Professional Documents
Culture Documents
دكتور
محمد محفوظ
أعارتنى " نورجان " كتابا ً محظورا ً من التداول .كانت سلطات المن قد صادرته فور توزيعه منذ
عام .إل أن بعض النسخ القليلة أفلتت من المصادرة وتم بيعها فى سرية بأضعاف ثمنها .
" عبء الدولة " ....كان هذا عنوان الكتاب ،الذى كان فى مجمله بحثا ً علميا ً رصينا عن
ً
فكرة الدولة ،ككيان سياسى اقتصادى اجتماعى أخلقى قانونى .وقد لحظ الكاتب أن الدولة
نشأت كنظام قهرى ،نتج عن قوة وتسلط أحد الفراد مما أدى إلى التفاف أقرانه من القوياء
حوله ،واستيلئهم على مناطق واسعة من الراضى باستخدام القوة وبسط النفوذ على سكانها
الضعفاء .وبذلك نشأت الدولة كنظام يحكم القوياء فيه الضعفاء ،وتزداد فيه مواردها بواسطة
القتال والغتصاب .ومع حركة التاريخ تطورت الدولة من النظام القهرى إلى النظام التعاقدى بين
الحكومة والشعب ،والذى يلتزم فيه كل طرف بمجموعة من الواجبات لقاء مجموعة من الحقوق .
ولذلك كان التطور التاريخى الطبيعى يفرض أن تصبح أقدم الدول هى أكثرها اقترابا ً من النظام
التعاقدى فى صورته المثالية ،إل أن المفارقة كانت تتمثل فى أن أقدم الدول هى أسوأها .فقد
لحظ الكاتب أن الدول التى نشأت منذ فجر التاريخ هى التى مازالت حتى الن أشد الدول قهرية
ودموية وقمعية .لذا استنتج أن هذا يرجع إما إلى أسباب تاريخية خارجية تتمثل فى وقوع معظم تلك
الدول القديمة تحت قبضة القوى الستعمارية لفترات طويلة ،مما صبغ نظام الدولة فى تلك
المناطق بصبغة تسلطية استبدادية ،أو يرجع إلى أسباب داخلية تتمثل فى أن قدم نظام الدولة بتلك
الدول ورسوخ بنيانها على مر التاريخ فى نسيج الضمير القومى للفراد ،أدى إلى تعاملهم معها كقدر
ليمكنهم مجرد التفكير فى تغييره ،قدر وُجد بهذا الشكل القمعى ليبقى .وبهذا تظهر الدولة القهرية
فى العالم المعاصر كنموذج حفرى للدولة الناشئة إبان فجر التاريخ بكل قمعيتها ودمويتها ،ولكن مع
اختلف فى شكل المؤسسات التنظيمية التى تم اقتباسها من نظام الدولة التعاقدية المعاصرة .
واكتشف الكاتب أن النظام القهرى للدولة استطاع الصمود فى وجه التطور التاريخى ،لنه
أفرز نظامه القتصادى الخاص به ،والذى يقوم على أسلوب " النهب المنظم " .فحكومة الدولة
القهرية تدير القتصاد الوطنى بأسلوب الشركة التى تتكون من شريكين ،الشريك الول هو الحكومة
وتشارك فى الشركة برأس المال والذى يتكون من كل أصول وموارد الدولة ،والشريك الثانى هو
الشعب ويشارك فى الشركة بالمجهود .وبذلك يتم توزيع الجانب الكبر من الرباح على الحكومة
صاحبة رأس المال ،ويمثلها الحاكم وكبار المسئولين الحكوميين والمقربين والمنتفعين ،بينما يحصل
أفراد الشعب على رواتب شهرية مقابل جهودهم .وبهذه الرؤية يصبح اقتصاد النهب المنظم هو
المقابل الموضوعى لنظام الدولة القهرية ،التى يحكم القوياء فيها الضعفاء .فالقوياء يحكمون
فيسيطرون فيملكون ،والضعفاء هم المحكومون الجراء الكادحون .
ويؤكد الكاتب أن اقتصاد النهب المنظم ليس مجرد طرٍح نظري ليجد صداه فى أرض الواقع
.وإنما هو يمثل القوة المحركة التى أدت إلى عدم زوال الدولة القهرية من العالم ،وذلك لنه ليس
مجرد نهب وإنما هو نهب منظم تمارسه الدولة من خلل اضطلعها بالحكم .فقدم الدولة القهرية
أدى إلى تراكم خبرتها فى مجال النهب ،ووجدت أن النهب العشوائى المكشوف يؤدى إلى وضع
الدولة على حافة هاوية الفلس أو الثورة ،بما يؤدى حتما ً إلى سقوطها .ولذلك كان أسلوب النهب
المنظم من خلل الضطلع بمسئوليات الحكم هو خير السبل لتحقيق قدرٍ من التوازن يسمح
باستمرار الدولة والنهب معاً .فمن خلل الضطلع بمسئوليات النفاق العام على كافة قطاعات
الدولة ومرافقها ومؤسساتها ،يتقاضى كبار المسئولين حوافز جانبية تساوى مئات أضعاف مرتباتهم
.ولعل أسلوب توزيع تلك الحوافز هو الذى كتب لها الستمرار والتضخم .فكافة المسئولين
الحكوميين ملتزمون بإعداد كشوف شهرية للحوافز تحت مسميات مختلفة تتفق وأنشطة المرفق
الحكومى القائمين عليه .وتُدرج بهذه الكشوف أو الستمارات أسماؤهم وأسماء كبار مساعديهم
واسم المستشار المشرف على القطاع بالضافة إلى اسم الحاكم ،والذى بمجرد وضع اسمه فى
الكشوف تكتسب الحصانة والشرعية ،وتنجو من أى مراجعة أو رقابة مالية .ويوضح الكاتب أن
الرقم الذى يمثل عملية النهب المنظم يتراوح ما بين %10إلى %20من إجمالى النفاق العام
للدولة .وبذلك فإن اقتصاد النهب المنظم هو اقتصاد الناتج القومى فيه = صفر ،أو هو اقتصاد
مدين .وبهذا تحول النفاق العام إلى المنجم الذى يفجر ذهبا ً للدولة القهرية ،ويجنى من ورائه
المسئولون الحكوميون ثروات طائلة بشكل شبه رسمى ل تناهضه المؤسسات الرقابية بالدولة .
ولعل مكمن الخطورة فى اقتصاد النهب المنظم يتركز فى أن شيوع ظاهرة ثراء القيادات
الحكومية من مناصبها القيادية ،يؤدى إلى تغاضيها عن تفشى الفساد فى باقى أجزاء الهرم
الوظيفى ،من بعد القمة وحتى القاعدة ،ولذلك تمطر السماء فسادا ً فى الدول التى تكون السيادة
فيها لنظرية النهب المنظم .وتصبح العمولت والرشاوى والوساطات هى القواعد المحركة والحاكمة
بكافة قطاعات المجتمع .كما تتركز خطورة النهب المنظم أيضا ً فى ارتباطه الوثيق بعملية التنمية ،
من خلل التوسع فى إنشاء وإقامة المؤسسات والقطاعات والمؤتمرات والمهرجانات الحكومية التى
تضاف إلى البناء الدارى للدولة القهرية ،من أجل زيادة حصة المسئولين الحكوميين من النهب
المنظم .وذلك دون اللتفات إلى مدى حاجة المجتمع إلى تلك الكيانات الجديدة ،أو حتى الهتمام
بمستوى أدائها فى حالة احتياج المجتمع إليها .وبالتالى تظهر الدولة القهرية ككيان حضارى خادع ،
راسخ المظهر ولكنه أجوف المضمون .فكافة مؤسسات الدولة القهرية هى مجرد كيانات جوفاء ل
تحقق الهداف المرجوة من إنشائها ،إن لم تكن بالفعل تحقق عكسها .فمؤسسة العدالة تتحول
فى ظل الدولة القهرية إلى مؤسسة للعدل البطىء القرب إلى الظلم ،والمؤسسة التشريعية
تتحول إلى غطاء قانونى للدولة القهرية لتقنين تجاوزاتها ،ومؤسسة التعليم تتحول إلى مؤسسة
لترويج ثقافة المية ،ومؤسسة العلم إلى نافذة لتزييف وعى الشعب .وبهذا تفقد الدولة الهدف
من وجودها ،وتصبح عبئا ً على الشعب .فطالما تحولت المواطَنة إلى مجرد واجبات تكفل قمعية
السلطة اللتزام بها ،بينما تغيب تماما ً أبسط الحقوق ،فإن الدولة تصبح عبئا ً ثقيل ً على الفرد ،
وتصبح القبيلة البدائية أكثر ضمانا لحقوقه ،بينما هى أكثر تساهل ً فى إلزامه بواجباته.
وقد قدم الكاتب رؤيته لمستقبل الدولة القهرية ،والتى ليتوقع زوالها إل بأحد ثلثة احتمالت :
ــ إندلع صراع على السلطة بعد وفاة حاكم الدولة فجأة ،بما يؤدى إلى فوضى تعقبها ثورة
شعبيةعارمة تزيل الدولة القهرية من جذورها .
ــ إندلع صراع على السلطة بعد وفاة الحاكم إثر مرض طويل ،يعقبه تفكك للدولة القهرية إلى
عدة دويلت تحكمها زعامات متصارعة ،بما يؤدى إلى تدخل المجتمع الدولى لوقف الصراع و إقامة
دولة تحررية .
ــ غزو قوة خارجية تحررية للدولة القهرية فى حالة تهديدها لمصالحها المباشرة ،وتقويضها و
إقامة نظام تحررى تابع على أنقاضها .
ً ً
وفى الفصل الخير من الكتاب يقدم الكاتب اختبارا عمليا لنظريته من خلل تطبيقها على
اقتصاد هذا البلد .ويصل فيه إلى نتائج تتفق كثيرا ً ونظريته .ولكنه يصرح بأنه اكتشف أن أسلوب
نهب الحاكم الحالى لموال الدولة يعد أسلوبا ً فريدا ً يضيف بعدا ً جديدا ً إلى نظرية النهب المنظم .
فلقد أضاف الحاكم إلى الوسائل التقليدية أسلوبا ً جديدا ً يقوم على إنشاء الشركات الوهمية التى
تتعدد أنشطتها بتعدد أنشطة الدولة ،وتنفرد هذه الشركات دون غيرها بالحصول على حق تنفيذ كافة
المشروعات العامة بالبلد ،نظير تكاليف مبالغ فيها ،وذلك بتوجيهات سرية من الحاكم .ثم تقوم
تلك الشركات الوهمية ببيع حقوق تنفيذ تلك المشروعات من الباطن إلى شركات أخرى هى فى
معظمها شركات المستشارين وأبنائهم ،والتى سرعان ما تبيع حقوق التنفيذ إلى شركات المقربين
والمنتفعين ،والذين يبيعونها فى نهاية المطاف إلى شركات المواطنين ،والتى تضطلع فعل ً بتنفيذ
تلك المشروعات .وبذلك يضمن الحاكم بانتهاجه لهذا السلوب عدم تورطه فى أية مخالفات مالية
تلحق باسمه .لن الموال الناتجه عن الشركات الوهمية سرعان مايتم إيداعها بحسابات سرية فى
مصارف دول أجنبية ،نظير التنازل عن فوائد تلك الموال لحكومات تلك الدول لستخدامها لتغطية
أى عجز فى ميزانياتها ،وذلك ضمانا ً للمزيد من السرية لقاء هذه المنفعة المتبادلة .ويؤكد الكاتب
بأنه قام بعملية استقصاء واسعة حتى يتأكد من صحة تلك الوقائع التى يسردها ،فوجد أن كافة
الشركات التى تحصل على أصل حقوق تنفيذ المشروعات العامة ،يملكها أشخاص لوجود لهم .ثم
إنه تتبع تلك السلسلة التنازلية التى تمر بها عملية بيع حقوق التنفيذ حتى تصل إلى شركات
المواطنين .فوجد بأن الحقيقة المؤكدة هى أن تلك الشركات الوهمية المملوكه لشخاص ل وجود
لهم ،ل يمكن أن تخضع إل لملكية شخص واحد فقط ،هو الذى يجرؤ على الستهانة بكافة القوانين
..وهو ..الحاكم .
....ما إن انتهيت من هذا الكتاب حتى وجدتنى مبهورا ً ،وكأننى اكتشفت شيئا كنت أبحث عنه
من زمن .فهذه الفكار كان لها صدى عميق فى عقلى ،جعلنى أقتنع بها بمجرد قراءتها ،وكأننى
طالعتها قبل ذلك ،أو عايشت ظروفا ً وأحوال ً هى تفسرها ....فتُرى هل انحنى ظهرى من قبل بعبء
الدولة ..وانهارت أحلمى من قبل تحت سطوة النهب المنظم ..ل أدرى ؟ ولكن إلى متى سأظل ل
أدرى ؟ وهل من الفضل ان أعرف الجواب ؟ أم من الفضل أن يظل السؤال بل إجابة ؟ ...بل
إجابة.
***