Professional Documents
Culture Documents
الطبعة الولى
1427هـ 2006 -م
رقم اليداع9846/2005 :
الترقيم الدولىI.S.B.N :
1 - 58 – 6119 – 977
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والترجمة
10ش أحمد عمارة – بجوار حديقة الفسطاط
محمول5224207/010 : القاهرة ت5326610 :
www.iqraakotob.com
Email: info@iqraakotob.com
الهــــــــداء
إلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين،
وطلب العلم المجتهدين ،وأبناء المة الغيورين
أهدي هذا الكتاب ،سائل ً المولى -عز وجل -بأسمائه
صا
الحسنى وصفاته الُعلى أن يكون خال ً
لوجهه الكريم
المؤلف في سطور
علي محمد محمد الصلبي
ولد في مدينة بنغازي بليبيا عام 1383هـ 1963 /م.
حصل على درجة الجازة العالية »الليسانس« من كلية الدعوة
وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز ،وكان الول
على دفعته عام 1414هـ1993 /م.
نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان السلمية ،كلية أصول
الدين ،قسم التفسير وعلوم القرآن ،عام 1417هـ1996 /م.
نال درجة الدكتوراه في الدراسات السلمية.
صدرت له عدة كتب:
-1من عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين »دار البيارق«.
-2الوسطية في القرآن الكريم »دار البيارق – دار النفائس«.
-سلسلة »صفحات من التاريخ السلمي في الشمال
الفريقي«.
-3صفحات من تاريخ ليبيا السلمي والشمال الفريقي »دار
البيارق«.
-4عصر الدولتين الموية والعباسية وظهور فكر الخوارج »دار
البيارق«.
-5الدولة العبيدية )الفاطمية( والرافضية »دار البيارق«.
-6فقه التمكين عند دولة المرابطين »دار البيارق«.
-7دولة الموحدين »دار البيارق«.
-8الدولة العثمانية ..عوامل النهوض وأسباب السقوط »دار
التوزيع والنشر السلمية«.
-9الحركة السنوسية في ليبيا »دار البيارق«.
أ -المام محمد بن علي السنوسي ومنهجه في التأسيس.
ب -محمد المهدي السنوي ،وأحمد الشريف.
ج -إدريس السنوسي ،وعمر المختار.
-10فقه التمكين في القرآن الكريم »دار الوفاء ،دار البيارق«.
-11السيرة النبوية ..عرض وقائع وتحليل أحداث »دار التوزيع
والنشر السلمية«.
4
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
مقدمة
إن الحمد لله ،نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا .من يهده الله فل مضل له ،ومن يضلل فل
هادي له ،وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له ،وأشهد أن
دا عبده ورسوله. محم ً
ن إ ِل ّ ّ َ
موت ُ ّ ول َ ت َ ُ ه َ قات ِ ِ ق تُ َ ح ّ ه َ قوا الل َ مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َ ها ال ِ َ َ+يا أي ّ َ
ن" ]آل عمران.[102 : مو َ س ُ ِ ل م ْ وأن ُْتم ّ َ
س ْ ُ َ َ ّ ُ ُ َ
من ن ّف ٍ خلقكم ّ ذي َ م ال ِ س ات ّقوا َرب ّك ُ ها الّنا ُ خل َ
َ+يا أي ّ َ
ساءً ون ِ َ َ جال ً ك َِثيًرا ر َ ِ ماَ ه
من ْ ُ ث ِ وب َ ّ َ هاج َ و َ ْ ها َز من ْ َ ق ِ َ و َ ة َ حد َ ٍ وا ِ َ
م ُ ك ي
َ َ ْ َْ ل ع ن َ
كا ه
َ الل ن إ
ْ َ َ ِ ّ م حا ر وال ه
َ ِ ِ َ ب ن لو ُ ء سا
َ َ َ ت ذي ِ ّ ل ا ه
َ الل قوا ُ وات ّ َ
قيًبا" ]النساء.[1 : َر ِ
قوُلوا َ َ
دا دي ً
س ِ ول ً َ ق ْ و ُ
ه َُ قوا الل َ مُنوا ات ّ ُ َ نآ ذي َ ها َ ال ّ ِ َ+يا أي ّ َ
ه
ع الل َ من ي ُطِ ِ و َ م َ م ذُُنوب َك ْ فْر ل َك ُ ْ غ ِ وي َ ْ م َ مال َك ُ ْ ع َ مأ ْ ح لََك ُ ْ صل ِ ْ يُ ْ
ما" ]الحزاب.[71 ،70 : ظي ً ع ِ وًزا َ َ
ه فقدْ فاَز ف ْ َ َ َ سول ُ وَر ُ َ
أما بعد:
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلل وجهك وعظيم سلطانك ،لك
الحمد حتى ترضى ،ولك الحمد إذا رضيت ،ولك الحمد بعد الرضا.
كان شغفي بسيرة الصديق منذ الطفولة ،وكنت شديد الولع
بالقراءة والسماع لسيرته العطرة ،ومضت اليام ومرت السنون،
وأكرمني الله تعالى بالدراسة في الجامعة السلمية بالمدينة
المنورة ،وكان من ضمن المواد المقررة في مادة التاريخ السلمي
تاريخ الخلفاء الراشدين ،وقد طلب الستاذ المحاضر أن ندرس كتاب
»البداية والنهاية« لبن كثير ،و»الكامل« لبن الثير في ترجمة
ف بكتاب التاريخ السلمي للشيخ محمود شاكر، الصديق ،ولم يكت ِ
فكانت لتلك الرشادات أثر -بعد توفيق الله تعالى -للتعرف على
حقيقة شخصية الصديق وعصره .وعندما سجلت بجامعة أم درمان
السلمية رسالة الدكتوراه وكان عنوانها) :فقه التمكين في القرآن
الكريم وأثره في تاريخ المة( ،استقر البحث على ثلثة أبواب :فقه
التمكين في القرآن الكريم ،فقه التمكين في السيرة النبوية ،فقه
التمكين عند الخلفاء الراشدين ،وكانت أوراق البحث قد جاوزت
1200صفحة ،فرأى الدكتور المشرف أن نكتفي بفقه التمكين في
دل الخطة على هذا الساس ،وقدم مقترحه القرآن الكريم ،وع ّ
لمجلس الكلية فوافق على ذلك ،وقال لي بعد المناقشة :بإذن الله
تعالى تستطيع أن تخرج فقه التمكين في السيرة النبوية ،وفقه
التمكين عند الخلفاء الراشدين كتًبا ،لعل الله ينفع بها المسلمين.
وبتوفيق الله ،وبسبب ما ساقه من أسباب ,تطور كتاب فقه التمكين
في السيرة النبوية ،وأصبح »السيرة النبوية ..عرض وقائع وتحليل
أحداث«.
وهذا الكتاب الذي أقدم له الن »أبو بكر الصديق شخصيته
وعصره« يرجع الفضل في كتابته للمولى عز وجل ،ثم للستاذ
5
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
) (2شرح السنة للبغوي.215 ،1/214 ، )( مسلم.2534 : 1
6
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وقال فيهم عبد الله بن مسعود» :من كان مستًنا فليستن بمن
قد مات؛ فإن الحي ل تؤمن عليه الفتنة ،أولئك أصحاب محمد كانوا
فا .قوم ما وأقلها تكل ً
والله أفضل هذه المة وأبّرها قلوبا وأعمقها عل ً
اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ،فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم
بما(1استطعتم من أخلقهم ودينهم ،فإنهم كانوا )
في آثارهم ،وتمسكوا
على الهدي المستقيم«.
فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام السلم ونشره في مشارق
الرض ومغاربها ،فعصرهم خير العصور ،فهم الذين علموا المة
القرآن الكريم ،ورووا لها السنن والثار عن رسول الله × ،فتاريخهم
هو الكنز الذي حفظ مدخرات المة في الفكر والثقافة والعلم
والجهاد وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والمم ،فتجد
الجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في
الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد ،وتعرف من خلله حقيقة
رسالتها ودورها في دنيا الناس .وقد عرف العداء من اليهود
والنصارى والعلمانيين والماركسيين والروافض وغيرهم خطورة
التاريخ وأثره في صياغة النفوس وتفجير الطاقات ،فعملوا على
تشويهه وتزويره وتحريفه وتشكيك الجيال فيه؛ فقد لعبت فيه
اليدي الخبيثة في الماضي وحرفته أيدي المستشرقين في الحاضر؛
ففي الماضي تعرض تاريخنا السلمي للتحريف والتشويه على أيدي
اليهود والنصارى والمجوس والرافضة الذين أظهروا السلم وأبطنوا
الكفر ،إذ رأوا أن كيد السلم على الحيلة أشد نكاية فيه وفي أهله،
فأخذوا يدبرون المؤامرات في الخفاء لهدم السلم وتفتيت دولته
وتفريق أتباعه ،وذلك عن طريق تزييف الخبار وترويج الشائعات
الكاذبة وتدبير الفتن ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان ،فقام
عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه بالدور الكبير في إشعال نار الفتنة
التي أودت بحياة الخليفة الراشد الثالث ،وكذلك إشعال المعركة بين
المسلمين في موقعة الجمل بعد أن كاد يتم الصلح بين الطرفين،
إلى غير ذلك من التحركات والمؤامرات التي قصد بها النيل من
السلم وأتباعه ،هذا بالضافة إلى الروايات الضعيفة والموضوعة
الواردة في مصادر التاريخ السلمي -وهي تشوه سيرة الصحابة-
كرواية التحكيم التي تتهم بعضهم بالخداع أو الغباء أو التعلق بالجاه
والسلطة ،والهدف من وضع هذه الروايات الطعن في السلم
بطريقة غير مباشرة؛ لن السلم لم يؤده لنا إل الصحابة ،والتشكيك
في ثقتهم وعدالتهم هو تشكيك بالتالي في صحة السلم.
هذا وقد استغل المستشرقون هذه الروايات الموضوعة ومن
سار على نهجهم من أذنابهم ممن يتكلمون بلغتنا ،فركزوا على
ما تسابقوا إلى اقتسامه ما التوسع في البحث فيها؛ بل كانت مغن ً
أغراضهم للطعن في السلم والنيل من أعراض دامت تخدم
الصحابة الكرام (2).لقد قام العداء بصياغة تاريخنا وفق مناهجهم
المنحرفة ،وتأثر بعض المؤرخين المسلمين بتلك المناهج
المستوردة ،فأصبحت كتابتهم في العقود الماضية ترجمة حرفية لما
كتبه المستشرقون والماركسيون والروافض واليهود وغيرهم من
1
)( انظر :مقدمة الستاذ سيد قطب لكتاب )خالد بن الوليد( للشيخ صادق 2
7
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أعداء المة؛ وذلك لنهم ل يملكون تصورًا حقيقيًا لروح السلم
وطبيعته؛ حيث إن كتابة التاريخ السلمي تحتاج حتما إلى إدراك
طبيعة الفكرة السلمية ونظرتها إلى الحياة والحداث والشياء،
ووزنها للقيم التي عليها الناس ،وتأثيرها في الرواح والفكار
وصياغتها للنفوس والشخصيات ..ودراسة الشخصيات السلمية –
كا كامل ً لطبيعة استجابة تلك على وجه خاص -تقتضي إدرا ً
الشخصيات السلمية ليحاءات الفكرة السلمية ،فإن طريقة
استجابة تلك الشخصيات لهذه اليحاءات مسألة هامة في صياغة
شعورها بالقيم وسلوكها في الحياة ،وتفاعلها مع الحداث ،ولن
يدرك طبيعة الفكرة السلمية ول طريقة استجابة الشخصيات
السلمية لها إل كاتب مؤمن بهذه الفكرة مستجيب لها من أعماقه،
عن(1تلبس ضميره بها ل عن رصدها من )
لكي يكون إدراكه لها ناشئًا
الخارج بالذهن المتجرد البارد.
وبسبب غياب ذلك المنهج وقع بعض المعاصرين من المؤرخين
والكتاب والدباء في تشويه صورة سلف هذه المة ،وأظهروا
الصحابة بمظهر المتكالب على الدنيا وسفك الدماء للوصول إلى
الغايات التي ينشدونها من الستيلء على الحكم والتنكيل بخصومهم،
فتناولوا ذلك بعيدًا عن فهم حقيقة الجيل الذي تربى في مدرسة
المصطفى × ،وبعيدا عن تأثرهم بالسلم وعقيدته وأصوله ،وبسبب
تلك الكتابات نشأ جيل ل يعرف عن تاريخه إل الحروب وسفك
الدماء والخداع والمكر والحيلة ،وأصبحت صورة الصحابة -رضوان
الله عليهم جميعًا -مشوهة ،مما جعل بعض المسلمين يرد تلك
مجرد أن تلك الباطيل مسطرة الباطيل دون أن يعي الحقيقة؛ بل
)(2
في كتاب زيد أو عمرو من الك ُّتاب.
إن إعادة كتابة التاريخ السلمي بمنهج أهل السنة والجماعة
أصبح ضرورة ملحة لبناء المة ،وقد بدأت أقلم الباحثين والك ُّتاب
تصيغ التاريخ من هذا المنظور ،وهم لم يبدأوا من فراغ؛ لن الله
حمى دينه وحمى أمته ،فقيض لتاريخ الصحابة من يحقق وقائعه
ويصحح أخباره ،ويكشف الستار عن الوضاعين والكذابين من ملفقي
الخبار ،ويرجع الفضل في ذلك التصحيح إلى الله ثم أهل السنة
والجماعة من أئمة الفقهاء والمحدثين الذين حفلت مصادرهم بالكثير
الشارات والروايات الصحيحة التي تنقض وترد كل ما وضعه )(3
من
الملفقون.
ت على أصول منهج أهل السنة ،فعكفت على المصادر سْر ُ وقد ِ
والمراجع القديمة والحديثة ،ولم أعتمد في دراسة عصر الخلفاء
الراشدين على الطبري وابن الثير والذهبي وكتب التاريخ المشهورة
فقط؛ بل رجعت إلى كتب التفسير والحديث وشروحها وكتب
التراجم والجرح والتعديل وكتب الفقه ،فوجدت فيها مادة تاريخية
غزيرة يصعب الوقوف على حقيقتها في الكتب التاريخية المعروفة
والمتداولة ،وقد بدأت بالكتابة عن أبي بكر الصديق متناول
)( المصدر السابق نفسه. 1
)( انظر :أبو بكر ،محمد مال الله ،ص .16 ،15 2
)( انظر :المنهج السلمي لكتابة التاريخ ،د .محمد المحزون ،ص .4 3
8
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
شخصيته وعصره ،فهو سيد الخلفاء الراشدين ،وقد حثنا رسول الله
× وأمرنا باتباع سنتهم والهتداء بهديهم ،قال ×» :عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي« (1).فأبو بكر سيد
الصديقين وخير الصالحين بعد النبياء والمرسلين ،فهو أفضل
أصحاب رسول الله × وأعلمهم وأشرفهم على الطلق ،فقد قال
ذا خليل ً لتخذت أبا بكر ،ولكن أخي فيه رسول الله ×» :لو كنت متخ ً
الله × وفي عمر أيضا» :اقتدوا )(3
وصاحبي« (2).وقد قال فيه رسول
بالذين من بعدي :أبي بكر وعمر« .وشهد له عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه -بقوله :أنت سيدنا وخيرنا ،وأحبنا إلى رسول الله ×.
بن( الحنفية
)5
) (4وقال عنه علي بن أبي طالب لما سأله ابنه محمد ا
بقوله :أي الناس خير بعد رسول الله ×؟ قال :أبو بكر.
إن حياة أبي بكر صفحة مشرقة من التاريخ السلمي الذي
حوِ تواريخ المم مجتمعة بعض ما بهر كل تاريخ وََفاَقه ،والذي لم ت َ ْ
حوى من الشرف والمجد والخلص والجهاد والدعوة لجل المبادئ
السامية ،لذلك قمت بتتبع أخباره وحياته وعصره في المراجع
والمصادر ،واستخرجتها من بطون الكتب ،وقمت بترتيبها وتنسيقها
وتوثيقها وتحليلها؛ لكي تصبح في متناول الدعاة والخطباء والعلماء
والساسة ورجال الفكر وقادة الجيوش وحكام المة وطلب العلم،
لعلهم يستفيدون منها في حياتهم ،ويقتدون بها في أعمالهم،
فيكرمهم الله بالفوز في الدارين.
لقد تتبعت صفات الصديق وفضائله ومشاهده في ميادين الجهاد
مع رسول الله × ,وحياته في المجتمع المدني ،ومواقفه العظيمة
بعد وفاة رسول الله × ،وكيف ثّبت الله به المة ،وسلطت الضواء
على سقيفة بني ساعدة وما تم فيها من حوار ونقاش بين
المهاجرين والنصار ،ونسفت الشبهات والباطيل التي ألصقت بتاريخ
سقيفة بني ساعدة من قَِبل المستشرقين والروافض ومن سار على
نهجهم ،وبينت موقف الصديق من إرسال جيش أسامة ،وما في هذا
الحدث العظيم من دروس في الشورى والدعوة والحزم والقتداء
برسول الله × ،ورد الخلف إلى الكتاب والسنة ،وآداب الجهاد
وصورته المشرقة التي تمثلت في تعاليم الصديق لجيش أسامة
رضي الله عنهم .وقد قمت بتوضيح أحداث الردة فتحدثت عن
أسبابها وأصنافها وبدايتها في أواخر العصر النبوي ،وموقف الصديق
منها في خلفته وخطته التي وضعها للقضاء عليها ،وأساليبه التي
استخدمها في حروبه ضد المرتدين .وقد وقفت مع مؤهلت الصديق
التي توفرت في شخصيته والتي استطاع بها -بعد توفيق الله -أن
يسحق حركة الردة.
وقد تحدثت عن عصره وكيف تحققت شروط التمكين وأسبابه،
وصفات جيل التمكين في ذلك العهد الذي قاده الصديق ،وأشرت
إلى سياسة الصديق في محاربة التدخل الجنبي في دولته ،وذكرت
)( سنن أبي داود .4/201 ،والترمذي ،5/44 ،حديث حسن صحيح. 1
) (3نفس المصدر )( البخاري ،كتاب فضائل الصحابة ،رقم.3668 : 4
9
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أهم نتائج أحداث الردة؛ من تمييز السلم عما عداه من تصورات
وأفكار وسلوك ،وضرورة وجود قاعدة صلبة للمجتمع ،وتجهيز
الجزيرة قاعدة للفتوح السلمية ،والعداد القيادي لحركة الفتوح،
والفقه الواقعي للردة ،وسنة الله في إحاقة المكر السيئ بأهله،
واستقرار النظام الداري في الجزيرة.
وتكلمت عن فتوحات الصديق فبينت خطته في فتح العراق،
وسرت مع خالد في فتوحاته حتى ضم جنوب العراق وشماله
بمعاركه العظيمة التي ظهرت فيها بطولت نادرة من المثنى بن
حارثة والقعقاع بن عمر وخالد بن الوليد وجيوشهم المظفرة ،فكانت
تلك المعارك الخطوة الولى لمعارك الفتوح الكبرى التي جاءت بعد
عصر الصديق ،والتي أنارت تاريخ المة في مشوارها الطويل لنشر
دين الله والجهاد في سبيله ..قال الشاعر:
عب ًَرا تضيء بأطيب القوال
ِ فالقادسية ما يزال حديثها
فتجيبها حطين بالمنوال تحكي مفاخرَنا وتذكر مجدنا
دان الرجال لها بغير جدال صفحات مجد في الخلود
سطورها
وبكل كف لمع النصال وكأنني بابن الوليد وجنده
فغدا يظّلل أطهر الطلل نشروا على أرض الخليل
لواءهم
وأتى صلح الدين صوب شمال وعن اليمين أبو عبيدة قد أتى
لله بعد تسابق لقتال يسعى إليهم ،قد شروا
أرواحهم
ما بعد قول الله من أقوال فهم العزة في كتاب خالد
هذا وقد حرصت على بيان وإظهار الرسائل التي كانت بين
الصديق وخالد بن الوليد وعياض بن غنم -رضي الله عنهم -المتعلقة
بفتوح العراق ،وقد فصلت الخطوات التي سار عليها أبو بكر في
فتوحات الشام ،فتحدثت عن عزمه في غزو الروم ،ومشورته لكبار
الصحابة في جهادهم ،وعن استنفارهم لهل اليمن ،وخطته في
إرسال الجيوش ،ووصاياه للقادة الذين بعثهم لفتح الشام ومتابعته
لهم وإمدادهم بالرجال والعتاد والتموين ،ونقله لخالد من ميادين
العراق إلى قيادة جيوش الشام ،وما تم في معركة أجنادين
واليرموك ،واستخرجت من حركة الفتوحات بعض معالم الصديق في
سياسته الخارجية ،من بذر هيبة الدولة في نفوس المم ،ومواصلة
الجهاد الذي أمر به النبي × ،والعدل بين المم المفتوحة والرفق
بأهلها ورفع الكراه عنهم ،وإزالة الحواجز البشرية بينهم وبين
الدعاة.
ووضحت بعض معالم التخطيط الحربي عند الصديق؛ في عدم
اليغال في بلد العدو حتى تدين للمسلمين ،وعن قدرته في التعبئة
10
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وحشد القوات وتنظيم عملية المداد المستمرة وتحديد هدف
الحرب ،وإعطائه الفضلية لمسارح العمليات ،وعزله لميدان
المعركة ،وتطويره لساليب القتال ،وحرصه على سلمة خطوط
التصال بينه وبين قادة الجيوش ،وبينت حقوق الله والقادة والجنود
من خلل وصاياه التي ألزم بها قادة حربه.
وتحدثت عن استخلفه لعمر ،وعن أيامه الخيرة في هذه الحياة
الفانية ،وعن آخر ما تكلم به َالصديق في هذه الدنيا بقول الله
ن"حي َ
صال ِ ِ
قِني ِبال ّ وأل ْ ِ
ح ْ ما َ
سل ِ ً
م ْ و ّ
فِني ُ تعالى+ :ت َ َ
]يوسف.[101 :
لقد حاولت في هذا الكتاب أن أبين كيف فهم الصديق السلم
وعاش به في دنيا الناس ،وكيف أثر في مجريات المور في عصره،
وتحدثت عن جوانب شخصيته المتعددة؛ السياسية والعسكرية
والدارية ،وعن حياته في المجتمع السلمي لما كان أحد رعاياه،
وبعد أن أصبح خليفة رسول الله ،وركزت على دور أبي بكر الصديق
باعتباره رجل دولة مميز من الطراز النادر ،وعن سياسته الداخلية
والخارجية وأساليبه الدارية ،وعن مؤسسة القضاء كيف كانت بدايتها
في عصره لكي نستطيع متابعة التطورات التي حدثت لها ولغيرها
من مؤسسات الدولة عبر العصر الراشدي والتاريخ السلمي.
إن هذا الكتاب يبرهن على عظمة أبي بكر الصديق ،ويثبت
ما
ما بفكره ،عظي ً ما بعلمه ,عظي ً
للقارئ بأنه كان عظيما بإيمانه ،عظي ً
ما بآثاره ،فقد جمع الصديق العظمة من ما بخلقه ،عظي ً ببيانه ،عظي ً
أطرافها ،وكانت عظمته مستمدة من فهمه وتطبيقه للسلم ،وصلته
بالله العظيمة ،واتباعه الشديد لهدي الرسول ×.
من الئمة الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى إن أبا بكر
الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة ،فسيرته من أقوى مصادر
اليمان والعاطفة السلمية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين ،فلذلك
اجتهدت في دراسة شخصيته وعصره حسب وسعي وطاقتي غير مدٍع
عصمة ول متبرئ من زلة ،ووجه الله الكبير ل غيره قصدت وثوابه
أردت ،وهو المسئول في المعونة عليه والنتفاع به ،إنه طيب السماء
سميع الدعاء.
هذا وقد قمت بتقسيم هذا الكتاب إلى مقدمة وأربعة فصول
وخلصة ،وهي كالتي:
المقدمة:
الفصل الول :أبو بكر الصديق في مكة ،ويشتمل على
خمسة مباحث:
المبحث الول :اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته وأسرته
وحياته في الجاهلية.
المبحث الثاني :إسلمه ودعوته وابتلؤه وهجرته الولى.
المبحث الثالث :هجرته مع رسول الله إلى المدينة.
المبحث الرابع :الصديق في ميادين الجهاد.
المبحث الخامس :الصديق في المجتمع المدني ،وبعض
11
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
صفاته ،وشيء من فضائله.
الفصل الثاني :وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة،
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الول :وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة.
المبحث الثاني :البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية.
الثالثجيش أسامة وجهاد الصديق لهل الردة ،ويشتمل : الفصل
على خمسة مباحث:
المبحث الول :جيش أسامة .
المبحث الثاني :جهاد الصديق لهل الردة.
المبحث الثالث :الهجوم الشامل على المرتدين.
المبحث الرابع :مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة.
المبحث الخامس :أهم العبر والدروس والفوائد من حروب
الردة.
الرابعفتوحات الصديق واستخلفه لعمر ووفاته ،ويشتمل : الفصل
على أربعة مباحث:
المبحث الول :فتوحات العراق.
المبحث الثاني :فتوحات الصديق بالشام.
المبحث الثالث :أهم الدروس والعبر والفوائد.
المبحث الرابع :استخلف الصديق لعمر بن الخطاب ووفاته.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الجمعة بعد صلة العشاء
بتاريخ الخامس من شهر المحرم لعام 1422هـ ،الموافق للثلثين
من مارس من عام 2001م ،والفضل لله من قبل
ومن بعد.
وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل قبولً حسنًا ،وأن
يكرمنا برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،قال تعالى:
س ْ
ك م ِ ما ي ُ ْو َها َ ك لَ َ س َ م ِ م ْ فل َ ْ ُ ة َ م ٍ ح َ من ّر ْ س ِ ه ِللّنا ِ الل ُ ح فت َ ِما ي َ ْ َ +
م" ]فاطر.[2 : كي ُ ح ِ زيُز ال َ ِ ع
َ ْ ل ا و
َ هُ و
َ ه
ِ د
ِ ع
ْ َ ب من ِ هُ َ ل َ
ل سِ رْ م
ُ َ ل َ
ف
ول يسعني في نهاية هذه المقدمة إل أن أقف بقلب خاشع منيب
بين يدي الله عز وجل ،معترفًا بفضله وكرمه وجوده؛ فهو المتفضل
ن به وهو المكرم وهو المعين وهو الموفق ،فله الحمد على ما م ّ
ي أول وآخًرا ،وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن عل ّ
صا ولعباده نافًعا ،وأن يثيبني على كل حرف ً خال لوجهه عملي يجعل
كتبته ويجعله في ميزان حسناتي ،وأن يثيب إخواني الذين أعانوني
بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع ،ونرجو من كل
عفو ربه إلىالفقير َ العبد
ينسىرب أ َ مسلم يطلع على هذا الكتاب أن ل
شك َُر ن أَ ْ ع َِني أ ْ ز ْ َ ِو ْ ّ َ + دعائه: ورحمته ورضوانه من ومغفرتهال ِّتي أ َ
حاصال ِ ً ل َ م َع َنأ ْ وأ ْ ي َ وال ِدَ ّ عَلى َ و َ ي َ ّ َ ل ع
َ تَ م
ْ ع
َ ْ ن
ْ َ ك مت َ َع َ نِ ْ
ن" ]النمل.[19 : حي َ صال ِ ِ عَباِدك ال ّ َ في ِ مت ِك َِ ح َ خلِني ب َِر ْ وأدْ ِ ضاهُ َ ت َْر َ
سبحانك اللهم وبحمدك ،أشهد أن ل إله إل أنت ،أستغفرك
وأتوب إليك .وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفقير إلى عفو ربه
12
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ومغفرته ورضوانه
علي محمد محمد
لبيص ّ
ال ّ
1422 / 1 / 5هـ
13
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الفصل الول
أبو بكر الصديق في مكة
المبحث الول
اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفاته
وأسرته وحياته في الجاهلية
أو ً
ل :اسمه ونسبه وكنيته وألقابه:
بن سعد بن هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب
تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي) (,2()1ويلتقي
مع النبي × في النسب في الجد السادس مرة بن كعب ويكنى
والجمع بكارة وأبكر، )(3
ي من البل، فت ِ ّ
بأبي بكر ،وهي من البكر وهو ال َ
وقد سمت العرب بكًرا ،وهو أبو قبيلة عظيمة.
ولقب أبو بكر بألقاب عديدة ،كلها تدل على سمو المكانة،
وعلو المنزلة وشرف الحسب ،منها:
-1العتيق:
لقبه به النبي × ،فقد قال له ×» :أنت عتيق الله من النار«،
فسمي عتيقا (4).وفي رواية عائشة قالت :دخل أبو بكر الصديق على
الله( ×» :أبشر ،فأنت عتيق الله من )6
الله × ،فقال له رسول )(5
رسول
أسباب المؤرخون ذكر وقد ا. عتيق
ً سميُ يومئذ فمن .النار«
قيل :إنما سمي عتيقًا لجمال وجهه(9()7).وقيل: فقد اللقب، لهذا كثيرة
قديما في الخير (8).وقيل :سمي عتيقًا لعتاقة وجهه. ً لنه كان
م أبي بكر كان ل يعيش لها ولد ،فلما ولدته استقبلت به وقيل :إن أ ّ
الكعبة وقالت :اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لي (10).ول مانع
للجمع بين بعض هذه القوال؛ فأبو بكر جميل الوجه ،حسن النسب،
سابقة إلى الخير ،وهو عتيق الله من النار بفضل بشارة )(11
صاحب يد
النبي × له.
ديق:
-2الص ّ
)( الصابة لبن حجر (2) .145 ،4/144 :سيرة وحياة الصديق ،مجدي فتحي 1
)( الحسان في تقريب صحيح ابن حبان ،15/280 ،إسناده صحيح. 4
)( رواه الترمذي في المناقب ،رقم ،3679 :وصححه اللباني في السلسلة: 5
.1574
)( أصحاب الرسول ،محمود المصري (7) .1/59 ،المعجم الكبير للطبراني، 6
.1/52 7
.1/146 9
)( الكني والسماء للدولبي ،1/6 :نقل عن خطب أبي بكر ،محمد أحمد عاشور، 10
ص .36
14
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
لقبه به النبي × ،ففي حديث أنس أنه قال :إن النبي × صعد
بهم(1فقال» :اثبت أحد،)
أحدا ،وأبو بكر ،وعمر ،وعثمان ،فرجف
فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان«.
وقد لقب بالصديق لكثرة تصديقه للنبي × ،وفي هذا تروي أم
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها -فتقول :لما أسري بالنبي × إلى
المسجد القصى ،أصبح يتحدث الناس بذلك ،فارتد ناس كانوا آمنوا
به وصدقوه ،وسعى رجال إلى أبي بكر ،فقالوا :هل لك إلى
صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال :وقد قال
ذلك؟ قالوا :نعم ،قال :لئن قال ذلك فقد صدق .قالوا :أو تصدقه أنه
ذهب الليلة إلى بيت المقدس ،وجاء قبل أن يصبح؟!! قال :نعم ،إني
لصدقه فيما هو أبعد من ذلك ،أصدقه)(2بخبر السماء في غدوة أو
روحة ،فلذلك سمي أبو بكر :الصديق.
بالصديق(3لنه بادر إلى تصديق الرسول وقد أجمعت المة على تسميته
أبدا).فقد اتصف بهذا اللقب ومدحه ولزمه الصدق فلم تقع منه هناة ً×،
الشعراء ،قال أبو محجن الثقفي:
سواك يسمى باسمه غير سميت صديقا وكل مهاجر و ُ
منكر
)(4
المشهر سبقت إلى السلم والله
شاهد
وأنشد الصمعي) (5فقال:
وأعلم أن ذاك من الصواب ولكني أحب بكل قلبي
)(6
دا حسن الثواب
به أرجو غ ً رسولَ الله والصديقَ حّبا
-3الصاحب:
د ف َ
ق ْ صُروهُ َ وجل -في القرآن الكريم+ :إ ِل ّ َتن ُ ّ
لقبه به الله َ-عز
في ما ِ َ هُ ْ ذ إ نْ ِ يَ ن ْ ث ا ي َ ِ ن َ
ثا روا ُ فَ َ ك ن َ ذي
ِ ل ا ه
خ َ َ ُ ج ر ه إ ِذْ أ ْ صَرهُ الل ُ نَ ْ َ
ه الل َ
ل ز ن ف ِأ ََ نا ع م ه الل ن إ ن ز ح ت َ ل ه ب ح صا ل ُ
ل قو ُ ي ْ ذ
ُ ّ
َ ْ
َ
َ َ َ َ ّ ِ ْ َ ْ
ّ
َ ِ ِ ِ َ َ ِ
َ
َ ال َ ِ ِ
إ ر غا
نَ ذيِ ل ا ة
َ م
َ ِ ل ك ل َ ع
َ ج
َ و ها
ْ َ ْ ْ ْ َ َ و ر َ ت م ل د
ٍ نو ُ ج
ُ ب
ُ ِ هَ د ّ ي أ و
َ َ ه
ِ ْ ي ل ع
َ ه
كين َت َ ُس ِ َ
زيٌز ِ ع
َ ه
ُ والل َ يا
َ ل ع
ُ ل ا ي
َ ه
ِ ه
ِ الل ة ُ مَ ِ لَ ك و
َ لى ْ
ف س ّ ال روا ف ُ كَ َ
م"]التوبة.[40: كي ٌح ِ َ
)(7
وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا هو أبو بكر
فعن أنس أن أبا بكر حدثه فقال :قلت للنبي × وهو في الغار :لو أن
أحدهم نظر إلى قدميه لبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي ×» :يا أبا
البخاري ،كتاب فضائل أصحاب النبي ،باب فضل أبي بكر.5/11 ، )( 1
هو عبد الملك بن قريب الباهلي ،رواية العرب ونابغة الدنيا في الحفظ. )( 5
أبو بكر الصديق للطنطاوي (2) .49 ،تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء ،يسري )( 6
محمد هاني.39 ، 7
15
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
بكر ،ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟«.
ه
صَر ُ ف َ
قد ْ ْ ن َ َ صُروهُ َ ابن حجر -رحمه الله+ :-إ ِل ّ َتن ُ ه ال ّ
قال َالحافظ
ر إ ِذْ
غا ِ في ال َ ما ِ ن إ ِذْ ُ
ه َ ِ ْ يَ نْ ث ا ي
َ ِ نثاَ روا ُ فَ َ ك نَ ذي ِ ج ُخَر َ ه إ ِذْ أ ْ الل ُ
عَنا" ]التوبة [40 :فإن المراد م
َ َ َه الل ن إ ن
َ ْ َ ْ ِ)ّ(2 ز حت َ ل ه
ل لِ َ ِ ِ ِ
بح صا قو ُ يَ ُ
كونه (3كان معه في )
في والحاديث ، منازع بل بكر أبو هنا بصاحبه
الغار كثيرة شهيرة ،ولم يشركه في المنقبة غيره.
-4التقى:
لقبه به الله -عز وجل -في القرآن الكريم في قوله تعالى:
قى" ]الليل ، [17 :وسيأتي بيان ذلك في حديثنا ها الت ْ َ جن ّب ُ َ
سي ُ َو َ َ +
عن المعذبين في الله الذين أعتقهم أبو بكر .
-5الواه:
لقب أبو بكر بالواه ،وهو لقب يدل على الخوف والوجل
والخشية من الله تعالى ،فعن إبراهيم النخعي قال :كان أبو بكر
)(4
يسمى بالواه لرأفته ورحمته.
قّية. خل ْ ِ ثانًيا :مولده وصفته ال ْ َ
لم يختلف العلماء في أنه ولد بعد عام الفيل ،وإنما اختلفوا في
المدة التي كانت بعد عام الفيل ،فبعضهم قال بثلث سنين ،وبعضهم
ذكر بأنه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر ،وآخرون قالوا
)(5
بسنتين وأشهر ،ولم يحددوا عدد الشهر.
وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز
في قومهما ،مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس ،عزيز المكانة في
)(6
قومه.
خْلقية ،فقد كان يوصف بالبياض في اللون ،والنحافة وأما صفته ال َ
في البدن ،وفي هذا يقول قيس بن أبي حازم :دخلت على أبي بكر،
فا ،خفيف اللحم أبيض (7).وقد وصفه أصحاب السير وكان رجل نحي ً
من أفواه الرواة فقالوا :إن أبا بكر اتصف بأنه كان أبيض تخالطه
فا خفيف العارضين ،أجنأ) ،(8ل يستمسك صفرة ،حسن القامة ،نحي ً
إزاره يسترخي عن حقويه) (9رقيقا معروق الوجه) ،(10غائر العينين ،
)(11
.4/148 2
)( سيرة وحياة الصديق ،مجدي فتحي السيد ،ص .29تاريخ الخلفاء ،ص .56 5
)( تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين ،ص .30 6
)( الطبقات لبن سعد ،3/188 ،إسناده صحيح (4) .الجنأ :ميل في الظهر. 7
8
) (6المعروق :هو قليل )( حقويه :الحقو هو معقد الزار ،يعني الخصر. 9
اللحم. 10
) (7غائر العينين :دخلت في الرأس (8) .أقنى واستقنى :حفظ حياءه ولزمه. 11
12
)( الممحوص :هو الشديد الخلق في الفخذين ،مع قلة اللحم بهما. 14
16
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(2
عاري الشاجع) ،(1ويخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم.
ثالًثا :أسرته.
أما والده فهو عثمان بن عامر بن عمرو ،يكنى بأبي قحافة،
أسلم يوم الفتح ،وأقبل به الصديق على رسول الله × فقال» :يا
هو(3أولى أن يأتيك أبا بكر ،هل تركته حتى نأتيه« ،فقال أبو بكر:
وبايع(4رسول الله × ) ،ويروى أن )
يا رسول الله .فأسلم أبو قحافة
غيروا )(5
» بكر: لبي وقال ، أبيه بإسلم رسول الله × هنأ أبا بكر
هذا من شعره« ،فقد كان رأس أبي قحافة مثل الثغامة.
وفي هذا الخبر منهج نبوي كريم سنه النبي × في توقير كبار
ذلك( قوله ×» :ليس منا من لم يوقر )6
السن واحترامهم ،ويؤكد
كبيرنا ويرحم صغيرنا«.
وأما والدة الصديق :فهي سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب
بن سعد بن تيم ،وكنيتها أم الخير ،أسلمت مبكرًا ،وسيأتي تفصيل
)(7
ذلك في واقعة إلحاح أبي بكر على النبي × على الظهور بمكة.
وأما زوجاته :فقد تزوج من أربع نسوة ،أنجبن له ثلثة ذكور
وثلث إناث ،وهن على التوالي:
-1قتيلة بنت عبد العزى بن أسعد بن جابر بن مالك:
اختلف في إسلمها ) ،(8وهي والدة عبد الله وأسماء ،وكان أبو
بكر طلقها في الجاهلية وقد جاءت بهدايا فيها أقط وسمن إلى ابنتها
أسماء بنت أبي بكر بالمدينة ،فأبت أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها،
فأرسلت إلى عائشة تسأل النبي × فقال النبي ×» :لتدخلها،
نع ِه َ م الل ُ هاك ُ ُ ولتقبل هديتها« ،وأنزل الله -عز وجل+ :-ل َ ي َن ْ َ
م ُ ك
ِ َ ِ ْ ريا د من ْ ّ كم ُ جو ر ُ خ ِ ول َ ْ
م يُ ْ ن َ دي ِفي ال ّ
َ
م ِ
ُ قات ُِلوك ُ ْ م يُ َ ن لَ ْذي َ ا َل ّ ِ
ن" طي
ِ ِ َ س قْ مُ ل ا بَ ُ ّحِ ي ه الل ن إ م ه
ِ ْ ِ ْ ِ ّي ل إ طوا س
ِ ْ
ق ُ توْ َ م هُ روأن َ ّ
بَ ت
]الممتحنة ،[8 :أي :ل يمنعكم الله من البر والحسان وفعل الخير إلى
الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء الضعيفة
منهم؛ كصلة الرحم ،ونفع الجار ،والضيافة ،ولم يخرجوكم من
دياركم ،ول يمنعكم أيضا من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم؛ بأداء ما
لهم من الحق؛ كالوفاء لهم بالوعود ،وأداء المانة ،وإيفاء أثمان
إن(9الله يحب العادلين ويرضى )
المشتريات كاملة غير منقوصة.
عنهم ،ويمقت الظالمين ويعاقبهم.
)( الشاجع :هو مفاصل الصابع. 1
)( البخاري ،رقم ،5895 :ومسلم .2341 :أبو بكر الصديق ،مجدي السيد ،ص 2
.32
)(14السيرة النبوية في ضوء المصادر )( الصابة.4/375 ، 3
17
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( منازل بني الحارث بن الخزوج في عوالي المدينة (4) .البداية والنهاية: 3
.6/346 4
)( نسب قريش :ص ،277الستيعاب (2) .3/1366 :سير أعلم النبلء: 6
.2/287
18
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ذات النطاقين ،أسن من عائشة ،سماها رسول الله × ذات
النطاقين لنها صنعت لرسول الله × ولبيها سفرة لما هاجرا فلم
تجد ما تشدها به ،فشقت نطاقها وشدت به السفرة ،فسماها النبي
× بذلك .وهي زوجة الزبير بن العوام وهاجرت إلى المدينة وهي
حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة ،فكان أول مولود في
السلم بعد الهجرة ،بلغت مائة سنة ولم ينكر من عقلها شيء ،ولم
نُ .روي لها عن الرسول × ستة وخمسون حديثا ،روى س ّ
يسقط لها ِ
بن(1أبي الله وعبد وعروة، الله عبد وأبناؤها عباس، بن الله عنها عبد
مليكة وغيرهم ،وكانت جوادة منفقة ،توفيت بمكة سنة 73هـ ) . ُ
-5عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
الصديقة بنت الصديق ،تزوجها رسول الله × وهي بنت ست
ستين ،ودخل بها وهي بنت تسع سنين ،وأعرس بها في شوال ،وهي
كناها(2رسول الله × أم عبد الله ،وكان حبه لها مثالً أعلم النساء،
للزوجية الصالحة ) .
كان الشعبي يحدث عن مسروق أنه إذا تحدث عن أم المؤمنين
عائشة يقول :حدثتني الصديقة بنت الصديق المبرأة حبيبة رسول
الله × ،ومسندها يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث ) ،(2210اتفق
حديثا ،وانفرد البخاري )(3
البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين
وعاشت ثلثًا ، وستين بأربعة وخمسين ،وانفرد مسلم بتسعة
وستين سنة وأشهرًا ،وتوفيت سنة 57هـ ،ول ذرية لها ).(4
-6أم كلثوم بنت أبي بكر:
أمها حبيبة بنت خارجة ،قال أبو بكر لم المؤمنين عائشة حين
حضرته الوفاة :إنما هما أخواك وأختاك ،فقالت :هذه أسماء قد
خارجة ،قد ألقى في خلدي عرفتها ،فمن الخرى؟ قال :ذو بطن بنت
أنها جارية ،فكانت كما قال :وولدت بعد موته (5).تزوجها طلحة بن
عبيد الله وقتل عنها)(6يوم الجمل ،وحجت بها عائشة في عدتها
فأخرجتها إلى مكة .
هذه هي أسرة الصديق المباركة التي أكرمها الله بالسلم ،وقد
اختص بهذا الفضل أبو بكر من بين الصحابة ،وقد قال العلماء :ل
يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله × إل آل
أبي بكر الصديق ،وهم :عبد الله بن الزبير ،أمه أسماء بنت أبي بكر
وأيضا محمد بن عبد بن أبي قحافة ،فهؤلء الربعة صحابة متناسلون،
الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم ).(7
وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولده ،وأدركوا النبي ×
وأدركه أيضا بنو أولده إل أبو بكر من جهة الرجال والنساء -وقد
1
) (4سير أعلم النبلء: )( تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين :ص .34 2
)( نسب قريش :ص ،278الصابة ،8/466 :تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء 6
19
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بينت ذلك -فكلهم آمنوا بالنبي وصحبوه ،فهذا بيت الصديق ،فأهله
أهل إيمان ،ليس فيهم منافق ول يعرف في الصحابة مثل هذه لغير
بيت أبي بكر رضي الله عنهم.
وكان يقال :لليمان بيوت وللنفاق بيوت ،فبيت أبي بكر من بيوت
من المهاجرين ،وبيت بني النجار من بيوت اليمان من)(1
اليمان
النصار.
خُلقي للصديق في المجتمع الجاهلي:
رابًعا :الرصيد ال ْ ُ
كان أبو بكر الصديق في الجاهلية من وجهاء قريش وأشرافهم
وأحد رؤسائهم ،وذلك أن الشرف في قريش قد انتهى قبل ظهور
السلم إلى عشرة رهط من عشرة أبطن؛ فالعباس ابن عبد
لمطلب من بني هاشم ،وكان يسقي الحجيج في الجاهلية ،وبقي له
ذلك في السلم ،وأبو سفيان بن حرب من بني أمية ،وكان عنده
العقاب )راية قريش( ،فإذا لم تجتمع قريش على واحد رأسوه هو
وقدموه ،والحارث بن عامر من بني نوفل ،وكانت إليه الرفادة ،وهي
ما تدخره قريش من أموالها ،وترصد به منقطع السبيل ,وعثمان بن
طلحة بن زمعة بن السود من بني أسد ،وكانت إليه المشورة ،فل
ُيجمع على أمر حتى يعرضوه عليه ،فإن وافق ولهم عليه ،وإل تخير
وكانوا له أعوانا .وأبو بكر الصديق من بني تيم وكانت إليه الشناق،
وهي الديات والمغارم ،فكان إذا حمل شيئا فسأل فيه قريشا
صدقوه ،وأمضوا حمالة من نهض معه ،وإن احتملها غيره خذلوه,
وخالد بن الوليد من بني مخزوم ،وكانت إليه القبة والعنة ،وأما
القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش،
وأما العنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب ,وعمر بن
الخطاب من بني عدي ،وكانت إليه السفارة في الجاهلية ,وصفوان
والحارث بن قيس من بن أمية من بني جمح ،وكانت إليه الزلم،
بني سهم ،وكانت إليه الحكومة وأموال آلهتهم ).(2
لقد كان الصديق في المجتمع الجاهلي شريفًا من أشراف
خيارهم ،ويستعينون به فيما نابهم ،وكانت له بمكة قريش ،وكان من
ضيافات ل يفعلها أحد ).(3
وقد اشتهر بعدة أمور ،منها:
-1العلم بالنساب :فهو عالم من علماء النساب وأخبار
العرب ،وله في ذلك باع طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين
العرب كعقيل بن أبي طالب وغيره ،وكانت له مزية حببته إلى قلوب
وهي :أنه لم يكن يعيب النساب ،ول يذكر المثالب بخلف غيره)،(4
كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها ،وبما فيها من خير فقد
وشر (5).وفي هذا تروي عائشة –رضي الله عنها -أن رسول الله ×
)( أبو بكر الصديق ،1/280 :لمحمد مال الله ،مستخرج من منهاج السنة لبن 1
تيمية.
)( أشهر مشاهير السلم.1/10 ، 2
)( نهاية الرب ،19/10 :نقل عن تاريخ الدعوة ،يسري محمد :ص .42 3
20
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( أبو بكر الصديق ،على الطنطاوي :ص ,66التاريخ السلمي ،الخلفاء 2
)( سيرة وحياة الصديق ،مجدي فتحي :ص (6) ,(5) .34تاريخ الخلفاء 7
9
)( تاريخ الخلفاءـ للسيوطي:ـ ص .49
21
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وهكذا حمله خلقه الحميد وعقله النير وفطرته السليمة على
الترفع عن كل شيء يخدش المروءة وينقص الكرامة من أفعال
الجاهليين وأخلقهم التي تجانب الفطرة السليمة ،وتتنافى مع العقل
الراجح والرجولة الصادقة (1).فل عجب على من كانت هذه أخلقه أن
ينضم لموكب دعوة الحق ويحتل فيها الصدارة ،ويكون بعد إسلمه
أفضل رجل بعد رسول الله × ،فقد قال ×» :خياركم في
)(2
الجاهلية خياركم في السلم إذا فقهوا«.
وقد علق الستاذ رفيق العظم عن حياة الصديق في الجاهلية فقال:
اللهم إن امرأ نشأ بين الوثان حيث ل دين زاجر ،ول شرع للنفوس قائد،
وهذا مكانه من الفضيلة ،واستمساكه بعرى العفة والمروءة ...لجدير بأن
يتلقى السلم بملء الفؤاد ،ويكون أول مؤمن بهادي العباد ،مبادر
بإسلمه لرغام أنوف أهل الكبير والعناد ،ممهد سبيل الهتداء بدين الله
الرذائل من نفوس المهتدين بهديه، القويم ،الذي يجتث أصول
المستمسكين بمتين سببه ).(3
لله در الصديق ،فقد كان يحمل رصيدًا ضخمًا من القيم
الرفيعة ،والخلق الحميدة والسجايا الكريمة في المجتمع القرشي
قبل السلم ،وقد شهد له أهل مكة بتقدمه على غيره في عالم
الخلق والقيم والمثل ،ولم ُيعلم أحد من قريش عاب أبا بكر بعيب
ول نقصه
ول استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين ،ولم يكن له عندهم
عيب إل اليمان
بالله ورسوله ).(4
***
)( أصحاب الرسول ،محمود المصري1/58 :؛ الخلفاء الراشدين ،محمود شاكر: 1
ص .31
)( تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين :ص (2) .43أشهر مشاهير 2
)( منهاج السنة لبن تيمية ،289 ،4/288 :ونقل عن كتاب )أبو بكر الصديق 4
أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة( ،لمحمد عبد الرحمن قاسم :ص .19 ،18
22
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الثاني
إسلمه ودعوته وابتلؤه وهجرته الولى
أو ً
ل :إسلمه:
كان إسلم أبي بكر وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن
الدين الحق الذي ينسجم مع الفطرة السليمة ويلبي رغباتها ،ويتفق
مع العقول الراجحة والبصائر النافذة ،فقد كان بحكم عمله التجاري
كثير السفار ،قطع الفيافي والصحاري ،والمدن والقرى في الجزيرة
العربية ،وتنقل من شمالها إلى جنوبها ،ومن شرقها إلى غربها،
وثيقا بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية،
ً واتصل اتصالً
لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد ،راية النصات وكان كثير
البحث عن الدين القويم) ،(1فقد حدث عن نفسه فقال :كنت جالسًا
بفناء الكعبة ،وكان زيد بن عمرو بن ُنفيل قاعدا ،فمر ابن أبي
الصلت ،فقال :كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال :بخير ،قال :وهل
وجدت؟ قال :ل ،فقال:
)(2
ما مضى في الحنيفية بور كل دين يوم القيامة إل
أما إنّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم ،قال :ولم أكن سمعت
قبل ذلك بنبي ُينتظر ويبعث ،قال :فخرجت أريد ورقة بن نوفل
-وكان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر -فاستوقفته ،ثم
قصصت عليه الحديث ،فقال :نعم يا ابن أخي ،إنا أهل الكتب
والعلوم ،أل إن هذا النبي الذي ُينتظر من أوسط العرب نسبًا -ولي
علم بالنسب -وقومك أوسط العرب نسبًا ،قلت :يا عم وما يقول
يظلم ،ول ُيظلم ول ُيظالم، النبي؟ قال :يقول ما قيل له؟ إل أنه ل
فلما ُبعث رسول الله × آمنت به وصدقته ) ،(3وكان يسمع ما يقوله
أمية بن أبي الصلت ،في مثل قوله:
ما بعد غايتنا من رأس أل نبي لنا منا فيخبرنا
مجرانا
والرافعون لدين الله أركانا إني أعوذ بمن حج الحجيج له
لقد عايش أبو بكر هذه الفترة ببصيرة نافذة ،وعقل نير ،وفكر
متألق ،وذهن وقاد ،وذكاء حاد ،وتأمل رزين مل عليه أقطار نفسه،
ولذلك حفظ الكثير من هذه الشعار ،ومن تلك الخبار :فعندما سأل
ما -وفيهم أبو بكر الصديق -قائل» :منالرسول الكريم × أصحابه يو ً
منكم يحفظ كلم قس بن ساعدة في سوق عكاظ؟«،
فسكت الصحابة ،ونطق الصديق قائل :إني أحفظها يا رسول الله,
كنت حاضًرا يومها في سوق عكاظ ،ومن فوق جمله الورق وقف
قس يقول :أيها الناس ،اسمعوا وعوا ،وإذا وعيتم فانتفعوا ،إن من
)( مواقف الصديق مع النبي بمكة ،د :عاطف لماضة ،ص .6 1
23
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عاش مات ،ومن مات فات ،وكل ما هو آت آت .إن في السماء
لخبًرا ،وإن في الرض لعِب ًَرا ،مهاد موضوع ،وسقف مرفوع ،ونجوم
تمور ،وبحار لن تغور ،ليل داج ،وسمات ذات أبراج!!
ُيقسم قس :إن لله ديًنا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه.
ما لي أرى الناس يذهبون ول يرجعون ،أرضوا بالمقام فأقاموا ،أم
تركوا فناموا ،ثم أنشد قائ ً
ل:
من القرون لنا بصائره في الذاهبين الولين
للموت ليس لها مصادره لما رأيت مواردًا
يسعى الكابر والصاغره ورأيت قومي نحوها
)(1
لة حيث صار القوم صائره أيقنت أني ل محا
وبهذا الترتيب الممتاز ،وبهذه الذاكرة الحديدية ،وهي ذاكرة
المعاني ،يقص الصديق ما قاله قس بن ساعدة على استوعبت هذه
رسول الله وأصحابه ).(2
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصها على بحيرا الراهب )،(3
فقال له :من أين أنت؟ قال :من مكة ،قال :من أيها؟ قال :من
قريش ،قال :فأي شيء أنت؟ قال :تاجر ،قال :إن صدق الله رؤياك،
وزيره في حياته ،وخليفته بعد فإنه يبعث بنبي من قومك ،تكون
موته ،فأسر ذلك أبو بكر في نفسه ).(4
لقد كان إسلم الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار ،وقد ساعده
على تلبية دعوة السلم معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي × في
الجاهلية ،فعندما نزل الوحي على النبي ×وأخذ يدعو الفراد إلى الله،
فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة وقع أول اختياره على الصديق ؛
بدماثة خلقه ،وكريم سجاياه ،كما يعرف أبو بكر النبي × بصدقه،
وأخلقه التي تمنعه من الكذب على الناس ،فكيف يكذب على )(5
وأمانته
الله؟.
فعندما فاتحه رسول الله × بدعوة الله وقال له...» :إني
رسول الله ونبيه ،بعثني لبلغ رسالته ،وأدعوك إلى الله
وحده بالحق ،فوالله إنه للحق ،أدعوك يا أبا بكر إلى الله
ل شريك له ،ول تعبد غيره ،والموالة على طاعته«).(6
فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر ،وعاهد رسول الله
على نصرته ،فقام بما تعهد ،ولهذا قال رسول الله × في حقه» :إن
الله بعثني إليكم فقلتم :كذبت وقال أبو بكر :صدق،
وواساني بنفسه وماله ،فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟«
) (2نفس المصدر السابق ،ص .9 )( مواقف الصديق مع النبي بمكة ،ص .8 1
2
24
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
مرتين).(1
وبذلك كان الصديق أول من أسلم من الرجال الحرار ،قال
إبراهيم النخعي ،وحسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر:
أول من أسلم أبو بكر ،وقال يوسف ابن يعقوب الماجشون :أدركت
أبي ومشيختنا :محمد بن المنكدر ،وربيعة بن عبد الرحمن ،وصالح
بن كيسان ،وسعد بن إبراهيم ،وعثمان بن محمد الخنس ،وهم ل
يشكون أن أول القوم إسلما أبو بكر (2).وعن ابن عباس -رضي الله
عنهما -قال :أول من صلى أبو بكر ،ثم تمثل بأبيات حسان:
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعل وا من أخي إذا تذكرت شج ً
ثقة
إل النبي وأوفاها بما حمل خير البرية أتقاها وأعدلها
)(3
الرسل الثاني التالي المحمود
مشهده
طاف العدو به إذ صعد الجبل وثاني اثنين في الغار المنيف
وقد
بهدى صاحبه الماضي وما وعاش حمدًا لمر الله متبًعا
انتقل
)(4
وكان حب رسول الله قد
علموا
هذا وقد ناقش العلماء قضية إسلم الصديق ،وهل كان أول
من أسلم؛ فمنهم من جزم بذلك ،ومنهم من جزم بأن علًيا أول من
أسلم ،ومنهم من جعل زيد بن حارثة أول من أسلم .وقد جمع المام
ابن كثير -رحمه الله -بين القوال جمًعا طيًبا فقال» :والجمع بين
القوال كلها :أن خديجة أول من أسلم من النساء -وقيل الرجال
أيضا -وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة ،وأول من أسلم من
الغلمان علي بن أبي طالب ،فإنه كان صغيًرا دون البلوغ على
المشهور وهؤلء كانوا آنذاك أهل بيته × ،وأول من أسلم من الرجال
الحرار أبو بكر الصديق ،وإسلمه كان أنفع من إسلم من تقدم
ما ،وصاحب سا في قريش مكر ً ما ،رئي ً
ذكرهم؛ إذ كان صدًرا معظ ً
مال وداعية إلى السلم ،وكان محببا متآلفا يبذل المال في طاعة
الله ورسوله« ثم قال :وقد أجاب أبو حنيفة بالجمع بين هذه
القوال ،فإن أول من أسلم من الرجال الحرار أبو بكر ،ومن النساء
حارثة ،ومن الغلمان علي بن أبي خديجة ،ومن الموالي زيد بن
طالب ،رضي الله عنهم أجمعين ).(5
م السرور قلب النبي ×؛ حيث تقول أم وبإسلم أبي بكر ع ّ
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها :-فلما فرغ من كلمه )أي النبي
×( أسلم أبو بكر ،فانطلق رسول الله × من عنده ،وما بين
) (2البداية والنهاية.28 ،3/26 : ديوان حسان.1/17 : )( 4
5
25
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلم أبي بكر ) .(1لقد كان أبو بكر
كنًزا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه ،وكان من أحب قريش
لقريش ،فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من
الموطئين أكنافا ،من الذين يألفون ويؤلفون ،والخلق السمح وحده
عنصر كاف للفة القوم ،وهو الذي)(2قال فيه عليه الصلة والسلم:
»أرحم أمتي بأمتي أبو بكر« .
وعلم النساب عند العرب ،وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم،
ولدى أبي بكر الصديق النصيب الوفر منهما ،وقريش تعترف
للصديق بأنه أعلمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها ،وما فيه من خير
علما ل تجده
ً وشر ،فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه
عند غيره غزارة ووفرة وسعة ،ومن أجل هذا كان الشباب النابهون
دائما ،إنهم الصفوة الفكرية
ً والفتيان الذكياء يرتادون مجلسه
المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم ،وهذا جانب آخر من
جوانب عظمته.
وطبقة رجال العمال ورجال المال في مكة ،هي كذلك من رواد
مجلس الصديق؛ فهو إن لم يكن التاجر الول في مكة ،فهو من أشهر
صاده ،ولطيبته وحسن خلقه تجد تجارها ،فأرباب المصالح هم كذلك قُ ّ
عوام الناس يرتادون بيته ،فهو المضياف الدمث الخلق ،الذي يفرح
طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند )(3
بضيوفه ،ويأنس بهم ،فكل
الصديق رضوان الله عليه.
كان رصيده الدبي والعلمي والجتماعي في المجتمع المكي عظيمًا،
ولذلك)(4عندما تحرك في دعوته للسلم استجاب له صفوة من خيرة
الخلق .
ثانًيا :دعوته.
أسلم الصديق وحمل الدعوة مع النبي × ،وتعلم من رسول
اليمان ل يكمل الله × أن السلم دين العمل والدعوة والجهاد ،وأن
حتى يهب المسلم نفسه وما يملك لله رب العالمين ) ،(5قال تعالى:
به َر ّ
ْ
ما َِتي َ لل ِ م َ
و َ ي َ حَيا ُ َ م ْ و َ كي َ س ِ
َ
ون ُ ُ صل َِتي َ ن َ ل إِ ّ ق ْ
َ
ُ +
ن"َ مي ِ ِ ل س
ُ ْ م ل ا ُ
ل و ّ أ نا َ أ و ت
ْ ُ َ ر م
ِ أ َ
ك ِ لَ ذ ب و
ُ َ ِ ه ل كَ ريِ َ
ش َ ل نَ مي ِ ل عاال ْ َ
]النعام ،[163 ،162 :وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة،
وكثير البركة ،أينما تحرك أّثر وحقق مكاسب عظيمة للسلم ،وقد
ل
سِبي ِ ع إ َِلى َ كان نموذجًا حّيا في تطبيقه لقول الله تعالى+ :ادْ ُ
يَ َ ه
ِ تي ِ ّ ل با
م ِ ه ْ جاِدل ْ ُو َ ة َ سن َ ِح َ ة ال ْ َ عظَ ِ وَِ م ْ وال ْ َ ة َ م ِ حك ْ َ ك ِبال ْ ِ َرب ّ َ
م َ لع أ و ه و ه لبي س عن لّ ض ن م ب م َ ل ع أ و ه َ
ك ب ر ن إ ن س ح َ
ُ ْ َ َُ ِ ِ ِ َ َ َ ْ ُ ِ َ ْ َ ُ ّ َ ّ ِ ُ َ أ ْ
ن" ]النحل.[125 : دي َ هت َ ِ م ْ ِبال ْ ُ
كان تحرك الصديق في الدعوة إلى الله بوضوح صورة من
صور اليمان بهذا الدين ،والستجابة لله ورسوله ،صورة المؤمن
الذي ل يقر له قرار ،ول يهدأ له بال حتى يحقق في دنيا الناس ما
) (4اللباني في صحيح الجامع الصغير) : )( نفس المصدر السابق.3/29 : 1
)( انظر :التربية القيادية للغضبان (2) .1/115 ،نفس المصدر السابق: 3
.1/116 4
26
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
آمن به ،دون أن تكون انطلقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما
للسلم إلى تخمد وتذبل وتزول ،وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته
أن توفاه الله -عز وجل -لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز ).(1
كانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق
في السلم ،وهم :الزبير بن العوام ،وعثمان بن عفان ،وطلحة بن
عبيد الله ،وسعد بن أبي وقاص ،وعثمان بن مظعون ،وأبو عبيدة بن
الجراح ،وعبد الرحمن بن عوف ،وأبو سلمة بن عبد السد ،والرقم
ابن أبي الرقم رضي الله عنهم .وجاء بهؤلء الصحابة الكرام فرادى
فأسلموا بين يدي رسول الله × ،فكانوا الدعامات الولى التي قام
دة الولى في تقوية جانب رسول الله عليها صرح الدعوة ،وكانوا العُ ّ
× وبهم أعزه الله وأيده ،وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا،
رجالً ونساء ،وكان كل من هؤلء الطلئع داعية إلى السلم ،وأقبل
معهم ،رعيل السابقين ،الواحد والثنان ،والجماعة القليلة ،فكانوا
وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ول )(2
على قلة عددهم كتيبة الدعوة،
يلحق بهم لحق في تاريخ السلم.
اهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبد الله وزوجته
أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة ،لقد كانت الصفات الحميدة
والخلل العظيمة والخلق الكريمة التي تجسدت في شخصية
عامل مؤثرًا في الناس عند دعوتهم للسلم ،فقد كان ً الصديق
رصيده الخلقي ضخمًا في قومه وكبيرًا في عشيرته ،فقد كان رجلً
مؤلفا لقومه ،محببًا لهم سهلً ،أنسب قريش لقريش ،بل كان فرد ً
زمانه في هذا الفن ،وكان رئيسًا مكرمًا سخيً )ا(3يبذل المال ،وكانت له
بمكة ضيافات ل يفعلها أحد ،وكان رجل بليغًا .
إن هذه الخلق والصفات الحميدة ل بد منها للدعاة إلى الله،
وإل أصبحت دعوتهم للناس صيحة في واد ونفخة في رماد ،وسيرة
الصديق وهي تفسر لنا فهمه للسلم وكيف عاش به في حياته حدى
بالدعاة أن يتأسوا بها في دعوة الفراد إلى الله تعالى.
ثالًثا :ابتلؤه:
إن سنة البتلء ماضية في الفراد والجماعات والشعوب والمم
والدول ،وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام ،وتحملوا
-رضوان الله عليهم -من البلء ما تنوء به الرواسي الشامخات،
وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله ،وبلغ بهم الجهد ما شاء الله
أن يبلغ ،ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا البتلء ،فلقد أوذي أبو
ب في المسجد الحرام بكر وحثي على رأسه التراب ،و ُ
ضرِ َ
يعرف(4وجهه من أنفه ،وحمل إلى بيته في ثوبه وهو بالنعال ،حتى ما
ما بين الحياة والموت) ،فقد روت عائشة -رضي الله تعالى عنها-
أنه لما اجتمع أصحاب النبي × وكانوا ثمانية وثلثين رجلً ألح أبو بكر
على رسول الله × في الظهور ،فقال :يا أبا بكر إنا قليل،
فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله ،وتفرق المسلمون في
)( الوحي وتبليغ الرسالة ،د/يحيى اليحيى ،ص .62 1
27
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ل رجل في عشيرته ،وقام أبو بكر في الناس نواحي المسجد ك ّ
خطيبا ورسول الله × جالس ،فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى ً
وإلى رسوله × ،وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين،
طئ أبو بكر وضرب ضربا شديدًا ،ووُ ِ ً فضربوه في نواحي المسجد
شديدا ،ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين ً ضربا
ً
مخصوفتين وُيحرفهما لوجهه ،ونزا على بطن أبي بكر ،حتى ما
ت المشركين جل َ ِ
يعرف وجهه من أنفه ،وجاءت بنو تيم يتعادون ،فأ ْ
عن أبي بكر ،وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ول
يشكون في موته ،ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا :والله
لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة ،فرجعوا إلى أبي بكر فجعل
أبو قحافة »والده« وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب ،فتكلم آخر
النهار فقال :ما فعل رسول الله ×؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه،
وقالوا لمه أم الخير :انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه ،فلما
خلت به ألحت عليه ،وجعل يقول :ما فعل رسول الله ×؟ فقالت:
والله ما لي علم بصاحبك ،فقال :اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب
فاسأليها عنه ،فخرجت حتى جاءت أم جميل ،فقالت :إن أبا بكر
يسألك عن محمد بن عبد الله ،فقالت :ما أعرف أبا بكر ول محمد
بن عبد الله ،وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟ قالت :نعم،
فا ،فدنت أم جميل، صريعا دن ً
ً فمضت معها حتى وجدت أبا بكر
وأعلنت بالصياح وقالت :والله إن قومًا نالوا منك لهل فسق وكفر،
إنني لرجو أن ينتقم الله لك منهم ،قال :فما فعل رسول الله ×؟
ساِلم
قالت :هذه أمك تسمع ،قال :فل شيء عليك منها ،قالتَ :
ي أن ل صاِلح ،قال :أين هو؟ قالت :في دار الرقم ،قال :فإن لله عل ّ َ
أذوق طعاما ول أشرب شرابا أو آتي رسول الله × ،فأمهلتا حتى إذا
ل وسكن الناس ،خرجتا به يتكئ عليهما ،حتى أدخلتاه ج ُ هدأت الّر ْ
على رسول الله × ،فقال :فأكب عليه رسول الله × فقّبله ،وأكب
عليه المسلمون ،ورقّ له رسول الله × رقة شديدة ،فقال أبو بكر:
بأبي وأمي يا رسول الله ،ليس بي بأس إل ما نال الفاسق من
وجهي ،وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله ،وادع الله
بك(1من النار ،قال :فدعا لها رسول الله لها عسى الله أن يستنقذها
× ،ودعاها إلى الله فأسلمت ) .
إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم
حريص على القتداء بهؤلء الصحب الكرام ،ونحاول أن نستخرج
بعض هذه الدروس التي منها:
-1حرص الصديق على إعلن السلم وإظهاره أمام الكفار،
وقد تحمل الذى العظيم ،حتى وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته،
شرب قلبه حب الله إن قومه كانوا ل يشكون في موته .لقد أ ُ ْ
ورسوله أكثر من نفسه ،ولم يعد يهمه بعد إسلمه إل أن تعلو راية
التوحيد ،ويرتفع النداء :ل إله إل الله محمد رسول الله في أرجاء
مكة حتى لو كان الثمن حياته ،وكاد أبو بكر فعل أن يدفع حياته ثمنًا
لعقيدته وإسلمه.
-2إصرار أبي بكر على الظهور بدعوة السلم وسط الطغيان
)( السيرة النبوية لبن كثير ،441 -1/439 :البداية والنهاية.3/30 : 1
28
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
محنة المسلمين في العهد المكي ،د :سليمان السويكت :ص .79 )( 2
السيرة النبوية ..قراءة لجوانب الحذر والحماية ،ص .50 )( 3
استخلف أبي بكر الصديق ،د :جمال عبد الهادي ،ص .132 )( 5
محنة المسلمين في العهد المكي ،د :سليمان السويكت ،ص .75 )( 6
29
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
رابًعا :دفاعه عن النبي ×:
من صفات الصديق التي تميز بها الجرأة والشجاعة ،فقد كان ل
يهاب أحدًا في الحق ،ول تأخذه لومة لئم في نصرة دين الله والعمل
له والدفاع عن رسوله × ،فعن عروة بن الزبير قال :سألت ابن
عمرو بن العاص بأن يخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ×
فقال :بينما النبي × يصلي في حجر الكعبة ،إذ أقبل عقبة بن أبي
بكر حتى شديدا ،فأقبل أبو
ً معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا
جل َأن أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي × ) (1وقال+ :أ َت َ ْ
قت ُُلو َ
ن َر ُ
ه" ]غافر ،[28 :وفي رواية أنس أنه قال :لقد ي الل ُ ل َرب ّ َ يَ ُ
قو َ
ضربوا رسول الله × مرة حتى غشي عليه ،فقام)(2أبو بكر فجعل
ينادي :ويلكم ،أتقتلون رجل أن يقول ربي الله؟! وفي حديث
أسماء :فأتى الصريخ إلى أبي بكر ،فقال :أدرك صاحبك ،قالت:
فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول :ويلكم ،أتقتلون رجل أن
بكر ،فرجع إلينا أبو بكر )(3
يقول ربي الله ،فلهوا عنه وأقبلوا على أبي
فجعل ل يمس شيئا من غدائره إل رجع معه.
وأما في حديث علي بن أبي طالب فقد قام خطيبًا وقال :يا أيها
الناس ،من أشجع الناس؟ فقالوا :أنت يا أمير المؤمنين ،فقال :أما إني
ما بارزني أحد إل انتصفت منه ،ولكن هو أبو بكر ،وإنا جعلنا لرسول
عريش فقلنا :من يكون مع رسول الله × لئل يهوي عليه أحد اً الله ×
من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إل أبو بكر شاهرًا بالسيف على
رأس رسول الله ×،ل يهوي إليه أحد إل أهوى إليه فهذا أشجع الناس.
ده ،وهذا يتلتلهقال :ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش ،فهذا يحا ّ
واحدا ،فوالله ما دنا منه أحد إل أبو بكر ً ويقولون :أنت جعلت اللهة إلهًا
يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا ،وهو يقول :ويلكم ،أتقتلون رجل أن
يقول ربي الله ،ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت
لحيته ،ثم قال :أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت
الرض( من القوم ،فقال علي :فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء
مؤمن آل فرعون ،ذاك رجل يكتم إيمانه ،وهذا رجل أعلن إيمانه ). 4
هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل،
مله الصديق من والهدى والضلل ،واليمان والكفر ،وتوضح ما تح ّ
اللم والعذاب في سبيل الله تعالى،كما تعطي ملمح واضحة عن
شخصيته الفذة ،وشجاعته النادرة التي شهد له بها المام علي
في خلفته ،أي بعد عقود من الزمن ،وقد تأثر علي حتى بكى
وأبكى.
رسول الله × إن الصديق أول من أوذي في سبيل الله بعد
وأول من دافع عن رسول الله ،وأول من دعا إلى الله ) ،(5وكان
الذراع اليمنى لرسول الله × ،وتفرغ للدعوة وملزمة رسول الله
وإعانته على من يدخلون الدعوة في تربيتهم وتعليمهم وإكرامهم؛
البخاري ،رقم.3856 : )( 1
انظر :أبو بكر الصديق ،محمد عبد الرحمن قاسم ،ص .32 -30 ،29 )( 5
30
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فهذا أبو ذر يقص لنا حديثه عن إسلمه ،ففيه ...» :فقال أبو بكر:
يا(1رسول الله في طعامه الليلة ،وأنه أطعمه من زبيب )
ائذن لي
الطائف«.
وهكذا كان الصديق في وقوفه مع رسول الله يستهين بالخطر
على نفسه ،ول يستهين بخطر يصيب النبي × قل أو كثر حيثما رآه
واستطاع أن يذود عنه العادين عليه ،وإنه ليراهم آخذين بتلبيبه
فيدخل بينهم وبينه ،وهو يصيح بهم» :ويلكم ،أتقتلون رجل أن يقول
ربي الله؟« فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه ،يجذبونه
من شعره فل)(2يدعونه إل
وهو صديع«.
سا :إنفاقه الموال لتحرير المعذبين في الله:
خام ً
تضاعف أذى المشركين لرسول الله × ولصحابه مع انتشار
الدعوة في المجتمع المكي الجاهلي ،حتى وصل إلى ذروة العنف
وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين ،فنكلت بهم لتفتنهم
عن عقيدتهم وإسلمهم ،ولتجعلهم عبرة لغيرهم ،ولتنفس عن حقدها
وغضبها بما تصبه عليهم من العذاب .وقد تعرض بلل لعذاب
عظيم ،ولم يكن لبلل ظهر يسنده ،ول عشيرة تحميه ،ول سيوف
تذود عنه ،ومثل هذا النسان في المجتمع الجاهلي المكي يعادل
ما من الرقام ،فليس له دور في الحياة إل أن يخدم ويطيع ويباع رق ً
ويشترى كالسائمة ،أما أن يكون له رأي أو يكون صاحب فكر ،أو
صاحب دعوة أو صاحب قضية ،فهذه جريمة شنعاء في المجتمع
الجاهلي المكي تهز أركانه ،وتزلزل أقدامه ،ولكن الدعوة الجديدة
التي سارع لها الفتيان وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار
لمست(3قلب هذا العبد المرمي المنسي ،فأخرجته إنسانًا جديدًا في
الحياة ) ،قد تفجرت معاني اليمان في أعماقه بعد أن آمن بهذا
الدين وانضم إلى محمد × وإخوانه في موكب اليمان العظيم.
وعندما علم سيده أمية بن خلف ،راح يهدده تارة ويغريه أطوارا،
فما وجد عند بلل غير العزيمة وعدم الستعداد للعودة إلى الوراء..
عذابا
ً إلى الكفر والجاهلية والضلل ،فحنق عليه أمية وقرر أن يعذبه
شديدا ،فأخرجه إلى شمس الظهيرة في الصحراء بعد أن منع عنه ً
الطعام والشراب يومًا وليلة ،ثم ألقاه على ظهره فوق الرمال
المحرقة الملتهبة ،ثم أمر غلمانه فحملوا صخرة عظيمة وضعوها
فوق صدر بلل وهو مقيد اليدين ،ثم قال له :ل تزال هكذا حتى
تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللت والعزى ،وأجاب بلل بكل صبر
وثبات :أحد أحد ،وبقي أمية بن خلف مدة وهو يعذب بللً بتلك
الطريقة البشعة ) ،(4فقصد الصديق موقع التعذيب وفاوض أمية بن
خلف وقال له» :أل تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟! قال:
أنت أفسدته فأنقذه مما ترى ،فقال أبو بكر :أفعل ،عندي غلم أسود
أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به ،قال :قد قبلت ،فقال :هو
الفتح ،7/213 :الخلفة الراشدة ،يحيى اليحيى ،ص .156 )( 1
عتيق العتقاء »أبو بكر الصديق« ،محمود البغدادي ،ص .40 ،39 )( 4
31
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
وفي وأخذه فأعتقه«. لك ،فأعطاه أبو بكر الصديق غلمه ذلك
ذهبا ).(2
ً رواية :اشتراه بسبع أواق أو بأربعين أوقية
ما أصبر بلل وما أصلبه !فقد كان صادق السلم ،طاهر
صُلب ولم تلن قناته أمام التحديات وأمام صنوف القلب ،ولذلك َ
العذاب ،وكان صبره وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم ،خاصة أنه كان
الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على السلم فلم
التوحيد بتحد ّ صارخ ،وهانت يوات الكفار فيما يريدون ،مرددا كلمة
عليه نفسه في الله ،وهان على قومه (3).وبعد كل محنة منحة؛ فقد
تخلص بلل من العذاب والنكال ،وتخلص من أسر العبودية ،وعاش
مع رسول الله بقية حياته ملزمًا له ،ومات راضيًا عنه.
واستمر الصديق في سياسة فك رقاب المسلمين المعذبين،
وأصبح هذا المنهج من ضمن الخطة التي تبنتها القيادة السلمية
عم الدعوة بالمال لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين ،فد ّ
والرجال والفراد ،فراح يشتري العبيد والماء والمملوكين من
المؤمنين والمؤمنات ،منهم :عامر بن فهيرة ,شهد بدرا وأحدا ،وقتل
يوم بئر معونة شهيدا .وأم عبيس ،وزنيرة ،وأصيب بصرها حين
أعتقها ،فقالت قريش :ما أذهب بصرها إل اللت والعزى ،فقالت:
كذبوا ،وبيت الله ما تضر اللت والعزى وما تنفعان ،فرد الله بصرها.
) (4وأعتق النهدية وبنتها ،وكانتا لمرأة من بني عبد الدار ،مر بهما
أبدا ،فقال
وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها ،وهي تقول :ل أعتقكما ً
أبو بكر :حل ) (5يا أم فلن .فقالت :حل أنت ،أفسدتهما فأعتقهما،
قال :فبكم هما؟ قالت :بكذا وكذا ،وقالت :قد أخذتهما وهما حرتان،
طحينها ،قالتا :أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: أرجعا إليها
وذلك إن شئتما ).(6
وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوى السلم بين الصديق والجاريتين
حتى خاطبتاه خطاب الند للند ،ل خطاب المسود للسيد ،وتقبل
الصديق -على شرفه وجللته في الجاهلية والسلم -منهما ذلك ،مع
أن له يدا عليهما بالعتق ،وكيف صقل السلم الجاريتين حتى تخلقتا
بهذا الخلق الكريم ،وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن
الحيوان والطير، تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح ،أو يأكله
ضل -إل أن تفرغا منه ،وترداه إليها ).(7 ولكنهما أبتا –تف ّ
مؤمّ )حي من بني عدي بن كعب( وكانت ومر الصديق بجارية بني ل
مسلمة ،وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك السلم ،وهو يومئذ مشرك
أتركك إل عن مللة، قال :إني أعتذر إليك ،إني لميضربها ،حتى إذالم ّ
فتقول :كذلك فعل الله بك ،فابتاعها أبو بكر فأعتقها ).(8
هكذا كان واهب الحريات ،ومحرر العبيد ،شيخ السلم الوقور،
ف في قومه بأنه يكسب المعدوم ،ويصل الرحم ،ويحمل الذي عُرِ َ
)( السيرة النبوية لبن هشام (2) .1/394 ،التربية القيادية.1/140 ، 1
2
)( السيرة النبوية لبن هشام (5) .1/393 :حل :تحللي من يمينك. 4
5
)( السيرة النبوية لبن هشام (7) .1/393 :السيرة النبوية لبي شهبة: 6
.1/346 7
32
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الكل ،ويقري الضيف ،ويعين على نوائب الحق ،ولم ينغمس في إثم
في جاهليته ،أليف مألوف ،يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء
والرقاء ،أنفق جزءًا كبيرًا من ماله في شراء العبيد ،وعتقهم لله
التشريعات السلمية المحببة في العتق وفي الله قبل أن تنزل
والواعدة عليه أجزل الثواب ).(1
كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر الذي يبذل هذا المال كله
لهؤلء المستضعفين ،أما في نظر الصديق فهؤلء إخوانه في الدين
الجديد ،فكل واحد من هؤلء ل يساويه عنده مشركو الرض
العناصر وغيرها تبني دولة التوحيد ،وتصنع حضارة وطغاتها ،وبهذه
السلم الرائعة (2).ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة ول
ها ،ول دنيا ،وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلل والكرام .لقد قال جا ً
ضعافا ،فلو أنك إذا ً له أبوه ذات يوم :يا بني ،إني أراك تعتق رقابًا
جلدا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر : ً فعلت أعتقت رجالً
يا أبت ،إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل .فل عجب إذا كان الله
شأن الصديق قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ،قال من أ َ أنزل في فأ َ سبحانه
نى س َ ِ ُ ْ ح ْ ل با َ ق د
َ َ ّص و قى َ ّ ت وا َ َ طى َ ع
ْ ّ َ ْ ما َ + تعالى:
بَ ّ ذ َ ك و
َ نى َ غ
ْ َ ت س
َ ْ وا لَ خِ َ ب من َ ّْ َ ما أ و رى ُ ْ َ س ي ْ ل ِ ل سن ُي َ ّ ُ ُ
ه ر س ف َ َ
ه إِ َ
ذا ُ ل
ُ َُ َ ُما ه ْ ن ع
َ ني ِ غ ْ ي
َ ََ ُما و رى ُ ْ َس ع ل ِ ل ه ر س
َ َ ََ ّْ ُ ُ ي ُ ن س فَ نى َ س
ِ ُ ْ ح ْ ل با
والولى َ خَرةَ ن ل ََنا ل َل ِ وإ ِ ّ َ دى ه َ علي َْنا لل ُ ن َ دى إ ِ ّ ت ََر َ ّ
بذي ك َذّ َ قى ال ّ ِ ش َ ها إ ِل ّ ال ْ صل َ َ ْ َ ي َ ل ظى ّ َ لَ ت را ً نا
َ م ْ ُ ك ُ ت ر َ
فأن ْ ّ ْ
ذ َ
ما
َ َو كى ّ ز
َ َ ت َ ي ه
َ ُ َ ل ما تي ِ ؤْ ُ ي ذي ِ ّ ل ا قى َ ْ ت ال ها َ ُ ب ّ ن ج
َ ُ ي س َ َ و لى و
َ َ َ ت و
لى ع َ ه ال ْ ه َرب ّ ِ ج ِ و ْ غاءَ َ جَزى إ ِل ّ اب ْت ِ َ ة تُ ْ م ٍ ع َ من ن ّ ْ عن ْدَهُ ِ د ِ ح ٍ ل َ
ضى"]الليل.[21 – 5 : َ ْ َ ر ي ف َ ول َ َ ْ
و س َ
لقد كان الصديق من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضي الله
ورسوله.
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة السلمية الولى قمة من
قمم الخير والعطاء ،وأصبح هؤلء العبيد بالسلم أصحاب عقيدة
وفكرة يناقشون بها وينافحون عنها ،ويجاهدون في سبيلها ،وكان
إقدام أبي بكر على شرائهم ثم عتقهم دليلً على عظمة هذا
الدين ومدى تغلغله في نفسية الصديق ،وما أحوج المسلمين
اليوم إلى أن يحيوا هذا المثل الرفيع ،والمشاعر السامية؛ ليتم
التلحم والتعايش والتعاضد بين أبناء المة التي يتعرض أبناؤها للبادة
الشاملة من قَِبل أعداء العقيدة والدين.
سا :هجرته الولى وموقف ابن الدغنة منها:
ساد ً
قالت عائشة -رضي الله عنها :-لم أعقل أبوي قط إل وهما
يدينان الدين ،ولم يمر علينا يوم إل يأتينا فيه رسول الله × طرفي
النهار )بكرة وعشية( ،فلما ابتلي المسلمون ،خرج أبو بكر مهاجرًا
نحو أرض الحبشة حتى برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة
) (3فقال :أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر :أخرجني قومي فأريد أن
أسيح في الرض وأعبد ربي ،قال ابن الدغنة :فإن مثلك يا أبا بكر ل
)( السيرة النبوية لبي شهبة.1/345 : 1
33
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
34
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ن الكريم ،ولذلك اهتم بحفظه -2إن زاد الصديق في دعوته القرآ ُ
وفهمه وفقهه والعمل به ،وأكسبه الهتمام بالقرآن الكريم براعة في
قا في الفكار ،وتسلسلً تبليغ الدعوة ،وروعة في السلوب ،وعم ً
إليه ،ومراعاة لحوال عقليا في عرض الموضوع الذي يدعو ً
السامعين ،وقوة في البرهان والدليل ).(1
وكان الصديق يتأثر بالقرآن الكريم ويبكي عند تلوته ،وهذا يدل
على رسوخ يقينه وقوة حضور قلبه مع الله عز وجل ،ومع معاني
اليات التي يتلوها ،والبكاء مبعثه قوة التأثر؛ إما بحزن شديد أو فرح
غامر ،والمؤمن الحق يظل بين الفرح بهداية الله تعالى إلى الصراط
المستقيم ،والشفاق من النحراف قليلً عن هذا الصراط .وإذا كان
صاحب إحساس حي وفكر يقظ كأبي بكر فإن هذا القرآن يذكر
بالحياة الخرة وما فيها من حساب وعقاب أو ثواب ،فيظهر أثر ذلك
في خشوع الجسم وانسكاب العَب ََرات ،وهذا المظهر يؤثر كثيرًا على
من شاهده ،ولذلك فزع المشركون من مظهر أبي بكر المؤثر
وخشوا على نسائهم وأبنائهم أن يتأثروا به فيدخلوا في السلم ).(2
لقد تربى الصديق على يدي رسول الله × ،وحفظ كتاب الله
تعالى وعمل به في حياته ،وتأمل فيه كثيرًا ،وكان ل يتحدث بغير
أرض تسعني أو )(3
علم؛ فعندما سئل عن آية ل يعرفها أجاب بقوله :أي
أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم ُيرد الله.
ومن أقواله التي تدل على تدبره وتفكره في القرآن الكريم
قوله :إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم
هؤلء؟!( يعني :حسنها ،فيقول سيئها ،فيقول الرجل :أين أنا من
قائل :لست من هؤلء ،يعني وهو منهم ). 4
ل ه
ْ وتقدير أ َ
ي ِ ن ما بأدبأ َ
َ ل و
استشكل عليه
م ُ ك يِ ن ما فيمال َيس بأ َ +
وكان يسأل رسول الله ×
تعالى: واحترام ،فلما نزل قوله
ِ ّ َ َ ْ ّ َ ِ َ ْ
ول ِّيا ه َ ن الل ِ دو ِ من ُ ه ِ جد ْ ل َ ُ ول َ ي َ ِ
ه َجَز ب ِ ِ
سوءً ي ُ ْ
ل ُم ْ
ع َ
من ي َ ْ ال ْك َِتا ِ
ب َ
صيًرا" ]النساء ،[123 :قال أبو بكر :يا رسول الله ،قد جاءت ول َ ن َ ِ َ
قاصمة الظهر ،وأي َّنا لم
يعمل سوًءا؟ فقال :يا أبا بكر ،ألست)(5تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست
تصيبك اللواء؟ فذلك مما تجزون به .
ن
ذي َن ال ّ ِ وقد فسر الصديق بعض اليات ،مثل قول الله تعالى+ :إ ِ ّ
فواخا ُ ة أ َل ّ ت َ َ
مل َئ ِك َ ُم ال ْ َ ه ُ ل َ َ
علي ْ ِ موا ت َت َن َّز ُ قا ُ ست َ َ ما ْ ه ثُ ّ قاُلوا َرب ّ َ
نا الل َ ُ َ
ن" ]فصلت ،[30 :قال دو َ ع ُ
م ُتو َ ْ ُ تْ نُ ك تي ِ ّ ل ا ِ ة ّ نجَ ْ ل با
ِ رواُ شِ ْ ب أوَ نوا ُ ز
َ ح
ْ َ ت َ لو َ
فيها :فلم يلتفتوا عنه يمنة ول يسرة ،فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه ل
بالحب ول بالخوف ،ول بالرجاء ول بالسؤال ول بالتوكل عليه؛ بل ل
)( تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين.88 : 1
)( تاريخ الخلفاء للسيوطي ،117 :هذه الرواية فيها انقطاع. 3
)( أحمد ،1/11 :وقال الشيخ شاكر :أسانيدها ضعاف ،وهو صحيح بطرقه 5
35
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أنداد ول يحبون إل إياه؛ ل لطلب منفعة،
يحبون إل الله ول يحبون معه اً ،
كائنًمن كان ،ول يسألون غيره ،ول
غيره ا ول لدفع مضرة ،ول يخافون
يتشرفون بقلوبهم إلى غيره(1).وغير ذلك من اليات.
إن الدعاة إلى الله عليهم أن يكونوا في صحبة مستمرة للقرآن
الكريم ،يقرأونه ويتدبرونه ويستخرجون كنوزه ومعارفه للناس ،وأن
ظهروا للناس ما في القرآن من إعجاز بياني وعلمي وتشريعي ،وما يُ ْ
فيه من سبل إنقاذ النسانية المعذبة من مآسيها وحروبها ،بأسلوب
يناسب العصر ،ويكافئ ما وصل إليه الناس من تقدم في وسائل
الدعوة والدعاية .ولقد أدرك أبو بكر كيف تكون قراءة القرآن
المسجد على مل من قريش وسيلة مؤثرة من وسائل الكريم في
الدعوة إلى الله ).(2
سابًعا :بين قبائل العرب في السواق:
قد علمنا أن الصديق كان عالمًا بالنساب وله فيها الباع
الطويل؛ قال السيوطي -رحمه الله تعالى :-رأيت بخط الحافظ
الذهبي -رحمه الله -من كان فرد زمانه في فنه ...أبو بكر في
النسب (3).ولذلك استخدم الصديق هذا العلم الفياض وسيلة من
خَر ذلك في وسائل الدعوة؛ ليعلم كل ذي خبرة كيف يستطيع أن يس ّ
كان
)(4
سواء سبيل الله على اختلف التخصصات ،وألوان المعرفة،
علمه نظريًا أو تجريبيًا ،أو كان ذا مهنة مهمة في حياة الناس.
وسوف نرى الصديق يصحبه رسول الله × عندما عرض نفسه
على قبائل العرب ودعاهم إلى الله ،كيف وظف هذا العلم لدعوة
ها له القدرة على توصيل المعاني الله؛ فقد كان الصديق خطيبًا مفو ً
بأحسن اللفاظ ،وكان يخطب عن النبي × في حضوره وغيبته،
فكان النبي × إذا خرج في الموسم يدعو )أي أبو بكر( الناس إلى
تمهيدا(5وتوطئة لما يبلغ الرسول ،معونة له ،ل تقدمًا بين
ً متابعة كلمه
يدي الله ورسوله ).وكان علمه في النسب ومعرفة أصول القبائل
مساعدا له على التعامل معها ،فعن علي بن أبي طالب قال :لما ً
أمر الله -عز وجل -نبيه × أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج
وأنا معه ...إلى أن قال :ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة
والوقار ،فتقدم أبو بكر فسلم ،فقال :من القوم؟ قالوا :من بني
شيبان بن ثعلبة ،فالتفت أبو بكر إلى رسول الله × وقال :بأبي أنت
وأمي ،ليس وراء هؤلء عذر من قومهم وهؤلء غرر الناس وفيهم
مفروق بن عمرو ،وهانئ بن قبيصة ،والمثنى بن حارثة والنعمان بن
شريك ،وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم لسانًا وجمالً ،وكان له
غديرتان تسقطان على تريبته ،وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي
بكر ،فقال أبو بكر :كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق :إنا ل نزيد على
اللف ولن تغلب اللف من قلة ،فقال أبو بكر :وكيف المنعة فيكم،
غضبا حين نلقى ،وأشد ما نكون ً فقال مفروق :إنا لشد ما نكون
)( الفتاوى.28/22 : 1
)( تاريخ الخلفاء :ص ،100نقل عن تاريخ الدعوة :ص .95 3
) (5أبو بكر الصديق ،لمحمد عبد الرحمن )( نفس المصدر السابق :ص .96 4
36
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
لقاء حين نغضب ،وإنا لنؤثر الجياد على الولد والسلح على اللقاح،
والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى .لعلك أخو قريش؟
فقال أبو بكر :إن كان بلغكم أن رسول الله × فها هو ذا ،فقال
مفروق :إلم تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله ×» :أدعوكم
إلى شهادة أن ل إله إل الله وحده ل شريك له وأني عبد
شا الله ورسوله ،وإلى أن تؤووني وتنصروني ،فإن قري ً
قد تظاهرت على الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل
عن الحق ،والله هو الغني الحميد«.
فقال مفروق :وإلم تدعو أيضا يا أخا قريش ،فوالله ما سمعت
واعال َ ْ ل تَ َ ق ْ كلما أحسن من هذا؟ فتل رسول الله × قوله تعالىُ + :
ْ ُ َ ُ َ ُ
َ ً
ن ي د ل
َ ُِ ُ َ ِ َ ْ ِ وا ل با و ً
ئا ْ يش َ ه
ِ ِ ب كوا ر
ِ شْ ُ ت ّ ل أ أت ْ ُ َ َ ّ َ َ ّ ُ ْ َ َ ْ ْ
م ك ي ل ع م كب ر م ر ح ما ل
م ه يا
ْ َ ُِ ّ ُ ْ إو م ك ق ز ر ن
ٍ ّ ْ ُ َ ْ ُن ح ن ق َ ل م إ ن
َ ّ ْ ِ ْ م كم ُ ول َدَ قت ُلوا أ ْ ول َ ت َ ْ ساًنا َ ح َ إِ ْ
قت ُلوا ول َ ت َ ْ َُ َ ن َ ط ب ما و
َ َ ِ ْ َ َ َ َها نم ر ه ظ ما ش
َ ِ َ َ ح وا َ
ف ْ ل ا بوا ر ق
َ َ ُْ ت َ ل و
َ
مْ ُ ك ّ لع َ ل
ْ ِ ِ َ ه ب م ك صا و م ُ ك
ُ ِ ِ َ ّ ِ ْ َ ّ ل َ ذ ق ح ْ ل با ّ ل إ ه الل م ر
َ ّ َ ح تي ِ ّ ل ا س
ّ ُ َْ
ف ن ال
ن" ]النعام ،[151 :فقال مفروق :دعوت والله إلى مكارم قلو َ ع ِ تَ ْ
الخلق ومحاسن العمال ،ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك ،ثم
رد المر إلى هانئ بن قبيصة فقال :وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا،
فقال هانئ :قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ،وإني أرى أن ت َْرك ََنا
ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ول آخر لذل في
الرأي وقلة نظر في العاقبة ،إن الزلة مع العجلة وإنا نكره أن نعقد
عقدا ،ولكن نرجع وترجع وننظر ..ثم كأنه أحب أن ً على من وراءنا
يشركه المثنى بن حارثة فقال :وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا،
فقال المثنى )وأسلم بعد ذلك( :قد سمعت مقالتك يا أخا قريش،
والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك،
وإنا إنما نزلنا بين صيرين أحدهما اليمامة والخرى السمامة ،فقال
رسول الله ×» :وما هذا الصيران؟« فقال له :أما أحدهما
فطفوف البر وأرض العرب ،وأما الخر فأرض فارس وأنهار كسرى،
وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن ل نحدث حدًثا ،ول نؤوي
محدثا ،ولعل هذا المر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك ،فأما ما
كان مما يلي بلد العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول ،وأما ما
كان يلي بلد فارس فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول،
فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب فعلنا ،فقال رسول الله ×:
»ما أسأتم في الرد؛ إذ أفصحتم بالصدق ،وإن دين الله
-عز وجل -لن ينصره إل من حاطه من جميع جوانبه.
أرأيتم إن لم تلبثوا إل قليل ً حتى يورثكم الله تعالى
أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم ،أتسبحون الله
ك ذاك ).(1 وتقدسونه؟« .فقال له النعمان بن شريك :اللهم فَل َ َ
وفي هذا الخبر دروس وعبر وفوائد كثيرة ،منها:
-1ملزمة الصديق لرسول الله × ،وهذا جعله يفهم السلم
بشموله ،وهيأه الله تعالى بأنه يصبح أعلم الصحابة بدين الله؛ فقد
)( البداية والنهاية ،145 -143 ،3/142 :وفيها زيادات ليست عند الصالحي في 1
37
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
تعلم من رسول الله × حقيقة السلم ،وتربى على يديه في معرفة
معانيه ،فاستوعب طبيعة الدعوة ومر بمراحلها المتعددة ،واستفاد
من صحبته لرسول الله × ،وتشرب المنهج الرباني ،فعرف المولى -
عز وجل -من خلله ،وطبيعة الحياة ،وحقيقة الكون ،وسر الوجود،
وماذا بعد الموت ،ومفهوم القضاء والقدر ،وقصة الشيطان مع آدم
،وحقيقة الصراع بين الحق والباطل ،والهدى والضلل ،واليمان
الكفر .وحببت إليه العبادات؛ كقيام الليل ،وذكر الله ،وتلوة القرآن،
فسمت أخلقه ،وتطهرت نفسه ،وزكت روحه.
-2وفي رفقته لرسول الله × عندما كان × يدعو القبائل
للسلم استفاد الكثير؛ فقد عرف أن النصرة التي كان يطلبها رسول
الله × لدعوته من زعماء القبائل أن يكون أهل النصرة غير
مرتبطين بمعاهدات دولية تتناقض مع الدعوة ول يستطيعون التحرر
منها؛ وذلك لن احتضانهم للدعوة والحالة هذه ُيعرضها لخطر القضاء
عليها من قَِبل
الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات ،والتي تجد في الدعوة
السلمية خطرًا عليها
وتهديدا لمصالحها).(1
إن الحماية المشروطة أو الجزئية ل تحقق الهدف المقصود ،فلن
يخوض بنو شيبان حرًبا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله
× وتسليمه ،ولن يخوضوا حربا ضد كسرى لو أراد مهاجمة رسول
الله × وأتباعه ،وبذلك فشلت المباحثات ).(2
» -2إن دين الله لن ينصره إل من حاطه من جميع جوانبه« ،كان
هذا الرد من
النبي × على المثنى بن حارثة؛ حيث عرض على النبي حمايته على
مياه العرب دون
مياه الفرس ،فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر
السلمي النبوي
)(3
الذي ل يسامى.
-4كان موقف بني شيبان يتسم بالريحية والخلق والرجولة،
وينم عن تعظيم هذا
النبي × ،وعن وضوح في العرض ،وتحديد مدى قدرة الحماية التي
يملكونها ،وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك ،وقدر الله
لشيبان بعد عشر سنوات أو تزيد أن تحمل هي ابتداء عبء مواجهة
الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور السلم ،وكان المثنى بن حارثة
الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار الذي كان من ضمن قادة
الفتوح في خلفة الصديق ،فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد
إسلمهم على قتال الفرس ،بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس
ول يفكرون في قتالهم؛ بل إنهم ردوا دعوة النبي × بعد قناعتهم بها
38
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
لحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس ،المر الذي لم يكونوا يفكرون
به أبدا ،وبهذا تعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في
الرض( مع ما ينتظرون في أخراهم من الدنيا؛ حيث جعلهم سادة
النعيم الدائم في جنات النعيم ). 1
***
39
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الثالث
هجرته مع رسول الله × إلى المدينة
تمهيد:
اشتدت قريش في أذى المسلمين والنيل منهم؛ فمنهم من هاجر
إلى الحبشة مرة أو مرتين فرارًا بدينه ،ثم كانت الهجرة إلى المدينة.
ومن المعلوم أن أبا بكر استأذن النبي × في الهجرة فقال له» :ل
تعجل ،لعل الله يجعل لك صاحًبا« ) (1فكان أبو بكر يطمع أن يكون
في صحبة
النبي × .وهذه السيدة عائشة -رضي الله عنها -تحدثنا عن هجرة
رسول الله × وأبيها حيث قالت :كان ل يخطئ رسول الله × أن
يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار ،إما بكرة وإما عشية ،حتى إذا
والخروج من كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله × في الهجرة،
مكة من بين ظهري قومه ،أتانا رسول الله × بالهاجرة ) ،(2في
ساعة كان ل يأتي فيها ،قالت :فلما رآه أبو بكر ،قال :ما جاء رسول
الله × هذه الساعة إل لمر حدث ،قالت :فلما دخل تأخر له أبو بكر
عن سريره فجلس رسول الله × ،وليس عند أبي بكر إل أنا وأختي
أسماء بنت أبي بكر ،فقال رسول الله ×» :أخرج عني من عندك«،
فقال :يا رسول الله ،إنما هما ابنتاي ،وما ذاك فداك أبي وأمي!
فقال» :أنه قد أذن لي في الخروج والهجرة« ،قلت :فقال أبو بكر:
الصحبة يا رسول الله؟ قال» :الصحبة« ،قالت فوالله ما شعرت
أحدا يبكي من الفرح ،حتى رأيت أبا بكر يبكي ً قط قبل ذلك اليوم
يومئذ ،ثم قال :يا نبي الله ،إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا،
رجل من بني الديل بن بكر ،وكانت ً فاستأجرا عبد الله بن أريقط,
على يدلهما اً مشرك وكان عمرو، أمه امرأة من بني سهم بن
الطريق ،فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما ).(3
وجاء في رواية البخاري عن عائشة في حديث طويل تفاصيل
مهمة ،وفي ذلك الحديث ...:قالت عائشة :فبينما نحن يومًا جلوسًا
في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ،قال قائل لبي بكر :هذا رسول
الله × متقنعًا ) ،(4في ساعة لم يكن يأتينا فيها ،فقال رسول الله ×
ن عندك« فقال أبو بكر :إنما هم أهلك ،فقال: م ْ
لبي بكر» :أخرج َ
»فإني قد أذن لي في الخروج« ،فقال أبو بكر :الصحبة بأبي أنت يا
رسول الله! قال رسول الله ×» :نعم« ،قال أبو بكر :فخذ بأبي
أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين ،قال رسول الله ×:
»بالثمن« ،قالت عائشة :فجهزناهما أحسن الجهاز ،ووضعنا لهم
سفرة في جراب ،فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها
النطاقين ،ثم لحق فربطت به على فم الجراب ،فبذلك سميت ذات
رسول الله × وأبو بكر بغار في جبل ثور ،فكمنا ) (5فيه ثلث ليالي
الهاجرة :نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو العصر. )( 2
كمنا فيه :أي :استترا واستخفيا ،ومنه :الكمين في الحرب. )( 5
40
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلم شاب ثقف) ،(1لقن )،(2 )(3
يبيت
عندهما(4بسحر ،فيصبح مع قريش بمكة كبائت ،فل من فيدلج
يسمع أمرا يكتادان ) به إل وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط
من( العشاء ،فيبيتان في الظلم ،ويرعى عليهما حيث تذهب ساعة
)وهو لبن منحهم ورضيفهما( ) (5ينعق ) 6بها عامر بن فهيرة رسل
بغلس ) ،(7يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلث ،واستأجر
بني عبد ابن رسول الله × وأبو بكر رجلً من بني الديل وهو من
عدي هاديا خريتا )والخريت :الماهر( ،قد غمس حلفًا ) (8في آل
العاص بن وائل السهمي ،وهو على دين كفار قريش ،فأمناه فدفعا
إليه راحلتيهما ،وواعده غار ثور بعد ثلث
ليال براحلتيهما صبح ثلث ،وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل،
فأخذ بهم
طريق السواحل).(9
أحد حين خرج إل علي بن أبي طالب، لم يعلم بخروج رسول الله ×
بكر (،وجاء وقت الميعاد بين رسول الله × وأبي وأبو بكر الصديق ،وآل أبي
)10
فخرجا من خوخة بكر ،
لبي بكر في ظهر بيته؛ وذلك للمعان في الستخفاء حتى ل تتبعهما
الليل على قريش وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة ،وقد اتعدا مع
ثلث ليال ) ،(11وقد أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد
دعا النبي × عند خروجه من مكة إلى المدينة ) ،(12ووقف عند
وقال» :والله إنك لخير أرض الله
)(13 مكة أني أ ُ خروجه بالحزورة في سوق
ت منك ما خرجت« . ِ ُج
ْ ر خ
ْ ولول وأحب أرض الله إلى الله،
ثم انطلق رسول الله وأبو بكر ،والمشركون يحاولون أن يقتفوا
آثارهم حتى بلغوا الجبل –جبل ثور -اختلط عليهم ،فصعدوا الجبل
فمروا بالغار ،فرأوا على بابه نسيج العنكبوت ،فقالوا :لو دخل ها هنا
أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه ) ،(14وهذه من جنود الله -عز
و" ]المدثر.[31 :ه َ ك إ ِل ّ ُ
جُنودَ َرب ّ َ عل َ ُ
م ُ ما ي َ ْ
و َ
وجلَ + :-
وبالرغم من كل السباب التي اتخذها رسول الله × فإنه لم
يرتكن إليها مطلقًا ،وإنما كان كامل الثقة في الله ،عظيم الرجاء في
)( ثقف :ذو فطنة وذكاء ،والمراد :ثابت المعرفة بما يحتاج إليه ،النهاية.1/216 : 1
)( لقن :فهم حسن التلقي لما يسمعه ،النهاية.4/266 : 2
)( يدلج :أدلج إذا سار أول الليل ،واّدلج بالتشديد :إذا سار آخره. 3
)( يكتادان :أي :يطلب لهما فيه المكروه ،وهو من الكيد. 4
)( الرضيف :اللبن المرضوف ،وهو الذي طرحت فيه الحجارة المحماة. 5
)( ينعق :نعق بغنمه أي :صاح بها وزجرها ،القاموس المحيط.3/265 : 6
)( الغلس :ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح ،النهاية.3/377 : 7
حلفا :أي أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به. ً )( غمس 8
)( البخاري ،كتاب مناقب النصار ،باب هجرة النبي ،ص .395 9
)( خاتم النبيين لبي زهرة ،1/659 :السيرة النبوية لبن كثير.2/234 : 11
) (3الترمذي ،كتاب المناقب، )( السيرة النبوية لبن كثير.234 ،2/230 : 12
41
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الدعاء بالصيغة التي علمه َالله إياها) ،(1قال َ نصره وتأييده ،دائم
ج
ُ َ َر خ
ْ م ني ِ ْ ِ ج ر خ
ْ أ و ق
ُ ْ ْ َ ِ ْ ٍ َ د ص ل َ خ َ د م ني ْ
قل ّر ّ ْ ِ ِ
ل خ د أ ب و ُ تعالىَ + :
صيًرا" ]السراء.[80 : ِ ّ ن نا
ً طا ل س
ُ ك َ ْ ن ُ د ّ ل من ِ لي ّ عل وا ْ َ ج ق َ صد ْ ٍ ِ
وفي هذه الية الكريمة دعاء ُيعلمه الله -عز وجل -لنبيه ×
ليدعوه به ،ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه ،دعاء بصدق
المدخل وصدق المخرج ،كناية عن صدق الرحلة كلها ،بدئها وختامها،
أولها وآخرها ،وما بين الول والخر ،وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما
حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله
غيره ،وللصدق كذلك ظلله؛ ظلل الثبات والطمئنان والنظافة
صيًرا" ،قوة وهيبة طاًنا ن ّ ِ سل ْ َ ك ُ من ل ّدُن ْ َ عل ّلي ِ ج َ وا ْ والخلصَ + :
من ِ + وكلمة المشركين، وقوة الرض سلطان على استعلى بهما
ك" تصور القرب والتصال بالله والستمداد من عونه مباشرة ل ّدُن ْ َ
ماه. ح َ واللجوء إلى ِ
وصاحب الدعوة ل يمكن أن يستمد السلطان إل من الله ،ول
يمكن أن يهاب إل بسلطان الله ،ل يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي
جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله ،والدعوة
ما
قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه ،فيصبحون لها جندًا وخد ً
وخدمه، فيفلحون ،ولكنها هي ل تفلح إن كانت من جند السلطان
فهي من أمر الله ،وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه ).(2
وعندما أحاط المشركون بالغار ،وأصبح منهم رأي العين طمأن
الرسول × الصديق بمعية الله لهما ،فعن أبي بكر الصديق قال:
قدميه لبصرنا، قلت للنبي × وأنا في الغار :لو أن أحدهم نظر تحت
فقال» :ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟«).(3
د
ق ْف َ
صُروهُ َ وجل -ذلك في قوله تعالى+ :إ ِل ّ َتن ُ ّ
وسجل الحق َ-عز
في ما ِ َ هُ ْ ذ إ نْ ِ يَ ن ْ ث ا ي َ ِ ن ثا َ روا ُ ف َ َ ك ن َ ذي ِ ل ا ه خَر َ ُج ه إ ِذْ أ ْ صَره ُ الل ُ نَ ْ َ
ه الل َ
ل ز ن ف ِأ َ َ نا ع م ه الل ن إ ن ز ح ت َ ل ه ب ح صا ل ُ
ل قو ُ ي ْ ذ
ُ ّ
َ ْ َ َ َ َ ّ ِ ْ َ ْ
ّ
َ ِ ِ ِ َ َ ِ
َ
َ ال َ ِ ِ
إ ر غا
فُروا ن كَ َ َ ذيِ ل ا ة
َ م
َ ِ ل َ ك ل َ ع
َ ج
َ و
َ ها َ و
ْ ْْ َ ْ ر َ ت م ل د
ٍ نو ُ ج
ُ ب
ُ ِ ه َ د ّ ي أ و
َ َ ه
ِ ْ ي ل عَ ه
كين َت َ َ ُ س ِ َ
م" ]التوبة.[40 : ٌ كي ِ ح َ ز ٌ زي ِ ع
َ ه
ُ والل َ يا َ ل ع
ُ ل ا ي َ ه ِ ِ ه الل ُ ة مَ ِ ل ك و
َ لى فْ سال ّ
وبعد ثلث ليال من دخول النبي × في الغار خرج رسول الله
× وصاحبه من الغار ،وقد هدأ الطلب ،ويئس المشركون من
الوصول إلى رسول الله ،وقد قلنا :إن رسول الله × وأبا بكر قد
رجل من بني الديل يسمى عبد الله بن أريقط ،وكان ً استأجرا
مشرك ا وقد أمنا ُ ه فدفعا إليه راحلتيهما ،وواعداه غار ثور بعد ثلث ً
فعل في الموعد المحدد ،وسلك بهما ً ليال براحلتيهما ،وقد جاءهما
قا غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار طري ً
)(4
قريش.
1
)( البخاري ،كتاب فضائل الصحابة ،باب مناقب المهاجرين ،رقم،3653 : 3
42
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وفي أثناء الطريق إلى المدينة مر ّ النبي × بأم معبد ) (1في قديد )،(2
حيث مساكن خزاعة ،وهي أخت حبيش بن خالد الخزاعي الذي روى
كثير: قصتها ،وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير ،وقال عنها ابن
ضا« ).(3 وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بع ً »
وقد أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي × حّيا أو
ميتا فله مائةً
ناقة ،وانتشر هذا الخبر عند قبائل العرب الذين في ضواحي مكة،
وطمع سراقة بن
مالك بن جعشم في نيل المكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي
برسول الله × فأجهد نفسه لينال ذلك ،ولكن الله بقدرته التي ل
يغلبها)(4غالب جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله × بعد أن كان جاهدًا
عليه .
ولما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ×من مكة ،كانوا
يفدون كل غداة إلى الحرة ،فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة ،فانقلبوا
أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على )(5
بعدما
ً يوم ا
ينظر إليه ،فبصر رسول الله ×وأصحابه مبيضين )(7
لمر آطامهم من أطم
فلم( يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته :يا )8
السراب
، )(6،يزول بهم
معشر العرب هذا جدكمالذي تنتظرون ،فثار المسلمون إلى السلح
حتى نزل بهم )(10
فعدل بهم ذات اليمين
)(9
بظهر الحرة، فتلقوا رسول الله ×
فقام أبو بكر ، الول ربيع شهر من ثنين
ا ال يوم في بني عوف ،وذلك
حتى ظلل عليه بردائه ،فعرف النا س رسول الله × عند ذلك ).(11
كان يوم وصول الرسول × وأبي بكر إلى المدينة يوم فرح
وابتهاج لم تَر المدينة يومًا مثله ،ولبس الناس أحسن ملبسهم كأنهم
في يوم عيد ،ولقد كان حقًا يوم عيد؛ لنه اليوم الذي انتقل فيه
السلم من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة النطلق والنتشار
بهذه البقعة المباركة )المدينة( ،ومنها إلى سائر بقائع الرض .لقد
أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به ،وبالشرف الذي
اختصهم الله به ،فقد صارت بلدتهم موطًنا ليواء رسول الله
وصحابته المهاجرين ،ثم لنصرة السلم ،كما أصبحت موطنًا للنظام
السلمي العام التفصيلي بكل مقوماته ،ولذلك خرج أهل المدينة
(12في فرح وابتهاج ويقولون :يا رسول الله ،يا محمد يا رسول يهللون
الله ).وبعد هذا الستقبال الجماهيري العظيم الذي لم ير مثله في
تاريخ النسانية سار رسول الله × حتى نزل في دار أبي أيوب
)( هي عاتكة بنت كعب الخزاعية. 1
)( وادي قديد يبعد عن الطريق المعبد حوالي ثمانية كيلو مترات. 2
)( السراب :أي يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له. 7
)( قال الحافظ ابن حجر :هذا هو المعتمد ،وشذ من قال :الجمعة ،الفتح: 9
.4/544
)( الهجرة في القرآن الكريم :ص (9) ,(8) .351نفس المصدر السابق :ص 10
.352 11
43
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
النصاري ،(1) ونزل الصديق على خارجة بن زيد الخزرجي
النصاري.
وبدأت رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات ،فتغلب عليها
رسول الله × للوصول للمستقبل الباهر للمة والدولة السلمية
التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من
تغلبت على أقوى دولتين اليمان والتقوى والحسان والعدل ،بعد أن
كانتا تحكمان في العالم ،وهما الفرس والروم ) ،(2وكان الصديق
الساعد اليمن لرسول الله × منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته × .وكان
ة وإيمانًا ،يقينًا أبو بكر ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة حكم ً
ديقّية، ص ّ حا و ِ وإخلصا ،فإذا هذه الصحبة تثمر صل ً ً وعزيمة ،وتقوى
وتصميما ،إخلصًا وفهمًا ،فوقف ً ذكرًا ويقظة ،حّبا وصفاء ،عزيمة
مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله × في سقيفة بني ساعدة
الردة ،فأصلح ما )(3
وغيرها من المواقف ،وبعث جيش أسامة ،وحروب
وم ما انحرف. هدم ،وجمع ما تفرق ،وق ّ فسد وبنى ما ُ
إن حادثة هجرة الصديق مع رسول الله فيها دروس وعبر وفوائد،
منها:
َ
ه
ج ُخَر َ ه إ ِذْ أ ْ صَرهُ الل ُ قد ْ ْ ن َ َ ف َ صُروهُ َ ّ أول :قال تعالى+ :إ ِل ّ َتن ُ
ه ب ح صا
َ ِ َ ِ ِ ِ ل ُ
ل قو ُ ي ْ
ِ ِ َ ذ إ ر غا َ ل ا في ن إ ِذْ ُ َ ِ
ما ه ي اث ْن َي ْ َ ِ فُروا َثان ِ َ ن كَ َ ذي َ ال ِ
َ َ
جُنوٍد ب ه د ي أو ه
ُ َ ِ َ َ ُ َ ْ ِ َ ّ َ ُ ِ ُي لع ه ت ن كي س ه الل لَ ز
ْ َ ن أ ف نا ع م
َ َ َ َ ه الل لَ َ ْ َ ْ ِ ّ
ن إ ن ز ح ت
هِ الل ة
ُ م ل
َ ِ ََ ك و لى َ ْ
ف س
ّ ال روا ُ َ
ف َ ك ن
ِ َ ذي ّ ل ا ة
َ م
ِ َ لَ ك ل َ ع
ها َ َ َ
ج و و َم ت ََر ْ ْ لّ ْ
م" ]التوبة.[40 : كي
ِ ٌ َ ِ ٌ ح ز زي ع
َ ه ُ والل يا
ُ َ َ ْ لع ل ا يه َ ِ
ففي هذه الية الكريمة دللة على أفضلية الصديق من سبعة
أوجه ،ففي الية الكريمة من فضائل أبي بكر :
-1أن الكفار أخرجوه:
الكفار أخرجوا الرسول »ثاني اثنين« ،فلزم أن يكونوا
أخرجوهما ،وهذا هو الواقع.
-2أنه صاحبه الوحيد:
الذي كان معه حين نصره الله؛ إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو
بكر ،وكان ثاني اثنين الله ثالثهما.
ن" ،ففي المواضع التي ل يكون مع النبي × ي اث ْن َي ْ ِ
قولهَ+ :ثان ِ َ
مع أكابر الصحابة إل واحد يكون هو ذلك الواحد؛ مثل سفره في
الهجرة ،ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إل أبو بكر،
ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى السلم كان يكون معه
من أكابر الصحابة أبو بكر ،وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره
باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي ×.
-3أنه صاحبه في الغار:
الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن ،وقد أخرجا في
1
44
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر ،قال :نظرت إلى أقدام
المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار ،فقلت :يا رسول الله ،لو
أن أحدهم نظر إلى قدميه لبصرنا .فقال ×» :يا أبا بكر ،ما
ظنك باثنين الله ثالثهما« (1).وهذا الحديث مع كونه مما اتفق
فلم يختلف في ذلك اثنان أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول،
منهم ،فهو مما دل القرآن على معناه ).(2
-4أنه صاحبه المطلق:
ه" ل يختص بمصاحبته في الغار؛ بل حب ِ ِ
صا ِ
ل لِ َ قوله+ :إ ِذْ ي َ ُ
قو ُ
هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة ،كما لم يشركه فيه غيره
فصار مختصا بالكملية من الصحبة ،وهذا مما ل نزاع فيه بين أهل
قال من العلماء :إن فضائل
)(3
العلم بأحوال النبي × ،ولهذا قال من
الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره.
-5أنه المشفق عليه:
ن" يدل على أن صاحبه كان مشفقًا عليه محّبا قوله +ل َ ت َ ْ
حَز ْ
له ،ناصًرا له حيث يحزن ،وإنما يحزن النسان حال الخوف على من
يحبه ،وكان حزنه على النبي × لئل يقتل ويذهب السلم ،ولهذا لما
كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ،ووراءه تارة،
ذلك ،فقال :أذكر الرصد فأكون أمامك ،وأذكر فسأله النبي × عن
الطلب فأكون وراءك) ،(4وفي رواية أحمد في كتاب »فضائل
الصحابة« ...:فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه ،فقال له
النبي ×» :ما لك؟« قال :يا رسول الله ،إذا كنت أمامك خشيت أن
تؤتى من وراءك ،وإذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك َ .قال:
مه..لما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر :يا رسول الله ،كما أنت حتى أقُ ّ
مه ،وقال :يا رسول فلما رأى أبو بكر جحرًا في الغار فألقمها قد َ
الله ،إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي ) .(5فلم يكن يرضى بمساواة
النبي؛ بل كان ل يرضى بأن يقتل رسول الله × وهو يعيش ،كان
وماله ،وهذا واجب على كل مؤمن، يختار أن يفديه بنفسه وأهله
والصديق أقوم المؤمنين بذلك).(6
-6المشارك له في معية الختصاص:
عَنا" صريح في مشاركة الصديق للنبي × في م َ ه َ ن الل َ
قوله+ :إ ِ ّ
هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق.
وهي تدل على أنه معهما بالنصر والتأييد ،والعانة على عدوهما.
فيكون النبي × قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر ويعيننا
سل ََناصُر ُر ُومحبة ،كما قال الله تعالى+ :إ ِّنا ل ََنن ُ عليهم ،نصَر إكرام
د" ]غافر: ها ُ
َ شْ ال مُ ُ
قو َ ي م و َ
َ ْ َ ي و يا
َ ْ نّ د ال ة
ِ يا
َ ح
َ ْ ل ا في مُنوا ِنآ َ وال ّ ِ
ذي َ َ
.[51وهذا غاية المدح لبي بكر إذا دل على أنه ممن شهد له
)( البخاري ،كتاب فضائل الصحابة رقم ،3653 :مسلم رقم.1854 : 1
) (3نفس المصدر السابق،4/245 : )( منهاج السنة.241 ،4/240 : 2
.252 3
)( أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة :ص .43 4
45
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الرسول
باليمان المقتضي نصَر الله له مع رسوله في مثل هذا الحال التي
عامة(1الخلق إل يخذل فيها
من نصره الله ) .
وقال الدكتور عبد الكريم زيدان عن المعية في هذه الية
ه
ن الل َ الكريمة :وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى+ :إ ِ ّ
نعَنا" أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى+ :إ ِ ّ م َ
َ
ن" ]النحل[128 :؛ لن سُنو َ
ح ِ
م ْ
هم ّ
ن ُ وال ّ ِ
ذي َ وا َ ن ات ّ َ
ق ْ ع ال ّ ِ
ذي َ م َ
ه َ
الل َ
المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه ،غير مقيدة بوصف هو عمل
برسوله( وصاحبه، لهما ،كوصف التقوى والحسان بل هي خاصة
كمقولة هذه المعية بالتأييد باليات وخوارق العادات ). 2
-7أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر:
عل َيه َ فأ َن َْز َ
جُنوٍد ل ّ ْ
م وأي ّدَهُ ب ِ ُ
ه َ ْ ِ َكين َت َ ُ
س ِ
ه َ
ل الل ُ قال تعالىَ + :
ها" ]التوبة ،[40 :فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد و َت ََر ْ
فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى ،فلم يحتج
أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدللة الكلم والحال عليها ،وإذا
علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال
لصاحبه فيها أعظم مما السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس
لسائر الناس ،وهذا من بلغة القرآن وحسن بيانه ).(3
ثانًيا :فقه النبي × والصديق في التخطيط والخذ بالسباب:
إن من تأمل حادثة الهجرة رأى دقة التخطيط فيها ودقة الخذ
بالسباب من ابتدائها ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها ،يدرك أن
التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله × كان قائمًا ،وأن
التخطيط جزء من السنة النبوية ،وهو جزء من التكليف اللهي في
كل ما طولب به المسلم ،وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن
السنة(4،أمثال هؤلء مخطئون التخطيط وإحكام المور ليسا من
ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين ) .
فعندما حان وقت الهجرة للنبي × في التنفيذ نلحظ التي:
أ -وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ما كان يكتنفها
من صعاب وعقبات ،وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسًا
دراسة وافية ،فمثلً:
-1جاء × إلى بيت أبي بكر في وقت شدة الحر؛ الوقت الذي ل
يخرج فيه أحد؛ بل من عادته لم يكن يأتي له ،لماذا؟ حتى ل يراه
أحد.
-2إخفاء شخصيته × أثناء مجيئه للصديق وجاء إلى بيت الصديق
ما؛ لن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه متلث ً
) (3المستفاد من قصص القرآن: )( نفس المصدر السابق.243 ،4/242 : 1
.2/100 2
46
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المتلثم ).(1
-3أمر × أبا بكر أن يخرج من عنده ،ولما تكلم لم ي ُِبن إل المر
بالهجرة دون
تحديد التجاه.
-4وكان الخروج ليل ومن باب خلفي في بيت أبي بكر ).(2
-5بلغ الحتياط مداه باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم ،والستعانة
بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ،ومسارب الصحراء ،وكان ذلك
الرسول الخبير مشركًا ما دام على خلق ورزانة ،وفيه دليل على أن
× كان ل يحجم على الستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها (3).وقد
يبين الشيخ عبد الكريم زيدان أن القاعدة والصل عدم الستعانة
بغير المسلم في المور العامة ،ولهذه القاعدة استثناء ،وهو جواز
الستعانة بغير المسلم بشروط معينة ،وهي :تحقيق المصلحة أو
رجحانها بهذه الستعانة ،وأن ل يكون ذلك على حساب الدعوة
ومعانيها ،وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به ،وأن ل تكون
هذه الستعانة مثار شبهة لفراد المسلمين ،وأن تكون هناك حاجة
حقيقية لهذه الستعانة على وجه الستثناء ،وإذا لم تتحقق لم تجز
الستعانة (4).وقد كان الصديق قد دعا أولده للسلم ونجح بفضل
الله في هذا الدور الكبير والخطير ،وقام بتوظيف أسرته لخدمة
السلم ونجاح هجرة رسول الله × ،فوزع بين أولده المهام
الخطيرة في مجال التنفيذ العملي لخطة الهجرة المباركة:
-1دور عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما:
فقد قام بدور صاحب المخابرات الصادق وكشف تحركات العدو،
لقد ربى عبد الله على حب دينه ،والعمل لنصرته ببصيرة نافذة
وفطنة كاملة وذكاء متوقد ،يدل على العناية الفائقة التي اتبعها
سيدنا أبو بكر في تربيته .وقد رسم له أبوه دوره في الهجرة فقام
به خير قيام ،وكان يتمثل في التنقل بين مجالس أهل مكة يستمع
أخبارهم وما يقولونه في نهارهم ،ثم يأتي الغار إذا أمسى ،فيحكي
للنبي × ولبيه الصديق ما يدور بعقول أهل مكة وما يدبرونه،
واحدا من
ً وقد أتقن عبد الله هذا الواجب بطريقة رائعة ،فلم تأخذ
سا ،حتى إذا اقترب الغار حار ً أهل مكة ريبة فيه ،وكان يبيت عند
النهار عاد إلى مكة فما شعر به أحد ).(5
-2دور عائشة وأسماء رضي الله عنهما:
كان لسماء وعائشة دور عظيم أظهر فوائد التربية الصحيحة،
حيث قامتا عند قدوم النبي × إلى بيت أبي بكر ليلة الهجرة بتجهيز
طعام النبي × ولبيهما ..تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله
عنها :-فجهزناهما )تقصد رسول الله × وأباها( أحسن الجهاز فصنعنا
لهما سفرة في جراب ،فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت به
)( السيرة النبوية ..قراءة لجوانب الحذر والحيطة :ص .141 1
)( معين السيرة للشامي :ص (4) .147الهجرة في القرآن الكريم :ص .361 2
3
)( المستفاد من قصص القرآن (2) .145 ،2/144 :السيرة الحلبية،2/213 : 4
47
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
على فم الجراب ،فلذلك سميت ذات النطاقين.
-3دور أسماء في تحمل الذى وإخفاء أسرار المسلمين:
أظهرت أسماء -رضي الله عنها -دور المسلمة الفاهمة لدينها،
المحافظة على أسرار الدعوة ،المتحملة لتوابع ذلك من الذى
والتعنت .فهذه أسماء تحدثنا بنفسها حيث تقول :لما خرج رسول
الله × وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام،
فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم ،فقالوا :أين أبوك يا بنت
أبي بكر؟ قلت :ل أدري والله أين أبي؟ قالت :فرفع أبو جهل يده
فاحشً(ا خبيثًا ،فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ،قالت :ثم وكان
انصرفوا. 2)..
فهذا درس من أسماء -رضي الله عنها -تعلمه لنساء المسلمين
جيل بعد جيل ،كيف تخفي أسرار المسلمين عن العداء ،وكيف تقف ً
صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم.
-4دور أسماء -رضي الله عنها -في بث المان والطمأنينة
في البيت:
خرج أبو بكر مع رسول الله ×ومعه ماله كله ،وهو ما تبقى من
رأسماله ،وكان خمسة آلف أو ستة آلف درهم ،وجاء أبو قحافة ليتفقد
بيت ابنه ويطمئن على أولده ،وقد ذهب بصره ،فقال :والله إني لراه
قد فجعكم بماله مع نفسه ،قالت :كل يا أبت ،ضع يدك على هذا المال،
قالت :فوضع يده عليه ،فقال :ل بأس ،إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن.
وفي هذا بلغ لكم.ل والله ما ترك لنا شيئًا ،ولكني أردت أن أس ّ
كن
الشيخ بذلك ).(3
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها ،وسكن قلب جدها
الضرير من غير أن تكذب ،فإن أباها قد ترك لهم حقا هذه الحجار التي
كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ ،إل أنه قد ترك لهم معها إيمانا بالله ل
تزلزله الجبال ،ول تحركه العواصف الهوج ،ول يتأثر بقلة أو كثرة في
يقينوثقة به ل حد لهما ،وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي رثهم ا ًالمال ،و ّ
مثال عّز أن
ً المور ،ول تلتفت إلى سفاسفها ،فضرب بهم للبيت المسلم
يتكرر ،وقل ّ أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء -رضي الله عنها -بهذه المواقف لنساء وبنات
س الحاجة إلى القتداء به ،والنسج على ن في أم ّ المسلمين مثل ه ّ
منواله ،وظلت أسماء مع أخواتها في مكة ل تشكو ضيقا ،ول تظهر
حاجة ،حتى بعث النبي × زيد بن حارثة وأبا رافع موله ،وأعطاهما
بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة ،فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم
ابنتيه ،وسودة بنت زمعة زوجه ،وأسامة بن زيد ،وأمه بركة المكناة
عبد(4الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ،حتى بأم أيمن ،وخرج معهما
قدموا المدينة مصطحبين ) .
البداية والنهاية.3/184 : )( 1
تاريخ الطبري ،2/10 :الهجرة النبوية المباركة :ص .128 )( 4
48
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-5دور عامر بن فهيرة مولى أبي بكر :
من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم وقلة الكتراث
بأمره ،لكن الدعاة الربانيين ل يفعلون ذلك ،إنهم يبذلون جهدهم
لهداية من يلقونه ،لذا أّدب الصديق عامر بن فهيرة موله
وعلمه ،فأضحى عامر جاهزًا لفداء السلم وخدمة الدين.
هامً في الهجرة ،فكان يرعى دورا ا
ً وقد رسم له سيدنا أبو بكر
الغنم مع رعيان مكة ،لكن ل يلفت النظار لشيء ،حتى إذا أمسى أراح
بغنم سيدنا أبي بكر على النبي ×فاحتلبا وذبحا ،ثم يكمل عامر دور عبد
عائدا إلى
ً الله بن أبي بكر حين يغدو من عنده رسول الله × وصاحبه
عبد الله ليعفي عليها ،مما يعد ذكاء وفطنة في العداد مكة ،فيتتبع آثار
لنجاح الهجرة ).(1
وإنه لدرس عظيم يستفاد من الصديق لكي يهتم المسلمون
بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدنيا ومغاربها ،ويعاملونهم على
شًرا أولً ،ثم يعلمونهم السلم ،فلعل الله يجعل منهم من كونهم ب َ َ
يحمل هذا الدين كما ينبغي.
إن ما قام به الصديق من تجنيد أسرته لخدمة صاحب الدعوة ×
في هجرته يدل على تدبير للمور على نحو رائع دقيق ،واحتياط
للظروف بأسلوب حكيم ،ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة
في مكانه المناسب ،وسد ّ لجميع الثغرات ،وتغطية بديعة لكل
مطالب الرحلة ،واقتصار على العدد اللزم من الشخاص من غير
قويا
ً أخذًا زيادة ول إسراف .لقد أخذ الرسول × بالسباب المعقولة
حسب استطاعته وقدرته ،ومن ثم باتت عناية الله متوقعة ).(2
إن اتخاذ السباب أمر ضروري وواجب ،ولكن ل يعني ذلك دائما
حصول النتيجة؛ ذلك لن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته ،ومن هنا
كان التوكل أمرًا ضروريًا وهو من باب استكمال اتخاذ السباب.
إن رسول الله × أعد كل السباب واتخذ كل الوسائل ،ولكنه في
ويستنصره(3أن يكلل سعيه بالنجاح ،وهنا الوقت نفسه مع الله يدعوه
يستجاب الدعاء ،ويكلل العمل النجاح ) .
ثالًثا :جندية الصديق الرفيعة وبكاؤه من الفرح:
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق ،فأبو بكر
عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله ×» :ل
تعجل ،لعل الله يجعل لك صاحًبا« ،فقد بدأ في العداد
والتخطيط للهجرة »فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما
إعداًدا لذلك« .وفي رواية البخاري :وعلف راحلتين كانتا عنده ،ورق
السمر )وهو الخبط( أربعة أشهر ،لقد كان يدرك بثاقب بصره
قائدا( أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة ً )وهو الذي تربى ليكون
)( أضواء على الهجرة لتوفيق محمد :ص .397 -393 2
49
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
خر أسرته لخدمة النبي ولذلك هيأ وسيلة الهجرة ورتب تموينها ،وس ّ
× ،وعندما جاء رسول الله × وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج
والهجرة بكى من شدة الفرح ،وتقول عائشة -رضي الله عنها -في
أحدا يبكي من
ً هذا الشأن :فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن
شري ،أن الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ ،إنها قمة الفرح البَ َ
يتحول الفرح إلى بكاء ،ومما قال الشاعر عن هذا:
سيزورني فاستعبرت أجفاني وََرد َ الكتاب من الحبيب بأنه
من فرط ما قد سرني علي حتى إنني
ّ غلب السرور
أبكاني
تبكين من فرح ومن أحزان يا عين صار الدمع عندك
عادة
فالصديق يعلم أن معنى هذه الصحبة أنه سيكون وحده برفقة
رسول رب العالمين بضعة عشر يومًا على القل ،وهو الذي سيقدم
حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى × ،فأي فوز في هذا الوجود
ومن
)(1
يفوق هذا الفوز ،أن ينفرد الصديق وحده من دون أهل الرض
دون الصحب جميعًا برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة.
وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من
أن يراهما المشركون ليكون الصديق مثلًلما ينبغي أن يكون عليه جندي
الدعوة الصادق مع قائده المين ،حين يحدق به الخطر ,من خوف
وإشفاق على حياته ،فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه
الموت ،ولو كان كذلك لما رافق رسول الله ×في هذه الهجرة
الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع
الكريم ،×(2وعلى
)
رسول الله ×،ولكنه كان يخشى على حياة الرسول
مستقبل السلم إن وقع الرسول ×في قبضة المشركين.
ويظهر الحس المني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي × في
مواقف كثيرة منها ،حين أجاب السائل :من هذا الرجل الذي بين
يديك؟ فقال :هذا هاد ٍ يهديني السبيل ،فظن السائل بأن الصديق
على حسن يقصد الطريق ،وإنما كان يقصد سبيل الخير ،وهذا يدل
فرارا من الحرج أو الكذب (3).وفيً استخدام أبي بكر للمعاريض
إجابته للسائل تورية وتنفيذ
رسول الله ×؛ لن الهجرة كانت سّرا، من للتربية المنية التي تلقاها
وقد أقره الرسول × على ذلك ).(4
رابًعا :فن قيادة الرواح وفن التعامل مع النفوس:
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله
× في الهجرة ،كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة
الحبيب المصطفى × ،وهذا الحب الرباني كان نابعا من القلب
) (1التربية القيادية.192 ،2/191 : 1
) (2الهجرة النبوية ،لبي )( السيرة النبوية دروس وعبر ،للسباعي :ص .68 4
50
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الترمذي ،كتاب المناقب ،باب فضل مكة ،5/722 :رقم.3925 : )( 5
51
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
واحد ،فأصابتهم الحمى ،فاستأذنت رسول الله × عيادتهم فأذن،
فدخلت إليهم أعودهم -وذلك قبل)(1أن يضرب علينا الحجاب -وبهم ما
ل يعلمه إل الله من شدة الوعك ،فدنوت من أبي بكر فقلت :يا
أبت ،كيف تجدك؟ فقال:
والموت أدنى من شراك كل امرئ مصبح في أهله
نعله
قالت :فقلت :والله ما يدري أبي ما يقول ،ثم دنوت من عامر بن
فهيرة فقلت :كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
إن الجبان حتفه من فوقه لقد وجدت الموت قبل ذوقه
)(3 )(2
كالثور يحمي جلده بروقه كل امرئ مجاهد بطوقه
وكان بلل إذا قالت :قلت :والله ما يدري عامر ما يقول .قالت:
أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته ) ،(4ويقول:
بواد وحولي إذخر ) (5وجليل أل ليت شعري هل أبيتن ليلة
)(6
وطفيل وهل أرَِدن يوما مياه مجنة
)( شامة وطفيل :جبلن مشرفان على مجنة على بريد مكة. 6
)( البخاري ،كتاب الدعوات ،باب الدعاء برفع الوباء والوجع ،رقم.6372 : 7
)( تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين :ص .121 9
52
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الرابع
الصديق في ميادين الجهاد
تمهيد:
ذكر أهل العلم بالتواريخ والسير أن أبا بكر شهد مع النبي × بدًرا
دا ،وثبت مع رسول الله × يوم والمشاهد كلها ،ولم يفته منها مشه ً
أحد حين انهزم)(1الناس ،ودفع إليه النبي × رايته العظمى يوم تبوك
وكانت سوداء .
الصديق وقال ابن كثير :ولم يختلف أهل السير في أن أبا بكر
لم يتخلف عن رسول الله × في مشهد من المشاهد كلها ).(2
وقال الزمخشري :إنه )يعني أبا بكر (كان مضافًا لرسول الله
× إلى البد ،فإنه صحبه صغيرًا وأنفق ماله كبيرًا ،وحمله إلى المدينة
براحلته وزاده ،ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته ،وزّوجه ابنته ،ولم
يزل ملزمًا له سفرًا)(3وحضرًا ،فلما توفي دفنه في حجرة عائشة
أحب النساء إليه × .
وعن سلمة بن الكوع :غزوت مع النبي × سبع غزوات ،وخرجت
يبعث من البعوث تسع غزوات مرة علينا أبو بكر ومرة علينا فيما
أسامة ).(4
ومن خلل هذا المبحث سنحاول أن نتتبع حياة الصديق
الجهادية مع النبي × ،لنرى كيف جاهد الصديق بنفسه وماله ورأيه
في نصرة دين الله تعالى.
ل :أبو بكر في بدر الكبرى: أو ً
شارك الصديق في غزوة بدر ،وكانت في العام الثاني من
الهجرة وكانت له فيها مواقف مشهورة ،من أهمها:
-1مشورة الحرب:
لما بلغ النبي من نجاة القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال
في (6المر ) ،(5فقام أبو بكر النبي × استشار رسول الله × أصحابه
فقال وأحسن ،ثم قام عمر فقال وأحسن ) .
-2دوره في الستطلع مع النبي ×:
قام النبي × ومعه أبو بكر يستكشف أحوال جيش المشركين،
خا من العرب ،فسأله وبينما هما يتجولن في تلك المنطقة لقيا شي ً
رسول الله × عن جيش قريش وعن محمد × وأصحابه وما بلغه
من أخبارهم ،فقال الشيخ :ل أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما،
فقال له رسول الله ×» :إذا أخبرتنا أخبرناك« فقال :أو ذاك
الطبقات الكبرى ،1/124 :صفة الصفوة.1/242 : )( 1
) (3خصائص العشرة الكرام البررة.41 : أسد الغابة.3/318 : )( 2
3
البخاري ،كتاب المغازي ،باب بعث النبي أسامة ،رقم.4270 : )( 4
) (2السيرة النبوية لبن هشام.2/447 : صحيح البخاري ،رقم.3952 : )( 5
6
53
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
دا وأصحابه بذاك؟ قال» :نعم« ،فقال الشيخ :فإنه بلغني أن محم ً
خرجوا يوم كذا وكذا ،فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان
شاكذا وكذا -للمكان الذي به جيش المسلمين -وبلغني أن قري ً
خرجوا يوم كذا وكذا ،فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان
كذا وكذا -للمكان الذي فيه جيش المشركين فعل -ثم قال الشيخ:
لقد أخبرتكما عما أردتما ،فأخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله ×:
»نحن من ماء« ،ثم انصرف النبي × وأبو بكر)(1عن الشيخ ،وبقي
هذا الشيخ يقول :ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
وفي هذا الموقف يتضح قرب الصديق من النبي × ،وقد تعلم أبو
بكر من رسول
سا كثيرة.
الله × درو ً
-3في حراسة النبي × في عريشه:
الصفوف للقتال ،رجع إلى مقر القيادة عندما رتب ×
وكان عبارة عن عريش على تل مشرف على ساحة القتال،
،وكانت ثلة من شباب النصار
)(2
وكان معه فيه أبو بكر
بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله × ,
عن هذا الموقف فقال :يا وقد تحدث علي بن أبي طالب
أيها الناس ،من أشجع الناس؟ فقالوا :أنت يا أمير
المؤمنين ،فقال :أما إني ما بارزني أحد إل انتصفت منه،
ولكن هو أبو بكر؛ إنا جعلنا لرسول الله × عري ًشا ،فقلنا:
لئل يهوي إليه أحد من من يكون مع رسول الله ×
المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إل أبو بكر شاه ًرا
إليه أحد من )(3
بالسيف على رأس رسول الله × ،ل يهوي
المشركين إل أهوى إليه ،فهذا أشجع الناس.
-4الصديق يتلقى البشارة بالنصر ،ويقاتل بجانب رسول
الله ×:
بعد الشروع في الخذ بالسباب اتجه رسول الله × إلى ربه
يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه» :اللهم أنجز
لي ما وعدتني ،اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل
دا« .وما زال × يدعو السلم فل تعبد في الرض أب ً
ويستغيث حتى سقط رداؤه ،فأخذه أبو بكر وَرّده على منكبيه وهو
يقول :يا رسول الله ،كفاك مناشدتكم ربك فإنه منجز لك ما وعدك
ب ل َك ُ ْ م َن َرب ّك ُ ْ
غيُثو َ وأنزل الله -عز وجل+ :-إ ِذْ ت َ ْ
)(4
م" جا َ ست َ َفا ْ ست َ ِ
وفي رواية ابن عباس قال :قال النبي × يوم بدر» :اللهم إني
أنشدك عهدك ووعدك ،اللهم إن شئت لم تعبد« فأخذ أبو
مهَز ُسي ُ ْبكر بيده ،فقال :حسبك الله ،فخرج × وهو يقولَ + :
ن الدّب َُر" (5).وقد خفق النبي × خفقة وهو في وّلو َ
وي ُ َ
ع َ
م ُ ال ْ َ
ج ْ
العريش ثم انتبه فقال :أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله ،هذا جبريل
) (4نفس المصدر السابق.2/233 : سيرة ابن هشام.2/228 : )( 1
2
مسلم ،كتاب الجهاد ،باب المداد بالملئكة ببدر ،رقم.1763 : )( 4
البخاري ،كتاب المغازي ،باب قصة بدر ،رقم.3953 : )( 5
54
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)يعني الغبار( ،قال :ثم آخذ بعنان فرسه يقوده ،على ثناياه النقع
خرج رسول الله × إلى الناس فحّرضهم ).(1
ما في التجردسا ربانًيا مه ًوقد تعلم الصديق من هذا الموقف در ً
النفسي وحظها ،والخلوص واللجوء لله وحده ،والسجود والجثي بين
خا فييدي الله سبحانه لكي ينزل نصره ،وبقي هذا المشهد راس ً
ذاكرة الصديق وقلبه ووجدانه يقتدي برسول الله × في تنفيذه في
مثل هذه الساعات وفي مثل هذه المواطن ،ويبقى هذا المشهد
سا لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد يريد أن يقتدي بالنبي × در ً
وصحابته الكرام.
ولما اشتد أوار المعركة وحمي وطيسها نزل رسول الله ×
يذكرون( الله تعالى ،وقد وحرض على القتال والناس على مصافهم
دا وكان بجانبه الصديق )، 2 قاتل × بنفسه قتال ً شدي ً
وقد ظهرت منه شجاعة وبسالة منقطعة النظير ،وكان على استعداد
لمقاتلة كل كافر عنيد ولو كان ابنه ،وقد شارك ابنه عبد الرحمن في
هذه المعركة مع المشركين ،وكان من أشجع الشجعان بين العرب،
ما في قريش ،فلما أسلم قال لبيه :لقد أهدفت ومن أنفذ الرماة سه ً
فملت( عنك ولم بدر، َ يوم «واضح كهدف أمامي لي »أي ظهرت
ل عنك ). 3 م ْ
أقتلك ،فقال له أبو بكر :لو أهدفت لي لم أ ِ
-5الصديق والسرى:
قال ابن عباس :فلما أسروا السارى قال رسول الله × لبي
بكر وعمر» :ما ترون في هؤلء السارى؟« فقال أبو بكر :يا
نبي الله ،هم بنو العم والعشيرة ،أرى أن نأخذ منهم فدية فتكون لنا
قوة على الكفار ،فعسى الله أن يهديهم إلى السلم ،فقال رسول
الله ×» :ما ترى يا ابن الخطاب؟« قال :ل والله ،يا رسول الله،
ما أرى الذي يراه أبو بكر ،ولكني أرى أن تمكننا منهم فنضرب
ن علّيا من عقيل فيضرب عنقه ،وتمكنني من فلن أعناقهم ،فتمك ّ َ
»نسيًبا لعمر« فأضرب عنقه ،فإن هؤلء أئمة الكفر وصناديدها،
فهوى رسول الله × إلى ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت ،فلما كان
الغد جئت فإذا برسول الله × وأبو بكر قاعدين يبكيان ،فقلت :يا
رسول الله ،أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ،فإن وجدت
بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله ×:
ي أصحابك من أخذهم الفداء ،ولقد »أبكي للذي عرض عل ّ
)شجرة قريبة « الشجرة هذه من أدنى ي عذابهم عرض عل ّ
ن لَ ُ
ه كو َ ي َأن ي َ ُِ ّ ب َ نِ ل نَ َ
كا ما
َ + وجل:- -عز الله وأنزل (، َمن النبي ×
لل طَي ًّبا" ح َ
م َ مت ُ ْ
غن ِ ْ ما َم ّك ُُلوا ِ سَرى" ]النفال ،[67 :إلى قولهَ + :
ف أ ْ
]النفال ،[69 :فأحل الله لهم الغنيمة ).(4
وفي رواية عن عبد الله بن مسعود قال :لما كان يوم بدر
قال رسول الله ×» :ما تقولون في هؤلء السرى؟« فقال
)( السيرة النبوية لبن هشام ،2/457 :نقل عن تاريخ الدعوة :ص .125 1
)( تاريخ الخلفاء للسيوطي :ص (2) .94مسلم ،كتاب الجهاد والسير ،رقم: 3
.1763 4
55
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
قهم واستأن بهم؛ لعل الله أبو بكر :يا رسول الله ،قومك وأهلك است َب ْ ِ
أن يتوب عليهم .وقال عمر :يا رسول الله ،أخرجوك وكذبوك ،قربهم
فاضرب أعناقهم .وقال عبد الله بن رواحة :يا رسول الله ،انظر
وادًيا كثير الحطب ،فأدخلهم فيه ثم اضرب عليهم ناًرا ،فقال
العباس :قطعت رحمك .فدخل رسول الله × ولم يرد عليهم شيئا،
فقال ناس :يأخذ بقول أبي بكر ،وقال ناس :يأخذ بقول عمر ،وقال
ناس :يأخذ بقول
عبد الله بن رواحة ،فخرج عليهم رسول الله × فقال» :إن الله
ليلّين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ،وإن الله ليشد
قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ،وإن مثلك يا أبا بكر
فْرغ ِ وِإن ت َ ْ ك َ عَبادُ َم ِ ه ْفإ ِن ّ ُ م َ ه ْعذّب ْ ُ كمثل عيسى َ إذ قالِ+ :إن ت ُ َ
م" ]المائدة ،[118 :وإن َمثلك يا عمر كي ُ ح ِ زيُز ال ْ َ ع ِت ال ْ َ ك أن َ فإ ِن ّ َ م َ ه ْ لَ ُ
ن
م َ ض ِ َ ب ل ت َذَْر َ َ قا َ و َ
على الْر ِ ح ّر ّ ل ُنو ٌ كمثل نوح؛ إذ قالَ + : ال ْ َ
َ قال: إذ موسى كمثل مثلك وإن ، را" ]نوح[26 : ن دَّيا ً ري َ ف ِ كا ِ
وال م َ وأ ْ ة َ زين َ ً َ َ قا َ و َ
ه ِ
ملئ ِ ِ و َ ن َ و َ ع ْ فْر َ ت ِ سى َرب َّنا إ ِن ّك آت َي ْ َ مو َ ل ُ َ +
عَلى س َ م ْْ ك َرب َّنا اطْ ِ سِبيل ِ َ عن َ ضّلوا َ ة الدّن َْيا َرب َّنا ل ِي ُ ِ حَيا ِ في ال ْ َ َِ
بذا َ ع َ وا ال َ ر ي تى ح نوا م ؤْ ي َ ل َ
ف م ه ب لو ُ ُ
ق لى َ ع د د شْ وا م ه
َ ُ َ ّ َ ُ ِ ُ ْ ِ ِ َ ْ ُ َ ْ أ ََ ِ
ِ ل وا مْ
م" ]يونس .(1)[88 :كان النبي × إذا استشار أصحابه أول من الِلي َ
يتكلم أبو بكر في الشورى ،وربما تكلم غيره ،وربما لم يتكلم غيره
فيعمل برأيه وحده ،فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه. )(2
)( مواقف الصديق مع النبي في المدينة ،د/عاطف لماضة :ص .27 3
56
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
من وجهه ،فقال أبو عبيدة :أقسم عليك بحقي لما تركتني،
فتركته فكره تناولها فيؤذي رسول الله × ،فأرزم عليه بفيه
فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته الخرى مع الحلقة،
فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هت ً ما .فأصلحنا من شأن
،ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار ،فإذا به رسول الله ×
طعنة ورمية وضربة ،وإذا قد قطعت بين من وسبعون بضع
إصبعه فأصلحنا من شأنه).(1
وتتضح منزلة الصديق في هذه الغزوة من موقف أبي سفيان
عندما سأل وقال :أفي القوم محمد؟ ثلث مرات ،فنهاهم النبي
× أن يجيبوه ،ثم قال :أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلث مرات،
فنهاهم النبي × أن يجيبوه ،ثم قال :أفي القوم ابن الخطاب؟
ثلث مرات ،ثم رجع إلى أصحابه فقال :أما هؤلء فقد قتلوا ).(2
فهذا يدل على ظن
أبي سفيان زعيم المشركين حينئذ بأن أعمدة السلم وأساسه؛
رسول الله ×
وأبو بكر وعمر ).(3
وعندما حاول المشركون أن يقبضوا على المسلمين
ويستأصلوا شأفتهم ،كان التخطيط النبوي الكريم قد سبقهم
وأبطل كيدهم ،وأمر رسول الله × المسلمين مع ما بهم من
جراحات وقرح شديد للخروج من إثر المشركين ،فاستجابوا لله
ولرسوله مع ما بهم من البلء وانطلقوا ،فعن عائشة -رضي الله
جا ُبواست َ َ
ن َا ْذي َعنها -قالت لعروة بن الزبير َفي قوله تعالى+ :ال ّ ِ
س ُنوا ْ َ ح أ ح ل ِل ّ ِ َ
ن ذي ر ُ م ال ْ َ
ق ْ ه ُ
صاب َ ُ
ما أ َد َع ِ
من ب َ ْ ل َ ِسو ِ ر ُوال ّ
ه َلل ِ
م" ]آل عمران ، [172 :يا ابن أختي كان ِ ٌظي ع
َ ر ج
ْ ٌ أ وا َ
من ْ ُ ْ َ ّ ْ
ق توا م ه ِ
أبوك منهم :الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله × ما أصاب
يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال» :من
في( إثرهم؟« فانتدب منهم سبعين رجل :كان فيهم أبو بكر يذهب
والزبير ). 4
ثالًثا :في غزوة بين النضير وبني المصطلق وفي الخندق
وبني قريظة:
أ -خرج النبي × إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين الذين
قتلهما عمرو بن أمية من بني عامر على وجه الخطأ؛ لن عمرًا لم
يعلم بالعهد الذي بين بني عامر وبين النبي × ،وكان بين بني النضير
وبني عامر حلف وعهد ،فلما آتاهم النبي × قالوا :نعم يا أبا القاسم
نعينك على ما أحببت ،ثم خل بعضهم ببعض فقالوا :إنكم لن تجدوا
الرجل على مثل حاله هذه ،ورسول الله × إلى جنب جدار من
بيوتهم قاعد ،قالوا :فمن يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة
فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال :أنا
لذلك ،فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ،ورسول الله × في نفر
منحة المعبود ،2/19 :نقل عن تاريخ الدعوة السلمية :ص .130 )( 1
مواقف الصديق مع النبي في المدينة ،د .عاطف لماضة :ص .28 )( 3
57
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي ،فأتى رسول الله × الخبر من
السماء مما أراد القوم ،فقام وخرج إلى المدينة ،فلما استلبث النبي
مقبل من المدينة فسألوه عنهً أصحابه قاموا في طلبه ،فرأوا رجلً
فقالوا :رأيته داخلً المدينة ،فأقبل أصحاب النبي × حتى انتهوا إليه،
فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به.
فبعث النبي × محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره
وبلده ،فبعث إليهم أهل النفاق يحرضونهم على المقام ويعدونهم
بالنصر ،فقويت نفوسهم ،وحمى حيي بن أخطب ،وبعثوا إلى رسول
الله × أنهم ل يخرجون ،ونابذوه ينقض العهد ،فعند ذلك أمر رسول
الله × الناس بالخروج إليهم ،فحاصروهم خمس عشرة ليلة
فتحصنوا في الحصون ،فأمر رسول الله × بقطع النخيل والتحريق،
لهم(1ما حملت البل من أموالهم إل الحلقة، ثم أجلهم على أن
فنزلت سورة الحشر ) .
ب -بنو المصطلق:
أراد بنو المصطلق أن يغزوا المدينة ،فخرج لهم رسول الله في
أصحابه ،فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق
)ويقال :إلى عمار بن ياسر( ،وراية النصار إلى سعد ابن عبادة ،ثم
أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس أن قولوا :ل إله إل الله
تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم ،فأبوا ،فتراموا بالنبل ،ثم أمر رسول
الله × المسلمين فحملوا حملة رجل واحد ،فما أفلت منهم رجل
عشرة وأسر سائرهم ،ولم يقتل من المسلمين واحد ،وقتل منهم
سوى رجل واحد ).(2
ج -في الخندق وبني قريظة:
كان الصديق في الغزوتين مرافقا للنبي × ،وكان يوم الخندق
يحمل التراب في ثيابه ،وساهم مع الصحابة للسراع في إنجاز حفر
قياسي ،مما جعل فكرة الخندق تصيب هدفها في الخندق في زمن
مواجهة المشركين ).(3
رابًعا :في الحديبية:
خرج رسول الله × في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد
زيارة البيت الحرام في كوكبة من الصحابة عددها أربع عشرة مائة،
وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ،وليعلم
الناس أنه إنما خرج زائرًا لتعظيم بيت الله الحرام ،فبعث النبي ×
عينا له من خزاعة ،فعاد بالخبر أن أهل مكة جمعوا جموعهم لصده ً
عن الكعبة ،فقال» :أشيروا
ي أيها الناس« ،فقال أبو بكر :يا رسول الله ،خرجت عامدًاعل ّ
لهذا البيت ل تريد
حربه أو قتل أحد ،فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه ،قال» :امضوا
على اسم الله« ،وقد ثارت قريش وحلفوا أن ل يدخل الرسول ×
)( البخاري ،كتاب المغازي ،باب حديث بني النضير ،5/217 :مغازي الواقدي: 1
58
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
مكة عنوة ،ثم قامت المفاوضات بين أهل
× على إجابة أهل مكة على مكة ورسول الله × ،وقد عزم النبي
طلبهم إن أرادوا شيئًا فيه صلة رحم ).(1
أ -في المفاوضات:
جاءت وفود قريش لمفاوضة النبي × ،وكان أول من أتى بديل
بن ورقاء من خزاعة ،فلما علم بمقصد النبي × والمسلمين رجع
إلى أهل مكة ،ثم جاء مكرز بن حفص ثم الحليس ابن علقمة ثم
عروة بن مسعود الثقفي ،فدار هذا الحوار بين النبي × وعروة بن
مسعود الثقفي ،واشترك في هذا الحوار أبو بكر وبعض أصحابه
).(2
قال عروة :يا محمد ،أجمعت أوباش الناس ثم جئت بهم إلى
بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل
)أي :خرجت رجال ونساء ،صغارا وكبارا( قد لبسوا جلود النمور
يعاهدون الله أل تدخلها عليهم عنوة ،وايم الله لكأني بهؤلء )يقصد
أصحاب النبي ×( قد انكشفوا عنك!!.
فقال أبو)(4بكر :امصص بظر ) (3اللت -وهي صنم ثقيف -أنحن ن َفِّر
عنه وندعه؟ فقال :من ذا؟ قالوا :أبو بكر ،قال :أما والذي نفسي
بيده لول يد كانت لك عندي لم أجزك بها لجبتك ،وكان الصديق قد
أحسن إليه قبل ذلك ،فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة،
ولهذا قال من قال من العلماء :إن هذا يدل على جواز التصريح
باسم العورة للحاجة والمصلحة ،وليس من الفحش المنهي عنه ).(5
لقد حاول عروة بن مسعود أن يشن حرًبا نفسية على المسلمين
حتى يهزمهم معنويًا ،ولذلك لوح بقوة المشركين العسكرية ،معتمدا
على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش ل
محالة ،وحاول أن يوقع الفتنة والرباك في صفوف المسلمين؛ وذلك
حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده ،عندما قال للنبي ×:
خليقا أن يفروا ويدعوك ،وكان رد الصديق ً أجمعت أوباشًا من الناس
ما ومؤثرا في معنويات عروة ونفسيته ،فقد كان موقف الصديق صار ً
ول َ نوا ه ت َ ل و + فيها: الله قال التي اليمانية
َ ُ ِ َ َ َ فيَزُنوا وأ َن ْت ُم ال َ
العزة غاية
ن" ]آل عمران.[139 : مِني َ
ؤ ِ ن ك ُن ُْتم ّ
م ْ ن إِ ْ
و َ
ْ لعْ ُ َ ح
تَ ْ
ب -موقفه من الصلح:
ولما توصل المشركون مع رسول الله × إلى الصلح بقيادة سهل
بن عمرو ،أصغى الصديق إلى ما وافق عليه رسول الله × من طلب
المشركين ،رغم ما قد يظهر للمرء أن في هذا الصلح بعض التجاوز
ليقينه أن النبي ل أو الجحاف بالمسلمين ،وسار على هدي النبي ×
ينطق عن الهوى ،وأنه فعل لشيء أطلعه الله عليه ).(6
)( تاريخ الدعوة إلى السلم :ص (4) .136نفس المصدر السابق :ص .137 1
2
)( البخاري ،كتاب ضع المرأة عند ختانها.)( البظر :ما تقطعه الخاتنة من ُب ْ 3
)( أبو بكر الصديق ،محمد مال الله :ص .350 5
59
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( السيرة النبوية لبن هشام3/346 :؛ تاريخ الطبري.2/364 : 2
)( السيرة النبوية لبن هشام (2) .3/346 :الفتاوى لبن تيمية.11/117 : 3
4
)( كنز العمال ،30136 :نقل عن خطب أبي بكر الصديق ،محمد أحمد عاشور: 5
.117
)( تاريخ الخلفاء للسيوطي.61 : 6
60
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فكان علي بن أبي طالب ، (1) وأشار بعض أصحاب النبي ×
بقطع النخيل حتى يثخن في اليهود ورضي النبي × بذلك ،فأسرع
المسلمون في قطعه ،فذهب الصديق إلى النبي × وأشار عليه
بعدم قطع النخيل لما في ذلك من الخسارة للمسلمين سواء
صلح ا ،فقبل النبي × مشورة الصديق،ً فتحت خيبر عنوة أو
ونادى بالمسلمين
بالكف عن قطع النخيل فرفعوا أيديهم ).(2
ب -في نجد:
أخرج ابن سعد عن إياس بن سلمة ،عن أبيه ،قال :بعث
من(3هوازن سا
رسول الله × أبا بكر إلى نجد وأ ّمره علينا ،فبيتنا نا ً
فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات ،وكان شعارنا :أمت ..أمت ) .
ج -في بني فزارة:
روى المام أحمد من طريق إياس بن سلمة عن أبيه ،حدثني
أبي ،قال :خرجنا مع أبي بكر بن أبي قحافة وأمره النبي × علينا،
فغزونا بني فزارة ،فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا ،فلما
ن مرم ْ
صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء َ
قبلنا ،قال سلمة :ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء
نحو الجبل ،فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل ،قال :فجئت بهم
أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء ،وفيهم امرأة عليها قشع
من أدم ومعها ابنة لها من أحسن العرب ،قال :فنفلني أبو بكر ،فما
كشفت لها ثوبا حتى قدمت المدينة ثم بت فلم أكشف لها ثوبا ،قال:
فلقيني رسول الله × في السوق فقال لي» :يا سلمة هب لي
المرأة« قال :فقلت والله يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها
ثوبا ،قال :فسكت رسول الله ،وتركني حتى إذا كان من الغد لقيني
رسول الله في السوق فقال لي» :يا سلمة هب لي المرأة« قال:
فقلت :والله يا رسول الله ما كشفت لها ثوبا وهي لك يا رسول
وفي أيديهم أسارى الله ،قال :فبعث بها رسول الله إلى أهل مكة
من المسلمين ففداهم رسول الله بتلك المرأة ).(4
سا :في عمرة القضاء وفي ذات السلسل: ساد ً
أ -في عمرة القضاء:
كان الصديق ضمن المسلمين الذين ذهبوا مع رسول الله ×
ليعتمروا عمرة القضاء مكان عمرتهم التي صدهم المشركون عنها
).(5
ب -في سرية ذات السلسل:
قال رافع بن عمرو الطائي :بعث رسول الله × عمرو بن
)( الطبقات الكبرى ،1/124 :وأبو داود ،كتاب الجهاد ،باب في البيات.3/43 : 3
)( أحمد4/430 :؛ الطبقات (4) .4/164 :تاريخ الدعوة السلمية.142 : 4
5
61
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
العاص على جيش ذات السلسل )(2)،(1وبعث معه في ذلك الجيش أبا
سَراة أصحابه ،فانطلقوا حتى نزلوا بكر وعمر -رضي الله عنهما -و َ
رجل(3دليل بالطريق ،فقالوا :ما إلى ي ،فقال عمرو :انظروا جبل ط َ ّ
نعلمه إل رافع بن عمرو ،فإنه كان ربيل ) في الجاهلية ،قال رافع:
المكان الذي كنا خرجنا منه ،توسمت فلما قضينا غزاتنا وانتهيت إلى
خّلها عليه بخلل )،(5 أبا بكر ،وكانت له عباءة فدكية ) ،(4فإذا ركب َ
وإذا نزل بسطها ،فأتيته فقلت :يا صاحب الخلل ،إني توسمتك من
ي
بين أصحابك ،فائتني بشيء إذا حفظته كنت مثلكم ول تطول عل ّ
فأنسى ،فقال :تحفظ أصابعك الخمس؟ قلت :نعم ،قال :تشهد أن ل
إله إل الله وأن محمدًا عبده ورسوله ،وتقيم الصلوات الخمس،
وتؤتي زكاة مالك إن كان لك مال ،وتحج البيت ،وتصوم رمضان :هل
ن على اثنين ،قلت :وهل مر ّ حفظت؟ قلت :نعم ،قال :وأخرى ،ل يؤ ّ
تكون المرة إل فيكم أهل المدر؟ ) (6فقال :يوشك أن تفشو حتى
تبلغك ومن هو دونك ،إن الله -عز وجل -لما بعث نبيه × دخل الناس
في السلم ،فمنهم من دخل لله فهداه الله ،ومنهم من أكرهه
فارةُ ) (7الله ،إن الرجل إذا خ َ
واذ الله وجيران الله و َ السيف ،فكلهم عُ ّ
من بعض انتقم الله لبعضهم يأخذ فلم بينهم الناس كان أميرًا فتظالم
شاة جاره فيظل ناتئ ) (8عضلته غضبًا لتؤخذ منكم منه ،إن الرجل
لجاره ،والله من وراء جاره ).(9
ففي هذه النصيحة دروس وعبر لبناء المسلمين يقدمها الصحابي
الجليل أبو بكر الصديق الذي تربى على السلم وعلى يد رسول الله
× ،من أهمها:
-1أهمية العبادات :الصلة لنها عماد الدين ،والزكاة والصوم
والحج.
-2عدم طلب المارة »ول تكونن أميرًا« تمامًا كما أوصى رسول
»وإنها أمانة ،وإنها يوم القيامة خزي وندامة، الله × أبا ذر الغفاري:
إل من أخذها بحقها« (10).ولذلك فإن أبا بكر الفاهم الواعي لكلم
حبيبه محمد × جاء في رواية :وأنه من يك أميرًا فإنه أطول الناس
ومن ل يكن أميرًا فإنه من أيسر الناس حسابا ،وأغلظهم عذابًا، ً
حساًبا ،وأهونهم عذابًا (11).فهذا فهم الصديق لمقام المارة.
-3إن الله حرم الظلم على نفسه ،ونهى عباده أن يتظالموا -أن
كما(12نهى عن بعضا -لن الظلم ظلمات يوم القيامة، ً يظلم بعضهم
ظلم المؤمنين» :من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب« ).وهم
)( ذات السلسل :مكان وراء وادي القرى وبينها وبين المدينة عشرة أيام. 1
) (3الربيل :اللص يغزو وحده وي ُِغير على )( سراة :شرفاء أصحابه. 2
غيره. 3
)( منسوبة إلى فدك ،وهي قرية من خيبر بينها وبين المدينة ست ليال. 4
)( خلها عليه بخلل :أي جمع بين طرفيها بخلل من عود أو حديد. 5
)( المدر :الطين اللزج المتماسك ،والمقصود سكان البيوت المبنية. 6
) (8الناتئ :المرتفع والمنتفخ. )( الخفارة :الذمة والعهد والمان. 7
8
)( العضلة :هي القطعة من اللحم الشديد ،انظر :مجمع الزوائد.5/202 : 9
) (3مسند أحمد: )( استخلف أبي بكر الصديق ،جمال عبد الهادي.139 : 11
.6/256 12
62
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
جيران الله ،وهم عواذ الله ،والله أحق أن يغضب لجيرانه.
-4على عهد الصدر الول كان أمراء المة خيارها ،وجاء وقت
شوّ أمرها »المارة« وكثرت حتى نالها من ليس لها بأهل .إن هذه فُ ُ
المارة ليسيرة ،وقد أوشكت أن تفشو حتى ينالها من ليس لها
بأهل).(2
-5وفي غزوة ذات السلسل ظهر موقف متميز للصديق في
على احترام المراء ،مما يثبت أن أبا بكر كان صاحب نفس تنطوي
قوة هائلة ،وقدرة متميزة في بناء الرجال ،وتقديرهم واحترامهم )،(3
فعن عبد الله بن بريدة قال :بعث رسول الله × عمرو بن العاص
في غزوة ذات السلسل وفيهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-
فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن ل ينوروا نارا ،فغضب
أن( الرسول × لم يستعمله م أن يأتيه ،فنهاه أبو بكر ،وأخبره
عمر وه ّ
عليك إل لعلمه بالحرب ،فهدأ عنه عمر . 4)
سابًعا :في فتح مكة وحنين والطائف:
أ -في فتح مكة 8هـ:
وسبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكر ابن إسحاق قال :حدثني
الزهري ,عن عروة بن الزبير ,عن المسور بن مخرمة ,ومروان بن
الحكم أنهما حدثاه جميًعا قال :في صلح الحديبية أنه من شاء أن
يدخل في عقد محمد دخل ,ومن شاء أن يدخل في عقد قريش
وعهدهم دخل ,فتواثبت خزاعة وقالوا :نحن ندخل في عقد محمد
وعهده ,وتواثبت بنو بكر وقالوا :نحن ندخل في عقد قريش
وعهدهم ,فمكثوا في ذلك نحو السبعة أو الثمانية عشر شهًرا ,ثم إن
بني بكر وثبوا على خزاعة ليل ً بماء يقال له الوتير –وهو قريب من
مكة -وقالت قريش ما يعلم بنا محمد ,وهذا الليل وما يرانا من أحد
فأعانوهم عليهم بالكراع والسلح وقاتلوهم معهم للضغن على
رسول الله × ,فقدم عمرو بن سالم إلى المدينة فأنشد رسول الله
× قائ ً
ل:
حلف أبينا وأبيك التلدا اللهم إني ناشد محمدا
وادع عباد الله يأتوا مددا فانصر هداك الله نصرا
أعتدا
فقال النبي ×» :نصرت يا عمرو بن سالم« ).(5
وتجهز النبي × مع صحابته للخروج إلى مكة ،وكتم الخبر ،ودعا
الله أن يعمي على قريش حتى تفاجأ بالجيش المسلم يفتح مكة،
)( استخلف أبي بكر ،جمال عبد الهادي.140 : 1
2
)( الحاكم في المستدرك ،وقال :حديث صحيح السناد ولم يخرجاه ،وقال 4
63
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وخافت قريش أن يعلم النبي × بما حدث ،فخرج أبو سفيان من
مكة إلى رسول الله فقال :يا محمد ،أشدد العقد ،وزدنا في المدة،
فقال النبي ×» :ولذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم؟« فقال:
معاذ الله ،نحن على عهدنا وصلحنا يوم الدية ل نغير ول نبدل ،فخرج
من عند النبي × يقصد مقابلة الصحابة
عليهم الرضوان ).(1
-1أبو بكر وأبو سفيان:
طلب أبو سفيان من أبي بكر أن يجدد العقد ويزيدهم في
المدة ،فقال أبو بكر :جواري في جوار رسول الله × ،والله لو
وجدت الذر تقاتلكم لعنتها عليكم .وهنا تظهر فطنة الصديق وحنكته
السياسية ثم يظهر اليمان القوي بالحق الذي هو عليه ،ويعلن أمام
أبي سفيان دون خوف أنه مستعد لحرب قريش بكل ما يمكن ،ولو
وجد الذر تقاتل قريشًا لعانها عليها ).(2
-2بين عائشة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما:
دخل الصديق على عائشة وهي تغربل حنطة ،وقد أمرها
النبي × بأن تخفي ذلك ..فقال لها أبو بكر :يا بنية لم تصنعين هذا
الطعام؟ فسكتت ،فقال :أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت ،فقال:
لعله يريد بني الصفر )أي الروم( فصمتت ،فقال :لعله يريد قريشا،
فصمتت ،فدخل رسول الله × فقال الصديق له :يا رسول الله،
أتريد أن تخرج مخرجًا؟ قال» :نعم« قال :لعلك تريد بني الصفر؟
قال» :ل« قال :أتريد أهل نجد؟ قال» :ل« ،قال :فلعلك تريد
قريشا؟ قال» :نعم« ،قال أبو بكر :يا رسول الله ،أليس بينك وبينهمً
مدة؟ قال» :ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب؟«.
وهنا سلم أبو بكر للنبي × وجهز نفسه ليكون مع القائد × في
وذهب مع رسول الله × المهاجرون والنصار )(3
هذه المهمة الكبرى،
فلم يتخلف منهم أحد.
-3الصديق في دخول مكة:
لما دخل النبي × مكة في عام الفتح وكان بجانبه أبو بكر رأى
النساء يلطمن وجوه الخيل ،فابتسم إلى أبي بكر وقال» :يا أبا
بكر كيف قال حسان؟« فأنشد أبو بكر:
داُء َ
تثير النقع موعدها ك َ مَنا خيلنا إن لم تروها
عَدِ ْ
ل الظماء عن أكتافها الس ُ ن السنة مصغيات يباري َ
)(4
ن بال ْ ُ
خمرِ النساُء تلطمهُ ّ ت تظل جيادنا متم ّ
طرا ٍ ّ
)( التاريخ السياسي والعسكري ،د .علي معطي :ص ،365الطبري.3/43 : 1
64
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فقال النبي ×» :ادخلوها من حيث قال حسان« ) ،(1وقد
النعمة على الصديق في هذا الجو العظيم بإسلم أبيه أبي تمت
قحافة ).(2
ب -في حنين:
أخذ المسلمون يوم حنين درسًا قاسيًا؛ إذ لحقتهم هزيمة في أول
المعركة جعلتهم يفرون من هول المفاجأة ،وكانوا كما قال المام
الطبري :فانشمروا ل يلوي أحد على أحد (3).وجعل رسول الله ×
ي ،أنا رسول الله ،أنا رسول الله، يقول» :أين أيها الناس؟ هلموا إل ّ
أنا محمد بن عبد الله ،يا معشر النصار أنا عبد الله ورسوله« ثم
نادى عمه العباس وكان جهوري الصوت ،فقال له» :يا عباس ناد:
يا معشر النصار ،يا أصحاب السمرة« (4) .كان هذا هو حال
المسلمين في أول المعركة ،النبي وحده لم يثبت معه أحد إل
قلة ،ولم تكن الفئة التي صبرت مع النبي إل فئة من الصحابة
عزيز ا مؤزرًا.
ً يتقدمهم الصديق ، ثم نصرهم الله بعد ذلك نصرً ا
)(5
)( نفس المصدر السابق ،3/72 :الطبري (4) .3/42 :تاريخ الدعوة السلمية: 1
ص .147 2
)( مسلم :كتاب الجهاد والسير ،باب في غزوة حنين ،رقم.1775 : 4
لعجزه وضعفه.
)( يدع :يترك. 7
65
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
في السلم).(1
إن مبادرة الصديق في الزجر والردع والفتوى واليمين على ذلك في
حضور رسول الله × ،ثم يصدقه الرسول فيما قال ،ويحكم بقوله
خصوصية شرف ,لم تكن لحد غيره (2).ونلحظ في الخبر السابق أن
أبا قتادة النصاري حرص على سلمة أخيه المسلم وقتل ذلك
الكافر بعد جهد عظيم ،كما أن موقف الصديق فيه دللة على
حرصه على إحقاق الحق والدفاع عنه ،ودليل على رسوخ إيمانه
يقينه (،وتقديره لرابطة الخوة السلمية ،وأنها بمنزلة رفيعة وعمق
بالنسبة له ). 3
-2الصديق وشعر عباس بن مرداس:
حين استقل العباس بن مرداس عطاءه من غنائم حنين ،قال
شعرا عاتب فيه رسول الله × حيث قال:
ب ِك َّري على المهر في الجرع كانت نهابا تلفيتها
إذا هجع الناس لم أهجع وإيقاظي القوم أن يرقدوا
)(4
بين عيينة والقرع فأصبح نهبي ونهب العبيد
فلم ُأعط شيئا ولم أمنع وقد كنت في الحرب ذا ُتدرأ
)(5
عديد قوائمها الربع إل أفائل أعطيتها
يفوقان شيخي في المجمع وما كان حصن ول حابس
)(6
ومن تضع اليوم ل ي ُْرفَِع وما كنت دون امرئ منهما
فأعطوه فقال رسول الله ×» :اذهبوا به ،فأقطعوا عني لسانه«،
ضي ،فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله × ).(7 حتى َر ِ
وأتى العباس رسول الله × ،فقال له رسول الله × :أنت القائل:
»فأصبح نهبي ونهب العبيد بين القرع وعيينة«؟ فقال أبو بكر :بين
عيينة والقرع ،فقال رسول الله ×» :هما واحد« ،فقال أبو بكر:
غي ما َينب َ ِو َ
عَر َ
ش ْ عل ّ ْ
مَناهُ ال ّ ما َ
و ََأشهد أنك كما قال الله تعالىَ + :
و إ ِل ّ ِذك ٌْر َ
و ُ
)(8
ن" ]يس. [69 : مِبي ٌ
ن ّ
قْرآ ٌ ه َ
ن ُ ه إِ ْ
ل ُ
ج -في الطائف:
)( الرياض النضرة في مناقب العشرة ،لبي جعفر محب الدين.185 ، 2
66
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( السيرة النبوية لبن هشام (4) .4/193 :تاريخ الدعوة السلمية.125 : 2
3
) (7عقبته :جذبته من عقبه. )( رشته :صنعت فيه الريش. 5
6
)( خطب أبي بكر الصديق ،محمد أحمد عاشور ،118 :والرواية فيها انقطاع. 7
) (2صحيح السيرة النبوية.598 : )( صفة الصفوة.1/243 : 8
67
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وأبو بكر وعمر ،وإذا عبد الله ذو البجادين أنظر إليها ،فإذا رسول الله ×
المزني قد مات ،وإذا هم قد حفروا له ،ورسول الله في حضرته ،وأبو
بكر وعمر يدليانه إليه ،وهو يقول» :أدليا إلي ّ أخاكما«،فدلياه إليه ،فلما
عنه«(1.قال هيأه بشقه قال»:اللهم إني أمسيت راضيا ً عنه فارض
الراوي )عبد الله بن مسعود( :يا ليتني كنت صاحب الحفرة ) .
بسم الله ،وعلى وكان الصديق × إذا دخل الميت اللحد قال:
ملة رسول الله × ،وباليقين وبالبعث بعد الموت ).(2
2-طلب الصديق من رسول الله ×الدعاء للمسلمين :قال
منزل وأصابناً عمر بن الخطاب :خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد ،فنزلنا
فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع ،حتى إن الرجل لينحر بعيره
فيعتصر فرثه فيشربه ،ثم يجعل ما بقي على كبده ،فقال أبو بكر
خيرا ،فادع الله، ً الصديق :يا رسول الله ،إن الله قد عودك في الدعاء
؟« ،قال :نعم ،فرفع يديه فلم يردهما حتى قالت قال» :أتحب ذلك
ثم ا-ً خفيف امطر
ً أنزلت أي: -فأطلت- مائها لنزال السماء أي :تهيأت
سكبت ،فملوا ما معهم ،ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر).(3
-3نفقة الصديق في تبوك :حث رسول الله × الصحابة في
غزوة تبوك على النفاق بسبب بعدها وكثرة المشركين فيها ،ووعد
وكان ل حسب مقدرته، المنفقين بالجر العظيم من الله ،فأنفق ك ّ
عثمان صاحب القدح المعلى في النفاق في هذه الغزوة ).(4
وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبا بكر
بذلك ،ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال :أمرنا رسول
الله × يومًا أن نتصدق ،فوافق ذلك مالً عندي ،فقلت :اليوم أسبق
أبا بكر إن سبقته يومًا ،فجئت بنصف مالي ،فقال رسول الله ×:
»ما أبقيت لهلك؟« قلت :مثله .وأتى أبو بكر بكل ما عنده ،فقال
لهلك؟« قال :أبقيت لهم الله ورسوله، )(5
له رسول الله ×» :ما أبقيت
أبدا.
قلت :ل أسابقك إلى شيء ً
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحًا ،ولكن
ل من المنافسة مطلقا ول ينظر الصديق أفضل منه؛ لنه خا ٍ حال
إلى غيره ).(6
ب -الصديق أمير الحج 9هـ :كانت تربية المجتمع وبناء
الدولة في عصر النبي × مستمرة على جميع الصعدة والمجالت
العقائدية والقتصادية والجتماعية ،والسياسية والعسكرية
والتعبدية ،وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية،
وحجة عام 8هـ بعد الفتح كلف بها عتاب بن أسيد ،ولم تكن قد
تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين ) ، (7فلما حل موسم
ج × ولكنه قال» :إنه يحضر البيت عراة مشركون الحج أراد الح َ
1
مصنف عبد الرزاق ،3/497 :نقل عن موسوعة فقه الصديق.222 : )( 2
ابن حبان ،كتاب الجهاد ،باب غزوة تبوك.1707 : )( 3
سنن أبي داود ،كتاب الزكاة ،رقم ،1678 :وحسنه اللباني. )( 5
68
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
يطوفون بالبيت ،فل أحب أن أحج حتى ل يكون ذلك« ،فأرسل النبي
× الصديق أميرً ا على الحج سنة تسع من الهجرة ،فخرج أبو بكر
عليا
ً الصديق بركب الحجيج ،ونزلت سورة براءة فدعا النبي ×
، وأمره أن يلحق بأبي بكر × ،فخرج على ناقة رسول الله ×
العضباء حتى أدرك الصديق أبا بكر بذي حليفة ،فلما رآه الصديق
قال له :أمير أم مأمور؟ فقال :بل مأمور ،ثم سار ،فأقام أبو بكر
للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية ،وكان
الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات
الصحيحة ،ل في شهر ذي القعدة كما قيل ،وقد خطب الصديق
قبل التروية ،ويوم عرفة ،ويوم النحر ،ويوم النفر الول فكان
يعرف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم ،ونحرهم ،ونفرهم،
ورميهم للجمرات ...إلخ .وعلي بن أبي طالب يخلفه في كل
موقف من هذه المواقف فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ،ثم
ينادي في الناس بهذه المور الربعة» :ل يدخل الجنة إل مؤمن،
ول يطوف بالبيت عريان ،ومن كان بينه وبين رسول الله عهد
فعهده إلى مدته ،ول يحج بعد العام مشرك« ) .(1وقد أمر الصديق
رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب أبا هريرة في
في إنجاز مهمته ).(2
عليا بإعلن نقض العهود على مسامع ً وفد كلف النبي ×
المشركين في موسم الحج ،مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما
بينهم من عقد العهود ونقضها أن ل يتولى ذلك إل سيد القبيلة أو
رجل من رهطه ،وهذا العرف ليس فيه منافاة للسلم ،فلذلك تدارك
النبي × المر وأرسل عليّا بذلك ،فهذا هو السبب في تكليف علي
بتبليغ صدر سورة براءة ،ل ما زعمته الرافضة من أن ذلك
للشارة إلى أن علّيا أحق بالخلفة من أبي بكر ،وقد علق على
ذلك الدكتور محمد أبو شهبة فقال :ول أدري كيف غفلوا عن قول
له(4:أمير أم مأمور؟ ) (3وكيف يكون المأمور أحق بالخلفة الصديق
من المير ) .
وقد)(5كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة
الوداع .لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الصنام قد انقضى،
وأن مرحلة جديدة قد بدأت ،وما على الناس إل أن يستجيبوا لشرع
الله تعالى ،فبعد هذا العلن الذي انتشر بين قبائل العرب في
انقضى الجزيرة ،أيقنت تلك القبائل أن المر جد ،وأن عهد الوثنية قد
فعل ،فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلمها ودخلوها في التوحيد ).(6 ً
ج -في حجة الوداع:روى المام أحمد بسنده إلى عبد الله بن
بكر قالت :خرجنا مع رسول الله × الزبير عن أبيه أن أسماء بنت أبي
× فجلست عائشة حجاج حتى إذا أدركنا )العرج( )(7نزل رسول الله ،
اً ،
وزمالة أبي بكر مع غلم لبي بكر فجل س أبو بكر ينتظر أن النبي ×
، جنب
يطلع عليه ،فطلع ولي س معه بعيره!! فقال :أين بعيرك؟ فقال :أضللته
)( صحيح السيرة النبوية.625 : 1
)( السيرة النبوية لبي شهبة (3) .2/537 :صحيح السيرة النبوية.524 : 2
3
)( العرج :واد فحل من أودية الحجاز التهامية ،معجم المعالم الجغرافية.202 : 7
69
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
يضربه ورسول الله يبتسم البارحة! فقال أبو بكر :بعير واحد تضله! فطفق
ويقول» :انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع« ).(8
***
70
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الخامس
الصديق في المجتمع المدني
وبعض صفاته وشيء من فضائله
تمهيد:
كانت حياة الصديق في المجتمع المدني مليئة بالدروس والعبر،
وتركت لنا نموذجًا حّيا لفهم السلم وتطبيقه في دنيا الناس ،وقد
تميزت شخصية الصديق بصفات عظيمة ومدحه رسول الله × في
أحاديث كثيرة ،وبّين فضله وتقدمه على كثير من الصحابة رضي الله
عنهم أجمعين.
أول :من مواقفه في المجتمع المدني:
-1موقفه من )فنحاص( الحبر اليهودي:
واحد من ك ُّتاب السير والمفسرين أن أبا بكر دخل ذكر غير
بيت المدراس ) (1على يهود ،فوجد منهم ناسا قد اجتمعوا إلى رجل
وكان من علمائهم وأحبارهم ،ومعه حبر من منهم يقال له فنحاص،
أحبارهم ،يقال له أشيع ) ،(2فقال أبو بكر لفنحاص :ويحك! اتق الله
وأسلم ،فوالله إنك تعلم أن محمدًا لرسول الله ،قد جاءكم بالحق
من عنده ،تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والنجيل .فقال فنحاص
لبي بكر :والله يا أبا بكر ،ما بنا إلى الله من فقر ،وإنه إلينا لفقير،
وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ،وإنا عنه لغنياء وما هو عنا بغني،
ولو كان عنا غنيًا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ،ينهاكم عن
غنيا ما أعطانا الربا .فغضب أبو بكر، الربا ويعطيناه ،ولو كان عنا ً
ضربا شديدًا ،وقال :والذي نفسي بيده لول ً فضرب وجه فنحاص
العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله .فذهب فنحاص
إلى رسول الله × ،فقال :يا محمد ،انظر ما صنع بي صاحبك ،فقال
رسول الله × لبي بكر» :ما حملك على ما صنعت؟« فقال أبو بكر:
عظيما ،إنه يزعم أن الله فقير ً قول
ً يا رسول الله ،إن عدو الله قال
وأنهم أغنياء ،فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ،وضربت وجهه،
فجحد ذلك فنحاص وقال :ما قلت ذلك ،فأنزل الله تعالى فيما قال
ن
ذي َ ل ال ّ ِ و َ ق ْه َ ع الل ُ م َ س ِقد ْ َ فنحاص رّدا عليه وتصديقًا لبي بكر+ :ل َ َ
مُ ُه َ لْ تقَ و
َ لوا ُ َ
قا ما ُْ َ ب ُ ت ْ ك َ ن س غن َِياءُ َ ن أَ ْ ح ُ ون َ ْ قيٌر َ ف ِ ه َ ن الل َ قا َُلوا إ ِ ّ َ
ق" ]آل عمران: ري
َ ِ ِ ح ل ا ب َ ذا َ ع
َ قوا ُ ذو ُ ُ
ل قو ُ َ ن و ق
ِ ْ ِ َ ّ َ ح ر يغَ ب َ ء ياِ َ بْ ن ل ا
.[181
)(3
بلغه في ذلك من الغضب الصديق ،وما ونزل في أبي بكر
ن
م َ ن ِ ع ّ م َُ س َول َت َ ْ سك ُ َْ
م ف ِ وأ َن ْ ُ م وال ِك ُ م في أ َ ن ِ و ّ تعالى+ :ل َ ْت ُب ْل َ ُ
َ ّ َ ْ َ ْ قولهن ُ
ذى كوا أ ً شَر ُ
عْزم ال ُ
نأ ْ َ ذيِ ل ا ن
َ م
ِ و
َ م ْ ُ ك ِ ل ْ ب َ
ق من ِ بَ تاَ ِ ك ل ا توا ُ أو ذي َ ال ّ ِ
ر" ]آل ُ ِمو ِ ْ َ ِ ن م كَ ل
ِ ّ َِ ذ ن إ َ
ف قوا ُ ت ت
َ َ ّ و روا ب
َ ْ ِ ُ ص ت إن كَ ِ ً َ ِ
و را ثي
) (2الفتح ،9/81 :الطبقات الكبرى: )( تفسير القرطبي.4/295 : 3
.8/82
71
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عمران.[186 :
-2حفظ سر النبي ×:
قال عمر بن الخطاب :تأيمت حفصة من خنيس بن حذافة،
بدر ا ،فلقيت عثمان بن عفان فقلت :إن شئت ً وكان ممن شهد
أنكحتك حفصة ،فقال :أنظر ،ثم لقيني فقال :قد بدا لي أن ل
أتزوج يومي هذا ،فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فصمت ،فكنت
عليه أوجد مني على عثمان ،فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله
ي حين× فأنكحتها إياه ،ثم لقيني أبو بكر فقال :لعلك وجدت عل ّ
لم أرجع إليك؟ فقلت :أجل ،فقال :إنه لم يمنعني أن أرجع إليك
إل أني علمت أن رسول الله × )(1قد ذكرها ،فلم أكن لفشي سر
رسول الله × ولو تركها لنكحتها .
-3الصديق وآية صلة الجمعة:
قال جابر بن عبد الله :بينما النبي ×يخطب يوم الجمعة ،وقدمت
لم يبق معه إل اثنا َ الله ×حتى َ عير المدينة ،فابتدرها أصحاب رسول
ضوا َ
ف ن ا وا
ْ ْ ً ْ ّ ه َ ل و أ ً ةرذا َ ْ ِ َ َ
جا ت وا أ ر وإ ِ َ
عشر رجلُ ،فنزلت هذه اليةَ + :
ن مو و
ْ ِ َ ِ َه ّ ل ال ن م ر
ِ ْ ٌ ّ َي خ
َ ه الل ما ِ ْ َ
د ن ع ق ْ
ل َ ما ُقائ ِ ًك َوت ََركو َ ها َإ ِل َي ْ َ
ن" قي ز
ّ ِ ِ َرا ال ر ي
ُ ْ ُخ
َ هوالل الت ّ َ َ ِ َ
ة ر جا
وقال :في الثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله × أبو [11]الجمعة، :
بكر وعمر ).(2
-4رسول الله × ينفي الخيلء عن أبي بكر:
قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما :-قال رسول الله ×:
»من جر ثوبه خيلء لم ينظر الله إليه يوم القيامة« .فقال أبو بكر:
أتعاهد ذلك منه ،فقال رسول الله ×: إن أحد شقي يسترخي إل أن
»إنك لست تصنع ذلك خيلء« ).(3
-5الصديق وتحريه الحلل:
عن قيس ابن أبي حازم قال :كان لبي بكر غلم ،فكان إذا جاء
بغلته لم يأكل من غلته حتى يسأل ،فإن كان شيًئا مما يحب أكل،
وإن كان شيًئا يكره لم يأكل ،قال :فنسي ليلة فأكل ولم يسأله ،ثم
سأله(4فأخبره أنه من شيء كرهه ،فأدخل يده فتقيأ حتى لم يترك
شيًئا) .
فهذا مثال على ورع أبي بكر ؛ حيث كان يتحرى الحلل في
مطعمه ومشربه ،ويتجنب الشبهات ،وهذه الخصلة تدل على بلوغه
المطعم والمشرب عليا في التقوى .ول يخفى أهمية طيب درجات ُ
والملبس في الدين ،وعلقة ذلك بإجابة الدعاء ) ،(5كما في حديث
الشعث الغبر وفيه» :يمد يديه إلى السماء :يا رب يا رب ومطعمه
غذي بالحرام ،فأنى ُيستجابحرام ،ومشربه حرام ،وملبسه حرام ،و ُ
1
الحسان في تقريب صحيح ابن حبان .15/300 :مسلم ،رقم.863 : )( 2
التاريخ السلمي للحميدي (3) .19/13 :مسلم ،رقم.1015 : )( 5
72
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
لذلك« ).(1
-6أدخلني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما:
دخل أبو بكر الصديق على النبي × فسمع صوت ابنته عائشة
عالًيا ،فلما اقترب منها تناولها ليلطمها وقال :أراك ترفعين صوتك
على رسول الله ،فجعل رسول الله يحجزه ،وخرج أبو بكر مغضًبا،
فقال النبي × لعائشة حين خرج أبي بكر» :أرأيت كيف أنقذتك من
ما ثم استأذن على رسول الله فوجدهما الرجل؟« ،فمكث أبو بكر أيا ً
قد اصطلحا ،فقال لهما :أدخلني في)(2سلمكما ،كما أدخلتماني في
حربكما ،فقال النبي ×» :قد فعلنا« .
-7أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
دخل أبو بكر على عائشة -رضي الله عنها -في أيام العيد،
وعندها جاريتان من جواري النصار تغنيان ،فقال أبو بكر :
أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ×؟ وكان رسول الله ×
الكريم إلى الحائط ،فقال» :يا أبا ضا بوجهه عنهما ،مقبل ً بوجهه
معر ً
دا ،وهذا عيدنا« ).(3
ً عي قوم لكل إن بكر،
ففي الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي × وأصحابه
الجتماع عليه ،ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان ،والنبي × أقر
الجواري عليه معلل ً ذلك بأنه يوم
كما جاء في
)(4
العياد، في اللعب عيد ،والصغار يرخص لهم في
الحديث» :ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة«.
وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة
استمع إلى ذلك، يلعبن معها ،وليس في حديث الجاريتين أن النبي ×
والمر والنهي إنما يتعلق بالستماع ل بمجرد السماع (5).ومن هذا
كالجاريتين نفهم أنه يرخص لمن صلح له اللعب أن يلعب في العياد،
الصغيرتين من النصار اللتين تغنيان في العيد في بيت عائشة ).(6
-8إكرامه للضيوف:
قال عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما :-أن أصحاب
سا فقراء ،وأن رسول الله × قال مرة :من كان الصفة كانوا أنا ً
عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ،ومن كان عنده طعام أربعة
فليذهب بخامس ،وإن أبا بكر جاء بثلث ...وإن أبا بكر تعشى عند
رسول الله × فجاء بعد أن مضى من الليل ما شاء الله تعالى ،قالت
له امرأته :ما حبسك عن أضيافك؟ أو قالت :عن ضيفك ،قال :وما
وقد عرضوا عليهم فغلبوهم .قال: عشيتهم؟ قالت :أبوا حتى تجيء،
فذهبت أنا فاختبأت ،فقال :يا غنثر ) (7فجدع وسب ،وقال :كلوا هنيًئا
دا ،وحلف الضيف أن ل يطعمه حتى يطعم أبو وقال :والله ل أطعم أب ً 1
)( أبو داود ،رقم ،4999 :ضعفه اللباني في ضعيف سنن أبي داود .سيرة 2
)( الفتاوى ،11/308 :مسند أحمد 233 ،6/16 :عن عائشة. 4
73
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بكر ،فقال أبو بكر :هذه من الشيطان ،قال :فدعا بالطعام فأكل،
فقال :وايم الله ما كنا نأخذ لقمة إل َرَبا من أسفلها أكثر منها ،فقال:
حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك ،فنظر إليها فإذا هي
كما هي وأكثر ،فقال لمرأته :يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت :ل
وقرة عيني هي الن لكثر منها قبل ذلك بثلث مرات ،فأكل أبو بكر
وقال :إنما كان ذلك من الشيطان -يعني يمينه -ثم أكل منها لقمة ثم
حملها إلى رسول الله × فأصبحت عنده ،وكان بيننا وبين القوم عقد
واحد منهم أناس الله فمضى الجل فتفرقنا اثني عشر رجل ،مع كل
أعلم كم مع كل رجل منهم فأكلوا منها أجمعين ).(1
وفي هذه القصة دروس وعبر ،منها:
أ -حرص الصديق على تطبيق اليات القرآنية والحاديث النبوية
مه ْ قّرب َ ُ َ
ف َ
تحث ْعلى إكرام الضيف ،مثل قوله تعالىَ + :
ه إ ِلي ْ ِ ل أ َل َ ت َأك ُ ُ
َ
التي
َ
وقول الرسول ×» :من كان يؤمن . ن" ]الذاريات[27 :َ لو قا
بالله واليوم الخر ،فليكرم ضيفه« ).(2
ب -وفي هذه القصة كرامة للصديق؛ حيث جعل ل يأكل لقمة إل
َرَبا من أسفلها أكثر منها فشبعوا ،وصارت أكثر مما هي قبل ذلك،
فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت ،فرفعها إلى
رسول الله × ،وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا (3).وهذه
الكرامة حصلت ببركة اتباع الصديق لرسول الله × في جميع
أحواله ،وهي تدل على مقام الولية للصديق ،فأولياء الله هم
المقتدون بمحمد × ،فيفعلون ما أمر به وينتهون عما زجر ،ويقتدون
به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه ،فيؤيدهم بملئكته وروح منه ،ويقذف
من أنواره ،ولهم الكرامات التي يكرم الله بها الله في قلوبهم
أولياءه المتقين ).(4
ج -تقول السيدة عائشة -رضي الله عنها :-إن أبا بكر لم يحنث
في يمين قط حتى أنزل الله كفارة اليمين ،فقال :ل أحلف على
فرأيت غيرها خيًرا منها إل أتيت الذي هو خير وكفرت عن )(5
يمين
فكان(6إذا حلف على شيء ورأى غيره خيًرا منه كفر وأتى يميني.
الذي هو خير ).وفي هذه القصة ما يدل على ذلك؛ حيث ترك يمينه
ما(7لضيوفه الولى إكرا ً
وأكل معهم ) .
-9ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر:
قالت عائشة -رضي الله عنها :-خرجنا مع رسول الله × في
بعض أسفاره ،حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي،
فأقام رسول الله × على التماسه ،وأقام الناس معه ،وليس على
ماء وليس معهم ماء ،فأتى الناس أبا بكر فقالوا :أل ترى ما صنعت
)( مسلم ،كتاب الشربة ،رقم.2057 : 1
)( سنن البيهقي ،10/34 :نقل عن موسوعة )فقه أبي بكر(.240 : 5
)( مصنف ابن أبي شيبة ،1/158 :نقل عن موسوعة فقه أبي بكر.240 : 6
74
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عائشة؟ أقامت برسول الله × وبالناس معه وليسوا على ماء وليس
معهم ماء ،فجاء أبو بكر ورسول الله × واضع رأسه على فخذي قد
نام ،فقال :حبست رسول الله × والناس ،وليسوا على ماء وليس
معهم ماء ،قلت :فعاتبني وقال ما شاء الله أن يقول ،وجعل يطعنني
بيده في خاصرتي فل يمنعني من التحرك إل مكان رسول الله ×
على فخذي ،فنام رسول الله × حتى أصبح على غير ماء ،فأنزل الله
دا طَي ًّبا" ]النساء .[43 :فقال أسيد بن عي ً ص ِ
موا َم ُ آية التيممَ + :
فت َي َ ّ
فقالت عائشة :فبعثنا بكر، أبي آل يا بركتكم بأول حضير :ما هي
البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته« ).(1
وفي هذه القصة يظهر حرص الصديق على التأدب مع رسوله،
وحساسيته الشديدة على أن ل يضايقه شيء ،ول يقبل ذلك ولو كان
من أقرب الناس وأحبهم إلى رسول الله × ،كعائشة رضي الله
قدوة (2للدعاة في الدب الجم مع النبي × ومع عنها ،فقد كان
نفسه ومع المسلمين ) .
ي × للصديق : -10انتصار النب ّ
لقد ثبت من الحاديث الصحيحة ما يدل على أن النبي × كان
ينتصر لبي بكر وينهى الناس عن معارضته؛ فعن أبي الدرداء
ثوبه(3حتى ذا بطرف سا مع النبي × إذ أقبل أبو بكر آخ ً قال :كنت جال ً
أبدى عن ركبته ،فقال النبي ×» :أما صاحبكم فقد غامر«) ،
فسلم ،وقال :يا رسول الله ،إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء
ي ،فأقبلت فأسرعت إليه ثم ندمت ،فسألته أن يغفر لي فأبى عل ّ
إليك ،فقال :يغفر الله لك يا أبا بكر ثلثا ،ثم إن عمر ندم فأتى منزل
أبي بكر فسأل :أثم أبو بكر؟ قالوا :ل .فأتى النبي × فسلم عليه،
فجعل وجه رسول الله × يتمعر ) ،(4حتى أشفق أبو بكر )) ((56فجثا على
ركبتيه ،فقال :يا رسول الله ،والله أنا كنت أظلم مرتين ،فقال
بعثني( إليكم فقلتم :كذبت ،وقال أبو بكر :صدق، النبي ×» :إن الله
بنفسه وماله)، 7فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟« مرتين .فما وواساني
أوذي بعدها).(8
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة ،منها :الطبيعة البشرية
للصحابة وما يحدث بينهم من خلف ،وسرعة رجوع المخطئ وطلب
المغفرة والصفح من أخيه ،وتواد الصحابة فيما بينهم ،ومكانة
الصديق الرفيعة عند رسول الله × ثم أصحابه ...إلخ.
-11قل :غفر الله لك يا أبا بكر.
قال ربيعة السلمي :كنت أخدم النبي × ...وذكر حديثًا ثم
أرضا،
ً قال :إن رسول الله × أعطاني بعد ذلك أرضًا وأعطى أبا بكر
البخاري رقم.3672 : )( 1
يتمعر :تذهب نضارته من الغضب (5) .أن يكون لعمر من الرسول ما يكره. )( 4
5
المراد به أن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء. )( 7
75
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة ،فقلت أنا :هي في حدي ،وقال
أبو بكر :هي في حدي ،فكان بيني وبين أبي بكر كلم ،فقال أبو بكر
كلمة كرهها ،وندم ،فقال أبو بكر :لتقولن أو لستعدين عليك رسول
الله × ،فقلت :ما أنا بفاعل ،قال :ورفض الرض ) ،(1وانطلق أبو بكر
إلى النبي × ،وانطلقت أتلوه ،فجاء ناس من أسلم فقالوا لي:
رحم الله أبا بكر ،في أي شيء يستعدي عليك رسول الله × وهو قد
قال لك ما قال؟ قلت :أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق ،هذا
ثاني اثنين ،وهذا ذو شيبة المسلمين ،إياكم ل يلتفت فيراكم
تنصروني عليه فيغضب ،فيأتي رسول الله × فيغضب لغضبه،
فيغضب الله -عز وجل -لغضبهما فيهلك ربيعة ،قال :ما تأمرنا؟ قال:
ارجعوا ،قال :فانطلق أبو بكر إلى رسول الله × فتتبعته وحدي
ي رأسه فقال :يا حتى أتى النبي × فحدثه الحديث كما كان ،فرفع إل ّ
ربيعة ،ما لك وللصديق؟ قلت :يا رسول الله ،كان كذا ..كان كذا،
قال لي كلمة كرهها فقال :قل لي كما قلت حتى يكون قصاصا
فأبيت ،فقال رسول الله ×» :أجل فل ترد عليه ،ولكن قل :غفر الله
غفر(2الله لك يا أبا بكر .قال الحسن البصري: لك يا أبا بكر« ،فقلت:
ولى أبو بكر وهو يبكي ) .
لله أي وجدان هذا الوجدان ،وأي نفس تلك النفس!! بادرة بدرت
تناهيا
ً ض إل اقتصاصه منها ،وصفحه عنها، منها لمسلم فلم تر َ
بالفضيلة ،واستمساكًا بالدب ،وشعورًا تمكن من الجوانح ،وأخذ
ما يتململ بمجامع القلوب ،فكانت عنده زلة اللسان -ولو صغيرة -أل ً
منه الضمير فل يستريح إل بالقصاص منه ،ورضا ذلك المسلم عنه
).(3
كانت كلمة هينة ،ولكنها أصابت من ربيعة موجعًا ..فإذا أبو بكر
يزلزل من أجلها ،ويأبى إل القصاص عليها ،مع أنه يومئذ كان الرجل
الثاني في السلم بعد رسول الله × ،وهي كلمة ل يمكن أن تكون
أخلقه لم تسمح بهذا ،ولم يؤثر عنه حتى من ُفحش القول ً
أبدا؛ لن
في الجاهلية شيء من هذا ).(4
لقد خشي الصديق مغبة تلك الكلمة ولهذا اشتكى لرسول الله،
وهذا أمر عجيب ،فإن أبا بكر قد نسي أرضه ونسي قضية الخلف،
وشغل باله أمر تلك الكلمة لن حقوق العباد ل بد فيها من عفو
صاحب الحق (5) .وفي هذا درس للشيوخ والعلماء الحكماء والدعاة
في كيفية معالجة الخطاء ومراعاة حقوق الناس وعدم الدوس عليها
بالرجل.
وقد استنكر قوم ربيعة أن يذهب أبو بكر يشتكي إلى رسول
الله × وهو الذي قال ما قال ،ولم يعلموا ما عمله أبو بكر من
لزوم إنهاء قضايا الخصومات ،وإزالة ما قد يعلق في القلوب من
الموجدة في الدنيا قبل أن يكتب ذلك في الصحف ويترتب عليه
الحساب يوم القيامة.
)( أي :فارق أبو بكر الرض. 1
) (3أشهر مشاهير السلم.1/88 : )( مسند أحمد.59 ،4/58 : 2
3
)( خلفاء الرسول ،خالد محمد خالد (2) .103 :التاريخ السلمي.19/16 : 4
5
76
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وبالرغم مما ظهر من رضا ربيعة وتوجيه النبي × إلى عدم الرد
على أبي بكر ،فإن أبا بكر قد بكى من خشية الله تعالى ،وهذا دليل
على قوة إيمانه ،ورسوخ يقينه.
وأخيرًا موقف يذكر لربيعة بن كعب السلمي ،حيث قام
بإجلل أبي بكر وأبى أن يرد عليه بالمثل ،هذا من تقدير أهل
الفضل)(1والتقدم والمعرفة بحقهم ،وهو دليل على قوة الدين ورجاحة
العقل .
-12مسابقته في الخيرات:
اتصف الصديق بالخلق الحميدة ،والصفات الرفيعة
ومسابقته في الخيرات حتى صار في الخير قدوة ،وفي مكارم
الخلق أسوة ،وكان حريصًا أشد الحرص على الخيرات ،فقد أيقن
أن ما يمكن أن يقوم به المرء اليوم قد يكون غير ممكن في الغد،
فاليوم عمل ول حساب ،وغدًا حساب ول عمل ،ولذلك كان من
المسارعين في الخيرات؛ فعن أبي هريرة قال رسول الله ×:
ما؟« قال أبو بكر :أنا .قال» :فمن تبع
»من أصبح منكم اليوم صائ ً
منكم اليوم جنازة؟« .قال أبو بكر :أنا .قال» :فمن أطعم منكم
اليوم مسكيًنا؟« .قال أبو بكر :أنا .قال» :فمن عاد منكم اليوم
بكر(2:أنا .فقال رسول الله ×» :ما اجتمعن في ضا؟« .قال أبو
مري ً
امرئ إل دخل الجنة« ) .
-13كظمه للغيظ:
قال أبو هريرة :إن رجلًشتم أبا بكر ورسول الله × جالس،
يعجب ويبتسم ،فلما أكثر الرجل رد عليه أبو بكر بعض فجعل النبي ×
وقام ،فلحقه أبو بكر وقال :يا رسول الله ،كانقوله ،فغضب النبي ×
يشتمني وأنت جالس ،فلما أكثر رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت!!
فقال عليه الصلة والسلم»:إنه كان معك ملك يرد عنك ،فلما رددت
عليه بعض قوله وقع الشيطان ،فلم أكن لقعد مع الشيطان« .ثم قال:
»يا أبا بكر ،ثلث كلهن حق :ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله
-عز وجل -إل أعز الله بها نصره ،وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة
كثرة ،وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إل زاده إل زاده الله بها
اتصف بكظم الغيظ ولكنه رد ما ظن أنه الله بها قلة« (3).إن الصديق
غبه النبي ×في الحلم والناة ،وأرشده إلىبه يسكت هذا الرجل ،فر ّ
ضرورة تحليه بالصبر في مواطن الغيظ ،فإن الحلم وكظم الغيظ مما
يزيد المرء ويجمله في أعين الناس ،ويرفع قدره عند الله تعالى.
ويتبين لنا كذلك من هذا الموقف حرص الصديق على عدم
إغضاب النبي × والمسارعة إلى إرضائه ،وفي ذم الغضب للنفس،
والنهي عنه والتحذير منه ،واعتزال النبياء للمجالس التي يحضرها
الشيطان ،وبيان الفضل للمظلوم الصابر المحتسب للجر والثواب،
وفيه حث على العطايا ،وصلة الرحام ،وذم للمسألة وأهلها.
)( الدر المنثور للسيوطي2/74 :؛ مجمع الزوائد ،8/190 :حديث مرسل. 3
77
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
78
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
خرج أبو بكر الصديق للتجارة إلى بصرى ببلد الشام في عهد
النبي × ،ما منعه حبه لملزمة النبي × من)(1الذهاب للتجارة ،ول منع
النبي × الصديق من ذلك مع شدة حبه له .وفي هذا أهمية أن
يكون للمسلم مصدر رزق يستغني به عن سؤال الناس ،بل ويساهم
بهذا الرزق في إغاثة الملهوف ،وفك العاني ،ويسارع في أبواب
النفاق التي
يحبها الله.
-16غيرة الصديق وتزكية النبي × لزوجه:
نفرا من بني هاشم دخلوا ً قال عبد الله بن عمرو بن العاص :إنّ
على أسماء بنت عميس ،فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ
فرآهم ،فكره ذلك ،فذكر ذلك لرسول الله ،فقال :إن الله تعالى قد
برأها من ذلك ،ثم قام رسول الله × على المنبر فقال» :ل يدخل
)(2
رجل بعد يومي هذا على مغيبة إل ومعه رجل أو اثنان«.
-17خوفه من الله تعالى:
عن أنس قال :خطبنا رسول الله ×خطبة ما سمعت مثلها قط،
فقال» :لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قلي ً
ل(3)،ولبكيتم كثيًرا« فغطى
أصحاب رسول الله ×وجوههم ولهم خنين .
وقد كان الصديق على جانب من الخوف والرجاء عظيم،
جعله قدوة عملية لكل مسلم سواء حاكمًا أو محكومًا ،قائدًا أو
جنديا ،يريد النجاح والفلح في الخرة (4).فعن محمد بن سيرين قال: ً
لم يكن أحد أهيب لما يعلم بعد النبي × من أبي بكر .وعن قيس
قال :رأيت أبا بكر آخذ بطرف لسانه ويقول :هذا الذي أوردني
الموارد (5).وقد قال أبو بكر : ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا) ,(6وعن
ميمون بن مهران قال :أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين فقلبه ثم
صيد َ من صيد ول عضدت من شجرة إل بما ضيعت من قال :ما )ِ(7
قال :قال أبو بكر :والله لوددت أني كنت الحسن وعن التسبيح.
وتعضد (8).وقال أبو بكر :لوددت أن كنت شعرة تؤكل الشجرة هذه
في جنب عبد مؤمن (9).وكان يتمثل بهذا البيت من الشعر:
)(10
ل تزال تنعي حبيًبا حتى
تكونه
ثانًيا :من أهم صفات الصديق وشيء من فضائله:
)( الفتح الباري ،4/357 :نقل عن )الخلفة الراشدة والدولة الموية( من فتح 1
الباري.163 :
)( الرياض النضرة في مناقب العشرة ،لبي جعفر أحمد الطبري.237 : 2
)( تاريخ الدعوة إلى السلم ،يسري محمد (5) .369 :صفة الصفوة.2/253 : 4
5
6
)()الزهد( للمام أحمد ،باب زهد أبي بكر.108 :
) (9) ,(8نفس المصدر السابق.112 : )( نفس المصدر السابق.110 : 7
8
9
)( المصدر السابق:ـ .112
) (1الزهد ،للمام أحمد ،باب زهد أبي بكر (2) .108 :فضائل الصحابة ،للمام 10
أحمد.1/173 :
79
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
إن شخصية الصديق تعتبر شخصية قيادية ،وقد اتصف
بصفات القائد الرباني ،ونجملها في أمور ونركز على بعضها
بالتفصيل ،فمن أهم هذه الصفات :سلمة المعتقد ،والعلم الشرعي،
والثقة بالله ،والقدرة ،والصدق ،والكفاءة والشجاعة ،والمروءة،
والزهد ،وحب التضحية ،وحسن اختياره لمعاونيه ،والتواضع ،وقبول
النصيحة ،والحلم ،والصبر ،وعلو الهمة ،والحزم ،والرادة القوية،
والعدل ،والقدرة على حل المشكلت ،والقدرة على التعليم وإعداد
القادة ،وغير ذلك من الصفات التي ظهرت للباحث في الفترة
المكية في صحبته للنبي × ،وفي العهد المدني في غزواته مع
رسول الله وحياته في المجتمع ،وظهر البعض الخر لما تسلم قيادة
الدولة وأصبح خليفة رسول الله ×؛ فقد استطاع بتوفيق الله تعالى
وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية أن يحافظ على
الدولة ويقمع حركة الردة ،وينتقل بفضل الله وتوفيقه بالمة نحو
أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة ،ومن أهم تلك الصفات التي
نحاول تسليط الضواء عليها في هذا المبحث :إيمانه بالله العظيم،
وعلمه الراسخ ،وكثرة دعائه وتضرعه لله تعالى.
-1عظمة إيمانه بالله تعالى:
كان إيمان الصديق بالله عظيمًا ،فقد فهم حقيقة اليمان
وتغلغلت كلمة التوحيد في نفسه وقلبه ،وانعكست آثارها على
جوارحه ،وعاش بتلك الثار في حياته ،فتحلى بالخلق الرفيعة،
وتطهر من الخلق الوضيعة ،وحرص على التمسك بشرع الله
والقتداء بهديه × ،وكان إيمانه بالله تعالى باعثًا له على الحركة
والهمة والنشاط والسعي ،والجهد والمجاهدة ،والجهاد والتربية،
والستعلء والعزة ،وكان في قلبه من اليقين واليمان شيء عظيم ل
يساويه فيه أحد من الصحابة .قال أبو بكر بن عياش(1):ما سبقهم أبو
بكر بكثرة صلة ول صيام ولكن بشيء وقر في قلبه .ولهذا قيل:
لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الرض لرجح ،كما في السنن عن
أبي بكرة عن النبي × قال» :هل رأى أحد منكم رؤيا؟« فقال رجل:
أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت
أنت بأبي بكر ،ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ،ثم وزن عمر
رسول الله ×، وعثمان فرجع عمر ،ثم رفع الميزان ،فاستاء لها
فقال» :خلفة نبوة ،ثم يؤتى الله الملك من يشاء« ).(2
وعن أبي هريرة قال :صلى رسول الله × صلة الصبح ،ثم
أقبل على الناس فقال» :بينا رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها
التفتت إليه البقرة ،فقالت :إني لم أخلق لهذا ،ولكني خلقت للحرث،
فقال الناس :سبحان الله! )تعجًبا وفزعا( أبقرة تتكلم؟ فقال رسول
الله × :فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر .قال أبو هريرة :قال رسول
الله ×» :وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة،
فطلب حتى كأنه استنقذها منه ،فقال له الذئب :هذا استنقذتها مني،
فمن لها يوم السبع ،يوم ل راعي لها غيري؟ فقال الناس :سبحان
الله ،ذئب يتكلم؟ قال × :فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر وما
1
)(
80
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
هما ثم« (1).ومن شدة إيمانه والتزامه بشرع الله تعالى وصدقه
وإخلصه للسلم أحبه النبي × ،وأصبحت تلك المحبة مقدمة عند
النبي × على غيره من الصحابة.
فعن عمرو بن العاص :أن النبي × بعثه على جيش ذات
السلسل ،قال :فأتيته فقلت :أي الناس أحب إليك؟ قال» :عائشة«،
قال» :أبوها« ،قلت :ثم من؟ قال» :عمر بن فقلت :من الرجال؟
الخطاب« .فعد رجالً ).(2
وبسبب هذا اليمان العظيم والتزامه بشرع الله القويم ولجهوده
التي بذلها لنصرة دين رب العالمين استحق بشارة رسول الله
بالجنة ،وأنه يدعى من جميع أبوابها ،فعن أبي موسى الشعري أنه
توضأ في بيته ثم خرج ،فقلت :للزمن رسول الله × ولكونن معه
يومي هذا .قال :فجاء المسجد فسأل عن النبي × فقالوا :خرج
أريس،
ٍ ووجه ها هنا ،فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر
فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله × حاجته
فهافتوضأ ،فقمت إليه ،فإذا هو جالس على بئر أريسٍ وتوسط قُ ّ
وكشف عن ساقيه ودلهما في البئر ،فسلمت عليه ثم انصرفت
فجلست عند الباب ،فقلت :لكونن بواب رسول الله × اليوم ،فجاء
أبو بكر فدفع الباب ،فقلت :من هذا ،فقال :أبو بكر ،فقلت :على
رسلك ،ثم ذهبت فقلت :يا رسول الله ،هذا أبو بكر يستأذن ،فقال:
»ائذن له وبشره بالجنة« ،فأقبلت حتى قلت لبي بكر :ادخل
ورسول الله يبشرك بالجنة ،فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول
ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي × )(3
الله × معه في القف
وكشف عن ساقيه....
وعن أبي هريرة أن رسول الله × قال» :من أنفق زوجين
من شيء من الشياء في سبيل الله دعي من أبواب )أي الجنة( يا
عبد الله هذا خير ،فمن كان من أهل الصلة دعي من باب الصلة،
ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ،ومن كان من أهل
الصدقة دعي من باب الصدقة ،ومن كان من أهل الصيام دعي من
باب الصيام وباب الريان« ،فقال أبو بكر :ما على هذا الذي ُيدعى
من تلك البواب من تلك البواب من ضرورة ،وقال :هل يدعى أحد
كلها؟ قال» :نعم ،وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر« ).(4
-2علمه :
)(5
كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له .وقد اتفق
السنة على أن أبا بكر أعلم المة ،وحكى الجماع على ذلك غير أهل
واحد ) ،(6وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملزمته
ونهارا ،وسفرًا وحضرًا ،وكان
ً اجتماعا به ليلً
ً للنبي ×؛ فقد كان أدوم
يسمر عند النبي × بعد العشاء ،يتحدث معه في أمور المسلمين
81
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
دون غيره من أصحابه ،وكان إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو
غيره(1فيعمل برأيه بكر في الشورى ،وربما تكلم غيره وربما لم يتكلم
وحده ،فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه ) .وقد
استعمله النبي × على أول حجة حجت من مدينة النبي × ،وعلم
المناسك أدق ما في العبادات ،ولول سعة علمه لم يستعمله ،وكذلك
الصلة استخلفه عليها ولول علمه لم يستخلفه ،ولم يستخلف غيره ل
في حج ول في صلة.
وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر
وهو أصح ما روي فيها) ،(2وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم في كتابه ما
هو متقدم منسوخ ،فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة ،ولم يحفظ
له قول يخالف فيه نصًا ،وهذا يدل على غاية البراعة والعلم .وفي
لبي (3بكر مسألة في الشريعة غلط فيها ،وقد عرف الجملة :ل يعرف
لغيره مسائل كثيرة ).وكان يقضي ويفتي بحضرة النبي ×
ويقره ،ولم تكن هذه المرتبة لغيره ،وقد بينت ذلك في سلب أبي
قتادة بحنين (4) .وقد ظهر فضل علمه وتقدمه على غيره بعد وفاة
الرسول × ،فإن المة لم تختلف في وليته في مسألة إل فصلها هو
بعلم يبينه لهم وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة ،وذلك لكمال
علم الصديق وعدله ،ومعرفته بالدلة التي تزيل النزاع ،وكان إذا
أمرهم أطاعوه ،كما بين لهم موت النبي × وتثبيتهم على اليمان ،ثم
بين لهم موضع دفنه ،وبين لهم ميراثه ،وبين لهم قتال مانعي الزكاة
لما استراب فيه عمر ،وبين لهم أن الخلفة في قريش ،وتجهيز
عبدا خيره الله بين الدنيا والخرة هو
ً جيش أسامة ،وبين لهم أن
رسول الله × ) ،(5وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه بإذن الله تعالى.
ولقد رأى رسول الله × له رؤيا تدل على علمه؛ فعن عبد الله
سا مملوًءا بن عمر قال :قال رسول الله ×» :رأيت كأني أعطيت عُ ّ
لبًنا ،فشربت منه حتى تملت ،فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد
واللحم ،ففضلت منها فضلة ،فأعطيتها أبا بكر« .قالوا :يا رسول
تملت(6منه ،فضلت فضلة
)
الله ،هذا علم أعطاكه الله حتى إذا
فأعطيتها أبا بكر ،فقال ×» :قد أصبتم«.
وكان الصديق يرى أن الرؤيا حق ،وكان يجيد تأويلها ،وكان
يقول إذا أصبح :من رأى رؤيا صالحة فليحدثنا بها .وكان يقول :لن
ي من كذا وكذا. يرى رجل مسلم مسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إل ّ )(7
رجل أتى
ً ومما عبره × من الرؤى ما يلي :عن ابن عباس أن
رسول الله فقال :إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن
والعسل ،فأرى الناس يتكففون منها ،فالمستكثر والمستقل ،وإذا
سبب واصل من الرض إلى السماء ،فأراك أخذت به فعلوت ،ثم
أبو بكر الصديق :محمد مال الله (6) .335 ،334 :البخاري ،رقم.1448 : )( 1
2
أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة60 : )( 3
) (3نفس المصدر السابق.59 : نفس المصدر السابق.57 : )( 4
5
خطب أبي بكر الصديق ،محمد عاشور ،جمال الكومي.155 : )( 7
82
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
صل ،فقال أبو بكر :يا رسول الله، أخذ به رجل آخر فانقطع ،ثم وُ ِ
بأبي أنت ،والله لتدعني فأعبرهما ،فقال النبي ×» :اعبرها« ،قال:
أما الظلة فالسلم ،وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن،
حلوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل ،وأما السبب
الواصل من السماء إلى الرض فالحق الذي أنت عليه ،تأخذ به
ُفيعليك الله ،ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ،ثم يأخذ رجل آخر فيعلو
به ،فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت ،أصبت أم أخطأت؟ قال النبي
ضا« ،قال :فوالله لتحدثني بالذي ضا وأخطأت بع ً ×» :أصبت بع ً
أخطأت ،قال:
)(1
»ل تقسم«.
وعن عائشة -رضي الله عنها -أنها رأت كأنه وقع في بيتها ثلثة
أقمار ،فقصتها على أبي بكر -وكان من أعبر الناس -فقال :إن
صدقت رؤياك ليدفنن في بيتك من خير أهل)(2الرض ثلثة ،فلما قبض
النبي × قال» :يا عائشة)(3هذا خير أقمارك« .فقد كان الصديق
أعبر هذه المة بعد نبيها .
ومع كونه من أعلم الصحابة إل أنه من أبعد الناس عن
و َ ِ َ ً
ة ه ك فا التكلف ،فعن إبراهيم النخعي قال :قرأ أبو بكر الصديق َ + َ
ب؟ فقيل :كذا وكذا ،فقال أبو بكر :إن وأّبا" ]عبس ،[31 :فقيل :ما ال ّ َ
التكلف(4،أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب لهو هذا
الله ما ل أعلم ) .
-3دعاؤه وشدة تضرعه:
إن الدعاء باب عظيم ،فإن فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات
وانهالت عليه البركات ،ولذلك حرص الصديق على حسن الصلة بالله
وكثرة الدعاء .كما أن الدعاء من أعظم وأقوى َعوامل النصر على
نم إِ ّ ب ل َك ُ ْ ج ْ ست َ ِعوِني أ ْ
ُ
م ادْ ُ ل َرب ّك ُ ْ قا َ و َ
العداء ،قال ْتعالىَ + :
ن" ري خ دا
َ َ َ ّ َ َ ِ ِ َ م نه ج نلو خ
ُ ع ْ ِ َ َ ِ َ َ َ ْ
د ي س تي د با ع ن ن َ ست َكب ُِرو َن يَ ْ ذي َ ال ّ ِ
ب ري
ِ ٌ َ
ق ني ِّ إ َ
ف ني ّ ع
َ دي با
ِ َ ِ ع َ
ك َ ل أسَ َ
ذا إ
َ ِو + تعالى: وقال ، [60 ]غافر:
ول ْي ُ ْ ُ
مُنوا ِبي ؤ ِ جيُبوا ِلي َ ست َ ِ فل ْي َ ْ ن َ عا ِ ذا دَ َع إِ َ
دا ِوةَ ال ّع َب دَ ْ جي ُأ َ ِّ
ن"
دو َ ش ُم ي َْر ُ ه ْ عل ُل َ
]البقرة.[186 :
ل الله × ورأى كيف كان رسول الله ولقد لزم الصديق رسو َ
يستغيث بالله ويستنصره ويطلب المدد منه ،وقد حرص الصديق
على أن يتعلم هذه العبادة من رسول الله × ،وأن يكون دعاؤه
وتسبيحه على الصيغة التي يأمر بها رسول الله × ،ويرتضيها؛ إذ
ليس للمسلم أن يفضل على الصيغة المأثورة في الدعاء والتسبيح
والصلة على النبي × صيًغا أخرى ،مهما كانت في ظاهرها حسنة
الخير ،والهادي إلى اللفظ جيدة المعنى؛ لن رسول الله × هو معلم
الصراط المستقيم ،وهو أعرف بالفضل والكمل (5).وقد جاء في
) (2تاريخ الخلفاء للسيوطي.129 : البخاري ،كتاب التعبير.7046 : )( 1
2
فتح الباري ،13/285 :فيه انقطاع بين إبراهيم النخعي وأبي بكر. )( 4
83
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الصحيحين أن أبا بكر الصديق قال :يا رسول الله ،علمني دعاًء
ما كثيًرا أدعو به في صلتي ،قال» :قل :اللهم إني ظلمت نفسي ظل ً
أنت فاغفر لي مغفرة من عندك ،وارحمني إنك ول يغفر الذنوب إل
أنت الغفور الرحيم« ).(1
ففي هذا الدعاء وصف العبد لنفسه المقتضى حاجته إلى
المغفرة ،وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه ل يقدر على هذا المطلوب
غيره ،وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه ،وفيه بيان المقتضي
وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة ،فهذا ونحوه أكمل أنواع للجابة،
الطلب ).(2
وجاء في السنن عن أبي بكر قال :يا رسول الله ،علمني
دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت ،فقال» :قل :اللهم فاطر
السماوات والرض ،عالم الغيب والشهادة ،رب كل شيء ومليكه ،أشهد
كه، شَر ِ أن ل إله إل أنت ،أعوذ بك من شر نفسي ،ومن شر الشيطان و َ
أجره إلى مسلم ،قله إذا أصبحت وإذا )(3
وأن أقترف على نفسي سوًءا أو
أمسيت وإذا أخذت مضجعك«.
فقد تعلم الصديق من رسول الله × أنه ليس لحد أن يظن
استغناءه عن التوبة إلى الله والستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد
عَلى ةَ َ مان َ َ ضَنا ْال َ عَر ْ محتاج إلى ذلك َدائمًا ،قال تعالى+َ :إ ِّنا َ َ
نَ ق ْ ف َ ش ْ أوَ َ ها َ ن ل م
ِ ح
ْ َ ي أن
ُ
ن
فأب َي ْ َ
َ
ل َ جَبا ِ وال ْ ِ ض َ والْر ِ ت َ َ وا ِ م َ س َ ال ّ
ماْ ً لو ظ ن
َ كا َ ه ّ
ِ َ ْ ِ ُ ن إ ن ُ سا ْ ن ل ا ها من ْ َ َ َ َ
ل م ح
َ و ها ِ
نكي َ ر ِ ِ ش ْ م
ْ َ ُ ْ ل وا ت ِ قاَ ف
ِ نا
َ م ل
ْ َ ُ وا ن
َ قيِ فِ ناَ م
ُ ل ا ه
ُ الل ب
َ ّ ذ ع
َ ُ يِ ل ً ل هو ُ ج
َ
ن
كا َ و َ ت َ مَنا ِ ؤ ِ م ْوال ُ ن َ مِني َ ؤ ِم ْ عَلى ال ُ ه َ ب الل ُ وي َُتو َ ت َ كا ِ ر َ ش ِ م ْ وال ْ ُ َ
ما" ]الحزاب ،[73 ،72 :فالنسان ظالم جاهل ،وغاية حي ً فوًرا ّر ِ غ ُ ه َ الل ُ
المؤمنين
والمؤمنات التوبة.
وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته
لهم ،وثبت في الصحيحين عن النبي × أنه قال» :لن يدخل الجنة
أنت يا رسول الله؟ قال» :ول أنا إل أن أحد بعمله« ،قالوا :ول
برحمته« (4) .وهذا ل ينافي قوله تعالى+ :ك ُُلوا اللهِنيًئا بما أ َ يتغمدني
ة" ]الحاقة،[24 : خال ِي َ ِ في الّيام ِ ال ْ َ م ِ ْ ُ تف ْ َ لسْ ِ َ ه
َ بوا شَر ُ وا ْ َ
فإن الرسول نفى باء المقابلة والمعادلة ،والقرآن أثبت باء السبب.
وقول من قال :إذا أحب الله عبدًا لم تضره الذنوب ،معناه :أنه إذا
عبدا ألهمه التوبة والستغفار فلم يصر على الذنوب ،ومن ظن ً أحب
أن الذنوب ل تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة
والئمة ،فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ،ومن يعمل وإجماع السلف
مثقال ذرة شرًا يره ).(5
كان أبو بكر دائم الذكر لله تعالى ،شديد التضرع ،كثير التوجه
لله ،ل ينفك عن الدعاء في كل أحيانه .وقد نقل إلينا بعض أدعيته
مسلم ،الذكر والدعاء ،رقم .2705 :البخاري ،رقم.843 : )( 1
أبو داود في الدب ،رقم .5067 :الترمذي في الدعوات ،رقم.3529 : )( 3
84
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وتضرعاته ،ومنها:
أ -أسألك تمام النعمة في الشياء كلها ،والشكر لك عليها حتى
تكون إليه الخيرة ,بجميع ترضى ،وبعد الرضا ،والخيرة في جميع ما
ميسور المور كلها ،ل بمعسورها يا كريم ).(1
ب -وكان يقول في دعائه :اللهم إني أسألك الذي هو خير لي في
تعطيني من الخير رضوانك عاقبة الخير .اللهم اجعل آخر ما
والدرجات الُعلى من جنات النعيم ).(2
اجعل خير عمري آخره ،وخير ج -وكان يقول في دعائه :اللهم
عملي خواتمه ،وخير أيامي يوم ألقاك ).(3
وكان إذا سمع أحدا يمدحه من الناس يقول :اللهم أنت أعلم من د-
خيرًمما يظنون ،واغفر لي اجعلني ا اللهم منهم، بنفسي أعلم وأنا نفسي،
ما ل يعلمون ،ول تؤاخذني بما يقولون ).(4
وهذه بعض أهم صفاته وشيء من فضائله مررنا عليه باليجاز،
وسوف نرى أثر التربية النبوية على الصديق بعد وفاة النبي ×،
وكيف قام مقامًا لم يقمه غيره بفضل الله وتوفيقه ،ثم تربيته
العميقة وإيمانه العظيم وعلمه الراسخ وتتلمذه على يدي رسول الله
× ،فقد أحسن الجندية ،وقطع مراحلها وأشواطها برفقة قائده
العظيم عليه أفضل الصلة والسلم ،فلما أصبح خليفة للمة استطاع
أن يقود سفينة السلم إلى شاطئ المان رغم العواصف الشديدة،
والمواج المتلطمة ،والفتن المظلمة.
***
)( )الشكر( لبن أبي الدنيا ،رقم ،109 :نقل عن خطب أبي بكر.39 : 1
) (5أسد الغابة: )( كنز العمال رقم ،5030 :نقل عن خطب أبي بكر.39 : 3
.3/324 4
85
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الفصل الثاني
وفاة الرسول × ،وسقيفة بني ساعدة ،وجيش
أسامة
المبحث الول
وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة
ل :وفاة الرسول ×: أو ً
إن الرواح الشفافة الصافية لتدرك بعض ما يكون مخبوءًا وراء
حجب الغيب بقدرة الله تعالى ،والقلوب الطاهرة المطمئنة لتحدث
صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزمان ،والعقول
الذكية المستنيرة بنور اليمان لتدرك ما وراء اللفاظ والحداث من
الصفات الحظ الوفر،
)(1
إشارات وتلميحات ،ولنبينا محمد × من هذه
وهو منها بالمحل الرفع الذي ل يسامى ول يطاول.
ولقد جاءت بعض اليات القرآنية مؤكدة على حقيقة بشرية النبي
× ،وأنه كغيره من البشر ،وسوف يذوق الموت ويعاني سكراته كما
ذاقه من قبل إخوانه من النبياء ،ولقد فهم × من بعض اليات
اقتراب أجله ،وقد أشار × في طائفة من الحاديث الصحيحة إلى
اقتراب وفاته ،منها ما هو صريح الدللة على الوفاة ومنها ما ليس
كذلك؛ حيث لم
يشعر ذلك منها إل الحاد من كبار الصحابة الجلء كأبي بكر والعباس
ومعاذ
رضي الله عنهم ).(2
مرض رسول الله × وبدء الشكوى:
رجع رسول الله × من حجة الوداع في ذي الحجة ،فأقام
بالمدينة بقيته والمحرم وصفرًا من العام العاشر ،فبدأ بتجهيز جيش
مر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة ،وأمره أن يتوجه نحو أسامة وأ ّ
البلقاء وفلسطين ،فتجهز الناس وفيهم المهاجرون والنصار ،وكان
أسامة بن زيد ابن ثماني عشرة سنة ،وتكلم البعض في تأميره وهو
مولى وصغير السن على كبار المهاجرين والنصار ،فلم يقبل
الرسول × طعنهم في إمارة أسامة ) ،(3فقال ×» :إن يطعنوا في
قا للمارة، إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه ،وايم الله إن كان لخلي ً
ي
ّ إل الناس ي ،وإن ابنه هذا لمن أحب كان(4من أحب الناس إل ّ
)
وإن
بعده«.
وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة ابتدى رسول
انظر :السيرة النبوية لبي شهبة.2/587 : )( 1
انظر :مرض النبي ووفاته ،خالد أبو صالح.33 : )( 2
86
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الله × شكواه الذي ُقبض فيه ،وقد حدثت حوادث ما بين مرضه
ووفاته ،منها :زيارته قتلى أحد وصلته عليهم)) ،((21واستئذانه أن يمرض
في بيت عائشة ،وشدة المرض الذي نزل به ،وأوصى × بإخراج
الوفد) (3ونهى عن اتخاذ قبره )(5
المشركين من جزيرة العرب وإجازة
وما ملكت )(7
بالصلة وأوصي بالله مسجدًا)) ،((64وأوصي بإحسان الظن
ين بأنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إل الرؤيا ،وأوصي أيمانكم ،وب ّ
دابالنصار خيرًا) (8وخطب × في أيام مرضه فقال» :إن الله خّير عب ً
بين الدنيا وبين ما عند الله ،فاختار ذلك العبد ما عند الله« ،فبكى أبو
بكر ،فقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه :-فعجبنا لبكائه أن يخبر
الرسول × عن خير ،فكان رسول الله × هو المخير ،وكان أبو بكر
ي صحبته وماله أبو ن الناس عل ّ م ّ
أعلمنا ،فقال رسول الله ×» :إن أ َ
أخوة
)(9
ولكن بكر، أبا لتخذت ذا خليل ً غير ربي
بكر ،ولو كنت متخ ً
السلم ومودته .ل يبقين في المسجد باب إل باب أبي بكر« .
قال الحافظ ابن حجر :وكأن أبو بكر -رضي الله عنه -فَِهم الرمز
الذي أشار به النبي × من قرينة ذكره ذلك في مرض موته،
فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى) ،(10ولما اشتد المرض
بالنبي × وحضرته الصلة فأذّن بلل قال النبي ×» :مروا أبا بكر
فليصل« ،فقيل :إن أبا بكر رجل أسيف) ،(11إذا قام مقامك لم يص ّ
ل
بالناس ،وأعاد فأعادوا له الثالثة ،فقال» :إنكن صواحب يوسف)، (12
مروا أبا بكر فليصل« .فخرج أبو بكر فوجد النبي × في نفسه خفة،
فخرج يهادي بين رجلين ،كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع،
فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي × أن مكانك ،ثم أتي به حتى
جلس إلى جنبه .قيل للعمش :فكان النبي × يصلي بصلته والناس
يصلون بصلة أبي بكر ،فقال برأسه :نعم (13).واستمر أبو بكر يصلي
بالمسلمين ،حتى إذا كان يوم الثنين ،وهم صفوف في صلة الفجر،
كشف النبي × ستر الحجرة ينظر إلى المسلمين وهم وقوف أمام
ربهم ،ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده ،وكيف نشأت أمة
تحافظ على الصلة ،وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته ،وقد قرت
عينه بهذا المنظر البهيج ،وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داع
قبله ،واطمأن أن صلة هذه المة بهذا الدين وعبادة الله تعالى صلة
دائمة ل تقطعها وفاة نبيها ،فمليء من السرور ما الله به عليم،
)(14
واستنار وجهه وهو منير.
)( البخاري ،كتاب الجنائز ،باب الصلة على الشهيد ،رقم.1344 : 1
) (5البخاري ،كتاب الجهاد والسير ،رقم: )( صحيح السيرة النبوية.695 : 2
.3053 3
)( صحيح السيرة النبوية ص .712البخاري ،كتاب الصلة ،رقم.435 : 4
)( سنن ابن ماجة ،كتاب الوصايا ،901 – 2/900 :رقم.2697 : 6
) (10البخاري :كتاب مناقب النصار، )( مسلم ،كتاب الصلة.1/348 : 7
)( البخاري ،كتاب فضائل الصحابة ،رقم (12) .3654 :فتح الباري.7/16 : 9
10
)( أسيف :من السف ،وهو شدة الحزن ،والمراد أنه رقيق القلب. 11
)( والمراد :أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلف ما في الباطن. 12
)( البخاري ،كتاب الذان ،رقم (3) .712 :السيرة النبوية للندوي :ص .401 13
14
87
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( البخاري ،كتاب المغازي ،رقم (5) .4448 :السنح :خارج المدينة ،كان 1
)( البخاري ،كتاب المغازي ،رقم (2) .4437 :نفس المصدر السابق ،رقم: 5
.4449 6
)( الترمذي ،كتاب الجنائر ،رقم (4) .978 :البخاري ،كتاب المغازي ،رقم: 7
.4440 8
)( البخاري ،كتاب المغازي ،رقم (6) .4462 :نفس المصدر السابق ،رقم: 9
.4461
88
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
وأرضا جعلها صدقة.
ً البيضاء ،وسلحه
صاعا من شعير)،(2 ً وتوفي × ودرعه مرهونة عند يهودي بثلثين
سنة إحدى الول وكان ذلك يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع
عشرة من الهجرة بعد الزوال) ،(3وله ثلثة وستون سنة (4).وكان أشد
اليام سوادًا ووحشة ومصابًا على المسلمين ،ومحنة كبرى للبشرية،
كما كان يوم ولدته أسعد يوم طلعت فيه الشمس (5).يقول أنس :
المدينة(6أضاء منها كل شيء، كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله ×
فلما كان الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ).وبكت أم أيمن
أن(7رسول الله فقيل لها :ما يبكيك على النبي؟ قالت :إني قد علمت
× سيموت ،ولكن إنما أبكي على الوحي الذي ُرِفع عنا ) .
ثانًيا :هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها:
قال ابن رجب :ولما توفي رسول الله × اضطرب المسلمون؛
ومنهم فمنهم من دهش فخولط ،ومنهم من أقعد فلم ُيطق القيام،
من اعتقل لسانه فلم يطق الكلم ،ومنهم من أنكر موته بالكلية ).(8
قال القرطبي مبينًا عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور:
من أعظم المصائب المصيبة في الدين ..قال رسول الله ×» :إذا
)(9
أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي؛ فإنها أعظم المصائب«.
وصدق رسول الله ×؛ لن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب
بها المسلم بعده إلى يوم القيامة؛ انقطع الوحي ،وماتت النبوة،
وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك ،وكان أول انقطاع
الخير وأول نقصانه ).(10
وقال ابن إسحاق :ولما توفي رسول الله × عظمت به مصيبة
المسلمين ،فكانت عائشة فيما بلغني تقول :لما توفي النبي ×
ارتدت العرب ،واشرأبت اليهودية والنصرانية ،ونجم النفاق ،وصار
المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم ).(11
وقال القاضي أبو بكر بن العربي ... :واضطربت الحال ،فكان
ي فاستخفى موت النبي × قاصمة الظهر ومصيبة العمر ،فأما عل ّ
في بيت فاطمة ،وأما عثمان فسكت ،وأما عمر فأهجر وقال :ما
مات رسول الله ،وإنما واعده ربه كما واعد موسى ،وليرجعن رسول
الله ،فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم) ،(12ولما سمع أبو بكر الخبر
أقبل على فرس من مسكنه بالسنح ،حتى نزل ،فدخل المسجد ،فلم
يكلم الناس ،حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله × وهو
1
) (8البداية والنهاية.4/223 : )( السيرة النبوية للندوي.403 : 2
3
) (10انظر :السيرة النبوية للندوي.404 : )( مسلم ،كتاب الفضائل.4/825 : 4
5
) (2السلسلة الصحيحة لللباني ،رقم: )( لطائف المعارف.114 : 8
.1106 9
) (6البخاري ،كتاب المغازي ،رقم: )( العواصم من القواصم.38 : 12
.4452
89
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
شى بثوب حبرة ،فكشف عن وجهه ،ثم أكب عليه فقبله وبكى، مغ ّ
ثم قال :بأبي أنت وأمي ،والله ل يجمع الله عليك موتتين؛ أما الموتة
التي كتبت عليك فقد متها) ،(1وخرج أبو بكر وعمر يتكلم ،فقال:
اجلس يا عمر ،وهو ماض في كلمه وفي ثورة غضبه ،فقام أبو بكر
في الناس خطيبًا بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أما بعد :فإن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ،ومن كان
مدٌ إ ِل ّ ح ّ
م َ ما ُ و َ يعبد الله فإن الله حي ل يموت ،ثم تل َهذه اليةَ َ + :
قت ِ َ
ل و ُ تأ ْ ما َ
فِإن ّ لأ َ س ُ ه الّر ُ من َ
قب ْل ِ ِ ت ِ خل َ َ ْ ل َ
قد ْ َ سو ٌ َر ُ
ضّر َ
ه فلن ي ّ ُ َ قب َي ْ ِ
ع ِ
على ََ ب َ َ
من ي َن ْقل ِ ْ و َم َ ُ
عقاب ِك َْ على أ ْ َ م َ َ
قلب ْت ُ ْ ان ْ َ
ن" ]آل عمران [144 :فنشج ري َ شاك ِ ِه ال ّ زي الل ُ ج ِ س(ي َ ْ و َ ً
شي ْئا َ ه َ الل َ
الناس يبكون ). 2
قال عمر :فوالله ما سمعت أبا بكر تلها ،فهويت إلى الرض ما
تحملني قدماي ،وعلمت أن رسول الله قد مات (3).قال القرطبي:
هذه الية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته؛ فإن الشجاعة
والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ،ول مصيبة أعظم
من موت النبي × ،فظهرت شجاعته وعلمه ،قال الناس :لم يمت
رسول الله × ،منهم عمر ،وخرس عثمان ،واستخفى علي،
واضطرب المر ،فكشفه الصديق بهذه الية حين قدومه من مسكنه
بالسنح ).(4
وبهذه الكلمات القلئل ،واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم خرج
الناس من ذهولهم وحيرتهم ورجعوا إلى الفهم الصحيح رجوعًا
جميل ،فالله هو الحي وحده الذي ل يموت ،وأنه وحده الذي يستحق ً
)(5
العبادة ،وأن السلم باق بعد موت محمد × ،كما جاء في رواية
من قول الصديق :إن دين الله قائم ،وإن كلمة الله تامة ،وإن الله
ناصر من نصره ،ومعز دينه ،وإن كتاب الله بين أظهرنا ،وهو النور
والشفاء ،وبه هدى الله محمدًا × وفيه حلل الله وحرامه ،والله ل
نبالي من أجلب علينا من خلق الله .إن سيوف الله لمسلولة ما
وضعناها بعد ،ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله ،فل
يبغين أحد إل
على نفسه).(6
شديد ا ،ومن خللها
ً كان موت محمد × مصيبة عظيمة ،وابتلءً
وبعدها ظهرت شخصية الصديق كقائد للمة ،فذ ل نظير له ول
مثيل ) ، (7فقد أشرق اليقين في قلبه وتجلى ذلك في رسوخ
الحقائق فيه ،فعرف حقيقة العبودية والنبوة والموت ،وفي ذلك
1
)( البخاري ،كتاب فضائل الصحابة ،رقم (2) .3668 :البخاري ،كتاب المغازي، 2
) (4استخلف أبي بكر الصديق ،جمال عبد )( تفسير القرطبي.4/22 : 4
الهادي.160 : 5
) (6أبو بكر رجل الدولة ،مجدي حمدي: )( دلئل النبوة للبيهقي.7/218 : 6
90
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الموقف العصيب ظهرت حكمته ، فانحاز بالناس إلى التوحيد
»من كان يعبد الله فإن الله حي ل يموت« ،وما زال التوحيد في
طري ا ،فما أن سمعوا تذكير الصديق لهم حتى رجعوا ً ضاقلوبهم غ ّ
)(1
إلى الحق.
تقول عائشة -رضي الله عنها :-فوالله لكأن الناس لم يكونوا
يعلمون أن الله أنزل هذه الية حتى تلها أبو بكر ،فتلقاها منه
الناس ،فما يسمع بشر إل يتلوها ).(2
ثالًثا :سقيقة بني ساعدة:
لما علم الصحابة -رضي الله عنهم -بوفاة رسول الله × اجتمع
النصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه ،وهو يوم الاثنين
الثاني عشر من شهر ربيع الول من السنة الحادية عشرة للهجرة،
وتداولوا المر بينهم في اختيار من يلي الخلفة من بعده ).(3
والتف النصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة ، ولما بلغ
خبر اجتماع النصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين ،وهم
مجتمعون مع أبي بكر الصديق لترشيح من يتولى الخلفة )،(4
قال المهاجرون لبعضهم :انطلقوا بنا إلى إخواننا من النصار ،فإن
نصيبا (5).قال عمر : فانطلقنا نريدهم ،فلما ً لهم في هذا الحق
دنونا منهم لقينا منهم رجلين صالحين ،فذكر ما تمال عليه القوم،
فقال :أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا :نريد إخواننا هؤلء
من النصار ،فقال :ل عليكم أن ل تقربوهم ،اقضوا أمركم ،فقلت:
والله لنأتينهم) ، (6فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة،
فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم ،فقلت :من هذا؟ فقالوا :هذا
قليل
ً سعد بن عبادة ،فقلت :ما له؟ قالوا :يوعك .فلما جلسنا
تش ّ هد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ،ثم قال :أما بعد،
فنحن أنصار الله وكتيبة السلم ،وأنتم -معشر المهاجرين -رهط،
وقد دفت دافة من قومكم) ، (7فإذا هم يريدون أن يختزلونا من
أصلنا وأن يحضن ونا من المر ) (8فلما سكت أردت أن أتكلم
-وكنت قد ز ّورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي
بكر -وكنت أدا ري منه بعض الحد ،فلما أردت أن أتكلم قال أبو
س ِ لك ،فكرهت أن أغضبه ،فتكلم أبو بكر ،فكان هو بكر :على َر ْ
أحلم مني وأوقر ،والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إل
قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت ،فقال :ما ذكرتم
فيكم من خير فأنتم له أهل ،ولن يعرف هذا المر إل لهذا الحي
من قريش ،هم أوسط العرب نسبا ودا ً را ،وقد رضيت لكم هذين
الرجلين فبايعوا أيهما شئتم -فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح
)( استخلف أبي بكر الصديق (2) .160 :البخاري ،كتاب الجنائز ،رقم،1241 : 1
.1242 2
) (4عصر الخلفة الراشدة للعمري.40 : )( التاريخ السلمي.9/21 : 3
4
)( الرجلن هما :عويم بن ساعدة ،ومعن بن عدي رضي الله عنهما. 6
) (8أي :يخرجونا من أمر الخلفة. )( أي :عدد قليل. 7
8
91
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وهو جالس بيننا -فلم أكره مما قال غيرها ،والله أن أقدم
فتضرب عنقي ل يقربني ذلك من إثم أحب إل ّي من أن أتأمر على
قوم فيهم أبو بكر ،اللهم إل أن تسول إل ّي نفسي عند الموت
شيئ ا ل أجده الن.
ً
)(1
جب ، جذيلها المحكك ،وعذيقها المر ّ فقال قائل من النصار :أنا ُ
منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ،فكثر اللغط ،وارتفعت
فقلت :ابسط يدك ،فبايعته الصوات ،حتى فرقت من الختلف
وبايعه المهاجرين ،ثم بايعته النصار ).(2
وفي رواية أحمد ..»:فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئًا أنزل في
النصار ول ذكره رسول الله × من شأنهم إل وذكره ،وقال :ولقد
وادًيا وسلكت النصار علمتم أن رسول الله × قال» :لو سلك الناس
وادًيا سلكت وادي النصار« ،ولقد علمت يا سعد) (3أن رسول الله ×
قال وأنت قاعد» :قريش ولة هذا المر ،فَب َّر الناس تبع لبرهم،
تبع لفاجرهم« ،فقال له سعد :صدقت ،نحن الوزراء وفاجر الناس
وأنتم المراء ).(4
رابعا :أهم الدروس والعبر والفوائد في هذه الحادثة:
-1الصديق وتعامله مع النفوس وقدرته على القناع:
من رواية المام أحمد يتضح لنا كيف استطاع الصديق أبو بكر
أن يدخل إلى نفوس النصار فيقنعهم بما رآه هو الحق ،من غير أن
يعرض المسلمين للفتنة ،فأثنى على النصار ببيان ما جاء في
فضلهم من الكتاب والسنة .والثناء على المخالف منهج إسلمي
يقصد منه إنصاف المخالف وامتصاص غضبه ،وانتزاع بواعث الثرة
والنانية في نفسه؛ ليكون مهيأ لقبول الحق إذا تبين له .وقد كان في
هدي النبي × الكثير من المثلة التي تدل على ذلك ،ثم توصل أبو
بكر من ذلك إلى أن فضلهم وإن كان كبيرًا ل يعني أحقيتهم في
نص على أن المهاجرين من قريش هم الخلفة؛ لن النبي × قد
المقدمون في هذا المر (5).وقد ذكر ابن العربي المالكي أن أبا بكر
استدل على أمر الخلفة في قريش بوصية رسول الله ×» :بالنصار
خيًرا ،وأن يقبلوا من محسنهم ويتجاوزوا عن مسيئهم« ،احتج به أبو
بكر على النصار قوله :إن الله سمانا »الصادقين« وسماكم
ن ري َ ج ِ ها ِ م َ ء ال ْ ُ قَرا ِ ف َ »المفلحين« إشارة إلى قوله تعالى+ :ل ِل ْ ُ
خرجوا من ديارهم َ ُ
هن الل ِ م َ ضل ّ نف ْ َ غو َ م ي َب ْت َ ُ ه َْ ُ ِ وال ِ م ََ وأ ْ ِ َ ِ ِ ْ َ ِ نأ ْ ِ ُ ذي َ ال ّ ِ
ن صاِدقو َ ُ م ال ّ ه ُ َ
ه أولئ ِك ُ سول ُ وَر ُ ه َ ن الل َ صُرو َ وَين ُ واًنا َ ض َ ر ْ و ِ َ
جَرها َ ن َ م ْ ن َ حُّبو َ م يُ ِ ه ْ ِ ل ْ بقَ من ِ ن َ ما
َ لي وا
َ ر
َ داّ ال ءوا ُ و
ّ َ بَ ت ن
َ ذيِ ّ ل وا
ن
ؤث ُِرو َ وي ُ ْما أوُتوا َ م ّ ة ّ
ِ
ج ً حا َ م َ ه ْ ر ِ دو ِ
ِ
ص ُ في ُ ن ِ دو َ ج ُ ِ ول َ ي َ َ مْ ه ْ يإ ِ َل َ
لى أ َن ْ ُ َ ِ
ه
س ِف ِ ح نَ ْ ش ّ من ُيوقَ ُ و َ ة َ ص ٌ صا َ خ َ م َ ه ْ ن بِ ِ كا َو َ ول َ ْ م َ ه ْْ ِ سف ِ ع
َ
ن" ]الحشر ،[9 ،8 :وقد أمركم أن تكونوا معنا حو َ فل ِ ُ م ْ م ال ُ ه ُ ك ُ فُأول َئ ِ َ َ
)( الجذيل :عود ينصب للبل الجربى لتحتك به ،والمحكك :الذي يحتك به كثيرًا، 1
أراد :أنه يستشفي برأيه ،والعذيق :أي النخلة أي :الذي يعتمد عليه.
)( البخاري ،كتاب الحدود ،رقم (3) .6830:يعني سعد بن عبادة الخزرجى . 2
3
92
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
َ
ع
م َ و ُ
كوُنوا َ ه َ مُنوا ات ّ ُ
قوا الل َ نآ َ ها ال ّ ِ
ذي َ حيثما كنا فقالَ+ :يا أي ّ َ
من(1القوال المصيبة والدلة )
ن" ]التوبة ،[119 :إلى غير ذلك قي َ
صاِد ِ
ال ّ
القوية ،فتذكرت النصار ذلك وانقادت إليه.
وبّين الصديق في خطابه أن من مؤهلت القوم الذين يرشحون
للخلفة أن يكونوا ممن يدين لهم العرب بالسيادة وتستقر بهم
المور؛ حتى ل تحدث الفتن فيما إذا تولى غيرهم ،وأبان أن العرب ل
يعترفون بالسيادة إل للمسلمين من قريش ،لكون النبي × منهم،
ولما استقر في أذهان العرب من تعظيمهم واحترامهم .وبهذه
الكلمات النيرة التي قالها الصديق اقتنع النصار بأن يكونوا وزراء
مخلصين ،كما كانوا في عهد النبي × ،وبذلك توحد معينين وجنوًدا ُ
صف المسلمين ).(2
-2زهد عمر وأبي بكر -رضي الله عنهما -في الخلفة
وحرص الجميع على وحدة المة:
بعد أن أتم أبو بكر حديثه في السقيفة قدم عمر وأبا عبيدة
للخلفة ،ولكن عمر كره ذلك وقال فيما بعد :فلم أكره مما قال
يقربني ذلك من إثم غيرها ،كان والله أن أقدم فتضرب عنقي ل ُ
ي من أن أتامر على قوم فيهم أبو بكر ).(3أحب إل ّ
وبهذه القناعة من عمر بأحقية أبي بكر بالخلفة قال له :ابسط
يدك يا أبا بكر ،فبسط يده ،قال :فبايعته وبايعه المهاجرون والنصار،
وجاء في رواية قال عمر ...»:يا معشر النصار :ألستم تعلمون أن
رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ،فأيكم تطيب نفسه أن
يتقدم أبا بكر ؟ فقالت النصار :نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ).(4
وهذا ملحظ مهم وُّفق إليه عمر ،وقد اهتم بذلك النبي × في
مرض موته فأصر على إمامة أبي بكر ،وهو من باب الشارة بأنه
أحق من غيره بالخلفة .وكلم عمر في غاية الدب والتواضع والتجرد
من حظ النفس ،ولقد ظهر زهد أبي بكر في المارة في خطبته التي
اعتذر فيها من قبول الخلفة حيث قال :والله ما كنت حريصًا على
يوما ول ليلة قط ،ول كنت فيها راغبًا ،ول سألتها الله -عز
ً المارة
وجل -في سر وعلنية ،ولكني أشفقت من الفتنة ،وما لي في
ول يد عظيما ما لي به من طاقة
ً المارة من راحة ،ولكن قلدت أمرًا
إل بتقوية الله عز وجل ،ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني ).(5
وقد ثبت أنه قال :وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت
عنق( أحد الرجلين؛ أبي عبيدة أو عمر ،فكان أمير المؤمنين المر في
وكنت وزيرًا ) , 6وقد تكررت خطب أبي بكر في العتذار عن تولي
الخلفة وطلبه التنحي عنها ،فقد قال ...»:أيها الناس :هذا أمركم
1
) (4البخاري ،كتاب المحاربين ،رقم: )( التاريخ السلمي.9/24 : 2
.6830 3
)( ا
)( مسند أحمد ،1/21 :وصحح إسناده أحمد شاكر ،1/213 :رقم.133 : 4
)( المستدرك ،3/66 :قال الحاكم :حديث صحيح وأقره الذهبي. 5
)( النصار في العهد الراشد ،حامد محمد الخليفة ،ص .108تاريخ الخلفاء 6
93
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( انظر :السلم وأصول الحكم ،محمد عمارة :ص .74 -71 3
94
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
رسول الله × ) ،(1فهم كانوا أخشى لله وأتقى من أن يفعلوا ذلك.
وقد حاول بعض الكتاب من المؤرخين أصحاب الهواء أن يجعلوا
من سعد بن عبادة منافسًا للمهاجرين يسعى للخلفة بشّره،
ل أساليبويدبر لها المؤامرات ،ويستعمل في الوصول إليها ك ّ
التفرقة بين المسلمين .هذا الرجل ،إذا راجعنا تاريخه وتتبعنا مسلكه،
وجدنا مواقفه مع الرسول × تجعله من الصفوة الخيار ،الذين لم
تكن الدنيا أكبر همهم ول مبلغ علمهم؛ فهو النقيب في بيعة العقبة
الثانية ،حتى لجأت قريش إلى تعقبه قرب مكة وربطوا يديه إلى
بن عدي، عنقه وأدخلوه مكة أسيرًا حتى أنقذه منهم جبير بن مطعم
حيث كان يجيرهم في المدينة .وهو من الذين شهدوا بدرا ) (2وحظى
بمقام أهل بدر ومنزلتهم عند الله ،وكان من بيت جود وكرم وشهد
له ذلك رسول الله × ،وكان رسول الله × يعتمد عليه –بعد الله-
وعلى سعد بن معاذ كما في غزوة الخندق ،عندما استشارهم في
إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن)(3الفزاري ،فكان رد السعدين
يدل على عمق اليمان وكمال التضحية.
فمواقف سعد مشهورة ومعلومة ،فهذا الصحابي الجليل صاحب
الماضي المجيد في خدمة السلم والصحبة الصادقة لرسول الله ،ل
يعقل ولم يثبت أنه كان يريد أن ُيحيي العصبية الجاهلية في مؤتمر
السقيفة لكي يحصل في غمارها هذه الفرقة على منصب الخلفة،
كما أنه لم يثبت ولم يصح ما ورد في بعض المراجع من أنه –بعد
الحج(5بإفاضتهم)(4؛ بيعة أبي بكر -كان ل يصلي بصلتهم ول يفيض في
كأنما انفصل سعد بن عبادة عن جماعة المسلمين ) ،فهذا باطل
سعدا بايع
ً ومحض افتراء ،فقد ثبت من خلل الروايات الصحيحة أن
أبا بكر ،فعندما تكلم أبو بكر يوم السقيفة ،فذكر فضل النصار وقال:
ولقد علمتم أن رسول الله قال» :لو سلك الناس وادًيا ،وسلكت
النصار وادًيا أو شعًبا لسلكت وادي النصار أو شعب النصار« ) ،(6ثم
ذكر سعد بن عبادة بقول فصل وحجة ل ترد ،فقال :ولقد علمت يا
سعد أن رسول الله × قال وأنت قاعد» :قريش ولة هذا المر ،فبر
الناس تبع لبرهم ،وفاجرهم تبع لفاجرهم« .قال سعد :صدقت ،نحن
الوزراء وأنتم المراء ) ،(7فتتابع القوم على البيعة وبايع سعد (8).وبهذا
ثبت بيعة سعد بن عبادة ،وبها يتحقق إجماع النصار على بيعة
الخليفة أبي بكر ،ول يعود أي معنى للترويج لرواية باطلة ،بل
سيكون ذلك متناقضًا للواقع واتهامًا خطيرًا ،أن ينسب لسيد النصار
العمل على شق عصا المسلمين ،والتنكر لكل ما قدمه من نصرة
وجهاد وإيثار للمهاجرين ،والطعن بإسلمه من خلل ما ينسب إليه
من قول :ل أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي ،وأخضب سنان
رمحي ،وأضرب بسيفي،
)( استخلف أبي بكر ،جمال عبد الهادي.53 -51 ،50 : 1
)( البخاري ،كتاب التمني ،رقم (6) .7244 :مسند المام أحمد رقم،18 : 6
95
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بصلتهم ول يجمع بجامعتهم ،ول يقضي بقضائهم ،ول فكان ل يصلي
يفيض بإفاضتهم ) (1أي :في الحج.
إن هذه الرواية التي استغلت للطعن بوحدة المهاجرين والنصار
وصدق أخوتهم ،ما هي إل رواية باطلة للسباب التالية:
أن الراوي صاحب هوى وهو »إخباري تالف ل يوثق به« ) ,(2ول
سيما في المسائل الخلفية.
قال الذهبي عن هذه الرواية :وإسنادها كما ترى )(3؛ أي :في غاية
الضعف أما متنها
وما(4في عنقه من بيعة على السمع عبادة، بن سعد سيرة فهو يناقض
والطاعة ،ولما روي عنه من فضائل ) .
-4ما يروى من خلف بين عمر والحباب بن المنذر:
أما ما يروي عن تنازع في السقيفة بين عمر والحباب بن المنذر
يغضب الحباب السلمي النصاري ،فالراجح أنه غير صحيح ،وأن عمر لم ُ
بن المنذر منذ عهد رسول الله ×،فقد روى عن عمر قال :فلما كان
الحباب بن المنذر هو الذي يجيبني لم يكن لي معه كلم؛ لنه كان بيني
حياة رسول الله ×فنهاني عنه ،فحلفت أن ل أكلمه وبينه منازعة في
أبدا ).(5
كلمة تسوؤه ً
عهدكما أن ما يروى عن الحباب في هذه المنازعة مخالف لما ُ
عنه من حكمة ،ومن حسن تأنيه للمور؛ إذ كان يلقب» :بذي الرأي«
)(7
) (6في عهد رسول الله ×؛ وذلك لقبول مشورته في بدر وخيبر.
وأما قول الحباب بن المنذر :منا أمير ومنكم أمير ،فقد سوغ ذلك
وأوضح أنه ل يقصد بذلك الوصول إلى المارة ،فقال :فإنا والله ما
ننفس عليكم هذا المر ،ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم
وإخوانهم ) ،(8فقبل المهاجرون قوله وأقروا عذره ول سيما أنهم
شركاء في دماء من قتل من المشركين ).(9
-5حديث الئمة من قريش وموقف النصار منه:
ورد حديث »الئمة من قريش« في الصحيحين وكتب
الحديث الخرى بألفاظ متعددة؛ ففي صحيح البخاري عن معاوية
قال :قال رسول الله ×» :إن هذا المر في قريش ل يعاديهم أحد إل
) (4تاريخ الطبري.4/42 : 1
)( ميزان العتدال في نقد الرجال للذهبي ،2/2992 :والراوي هو لوط بن يحيى 2
أبو مخنف متروك ،ولم يعتد بأي مخنف ويعتبر بروايته ويعتمد عليها سوى
الشيعة ،فقد كان من أعظم مؤرخي الشيعة على قول ابن القمي .انظر:
مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري للدكتور يحيى اليحيى :ص .46 ،45
) (4النصار في العصر الراشدي ،ص )( سير أعلم النبلء.1/277 : 3
) (6الستيعاب.1/316 : )( النصار في العصر الراشدي :ص .100 5
6
) (3البخاري ،كتاب الحكام رقم.7139 : )( المرجع السابق نفسه.100 : 9
96
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين« (1) .وفي صحيح
مسلم» :ل يزال السلم عزيًزا بخلفاء كلهم من قريش« (2).وعن
عبد الله بن عمر قال :قال رسول الله ×» :ل يزال هذا المر في
قريش ما بقي منهم اثنان« (3).وقال رسول الله ×» :الناس تبع
)(4
لقريش في هذا الشأن ،مسلمهم لمسلهم وكافرهم لكافرهم«.
وعن بكير بن وهب الجزري قال :قال لي أنس بن مالك النصاري:
حديثا ما أحدثه كل أحد ،كنا في بيت من النصار فجاء النبي ً أحدثك
)(5
× حتى وقف فأخذ بعضادتي الباب ،فقال» :الئمة من قريش ،إن
قا مثل ذلك ،ما إن استرحموا قا ،ولكم عليهم ح ً
لهم عليكم ح ً
فرحموا ،وإن عاهدوا أوفوا ،وإن حكموا عدلوا« (6) .وفي »فتح
الباري« أورد ابن حجر أحاديث كثيرة تحت باب :المراء من قريش،
أسندها إلى كتب السنن والمسانيد والمصنفات (7).فالحاديث في هذا
الباب كثيرة ل يكاد يخلو منها كتاب من كتب الحديث ،وقد رويت
بألفاظ متعددة إل أنها متقاربة ،تؤكد جميعها أن المرة المشروعة
في قريش ،ويقصد بالمرة الخلفة فقط ،أما ما سوى ذلك فتساوى
)(8
فيه جميع المسلمين.
وبمثل ما أوضحت الحاديث النبوية الشريفة أن أمر الخلفة في
قريش ،فإنها حذرت من النقياد العمى لهم ،وأن هذا المر فيهم ما
أقاموا الدين كما سلف في حديث معاوية ،وكما جاء في حديث
أنس :إن استرحموا فرحموا ،وإن عاهدوا أوفوا ،وإن حكموا عدلوا،
فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملئكة والناس أجمعين.
) ،(9وبهذا حذرت الحاديث من اتباع قريش إن زاغوا عن الحكم بما
أنزل الله ،فإن لم يمتثلوا ويطبقوا مثل هذه الشروط ،فإنهم
سيصبحون خطرًا على المة ،وحذرت الحاديث الشريفة من اتباعهم
على غير ما أنزل الله ،ودعت إلى اجتنابهم والبعد عنهم واعتزالهم؛
لما سيترتب على مؤازرتهم آنذاك من مخاطر على مصير المة ،قال
×»:إن هلك أمتي أو فساد أمتي رؤوس أغيلمة سفهاء من قريش«
) ،(10وعندما سئل × :فما تأمرنا؟ قال ×»:لو أن الناس اعتزلوهم«
).(11
ومن هذه النصوص تتضح الصورة لمسألة الئمة من قريش ،وأن
النصار انقادوا لقريش ضمن هذه الضوابط وعلى هذه السس ،وهذا
ما أكدوه في بيعاتهم لرسول الله » :على السمع والطاعة ،والصبر
حا
على الثرة ،وأن ل ينازعوا المر أهله ،إل أن يروا كفرا بوا ً
1
)( مسلم ،كتاب المارة رقم (5) .1821 :البخاري ،كتاب الحكام رقم.7140 : 2
3
)( الفتح الرباني للساعاتي ،باب الخلفة:ج 5/23/65؛ ابن أبي شيبة.5/544 : 5
) (10) ,(9النصار في العصر الراشدي: )( المصنف لبي شيبة.5/544 : 6
.111 7
8
)( النصار في العصر الراشدي:ـ .111
)( دلئل النبوة للبيهقي ،6/464 :الحسان في تقريب صحيح ابن حبان رقم: 11
.6713
97
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عندهم من الله فيه برهان« (1).فقد كان للنصار تصور تام عن
مسألة الخلفة ،وأنها لم تكن مجهولة عندهم ،وأن حديث »الئمة من
قريش« كان يرويه كثير منهم ،وأن الذين ل يعلمونه سكتوا عندما
رواه لهم أبو بكر الصديق ،ولهذا لم يراجعه أحد من النصار عندما
استشهد به ،فأمر الخلفة تم بالتشاور والحتكام إلى النصوص
الشرعية والعقلية التي أثبتت أحقية قريش بها ،ولم يسمع عن أحد
مما يؤكد)(2
من النصار بعد بيعة السقيفة أنه دعا لنفسه بالخلفة،
اقتناع النصار وتصديقهم لما تم التوصل إليه من نتائج.
وبهذا يتهافت ويسقط قول من قال :إن حديث الئمة من قريش
شعار رفعته قريش لستلب الخلفة من النصار ،أو أنه رأي لبي
حديثا رواه عن الرسول ،وإنما كان فكرًا سياسيًا قرشيًا، ً بكر وليس
كان شائعا في ذلك العصر ،يعكس ثقل قريش في المجتمع العربي
في ذلك الحين .وعلى هذا فإن نسبة هذه الحاديث إلى أبي بكر
وأنها شعار لقريش ،ما هي إل صورة من صور التشويه التي يتعرض
أساسا على
ً لها تاريخ العصر الراشدي وصدر السلم ،الذي قام
جهود المهاجرين والنصار ومن تبعهم بإحسان ،وعلى روابط الخوة
المتينة بين المهاجرين والنصار ،حتى قال فيهم أبو بكر :نحن
والنصار كما قال القائل:
)(3
تلقي الذين يلقون منا لملت أبوْا أن يملونا ولو أن أمنا
َ
() 3النصار في العصر الراشدي (2) .116 :عقيدة أهل السنة والجماعة في
الصحابة.2/539 : 4
() 5مسلم ،1857 ،4/1856 :البخاري رقم (4) .3659 :فتح الباري.7/24 : 6
98
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وعمر( ،وتمسكوا بعهد عمار ،وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه« ).(1
فقوله ×» :اقتدوا بالذين من بعدي« أي :بالخليفتين الذين
يقومان من بعدي وهما أبو بكر وعمر .وحث على القتداء بهما
لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما ،وفي الحديث إشارة لمر الخلفة
).(2
ج -عن أبي هريرة عن رسول الله × قال» :بينما أنا نائم
أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس ،فجاءني أبو بكر فأخذ
الدلو من يدي ليروحني فنزع الدلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر
له ،فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم)(3أر نزع رجل قط أقوى منه حتى
تولى الناس والحوض ملن يتفجر« .
قال الشافعي -رحمه الله :-رؤيا النبياء وحي ،وقوله) :وفي نزعة
ضعف( قصر
مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لهل الردة عن الفتتاح والتزيد
عمر في الذي بلغه
طول مدته).(4
د -قالت عائشة :قال لي رسول الله × في مرضه» :ادعي لي
يتمنى متمن ويقول قائل: با،فإني أخاف أنأبا بكر ,أخاك حتى أكتب كتا ً
أنا أولى ،ويأبى الله والمؤمنون إل أبا بكر« ).(5
دل هذا الحديث دللة واضحة على فضل الصديق ،حيث أخبر
النبي × بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق العلى ،وأن
المسلمين يأبون عقد الخلفة لغيره ،وفي الحديث إشارة أنه
ذلك كما أخبر عليه الصلة والسلم ،ثم سيحصل نزاع ،ووقع كل
اجتمعوا على أبي بكر .(6)
هـ -عن عبيد الله بن عبد الله قال :دخلت على عائشة فقلت لها:
قل النبي × أل تحدثيني عن مرض رسول الله ×؟ قالت :بلى ،ث ُ
قال:
)(8
الله. رسول فقال» :أصلى الناس؟« قلنا :ل وهم ينتظرونك يا
»ضعوا لي ماء في المخضب« ) ،(7ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء
فأغمى عليه ،ثم أفاق فقال» :أصلى الناس؟« .قلنا :ل وهم
ينتظرونك يا رسول الله .فقال» :ضعوا لي ماء في المخضب«،
ففعلنا فاغتسل ،ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال» :أصلى
الناس؟« ،قلنا :ل وهم ينتظرونك يا رسول الله! قالت :والناس
عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله × لصلة العشاء الخرة،
قالت :فأرسل رسول الله × إلى أبي بكر أن يصلي بالناس ،فأتاه
الرسول فقال :إن رسول الله × يأمرك أن تصلي بالناس ،فقال أبو
رجل رقيقًا :يا عمر صل بالناس .قال :فقال عمر :أنت ً بكر وكان
أحق بذلك ،قالت :فصلى بهم أبو بكر تلك اليام ،ثم إن رسول الله
سلسلة الحاديث الصحيحة لللباني.236 – 3/233 : )( 1
تحفة الحوذي بشرح الترمذي (7) .10/147 :مسلم.1852 ،4/1861 : )( 2
3
99
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
× وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلة
الظهر وأبو بكر يصلي بالناس ،فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ
إليه النبي × أن ل يتأخر ،وقال لهما» :أجلساني إلى جنبه« فأجلساه
إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلة النبي ×
والناس يصلون بصلة أبي بكر والنبي × قاعد .قال عبيد الله:
فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له :أل أعرض عليك ما
حدثتني عائشة عن مرض رسول الله × فقال :هات ،فعرضت
مت لك الرجل الذي س ّ
قال :أ َ حديثها عليه فما أنكر منه شيئًا ،غير أنه
كان مع العباس؟ قلت :ل .قال ،هو علي ).(1
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة ،منها :فضيلة أبي بكر
الصديق وترجيحه على جميع الصحابة -رضوان الله عليهم
أجمعين -وتفضيله ،وتنبيه على أنه أحق بخلفة رسول الله × من
غيره ،ومنها أن المام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة
استخلف من يصلي بهم ،وأنه ل يستخلف إل أفضلهم ،ومنها فضيلة
عمر بعد أبي بكر ؛ لن أبا بكر لم يعدل إلى غيره ).(2
و -قال عبد الله بن مسعود :لما قبض رسول الله × قالت
النصار :منا أمير ومنكم أمير ،قال :فأتاهم عمر فقال :يا معشر
النصار ،ألستم تعلمون أن رسول الله × قد أمر أبا بكر أن يؤم
الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت النصار:
نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ).(3
ز -روى ابن سعد بإسناده إلى الحسن قال :قال علي :لما قبض
النبي × نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي × قد قدم أبا بكر في الصلة
فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله × لديننا ،فقدمنا أبا بكر ).(4
وقد علق أبو الحسن الشعري على تقديم رسول الله × لبي
بكر في الصلة فقال :وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة في دين
السلم .قال :وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم ،لما
ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله ×
قال» :يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ،فإن كانوا في القراءة سواء
فأعلمهم بالسنة ،فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سّنا ،فإن كانوا
ما« .قال ابن كثير -وهذا من كلم في السن سواء فأقدمهم إسل ً
الشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب :-ثم قد
اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق وأرضاه ).(5
هذا ولهل السنة قولن في إمامة أبي بكر من حيث الشارة
إليها بالنص الخفي أو الجلي ،فمنهم من قال :إن إمامة أبي بكر
ثابتة بالنص الخفي والشارة ،وهذا القول ينسب إلى الحسن
)( عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة .2/542 :مسلم رقم،418 : 1
) (5البداية والنهاية.5/265 : )( الطبقات لبن سعد.3/183 : 4
5
100
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
تعالى(2-وجماعة من أهل الحديث ) ،(1وهو رواية البصري -رحمه الله
عن المام أحمد بن حنبل ) رحمة الله عليه ،واستدل أصحاب هذا
القول بتقديم النبي × له في الصلة وبأمره × بسد البواب إل باب
أبي بكر .ومنهم من قال :إن خلفة)(3أبي بكر ثابتة بالنص الجلي
طائفة من أهل الحديث ،وبه قال أبو محمد بن حزم )(4
وهذا قول
الفريق بحديث المرأة التي قال لها» :إن هذا واستدل ، الظاهري
لم تجديني فأتي أبا بكر« ) ،(5وبقوله لعائشة -رضي الله عنها:-
»ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاًبا ،فإني أخاف أن يتمنى
متمن ويقول قائل :أنا أولى ،ويأبى الله والمؤمنون إل أبا بكر« )،(6
على حوض يسقي الناس فجاء أبو بكر فنزع وحديث رؤياه × أنه
الدلو من يده ليروحه ).(7
والذي أميل إليه ويظهر لي من خلل البحث :أن المصطفى ×
يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبا بكر ،وإنما
دلهم عليه لعلم الله -سبحانه وتعالى -له بأن المسلمين سيختارونه
القرآن والسنة وفاق بها لما له من الفضائل العالية التي ورد بها
غيره من جميع المة المحمدية وأرضاه ).(8
قال ابن تيمية -رحمه الله :-والتحقيق أن النبي × دل المسلمين
على استخلف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله
وأفعاله ،وأخبر بخلفته إخبار رضى بذلك حامد له وعزم على أن
عهدا ،ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب ً يكتب بذلك
اكتفاء بذلك ...فلو كان التعيين مما يشتبه على المة لبينه رسول
بيانا قاطعًا للعذر ،ولكن لما دلهم دللت متعددة على أن أباالله × ً
بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود ،ولهذا قال عمر بن
الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والنصار:
وليس فيكم من تقطع إليه العناق مثل أبي بكر ...إلى أن قال:
فخلفة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها
ورضا الله ورسوله × له بها ،وانعقدت بمبايعة المسلمين له
واختيارهم إياه اختيارًا استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله
ورسوله ،فصارت ثابتة بالنص والجماع جميعًا ،لكن النص دل على
رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها ،وأم
المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها؛ لنه حينئذ كان
يكون طريق ثبوتها مجرد العهد ،وأما إذا كان المسلمين قد اختاروه
من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضي الله
دليل على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي ً ورسوله بذلك ،كان
المسلمين به أنه أحقهم بالخلفة ،فإن ذلك علم ما بان بها عن غيره
ل يحتاج فيه إلى عهد خاص ).(9
) (2نفس المصدر السابق: )( منهاج السنة لبن تيمية.135 ،1/134 : 1
.1/134 2
) (5مسلم.1857 ،4/1856 : )( الفصل في الملل والهواء والنحل.4/107 : 4
5
)( مسلم 4/1857 :حديث رقم (7) .2387 :مسلم.1862 ،4/1861 : 6
7
)( منهاج السنة141 – 1/139 :؛ مجمع الفتاوى.49 – 35/47 : 9
101
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وشماسا :أي صعب الخلق ،لسان العرب (4) .6/111 :كتاب الرشاد.361 : )( 7
8
102
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
د -وقال أبو بكر الباقلني في معرض ذكره للجماع على خلفة
الصديق :وكان مفروض الطاعة لجماع المسلمين على
طاعته وإمامته وانقيادهم له ،حتى قال أمير المؤمنين علي مجيبًا
لقوله لما قال :أقيلوني فلست بخيركم ،فقال :ل نقيلك ول
نستقيلك ،قدمك رسول الله × لديننا أل نرضاك لدنيانا ،يعني بذلك
حين قدمه للمامة في الصلة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج،
إيمانا وأكملهم فهمًا
ً وكان أفضل المة وأرجحهم فأمرك علينا.
وأوفرهم علمًا ).(1
-8منصب الخلفة والخليفة:
الخلفة السلمية هي المنهج الذي اختارته المة السلمية
وأجمعت عليه طريقة وأسلوبًا للحكم تنظم من خلله أمورها وترعى
مصالحها ،وقد ارتبطت نشأة الخلفة بحاجة المة لها واقتناعها بها،
ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله ×.
يقول المام أبو الحسن الماوردي :إن الله جلت قدرته ندب للمة
زعيما خلف به النبوة وحاط به الملة ،وفوض إليه السياسة ليصدر ً
التدبير عن دين مشروع ،وتجتمع الكلمة على رأي متبوع ،فكانت
العامة أصل عليه استقرت قواعد الملة ،وانتظمت به مصالح ً المامة
حتى استثبتت به المور العامة ،وصدرت عنه الوليات الخاصة ).(2
لقد كان على المة السلمية أن تواجه الموقف الصعب الذي
نشأ عن انتقال
الرسول × إلى الرفيق العلى ،وأن تحسم أمورها بسرعة وحكمة
أفرادها ،أو وأل تدع مجالً لنقسام قد يتسرب منه الشك إلى نفوس
للضعف أن يتسلل إلى أركان البناء الذي شيده رسول الله × ).(3
ولما كانت الخلفة هي نظام حكم المسلمين ،فقد استمدت
أصولها من دستور المسلمين؛ من القرآن الكريم ومن سنة النبي
)(5
× (4).وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلفة السلمية فقالوا
بالشورى والبيعة وهما –أصلً -قد أشير إليهما في القرآن الكريم ،
أحيانا يطلق عليه لفظ المامة أو المارة .وقد أجمع ً ومنصب الخلفة
المسلمون على وجوب الخلفة ،وأن تعيين الخليفة فرض على
المسلمين يرعى شئون المة ويقيم الحدود ويعمل على نشر الدعوة
السلمية وعلى حماية الدين والمة بالجهاد ،وعلى تطبيق الشريعة
وتوفير(6الحاجات الضرورية لكل وحماية حقوق الناس ورفع المظالم
فرد ،وهذا ثابت بالقرآن والسنة والجماع ) .
عوا وقد قال تعالى+ :يا أ َيها ال ّذين آمُنوا أ َطيعوا الله َ
طي ُوأ َِ َ ِ ُ ِ َ َ َ ّ َ ل ُ
م" ْ ُ كْ ن م
ر ِ
م ِ
وأوِلي ال ْ سو َ َ
الّر ُ
]النساء.[59 :
)( »النصاف فيما يجب اعتقاده ول يجوز الجهل به«.65 : 1
وتجدر الشارة إلي أن الذي ذكرت فيه النصوص التي فيها الشارة إلى خلفة
الصديق ،اختصرتها من الكتاب القيم »عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة
الكرام« للدكتور ناصر بن عائض حسن الشيخ.
)( الحكام السلطانية:ص .3 2
)( عصر الخلفة والخلفاء الراشدين ،د :فتحية النبراوي:ص .22 3
)( عصر الخلفاء الراشدين:ص (4) .23عصر الخلفاء الراشدين:ص .23 4
5
)( الخلفة والخلفاء الراشدون:ص (6) .58ل حجة له في فعله ول تنفعه. 6
103
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ض في ا َ خِلي َ عل َْنا َ
لْر ِ ضل ّ َ
ة ِ ف ً ك َ
ْ
ج َ ودُ إ ِّنا َ دا ْ ُ
وقال تعالىَ+ :يا َ
عن ك َ ُ ِ
َ
يفَ وى ه
َ َ ل ا ع ب ت
َ ّ ِ ِ ت َ ل و
س ِ َ ّّ َ
ق ح لبا ن الّنا ّ ِ م ب َي ْ َ حك ُ ْ
فا ْ َ
ب
ٌ َ
ذا ع
َ م ه
ِ ُ ْ ل ه الل ل بي
َ ِ ِ س عن َ ن
َ لو ض ي
ِ َ َ ِ ن ذي ل ا ن إ
ِ ِ ّ ه الل ل بي
َ ِ ِ س
ب" سا ِ ح َ م ال ْ ِ و َسوا ي َ ْ ما ن َ ُ ديدُ ب ِ َ َ
ش ِ
]ص.[26 :
دا من طاعة لقي الله يوم القيامة ل حجة له وقال ×» :من خلع ي ً
) ،(1ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية« ).(2
وأما الجماع فالصحابة -رضوان الله عليهم -لم ينتظروا حتى يتم
دفن الرسول × ،وتوافدوا للتفاق على إمام أو خليفة ،وعلل أبو بكر
المانة وهو خوفه أن تكون فتنة )أي من عدم تعيين خليفة قبول هذه
للمسلمين( (3).قال الشهرستاني في ذلك :ما دار في قلبه ول في
قلب أحد أنه يجوز خلو الرض من إمام ،فدل ذلك كله على أن
الصحابة وهم الصدر الول كانوا عن بكرة أبيهم متفقين على أنه ل
إمام ،فذلك الجماع على هذا الوجه دليل قاطع على وجوب بد من
المام ).(4
أن الطمع في الرياسة هذا وليس صحيحًا ما يروجه الحاقدون
سبب النشغال بالخلفة عن دفن النبي × ).(5
هذا وقد عرف ابن خلدون الخلفة :هي حمل الكافة على
مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الخروية والدنيوية الراجعة
إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارهم بمصالح
الحقيقة(6خلفة عن صاحب الشرع في حراسة هذا الخرة ،فهي في
الدين وسياسة الدنيا به ) .
وقد تحدث العلمة أبو الحسن الندوي عن شروط خلفة النبي ×
ومتطلباتها ،وقد أثبت بالدلة والحجج من خلل سيرة الصديق بأن أبا
بكر كانت شروط خلفة النبي × متحققة فيه ،ونذكر هذه الشروط
بإيجاز وبدون ذكر الشواهد التي ذكرها الندوي وقد بينتها في هذا
الكتاب متناثرة ،فأهم هذه الشروط:
يمتاز بأنه ظل طوال حياته بعد السلم متمتعا بثقة رسول الله × به أ-
وشهادته له ،واستخلفه إياه في القيام ببعض أركان الدين الساسية ،وفي
مهمات المور ،والصحبة في مناسبات خطرة دقيقة ل يستصحب فيها
النسان إل من يثق به كل الثقة ،ويعتمد عليه كل العتماد.
ب -يمتاز هذا الفرد بالتماسك والصمود في وجه العاصير
والعواصف التي تكاد تعصف بجوهر الدين ولبه ،وتحبط مساعي
صاحب رسالته ،وتنخلع لها قلوب كثير ممن قوي إيمانهم وطالت
صحبتهم ،ولكن يثبت هذا الفرد في وجهها ثبوت الجبال الراسيات،
ويمثل دور خلفاء النبياء الصادقين الراسخين ،ويكشف الغطاء عن
العيون ،وينفض الغبار عن جوهر الدين وعقيدته الصحيحة.
1
)( الملل والنحل للشهرستاني .7/83 :نظام الحكم ،محمود الخالدي– 327 : 4
.248
)( الخلفة والخلفاء الراشدون (5) .49 :المقدمة.191 : 5
6
104
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
105
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
* أول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن »نظام الحكم
تطبيقا لمبدأ الشورى الذي
ً ودستور الدولة« يقرر بالشورى الحرة،
نص عليه القرآن ،ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع ،وسند هذا
الجماع النصوص القرآنية التي فرضت الشورى؛ أي أن هذا الجماع
كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في السلم وهو
الشورى الملزمة ،وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالجماع بعد وفاة
تأييدا وتطبيقًا لنصوص
ً رسولنا × ،ثم إن هذا الجماع لم يكن إل
الكتاب والسنة التي أوجبت الشورى.
* تقرر يوم السقيفة أيضا أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة
السلمية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى؛ أي :بالبيعة الحرة
التي تمنحه تفويضًا ليتولى الولية بالشروط والقيود التي يتضمنها
عقد البيعة الختيارية الحرة –الدستور في النظم المعاصرة -وكان
هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الجماع ،وكان قرارًا إجماعيًا
كالقرار السابق.
اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر * تطبيقا للمبدأين السابقين ،قرر
ليكون الخليفة الول للدولة السلمية ).(1
ثم إن هذا الترشيح لم يصبح نهائيًا إل بعد أن تمت له البيعة
العامة ،أي :موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد
الرسول × ،ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه الذي
ألقاه ) ،(2وسنأتي على ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى.
106
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الثاني
البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية
أول :البيعة العامة:
بعد أن تمت بيعة أبي بكر البيعة الخاصة في سقيفة بني
تأييد( أبي بكر، ساعدة ،كان لعمر في اليوم التالي موقف في
وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة) 1العامة ،قال
أنس بن مالك :لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو
بكر على المنبر ،فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى
عليه بما هو أهله ،ثم قال :أيها الناس ،إني كنت قلت لكم بالمس
ي
مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله ،ول كانت عهدًا عهده إل ّ
رسول الله × ،ولكني قد كنت أرى أن رسول الله × سيدبر أمرنا –
يقول :يكون آخرنا -وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله
رسوله × ،فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له ،وإن الله
قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله × ،وثاني اثنين إذ
هما في الغار ،فقوموا فبايعوه ،فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة
السقيفة..
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ،ثم
قال :أما بعد :أيها الناس ،فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم،
فإن أحسنت فأعين وني ،وإن أسأت فقوموني ،الصدق أمانة
والكذب خيانة ،والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه
إن شاء الله ،والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن
شاء الله .ل يدع قوم الجهاد في سبيل الله إل خذلهم الله بالذل،
ول تشيع الفاحشة في قوم إل عمهم الله بالبلء ،أطيعوني ما
ورسوله فل طاعة لي )(2
أطعت الله ورسوله ،فإذا عصيت الله
عليكم ،قوموا إلى صلتكم يرحمكم الله.
وقال عمر لبي بكر يومئذ :اصعد المنبر ،فلم يزل به حتى صعد
المنبر(3فبايعه الناس
عامة) .
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب السلمية على
إيجازها ،وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل
بين الحاكم والمحكوم ،وركز على أن طاعة ولي المر مترتبة على
طاعة الله ورسوله ،ونص على الجهاد في سبيل الله لهميته في
اجتناب الفاحشة لهمية ذلك في حماية المجتمع إعزاز المة ،وعلى
من النهيار والفساد (4).من خلل الخطبة والحداث التي تمت بعد
وفاة الرسول يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملمح نظام الحكم
في بداية عهد الخلفة الراشدة ،والتي من أهمها:
عصر الخلفة والخلفاء الراشدين ،د :فتحية النبراوي.30 : )( 1
107
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-1مفهوم البيعة:
عرف العلماء البيعة بتعاريف عدة ،منها تعريف ابن خلدون :العهد
لولي المر (1).وعرفها بعضهم بقوله :البيعة على التعاقد )(2
على الطاعة
والميثاق والمعاقدة العهد أخذ :بأنها كذلك وعرفت ، السلم على
على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة ،وإقامة ما أقامه (3).وكان
المسلمون إذا بايعوا المير جعلوا أيديهم في يده؛ تأكيدًا للعهد
والولء ،فأشبه ذلك الفعل البائع والمشتري ،فسمي هذا الفعل بيعة
).(4
ونتعلم من مبايعة المة للصديق بأن الحاكم في الدولة السلمية
إذا وصل إلى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد ،وبايعته المة بعد
أن توفرت فيه الشروط المعتبرة ،فيجب على المسلمين جميعًا
مبايعته والجتماع عليه ،ونصرته على من يخرج عليه؛ حفاظًا على
المة( وتماسك بنيانها أمام العداء في داخل الدولة السلمية وحدة
وخارجها ). 5
قال ×» :من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية« )،(6
على تركها، فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة والتوعد
فمن مات ولم يبايع عاش على الضلل ومات على الضلل ).(7
ما فأعطاه صفقة يده وثمرة وقال رسول الله ×» :ومن بايع إما ً
قلبه فليطعه ما استطاع ،فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر«
).(8
فالشارع الحكيم قد رتب القتل وأمر به نتيجة الخروج على
لنه يطلب بيعة أخرى بالبيعة المام ،مما يدل على حرمة هذا الفعل؛
الولى التي هي فرض على المسلمين ).(9
والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الخليفة ،وأما في
القاليم فقد يأخذها المام وقد يأخذها نواب المام ،كما حدث في
بيعة الصديق ،فبيعة أهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة.
والذي تجب بيعتهم للمام هم أهل الحل والعقد ،وأهل الختيار
من علماء المة وقادتها ،وأهل الشورى وأمراء المصار ،وأما سائر
الناس وعامتهم فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلء ،ول يمنع العامة
من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد (10).وهناك من العلماء من قال:
مهامه كخليفة ل بد من البيعة العامة؛ لن الصديق لم يباشر
للمسلمين إل بعد البيعة العامة من المسلمين ).(11
والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تم للصديق ل تعطى إل للمام
العظم في الدولة السلمية ول تعطى لغيره من الشخاص ،سواء
1
) (8نظام الحكم في السلم.250 : )( مسلم ،كتاب المارة ،رقم.1851 : 6
7
) (1نظام الحكم في السلم (2) .253 :المصدر السابق.253 : 9
10
)( فقه الشورى :د .الشاوي439 :؛ عصر الخلفة والخلفاء الراشدين.30 : 11
108
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الدولة السلمية أو عند فقدها؛ لما يترتب على هذه البيعة )(1
في ظل
من أحكام.
وخلصة القول :إن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولء
والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى ،وأنها
في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين :المام من جهة وهو
الطرف الول ،والمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني ،فالمام
يبايع على الحكم بالكتاب والسنة والخضوع التام للشريعة السلمية
عقيدة وشريعة ونظام حياة ،والمة تبايع على الخضوع والسمع
والطاعة للمام في حدود الشريعة.
فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في السلم تفرد به
عن غيره من النظم الخرى في القديم والحديث ،ومفهومه أن
الحاكم والمة كليهما مقيد بما جاء به السلم من الحكام الشرعية،
ول يحق لحدهما سواء كان الحاكم أو المة ممثلة بأهل الحل والعقد
الخروج على أحكام الشريعة أو تشريع الحكام التي تصادم الكتاب
والسنة ,أو القواعد العامة في الشريعة ،ويعد مثل ذلك خروج على
السلم؛ بل إعلن الحرب على النظام العام للدولة السلمية ،بل
أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة اليمان ) ،(2قال
ّ
جَرش َ ما َ في َ ك ِ مو َ حك ّ ُ حّتى ي ُ َ ن َ مُنو َ َ
ك ل َ يُ ْ
ؤ ِ وَرب ّ َ فل َ َتعالىَ + :
مواسل ُ وي ُ َت َ ضي ْ َ ما ق َ َ م ّجا ّ حَر ً م َ ه ْ س ِ ُ
في أن ْف ِ دوا ِ ج ُ َ
م ل يَ ِ م ثُ ّه ْ
ب َي ْن َ ُ
ما" ]النساء.[65 : سِلي ًتَ ْ
فهذا مفهوم البيعة من خلل عصر أبي بكر الصديق .
-2مصدر التشريع في دولة الصديق:
قال أبو بكر :أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ،فإن عصيت
الله ورسوله فل طاعة لي عليكم ) ،(3فمصدر التشريع عند الصديق:
أ -القرآن الكريم:
ن
م ب َي ْ َحك ُ َ ق ل ِت َ ْ ح ّ ب ِبال ْ َ ك ال ْك َِتا َ قال تعالى+ :إ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ
ما" ]النساء.[105 : صي ً خ ِ ن َ خائ ِِني َ كن ل ّل ْ َ ول َ ت َ ُ ه َ ك الل ُ ما أ ََرا َس بِ َالّنا ِ
فهو المصدر الول الذي يشتمل على جميع الحكام الشرعية
التي تتعلق بشئون الحياة ،كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكامًا
قاطعة لصلح كل شعبة من شعب الحياة ،كما بين القرآن الكريم
للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
ب -السنة المطهرة:
هي المصدر الثاني الذي يستمد منه الدستور السلمي أصوله،
ومن خللها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لحكام القرآن
).(4
إن دولة الصديق خضعت للشريعة ،وأصبحت سيادة الشريعة
)( نظام الحكم في السلم.254 : 1
)( نظام الحكم في السلم (2) .153 ،152 :البداية والنهاية.6/306 : 2
3
109
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
السلمية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون ،وأعطيت لنا صورة
مضيئة مشرقة على أن الدولة السلمية دولة شريعة ،خاضعة بكل
أجهزتها لحكام)(1هذه الشريعة ،والحاكم فيها مقيد بأحكامها ل يتقدم
ول يتأخر عنها .
ففي دولة الصديق وفي مجتمع الصحابة ،الشريعة فوق الجميع
يخضع لها
الحاكم والمحكوم ،ولهذا قيد الصديق طاعته التي طلبها من المة
بطاعة الله ورسوله؛
الله × قال» :ل طاعة في المعصية ،إنما الطاعة في لن رسول
المعروف« ).(2
-3حق المة في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
. قال أبو بكر :فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني
)(3
) (4) ,(3فقه الشورى والستشارة: )( البداية والنهاية.6/305 : 3
.441 4
)( مسلم ،كتاب )اليمان( ،باب )أن الدين نصيحة( ،رقم.55 : 7
110
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق ،
وترجمت ذلك إلى لجان متخصصة ومجالس شورية ،تمد الحاكم
بالخطط ،وتزوده بالمعلومات ،وتشير عليه بما يحسن أن يقرره.
والشيء المحزن أن كثيرًا من الدول السلمية تعرض عن هذا
النظام الحكيم ،فعظم مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم،
والتخلف الذي يعم معظم ديار المسلمين ما هو إل نتيجة لتسلط
بغيض» ،ودكتاتورية« لعينة أماتت في المة روح التناصح والشجاعة،
وبذرت فيها وزرعت بها الجبن والفزع إل من رحم ربي ،وأما المة
بأسباب(1القوة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته وتأخذ
والتمكين في الرض ،فتنطلق إلى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله ) .
-4إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس:
قال أبو بكر :الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه
إن شاء الله ،والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله
).(2
إن من أهداف الحكم السلمي الحرص على إقامة قواعد النظام
السلمي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ،ومن أهم هذه
القواعد :الشورى والعدل ،والمساواة والحريات .ففي خطاب
الصديق للمة أقر هذه المبادئ ،فالشورى تظهر في طريقة اختياره
وبيعته وفي خطبته في المسجد الجامع ,بمحضر من جمهور
المسلمين ،وأما عدالته فتظهر في نص خطابه ،ول شك أن العدل
في فكر أبي بكر هو عدل السلم ،الذي هو الدعامة الرئيسية في
إقامة المجتمع السلمي والحكم السلمي ،فل وجود للسلم في
مجتمع يسوده الظلم ول يعرف العدل.
إن إقامة العدل بين الناس أفرادًا وجماعات ودولً ،ليست من
المور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو المير وهواه؛ بل إن
تعد من أقدس الواجبات إقامة العدل بين الناس في الدين السلمي
وأهمها ،وقد أجمعت المة على وجوب العدل) ،(3قال الفخر الرازي
الله :-أجمعوا على أن من كان حاكمًا وجب عليه أن يحكم -رحمه
بالعدل ).(4
وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية .إن من
أهداف دولة السلم إقامة المجتمع السلمي الذي تسود فيه قيم
العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بجميع أشكاله وأنواعه،
وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه
أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها ،دون أن يكلفه ذلك جهدًا أو
مال ،وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيقً
صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
لقد أوجب السلم على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون
النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الجتماعية ،فهو يعدل بين
)( تاريخ الدعوة إلى السلم :ص (2) .249البداية والنهاية.6/305 : 1
2
)(
)( فقه التمكين في القرآن الكريم :ص (4) .455تفسير الرازي.10/141 : 3
4
111
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء :ص .410 )( 2
112
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
م؟ قال :عليه قفل! وكان من يحرسه؟ فقال :ل يخاف عليه ،قيل له :ول ِ َ
شيئا ،فلما تحول إلى المدينة حوله معه ً يبقى فيه يعطي ما فيه حتى ل ُ
فجعله في الدار التي كان فيها ،وقدم عليه مال من معدن من معادن
سليم في خلفته ،فقدم عليه منه جهينة ،فكان كثيرًا ،وانفتح معدن بني ُ ُ
بصدقة ،فكان يضع ذلك في بيت المال ،فيقسمه بين الناس سويًا ،بين
الحر والعبد ،والذكر والنثى ،والصغير والكبير على السواء ،قالت
عائشة -رضي الله عنها :-فأعطى َأول عام الحر ّ عشرة والمملوك
تها عشرة ،ثم قسم في العام مَعشرة ،وأعطى المرأة عشرة ،وأ َ
الثاني ،فأعطاهم عشرين عشرين ،فجاء ناس من المسلمين فقالوا :يا
خليفة رسول الله :إنك قسمت هذا المال فسويت بين الناس ،ومن
الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم ،فلو فضلت أهل السوابق
والقدم والفضل .فقال :أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما
أعرفني بذلك ،وإنا ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه ،وهذا معاش،
فالسوة فيه خير من الثرة(1).فقد كان توزيع العطاء في خلفته على
التسوية بين الناس ،وقد ناظر الفاروق عمر أبا بكر في ذلك فقال:
أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين ،وبين من أسلم
عام الفتح؟ فقال أبو بكر :إنما عملوا لله ،وإنما أجورهم على الله،
وإنما الدنيا بلغ للراكب.
ورغم أن عمر غير في طريقة التوزيع فجعل التفضيل
بالسابقة إلى السلم
والجهاد إل أنه في نهاية خلفته قال :لو استقبلت من أمري ما
استدبرت لرجعت إلى
طريقة أبي بكر فسويت بين الناس ).(2
وكان يشتري البل والخيل والسلح فيحمل في سبيل الله،
عاما قطائف )القطيفة :كساء مخمل( أتى بهما من البادية، ً واشترى
ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء ،وقد بلغ المال الذي ورد
على أبي بكر في خلفته مائتي ألف وزعت في أبواب الخير ).(3
لقد اتبع أبو بكر المنهج الرباني في إقرار العدل ،وتحقيق
المساواة بين الناس ،وراعى حقوق الضعفاء ،فرأى أن يضع نفسه
في كفة هؤلء الواهنة أصواتهم فيتبعهم بسمع مرهف وبصر حاد
وإرادة واعية ل تستذلها عوامل القوة الرضية تحت أقدام قومه،
ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته ،ويحفظ لها دورها في
حراسة الملة والمة).(4
لقد قام الصديق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية؛
فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم ،ولهذا وضع الصديق
مُر ْ
ه ي َأ ُ ن الل َ سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردد قوله تعالى+ :إ ِ ّ
ء
شا ِ ح َ فَ ْ ل ا ن ء ِذي ال ْ ُ ِبال ْ َ
ْ ع ِهى َ وي َن ْ َقْرَبى َ وِإيَتا ِن َ سا ِ
ح َ
وال ْ
ل َ
عد ْ ِ
)( أبو بكر الصديق ،لطنطاوي ،ص .188 ،187ابن سعد.3/193 : 1
)( الحكام السلطانية للماوردي :ص (2) .201تاريخ الدعوة إلى السلم :ص 2
.258 3
ديق ،لهيكل باشا :ص .224) (4الص ّ )( أبو بكر رجل الدولة46 : 4
113
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ن" ]النحل.[90 : عل ّك ُ ْ
م ت َذَك ُّرو َ م لَ َ
عظُك ُ ْ
ي يَ ِ غ ِوال ْب َ ْ وال ْ ُ
من ْك َ ِ
ر َ َ
ن المسلمون إلى دينهم وحرية الدعوة كان أبو بكر يريد أن يطمئ َ
إليه وإنما تتم الطمأنية للمسلمين ما قام الحاكم فيهم على أساس
من العدل المجرد عن الهوى.
والحكم على هذا الساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل
اعتبار شخصي ،وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين ،وقد كانت
نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات،
والتجرد لله تجردًا مطلقًا جعله يشعر بضعف الضعيف ،وحاجة
المجتمع ،ويسمو بعدله على كل هوى ،وينسى في سبيل ذلك نفسه
وأبناءه وأهله ،ثم يتبع أمور الدولة جليلها ورقيقها ،بكل ما أتاه الله
من يقظة وحذر ).(1
وبناء على ما سبق يرفع العدل لواءه بين الناس؛ فالضعيف آمن
على حقه ،وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل ،فهو به
قوي ل يمنع حقه ول يضيع ،والقوي حين يظلم يردعه الحق ،وينتصف
منه للمظلوم ،فل يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة لذي سطوة أو
مكانة ،وذلك هو العز الشامخ ،والتمكين الكامل في الرض ).(2
وما أجمل ما قاله ابن تيمية -رحمه الله :-إن الله ينصر الدولة
العادلة وإن كانت
كافرة ،ول ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة ...بالعدل تستصلح
الرجال،
وتستغزر الموال).(3
-5الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم:
قال أبو بكر »:الصدق أمانة والكذب خيانة« (4).أعلن الصديق
مبدأ أساسيًا تقوم عليه خطته في قيادة المة ،وهو :أن الصدق
بين الحاكم والمة وهو أساس التعامل ،وهذا المبدأ السياسي
الحكيم له الثر الهام في قوة المة؛ حيث ترسيخ جسور الثقة بينها
سياسي منطلق من دعوة السلم إلى َ وبين حاكمها ،إنه خلق
و ُ
كوُنوا ه َ مُنوا ات ّ ُ
قوا الل َ نآ َ ها ال ّ ِ
ذي َ الصدق ،قال تعالىَ+ :يا أي ّ َ
ن" ]التوبة ،[119 :ومن التحذير منه كقول رسول الله قي َصاِد ِ
ع ال ّ
م َ
َ
×» :ثلثة ل يكلمهم الله يوم القيامة ول يزكيهم ول ينظر
إليهم ولهم عذاب أليم :شيخ زان ،وملك كذاب ،وعائل
مستكبر« ).(5
فهذه الكلمات» :الصدق أمانة« اكتست بالمعاني ،فكأن لها روحًا
تروح بها وتغدو بين الناس؛ تلهب الحماس ،وتصنع المل» .والكذب
1
)(
) (3البداية والنهاية.6/305 : )( السياسة الشرعية :ص .10 3
4
114
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
خيانة« ،وهكذا يأبى أبو بكر إل أن يمس المعاني ،فيسمي الشياء
بأسمائها ،فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز
المة ثم يخدعها ،فما أتعس حاكمًا يتعاطى الكذب فيسميه بغير
اسمه ،لقد نعته الصديق بالخيانة ،وأنه عدو أمته الول ..وهل بعد
الخيانة من عداوة؟ حقًا ما زال الصديق يطل على الدنيا من موقفه
هذا فيرفع أقوامًا ويسقط آخرين!!.
وتظل صناعة الرجال أرقى فنون الحكم؛ إذ هم عدة المة
ورصيدها الذي تدفع به عن نفسها ملمات اليام ،ول شك أن من
رائدا في هذا
ً تأمل كلمات أبي بكر تلك أصدقه الخبر بأن الرجل كان
الفن الرفيع؛ فقد كان يسير على النهج النبوي الكريم (1).إن شعوب
العالم اليوم تحتاج إلى هذا المنهج الرباني في التعامل بين الحاكم
والمحكوم ،لكي تقاوم أساليب تزوير النتخابات وتلفيق التهم،
واستخدام العلم وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون
الحكام أو ينتقدونهم ،ول بد من إشراف المة على التزام الحكام
مؤسساتها التي تساعدها على تقويم بالصدق والمانة من خلل
ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا ) ،(2فتمنعهم من سرقة إرادتهم
وشرفهم وحريتهم وأموالهم.
-6إعلن التمسك بالجهاد وإعداد المة لذلك:
أبو(3بكر :وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إل خذلهم قال
الله بالذل) ،لقد تلقى أبو بكر تربيته الجهادية مباشرة من نبيه
وقائده العظيم × ،تلقاها تربية حية في ميادين الصراع بين الشرك
واليمان ،والضلل والهدى ،والشر والخير ،ولقد ذكرت مواقف
الصديق في غزوات الرسول × ،ولقد فهم الصديق من حديث
رسول الله ×» :إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ،ورضيتم
وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذل ً ل ينزعه حتى ترجعوا إلى )(4
بالزرع،
الجهاد ،فلذلك جعل تركت إذا بالذل تصاب المة إن دينكم«.
الصديق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته ) ،(5ولذلك حشد
طاقات المة من أجل الجهاد؛ لكي يرفع الظلم عن المظلومين،
ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين ،ويعيد الحرية للمحرومين،
وينطلق بدعوة الله في آفاق الرض يزيل كل عائق ضدها.
-7إعلن الحرب على الفواحش:
) (6قال أبو بكر :ول تشيع الفاحشة في قوم إل عمهم الله بالبلء
،والصديق هنا يذكر المة بقول النبي ×» :لم تظهر الفاحشة في
الطاعون والوجاع التي لم قوم قط حتى ُيعلنوا بها ،إل فشا فيهم
تكن مضت في أسلفهم الذين مضوا (7) .«...إن الفاحشة هي داء
المجتمع العضال الذي ل دواء له ،وهي سبيل تحلله وضعفه حيث ل
)( أبو بكر رجل الدولة ،مجدي حمدي :ص .37 ،36 1
) (1فقه الشورى والستشارة :ص (2) .442البداية والنهاية.6/305 : 2
)( صحيح اللباني ،2/370 :رقم الحديث في ابن ماجه.4019 : 7
115
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
قداسة لشيء؛ فالمجتمع الفاحش ل يغار ويقر الدنية ويرضاها ،إنه
وحال الناس أدل شاهد. مجتمع الضعف والعار والوجاع والسقام
لقد وقف أبو بكر يحفظ قيم المة وأخلقها ) ،(1فقد حرص في
سياسته على طهر المة ونقائها ،وبعدها عن الفواحش ما ظهر منها
وما بطن ،وهو يريد بذلك أمة قوية ل تشغلها شهواتها ،ول يضلها
شيطانها ،لتعيش أمة منتجة تعطي الخير ،وتقدم الفضل لكل الناس.
إن علقة الخلق بقيام الدولة وظهور الحضارة علقة ظاهرة،
فإن فسدت الخلق وخربت الذمم ضاعت المم ،وعمها الفساد
والدمار .والدارس لحياة المم السابقة والحضارات السالفة بعين
البصيرة يدرك كيف قامت حضارات على الخلق الكريمة والدين
الصحيح؛ كالحضارة التي قامت في زمن داود وسليمان عليهما
السلم ،والتي قامت في زمن ذي القرنين ،وكثير من المم التي
التزمت بالقيم والخلق فظلت قوية طالما حافظت عليها ،فلما دب
سوس الفواحش إليها استسلمت للشياطين ،وبدلت نعمة)(2الله كفرًا،
وأحلت قومها دار البوار ،فنزلت قوتها ،وتلشت حضارتها.
إن الصديق استوعب سنن الله في المجتمعات وبناء الدول
والفساد ،والنغماس في بالترفدَنا َ ذا أ َ وزوالها ،وفهم أن زوال الدول يكون
ة
قْري َ ً ك َ هل ِ َ ْ ّ ن أن ْ رَ َ َالفواحش والموبقات قال تعالىِ َ + :
إ و
ها مْرَنا َ ّ َ د َ
ف ُ
ل و
ْ ق َ ْ ل ا ها َ ْ ي َ ل ع
َ ق
ح ّ ف َ ها َ في َ قوا ِ س ُ ف َ ف َ ها َ في َ مت َْر ِ مْرَنا ُ أ َ
ميًرا" ]السراء ،[16 :أي :أمرناهم بالمر الشرعي من فعل ت َدْ ِ
العذاب )(3
عليهم فحق +أ َ الطاعات وترك المعاصي فعصوا وفسقوا
مْرَنا" ّ قراءة: والتدمير جزاء فسقهم وعصيانهم .وفي
بالتشديد أي :جعلناهم أمراء .والترف وإن كان كثرة المال
حالة نفسية ترفض الستقامة على والسلطان من أسبابه ،إل أنه
منهج الله وليس كل ثراء ترًفا ).(4
إن سياسية الصديق في حربه للفواحش حري بحكام المسلمين
أن يقتدوا به ،فالحاكم التقي الذكي العادل هو الذي يربي أمته على
الخلق القويمة؛ لنه حينئذ سيقود شعبًا أحس طعم الدمية ،وجرى
في عروقه دم النسانية ،وأما إن سُلب الحاكم الذكاء وصار من
الغبياء ..أشاع الفاحشة في قومه ،وعمل على حمايتها بالقوة
والقانون ،وحارب القيم والخلق الحميدة ،ودفع بقومه إلى
مستنقعات الرذيلة ليصبحوا كالحيوانات الضالة والقطعان الهائمة ،ل
الخادعة ،فيصبحوا بعد ذلك أقزامًا ،قد )(5
هم لها إل المتاع والزينة
تعالى: ة يأ ْ الله قول فيهم ويصدق والشهامة. ودعوا الرجولة
ها ُ
ق ز ْ ر ها تي
ِ َ ً ّ نِ ئ م ْ ط م ةً َ ن م
ِ آ ت َ ن كا َ ة ً ي
ْ َر قَ ً ل َ ث م
ب الل ُ َ
ه ضَر َ و َ َ +
س
َ
با ِ ل
َ ِ
ه الل ها َ
ق ذا َ فَأ َ
َ ه
ّ
الل م ع ْ ن فرت ب ْأ َ َ َ ك َ
ف ن كا َ م ّ
ل ُ ك من دا َر َ
غ
َ َ ُ َ ِ ِ ُ َ ْ ِ ٍ َ ّ ً
ن" ]النحل.[112 : عو َ صن َ ُ ْ َ ي نوا ُ كاَ ما ِ َ ب ف ِ و ْ خ َ ْ ل واِ َ ع جو ُ ال ْ
هذه بعض التعليقات التي فتح الله بها بما ترى على البيان الذي
) (2تاريخ الدعوة إلى السلم :ص )( أبو بكر رجل الدولة :ص .66 1
.252 2
)( منهج كتابة التاريخ السلمي ،محمد هامل :ص .65 4
116
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ألقاه الصديق للمة ،والذي رسم فيه سياسة الدولة ،فحدد مسئولية
الحاكم ومدى العلقة بينه وبين المحكومين ،وغير ذلك من القواعد
المهمة في بناء الدولة وتربية الشعوب ،وهكذا قامت الخلفة
تحديدا عمليًا ،وكان حرص المةً السلمية ،وتحدد مفهوم الحكم
على منصب الخلفة واختيار الخليفة على هذه الصورة ،ومسارعة
الناس إلى الرضا بذلك ,دليلً على أنهم كانوا يسلمون بأن النظام
الذي أنشأه النبي -عليه الصلة والسلم -واجب البقاء ،وأن النبي ×
دينا وكتابًا يسيرون على هديه؛ فرضاء وإن مات فإنه خلف فيهم ً
يومئذ يعبر عن إرادة الستمرار في ظل النظام الذي أنشأه الناس
النبي × ).(1
زمنً ليس بكثير ،وعين أبوإن حكومة الصديق تمتع بها المسلمين ا
بكر حد السلطة العليا فيها بتلك الخطبة الراقية على مستوى أنظمة
ل ّ(2أن يجدالحكم في ذلك العصر وفي هذا الزمن؛ فهي حكومة شورية ق
طلب الحرية والعدل في كل عصر أحسن لسياسة المم منها ) ،قادها
التلميذ النجب والذكى والعلم والعظم إيمانا للحبيب المصطفى ×،
أبو بكر .
وقد بّين المام مالك بأنه ل يكون أحد إمامًا أبدًا إل على هذا
الشرط )(3؛ يقصد بالمضامين العظيمة التي ألقاها الصديق في بيانه
السياسي الول.
ثانًيا :إدارة الشئون الداخلية:
أراد الصديق أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته ،واتخذ من
أعوانا يساعدونه على ذلك ،فجعل أبا عبيدة بنً الصحابة الكرام
الجراح أمين هذه المة )وزير المالية( ،فأسند إليه شئون بيت المال،
وتولى عمر بن الخطاب القضاء )وزارة العدل( ،وباشر الصديق
أيضا ،وتولى زيد بن ثابت الكتابة )وزير البريد
ً القضاء بنفسه
والمواصلت() (4وأحيانًا يكتب له من يكون حاضرا من الصحابة؛
كعلي بن أبي طالب أو عثمان بن عفان رضي الله عنهم .وأطلق
المسلمون على الصديق لقب خليفة رسول الله ،ورأى الصحابة
تاجرا يغدو
ً ً رجل ضرورة تفريغ الصديق للخلفة ،فقد كان أبو بكر
كل يوم إلى السوق ،فيبيع ويبتاع ،فلما استخلف أصبح غاديًا إلى
السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها ،فلقيه عمر وأبو عبيدة فقال :أين
تريد يا خليفة رسول الله؟ قال :السوق .قال :تصنع ماذا وقد وليت
أمور المسلمين؟ قال :فمن أين أطعم عيالي؟ فقال :انطلق معنا
شيئا ،فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة. ً حتى نفرض لك
) (5وجاء في »الرياض النضرة« أن رزقه الذي فرضوه له خمسون
ومائتا دينار في السنة ،وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها ،فلم
يكن يكفيه ذلك ول عياله ،قالوا :وقد كان قد ألقي كل دينار ودرهم
عنده في بيت مال المسلمين ،فخرج إلى البقيع فتصافق »بايع«،
دراسات في الحضارة السلمية ،أحمد إبراهيم الشريف :ص .210 ،209 )( 1
في التاريخ السلمي ،د :شوقي أبو خليل ،ص .218 )( 4
117
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس ،فقال :ما شأنكن؟ قلن :نريد
السوق فأخذه خليفة رسول الله × يقضي بيننا ،فانطلق فوجده في
ل ها هنا .فقال :ل حاجة لي في إمارتكم) ،(1رزقتموني بيده فقال :تعا َ
ما ل يكفيني ول عيالي .قال :فإنا نزيدك .قال أبو بكر :ثلثمائة دينار
حالهما
)(2
والشاة كلها .قال عمر :أما هذا فل ،فجاء علي وهما على
تلك ،قال :أكملها له ،قال :ترى ذلك؟ قال :نعم ،قال :قد فعلنا.
وانطلق أبو بكر فصعد المنبر ،واجتمع إليه الناس فقال :أيها
الناس ،إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها
دينار والشاة، )(3
ورأسها وأكارعها ،وإن عمر وعليا كمل لي ثلثمائة
أفرضيتم؟ قال المهاجرون :اللهم نعم ،قد رضينا.
وهكذا وقف الصحابة في فهمهم الراقي لولية الدين وأمانة
الحكم يفرضون لمامهم رزقًا يغتني به عن التجارة ،بعد إذ صار
عامل للمة تملك منه الوقت والجهد والفكر ،ومن ثم يقررون معنى ً
في السلم بديعًا يفصل الذمة المالية للمة عن ذمة الحاكم.
هذا المعنى الذي لم يعرفه الغرب إل في عهوده القريبة ،إذا
ظلت راية )ما لقيصر لقيصر( مشرعة خفاقة يقاتل الناس دونها
أزمانا طويلة .إن أصدق تعبير تقف به على دخول الذمة المالية ً
للدولة بأسرها في ذمة الحاكم لهو مقالة لويس الخامس عشر :أنا
الدولة والدولة أنا .لقد كان لويس تاجر غلل معروفًا يتجر في قوت
أحد في ذلك شيئًا من العار، )(4
جوعا ،ثم ل يرى
ً أمته ،وهي تتضور
أليس هو الصل والمة فرع عنه؟.
أين البشرية اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم؟ فإن
الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاءون ،ويتصرفون
كما يريدون ،كما أصبحت لهم نفقات مستورة ل حصر لها ،وفوق هذا
فقد تكدست لهم الموال لكثرتها وأكثرها يعود إلى الحكام وأمراء
الشعوب المستضعفة ،مع أنه قد ظهر أن هذه الموال مهما بلغت،
شيئا ،ول تغني صاحبها شيئًا ،فإن ً والعقارات مهما كثرت ،فإنها ل تكفي
ليأوي إليها ،هذا في تقبله أرضا شاه إيران مع ضخامة ما يملك لم يجد
الدنيا ،وأما في الخرة فالمر أشد والحساب عظيم ).(5
فعلى حكام المسلمين أن يقتدوا بهذا الصحابي الجليل الذي أدار
دولة السلم بعد وفاة الرسول × ،فما أجمل قوله :لقد علم
قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشغلت بأمر
المسلمين ،فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين
فيه).(6
إن الصديق يؤكد معاني بديعة ،فولية الدين ليست في حد ذاتها
لها من رزق فلما تقضي إليه من اشتغال عامل ما ،أما ما يفرض مغن ً
المة عن أمر نفسه ).(7
) (5،4،المصدر السابق نفسه :ص .291 1
2
3
) (2التاريخ السلمي ،محمود شاكر :ص )( أبو بكر رجل الدولة :ص .35 4
.11 5
)( البخاري ،كتاب البيوع ،باب كسب الرجل وعلمه ،رقم.2070 : 6
) (5نفس المصدر السابق :ص .36 )( أبو بكر رجل الدولة :ص .35 7
118
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
لقد سطر الصديق والصحابة الكرام صفحات رائعة في جبين
البشرية تسعى في سلم التطور وتسعى ،ثم إذا هي الزمن ،حتى إن
قابعة عند أقدامهم ).(1
سار الصديق في بناء دولة السلم بجد ونشاط واهتم بالبناء
الداخلي ،ولم يترك أي ثغرة يمكن أن تؤثر في ذلك البناء الذي تركه
رسول الله × ،فاهتم بالرعية وله مواقف مشرفة في هذا الباب،
وأعطى للقضاء اهتمامًا خاصًا ،وتابع أمر الولة ،وسار على المنهج
النبوي الكريم في كل خطواته ،وإليك شيء من التفصيل عن تلك
السياسة الرشيدة:
-1الصديق في المجتمع:
عاش الصديق بين المسلمين كخليفة لرسول الله × ،فكان ل
يترك فرصة تمر إل عّلم الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر،
فكانت مواقفه تشع على من حوله من الرعية بالهدى واليمان
والخلق ،فمن هذه المواقف:
أ -حلبه للغنام ,والعجوز العمياء ،وزيارة أم أيمن:
كان قبل الخلفة يحلب للحي فلما بويع له بالخلفة قالت جارية من
الحي :الن ل يحلب لنا »أغنام« دارنا ،فسمعها أبو بكر فقال :لعمري
لق كنت عليه، خُ
لحلبنها لكم ،وإني لرجو أل يغيرني ما دخلت فيه عن ُ
فكان يحلب لهن ،وكن إذا أتينه بأغنامهن يقول :أنضح أم ألبد؟ فإن
قالت :انضح ،باعد الناء من الضرع حتى تشتد الرغوة ،وإن قالت :ألبد،
سنح ستة أشهر ثم نزل أدناه منه حتى)(2ل تكون له رغوة ،فمكث كذلك بال ّ
إلى المدينة .
ففي هذا الخبر بيان شيء من أخلق أبي بكر الصديق ،فهذا
تواضع كبير من رجل كبير؛ كبير في سنه ،وكبير في منزلته وجاهه،
حيث كان خليفة المسلمين ،وكان حريصًا على أن ل تغير الخلفة
شيئا من معاملته للناس ،وإن كان ذلك سيأخذ منه وقتًا هو بحاجة ً
-رضي الله الصحابة تقدير مقدار على يدلنا العمل هذا أن كما إليه.
عنهم -لعمال البر والحسان ،وإن كلفتهم الجهد والوقت ).(3
هذا أبو بكر غلب بعزيمته الصادقة وثباته العجيب الجزيرة
العربية ،وأخضعها لدين الله ،ثم بعث بها فقاتلت تحت ألويته
الدولتين الكبريين على وجه الرض وغلبت عليها .أبو بكر ..يحلب
لجواري الحي أغنامهن ،ويقول :أرجو أن ل يغيرني ما دخلت فيه،
وليس الذي دخل فيه بالمر الهين ،بل هو خلفة رسول الله ،وسيادة
العرب ،وقيادة الجيوش التي ذهبت لتقلع من الرض الجبروت
الفارسي ،والعظمة الرومانية ،وتنشئ مكانهما صرح العدل ،والعلم
والحضارة ،ثم يرجو أل يغيره هذا كله ،ول يمنعه من حلب أغنام
الحي ).(4
إن من ثمار اليمان بالله تعالى أخلقًا حميدة ،منها خلق التواضع
1
)( ابن سعد في الطبقات ،3/186 :وله شواهد ،فإسناده حسن لغيره. 2
119
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
) (3مسلم ،فضائل الصحبة ،رقم.2454 : )( أبو بكر الصديق ،طنطاوي.29 : 3
4
)( صحيح التوثيق في سيرة حياة الصديق ،مجدي فتحي السيد ،ص .140 5
)( نفس المصدر السابق ،وقيل الحمس :المتشدد على نفسه في الدين 6
والورع.
) (7أي :ترك الكلم. )( أي :ساكتة. 7
8
120
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت ،فنهوا عن ذلك وأمروا بالنطق
بالخير ،وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن ل
يتكلم استحب له أن يتكلم ول كفارة عليه ،لن أبا بكر لم يأمرها
بالكفارة ،وقياسه أن من نذر أن ل يتكلم لم ينعقد نذره؛ لن أبا بكر
أطلق أن ذلك ل يحل ،وأنه من فعل الجاهلية ،وأن السلم هدم
من ذلك ،ول يقول مثل هذا إل عن علم
النبي × ،فيكون من حكم المرفوع ).(1
وقال ابن حجر :وأما الحاديث الواردة في الصمت وفضله فل
يعارض لختلف المقاصد في ذلك؛ فالصمت المرغب فيه :ترك
الكلم بالباطل ،وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك ،والصمت
الحق( لمن يستطيعه ،وكذا المباح المنهي عنه ترك الكلم في
المستوي الطرفين ،والله أعلم ). 2
ج -اهتمامه بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كان الصديق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ،ويبين للناس
ما التبس عليهم من الفهم ،فعن قيس بن أبي حازم قال :سمعت أبا
بكر الصديق يقول» :يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ل يضركم من
ضل إذا اهتديتم ،إني سمعت رسول الله × يقول» :إن القوم إذا
رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب« .وفي رواية :يا أيها
الناس ،إنكم تقرءون هذه الية ،وتضعونها على غير مواضعها ،وإنا
سمعنا النبي × يقول» :إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على
بعقاب« (3).قال النووي :وأما قوله تعالى: اللهل َيك ُم أ َ يديهَ ،أوشك أن يعمهم
م" .فليس مخالفًا لوجوب ْ ُ ك سَ ُ
ف ْ ن ْ ْ عَ نوام ُ
نآ َ ها ال ّ ِ
ذي َ َ+يا أي ّ َ
المر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لن المذهب الصحيح عند
المحققين في معنى الية :أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فل ُيضركم
خَرى" وْزَر أ ْ
زَرةٌ ِ
وا ِ
زُر َ ول َ ت َ ِ
تقصير غيركم ،مثل قوله تعالىَ + :
فإذا كان كذلك فمما كلف به المر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ولم( يمتثل المخاطب فل عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه )4
فإذا فعله،
أدى ما عليه.
وكان يحث الناس على الصواب ،فعن ميمون بن مهران أن
فقال(5:السلم عليك يا خليفة رسول الله، رجل سلم على أبي بكر ً
قال :من بين هؤلء أجمعين؟ ) وكان يترك السنة مخافة أن
يظن من ل علم له أنها فريضة أو واجبة ،فعن حذيفة بن أسيد أنه
قال :رأيت أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما -وما)(6يضحيان مخافة أن
يستن بهما .وفي رواية :كراهية أن يقتدى بهما .وكان يوصي ابنه
عبد الرحمن بحسن المعاملة لجيرانه ،فقد قال له ذات يوم وهو
يخاصم جار له :ل تماظ جارك؛ فإن هذا يبقى ويذهب الناس (7).وكان
فتح الباري.7/150 : )( 1
الجامع لخلق الراوي وآداب السامع للخطيب 1/172 :رقم.255 : )( 5
) (5صفة الصفوة.1/258 : الزهد لبن المبارك.1/551 : )( 7
121
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بارا بوالده ،فلما اعتمر في رجب سنة اثنتي عشرة من الهجرة، ً
دخل مكة ضحوة فأتى منزله ،وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره
معه فتيان يحوشهم ،فقيل له :هذا ابنك فنهض قائمًا ،وعجل أبو بكر
أن ينيخ ناقته فنزل عنها وهي قائمة –ليقابل أباه في بر وطاعة،
وجاء الناس يسلمون عليه ،فقال أبو قحافة :يا عتيق ،هؤلء المل
قوة(1إل بالله،
)
ن صحبتهم ،فقال أبو بكر :يا أبة ل حول ول فأحس ْ
طوقت أمرًا عظيمًا ل قدرة لي به ،ول يدان إل بالله.
وكان يهتم بالصلة والخشوع فيها ويحرص على حسن العبادة،
وكان ل يلتفت في صلته ) ،(2وكان أهل مكة يقولون :أخذ ابن جريج
الصلة من عطاء ،وأخذها عطاء من ابن الزبير ،وأخذها ابن الزبير
من أبي بكر ،وأخذها أبو بكر من النبي × )(3.وكان عبد الرزاق يقول:
ما رأيت أحدًا أحسن صلة من ابن جريج ، .وعن أنس قال:
صلى أبو بكر بالناس الفجر فاقترأ البقرة في ركعتيه ،فلما انصرف
رأينا أن
)(4
قال له عمر :يا خليفة رسول الله ،ما انصرفت حتى
الشمس قد طلعت ،قال :لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وكان يحث الناس على الصبر في المصائب ،ويقول لمن مات له
أحد :ليس مع العزاء مصيبة ول مع الجزع فائدة ،الموت أهون مما
قد َ رسول الله تصغر مصيبتكم ،وعظم مما بعده ،اذكروا فَ ْ قبله وأشد
وعزى(6عمر عن طفل أصيب به فقال :عوضك الله )(5
أجركم. الله
والمكر)(7
والنكث، البغي، الناس يحذر وكان )
منك. عوضه ما منه
ويقول :ثلث من كن فيه كن عليه :البغي ،والنكث ،والمكر.
وكان يعظ الناس ويذكرهم بالله ،ومن مواعظه :الظلمات
سُرج خمس :حب الدنيا ظلمة والسراج له التقوى ،والذنب خمس وال ّ
ظلمة والسراج له التوبة ،والقبر ظلمة والسراج له ل إله إل الله
محمد رسول الله ،والخرة ظلمة والسراج لها العمل الصالح،
والصراط ظلمة والسراج لها اليقين (8).وكان من خلل منبر
الجمعة يحث على الصدق والحياء ،ويحث على العتبار والستعداد
للقدوم على الله ويحذر من الغرور.
فعن أوسط بن إسماعيل -رحمه الله -قال :سمعت أبا بكر
الصديق يخطب بعد وفاة رسول الله × بسنة ،فقال :قام فينا
رسول الله × مقامي هذا عام أول ،ثم بكى أبو بكر ثم قال) :وفي
رواية :ثم ذرفت عيناه فلم يستطع من العَب َْرة أن يتكلم( ،ثم قال:
»أيها الناس :اسألوا لله العافية ،فإنه لم يعط أحد خيرًا من العافية
بعد اليقين ،وعليكم بالصدق فإنه مع البر ،وهما في الجنة .وإياكم
والكذب ،فإنه مع الفجور ،وهما في النار .ول تقاطعوا ول تدابروا ،ول
1
)( فضائل الصحابة للمام أحمد (7) .1/254 :نفس المصدر السابق.1/255 : 2
3
)( فرائد الكلم للخلفاء الكرام ،قاسم عاشور :ص .29 8
122
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
تباغضوا ،ول تحاسدوا ،وكونوا عباد الله إخوانا.
وقال الزبير بن العوام :إن أبا بكر قال وهو يخطب الناس :يا
معشر المسلمين :استحيوا من الله عز وجل ،فو الذي نفسي بيده
حين(2أذهب الغائط في الفضاء متقنعا بثوبي استحياء من إني لظل
ربي عز وجل ) .
وعن عبد الله بن حكيم قال :خطبنا أبو بكر فقال :أما بعد:
فإني أوصيكم بتقوى الله ،وأن تثنوا عليه بما هو له أهل ،وأن تخلطوا
الرغبة بالرهبة ،وتجمعوا اللحاح بالمسألة ،فإن الله أثنى على زكريا
ت في ال ْ َ
خي َْرا ِ ن ِعو َر ُسا ِكاُنوا ي ُ َم َ ه ْ وأهل بيته فقال+ :إ ِن ّ ُ
ن" ]النبياء ،[90 :ثم عي َ
ش ِخا ِ َ
وكاُنوا لَنا َ َ َ با
ً هوَر َ عون ََنا َر َ
غًبا َ وي َدْ ُ
َ
اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم ،وأخذ على ذلك
مواثيقكم ،فاشترى القليل الفاني بالكثير الباقي ،وهذا كتاب الله
فيكم ل تفنى عجائبه ،ول يطفأ نوره ،فصدقوا قوله ،وانتصحوا كتابه،
واستوضئوا منه ليوم الظلمة؛ فإنما خلقكم للعبادة ،ووكل بكم
الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون ،ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون
غيب عنكم علمه ،فإن استطعتم أن تنقضي وتروحون في أجل قد ُ
الجال وأنتم في عمل لله فافعلوا ،ولن تستطيعوا ذلك إل بالله،
فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم ،فيردكم إلى أسوأ
أعمالكم ،فإن أقوامًا جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا
مثلهم ،فالوحا الوحا ) ،(3ثم النجا النجا، أنفسهم ،فأنهاكم أن تكونوا
مّره ) (4سريع. حثيثا َ ً فإن وراءكم طلبا
وفي رواية أخرى :أين من تعرفون من إخوانكم ومن أصحابكم؟!
قد وردوا على ما قدموا ،قدموا ما قدموا في أيام سلفهم ،وحلوا فيه
بالشقوة أو السعادة .أين الجبارون الذين بنوا المدائن ،وحففوها
بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والبار ،أين الوضاءة الحسنة
وجوههم ،المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك؟ وأين الذين كانوا يعطون
الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدهر ،فأصبحوا في
ظلمات القبور ،ل خير في قول ل يراد به وجه الله ،ول خير في مال
ل ينفق في سبيل الله ،ول خير فيمن يغلب جهله حلمه ،ول خير
فيمن يخاف في الله لومة لئم.
إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا،
ول يصرفه عن سوء إل بطاعته واتباع أمره ،وإنه ل خير بخير بعده
النار ،ول شر بشر بعده الجنة ،واعلموا أنكم ما أخلفتم لله -عز
وجل -فربكم أطعتم ،وحقكم حفظتم ،وأوصيكم بالله لفقركم
تستغفروه إنه وفاقتكم أن تتقوه ،وأن تثنوا عليه بما هو أهله ،وأن
كان غفارًا .أقول قولي هذا ،وأستغفر الله لي ولكم ).(5
)( الوحا الوحا :السرعة السرعة ،يقال :توحيت أي :أسرعت. 3
)( إسناده حسن لغيره ،مصنف ابن أبي شيبة7/144 :؛ صحيح التوثيق وحياة 5
123
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وهكذا كان الصديق يهتم بالمجتمع فيعظ المسلمين ،ويحثهم
على الخير ،ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ،فهذا غيض من
فيض ،وقليل من كثير.
-2القضاء في عهد الصديق:
يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى أهميته
بصلته بالعهد النبوي وقربه منه ،فكان العهد الراشدي عامة ،والجانب
القضائي خاصة ،امتدادًا للقضاء في العهد النبوي ،مع المحافظة
الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي ،وتطبيقه
بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه.
وتظهر أهمية العهد الراشدي في القضاء بأمرين أساسيين:
-1المحافظة على نصوص العهد النبوي في القضاء ،والتقيد بما
جاء فيه ،والسير في ركابه ،والستمرار في اللتزام به.
دعائم الدولة -2وضع التنظيمات القضائية الجديدة لترسيخ
السلمية الواسعة ،ومواجهة المستجدات المتنوعة ).(1
كان أبو بكر يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء ،ولم تفصل
ولية القضاء عن الولية العامة في عهده ،ولم يكن للقضاء ولية
خاصة مستقلة ،كما كان المر في عهد رسول الله ×؛ إذ كان الناس
على مقربة من النبوة ،يأخذون أنفسهم بهدى السلم ،وتقوم حياتهم
على شريعته ،وقلما توجد بينهم خصومة تذكر؛ ففي المدينة عهد أبو
بكر إلى عمر بالقضاء ،ليستعين به في بعض القضية ولكن هذا لم
يعط لعمر صفة الستقلل بالقضاء (2).وأقر أبو بكر معظم القضاة
الله × واستمروا على ممارسة القضاء والولة الذين عينهم رسول
والولية أو أحدهما في عهده ) ،(3وسوف نأتي على ذكر الولة
وأعمالهم بإذن الله تعالى.
وأما مصادر القضاء في عهد الصديق هي:
-1القرآن الكريم.
-2السنة النبوية ،ويندرج فيها قضاء رسول الله ×.
-3الجماع ،باستشارة أهل العلم والفتوى.
والرأي ،وذلك عند عدم وجود ما يحكم به من كتاب أو سنة الجتهاد
-4
أو إجماع).(4
فكان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى،
فإن وجد فيه ما يقضي به قضى ،فإن لم يجد في كتاب الله نظر في
سنة رسول الله × ،فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به ،فإن أعياه
ذلك سأل الناس ،هل علمتم أن رسول الله قضى فيه بقضاء ،فربما
قام إليه القوم فيقولون :قضى فيه بكذا أو بكذا ،فيأخذ بقضاء
رسول الله × ،يقول عندئذ :الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن
تاريخ القضاء في السلم للزحيلي :ص .84 ،83 )( 1
124
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( موسوعة فقه أبي بكر الصديق ،قلعجي :ص .155 1
)( تراث الخلفاء الراشدين ،د :صبحي محمصاني :ص .186 4
)( أخبار القضاة لوكيع ،2/102 :نقل عن تاريخ القضاء للزحيلي :ص .136 5
)( السنن الكبرى ،7/481 :نقل عن تاريخ القضاء للزحيلي ،136 :ضعيف جدا بل 6
125
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أبو بكر ).(1
-4الحكم بالجلد:
روى المام مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته :أن أبا
بكر الصديق أتى برجل قد وقع على جارية بكر فأحبلها ،ثم اعترف
بالزنا ،ولم يكن أحصن ،فأمر به أبو بكر فجلد الحد ،ثم
)(2
على نفسه
نفى إلى فدك.
الجارية ولم ينفها لنها استكرهت ،ثم وفي رواية :بأنه لم يجلد
زوجها إياه أبو بكر وأدخله عليها ).(3
-5الحضانة للم ما لم تتزوج:
بن الخطاب امرأته النصارية -أم ابنه عاصم -فلقيها طلق عمر
سر) ،(4ولقيه قد ُفطم ومشي ،فأخذ بيديه لينتزعه منها، ح ّ
م َ
تحمله ب ِ ُ
ونازعها إياه حتى أوجع الغلم وبكى ،وقال :أنا أحق بابني منك.
وقال :ريحها وحجرها وفرشها )(5
فاختصما إلى أبي بكر ،فقضى لها به،
أعطف هي رواية: وفي ، لنفسه خير له منك حتى يشب ويختار
وألطف وأرحم وأحن وأرأف ،وهي أحق بولدها ما لم تتزوج).(6
هذه بعض القضية والحكام التي حدثت في عهد الصديق ،
هذا وقد تميز القضاء في عهد الصديق بعدة أمور منها:
امتدادا لصورة القضاء في
ً -1كان القضاء في عهد الصديق
العهد النبوي؛ باللتزام به ،والتأسي بمنهجه ،وانتشار التربية الدينية،
والرتباط باليمان والعقيدة والعتماد على الوازع الديني ،والبساطة
في سير الدعوى واختصار الجراءات القضائية ،وقلة الدعاوى
والخصومات.
-2أصبحت الحكام القضائية في عصر الصديق موئل
الباحثين ،ومحط النظار للفقهاء ،وصارت الحكام القضائية مصدرًا
للحكام الشرعية ،والجتهادات القضائية ،والراء الفقهية في مختلف
العصور.
-3مارس الصديق وبعض ولته النظر في المنازعات ،وتولى
القضاء بجانب الولية.
-4ساهمت فترة الصديق في ظهور مصادر جديدة للقضاء
في العهد الراشدي ،وصارت مصادر الحكام القضائية هي :القرآن
الكريم ،والسنة الشريفة ،والجماع ،والقياس ،والسوابق القضائية،
محسر :موضع بين مكة وعرفة ،معجم البلدان.5/62 : )( 4
126
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
والرأي الجتهادي مع المشورة ).(1
هـ -كانت آداب القضاء مرعية في حماية الضعيف،ونصرة
المظلوم ،والمساواة بين الخصوم ,وإقامة الحق والشرع على جميع
الناس ،ولو كان الحكم على الخليفة أو المير أو الوالي ،وكان
القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الحكام ،إن لم ينفذها)(2الطراف
عا واختياًرا ،وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فوًرا .
طو ً
-3الولية على البلدان:
كان أبو بكر يستعمل الولة في البلدان المختلفة ويعهد إليهم
بالولية العامة في الدارة والحكم والمامة ،وجباية الصدقات ،وسائر
أنواع الوليات ،وكان ينظر إلى حسن اختيار الرسول للمراء والولة
على البلدان ،فيقتدي به في هذا العمل ،ولهذا نجده قد
أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على وليتهم،
ولم يعزل أحدًا
منهم إل ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الول ,ويرضاه،
)(3
كما حدث
لعمرو بن العاص.
وكانت مسئوليات الولة في عهد أبي بكر الصديق بالدرجة
الولى امتدادًا لصلحياتهم في عصر الرسول × ،خصوصًا الولة
الذين سبق تعيينهم أيام الرسول × ،ويمكن تلخيص أهم مسئوليات
الولة في عصر أبي بكر وهي:
أ -إقامة الصلة وإمامة الناس ،وهي المهمة الرئيسية لدى الولة
نظرا لما تحمله من معان دينية ودنيوية ,سياسية واجتماعية ،حيث ً
الولة يأمون الناس وعلى وجه الخصوص في صلة الجمعة ،والمراء
دائما كانت توكل إليهم الصلة سواء كانوا أمراء على البلدان أم ً
أمراء على الجناد.
ب -الجهاد كان يقوم به أمراء الجناد في بلد الفتوح ،فكانوا
يتولون أموره وما فيه من مهام مختلفة بأنفسهم ،أو ينيبون غيرهم
في بعض المهام ،كتقسيم الغنائم أو المحافظة على السرى ،أو غير
ذلك ،وكذلك ما يتبع هذا الجهاد من مهام أخرى كمفاوضة العداء
وعقود المصالحة معهم وغيرها ،ويتساوى في المهمات الجهادية
أمراء الجناد في الشام والعراق ،وكذلك المراء في البلد التي
حدثت فيها الردة كاليمن والبحرين ونجد ،نظًرا لوجود تشابه في
العمليات الجهادية مع اختلف السباب الموجهة لهذه العمليات.
جـ -إدارة شئون البلد المفتوحة ،وتعيين القضاة والعمال عليها
من قبل المراء أنفسهم ،وبإقرار من الخليفة أبي بكر ،أو تعيين من
أبي بكر عن طريق هؤلء العمال).(4
الولية على البلدان ،عبد العزيز إبراهيم العمري.1/55 : )( 3
127
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
د -أخذ البيعة للخليفة ،فقد قام الولة في اليمن وفي مكة
والطائف وغيرها بأخذ البيعة لبي بكر من أهل البلد التي كانوا
يتولون عليها.
هـ -كانت هناك أمور مالية توكل إلى الولة أو إلى من يساعدهم
ممن يعينهم الخليفة أو الوالي لخذ الزكاة من الغنياء وتوزيعها على
الفقراء ،أو أخذ الجزية من غير المسلمين وصرفها في محلها
الشرعي ،وهي امتداد لما قام به ولة الرسول × في هذا الخصوص.
و -تجديد العهود القائمة من أيام الرسول ×؛ حيث قام والي
الذي كان بين أهلها وبين الرسول × بناء على نجران بتجديد العهد
طلب نصارى نجران ).(1
ز -كانت من أهم مسئوليات الولة إقامة الحدود ،وتأمين البلد،
هم يجتهدون رأيهم فيما لم يكن فيه نص شرعي ،كما فعل المهاجر
بن أبي أمية بالمرأتين اللتين تغنتا بذم
الرسول × ،وفرحتا بوفاته ،وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى في
جهاد الصديق
لهل الردة.
ح -كان للولة دور رئيسي في تعليم الناس أمور دينهم وفي نشر
السلم في البلد التي يتولون عليها ،وكان الكثير من هؤلء الولة
يجلسون في المساجد يعلمون الناس القرآن والحكام ،وذلك عمل ً
بسنة الرسول × ،وتعتبر هذه المهمة من أعظم المهام وأجلها في
نظر الرسول × وخليفته أبي بكر ،وقد اشتهر عن ولة أبي بكر ذلك،
حيث يتحدث أحد المؤرخين عن عمل زياد والي أبي بكر على
حضرموت(2فيقول :فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل
قبل ذلك ) .
وبهذا التعليم كان للولة دور كبير في نشر السلم في ربوع
البلد التي يتولونها ،وبهذا التعليم تثبت أقدام السلم سواء في البلد
المفتوحة الحديثة العهد بالسلم أو في البلد التي كانت مسلمة
وارتدت ،وهي حديثة عهد بالردة ،جاهلة بأحكام دينها ،إضافة إلى
البلد المستقرة كمكة والطائف والمدينة ،كان بها من يقرئ الناس
أو(3الخليفة نفسه ،أو من يعينه الخليفة على التعليم بأمر من الولة
في هذه البلدان ) .
وقد كان الوالي هو المسئول مسئولية مباشرة عن إدارة القليم
الذي يتوله ،وفي حالة سفر هذا الوالي فإنه يتعين عليه أن يستخلف
أو ينيب عنه من يقوم بعمله حتى يعود هذا الوالي إلى عمله ،ومن
ذلك أن المهاجر بن أبي أمية عينه الرسول × على كندة ،ثم أقره
أبو بكر بعد وفاة الرسول × ،ولم يصل المهاجر إلى اليمن مباشرة
نظرا لمرضه ,فأرسل إلى »زياد بن لبيد« ليقوم عنه بعمله ً وتأخر
128
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
حتى شفائه وقدومه ،وقد أقر أبو بكر ذلك ) ،(1كذلك كان خالد أثناء
وليته للعراق ينيب عنه في الحيرة من يقوم بعمله حتى عودته.
وكان أبو بكر يشاور الكثير من الصحابة قبل اختيار أحد من
المراء سواء على الجند أو على البلدان ،ونجد في مقدمة
بكر في هذا المر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي مستشاري أبي
طالب وغيرهما ) ،(2كما كان أبو بكر يشاور الشخص الذي يريد
توليته قبل أن يعينه ،وعلى وجه الخصوص إذا أراد أن ينقل الشخص
من ولية إلى أخرى ،كما حدث حينما أراد أن ينقل عمرو بن العاص
من وليته التي وله عليها الرسول × إلى ولية جند فلسطين ،فلم
يصدر أبو بكر قراره إل بعد أن استشاره وأخذ منه موافقة على ذلك
بكر( بين
)4
) ،(3كذلك الحال بالنسبة للمهاجر بن أبي أمية الذي خيرة أبو
اليمن أو حضرموت ،فاختار المهاجر اليمن فعينه أبو بكر عليها .
ومن المور التي سار عليها أبو بكر أنه كان يعمل بسنة النبي
× في تولية بعض الناس على قومهم إذا وجد فيهم صلحاء،
كالطائف وبعض القبائل ،وكان أبو بكر عندما يريد أن يعين
شخصا على ولية يكتب للشخص المعين عهدًا له على المنطقة التي ً
وله عليها ،كما أنه في كثير من الحيان قد يحدد له طريقه إلى
خصوصا إذا كان التعيين مختصًا
ً وليته وما يمر عليه من أماكن،
بمنطقة لم تفتح بعد ،ولم تدخل ضمن سلطات الدولة ،ويتضح ذلك
في حروب الردة ،وفتوح الشام والعراق ،وقام الصديق أحيانًا بضم
بعض الوليات إلى بعض ،خصوصًا بعد النتهاء من قتال المرتدين؛
وكان واليًا على فقد ضم أبو بكر كندة إلى زياد ابن لبيد البياضي،
حضرموت واستمر بعد ذلك واليًا لحضرموت وكندة ).(5
وكانت معاملة أبي بكر للولة تتسم بالحترام المتبادل الذي لم
تشبه شائبة ،وأما عن التصالت بين الولية وبين الخليفة أبي بكر
،فقد كانت تجري بصفة دائمة ،وكانت هذه التصالت تختص
بمصالح الولية ومهام العمل ،فقد كان الولة كثيرًا ما يكتبون لبي
بكر في مختلف شئونهم يستشيرونه ،وكان أبو بكر يكتب لهم الجابة
عن استفساراتهم ،أو يوجه لهم أوامره ،وكانت الرسل تأتي بالخبار
من الولة ,سواء أخبار الجهاد أو قبل ذلك على جهات حروب
المرتدين .كذلك كان الولة يبعثون بأخبار ولياتهم من تلقاء أنفسهم
) ،(6وكان الولة يتصل بعضهم ببعض عن طريق الرسل أو عن طريق
التصال المباشر واللقاءات ،وتتمثل هذه اللقاءات والتصالت
بالدرجة الولى بين ولة اليمن وحضرموت بعضهم مع بعض ،وكذلك
الحال بالنسبة لولة الشام ،الذين كانوا كثيرًا ما يجتمعون لتدارس
أمورهم العسكرية بالدرجة الولى ،وكانت كثير من مراسلت أبي
بكر تختص بحث الولة على الزهد في الدنيا وطلب الخرة،
عامة رسمية من )(7
وكانت بعض هذه النصائح تصدر على شكل كتب
الخليفة نفسه إلى مختلف الولة وأمراء الجناد.
) (2،3،4،الولية على البلدان.1/55 : 1
2
3
5
129
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
هذا وقد قسمت الدولة السلمية في عهد أبي بكر إلى عدة
وليات ،وهذه أسماء الوليات والولة:
أ -المدينة :عاصمة الدولة وبها الخليفة أبو بكر .
مكة :وأميرها عتاب بن أسيد وهو الذي وله الرسول × واستمر ب-
مدة حكم أبي بكر.
جـ -الطائف :وأميرها عثمان بن أبي العاص الثقفي ،وله رسول
الله × ،وأقره أبو بكر عليها.
صنعاء :وأميرها المهاجر بن أبي أمية ،وهو الذي فتحها ووليها بعد د-
انتهاء أمر الردة.
هـ -حضرموت :وليها زياد بن لبيد.
و -زبيد ورقع :ووليها أبو موسى الشعري.
ز -خولن :ووليها يعلى بن أبي أمية.
ح -الجند :وأميرها معاذ بن جبل.
ط -نجران :ووليها جرير بن عبد الله البجلي.
ي -جرش :ووليها عبد الله بن ثور.
ك -البحرين :ووليها العلء بن الحضرمي.
ل -العراق والشام :كان أمراء الجند هم ولة المر فيها.
م -عمان :ووليها حذيفة بن محصن.
)(1
ن -اليمامة :ووليها سليط بن قيس .
-4موقف علي والزبير رضي الله عنهما من خلفة
الصديق:
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة الصديق رضي
الله عنهما ،وكذا تأخر الزبير بن العوام ،وجل هذه الخبار ليس
بصحيح إل ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ،قال :إن عليًا والزبير
ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله ×) ،(2فقد
كان انشغال جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب
واضحا فيما
ً بأمر جهاز رسول الله × من تغسيل وتكفين ،ويبدو ذلك
رواه الصحابي سالم بن عبيد من أن أبا بكر قال لهل بيت النبي،
وعلى رأسهم علي :عندكم صاحبكم ،فأمرهم يغسلونه ).(3
وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-
أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول × وهو يوم الثلثاء .قال أبو
سعيد الخدري :لما صعد أبو بكر المنبر ،نظر في وجوه القوم ،فلم
ير الزبير بن العوام فدعا بالزبير فجاء ،فقال له أبو بكر :يا ابن عمة
)( الدول العربية السلمية ،منصور الحرابي :ص .97 ،96 1
130
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( البدنة :ناقة أو بقرة تنحر بمكة ،ولعظمها وضخامتها سميت بدنة. 2
)( البدرة :كيس فيه ألف أو عشرة آلف دينار ،والمعنى :أنه كنز ثمين. 3
131
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
في هذه البيعة روايات صحيحة ).(1
وكان علي في خلفة أبي بكر عيبة نصح له ،مرجحًا لما فيه
مصلحة للسلم والمسلمين على أي شيء آخر ،ومن الدلئل
الساطعة على إخلصه لبي بكر ونصحه للسلم والمسلمين،
المسلمين ما وحرصه على الحتفاظ ببقاء الخلفة واجتماع شمل
جاء من موقفه من توجه أبي بكر بنفسه إلى ذي القصة )،(2
وعزمه على محاربة المرتدين ،وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم
بنفسه ،وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود السلمي
) ،(3فعن ابن عمر -رضي الله عنهما -قال :لما برز أبو بكر إلى ذي
القصة ،واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها ،وقال:
إلى أين يا خليفة رسول الله ×؟ أقول لك ما قال رسول الله × يوم
إلى( المدينة ،فوالله لئن م سيفك ول تفجعنا بنفسك ،وارجع أحد :ل ّ
أبدا ،فرجع ). 4
فجعنا بك ل يكون للسلم نظام ً
فلو كان علي - أعاذه الله من ذلك– لم ينشرح صدره لبي
بكر وقد بايعه على رغم من نفسه ،فقد كانت هذه فرصة ذهبية
ينتهزها علي ،فيترك أبا بكر وشأنه ،لعله يحدث به حدث فيستريح
منه ويصفو الجو له ،وإذا كان فوق ذلك –حاشاه عنه -من كراهته له
به أحدًا يغتاله ،كما يفعل الرجال وحرصه على التخلص منه ،أغرى
السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم ).(5
)(6
) -5إنا معشر النبياء ل ُنورث ،ما تركنا صدقة(:
قالت عائشة -رضي الله عنها :-إن فاطمة والعباس -رضي الله
عنهما :-أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله × وهما حينئذ
يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر ،فقال لهما أبو بكر:
نورث ،ما تركنا صدقة ،إنما سمعت رسول الله × يقول» :ل
يأكل آل محمد من هذا المال« (7).وفي رواية :قال أبو بكر
×(8يعمل به إل عملت به ،فإني »:لست تاركًا شيئًا كان رسول الله
أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ) .
وعن عائشة -رضي الله عنها -قالت :أن أزواج النبي × ،حين
توفي رسول الله × ،أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي
فقالت عائشة :أليس قد قال رسول الله ×» :ل بكر يسأله ميراثهن،
نورث ،ما تركنا صدقة« ) ،(9وعن أبي هريرة قال رسول الله ×:
ورثتي ديناًرا ،ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي »ل يقتسم
فهو صدقة« ).(10
132
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وهذا ما فعله أبو بكر الصديق مع فاطمة رضي الله عنها،
الصديق :لست تاركًا شيئًا كان رسول امتثال لقوله × :لذلك قال
ً
الله يعمل به إل عملت به )(2،) (1وقال :والله ل أدع أمرًا رأيت رسول
الله × يصنعه فيه إل صنعته .
وقد تركت فاطمة -رضي الله عنها -منازعته بعد احتجاجه
بالحديث وبيانه)(3لها ،وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله ×.
قال ابن قتيبة :وأما منازعة فاطمة أبا بكر -رضي الله عنهما -في
ميراث النبي × فليس بمنكر؛ لنها لم تعلم ما قاله رسول الله ×،
)(4
وظنت أنها ترثه كما يرث الولد آباءهم ،فلما أخبرها بقوله كفت.
وقال القاضي عياض :وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد
احتجاجه عليها بالحديث التسليم للجماع على قضية ،وأنها لما بلغها
الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها ،ثم لم يكن منها ول من ذريتها
ي الخلفة فلم يعدل بها عما فعله عل ّ بعد ذلك طلب ميراث ،ثم ولي
أبو بكر وعمر رضي الله عنهم ).(5
وقال حماد بن إسحاق :والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما
طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي × من أبي بكر -رضي
الله عنهم جميعًا -إنما هو الميراث ،حتى أخبرهم أبو بكر والكابر من
أصحاب رسول الله × أنه قال» :ل نورث ما تركنا صدقة«.
فقبلوا بذلك وعلموا أنه الحق ،ولو لم يقل رسول الله × ذلك كان
لبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله
عنهما ،فآثروا أمر الله وأمر رسوله ،ومنعوا عائشة وحفصة ،ومن
لبي بكر وعمر أعظم سواهما ذلك ،ولو كان رسول يورث ،لكان
الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد × ).(6
وأما ما ذكره عدد من الرواة في كون فاطمة -رضي الله عنها-
جدا لعدة أدلة ،منها:
غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت ،فبعيد ً
-1ما رواه البيهقي من طريق الشعبي :أن أبا بكر عاد
أتحب( أن فاطمة ،فقال لها علي :هذا أبي بكر يستأذن عليك ،فقالت:
آذن له؟ قال :نعم ،فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت )، 7
وبهذا يزول الشكال الوارد في تمادي فاطمة -رضي الله عنها -لهجر
أبي بكر الصديق ،كيف وهو)(8القائل :والله لقرابة رسول الله ×،
واتباعا لمر
ً أصل من قرابتي ،وما فعل إل امتثالً ي أن
أحب إل ّ
رسول الله × ).(9
لقد انشغلت عن كل شيء يحزنها لفقدها أكرم الخلق، -2
) (1مسلم رقم.1758 : 1
)( عبد الله بن مسلم بن قتيبة ت 276هـ )شذرات الذهب.(2/169 : 3
)( تأويل مختلف الحديث :ص (5) .189شرح صحيح مسلم للنووي: 4
.12/318 5
)( البداية والنهاية ،253 ،5/252 :وقال :إسناده جيد قوي. 6
)( العقيدة في أهل البيت بين الفراط والتفريط ،د :سالم السحيمي :ص .291 9
133
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وهي مصيبة تزري بكل المصائب ،كما أنها انشغلت بمرضها الذي
فضل عن
ً ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشئون،
لقاء خليفة المسلمين المشغول –في كل لحظة من لحظاته -بشئون
المة ،وحروب الردة وغيرها ،كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها
بأبيها؛ فقد أخبرها رسول الله × بأنها أول من يلحق به من أهله،
ومن كان في مثل علمها ل يخطر بباله أمور الدنيا ،وما أحسن قول
المهلب الذي نقله العيني :ولم يروِ أحد أنهما التقيا وامتنعا عن
التسليم ،وإنما لزمت بيتها ،فعبر الراوي عن ذلك بالهجران ).(1
هذا ومن الثابت تاريخيًا أن أبا بكر دام أيام خلفته يعطي أهل
البيت حقهم في فئ رسول الله × في المدينة ،ومن أموال فدك
وخمس خيبر ،إل أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث ،عملً بما سمعه
من رسول الله × ،وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين
المشهور بمحمد الباقر ،وعن زيد بن علي أنهما قال :إنه لم يكن من
شيء من الجور أو الشطط ،أو ما أبي بكر فيما يختص بآبائهم
يشكونه من الحيف أو الظلم ).(2
ولما توفيت فاطمة -رضي الله عنها -بعد رسول الله بستة أشهر
على الشهر ،وقد كان صلوات الله وسلمه عليه عهد إليها أنها أول
لها مع ذلك» :أما ترضين أن تكوني سيدة )(3
أهله لحوًقا به ،وقال
نساء أهل الجنة« ،وذلك ليلة الثلثاء لثلث خلون من رمضان
سنة
إحدى عشرة.
عن مالك ،عن جعفر بن محمد ،عن أبيه ،عن جده ،علي بن
الحسين ،قال :ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء ،فحضرها أبو بكر
وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف ،فلما ُوضعت لُيصلى
عليها ،قال علي :تقدم يا أبا بكر ،قال أبو بكر :وأنت شاهد يا أبا
الحسن؟ قال :نعم تقدم ،فو الله ل يصلي عليها غيرك ،فصلى عليها
ليل .وجاء في رواية :صلى أبو بكر الصديق على ً أبو بكر ،ودفنت
فاطمة بنت رسول الله × فكبر)(5عليها أربعًا ) ،(4وفي رواية مسلم،
صلى عليها علي بن أبي طالب .
هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله ×
بأعضاء أهل البيت صلة ودية تقديريه تليق به وبهم ،وقد كانت هذه
المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي ،فقد سمى علي أحد
أولده بأبي بكر ) ،(6وقد احتضن علي ابن أبي بكر محمدًا بعد وفاة
للولية في خلفته حتى حسب عليه، الصديق وكفله بالرعاية ورشحه
وانطلقت اللسنة بانتقاده من أجله ).(7
)( المرتضى ،لبي الحسن الندوي :ص ،91 ،90نقل عن نهج البلغة شرح أبي 2
الحديد.
)( المرتضى ،للندوي :ص .94 3
134
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
هذه بعض القضايا الداخلية التي عالجها الصديق ،والتزم فيها
بمتابعة الرسول × بكل دقة وحرص ،فرضي الله عنه وعن جميع
الصحابة الكرام الطيبين البرار.
***
135
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الفصل الثالث
جيش أسامة وجهاد الصديق لهل الردة
المبحث الول
جيــــــش أسامـــــة
أو ً
ل :إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما:
كانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين المجاورتين للجزيرة
العربية في عهد النبي × ،وكانت تحتل أجزاء كبيرة من شمال
الجزيرة ،وكان أمراء تلك المناطق ُيعينون من قبل الدولة الرومانية
وينصاعون لوامرها.
بعث النبي الكريم × الدعاة والبعوث إلى تلك المناطق ،وأرسل
دحية الكلبي بكتاب إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى السلم )،(1
ولكنه عاند وأخذته العزة بالثم ،وكانت خطة الرسول × واضحة
المعالم لهز هيبة الروم في نفوس العرب ،ومن ثم تنطلق جيوش
المسلمين لفتح تلك الراضي ،فأرسل × في العام الثامن للهجرة
جيشا واشتبك مع نصارى العرب والروم في معركة مؤتة ،واستشهد ً
قادة الجيش على التوالي زيد بن حارثة ،ثم جعفر بن أبي طالب ،ثم
قيادة الجيش بعدهم خالد بن الوليد عبد الله بن رواحة ،وتولى
فعاد بالجيش إلى المدينة النبوية ).(2
للهجرة خرج رسول الله × بجيش عظيم إلى وفي العام التاسع
الشام ووصل إلى تبوك) ،(3ولم يشتبك جيش المسلمين بالروم ول
القبائل العربية وآثر حكام المدن الصلح على)(4الجزية وعاد الجيش
إلى المدينة بعدما مكثوا عشرين ليلة بتبوك .وفي العام الحادي
وفيهم كبار عشر ندب النبي × الناس لغزو الروم بالبلقاء وفلسطين
المهاجرين والنصار ،وأمرّ عليهم أسامة رضي الله عنهم ) ،(5قال
الحافظ ابن حجر :جاء أنه كان تجهيز جيش أسامة يوم السبت
قبل موت النبي × بيومين ،وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي ×،
فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر ودعا أسامة فقال» :سر
موضع( مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا إلى
الجيش« ) 6وطعن بعض الناس في إمارة أسامة فرد عليهم
رسول الله × فقال» :إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم
قاتطعنون في إمارة أبيه من قبل ،وايم الله إن كان لخلي ً
ي ،وإن هذا لمن أحب لمن أحب الناس إل ّ )(7
للمارة وإن كان
ي بعده«.الناس إل ّ
ومرض النبي × بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين واشتد
) (2السيرة النبوية الصحيحة للعمري: )( البخاري ،كتاب الوحي رقم.7 : 1
)( مسلم ،كتاب الفضائل (4) .4/4784 :السيرة النبوية الصحيحة.2/535 : 3
4
)( قصة بعث جيش أسامة ،د :فضل إلهي ،ص .8 5
) (2البخاري كتاب المغازي رقم.4469 : )( فتح الباري.8/152 : 6
7
136
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وجعه عليه الصلة والسلم فلم يخرج هذا الجيش وظل معسكرًا
بالجرف ) (1ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي الكريم × ) ،(2وتغيرت
الحوال مع انتقال الرسول الكريم × إلى رحمة ربه ،وصارت كما
تصف أم المؤمنين عائشة الصديقة -رضي الله عنها -بقولها :لما
رسول(4الله × ارتدت العرب قاطبة واشرأب) ) (3(5النفاق .والله )
قبض
لهاضها ،وصار أصحاب الراسيات بالجبال نزل لو ما بي نزل قد
كأنهم معزي ) (6مطيرة في حش ) (7في ليلة مطيرة بأرض ×
)(9) (8
محمد
مسبعة.
رجل في اليوم الثالث منً مر ولما تولى الخلفة الصديق أ ّ
وفّى رسول الله × أن ينادي في الناس :ليتم بعث أسامة ،أل مت َ َ
ُ
بالمدينة أحد من جند أسامة إل خرج إلى عسكره يبقين ل
بالجرف ) ،(10ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال :يا أيها
الناس :إنما أنا مثلكم وإني ل أدري لعلكم تكلفونني ما كان رسول
الله × يطيق ،إن الله اصطفى محمدًا على العالمين ،وعصمه من
الفات ،وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ،فإن استقمت فتابعوني وإن
زغت فقوموني ،وإن رسول الله × قبض وليس أحد من هذه المة
يطلبه بمظلمة -ضربة سوط فما دونها – وإن لي شيطانًا يعتريني،
فإذا أتاني فاجتنبوني ،ل أؤثر في أشعاركم وأبشاركم وأنتم تغدون
وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ،فإن استطعتم أل يمضي
هذا الجل إل وأنتم في عمل صالح فافعلوا ،ولن تستطيعوا ذلك إل
بالله ،فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى
انقطاع العمال ،فإن قومًا نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم،
فإياكم أن تكونوا أمثالهم ،الجد الجد ،والوحا الوحا ،والنجاء النجاء،
مّره سريع ,احذر الموت واعتبر بالباء فإن وراءكم طالبًا حثيثًاَ ,
والبناء والخوان ول تغبطوا الحياء إل بما تغبطون به الموات ).(11
وقام أيضًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :إن الله ل يقبل من
العمال إل ما أريد به وجهه ،فأريدوا الله بأعمالكم ،فإنما أخلصتم
لحين فقركم وحاجتكم ,اعتبروا عباد الله بمن مات منكم ،وتفكروا
فيمن كان قبلكم ،أين كانوا أمس وأين هم اليوم ،أين الجبارون
الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع
بهم الدهر وصاروا رميمًا ،قد توالت عليهم العالت ,الخبيثات
للخبيثين ،والخبيثون للخبيثات ,وأين الملوك الذين أثاروا الرض
وعمروها؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم وصاروا كَل ً شيء إل أن الله -عز
وجل -قد أبقى عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات ،ومضوا
والعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم ،وبعثنا خلقا بعدهم ،فإن نحن
جْرف :بالضم ثم السكون ،موضع على ثلثة أميال من المدينة نحو الشام. )( ا ل ْ ُ 1
)( السيرة النبوية الصحيحة ،2/552 :السيرة النبوية في ضوء المصادر الصلية: 2
.685
)( اشرأب :ارتفع وعل .انظر :النهاية في غريب الحديث.2/455 : 3
)( نزل »بي« :وفي تاريخ خليفة بن خياط :نزل بأبي.102 : 4
)( معزي :المعز من الغنم خلف الضأن ،وهو اسم جنس. 6
) (12نفس المصدر السابق.6/307 : )( البداية والنهاية.6/309 : 9
10
)( البداية والنهاية ،6/307 :تاريخ الطبري ،245 ،2/241 :ط .الكتب العلمية. 11
137
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
اعتبرنا بهم نجونا ،وإن انحدرنا كنا مثلهم .أين الوضاءة الحسنة
وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابًا ،وصار ما فرطوا فيه
حسرة عليهم .أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ،وجعلوا
مساكنهم خاوية وهم فيها العاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم ،فتلك
ن أ َحد أ َ
م هَ ل ع
ْ َ ُ ُ ْم س َ ت و
ْ ٍ م ْ َ هم ّمن ْ ُ
س ِ
ح ّ ه ْ
ل تُ ِ في ظلمات القبورَ + :
رك ًْزا" ]مريم .[98 :أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم؟ قد انتهت ِ
بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه ،وأقاموا للشقاوة أو
السعادة بعد الموت ،أل إن الله ل شريك له ليس بينه وبين أحد من
خلقه سبب يعطيه به خيًرا ول يصرف به عنه سوًءا إل بطاعته واتباع
يدرك(1إل بطاعته، أمره ،واعلموا أنكم عبيد مدينون وأن ما عنده ل
أما آن لحدكم أن تحسر عنه النار ول تبعد عنه الجنة ) .
وفي هذه الخطبة دروس وعبر ،منها:
أ -بيان طبيعة خليفة رسول الله × وأنه ليس خليفة عن الله بل
عن رسوله × ،وأنه بشر غير معصوم ل يطيق مقام رسول الله ×
وليس بمبتدع؛ أي أنه بنبوته ورسالته ،ولذلك فهو في سياسته متبع
على نهج النبي × في الحكم بالعدل والحسان ).(2
ب -بيان واجب المة في مراقبة الحاكم لتعينه في إحسانه
وصلحه ,وتقومه وتنصحه في غير ذلك؛ ليظل على الطريق متبعًا
غير مبتدع.
ج -بيان أن النبي × عدل بين المة فلم يظلم أحدًا ،ولذلك ليس
لحد عند النبي × مظلمة صغيرة أو كبيرة ،ومعنى هذا أنه سوف
يسير على نفس النهج؛ ينشر العدل ويبتعد عن الظلم ،ومن ثم على
المة أن تعينه على ذلك ،وإذا رآه أحد غاضبًا فعليه أن يجتنبه حتى ل
يؤذي أحدًا فيخالف ما رآه في سياسة التباع ) (3للنبي × .والشيطان
الذي يعتري الصديق يعتري جميع بني آدم ،فإنه ما من أحد إل وقد
وكل الله به قرينه من الملئكة وقرينه من الجن) ،(4والشيطان يجري
من ابن آدم مجرى الدم ،فقد قال رسول الله ×» :ما منكم من
أحد إل وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملئكة«
قالوا :وإياك يا رسول الله؟ قال» :وإياي إل أن الله أعانني
عليه فأسلم فل يأمرني إل بخير« (5).وقد جاء في الحديث
أيضا :لما مر به بعض النصار وهو يتحدث مع صفية ليلً فقال:× : ً
»على رسلكما ،إنها صفية بنت حيي« فقال :سبحان الله يا
رسول الله ،قال» :إن الشيطان يجري من النسان مجرى
ءا«
الدم وإني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما سو ً
ومقصود الصديق بذلك :إني لست معصومًا كالرسول × ،وهذا )(7
)،(6
حق .
د -حرص الصديق على وعظ المسلمين وتذكيرهم بالموت وحال
)( أبو بكر الصديق ،محمد مال الله :ص (4) .196مسلم رقم.2814 : 4
5
)( البخاري كتاب الخلق ،رقم (6) .3281 :أبو بكر الصديق محمد مال الله :ص 6
.197 7
138
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الملوك الذين مضوا ،وحثهم على العمل الصالح ليستعدوا للقاء الله
عز وجل ،ويستقيموا في حياتهم على منهج الله تعالى ) ،(1وهنا نلحظ
توظيف الصديق لقوة البيان في خطبه وفي حديثه للمة ،وقد كان
أفصح خطباء النبي × ،يقول عنه الستاذ العقاد :أما كلمه فهو
من أرجح ما قيل في موازين الخلق والحكمة ،وله من مواقع الكلم
أمثلة نادرة تدل الواحدة منها على ملكة صاحبها ،فيغني القليل منها
عن الكثير ،كما تغني السنبلة الواحدة عن الجرين الحافل ،فحسبك
أن تعلم معدن القول من نفسه وفكره حين تسمع كلمة كقوله:
»احرص على الموت ُتوهب لك الحياة« أو قوله» :أصدق الصدق
المانة ،وأكذب الكذب الخيانة«» .الصبر نصف اليمان ،واليقين
اليمان كله« .فهي كلمات تتسم بالقصد والسداد كما تتسم بالبلغة
وحسن التعبير ،وتنبي عن المعدن الذي نجمت منه فتغني عن
علمات التثقيف التي يستكثر منها المستكثرون؛ لن هذا الفهم
التثقيف ،وكانت له × لباقة في الصيل هو اللباب المقصود من
الخطاب إلى جانب البلغة في الكلم ).(2
ثانًيا :ما تم بين الصديق والصحابة في أمر إنفاذ الجيش:
اقترح بعض الصحابة على الصديق بأن يُبقي الجيش فقالوا:
إن هؤلء جل المسلمين ،والعرب على ما ترى قد انتقضت بك فليس
ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين (3) .وأرسل أسامة من
معسكره من الجرف عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما -إلى أبي
بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال :إن معي وجوه المسلمين
وجلتهم ول آمن على خليفة رسول الله × وحرم رسول الله ×
والمسلمين أن يتخطفهم المشركون).(4
ولكن أبا بكر خالف ذلك وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية
في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والحوال والنتائج ،ولم
يسترح أسامة وهيئة أركان حربه لصرار الخليفة على رأيه ،وقد
بذلوا لدى الخليفة عدة محاولت كي يقنعوه بصواب فكرتهم ،وعندما
كثر اللحاح على أبي بكر دعا عامة المهاجرين والنصار إلى اجتماع
في المجلس لمناقشة هذا المر معهم ،وفي هذا الجتماع دار نقاش
طويل متشعب ،وكان أشد المعارضين لستمرار حملة الشام عمر
بن الخطاب ،مبديًا تخوفه الشديد على الخليفة وحرم رسول الله
وكل المدينة وأهلها من أن تقع في قبضة العراب المرتدين
المشركين ،وعندما أكثر وجوه الصحابة بهذا الصدد على الخليفة
وخوفوه مما ستتعرض له المدينة من أخطار جسام إن هو أصر على
تحريك جيش أسامة لغزو الروم ،أمر بفض الجتماع الول ) (5بعد أن
سمع الصديق لرأيهم واستوضح منهم إن كان لحدهم ما يقول،
وذلك حتى يعطي إخوانه وأهل الرأي كامل الفرصة لبيان رأيهم )،(6
تاريخ الدعوة إلى السلم :ص .423 )( 1
) (2البداية والنهاية.6/308 : عبقرية الصديق :ص .139 )( 2
3
الشورى بين الصالة والمعاصرة ،عز الدين التميمي :ص .83 ،82 )( 5
ملمح الشورى في الدعوة السلمية ،عدنان النحوي :ص .257 )( 6
139
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ثم دعاهم إلى اجتماع عام آخر في المسجد ،وفي هذا الجتماع
طلب من الصحابة أن ينسوا فكرة إلغاء مشروع وضعه رسول الله
× بنفسه ،وأبلغهم أنه سينفذ هذا المشروع حتى لو تسبب تنفيذه
في احتلل المدينة من قبل العراب المرتدين ،فقد وقف خطيبًا
)(1
قائل :والذي نفس أبي بكر بيده ،لو ظننت أن ً وخاطب الصحابة
السباع تخطفني لنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله × ،ولو
لم يبق في القرى غيري لنفذته ).(2
نعم لقد كان أبو بكر مصيبًا فيما عزم عليه من بعث أسامة
مخالفًا بذلك رأي جميع المسلمين؛ لن في ذلك أمرًا من رسول الله
أثبتت اليام والحداث سلمة رأيه وصواب قراره الذي اعتزم × وقد
تنفيذه ).(3
رجل أقدم سنّ ا من أسامة يتولى أمر الجيش، ً وطلبت النصار
وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصديق في ذلك ،فقال عمر
سن ا من أسامة ، ،فوثب أبو : فإن النصار تطلب رجلً أقدم ً
جالس ا فأخذ بلحية عمر ، وقال له ثكلتك أمك ً بكر وكان
وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله × وتأمرني أن
أنزعه ) ، (4فخرج عمر إلى الناس فقالوا :ما صنعت؟ فقال:
ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول امضوا
الله × ).(5
ثم خرج أبو بكر الصديق حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم وهو
ماش وأسامة راكب .وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر
-رضي الله عنهم -فقال له أسامة :يا خليفة رسول الله × :والله
ي أن تنزل ووالله ل أركب ،وما عل ّ لتركبن أو لنزلن ،فقال :والله ل
أغبر قدمي في سبيل الله ساعة ).(6
قال الصديق لسامة :إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل. ثم
فأذن له) ،(7ثم توجه الصديق إلى الجيش فقال :يا أيها الناس،
قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني:
ل تخونوا ول ت ُِغلوا ول تغدروا ول تمّثلوا ) ،(8ول تقتلوا طفلً
صغيرا ،ول شيخًا كبيرًا ول امرأة ،ول تعقروا نخلً ول تحرقوه ،ول ً
تقطعوا شجرة مثمرة ،ول تذبحوا شاة ول بقرة ول بعيرًا إل لمأكلة،
وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما
فرغوا أنفسهم له ،وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها
شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. ً ألوان الطعام فإذا أكلتم منه
وتلقون أقوامًا قد فحصوا ) (9أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل
)( الشورى بين الصالة والمعاصرة :ص (2) .83تاريخ الطبري.4/45 : 1
2
)( الشورى بين الصالة والمعاصرة :ص (4) .83تاريخ الطبري.4/46 : 3
4
)( ول تمثلوا :يقال :مثلت بالحيوان وأمثل به تمثيل ،إذا قطعت أطرافه وشوهت 8
به.
) (2فأخفقوهم :من أخفق فلنًا أي: )( فحصوا :حلقوا. 9
صرعه.
140
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بالسيف خفقًا .اندفعوا باسم الله ).(2 )(1
العصائب فأخفقوهم
وأوصى الصديق أسامة -رضي الله عنهما -أن يفعل ما أمر به
قائل :اصنع ما أمرك به نبي الله ×؛ ابدأ ببلد قضاعة
ً النبي الكريم ×
ثم إيت آبل ) (3ول تقصرن في شيء من أمر رسول الله × ،ول
تعجلن لما خلفت عن عهده (4).ومضى أسامة بجيشه ،وانتهى إلى
ما أمر به النبي × من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على
)(6
يوما.
ً آبل فسلم وغنم ) ،(5وكان مسيرة ذاهبًا وقافلً أربعين
وقدم بنعي رسول الله على هرقل وإغارة أسامة في ناحية
أرضه خبر واحد ،فقالت الروم :ما بال هؤلء يموت صاحبهم ثم
أغاروا على أرضنا )(7؟ وقال العرب :لو لم يكن لهم قوة لما أرسلوا
هذا الجيش ) ،(8فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه ).(9
ثالًثا :أهم الدروس والعبر والفوائد من إنفاذ الصديق جيش
أسامة:
-1الحوال تتغير وتتبدل والشدائد ل تشغل أهل اليمان
عن أمر الدين:
ما أشد التحول وأخطره ،وما أسرعه كذلك! سبحان الله الذي
د" ]البروج+ ،[16 :ل َ ري ُ ل لّ َ
ما ي ُ ِ عا ٌ فَّيقلب الحول كيفما يشاءَ + :
ن" ]النبياء ،[23 :تأتي وفود العرب َ لوُ أ س
م يُ ْ
ه ْ
و ُ ع ُ
ل َ ف َما ي َ ْ
ع ّ
ل َسأ َ ُ
يُ ْ
مذعنة منقادة مطيعة وبهذه الكثرة ،حتى سمي العام التاسع )عام
الوفود( ،ثم
تنقلب الحوال فيخشى من أن تأتي القبائل العربية للغارة على
المدينة المنورة عاصمة السلم ) ،(10بل قد جاءت للغارة للقضاء
على -حسب زعمها الباطل -على السلم والمسلمين) ،(11ول غرابة
في هذا فإن من سنن الله الثابتة في المم أن أيامها ل تبقى ثابتة
على حالة بل تتغير وتتبدل ،وقد أخبر بذلك الذي يقلب اليام
س"ِ نا
ّ ن ال ول ُ َ
ها ب َي ْ َ دا ِ
م نُ َك الّيا ُ وت ِل ْ َ ويصرفها -عز وجل -بقولهَ + :
]آل عمران.[140 :
قال الرازي في تفسيره :والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين
الناس ل يدوم مسارها ول مضارها ،فيوم يحصل فيه سرور له والغم
لعدوه ،ويوم آخر بالعكس من ذلك ول يبقى شيء من أحوالها ول
1
) (4آبل :منطقة في جنوب بلد الردن )( تاريخ الطبري.4/46 : 2
اليوم. 3
)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة ،د :فضل إلهي :ص .14 8
) (2،قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص .18 10
11
141
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
يستقر أثر من آثارها ).(1
وجاءت صيغة المضارعة ُنداوُلها للدللة على تجدد سنة مداولة
اليام من المم واستمرارها ،وفي هذا قال القاضي أبو السعود:
وصيغة المضارع الدالة على التجدد والستمرار لليذان بأن تلك
المداولة سنة مسلوكة بين المم)(3قاطبة سابقتها ولحقتها ) (2وقد
قيل :اليام دول والحرب سجال .
وقال الشاعر:
)(4
سرّ
ويوم ُنساء ويوم ن ُ َ فيوم علينا ويوم لنا
فالصديق يعلّم المة إذا نزلت بها الشدة وألمت بها المصيبة أن
ن
تصبر ،فالنصر مع الصبر ،وأن ل تيأس ول تقنط من رحمة الله+ :إ ِ ّ
ن" ]العراف ،[56 :وليتذكر سِني َ
ح ِ ن ال ْ ُ
م ْ م َ
ب ّ
ري ٌ
ق ِه َت الل ِم َ ح ََر ْ
المسلم دائمًا أن الشدة مهما عظمت والمصيبة مهما اشتدت
ن
سًرا إ ِ ّ
ر يُ ْ
س ِ ع ال ْ ُ
ع ْ م َ
ن َ
فإ ِ ّوكبرت فإن من سنن الله الثابتةَ + :
سًرا" ]النشراح ،[6 ،5 :وإن المسلم لمره عجيب في ر يُ ْس ِ ع ال ْ ُ
ع ْ م ََ
هذه الدنيا ،فقد بين رسول الله × ذلك في قوله» :عجًبا لمر
المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لحد إل للمؤمن ،إن أصابته
سراء شكر فكان خيًرا له ،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيًرا له« ).(5
ومن الدروس المستفادة من بعث جيش أسامة :أن الشدائد
والمصائب مهما عظمت وكبرت ل تشغل أهل اليمان عن أمر
الدين .إن وفاة الرسول الكريم × لم تشغل الصديق عن أمر الدين،
وأمر ببعث أسامة في ظروف حالكة مظلمة بالنسبة للمسلمين،
ولكن ما تعلمه الصديق من رسول الله من الهتمام بأمر الدين
مقدم على كل شيء ،وبقي هذا المر حتى ارتحل من هذه الدنيا ).(6
-2المسيرة الدعوية ل ترتبط بأحد ووجوب اتباع النبي ×:
وفي قضية إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة -رضي الله
عنهما -نجد أن الصديق بين بقوله وعمله أن مسيرة الدعوة لم
ولن تتوقف حتى بموت سيد الخلق وإمام النبياء وقائد المرسلين
× ،وأثبت مواصلة العمل الدعوي بالمبادرة إلى إنفاذ هذا الجيش
حيث نادى مناديه في اليوم الثالث من وفاة رسول الله × بخروج
جند أسامة إلى عسكره بالجرف ،وقد كان الصديق قبل ذلك
ألقاها إثر بيعته عن عزمه على مواصلة بذل )(7
قد بين في خطبته التي
الجهود لخدمة هذا الدين.
وقد جاء في رواية قوله :فاتقوا الله أيها الناس ،واعتصموا
بدينكم وتوكلوا على ربكم؛ فإن دين الله قائم وإن كلمة الله تامة،
)( تفسير الرازي ،9/15 :تفسير القرطبي.4/218 : 1
)( تفسير أبي السعود2/89 :؛ روح المعاني لللوسي.4/68 : 2
) (6تفسير القرطبي.4/218 : )( روح المعاني لللوسي.4/68 : 3
4
) (2قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص .24 6
) (3البداية والنهاية.214 ،5/213 : )( نفس المصدر السابق :ص .27 7
142
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه .والله ,ل نبالي من أجلب علينا
من خلق الله ،إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد ،ولنجاهدن
من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله × فل يبغين أحد إل على نفسه
).(1
ومن الدروس المستفادة من قصة إنفاذ الصديق جيش أسامة
-رضي الله عنهما :-أنه يجب على المسلمين اتباع أمر النبي × في
السراء والضراء ،فقد بين الصديق من فعله أنه عاضّ على أوامر
النبي × بالنواجذ ومنفذها مهما كثرت المخاوف واشتدت المخاطر،
وقد تجلى هذا أثناء هذه القصة عدة مرات ،منها:
أ -لما طلب المسلمون إيقاف جيش أسامة نظرًا لتغير
الحوال وتدهورها أجاب بمقولته الخالدة :والذي نفس أبي بكر
أسامة كما أمر به بيده لو ظننت أن السباع تخطفتني لنفذت بعث
رسول الله × ،ولو لم يبق في القرى غيري لنفذته ).(2
ب -ولما استأذنه أسامة -رضي الله عنهما -في الرجوع بجيشه
من الجرف إلى المدينة خوفًا على الصديق وأهل المدينة لم يأذن
بقوله: له ،بل أبدى عزمه وتصميمه على تنفيذ قضاء النبي الكريم ×
لو خطفتني الكلب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله )،(3
ماو ََ + وجل:-
-عزل ُه أ َ وقدم بموقفه هذا صورة تطبيقية لقول الله ّ
مًرا َأن ُ ْ سو ر و
ُ َ َ ُ ه الل ضى َ َ
ق َ
ذا إ
َ ِ ة
ٍ َ نمِ ْ
ؤ م ُ َ ل و ٍ ْ َن مِ ؤْ م ُ ِ ل ن َ كاَ
د
ق ْف َه َ ُ َ ل سو ر و
َ َ َ ُ ه الل ص ع
ْ َ ي من و م ه
ِ
ْ ْ ِ ْ َ َ ر م أ ن مِ ُ ة ر
َ َ ي خ
ِ ل ا م
ُ ُ ه َ ل نَ كو ُ يَ
ِ ً َ
نا"]الحزاب.[36 : مِبي ً ّ ل ل ض َ ّ
ل ض
َ
ج -وعندما طلب منه تعيين رجل أقدم سنّا من أسامة أبدى ُ
الشديد على الفاروق بسبب جرأته على نقل مثل هذا )(4
غضبه
وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله أمك ثكلتك له: وقال ، القتراح
رسول الله × وتأمرني أن أنزعه ).(5
د -وتجلى اهتمام أبي بكر الصديق باتباع النبي الكريم ×
وكذلك( في خروجه لتشييع الجيش ومشيه مع أسامة الذي كان
راكبا) ، 6ولقد كان الصديق في عمله هذا مقتديًا بما فعله سيد ً
وسلمه عليه مع معاذ ربي صلوات الكريم رسولنا والخرين الولين
ابن جبل لما بعثه رسول الله × إلى اليمن ) ،(7فقد روى المام
أحمد عن معاذ بن جبل قال :لما بعثه رسول الله × إلى اليمن
الله ×(8يوصيه ومعاذ راكب ،ورسول الله × خرج معه رسول
يمشي تحت راحلته ) .
قال الشيخ أحمد البنا تعليقا على هذا الحديث :وقد فعل ذلك أبو
بكر بأسامة بن زيد -رضي الله عنهما -مع صغر سنه ،فقد عقد له
1
)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص (3) .36تاريخ الطبري.4/46 : 4
5
) (5قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص )( المرجع السابق.4/46 : 6
.36 7
)( الفتح الرباني لترتيب مسند المام أحمد بن حنبل الشيباني.21/215 : 8
143
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
النبي × قبل وفاته لواء على جيش ولم يسافر إل بعد وفاة النبي ×،
ماشيًا وأسامة راكبًا ،اقتداء بما فعله فشيعه أبو بكر
النبي × بمعاذ .(1)
هـ -وظهرت عناية أبي بكر الصديق بالقتداء بالرسول الكريم
× أيضا في قيامه بتوصية الجيش عند توديعهم؛ حيث كان رسول
الله × يوصي الجيوش عند توديعهم ،ولم يقتصر الصديق على هذا؛
جاء في وصيته لجيش أسامة كان مقتبسًا من وصايا بل إن معظم ما
النبي × للجيوش ).(2
ولم يقف أبو بكر الصديق في القتداء بالرسول الكريم ×
فيما قاله وفعله فحسب ،بل أمر أمير الجيوش أسامة بتنفيذ
أمره × ،ونهاه عن التقصير فيه ) ،(3فقد قال له -رضي الله عنهما:-
اصنع ما أمرك به نبي الله × ،ابدأ ببلد قضاعة ثم إيت آبل ،ول
تقصرن شيئًا من أمر رسول ُ الله × ) ،(4وفي رواية أخرى أنه قال:
امض يا أسامة للوجه الذي أمرت به ،ثم اغز حيث أمرك رسول الله
× من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة ،فإن الله سيكفي ما تركت.
عند ابن الثير :وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر به )(6
) (5وفي رواية
رسول الله × .
لقد انقاد الصحابة -رضي الله عنهم -لرأي الصديق وشرح الله
صدورهم لذلك ،وتمسكوا بأمر الرسول الكريم × ،وبذلوا المستطاع
وألقى في قلوب لتحقيقه ،فنصرهم الله تعالى ورزقهم الغنائم
الناس هيبتهم ،وكف عنهم كيد العداء وشرهم ).(7
وقد تحدث )توماس آرنولد( عن بعث جيش أسامة فقال :بعد
وفاة محمد × أرسل أبو بكر الجيش الذي كان النبي × قد عزم
على إرساله إلى مشارف الشام ،على الرغم من معارضة بعض
المسلمين ،بسبب الحالة المضطربة في بلد العرب إذ ذاك ،فأسكت
ظننت أن السباع احتجاجهم بقوله :قضاء قضى به رسول الله ،ولو
تخطفني لنفذت جيش أسامة كما أمر النبي × ) ...(8ثم قال:
وكانت هذه هي أولى تلك السلسلة الرائعة من الحملت التي اجتاح
دولة(9فارس العرب فيها سوريا وفارس وإفريقيا الشمالية ،فقوضوا
القديمة ،وجردوا المبراطورية الرومانية من أجمل ولياتها ) .
وهكذا نرى الله تعالى قد ربط نصر المة وعزها باتباع النبي
الكريم × ،فمن أطاعه
فله النصر والتمكين ومن عصاه فله الذل والهوان ،فسر حياة المة
في طاعتها لربها
واقتدائها بسنة نبيها × ).(10
) (2 ،1قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص .32 2
3
) (5الكامل.2/237 : )( عهد الخلفة والخلفاء الراشدين للذهبي :ص .20 5
6
)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص .36 7
144
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-3حدوث الخلف بين المؤمنين ورده إلى الكتاب والسنة:
ومما نستفيد من هذه القصة أنه قد يحدث الخلف بين المؤمنين
الصادقين حول بعض المور؛ فقد اختلفت الراء حول إنفاذ جيش
أسامة في تلك الظروف الصعبة ،وقد تعددت القوال حول
إمارته ،ولم يجرهم الخلف في الرأي إلى التباغض والتشاجر
والتقاطع (1والتقاتل ،ولم يصر أحد على رأي بعد وضوح والتدابر
فساده وبطلنه ) ،وعندما رد الصديق الخلف إلى ما ثبت من أمر
النبي × ببعث أسامة وبّين أنه ما كان ليفرط فيما أمر به رسول
الله × مهما تغيرت الحوال وتبدلت ،استجاب بقية الصحابة لحكم
النبي × بعدما وضحه لهم الصديق ،كما أنه ل عبرة لرأي الغلبية إذا
كان مخالفًا للنص؛ فقد رأى عامة الصحابة حبس جيش أسامة وقالوا
للصديق :إن العرب قد انتقضت عليك وإنك ل تصنع بتفريق الناس
شيئا ) ،(2فأولئك الناس لم يكونوا كعامة الناس بل كانوا من الصحابة ً
الذين هم خير البشر وجدوا على الرض بعد النبياء والرسل عليهم
السلم ،لكن
مبينً(3ا أن أمر رسول الله × أجل وأكرم لهم يستجب لم الصديق
وأوجب وألزم من رأيهم كلهم ).وقد تجلت هذه الحقيقة في حادثة
وفاة النبي ×؛ حيث رأى عامة الصحابة -رضي الله عنهم -وفيهم
عمر أن النبي × لم يمت ،ورأى عدد قليل من الصحابة -رضي
بكر الله عنهم -أنه × قد مات؛ منهم أبو بكر ،وقد رأينا أن أبا
تمسك بالنص وبّين خطأ من قال :إن رسول الله × لم يمت ).(4
قال الحافظ ابن حجر تعليقًا على رأي الكثرين حول وفاته ×:
فيؤخذ منه على أن القل عددا في)(5الجتهاد قد يصيب ويخطئ
الكثرية ،فل يتعين الترجيح بالكثر .
فخلصة الكلم أن مما نستفيده من قصة تنفيذ الصديق جيش
دليل على
ً أسامة -رضي الله عنهما -أن تأييد الكثرة لرأي ليس
إصابته ) ،(6ومما يستفاد من هذه القصة انقياد المؤمنين وخضوعهم
للحق إذا اتضح لهم ،فعندما ذكرهم الصديق أن النبي × قد أمر
بتنفيذ جيش أسامة وهو الذي عين أسامة أميرًا على الجيش ،انقاد
للمر أولئك البرار
النبوي الكريم ).(7
-4جعل الدعوة مقرونة بالعمل ،ومكانة الشباب في
خدمة السلم:
لما أصر أبو بكر على إبقاء أسامة بن زيد أميرا للجيش
حرصا على التمسك بما قرره رسول الله × ،لم يقتصر على ً
الصرار على إمارته فحسب ،بل قدم اعترافًا عمليًا بإمارته وقد
)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص (2) .39نفس المصدر السابق :ص 10
)( تاريخ خليفة بن خياط :ص (4) .100قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص 2
)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص (6) .45 ،44فتح الباري.8/146 : 4
5
)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص .46 6
) (1قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص .52 7
145
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
تجلى ذلك في أمرين:
-1مشى أبو بكر مع أسامة وهو راكب ،وقد كان ابن
عشرين سنة أو ثماني عشرة سنة ،وكان الصديق قد تجاوز
ستين سنة من عمره ،وأصر على المشي مع أسامة ،كما أصر
على بقاء أسامة راكبًا لما طلب منه أسامة إما أن يركب هو
أو يأذن له بالنزول ،فلم يوافق ل على هذا ول على ذاك ،وبهذا
قدم باستمراره في مشيه ذلك دعوة لجيش أسامة إلى
العتراف بإمرة أسامة ورفع الحرج عنها من صدورهم ،وكأن
الصديق بمشيه ذلك يخاطب الجيش فيقول :انظروا أيها
المسلمون أنا أبو بكر رغم كوني خليفة رسول الله × أمشي مع
إقرارا وتقديرًا لمارته؛ حيث أمره رسولنا الكريم
ً أسامة وهو راكب،
صلوات(1ربي وسلمه عليه -فكيف العلى وقائدنا -إمامنا العظم
تجرأتم أنتم على النتقاد على إمارته ) .
-2كان أبو بكر الصديق يرغب في بقاء عمر بن الخطاب
-رضي الله عنهما -بالمدينة نظرا لحاجته إليه ،لكنه لم يأمر بذلك بل
مناسبا،
ً استأذن من أسامه في تركه إياه بالمدينة إن رأى هو ذلك
وبهذا قدم الصديق صورة تطبيقية أخرى لعترافه واحترامه
لمارة أسامة ،وفيها بل شك دعوة قوية للجيش إلى القرار
والنقياد لمارته.
وهذا الذي اهتم به الصديق من جعل دعوته مقرونة بالعمل
أولئك الذين يأمرون أمر به السلم ،ووبخ)(2الرب -عز وجلْ َ - هو الذي
س
ن الّنا ُ َ م َُرو َ
وينسون أنفسهم َ ،قال ُتعالى+ ْ :أت َأ ُ بالبر الناس
ن"
قلو َ فل َ ت َ ْ
ع ِ بأ َ ن الك َِتا َ
م ت َت ْلو َ
وأن ْت ُ ْ سك ُ ْ
م َ ن أ َن ْ ُ
ف َ و َ
س ْ ِبال ْب ِّر َ
وت َن ْ َ
]البقرة.[44 :
ومما يتجلى في هذه القصة كذلك منزلة الشباب العظيمة في
خدمة السلم؛ فقد عين رسول الله × الشاب أسامة بن زيد -رضي
الله عنهما -أميرا على الجيش المعد لقتال الروم -القوة العظيمة
في زعم الناس في ذلك الوقت -وكان عمره آنذاك عشرين سنة أو
ثماني عشرة سنة ،وأقره أبو بكر الصديق على منصبه رغم انتقاد
الناس ،وعاد المير الشاب بفضل الله تعالى من مهمته التي أسندت
إليه غانمًا ظافرًا ،وفي هذا توجيه للشباب في معرفة مكانتهم في
خدمة السلم .ولو نعيد النظر في تاريخ الدعوة السلمية في
المرحلتين المكية والمدنية لوجدنا شواهد كثيرة تدل على ما قام به
شباب السلم في خدمة القرآن والسنة ،وإدارة أمور الدولة،
والمشاركة في الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله تعالى ).(3
-5صورة مشرقة من آداب الجهاد في السلم:
ومن فوائد قصة بعث أبي بكر لجيش أسامة أنها تقدم لنا
صورة مشرقة للجهاد السلمي ،وقد تجلت تلك الصورة في وصية
أبي بكر الصديق لجيش أسامة عند توديعه إياهم ،ولم يكن أبو بكر
) (3 ،نفس المصدر السابق :ص .66 1
2
) (1قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص .70 3
146
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
حيث الصديق في وصاياه للجيوش إل مستنا بسنة المصطفى ×؛
كان عليه الصلة والسلم يوصي المراء والجيوش عند توديعهم )،(1
ومن خلل فقرات الوصية التي جاءت في البحث تظهر الغاية من
حروب المسلمين فهي دعوة إلى السلم،
فإذا ما رأت الشعوب جيشًا يلتزم بهذه الوصايا ل تملك إل الدخول
في دين الله
طواعية واختيارًا:
أ -إنها ترى جيشًا ل يخون ،بل يصون المانة ويفي بالعهد ول
يسرق مال الناس أو يستولي عليه دون حق.
ب -ترى جيشًا ل يمثل بالدميين؛ بل هو يحسن القتل كما يحسن
العفو ،يحترم الطفل ويرحمه ،ويبّر الشيخ الكبير ويكرمه ،ويصون
المرأة ويحفظها.
ج -ترى جيشًا ل يبدد ثروة البلد المفتوحة ،بل تراه يحفظ النخيل
ول يحرقه ،ول يقطع شجرة مثمرة ،ول يدمر المزروعات أو يخرب
الحقول.
د -وإذا ما حافظ على الثروة الدمية فلم يغدر ولم يخن ولم يغل
ولم يمثل بقتيل ولم يقتل طفلً ول شيخًا كبيرًا ول امرأة ،وحافظ
نخل أو يقطع شجرة مثمرة ،فهو ً على الثروة الزراعية فلم يعقر
يحافظ في نفس الوقت على الثروة الحيوانية فل يذبح شاة أو بقرة
أو بعيرًا إل للكل فقط ،فهل تحافظ الجيوش المشركة على واحد
ودمار؟ من هذه الشياء ،أم أنها تحول البلد التي تحاربها إلى خراب
والمثال قائم في العدوان الشيوعي الملحد على أفغانستان ) ،(2وفي
البوسنة من قبل الصرب وكذلك كوسوفا ،وفي كشمير من قبل
الهند على المسلمين ،وفي الشيشان ،وفي فلسطين من قبل
اليهود ،أل ما أعظم الفرق بين هداية الله وضلل الملحدين.
هـ -وهو جيش يحترم العقائد والديان السابقة عليه ،فيحافظ
على العباد في صوامعهم ول يتعرض لهم بأذى ...وتلك دعوة عملية
الرض فساًدا تدل على سماحة السلم وعدالته ،أما من يعيثون في
ويحاربون الحق فجزاؤهم القتل ليكونوا عبرة لغيرهم ).(3
وما جاء في وصية الصديق لم يكن كلمات قيلت بل طبقها
المسلمون في عصره وبعده ) (4وسنرى ذلك بإذن الله في فتوحاته
.
-6أثر جيش أسامة على هيبة الدولة السلمية:
عاد جيش أسامة ظافرًا غانمًا بعدما أرهب الروم حتى قال لهم
هرقل وهو بحمص بعدما جمع بطارقته :هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن
تقبلوا مني!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر فتغير عليكم ،ثم
م .قال أخوه »يناف« :فابعث رباطًا )جنداتخرج من ساعتها ولم تك ْل َ ْ
)( نفس المصدر السابق :ص .80 1
)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة :ص .81 4
147
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
تهذيب ابن عساكر1/125 :؛ تاريخ ابن عساكر.1/439 : )( 2
148
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الثاني
جهاد الصديق لهل الردة
حا ،وبعض اليات التي حذرت من الردة: أو ً
ل :الردة اصطل ً
حا:
-1الردة اصطل ً
عرف النووي الردة بأنها :قطع السلم بنية أو قول كفر أو فعل،
سواء قاله استهزاء أو عناًدا أو اعتقادًا ،فمن نفى الصانع أو الرسل
كذب رسولً أو حلل محرمًا بالجماع كالزنا وعكسه ،أو نفى أو ّ
وجوب مجمع عليه أو عكسه ،أو عزم على الكفر أو تردد فيه كفر).(1
وعرفها عليش المالكي)(2بأنها :كفر المسلم بقول صريح أو لفظ
يقتضيه أو بفعل يتضمنه .
د( بأنه :كل من صح عنه أنه ن حزم الظاهري )المرت َ وعرف اب ُ
كان مسلمًا متبرئًا من كل دين حاشا دين السلم ،ثم ثبت عنه أنه
ارتد عن السلم وخرج إلى دين كتابي أو غير كتابي أو إلى غير دين
).(3
ول َ
الحنبلي :بأنه لغة :الراجع ،قال تعالىَ + : عثمان وعرفه
َ
م" ]المائدة ،[21 :وشرعًا :من أتى بما يوجب عَلى أدَْبا)ِ 4
ر(ك ُ ْ دوا َت َْرت َ ّ
الكفر بعد إسلمه .
ومعنى هذا أن المرتد هو كل من أنكر معلومًا من الدين
والنبوة وموالة المؤمنين ،أو أتى بقول أو
)(5
بالضرورة كالصلة والزكاة
تأويل غير الكفر.ً فعل ل يحتمل
-2بعض اليات التي أشارت إلى المرتدين:
أطلق الله -سبحانه وتعالى -على المرتدين عن دينه عبارات
تشير إلى هذا المرتكس الوبيل الذي تحولوا إليه ،منها الردة على
العقاب أو على الدبار والنقلب بالخسران وطمس الوجوه ،ورد
اليدي في الفواه والرتياب والتردد واسوداد الوجوه ) ،(6قال تعالى: َ
عَلى م َ دوك ُ ْ فُروا ي َُر ّ ن كَ َ ذي َ عوا ال ّ ِ طي ُ مُنوا ِإن ت ُ ِ نآ َ ذي َ ها ال ّ ِ ََ+يا أي ّ َ
ن" ]آل عمران ،[149 :وقال تعالىَ+ :يا
ّ ْ
ري َ س ِ خا ِ قل ُِبوا َ
ْ
فت َن ْ َ
ُ
م َ قاب ِ ّك ُ ْ ع َ أَ ْ
عكم ُ م َ َ ما
َ ل قا ً ّ د ص
َ م
ُ نا
َ ل ز
ّ َ ن ما َ ِ ب نوا ُ م
ِ آ ب َ تا
َ ِ ك ل ا توا ُ أو نَ ذي ِ ل ا هاَ أي ّ
عَلى أ َدبار َ َ قبل َ
م
ه ْعن َ ُ و ن َل ْ َها أ ْ ِ َ ْ َ ها َ ّ د ر
َ ُ َ ن فَ ها ً جو ُ و
ُ س
َ مِ ْ ط ّ ن أن َ ِ ْ َ من ّ
عول" ]النساء،[47 : ف ُ م ْه َمُر الل ِ نأ ْ كا َ و َ ت َ سب ْ ِ ب ال ّ حا َ ص َ عّنا أ ْ ما ل َ َ كَ َ
وجاء في تفسير ابن كثير :وطمسها أن تعمى وقوله :فنردها على
)( محمد الزهري الغمراوي ،شرح على متن المنهاج ،لشرف الدين النووي :ص 1
.519
)( أحكام المرتد للسامرائي :ص .44 2
)( حركة الردة ،د .علي العتوم :ص .18وهو من أهم المراجع في بحث الردة. 5
149
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أدبارها أي :تجعل لحدهم عينين من قفاه ،وهذا أبلغ في العقوبة
والنكال ،وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى
البيضاء إلى سبيل الضللة يهرعون الباطل ورجوعهم عن المحجة
ويمشون القهقري على أدبارهم ).(1
وقال تعالى+ :يوم ت َبيض وجوه وت َسود وجوه َ َ
ن
ذي َ ما ال ّ ِفأ ّ َ ََْ ْ َ ّ ُ ُ ٌ َ ْ َ ّ ُ ُ ٌ
ما
ب بِ َ ع َ
ذا َ قوا ال ْ َ ذو ُ م َ
ف ُ مان ِك ُ ْ
عدَ ِإي َم بَ ْ م أك ْ َ
فْرت ُ ْ ه ْ
ه ُ
جو ُو ُتْ ُ ودّ ْس َ ا ْ
ن" ]آل عمران.[106 : فُرو َ ك ُن ْت ُ ْ
م ت َك ُ
نقل القرطبي فيها جملة آراء منها رأي قتادة أنها في المرتدين ،كما
لبي هريرة وقال عنه :يستشهد به بأن الية في الردة وهو: حديث
نقل ا ً
»يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض
فأقول :يا رب أصحابي! فيقول:إنك ل علم لك ما أحدثوا بعدك ،إنهم
ارتدوا على أدبارهم القهقري«(2).وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن ابن
×» :يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات عباس قال :قال رسول الله
اليمين فأقول :أصحابي ،فيقال :إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك ،فأقول كما
دا ًما دمت فيهم ،فلما توفيتني كنت قال العبد الصالح :وكنت عليهم شهي
عليهم ،فيقال :إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ )(3
أنت الرقيب
فارقتهم«.
ثانًيا :أسباب الردة وأصنافها:
إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول الله × لها
أسباب ،منها :الصدمة بموت رسول الله × ،ورقة الدين والسقم في
فهم نصوصه ،والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها ،والتفلت من
النظام والخروج على السلطة الشرعية ،والعصبية القبلية والطمع
الملك ،والتكسب بالدين والشح بالمال ،والتحاسد ،والمؤثرات في
الجنبية ) (4كدور اليهود والنصارى والمجوس ،وسنتحدث عن كل
سبب بإذن الله تعالى.
وأما أصنافها :فمنهم من ترك السلم جملة وتفصيلً وعاد إلى
الوثنية وعبادة الصنام ،ومنهم من ادعى النبوة ،ومنهم من دعا إلى
ترك الصلة ،ومنهم من بقي يعترف بالسلم ويقيم الصلة ولكنه
امتنع عن أداء زكاته ،ومنهم من شمت بموت الرسول وعاد أدراجه
وانتظر على من يمارس عاداته الجاهلية ،ومنهم من تحير وتردد
تكون الدبرة ،وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير ).(5
قال الخطابي :إن أهل الردة كانوا صنفين :صنفًا ارتدوا عن
الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر ،وهذه الفرقة طائفتان:
إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على
دعواه في النبوة ،وأصحاب السود العنسي ومن كان من مستجيبيه
من أهل اليمن وغيرهم ،وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا
)(حركة الردة ،على العتوم :ص (2) .20شرح صحيح مسلم للنووي.1/202 : 5
150
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
محمد × مدعية النبوة لغيره ،والطائفة الخرى ارتدوا عن الدين
وأنكروا الشرائع وتركوا الصلة والزكاة وغيرها من أمور الدين
وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ،والصنف الخر هم الذين
فرقوا بين الصلة والزكاة فأقروا بالصلة وأنكروا فرض الزكاة
ووجوب أدائها إلى المام ) ...(1وقد كان ضمن هؤلء المانعين للزكاة
من كان يسمح )بها( ول يمنعها إل أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك،
وقبضوا أيديهم على ذلك ).(2
وقريب من هذا التقسيم لصناف المرتدين تقسيم القاضي
عياض غير أنهم عنده ثلثة :صنف عادوا إلى عبادة الوثان ،وصنف
تبعوا مسيلمة والسود العنسي ،وكل منهما ادعى النبوة ،وصنف
ثالث استمروا على السلم ولكنهم جحدوا الزكاة ،وتأولوا بأنها
خاصة بزمن النبي × ).(3
وقسم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدين إلى
أربعة أصناف :صنف عادوا إلى عبادة الوثان والصنام ،وصنف اتبعوا
المتنبئين الكذبة السود العنسي ومسيلمة وسجاح ،وصنف أنكروا
وجوب الزكاة وجحدوها ،وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن
يدفعوها إلى أبي بكر ).(4
ثالًثا :الردة أواخر عصر النبوة:
بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود،
وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول ×
ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة ،وكانت
حركة الردة في هذه الثناء لما تستعلن بشكل واسع ،حتى إذا كان
أواخر العام العاشر الهجري وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول
الله × ،ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس ،بدأ
الجمر يتململ من تحت الرماد ،وأخذت الفاعي تطل برؤوسها من
جحورها ،وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج ،فوثب السود
العنسي( باليمن ،ومسيلمة الكذاب باليمامة ،وطليحة السدي في بلد
قومه ) ، 5ولما كان أخطر متمردين على السلم وهما السود
العنسي ومسيلمة وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق
ردتهما قدما دون أن يفكرا في الرجوع ،وأنهما مشايعان بقوى
غفيرة وإمكانيات وفيرة فقد أرى الله نبيه × من أمرهما ما تقر به
عينه ،ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده ،فقد قال يومًا وهو
يخطب الناس على منبره» :أيها الناس ،إني قد أريت ليلة القدر ثم
أنسيتها ،ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما
فطارا ،فأولتهما هذين الكذابين :صاحب اليمن وصاحب اليمامة« ).(6
وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة
1
الحكم بغير ما أنزل الله ،د :عبد الرحمن المحمود :ص .239 )( 4
مسند أحمد رقم ،11407 :باقي مسند المكثرين ،وأصله في الصحيحين. )( 6
151
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فقالوا :إن نفخه × لهما يدل على أنهما يقتلن بريحه لنه ل يغزوهما
بنفسه ،وإن وصفه لهما بأنهما من ذهب دللة على كذبهما لن
شأنهما زخرف وتمويه ،كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان؛
أمرهما)(1
لن الساورة هم الملوك ،ودل بكونهما يحيطان باليدين أن
يشتد على المسلمين فترة لكون السوار مضيقًا على الذراع.
وعبر الدكتور علي العتوم بقوله ...»:بأن طيرانهما بالنفخ دللة
على ضعف كيدهما مهما تضاخم ،فشأنهما زبد ل بد أن يؤول إلى
جفاء ما دام هذا الكيد مستمدًا من الشيطان فهو واهن ل محالة ،إذ
أثرا بعد عين ،وكونهما من أقل هجمة مركزة في سبيل الله تحيلهما ً
ذهب دللة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا؛ لن الذهب رمز
لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه ،وأنها سوارن إشارة إلى
طريق الحاطة بهم من كل محاولتهما الحاطة بكيان المسلمين عن
جانب ،تمامًا كما يحيط السوار بالمعصم« ).(2
رابًعا :موقف الصديق من المرتدين:
لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس خطيبًا فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال :الحمد لله الذي هدى فكفى ،وأعطى فأعفى .إن
الله بعث محمدًا × والعلم شريد ،والسلم غريب طريد ،قد رث
خَلق ثوبه وضل أهله منه ،ومقت الله أهل الكتاب فل يعطيهم حبله و َ
خيرا لخير عندهم ،ول يصرف عنهم شّرا لشر عندهم ،وقد غيروا ً
كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه ،والعرب المنون يحسبون أنهم في
دينا,
منعة من الله ل يعبدونه ول يدعونه ،فأجهدهم عيشًا وأظلهم ً
في ظلف من الرض مع ما فيه من السحاب ،فختمهم الله بمحمد
وجعلهم المة الوسطى ،ونصرهم بمن اتبعهم ،ونصرهم على غيرهم،
حتى قبض الله نبيه فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزل عليه،
ت خل َ ْ
ق َدْ َ ل َ سو ٌ مدٌ إ ِل ّ َر ُ ح ّ م َ ما ُ وَ َ
وأخذ بأيديهم ،وبغى َهلكتهمَ + :
م ُ
قاب ِك ْ ع َعلى أ ْ َ م َ قل َب ْت ُ ْ ل ان ْ َ قت ِ َ و ُ تَ ْ أ ما َ فِإن ّ لأ َ س ُ ه الّر ُ قب ْل ِ ِ من َ ِ
ه
زي الل ُ ِ ج
ْ َ يس َ و
َ ئا ً ْ يشَ ه
َ الل رّ ض
ُ ّ ي لن َ
ف ه
ِ ْ ي َ بقِ ع
َ لى َ ع
َ ب
ْ ِ لق َ ْ ن َ ي من َ و
َ
ن" ]آل عمران.[144 : ري َ شاك ِ ِ ال ّ
إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم ،ولم يكونوا
في دينهم –وإن رجعوا إليه -أزهد منهم يومهم هذا ،ولم تكونوا في
دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم ،وقد
وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالً َ فهداه وعائلً فأغناه:
ها" ]آل من ْ َ م ّ قذَك ُ ْ فأن َ ر َ ن الّنا ِ م َة ّ فَر ٍ ح ْ فا ُ ش َ عَلى َ م َ وك ُن ْت ُ ْ َ +
عمران.[103 :
والله ل أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي
شهيدا من أهل الجنة ،ويبقى من بقي ً لنا عهده ،ويقتل من قتل منا
منها خليفته وذريته في أرضه ،قضاء الله الحق ،وقوله الذي ل خلف
ت
حا ِ صال ِ َ مُلوا ال ّ ع ِو َ م َ من ْك ُ ْ مُنوا ِ ن َآ َ ذي َ ه ال ّ ِ عدَ الل ُ و َ َلهَ + :
ض" )] (3النور.[55 : ْ ِ ر ل ا في ست َ ْ ِ ّ ُ ْ ِ
م ه ن فَ ل خ لي َ ْ
)( حركة الردة ،للعتوم :ص .66 1
152
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وقد أشار بعض الصحابة -ومنهم عمر -على الصديق بأن يترك
من قلوبهم ،ثم هم بعد مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن اليمان
ذلك يزكون ،فامتنع الصديق عن ذلك وأباه ).(1
فعن أبي هريرة قال :لما توفي رسول الله × وكان أبو بكر
،وكفر من كفر من العرب ،فقال عمر :كيف نقاتل الناس وقد
يقولوا :ل إله إل قال رسول الله ×» :أمرت أن أقاتل الناس حتى
الله ،فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إل بحقه ) ،(2وحسابه
على الله«؟ فقال :والله لقاتلن من فّرق)(3بين الصلة والزكاة ،فإن
رسول عناقا كانوا يؤدونها إلى ً الزكاة حق المال ،والله لو منعوني
الله × لقاتلتهم على منعها .وفي رواية :والله لو منعوني عقال ً )،(4
عمر :فوالله ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه .قال
هو إل أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق ) ،(5ثم قال
لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه المة جميعًا )(6
عمر بعد ذلك :والله
في قتال أهل الردة.
وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر -وهو يناقشه -عن ناحية
فقهية مهمة أجلها له وكانت قد غابت عنه ،وهي أن جملة جاءت
في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي الدليل على
قول وجوب محاربة من منع الزكاة حتى إن نطق بالشهادتين ،هي
النبي ×» :فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها«،(7).
ما وهو الرأي وفعل كان رأي أبي بكر في حرب المرتدين رأيًا مله ً ً
الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة السلم والمسلمين ،وأي موقف
غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية،
ولول الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ
وتحولت مسيرته ورجعت عقارب)(8الساعة إلى الوراء ،ولعادت
الجاهلية تعيث في الرض فسادًا .
لقد تجلى فهمه الدقيق للسلم وشدة غيرته على هذا الدين
وبقاؤه على ما كان عليه في عهد نبيه في الكلمة التي فاض بها
جَنانه ،وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة لسانه ونطق بها َ
وكتابا حافلً ،وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب أن يدفعوا ً
الزكاة إلى بيت المال أو منعوها مطلقًا وأنكروا فرضيتها :قد انقطع
الوحي وتم الدين ،أينقص وأنا
حي؟ ) (9وفي رواية :قال عمر :فقلت :يا خليفة رسول الله ،تألف
خوار في السلم، الناس وارفق بهم .فقال لي :أجبار في الجاهلية
)(10
قد انقطع الوحي وتم الدين ،أينقص وأنا حي؟.
لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين ،وما
نفس المصدر السابق.6/315 : )( 1
) (2عناًقا :النثى من ولد المعز. بحقه :حق السلم. )( 2
3
) (6مسلم ،رقم.21 : حروب الردة ،محمد أحمد باشميل :ص .24 )( 6
7
153
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عزم على خوض الحرب إل بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح ،إل
أنه كان سريع القرار حاسم الرأي ،فلم يتردد لحظة واحدة بعد
سمة بارزة من سمات أبي بكر ظهور الصواب له ،وعدم التردد كان
–هذا الخليفة العظيم -في حياته كلها ) ،(1ولقد اقتنع المسلمون
بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.
لقد كان أبو بكر أبعد الصحابة نظرًا وأحقهم فهمًا وأربطهم
جنانا وفي هذه الطامة العظيمة ) ،(2والمفاجأة المذهلة ،ومن هنا أتى ً
بن(3المسيب -رحمه الله :-وكان أفقههم -يعني الصحابة- سعيد قول
رأيا ) . وأمثلهم ً
إن أبا بكر كان أنفذ بصيرة من جميع من حوله؛ لنه فهم بإيمانه
الذي فاق إيمانهم جميعًا أن الزكاة ل تنفصل عن الشهادتين ،فمن
أقر لله بالوحدانية ل بد أن يقر له بما يفرض من حق في ماله ،الذي
هو مال الله أصلً وأن ل إله إل الله بغير زكاة ل وزن لها في حياة
الشعوب ،وأن السيف يشرع دفاعًا عن أدائها تمامًا كما يشرع دفاعًا
عن ل إله إل)(4الله ،تمامًا هذه كتلك .هذا هو السلم وغير هذا ليس
أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب الله +أ َ من السلم .فقد توعد
بض ال ْك َِتا ِ َ ِ ع ْ َ بِ ب ن
َ نو ُ مِ ْ
ؤ ُ ت َ
ف تعالى: ويكفرون ببعض ،قال
ي
خْز ٌم إ ِل ّ ِ ْ من ْك ُ
ك َِ ل ذَل ِ ع ُف َ من ي َ ْ َ جَزاءُ ما َ َ ض َ
ف ع ٍ ن ب ِب َ ْ فُرو َ وت َك ْ ُ َ
ب َ
عذا ِ ْ َ
ن إ ِلى أشدّ ال َ َ دو َ ة ي َُر ّ م ِ قَيا َ ْ
م ال ِ و َْ وي َ
َ ة الدّن َْيا حَيا ِ ْ
في ال َ ِ
ن" ]البقرة.[85 : مُلو َ ع َما ت َ ْ ع ّل َ ف ٍ غا ِ ه بِ َ ما الل ُ و َ َ
كان موقف أبي بكر الذي ل هوادة فيه ول مساومة فيه ول
موقفا ملهمًا من الله ،يرجع الفضل الكبر -بعد الله تعالى -في ً تنازل
سلمة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته ،وقد أقر الجميع
وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية
ف النبياء والرسل في ومحاولة نقض عرى السلم عروة عروة ،موق َ
عصورهم ،وهذه خلفة النبوة التي أدى أبو بكر حقها ،واستحق بها
ثناء المسلمين)(5ودعاءهم إلى أن يرث الله
الرض وأهلها .
سا :خطة الصديق لحماية المدينة: خام ً
انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت
عزم الصديق وحزمه وقد خرجت بأمرين:
-1أن قضية منع الزكاة ل تقبل المفاوضة ،وأن حكم السلم
فيها واضح ،ولذلك ل أمل في تنازل خليفة المسلمين عن
عزمه ورأيه ،وخاصة بعدما أيده المسلمون وثبتوا على رأيه
بعد وضوح الرؤية وظهور الدليل.
) (2تاريخ الدعوة إلى السلم :ص .280 المرتضى للنداوي :ص .72 )( 5
154
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( (2) ,الثابتون على السلم أيام فتنة الردة ،د :مهدي رزق الله :ص .21 4
5
)( الثابتونـ على السلمـ أيامـ فتنةـ الردة،ـ د:ـ مهدي رزق الله:ـ ص .21
)( البدء والتاريخ للمقدسي (4) .5/157 :حركة الردة للعتوم :ص .174 6
7
155
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
و -وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس
وذبيان فإنه لم ير بدّا من محاربتهم على الرغم من الظروف
القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول الله × ،فكان أن آوي
والعيال إلى الحصون والشعاب محافظة عليهم من غدر الذراري
المرتدين) ،(1واستعد للنزال بنفسه ورجاله.
سا :فشل أهل الردة في غزو المدينة: ساد ً
بعد ثلثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد
سيح َة ليلً وخلفوا بعضهم بذي ُ وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدين َ
ليكونوا لهم ردءًا ،وانتبه حرس النقاب لذلك ،وأرسلوا للصديق
ن الزموا أماكنكم ففعلوا ،وخرج في أهل بالخبر ،فأرسل إليهم أ ِ
المسلمون على فأتبعهم العدو فانفش إليهم، المسجد على النواضح
فخرج(3عليهم الردء بأنحاء ) (2قد نفخوها سى َ ح
إبلهم ،حتى بلغوا ذا ُ
ثم دهدهوها ) بأرجلهم في وجوه البل فتدهده وجعلوا فيها الحبال
كل نحي فى طوله ) ،(4فنفرت إبل المسلمين وهم عليها –ول تنفر
البل من شيء نفارها من النحاء -فعاجت بهم ما يملكونها حتى
دخلت بهم المدينة فلم ُيصرع مسلم ولم ُيصب (5).وقال عبد الله
الليثي :وكانت بنو عبد مناة من المرتدة –وهم بنو ذبيان -في ذلك
المر بذي القصة وبذي حسى:
فيا لعباد الله ما لبي بكر أطعنا رسول الله ما كان
بيننا
وتلك لعمر الله قاصمة الظهر أيورثها بكرا إذا مات
بعده
وهل خشيتم حس راغية البكر فهل رددتم وفدنا بزمانه
وإن التي سالُوك ُ ُ
)(6
م
م
فمنعت ُ ُ
فظن القوم بالمسلمين الوهن ،وبعثوا إلى أهل ذي القصة
بالخبر ،فقدموا عليهم اعتمادًا في الذين أخبرهم وهم ل يشعرون
لمر الله -عز وجل -الذي أراده وأحب أن يبلغه فيهم ،فبات أبو بكر
ليلته يتهيأ فعّبى الناس ،ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي،
وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن،
وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب ،فما طلع الفجر إل وهم
والعدو في صعيد واحد ،فما سمعوا للمسلمين همسًا ول حسًا حتى
وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم ،فما ذر قرن الشمس
حتى ولوهم الدبار ،وغلبوهم على عامة ظهرهم ،وقتل حبال –أخو
طليحة السدي -وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة -وكان أول
قرن في عدد ،ورجع إلى المدينةم َ
الفتح – ووضع بها النعمان بن ُ
فذل بها المشركون ،فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من
المسلمين فقتلوهم كل قتلة ،وفعل من وراءهم فعلهم ،وعز
رب.
) (6النحاء :هي القِ َ حركة الردة للعتوم :ص .174 )( 1
2
) (5) ,(4نفس المصدر السابق.4/66 : تاريخ الطبري.4/65 : )( 6
156
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المشركين كل المسلمون بوقعة أبي بكر ،وحلف أبو بكر ليقتلن في
قتلة ،وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة ).(1
وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي:
كما يسعى لموتته جلل غداة سعي أبو بكر إليهم
)(2
ومج لهن مهجته حبال أراح على نواهقها عليا
وصمم الصديق على أن ينتقم للمسلمين الشهداء ،وأن
يؤدب هؤلء الحاقدين ،ونفذ قسمه وازداد المسلمون في بقية
وضعفا وهوانًا ،وبدأتً القبائل ثباتًا على دينهم ،وازداد المشركون ذلً
صدقات القبائل تفد على المدينة فطرقت المدينة صدقات نفر:
صفوان ثم الزبرقان ،ثم عدي ،صفوان في أول الليل والثاني في
وسطه ،والثالث ) (3في آخره ،وفي ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال
زكاة ستة أحياء من العرب ،وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة
الزكاة قال الناس» :نذير« فيقول أبو بكر» :بل بشير« ،وإذا بالقادم
يحمل معه صدقات قومه فيقول الناس لبي بكر :طالما بشرتنا
بالخير ) ،(4وخلل هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء وشيئًا
كل ما كان )(5
من الثراء ،عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافرًا ،وصنع
فاستخلفه أبو ، الرسول قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق
بكر على المدينة وقال له ولجنده :أريحوا وأريحوا ظهركم ) ،(6ثم
خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على النقاب
على ذلك الظهر ،فقال له المسلمون :ننشدك الله يا خليفة رسول
الله أن ُتعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام ،ومقامك
رجل( فإن أصيب أمرت آخر فقال :ل والله ل ً أشد على العدو ،فابعث
أفعل ،ولواسينكم بنفسي ). 7
لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى
صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه ،فالقائد في فهم
المسلمين قدوة في أعماله ،فكان من آثاره هذه السياسة الصديقية
أن تقوى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم واستجابوا لتطبيق
الوامر الصادرة إليهم من القيادة ) ،(8لقد خرج الصديق في تعبيته
إلى ذي حس وذي القصة ,والنعمان
وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه ،حتى نزل على أهل الّربذة
بالبرق فهزم الله الحارث
وعوفا وأخذ الحطيئة أسيرًا ،فطارت عبس وبنو بكر ،وأقام أبو بكر ً
على البرق أياما وقد غلب بنو ذبيان على البلد .وقال :حرام على
غلب أهل ذبيان أن يتملكوا هذه البلد إذ غنمناها الله وأجلها ،فما ُ
الردة ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه ،وسامح الناس
جاءت بنو ثعلبة ،وهي كانت منازلهم لينـزلوها فمنعوا منها فأتوه في
المدينة فقالوا:
1
2
)( نفس المصدرـ السابق:ـ .4/66
) (2نفس المصدر السابق.4/67 : )( تاريخ الطبري.4/66 : 3
4
)( الصديق أول الخلفاء للشرقاوي :ص (4) .75تاريخ الطبري.4/37 : 5
6
) (6حركة الردة ،العتوم :ص .319 )( نفس المصدر السابق.4/67 : 7
8
157
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
نزول بلدنا؟! فقال :كذبتم ،ليست لكم ببلد ولكنها علم نمنع من
ى )،(1 قذ
موهبى ون َ َ
َ
ولم ُيعتبهم ) ،(2وحمى البرق لخيول المسلمين ،وأرعى سائر بلد
الربذة الناس على بني ثعلبة ،ثم حماها كلها لصدقات المسلمين
لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات ،وقال في يوم البرق
زياد بن حنظلة:
على ذبيان يلتهب التهابا ويوم بالبارق قد شهدنا
)(4 )(3
مع الصديق إذ ترك العتابا ف
سو ٍ
أتيناهم بداهية َن ُ
وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب
بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا ،وما اضطربت أمور
المسلمين منذ زمن إل لنهم كانوا يعدون الرئاسة وسيلة للجاه وبابًا
لجلب المغانم ودرء المغارم ،وإيثار للعافية والكتفاء بالكلمات تزجي
بعيدا عن المشاركة
ً العمليات، من وراء أجهزة العلم أو من غرف
مشاركة حقيقة في قضايا المة المختلفة ).(5
إن خروج الصديق للجهاد ثلث مرات متتالية يعتبر تضحية
كبيرة وفدائية عالية ،فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة
قائدا على الجيش فلم يقبل؛ بل قال :ل والله ل أفعل ً ويبعث
ولواسينكم بنفسي .وهذا يدل على تواضعه الجم واهتمامه الكبير
بمصلحة المة ،وتجرده من حظ النفس ،وقد أصبح بذلك قدوة
صالحة لغيره ،فل شك أن خروجه للجهاد ثلث مرات متتاليات وهو
الشيخ الذي بلغ الستين من)(6عمره ،قد أعطى بقية الصحابة دفعات
قوية من النشاط والحيوية .
وقد جاء في إحدى هذه الروايات أن ضرار بن الزور حينما أخبر
أحدا
ً أبا بكر الصديق بخبر تجمع طليحة السدي قال :فما رأيت
بحرب شعواء من أبي بكر ،فجعلنا نخبره -ليس رسول الله – أمل
ولكأنما نخبر بما له ول عليه ).(7
وهذا وصف بليغ لما كان يتصف به أبو بكر من اليقين الراسخ
والثقة التامة بوعد الله تعالى لوليائه بالنصر على العداء والتمكين
فق الصحابة بكبير عمل ،وإنما فاقهم في الرض ،فأبو بكر لم ي َ ُ
بحيازة الدرجات العلى من اليقين ،رضي الله عنهم أجمعين ).(8
وقد روى أنه لما قيل له :لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها
وبالبحار لغاضها ،وما نراك ضعفت .فقال :ما دخل قلبي رعب بعد
ليلة الغار ،فإن النبي × لما رأى حزني قال :ل عليك يا أبا بكر ،فإن
158
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الله قد تكفل لهذا المر بالتمام) ،(1فكان له مع الشجاعة الطبيعية
شجاعة دينية وقوة يقينية في الله عز وجل وثقة بأن الله ينصره
والمؤمنين ،وهذه الشجاعة ل تحصل إل لمن كان قوى القلب ،وتزيد
بزيادة اليمان وتنقص بنقص ذلك ،فقد كان)(2الصديق أقوى قلًبا من
جميع الصحابة ل يقاربه في ذلك أحد منهم .
***
)( أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة :ص ،69وليس هذا بلفظ 1
نبوي.
)( نفس المصدر السابق :ص .70 2
159
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الثالث
الهجوم الشامل على المرتدين
تمهيد:
تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين ،فكان
للثابتين دور في مواجهة أقوامهم ،فوقف بعض الثابتين في وجه
أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من
نقض ما يؤمنون به ،وكانت الخطوة الولى بالكلمة ،ولم تكن الكلمة
في يوم من اليام هي أضعف المواقف وإنما هي أقواها؛ لنها تستتبع
مواقف جادة لتحديد مصداقية الكلمة ،وقد تؤدي الكلمة بصاحبها إلى
الذبح من أجل الشهادة للكلمة التي قالها؛ ففي كل قبيلة حصلت
فيها ردة كانت هناك بعض المواقف للذين انفعلت قلوبهم للحق
وتغذت به وعاشت عليه ،هي التي رأت باطل ما يفعل كل قوم،
ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذرون أقوامهم من سوء المصير الذي
ينتظرهم ،فما كان من قومهم إل أن وقفوا في وجوههم ساخرين
مستهزئين ،ثم تمادوا إلى مطاردتهم وإخراجهم؛ بل وقتلهم في
بعضهم(1بالكلمة كعدي بن حاتم مع قومه، بعض الحيان ،ونجح
والجارود مع أهل البحرين ) ،وستري تفاصيل ذلك بإذن الله.
وعندما فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم تحولوا إلى
تجمعات مسلمة ثابتة على إسلمها ،واتخذت لها المواقف المناسبة
ضد أقوامهم المرتدين ،وكثير من المواقف بدأت بالكلمة ثم انتهت
إلى العمل ،كما حصل لمن ثبت من بني سليم؛ فقد حذرهم قومهم
فانقسموا إلى قسمين ثابت ومرتد ،فتجمع الثابتون وصاروا يجالدون
قومهم المرتدين ،وقام البناء في اليمن سًرا بتدبير قتل السود
العنسي –كما سيأتي تفصيله -بعد أن كان موقفهم سلبّيا في بطش
السود العنسي ،ووقف مسعود أو مسروق القيسي ابن عابس
الكندي ينصح الشعث بن قيس ويدعوه لعدم الردة ،ودخل بينهما
حوار طويل وتحد متبادل ،وهكذا صارت بعض المواقف سبًبا في
تسهيل( مهمة جيوش الدولة إرجاع قومهم عن الردة ،أو في
السلمية القادمة للقضاء على الردة ). 2
لقد اعتمدت سياسة الصديق في القضاء على الردة على الله
تعالى ،ثم على ركائز قوية من القبائل والزعماء والفراد الذين انبثوا
في جميع أنحاء الجزيرة وثبتوا على إسلمهم ،وقاموا بأدوار هامة
ورئيسية في القضاء على فتنة الردة .ولقد أخطأ بعض الكتاب عندما
الدقة أو عدم تناول فتنة الردة بشيء من التعميم أو عدم
الموضوعية أو سوء الفرض أو النظرة الجزئية ).(3
إن من الحقائق الساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة
لكل الناس كشمولها الجغرافي؛ بل إن هناك قادة وقبائل وأفراًدا
)( دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة للشجاع :ص .314 ،313 1
)( نفس المصدر السابق :ص ,314ولقد اعتمد الشجاع على كتاب الكلعي 2
الندلسي في الردة.
)( الثابتون على السلم أيام فتنة الردة :ص .4 3
160
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
دا تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي وجماعات ،وأفرا ً
ظهرت فيها الردة) ،(1ولقد قام الدكتور مهدي رزق الله أحمد بدراسة
عميقة وأجاب عن سؤال طرحه وهو :هل كانت الردة في عهد
الخليفة أبي بكر شاملة لكل القبائل العربية والفراد والزعماء
الذين كانوا مسلمين ،أم أن هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض القبائل
وبعض الزعماء وبعض الفراد في مناطق جغرافية مختلفة؟ وبعد
ت إليها
البحث قال :إن أول حقيقة تستخلص من المصادر التي أشر ُ
قا :هي أنني لم أجد ما يدل على أن القبائل والزعماء والفراد ساب ً
ارتدوا جميًعا عن السلم كما ذكر أولئك النفر الذين جعلناهم قد
مثال) ،(2بل وجدت أن الدولة السلمية اعتمدت على قاعدة صلبة
من الجماعات والقبائل والفراد الذين ثبتوا على السلم ،وانبثوا في
دا قوًيا للسلم ودولته في قمع حركة الجزيرة ،وكانوا سن ً جميع أنحاء
المرتدين منهم ).(3
ل :المواجهة الرسمية من الدولة: أو ً
-1وسيلة الحباط من الداخل:
كان رسول الله × قد استعمل هذه الوسيلة ،فقام بمراسلة
وبعث الرسل إلى قبائل المتنبئين لتجميع الثابتين على السلم،
وليشكل بهم جماعة تحارب الردة ،وسار الصديق على نفس
المنهج ،وحاول أن يحجم ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر
المرتدين ،وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها،
دا
واستطاع أن يتصل بالثابتين على السلم وجعل منهم رصي ً
للجيوش المنظمة؛ فقد كان يعد المة لمواجهة منظمة مع المرتدين
بعد عودة جيش أسامة؛ فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين
جيش على السلم ليحقق بعض الهداف؛ ككسب الوقت حتى يرجع
أسامة ،فكتب إلى من كتب إليهم رسو ُ
ل الله × باليمن وغيرها )(4؛
ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى السلم ،وطلب من الثابتين
التجمع في مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره ،وكان هذا الترتيب
بداية للخطة العسكرية القادمة ) ,(5وقد حالف التوفيق بعض الثابتين
ومعهم (6صدقاتهم؛ مثل عدي بن حاتم الطائي،
)
بالوصول إلى المدينة
والزبرقان بن بدر التميمي.
وتمكن الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي
وبعض التجمعات القبلية في تهامة وبلد السراة ونجران ،وقد حققت
هذه الوسيلة بعض النتائج ،منها:
)( التاريخ السياسي للدولة العربية للدكتور عبد المنعم ماجد :ص .146التاريخ 2
السلمي العام –الجاهلية :الدولة العربية ،الدولة العباسية علي إبراهيم حسن:
129؛ تاريخ الدولة العربية ،السيد عبد العزيز سالم:
ص .432جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين ،محمد السيد الوكيل :ص
.21الخلفاء الراشدون ،محمد الخضري بك :ص .21عصر الصديق ،شبير أحمد
محمد علي الباكستاني :ص .159ظاهرة الردة في المجتمع السلمي الول،
محمد بريغش :ص .101 ،100الصديق أبو بكر ،لمحمد حسين هيكل :ص .173
)( الثابتون على السلم أيام فتنة الردة :ص .19 3
)( نفس المصدر السابق :ص ،319نقل عن الكلعي ،تاريخ الردة :ص .12 -10 6
161
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أ -نجحت خطة الصديق في تحقيق حملت التوعية والدعاية
دا لتخاذ الوسيلةوالتعضيد للمسلمين والتخذيل لقوى المرتدين؛ تمهي ً
الخرى حينما تتوافر لها المكانات ،وهي أداة الجيوش المنظمة.
ب -أنها حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على
السلم ليكونوا قواًدا في حركة الفتوح السلمية فيما بعد؛ كعدي بن
حاتم الطائي أحد قواد فتوح العراق.
ج -تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها
لهم الصديق لتنضم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة.
د -القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة ،مثلما
حصل في جنوب الجزيرة العربية.
-2إرسال الجيوش المنظمة:
ما -منلما وصل جيش أسامة بعد شهرين -وقيل أربعين يو ً
مسيرهم واستراحوا ،خرج أبو بكر الصديق بالصحابة -رضي الله
عنهم -إلى ذي القصة ،وهي على مرحلة من المدينة؛ وذلك لقتال
المرتدين والمتمردين ،فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على
القيادة ،وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور المة ،وألحوا عليه
بذلك .ومما ُروي في هذا الموضوع ما قالته عائشة :خرج أبي شاهًرا
سيفه راكًبا راحلته إلى وادي ذي القصة ،فجاء علي بن أبي طالب
أين يا خليفة رسول الله؟ أقول )(1
فأخذ بزمام راحلته ،فقال :إلى
بنفسك،
)(2
تفجعنا ول سيفك م ش
ِ ْ أحد: لك ما قال رسول الله × يوم
دا ،فرجع.ً أب نظام بعدك للسلم فو الله لئن أصبنا بك ل يكون
بكر الجيش السلمي إلى أحد عشر لواء وجعل على وقد قسم أبو
كل لواء أميًرا ) ,(3وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من
المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم:
-1جيش خالد بن الوليد إلى بني أسد ،ثم إلى تميم ،ثم إلى
اليمامة.
-2جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة في بني حنيفة ،ثم
إلى عمان والمهرة ،فحضرموت فاليمن.
حبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة ،ثم -3جيش ُ
شَر ْ
حضرموت.
-4جيش ط َُرْيفة بن حاجر إلى بني سليم من هوازن.
-5جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة.
-6جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.
-7جيش العلء بن الحضرمي إلى البحرين.
-8جيش حذيفة بن محصن الغلفائي إلى عمان.
)( يقصد قوله لبي بكر لما أراد أن يبارز ابنه عبد الرحمن» :شم سيفك وارجع 1
إلى مكانك«.
)( البداية والنهاية.6/319 : 2
162
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-9جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة.
-10جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن »صنعاء ثم
حضرموت«.
)(1
-11جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن .
صة( مركز انطلق أو قاعدة تحرك ق ّوهكذا اتخذت قرية )ذي ال َ
للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاة
عليها .وتنبئ خطة الصديق -رضي الله عنه -عن عبقرية فذة وخبرة
جغرافية دقيقة (2) .ومن خلل تقسيم اللوية وتحديد المواقع يتضح
قا خبيًرا بالتضاريس والتجمعات أن الصديق كان جغرافًيا دقي ً
البشرية وخطوط مواصلت جزيرة العرب ،فكأن الجزيرة العربية
حا نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث ما واض ًصورت مجس ً
وسائل التقنية ،فمن يتمعن تسيير الجيوش ووجهة كل منها
واجتماعها بعد تفرقها وتفرقها لتجتمع ثانية ،يرى تغطية سليمة رائعة
صحيحة مثالية لجميع أرجاء الجزيرة مع دقة في التصال مع هذه
الجيوش ،فأبو بكر في كل ساعة يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم
دقائق أمورها وتحركاتها وما حققت ،وما عليها في غد من واجبات.
والمراسلت دقيقة وسريعة تنقل أخبار الجبهات إلى مقر القيادة في
المدينة حيث الصديق ،وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها،
وبرز من المراسلين العسكريين ما بين الجبهات وبين مقر القيادة:
أبو خيثمة النجاري النصاري ،وسلمة بن سلمة ،وأبو برزة السلمي،
وسلمة بن وقش).(3
وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة ،وهي أحد إنجازات
الدولة الهامة؛ إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارات القيادة وبراعة
التنظيم فضل ً عن الخبرة في القتال؛ صهرتها العمال العسكرية في
حركة السرايا والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن
النبي × ،فقد كان الجهاز العسكري لدى الصديق متفوًقا على كل
القوى العسكرية في الجزيرة) ،(4وكان القائد العام لهذه الجيوش
سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في
حروب الردة والفتوحات السلمية .كان هذا التوزيع للجيوش وفق
خطة استراتيجية هامة ،مفادها أن المرتدين ل زالوا متفرقين ،كل
في بلده ،ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل
الكبيرة المتباعدة في الماكن أو ً
ل؛ لن الوقت لم يكن كافًيا للقيام
ض على ارتدادهم إل ما يقرب من ثلثة بعمل كهذا؛ حيث لم يم ِ
شهور ،وثانًيا لنهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم
باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعا في شهور معدودة ،ولذلك أراد
الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم وقوتهم
)( تاريخ الطبري .4/86 :دراسات في عصر النبوة :ص .321 1
)( في التاريخ السلمي ،شوقي أبو خليل :ص .227 ،226 3
)( من دولة عمر إلى دولة عبد الملك ،إبراهيم بيضون :ص .28 4
163
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
) (4التاريخ السلمي.9/51 : )( نفس المصدر السابق :ص .313 3
4
164
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أو رجع عنه (1) .وهذا نص الكتاب الذي بعثه الصديق:
بسم الله الرحمن الرحيم :من أبي بكر خليفة رسول الله × إلى
من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة ،أقام على إسلمه أو رجع عنه:
سلم على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضللة والعمى،
فإني أحمد إليكم الله الذي ل إله إل هو ،وأشهد أن ل إله إل الله
دا عبده ورسوله ،نقر بما جاء به ونكفر وحده ل شريك له وأن محم ً
دا بالحق من من أبى ونجاهده ،أما بعد :فإن الله تعالى أرسل محم ً
جا منيًرا؛ عنده إلى خلقه بشيًرا ونذيًرا وداعًيا إلى الله بإذنه وسرا ً
الكافرين ،فهدى الله بالحق من لينذر من كان حًيا ويحق القول على
أجاب إليه وضرب رسول الله × بإذنه) (2من أدبر عنه ،حتى صار إلى
ه رسوَله × وقد نفذ لمر الله ها ،ثم توفى الل ُ عا وكر ً السلم طو ً
ونصح لمته وقضى الذي عليه ،وكان الله قد بين له ذلك ولهل
ن" مي ُّتو َ هم ّ وإ ِن ّ ُ ت َ مي ّ ٌ ك َ السلم في الكتاب الذي أنزل ،قال+ :إ ِن ّ َ
ت َ ل خ
َ د َ
ق ٌ
ل سو مد ٌ ِ َ ُ
ر ّ ل إ ح ّ م َ ما ُ و ََ للمؤمنينَ + : ]الزمر ،[30 :وقال
م ُ ك
ْ
ب قا َ ع عَلى أ َْ م ت ب َ ل ق َ ن ا لَ ت ُ
ق و أ ت ما إن َ
ف َ أ ُ
ل س من َ
ِ ْ ْ َ ْ ُ ْ ْ ِ ّ ََ ْ ِ ه الّر ُ قب ْل ِ ِ ِ
ه
ُ الل زي ج
َ َ َ ْ ِ ي س و ئا ً ْ يش َ ه
َ الل ر ّ ُ ّ ض ي لن فَ ه ي ب
ِ َ ْ ِ ق عَ لى َ ع
َ بمن َ ْ ِ ْ
ل قَ ن ي و َ َ
دا
دا فإن محم ً ن" ]آل عمران ،[144 :فمن كان إنما يعبد محم ً ري َ شاك ِ ِ ال ّ
قد مات ،ومن كان يعبد الله وحده ل شريك له فإن الله له
بالمرصاد ،ول تأخذه سنة ول نوم ،حافظ لمره منتقم من عدوه
بحزبه.
وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله ،وما جاءكم به
نبيكم ×،وأن تهتدوا بهداه وأن تعتصموا بدين الله ،فإن كل من لم
مبتلى ،وكل من لم يعنه الله يهده الله ضال ،وكل من لم يعافه م ُ
ل ،قال الله يا ،ومن أضله كان ضا ً مخذول ،فمن هداه الله كان مهتد ً
ول ِّيا ه َ جدَ ل َ ُ فَلن ت َ ِ ل َ ضل ِ ْ من ي ُ ْ و َ هت َدِ َ م ْ و ال ْ ُ ه َ ف ُه َ هد ِ الل ُ من ي َ ْ تعالىَ + :
[17ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به ،ولم دا" ]الكهف، : ش ً مْر ِ ّ
يقبل منه في الخرة صرف ول عدل .وقد بلغني رجوع من رجع منكم
را بالله وجهالة بأمره اغترا ً عن دينه بعد أن أقر بالسلم وعمل به
دوا َْ ُ ُ ج س ا ة َ ك
َ ِ َ ِ ِ ئَ ل م ْ ل ل نا ْ ل ق ُ ْ ذ و ِ
إ تعالىَ + : وإجابة للشيطان ،قال الله
ه ب ر
ْ ْ ِ َ ّ ِ ر م أ ن ع
َ ق
ِ ّ َ َ َ س َ
ف فَ ن ج ْ ل ا ن َ ِ َ م ن كاَ دوا إ ِل ّ إ ِب ْ َِلي َ
س ج ُ س َ ف َ م َ َل َدَ َ
و َب ِئ ْ َ َ
س عدُ ّ م َ م لك ُ ْ ه ْ و ُ دوِني َ من ُ ول َِياءَ ِ هأ ْ وذُّري ّت َ ُ ه َ ذون َ ُ خ ُ فت َت ّ ِ
ّ
أ َ
م ُ ك ل نَ طا ي ش ّ ال ن ِ ّ إ + تعالى: وقال ، " ً ل د ب ن مي ِ ِ ل ظا ِلل
ْ
ب حا ص نوا من ْأ َ كو ُ ي ل ه ب ز ح عو د
[
ي
50
ما
]الكهف:
ن إ وا د ع ه
َ َ َ
ذو ُ خ ت فا َ و
ْ َ ِ ْ ِ ُ ِ
َ ُ َ ْ ِ ُ ُ ّ ِ َ َ ْ ّ َ ُ ِ ّ ع ُ ّ د َ
ر" ]فاطر.[6 : ِ عي ِ س
ّ ال
وإني بعثت إليكم فلًنا في جيش من المهاجرين والنصار
دا ول يقتله حتى يدعوه إلى والتابعين بإحسان ،وأمرته أل يقاتل أح ً
حا قبل منه داعية الله ،فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صال ً
وأعانه عليه ،ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم ل يبقى على
أحد منهم قدر عليه ،وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة ،وأن يسبي
النساء والذراري ول يقبل من أحد إل السلم ،فمن تبعه فهو خير له
ومن تركه فلن يعجز الله .وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل
)( الدور السياسي للصفوة في صدر السلم ،السيد عمر :ص .262 1
165
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
مجمع لكم والداعية الذان :فإذا أذن المسلمين فأّذنوا كفوا عنهم،
أبوا وإن لم يؤذنوا عاجلوهم ،وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم ،فإن
عاجلوهم ،وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم ).(1
ونلحظ من خطاب أبي بكر أنه كان يدور حول
محورين:
أ -بيان أساس مطالبة المرتدين بالعودة إلى السلم.
ب -بيان عاقبة الصرار على الردة ).(2
وقد أكد الكتاب على عدة حقائق هي:
• أن الكتاب موجه إلى العامة والخاصة ليسمع الجميع
دعوة الله.
نا ،ومن • بيان أن الله بعث محم
دا ًبالحق ،فمن أقر كان مؤم ً
را يجاهد ويقاتل.
أنكر كان كاف ً
ت"
مي ّ ٌ دا بشر قد حق عليه قول الله+ :إ ِن ّ َ
ك َ • بيان أن محم ً
الله الحي الباقي يعبد وإنما × دا
ً محم يعبد وأن المؤمن ل
دا ،ولذلك ل عذر لمرتد ).(3 الذي ل يموت أب ً
• إن الرجوع عن السلم جهل بالحقيقة واستجابة لمر
قا ،وهو ظلم عظيم
الشيطان ،وهذا يعني أن يتخذ العدو صدي ً
للنفس السوية؛ إذ يقودها صاحبها بذلك إلى النار عن
طواعية.
• إن الصفوة المختارة من المسلمين وهم المهاجرون
والنصار وتابعوهم ،هم الذين ينهضون لقتال المرتدين غيرة
منهم على دينهم وحفا ً
ظا عليه من أن يهان.
• إن من رجع إلى السلم ،وأقّر بضلله ،وكف عن قتال
المسلمين ،وعمل من العمال ما يتطلبه دين الله ،فهو من
مجتمع المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم.
• إن من يأبى الرجوع إلى صف المسلمين ويثبت على
ردته ،إنما هو محارب ل بد من شن الغارة عليه ،تقتله أو
تحرقه ،وتسبي نساءه وذراريه ،ولن يعجز الله بأية حال؛ لنه
أنى ذهب في ملكه.
المسلمين
)(4
• إن الشارة التي ينجو بها المرتدون من غارة
أن يعلن فيهم الذان وإل فالمعالجة بالقتال هي البديل.
تاريخ الطبري.71 ،4/70 : )( 1
166
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وحتى ل يترك الخليفة المر للقادة والجند بغير انضباط كتب
دا يدعوهم فيه إلى اللتزام بمضمون للقواد جميًعا كتاًبا واح ً
كتابه السابق ،هذا نصه:
هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله × لفلن حين بعثه فيمن
بعثه لقتال من رجع عن السلم ،وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع
في أمره كله ،سره وعلنيته ،وأمره بالجد في أمر الله ومجاهدة من
تولى عنه ورجع عن السلم إلى أماني الشيطان ،بعد أن يعذر إليهم
فيدعوهم بداعية السلم ،فإن أجابوه أمسك عنهم ،وإن لم يجيبوه
ن غارته عليهم حتى يقروا له ،ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، ش ّ
فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم ،ل وينظرهم ول يرد المسلمين
عن قتال عدوهم ،فمن أجاب إلى أمر الله -عز وجل -وأقر له قبل
ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف ،وإنما يتقبل من كفر بالله على
القرار بما جاء من عند الله ،فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل،
جب داعية الله قتل وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به ،ومن لم ي ُ ِ
غمه ،ل يقبل من أحد شيًئا أعطاه إل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مرا َ
السلم ،فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ومن أبى قاتله ،فإن
أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلح والنيران ،ثم قسم ما
أفاء الله عليهم إل الخمس فإنه يبلغناه ،وأن يمنع أصحابه العجلة
وا حتى يعرفهم ويعلم ما هم ل يكونوا والفساد وأل يدخل فيهم حش ً
عيوًنا ,لئل يؤتى المسلمين من قبلهم ،وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق
عن بعض، بهم في السير والمنزل ويتفقدهم ،ول يعجل بعضهم
ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول ).(1
وفي العهد الذي ألزم به قواده يظهر حرص الصحابة على إلزام
أمرائه في حرب الردة بتعليمات أساسية مكتوبة موحدة نصت
بوضوح ل يحتمل اللبس على حظر القتال قبل الدعوة إلى السلم،
والمساك عن قتال من يجيب ،والحرص على إصلحهم ،وحظر
مواصلة القتال بعد أن يقروا بالسلم والتحول عند هذه النقطة من
القتال إلى تعليمهم أصول السلم وتبصيرهم بما لهم من حقوق وما
عليهم من واجبات ،وحظر المهادنة أو رد الجيش عن محاربة
المرتدين ما لم يفيئوا إلى أمر الله.
والتزم الجيش السلمي في التنفيذ مبدأ الدعوة قبل القتال
والمساك عن القتال بمجرد إجابة الدعوة؛ باعتبار أن الغاية الوحيدة
سا لتحقيق أقصى هي عودة المرتدين إلى الذي خرجوا منه وتلم ً
درجة من التوافق في صفوف القوات السلمية التي نيط بها القضاء
على ظاهرة الردة.
أمضى الصديق هذا العهد مع أمراء الجيوش السلمية ،يطلب
المستندة إليه، من الجيش أن يكون سلوكه ذاته خير دعوة للمهمة
ما مع هدف واحد هو الدفاع عن السلم ).(2 وأن يتطابق تما ً
إن اقتداء أبي بكر برسول الله × علمه فن القيادة ،ونجاح
القائد في قيادته يتوقف على مدى نجاحه في جنديته .ولقد كان أبو
صا في ولئه لرسول الله بكر نعم الجندي في جيش المسلمين ،مخل ً
) (2الدور السياسي للصفوة :ص .263 )( تاريخ الطبري.72 ،71 /4 : 1
2
167
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
× ،يطبق ما يقوله بحذافيره ،مضحًيا في سبيله ،لم يفر عنه في
معركة قط .ونستطيع أن ندرك دقة آرائه القيادية وبعد مرماها من
لقواده( وخططه العامة التي رسمها لهم أثناء تحركهم لضرب
)1
وصاياه
قوات العدو.
لقد كانت أول وصية أوصاهم بها تتركز على النقاط التالية:
• أن يلزموا أنفسهم تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر
والعلن ،وهذا عين الصواب في هذه السياسة الرشيدة؛ لن
ن
القائد إذا ألزم نفسه تقوى الله -عز وجل -كان معه+ :إ ِ ّ
نون" ]النحل:
س ُ
ح ِ
م ْ
هم ّ
ن ُ وال ّ ِ
ذي َ وا َ ن ات ّ َ
ق ْ ع ال ّ ِ
ذي َ م َ
ه َالل َ
.[128
وإخلص النية لله سبحانه وتلك أخلق • الجد والجتهاد
فيَنا ل َن َ ْ وال ّ ِ )(2
م
ه ْ
دي َن ّ ُ
ه ِ دوا ِ
ه ُ
جا َ
ن َذي َ َ + المنصورين الفائزين
ن" ]العنكبوت.[69 : سِني َ
ح ِ م ْع ال ْ ُ
م َه لَ َ
ن الل َ سب ُل ََنا َ
وإ ِ ّ ُ
• أن ل يقبل من المرتدين إل السلم أو القتل؛ إذ ل مهادنة
في أمر العقيدة.
• تقسيم الغنائم بين الجند مع الحتفاظ بحق بيت المال
منها ،وهو خمسها.
• أن ل يتعجلوا في التصرف حيال القضايا التي تواجههم
حتى ل تأتي حلولهم فجة.
• أن يحذروا من أن يدخل بينهم غريب ليس منهم ،كيل
سا عليهم.
يكون جاسو ً
• أن يرفقوا بجندهم ويتفقدوهم في المسير والنزول ،وأن
ل ينفرط بعضهم عن بعض.
• وأن يستوصوا بهؤلء الجند خيًرا في الصحبة ).(3
ويمكنا من خلل الدراسة أن نستخلص الخطة العامة بعد أن عقد
الصديق اللوية لقادة الجيوش ،والتي تتخلص في النقاط التية:
أ -ضمنت الخطة إحكام التعاون بين هذه الجيوش جميعها ،بحيث
ل تعمل كأنها منفصلة تحت قيادة مستقلة ،وإنما هي رغم تباعد
المكان جهاز واحد ،وقد تتلقى -أو يلتقي بعضها ببعض -لتفترق ،ثم
تفترق لتلتقي ،كان ذلك والخليفة بالمدينة يدبر حركة القتال
ومعاركه.
ب -احتفظ الصديق بقوة تحمي المدينة –عاصمة الخلفة-
واحتفظ بعدد من كبار الصحابة ليستشيرهم وليشاركوه في توجيه
)( حركة الردة للعتوم :ص .179 1
168
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
سياسة الدولة.
شا من المسلمين داخل المناطق ج -أدرك الصديق أن هناك جيو ً
التي شملتها حركة العصيان والردة ،وقد حرص على هؤلء
المسلمين من أن يتعرضوا لنقمة المشركين ،ولذلك فإنه أمر قادته
باستنفار من يمرون بهم من أهل القوة من المسلمين من جهة،
وبضرورة تخلف بعضهم لمنع بلدهم وحمايتها من جهة أخرى.
د -طبق الخليفة مبدأ الحرب خدعة مع المرتدين ،حتى أظهر أن
كانت تستهدف شيًئا آخر؛ الجيوش تنوي شيًئا ،وهي في حقيقة المر
زيادة في الحيطة والحذر من اكتشاف خطته) ،(1وهكذا تظهر الحنكة
السياسية والتجربة العملية والعلم الراسخ والفتح الرباني في قيادة
الصديق.
ثانًيا :القضاء على فتنة السود العنسي وطليحة السدي ومقتل
مالك بن نويرة:
-1القضاء على السود العنسي ،وردة اليمن الثانية:
ما
عبهلة( بن كعب ويكنى بذي الخمار؛ لنه كان دائما معت ً اسمه:
متخمًرا بخمار ) , 2ويعرف بالسود العنسي لسوداد في وجهه،
وتكمن قوة السود في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته ،واستخدم
ري قومه الكهانة والسحر والخطابة البليغة ،فقد كان كاهًنا مشعوًذا ي ُ ِ
ويسبي قلوب من سمع منطقه ،واستخدم الموال للتأثير العاجيب،
على الناس ).(3
أ -السود العنسي في عهد الرسول ×:
وما أن انتشر خبر مرض رسول الله × بعد مقدمه من حجة
الوداع حتى ادعى السود العنسي النبوة ،وقيل :إنه أطلق على
نفسه )رحمان اليمن( كما تسمى مسيلمة )رحمان اليمامة() ،(4وأنه
كان يدعي النبوة ول ينكر نبوة محمد عليه الصلة والسلم ،وكان
يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحي وهما :سحيق وشقيق -أو شريق)– (5
وكان قبل أن يظهر مخفًيا أمره يجمع حوله من يراه مناسًبا حتى
فاجأ الناس بظهوره ) (6وكان أول من تبعه :أبناء قبيلته)(8وهم »عنس«
) ،(7ثم كاتب زعماء قبيلة »مذحج« فتبعه العوام منهم ،وبعض
زعمائهم من طالبي الزعامة ،وقد عمل على إثارة العصبية القبلية؛
لنه من »عنس« وهي بطن من بطون قبيلة »مذحج« ،وقد راسله
بنو الحارث بن كعب من أهل نجران وهم يومئذ مسلمون ،فطلبوا
منه أن يأتيهم في بلدهم ،فجاءهم فاتبعوه لكونهم لم يسلموا رغبة،
)( البعاد السياسية لمفهوم المن في السلم ،مصطفى محمود منجود :ص 1
.169
)( الكامل في التاريخ.2/17 : 2
169
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
سلَية« و»حكم بني سعد م ْ
وتبعه أناس من »زبيد« و»أود« » َ
العشيرة« ،ثم أقام بنجران بعض الوقت ،وقوي أمره بعد أن انضم
إليه عمرو بن معديكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي،
وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من
مئة نجران ،واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست
أو سبع مئة فارس معظمهم من بني الحارث بن كعب و»عنس«).(1
فتقابل مع أهل صنعاء وعليهم »شهر بن باذان الفارسي« ،وكان
قد أسلم مع أبيه في منطقة خارج صنعاء تسمى منطقة »شعوب«،
دا فقتل »شهر بن باذان« وانهزم أهل صنعاء أمام فتقاتلوا قتال ً شدي ً
عليها( ونزل قصر »غمدان« بعد خمسة فغلب السود العنسي،
ما من ظهوره ). 2 وعشرين يو ً
بالسلم ،فقد أخذ )(3
وكان له مواقف بشعة في تعذيب المتمسكين
ولهذا( تعامل ، وا
ً عض وا
أحد المسلمين ويسمى النعمان فقطعه عض ً
معه المسلمين الذين كانوا في المناطق التي يديرها بالتقية ). 4
أما بقية المسلمين خارج نطاق سيطرته فقد حاولوا التجمع
فكان(5فروة بن مسيك المرادي قد وإعادة النتظام إلى صفوفهم،
انحاز إلى مكان يسمى »الحسية« ) ،وانضم إليه من انضم من
المسلمين ،وكتب إلى رسول الله × بخبر السود العنسي ،فكان
الشعري، أول من أبلغ الرسول × بذلك ،وانحاز كل من أبي موسى
ومعاذ بن جبل إلى حضرموت في جواء »السكاسك والسكون« ).(6
ل الله × الثابتين على السلم لمواجهة ردة وقد راسل رسو ُ
السود ،وأمرهم بالسعي للقضاء عليه إما مصادمة أو غيلة ،ووجه
كتبه ورسله إلى بعض زعماء »حمير« و»همدان« بأن يتكاتفوا
ويتوحدوا ويساعدوا »البناء« ) (7ضد »السود العنسي« ،فأرسل
شيش الديلمي وداذويه ج َ
»وبر بن يخنس« إلى »فيروز الديلمي و ُ
الصطخري« ،وبعث »جرير البجلي« إلى »ذي الكلع وذي ظليم«
الحميريين ،وبعث »القرع بن عبد الله الحميري« إلى »ذي زود وذي
مران« الهمدانيين ،وكذلك كتب إلى أهل نجران من العراب
الجهني«
)(9
وساكني الرض من غيرهم) ،(8وبعث »الحارث بن عبد الله
إلى اليمن قبيل وفاته ،فبلغته وفاة الرسول × وهو في اليمن ،
ولم تبين المصادر إلى أين بعث ،إل أنه من الممكن أنه بعث إلى
بأن »معاذ بن جبل«؛ لنه تلقى كتاًبا من رسول الله × يأمره فيه
يبعث الرجال لمجاولة ومصاولة »السود العنسي« للقضاء عليه )،(10
كما تلقى »أبو موسى الشعري« و»الطاهر بن أبي هالة« كتاًبا من
() 1تاريخ الردة للكلعي :ص .152 ،151
() 2البدء والتاريخ.229 /5 :
() 3ابن سعد في الطبقات.5/535 :
() 4اليمن في صدر السلم ،للشجاع :ص .258
() 5الحسية :موضع باليمن ،انظر :ياقوت :المعجم.1/112 :
() 6تاريخ الطبري.50 ،49/ 4 :
() 7اليمن في صدر السلم :ص .271
8
)( تاريخ الطبري.4/52 :
() 9اليمن في صدر السلم :ص () .271نفس المصدر السابق :ص .272 10
170
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
) (6،اليمن في صدر السلم :ص (7) .272نفس المصدر السابق ،ص -272 2
.273 3
4
171
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ولكنه لم يمكث إل ثلثة
)(1
صنعاء ،فارتضوا أن يكون هو المير عليهم،
أيام بهم حتى بلغهم خبر وفاة رسول الله ×.
وكانت تفاصيل مقتل »العنسي« قد خرجت من صنعاء فوصلت إلى
خرج جيش أسامة ،وكان هذا أول فتح أتى أبا بكر الصديق بعد أن
وهو في المدينة ).(2
ب -وعّين أبو بكر »فيروز الديلمي« والًيا على صنعاء
سا؛ لنه كان ممن مال السود وكتب إليه بذلك ،ولم يو ّ
ل أبو بكر قي ً
أو رغبة في الزعامة -وكان صا -عصبية لمذجح العنسي وتابعه مخل ً
مبدأ أبي بكر عدم الستعانة بمن ارتد ) ،(3وجعل كل من داذويه
وجشيش وقيس بن مكشوح مساعدين لفيروز ،فتغيرت نفس قيس
بن مكشوح المرادي فعمل على قتل زعماء البناء الثلثة ،وقد تمكن
أو بإيعاز منه – فتنبه لذلك »فيروز« من قتل »داذويه« -سواء بنفسه
فهرب إلى أخواله في »خولن« ) ،(4فما كان من قيس إل أن أثارها
عصبية جنسية فحاول جمع زعماء بعض القبائل ضد »البناء« مدعًيا
أنهم متحكمون فيهم ،وأنه يرى قتل رؤسائهم وإجلء بقيتهم ،ولكن
أولئك الزعماء وقفوا على الحياد فلم ينحازوا إليه ول إلى البناء،
وقالوا له :أنت صاحبهم وهم أصحابك ،فلما يئس منهم عاد فكاتب
فلول »السود العنسي« سواء الذين بقوا متذبذبين بين صنعاء
ونجران أو ممن انحاز إلى لحج ،فطلب منهم اللتقاء بهم ليكونوا
جميًعا على أمر واحد وهو نفي »البناء« ،فلم يشعر أهل صنعاء إل
بتلك الفلول ،ثم حرص »قيس« على تجميع »البناء« وهم محاطون
دا لنفيهم ).(5
تمهي ً
وعندما وصل فيروز الديلمي إلى خولن كتب من هناك إلى أبي
بكر يخبره بما حصل من قيس ،فما كان منه إل أن كتب إلى الزعماء
الذين كتب إليهم رسول الله × ،وكانت صيغة الكتاب واضحة
ناوأهم وحوطوهم ،واسمعوا صريحة وهي» :أعينوا البناء على من
دوا معه فإني قد وليته« ).(6ج ّ
من فيروز ،و ِ
كان الصديق في نهجه هذا يستهدف أمرين متلزمين:
• أنه جعله خطة حربية حيث كان جيش أسامة بن زيد قد خرج
إلى الشام ،وكان الخليفة ينتظر عودته حتى يتسنى له مواجهة أعنف
موجات الردة في اليمامة والبحرين وعمان وتميم ،وهي أشد وأعنف
من موجات الردة في اليمن التي اكتفى بمعالجة بعضها بالرسائل
والرسل.
• وأما الهدف الخر فهو إعطاء الفرصة لمن ثبت على السلم
لكي يبرهن على صدق إسلمه ،ولكي يزداد ثباًتا واستمسا ً
كا بدينه ما
تاريخ الطبري.4/56 : )( 1
تاريخ الطبري4/140 :؛ اليمن في صدر السلم :ص .264 )( 5
172
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
دام هو صاحب المسئولية والمتحمل لمانة إقرار السلم فيمن
الذين راسلهم رسول حوله ،خاصة أن من راسلهم أبو بكر كانوا هم
طلب منهم ) .(1وقام فيروز الله × من قبل ،وقد ثبتوا وقاموا بما ُ
بالتصال ببعض القبائل يستمدهم ويستنصرهم ،وعلى رأس هؤلء
»بنو عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة« ،ثم أرسل إلى قبيلة
»عك«( للغرض نفسه .وكان أبو بكر قد أرسل إلى الطاهر بن أبي
هالة ) ، 2وإلى مسروق العكي -وكانا بين عك والشعريين -أن يمدا
البناء بالمعونة ،فخرج كل من جهته وعملوا جميًعا للحيلولة دون
تنفيذ مخطط قيس وهو طرد البناء وإخراجهم من اليمن ،فأنقذوهم
ثم تكتلوا وتوجهوا نحو صنعاء جميًعا فاصطدموا به حتى اضطر إلى
ترك صنعاء ،وعاد إلى ما كان عليه أصحاب السود العنسي وهو
التذبذب بين نجران وصنعاء ولحج ،إل أنه انضم إلى عمرو بن
للمرة الثانية إلى الهدوء معديكرب الزبيدي .وبهذا عادت صنعاء
والستقرار عن طريق الرسل والكتب ).(3
ج -واستمر الصديق يتابع سياسة الحباط من الداخل ،وهي ما
المؤرخون بقولهم» :ركوب من ارتد بمن لم يرتد وثبت يعبر عنها
على السلم« ).(4
ففي ردة »تهامة اليمن« تم القضاء عليها بدون مجهود يذكر من
قبل الخليفة ،فقد تولها المسلمون من أبناء تهامة مثل »مسروق«
العكي الذي قاتل المرتدين بقومه من عك ،وكان على رأس من
)(5
قضى على ردة تهامة »الطاهر بن أبي هالة« الذي كان والًيا
للرسول × على جزء من تهامة ،وهي موطن »عك والشعريين«
»عكاشة بن ثور« أن يقيم في »تهامة« ليجمع حوله ثم أمر أبو بكر
حتى(7يأتيه أمره ) ،(6وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن أهلها
ن ثبت على السلم م ْ
ن قومه َ م ْعبد الله ) ،وأمره أن يستنفر ِ
ويقاتل بهم من ارتد عن السلم ،وأن يأتي خثعم فيقاتل من ارتد
منهم ،فخرج جرير وفعل )ما (8أمره به الصديق ،فلم يقم له أحد إل
نفر يسير فقتلهم وتتبعهم .
وكان بعض »بني الحارث بن كعب« بنجران قد تابعوا السود
العنسي ،وبعد وفاة رسول الله × بقوا مترددين فخرج إليهم
»مسروق العكي« وهو يزعم مقاتلتهم فدعاهم إلى السلم فأسلموا
استتباب( المور فلم يأته من غير قتال ،فأقام فيهم ليعمل على
»المهاجر بن أبي أمية« إل وقد ضبط نجران ). 9
وقد نجحت سياسة الحباط من الداخل ،وتوجه الصديق بإرسال
الجيوش بعد عودة جيش أسامة.
د -جيش عكرمة:
) (2نفس المصدر السابق.4/142 : )( تاريخ الطبري.4/144 : 2
3
)( البجلي :يكنى أبو عمر ،أسلم في السنة العاشرة من الهجرة. 7
)( الثابتون على السلم في أيام فتنة الردة :ص .42 8
173
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عمان ،توجه نحو مهرة بعد أن شارك في القضاء على ردة أهل
حسب أمر أبي بكر ،وكان معه سبع مئة فارس ) ،(1فوق ما جمع
حوله من قبائل عمان ،وحينما دخل مهرة وجدها مقسمة بين
زعيمين متناحرين :أحدهما يسمى شخريت ويتمركز في السهل
الساحلي ،وهو أقل الجمعين عدًدا وعدة ،والخر يسمى المصبح
ونفوذه على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين ،فدعاهما عكرمة
إلى السلم فاستجاب صاحب السهل الساحلي وأما الخر فقد اغتر
بجموعه فأبى ،فصادمه عكرمة ومعه »شخريت« فلحقته الهزيمة،
وقتل ومعه الكثير من أصحابه ،ثم أقام عكرمة فيهم يجمعهم ويقيم
شئونهم حتى جمعهم على الذي يجب ،حيث بايعوا على السلم
وآمنوا واستقروا ) ،(2وكان قد تلقى كتاًبا من أبي بكر يأمره بالجتماع
مع المهاجر بن أبي أمية القادم من »صنعاء« ليتوجها معا إلى كندة،
فخرج من مهرة حتى نزل أبين وبقي هناك ينتظر المهاجر ،وعمل
وهو هناك على جمع »النخع« وحمير وتثبيتهم على السلم ) ،(3وكان
لوصول عكرمة إلى أبين أثر على بقية فلول السود العنسي وعلى
رأسهم قيس بن المكشوح وعمر بن معد يكرب ،فبعد هروب قيس
من صنعاء بقي متردًدا بينها وبين نجران ،وكان »عمر بن معد
يكرب« قد انضوى إلى فلول العنسي التي أطلق عليها الفلول
اللحجية؛ لن وجهتهم كانت إلى لحج ،فلما جاء عكرمة انضم قيس
إلى عمرو وقد اجتمعا للقتال ولكن ما لبث أن نشب الخلف بينهما
فتعايرا ففارق كل واحد الخر ،فلما جاء المهاجر بن أبي أمية أسرع
عمرو لتسليم نفسه ولحقه قيس فأوثقهما المهاجر وبعث بهم إلى
اعتذر كل واحد منهما عن فعله فأطلقهما أبي بكر ،وبعد أن عاتبهما
ورجعا بعد أن تابا وأصلحا ).(4
وهكذا كان لقدوم عكرمة من المشرق دور في القضاء على
فلول المرتدين الموجودين في لحج سواء بالمواجهة من هذا الجيش
هم(5يواجهون جيشا آخر في الشمال القادم ،بينما
بقيادة المهاجر ) .
هـ -جيش المهاجر بن أبي أمية للقضاء على ردة حضرموت
وكندة:
كان آخر من خرج من المدينة من الجيوش الحد عشر جيش
المهاجر بن أبي أمية وكان معه سرية من المهاجرين والنصار ،فمر
على مكة فانضم إليه »خالد بن أسيد« –أخو »عتاب ابن أسيد«-
أمير مكة ،ومر على الطائف فلحقه عبد الرحمن بن أبي العاص ومن
معه ،ولما التقى »بجرير بن عبد الله البجلي« بنجران ضمه إليه،
وضم عكاشة بن ثور الذي جمع بعض أهل تهامة ،ثم دخل في
جموعه »فروة بن مسيك المرادي« الذي كان في أطراف بلد
مذحج ،ومر على بني الحارث بن كعب بنجران فوجد عليهم مسروق
174
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
العكي فضمه إليه ).(1
وفي نجران قسم جيشه إلى فرقتين :فرقة تولت القضاء على
فلول »السود العنسي« المتناثرة بين نجران وصنعاء ،وكان المهاجر
نفسه على هذه الفرقة ،أما الفرقة الخرى فكان عليها أخوه »عبد
الله« ،وكانت مهمتها تطهير منطقة تهامة اليمن من بقية المرتدين
).(2
وحينما استقر المهاجر في صنعاء كتب إلى أبي بكر بما قام به
وبما استقر عليه وبقي ينتظر الرد منه ،وفي الوقت نفسه كتب معاذ
بن جبل وبقية عمال اليمن الذين كانوا على عهد رسول الله ×- ،ما
عدا زياد بن لبيد -إلى أبي بكر يستأذنونه بالعودة إلى المدينة،
فجاءت كتب أبي بكر مطلقة حق الختيار لمعاذ ومن معه من
العمال بالبقاء أو العودة ،والستخلف على عمل كل من رجع
فرجعوا جميًعا ) ،(3وأما المهاجر فقد تلقى المر بالتوجه لملقاة
عكرمة وأن يسيرا مًعا إلى حضرموت لمعاونة زياد بن لبيد وإقراره
من الذين قاتلوا بين مكة على ما هو عليه ،وأمره أن يأذن لمن معه
واليمن في العودة إل أن يؤثر قوم الجهاد ).(4
كان زياد بن لبيد النصاري والًيا لرسول الله على كندة
دا وكان بحضرموت ،وأقره الصديق على ذلك ،وكان حاز ً
ما شدي ً
لحزمه وشدته سبب كبير في أن يتمرد عليه حارثة بن سراقة،
وخلصة ذلك -كما يذكر الكلعي -أن زياًدا أعطى من ضمن الصدقة
ناقة معينة لفتى من كندة على سبيل الخطأ ،فلما أراد صاحبها
استبدالها بأخرى لم يقبل منه ذلك زياد ،فاستنجد الفتى بزعيم لهم
هو حارثة بن سراقة ،وعندما طلب ابن سراقة من زياد استبدال
الناقة أصر زياد على موقفه ،فغضب ابن سراقة وأطلق الناقة عنوة،
فوقعت الفتنة بين أنصار زياد وأنصار ابن سراقة ،ودارت الحرب
وانهزم ابن سراقة وقتل ملوك كندة الربعة وأسر زياد عدًدا من
جماعة ابن سراقة ،واستنجد السرى وهم في طريقهم إلى المدينة
بالشعث بن قيس فنجدهم حمية وعبية ،واتسعت رقعتها وتكاثر جمع
الشعث وحصروا المسلمين ) ،(5فأرسل زياد إلى المهاجر وعكرمة
يستعجلهما النجدة وكانا قد التقيا بمأرب ،فما كان من المهاجر إل أن
ترك »عكرمة« إلى الجيش وأخذ أسرع الناس -وغالبا من الفرسان–
ليكونا بجانب زياد ،وقد استطاع أن يفك الحصار عنه فهربت كندة
إلى حصن من حصونها يسمى النجير ،وكان لهذا الحصن ثلث طرق
ل رابع لها ،فنزل زياد على إحداها والمهاجر على الثانية وبقيت
الثالثة تحت تصرف كندة ،حتى قدم عكرمة فنزل عليها فحاصروهم
من جميع الجهات ،ثم بعث »المهاجر« الطلئع إلى قبائل كندة
والمتفرقة في السهل والجبل يدعوهم إلى السلم ومن أبي قاتلوه،
تاريخ الردة للكلعي :ص .58 -54 )( 1
الكامل في التاريخ ،2/49 :الثابتون على السلم :ص .66 )( 5
175
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ولم يبق إل في الحصن المحاصر ).(1
وكان جيشا زياد والمهاجر يزيدان على خمسة آلف رجل من
المهاجرين والنصار وغيرهم من القبائل ،وقد عمل على التضييق
على من في الحصن حتى ضجوا بالشكوى إلى زعمائهم متبرمين
من الجوع ،وفضلوا الموت بالسيف بدل ً من ذلك ،فاتفق زعماؤهم
على أن يقوم الشعث بن قيس بطلب المان والنزول على حكم
المسلمين ) ،(2وبعد أن فوض الشعث من قومه لمفاوضة المسلمين
لم يوفق؛ لن الروايات تضافرت على أنه لم يطلب المان لجميع
من في الحصن ،أو أنه لم يصر على ذلك ولم يطلبه إل لعدد تراوح
حسب الروايات بين السبعة والعشرة وكان الشرط هو فتح أبواب
حصن »النجير« ،وكان من جراء ذلك أن قتل من »كندة« في
الحصن سبعمائة قتيل ،فأشبه موقفهم موقف يهود بني قريظة ).(3
وتم القضاء على ردة كندة وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه
ضا
السبايا والخماس ،وبرفقتهم الشعث بن قيس الذي صار مبغ ً
إلى قومه ول سيما نساؤهم لنهم عدوه سبب ذلتهم؛ ولنه عندما
صالح المسلمين كان أول ما بدأ به اسمه ،فكانت نساء قومه
عرف النار ،ومعناه بلغتهم :الغادر ) ،(4ولما قدم الشعث يسمينه ُ
على أبي بكر قال :ماذا تراني أصنع بك فإنك قد فعلت ما علمت؟!
ي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت ن عل ّقال :تم ّ
وأسلمت ،فقال أبو بكر :قد فعلت فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة،
)(5
فكان بالمدينة حتى فتح العراق.
ي
وفي رواية جاء فيها :فلما خشي أن يقع به قال :أوتحتسب ف ّ
خير فتطلق إساري وتقيلني عثرتي وتقبل إسلمي ،وتفعل بي مثل
ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي -وقد كان خطب أم فروة بنت
خرها إلى أن يقدم أبي قحافة مقدمه على رسول الله × فزوجه ،وأ ّ
الثانية فمات رسول الله × ،وفعل الشعث ما فعل فخشي أل ترد
عليه -تجدني خير أهل بلدي لدين الله! فتجافى له عن دمه وقبل
خير ،وخلي عن منه ورد عليه أهله وقال :انطلق فليبلغني عنك
القوم ،فذهبوا وقسم أبو بكر في الناس الخمس ).(6
و -دروس وعبر وفوائد:
المرأة بين الهدم والبناء:
في حروب الردة باليمن تظهر صورتان مختلفتان للنساء :صورة
المرأة الطاهرة العفيفة التي تقف مع السلم وتحارب الرذيلة،
وتقف مع المسلمين لكبح جماح شياطين النس والجن ،فهذه
اليمن في صدر السلم :ص 286تاريخ الردة :ص .167 )( 3
176
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
»آزاد« الفارسية زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز الفارسي؛ تقف
مع الصف السلمي بكل عزم وتصميم ،وتدبر مع المسلمين خطة
محكمة لغتيال السود العنسي كذاب اليمن ،فالمسلم في كل عصر
يكبر في )آزاد( المسلمة غيرتها على دينها ،وينظر باستهجان إلى ما
جه قلم الدكتور محمد حسين هيكل عندما تحدث عن موقف آزاد م ّ
َ
من كذاب اليمن ،وحاول أن يرجع ما قامت به المرأة المسلمة آزاد
الفارسية إلى عصبية شهوانية ،وذلك في قوله عن السود» :ولما
استغلظ أمره وأثخن في الرض استخف بقيس وبفيروز وجعل يرى
في الخيرين وفي سائر الفرس من تنطوي أضلعهم على المكر به،
وعرفت زوجته الفارسية ذلك منه ،فثار في عروقها دم قومها،
وتحركت في نفسها عوامل الحقد على الكاهن القبيح قاتل زوجها
الشاب الفارسي الذي كانت تحبه من أعماق قلبها ،ولقد استطاعت
بسجيتها النسوية أن تخفي ذلك عنه وأن تسخو في)(1البذل له من
أنوثتها سخاء جعله يركن إليها ويطمع في وفائها«.
مز بالفارسية المؤمنة آزاد ،وكأنه يتهمها بالغدرإنه أسلوب فيه ل َ ْ
لفارسيتها بالسود العربي ،ويأخذ عليها هذا الصنيع الذي كانت تظهر
له فيه ما ل تخفي ،إنه توجيه لحدث في غير محله ،وهذه المرأة
جها المسلم وتزوجها غصًبا ،وهي الصالحة المسلمة قتل السود زو َ
شخصا الله خلق ما »والله بقولها: التي وصفت السود الكذاب
ي منه ،ما يقوم لله على حق ول ينتهي عن محرم« (2).وهي أبغض إل ّ
فلول الله العنسي، السود الطاغية لهلك سببا تعالى الله جعلها التي
ثم جهودها الميمونة ما استطاع فيروز وأصحابه قتل السود )،(3
فالذي حركها لذلك العمل العظيم الذي فيه حتفها وموتها هو حبها
لدينها وعقيدتها وإسلمها ،وبغضها للسود العنسي الكذاب الذي أراد
أن يقضي على السلم في اليمن ،فهذه صورة مشرقة مضيئة لما
قامت به المرأة المسلمة في اليمن من الجهاد من أجل دينها.
أما الصورة الكالحة المظلمة التي قامت به بعض بنات اليمن من
يهود أو من لف لفهن في حضرموت ،فقد طرن فرحا بموت رسول
الله × فأقمن الليالي الحمراء مع المجان والفساق يشجعن على
الرذيلة ويزرين بالفضيلة ،فقد رقص الشيطان فيها معهن وأتباعه
لنكوص الناس على السلم والدعوة إلى التمرد عليه وحرب طرًبا
أهله ) ،(4لقد حّنت تلك البغايا إلى الجاهلية وما فيها من المنكرات،
وانجذبن إليها انجذاب الذباب إلى أكوام من القذار ،فقد تعودن على
الفاحشة في حياتهن الجاهلية ،فلما جاء السلم حجزتهن نظافته
عنها ،فشعرن وكأنهن بسجن ضيق يكدن يختنقن فيه ،ولذا ما إن
سمعن بموته × حتى أظهرن الشماتة فخضبن أيديهن بالحناء ،وقمن
يضربن بالدفوف ويغنين فرحتهن؛ فقد تحقق لهن ما كن يتمنينه على
السلطة الجديدة ،وكان معظمهن من علية القوم هناك وبعضهن
يهوديات ،وقد كان لكل الطرفين -أشراف القوم من العرب واليهود-
مصلحة في النتقاض على مبادئ السلم والنقضاض على كيانه.
الصديق أبو بكر :ص .79 )( 1
177
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
لقد عرفت هذه الحركة في التاريخ بحركة البغايا وكن نيفا وعشرين
بغّيا متفرقات في قرى حضرموت ،وأشهرهن هر بنت يامن اليهودية
التي ضرب المثل بها في الزنا ،فقيل» :أزنى من هر« .ويذكر التاريخ
أن الفساق كانوا يتناوبونها لهذا الغرض في الجاهلية ،ولكن هؤلء
السواقط لم يتركن وشأنهن يفسدن في المجتمع كما يحلو لهن )،(1
فقد وصل الخبر إلى الصديق ،وأرسل رجل من أهل اليمن إليه
هذه البيات:
ن أيّ مرام
م َ
أن البغايا ُر ْ أبلغ أبا بكر إذا ما جئته
)(2 وخضبن أيديهن بالعُ ّ
لم أظهرن من موت النبي
شماتة
)(3
غمام فهن بصارمفاقطع هديت أك ّ
فكتب أبو بكر إلى عامله هناك المهاجر بن أبي أمية كتاًبا في
سْر إليهنمنتهى الحزم والصرامة جاء فيه» :فإذا جاءك كتابي هذا فَ ِ
بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهن ،فإن دفعك عنهن دافع ،فأعذر إليه
باتخاذ الحجة عليه ،وأعلمه عظيم ما دخل فيه من الثم والعدوان،
فإن رجع فاقبل منه وإن أبى فنابذه على سواء ،إن الله ل يهدي كيد
الخائنين…« .فلما قرأ المهاجر الكتاب جمع خيله ورجله وسار إليهن،
فحال بينه وبينهن رجال من كندة وحضرموت فأعذر إليهم ،فأبوا إل
النسوة فقطع قتاله ،ثم رجع عنه عامتهم ،فقاتلهم فهزمهم وأخذ
أيديهن فمات عامتهن وهاجر بعضهن إلى الكوفة (4) .لقد نلن
جزاءهن في محكمة السلم العادلة؛ إذ أخذهن عامل أبي بكر على
وطبق عليهن تلك البلد
حد الحرابة).(5
ونقلت الخبار للخليفة في امرأتين من بلد حضرموت تغنتا بهجاء
رسول الله × والمسلمين ،وكان قد عاقبهما المهاجر بن أبي أمية
ض أبو بكر ،وعدها والي تلك البلد بقطع يديهما ونزع ثنيتيهما ،فلم ير َ
عقوبة خفيفة في حق هاتين المجرمتين ،وقد وجه إليه كتاًبا بهذا
الخصوص قال فيه بحق الناعقة بشتم صاحب الرسالة :بلغني الذي
سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمة رسول الله × ،فلول
ما قد سبقتني فيها لمرتك بقتلها؛ لن حد النبياء ليس يشبه الحدود،
فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر.
) (6وقال في الخرى :بلغني أنك قطعت يد امرأة في أن تغنت بهجاء
المسلمين ونزعت ثنيتها ،فإن كانت ممن تدعي السلم فأدب
وتقدمة دون المثلة ،وإن كانت ذمية لعمري لما صفحت عنه من
الشرك أعظم ،ولو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروها
الدعة وإياك والمثلة في الناس؛ فإنها مأثم ومنفرة إل في فاقبل
قصاص ).(7
) (2العلم :الحناء. )( حركة الردة للعتوم :ص .119 1
2
) (4حركة الردة للعتوم :ص .184 )( عيون الخبار.3/133 : 3
4
178
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
غوري :نسبة إلى الغور ،وهي أرض تهامة ما بين البحر والحجاز. )( 2
ديوان الردة للعتوم :ص 81؛ منجد :نسبة إلى نجد هي الرض المرتفعة. )( 3
179
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الذين كانت لهم مواقف تدل على عمق إيمانهم وشدة انتمائهم إلى
السلم فكانوا من خطباء اليمان.
كرامات الولياء:
عندما تمكن السود العنسي باليمن وتنبأ بالنبوة بعث إلى أبي
مسلم الخولني فلما جاء قال له :أتشهد أني رسول الله؟ قال :ما
دا رسول الله؟ قال :نعم .فردد ذلك أسمع .قال :أتشهد أن محم ً
عليه ،وفي كله يقول مثل قوله الول قال :فأمر به فألقي في نار
عظيمة فلم تضره ،فقيل له :انفه عنك وإل أفسد عليك من اتبعك،
قال :فأمر بالرحيل فأتى المدينة وقد قبض رسول الله × ،واستخلف
أبو بكر فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد ،ودخل المسجد فقام
يصلي إلى سارية ،وبصر به عمر بن الخطاب فقام إليه فقال :ممن
الرجل؟ قال :من أهل اليمن ،قال :ما فعل الرجل الذي أحرقه
الكذاب بالنار؟ قال :ذاك عبد الله بن ثوب ،قال :أنشدك الله أنت
هو؟ قال :اللهم نعم .فأعتنقه عمر وبكى ،ثم ذهب به فأجلسه فيما
بينه وبين أبي بكر وقال :الحمد لله الذي لم يمتني)(1حتى أراني في
أمة محمد من فعل به ما فعل بإبراهيم خليل الله.
فهذه كرامة لهذا العبد الصالح الذي التزم بحدود الله وأحب في
الله وأبغض في الله وتوكل على الله في كل شيء ،وبذلك وفقه
والطمأنينة وأجرى الله على المن َ إن أ َ تعالى+ :أ َ الله في القول والعمل ورزقه
ف
و ٌ ْ خ
َ َ ل ه
ِ الل َ ء يا
َ ِ لوْ ّ ِ ل يديه هذه الكرامة ،قال
م ه َ ل ن قو ُ ت ي نوا كاَ و نوا م آ ن ذي ّ ل ا ن نوحَز ُ م يَ ْ ه ْول َ ُ م َ ه ْ َ َ
ُ ُ َ
َ
ّ َ ُ
َ
َ ُ
َ َ َ ِ َ
ْ ع ْلي ْ ِ
تما ِ ل ل ِكل ِ َ دي َ ة ل ت َب ْ ِ خَر ِ في ال ِ و ِ ة ْالدّن َْيا َ حَيا ِ في ال َ شَرى ِ الب ُ ْ
م" ]يونس.[64 -62 : ظي ُ ع ِ وُز ال َْ َ
ف ْ ل ا و
َ ه
ُ كَ ِ ل َ ذ ه
الل ِ
العفو عند الصديق:
كان لبي بكر ب ُْعد نظر وبصيرة نافذة ونظر بعواقب المور،
ولذلك كان يستعمل الحزم في محله والعفو عندما تقتضي إليه
صا على جمع شتات القبائل تحت راية السلم، الحاجة ،فقد كان حري ً
فكان من سياسته الحكيمة عفوه عن زعماء القبائل المعاندة بعد
رجوعهم إلى الحق ،فإنه لما استخضع قبائل اليمن المرتدة وأراهم
سطوة دولة المسلمين وقوة شكيمتهم ومضاء عزيمتهم ،واعترفت
القبائل بما أنكرت واستكانت لحكم السلم ،وأطاعوا خليفة رسول
الله رأى أبو بكر أنه من تأليف القلوب ترك استعمال القوة مع
زعماء هذه القبائل ،بل اللين هنا والرفق أوفق ،فرفع العقوبة عنهم
وألن القول لهم ووظف نفوذهم في قبائلهم لصالح السلم
والمسلمين ) ،(2فعفا عن زلتهم وأحسن إليهم ،فقد فعل ذلك مع
قيس بن يغوث المرادي وعمرو بن معد يكرب ،فقد كانا من صناديد
العرب وفرسانهم وأكثرهم شجاعة ،فعز على أبي بكر أن يخسرهما
وحرص على أن يستخلصهما للسلم ويستنقذهما من التردد بين
السلم والردة ،فقد قال أبو بكر لعمرو :أما تخزى أنك كل يوم
مهزوم أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله ،فقال عمرو :ل
)( أسد الغابة6247 ،6/304 :؛ الستيعاب.4/1758 : 1
180
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
جرم لفعلن ولن أعود .فأطلقه الصديق ولم يرتد عمرو بعدها قط
بل أسلم وحسن إسلمه ونصره الله ،وأصبح له بلء عظيم في
الفتوحات .وندم قيس على ما فعل ،فعفا عنه الصديق ،وكان للعفو
عن هذين البطلين من أبطال عرب اليمن آثاره العميقة والعريضة،
فقد تألف به الصديق قلوب أقوام قد عادوا إلى السلم بعد الردة
خوًفا أو طمًعا .وعفا عن الشعث بن قيس ،وبذلك أسر الصديق
للسلم قلوبهم وامتلك أفئدتهم ،فكانوا في مستقبل اليام نصًرا
وقوة للمسلمين وأصبحت لهم يد عظيمة في هذا المجال ).(1
وصية الصديق لعكرمة ومحاسبته لمعاذ:
كان أبو بكر حين بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة
جل عكرمة فوافته بنو حنيفة فنكبوه، وأتبعه شرحبيل بن حسنة ع ّ
فكتب عكرمة إلى أبي بكر بالذي كان من أمره ،فكتب إليه أبو بكر:
يا ابن أم عكرمة ل أريّنك ول تراني على حالها ،ل ترجع فتوهن
الناس ،امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة فقاتل معهما
ض أنت ثم تسير وتسّير جندك أهل عمان ومهرة ،وإن شغل فام ِ
مررتم به ،حتى تلتقوا أنتم والمهاجر ابن أبي أمية تستبرئون ممن
باليمن وحضرموت ).(2
ونلحظ أن الصديق حينما وجه الجيوش لقتال المرتدين وجه إلى
مسيلمة الكذاب جيشين أحدهما بقيادة عكرمة بن أبي جهل والثاني
بقيادة شرحبيل بن حسنة ،وهذا دليل على خبرة أبي بكر الدقيقة
بدرجات القوة عند العداء ومقدار مقدرتهم على الصمود ،وحينما
تعجل عكرمة لحرب مسيلمة فنكب هو وجيشه أرسل إليه أبو بكر
يقول له» :ل أرينك ول تراني على حالها ل ترجع فتوهن الناس«
وهذا أيضا من خبرة أبي بكر الحربية فإن الروح المعنوية لها أثر كبير
في نتائج المعارك ،فإذا قدم هؤلء المنهزمون فقابلوا الجيش
المتوجه لقتال العداء ,فإن نفوس أفراد الجيش سيكون فيها شيء
صا فيما إذا روى لهم المنهزمون شيًئا عن التخوف والضعف ،خصو ً
ضخامة جيش العداء وقوته ) ،(3وقد كان البعد الحربي عند الصديق
حا باهًرا،واضحا فأرسل عكرمة وجيشه إلى مناطق أخرى وحقق نجا ً
فارتفعت معنويته وجيشه.
وعندما رجع معاذ من اليمن إلى المدينة واستقبله الصديق وكان
من عاداته مراقبة عماله ومحاسبتهم بعد فراغهم ،قال الصديق
فقال(4:أحسابان :حساب الله وحساب منكم؟ لمعاذ :ارفع حسابك،
والله ل ألي لكم عمل ً أب ً
دا ) .
توحيد اليمن ووضوح السلم عند أهله وطاعتهم
للخليفة:
وبعد انتهاء حروب الردة تجمعت اليمن تحت قيادة مركزية
عاصمتها المدينة المنورة ،وقسم اليمن إلى أقسام إدارية ل وحدات
قبلية ،فقد قسم إلى ثلثة أقسام إدارية :صنعاء والجند وحضرموت،
نفس المصدر السابق :ص .256 )( 1
181
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
سا في الزعامة أو في التولية ،ولم تعد ولم تعد العصبية القبلية أسا ً
القبيلة سوى وحدة عسكرية ل سياسية ،وأصبحت المقاييس
المعتبرة هي المقاييس اليمانية؛ التقوى والخلص والعمل الصالح
).(1
وتخلصت اليمن من بقايا الشرك ومن جميع مظاهره -شرك في
كا أو إتياًنا، العتقاد أو شرك في القول أو شرك في الفعل -تر ً
النبوة أرفع من أن يدعيها مدع عابث ويتخذها وسيلة إلى وأدركوا أن
غرضه ورغبته (2).وأيقنوا أن اليمان ل يلتقي مع المطامع ،وأن
واللم والحسرات، السلم ل يتفق مع الجاهلية ،عرفوا ذلك بالدماء
الكثير ) ،(3ورجع من كان فقتل من كل الطرفين الكثير وتعلم منهم
قد ارتد إلى السلم يرجو التكفير عما بدر ) ،(4وأذن لهم بالجهاد في
عصر الخليفة عمر بن الخطاب ،وقد برزت قيادات يمنية إسلمية
في الفتوحات قد تربت وانصهرت في أحداث الردة ،وكانوا من
الثابتين على السلم؛ كجرير ابن عبد الله البجلي ،وذي الكلع
الحميري ،ومسعود بن العكي ،وجرير بن عبد الله الحميري وغيرهم،
وكان لهذه القيادات أدوار بارزة في الفتوحات السلمية وفي
عمران مدن جديدة في الكوفة وفي البصرة والعراق والفسطاط
ضا شخصيات يمنية عينت في اليمن وغير اليمن بمصر ،وبرزت أي ً
وسعيد بن عبد الله العرج، الحميد، عبد حشك قضاة وولة مثل:
وشرحبيل بن السمط الكندي ،وغيرهم ).(5
والتحم أهل اليمن بالدولة السلمية وبقيادتها سواء التي عليهم
مباشرة أو القيادة العامة »الخليفة« في المدينة ،ولهذه حينما دعاهم
الخليفة للجهاد سارعوا طواعية ورغبة في الجهاد كما سيأتي تفصيله
بإذن الله تعالى .لقد تربوا في أحداث الردة تربية كافية
ولذا ساد الهدوء والستقرار جعلتهم موصولين بالقيادة واثقين بها،
وأصبحوا خير مدد للسلم والمسلمين ).(6
-2القضاء على فتنة طليحة السدي:
طليحة السدي هو المتنبئ الثالث من المتنبئة الذين ظهروا في
السلم أواخر عهد رسول الله × بالحياة ،وطليحة هذا هو طليحة بن
خويلد بن نوفل بن نضلة السدي ،ولقد قدم مع وفد قومه أسد على
رسول الله × في عام الوفود سنة تسع للهجرة فسلموا عليه،
وقالوا له ممتنين :جئناك نشهد أن ل إله إل الله وأنك عبده ورسوله
ونحن َلمن وراءنا ،فأنزل الله -عز وجل -قوله: ك أَ ولم تبعث إلينا
ل
ِ َ ب م ُ ك م
ّ ِ ْ َ ْ َ ل س إ ي َ ل ع
َ نوا
ّ م
ُ َ ت ّ ل قل ُ موا ْ ُ َ لس أ ن ْ َ ْ عل َي ن َمّنو َ +ي َ ُ
ن" قي د صا م ت ن ُ ك إن ن ما لي ل م ُ ك دا ه ن َ أ م ُ ك ي َ لع ن
َ ِ ِ ْ َ ُ ْ ِ َ ِ ِ ِ ْ َ َ ْ ْ ْ َ ه ُ ّ
مَ ي الل ُ
]الحجرات ،[17 :ولما عادوا ارتد طليحة وتنبأ) ،(7وعسكر في سميراء
)( اليمن في صدر السلم :ص .290 1
)( الخلفة الراشدة والخلفاء الراشدون ،يوسف علي :ص .39 2
) (2حروب الردة ،لمحمد أحمد باشميل: )( أسد الغابة.3/95 : 7
ص .79
182
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
»منطقة في بلدهم« ،واتبعه العوام واستكشف أمره »وأول ما
صدر عنه وكان سبًبا لضلل الناس أنه كان مع بعض قومه في سفر
فأعوزهم الماء وغلب العطش على الناس فقال :اركبوا أعلل »اسم
ل(1.ففعلوا فوجدوا الماء ،فكان ذلك فرسه« واضربوا أميال ً تجدوا بل ً
سبب وقوع العراب في الفتنة« ) .
ومن خزعبلته أنه رفع السجود من الصلة ،وكان يزعم أن
الوحي يأتيه من السماء ،ومن أسجاعه التي ادعى أنه يوحى له بها
قوله» :والحمام واليمام والصرد الصوام قد صمن قلبكم بأعوام
ليبلغن ملكنا العراق والشام« ) (2وغرته نفسه واشتد أمره وقوت
شوكته ،فبعث رسول الله × ضرار بن الزور السدي لمقاتلته لما
سمع من أمره ،ولكن ضرار لم يكن له به قَِبل؛ وذلك لتعاظم قوته
سيما بعد أن آمن به الحليفان: )(3
مع الزمن ،ول
أسد وغطفان.
وتقول عنه دائرة المعارف السلمية :ويروي عنه أنه كان يرتجل
الشعر ويخطب عفو الساعة في ميدان القتال ...ويبدو أنه كان مثال ً
حقا للزعيم القبلي الجاهلي .وقد اجتمعت فيه صفات العراف
والشاعر والخطيب والمقاتل (4).ويشم من هذا النص رائحة المدح
المبطن لطليحة من قبل هذه الموسوعة الشهيرة ،فهو في نظرها
الزعيم القبلي المثال ،يرتجل الشعر والخطابة ،وهما أهم ما كان
يحرص عليه العربي آنذاك ،ول يستغرب هذا التجاه من هذه
الموسوعة التي جعلت من اللمز في السلم ديدنها ،سواء أعرفت
أن طليحة عاد فأسلم وحسن إسلمه أم لم تعرف.
وتوفي رسول الله ولم يحسم أمر طليحة ) (5وتولى الخلفة
الصديق ،وعقد اللوية للجيوش والمراء للقضاء على المرتدين،
شا بقيادة خالد بن وكان من ضمنهم طليحة ،ووجه إليه الصديق جي ً
الوليد.
روى المام أحمد … :أن أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد
على قتال أهل الردة قال :سمعت رسول الله يقول :ن ِْعم عبد الله
وأخو العشيرة خالد بن الوليد ،سيف من سيوف الله ،سله الله على
الكفار والمنافقين«) ،(6ولما توجه خالد من ذي القصة وفارقه
الصديق ،واعده أن سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من المراء،
وأظهروا ذلك ليرعبوا العراب ،وأمره أن يذهب أول ً إلى طليحة
السدي ،ثم يذهب بعده إلى بني تميم ،وكان طليحة بن خويلد في
قومه بني أسد وفي غطفان ،وانضم إليهم بنو عبس وذبيان ،وبعث
ما منهم جديلة والغوث من طيء يستدعيهم إليه ،فبعثوا أقوا ً إلى بني َ
بين أيديهم ليلحقوهم على أثرهم سريًعا .وكان الصديق قد بعث
عدي بن حاتم قبل خالد بن الوليد وقال له :أدرك قومك ل يلحقوا
1
دائرة المعارف السلمية مادة »طليحة( ،نقل عن حركة الردة :ص .78 )( 4
مسند أحمد ،1/173 :وقال الشيخ أحمد شاكر :إسناده صحيح. )( 6
183
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بطليحة فيكون دمارهم ،فذهب عدي إلى قومه بني طيء فأمرهم
أن يبايعوا الصديق ) ،(1وأن يراجعوا أمر الله فقالوا :ل نبايع أبا
صيل ) (2أبدا -يعنون أبا بكر -فقال :والله ليأتينكم جيشه فل ف ِ
ال َ
يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنه أبو الفحل الكبر ،ولم يزل عدي
يفتل لهم في الذروة والغارب حتى لنوا ،وجاء خالد في الجنود
وعلى مقدمة النصار الذين معه :ثابت بن قيس بن شماس ،وبعث
بين يديه ثابت بن أقرم وعكاشة بن محصن طليعة ،فتلقاهما حيال
-ابن أخي طليحة -فقتله ،فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخوه سلمة،
فلما وجدوا ثابًتا وعكاشة تبارزوا وحمل طليحة على عكاشة فقتله
وقتل سلمة ثابت بن أقرم ،وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين،
فشق ذلك على المسلمين ،ومال خالد إلى بني طيء فخرج إليه
عدي بن حاتم فقال :أنظرني ثلثة ،فإنهم يخشون إن تابعوك أن
يقتل طليحة من سار إليه منهم ،وهذا أحب إليك من أن يعجلهم إلى
النار ،فلما كان بعد ثلث جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممن راجع
الحق ،فانضافوا إلى جيش خالد ،وقصد خالد بني جديلة فقال له :يا
)(3
ما حتى آتيهم فلعل الله أن ينقذهم كما أنقذ الغوث خالد أجلني أيا ً
فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى تابعوه فجاء بإسلمهم ولحق
بالمسلمين منهم ألف راكب ،فكان عدي خير مولود وأعظمه بركة
على قومه .(4)
خة والقضاء على بني أسد: أ -معركة ب َُزا َ
ثم سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى وعَّبي جيشه هنالك ،والتقى
مع طليحة السدي بمكان يقال له» :بزاخة« ووفقت أحياء كثيرة من
العراب ينظرون على من تكون الدائرة ،وجاء طليحة فيمن معه من
قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم ،وقد حضر معه عيينة بن
حصن في سبعمائة من قومه بنى فزارة واصطف الناس وجلس
فا في كساء له يتنبأ لهم ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، طليحة ملت ً
وجعل عيينة يقاتل حتى إذا ضجر من القتال جاء إلى طليحة وهو
ملتف في كسائه وقال له :أجاءك جبريل؟ فيقول :ل ،فيرجع فيقاتل.
ثم يرجع فيقول له مثل ذلك ويرد عليه مثل ذلك ،فلما كان في
الثالثة قال له :هل جاءك جبريل؟ قال :نعم ،قال :فما قال لك؟ قال:
قال لي :إن لك رحا كرحاه وحديًثا ل تنساه ،قال :يقول عيينة :أظن
أنه قد علم الله سيكون لك حديث ل تنساه ،ثم قال :يا بني فزارة
م وانهزم الناس عن طليحة ،فلما جاءه المسلمون انصرفوا وانهز َ
ركب على فرس كان قد أعدها له وأركب امرأته النوار على بعير له،
انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه ،وقد قتل الله طائفة ممن كان ثم
معه ).(5
وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر
)( ترتيب وتهذيب كتاب البداية والنهاية ،خلفة أبي بكر ،د :محمد بن صامل 1
السلمي:ص .101
)( الفصيل :ولد الناقة. 2
184
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
طليحة ومن كان في صفه وقام بنصره فكتب إليه :ليزدك ما أنعم الله
خي ًواتق الله في أمرك ،فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم به را
في أمرك ول تلن ول تظفر بأحد من المشركين قتل من ج
ِ ّ د
محسنون.
صعد عنها ويصوب المسلمين إل نكلت به ،فأقام خالد ببزاخة شهر ي ُ َ
ويرجع إليها في طلب الذي وصاه الصديق ،فجعل يتردد في طلب هؤلء
يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين شه ً را
ارتدوا ،فمنهم من حرقه بالنار ومنهم من رضخه بالحجارة ،ومنهم من
شواهق الجبال ،كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من رمى به من
مرتدة العرب ).(1
ب -وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم:
لما قدم وفد بزاخة –أسد وغطفان -على أبي بكر يسألونه الصلح
خيرهم أبو بكر بين حرب مجلية أو خطة مخزية ،فقالوا :يا خليفة
رسول الله ،أما الحرب المجلية فقد عرفناها فما الخطة المخزية؟
ما تتبعون أذناب البل قال :تؤخذ منكم الحلقة والك َُراع وتتركون أقوا ً
ري الله خليفة نبيه والمؤمنين أمًرا يعذرونكم به ،وتودون ما حتى ي ُ ِ
أصبتم منا ول نودي ما أصبنا منكم ،وتشهدون أن قتلنا في الجنة
وأن قتلكم في النار ،،وتدون قتلنا ول ندى قتلكم ،فقال عمر :أما
أمر( الله ل ديات لهم ،فامتنع قولك تدون قتلنا فإن قتلنا قتلوا على
عمر ،وقال عمر في الثاني :نعم ما رأيت). 2
زمل: ج -قصة أم ِ
كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الضلل من أصحاب طليحة من
يقال لها :أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة بني غطفان إلى امرأة
فر ) (3وكانت من سيدات العرب كأمها أم قرفة في مكان يسمى ظ َ َ
) ،(4وكان يضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولدها وعزة قبيلتها
وبيتها ،فلما اجتمعوا إليها ذمرتهم لقتال خالد فهاجوا لذلك ،وناشب
إليهم آخرون من بني سليم وطيء وهوازن وأسد فصاروا جي ً
شا
فا ،وتفحل أمر هذه المرأة فلما سمع بهم خالد ابن الوليد سار كثي ً
دا وهي راكبة على جمل أمها الذي كان يقال إليهم واقتتلوا قتال ً شدي ً
لعزها ،فهزمهم خالد له» :من نخسه فله مائة من البل« وذلك
وعقر جملها وقتلها ،وبعث بالفتح إلى الصديق ).(5
د -دروس وعبر وفوائد:
ثقة الصديق بالله ،وخبرته الحربية:
قول الصديق لعدي بن حاتم :أدرك قومك ل يلحقوا بطليحة
فيكون دمارهم .فيه مثال على قوة يقين أبي بكر وثقته بنصر
الله ،فقد حكم على نتيجة المعركة مع طيء قبل الدخول فيها ،وفي
دا -رضي الله عنهما -بأن يبدأ بحرب قبيلة طيء مع
أمر أبي بكر خال ً
ظفر :اسم موضع قرب الحوأب في طريق البصرة إلى المدينة. )( 3
185
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أنها أبعد من تجمع طليحة خطة حربية ناجحة ،وذلك ليحول دون
انضمام طيء إلى طليحة ،وليضطر من انضم إليها منهم إلى التخلي
عنه للدفاع عن قبيلتهم ،ثم في إظهار أبي بكر أنه خارج جهة خيبر
دا ببلد طيء تخطيط حربي بارع وذلك لرهاب تلك القبيلة ليلقي خال ً
والقبائل المجاورة ،وتظهر براعة الصديق في اختيار الرجال أن
التي لها ما بعدها أبا سليمان خالد بن الوليد الذي)(1
اختار لهذه المهمة
لم تنتكس له راية.
وفي خطاب الصديق لخالد بعد انتهاء معركة بزاخة فوائد منها:
الدعاء لخالد الذي يفهم منه الثناء عليه بإحسان ،كما يتضمن أمره
بتقوى الله وذلك فيه العصمة من الوقوع في الزلل واتباع الهوى،
كما أمره بالجد والحزم مع العداء؛ لنهم ما زالوا في فورة
طغيانهم ،وهذا موقف قوى يدل على حزم الصديق وبصيرته
النافذة ،فهناك قبائل ل تزال متحيرة ومترددة بين الحق والباطل،
والهدى والضلل ،والخير والشر ،واليمان والكفر ،بحاجة إلى تأديب
وردع حتى يزول طغيانهم ،فالموقف من أبي بكر يقتضي أعلى
درجات القوة والحزم والسرعة ،فكانت منه القوة في محل القوة،
كما كان منه اللين في محل اللين.
قال الشاعر:
)(2
موضع الندى ووضع الندى في موضع
السيف للندى
وفي موقف الصديق في عدم قبول استسلم هؤلء المحاربين
وعدم قبول الصلح إل بحرب مجلية أو خطة مخزية إظهار عزة
السلم وهيبة دولته ،فكانت شروطه في الصلح قوية وكان من
أشدها عليهم مصادرة أسلحتهم وخيولهم ،وكان هذا الشرط مؤقًتا
بظهور صدق توبتهم وخضوعهم لدولة السلم ،وقد كان ل بد منه
عدم(3عودتهم إلى التمرد لضمان
مرة أخرى ) .
نصح عدي بن حاتم لقومه والحرب النفسية التي شنها
عليهم:
قومه طئ فدعاهم للرجوع للسلم فقالوا :ل قدم عدي على
دا ) ،(4فقال :لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم نبايع أبا الفصيل أب ً
ولتكننه بالفحل الكبر فشأنكم به ،فقالوا له :فاستقبل الجيش
فنهنهه ) (5عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا ،فإنا إن خالفنا
دا وهوطليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم ،فاستقبل عدي خال ً
بالسنح فقال :يا خالد أمسك عني ثلًثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل
تضرب بهم عدوك ،وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار وتتشاغل
يريدون بذلك أبا بكر ،والبكر والفصيل :اسمان لولد الناقة. )( 4
186
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بهم ،ففعل ،فعاد عدي بإسلمهم إلى خالد (1).فهذا موقف استطاع
فيه عدي أن يقنع قبيلته بفرعيها بني الغوث وبني جديلة بالتخلي عن
معسكر طليحة والنضمام إلى جيش خالد بن الوليد ،وهذا تحول
مهم في تقرير نتائج معركة بزاخة الحاسمة ،فهذا موقف عظيم
يسجل لعدي إلى جانب موقفه الول حينما قدم على الصديق
بصدقات قومه ،وكان المسلمون بأمس الحاجة إلى المال آنذاك،
ولقد كان إسلمه من أول يوم إسلم رجل العلم والفهم ،فكان عن
قا من انتصار السلم والمسلمين في قناعة واختيار ،وكان واث ً
النهاية ،كما بشره بذلك النبي × يوم إسلمه ،فكان ليمانه القوي
أثر في إقناع قومه في العدول عما توجهوا إليه من مناصرة أعداء
السلم ،ولم تكن قناعتهم إلى حد الحياد والنتظار حتى يروا لمن
ألف وخمسمائة إلى جيش المسلمين، تكون الدائرة ،بل انضم منهم
مما يدل على مبلغ أثره فيهم (2).وجاء في رواية :أن قومه طلبوا من
سا لن بني أسد حلفاؤهم ،فقال لهم خالد :والله خالد بأن يقاتلوا قي ً
ما قيس بأوهن الشوكتين ،اصمدوا إلى أي القبيلتين أحببتم ،فقال
عدي :لو ترك هذا الدين أسرتي الدنى فالدنى من قومي لجاهدتهم
عليه ،فأنا أمتنع من جهاد بني أسد لحلفهم! ل لعمر الله ل أفعل.
فقال له خالد :إن جهاد الفريقين جميًعا جهاد ،ل نخالف رأي
ض)(3إلى أحد الفريقين وامض بهم إلى القوم الذين هم أصحابك ،ام ِ
لقتالهم أنشط.
وفي إنكار عدي على قومه دليل على قوة إيمانه وغزارة علمه؛
بعيدين عنه في النسب ،وتبرأ من حيث والى أولياء الله وإن كانوا
أعداء الله وإن كانوا من أقاربه (4).كما تظهر خبرة خالد بن الوليد
الحربية حينما أمر عدًيا بأن ل يخالف قومه في تمنعهن في مواجهة
وأن يوجههم إلى الوجه الجهادي الذي يكونون فيه حلفائهم بني أسد،
أنشط على القتال ).(5
لقد كان الدور الذي قام به عدي في دعوة قبيلته إلى النضمام
ما ،فكان دخول طئ في جيش خالد أول إلى جيش المسلمين عظي ً
وهن أصيب به العداء؛ لن قبيلة طئ من أقوى قبائل جزيرة العرب،
وممن كانت القبائل تحسب لها حساًبا وتنظر إليها باعتبارها على
درجة من القوة بحيث كانت مرهوبة الجانب عزيزة في بلدها،
تتقرب إليها جاراتها بالتحالف معها .لقد التقى الجمعان بعد أن دب
الوهن في نفوس العداء ،فكتب الله النصر لجيش المسلمين،
فسرعان ما طفقوا يقتلون ويأسرون حتى أبادوا جميع أعدائهم
وهرب قائدهم طليحة على فرسه ،ولم يسلم منهم إل من استسلم
أو هرب ،وبعد هذه الوقعة انتشر الضعف في نفوس المرتدين من
قبائل الجزيرة فأصبح الجيش السلمي ل يجد عناء في هزيمة من
تجمع منهم في أماكن أخرى ).(6
) (5) ,(4التاريخ السلمي.9/61 : )( تاريخ الطبري.4/75 : 3
4
5
)( التاريخ السلمي:ـ .9/61
)( الحرب النفسية من منظور إسلمي ،د :أحمد نوفل.144 ،2/143 : 6
187
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أسباب هزيمة طليحة بن خويلد السدي:
كانت هناك مجموعة من السباب ساهمت في هزيمة طليحة
السدي ،منها:
إن المسلمين كانوا يقاتلون مدفوعين بعقيدة راسخة ويقين
بنصر الله وحب في الشهادة ،فكان حب الموت في سبيل الله
حا معنو ًيا فتا ًكا ،فكان خالد يرسل للمرتدين هذه الكلمات
تعالى سل ً
)(1
القلئل :لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة .ولقد
عرف العدو نفسه من خلل تعامله مع قوات المسلمين في
المعارك التي خاضوها معه صدقهم في تنفيذ هذا المبدأ ،فقد سأل
طليحة السدي قومه لما انهزموا في موقعة بزاخة مع جيش خالد
بشيء كبير من الحنق والتعجب» :ويلكم ما يهزمكم؟« فقال رجل
منهم :أنا أخبركم ،إنه ليس رجل »منا« إل وهو يحب أن يموت قبله
صاحبه ،وإنا نلقي أقوا ًما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه ).(2
كان لنضمام طئ أثره في تقوية المسلمين وإضعاف أعدائهم،
كما كان مقتل الصحابيين عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم قد زاد
من غيظ المسلمين ودفعهم إلى قتال أعدائهم ،كما كان لتورية أبي
بكر الصديق تأثير على طئ في عدم التعاون مع حلفائها وبقائها في
مواضعها الصلية ،وأما التورية المشار إليها فإن الصديق أوهم الناس
أنه متوجه إلى خيبر بدل ً من الجهة الصلية التي حددت للجيش ،كما
سا كما أرادت شجعها على كان لفساح المجال لطئ كي تقاتل قي ً
الستقلل في الحرب؛ إذ لو أصر خالد على أن يقاتلوا حلفاءهم من
بني أسد كما أراد عدي بن حاتم لقصرت طئ في حربها أيما تقصير
) ،(3وغير ذلك من السباب.
من نتائج معركة بزاخة:
القضاء على قوة أحد الدعياء القوياء وعودة فريق كبير من
العرب إلى حظيرة السلم ،فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة
يقولون :ندخل فيما خرجنا منه ،فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل
بزاخة من أسد وغطفان وطئ قبلهم ،وأعطوه بأيديهم على السلم،
ولم يقبل أحد من أسد ول غطفان ول هوازن ول سليم ول طيء إل
أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل السلم في حال
ردتهم ،،فأتوه بهم… فمثل خالد ابن الوليد بالذين عدوا على السلم
فأحرقهم بالنيران ،ورضخهم بالحجارة ورمى بهم في الجبال
ونكسهم في البار ،وخرقهم بالنبال ،وبعث بقرة بن هيبرة والسارى،
وكتب إلى أبي بكر :إن بني عامرة أقبلت بعد إعراض ودخلت في
السلم بعد تربص ،وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيًئا
حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين فقتلتهم كل قتلة وبعثت إليك
)( حركة الردة للعتوم :ص .289 1
)( تاريخ الخمسين للديار بكري ،2/207 :نقل عن حركة الردة للعتوم :ص .289 2
)( خالد بن الوليد ،شيت خطاب :ص ،97 ،96نقل عن حروب الردة :أحمد 3
188
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
بقرة وأصحابه.
وكان عيينة بن حصن من بين السرى فأمر خالد بشد وثاقه
تنكيل به ،وبعثه إلى المدينة ويداه إلى عنقه إزراء عليه وإرهاًبا
لسواه ،فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان المدينة
مستهزئين ،وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين» :أي عدو الله،
ارتددت عن السلم!!« فيقول :والله ما كنت آمنت قط .وجيء به
إلى خليفة رسول الله ولقي من الخليفة سماحة لم يصدقها ،وأمر
حا واعتذر عما كان منه فأعلن عيينة توبة نصو ً بفك يديه ثم استتابه،
وأسلم وحسن إسلمه ).(2
ومضى طليحة حتى نزل كلب) (3على النقع فأسلم ،ولم يزل
ما في كلب حتى مات أبو بكر .وكان إسلمه هنالك حين بلغه أن مقي ً
دا وغطفان وعامًرا قد أسلموا ،ثم خرج نحو مكة معتمرا في أس ً
هذا طليحة، بكر: لبي فقيل المدينة بجنبات ومر بكر أبي إمارة
فقال :ما أصنع به ،خلوا عنه فقد هداه الله للسلم (4) .وقد جاء عند
ضا وذهب إلى ابن كثير :وأما طليحة فإنه راجع السلم بعد ذلك أي ً
مكة معتمًرا أيام الصديق ،واستحيا أن يواجهه مدة حياته ،وقد منع
الصديق المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام،
ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحتياط لمر المة؛ لن من كان له
سوابق في الضلل والكيد للمسلمين ل يؤمن أن يكون رجوعه من
باب الستسلم لقوة المسلمين ،فأبو بكر من الئمة الذين
يرسمون للناس خط سيرهم ،ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم،
الحتياط(5لما فيه صالح المة وإن كان في ذلك فهو لذلك يأخذ بمبدأ
وضع من شأن بعض الفراد ).وهذا درس عظيم تتعلمه المة في
عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في اللحاد ثم ظهر منهم
العود إلى اللتزام بالدين.
إن وضع الثقة الكاملة بهؤلء وإسناد العمال القيادية لهم قد جر
على المة أحياًنا ويلت كثيرة ،وأوصلها إلى مآزق خطيرة ،على أن
أخذ الحذر من مثل هؤلء ل يعني اتهامهم في دينهم ول نزع الثقة
بالكلية ،وهذا معلم من سياسة الصديق في التعامل مع أمثال منهم
هؤلء ).(6
إلى عمر للبيعة حين استخلف هذا وقد حسن إسلم طليحة وأتى
وقال له عمر :أنت قاتل عكاشة وثابت ) ،(7والله ل أحبك أبدا ،فقال
يا أمير المؤمنين ،ما تهتم من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهّني
بأيديهما! فبايعه عمر ثم قال له :يا خدع ما بقي من كهانتك؟ قال:
نفختان بالكير ،ثم رجع إلى دار قومه فأقام بها حتى خرج نفخة أو
حا ولم يغمض ) (9عليه فيه وقال إلى العراق) ،(8وقد كان إسلمه صحي ً
) (2الصديق أول الخلفاء :ص .87 تاريخ الطبري.4/82 : )( 1
2
) (4التاريخ السلمي.9/95 : أي :نزل في قبيلة كلب. )( 3
4
189
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
) (2ترتيب وتهذيب البداية )( أي :شدت يداه ورجله كهيئة المهاد للطفل. 2
) (4حركة الردة للعتوم :ص .185 )( الثابتون على السلم :ص .27 4
5
)( المبادئ :الظواهر ،وهي مفاصل الجزور وما عليها من اللحم ،جمع بدء. 7
190
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-3سجاح وبنو تميم ومقتل مالك بن نويرة اليربوعي:
كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة؛ منهم من ارتد ومنع
الزكاة ،ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق ،ومنهم من
توقف لينظر في أمره ،فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث
بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة وهي من نصارى العرب،
وقد ادعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم ،وقد عزموا
على غزو أبي بكر الصديق ،فلما مرت ببلد بني تميم دعتهم إلى
أمرها فاستجاب لها عامتهم ،وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة
التميمي وعطارد بن حاجب وجماعة من سادات أمراء بني تميم،
وتخلف آخرون منهم عنها ،ثم اصطلحوا على أن ل حرب بينهم ،إل
أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عزمها وحرضها على بني
يربوع ،ثم اتفق الجميع على قتال الناس وقالوا :بمن نبدأ؟ فقالت
فيما(1تسجعه :أعدوا الركاب ،واستعدوا للنهاب ،ثم أغيروا على لهم
الرباب ) فليس دونها حجاب .ثم استطاع بنو تميم إقناعهم بقصد
اليمامة لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذاب فهابه قومها ،وقالوا:
إنه قد استفحل أمره وعظم ،فقالت لهم فيما تقوله :عليكم باليمامة
دفوا دفيف الحمامة ،فإنها غزوة صرامة ل تلحقكم بعدها ملمة،
فعملوا لحرب مسيلمة فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلده،
وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال ،وقد ساعده عكرمة بن أبي
جهل بجنود المسلمين وهم نازلون ببعض بلده ينتظرون قدوم خالد،
فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الرض الذي كان
لقريش لو عدلت ،فقد رده الله عليك فحباك به ،وراسلها ليجتمع بها
في طائفة من قومه ،فركب إليها في أربعين من قومه ،وجاء إليها
فاجتمعا في خيمة ،فلما خل بها وعرض عليها ما عرض من نصف
الرض وقبلت ذلك ،قال مسيلمة :سمع الله لمن سمع ،وأطعمه
بالخير إذا طمع ،ول يزال أمره في كل ما يسر مجتمع ،ثم قال لها:
قالت :نعم، هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب؟
فقالوا :أ َ
صد ََقك؟
ْ وأقامت عنده ثلثة أيام ثم رجعت إلى قومها،
فقالت :لم يصدقني شيًئا ،فقالوا :إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير
ي مؤذنك فبعثته داًقا ،فقال :أرسلي إل ّ
ص َ
داق ،فبعثت إليه تسأله َص َ
َ
إليه وهو شيث بن ربعي الرياحي ،فقال :ناد في قومك أن مسيلمة
ل الله قد وضع عنكم صلتين مما أتاكم به محمد بن حبيب رسو َ
)يعني صلة الفجر وصلة العشاء الخرة( فكان هذا صداقها عليه ،ثم
انثنت سجاح راجعة إلى بلدها ،وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض
اليمامة فكرت راجعة إلى الجزيرة بعدما قبضت من مسيلمة نصف
فأقامت في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية فأجلهم )(2
خراج أرضه،
منها عام الجماعة.
كان مالك قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة ،فلما
ما اتصلت بمسيلمة ثم ترحلت إلى بلدها ندم مالك بن نويرة على
كان من أمره وتلوم في شأنه وهو نازل بمكان يقال له :البطاح )،(3
) (8ديوان الردة للعتوم :ص .137 )( هنيدة :اسم لمئة ناقة من البل. 8
9
) (2البداية والنهاية.6/326 : )( الرباب :فرع من بني تميم. 1
2
)( البطاح :ماء من ديار بني أسد بأرض نجد (2) .البداية والنهاية.6/327 : 3
191
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فقصده خالد بجنوده وتأخرت عنه النصار وقالوا :إنا قد قضينا ما
أمرنا به الصديق ،فقال لهم خالد :إن هذا أمر ل بد من فعله وفرصة
ي ترد
ل بد من انتهازها ،وإنه لم يأتني فيها كتاب وأنا المير وإل ّ
الخبار ،ولست بالذي أجبركم على المسير وأنا قاصد البطاح ،فسار
يومين ثم لحقه رسول النصار يطلبون منه النتظار فلحقوا به ،فلما
وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة بث خالد السرايا في البطاح
يدعون الناس ،فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة ،وبذلوا
الزكوات إل ما كان من مالك بن نويرة ،فإنه متحير في أمره متنح
عن الناس ،فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه ،واختلفت
السرية فيهم فشهد أبو قتادة الحارث بن ربعي النصاري أنهم أقاموا
الصلة ،وقالوا آخرون :إنهم لم يؤذنوا ول صلوا ،فيقال :إن السارى
باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد ،فنادى منادي خالد :أن أدفئوا
أسراكم ،فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم وقتل ضرار بن الزور
مالك بن نويرة ،فلما سمع خالد الواعية خرج وقد فرغوا منهم،
فقال :إذا أراد الله أمًرا أصابه ،ويقال :بل استدعى خالد مالك بن
نويرة فأّنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح وعلى منعه الزكاة
وقال :ألم تعلم أنها قرينة الصلة؟ فقال مالك :إن صاحبكم كان
يزعم ذلك ،فقال :أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ يا ضرار اضرب عنقه،
فضربت عنقه .وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاول في
ذلك ،حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصديق وتكلم عمر مع أبي
قا ،فقال أبو قتادة في خالد وقال للصديق :اعزله فإن في سيفه ره ً
فا سله الله على الكفار .وجاء متمم بن نويرة بكر :ل أشيم سي ً
وينشد(1الصديق ما يساعده وعمر دا
ً خال الصديق فجعل يشكو إلى
قال في أخيه من المراثي ،فوداه الصديق من عنده ) .
دروس وعبر وفوائد:
أ -من ثبت على السلم من بني تميم:
لم يرتد عن السلم كل قبائل أو كل أفراد أو كل رؤساء بني
تميم ،كما حاول أن يصور ذلك بعض من المؤرخين المحدثين،
والحقيقة أنه لقوة إسلم وثبات بعض بطون وأفراد ورؤساء بني
تميم ،فقد استطاع مالك بن نويرة إقناع سجاح التميمية بقتالهم قبل
قتالها أبا بكر الصديق ،وعندما واجهت مسلمي تميم تلقت على
أيديهم هزيمة نكراء فعدلت بعدها عن الذهاب إلى المدينة ،وتوجهت
إلى اليمامة ،وقد تضافرت الروايات التاريخية لتؤكد هذه الحقيقة
التي ذكرناها ) ،(2بل إن التدقيق في الروايات يبين أن من ثبت على
السلم من بني تميم كان أكثر من المترددين والمرتدين ،وتعكس
بعض الروايات دور قبيلة الرباب بصفة خاصة في الوقوف في وجه
المرتدين ،ولذلك استحقت من سجاح وجماعتها الحرب.
وتشير بعض الروايات إلى المواجهة العظيمة التي وقعت بين
الرباب وسجاح وانتهت أخيًرا بالصلح عندما فشلت سجاح في
إخضاع مسلمي تميم ،وإلى ندم قيس بن عاصم على متابعة
المرتدين ،وسوقه صدقات قومه إلى المدينة وكانت الدائرة على
1
192
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
سجاح وجماعتها ).(1
ب-خالد ومقتل مالك بن نويرة:
اختلفت الراء في مقتل مالك بن نويرة اختلًفا كثيًرا :أقتل
ما؟ وقام الدكتور على قا؛ أي أكافًرا قتل أم مسل ً ما أم مستح ً مظلو ً
العتوم بتحقيق هذه المسألة في كتابه »حركة الردة« وتعرض الشيخ
كتابه »نقد علمي لكتاب السلم )(2
محمد الطاهر بن عاشور في
محمد زاهد الكوثري الشيخ وقام ، القضية وأصول الحكم« لهذه
بالدفاع عن خالد في كتابه )مقالت الكوثري( ) ،(3وغير ذلك من
الباحثين ،واخترت من بين من بحث هذا الموضوع ما ذهب إليه
قا علمًيا متميًزا ،واهتم
الدكتور على العتوم؛ لنه حقق المسألة تحقي ً
ما لم أجده -على حسب اطلعي -عند أحد من بأحداث الردة اهتما ً
الباحثين المعاصرين ،وخرج بنتيجة أوافقه عليها :أن الذي أردى مالكا
كبره وتردده؛ فقد بقي للجاهلية في نفسه نصيب وإل لما ماطل هذه
المماطلة في التبعية للقائم بأمر السلم بعد رسول الله × ،وفي
تأدية حق بيت مال المسلمين المتمثل بالزكاة .وفي تصوري أن
الرجل كان يحرص على زعامته ويناكف -في الوقت نفسه -بعض
أقربائه من زعماء بني تميم الذين وضعوا عصا الطاعة للدولة
السلمية ،وأدوا ما عليهم لها من واجبات ،وقد كانت أفعاله وأقواله
على السواء تؤيد هذا التصور ،فارتداده ووقوفه بجانب سجاح
وتفريقه إبل الصدقة على قومه ،بل ومنعهم من أدائها لبي بكر
وعدم إصاخته لنصائح أقربائه المسلمين في تمرده ،كل ذلك يدينه
ويجعل منه رجل أقرب إلى الكفر منه إلى السلم.
ولو لم يكن مما يحتج به على مالك إل منعه للزكاة لكفى ذلك
غا لدانته ،وهذا المنع مؤكد عند القدمين؛ فقد جاء في مسو ً
دا
ً خال أن عليه: والمجمع قوله: سلم لبن الشعراء« فحول »طبقات
ده ،وإن مالكا سمح بالصلة والتوى بالزكاة (4) .جاء في حاوره ورا ّ
»شرح النووي لصحيح مسلم« قوله عن المرتدين :كان في ضمن
هؤلء من يسمح بالزكاة ول يمنعها إل أن رؤساءهم صدوهم عن
ذلك ،وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع ،فإنهم قد جمعوا
صدقاتهم وأرادوا)(5أن يبعثوها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة
من ذلك وفّرقها .
ج -زواج خالد بأم تميم:
أم تميم هي ليلى بنت سنان المنهال زوج مالك بن نويرة ،وهذا
الزواج حدث حوله جدل كثير ،واتهم من لهم أغراض خالدا ً بعدة تهم ل
تصح ول تثبت أمام البحث العلمي النزيه.
دا بأنه تزوج أم تميم فور وخلصة القصة :فهناك من اتهم خال ً
) (2نفس المصدر السابق :ص .48 1
)( نقد علمي لكتاب السلم وأصول الحكم :ص .33 2
)( مقالت الكوثري :ص ،312نقل عن )الخلفاء الراشدون( للذهبي :ص .36 3
)( طبقات فحول الشعراء ،تحقيق محمود شاكر :ص .172 4
193
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وقوعها في يده لعدم صبره على جمالها ولهواه السابق فيها ،وبذلك
حا ،فهذا القول مستحدث ل يعتد يكون زواجه منها –حاشا لله – سفا ً
به )(1؛ إذ خلت المصادر القديمة من الشارة إليه ،بل هي على خلفه
في نصوصها الصريحة ،يذكر الماوردي أن الذي جعل خالد يقوم على
قتل مالك هو منعه للصدقة التي استحل بها دمه ،وبذلك فسد عقد
المناكحة بينه وبين أم تميم ) ،(2وحكم نساء المرتدين إذا لحقن بدار
)(3
الحرب أن يسبين ول يقتلن ،كما يشير إلى ذلك المام السرخسي.
فلما صارت أم تميم في السبي اصطفاها خالد لنفسه ،فلما حلت
)(4
بنى بها.
دا
ويعلق الشيخ أحمد شاكر على هذه المسألة بقوله :إن خال ً
أخذها هي وابنها ملك يمين بوصفها سبية؛ إذ أن السبية ل عدة عليها،
وإنما يحرم حرمة قطعية أن يقربها مالكها إن كانت حامل ً قبل أن
تضع حملها ،وإن كانت غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة ثم دخل
بها ،وهو عمل مشروع جائز ل مغمز فيه ول مطعن إل أن أعداءه
والمخالفين عليه رأوا في هذا العمل فرصتهم فانتهزوها ،وذهبوا
دا قتله من أجل امرأته. يزعمون أن مالك بن نويرة مسلم وأن خال ً
) (5وقد اتهم خالد بأنه في زواجه هذا خالف تقاليد العرب ،فقد قال
ك بن نويرة وبنى بامرأته في ميدان القتال على العقاد :قتل خالد مال َ
غير ما تألفه العرب في جاهلية وإسلم ،وعلى غير ما يألفه
المسلمون وتأمر به الشريعة (6).فهذا القول بعيد عن الصحة؛ فقد
كان يحصل كثيًرا في حياة العرب قبل السلم إثر حروبهم
وانتصاراتهم على أعدائهم أن يتزوجوا من السبايا ،وكانوا يفخرون
بذلك ،ولذلك كثر فيهم أولد السبايا ،وهذا حاتم الطائي يقول:
ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا وماأنكحونا طائعين بناتهم
إذا لقي البطال يطعنهم وكائن ترى فينا من ابن سبية
شزرا
)(7
حمرا ويأخذ رايات الطعان بكفه
حا وسلك إليهوأما من الناحية الشرعية فقد أتى خالد أمرًا مبا ً
سبيل مشروعة أتاه من هو أفضل منه ،فإذا كان قد أخذ عليه زواجه
إبان الحرب أو في أعقابها ،فإن رسول الله × تزوج بجويرية بنت
الحارث المصطلقية إثر غزوة المريسيع ،وقد كانت في سبايا بني
المصطلق فقضى عنها كتابتها وتزوجها ،وكان بها طابع يمن وبركة
على قومها؛ إذ أعتق لهذا الزواج مائة رجل من أسراهم لنهم
)( ما قاله الجنرال الباكستاني أكرم :ففي نفس الليلة تزوجها خالد :ص 198 1
) (2عبقرية الصديق :ص .70 )( حركة الردة للعتوم :ص .230 5
6
)( العقد الفريد لبن عبد ربه (4) .7/123 :سيرة ابن هشام.295 -2/290 : 7
194
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أصبحوا أصهاًرا لرسول)(1الله × ،وكان من آثاره المباركة كذلك إسلم
أبيها الحارث بن ضرار .كما أنه عليه الصلة والسلم تزوج بصفية
حيي(2بن أخطب إثر غزوة خيبر وبنى بها في خيبر أو ببعض )
بنت
رسول الله × السوة الحسنة فقد توارى )(3
كان وإذا ، الطريق
العتاب وانقطع الملم.
ودفاع الدكتور محمد حسين هيكل عن خالد اتبع فيه منهجية غير
مقبولة؛ لنه ينبغي لنا أن ل نغض الطرف عن مخالفات خالد على
حساب السلم ،فخالد وغيره محكوم بالشرع الذي يعلو ول يعلى
عليه ،وإن تنزيه الشخاص ل يساوي تشويه المنهج بأية حال ،فقد
قال الدكتور هيكل :وما التزوج من امرأة على خلف تقاليد العرب
بل ما الدخول بها قبل أن يتم تطهيرها إذا وقع ذلك من فاتح غزا
فحق له بحكم الغزو أن تكون له سبايا يصبحن ملك يمينه!! إن
من
)(4
التزمت في تطبيق التشريع ل ينبغي أن يتناول النوابغ العظماء
أمثال خالد ،وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر.
ورد الشيخ أحمد شاكر بهذا الخصوص فقال :لشد ما أخشى أن
يكون المؤلف تأثر بما قرأ من أخبار نابليون وغيره من ملوك أوربا في
مباذلهم وإسفافهم ،وبما كتب الكاتبون من الفرنج في العتذار عنهم
لتخفيف آثامهم بما كان لهم من عظمة وبما أسدوا إلى أممهم من فتوح
وأياد ،حتى يظن بالمسلمين الولين أنهم أمثال هؤلء فيقول :إن التزمت
يتناول النوابغ العظماء من أمثال خالد، في تطبيق التشريع ل يجب أن
وهذا قول يهدم كل دين وخلق ).(5
د -دعم الصديق للقيادة الميدانية:
كان بعض رجال من جيش خالد قد شهدوا أن القوم أذنوا حين
سمعوا أذان المسلمين ،وأنهم بذلك قد حقنوا دماءهم ،وأن قتلهم ل
يحل ،ومن أولئك القوم أبو قتادة ،فأكبر القوم وزاد ذلك عنده أنه
رأى خالد بن الوليد قد تزوج امرأة مالك بن نويرة ففارق أبو قتادة
دا فيما خالف فيه ،فرأى دا ،وقدم على أبي بكر ليشكو إليه خال ً خال ً
أبو بكر أن فراق أبي قتادة لخالد خطأ ل ينبغي أن يرخص فيه له ول
لغيره؛ لنه يكون سبًبا للفشل والجيش في أرض العدو ،فاشتد على
قتادة ورده إلى خالد ،ولم يرض منه إل أن يعود فينخرط تحت أبي
لوائه ) ،(6وعمل أبي بكر من أحكم السياسات الحربية.
وقد قام الصديق بالتحقيق في مقتل ابن نويرة وانتهى إلى براءة
ساحة خالد من تهمة قتل مالك بن نويرة ) ،(7وأبو بكر في هذا الشأن
أكثر اطلعا على حقائق المور ،وأبعد نظًرا في تصريفها من بقية
الصحابة؛ لنه الخليفة وإليه تصل الخبار ،كما أنه أرجح إيماًنا منهم،
وهو في معاملته لخالد يحتذي على سنن رسول الله؛ إذ أنه عليه
دا عما وله في الوقت الذي كان يقع الصلة والسلم لم يعزل خال ً
1
) (6حركة الردة للعتوم :ص .237 )( سيرة ابن هشام.2/239 : 2
3
) (2حركة الردة للعتوم :ص .232 )( الصديق أبو بكر :ص .140 4
5
)( الخلفة والخلفاء الراشدون للبهنساوي :ص .112الخلفاء الراشدون للنجار: 7
ص .85
195
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ويقول»(1:ل تؤذوا خالدا؛ منه ما قد ل يرتاح له ،وكان يعذره إذ يعتذر،
فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار« ) .
دا
إن من كمال الصديق توليته لخالد واستعانته به؛ لنه كان شدي ً
ليعتدل به أمره ويخلط الشدة باللين ،فإن مجرد اللين يفسده
ومجرد الشدة تفسده ،فكان يقوم باستشارة عمر وباستنابة خالد،
وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله × ،ولهذا اشتد في
قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره ،فجعل الله فيه من
الشدة ما لم يكن فيه قبل ذلك ،وأما عمر فكان شديدا في نفسه
فكان من كماله –في خلفته -استعانته باللين ليعتدل أمره؛ فكان
يستعين بأبي عبيدة بن الجراح ،وسعد بن أبي وقاص ،وأبي عبيد
الثقفي ،والنعمان بن مقرن ،وسعيد بن عامر ،وأمثال هؤلء من أهل
دا وعبادة من خالد بن الوليد الصلح والزهد الذين هم أعظم زه ً
الخلفة -ما لم يكن –بعد الرأفة وأمثاله ،وقد جعل الله في عمر من
فيه قبل ذلك تكميل ً له حتى صار أمير المؤمنين ).(2
سا عن ذلك فقال …» :كان أبو بكر ما نفي ً
وقد ذكر ابن تيمية كل ً
دا في حرب أهل الردة خليفة رسول الله × ما زال يستعمل خال ً
وفي فتوح العراق والشام ،وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل ،وقد
ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها بل عاتبه
عليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه ،وأن غيره لم يكن
يقوم مقامه؛ لن المتولي الكبير إذا كان خلقه يميل إلى اللين
فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة ،وإذا كان خلقه يميل
إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل المر،
ولهذا كان أبو بكر الصديق يؤثر استنابة خالد ،وكان عمر بن
الخطاب يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح ؛ لن
دا كان شديدا كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان ليًنا كأبي بكر، خال ً
وكان الصلح لكل منهما أن يولي من وله ليكون أمره معتد ً
ل،
ويكون بذلك من خلفاء رسول الله الذي هو معتدل )) ،((34وحتى قال
النبي ×» :أنا نبي الرحمة ،أنا نبي الملحمة« .
-4ردة أهل عمان والبحرين:
أ -ردة أهل عمان:
كان أهل عمان قد استجابوا لدعوة السلم ،وبعث إليهم رسول
الله × عمرو بن العاص ،ثم بعد وفاته × نبغ فيهم رجل يقال له:
»ذو التاج« لقيط بن)(5مالك الزدي ،وكان يسامي في الجاهلية
الجهلة من أهل عمان، الجلندي ملك عمان ،فادعى النبوة وتابعه
جل َْندي ) (6وألجأهما إلى
فتغلب عليها ،وعليها جيفر وعباد ابنا ال ُ
أطرافها من نواحي الجبال والبحر فبعث جيفر إلى الصديق فأخبره
الخبر واستجاشه ،وبعث إليه الصديق بأميرين وهما :حذيفة بن
محصن الغلفاني من حمير وعرفجة إلى مهرة ،وأمرهما أن يجتمعا
ويتفقا ويبدآ بعمان وحذيفة هو المير ،فإذا ساروا إلى بلد مهرة
فتح الباري.7/101 : )( 1
أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة :ص .194 ،193 )( 2
) (3مسند أحمد.407 – 404 -4/395 : الفتاوى.144 /28 : )( 3
4
196
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فعرفجة المير ،وأرسل عكرمة بن أبي جهل مدًدا لهم وكتب
الصديق إلى عرفجة وحذيفة أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ
من السير إلى عمان أو المقام بها ،فساروا فلما اقتربا من عمان
راسلوا جيفًرا وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش ،فخرج في جموعه
فعسكر بمكان يقال له :دبار وهي مصر تلك البلد وسوقها العظمى،
وجعل الذراري والموال وراء ظهورهم ليكون أقوى لحربهم ،واجتمع
جيفر وعباد بمكان يقال له صحار ،فعسكروا فيه وبعثا إلى أمراء
الصديق فقدموا على المسلمين ،فتقابل الجيشان هناك وتقاتلوا قتال ً
ن الله بكرمه ولطفه دا وابتلي المسلمون وكادوا أن يولوا ،فم ّ
شدي ً
أن بعث إليهم مدًدا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس
في جماعة من المراء ،فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر ،فوّلى
المشركون مدبرين وركب المسلمون ظهورهم ،فقتلوا منهم عشرة
آلف مقاتل وسبوا الذراري وأخذوا الموال والسوق بحذافيرها،
وبعثوا بالخمس إلى الصديق مع أحد المراء وهو عرفجة ) ،(1وكان
السبب في هذا النصر العظيم وقوف الجماعة السلمية في عمان
مع أميرها جيفر وأخيه عباد ضد ذي التاج لقيط بن مالك الزدي،
واعتصامها بالماكن الحصينة ،حتى أدركتها جيوش المسلمين ،كما
كان لمواقف بني جذيد وبني ناجية وبني عبد القيس في ثبوتهم على
ودخولهم في المعركة في الوقت المناسب أثر في نصر السلم
المسلمين ).(2
ب -ردة أهل اليمن:
أسلم أهل البحرين بعدما أرسل النبي × العلء بن الحضرمي
إلى ملكها وحاكمها المنذر بن ساوي العبدي ،وقد أسلم هو وقومه
وأقام فيهم السلم والعدل ،وقد كان رد المنذر بن ساوي :قد
نظرت في هذا المر الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الخرة،
ونظرت في دينكم فوجدته للخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين
فيه أمنية الحياة وراحة الموت ،ولقد عجبت أمس ممن يقبله،
وعجبت اليوم ممن يرده ،وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم).(3
فلما توفي رسول الله × وتوفي المنذر بعده بمدة)(4قصيرة ارتد
أهل البحرين وملكوا عليهم المنذر بن النعمان الغرور .
أين هي أرض البحرين؟
أرض البحرين هي شقة ضيقة من الرض تتشاطئ مع هجر خليج
العرب ،وتمتد من القطيف إلى عمان والصحراء في بعض أنحائها،
تكاد تتصل بماء الخليج وهي تتصل باليمامة في جزئها العلى ل
يفصل بينهما إل سلسلة من التلل يهون لنخفاضها اجتيازها ) .(5فهي
إذا تشمل إمارات الخليج العربي والجزء الشرقي من المملكة
197
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
العربية السعودية عدا الكويت).(1
هذا وقد كان لمن ثبت على السلم في البحرين دور كبير في
إخماد هذه الفتنة ،وكان للجارود بن المعلى دور متميز ،فقد صحب
رسول الله × وتفقه في الدين ،ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى
السلم فأجابوه كلهم ،فلم يلبث إل يسيًرا حتى مات النبي ×،
دا نبيا لما مات ،وارتدوا ،وبلغه ذلك
فقالت عبد القيس :لو كان محم ً
فبعث فيهم فجمعهم ،ثم قام فخطبهم .فقال :يا معشر عبد القيس
إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ول تجيبوني إن لم
تعلموا .قالوا :سل عما بدا لك .قال :تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما
مضى؟ قالوا :نعم ،قال :تعلمونه أو ترون؟ قالوا :ل بل نعلمه ،قال:
دا × مات كما ماتوا .وأنا فما فعلوا؟ قالوا :ماتوا ،قال :فإن محم ً
دا عبده ورسوله ،قالوا :ونحن نشهد أشهد أن ل إله إل الله وأن محم ً
دا عبده ورسوله ،وأنك سيدنا وأفضلنا، أن ل إله إل الله وأن محم ً
وثبتوا على إسلمهم .فهذا موقف يذكر للجارود بن المعلى ،فقد
ثبت الله به قومه عبد القيس فثبتوا على إسلمهم ،وقد ألهمه الله
تعالى بضرب المثل بالنبياء السابقين عليهم السلم ،حيث كان
نهايتهم الموت ،فكذلك رسول الله × ،فاقتنع قومه وزال عنهم
وأثر ذلك في توجيه الشك ،وهذا مما يبين مزية التفقه في الدين
العتقاد والسلوك ،وخاصة عند حدوث الفتن ).(2
جواثا( على السلم ،وكانت أول قرية أقامت وقد بقيت بلدة ) ُ
الجمعة من أهل الردة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس،
وقد حاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم القوات وجاعوا
دا حتى فرج الله عنهم ،وقد قال رجل منهم يقال له عا شدي ً
جو ً
عبد الله بن حذف ،أحد بني بكر بن كلب وقد اشتد الجوع:
وفتيان المدينة أجمعينا أل أبلغ أبا بكر رسول ً
قعود في جواثا محصرينا لكم إلى قوم كرام
ُ فهل
شعاع الشمس ي ُْعشي كأن دماءهم في كل فج
الناظرينا
)(3
وجدنا النصر للمتوكلينا توكلنا على الرحمن إنا
فهذا موقف يذكر في الثبات على الحق لهؤلء المسلمين الذين
حصرهم العداء في )جواثا( حتى كادوا يهلكون من الجوع ،وفي البيات
المذكورة في الرواية التي قالها عبد الله بن حذف دليل على عمق
إيمان هؤلء المحصورين وقوة توكلهم على الله تعالى وثقتهم بنصره ).(4
بعث الصديق بجيش إلى البحرين بقيادة العلء بن الحضرمي،
فلما دنا من البحرين انضم إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير من
1
)( نفس المصدر السابق:ـ ص .147
198
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
قومه بني سحيم ،واستنهض المسلمين في تلك النحاء ،وأمد
الجارود بن المعلى العلَء برجال من قومه فاجتمع إليه جيش كبير
قاتل به المرتدين ونصر الله به المؤمنين ،وكان ممن آزر العلء لقمع
قيس بن عاصم المنقري وعقيق بن المنذر والمثنى بن فتنة البحرين
حارثة الشيباني ).(1
كرامة للعلء بن الحضرمي:
كان العلء من سادات الصحابة العلماء العُّباد مجابي الدعوة،
اتفق له في هذه الغزوة أنه نزل منزل ً ) ،(2فلم يستقر الناس على
الرض حتى نفرت البل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم
وشرابهم ،وبقوا على الرض ليس معهم شيء سوى ثيابهم وذلك ليل ً
ولم يقدروا منها على بعير واحد ،فركب الناس من الهم والغم ما ل
يحد ول يوصف ،وجعل بعضهم يوصي إلى بعض ،فنادى العلء فاجتمع
الناس إليه ،فقال :أيها الناس ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل
الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا :بلى ،قال :فأبشروا فو الله ل يخذل
الله من كان في مثل حالكم ،ونودي لصلة الصبح حين طلع الفجر
فصلي الناس ،فلما قضي الصلة جثا على ركبتيه وجثا الناس ونصب
في الدعاء ورفع يديه ،وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس وجعل
الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد أخرى ،وهو يجتهد
في الدعاء ويكرره ،فلما بلغ الثالثة إذا قد خلق الله إلى جانبهم
ما من الماء القراح ،فمشى ومشى الناس إليه فشربوا غديًرا عظي ً
عليها، بما فج كل من البل أقبلت حتى النهار تعالى فما واغتسلوا،
بعد (4ن ََهل )،(3 علل البل فسقوا س ْ
لكا، ِ أمتعتهم من الناس لم يفقد
فكان هذا مما عاين الناس من آيات الله بهذه السرية ) .
هزيمة المرتدين:
قا
ثم لما اقترب من جيوش المرتدة –وقد حشدوا وجمعوا خل ً
ما -نزل ونزلوا وباتوا مجاورين في المنازل ،فبينما المسلمون عظي ً
في الليل إذ سمع العلء أصواتا عالية في جيش المرتدين ،فقال :من
رجل يكشف لنا خبر هؤلء؟ فقام عبد الله بن حذف فدخل فيهم
سكارى ل يعقلون من الشراب فرجع إليه فأخبره ،فركب فوجدهم ُ
ما
ً عظي ً ل قت فقتلوهم أولئك فكبسوا معه والجيش فورهم العلء من
وقل من هرب منهم ،واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم
وأثقالهم ،فكانت غنيمة عظيمة جسيمة ،وكان الحطم بن ضبيعة أخو
شا حين اقتحم ما فقام ده ً
بني قيس ابن ثعلبة من سادات القوم نائ ً
المسلمون عليهم ،فركب جواده فانقطع ركابه فجعل يقول :من
يصلح لي ركابي؟ فجاء رجل من المسلمين في الليل فقال :أنا
أصلحها لك ارفع رجلك فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه،
ي فقال :ل أفعل ،فوقع صريًعا ،وكلما مر به أحد فقال :أجهز عل ّ
يسأله أن يقتله فيأبى ،حتى مر به قيس بن عاصم فقال له :أنا
)( الثابتون على السلم :ص .63 1
)( في طبقات ابن سعد ،4/363 :حدد منزله بالدهناء وهي صحراء رملية بين 2
نجد والحساء.
)( العلل :الشربة الثانية ،والنهل :شرب البل أول ما ترد الماء. 3
199
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الحطم فاقتلني فقتله ،فلما وجد رجله مقطوعة ندم على قتله،
وقال :واسوأتاه لو أعلم ما به لم أحركه ،ثم ركب المسلمون في
آثار المنهزمين يقتلونهم بكل مرصد وطريق ،وذهب من فر منه أو
أكثر إلى دارين ) ،(1ركبوا إليها السفن ،ثم شرع العلء بن الحضرمي
في قسمة الغنيمة ونفل النفال ،ولما فرغ من ذلك قال للمسلمين:
اذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من العداء ،فأجابوا إلى ذلك
سريًعا ،فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن ،فرأى
أن الشقة بعيدة ل يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله،
فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول :يا أرحم الراحمين ،يا حكيم يا كريم،
أحد( يا صمد ،يا حي يا قيوم ،يا ذا الجلل والكرام ،ل إله إل أنت يا يا
ربنا 2).وأمر الجيوش أن يقولوا ذلك ويقتحموا ،ففعلوا ذلك فأجاز
بهم الخليج بإذن الله على مثل رملة دمثة فوقها ماء ل يغمر أخفاف
البل ،ول يصل إلى ركب الخيل ،ومسيرته بالسفن يوم وليلة فقطعه
إلى الجانب الخر فعاد إلى موضعه الول وذلك كله في يوم ،ولم
يترك من العدو مخبًرا ،وساق الذراري والنعام والموال ،ولم يفقد
المسلمون في البحر شيًئا إل عليقة فرس لرجل من المسلمين،
ومع هذا رجع العلء بها ثم قسم غنائم المسلمين فيهم فأصاب
الفارس ستة آلف والراجل ألفين مع كثرة الجيشين ،وكتب إلى
الصديق فأعلمه بذلك ،فبعث الصديق يشكره على ما صنع ،وقد قال
رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر:
)(3
ألم تر أن الله ذلل بحره
)(4
الوائل دعونا إلى شق البحار فجاءنا
200
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
على الموقف في وجه المسلمين مدة طويلة؛ إذ أن الفرس قد
وكان عدد المرتدين من أمدوا المرتدين بتسعة آلف من المقاتلين،
العرب ثلثة آلف وعدد المسلمين أربعة آلف ) (1وكان للمثنى بن
حارثة دور كبير في إخماد فتنة البحرين والوقوف بقواته بجانب
العلء بن الحضرمي ،وقد سار بجنوده من البحرين شمال ً ووضع يده
على القطيف وهجر حتى بلغ مصب دجلة ،وقضى في سيره هذا
على قوات الفرس وعمالهم ممن أعانوا المرتدين بالبحرين ،وأنه
انضم إلى العلء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين على رأس من
بقي على السلم من أهل هذه النواحي ،ومنه تابع مسيره مع
الساحل شمال ً حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا
النهرين ،فتحدث إليهم وتعاهد معهم ،وعندما سأل الخليفة الصديق
عن المثنى قال له قيس بن عاصم المنقري :هذا رجل غير خامل
مجهول النسب ،ول ذليل العماد ،هذا المثنى بن حارثة)(2
الذكر ول
الشيباني.
وقد أصدر الصديق أمره إلى المثنى بن حارثة أن يتابع دعوته
للعرب في العراق إلى الحق ،وقد اعتبر أن ما قام به المثنى من
قبل ما هو إل الخطوة الولى في تحرير العراق ،وأما الخطوة
الحاسمة فهي توجيه خالد بن الوليد ليتولى قيادة الجيوش السلمية
هناك ).(3
لقد كان أبو بكر الصديق يغتنم الفرص ويستنفد الطاقات،
ويستحث الهمم ليصل من العمال المقدمة إلى أعلى النتائج ،وكان
ويوجهها(4لسحق الطغيان الذي خر الطاقات الكامنة في الرجال يس ّ
عشش في رؤوس زعماء الكفر والطغيان ) .
***
)( فتوح البلدان للبلذري :ص ،242نقل عن )أبو بكر الصديق( لخالد جاسم :ص 2
.44
)( أبو بكر الصديق :ص ،44خالد الجنابي ،نزار الحديثي. 3
201
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الرابع
مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة
ل :التعريف به ومقدمة عنه: أو ً
هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي أبو شامة ،متنبئ
من المعمرين وفي المثال» :أكذب من مسيلمة« .ولد ونشأ
باليمامة في القرية المسماة اليوم بالجبلية بقرب العيينة بوادي
حنيفة في نجد ،وتلقب في الجاهلية بالرحمن وعرف برحمان
اليمامة (1) .وأخذ يطوف في ديار العرب والعجم يتعلم الساليب
التي يستطيع بها استغفال الناس واستجرارهم لجانبه ،كجبل السدنة
واء وأصحاب الرجز والخط ومذاهب الكهان والعياف والسحرة والح ّ
وأصحاب الجن الذين يزعمون أن له تابعات إلى غيرها من
الخزعبلت ،ومن هذه الشعوذات أنه كان يصل جناح الطائر
في(2الظاهر ويدخل البيضة)
المقصوص
في القارورة.
وكان مسيلمة يدعي النبوة ورسول الله بمكة ،وكان يبعث بأناس
مسامعه ،فينسج على منواله أو إليها ليسمعوا القرآن ويقرؤوه على
ما أنه كلمه ) ،(3وفي العام التاسع
يسمعه هو نفسه للناس زاع ً
للهجرة الذي عم فيه السلم ربوع الجزيرة العربية أقبل وفد بني
حنيفة على مدينة الرسول × يعلنون إسلمهم ،وكان مسيلمة معهم.
فقد ذكر ابن إسحاق :إن مسيلمة كان ضمن المجموعة التي قابلت
الرسول × ،ومن وفد بنى حنيفة جاءوا به يسترونه بالثياب ،فلما
قابله كلمه ،وكان مع رسول الله × عسيب من سعف النخل فقال
)(4
له،
رسول الله ×» :لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه«.
ويبدو أنه سأله الشركة في النبوة أو الخلفة من بعده.
وفي رواية :إن مسيلمة لم يكن في الوفد الذي قابل رسول الله
×؛ لنه تخلف يحرس رحال القوم ،فلما قسم × العطيات أخرج له
لهم» :إنه ليس بشركم مكاًنا« ،وذلك )(5
نصيًبا مثل أنصبائهم ،وقال
لقيامه على حراسة متاعهم.
صا مريًبا مما
وفي الرواية الولى يبدو مسيلمة الكذاب شخ ً
استدعى ستره بهذه الثياب ،وكأنه يخفي في نفسه وتقاطيع وجهه
ل ،وقد كان الرجل كذلك في حياته وفي قوله ×» :ليس شيًئا مدخو ً
بشركم« ل تعني أنه خيرهم بل قد تعني أنهم أشرار وليس هو بأكثر
شّرا منهم بل هو شرير مثلهم ،والحقيقة التي كشفتها اليام أن بني
حنيفة كان جلهم أشرار ،وكان هو الذي يتولى كبر هذا الشر فيهم.
حروب الردة وبناء الدولة ،أحمد سعيد :ص .123الزركلي.2/125 : )( 1
البدء والتاريخ 5/160 :للمقدسي ،نقل عن حركة الردة :ص .71 )( 3
202
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-1رجوع وفد بني حنيفة:
ولما رجع وفد بني حنيفة إلى اليمامة حيث ديارهم ادعى
مسيلمة النبوة ،وأعلن شركته لرسول الله × فيها اعتماًدا على قوله
×» :إنه ليس بشركم« ،وطفق يتنبأ لقومه ويسجع ويحلل ويحرم
كما يشتهي ،فكان مما زعم أنه قرآن يأتيه :لقد أنعم الله على
الحبلى ،أخرج منها نسمة تسعى ،من بين صفاق وحشى) ,(1فمنهم
الثرى ،ومنهم من يبقى إلى أجل مسمى، من يموت ويدس إلى
والله يعلم السر وأخفى ).(2
ومما قاله مسيلمة :يا ضفدع بنت ضفدعين ،نقي ما تنقين،
في(3الماء وأسفلك في الطين ،ل الشارب تمنعين ،ول الماء أعلك
تكدرين ) .وقد حاول مسيلمة الكذاب أن يسرق أساليب القرآن مع
إحالة معانيه بحيث تخرج شوهاء ممسوخة ،مثل قوله :فسبحان الله
إذا جاء الحياة كيف تحيون؟ وإلى ملك السماء ترقون ،فلو أنها حبة
خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور ،ولكثر الناس فيها ثبور.
) (4لقد كان هذا الهراء غير خاف على أحد بمن فيهم هم أنفسهم
قبل غيرهم .وقد ذكر ابن كثير أن عمرو بن العاص –قبل إسلمه-
قابل مسيلمة الكذاب فسأله هذا ماذا أنزل على محمد من القرآن؟
فقال له عمرو :إن الله أنزل عليه سورة العصر ،فقال مسيلمة :وقد
مثلها ،وهو قوله :يا وبر يا وبر ،إنما أنت أذنان وصدر، ي
أنزل الله عل ّ
وسائر حفر نقر ((65)) .فقال له عمرو بن العاص :والله إنك تعلم أني
أعلم أنك تكذب .وعلق ابن كثير -رحمه الله -على قول عمرو هذا
من قرآن مسيلمة المزعوم :فأراد مسيلمة أن يركب من هذا
يعارض به القرآن فلم يرج ذلك على عابد الوثان في الهذيان ما
ذلك الزمان ).(7
وقال أبو بكر الباقلني -رحمه الله :-فأما كلم مسيلمة الكذاب
وما زعم أنه قرآن فهو أخس من أن ننشغل به وأسخف من أن نفكر
فإنه(8على
)
فيه ،وإنما نقلنا منه طرًفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر،
سخافته قد أضل ،وعلى ركاكته قد أزل وميدان الجهل واسع.
-2كتاب مسيلمة إلى رسول الله × والجواب عنه:
وفي العام العاشر للهجرة عندما أصيب رسول الله × بمرض
موته ،تجرأ الخبيث فكتب رسالة إلى رسول الله × يزعم لنفسه
فيها الشركة معه في النبوة كتبها له عمرو بن الجارود الحنفي،
وبعثها إليه مع عبادة بن الحارث الحنفي المعروف بابن النواحة هذا
نصها :من مسيلمة رسول الله )كذب( إلى محمد رسول الله :أما
شا ل ينصفون. بعد ،فإن لنا نصف الرض ولقريش نصفها ولكن قري ً
) (9فرد عليه رسول الله × برسالة كتبها له أبي بن كعب نصها:
حركة الردة للعتوم.73 : )( 1
تفسير ابن كثير ،4/547 :ط الحلبي (2) .المصدر السابق.4/547 : )( 6
7
إعجاز القرآن ،تحقيق سيد صقر :ص (4) .156تاريخ الطبري.386 /3 : )( 8
9
203
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
»بسم الله الرحمن الرحيم ،من محمد النبي إلى مسيلمة الكذاب.
من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أما بعد ،فإن الرض لله يورثها
والسلم على من اتبع الهدى« (1).وكان مسيلمة قد بعث برسالة إلى
الرسول × مع رجلين أحدهما ابن النواحة المذكور ،فلما اطلع عليها
كما(2قال،
)
رسول الله × قال لهما :وماذا تقولن أنتما؟ فقال :نقول
فقال × :أما والله لول أن الرسل ل تقتل لضربت أعناقكم.
-3موقف حبيب بن زيد النصاري حامل رسالة رسول الله
إلى مسيلمة:
حمل حبيب بن زيد النصاري ابن أم عمارة نسيبة بنت كعب
المازنية -رضي الله عنهما -رسالة رسول الله × إلى مسيلمة
الكذاب ،فعندما سلمه الرسالة قال له مسيلمة الكذاب :أتشهد أن
دا رسول الله ،فيقول :نعم ،فيقول له :أو تشهد أني رسول محم ً
الله؟ فيقول :أنا أصم ل أسمع ،ففعل ذلك مراًرا وكان في كل مرة
وا ويبقي عضو ل يجيبه فيها حبيب إلى طلبه يقتطع من جسمه عض ً
)(3
حبيب محتسًبا صابًرا إلى أن قطعه إرًبا إربا فاستشهد بين يديه.
ولننظر إلى رسول الله × كيف كانت سيرته ،فل يقتل الرسل ولو
كانوا من قبل أعدائه اللداء الكفار ،وحتى ولو كفروا أمامه وما دام
لهم هذه الحصانة .أما مسيلمة فيتعامى عن العهود والمواثيق فيقتل
ف .إنه الفارق بين السفراء ل قتل ً عادّيا بل قتل تشويه وتمثيل وتش ٍ
السلم الذي يحترم الكلمة ويحترم النسان ويخاصم بشرف
ورجولة (،وبين الجاهلية التي ل تعرف إل الفساد في الرض وتحكيم)4
الهوى.
-4الّرجال بن عنفوة الحنفي:
استفحل أمر مسيلمة الكذاب في بني حنيفة ،ويبدو أنهم كانوا
على استعداد للتجاوب مع زيفه وخداعه ،وافتتن به الرجال بن
عنفوة الذي هاجر إلى النبي × وأسلم وقرأ القرآن وحفظ بعض
سوره ،كان قد بعثه رسول الله × إلى مسيلمة ليخذل عنه التباع،
وليوضح جلية المر للناس في هذه الفتنة الغاشية ،فما كان منه
عندما وصل إليه إل أن انقلب على وجهه وأخذ يشهد لمسيلمة أمام
في(5النبوة ،فكان هذا الشقي أشد الناس أن رسول الله أشركه معه
فتنة على الناس من مسيلمة نفسه ) .
وقد ألمح رسول الله × في حياته إلى سوء منقلب الرجال ،فقد
روى أبو هريرة قال :جلست مع النبي × في رهط معنا الرجال
بن عنفوة فقال» :إن فيكم لرجل ً ضرسه في النار أعظم
من أحد« .فهلك القوم وبقيت أنا والرجال فكنت متخوًفا لها ،حتى
مسيلمة(6،فشهد له بالنبوة ،فكانت فتنة الرجال خرج الرجال مع
أعظم من فتنة مسيلمة ) .
) (2حركة الردة للعتوم :ص .74 أسد الغابة ،رقم الترجمة.1049 : )( 3
4
) (4تاريخ الطبري.6/106 : نفس المصدر السابق :ص .75 )( 5
6
204
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)( وجدتها في كتاب »الثابتون على السلم« للدكتور مهدي رزق الله. 1
إسلمه.
)( الثابتون على السلم :ص .52 4
205
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
ول لك في الرض مسلك فما لك من مصعد في
السماء
وقد جاء في رواية :دور ثمامة في حرب مسيلمة ،ومساعدة
جهل له عكرمة بن أبي
في هذه المهمة ).(2
وقد ساهم ثمامة بن أثال في مساعدة العلء بن الخضرمي في
حربه للمرتدين بالبحرين ،وكان معه مسلمو بني حنيفة من بني
وكان( ثمامة من أهل سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفة،
البلء في قتال المرتدين مع العلء بن الحضرمي ). 3
وممن ثبت على السلم في اليمامة معمر بن كلب الرماني؛ فقد
وعظ مسيلمة وبنى حنيفة الذين تابعوه ونهاهم عن الردة ،وكان جاًرا
لثمامة بن أثال وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد ،ومن سادات
اليمامة الذين كانوا يكتمون إسلمهم :ابن عمرو اليشكري الذي كان من
را ًفشا في اليمامة وأنشده الناس،
أصدقاء الرجال بن عنفوة ،وقال شع
ومن هذا الشعر قوله:
جال على الهدى أمثالي م رِ َ إن ديني دين النبي وفي القو
ورجال ليسوا لنا برجال أهلك القوم محكم بن طفيل
الله حنيفا فإنني ل أبالي إن تكن ميت َِتي على فطرة
فبلغ ذلك مسيلمة ومحكمًا وأشراف أهل اليمامة فطلبوه ،ولكنه
ولحق بخالد بن الوليد ،وأخبره بحال أهل اليمامة ودله على
)(4
فاتهم
وممن ثبت على السلم في اليمامة أيضا :عامر بن . عوراتهم
مسلمة ورهطه ).(5
ولقد أكرم أبو بكر الثابتين على السلم من بني حنيفة،
وذلك في أشخاص ذوي قرابتهم ،ومن ذلك تبعيته لمطرف بن
النعمان بن مسلمة ابن أخي كل
من ثمامة بن أثال وعامر بن مسلمة الذين كان لهما ثبات في
فتنة الردة ،عينه
وال ً يا على اليمامة ).(6
ثالًثا :تحرك خالد بن الوليد بجيشه إلى مسيلمة الكذاب
باليمامة:
دا إذا فرغ من أسد وغطفان ومالك كان أبو بكر قد أمر خال ً
بن نويرة أن يقصد اليمامة وأكد عليه في ذلك ،قال شريك الفزاري
) :(7كنت ممن حضر بزاخة فجئت أبا بكر فأمرني بالمسير إلى خالد
الثابتون على السلم :ص .53 )( 1
) (2الثابتون على السلم :ص .54 البداية والنهاية.6/361 : )( 2
3
) (5نفس المصدر السابق :ص .58 الثابتون على السلم :ص .57 )( 5
6
شريك بن عبدة :صحابي قام بالمراسلة الحربية بين الصديق وخالد. )( 7
206
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وكتب معي إليه :أما بعد ،فقد جاءني في كتابك مع رسولك تذكر ما
أظفرك الله بأهل بزاخة وما فعلت بأسد وغطفان وأنك سائر إلى
اليمامة ،وذلك عهدي إليك ،فاتق الله وحده ل شريك له ،وعليك
بالرفق بمن معك من المسلمين ،كن لهم كالوالد ،وإياك يا خالد بن
الوليد ونخوة بني المغيرة؛ فإني قد عصيت فيك من لم أعصه في
شيء قط ،فانظر إلى بني حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله فإنك لم
ما يشبهون بني حنيفة كلهم عليك ولهم بلد واسعة ،فإذا تلق قو ً
قدمت(1فباشر المر بنفسك واجعل على ميمنتك رجل ً وعلى ميسرتك
ل ،واستشر من معك من الكابر من رجل ً ) ،واجعل على خيلك رج ً
أصحاب رسول الله × من المهاجرين والنصار ،واعرف لهم فضلهم،
فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم فالقهم -إن شاء الله -وقد
أعددت للمور أقرانها ،فالسهم للسهم والرمح للرمح والسيف
للسيف وأحمل أسيرهم على السيف ) ،(2وهول فيهم القتل واحرقهم
بالنار،
وإياك أن تخالف أمري والسلم عليك (3) .فلما انتهى الكتاب إلى
قال: خالد وقرأه
سمًعا وطاعة).(4
سار خالد إلى قتال بني حنيفة باليمامة وعبى معه المسلمين،
وكان على النصار ثابت بن قيس بن شماس ،فسار ل يمر بأحد من
فا مجهًزا بأحدث سلح المرتدين إل نكل به ،وسير الصديق جيشا كثي ً
ليحمي ظهر خالد حتى ل يوقع به أحد من خلفه ،وكان خالد في
طريقه إلى اليمامة قد لقي أحياء من العراب قد ارتدت ،فغزاها
وردها إلى السلم ،ولقي مؤخرة جيش سجاح ففتك به ونكبه ،ثم
زحف إلى اليمامة ).(5
)(6
ولما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له :عقرباء
في طرف اليمامة ،وندب الناس وحثهم على لقاء خالد ،فأتاه أهل
اليمامة وجعل على مجنبتي جيشه :المحكم بن الطفيل ،والرجال بن
عنفوة »شاهد زور«.
والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل فتقدم وقد جعل على مقدمة
الجيش شرحبيل بن حسنة وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب وأبا
حذيفة بن عتبة بن ربيعة ).(7
أ -مجاعة بن مرارة الحنفي يقع في أسر المسلمين:
سامرت مقدمة جيش خالد بنحو من أربعين وقيل ستين فار ً
عليهم مجاعة بين مرارة الحنفي ،وكان قد ذهب لخذ ثأر له في بني
تميم وبني عامر ،وفي طريق عودته إلى قومه أسرهم المسلمون،
) (2،حروب الردة ،شوقي أبو خليل :ص .78 1
2
)( مجموعة الوثائق السياسية :ص .349 ،348حروب الردة ،أبو خليل :ص .79 3
)( حروب الردة ،د .شوقي أبو خليل :ص .79 4
)( حروب الردة ،د .شوفي أبو خليل :ص .80 6
)( حروب الردة ،د /شوفي أبو خليل :ص .80 7
207
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فلما جيء بهم إلى خالد قال لهم(1):ماذا تقولون يا بني حنيفة؟ قالوا:
نقول منا نبي ومنكم نبي فقتلهم ،وفي رواية :سألهم خالد :متى
شعرتم بنا؟ قالوا :ما شعرنا بك ،إنما خرجنا لنثأر فيمن حولنا من
بني عامر وتميم .فلم يصدقهم خالد بل حسبهم جواسيس عليه
لمسيلمة الكذاب ،فأمر بقتلهم جميًعا فقالوا له :إن ترد بأهل اليمامة
فاستبق هذا وأشار إلى رئيسهم مجاعة ،فاستبقى دا شًرا أو خيًراغ ً
مجاعة وقتل الخرين ).(2
عا ،فكان فا مطا ً دا في بني حنيفة شري ً وكان مجاعة بن مرارة سي ً
خالد كلما نزل منزل ً واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه ،فقال
له ذات يوم :أخبرني عن صاحبك –يعني مسيلمة -ما الذي يقرأكم؟
هل تحفظ منه شيئا؟ قال :نعم ،فذكر له شيًئا من رجزه ،فقال خالد
وضرب بإحدى يديه على الخرى وقال :يا معشر المسلمين ،اسمعوا
إلى عدو الله كيف يعارض القرآن ،ثم قال :ويحك يا مجاعة ،أراك
دا عاقل ً اسمع إلى كتاب الله عز وجل ،ثم انظر كيف رجل ً سي ً
عَلى"، ك ال ْم َرب ّ َ س
ْ َ ا ح بس
َ ّ ِ + خالد: عليه فقرأ الله، عدو عارضه
فقال مجاعة :أما إن رجل ً من أهل البحرين كان يكتب ،أدناه مسيلمة
وقربه حتى لم يكن يعد له في القرب عنده أحد ،فكان يخرج إلينا
فيقول :ويحكم يا أهل اليمامة ،صاحبكم والله كذاب وما أظنكم
تتهموني عليه ،إنكم لترون منزلتي عنده وحالي ،ووالله يكذبكم
وبايعكم على الباطل ،قال خالد :فما فعل ذلك البحراني؟ قال :هرب
منه ،كان ل يزال يقول هذا القول حتى بلغه ،فخافه على نفسه
فهرب فلحق بالبحرين ،قال خالد :هات ،زدنا من كذب الخبيث ،فقال
قا وكنتم مجاعة بعض رجز مسيلمة ،فقال خالد :وهذا كان عندكم ح ً
دا أكثر من تصدقونه؟ قال مجاعة :لو لم يكن عندنا حق لما لقيتك غ ً
خالد :إًذا قال عشرة آلف سيف يضاربونك فيه حتى يموت العجل،
يكفيناكم الله ويعز دينه ،ففي سبيله يقاتلون ودينه يريدون (3) .فهذا
رد يدل على عظمة إيمان خالد وثقته بالله ،فقد كان إيمانه بالله
وثقته المطلقة في نصر الله لدينه هما اللذين فجرا في شخصيته
كنوز المواهب الحربية وفنون المهارات القيادية ،لقد قاتل يوم بزاخة
بسيفين حتى قطعهما ،فقد كان يمل اليمان قلبه ويعتز بالله وحده،
وكان ذلك كفيل ً بإسقاط هيبة عدوه من نفسه وغرس هيبته في قلب
الطريق لحراز النصر الحاسم عليه وإلحاق عدوه ،وذلك أول
الهزيمة الساحقة به ).(4
ب -شن الحرب النفسية قبل المعركة:
وضع خالد بن الوليد خطته على أساس استخدام الحرب النفسية
قا لمحكم بن طفيل ثم تحكيم السيف ،فبعث زياد بن لبيد وكان صدي ً
سيد أهل اليمامة بقصد أن يكسبه إلى
جانبه ،فقال خالد لزياد :لو لقيت إلى محكم شيئا تكسره به ،فكتب
زياد إليه أبياتا من
البداية والنهاية.6/328 : )( 1
تاريخ الطبري ،4/106 :الصديق أول الخلفاء :ص .105 )( 2
208
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الشعر جاء فيها:
إن جالت الخيل فيها بالقنا ويل اليمامة ويل ً ل فراق له
الصادي
حتى تكونوا كأهل الحجر أو والله ل تنثني عنكم أعنتها
عاد
واتجه خالد كذلك إلى عمير بن صالح اليشكري وكان قد أسلم
وكتم إسلمه على قومه ،وكان قوي العقيدة راسخ اليمان ،وقال له:
تقدم إلى قومك ،فأتاهم وقال :أظلكم خالد في المهاجرين والنصار،
إني رأيت قومًا إن غالبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر ،وإن غلبتموهم
بالعدد غلبوكم بالمدد ،ولستم والقوم سواء .السلم مقبل والشرك
مدبر ،وصاحبهم نبي وصاحبكم كذاب ،ومعهم السرور ومعكم
في غمده والنبل في جفيره ،قبل أن يسل )(1
الغرور ،فالن والسيف
السيف ويرمى بالسهم.
ثم باشر خالد المهمة مع ثمامة بن أثال الحنفي ،فمشى إلى
قومه يدعوهم إلى الستسلم ،ويحطم عندهم روح القتال» :إنه ل
دا × ل نبي بعده ول نبي مرسل يجتمع نبيان بأمر واحد ،إن محم ً
لقد(2بعث إليكم )يقصد أبا بكر( معه سيوف كثيرة ،فانظروا في معه،
أمركم ) .واهتم خالد بتدبير الخطط المحكمة ،وكان ل يستخف
بعدوه ،وكان في ميدان المعركة على أهبة وحذر دائمين مخافة أن
يفجأه عدوه بغارة غادرة والتفاف مكر ،وقد وصف بأنه :كان ل
)(3
ينام ول يبيت إل على تعبية ،ول يخفى عليه من أمر عدوه شيء.
وفي محاربته لمسيلمة -قبل معركة عقرباء -جعل طليعته مكنف بن
زيد الخيل وأخاه حريًثا لجمع المعلومات اللزمة للمعركة ،وقد حان
ترتيب أمور جيشه فالموقف شديد الخطورة ،ول بد من أخذ
هذه المعركة عبد الله الترتيبات اللزمة؛ فقد كان حامل الراية في
بن حفص بن غانم ،ومن ثم تحولت إلى سالم ) (4مولى أبي حذيفة.
ومعلوم أن الناس براياتهم كما قالت العرب فإذا زالت زالوا ،وقد
قدم خالد في هذه المعركة شرحبيل بن حسنة ،وقسم الجيش
سا؛ على المقدمة خالد المخزومي ،وعلى الميمنة أبو حذيفة، أخما ً
وعلى الميسرة شجاع ،وفي القلب زيد ابن الخطاب ،وجعل أسامة
على الخيالة ووضع الظعن في المؤخرة وفيها الخيام بن زيد
والنساء) ،(5وهذا الترتيب الخير قبل المعركة.
رابًعا :المعركة الفاصلة:
ولما تواجه الجيشان قال مسيلمة لتباعه وقومه قبيل المعركة
سبيات الفاصلة :اليوم يوم الغيرة ،اليوم إن هزمتم تستنكح النساء
وينكحن غير حطيات ،فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم ).(6
)( الحرب النفسية ،أحمد نوفل :ص .145 ،144 1
)( الحرب النفسية ،د :أحمد نوفل .2/145 :فن إدارة المعركة ،محمد فرج: 2
.140 -138
)( حركة الردة للعتوم :ص .199 3
209
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على وتقدم خالد
اليمامة فضرب به عسكره ،واصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة
وانهزمت العراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد ،وهموا
بقتل أم تميم حتى أجارها مجاعة ،وقال :نعمت الحرة هذه ،وقد قتل
جال ّ بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة قتله زيد بن الخطاب ،ثم الّر
تذامر الصحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس :لبئس ما عودتم
أقرانكم ونادوا من كل جانب :أخلصنا يا خالد ،فخلصت ثلة من
المهاجرين والنصار وحمى وقاتلت بنو حنيفة قتال ًلم يعهد مثله ،وجعلت
الصحابة يتواصون بينهم ويقولون :يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر
اليوم ،وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الرض إلى أنصاف ساقيه وهو
حامل لواء النصار بعدما تحنط وتكفن ،فلم يزل ثابتا ً حتى قتل هناك.
وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة :أتخشى أن تؤتى من قبلك؟
ذا ً .وقال زيد بن الخطاب :أيها الناسفقال :بئس حامل القرآن أنا إ
ما .وقال :والله لعضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قد ً
دا .أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي ،فقتل شهي ً
وقال أبو حذيفة :يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال ،وحمل فيهم حتى
أبعدهم ،وأصيب ،وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لقتال
مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله ،ثم رجع ثم وقف بين
الصفين ودعا البراز ،وقال :أنا ابن الوليد العود ،أنا ابن عامر وزيد ،ثم
نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ :يا محمداه ،وجعل ل يبرز
له أحد إل قتله ول يدنو منه شيء إل أكله ،وقد ميز خالد المهاجرين من
النصار من العراب ،وكل بنى أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف
را لم يعهدالناس من أين يؤتون ،وصبر الصحابة في هذه المواطن صب ً
مثله ،ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم وولى
الكفار الدبار واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في
رقابهم حيث شاءوا ،حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت ،وقد أشار عليهم
محكم اليمامة -وهو محكم بن الطفيل لعنه الله -بدخولها فدخلوها وفيها
عدو الله مسيلمة لعنه الله ،وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن
يخطب فقتله ،وأغلقت بنو حنيفة )(1
الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو
الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة.
سا :بطولت نادرة. خام ً
-1قال البراء بن مالك:
معشر المسلمين ،ألقوني عليهم في الحديقة ،فاحتملوه فوق يا
الجحف ) ،(2ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم ،فلم يزل يقاتلهم
دون بابها حتى فتحه ،ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي
وحوصر المرتدون
)(3
فتحه البراء ،وفتح الذين دخلوا البواب الخرى
وأدركوا أنها القاضية ،وأن الحق جاء وزهق باطلهم.
-2مصرع مسيلمة الكذاب:
وخلص المسلمون إلى مسيلمة لعنه الله ،وإذا هو واقف في ثلمة
) (2الجحف :المراد بها التروس. )( البداية والنهاية.6/329 : 1
2
210
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
جدار كأنه جمل أورق ،وهو يريد يتساند ل يعقل من الغيظ ،وكان إذا
اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه ،فتقدم إليه وحشي
بن حرب مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه،
وخرجت من الجانب الخر وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة
فضربه بالسيف فسقط ،فنادت امرأة من القصر :وا أمير الوضاءة
قتله العبد السود ،فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة
قري ًمن عشرة آلف مقاتل ،وقيل :إحدى وعشرون ألًفا ،وقتل من با
المسلمين ستمائة وقيل :خمسمائة فالله أعلم ،وفيهم من سادات
الصحابة وأعيان الناس من يذكر بعد ،وخرج خالد وتبعه مجاعة بن
مرارة يرسف في قيوده ،فجعل يريه القتلى ليعرفه بمسيلمة ،فلما
مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد :أهذا هو؟ قال :ل والله هذا خير
منه ،هذا الرجال بن عنفوة ،ثم مروا برجل أصفر أخنس فقال :هذا
صاحبكم ،فقال خالد :قبحكم الله على اتباعكم هذا ،ثم بعث خالد
)(1
الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي.
-3أبو عقيل :عبد الرحمن بن عبد الله البلوي النصاري
الوسي:
كان أبو عقيل من أول من جرح يوم اليمامةُ ،رمي بسهم
فوقع بين منكبيه وفؤاده فجرح في غير مقتل ،فأخرج السهم
ووهن شقه اليسر ،فأخذ إلى معسكر المسلمين ،فلما حمي
القتال وتراجع المسلمون إلى رحالهم ومعسكرهم ،وأبو عقيل
واهن من جرحه ،سمع معن بن عدي يصيح :يا للنصار ،الله الله
والكرة على عدوكم .وتقدم معن القوم ونهض أبو عقيل يريد
قومه ،فقال له بعض المسلمين :يا أبا عقيل ما فيك قتال ،قال:
قد نوه المنادي باسمي ،فقيل له :إنما يقول يا للنصار ل يعني
وا،
الجرحى ،فقال أبو عقيل :فأنا من النصار وأنا أجيب ولو حب ً
فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجردا ،ثم جعل ينادي:
يا للنصار كثرة كيوم حنين ,فاجتمعوا جمي ًعا وتقدموا بروح معنوية
عالية يطلبون الشهادة أو النصر حتى أقحموا عدوهم الحديقة،
وفي هذا الهجوم قطعت يد أبي عقيل من المنكب ،ووجدت به
أربعة عشر جر ً حا كلها قد خلصت إلى مقتل ،ومر ابن عمر بأبي
عقيل وهو صريع بآخر رمق فقال :يا أبا عقيل ،فقال :لبيك بلسان
ثقيل ،ثم قال :لمن الدبرة فقال ابن عمر :أبشر ،قد قتل عدو
الله ،فرفع أبو عقيل إصبعه إلى السماء بحمد الله ،قال عنه عمر
الله ،ما زال ينال الشهادة ويطلبها ،وإنه لمن خير
)(2
: رحمه
أصحاب نبينا.
-4نسيبة بنت كعب المازنية النصارية:
خرجت في جيوش خالد الذاهبة لليمامة وباشرت القتال بنفسها،
قتل دجال بني حنيفة ،وبرت وأقسمت أن ل تضع السلح حتى ي ُ ْ
بفضل الله بقسمها وقتل مسيلمة ورجعت إلى المدينة وبها اثنا عشر
حا ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ،وكلها أوسمة شرف لهذه جر ً
)( البداية والنهاية.6/330 : 1
)( حروب الردة :ص ،94 ،93شوقي أبو خليل ،نقل عن الكتفاء.2/13 : 2
211
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
.190 2
212
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
.(1)
-3معن بن عدي البلوي:
دا والخندق وسائر المشاهد ،وكان قد آخى شهد العقبة وبدًرا وأح ً
رسول الله × بينه وبين زيد بن الخطاب فقتل جميًعا يوم اليمامة
رضي الله عنهما .وكان لمعن بن عدي موقف متميز عند وفاة
رسول الله × ،فعندما بكى الناس على رسول الله × حين مات،
وقالوا :والله وددنا أّنا متنا قبله ونخشى أن نفتتن بعده ،فقال معن
لكني والله ما أحب أن أموت قبله ،لصدقه ميًتا كما
)(2
بن عدي:
صدقته حًيا.
-4عبد الله بن سهيل بن عمرو:
أسلم قدي ً ما وهاجر ثم استضعف بمكة ،فلما كان يوم بدر
خرج معهم ،فلما تواجهوا فر إلى المسلمين فشهدها معهم ،وقتل
يوم اليمامة ،فلما حج أبو بكر عزى أباه فيه ،فقال سهيل :بلغني
قال » (:يشفع الشهيد لسبعين من أهله«. أن رسول الله ×
) (3فأرجو أن يبدأ بي ) ، 4وقد كان لسهيل بن عمرو موقف
عظيم بمكة حين توفي رسول الله × ،فقد ه ّم أكثر أهل مكة
بالرجوع عن السلم ،وأرادوا ذلك حتى خافهم والي مكة عتاب
بن أسيد ،فتوارى ،فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه،
ثم ذكر وفاة رسول الله × وقال :إن ذلك لم يزد السلم إل قوة،
فمن رابنا ضربنا عنقه ،فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ،فظهر
عتاب بن أسيد .فهذا المقام الذي أراد رسول الله × في قوله
لعمر بن الخطاب -يعني حين أشار بقلع ثنيته حين وقع في
)(5الساري يوم بدر » :-إنه عسى أن يقوم مقا ًما ل تذم ّنه«
.
-5أبو دجانة سماك بن خرشة:
كانت عليه يوم بدر عصابة حمراء ،قيل :آخى النبي × بينه وبين
عتبة بن غزوان .وثبت أبو دجانة يوم أحد مع النبي × وبايعه على
الموت ،وهو ممن اشترك في قتل مسيلمة وقُِتل يومئذ .وقال زيد
بن أسلمُ :دخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل ،فقيل
له :ما لوجهك يتهلل؟ فقال :ما لي من عملي شيء أوثق عندي من
كنت ل أتكلم فيما ل يعنيني ،والخرى فكان قلبي للمسلمين )(6
اثنتين:
ما.
سلي ً
وكان أبو دجانة يوم اليمامة من أبطال المسلمين ،فقد رمى
بنفسه إلى داخل الحديقة فانكسرت رجله فقاتل وهو مكسور الرجل
سنن أبي داود ،في الجهاد ،باب الشهيد يشفع ،رقم.2522 : )( 3
ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ،خلفة أبي بكر :ص .82 )( 5
213
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
حتى قتل ).(1
-6عّباد بن بشر:
من فضلء الصحابة ،عاش خم ًسا وأربعين سنة ،وهو الذي
عصاه ليلة حين انقلب إلى منزله ،وكان قد سمر عند )(2
أضاءت
أسلم( عباد على يد مصعب بن عمير وكان فيمن قتل النبي ×.
كعب بن الشرف ) ، 3واستعمله النبي × على صدقات مزينة
وبني سليم وعلى حرسه بتبوك .وأبلى يوم اليمامة بلء حسًنا
وكان من الشجعان ،وعن عائشة قالت :ثلثة من النصار لم يكن
أحد يعتد عليهم فض ًل كلهم من بني عبد الشهل :سعد بن معاذ،
وأسيد بن حضير ،وعباد بن بشر .وعن عائشة قالت :ته ّجد رسول
»يا
)(4
الله × في بيتي فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال:
عائشة ،هذا صوت عباد؟« قلت :نعم ،قال» :اللهم ارحم عباًدا«.
وقد استشهد باليمامة.
ويحدثنا أبو سعيد الخدري عنه حيث قال :سمعته يقول حين
لي(5ثم)
فرغنا من بزاخة :يا أبا سعيد ،رأيت الليلة كأن السماء فرجت
أطبقت علي فهي إن شاء الله الشهادة ،قلت :خيًرا والله رأيت.
وقد كان له يوم اليمامة مواقف مشهودة ،فقد وقف على نشز
مرتفع من الرض ،ثم صاح بأعلى صوته :أنا عباد بن بشر ،يا للنصار
ي ،فأقبلوا إليه جميًعا وأجابوه :لبيك لبيك ،ثم ي أل إل ّيا للنصار ،أل إل ّ
حطم جفن سيفه فألقاه وحطمت النصار جفون سيوفهم ،ثم قال
ساقوا بني حنيفة منهزمين حتى جملة صادقة :اتبعوني ،فخرج حتى
انتهوا بهم إلى الحديقة فأغلق عليهم (6).ولما تمكن المسلمون من
اقتحام باب الحديقة ،ألقى درعه على بابها ،ثم دخل بالسيف صلتا
وأربعين( سنة ،ولم دا باليمامة وهو ابن خمس يجالدهم حتى قتل شهي ً
يعرف إل بعلمة في جسده لكثرة ما فيه من الجراح 7).وقد
اشتهرت مواقف عباد بن بشر في اليمامة حتى أصبحت مضرب
الجراح
)(9
المثل (8).وبقيت بنو حنيفة تذكر عباد بن بشر ،فإذا رأت
بالرجل منهم تقول :هذا ضرب مجرب القوم عباد بن بشر.
لقد كان للنصار مواقف عظيمة وإقدام منقطع النظير في
صا باليمامة ،وقد شهد للنصار بالقدام والصبر حروب الردة وخصو ً
في ذلك اليوم مجاعة بن مرارة الحنفي عند الخليفة أبو بكر ،فقال:
يا خليفة رسول الله :لم أَر قط أصبر لوقع السيوف ول أصدق كرة
من النصار؛ فلقد رأيتني وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى
بني حنيفة ،وإني لنظر إلى النصار وهم صرعى ،فبكى أبو بكر حتى
نفس المصدر السابق :ص .71 )( 1
214
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(1
ب ّ
ل حليته.
-7الطفيل بن عمرو الدوسي الزدي:
فا شاعًرا لبيًبا ،وقد رأى الرؤيا قبل
استشهد باليمامة ،وكان شري ً
استشهاده حيث قال :خرجت ومعي ابني عمرو فرأيت كأن رأسي
حلق وخرج من فمي طائر ،وكأن امرأة أدخلتني فرجها فأولتها :حلق
رأسي قطعه ،وأما الطائر فروحي ،وأما المرأة فالرض أدفن فيها،
فاستشهد يوم اليمامة (2).وقد استشهد كثير من المهاجرين والنصار
في هذه المعركة الفاصلة.
وكانت المدينة على الرغم من فرحها بانتصار المسلمين على
المرتدين ما زالت تبكي شهداءها؛ ففي حرب اليمامة وحدها قتل
من المسلمين مائتان وألف ،منهم عدد من كبار الصحابة وفيهم أكثر
حفاظ القرآن؛ نحو أربعين من القراء ،وعصرت الحزان قلب
المدينة ،وغمرت الدموع ابتسامات الفرح بالنصر ،وضاقت الصدور،
وثقلت المحنة على
القلوب بقدر ما أضاء انتصار المسلمين غيابات النفوس ،وقوى من
وغرس الثقة إيمانهم،
في أعماقهم).(3
سابًعا :خدعة مجاعة وزواج خالد من ابنته ورسائل بينه وبين
الصديق:
أ -خدعة مجاعة:
بعد انتصار جيش المسلمين في حديقة الموت ،بعث خالد
الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي ،ثم
عزم على غزو الحصون ،ولم يكن بقي فيها إل النساء والصبيان
والشيوخ الكبار ،فخدعه مجاعة فقال :إنها ملى رجال ً مقاتلة فهلم
فصالحني عنها ،فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد
كلوا من كثرة الحروب والقتال ،فقال :دعني حتى أذهب إليهم
ليوافقوني على الصلح ،فقال :اذهب ،فسار إليهم مجاعة فأمر
النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون ،فنظر خالد
فإذا الشرفات ممتلئة من رؤوس الناس فظنهم كما قال مجاعة،
فانتظر الصلح ودعاهم خالد إلى السلم فأسلموا عن آخرهم ورجعوا
إلى الحق ،ورد ّ عليهم خالد بعض ما كان من السبي وساق الباقين
إلى الصديق ،وقد تسرى علي بن أبي طالب)(4بجارية منهم وهي أم
ابنه محمد الذي يقال له :محمد ابن الحنفية .
وكانت وقعة اليمامة في سنة إحدى وعشرة ،وقال الواقدي
وآخرون :كانت في سنة
ثنتي عشرة ،والجمع بينهما أن ابتداءها في سنة إحدى عشرة
) (2الصديق أول الخلفاء :ص )( عهد الخلفاء الراشدين للذهبي :ص .63 ،62 2
.117 3
) (4،ترتيب وتهذيب البداية والنهاية ،خلفة أبي بكر :ص .115 4
215
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
والفراغ منها)(1في سنة
ثنتي عشرة .
ب -زواجه بابنة مجاعة والرسائل بينه وبين الصديق:
طلب خالد بن الوليد من مجاعة بعدما تم الصلح أن يزوجه
ل ،إنك قاطع ظهرك وظهري معك عند بابنته ،فقال له مجاعة :مه ً
صاحبك .فقال خالد :أيها الرجل زوجني ابنتك ،فزوجه مجاعة ابنته
).(2
وكان الصديق قد أرسل سلمة)(3بن وقش إلى خالد إن أظفره الله
بني (4حنيفة ،فوجده قد أن يقتل من جرت عليه الموسى من
صالحهم وأتم خالد عقده معهم ووفى لهم ) .
وكان الصديق يستروح الخبر من اليمامة ،وينتظر رسول خالد،
ما بالعشي ومعه نفر من المهاجرين والنصار إلى ظهر فخرج يو ً
الحرة فلقي أبا خيثمة النجاري قد أرسله خالد ،فلما رآه أبو بكر قال
له :ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال :خير يا خليفة رسول الله ،قد فتح
الله علينا اليمامة وهذا كتاب خالد ،فسجد الصديق شكًرا لله ،وقال:
أخبرني عن الوقعة كيف كانت؟ فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع
خالد وكيف صف أصحابه ومن استشهد من الصحابة ،وقال أبو
الله(5:أتينا من قبل العراب ،انهزموا بنا خيثمة :يا خليفة رسول
وعودونا ما لم نكن نحسن ) .
ولما علم الصديق بزواج خالد كتب إليه :يا ابن أم خالد إنك لفارغ
تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم
ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك عن قومه وقد أمكن يجف بعد،
الله منهم (6).وإزاء هذا التعنيف الذي وصل إلى خالد من الخليفة
بسبب مصالحته لمجاعة وزواجه بابنته بعث خالد إليه كتاًبا جوابًيا مع
عا يتسم بوضوح الحجة أبي برزة السلمي يدافع فيه عن موقفه دفا ً
وقوة المنطق ) ،(7يقول فيه :أما بعد ،فلعمري ما تزوجت النساء
حتى تم لي السرور وقرت بي الدار ,وما تزوجت إل إلى أمري لو
عملت إليه من المدينة خاطًبا لم أبل ،دع أني استثرت خطبتي إليه
من تحت قدمي ،فإن كنت قد كرهت لي ذلك لدين أو لدنيا أعتبتك،
وأما حسن عزائي عن قتلى المسلمين فو الله لو كان الحزن يبقى
حّيا أو يرد ميًتا لبقي حزني الحي ورد الميت ،ولقد اقتحمت حتى
أيست من الحياة وأيقنت بالموت ،وأما خديعة مجاعة إياي عن رأيي
بالغيب ،وقد صنع الله
)(8
فإني لم أخطئ رأيي يومي ولم يكن لي علم
للمسلمين خيًرا :أورثهم الرض والعاقبة للمتقين.
فلما قدم الكتاب على أبي بكر رق بعض الرقة وقام رهط
1
حروب الردة ،شوقي أبو خليل :ص ،98نقل عن الكتفاء.2/15 : )( 8
216
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
دا وقال أبو برزة :يا من قريش فيهم أبو برزة السلمي فعذروا خال ً
خليفة رسول الله ما يوصف خالد بجبن ول خيانة ،ولقد أقحم في
طلب الشهادة حتى أعذر وصبر حتى ظفر ،وما صالح القوم إل على
رضاه ،وما أخطأ رأيه بصلح القوم إذ هو ل يرى النساء في الحصون
فقال أبو بكر :صدقت لكلمك ،هذا أولي بعذر خالد من إل رجا ً
ل.
)(1
كتابه إلي.
ونلحظ في رسالة خالد إلى أبي بكر بعض النقاط التي دافع بها
عن نفسه والتي تمثلت بما يلي:
-1إنه لم يتزوج إل بعد أن كسب النصر واطمأن به المقام.
-2إنه أصهر إلى رجل من زعماء قومه وأشرافهم.
-3إنه لم يتكلف أدنى مشقة في هذا الصهار.
-4إن هذا الزواج ليس فيه مخالفة دينية أو دنيوية.
-5إن المتناع بسبب الحزن على قتلى المسلمين تصرف غير
مجد؛ لن الحزن ل ي ُْبقي حًيا ول يرد ميًتا.
-6إنه لم يكن يقدم على الجهاد أي أمر آخر ،ولقد أبلى فيه بلء
لم يعد -بسببه -بينه وبين الموت أي حاجز.
دا في تحقيق الخير -7إنه في مصالحته لمجاعة لم يأل جه ً
للمسلمين ،وإذا كان مجاعة لم ينقل له الصورة عن قومه
على حقيقتها ،فعذره أنه إنسان ل يدري من أمر الغيب شيًئا،
وعلى ذلك فالعاقبة كانت في صالح المسلمين؛ إذ استولوا
على أرض بني حنيفة ومن ثم فاءت بقيتهم إلى السلم دون
قتال .وعلى هذا فإن الزواج ببنت مجاعة كان أمًرا طبيعًيا ل
حا أنه كان ناشئا عن إعجابه على خالد فيه بأس ،وليس صحي ً
بمجاعة لغيرته على قومه ،ولذا :أحب أن يصهر إليه ويوثق
بينه( وبينه ,وطاب له أن يعزز صلة الدين بصلة البيت الصلة
دا لم يكن ليقدم والنسب) 2كما يقول العقاد ذلك؛ لن خال ً
الدين أو يجمع إليها في التعامل مع الناس على رابطة
رابطة أخرى ).(3
أما أسلوب الدكتور محمد حسين هيكل في العتذار لخالد فإنه
مرفوض؛ لنه يتنافى مع أحكام السلم ،فقد قال هيكل :ومن تكون
بنت مجاعة في أعياد النصر التي يجب أن تقام لخالد؟! إنها لن تزيد
العبقري الفاتح الذي روى أرض على قربان يطرح على قدمي هذا
اليمامة بالدماء لعلها تطهر من رجسها ).(4
دا الصحابي الكريم وكأنه أخيل أو هكتور فهذه الكلمات تصور خال ً
أو أغاممنون من قادة حرب طروادة الوثنيين ،الذين ل يحارب الواحد
منهم إل إذا أشير إليه بالبنان أو أمطر بالقبلت والتوسلت؛ لنه ل
يحارب إل للزعامة والوجاهة ،أو كأنه أحد أصنام العرب الذين تسفح
)( حروب الردة :ص .98 1
) (3الصديق أبو بكر :ص .157 )( حركة الردة للعتوم :ص .235 3
4
217
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ل ،أو كأنه إله النيل الذي كان على جنباتهم دماء القرابين تقرًبا وتذل ً
يعتقد المصريون أنه لن يفيض عليهم بالخير إل إذا قذفوا في بحره
أجمل بنات مصر ،فحاشا أبا سليمان ثم حاشاه من قبل ومن بعد
من مثل هذه الروح وتلك النفسية ،فخالد مؤمن موحد ل يحارب إل
لعلء كلمة الله ل يبغي عليها جزاء ول شكوًرا من أحد من خلق
الله ،ومرفوض أيضا ما ذهب إليه الجنرال أكرم في تعليله لما وقع
فيه خالد من ملمات من جراء قصص زواجه في حروب الردة ،إذ
يعيدها إلى لياقته البدنية :التي سببت له كثيًرا من المشاكل بين
حسناوات شبه الجزيرة العربية ) (1على حد زعمه ،وكأن خالد تحول
إلى زير نساء أو )دون جوان( ،وهو الذي لم يكن يهوي شيًئا هواه
المور
)(2
الجهاد في سبيل الله ،ولكنها التوجيهات الباطلة التي تفسر
دا عن طبيعة الظروف ومعطيات المبادئ وشواهد الخبار. بعي ً
دا كان يقاتل عن دين ،ويحتسب الجر عند الله تعالى، إن خال ً
يقتحم المعامع بنفسه ،وقد وصف بأنه له أناة القطة ووثوب )(3
وكان
ما بالذي يؤثر نفسه عن جنده؛ بل كانوا يجدونه ً يو كان وما ، السد
أمامهم في كل معترك؛ ففي معركة بزاخة :ضّرس في القتال فجعل
يقحم فرسه ويقولون له :الله الله! فإنك أمير القوم ول ينبغي لك
إني (4لعرف ما تقولون ،ولكن ما رأيتني أصبر أن تقدم ،فيقول :والله
وأخاف هزيمة المسلمين ) .
وفي معركة اليمامة لما اشتد القتال ولم يزد بني حنيفة ما قتل
فا وضراوة ،برز حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى منهم إل عن ً
المبارزة ونادى الناس بشعارهم يومئذ)(5وكان :يا محمداه ،فجعل ل
يبرز له أحد إل قتله ول شيء إل أكله ،فقد كان يرغب في النصر
ويتحرى الشهادة ،ولنترك لخالد يصف لنا جولة من المصارعة بينه
وبين أحد جنود مسيلمة داخل حديقة الموت قال :ولقد رأيتني في
الحديقة وعانقني رجل منهم وأنا فارس وهو فارس ،فوقعنا عن
فرسينا ،ثم تعانقنا بالرض ،فأجؤه بخنجر في سيفي وجعل يجؤني
حا أثبته به بمعول في سيفه ،فجرحني سبع جراحات ،وقد جرحته جر ً
الجراح ،وقد نزفت من الدم إل فاسترخى في يدي وما بي حركة من
أنه سبقني بالجل فالحمد لله على ذلك (6) .وقد شهد خالد لبني
فا فلم أر حنيفة على قوتهم وشدة بأسهم فقال :شهدت عشرين زح ً
ما من بني ما أصبر لوقع السيوف ول أضرب بها ول أثبت أقدا ً قو ً
حركة (7من الجراح ،ولقد أقحمت حتى بي وما اليمامة… يوم جنيفة
أيست من الحياة وتيقنت الموت ) .
ثامًنا :محاولة قتل خالد بن الوليد وقدوم وفد بني حنيفة
للصديق :
)( سيف الله خالد بن الوليد ،ترجمة العميد الركن صبحي الجابي :ص .20 1
218
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عند الطبري :والباغي فناوئوه ،تاريخ الطبري.104 -4/102 : )( 4
تاريخ الطبري) ،4/118 :إل( من إله )البداية والنهاية.(6/331 : )( 5
219
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من
حفاظ القرآن ،وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر بمشورة عمر بن
القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف الخطاب بجمع
ومن صدور الرجال (1).وأسند الصديق هذا العمل العظيم إلى
يروي(2زيد بن ثابت الصحابي الجليل زيد بن ثابت النصاري ،
ي أبو بكر لمقتل أهل اليمامة ) ،فإذا عمر بن فيقول :بعث إل ّ
الخطاب(3عنده ،قال أبو بكر :إن عمر أتاني فقال :إن القتل قد
اليمامة(4بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل )
استحر ) يوم
بالقراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن ،وإني أرى أن
تأمر(5بجمع القرآن ،قلت لعمر :كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
× ) ؟! فقال عمر :هذا والله خير ،فلم يزل عمر يراجعني حتى
شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر ،ورأيت في ذلك الذي
نتهمك )،(6 رأى عمر ،قال زيد :قال أبو بكر :وإنك رجل شاب عاقل ل
وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله × ،فتتبع القرآن فاجمعه (7).قال
بأثقل علي مما زيد :فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان
القرآن(11من العسب ) ،(8واللخاف كلفني به من جمع القرآن ،فتتبعت
) ،(9وصدور الرجال والرقاع ) (10والكتاف ) قال :حتى وجدت آخر
د
ق ْ سورة التوبة مع أبي خزيمة النصاري لم أجدها مع أحد غيره+ :ل َ َ
ص
ري ٌح ِ
م َ
عن ِت ّ ْ
ما َ عل َي ْ ِ
ه َ زيٌز َ
ع ِم َ سك ُ ْ ن أ َن َ ُ
ف ِ م ْل ّسو ٌ م َر ُجا َءَك ُ ْ َ
م" ]التوبة ،[128 :حتى خاتمة براءة، حي ٌف ّر ِ ءو ٌ ن َر ُ مِني َ ْ
مؤ ِ ْ
م ِبال ُعلي ْك ُ ْ
َ
وكانت الصحف عند
عمر حياته حتى توفاه الله ،ثم عند ثم الله، توفاه أبي بكر حياته حتى
عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم ).(12
وعلق البغوي على هذا الحديث فقال :فيه البيان الواضح؛
فالصحابة -رضي الله عنهم -جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله
الله سبحانه وتعالى على رسوله × من غير أن يزيدوا فيه أو ينقصوا
منه شيًئا ،والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث ،وهو أنه كان
مفرًقا في العسب واللخاف وصدور الرجال ،فخافوا ذهاب بعضه
بذهاب حفظته ،ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله ودعوه إلى
جمعه ،فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من
جميعهم ،فكتبوه كما سمعوه من رسول الله من غير أن قدموا شيًئا
أو أخروا ،أو وضعوا له ترتيًبا لم يأخذوه من رسول الله × ،وكان
)( حروب الردة وبناء الدولة السلمية ،أحمد سعيد :ص .145 1
)( أي :في الماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار. 4
)( يحتمل أن يكون × إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من 5
ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلوته ،فلما انقضى نزوله بوفاته × ألهم الله
الخلفاء الراشدين بذلك» .سيرة وحياة الصديق :ص .«120
دا يتقدم على غيره في هذا العمل. )( هذه الصفات جعلت زي ً 6
)( الكتاف :جمع كتف ،وهو العظم الذي للبعير أو الشاة. 11
220
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
رسول الله × يلقي أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على
الترتيب الذي هو الن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه
آية أن هذه الية تكتب عقيب )(1
إياه على ذلك ،وإعلمه عند نزول كل
آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا.
وهكذا يتضح للقارئ الكريم أن من أوليات أبي بكر الصديق :
صوحان- (3رحمه أنه أول من جمع القرآن الكريم .يقول صعصعة بن
الله :-أول من جمع بين اللوحين وورث الكللة ) (2أبو بكر ) .
بن(4أبي طالب :يرحم الله أبا بكر ،هو أول من جمع وقال علي
بين اللوحين ) .
وقد اختار أبو بكر زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة ،وذلك
لنه رأى فيه المقومات الساسية للقيام بها ،وهي:
-1كونه شاًبا؛ حيث كان عمره 21سنة فيكون أنشط لما يطلب
منه.
ل ،فيكون أوعى له؛ إذ من وهبه الله عقل ً -2كونه أكثر تأهي ً
حا فقد يسر له سبيل الخير. راج ً
-3كونه ثقة فليس هو موضًعا للتهمة ،فيكون عمله مقبول ً
وتركن إليه النفس ويطمئن إليه القلب.
-4كونه كاتبا للوحي ،فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا المر
وممارسة عملية له ،فليس غريبا عن هذا العمل ول دخيل ً عليه
).(5
دا لجمع القرآن، هذه الصفات الجليلة جعلت الصديق يرشح زي ً
فكان به جديًرا وبالقيام به خبيًرا.
-5ويضاف لذلك أنه أحد الربعة الذين جمعوا القرآن على عهد
النبي × ،فعن قتادة قال :سألت أنس بن مالك :من جمع
النصار :أبي )(6
القرآن على عهد النبي ×؟ قال :أربعة كلهم من
بن كعب ،ومعاذ بن جبل ،وزيد بن ثابت ،وأبو زيد.
وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان ل يثبت شيًئا
ظا من من القرآن إل إذا كان مكتوبا بين يدي النبي × ومحفو ً
الصحابة ،فكان ل يكتفي بالحفظ دون الكتابة خشية أن يكون في
الحفظ خطأ أو وهم ،وأيضا لم يقبل من أحد شيًئا جاء به إل إذا أتى
معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله
)( الكللة في رأي أبي بكر الصديق :من ل ولد له ول والد ،فقال :رأيت في 2
الكللة رأًيا ،فإن يك صواًبا فمن الله ،وإن يكن خطأ فمن قَِبلي والشيطان،
الكللة ما عدا الولد والوالد ،أي :هم الخوة .انظر :موسوعة فقه أبي بكر
الصديق :ص .36
)( (4) ,إسناده صحيح :أخرجه ابن أبي شيبة.7/196 : 3
4
)( إسنادهـ صحيحـ:ـ أخرجه ابن أبي شيبة:ـ .7/196
)( التفوق والنجابة على نهج الصحابة :حمد العجمي :ص .73 5
221
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
× ،وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن (1).وعلى هذا المنهج استمر
زيد في جمع القرآن حذًرا متثبًتا مبالًغا في الدقة والتحري.
كان زيد في طليعة من وحد المصاحف في زمن عثمان بن كما
عفان ،(2) وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه.
***
)( (4) ,التفوق والنجابة على نهج الصحابة :ص .74 1
2
)( التفوق والنجابةـ على نهج الصحابة:ـ ص .74
222
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الخامس
أهم الدروس والعبر والفوائد من حروب الردة
ل :تحقيق شروط التمكين وأسبابه وآثار شرع الله وصفات أو ً
المجاهدين:
-1تحقيق شروط التمكين:
إن الستخلف في الرض والتمكين لدين الله وإبدال الخوف
أمًنا ،وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه ،ولقد أشار
القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين ولوازم الستمرار
مُلوا ع ِ و َ م َ من ْك ُ ْ مُنوا ِ نَ آ َ ذي َ ه ال ّ ِ عدَ الل ُ و َ تعالىَ + : فيه ،قال
ن
ِ َ ذي ّ ل ا فَ َ ل خ
ْ َ ْ ت س ا ما َ َ ك ض رْ ل ا في م ِ ْ ه فن ّ ُ خل ِ َ ست َ ْ ت ل َي َ ْ حا ِ صال ِ َ ال ّ
َ ِ ّ َ ّ َ َ
م
ُ ْ ه ل ضى ْ َ َ ت ر ا ذي ِ ل ا م من َ ْ ِ ِ ْ َ ُ َ َ ّ ُ ْ ِ َ َ ُ ُ
ه ن دي م ه ل ن ن ك م ي لو م ه ل ب ق ِ
ن ِبي ََ كو ُ ر
ِ شْ ُ ي َ ل ني م ً َ ْ ُ ُ َ ِ
ن دو ب ع ي نا ْ م ُأ ْ هِ ف و ِ ْ خ
د َ ع ِ من ب َ ْ ّ هم ول َي ُب َدّلن ّ ُ َ
موا قي ُ وأ ِ نَ قو َ س ُ فا ِ م ال ْ َ ه ُ ك ُ فأول َئ ِ َ ك َ عدَ ذَل ِ َ فَر ب َ ْ من ك َ َ و َ شي ًْئا َ َ
ن" مو ح ر ت م ُ ك ّ لع َ ل ل َ سو ر ال عوا طي َ أ و ة كا َ ز ال توا وآ ة َ ل ص
ْ ُ ْ َ ُ َ َ ّ ُ َ ِ ُ َ ّ َ ُ َ ال ّ
]النور ،[56 ،55 :ولقد أشارت اليات الكريمة إلى شروط التمكين
وهي :اليمان بكل معانيه وبجميع أركانه ،وممارسة العمل الصالح
بكل أنواعه ،والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر ،وتحقيق
العبودية الشاملة ،ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه.
وأما لوازم التمكين فهي :إقامة الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة
الرسول × ) ،(1وقد تحققت هذه الشروط واللوازم كلها في عهد
الصديق والخلفاء الراشدين من بعده ،وكان للصديق الفضل بعد الله
في تذكير المة بهذه الشروط ،ولذلك رفض طلب العراب في وضع
الزكاة عنهم ،وأصر على بعث جيش أسامة ،والتزم بالشرع كام ً
ل،
ولم يتنازل عن صغيرة ول كبيرة ،قال عبد الله بن مسعود :لقد قمنا
ن علينا بأبي بكر؛ م ّ ما كدنا نهلك فيه لول أن َ بعد رسول الله × مقا ً
أجمعنا على أن ل نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون وأن نأكل قرى
قتالهم، عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين ،فعزم الله بأبي بكر على
فوالله ما رضي منهم إل بالخطة المخزية أو الحرب المجلية ).(2
-2الخذ بأسباب التمكين:
ط
من ّرَبا ِ و ِ ة َ و ٍ ق ّ من ُ عُتم ّ ست َطَ ْ ما ا ْ م ّ ه ْ دوا ل َ ُ ع ّ وأ َ ِ ْ قال تعالىَ + :
م لَ ه ْ ِ ِ ن دو ُ من ِ ن َ ري ِ خ
َ وآ َ م
ْ ُ ك و
ّ ُ د ع
َ و
َ ه
ِ الل و
ّ ُ د ع
َ ه
ِ ن بِهُبو َ ل ت ُْر ِ خي ْ ِ ال َ
ه
ل الل ِ سِبي ِ في َ يٍء ِ ش ْ من َ قوا ِ ف ُ ما ت ُن ْ ِ و َ م ْ ََ ه ْ م ُ عل َ ُ ه يَ ْ م الل َ ُ ه ُ مون َ ُ ُ عل َ تَ ْ
ن" ]النفال [،6 :وقد لحظت أن الصديق مو َ م ل َ ت ُظل ُ وأن ْت ُ ْ م َ ف إ ِل َي ْك ُ ْ و ّ يُ َ
يش الجيوش وعقد اللوية ل؛ معنوًيا ومادًيا ،فج ّ كان إعداده شام ً
واختار القادة لحروب الردة ،وراسل المرتدين ،وحرض الصحابة على
قتالهم وجمع السلح والخيل والبل وجهز الغزاة ،وحارب البدع والجهل
كم ّ الشريعة وأخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع ،وأخذ والهوى ،وح
بمبدأ التفرغ ،وساهم في إحياء مبدأ التخصص؛ فخالد لقيادة الجيوش،
)( فقه التمكين في القرآن الكريم للصلبي :ص .157 1
223
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وزيد بن ثابت لجمع القرآن ،وأبو برزة السلمي للمراسلت الحربية
وهكذا ،واهتم بالجانب المني والعلمي وغير ذلك من السباب.
-3آثار تحكيم الشرع:
تظهر آثار تحكيم شرع الله في عصر الصديق في تمكين الله
للصحابة ،فقد حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسهم وأهليهم،
وأخلصوا لله في تحاكمهم إلى شرعه ،فالله -سبحانه وتعالى -قواهم
والستقرار ،قال المنل ْم ُ وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين ،ورزقهم
مُ ُه َ ل َ
ك ِ ئ َ ل أو ُ ظ ه ْ ِ
ب م مان َ ُ سوا ِإي َ م ي َل ْب ِ ُ ول َ ْ مُنوا َ نآ َ ذي َ تعالى+ :ال ّ ِ
ٍ
ن" ]النعام،[82 : دو َ هت َ ُ م ْ هم ّ و ُ ن َ م ُ ال ْ
وتحققت فيهم سنة الله في نصرته لمن ينصره؛ لن الله ضمن لمن
استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته ،قال تعالى:
ن ِإن ذي َ زيٌز َ ال ّ ِ ع َِ ي َ و ّ ق ِ ه لَ َ ن الل َ صُرهُ إ ِ ّ من ََين ُ ه َ ن الل َ ُ صَر ّ ول ََين ُ َّ +
مُروا َ َ أ و َ ة كا ز
ّ ال وا َ ُ َ ت وآ َ ة َ ل ص
ّ ال موا ُْ قا َ أ ض
ْ ِ ر ل ا في ِ م ْ ه
ُ نا ّ مك ّ
ر" ]الحج،40 : مو ة ال ُ ُ َ ب قِ عاَ ه
ِ ولل ر َ ك ْ ن م ل ا ن ع
َ وا ه َ ن و فِ رو ع
ْ م بال ْ
ِ ُ ِ َ ُ ِ ْ َ َ ُ َ ِ
.[41
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت مجموعة على
هدى الله إل منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف …«
) .(1وقد انتشرت الفضائل وانحسرت الرذائل في
عهد الصديق .
-4صفات جيل التمكين:
َ
ه
عن ِدين ِ ِ م َ من ْك ُ َ ْ من ي ّْر َت َدّ ِ َ مُنوا َ نآ ذي َ ها ال ّ ِ تعالىَ+ :يا أي ّ َ قال
على ة َ ه أِذل ّ ٍ حّبون َ ُ وي ُ ِ م َ ه ْ حب ّ ُ وم ٍ ي ُ ِ ْ قه بِ َ ُ تي الل ف ي َأ ْ َِ و َ س ْ ف َ َ
ه
ل الل ِ سِبي ِ في َ ن ِ دو َ ه ُجا ِ ن يُ َ ري َ فَ ِ َ
على الكا ِ ْ َ ة َ عّز ٍ نأ ِ مِني َ مؤ ِ ْ ال ُْ
ه
والل ُ شاءُ َ من ي َ َ ه َ ؤِتي ِ ه يُ ْ ل الل ِ ض ُ ف ْ ك َ ة لئ ِم ٍ ذَل ِ م َ و َ ن لَ ْ فو َ خا ُ ول َ ي َ َ َ
م" ]المائدة ،[54 :هذه الصفات المذكورة في هذه الية عِلي ٌ ع َ س ٌ وا ِ َ
الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق وجيوشه من
قاتلوا المرتدين ،فقد مدحهم الله بأكمل الصفات الصحابة الذين
وأعلى الميزات ) ،(2فهذه الصفات:
ه": حّبون َ ُ وي ُ ِ م َ ه ْ حب ّ ُ أ+ -ي ُ ِ
مذهب السلف في المحبة المسندة له سبحانه وتعالى أنها ثابتة
له تعالى بل كيف ول تأويل ،ول مشاركة للمخلوق في شيء من
خصائصها (3).لقد أحب المولى -عز وجل -ذلك الجيل لما بذلوه من
ضا تقرًبا إلى أجل دينهم ،وبما تطوعوا به بما لم يفرض عليهم فر ً
لرسوله واتخاذهم المندوبات والمستحبات كأنها فروض الله وحًبا
واجبة التنفيذ ) ،(4ولقد اتصف هذا الجيل بصفات الحسان والتقوى
ن
ذي َ والصبر التي ذكر المولى -عز وجل -بأنه يحبها ،قال تعالى+ :ال ّ ِ
كيف نكتب التاريخ السلمي ،لمحمد قطب :ص .90 )( 4
224
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
نفي َ عا ِ وال ْ َ ظ َ غي ْ َ ن ال ْ َ مي َكاظِ ِ وال ْ َ ء َ ضّرا ِ وال ّ ء َ سّرا ِ في ال ّ ن ِ قو َ ف ُ ي ُن ْ ِ
ن" ]آل عمران ،[76 :وقال تعالى: نيس ح مْ ل ا ب ح ي ه والل س نا ال ن
ْ
ُ ْ ِ ِ َ
َ َ
ُ ُ ِ ّ
َ
ِ َ َ ّ
َ ع ِ َ
ن" ]آل َ قي ِ ّ تم ُ ل ا بّ ح
ِ ي
َ ُ ه الل نِ ّ إ ف قى ّ ت وا ه د
ِ َ ْ ِ ِ َه عب فى و أ
َ ْ ْ ن م لى َ ب +
ما
عمران ،[76 :ولقد أحب الصحابة المولى -عز وجل -حّبا عظي ً
فقدموا محابه على كل شيء ،وبغضوا ما أبغضه ،ووالوا ما واله
وعادوا من عاداه ،واتبعوا رسوله واقتفوا أثره .لقد أحب الصحابة
ربهم وخالقهم ورازقهم؛ لن النفوس مجبولة على حب من أحسن
إليها ،وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر ،وشرع فيسر ،وجعل
النسان في أحسن تقويم ،ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما
ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر ،لهذا كله
ولكثر منه أحب ذلك الجيل ربهم حّبا ل مثيل له ،فقدموا أنفسهم
وأهليهم وأموالهم في سبيل الله بل تردد أو مّنة ،بل اعتبروا ذلك
والستشهاد في سبيله )(1
تفضل ً من الله عليهم ،أن فتح لهم باب الجهاد
ويسر لهم أسبابه ،فقاموا بذلك الواجب خير قيام .
عَلى ة َ عّز ٍن أَ ِمِني َ ؤ ِ م ْ عَلى ال ْ ُ ة َ َ
ب -قوله تعالى+ :أِذل ّ ٍ
ن": ري َ ف ِ
كا ِ ال ْ َ
فهذه صفات المؤمنين الكمل؛)(2أن يكون أحدهم متواضًعا لخيه
ووليه متعزًزا على خصمه وعدوه .ولذلك قام الصديق وجنوده
الكرام بمناصرة المسلمين وخرج بنفسه يقاتل المرتدين ،وسير أحد
عشر لواء لرفع الظلم عن المؤمنين وكسر شوكة المرتدين ،ولم
يقبل من المرتدين الذين عذبوا المستضعفين من مواطنيهم
المسلمين إل أن يأخذ بحقهم منهم فيفعل بهم كما فعلوا بهم،
وكذلك فعل قادة جيوشه ،وكان حريصا على مراعاة أحوال
الرعية في المجتمع ،فقد مر بنا كيف كان يعامل الجواري والعجائز
وكبار السن ،لقد سادت هذه الصفات في عصر الصديق
وتجسدت في حياة الناس.
ة لئ ِم ٍ": م َ و َ ن لَ ْ فو َ ول َ ي َ َ
خا ُ ه َ ل الل ِ سِبي ِ في َ ن ِ دو َ ه ُ جا ِ ج+ -ي ُ َ
وقد ظهرت صفة المجاهدة لعداء الله في عصر الصديق في
حربهم للمرتدين وكسرهم لشوكتهم ،ومن بعد في الفتوحات
السلمية التي سيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى ،ولقد جاهد الصحابة
أعداءهم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا ,وتحقيق عبادة الله
وحده ،وإقامة حكم الله ونظام السلم في الرض ،ودفع عدوان
المرتدين ،ومنع الظلم بين الناس ،وبالجهاد في سبيل الله تحقق
إعزاز المسلمين وإذلل المرتدين ،ورجع الناس إلى دين الله،
واستطاعت القيادة السلمية بزعامة الصديق أن تجعل من
الجزيرة العربية قاعدة للنطلق لفتح العالم أجمع ،وأصبحت
الجزيرة هي النبع الصافي الذي يتدفق منه السلم ليصل إلى أصقاع
الرض ،بواسطة رجال عركتهم الحياة وأصبحوا من أهل الخبرات
والجهاد وإقامة شرع الله المتعددة في مجالت التربية والتعليم
الشامل لسعاد بني النسان حيثما كان).(3
)( اليمان وأثره في الحياة للقرضاوي :ص .12 – 5 1
225
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
لقد كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعداد
ربانًيا للفتوحات السلمية ،حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات،
وتفجرت الطاقات ،واكتشفت قيادات ميدانية ،وتفنن القادة في
الساليب والخطط الحربية ،وبرزت مؤهلت الجندية الصادقة
المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل،
من أجل ماذا تضحي وتبذل ،ولذا كان وتقدم كل شيء وهي تعلم
ما ).(1الداء فائقا والتفاني عظي ً
لقد توحدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله ثم جهاد الصحابة
مع الصديق تحت راية السلم لول مرة في تاريخها بزوال الرؤوس
أو انتظامها ضمن المد السلمي ،وبسطت عاصمة السلم )المدينة(
هيمنتها على ربوع الجزيرة ،وأصبحت المة تسير بمبدأ واحد وبفكرة
واحدة ،فكان النتصار انتصاًرا للدعوة السلمية ولوحدة المة
بتضامنها وتغلبها على عوامل التفكك والعصبية ،كما كنت برهانا على
الدولة(2السلمية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف أن
الزمات ) .
وهكذا كان الصحابة يجاهدون في سبيل الله ول يخافون لومة
لصلبتهم في دينهم ولنهم يعملون لحقاق أحد واعتراضه ونقده؛
الحق وإبطال الباطل ).(3
من ي َ َ
شاءُ": ه َ ه يُ ْ
ؤِتي ِ ل الل ِض ُ
ف ْ د+ -ذَل ِ َ
ك َ
الشارة إلى ما ذكر من حب الله إياهم وحبهم لله وذلتهم
للمؤمنين وعزتهم على الكافرين ،وجهادهم في سبيل الله وعدم
مبالتهم للوم اللوام ،فالمذكور كله فضل الله الذي فضل به أولياءه،
به مزيد إكرام من سعة جوده ،والله يؤتيه من يشاء؛ أي :ممن يريد
واسع كثير الفواضل جل جلله ) ،(4عليم بمن هو أهلها(5)،فهو تعالى
واسع الفضل ،عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرم منه .
ثانًيا :وصف المجتمع في عصر الصديق:
حين ندرس المجتمع المسلم في صدر الخلفة الراشدة تتضح لنا
مجموعة من السمات منها:
-1أنه -في عمومه -مجتمع مسلم بكامل معنى السلم ،عميق
اليمان بالله واليوم الخر ،مطبق لتعاليم السلم بجدية واضحة
والتزام ظاهر ،وبأقل قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في
التاريخ ،فالدين بالنسبة له هو الحياة وليس شيًئا هامشًيا يفئ إليه
بين الحين والحين ،إنما هو حياة الناس وروحهم ليس فقط فيما
يؤدونه من شعائر تعبدية يحرصون على أدائها على وجهها الصحيح،
وإنما من أخلقياتهم وتصوراتهم واهتماماتهم وقيمهم وروابطهم
الجتماعية ،وعلقات السرة وعلقات الجوار والبيع والشراء
والضرب في مناكب الرض والسعي وراء الرزاق ،وأمانة التعامل
تاريخ صدر السلم للشجاع :ص .143 ،142 )( 1
تاريخ الدعوة السلمية ،د :جميل المصري :ص .256 )( 2
226
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وكفالة القادرين لغير القادرين ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والرقابة على أعمال الحكام والولة ،ول يعني هذا بطبيعة الحال أن
كل أفراد المجتمع هم على هذا الوصف ،فهذا ل يتحقق في الحياة
الدنيا ول في أي مجتمع من البشر .وقد كان في مجتمع الرسول ×
-كما ورد في كتاب الله -منافقون يتظاهرون بالسلم ،وهم في
دخيلة أنفسهم من العداء ،وكان فيه ضعاف اليمان والمعوقون
والمتثاقلون والمبطئون والخائنون ،ولكن هؤلء جميًعا لم يكن لهم
وزن في ذلك المجتمع ول قدرة على تحويل مجراه؛ لن التيار
المجاهدين( في الدافق هو تيار أولئك المؤمنين الصادقي اليمان،
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ،الملتزمين بتعالم هذا الدين ). 1
-2أنه المجتمع الذي تحقق فيه أعلى مستويات المعنى الحقيقي
)للمة( ،فليست المة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللغة
ووحدة الرض ووحدة المصالح ،فتلك هي الروابط التي تربط البشر
في الجاهلية ،فإن تكونت منهم أمة فهي أمة جاهلية ،أما المة
بمعناها الرباني ،فهي المة التي تربط بينها رابطة العقيدة بصرف
النظر عن اللغة والجنس واللون ومصالح الرض القريبة ،وهذه لم
تتحقق في التاريخ وحده كما تحققت في المة السلمية ،فالمة
السلمية هي التي حققت معنى المة أطول فترة من الزمن عرفتها
الرض ،أمة ل تقوم على عصبية الرض ول الجنس ول اللون ول
المصالح الرضية ،إنما هو رباط العقيدة يربط بين العربي والحبشي
والرومي والفارسي ،يربط بين البلد المفتوحة والمة الفاتحة على
أساس الخوة الكاملة في الدين ،ولئن كان معنى المة قد حققته
هذه المة أطول فترة عرفتها الرض فقد كانت فترة صدر السلم
أزهى فترة تحققت فيها)(2معاني السلم كلها بما فيها معنى المة
على نحو غير مسبوق.
-3أنه مجتمع أخلقي يقوم على قاعدة أخلقية واضحة مستمدة
من أوامر الدين وتوجيهاته ،وهي قاعدة ل تشمل علقات الجنسين
وحدها ،وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع فهو خال من
التبرج ومن فوضى الختلط ،وخال من كل ما يخدش الحياء من
فعل أو قول أو إشارة ،وخال من الفاحشة إل القليل الذي ل يخلو
منه مجتمع على الطلق ،ولكن القاعدة الخلقية أوسع بكثير من
علقات الجنسين؛ فهي تشمل السياسة والقتصاد والجتماع والفكر
والتعبير ،فالحكم قائم على أخلقيات السلم ,والعلقات القتصادية
من بيع وشراء وتبادل واستغلل للمال قائمة على أخلقيات السلم،
والخلص
)(3
وعلقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والمانة
والتعاون والحب ،ل غمز ول لمز ول نميمة ول قذف للعراض.
-4أنه مجتمع جاد مشغول بمعالي المور ل بسفاسفها ،وليس
سا وصرامة ،ولكنه روح تبعث الهمة في الناس الجد بالضرورة عبو ً
وتحث على النشاط والعمل والحركة ،كما أن اهتمامات الناس هي
اهتمامات أعلى وأبعد من واقع الحس القريب ،وليست فيه سمات
)( كيف نكتب التاريخ السلمي :ص .100 1
227
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
228
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
رأس جيش إلى الحمقتين من مشارف الشام ،وعمرو بن العاص
إلى تبوك ودومة الجندل ،وأرسل العلء بن الحضرمي إلى البحرين
»أي :ساحل الخليج العربي كله« ،ثم تابع المثنى بن حارثة الشيباني
إلى جنوب العراق بعد القضاء على ردة البحرين ،واضطرت سجاح
التميمية -وقد كانت من نصارى العرب في العراق التي كانت تحت
سيطرة الفرس -أن ترتد عائدة إلى العراق لما رأت قوة المسلمين.
لقد كان المسلمون بقيادة أبي بكر على مستوى اليقظة
والمسئولية ،فحفظوا الحدود الشمالية بدقة ،فمن الشرق إلى
الغرب على طول الحدود الشمالية المتاخمة للفرس والروم نجد
العلء بن الحضرمي ،وخالد بن الوليد شمال نجد ،ثم عمرو بن
الجندل(1،وخالد بن سعيد على مشارف الشام، العاص في دومة
ناهيك عن جيش أسامة ) .
كان الفرس يتربصون بالسلم الدوائر ،ولكنهم كمنوا كمون
الفعى ،وخاصة أنهم كانوا يرون المد السلمي يكتسح من أمامه كل
أقزام التاريخ ،ويزيح من وجهه جميع قوى الشر والطغيان ،وعندما
حانت الفرصة بارتداد بعض القبائل عن السلم ،وتوجهت قبيلة بكر
بن وائل إلى كسرى بعد وفاة الرسول × تعرض عليه إمارة البحرين
فلقى العرض قبول ً لديه ،وأرسل معهم المنذر بن النعمان على
رأس قوة مؤلفة من سبعة آلف فارس وراجل وعدد من الخيل
مواجهة المسلمين ،وهم تقارب في أعدادها المائة لمساعدتهم في
الكلعي ) ،(2وكان مسيلمة شرذمة ل يخشى خطرهم كما يقول
الكذاب تتطلع إليه العين من بلط فارس ) ،(3وقد ذكر الدكتور
محمد حسين هيكل :من أن سجاح لم تنحدر من شمالي العراق إلى
الفرس وعمالهم في شبه الجزيرة يتبعها رهطها إل مدفوعة بتحريض
العراق ،كي يزيدوا الثورة في بلد العرب اشتعال ً ).(4
هذا عن دور الفرس ،أما دور الروم فقد كان أظهر وأخطر؛
ذلك لن موقف الروم من السلم ودولته كان أصلب وأعتى ،فهم
أمة ذات فكر وعقيدة وذات نظم وقوانين متقدمة ،ولهم من
العدد وال ُ عدد مدد ل يكاد ينقطع ،ومن الحلفاء والتباع دول ودول،
ولذا كانت العلقات بينهما في أعلى درجات سخونتها وتوترها منذ
فترات مبكرة ) ، (5وقد لجأ الروم ومنذ وقت مبكر بعد وصول كتب
رسول الله × إلى محاولة الصدام مع المسلمين ،فكان من جراء
ذلك غزوتا :مؤتة وتبوك اللتان أثبتتا لهم ماد ًيا أن الدولة السلمية
ليس من السهل ابتلعها أو شراء أصحابها ،كما أثبتتا للمسلمين
من جهة أخرى إخلص متنصرة العرب من قبائل الشام لبناء
دينهم من الروم ،وعلى الرغم من التفاقيات التي عقدها رسول
الله × بنفسه إثر غزوة تبوك مع أمراء الشام من أتباع الروم،
فإن الروم كانوا ل يكفون عن مناوشة الدولة السلمية ومحاولة
قص أجنحتها ،وبالتالي القضاء عليها ،وكان الصديق متنبها لهذا
حروب الردة :ص .175 ،174 )( 1
الكتفاء في تاريخ المصطفى والثلثة الخلفاء.(319 ،318 /3) : )( 2
الردة ،غيداء خزنة كاتبي :ص ،49مخطوطة نقل عن حركة الردة :ص .146 )( 4
229
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المر جي ً دا ،وقد تمثل ذلك في إصراره الشديد على إنفاذ جيش
أسامة لوجهته ،وقد رأى قبائل العرب في شمالي الجزيرة من
لخم وغسان وجذام وبلى وقضاعة وعذرة وكلب تعود للنقضاض
ن غير الدولة م ْ
على عهود رسول الله × التي أبرمها معها ،و َ
الرومية يمدهم بوقود المعركة من سلح ورجال ومال
ومخططات؟ وكأنه كان يريد أن يقول للروم بلسان الحال :إنه
على الرغم من انتقاض العرب داخل بلدي فإن ذلك لن يفت في
قادرون أن نصد عن دولتنا أكبر عضدنا نحن المسلمين ،ونحن
هجمة عالمية ولو كانت من جانبكم ).(1
إن انتقاض الجزيرة العربية جدد المل عند الفرس والروم
بأن العرب سيقضون على السلم ،وقدمت الفرس والروم
للعرب الثائرين على الحكم السلمي كثي ًرا من المساعدات,
وآوت الفارين منهم ،ولذلك لم يكد المسلمون يعيدون الجزيرة
نحو الشمال العربية إلى وحدتها حتى كان الوان قد آن للزحف
لمواجهة العدوين الكبيرين اللذين يتربصان بالسلم).(2
لقد تحرك الصديق من قاعدته المينة )المدينة المنورة( ،وبعث
منها الجيوش وزودها بكل ما من شأنه أن يجعلها ذات هيبة في
عيون أعدائها وفي قلوبهم ،وقد استطاع الصديق أن يفيض من
قاعدته الخير على بقية أرجاء الجزيرة العربية ،وما كان له أن ينطلق
من قاعدته الكبرى الجزيرة لفتح بلد الشام والعراق لول أنه أ ّ
العربية؛ موالية للسلم ،موحدة على أساسه ،وقد تمثل أمن هذه
القاعدة في ثلثة مستويات هي:
ل :عزم الخليفة على مواصلة الجهاد وإيمانه الوطيد بصلحية أو ً
يا :نظافة مجتمعه الصغر -مجتمع فكره وتميزه واستعلئه به .وثان ً
ثا :تطهير مجتمعه الكبر -وهو المدينة -من مهاجرين وأنصار .وثال ً
المجتمع العربي -من أدران الشرك وعقابيل الردة ،وقد أنبتت هذه
خا قوًيا واستطاع المستويات بعضها على بعض حتى سما البناء شام ً
أن يرمي به ثغور العراق والشام رمًيا زعزع كيانات الروم والفرس
زعزعة شديدة في أمد قصير ،وما ذلك إل لن الجيوش المنطلقة
من الجزيرة كانت موحدة الصفوف موحدة الفكر موحدة الراية،
مؤمنة محمية الظهر،
مراكز التموين ).(3
رابًعا :من نتائج أحداث الردة:
خلفت حروب الردة آثاًرا ونتائج لم تكن محدودة الزمان
والمكان ،وإنما شملت أجيال ً وآماًدا وتصورات وأفكاًرا وسلوكيات
ما ما زالت تغذي الجيال من بعدها وتمدها بالكثير ،ومن أهم وأحكا ً
تلك النتائج:
-1تميز السلم عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك:
)( نفس المصدر السابق :ص .150 1
230
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بعد وفاة رسول الله × اختلطت المور ببعضها ،وسارعت
العراب إلى الردة ،فكان منهم المؤلفة قلوبهم أو من المنافقين
أو الذين أسلموا رغم أنوفهم ،وفي وقت متأخر ،أو من الذين لم
يسلموا أص ً ل ،ومن أمثلة الصنفين الولين إسلم عيينة بن حصن
الفزاري الذي أسلم إسل ً ما فيه دخن كبير ،ولذا ما إن هبت نار
الفتنة حتى استجاب لها وباع دينه بدنيا طليحة السدي ،ولما أسر
وبعث إلى أبي بكر مقي ً دا بالغلل كان فتيان المدينة يمرون عليه
الله! أكفرت بعد إيمانك؟! فينخسونه بالجريد ويقولون :أي عدو
فيقول :والله ما كنت آمنت بالله قط (1).ومن هؤلء الذين يقال
إنهم لم يسلموا أص ًل قبيلة عنس اليمنية ،وهي قبيلة الطاغية
السود الذي ادعى النبوة وفعل في بلد اليمن الفاعيل ونكل
بالمسلمين.
ومن أمثلة سوء الفهم لنصوص السلم التي أدت بهؤلء إلى
خ ْ
ذ جا بمدلول قوله تعالىُ + : ضا منهم أنكر الزكاة محت ً الكفر َ أن بع ً
ن
م إِ ّ ه ْ يعل َ ّ
ل ص و ها ب م ه كيّ ز ت و م ه ر ه َ ط ت ة َ
ق د ص م ه
ِ ْ َ َ َ َ ِ ْ ِ َ ُ َ ْ ُ ُ ّ ُ ً َ َ ّ ْ
َ وال ِ ِ
م َ
َ
نأ ْ
َ
م ْ ِ
م" ]التوبة.[103 : عِلي ٌ ع َ مي ٌ س ِ ه َ والل ُ َ م
ْ هُ ل ن
ٌ ك س
َ ك َ ت ل ص
َ
فقد جاء في التعليق على هذه الية في تفسير ابن كثير -رحمه
الله -قوله» :اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفعها
صا برسول الله × ،وقد احتجوا إلى المام ل يكون وإنما َكان هذا خا ّ
ة" وقد رد عليهم هذا التأول ق ًصد َ َ م َ ه ْ وال ِ ِم َ نأ ْ م ْ خذ ْ ِ بقوله تعالىُ + :
»السقيم« والفهم الفاسد أبو بكر وسائر الصحابة رضوان الله
وقاتلوهم( حتى أدوها إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى عليهم،
رسول الله × ). 2
وظهرت العصبية القبلية بقوة ،فهذا مسيلمة الكذاب يقول لبني
ضا إياهم على اتباعه وإنكار حق قريش بالنبوة :أريد أن حنيفة محر ً
تخبروني بماذا صارت قريش أحق بالنبوة والمامة منكم؟ والله ما
منكم ول أنجد ،وإن بلدكم لوسع من بلدهم وأموالكم أكثر هم بأكثر
من أموالهم ).(3
جال بن عنفوة الحنفي الذي أضله الله على علم بعد أن وهذا الّر ّ
النبوة بين رسول الله حقيقة في يقول الدين في وفقه قرأ القرآن
ومسيلمة :كبشان انتطحا فأحبهما إلينا كبشنا (4) .وهذا طلحة النمري
م به كذبه :أشهد أنك قال لمسيلمة عندما رآه وسمع منه ما عَل ِ َ
دا صادق ،ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق وأن محم ً )(5
كذاب،
مضر.
بل إن مسيلمة يعرف كذب نفسه ،فلما كانت معركة اليمامة
وبدت الغلبة للمسلمين قال له أصحابه محنقين عليه :أين ما كنت
تعدنا به من النصر واليات؟ فقال :قاتلوا على أحسابكم ،فأما
)( تاريخ الطبري ،260/ 3 :حركة الردة للعتوم :ص .114 1
231
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الدين فل دين (1).واختلطت عليهم التصورات والفكار
والسلوكيات والمال ،وعمل المرتدون على إنهاء السلم ومحوه
من الوجود ،وتكالبت قوى الشر على ذلك ،ولكن محاولتهم باءت
بالفشل ،وأحبطت جميعها بتوحد المسلمين وتجمعهم وتكتلهم
حول القاعدة الصلبة للمجتمع السلمي التي تربت على يد
رسول الله × ،وأصبحت تشبه القطب المغناطيسي الضخم الذي
قام -بحكم طبيعته وخصائصه -بجذب كل من كان مؤه لً للسلم
ويحمل خاصية النجذاب إلى هذا القطب المغناطيسي الضخم
الفعال ،فقد أدى هذا التجمع إلى إظهار قوة السلم ليس بكثرة
كا فيالعدد والعدة ،وإنما في قوة تفرده تصو ًرا وفك ًرا وسلو ً
لبانته الصلبة وتربيتها الفذة التي تربت عليها تلك اللبنات مجتمعة،
والقوة في وضوح التعامل مع الحدث دون مواربة أو تربيت أو
إغماض عين وفتح الخرى ،وإنما كانوا واضحين وضوح عبارة أبي
دا
دا(2فإن محم ً بكر الصديق للمسلمين جمي ًعا :من كان يعبد محم ً
)
قد مات ،ومن كان يعبد الله فإن الله حي ل يموت .
إن من نتائج أحداث الردة حفظ التصور السلمي من التحريف
ن تجردت الراية السلمية من العصبية الجاهلية والولء والتشويه ،وأ ْ
المختلط ،وصارت خالصة من أية شائبة ،وأن التصور السلمي ل
يقبل المداهنة مهما كانت الظروف المحيطة ،وأن القوة السلمية ل
ترتبط بالعدد ول العدة ولكن بقوة اليمان والروح المعنوية ،وأن
ل ،وأن الصل دعوة الناس إلى السلم وليس مقاتلتهم ،فالدعوة أو ً
الحرص على الناس هو المقدم على كل شيء ).(3
-2ضرورة وجود قاعدة صلبة للمجتمع:
أظهرت أحداث الردة معادن أصيلة في بنية قاعدة هذه الدولة،
وكشفت عن عناصر صلبة ،فلم يكونوا أفرادا متناثرين ولكنهم كانوا
يشكلون القاعدة لهذا المجتمع ولهذه الدولة ،ولم تكن قاعدة رخوة
أو هشة أو ساذجة ،وإنما كانت قاعدة صلبة واعية ،تدرك حقيقة
نفسها وحقيقة عدوها وتعي أبعاد المخاطر من حولها ،وتخطط
بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب ،وهي مع هذا وذاك
موصولة بالقوي العزيز ،ولهذا انتصرت على كل خصومها وأزالت كل
العوائق من طريقها؛ فقد حافظت هذه القاعدة على السلم ودولته،
وساهمت في جمع الحشود لكسر شوكة أهل الردة ،وعملت على
الله( ثم جهود هذه القاعدة
)4
م شمل الناس من حولها ،وتم بفضل لَ ّ
الصلبة حفظ كيان المة وبقائها وتنميتها.
-3تجهيز الجزيرة كقاعدة للفتوح السلمية:
بمجرد وفاة رسول الله × تناثرت التجمعات ،وتمردت كثير من
نفس المصدر السابق.4/112 : )( 1
232
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
القبائل على الخليفة ،وقام الصديق مع الصحابة بعمل شاق
عظيم استطاعوا أن ُيخضعوا القبائل للدولة ،وأشرف الصديق على
حا
تنفيذ الخطط التربوية والتعليمية والحربية والدارية ،ونجح نجا ً
باهًرا ،والتحمت القبائل العربية مع الدولة السلمية وأصبحت جزيرة
العرب بسكانها قاعدة الفتوح السلمية بعد ذاك ،وصارت هي النبع
ما
حا ومعل ًيتدفق منه السلم ليصل إلى أصقاع الرض فات ً الذي
ومربًيا ).(1
إن جزيرة العرب هي قاعدة الفتوح ،فكيف يتسنى الفتح إذا لم
تكن له قاعدة أو كانت هذه القاعدة مضطربة غير مستقرة ،أما الن
تعبئة كل طاقات شبه الجزيرة وشحذها للعمال فقد أصبح ممكًنا,
الحربية التي تلت).(2
-4العداد القيادي لحركة الفتوح السلمية:
ومن خلل أحداث الردة التي ميزت الصفوف وامتحنت الطاقات
والقدرات ،وكشفت عن الطبقة التي كانت تغطي معادن المة،
ظهرت المعادن الخسيسة على حقيقتها وأعطيت القيادة للمعادن
النفيسة الصلبة المصقولة لتمسك بزمام المور في حركة الفتوح،
فالمصادر التاريخية تمدنا بمعلومات جمة عن قيادات لم تكن من
المهاجرين ،ول من النصار ول من الصحابة ،ولكنهم تربوا من خلل
كتاب الله مباشرة ،ثم صقلتهم أحداث الردة وميزتهم عن غيرهم،
ليصلوا إلى صدارة الجيوش الفاتحة وشهد لهم الجميع بالحنكة
والداء المتفاني واليمان الصادق.
هذا وقد كانت القيادة المركزية في المدينة وميادين القتال
تديرها قيادات غاية في التفاهم والتعاون والتحاب على الرغم من
من(3القيادة بعد المسافات ،إل أن التوازن الرائع بين دور كل
حا وبارًزا ) .
المركزية وقيادات ميادين القتال كان واض ً
-5الفقه الواقعي للردة:
وردت العديد من النصوص القرآنية والحاديث النبوية التي
تحدثت على الردة كحالة تعتري بعض البشر ،وكل ما ورد من
النصوص ظلت في إطارها العام النظري الثابت ،ولم تكن قد
مورست بشكل عام في الواقع ،ولما وقعت الردة وعاشها
ما على ضوء تلك النصوص، المسلمون عملًيا واستنبطوا لها أحكا ً
كانت تلك الستنباطات معالم هادية لفقه تلك النصوص ،ويتضح هذا
من نقاش بين الصحابة حول موقفهم من هؤلء القوم ،فكانوا
يعودون إلى النصوص يدرسون ويتحاورون حولها ،وسرعان ما
يتفقون على صورة واحدة سواء في تقييمهم وتوصيفهم الوصف
المنطبق عليهم ،أم في طريقة معاملتهم .فهذه الوقفات العملية
أمام الحدث والنص أنتجت أبواًبا في كتب التشريع السلمي ضمت
تفصيلت تشريعية دقيقة عن أحكام الردة ،ثم صار عمل الصحابة
)( نفس المصدر السابق :ص .366 1
)( الطريق إلى المدائن ،أحمد عادل كمال :ص .182 2
233
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فقهية تؤخذ في العتبار عند استنباط اجتهاد أو تطبيق حكم سابقة
فيما بعد).(1
ه": ئ إ ِل ّ ب ِأ َ ْ
هل ِ ِ سي ّ ُ ق ال ْ َ
مك ُْر ال ّ ول َ ي َ ِ
حي ُ َ + -6
إن أية محاولة للتمرد على دين السلم سواء أقام بها فرد
أم جماعة أم دولة ،إنما هي محاولة يائسة مآلها الخفاق
الذريع والخيبة الشنيعة؛ لن التمرد إنما هو تمرد على أمر الله
المتمثل بكتابه الذي تكفل بحفظه وحفظ جماعة تلتف حوله،
وتقيمه في نفوسها وواقعها مدى الدهر ،وبحكمه القاضي
بالعاقبة للمتقين وبالمن على المستضعفين أن يديل لهم من
الظالمين.
إن مصير الكائدين لدين الله هو البوار في الدنيا والخرة،
وما أجمل ما قال الشاعر:
)(2
الوعل ما ليوهنها كناطح صخرة يو ً
-7استقرار التنظيم الداري في الجزيرة:
استقر التقسيم الداري بعد انتصار الصديق في حروب الردة
على نظام الوليات وهي :مكة وكان أميرها عتاب بن أسيد،
والطائف وأميرها عثمان بن أبي العاص ،وصنعاء وأميرها المهاجر
بن أبي أمية ،وحضرموت وواليها زياد بن لبيد ،وخولن وواليها
جَند
يعلى بن أمية ،وزبيد ورقع وواليهما أبو موسى الشعري ،أما َ
اليمن فأميرها معاذ بن جبل ،ونجران وواليها جرير بن عبد الله،
وجرش وواليها عبد الله بن ثور ،والبحرين وواليها العلء بن
وعمان وواليها حذيفة الغلفاني ،واليمامة وواليها الحضرمي،
سليط بن قيس ).(3
***
)( الدولة العربية السلمية لمنصور أحمد الحرابي :ص .97 3
234
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الفصل الرابع
فتوحات الصديق واستخلفه
لعمر رضي الله عنهما ووفاته
تمهيد:
إن غاية وجود المة المسلمة في هذه الدنيا هي توحيد الله
ماو َ
عبوديته الشاملة في هذه الحياة ،كما قال تعالىَ + : وتحقيق
ن" ]الذاريات ،[56 :فإذا كان خلق دو بع
َ ْ ُ ُ ِ يِ ل ّ ل إ
َ ِس ْ ن ل وا
ِ ّ َ ِنج ْ ل ا ت خل َ ْ
ق ُ َ
الجن والنس الغاية منه عبادة الله وحده سبحانه وتعالى ،فكان
ما على المة المسلمة أن تسعى لتحقيق هذه الغاية وتحمل هذه لزا ً
المانة وأعباء تبليغها للناس أجمعين ،بالدعوة إلى الله وتعليم الناس
وتربيتهم على منهج الله ،والعمل على إزالة كل العقبات التي تقف
في وجه أداء هذه المانة إلى الناس أجمعين ،وبذلك يتحقق بسط
سيادة الشرع الحكيم على كل بني البشر ،ويصبح الجميع يدينون
بحاكمية (1الله سبحانه المطلقة المتمثلة في خضوع الجميع لشرع الله
تعالى ) ،ولذلك شرع الله تعالى الجهاد لزالة الحواجز والعقبات
المانعة من سماع دين الفطرة التي فطر الناس عليها.
قال ابن تيمية :وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد بقصد
أن يكون الدين كله لله ،وأن تكون كلمة الله هي العليا ،فمن منع
قوتل باتفاق المسلمين ) ،(2وقد قام × بتبليغ واجب الدعوة إلى الله،
فأرسل الكتب والرسل إلى القادة والملوك والزعماء ،وبعث السرايا
والجيوش لزالة الحواجز البشرية والعراف الجاهلية والموانع
النفسية والعوائق المادية المانعة من سماع السلم وتفهمه ،بل قاد
× بذاته بعض البعوث والغزوات ،والتي كان آخرها غزوة تبوك سنة
9هـ ،والناس في كل هذه المعارك والغزوات مخيرون بين ثلثة :إما
أن يدخلوا في السلم ويكونوا للمسلمين إخواًنا ،وإما أن يختاروا
الجزية (،وإما أن يرفضوا هذا وذاك البقاء على كفرهم ويدفعوا
)3
فيكون السيف فاصل ً بيننا وبينهم.
وسار الصديق على هذا المنهج وشرع إرسال الجيوش
لتحقيق بشائر الرسول بفتح كثير من الممالك والبلد كفتح العراق
وغيرها من البلد ،فقد قال × لعدي بن حاتم» :فوالذي نفسي بيده
ليتمن الله هذا المر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف
بالبيت في غير جوار أحد ،ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز« (4).وقد
وضع رسول الله × الخطوط العريضة لتلك الفتوحات ،وأضافت تلك
دا مادًيا ومعنوًيا وحسّيا للمة ،وقد حاول المبشرات رصي ً
المستشرقون وأذنابهم وأعداء السلم أن يجردوا الفتوحات
السلمية من دوافعها الدعوية وأهدافها الربانية ومقاصدها السامية,
235
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ما باطلة ل تقوم أمام الدليل والبرهان وألصقوا بحركات الفتوحات ته ً
والحجة.
إن الهدف الرفيع والمقصد السامي لحركة الفتوحات التي قادها
الصديق كان غرضها نشر دين الله تعالى بين الناس ،وإزاحة
الطواغيت من على رقاب الناس ،وكان الصديق والمسلمون معه
على يقين بما أخبر الله ورسوله من النصر والتمكين ،وهذا اليقين
و
ه َ أخلق جيل النصر ،فقد كانوا على يقين بقوله تعالىُ + : ذي أ َ من
ن دي
ّ ال لىع َ
َ ُ ه ر
َ ه ق ل ِي ُظّْ ح
َ وِدين ال ْ َ دى َ ه
ُ ه ِبال ُْ سول َ ُ ر
َ َ
ل س
َ ر
ْ ال ّ ِ
ِ َ ِ ِ ْ َ
صُرن" ْ]الصف ،[9 :وبقوله تعالى+ :إ ِّنا لَنن ُ ركو َ ُ مش ِ ْ ره َ ال ُ َ
ك ِ و
ول ْ ك ُل ّ ِ
ه َ َ
د"َ ُ ها ش ْ ال م
ُ قو ُ ي م و ي و
ّ ْ َ َ َ ْ َ َ يا ن د ال ة ياح
َ َ ِ ل ا في ِ نوا س َ َ ِ َ َ ُ
م آ ن ذي ّ ل وا نا ل ُر ُ
]غافر .[51 :ولنترك الحداث في حركة الفتوحات تخبرنا عن الحقائق
وتوضح الطريق لبناء المة الصالحين.
***
236
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الول
فتوحات العـــــــراق
ل :خطة الصديق لفتح العراق: أو ً
ما إن انتهت حرب الردة واستقرت المور في الجزيرة العربية
التي كانت ميداًنا لها ،حتى شرع الصديق في تنفيذ خطة الفتوحات
التي وضع معالمها رسول الله × ،فجّيش الصديق لفتح العراق
جيشين:
-1الول بقيادة خالد بن الوليد وكان يومئذ باليمامة ،فكتب إليه
سر (1إلى العراق يأمره بأن يغزو العراق من جنوبه الغربي ،وقال له:
حتى تدخلها وابدأ »بفرج الهند« أي ثغرها وهي البلة ) .وأمره بأن
يأتي العراق من أعاليها ،وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله عز
وجل ،فإن أجابوا وإل أخذ منهم الجزية ،فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم,
يستعين بمن ارتد على دا على المسير معه ،ول وأمره أن ل يكره أح ً
السلم وإن كان عاد إليه ،وأمره أن يستصحب ) (2كل امرئ مر به
وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش من المسلمين،
إمداًدا لخالد .(3)
)(4
-2الجيش الثاني بقيادة عياض بن غنم وكان بين النباج
والحجاز(5)،فتكب إليه بأن يغزو العراق من شماله الشرقي بادئا
بالمصيخ وقال له :سر حتى المصيخ وابدأ بها ،ثم ادخل العراق من
دا ،ثم أردف أمره هذا بقوله :وأذن لمن شاء أعلها حتى تلقى خال ً
على السير معكما دا
ً أح تجبرا ل أي: بمتكاره، بالرجوع ،ول تستفتحا
ها فمن شاء فليقدم ومن شاء فليحجم ).(6 للقتال إكرا ً
وكتب الصديق إلى خالد وعياض … :ثم يستبقان إلى الحيرة،
فأيهما سبق إلى الحيرة أمير على صاحبه .وقال :إذا اجتمعتما إلى
الحيرة وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من
خلفهم ،فليكن أحدكما ردًءا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة ،وليقتحم
على( عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم، الخر
المدائن ). 7
-3وكان المثنى بن حارثة قد قدم على أبي بكر وحث الصديق
على محاربة الفرس وقال له :ابعثني على قومي ففعل ذلك أبو بكر،
فرجع المثنى وشرع في الجهاد بالعراق ثم إنه بعث أخاه مسعود بن
حارثة إلى أبي بكر يستمده ،فكتب معه أبو بكر إلى المثنى :أما بعد،
فإني قد بعثت إليك خالد بن الوليد إلى أرض العراق فاستقبله بمن
)( البلة :على شط العرب في زاوية الخليج الذي يدخل في مدينة البصرة ،وهي 1
)( قرية في بادية البصرة ،في منتصف الطريق بين مكة والبصرة. 4
)( الفن العسكري السلمي ،د .ياسين سويد :ص ،83تاريخ الطبري.4/162 : 6
237
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
معك من قومك ،ثم ساعده ووازره وكانفه ول تعصين له أمًرا ول
الله -تبارك وتعالى -في كتابه: وصفه أ َ تخالفن له رأًيا فإنه من الذين
ماءُ ح ر
ِ ُ َ َر ّ
فا ُ كْ ل ا َ
لى ع
َ ُ ءدا ش
ِ ّ وال ّ ِ
ذي َ َ َ ُ
ع م ن ه َ
ل الل ِ سو ُ
مدٌ ّر ُ ح ّ
م َ
ُ +
فما أقام معك فهو المير، ، دا" ]الفتح[29 : ج
ُ ّ ًس عاّ ك
ْ ُ ًر م ه
ُ را
ب َي ْن َ ُ ْ َ
َ ت م ه
فإن شخص عنك فأنت على ما كنت عليه) ،(1وكان من قوم المثنى
رجل يدعى مذعور بن عدي ،خرج عن المثنى بن حارثة وراسل
الصديق وقال له :أما بعد ،فإني امرؤ من بني عجل أحلس الخيل –
حا -ومعي أي يلزمون ظهورها -وفرسان الصباح –أي يغيرون صبا ً
رجال من عشيرتي الرجل خير من مئة رجل ،ولي علم بالبلد وجراء
على الحرب وبصر بالرض ،فولني أمر السواد أكفكه إن شاء الله. )(2
)( مجموعة الوثائق السياسية :ص (2) .373البداية والنهاية.6/347 : 5
6
238
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
إلزامًيا وإنما كان طوعًيا واختيارًيا ).(1
-3تحديد الحيرة كموقع استراتيجي:
كان هدف الخليفة الصديق السيطرة على الحيرة وذلك لهميتها
العسكرية ،فالحيرة تقع على بعد ثلثة أميال جنوب »الكوفة« وتبعد
عن »النجف« مسيرة ساعة للفارس إلى الجنوب الشرقي للنجف،
والناظر على الخارطة يرى لول وهلة أهمية هذا الموقع
الستراتيجي؛ فالحيرة كانت »عقد مواصلت« في نقطة تتصل بها
الطرق من جميع التجاهات؛ فهي تتصل بالمدائن من الشرق عبر
نهر الفرات وتتصل شمال ً بـ»هيت« وتتصل بـ »النبار« على جسر
النبار ،وتتصل بالشام من الغرب ،كما تتصل بـ»البلة« في منطقة
»البصرة« بالعراق ،وفي »كسكر« في »السواد« وفي »النعمانية«
على نهر دجلة.
ومن هذا يتضح جلّيا أهمية السيطرة على هذا الموقع المهم،
وكان الصديق مصيًبا عندما جعلها هدًفا لجيشين هما جيش خالد
وجيش عياض ،فالحيرة كانت قلب العراق وأقرب منطقة مهمة إلى
المدائن عاصمة المبراطورية الفارسية ،التي كانت تدرك هذه
ماالقيمة الستراتيجية للحيرة ،ولذا كانت ترسل القوات باتجاهها دائ ً
لستعادتها؛ لن المسيطر على الحيرة يؤمن سيطرته على المنطقة
هذا كانت مهمة للقوات الكائنة غربي الفرات بأجمعها ،وهي عدا
السلمية في قتالها الروم في بلد الشام ).(2
إن تخطيط الصديق للوصول إلى الحيرة في الفتوحات يعرف
في الخطط العسكرية للجيوش الحديثة بحركة فكي الكماشة أو
عملية اللتفاف الدائري بأكثر من جيش ،وهذا يؤكد أن عملية فتح
عن( طريق الجهاد لم تكن العراق وضم أطراف شبه الجزيرة العربية
محض مصادفة أو نتيجة لمجريات الحوادث 3) .ويظهر للباحث فقه
أبي بكر في التخطيط الجهادي بأنه كان يرتكز على اتخاذ
القرارات بتنظيم الجيوش وتوجيهها ،وتحديد واجباتها وأهدافها،
وتنسيق التعاون فيما بينها ،وتحقيق التوازن على مسارح العمليات،
غير أنه يترك لقادته حرية العمل العسكري لدارة العمليات القتالية
بالساليب التي يرونها)(4مناسبة ،وبالطرائق التي تستجيب لما
يجابهونه من مواقف .
-4نكران الذات عند المثنى بن حارثة:
ومن المواقف التي تذكر في الجهاد في العراق ما كان للمثنى
بن حارثة الشيباني وكان يقاتل العداء في العراق بقومه ،ولما علم
ن بناحيته وذلك قبل م ْمره على َ بذلك أبو بكر سره ما كان منه فأ ّ
دا
مجيء خالد ،فلما توجهت همة الصديق لغزو فارس رأى أن خال ً
أجدر القواد بهذه المهمة فوجهه لها ،وكتب كتاًبا إلى المثنى يأمره
معارك خالد بن الوليد ضد الفرس ،عبد الجبار السامرائي :ص .35 )( 2
أبو بكر الصديق ،نزار الحديثي ،وخالد الجنابي :ص .45 )( 3
مشاهير الخلفاء والمراء ،الصديق ،بسام العسلي :ص .127 )( 4
239
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بالنضمام إلى خالد وطاعته ،فما كان منه إل أن سارع في الستجابة
ولحق بخالد هو وجيشه ،وإن هذا موقف يذكر للمثنى؛ حيث لم ي َغُّره
جيوش(1العراق ،فلم كثرة جيشه ول كونه أقدم من خالد في إمرة
يحمله ذلك على أن يرى أنه أحق بالقيادة من خالد ) .
-5احتياط الصديق لمر الجهاد في سبيل الله:
وقد جاء في كتاب أبي بكر لخالد وعياض بن غنم :أن استنفروا
من قاتل أهل الردة ومن ثبت على السلم بعد رسول الله ×)(2،ول
يغزون معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي ،فلم يشهد اليام مرتد.
يعني في أول المر ،وقد شهدوا اليام بعد ذلك حينما ثبتت
استقامتهم كما سيأتي بإذن الله تعالى .وهذا الموقف لبي بكر مبني
على الحتياط لمر الجهاد في سبيل الله تعالى ،حتى ل يشترك فيه
طلب الدنيا فيكونوا سبًبا في فشل المجاهدين واختلل صفوفهم،
وهذا درس تربوي من أبي بكر استفاد من الدروس النبوية الغالية
وذلك في تنقية الصف السلمي من الشوائب وتوحيد هدفه ،حتى
صا لوجه الله تعالى ،في أمن بذلك من النتكاسات يكون خال ً
الخطيرة التي تحدث بسبب تعدد الهداف .ولقد حرص أبو بكر على
هذا المبدأ السامي مع شدة احتياج الجيش السلمي آنذاك إلى
قناعته التامة بأن العبرة بسمو الهدف الرجال ،مما يدل على
والخلص ل بكثرة العدد ).(3
-6الرفق بالناس والتوصية بفلحي العراق:
قول الصديق لخالد :وتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم وفي
من المم (4).وهذا القول بين لنا الهدف من الجهاد السلمي خارج
بلد السلم فهو جهاد دعوي يقصد به دعوة الناس إلى الدخول في
السلم ،ولما كانت الدعوة غير ممكنة مع بقاء الحكومات ،فإنه ل بد
من إزالتها لتمكين شعوبها من الدخول في السلم ،وهذا الهدف
ظاهر في جميع المعارك التي خاضها الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث
كانوا يدعون أعداءهم إلى السلم فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم
ما عليهم ،فإن أبوا فليستسلموا لحكم السلم ويدفعوا الجزية مقابل
حماية المسلمين لهم ،فإن أبوا فل بد من القتال حتى تكون كلمة
الله هي العليا ) ،(5وقد وصى الصديق قادة جيوشه بفلحي العراق
ما
صا منه على هداية الناس وعلى منابع الثروة وعل ً وأهل السواد ،حر ً
مصدر من الفلحة أن كما دولة، بدونه تقوم منه أن العمران ل
مصادر الثروة وهي المتصلة بحياة الناس ومعايشهم ).(6
-7ل يهزم جيش فيهم مثل هذا:
عندما استمد خالد أبا بكر أثناء سيره للعراق أمده الصديق
ض عنه جنوده بالقعقاع بن عمرو التميمي فقيل له :أتمد رجل ً قد ارف ّ
برجل؟ فقال :ل يهزم جيش فيهم مثل هذا (7).وهذه فراسة من أبي
بكر بينتها أحداث العراق بعد ذلك ،وقد كان أبو بكر أعلم الناس
التاريخ السلمي.9/130 : )( 1
تاريخ الدعوة إلى السلم :ص (6).342تاريخ الطبري.4/163 : )( 6
7
240
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بالرجال وما يتصفون به من طاقات وكفاءات مختلفة ).(1
ثانًيا :معارك خالد بن الوليد بالعراق:
لم يلبث خالد أن قدم العراق ومعه ألفا رجل ممن قاتل
المرتدين وحشد ثمانية آلف رجل من قبائل ربيعة ،وكتب إلى ثلثة
من المراء في العراق قد اجتمعت لهم جيوش لغرض الجهاد وهم:
سلمى بن القين التميمي ،وحرملة بن مذعور بن عدي العجلي ،و ُ
طة التميمي ،فاستجابوا وضموا جيوشهم التي بلغ تعدادها مع مري َُ
فا.
ثمانية( عشر أل ً المسلمين جيش فأصبح آلف، ثمانية المثنى جيش
) (2وقد اتفقوا على أن يكون مكان تجمع الجيوش البلة) ، 3وقبل أن
يسير خالد إلى العراق كتب إلى هرمز صاحب ثغر البلة كتاب إنذار
يقول فيه :أما بعد :فأسلم تسلم أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة
تلومن إل نفسك ،فقد جئتكم بقوم يحبون وأقرْر بالجزية ،وإل فل
الموت كما تحبون الحياة (4).وقد لجأ إلى هذا السلوب وهو نوع من
الحرب النفسية ليدخل الخوف والرعب في قلب هرمز وجنوده،
وليوهن من قوتهم ويضعف من عزيمتهم ،وحين قارب خالد العدو
قا ،ولم جعل الجيش ثلث فرق وأمر أن تسلك كل فرقة طري ً
قا لمبدأ مهم من مبادئ الحرب وهو يحملهم على طريق واحد؛ تحقي ً
أمن القطعات ،فجعل المثنى على فرقة المقدمة ثم تلتها فرقة
وخرج(6خالد بعدهما وواعدهما الحضير عليها عدي بن حاتم الطائي،
) ،(5ليجتمعوا به ويصمدوا لعدوهم ) .
-1معركة ذات السلسل:
سمع هرمز بمسير خالد وعلم أن المسلمين تواعدوا الحضير،
فسبقهم إليه وجعل على مقدمته القائدين قباذ وأنو شجان ،ولما بلغ
خالد أنهم يمموا الحضير عدل عنها إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها،
ونزل على الماء واختار المكان الملئم لجيشه ،وجاء خالد فنزل على
على( الماء، غير ماء ،فقال لصحابه :حطوا أثقالكم ثم جالدوهم
فلعمري ليصيرن الماء لصبر الفريقين وأكرم الجندين ). 7
وحط المسلمون أثقالهم والخيل وقوف ،وتقدم الراجلون وزحفوا
ن الله تعالى بكرمه وفضله على المسلمين بسحابة إلى الكفار ،وم ّ
فأمطرت وراء صفوف المسلمين ،ونهلوا من غدرانها فتقوى بذلك
المسلمون ،وهذا مثل من المثلة الكثيرة الشاهدة على معية الله
-جل جلله -لوليائه المؤمنين بنصره وإمداده.
وواجه المسلمون هرمز وكان مشهوًرا بالخبث والسوء حتى
ضرب المثل بخبثه ،فعمل مكيدة لخالد وذلك أنه اتفق مع حاميته ُ
دا ثم يغدروا به ويهجموا عليه ،فبرز بين الصفين على أن يبارز خال ً
دا إلى البراز فبرز إليه ،والتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه ودعا خال ً
) (2تاريخ الطبري.4/163 : التاريخ السلمي.9/129 : )( 1
2
أبو بكر الصديق ،خالد الجنابي ،نزار الحديثي :ص .46 )( 3
الحضير :ماء لباهلة على أربعة أمثال من البصرة ،المعجم ،ياقوت.2/277 : )( 5
241
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
خالد فحملت حامية هرمز على خالد وأحدقوا به ،فما شغله ذلك عن
قتل هرمز ،وما أن لمح ذلك البطل المغور القعقاع بن عمرو حتى
بجماعة من الفرسان على حامية هرمز وكان خالد يجالدهم حمل
فأناموهم ) ،(1وحمل المسلمون من وراء القعقاع حتى هزموا
فراسة أبي بكر الفرس ،وهذا هو أول المشاهد التي ظهر فيها صدق
حينما قال عن القعقاع» :ل يهزم جيش فيه مثل هذا« (2).وأما خالد
فقد ضرب أروع المثال في البطولة ورباطة الجأش ،فقد أجهز على
قائد الفرس وحاميته من حوله ،فلم يستطيعوا تخليصه منه ،ثم ظل
يجالدهم حتى وصل إليه القعقاع ومن معه فقضى عليهم ،وقد كان
عنهم(3شيًئا الفرس ربطوا أنفسهم بالسلسل حتى ل يفروا فلم تغن
أمام الليوث البواسل ،وسميت هذه المعركة بذات السلسل ) .
وغنم المسلمون من الفرس حمل ألف بعير ،وبعث خالد سرايا
تفتح ما حول الحيرة من حصون فغنموا أموال ً كثيرة ،ولم يعرض
خالد لمن لم يقاتلوه من الفلحين بل أحسن معاملتهم كما أوصاه
الصديق ،وأبقاهم في الرض التي يفلحونها ومكنهم من إنتاجها
ومتعهم بثمرات عملهم ،فمن دخل في السلم حدد له نصيب الزكاة
ومن بقي على دينه فرض عليه الجزية ،وهو أقل بكثير مما كان ينهبه
المالكون الفرس .ولم ينتزع الرض من أيدي أصحابها الفرس ،ولكنه
دا من العدل والخاء أنصف العاملين فيها فأحسوا بأن عنصًرا جدي ً
النساني يشرف عليهم من خلل هذا الفتح المجيد ،وأرسل خالد
خمس الغنائم والموال إلى الصديق ووزع الباقي على المجاهدين،
قلنسوة(4هرمز ولكن الصديق أهداها وكان مما أرسله إلى الصديق
إلى خالد مكافأة له على حسن بلئه ) ،وكانت قيمتها مائة ألف
وكانت مفصصة بالجوهر ،فقد كان أهل فارس يعملون قلنسهم على
فمن(5تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة قدر أحسابهم في عشائرهم،
ألف ،فكان هرمز ممن تم شرفه ) في الفرس.
-2معركة المذار »الثنى«:
كان هرمز قد كتب إلى كسرى بكتاب خالد فأمده كسرى بجيش
بقيادة )قارن( ،ولكن هرمز استخف بجيش المسلمين فسارع إليهم
قبل وصول قارن فنكب ونكب جيشه ،وهرب فلول المنهزمين
فالتقوا بجيش )قارن( وتذامروا فيما بينهم وتشجعوا على قتال
المسلمين ،وعسكروا بمكان يسمى المذار ،وكان خالد قد بعث
المثنى بن حارثة وأخاه المعني في آثار القوم ففتحا بعض الحصون،
دا الخبر ،وكتب خالد إلى أبي وعلما بمجئ جيش الفرس فأبلغا خال ً
بكر بمسيره إليه ،وسار وهو مستعد للقتال حتى ل يفاجأ بهم،
والتقى المسلمون معهم في )المذار( فاقتتلوا ،والفرس قد أغضبهم
وأثار حفيظتهم ما وقع لهم قبل ذلك ،وخرج قائدهم )قارن( ودعا
إلى البراز ،فبرز إليه خالد ولكن سبقه إليه معقل بن العمش بن
النباش فقتله .وكان قارن وضع على ميمنته »قباذ« وعلى ميسرته
)أنوشجان( وهما من القواد الذين حضروا اللقاء الول وفروا من
) (3نفس المصدر السابق.4/163 : )( تاريخ الطبري.4/165 : 1
2
) (2تاريخ الطبري.4/166 : )( الصديق أول الخلفاء :ص .131 4
5
242
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المعركة ،فتصدى لهما بطلن من أبطال المسلمين ،فأما قباذ فقتله
عدي بن حاتم الطائي ،وأما أنوشجان فقتله عاصم بن عمرو
التميمي ،واشتد القتال بين الفريقين ،ولكن الفرس انهزموا بعد
مقتل قادتهم وقتل منهم ثلثون ألفا ولجأ بقيتهم إلى السفن فهربوا
عليها ،ومنع الماء المسلمين من ملحقتهم ،وأقام خالد بالمذار وسلم
بلغت ،وقسم الفئ ونفل من الخماس السلب لمن سلبها بالغة ما
أهل البلء ،وبعث ببقية الخماس) (1إلى المدينة.
-3معركة الولجة:
وصل نبأ نكبة الفرس في المذار إلى كسرى فبعث الندرزغر
على رأس جيش عظيم ،وأردفه بجيش آخر عليه بهمن جاذويه،
وتحرك الندرزغر من المدائن حتى انتهى إلى )كسكر( ومنها إلى
كا وسط السواد يريد أن يحشر الولجة ،وخرج بهمن جاذويه سال ً
جيش المسلمين بينه وبين الندرزغر ،واستطاع أن يحشر في
طريقه عدًدا من العوان والدهاقين ،وتجمعت القوة الفارسية في
الولجة ،وعندما شعر الندرزغر أن حشوده أصبحت كبيرة قرر
الزحف على خالد ،ولما بلغ خالد وهي بالثنى »مكان قرب البصرة
ومعناه منعطف النهر والجبل« تجمع الفرس ونزولهم الولجة رأى أن
من الفضل للمسلمين أن يهاجموا هذه الحشود الكبيرة من ثلث
جهات حتى يفرقوا جموعهم ،وتكون المفاجأة للفرس مربكة ،وأخذ
يعد العدة لتنفيذ خطة الهجوم ،ولكي يؤمن خطوطه الخلفية أمر
سويد بن مقرن بلزوم الحفير ،وتحرك بجيشه حتى وصل الولجة
وبعد أن قام باستطلع واف للمنطقة وجد أن ميدان المعركة أرض
مستوية وواسطة تصلح للقتال وتسمح بحرية الحركة ،ولما كان خالد
قد قرر أن يهاجم قوات الفرس من ثلث جبهات فقد نفذ خطته
وبعث بفرقتين لمهاجمة حشود الفرس من الخلف والجانبين ،وبدأت
المعركة واشتد القتال بين الفريقين وشدد خالد بهجومه من
المقدمة ،وفي الوقت المناسب انقض الكمينان على مؤخرة جيش
العدو فحلت به الهزيمة المنكرة ،وفر الندرزغر مع عدد من رجاله
شا ) ،(2وقام خالد في الناس خطيًبا فرغبهم في بلد ولكنهم ماتوا عط ً
العاجم وزهدهم في بلد العرب وقال :أل ترون ما ها هنا من
الطعمات؟ وبالله لو لم يلزمنها الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى
السلم ولم يكن إل المعاش لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف
حتى نكون أولى به ،ونولي الجوع والقلل من توله ممن اثاقل عما
أنتم عليه ،ثم خمس الغنيمة وقسم أربعة أخماسها وبعث الخمس
إلى الصديق وأسر من أسر من ذراري المقاتلة وأقر الفلحون
بالجزية (3) .وفي خطبة خالد بن الوليد للناس إشارة إلى أن العرب
وهم في جاهليتهم إضافة إلى أنهم ليسوا من طلب الخرة فإنهم لم
يظفروا بالدنيا لتفرقهم وتناحرهم فيما بينهم ،فخالد يقول :نحن
طلب الخرة ولنا هدف سام نسعى إليه من أجله ندعو ومن أجله
)( تاريخ الطبري ،4/168 :التاريخ السلمي.9/134 : 1
)( الكامل لبن الثير ،2/52 :أبو بكر الصديق ،خالد الجنابي :ص .48 2
243
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
نجاهد ،ولو فرض أننا ل نحمل هذا الهدف ،ول نجاهد من أجله فإن
العقل يقتضي أن نقاتل من أجل أن نصلح أحوالنا المعيشية ،وخالد
حينما يذكر ذلك ل يجعل هذا الموقف ثنائيا مع الهدف السامي الذي
ذكره ،وإنما يذكر ذلك على أنه مجرد افتراض يفرض نفسه لو لم
يوجد الهدف السامي المذكور ،وكأنه يقول :إذا كنا سنقارع هؤلء من
أجل الهدف الدنيوي أفل نقارعهم من أجل الهدف الخروي وابتغاء
مرضاة الله جل وعل؟
وهذا الكلم يشحذ الهمم ويقوي العزم ويحيي القلب ويفجر
المؤمنة مجاهدة في سبيل الله الطاقات ،فتنطلق بعد ذلك النفوس
تعالى بكل طاقاتها وإمكاناتها وقدراتها ).(1
)(2
وجاء في رواية :أن في يوم الولجة بارز خالد رجل ً من أهل
فارس يعدل بألف رجل فقتله ،فلما فرغ اتكأ عليه ودعا بغدائه ،
فيه( إذلل للفرس وتحطيم وهذا التصرف الجليل من سيف الله
لجبروتهم وتغطرسهم وإضعاف لعزائمهم ). 3
-4معركة أ ُل ّْيس وفتح أمغيشيا:
في هذه الموقعة انضم بعض نصارى العرب إلى العاجم،
وصاروا عوًنا للفرس على المسلمين ،وكان عليهم عبد السود
العجلي وعلى الفرس جابان ،وكان قد أمره )بهمن جاذويه( أل ينازل
المسلمين إل أن يعجلوه ،وبعد أن بلغ خالد تجمع نصارى العرب
وعرب الضاحية من أهل الحيرة سار إليهم ،وكان همه متجًها
لمواقعتهم ول علم له بانضمام الفرس لجموع العرب ،فلما أقبلت
جنود المسلمين طلب جابان من جنده مهاجمتهم ،فأظهروا عدم
دا لمالكتراث بخالد والتهاون بأمره وتداعوا إلى الطعام إل أن خال ً
يدعهم يهنأون بطعامهم ،واقتتلوا أشد القتال ،وقد زاد في كلب
العداء وشدتهم ما يتوقعون من لحاق بهمن جاذويه بهم في مدد
كبير ،وصبر المسلمون على هذا القتال العنيف ،وقال خالد :اللهم إن
دا قدرنا عليه حتى ي إن منحتنا أكتافهم أل أستبقي منهم أح ً لك عل ّ
أجري نهرهم بدمائهم .ثم إن الله كشفهم للمسلمين ومنحهم
أكتافهم ،فأمر خالد مناديه فنادى في الناس :السر السر ل تقتلوا إل
جا مستأسرين يساقون سوقا، من امتنع ،فأقبلت الخيول بهم أفوا ً
وقد وكل بهم رجال ً يضربون أعناقهم في النهر ،ففعل ذلك بهم ،يوما
وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا إلى النهرين ،ومقدار ذلك
من كل جانب ُأليس فضرب أعناقهم ،وقال له القعقاع وأشباه له :لو
أنك قتلت أهل الرض لم تجر دماؤهم ،إن الدماء ل تزيد على أن
ترقرق منذ نهيت عن السيلن ونهيت الرض عن نشف الدماء،
الماء(4عن النهر ،فأعاده فأرسل عليها الماء تبر يمينك ،وقد كان صد
)
طا فسمي نهر الدم لذلك الشأن. ما عبي ً فجرى د ً
هزموا وأجلوا عن عسكرهم ورجع المسلمون من طلبهم ولما ُ
ودخلوه وقف خالد على الطعام فقال :فقد نفلتكموه فهو لكم،
) (2البداية والنهاية.6/350 : )( التاريخ السلمي.9/139 : 1
2
244
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وقال :كان رسول الله × إذا أتى على طعام مصنوع نفله ،فقعد
عليه المسلمون لعشائهم بالليل وجعل من لم ير الرياف ول يعرف
الرقاق يقول :ما هذه الرقاق البيض؟! وجعل من قد عرفها يجيبهم
)(1
حا :هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون :نعم، ويقول لهم ماز ً
فيقول :هو هذا ،فسمي الرقاق ،وكانت العرب تسميه القَرى.
وبعد أن فرغ خالد من )أليس( نهض حتى أتى )أمغيشيا( ،وقد
جل عنها أهلها وأعجلوا عما فيها وتفرقوا في السواد ،فأمر بهدمها
وهدم كل شيء كان في حيزها ،وأصابوا بها ما لم يصيبوا مثله ،فقد
فا وخمسمائة درهم سوى أنفال أهل البلء ،ولما بلغ سهم الفارس أل ً
وصلت الخماس وأخبار النصر إلى الصديق وما صنعه خالد
دا أسدكم والمسلمون قال :يا معشر قريش –يخبرهم بالذي أتاه -عَ َ
السد فغلبه على خراذيله ) ،(2أعجزت النساء أن ينسلن مثل على
خالد (3).وكان خالد قد بعث بالخبر مع رجل يدعى جندل ً من بني
ما ،فقدم على أبي بكر بالخبر وبفتح )أليس( عجل وكان دليل ً صار ً
وقدر الفيء وبعدة السبي وبما حصل من الخماس وبأهل البلء من
الناس ،فلما قدم على أبي بكر فرأى صرامته وثبات خبره ،قال :ما
اسمك؟ قال :جندل ،قال :ويًها جندل:
وعودته الكر والقداما نفس عصام سودت عصاما
) (6التاريخ السلمي.9/144 : نفس المصدر السابق.4/175 : )( 5
6
245
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
دا لبنه على فم الفرات فقاتلهم وهزمهم ،وسد النهار حتى لقي جن ً
وسلك الماء سبيله ،ثم طلب خالد عسكره واتجه إلى الحيرة .وعلم
المرزبان بموت ابنه وخبر موت أزدشير ،فهاله المر فعبر الفرات
هارًبا من غير قتال ،فعسكر خالد مكانه وأهل الحيرة متحصنون
وأدخل خالد الخيل من عسكره ،وتمت خطته حول قصور الحيرة
بمحاصرتها على هذا النحو:
أ -ضرار بن الزور لمحاصرة القصر البيض وفيه إياس بن قبيصة
الطائي.
ب -ضرار بن الخطاب لمحاصرة قصر العدسيين ،وفيه عدي بن
عدي العبادي.
ج -المثنى بن حارثة لمحاصرة قصر ابن بقيلة وفيه عمرو بن عبد
المسيح.
وعهد خالد إلى أمرائه أن يدعوا القوم إلى السلم ،فإن أجابوا
ما وأمرهم أن ل يمكنوا عدًوا منهم بل جلوهم يو ًقبلوا منهم وإن أبوا أ ّ
عدوهم ففعلوا، قتال من المسلمين يمنعوا ول عليهم أن يناجزوهم،
واختار القوم المنابذة وعمدوا لرمى المسلمين بالحذف ) ،(1فرشقهم
المسلمون بالنبل وشنوا غاراتهم وفتحوا الدور والديارات ،فنادى
القسيسون :يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم ،فنادى أهل القصور :يا
معشر العرب قبلنا واحدة من ثلث فكفوا عنا ،وخرج رؤساء القصور
فقابلهم خالد ،كل أهل قصر على حدة ولمهم على فعلهم ،وتصالحوا
مع خالد على الجزية ،وصالحوه على مائة وتسعين ألفا ،وبعث خالد
بالفتح والهدايا إلى أبي بكر فقبل الهدايا وعدها لهل الحيرة من
لدابر العادات العجمية فا عما لم يأذن به الشرع ،وقطًعا الجزية تعف ً
التي كان يحتال بها على سلب أموال الناس ).(2
وكتب خالد في عهده لهل الحيرة :بسم الله الرحمن الرحيم،
هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدّيا وعمًرا ابني عدي ،وعمر بن
عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال –وهم نقباء أهل
الحيرة -ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به وعاهدهم على مائة
جَزاًء عن أيديهم في الدنيا، وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنةِ ،
سا عن رهبانهم وقسيسيهم ،إل من كان منهم على غير ذي يد ،حبي ً
الدنيا تاركا لها وسائحا تاركا الدنيا ،وعلى المنعة فإن لم يمنعهم
شيء فل شيء عليهم حتى يمنعهم ،وإن غدروا بفعل أو بقول
منهم بريئة .وكانت كتابة هذا العهد في شهر ربيع الول سنة فالذمة
12هـ ) ،(3وقد جاء في رواية :أن خالدا عرض على أهل الحيرة
واحدة من ثلث :أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن
نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم ،أو الجزية أو المنابذة
والمناجزة ،فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على
خالد(4:تّبا لكم ويحكم ،إن الحياة .فقال :بل نعطيكم الجزية ،فقال
الكفر فلة مضّلة ،فأحمق العرب من سلكها ) .
)( الحذف :الرمي بالحصى عن جانب والضرب عن جانب. 1
246
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ففي حديث خالد تنضح بعض الصفات اليمانية التي تجسدت
في جيش فتح العراق ،فهذا الجيش يتحرك من أجل هدف سام أل
وهو دعوة الناس إلى السلم وتبليغ الهداية للبشرية ،وليس التوسع
في الممالك وفرض السلطان والتمتع بالحياة الدنيا .كما ب َّين خالد
أهم مقومات نجاح المسلمين في حروبهم؛ أل وهو الحرص الكيد
على طلب الشهادة وابتغاء ما عند الله تعالى في الخرة ،كما بين
النص السابق حرص الصحابة -رضي الله عنهم -على تطبيق سنة
دا
النبي × وذلك بالرغبة القلبية في هداية البشرية؛ حيث إن خال ً
وّبخهم على اختيار البقاء على الكفر مع أن بقاءهم على الكفر ودفع
دا من قوم هانت الجزية فيه مصلحة مالية للمسلمين ،ولكن خال ً
عليهم الحياة الدنيا وفضلوا ما عند الله -جل)(1وعل -في الخرة ،وقد
قوله ×» :لن سن رسول الله × لهم هذا المبدأ السامي ،في
دا خير لك من حمر النعم« ).(2 يهدي الله بك رجل ً واح ً
وفي قبول الصديق لهدية أهل الحيرة وقد أهدوها طائعين
فا وخشية أن يظلم أهل ذمته مختارين ،فعدها من الجزية عدل ً وتعف ً
طا ،درس عظيم في إقامة العدل بين الناس ،وقد أو يكلفهم شط ً
قارن الشيخ على طنطاوي بين فتوح الستعمار التي أثارتها أوربا
وبين فتح المسلمين مقارنة متميزة ،ثم استدل بقول الشاعر:
ح
فلما ملكتم سال بالدم أبط ُ ملكنا فكان العدل منا سجية
ن
م ّ
غدونا على السرى ن َ ُ وحللتم فكان العدل منا
ونصفح سجية
)(3
فكل إباء بالذي فيه ينضح فحسبكم هذا التفاوت بيننا
الحيرة قاعدة الجيوش السلمية:
كان فتح الحيرة عمل ً حربًيا عظيم القيمة ,وسع أمل المسلمين
في فتح بلد فارس؛ لمكان هذا البلد الجغرافي والدبي من العراق
والمملكة الفارسية ،فقد اتخذها القائد العام للجيوش السلمية مقًرا
لقيادته ومركًزا رئيسًيا تتلقى منه جيوش السلم أوامر الهجوم
والدفاع والمداد والنظم ،وكذلك جعلها قاعدة عامة للتدبير
والسياسة التي يقوم عليها تنظيم من وقع في يد المسلمين ،وبث
خالد عماله على الوليات لجباية الخراج والجزاء ،ووجه أمراءه إلى
الثغور لحمايتها ،وأقام هو ريثما يتم ما أراده من الستقرار والنظام،
وترامت أخباره إلى الدهاقين والرؤساء فأقبلوا إليه يصالحونه حتى
لم يبقَ ما بين قرى سواد العرق إلى أطرافه من ليس مولى
للمسلمين أو على عهد منهم ) ،(4وقد كان من عماله على القاليم:
-1عبد الله بن وثيمة النضري الفلليج.
-2جرير بن عبد الله البجلي على بانقيا.
-3بشير بن الخصاصية على النهرين.
) (4البخاري ،كتاب المغازي رقم.4210 : )( التاريخ السلمي.9/148 : 1
2
247
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-4سويد بن مقرن المزني على ُتسُتر.
ط على روذستان. ط بن أبي أ ُ ّ -5أ ُ ّ
وكان من قادة الثغور:
-1ضرار بن الزور السدي.
-2المثنى بن حارثة الشيباني.
-3ضرار بن الخطاب الفهري.
-4ضرار بن مقرن المزني.
-5القعقاع بن عمرو التميمي.
ُ -6بسر بن أبي رهم الجهني.
عتيبة بن النهاس ).(1 ُ -7
الرسائل التي أرسلها خالد إلى خاصة الفرس
وعامتهم:
أجمع خالد أمره على منازلة الفرس في ساحات ملكهم بعد أن
صفا له الجو في العراق وأمن ظهره بانحسار أمر فارس عن
العرب ,فيما بين الحيرة ودجلة ،وكان أهل فارس في هذه الفترة
على خلف شديد فيمن يولونه عليهم بعد موت كسراهم أزدشير،
فانتهز خالد هذه الفرصة وكتب إلى خاصتهم يقول :من خالد بن
الوليد إلى ملوك فارس :أما بعد ،فالحمد لله الذي حل نظامكم
ووهن كيدكم وفرق كلمتكم وأوهن بأسكم وسلب أموالكم وأزا ّ
ل
عزكم ،فإذا أتاكم كتابي فأسلموا تسلموا أو اعتقدوا منا الذمة،
وأجيبوا إلى الجزية ،وإل والله الذي ل إله إل هو لسيرن إليكم بقوم
يحبون الموت كما تحبون الحياة ،ويرغبون في الخرة كما ترغبون
)(2
في الدنيا.
وكتب إلى عامتهم فقال :من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل
فارس :الحمد لله الذي فض خدمتكم وفرق جمعكم وأوهن بأسكم
وسلب أموالكم وأزال عزكم ،فإذا أتاكم كتابي فأسلموا تسلموا أو
اعتقدوا منا الذمة وأجيبوا إلى الجزية ،وإل والله الذي ل إله إل هو
لسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة ،ويرغبون في
الخرة كما ترغبون
)(3
في الدنيا.
وبفتح الحيرة تحقق شطر من أمل أبي بكر في فتح العراق
دا لغزو فارس في عقر دارهم ،وقد قام خالد بن وإخضاعه تمهي ً
الوليد بمهمته في ذلك خير قيام ،ووصل إلى الحيرة في وقت
قياسي؛ حيث بدأ صراعه مع العداء في شهر محرم من العام الثاني
)( أبو بكر الصديق ،خالد الجنابي ،نزار الحديثي :ص .52 ،51 1
2
)( أبو بكر الصديق ،خالدـ الجناني،ـ نزار الحديثي:ـ ص .52 ،51
248
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
عشر في معركة الكاظمة وانتهى من فتح الحيرة في شهر ربيع
الول من العام نفسه ).(1
كرامة خالد بن الوليد في فتح الحيرة:
)(2
قيلة ، وقد أخرج المام الطبري بإسناده… وكان مع ابن ب ُ َ
منصف له ) (3فعلق كيسا في حقوة ،فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه
م ساعة، س ّ
في راحته فقال :ما هذا يا عمرو؟ قال :هذا وأمانة الله ُ
حتقب السم؟ قال :خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، م تَ ْ
قال :ل ِ َ
ي من مكروه أدخله على ّ إل أحب والموت أجلي على أتيت وقد
قومي وأهل قريتي ،فقال خالد :إنها لن تموت نفس حتى تأتي على
أجلها ،وقال :بسم الله خير السماء رب الرض ورب السماء -الذي
ليس يضر مع اسمه داء -الرحمن الرحيم ،فأهووا إليه يمنعونه منه
وبادرهم فابتلعه ،فقال عمرو :والله يا معشر العرب لتملكن ما
أيها( القرن (4).وأقبل على أهل الحيرة فقال: أردتم ما دام منكم أحد
أوضح إقبال ً ) ، 5وقد ذكر هذه الرواية الحافظ ابن كثير )(6
لم أر كاليوم
وقال :رواه أبو يعلى ورواه حجر ابن الحافظ وذكرها ، ولم يضعفها
ابن سعد من طريقين آخرين ولم يضعفها ) ،(7وذكرها ابن تيمية مثال ً
)(8
من أمثلة الكرامات.
وقد أنكر بعض الكتاب المعاصرين هذا الخبر واعتبروه من نسج
خيال بعض الرواة حول شخصية خالد ،وقد ثبتت هذه الرواية من
ناحية السناد؛ فقد ارتضاها الطبري وابن سعد وابن كثير وابن حجر
وابن تيمية ولم يضعفوا إسنادها ،وهم أعلم وأنصف في علم التاريخ
السلمي من الكتاب المعاصرين.
دا عندما أقدم على شرب السم ،كان في قمة اليقين إن خال ً
واليمان بأن الله -جل جلله -هو الذي خلق كل شيء وأودع في كل
شيء خصائصه ،وأنه القادر على أن يلغي مفعول هذه الخصائص إذا
أراد لحكمة عالية وهدف عظيم ،كما أذهب فعالية النار حينما ألقي
ما ،وقد حصل ذلك لغير النبياء فيها إبراهيم وجعلها عليه برًدا وسل ً
عليهم السلم؛ كما حصل لبي مسلم الخولني لما رفض أن يقر
ما
العنسي الكذاب؛ فألقاه في النار فوجوده فيها قائ ً بنبوة السود
دا حينما قدم على ذلك لم يخالج يصلي ولم تضره (9) .كما أن خال ً
قلبه ذرة من إرادة حظ النفس وكسب السمعة والجاه؛ لنه لو نوى
شيًئا من ذلك لعلم أن الله تعالى سيتخلى عنه ،وهو ل حول له ول
قوة على انتزاع أثر السم الضار ،وهذه تجربة فذة ل يطلب من أي
مسلم أن يخوضها ،ولو كان هدفه نفس الهدف الذي رمى إليه
خالد؛ لنه يندر أن يوجد من يبلغ إيمانه وثقته بالله تعالى إلى
المستوى الذي بلغ إليه
التاريخ السلمي.9/150 : )( 1
يعني :عمرو بن عبد المسيح ،وهو سيد قومه (2) .أي :خادم. )( 2
3
) (4تاريخ الطبري.4/180 : يعني :أهل الجيل المعاصر. )( 4
5
249
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
خالد وأرضاه ).(1
-6فتح النبار »ذات العيون«
استقام المر لخالد في تلك الجهات فاستخلف على الحيرة
القعقاع بن عمرو التميمي ،واتجه بتعبئة لغاثة عياض بن غنم الذي
أرسله الصديق لفتح العراق من الشمال ويلتقي بخالد ،وصل خالد
القوم قد تحصنوا وخندقوا على أنفسهم وأشرفوا إلى النبار فوجد
على أعلى الحصون) ،(2فضرب المسلمون عليهم الحصار وأمر خالد
جنوده أن يصوبوا إلى عيون أهل النبار ،فلما نشب القتال أصابوا
رمية ألف عين من عيونهم ،ولذلك سميت هذه الوقعة )ذات )(3
في أول
العيون(.
واخترق خالد الخندق الذي حول النبار بفطنة وذكاء؛ حيث عمد
إلى الضعاف من البل بجيشه فنحرها ومل الخندق في أضيق نقطة
جثث(4البل، فيها بجثث البل ،واقتحم المسلمون الخندق وجسرهم
وصاروا مع عدوهم داخل الخندق ،فالتجأ العدو إلى الحصن) ،
واضطر شيراز قائد جند الفرس إلى قبول الصلح بشروط خالد على
فقبل خالد منه أن يخرج من النبار في عدد من الفرسان يحرسونه،
ذلك بشرط أل يأخذ معه من المتاع أو من الموال شيًئا ).(5
وتعلم الصحابة ممن بها من العرب الكتابة العربية ،وكان أولئك
العرب قد تعلموها من عرب قبلهم وهم بنو إياد ،كانوا في زمان
دا قول بعض إياد بختنصر حين أباح العراق للعرب ،وأنشدوا خال ً
يمتدح قومه:
أولو أقاموا فتهزل النعم قومي إياد إنهم أمم
)(6
قوم لهم باحة العراق إذا
-7عين التمر:
استخلف خالد الزبرقان بن بدر على النبار وسار إلى عين التمر،
فوجد عقة بن أبي عقة في جمع عظيم من النمر وتغلب وإياد ومن
حالفهم ،ومعهم من الفرس مهران بقواته) ،(7وطلب عقة من مهران
أن يتركه لقتال خالد وقال له :إن العرب أعلم بقتال العرب ،فدعنا
دا ،فقال له :دونكم وإياهم ،وإن احتجتم إلينا أعّناكم فلمت وخال ً
دا فهو لكم وإن
العجم أميرهم على هذا ،فقال :دعوهم فإن غلبوا خال ً
دا وقد ضعفوا ونحن أقوياء ،فاعترفوا له بفضل الرأي غلبوا قاتلنا خال ً
عليهم ،وسار خالد وتلقاه عقة ،فلما تواجهوا قال خالد لمجنبته:
التاريخ السلمي.154 /9 : )( 1
250
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
احفظوا مكانكم فإني حامل ،وأمر حماته أن يكونوا من ورائه ،وحمل
على عقة وهو يسوي الصفوف فاحتضنه وأسره ،وانهزم جيش عقة
من غير قتال فأكثروا فيهم السر .وقصد خالد حصن عين التمر،
فلما بلغ مهران هزيمة عقة وجيشه نزل من الحصن وهرب وتركه،
حا فدخلوه ورجعت فلول نصارى العراب إلى الحصن فوجدوه مفتو ً
واحتموا به ،فجاء خالد وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار ،واضطر
أهل الحصن أن ينزلوا على حكم خالد ،فأمر بضرب عنق عقة ومن
كان أسر معه والذين نزلوا على حكمه أجمعين ،وغنم جميع ما في
ما يتعلمون
ذلك الحصين ووجد في الكنيسة التي به أربعين غل ً
النجيل وعليهم باب مغلق فكسره خالد وفرقهم في المراء وأهل
الغناء .وكان )حمران( مولى عثمان بن عفان من ذلك الخمس،
ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين ،أخذه مالك بن أنس ،وأرسل
خالد الخمس إلى الصديق ،ثم أرسل أبو بكر الوليد بن عقبة إلى
عياض مدًدا له وهو محاصر دومة الجندل ،فلما قدم عليه وجده في
ما ،وهم قد أخذوا عليه الطرق فهو ناحية من العراق يحاصر قو ً
ضا ،فقال عياض للوليد :إن بعض الرأي خير من جيش محصور أي ً
كثيف ،ماذا ترى فيما نحن فيه؟ فقال له الوليد :اكتب إلى خالد
يمدك بجيش من عنده ،فكتب إليه يستمده فقدم كتابه على خالد
عقب وقعة عين التمر وهو يستغيث به ،فكتب إليه :من خالد إلى
عياض :إياك أريد ،لّبث قليل ً تأتك الحلئب ) (1يحملن آسادا عليها
القشائب ) ،(2كتائب تتبعها كتائب).(3
-8دومة الجندل:
رحل خالد بجنده من عين التمر بعد أن خلف عليها عويم بن
الكاهل السلمي ،ووصلت أنباؤه إلى أهل دومة)(4الجندل فاستنجدوا
بحلفائهم من قبائل بهراء وكلب وغسان وتنوخ ،وكان أمر أهل
دومة الجندل إلى زعيمين هما :أكيدر بن عبد الملك والجودي بن
ربيعة فاختلفا ،فقال أكيدر :أنا أعلم الناس بخالد ،ل أحد أيمن طائًرا
دا قّلوا أو كثروا إل
منه ،ول أحد ّ في حرب ،ول يرى وجه خالد قوم أب ً
القوم ،فأبوا عليه فقال :لئن انهزموا عنه ،فأطيعوني وصالحوا
أمالئكم على حرب خالد فشأنكم ).(5
وهذه شهادة خصم في خالد والحق ما شهدت به العداء ،وقد
كان خالد أسره قبل ذلك حينما أرسله إليه رسول الله × في غزوة
ن عليه وكتب له كتاب عهد، تبوك ،فأخذه وأتى به إلى النبي × فم ّ
ولكنه خان العهد بعد ذلك .ولقد بقي الرعب في نفسه منذ يوم
أسره خالد إلى جانب سمعته الشهيرة في حروبه مع العرب
دا خبره وهو في طريقه والعجم ،وخرج أكيدر مفارًقا قومه ،وبلغ خال ً
ضا له فأخذه ،فقال: إلى »دومة« فأرسل إليه عاصم بن عمرو معار ً
دا ،ولكن خيانته السابقة جعلت خالد ينفذ فيه إنما تلقيت المير خال ً
)( الحلئب :ما يحمل عليه من دواب. 1
251
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
العدام ،وهكذا قتله الله بخيانته ونقضه العهد ولم يغن الحذر حكم
من القدر ).(1
ونزل خالد على دومة الجندل وجعل أهلها ومشايعيهم من بهراء
وكلب وتنوخ بين فكي )كماشة( ذراعها الولى عسكره والثانية
عسكر عياض بن غنم ) ،(2وتقدم الجودي بن ربيعة بجنوده نحو خالد،
وتقدم ابن الحدرجان وابن اليهم بجنودهما ناحية عياض ،ودارت
المعركة وأنزل خالد الهزيمة بالجودي وأتباعه ،وانتزع عياض النصر
من ابن الحدرجان ومن معه بصعوبة ،وحاولت فلول المنهزمين
الحتماء بالحصن ولكنه كان قد عج بمن فيه فأغلقوه عليهم وتركوا
أصحابهم حوله في العراء ،ولم يلبث خالد أن هاجم)(3من بداخل
عا كثيرة.الحصن بعد أن اقتلع بابه فقتل منهم جمو ً
وبفتح دومة الجندل أصبح للمسلمين موقع استراتيجي ذو أهمية
فريدة؛ لن دومة الجندل تقع على ملتقى الطرق إلى ثلث جهات؛
فشبه الجزيرة العربية من الجنوب ،والعراق من الشمال الشرقي،
والشام من الشمال الغربي .ومن الطبيعي أن تنال هذه المدينة مثل
هذه العناية من الخليفة أبي بكر الصديق وجنوده التي تقاتل بالعراق
ضا لم يبرحها بل وتقف على تخوم الشام ،وتلك هي العلة في أن عيا ً
الجندل لم دومة طا أمامها إلى أن خف إليه خالد ،ولو أن ظل مراب ً
)(4
تذعن للمسلمين لبقي أمرهم في العراق تحفه المخاطر .
ضا على فتح دومة الجندل، وبذلك استطاع خالد أن يعين عيا ً
ولئن كانت حروب خالد في جنوب العراق مثال ً للبراعة في
الهجوم السريع واغتنام الفرص وإثارة الرعب لدى العداء ،فإن ثبات
عياض هذه المدة الطويلة في وجه أعداء قد تكالبوا عليه من كل
ضا بالصبر والمصابرة مكان دليل على تمتع الجيش السلمي أي ً
وطول المل ،والثقة بنصر الله تعالى في النهاية.
وكان عياض من أفاضل المهاجرين ومن سادة قريش ،وكان
حا جواًدا ،وقد وثق به الخلفاء وولتهم بعد ذلك ،فكان أحد قادة سم ً
اليرموك وكان على مقدمة جيش أبي عبيدة ،ثم فتح بعد ذلك
الجزيرة بأكملها وهي المناطق التي بين الشام والعراق ،واستخلفه
فأقره عمر على الشام أبو عبيدة على الشام لما حانت وفاته،
إلى أن احتاج إليه في الفتوح فوجهه إليها ).(5
حصيد):(6
-9وقعة ال ُ
أمر خالد القرع بن حابس بالرجوع إلى النبار ،وأقام بدومة
الجندل فكانت إقامته مدعاة لطمع العاجم وظنهم به الظنون،
وكذلك ظنها عرب المنطقة فرصة ،فكاتبوا العاجم ليكونوا معهم
على خالد غضًبا لـ»عقة« الذي لم ينسوا مصرعه بعد ،فخرج زرمهر
التاريخ السلمي.9/163 : )( 1
تاريخ الطبري .4/196 :أبو بكر الصديق ،خالد الجنابي :ص .54 )( 3
أبو بكر الصديق ،نزار الحديثي ،خالد الجنابي :ص .54 )( 4
252
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
من بغداد ومعه روزبة يريدان النبار ،وتواعدا في الحصيد والخنافس،
فوصل خبرهم الزبرقان بن بدر وهو على النبار ،فاستمد القعقاع بن
عمرو خليفة خالد على الحيرة ،فأمده بـأعبد بن فدكي السعدي »أبو
ليلى« وأمره بالحصيد ،وبعروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس.
وعندما علم خالد بتحرك بعض القبائل ورغبتهم بالنضمام إلى روزبة
في الحصيد جعل القعقاع أميًرا على الناس في الحصيد بعد أن ترك
مكانه عياض بن غنم على الحيرة ،فلما علم روزبة بتوجه القعقاع
إليه استمد زرمهر فانضم إليه ،والتقى المسلمون بجموع الفرس
منهم مقتلة عظيمة من بينهم زرمهر وروزبة وغنموا غنائم وقتلوا
كثيرة ) ،(1وقد قال القعقاع بن عمرو في هذه المعركة:
قضى وطًرا من روزمهر أل أبلغا أسماء أن حليلها
العاجم
)(2
غدا صبحنا في حصيد
جموعهم
-10وقعة المصّيخ:
صيد إلى خالد واعد قادةح َ ْ
بعد أن وصلت أخبار المسلمين في ال ُ
جيوشه في ليلة وساعة يجتمعون فيها عند المصيخ قرب حوران،
بعض القبائل ومن آوى إليهم من ثلثة فلما توافوا في موعدهم بيتوا
أوجه فأوقع بهم خسائر كبيرة ) ،(3ثم علم خالد بتحشد بعض القبائل
ميل« في ديار بكر في »الث ِّني« وهو موضع قرب الرقة »والّز َ
دا لقتال المسلمين ،فباغتهم في »الثني« من عدة اتجاهات استعدا ً
جموعهم ،وكذلك هاجم المتحشدين في »الزميل« فأوقع بهم فشتت
خسائر هائلة ).(4
يقول عدي بن حاتم :انتهينا في هذه الغارة إلى رجل يقال له
حرقوص بن النعمان النمري ،وحوله بنوه وبناته وامرأته ،وقد وضع
لهم جفنة من الخمر ،وهم يقولون :أحد يشرب هذه الساعة وهذه
جيوش خالد قد أقبلت؟ فقال لهم :اشربوا شرب وداع ،فما أرى أن
تشربوا خمًرا بعدها ،فشربوا وجعل يقول:
بعيد انتفاخ القوم بالعكر أل فاشربوا من قبل قاصمة
الدثر الظهر
)(5
يجري وقبل منايانا المصيبة بالقدر
بعض الخيل فضرب رأسه ،فإذا هو فسبق إليه وهو في ذلك في
في جفنته وأخذنا بناته وقتلنا بنيه ).(6
وقد قتل في هذه المعركة رجلن كانا قد أسلما ومعهما كتاب
)( البداية والنهاية.6/355 : 1
)( أبو بكر الصديق ،خالد الجنابي ،نزار الحديثي :ص .55 3
253
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
من الصديق بالمان ،ولم يعلم بذلك المسلمون فلما بلغ خبرهما
الصديق وداهما وبعث بالوصاة بأولدهما ،وقال فيهما الصديق :كذلك
الحرب في ديارهم؛ أي الذنب لهما في يلقى من يساكن أهل
مجاورتهما المشركين ).(1
فراض: -11وقعة ال ِ
بعد أن بسط خالد راية السلم على العراق ،واستسلمت له
فَراض ،وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة؛ قبائل العرب قصد ال ِ
حتى يحفظ ظهره ويأمن من أن تكون وراءه عورة عند اجتيازه أرض
السواد إلى فارس ،فلما اجتمع المسلمون بالفراض غضب الروم
عا
وهاجوا واستعانوا بمن يليهم من مسالح الفرس ،فلبسوا سرا ً
لنهم كانوا حانقين على المسلمين الذين أذلوهم وكسروا شوكتهم،
كما استمدوا العرب من تغلب وإياد والنمر فأمدوهم؛ لنهم لم ينسوا
بعد مصرع رؤسائهم وأشرافهم .فاجتمعت جيوش الفرس والروم
والعرب على المسلمين في تلك الموقعة ،فلما بلغوا الفرات قالوا
للمسلمين :إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم ،فقال خالد :بل
اعبروا إلينا ،قالوا :فتنحوا حتى نعبر ،فقال خالد :ل نفعل ولكن
اعبروا أسفل منا ،وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة.
فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض :احتسبوا ملككم ،هذا رجل
خذ ََلن ،ثم لم
يقاتل على دين وله عقل وعلم ،والله لي ُْنصرن ولن ُ ْ
ينتفعوا بذلك ،فعبروا أسفل من خالد ،فلما تتاموا قالت الروم:
امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح من أينا يجيء!
ل ،ثم إن الله -عز وجل -هزمهم، دا طوي ً
ففعلوا فاقتتلوا قتال شدي ً
وقال خالد للمسلمين :ألحوا عليهم ول ترفهوا عنهم ،فجعل صاحب
الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه فإذا جمعوهم
قتلوه ،وقتل من العداء عشرات اللوف ،وأقام خالد في الفراض
عشرة أيام،
ثم أمر بالرجوع للحيرة ).(2
شا مكونا من الفرس الذين وهكذا واجه المسلمون لول مرة جي ً
يمثلون دولة المشرق العظمى ،والروم الذين يمثلون دولة المغرب
العظمى ،والعرب الموالين لهؤلء وهؤلء ،ومع ذلك انتصر
قا ،ول شك أن هذه المعركة تعتبر من المسلمون عليهم انتصاًرا ساح ً
المعارك التاريخية الفاصلة ،وإن لم تنل من الشهرة ما نالته المعارك
الكبرى؛ لنها حطمت معنويات الكفار على مختلف انتماءاتهم حيث
المعارك التي خاضها سيف هزموا جميًعا ،وهذه المعركة تعتبر خاتمة
الله المسلول خالد بن الوليد في العراق ) ،(3وانكسرت شوكة
المعركة ،ولم تقم لهم قوة حربية يخشاها السلم الفرس بعد هذه
بعد هذه الموقعة ).(4
ومما قاله القعقاع بعد عمرو في هذه المعركة:
البداية والنهاية.6/356 : )( 1
254
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وفرس غَ ّ
مها طول السلم لقينا بالفراض جموع روم
255
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ن به؛ إذبالعمل(1الذي يعمله؛ فإن الله هو الما ّ
)
ويمن على الله
التوفيق بيده سبحانه.
هذا وقد ظهرت في معارك العراق مقدرة الجيوش السلمية
على تطبيق مبادئ الحرب ،من مباغتة وصد الهجوم وتثبيت العداء،
وحشد القوات ،وإدامة المعنويات وجمع المعلومات ،ورسم الخطط
وتنفيذها بكل قوة ودقة واحتياط منقطع النظير ،فهو لم يذهب إلى
الشام لمجاهدة الروم إل بعد خبرة واسعة في فتوحات العراق،
وكان المرشح للبقاء على جيوش العراق بعد سفر خالد المثنى بن
حارثة الشيباني لخبرته الواسعة بأرض العراق ،ومهارته الفائقة في
حرب الفرس ،ويظهر للباحث أن الخطط التي وضعها خالد في
حروب العراق كانت تعتمد على الله ثم على جمع المعلومات
الدقيقة التي تدل على نشاط مخابراته واستكشافاته في ا لميدان،
والذي يبدو أن هذه المخابرات قد قام بتنظيمها القائد الفذ »المثنى
ابن حارثة الشيباني« ،ليس فقط للمعيته وقدرته الفائقة على
التنظيم ،وإنما لمعايشته للمنطقة ،فهو ينتمي إلى »بني شيبان« من
»بكر بن وائل« الذين كانت منازلهم بتخوم العراق وحوض الفرات
التي تمتد شمال ً إلى »هيت« ،فكانوا بحكم مساكنهم واتصالتهم
كا لجيش من مؤهلين لن يكونوا عيوًنا »مخابرات« ،فما وجدنا تحر ً
جيوش الفرس إل وكان خبر ذلك التحرك منذ بدئه على لسان
واردة(2تحدث في »المثنى« في الوقت المناسب ،وما من شاردة ول
بلط الفرس إل وكان »المثنى« على علم بها في حينها ) .
وكان في خطاب الصديق إلى خالد :دع العراق واخلف فيه أهله
فا في أهل قوة من أصحابنا الذين الذي قدمت عليهم ،ثم امض مخف ً
قدموا معك العراق من اليمامة ،وصحبوك في الطريق وقدموا عليك
من الحجاز ،ثم تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من
المسلمين ،وإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة ،والسلم عليك ورحمة )(3
الله.
فا
وتهيأ خالد للسير إلى الشام ،وقسم خالد الجند نصفين :نص ً
فا للمثنى ،ولكنه جعل الصحابة جميًعا من يسير به إلى الشام ونص ً
نصيبه ،فقال له المثنى :والله ل أقيم إل على إنفاذ أمر أبي بكر كله
في استصحاب نصف الصحابة وإبقاء النصف ،فوالله ما أرجو النصر
إل بهم ،فأنت تعريني منهم .وكان خطاب الصديق قد وصل إلى خالد
قبل سفره يأمره فيه بمن يأخذ من الجند ومن يدعهم للمثنى ،قال:
دا ،فإذا فتح الله)(4عليك
دا إل خلفت لهم مج ًيا خالد ل تأخذ مج ً
فارددهم إلى العراق وأنت معهم ،ثم أنت على عملك .
فما زال خالد يسترضي المثنى ويعوضه عن الصحابة بمقاتلين
عرفوا بالشجاعة والصبر من سادة أقوامهم من أهل البأس وممن
وشدة المراس ،فرضي المثنى آخر المر (5) .وحشد خالد جنوده
وانطلق ليعبر إلى الشام صحاري رهيبة غائبة النواحي مترامية
)( تاريخ الدعوة إلى السلم :ص .295 1
256
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الفاق كأنما هي التيه ،وسأل الدلء :كيف لي بطريق أخرج فيه من
وراء جموع الروم؟ فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين!
قا ل يحمل الجيوش ،فوالله إن الراكب قالوا له :ل نعرف إل طري ً
المفرد ليخافه على نفسه! إنك لن تطيق ذلك الطريق بالخيل
والثقال ،إنها لخمس ليال ل يصاب فيها ماء.
قال خالد :إنه ل بد من ذلك لخرج من وراء جموع الروم ،وعزم
خالد على سلوك هذا الطريق مهما تكن مخاطره ،فكم فاز باللذة
الجسور ،فنصحه رافع بن عمير أن يستكثر من الماء حتى يجتاز ذلك
الطريق ،فأمر خالد جنوده أن يخزنوا الماء في بطون البل
العطاش ،ثم يشدوا مشافرها لكيل تجتر فتستنزف الماء ) ،(1وقال
لرجاله :إن المسلم ل ينبغي أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله
له ).(2
وسار به الدليل رافع بن عمير في طريق تمتاز بوعورتها وقلة
مائها وضياع معالمها وقلة سكانها ول سيما الجزء الممتد بين
قراقر وسوى ) ، (3إل أنها أقصر الطرق ،فأوضح خالد لجنده
العتبارات التي تجعله يفضل سلوك هذا الطريق على غيره،
وهي السرعة والسرية والمباغتة .وكان رافع قد طلب من خالد
أن يهيئ عشرين ناقة كبيرة ،فأعطاه ما أراد ،فمنع عنها الماء
أيا ً ما حتى عطشت ،ثم أوردها إياه فملت جوفها فقطع مشافرها
وكممها فل تجتر ،ثم قال لخالد :سر الن بالخيول والثقال ،وكلما
نزلت منزل نحرت من تلك البل وشرب الناس مما تزودوا .فسار
الجيش من قراقر -وهي آخر قرى العراق على حدود الصحراء-
إلى سوى وهي أوائل قرى الشام ،والمسافة بينهما خمس ليال
يستريحون بالنهار ويسيرون بالليل ،واعتمد خالد على رافع بن
عمير دلي ً ل بعد أن وثق به ومن صحة دللته ,واختار محرز
المحاربي لحذقه في الدللة على النجوم ،لذلك كان مسيرهم ليل ً
وصبا ً حا مع تحاشي السير عند ارتفاع النهار والظهيرة لقطع
مرحلتين في اليوم الواحد ،ولم يترك خالد أح ًدا من جنده يسير
راج ً ل وإنما أركب الجند البل للمحافظة على قابليتهم البدنية.
وسار خالد في الطريق وكلما نزل منز ل ً نحر عد ًدا من النوق
فأخذ ما في أكراشها فسقاه الخيل ،ثم شرب الناس مما حملوا
من الماء ،فلما كان اليوم الخامس نفد الماء ،فخاف خالد على
أصحابه من العطش ،وقال لرافع وهو أرمد :ما عندك؟ فطلب
رافع من الناس أن يبحثوا عن شجرة عوسج صغيرة في تلك
المنطقة فلم يجدوا إل جزًءا صغيرة من ساقها ،فأمر رافع أن
يحفروا هناك ،فحفروا فظهرت عين للماء فشربوا حتى روى
)(4
الناس ،فاتصلت بعد ذلك لخالد المنازل.
)( الصديق أول الخلفاء :ص .171 1
)( القراقر :ماء لكلب في بادية السماوة .وسوى :ماء لبهراء في بادية السماوة، 3
257
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وقد قال بعض العرب لخالد في هذا المسير :إن أنت أصبحت
عند الشجرة الفلنية نجوت أنت ومن معك ،وإن لم تدركها هلكت
أنت ومن معك ،فسار خالد بمن معه وسروا سروة عظيمة فأصبحوا
سرى فأرسلها مثل ً وهوخالد(1:عند الصباح يحمد القوم ال ّ عندها ،فقال
أول من قالها : )
وقد قال رجل من المسلمين في مسيرهم هذا مع خالد:
فوَّز من قراقر إلى سوى لله در رافع أّني اهتدى
)(2
ما سارها قبلك إنسي ي َُرى خمسًا إذا ما سارها الجيش
بكى
وهذه القصة تدل على أن القائد المحنك ل يبالي بالخطار ،وأنه
أعمل الحيلة في سبيل الحصول على الماء لقطع الصحراء حتى
وصل إلى غرضه ،وفي اليوم الخامس وصل جيش خالد إلى سوى
كا وراءه حاميات الروم على الطرق -وهو أول تخوم الشام -تار ً
الرئيسة العامة تواجه العراق ،وكانت حركته في قطع الصحراء
من(3أعاجيب المخاطر المحسوبة ،ذللتها إرادة بخمسة أيام أعجوبة
القائد وإيمانه وإقدامه ) .
وصل خالد إلى »أدك« وهي أول حدود الشام ،فأغار على أهلها
حا ،ثم نزل »تدمر« فامتنع أهلها وتحصنوا ،ثم وحاصرهم فحررها صل ً
طلبوا المان فصالحهم وواصل سيره فأتى »القريتين« ،فقاتله أهلها
فظفر بهم ،ثم قصد »حوارين« ،وصار إلى موضع يعرف بالثنية،
قاب ،فسمي ذلك فنشر رايته وهي كانت لرسول الله × تسمى العُ َ
الموضع بثنية العقاب ) ،(4ولما مر بعذراء أباحها وغنم لغسان أموال ً
عظيمة وخرج من شرقي دمشق ،ثم سار حتى وصل إلى قناة
بصرى ،فوجد الصحابة تحاربها فصالحه صاحبها وسلمها إليه ،فكانت
أول مدينة فتحت من الشام ولله الحمد .وبعث خالد بأخماس ما غنم
من غسان مع بلل بن الحرث المزني إلى الصديق ،ثم سار خالد
العاص ،وقد قصده الروم وأبو عبيدة ومرثد وشرحبيل إلى عمرو بن
بأرض العربا من المعور ،فكانت واقعة أجنادين ).(5
وهكذا نجح خالد بن الوليد في الوصول إلى الشام لمساندة
الجيوش السلمية بعد مغامرة ومباغتة فذة في التاريخ العسكري
النساني ،يقول اللواء محمود شيت خطاب عن ذلك …» :وعبور
خالد للصحراء من الطريق الخطر مباغتة فذة في التاريخ العسكري
ل ،ولست أعتقد أن عبور هانيبال لللب ،وعبور ل أعرف لها مثي ً
ضا ،ول تفويز نابليون من صحراء سيناء ،أو قطع نابليون لللب أي ً
الجيش البريطاني لهذه الصحراء في الحرب العالمية الولى ،يمكن
أن تعتبر شيًئا إلى جانب مغامرة خالد؛ لن عبور الجبال أسهل بكثير
)( البداية والنهاية.7/7 : 1
)( معركة اليرموك ،اللواء خليل سعيد ،بحث مقدم إلى ندوة الفكر العسكري 3
258
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
من عبور الصحراء؛ لتيسر الماء في الجبال وعدم تيسره في
الصحراء؛ ولن صحراء سيناء فيها كثير من البار والماكن المأهولة
وعدم تيسر ذلك في الصحراء التي قطعها خالد ،فكان نجاح خالد
في عبور الصحراء مباغتة كاملة للروم لم يكونوا يتوقعونها بتاًتا )،(1
مما جعل حاميات المدن والمواقع التي صادفته في طريقه بين
العراق وأرض الشام تستسلم لقوته بعد قتال طفيف أو بدون قتال؛
من المسلمين تظهر دا أن تلقي قوة جسيمة لنها لم تكن تتوقع أب ً
عليهم من هذا التجاه في هذا الوقت بالذات ).(2
لقد تأثر القادة العسكريون على مر التاريخ وتوالي الزمان
بالعبقرية العسكرية الخالدية حتى قال عنه الجنرال اللماني »فون
درغولتيس« مؤلف كتاب »المة المسلحة« ،قائد إحدى الجبهات
اللمانية خلل الحرب العالمية الولى» :إنه أستاذي في فن التركية
الحرب« ).(3
-2خبر المثنى بن حارثة بالعراق بعد ذهاب خالد:
ما غيوًرا ،وكان ميمون النقيبة ما شه ً
عا مقدا ًكان المثنى شجا ً
حسن الرأي ،وكان راسخ العقيدة قوي اليمان شديد الثقة بالله،
بعيد النظر ،يؤثر المصلحة العامة على مصلحته الخاصة ،وكن
يشارك أصحابه في السراء والضراء وكان يمتلك موهبة إعطاء
القرارات الصحيحة السريعة ،وكان ذا إرادة قوية ثابتة يتحمل
المسئولية الكاملة في أخطر الظروف والحوال ،يثق بقواته وتثق به
قواته ثقة ل حدود لها ،ويحبهم ويحبونه حّبا ل مزيد عليه ،ذا شخصية
قوية نافذة ،فهو بحق كما يقول عنه عمر بن الخطاب :مؤمر نفسه. )(4
كانت له قابلية فائقة تعينه على أعباء القتال ،وله ماض ناصع
ما أول من يهاجم وآخر من ينسحب ،وكان خبيًرا مجيد ،وكان دائ ً
بمناطق العراق ،جريًئا على الفرس سريع الحركة واسع الحيلة،
وكان أول من اجترأ على الفرس بعد السلم وجرأ المسلمين
عليهم ،وأبلى في حروب العراق بلء لم يبله أحد ،وهو الذي رفع
معنويات المسلمين وحطم معنويات الفرس (5) .وقد وصف المثنى
جنود الفرس فقال :قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والسلم
ي من ألف من والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد عل ّ
ي من ألف من العجم ،إن العرب ،ولمائة من العرب اليوم أشد عل ّ
الله أذهب بأسهم وأوهن كيدهم فل يروعَّنكم زهاء ترونه ول سواد
ول قسي فج ول نبال طوال ،فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كانوا
جهتموها اتجهت ).(6كالبهائم أينما و ّ
كان تعيين الصديق للمثنى على العراق في محله ويدل على
)( قادة فتح العراق والجزيرة :ص ،193نقل عن الحرب النفسية.163 /2 : 1
)( من ذي قار إلى القادسية ،صالح عماش :ص ،124نقل عن الحرب النفسية: 6
.2/168
259
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
معرفته بأقدار الرجال ومعادنهم ،وعندما حان وقت رحيل خالد
بجيشه إلى الشام خرج معه المثنى لوداعه ،ولما حانت لحظة
الفراق قال له خالد :ارجع –رحمك الله -إلى سلطانك غير مقصر ول
وان (1) .وتسلم المثنى قيادة العراق بعد خالد ،وما إن علم كسرى
بذهاب خالد حتى حشد آلف الجنود بقيادة »هرمز جاذويه« وكتب
دا من وحش أهل للمثنى يهدد ويتوعد ،فقال :إني قد بعثت إليكم جن ً
)(2
فارس ،وإنما هم رعاة الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إل بهم.
وأجابه المثنى بعقل وفطنة ،ولم ينس شجاعته في الرد على هذا
المجوسي ،فكتب يقول في رسالة لكسرى :إنما أنت أحد رجلين:
إما باغ فذلك شر لك وخير لنا ،وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة
وفضيحة عند الله وعند الناس الملوك ،وأما الذي يدلنا عليه الرأي
فإنكم إنما اضطررتم إليهم ،فالحمد لله الذي رد ّ كيدكم إلى رعاة
الدجاج والخنازير (3) .فجزع أهل فارس من هذا الكتاب ولموا ملكهم
على كتابه ،واستهجنوا رأيه .وسار المثنى من الحيرة إلى بابل ولما
صراة الولى ) (4اقتتلوا التقى المثنى وجيشهم بمكان عند عدوة ال ّ
دا ،وأرسل الفرس فيل بين صفوف الخيل ليفرق خيول قتال ً شدي ً
دا ج ً
المسلمين ،فحمل عليه أمير المسلمين المثنى بن حارثة فقتله،
وأمر المسلمين فحملوا ،فلم تكن إل هزيمة الفرس فقتلوهم قتل ً
ما ،وفرت الفرس حتى انتهوا إلى
)(5
ذريًعا ،وغنموا منهم مال ً عظي ً
المدائن في شر حالة ووجدوا الملك قد مات.
وعاد الضطراب إلى بلد فارس ،وطارد المثنى أعداء الله حتى
بلغ أبواب المدائن ،ثم كتب إلى أبي بكر بانتصاره على الفرس،
واستأذنه في الستعانة بمن تابوا من أهل الردة لكن انتظاره طال
وأبطأ عليه أبو بكر في الرد لتشاغله بأهل الشام وما فيه من
العراق حروب ،فسار المثنى بنفسه إلى الصديق واستناب على
بشير بن الخصاصية وعلى المسالح سعيد بن مرة العجلي ) ،(6فلما
وصل المدينة وجدوا أبا بكر على فراش المرض وقد شارف على
الموت ،واستقبله أبو بكر واستمع إليه واقتنع برأيه ،ثم طلب عمر
بن الخطاب فجاءه ،فقال له :اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به،
إني لرجو أن أموت من يومي هذا ،فإن أنا مت فل تمسين حتى
تندب الناس مع المثنى ،ول تشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر
دينكم ووصية ربكم ،وقد رأيتني متوّفى رسول الله وما صنعت ولم
يصب الخلق بمثله ،وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب
فإنهم أهله وولة أمره وحده ،وهم أهل الضراوة خالد إلى العراق،
بهم والجراءة عليهم ).(7
***
260
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الثاني
فتوحات الصديق بالشـــــــام
تمهيد:
كان اهتمام المسلمين بالشام منذ زمن النبي ×؛ حيث كتب إلى
هرقل عظيم الروم كتاًبا يدعوه إلى السلم ،وكتب × إلى الحارث
بن أبي شمر الغساني ملك غسان بالبلقاء ) (1من أرض الشام،
وعامل قيصر على العرب يدعوه إلى السلم ،فأدركته العزة بالثم
فأراد أن يغزو رسول الله × ،فأتاه أمر من قيصر ينهاه عن ذلك،
شا بقيادة زيد بن حارثة فاستشهد في مؤتة هو وجعفر وأرسل × جي ً
بن أبي طالب ،وعبد الله بن رواحة ،وتولى بعدهم خالد ابن الوليد
دا في نفوس أهالي الذي قام بمناورة عسكرية ناجحة تركت أثًرا بعي ً
تلك المناطق .ونستطيع أن نقول إن النبي × بتلك الغزوة وضع
سا وقطع خطوة نحو القضاء على دولة الروم المتجبرة في بلد أس ً
الشام ،وهز هيبتها من قلوب العرب ،وحمس المسلمين للستعداد
المعنوي والمادي لتمام بقية الخطوات المباركة ،بل قاد غزوة تبوك
بنفسه ×.
ومن خلل الحتكاك الميداني استطاع المسلمون أن يتعرفوا
على حقيقة قوات الروم ومعرفة أساليبهم في القتال ،وأعطت تلك
الغزوات الفرصة لهالي بلد الشام على أن يتعرفوا على أصول هذا
الدين ومبادئه وأهدافه ،فآمن كثير من أهالي تلك البلد واستمر
الصديق على المنهج الذي وضعه رسول الله × ،ولذلك أصر بعد
وفاة النبي × على إنفاذ جيش أسامة .ولما عقد الصديق اللوية من
ذي القصة عقد منها لواًء لخالد بن سعيد بن العاص ووجهه إلى
مشارف الشام ،ثم أمره أن يكون ردًءا للمسلمين بتيماء ) ،(2ل
يفارقها إل بأمره ول يقاتل إل من قاتله ،فبلغ خبره هرقل ملك الروم
شا من العرب التابعين للروم من بهراء وسليح وكلب ولخم فجهز جي ً
وجذام وغسان ،فسار إليهم خالد بن سعيد فلقيهم على منازلهم
فافترقوا ،وأرسل هو لبي بكر بالخبر فكتب إليه يأمره بالقدام ،وأن
يزحف على الروم قبل تنظيم صفوفهم ،ونصحه أن يحافظ على خط
رجعته وأن ل يتوغل كثيًرا في بلد العدو ،وجاء في جواب الخليفة له:
أن »أقدم ول تحجم ،واستنصر بالله« .فتقدم خالد حتى بلغ القسطل
شا من الروم على الشاطئ في طريق البحر الميت فهزم جي ً
الشرقي للبحر ،ثم تابع مسيرته ،عند ذلك هاج الروم فجمعوا قوات
تزيد على ما جمعوا في تيماء ،ورأى خالد تجمعهم فكتب إلى الخليفة
يستمده ليتابع تقدمه ،فبعث إليه عكرمة بن أبي جهل بجيش البدال،
) (3كما بعث إليه الوليد بن عقبة بجموع أخرى ،فلما وصلت هذه
)( البلقاء :من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى ،عاصمتها عمان. 1
)( تيماء :بلدة في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى. 2
)( كان عكرمة قد رجع من كندة وحضرموت عن طريق اليمن ومكة ،فلما بلغ 3
المدينة أمره الخليفة أن يسير مدًدا لخالد بن سعيد ،وكان عكرمة قد سرح الجند
261
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
القوات إلى خالد بن سعيد أمر بالهجوم على الروم وأخذ طريقه إلى
مرج الصفر ،وانحدر القائد الرومي ماهان بجيشه يستدرج جيوش
المسلمين التي اتجهت إلى جنوب البحر الميت ،ووصلت إلى مرج
الصفر شرقي بحيرة طبرية ،واغتنم الروم على المسلمين الفرصة
وأوقعوا بهم الهزيمة ،وصادف ماهان سعيد بن خالد بن سعيد في
دا في مقدمتهم ،وبلغ خالد مقتل
كتيبة من العسكر فقتلهم وقتل سعي ً
ابنه ،ورأى نفسه قد أحيط به فخرج هارًبا في كتيبة من أصحابه على
ظهور الخيل ،وقد نجح عكرمة في سحب بقية الجيش إلى حدود
الشام ).(1
ل :عزم أبي بكر على غزو الروم ومبشرات في الطريق: أو ً
كان أبو بكر يفكر في فتح الشام ،ويجيل النظر ويقلب الرأي في
ذلك ،وبينما كان الصديق مشغول ً بذلك المر جاء شرحبيل بن حسنة
-أحد قواد المسلمين في حروب الردة -فقال :يا خليفة رسول الله،
دا؟ فقال :نعم ،قد حدثت أتحدث نفسك أنك تبعث إلى الشام جن ً
دا وما سألتني عنه إل لشيء ،قال: نفسي بذلك وما أطلعت عليه أح ً
أجل إني رأيت يا خليفة رسول الله فيما يرى النائم كأنك تمشي في
كا وعًرا -حتى صعدت قُّنة خْرشفة من الجبل -يعني مسل ً الناس فوق َ
من القنات العالية فأشرفت على الناس ومعك أصحابك ،ثم إنك
هبطت من تلك القنات إلى أرض سهلة دمثة -يعني لينة -فيها الزرع
والقرى والحصون ،فقلت للمسلمين :شنوا الغارة على أعداء الله
وأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة ،وأنا فيهم معي راية ،فتوجهت بها
إلى أهل قرية فسألوني المان فأمنتهم ،ثم جئت فأجدك قد انتهيت
إلى حصن عظيم ففتح الله لك وألقوا إليك السلم ،ووضع الله لك
سا فجلست عليه ،ثم قيل لك :يفتح الله عليك وُتنصر فاشكر مجل ً
ح وال ْ َ
فت ْ ُ َ ه
ِ الل ر
َْ ُص َ ن َ ء جا
َ ذاَ ِ إ+ قرأ: ثم بطاعته، واعمل ربك
د م ح ب ح ب س َ
ف جا وا ْ
ف أ ه الل ن دي في ِ ن لوُ خُ د ي س ناّ ال ت يورأ َ
َ ّ ْ ِ َ ْ ِ َ ً ِ ِ ِ َ َ َ ْ َ َ ْ َ
واًبا" ]النصر ،[3 – 1 :ثم انتبهت .فقال ن تَ ّ كا َه َفْرهُ إ ِن ّ ُغ ِست َ ْوا ْك َ َرب ّ َ
له أبو بكر :نامت عينك ،خيًرا رأيت ،وخيرا يكون إن شاء الله ،ثم
ي نفسي ،ثم دمعت عينا أبي بكر وقال: قال :بشرت بالفتح ونعيت إل ّ
أما الخرشفة التي رأيتنا فيها حتى صعدنا إلى القنة العالية فأشرفنا
على الناس ،فإنا نكابد من أمر هذا الجند والعدو مشقة ويكابدونه،
ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا ،وأما نزولنا من القنة العالية إلى الرض
السهلة الدمثة والزرع والعيون والقرى والحصون ،فإنا ننزل إلى أمر
أسهل مما كنا فيه من الخصب والمعاش ،وأما قولي للمسلمين:
شنوا على أعداء الله الغارة فإني ضامن لكم الفتح والغنيمة ،فإن
ذلك دنو المسلمين إلى بلد المشركين وترغيبي إياهم على الجهاد
والجر والغنيمة التي تقسم لهم وقبولهم ،وأما الراية التي كانت
معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم ودخلتها فاستأمنوا فأمنتهم،
الذين قاتلوا معه في جنوب شبه الجزيرة ،فاستبدل الخليفة بهم غيرهم وأمرهم
أن يسيروا تحت لواء عكرمة إلى الشام.
)( أبو بكر الصديق ،د :نزار الحديثي ،خالد الجنابي :ص .58 1
262
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك ،وأما الحصن
الذي فتح الله لي فهو ذلك الوجه الذي يفتح الله لي ،وأما العرش
سا فإن الله يرفعني ويضع المشركين ،وقال الذي رأيتني عليه جال َ ً
ش"]يوسف ،[100 :وأما الذي ر ع
َ ْ ل ا َ
لى ع
َ ه
ِ ْ ي و
ع أب َ َ وَر َ
ف َ الله تعالى َ +
ْ ِ
ي نفسي ،وذلك أن ّ إل نعى فإنه السورة ي
ّ عل وقرأ الله أمرني بطاعة
النبي × نعى الله إليه نفسه حين نزلت هذه السورة ،وعلم أن
نفسه قد نعيت إليه ،ثم سالت عيناه وقال :لمرن بالمعروف ولنهين
عن المنكر ولجهدن فيمن ترك أمر الله ولجهزن الجنود إلى
العادلين بالله –يعني المشركين به -في مشارق الرض ومغاربها
حتى يقولوا :الله أحد أحد ل شريك له ،أو يؤدوا الجزية عن يد وهو
صاغرون ،هذا أمر الله وسنة
رسول الله × ،فإذا توفاني الله -عز وجل -ل يجدني الله عاجًزا ول
)(1
دا.
وانًيا ول في ثواب المجاهدين زاه ً
فهذه الرؤيا الصالحة من المبشرات التي حدث بها رسول الله ×؛
المبشرات« قالوا :وما المبشرات؟
. حيث قال» :لم يبق من النبوة إل
قال» :الرؤيا الصالحة« (2)،فهذه الرؤيا جاءت على قدر لتدفع الصديق
به وإعلن ما أضمره ،فدعا إلى عقد مجلس إلى العزم على مامه ّ
شورى بخصوص غزو الشام ،فقد أخذ الصديق بالعزيمة والعمل والتوكل
على الله واستأنس بالرؤيا.
ثانًيا :مشورة أبي بكر في جهاد الروم واستنفار أهل اليمن:
-1مشورة أبي بكر في جهاد الروم:
لما أراد أبو بكر أن يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان
وعلًيا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص
وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه المهاجرين والنصار من أهل بدر
وغيرهم ،فدخلوا عليه فقال :إن الله -تبارك وتعالى -ل تحصى نعمه،
ول تبلغ العمال جزاءها ،فله الحمد كثيًرا على ما اصطنع عندكم من
جمع كلمتكم ،وأصلح ذات بينكم ،وهداكم إلى السلم ،ونفى عنكم
الشيطان ،فليس يطمع أن تشركوا بالله ول أن تتخذوا إلًها غيره،
فالعرب أمة واحدة ،بنو أب وأم ،وقد أردت أن أستنفركم إلى الروم
دا وما عند الله خير للبرار ،ومن عاش بالشام ،فمن هلك هلك شهي ً
عاش مدافعا عن الدين ،مستوجًبا على الله -عز وجل -ثواب
ي كل امرئ بمبلغ رأيه، المجاهدين .هذا رأيي الذي رأيت ،فليشر عل ّ
فقام عمر بن الخطاب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي
× ثم قال :الحمد لله الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه ،والله
ما استبقنا إلى شيء من الخير إل سبقتنا إليه؛ وذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء ،قد والله أردت لقاءك لهذا الرأي الذي ذكرت ،فما قضى
الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الن ،فقد أصبت ،أصاب الله بك سبل
الرشاد .سّرب إليهم الخيل في إثر الخيل ،وابعث الرجال تتبعها
)( تاريخ دمشق لبن عساكر ،62 ،2/61 :فتوح الشام للزدي :ص ،14نقل عن 1
263
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الرجال ،والجنود تتلوها الجنود ،فإن الله -عز وجل -ناصر دينه ومعز
السلم وأهله ،ومنجز ما وعد رسوله .ثم إن عبد الرحمن بن عوف
قام فقال :يا خليفة رسول الله ،إنها الروم وبنو الصفر ،حد حديد
ما ،ولكن تبعث وركن شديد ،والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحا ً
الخيل فتغير في أدنى أرضهم ،ثم تبعثها فتغير ،ثم ترجع إليك ،فإذا
فعلوا ذلك مرارا أضروا بعدوهم وغنموا من أرضهم ،فقووا بذلك
على قتالهم ،ثم تبعث إلى أقاصي أهل اليمن وإلى ربيعة ومضر
فتجمعهم إليك ،فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك ،وإن شئت بعثت
على غزوهم غيرك ،ثم جلس وسكت الناس .فقال لهم أبو بكر :ماذا
ترون رحمكم الله؟ فقام عثمان بن عفان -رضوان الله عليه -فحمد
الله وأثنى عليه بما هو أهله ،وصلى على النبي × ،ثم قال :رأيي أنك
دا
ناصح لهل هذا الدين ،عليهم شفيق ،فإذا رأيت رأًيا علمته رش ً
حا وخيًرا ،فاعزم على إمضائه غير ظنين ول متهم (1) .فقال وصل ً
طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد وجميع من
حضر ذلك المجلس من المهاجرين والنصار :صدق عثمان فيما قال،
ما رأيت من رأي فامضه فإنا سامعون لك مطيعون ل نخالف أمرك،
ول نتهم رأيك ول نتخلف عن دعوتك ،فذكروا هذا وشبهه ،وعلي بن
أبي طالب في القوم ل يتكلم ،فقال له أبو بكر :ما ترى يا أبا
الحسن؟
)(2
فقال :أرى أنك مبارك المر ،ميمون النقيبة ،وإنك إن سرت
إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله .فقال أبو بكر:
بشرك الله بخير ،فمن أين علمت هذا؟ قال :سمعت رسول الله ×
هذا الدين ظاهًرا على كل من ناوأه حتى يقوم الدين يقول» :ل يزال
وأهله ظاهرون« ) (3فقال أبو بكر :سبحان الله ما أحسن هذا
الحديث! لقد سررتني سرك الله في الدنيا والخرة.
ثم إن أبا بكر قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما
هو أهله ،وصلى على النبي × ثم قال :أيها الناس ،إن الله قد أنعم
عليكم بالسلم وأعزكم بالجهاد ،وفضلكم بهذا الدين على أهل كل
دين ،فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام ،فإنني مؤمر عليكم
أمراء وعاقد لهم عليكم ،فأطيعوا ربكم ول تخالفوا أمراءكم،
ولتحسن نيتكم)(4وسيرتكم وطعمتكم؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين
بكر بلل ً فنادى في الناس :أن انفروا إلى هم محسنون .وأمر أبو
جهاد عدوكم الروم بالشام ).(5
من هذه المشورة تبين لنا منهج أبي بكر في مواجهة المور
ت فيها برأي حتى يجمع أهل الحل والعقد الكبيرة ،حيث لم يكن يب ّ
فيستشيرهم ،ثم يصدر بعد ذلك عن رأي ممحص مدروس ،وهذه هي
سنة رسول الله × كما مر معنا في السيرة النبوية ،وحينما نتأمل
في تفاصيل هذه المحاورة نجد أن الصحابة -رضي الله عنهم -قد
يعني :ل نظن بك التقصير ،ول نتهمك في إخلصك. )( 1
البخاري ،كتاب العتصام ،رقم .7311 :مسلم ،كتاب المارة رقم.1533 : )( 3
تاريخ دمشق لبن عساكر ،65 -2/63 :نقل عن الحميدي. )( 4
264
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أجمعوا على موافقة أبي بكر في غزو الروم ،وإنما تنوعت وجهات
نظر بعضهم في كيفية هذا الغزو؛ فكان رأي عمر إرسال الجيوش
تلو الجيوش حتى تتجمع في الشام فتكون قوة كبيرة تستطيع أن
تصدر للعداء ،وكان رأي عبد الرحمن بن عوف أن يبدأ الغزو بقوات
صغيرة تغير على أطراف الشام ثم تعود إلى المدينة ،حتى إذا تم
إرهاب العدو وإضعافه تبعث الجيوش الكبيرة ،وقد أخذ أبو بكر برأي
عمر في هذا المر ،واستفاد من رأي عبد الرحمن بن عوف فيما
يتعلق بطلب المدد بالجيوش من قبائل العرب ،وخاصة أهل اليمن
).(1
-2استنفار أهل اليمن:
كتب الصديق إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله،
وهذا هو نص الكتاب :بسم الله الرحمن الرحيم ،من خليفة رسول
الله إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل
اليمن :سلم عليكم .فإني أحمد إليكم الله الذي ل إله إل هو .أما
بعد ،فإن الله تعالى كتب على المؤمنين الجهاد وأمرهم أن ينفروا
ل ،وقال :جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، خفاًفا وثقا ً
منوالجهاد فريضة مفروضة ،وثوابه عند الله عظيم ،وقد استنفرنا َ
قِب ََلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ،وقد سارعوا إلى ذلك،
وعسكروا وخرجوا وحسنت بذلك نيتهم وعظمت في الخير حسبتهم،
فسارعوا عباد الله إلى ما سارعوا إليه ولتحسن نيتكم فيه؛ فإنكم
إلى إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة ،فإن الله
ض من عباده بالقول دون العمل ،ول يزال -تبارك وتعالى -لم ير َ
الجهاد لهل عداوته حتى يدينوا بدين الحق ويقروا لحكم الكتاب.
كى أعمالكم ،ورزقكم أجر حفظ الله دينكم وهدى قلوبكم وز ّ
المجاهدين الصابرين (2) .وبعث الصديق هذا الكتاب مع أنس بن
مالك ،وفي هذا الكتاب يظهر دور أبي بكر في حث المسلمين
وجمعهم)(3للجهاد في سبيل الله وهو ما يمكن أن يسمى بـ)التعبئة
العامة( .
ومن خطاب الصديق لهل اليمن يتضح أن الجهاد من أجل
تحقيق غرضين :تحقيق إسلم المسلمين؛ لن الله ل يرضى لعباده
بالقول دون العمل ،ومقاتلة غير المسلمين حتى يدينوا بدين الحق
ويقروا لحكم كتاب الله ،وهذا هو السبب الذي جعل أهل اليمن
ينساحون من جميع أرجاء اليمن بأعداد هائلة ،ولم يصل إلى علمنا
ها بل خرجوا طواعية ،وأقبلت جموعهم دا منهم خرج مستكر ً أن أح ً
بنسائهم وأولدهم وكانوا من أسرع المستجيبين للنداء حّبا ورغبة في
الجهاد .ويعبر عن هذا أنس بن مالك حامل رسالة الصديق إلى أهل
حا يقرأ عليهم حا جنا ً
اليمن ،والذي تنقل بين أحيائهم قبيلة قبيلة وجنا ً
كتاب أبي بكر ويحثهم على السراع ،فقال :فكان كل من أقرأ عليه
ي ويقول :نحن ذلك الكتاب ويسمع هذا القول يحسن الرد عل ّ
سائرون وكأنا قد فعلنا ،حتى انتهيت إلى ذي الكلع ،فلما قرأت عليه
)( التاريخ السلمي للحميدي.9/188 : 1
)( تاريخ فتوح الشام للزدي :ص ،48تهذيب تاريخ دمشق.1/129 : 2
265
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الكتاب وقلت هذا المقال دعا بفرسه وسلحه ونهض في قومه من
ساعته ولم يؤخر ذلك ،وأمر بالعسكر ،فما برحنا حتى عسكر
وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن ،وقد قام فيهم خطيًبا فقال
فيما قاله :ثم قد دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين
واكتساب الجر العظيم ،فلينفر من أراد النفير معي الساعة (1) .فعاد
أنس بن مالك في حوالي 11رجب 12هـ وبشر أبا بكر بقدوم
اليمن وشجعانها وفرسانها، )(2
القوم ،فقال :قد أتوك شعًثا غبًرا أبطال
ما حتى ً أيا إل لبث وما ، والموال وقد ساروا إليك بالذراري والحرم
قدم ذو الكلع الحميري وقومه في حوالي 16رجب 12هـ ) ،(3ولم
تكن هذه الستجابة الفورية الراغبة خاصة بأهل »حمير«؛ بل كل من
جاء من اليمن كان على نفس المستوى؛ وعلى سبيل المثال فقد
قدم من »همدان« أكثر من ألفي رجل وعليهم حمزة بن مالك
الهمداني ) ،(4وعندما قدم أهل اليمن على المدينة ودخلوا المسجد
على أبي بكر فلما سمعوا القرآن اقشعرت جلودهم من خشية الله
وجعلوا( يبكون خاشعين ،فبكى أبو بكر وقال :هكذا وجاشت أنفسهم،
كنا ،ثم قست القلوب 5) .وعندما رأى ذو الكلع الحميري الصديق
خا نحيل ً معروق الوجه وعليه ثوب خشن ول شيء يسطع وجده شي ً
من ثيابه! ل شيء على الطلق غير الورع يضيء وجهه البيض،
وكان ذو الكلع قدم على الصديق من اليمن ومن خلفه ومن حوله
ألف عبد من الفرسان ،وعلى رأسه التاج وعلى حلته الجواهر
المتللئة وبردته تسطع بخيوط الذهب المرصع بالللي والياقوت
والمرجان ،فلما شاهد ما عليه الصديق من اللباس والزهد والتواضع
والنسك ،وما هو عليه من الوقار والهيبة ،تأثر ذو الكلع ومن معه
من السادة فذهبوا مذهب الصديق ونزعوا ما كان عليهم (6) .وقد تأثر
ما في سوق من ذو الكلع بالصديق وَتزّيا بزيه حتى إنه رئي يو ً
أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة ففزعت عشيرته،
وقالوا له :فضحتنا بين المهاجرين والنصار! قال :فأردتم أن أكون
جباًرا في الجاهلية
)أي( ل والله( ل تكون طاعة الرب إل الله ها ل السلم؟ جباًرا في
بالتواضع والزهد في هذه الدنيا). 7
وصنعت ملوك اليمن كما صنع ذو الكلع الحميري ،فتخلوا عن
التيجان المثقلة بالجواهر ،وتركوا حلل المخمل الموشى بخيوط
الذهب والياقوت والدر والمرجان ،واشتروا من سوق المدينة ثياًبا
خشنة ،ووضع الصديق في بيت المال ما تخلوا عنه جميًعا من نفائس
).(8
كان أبو بكر خير من تمثل بالسلم في حياته بعد رسول الله،
وكان لسان حاله دعوة إلى الله تعالى ،وأبلغ نصيحة تلك التي
يشاهدها الناس من طريق العين ل من طريق الذن ،وخير الناصحين
)( الكامل لبن الثير2/64 :؛ اليمن في صدر السلم :ص .302 ،301 1
)( الصديق أول الخلفاء :ص ،114أبو بكر للطنطاوي :ص .218 5
266
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
من ينصح بأفعاله ل بأقواله ،فلما رأى ملوك اليمن أن أبا بكر خليفة
رسول الله وصاحب المر والنهي في الجزيرة العربية يمشي في
السواق ويلبس العباءة والشملة ،علموا أن هناك شيًئا أعظم من
الثياب المزركشة والذهب والللئ؛ هو النفس العظيمة فسعوا
ليتشبهوا بأبي بكر ،واستحيوا من الله والناس أن يقابلوا خليفة
رسول الله بالتاج والبرود والحلي وهو بعباءة ،فقد صغرت عليهم
نفوسهم وهانت وهدأت ثورتها وانطفأت سورتها كما ينطفي النجم
ما في رحم(1الله أبا بكر؛ فقد كان عظي ً الصغير إذا واجه الشمس!
تواضعه ،متواضعا في عظمته ) .
ثالًثا :عقد الصديق اللوية للقادة وتوجيه الجيوش:
عزم الصديق على تسيير الجيوش لبلد الشام فدعا الناس إلى
الجهاد ،وعقد اللوية لربعة جيوش أرسلها لفتح الشام ،وهي:
-1جيش يزيد بن أبي سفيان:
وهو أول الجيوش التي تقدمت إلى بلد الشام ،وكانت مهمته
الوصول إلى دمشق وفتحها ومساعدة الجيوش الربعة عند
الضرورة ،وكان جيش يزيد أول المر ثلثة آلف ،ثم عززه الخليفة
بالمدادات حتى صار معه بحدود السبعة آلف رجل ،وقبل رحيل
جيش يزيد أوصاه الخليفة أبو بكر وصية بليغة عالية المستوى
كم باهرة في مجالي الحرب والسلم ،وشّيعه ماشًيا ح َ
تشتمل على ِ
وأوصاه بما يأتي :إني قد وليتك لبلونك وأجربك وأخّرجك ،فإن
أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك ،وإن أسأت عزلتك .فعليك بتقوى
الله ،فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك ،وإن أولى الناس
الناس من الله أشدهم تقربا إليه بالله أشدهم تولًيا له ،وأقرب
عب ّّية الجاهلية ) (3فإن الله
بعمله ،وقد وليتك عمل خالد ) ،(2فإياك و ِ
يبغضها ويبغض أهلها .إذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم،
وابدأهم بالخير وعدهم إياه ،وإذا وعظتهم فأوجز؛ فإن كثير الكلم
ل الصلوات ضا ،وأصلح نفسك يصلح لك الناس ،وص ّ ينسي بعضه بع ً
لوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها ،وإذا قدم عليكم
بثهم(4حتى يخرجوا من عسكرك وهم رسل عدوك فأكرمهم ،وأقلل ل ُ ْ
ترينهم فيروا خللك ) ،ويعلموا علمك ،وأنزلهم في جاهلون به ول
ثروة عسكرك ) ،(5وامنع من قبلك من محادثتهم ،وكن أنت المتولي
لكلمهم ،ول تجعل سرك لعلنيتك فيخلط أمرك ،وإذا استشرت
خُزن عن المشير خبرك فاصدق الحديث تصدق المشورة ،ول ت َ ْ
فتؤتى من قبل نفسك ،واسمر بالليل في أصحابك تأتك الخبار،
وتنكشف عندك الستار ،وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك ،وأكثر
مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك ،فمن وجدته غفل عن
محرسه فأحسن أدبه ،وعاقبه في غير إفراط ،وأعقب بينهم بالليل
واجعل النوبة الولى أطول من الخيرة ،فإنها أيسرهما لقربها من
أبو بكر الصديق ،على طنطاوي :ص .219 )( 1
يعني :عمل خالد بن سعيد بن العاص ،وكان قد استعفى أبا بكر فأعفاه. )( 2
يعني :ل تطلعهم على دخيلة أمرك فيطلعوا على عيوبك. )( 4
267
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ن فيها ،ول تسرع إليهاج ّ
النهار ،ول تخف من عقوبة المستحق ول تل ّ
ول تتخذ لها مدفًعا ،ول تغفل عن أهل عسكرك فتفسده ،ول تجسس
ف بعلنيتهم،عليهم فتفضحهم ،ول تكشف الناس عن أسرارهم واكت ِ
ول تجالس العّباثين وجالس أهل الصدق والوفاء ،واصدق اللقاء ،ول
تجبن فيجبن الناس ،واجتنب الغلول؛ فإنه يقرب الفقر ويدفع النصر،
ما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا وستجدون أقوا ً
أنفسهم له(1).قال ابن الثير :وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعا
لولة المر .
من فوائد هذه الوصية:
قا ثابًتا لصحابها ،وإنما بقاؤهم
* أن الوليات والمناصب ليست ح ّ
فيها مرهون بالحسان والنجاح في العمل ،ومن واجب المسئول
العلى أن يعزلهم إذا أساءوا ،وإن هذا الشعور يدفع صاحب العمل
إلى مضاعفة الجهد في بذل الطاعة ليصل إلى مستوى أعلى من
النجاح في العمل ،أما إذا ضمن البقاء فإنه قد يميل إلى الكسل
والشتغال بمتاع الدنيا فيخل بمسئوليته ويعرض من تحت وليته إلى
أنواع من الفساد والفوضى والنزاع.
* إن تقوى الله -عز وجل -هي أهم عوامل النجاح في العمل؛
لن الله تعالى مطلع على ظاهر أعمال الناس وباطنهم ،فإذا اتقوه
في باطنهم فحري بهم أن يتقوه في ظاهرهم ،وبذلك يتجنب الوالي
كل مظاهر الفساد والفساد ،التي تكون عادة من الستجابة
للعواطف الجامحة التي ل تلتزم بتقوى الله تعالى.
* التحذير من التعصب للباء والجداد والقوام ،فإن التعصب
لذلك قد يحمل النسان على النحراف عن الطريق المستقيم ،إذا
فا للستقامة ،إضافة إلى أنه يضعف
كان ما عليه الباء والجداد مخال ً
من النتماء للرابطة السلمية الوحيدة وهي الخوة في الله تعالى.
ضا
* اليجاز في الموعظة؛ فإن كثير الكلم ينسي بعضه بع ً
فيضيع المقصود ،ويغلب على السامع العجاب ببلغة المتكلم إن
كان بليًغا عن استيعاب ما يقول ،والستفادة من مواعظه ،وإن لم
يكن بليغا فإن الملل يأخذ بالسامع فل يعي ما يقول المتكلم.
* إذا أصلح المسئول نفسه وتفقد عيوبه وجعل من نفسه
ن
حا للقدوة الحسنة ،فإن ذلك يكون سببا في صلح َ ْ
م جا صال ً
نموذ ً
هم تحت رعايته.
* الهتمام بإقامة الصلة كاملة مظهًرا ومخبًرا ،مظهًرا من ناحية
إكمال أقوالها وأفعالها ،ومخبًرا من ناحية الخشوع فيها وحضور
القلب مع الله تعالى ،فإن هذه الصلة الكاملة يقام بها ذكر الله في
الرض ،وتهذب السلوك وتقوي القلوب ،وتبعث على ارتياح النفوس،
وتعتبر ملًذا للمسلم عند الشدائد.
268
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
* إكرام رسل العدو إذا قدموا ،مع الحتراس منهم وتمكينهم من
معرفة واقع الجيش السلمي ،فإكرامهم نوع من الدعوة إلى
السلم فيما إذا عرف العالم ما يتحلى به المسلمون من مكارم
الخلق ،ولكن ل يصل هذا الكرام إلى حد إطلعهم على بطانة أمور
المسلمين؛ بل ينبغي إطلعهم على قوة جيش المسلمين ليرهبوا
بذلك أقوامهم.
* الحتفاظ بالسرار وعدم التهاون بإفشائها ،خاصة فيها يتعلق
بأمور المسلمين العامة ،فإن الحكيم يستطيع التصرف في المور
سا في ضميره ،فإذا أفشاه وإن تغيرت وجوهها ما دام سره حبي ً
اختلطت عليه المور ولم يستطع التحكم فيها.
* إتقان المشورة أهم من النظر في نتائجها ،فإن المستشار
ن
م ْ
وإن كان حصيف الرأي ثاقب الفكر فإنه ل يستطيع أن يفيد َ
استشاره حتى ينكشف له أمره بغاية الوضوح،
فإذا أخفى المستشير بعض تفاصيل القضية ،فإنه يكون قد جنى
على نفسه؛ حيث قد يتضرر بهذه المشورة.
ً
* أن على القائد وكل مسئول أن يكون مخالطا لمن ولي أمرهم
على مختلف طبقاتهم؛ ليكون دقيق الخبرة بأمورهم ،وفي هذا أكبر
العون له على تصور مشكلتهم والمبادرة بإيجاد الحلول لها ،أما
المسئول الذي يعيش في عزلة ول يختلط إل بأفراد من كبار رعيته،
فإنه ل يصل إليه من المعلومات إل ما كان من طريق هؤلء ،وقد ل
يكشفون له المور على غير وجهها الصحيح.
* الهتمام بأمر حراسة المسلمين خاصة في مكامن الخطر،
واختبار الحراس المناء من ذوي النباهة ،وعدم وضع الثقة الكاملة
بهم؛ بل ل بد من الرقابة عليهم حتى ل يؤتى المسلمون من قبلهم.
طا فلكا وس ً * أن يسلك المسئول في عقاب المخالف مسل ً
يتهاون فيترك عقوبة المستحق ،فإن ذلك يجرئه على مزيد من
المخالفة ويجرئ غيره على ارتكاب المخالفات ،فتسود الفوضى
وينفلت المر ،ول يشتد في العقوبة فينفر الرعية ،ويدفعهم إلى
التسخط والتحزب؛ بل تكون عقوبته بحكمة واتزان وبعد النظر
والتروي؛ بحيث تؤدي غرضها التربوي بدون إثارة ضجة ول دفع إلى
النقد والتسخط.
* أن يكون لدى المسئول يقظة وانتباه لكل ما يجري في حدود
ما
المسئولية المناطة به؛ حتى يشعر أفراد الرعية بأن هناك اهتما ً
بأمورهم فيزيد المحسن إحساًنا ويقتصر المسيء عن الساءة ،ولكن
بدون تجسس عليهم؛ فإن ذلك يعتبر فضيحة لهم ،وقد ينقطع بذلك
خيط العلقة الذي يربط المسئول بأفراد رعيته ،من المودة
ما فإنه يمنع والعجاب والشكر على الجميل ،وهذا الخيط ما دام قائ ً
أصحاب الجنوح من ارتكاب المخالفات التي تفسد المجتمع وتحدث
الفوضى ،فإذا انقطع ولم يكن هناك عاصم من تقوى الله تعالى،
فإن أهم الحواجز التي تحول دون النطلق وراء الشهوات تكون قد
تحطمت ،ويصعب بعد ذلك علج المور؛ لنها تحتاج إلى قوة رادعة،
269
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وهذه لها سلبياتها المعروفة.
* أن يحرص المسئول على مجالسة أهل الصدق والوفاء
والعقول الراجحة ،وإن سمع منهم ما يكره أحياًنا من النقد والتوجيه؛
فإن ذلك يعود عليه وعلى من استرعاه الله أمرهم بالنفع .وأن ل
يجالس أصحاب اللهو والهداف الدنيوية ،فإن هؤلء وإن أنس
بكلمهم وثنائهم ،فإنهم يحولون بينه وبين التفكير في المور الجادة،
فل يستفيق بعد ذلك إل والنكبات قد حلت به وبمن ولي أمورهم.
* أن يصدق القائد في لقاء العداء وأن ل يجبن؛ فإن جبنه
يسري على جنده ،فيقع بذلك الفشل والهزيمة ،وفي غير الحرب أن
عا في مواجهة المواقف ،وأن ل يضعف فيسري يكون المسئول شجا ً
ضعفه على من هم تحت إدارته من العاملين ،فيقل بذلك مستوى
الداء ويضعف النتاج.
* أن يتجنب القائد الغلول )وهو الخذ من الغنيمة قبل قسمتها(،
هذا في مجال الحرب ،وفي مجالت السلم أن يتجنب المسئول أية
عا؛ مثل :أخذ الهدايا التي استفادة دنيوية من عمله ل تحل له شر ً
يقصد بها من دفعها الستفادة من المسئول في مجانبة الحق ،فإن
ذلك من الغلول ،والغلول كما جاء في هذه الوصية يقرب إلى الفقر
ويدفع النصر.
* ومن هذه الفوائد تبين لنا عظمة هذه الوصية التي أوصى بها
أبو بكر أحد قواده ،وهي تبين لنا أنه كان يعيش بفكره مع قضايا
المسلمين ،وأنه كان يتصور ما قد يواجهه قواده ،فيحاول تزويدهم
بما ينفعهم في تلفي الوقوع في المشكلت وحلها إذا وقعت ،وهذه
الوصية وأمثالها تسجل إضافة جديدة لمواقف أبي بكر المتعددة
عا في أمور النواع ،فإذا تأملت إدارته للحكم وجدت رجل ً بار ً
عا في السياسة ،وإذا رأيت توجيهه للقادة العسكريين تجده رجل ً بار ً
شئون الحرب وكأنه مع القادة في الميادين ،وإذا رأيت رحمته
عا في الدعوة إلى الله تعالى ،فهو وتأليفه للقلوب رأيت رجل ً بار ً
الرجل الرحيم بالمؤمنين ،الرافع لشأن أهل البلء والصدق منهم،
والقدرة ،القوي الحازم على أعداء الله من الخبير بأهل الكفاءة
المنافقين والكافرين ).(1
-2جيش شرحبيل بن حسنة:
حدد أبو بكر الصديق لمسير شرحبيل ثلثة أيام بعد مسير يزيد
بن أبي سفيان ،فلما مضى اليوم الثالث ودع أبو بكر شرحبيل وقال
له :يا شرحبيل ألم تسمع وصيتي ليزيد بن أبي سفيان؟ قال :بلى،
قال :فإني أوصيك بمثلها وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن ليزيد:
أوصيك بالصلة في وقتها ،وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل،
وبعيادة المرضى وبحضور الجنائز وذكر الله كثيًرا على كل حال.
فقال شرحبيل :الله المستعان ،وما شاء الله أن يكون كان (2) .وكان
جيش شرحبيل ما بين ثلثة آلف إلى أربعة آلف ،وأمره أن يسير
)( التاريخ السلمي.197 -9/192 : 1
270
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
إلى تبوك والبلقاء ثم بصرى ،وهي آخر مرحلة .وتقدم شرحبيل نحو
البلقاء حيث لم يلق مقاومة تذكر وكان يسير على الجناح اليسر
لجيش أبي عبيدة والجناح اليمن لجيش عمرو بن العاص في
فأخذ(1يحاصرها ،فلم فلسطين ،فأوغل في البلقاء حتى بلغ بصرى
يوفق في فتحها لنها كانت من المراكز الحصينة ) .
-3جيش أبي عبيدة بن الجراح:
لما عزم الصديق على بعث أبي عبيدة بن الجراح بجيشه دعاه
فودعه ،ثم قال له :اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ثم
يعمل بما أمر به ،إنك تخرج في أشراف الناس وبيوتات العرب
وصلحاء المسلمين وفرسان الجاهلية ،كانوا يقاتلون إذ ذاك على
الحمية ،وهم اليوم يقاتلون على الحسبة والنية الحسنة .أحسن
صحبة من صحبك ،وليكن الناس عندك في الحق سواء ،واستعن
ل ،اخرج من بالله وكفى بالله معيًنا ،وتوكل على الله وكفى بالله وكي ً
غد إن شاء الله (2) .وكان جيشه يتراوح ما بين ثلثة إلى أربعة آلف
مجاهد ،وهدف ذلك الجيش حمص ،سار أبو عبيدة من المدينة ماّرا
بوادي القرى ،ثم اطلع إلى الحجر »مدن صالح« ،ثم إلى ذات منار،
ثم إلى زيزا ،ومنها إلى مأمؤاب ،فالتقى بقوة للعدو فقاتلهم ،ثم
صالحوه)(3فكان أول صلح عقد في الشام ،ثم واصل تقدمه نحو
الجيش الجناح اليسر للجيش الول والجناح الجابية ،وكان هذا
اليمن للجيش الثاني) ،(4وكان في صحبة أبي عبيدة بن الجراح
فارس من فرسان العرب المشهورين ،قيس بن هبيرة بن مسعود
المرادي فأوصى به الصديق أبا عبيدة قبل سفره وقال له :إنه قد
صحبك رجل عظيم الشرف ،فارس من فرسان العرب ليس
بالمسلمين غناء عن رأيه ومشورته وبأسه في الحرب ،فأدنه وألطفه
وأره أنك غير مستغن عنه ول مستهين بأمره ،فإنك تستخرج بذلك
ده على عدوك .ودعا أبو بكر قيس بن هبيرة نصيحته لك وجهده وج ّ
ظلم لم يظلم ،وإذا فقال :إني بعثتك مع أبي عبيدة المين الذي إذا ُ
ُأسيء إليه غفر ،وإذا قطع وصل ،رحيم بالمؤمنين شديد على
الكافرين ،فل تعصين له أمًرا ،ول تخالفن له رأيا ،فإنه لن يأمرك إل
بخير ،وقد أمرته أن يسمع منك فل تأمره إل بتقوى الله ،قد كنا
نسمع أنك شريف ذو بأس سيد مجرب في زمان الجاهلية الجهلء؛
إذ ليس فيهم إل الثم ،فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك في السلم
على المشركين وعلى من كفر بالله وعبد معه غيره ،فقد جعل الله
في ذلك الجر العظيم والثواب الجزيل والعز للمسلمين .فقال قيس
بن هبيرة :إن بقيت وأبقاك الله فسيبلغك عني من حيطتي عن
المسلم وجهدي على الكافر ما تحب ويسرك ويرضيك ،فقال له أبو
بكر :افعل ذلك رحمك الله .قال :فلما بلغ أبا بكر مبارزة قيس
بن هبيرة البطرقين بالجابية وقتله إياهما قال :صدق قيس وبر ووفى
).(5
أبو بكر الصديق ،نزار الحديثي :ص .62 )( 1
العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين ،نهاد عباس :ص .141 )( 4
271
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ونلحظ أن أبا بكر شحذ همة قيس بن هبيرة وفجر طاقاته
الكامنة في نفسه ،واستخرج منه أعلى ما أمكن من طاقة وصرفها
في حماية السلم والجهاد في سبيله ،ول شك أن الثناء على
يرفع(1من معنوياتهم ويمنحهم قوة العظماء والنبلء بذكر فضائلهم
عالية تدفعهم إلى التضحية والفداء ) .
-4جيش عمرو بن العاص:
وجه الصديق عمرو بن العاص بجيش إلى فلسطين ،وكان
الصديق قد خيره بين البقاء في عمله الذي أسنده إليه رسول الله
× ،وبين أن يختار له ما هو خير له في الدنيا والخرة إل أن يكون
الذي هو فيه أحب إليه ،فكتب إليه عمرو بن العاص :إني سهم من
سهام السلم وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها ،فانظر أشدها
وأخشاها وأفضلها فارم به (2) .فلما قدم المدينة أمره أبو بكر أن
يخرج من المدينة وأن يعسكر حتى يندب معه الناس ،وقد خرج معه
عدد من أشراف قريش ،منهم :الحارث بن هشام ،وسهيل بن
عمرو ،وعكرمة بن أبي جهل .فلما أراد المسير خرج معه أبو بكر
يشيعه وقال :يا عمرو إنك ذو رأي وتجربة بالمور وبصر بالحرب،
وقد خرجت مع أشراف قومك ورجال من صلحاء المسلمين ،وأنت
قادم على إخوانك فل تألهم نصيحة ،ول تدخر عنهم صالح مشورة،
فرب رأي لك محمود في الحرب مبارك في عواقب المور .فقال
)(3
دق ظنك ،وأن ل أفَّيل رأيك. عمرو بن العاص :ما أخلقني أن أص ّ
وخرج عمرو بقواته وكان تعداده يتراوح من ستة إلى سبعة آلف
قا لساحل البحر الحمر حتى مجاهد وهدفها فلسطين ،وسلكت طري ً
وادي عربة في البحر الميت ،ونظم عمرو ابن العاص قوة استطلع
مؤلفة من ألف مجاهد ودفعها باتجاه محور تقدم الروم ،ووضع على
قيادتها عبد الله بن عمر بن الخطاب ،واصطدمت هذه القوة
بقوات الروم ،واستطاعت انتزاع النصر وتمزيق قوة العدو ،وعادت
ببعض السرى فاستنطقهم عمرو بن العاص ،وعلم منهم أن جيش
العدو بقيادة »رويس« يحاول مباغتة المسلمين بالقيام بالهجوم،
وعلى ضوء المعلومات الجديدة نظم عمرو قواته .وشن الروم
هجومهم ،واستطاع المسلمون صده ونجحوا في رد قوات الروم،
وبعد ذلك شنوا هجومهم المضاد ودمروا قوة العدو
الفرسان وتابع وأرغموهم على الفرار وترك ميدان المعركة،
المطاردة وانتهت بسقوط اللوف القتلى من الروم ).(4
وأمر الصديق كل أمير أن يسلك طريقا غير طريق الخر ،لما
في(5ذلك من المصالح ،وكأن الصديق اقتدى في ذلك بنبي الله لحظ
ب ٍ با
َ من ِ لوا ُ خ
ُ ْ د َ ت َ ل ي
ّ ِ ن َ ب يا َ ل َ قا َ و
َ + لبنيه: قال حين )
يعقوب
ه
ن الل ِ م َ كم ّ عن ُ غِني َ ما أ ُ ْ َ و َ ة
ق ٍ فّر َ مت َ َ ّ بوا ٍ
َ
ن ْ أب ْ َم ْخُلوا ِ وادْ ُ
د َ ح ٍ
وا ِ
َ
لَ ِ ّ ك و َ تَ يْ ل َ
ف ه
ِ ْ يَ ل ع
َ و
َ ت
ُ ْ ل ّ ك و َ َ ت ه
ِ ْ يَ ل ع
َ ه
ِ لل ّ ل ِ إ مُ ك ح
ُ ْ ل ا ن إ
ْ ِ ِ ء
ٍ ي َ
ش من ِ
التاريخ السلمي.9/206 : )( 1
أي :أن ل يخطئ رأيك في ،فتوح الشام للزدي :ص .51 -48 )( 3
272
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ن" ]يوسف.[67 :وك ُّلو َ ال ْ ُ
مت َ َ
رابًعا :تأزم الموقف في بلد الشام:
كانت الجيوش المكلفة بفتح بلد الشام تلقي صعوبة في تنفيذ
المهمات الموكلة إليها؛ فقد كانت تواجه جيوش المبراطورية
الرومانية التي تمتاز بقوتها وكثرة عددها ،وقد بنت الحصون والقلع
للدفاع عن مراكز المدن ،واستخدمت أسلوب الكراديس في تنظيم
جيوشها .لقد كان للروم في الشام جيشان كبيران أحدهما في
فلسطين والخر في أنطاكية ،وتمركز هذان الجيشان في ستة
مواضع على الشكل التي:
أ -أنطاكية :وهي عاصمة الشام في العهد الرومي.
ب -قنسرين :وتقع بين حماة وحلب على مسافة خمسة
وعشرين كيلو مترا جنوبي غربي حلب ،وهي حدود بلد الشام
التي تحاذي فارس في الشمال الغربي.
ج -حمص :ويمتد نفوذها العسكري حتى تدمر وصحراء الشام،
وهي حدود بلد الشام التي تحاذي فارس من الشمال
الشرقي.
د -عمان :قاعدة البلقاء ،وفيها قلعة محصنة.
هـ -أجنادين :قاعدة الروم العسكرية في جنوب فلسطين وعلى
حدود بلد العرب الشرقية والغربية ،وعلى حدود مصر.
و -قيسارية :في شمال فلسطين ،وتبعد عن حيفا ثلثة عشر كيلو
متًرا ول تزال أنقاضها قائمة.
أما مقر القيادة العامة فهو أنطاكية أو حمص ،وعندما شهد قائد
الروم هرقل الذي كان يشرف على الموقف بنفسه في »إيليا«
ل الجيوش السلمية ،أصدر أوامره إلى قواته بالتوجه لتدمير توغ َ
هذه الجيوش ،وكانت خطة مواجهة الجيوش السلمية كالتي:
-يتراجع الروم أمام المسلمين ويتخلون لهم عن الحدود
الشامية الحجازية.
-تتجمع وحدات الجيش الول في فلسطين بعد تقريرها
بقيادة سرجون.
-تتجمع وحدات الجيش الثاني في أنطاكية بقيادة تيدور.
-تتحرك هذه الجيوش وتهاجم أمراء السلم الربعة الواحد
بعد الخر؛ وذلك لتسهيل تصفية جيوش السلم على انفراد.
التي( وضعها هرقل تحركت جيوش وعلى أساس هذه الخطة
الروم وحسب الترتيب التي ): 1
-توجيه أخيه تذارق في تسعين ألفا للقضاء على جيش
عمرو بن العاص.
)( معارك خالد بن الوليد ،العميد ياسين سويد :ص .78 ،77 1
273
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-توجيه بن توذر إلى يزيد بن أبي سفيان.
-توجيه القبقار بن ننطوس في ستين ألفا إلى جيش أبي
عبيدة.
-توجيه الدارقص نحو شرحبيل بن حسنة ).(1
استطاع المسلمون الحصول على المعلومات الدقيقة عن هذه
الجيوش ونواياهم بكل تفاصيلها ،وعن تفاصيل الخطة الرومية التي
كان قد وضعها هرقل لتدمير الجيوش السلمية كل على انفراد،
وراسل قادة المسلمين الخليفة بالمدينة ،فكتب أبو عبيدة إلى أبي
بكر -رضي الله عنهما -يخبره بما بلغه مما جمع هرقل ملك الروم
من الجموع ،وهذا نص كتاب أمين المة إلى الصديق :بسم الله
الرحمن الرحيم ،لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله × من أبي
عبيدة ابن الجراح ،سلم عليك ،فإني أحمد إليك الله الذي ل إله إل
هو أما بعد :فإنا نسأل الله أن يعز السلم وأهله عزا متينا ،وأن يفتح
لهم فتحا يسيرا ،فإنه بلغني أن هرقل ملك الروم نزل قرية من قرى
الشام تدعى أنطاكية ،وأنه بعث إلى أهل مملكته فحشرهم إليه،
وأنهم نفروا إليه على الصعب والذلول ) ،(2وقد رأيت أن أعلمك ذلك
فترى فيه رأيك ،والسلم عليك ورحمة الله وبركاته.
فكتب إليه أبو بكر :بسم الله الرحمن الرحيم ،أما بعد :فقد
بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم ،فأما
منزله بأنطاكية فهزيمة له ولصحابه وفتح من الله عليك وعلى
المسلمين ،وأما ما ذكرت من حشره لكم أهل مملكته وجمعه لكم
الجموع ،فإن ذلك ما قد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم ،وما
كان قوم ليدعوا سلطانهم ويخرجوا من ملكهم بغير قتال ،وقد
علمت والحمد لله ،قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون
الموت حب عدوهم للحياة ،ويرجون من الله في قتالهم الجر
العظيم ،ويحبون الجهاد في سبيل الله أشد من حبهم أبكار نسائهم
وعقائل أموالهم ،الرجل منهم عند الفتح خير من ألف رجل من
المشركين ،فالقهم بجندك ول تستوحش لمن غاب عنك من
المسلمين ،فإن الله معك ،وأنا مع ذلك ممدك بالرجال ،حتى تكتفي
ول تريد أن تزداد إن شاء الله ،والسلم عليكم ورحمة الله وبركاته
).(3
وكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي بكر بنفس مضمون كتاب
أبي عبيدة بن الجراح ورد الصديق على يزيد رضي الله عنهم جميعا،
وهذا نص الجواب :بسم الله الرحمن الرحيم ،أما بعد :فقد بلغني كتابك
تذكر فيه تحول ملك الروم إلى أنطاكية ،وأن الله ألقى الرعب في
قلبه من جموع المسلمين ،فإن الله -وله الحمد -قد نصرنا ونحن مع
رسول الله ×بالرعب وأمدنا بملئكته الكرام ،وإن ذلك الدين الذي
نصرنا الله به بالرعب هو هذا الدين الذي ندعو الناس إليه اليوم،
)( العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين :ص .147 1
)( يعني :الخيل بأنواعها ،ما يصعب قياده منها وما يسهل ،والمراد وصفهم 2
بالكثرة.
)( التاريخ السلمي ،9/213 :نقل عن فتوح الشام للزدي.31 ،30 : 3
274
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فوربك ل يجعل الله المسلمين كالمجرمين ،ول من يشهد أن ل إله إل
الله كمن يعبد معه آلهة آخرين ويدين بعبادة آلهة شتى ،فإذا لقيتموهم
فانهد إليهم بمن معك وقاتلهم فإن الله لن يخذلك ،وقد نبأنا الله
-تبارك وتعالى -أن الفئة القليلة منا تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله ،وأنا
مع ذلك ممدك بالرجال في إثر الرجال حتى تكتفوا ول تحتاجوا إلى
زيادة إنسان إن شاء الله ،والسلم عليك ورحمة الله .وبعث الصديق
الثمالي ،حتى قدم على يزيد فقرأه بهذا الكتاب مع عبد الله بن قرط
سّروا ).(1
على المسلمين ففرحوا به و ُ
وجاء كتاب من عمرو بن العاص بخصوص جموع الروم ،ورد
عليه الصديق فقال :سلم عليك ،أما بعد :فقد جاءني كتابك تذكر ما
جمعت الروم من الجموع ،وإن الله لم ينصرنا مع نبيه × بكثرة
جنود ،وقد كنا نغزو مع رسول الله × وما معنا إل فََرسان ،وإن نحن
إل نتعاقب البل ،وكنا يوم أحد مع رسول الله × وما معنا إل فرس
واحد كان رسول الله يركبه ،ولقد كان يظهرنا ويعيننا على من
ضا للمعاصي، الناس لله أشدهم بغ ً خالفنا .واعلم يا عمرو أن أطوع
فأطع الله ومر أصحابك بطاعته ).(2
خروج هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى الشام:
وشرع الصديق في إمداد الجيوش السلمية ببلد الشام بالرجال
والسلح والخيول وما يحتاجونه ،ودعا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص،
دك ووفاء حظك أنك أصبحت ج ّوقال له :يا هاشم ،إن من سعادة َ
ممن تستعين به المة على جهاد عدوها من المشركين ،وممن يثق
ي المسلمون الوالي بنصيحته ووفائه وعفافه وبأسه ،وقد بعث إل ّ
يستنصرون على عدوهم من الكفار ،فسر إليهم فيمن تبعك ،فإنني
نادب الناس معك ،فاخرج حتى تقدم على أبي عبيدة أو يزيد قال :ل،
بل على أبي عبيدة! قال :فاقدم على أبي عبيدة .وقام أبو بكر
في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :أما بعد :فإن إخوانكم من
المسلمين معافون مدفوع عنهم مصنوع لهم ،وقد ألقى الله الرعب
في قلوب عدوهم منهم ،وقد اعتصموا بحصونهم وأغلقوا أبوابها
دونهم عليهم ،وقد جاءتني رسلهم يخبرونني بهرب هرقل ملك الروم
من بين أيديهم حتى نزل قرية من قرى الشام في أقصى الشام وقد
دا من مكانه ذلك، بعثوا إلي يخبرونني أنه قد وجه إليهم هرقل جن ً
فرأيت أن أمد إخوانكم المسلمين بجند منكم يشدد الله بهم
ظهورهم ،ويكبت بهم عدوهم ،ويلقي بهم الرعب في قلوبهم،
فانتدبوا رحمكم الله مع هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص واحتسبوا في
ذلك الجر والخير؛ فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة ،وإن تهلكوا
فهي الشهادة والكرامة ،ثم انصرف أبو بكر إلى منزله ومال
فا أمره أبو بكر أن الناس على هاشم حتى كثروا عليه ،فلما أتموا أل ً
يسير فجاء فسلم عليه ،وودعه ،فقال له أبو بكر :يا هاشم ،إنما
كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره ،وكنا ننتفع
من الشباب بصبره وبأسه ونجدته ،وإن الله -عز وجل -قد جمع لك
الخصال كلها وأنت حديث السن مستقبل الخير ،فإذا لقيت عدوك
)( فتوح الشام للزدي ،33 -30 :نقل عن الحميدي. 1
)( خطب أبي بكر الصديق :محمد أحمد عاشور :ص .92 2
275
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
276
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ألسنتهم ،وعجلة يكرهها منهم ما لم يبلغ ذلك الحد ،فإن الله مهلك
بهؤلء أعداءنا جموع هرقل والروم ،وإنما هم إخوانكم ،فإن كانت
منهم عجلة على أحد منكم فليحتمل ذلك ،ألم يكن ذلك أصوب في
الرأي وخيًرا في المعاد من أن ي ُْنتصر منهم؟
قال المسلمون :بلى.
العداء ،ولهم قال :فإنهم إخوانكم في الدين وأنصاركم على
عليكم حق فاحتملوا ذلك لهم ،ثم نزل من على المنبر ).(1
سا :توجيه خالد إلى الشام ومعركة أجنادين واليرموك: خام ً
كانت قيادة الجيوش السلمية بالشام تتابع تطور حركة الجيوش
الرومانية ،وشعر القادة بخطورة الموقف فعقدوا مؤتمًرا بالجولن،
وكتب أبو عبيدة إلى الخليفة يشرح له الموقف ،وفي الوقت نفسه
قرروا النسحاب من جميع الراضي التي تم فتحها وتجمعوا في
مكان واحد ليتمكنوا من إحباط خطة الرومان وإجبارهم على خوض
معركة فاصلة تخوضها كل الجيوش السلمية .وكان عمرو بن
التجمع( باليرموك ،وجاء رأي العاص أشار على القادة أن يكون
قا لرأي عمرو بن العاص ) 2في اختيار مكان التجمع، الصديق مطاب ً
واتفقوا أن يتم النسحاب مع تجنب الشتباك مع العدو ،فانسحب أبو
عبيدة من حمص ،وانسحب شرحبيل بن حسنة من الردن ،وانسحب
يزيد بن أبي سفيان من دمشق ،وأخذ عمرو بن العاص في
النسحاب تدريجًيا من فلسطين ) ،(3ولكنه لم يستطع النسحاب منها
حتى نجده خالد بن الوليد قبل اليرموك ،فظل يناور في بئر السبع
ما مضاًدا فكانت له (،وبذلك شن المسلمون هجو ً لمتابعة الروم
معركة أجنادين ). 4
عندما تسلم الصديق رسالة أبي عبيدة وشرح له فيها الموقف
أمره بالنسحاب إلى اليرموك والتجمع هناك ،وقال له :بث خيلك في
القرى والسواد وضيق عليهم بقطع الميرة والمادة ،ول تحاصروا
المدائن حتى يأتيك أمري فإن ناهضوك فانهد لهم واستعن بالله
عليهم ،فإنه ليس يأتيهم مدد إل أمددناك بمثلهم ) ،(5وجاء في رواية:
إن مثلكم ل يؤتى من قلة إنما يؤتى العشرة اللف إذا أوتوا من
الذنوب واجتمعوا باليرموك متساندين، تلقاء الذنوب ،فاحترسوا من
وليصل كل رجل منكم بأصحابه (6) .وكان توجيه الصديق للجيوش
بأنه يجتمعوا ويكونوا عسكرا واحدا ،وأن يلقوا زحوف المشركين
بزحف المسلمين ،وقال)(7لهم :بأنكم أعوان الله ،والله ناصر من
نصره وخاذل من خذله .
ونرى من خلل رسائل الصديق بأنه وضع أساس النصر للجيوش
ل ،فالخذلن يأتي بالمعاصي والذنوب .وعمل الصديق بطاعتها لله أو ً
)( التاريخ السلمي للحميدي.9/223 : 1
277
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
على تجميع الجيوش في مكان واحد حتى ل يستغل العدو فترة
انتشارهم في البلد لينهك قواهم الواحد بعد الخر ،كما أن تعيينه
لليرموك دال على دراسة الصديق لجغرافية الرض في عصره
وإدراكه لمواقعها ،وهذا فقه حربي عظيم وفقه الله -عز وجل -له.
وقرر الصديق أن ينقل خالد بن الوليد بجيشه إلى الشام وأن يتولى
قيادة الجيوش بها ،فالمر بالشام يحتاج إلى قائد يجمع بين قدرة أبي
عبيدة ودهاء عمرو وحنكة عكرمة وإقدام يزيد ،وأن يكون صاحب
قدرة عسكرية فائقة مع قدرة على حسم المور وصاحب دهاء
وحيلة وإقدام ،وصاحب حنكة ودراية)(1مع دقة في تقدير المواقف،
وصاحب تجربة طويلة في المعارك ،فوقع اختيار الصديق على
خالد بن الوليد فكتب إليه بالعراق ونفذ ابن الوليد تعاليم الخليفة،
ووصل بجيشه إلى الشام بعد رحلة عبر الصحراء لم يذكر التاريخ
شبيًها لها ،وقد بينت ذلك ,فكانت إمدادات الصديق تتواصل على
الشام ،ويضع الخطط المتطورة ويرد على أساليب العداء التكتيكية
والمعنوية والمادية التي كان هدفها إشغال الصديق عن هدفه حتى
قادة الروم :والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى )(2
قال
الصديق(3:والله لشغلن النصارى عن وساوس رد وكان ، أرضنا
الشيطان بخالد بن الوليد ) .وقد حققت توجيهات الصديق عدة
أمور ،منها :توحيد جيش المسلمين في الشام ،وتوحيد قيادة هذا
الجيش بإمرة خالد ،وتحديد موقع اللقاء ،وهذا يؤكد وضوح الرؤية
عند الخليفة أبي بكر في تحريك الجيوش ،فكان عندما أرسلها من
المدينة خرجت في طرق متباعدة نسبًيا فكانت على شكل رؤوس
حراب أو على شكل مروحة ،وهو عادة ما يعرف بحركة النتشار في
الجيوش الحديثة ،وعندما حان وقت الشتباك واللقاء الفاصل جمعها
مع بعضها في موقع اختاره لها ،فقد ظهرت قدرته البارعة في
ما(4اتفق على تسميته »بالستراتيجية« في استعمال الجيوش وهو
العلم العسكري الحديث ) ،وكان الصديق كقائد عام للجيوش
السلمية يحرص على حضوره المعنوي في ميدان القتال بالوامر،
مع ما كانت تتميز به تلك الوامر من تبصر وبعد نظر ،ونفاذ في
البصيرة وبداهة في فهم الوضع العسكري على أرض المعركة،
وبالتالي سرعته في تحريك القوى وفقا لهذا الوضع وبما يلئمه تمام
الملءمة ،وحسن اختياره للقادة الذين كانوا بفعل الثقة المتبادلة بينه
وبينهم يقرءون أفكاره ويحسون برغباته ونواياه ،فتتجسد في
مخيلتهم فكرة المناورة التي يعتزم تنفيذها ويقومون بتنفيذها كما لو
كان الخليفة ينفذها ،وبواسطة هذه الوسائل كان الخليفة يدير
المعارك على الجبهات المختلفة كأنما هو حاضر في كل منها ،بحيث
يحس الجيش قادة وجنوًدا كأن الخليفة نفسه معهم يقودهم
قا تمام المطابقة لما يريد ويرغب، مطاب ً ويوجههم ،فيأتي عملهم
ووفقا لوامره وتوجيهاته ).(5
وعندما أرسل الصديق إلى خالد يأمره بالتوجه إلى الشام وتولي
)( تاريخ الدعوة إلى السلم :ص .360 ،359 1
)( الفن العسكري السلمي :ص .89أبو بكر الصديق ،الحديثي :ص .60 4
278
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الجيوش هناك ،قام الصديق بإرسال رسالة إلى أبي عبيدة يخبره
فيها بتولية خالد عليه ويأمره فيها بالسمع والطاعة ،وبّين فيها سبب
دا قتال الروم بالشام ،فلتولية خالد :أما بعد ،فإني قد وليت خال ً
تخالفه واسمع له وأطع أمره ،فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير
أراد( الله بنا منه ،ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك،
وبك سبيل الرشاد ،والسلم عليك ورحمة الله وبركاته 1) .وكانت
رسالة خالد إلى أخيه أبي عبيدة قد قطعت المسافات من العراق
إلى الشام واستقرت في قلبه الغني باليمان والزهد في هذه الدنيا
الفانية ،وهذا نصها:
لبي عبيدة بن الجراح من خالد بن الوليد ،سلم عليك ،فإني
أحمد الله إليك الذي ل إله إل هو ،أما بعد :فإني أسأل الله لنا ولك
المن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا ،فقد أتاني كتاب خليفة
رسول الله يأمر فيه بالمسير إلى الشام وبالمقام على جندها
والتولي على أمرها ،والله ما طلبت ذلك ول أردته ول كتبت إليه فيه،
وأنت رحمك الله على حالك الذي كنت به :ل ت ُْعصى في أمرك ول
يخالف رأيك ول يقطع أمر دونك ،فأنت سيد من سادات المسلمين ل
ينكر فضلك ول يستغنى عن رأيك ،تمم الله ما بنا وبك من نعمة
الحسان ،ورحمنا وإياك من عذاب النار ،والسلم عليك ورحمة الله. )(2
279
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
النفس وإيثارهم لمصلحة المة ،وإرادتهم وجه الله في حظوظ
أعمالهم (1).وفي هذا درس عظيم لبناء المة على مستوى
الحكومات والحركات والشيوخ والدعاة والقادة والزعماء في
التعامل فيما بينهم عند التعيين أو العزل أو الفصل.
-1معركة أجنادين:
وصل خالد إلى الشام وفتح بصرى واجتمع بقيادة المسلمين أبي
عبيدة وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ،ودرس الموقف
العسكري واطلع على أدق تفاصيله ،كما اطلع على موقف عمرو بن
العاص الذي كان ينسحب محاذاة ضفة نهر الردن لكي يلتقي
بجيوش المسلمين الخرى ،ومحاذًرا للشتباك معه في معركة
مًرا كان في تمام اليقظة والحذر وعلى علم تام بأنه فاصلة ،إل أن عَ ْ
ليس من مصلحته الشتباك في مثل هذه المعركة؛ لن جيشه لم
يكن يتجاوز السبعة آلف بينما كان جيش الروم يقارب السبعين
ألف ،وبعد أن درس خالد الموقف العسكري رأى أن أمامه خيارين،
فإما أن يسرع وينضم إلى جيش عمرو ويخوض وإياه معركة فاصلة
فيقضي على قوة الروم الكبيرة فيتعزز الموقف العسكري للجيش
السلمي ويصون خط رجعته ويحمي جناحه اليسر ويثبت أقدام
المسلمين في فلسطين ،وإما أن يقف مكانه ويوعز إلى عمرو
بالنضمام إليه ،ثم ينتظر قوات الروم التي كانت تزحف نحوه من
دمشق ليخوض معها معركة فاصلة ،وقد فضل خالد أن يأخذ الخيار
الول؛ لن التغلب على جيش الروم في فلسطين وتشتيته يحفظ
للمسلمين خط رجعتهم ويعزز مركزهم ،ويجعلهم في موقف
يستطيعون معه تهديد الجيش الرومي ،ويجعلونه يتوقع حصول حركة
التفاف من خلفه ،فيضطر للخذ بتدابير خاصة للحماية تشغل جانًبا
ما.
من قواته ،فيصبح بذلك مدافًعا بعد أن كان مهاج ً
فانحدر من اليرموك إلى سهل فلسطين بعدما أصدر أمره إلى
جا جيش الروم حتى يصل جيش خالد عمرو بأن ينسحب متدر ً
فيطبقان عليه فارتد عمرو إلى أجنادين ) ،(2وعندما وصلت قوات
خالد أصبح جيش المسلمين بحدود ثلثين ألف مقاتل ،وكان وصول
خالد في الوقت المناسب ،فما أن اصطدمت قوات عمرو بالروم
حتى انقض خالد بقواته الرئيسة ،وجرت معركة عنيفة ،وكان لمهارة
القائدين خالد وعمرو العسكرية دور كبير في تحقيق النصر الحاسم؛
حيث تم توجيه قوة اقتحامية اخترقت صفوف العدو حتى وصلت إلى
فقتلوه (،وبمقتل القائد انهارت مقاومة الروم وهربوا في قائد الروم
اتجاهات مختلفة ). 3
وقد كانت أجنادين أولى المعارك الكبيرة في بلد الشام بين
الهزيمة إلى قيصر الروم هرقل المسلمين والروم ،فلما انتهى خبر
وهو في حمص شعر بمدى الكارثة ).(4
وكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر بفتح الله -عز وجل -عليه
)( التاريخ السلمي للحميدي.9/231 : 1
)( أبو بكر ،نزار الحديثي :ص (3) .70نفس المصدر السابق :ص .71 3
4
280
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وعلى المسلمين :لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله من خالد بن
وب على المشركين ،أما بعد :سلم عليكم، الوليد سيف الله المص ّ
فإني أحمد إليك الله الذي ل إله إل هو ،أما بعد :فإني أخبرك أيها
عا جمة الصديق أنا التقينا نحن والمشركون وقد جمعوا لنا جمو ً
صُلبهم ونشروا كتبهم وتقاسموا بالله ل كثيرة بأجنادين ،وقد رفعوا ُ
يفرون حتى يصيبونا أو يخرجونا من بلدهم ،فخرجنا إليهم واثقين
بالله متوكلين على الله فطاعناهم بالرماح ثم صرنا إلى السيوف
فقارعناهم في كل فج وشعب وغائط ،فأحمد الله على إعزاز دينه
وإذلل عدوه ،وحسن الصنع لوليائه ،والسلم عليكم ورحمة الله
به وبركاته .فلما وصل الكتاب إلى أبي بكر -رحمة الله عليه -فرح
وأعجبه ،وقال :الحمد لله الذي نصر المسلمين وأقر عيني بذلك ).(1
-2اليرموك:
عادت بواكير النصر من وقعة أجنادين بعد النتصار الكبير الذي
حققه المسلمون في هذه الموقعة وهزيمة الروم ،واطمأن
المسلمون إلى ما حققوه من نصر في أجنادين ،واجتمعت جيوش
ذا لمر الخليفة الصديق ،وتحركت المسلمين في اليرموك تنفي ً
جيوش الروم بقيادة تيدور ونزلت في منزل واسع الطعن واسع
المطرد ضيق المهرب ،فسارت حشود الروم حتى نزلوا الواقوصة
قريًبا من اليرموك.
قوات الطرفين:
فا بقيادة المسلمون أربعون ألف مقاتل وقيل :خمسة وأربعون أل ً
خالد بن الوليد.
الروم :يقدر عدد الروم بمائتين وأربعين ألفا بقيادة تيدور.
قبل المعركة:
المسلمون :وصل المسلمون بقيادة خالد بن الوليد اليرموك
فعسكروا بها حتى اجتمعت الروم مع أمرائها على الضفة الجنوبية
»أبشروا(2أيها الناس ،فقد حصرت للنهر ،وقال عمرو بن العاص:
والله الروم وقلما جاء محصور بخير« ) .
وخرج خالد بن الوليد بأسلوب جديد لم يستخدمه العرب من قبل
ذلك ) ،(3فاستخدم أسلوبا جديدا وهو الكراديس ،فخرج في ستة
وثلثين كردوسا إلى أربعين ورتب جيشه الترتيب التي:
-فرًقا ،وفيها من عشرة إلى عشرين كردو ً
سا ولها قائد
وأمير.
كراديس :ألف مقاتل ،وله قائد وأمير ).(4 -
فتوح الشام للزدي :ص .93 -84 )( 1
281
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-وقسم جيشه إلى أربعين كردوسا كما يلي:
سا بقيادة أبي
فرقة القلب :مؤلفة من ثمانية عشر كردو ً
عبيدة بن الجراح ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو.
فرقة الميمنة :مؤلفة من عشرة كراديس بقيادة عمرو بن
العاص ومعه شرحبيل بن حسنة.
فرقة الميسرة :مؤلفة من عشرة كراديس بقيادة يزيد بن
أبي سفيان.
فرقة الطليعة »المقدمة« من الخيالة والمخافر المامية
ومهمتها المراقبة والستطلع والحتفاظ على التماس مع العدو،
ولذلك تكون فرقة صغيرة وخفيفة.
فرقة المؤخرة :مؤلفة من خمسة آلف مقاتل )خمسة
كراديس( بقيادة سعيد بن يزيد ،ومهمتها قيادة الظعن »المور
الدارية« ،وكان القاضي »أبو الدرداء« ،وعلى القباض
عبد الله بن مسعود ومهمته تأمين المور الدارية والعاشة وجمع
الغنائم ،والقارئ المقداد بن السود وكان يدور على الناس ويقرأ
المعنويات(1،وخطيب الجيش أبو سورة النفال وآيات الجهاد لرفع
سفيان بن حرب وهو يطوف على الصفوف) يحث الجند على
القتال ،والقائد العام خالد بن الوليد في الوسط وحوله كبار
الصحابة ،وأعد الجيش السلمي بقيادة خالد بن الوليد في الوسط
لكل شيء عدته ،وأخذ كل قائد من القواد يمر على جنده ويحثهم
على الجهاد والصبر والمصابرة ،ورأى قادة المسلمين أن هذه
المعركة هي معركة يتوقف عليها نتائج كبرى وأنها الحاسمة ،وكان
خالد يعلم أنه إن رد الروم إلى خندقهم فسيظل يردهم وإن هزموه
فلن يفلح بعدها؛ أي أن هزيمة الروم في هذه المعركة تعني
هزيمتهم في أرض الشام كلها وتفتح أبواب الشام على مصراعيها
للمسلمين دون حواجز ول عراقيل ،والنطلق منها إلى مصر ,فآسيا
وأوربا ).(2
التعبئة اليمانية:
ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان وعظ أبو عبيدة المسلمين،
فقال :عباد الله،
انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ،فإن وعد الله حق .يا معشر
المسلمين :اصبروا ،فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب
ومدحضة للعار ،ول تبرحوا مصافكم ول تخطوا إليهم خطوة ول
تبدءوهم بالقتال وأشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إل
من ذكر الله في أنفسكم ،حتى آمركم إن شاء الله تعالى .وخرج معاذ
بن جبل على الناس فجعل يذكرهم ويقول :يا أهل القرآن ومستحفظي
الكتاب ،وأنصار الهدى ،وأولياء الحق :إن رحمة الله ل تنال وجنته ل
تدخل بالماني ,ول يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إل الصادق ُ
)( البداية والنهاية.7/8 : 1
282
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
283
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
سهلها ووعرها ،كأنهم غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة
ورهبانهم يتلون النجيل ويحثونهم على القتال (1) .ونزلت الروم
الواقوصة قريًبا من اليرموك ،وصار الوادي خندقا عليهم ،وتعبأ الروم
باستخدام أسلوب الكراديس في خطين ،كل خمسة في دائرة
يفصل بينهما وبين الخمسة الخرى فاصل ،ثم يأتي الخط الثاني وراء
فرجات الخط الول ،واتبع الروم في قتالهم الترتيب التالي:
-الرماة في المقدمة ،واجبهم أن ينشبوا القتال ثم
النسحاب إلى الوراء والجنحة.
-الخيالة بالجناحين ،واجبهم حماية الرماة حتى انسحابهم
من الخلف.
الكراديس »المشاة« ،واجبهم القتحام. -
قائد المقدمة جرجه. -
-قائد الجناحين :ماهان والدارقص ).(2
المفاوضات قبل القتال:
ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان نحو
جيش الروم ،ومعهما ضرار ابن الزور ،والحارث بن هشام ،ونادوا:
إنما نريد أميركم لنجتمع به ،فأذن لهم في الدخول على تذارق ،وإذا
هو جالس في خيمة من حرير ،فقال الصحابة :ل نستحل دخولها،
فأمر لهم بفراش بسط من حرير ،فقالوا :ول نجلس على هذه،
الصلح(3ورجع عنهم الصحابة فجلس معهم حيث أحبوا ،وتفاوضوا على
بعدما دعوهم إلى الله -عز وجل -فلم يتم ذلك ) .
وذكر الوليد بن مسلم :أن ماهان طلب خالد ليبرز إليه فيما بين
الصفوف فيجتمعا في مصلحة لهم ،فقال ماهان :إنا قد علمنا أن ما
ي أن أعطي كل أخرجكم من بلدكم إل ال ْ َ
جْهد والجوع ،فهلموا إل ّ
ما وترجعون إلى بلدكم ،فإذا رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعا ً
كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها ،فقال خالد :إنه لم يخرجنا من
بلدنا ما ذكرت ،غير أنا قوم نشرب الدماء ،وأنه بلغنا أنه ل دم أطيب
لذلك .فقال أصحاب ماهان :هذا والله ما كنا من دم الروم ،فجئنا
نحدث به عن العرب ).(4
إنشاب القتال:
لما تكامل الستعداد ولم تنجح المفاوضات تقدم خالد إلى
عكرمة بن أبي جهل والقعقاع ابن عمر ،وهما على مجنبتي القلب
أن ينشبا القتال ،فبدرا يرتجزان ودعوا إلى البراز ،وتنازل البطال
وتجاولوا وحميت الحرب وقامت على ساق.
هذا وخالد مع كردوس من الحماة الشجعان البطال بين يدي
الصفوف ،والبطال يتصاولون بين يديه وهو ينظر ويبعث إلى كل
)( ترتيب وتهذيب البداية والنهاية :ص .163 1
284
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
من(1أصحابه بما يعتمدونه من الفاعيل ،ويدبر أمر الحرب أتم قوم
التدبير ) .
إسلم أحد قادة الروم في ميدان المعركة:
وخرج جرجة -أحد المراء الكبار -من الصف واستدعى خالد بن
الوليد ،فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما فقال جرجة :يا خالد،
أخبرني فاصدقني ول تكذبني فإن الحر ل يكذب ،ول تخادعني فإن
فا من الكريم ل يخادع المسترسل بالله ،هل أنزل الله على نبيكم سي ً
السماء فأعطاكه فل تسله على أحد إل هزمتهم؟ قال :ل .قال :فبم
سميت سيف الله؟ قال :إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه
ونأينا عنه جميًعا ،ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا كذبه وباعده،
فكنت فيمن كذبه وباعده ،ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به
وبايعناه ،فقال لي» :أنت سيف من سيوف الله سله على
المشركين« ) .(2ودعا لي بالنصر ،فسميت سيف الله بذلك ،فأنا
أشد المسلمين على المشركين ،فقال جرجة :يا خالد ،إلى ما
دا عبدهتدعون؟ قال :إلى شهادة أن ل إله إل الله وأن محم ً
ورسوله ،والقرار بما جاء به من عند الله عز وجل ،قال :فمن لم
يجبكم؟ قال :فالجزية ونمنعهم .قال :فإن لم يعطها؟ قال :نؤذنه
بالحرب ثم نقاتله ،قال :فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا المر
اليوم؟ قال :منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا
وأولنا وآخرنا .قال جرجة :فلمن دخل فيكم اليوم من الجر مثل ما
لكم من الجر والذخر؟ قال :نعم وأفضل .قال :وكيف يساويكم وقد
سبقتموه؟ فقال خالد :إن قبلنا هذا المر عنوة وبايعنا نبينا وهو حي
بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب ويرينا اليات ،وحق
لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع ،وإنكم أنتم لم
تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج ،فمن دخل
في هذا المر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا .فقال جرجة :بالله
ي مالقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال :تالله لقد صدقتك ،وأن الله ول ّ
سألت عنه ،فعند ذلك قلب جرجة الترس ومال مع خالد ،وقال:
ن عليه قربة من ماء س ّعلمني السلم فمال به خالد إلى فسطاطه فَ َ
ثم صلى به ركعتين ،وحملت الروم مع انقلبه إلى خالد وهم يرون
مواقفهم إل المحامية عليهم أنها منه حملة فأزالوا المسلمين عن
عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام ).(3
ميسرة الروم تحمل على ميمنة المسلمين:
تقدمت صفوف الروم وأقبلت كقطع الليل للقيام بهجوم عام
على الجيش السلمي ،وحملت ميسرتهم على ميمنة المسلمين
فانكشف قلب الجيش السلمي من ناحية الميمنة ،واستطاع الروم
إحداث ثغرة في صفوف المسلمين والتسلل إلى مؤخرتهم ،فصاح
معاذ بن جبل :يا عباد الله المسلمين إن هؤلء شدوا للشد عليكم،
ول والله ل يردهم إل صدق اللقاء والصبر في البلء ،ثم نزل عن
فرسه وقال :من أراد أن يأخذ فرسي ويقاتل عليه فليأخذه ،وآثر
1
285
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
بذلك أن يقاتل راجل ً مع المشاة (1) .وثبتت قبائل الزد ومذحج
وحضرموت وخولن حتى صدوا أعداء الله ،ثم ركبهم من الروم
أمثال الجبال فزال المسلمون من الميمنة إلى القلب ،وانكشف
طائفة من الناس إلى العسكر ،وثبت سور من المسلمين عظيم
يقاتلون تحت راياتهم ،ثم تنادوا فتراجعوا حتى نهنهوا من أمامهم من
الروم وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس ،واستقبل النساء
سرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة ،فتراجعوا من انهزم من َ
إلى مواقفهم ).(2
فقال عكرمة بن أبي جهل :قاتلت رسول الله في مواطن وأفر
مه الحارث بن منكم اليوم؟ ثم نادى :من يبايع على الموت؟ فبايعه ع ّ
وجوه المسلمين هشام وضرار بن الزور في أربعمائة من
حتى(3أ ُث ِْبتوا جميعا جراحا، وفرسانهم ،فقاتلوا قدام فسطاط خالد
وقتل منهم خلق ،منهم ضرار بن الزور . )
وقد ذكر الواقدي وغيره أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا
ماء فجئ إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الخر
فقال :ادفعها إليه ،فلما دفعت إليه نظر إليه الخر فقال :ادفعها إليه،
فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميًعا ،ولم يشربها
أحد منهم رضي الله عنهم أجمعين.
ويقال :إن أول من قتل من المسلمين يومئذ شهيدا رجل جاء
إلى أبي عبيدة فقال :إني قد تهيأت لمر فهل لك حاجة إلى رسول
الله ×؟ قال :نعم تقرئه عني السلم ،وتقول :يا رسول الله ،إنا قد
قا .قال :فتقدم هذا الرجل حتى قتل رحمه وجدنا ما وعدنا ربنا ح ّ
الله .وثبت كل قوم على رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحا،
خا ساقطا ومعصما نادرا ،وكفا طائرة من م ّ
اليرموك إل ُ فلم تر يوم
ذلك الموطن ).(4
ميمنة الروم تحمل على ميسرة المسلمين:
حملت ميمنة الروم بقيادة قناطر على ميسرة المسلمين حملة
شديدة ،وكانت في ميسرة المسلمين قبائل كنانة وقيس وخثعم
وجذام وقضاعة وعاملة وغسان ،فأزيلت عن مواضعها ،فانكشف
قلب المسلمين من ناحية الميسرة وركب الروم أكتاف من انهرم
من المسلمين ،وتبعوهم حتى دخلوا معسكر المسلمين ،فاستقبلتهم
نساء المسلمين بالحجارة وأعمدة الخيام يضربنهم على وجوههم
ويقلن لهم :أين عز السلم والمهات والزواج ،أين تفرون وتدعوننا
للعلوج؟ فإذا زجرنهم خجل أحدهم من نفسه ورجع إلى القتال،
قا كثيًرا ،واستشهد في هذه المرحلة سعيد بن وقتلوا من الروم خل ً
زيد .وحاولت ميسرة الروم مرة أخرى بشن الهجوم على ميمنة
المسلمين ،فشدوا على عمرو بن العاص وجنده في محاولة اختراق
الصفوف لكي يقوموا بعملية التطويق ،وقاتل عمرو وجنده عن
286
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
مواضعهم إل أن الروم تمكنوا من دخول معسكرهم ،ونزلت
المسلمات من التل وأخذن يضربن وجوه الرجال المراجعين ،وقالت
ابنة عمرو :قبح الله رجل ً يفر عن حليلته ،وقبح الله رجل ً يفر عن
كريمته .وقالت أخريات :لستم بعولتنا إن لم تمنعونا ،وبذلك ارتدت
إلى المسلمين عزائمهم،
المسلمون على الروم من جديد وحمل أخرى، ودخلوا للقتال مرة
حتى أزاحوهم عن المواضع التي كسبوها ).(1
الحركة الفراجية والقضاء على مشاة الروم:
حمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حملت على
ميمنة المسلمين فأزالوهم إلى القلب ،فقتل من الروم في حملته
هذه ستة آلف ،ثم قال :والذي نفسي بيده لم يبق عندهم من الصبر
والجلد غير ما رأيتم ،وإني لرجو أن يمنحكم الله أكتافهم .ثم
اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف ،فما وصل
عليهم حملة رجل واحد إليهم حتى انقض جميعهم ،وحمل المسلمون
فانكشفوا ،وتبعهم المسلمون ل يمتنعون منهم (2) .وقامت ميمنة
المسلمين بإغلق المنافذ والثغرات في وجوه الروم وحصروا بين
وادي اليرموك ونهر الزرقاء ،ودارت رحى المعركة وأبلى المسلمون
بها بلء حسنا ،واستطاع المسلمون أن يفصلوا فرسان الروم عن
مشاتهم ،فحملوا على الروم وركبوا أكتافهم حتى أرهقوهم ،وبذلك
جا لهم للفرار منه ،وبذلك أمر خالد عمرو بن أراد فرسان الروم مخر ً
العاص بفسح المجال لهم في طريق الهرب ،وفعل ذلك وهرب
فرسان الروم ،وبذلك تحرك مشاة الروم دون غطاء من خيالتهم،
فجاء المشاة إلى الخنادق وهم مقيدون بالسلسل حتى صاروا كأنهم
حائط وقد هدم ،وجاءهم المسلمون إلى خندقهم في ظلل الليل
وأخذ معظمهم ينهار بالوادي ،فإذا منهم شخص قتل سقط معه
الجميع الذين كانوا مقيدين معه ،وقتل منهم المسلمون في هذه
قا كثيًرا قدر عددهم بمائة ألف وعشرين ألفا ،والناجون المرحلة خل ً
قسم منهم إلى فحل ،والقسم الخر إلى دمشق انسحب منهم قد
داخل بلد الشام ).(3
دا ،وذلك أن أباهوثبت يومئذ يزيد بن أبي سفيان وقاتل قتال ً شدي ً
مر به فقال له :يا بني ،عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رجل بهذا
الوادي من المسلمين إل محفوفا بالقتال ،فكيف بك وبأشباهك الذين
ولوا المسلمون؟ أولئك أحق الناس بالصبر والنصيحة،
فاتق الله يا بني ول يكونن أحد من أصحابك بأرغب في الجر والصبر
في الحرب ،ول أجرأ على عدو السلم منك .فقال :أفعل)(4إن شاء
دا وكان من ناحية القلب . الله .فقاتل يومئذ قتال ً شدي ً
وقال سعيد بن المسيب عن أبيه ،قال :هدأت الصوات يوم
اليرموك فسمعنا صوًتا يكاد يمل المعسكر يقول :يا نصر الله اقترب،
الثبات الثبات يا معشر المسلمين .قال :فنظرنا فإذا هو أبو سفيان
العمليات التعرضية والدفاعية :ص .176 )( 1
ترتيب وتهذيب البداية والنهاية :ص .171فتوح البلدان للزدي :ص .171 )( 2
287
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
تحت راية ابنه يزيد (1) .وأخر الناس صلتي العشاء حتى استقر الفتح
خالد ليلته في خيمة تذارق أخي هرقل وهو أمير الروم )(3
) ،(2وأكمل
كلهم يومئذ ،وهرب فيمن هرب ،وباتت الخيول تجول حول خيمة
خالد يقتلون من مر بهم من الروم حتى أصبحوا ،وقتل تذارق وكان
له ثلثون سرادقا وثلثون رواقا من ديباج بما فيها من الفرش
والحرير ،فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم ) ،(4وكان
عدد شهداء المسلمين ثلثة آلف بينهم من صحابة النبي × وشيوخ
المسلمين وأقطابهم ،وممن استشهد من هؤلء :عكرمة بن أبي
جهل وابنه عمرو ،وسلمة بن هشام ،وعمرو بن سعيد ،وأبان بن
سعيد ،وغيرهم (5) .وكان عدد قتلى الروم مائة وعشرين ألفا ،منهم
بالسلسل وأربعون ألفا مطلقون سقطوا )(6
ثمانون ألفا مقيدون
جميعهم في الوادي.
لقد فرح المسلمون بهذا النصر العظيم ،وعكر ذلك الفرح وصول
دا ،وعوضهم الله خبر وفاة الصديق؛ حيث حزنوا عليه حزًنا شدي ً
تعالى بالفاروق رضي الله عنهم أجمعين (7) .وقد كان البريد قد قدم
بموت الصديق والمسلمون مصافو الروم ،فكتم خالد ذلك عن
المسلمين لئل يقع في صفوفهم وهن أو ضعف ،فلما تم النصر
وأصبحوا أجلى لهم المر ،وكان الفاروق قد عين أبا عبيدة بن الجراح
بدل ً من خالد بن الوليد جيوش الشام ،وتقبل خالد أمر الفاروق
برحابة صدر ) ،(8وعزى المسلمين في خليفة رسول الله ،وقال لهم:
ي من الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إل ّ
ي من أبي بكر عمر ،والحمد لله الذي ولى عمر كان أبغض إل ّ
وألزمني حبه (9).وتولى أبو عبيدة القيادة العامة لجيوش الشام.
ومما قيل من الشعر في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو:
كما فزنا بأيام العراق ألم ترنا على اليرموك فزنا
)(10
وعذراء المدائن قد فتحنا
)(11
فتحنا قبلها بصرى وكانت
م بأسياف رقاق
نهاب ُهُ ُ قتلنا من أقام لنا وفينا
على اليرموك معروق الوراق قتلنا الروم حتى ما تساوى
3
4
288
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(12
فضضنا جمعهم لما استجالوا
)(1
ضل بالذواق
إلى أمر يع ّ غداة تهافتوا فيها فصاروا
وقد أصاب هرقل هم وحزم لما أصاب جيشه في اليرموك ،ولما
قدمت على أنطاكية فلول جيشه قال هرقل :ويلكم ،أخبروني عن
هؤلء القوم الذين يقاتلونكم ،أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا :بلى ،قال:
فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا :بل نحن أكثر منهم أضعاًفا في كل موطن.
قال :فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم :من أجل أنهم
يقومون الليل ،ويصومون النهار ،ويوفون بالعهد ،ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم ،ومن أجل أنا نشرب الخمر
ونزني ،ونركب الحرام ،وننقض العهد ،ونغصب ونظلم ،ونأمر
وننهى عما يرضى الله ،ونفسد في الرض ،فقال :أنت بالسخط
صدقتني ).(2
***
289
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الثالث
أهم الدروس والعبر والفوائد
ل :من معالم السياسة الخارجية في دولة الصديق: أو ً
رسمت خلفة الصديق أهداًفا في السياسة الخارجية للدولة
السلمية ،والتي كان من أهمها:
-1بذر هيبة الدولة في نفوس المم الخرى:
فقد حقت سياسة الصديق هذا الهدف بطرق عديدة ،منها:
أ -وصول أخبار النتصارات التي أيد الله بها المة المسلمة في
حروب الردة ،مما ساعد على وأد هذه الفتنة وتثبيت أركان الدولة،
ومثل هذه الخبار تصل إلى الدول المجاورة ،وبخاصة إذا كانت تتابع
دا،
أنباء الدول السلمية وترقب حركتها وترى فيها خطًرا جدي ً
وللفرس والروم في ذلك الوقت قدرة على معرفة الحوادث
والمور ،فلما وصلت أنباء المرتدين وثبات الناس على الدين أدركت
الدولتان أن بنيان هذه المة الجديدة يستعصي على المؤامرات
ويتجاوز المحن والبتلءات ،وهذا له وقعه في نشر هيبة دولة
السلم.
ب -جيش أسامة :ظهر لجيش أسامة الذي أنفذه الصديق أثر
بالغ في نشر هيبة الدولة السلمية ،وقد جعل الروم يتساءلون عن
الجيش الذي حاربهم وعاد منتصرا إلى عاصمة دولته ،فامتلت
عا حتى حشد هرقل عشرات اللوف من جيشه على قلوبهم فز ً
الناس ،مما وتناقلها كسرى بلد إلى الخبار تلك نقلت فقد الحدود،
كان له الثر في نشر هيبة المسلمين في قلوب هذه الدول ).(1
-2مواصلة الجهاد الذي أمر به النبي ×:
قام الصديق بمواصلة الجهاد لتأمين الدعوة ووصولها للناس،
فجهز الجيوش وندب الناس للخروج إلى الجهاد في سبيل الله لنشر
دعوة الحق وإزاحة الطواغيت الذين رفضوا دعوة النبي × لهم
بالسلم ،وصمموا على حجب نور الحق عن شعوبهم ،وقد خرج
الناس يلبون هذه الدعوة الحبيبة إلى النفوس تحت لواء قادة
أصحاب بلء وجهاد في
سبيل الله ،أمثال :خالد وأبي عبيدة وشرحبيل ويزيد ،اختارهم
خليفة محنك مجرب ذو ملكة عسكرية صقلتها الظروف التي
أحاطت به والزمات الخطيرة التي أحدقت بأمته ،مما دفعه إلى
العناية بهذه الناحية ،فاختار القواد أحسن اختيار وأمدهم بتوجيهاته
ففتحوا الشام والعراق في أقصر وقت ممكن وبأقل وإرشاداته،
كلفة متاحة ).(2
-3العدل بين المم المفتوحة والرفق بأهلها:
)( تاريخ الدعوة إلى السلم :ص .260 1
290
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
كانت السياسة الخارجية للصديق قائمة على بسط لواء العدل
على الديار المفتوحة ونشر المن بين أهلها؛ حتى يحس الناس
بالفرق بين دولة الحق ودولة الباطل ،وحتى ل يظن الناس أنه قد
ذهب جبار ظالم ليحل مكانه من هو أشد منه أو مثله في ظلمه
وجبروته .ووصى أبو بكر قواده بالرحمة والعدل والحسان إلى
الناس ،فإن المغلوب يحتاج إلى الرأفة وتجنب ما يثير فيه حمية
القتال .وحافظ المسلمون الفاتحون على النسان والعمران،
دا في ذوق رفيع وإنسانية خُلقا جدي ًفشاهدت الشعوب المفتوحة ُ
صادقة ،فقام ميزان الشريعة بين المم المغلوبة بالقسط ،وانتشر
نور السلم فأخذ يعد له مجامع القلوب فسارعت الشعوب إلى
اعتناق هذا الدين والنضواء تحت لوائه .وكان جند العاجم من
الفرس أو الروم إذا وطئوا أرضا دنسوها ونشروا فيها الرعب والفزع
وانتهكوا الحرمات ،مما قاسى منه الناس الويل والثبور ،وتناقلت
الجيال قصصه المرعبة والمفزعة جيل ً بعد جيل وقبيل ً إثر قبيل،
فلما جاء السلم ودخل جنده هذه الديار فإذا بالناس يجدون العدل
يبسط رداءه فوق رؤوسهم ،ويعيد إليهم آدميتهم التي انتزعها الظلم
ما،صا عظي ً والطغيان .وقد حرص الصديق على هذه السياسة حر ً
وم أي عوج يظهر أو خطأ يقع. وكان يق ّ
روى البيهقي :أن العاجم كانوا إذا انتصروا على عدو استباحوا
كل شيء من ملك أو أمير ،وكانوا يحملون رؤوس البشر إلى
ملوكهم كبشائر للنصر وإعلن للفخر ،فرأى أمراء المسلمين في
حروب الروم أن يعاملوهم بنفس معاملتهم فبعث عمرو بن العاص
وشرحبيل بن حسنة برأس »بنان« أحد بطارقة الشام إلى أبي بكر
مع عقبة بن عامر ،فلما قدم عليه أنكر ذلك ،فقال له عقبة :يا خليفة
ن بفارس والروم؟ ل رسول الله ،إنهم يصنعون ذلك بنا ،فقال :أ )فَنْ (َ 1
ست َ ّ
ي رأس ،إنما يكفي الكتاب والخبر . يحمل إل ّ
-4رفع الكراه عن المم المفتوحة:
من معالم السياسة الخارجية عند الصديق رفع الكراه عن
الشعوب َعلى دينه كره أحد من المم أو المم المفتوحة ،فلم ي ُ ْ
ْ َ َ
رهُ ت ت ُك ِ
بالقوة ،وهو في هذا ينطلق من قول الله تعالى+ :أفأن ْ َ
ن" ]يونس .[99 :والمسلمون أرادوا من مِني َ م ْ
ؤ ِ كوُنوا ُ حّتى ي َ ُس َ الّنا َ
الفتوحات إزالة الطغاة وفتح البواب أمام الشعوب لترى نور
السلم ،أما وقد أزيل كابوس الظلم عن الناس فليتركوا أحراًرا ول
يكرهوا على شيء طالما حافظوا على عهدهم مع المسلمين ،والذي
كان يشمل في بنوده:
أ -أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ب -أن ل يكون لهم مكان في بعض الوظائف كالجيش.
ج -أن ل يكونوا جهة معادية للسلم في شعائره أو عبادته أو
شريعته.
د -إذا غير أحدهم دينه السابق فل يقبل منه إل السلم.
)( تاريخ الخلفاء للسيوطي :ص .123 1
291
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وتقوم دولة السلم بتفسير السلم لهم عملّيا ونظرّيا ،بحيث
بهذا الدين؛ ليدخلوا فيه عن رغبة ،فإن يؤدي ذلك إلى اقتناعهم
العقائد ل تستقر بالكراه ).(1
ثانًيا :من معالم التخطيط الحربي عند الصديق:
إن المطالع للفتوحات في عهد الصديق يمكن له أن يستنتج
طا رئيسة للخطة الحربية التي سار عليها ،وكيف تعامل هذا خطو ً
الخليفة العظيم مع سنة الخذ بالسباب؟ وكيف كانت هذه الخطة
المحكمة عامل ً من عوامل نزول النصر والتمكين من الله -عز وجل-
للمسلمين ،ومن هذه الخطوط ما يلي:
-1عدم اليغال في بلد العدو حتى تدين للمسلمين:
صا أشد الحرص على عدم اليغال في بلد كان الصديق حري ً
حا تمام الوضوح في ً واض ذلك كان وقد للمسلمين، العدو حتى تدين
جبهات العراق والشام؛ ففي فتوح العراق أرسل الصديق إلى
خالد وعياض بتكليفهما بغزو العراق من جنوبه وشماله ،وجاء في
الكتاب :وأيكما سبق إلى الحيرة فهو أمير على الحيرة ،فإذا
اجتمعتما)(2بالحيرة -إن شاء الله -وقد فضضتما مسالح ما بين العرب
من ُْتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليقم بالحيرة وفارس ،وأ ِ
أحدكما وليقتحم الخر على القوم ،وجالدوهم عما في أيديهم
واستعينوا بالله واتقوه ،وآثروا أمر الخرة على الدنيا يجتمعا لكم ،ول
الله(3بترك المعاصي تؤثروا الدنيا فتسلبوهما ،واحذروا ما حذركم
ومعاجلة التوبة ،وإياكم والصرار وتأخير التوبة ) .وهذا الكتاب
الجليل يدل على فكر أبي بكر العالي وتخطيطه الدقيق ،وقبل ذلك
ما لما اقتضته قا تما ً توفيق الله له ،فقد جاء تخطيطه الحربي مواف ً
مصلحة الجيوش السلمية أثناء تطبيق هذه الخطة الحكيمة ،وقد
خَبر الناس بالحروب شهد ببراعة أبي بكر في التخطيط الحربي أ ْ
آنذاك وهو خالد بن الوليد ،فإنه لما نهض للقيام بمهمة عياض في
فتح شمال العراق ونزل بكربلء ،واشتكى إليه المسلمون ما وقعوا
فيه من التأذي بذبابها الكثيف ،قال لعبد الله بن وثيمة :اصبر ،فإني
إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فُنسكنها العرب
العرب آمنة غير)(4
فنأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم ،وتجيئنا
متعتعة ،وبذلك أمرنا الخليفة ورأيه يعدل نجدة المة.
وقد سار على هذه الخطة بالعراق المثنى بن حارثة؛ حيث يقول
ذلك القائد الفذ :قاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر
من أرض العرب ،ول تقاتلوهم بعقر دارهم ،فإن يظهر الله
المسلمين فلهم ما وراءهم ،وإن كانت الخرى رجعوا إلى فئة ،ثم
يكونوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم ،إلى أن يرد الله الكرة
عليهم (5) .وأما في فتوحات الشام فقد كانت الصحراء من خلف
يعني تفريق التجمعات الحربية التي دون بلد فارس. )( 2
الصابة ،5/568 :رقم .7736 :تاريخ الدعوة إلى السلم :ص .331 )( 5
292
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المسلمين حماية لهم ،ومع هذا كان المسلمون يتأكدون أول ً من أن
عدوهم قد انقطع أمله في مفاجأتهم من خلف ظهورهم ،وأن
يستولوا على ما يقع بيمينهم وشمالهم من المدن والبلد ،وسد كل
ثغر بالمقاتلة(1)،وقد كانت تلك القاعدة مرعية عندهم يحرصون عليها
أشد الحرص .
-2التعبئة وحشد القوات:
عندما تولى الصديق الخلفة وضع من خطوط العداد الحربي:
التعبئة وحشد القوات ،وقد نادى المسلمين لحروب الردة ،ثم
استنفرهم(2بعدها للفتوحات ،وأرسل إلى أهل اليمن كتابه المعروف
في ذلك ) .
-3تنظيم عملية المداد للجيوش:
حينما تطورت معارك الجبهة الشمالية ووجد قائدا الجبهة –خالد
والمثنى -أنهما في حاجة إلى مدد بشري؛ لن الطاقة التي معهما ل
تستطيع تلبية المعركة في متطلباتها وواجباتها ،فكتبا إلى الصديق
يلتمسان المدد فقال لهما :استنفرا من قاتل أهل الردة ،ومن بقي
على السلم بعد رسول الله × ،ول يغزون أحد ارتد حتى أرى رأيي.
) (3وشرع في إمداد جبهات العراق والشام حتى اللحظات الخيرة
من حياته.
-4تحديد الهدف من الحرب:
وضعت هذه النقطة في خطة الحرب السلمية في الفتوحات،
لتكون هدف العمليات الذي يسعى إليه الجميع ،وقد وضع الصديق
خطته في هذه القضية على أساس أن يعلم كل فرد مقاتل أن هدف
المسلمين من هذه الفتوحات :نشر السلم وتبليغه إلى الشعوب؛
بإزالة الطواغيت الذين يحرمون شعوبهم من هذا الخير العميم ،فقد
عدوهم قبل المعركة واحدة من ثلثة:
)(4
كان القادة يعرضون على
السلم أو الجزية أو الحرب.
-5إعطاء الفضلية لمسارح العمليات:
قاد الصديق بنفسه أولى العمليات الحربية ضد المرتدين،
جه أسامه إلى ونظم الجيوش لحربهم ،ولم يهمل بقية المسارح ،فو ّ
الشام ،والمثنى إلى العراق ،وكرس جهود المسلمين في السنة
الولى للقضاء على الردة ،وعندما تمت عملية إعادة توحيد الجزيرة
وأصبح بالمكان النطلق من قاعدة قوية ومأمونة ،وجه ثقل
العمليات إلى الجبهتين العراقية والشامية ،وعندما احتاجت الجبهة
الشامية إلى المدد نقل الصديق محور ثقل الهجوم إلى الشام،
دا إليه ،وترك المثنى في الجبهة العراقية.
ووجه خال ً
-6عزل ميدان المعركة:
عندما بدأ الصديق باستنفار القوات لحرب الروم والفرس
)( تاريخ الدعوة إلى السلم :ص .331 1
)( تاريخ الدعوة إلى السلم :ص (2).332تاريخ الطبري.4/163 : 2
3
293
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أرسل خالد بن سعيد إلى تبوك بمهمة إلى مناطق الحشد ومحاور
وعندما فشل في هذا التقدم ،وأمره أن يكون ردًءا للمسلمين،
الواجب وتجاوزه قام عكرمة بن أبي جهل به ).(1
-7التطور في أساليب القتال:
كتب الصديق إلى أبي عبيدة عندما بلغه تقدم جيوش الروم
وانضمام أهل دمشق إليهم ما يلي :بث خيولك في القرى والسواد،
وضيق عليهم الميرة والمادة ،ول تحاصرن المدائن حتى يأتيك أمري.
) (2وعندما دعمه بقوات كافية كتب له :فإن ناهضوك فانهد لهم
)(3
واستعن بالله عليهم ،فإنه ليس يأتيهم مدد إل أمددناك بمثلهم .
-8سلمة خطوط التصال مع القادة:
كانت خطوط التصال بين الصديق وقادة المعارك منظمة
ومنتظمة بحيث تصل المكاتبات من القادة في أمان ،وتصل ردود
الخليفة في سرية وسرعة متقدمة ل تسمح للعدو أن يفاجأ
المسلمين بشيء ل يتوقعونه .وهكذا كانت الخطط الحربية عند
المسلمين
محكمة دقيقة ،بما كان عامل ً من عوامل دحر العداء والتغلب عليهم
بفضل الله في
حركة الفتوح).(4
-9ذكاء الخليفة وفطنته:
امتازت الخطط الحربية السلمية في بداية الفتوحات بوجود
العقل المدبر ذي الفطنة والذكاء والكياسة والفراسة ،وهو الصديق،
وقد ساعد أبو بكر على فهمه الواسع للتخطيط العسكري طول
ما
ً علو ملزمته للنبي × ،وفقد تربى على تعليمه وتوجيهاته فكسب
شتى وخبرات متنوعة ،فقام بعد رحيل رسول الله × في مقام
الخلفة خير قيام ،فحمل البصيرة الواعية وزود الجيش بالنصائح
الغالية ،وأرسل المدادات في أوقاتها تسعف المجاهدين وتمدهم
بالهمة والعزيمة الماضية ).(5
ثالًثا :حقوق الله والقادة والجنود من خلل وصايا الصديق:
-1حقوق الله:
بّين الخليفة في توجيهاته للقادة والجنود حقوق الله تعالى؛
كمصابرة العدو ،وإخلص قتالهم لله ،وأداء المانة وعدم الممالة
والمحاباة في نصرة دين الله.
294
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
أ -مصابرة العدو:
حين وجه أبو بكر عكرمة بن أبي جهل إلى عمان كان مما
أوصاه به قوله:
واتق الله ،فإذا لقيت العدو فاصبر (1).كما قال الصديق لهاشم بن
عتبة بن أبي وقاص عندما وجهه مدًدا لجند الشام :إذا لقيت عدوك
فاصبر وصابر ،واعلم أنك ل تخطو خطوة ول تنفق نفقة ول يصيبك
حا ،إن الله إل كتب الله لك به عمل ً صال ً ظمأ ول مخمصة في سبيل
الله ل يضيع أجر المحسنين ).(2
ب -أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله:
فقد جاء في خطاب الصديق لخالد حين أمره بالذهاب للشام ما
يفيد هذا المعنى؛ حيث ذكره بأن يجتهد ويخلص النية لله وحده،
وحذره من العجب بالنفس والزهو والفخر؛ فذلك حظ النفس الذي
ن
يفسد العمل على العامل ،ويرده في وجهه .كما حذره أن يدل ويم ّ
ن به؛ إذ التوفيق بيده على الله بالعمل الذي يعمله ،فإن الله هو الما ّ
سبحانه (3) .وهذا بعض ما جاء في تلك الرسالة …» :فليهنئك أبا
سليمان النية والحظوة ،فاتمم يتم الله لك ،ول يدخلنك عجب
وتخذل ،وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي )(4
فتخسر
الجزاء«.
ج -أداء المانة:
وقد كانت توجيهات الصديق لمرائه وجنوده واضحة في وجوب
أن يؤدوا المانة فيما حازوه من الغنائم ،ول يغل أحد منهم شيًئا ،بل
جميع الغانمين ممن شهدوا )(5
يحمل جميعه إلى المغنم ليقسم بين
ما(6جاء المثال سبيل وعلى واحدة. دا
الواقعة ،وكانوا على العدو ي ً
في وصية الصديق ليزيد بن أبي سفيان في النهي عن الغلول ) ،
هذه بعض توجيهات الصديق مما يتعلق ببعض حقوق الله على القادة
والجنود.
-2حقوق القائد:
وقد بين الخليفة الصديق حقوق القادة على الجنود والرعية؛
كالتزام طاعته ،والمسارعة إلى امتثال أمره ،وعدم منازعته في
شيء من قسمة الغنائم ،وغير ذلك.
أ -التزام طاعته:
فعندما تولى أبو بكر الخلفة كان أول شيء نبه المسلمين
إليه في خطاب التولية أنه سائر على نهج رسول الله × ،كما ذ ّ
كر
عيون الخبار.1/188 : )( 1
295
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
حيث قال :واعلموا أن ما أخلفتم لله من أعمالكم فطاعة بالطاعة؛
أتيتموها (1) .وألزم قادته بالطاعة لبعضهم ،فمن ذلك ما كتبه إلى
المثنى بن حارثة الشيباني بقوله :إني قد بعثت إليك خالد بن الوليد
إلى أرض العراق فاستقبله بمن معك من قومك ،ثم ساعده ووازره
وكاتفه ،ل تعصين له أمًرا ول تخالفوا له رأيا ،فإنه من الذين وصف
نذي)َ (2وال ّ ِ ه َ ل الل ِ سو ُ مدٌ ّر ُ ح ّ
م َ وتعالىْ -في كتابه فقالُ + : -تبارك اللهه أ َ
دا" ج ً س ُّ عا
ً ّ ك ر
ْ ُ م هُ را َ
ُ ْ َت م ه َ نْ ي َ ب ُ ء ما ح
ِ ُ ََ ر ر فاّ ُ كل ا لى َ ع
َ ُ ء دا
ّ شِ ع ُ م َ َ
]الفتح .[29 :كذلك أخذ أبو بكر يوصي في خلفته جيوش
المسلمين المتجهة لفتح بلد الشام بالطاعة ،فقال لهم :أيها الناس
إن الله قد أنعم عليكم بالسلم وأكرمكم بالجهاد وفضلكم بهذا
الدين عن كل دين ،فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام ،فإني
مؤمر عليكم أمراء وعاقد لكم ألوية ،فأطيعوا ربكم ول تخالفوا
وأشربتكم وأطعمتكم ،فإن الله مع الذين أمراءكم ،لتحسن نيتكم
اتقوا والذين هم محسنون) ،(3فكان جوابهم له بقولهم :أنت أميرنا
ونحن رعيتك ،فمنك المر ومنا الطاعة ،فنحن مطيعون لمرك
جهنا نتوجه (4).وعندما عين الصديق خالد بن الوليد لفطنته وحيثما ُتو ّ
وعلمه بالحرب ،ولما وصل خالد بن الوليد للشام طلب من أبي
عبيدة بن الجراح بأن يبعث إلى أهل كل راية ويأمرهم أن يطيعوه،
فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس ،فأمره بذلك فخرج الضحاك يسير
الشام خالد بن في الناس طالًبا منهم طاعة القائد الجديد لجيوش
الوليد فيما يأمرهم به ،فأجاب الناس بالسمع والطاعة ).(5
ب -أن يفوضوا أمرهم إلى رأيه:
عوا ذا ُ َ
فأ َ و ال ْ َ َ هم أ َ وإ ِ َ
و ِ ْ خ ِ نأ ِ م
ْ ن ال مُ َ ّ مٌر ْ جاءَ ُ ْذا َ َ + قول تعالى
ه م ل ع َ ل
ْ َِ ِ ْ ُ ْ َ ِ َ ُم ه ن م ر م ال لي ِ أو لى َ إ و ل
ّ ُ ِ َ َ ِ سو ر ال لى َ دوهُ ِ
إ و َر ّ ول َ ْه َ بِ ِ
ه ت م ح
ْ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ر و م ُ ك ي ل ع
َ ه
ِ الل ُ
ل ضْ ف َ َ ل وال ّ ِ َ َ ْ َ ْ ِ َ َ ُ ِ ْ ُ ْ َ ْ
ل و م ه نم ه ن طو ُ ب ن ت س ي ن ذي
قِليل ً" ]النساء ،[83 :جعل الله تفويض ن إ ِل ّ َ شي ْطا َ م ال ّ عت ُ ُ ل َت ّب َ ْ
الرعية المر إلى ولي المر سبًبا لحصول العلم وسداد الرأي ،فإن
ظهر لهم صواب خفي عليه بّينوه له وأشاروا به عليه ،ولذلك ندب
إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب (6) .وفي خلفة الصديق نرى
أبا بكر كلف أمراء وقادة جيوشه بالتوجه إلى الشام ،وفوض لهم
أمر الجيوش حيث قال لهم :يا أبا عبيدة ويا معاذ ويا شرحبيل ويا
الجيوش
)(7
يزيد :أنتم من حماة هذا الدين وقد فوضت إليكم أمر هذه
دا واحدة في مواجهة عدوكم. فاجتهدوا في المر واثبتوا ،وكونوا ي ً
بمراعاة أحوال الجنود وتقديم الخلص والتحاد حتى ل ثم أمر القادة
تختلف آراؤهم (8).وأضاف الصديق قائل :فإذا قدمتم البلد ولقيتم
العدو واجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة بن الجراح ،وإن لم
) (2الحكام السلطانية للماوردي :ص )( فتوح الشام للزدي :ص .189 5
.48 6
) (4الفتوح ابن أعثم.1/84 : )( فتوح الشام للزدي :ص .7 7
8
296
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
يلقكم أبو عبيدة ،وجمعتكم حرب فأميركم يزيد بن أبي سفيان )،(1
وهكذا فوض خليفة رسول الله × إدارة العسكر إلى رأي أحد قادته
ووكله إلى تدبيره ،حتى ل تختلف آراؤهم ،وأكد على ذلك عندما قال
لعمرو بن العاص :أنت أحد أمرائنا هناك ،فإن جمعتكم حرب
فأميركم أبو عبيدة بن الجراح (2).وكان ذلك رأيه أيضا مع قادة
العراق؛ حيث قال للمثنى بن حارثة :إني بعثت إليك خالد بن الوليد
المير ،فإن شخص عنك )(3
إلى أرض العراق… فما أقام معك فهو
فأنت على ما كنت عليه ،والسلم عليك.
ج -المسارعة إلى امتثال أمره:
ففي حروب الردة كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد
في أمر مسيلمة الكذاب ،فقد أمره بالمسير إليه ،فجمع خالد بن
الوليد أصحابه وقرأ عليهم الكتاب وسألهم الرأي فأجابوه بقولهم:
الرأي رأيك ،وليس فينا أحد يخالف أوامرك (4) .كما كتب الصديق
لخالد بن الوليد أثناء مقامه بالعراق بالخروج في شطر الناس إلى
الشام ،وأن يخلف على الشطر الباقي المثنى بن حارثة ،وقال له :ل
دا ،فامتثل خالد للمر وقسم الجند نصفين. دا إل خلفت له نج ً
تأخذ نج ً
) (5وكتب إلى عمرو بن العاص بالسير من بلد قضاعة إلى اليرموك
ففعل ،وبعث بأبي عبيدة ويزيد وأمرهما بالغارة وأل يوغلوا في بلد
الشام حتى ل يكون وراءهم أحد من العدو ،وقد استجاب القادة
)(6
والجنود لتوجيهات وأوامر الصديق .
د -عدم منازعته في شيء من قسمة الغنائم:
سار أبو بكر في خلفته على نهج الرسول × في تقسيم
الغنائم؛ فبعد انتهاء خالد ابن الوليد من معركة اليمامة كتب إلى
الصديق يخبره بما فتح الله عليه وما أغنمه منهم ،فكتب إليه أبو
ل :اجمع الغنائم والسبي وما أفاء الله عليك من مال بني بكر قائ ً
حنيفة ،فأخرج من ذلك الخمس ووجه به إلينا ليقسم فيمن يحضرنا
من المسلمين ،وادفع إلى كل ذي حق حقه ،والسلم .وهذا ما كان
يفعله جميع قادة أبي بكر في إدارتهم العسكرية في قسمة
الغنائم ولم ينازعهم الجند في شيء من قسمتها والتسوية بينهم
فيها ).(7
-3حقوق الجند:
من خلل وصاياه ورسائله حقوق الجند؛ ب ّين الصديق
كاستعراضهم ،وتفقد أحوالهم ،والرفق بهم في السير ،وأن
يقيم عليهم العرفاء والنقباء ،واختيار مواضع نزولهم لمحاربة
) (6نفس المصدر السابق :ص .48 فتوح الشام :ص .7 )( 1
2
297
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
العدو ،وإعداد ما يحتاج إليه الجند من زاد وعلوفة ،والتعرف
على أخبار العدو بالجواسيس الثقات لسلمة الجند،
وتحريضهم على الجهاد ،وتذكيرهم بثواب الله وفضل الشهادة،
ومشاورة ذوي الرأي منهم ،وأن يلزمهم بما أوجبه الله من
حقوق ،وأن ينهاهم عن الشتغال عن الجهاد بتجارة وزراعة
)(1
وإليك تفصيل بعض هذه النقاط: ونحوهما.
أ -استعراضهم وتفقد أحوالهم:
فقد رأينا أبا بكر الصديق عندما طرق المرتدين المدينة
المنورة أخذ أهلها بحضور المسجد وقال لهم :إن الرض كافرة ،وقد
رأى وفدهم منكم)(2قلة ،وإنكم ل تدرون أليل ً تؤتون أم نهاًرا ،وأدناهم
منكم على بريد .وأخذ يعرض أصحابه ،ثم يعين منهم على
أنقاب المدينة نفًرا للحراسة (3).وعندما اجتمع جيش فتوح الشام
صعد أبو بكر على دابته حتى أشرف على الجيش فنظر إليهم
ويوصيهم
)(4
وقد ملوا الرض ،فتهلل وجهه وأخذ يعرضهم قبل سيرهم
وا من ميلين.ويدعو لهم ،وعقد لهم اللوية ،ومشى معهم نح ً
ب -الرفق بالجند في السير:
فقد أوصى أبو بكر خالد بن الوليد في حروب الردة بالرفق بمن
معه وأن يتخذ الدلء في مسيره ) ،(5وأوصى سائر أمراء الردة بذلك. )(6
)(8
فتوح العراق عندما عقد خالد بن الوليد معاهدة الصلح مع )(7
وفي
ُ
أهل أليس وغيرهم ،كان من ضمن شروط المعاهدة أن يبذرقوا
المسلمين ،ويكونوا أدلء وأعوانا لهم على الفرس؛ لنهم أعرف
وأعلم بطرق بلدهم من غيرهم (9) .وحين كلف أبو بكر خالد بن
الوليد بالتوجه من العراق إلى الشام مدًدا وعوًنا لهم دعا خالد الدلء
وتشاور معهم حول سيرهم في طريق المفازة إلى الشام؛ لنه
أسرع الطرق وأسرعها لنجدة إخوانه ،ثم رافقه منهم رافع بن
عميرة الطائي دليل ً) ،(10وأوصى الصديق يزيد بن أبي سفيان
بقوله :إذا سرت فل تضيق على نفسك ول عندما وجهه إلى الشام
على أصحابك في مسيرك ) ،(11وعندما جد الجند في السير ذكر
أحدهم يزيد بوصية أبي بكر له بالرفق بهم في السير وأن يلتزم بها.
) (12كما أوصى الصديق عمرو بن العاص عندما وجهه إلى فلسطين
دا لمن معك وارفق بهم في السير ،فإن فيهم أهل بقوله له :وكن وال ً
)( أليس :قرية من قرى النبار :ياقوت ،معجم البلدان.1/248 : 7
)( البذرقة :الخفارة والحراسة ،وهي الجماعة تتقدم القافلة لتحرسها ،وأصل 8
الكلمة فارسية.
)( الخراج لبي يوسف :ص .294 9
298
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
ضعف (1) .وقد امتثل قادة الصديق × لمره بالرفق بالجند في
مسيرهم ،وأصبحوا ل يسيرون إلى قتال العداء إل ومعهم أدلء
يدلونهم على أسهل الطرق وأوفرها ماء وعشًبا ،حتى يتمكنوا من
سيرهم نحو العدو ومن غير إهدار لقوتهم أو تحطيم مواصلة
لمعنوياتهم ).(2
ج -أن يجعل لكل طائفة شعاًرا يتداعون به:
ففي بعثه جيش أسامة لقتال الروم كان شعارهم :يا منصور
مسيلمة
)(4
أمت ) ،(3وفي حرب الردة عند مسير خالد بن الوليد نحو
الكذاب باليمامة ،كان شعارهم يومئذ :يا محمداه ..يا محمداه ،
وشعار تنوخ في فتوح العراق :يا آل عباد الله ) ،(5وفي فتوح الشام
باليرموك نجد أن لكل قائد وقبيلة شعاًرا مميًزا يميزها عن غيرها
اتخذته ليستدل به عليها ،وكانوا يجهزون به عند القتال ويتعارفون به،
فكان شعار أبي عبيدة :أمت ..أمت ،وشعار خالد بن الوليد ومن
معه :يا حزب الله ،وشعار قبيلة عبس :يا لعبس ،وشعار اليمن من
أخلط الناس :يا
أنصار الله ،وشعار حمير :الفتح ،وشعار دارم والسكاسك :الصبر..
الله انزل ،فهذه كانت أبرز )(6
الصبر ،وشعار بني مراد :يا نصر
الشعارات في معركة اليرموك.
د -أن يتصفحهم عند مسيرهم:
ومن وصايا أبي بكر الصديق لقواده حين بعث بهم في
حروب الردة :وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد ،وأل يدخل فيهم
حش ً وا حتى يعرفهم ويعلم ما هم؛ لئل يكونوا عيو ًنا ،ولئل يؤتى
المسلمون من قبلهم (7).كما أمر قادته بعدم الستعانة بالمرتدين
صا على سلمة جند سا وحر ً في جهاد العدو؛ وذلك احترا ً
المسلمين ) ، (8كذلك أوصى الصديق قادة فتوح الشام بالحذر
والحيطة والتيقظ من رسل العدو حتى ل يتعرفوا على ما
بجيشهم من ثغرات ومكامن ضعف ،وأمرهم بأن ل يخالطوا
العسكر ول يحدثوهم ،فمن ذلك قوله ليزيد بن أبي سفيان :وإذا
قدمت عليك رسل عدوك فأكرم منزلتهم ،فإنه أول خبرك إليهم،
وأقلل لبثهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك ،وامنع من قبلك
الذي تلي كلمهم ،ول تجعل سرك مع ) (10
محادثتهم(9،وكن أنت من
علنيتك فيمرج ) عملك.
299
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
هـ -حراستهم من غرة يظفر بها العدو في مقامهم
ومسيرهم:
وظهر ذلك عندما وضع الصديق الحرس على أنقاب المدينة
خشية أن تطرقها بعض القبائل المرتدة .وحين وجه خالد بن
الوليد إلى حرب أهل الردة حذره من البيات والغرة ،وقال له:
واحترس من البيات ،فإنه من العرب غرة (1) .كما أوصى أمراء
وقادة فتوح الشام بالحتراس ونشر الحرس على العسكر لحفظهم
من العداء ،وأن يقوموا بالتفتيش المفاجئ على الحرس حتى
يتأكدوا من قيامهم بمهامهم المعدين لها ،فمن ذلك ما قاله ليزيد بن
أبي سفيان :وأكثر حرسك وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك) ،(2وقال
لعمرو ابن العاص :وأمر أصحابك بالحرس ،ولتكن أنت بعد ذلك
مطلًعا عليهم ،وأطل الجلوس بالليل على أصحابك وأقم بينهم
واجلس معهم (3) .وحذا قادة الصديق حذوه في اتخاذ الحرس
على العسكر في مقامهم وسيرهم ).(4
و -إعداد ما يحتاج إليه العسكر من زاد وعلوفة:
فقد كان الصديق يشتري البل والخيل والسلح فيجعلها في
)(6
سبيل الله ) (5إلى جانب ما يكسبه ويغنمه العسكر من العدو.
وحينما كلف الصديق خالد بن الوليد بمحاربة المرتدين ،كان مما
أوصاه به إذا دخل على أرض العدو أن ل يسير إليهم إل وهو
مستظهر بالزاد (7) .وكان قادة الصديق أثناء مصالحتهم للعدو
يشترطون عليهم أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ،بما يحل من
طعامهم وشرابهم (8) .وقد سمح أبو بكر لجند الشام أثناء ما أوصاهم
بأنهم إذا عقروا شاة أو بعيًرا للعدو ل يعقرونها إل للكل ).(9
ز -ترتيب الجند في مصاف الحرب:
استعمل قادة الصديق في معاركهم الحربية نظام الصف،
والصفوف تزيد وتنقص بحسب ما يقتضيه الموقف ،ويراه القائد في
ميدان القتال ) ،(10إل أن خالد بن الوليد في معركة اليرموك أدخل
نظام الكراديس في أعينهم؛ وذلك لن نظام الكراديس عبارة عن
مجموعة من الجند تقف في صفوف ل تكون منفصلة عن الخرى،
بينها مسافات متباعدة مما يسهل ذلك عليها عملية الحركة وزيادة
300
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
النتشار ،فمن قول خالد للجند لستخدامه لنظام الكراديس :إن
عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة تعبئة أكثر من رأى العين
من الكراديس ) ،(1فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة ،وجعل
الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة،
وجعل الميسرة وعليها يزيد بن أبي سفيان ،وهكذا خرج في ستة
سا إلى الربعين ،وخرج في تعبئة لم تعبئها العرب قبلوثلثين كردو ً
ذلك ،ووزع المهام الدارية بين القيادة ) ،(2إل أن نظام الصف ظل
ما ومعمول ً به في النظام الحربي السلمي بعد اليرموك ).(3قائ ً
ح -تحريضهم على القتال:
كان الصديق يحرض المجاهدين على القتال ،ويقوي نفوسهم
بما يشعرهم من الظفر ،ويذكر لهم أسباب النصر ليقل العدو في
أعينهم فيكونوا عليه أجرأ وبالجرأة يسهل الظفر )(4؛ فقد حرص
وحض أبو بكر خالد بن الوليد على القتال بقوله :احرص على الموت
توهب لك الحياة (5).وعندما عقد اللوية لجيوش الشام أخذ يحرضهم
ويحضهم على الجهاد في سبيل الله ويوصيهم ،ويدعو لهم بالنصر
على العداء ).(6
ط -أن يذكرهم بثواب الله وفضل الشهادة:
فمما قاله أبو بكر الصديق في تلك الجيوش المتوجهة إلى
الشام قال :أل وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل
الله ،لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به ,هي التجارة التي دل
عليها ،ونجى بها من الخزي ،وألحق بها الكرامة في الدنيا والخرة
).(7
ي -أن يشاور ذوي الرأي منهم:
وهذا ما فعله الصديق في حروب الردة وفتوحات الشام وكثير
في المجتمع المسلم، من القضايا الفقهية والمستجدات التي تحدث
وقد طلب من القادة أن يتناصحوا ويتشاوروا (8) .وقد كان الصديق
قدوة في ذلك؛ ففي حروب الردة دعا عمرو بن العاص وقال له :يا
عمرو ،إنك ذو رأي في قريش وقد تنبأ طليحة ،فما ترى؟ واستشاره
يسوس )(9
ثم سأله عن خالد بن الوليد عند اختياره لقيادة الجند فأجابه:
للحرب ،يصبر للموت ،له أناة القطاة ووثوب السد ،فعقد له.
وسار خالد بن الوليد لما كلف به ،وأخذ يستشير من معه لعداد
الخطة لمحاربة المرتدين ويخبر القيادة العليا بما استقر عليه رأي
)( (6) ,تاريخ الطبري.4/215 : 1
2
)( تاريخ الطبري.4/215 :
301
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الجند ) ،(1وحين أراد أبو بكر أن يغزو الروم ويعد الجيوش لفتح
بلد الشام ،شاور في ذلك جماعة من أصحاب رسول الله ،وبعد أن
أخذ رأيهم وما أجمعوا عليه أمر الجند بالتجهيز للتوجه لما أمروا به
) ،(2وكان مما أوصي به الصديق أمراء وقادة جند الشام بأن
بالمشورة ،فمن ذلك ما قاله ليزيد ابن أبي سفيان :هذا ربيعة يعملوا
بن عامر ) (3من ذوي العلء والمفاخر ،قد علمت صولته وقد ضممته
إليك وأمرتك عليه ،فاجعله في مقدمتك ،وشاوره في أمرك ول
تخالفه (4) .قال يزيد :حًبا وكرامة .وأضاف أبو بكر قائل :إذا سرت
فل تضيق على نفسك ول على أصحابك في مسيرك ،ول تغضب
على قومك ول على أصحابك ،وشاورهم في المر ،واستعمل العدل.
الخبر تصدق لك المشورة، )(6
) (5كما قال ليزيد :وإذا استشرت فاصدق
ول تكتم المستشار فتؤتى من قبل نفسك .إلى غير ذلك مما قاله
ليزيد بن أبي سفيان حول مبدأ الشورى واللتزام بها .وقد أوصى
أمراء جند الشام بما ل يخرج عن ذلك ) ،(7وامتثل قادة الصديق بما
أمروا به من إجراء المشورة فيما بينهم ،فقد قال أبو عبيدة بن
الجراح لعمرو بن العاص :يا عمرو ،لرب يوم لك قد شهدته فبورك
فيه للمسلمين برأيك ومحضرك ،وإنما أنا رجل منكم ولست -وإن
دونكم ،فأحضرني رأيك في كل يوم كنت الوالي عليكم -بقاطع أمر
بما ترى ،فإنه ليس بي عنك غنى (8) .هذا بالضافة إلى طلب القادة
في أرض المعركة من القيادة العليا المركزية المشورة فيما أشكل
العسكرية لمرحلة وضع الخطط الحربية عليهم من أمور الدارة
والتنفيذ ومعاملة السرى ).(9
ك -أن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق:
فقد كان أبو بكر يوصي قادته بذلك؛ فحين بعث عمرو بن
العاص إلى أرض فلسطين قال له :اتق الله في سرك وعلنيتك،
واستحيه في خلوتك؛ فإنه يراك في عملك .قد رأيت تقدمي لك على
من هو أقدم منك سابقة وأقدم حرمة ،فكن من عمال الخرة ،وأرد
دا لمن معك .والصلة ثم الصلة ،أذن بها بعملك وجه الله ،وكن وال ً
ل صلة إل بأذان يسمعه أهل العسكر .واتق إذا دخل وقتها ،ول تص ّ
الله إذا لقيت العدو ،وألزم أصحابك قراءة القرآن ،وانههم عن ذكر
الجاهلية وما كان منها ،فإن ذلك يورث العداوة بينهم ،وأعرض عن
الئمة
هم أ َ زهرة الدنيا حتى تلتقي بمن مضى من سلفك ،وكن من
ة
م ً
ّ ِ ئ عل َْنا ْ
ُ ج َ
و َ تعالىَ + :ْ
القرآن ،إذ يقول الله
َ
الممدوحين في
نا وأ َ َ
صل َ ِ
ة ّ ال م
َ َ
قا إ و ت
َ ) َ
ِ (10 ِ راْ يخَ ل ا َ
ل ع
ْ ف
ِ م ه
َ ِ ِ ْْ ي ل إ نا
َ ْ يحَ و
ر َ َ َ ْ مَ ِ
ن ب ِأ ْ دو َ ه ُيَ ْ
ن" ]النبياء. [73 : َ دي
ِ ِ بعا
َ ناَ ل نوا ُ كا وَ ة
ِ كا ز ّ ال َ ءتا
َ إي
و َِ
)( تاريخ فتوح الشام :ص .2الفتوح ،ابن أعتم.1/81 : 2
)( ربيعة بن عامر القرشي العامري ،له ذكر في الفتوح ،صحابي ،يعد من أهل 3
فلسطين.
)( فتوح الشام للواقدي.1/22 : 4
) (2مروح الذهب.2/309 : )( فتوح الشام للواقدي.1/22 : 5
6
)( تاريخ فتوح الشام للزدي :ص .21 ،20 -15 -13 7
302
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
هذه أهم حقوق الله والقادة والجند التي تحدث عنها الصديق في
وصاياه ورسائله لقادته.
رابًعا :السر في اكتساح المسلمين لقوات الفرس والروم:
إن المتأمل في حركة الفتح السلمي يرى توفيق الله تعالى
لجيوش الخليفة أبي بكر ،فقد اندفعت تلك الجيوش المظفرة
نحو العراق والشام ،واستطاعت أن تكسر شوكة الرومان والفرس،
وتفتح تلك الديار في وقت قياسي في تاريخ الحروب ،والسبب في
سرعة هذا الفتح عوامل تتعلق بالمسلمين الفاتحين ،وأخرى ترجع
إلى المم التي فتح المسلمون ديارهم ،فمن العوامل التي تتعلق
بالمسلمين:
-1إيمان المسلمين بالحق الذي يقاتلون من أجله.
-2يقين المسلمين بربهم في قضيتي الرزق والجل ،والقضاء
والقدر.
-3تأصل الصفات الحربية في المسلمين.
-4سماحة المسلمين وعدالتهم مع الشعوب.
-5رحمة المسلمين في تقدير الجزية والخراج ،ووفائهم
بعهودهم.
-6ثروة المسلمين الواسعة من الرجال والقواد العظام.
-7إحكام الخطة الحربية السلمية ).(1
وأما السباب التي تتعلق بالبلد المفتوحة فأهمها :ضعف الروم
والفرس ،فقد ضعفوا وانتشر بينهم الظلم وعم الفساد ،ودب فيهم
سوء الخلق ،وأصابت حضارتهم الشيخوخة ،وقضى عليها إسراف
ملوكها ،وانحرافهم عن منهج الله ،ومضت فيهم سنته التي ل ترحم
ول تجامل ول تتبدل .وأما المسلمون فقد أكرمهم الله بمنهجه
فساروا عليه ،وأخذوا بأسباب التمكين وحققوا شروطه ،وتعاملوا مع
سنن الله في الشعوب وبناء الدول وإصلح المجتمعات .ول يفهم من
كلمي أن ضعف الروم والفرس سهل السبيل أمام المسلمين
بشكل كبير ،فرغم ضعف الدولتين بسبب العوامل السابقة ،إل أنه
لم يمنعهما من العداد الهائل لملقاة المسلمين ،فجهزتا مئات
اللف من الجند المدربين الذين يفوقون جند المسلمين عدًدا وعدة،
كما أنهما أبرزتا أسلحة غير معهودة عند المسلمين كالفيلة والكلليب
المحماة ،التي كانوا يرسلونها من خلف الحصون يصطادون بها من
تقع عليه من المسلمين ،كما أن الظن بأن الروم استهانوا
بالمسلمين ولم يستعدوا لهم يدفعه الكلم السابق وترده رواية ابن
عساكر :أن هرقل جمع بطارقته وهو بحمص وقال لهم :هذا الذي
حذرتكم فأبيتم أن تقبلوه مني!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر
)( الدارة العسكرية في الدولة السلمية ،251 /1 :هذا الكتاب لخصت 10
303
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فتغير عليكم ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم .قال أخوه :ابعث ربا ً
طا
إلى البلقاء ،فبعث ربا ً
طا واستعمل عليه رجل ً من أصحابه ،فلم يزل
تقدمت الجيوش إلى الشام في خلفة أبي بكر وعمر رضي الله حتى
عنهما ).(1
***
304
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المبحث الرابع
استخلف الصديق لعمر بن الخطاب ووفاته
أول :استخلفه لعمر.
في شهر جمادى الخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية،
مرض الخليفة أبو بكر واشتد به المرض ) ،(1فلما ثقل واستبان له
من نفسه ،جمع الناس إليه فقال :إنه قد نزل بي ما قد ترون ول
أظنني إل ميًتا لما بي ،وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم
عقدتي ،ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم ،فإنكم إن
حياة(2مني كان أجدر أن ل أمرتم في
تختلفوا بعدي ) .
وقد قام أبو بكر بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة
القادم:
-1استشارة أبي بكر الصحابة من المهاجرين والنصار:
وتشاور الصحابة رضي الله عنهم ،وكل يحاول أن يدفع المر عن
نفسه ويطلبه لخيه؛ إذ يرى فيه الصلح والهلية ،لذا رجعوا إليه
فقالوا :رأينا يا خليفة رسول الله رأيك ،قال :فأمهلوني حتى أنظر
لله ولدينه ولعباده ،فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له:
أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له :ما تسألني عن أمر إل وأنت
أعلم به مني ،فقال أبو بكر :وإن ،فقال عبد الرحمن :هو والله
أفضل من رأيك فيه ،ثم دعا عثمان بن عفان ،فقال :أخبرني عن
عمر بن الخطاب ،فقال :أنت أخبرنا به ،فقال :على ذلك يا أبا عبد
الله ،فقال عثمان :اللهم علمي به أن سريرته خير من علنيته ،وأنه
ليس فينا مثله ،فقال أبو بكر :يرحمك الله ،والله لو تركته ما عدتك.
ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك ،فقال أسيد :اللهم أعلمه
سّر خير من الخيرة بعدك؛ يرضى للرضا ويسخط للسخط ،والذي ي ُ ِ
الذي يعلن ،ولن يلي هذا المر أحد أقوى عليه منه .وكذلك استشار
سعيد بن زيد وعدًدا من النصار والمهاجرين ،وكلهم تقريًبا كانوا
برأي واحد في عمر إل طلحة بن عبيد الله خاف من شدته فقد قال
لبي بكر :ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلفك عمر علينا وقد
من ترى غلظته؟ فقال أبو بكر :أجلسوني ،أبا الله تخوفونني؟ خاب
تزود من أمركم بظلم ،أقول :اللهم استخلفت عليهم خيَر أهلك ).(3
قا،ذلك لنه يراني رقي ً وبّين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال:
ولو أفضى المر إليه لترك كثيًرا مما هو عليه ).(4
دا مكتوًبا يقرأ على الناس في المدينة وفي -2ثم كتب عه ً
النصار عن طريق أمراء الجناد ،فكان نص العهد:
بسم الله الرحمن الرحيم ،هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في
)( البداية والنهاية7/18 :؛ تاريخ الطبري.4/238 : 1
)( الكامل لبن الثير .2/79 :التاريخ السلمي ،محمود شاكر :ص ،101الخلفاء 3
الراشدون.
)( الكامل لبن الثير.2/79 : 4
305
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
جا منها وعند أول عهده بالخرة داخل ً فيها، آخر عهده بالدنيا خار ً
حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب ،إني استخلفت
ل الله عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا ،وإني لم آ ُ
ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيًرا ،فإن عدل فذلك ظني به وعلمي
فيه ،وإن بدل فلكل امرئ ما َ اكتسب ،والخير أردت ول أعلم الغيب:
ن" ]الشعراء[227 : قل ُِبو َ قل َ ٍ
ب َين َ من َ
ي ُ
موا أ ّن ظَل َ ُ م ال ّ ِ
ذي َ عل َ ْ
سي َ ْ
و َ
َ +
).(1
إن عمر هو نصح أبي بكر الخير للمة ،فقد أبصر الدنيا مقبلة
تتهادى ،وفي قومه فاقة قديمة يعرفها ،فإذا ما أطلوا لها
استشرفتهم)(2شهواتها فنكلت بهم واستبدت ،وذاك ما حذرهم رسول
الله × إياه ،وقال رسول الله ×» :فوالله ل الفقر أخشى عليكم،
ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من
كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها ،وتهلككم كما أهلكتهم« (3) .لقد
أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم بدواء ناجع ..جبل شاهق إذا ما رأته
الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة ،إنه الرجل الذي قال فيه النبي ×:
جاجا قط إل سلك ف ً كا ف ً »والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سال ً
غير فجك« ).(4
إن الحداث الجسام التي مرت بالمة قد بدأت بقتل عمر ،هذه
القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد
لعمر ،فعن عبد الله بن مسعود قال :أفرس الناس ثلثة :صاحبة
موسى التي قالت :يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي
المين ،وصاحب يوسف حيث قال :أكرمي)(5مثواه عسى أن ينفعنا أو
دا ،وأبو بكر حين استخلف عمر .فقال :كان عمر هو سد نتخذه ول ً
الذي حال بينها وبين المنيع المة
أمواج الفتن ).(6
-3أنه أخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة :فقد
فأبى (7أن يقبل ،فتهدده أبو دخل عليه عمر فعرفه أبو بكر بما عزم
بكر بالسيف فما كان أمام عمر إل أن قبل ) .
كا حتى ل يحصل -4أنه أراد إبلغ الناس بلسانه ،واعًيا مدر ً
أي لبس ،فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم :أترضون بما
أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ول وليت ذات
عليكم(8عمر بن الخطاب فاسمعوا له قرابة ،وإني قد استخلفت
وأطيعوا ،فقالوا :سمعنا وأطعنا ) .
-5أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن
)( تاريخ السلم للذهبي :عهد الخلفاء :ص .117 -116 1
)( مجمع الزوائد ،10/268 :قال الهيثمي :رواه الطبرني بإسنادين ،ورجال 5
306
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
اللهم وليته بغير أمر نبيك ولم أرد بذلك إل نفسه وهو يقول:
صلحهم ،وخفت عليهم الفتنة واجتهدت لهم رأيي فوليت عليهم خيرهم
أرشدهم ،وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني وأحرصهم على ما
فيهم ،فهم عبادك ).(1
-6أنه كلف عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد
على الناس ،وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر ،بعد أن ختمه
بخاتمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء المر دون أي آثار
أتبايعون(2لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا:
)
سلبية ،وقال عثمان للناس:
نعم ،فأقروا بذلك جميًعا ورضوا به.
-7البيعة لعمر بن الخطاب قبل أن يتوفى أبو بكر
الصديق :بعد أن قرئ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه
الخطاب وبايعوه ) ،(3ولم تتم بيعة بعد الوفاة بل باشر عمر بن
أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر .ويلحظ
)(4
307
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
دا أن يكون حقّ لميزان يوضع فيه الباطل غ ً الدنيا وخفته عليهم ،و ُ
فا .وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم خفي ً
وتجاوز عن سيئه ،فإذا ذكرتهم قلت :إني أخاف أن ل ألحق بهم .وإن
الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه،
فإذا ذكرتهم قلت :إني لرجو أن ل أكون من هؤلء ،ليكون العبد
راغًبا راهًبا ل يتمنى على الله ول يقنط من رحمة الله ،فإن أنت
وصيتي(1فل يك غائب أبغض إليك من الموت حفظت
ولست تعجزه ) .
ثانًيا :وحان وقت الرحيل.
قالت عائشة -رضي الله عنها :-أول ما بدئ مرض أبي بكر أنه
ما ل يخرج إلى صلة، ما بارًدا فحم خمسة عشر يو ً اغتسل وكان يو ً
وكان يأمر عمر بالصلة وكانوا يعودونه ،وكان عثمان ألزمهم له في
مرضه) ،(2ولما اشتد به المرض قيل له :أل تدعو لك الطبيب؟ فقال:
قد رآني فقال :إني فعال لما أريد (3).وقالت عائشة -رضي الله
عنها :-قال أبو بكر :انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في المارة
فابعثوا به إلى الخليفة بعدي ،فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل
صبيانه ،وإذا ناضح) (4كان يسقي بستاًنا له ،فبعثنا بهما إلى عمر،
فبكى عمر ،وقال :رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعًبا
دا ).(5
شدي ً
وقالت عائشة -رضي الله عنها :-لما مرض أبو بكر مرضه الذي
مات فيه ،دخلت عليه وهو يعالج ما يعالج الميت ونفسه في صدره،
فتمثلت هذا البيت:
ما وضاق بها إذا حشرجت يو ً لعمرك ما يغني الثراء عن
الصدر الفتى
ي كالغضبان ثم قال :ليس كذلك يا أم المؤمنين ،ولكن ّ إل فنظر
ت كن َ ما ُك َق ذَل ِ َ ت ِبال ْ َ
ح ّ و ِ سك َْرةُ ال ْ َ
م ْ ت َجاءَ ْو َ
قول الله أصدقَ + :
د"]ق ،[19 :ثم قال :يا عائشة ،إنه ليس أحد من أهلي أحب حي ُه تَ ِ من ْ ُ
ِ
طا ) ،(6وإن في نفسي منه شيًئا فرديه ي منك ،وقد كنت نحلتك حائ ً ّ إل
إلى الميراث ،قالت :نعم ،فرددته .وقال :أما إنا منذ ولينا أمر
ما ،ولكنا قد أكلنا من جريش المسلمين لم نأكل لهم ديناًرا ول دره ً
طعامهم في بطوننا ،ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا ،وليس
عندنا من فيء المسلمين قليل ول كثير إل هذا العبد الحبشي وهذا
البعير الناضح ،وجرد هذه القطيفة ،فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر
وابرئي منهن ففعلت ،فلما جاء الرسول إلى عمر بكى حتى جعلت
)( حائطا :وفي رواية :جداد ،وهي بمعنى :قطع ثمرة النخل ،صفوة الصفوة: 6
.1/266
308
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
دموعه تسيل في الرض ،ويقول :رحم الله أبا بكر ،لقد أتعب من
بعده ،رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده ،رحم الله أبا بكر لقد
)(1
أتعب من بعده.
وقد جاء في رواية :أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال :إن عمر
لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلف درهم ،وإن حائطي
ذلك(2لعمر فقال :يرحم الله أبا الذي بمكان كذا فيها ،فلما توفي ذكر
بكر ،لقد أحب أن ل يدع لحد بعده مقال ً) .
ويظهر من هذه المواقف ورع الصديق في المال العام؛ فقد ترك
هذا الخليفة العظيم تجارته ،وتخلى عن ذرائع كسبه اشتغال ً عنها
ما بوظائف الخلفة ،فيضطر إلى أخذ نفقته بأمور المسلمين ،وقيا ً
من بيت المال بما ل يزيد عن الحاجة إلى سد الجوع وستر العورة،
ثم هو يؤدي للمسلمين خدمة هيهات أن تؤدي حقها الخزائن ،ولما
أشرف على وفاته وعنده فضلة من مال المسلمين ،وهي ذلك
المتاع الحقير يأمر بردها إلى المسلمين ليلقي ربه آمنا مطمئنا ،نزيه
اليدين إل القلب طاهر النفس ،خفيف الحمل إل من التقوى ،فارغ
من اليمان ،إن في هذا لبلغا ،وإنها لموعظة لقوم يعقلون (3).كما
أن ما قام به من الوصية بتعويض بيت مال المسلمين بأرضه
عا منه المذكورة مقابل ما أنفق على نفسه وعياله منه ،وكان ور ً
دا
صا لله تعالى ،بعي ً عا وخال ً ورغبة في أن يكون عمله في الولية تطو ً
عن أي حظ من حظوظ الدنيا.
وقد استمر مرض أبي بكر مدة خمسة عشر يوما ،حتى كان يوم
الثنين )ليلة الثلثاء( في الثاني والعشرين من جمادى الخرة سنة
ثلث عشرة للهجرة ،قالت عائشة -رضي الله عنها :-إن أبا بكر قال
لها :في أي يوم مات رسول الله ×؟ قالت :في يوم الثنين قال:
إني لرجو فيما بيني وبين الليل ،ففيم كفنتموه؟ قالت :في ثلثة
أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ول عمامة ،فقال أبو
هذا فيه ردع زعفران أو مشق فاغسليه واجعلي بكر :انظري ثوبي
معه ثوبين آخرين (4) .فقيل له :قد رزق الله وأحسن ،نكفنك في
جديد .قال:
ليصون به نفسه عن الميت ،إنما يصير الجديد إلى أحوج هو إن الحي
الميت إلى الصديد وإلى البلى (5) .وقد أوصى أن تغسله زوجه أسماء
بنت عميس ،وأن يدفن بجانب رسول الله × ،وكان آخر ما تكلم به
ما
سل ِ ً
م ْ
فِني ُ و ّ
قول الله تعالى+ :ت َ َ الصديق في هذه الدنيا
ن" )] (6يوسف.[101 :
حي َ صال ِ ِقِني ِبال ّ وأ َل ْ ِ
ح ْ َ
وارتجت المدينة لوفاة أبي بكر الصديق ،ولم تر المدينة منذ
وفاة الرسول يو ًما أكثر باك ً يا وباكية من ذلك المساء الحزين،
عا باك ًيا مسترج ًعا ووقف على وأقبل علي بن أبي طالب مسر ً
)( الطبقات لبن سعد ،147 ،3/146 :رجاله ثقات. 1
) (3أصحاب الرسول.1/106 : )( أشهر مشاهير السلم.1/94 : 3
4
)( التاريخ السلمي ،محمود شاكر ،الخلفاء الراشدون :ص .104 5
)( الشيخان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب برواية البلذري في أنساب 6
309
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
البيت الذي فيه أبو بكر ،فقال :رحمك الله يا أبا بكر ،كنت إلف
رسول الله × وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته،
وكنت أول القوم إسل ًما وأخلصهم يقي ًنا ،وأشدهم لله يقي ًنا،
وأخوفهم له ،وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل ،وأحوطهم
على رسول الله × ،وأحدبهم على السلم ،وأحسنهم صحبة،
وأكثرهم مناقب ،وأفضلهم سوابق ،وأرفعهم عنده ،وأكرمهم
عليه ،فجزاك الله عن رسول الله وعن السلم أفضل الجزاء.
ص ّدقت رسول الله × حين كذبه الناس ،وكنت عنده بمنزلة
ذي وال ّ ِقا فقالَ + : الله في تنزيله صدي ً سماكبه ُ السمع والبصر،
ن" ]الزمر.[33 : قو َ مت ّ ُُ ْ لا م
ُ ه
ُ َ
ك ِ ئَ لأو ِ ِ ق
َ ّ د ص
و َ ق َصد ْ ِ جاءَ ِبال ّ
َ
واسيته حين بخلوا ،وقمت معه على المكاره حين قعدوا ،وصحبته
في الشدة أكرم الصحبة ،ثاني اثنين صاحبه في الغار ،والمنزل
عليه السكينة ،ورفيقه في الهجرة ،وخليفته في دين الله وأمته،
أحسن الخلفة حين ارتدوا ،فقمت بالمر ما لم يقم به خليفة
نبي ،ونهضت حين وهن أصحابه ،وبرزت حين استكانوا ،وقويت
حين ضعفوا ،ولزمت منهاج رسول الله إذ وهنوا ،وكنت كما قال
فا في بدنك قو ّ يا في أمر الله تعالى ،متواضًعا رسول الله :ضعي ً
في نفسك ،عظي ًما عند الله تعالى ،جلي ًل في أعين الناس ،كبيًرا
في أنفسهم ،لم يكن لحدهم فيك مغمز ول لقائل فيك مهمز ،ول
لمخلوق عندك هوادة .الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى
تأخذ بحقه ،القريب والبعيد عنك في ذاك سواء ،وأقرب الناس
عندك أطوعهم لله -عز وجل -وأتقاهم … ،شأنك الحق والصدق
والرفق ،قولك حكم وحتم ،وأمرك حلم وحزم ،ورأيك علم وعزم.
اعتدل بك الدين ،وقوي بك اليمان ،وظهر أمر الله ،فسبقت –
قا بعي ًدا وأتعبت من بعدك إتعا ًبا شدي ًدا ،وفزت بالخير والله -سب ً
فو ًزا مبي ً نا ،فإنا لله وإنا إليه راجعون ،رضينا عن الله -عز وجل-
قضاءه ،وسلمنا له أمره .والله لن يصاب المسلمين بعد رسول
فا ،فألحقك الله -عز الله بمثلك أب ًدا ،كنت للدين ع ًزا وحر ً زا وكه ً
وجل -بنبيك محمد × ،ول حرمنا أجرك ول أضلنا بعدك .فسكت
الناس حتى قضى كلمه ،ثم بكوا حتى علت أصواتهم ،وقالوا:
صدقت (1) .وجاء في رواية :إن عل ّ يا قال عندما دخل على أبي بكر
ي من أنه قال :ما أحد ألقى الله بصحيفته أحب إل ّ )(2
بعدما سجي
جى. س ّهذا الم َ
هذا وقد توفي الصديق -رحمه الله -وهو ابن ثلث وستين سنة،
مجمع على ذلك في الروايات كلها ،استوفى سن رسول الله ×،
وغسلته زوجه أسماء بنت عميس ،وكان قد أوصى بذلك )) ،((43ودفن
جانب رسول الله ،وقد جعل رأسه عند كتفي رسول الله ،وصلى
وعثمان وطلحة وابنه عليه خليفته عمر بن الخطاب ،ونزل قبره عمر
عبد الرحمن ،وألصق اللحد بقبر رسول الله × ).(5
التبصرة لبن الجوزي ،479 -1/477 :نقل عن أصحاب الرسول.1/108 : )( 1
تاريخ السلم للذهبي ،عهد الخلفاء الراشدين :ص .120 )( 2
تاريخ السلم للذهبي ،عهد الخلفاء الراشدين ،ص .120 )( 4
310
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وهكذا خرج أبو بكر الصديق من الدنيا بعد جهاد عظيم ،في
سبيل نشر دين الله في الفاق ،وستظل الحضارة النسانية مدينة
لهذا الشيخ الجليل الذي حمل لواء دعوة الرسول بعد وفاته ،وحمى
غرسه عليه الصلة والسلم ،وقام برعاية بذور العدل والحرية،
وسقاها أزكى دماء الشهداء ،فأتت من كل الثمرات عطاء جزي ً
ل.
ما في العلوم والثقافة والفكر ،وستظلحقق عبر التاريخ تقدما عظي ً
الحضارة مدينة للصديق؛ لنه بجهاده الرائع وبصبره العظيم حمى
الله به دين السلم في ثباته في الردة ،ونشر الله به السلم في
المم والدول والشعوب بحركة الفتوحات العظيمة ،التي لم يشهد
لها التاريخ مثي ً
ل.
وأختم هذا الكتاب بقول أبي محمد عبد الله القحطاني الندلسي:
ل من يمشي على ج ّ
وأ َ قل إن خير النبياء محمد
كثبانال ُ
)(1
ب الرسل صحب ح ِ
ص ْ
ل َج ّ
وأ َ
محمدٍ
بدمي ونفسي ذانك الرجلن رجلن قد خلقا لنصر محمد
في نصره وهما له صهران فهما اللذان تظاهرا لنبينا
وهما له بالوحي صاحبتان بنتاهما أسنى نساء نبينا
يا حبذا البوان والبنتان أبو اهما أسنى صحابة أحمد
311
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
)(2
وأبو المطهرة التي تنزيهها
312
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الخلصـــــــة
إن سيرة الخلفاء الراشدين وتاريخهم المجيد من أقوى -1
مصادر اليمان والعاطفة السلمية الصحيحة ،التي ل تزال هذه
المة تقتبس منها شعلة اليمان وتحمل زاد الدعوة ،فتشعل أنوار
الحق في قلوب الناس حتى ل تنطفئ بريح الهدم التي يوجهها
أعداء المة ضد دعوتها وتاريخها.
إن المسلمين –بل النسانية كلها -أشد ما كانوا اليوم في -2
حاجة إلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله × وكرم معدنهم،
وأثر تربية رسول الله فيهم ،وما كانوا عليه من علو المنزلة التي
صاروا بها الجيل المثالي الفذ في تاريخ البشر.
لقد تعرض التاريخ السلمي في عمومه وتاريخ صدر -3
السلم على الخصوص للتزوير والتشكيك والتحريف والبتر
والزيادة وسوء التأويل ،من الروافض والمستشرقين والنصارى
واليهود والعلمانيين ،ولذلك أصبح من الفروض الكفائية على
المة تصحيح الحقائق ،فعلى كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر
السلم أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات ،وأن يبادر له ويجتهد
حا منفيه ما استطاع؛ حتى يكون أمام أبناء المة مثال ً صال ً
سلفهم ،يقتدون به ويجددون عهده ويصلحون من سيرتهم
بالسير على منهجهم.
إن سيرة الصديق مليئة بالدروس والعبر؛ فهو أعظم -4
شخصية في السلم بعد النبي × ،فقد كان هذا الصحابي الجليل
قد اتصف بمكارم الخلق والصفات الحميدة منذ الجاهلية ،فلم
يعرف عنه أنه سجد لصنم أو شرب الخمر.
كان الصديق عال ً
ما بالنساب ،وكانت له مزية حببته -5
إلى قلوب العرب وهي أنه لم يكن يعيب النساب ول يذكر
المثالب ،بخلف غيره ،فقد كان أنسب قريش لقريش وأعلم
قريش بها وبما فيها من خير وشر ،وقد اشتهر بالتجارة ،وكان
ينفق من ماله بسخاء وكرم عرف به في الجاهلية.
كان أبو بكر كنًزا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه ،وكان -6
من أحب قريش لقريش ،فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله
إياه ،جعله من الموطئين أكناًفا ،من الذين يألفون ويؤلفون.
كان تحرك الصديق في الدعوة إلى الله يوضح صورة -7
من صور اليمان بهذا الدين ،والستجابة لله ورسوله ،صورة
المؤمن الذي ل يقر له قرار ول يهدأ له بال حتى يحقق في دنيا
الناس ما آمن به.
تعرض الصديق للبتلء؛ فقد أوذي أبو بكر الصديق وحثي -8
على رأسه التراب ،وضرب في المسجد الحرام بالنعال حتى ما
313
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
يعرف وجهه من أنفه وحمل إلى بيته.
من صفات الصديق التي تميز بها :الجرأة والشجاعة، -9
دا في الحق ،ول تأخذه لومة لئم في نصرة فقد كان ل يهاب أح ً
دين الله والعمل له والدفاع عن رسول الله ×.
ساهم الصديق في سياسة فك رقاب المسلمين -10
المعذبين ،وأصبح هذا المنهج من ضمن الخطة التي تبنتها
القيادة السلمية لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين،
فدعم الدعوة بالمال والرجال والفراد ،فراح يشتري العبيد
والماء المملوكين من المؤمنين والمؤمنات وأعتقهم لوجه الله.
استخدم الصديق علم النساب كوسيلة من وسائل -11
قا لرسول الله × أثناء دعوته للقبائل
الدعوة ،ولذلك كان مراف ً
في أسواق العرب في المواسم.
رافق الصديق رسول الله في هجرته إلى المدينة، -12
فكان الساعد اليمن لرسول الله منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته
× ،فكان ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة حكمة وإيماًنا
حا
صا ،فأثمرت هذه الصحبة صل ًويقيًنا وعزيمة وتقوى وإخل ً
صاً وإخل ما،
ً وتصمي عزيمة وصفاء، وصديقية ،ذكًرا ويقظة ،حًبا
ما ،فوقف مواقفه المشهورة بعد وفاة رسول الله × في وفه ً
سقيفة بني ساعدة ،وغيرها من المواقف؛ كبعث جيش أسامة
وحروب الردة ،فأصلح ما فسد وبنى ما هدم ،وجمع ما تفرق،
وم ما انحرف. وق ّ
شهد أبو بكر مع النبي × المشاهد كلها ولم يفته منها -13
مشهد ،وثبت مع رسول الله يوم أحد حين انهزم الناس ،ودفع
إليه النبي × رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء.
كانت حياة الصديق في المجتمع المدني مليئة بالدروس -14
جا حّيا لفهم السلم وتطبيقه في دنيا
والعبر ،وتركت لنا نموذ ً
الناس .وقد تميزت شخصية الصديق بصفات عظيمة ومدحه
رسول الله × في أحاديث كثيرة وبّين فضله وتقدمه على كثير
من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ما ،فقد فهم حقيقة اليمان كان إيمان الصديق بالله عظي ً -15
وتغلغلت كلمة التوحيد في نفسه وقلبه ،وانعكست آثارها على
جوارحه ،وعاش بتلك الثار في حياته فتحلى بالخلق الرفيعة،
وتطهر من الخلق الوضيعة ،وحرص على التمسك بشرع الله
والقتداء بهديه × ،وكان إيمانه بالله باعًثا له على الحركة
والهمة والنشاط والسعي والجهد والمجاهدة والجهاد والتربية
والستعلء والعزة ،وكان في قلبه من اليقين واليمان شيء
عظيم ل يساويه فيه أحد من الصحابة.
كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له ،وقد -16
314
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم المة ،وحكى الجماع
على ذلك غير واحد ،وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم
عا به ليل ً ونهاًرا
والفضل ملزمته للنبي ×؛ فقد كان أدوم اجتما ً
وسفًرا وحضًرا ،وكان يسمر عند النبي × بعد العشاء يتحدث
معه في أمور المسلمين ،وقد استعمله النبي × على أول حجة
حجت من مدينة النبي × ،وعلم المناسك أدق ما في العبادات،
ولول علمه لم يستخلفه ،ولم يستخلف غيره ل في حج ول في
صلة ،وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من
أبي بكر ،وهو أصح ما روي فيها ،وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم
في كتابة ما هو متقدم منسوخ ،فدل على أنه أعلم بالسنة
صا ،وهذا الناسخة والمنسوخة ،ولم يحفظ له قول يخالف فيه ن ً
يدل على غاية البراعة والعلم.
لما مات رسول الله × اضطرب الناس ،فثبت الله المة -17
دا فإن
ً محم يعبد كان من وقال: العظيم موقفه فوقف بالصديق،
دا قد مات ،ومن كان يعبد الله فإن الله حي ل يموت.
محم ً
وظهر موقفه العظيم في سقيفة بني ساعدة حيث استطاع أن
يقنع النصار بما رآه وهو الحق ،من غير أن يعرض المسلمين
للفتنة ،فأثنى على النصار ببيان فضلهم من الكتاب والسنة
والثناء.
بايع سعد بن عبادة الصديقَ بالخلفة في أعقاب النقاش -18
الذي دار في سقيفة بني ساعدة؛ إذ أنه نزل عن مقامه الول
في دعوى المارة وأذعن للصديق بالخلفة ،وكان ابن عمه بشير
بن سعد النصاري أول من بايع الصديق بالخلفة في اجتماع
السقيفة ،ولم يثبت النقل الصحيح أية أزمات ل بسيطة ول
خطيرة ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في
الخلفة ،كما زعم بعض كتاب التاريخ ،ولكن الخوة السلمية
قا ،كما يثبت النقل الصحيح.
ظلت كما هي بل ازدادت توث ً
وردت أحاديث نبوية شريفة أشارت إلى خلفة الصديق، -19
وأجمع أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا على أن أحق الناس
بالخلفة بعد النبي × أبو بكر الصديق ،لفضله وسابقته ولتقديم
النبي × إياه في الصلوات على جميع الصحابة ،وقد فهم
أصحاب النبي × مراد المصطفى -عليه الصلة والسلم -من
تقديمه في الصلة ،فأجمعوا على تقديمه في الخلفة.
الخلفة السلمية هي المنهج الذي اختارته المة -20
السلمية وأجمعت عليه طريقة وأسلوًبا للحكم ،تنظم من خلله
أمورها وترعى مصالحها ،وقد ارتبطت نشأة الخلفة بحاجة المة
لها واقتناعها بها ،ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار
خليفة
لرسول الله × ،فالخلفة هي نظام حكم المسلمين ،وقد
استمدت أصولها من دستور المسلمين في القرآن الكريم ومن
سنة النبي × ،وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلفة السلمية
فقالوا بالشورى والبيعة ،وهما أصلن قد أشير إليهما في القرآن
315
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الكريم.
تحدث العلمة أبو الحسن الندوي عن شروط خلفة -21
النبي × ومتطلباتها ،وقد أثبت بالدلة والحجج من خلل سيرة
الصديق بأن أبا بكر كان شروط خلفة النبي × متحققة فيه.
بعد البيعة العامة للصديق ألقى خطبة على المة تعتبر -22
من عيون الخطب السلمية على إيجازها ،فقد بّين فيها منهجه
لقيادة الدولة وقرر فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين
الحاكم والمحكوم ،وركز على أن طاعة ولي المر مترتبة على
طاعة الله ورسوله ،ونص على الجهاد في سبيل الله لهميته
في إعزاز المة ،وعلى اجتناب الفاحشة لهمية ذلك في حماية
المجتمع من النهيار والفساد.
أراد الصديق أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته -23
واتخذ من الصحابة الكرام أعواًنا يساعدونه على ذلك ،فجعل أبا
عبيدة بن الجراح أمين هذه المة »وزير المالية« ،فأسند إليه
شئون بيت المال ،وتولى عمر بن الخطاب القضاء »وزير
ضا ،وتولى زيد بن
العدل« ،وباشر الصديق القضاء بنفسه أي ً
ثابت الكتابة »وزير البريد والمواصلت« ،وأحياًنا يكتب له من
يكون حاضًرا من الصحابة كعلي بن أبي طالب أو عثمان بن
عفان رضي الله عنهم .وأطلق المسلمون على الصديق لقب
خليفة رسول الله ،ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصديق
لمنصب الخلفة وتكفلت المة بنفقاته الخاصة.
عاش الصديق بين المسلمين كخليفة لرسول الله ،فكان -24
ل يترك فرصة تمر إل عّلم الناس وأمر بالمعروف ونهى عن
ن الرعية بالهدى
م َ
ن حوله ِ
م ْ
المنكر ،فكانت مواقفه تشع على َ
واليمان والخلق.
يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى -25
أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه ،فكان العهد الراشدي
عامة والجانب القضائي خاصة امتداًدا للقضاء في العهد النبوي،
مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد
النبوي بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه.
كان أبو بكر يستعمل الولة في البلدان المختلفة ويعهد -26
إليهم بالولية العامة في الدارة والحكم والمامة وجباية
الصدقات وسائر أنواع الوليات ،وكان ينظر إلى حسن اختيار
الرسول للمراء والولة على البلدان فيقتدي به في هذا العمل،
ولهذا نجده قد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول ×
وهم على وليته ،ولم يعزل أحدا منهم إل ليعينه في مكان آخر
أكثر أهمية من موقعه الول ويرضاه ،كما حدث لعمرو بن
العاص ،وكانت مسئوليات الولة في عهد أبي بكر الصديق
بالدرجة الولى
امتدادا لصلحيتهم في عصر الرسول × ،خصوصا الولة الذين
316
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
سبق تعيينهم أيام الرسول ×.
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة -27
الصديق رضي الله عنهما ،وكذلك تأخير الزبير بن العوام ،وجل
هذه الخبار ليس بصحيح إل ما رواه ابن عباس -رضي الله
عنهما -قال :إن علّيا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت
فاطمة بنت رسول الله ،فقد كان انشغال جماعة من المهاجرين
وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز رسول الله ،من
تغسيل وتكفين ،وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب
-رضي الله عنهما -أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول ،وهو
يوم الثلثاء.
عندما سئل الصديق عن ميراث رسول الله ،قال للسيدة -28
فاطمة والعباس عم النبي × :سمعت رسول الله يقول» :ل
نورث ،ما تركناه صدقة ،إنما يأكل آل محمد من هذا
المال« .وفي رواية قال أبو بكر …» :لست تار ً
كا شيًئا كان
رسول الله × يعمل به إل عملت به ،فإني أخشى إن تركت
شيًئا من أمره أن أزيغ« .ومن الثابت تاريخيا أن أبا بكر دام أيام
خلفته يعطي أهل البيت حقهم في فيء رسول الله × في
المدينة ،ومن أموال فدك وخمس خيبر ،إل أنه لم ينفذ فيهما
أحكام الميراث عمل بما سمعه من
رسول الله.
بّين الصديق في خطبته طبيعة خليفة رسول الله ×، -29
وأنه ليس خليفة عن الله بل عن رسول الله × ،وأنه بشر غير
معصوم ل يطيق ما كان رسول الله × يطيقه بنبوته ورسالته،
فهو في سياسته متبع وليس بمبتدع.
من الدروس والعَِبر في بعث جيش أسامة :أن -30
الحوال تتغير وتتبدل ،والشدائد ل تشغل أهل اليمان عن أمر
الدين ،والمسيرة الدعوية ل ترتبط بأحد ،ووجوب اتباع النبي ×
وحدوث الخلف بين المؤمنين ورده إلى الكتاب والسنة ،وجعل
الدعوة مقرونة بالعمل ،ومكانة الشباب في خدمة السلم،
وروعة الداب السلمية في الجهاد وتحقيق جيش أسامة
لهدافه ،فقد ضعفت جبهة الردة في الشمال وأصبحت من
أضعف الجبهات.
إن الردة التي قامت بها القبائل العربية بعد وفاة رسول -31
الله × لها أسباب ،منها :هول الصدمة بموت رسول الله ،ورقة
الدين والسقم في فهم نصوصه ،والحنين إلى الجاهلية ومقارفة
موبقاتها ،والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية،
والعصبية القبلية ،والطمع في الملك ،والتكسب بالدين ،والشح
بالمال ،والتحاسد ،والمؤثرات الجنبية؛ كدور اليهود والنصارى
والمجوس.
وأما أصناف الردة :فمنهم من ترك السلم جملة -32
317
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
وتفصيل ً وعاد إلى الوثنية وعبادة الصنام ،ومنهم من ادعى
النبوة ،ومنهم من عاد إلى ترك الصلة ،ومنهم من بقي يعترف
بالسلم ويقيم الصلة ولكنه امتنع عن أداء الزكاة ،ومنهم من
شمت بموت الرسول × وعاد أدراجه يمارس عادات الجاهلية،
ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة ،وكل ذلك
وضحه علماء الفقه والسير.
كان موقف الصديق من المرتدين ل هوادة فيه ول -33
مساومة فيه ول تنازل ،يرجع إليه الفضل الكبر –بعد الله تعالى-
في سلمة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته ،وقد
أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة
الطاغية ومحاولة نقض عرى السلم عروة عروة موقف النبياء
والرسل في عصورهم ،وهذه خلفة النبوة التي أدى أبو بكر
حقها ،واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن
يرث الله الرض وأهلها.
إن من الحقائق الساسية حول هذه الفتنة ،أنها لم تكن -34
شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي ،بل إن هناك قادة وقبائل
وجماعات وأفراًدا تمسكوا بدينهم في كل منطقة.
في حروب الردة باليمن ظهرت صورتان مختلفتان -35
للنساء؛ صورة المرأة الطاهرة العفيفة التي تقف مع السلم
وتحارب الرذيلة ،وتقف مع المسلمين لكبح جماح شياطين
النس والجن مثل »آزاد« الفارسية زوج شهر بن باذان وابنة
عم فيروز الفارسي .وصورة أخرى كالحة مظلمة ،وهي ما
قامت به بعض بنات اليمن من يهود ومن لف لفهن في
حا بموت رسول الله فأقمن الليالي حضرموت ،فقد طرن فر ً
الحمراء مع المجان والفساق يشجعن على الرذيلة ويزرين
بالفضيلة ،فقد رقص الشيطان فيها معهن وأتباعه طرًبا لنكوص
الناس عن السلم ،والدعوة إلى التمرد عليه وحرب أهله.
كان بعض أهل اليمن لهم مواقف عظيمة في الثبات -36
على الحق والدعوة إلى السلم ،وتحذير قومهم من خطورة
الردة ،ومن هؤلء كان مران بن ذي عمير الهمداني أحد ملوك
اليمن وعبد الله بن مالك الرحبي ،وكان من أصحاب النبي ×
وشرحبيل بن السمط ،وابنه في بني معاوية من كندة.
بعد حروب الردة تجمعت اليمن تحت قيادة مركزية -37
عاصمتها المدينة المنورة ،وقسم اليمن إلى أقسام إدارية ل
وحدات قبلية ،فقد قسم إلى ثلثة أقسام إدارية :صنعاء والجند
سا في الزعامة أو فيوحضرموت ،ولم تعد العصبية القبلية أسا ً
التولية ،ولم تعد القبلية سوى وحدة عسكرية ل سياسية،
وأصبحت المقاييس المعتبرة هي المقاييس اليمانية؛ التقوى
والخلص والعمل الصالح.
كان لهزيمة طليحة السدي في معركة بزاخة أثر كبير -38
318
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
في رجوع كثير من القبائل إلى حظيرة السلم ،فقد أقبلت بنو
عامر بعد هزيمة بزاخة يقولون :ندخل فيما خرجنا منه ،فبايعهم
خالد على ما بايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيء.
إن مقتل مالك بن نويرة بسبب كبره وتردده فقد بقي -39
للجاهلية في نفسه نصيب ،ولذلك ماطل في التبعية للقائم بأمر
السلم بعد رسول الله × وفي تأديه حق بيت مال المسلمين
عليه المتمثل بالزكاة.
قام الصديق بالتحقيق في مقتل ابن نويرة وانتهى إلى -40
براءة ساحة خالد من تهمة قتل مالك بن نويرة ،فقد كان
عا على حقائق المور ،وأبعدالصديق في هذا الشأن أكثر اطل ً
نظًرا في تصريفها من بقية الصحابة؛ لنه الخليفة وإليه تصل
الخبار.
إن من كمال الصديق توليته لخالد واستعانته به؛ لنه كان -41
دا ليعتدل به أمره ويخلط الشدة باللين ،فإن مجرد اللين
ً شدي
يفسد ومجرد الشدة يفسد ،فكان يقوم باستشارة عمر
وباستنابة خالد ،وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله.
كان للمثنى بن حارثة دور كبير في إخماد فتنة البحرين، -42
والوقوف بقواته بجانب العلء ابن الحضرمي ،وقد سار بجنوده
من البحرين شمال ً ووضع يده على القطيف وهجر حتى بلغ
مصب دجلة ،وقضى في سيره على قوات الفرس وعمالهم،
وقد كانت أخباره تصل إلى الصديق ،وسأل عنه أصحابه فقال له
قيس بن عاصم المنقري :هذا رجل غير خامل الذكر ول مجهول
النسب ول ذليل العماد ،هذا المثنى بن حارثة الشيباني.
تعتبر هزيمة بني حنيفة في اليمامة أمام جيوش خالد -43
قاصمة الظهر لحركة الردة ،وكان من ضمن شهداء المسلمين
في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن .وقد نتج عن ذلك أن
قام أبو بكر بمشورة عمر بن الخطاب بجمع القرآن من
الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال ،وأسند الصديق
هذا العمل العظيم والمشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي
الجليل زيد بن ثابت النصاري .
تحققت شروط التمكين ولوازمه كلها في عهد الصديق -44
والخلفاء الراشدين من بعده ،وكان للصديق الفضل بعد الله في
تذكير المة بهذه الشروط ،ولذلك رفض طلب العراب في
وضع الزكاة عنهم وأصر على بعث جيش أسامة ،والتزم بالشرع
كامل ً ولم يتنازل عن صغيرة ول كبيرة.
كان إعداد الصديق في حروب الردة شامل ً معنوًيا ومادّيا؛ -45
يش الجيوش وعقد اللوية واختار القادة لحروب الردة ،وراسل فج ّ
المرتدين وحرض الصحابة على قتالهم ،وجمع السلح والخيل
319
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
والبل وجهز الغزاة ،وحارب البدع والجهل والهوى ،وح ّ
كم
الشريعة ،وأخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع ،وأخذ بمبدأ
التفرغ ،وساهم في إحياء مبدأ التخصص؛ فخالد لقيادة الجيوش،
وزيد بن ثابت لجمع القرآن ،وأبو برزة السلمي للمراسلت
الحربية .واهتم بالجانب المني والعلمي ،وغير ذلك من السباب.
تظهر آثار تحكيم شرع الله في عصر الصديق في تمكين -46
الله للصحابة؛ فقد حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسهم
وأهليهم ،وأخلصوا الله في تحاكمهم إلى شرعه ،فالله -سبحانه
واهم وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين ،ورزقهم وتعالى -ق ّ
المن والستقرار.
كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعدادا -47
ربانيا للفتوحات السلمية؛ حيث تميزت الرايات وظهرت
القدرات وتفجرت الطاقات واكتشفت قيادات ميدانية ،وتفنن
القادة في الساليب والخطط الحربية ،وبرزت مؤهلت الجندية
الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على
ماذا تقاتل ،وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي
وتبذل ،ولذا كان الداء فائقا والتفاني عظيما.
توحدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله ثم جهاد -48
الصحابة مع الصديق تحت راية السلم لول مرة في تاريخها
بزوال الرؤوس أو انتظامها ضمن المد السلمي ،وبسطت
عاصمة السلم )المدينة( هيمنتها على ربوع الجزيرة ،وأصبحت
المة تسير وراء زعيم واحد بفكرة واحدة ،فكان النتصار
انتصاًرا للدعوة السلمية ولوحدة المة بتضامنها وتغلبها على
عوامل التفكك والعصبية ،كما كانت برهاًنا على أن الدولة
السلمية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف
الزمات.
أثبتت أحداث التاريخ أن أية محاولة للتمرد على دين -49
السلم سواء أقام بها فرد أم جماعة أم دولة إنما هي محاولة
يائسة ،مآلها الخفاق الذريع والخيبة الشنيعة؛ لن التمرد إنما هو
تمرد على أمر الله المتمثل بكتابه الذي تكفل بحفظه وحفظ
جماعة تلتف حوله وتقيمه في نفوسها وواقعها مدى الدهر،
وبحكمه القاضي بالعاقبة للمتقين وبالمن على المستضعفين أن
يديل لهم من الظالمين.
ما إن انتهت حروب الردة واستقرت المور في الجزيرة -50
العربية التي كانت ميداًنا لها ،حتى شرع الصديق في تنفيذ خطة
الفتوحات التي وضع معالمها رسول الله × ،فجيش الجيوش
لفتح العراق والشام.
إن الوامر التي وجهها الصديق إلى قادة فتوح العراق -51
»خالد وعياض« تشير إلى الحس الستراتيجي المتقدم الذي
كان يملكه الصديق ،فقد أعطى جملة تعليمات عسكرية
320
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
استراتيجية منها وتكتيكية؛ فحدد لكل من القائدين المسلمين
جغرافيا منطقة للدخول إلى العراق ،كأنما هو يمارس القيادة
من غرفة العمليات بالحجاز ،وقد بسطت أمامه خارطة العراق
بكل تضاريسها ومسالكها.
خاض خالد في العراق عدة معارك كانت السبب في -52
فتح العراق؛ كمعركة ذات السلسل ،ومعركة المذار والولجة
وأليس وفتح الحيرة والنبار وعين التمر ودومة الجندل ووقعة
الحصيد ووقعة المصيخ ووقعة الفراض.
عزم الصديق على فتح الشام فاستشار كبار الصحابة ثم -53
استنفر أهل اليمن للجهاد ،وعقد اللوية للقادة وأرسل أربعة
جيوش لبلد الشام ،وكان قادة الجيوش كل من :يزيد بن أبي
سفيان ،وأبي عبيدة بن الجراح ،وعمرو بن العاص ،وشرحبيل
بن حسنة.
كانت الجيوش المكلفة بفتح الشام تلقي صعوبة في -54
تنفيذ المهمات الموكلة إليها ،فقد كانت تواجه جيوش
المبراطورية الرومانية التي تمتاز بقوتها وكثرة عددها ،فراسلوا
الصديق وأعلموه بوضعهم الحرج ،فأمر الصديق الجيوش
دا بالسير
بالنسحاب إلى اليرموك والتجمع هناك ،وأمر خال ً
بنصف جيش العراق نحو جبهات الشام وأمره بقيادة الجيوش
هناك.
استطاع خالد بن الوليد أن يحقق انتصارات عظيمة على -55
جيوش الشام من أهمها :معركة أجنادين واليرموك.
يمكن للباحث أن يستنبط أهم معالم السياسة الخارجية -56
في دولة الصديق ،وهي :بذر هيبة الدولة في نفوس المم
الخرى ،مواصلة الجهاد الذي أمر به الرسول × ،والعدل بين
المم المفتوحة والرفق بأهلها ،ورفع الكراه عن المم المفتوحة
وإزالة الحاجز البشري بينهم وبين السلم.
إن المطالع للفتوحات في عهد الصديق يمكن له أن -57
طا رئيسة للخطة الحربية التي سار عليها ،وكيفيستنتج خطو ً
تعامل هذا الخليفة العظيم مع سنة الخذ بالسباب؟ وكيف كانت
هذه الخطة المحكمة عامل من عوامل نزول النصر والتمكين
من الله -عز وجل -للمسلمين ،ومن هذه الخطوط ما يلي :عدم
اليغال في بلد العدو حتى تدين للمسلمين ،التعبئة وحشد
القوات ،تنظيم عملية العداد للجيوش ،تحديد الهدف من
الحرب ،وإعطاء الفضلية لمسارح العمليات ،عزل ميدان
المعركة ،التطور في أساليب القتال ،سلمة خطوط التصال مع
القادة ،ذكاء الخليفة وفطنته.
بّين الصديق في توجيهاته للقادة والجنود حقوق الله -58
تعالى؛ كمصابرة العدو ،وإخلص قتالهم لله ،وأداء المانة ،وعدم
321
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
الممالة والمحاباة في نصر دين الله .ووضع حقوق القادة على
الجنود والرعية؛ كالتزام طاعته ،والمسارعة إلى امتثال أمره،
وعدم مسارعته في شيء من قسمة الغنائم ،وغير ذلك من
صل الصديق من خلل وصاياه ورسائله في الحقوق .وف ّ
حقوق الجند؛ كاستعراضهم ،وتفقد أحوالهم ،والرفق بهم في
السير ،وأن يقيم عليهم العرفاء والنقباء ،واختيار مواضع نزولهم
لمحاربة العدو ،وإعداد ما يحتاج إليه الجند من زاد وعلوفة،
والتعرف على أخبار العدو بالجواسيس الثقاة لسلمة الجند،
وتحريضهم على الجهاد ،وتذكيرهم بثواب الله وفضل الشهادة،
ومشاورة ذوي الرأي منهم ،وأن يلزمهم بما أوجبه الله من
حقوق ،وأن ينهاهم عن الشتغال عن الجهاد بزراعة أو تجارة،
وكل هذه الحقوق قد استخرجت من رسائله ووصاياه للقادة.
إن المتأمل في حركة الفتح السلمي يرى توفيق الله -59
تعالى لجيوش الخليفة أبي بكر ؛ فقد استطاعت تلك الجيوش
المظفرة أن تكسر شوكة الرومان والفرس وفتح تلك الديار في
وقت قياسي في تاريخ الحروب ،ومن أهم أسباب تلك الفتوح:
إيمان المسلمين بالحق الذي يقاتلون من أجله ،تأصل الصفات
الحربية في المسلمين ،سماحة المسلمين وعدالتهم مع تلك
الشعوب ،رحمة المسلمين في تقدير الجزية والخراج ووفاؤهم
بعهودهم ،ثروة المسلمين الواسعة من الرجال والقادة العظام،
إحكام الخطة السلمية الحربية ،وغير ذلك من السباب.
عندما نزل المرض بالصديق وأشرف على الموت قام -60
بعدة إجراءات عملية لتتم عملية اختيار الخليفة القادم ،وهي:
استشار كبار الصحابة من المهاجرين والنصار ،وبعد أن تم
ترشيح الصديق لعمر ووافق معظم الصحابة على ذلك ،كتب
دا مكتوًبا يقرأ على الناس في المدينة وفي المصار ،وأخبر عه ً
عمر بن الخطاب بخطواته القادمة وعرفه ما عزم عليه وألزمه
كا حتى ل يحصل أي لبس، بذلك ،وأبلغ الناس بلسانه واعًيا مدر ً
وتوجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه ،وكلف عثمان
بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر
قبل موته ،وقام بتوجيه الفاروق عندما اختلى به.
إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار -61
خليفته من بعده ل تتجاوز الشورى بأي حال من الحوال ،وإن
كانت الجراءات المتبعة فيها غير الجراءات المتبعة في تولية
أبي بكر نفسه ،وهكذا تم عقد الخلفة لعمر بالشورى والتفاق،
ولم يرد في التاريخ أي خلف وقع حول خلفته بعد ذلك ،ول أن
دا نهض طوال عهده لينازعه المر ،بل كان هناك إجماع على أح ً
خلفته وعلى طاعته في أثناء حكمه ،فكان الجميع وحدة واحدة.
خرج أبو بكر الصديق من هذه الدنيا بعد جهاد عظيم في -62
سبيل نشر دين الله في الفاق ،وستظل الحضارة النسانية
مدينة لهذا الشيخ الجليل الذي حمل لواء دعوة الرسول × بعد
وفاته ،وحمى غرسه عليه الصلة والسلم ،وقام برعاية بذور
322
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
العدل والحرية وسقاها أزكى دماء الشهداء ،فآتت من كل
ما في العلوم
ما عظي ً الثمرات عطاء جزي ً
ل ،حقق عبر التاريخ تقد ً
والثقافة والفكر ،وستظل الحضارة مدينة للصديق؛ لنه بجهاده
الرائع وبصبره العظيم حمى الله به دين السلم في ثباته في
الردة ،ونشر الله به السلم في المم والدول والشعوب بحركة
الفتوحات العظيمة.
إن هذا المجهود المتواضع قابل للنقد والتوجيه ،وما هي -63
إل محاولة متواضعة هدفها معرفة حقيقة عصر الخلفة
الراشدة ،لكي نستفيد منها في حركتنا المستمرة لتحكيم شرع
الله ونشر دعوته في دنيا الناس ،وبيني وبين الناقد قول
الشاعر:
ن ل عيب فيه وعل م ْ ج ّ
ل َ َ إن تجد عيًبا فسد الخلل
وأسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل هذا
الجهد قبول ً حسًنا ،وأن يبارك فيه ،وأن يجعله من أعمالي الصالحة
التي أتقرب بها إليه ،وأن ل يحرمني ول إخواني الذين أعانوني على
إكماله من الجر والمثوبة ورفقة النبيين والصديقين والشهداء
فْر ل ََنا والصالحين .وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالىَ+ :رب َّنا ا ْ
غ ِ
غل ّقُلوب َِنا ِفي ُ ل ِع ْ ول َ ت َ ْ
ج َ ن َ ما ِلي َ
قوَنا ِبا ِسب َ ُ ن َ ذي َ وان َِنا ال ّ ِ
خ َ
ول ِ ْ َ
م" ]الحشر ،[10 :وبقول الشاعر ٌ حي
ِ ر
ّ ف
ٌ ؤوُ ر
َ َ
ك ّ نِ إ نا
َ ّ برَ نوا ُ م
ذي َ َ
آ ن ل ّل ّ ِ
ابن الوردي لبنه:
لأبعد الخير على أهل الكس ْ اطلب العلم ول تكسل فما
خو َ ْ
ل تُ ْ
شغل عنه بمال وَ َ احتفل للفقه في الدين ول
قر ما
ح ّ
يعرف المطلوب ي ُ َ صْله فمن
واهجر النوم وح ّ
بذ ْ
ل
كل من سار على الدرب ل تقل قد ذهبت أربابه
وص ْ
ل
»سبحانك اللهم وبحمدك ،أشهد أن ل إله إل أنت،
أستغفرك وأتوب إليك«.
»وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين«.
323
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
المصادر والمراجع
أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ،د :إبراهيم علي شعوط، -1
المكتب السلمي.
أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين :محمد رشيد رضا ،دار -2
الكتب العلمية -بيروت 1403 :هـ 1983 -م.
أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة ،محمد بن عبد -3
الرحمن بن محمد بن قاسم ،دار القاسم ،الطبعة الولى 1417 :هـ -
1996م.
أبو بكر الصديق ،د :نزار الحديثي ،د .خالد جاسم الجنابي ،دار -4
الشئون الثقافية العامة -العراق ،الطبعة الولى 1989 -م.
أبو بكر الصديق ،علي طنطاوي ،دار المنارة ،جدة -السعودية: -5
1406هـ 1986 -م.
أبو بكر الصديق ،محمد مال الله ،مكتبة ابن تيمية 1410 :هـ - -6
1989م.
أبو بكر رجل الدولة ،مجدي حمدي ،دار طيبة -الرياض ،الطبعة -7
الولى 1415 :هـ.
الحكام السلطانية لبي الحسن الماوردي ،دار الكتب العلمية - -8
بيروت.
أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ ،استخلف أبي بكر -9
الصديق،د .جمال عبد الهادي محمد مسعود ،دكتورة وفاء محمد رفعت
جمعة ،دار الوفاء ،المنصورة -مصر.
الساس في السنة ،سعيد حوى ،دار السلم بمصر 1409 ،هـ - -10
1989م.
أسد الغابة في معرفة الصحابة ،لبي الحسن علي بن محمد -11
الجزري ،دار إحياء التراث العربي ،الطبعة الولى 1417 :هـ 1996 -م.
أشهر مشاهير السلم في الحرب والسياسة ،رفيق العظم ،دار -12
الرائد العربي -بيروت -لبنان.
أصحاب الرسول ،محمود المصري ،مكتبة أبي حذيفة السلفي -13
1420هـ 1999 -م.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ،محمد المين بن محمد -14
المختار الجنكي الشنقيطي ،مطبعة المدني 1386 ،هـ.
-15أضواء على الهجرة لتوفيق محمد سبع ،مطبعة الهيئة العامة لشئون
المطابع الميرية 1393 ،هـ 1973 -م.
النصار في العصر الراشدي »سياسيا وعسكريا وفكريا« -16
للدكتور حامد محمد خليفة ،رسالة دكتوراه من كلية الداب في جامعة
بغداد ،لم تطبع ،من صورة مصورة.
البانة عن أصول الديانة ،لبي الحسن الشعري ،ط.الجامعة -17
السلمية 1975م.
الحسان في صحيح ابن حبان ،علء الدين علي بن بلبان -18
الفارسي ،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،الطبعة الولى 1412هـ -
1991م.
الدارة العسكرية في الدولة السلمية ..نشأتها وتطورها، -19
الدكتور سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال ،جامعة أم القرى ،معهد
324
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
البحوث وإحياء التراث.
الصابة في تمييز الصحابة ،أحمد بن علي بن حجر ،دار الكتب -20
العلمية ،بيروت.
المامة العظمى عند أهل السنة والجماعة ،عبد الله بن عمر بن -21
سلمان الدميجي ،دار طيبة ،السعودية ،الطبعة الثانية 1409 :هـ.
اليمان وأثره في الحياة ،يوسف القرضاوي ،مؤسسة الرسالة، -22
بيروت 1405هـ.
البعاد السياسية لمفهوم المن في السلم ،مصطفى محمود -23
منجود المعهد العالمي للفكر السلمي ،الطبعة الولى 1417 ،هـ -
1996م.
إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ،محمد الخضري ،دار المعرفة، -24
بيروت 1417 ،هـ 1996 -م.
أحكام المرتد في الشريعة السلمية ،نعمان عبد الرزاق -25
السامرائي ،دار العربية1968 ،م.
الستيعاب في معرفة الصحاب ،لبي عمر ابن عبد البر ،دار -26
الكتاب العربي ،بيروت.
العتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة ،لبي بكر -27
أحمد بن الحسيني البيهقي ،الناشر حديث أكاديمي نشاط آباد ،فيصل
آباد ،باكستان.
الكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلثة الخلفاء ،لبي -28
الربيع سليمان الكلعي الندلسي ،عالم الكتب ،بيروت ،الطبعة الولى،
1417هـ 1997 -م.
البداية والنهاية ،أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي ،دار -29
الريان ،القاهرة1988 ،م.
تاريخ المم والملوك ،لبي جعفر الطبري ،دار الفكر ،بيروت، -30
1407هـ 1987 -م.
تاريخ النصار السياسي ،د .عبد المنعم الدسوقي ،دار الخلفاء، -31
مصر.
تاريخ السلم للذهبي ،عهد الخلفاء الراشدين ،دار الكتاب -32
العربي 1407 ،هـ.
التاريخ السلمي ،الخلفاء الراشدون ،محمود شاكر ،المكتب -33
السلمي 1411 ،هـ.
التاريخ السلمي مواقف وعبر ،د .عبد العزيز عبد الله الحميدي، -34
دار الدعوة ،السكندرية ،دار الندلس الخضراء ،جدة ،الطبعة الولى
1418هـ 1998 -م.
تاريخ الخلفة الراشدة ،محمد بن أحمد كنعان ،مؤسسة -35
المعارف ،بيروت – لبنان.
عني بتحقيقه تاريخ الخلفاء ،للمام جلل الدين السيوطيُ ، -36
إبراهيم صالح ،دار صادر ،بيروت ،الطبعة الولى 1417هـ1997 -م.
تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين ،د .يسري -37
محمد هاني ،الطبعة الولى1418 :هـ ،جامعة أم القرى ،معهد البحوث
العلمية وإحياء التراث.
تاريخ الدعوة السلمية في زمن الرسول × والخلفاء الراشدين، -38
325
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
د .جميل عبد الله المصري ،مكتبة الدار بالمدينة المنورة ،الطبعة
الولى 1407 ،هـ 1987 -م.
التاريخ السياسي والعسكري ،د .علي معطي ،مؤسسة -39
المعارف ،بيروت1998 ،م.
تاريخ القضاء في السلم ،د .محمد الزحيلي ،دار الفكر -40
المعاصر ،بيروت ،دار الفكر ،دمشق ،الطبعة الولى 1415 ،هـ -
1995م.
تاريخ اليعقوبي ،دار بيروت للطباعة والنشر ،طبعة 1400هـ - -41
1980م.
تاريخ بغداد أو مدينة السلم ،لبي بكر أحمد بن علي الخطيب -42
البغدادي ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان.
تاريخ صدر السلم وفجره ،د .شحادة علي الناطور1995 ،م. -43
تاريخ فتوح الشام ،لبي زكريا يزيد بن محمد الزدي ،تحقيق عبد -44
المنعم عبد الله عامر ،مؤسسة القاهرة1970 ،م.
التبيين في أنساب القرشيين ،لبي محمد عبد الله بن أحمد بن -45
محمد بن قدامة المقدسي ،عالم الكتب ،بيروت.
التحالف السياسي في السلم ،منير الغضبان ،دار السلم، -46
1408هـ 1988 -م.
تحفة الحوذي بشرح الترمذي ،عبد الرحمن بن عبد الرحيم -47
المباركفوري ،دار التحاد العربي للطباعة ،الطبعة الثانية 1385 ،هـ -
1965م.
تراث الخلفاء الراشدين في الفقه السلمي ،د .صبحي -48
محمصاني ،دار العلم للمليين ،الطبعة الولى1984 ،م.
التربية القيادية ،للغضبان ،دار الوفاء ،المنصورة ،الطبعة الولى، -49
1418هـ 1998 -م.
ترتيب وتهذيب البداية والنهاية :خلفة أبي بكر الصديق ،د .محمد -50
بن صامل السلمي ،دار الوطن ،الرياض ،الطبعة الولى 1418 ،هـ -
1997م.
تفسير ابن كثير ،دار الفكر للطباعة ،بيروت ،الطبعة الثانية، -51
1389هـ 1970 -م.
تفسير اللوسي المسمى روح المعاني في تفسير القرآن -52
العظيم والسبع المثاني لللوسي »محمود اللوسي البغدادي« ،إدارة
الطبعة المصطفائية ،بالهند.
تفسير الرازي ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت ،الطبعة الثالثة. -53
تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل ،محمد جمال الدين -54
القاسمي ،دار الفكر ،بيروت ،الطبعة الثانية 1398 ،هـ 1978 -م.
تفسير القرطبي ،لبي عبد الله محمد بن أحمد النصاري -55
القرطبي ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت ،لبنان1965 ،م.
التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج ،د .وهبة -56
الزحيلي ،دار الفكر المعاصر ،بيروت ،دار الفكر ،دمشق ،الطبعة الولى،
1411هـ 1991 -م.
التفوق والنجابة على نهج الصحابة ،حمد بن بليه بن مرهان -57
العجمي ،مكتبة العبيكان ،الرياض ،الطبعة الولى.
326
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
327
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
328
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
330
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
331
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
332
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
334
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
فهرس المحتويات
الص الموضوع
فحة
الهداء 3...................................................................
مقدمة5....................................................................
الفصل الول
أبو بكر الصديق في مكة
المبحث الول :اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته وأسرته وحياته في
الجاهلية15..................................................................
ل :اسمه ونسبه وكنيته وألقابه15.................................... أو ً
ْ
خلقّية17.......................................... ْ
ثانًيا :مولده وصفته ال ِ
ثالًثا :أسرته 18............................................................
رابًعا :الرصيد الخلقي للصديق في المجتمع الجاهلي22...........
المبحث الثاني :إسلمه ودعوته وابتلؤه وهجرته الولى 26....
ل :إسلمه26............................................................. أو ً
ثانًيا :دعوته30..............................................................
ثالًثا :ابتلؤه31.............................................................
رابًعا :دفاعه عن النبي ×34.............................................
سا :إنفاقه الموال لتحرير المعذبين في الله 36............... خام ً
سا :هجرته الولى وموقف ابن الدغنة منها39.................. ساد ً
سابًعا :بين قبائل العرب في السواق42..............................
المبحث الثالث :هجرته مع رسول الله × إلى المدينة46.......
تمهيد 46....................................................................
ه …"51........ صَرهُ الل ُ ف َ
قد ْ ن َ َ ل :قال تعالى+ :إ ِل ّ َتن ُ
صُروهُ َ أو ً
ثانًيا :فقه النبي × والصديق في التخطيط والخذ بالسباب53...
ثالًثا :جندية الصديق الرفيعة وبكاؤه من الفرح57...................
رابًعا :فن قيادة الرواح وفن التعامل مع النفوس 59..............
سا :مرض أبي بكر الصديق بالمدينة في بداية الهجرة60... . خام ً
المبحث الرابع :الصديق في ميادين الجهاد62......................
تمهيد 62....................................................................
ل :أبو بكر في بدر الكبرى62..................................... أو ً
ثانًيا :في أحد وحمراء السد66.........................................
ثالًثا :في غزوة بني النضير وبني المصطلق وفي الخندق وبني
قريظة67....................................................................
رابًعا :في الحديبية 69....................................................
سا :في غزوة خيبر ،وسرية نجد وبني فزارة71................ خام ً
335
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
سا :في عمرة القضاة وفي ذات السلسل72.................. ساد ً
سابًعا :في فتح مكة وحنين والطائف74...............................
ثامًنا :في غزوة تبوك وإمارة الحج وفي حجة الوداع80............
المبحث الخام س :الصديق في المجتمع المدني وبعض صفاته وشيء
من فضائله83...............................................................
تمهيد 83....................................................................
ل :من مواقفه في المجتمع المدني83.............................. أو ً
-1موقفه من فنحاص الحبر اليهودي83..............................
-2حفظ سر النبي × 84................................................
-3الصديق وآية صلة الجمعة84..................................... .
-4رسول الله × ينفي الخيلء عن أبي بكر84.................... .
-5الصديق وتحريه للحلل85......................................... .
-6أدخلني في سلمكما ،كما أدخلتماني في حربكما 85..........
-7أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر 85.............................
-8إكرامه للضيوف 86...................................................
-9ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر 87.............................
-10انتصار النبي × للصديق 88...................................
-11قل :غفر الله لك يا أبا بكر89.....................................
-12مسابقة في الخيرات 90...........................................
-13كظمه للغيظ91......................................................
-14بلى والله ،إني أحب أن يغفر لي 92............................
-15خروجه للتجارة من المدينة إلى الشام 92.....................
-16غيرة الصديق وتزكية النبي × لزوجه 93...................
-17خوفه من الله تعالى 93............................................
ثانًيا :من أهم صفات الصديق وشيء من فضائله 94...........
-1عظمة إيمانه بالله تعالى 94........................................
-2علمه 96............................................................
-3دعاؤه وشدة تضرعه 98.............................................
الفصل الثاني
وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة وجيش أسامة
المبحث الول :وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة101........
أو ً
ل :وفاة الرسول ×101.................................................
مرض رسول الله وبدء الشكوى101....................................
ثانًيا :هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها105..........................
ثالًثا :سقيفة بني ساعدة 107.............................................
رابًعا :أهم الدروس والعبر والفوائد في هذه الحادثة108............
-1الصديق وتعامله مع النفوس وقدرته على القناع 108..........
336
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-2زهد عمر وأبي بكر في الخلفة وحرص الجميع على وحدة المة
109............................................................................
-3سعد بن عبادة وموقفه من خلفة الصديق 111..............
-4ما يروى من خلف بين عمر والحباب بن المنذر 113............
-5حديث الئمة من قريش وموقف النصار منه 114...............
-6الحاديث التي أشارت إلى خلفة أبي بكر 116...............
-7انعقاد الجماع على خلفة الصديق 120........................
-8منصب الخلفة والخليفة 121.........................................
المبحث الثاني :البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية126........
ل :البيعة العامة126...................................................... أو ً
-1مفهوم البيعة 127.......................................................
-2مصدر التشريع في دولة الصديق 129..............................
-3حق المة في مراقبة الحاكم ومحاسبته 130......................
-4إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس 131......................
-5الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم 135..............
-6إعلن التمسك بالجهاد وإعداد المة لذلك 136....................
-7إعلن الحرب على الفواحش 136...................................
ثانًيا :إدارة الشئون الداخلية138..........................................
-1الصديق في المجتمع140..............................................
-2القضاة في عهد الصديق147.........................................
-3الولية على البلدان150................................................
-4موقف علي والزبير -رضي الله عنهما -من خلفة الصديق 155
» -5إنا معشر النبياء ل نورث ،ما تركنا صدقة«157.................
الفصل الثالث
جيش أسامة وجهاد الصديق لهل الرد
المبحث الول :جيش أسامة161........................................
ل :إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما161..... أو ً
ثانًيا :ما تم بين الصديق والصحابة في أمر إنفاد الجيش165.......
ثالًثا :أهم الدروس والعبر والفوائد من إنفاذ الصديق جيش أسامة
167
-1الحوال تتغير وتتبدل والشدائد ل تشغل أهل اليمان عن أمر
الدين167.....................................................................
-2المسيرة الدعوية ل ترتبط بأحد ووجوب اتباع النبي × 169....
-3حدوث الخلف بين المؤمنين ورده إلى الكتاب والسنة 172....
-4جعل الدعوة مقرونة بالعمل ومكانة الشباب في خدمة السلم
173............................................................................
-5صورة مشرقة من آداب الجهاد في السلم174..................
337
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-6أثر جيش أسامة على هيبة الدولة السلمية 175.................
المبحث الثاني :جهاد الصديق لهل الردة177.......................
ل :الردة اصطلحا وبعض اليات التي حذرت من الردة177...... أو ً
ثانًيا :أسباب الردة وأصنافها178.........................................
ثالًثا :الردة أواخر عصر النبوة180.......................................
رابًعا :موقف الصديق من المرتدين181................................
سا :خطة الصديق لحماية المدينة184.............................. خام ً
سا :فشل أهل الردة في غزوة المدينة185....................... ساد ً
المبحث الثالث :الهجوم الشامل على المرتدين190...............
تمهيد190.....................................................................
ل :المواجهة الرسمية من الدولة191................................. أو ً
-1وسيلة الحباط من الداخل 191......................................
-2إرسال الجيوش المنظمة 192........................................
-3نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين والعهد الذي كتبه للقادة
195
ثانًيا :القضاء على فتنة السود العنسي وطليحة السدي ومقتل مالك
بن نويرة201.................................................................
-1القضاء على السود العنسي وردة اليمن الثانية201.............
أ -السود العنسي في عهد الرسول ×201............................
ب -أبو بكر يعين فيروز الديلمي والًيا على صنعاء204...............
ج -الصديق يتابع سياسة الحباط من الداخل 206....................
د -جيش عكرمة 207.......................................................
هـ -جيش المهاجر بن أبي أمية للقضاء على ردة حضرموت وكندة
208
و -دروس وعبر وفوائد 210...............................................
* المرأة بين الهدم والبناء 210...........................................
* من خطباء اليمان213...................................................
* كرامات الولياء214......................................................
* العفو عند الصديق 215..................................................
* وصية الصديق لعكرمة ومحاسبته لمعاذ 216........................
* توحيد اليمن ووضوح السلم عند أهله وطاعتهم للخليفة 216...
-2القضاء على فتنة طليحة السدي 217..............................
أ -معركة بزاخة والقضاء على بني أسد 220...........................
ب -وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم 220........
ج -قصة أم زمل 221......................................................
د -دروس وعبر وفوائد 221...............................................
* ثقة الصديق بالله وخبرته الحربية221................................
* نصح عدي بن حاتم لقومه والحرب النفسية التي شنها عليهم
338
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
222
أسباب هزيمة طليحة بن خويلد السدي224...........................
* من نتائج معركة بزاخة225.............................................
هـ -قصة الفجاءة 227......................................................
و -ما قاله حسان فيمن قال :ل نطيع أبا الفصيل )يعنون أبا بكر(
227
-3سجاح وبنو تميم ومقتل مالك بن نويرة اليربوعي227...........
دروس وعبر وفوائد229....................................................
أ -من ثبت على السلم من بني تميم229.............................
ب -خالد ومقتل مالك بن نويرة230.....................................
ج -زواج خالد بأم تميم231................................................
د -دعم الصديق للقيادة الميدانية 233..................................
-4ردة أهل عمان والبحرين234.........................................
أ -ردة أهل عمان 234......................................................
ب -ردة أهل البحرين235..................................................
* كرامة للعلء بن الحضرمي 237.......................................
* هزيمة المرتدين238.....................................................
المبحث الرابع :مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة 241...................
ل :التعريف به ومقدمة عنه 241....................................... أو ً
ثانًيا :الثابتون على السلم من بني حنيفة 244........................
ثالًثا :تحرك خالد بن الوليد بجيشه إلى مسيلمة الكذاب باليمامة
246
أ -مجاعة بن مرارة الحنفي يقع في أسر المسلمين 248...........
ب -شن الحرب النفسية قبل المعركة249.............................
رابًعا :المعركة الفاصلة 250..............................................
سا :بطولت نادرة 251............................................... خام ً
-1قال البراء بن مالك 251...............................................
-2مصرع مسيلمة الكذاب 251..........................................
-3أبو عقيل :عبد الرحمن بن عبد الله البلوي النصاري الوسي
252
-4نسيبة بنت كعب المازنية النصارية 253............................
سا :من شهداء معركة اليمامة 253................................ ساد ً
-1ثابت بن قيس بن شماس الذي أجاز الصديق وصيته بعد موته
253
-2زيد بن الخطاب 253...............................................
-3معن بن عدي البلوي 254.............................................
-4عبد الله بن سهل بن عمرو 254.....................................
339
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-5أبو دجانة سماك بن خرشة 255.....................................
-6عباد بن بشر 255.......................................................
-7الطفيل بن عمرو الدوسي الزدي 256.............................
سابًعا :خدعة مجاعة وزواج خالد من ابنته ورسائل بينه وبين الصديق
257............................................................................
أ – خدعة مجاعة 257......................................................
ب -زواجه بابنة مجاعة والرسائل بينه وبين الصديق 258...........
ثامًنا :محاولة قتل خالد بن الوليد وقدوم وفد بني حنيفة للصديق
261
-1محاولة قتل خالد بن الوليد 261.....................................
-2قدوم وفد بني حنيفة على الصديق 262............................
تاسًعا :جمع القرآن الكريم 262..........................................
المبحث الخامس :أهم الدروس والعبر والفوائد من حروب الردة
266............................................................................
ل :تحقيق شروط التمكين وأسبابه ،وآثار شرع الله وصفات أو ً
المجاهدين266............................................................
-1تحقيق شروط التمكين266...........................................
-2الخذ بأسباب التمكين266.............................................
-3آثار تحكيم الشرع 267.................................................
-4صفات جيل التمكين267...............................................
ثانًيا :وصف المجتمع في عصر الصديق 270...........................
ثالًثا :سياسة الصديق في محاربة التدخل الجنبي 273..............
رابًعا :من نتائج أحداث الردة275.........................................
-1تمييز السلم عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك 275......
-2ضرورة وجود قاعدة صلبة للمجتمع 278...........................
-3تجهيز الجزيرة كقاعدة للفتوح السلمية 278.....................
-4العداد القيادي لحركة الفتوح السلمية 278......................
-5الفقه الواقعي للردة 279.............................................
-6ول يحيق المكر السيئ إل بأهله 279................................
-7استقرار التنظيم الداري في الجزيرة 280........................
الفصل الرابع
فتوحات الصديق واستخلفه لعمر -رضي الله عنهما -ووفاته
تمهيد281.....................................................................
المبحث الول :فتوحات العراق283....................................
ل :خطة الصديق لفتح العراق 283.................................... أو ً
-1تاريخ بعث خالد بن الوليد إلى العراق 285........................
-2الحس الستراتيجي عند الصديق 285..............................
340
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
-3تحديد الحيرة كموقع استراتيجي 285...............................
-4نكران الذات عند المثنى بن حارثة 286............................
-5احتياط الصديق لمر الجهاد في سبيل الله 286..................
-6الرفق بالناس والتوصية بفلحي العراق 287......................
-7ل يهزم جيش فيهم مثل هذا 287....................................
ثانًيا :معارك خالد بن الوليد بالعراق 288...............................
-1معركة ذات السلسل 288............................................
-2معركة المذار »الثنى« 290...........................................
-3معركة الولجة 290......................................................
-4معركة ُأليس وفتح أمغيشيا 292.....................................
-5فتح الحيرة 294.........................................................
* الحيرة قاعدة الجيوش السلمية296.................................
* الرسائل التي أرسلها خالد إلى خاصة الفرس وعامتهم 297... .
* كرامة لخالد بن الوليد في فتح الحيرة 298.........................
-6فتح النبار »ذات العيون« 299.......................................
-7عين التمر 300..........................................................
-8دومة الجندل 301.......................................................
-9وقعة الحصيد 302......................................................
-10وقعة المصيخ 303....................................................
-11وقعة الفراض 304....................................................
حجة خالد وأمر الصديق له بالخروج إلى الشام وتسلم ثالًثا:
المثنى لقيادة جيوش العراق
...................................................................................
305
-1حجة خالد سنة » 12هـ« وأمر الصديق له بالخروج إلى الشام
305
-2خبر المثنى بن حارثة بالعراق بعد ذهاب خالد 310...............
المبحث الثاني :فتوحات الصديق بالشام 313.......................
تمهيد313.....................................................................
ل :عزم أبي بكر على غزو الروم ومبشرات في الطريق 314... أو ً
ثانًيا :مشورة أبي بكر في جهاد الروم واستنفار أهل اليمن 316...
-1مشورة أبي بكر في جهاد الروم316................................
-2استنفار أهل اليمن318................................................
ثالًثا :عقد الصديق اللوية للقادة وتوجيه الجيوش 320..............
-1جيش يزيد بن أبي سفيان 320.......................................
-2جيش شرحبيل بن حسنة 325........................................
-3جيش أبي عبيدة بن الجراح 325.....................................
-4جيش عمرو بن العاص 326...........................................
341
شخصيته وعصره أبو بكر الصديق
رابًعا :تأزم الموقف في بلد الشام 327................................
خروج هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى الشام 330................
خروج سعيد بن عامر إلى الشام 331...................................
سا :توجيه خالد إلى الشام ومعركة أجنادين واليرموك 333... خام ً
-1معركة أجنادين 336....................................................
-2اليرموك 338............................................................
المبحث الثالث :أهم الدروس والعبر والفوائد348..................
ل :من معالم السياسة الخارجية في دولة الصديق 348.......... أو ً
-1بذر هيبة الدولة في نفوس المم الخرى 348.....................
-2مواصلة الجهاد الذي أمر به النبي × 348..........................
-3العدل بين المم المفتوحة والرفق بأهلها 349....................
-4رفع الكراه عن المم المفتوحة 350................................
ثانًيا :من معالم التخطيط الحربي عند الصديق 350.................
-1عدم اليغال في بلد العدو حتى تدين للمسلمين 350...........
-2التعبئة وحشد القوات 351............................................
-3تنظيم عملية المداد للجيوش 352..................................
-4تحديد الهدف من الحرب352.........................................
-5إعطاء الفضلية لمسارح العمليات 352............................
-6عزل ميدان المعركة 352.............................................
-7التطور في أساليب القتال 353......................................
-8سلمة خطوط التصال مع القادة 353..............................
-9ذكاء الخليفة وفطنته 353.............................................
ثالًثا :حقوق الله والقادة والجنود من خلل وصايا الصديق 354....
-1حقوق الله 354..........................................................
-2حقوق القائد 355.......................................................
-3حقوق الجند 357........................................................
رابًعا :السر في اكتساح المسلمين لقوات الفرس والروم364... .
المبحث الرابع :استخلف الصديق لعمر بن الخطاب ووفاته 466
ل :استخلفه لعمر 466.................................................. أو ً
ثانًيا :وحان وقت الرحيل 370.............................................
الخلصة375..................................................................
المصادر والمراجع388.....................................................
فهرس المحتويات397.....................................................
***
342