاء جعفر بن محمد‪ ،‬ومنهم من يقول ببقاء ابنه موسى بن جعفر‪ ،‬ومنهم من يقول ببقاء محمد‬
‫بـن عبـد ال بـن حسـن‪ ،‬ومنهـم مـن يقول ببقاء محمـد بـن الحنفيـة‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬نـص عليّ على‬
‫الحسن والحسين‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬على محمد بن الحنفية‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬أوصى عليّ بن الحسين‬
‫إلى ابنـه أبـي جعفـر‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬إلى ابنـه عبـد ال‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬أوصـى إلى محمـد بـن عبـد‬
‫ال بـن الحسـن بـن الحسـين‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬إن جعفـر أوصـى إلى ابنـه إسـماعيل‪ ،‬وهؤلء يقولون‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫إلى ابنـه محمـد بـن إسـماعيل‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬إلى ابنـه محمـد‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬إلى ابنـه عبـد ال‪،‬‬
‫وهؤلء يقولون‪ :‬إلى ابنـه موسـى‪ ،‬وهؤلء يسـوقون النـص إلى محمـد بـن الحسـن‪ ،‬وهؤلء يسـوقون‬
‫النص إلى بني عبيد ال بن ميمون القدّاح الحاكم وشيعته‪ ،‬وهؤلء يسوقون النص من بني هاشم إلى‬
‫بني العباس‪ ،‬ويمتنع أن تكون هذه القوال المتناقضة مأخوذة عن معصوم‪ ،‬فبطل قولهم‪ :‬إن أقوالهم‬
‫مأخوذة عن معصوم‪.‬‬
‫الوجعععه الثالث‪ :‬أن يُقال‪ :‬هـــب أن عليّاـــ كان معصـــومًا‪ ،‬فإذا كان الختلف بيـــن الشيعـــة هذا‬
‫الختلف‪ ،‬وهــم متنازعون هذا التنازع‪ ،‬فمــن أيــن يُعلم صــحة بعــض هذه القوال عــن علي ـّ دون‬
‫الخـر‪ ،‬وكـل منهـم يدّعـي أن مـا يقوله إنمـا أخذه عـن المعصـومين؟ وليـس للشيعـة أسـانيد أهـل السـنة‬
‫حتـى يُنظـر فـي السـناد وعدالة الرجال‪ ،‬بـل إنمـا هـي منقولت منقطعـة عـن طائفـة عُرف فيهـا كثرة‬
‫الكذب وكثرة التناقض في النقل‪ ،‬فهل يثق عاقل بذلك؟‬
‫ص هذا على هذا‪ ،‬ون صّ هذا على هذا‪ ،‬كان هذا معارضًا بدعوى غيرهم مثل‬ ‫وإن ادعوا تواتر ن ّ‬
‫هذا التواتر‪ ،‬فإن سائر القائلين بالنص إذا ادعوا مثل هذه الدعوى لم يكن بين الدعويين فرق‪.‬‬
‫فهذه الوجوه وغيرهـا تـبين أن بتقديـر ثبوت عصـمة عليّـ رضـي ال عنـه فمذهبهـم ليـس مأخوذًا‬
‫عنه‪ ،‬فنفس دعواهم العصمة في عل يّ مثل دعوى النصارى اللهية في المسيح‪ .‬مع أن ما هم عليه‬
‫ليس مأخوذًا عن المسيح‪.‬‬
‫الوجعه الرابعع‪ :‬أنهـم فـي مذهبهـم محتاجون إلى مقدمتيـن‪ :‬إحداهمعا‪ :‬عصـمة مـن يضيفون المذهـب‬
‫إليه من الئمة‪ ،‬والثانية‪ :‬ثبوت ذلك النقل عن المام‪ .‬وكلتا المقدمتين باطلة‪ ،‬فإن المسيح ليس بإله‪،‬‬
‫ل كريمًا فقوله حق‪ ،‬لكن ما تقوله النصارى ليس‬ ‫بل هو رسول كريم‪ ،‬وبتقدير أن يكون إلهًا أو رسو ً‬
‫من قوله‪ ،‬ولهذا كان في علي رضي ال عنه شبه من المسيح‪ :‬قوم غلوا فيه فوق قدره‪ ،‬وقوم نقصوه‬
‫دون قدره فهم كاليهود‪ ،‬هؤلء يقولون عن المسـيح‪ :‬إنه إله‪ .‬وهؤلء يقولون‪ :‬كافـر ولد بغيّةـ‪ .‬وكذلك‬
‫عليّ‪ :‬هؤلء يقولون‪ :‬إنه إله‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬إنه كافر ظالم‪.‬‬
‫الوجه الخامس‪ :‬أن يقال‪ :‬قد ثبت لعليّ بن أبي طالب رضي ال عنه‪ ،‬والحسن‪ ،‬والحسين‪ ،‬وعلي‬
‫بــن الحســين‪ ،‬وابنــه محمــد‪ ،‬وجعفــر بــن محمــد مــن المناقــب والفضائل مــا لم يذكره هذا المصــنف‬
‫الرافضـــي‪ ،‬وذكـــر أشياء مـــن الكذب تدل على جهـــل ناقلهـــا‪ ،‬مثـــل قوله‪ :‬نزل فـــي حقهـــم‪(( :‬هلْ‬
‫أَتَى))[النســان‪ ]1:‬فإن سـورة (هَل أَتىَ) مكّيـة باتفاق العلماء‪ ،‬وعليّـ إنمـا تزوج فاطمـة بالمدينـة بعـد‬
‫الهجرة‪ ،‬ولم يدخل بها إل بعد غزوة بدر‪ ،‬ووُلد له الحسن في السنة الثالثة من الهجرة‪ ،‬والحسين في‬
‫السنة الرابعة من الهجرة بعد نزول‪( :‬هل أتى) بسنين كثيرة‪.‬‬
‫فقول القائل‪ :‬إنهــا نزلت فيهــم‪ ،‬مــن الكذب الذي ل يخفــى على مــن له علم بنزول القرآن وعلم‬
‫بأحوال هؤلء السادة الخيار‪.‬‬
‫وأما آية الطهارة فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم‪ ،‬وإنما فيها المر لهم‬
‫عنْكُمُع الرّجْسَع أَ ْهلَ‬ ‫بمـا يوجـب طهارتهـم وذهاب الرجـس عنهـم‪ .‬فإن قوله‪ِ(( :‬إنّمَا ُيرِيدُ الُ ِليُذْهِبَع َ‬
‫حرَجٍع وََلكِنْع‬
‫طهِيرًا))[الحزاب‪ ]33:‬كقوله تعالى‪(( :‬معا ُيرِيدُ الُ ِليَجْ َعلَ عَ َليْكُمْع مِنْع َ‬ ‫ط ّهرَكُمْع تَ ْ‬
‫ا ْلبَيْتِع َويُ َ‬
‫عَليْكُم‬
‫ن مِنْ َقبْلِ ُك ْم َويَتُوبَ َ‬‫سنَنَ الّذِي َ‬
‫ط ّهرَكُم))[المائدة‪ ،]6:‬وقوله‪(( :‬يرِيدُ الُ ِل ُيبَيّنَ لَكُم َو َيهْ ِديَكُم ُ‬ ‫ُيرِيدُ ِليُ َ‬
‫ن تَمِيلُوا َميْلً عَظِيمًا‬ ‫ش َهوَاتِ أَ ْ‬
‫ن َي ّتبِعُونَ ال ّ‬
‫ن يَتُوبَ عَ َليْكُ ْم َو ُيرِيدُ الّذِي َ‬‫حكِيم * وَالُ ُيرِيدُ أَ ْ‬ ‫علِيمٌ َ‬ ‫وَالُ َ‬
‫ن ضَعِيفًا))[النساء‪.]28-26:‬‬ ‫عنْكُم وَخُلِقَ ا ِل ْنسَا ُ‬ ‫ن يُخَ ّففَ َ‬‫* يُريدُ الُ أَ ْ‬
‫فالرادة هنـا متضمنـة للمـر والمحبـة والرضـا‪ ،‬وليسـت هـي المشيئة المسـتلزمة لوقوع المراد ؛‬

‫‪84‬‬
‫فإنـه لو كان كذلك لكان قـد طهّرـ كـل مـن أراد ال طهارتـه‪ ،‬وهذا على قول هؤلء القدريـة الشيعـة‬
‫أوجه‪ ،‬فإن عندهم أن ال يريد ما ل يكون‪ ،‬ويكون ما ل يريد‪.‬‬
‫طهِيرًا))[الحزاب‪ ]33:‬إذا كان‬ ‫ط ّهرَكُم ْع تَ ْ‬ ‫عنْكُمعُ الرّجزَ أَ ْهلَ ا ْل َبيْتِع َويُ َ‬ ‫فقوله‪ِ(( :‬إنّمَا ُيرِيدُ الُ ِليُذْهِبعَ َ‬
‫هذا بفعــل المأمور وترك المحظور‪ ،‬كان ذلك متعلقًـا بإرادتهــم وأفعالهــم‪ ،‬فإن فعلوا مــا أُمروا بــه‬
‫طهّروا وإل فل‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وهـــم يقولون‪:‬إن ال ل يخلق أفعالهـــم‪ ،‬ول يقدر على تطهيرهـــم وإذهاب الرجـــز عنهـــم‪ .‬وأمـــا‬
‫المثبتون للقدر فيقولون‪ :‬إن ال قادر على ذلك‪ ،‬فإذا ألهمهــم فعــل مــا َأ َم َر وترك مــا حَظَـر حصــلت‬
‫الطهارة وذهاب الرجس‪.‬‬
‫ومما يبين أن هذا مما أُمروا به ل مما أُخبروا بوقوعه‪ ،‬ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أدار الكساء على عل يّ وفاطمة وحسن وحسين‪ ،‬ثم قال‪( :‬اللهم هؤلء أهل بيتي‪ ،‬فأذهب‬
‫عنهـم الرجـس وطهّرهـم تطهيرًا)‪ .‬وهذا الحديـث رواه مسـلم فـي صـحيحه عـن عائشـة‪ ،‬ورواه أهـل‬
‫السنن عن أم سلمة(‪.)1‬‬
‫وهـو يدل على ضـد قول الرافضـة مـن وجهيـن‪ :‬أحدهمـا‪ :‬أنـه دعـا لهـم بذلك‪ ،‬وهذا دليـل على أن‬
‫اليـة لم تخـبر بوقوع ذلك‪ ،‬فإنـه لو كان قـد وقـع لكان يثنـى على ال بوقوعـه ويشطره على ذلك‪ ،‬ل‬
‫يقتصر على مجرد الدعاء به‪.‬‬
‫الثانعي‪ :‬أن هذا يدل على أن ال قادر على إذهاب الرجـس عنهـم وتطهيرهـم‪ ،‬وذلك يدل على أنـه‬
‫خالق أفعال العباد‪.‬‬
‫ت ِمنْكُنّ‬ ‫ن يَأْ ِ‬‫ومما يبين أن الية متضمنة للمر والنهي قوله في سياق الكلم‪(( :‬يا نِسَاءَ ال ّن ِبيّ مَ ْ‬
‫علَى الِ يَسعِيرًا * َومَنْع يَ ْقنُتْع ِمنْكُنّ ِلِ‬ ‫شةٍ ُم َبيّ َنةٍ ُيضَاعَفْع لَهَا الْعَذَابُع ضِعْفَيْن وَكَانَع َذلِكَع َ‬ ‫ح َ‬ ‫بِفَا ِ‬
‫ستُنّ َكأَحَدٍ‬ ‫عتَدْنَا َلهَا ِرزْقًا َكرِيمًا * يَا نِ سَاءَ ال ّنبِيّ لَ ْ‬ ‫ن وََأ ْ‬‫جرَهَا مَ ّر َتيْ ِ‬ ‫َورَ سُو ِلهِ َوتَ ْع َملْ صَالِحًا ُن ْؤ ِتهَا أَ ْ‬
‫طمَ عَ الّذِي فِي َق ْلبِ هِ َمرَ ضٌ َوقُلْ نَ َقوْ ًل مَ ْعرُوفًا * وَ َقرْ نَ‬ ‫ن بِالْ َق ْولِ َفيَ ْ‬
‫خضَعْ َ‬ ‫ل تَ ْ‬ ‫مِ نَ النّ سَاءِ إِ نِ اتّ َق ْيتُ نّ فَ َ‬
‫ن َتبَرّجَ الْجَاهِ ِل ّيةِ الُولَى وَأَ ِقمْنَ الصّلَ َة وَآتِينَ الزّكَا َة وََأطِعْنَ الَ َورَسُو َلهُ ِإ ّنمَا‬ ‫جَ‬ ‫فِي ُبيُوتِكُنّ وَ َل َتبَرّ ْ‬
‫ن آيَاتِ‬ ‫ن مَا ُيتْلَى فِي ُبيُوتِ ُكنّ مِ ْ‬ ‫طهِيرًا * وَا ْذ ُكرْ َ‬ ‫ط ّهرَكُ ْم تَ ْ‬ ‫عنْ ُكمُ الرّجْسَ أَ ْهلَ ا ْلبَيْتِ َويُ َ‬ ‫ُيرِيدُ الُ ِليُذْهِبَ َ‬
‫خبِيرًا))[الحزاب‪.]34-30:‬‬ ‫ح ْكمَةِ ِإنّ الَ كَانَ َلطِيفًا َ‬ ‫ل وَالْ ِ‬‫ا ِ‬
‫وهذا السـياق يدل على أن ذلك أمـر ونهـي‪ ،‬ويدل على أن أزواج النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـن‬
‫عنْكُمُع الرّجْسَع أَ ْهلَ‬ ‫أهـل بيتـه‪ ،‬فإن السـياق إنمـا هـو فـي مخاطبتهـن‪ ،‬ويدل على أن قوله‪ِ (( :‬ليُذْهِبَع َ‬
‫ا ْلبَيْتعِ))[الحزاب‪ ]33:‬عمّـ غيـر أزواجـه‪ ،‬كعلي وفاطمـة وحسـن وحسـين رضـي ال عنهـم؛ لنـه ذكره‬
‫بصـيغة التذكيـر لمـا اجتمـع المذكـر والمؤنـث‪ ،‬وهؤلء خُصـّوا بكونهـم مـن أهـل البيـت بالولى مـن‬
‫أزواجــه‪ ،‬فلهذا خص ـّهم بالدعاء لمــا أدخلهــم فــي الكســاء‪ ،‬كمــا أن مســجد قُباء أســس على التقوى‪،‬‬
‫ومسـجده صـلى ال عليـه وسـلم أيضًا أسـس على التقوى وهـو أكمـل فـي ذلك‪ ،‬فلمـا نزل قوله تعالى‪:‬‬
‫طهّرُوا وَالُ يُحِبّ‬ ‫ن َيتَ َ‬
‫ن تَقُو مَ فِيه رِجَا ٌل يُحِبّو نَ أَ ْ‬ ‫((لمسجدٌ أُ سّس عَلَى التّ ْقوَى مِ نْ َأ ّولِ َيوْ مٍ أَحَقّ أَ ْ‬
‫طهِرِيعن))[التوبـة‪ ]108:‬بسـبب مسـجد قباء‪ ،‬تناول اللفـظ لمسـجد قباء ولمسـجده صـلى ال عليـه وسـلم‬ ‫ا ْلمُ ّ‬
‫بطريق الولى‪.‬‬
‫وكذلك قوله في إيجاب المودة لهم غلط‪ ،‬فقد ثبت في الصحيح عن سعيد بن جبير‪ ،‬أن ابن عباس‬
‫موَدّةَ فِي الْ ُقرْبَى))[الشورى‪:‬‬ ‫جرًا إِلّ ا ْل َ‬ ‫عَليْهِع أَ ْ‬
‫رضـي ال عنهمـا سـئل عـن قوله تعالى‪(( :‬قلْ لَ أَسْعَألُ ُكمْ َ‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مسلم‪ )4/1883( :‬والترمذي‪ )5/30( :‬و(‪ )5/328‬والسند‪.)298 ،6/292( :‬‬

‫‪85‬‬
‫‪ ]23‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬إل أن تودّوا ذوي قربى محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال ابن عباس‪ :‬عَجل تَ‪ ،‬إنه لم‬
‫يكن بطن من قريش إل لرسول ال صلى ال عليه وسلم منهم قرابة‪ .‬فقال‪ :‬قل‪ :‬ل أسألكم عليه أجرًا‬
‫إل أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم‪.‬‬
‫فابـن عباس كان مـن كبار أهـل البيـت وأعلمهـم بتفسـير القرآن‪ ،‬وهذا تفسـيره الثابـت عنـه‪ ،‬ويدل‬
‫على ذلك أنـه لم يقـل‪ :‬إل المودة لذوي القربـى‪ ،‬و لكـن قال‪ :‬إل المودة فـي القربـى‪ .‬أل ترى أنـه لمـا‬
‫خمُسععععَ ُه وَلِلرّسععععُو ِل وَلِذِي‬
‫غ ِنمْتُعععم مِنععع ْع شَيْءٍ َفإِنّععع لِععع ُ‬
‫أراد ذوي قرباه قال‪(( :‬وَاعْ َلمُوا َأنّمَعععا َ‬
‫الْ ُقرْبَى))[النفال‪ ،]41:‬ول يُقال‪ :‬المودة فـي ذوي القربـى‪ .‬وإنمـا يقال‪ :‬المودة لذوى القربـى‪ .‬فكيـف وقـد‬
‫جرًا إِلّ ا ْل َموَدّةَ فِي الْ ُق ْربَى))[الشورى‪]23:‬؟!‬
‫قال‪ُ (( :‬قلْ ل َأسْأَُلكُمْ عَ َل ْيهِ أَ ْ‬
‫ل إنمــا أجره على ال‪ ،‬وعلى‬ ‫ويــبين ذلك أن الرســول صــلى ال عليــه وســلم ل يســال أجرًا أص ـ ً‬
‫المسـلمين موالة أهـل البيـت لكـن بأدلة أخرى غيـر هذه اليـة‪ ،‬وليسـت موالتنـا لهـل البيـت مـن أجـر‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم في شيء‪.‬‬
‫ي بعد قد تزوج بفاطمة ول وُلد له أولد‪.‬‬ ‫وأيضًا‪ :‬فإن هذه الية مكية‪ ،‬ولم يكن عل ّ‬
‫وأمـا آيـة البتهال ففـي الصـحيح أنهـا لمـا نزلت أخـذ النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بيـد عليّ وفاطمـة‬
‫وحسن وحسين ليباهل بهم(‪ ،)1‬لكن خ صّهم بذلك؛ لنهم كانوا أقرب إليه من غيرهم‪ ،‬فإنه لم يكن له‬
‫ولد ذكر إذ ذاك يمشي معه‪ ،‬ولكن كان يقول عن الحسن‪( :‬إن ابني هذا سيد) فهما ابناه ونساؤه إذ لم‬
‫يكــن قــد بقــي له بنــت إل فاطمــة رضــي ال عنهــا‪ ،‬فإن المباهلة كانــت لمــا قدم وفــد نجران‪ ،‬وهــم‬
‫نصارى‪ ،‬وذلك كان بعد فتح مكة‪ ،‬بل كان سنة تسع‪.‬‬
‫فهذه اليـة تدل على كمال اتّصـالهم برسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬كمـا دل على ذلك حديـث‬
‫الكسـاء‪ ،‬ولكـن هذا ل يقتضـي أن يكون الواحـد منهـم أفضـل مـن سـائر المؤمنيـن ول أعلم منهـم‪ ،‬لن‬
‫الفضيلة بكمال اليمان والتقوى ل بقرب النسب‪.‬‬
‫عنْدَ الِ َأتْقَاكُم))[الحجرات‪ ]13:‬وقـد ثبـت أن الصـديق كان أتقـى المـة‬ ‫كمـا قال تعالى‪(( :‬إِنّ َأ ْكرَمَكُمْع ِ‬
‫بالكتاب والسـنة‪ ،‬وتواترعـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬لو كنـت متخذًا مـن أهـل الرض‬
‫خليلً لتخذت أبا بكر خليلً)(‪ ،)2‬وهذا بسوط في موضعه‪.‬‬
‫وأمـا مـا نقله عـن عليّـ أنـه كان يصـلّي كـل يوم وليلة ألف ركعـة! فهذا يدل على جهله بالفضيلة‬
‫وجهله بالواقع‪.‬‬
‫أما أوّل‪ :‬فلن هذا ليس بفضيلة‪ ،‬فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان‬
‫ل يزيـد فـي الليـل على ثلث عشرة ركعـة(‪ .)3‬وثبـت عنـه فـي الصـحيح أنـه قال صـلى ال عليـه وسـلم‪:‬‬
‫(أفضل القيام قيام داود‪ ،‬كان ينام نصف الليل‪ ،‬ويقوم ثلثه‪ ،‬وينام سدسه)(‪.)4‬‬
‫وأيضًا فقوله‪ :‬إن علي بــن أبــي طالب كان أفضــل الخلق بعــد رســول ال صــلى ال عليــه وســلم‬
‫دعوى مجردة‪ ،‬ينازعه فيها جمهور المسلمين من الوّلين والخرين‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬جعله ال نفس رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث قال‪(( :‬وََأنْفُ سَنَا وََأنْفُ سَكُمْ))[آل عمران‪:‬‬
‫‪ ]61‬وواخاه‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬صحيح مسلم (‪ )4/1871‬والترمذي (‪.)4/293‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )1/96‬ومسلم (‪).)4/1854‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )2/51‬ومسلم (‪).)1/508‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )4/161‬و (‪ )2/50‬ومسلم (‪ )2/816‬وغيها‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫فيقال‪ :‬أمـا حديـث المؤاخاه فباطـل موضوع‪ ،‬فإن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم لم يؤاخِـ أحدًا‪ ،‬ول‬
‫آخـى بيـن المهاجريـن بعضهـم مـع بعـض‪ ،‬ول بيـن النصـار بعضهـم مـع بعـض‪ ،‬ولكـن آخـى بيـن‬
‫المهاجريـن والنصـار‪ ،‬كمـا آخـى بيـن سـعد بـن الربيـع وعبـد الرحمـن بـن عوف‪ ،‬وآخـى بيـن سـلمان‬
‫الفارسي وأبي الدرداء‪ ،‬كما ثبت ذلك في الصحيح‪.‬‬
‫ظنّ ا ْل ُمؤْ ِمنُونَ‬
‫سمِ ْعتُمُوهُ َ‬
‫سنَا وََأنْفُسَكُمْ))[آل عمران‪ ]61:‬فهذا مثل قوله‪(( :‬لوْلَ إِذْ َ‬
‫وأما قوله‪(( :‬وََأنْفُ َ‬
‫خ ْيرًا))[النور‪ ]12:‬نزلت في قصة عائشة رضي ال عنها في الفك‪ ،‬فإن الواحد‬ ‫سهِم َ‬ ‫ت بِ َأنْفُ ِ‬
‫وَا ْل ُم ْؤمِنَا ُ‬
‫من المؤمنين من أنفس المؤمنين والمؤمنات‪.‬‬
‫وأمـا تزويجـه فاطمـة ففضيلة لعليـّ‪ ،‬كمـا أن تزويجـه عثمان بابنتيـه فضيلة لعثمان أيضًا‪ ،‬ولذلك‬
‫سُـمّي ذو النوريـن‪ .‬وكذلك تزوجـه بنت أبي بكر وبنـت عمـر فضيلة لهما‪ ،‬فالخلفاء الربعة أصـهاره‬
‫صلى ال عليه وسلم ورضي ال عنهم‪.‬‬
‫وأمعععا قوله‪( :‬وظهرت منـــه معجزات كثيرة) فكأنـــه يســـمّي كرامات الولياء معجزات‪ ،‬وهذا‬
‫اصـصلح لكثيـر مـن الناس‪ .‬فيقال‪ :‬عليّـ أفضـل مـن كثيـر ممـن له كرامات‪ ،‬والكرامات متواترة عـن‬
‫كثيـر مـن عوام أهـل السـنة الذيـن يفضلون أبـا بكـر وعمـر على عليـّ‪ ،‬فكيـف ل تكون الكرامات ثابتـة‬
‫لعليّ رضي ال عنه؟ وليس في مجرد الكرامات ما يدل على أنه أفضل من غيره‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬حتى ادّعى قوم فيه الربوبية و قتلهم)‪.‬‬
‫فهذه مقالة جاهـل فـي غايـة الجهـل لوجوه‪ :‬أحدهـا‪ :‬أن معجزات النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أعظـم‬
‫بكثير وما ادّعى فيه أحد من الصحابة اللهية‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن معجزات الخليل وموسى أعظم بكثير‪ ،‬وما ادّعى أحد فيهما اللهية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إن معجزات نبينــا ومعجزات موســى أعظــم مــن معجزات المســيح‪ ،‬ومــا ادّعيــت فيهمــا‬
‫اللهية كما ادعيت في المسيح‪.‬‬
‫الرابعع‪ :‬أن المسـيح ادعيـت فيـه اللهيـة أعظـم ممـا ادعيـت فـي محمـد وإبراهيـم وموسـى‪ ،‬ولم يدل‬
‫ذلك ل على أنه أفضل منهم ول على أن معجزاته أبهر‪.‬‬
‫الخامععس‪ :‬أن دعوى اللهيــة فيهمــا دعوى باطلة تقابلهــا دعوى باطلة‪ ،‬وهــي دعوى اليهود فــي‬
‫المسـيح‪ ،‬ودعوى الخوارج فـي عليّـ ؛ فإن الخوارج كفّروا عليّاـ‪ ،‬فإن جاز أن يُقال‪ :‬إنمـا ادّعيـت فيـه‬
‫اللهيـة لقوة الشبهـة‪ .‬وجاز أن يقال‪ :‬إنمـا ادّعـى فيـه الكفـر لقوة الشبهـة‪ ،‬وجاز أن يقال‪ :‬صـدرت منـه‬
‫ذنوب اقتضت أن يكفّره بها الخوارج‪.‬‬
‫والخوارج أكثر وأعقل وأدين من الذين ادّعوا فيه اللهية‪ ،‬فإن جاز الحتجاج بمثل هذا‪ ،‬وجُعلت‬
‫هذه الدعوى منقبـة‪ ،‬كان دعوى المبغضيـن له ودعوى الخوارج مثلبـة أقوى وأقوى‪ ،‬وأيـن الخوارج‬
‫من الرافضة الغالية؟!‬
‫فالخوارج مـن أعظـم الناس صـلة وصـيامًا وقراءة للقرآن‪ ،‬ولهـم جيوش وعسـاكر‪ ،‬وهـم متدينون‬
‫بديـن السـلم باطنًا وظاهرًا‪ ،‬والغاليـة المدّعون لللهيـة إمـا أن يكونوا مـن أجهـل الناس‪ ،‬وإمـا أن‬
‫يكونوا مــن أكفــر الناس‪ ،‬والغاليــة كفّار بإجماع العلماء‪ ،‬وأمــا الخوارج فل يكفّرهــم إل مــن يكفّـر‬
‫المامية فإنهم خير من المامية وعلي رضي ال عنه لم يكن يكفّرهم‪ ،‬ول أمر بقتل الواحد المقدور‬
‫عليه منهم‪ ،‬كما أمر بتحريق الغالية‪ ،‬بل لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد ال بن خبّاب‪ ،‬وأغاروا على سرح‬
‫الناس‪.‬‬
‫فثبـت بالجماع مـن عليّـ ومـن سـائر الصـحابة والعلماء أن الخوارج خيـر مـن الغاليـة‪ ،‬فإن جاز‬

‫‪87‬‬
‫لشيعتـه أن تجعـل دعوى الغاليـة اللهيـة فيـه حجـة على فضيلتـه كان لشيعـة عثمان أن يجعلوا دعوى‬
‫الخوارج لكفره حجة على نقيضه بطريق الوْلى‪ ،‬فعلم أن هذه الحجة إنما يحتج بها جاهل‪ ،‬ثم إنها‬
‫تعود عليه ل له‪ ،‬ولهذا كان الناس يعلمون أن الرافضة أجهل وأكذب من الناصبة‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬وكان ولداه سـبطا رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم سـيدا شباب أهـل الجنـة إماميـن‬
‫بنص النبي صلى ال عليه وسلم)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬الذي ثبـت بل شـك عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم فـي الصـحيح أنـه قال عـن الحسـن‪( :‬إن‬
‫ابني هذا سيد‪ ،‬وإن ال سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)(‪ ،)1‬وثبت عنه في الصحيح أنه‬
‫كان يقعده وأسامة بن زيد على فخذه ويقول‪( :‬اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما)(‪.)2‬‬
‫وهذا يدل على أن مـا فعله الحسـن مـن ترك القتال على المامـة‪ ،‬وقصـد الصـلح بيـن المسـلمين‬
‫كان محبوبًا يحبه ال ورسوله‪ ،‬ولم يكن ذلك مصيبة‪ ،‬بل كان ذلك أحب إلى ال ورسوله من اقتتال‬
‫المسلمين‪ ،‬ولهذا أحبه وأحب أسامة بن زيد ودعا لهما‪ ،‬فإن كلهما كان يكره القتال في الفتنة‪ ،‬فأما‬
‫أسـامة فلم يقاتـل ل مـع علي ول مـع معاويـة‪ ،‬والحسـن كان دائمًا يشيـر على عليّـ بترك القتال‪ ،‬وهذا‬
‫نقيـض مـا عليـه الرافضـة مـن أن ذلك الصـلح كان مصـيبة وكان ذلً‪ ،‬ولو كان هناك إمام معصـوم‬
‫يجب على كل أحد طاعته‪ ،‬ومن تولّى غيره كانت وليته باطلة ل يجوز أن يجاهد معه ول يصلي‬
‫خلفه‪ ،‬لكان ذلك الصلح من أعظم المصائب على أمة محمد صلى ال عليه وسلم وفيه فساد دينها‪،‬‬
‫فأي فضيلة كانـت تكون للحسـن بذلك حتـى يُثنـى عليـه بـه؟ وإنمـا غايتـه أن يُعذر لضعفـه عـن القتال‬
‫الواجـب‪ ،‬والنـبي صـلى ال عليـه وسـلم جعـل الحسـن فـي الصـلح سـيدًا محمودًا‪ ،‬ولم يجعله عاجزًا‬
‫معذورًا‪ ،‬ولم يكــن الحســن أعجــز عــن القتال مــن الحســين؛ بــل كان أقدر على القتال مــن الحســين‪،‬‬
‫والحسـين قاتـل حتـى قُتـل‪ ،‬فإن كان مـا فعله الحسـين هـو الفضـل الواجـب‪ ،‬كان مـا فعله الحسـن تركًا‬
‫للواجـب أو عجزًا عنـه‪ ،‬وإن كان مـا فعله الحسـن هـو الفضـل الصـلح‪ ،‬دل على أن ترك القتال هـو‬
‫الفضـل الصـلح‪ ،‬وأن الذي فعله الحسـن أحـب إلى ال ورسـوله ممـا فعله غيره‪ ،‬وال يرفـع درجات‬
‫المؤمنين المتقين بعضهم على بعض‪ ،‬وكلهم في الجنة‪ ،‬رضي ال عنهم أجمعين‪.‬‬
‫ثـم إن كان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم جعلهمـا إماميـن لم يكونـا قـد اسـتفادا المامـة بنصّـ عليـّ‪،‬‬
‫ولستفادها الحسين بنص الحسن عليه‪ ،‬ول ريب أن الحسن والحسين ريحانتا النبي صلى ال عليه‬
‫وسـلم فـي الدنيـا‪ ،‬وقـد ثبـت أنـه صـلى ال عليـه وسـلم أدخلهمـا مـع أبويهمـا تحـت الكسـاء‪ ،‬وقال‪( :‬اللهـم‬
‫هؤلء أهـل بيتـي فأذهـب عنهـم الرجـس وطهّرهـم تطهيرًا) وأنـه دعـا لهمـا فـي المباهلة‪ ،‬وفضائلهمـا‬
‫كثيرة‪ ،‬وهما من أجلء سادات المؤمنين‪ .‬وأما كونهما أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم فهذا قول بل‬
‫دليل‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬وجاهدا في ال حق جهاده حتى قتل)‪.‬‬
‫فهذا كذب عليهمـا‪ ،‬فإن الحسـن تخلّى عـن المـر وسـلّمه إلى معاويـة ومعـه جيوش العراق‪ ،‬ومـا‬
‫كان يختار قتال المسلمين قط‪ ،‬وهذا متواتر من سيرته‪.‬‬
‫وأما موته‪ ،‬فقد قيل‪ :‬إنه مات مسمومًا‪ ،‬وهذه شهادة له وكرامة في حقّه‪ ،‬لكن لم يمت مقاتلً‪.‬‬
‫والحسين رضي ال عنه ما خرج يريد القتال‪ ،‬ولكن ظن أن الناس يطيعونه‪ ،‬فلما رأى انصرافهم‬
‫عنـه‪ ،‬طلب الرجوع إلى وطنـه أو الذهاب إلى الثغـر‪ ،‬أو إتيان يزيـد‪ ،‬فلم يمكّنـه أولئك الظلمـة ل مـن‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ )3/186‬ومواضع أخر منه وسنن أب داود (‪.)4/299‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السند (‪.)210 ،5/205‬‬

‫‪88‬‬
‫هذا ول مـن هذا ول مـن هذا‪ ،‬وطلبوا أن يأخذوه أسـيرًا إلى يزيـد‪ ،‬فامتنـع مـن ذلك وقاتـل حتـى قُتـل‬
‫مظلومًا شهيدًا‪ ،‬لم يكن قصده ابتدا ًء أن يُقاتل‪.‬‬
‫وأما قوله عن الحسن‪( :‬إنه لبس الصوف تحت ثيابه الفاخرة)‪.‬‬
‫فهذا مــن جنــس قوله فــي علي‪ :‬إنــه كان يصــلي ألف ركعــة‪ ،‬فإن هذا ل فضيلة فيــه‪ ،‬وهــو كذب‪.‬‬
‫وذلك أن لبـس الصـوف تحـت ثياب القطـن وغيره لو كان فاضلً لكان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫شرعـه لمتـه‪ ،‬إمـا بقوله أو بفعله‪ ،‬أو كان يفعله أصـحابه على عهده‪ ،‬فلمـا لم يفعله هـو ول أحـد مـن‬
‫أصـحابه على عهده‪ ،‬ول رغـب فيـه‪ ،‬دل على أنـه ل فضيلة فيـه‪ ،‬ولكـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫لبس في السفر جبة من صوف فوق ثيابه‪.‬‬
‫وأما الحديث الذي رواه أن النبي صلى ال عليه وسلم أخذ يومًا الحسين على فخذه اليمن وولده‬
‫إبراهيـم على فخذه اليسـر‪ ،‬فنزل جبريـل‪ ،‬وقال‪ :‬إن ال تعالى لم يكـن ليجمـع لك بينهمـا فاختـر مـن‬
‫شئت منهمـا‪ .‬فقال النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬إذا مات الحسـن بكيـت أنـا وعلي وفاطمـة‪ ،‬وإذا مات‬
‫إبراهيـم بكيـت أنـا عليـه) فاختار موت إبراهيـم‪ ،‬فمات بعـد ثلثـة أيام‪ ،‬وكان إذا جاء الحسـين بعـد ذلك‬
‫يقبّله ويقول‪( :‬أهلً ومرحبًا بمن فديته بابني إبراهيم)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم‪ ،‬ول يُعرف له إسنادًا ول يُعرف في شيء من كتب‬
‫الحديــث‪ .‬وهذا الناقــل لم يذكــر له إســنادًا‪ ،‬ول عزاه إلى كتاب حديــث‪ ،‬ولكــن ذكره على عادتــه فــي‬
‫روايته أحاديث مسيّبة بل زمام ول خطام‪.‬‬
‫ومـن المعلوم أن المنقولت ل يُميّز بيـن صـدقها وكذبهـا إل بالطرق الدالة على ذلك‪ ،‬وإل فدعوى‬
‫النقل المجرد بمنزلة سائر الدعاوى‪.‬‬
‫ثم يقال‪ :‬هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث‪ ،‬وهو من أحاديث الجهّال‪ ،‬فإن‬
‫ال تعالى ليـس فـي جمعـه بيـن إبراهيـم والحسـين أعظـم ممـا فـي جمعـه بيـن الحسـن والحسـين على‬
‫مقتضـى هذا الحديـث‪ ،‬فإن موت الحسـن أو الحسـين إذا كان أعظـم مـن موت إبراهيـم‪ ،‬فبقاء الحسـن‬
‫أعظم من بقاء إبراهيم‪ ،‬وقد بقي الحسن مع الحسين‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫أما عليّ بن الحسين فمن كبار التابعين وساداتهم علمًا ودينًا‪.‬‬
‫قال يحيـى بـن سـعيد‪( :‬هـو أفضـل هاشمـي رأيتـه فـي المدينـة)‪ .‬وقال محمـد بـن سـعد فـي الطبقات‪:‬‬
‫(كان ثقة مأمونًا كثير الحديث عاليًا رفيعًا)‪ .‬وروى عن حمّاد بن زيد عن يحيى بن سعيد النصاري‬
‫قال‪( :‬سـمعت عليـّ بـن الحسـين‪ ،‬وكان أفضـل هاشمـي أدركتـه‪ ،‬يقول‪ :‬يـا أيهـا الناس أحبونـا حـب‬
‫السلم‪ ،‬فما برح بنا حبكم حتى صار عارًا علينا)‪.‬‬
‫وأما ما ذكره من قيام ألف ركعة‪ ،‬فقد تقدّم أن هذا ل يمكن إل على وجه يكره في الشريعة‪ ،‬أو ل‬
‫يمكـن بحال‪ ،‬فل يصـلح ذكـر مثـل هذا فـي المناقـب‪ ،‬وكذلك مـا َذ َكرَه مـن تسـمية رسـول ال صـلى ال‬
‫عليه وسلم له سيد العابدين هو شيء ل أصل له‪ ،‬ولم يروه أحد من أهل العلم والدين‪.‬‬
‫وكذلك أبـو جعفـر محمـد بـن عليّـ مـن خيار أهـل العلم والديـن‪ ،‬وقيـل‪ :‬إنمـا سـُمي الباقـر لنـه بَ َقرَ‬
‫العلم‪ ،‬ل لجل بقر السجود جبهته‪ ،‬وأما كونه أعلم أهل زمانه فهذا يحتاج إلى دليل‪ ،‬والزهري من‬
‫أقرانـه‪ ،‬وهـو عنـد الناس أعلم منـه‪ ،‬ونَقْلُ تسـميته بالباقـر عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم ل أصـل له‬
‫عنـد أهـل العلم‪ ،‬بـل هـو مـن الحاديـث الموضوعـة‪ .‬وكذلك حديـث تبليـغ جابر له السـلم هـو مـن‬
‫الموضوعات عند أهل العلم بالحديث‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫وجعفـر الصـادق رضـي ال عنـه مـن خيار أهـل العلم والديـن‪ ،‬وقال عمرو بـن أبـي المقدام‪( :‬كنـت‬
‫إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سللة النبيين)‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬اشتغل بالعبادة عن الرياسة)‪.‬‬
‫وهذا تناقض من المامية‪ ،‬لن المامة عندهم واجب عليه أن يقوم بها وبأعبائها‪ ،‬فإنه ل إمام في‬
‫وقته إل هو‪ ،‬فالقيام بهذا المر العظيم لو كان واجبًا لكان أوْلى من الشتغال بنوافل العبادات‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إنه‪ :‬هو الذي نشر فقه المامية‪ ،‬والمعارف الحقيقية‪ ،‬والعقائد اليقينية)‪.‬‬
‫فهذا الكلم يسـتلزم أحـد أمريـن‪ :‬إمـا أنـه ابتدع فـي العلم مـا لم يكـن يعلمـه مـن قبله‪ ،‬وإمـا أن يكون‬
‫الذيـن قبله قصـّروا فيما يجـب عليهـم مـن نشـر العلم‪ ،‬وهـل يشـك عاقـل أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫بيّنـ لمتـه المعارف الحقيقيـة والعقائد اليقينيـة أكمـل بيان؟ وأن أصـحابه تلقّوا ذلك عنـه وبلّغوه إلى‬
‫المسلمين؟‬
‫وهذا يقتضـي القدح‪ :‬إمـا فيـه‪ ،‬وإمـا فيهـم‪ .‬بـل كُذِب على جعفـر الصـادق أكثـر ممـا كُذِب على مـن‬
‫قبله‪ ،‬فالفــة وقعــت مــن الكذّابيــن عليــه ل منــه؛ ولهذا نُســب إليــه أنواع مــن الكاذيــب‪ ،‬مثــل كتاب‬
‫(البطاقة) و(الجَفْر) و (الهَفْت) والكلم في النجوم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأمـا مـن بعـد جعفـر فموسـى بـن جعفـر‪ ،‬قال فيـه أبـو حاتـم الرازي‪( :‬ثقـة صـدوق إمام مـن أئمـة‬
‫المسـلمين)‪ .‬قلت‪ :‬موسـى ولد بالمدينـة سـنة بضـع وعشريـن ومائة‪ ،‬وأقدمـه المهدي إلى بغداد ثـم رده‬
‫عمْرةٍ‪ ،‬فحمــل موســى معــه إلى‬ ‫إلى المدينــة‪ ،‬وأقام بهــا إلى أيام الرشيــد‪ ،‬فقدم هارون منصــرفًا مــن ُ‬
‫بغداد‪ ،‬وحبسه بها إلى أن تُوفي في محبسه‪.‬‬
‫وأمـا مـن بعـد موسـى فلم يؤخـذ عنهـم مـن العلم مـا يذكـر بـه أخبارهـم فـي كتـب المشهوريـن بالعلم‬
‫وتواريخهم‪ ،‬ول لهم في التفسير وغيره أقوال معروفة‪ ،‬ولكن لهم من الفضائل والمحاسن ما هم له‬
‫أهل‪ ،‬رضي ال عنهم أجمعين‪ ،‬وموسى بن جعفر مشهور بالعبادة والنسك‪.‬‬
‫وأمــا الحكايــة المذكورة عــن شقيــق البلخــى فكذب‪ ،‬فإن هذه الحكايــة تخالف المعروف مــن حال‬
‫موسى بن جعفر‪.‬‬
‫أمععا قوله‪( :‬تاب على يديــه بشــر الحافــي) فمــن أكاذيــب مــن ل يعرف حاله ول حال بشــر‪ ،‬فإن‬
‫موسى بن جعفر لما قدم به الرشيد إلى العراق حبسه‪ ،‬فلم يكن ممن يجتاز على دار بشر وأمثاله من‬
‫العامة‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضععي‪( :‬وكان ولده عليـّـ الرضــا أزهــد أهــل زمانــه وكان أعلمهــم‪ ،‬وأخــذ عنــه فقهاء‬
‫الجمهور كثيرًا‪ ،‬وولّه المأمون لعلمـه بمـا هـو عليـه مـن الكمال والفضـل‪ ،‬ووعـظ يومًا أخاه زيدًا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يـا زيـد! مـا أنـت قائل لرسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم إذا سَـَف ْكتَ الدماء‪ ،‬وأخذت الموال مـن‬
‫غير حلها‪ ،‬وأخفت السبل‪ ،‬وغرّك حمقى أهل الكوفة؟ وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن‬
‫فاطمـة أحصـنت فرجهـا‪ ،‬فحرم ال ذريتهـا على النار‪ ،‬وفـي روايـة‪ :‬إن عليًا قال‪ :‬يـا رسـول ال‪ ،‬لم‬
‫سميت فاطمة؟ قال‪ :‬لن ال فطمها وذريتها من النار‪ ،‬فل يكون الحصان سببًا لتحريم ذريتها على‬
‫النار وأنت تظلم‪ .‬وال ما نالوا ذلك إل بطاعة ال‪ ،‬فإن أردت أن تنال بمعصية ال ما نالوا بطاعته‪،‬‬
‫إنك إذًا لكرم على ال منهم‪.‬‬
‫وضرب المأمون اســمه على الدراهــم والدنانيــر‪ ،‬وكتــب إلى أهــل الفاق بــبيعته‪ ،‬وطرح الســواد‬

‫‪90‬‬
‫ولبس الخضرة)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬من المصائب التي ابتُلي بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم و تعظيمهم ومدحهم لهم‪،‬‬
‫فإنهــم يُمدحون بمــا ليــس بمدح‪ ،‬ويدّعون لهــم دعاوى ل حجــة لهــا‪ ،‬ويذكرون مــن الكلم مــا لو لم‬
‫يُعرف فضلهـم مـن غيـر كلم الرافضـة‪ ،‬لكان مـا تذكره الرافضـة بالقدح أشبـه منـه بالمدح‪ ،‬فإن علي‬
‫بـن موسـى له مـن المحاسـن والمكارم المعروفـة‪ ،‬والممادح المناسـبة لحاله اللئقـة بـه‪ ،‬مـا يعرفـه بهـا‬
‫أهل المعرفة‪ .‬وأما هذا الرافضي فلم يذكر له فضيلة واحدة بحجة‪.‬‬
‫وأمـا قوله‪( :‬إنـه كان أزهـد الناس وأعلمهـم) فدعوى مجردة بل دليـل‪ ،‬فكـل مـن غل فـي شخـص‬
‫أمكنه أن يدّعى له هذه الدعوى‪ ،‬كيف والناس يعلمون أنه كان في زمانه من هو أعلم منه‪ ،‬ومن هو‬
‫أزهـد منـه‪ ،‬كالشافعـي وإسـحاق بـن راهويـة وأحمـد بـن حنبـل وأشهـب بـن عبـد العزيـز‪ ،‬وأبـي سـليمان‬
‫الداراني‪ ،‬ومعروف الكرخي‪ ،‬وأمثال هؤلء‪.‬‬
‫وأمــا قوله‪( :‬إنــه أخــذ عــن فقهاء الجمهور كثيرًا) فهذا مــن أظهــر الكذب‪ ،‬هؤلء فقهاء الجمهور‬
‫المشهورون لم يأخذوا عنـه مـا هـو معروف‪ ،‬وإن أخـذ عنـه بعـض مـن ل يُعرف مـن فقهاء الجمهور‬
‫فهذا ل يُنكر‪ ،‬فإن طلبة الفقهاء قد يأخذون عن المتوسطين في العلم‪ ،‬ومن هم دون المتوسطين‪.‬‬
‫وما ذكره بعض الناس من أن معروفًا الكرخي كان خادمًا له‪ ،‬وأنه أسلم على يديه‪ ،‬أو أن الخرقة‬
‫متصلة منه إليه‪ ،‬فكله كذب باتفاق من يعرف هذا الشأن‪.‬‬
‫والحديـث الذي ذكره عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم عـن فاطمـة هـو كذب باتفاق أهـل المعرفـة‬
‫بالحديـث‪ ،‬ويظهـر كذبـه لغيـر أهـل الحديـث أيضًا؛ فإن قوله‪( :‬إن فاطمـة أحصـنت فرجهـا فحرّم ال‬
‫ذريتهــا على النار) يقتضــي أن إحصــان فرجهــا هــو الســبب لتحريــم ذريتهــا على النار وهذا باطــل‬
‫قطعًا‪ ،‬فإن سارّة أحصنت فرجها‪ ،‬ولم يحرّم ال جميع ذريتها على النار‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فتسـمية جبريـل رسـول ال إلى محمـد صـلى ال عليـه وسـلم خادمًا له عبارة مـن ل يعرف‬
‫قدر الملئكـة‪ ،‬وقدر إرسـال ال لهـم إلى النـبياء‪ ،‬ولكـن الرافضـة غالب حججهـم أشعار تليـق بجهلهـم‬
‫وظلمهم‪ ،‬وحكايات مكذوبة تليق بجهلهم وكذبهم‪ ،‬وما ُي ْثبِت أصول الدين بمثل هذه الشعار‪ ،‬إل من‬
‫ليس معدودًا من أولي البصار‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وكان ولده محمـد بن علي الجواد على منهاج أبيه في العلم والتقـى والجود‪ ،‬ولما‬
‫مات أبوه الرضــا شغــف بحبــه المأمون لكثرة علمــه ودينــه ووفور عقله مــع صــغر ســنه‪ ،‬وأراد أن‬
‫يزوّجــه ابنتـه أم الفضــل‪ ،‬وكان قـد زوّج أباه الرضـا عليـه السـلم بابنتــه أم حــبيب‪ ،‬فغلظ ذلك على‬
‫العباسيين واستنكروه وخافوا أن يخرج المر منهم‪ ،‬وأن يبايعه كما بايع أباه‪ ،‬فاجتمع الدنون منهم‬
‫وســألوه ترك ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنــه صــغير الســن ل علم عنده‪ ،‬فقال‪ :‬أنــا أعرف منكــم بــه‪ ،‬فإن شئتــم‬
‫ل كثيرًا على امتحانـه فـي مسـألة يعجزه‬ ‫فامتحنوه‪ ،‬فرضوا بذلك‪ ،‬وجعلوا للقاضـي يحيـى بـن أكثـم ما ً‬
‫فيهــا‪ ،‬فتواعدوا إلى يوم‪ ،‬وأحضره المأمون وحضــر القاضــي وجماعــة العباســيين‪ ،‬فقال القاضــي‪:‬‬
‫حرِم قتل صيدًا؟ فقال له عليه السلم‪:‬‬ ‫أسألك عن شيء؟ فقال عليه السلم‪ :‬سل‪ ،‬فقال‪ :‬ما تقول في مُ ْ‬
‫قتله فــي حــل أو حرم؟ عالمًـا كان أو جاهلً‪ ،‬مبتدئًا بقتله أو عائذًا‪ ،‬مــن صــغار الصــيد كان أم مــن‬
‫كبارهــا‪ ،‬عبدًا كان المُحرم أو حرّا‪ ،‬صــغيرًا كان أو كــبيرًا‪ ،‬مــن ذوات الطيــر كان الصــيد أم مــن‬
‫غيرها؟ فتحير يحيى بن أكثم‪ ،‬وبان العجز في وجهه‪ ،‬حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره‪ ،‬فقال‬
‫المأمون لهـل بيتـه‪ :‬عرفتـم الن مـا كنتـم تنكرونـه‪ ،‬ثـم أقبـل المام فقال‪ :‬أتخطـب؟ قال‪ :‬نعـم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪91‬‬
‫أخطـب لنفسـك خطبـة النكاح‪ ،‬فخطـب وعقـد على خمسـمائة درهـم جيادًا كمهـر جدتـه فاطمـة عليهـا‬
‫السلم‪ ،‬ثم تزوج بها)‪.‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬إن محمـد بـن عليّـ الجواد كان مـن أعيان بنـي هاشـم‪ ،‬وهـو معروف بالسـخاء‬
‫والسـؤدد‪ ،‬ولهذا سُـ ّميَ الجواد‪ ،‬ومات وهـو شاب ابـن خمـس وعشريـن سـنة‪ ،‬ولد سـنة خمـس وتسـعين‬
‫ومات سنة عشرين أو سنة تسع عشرة‪ ،‬وكان المأمون زوّجه بابنته‪ ،‬وكان يرسل إليه في السنة ألف‬
‫ألف درهم‪ ،‬واستقدمه المعتصم إلى بغداد‪ ،‬ومات بها‪.‬‬
‫وأمـا مـا ذكره فإنـه مـن نمـط مـا قبله‪ ،‬فإن الرافضـة ليـس لهـم عقـل صـريح ول نقـل صـحيح‪ ،‬ول‬
‫يقيمون حقًا‪ ،‬ول يهدمون باطلً‪ ،‬ل بحجــة وبيان‪ ،‬ول بيــد وســنان‪ ،‬فإنــه ليــس فيمــا ذكره مــا يثبــت‬
‫فضيلة محمد بن عليّ‪ ،‬فضلً عن ثبوت إمامته‪ ،‬فإن هذه الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم من‬
‫الكاذيب التي ل يفرح بها إل الجهال‪ ،‬ويحيى بن أكثم كان أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز‬
‫حرِم قتـل صـيدًا‪ ،‬فإن صـغار الفقهاء يعلمون حكـم هذه المسـألة‪ ،‬فليسـت مـن‬ ‫شخـص بأن يسـأله عـن مُ ْ‬
‫دقائق العلم ول غرائبه‪ ،‬ول مما يختص به المبرّزون في العلم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وكان ولده عليّـ الهادي‪ ،‬ويُقال له‪ :‬العسـكري‪ ،‬لن المتوكـل أشخصـه مـن المدينـة‬
‫إلى بغداد‪ ،‬ثـم منهـا إلى سُـ ّر مـن رأى‪ ،‬فأقام بموضـع عندهـا يقال له‪ :‬العسـكر‪ ،‬ثـم انتقـل إلى سُـرّ مـن‬
‫رأى فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر‪ ،‬وإنما أشخصه المتوكل؛ لنه كان يبغض عليّا رضي ال‬
‫عنه‪ ،‬فبلّغه مقام عليّ بالمدينة‪ ،‬وميل الناس إليه‪ ،‬فخاف منه‪ ،‬فدعا يحيى بن هبيرة وأمره بإحضاره‪،‬‬
‫فضج أهل المدينة لذلك خوفًا عليه؛ لنه كان محسنًا إليهم‪ ،‬ملزمًا للعبادة في المسجد‪ ،‬فحلف يحيى‬
‫أنه ل مكروه عليه‪ ،‬ثم فتّش منزله فلم يجد فيه سوى مصاحف وأدعية وكتب العلم‪ ،‬فعظم في عينه‪،‬‬
‫وتولى خدمتـه بنفسـه‪ ،‬فلمـا قدم بغداد بدأ بإسـحاق بـن إبراهيـم الطائي والي بغداد‪ .‬فقال له‪ :‬يـا يحيـى‪،‬‬
‫هذا الرجـل قـد ولده رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬والمتوكـل مـن َت ْعلَم‪ ،‬فإن حرضتـه عليـه قتله‪،‬‬
‫وكان رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم خصـمك يوم القيامـة‪ ،‬فقال له يحيـى‪ :‬وال مـا وقعـت منـه إل‬
‫على خير‪ .‬قال‪ :‬فلما دخلت على المتوكل أخبرته بحسن سيرته وورعه وزهده فأكرمه المتوكل‪ ،‬ثم‬
‫مرض المتوكل فنذر إن عوف يَ تصدّق بدراهم كثيرة‪ ،‬فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابًا‪،‬‬
‫فبعث إلى عليّ الهادي‪ ،‬فسأله فقال‪ :‬تصدّق بثلثة وثمانين درهمًا‪ ،‬فسأله المتوكل عن السبب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ط نَ َكثِيرَةً))[التوبـة‪ ]25:‬وكانت لمواطن هذه الجملة‪ ،‬فإن النبي‬ ‫لقوله تعالى‪(( :‬لق ْد نَ صَرَ ُكمُ الُ فِي َموَا ِ‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم غزا سـبعًا وعشريـن غزاة‪ ،‬وبعـث سـتًا وخمسـين سـرية‪ .‬قال المسـعودي‪ :‬نُمـي‬
‫إلى المتوكل بعليّ بن محمد أن في منزله سلحًا من شيعته من أهل قُم وأنه عازم على الملك‪ ،‬فبعث‬
‫إليـه جماعـة مـن التراك‪ ،‬فهجموا داره ليلً فلم يجدوا فيهـا شيئًا‪ ،‬ووجدوه فـي بيـت مغلق عليـه وهـو‬
‫يقرأ وعليــه مُدرعــة مــن صــوف‪ ،‬وهــو جالس على الرمــل والحصــى متوجهًـا إلى ال تعالى يتلو‬
‫القرآن‪ ،‬فحُمـل على حالتـه تلك إلى المتوكـل‪ ،‬وأُدخـل عليـه وهـو فـي مجلس الشراب‪ ،‬والكأس فـي يـد‬
‫المتوكـل‪ ،‬فعظّمـه وأجلسـه إلى جانبـه‪ ،‬وناوله الكأس‪ ،‬فقال‪ :‬وال مـا خامـر لحمـي ودمـي قـط فأعفنـي‪،‬‬
‫ع ُيوُن))[الدخان‪ .]25:‬اليات فقال‪:‬‬ ‫جنّات ٍع وَ ُ‬
‫فأعفاه‪ ،‬وقال له‪ :‬أســمعني صــوتًا‪ ،‬فقال‪(( :‬كم ْع َترَكوا مِن عْ َ‬
‫أنشدنى شعرًا‪ ،‬فقال‪ :‬إني قليل الرواية للشعر‪ ،‬فقال‪ :‬ل بد من ذلك‪ ،‬فأنشده‪:‬‬
‫غلْبُ الرجال فما أغنتهم ال ُقَللُ‬ ‫ُ‬ ‫باتوا على قلل الجبال تحرسهم‬
‫وأسكنوا حفرًا يا بئس ما نزلوا‬ ‫واستُنزلوا بعد ع ٍز من معاقلهم‬

‫‪92‬‬
‫أين السرّة والتيجان والحلل‬ ‫نادا ُهمُ صارخ من بعد دفنهم‬
‫من دونها تُضرب الستار والكِللُ‬ ‫أين الوجوه التي كانت منعّمة‬
‫تلك الوجوهُ عليها الدود يقتتل‬ ‫فأفصح القبر عنهُمْ حين ساءَُلهُمْ‬
‫فأصبحوا بعد طول الكل قد أُكلوا‬ ‫قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا‬
‫فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا الكلم مـن جنـس مـا قبله‪ ،‬لم يذكـر منقبـة بحجـة صـحيحة‪ ،‬بـل ذكـر مـا يعلم العلماء أنـه‬
‫مـن الباطـل‪ ،‬فإنـه ذكـر فـي الحكايـة أن والي بغداد كان إسـحاق بـن إبراهيـم الطائي‪ ،‬وهذا مـن جهله‪،‬‬
‫فإن إسـحاق بـن إبراهيـم هذا خزاعـي معروف هـو وأهـل بيتـه‪ ،‬كانوا مـن خزاعـة‪ ،‬فإنـه إسـحاق بـن‬
‫إبراهيم بن الحسين بن مصعب‪ ،‬وابن عمه عبد ال بن طاهر بن الحسين بن مصعب أمير خراسان‬
‫المشهور المعلومـة سـيرته‪ ،‬وابـن هذا محمـد بـن عبـد ال بـن طاهـر كان نائبًا على بغداد فـي خلفـة‬
‫المتوكل وغيره‪ ،‬وهـو الذي صلّى على أحمـد بن حنبـل لما مات‪ ،‬وإسـحاق بن إبراهيم هذا كان نائبًا‬
‫لهم في إمارة المعتصم والواثق وبعض أيام المتوكل‪ ،‬وهؤلء كلهم من خزاعة ليسوا من طيئ وهم‬
‫أهل بيت مشهورون‪.‬‬
‫وأمـا الفُتيـا التـي ذكرهـا مـن أن المتوكـل نذر إن عُوفِيَـ يتصـدّق بدراهـم كثيرة‪ ،‬وأنـه سـأل الفقهاء‬
‫عـن ذلك فلم يجـد عندهـم جوابـا‪ ،‬وأن عليّـ بـن محمـد أمره أن يتصـدق بثلثـة وثمانيـن درهمًا‪ ،‬لقوله‬
‫تعالى‪(( :‬لق ْد نَصَعرَ ُكمْ ال فعي مَواطِنَع كَثيرَةً))[الدخان‪ ،]25:‬وأن المواطـن كانـت هذه الجملة‪ ،‬فإن النـبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم غزا سـبعًا وعشريـن غزاة‪ ،‬وبعـث سـتًا وخمسـين سـرية‪ ،‬فهذه الحكايـة أيضـا‬
‫تحكـى عـن عليّـ بـن موسـى مـع المأمون‪ ،‬وهـي دائرة بيـن أمريـن‪ :‬إمـا أن تكون كذبًا‪ ،‬وإمـا أن تكون‬
‫ل ممن أفتى بذلك‪.‬‬ ‫جه ً‬
‫فإن قول القائل‪ :‬له عليّ دراهـم كثيرة‪ ،‬أو وال لعطيـن فلنًا دراهـم كثيرة‪ ،‬أو لتصـدقن بدراهـم‬
‫كثيرة‪ ،‬ل يُحمل على ثلث وثمانين عند أحد من علماء المسلمين‪.‬‬
‫والحجة المذكورة باطلة لوجوه‪:‬‬
‫أحدهععا‪ :‬أن قول القائل‪ :‬إن المواطــن كانــت ســبعًا وعشريــن غزاة وس ـتًا وخمســين ســرية‪ ،‬ليــس‬
‫بصـحيح‪ ،‬فإن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم لم يغـز سـبعًا وعشريـن غزاة باتفاق أهـل العلم بالسـير‪ ،‬بـل‬
‫أقل من ذلك‪.‬‬
‫الثانعي‪ :‬أن هذه اليـة نزلت يوم حنيـن‪ ،‬وال قـد أخـبر بمـا كان قبـل ذلك‪ ،‬فيجـب أن يكون مـا تقدّم‬
‫قبـل ذلك مواطـن كثيرة‪ ،‬وكان بعـد يوم حنيـن غزوة الطائف وغزوة تبوك‪ ،‬وكثيـر مـن السـرايا كانـت‬
‫بعـد يوم حنيـن كالسـرايا التـي كانـت بعـد فتـح مكـة‪ ،‬مثـل‪ :‬إرسـال جريـر بـن عبـد ال إلى ذي الخلصـة‬
‫وأمثال ذلك‪.‬‬
‫وجريـر إنمـا أسـلم قبـل موت النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بنحـو سـنة‪ ،‬وإذا كان كثيـر مـن الغزوات‬
‫والسـرايا كانـت بعـد نزول هذه اليـة‪ ،‬امتنـع أن تكون هذه اليـة المخـبرة عـن الماضـي إخبارًا بجميـع‬
‫المغازي والسرايا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن ال لم ينصــرهم فــي جميــع المغازي‪ ،‬بــل يوم أحــد تولوا‪ ،‬وكان يوم بلء وتمحيــص‪،‬‬
‫وكذلك يوم مؤتة وغيرها من السرايا لم يكونوا منصورين فيها‪ ،‬فلو كان مجموع المغازي والسرايا‬
‫ثلثًا وثمانين فإنهم لم ينصروا فيها كلها‪ ،‬حتى يكون مجموع ما نصروا فيه ثلثًا وثمانين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه بتقدير أن يكون المراد بالكثير في الية ثلثًا وثمانين‪ ،‬فهذا ل يقتضي اختصاص هذا‬

‫‪93‬‬
‫القدر بذلك ؛ فإن لفــظ (الكثيــر) لفــظ عام يتناول اللف واللفيــن واللف‪ ،‬وإذا عمّـ أنواعًـا مــن‬
‫المقادير‪ ،‬فتخصيص بعض المقادير دون بعض تحكّم‪.‬‬
‫الخامععس‪ :‬أن ال تعالى قال‪(( :‬منععْ ذَا الّذِي يُقْرِضععُ الَع َقرْضًعا حَسعَعنًا َف ُيضَاعِفَهععُ لَهععُ َأضْعَافًعا‬
‫َكثِيرَة))[البقرة‪ ،]245:‬وال يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف بنص القرآن‪ ،‬وقد ورد أنه يضاعفها‬
‫ألفي ألف حسنة‪ ،‬فقد سمّى هذه الضعاف كثيرة‪ ،‬وهذه المواطن كثيرة‪.‬‬
‫غ َلبَتْع ِف َئةً َكثِيرَ ًة بِإِذْنِع ال وَالُ مَعَع الصعّا ِبرِين))[البقرة‪]249:‬‬ ‫وقـد قال تعالى‪(( :‬كمْع مِنْع ِف َئةٍ قَلِي َلةٍ َ‬
‫والكثرة ههنـا تتناول أنواعًا مـن المقاديـر‪ ،‬لن الفئات المعلومـة مـع الكثرة ل تحصـر فـي عدد معيـن‪،‬‬
‫وقد تكون الفئة القليلة ألفًا والفئة الكثيرة ثلثة آلف‪ ،‬فهي قليلة بالنسبة إلى كثرة عدد الخرى‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وولده مولنا المهدي محمد عليه السلم)‪.‬‬
‫روى ابـن الجوزى بإسـناده إلى ابـن عمـر قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬يخرج فـي‬
‫آخـر الزمان رجـل مـن ولدي‪ ،‬اسـمه كاسـمي وكنيتـه كنيتـي‪ ،‬يمل الرض عدلً‪ ،‬كمـا ملئت جورًا‪،‬‬
‫فذلك هو المهدي)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬قـد ذكـر محمـد بـن جريـر الطـبري وعبـد الباقـي بـن قانـع وغيرهمـا مـن أهـل العلم بالنسـاب‬
‫والتواريـخ‪ :‬أن الحسـن بـن عليّـ العسـكري لم يكـن له نسـل ول عقـب‪ ،‬والماميـة الذيـن يزعمون أنـه‬
‫كان له ولد يدّعون أنه دخل السرداب بسامرّا وهو صغير‪ ،‬منهم من قال‪ :‬عمره سنتان‪ ،‬ومنهم من‬
‫قال‪ :‬ثلث‪ ،‬ومنهـم مـن قال‪ :‬خمـس سـنين‪ ،‬وهذا لو كان موجودًا معلومًا‪ ،‬لكان الواجـب فـي حكـم ال‬
‫الثابـت بنـص القرآن والسـنة والجماع أن يكون محضونًا عنـد مـن يحضنـه فـي بدنـه‪ ،‬كأمـه وأم أمـه‪،‬‬
‫ونحوهما من أهل الحضانة‪ ،‬وأن يكون ماله عند من يحفظه‪ :‬إما وصي أبيه إن كان له وصي‪ ،‬وإما‬
‫غير الوصي‪ :‬إما قريب‪ ،‬وإما نائب لدى السلطان‪ ،‬فإنه يتيم لموت أبيه‪.‬‬
‫وال تعالى يقول‪(( :‬وَا ْبتَلُوا ا ْل َيتَامَى حَتَى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَع َفإِنْع آنَسْعتُ ْم ِمنْهُم ُرشْدًا فَا ْدفَعُوا إِ َليْهِم‬
‫َأ ْموَا َلهُمْع وَ َل تَأْ ُكلُوهَا إِسْعرَافًا َوبِدَارًا أَنْع يَ ْك َبرُوا))[النسـاء‪ .]6:‬فهذا ل يجوز تسـليم ماله إليـه حتـى يبلغ‬
‫النكاح ويؤنـس منـه الرشد‪ ،‬كما ذكـر ال تعالى ذلك فـي كتابه‪ ،‬فكيـف يكون مـن يسـتحق الحجـر عليه‬
‫في بدنه وماله إمامًا لجميع المسلمين معصومًا‪ ،‬ل يكون أحد مؤمنًا إل باليمان به؟!‬
‫ثـم إن هذا باتفاق منهـم‪ :‬سـواء قُدّر وجوده أو عدمـه‪ ،‬ل ينتفعون بـه ل فـي ديـن ول فـي دنيـا‪ ،‬ول‬
‫علّمَـ أَحدًا شيئا‪ ،‬ول يعرف له صـفة مـن صـفات الخيـر ول الشـر‪ ،‬فلم يحصـل بـه شيـء مـن مقاصـد‬
‫المامـة ول مصـالحها‪ ،‬ل الخاصـة ول العامـة‪ ،‬بـل إن قدّر وجوده فهـو ضرر على أهـل الرض بل‬
‫نفـع أصـلً‪ ،‬فإن المؤمنيـن بـه لم ينتفعوا بـه‪ ،‬ول حصـل لهـم بـه لطـف ول مصـلحة‪ ،‬والمكذّبون بـه‬
‫يعذّبون عندهـم على تكذيبهـم بـه‪ ،‬فهـو شـر محـض ل خيـر فيـه‪ ،‬وخلق مثـل هذا ليـس مـن فعـل الحكيـم‬
‫العادل‪.‬‬
‫وإذا قالوا‪ :‬إن الناس بسبب ظلمهم احتجب عنهم‪.‬‬
‫قيل‪ :‬أولً‪ :‬كان الظلم موجودًا في زمن آبائه ولم يحتجبوا‪.‬‬
‫وقيعل‪ :‬ثانيًا‪ :‬فالمؤمنون بـه طبّقوا الرض فهلّ اجتمـع بهـم فـي بعـض الوقات أو أرسـل إليهـم‬
‫رسولً يعلّمهم شيئًا من العلم والدين؟!‬
‫وقيعل‪ :‬ثالثًا‪ :‬قـد كان يمكنـه أن يأوي إلى كثيـر مـن المواضـع التـي فيهـا شيعتـه‪ ،‬كجبال الشام التـي‬
‫كان فيها الرافضة عاصية‪ ،‬وغير ذلك من المواضع العاصية‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫وقيعل‪ :‬رابعًا‪ :‬فإذا كان هـو ل يمكنـه أن يذكـر شيئًا مـن العلم والديـن لحـد‪ ،‬لجـل هذا الخوف‪ ،‬لم‬
‫يكـن فـي وجوده لطـف ول مصـلحة‪ ،‬فكان هذا مناقضًا لمـا أثبتوه‪ ،‬بخلف مـن أرسـل مـن النـبياء‬
‫وكُذّب‪ ،‬فإنه بلّغ الرسالة‪ ،‬وحصل لمن آمن به من اللطف والمصلحة ما هو من نعم ال عليه‪ ،‬وهذا‬
‫المنتَظَـر لم يحصــل بــه لطائفتــه إل النتظار لمــن ل يأتــي‪ ،‬ودوام الحســرة واللم‪ ،‬ومعاداة العالم‪،‬‬
‫والدعاء الذي ل يســـتجيبه ال‪ ،‬لنهـــم يدعون له بالخروج والظهور مـــن مدة أكثـــر مـــن أربعمائة‬
‫وخمسـين سـنة لم يحصـل شيـء مـن هذا‪ ،‬ثـم إن عمـر واحـد مـن المسـلمين هذه المدة أمـر يعرف كذبـه‬
‫بالعادة المطّردة فـي أمـة محمـد‪ ،‬فل يُعرف أحـد وُلد فـي ديـن السـلم وعاش مائة وعشريـن سـنة‪،‬‬
‫فضلً عن هذا العمر‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في آخر عمره‪:‬‬
‫(أرأيتكم ليلتكـم هذه‪ ،‬فإنه على رأس مائة سنة منهـا ل يبقى على وجه الرض ممـن هـو اليوم عليهـا‬
‫أحد)(‪.)1‬‬
‫فمن كان في ذلك الوقت له سنة ونحوها لم يعش أكثر من مائه سنة قطعًا‪ ،‬وإذا كانت العمار في‬
‫ذلك العصـر ل تتجاوز هذا الحـد‪ ،‬فمـا بعده مـن العصـار أوْلى بذلك فـي العادة الغالبـة العامـة‪ ،‬فإن‬
‫أعمار بني آدم في الغالب كلما تأخر الزمان قصرت ولم تطل‪ ،‬فإن نوحًا عليه السلم لبث في قومه‬
‫ألف سنة إل خمسين عامًا‪ ،‬وآدم عليه السلم عاش ألف سنة‪ ،‬كما ثبت ذلك في حديث صحيح رواه‬
‫الترمذي وصـحّحَه(‪ ،)2‬فكان العمـر فـي ذلك الزمان طويلً‪ ،‬ثـم أعمار هذه المـة مـا بيـن السـتين إلى‬
‫السبعين‪ ،‬وأقلهم من يَجوز ذلك‪ ،‬كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح(‪.)3‬‬
‫واحتجاجهـم بحياة الخضـر احتجاج باطـل على باطـل‪ ،‬فمـن الذي يسـلّم لهـم بقاء الخضـر‪ ،‬والذي‬
‫عليه سائر العلماء المحققون أنه مات‪ ،‬وبتقدير بقائه فليس هو من هذه المة‪.‬‬
‫ولهذا يوجـد كثيـر مـن الكذّابيـن مـن الجـن والنـس ممـن يدّعـي أنـه الخضـر ويظـن مـن رآه أنـه‬
‫الخضر‪ ،‬وفي ذلك من الحكايات الصحيحة التي نعرفها ما يطول وصفها هنا‪.‬‬
‫وكذلك المنتظر محمد بن الحسن‪ ،‬فإن عددًا كثيرًا من الناس يدّعي كل واحد منهم أنه محمد بن‬
‫الحســن‪ ،‬منهــم مــن يظهــر ذلك لطائفــة مــن الناس‪ ،‬ومنهــم مــن يكتــم ذلك ول يظهره إل للواحــد أو‬
‫ظ َهرُ كذبه كما يظهر كذب من يدّعي أنه الخضر‪.‬‬ ‫الثنين‪ ،‬وما من هؤلء إل من يَ ْ‬
‫(فصععل)‬
‫وقوله‪ :‬روى ابــن الجوزي بإســناده إلى ابــن عمــر‪ :‬قال‪ :‬قال رســول ال صــلى ال عليــه وســلم‪:‬‬
‫ل كما ملئت‬ ‫(يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي‪ ،‬اسمه كاسمي‪ ،‬وكنيته كنيتي‪ ،‬يمل الرض عد ً‬
‫جورًا‪ ،‬فذلك هو المهدي)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬الجواب من وجوه‪:‬‬
‫أحدهعا‪ :‬إنكـم ل تحتجون بأحاديـث أهـل السـنة‪ ،‬فمثـل هذا الحديـث ل يفيدكـم فائدة‪ ،‬وإن قلتـم‪ :‬هـو‬
‫حجة على أهل السنة‪ ،‬فنذكر كلمهم فيه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إن هذا من أخبار الحاد‪ ،‬فكيف يثبت به أصل الدين الذي ل يصح اليمان إل به؟‬
‫الثالث‪ :‬أن لفظ الحديث حجة عليكم ل لكم‪ ،‬فإن لفظه‪( :‬يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي)‬
‫فالمهدي الذي أخبر به النبي صلى ال عليه وسلم اسمه محمد بن عبد ال ل محمد بن الحسن‪ ،‬وقد‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )1/119‬ومسلم (‪.)4/1965‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬سنن الترمذي (‪ )124-5/123‬وقال‪ :‬حسن غريب من هذا الوجه‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬سنن الترمذي (‪ )3/387‬وابن ماجة (‪.)2/1415‬‬

‫‪95‬‬
‫رُوي عن عليّ رضي ال عنه أنه قال‪ :‬هو من ولد الحسن بن عليّ‪ ،‬ل من ولد الحسين بن عليّ‪.‬‬
‫وأحاديث المهدي معروفة‪ ،‬رواها المام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم‪ ،‬كحديث عبد ال بن‬
‫مسـعود عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬لو لم يبـق مـن الدنيـا إل يوم لطوّل ال ذلك اليوم‬
‫ل مـن أهـل بيتـي يواطـئ اسـمه اسـمي‪ ،‬واسـم أبيـه اسـم أبـي‪ ،‬يمل الرض قسـطًا‬ ‫حتـى يبعـث فيـه رج ً‬
‫(‪)1‬‬
‫وعدلً كما ملئت ظلمًا وجورًا) ‪.‬‬
‫الرابعع‪ :‬أن الحديـث الذي ذكره‪ ،‬وقوله‪( :‬اسـمه كاسـمي‪ ،‬وكنيتـه كنيتـي) ولم يقـل‪( :‬يواطـئ اسـمه‬
‫اسـمي واسـم أبيـه اسـم أبـي) فلم يروه أحـد مـن أهـل العلم بالحديـث فـي كتـب الحديـث المعروفـة بهذا‬
‫اللفظ‪ ،‬فهذا الرافضـي لم يذكر الحديث بلفظه المعروف في كتب الحديث‪ ،‬مثل‪ :‬مسند أحمد‪ ،‬وسنن‬
‫أبي داود‪ ،‬والترمذي‪ ،‬وغير ذلك من الكتب‪ ،‬وإنما ذكره بلفظ مكذوب لم يروه أحد منهم‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬إن ابــن الجوزي رواه بإســناده‪ :‬إن أراد العالم المشهور صــاحب المص ـنّفات الكثيرة أبــا‬
‫الفرج‪ ،‬فهــو كذب عليــه‪ .‬وإن أراد ســبطه يوســف بــن قــز أوغلى صــاحب التاريــخ المســمى (بمرآة‬
‫الزمان) وصـاحب الكتاب المصـنّف فـي (الثنـى عشـر) الذي سـمّاه (إعلم الخواص) فهذا الرجـل‬
‫يذكــر فــي مصــنفاته أنواعًـا مــن الغث ّـ والســمين‪ ،‬ويحتج ـّ فــي أغراضــه بأحاديــث كثيرة ضعيفــة‬
‫وموضوعــة‪ ،‬وكان يص ـنّف بحســب مقاصــد الناس‪ :‬يص ـنّف للشيعــة مــا يناســبهم ليعوّضوه بذلك‪،‬‬
‫ويصنّف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه‪ ،‬فكانت طريقته طريقة الواعظ‬
‫الذي قيل له‪ :‬ما مذهبك؟ قال‪ :‬في أي مدينة؟‬
‫ولهذا يوجد في بعض كتبه ثلب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضوان ال عليهم لجل‬
‫مداهنة من قصد بذلك من الشيعة‪ ،‬ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬فهؤلء الئمـة الفضلء المعصـومون‪ ،‬الذيـن بلغوا الغايـة فـي الكمال‪ ،‬ولم يتخذوا‬
‫ما اتخذ غيرهم من الئمة المشتغلين بالملك وأنواع المعاصي والملهي‪ ،‬وشرب الخمور والفجور‪،‬‬
‫حتـى فعلوا بأقاربهـم على مـا هـو المتواتـر بيـن الناس‪ .‬قالت الماميـة‪ :‬فال يحكـم بيننـا وبيـن هؤلء‪،‬‬
‫وهو خير الحاكمين)‪.‬‬
‫قال‪( :‬وما أحسن قول الشاعر‪:‬‬
‫إذا شئت أن ترضي لنفسك مذهباً وتعلم أن الناس في نقل أخبار‬
‫فدع عنك قول الشافعي ومالك وأحمد والمرويّ عن كعب أحبار‬
‫روى جدنا عن جبرئيل عن الباري)‬ ‫ووال أناسًا قولهم وحديثهم‬
‫والجواب من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن يقال‪ :‬أما دعوى العصـمة فـي هؤلء فلم تذكر عليها حجة إل ما ادّعيته من أنه يجـب‬
‫على ال أن يجعـل للناس إمامًا معصـومًا‪ ،‬ليكون لطفًا ومصـلحة فـي التكليـف‪ ،‬وقـد تـبين فسـاد هذه‬
‫الحجـة مـن وجوه‪ :‬أدناهـا أن هذا مفقود ل موجود‪ ،‬فإنـه لم يوجـد إمام معصـوم حصـل بـه لطـف ول‬
‫مصلحة‪ ،‬ولو لم يكن في الدليل على انتفاء ذلك إل المنتظر الذي قد عُلم بصريح العقل أنه لم ينتفع‬
‫بـه أحـد‪ ،‬ل ديـن ول فـي دنيـا‪ ،‬ول حصـل لحـد مـن المكلّفيـن بـه مصـلحة ول لطـف‪ ،‬لكان هذا دليلً‬
‫على بطلن قولهم‪ ،‬فكيف مع كثرة الدلئل على ذلك؟‬
‫الوجععه الثانععي‪ :‬أن قوله‪( :‬كــل واحــد مــن هؤلء قــد بلغ الغايــة فــي الكمال) هــو قول مجرد عــن‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬سنن أب داود (‪ )4/151‬والترمذي (‪ )3/343‬والسند (‪.)2/117‬‬

‫‪96‬‬
‫الدليل‪ ،‬والقول بل علم يمكن كل أحد أن يقابله بمثله‪ ،‬وإذا ادّعى المدّعي هذا الكمال فيمن هو أشهر‬
‫في العلم والدين من العسكريين وأمثالهما من الصحابة والتابعين‪ ،‬وسائر أئمة المسلمين‪ ،‬لكان ذلك‬
‫أوْلى بالقبول‪ ،‬ومن طالع أخبار الناس علم أن الفضائل العلمية والدينية المتواترة عن غير واحد من‬
‫الئمة أكثر مما ينقل عن العسكريين وأمثالهما من الكذب‪ ،‬دع الصدق‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن قوله‪( :‬هؤلء الئمة) إن أراد بذلك أنهم كانوا ذوي سلطان وقدرة معهم السيف‪ ،‬فهذا‬
‫كذب ظاهـر‪ ،‬وهـم ل يدّعون ذلك‪ ،‬بـل يقولون‪ :‬إنهـم عاجزون ممنوعون مغلوبون مـع الظالميـن‪ ،‬لم‬
‫ل عليّ بن أبي طالب‪ ،‬مع أن المور استصعبت عليه‪ ،‬ونصف المة‬ ‫يتمكن أحد منهم من المامة‪ ،‬إ ّ‬
‫‪-‬أو أقـل أو أكثـر‪ -‬لم يبايعوه‪ ،‬بـل كثيـر منهـم قاتلوه وقاتلهـم‪ ،‬وكثيـر منهـم لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معـه‪،‬‬
‫وفي هؤلء من هو أفضل من الذين قاتلوه وقاتلوا معه‪ ،‬وكان فيهم من فضلء المسلمين من لم يكن‬
‫مع عليّ مثلهم‪ ،‬بل الذين تخلّفوا عن القتال معه وله كانوا أفضل ممن قاتله وقاتل معه‪.‬‬
‫وإن أراد أنـه كان لهـم علم وديـن يسـتحقون بـه أن يكون أئمـة‪ ،‬فهذه الدعوى إذا صـحت ل تُوجـب‬
‫كونهم أئمة يجب على الناس طاعتهم‪ ،‬كما أن استحقاق الرجل أن يكون إمام مسجد ل يجعله إماما‪،‬‬
‫واســتحقاقه أن يكون قاضيًـا ل يص ـيّره قاضيًـا‪ ،‬واســتحقاقه أن يكون أميــر الحرب ل يجعله أميــر‬
‫الحرب‪ ،‬والصلة ل تصح إل خلف من يكون إمامًا بالفعل‪ .‬وكذلك الحكم بين الناس إنما يفصله ذو‬
‫سـلطان وقدرة ل مـن يسـتحق أن يولّى القضاء‪ ،‬وكذلك الجنـد إنمـا يقاتلون مـع أمي ٍر عليهـم ل مـع مـن‬
‫لم يؤمّر‪ ،‬وإن كان يستحق أن يؤمّر‪.‬‬
‫الوجعه الرابعع‪ :‬أن يقال‪ :‬مـا تعنون بالسـتحقاق؟ أتعنون أن الواحـد مـن هؤلء كان يجـب أن يولى‬
‫المامة دون سائر قريش؟ أم تريدون أن الواحد منهم من جملة من يصلح للخلفة؟ فإن أردتم الول‬
‫فهو ممنوع مردود‪ ،‬وإن أردتم الثاني فذلك قدر مشترك بينهم وبين خلق كثير من قريش‪.‬‬
‫الوجعه الخامس‪ :‬أن يقال‪ :‬المام هـو الذى يؤتـم بـه وذلك على وجهين‪ :‬أحدها‪ :‬أن يرجع إليـه فـي‬
‫العلم والديـن بحيـث يطاع باختيار المطيـع‪ ،‬لكونـه عالمًا بأمـر ال عـز وجـل آمرًا بـه‪ ،‬فيطيعـه المطيـع‬
‫لذلك‪ ،‬وإن كان عاجزًا عن إلزامه الطاعة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يكون صاحب يد وسيف‪ ،‬بحيث يطاع طوعًا وكرهًا لكونه قادرًا على إلزام المطيع‬
‫بالطاعة‪.‬‬
‫الوجععه السععادس‪ :‬أن يقال‪ :‬قوله‪( :‬لم يتخذوا مــا اتخذه غيرهــم مــن الئمــة المشتغليــن بالملك‬
‫والمعاصــي) كلم باطــل‪ .‬وذلك أنــه إن أراد أن أهــل الســنة يقولون‪ :‬إنــه يؤتــم بهؤلء الملوك فيمــا‬
‫يفعلونـه مـن معصـية ال‪ ،‬فهذا كذب عليهـم‪ .‬فإن علماء أهـل السـنة المعروفيـن بالعلم عنـد أهـل السـنة‬
‫متفقون على أنه ل يُقتدى بأحد في معصية ال‪ ،‬ول يُتخذ إمامًا في ذلك‪.‬‬
‫وإن أراد ان أهل السنة يستعينون بهؤلء الملوك فيما يُحتاج إليهم فيه من طاعة ال‪ ،‬ويعاونونهم‬
‫على مـا يفعلونـه مـن طاعـة ال‪ ،‬فيقال لهـم‪ :‬إن كان اتخاذهـم أئمـة بهذا العتبار محذورًا‪ ،‬فالرافضـة‬
‫أدخل منهم في ذلك‪ ،‬فإنهم دائمًا يستعينون بالكفّار والفجّار على مطالبهم‪ ،‬ويعاونون الكفّار والفجّار‬
‫على كثيـر مـن مآربهـم‪ ،‬وهذا أمـر مشهود فـي كـل زمان ومكان‪ ،‬ولو لم يكـن إل صـاحب هذا الكتاب‬
‫(منهاج الندامة) وإخوانه‪ ،‬فإنهم يتخذون المغل والكفار أو الفسّاق أو الجهال أئمة بهذا العتبار‪.‬‬
‫الوجعه السعابع‪ :‬أن يقال‪ :‬الئمـة الذيـن هـم مثـل هؤلء الذيـن ذكرهـم فـي كتابـه وادّعـى عصـمتهم‪،‬‬
‫ليس لهم سلطان تحصل به مقاصد المامة‪ ،‬ول يكفي الئتمام بهم في طاعة ال‪ ،‬ول في تحصيل ما‬
‫ل بد منه مما يعين على طاعة ال‪ ،‬فإن لم يكن لهم ملك ول سلطان لم يمكن أن تصلّي خلفهم جمعة‬

‫‪97‬‬
‫ول جماعــة‪ ،‬ول يكونون أئمــة فــي الجهاد ول فــي الحــج‪ ،‬ول تُقام بهــم الحدود‪ ،‬ول تُفصــل بهــم‬
‫الخصـومات‪ ،‬ول يسـتوفي الرجـل بهـم حقوقـه التـي عنـد الناس والتـي فـي بيـت المال‪ ،‬ول يؤمّنـ بهـم‬
‫ل مـن له أعوان على ذلك‪،‬‬ ‫السـبل‪ ،‬فإن هذه المور كلهـا تحتاج إلى قادر يقوم بهـا‪ ،‬ول يكون قادرًا إ ّ‬
‫بل القادر على ذلك كان غيرهم‪ ،‬فمن طلب هذه المور من إمام عاجز عنها كان جاهلً ظالمًا‪ ،‬ومن‬
‫اسـتعان عليهـا بمـن هـو قادر عليهـا كان عالمًا مهتديًا مسـدّدًا‪ ،‬فهذا يحصـّل مصـلحة دينـه ودنياه‪،‬‬
‫والول تفوته مصلحة دينه ودنياه‪.‬‬
‫الوجه الثامن‪ :‬أن يقال‪ :‬دعوى كون جميع الخلفاء كانوا مشتغلين بما ذكره من الخمور والفجور‬
‫كذب عليهم‪ ،‬والحكايات المنقولة في ذلك فيها ما هو كذب‪ ،‬وقد عُلم أن فيهم العدْل الزاهد كعمر بن‬
‫عبد العزيز والمهدي بال‪ ،‬وأكثرهم لم يكن مظهرًا لهذه المنكرات من خلفاء بني أمية وبني العباس‪،‬‬
‫وإن كان أحدهـم قـد يُبتلى ببعـض الذنوب‪ ،‬وقـد يكون تاب منهـا‪ ،‬وقـد يكون له حسـنات كثيرة تمحـو‬
‫تلك السـيئات‪ ،‬وقـد يُبتلى بمصـائب تكفّرـ عنـه خطاياه‪ ،‬ففـي الجملة الملوك حسـناتهم كبار وسـيئاتهم‬
‫كبار‪ ،‬والواحـد مـن هؤلء وإن كان له ذنوب ومعاصٍـ ل تكون لحاد المؤمنيـن‪ ،‬فلهـم مـن الحسـنات‬
‫مـا ليـس لحاد المسـلمين‪ :‬مـن المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬وإقامـة الحدود‪ ،‬وجهاد العدو‪،‬‬
‫وإيصال كثير من الحقوق إلى مستحقيها‪ ،‬ومنع كثير من الظلم‪ ،‬وإقامة كثير من العدل‪.‬‬
‫ونحعن ل نقول‪ :‬إنهـم كانوا سـالمين مـن المظالم والذنوب‪ ،‬كمـا ل نقول‪ :‬إن أكثـر المسـلمين كانوا‬
‫سالمين من ذلك‪ ،‬لكن نقول‪ :‬وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين وولة أمورهم وعامتهم ل‬
‫يمنع أن يشارك فيما يعمله من طاعة ال‪.‬‬
‫وإن قال‪ :‬مرادي بهؤلء الئمــة الثنــا عشــر‪ .‬قيــل له‪ :‬مــا رواه علي ـّ بــن الحســين وأبــو جعفــر‬
‫وأمثالهمــا مــن حديــث جدهــم‪ ،‬فمقبول منهــم كمــا يرويــه أمثاله‪ ،‬ولول أن الناس وجدوا عنــد مالك‬
‫والشافعـي وأحمـد أكثـر ممـا وجدوه عنـد موسـى بـن جعفـر‪ ،‬وعلي بـن موسـى‪ ،‬ومحمـد بـن علي‪ ،‬لمـا‬
‫عدلوا عـن هؤلء إلى هؤلء‪ ،‬وإل فأي غرض لهـل العلم والديـن أن يعدلوا عـن موسـى بـن جعفـر‬
‫إلى مالك بن أنس‪ ،‬وكلهما من بلد واحد‪ ،‬في عصر واحد؟‬
‫فإن زعـم زاعـم أنـه كان عندهـم مـن العلم المخزون مـا ليـس عنـد أولئك لكـن كانوا يكتمونـه‪ ،‬فأي‬
‫فائدة للناس فـي علم يكتمونـه؟ فعلم ل يَقال بـه ككنـز ل يُنفـق منـه‪ ،‬وكيـف يأتـم الناس بمـن ل يـبين لهـم‬
‫العلم المكتوم‪ ،‬كالمام المعدوم‪ ،‬وكلهما ل يُنتفع به‪ ،‬ول يحصل به لطف ول مصلحة‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬بـل كانوا يـبينون ذلك لخواصـّهم دون هؤلء الئمـة‪ .‬قيـل‪ :‬أول‪ :‬هذا كذب عليهـم‪ ،‬فإن‬
‫جعفـر بـن محمـد لم يجيـء بعده مثله‪ ،‬وقـد أخـذ العلم عنـه هؤلء الئمـة‪ :‬كمالك‪ ،‬وابـن عيينـة وشعبـة‬
‫والثوري‪ ،‬وابن جريج‪ ،‬ويحيى بن سعيد‪ ،‬وأمثالهم من العلماء المشاهير العيان‪.‬‬
‫ثم من ظن بهؤلء السادة أنهم يكتمون علمهم عن مثل هؤلء ويخ صّون به قومًا مجهولين ليس‬
‫لهـم فـي المـة لسـان صـدق‪ ،‬فقـد أسـاء الظـن بهـم ؛ فإن فـي هؤلء مـن المحبـة ل ولرسـوله‪ ،‬والطاعـة‬
‫له‪ ،‬والرغبـة فـي حفـظ دينـه وتبليغـه‪ ،‬وموالة مـن واله‪ ،‬ومعاداة مـن عاداه‪ ،‬وصـيانته عـن الزيادة‬
‫والنقصـان‪ ،‬مـا ل يوجـد قريـب منـه لحـد مـن شيوخ الشيعـة‪ ،‬وهذا أمـر معلوم بالضرورة لمـن عرف‬
‫هؤلء وهؤلء‪ ،‬واعتـبر هذا ممـا تجده فـي كـل زمان مـن شيوخ السـنة وشيوخ الرافضـة‪ ،‬كمصـنّف‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬فإنـه عنـد الماميـة أفضلهـم فـي زمانـه‪ ،‬بـل يقول بعـض الناس‪ :‬ليـس فـي بلد المشرق‬
‫أفضـل منـه فـي جنـس العلوم مطلقًا‪ ،‬ومـع هذا فكلمـه يدل على أنـه مـن أجهـل خلق ال بحال النـبي‬
‫صــلى ال عليــه وســلم وأقواله وأعماله‪ ،‬فيروي الكذب الذي يظهــر أنــه كذب مــن وجوه كثيرة‪ ،‬فإن‬

‫‪98‬‬
‫كان عالمًا بأنه كذب‪ ،‬فقد ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من حدّث عني بحديث وهو يرى‬
‫ل على أنـه مـن أجهـل الناس بأحوال النـبي صـلى‬ ‫ل بذلك د ّ‬
‫أنـه كذب فهـو أحـد الكاذبيـن) وإن كان جاه ً‬
‫ال عليه وسلم كما قيل‪:‬‬
‫فإن كنت ل تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضععي‪( :‬ومــا أظــن أحدًا مــن المحصـّلين وقــف على هذه المذاهــب واختار غيــر مذهــب‬
‫الماميــة باطنًا‪ ،‬وإن كان فــي الظاهــر يصــير إلى غيره طلبًا للدنيــا‪ ،‬حيــث وُضعــت لهــم المدارس‬
‫والربط والوقاف حتى تستمر لبني العباس الدعوة ويُشيدوا للعامة اعتقاد إمامتهم)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا الكلم ل يقوله إل مـن هـو مـن أجهـل الناس بأحوال أهـل السـنة‪ ،‬أو مـن هـو مـن أعظـم‬
‫الناس كذبًا وعنادًا‪ ،‬وبطلنـه ظاهـر مـن وجوه كثيرة ؛ فإنـه مـن المعلوم أن السـنة كانـت قبـل أن تُبنـى‬
‫المدارس أقوى وأظهـر‪ ،‬فإن المدارس إنمـا بُنيـت فـي بغداد فـي أثناء المائة الخامسـة‪ :‬بنيـت النظاميـة‬
‫فـي حدود السـتين والربعمائة‪ ،‬وبنيتـا على مذهـب واحـد مـن الئمـة الربعـة‪ ،‬والمذاهـب الربعـة‬
‫طبقـت المشرق والمغرب‪ ،‬وليـس لحـد منهـم مدرسـة‪ ،‬والمالكيـة فـي المغرب ل يُذكـر عندهـم ولد‬
‫العباس‪.‬‬
‫ثـم السـنة كانـت قبـل دولة بنـي العباس أظهـر منهـا وأقوى فـي دولة بنـي العباس‪ ،‬فإن بنـي العباس‬
‫دخل في دولتهم كثير من الشيعة وغيرهم من أهل البدع‪ .‬ثم إن أهل السنة متفقون على أن الخلفة‬
‫ل تختـص ببنـي العباس‪ ،‬وإنـه لو تولهـا بعـض العلوييـن أو المويييـن أو غيرهـم مـن بطون قريـش‬
‫جاز‪ ،‬ثم من المعلوم أن علماء السنة كمالك وأحمد وغيرهما‪ ،‬من أبعد الناس عن مداهنة الملوك أو‬
‫مقاربتهم‪ ،‬ثم إن أهل السنة إنما يعظّمون الخلفاء الراشدين‪ ،‬وليس فيهم أحد من بني العباس‪.‬‬
‫ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي‪ ،‬بل كلهم متفقون‬
‫على تجهيـل الرافضـة وتضليلهـم‪ ،‬وكتبهـم كلهـا شاهدة بذلك‪ ،‬وهذه كتـب الطوائف كلهـا تنطـق بذلك‪،‬‬
‫مع أنه ل أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة‪ ،‬وذكر جهلهم وضللهم‪.‬‬
‫وهــم دائمًا يذكرون مــن جهــل الرافضــة وضللهــم مــا يُعلم معــه بالضطرار أنهــم يعتقدون أن‬
‫الرافضـة مـن أجهـل الناس وأضلهـم‪ ،‬وأبعـد طوائف المـة عـن الهدى‪ ،‬كيـف ومذهـب هؤلء الماميـة‬
‫قد جمع عظائم البدع المنكرة‪ ،‬فإنهم جهمية قدرية رافضة‪ ،‬وكلم السلف والعلماء في ذم كل صنف‬
‫من هذه الصناف ل يحصيه إل ال‪ ،‬والكتب مشحونة بذلك‪ ،‬ككتب الحديث والثار والفقه والتفسير‬
‫والصـــول والفروع وغيـــر ذلك‪ ،‬وهؤلء الثلثـــة شـــر مـــن غيرهـــم مـــن أهـــل البدع كالمرجئة‬
‫والحرورية‪.‬‬
‫ل له في‬ ‫(وال يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رج ً‬
‫المة لسان صدق يُتهم بمذهب المامية‪ ،‬فضلً عن أن يُقال‪ :‬إنه يعتقده في الباطن)‪.‬‬
‫وقـد اتّهـم بمذهـب الزيديـة الحسـن بـن صـالح بـن حيـّ‪ ،‬وكان فقيهًا صـالحًا زاهدًا‪ ،‬وقيـل‪ :‬إن ذلك‬
‫كذب عليه‪ ،‬ولم ينقل أحد عنه‪ :‬إنه طعن في أبي بكر وعمر‪ ،‬فضلً عن أن يشك في إمامتهما‪ ،‬واتّهم‬
‫طائفـة مـن الشيعـة الولى بتفضيـل عليّـ على عثمان‪ ،‬ولم يُتهـم أحـد مـن الشيعـة الولى بتفضيـل عليّـ‬
‫على أبي بكر وعمر‪ ،‬بل كانت عامة الشيعة الولى الذين يحبون عليّا يفضّلون عليه أبا بكر وعمر‪،‬‬
‫لكـن كان فيهـم طائفـة ترجّحـه على عثمان‪ ،‬وكان الناس فـي الفتنـة صـاروا شيعتيـن‪ :‬شيعـة عثمانيـة‪،‬‬
‫وشيعـة علويـة‪ ،‬وليـس كـل مـن قاتـل مـع عليّـ كان يفضله على عثمان‪ ،‬بـل كان كثيـر منهـم يفضّل‬

‫‪99‬‬
‫عثمان على عليه‪ ،‬كما هو قول سائر أهل السنة‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وكثيرًا ما رأينا من يتدين في الباطن بمذهب المامية‪ ،‬ويمنعه عن إظهار ح بّ‬
‫الدنيـا وطلب الرياسـة‪ ،‬وقـد رأيـت بعـض أئمـة الحنابلة يقول‪ :‬إنـي على مذهـب الماميـة‪ ،‬فقلت‪ :‬لم‬
‫تدرس على مذهــب الحنابلة؟ فقال‪ :‬ليــس فــي مذهبكــم البغلت والمشاهرات‪ ،‬وكان أكــبر مدرســي‬
‫الشافعيـة فـي زماننـا حيـث توفـي أوصـى أن يتولى أمره فـي غُسـله وتجهيزه بعـض المؤمنيـن‪ ،‬وأن‬
‫يُدفن في مشهد مولنا الكاظم‪ ،‬وأشهد عليه أنه كان على مذهب المامية)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن قوله‪( :‬وكثيرًا مـا رأينـا) هذا كذب‪ ،‬بـل قـد يوجـد فـي بعـض المنتسـبين إلى مذهـب‬
‫الئمـة الربعـة مـن هـو فـي الباطـن رافضـي‪ ،‬كمـا يوجـد فـي المظهريـن للسـلم مـن هـو فـي الباطـن‬
‫منافـق‪ ،‬فإن الرافضـة لمـا كانوا مـن جنـس المنافقيـن يخفون أمرهـم احتاجوا أن يتظاهروا بغيـر ذلك‪،‬‬
‫كما احتاج المنافقون أن يتظاهروا بغير الكفر‪ ،‬ول يوجد هذا إل فيمن هو جاهل بأحوال النبي صلى‬
‫ال عليـه وسـلم وأمور المسـلمين كيـف كانـت فـي أول السـلم‪ ،‬وأمـا مـن عرف السـلم كيـف كان‪،‬‬
‫وهو مقرّ بأن محمدًا رسول ال باطنًا وظاهرًا‪ ،‬فإنه يمتنع أن يكون في الباطن رافضيًا‪ ،‬ول يُتصور‬
‫أن يكون في الباطن رافضيًا إل زنديق منافق‪ ،‬أو جاهل بالسلم كيف كان مُفرط في الجهل‪.‬‬
‫والحكايـة التـي ذكرهـا عـن بعـض الئمـة المدرسـين ذكـر لي بعـض البغدادييـن أنهـا كذب مفترى‪،‬‬
‫فإن كان صادقًا فيما نقله عن بعض المدرسين من هؤلء وهؤلء‪ ،‬فل يُنكر أن يكون في المنتسبين‬
‫إلى الئمـة الربعـة مـن هـو زنديـق ملحـد مارق مـن السـلم‪ ،‬فضلً عـن أن يكون رافضيًا‪ ،‬ومـن‬
‫استدل بزندقة بعض الناس في الباطن على أن علماء المسلمين كلهم زنادقة‪ ،‬كان من أجهل الناس‪،‬‬
‫كذلك من استدل برفض بعض الناس في الباطن‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضععي‪( :‬الوجععه الخامععس‪ :‬فــي بيان وجوب اتباع مذهــب الماميــة‪ ،‬أنهــم لم يذهبوا إلى‬
‫التعصـب فـي غيـر الحـق‪ ،‬بخلف غيرهـم‪ ،‬فقـد ذكـر الغزالي والماوردي‪ ،‬وهمـا إمامان للشافعيـة‪ ،‬أن‬
‫تسـطيح القبور هـي المشروع‪ ،‬لكـن لمـا جعلتـه الرافضـة شعارًا لهـم عدلنـا عنـه إلى التسـنيم‪ ،‬وذكـر‬
‫الزمخشري ‪-‬وكان مــــن أئمــــة الحنفيــــة‪ -‬فــــي تفســــير قوله تعالى‪(( :‬هوَ الّذِي يُصععععَلّي عَ َليْكُعععم‬
‫لئِ َكتَهُ))[الحزاب‪ ]43:‬أنه يجوز بمقتضى هذه الية أن يُصلّى على آحاد المسلمين‪ ،‬لكن لما اتخذت‬ ‫َومَ َ‬
‫الرافضة ذلك في أئمتهم منعناه‪ ،‬وقال مصنف (الهداية) من الحنفية‪ :‬إن المشروع التختم في اليمين‪،‬‬
‫ولكـن لمـا اتخذتـه الرافضـة جعلنـا التختـم فـي اليسـار‪ ،‬وأمثال ذلك كثيـر فانظـر إلى مـن يغيّر الشريعـة‬
‫ويبدّل الحكام التي ورد بها النص عن النبي صلى ال عليه وسلم ويذهب إلى ضد الصواب معاندة‬
‫لقوم معينين‪ ،‬فهل يجوز اتّباعه والمصير إلى أقواله؟)‪.‬‬
‫والجواب من طريقتين‪ :‬أحدهما‪ :‬أن هذا الذي ذكره هو بالرافضة ألصق‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن أئمة السنة براء من هذا‪.‬‬
‫أمعا الطريعق الول‪ ،‬فيقال‪ :‬ل نعلم طائفـة أعظـم تعصـبًا فـي الباطـل مـن الرافضـة‪ ،‬حتـى إنهـم دون‬
‫سـائر الطوائف عُرف منهـم شهادة الزور لموافقهـم على مخالفهـم‪ ،‬وليـس فـي التعصـب أعظـم مـن‬
‫الكذب‪ ،‬وحتـى أنهـم فـي التعصـب جعلوا للبنـت جميـع الميراث‪ ،‬ليقولوا‪ :‬إن فاطمـة رضـي ال عنهـا‬
‫ورثـت رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم دون عمـه العباس رضـي ال عنـه‪ ،‬وحتـى أن فيهـم مـن حرّم‬
‫لحــم الجمــل؛ لن عائشــة قاتلت على جمــل‪ ،‬فخالفوا كتاب ال وســنة رســوله صــلى ال عليــه وســلم‬

‫‪100‬‬
‫وإجماع الصحابة والقرابة لمر ل يناسب ذلك‪ ،‬فإن ذلك الجمل الذي ركبته عائشة رضي ال عنها‬
‫مات‪ ،‬ولو فرض أنـه حيّـ فركوب الكفّار على الجمال ل يوجـب تحريمهـا‪ ،‬ومـا زال الكفّار يركبون‬
‫جمال ويغنمها المسلمون منهم‪ ،‬ولحمها حلل لهم‪ ،‬فأي شيء في ركوب عائشة للجمل مما يوجب‬
‫تحريم لحمه؟ وغاية ما يفرضون أن بعض من يجعلونه كافرًا ركب جملً‪ ،‬مع أنهم كاذبون مفترون‬
‫فيما يرمون به أم المؤمنين رضي ال عنها‪.‬‬
‫ومععن تعصععبهم‪ :‬أنهــم ل يذكرون اســم (العشرة) بــل يقولون‪ :‬تســعة وواحــد‪ ،‬وإذا بنوا أعمدة أو‬
‫غيرها ل يجعلونها عشرة‪ ،‬وهم يتحرّون ذلك في كثير من أمورهم‪.‬‬
‫ومعن تعصعبهم‪ :‬أنهـم إذا وجدوا مسـمّى بعليّـ أو جعفـر أو الحسـن أو الحسـين بادروا إلى إكرامـه‪،‬‬
‫مع أنه قد يكون فاسقًا‪ ،‬وقد يكون في الباطن سنيًا‪ ،‬فإن أهل السنة يسمّون بهذه السماء‪ ،‬كل هذا من‬
‫التعصـب والجهـل‪ ،‬ومـن تعصـبهم وجهلهـم أنهـم يُبغضون بنـي أميـة كلهـم لكون بعضهـم كان ممـن‬
‫يبغض عليّا‪.‬‬
‫وقـد كان فـي بنـي أميـة قوم صـالحون ماتوا قبـل الفتنـة‪ ،‬وكان بنـو أميـة أكثـر القبائل عمّال للنـبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فإنـه لمـا فتـح مكـة اسـتعمل عليهـا عتّاب بـن أسـيد بـن أبـي العاصـي بـن أميـة‪،‬‬
‫واسـتعمل خالد بـن سـعيد بـن العاص بـن أميـة‪ ،‬وأخويـه أَبان بـن سـعيد وسـعيد بـن سـعيد على أعمال‬
‫أُخر‪ ،‬واستعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على نجران أو ابنه يزيد‪ ،‬ومات وهو عليها‪ ،‬وصاهر‬
‫نبي ال صلى ال عليه وسلم ببناته الثلث لبني أمية‪ ،‬فزوّج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع‬
‫بن أمية بن عبد شمس‪ ،‬وحمد صهره لما أراد عليّ أن يتزوج ببنت أبي جهل‪ ،‬فذكر صهرًا له من‬
‫بنـي أميـة بـن عبـد شمـس فأثنـى عليـه فـي مصـاهرته‪ ،‬وقال‪( :‬حدثنـي فصـدقني‪ ،‬ووعدنـي فوفّىـ لي)‪.‬‬
‫وزوّج ابنتيه لعثمان بن عفان‪ ،‬واحدة بعد واحدة‪ ،‬وقال‪( :‬لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان)‪.‬‬
‫ل مـن يبغـض عليّاـ‪،‬‬ ‫وكذلك مـن جهلهـم وتعصـبهم أنهـم يبغضون أهـل الشام‪ ،‬لكونهـم كان فيهـم أو ً‬
‫ومعلوم أن مكــة كان فيهــا كفّار ومؤمنون‪ ،‬وكذلك المدينــة كان فيهــا مؤمنون ومنافقون‪ ،‬والشام فــي‬
‫هذه العصار لم يبق فيه من يتظاهر ببغض عليّ‪ ،‬ولكن لفرط جهلهم يسحبون ذيل البغض‪ ،‬وكذلك‬
‫من جهلهم أنهم يذمون من ينتفع بشيء من آثار بني أمية‪ ،‬كالشرب من نهر يزيد‪ ،‬ويزيد لم يحفره‬
‫ولكـن وسـّعه‪ ،‬وكالصـلة فـي جامـع بناه بنـو أميـة‪ ،‬ومـن المعلوم أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم كان‬
‫يصلّي إلى الكعبة التي بناها المشركون‪ ،‬وكان يسكن في المساكن التي بنوها‪ ،‬وكان يشرب من ماء‬
‫البار التـي حفروهـا‪ ،‬ويلبـس مـن الثياب التـي نسـجوها‪ ،‬ويعامـل بالدراهـم التـي ضربوهـا‪ ،‬فإذا كان‬
‫ينتفع بمساكنهم وملبسهم‪ ،‬والمياه التي أنبطوها‪ ،‬والمساجد التي بنوها‪ ،‬فكيف بأهل القبلة؟!‬
‫فلو فرض أن يزيــد كان كافرًا وحفــر نهرًا‪ ،‬لم يكره الشرب منــه بإجماع المســلمين‪ ،‬ولكــن لفرط‬
‫تعصبهم كرهوا ما يضاف إلى من يبغضونه‪.‬‬
‫ولقـد حدثنـي ثقـة أنـه كان لرجـل منهـم كلب فدعاه آخـر منهـم‪ :‬بكيـر‪ ،‬فقال صـاحب الكلب‪ :‬أتسـمي‬
‫كلبي بأسماء أصحاب النار؟ فاقتتل على ذلك حتى جرى بينهما دم‪ .‬فهل يكون أجهل من هؤلء؟!‬
‫وأما الطريق الثاني في الجواب فنقول‪ :‬الذي عليه أئمة السلم إن كان مشروعًا لم يُترك لمجرد‬
‫فعل أهل البدع‪ ،‬ل الرافضة ول غيرهم‪ ،‬وأصول الئمة كلهم توافق هذا‪ ،‬منها مسألة التسطيح الذي‬
‫ذكرهـا‪ ،‬فإن مذهـب أبـي حنيفـة وأحمـد أن تسـنيم القبور أفضـل‪ ،‬كمـا ثبـت فـي الصـحيح أن قـبر النـبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم كان مسـّنمًا‪ ،‬ولن ذلك أبعـد عـن مشابهـة أبنيـة الدنيـا‪ ،‬وأمنـع عـن القعود على‬
‫القبور‪ ،‬والشافعــي يســتحب التســطيح لمــا رُوي مــن المــر بتســوية القبور‪ ،‬فرأى أن التســوية هــي‬

‫‪101‬‬
‫التسطيح‪ ،‬ثم إن بعض أصحابه قال‪ :‬إن هذا شعار الرافضة فيُكره ذلك‪ ،‬فخالفه جمهور الصحاب‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة‪.‬‬
‫وكذلك الجهـر بالبسـملة هـو مذهـب الرافضـة‪ ،‬وبعـض الناس تكلّم فـي الشافعـي بسـببها‪ ،‬وبسـبب‬
‫القنوت‪ ،‬ونســبه إلى قول الرافضــة والقدريــة‪ ،‬لن المعروف فــي العراق أن الجهــر كان مــن شعار‬
‫الرافضـة‪ ،‬وأن القنوت فـي الفجـر كان مـن شعار القدريـة الرافضـة‪ ،‬حتـى أن سـفيان الثوري وغيره‬
‫مـن الئمـة يذكرون فـي عقائدهـم ترك الجهـر بالبسـملة‪ ،‬لنـه كان عندهـم مـن شعار الرافضـة‪ ،‬كمـا‬
‫يذكرون المسح على الخفين؛ لن تركه كان من شعار الرافضة‪ ،‬ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا‬
‫هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة‪.‬‬
‫وكذلك إحرام أهـل العراق مـن العقيـق يسـتحب عنده‪ ،‬وإن كان ذلك مذهـب الرافضـة‪ ،‬ونظائر هذا‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬مـع أنهـم ابتدعوا أشياء‪ ،‬واعترفوا بأنهـا بدعـة‪ ،‬وأن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫قال‪( :‬كل بدعة ضللة‪ ،‬وكل ضللة فإن مصيرها النار)‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬من أدخل في‬
‫ديننــا مــا ليــس منــه فهــو ردّ)‪ ،‬ولو ردوا عنهــا كرهتــه نفوســهم ونفرت قلوبهــم‪ ،‬كذكــر الخلفاء فــي‬
‫خطبهـم‪ ،‬مـع أنـه بالجماع لم يكـن فـي زمـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ول فـي زمـن أحـد مـن‬
‫الصــحابة والتابعيــن‪ ،‬ول فــي زمــن بنــي أميــة‪ ،‬ول فــي صــدر وليــة العباســيين‪ ،‬بــل شيــء أحدثــه‬
‫المنصور لما وقع بينه وبين العلوية خلف‪ ،‬فقال‪:‬وال لرغمن أنفي وأنوفهم وأرفع عليهم بني تيم‬
‫وعدي‪ ،‬وذكر الصحابة في خطبته‪ ،‬واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬الجواب مععن وجوه‪ :‬أحدهععا‪ :‬أن ذكــر الخلفاء على المنــبر كان على عهــد عمــر بــن عبــد‬
‫العزيز‪ ،‬بل قد رُوي أنه كان على عهد عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪.‬‬
‫الوجعه الثانعي‪ :‬أنعه قيعل‪ :‬إن عمـر بـن عبـد العزيـز ذكـر الخلفاء الربعـة لمـا كان بعـض بنـي أميـة‬
‫يسبّون عليًا‪ ،‬فعوّض عن ذلك بذكر الخلفاء والترضّي عنهم‪ ،‬ليمحو تلك السنة الفاسدة‪.‬‬
‫الوجعه الثالث‪ :‬أن مـا ذكره مـن إحداث المنصـور وقصـده بذلك باطـل‪ ،‬فإن أبـا بكـر وعمـر رضـي‬
‫ال عنهما توليا الخلفة قبل المنصور وقبل بني أمية‪ ،‬فلم يكن في ذكر المنصور لهما إرغام لنفه‬
‫ول لنوف بني عل يّ‪ ،‬إل لو كان بعض بني تيْم أو بعض بني عدي ينازعهم الخلفة‪ ،‬ولم يكن أحد‬
‫من هؤلء ينازعهم فيها‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪ :‬أن أهل السنة ل يقولون‪ :‬إن ذكر الخلفاء الربعة في الخطبة فر ضٌ‪ ،‬بل يقولون‪:‬‬
‫إن القتصـار على عليّـ وحده‪ ،‬أو ذكـر الثنـى عشـر هـو البدعـة المنكرة التـي لم يفعلهـا أحـد‪ ،‬ل مـن‬
‫الصـحابة ول مـن التابعيـن‪ ،‬ول مـن بنـي أميـة‪ ،‬ول مـن بنـي العباس‪ ،‬كمـا يقولون‪ :‬إن سـب عليّـ أو‬
‫غيره مـن السـلف بدعـة منكرة‪ ،‬فإن كان ذكـر الخلفاء الربعـة بدعـة‪ ،‬مـع أن كثيرًا مـن الخلفاء فعلوا‬
‫ذلك‪ ،‬فالقتصار على عل يّ‪ ،‬مع أنه لم يسبق إليه أحد من المة أوْلى أن يكون بدعة‪ ،‬وإن كان ذكر‬
‫عليّ لكونـه أميـر المؤمنيـن مسـتحبًا‪ ،‬فذكـر الربعـة الذيـن هـم الخلفاء الراشدون أوْلى بالسـتحباب‪،‬‬
‫لكن الرافضة من المطففين‪ :‬يرى أحدهم القَذَاة في عيون أهل السنة‪ ،‬ول يرى الجذع المعترض في‬
‫عينه‪.‬‬
‫ل على‬ ‫ومـن المعلوم أن الخلفاء الثلثـة اتفـق عليهـم المسـلمون‪ ،‬وكان السـيف فـي زمانهـم مسـلو ً‬
‫الكفار‪ ،‬مكفوفًا عـن أهـل السـلم‪ ،‬وأمـا عليّـ فلم يتفـق المسـلمون على مبايعتـه‪ ،‬بـل وقعـت الفتنـة تلك‬

‫‪102‬‬
‫ل على أهـل السـلم‪ ،‬فاقتصـار المقتصـر‬ ‫المدة‪ ،‬وكان السـيف فـي تلك المدة مكفوفـا عـن الكفار مسـلو ً‬
‫على ذكر عل يّ وحده دون من سبقه‪ ،‬هو ترك لذكر الئمة وقت اجتماع المسلمين وانتصارهم على‬
‫عدوهم‪ ،‬واقتصار على ذكر المام الذي كان إمامًا وقت افتراق المسلمين وطلب عدوهم لبلدهم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وكمسـح الرجليـن الذي نصّـ ال تعالى عليـه فـي كتابـه العزيـز‪ ،‬فقال‪(( :‬فاْغسِعلُوا‬
‫جلَكُمعْ ِإلَى الْ َك ْعبَيْن))[المائدة‪ ،]6:‬وقال ابــن‬
‫وُجُوهَكُم ْع وََأيْ ِديَكُم إِلَى ا ْل َمرَافِقِع وَامْسعَحُوا ِب ُرؤُوسعِكُ ْم وََأرْ ُ‬
‫عباس‪( :‬عضوان مغسولن‪ ،‬وعضوان ممسوحان‪ ،‬فغيروه وأوجبوا الغسل)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬الذيـن نقلوا عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم الوضوء قولً وفعلً‪ ،‬والذيـن تعلّموا الوضوء‬
‫منـه وتوضؤوا على عهده‪ ،‬وهـو يراهـم ويقرهـم عليـه ونقلوه إلى مـن بعدهـم‪ ،‬أكثـر عددًا مـن الذيـن‬
‫نقلوا لفـظ هذه اليـة‪ ،‬فإن جميـع المسـلمين كانوا يتوضئون على عهده‪ ،‬ولم يتعلموا الوضوء إل منـه‬
‫صلى ال عليه وسلم ؛ فإن هذا العمل لم يكن معهودًا عندهم في الجاهلية‪ ،‬وهم قد رأوه يتوضأ ما ل‬
‫يحصى عدده إل ال تعالى‪ ،‬ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء ال من الحديث‪ ،‬حتى نقلوا عنه‬
‫مــن غيــر وجــه فــي الصــحاح وغيرهــا أنــه قال‪( :‬ويــل للعقاب وبطون القدام مــن النار)‪ ،‬مــع أن‬
‫الفرض إذا كان مسـح ظهـر القدم‪ ،‬كان غسـل الجميـع كلفـة ل تدعـو إليهـا الطباع‪ ،‬كمـا تدعـو الطباع‬
‫إلى طلب الرياســة والمال‪ ،‬فإن جاز أن يقال‪ :‬إنهــم كذبوا وأخطئوا فيمــا نقلوه عنــه مــن ذلك‪ ،‬كان‬
‫الكذب والخطأ فيما نُقل من لفظ الية أقرب إلى الجواز‪.‬‬
‫وإن قيل‪ :‬بل لفظت الية بالتواتر الذي ل يمكن الخطأ فيه‪ ،‬فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه‬
‫أوْلى وأكمـل‪ ،‬ولفـظ اليـة ل يخالف مـا تواتـر مـن السـنّة‪ ،‬فإن المسـح جنـس تحتـه نوعان‪ :‬السـالة‪،‬‬
‫وغيـر السـالة‪ ،‬كمـا تقول العرب‪ :‬تمسـّحت للصـلة‪ ،‬فمـا كان بالسـالة فهـو الغسـل‪ ،‬وإذا خـص أحـد‬
‫النوعيـن باسـم الغسـل فقـد يخـص النوع الخـر باسـم المسـح‪ ،‬فالمسـح يُقال على المسـح العام الذي‬
‫يندرج فيه الغسل‪ ،‬ويُقال على الخاص الذي ل يندرج فيه الغسل‪.‬‬
‫وفي القرآن ما يدل على أنه لم يُرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل‪ ،‬بل المسح الذي‬
‫الغسل قسم منه ؛ فإنه قال‪( :‬إلى الكعبين) ولم يقل‪ :‬إلى الكعاب‪ ،‬كما قال‪( :‬إلى المرافق)‪ ،‬فدل على‬
‫أنه ليس في كل رجل كعب واحد‪ ،‬كما في كل يد مرفق واحد‪ ،‬بل في كل رجل كعبان‪ ،‬فيكون تعالى‬
‫قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين‪ ،‬وهذا هو الغسل‪ ،‬فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح‬
‫لظهور القدمين‪ ،‬وفي ذكره الغسل في العضوين الوّليْن والمسح في الخرين‪ ،‬التنبيه على أن هذين‬
‫العضويـن يجـب فيهمـا المسـح العام‪ ،‬فتارة يُجزئ المسـح الخاص‪ ،‬كمـا فـي مسـح الرأس والعمامـة‬
‫والمسح على الخفين‪ ،‬وتارة ل بد من المسح الكامل الذي هو غسل‪ ،‬كما في الرجلين المكشوفتين‪.‬‬
‫وقــد تواترت الســنة عــن النــبي صــلى ال عليــه وســلم بالمســح على الخفيــن وبغســل الرجليــن‪،‬‬
‫والرافضـة تخالف هذه السـنة المتواترة‪ ،‬كمـا تخالف الخوارج نحـو ذلك‪ ،‬ممـا يتوهمون أنـه مخالف‬
‫لظاهر القرآن‪ ،‬بل تواتر غسل الرجلين والمسح على الخفين عن النبي صلى ال عليه وسلم أعظم‬
‫من تواتر قطع اليد في ربع دينار‪ ،‬أو ثلثة دراهم‪ ،‬أو عشرة دراهم‪ ،‬أو نحو ذلك‪.‬‬
‫وفي الجملة فالقرآن ليس فيه نفي إيجاب الغسل‪ ،‬بل فيه إيجاب المسح‪ ،‬فلو قدّر أن السنة أوجبت‬
‫قدرًا زائدًا على مــا أوجبــه القرآن لم يكــن فــي هذا رفعًا لموجــب القرآن‪ ،‬فكيــف إذا فسـّرته وبيّنــت‬
‫معناه؟ وهذا مبسوط في موضعه‪.‬‬
‫(فصععل)‬

‫‪103‬‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وكالمتعتيـن اللتيـن ورد بهمـا القرآن‪ ،‬فقال فـي متعـة الحـج‪(( :‬فمنْع َتمَتّعَع بِا ْل ُعمْرَ ِة‬
‫سرَ مِنَع ا ْلهَدْي))[البقرة‪ ]196:‬وتأسـّف النـبي صـلى ال عليـه وسـلم على فواتهـا لمـا‬ ‫ِإلَى الْحَجّ فَمَا اسْعَتيْ َ‬
‫حجّ قارنا‪ ،‬وقال‪( :‬لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدي) وقال في متعة النساء‪(( :‬فما‬
‫اْسعَتمْتَ ْعتُ ْم بِهِع ِمنْهُنّ َف ْأتُوهُنّ أُجُورَهُنّ َفرِيضَة))[النسـاء‪ ]24:‬واسـتمرت فعلهمـا مدة زمان النـبي صـلى‬
‫ال عليه وسلم ومدة خلفة أبي بكر‪ ،‬وبعض خلفة عمر‪ ،‬إلى أن صعد المنبر‪ ،‬وقال‪( :‬متعتان كانتا‬
‫محللتين على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما)‪.‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬أما متعة الحج فمتفق على جوازها بين أئمة المسلمين‪ ،‬ودعواه أن أهل السنة‬
‫ابتدعوا تحريمهـا كذب عليهـم‪ ،‬بـل أكثـر علماء السـنة يسـتحبون المتعـة ويرجّحونهـا أو يوجبونهـا‪،‬‬
‫والمتعة اسم جامع لمن اعتمر في أشهر الحج وجمع بينها وبين الحج في سفر واحد‪ ،‬سواء حلّ من‬
‫إحرامـه بالعمرة ثـم أحرم بالحـج‪ ،‬أو أحرم بالحـج قبـل طوافـه بالبيـت وصـار قارنًا‪ ،‬أو بعـد طوافـه‬
‫بالبيـت وبيـن الصـفا والمروة قبـل التحلل مـن إحرامـه لكونـه سـاق الهدي أو مطلقًا‪ .‬وقـد يراد بالمتعـة‬
‫مجرد العمرة في أشهر الحج‪.‬‬
‫وأكثر العلماء كأحمد وغيره من فقهاء الحديث‪ ،‬وأبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق‪ ،‬والشافعي‬
‫في أحد ق ْولَيه‪ ،‬وغيره من فقهاء مكة يستحبون المتعة‪.‬‬
‫حلّ لَكُمْع‬ ‫وأمـا متعة النساء المتنازع فيها فليـس فـي الية نصّـ صريح بحلها‪ ،‬فإنه تعالى قال‪(( :‬وَأُ ِ‬
‫غ ْيرَ مُس عَافِحِين فَمَا اس ْع َت ْمتَ ْعتُمْ بِه عِ ِم ْنهُنّ فَآتُوهُنّ‬ ‫مَا َورَاءَ َذلِكُم أَن ْع َت ْبتَغُوا بِ َأ ْموَالِكُم مُحْص ِعنِينَ َ‬
‫حكِيمًا *‬ ‫عَليْكُمْع فِيمَا َترَاضَ ْيتُم بِهِع مِنْع بَعْدِ الْ َفرِيضَة إِنّ الَ كَانَع عَلِيمًا َ‬‫جنَاحَع َ‬ ‫ضةً وَلَ ُ‬ ‫أُجُورَهُنّ َفرِي َ‬
‫طوْلً أَن ْع يَنْكِحعَ ا ْلمُحْصعَنَاتِ ا ْل ُم ْؤمِنَاتعِ))[النســاء‪ ]25-24:‬اليــة‪ .‬فقوله‪(( :‬فَمَا‬ ‫َومَنعْ لّم ْع يَسعْتَطِ ْع ِمنْكُمعْ َ‬
‫اسْعتَ ْمتَ ْعتُ ْم بِهِع ِمنْهُنّ))[النسـاء‪ ]24:‬يتناول كـل مـن دخـل بهـا مـن النسـاء‪ ،‬فإنـه أمـر بأن يعطـى جميـع‬
‫الصداق‪ ،‬بخلف المطلّقة قبل الدخول التي لم يستمتع بها فإنها ل تستحق إل نصفه‪.‬‬
‫وهذا كقوله تعالى‪(( :‬وَ َكيْفعَع تَأْخُذُونَهعُع وَقَدْ َأفْضَعى بَ ْعضُكُمععْ إِلَى بَعْضعٍع وََأخَذْنعَع مِنْكُمع ْع مِيثَاقًعا‬
‫غلِيظًا))[النساء‪ ]21:‬فجعل الفضاء مع العقد موجبًا لستقرار الصداق‪ ،‬يبيّن ذلك أنه ليس لتخصيص‬ ‫َ‬
‫النكاح المؤقـت بإعطاء الجـر فيـه دون النكاح المؤبـد معنـى‪ ،‬بـل إعطاء الصـداق كاملً فـي المؤبـد‬
‫أوْلى‪ ،‬فل بد أن تدل الية على المؤبد‪ :‬إما بطريق التخصيص‪ ،‬وإما بطريق العموم‪.‬‬
‫يدل على ذلك أنـه ذكـر بعـد هذا نكاح الماء‪ ،‬فعُلم أن مـا ذُكـر كان فـي نكاح الحرائر مطلقًا‪ ،‬فإن‬
‫سمّى))[النساء‪ ]24:‬قيل‪ :‬أوّل‪:‬‬ ‫ج ٍل مُ َ‬‫قيل‪ :‬ففي قراءة طائفة من السلف‪(( :‬فما اْس َتمْتَ ْعتُ ْم بِ ِه مِ ْنهُنّ إِلَى أَ َ‬
‫ليســت هذه القراءة متواترة‪ ،‬وغايتهــا أن تكون كأخبار الحاد‪ ،‬ونحــن ل ننكــر أن المتعــة أحلت فــي‬
‫أوّل السلم‪ ،‬لكن الكلم في دللة القرآن على ذلك‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يقال‪ :‬هذا الحرف إن كان نزل‪ ،‬فل ريب أنه ليس ثابتًا من القراءة المشهورة‪ ،‬فيكون‬
‫حرّمــت نســخ هذا الحرف‪ ،‬ويكون المــر‬ ‫منســوخًا‪ ،‬ويكون نزوله لمــا كانــت المتعــة مباحــة‪ ،‬فلمــا ُ‬
‫باليتاء فـي الوقـت تنبيهـا على اليتاء فـي النكاح المطلق‪ ،‬وغايـة مـا يقال‪ :‬إنهمـا قراءتان‪ ،‬وكلهمـا‬
‫حـق‪ ،‬والمـر باليتاء فـي السـتمتاع إلى أجـل مسـمّى واجـب إذا كان ذلك حللً‪ ،‬وإنمـا يكون ذلك إذا‬
‫كان السـتمتاع إلى أجـل مسـمّى حللً‪ ،‬وهذا كان فـي أول السـلم‪ ،‬فليـس فـي اليـة مـا يدل على أن‬
‫الستمتاع بها إلى أجل مسمّى حلل‪ ،‬فإنه لم يقل‪ :‬وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمّى‪ ،‬بل‬
‫قال‪(( :‬فمعا اْسعتَ ْمتَ ْعتُ ْم بِهِع ِم ْنهُنّ فَآتُوهُنّ ُأجُورَهُنّ))[النسـاء‪ ]24:‬فهذا يتناول مـا وقـع مـن السـتمتاع‪:‬‬
‫سواء كان حللً‪ ،‬أو كان في وطء شبهة‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫ل المتعـة و َف َعلَهـا فعليه‬ ‫ولهذا يجب المهـر في النكاح الفاسـد بالسنة والتفاق‪ ،‬والمتمتع إذا اعتقـد ح ّ‬
‫المهر‪ ،‬وأما الستمتاع المحرّم فلم تتناوله الية؛ فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها‪،‬‬
‫لكان زنًا‪ ،‬ول مهر فيه‪ ،‬وإن كانت مستكرهة‪ ،‬ففيه نزاع مشهور‪.‬‬
‫وأمـا ما ذكره من نهـي عمـر عـن متعـة النساء‪ ،‬فقـد ثبت عن النـبي صلى ال عليه وسـلم أنـه حرّم‬
‫متعـة النسـاء بعـد الحلل‪ .‬هكذا رواه الثقات فـي الصـحيحين وغيرهمـا عـن الزهري عـن عبـد ال‬
‫والحسـن ابنـي محمـد بـن الحنفيـة عـن أبيهمـا محمـد بـن الحنفيـة‪ ،‬عـن علي بـن أبـي طالب رضـي ال‬
‫عنـه‪ ،‬أنـه قال لبـن عباس رضـي ال عنـه لمـا أباح المتعـة‪ :‬إنـك امرؤ تائه‪ ،‬إن رسـول ال صـلى ال‬
‫عليه وسلم حرّم المتعة ولحوم الحمر الهلية عام خيبر(‪ )1‬رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة‬
‫وأحفظهم لها‪ ،‬أئمة السلم في زمنهم‪ ،‬مثل‪ :‬مالك بن أنس‪ ،‬وسفيان بن عيينة وغيرهما‪ ،‬ممن اتفق‬
‫المسـلمون على علمهـم وعدلهـم وحفظهـم‪ ،‬ولم يختلف أهـل العلم بالحديـث فـي أن هذا حديـث صـحيح‬
‫متلقى بالقبول‪ ،‬ليس في أهل العلم من طعن فيه‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وكذلك ثبـت فـي الصـحيح أنـه حرّمهـا فـي غزاة الفتـح إلى يوم القيامـة ‪ ،‬وقـد تنازع رواة حديـث‬
‫حمُر فقط أو له ولتحريم المتعة؟ فالول‬ ‫عليّ رضي ال عنه‪ :‬هل قوله‪( :‬عام خيبر) توقيت لتحريم ال ُ‬
‫قول ابن عيينة وغيره‪ ،‬قالوا‪ :‬إنما حرّمت عام الفتح‪ ،‬ومن قال بالخر قال‪ :‬إنها حرّمت ثم أحلّت ثم‬
‫حرّمت‪ ،‬وادعت طائفة ثالثة أنها أحلّت بعد ذلك‪ ،‬ثم حرّمت في حجة الوداع‪.‬‬
‫فالروايات المسـتفيضة المتواترة متواطئة على أنـه حرّم المتعـة بعـد إحللهـا‪ ،‬والصـواب أنهـا بعـد‬
‫أن حرّمت لم تُحل‪ ،‬وأنها إنما حرّمت عام فتح مكة ولم تُحل بعد ذلك‪ ،‬ولم تحرّم عام خيبر‪ ،‬بل عام‬
‫حمُر الهليـة‪ ،‬وكان ابـن عباس يبيـح المتعـة ولحوم الحُمُر فأنكـر علي بـن أبـي‬ ‫خيـبر حرّمـت لحوم ال ُ‬
‫طالب رضـي ال عنـه ذلك عليـه‪ ،‬وقال له‪ :‬إن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم حرّم متعـة النسـاء‬
‫وحرّم لحوم الحمر يوم خيبر‪ ،‬فقرن عليّ رضي ال عنه بينهما في الذكر لما روى ذلك لبن عباس‬
‫رضـي ال عنهمـا؛ لن ابـن عباس كان يبيحهمـا‪ ،‬وقـد روي عـن ابـن عباس رضـي ال عنـه أنـه رجـع‬
‫عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما‪.‬‬
‫فأهل السنة اتبعوا عليًا وغيره من الخلفاء الراشدين فيما رووه عن النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫والشيعة خالفوا عليّا فيما رواه عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واتبعوا قول من خالفه‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فإن ال تعالى إنما أباح في كتابه الزوجة وملك اليمين‪ ،‬والمتمتع بها ليست واحدة منهما‪،‬‬
‫فإنهـا لو كانـت زوجـة لتوارثـا‪ ،‬ولوجبـت عليهـا عدة الوفاة‪ ،‬ولحقهـا الطلق الثلث ؛ فإن هذه أحكام‬
‫الزوجـة فـي كتاب ال تعالى‪ ،‬فلمـا انتفـى عنهـا لوازم النكاح دل على انتفاء النكاح‪ ،‬فإن انتفاء اللزم‬
‫يقتضي انتفاء الملزوم‪ ،‬وال تعالى إنما أباح في كتابه الزواج وملك اليمين‪ ،‬وحرّم ما زاد على ذلك‬
‫غ ْيرُ‬
‫جهِمْع َأ ْو مَا مََلكَتْع َأ ْيمَانُهمْع فَ ِإ ّنهُمْع َ‬
‫علَى َأ ْزوَا ِ‬
‫جهِمْع حَافِظُون * إِلّ َ‬‫بقوله تعالى‪(( :‬وَالّذِينَع هُمْع لِ ُفرُو ِ‬
‫مَلُومِين * َفمَنْ ا ْبتَغَى َورَاءَ ذَِلكَ فَُأ ْوَلئِكَ هُمُ الْعَادُون))[المؤمنون‪.]7-5:‬‬
‫والمسـتمتع بهـا بعـد التحريـم ليسـت زوجـة ول ملك يميـن‪ ،‬فتكون حرامًا بنـص القرآن‪ ،‬أمـا كونهـا‬
‫ليسـت مملوكـة فظاهـر‪ ،‬وأمـا كونهـا ليسـت زوجـة فلنتفاء لوازم النكاح فيهـا‪ ،‬فإن مـن لوازم النكاح‬
‫كونه سببًا للتوارث وثبوت عدة الوفاة فيه‪ ،‬والطلق الثلث‪ ،‬وتنصيف المهر بالطلق قبل الدخول‪،‬‬
‫وغير ذلك من اللوازم‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )7/12‬ومسلم (‪.)2/1027‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صحيح مسلم (‪.)2/1026‬‬

‫‪105‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت‪ :‬يا ابن أبي قحافة‪ ،‬أترث أباك ول أرث أبي؟‬
‫والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها –وكان هو الغريم لها لن الصدقة تحل ّله– لن النبي صلى ال‬
‫عليـه وسـلم قال‪( :‬نحـن معاشـر النـبياء ل نُورث‪ ،‬مـا تركناه صـدقة) على أن مـا رووه عنـه فالقرآن‬
‫حظّ ا ُلنْ َثيَي نْ))[النساء‪ .]11:‬ولم‬ ‫يخالف ذلك‪ ،‬لن ال تعالى قال‪(( :‬يوصيكمُ الُ فِي َأوْلدِكُم لِلذّ َك ِر ِم ْثلُ َ‬
‫يجعــل ال ذلك خاصـًا بالمــة دونــه صــلى ال عليــه وســلم‪ ،‬وكذّب روايتهــم‪ ،‬فقال تعالى‪َ (( :‬و َورِثعَ‬
‫سُعَل ْيمَانَ دَاوُد))[النمـل‪ ]16:‬وقال تعالى عـن زكريـا‪(( :‬وَإِنّيع خِفْتُع ا ْل َموَالِيَع مِنْع َورَائِي وَكَانَتِع ا ْمرََأتِي‬
‫ن آلِ يَعْقُوب))[مريم‪.)]6-5:‬‬ ‫ث مِ ْ‬
‫ك وَ ِليّا * َي ِرثُنِي وَ َيرِ ُ‬
‫عَا ِقرًا َفهَبْ لِي مِنْ لّ ُدنْ َ‬
‫والجواب عن ذلك من وجوه‪ :‬أحدها‪ :‬أن ما ذكر من قول فاطمة رضي ال عنها‪ :‬أترث أباك ول‬
‫أرث أبـي؟ ل يُعلم صـحته عنهـا‪ ،‬وإن صـح فليـس فيـه حجـة‪ ،‬لن أباهـا صـلوات ال وسـلمه عليـه ل‬
‫يُقاس بأحد من البشر‪ ،‬وليس أبو بكر أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم كأبيها‪ ،‬ول هو ممن حرّم ال عليه‬
‫صدقة الفرض والتطوع كأبيها‪ ،‬ول هو أيضًا ممن جعل ال محبته مقدمة على محبة الهل والمال‪،‬‬
‫كما جعل أباها كذلك‪.‬‬
‫والفرق بيــن النــبياء وغيرهــم أن ال تعالى صــان النــبياء على أن يورّثوا دنيًا‪ ،‬لئل يكون ذلك‬
‫شبهـة لمـن يقدح فـي نبوتهـم بأنهـم طلبوا الدنيـا وخلفوهـا لورثتهـم‪ ،‬وأمـا أبـو بكـر الصـديق وأمثاله فل‬
‫نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك‪ ،‬كما صان ال تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة‪،‬‬
‫وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة‪.‬‬
‫الثانععي‪ :‬أن قوله‪( :‬والتجـأ فـي ذلك إلى روايـة انفرد بهـا) كذب ؛ فإن قول النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم‪( :‬ل نُورَثـُ‪ ،‬مـا تركنـا فهـو صـدقة) رواه عنـه أبـو بكـر وعمـر وعثمان وعليّـ وطلحـة والزبيـر‬
‫وسـعد وعبـد الرحمـن بـن عوف والعباس بـن عبـد المطلب وأزواج النـبي صـلى ال عليـه وسـلم وأبـو‬
‫هريرة‪ ،‬والروايـة عـن هؤلء ثابتـة فـي الصـحاح والمسـانيد‪ ،‬مشهورة يعلمهـا أهـل العلم بالحديـث(‪،)1‬‬
‫فقول القائل‪ :‬إن أبا بكر انفرد بالرواية‪ ،‬يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬قوله‪( :‬وكان هـو الغريـم لهـا) كذب‪ ،‬فإن أبـا بكـر رضـي ال عنـه لم يدع هذا المال لنفسـه‬
‫ول لهل بيته‪ ،‬وإنما هو صدقة لمستحقيها كما أن المسجد حق للمسلمين‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن الصديق رضي ال عنه لم يكن من أهل هذه الصدقة‪ ،‬بل كان مستغنيًا عنها‪ ،‬ول انتفع‬
‫هو ول أحد من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كما لو شهد قوم من الغنياء على رجل أنه و صّى بصدقة‬
‫للفقراء ؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالتفاق‪.‬‬
‫الخامعس‪ :‬أن هذا لو كان فيـه مـا يعود نفعـه على الراوي له مـن الصـحابة لقُبلت روايتـه؛ لنـه مـن‬
‫باب الروايـة ل مـن باب الشهادة‪ ،‬والمحدّث إذا حدّث بحديـث فـي حكومـة بينـه وبيـن خصـمه قُبلت‬
‫روايتـه للحديـث‪ ،‬لن الروايـة تتضمـن حكمًا عامًا يدخـل فيـه الراوي وغيره‪ ،‬وهذا مـن باب الخـبر‪،‬‬
‫كالشهادة برؤية الهلل ؛ فإن ما أمر به النبي صلى ال عليه وسلم يتناول الراوي وغيره‪ ،‬وكذلك ما‬
‫نهى عنه‪ ،‬وكذلك ما أباحه‪.‬‬
‫وهذا الحديــث تضمّنـ روايــة بحكــم شرعــي‪ ،‬ولهذا تضمــن تحريــم الميراث على ابنــة أبــي بكــر‬
‫عائشة رضي ال عنها‪ ،‬وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتّهابه لذلك منهم‪ ،‬وتضمن‬
‫وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري‪ ،)4/79( :‬ومسلم‪).)3/1376( :‬‬

‫‪106‬‬
‫السادس‪ :‬أن قوله‪( :‬على أن ما رووه فالقرآن يخالف ذلك‪ ،‬لن ال تعالى قال‪(( :‬يوصيكمُ الُ فِي‬
‫لمّةـ دونـه صـلى ال عليـه‬ ‫َأوْلَ ِدكُمْع لِلّذَ َك ِر مِ ْثلُ حَظّ ا ُل ْنثَيَيْن))[النسـاء‪ ]11:‬ولم يجعـل ال ذلك خاصـًا با ُ‬
‫وسلم)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أولً‪ :‬ليس في عموم لفظ الية ما يقتضي أن النبي صلى ال عليه وسلم يورث‪ ،‬فإن ال‬
‫ن ثُُلثَا‬‫ن ِنسَاءً َفوْقَ ا ْثنَ َتيْنِ فَ َل ُه ّ‬ ‫حظّ ا ُل ْنثَ َييْن َفإِنْ ُك ّ‬ ‫تعالى قال‪(( :‬يوصيكمُ الُ فِي َأوْلَ ِدكُمْ ِللّذَ َك ِر ِم ْثلُ َ‬
‫س ِممّا تَرَكَ إِنْ كَانَ َلهُ َولَدٌ‬ ‫صفُ وَ َل َب َويْهِ ِل ُكلّ وَاحِ ٍد ِم ْنهُمَا السّدُ ُ‬ ‫ت وَاحِدَةً فَ َلهَا ال ّن ْ‬ ‫مَا َترَك وَإِنْ كَانَ ْ‬
‫ل ّمهِ السُدُس))[النساء‪ ]11:‬وفي الية‬ ‫خوَةٌ فَ ُ‬
‫ل ّمهِ الثّلُثُ فَإِنْ كَانَ َلهُ إِ ْ‬ ‫فَِإنْ َل ْم يَكُنْ َلهُ وََل ٌد َو َورِ َثهُ َأبَوَاهُ فَ ُ‬
‫ن وَلَدٌ فََلكُمُ ال ّربُ ُع ِممّا‬ ‫ن َولَد َفإِنْ كَانَ َلهُ ّ‬ ‫ف مَا َترَكَ َأ ْزوَاجُ ُكمْ إِنْ لمَ ْيَكُن َلهُ ّ‬ ‫ص ُ‬ ‫الخرى‪(( :‬وَلَ ُك ْم نِ ْ‬
‫ن غي َر ُمضَارّ))[النساء‪.]12:‬‬ ‫صيّ ٍة يُوصَى ِبهَا َأوْ َديْ ٍ‬ ‫ن بَعْ ِد َو ِ‬
‫َترَكْن)) ‪-‬إلى قوله‪(( -‬م ْ‬
‫وهذا الخطاب شامـل للمقصـودين بالخطاب وليـس فيـه مـا يوجـب أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫مخاطب بها‪.‬‬
‫الوجعه السعابع‪ :‬أن يقال‪ :‬كون النـبي صـلى ال عليـه وسـلم ل يُورث‪ ،‬ثبـت بالسـنة المقطوع بهـا‬
‫وبإجماع الصـحابة وكل منهمـا دليـل قطعي‪ ،‬فل يُعارض ذلك بمـا يُظن أنه العموم‪ ،‬وإن كان عمومًا‬
‫فهـــو مخصـــوص‪ ،‬لن ذلك لو كان دليلً لمـــا كان إل ظنيًــا‪ ،‬فل يعارض القطعـــي ؛ إذ الظنـــى ل‬
‫يعارض القطعي‪.‬‬
‫وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس‪ ،‬وليس فيهم من ينكره‪ ،‬بل‬
‫كلهـم تلقّاه بالقبول والتصـديق‪ ،‬ولهذا لم يُصـرّ أحـد مـن أزواجـه على طلب الميراث‪ ،‬ول أصـ ّر العـم‬
‫على طلب الميراث‪ ،‬بـل مـن طلب مـن ذلك شيئا فأخـبر بقول النـبي صـلى ال عليـه وسـلم رجـع عـن‬
‫طلبه‪ ،‬واستمر المر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ‪ ،‬فلم يغير شيئا من ذلك ول قسم‬
‫له تركة‪.‬‬
‫الوجعه الثامعن‪ :‬أن يقال‪ :‬إن أبـا بكـر وعمـر قد أعطيـا عليّا وأولده مـن المال أضعاف أضعاف مـا‬
‫خلّفـه النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـن المال‪ ،‬والمال الذي خلّفـه النـبي صـلى ال عليـه وسـلم لم ينتفـع‬
‫واحد منهما منه بشيء‪ ،‬بل سلّمه عمر إلى علي والعباس رضي ال عنهم يليانه ويفعلن فيه ما كان‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم يفعله‪ ،‬وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك‪.‬‬
‫الوجه التاسع‪ :‬أن قوله تعالى‪َ (( :‬و َورِ ثَ سُ َل ْيمَانَ دَاوُد))[النمل‪ ]16:‬وقوله تعالىعن زكريا‪(( :‬فه بْ‬
‫لِي مِنْع لّ ُدنْكَع وَ ِليّاع * َي ِرثُنِي َو َيرِثُع مِنْع آ ِل يَعْقُوب))[مريـم‪ ]6-5:‬ل يدل على محـل النزاع؛ لن الرث‬
‫اســم جنــس تحتــه أنواع‪ ،‬والدال على مــا بــه الشتراك ل يدل على مــا بــه المتياز‪ ،‬فإذا قيــل‪ :‬هذا‬
‫حيوان‪ ،‬ل يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير‪.‬‬
‫وذلك أن لفظ‪( :‬الرث) يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع النتقال‪ ،‬قال‬
‫عبَا ِدنَا))[فاطر‪.]32:‬‬ ‫تعالى‪(( :‬ثمّ َأ ْو َرثْنَا الْ ِكتَابَ الّذِينَ اصْطَ َفيْنَا مِنْ ِ‬
‫ه مْ فِيهَا خَالِدُون))[المؤمنون‪]11-10:‬‬ ‫ن َي ِرثُو نَ الْ ِفرْ َدوْ سَ َ‬ ‫وقال تعالى‪ُ(( :‬أوْ َلئِ كَ ُه مُ الوَا ِرثُو نَ * الّذِي َ‬
‫وغيرها كثير في القرآن‪.‬‬
‫وقال النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬إن النـبياء لم يورثوا دينارًا ول درهمـا‪ ،‬وإنمـا ورثوا العلم‪،‬‬
‫فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود وغيره(‪.)1‬‬
‫الوجععه العاشععر‪ :‬أن يقال‪ :‬المراد بهذا الرث إرث العلم والنبوة ونحــو ذلك ل إرث المال؛ وذلك‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬سنن أب داود‪ ،)3/432( :‬والترمذي‪ )4/153( :‬وغيها‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫لنـه قال‪َ (( :‬و َورِثَع سُعَل ْيمَانَ دَاوُد))[النمــل‪ ،]16:‬ومعلوم أن داود كان له أولد كثيرون غيـر سـليمان‪،‬‬
‫فل يختص سليمان بماله‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فليـس فـي كونـه ورث ماله صـفة مدح‪ ،‬ل لداود ول لسـليمان‪ ،‬فإن اليهودي والنصـراني‬
‫يرث ابنه ماله‪ ،‬والية سيقت في بيان المدح لسليمان‪ ،‬وما خصه ال به من النعمة‪.‬‬
‫وأيضًعا‪ :‬فإرث المال هــو مــن المور العاديــة المشتركــة بيــن الناس‪ ،‬كالكــل‪ ،‬والشرب‪ ،‬ودفــن‬
‫الميت‪ ،‬ومثل هذا ل يُق صّ عن النبياء إذ ل فائدة فيه‪ ،‬وإنما يُق صّ ما فيه عبرة وفائدة تستفاد‪ ،‬وإل‬
‫فقول القائل‪( :‬مات فلن وورث ابنُه ماله) مثـل قوله‪( :‬ودفنوه) ومثـل قوله‪( :‬أكلوا وشربوا وناموا)‬
‫ونحو ذلك مما ل يحسن أن يُجعل من قصص القرآن‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول ال صلى ال عليه وسلم وهبها فدَك‪ ،‬قال لها‪:‬‬
‫هات أسـود أو أحمـر يشهد لك بذلك‪ ،‬فجاءت بأم أيمن‪ ،‬فشهدت لها بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬امرأة ل يقبـل قولهـا‪،‬‬
‫وقـد رووا جميعًا أن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم قال‪ :‬أم أيمـن امرأة مـن أهـل الجنـة‪ ،‬فجاء أميـر‬
‫المؤمنين فشهد لها بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ول نحكم بشهادته لك‪ ،‬وقد رووا جميعًا أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬عليّ مع الحق‪ ،‬والحق معه يدور معه حيث دار لن يفترقا حتى‬
‫يردا عليّ الحوض‪ ،‬فغضبـت فاطمـة عليهـا السـلم عنـد ذلك وانصـرفت‪ ،‬وحلفـت أن ل تكلمـه ول‬
‫صـاحبه حتى تلقـى أباها وتشكـو إليـه‪ ،‬فلمـا حضرتها الوفاة أوصـت عليّاـ أن يدفنها ليلً ول يدع أحدًا‬
‫منهـم يصـلّي عليهـا‪ ،‬وقـد رووا جميعًا أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قال‪( :‬يـا فاطمـة‪ ،‬إن ال تعالى‬
‫يغضب لغضبك ويرضى لرضاك) ورووا جميعًا أنه قال‪( :‬فاطمة بضعة مني‪ ،‬من آذاها فقد آذاني‪،‬‬
‫ومـن آذانـي فقـد آذى ال)‪ .‬ولو كان هذا الخـبر صـحيحًا حقًا لمـا جاز له ترك البغلة التـي خلفهـا النـبي‬
‫صلى ال عليه وسلم وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ‪ ،‬ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس‪،‬‬
‫ولكان أهل البيت الذين طهّرهم ال في كتابه من الرجس مرتكبين ما ل يجوز؛ لن الصدقة عليهم‬
‫محرّمـة‪ ،‬وبعـد ذلك جاء إليـه مال البحريـن وعنده جابر بـن عبـد ال النصـاري‪ ،‬فقال له‪ :‬إن النـبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم قال لي‪ :‬إذا أتـى مال البحريـن حثوث لك‪ ،‬ثـم حثوت لك‪ ،‬ثلثًا‪ ،‬فقال له‪ :‬تقدم‬
‫فخذ بعددها‪ ،‬فأخذ من بيت مال المسلمين من غير بيّنة بل بمجرد قوله)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن فــي هذا الكلم مــن الكذب والبهتان والكلم الفاســد مــا ل يكاد يحصــى إل بكلفــة‪،‬‬
‫ولكن سنذكر من ذلك وجوهًا إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن ما ذكر من ادّعاء فاطمـة رضـي ال عنها فدك فإن هذا يناقض كونهـا ميراثًا لها‪ ،‬فإن‬
‫كان طلبهــا بطريــق الرث امتنــع أن يكون بطريــق الهبــة‪ ،‬وإن كان بطريــق الهبــة امتنــع أن يكون‬
‫بطريق الرث‪ ،‬ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت‪ ،‬فرسول ال صلى ال عليه وسلم منزّه‪ ،‬إن‬
‫كان يُورث كمـا يورث غيره‪ ،‬أن يوصـي لوارث أو يخصـه فـي مرض موتـه بأكثـر مـن حقـه‪ ،‬وإن‬
‫كان فــي صــحته فل بــد أن تكون هذه هبــة مقبوضــة‪ ،‬وإل فإذا وهــب الواهــب بكلمــه ولم يقبــض‬
‫ل عنـد جماهيـر العلماء‪ ،‬فكيـف يهـب النـبي صـلى ال‬ ‫الموهوب شيئًا حتـى مات الواهـب كان ذلك باط ً‬
‫عليه وسلم فَدَك لفاطمة ول يكون هذا أمرًا معروفًا عند أهل بيته والمسلمين‪ ،‬حتى تختص بمعرفته‬
‫أم أيمن أو علي رضي ال عنهما؟‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة‪ ،‬وقد قال المام أبو العباس ابن سريج في‬
‫الكتاب الذي صـنّفه فـي الرد على عيسـى بـن أبان لمـا تكلّم معـه فـي باب اليميـن والشاهـد‪ ،‬واحتجّـ بمـا‬

‫‪108‬‬
‫احتجـّ‪ ،‬وأجاب عمّاـ عارض بـه عيسـى بـن أبان‪ ،‬قال‪ :‬وأمـا حديـث البحتري بـن حسـّان عـن زيـد بـن‬
‫علي أن فاطمـة ذكرت لبـي بكـر أن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم أعطاهـا فَدَك‪ ،‬وأنهـا جاءت‬
‫برجل وامرأة‪ ،‬فقال‪ :‬رجل مع رجل‪ ،‬وامرأة مع امرأة‪ ،‬فسبحان ال ما أعجب هذا! قد سألت فاطمة‬
‫أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ :‬ل نُورث‪ ،‬وما حكى في شيء‬
‫من الحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث‪ ،‬ول أن أحدًا شهد بذلك‪.‬‬
‫ولقـد روى جريـر عـن مغيرة عـن عمـر بـن عبـد العزيـز أنـه قال فـي فَدَك‪( :‬إن فاطمـة سـألت النـبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أن يجعلها لها فأبى‪ ،‬وأن النبي صلى ال عليه وسلم كان ينفق منها ويعود على‬
‫ضعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أ ّيمِهم‪ ،‬وكانت كذلك حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر صدقة‬ ‫َ‬
‫وقبلت فاطمة الحق‪ ،‬وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم)‪.‬‬
‫ولم يُسمع أن فاطمة رضي ال عنها ادّعت أن النبي صلى ال عليه وسلم أعطاها إياها في حديث‬
‫ثابت متصل‪ ،‬ول أن شاهدًا شهد لها‪ ،‬ولو كان ذلك لحُكي‪ ،‬لنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه‬
‫المة وتحادثت فيه‪ ،‬فلم يقل أحد من المسلمين‪ :‬شهدت النبي صلى ال عليه وسلم أعطاها فاطمة ول‬
‫سمعت فاطمة‪ ،‬تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسّان يحكى عن زيد شيئًا ل ندري ما أصله‪ ،‬ول من‬
‫جاء بـه‪ ،‬وليـس مـن أحاديـث أهـل العلم‪ :‬فضـل بـن مرزوق عـن البحتري عـن زيـد‪ ،‬وقـد كان ينبغـي‬
‫لصـاحب الكتاب أن يكـف عـن بعـض هذا الذي ل معنـى له‪ ،‬وكان الحديـث قـد حسـن بقول زيـد‪ :‬لو‬
‫كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر‪ ،‬وهذا مما ل يثبت على أبي بكر ول على فاطمة لو لم يخالفه‬
‫أحـد‪ ،‬ولو لم تجـر فيـه المناظرة ويأتـي فيهـا الروايـة‪ ،‬فكيـف وقـد جاءت؟ وأصـل المذهـب أن الحديـث‬
‫إذا ثبت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم قال أبو بكر بخلفه‪ ،‬إن هذا من أبي بكر رحمه ال‬
‫كنحو ما كان منه في الجدّة‪ ،‬وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه‪.‬‬
‫ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة‪ ،‬لن فاطمة لم تقل‪ :‬إني أحلف مع شاهدي فمنعت‪ .‬ولم يقل‬
‫أبو بكر‪ :‬إني ل أرى اليمين مع الشاهد‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذا الحديث غلط؛ لن أسامة بن زيد يروى عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثان‬
‫قال‪ :‬كان ممــا احتــج بــه عمــر أن قال‪ :‬كانــت لرســول ال صــلى ال عليــه وســلم ثلث صــفايا‪ :‬بنــو‬
‫حبُ سًا لبناء السبيل‪،‬‬
‫النضير‪ ،‬وخيبر وفدك‪ .‬فأما بنو النضير فكانت حُب سًا لنوائبه‪ .‬وأما فَدَك فكانت ُ‬
‫وأما خيبر فجزّأها رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثة أجزاء‪ :‬جزئين بين المسلمين‪ ،‬وجزءًا نفقة‬
‫لهله‪ ،‬فما َفضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين‪.‬‬
‫وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم مما أفاء ال عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬إن رسول ال صلى‬
‫ال عليـه وسـلم قال‪( :‬ل نورث مـا تركنـا صـدقة)‪ ،‬وإنمـا يأكـل آل محمـد مـن هذا المال‪ ،‬وإنـى وال ل‬
‫أغير شيئًا من صدقة رسول ال صلى ال عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولعملن فيها بما عمل به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأبى أبو بكر أن‬
‫يدفع إلى فاطمة منها شيئاً(‪.)1‬‬
‫وقـد روى عـن أنـس أن أبـا بكـر قال لفاطمـة وقـد قرأت عليـه‪ :‬إنـي أقرأ مثـل مـا قرأت‪ ،‬ول يبلغـن‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )5/20‬ومسلم (‪.)1382-3/1381‬‬

‫‪109‬‬
‫علمـي أن يكون قاله كله‪ ،‬قالت فاطمـة‪ :‬هـو لك ولقرابتـك؟ قال‪ :‬ل وأنـت عندي مصـدّقة أمينـة‪ ،‬فإن‬
‫كان رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم عهـد إليـك فـي هذا‪ ،‬أو وعدك فيـه موعدًا أو أوجبـه لكـم حقّاـ‬
‫صدّقتك‪ .‬فقالت‪:‬لغيرأن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال حين أنزل عليه‪( :‬أبشروا يا آل محمد‪،‬‬
‫وقـد جاءكـم ال عز وجـل بالغنى)‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬صدق ال ورسوله وصدقتِ‪ ،‬فلكم الفيـء‪ ،‬ولم يبلغ‬
‫ل إليكـم‪ ،‬ولكـن الفيـء الذي يسـعكم‪ ،‬وهذا يـبيّن أن أبـا‬‫علمـي بتأويـل هذه أن أسـتلم هذا السـهم كله كام ً‬
‫بكر كان يقبل قولها‪ ،‬فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بشيء يجده‪.‬‬
‫الوجععه الثالث‪ :‬أن يقال‪ :‬إن كان النــبي صــلى ال عليــه وســلم يُورث‪ ،‬فالخصــم فــي ذلك أزواجــه‬
‫وعمـه‪ ،‬ول تُقبـل عليهـم شهادة امرأة واحدة ول رجـل واحـد بكتاب ال وسـنة رسـوله صـلى ال عليـه‬
‫وسلم واتفاق المسلمين‪ ،‬وإن كان ل يُورث فالخصم في ذلك المسلمون‪ ،‬فكذلك ل يقبل عليهم شهادة‬
‫امرأة واحدة ول رجل واحد باتفاق المسلمين‪ ،‬ول رجل وامرأة‪.‬‬
‫نعــم‪ ،‬يُحكــم فــي مثــل ذلك بشهادة ويميــن الطالب عنــد فقهاء الحجاز وفقهاء أصــحاب الحديــث‪،‬‬
‫وشهادة الزوج لزوجتـه فيهـا قولن مشهوران للعلماء‪ ،‬همـا روايتان عـن أحمـد‪ :‬إحداهمـا‪ :‬ل تُقبـل‪،‬‬
‫وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والوزاعي وإسحاق وغيرهم‪.‬‬
‫والثانيعة‪ :‬تُقبـل‪ ،‬وهـي مذهـب المام الشافعـي وأبـي ثور وابـن المنذر وغيرهـم‪ ،‬فعلى هذا لو قدّر‬
‫صـحة هذه القصـة لم يجـز للمام أن يحكـم بشهادة رجـل واحـد ل امرأة واحدة باتفاق المسـلمين‪ ،‬ل‬
‫سيما وأكثرهم ل يجيزون شهادة الزوج‪ ،‬ومن هؤلء من ل يحكم بشاهد ويمين‪ ،‬ومن يحكم بشاهد‬
‫ويمين لم يحكم للطالب حتى يحلّفه‪.‬‬
‫الوجععه الرابععع‪ :‬قوله‪ :‬فجاءت بأم أيمـن فشهدت لهـا بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬امرأة ل يُقبــل قولهــا‪ ،‬وقـد رووا‬
‫جميعًا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬أم أيمن امرأة من أهل الجنة)‪.‬‬
‫الجواب‪ :‬أن هذا احتجاج جاهــل مفرط فــي الجهــل يريــد أن يحتــج لنفســه فيحتــج عليهــا‪ ،‬فإن هذا‬
‫القول لو قاله الحجّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقّا‪ ،‬فإن امرأة واحدة‬
‫ع يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره‪ ،‬فكيف إذا حُكي مثل هذا‬ ‫ل يُقبل قولها في الحكم بالمال لمد ٍ‬
‫عن أبي بكر الصديق رضي ال عنه؟!‬
‫وأمـا الحديـث الذي ذكره وزعـم أنهـم رووه جميعًا‪ ،‬فهذا الخـبر ل يعرف فـي شيـء مـن دواويـن‬
‫السـلم ول يُعرف عالم مـن علماء الحديـث رواه‪ ،‬وأم أيمـن هـي أم أسـامة بـن زيـد‪ ،‬وهـي حاضنـة‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهي من المهاجرات‪ ،‬ولها حق وحرمة‪ ،‬لكن الرواية عن النبي صلى‬
‫ال عليـه وسـلم ل تكون بالكذب عليـه وعلى أهـل العلم‪ ،‬وقول القائل‪( :‬رووا جميعًا) ل يكون إل فـي‬
‫خبر متواتـر‪ ،‬فمن ينكر حديث النبي صلى ال عليه وسلم أنه ل يُورث‪ ،‬وقد رواه أكابر الصحابة‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬إنهم جميعًا رووا هذا الحديث‪ ،‬إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحدًا للحق‪.‬‬
‫الوجعه الخامعس‪ :‬قوله‪( :‬إن عليّاـ شهـد لهـا فردّ شهادتـه لكونـه زوجهـا) فهذا مـع أنـه كذب لو صـح‬
‫ليـس يقدح‪ ،‬إذ كانـت شهادة الزوج مردودة عنـد أكثـر العلماء‪ ،‬ومـن قبلهـا منهـم لم يقبلهـا حتـى يتـم‬
‫النصـاب إمـا برجـل آخـر وإمـا بامرأة مـع امرأة‪ ،‬وأمـا الحكـم بشهادة رجـل وامرأة مـع عدم يميـن‬
‫المدّعي فهذا ل يسوغ‪.‬‬
‫الوجه السادس‪ :‬قوله‪ :‬إنهم رووا جميعًا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬عليّ مع الحق‪،‬‬
‫والحق معه يدور حيث دار‪ ،‬ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) من أعظم الكلم كذبًا وجهلً‪ ،‬فإن‬
‫هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل بإسناد صحيح ول ضعيف‪ .‬فكيف يقال‪:‬‬

‫‪110‬‬
‫إنهــم جميعــا رووا هذا الحديــث؟ وهــل يكون أكذب ممــن يروى عــن الصــحابة والعلماء أنهــم رووا‬
‫حديثًا‪ ،‬والحديث ل يُعرف عن واحد منهم أصلً؟ بل هذا من أظهر الكذب‪ ،‬ولو قيل‪ :‬رواه بعضهم‪،‬‬
‫وكان يمكن صحته لكان ممكنًا‪ ،‬فكيف وهو كذب قطعًا على النبي صلى ال عليه وسلم؟!‬
‫بخلف إخباره أن أم أيمــن فــي الجنــة‪ ،‬فهذا يمكــن أنــه قاله‪ ،‬فإن أم أيمــن امرأة صــالحة مــن‬
‫المهاجرات‪ ،‬فإخباره أنها في الجنة ل يُنكر‪ ،‬بخلف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق وأن‬
‫الحـق يدور معـه حيثمـا دار‪ ،‬ولن يفترقـا حتـى يردا عليّـ الحوض ؛ فإنـه كلم ينزّه عنـه رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫أما أولً‪ :‬فلن الحوض إنما َيرِدُه عليه أشخاص‪ ،‬كما قال للنصـار‪( :‬اصبروا حتـى تلقونـي على‬
‫الحوض)(‪ ،)1‬وقال‪( :‬إن حوضــــي لبعــــد مــــا بيــــن أيلة إلى عدن‪ ،‬وإن أول الناس ورودًا فقراء‬
‫المهاجرين الشعث رءوسًا الدنس ثيابًا الذين ل ينكحون المتنعّمات ول تفتح لهم أبواب السدد‪ ،‬يموت‬
‫أحدهم وحاجته في صدره ل يجد لها قضاء) رواه مسلم وغيره(‪.)2‬‬
‫وأمــا الحــق فليــس مــن الشخاص الذيــن يردون الحوض‪ ،‬وقــد روي أنــه قال‪( :‬إنــي تارك فيكــم‬
‫الثقلين‪ :‬كتاب ال وعترتى أهل بيتي‪ ،‬ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)‪ .‬فهو من هذا النمط‪ ،‬وفيه‬
‫كلم يذكر في موضعه إن شاء ال‪.‬‬
‫الوجعه السعابع‪ :‬أن مـا ذكره عـن فاطمـة أمـر ل يليـق بهـا‪ ،‬ول يحتـج بذلك إل رجـل جاهلٍ يحسـب‬
‫أنـه يمدحهـا وهـو يجرحهـا ؛ فإنـه ليـس فيمـا ذكره مـا يوجـب الغضـب عليـه‪ ،‬إذ لم يحكـم –لو كان ذلك‬
‫صـحيحا – إل بالحـق الذي ل يحـل لمسـلم أن يحكـم بخلفـه‪ ،‬ومـن طلب أن يُحكـم له بغيـر حكـم ال‬
‫ورسـوله فغضـب وحلف أن ل يكلّم الحاكـم ول صـاحب الحاكـم‪ ،‬لم يكـن هذا ممـا يُحْمـد عليـه ول ممـا‬
‫يذم بـه الحاكـم‪ ،‬بـل هذا إلى أن يكون جرحًا أقرب منـه إلى أن يكون مدحًا‪ ،‬ونحـن نعلم أن مـا يحكـى‬
‫عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين‪ ،‬وإذا كان‬
‫بعضهـا ذنبًا فليس القوم معصـومين‪ ،‬بل هـم مع كونهم أولياء ال ومن أهل الجنـة لهم ذنوب يغفرهـا‬
‫ال لهم‪.‬‬
‫وكذلك مـا ذكره مـن إيصـائها أن تُدفـن ليلً ول يُصـلّى عليهـا أحـد منهـم‪ ،‬ل يحكيـه عـن فاطمـة‬
‫ويحتـج بـه إل رجلٌ جاهـل يطرق على فاطمـة مـا ل يليـق بهـا‪ ،‬وهذا لو صـح لكان بالذنـب المغفور‬
‫أوْلى منـه بالسـعي المشكور‪ ،‬فإن صـلة المسـلم على غيره زيادة خيـر تصـل إليـه‪ ،‬ول يضـر أفضـل‬
‫الخلق أن يصـلّي عليـه شـر الخلق‪ ،‬وهذا رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم يصـلى عليـه ويسـلم عليـه‬
‫البرار والفجار بـل والمنافقون‪ ،‬وهذا إن لم ينفعـه لم يضره‪ ،‬وهـو يعلم أن في أمتـه منافقين‪ ،‬ولم ينه‬
‫أحد من أمته عن الصلة عليه‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬ورووا جميعًا أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬يا فاطمة‪ ،‬إن ال يغضب لغضبك‪،‬‬
‫ويرضى لرضاك) فهذا كذب منه‪ ،‬ما رووا هذا عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يُعرف هذا في‬
‫شيء من كتب الحديث المعروفة‪ ،‬ول له إسناد معروف عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ل صحيح‬
‫ول حسن‪ ،‬ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة‪ ،‬وبأن ال يرضى عنها‪ ،‬فنحن لبي بكر وعمر وعثمان‬
‫وعليّ وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن بن عوف بذلك نشهد‪ ،‬ونشهد بأن ال تعالى أخبر‬
‫ن وَا َل ْنصَارَ‬
‫جرِي َ‬
‫ن مِنَ ا ْل ُمهَا ِ‬
‫برضاه عنهم في غير موضع‪ ،‬كقوله تعالى‪(( :‬وَالسّابِقُونَ ا َلوّلُو َ‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري‪ ،)5/33( :‬ومسلم‪.)3/1474( :‬‬
‫‪ )(2‬مسلم‪ :‬باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل ف الوضوء (‪1/247‬ص ‪.)217‬‬

‫‪111‬‬
‫ضيَ الُ‬ ‫عنْه))[التوبة‪ ،]100:‬وقوله تعالى‪(( :‬لق ْد َر ِ‬ ‫ن رضي ال عنه ْم َو َرضُوا َ‬ ‫حسَا ٍ‬ ‫وَالّذِينَ ا ّتبَعُوهُم بِإِ ْ‬
‫جرَة))[التوبة‪ ]100:‬وقد ثبت أن النبي صلى ال عليه وسلم توفى‬ ‫ك تَحْتَ الشّ َ‬‫عنِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ إِ ْذ ُيبَايِعُونَ َ‬
‫َ‬
‫و هو عنهم راض‪ ،‬ومن رضى ال عنه ورسوله ل يضره غضب أحد من الخلق عليه كائنا من‬
‫كان‪.‬‬
‫وأمـا قوله‪( :‬رووا جميعًا أن فاطمـة بضعـة منـي مـن آذاهـا آذانـي‪ ،‬ومـن آذانـي آذى ال) فإن هذا‬
‫الحديث لم يرو بهذا اللفظ‪ ،‬بل روى بغيره‪ ،‬كما روي في سياق حديث خطبة عل يّ لبنة أبي جهل‪،‬‬
‫لمـا قام النـبي صـلى ال عليـه وسـلم خطيبًا‪ ،‬فقال‪( :‬إن بنـي هشام بـن المغيرة اسـتأذنوني أن ينكحوا‬
‫ابنتهـم عليّـ بـن أبـي طالب‪ ،‬وإنـي ل آذن‪ ،‬ثـم ل آذن‪ ،‬ثـم ل آذن‪ ،‬إنمـا فاطمـة بضعـة منـي يريبنـي مـا‬
‫رابها‪ ،‬ويؤذيني ما آذاها‪ ،‬إل أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم)‪.‬‬
‫الوجععه الثامععن‪ :‬أن قوله‪( :‬لو كان هذا الخــبر صــحيحًا حقًـا لمــا جاز له ترك البغلة والســيف و‬
‫ي والحكم له بها لما ادّعاها العباس)‪.‬‬ ‫العمامة عند عل ّ‬
‫فيقال‪ :‬ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لحد‪ ،‬أو تركا ذلك عند أحد على أن ذلك ملك له‪،‬‬
‫فهذا من أ ْبيَن الكذب عليهما‪ ،‬بل غاية ما في هذا أن يُترك عند من يُترك عنده‪ ،‬كما ترك صدقته عند‬
‫عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬ولكان أهل البيت الذين طهّرهم ال في كتابه مرتكبين ما ل يجوز)‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬أولً‪ :‬إن ال تعالى لم يخـبر أنـه طهّر جميـع أهـل البيـت وأذهـب عنهـم الرجـس‪ ،‬فإن هذا‬
‫كذب على ال‪ .‬كيـف ونحـن نعلم أن فـي بنـي هاشـم مـن ليـس بمطهّر مـن الذنوب‪ ،‬ول أذهـب عنهـم‬
‫الرجس‪ ،‬ل سيما عند الرافضة‪ ،‬فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر رضي‬
‫عنْكُمْع الرّجْسَع أَ ْهلَ ا ْل َبيْتعِ))‬ ‫ال عنهمـا فليـس بمطهّرـ‪ ،‬واليـة إنمـا قال فيهـا‪ِ(( :‬إنّمَا ُيرِيدُ الُّ ِليُذْهِبَع َ‬
‫ط ّهرَكُ ْم وَ ِل ُيتِمّ نِ ْعمَتَ هُ‬
‫ن ُيرِيدُ ِليُ َ‬
‫حرَ جٍ وََلكِ ْ‬ ‫وقد تقدم أن هذا مثل قوله‪(( :‬ما ُيرِيدُ الُ ِليَجْ َعلَ عَ َليْكُم مِ نْ َ‬
‫ن مِنْ َقبْلِكُم َويَتُوبَ‬ ‫سنَنَ الّذِي َ‬ ‫عَليْكُم َلعَلّكُ ْم َتشْ ُكرُون))[المائدة‪ ]6:‬وقوله‪(( :‬يرِيدُ الُ ِل ُيبَين لَكُم َو َيهْ ِديَكُم ُ‬ ‫َ‬
‫عَليْكُم))[النسـاء‪ ،]26:‬ونحـو ذلك ممـا فيـه بيان أن ال يحـب ذلك لكـم‪ ،‬ويرضاه لكـم‪ ،‬ويأمركـم بـه‪ ،‬فمـن‬ ‫َ‬
‫فعلة حصل له هذا المراد المحبوب المرضي‪ ،‬ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬لن الصدقة محرمة عليهم)‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬أولً المحرم عليهـم صـدقة الفرض‪ ،‬وأمـا صـدقات التطوع فقـد كانوا يشربون مـن المياه‬
‫حرّم علينا التطوع‪ ،‬وإذا جاز أن‬ ‫المسبّلة بين مكة والمدينة‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنما حرّم علينا الفرض‪ ،‬ولم ي َ‬
‫ينتفعوا بصــدقات الجانــب التــي هــي تطوع‪ ،‬فانتفاعهــم بصــدقة النــبي صــلى ال عليــه وســلم أولى‬
‫وأحرى؛ فإن هذه الموال لم تكـن زكاة مفروضـة على النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وهـي أوسـاخ‬
‫الناس التـي حرّمـت عليهـم‪ ،‬وإنمـا هـي مـن الفيـء الذي أفاءه ال على رسـوله‪ ،‬والفيـء حلل لهـم‪،‬‬
‫والنـبي صـلى ال عليـه وسـلم جعـل مـا جعله ال له مـن الفيـء صـدقة‪ ،‬إذ غايتـه أن يكون ملكًا للنـبي‬
‫صــلى ال عليــه وســلم تص ـدّق بــه على المســلمين‪ ،‬وأهــل بيتــه أحــق بصــدقته ؛ فإن الصــدقة على‬
‫المسلمين صدقة‪ ،‬والصدقة على القرابة صدقة وصلة‪.‬‬
‫الوجه التاسع‪ :‬في معارضته بحديث جابر رضي ال عنه‪ ،‬فيقال‪ :‬جابر لم يدّع حقًا لغيره يُنتزع‬
‫من ذلك الغير ويُجعل له‪ ،‬وإنما طلب شيئا من بيت المال يجوز للمام أن يعطيه إياه‪ ،‬ولو لم يعده به‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإذا وعده به كان أوْلى بالجواز‪ ،‬فلهذا لم يفتقر إلى بيّنة‪.‬‬
‫أمـا قصـة فاطمـة رضـي ال عنهـا فمـا ذكروه مـن دعواهـا الهبـة والشهادة المذكورة ونحـو ذلك‪ ،‬لو‬

‫‪112‬‬
‫كان صحيحًا لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وقد روى عن الجماعة كلهم أن النبي صلى ال عليه وسلم قال في حق أبي ذر‪:‬‬
‫(مـا أقلّت الغـبراء‪ ،‬ول أظلّت الخضراء على ذي لهجـة أصـدق مـن أبـي ذر)‪ ،‬ولم يسـمّوه صـدّيقًا‪،‬‬
‫وسموا أبا بكر بذلك مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا الحديـث لم يروه الجماعـة كلهـم‪ ،‬ول هـو فـي الصـحيحين‪ ،‬ول هـو فـي السـنن‪ ،‬بـل هـو‬
‫مروي في الجملة‪ ،‬وبتقدير صحته و ثبوته فمن المعلوم أن هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق‬
‫مـن جميـع الخلق‪ ،‬فإن هذا يلزم منـه أن يكون أصـدق مـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ومـن سـائر‬
‫النـبيين‪ ،‬ومـن عليّـ بـن أبـي طالب‪ ،‬وهذا خلف إجماع المسـلمين كلهـم مـن السـنة والشيعـة‪ ،‬فعُلم أن‬
‫هذه الكلمـة معناهـا أن أبـا ذر صـادق‪ ،‬ليـس غيره أكثـر تحرّيـا للصـدق منـه‪ ،‬و ل يلزم إذا كان بمنزلة‬
‫غيره في تحرّي الصدق أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق‪ ،‬وفي عظم الحق الذي‬
‫صَـدَقَ فيـه وصـدّق بـه‪ .‬وذلك أنـه يقال‪ :‬فلن صـادق اللهجـة إذا تحرّى الصـدق‪ ،‬وإن كان قليـل العلم‬
‫بمـا جاءت بـه النـبياء‪ ،‬والنـبي صـلى ال عليـه وسـلم لم يقـل‪ :‬مـا أقلت الغـبراء أعظـم تصـديقًا مـن أبـي‬
‫ذر‪ .‬بـل قال‪ :‬أصـدق لهجـة‪ ،‬والمدح للصـدّيق الذي صـدّق النـبياء ليـس بمجرد كونـه صـادقًا‪ ،‬بـل فـي‬
‫كونه مصدّقًا للنبياء‪ ،‬وتصديقه للنبي صلى ال عليه وسلم هو صدق خاص‪ ،‬فالمدح بهذا التصديق‬
‫‪-‬الذي هو صدق خاص‪ -‬نوع‪ ،‬والمدح بنفس كونه صادقًا نوع آخر‪ ،‬فكل صدّيق صادق‪ ،‬وليس كل‬
‫صادق صدّيقًا‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وسـمّوه خليفـة رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ولم يسـتخلفه فـي حياتـه ول بعـد‬
‫وفاته عندهم‪ ،‬ولم يسمّوا أمير المؤمنين خليفة رسول ال مع أنه استخلف في عدة مواطن‪ ،‬منها‪ :‬أنه‬
‫اســتخلفه على المدينــة المنورة فــي غزوة تبوك‪ ،‬وقال له‪ :‬إن المدينــة ل تصــلح إل بــي أو بــك‪ ،‬أمــا‬
‫ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى‪ ،‬إل أنه ل نبي بعدي‪.‬‬
‫وأمّر أسامة بن زيد على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر‪ ،‬ومات ولم يعزله‪ ،‬ولم يسمّوه خليفة‪،‬‬
‫ولمـا تولى أبـو بكـر غضـب أسـامة‪ ،‬وقال‪ :‬إن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم أمّرنـي عليـك‪ ،‬فمـن‬
‫استخلفك عليّ؟ فمشى إليه هو وعمر حتى استرضياه‪ ،‬وكانا يسمّيانه مدة حياته أميرًا)‪.‬‬
‫والجواب معععن وجوه‪ :‬أحدهـــا‪ :‬أن الخليفـــة إمـــا أن يكون معناه‪ :‬الذي يخلف غيره وإن كان لم‬
‫يستخلفه‪ ،‬كما هو المعروف في اللغة‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ ،‬وإما أن يكون معناه‪ :‬من استخلفه غيره‪،‬‬
‫كمـا قاله طائفـة مـن أهـل الظاهـر والشيعـة ونحوهـم‪ ،‬فإن كان هـو الوّل ؛ فأبـو بكـر خليفـة رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم؛ لنه خلفه بعد موته‪ ،‬ولم يخلف رسول ال صلى ال عليه وسلم أحد بعد موته‬
‫إل أبو بكر‪ ،‬فكان هو الخليفة دون غيره ضرورة‪ ،‬فإن الشيعة وغيرهم ل ينازعون في أنه هو الذي‬
‫صـار وليّـ المـر بعده‪ ،‬وصـار خليفـة له يصـلّي بالمسـلمين‪ ،‬ويقيـم فيهـم الحدود‪ ،‬ويقسـم بينهـم الفيـء‪،‬‬
‫ويغزو بهم العدو‪ ،‬ويولّي عليهم العمال والمراء‪ ،‬وغير ذلك من المور التي يفعلها ولة المور‪.‬‬
‫فهذه باتفاق الناس إنما باشرها بعد موته أبو بكر‪ ،‬فكان هو الخليفة للرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫فيهـا قطعًا‪ .‬لكـن أهـل السـنة يقولون‪ :‬خلفـه وكان هـو أحـق بخلفتـه‪ ،‬والشيعـة يقولون‪ :‬عليّـ كان هـو‬
‫ل له أن يصير هو خليفة‪ ،‬لكن ل ينازعون‬ ‫الحق؛ لكن تصح خلفة أبي بكر‪ ،‬ويقولون‪ :‬ما كان يح ّ‬
‫خَلفَ غيره على كل تقدير‪.‬‬ ‫في أنه صار خليفة بالفعل‪ ،‬وهو مستحق لهذا السم‪ ،‬إذ كان الخليفة من َ‬

‫‪113‬‬
‫وأما إن قيل‪ :‬إن الخليفة من استخلفه غيره‪ ،‬كما قاله بعض أهل السنة وبعض الشيعة‪ ،‬فمن قال‬
‫هذا من أهل السنة فإنه يقول‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم استخلف أبا بكر إما بالنص الجليّ‪ ،‬كما‬
‫قال بعضهـم‪ ،‬وإمـا بالنـص الخفيـّ‪ .‬كمـا أن الشيعـة القائليـن بالنـص على عليّـ منهـم مـن يقول بالنـص‬
‫الجليـّ‪ ،‬كمــا تقوله الماميــة‪ ،‬ومنهـم مـن يقول بالنـص الخفيـّ‪ ،‬كمـا تقوله الجاروديــة مــن الزيديــة‪،‬‬
‫ودعوى أولئك للنـص الجليّـ أو الخفيّـ على أبـي بكـر أقوى وأظهـر بكثيـر مـن دعوى هؤلء للنـص‬
‫على عليـّ‪ ،‬لكثرة النصـوص الدالّة على ثبوت خلفـة أبـي بكـر‪ ،‬وأن عليّاـ لم يدل على خلفتـه إل مـا‬
‫يُعلم أنه كذب‪ ،‬أو يُعلم أنه ل دللة فيه‪.‬‬
‫وعلى هذا التقديـر فلم يسـتخلف بعـد موتـه أحدًا إل أبـا بكـر‪ ،‬فلهذا كان هـو الخليفـة‪ ،‬فإن الخليفـة‬
‫المطلق هو من خلفه بعد موته‪ ،‬أو استخلفه بعد موته‪ ،‬وهذان الوصفان لم يثبتا إل لبي بكر ؛ فلهذا‬
‫كان هو الخليفة‪.‬‬
‫وأما استخلفه لعل يّ على المدينة‪ ،‬فذلك ليس من خصائصه‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم كان‬
‫ل مــن أصــحابه‪ ،‬كمــا اســتخلف ابــن أم مكتوم تارة‪،‬‬ ‫إذا خرج فــي غزاة اســتخلف على المدينــة رج ً‬
‫وعثمان بن عفان تارة‪.‬‬
‫وإذا كان قـد اسـتخلف غيـر عليّـ على أَكثـر وأفضـل ممـا اسـتخلف عليـه عليّاـ‪ ،‬وكان ذلك اسـتخلفًا‬
‫مقيّدا على طائفة معينة في مغيبه‪ ،‬ليس هو استخلفًا مطلقًا بعد موته على أمته‪ ،‬لم يطلق على أحد‬
‫من هؤلء أنه خليفة رسول ال صلى ال عليه وسلم إل مع التقييد‪ ،‬وإذا سمّي عل يّ بذلك فغيره من‬
‫الصحابة المستخلفين أوْلى بهذا السم‪ ،‬فلم يكن هذا من خصائصه‪.‬‬
‫وأيضًا فالذي يخلف المَطاع بعد موته ل يكون إل أفضل الناس‪ ،‬وأما الذي يخلفه في حال غزوه‬
‫لعدوه‪ ،‬فل يجـب أن يكون أفضـل الناس‪ ،‬بـل العادة جاريـة بأنـه يسـتصحب فـي خروجـه لحاجتـه إليـه‬
‫فـي المغازي مـن يكون عنده أفضـل ممـن يسـتخلفه على عياله‪ ،‬لن الذي ينفـع فـي الجهاد هـو شريكـه‬
‫فيما يفعله‪ ،‬فهو أعظم ممن يخلفه على العيال‪ ،‬فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له في الجهاد‪.‬‬
‫والنـبي صـلى ال عليـه وسـلم إنمـا شبـه عليّاـ بهارون فـي أصـل السـتخلف ل فـي كماله‪ ،‬ولعليّـ‬
‫شركاء في هذا الستخلف‪ ،‬يبين ذلك أن موسى لما ذهب إلى ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه‬
‫في ذلك‪ ،‬فاستخلف هارون على جميع قومه‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم لما ذهب إلى غزوة تبوك‬
‫أخذ معه جميع المسلمين إل المعذور‪ ،‬ولم يستخلف عليّا إل على العيال وقليل من الرجال‪ ،‬فلم يكن‬
‫استخلفه كاستخلف موسى لهارون‪ ،‬بل ائتمنه في حال مغيبه‪ ،‬كما ائتمن موسى هارون في حال‬
‫مغيبه‪ ،‬فبيّن له النبي صلى ال عليه وسلم أن الستخلف ليس لنقص مرتبة المستخلَف‪ ،‬بل قد يكون‬
‫لمانته كما استخلف موسى هارون على قومه‪ ،‬وكان عليّ خرج إليه يبكي وقال‪ :‬أتذرني مع النساء‬
‫والصبيان؟ كأنه كره أن يتخلف عنه‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬إنـه قال له‪ :‬إن المدينـة ل تصـلح إل بـي أو بـك) فهذا كذب على النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم ل يُعرف فـي كتـب العلم المعتمدة‪ ،‬وممـا يـبين كذبـه أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم خرج مـن‬
‫المدينـة غيـر مرة ومعـه عليـّ‪ .‬وليـس بالمدينـة ل هـو ول عليـّ‪ .‬فكيـف يقول‪ :‬إن المدينـة ل تصـلح إل‬
‫بي أو بك؟‬
‫والرافضة من فرط جهلهم يكذبون الكذب الذي ل يخفى على من له بالسيرة أدنى علم‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إنه أمّر أسامة رضي ال عنه على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر)‪.‬‬
‫فمـن الكذب الذي يعرفـه مـن له أدنـى معرفـة بالحديـث ؛ فإن أبـا بكـر لم يكـن فـي ذلك الجيـش‪ ،‬بـل‬

‫‪114‬‬
‫كان النبي صلى ال عليه وسلم يستخلفه في الصلة من حين مرض إلى أن مات‪ ،‬وأسامة قد رُوي‬
‫أنـه قـد عقـد له الرايـة قبـل مرضـه‪ ،‬ثـم لمـا مرض أمـر أبـا بكـر أن يصـلّي بالناس‪ ،‬فصـلى بهـم إلى أن‬
‫مات النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فلو قدر أنـه أُمـر بالخروج مـع أسـامة قبـل المرض لكان أمره له‬
‫بالصلة تلك المدة‪ ،‬مع إذنه لسامة أن يسافر في مرضه‪ ،‬موجبًا لنسخ إمرة أسامة عنه‪ ،‬فكيف إذا‬
‫لم يؤمّر عليه أسامة بحال؟‬
‫وقوله‪( :‬ومات ولم يعزله)‪.‬‬
‫فأبـو بكـر أنفـذ جيـش أسـامة رضـي ال عنـه بعـد أن أشار الناس عليـه برده خوفًا مـن العدو‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ل رايـة عقدهـا رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬مـع أنـه كان يملك عزله‪ ،‬كمـا كان يملك‬ ‫وال ل أح َ‬
‫ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لنه قام مقامه‪ ،‬فيعمل ما هو أصلح للمسلمين‪.‬‬
‫وأمـا مـا ذكره مـن غضـب أسـامة لمـا تولّى أبـو بكـر‪ ،‬فمـن الكاذيـب السـمجة‪ ،‬فإن محبـة أسـامة‬
‫رضي ال عنه لبي بكر وطاعته له أشهر وأعرف من أن تُنكر‪ ،‬وأسامة من أبعد الناس عن الفرقة‬
‫والختلف‪ ،‬فإنه لم يقاتل ل مع عليّ ول مع معاوية واعتزل الفتنة‪ ،‬وأسامة لم يكن من قريش‪ ،‬ول‬
‫ممن يصلح للخلفة‪ ،‬ول يخطر بقلبه أن يتولها‪ ،‬فأي فائدة له في أن يقول مثل هذا القول ل يّ من‬
‫تولى المر‪ ،‬مع علمه أنه ل يتولّى المر أحد إل كان خليفة عليه‪ ،‬ولو قدّر أن النبي صلى ال عليه‬
‫وسـلم أمّره على أبـي بكـر ثـم مات‪ ،‬فبموتـه صـار المـر إلى الخليفـة مـن بعده‪ ،‬وإليـه المـر فـي إنفاذ‬
‫الجيش أو حبسه‪ ،‬وفي تأمير أسامة أو عزله‪ ،‬وإذا قال‪ :‬أمّرني عليك فمن استخلفك عل يّ؟ قال‪ :‬من‬
‫اسـتخلفني على جميـع المسـلمين‪ ،‬وعلى مـن هـو أفضـل منـك‪ ،‬وإذا قال‪ :‬أنـا أمّرنـي عليـك‪ ،‬قال‪ :‬أمّرك‬
‫عليّ قبل أن أُستخلف‪ ،‬فبعد أن صرت خليفة صرت أنا المير عليك‪.‬‬
‫ومثل هذا ل ينكره إل جاهل‪ ،‬وأسامة أعقل وأتقى وأعلم من أن يتكلم بمثل هذا الهذيان لمثل أبي‬
‫بكر‪.‬‬
‫وأعجب من هذا قول هؤلء المفترين‪ :‬أنه مشى هو وعمر إليه حتى استرضياه‪ ،‬مع قولهم‪ :‬إنهما‬
‫قهرا عليّاـ وبنـي هاشـم وبنـي عبـد مناف‪ ،‬ولم يسـترضياهم‪ ،‬وهـم أعـز وأقوى وأكثـر وأشرف مـن‬
‫أسامة رضي ال عنه‪ ،‬فأي حاجة بمن قهروا بني هاشم وبني أمية وسائر بني عبد مناف‪ ،‬وبطون‬
‫قريـش والنصـار والعرب‪ ،‬إلى أن يسـترضوا أسـامة بـن زيـد‪ ،‬وهـو مـن أضعـف رعيتهـم‪ ،‬ليـس له‬
‫قـبيلة ول عشيرة‪ ،‬ول معه مال ول رجال‪ ،‬ولول حب النـبي صـلى ال عليـه وسـلم إياه وتقديمـه له لم‬
‫يكن إل كأمثاله من الضعفاء؟‬
‫فإن قلتعم‪ :‬إنهمـا اسـترضياه لحـب النـبي صـلى ال عليـه وسـلم له‪ ،‬فأنتـم تقولون‪ :‬إنهـم بدّلوا عهده‪،‬‬
‫وظلموا وصيّه وغصبوه‪ ،‬فمن عصى المر الصحيح‪ ،‬وبدل العهد البيّن‪ ،‬وظلم واعتدى وقهر‪ ،‬ولم‬
‫يلتفـت إلى طاعـة ال ورسـوله‪ ،‬ولم يرقـب فـي آل محمـد إلً ول ذمـة‪ ،‬يراعـى مثـل أسـامة بـن زيـد‬
‫ويســترضيه؟ وهــو قــد ردّ شهادة أم أيمــن ولم يســترضها‪ ،‬وأغضــب فاطمــة وآذاهــا‪ ،‬وهــي أحــق‬
‫بالسـترضاء‪ ،‬فمـن يفعـل هذا أي حاجـة بـه إلى اسـترضاء أسـامة بـن زيـد؟ وإنمـا يُسـترضى الشخـص‬
‫للديــن أو للدنيــا‪ ،‬فإذا لم يكــن عندهــم ديــن يحملهــم على اســترضاء مــن يجــب اســترضاؤه‪ ،‬ول هــم‬
‫محتاجون فــي الدنيــا إليــه‪ ،‬فأي داعــٍ يدعوهــم إلى اســترضائه؟! والرافضــة مــن جهلهــم وكذبهــم‬
‫يتناقضون تناقضًا كثيرًا ب ّينًا إذ هم في قول مختلف‪ ،‬يُوفك عنه من أُفك‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضععي‪( :‬وسـمّوا عمـر الفاروق‪ ،‬ولم يســموا عليّاـ عليـه السـلم بذلك‪ ،‬مــع أن رســول ال‬

‫‪115‬‬
‫صلى ال عليه وسلم قال فيه‪ :‬هذا فاروق أمتي يفرق بين أهل الحق والباطل‪ ،‬وقال ابن عمر‪ :‬ما كنا‬
‫نعرف المنافقين على عهد النبي صلى ال عليه وسلم إل ببغضهم عليّا عليه السلم)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أوّل‪ :‬أمــا هذان الحديثان فل يســتريب أهــل المعرفــة بالحديــث أنهمــا حديثان موضوعان‬
‫مكذوبان على النبي صلى ال عليه وسلم ولم يرو واح ٌد منهما في شيء من كتب العلم المعتمدة‪ ،‬ول‬
‫لواحد منهما إسناد معروف‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬ثانيًا‪ :‬من احتج في مسألة فرعية بحديث فل بد أن يسنده‪ ،‬فكيف في مسائل أصول الدين؟‬
‫وإل فمجرد قول القائل‪( :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم) ليس حجة باتفاق أهل العلم‪ .‬ولو كان‬
‫حجـة لكان كـل حديـث قال فيـه واحـد مـن أهـل السـنة‪( :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم) حجـة‪،‬‬
‫ونحن نقنع في هذا الباب بأن ُيرْوى الحديثُ بإسناد رجاله معروفون بالصدق من أي طائفة كانوا‪.‬‬
‫لكـن إذا لم يكـن الحديـث له إسـناد‪ ،‬فهذا الناقـل له وإن كان لم يكذبـه بـل نقله مـن كتاب غيره‪ ،‬فذلك‬
‫الناقل لم يعرف عمّن نقله‪ ،‬ومن المعروف كثرة الكذب في هذا الباب وغيره‪ ،‬فكيف يجوز لحد أن‬
‫يشهد على رسول ال صلى ال عليه وسلم بما لم يعرف إسناده؟‬
‫ويقال‪ :‬ثالثًا‪ :‬مـن المعلوم لكـل مـن له خـبرة أن أهـل الحديـث أعظـم الناس بحثًا عـن أقوال النـبي‬
‫صــلى ال عليــه وســلم‪ ،‬وطلبــا لعلمهــا‪ ،‬وأرغــب الناس فــي اتّباعهــا‪ ،‬وأبعــد الناس عــن اتّباع هوىً‬
‫يخالفهـا‪ ،‬فلو ثبـت عندهـم أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قال لعليّـ هذا‪ ،‬لم يكـن أحـد مـن الناس أوْلى‬
‫منهــم باتّباع قوله‪ ،‬فإنهــم يتّبعون قوله إيمانًـا بــه‪ ،‬ومحبــة لمتابعتــه‪ ،‬ل لغرض لهــم فــي الشخــص‬
‫الممدوح‪.‬‬
‫فلو ثبت عندهم أن النبي صلى ال عليه وسلم قال لعليّ‪ :‬هذا فاروق أمتي‪ ،‬لقبلوا ذلك ونقلوه‪ ،‬كما‬
‫نقلوا قوله لبــي عــبيدة‪( :‬هذا أميــن هذه المــة)(‪ )1‬وقوله للزبيــر‪( :‬إن لكــل نــبي حواري ّـ وحواري ـّ‬
‫الزبيـر)(‪ )2‬وكمـا قبلوا ونقلوا قوله لعليـّ‪( :‬لعطيـن الرايـة غدًا رجلً يحـب ال ورسـوله ويحبـه ال‬
‫ورسوله)(‪ )3‬وحديث الكساء لما قال لعل يّ وفاطمة وحسن وحسين‪( :‬اللهم هؤلء أهل بيتي‪ ،‬فأذهب‬
‫عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا)(‪ )4‬وأمثال ذلك‪.‬‬
‫ل مـن الحديثيـن يُعلم بالدليـل أنـه كذب‪ ،‬ل يجوز نسـبته إلى النـبي صـلى ال عليـه‬ ‫ويقال‪ :‬رابعًا‪ :‬ك ّ‬
‫ي أو غيره فاروق هذه المة يفرق بين الحق والباطل؟ إن عنى‬ ‫وسلم‪ ،‬فإنه يقال‪ :‬ما المعنى بكون عل ّ‬
‫بذلك أنـه يميّز بيـن أهـل الحـق والباطـل‪ ،‬فيميّز بيـن المؤمنيـن والمنافقيـن‪ ،‬فهذا أمـر ل يقدر عليـه أحدٌ‬
‫عرَابِع ُمنَافِقُونَع َومِنعْ أَ ْهلِ‬
‫حوَْلكُم ْع مِنعَ ا َل ْ‬
‫مـن البشـر‪ :‬ل نـبي ول غيره‪ ،‬وقـد قال تعالى‪َ (( :‬ومِمّنعْ َ‬
‫علَى النّفَاقِع َل تَ ْعَلمُهُم نَحْنُع نَعْ َلمُهُم))[التوبـة‪ ]101:‬كان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم ل‬ ‫ا ْلمَدِي َنةِ َمرَدُوا َ‬
‫يعلَم عينَ كل منافق في مدينته وفيما حولها‪ ،‬فكيف يعلم ذلك غيره؟‬
‫ومحبـة الرافضـة لعليّـ باطلة‪ ،‬فإنهـم يحبّون مـا لم يوجـد‪ ،‬وهـو المام المعصـوم المنصـوص على‬
‫إمامته‪ ،‬الذي ل إمام بعد النبي صلى ال عليه وسلم إل هو‪ ،‬الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر رضي‬
‫ال عنهما ظالمان معتديان أو كافران‪ ،‬فإذا تبيّن لهم يوم القيامة أن عليّا لم يكن أفضل من واحد من‬
‫هؤلء‪ ،‬وإنما غايته أن يكون قريبًا من أحدهم‪ ،‬وأنه كان مقرّا بإمامتهم وفضلهم‪ ،‬ولم يكن معصومًا‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري‪ )5/25( :‬وغيه‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري‪ ،)5/21( :‬ومسلم‪.)4/1879( :‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري‪ ،)5/18( :‬ومسلم‪.)4/1871( :‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬مسلم‪.)4/1883( :‬‬

‫‪116‬‬
‫ل هو ول هم ول كان منصوصًا على إمامته‪ ،‬تبين لهم أنهم لم يكونوا يحبون عليّا‪ ،‬بل هم من أعظم‬
‫الناس بغضًا لعل يّ رضي ال عنه في الحقيقة‪ ،‬فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في‬
‫عل يّ أكمل منها في غيره‪ :‬من إثبات إمامة الثلثة وتفضيلهم‪ ،‬فإن عليّا رضي ال عنه كان يفضّلهم‬
‫ويقرّ بإمامتهم‪ ،‬فتبيّن أنهم مبغضون لعليّ قطعًا‪.‬‬
‫وبهذا يتـبين الحديـث الذي رواه مسـلم فـي صـحيحه عـن عليّـ رضـي ال عنـه أنـه قال‪( :‬إنـه لعهـد‬
‫النـبي الميّـ إليّـ أنـه ل يحبنـي إل مؤمـن ول يبغضنـي إل منافـق)(‪ )1‬إن كان هذا محفوظًا ثابتًا عـن‬
‫النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فإن الرافضـة ل تحبـه على مـا هـو عليـه‪ ،‬بـل محبتهـم مـن جنـس محبـة‬
‫اليهود لموسـى والنصـارى لعيسـى‪ ،‬بـل الرافضـة تبغـض نعوت عليّـ وصـفاته‪ ،‬كمـا تبغـض اليهود‬
‫والنصـارى نعوت موسـى وعيسـى‪ ،‬فإنهـم يبغضون مـن أقـر نبوة محمـد صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وكانـا‬
‫مقرين بها صلى ال عليهم أجمعين‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه‪ ،‬مع أنه عليه السلم كان يكثر من ذكر‬
‫خديجة بنت خويلد‪ ،‬وقالت له عائشة‪ :‬إنك تكثر من ذكرها‪ ،‬وقد أبدلك ال خيرًا منها‪ .‬فقال‪ :‬وال ما‬
‫بُدّلت بهـا ما هـو خيـر منهـا؛ صـدّقتني إذ كذبنـي الناس‪ ،‬وآوتنـي إذ طردنـي الناس‪ ،‬وأسـعدتني بمالهـا‪،‬‬
‫ورزقني ال الولد منها‪ ،‬ولم أرزق من غيرها)‪.‬‬
‫والجواب أولً‪ :‬أن يقال‪ :‬إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه‪ ،‬بل قد ذهب‬
‫إلى ذلك كثيـر مـن أهـل السـنة‪ ،‬واحتجوا بمـا فـي الصـحيحين عـن أبـي موسـى وعـن أنـس رضـي ال‬
‫عنهمـا‪ ،‬أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قال‪( :‬فضـل عائشـة على النسـاء كفضـل الثريـد على سـائر‬
‫الطعام)(‪.)2‬‬
‫والثريد هو أفضل الطعمة لنه خبز ولحم‪ ،‬كما قال الشعر‪:‬‬
‫إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة ال الثريعد‬
‫وذلك أن ال ُبرّ أفضـل القوات‪ ،‬واللحـم أفضـل الدام‪ ،‬كمـا فـي الحديـث الذي رواه ابـن قتيبـة وغيره‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬سيد إدام أهل الدنيا والخرة اللحم)(‪ .)3‬فإذا كان اللحم سيد‬
‫الدام‪ ،‬وال ُبرّ سـيد القوات‪ ،‬ومجموعهـا الثريـد‪ ،‬لكان الثريـد أفضـل الطعام‪ .‬وقـد صـح مـن غيـر وجـه‬
‫عن الصادق المصدوق أنه قال‪( :‬فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)‪.‬‬
‫وفي الصحيح عن عمرو بن العاص رضي ال عنه قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول ال أي الناس أحب‬
‫(‪)4‬‬
‫إليك؟ قال‪( :‬عائشة)‪ .‬قلت‪ :‬من الرجال؟ قال‪( :‬أبوها)‪ .‬قلت‪ :‬ثم من؟ قال‪( :‬عمر) وسمّى رجالً ‪.‬‬
‫وهؤلء يقولون‪ :‬قوله لخديجـة‪( :‬مـا أبدلنـي ال بخيـر منهـا)‪ :‬إن صـح معناه‪ :‬مـا أبدلنـي بخيـر لي‬
‫منهـا ؛ لن خديجـة نفعتـه فـي أول السـلم نفعًا لم يقـم غيرهـا فيـه مقامهـا‪ ،‬فكانـت خيرًا له مـن هذا‬
‫الوجه‪ ،‬لكونها نفعته وقت الحاجة‪ ،‬لكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين‪ ،‬فحصل لها من‬
‫العلم واليمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إل أول زمن النبوة‪ ،‬فكانت أفضل بهذه الزيادة‪ ،‬فإن المة‬
‫انتفعـت بهـا أكثـر ممـا انتفعـت بغيرهـا‪ ،‬وبلغـت مـن العلم والسـنة مـا لم يبلغـه غيرهـا‪ ،‬فخديجـة كان‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مسلم‪.)1/86( :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري‪ ،)5/29( :‬ومسلم‪.)189)4/5( :‬‬
‫‪ )(3‬سنن ابن ماجة‪ )2/1099( :‬وهو ضعيف‪.‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬البخاري‪ :‬ج ‪ ،)5/5‬ومسلم‪.)4/1856( :‬‬

‫‪117‬‬
‫خيرهـا مقصـورًا على نفـس النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬لم تبلّغ عنـه شيئًا‪ ،‬ولم تنتفـع بهـا المـة كمـا‬
‫انتفعوا بعائشة‪ ،‬ول كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمال اليمان به ما حصل لمن‬
‫علمه وآمن به بعد كماله‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وأذاعـت سـر رسـول ال صـلى ل عليـه وسـلم‪ ،‬وقال لهـا النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وســلم‪ :‬إنــك تقاتليــن عليّاـ وأنــت ظالمــة له‪ ،‬ثــم إنهــا خالفــت أمــر ال فــي قوله تعالى‪(( :‬وَ َقرْنعَ فِي‬
‫بُيُوتِكُنّ))[الحزاب‪ ،]33:‬وخرجت في مل من الناس لتقاتل عليّا على غير ذنب‪ ،‬لن المسلمين أجمعوا‬
‫على قتل عثمان‪ ،‬وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله‪ ،‬وتقول اقتلوا نعثلً‪ ،‬قتل ال نعثلً‪ ،‬ولما بلغها‬
‫قتله فرحـت بذلك‪ ،‬ثـم سـألت‪ :‬مـن تولى الخلفـة؟ فقالوا‪ :‬عليـّ‪ ،‬فخرجـت لقتاله على دم عثمان‪ ،‬فأي‬
‫ي على ذلك؟ وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك؟ وبأي وجه‬ ‫ذنب كان لعل ّ‬
‫يلقون رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم؟ مـع أن الواحـد منـا لو تحدث مـع امرأة غيره وأخرجهـا مـن‬
‫منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له‪ ،‬وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين‪،‬‬
‫وساعدوها على حرب أمير المؤمنين‪ ،‬ولم ينصر أحد منهم بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم لما‬
‫طلبت حقها من أبي بكر‪ ،‬ول شخص واحد كلّمه بكلمة واحدة))‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن يقال‪ :‬أمـا أهـل السـنة فإنهـم فـي هذا الباب وغيره قائمون بالقسـط شهداء ل‪ ،‬وقولهـم‬
‫حق وعدل ل يتناقض‪ ،‬وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما‬
‫ننبّهـ إن شاء ال تعالى على بعضـه‪ ،‬وذلك أن أهـل السـنة عندهـم أن أهـل بدر كلهـم فـي الجنـة‪ ،‬وكذلك‬
‫أمّهات المؤمنين‪ :‬عائشة وغيرها‪ ،‬وأبو بكر وعمر وعثمان وعل يّ وطلحة والزبير هم سادات أهل‬
‫الجنة بعد النبياء‪ ،‬وأهل السنة يقولون‪ :‬إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلمتهم عن الخطأ‪ ،‬بل ول‬
‫عن الذنب‪ ،‬بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا ويتوب منه‪ ،‬وهذا متفق عليه بين‬
‫المسـلمين‪ ،‬ولو لم يتـب منـه فالصـغائر مغفورة باجتناب الكبائر عنـد جماهيرهـم‪ ،‬بـل وعنـد الكثريـن‬
‫منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها‪ ،‬وبالمصائب المكفّرة وغير ذلك‪.‬‬
‫وإذا كان هذا أصـلهم فيقولون‪ :‬مـا يذكـر عـن الصـحابة مـن السـيّئات كثيـر منـه كذب‪ ،‬وكثيـر منـه‬
‫كانوا مجتهديـن فيـه‪ ،‬ولكـن لم يعرف كثيـر مـن الناس وجـه اجتهادهـم‪ ،‬ومـا قُدّر أنـه كان فيـه ذنـب مـن‬
‫الذنوب لهم فهو مغفور لهم‪ :‬إما بتوبة‪ ،‬وإما بحسنات ماحية‪ ،‬وإما بمصائب مكفّرة‪ ،‬وإما بغير ذلك؛‬
‫فإنـه قـد قام الدليـل الذي يجـب القول بموجبـه أنهـم مـن أهـل الجنـة فامتنـع أن يفعلوا مـا يوجـب النار ل‬
‫محالة‪ ،‬وإذا لم يمت أحد منهم‪ ،‬على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة‪ ،‬ونحن‬
‫قـد علمنـا أنهـم مـن أهـل الجنـة‪ ،‬ولو لم يُعلم أن أولئك المعيّنيـن فـي الجنـة لم يجـز لنـا أن نقدح فـي‬
‫اسـتحقاقهم للجنـة بأمور ل نعلم أنهـا توجـب النار‪ ،‬فإن هذا ل يجوز فـي آحاد المؤمنيـن الذيـن لم يُعلم‬
‫أنهم يدخلون الجنة‪ ،‬ليس لنا أن نشهد لحد منهم بالنار لمور محتملة ل تدل على ذلك‪ ،‬فكيف يجوز‬
‫مثـل ذلك فـي خيار المؤمنيـن‪ ،‬والعلم بتفاصيل أحوال كـل واحد واحـد منهم باطنًا وظاهرًا‪ ،‬وحسـناته‬
‫وسـيئاته واجتهاداتـه‪ ،‬أمـر يتعذر علينـا معرفتـه؟! فكان كلمنـا فـي ذلك كلمًا فيمـا ل نعلمـه‪ ،‬والكلم‬
‫بل علم حرام‪ ،‬فلهذا كان المسـاك عمّا شجـر بيـن الصـحابة خيرًا مـن الخوض فـي ذلك بغيـر علم‬
‫بحقيقـة الحوال‪ ،‬إذ كان كثيـر مـن الخوض فـي ذلك – أو أكثره – كلمًا بل علم‪ ،‬وهذا حرام لو لم‬
‫ى يطلب فيه دفع الحق المعلوم؟‬ ‫ى ومعارضة الحق المعلوم‪ ،‬فكيف إذا كان كلمًا بهو ً‬ ‫يكن فيه هو ً‬
‫وأمـا قوله‪( :‬وأذاعـت سـرّ رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم) فل ريـب أن ال تعالى يقول‪(( :‬وَإِذْ‬

‫‪118‬‬
‫عرَضَع عَنْع‬ ‫عرّفَع بَ ْعضَهُع وََأ ْ‬ ‫ظ َهرَهُع الُ عَ َليْهِع َ‬
‫أَسَعرّ ال ّنبِيّ ِإلَى بَعْضِع َأ ْزوَاجِهِع حَدِيثًا فَ َلمّاع َنبّأَتْع بِهِع وََأ ْ‬
‫خبِير))[التحريم‪.]3:‬‬ ‫ت مَنْ َأ ْنبََأكَ هَذَا قَا َل نَبّأَنيَِ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫بَعْضٍ فَ َلمّا َنبّأَهَا بِهِ قَالَ ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة ‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أولً‪ :‬هؤلء يعمدون إلى نصـوص القرآن التـي فيهـا ذكـر ذنوبٍـ ومعاصٍـ بيّنـة لمـن نصـّت‬
‫عنـه مـن المتقدميـن يتأوّلون النصـوص بأنواع التأويلت‪ ،‬وأهـل السـنة يقولون‪ :‬بـل أصـحاب الذنوب‬
‫تابوا منها ورفع ال درجاتهم بالتوبة‪.‬‬
‫وهذه اليـة ليسـت أوْلى فـي دللتهـا على الذنوب مـن تلك اليات‪ ،‬فإن كان تأويـل تلك سـائغًا كان‬
‫تأويل هذه كذلك‪ ،‬وإن كان تأويل هذه باطلً فتأويل تلك أبطل‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬ثانيًا‪ :‬بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة‪ ،‬فيكونان قد تابتا منه‪ ،‬وهذا ظاهر لقوله‬
‫تعالى‪(( :‬إِنْع َتتُوبَا إِلَى الِ فَقَ ْد صَعغَتْ ُقلُوبُكُمعا))[التحريـم‪ ،]4:‬فدعاهمـا ال تعالى إلى التوبـة‪ ،‬فل يظـن‬
‫بهمـا أنهمـا لم يتوبـا‪ ،‬مـع مـا ثبـت مـن علو درجتهمـا‪ ،‬وأنهمـا زوجتـا نبيّنـا فـي الجنـة‪ ،‬وأن ال خيرهـن‬
‫بيــن الحياة الدنيــا وزينتهــا وبيــن ال ورســوله والدار الخرة‪ ،‬فاخترن ال ورســوله والدار الخرة‪،‬‬
‫ولذلك حرّم ال عليـه أن يتبَدّل بهـن غيرهـن‪ ،‬وحرم عليـه أن يتزوج عليهـن‪ ،‬واختُلف فـي إباحـة ذلك‬
‫له بعد ذلك‪ ،‬ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن‪ ،‬ثم قد تقدّم أن الذنب يُغفر ويُعفى عنه‬
‫بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬ثالثًا‪ :‬المذكور عـن أزواجـه كالمذكور عمّن شُهـد له بالجنـة مـن أهـل بيتـه وغيرهـم مـن‬
‫الصـحابة‪ ،‬فإن عليّاـ لمـا خطـب ابنـة أبـي جهـل على فاطمـة‪ ،‬وقام النـبي صـلى ال عليـه وسـلم خطيبًا‪،‬‬
‫فقال‪( :‬إن بنـي المغيرة اسـتأذنوني أن ينكحوا عليّاـ ابنتهـم‪ ،‬وإنـي ل آذن ثـم ل آذن ثـم ل آذن‪ ،‬إل أن‬
‫يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم‪ ،‬إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني‬
‫ما آذاها) فل يُظن بعلي رضي ال عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط‪ ،‬بل تركها بقلبه وتاب بقلبه‬
‫عما كان طلبه وسعى فيه‪.‬‬
‫وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها‪( :‬تقاتلين عليّا وأنت ظالمة له) فهذا ل يُعرف في شيء من‬
‫كتــب العلم المعتمدة‪ ،‬ول له إســناد معروف‪ ،‬وهــو بالموضوعات المكذوبات أشبــه منــه بالحاديــث‬
‫الصحيحة‪ ،‬بل هو كذب قطعًا‪ ،‬فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال‪ ،‬وإنما خرجت لقصد الصلح‬
‫بين المسلمين‪ ،‬وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين‪ ،‬ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان‬
‫أوْلى‪ ،‬فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها‪.‬‬
‫وأمـا قوله‪( :‬وخالفـت أمـر ال فـي قوله تعالى‪(( :‬وَ َقرْنَع فِي ُبيُوتِكُنّ وَ َل َت َبرّجْنَع تَ َبرّجعَ الْجَاهِ ِل ّيةِ‬
‫الُولَى))[الحزاب‪ )]33:‬فهـي رضـي ال عنـه لم تتـبرج تـبرج الجاهليـة الولى‪ ،‬والمـر بالسـتقرار فـي‬
‫البيوت ل ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها‪ ،‬كما لو خرجت للحج وللعمرة أو خرجت مع زوجها‬
‫فـي سـفره‪ ،‬فإن هذه اليـة قـد نزلت فـي حياة النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وقـد سـافر بهـن رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم بعد ذلك كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي ال عنها وغيرها‪ ،‬وأرسلها‬
‫مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه‪ ،‬وأعمرها من التنعيم‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إنها خرجت في مل من الناس تقاتل عليّا على غير ذنب)‪.‬‬
‫فهذا أولً‪ :‬كذب عليهـا؛ فإنهـا لم تخرج لقصـد القتال‪ ،‬ول كان أيضًا طلحـة والزبيـر قصـدهما قتال‬
‫عليـّ‪ ،‬ولو قدر أنهــم قصــدوا القتال‪ ،‬فهذا هــو القتال المذكور فــي قوله تعالى‪(( :‬وَإِنعْ طَائِفَتَانِع مِنعَ‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري‪ ،)6/156( :‬ومسلم‪.)2/1110( :‬‬

‫‪119‬‬
‫حتّىع تَفِيعء‬ ‫خرَى فَقَاتِلُوا الّتيع تَبْغِي َ‬ ‫علَى الُ ْ‬
‫ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَع ا ْقتَتَلُوا فَأَصْعِلحُوا بَ ْي َنهُمَا فَإِنْع بَغَتْع إِحْدَاهُمَا َ‬
‫ِإلَى َأ ْمرِ ال فَإِنْع فَاءَتْع فَأَصْعلِحُوا َبيْ َن ُهمَا بِالعَ ْد ِل وََأقْسِعطُوا إِنّ الَ يُحِبّ ا ْلمُقْسِعطِين‪ِ .‬إ ّنمَا ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَع‬
‫خ َويْكُم))[الحجرات‪ ]10-9:‬فجعلهـم مؤمنيـن إخوة مـع القتتال‪ ،‬وإذا كان هذا ثابتًا‬ ‫خوَةٌ فَأَصْعلِحُوا بَيْنَع َأ َ‬‫إْ‬
‫لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أوْلى وأحرى‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان)‪.‬‬
‫فجوابه من وجوه‪ :‬أحدها‪ :‬أن يقال‪ :‬أولً‪ :‬هذا من أظهر الكذب وأَبينه ؛ فإن جماهير المسلمين لم‬
‫يأمروا بقتله‪ ،‬ول شاركوا في قتله‪ ،‬ول رضوا بقتله‪.‬‬
‫أما أولً‪ :‬فلن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة‪ ،‬بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة‬
‫ومصر وخراسان‪ ،‬وأهل المدينة بعض المسلمين‪.‬‬
‫وأمعا ثانيًا‪ :‬فلن خيار المسـلمين لم يدخـل واحـد منهـم فـي دم عثمان ل قتـل ول أمـر بقتله‪ ،‬وإنمـا‬
‫قتله طائفـة مـن المفسـدين فـي الرض مـن أوباش القبائل وأهـل الفتـن‪ ،‬وكان عليّـ رضـي ال عنـه‬
‫يحلف دائمًا‪( :‬إنــي مــا قتلت عثمان ول مالت على قتله) ويقول‪( :‬اللهــم العــن قتلة عثمان فــي البر‬
‫والبحر والسهل والجبل) وغاية ما يقال‪ :‬إنهم لم ينصروه حق النصرة‪ ،‬وأنه حصل نوع من الفتور‬
‫والخذلن‪ ،‬حتى تمكن أولئك المفسدون‪ ،‬ولهم في ذلك تأويلت‪ ،‬وما كانوا يظنون أن المر يبلغ إلى‬
‫ما بلغ‪ ،‬ولو علموا ذلك لسدّوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة‪.‬‬
‫الثانعي‪ :‬أن هؤلء الرافضـة فـي غايـة التناقـض والكذب؛ فإنـه مـن المعلوم أن الناس أجمعوا على‬
‫بيعــة عثمان مــا لم يجمعوا على قتله؛ فإنهــم كلهــم بايعوه فــي جميــع الرض‪ ،‬فإن جاز الحتجاج‬
‫بالجماع الظاهـر‪ ،‬فيجـب أن تكون بيعتـه حقًا لحصـول الجماع عليهـا‪ ،‬وإن لم يجـز الحتجاج بـه‪،‬‬
‫بطلت حجتهـم بالجماع على قتله‪ ،‬ل سـيما ومـن المعلوم أنـه لم يباشـر قتله إل طائفـة قليلة‪ ،‬ثـم إنهـم‬
‫ينكرون الجماع على بيعتـه‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنمـا بايـع أهـل الحـق منهـم خوفًا وكرهًا‪ .‬ومعلوم أنهـم لو‬
‫اتفقوا كلهم على قتله‪ ،‬وقال قائل‪ :‬كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفًا وتقيّة على أنفسهم‪،‬‬
‫لكان هذا أقرب إلى الحـق‪ ،‬لن العادة قد جرت بأن مـن يريد قتل الئمـة يخيف مـن ينازعـه‪ ،‬بخلف‬
‫من يريد مبايعة الئمة‪ ،‬فإنه ل يخيف المخالف‪ ،‬كما يخيف من يريد قتله‪ ،‬فإن المريدين للقتل أسرع‬
‫إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة‪.‬‬
‫فهذا لو قُدّر أن جميـع الناس ظهـر منهـم المـر بقتله‪ ،‬فكيـف وجمهورهـم أنكروا قتله‪ ،‬ودافـع عنـه‬
‫ي وعبد ال بن الزبير وغيرهما؟‬ ‫من دافع في بيته‪ ،‬كالحسن بن عل ّ‬
‫ثـم دعوى المدّعـي الجماع على قتـل عثمان مـع ظهور النكار مـن جماهيـر المـة له وقيامهـم فـي‬
‫النتصـار له والنتقام ممـن قتله‪ ،‬أظهـر كذبًا مـن دعوى المدّعـي إجماع الئمـة على قتـل الحسـين‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬
‫فلو قال قائل‪:‬إن الحسـين قتـل بإجماع الناس‪ ،‬لن الذيـن قاتلوه وقتلوه لم يدفعهـم أحـد عـن ذلك‪ ،‬لم‬
‫يكـن كذبـه بأظهـر مـن كذب المدّعـي للجماع على قتـل عثمان؛فإن الحسـين رضـي ال عنـه لم يعظـم‬
‫إنكار المـة لقتله‪ ،‬كمـا عظـم إنكارهـم لقتـل عثمان‪ ،‬ول انتصـر له جيوش كالجيوش الذيـن انتصـرت‬
‫لعثمان‪ ،‬ول انتقـم أعوانـه مـن أعدائه كمـا انتقـم أعوان عثمان مـن أعدائه‪ ،‬ول حصـل بقتله مـن الفتنـة‬
‫والشــر والفســاد مــا حصــل بقتــل عثمان‪ ،‬ول كان قتله أعظــم إنكارًا عنــد ال وعنــد رســوله وعنــد‬
‫المؤمنيـن مـن قتـل عثمان؛فإن عثمان مـن أعيان السـابقين الوليـن مـن المهاجريـن مـن طبقـة عليّـ‬
‫وطلحة والزبير‪ ،‬وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته‪ ،‬بل لم يُشْهر في المة سيفًا ول قتل على‬

‫‪120‬‬
‫وليته أحدًا‪ ،‬وكان يغزو بالمسلمين الكفّار بالسيف‪ ،‬وكان السيف في خلفته كما كان في خلفة أبي‬
‫بكر وعمر مسلولً على الكفّار‪ ،‬مكفوفًا عن أهل القبلة‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬إن عائشـة كانـت فـي كـل وقـت تأمـر بقتـل عثمان‪ ،‬وتقول فـي كـل وقـت‪ :‬اقتلوا نعثلً‪،‬‬
‫قتل ال نعثلً‪ ،‬ولما بلغها قتله فرحت بذلك)‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬أول‪ :‬أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟‬
‫ويقال‪ :‬ثانيًا‪ :‬المنقول الثابـت عنهـا يكذّب ذلك‪ ،‬ويـبين أنهـا أنكرت قتله‪ ،‬وذمّت مـن قتله‪ ،‬ودعـت‬
‫على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬ثالثًا‪ :‬هـب أن واحدًا مـن الصـحابة‪ :‬عائشـة أو غيرهـا قال فـي ذلك على وجـه الغضـب‪،‬‬
‫لنكاره بعـض مـا ينكـر‪ ،‬فليـس قوله حجـة‪ ،‬ول يقدح ذلك ل فـي إيمان القائل ول المقول له‪ ،‬بـل قـد‬
‫يكون كلهمـا وليّاـ ل تعالى مـن أهـل الجنـة‪ ،‬ويظـن أحدهمـا جواز قتـل الخـر‪ ،‬بـل يظـن كفره‪ ،‬وهـو‬
‫مخطئ في هذا الظن‪.‬‬
‫والكلم فـي الناس يجـب أن يكون بعلم وعدل‪ ،‬ل بجهـل وظلم‪ ،‬كحال أهـل البدع ؛ فإن الرافضـة‬
‫تعمــد إلى أقوام متقاربيــن فــي الفضيلة‪ ،‬تريــد أن تجعــل أحدهمــا معصــومًا مــن الذنوب والخطايــا‪،‬‬
‫والخـر مأثومًا فاسـقًا أو كافرًا‪ ،‬فيظهـر جهلهـم وتناقضهـم‪ ،‬كاليهودي والنصـراني إذا أراد أن يثبـت‬
‫نبوّة موسـى أو عيسـى‪ ،‬مـع قدحـه فـي نبوة محمـد صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬فإنـه يظهـر عجزه وجهله‬
‫وتناقضه‪.‬‬
‫وأمـا قوله‪( :‬إنهـا سـألت مـن تولّى الخلفـة؟ فقالوا‪ :‬عليّـ فخرجـت لقتاله على دم عثمان‪ ،‬فأي ذنـب‬
‫كان لعليّ في ذلك؟)‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬أولً‪ :‬قول القائل‪ :‬إن عائشـة وطلحـة والزبيـر اتهموا عليّاـ بأنـه قتـل عثمان وقاتلوه على‬
‫ذلك‪ ،‬كذب بيّن‪ ،‬بـل إنمـا طلبوا القتلة الذيـن كانوا تحيّزوا إلى عليـّ‪ ،‬وهـم يعلمون أن براءة عليّـ مـن‬
‫دم عثمان كـبراءتهم وأعظـم‪ ،‬لكـن القتلة كانوا قـد أووا إليـه‪ ،‬فطلبوا قتـل القتلة‪ ،‬ولكـن كانوا عاجزيـن‬
‫عن ذلك هم وعليّ‪ ،‬لن القوم كانت لهم قبائل يذبّون عنهم‪.‬‬
‫والفتنـة إذا وقعـت عجـز العقلء فيهـا عـن دفـع السـفهاء‪ ،‬فصـار الكابر رضـي ال عنهـم عاجزيـن‬
‫ظَلمُوا‬
‫عن إطفاء الفتنة وكف أهلها‪ ،‬وهذا شأن الفتن‪ ،‬كما قال تعالى‪(( :‬وَاتّقوا ِف ْت َنةً َل ُتصِ َيبَنّ الّذِينَ َ‬
‫صةً))[النفال‪ ]25:‬وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إل من عصمه ال‪.‬‬ ‫مِنْ ُكمْ خَا َ‬
‫وأيضًا‪ :‬قوله‪( :‬أي ذنب كان لعليّ في قتله؟)‪.‬‬
‫تناقض منه‪ ،‬فإنه يزعم أن عليّا كان ممن يستحل قتله وقتاله‪ ،‬وممن ألّب عليه وقام في ذلك‪ ،‬فإن‬
‫عليّا رضي ال عنه نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته ومن شيعة عثمان‪ ،‬هؤلء لبغضهم لعثمان‬
‫علَى عليّ‪.‬‬ ‫وهؤلء لبغضهم لعليّ‪ ،‬وأما جماهير المسلمين فيعلمون كذب الطائفتين َ‬
‫والرافضعة تقول‪ :‬إن عليّاـ كان ممـن يسـتحل قتـل عثمان‪ ،‬بـل وقتـل أبـي بكـر وعمـر‪ ،‬وترى أن‬
‫العانــة على قتله مــن الطاعات والقربات‪ ،‬فكيــف يقول مــن هذا اعتقاده‪ :‬أيّـ ذنــب كان لعلي ـّ على‬
‫ذلك؟ وإنما يليق هذا التنزيه لعليّ بأقوال أهل السنة‪ ،‬لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضًا‪.‬‬
‫وأمععا قوله‪( :‬وكيــف اســتجاز طلحــة والزبيــر وغيرهمــا مطاوعتــه على ذلك؟ وبأي وجــه يلقون‬
‫رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم؟ مـع أن الواحـد منـا لو تحدث مـع امرأة غيره وأخرجهـا مـن منزلهـا‬
‫وسافر بها كان أشد الناس عداوة له)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا مـن تناقـض الرافضـة وجهلهـم ؛ فإنهـم يرمون عائشـة بالعظائم‪ ،‬ثـم منهـم مـن يرميهـا‬

‫‪121‬‬
‫بالفاحشة التي برّأها ال منها‪ ،‬وأنزل القرآن في ذلك‪.‬‬
‫ثـم إنهـم لفرط جهلهـم يدّعون ذلك فـي غيرهـا مـن نسـاء النـبياء‪ ،‬فيزعمون أن امرأة نوح كانـت‬
‫غ ْيرُ‬
‫ع َملٌ َ‬
‫َب ِغيّاــ‪ ،‬وأن البــن الذي دعاه نوح لم يكــن منــه وإنمــا كان منهــا‪ ،‬وأن معنــى قوله‪ِ(( :‬إنّه عُ َ‬
‫ل غيـر صـالح‪ .‬ومنهـم مـن يقرأ‪(( :‬وَنَادَى نُوحٌع ا ْبنَهعُ))[هود‪]42:‬‬ ‫صعَالِح))[هود‪ ]46:‬أن هذا الولد مـن عم ٍ‬
‫س مِنْ أَهِْلكَ))[هود‪ ]46:‬ويتأوّلون قولـه تعالى‪(( :‬ضرَبَ الُ‬ ‫يريدون‪ :‬ابنها‪ ،‬ويحتجون بقوله‪ِ(( :‬إنّهُ َليْ َ‬
‫همَا))[التحريم‪:‬‬ ‫حيْنِ فَخَا َنتَا ُ‬
‫عبَا ِدنَا صَالِ َ‬
‫ن مِنْ ِ‬
‫عبْ َديْ ِ‬
‫مَثَلً لِلّذِينَ كَ َفرُوا ا ْمرَأَ َة نُوحٍ وَا ْمرَأَةَ لُوطٍ كَا َنتَا تَحْتَ َ‬
‫‪ ]10‬على أن امرأة نوح خانته في فراشه‪ ،‬وأنها كانت قَحبة‪.‬‬
‫وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الفك الذين رموا عائشة بالفك والفاحشة ولم يتوبوا‪،‬‬
‫و فيهم خطب النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪( :‬يا أيها الناس‪ ،‬من يعذرني من رجل بلغني أذاه في‬
‫أهلي‪ ،‬وال ما علمت على أهلي إل خيرا‪ ،‬ولقد ذكروا رجلً‪ ،‬وال ما علمت عليه إل خيرًا)(‪.)1‬‬
‫ومـن المعلوم أنـه مـن أعظـم أنواع الذى للنسـان أن يكذب على امرأتـه رجـل ويقول‪ :‬إنهـا بغـى‬
‫ويجعـل الزوج زوج قحبـة‪ ،‬فإن هذا مـن أعظـم مـا يشتـم بـه الناس بعضهـم بعضًا‪ ،‬حتـى إنهـم يقولون‬
‫في المبالغة‪ :‬شتمه بالزاي والقاف مبالغة في شتمه‪.‬‬
‫والرمي بالفاحشة – دون سائر المعاصي – جعل ال فيه حد القذف‪ ،‬لن الذى الذي يحصل به‬
‫للمرمـي ل يحصـل مثله بغيره‪ ،‬فإنـه لو ُرمِيَـ بالكفـر أمكنـه تكذيـب الرامـي بمـا يظهره مـن السـلم‪،‬‬
‫بخلف الرمـي بالفاحشـة ؛ فإنـه ل يمكنـه تكذيـب المفترى بمـا يضاد ذلك‪ ،‬فإن الفاحشـة تخفـى وتكتـم‬
‫مع تظاهر النسان بخلف ذلك‪.‬‬
‫ثم من جهل الرافضة أنهم يعظّمون أنساب النبياء‪ :‬آباءهم وأبناءهم ويقدحون في أزواجهم ؛ كل‬
‫ذلك عصـــبية واتّباع هوى حتـــى يعظّمون فاطمـــة والحســـن والحســـين‪ ،‬ويقدحون فـــي عائشـــة أم‬
‫المؤمنيـن‪ ،‬فيقولون ‪-‬أو مـن يقول منهـم‪ :-‬إن آزر أبـا إبراهيـم كان مؤمنًا‪ ،‬وإن أبوي النـبي صـلى ال‬
‫عليـه وسـلم كانـا مؤم َنيْنـِ‪ ،‬حتـى ل يقولون‪ :‬إن النـبي يكون أبوه كافرًا‪ ،‬فإذا كان أبوه كافرًا أمكـن أن‬
‫يكون ابنه كافرًا‪ ،‬فل يكون في مجرد النسب فضيلة‪.‬‬
‫وأمــا قوله‪( :‬كيـف أطاعهـا على ذلك عشرات ألوف مــن المســلمين وسـاعدوها على حرب أميـر‬
‫المؤمنيـن‪ ،‬ولم ينصـر أحـد منهـم بنـت رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم لمـا طلبـت حقّهـا مـن أبـي بكـر‬
‫رضي ال عنه‪ ،‬ول شخص واحد كلّمه بكلمة واحدة)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أولً‪ :‬هذا مـن أعظـم الحجـج عليـك ؛ فإنـه ل يشـك عاقـل أن القوم كانوا يحبون رسـول ال‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم ويعظمونـه ويعظمون قـبيلته وبنتـه أعظـم ممـا يعظمون أبـا بكـر وعمـر‪ ،‬ولو لم‬
‫يكن هو رسول ال صلى ال عليه وسلم فكيف إذا كان هو رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي هو‬
‫أحـب إليهم من أنفسهم وأهليهم؟ول يستريب عاقل أن العرب‪-‬قريشًا وغير قريش‪-‬كانت تدين لبني‬
‫عبـد مناف وتعظّمهـم أعظـم ممـا يعظّمون بنـي تيـم وعدي‪ ،‬ولهذا لمـا مات رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسلم وتولّى أبو بكر‪ ،‬قيل لبي قحافة‪:‬مات رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪:‬حدث عظيم‪ ،‬فمن‬
‫ولي بعده؟ قالوا‪ :‬أبو بكر‪ .‬قال‪ :‬أو رضيت بنو عبد مناف وبنو مخزوم؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬ذلك فضل‬
‫ال يؤتيه من يشاء‪ ،‬أو كما قال‪.‬‬
‫ولهذا جاء أبــو ســفيان إلى عليـّ‪ ،‬فقال‪ :‬أرضيتــم أن يكون هذا المــر فــي بنــي تيــم؟ فقال‪ :‬يــا أبــا‬
‫سفيان‪ ،‬إن أمر السلم ليس كأمر الجاهلية‪ ،‬أو كما قال‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري‪ )3/173( :‬وغيه وتقدم ص‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫فإذا كان المسـلمون كلهـم ليـس فيهـم مـن قال‪ :‬إن فاطمـة رضـي ال عنهـا مظلومـة‪ ،‬ول أن لهـا حقًا‬
‫عند أبي بكر وعمر رضي ال عنهما ول أنهما ظلماها‪ ،‬ول تكلّم أحد في هذا بكلمة واحدة‪-‬دل ذلك‬
‫على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة‪ ،‬إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها‪ :‬إما‬
‫ل وإضاعة لحقها‪ ،‬وإما بغضًا فيها‪ ،‬إذ الفعل الذي يقدر عليه النسان‬ ‫عجزًا عن نصرتها‪ ،‬وإما إهما ً‬
‫إذا أراده إرادة جازمــة فعله ل محالة‪ ،‬فإذا لم يرده – مــع قيام المقتضــي لرادتــه –فإمــا أن يكون‬
‫جاهلً به‪ ،‬أو له معارض يمنعه من إرادته‪ ،‬فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها‪،‬‬
‫وأن أباهــا أفضــل الخلق وأحبهــم إلى أمتــه‪ ،‬وهــم يعلمون أنهــا مظلومــة –لكانوا إمــا عاجزيــن عــن‬
‫نصـرتها‪ ،‬وإمـا أن يكون لهـم معارض عارض إرادة النصـر مـع بغضهـا‪ ،‬وكل المريـن باطـل ؛ فإن‬
‫القوم مـا كانوا كلهـم عاجزيـن أن يتكلم واحـد منهـم بكلمـة حـق‪ ،‬وهـم كانوا أقدر على تغييـر مـا هـو‬
‫أعظم من هذا‪.‬‬
‫وهذا وغيره ممــا يــبيّن أن المــر على نقيــض مــا تقوله الرافضــة مــن أكاذيبهــم‪ ،‬وأن القوم كانوا‬
‫يعلمون أن فاطمـة لم تكـن مظلومـة أصـلً‪ ،‬فكيـف ينتصـر القوم لعثمان حتـى سـفكوا دماءهـم‪ ،،‬ول‬
‫ينتصرون لمن هو أحب إليهم من عثمان‪ ،‬وهو رسول ال صلى ال عليه وسلم وأهل بيته؟!‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وسـمّوها أم المؤمنيـن ولم يسـمّوا غيرهـا بذلك‪ ،‬ولم يسـمّوا أخاهـا محمـد بـن أبـي‬
‫بكـر‪ -‬مـع عظـم شأنـه وقربـه مـن منزلة أبيـه وأختـه عائشـة أم المؤمنيـن – فلم يسـموه خال المؤمنيـن‪،‬‬
‫وسـموا معاويـة بـن أبـي سـفيان خال المؤمنيـن‪ ،‬لن أختـه أم حبيبـة بنـت أبـي سـفيان إحدى زوجات‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأخت محمد بن أبي بكر وأبوه أعظم من أخت معاوية ومن أبيها)‪.‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬أمـا قوله‪( :‬إنهـم سـموا عائشـة رضـي ال عنهـا أم المؤمنيـن ولم يسـموا غيرهـا‬
‫بذلك))‪.‬‬
‫فهذا من البهتان الواضح الظاهر لكل أحد‪ ،‬وما أدري هل هذا الرجل وأمثاله يتعمّدون الكذب‪ ،‬أم‬
‫أعمــى ال أبصــارهم لفرط هواهــم حتــى خفــى عليهــم أن هذا كذب؟! وهــم ينكرون على بعــض‬
‫النواصب أن الحسين لما قال لهم‪ :‬أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم؟‬
‫قالوا‪ :‬وال مــا نعلم ذلك‪ ،‬وهذا ل يقوله ول يجحــد نســب الحســين إل متعمدًا للكذب والفتراء‪ ،‬ومــن‬
‫أعمى ال بصيرته باتّباع هواه حتى يخفى عليه مثل هذا؟ فإن عين الهوى عمياء‪ ،‬والرافضة أعظم‬
‫جحدًا للحـق تعمدًا‪ ،‬وأعمـى مـن هؤلء ؛ فإن منهـم ‪-‬مـن المنتسـبين إليهـم‪ -‬كالنصـيرية وغيرهـم مـن‬
‫يقول‪ :‬إن الحسـن والحسين ما كانا أولد عل يّ‪ ،‬بل أولد سلمان الفارسـي‪ ،‬ومنهـم مـن يقول‪ :‬إن عليّا‬
‫لم يمت‪ ،‬وكذلك يقولون عن غيره‪.‬‬
‫ومنهعم معن يقول‪ :‬إن أبـا بكـر وعمـر ليسـا مدفونيـن عنـد النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ومنهـم مـن‬
‫يقول‪ :‬إن رقيـة وأم كلثوم زوجتـي عثمان ليسـتا بنتـي النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ولكـن همـا بنتـا‬
‫خديجـة مـن غيره‪ ،‬ولهـم فـي المكابرات وجحـد المعلومات بالضرورة أعظـم ممـا لولئك النواصـب‬
‫الذين قتلوا الحسين‪ ،‬وهذا مما يبين أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين‪.‬‬
‫وذلك أنه من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى ال عليه وسلم يقال لها (أم المؤمنين)‬
‫عائشـة‪ ،‬وحفصـة‪ ،‬وزينـب بنـت جحـش‪ ،‬وأم سـلمة‪ ،‬و سـودة بنـت زمعـة‪ ،‬وميمونـة بنـت الحارث‬
‫الهلليـة‪ ،‬وجويريـة بنـت الحارث المصـطلقية‪ ،‬وصـفية بنـت حـي بـن أخطـب الهارونيـة‪ ،‬رضـي ال‬
‫جهُ ُأ ّمهَا ُتهُمْ))[الحزاب‪ ]6:‬وهذا‬
‫سهِ ْم وََأ ْزوَا ُ‬
‫ن مِنْ َأنْ ُف ِ‬
‫عنهن‪ ،‬وقد قال ال تعالى‪(( :‬ال ّنبِيّ َأ ْولَى بِا ْل ُم ْؤ ِمنِي َ‬

‫‪123‬‬
‫أمـر معلوم للمـة علمًا عامًا‪ ،‬وقـد أجمـع المسـلمون على تحريـم نكاح هؤلء بعـد موتـه على غيره‪،‬‬
‫وعلى وجوب احترامهـن؛فهـن أمهات المؤمنيـن فـي الحرمـة والتحريـم‪ ،‬ولسـن أمهات المؤمنيـن فـي‬
‫المحرميـة‪ ،‬فل يجوز لغيـر أقاربهـن الخلوة بهـن‪ ،‬ول السـفر بهـن‪ ،‬كمـا يخلو الرجـل ويسـافر بذوات‬
‫محارمه‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬وعظم شأنه)‪.‬‬
‫فإن أراد عظـم نسـبه‪ ،‬فالنسـب لحرمـة له عندهـم؛ لقدحهـم فـي أبيـه وأختـه‪ ،‬وأمـا أهـل السـنة فإنمـا‬
‫عنْدَ الِع َأتْقَاكُم))[الحجرات‪ ]13:‬وإن‬
‫يعظّمون بالتقوى‪ ،‬ل بمجرد النســب‪ ،‬قال تعالى‪(( :‬إِنّ َأ ْكرَمَكُم عْ ِ‬
‫أراد عظـم شأنـه لسـابقته وهجرتـه ونصـرته وجهاده‪ ،‬فهـو ليـس مـن الصـحابة‪ :‬ل مـن المهاجريـن ول‬
‫النصار‪ ،‬وإن أراد بعظم شأنه أنه كان من أعلم الناس وأَ ْديَنهم‪ ،‬فليس المر كذلك‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬وأخت محمد وأبوه أعظم من أخت معاوية وأبيها)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذه الحجــة باطلة على الصــلين‪ ،‬وذلك أن أهــل الســنة ل يفضلون الرجــل إل بنفســه‪ ،‬فل‬
‫ينفع محمدًا قربه من أبي بكر وعائشة‪ ،‬ول يضر معاوية أن يكون ذلك أفضل نسبًا منه‪ ،‬وهذا أصل‬
‫معروف لهل السنة‪ ،‬كما لم يضـر السابقين الوّلين من المهاجرين والنصار الذين أنفقوا من قبل‬
‫الفتح وقاتلوا‪ ،‬كبلل وصهيب وخبّاب وأمثالهم‪ ،‬أن يكون من تأخر عنهم من الطلقاء وغيرهم‪ ،‬كأبي‬
‫سـفيان بـن حرب وابنيـه‪ :‬معاويـة ويزيـد وأبـي سـفيان بـن الحارث بـن عبـد المطلب وعقيـل بـن أبـي‬
‫طالب ونحوهم‪ ،‬أعظم نسبًا منهم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬مع أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لعن معاوية الطليق بن الطليق اللعين بن‬
‫اللعيـن‪ ،‬وقال‪ :‬إذا رأيتـم معاويـة على منـبري فاقتلوه‪ ،‬وكان مـن المؤلفـة قلوبهـم‪ ،‬وقاتـل عليّاـ وهـو‬
‫عندهم رابع الخلفاء‪ ،‬إمام حق‪ ،‬وكل من حارب إمام حق فهو باغٍ ظالم)‪.‬‬
‫قال‪( :‬وسـبب ذلك محبـة محمـد بـن أبـي بكـر لعليّـ عليـه السـلم‪ ،‬ومفارقتـه لبيـه‪ ،‬وبغـض معاويـة‬
‫لعليّـ ومحاربتـه له‪ ،‬وسـموه كاتـب الوحـي ولم يكتـب له كلمـة واحدة مـن الوحـي‪ ،‬بـل كان يكتـب له‬
‫رسـائل‪ ،‬وقـد كان بيـن يدي النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أربعـة عشـر نفسـًا يكتبون الوحـي‪ ،‬أولهـم‬
‫وأخصهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلم‪ ،‬مع أن معاوية لم يزل مشركًا بال تعالى في‬
‫مدة كون النبي صلى ال عليه وسلم مبعوثًا يكذّب بالوحي ويهزأ بالشرع)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن يقال‪ :‬أمـا مـا ذكره مـن أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم لعـن معاويـة وأمـر بقتله إذا‬
‫رؤي على المنبر‪ ،‬فهذا الحديث ليس في شيء من كتب السلم التي يرجع إليها في علم النقل‪ ،‬وهو‬
‫عنـد أهـل المعرفـة بالحديـث كذب موضوع مختلق على النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وهذا الرافضـي‬
‫الراوي له لم يذكر له إسنادًا حتى ينظر فيه‪ ،‬وقد ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات‪.‬‬
‫وممـا يـبيّن كذبـه أن منـبر النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قـد صـعد عليـه بعـد معاويـة مـن كان معاويـة‬
‫خيرًا منـه باتفاق المسـلمين‪ ،‬فإن كان يجـب قتـل مـن صـعد عليـه لمجرد الصـعود على المنـبر‪ ،‬وجـب‬
‫قتـل هؤلء كلهـم‪ ،‬ثـم هذا خلف المعلوم بالضطرار مـن ديـن السـلم‪ ،‬فإن مجرد صـعود المنـبر ل‬
‫يبيح قتل مسلم‪ ،‬وإن أمر بقتله لكونه تولّى المر وهو ل يصلح‪ ،‬فيجب قتل كل من تولّى المر بعد‬
‫معاويـة ممـن معاويـة أفضـل منـه‪ ،‬وهذا خلف مـا تواترت بـه السـنن عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫من نهيه عن قتل ولة المور وقتالهم‪ ،‬كما تقدم بيانه‪.‬‬
‫ثـم المـة متفقـة على خلف هذا ؛ فإنهـا لم تقتـل كـل مـن تولّى أمرهـا ول اسـتحلّت ذلك‪ ،‬ثـم هذا‬

‫‪124‬‬
‫يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولية كل ظالم‪ ،‬فكيف يأمر النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫بشيء يكون فعله أعظم فسادًا من تركه؟!‬
‫وأما قوله‪( :‬إنه الطليق ابن الطليق)‪.‬‬
‫فهذا ليس نعت ذم‪ ،‬فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح‪ ،‬الذين أسلموا عام فتح مكة‪ ،‬وأطلقهم النبي صلى‬
‫ال عليـه وسـلم‪ ،‬وكانوا نحوًا مـن ألفَيْـ رجـل‪ ،‬وفيهـم مـن صـار مـن خيار المسـلمين‪ ،‬كالحارث بـن‬
‫هشام‪ ،‬وسهل بن عمرو‪ ،‬وصفوان بن أميّة‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ ،‬ويزيد بن أبي سفيان‪ ،‬وحكيم‬
‫بـن حزام‪ ،‬وأبـي سـفيان بـن الحارث بـن عبـد المطلب ابـن عـم النـبي صـلى ال عليـه وسـلم الذي كان‬
‫يهجوه ثم حسن إسلمه‪ ،‬وعتّاب بن أسيد الذي ولّه النبي صلى ال عليه وسلم مكة لما فتحها‪ ،‬وغير‬
‫حسُنَ إسلمه‪.‬‬
‫هؤلء ممن َ‬
‫ومعاويــة ممــن حَس ـُن إســلمه باتفاق أهــل العلم‪ ،‬ولهذا ولّه عمــر بــن الخطاب رضــي ال عنــه‬
‫موضـع أخيـه يزيـد بـن أبـي سـفيان لمـا مات أخوه يزيـد بالشام‪ ،‬وكان يزيـد بـن أبـي سـفيان مـن خيار‬
‫الناس‪ ،‬وكان أحد المراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام‪ :‬يزيد بن أبي سفيان‪ ،‬وشرحبيل بن‬
‫حسـنة‪ ،‬وعمرو بـن العاص‪ ،‬مـع أبـي عُبيدة بـن الجراح‪ ،‬وخالد بـن الوليـد‪ ،‬فلمـا توفـي يزيـد بـن أبـي‬
‫سفيان ولّى عمر مكانه أخاه معاوية‪ ،‬وعمر لم تكن تأخذه في ال لومة لئم‪ ،‬وليس هو ممن يحابـى‬
‫في الولية‪ ،‬ول كان ممن يحب أبا سفيان أباه‪ ،‬بل كان من أعظم الناس عداوة لبيه أبي سفيان قبل‬
‫السـلم‪ ،‬حتـى إنـه لمـا جاء بـه العباس يوم فتـح مكـة كان عمـر حريصـًا على قتله‪ ،‬حتـى جرى بينـه‬
‫وبين العباس نوع من المخاشنة بسبب بغض عمر لبي سفيان‪ ،‬فتولية عمر لبنه معاوية ليس لها‬
‫سبب دنيوي‪ ،‬ولول استحقاقه للمارة لما أمّره‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬كان معاوية من الم َؤلّفة قلوبهم)‪.‬‬
‫نعم وأكثر الطلقاء كلهم من المؤلفة قلوبهم‪ ،‬كالحارث بن هشام‪ ،‬وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل‪،‬‬
‫وسـهيل بـن عمرو‪ ،‬وصـفوان بـن أميـة‪ ،‬وحكيـم بـن حزام‪ ،‬وهؤلء مـن خيار المسـلمين‪ ،‬والمؤلّفـة‬
‫قلوبهـم غالبهـم حسـُن إسـلمه‪ ،‬وكان الرجـل منهـم يُسـلم أول النهار رغبـة منـه فـي الدنيـا‪ ،‬فل يجيـء‬
‫آخر النهار إل والسلم أحب إليه مما طلعت عليه الشمس‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬وقاتـل عليّاـ وهـو عندهـم رابـع الخلفاء إمام حـق‪ ،‬وكـل مـن قاتـل إمام حقٍـ فهـو باغٍـ‬
‫ظالم)‪.‬‬
‫فيقال له‪ :‬أول‪ :‬الباغي قد يكون متأوّل معتقدًا أنه على حق‪ ،‬وقد يكون متعمدًا يعلم أنه با غٍ‪ ،‬وقد‬
‫يكون َب ْغيُ ُه مركّبا من شبهة وشهوة‪ ،‬وهو الغالب‪ ،‬وعلى كل تقدير فهذا ل يقدح فيما عليه أهل السنة‬
‫؛ فإنهـم ل ينزّهون معاويـة ول مـن هـو أفضـل منـه مـن الذنوب‪ ،‬فضل عـن تنزيههـم عـن الخطـأ فـي‬
‫الجتهاد‪ ،‬بــل يقولون‪ :‬إن الذنوب لهــا أســباب تُدفــع عقوبتهــا مــن التوبــة والســتغفار‪ ،‬والحســنات‬
‫الماحية‪ ،‬والمصائب المكفّرة‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم‪.‬‬
‫ويقال لهعم‪ :‬ثانيًا‪ :‬أمـا أهـل السـنة فأصـلهم مسـتقيم مطّرد فـي هذا الباب‪ ،‬وأمـا أنتـم فمتناقضون‪،‬‬
‫وذلك أن النواصب – من الخوارج وغيرهم – الذين يكفّرون عليّا أو يف سّقونه أو يشكّون في عدالته‬
‫مـن المعتزلة والمروانيـة وغيرهـم‪ ،‬لو قالوا لكـم‪ :‬مـا الدليـل على إيمان عليّـ وإمامتـه وعدله؟ لم يكـن‬
‫لكم حجة ؛ فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلمه وعبادته‪ ،‬قالوا لكم‪ :‬وهذا متواتر عن الصحابة‪،‬‬
‫والتابعين والخلفاء الثلثة‪ ،‬وخلفاء بني أمية كمعاوية ويزيد وعبد الملك وغيرهم‪ ،‬وأنتم تقدحون في‬
‫ي وغيره إل وقدحكم في إيمان هؤلء أعظم‪ ،‬والذين تقدحون أنتم‬ ‫إيمانهم‪ ،‬فليس قدحنا في إيمان عل ّ‬

‫‪125‬‬
‫فيهـم أعظـم مـن الذيـن نقدح نحـن فيهـم‪ ،‬وإن احتججتـم بمـا فـي القرآن مـن الثناء والمدح‪ ،‬قالوا‪ :‬آيات‬
‫القرآن عامـة تتناول أبـا بكـر وعمـر وعثمان وغيرهـم مثـل مـا تتناول عليّاـ وأعظـم مـن ذلك‪ ،‬وأنتـم قـد‬
‫أخرجتـم هؤلء مـن المدح والثناء فإخراجنـا عليّاـ أيسـر‪ ،‬وإن قلتـم بمـا جاء عـن النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم فـي فضائله‪ :‬قالوا‪ :‬هذه الفضائل روتهـا الصـحابة الذيـن رووا فضائل أولئك‪ ،‬فإن كانوا عدولً‬
‫فاقبلوا الجميع‪ ،‬وإن كانوا ف سّاقا فإن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا‪ ،‬وليس لحد أن يقول في الشهود‪ :‬إنهم‬
‫إن شهدوا لي كانوا عدول‪ ،‬وإن شهدوا علي ــّ كانوا فس ــّاقا‪ ،‬أو‪ :‬إن شهدوا بمدح مـــن أحببتـــه كانوا‬
‫عدولً‪ ،‬وإن شهدوا بمدح من أبغضته كانوا فسّاقًا‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إن سبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ‪ ،‬ومفارقته لبيه)‪.‬‬
‫ل له أقـل مـن ثلث سـنين‪،‬‬ ‫فكذب بيّن‪ ،‬وذلك أن محمـد بـن أبـي بكـر فـي حياة أبيـه لم يكـن إل طف ً‬
‫وبعـد موت أبيـه كان مـن أشـد الناس تعظيمًا لبيـه‪ ،‬وبـه كان يتشرف‪ ،‬وكانـت له بذلك حرمـة عنـد‬
‫الناس‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬إن سـبب قولهـم لمعاويـة‪ :‬إنـه خال المؤمنيـن دون محمـد‪ ،‬إن محمدًا هذا كان يحـب‬
‫عليّا‪ ،‬ومعاوية كان يبغضه)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا كذب أيضًا؛ فإن عبـد ال بـن عمـر كان أحـق بهذا المعنـى مـن هذا وهذا‪ ،‬وهـو لم يقاتـل‬
‫ظمًا لعليّ‪ ،‬محبًا له‪ ،‬يذكر فضائله ومناقبه‪ ،‬وكان مبايعًا لمعاوية لما‬ ‫ل مع هذا ول مع هذا‪ ،‬وكان مع ّ‬
‫اجتمع عليه الناس غير خارج عليه‪ ،‬وأخته أفضل من أخت معاوية‪ ،‬وأبوه أفضل من أبي معاوية‪،‬‬
‫والناس أكثر محبة وتعظيمًا له من معاوية ومحمد‪ ،‬ومع هذا فلم يشتهر عنه أنه خال المؤمنين‪ ،‬فعُلم‬
‫أنه ليس سبب ذلك ما ذكره‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأما قول الرافضي‪( :‬وسمّوه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي)‪.‬‬
‫فهذا قول بل حجة ول علم‪ ،‬فما الدليل على أنه لم يكتب كلمة واحدة من الوحي‪ ،‬وإنما كان يكتب‬
‫له رسائل؟‬
‫وقوله‪( :‬إن كتاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصّهم وأقربهم إليه عليّ)‪.‬‬
‫فل ريب أن عليّا كان ممن يكتب له أيضًا‪ ،‬كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية‪،‬‬
‫ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضًا‪ ،‬ويكتب له زيد بن ثابت بل ريب‪.‬‬
‫منِين))[النساء‪]95:‬‬
‫ن مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِ‬
‫ففي الصحيحين أن زيد بن ثابت لما نزلت‪(( :‬لّ َيسْ َتوِي الْقَاعِدُو َ‬
‫كتبها له(‪.)1‬وكتب له أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعليّ‪ ،‬وعامر بن فهيرة‪ ،‬وعبد ال بن الرقم‪ ،‬وأبيّ‬
‫بن كعب‪ ،‬وثابت بن قيس‪ ،‬وخالد بن سعيد بن العاص‪ ،‬وحنظلة بن الربيع السدي‪ ،‬وزيد بن ثابت‪،‬‬
‫ومعاوية‪ ،‬وشُرحبيل بن حسنة رضي ال عنهم‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إن معاوية لم يزل مشركًا مدة كون النبي صلى ال عليه وسلم مبعوثًا)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬ل ريـب أن معاويـة وأباه وأخاه وغيرهـم أسـلموا عام فتـح مكـة‪ ،‬قبـل موت النـبي صـلى ال‬
‫عليـه وسـلم بنحـو مـن ثلث سـنين‪ ،‬فكيـف يكون مشركًا مدة المبعـث‪ ،‬ومعاويـة رضـي ال عنـه كان‬
‫حين بُعث النبي صلى ال عليه وسلم صغيرًا‪ ،‬كانت هند ترقّصه‪ ،‬ومعاوية رضي ال عنه أسلم مع‬
‫مسلمة الفتح‪ ،‬مثل‪ :‬أخيه يزيد‪ ،‬وسهيل بن عمرو‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ ،‬وأبي‬
‫سـفيان بـن حرب‪ ،‬وهؤلء كانوا قبـل إسـلمهم أعظـم كفرًا ومحاربـة للنـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـن‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري‪:‬ج ‪ ،)6/48‬ومسلم‪.)3/1508( :‬‬

‫‪126‬‬
‫معاوية‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وكان باليمـن يوم الفتـح يطعـن على رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وكتـب إلى‬
‫ص َب ْوتَ إلى دين محمد؟)‪.‬‬ ‫أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلمه‪ ،‬ويقول‪َ :‬أ َ‬
‫والجواب‪ :‬أما قوله‪( :‬كان باليمن يطعن على النبي صلى ال عليه وسلم وكتب إلى أبيه صخر بن‬
‫حرب يعيّره بإسلمه وكتب إليه البيات)‪.‬‬
‫فهذا من الكذب المعلوم ؛ فإن معاوية إنما كان بمكة‪ ،‬لم يكن باليمن‪ ،‬وأبوه أسلم قبل دخول النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم مكة بمر الظهران ليلة نزل بها‪ ،‬وقال له العباس‪ :‬إن أبا سفيان يحب الشرف‪،‬‬
‫فقال النبي صـلى ال عليـه وسلم‪( :‬مـن دخل دار أبي سفيان فهـو آمن‪ ،‬ومن دخـل المسجد فهـو آمن‪،‬‬
‫ومن ألقى السلح فهو آمن)(‪.)1‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬إن الفتـح كان فـي رمضان لثمان مـن مقدم النـبي صـلى ال عليـه وسـلم المدينـة) فهذا‬
‫صحيح‪.‬‬
‫ش ْركِهِـ هاربًا مـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬لنـه كان‬ ‫وأمعا قوله‪( :‬إن معاويـة كان مقيمًا على ِ‬
‫أهدر دمـه‪ ،‬فهرب إلى مكـة‪ ،‬فلمـا لم يجـد له مأوى صـار إلى النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مضطرًا‪،‬‬
‫فأظهر السلم‪ ،‬وكان إسلمه قبل موت النبي صلى ال عليه وسلم بخمسة أشهر)‪.‬‬
‫فهذا من أظهر الكذب ؛ فإن معاوية أسلم عام الفتح باتفاق الناس‪ ،‬وقد تقدّم قوله‪( :‬إنه من المؤلفة‬
‫قلوبهـم) والمؤلفـة قلوبهـم أعطاهـم النـبي صـلى ال عليـه وسـلم عام حنيـن مـن غنائم َهوَازن‪ ،‬وكان‬
‫معاويـة ممـن أعطاه منهـا‪ ،‬والنـبي صـلى ال عليـه وسـلم كان يتألّف السـادة المطاعيـن فـي عشائرهـم‪،‬‬
‫فإن كان معاويـة هاربًا لم يكـن مـن المؤلفـة قلوبهـم‪ ،‬ولو لم يسـلم إل قبـل موت النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسلم بخمسة أشهر لم يُعط شيئًا من غنائم حنين‪.‬‬
‫ومن كانت غايته أن يؤمن لم يحتج إلى تأليف‪.‬‬
‫ومما يبين كذب ما ذكره هذا الرافضي أنه لم يتأخر إسلم أحد من قريش إلى هذه الغاية‪ ،‬وأهل‬
‫السير والمغازي متفقون على أنه لم يكن معاوية ممن أُهدر دمه عام الفتح‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إنه استحق أن يُوصف بذلك دون غيره)‪.‬‬
‫ففرية على أهل السنة ؛ فإنه ليس فيهم من يقول‪ :‬إن هذا من خصائص معاوية‪ ،‬بل هو واحد من‬
‫كتاب الوحي‪ .‬وأما عبد ال بن سعد بن أبي سرح فارتد عن السلم‪ ،‬وافترى على النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ثم إنه عاد إلى السلم‪.‬‬
‫ش َرحَ بِالْكُ ْف ِر صَدْراً))[النحل‪ ]106:‬الية)‪.‬‬
‫ن َ‬‫ن مَ ْ‬
‫وأما قوله‪( :‬إنه نزل فيه‪(( :‬وَلَكِ ْ‬
‫فهــو باطــل ؛ فإن هذه اليــة نزلت بمكــة‪ ،‬لمــا أُكره عمّار وبلل على الكفــر‪ ،‬وردة هذا كانــت‬
‫بالمدينـة بعـد الهجرة‪ ،‬ولو قُدّر أنـه نزلت فيـه هذه اليـة؛ فالنـبي صـلى ال عليـه وسـلم قَبِل إسـلمه‬
‫وبايعه‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬وقـد روى عبـد ال بـن عمـر قال‪ :‬أتيـت النـبي صـلى ال عليـه وسـلم فسـمعته يقول‪:‬‬
‫(يطلع عليكـم رجـل يموت على غيـر سـنتي) فطلع معاويـة‪ ،‬وقام النـبي صـلى ال عليـه وسـلم خطيبًا‪،‬‬
‫فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬لعن ال القائد‬
‫والمقود‪ ،‬أي‪ :‬يوم يكون للمة مع معاوية ذي الساءة)‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم ‪.)3/1407‬‬

‫‪127‬‬
‫فالجواب أن يقال‪ :‬أولً‪ :‬نحــن نطالب بصــحة الحديــث؛ فإن الحتجاج بالحديــث ل يجوز إل بعــد‬
‫ثبوته‪ ،‬ونحن نقول هذا في مقام المناظرة‪ ،‬وإل فنحن نعلم قطعًا أنه كذب‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬ثانيًا‪ :‬هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث‪ ،‬ول يوجد في شيء‬
‫من دواوين الحديث التي يُرجع إليها في معرفة الحديث‪ ،‬ول له إسناد معروف‪.‬‬
‫وهذا المحتـج بـه لم يذكـر له إسـنادًا‪ .‬ثـم مـن جهله أن يروي مثـل هذا عـن عبـد ال بـن عمـر‪ ،‬وعبـد‬
‫ال بن عمر كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة‪ ،‬وأروى الناس لمناقبهم‪ ،‬وقوله في مدح معاوية‬
‫معروف ثابـت عنـه‪ ،‬حيـث يقول‪( :‬مـا رأيـت بعـد رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم أَسْـوَد مـن معاويـة‪،‬‬
‫قيل له‪ :‬ول أبو بكر وعمر؟ فقال‪ :‬كان أبو بكر وعمر خيراً منه‪ ،‬وما رأيت بعد رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أسود من معاوية)‪.‬‬
‫قال أحمد بن حنبل‪ :‬السيد الحليم ‪-‬يعني معاوية‪ -‬وكان معاوية كريمًا حليمًا‪.‬‬
‫ثم إن خطب النبي صلى ال عليه وسلم لم تكن واحدة‪ ،‬بل كان يخطب في الجمع والعياد والحج‬
‫وغيـر ذلك‪ .‬ومعاويـة وأبوه يشهدان الخطـب‪ ،‬كمـا يشهدهـا المسـلمون كلهـم‪ ،‬افتراهمـا فـي كـل خطبـة‬
‫كانـا يقومان و ُي َمكّنان مـن ذلك؟ هذا قدح فـي النـبي صـلى ال عليـه وسـلم وفـي سـائر المسـلمين‪ ،‬إذ‬
‫يمكّنون اثنيــن دائمًا يقومان ول يحضران الخطبــة ول الجمعــة‪ ،‬وإن كانــا يشهدان كــل خطبــة‪ ،‬فمــا‬
‫بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها؟‬
‫وأما قوله‪( :‬إنه بالغ في محاربة علي)‪.‬‬
‫فل ريب أنه اقتتل العسكران‪ :‬عسكر علي ومعاوية بصفين‪ ،‬ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب‬
‫ابتداءً‪ ،‬بل كان من أشد الناس حرصًا على أن ل يكون قتال‪ ،‬وكان غيره أحرص على القتال منه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫إذا تـبين هذا فيقال‪ :‬قول الرافضـة مـن أفسـد القوال وأشدهـا تناقضًا؛ فإنهـم يعظّمون المـر على‬
‫مـن قاتـل عليّاـ‪ ،‬ويمدحون مـن قتـل عثمان‪ ،‬مـع أن الذم والثـم لمـن قتـل عثمان أعظـم مـن الذم والثـم‬
‫لمـن قتـل عليّاـ‪ ،‬فإن عثمان كان خليفـة اجتمـع الناس عليـه‪ ،‬ولم يقتـل مسـلمًا‪ ،‬وقـد قتلوه لينخلع مـن‬
‫المـر‪ ،‬فكان عذره فـي أن يسـتمر على وليتـه أعظـم مـن عذر عليّـ فـي طلبـه لطاعتهـم له‪ ،‬وصَـَبرَ‬
‫عثمان حتى قُتل مظلومًا شهيدًا من غير أن يدفع عن نفسه‪ ،‬وعل يّ بدأ بالقتال أصحاب معاوية‪ ،‬ولم‬
‫يكونوا يقاتلونه‪ ،‬ولكن امتنع من بيعته‪.‬‬
‫وإن قيل‪ :‬إن عثمان فعل أشياء أنكروها‪.‬‬
‫قيل‪ :‬تلك الشياء لم تبح خلعه ول قتله‪ ،‬وإن أباحت خلعه وقتله كان ما نقموه على عل يّ أوْلى أن‬
‫يبيح ترك مبايعته‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬الخلفـة ثلثون سـنة) ونحـو ذلك‪ ،‬فهذه الحاديـث لم تكـن مشهورة شهرة يعلمهـا مثـل‬
‫أولئك ؛ إنما هي من نقل الخاصة ل سيما وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما‪ ،‬وإذا كان عبد‬
‫ي عليه قول النبي صلى ال عليه وسلم لعائشة رضي ال عنها‪( :‬لول أن قومك‬ ‫الملك بن مروان خَفِ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫حديث وعهد بالجاهلية لنقضت الكعبة‪ ،‬وللصقتها بالرض‪ ،‬ولجعلت لها بابين) ونحو ذلك حتى‬
‫هدم مـا فعله ابـن الزبيـر‪ ،‬ثـم لمـا بلغـه ذلك قال‪ :‬وددت أنّي وليتـه مـن ذلك مـا توله‪ ،‬مـع أن حديـث‬
‫عائشـة رضـي ال عنهـا ثابـت صـحيح متفـق على صـحته عنـد أهـل العلم‪ ،‬فلن يخفـى على معاويـة‬
‫وأصـحابه قوله‪( :‬الخلفـة بعدي ثلثون سـنة ثـم تصـير ملكًا) بطريـق الوْلى‪ ،‬مـع أن هذا فـي أول‬
‫‪ )(1‬الديث ف البخاري (‪ )2/146‬ومسلم (‪.)2/968‬‬

‫‪128‬‬
‫ي عينًا‪ ،‬وإنما عُلمت دللته على ذلك لما مات رضي ال‬ ‫خلفة عل يّ رضي ال عنه ل يدل على عل ّ‬
‫عنه‪ ،‬مع أنه ليس نصّا في إثبات خليفة معيّن‪ ،‬وهم يقولون‪:‬‬
‫ل منـه وإمـا عجزًا منـه عـن نصـرتنا‪ ،‬فليـس علينـا أن نبايـع مـن نُظلم‬ ‫إذا كان ل ينصـفنا إمـا تأوي ً‬
‫بوليته‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إن معاوية قتل جمعًا كثيرًا من خيار الصحابة)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬الذيـن قُتلوا قُتلوا مـن الطائفتيـن ؛ قتـل هؤلء مـن هؤلء‪ ،‬وهؤلء مـن هؤلء‪ ،‬وأكثـر الذيـن‬
‫كانوا يختارون القتال مــن الطائفتيــن لم يكونوا يطيعون ل عليّا ـ ول معاويــة‪ ،‬وكان علي ّـ ومعاويــة‬
‫رضى ال عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين‪ ،‬لكن غُلبا فيما وقع‪ ،‬والفتنة إذا ثارت عجز‬
‫الحكماء عـن إطفاء نارهـا‪ ،‬وكان فـي العسـكرين‪ ،‬مثـل‪ :‬الشتـر النخعـي‪ ،‬وهاشـم بـن عُتبـة المرقال‪،‬‬
‫وعبـد الرحمـن بـن خالد بـن الوليـد‪ ،‬وأبـي العور السـلمي‪ ،‬ونحوهـم مـن المحرضيـن على القتال قوم‬
‫ينتصرون لعثمان غاية النتصار‪ ،‬وقوم ينفّرون عنه‪ ،‬وقوم ينتصرون لعليّ وقوم ينفّرون عنه‪.‬‬
‫وأمـا مـا ذكره مـن لعـن عليـّ‪ ،‬فإن التلعـن وقـع مـن الطائفتيـن كمـا وقعـت المحاربـة‪ ،‬وكان هؤلء‬
‫يلعنون رءوس هؤلء فـي دعائهـم‪ ،‬وهؤلء يلعنون رءوس هؤلء فـي دعائهـم‪ ،‬وقيـل‪ :‬إن كـل طائفـة‬
‫كانت تقنت على الخرى‪ ،‬والقتال باليد أعظم من التلعن باللسان‪.‬‬
‫ثم من العجب أن الرافضة تنكر سب عل يّ‪ ،‬وهم يسبّون أبا بكر وعمر وعثمان ويكفّرونهم ومن‬
‫والهم‪ ،‬ومعاوية رضي ال عنه وأصحابه ما كانوا يكفّرون عليّا‪ ،‬وإنما يكفّره الخوارج المارقون‪،‬‬
‫والرافضة شر منهم‪.‬‬
‫ول ريب أنه ل يجوز سب أحد من الصحابة‪ :‬ل عليّ ول عثمان ول غيرهما‪ ،‬ومن سب أبا بكر‬
‫وعمر وعثمان فهو أعظم إثمًا ممن سب عليّا‪ ،‬وإن كان متأولً فتأويله أفسد من تأويل من سب عليّا‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إن معاوية سمّ الحسن)‪.‬‬
‫فهذا ممـا ذكره بعـض الناس‪ ،‬ولم يثبـت ذلك ببيّنـة شرعيـة‪ ،‬أو إقرار معتـبر‪ ،‬ول بنقـل يُجزم بـه‪،‬‬
‫وهذا مما ل يمكن العلم به‪ ،‬فالقول به قول بل علم‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬وقتل ابنه يزيد مولنا الحسين ونهب نساءه)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬إن يزيـد لم يأمـر بقتـل الحسـين باتفاق أهـل النقـل‪ ،‬ولكـن كتـب إلى ابـن زياد أن يمنعـه عـن‬
‫ولية العراق‪ .‬والحسين رضي ال عنه كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويفون له بما كتبوا إليه‪،‬‬
‫فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل‪ ،‬فلما قتلوا مسلمًا وغدروا به وبايعوا ابن زياد‪ ،‬أراد الرجوع‬
‫فأدركتـه السـرية الظالمـة‪ ،‬فطلب أن يذهـب إلى يزيـد‪ ،‬أو يذهـب إلى الثغـر‪ ،‬أو يرجـع إلى بلده‪ ،‬فلم‬
‫يمكّنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر لهم‪ ،‬فامتنع‪ ،‬فقاتلوه حتى قُتل شهيدًا مظلومًا رضي ال عنه‪،‬‬
‫ولمـا بلغ ذلك يزيـد أظهـر التوجّع على ذلك‪ ،‬وظهـر البكاء فـي داره‪ ،‬ولم يسـب له حريمًا أصـلً‪ ،‬بـل‬
‫أكرم أهل بيته‪ ،‬وأجازهم حتى ردّهم إلى بلدهم‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬وكسـر أبوه ثنيّة النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وأكلت أمّه كبـد حمزة عـم النـبي صـلى‬
‫ال عليه وسلم)‪.‬‬
‫فل ريـب أن أبـا سـفيان بـن حرب كان قائد المشركيـن يوم أُحُد‪ ،‬وكُسـرت ذلك اليوم ثنيّة النـبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬كسـرها بعـض المشركيـن‪ ،‬لكـن لم يقـل أحـد‪ :‬إن أبـا سـفيان باشـر ذلك‪ ،‬وإنمـا‬
‫كسرها عُتبة بن أبي وقاص‪ ،‬وأخذت هند كبد حمزة فلكتها‪ ،‬فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها‪.‬‬
‫وكان هذا قبـل إسـلمهم‪ ،‬ثـم بعـد ذلك أسـلموا وحسـن إسـلمهم وإسـلم هنـد‪ ،‬وكان النـبي صـلى ال‬

‫‪129‬‬
‫ن يَ ْن َتهُوا يُغْفَر‬
‫جبّ ما قبله‪ ،‬وقد قـال ال تعالى‪ُ (( :‬قلْ ِللذِي نَ كَ َفرُوا ِإ ْ‬‫عليه وسلم يكرمها‪ ،‬والسلم يَ ُ‬
‫َلهُم مَا قَ ْد سَ َلفَ))[النفال‪.]38:‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وسمّوا خالد بن الوليد سيف ال عنادًا لمير المؤمنين‪ ،‬الذي هو أحق بهذا السم‪،‬‬
‫حيث قتل بسيفه الكفّار)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أمـا تسـمية خالد بـن الوليـد بسـيف ال فليـس هـو مختصـًا بـه‪ ،‬بـل هـو‪( :‬سـيف مـن سـيوف ال‬
‫سلّه ال على المشركين)(‪ )1‬هكذا جاء في الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والنبي صلى ال‬
‫عليه وسلم هو أول من سمّاه بهذا السم‪ ،‬كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أيوب السختياني‪،‬‬
‫عـن حميـد بـن هلل‪ ،‬عـن أنـس بـن مالك رضـي ال عنـه‪ ،‬أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم َنعَى زيدًا و‬
‫جعفرًا وابـن رواحـة للناس قبـل أن يأتيـه خـبرهم‪ ،‬فقال‪( :‬أخـذ الرايـة زيـد فأُصـيب‪ ،‬ثـم أخذهـا جعفـر‬
‫فأُصيب‪ ،‬ثم أخذها ابن رواحة فأُصيب وعيناه تذرفان‪ ،‬حتى أخذها سيف من سيوف ال خالد حتى‬
‫فتح ال عليهم)(‪.)2‬‬
‫وأما قوله‪( :‬عليّ أحق بهذا السم)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬أولً‪ :‬من الذي نازع في ذلك؟ ومن قال‪ :‬إن عليّا لم يكن سيفًا من سيوف ال‪ ،‬وقول النبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم الذي ثبـت فـي الصـحيح يدل على أن ل سـيوفًا متعددة‪ ،‬ول ريـب أن عليّاـ مـن‬
‫أعظمهـا‪ ،‬ومـا فـي المسـلمين مـن يفضّلـ خالدًا على عليـّ‪ ،‬حتـى يقال‪ :‬إنهـم جعلوا هذا مختصـّا بخالد‪،‬‬
‫والتسمية بذلك وقعت من النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم‬
‫الذي قال‪ :‬إن خالدًا سيف من سيوف ال‪.‬‬
‫ل مـن أن تجعـل فضيلتـه أنـه سـيف مـن سـيوف ال ؛‬ ‫ثـم يقال‪ :‬ثانيًا‪ :‬عليّـ أجلّ قدرًا مـن خالد‪ ،‬وأج ّ‬
‫فإن عليّاـ له مـن العلم والبيان والديـن واليمان والسـابقة مـا هـو بـه أعظـم مـن أن تُجعـل فضيلتـه أنـه‬
‫سيف من سيوف ال ؛ فإن السيف خاصته القتال‪ ،‬وعل يّ كان القتال أحد فضائله ؛ بخلف خالد فإنه‬
‫كان هو فضيلته التي تميّز بها على غيره‪ ،‬لم يتقدم بسابقة ول كثرة علم ول عظيم زهد‪ ،‬وإنما تقدم‬
‫بالقتال ؛ فلهذا عبّر عن خالد بأنه سيف من سيوف ال‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬إن عليّا قتل بسيفه الكفار)‪.‬‬
‫فل ريــب أنــه لم يقتــل إل بعــض الكفّار‪ ،‬وكذلك ســائر المشهوريــن بالقتال مــن الصــحابة كعمــر‬
‫والزبيـر وحمزة والمقداد وأبـي طلحـة والبراء بـن مالك وغيرهـم رضـي ال عنهـم‪ ،‬مـا منهـم مـن أحـد‬
‫ش َركَ في دمه‪.‬‬ ‫إل قتل بسيفه طائفة من الكفّار‪ ،‬والبراء بن مالك قتل مائة رجل مبارزة‪ ،‬غير من َ‬
‫وأما قوله‪( :‬وقال فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬عليّ سيف ال وسهم ال)‪.‬‬
‫فهذا الحديـث ل يُعرف فـي شيـء مـن كتـب الحديـث‪ ،‬ول له إسـناد معروف‪ ،‬ومعناه باطـل ؛ فإن‬
‫عليّا ليس هو وحده سيف ال وسهمه‪ ،‬وهذه العبارة يقتضي ظاهرها الحصر‪.‬‬
‫وكذلك مـا نقـل عـن عليّـ رضـي ال عنـه أنـه قال على المنـبر‪( :‬أنـا سـيف ال على أعدائه ورحمتـه‬
‫لوليائه)‪.‬‬
‫فهذا ل إسـناد له‪ ،‬ول يُعرف له صـحة‪ ،‬لكـن إن كان قاله فمعناه صـحيح‪ ،‬وهـو قدر مشترك بينـه‬
‫وبين أمثاله‪.‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه أحد‪ .‬انظر‪ :‬السند (‪)1/173‬طبعة العارف‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪ )5/27( :‬والسند (‪.)3/113‬‬

‫‪130‬‬
‫وأما قوله‪( :‬وخالد لم يزل عدوًا لرسول ال صلى ال عليه وسلم مك ّذبًا له))‪.‬‬
‫فهذا كان قبل إسلمه‪ ،‬كما كان الصحابة كلهم مكذّبين له قبل السلم‪ ،‬من بني هاشم وغير بني‬
‫هاشم‪ ،‬مثل‪ :‬أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب‪ ،‬وأخيه ربيعة‪ ،‬وحمزة عمه‪ ،‬وعقيل‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬وبعثـه النـبي صـلى ال عليـه وسـلم إلى بنـي جَذِيمـة ليأخـذ منهـم الصـدقات‪ ،‬فخانـه وخالفـه‬
‫على أمره وقتـل المسـلمين‪ ،‬فقام النـبي صـلى ال عليـه وسـلم خطيبًا بالنكار عليـه رافعًا يديـه إلى‬
‫السماء حتى شوهد بياض إبطيه‪ ،‬وهو يقول‪( :‬اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) ثم أنفذ إليه بأمير‬
‫المؤمنين لتلفي فارطه‪ ،‬وأمره أن يسترضي القوم من فعله)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا النقل فيه من الجهل والتحريف ما ل يخفى على من يعلم السيرة ؛ فإن النبي صلى ال‬
‫عليـه وسـلم أرسـله إليهـم بعـد فتـح مكـة ليسـلموا‪ ،‬فلم يحسـنوا أن يقولوا‪ :‬أسـلمنا‪ ،‬فقالوا‪ :‬صـبأنا صـبأنا‪،‬‬
‫فلم يقبل ذلك منهم‪ ،‬وقال‪ :‬إن هذا ليس بإسلم‪ ،‬فقتلهم‪ ،‬فأنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة‪،‬‬
‫كسالم مولى أبي حذيفة‪ ،‬وعبد ال بن عمر‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬ولما بلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم رفع‬
‫يديـه إلى السـماء‪ ،‬وقال‪( :‬اللهـم إنـي أبرأ إليـك ممـا صـنع خالد) لنـه خاف أن يطالبـه ال بمـا جرى‬
‫عليهـم مـن العدوان‪ ،‬وقـد قال تعالى‪(( :‬فإِنْع عَصَعوْكَ فَ ُقلْ ِإنّيع َبرِي ٌء مِمّاع تَ ْعمَلُونعَ))[الشعراء‪ ]216:‬ثـم‬
‫أرسل عليّا وأرسل معه مالً‪ ،‬فأعطاهم نصف الديات‪ ،‬وضمن لهم ما تلف حتى مِيَلغَة الكلب‪ ،‬ودفع‬
‫إليهم ما بقي احتياطًا لئل يكون بقي شيء لم يعلم به‪.‬‬
‫ومع هذا فالنبي صلى ال عليه وسلم لم يعزل خالدًا عن المارة‪ ،‬بل ما زال يؤمّره ويقدّمه‪ ،‬لن‬
‫الميـر إذا جرى منـه خطـأ أو ذنـب أُمـر بالرجوع عـن ذلك‪ ،‬وأُق ّر على وليتـه‪ ،‬ولم يكـن خالدًا معاندًا‬
‫للنـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬بـل كان مطيعـا له‪ ،‬ولكـن لم يكـن فـي الفقـه والديـن بمنزلة غيره‪ ،‬فخفـي‬
‫عليه حكم هذه القضية‪.‬‬
‫ويُقال‪ :‬إنـه كان بينـه وبينهـم عداوة فـي الجاهليـة‪ ،‬وكان ذلك ممـا حرّكـه على قتلهـم‪ ،‬وعليّـ كان‬
‫رسولً في ذلك‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إنه أمره أن يسترضي القوم من فعله)‪.‬‬
‫فكلمُ جاهل ؛ فإنما أرسله لنصافهم وضمان ما تلف لهم‪ ،‬ل لمجرد السترضاء‪.‬‬
‫وكذلك قوله عن خالد‪( :‬إنه خانه وخالف أمره وقتل المسلمين)‪.‬‬
‫كذب على خالد ؛فإن خالدًا لم يتعمد خيانة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول مخالفة أمره‪ ،‬ول قتل‬
‫مـن هـو مسـلم معصـوم عنده‪ ،‬ولكنـه أخطـأ كمـا أخطـأ أسـامة بـن زيـد فـي الذي قتله بعـد أن قال‪ :‬ل إله‬
‫إل ال‪ ،‬وقتل السرية لصاحب الغنَيمْةَ الذي قال‪ :‬أنا مسلم‪ ،‬فقتلوه وأخذوا غنمه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬ولما قُبض النبي صلى ال عليه وسلم وأنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم‬
‫ألفًا ومائتـي نفـر مـع تظاهرهـم بالسـلم‪ ،‬وقتـل مالك بـن نويرة صـبرًا وهـو مسـلم‪ ،‬وعرّس بامرأتـه‪،‬‬
‫وسمّوا بني حنيفة أهل الردة؛ لنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر لنهم لم يعتقدوا إمامته‪ ،‬واستحلّ‬
‫دماءهم وأموالهم ونساءهم حتى أنكر عمر عليه‪ ،‬فسمّوا مانع الزكاة مرتدًا‪ ،‬ولم يسمّوا من استحلّ‬
‫دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتدًا‪ ،‬مع أنهم سمعوا قول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬يا‬
‫عليّ‪ ،‬حربك حربي وسلمك سلمي‪ ،‬ومحارب رسول ال صلى ال عليه وسلم كافر بالجماع)‪.‬‬
‫والجواب بعععد أن يقال‪ :‬ال أكــبر على هؤلء المرتديــن المفتريــن‪ ،‬أتباع المرتدّيــن الذيــن برزوا‬
‫بمعاداة ال ورسوله وكتابه ودينه‪ ،‬ومرقوا من السلم ونبذوه وراء ظهورهم‪ ،‬وشاقّوا ال ورسوله‬

‫‪131‬‬
‫وعباده المؤمنيـن‪ ،‬وتولوا أهـل الردة والشقاق‪ ،‬فإن هذا الفصـل وأمثاله مـن كلمهـم يحقـق أن هؤلء‬
‫القوم المتعصبين على الصدّيق رضي ال عنه وحزبه من جنس المرتدّين الكفار‪ ،‬كالمرتدين الذين‬
‫قاتلهم الصديق رضي ال عنه‪.‬‬
‫وذلك أن أهـل اليمامـة هـم بنـو حنيفـة الذيـن كانوا قـد آمنوا بمسـيلمة الكذاب‪ ،‬الذي ادّعـى النبوة فـي‬
‫حياة النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وكان قـد قدم المدينـة وأظهـر السـلم‪ ،‬وقال‪ :‬إن جعـل محمـد لي‬
‫المـر مـن بعده آمنـت بـه‪ ،‬ثـم لمـا صـار إلى اليمامـة ادّعـى أنـه شريـك النـبي صـلى ال عليـه وسـلم فـي‬
‫عنْفُوة‪ ،‬وكان قــد‬
‫النبوّة‪ ،‬وأن النــبي صــلى ال عليــه وســلم ص ـدّقه على ذلك‪ ،‬وشهــد له الرَجّال بــن ُ‬
‫ص ـنّف قرآنــا يقول فيــه‪( :‬والطاحنات طحنًا‪ ،‬فالعاجنات عجنًا‪ ،‬فالخابزات خبزًا‪ ،‬إهالة وســمنًا‪ ،‬إن‬
‫الرض بيننـا و بيـن قريـش نصـفين‪ ،‬ولكـن قريـش قوم ل يعدلون)‪ .‬ومنـه قوله لعنـه ال‪( :‬يـا ضفدع‬
‫بنـت ضفدعيـن‪ ،‬نقّي كـم تنقّيـن‪ ،‬ل الماء تكدّريـن‪ ،‬ول الشارب تمنعيـن‪ ،‬رأسـك فـي الماء وذنبـك فـي‬
‫الطيــن) ومنــه قوله لعنــه ال‪( :‬الفيــل ومــا أدراك مــا الفيــل‪ ،‬له زلوم طويــل‪ ،‬إن ذلك مــن خلق ربنــا‬
‫الجليل) ونحو ذلك من الهذيان السمج الذي قال فيه الصديق رضي ال عنه لقومه لما قرؤوه عليه‪:‬‬
‫(ويلكم! أين يذهب بعقولكم‪ ،‬إن هذا كلم لم يخرج من إله)‪.‬‬
‫وكان هذا الكذّاب قـد كتب للنبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬من مسيلمة رسول ال إلى محمد رسـول‬
‫ال‪ .‬أما بعد‪ :‬فإني قد أُشركت في المر معك) فكتب إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬من محمد‬
‫رسول ال إلى مسيلمة الكذّاب) فلما توفي رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث إليه أبو بكر خالد بن‬
‫الوليد فقاتله بمن معه من المسلمين‪ ،‬بعد أن قاتل خالد بن الوليد طليحة السديّ‪ ،‬الذي كان أيضًا قد‬
‫ادّعـى النبوة‪ ،‬واتبعـه طوائف مـن أهـل نجـد‪ ،‬فلمـا نصـر ال المؤمنيـن على هؤلء وهزموهـم‪ ،‬وقُتـل‬
‫ذلك اليوم عُكاشــة بــن محصــن الســدي‪ ،‬وأســلم بعــد ذلك طليحــة الســدي هذا‪ ،‬ذهبوا بعــد ذلك إلى‬
‫مسـيلمة الكذّاب باليمامـة‪ ،‬ولقـي المؤمنون فـي حربـه شدة عظيمـة‪ ،‬وقتـل فـي حربـه طائفـة مـن خيار‬
‫الصحابة‪ ،‬مثل‪ :‬زيد بن الخطاب‪ ،‬وثابت بن قيس بن الشمّاس‪ ،‬وأُسيد بن حضير وغيرهم‪.‬‬
‫وفـي الجملة فأمـر مسـيلمة الكذّاب وادعاؤه النبوة واتّباع بنـي حنيفـة له باليمامـة‪ ،‬وقتال الصـدّيق‬
‫لهـم على ذلك‪ ،‬أمـر متواتـر مشهور‪ ،‬قـد علمـه الخاص والعام‪ ،‬كتواتـر أمثاله‪ ،‬وليـس هذا مـن العلم‬
‫الذي تفرّد بـه الخاصـّة‪ ،‬بـل علم الناس بذلك أظهـر مـن علمهـم بقتال الجمـل وصـفّين‪ ،‬فقـد ذُكـر عـن‬
‫بعـض أهـل الكلم أنـه أنكـر الجمـل وصـفّين‪ ،‬وهذا النكار ‪-‬وإن كان باطلً‪ -‬فلم نعلم أحدًا أنكـر قتال‬
‫أهل اليمامة‪ ،‬وأن مسيلمة الكذاب ادّعى النبوة‪ ،‬وأنهم قاتلوه على ذلك‪.‬‬
‫لكن هؤلء الرافضة من جحدهم لهذا وجهلهم به بمنزلة إنكارهم لكون أبي بكر وعمر دفنا عند‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإنكارهم لموالة أبي بكر وعمر للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ودعواهم‬
‫أنـه نصّـ على عليّـ بالخلفـة‪ ،‬بـل منهـم مـن ينكـر أن تكون زينـب ورقيّةـ وأم كلثوم مـن بنات النـبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنهن لخديجة من زوجها الذي كان كافرًا قبل النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫ومنهعم معن يقول‪ :‬إن عمـر غصـب بنـت عليّـ حتـى زوّجـه بهـا‪ ،‬وأنـه تزوج غصـبًا فـي السـلم‪،‬‬
‫ومنهـم مـن يقول‪ :‬إنهـم بعجوا بطـن فاطمـة حتـى أُسـقطت‪ ،‬وهدموا سـقف بيتهـا على مـن فيـه‪ ،‬وأمثال‬
‫هذه الكاذيب التي يعلم من له أدنى علم ومعرفة أنها كذب‪ ،‬فهم دائمًا يعمدون إلى المور المعلومة‬
‫المتواترة ينكرونهـا‪ ،‬وإلى المور المعدومـة التـي ل حقيقـة لهـا يثبتونهـا‪ ،‬فلهـم أوفـر نصـيب مـن قوله‬
‫علَى الِ كَذِبًا َأوْ كَذّبَع بِا ْلحَقّ))[العنكبوت‪ ،]68:‬فهـم يفترون الكذب‬
‫تعالى‪َ (( :‬ومَنْع َأظْلَمُع ِممّنِع ا ْفتَرَى َ‬

‫‪132‬‬
‫ويكذّبون بالحق‪ ،‬وهذا حال المرتدين‪.‬‬
‫وهـم يدّعون أن أبـا بكـر وعمـر ومـن اتّبعهمـا ارتدّوا عـن السـلم‪ ،‬وقـد علم الخاص والعام أن أبـا‬
‫بكـر هـو الذي قاتـل المرتدّيـن‪ ،‬فإذا كانوا يدّعون أن أهـل اليمامـة مظلومون قُتلوا بغيـر حـق‪ ،‬وكانوا‬
‫منكريــن لقتال أولئك متأوّليــن لهــم‪ ،‬كان هذا ممــا يحقــق أن هؤلء الخلف تبــع لهؤلء الســلف‪ ،‬وأن‬
‫الصدّيق وأتباعه يقاتلون المرتدّين في كل زمان‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬إنهم سمّوا بني حنيفة مرتدين‪ ،‬لنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر)‪.‬‬
‫فهذا مـن أظهـر الكذب وأ ْبيَنه ؛ فإنـه إنما قاتـل بني حنيفـة لكونهـم آمنوا بمسيلمة الكذّاب‪ ،‬واعتقدوا‬
‫نبوّته‪ ،‬وأما مانعو الزكاة فكانوا قومًا آخرين غير بني حنيفة‪ ،‬وهؤلء كان قد وقع لبعض الصحابة‬
‫شبهـة فـي جواز قتالهـم‪ ،‬وأمـا بنـو حنيفـة فلم يتوقـف أحـد فـي وجوب قتالهـم‪ ،‬وأمـا مانعـو الزكاة فإن‬
‫عمـر بـن الخطاب رضـي ال عنـه قال‪ :‬يـا خليفـة رسـول ال‪ ،‬كيـف تقاتـل الناس وقـد قال رسـول ال‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬أُمرت أن أقاتـل الناس حتـى يشهدوا أن ل إله إل ال وأن محمدًا رسـول ال‪،‬‬
‫فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقّها وحسابهم على ال) فقال أبو بكر‪ :‬ألم يقل‪( :‬إل‬
‫ل كانوا يؤدّونـه إلى رسـول ال صـلى ال‬ ‫عنَاقًا أو عُقا ً‬
‫بحقهـا) فإن الزكاة مـن حقهـا‪ ،‬وال لو منعونـي َ‬
‫عليه وسلم لقاتلهم عليه)(‪.)1‬‬
‫وهؤلء لم يقاتلوهـم لكونهـم لم يؤدوهـا إلى الصـدّيق ؛ فإنهـم لو أعطوهـا بأنفسـهم لمسـتحقيها ولم‬
‫يؤدوهـا إليـه لم يقاتلهـم‪ ،‬هذا قول جمهور العلماء‪ ،‬كأبـي حنيفـة وأحمـد وغيرهمـا‪ ،‬وقالوا‪ :‬إذا قالوا‪:‬‬
‫نحـن نؤديهـا بأنفسـنا ول ندفعهـا إلى المام‪ ،‬لم يكـن له قتالهـم‪ ،‬فإن الصـدّيق رضـي ال عنـه لم يقاتـل‬
‫أحدًا على طاعته‪ ،‬ول ألزم أحدًا بمبايعته‪ ،‬ولهذا لما تخلّف عن بيعته سعد لم يكرهه على ذلك‪.‬‬
‫فقول القائل‪( :‬سمّوا بني حنيفة أهل الردة؛ لنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر‪ ،‬لنهم لم يعتقدوا‬
‫إمامته) من أظهر الكذب والفرية‪ ،‬وكذلك قوله‪( :‬إن عمر أنكر قتال بني حنيفة)‪.‬‬
‫وأمعا قوله‪( :‬ولم يسـمّوا مـن اسـتحل دماء المسـلمين‪ ،‬ومحاربـة أميـر المؤمنيـن‪ ،‬مرتدًا‪ ،‬مـع أنهـم‬
‫سمعوا قول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬يا عليّ‪ ،‬حربك حربي وسلمك سلمي) ومحارب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم كافر بالجماع)‪.‬‬
‫فيقال في الجواب‪ :‬أولً‪ :‬دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي صلى ال عليه وسلم أو عنه‬
‫كذب عليهـم‪ ،‬فمـن الذي نقـل عنهـم أنهـم سـمعوا ذلك؟ وهذا الحديـث ليـس فـي شيـء مـن كتـب علماء‬
‫الحديـث المعروفـة‪ ،‬ول رُوي بإسـناد معروف‪ ،‬ولو كان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قاله لم يجـب أن‬
‫ل منهم كل ما قاله الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكيف إذا لم يُعلم‬ ‫يكونوا قد سمعوه‪ ،‬فإنه لم يسمع ك ّ‬
‫أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قاله‪ ،‬ول روي بإسـناد معروف؟ بـل كيـف إذا عُلم أنـه كذب موضوع‬
‫على النبي صلى ال عليه وسلم باتفاق أهل العلم بالحديث؟‬
‫وعلي ّ رضـي ال عنـه لم يكـن قتاله يوم الجمـل وصـفّين بأمـر مـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪،‬‬
‫وإنما كان رأيًا رآه‪.‬‬
‫وقال أبـو داوُد فـي سـننه‪( :‬حدّثنـا إسـماعيل بـن إبراهيـم الهذلي‪ ،‬حدثنـا ابـن عليّه‪ ،‬عـن يونـس‪ ،‬عـن‬
‫ي رضي ال عنه‪ :‬أخبرنا عن مسيرك هذا‪ :‬أعهد عهده إليك‬ ‫الحسن‪ ،‬عن قيس بن عبّاد قال‪ :‬قلت لعل ّ‬
‫رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬أم رأي رأيتَه؟ قال‪ :‬مـا عهـد إليّ رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‬

‫‪ )(1‬البخاري ج ‪ )9/93‬ومسلم (‪.)1/51‬‬

‫‪133‬‬
‫شيئًا‪ ،‬ولكنه رأى رأيته)(‪.)1‬‬
‫ولو كان محارب عليّـ محاربًا لرسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم مرتدًا‪ ،‬لكان عليـّ يسـير فيهـم‬
‫السيرة في المرتدين‪ .‬وقد تواتر عن عل يّ يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتّبع مدبرهم‪ ،‬ولم يُجهّز على‬
‫جريحهـم‪ ،‬ولم يغنـم لهـم مالً‪ ،‬ول سـبى لهـم ذريـة‪ ،‬وأمـر مناديـه ينادي فـي عسـكره‪ :‬أن ل ُيتّبـع لهـم‬
‫مُدبر‪ ،‬ول يُجهـز على جريحهـم‪ ،‬ول تُغنـم أموالهـم‪ ،‬ولو كانوا عنده مرتدّيـن لجهـز على جريحهـم‬
‫واتّبـع مدبرهـم‪ ،‬وكانـت عائشـة فيهـم‪ ،‬فإن قلتـم‪ :‬إنهـا ليسـت أمّناـ كفرتـم بكتاب ال‪ ،‬وإن قلتـم‪ :‬هـي أمنًا‬
‫واستحللتم وطأها كفرتم بكتاب ال‪.‬‬
‫وإن كان أولئك مرتديــن‪ ،‬وقــد نزل الحســن عــن أمــر المســلمين‪ ،‬وس ـلّمه إلى كافــر مرتــد‪ ،‬كان‬
‫المعصـوم عندهـم قـد سـلّم أمـر المسـلمين إلى المرتديـن‪ ،‬وليـس هذا مـن فعـل المؤمنيـن‪ ،‬فضلً عـن‬
‫المعصومين‪.‬‬
‫وأيضًـا‪ :‬فإن كان أولئك مرتدّيــن‪ ،‬والمؤمنون أصــحاب علي ـّ‪ ،‬لكان الكفار المرتدّون منتصــرين‬
‫على المؤمنين دائمًا‪.‬‬
‫حيَاةِ ال ّدنْيَعا وَ َيوْم َع يُقُوم عُ‬‫وال تعالى يقول فــي كتابــه‪(( :‬إنّا َلنَنْص ُع ُر رُس عُ َلنَا وَالّذين َع آ َمنُوا فِعي الْ َ‬
‫شهَاد))[غافــر‪ ،]51:‬وأيضًا‪ :‬فإن ال تعالى يقول فـي كتابـه‪(( :‬وَإِنْع طَائِ َفتَانِع مِنَع ا ْل ُم ْؤمِنِينَع ا ْقتَتَلُوا‬ ‫ا َل ْ‬
‫صلِحُوا َبيْ َن ُهمَا))[الحجرات‪ ،]9:‬فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع القتتال والبغي‪.‬‬ ‫فَ َأ ْ‬
‫وأيضًا‪ :‬فقـد ثبـت فـي الصـحيح عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬تمرق مارقـة على حيـن‬
‫فُرقـة مـن المسـلمين تقتلهـم أوْلى الطائفتيـن بالحـق) وقال‪( :‬إن ابنـي هذا سـيد‪ ،‬وسـيصلح ال بـه بيـن‬
‫فئتين عظيمتين من المسلمين) وقال لعمّار‪( :‬تقتلك الفئة الباغية) لم يقل‪ :‬الكافرة(‪.)2‬‬
‫وهذه الحاديث صحيحة عند أهل العلم بالحديث‪ ،‬وهي مروية بأسانيد متنوعة‪ ،‬لم يأخذ بعضهم‬
‫عـن بعـض‪ .‬وهذا ممـا يوجـب العلم بمضمونهـا‪ ،‬وقـد أخـبر النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أن الطائفتيـن‬
‫المفترقتيـن مسـلمتان‪ ،‬ومدح مـن أصـلح ال بـه بينهمـا‪ ،‬وقـد أخـبر أنـه تمرق مارقـة وأنـه تقتلهـا أدنـى‬
‫الطائفتين إلى الحق‪.‬‬
‫ثـم يقال لهؤلء الرافضـة‪ :‬لو قالت لكـم النواصـب‪ :‬عليّـ قـد اسـتحل دماء المسـلمين‪ ،‬وقاتلهـم بغيـر‬
‫أمـر ال ورسـوله على رياسـته‪ ،‬وقـد قال النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬سـباب المسـلم فسـوق‪ ،‬وقتاله‬
‫كفر)(‪ ،)3‬وقال‪( :‬ل ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)(‪ )4‬فيكون عليّ كافرًا لذلك‪ ،‬لم‬
‫تكن حجتكم أقوى من حجتهم؛ لن الحاديث التي احتجّوا بها صحيحة‪.‬‬
‫وأيضًا فيقولون‪ :‬قتـل النفوس فسـاد‪ ،‬فمـن قتـل النفوس على طاعتـه كان مريدًا للعلو فـي الرض‬
‫عُلوّا فِي‬ ‫خرَ ُة نَجْ َعُلهَا لِلّذِي نَ ل يُرِيدُو نَ ُ‬ ‫والفساد‪ ،‬وهذا حال فرعون وال تعالى يقول‪(( :‬تِلْ كَ الدّارُ ال ِ‬
‫ا َلرْضِع وَل فَسعَادًا وَالْعَا ِقبَةُ ِل ْلمُتّقِينَع))[القصـص‪ ]83:‬؛ فمـن أراد العلو فـي الرض والفسـاد لم يكـن‬
‫من أهل السعادة في الخرة‪ ،‬وليس هذا كقتال الصدّيق للمرتدين ولمانعي الزكاة ؛ فإن الصدّيق إنما‬
‫ض عليهـم‪ ،‬فقاتلهم على القرار بها‪،‬‬ ‫قاتلهم على طاعـة ال ورسوله‪ ،‬ل على طاعته‪ ،‬فإن الزكاة فر ٌ‬
‫وعلى أدائها‪ ،‬بخلف من قاتل ليُطاع هو‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السنن (‪.)4/300‬‬
‫‪ )(2‬سبقت هذه الحاديث‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )1/51‬ومسلم (‪.)1/81‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ )1/31‬ومسلم (‪.)82 -1/81‬‬

‫‪134‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وقـد أحسـن بعـض الفضلء فـي قوله‪ :‬شـر مـن إبليـس مـن لم يسـبقه فـي سـالف‬
‫طاعتـه‪ ،‬وجرى معـه فـي ميدان معصـيته‪ ،‬ول شـك بيـن العلماء أن إبليـس كان أعبـد مـن الملئكـة‪,‬‬
‫وكان يحمــل العرش وحده ســتة آلف ســنة‪ ,‬ولمــا خلق ال آدم وجعله خليفــة فــي الرض‪ ,‬وأمره‬
‫بالســجود فاســتكبر فاســتحق اللعنــة والطرد‪ ,‬ومعاويــة لم يزل فــي الشراك وعبادة الصــنام إلى أن‬
‫أسـلم بعـد ظهور النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بمدة طويلة‪ ,‬ثـم اسـتكبر عـن طاعـة ال فـي نصـب أميـر‬
‫المؤمنين عليه إماماً‪ ,‬وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه‪ ،‬فكان شرًا من إبليس)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا الكلم فيـه مـن الجهـل والضلل والخروج عـن ديـن السـلم وكـل ديـن بـل وعـن العقـل‬
‫الذي يكون لكثير من الكفار‪ ،‬ما ل يخفي على من تدبره‪.‬‬
‫أمععا أولً‪ :‬فلن إبليــس أكفــر مــن كــل كافــر‪ ،‬وكــل مــن دخــل النار فمــن أتباعــه‪ ،‬كمــا قال تعالى‪:‬‬
‫جمَعِينعَ))[ص‪ .]85:‬وهـو المـر لهـم بكـل قبيـح المزيّن لهـم‬ ‫ج َهنّمَع مِنْكَع َو ِممّنْع تَبِعَكَع مِ ْنهُمْع َأ ْ‬
‫((لَمْلَنّ َ‬
‫فكيف يكون أحد شرًا منه؟ ل سيما من المسلمين‪ ،‬ل سيما من الصحابة؟‬
‫وقول هذا القائل‪( :‬شــر مــن إبليــس مــن لم يســبقه فــي ســالف طاعــة‪ ،‬وجرى معــه فــي ميدان‬
‫المعصية) يقتضي أن كل من عصى ال فهو شر من إبليس‪ ،‬لنه لم يسبقه في سالف طاعة‪ ,‬وجرى‬
‫معه في ميدان المعصية‪ ،‬وحينئذٍ فيكون آدم وذريته شرًا من إبليس‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫قال‪( :‬كل بني آدم خطّاء‪ ،‬وخير الخطّائين التوابون)(‪.)1‬‬
‫ثـم هل يقول من يؤمـن بال واليوم الخر‪ :‬أن مـن أذنب ذنبًا مـن المسلمين يكون شرًا من إبليـس؟‬
‫أوليس هذا مما يعلم فساده بالضطرار من دين السلم؟وقائل هذا كافر كفرا معلوما بالضرورة من‬
‫الديـن‪ ،‬وعلى هذا فالشيعـة دائمًا يذنبون‪ ،‬فيكون كـل منهـم شرًا مـن إبليـس‪ ،‬ثـم إذا قالت الخوارج‪ :‬إن‬
‫عليّا أذنـب فيكون شرا مـن إبليـس –لم يكـن للروافـض حجـة إل دعوى عصـمته‪ ،‬وهـم ل يقدرون أن‬
‫يقيموا حجة على الخوارج بإيمانه وإمامته وعدالته‪ ،‬فكيف يقيمون حجة عليهم بعصمته؟ ولكن أهل‬
‫السـنة تقدر أن تقيـم الحجـة بإيمانـه وإمامتـه‪ ,‬لن مـا تحتـج بـه الرافضـة منقوض ومعارض بمثله‪،‬‬
‫فيبطل الحتجاج به‪.‬‬
‫ثــم إذا قام الدليــل على قول الجمهور الذي دل عليــه القرآن كقوله تعالى‪(( :‬وَعَصععَى آدَمعُع َربّهععُ‬
‫فَ َغوَى))[طه‪ ,]121:‬لزم أن يكون آدم شرًا من إبليس‪.‬‬
‫وفي الجملة فلوازم هذا القول وما فيه من الفساد يفوق الحصر والتعداد‪.‬‬
‫وأما ثانيًا‪ :‬فهذا الكلم كلم بل حجة‪ ،‬بل هو باطل في نفسه‪ ،‬فلم قلت‪ :‬إن شرًا من إبليس من لم‬
‫يسـبقه فـي سـالف طاعـة وجرى معـه ميدان معصـية؟ وذلك أن أحدًا ل يجري مـع إبليـس فـي ميدان‬
‫معصيته كلها‪ ,‬فل يتصور أن يكون في الدميين من يساوي إبليس في معصيته‪ ،‬بحيث يضل الناس‬
‫كلهم ويغويهم‪.‬‬
‫وأمـا طاعـة إبليـس المتقدمـة فهـي حابطـة بكفره بعـد ذلك‪ ،‬فإن الردة تحبـط العمـل‪ ,‬فمـا تقدم مـن‬
‫طاعتـه‪ :‬إن كان طاعـة فهـي حابطـة بكفره وردتـه‪ ،‬ومـا يفعله مـن المعاصـي ل يماثله أحـد فيـه‪،‬فامتنـع‬
‫أن يكون أحـد شرًا منـه‪ ,‬وصـار نظيـر هذا المرتـد الذي يقتـل النفوس ويزنـي ويفعـل عامـة القبائح بعـد‬
‫سابق طاعاته‪ ,‬فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة‪ ،‬وشاركه في قليل من معاصيه‪،‬‬
‫ل يكون شرًا منه‪ ،‬فكيف يكون أحد شرًا من إبليس؟؟‬
‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪ )4/70‬وابن ماجة (‪ )2/1420‬وغييهما‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫وهذا ينقـض أصـول الشيعـة‪ :‬حقهـا وباطلهـا‪ ،‬وأقـل مـا يلزمهـم أن يكون أصـحاب علي الذيـن قاتلوا‬
‫معه‪ ,‬وكانوا أحيانًا يعصونه‪ ,‬شرًا من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة‪ ،‬لن هؤلء عبدوا ال‬
‫قبلهم‪ ،‬وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬ثالثًا‪ :‬مـا الدليـل على أن إبليـس كان أعبـد الملئكـة؟ وأنـه كان يحمـل العرش وحده سـتة‬
‫آلف سنة؟ أو أنه كان من حملة العرش في الجملة؟ أو أنه كان طاوس الملئكة؟ أو أنه ما ترك في‬
‫السـماء رقعـة ول فـي الرض بقعـة إل وله فيهـا سـجدة وركعـة؟ ونحـو ذلك ممـا يقوله بعـض الناس؟‬
‫فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق‪ ،‬وليس في القرآن شيء من ذلك ول في ذلك خبر صحيح عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إل من هو من أعظم الجاهلين؟!!‬
‫وأعجب من ذلك قوله‪( :‬ول شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملئكة)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين؟ فضلً عن‬
‫أن يكون هذا متفقًا عليـه بيـن العلماء؟ وهذا شيـء لم يقله قـط عالم يقبـل قوله مـن علماء المسـلمين‪،‬‬
‫وهو أمر ل يعرف إل بالنقل‪ ،‬ولم ينقل هذا أحد عن النبي صلى ال عليه وسلم ل بإسناد صحيح ول‬
‫ضعيـف‪ ،‬فإن كان قاله بعـض الوعّاظ أو المصـنفين فـي الرقائق‪ ،‬أو بعـض مـن ينقـل فـي التفسـير مـن‬
‫السـرائيليات مـا ل أسـناد له‪ ,‬فمثـل هذا ل يحتـج بـه فـي جرزة بقـل‪ ,‬فكيـف يحتـج بـه فـي جعـل إبليـس‬
‫خيرًا من كل من عصى ال من بني آدم ويجعل الصحابة من هؤلء الذين إبليس خير منهم؟‬
‫ومـا وصـف ال ول رسـوله صـلى ال عليـه وسـلم إبليـس بخيـر قـط ول بعبادة متقدمـة ول غيرهـا‪،‬‬
‫مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته‪.‬‬
‫وأعجــب مــن ذلك قوله‪( :‬ل شــك بيــن العلماء أنــه كان يحمــل العرش وحده ســتة آلف ســنة)‬
‫فياسـبحان ال! هـل قال ذلك أحـد مـن علماء المسـلمين المقبوليـن عنـد المسـلمين؟ وهـل يتكلم بذلك إل‬
‫مفرط في الجهل؟ فإن هذا ل يعرف ‪-‬لو كان حقاً‪ -‬إل بنقل النبياء‪ ،‬وليس عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم في ذلك شيء‪.‬‬
‫جبّ ما قبله‪ ،‬فمن ادّعى أنه ارتدّ بعد ذلك‬ ‫ويقال‪ :‬قد ثبت إسلم معاوية رضي ال عنه‪ ،‬والسلم َي ُ‬
‫كان مدّعيا ـ دعوى بل دليــل لولم يُعلم كذب دعواه‪ ،‬فكيــف إذا عُلم كذب دعواه‪ ،‬وأنــه مــا زال على‬
‫الســلم إلى أن مات‪ ،‬كمــا علم بقاء غيره على الســلم؟ فالطريــق الذي يُعلم بــه بقاء إســلم أكثــر‬
‫الناس مـن الصـحابة وغيرهـم‪ ،‬يُعلم بـه بقاء إسـلم معاويـة رضـي ال عنـه‪ ،‬والمدّعـي لرتداد معاويـة‬
‫وعثمان وأبـي بكـر وعمـر رضـي ال عنهـم ليـس هـو أظهـر حجـة مـن المدّعـي لرتداد عليـّ‪ ،‬فإن‬
‫المدّعـي كان لرتداد عليّـ كاذبًا‪ ،‬فالمدّعـي لرتداد هؤلء أظهـر كذبًا‪ ،‬لن الحجـة على بقاء إيمان‬
‫هؤلء أظهر‪ ،‬وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬هذه الدعوى إن كانـت صـحيحة‪ ،‬ففيهـا مـن القدح والغضاضـة بعليّـ والحسـن وغيرهمـا مـا‬
‫ل يخفـي‪ ،‬وذلك أنـه كان مغلوبًا مـع المرتدّيـن‪ ،‬وكان الحسـن قـد سـلّم أمـر المسـلمين إلى المرتدّيـن‪،‬‬
‫فيكون نصـر ال لخالد على الكفار أعظـم مـن نصـره لعليـّ‪ ،‬وال سـبحانه وتعالى عدل ل يظلم واحدًا‬
‫منهما‪ ،‬فيكون ما استحقه خالد من النصر أعظم مما استحقه عليّ‪ ،‬فيكون أفضل عند ال منه‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬قوله‪( :‬وبايعه الكل بعد عثمان)‪.‬‬
‫إن لم يكـن هذا حجـة فل فائدة فيـه‪ ،‬وإن كان حجـة فمبايعتهـم لعثمان كان اجتماعهـم عليهـا أعظـم‪،‬‬
‫وأنتم ل ترون الممتنع عن طاعة عثمان كافرًا‪ ،‬بل مؤمنًا تقيّا‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬اجتماع الناس على مبايعـة أبـي بكـر كانـت على قولكـم أكمـل‪ ،‬وأنتـم وغيركـم تقولون‪ :‬إن‬

‫‪136‬‬
‫عليّاـ تخلف عنهـا مدة‪ ،‬فيلزم على قولكـم أن يكون عليّـ مسـتكبرًا عـن طاعـة ال فـي نصـب أبـي بكـر‬
‫عليـه إمامًا‪ ،‬فيلزم حينئذٍ كفـر عليّـ بمقتضـى حجتكـم‪ ،‬أو بطلنهـا فـي نفسـها‪ ،‬وكفـر عليّـ باطـل‪ ،‬فلزم‬
‫بطلنها‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬قولكم‪( :‬بايعه الكل بعد عثمان)‪.‬‬
‫من أظهر الكذب‪ ،‬فإن كثيرًا من المسلمين‪ :‬إما النصف‪ ،‬وإما أقل أو أكثر لم يبايعوه‪ ،‬ولم يبايعه‬
‫سعد بن أبي وقاص ول ابن عمر ول غيرهما‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬قولكم‪( :‬إنه جلس مكانه)‪.‬‬
‫كذب؛ فإن معاويـة لم يطلب المـر لنفسـه ابتداء‪ ،‬ول ذهـب إلى عليّـ لينزعـه عـن إمارتـه‪ ،‬ولكـن‬
‫امتنـع هـو وأصـحابه عـن مبايعتـه‪ ،‬وبقـي على مـا كان عليـه واليًا على مـن كان واليًا عليـه فـي زمـن‬
‫عمـر وعثمان‪ ،‬ولمـا جرى حكـم الحكميـن إنمـا كان متوليًا على رعيتـه فقـط‪ ،‬فإن أريـد بجلوسـه فـي‬
‫مكانه أنه استبد بالمر دونه في تلك البلد‪ ،‬فهذا صحيح‪ ،‬لكن معاوية رضي ال عنه يقول‪ :‬إني لم‬
‫أنازعه شيئًا هو في يده‪ ،‬ولم يثبت عندي ما يوجب عل يّ دخولي في طاعته‪ ،‬وهذا الكلم سواء كان‬
‫حقًا أو باطلً ل يوجب كون صاحبه شرّا من إبليس‪ ،‬ومن جعل أصحاب رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم شرّا من إبليس‪ ،‬فما أبقى غاية في الفتراء على ال ورسوله والمؤمنين‪ ،‬والعدوان على خير‬
‫القرون فــي مثــل هذا المقام‪ ،‬وال ينصــر رســله والذيــن آمنوا فــي الحياة الدنيــا ويوم يقوم الشهاد‪،‬‬
‫والهوى إذا بلغ بصـاحبه إلى هذا الحـد فقـد أخرج صـاحبه عـن ربقـة العقـل‪ ،‬فضلً عـن العلم والديـن‪،‬‬
‫فنسـأل ال العافيـة مـن كـل بليّة‪ ،‬وإن حقّاـ على ال أن يذل أصـحاب مثـل هذا الكلم‪ ،‬وينتصـر لعباده‬
‫المؤمنين – من أصحاب نبيه وغيرهم – من هؤلء المفترين الظالمين‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية مع ما صدر عنه‬
‫مـن الفعال القبيحـة مـن قتـل المام الحسـين ونهـب أمواله وسـبى نسـائه ودورانهـم فـي البلد على‬
‫الجمال بغيــر قتــب‪ ،‬ومولنــا زيــن العابديــن مغلول اليديــن‪ ،‬ولم يقنعوا بقتله حتــى رضّوا أضلعــه‬
‫وصـدره بالخيول‪ ،‬وحملوا رءوسـهم على القنـا مـع أن مشايخهـم رووا أن يوم قتـل الحسـين مطرت‬
‫السـماء دمًا‪ ،‬وقـد ذكـر ذلك الرافعـي فـي (شرح الوجيـز) وذكـر ابـن سـعد فـي (الطبقات) أن الحمرة‬
‫ظهرت فـي السـماء يوم قتـل الحسـين ولم تـر قبـل ذلك)‪ .‬وقال أيضًا‪( :‬مـا رفـع حجرًا فـي الدنيـا إل‬
‫وتحته دم عبيط‪ ،‬ولقد مطرت السماء مطرًا بقي أثره في الثياب مدة حتى تقطعت)‪ .‬قال الزهري‪ :‬ما‬
‫بقـي أحـد مـن قاتلي الحسـين إل وعوقـب فـي الدنيـا‪ :‬إمـا بالقتـل وإمـا بالعمـى أو سـواد الوجـه أو زوال‬
‫الملك في مدة يسيرة‪.‬‬
‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يكثر الوصية للمسلمين في ولديه الحسن والحسين‪ ،‬ويقول‬
‫لهـــم‪ :‬هؤلء وديعتـــي عندكـــم‪ ،‬وأنزل ال تعالى‪(( :‬قُععل لّ أسعععأَُلكُمْ عَ َليْهعععِ أَجرًا إلّ ا ْل َموَدّةَ فعععي‬
‫ال ُقرْبَى))[الشورى‪.]23:‬‬
‫والجواب‪ :‬أما قوله‪( :‬وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية)‪.‬‬
‫إن أراد بذلك أنـه اعتقـد أنـه مـن الخلفاء الراشديـن والئمـة المهدييـن‪ ،‬كأبـي بكـر وعمـر وعثمان‬
‫وعليـّ‪ ،‬فهذا لم يعتقده أحـد مـن علماء المسـلمين‪ ،‬وإن اعتقـد مثـل هذا بعـض الجهال‪ ،‬كمـا يحكـى عـن‬
‫بعـض الجهال مـن الكراد ونحوهـم أنـه يعتقـد أن يزيـد مـن الصـحابة‪ ،‬وعـن بعضهـم أنـه مـن النـبياء‪،‬‬
‫وبعضهم يعتقد أنه من الخلفاء الراشدين المهديين‪ ،‬فهؤلء ليسوا من أهل العلم الذين يحكى قولهم‪،‬‬

‫‪137‬‬
‫وهـم مـع هذا الجهـل خيـر مـن جهال الشيعـة وملحدتهـم الذيـن يعتقدون إلهيـة عليـّ‪ ،‬أو نبوتـه‪ ،‬أو‬
‫يعتقدون أن باطـن الشريعـة يناقـض ظاهرهـا‪ ،‬كمـا تقول السـماعيلية والنصـيرية وغيرهـم مـن أنـه‬
‫يسقط عن خواصهم الصوم والصلة والحج والزكاة‪ ،‬وينكرون المعاد‪.‬‬
‫وأمـا علماء أهـل السـنة الذيـن لهـم قول يُحكـى فليـس فيهـم مـن يعتقـد أن يزيـد وأمثاله مـن الخلفاء‬
‫الراشدين والئمة المهديين‪ ،‬كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي ال عنهم‪ ،‬بل أهل السنة يقولون‬
‫بالحديث الذي في السنن‪( :‬خلفة النبوة ثلثون سنة ثم تصير ملكًا)(‪.)1‬‬
‫وإن أراد باعتقادهم إمامة يزيد‪ ،‬أنهم يعتقدون أنه كان ملك جمهور المسلمين وخليفتهم في زمانه‬
‫صـاحب السـيف‪ ،‬كمـا كان أمثاله مـن خلفاء بنـي أميـة وبنـي العباس‪ ،‬فهذا أمـر معلوم لكـل أحـد‪ ،‬ومـن‬
‫نازع فــي هذا كان مكابرًا؛ فإن يزيــد بويـع بعـد موت أبيـه معاويـة‪ ،‬وصــار متوليًا على أهـل الشام‬
‫ومصر والعراق وخراسان وغير ذلك من بلد المسلمين‪.‬‬
‫وهذا معنـى كونـه إمامًا وخليفـة وسـلطانًا‪ ،‬كمـا أن إمام الصـلة هـو الذي يصـلّي بالناس‪ ،‬فإذا رأينـا‬
‫ل يصـلّي بالناس كان القول بأنـه إمام أمرًا مشهودًا محسـوسًا ل يمكـن المكابرة فيـه‪ ،‬وأمـا كونـه‬ ‫رج ً‬
‫برّا أو فاجرًا‪ ،‬أو مطيعًا أو عاصيًا‪ ،‬فذاك أمر آخر‪.‬‬
‫فأهل السنّة إذا اعتقدوا إمامة الواحد من هؤلء‪ :‬يزيد‪ ،‬أو عبد الملك‪ ،‬أو المنصور‪ ،‬أو غيرهم –‬
‫كان بهذا العتبار‪ .‬ومن نازع في هذا فهو شبيه بمن نازع في ولية أبي بكر وعمر وعثمان‪ ،‬وفي‬
‫ملك كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك‪.‬‬
‫وأمـا كون الواحـد مـن هؤلء معصـومًا‪ ،‬فليـس هذا اعتقاد أحـد مـن علماء المسـلمين‪ ،‬وكذلك كونـه‬
‫ل في كل أموره‪ ،‬مطيعًا ل في جميع أفعاله‪ ،‬ليس هذا اعتقاد أحد من أئمة المسلمين‪.‬‬ ‫عاد ً‬
‫وأمــا مقتــل الحســين رضــي ال عنــه فل ريــب أنــه قُتــل مظلومًا شهيدًا‪ ،‬كمــا قُتــل أشباهــه مــن‬
‫المظلومين الشهداء‪ ،‬وقتل الحسين معصية ل ورسوله ممن قتله أو أعان على قتله أو رضي بذلك‪،‬‬
‫وهو مصيبة أصيب بها المسلمون من أهله وغير أهله‪ ،‬وهو في حقّه شهادة له‪ ،‬ورفع درجة‪ ،‬وعلو‬
‫منزلة ؛ فإنـه وأخاه سـبقت لهمـا مـن ال السـعادة‪ ،‬التـي ل تُنال إل بنوع مـن البلء‪ ،‬ولم يكـن لهمـا مـن‬
‫السـوابق مـا لهـل بيتهمـا‪ ،‬فإنهمـا تربيـا فـي حجـر السـلم‪ ،‬فـي عـز وأمان‪ ،‬فمات هذا مسـمومًا وهذا‬
‫مقتولً‪ ،‬لينال بذلك منازل السعداء وعيش الشهداء‪.‬‬
‫وليـس مـا وقـع مـن ذلك بأعظـم مـن قتـل النـبياء ؛ فإن ال تعالى قـد أخـبر أن بنـي إسـرائيل كانوا‬
‫ي رضي ال عنه أعظم ذنبًا‬ ‫يقتلون النبيين بغير حق‪ ،‬وقتل النبي أعظم ذنبًا ومصيبة‪ ،‬وكذلك قتل عل ّ‬
‫ومصــيبة‪ ،‬وكذلك قتــل عثمان رضــي ال عنــه أعظــم ذنبًا ومصــيبة‪ ،‬إذا كان كذلك فالواجــب عنــد‬
‫المصائب الصبر والسترجاع‪ ،‬كما يحبه ال ورسوله‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وصـار الشيطان بسـبب قتـل الحسـين رضـي ال عنـه يُحدث للناس بدعتيـن‪ :‬بدعـة الحزن والنوح‬
‫يوم عاشوراء‪ ،‬من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي‪ ،‬وما يُفضي إليه ذلك من سبّ‬
‫السلف ولعنتهم‪ ،‬وإدخال من ل ذنب له مع ذوي الذنوب‪ ،‬حتى يُسب السابقون الولون‪ ،‬وتقرأ أخبار‬
‫مصرعه التي كثير منها كذب‪ ،‬وكان قصد من سنّ ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين المة ؛ فإن هذا‬
‫ليس واجبًا ول مستحبًا باتفاق المسلمين‪ ،‬بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما‬
‫حرّمه ال ورسوله‪ ،‬وكذلك بدعة السرور والفرح‪.‬‬
‫‪ )(1‬تقدمت الشارة إليه‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫وأمـا مـا ذكره مـن سـبي نسـائه والذراري‪ ،‬والدوران بهـم فـي البلد‪ ،‬وحملهـم على الجمال بغيـر‬
‫أقتاب‪ ،‬فهذا كذب وباطل‪ :‬ما سبى المسلمون ‪-‬ول الحمد‪ -‬هاشميةً قط‪ ،‬ول استحلت أمة محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم سبى بني هاشم قط‪ ،‬ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرًا‪ ،‬كما تقول طائفة منهم‪:‬‬
‫إن الحجاج قتل الشراف‪ ،‬يعنون بني هاشم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وتوقـف جماعـة ممـن ل يقول بإمامتـه فـي لعنـه مـع أنـه عندهـم ظالم بقتـل الحسـين‬
‫ونهــب حريمــه‪ ،‬وقــد قال ال تعالى‪(( :‬أَل لَ ْع َنةُ الِع على اَلظّاِلمين عَ))[هود‪ ]18:‬وقال أبــو الفرج ابــن‬
‫الجوزي من شيوخ الحنابلة عن ابن عباس رضي ال عنهما قال‪ :‬أوحى ال تعالى إلى محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ :‬إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفًا‪ ،‬وإني قاتل بابن بنتك سبعين ألفًا وسبعين ألفًا‪،‬‬
‫وحكــى الس ـُدّي وكان مــن فضلئهــم قال‪ :‬نزلت بكربلء ومعــي طعام للتجارة‪ ،‬فنزلنــا على رجــل‬
‫فتعشينا عنده‪ ،‬وتذاكرنا قتل الحسين وقلنا‪ :‬ما شرك أحد في قتل الحسين إل ومات أقبح موته‪ .‬فقال‬
‫الرجـل‪ :‬مـا أكذبكـم‪ ،‬أنـا شركـت فـي دمـه وكنـت ممـن قتله فما أصـابني شيـء‪ ،‬قال‪ :‬فلمـا كان مـن آخـر‬
‫الليـل إذا أنـا بصـائح‪ ،‬قلنـا‪ :‬مـا الخـبر؟ قالوا‪ :‬قام الرجـل يصـلح المصـباح فاحترقـت إصـبعه‪ ،‬ثـم دب‬
‫الحريق في جسده فاحترق‪ .‬قال السدي‪ :‬فأنا وال رأيته وهو حممة سوداء‪ ،‬وقد سأل مهنا بن يحيى‬
‫أحمـد بـن حنبـل عـن يزيـد‪ ،‬فقال‪ :‬هـو الذي فعـل مـا فعـل‪ .‬قلت‪ :‬ومـا فعـل؟ قال‪ :‬نهـب المدينـة‪ .‬وقال له‬
‫صـالح ولده يومًا‪ :‬إن قومنـا ينسـبوننا إلى تولي يزيـد‪ .‬فقال‪ :‬يـا بنـي‪ ،‬وهـل يتولى يزيـد أحـد يؤمـن بال‬
‫واليوم الخر؟ فقال‪ :‬لم ل تلعنه‪ .‬فقال‪ :‬وكيف ل ألعن من لعنه ال في كتابه؟ فقلت‪ :‬وأين لعن يزيد؟‬
‫فقال‪ :‬فـي قوله تعالى‪(( :‬فهلْ عَسَع ْيتُمْ إِنْع َتوَّل ْيتُمُع أَن تُفْسِعدُوا فِي ا َلرْضِع َوتُقَطّعُوا َأرْحَامَكُمْع * َأوْلئِكَع‬
‫عمَى َأبْصعَارَهُمْ))[محمـد‪ ]23-22:‬فهـل يكون فسـاد أعظـم مـن القتـل ونهـب‬ ‫الّذينَع َل َعنَهُمْع الُ فأَصَعمّهُ ْم وََأ ْ‬
‫المدينة ثلثة أيام وسبي أهلها؟ وَ َقتَلَ جمعًا من وجوه الناس فيها من قريش والنصار والمهاجرين‬
‫مـن يبلغ عددهـم سـبعمائة‪ ،‬وقتـل مـن لم يعرف مـن عبدٍ أو ح ٍر أو امرأة عشرة آلف‪ ،‬وخاض الناس‬
‫في الدماء حتى وصلت الدماء إلى قبر رسول ال صلى ال عليه وسلم وامتلت الروضة والمسجد‪،‬‬
‫ثم ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدمها وأحرقها)‪.‬‬
‫وقال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬إن قاتـل الحسـين فـي تابوت مـن نار عليـه نصـف عذاب‬
‫أهـل النار وقـد شُدّ يداه ورجله بسـلسل مـن نار ينكـس فـي النار حتـى يقـع فـي قعـر جهنـم‪ ،‬وله ريـح‬
‫يتعوذ أهـل النار إلى ربهـم مـن شدة نتـن ريحـه‪ ،‬وهـو فيهـا خالد وذائق العذاب الليـم‪ ،‬كلمـا نضجـت‬
‫جلودهم بدّل ال لهم الجلود حتى يذوقوا العذاب‪ ،‬ل يفتّر عنهم ساعة‪ ،‬ويسقى من حميم جهنم‪ ،‬الويل‬
‫لهـم مـن عذاب ال عـز وجل‪ ،‬وقال عليـه الصـلة والسلم‪ :‬اشتـد غضب ال وغضـبي على من أراق‬
‫دم أهلي وآذاني في عترتي)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن القول في لعنة يزيد كالقول في لعنة أمثاله من الملوك الخلفاء وغيرهم‪ ،‬ويزيد خير‬
‫من غيره‪:‬خير من المختار بن أبي عبيد الثقفي أمير العراق‪ ،‬الذي أظهر النتقام من قتلة الحسين ؛‬
‫فإن هذا ادّعى أن جبريل يأتيه‪ ،‬وخير من الحجاج بن يوسف ؛ فإنه أظلم من يزيد باتفاق الناس‪.‬‬
‫ومععع هذا فيُقال‪ :‬غايــة يزيــد وأمثاله مــن الملوك أن يكونوا فسـّاقا‪ ،‬فلعنــة الفاســق المعيّنـ ليســت‬
‫مأمورًا بهـا‪ ،‬إنمـا جاءت السـنّة بلعنـة النواع‪ ،‬كقول النـبي‪( :‬لعـن ال السـارق؛ يسـرق البيضـة فتقطـع‬

‫‪139‬‬
‫يده)(‪ .)1‬وقوله‪( :‬لعــن ال مــن أحدث حَدَثــا أو آوى محدثًـا)(‪ .)2‬وقوله‪( :‬لعــن ال آكــل الربــا وموكله‬
‫حلّلَ له)(‪( ،)4‬لعــــن ال الخمــــر وعاصــــرها‬
‫ل والم َ‬ ‫وكاتبــــه وشاهديــــه)(‪ )3‬وقوله‪( :‬لعــــن ال الم َ‬
‫حلّ َ‬
‫ومعتصرها‪ ،‬وحاملها والمحمولة إليه‪ ،‬وساقيها‪ ،‬وشاربها‪ ،‬وآكل ثمنها)(‪.)5‬‬
‫وأمـا مـا فعله بأهـل الحرّة‪ ،‬فإنهـم لمـا خلعوه وأخرجوا نوابـه وعشيرتـه‪ ،‬أرسـل إليهـم مرة بعـد مرة‬
‫يطلب الطاعة‪ ،‬فامتنعوا‪ ،‬فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المرّي‪ ،‬وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة‬
‫ثلثة أيام‪ ،‬وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد‪ ،‬ولهذا قيل لحمد‪ :‬أتكتب الحديث عن‬
‫يزيد؟ قال‪ :‬ل ول كرامة‪ ،‬أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟‬
‫لكـن لم يقتـل جميـع الشراف‪ ،‬ول بلغ عدد القتلى عشرة آلف‪ ،‬ول وصـلت الدماء إلى قـبر النـبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬ول إلى الروضـة‪ ،‬ول كان القتـل فـي المسـجد‪ ،‬وأمـا الكعبـة فإن ال شرفهـا‬
‫وعظّمها وجعلها محرّمة‪ ،‬فلم يمكّن ال أحدًا من إهانتها ل قبل السلم ول بعده‪ ،‬بل لما قصدها أهل‬
‫الفيل عاقبهم ال العقوبة المشهورة‪.‬‬
‫وأمـا الحديـث الذي رواه وقوله‪( :‬إن قاتـل الحسـين فـي تابوت مـن نار عليـه نصـف عذاب أهـل‬
‫النار‪ ،‬وقـد شُدت يداه ورجله بسـلسل مـن نار‪ُ ،‬ي َنكّسـ فـي النار حتـى يقـع فـي قعـر جهنـم‪ ،‬وله ريـح‬
‫يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه‪ ،‬وهو فيها خالد) إلى آخره‪.‬‬
‫فهذا مـن أحاديـث الكذّابيـن الذيـن ل يسـتحيون مـن المجازفـة فـي الكذب على رسـول ال صـلى ال‬
‫عليـه وسـلم‪ ،‬فهـل يكون على واحـد نصـف عذاب أهـل النار؟ أو يُقدّر نصـف عذاب أهـل النار؟ وأيـن‬
‫عذاب آل فرعون وآل المائدة والمنافقين وسائر الكفار؟ وأين قتلة النبياء‪ ،‬وقتلة السابقين الوّلين؟‬
‫وقاتـل عثمان أعظـم إثمًا مـن قاتـل الحسـين‪ ،‬فهذا الغلو الزائد يقابـل بغلو الناصـبة‪ ،‬الذيـن يزعمون‬
‫أن الحسين كان خارجيًا‪ ،‬وأنه كان يجوز قتله‪ ،‬لقول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬من أتاكم وأمركم‬
‫على رجل واحد يريد أن يفرّق جماعتكم‪ ،‬فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان) رواه مسلم(‪.)6‬‬
‫وأهل السنّة والجماعة يردّون غلو هؤلء وهؤلء‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن الحسين قُتل مظلومًا شهيدًا‪ ،‬وإن‬
‫الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين‪ ،‬وأحاديث النبي صلى ال عليه وسلم التي يأمر فيها بقتال المفارق‬
‫للجماعـة لم تتناوله ؛فإنـه رضـي ال عنـه لم يفرّق الجماعـة‪ ،‬ولم يُقتـل إل وهـو طالب للرجوع إلى‬
‫بلده‪ ،‬أو إلى الثغر‪ ،‬أو إلى يزيد‪ ،‬داخلً في الجماعة‪ ،‬معرضًا عن تفريق المة‪ ،‬ولو كان طالب ذلك‬
‫أقــل الناس لوجــب إجابتــه إلى ذلك‪ ،‬فكيــف ل تجــب إجابــة الحســين إلى ذلك؟ ولو كان الطالب لهذه‬
‫المور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ول إمساكه‪ ،‬فضلً عن أسره وقتله‪.‬‬
‫وكذلك قوله‪( :‬اشتد غضب ال وغضبي على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي)‪.‬‬
‫كلم ل ينقله عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم ول ينسـبه إليـه إل جاهـل‪ .‬فإن العاصـم لدم الحسـن‬
‫والحسـين وغيرهمـا مـن اليمان والتقوى أعظـم مـن مجرد القرابـة‪ ،‬ولو كان الرجـل مـن أهـل بيـت‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وأتى بما يبيح قتله أو قطعه‪ ،‬كان ذلك جائزًا بإجماع المسلمين‪.‬‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ )8/159‬ومسلم (‪.)3/1314‬‬
‫‪ )(2‬مسلم (‪.)3/1567‬‬
‫‪ )(3‬البخاري (‪ )7/169‬ومسلم (‪.)3/1219‬‬
‫‪ )(4‬سنن أب داود (‪ )2/307‬والترمذي (‪.)2/294‬‬
‫‪ )(5‬سنن أب داود (‪.)3/445‬‬
‫‪ )(6‬انظر‪ :‬مسلم‪.)3/1479( :‬‬

‫‪140‬‬
‫كمـا ثبـت عنـه فـي الصـحيح أنـه قال‪( :‬إنمـا أهلك مـن كان قبلكـم أنهـم كانوا إذا سـرق فيهـم الشريـف‬
‫تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد‪ ،‬وأيم ال لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت‬
‫يدها)(‪ )1‬فقد أخبر أن أعز الناس عليه من أهله لو أتى بما يوجب الحد لقامه عليه‪ ،‬فلو زنا الهاشمي‬
‫وهو محصن رُجم حتى يموت باتفاق علماء المسلمين‪ ،‬ولو قتل نف سًا عمدًا عدوانًا محضًا لجاز قتله‬
‫به‪ ،‬وإن كان المقتول من الحبشة أو الروم أو الترك أو الديلم‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫فإن النــبي صــلى ال عليــه وســلم قال‪( :‬المســلمون تتكافــأ دماؤهــم) فدماء الهاشمييــن وغيــر‬
‫الهاشمييــن ســواء إذا كانوا أحرارًا مســلمين باتفاق المــة‪ ،‬فل فرق بيــن إراقــة دم الهاشمــي وغيــر‬
‫الهاشمي إذا كان بحق‪ ،‬فكيف يخص النبي صلى ال عليه وسلم أهله بأن يشتد غضب ال على من‬
‫أراق دماءهم‪.‬‬
‫فإن ال حرّم قتـل النفـس إل بحـق‪ ،‬فالمقتول بحـق لِمَـ يشتـد غضـب ال على مـن قتله‪ ،‬سـواء كان‬
‫المقتول هاشميًا أو غير هاشمي؟‬
‫وإن قتـل بغيـر حـق‪ ،‬فمـن يَقْتُل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنـم خالدًا فيهـا وغضـب ال عليـه ولعنـه‬
‫وأعد له عذابًا عظيمًا‪ .‬فالعاصم للدماء والمبيح لها يشترك فيها بنو هاشم وغيرهم‪ ،‬فل يضيف مثل‬
‫هذا الكلم إلى رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم إل منافـق يقدح فـي نبوتـه‪ ،‬أو جاهـل ل يعلم العدل‬
‫الذي بُعث به صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وكذلك قوله‪( :‬مـن آذانـي فـي عترتـي) فإن إيذاء رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم حرام فـي عترتـه‬
‫وأمته وسنته وغير ذلك‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬فلينظر العاقل أي الفريقين أحق بالمن‪ :‬الذي نزّه ال وملئكته وأنبياءه وأئمته ؛‬
‫ونزّه الشرع عـن المسـائل الردّيـة‪ ،‬ومـن يبطـل الصـلة بإهمال الصـلة على أئمتهـم‪ ،‬ويذكـر أئمـة‬
‫غيرهم‪ ،‬أم الذي فعل ضد ذلك واعتقد خلفه؟)‪.‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬مـا ذكرتموه مـن التنزيـه إنمـا هـو تعطيـل وتنقيـص ل ولنـبيائه‪ ،‬بيان ذلك أن‬
‫قول الجهمية نفاة الصفات يتضمن وصف ال تعالى بسلب صفات الكمال التي يشابه فيها الجمادات‬
‫والمعدومات‪ ،‬فإذا قالوا‪ :‬إنــه ل تقوم بــه حياة ول علم ول قدرة‪ ،‬ول كلم ول مشيئة‪ ،‬ول حــب ول‬
‫بغـض‪ ،‬ول رضـا ول سـخط‪ ،‬ول يُرى ول يفعـل بنفسـه فعلً‪ ،‬ول يقدر أن يتصـرف بنفسـه‪ ،‬كانوا قـد‬
‫شبّهوه بالجمادات المنقوصـات‪ ،‬وسـلبوه صـفات الكمال‪ ،‬فكان هذا تنقيصـًا وتعطيلً ل تنزيهًا‪ ،‬وإنمـا‬
‫التنزيــه أن ينزّه عــن النقائص المنافيــة لصــفات الكمال‪ ،‬فينزّه عــن الموت والسـّنة والنوم‪ ،‬والعجــز‬
‫والجهـل والحاجـة‪ ،‬كمـا نزّه نفسـه فـي كتابـه‪ ،‬فيُجمـع له بيـن إثبات صـفات الكمال‪ ،‬ونفـي النقائص‬
‫المنافية للكمال‪ ،‬وينزّه عن مماثلة شيء من المخلوقات له في شيء من صفاته‪ ،‬وينزّه عن النقائص‬
‫مطلقًا‪ ،‬وينزّه في صفات الكمال أن يكون له فيها مثلٌ من المثال‪.‬‬
‫وأمــا النــبياء فإنكــم ســلبتموهم مــا أعطاهــم ال مــن الكمال وعلو الدرجات‪ ،‬بحقيقــة التوبــة‬
‫والستغفار‪ ،‬والنتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه‪ ،‬وكذّبتم ما أخبر ال به من ذلك وحرّفتم الكلم‬
‫عـن مواضعـه‪ ،‬وظننتـم أن انتقال الدمـي مـن الجهـل إلى العلم‪ ،‬ومـن الضلل إلى الهدى‪ ،‬ومـن الغـي‬
‫إلى الرشاد‪ ،‬تنقّصا‪ ،‬ولم تعلموا أن هذا من أعظم نعم ال وأعظم قدرته‪ ،‬حيث ينقل العباد من النقص‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري‪ ،)5/23( :‬ومسلم‪.)3/1315( :‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو داود (‪ )3/107‬وابن ماجة (‪ )2/895‬وأحد (‪ .)2/199‬أحد شاكر‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫إلى الكمال‪ ،‬وأنه قد يكون الذي يذوق الشر والخير ويعرفهما‪ ،‬يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم‬
‫ممـن ل يعرف إل الخيـر‪ ،‬كمـا قال عمـر بـن الخطاب رضـي ال عنـه‪( :‬إنمـا تُنقـض عرى السـلم‬
‫عروة عروة إذا نشأ في السلم من ل يعرف الجاهلية)‪.‬‬
‫وأما تنزيه الئمة فمن الفضائح التي يُستحيا من ذكرها‪ ،‬ل سيما المام المعدوم الذي ل يُنتفع به‬
‫ل في دين ول دنيا‪.‬‬
‫وأما تنزيه الشرع عن المسائل الردّية‪ ،‬فقد تقدم أن أهل السنّة لم يتفقوا على مسألة ردّية‪ ،‬بخلف‬
‫الرافضة ؛ فإن لهم من المسائل الردّية ما ل يوجد لغيرهم‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬ومن يبطل الصلة بإهمال الصلة على أئمتهم‪ ،‬ويذكر أئمة غيرهم)‪.‬‬
‫فإمـا أن يكون المراد بذلك أن تجـب الصـلة على الئمـة الثنـى عشـر‪ ،‬أو على واحـد معيّن غيـر‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم منهم أو من غيرهم‪.‬‬
‫وإما أن يكون المراد وجوب الصلة على آل النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن أراد الول فهذا من‬
‫أعظم ضللهم وخروجهم عن شريعة محمد صلى ال عليه وسلم ؛ فإنا نحن وهم نعلم بالضطرار‬
‫أن النبي صلى ال عليه وسلم لم يأمر المسلمين أن يصلّوا على الثنى عشر‪ :‬ل في الصلة‪ ،‬ول في‬
‫غير الصلة‪ ،‬ول كان أحد من المسلمين يفعل شيئا من ذلك على عهده‪ ،‬ول نقل هذا أحد عن النبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم ل بإسـناد صـحيح ول ضعيـف‪ ،‬ول كان يجـب على أحـد فـي حياة رسـول ال‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم أن يتخـذ أحدًا مـن الثنـى عشـر إمامًا‪ ،‬فضلً عـن أن تجـب الصـلة عليـه فـي‬
‫الصلة‪.‬‬
‫وكانت صلة المسلمين صحيحة في عهده بالضرورة والجماع‪ ،‬فمن أوجب الصلة على هؤلء‬
‫فـي الصـلة‪ ،‬وأبطـل الصـلة بإهمال الصـلة عليهـم‪ ،‬فقـد غيّرـ ديـن النـبي محمـد صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫وبدّله‪ ،‬كما بدّلت اليهود والنصارى دين النبياء‪.‬‬
‫وإن قيل‪ :‬المراد أن يصلى على آل محمد‪ ،‬وهم منهم‪.‬‬
‫قيعل‪ :‬آل محمـد يدخـل فيهـم بنـو هاشـم وأزواجـه‪ ،‬وكذلك بنـو المطلب على أحـد القوليـن‪ ،‬وأكثـر‬
‫هؤلء تذمّهم المامية؛ فإنهم يذمون ولد العباس‪ ،‬لسيما خلفاؤهم‪ ،‬وهم من آل محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ويذمّون من يتولى أبا بكر وعمر‪ ،‬وجمهور بني هاشم يتولون أبا بكر وعمر‪ ،‬ول يتبرأ منهم‬
‫صـحيح النسـب مـن بنـي هاشـم إل نفـر قليـل بالنسـبة إلى كثرة بنـي هاشـم‪ ،‬وأهـل العلم والديـن منهـم‬
‫يتولون أبا بكر وعمر رضي ال عنهما‪.‬‬
‫ومن العجب من هؤلء الرافضة أنهم يدّعون تعظيم آل محمد عليه أفضل الصلة والسلم‪ ،‬وهم‬
‫سـعوا فـي مجيـء التتـر الكفّار إلى بغداد دار الخلفـة‪ ،‬حتـى قتلت الكفار مـن المسـلمين مـا ل يحصـيه‬
‫إل ال تعالى من بني هاشم وغيرهم وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمائة ألف ونيفًا وسبعين ألفًا‬
‫وقتلوا الخليفة العباسي‪ ،‬وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميين‪.‬‬
‫فهذا هـو البغـض لل محمـد صـلى ال عليـه وسـلم بل ريـب‪ ،‬وكان ذلك مـن فعـل الكفار بمعاونـة‬
‫الرافضـة‪ ،‬وهـم الذي سـعوا فـي سـبي الهاشميات ونحوهـم إلى يزيـد وأمثاله‪ ،‬فمـا يعيبون على غيرهـم‬
‫بعيب إل وهو فيهم أعظم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬السـادس‪ :‬أن الماميـة لمـا رأوا فضائل أميـر المؤمنيـن وكمالتـه ل تحصـى قـد‬
‫رواهــا المخالف والموافــق‪ ،‬ورأوا الجمهور قــد نقلوا عــن غيره مــن الصــحابة مطاعــن كثيرة‪ ،‬ولم‬

‫‪142‬‬
‫ينقلوا فـي عليّـ طعنًا ألبتـة‪ ،‬اتّبعوا قوله وجعلوه إمامًا لهـم حيـث نزّهـه المخالف والموافـق‪ ،‬وتركوا‬
‫غيره‪ ،‬حيـث روى فيـه مـن يعتقـد إمامتـه مـن المطاعـن مـا يطعـن فـي إمامتـه‪ ،‬ونحـن نذكـر هنـا شيئًا‬
‫يسيرًا مما هو صحيح عندهم ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم‪ ،‬ليكون حجة عليهم يوم القيامة‪.‬‬
‫فمن ذلك‪ :‬ما رواه أبو الحسن الندلسي في (الجمع بين الصحاح الستة) موطأ مالك وصحيحي‬
‫البخاري ومسلم وسنن أبي داود وصحيح الترمذي وصحيح النسائي عن أم سلمة زوج النبي صلى‬
‫ط ّهرَكُمععْ‬
‫عنْكُمععُ الرّجْسععَ أَ ْهلَ ا ْلبَيْتعِع َويُ َ‬
‫ال عليــه وســلم أن قوله تعالى‪ِ(( :‬إنّمععا يُريدُ الُع ِليُذْهِبععَ َ‬
‫تَطْهيًرا))[الحزاب‪ .]33:‬أنزلت فـي بيتهـا وأنـا جالسـة عنـد الباب‪ ،‬فقلت‪ :‬يـا رسـول ال‪ ،‬ألسـت مـن أهـل‬
‫البيـت؟ فقال‪( :‬إنـك على خير‪ ،‬إنك من أزواج النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ .‬قالت‪ :‬وفـي البيـت رسـول‬
‫ال صـلى ال عليـه وسـلم وعليّـ وفاطمـة والحسـن والحسـين فجللهـم بكسـاء‪ ،‬وقال‪ :‬اللهـم هؤلء أهـل‬
‫بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا)‪.‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬إن الفضائل الثابتة في الحاديث الصحيحة لبي بكر وعمر أكثر وأعظم من‬
‫الفضائل الثابتـة لعليـّ‪ ،‬والحاديـث التـي ذكرهـا هذا وذكـر أنهـا فـي الصـحيح عنـد الجمهور‪ ،‬وأنهـم‬
‫نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم‪ ،‬وهو من أ ْبيَنَ الكذب على علماء الجمهور ؛ فإن هذه الحاديث‬
‫التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث‪ ،‬والصحيح الذي فيها ليس فيه ما‬
‫علَى أبـي بكـر وعمـر‪ ،‬بـل وليسـت مـن خصـائصه‪ ،‬بـل هـي مـن‬ ‫يدل على إمامـة عليّـ ول فضيلتـه َ‬
‫فضائل شاركـه فيهـا غيره‪ ،‬بخلف مـا ثبـت مـن فضائل أبـي بكـر وعمـر ؛ فإن كثيرًا منهـا خصـائص‬
‫لهما‪ ،‬ل سيما فضائل أبي بكر‪ ،‬فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره‪.‬‬
‫علَى عليّ‬ ‫وأما ما ذكره من المطاعن‪ ،‬فل يمكن أن يوجّه على الخلفاء الثلثة من مطعن إل وُجه َ‬
‫ما هو مثله وأعظم منه‪.‬‬
‫فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل‪ ،‬ونحن نبيّن ذلك تفصيلً‪.‬‬
‫وأمـا قوله‪( :‬إنهـم جعلوه إمامًا لهـم حيـث نزّهـه المخالف والموافـق‪ ،‬وتركوا غيره حيـث روى فيـه‬
‫من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬هذا كذب بيّن ؛ فإن عليّا ـ رضــي ال عنــه لم ينزّهــه المخالفون‪ ،‬بــل القادحون فــي علي ـّ‬
‫طوائف متعددة‪ ،‬وهـم أفضـل مـن القادحيـن فـي أبـي بكـر وعمـر وعثمان‪ ،‬والقادحون فيـه أفضـل مـن‬
‫الغلة فيه‪ ،‬فإن الخوارج متفقون على كفره‪ ،‬وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلة الذين يعتقدون‬
‫إلهيتـه أو نبوتـه‪ ،‬بـل هـم ‪-‬والذيـن قاتلوه مـن الصـحابة والتابعيـن‪ -‬خيـر عنـد جماهيـر المسـلمين مـن‬
‫الرافضة الثنى عشرية‪ ،‬الذين اعتقدوه إمامًا معصومًا‪.‬‬
‫وأبـو بكـر وعمـر وعثمان ليـس فـي المـة مـن يقدح فيهـم إل الرافضـة‪ ،‬والخوارج المكفّرون لعليّـ‬
‫يوالون أبا بكر وعمر ويترضّون عنهما‪ ،‬والمروانية الذين َينْسبون عليّا إلى الظلم‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنه لم‬
‫يكـن خليفـة يوالون أبـا بكـر وعمـر مـع أنهمـا ليسـا مـن أقاربهـم‪ ،‬فكيـف يُقال مـع هذا‪ :‬إن عليّاـ نزّهـه‬
‫المؤالف والمخالف بخلف الخلفاء الثلثة؟‬
‫ومـن المعلوم أن المنزّهيـن لهؤلء أعظـم وأكثـر وأفضـل‪ ،‬وأن القادحيـن فـي عليّـ –حتـى بالكفـر‬
‫والفسوق والعصـيان – طوائف معروفة‪ ،‬وهم أعلم من الرافضة وأَ ْديَن‪ ،‬والرافضة عاجزون معهم‬
‫علمًا ويدًا‪ ،‬فل يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها‪ ،‬ول كانوا معهم في القتال منصورين‬
‫عليهم‪.‬‬
‫والذين قدحوا في عليّ رضي ال عنه وجعلوه كافرًا وظالمًا ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن‬

‫‪143‬‬
‫السـلم‪ ،‬بخلف الذيـن يمدحونـه ويقدحون فـي الثلثـة‪ ،‬كالغاليـة الذيـن يدّعون إلهيتـه مـن النصـيرية‬
‫وغيرهم‪ ،‬وكالسماعيلية الملحدة الذين هم شر من النصيرية‪ ،‬وكالغالية الذين يدّعون نبوّته ؛ فإن‬
‫هؤلء كفار مرتدّون‪ ،‬كفرهـم بال ورسـوله ظاهـر ل يخفـى على عالم بديـن السـلم‪ ،‬فمـن اعتقـد فـي‬
‫بشر اللهية‪ ،‬أو اعتقد بعد محمد صلى ال عليه وسلم نبيًا‪ ،‬أو أنه لم يكن نبيًا بل كان عليّ هو النبي‬
‫دونـه وإنمـا غلط جبريـل ؛ فهذه المقالت ونحوهـا ممـا يظهـر كفـر أهلهـا لمـن يعرف السـلم أدنـى‬
‫معرفة‪.‬‬
‫بخلف من يكفّر عليّا ويلعنه من الخوارج‪ ،‬وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان‬
‫وغيرهم ؛ فإن هؤلء كانوا مقرّين بالسلم وشرائعه‪ :‬يقيمون الصلة‪ ،‬ويؤتون الزكاة‪ ،‬ويصومون‬
‫رمضان‪ ،‬ويحجون البيــت العتيــق‪ ،‬ويحرّمون مــا حرم ال ورســوله‪ ،‬وليــس فيهــم كفــر ظاهــر‪ ،‬بــل‬
‫شعائر الســلم وشرائعــه ظاهرة فيهــم معظمــة عندهــم‪ ،‬وهذا أمــر يعرفــه كــل مــن عرف أحوال‬
‫السلم‪ ،‬فكيف يدّعى مع هذا أن جميع المخالفين نزّهوه دون الثلثة؟‬
‫(فصععل)‬
‫وأمــا حديـث الكســاء فهـو صـحيح رواه أحمــد والترمذي مـن حديــث أم ســلمة‪ ،‬ورواه مسـلم فــي‬
‫صحيحه من حديث عائشة‪ ،‬قالت‪:‬خرج النبي صلى ال عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحّل من‬
‫شعر أسود‪ ،‬فجاء الحسن بن علي فأدخله‪ ،‬ثم جاء الحسين فأدخله معه‪ ،‬ثم جاءت فاطمة فأدخلها‪ ،‬ثم‬
‫طهّركُمعععْ‬ ‫عنْكُمعععُ الرّجْسعععَ أَ ْهلَ ا ْل َبيْتععِع َويُ َ‬ ‫جاء علّي فأدخله‪ ،‬ثـــم قال‪ِ(( :‬إنّمَععا ُيرِيعععد ُالَعع ِليُذْهِبعععَ َ‬
‫طهِيرًا))[الحزاب‪.]33:‬‬ ‫تَ ْ‬
‫وهذا الحديـث قـد شركـه فيـه فاطمـة وحسـن وحسـين رضـي ال عنهـم‪ ،‬فليـس هـو مـن خصـائصه‪،‬‬
‫ومعلوم أن المرأة ل تصــلح للمامــة‪ ،‬فعُلم أن هذه الفضيلة ل تختــص بالئمــة‪ ،‬بــل يشركهــم فيهــا‬
‫غيرهم‪ ،‬ثم إن مضمون هذا لحديث أن النبي صلى ال عليه وسلم دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس‬
‫ويطهّرهــم تطهيرًا‪ ،‬وغايــة ذلك أن يكون دعــا لهــم بأن يكونوا مــن المتّقيــن الذيــن أذهــب ال عنهــم‬
‫الرجس وطهّرهم‪ ،‬واجتناب الرجس واجب على المؤمنين‪ ،‬والطهارة مأمور بها كل مؤمن‪.‬‬
‫ط ّهرَكُمعْع َوِليُتِمّع نِ ْع َمتَهععُ‬ ‫حرَجعٍع وَلَكِعن يُرِيععد ُ ِليُ َ‬ ‫عَليْكُمعْع مِنععْ َ‬ ‫قال ال تعالى‪(( :‬م ْا ُيرِيدُ الُع ِليَجْ َعلَ َ‬
‫عَليْكُمَ))[المائدة‪.]6:‬‬ ‫َ‬
‫ط ّهرُهُ ْم َوتُزَكّيهِ ْم ِبهَا))[التوبة‪.]103:‬‬ ‫وقال‪(( :‬خ ْذ مِنْ َأ ْموَا ِلهِم صَدَق ًة تُ َ‬
‫طهّرِينْ))[البقرة‪.]222:‬‬ ‫ن َويُحِبّ ال ُمتَ َ‬‫ل يُحِبّ ال ّتوّابِي َ‬ ‫وقال تعالى‪(( :‬إِنّ ا َ‬
‫فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور‪.‬‬
‫والصدّيق رضي ال عنه قد أخبر ال عنه بأنه‪(( :‬ا َلتْقَى * الذِي ُي ْؤتِي مَالَ ُه َيتَزَكّى * َومَا لَحَدٍ‬
‫س ْوفَ َي ْرضَى))[الليل‪.]21-17:‬‬ ‫ج ِه َربّهِ ا َلعْلَى * وَ َل َ‬ ‫جزَى * إِلّ ا ْبتِغَا َء وَ ْ‬ ‫ن نِ ْع َمةٍ تُ ْ‬
‫عنْدَ ُه مِ ْ‬
‫ِ‬
‫وأيضًا فإن‪(( :‬السعابقين الوّليعن معن المهاجريعن والنصعار والذيعن اتبعوهعم بإحسعان رضعى ال‬
‫حتَهَععا ا َل ْنهَارَ خَالِدِينعععَ فِيهَععا َأبَدًا َذلِكعععَ الْ َف ْوزُ‬ ‫جرِي تَ ْ‬ ‫جنّاتععٍع تَ ْ‬
‫عدّ َلهُمعععْ َ‬ ‫عنهعععم ورضوا عنعععه وَأَ َ‬
‫الْعَظِيععم))[التوبــة‪ ]100:‬ل بــد أن يكونوا قــد فعلوا المأمور وتركوا المحظور‪ ،‬فإن هذا الرضوان وهذا‬
‫الجزاء إنمـا يُنال بذلك‪ ،‬وحينئذٍ فيكون ذهاب الرجـس عنهـم وتطهيرهـم مـن الذنوب بعـض صـفاتهم‪،‬‬
‫فمـا دعـا بـه النـبي صـلى ال عليـه وسـلم لهـل الكسـاء هـو بعـض مـا وصـف ال بـه السـابقين الوّليـن‪،‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم دعا لغير أهل الكساء بأن يصلّي ال عليهم‪ ،‬ودعا لقوام كثيرين بالجنة‬
‫والمغفرة وغير ذلك‪ ،‬مما هو أعظم من الدعاء بذلك‪ ،‬ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من‬

‫‪144‬‬
‫السابقين الوّلين‪.‬‬
‫ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير‪ ،‬دعا لهم النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به لئل يكونوا مستحقين للذم والعقاب‪ ،‬ولينالوا المدح‬
‫والثواب‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫ج ْيتُم عُ الرّس عُول فَقَ ّدمُوا َبيْن َع يَدَي عْ‬
‫قال الرافضععي‪( :‬فــي قوله تعالى‪(( :‬يععا َأيّهَا الّذِين َع آ َمنُوا إِذَا نَا َ‬
‫جوَاكُمْع صَعدَ َقةً)) [المجادلة‪ .]12:‬قال أميـر المؤمنيـن عليّـ بـن أبـي طالب رضـي ال عنـه‪ :‬لم يعمـل بهذه‬ ‫نَ ْ‬
‫الية غيري‪ ،‬وبي خفف ال عن هذه المة أمر هذه الية)‪.‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬المر بالصدقة لم يكن واجبًا على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه‪ ،‬وإنما‬
‫أُمـر بـه مـن أراد النجوى واتفـق أنـه لم يرد النجوى إذ ذاك إل عليّـ رضـي ال عنـه‪ ،‬فتصـدّق لجـل‬
‫المناجاة‪.‬‬
‫وهذا كأمره بالهَدْي لمن تمتع بالعمرة إلى الحج‪ ،‬وأمره بالهدي لمن أُحصر‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وعـن محمـد بـن كعـب القرظـي قال‪ :‬افتخـر طلحـة بـن شيبـة مـن بنـي عبـد الدار‬
‫وعباس بـن عبـد المطلب وعليّ بـن أبـي طالب‪ ،‬فقال طلحـة بـن شيبـة‪ :‬معـي مفاتيـح البيـت‪ ،‬ولو أشاء‬
‫بتّ فيـه‪ ،‬وقال العباس‪ :‬أنـا صـاحب السـقاية والقائم عليهـا‪ ،‬ولو أشاء بتّ فـي المسـجد‪ ،‬وقال عليـّ‪ :‬مـا‬
‫أدري ما تقولن‪ ،‬لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس‪ ،‬وأنا صاحب الجهاد‪ ،‬فأنزل ال تعالى‪:‬‬
‫سبِيلِ الِ‬ ‫خ َر وَجَاهَدَ فِي َ‬ ‫ن بِالِ َوبِا ْل َيوْ مِ ال ِ‬‫ن آمَ َ‬ ‫حرَا مِ َكمَ ْ‬
‫عمَارَةَ ا ْلمَ سْجِدِ الْ َ‬
‫((أَجَ َع ْلتُ مْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَ ِ‬
‫ل وَالُ َل َيهْدِي الْ َقوْمَ الظّا ِلمِين))[التوبة‪.)]19:‬‬ ‫عنْدَ ا ِ‬‫َل َيسْ َتوُونَ ِ‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬هذا اللفـظ ل يعرف فـي شيـء مـن كتـب الحديـث المعتمدة‪ ،‬بـل دللت الكذب‬
‫عليه ظاهرة‪ .‬منها‪ :‬أن طلحة بن شيبة ل وجود له‪ ،‬وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن طلحة‪،‬‬
‫وهذا ممـا يـبين لك أن الحديـث لم يصـح‪ ،‬ثـم فيـه قول العباس‪( :‬لو أشاء بتّ فـي المسـجد) فأيّـ كـبير‬
‫أمره في مبيته في المسجد حتى يتبجح به؟‪.‬‬
‫ثـم فيـه قول عليـّ‪( :‬صـليت سـتة أشهـر قبـل الناس) فهذا ممـا يُعلم بطلنـه بالضرورة‪ ،‬فإن بيـن‬
‫إسلمه وإسلم زيد وأبي بكرٍ وخديجة يومًا أو نحوه‪ ،‬فكيف يصلّي قبل الناس بستة أشهر؟!‬
‫وأيضا فل يقول‪ :‬أنا صاحب الجهاد‪ ،‬وقد شاركه فيه عدد كثير جدًا‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬ومنهـا‪ :‬مـا رواه أحمـد بـن حنبـل عـن أنـس بـن مالك‪ ،‬قال‪ :‬قلنـا لسـلمان‪ :‬سـل النـبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم مـن وصـيه‪ ،‬فقال له سـلمان‪ :‬يـا رسـول ال‪ ،‬مـن وصـيك؟ فقال‪ :‬يـا سـلمان‪ ،‬مـن‬
‫كان وصـّي موسـى؟ فقال‪ :‬يوشـع بـن نون‪ .‬قال‪ :‬فإن وصـيي ووارثـي يقضـي ديْنـي وينجـز موعدي‬
‫عليّ بن أبي طالب)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث‪ ،‬ليس هو في مسند المام‬
‫أحمد بن حنبل‪ .‬وأحمد قد صنّف كتابًا في (فضائل الصحابة) ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان‬
‫وعليّـ وجماعـة مـن الصـحابة‪ ،‬وذكـر فيـه مـا رُوي فـي ذلك مـن صـحيح وضعيـف للتعريـف بذلك‪،‬‬
‫وليـس كـل مـا رواه يكون صـحيحًا‪ ،‬ثـم إن فـي هذا الكتاب زيادات مـن روايـة القطيعـي عـن شيوخـه‪،‬‬
‫وهذه الزيادات التــي زادهــا القطيعــي غالبهــا كذب‪ ،‬كمــا ســيأتي ذكــر بعضهــا إن شاء ال‪ ،‬وشيوخ‬

‫‪145‬‬
‫القطيعي يروون عن من في طبقة أحمد‪ ،‬وهؤلء الرافضة جهّال إذا رأوا فيه حديثًا ظنوا أن القائل‬
‫لذلك أحمــد بــن حنبــل‪ ،‬ويكون القائل لذلك هــو القطيعــى‪ ،‬وذاك الرجــل مــن شيوخ القطيعــى الذيــن‬
‫يروون عن من في طبقة أحمد‪ ،‬وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد ال‪ ،‬لسيما في مسند عليّ‬
‫بن أبي طالب رضي ال عنه‪ ،‬فإنه زاد زيادات كثيرة‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وعـن يزيـد بـن أبـي مريـم عـن عليّـ رضـي ال عنـه قال‪ :‬انطلقـت أنـا ورسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم حتى أتينا الكعبة‪ ،‬فقال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬اجلس‪ ،‬فصعد على‬
‫منكبى‪ ،‬فذهبت لنهض به‪ ،‬فرأى مني ضعفًا‪ ،‬فنزل وجلس لي نبي ال صلى ال عليه وسلم وقال‪:‬‬
‫اصعد على منكبى‪ ،‬فصعدت على منكبه‪ .‬قال‪ :‬فنهض بي‪ ،‬قال‪ :‬فإنه تخيل لي أني لو شئت لنلت أفق‬
‫علَى البيـت وعليـه تمثال صـفر أو نحاس‪ ،‬فجعلت أزاوله عـن يمينـه وعـن‬ ‫السـماء‪ ،‬حتـى صـعدت َ‬
‫شماله وبين يديه ومن خلفه‪ ،‬حتى استمكنت منه‪ ،‬قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬اقذف به‬
‫فقذفـت بـه فتكسـر كمـا تنكسـر القواريـر‪ ،‬ثـم نزلت‪ ،‬فانطلقـت أنـا ورسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا الحديـث إن صـح فليـس فيـه شيـء مـن خصـائص الئمـة ول خصـائص عليّـ ؛‬
‫فإن النبي صلى ال عليه وسلم كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع على منكبه‪،‬‬
‫إذا قام حملهـــا‪ ،‬وإذا ســـجد وضعهـــا‪ ،‬وكان إذا ســـجد جاء الحســـن فارتحله‪ ،‬ويقول‪( :‬إن ابنـــي‬
‫ارتحلنــي)(‪ )1‬وكان يقبــل زبيبــة الحســن‪ ،‬فإذا كان يحمــل الطفلة والطفــل لم يكــن فــي حمله لعلي مــا‬
‫يوجب أن يكون ذلك من خصائصه‪ ،‬بل قد أشركه فيه غيره‪ ،‬وإنما حمله لعجز عليّ عن حمله‪ ،‬فهذا‬
‫يدخـل فـي مناقـب رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وفضيلة مـن يحمـل النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫أعظم من فضيلة من يحمله النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة‪،‬‬
‫مثـل‪ :‬طلحـة بـن عبيـد ال‪ ،‬فإن هذا نفـع النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وذاك نفعـه النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم‪ ،‬ومعلوم أن نفعـه بالنفـس والمال أعظـم مـن انتفاع النسـان بنفـس النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫وماله‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وعـن ابـن أبـي ليلى قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬الصـدّيقون ثلثـة‪:‬‬
‫حبيب النجار مؤمن آل ياسين‪ ،‬وحزقيل مؤمن آل فرعون‪ ،‬وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم)‪.‬‬
‫والجععواب‪ :‬أن هذا كذب على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه‬
‫وصف أبا بكر رضي ال عنه بأنه صدّيق‪ ،‬وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي ال عنه عن النبي‬
‫صــلى ال عليــه وســلم أنــه قال‪( :‬عليكــم بالصــدق‪ ،‬فإن الصــدق يهدي إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدي إلى‬
‫الجنـة‪ ،‬ول يزال الرجـل يصـدق ويتحرى الصـدق حتـى يكتـب عنـد ال صـدّيقًا‪ ،‬وإياكـم والكذب ؛ فإن‬
‫الكذب يهدي إلى الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدي إلى النار‪ ،‬ول يزال الرجــــــــل يكذب ويتحرّى الكذب‬
‫حتى يُكتب عند ال كذابًا)(‪ )2‬فهذا يبيّن أن الصدّيقين كثيرون‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فقـد قال تعالى عـن مريـم ابنـة عمران‪ :‬إنهـا صـدّيقة‪ ،‬وهـي امرأة‪ ،‬وقال النـبي صـلى ال‬

‫‪ )1 )(1‬رواه النسائي (‪ )2/182‬وأحد (‪)3/493‬حلب‪.‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مسلم (‪.)2013-4/2012‬‬

‫‪146‬‬
‫عليـه وسـلم‪( :‬كمـل مـن الرجال كثيـر‪ ،‬ولم يكمـل مـن النسـاء إل أربـع)(‪ )1‬فالصـديقون مـن الرجال‬
‫كثيرون‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وعن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال لعلي‪( :‬أنت مني وأنا منك))‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب‪ ،‬لمّا تنازع‬
‫عليّـ وجعفـر وزيـد فـي ابنـة حمزة‪ ،‬فقضـى بهـا لخالتهـا‪ ،‬وكانـت تحـت جعفـر‪ ،‬وقال لعليـّ‪( :‬أنـت منـي‬
‫خلُقي)‪ .‬وقال ليزيد‪( :‬أنت أخونا ومولنا)(‪.)2‬‬ ‫خلْقِي و ُ‬
‫وأنا منك) وقال لجعفر‪( :‬أشبهت َ‬
‫لكن هذا اللفظ قد قاله النبي صلى ال عليه وسلم لطائفة من أصحابه‪ ،‬كما في الصحيحين عن أبي‬
‫موسـى الشعري‪ ،‬أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قال‪( :‬إن الشعرييـن إذا أرملوا فـي الغزو أو قلت‬
‫نفقة عيالهم في المدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد‪ ،‬ثم قسموه بينهم بالسوية‪ ،‬هم مني وأنا‬
‫منهم)(‪.)3‬‬
‫وكذلك قال عن جليبيب‪( :‬هو مني وأنا منه) فروى مسلم في صحيحه‪ ،‬عن أبي برزة‪ ،‬قال‪ :‬كنا‬
‫مع النبي صلى ال عليه وسلم في مغزى له‪ ،‬فأفاء ال عليه‪ ،‬فقال لصحابه‪( :‬هل تفقدون من أحد؟)‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فلنًا وفلنًا‪ ،‬ثم قال‪( :‬هل تفقدون من أحد؟) قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فلنًا وفلنًا وفلنًا‪ ،‬ثم قال‪( :‬هل‬
‫جَل ْيبِيبًا‪ ،‬فاطلبوه) فطلبوه فـي القتلى‪ ،‬فوجدوه إلى جنـب‬‫تفقدون مـن أحـد؟) قالوا‪ :‬ل‪ .‬قال‪( :‬لكنـي أفقـد ُ‬
‫سبعة قد قتلهم ثم قتلوه‪ ،‬فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فوقف عليه‪ ،‬فقال‪( :‬قتل سبعة ثم قتلوه‪ ،‬هذا‬
‫مني وأنا منه‪ ،‬هذا مني وأنا منه) قال‪ :‬فوضعه على ساعديه‪ ،‬ليس له إل ساعدا النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬قال‪ :‬فحفر له فوضع في قبره‪ ،‬ولم يذكر غسلً)(‪.)4‬‬
‫فتـبيّن أن قوله لعليـّ‪( :‬أنـت منـي وأنـا منـك) ليـس مـن خصـائصه‪ ،‬بـل قال ذلك للشعرييـن‪ ،‬وقاله‬
‫لجليـبيب‪ ،‬وإذا لم يكـن مـن خصـائصه‪ ،‬بـل قـد شاركـه فـي ذلك غيره مـن دون الخلفاء الثلثـة فـي‬
‫ل على الفضلية ول على المامة‪.‬‬ ‫الفضيلة‪ ،‬لم يكن دا ّ‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وعن عمرو بن ميمون قال‪ :‬لعل يّ بن أبي طالب عشر فضائل ليست لغيره‪ ،‬قال‬
‫له النــبي صــلى ال عليــه وســلم‪ :‬لبعثــن رجلً ل يخزيــه ال أبدًا‪ ،‬يحــب ال ورســوله‪ ،‬ويحبــه ال‬
‫ورسـوله‪ ،‬فاسـتشرف إليهـا مـن اسـتشرف‪ .‬قال‪ :‬أيـن عليّـ بـن أبـي طالب؟‪ .‬قالوا‪ :‬هـو أرمـد فـي الرحـا‬
‫يطحـن‪ .‬قال‪ :‬وما كان أحدهـم يطحن‪ .‬قال‪ :‬فجاء وهو أرمد ل يكاد أن يبصـر‪ ،‬قال‪ :‬فنفثت في عينيـه‬
‫ثم هز الراية ثلثًا وأعطاها إياه‪ ،‬فجاء بصفية بنت حي يّ‪ .‬قال‪ :‬ثم بعث أبا بكر بسورة التوبة‪ ،‬فبعث‬
‫عليّا خلفه فأخذها منه‪ ،‬وقال‪ :‬ل يذهب بها إل رجل هو مني وأنا منه)‪.‬‬
‫وقال لبنـي عمـه‪ :‬أيكـم يوالينـي فـي الدنيـا والخرة؟ قال‪ :‬وعليّـ معهـم جالس فأ َبوْا‪ ،‬فقال عليـّ‪ :‬أنـا‬
‫أواليك في الدنيا والخرة‪ ،‬قال‪ :‬فتركه‪ ،‬ثم أقبل على رجل رجل منهم‪ ،‬فقال‪ :‬أيكم يواليني في الدنيا‬
‫والخرة؟ فَأ َبوْا‪ ،‬فقال عليّ‪ :‬أنا أواليك في الدنيا والخرة‪ ،‬فقال‪ :‬أنت وليي في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكان عل يّ أول من أسلم من الناس بعد خديجة‪ .‬قال‪ :‬وأخذ رسول ال صـلى ال عليه وسلم‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري‪ :‬مع الفتح (‪6/446‬و ‪،)471‬ومسلم‪.)4/1886( :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري‪ )3/184( :‬وغيه‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )3/138‬ومسلم (‪.)1945 -4/1944‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬مسلم (‪.)1919 -4/1918‬‬

‫‪147‬‬
‫عنْ ُكمُ الرّجْسَ أَ ْهلَ‬
‫ثوبه فوضعه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين‪ ،‬فقال‪ِ(( :‬إنّما يُريدُ الُ ِليُذْهِبَ َ‬
‫ط ّهرَكُ ْم تَطْهيًرا))[الحزاب‪.]33:‬‬
‫ت َويُ َ‬
‫ال َبيْ ِ‬
‫قال‪ :‬وشرى عليــّ نفســه ولبــس ثوب رســول ال صــلى ال عليــه وســلم ثــم نام مكانــه‪ ،‬وكان‬
‫المشركون يرمونه بالحجارة‪.‬‬
‫وخرج النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بالناس فـي غزاة تبوك‪ ،‬فقال له عليـّ‪ :‬أخرج معـك؟ قال‪ :‬ل‬
‫فبكـى عليّ‪ ،‬فقال له‪ :‬أمـا ترضـى أن تكون منـي بمنزلة هارون مـن موسـى؟ إل أنـك لسـت بنـبي‪ ،‬ل‬
‫ينبغي أن أذهب إل وأنت خليفتي‪.‬‬
‫وقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنت وليي في كل مؤمن بعدي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وسـ ّد أبواب المســجد إل باب عليـّ‪ .‬قال‪ :‬وكان يدخــل المســجد جُنبًا‪ ،‬وهــو طريقــه ليــس له‬
‫طريق غيره‪.‬‬
‫ي موله‪.‬‬ ‫وقال له‪ :‬من كنت موله فعل ّ‬
‫وعن النبي صلى ال عليه وسلم مرفوعًا أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة‪ ،‬فسار بها ثلثًا‪ ،‬ثم‬
‫قال لعليـّ‪( :‬الحقـه فردّه وبلغهـا أنـت‪ ،‬ففعـل‪ ،‬فلمـا قدم أبـو بكـر على النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بكـى‪،‬‬
‫وقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬حدث فيّ شيء؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ولكن أمرت أن ل يبلغها إل أنا أو رجل مني)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا ليس مسندًا بل هو مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون‪ ،‬وفيه ألفاظ هي كذب‬
‫على رسول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬كقوله‪ :‬أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون مـن موسى‪،‬‬
‫غير أنك لست بنبي‪ ،‬ل ينبغي أن أذهب إل وأنت خليفتي‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم ذهب غير‬
‫مرة وخليفته على المدينة غير عليّ‪ ،‬كما اعتمر عمرة الحديبية وعليّ معه وخليفته غيره‪ ،‬وغزا بعد‬
‫ذلك خيـبر ومعـه عليّـ وخليفتـه بالمدينـة غيره‪ ،‬وغزا غزوة الفتـح وعليّـ معـه وخليفتـه فـي المدينـة‬
‫ح َنيْنًا والطائف وعليـّ معــه وخليفتــه بالمدينــة غيره‪ ،‬وحــج حجــة الوداع وعليـّ معــه‬ ‫غيره‪ ،‬وغزا ُ‬
‫وخليفته بالمدينة غيره‪ ،‬وغزا غزوة بدر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره‪.‬‬
‫وكــل هذا معلوم بالســانيد الصــحيحة وباتفاق أهــل العلم بالحديــث‪ ،‬وكان علي ـّ معــه فــي غالب‬
‫الغزوات وإن لم يكن فيها قتال‪.‬‬
‫فإن قيعل‪ :‬اسـتخلفه يدل على أنـه ل يسـتخلف إل الفضـل‪ ،‬لزم أن يكون عليّ مفضولً فـي عامـة‬
‫الغزوات‪ ،‬وفي عمرته وحجته‪ ،‬ل سيما وكل مرة كان يكون الستخلف على رجال مؤمنين‪ ،‬وعام‬
‫خلّفوا أو‬‫تبوك مــا كان الســتخلف إل على النســاء والصــبيان ومــن عَ َذرَ ال‪ ،‬وعلى الثلثــة الذيــن ُ‬
‫ُمتّهم بالنفاق‪ ،‬وكانت المدينة آمنة ل يُخاف على أهلها‪ ،‬ول يحتاج المستخلِف إلى جهاد‪ ،‬كما يحتاج‬
‫في أكثر الستخلفات‪.‬‬
‫وكذلك قوله‪( :‬وسد البواب كلها إلّ باب عليّ) فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة‪،‬‬
‫فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات‬
‫ل غيـر ربّي لتخذت أبـا‬ ‫فيـه‪( :‬إن أمّن الناس عليّـ فـي ماله وصـحبته أبـو بكـر‪ ،‬ولو كنـت متخذًا خلي ً‬
‫خوْخــة إل سـُدت إل خوخــة أبــي‬ ‫بكــر خليلً‪ ،‬ولكــن أخوة الســلم ومودّتــه‪ ،‬ل يبقيــن فــي المســجد َ‬
‫بكـر)(‪ .)1‬رواه ابـن عباس أيضًا فـي الصـحيحين‪ ،‬ومثـل قوله‪( :‬أنـت وليـي فـي كـل مؤمـن بعدي) فإن‬
‫هذا موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث‪ ،‬والذي فيه من الصحيح ليس هو من خصائص الئمة‪،‬‬
‫بــل ول مــن خصـائص عليـّ‪ ،‬بـل قـد شاركـه فيــه غيره‪ ،‬مثــل كونـه يحـب ال ورســوله ويحبــه ال‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )97 -1/96‬و(ج ‪.)5/4/1855‬‬

‫‪148‬‬
‫ورسـوله‪ ،‬ومثـل اسـتخلفه وكونـه منـه بمنزلة هارون مـن موسـى‪ ،‬ومثـل كون عليّـ مولى مَن النـبي‬
‫صلى ال عليه وسلم موله فإن كل مؤمن موالٍ ل ورسوله‪ ،‬ومثل كون (براءة) ل يبلّغها إل رجل‬
‫من بني هاشم ؛ فإن هذا يشترك فيه جميع الهاشميين‪ ،‬لما رُوى أن العادة كانت جارية بأن ل ينقض‬
‫العهود ويحلّها إل رجل من قبيلة المطاع‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬ومنها ما رواه أخطب خوارزم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ :‬يا عل يّ‪،‬‬
‫لو أن عبدًا عبد ال عز وجل مثل ما قام نوح في قومه‪ ،‬وكان له مثل أُحُد ذهبًا فأنفقه في سبيل ال‪،‬‬
‫ومدّ فـي عمره حتـى حـج ألف عام على قدميـه‪ ،‬ثـم قُتـل بيـن الصـفا والمروة مظلومـا‪ ،‬ثـم لم يوالك يـا‬
‫علي‪ ،‬لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها)‪.‬‬
‫وقال رجعل لسعلمان‪ :‬مـا أشدّ حبـك لعليـّ‪ ،‬قال‪ :‬سـمعت رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم يقول‪ :‬مـن‬
‫أحب عليّا فقد أحبني‪ ،‬ومن أبغض عليّا فقد أبغضني‪ ،‬وعن أنس قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫ي سبعين ألف َملَك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة)‪.‬‬ ‫وسلم‪( :‬خلق ال من نور وجه عل ّ‬
‫وعـن ابـن عمـر قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬مـن أحـب عليّاـ قبـل ال عنـه صـلته‬
‫وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه‪ .‬أل ومن أحب عليّا أعطاه ال بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة‪:‬‬
‫أل ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط‪ .‬أل ومن مات على حب آل محمد فأنا‬
‫كفيله في الجنة مع النبياء‪ ،‬أل ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه‪( :‬آيس من‬
‫رحمة ال)‪.‬‬
‫وعن عبد ال بن مسعود قال‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬من زعم أنه آمن بي‬
‫وبما جئت به وهو يبغض عليّا فهو كاذب ليس بمؤمن‪.‬‬
‫وعـن أبـي برزة قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم ونحـن جلوس ذات يوم‪ :‬والذي نفسـي‬
‫بيده ل تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأله ال تبارك وتعالى عن أربع‪ :‬عن عمره في مَ أفناه‪ ،‬وعن‬
‫جسده في َم أبله‪ ،‬وعن ماله ممّ اكتسبه وفي َم أنفقه‪ ،‬وعن حُبنا أهل البيت‪ .‬فقال له عمر‪ :‬فما آية حبكم‬
‫من بعدكم؟ فوضع يده على رأس عل يّ بن أبي طالب وهو إلى جانبه‪ ،‬فقال‪ :‬إن حبي من بعدي حب‬
‫هذا‪.‬‬
‫وعن عبد ال بن عمر قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد سئل‪ :‬بأي لغة خاطبك ربك‬
‫ليلة المعراج؟ فقال‪ :‬خاطبنـي بلغـة عليـّ‪ ،‬فألهمنـي أن قلت‪ :‬يـا رب خاطبتنـي أم عليـّ؟ فقال‪ :‬يـا محمـد‬
‫أنـا شيء لسـت كالشياء‪ ،‬ل أقاس بالناس ول أوصف بالشياء‪ ،‬خلقتـك من نوري‪ ،‬وخلقـت عليّاـ من‬
‫علَى سـرائر قلبـك‪ ،‬فلم أجـد إلى قلبـك أحبّ مـن عليـّ‪ ،‬فخاطبتـك بلسـانه كيمـا يطمئن‬ ‫نورك‪ ،‬فاطلعـت َ‬
‫قلبك‪.‬‬
‫وعـن ابـن عباس قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬لو أن الرياض أقلم‪ ،‬والبحـر مداد‪،‬‬
‫ي بن أبي طالب‪.‬‬‫والجنّ حسّاب‪ ،‬والنس كتّاب‪ ،‬ما أحصوا فضائل عل ّ‬
‫علَى فضائل عليّـ‬ ‫وبالسـناد قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬إن ال تعالى جعـل الجـر َ‬
‫ل يُحصى كثرة‪ ،‬فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّا بها غفر ال له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر‪ ،‬ومن‬
‫كتـب فضيلة مـن فضائله لم تزل الملئكـة تسـتغفر له مـا بقـي لتلك الكتابـة رسـم‪ ،‬ومـن اسـتمع فضيلة‬
‫من فضائله غفر ال له الذنوب التي اكتسبها بالستماع‪ ،‬ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر ال له‬
‫الذنوب التـي اكتسـبها بالنظـر‪ ،‬ثـم قال‪ :‬النظـر إلى وجـه أميـر المؤمنيـن عليّـ عبادة‪ ،‬وذكره عبادة‪ ،‬ل‬

‫‪149‬‬
‫ل بوليته والبراءة من أعدائه‪.‬‬ ‫يقبل ال إيمان عبدٍ إ ّ‬
‫وعـن حكيـم بـن حزام عـن أبيـه عـن جده عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪َ :‬لمُبارزة عليّـ‬
‫لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وعن سعد بن أبي وقاص قال‪ :‬أمر معاوية بن أبي سُفيان سعدًا بالسبّ فأبى‪ ،‬فقال‪ :‬ما منعك أن‬
‫ب عليّ بن أبي طالب؟ قال‪ :‬ثلث قالهن رسول ال صلى ال عليه وسلم فلن أسبّه‪ ،‬لن يكون لي‬ ‫تس ّ‬
‫ي وقد خلّفه‬ ‫واحدة منهن أحب إل يّ من حمر النعم‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول لعل ّ‬
‫فـي بعـض مغازيـه‪ ،‬فقال له عليّ‪ :‬تخلفنـي مـع النسـاء والصـبيان؟ فقال له رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسلم‪ :‬أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إل أنه ل نبي بعدي‪ .‬وسمعته يقول يوم‬
‫خيـبر‪ :‬لعطيـن الرايـة رجلً يحـب ال ورسـوله ويحبـه ال ورسـوله‪ .‬قال‪ :‬فتطاولنـا فقال‪ :‬ادعوا لي‬
‫عليّاـ‪ ،‬فأتاه وبـه رمـد‪ ،‬فبصـق فـي عينيـه و دفـع الرايـة إليـه‪ ،‬ففتـح ال عليـه‪ .‬وأنزلت هذه اليـة‪(( :‬فَ ُقلْ‬
‫تَعَا َلوْا نَدْععُ َأ ْبنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُمعْ))[آل عمران‪ .]61:‬دعــا رســول ال صــلى ال عليــه وســلم عليّاـ وفاطمــة‬
‫والحسن والحسين‪ ،‬فقال‪( :‬هؤلء أهلي)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن أخطـب خوارزم هذا له مصـنّف فـي هذا الباب فيـه مـن الحاديـث المكذوبـة مـا ل‬
‫يخفـى كذبـه على مـن له أدنـى معرفـة بالحديـث‪ ،‬فضلً عـن علماء الحديـث‪ ،‬وليـس هـو مـن علماء‬
‫الحديث ول ممن يُرجع إليه في هذا الشأن ألبتة‪ ،‬وهذه الحاديث مما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنها‬
‫من المكذوبات‪ ،‬وهذا الرجل قد ذكر أنه يذكر ما هو صحيح عندهم‪ ،‬ونقلوه في المعتمد من قولهم‬
‫وكتبهــم‪ ،،‬فكيــف يذكــر مــا أجمعوا على أنــه كذب موضوع‪ ،‬ولم يُرو فــي شيــء مــن كتــب الحديــث‬
‫المعتمدة‪ ،‬ول صححه أحد من أئمة الحديث‪.‬‬
‫فالعشرة الول كلهـا كذب إلى آخـر حديـث‪ :‬قتله لعمرو بـن عبـد ودّ‪ ،‬وأمـا حديـث سـعد لمـا أمره‬
‫ب عليّـ بـن أبـي طالب؟ فقال‪ :‬ثلث قالهـن رسـول ال‬ ‫معاويـة بالسـبّ فأبـى‪ ،‬فقال‪ :‬مـا منعـك أن تسـ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم فلن أسبّه‪ ،‬لن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم‪ ..‬الحديث‪ .‬فهذا‬
‫صحيح رواه مسلم في صحيحه(‪ )1‬وفيه ثلث فضائل لعليّ لكن ليست من خصائص الئمة ول من‬
‫خصـائص عليـّ‪ ،‬فإن قوله‪ :‬وقـد خلّفـه فـي بعـض مغازيـه‪ ،‬فقال له عليـّ‪ :‬يـا رسـول ال‪ ،‬تخلّفنـي مـع‬
‫النساء والصبيان؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون‬
‫علَى المدينـة غيـر واحـد‪ ،‬ولم‬ ‫مـن موسـى أل أنـه ل نـبي بعدي؟ ليـس مـن خصـائصه ؛ فإنـه اسـتخلف َ‬
‫يكـن هذا السـتخلف أكمـل مـن غيره‪ ،‬ولهذا قال له عليـّ‪ :‬أتخلفنـي مـع النسـاء والصـبيان؟ لن النـبي‬
‫ل مـن المهاجريـن والنصـار‪ ،‬إل فـي‬ ‫صـلى ال عليـه وسـلم كان فـي كـل غزاة يترك بالمدينـة رجا ً‬
‫ص أو معذور غير النساء‬ ‫غزوة تبوك فإنه أمر المسلمين جميعهم بالنفير‪ ،‬فلم يتخلف بالمدينة إل عا ٍ‬
‫والصـبيان‪ ،‬ولهذا كره عليّـ السـتخلف‪ ،‬وقال‪ :‬أتخلفنـي مـع النسـاء والصـبيان؟ يقول تتركنـي مخلفًا‬
‫ل تستصحبني معك؟ فبيّن له النبي صلى ال عليه وسلم أن الستخلف ليس نق صًا ول غضاضة ؛‬
‫فإن موسـى اسـتخلف هارون على قومـه لمانتـه عنده‪ ،‬وكذلك أنـت اسـتخلفتك لمانتـك عندي‪ ،‬لكـن‬
‫موسـى اسـتخلف نبيّاـ وأنـا ل نـبي بعدي‪ ،‬وهذا تشـبيه فـي أصـل السـتخلف‪ ،‬فإن موسـى اسـتخلف‬
‫هارون على جميع بني إسرائيل‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم استخلف عليّا على قليل من المسلمين‪،‬‬
‫وجمهورهـم اسـتصحبهم فـي الغزاة‪ .‬وتشـبيهه بهارون ليـس بأعظـم مـن تشـبيهه أبـي بكـر وعمـر‪ ،‬هذا‬
‫بإبراهيـم وعيسـى‪ ،‬وهذا بنوح وموسـى ؛ فإن هؤلء الربعـة أفضـل مـن هارون‪ ،‬وكـل مـن أبـي بكـر‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مسلم (‪.)4/1871‬‬

‫‪150‬‬
‫وعمر شبه باثنين ل بواحد ؛ فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه عل يّ‪ ،‬مع أن استخلف عل يّ له فيه‬
‫أشباه وأمثال من الصحابة‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وعـن عامـر بـن واثلة قال‪ :‬كنـت مـع عليّـ عليـه السـلم يوم الشورى يقول لهـم‪:‬‬
‫ن عليكم بما ل يستطيع عربيّكم ول عجميّكم تغيير ذلك‪ ،‬ثم قال‪ :‬أنشدكم بال أيها النفر جميعًا‪،‬‬ ‫لحتج ّ‬
‫أفيكم أحد وحّد ال تعالى قبلي؟ قالوا‪ :‬اللهم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكم بال هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر‬
‫الطيّار فـي الجنـة مـع الملئكـة غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال‪ :‬هـل فيكـم أحـد له عمّـ مثـل‬
‫عمـي حمزة أسـد ال وأسـد رسـوله سـيد الشهداء غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم‬
‫أحـد له زوجـة مثـل زوجتـي فاطمـة بنـت محمـد سـيدة نسـاء أهـل الجنـة غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪:‬‬
‫فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد له سـبطان‪ ،‬مثـل سـبطيّ الحسـن والحسـين سـيدا شباب أهـل الجنـة غيري؟‬
‫قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد ناجـى رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم عشـر مرات‬
‫قدّم بيـن يدي نجواه صدقة غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكم أحـد قال له رسـول ال‬
‫ي موله‪ ،‬اللهم وال من واله‪ ،‬وعاد من عاداه‪ ،‬ليبلغ الشاهد‬ ‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬من كنت موله فعل ّ‬
‫الغائب غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكــم بال هـل فيكـم أحـد قال له رسـول ال صــلى ال عليــه‬
‫وسـلم‪ :‬اللهـم ائتنـي بأحـب خلقـك إليـك وإليّـ يأكـل معـي مـن هذا الطيـر‪ ،‬فأتاه فأكـل معـه غيري؟ قالوا‪:‬‬
‫اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد قال له رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬لعطيـن الرايـة‬
‫رجلً يحـب ال ورسـوله ويحبـه ال ورسـوله‪ ،‬ل يرجـع حتـى يفتـح ال على يديـه) إذ رجـع غيري‬
‫منهزمًا غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد قال له رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وســلم لبنــي وكيعــة‪ :‬لتنتهن ـّ أو لبعثن ّـ إليكــم رجل نفســه كنفســي وطاعتــه كطاعتــي‪ ،‬ومعصــيته‬
‫كمعصيتي يفصلكم بالسيف غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكم بال هل فيكم أحد قال له رسول ال‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم كذب مـن زعـم أنـه يحبنـي ويبغـض هذا غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم‬
‫بال هل فيكم أحد سلّم عليه في ساعة واحدة ثلثة آلف من الملئكة‪ :‬جبرائيل وميكائيل وإسرافيل‬
‫حيــث جئت بالماء إلى رســول ال صــلى ال عليــه وســلم مــن القليــب غيري؟ قالوا‪:‬اللهــم ل‪ .‬قال‪:‬‬
‫فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد نودي بـه مـن السـماء‪ :‬ل سـيف إل ذو الفقار‪ ،‬ول فتـى إل عليّـ غيري؟‬
‫قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد قال له جبريـل هذه هـي المواسـاة‪ ،‬فقال له رسـول ال‬
‫صــلى ال عليــه وســلم‪ :‬إنــه منــي وأنــا منــه‪ .‬فقال جبريــل‪ :‬وأنــا منكمــا غيري؟ قالوا‪ :‬اللهــم ل‪ .‬قال‪:‬‬
‫فأنشدكــم بال هــل فيكــم أحــد قال له رســول ال صــلى ال عليــه وســلم‪ :‬تقاتــل الناكثيــن والقاســطين‬
‫والمارقين‪ ،‬على لسان النبي صلى ال عليه وسلم غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم ل‪ .‬قال فأنشدكم بال هل فيكم‬
‫أحـد قال له رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬إنـي قاتلت على تنزيـل القرآن وأنـت تقاتـل على تأويله‬
‫غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد رُدّت عليـه الشمـس حتـى صـلى العصـر فـي‬
‫وقتهـا غيري؟ قالوا‪ :‬اللهـم ل‪ .‬قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد أمره رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫أن يأخـذ (براءة) مـن أبـي بكـر‪ ،‬فقال له أبـو بكـر‪ :‬يـا رسـول ال‪ ،‬أنزل فيّـ شيـء؟ فقال له رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنه ل يؤدّي عني إل عليّ غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم ل)‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد قال له رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬ل يحبـك إل مؤمـن ول‬
‫يبغضك إل منافق كافر غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم ل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل تعلمون أنـه أمـر بسـ ّد أبوابكـم وفتـح بابـي فقلتـم فـي ذلك‪ ،‬فقال رسـول ال‬

‫‪151‬‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬مـا أنـا سـددت أبوابكـم ول فتحـت بابـه‪ ،‬بـل ال سـد أبوابكـم وفتـح بابـه غيري؟‬
‫قالوا‪ :‬اللهم ل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنشدكــم بال أتعلمون أنــه ناجانــي يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك‪ ،‬فقلتــم‪ :‬ناجاه دوننــا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ما أنا انتجيته بل ال انتجاه غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنشدكـم بال أتعلمون أن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم قال‪ :‬الحـق مـع عليّـ وعليّـ مـع‬
‫الحق يزول الحق مع عليّ كيفما زال؟ قالوا‪ :‬اللهم نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنشدكم بال أتعلمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬إني تارك فيكم الثقلين‪ :‬كتاب‬
‫ال وعترتـي أهـل بيتـي‪ ،‬لن تضلوا مـا اسـتمسكتم بهمـا‪ ،‬ولن يفترقـا حتـى يردا عليّـ الحوض؟ قالوا‪:‬‬
‫اللهم نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكــم أحـد وقــى رســول ال صـلى ال عليـه وســلم بنفســه مـن المشركيـن‬
‫واضطجع في مضجعه غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم ل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد بارز عمـر بـن عبـد و ّد العامري حيـث دعاكـم إلى البراز غيري؟‬
‫قالوا‪ :‬اللهم ل‪.‬‬
‫عنْكُمُع‬
‫قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد نزل فيـه آيـة التطهيـر حيـث يقول‪ِ(( :‬إنّماع يُريدُ ال ِليُذْهِبَع َ‬
‫ط ّهرَكُ ْم تَطْهيًرا))[الحزاب‪ ]33:‬غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم ل‪.‬‬
‫ت َويُ َ‬
‫الرّجْسَ أَ ْهلَ ال َبيْ ِ‬
‫قال‪ :‬فأنشدكــم بال هــل فيكــم أحــد قال له رســول ال صــلى ال عليــه وســلم‪ :‬أنــت ســيد المؤمنيــن‬
‫غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم ل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنشدكـم بال هـل فيكـم أحـد قال له رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ :‬مـا سـألت ال شيئًا إل‬
‫وسألت لك مثله غيري؟ قالوا‪ :‬اللهم ل‪.‬‬
‫ي أربع خصال ليست لحد من الناس‬ ‫ومنها‪ :‬ما رواه أبو عمرو الزاهد عن ابن عباس قال‪ :‬لعل ّ‬
‫غيره‪ ،‬هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو الذي كان لواؤه معه في‬
‫كل زحف‪ ،‬وهو الذي صبر معه يوم حنين‪ ،‬وهو الذي غسّله وأدخله قبره‪.‬‬
‫وعــن النــبي صــلى ال عليــه وســلم قال‪ :‬مررت ليلة المعراج بقوم تُشرشــر أشداقهــم‪ ،‬فقلت‪ :‬يــا‬
‫جبريــل مــن هؤلء؟ قال‪ :‬قوم يقطعون الناس بالغيبــة‪ ،‬قال‪ :‬ومررت بقوم وقــد ضوضؤا‪ ،‬فقلت‪ :‬يــا‬
‫جبريـل مـن هؤلء؟ قال‪ :‬هؤلء الكفار‪ .‬قال‪ :‬ثـم عدلنـا عـن الطريـق فلمـا انتهينـا إلى السـماء الرابعـة‬
‫رأيت عليّا يصلّي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا جبريل‪ ،‬هذا عل يّ قد سبقنا‪ .‬قال‪ :‬ل ليس هذا عليّا‪ .‬قلت‪ :‬فمن هو؟ قال‪:‬‬
‫إن الملئكة المقرّبين والملئكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته وسمعت قولك فيه‪ :‬أنت‬
‫منـي بمنزلة هارون مـن موسـى إل أنـه ل نـبي بعدي‪ ،‬اشتاقـت إلى عليـّ‪ ،‬فخلق ال تعالى َملَكًا على‬
‫صورة عليّ‪ ،‬فإذا اشتاقت إلى عليّ جاءت إلى ذلك المكان‪ ،‬فكأنها قد رأت عليّا‪.‬‬
‫وعن ابن عباس قال‪ :‬إن الصطفى صلى ال عليه وسلم قال ذات يوم وهو نشيط‪ :‬أنا الفت ابن الفت أخو الفت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقوله‪ :‬أنا الفت ‪-‬يعن‪ :‬هو فت العرب‪ -‬وقوله‪ :‬ابن الفت‪ ،‬يعن إبراهيم من قوله تعال‪ (( :‬سَ ِمعْنا فَتًى َيذْ ُك ُرهُ مْ‬
‫ُيقَالُ لَ هُ ِإْبرَاهِي مُ))[النبيا‪ ،]60:‬وقوله‪ :‬أخو الفت‪ ،‬يعن عليّا‪ ،‬وهو معن قول جبيل ف يوم بدر وقد عرج إل السماء‬
‫وهو فرح وهو يقول‪ :‬ل سيف إل ذو الفقار‪ ،‬ول فت إل عليّ‪.‬‬
‫وعن ابن عباس قال‪ :‬رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول‪ :‬من عرفني فقد عرفني‪،‬‬
‫ومـن لم يعرفنـي فأنـا أبـو ذر‪ ،‬لو صـمتم حتـى تكونوا كالوتار‪ ،‬وصـليتم حتـى تكونوا كالحنايـا‪ ،‬مـا‬

‫‪152‬‬
‫نفعكم ذلك حتى تحبوا عليّا))‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أمـا قوله عـن عامـر بـن واثلة ومـا ذكره يوم الشورى‪ ،‬فهذا كذب باتفاق أهـل المعرفـة‬
‫بالحديـث‪ ،‬ولم يقـل علي ّ رضـي ال عنـه يوم الشورى شيئًا مـن هذا ول مـا يشابهـه‪ ،‬بـل قال له عبـد‬
‫الرحمـن بـن عوف رضـي ال عنـه‪ :‬لئن أمرتـك لتعدلنـّ؟ قال‪ :‬نعـم‪ .‬قال‪ :‬وإن بايعـت عثمان لتسـمعن‬
‫وتطيعن؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬وكذلك قال لعثمان‪ ،‬ومكث عبد الرحمن ثلثة أيام يشاور المسلمين‪.‬‬
‫ففي الصحيحين وهذا لفظ البخاري(‪ - )1‬عن عمرو بن ميمون في مقتل عمر بن الخطاب رضي‬
‫ال عنه‪( :‬فلما فُرغَ من دفنه اجتمع هؤلء الرهط‪ ،‬فقال عبد الرحمن‪ :‬اجعلوا أمركم إلى ثلثة منكم‪،‬‬
‫قال الزبيــر‪ :‬قــد جعلت أمري إلى علي ـّ‪ ،‬وقال طلحــة‪ :‬قــد جعلت أمري إلى عثمان‪ ،‬وقال ســعد‪ :‬قــد‬
‫جعلت أمري إلى عبـد الرحمـن‪ ،‬فقال عبـد الرحمـن‪ :‬أيكـم تـبرأ مـن هذا المـر فنجعله إليـه وال عليـه‬
‫عَليّ‬
‫والسـلم لينظرن أفضلهـم فـي نفسـه؟ فأُسْـ ِكتَ الشيخان‪ ،‬فقال عبـد الرحمـن‪ :‬أتجعلونـه إليّ وال َ‬
‫أن ل آلو عـن أفضلكـم‪ ،‬قال‪ :‬نعـم‪ ،‬فأخـذ بيـد أحدهمـا‪ ،‬فقال‪ :‬لك قرابـة مـن رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسـلم والقدم فـي السـلم مـا قـد علمـت‪ ،‬فال عليـك لئن أمّرتـك لتعدلن ولئن أمّرت عليـك لتسـمعن‬
‫ولتطيعن‪ ،‬ثم خل بالخر فقال له مثل ذلك‪ ،‬فلما أخذ الميثاق قال‪ :‬ارفع يدك يا عثمان)‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث الذي ذكره الرافضي أنواع من الكاذيب التي نزّه ال عليّا عنها‪ ،‬مثل احتجاجه‬
‫بأخيـه وعمـه وزوجتـه‪ ،‬وعليّـ رضـي ال عنـه أفضـل مـن هؤلء‪ ،‬وهـو يعلم أن أكرم الخلق عنـد ال‬
‫أتقاهم‪ ،‬ولو قال العباس‪ :‬هل فيكم مثل أخي حمزة ومثل أولد إخوتي محمد وعلي وجعفر؟! لكانت‬
‫هذه الحجـة مـن جنـس تلك‪ ،‬بـل احتجاج النسـان ببنـي إخوتـه أعظـم مـن احتجاجـه بعمـه‪ ،‬ولو قال‬
‫عثمان‪ :‬هـل فيكـم مـن تزوج بنتَي نـبي لكان مـن جنـس قول القائل‪ :‬هـل فيكـم مـن زوجتـه كزوجتـي؟‬
‫وكانت فاطمة قد ماتت قبل الشورى كما ماتت زوجتا عثمان‪ ،‬فإنها ماتت بعد موت النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم بنحو ستة أشهر‪.‬‬
‫ن له ولد كولدي؟)‪.‬‬ ‫وكذلك قوله‪( :‬هل فيكم مَ ْ‬
‫وفيـه أكاذيـب متعددة‪ ،‬مثـل قوله‪( :‬مـا سـألت ال شيئًا إل وسـألت لك مثله)‪ .‬وكذلك قوله‪( :‬ل يؤدّي‬
‫عني إل عليّ) من الكذب‪.‬‬
‫وقال الخطابي في كتاب (شعار الدين)‪( :‬وقوله‪ :‬ل يؤدّي عني إل رجل من أهل بيتي) هو شيء‬
‫جاء بـه أهـل الكوفـة عـن زيـد بـن ُي َثيْع‪ ،‬وهـو متهـم فـي الروايـة منسـوب إلى الرفـض‪ ،‬وعامـة مـن بلّغ‬
‫عنـه غيـر أهـل بيتـه‪ ،‬فقـد بعـث رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم أسـعد بـن زرارة إلى المدينـة يدعـو‬
‫الناس إلى السـلم‪ ،‬ويعلّم النصـار القرآن‪ ،‬ويفقههـم فـي الديـن‪ ،‬وبعـث العلء بـن الحضرمـي إلى‬
‫البحرين في مثل ذلك‪ ،‬وبعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن‪ ،‬وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة‪ ،‬فأين قول‬
‫من زعم أنه ل يبلّغ عنه إل رجل من أهل بيته؟!‬
‫وأما حديث ابن عباس ففيه أكاذيب‪ :‬منها قوله‪ :‬كان لواؤه معه في كل زحف‪ ،‬فإن هذا من الكذب‬
‫المعلوم‪ ،‬إذ لواء النبي صلى ال عليه وسلم كان يوم أُحد مع مصعب بن عمير باتفاق الناس‪ ،‬ولواؤه‬
‫يوم الفتــح كان مــع الزبيــر بــن العوام‪ ،‬وأمره رســول ال صــلى ال عليــه وســلم أن يركــز رايتــه‬
‫بالحجون‪ ،‬فقال العباس للزبيـر بـن العوام‪ :‬أهاهنـا أمرك رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم أن تركـز‬
‫الراية؟ أخرجه البخاري في صحيحه (‪.)2‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪.)18 -5/15‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري (‪.)5/121‬‬

‫‪153‬‬
‫وكذلك قوله‪( :‬وهو الذي صبر معه يوم حُنين)‪.‬‬
‫وقـد عُلم أنـه لم يكـن أقرب إليـه مـن العباس بـن عبـد المطلب‪ ،‬وأبـي سـفيان بـن الحارث بـن عبـد‬
‫المطلب‪ ،‬والعباس آخـذ بلجام بغلتـه‪ ،‬وأبـو سـفيان بـن الحارث آخـذ بركابـه‪ ،‬وقال له النـبي صـلى ال‬
‫عليــه وســلم‪( :‬ناد أصــحاب الســمرة) قال‪ :‬فقلت بأعلى صــوتي‪ :‬أيــن أصــحاب الســمرة؟ فوال كأن‬
‫عطفتهم عل يّ حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولدها‪ ،‬فقالوا‪ :‬يالبيك يالبيك‪ ،‬والنبي صلى ال‬
‫عليـه وسـلم يقول‪( :‬أنـا النـبي ل كذب أنـا ابـن عبـد المطلب) ونزل عـن بغلتـه وأخـذ كفّاـ مـن حصـى‬
‫فرمــى بهــا القوم‪ ،‬وقال‪( :‬انهزموا ورب الكعبــة) قال العباس‪( :‬فوال مــا هــو إل أن رماهــم فمازلت‬
‫ل وأمرهم مدبرًا‪ ،‬حتى هزمهم ال) أخرجاه في الصحيحين‪ ،‬وفي لفظ البخاري قال‪:‬‬ ‫أرى حدّهم كلي ً‬
‫(وأبو سفيان آخذ بلجام بغلته)‪ ،‬وفيه‪( :‬قال العباس‪ :‬لزمت أنا وأبو سفيان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يوم حُنين فلم نفارقه)(‪.)1‬‬
‫وأما غُسله صلى ال عليه وسلم وإدخاله قبره‪ ،‬فاشترك فيه أهل بيته‪ ،‬كالعباس وأولده‪ ،‬وموله‬
‫شقران‪ ،‬وبعـض النصـار‪ ،‬لكـن عليّ كان يباشـر الغسـل‪ ،‬والعباس حاضـر لجللة العباس‪ ،‬وأن عليّاـ‬
‫أولهم بمباشرة ذلك‪.‬‬
‫وكذلك قوله‪( :‬هو أوّل عربي وعجمي صلّى) يناقض ما هو المعروف عن ابن عباس‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأمـا حديـث المعراج وقوله فيـه‪ :‬إن الملئكـة المقرّبيـن والملئكـة الكروبييـن لمـا سـمعت فضائل‬
‫عليّـ وخاصـته‪ ،‬وقول النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬أمـا ترضـى أن تكون منـي بمنزلة هارون مـن‬
‫موسى؟) اشتاقت إلى علي فخلق ال لها َمَلكًا على صورة عليّ))‪.‬‬
‫جهّال الذيــن ل يحســنون أن يكذبوا‪ ،‬فإن المعراج كان بمكــة قبــل‬ ‫فالجواب‪ :‬أن هذا مــن كذب ال ُ‬
‫حرَامِع ِإلَى‬
‫ل مِنَع ا ْلمَسْعجِدِ الْ َ‬ ‫الهجرة بإجماع الناس‪ ،‬كمـا قال تعالى‪(( :‬سعبحانَ الّذِي أَسْعرَى بِ َعبْدِهِع َليْ ً‬
‫حوْلَهعُ ِلنُ ِريَهُع مِنْع آيَاتِنَا ِإنّهعُ ُهوَ السّعمِيعُ ا ْلبَصعِير))[الســراء‪ ]1:‬وكان‬ ‫ا ْلمَسْعجِدِ الَقْصعَى الّذِي بَارَكْنَا َ‬
‫السراء من المسجد الحرام‪.‬‬
‫غوَى * وَمَا َينْطِقعُ عَنعِ ا ْل َهوَى‪ .‬إِنعْ ُهوَ إِلّ‬ ‫حبُكُم وَمَا َ‬ ‫ضلّ صعَا ِ‬ ‫وقال‪(( :‬وَالنّجْمعِ إِذَا َهوَى * مَا َ‬
‫عنْدَ سِع ْدرَةِ‬
‫خرَى * ِ‬ ‫علَى مَا َيرَى‪َ .‬ولَقَ ْد رَآهُع نَزْ َلةً ُأ ْ‬ ‫وَحْيٌع يُوحَى))[النجـم‪ ]4-1:‬إلى قوله‪(( :‬أف ُتمَارُونَهُع َ‬
‫ا ْلمُ ْنتَهَعى))[النجـــم‪ ]14-12:‬إلى قوله تعالى‪(( :‬أَ َفرََأيْتُعم الّلت َوَا ْل ُعزّى))[النجـــم‪ ]19:‬وهذا كله نزل بمكــة‬
‫بإجماع الناس‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬أمـا ترضـى أن تكون منـي بمنزلة هارون مـن موسـى؟) قاله فـي غزوة تبوك‪ ،‬وهـي آخـر‬
‫الغزوات عام تسـ ٍع مـن الهجرة‪ ،‬فكيـف يُقال‪ :‬إن الملئكـة ليلة المعراج سـمعوا قوله‪( :‬أمـا ترضـى أن‬
‫تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وكذلك الحديـث المذكور عـن ابـن عباس‪ :‬أن المصـطفى صـلى ال عليـه وسـلم قال ذات يوم وهـو‬
‫نشيـط‪( :‬أنـا الفتـى ابـن الفتـى أخـو الفتـى) قال‪ :‬فقوله‪ :‬أنـا الفتـى‪ :‬يعنـي فتـى العرب‪ ،‬وقوله‪ :‬ابـن الفتـى‪،‬‬
‫ى يَذْ ُكرُهُم يُقَالُ لَهُع ِإ ْبرَاهِيعم))[النـبياء‪:‬‬ ‫يعنـي إبراهيـم الخليـل صـلوات ال عليـه‪ ،‬مـن قوله‪(( :‬سعمعنا فت ً‬
‫‪ ،]60‬وقوله‪ :‬أخو الفتى‪ ،‬يعني عليّا‪ ،‬وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو‬
‫فرح وهو يقول‪ :‬ل سيف إل ذو الفقار‪ ،‬ول فتى إل عليّ‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ف أماكن متعددة وانظر‪ :‬الغازى الباب ‪ ،)56‬ومسلم‪.)3/1398( :‬‬

‫‪154‬‬
‫فإن هذا الحديــث مــن الحاديــث المكذوبــة الموضوعــة باتفاق أهــل المعرفــة بالحديــث‪ ،‬وكذبــه‬
‫معروف من غير جهة السناد من وجوه‪.‬‬
‫منها‪ :‬أن لفظ (الفتى) في الكتاب والسنّة ولغة العرب ليس هو من أسماء المدح‪ ،‬كما ليس هو من‬
‫أسـماء الذم‪ ،‬ولكنـه بمنزلة اسـم الشاب والكهـل والشيـخ ونحـو ذلك‪ ،‬والذيـن قالوا عـن إبراهيـم‪ :‬سـمعنا‬
‫فتى يذكرهم يُقال له‪ :‬إبراهيم‪ ،‬هم الكفار‪ ،‬ولم يقصدوا مدحه بذلك‪ ،‬وإنما الفتى كالشاب الحَدَث‪.‬‬
‫ل من أن يفتخر بجده‪ ،‬وابن عمه‪.‬‬ ‫ومنها‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم أج ّ‬
‫ومنهعا‪ :‬أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم لم يؤاخ عليّاـ ول غيره‪ ،‬وحديـث المؤاخاة لعليـّ‪ ،‬ومؤاخاة‬
‫أبــي بكــر لعمــر مــن الكاذيــب‪ ،‬وإنمــا آخــى بيــن المهاجريــن والنصــار‪ ،‬ولم يؤاخ بيــن مهاجريـّ‬
‫ومهاجريّ‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن هذه المناداة يوم بدر كذب‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ذا الفقار لم يكن لعل يّ‪ ،‬وإنما كان سيفًا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون منه يوم‬
‫بدر‪ ،‬فلم يكـن يوم بدر ذو الفقار مـن سـيوف المسـلمين‪ ،‬بـل مـن سـيوف الكفّار‪ ،‬كمـا روى ذلك أهـل‬
‫السنن‪ ،‬فروى المام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن النبي صلى ال عليه وسلم تنفل‬
‫سيفه ذا الفَقَار يوم بدر(‪.)1‬‬
‫ومنها‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان بعد النبوة كهلً قد تعدّى سن الفتيان‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأمـا حديـث أبـي ذر الذي رواه الرافضـي فهـو موقوف عليـه ليـس مرفوعًا‪ ،‬فل يحتـج بـه‪ ،‬مـع أن‬
‫نقله عـن أبـي ذر فيـه نظـر‪ ،‬ومـع هذا فحـب عليّـ واجـب‪ ،‬وليـس ذلك مـن خصـائصه‪ ،‬بـل علينـا أن‬
‫نحبه‪ ،‬كما علينا أن نحب عثمان وعمر وأبا بكر‪ ،‬وأن نحب النصار‪.‬‬
‫ففـي الصـحيح عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪( :‬آيـة اليمان حـب النصـار‪ ،‬وآيـة النفاق‬
‫بغض النصار)(‪ )2‬وفي صحيح مسلم عن عل يّ رضي ال عنه أنه قال‪( :‬إنه لعهد النبي المّي إل يّ‬
‫أنه ل يحبني إل مؤمن ول يبغضني إل منافق)(‪.)3‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬ومنهـا مـا نقله صـاحب (الفردوس) فـي كتابـه عـن معاذ بـن جبـل عـن النـبي صـلى‬
‫ي حسنة ل تضر معها سيئة‪ ،‬وبغضه سيئة ل ينفع معها حسنة)‪.‬‬ ‫ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬حب عل ّ‬
‫والجواب‪ :‬أن كتاب (الفردوس) فيه من الحاديث الموضوعات ما شاء ال‪ ،‬ومصنفه شيرويه بن‬
‫شهردار الديلمــي وإن كان مــن طلبــة الحديــث ورواتــه‪ ،‬فإن هذه الحاديــث التــي جمعهــا وحذف‬
‫أسـانيدها‪ ،‬نقلهـا مـن غيـر اعتبار لصـحيحها وضعيفهـا وموضوعهـا؛ فلهذا كان فيـه مـن الموضوعات‬
‫أحاديث كثيرة جدًا‪.‬‬
‫وهذا الحديـث ممـا يشهـد المسـلم بأن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم ل يقوله؛ فإن حـب ال ورسـوله‬
‫أعظم من حب عل يّ‪ ،‬والسيئات تضر مع ذلك‪ ،‬وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يضرب عبد ال‬
‫بــن حمار فــي الخمــر‪ ،‬وقال‪( :‬إنــه يحــب ال ورســوله) وكــل مؤمــن فل بــد أن يحــب ال ورســوله‪،‬‬
‫والسيئات تضره‪ ،‬وقد أجمع المسلمون وعُلم بالضطرار من دين السلم أن الشرك يضر صاحبه‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬سنن الترمذي (‪ )61-3/60‬وسنن ابن ماجة (‪ )2/939‬والسند (‪)147-4/146‬تقيق أحد شاكر‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )1/9‬ومسلم (‪.)1/85‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬مسلم (‪ )1/86‬وتقدم‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫ول يغفره ال لصــاحبه‪ ،‬ولو أحــب علي ّـ بــن أبــي طالب ؛ فإن أباه أبــا طالب كان يحبــه وقــد ضره‬
‫الشرك حتى دخل النار‪ ،‬والغالية يقولون‪ :‬إنهم يحبونه وهم كفّار من أهل النار‪.‬‬
‫وبالجملة فهذا القول كفـر ظاهـر يُسـتتاب صـاحبه‪ ،‬ول يجوز أن يقول هذا مـن يؤمـن بال واليوم‬
‫الخر‪.‬‬
‫وكذلك قوله‪( :‬وبغضـه سـيئة ل ينفـع معهـا حسـنة) فإن مـن أبغضـه إن كان كافرًا فكفره هـو الذي‬
‫أشقاه‪ ،‬وإن كان مؤمنًا نفعه إيمانه وإن أبغضه‪.‬‬
‫وكذلك الحديـث الذي ذكره عـن ابـن مسـعود‪ ،‬أن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قال‪( :‬حـب آل محمـد‬
‫يومًا خير من عبادة سنة‪ ،‬ومن مات عليه دخل الجنة‪ ،‬وقوله عن عليّ‪ :‬أنا وهذا حجة ال على خلقه‬
‫–هما حديثان موضوعان عند أهل العلم بالحديث‪ ،‬وعبادة سنة فيها اليمان والصلوات الخمس كل‬
‫يوم وصـوم شهـر رمضان‪ ،‬وقـد أجمـع المسـلمون على أن هذا ل يقوم مقامـه حـب آل محمـد شهرًا‪،‬‬
‫فضلً عن حبهم يومًا)‪.‬‬
‫ل يَكُونعَ لِلنّاسعِ عَلَى الِ‬
‫وكذلك حجـة ال على عباده قامـت بالرسـل فقـط‪ ،‬كمـا قال تعالى‪(( :‬لئ ّ‬
‫ج ٌة بَعْدَ ال ّرسُل)) [النساء‪ ]165:‬ولم يقل‪ :‬بعد الرسل والئمة أو الوصياء أو غير ذلك‪.‬‬ ‫حُ ّ‬
‫علَى حب عليّ لم يخلق ال النار) من أبين الكذب باتفاق أهل العلم‬ ‫وكذلك قوله‪( :‬لو اجتمع الناس َ‬
‫واليمان‪ ،‬ولو اجتمعوا على حــب علي ـّ لم ينفعهــم ذلك حتــى يؤمنوا بال وملئكتــه وكتبــه ورســله‬
‫واليوم الخـر ويعملوا صـالحًا‪ ،‬وإذا فعلوا ذلك دخلوا الجنـة‪ ،‬وإن لم يعرفوا عليّاـ بالكليـة‪ ،‬ولم يخطـر‬
‫بقلوبهم ل حبه ول بغضه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وكذلك الحديـث الذي ذكره فـي العهـد الذي عهده ال فـي علي‪ ،‬وأنـه رايـة الهدى وإمام الولياء‪،‬‬
‫وهو الكلمة التي ألزمها للمتقين‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫فإن هذا كذب موضوع باتفاق أهــل المعرفــة بالحديــث والعلم‪ ،‬ومجرد روايــة صــاحب (الحليــة)‬
‫ونحوه ل تفيـد ول تدل على الصـحة ؛ فإن صـاحب (الحليـة) قـد روى فـي فضائل أبـي بكـر وعمـر‬
‫وعثمان وعليّـ والولياء وغيرهـم أحاديـث ضعيفـة بـل موضوعـة باتفاق العلماء‪ ،‬وهـو وأمثاله مـن‬
‫الحفاظ الثقات أهـل الحديـث ثقات فيمـا يروونـه عـن شيوخهـم‪ ،‬لكـن الفـة ممـن هـو فوقهـم‪ ،‬وكذلك‬
‫حديث عمّار وابن عباس كلهما من الموضوعات‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وأمـا المطاعـن فـي الجماعـة فقـد نقـل الجمهور منهـا أشياء كثيرة حتـى صـنّف‬
‫الكلبي كتابًا (في مثالب الصحابة) ولم يذكر فيه منقصة واحدة لهل البيت)‪.‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬قبـل الجوبـة المفصـلة عمـا يُذكـر مـن المطاعـن أن مـا يُنقـل عـن الصـحابة مـن‬
‫المثالب فهــو نوعان‪ :‬أحدهمععا‪ :‬مــا هــو كذب‪ :‬إمــا كذب كله‪ ،‬وإمــا محرّف قــد دخله مــن الزيادة‬
‫والنقصـان مـا يُخرجـه إلى الذم والطعـن‪ ،‬وأكثـر المنقول مـن المطاعـن الصـريحة هـو مـن هذا الباب‬
‫يرويهـا الكذّابون المعروفون بالكذب‪ ،‬مثـل‪ :‬أبـي مخنـف لوط بـن يحيـى‪ ،‬ومثـل‪ :‬هشام بـن محمـد بـن‬
‫السائب الكلبي وأمثالهما من الكذّابين‪ ،‬ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنّفه هشام الكلبي في ذلك‪،‬‬
‫وهو من أكذب الناس‪ ،‬وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبي مخنف‪ ،‬وكلهما متروك كذّاب‪.‬‬
‫النوع الثانعي‪ :‬مـا هـو صـدق‪ ،‬وأكثـر هذه المور لهـم فيهـا معاذيـر تخرجهـا عـن أن تكون ذنوبًا‪،‬‬
‫وتجعلهـا مـن موارد الجتهاد‪ ،‬التـي إن أصـاب المجتهـد فيهـا فله أجران وإن أخطـأ فله أجـر وعامـة‬

‫‪156‬‬
‫المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب‪ ،‬وما قُدّر من هذه المور ذنبًا محققًا‪ ،‬فإن ذلك ل‬
‫يقدح فيمـا عُلم مـن فضائلهـم وسـوابقهم وكونهـم مـن أهـل الجنـة‪ ،‬لن الذنـب المحقـق يرتفـع عقابـه فـي‬
‫الخرة بأسباب متعددة‪.‬‬
‫منها‪ :‬التوبة الماحية‪ ،‬وقد ثبت عن أئمة المامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم‪.‬‬
‫ج َت ِنبُوا‬
‫ومنهعا‪ :‬الحسـنات الماحيـة للذنوب ؛ فإن الحسـنات يذهبـن السـيئات‪ ،‬وقـد قال تعالى‪(( :‬إِنْع تَ ْ‬
‫سيّئَاتِكُم))[النساء‪.]31:‬‬
‫عنْكُم َ‬
‫ع ْنهُ نُكَ ّفرُ َ‬
‫َكبَا ِئرَ مَا تُ ْن َهوْنَ َ‬
‫ومنها‪ :‬المصائب المكفّرة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬دعاء المؤمنين بعضهم لبعض‪ ،‬وشفاعة نبيهم‪ ،‬فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن‬
‫أحد من المة إل والصحابة أحق بذلك‪ ،‬فهم أحق بكل مدح‪ ،‬ونفي كل ذم ممن بعدهم من المة‪.‬‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وقـد ذكـر غيره منهـا أشياء كثيرة‪ ،‬ونحـن نذكـر منهـا شيئًا يسـيرًا‪ ،‬منهـا‪ :‬مـا رووه‬
‫عـن أبـي بكـر أنـه قال على المنـبر‪ :‬إن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم كان يعتصـم بالوحـي‪ ،‬وإن لي‬
‫شيطانـا يعترينـي‪ ،‬فإن اسـتقمت فأعينونـي‪ ،‬وإن زغـت فقومونـي‪ ،‬وكيـف يجوز إمامـة مـن يسـتعين‬
‫بالرعية على تقويمه‪ ،‬مع أن الرعية تحتاج إليه؟)‪.‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق رضـي ال عنـه وأدلها على أنـه لم يكـن‬
‫يريد علوًا في الرض ول فسادًا‪ ،‬فلم يكن طالب رياسة‪ ،‬ول كان ظالمًا‪ ،‬وإنه إنما كان يأمر الناس‬
‫بطاعــة ال ورســوله‪ ،‬فقال لهــم‪ :‬إن اســتقمت على طاعــة ال فأعينونــي عليهــا‪ ،‬وإن زغــت عنهــا‬
‫فقوّمونــي‪ ،‬كمــا قال أيضًا‪ :‬أيهـا الناس… أطيعونــي مـا أطعــت ال‪ ،‬فإذا عصــيت ال فل طاعـة لي‬
‫عليكم‪.‬‬
‫والشيطان الذي يعتريـه يعتري جميـع بنـي آدم ؛ فإنـه مـا مـن أحدٍ إل وقـد وكّلـ ال بـه قرينـه مـن‬
‫الملئكة وقرينه من الجن‪.‬‬
‫ومقصـود الصـديق بذلك‪ :‬إنـي لسـت معصـومًا كالرسـول صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وهذا حـق‪ ،‬وقول‬
‫القائل‪:‬كيـف تجوز إمامـة مـن يسـتعين على تقويمـه بالرعيـة؟كلم جاهـل بحقيقـة المامـة‪ ،‬فإن المام‬
‫ليـس هـو ربّاـ لرعيتـه حتـى يسـتغني عنهـم‪ ،‬ول هـو رسـول ال إليهـم حتـى يكون هـو الواسـطة بينهـم‬
‫وبيـن ال‪ ،‬وإنمـا هـو والرعيـة شركاء يتعاونون هـم وهـو على مصـلحة الديـن والدنيـا؛ فل بـد له مـن‬
‫إعانتهـم‪ ،‬ول بـد لهـم مـن إعانتـه‪ ،‬كأميـر القافلة الذي يسـير بهـم فـي الطريـق‪ :‬إن سـلك بهـم الطريـق‬
‫اتّبعوه‪ ،‬وإن أخطـأ عـن الطريـق نبّهوه وأرشدوه‪ ،‬وإن خرج عليهـم صـائل يصـول عليهـم تعاون هـو‬
‫وهم على دفعه‪ ،‬لكن إذا كان أكملهم علمًا وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لحوالهم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وقال‪ :‬أقيلوني فلست بخيركم‪ ،‬وعليّ فيكم‪ ،‬فإن كانت إمامته حقّا كانت استقالته‬
‫منها معصية‪ ،‬وإن كانت باطلة لزم الطعن)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا كذب‪ ،‬ليس فيه شيء من كتب الحديث‪ ،‬ول له إسناد معلوم‪.‬‬
‫فإنه لم يقل‪( :‬وعليّ فيكـم) بل الذي ثبت عنه في الصـحيح أنـه قال يوم السقيفة‪ :‬بايعوا أحـد هذين‬
‫الرجلين‪ :‬عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح‪ .‬فقال له عمر‪ :‬بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى‬
‫رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪ .‬قال عمـر‪ :‬كنـت وال لن أُقدّم فتُضرب عنقـي‪ ،‬ل يقرّبنـي ذلك إلى‬
‫إثم‪ ،‬أحب إليّ من تأمّري على قوم فيهم أبو بكر(‪.)1‬‬
‫‪ )(1‬تقدم تريه‪ )93/‬وسيأت‪ )407/‬وتريه هناك‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ثم لو قال‪( :‬وعليّ فيكم) لستخلفه مكان عمر ؛ فإن أمره كان مطاعًا‪.‬‬
‫وأما قوله‪( :‬إن كانت إمامته حقّا كانت استقالته منها معصية)‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬إن ثبـت أنـه قال ذلك‪ ،‬فإن كونهـا حقًا إمـا بمعنـى كونهـا جائزة‪ ،‬والجائز يجوز تركـه‪ ،‬وإمـا‬
‫بمعنى كونها واجبة إذا لم يولّوا غيره ولم يقيلوه‪ ،‬وأما إذا أقالوه وولّوا غيره لم تكن واجبة عليه‪.‬‬
‫والنسان قد يعقد بيعًا أو إجارة‪ ،‬و يكون العقد حقًا‪ ،‬ثم يطلب القالة‪ ،‬وهو لتواضعه وثقل الحمل‬
‫عليه قد يطلب القالة‪ ،‬و إن لم يكن هناك من هو أحق بها منه‪ ،‬وتواضع النسان ل يسقط حقه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وقال عمـر‪ :‬كانـت بيعـة أبـي بكـر َفلْتـة وقـى ال المسـلمين شرهـا‪ ،‬فمـن عاد إلى‬
‫مثلها فاقتلوه‪ ،‬ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل‪ ،‬فيلزم تطرق الطعن إلى عمر‪ ،‬وإن‬
‫كانت باطلة‪ ،‬لزم الطعن عليهما معًا)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن لفـظ الحديـث سـيأتي‪ ،‬قال فيـه‪ :‬فل يغترن امرؤ أن يقول‪( :‬إنمـا كانـت بيعـة أبـي بكـر‬
‫فلتة فتمت‪ ،‬أل وإنّها قد كانت كذلك‪ ،‬ولكن وقى الُ شرّها‪ ،‬وليس فيكم من تقطع إليه العناق مثل‬
‫أبـي بكـر) ومعناه أن بيعـة أبـي بكـر بودر إليهـا مـن غيـر تريـث ول انتظار‪ ،‬لكونـه كان متعيّناـ لهذا‬
‫المر‪ ،‬كما قال عمر‪( :‬ليس فيكم من تُقطع إليه العناق مثل أبي بكر)‪.‬‬
‫وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه‪ ،‬وتقديم رسول ال صلى ال عليه وسلم له على سائر‬
‫الصــحابة أمرًا ظاهرًا معلومًـا‪ ،‬فكانــت دللة النصــوص على تعيينــه تُغنــي عــن مشاورة وانتظار‬
‫وتريث‪ ،‬بخلف غيره ؛ فإنه ل تجوز مبايعته إل بعد المشاورة والنتظار والتريث‪ ،‬فمن بايع غير‬
‫أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وقال أبـو بكـر عنـد موتـه‪ :‬ليتنـي كنـت سـألت رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم هـل‬
‫ك من إمامته ولم تقع صوابًا)‪.‬‬ ‫للنصار في هذا المر حق ؛ وهذا يدل على أنه في ش ٍ‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا كذب على أبـي بكـر رضـي ال عنـه‪ ،‬وهـو لم يذكـر له إسـنادًا‪ ،‬ومعلوم أن مـن‬
‫احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل‪ ،‬فلبد أن يذكر إسنادًا تقوم به الحجة‪ ،‬فكيف بمن يطعن‬
‫في السابقين الوّلين بمجرد حكاية ل إسناد لها؟‬
‫ثعم يقال‪ :‬هذا يقدح فيمـا تدّعونـه مـن النـص على عليّـ ؛ فإنـه لو كان قـد نصّـ على عليّـ لم يكـن‬
‫للنصار فيه حق‪ ،‬ولم يكن في ذلك شك‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وقال عند احتضاره‪ :‬ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنة في لبنة‪ ،‬مع أنهم قد‬
‫نقلوا عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه قال‪ :‬مـا مـن محتضـر يحتضـر إل ويرى مقعده مـن الجنـة‬
‫والنار)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف‪ ،‬بل هو باطل بل ريب‪ ،‬بل الثابت عنه أنه لما‬
‫احتُضر‪ ،‬وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر‪:‬‬
‫إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدرُ‬ ‫لعُمرك ما يغني الثراءُ عن الفتى‬
‫فكشـف عـن وجهـه‪ ،‬وقال‪ :‬ليـس كذلك‪ ،‬ولكـن قولي‪(( :‬وَجَاءَتْع سَع ْكرَةُ ال َموْتِع بِالْحَقّ َذلِكَع مَا ُكنْتَع‬
‫مِ ْنهُ تَحِيدُ))[ق‪.]19:‬‬
‫ولكن نقل عنه أنه قال في صحته‪ :‬ليت أمي لم تلدني! ونحو هذا قاله خوفًا ‪-‬إن صح النقل عنه‪-‬‬

‫‪158‬‬
‫ومثل هذا الكلم منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفًا وهيبة من أهوال يوم القيامة‪ ،‬حتى قال بعضهم‪:‬‬
‫خيّرت بيـن أن أحاسـب وأدخـل الجنـة‪ ،‬وبيـن أن أصـير ترابًا‪ ،‬لخترت أن أصـير ترابًا‪ ،‬وروى‬ ‫لو ُ‬
‫المام أحمد عن أبي ذر أنه قال‪ :‬وال لوددت أني شجرة تعضد‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وقال أبـو بكـر‪ :‬ليتنـي فـي ظلة بنـي سـاعدة ضربـت بيدي على يـد أحـد الرجليـن‪،‬‬
‫فكان هو المير وكنت الوزير) قال‪( :‬وهو يدل على أنه لم يكن صالحًا يرتضي لنفسه المامة)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا إن كان قاله فهـو أدلّ دليـل على أن عليّاـ لم يكـن هـو المام ؛ وذلك أن قائل هذا‬
‫إنمـا يقوله خوفًا مـن ال أن يضيـع حـق الوليـة‪ ،‬وأنـه إذا ولّى غيَره وكان وزيرًا له‪ ،‬كان أبرأ لذمتـه؛‬
‫فلو كان عليـّ هـو المام‪ ،‬لكانـت توليتـه لحـد الرجليـن إضاعـة للمامـة أيضـا‪ ،‬وكان يكون وزيرًا‬
‫لظالم غيره‪ ،‬وكان قد باع آخرته بدنيا غيره‪ ،‬وهذا ل يفعله من يخاف ال‪ ،‬ويطلب براءة ذمته‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وقال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم فـي مرض موتـه‪ ،‬مرة بعـد أخرى‪ ،‬مكررًا‬
‫لذلك‪ :‬أنفذوا جيش أسامة‪ ،‬لعن ال المتخلف عن جيش أسامة‪ .‬وكان الثلثة معه‪ ،‬ومنع أبو بكر عمر‬
‫من ذلك)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة‪ ،‬ولم ينقل أحد من‬
‫أهل العلم أن النبي صلى ال عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة‪ ،‬وإنما رُوى ذلك‬
‫في عمر‪ ،‬وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة‪ ،‬وقد استخلفه يصلّي بالمسلمين مدة مرضه‪ ،‬وكان‬
‫ابتداء مرضه من يوم الخميـس إلى الخميس إلى يوم الثنين‪ ،‬اثني عشر يومًا‪ ،‬ولم يقدّم في الصـلة‬
‫بالمسـلمين إل أبـا بكـر بالنقـل المتواتـر‪ ،‬ولم تكـن الصـلة التـي صـلّها أبـو بكـر بالمسـلمين فـي مرض‬
‫النـبي صـلى ال عليـه وسـلم صـلةً ول صـلتين‪ ،‬ول صـلة يوم ول يوميـن‪ ،‬حتـى يُظَنّـ مـا تدعيـه‬
‫الرافضـة مـن التلبيـس‪ ،‬وأن عائشـة قدّمتـه بغيـر أمره‪ ،‬بـل كان يصـلّي بهـم مدة مرضـه ؛ فإن الناس‬
‫متفقون على أن النبي صلى ال عليه وسلم لم يصل بهم في مرض موته ولم يصل بهم إل أبو بكر‪،‬‬
‫وعلى أنـه صـلّى بهـم عدة أيام‪ .‬وأقـل مـا قيـل‪ :‬إنّه صـلّى بهـم سـبع عشرة صـلة ؛ صـلّى بهـم صـلة‬
‫العشاء الخرة ليلة الجمعـة‪ ،‬وخطـب بهـم يوم الجمعـة‪ .‬هذا مـا تواترت بـه الحاديـث الصـحيحة‪ ،‬ولم‬
‫يزل يصـلّي بهـم إلى فجـر يوم الثنيـن‪ ،‬صـلّى بهـم صـلة الفجـر‪ ،‬وكشـف النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫السـتارة‪ ،‬فرآهـم يصـلّون خلف أبـي بكـر‪ ،‬فلمـا رأوه كادوا يفتنون فـي صـلتهم‪ ،‬ثُم أرخـى السـتارة‪،‬‬
‫وكان ذلك آخر عهدهم به‪ ،‬وتوفي يوم الثنين حين اشتد الضحى قريبًا من الزوال‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫ل النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أبـا بكـر ألبتـة عملً فـي وقتـه‪ ،‬بـل ولّى‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وأيضًا لمْـ ُيوَ ّ‬
‫عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى‪ ،‬ولما أنفذه بسورة (براءة) ردّه بعد ثلثة أيام بوحي من‬
‫ال‪ ،‬وكيـف يرتضـي العاقـل إمامـة مـن ل يرتضيـه النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بوحـي مـن ال لداء‬
‫عشر آيات من (براءة)؟!)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا من َأ ْبيَن الكذب ؛ فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازى والسير‬
‫والحديث والفقه وغيرهم‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع‪ ،‬وهو‬
‫أول حج كان في السلم من مدينة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يكن قبله حج في السلم‪،‬‬
‫إل الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة ؛ فإن مكة فتحت سنة ثمان‪،‬‬

‫‪159‬‬
‫وأقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد‪ ،‬الذي استعمله النبي صلى ال عليه وسلم على أهل مكة ثم أمّر‬
‫أبا بكر سنة تسع للحج‪ ،‬بعد رجوع النبي صلى ال عليه وسلم من غزوة تبوك‪ ،‬وفيها َأمَر أبا بكر‬
‫بالمناداة في الموسم‪ :‬أن ل يحج بعد العام مشرك‪ ،‬ول يطوف بالبيت عُريان‪ ،‬ولم يؤمّر النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولية ؛ فولية أبي بكر كانت من خصائصه‪ ،‬فإن النبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم لم يؤمّرـ على الحـج أحدًا كتأميـر أبـي بكـر‪ ،‬ولم يسـتخلف على الصـلة أحدًا‬
‫كاستخلف أبي بكر‪ ،‬وكان عليّ من رعيته في هذه الحجة ؛ فإنه لحقه‪ ،‬فقال‪ :‬أمير أو مأمور؟ فقال‬
‫عليـّ‪ :‬بـل مأمور‪ ،‬وكان عليّـ يصـلّي خلف أبـي بكـر مـع سـائر المسـلمين فـي هذه الوليـة‪ ،‬ويأتمـر‬
‫لمره كما يأتمر له سائر من معه‪ ،‬ونادى عليّ مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر‪.‬‬
‫ي وغيره؛ فلم يكن لعليّ ولية‬ ‫وأما ولية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره‪ ،‬كولية عل ّ‬
‫ل النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫إل ولغيره مثلها‪ ،‬بخلف ولية أبي بكر‪ ،‬فإنها من خصائصه‪ ،‬ولم يو ّ‬
‫على أبي بكر ل أسامة بن زيد ول عمرو بن العاص‪.‬‬
‫فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه‪.‬‬
‫ع ْمرًا فـي سـرية‪ ،‬وهـي‬
‫وأمـا قصـة عمرو بـن العاص‪ ،‬فإن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم كان أرسـل َ‬
‫غزوة ذات الســلسل‪ ،‬وكانــت إلى بنــي عذرة‪ ،‬وهــم أخوال عمرو‪ ،‬فأمّرــ عمرًا ليكون ذلك ســببًا‬
‫لســلمهم‪ ،‬للقرابــة التــي له منهــم‪ ،‬ثــم أردفــه بأبــي عــبيدة‪ ،‬ومعــه أبــو بكــر وعمــر و غيرهمــا مــن‬
‫ع ْمرًا قال‪ :‬أصلّي بأصحابي وتصلّي بأصحابك‪.‬‬ ‫المهاجرين‪ ،‬و قال‪( :‬تطاوعا ول تختلفا) فلما لحق َ‬
‫قال‪ :‬بـل أنـا أصـلّي بكـم؛ فإنمـا أنـت مدد لي‪ ،‬فقال له أبـو عـبيدة‪ :‬إن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫أمرنـي أن أطاوعـك‪ ،‬فإن عصـيتني أطعتـك‪ ،‬قال‪ :‬فإنـي أعصـيك‪ ،‬فأراد عمرو أن ينازعـه فـي ذلك‪،‬‬
‫فأشار عليه أبو بكر أن ل يفعل‪ ،‬ورأى أبو بكر أن ذلك أصـلح للمر‪ ،‬فكانوا يصلّون خلف عمرو‪،‬‬
‫مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو‪.‬‬
‫وأمعا قول الرافضعي‪ :‬إنـه لمـا أنفذه بـبراءة ردّه بعـد ثلثـة أيام ؛ فهذا مـن الكذب المعلوم؟أنـه كذب‪،‬‬
‫فإن النبي صلى ال عليه وسلم لما أمّر أبا بكر على الحج‪ ،‬ذهب كما أمره‪ ،‬وأقام الحج في ذلك العام‬
‫‪-‬عام تسـع‪ -‬للناس‪ ،‬ولم يرجـع إلى المدينـة حتـى قضـى الحـج‪ ،‬وأنفـذ فيـه مـا أمره بـه النـبي صـلى ال‬
‫عليــه وســلم‪ ،‬فإن المشركيــن كانوا يحجون البيــت‪ ،‬وكانوا يطوفون بالبيــت عراة‪ ،‬وكان بيــن النــبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم وبيـن المشركيـن عهود مطلقـة‪ ،‬فبعـث أبـا بكـر وأمره أن ينادي‪ :‬أن ل يحـج بعـد‬
‫العام مشرك‪ ،‬ول يطوف بالبيت عُريان‪ ،‬فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام‪ ،‬وكان عليّ‬
‫بـن أبـي طالب مـن جملة مـن نادى بذلك فـي الموسـم بأمـر أبـي بكـر‪ ،‬ولكـن لمـا خرج أبـو بكـر أردفـه‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم بعليّ بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وكان مـن عادة العرب أن ل يعقـد العهود ول يفسـخها إل المطاع‪ ،‬أو رجـل مـن أهـل بيتـه‪،‬‬
‫َف َبعَث عليّا لجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة‪ ،‬لم يبعثه لشيء آخر‪ ،‬ولهذا كان عليّ‬
‫يصلّي خلف أبي بكر‪ ،‬ويدفع بدفعه في الحج‪ ،‬كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وقطع يسار سارق‪ ،‬ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن قول القائل‪ :‬إن أبـا بكـر يجهلُ هذا‪ ،‬مـن أظهـر الكذب‪ ،‬ولوقدّر أن أبـا بكركان يجيـز‬
‫ذلك‪ ،‬لكان ذلك قولً سائغًا ؛ لن القرآن ليس في ظاهره ما يعيّن اليمين‪ ،‬لكن تعيين اليمين في قراءة‬
‫ابن مسعود‪( :‬فاقطعوا أيمانهما) وبذلك مضت السنة‪ ،‬ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي ال‬

‫‪160‬‬
‫عنـه أنـه قطـع اليسـرى؟ وأيـن السـناد الثابـت بذلك؟ وهذه كتـب أهـل العلم بالثار موجودة ليـس فيهـا‬
‫ذلك‪ ،‬ول نقل أهل العلم بالختلف ذلك قولً‪ ،‬مع تعظيمهم لبي بكر رضي ال عنه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وأحرق الفجاءة السلمى بالنار‪ ،‬وقد نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الحراق‬
‫بالنار)‪.‬‬
‫الجواب‪ :‬أن الحراق بالنار عن عل يّ أشهر وأظهر منه عن أبي بكر‪ ،‬وأنه قد ثبت في الصحيح‬
‫ي بقوم زنادقة من غلة الشيعة‪ ،‬فحرّقهم بالنار‪ ،‬فبلغ ذلك ابن عباس‪ ،‬فقال‪ :‬لو كنت أنا لم‬ ‫أن عليّا ُأتِ َ‬
‫أحرّقهم بالنار‪ ،‬لنهي النبي صلى ال عليه وسلم أن ُيعَذّب بعذاب ال‪ ،‬ولضربت أعناقهم‪ ،‬لقول النبي‬
‫علَى‬‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬من بدّل دينه فاقتلوه) فبلغ ذلك عليّا‪ ،‬فقال‪ :‬ويح ابن أم الفضل ما أسقطه َ‬
‫الهنات(‪.)1‬‬
‫فعليّـ حرق جماعـة بالنار‪ ،‬فإن كان مـا فعله أبـو بكـر منكرًا‪ ،‬ففعـل عليّـ أنكـر منـه‪ ،‬وإن كان فعـل‬
‫عليّ مما ل يُنكر مثله على الئمة‪ ،‬فأبو بكر أوْلى أن ل يُنكر عليه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضععي‪( :‬وَخَفِي َـ عليــه أكثــر أحكام الشريعــة‪ ،‬فلم يعرف حكــم الكللة‪ ،‬وقال‪ :‬أقول فيهــا‬
‫برأيـي‪ ،‬فإن يـك صـوابًا فمـن ال‪ ،‬وإن يـك خطـأ فمنـي ومـن الشيطان‪ ،‬وقضـى بالجـد بسـبعين قضيـة‪،‬‬
‫وهو يدل على قصوره في العلم)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا مـن أعظـم البهتان‪ ،‬كيـف يخفـى عليـه أكثـر أحكام الشريعـة‪ ،‬ولم يكـن بحضرة‬
‫النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـن يقضـي ويُفتـى إل هـو؟! ولم يكـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أكثـر‬
‫مشاورة لح ٍد مـن الصـحابة منـه له ولعمـر‪ ،‬ولم يكـن أح ٌد أعظـم اختصـاصًا بالنـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسلم منه ثم عمر‪.‬‬
‫وقـد ذكـر غيـر واحـد‪ ،‬مثـل‪ :‬منصـور بـن عبـد الجبّار السـمعاني وغيره‪ ،‬إجماع أهـل العلم على أن‬
‫الصـدّيق أعلم المـة‪ .‬وهذا بيّنـٌ‪ ،‬فإن المـة لم تختلف فـي وليتـه فـي مسـألة إل فصـلّها هـو بعلم يـبيّنه‬
‫لهم‪ ،‬وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة‪ ،‬كما بيّن لهم موت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتثبيتهم‬
‫على اليمان‪ ،‬وقراءتـه عليهـم اليـة‪ ،‬ثـم بيّنـ لهـم موضـع دفنـه‪ ،‬وبيّنـ لهـم قتال مانعـي الزكاة لمـا‬
‫استراب فيه عمر‪ ،‬وبيّن لهم أن الخلفة في قريش في سقيفة بني ساعدة‪ ،‬لمّا ظن من ظن أنها تكون‬
‫في غير قريش‪.‬‬
‫وقـد اسـتعمله النـبي صـلى ال عليـه وسـلم على أول حجـة حجـت مـن مدينـة النـبي صـلى ال عليـه‬
‫علْ مُ المناسك أد قّ ما في العبادات‪ ،‬لول سعة علمه بها لم يستعمله‪ ،‬وكذلك الصلة استخلفه‬ ‫وسلم‪ .‬و ِ‬
‫فيها‪ ،‬ولول علمه بها لم يستخلفه‪ ،‬ولم يستخلف غيره ل في حج ول في صلة‪.‬‬
‫وكتاب الصدقة التي فرضها رسول ال صلى ال عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر‪ ،‬وهو أصح‬
‫ما رُوي فيها‪ ،‬وعليه اعتمد الفقهاء‪.‬‬
‫وفـي الجملة ل يُعرف لبـي بكـر مسـألة مـن الشريعـة غلط فيهـا‪ ،‬وقـد عُرف لغيره مسـائل كثيرة‪،‬‬
‫كما بسط في موضعه‪.‬‬
‫وأما قول الرافضي‪( :‬لم يعرف حكم الكللة حتى قال فيها برأيه)‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن هذا مـن أعظـم علمـه‪ ،‬فإن هذا الرأي الذي رآه فـي الكللة قـد اتفـق عليـه جماهيـر‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪.)9/15‬‬

‫‪161‬‬
‫العلماء بعده ؛ فإنهم أخذوا في الكللة بقول أبي بكر‪ ،‬وهو من ل ولد له ول والد‪ ،‬والقول بالرأي هو‬
‫ي وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن‬ ‫معروف عن سائر الصحابة‪ :‬كأبي بكر وعمر وعثمان وعل ّ‬
‫جبـل‪ ،‬لكـن الرأي الموافـق للحـق هـو الذي يكون لصـاحبه أجران‪ ،‬كرأي الصـدّيق‪ ،‬فإن هذا خيـر مـن‬
‫الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد‪.‬‬
‫عبَاد لعليـّ‪ :‬أرأيـت مسـيرك هذا‪ :‬ألعهـد عهده إليـك رسـول ال صـلى ال عليـه‬ ‫وقـد قال قيـس بـن ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫وسلم أم رأى رأيته؟ فقال‪ :‬بل رأى رأيته‪ .‬رواه أبو داود وغيره ‪.‬‬
‫فإن كان مثـل هذا الرأي الذي حصـل بـه مـن سـفك الدماء مـا حصـل‪ ،‬ل يمنـع صـاحبه أن يكون‬
‫إمامًا‪ ،‬فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه‪.‬‬
‫وأمـا مـا ذكره مـن قضائه فـي الجـد بسـبعين قضيـة‪ ،‬فهذا كذب‪ ،‬وليـس هـو قول أبـي بكـر‪ ،‬ول نُقـل‬
‫هذا عن أبي بكر؛ بل نقل هذا عن أبى بكر يدل على غاية جهل هؤلء الروافض وكذبهم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪ :‬فأي نسـبة له بمـن قال‪( :‬سـلوني قبـل أن تفقدونـي‪ ،‬سـلوني عـن طرق السـماء فإنـي‬
‫أعرف بها من طرق الرض)‪.‬‬
‫قال أبعو البحتري‪ :‬رأيـت عليّاـ صـعد المنـبر بالكوفـة‪ ،‬وعليـه مدرعـة كانـت لرسـول ال صـلى ال‬
‫عليـه وسـلم متقلدًا لسـيف رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم متعممًا بعمامـة رسـول ال صـلى ال عليـه‬
‫وسلم‪ ،‬وفي أصبعه خاتم رسول ال صلى ال عليه وسلم فقعد على المنبر‪ ،‬وكشف عن بطنه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫سـلوني مـن قبـل أن تفقدونـي‪ ،‬فإنمـا بيـن الجوانـح منـي علم جـم‪ ،‬هذا سـفط العلم‪ ،‬هذا لعاب رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬هذا ما زقّني رسول ال صلى ال عليه وسلم زقّا من غير وحي إليّ‪ ،‬فوال لو‬
‫ثُنيت لي وسادة فجلست عليها لفتيت أهل التوراة بتوراتهم‪ ،‬وأهل النجيل بإنجيلهم‪ ،‬حتى يُنطق ال‬
‫التوراة والنجيــل‪ ،‬فتقول‪ :‬صــدق عليــّ‪ ،‬قــد أفتاكــم بمــا أنزل ال فيّـ‪ ،‬وأنتــم تتلون الكتاب‪ ،‬أفل‬
‫تعقلون))‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أما قول عليّ‪( :‬سلوني) فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلّمهم العلم والدين ؛ فإن‬
‫ل لم يدركوا النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وأمـا أبـو بكـر فكان الذيـن حول منـبره هـم‬
‫جهّا ً‬
‫غالبهـم كانوا ُ‬
‫أكابر أصـحاب النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬الذيـن تعلّموا مـن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم العلم‬
‫والدين‪ ،‬فكانت رعية أبي بكر أعلم المة وأَ ْديَنها‪ ،‬وأما الذين كان عليّ يخاطبهم فهم من جملة عوام‬
‫الناس التابعيـن‪ ،‬وكان كثيـر منهـم مـن شرار التابعيـن‪ .‬ولهذا كان عليّـ رضـي ال عنـه يذمّهـم ويدعـو‬
‫عليهم‪ ،‬وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرًا منهم‪.‬‬
‫ص َوبَها‬
‫وقد جمع الناس القضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعل يّ‪ ،‬فوجدوا أَ ْ‬
‫وأدلّهـا على علم صـاحبها أمور أبـي بكـر ثـم عمـر‪ ،‬ولهذا كان مـا يُوجـد مـن المور التـي وُجـد نصٌـ‬
‫يخالفها عن عمر أقل مما وُجد عن عل يّ‪ ،‬وأما أبو بكر فل يكاد يوجد ن صّ يخالفه‪ ،‬وكان هو الذي‬
‫يفصل المور المشتبهة عليهم‪ ،‬ولم يكن يُعرف منهم اختلف على عهده‪ ،‬وعامة ما تنازعوا فيه من‬
‫الحكام كان بعد أبي بكر‪.‬‬
‫والحديث المذكور عن عل يّ كذب ظاهر ل تجوز نسبة مثله إلى عل يّ ؛ فإن عليّا أعلم بال وبدين‬
‫ال مـن أن يحكـم بالتوراة والنجيـل‪ ،‬إذ كان المسـلمون متفقيـن على أنـه ل يجوز لمسـلم أن يحكـم بيـن‬
‫أحد إل بما أنزل ال في القرآن‪ ،‬وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مسلم (‪ )4/2143‬وسنن أب داود (‪.)4/300‬‬

‫‪162‬‬
‫بينهم إل بما أنزل ال في القرآن‪.‬‬
‫وإذا كان مـن المعلوم بالكتاب والسـنة والجماع‪ ،‬أن الحاكـم بيـن اليهود والنصـارى ل يجوز أن‬
‫يحكـم بينهـم إل بمـا أنزل ال على محمـد‪ ،‬سـواء وافـق مـا بأيديهـم مـن التوراة والنجيـل أو لم يوافقـه‪،‬‬
‫كان من نسب عليّا إلى أنه يحكم بالتوراة والنجيل بين اليهود والنصارى‪ ،‬أو يفتيهم بذلك‪ ،‬ويمدحه‬
‫بذلك‪ :‬إما أن يكون من أجهل الناس بالدين‪ ،‬وبما يُمدح به صاحبه‪ ،‬وإما أن يكون زنديقًا ملحدًا أراد‬
‫القدح في عليّ بمثل هذا الكلم الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب‪ ،‬دون المدح والثواب‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬وروى البيهقي بإسناده عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ :‬من أراد أن‬
‫ينظر إلى آدم في علمه‪ ،‬وإلى نوح في تقواه‪ ،‬وإلى إبراهيم في حلمه‪ ،‬وإلى موسى في هيبته‪ ،‬وإلى‬
‫ي بن أبي طالب‪ ،‬فأثبت له ما تفرّق فيهم)‪.‬‬ ‫عيسى في عبادته‪ ،‬فلينظر إلى عل ّ‬
‫والجواب‪ :‬أن يقال أولً‪ :‬أيــن إســناد هذا الحديــث؟ والبيهقــي يروي فــي الفضائل أحاديــث كثيرة‬
‫ضعيفة‪ ،‬بل موضوعة‪ ،‬كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم‪.‬‬
‫ويقال ثانيًا‪ :‬هذا الحديث كذب موضوع على رسـول ال صلى ال عليه وسلم بل ريب عند أهـل‬
‫العلم بالحديــث‪ ،‬ولهذا ل يذكره أهــل العلم بالحديــث‪ ،‬وإن كانوا حراص ـًا على جمــع فضائل علي ـّ‪،‬‬
‫كالنســائي ؛ فإنــه قصــد أن يجمــع فضائل عليـّ فــي كتاب ســماه (الخصــائص)‪ ،‬والترمذي قــد ذكــر‬
‫أحاديث متعددة في فضائله‪ ،‬وفيها ما هو ضعيف بل موضوع‪ ،‬ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬قال أبـو عمـر الزاهـد‪ :‬قال أبـو العباس‪ :‬ل نعلم أحدًا قال بعـد نـبيه‪( :‬سـلوني) مـن‬
‫شيثٍ إلى محمدٍ إل عليّ‪ ،‬فسأله الكابر‪ :‬أبو بكر وعمر وأشباههما‪ ،‬حتى انقطع السؤال‪ ،‬ثم قال بعد‬
‫هذا‪ :‬يا ُك َميْل بن زياد‪ ،‬إن ههنا لعلمًا جمًا لو أصبت له حملة)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا النقل إن صح عن ثعلب ؛ فثعلب لم يذكر له إسنادًا حتى يُحتج به‪ ،‬وليس ثعلب‬
‫من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه‪ ،‬حتى يُقال‪ :‬قد صح عنده‪ ،‬كما إذا قال ذلك أحمد‬
‫أو يحيـى بـن معيـن أو البخاري ونحوهـم‪ ،‬بـل مـن هـو أعلم مـن ثعلب مـن الفقهاء يذكرون أحاديـث‬
‫كثيرة ل أصـل لهـا‪ ،‬فكيـف ثعلب؟! وهـو قـد سـمع هذا مـن بعـض الناس الذيـن ل يذكرون مـا يقولون‬
‫عن أحد‪.‬‬
‫وعليّـ رضـي ال عنـه لم يكـن يقول هذا بالمدينـة‪ ،‬ل فـي خلفـة أبـي بكـر ول عمـر ول عثمان‪،‬‬
‫وإنما كان يقول هذا في خلفته في الكوفة‪ ،‬ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه‪،‬‬
‫ي رضي ال عنه يأمرهم بطلب العلم والسؤال‪.‬‬ ‫وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم‪ ،‬وكان عل ّ‬
‫علَى‬‫ل مـن التابعيـن لم يصـحبه إل بالكوفـة‪ ،‬فدل َ‬ ‫وحديـث ُكمَيْل بـن زياد يدل على هذا ؛ فإن كمي ً‬
‫أنـــه كان يرى تقصـــيرًا مـــن أولئك عـــن كونهـــم حملة للعلم‪ ،‬ولم يكـــن يقول هذا فـــي المهاجريـــن‬
‫والنصار‪ ،‬بل كان عظيم الثناء عليهم‪.‬‬
‫وأما أبو بكر فلم يسأل عليّا قط عن شيء‪ ،‬وأما عمر فكان يشاور الصحابة‪ :‬عثمان وعليّا وعبد‬
‫ي من أهل الشورى‪.‬‬ ‫الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم‪ ،‬فكان عل ّ‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضععي‪( :‬وأهمــل حدود ال فلم يقتــص مــن خالد بــن الوليــد ول حدّه حيــث قتــل مالك بــن‬
‫نويرة‪ ،‬وكان مسلمًا‪ ،‬وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها‪ ،‬وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل)‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫والجواب أن يقال‪ :‬أولً‪ :‬إن كان ترك قتــل قاتــل المعصــوم ممــا يُنكــر على الئمــة‪ ،‬كان هذا مــن‬
‫علَى عليّـ ؛ فإن عثمان خيـر مـن ملء الرض مـن مثـل مالك بـن نويرة‪،‬‬ ‫أعظـم حجـة شيعـة عثمان َ‬
‫وهو خليفة المسلمين‪ ،‬وقد قُتل مظلومًا شهيدًا بل تأويل مسوّغ لقتله‪ ،‬وعليّ لم يقتل َق َتلَته‪ ،‬وكان هذا‬
‫ي له عذر شرعي في ترك قتل‬ ‫من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة عل يّ‪ ،‬فإ نْ كان عل ّ‬
‫قتلة عثمان‪ ،‬فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى‪ ،‬وإن لم يكن لبي بكر عذر في‬
‫ي َأوْلى أن ل يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان‪.‬‬ ‫ذلك فعل ّ‬
‫وأمـا مـا تفعله الرافضـة مـن النكار على أبـي بكـر فـي هذه القضيـة الصـغيرة‪ ،‬وترك إنكار مـا هـو‬
‫علَى عليّ‪ ،‬فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم‪.‬‬ ‫أعظم منها َ‬
‫علَى عثمان كونه لم يقتل عُبيد ال بن عمر بالهرمزان‪ ،‬هو من هذا الباب‪.‬‬ ‫وكذلك إنكارهم َ‬
‫وإذا قال القائل‪ :‬عليّـ كان معذورًا فـي ترك قتـل قتلة عثمان‪ ،‬لن شروط السـتيفاء لم توجـد؛ إمـا‬
‫لعدم العلم بأعيان ال َقتَلة‪ ،‬وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫قيععل‪ :‬فشروط الســتيفاء لم توجــد فــي قتــل قاتــل مالك بــن نويرة‪ ،‬وقتــل قاتــل الهرمزان‪ ،‬لوجود‬
‫الشبهة في ذلك‪ ،‬والحدود تُدرأ بالشّبهات‪.‬‬
‫علَى عثمان بقتل عبيد ال‬ ‫علَى أبي بكر بقتل خالد بن الوليد‪ ،‬وعل يّ أشار َ‬ ‫وإذا قالوا‪ :‬عمر أشار َ‬
‫بن عمر‪.‬‬
‫علَى أبي‬‫علَى عليّ بقتل قتلة عثمان‪ ،‬مع أن الذين أشاروا َ‬ ‫قيل‪ :‬وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا َ‬
‫بكـر بال َقوَد‪ ،‬أقام عليهـم حجّة سـلّموا لهـا‪ ،‬إمـا لظهور الحـق معـه‪ ،‬وإمـا لكون ذلك ممـا يسـوغ فيـه‬
‫الجتهاد‪.‬‬
‫وعليّـ لمـا لم يوافـق الذيـن أشاروا عليـه بالقود‪ ،‬جرى بينـه وبينهـم مـن الحروب مـا قـد عُلم‪ ،‬وقتـل‬
‫قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفّين‪ ،‬فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ‪ ،‬ففي ذلك أوْلى‪.‬‬
‫وإن قالوا‪ :‬عثمان كان مباح الدم‪.‬‬
‫قيعل لهعم‪ :‬فل يشـك أحـد فـي أن إباحـة دم مالك بـن نُويرة أظهـر مـن إباحـة دم عثمان‪ ،‬بـل مالك بـن‬
‫نويرة ل يُعرف أنه كان معصوم الدم‪ ،‬ولم يثبت ذلك عندنا‪ ،‬وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص‬
‫الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم‪ ،‬وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما ل يحصى عدده إل‬
‫ال تعالى‪.‬‬
‫ومععن قال‪ :‬إن عثمان كان مباح الدم‪ ،‬لم يمكنــه أن يجعــل عليّا ـ معصــوم الدم‪ ،‬ول الحســين ؛ فإن‬
‫عصـمة دم عثمان أظهـر مـن عصـمة دم عليّـ والحسـين‪ ،‬وعثمان أبعـد عـن موجبات القتـل مـن علي‬
‫والحســين‪ ،‬وشُبهــة َقتَلة عثمان أضعــف بكثيـر مـن شبهــة َق َتلَة عليـّ والحســين ؛ فإن عثمان لم يقتــل‬
‫مسـلمًا‪ ،‬ول قاتـل أحدًا على وليتـه‪ ،‬ولم يطلب قتال أحـد على وليتـه أصـلً؛ فإن وجـب أن يُقال‪ :‬مـن‬
‫قتـل خلقًا مـن المسـلمين على وليتـه إنـه معصـوم الدم‪ ،‬وإنـه مجتهـد فيمـا فعله‪ ،‬فَلَن يُقال‪ :‬عثمان‬
‫معصوم الدم‪ ،‬وإنه مجتهد فيما فعله من الموال والوليات بطريق الوْلى والحرى‪.‬‬
‫ثعم يُقال‪ :‬غايـة مـا يُقال فـي قصـة مالك بـن نويرة‪ :‬إنـه كان معصـوم الدم وإن خالدًا قتله بتأويـل‪،‬‬
‫وهذا ل يبيح قتل خالد‪ ،‬كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وقال له النبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬يـا أسـامة أقتلتـه بعـد أن قال‪ :‬ل إله إل ال؟ يـا أسـامة أقتلتـه بعـد أن قال‪ :‬ل إله‬
‫إل ال؟يـا أسامة أقتلته بعد أن قال‪ :‬ل إله إل ال؟)(‪ )1‬فأنكـر عليـه قتله‪ ،‬ولم يوجب عليـه َقوَدًا ول دِية‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مسلم (‪ )97 -1/96‬وسنن أب داود (‪.)3/61‬‬

‫‪164‬‬
‫ول كفّارة‪.‬‬
‫وأمـا ما ذكره من تزوجـه بامرأته ليلة قتله‪ ،‬فهذا مما لم يعرف ثبوته‪ ،‬ولو ثبـت لكان هناك تأويل‬
‫يمنـع الرجـم‪ .‬والفقهاء مختلفون فـي عدة الوفاة‪ :‬هـل تجـب للكافـر؟ على قوليـن‪ .‬وكذلك تنازعوا هـل‬
‫يجب على الذميّة عدة الوفاة؟ على قولين مشهورين للمسلمين‪ ،‬بخلف عدة الطلق‪ ،‬فإن تلك سببها‬
‫الوطء‪ ,‬فل بد من براءة الرحم‪ ،‬وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد‪ ،‬فإذا مات قبل الدخول بها فهل‬
‫تعتد من الكافر أم ل؟ فيه نزاع‪ ،‬وكذلك إن دخل بها‪ ،‬وقد حاضت بعد الدخول حيضة‪.‬‬
‫هذا إذا كان الكافـر أصـليًا‪ ،‬وأمـا المرتـد إذا قتـل‪ ،‬أو مات على ردتـه‪ ،‬ففـي مذهـب الشافعـي وأحمـد‬
‫وأبـي يوسـف ومحمـد ليـس عليهـا عدة وفاة بـل عدة فرقـة بائنـة‪ ،‬لن النكاح بطـل بردة الزوج‪ ،‬وهذه‬
‫الفرقة ليست طلقًا عند الشافعي وأحمد‪ ،‬وهي طلق عند مالك وأبي حنيفة‪ ،‬ولهذا لم يوجبوا عليها‬
‫عدة وفاة‪ ،‬بل عدة فرقة بائنة‪ ،‬فإن كان لم يدخل بها فل عدة عليها‪ ,‬كما ليس عليها عدة من طلق‪.‬‬
‫ومعلوم أن خالدًا قتـل مالك بـن نويرة لنـه رآه مرتدًا‪ ،‬فإذا كان لم يدخـل بإمرأتـه فل عدة عليهـا‬
‫عنـد عامـة العلماء‪ ،‬وإن كان قـد دخـل بهـا فإنـه يجـب عليـه اسـتبراء بحيضـة ل بعدة كاملة فـي أحـد‬
‫قوليهــم‪ ،‬وفــي الخــر بثلث حيــض‪ ،‬وإن كان كافرًا أصــليًا فليــس على امرأتــه عدة وفاة فــي أحــد‬
‫قوليهم‪ ،‬وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت‪ .‬ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة‬
‫استبراء‪ ،‬فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبرا ًء لدللته على براءة الرحم‪.‬‬
‫وبالجملة فنحـن لم نعلم أن القضيـة وقعـت على وجـه ل يسـوغ فيهـا الجتهاد والطعـن بمثـل ذلك‬
‫من قول من يتكلم بل علم‪ ،‬وهذا مما حرّمه ال ورسوله‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وخالف أمـر النـبي صـلى ال عليـه وسـلم فـي توريـث بنـت النـبي صـلى ال عليـه‬
‫وسلم ومنعها فدكًا‪ ،‬وتسمّى بخليفة رسول ال صلى ال عليه وسلم من غير أن يستخلفه)‪.‬‬
‫والجععواب‪ :‬أمـا الميراث فجميـع المسـلمين مـع أبي بكر في ذلك‪ ،‬ما خل بعض الشيعـة‪ ،‬وقد تقدم‬
‫الكلم فـي ذلك‪ ،‬وبيّنـا أن هذا مـن العلم الثابـت عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‪ ،‬وأن قول الرافضـة‬
‫باطل قطعًا‪.‬‬
‫وكذلك مـا ذكـر مـن فدك‪ ،‬والخلفاء بعـد أبـي بكـر على هذا القول‪ ،‬وأبـو بكـر وعمـر لم يتعلقـا مـن‬
‫فدك ول غيرهـا مـن العقار بشيـء ول أعطيـا أهلهمـا مـن ذلك شيئًا‪ ،‬وقـد أعطيـا بنـي هاشـم أضعاف‬
‫أضعاف ذلك‪.‬‬
‫ثـم لو احتـج محتـج بأن عليًا كان يمنـع المال ابـن عباس وغيره مـن بنـي هاشـم‪ ،‬حتـى أخـذ ابـن‬
‫عباس بعـض مال البصـرة وذهـب بـه‪ ،‬لم يكـن الجواب عـن علي إل بأنـه إمام عادل قاصـد للحـق ل‬
‫يتهم في ذلك‪.‬‬
‫وهذا الجواب هـو فـي حـق أبـي بكـر بطريـق الولى والحرى‪ ،‬وأبـو بكـر أعظـم محبـة لفاطمـة‬
‫ومرعاة لها من علي لبن عباس‪ ،‬وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر‪ ،‬فإن فضل أبي بكر‬
‫ي على ابن عباس‪.‬‬
‫على فاطمة أعظم من فضل عل ّ‬
‫(فصععل)‬
‫وأمـا تسـميته بخليفـة رسـول ال ؛ فإن المسـلمين سـمّوه بذلك‪ ،‬فإن كان الخليفـة هـو المسـتخلَف كمـا‬
‫ادّعاه هذا‪ ،‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد استخلفه‪ ،‬كما يقول ذلك من يقوله من أهل السنّة‪،‬‬
‫خلَفـَ غيرَه – وإن كان لم يسـتخلفه ذلك الغيــر كمـا يقوله الجمهور – لم‬ ‫وإن كان الخليفـة هـو الذي َ‬

‫‪165‬‬
‫يحتج في هذا السم إلى الستخلف‪.‬‬
‫خلَفَ غيره‪ :‬سواء‬ ‫والستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا السم يتناول كل من َ‬
‫ظرَ َكيْفَع‬ ‫اسـتخلفه‪ ،‬أو لم يسـتخلفه‪ ،‬كقوله تعالى‪(( :‬ثمّ جَ َع ْلنَاكُمْع خَلئِفَع فعي ا َلرْضِع مِنْع بَعْدِهِمْع ِلنَنْ ُ‬
‫تَ ْعمَلونَ))[يونس‪.]14:‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬ومنهـا مـا رووه عـن عمـر‪ ،‬روى أبـو نُعيـم الحافـظ فـي كتابـه (حليـة الولياء) أنـه‬
‫قال لمـا احتُضـر‪ :‬يـا ليتنـي كنـت كبشًا لقومـي فسـمنّوني مـا بدا لهـم‪ ،‬ثـم جاءهـم أحـب قومهـم إليهـم‬
‫فذبحونـي‪ ،‬فجعلوا نصـفي شوا ًء ونصـفي قديدًا‪ ،‬فأكلونـي‪ ،‬فأكون عذرة ول أكون بشرًا‪ ،‬وهـل هذا إل‬
‫مسا ٍو لقول الكافر‪(( :‬يا َليْتَني ُكنْتُ تُرابًا))[النبأ‪.]40:‬‬
‫قال‪( :‬وقال لبن عباس عند احتضاره‪ :‬لو أن لي ملء الرض ذهبًا ومثله معه لفتديت به نفسي‬
‫جمِيعًا َومِثْلَهُع مَعَهُع ل ْفتَ َدوْا‬‫ظَلمُوا مَا فعي ا َلرْضِع َ‬
‫مـن هول المطلع‪ ،‬وهذا مثـل قوله‪(( :‬وَ َلوْ َأنّ للذّينَع َ‬
‫ل الرجلين عند احتضارهما‪ ،‬وقول عليّ‪:‬‬ ‫ن سُوءِ ا ْلعَذَاب))[الزمر‪ ]1:‬فلينظر المنصف العاقل قو َ‬ ‫بِ ِه مِ ْ‬
‫متى ألقى الحبة‪ ..‬محمدًا وحزبه‪.‬‬
‫متى ألقاها‪ ..‬متى يُبعث أشقاها‪.‬‬
‫وقوله حين قتله ابن ملجم‪ :‬فزت ورب الكعبة)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن فــي هذا الكلم مــن الجهالة مــا يدل على فرط جهــل قائله؛ وذلك أن مــا ذكره عــن‬
‫عليّ قد نُقل مثله عمّن هو دون أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ‪ ،‬بل نُقل مثله عمّن يكفّر عليّ بن أبي‬
‫طالب مــن الخوارج‪ ،‬كقول بلل عتيــق أبــي بكــر عنــد الحتضار‪ ،‬وامرأتــه تقول‪ :‬واحرباه‪ ،‬وهــو‬
‫يقول‪ :‬واطرباه غدًا ألقى الحبة محمدًا وحزبه‪.‬‬
‫ل وذويـه) فمـا حال‬ ‫وكان عمـر قـد دعـا لمـا عارضوه فـي قسـمة الرض‪ ،‬فقال‪( :‬اللهـم اكفنـي بل ً‬
‫ط ِرفُ‪.‬‬ ‫حوْل وفيهم عين تَ ْ‬ ‫ال َ‬
‫وروى أبو نُعيم في (الحلية)‪( :‬حدثنا القطيعى‪ ،‬حدثنا الحسن بن عبد ال‪ ،‬حدثنا عامر بن سيّار‪،‬‬
‫حدثنـا عبـد الحميـد بـن بهرام‪ ،‬عـن شهـر بـن حوشـب‪ ،‬عـن عبـد الرحمـن بـن غنـم‪ ،‬عـن الحارث بـن‬
‫عميـر‪ ،‬قال‪ :‬طُعـن معاذ وأبـو عـبيدة وشُرحبيـل بـن حسـنة وأبـو مالك الشعري فـي يوم واحـد‪ ،‬فقال‬
‫معاذ‪ :‬إنه رحمة ربكم‪ ،‬ودعوة نبيكم‪ ،‬وقبض الصالحين قبلكم‪ ،‬اللهم آت آل معاذ النصيب الوفر من‬
‫هذه الرحمـة‪ ،‬فمـا أمسـى حتـى طُعـن ابنـه عبـد الرحمـن ِب ْكرُه الذي كان يُكنّىـ بـه‪ ،‬وأحـب الخلق إليـه‪،‬‬
‫فرجع من المسجد فوجده مكروبًا‪ ،‬فقال‪ :‬يا عبد الرحمن‪ ،‬كيف أنت؟ قال‪ :‬يا أبتِ الحق من ربك فل‬
‫تكونـن مـن الممتريـن‪ ،‬قال‪ :‬وأنـا إن شاء ال سـتجدني مـن الصـابرين‪ ،‬فأمسـكه َل ْيلَهُـ ثـم دفنـه مـن الغـد‪،‬‬
‫وطُعن معاذ‪ ،‬فقال حين اشتدّ به النزع ‪-‬نزع الموت‪ -‬فنزع نزعًا لم ينزعه أحد‪ ،‬وكان كلما أفاق فتح‬
‫خنْقَك‪ ،‬فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك)(‪.)1‬‬ ‫طرفه‪ ،‬وقال‪ :‬رب أخنقني َ‬
‫وكذلك قوله‪ :‬فزت ورب الكعبة‪ .‬قد قالها من هو دون عل يّ‪ ،‬قالها عامر بن فُهيرة َم ْولَى أبي بكر‬
‫الصـديق لمـا قُتـل يوم بئر معونـة‪ ،‬وكان قـد بعثـه النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـع سـرية ِقبَل نجـد‪ ،‬قال‬
‫العلماء بالســير‪ :‬طعنــه جبّار بــن س َـلْمى فأنفذه‪ ،‬فقال عامــر‪ :‬فزت وال‪ .‬فقال جبّار‪ :‬مــا قوله‪ :‬فزت‬
‫وال؟ قال عروة بن الزبير‪ :‬يرون أن الملئكة دفنته(‪.)2‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اللية (‪.)1/240‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬اللية (‪.)1/240‬‬

‫‪166‬‬
‫ب لترضى‪.‬‬ ‫وشبيب الخارجي لما طُعن دخل في الطعنة‪ ،‬وجعل يقول‪ :‬وعجلت إليك ر ِ‬
‫وأعرف شخصـًا مـن أصـحابنا لمـا حضرتـه الوفاة جعـل يقول‪ :‬حبيـبي هاقـد جئتـك‪ ،‬حتـى خرجـت‬
‫نفسه‪ .‬ومثل هذا كثير‪.‬‬
‫عبَادِهِ‬ ‫خشَى الَ مِ نْ ِ‬ ‫وأما خوف عمر وخشيته من ال لكمال علمه ؛ فإن ال تعالى يقول‪ِ(( :‬إ ّنمَا يَ ْ‬
‫الْعُ َلمَاءُ))(‪.)1‬‬
‫وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يصلّي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء(‪.)2‬‬
‫ت ُترَابًا))[النبأ‪.)]40:‬‬ ‫وأما قول الرافضي‪( :‬وهل هذا إل مساوٍ لقول الكافر‪(( :‬يَا َل ْي َتنِي ُكنْ ُ‬
‫فهذا جهـل منـه ؛ فإن الكافـر يقول ذلك يوم القيامـة‪ ،‬حيـن ل تُقبـل توبـة‪ ،‬ول تنفـع حسـنة‪ ،‬وأمـا مـن‬
‫يقول ذلك في الدنيا‪ ،‬فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية ل‪ ،‬فيُثاب على خوفه من ال‪.‬‬
‫سيّا))[مريم‪ ]23:‬ولم يكن هذا كتمنّي الموت‬ ‫سيًا مَنْ ِ‬
‫وقد قالت مريم‪(( :‬ياَ َل ْي َتنِي مِتّ َق ْبلَ هَذَا وَ ُكنْ تُ نَ ْ‬
‫يوم القيامة‪.‬‬
‫عَليْنَعا‬ ‫ول يُجعــل هذا كقول أهــل النار‪ ،‬كمــا أخــبر ال عنهــم بقوله‪(( :‬وَنَا َدوْا يَعا مَالِكععُ ِليَقْضععِ َ‬
‫جمِيعًا َومِثْلَ ُه مَعَ هُ لَ ْفتَ َدوْا بِ هِ‬ ‫ظَلمُوا مَا في ا َلرْ ضِ َ‬ ‫َربّ كَ))[الزخرف‪ ]77:‬وكذلك قوله‪(( :‬وَ َلوْ َأنّ ِللّذِي نَ َ‬
‫سبُونَ))[الزمر‪ ]47:‬؛ فهذا إخبار عن‬ ‫حتَ ِ‬ ‫ب َيوْمَ ال ِقيَامَ ِة َوبَدَا َلهُ ْم مّنَ الِ مَا لَ ْم يَكُونُوا يَ ْ‬ ‫مِنُ سُوءِ الْ َعذَا ِ‬
‫حالهم يوم القيامة حين ل ينفع توبة ول خشية‪.‬‬
‫وأمـا فـي الدنيـا‪ ،‬فالعبـد إذا خاف ربّهـ كان خوفـه ممـا يثيبـه ال عليـه‪ ،‬فمـن خاف ال فـي الدنيـا أمّنـه‬
‫يوم القيامة‪ ،‬ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الخرة‪ ،‬فهو كمن جعل‬
‫الظلمات كالنور‪ ،‬والظل كالحرور‪ ،‬والحياء كالموات‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وروى أصـحاب الصـحاح السـتة مـن مسـند ابـن عباس أن رسـول ال صـلى ال‬
‫عليه وسلم قال في مرض موته‪:‬ائتوني بدواة و بياض أكتب لكم كتابًا ل تضلّون به من بعدي‪ ،‬فقال‬
‫عمــر‪ :‬إن الرجــل َل َيهْجُر‪ ،‬حس ـبُنا كتاب ال‪ ،‬فكثــر اللّغَط‪ ،‬فقال رســول ال صــلى ال عليــه وســلم‪:‬‬
‫خرُجُوا عنـي‪ ،‬ل ينبغـي التنازع لديـّ‪ ،‬فقال ابـن عباس‪ :‬الرزيـة كـل الرزيـة مـا حال بيننـا وبيـن كتاب‬ ‫اْ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال عمر لما مات رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ما مات محمد‬
‫ول يموت حتــى يقطــع أيدي رجال وأرجلهــم‪ ،‬فلمــا نهاه أبــو بكــر وتل عليــه‪(( :‬إنّك َع َميّتٌع وَِإ ّنهُم عْ‬
‫علَى َأعْقَابِكُمعْ))[آل عمران‪ ]144:‬قال‪ :‬كأنـي مـا‬ ‫مَ ّيتُونعَ))[الزمـر‪ ،]30:‬وقوله‪(( :‬أفَإِنْع مّاتَع َأوْ ُق ِتلَ انْقَ َل ْبتُمْع َ‬
‫سمعت هذه الية)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن يقال‪ :‬أمـا عمـر فقـد ثبـت مـن علمـه وفضله مـا لم يثبـت لحـد غيـر أبـي يكـر‪ ،‬ففـي‬
‫صـحيح مسـلم عـن عائشـة‪ ،‬عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم أنـه كان يقول‪( :‬قـد كان فـي المـم قبلكـم‬
‫مُحَدّثون‪ ،‬فإن يكن في أمتي أحد فعمر) قال ابن وهب‪ :‬تفسير (محدّثون)‪ :‬ملهمون(‪.)3‬‬
‫وروى البخاري عـن أبـي هريرة عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قال‪( :‬إنـه قـد كان فيمـا مضـى‬
‫قبلكم من المم محدّثون‪ ،‬وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب) وفي لفظ للبخاري‪:‬‬
‫(لقـد كان فيمـن كان قبلكـم مـن بنـي إسـرائيل رجال يكلّمون مـن غيـر أن يكونوا أنـبياء‪ ،‬فإن يكـن فـي‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اللية (‪.)1/240‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬سنن النسائي (‪ )3/14‬والسند (‪.)26 ،)4/25‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )5/11‬وأماكن أُخر وانظر‪ :‬مسلم (‪.)4/1864‬‬

‫‪167‬‬
‫أمتي منهم أحد فعمر)(‪.)1‬‬
‫وفـي الصـحيح‪ ،‬عـن ابـن عمـر‪ ،‬عـن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قال‪( :‬بينـا أنـا نائم إذ رأيـت قدحًا‬
‫أتيت به فيه لبن‪ ،‬فشربت منه حتى إني لرى ال ّريّ يخرج من أظفاري‪ ،‬ثم أعطيت فضلي عمر بن‬
‫الخطاب)‪ .‬قالوا‪ :‬فما أوّلته يا رسول ال؟ قال‪( :‬العلم)(‪.)2‬‬
‫وفـي الصـحيحين‪ ،‬عـن أبـي سـعيد قال‪ :‬قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬بينـا أنـا نائم رأيـت‬
‫الناس يُعرضون عليّ وعليهـم قمـص‪ ،‬منهـا مـا يبلغ الثدي‪ ،‬ومنهـا مـا يبلغ دون ذلك‪ ،‬ومـر عمـر بـن‬
‫الخطاب وعليه قميص يجرّه) قالوا‪ :‬ما أوّلت ذلك يا رسول ال؟قال‪( :‬الدين)(‪.)3‬‬
‫وأمـا قصـة الكتاب الذي كان رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم يريـد أن يكتبـه‪ ،‬فقـد جاء مبيّنـا‪ ،‬كمـا‬
‫في الصحيحين‪ ،‬عن عائشة رضي ال عنها‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم في مرضه‪:‬‬
‫(ادعـي لي أباك وأخاك حتـى أكتـب كتابًا‪ ،‬فإنـي أخاف أن يتمنـى متمنّ ويقول قائل‪ :‬أنـا أ ْولَى‪ ،‬ويأبـى‬
‫ال والمؤمنون إل أبا بكر)(‪.)4‬‬
‫وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد‪ ،‬قال‪ :‬قالت عائشة‪( :‬وارأساه! فقال رسول ال صلى‬
‫ال عليـه وسـلم‪( :‬لو كان وأنـا حيّـ فأسـتغفر لك وأدعـو لك) قالت عائشـة‪( :‬واثكله! وال إنـي لظنـك‬
‫تحـب موتـي‪ ،‬فلو كان ذلك لظللت آخـر يومـك ُم َعرّسـًا ببعـض أزواجـك‪ ،‬فقال رسـول ال صـلى ال‬
‫عليـه وسـلم‪( :‬بـل أنـا وارأسـاه! لقـد هممـت أن أرسـل إلى أبـي بكـر وابنـه وأعهـد أن يقول القائلون أو‬
‫يتمنى المتمنّون‪ ،‬ويدفع ال ويأبى المؤمنون)(‪.)5‬‬
‫وأمـا عمـر فاشتبـه عليـه هـل كان قول النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـن شدة المرض‪ ،‬أو كان مـن‬
‫أقواله المعروفـة‪ .‬والمرض جائز على النـبياء‪ ،‬ولهذا قال‪( :‬ماله؟ أهجـر؟) فشكّ فـي ذلك ولم يجزم‬
‫بأنه هجر‪ ،‬والشك جائز على عمر‪ ،‬فإنه ل معصوم إل النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ل سيما وقد شك‬
‫بشبهـة ؛ فإن النـبي صـلى ال عليـه وسـلم كان مريضًا‪ ،‬فلم يدر أكلمـه كان مـن وهـج المرض كمـا‬
‫يعرض للمريض‪ ،‬أو كان من كلمه المعروف الذي يجب قبوله‪ ،‬وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين‬
‫أنه قد مات‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة‪ ،‬فلما رأى أن الشك‬
‫قـد وقـع‪ ،‬علم أن الكتاب ل يرفـع الشـك‪ ،‬فلم يبـق فيـه فائدة‪ ،‬وعلم أن ال يجمعهـم على مـا عزم عليـه‪،‬‬
‫كما قال‪( :‬ويأبى ال والمؤمنون إل أبا بكر)‪.‬‬
‫وقول ابـن عباس‪( :‬إن الرزيـة كـل الرزيـة مـا حال بيـن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم وبيـن أن‬
‫يكتب الكتاب) يقتضي أن هذا الحائل كان رزية‪ ،‬وهو رزية في حق من شك في خلفة الصدّيق‪ ،‬أو‬
‫اشتبـه عليـه المـر ؛ فإنـه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشـك‪ ،‬فأمـا مـن علم أن خلفتـه حـق فل رزّيـة‬
‫في حقه‪ ،‬ول الحمد‪.‬‬
‫ومــن توهّـم أن هذا الكتاب كان بخلفــة عليــّ فهــو ضال باتفاق عامــة الناس مــن علماء الســنة‬
‫والشيعة‪ ،‬أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه‪ ،‬وأما الشيعة القائلون بأن عليّا كان‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬ما تقدم قبل قليل‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )24-1/23‬و(ج ‪ )9/35‬ومسلم (‪.)4/1859‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )36-9/35( ،)5/12‬ومسلم (‪.)4/1859‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )7/119‬و(ج ‪ )81-9/80‬ومسلم (‪.)4/1857‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬البخاري (‪.)81-9/80‬‬

‫‪168‬‬
‫ص على إمامته قبل ذلك ن صّا جليًا ظاهرًا معروفًا‪ ،‬وحينئذٍ‬ ‫هو المستحق للمامة‪ ،‬فيقولون‪ :‬إنه قد ن ّ‬
‫فلم يكن يحتاج إلى كتاب‪.‬‬
‫وإن قيــل‪ :‬إن المــة جحدت النــص المعلوم المشهور‪ ،‬فلن تكتــم كتابًا حضره طائفــة قليلة أوْلى‬
‫وأحرى‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته‪ ،‬ول يجوز له ترك الكتاب لشك من‬
‫شـك‪ ،‬فلو كان مـا يكتبـه فـي الكتاب ممـا يجـب بيانـه وكتابتـه‪ ،‬لكان النـبي صـلى ال عليـه وسـلم يـبيّنه‬
‫ويكتبــه‪ ،‬ول يلتفــت إلى قول أحدٍ‪ ،‬فإنــه أطوع الخلق له‪ ،‬فعُلم أنــه لمــا ترك الكتاب لم يكــن الكتاب‬
‫واجبًا‪ ،‬ول كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ‪ ،‬إذ لو وجب لفعله‪ ،‬ولو أن عمر رضي ال عنه‬
‫اشتبـه عليـه أمـر‪ ،‬ثـم تـبيّن له أوشـك فـي بعـض المور‪ ،‬فليـس هـو أعظـم ممـن يفتـي ويقضـي بأمور‬
‫ويكون النـبي صـلى ال عليـه وسـلم قـد حكـم بخلفهـا‪ ،‬مجتهدًا فـي ذلك‪ ،‬ول يكون قـد علم حكـم النـبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ؛ فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه‪.‬‬
‫وكـل هذا إذا كان باجتهاد سـائغ كان غايتـه أن يكون مـن الخطـأ الذي رفـع ال المؤاخذة بـه‪ ،‬كمـا‬
‫قضـى عليّ فـي الحامـل المتوفّى عنهـا زوجهـا أنهـا تعت ّد أبعـد الجليـن‪ ،‬مـع مـا ثبـت فـي الصـحاح عـن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أنه لما قيل له‪ :‬إن أبا السنابل بن بعكك أفتى بذلك لسبيعة السلمية‪ ،‬فقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪( :‬كذب أبو السنابل‪ ،‬بل حلل تِ فانكحي من شئت)(‪ )1‬فقد كذّب النبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم هذا الذي أفتـى بهذا‪ ،‬وأبـو السـنابل لم يكـن مـن أهـل الجتهاد‪ ،‬ومـا كان له أن‬
‫يف ِتيَ بهذا مع حضور النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وأمـا عليّـ وابـن عباس رضـي ال عنهمـا وإن كانـا أفتيـا بذلك‪ ،‬لكـن كان ذلك عـن اجتهاد‪ ،‬وكان‬
‫س َبيْعة‪.‬‬
‫ذلك بعد موت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يكن بلغهما قصة ُ‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضي‪( :‬ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فَدَك‪ ،‬كتب لها كتابًا بها‪ ،‬وردها عليها‪ ،‬فخرجت‬
‫مـن عنده‪ ،‬فلقيهـا عمـر بـن الخطاب فحرق الكتاب‪ ،‬فدعـت عليـه بمـا فعله أبـو لؤلؤة بـه وعطّل حدود‬
‫ال فلم يح ّد المغيرة بـن شعبـة‪ ،‬وكان يعطـي أزواج النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـن بيـت المال أكثـر‬
‫ممــا ينبغــي‪ ،‬وكان يعطــي عائشــة وحفصــة فــي كــل ســنة عشرة آلف درهــم‪ ،‬وغيّرـ حكــم ال فــي‬
‫المنفيين‪ ،‬وكان قليل المعرفة في الحكام)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذا مــن الكذب الذي ل يســتريب فيــه عالم‪ ،‬ولم يذكــر هذا أحــد مــن أهــل العلم‬
‫بالحديـث‪ ،‬ول يُعرف له إسـناد‪ ،‬وأبـو بكـر لم يكتـب فَ َدكًا قـط لحـد‪ ،‬ل لفاطمـة ول غيرهـا‪ ،‬ول دعـت‬
‫فاطمة على عمر‪.‬‬
‫ومـا فعله أبـو لؤلؤة كرامـة فـي حـق عمـر رضـي ال عنـه‪ ،‬وهـو أعظـم ممّا فعله ابـن ملجـم بعليّـ‬
‫رضـي ال عنـه‪ ،‬ومـا فعله قتلة الحسـين رضـي ال عنـه بـه‪ ،‬فإن أبـا لؤلؤة كافرٌ قتـل عمـر كمـا يقتـل‬
‫الكافـر المؤمـن‪ ،‬وهذه الشهادة أعظـم مـن شهادة مـن يقتله مسـلم ؛ فإن قتيـل الكافـر أعظـم درج ًة مـن‬
‫قتيـل المسـلمين‪ ،‬وقتـل أبـي لؤلؤة لعمـر كان بعـد موت فاطمـة بمدة خلفـة أبـي بكـر وعمـر إل سـتة‬
‫أشهر‪ ،‬فمن أين يُعرف أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة‪.‬‬
‫علَى مسـلم بأن يقتله كافـر‪ ،‬كان ذلك دعاء له ل عليـه‪ ،‬كمـا كان النـبي صـلى ال‬ ‫والداعـي إذا دعـا َ‬
‫عليـه وسـلم يدعـو لصـحابه بنحـو ذلك‪ ،‬كقوله‪( :‬يغفـر ال لفلن) فيقولون‪ :‬لو أمتعتنـا بـه! وكان إذا‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )5/80‬ومسلم (‪.)2/1122‬‬

‫‪169‬‬
‫دعا لحد بذلك استُشهد(‪.)1‬‬
‫ولو قال قائل‪ :‬إن عليّا ظلم أهل صفّين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم‪ ،‬لم يكن هذا‬
‫أبعد عن المعقول من هذا‪ ،‬وكذلك لو قال‪ :‬إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فُعل به‪.‬‬
‫وأما قول الرافضي‪( :‬وعطّل حدود ال فلم يح ّد المغيرة بن شعبة)‪.‬‬
‫فالجواب‪:‬أن جماهيــر العلماء على مــا فعله عمــر فــي قصــة المغيرة‪ ،‬وأن البيّنــة إذا لم تكمــل حدّ‬
‫الشهود‪ ،‬ومـن قال بالقول الخـر لم ينازع فـي أن هذه مسـألة اجتهاد‪ ،‬وقـد تقدّم أن مـا يرد على علي‬
‫بتعطيـل إقامـة القصـاص والحدود على قتلة عثمان أعظـم‪ ،‬فإذا كان القادح فـي علّي مبطل‪ ،‬فالقادح‬
‫في عمر أولى بالبطلن‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬وكان يعطـي أزواج النـبي صـلى ال عليـه وسـلم مـن بيـت المال أكثـر ممـا ينبغـي‪ ،‬وكان‬
‫يعطي عائشة وحفصة من المال في كل سنة عشرة آلف درهم)‪.‬‬
‫فالجواب‪:‬أما حفصة فكان ينقصها من العطاء لكونها ابنته‪ ،‬كما نقص عبد ال بن عمر‪ ،‬وهذا من‬
‫كمال احتياطـه فـي العدل‪ ،‬وخوفـه مقام ربـه‪ ،‬ونهيـه نفسـه عـن الهوى‪ ،‬وهـو كان يرى التفضيـل فـي‬
‫العطاء بالفضل‪ ،‬فيعطي أزواج النبي صلى ال عليه وسلم أعظم مما يعطي غيرهن من النساء‪ ،‬كما‬
‫كان يعطـي بنـي هاشـم مـن آل أبـي طالب وآل العباس أكثـر ممـا يعطـي مـن عداهـم مـن سـائر القبائل‪،‬‬
‫فإذا فضّل شخ صًا كان لجل اتصاله برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو لسابقته واستحقاقه‪ ،‬وكان‬
‫يقول‪:‬ليــس أحــد أحــق بهذا المال مــن أحــد‪ ،‬وإنمــا هــو الرجــل وغناؤه‪ ،‬والرجــل وبلؤه‪ ،‬والرجــل‬
‫وسـابقته‪ ،‬والرجـل وحاجتـه‪ ،‬فمـا كان يعطـي مـن يُتهـم على إعطائه بمحاباة فـي صـداقة أو قرابـة‪ ،‬بـل‬
‫كان ينقــص ابنــه وابنتــه ونحوهمــا عــن نظرائهــم فــي العطاء‪ ،‬وإنمــا كان يفضّلـ بالســباب الدينيــة‬
‫المحضة‪ ،‬ويفضّل أهل بيت النبي صلى ال عليه وسلم على جميع البيوتات ويقدّمهم‪.‬‬
‫وهذه السـيرة لم يسـرها بعده مثله ل عثمان ول عليّـ ول غيرهمـا‪ ،‬فإن قُدح فيـه بتفضيـل أزواج‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فليُقدح فيه بتفضيل رجال أهل بيت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل‬
‫وتقديمهم على غيرهم‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫وأما قوله‪( :‬وغيّر حكم ال في المنفيين)‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن التغييـر لحكـم ال بمـا يناقـض حكـم ال‪ ،‬مثـل‪ :‬إسـقاط مـا أوجبـه ال‪ ،‬وتحريـم مـا أحلّه‬
‫ال‪ ،‬والنفي في الخمر كان من باب التعزير الذي يسوغ فيه الجتهاد‪ ،‬وذلك أن الخمر لم يقدّر النبي‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم حدّهـا‪ :‬ل قَ ْدرُهُـ ول صـفتُهُ‪ ،‬بـل جوّز فيهـا الضرب بالجريـد والنعال‪ ،‬وأطراف‬
‫عثْكول النخل‪ ،‬والضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط‪ ،‬وأما العدد في الخمر فقد‬ ‫الثياب و ُ‬
‫ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن عل يّ رضي ال عنه أنه قال‪:‬‬
‫سنّة)(‪.)2‬‬
‫(وكُلّ ُ‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وكان قليـل المعرفـة بالحكام أمـر برجـم حامـل‪ ،‬فقال له عليـّ‪ :‬إن كان لك عليهـا‬
‫سبيل‪ ،‬فل سبيل لك على ما في بطنها‪ .‬فأمسك‪ ،‬وقال‪ :‬لول عليّ لهلك عمر)‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أن هذه القصــة إن كانــت صــحيحة‪ ،‬فل تخلو مــن أن يكون عمــر لم يعلم أنهــا حامــل‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البخاري (‪ )5/130‬وغيه ومسلم (‪.)3/1427‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صحيح مسلم (‪ )1332-3/1331‬وسنن أب داود (‪.)4/228‬‬

‫‪170‬‬
‫فأخبره عليّ بحملها‪ .‬ول ريب أن الصل عدم العلم‪ ،‬والمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم‬
‫حامل‪ ،‬فعرّفه بعض الناس بحالها‪ ،‬كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيّبات‪ ،‬ومن جنس ما‬
‫يشهد به عنده الشهود‪ ،‬وهذا أمر ل بد منه مع كل أحد من النبياء والئمة وغيرهم‪ ،‬وليس هذا من‬
‫الحكام الكلية الشرعية‪.‬‬
‫وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل ل ترجم‪ ،‬فلما ذكّره عل يّ ذكر ذلك‪ ،‬ولهذا أمسك‪،‬‬
‫ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها‪ ،‬ولم يرجع إلى رأي غيره‪ ،‬و قد مضت سنة النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم في الغامدية لما قالت‪( :‬إني حبلى من الزنا‪ ،‬فقال لها النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬اذهبي‬
‫حتـى تضعيـه)(‪ )1‬ولو قدّر أنـه خفـى عليـه علم هذه المسـألة حتـى عرفـه‪ ،‬لم يقدح ذلك فيـه‪ ،‬لن عمـر‬
‫سـاس المسـلمين وأهـل الذمّة‪ ،‬يعطـي الحقوق‪ ،‬ويقيـم الحدود‪ ،‬ويحكـم بيـن الناس كلهـم‪ ،‬وفـي زمنـه‬
‫انتشر السلم‪ ،‬وظهر ظهورًا لم يكن قبله مثله‪ ،‬وهو دائمًا يقضي ويُفتي‪ ،‬ولول كثرة علمه لم يُطق‬
‫ذلك‪ ،‬فإذا خفيـت عليـه قضيـة مـن مائة ألف قضيـة ثـم عرفهـا‪ ،‬أو كان نسـيها فذكرهـا‪ ،‬فأي عيـب فـي‬
‫ذلك؟!‬
‫ي عليه من سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم أضعاف ذلك‪ ،‬ومنها‬ ‫وعليّ رضي ال عنه قد خَفِ َ‬
‫ما مات ولم يعرفه‪.‬‬
‫(فصععل)‬
‫قال الرافضعي‪( :‬وأمـر برجـم مجنونـة‪ ،‬فقال له علي رضـي ال عنـه‪ :‬إن القلم رُفـع عـن المجنون‬
‫ي لهلك عمر)‪.‬‬ ‫حتى يفيق‪ ،‬فأمسك‪ .‬وقال‪ :‬لول عل ّ‬
‫والجواب‪ :‬أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث‪ ،‬ورجم المجنونة ل يخلو‪ :‬إما أن يكون‬
‫لم يعلم بجنونهـا فل يقدح ذلك فـي علمـه بالحكام‪ ،‬أو كان ذاهلً عـن ذلك ف ُذكّرـ بذلك‪ ،‬أو يظـن الظان‬
‫أن العقوبات لدفــع الضرر فــي الدنيــا‪ ،‬والمجنون قــد يُعاقــب لدفــع عدوانــه على غيره مــن العقلء‬
‫والمجانين‪ ،‬والزنا هو من العدوان‪ ،‬فيُعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود ال تعالى‬
‫التي ل تقام إل على المكلف‪.‬‬
‫والشريعـة قـد جاءت بعقوبـة الصـبيان على ترك الصـلة‪ ،‬كمـا قال صـلى ال عليـه وسـلم‪( :‬مروهـم‬
‫بالصلة لسبع واضربوهم عليها لعشر‪ ،‬وفرّقوا بينهم في المضاجع)(‪.)2‬‬
‫والمجنون إذا صـال ولم يندفـع صـياله إل بقتله قُتـل‪ ،‬بـل البهيمـة إذا صـالت ولم يندفـع صـيالها إل‬
‫بقتلهــا قُتلت‪ ،‬وإن كانــت مملوكــة لم يكــن على قاتلهــا ضمان للمالك عنــد جمهور العلماء‪ ،‬كمالك‬
‫والشافعي وأحمد وغيرهم‪.‬‬
‫وبالجملة فمـا ذكره مـن المطاعـن فـي عمـر وغيره يرجـع إلى شيئيـن‪ :‬إمـا نقـص العلم‪ ،‬وإمـا نقـص‬
‫الديـن‪ ،‬ونحـن الن فـي ذكره‪ ،‬فمـا ذكره مـن منـع فاطمـة ومحاباتـه فـي القَسـْم ودرء الحـد ونحـو ذلك‬
‫ل بـل كان ظالمًا‪ ،‬ومـن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمـر رضـي ال‬ ‫يرجـع إلى أنـه لم يكـن عاد ً‬
‫عنـه مل الفاق‪ ،‬وصـار يُضرب بـه المثـل‪ ،‬كمـا قيـل‪ :‬سـيرة العمريـن‪ ،‬وأحدهمـا‪ :‬عمـر بـن الخطاب‪،‬‬
‫والخـر قيـل‪ :‬إنـه عمـر بـن عبـد العزيـز‪ ،‬وهـو قول أحمـد بـن حنبـل وغيره مـن أهـل العلم والحديـث‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬هو أبو بكر وعمر‪ ،‬وهو قول‪ :‬أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة والنحو‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مسلم (‪ )3/1323‬وسنن أب داود (‪.)213-4/212‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود (‪ )1/193‬وأحد (‪ )218-10/217‬تقيق أحد شاكر‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫الفهرس‬
‫سنّة‪4.....................................................................................................................................................................‬‬
‫مخُتْصَ ُر ِم ْنهَاجِ ال ّ‬
‫المقدمة‪4................................................................................................................................................................................... :‬‬
‫(فصــل)‪7...................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪8...................................................................................................................................................................................‬‬
‫مشابهة الرافضة لليهود والنصارى من وجوه كثيرة‪8................................................................................................................................‬‬
‫متى سموا رافضة وكذا الزيدية‪12......................................................................................................................................................‬‬
‫ذكر بعض حماقات الرافضة‪12..........................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪17.................................................................................................................................................................................‬‬
‫الرافضة أكذب الناس وذلك فيهم قديم وليسوا أهل علم‪17...........................................................................................................................‬‬
‫الفصل الول‪20............................................................................................................................................................................‬‬
‫زعم الرافضة أن المامة من أهم أصول الدين‪20....................................................................................................................................‬‬
‫شرك بعض الصوفية حتى في الربوبية‪26.............................................................................................................................................‬‬
‫ل وجود للياس والخضر‪26.............................................................................................................................................................‬‬
‫أصول الدين عند المامية‪27.............................................................................................................................................................‬‬
‫تناقض الرافضة في المامة بين القول والتطبيق‪28..................................................................................................................................‬‬
‫ل يحصل بمعرفة المام خير إن لم يعمل صالحاً‪29..................................................................................................................................‬‬
‫ليست المامة من واجبات الدين‪29......................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪33.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪33.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪38.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪65.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪68.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪68.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪72.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪78.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪81.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪89.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪90.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪90.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪91.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪94.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪95.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪96.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪99.................................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪103...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪103...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪123...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪128...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪130...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪135...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪137...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪138...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪139...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪141...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪142...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪144...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪145...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪145...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪145...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪146...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪146...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪147...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪147...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪149...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪151...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪154...............................................................................................................................................................................‬‬

‫‪172‬‬
‫(فصــل)‪155...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪155...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪156...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪156...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪157...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪158...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪158...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪158...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪159...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪159...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪159...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪160...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪161...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪161...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪162...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪163...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪163...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪163...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪165...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪165...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪166...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪167...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪169...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪170...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪170...............................................................................................................................................................................‬‬
‫(فصــل)‪171...............................................................................................................................................................................‬‬
‫الفهرس‪172.................................................................................................................................................................................‬‬

‫‪173‬‬

You might also like