You are on page 1of 38

‫صيد الكتب‬

‫إعد اد‬

‫فؤ اد بن عب د الع زي ز الش له وب‬

‫‪1‬‬
‫مقدمة‬

‫إن الحمد ل‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا وسيئات‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده ال فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده‬
‫ل شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى ال عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫بين يديك كتاب ضم حكما نافعة‪ ،‬وأقوال جامعة‪ ،‬اصطدتها لك من كتب شتى‪ ،‬لتنعم‬
‫بمطالعتها‪ ،‬وحيازة علمها‪ .‬فــــــ‪:‬‬

‫قيّد صيودك بالحبال الواثقة‬ ‫فالعلم صيد والقيود صيده‬


‫وجهدي في هذا السفر هو الصيد فقط‪ ،‬وإل فالفضل كل الفضل ل وحده ثم لهل الفضل‬
‫الذين نقلنا كلمهم وأقوالهم‪.‬‬
‫نعم‪ .‬قد أمهد للصيد بكلم يوضح المغزى من النقل‪ ،‬ويسفر عن وجهه ومعناه‪ ،‬وذلك من‬
‫أجل أن يتمكن القارئ من التهام الصيد كله ل بعضه‪.‬‬
‫فهيا بنا إلى الصيد الول‪:‬‬

‫براعة الستهلل‬

‫إن كثيرا من الكتاب ل يحسن وضع مقدمة مناسبة لما هو بصدد الكتابة عنه‪ ،‬وهو ما‬
‫يعرف عند علماء المعاني ببراعة الستهلل‪ .‬وخطبة الكتاب إذا كانت مناسبة لموضوع‬
‫الكتاب فإن ذلك يهيئ الناظر فيه معرفة ما فيه‪ ،‬ويصور له بعبارة موجزة زبدة الموضوع‬
‫أو الرسالة‪ .‬وتكمن براعة الكاتب في القدرة على الدخول في موضوع الرسالة أو البحث‬
‫دون أن يشعر القارئ بذلك‪ ،‬ولعل خطبة المام أحمد في كتابه (الرد على الزنادقة‬
‫والجهمية) فيها بيان لبراعة الستهلل وحسن البيان‪ ،‬وكان حقها أن تكتب بماء الذهب‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫قال رحمه ال تعالى‪:‬‬
‫( الحمد ل الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل‬
‫إلى الهدى‪ ،‬ويصبرون منهم على الذى‪ ،‬يحيون بكتاب ال الموتى‪ ،‬ويبصرون بنور ال‬
‫أهل العمى‪ ،‬فكم من قتيل لبليس قد أحيوه‪ ،‬وكم من ضال تائه هدوه‪ ،‬فما أحسن أثرهم‬
‫على الناس وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب ال تحريف الغالين وانتحال‬
‫المبطلين‪ ،‬وتأويل الجاهلين‪ ،‬الذين عقدوا ألوية البدعة‪ ،‬وأطلقوا عقال الفتنة‪ ،‬فهم مختلفون‬
‫في الكتاب‪ ،‬مخالفون للكتاب‪ ،‬متفقون على مخالفة الكتاب‪ ،‬يقولون على ال‪ ،‬وفي ال‪ ،‬وفي‬
‫كتاب ال بغير علم‪ ،‬يتكلمون بالمتشابه من الكلم‪ ،‬ويخدعون جهال الناس بما يشبهون‬
‫عليهم‪ ،‬فنعوذ بال من فتن المضلين‪.1)..‬‬

‫الحث على التمسك بالسنة والنهي عن البدعة‬

‫استفاض النقل عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعن الصحب والسلف الصالح رضوان ال‬
‫عليهم أجمعين في الحث على التمسك بالسنة‪ ،‬والنهي والتحذير من البدعة‪ ،‬فقال إمام‬
‫المتقين صلى ال عليه وسلم‪(( :‬من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أي مردود‬
‫على صاحبه‪ .‬والصحب رضوان ال عليهم والسلف الصالح من بعدهم كانت لهم جهود‬
‫مشكورة في حفظ السنة؛ ولو سقنا أخبارهم في هذا لطال بنا المقام‪ ،‬ولكن حسبنا قول ابن‬
‫مسعود رضي ال عنه من الصحب الكرام‪ ،‬وقول الفضيل بن عياض من السلف العلم‪:‬‬
‫قال ابن مسعود أو أبي بن كعب رضي ال عنهما‪:‬‬
‫( عليكم بالسبيل والسنة‪ ،‬فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر ال خاليا فاقشعر جلده‬
‫من مخافة ال إل تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجر‪ ،‬وما من عبد‬
‫على السبيل والسنة ذكر ال خاليا فدمعت عيناه من خشية ال إل لم تمسه النار أبدا‪ ،‬وإن‬

‫‪ -) - 1‬الفتاوى ‪)4/217‬‬
‫‪3‬‬
‫اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلف سبيل وسنة‪ .‬فاحرصوا أن تكون‬
‫أعمالكم ‪-‬إن كانت اجتهادا أو اقتصادا ‪-‬على منهاج النبياء وسنتهم)‪.2‬‬
‫وقال الفضيل بن عياض رحمه ال‪( :‬في قوله تعالى‪{ :‬ليبلوكم أيكم أحسن عمل}‪ . 3‬قال‪:‬‬
‫أخلصه وأصوبه‪ .‬قيل له‪ :‬يا أبا علي‪ ،‬ما أخلصه وأصوبه؟ قال‪ :‬إن العمل إذا كان خالصا‬
‫ولم يكن صوابا لم يقبل‪ ،‬وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل‪ ،‬حتى يكون خالصا‬
‫صوابا‪ .‬والخالص أن يكون ل‪ ،‬والصواب أن يكون على السنة)‪.‬‬
‫وكان يقول‪:‬‬
‫)من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم السلم‪ ،‬ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد‬
‫‪4‬‬
‫قطع رحمها‪ ،‬ومن انتهر صاحب بدعة مل ال قلبه أمنا وإيمانا)‪.‬‬

‫ميراث النبياء‬

‫يعظم الشيء بعظم نفعه‪ .‬والعلم الشرعي هو أنفع العلوم وأزكاها‪ ،‬بل إن المتأمل في قوله‬
‫عليه الصلة والسلم "‪ ...‬إن النبياء لم يورثوا دينارا ول درهما إنما ورثوا العلم‪ ،‬فمن‬
‫أخذ به فقد أخذ بحظ وافر" ليعلم عظم الميراث‪.‬‬
‫وإمام العلماء معاذ بن جبل رضي ال عنه وأرضاه ‪ -‬له قول حسن يحسن الوقوف عنده‪.‬‬
‫قال معاذ بن جبل رضي ال عنه‪( :‬تعلموا العلم فإن تعليمه ل خشية‪ ،‬وطلبه عبادة‪،‬‬
‫ومذاكرته تسبيح‪ ،‬والبحث عنه جهاد‪ ،‬وتعليمه لمن ل يعلمه صدقة‪ ،‬وبذله لهله قربة‪ ،‬لنه‬
‫معالم الحلل والحرام‪ ،‬منار سبل أهل الجنة‪ ،‬وهو النس في الوحشة‪ ،‬والصاحب في‬
‫الغربة‪ ،‬والمحدث في الخلوة‪ ،‬والدليل على السراء والضراء‪ ،‬والسلح على العداء‪،‬‬
‫والزين عند الخلء‪ ،‬يرفع ال به أقواما‪ ،‬فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم‪،‬‬
‫ويقتدى بفعالهم‪ ،‬وينتهى إلى رأيهم‪ ،‬ترغب الملئكة في خدمتهم‪ ،‬وبأجنحتها تمسحهم‪،‬‬
‫يستغفر لهم كل رطب ويابس‪ ،‬وحيتان البحر وهوامه‪ ،‬وسباع البر وأنعامه‪ ،‬لن العلم حياة‬
‫‪ - 2‬الفتاوى ‪.11/600‬‬
‫‪ - 3‬هود‪.7 :‬‬
‫‪ - 4‬الفتاوى ‪.11/600‬‬
‫‪4‬‬
‫القلوب من الجهل‪ ،‬ومصابيح البصار من الظلم‪ ،‬يبلغ العبد بالعلم منازل الخيار‬
‫والدرجات العلى في الدنيا والخرة‪ ،‬والتفكر فيه يعدل الصيام‪ ،‬ومدارسته تعدل القيام‪ ،‬به‬
‫توصل الرحام‪ ،‬وبه يعرف الحلل من الحرام‪ ،‬هو إمام العمل‪ ،‬والعمل تابعه‪ ،‬ويلهمه‬
‫السعداء ويحرمه الشقياء)‪. 5‬‬

‫شعرا‬

‫قال صالح بن جناح اللخمي‪:‬‬

‫إذا نحن متنا ل تموت ول تنسى‬ ‫نـموت وننسى غير أن ذنوبنا‬


‫‪6‬‬
‫وهل تنفع العينان من قلبـه أعمى‬ ‫أل رب ذي عينين ل تنفعانــه‬

‫المبادرة إلى فعل الطاعات‬


‫إن الحياة دقائق وثوان‬ ‫دقات قلب المرء قائلة له‬
‫الوقت يمضي سريعا‪ ،‬واليوم الذي ينقضي ل يعود‪ ،‬والحياة دقائق وثوان‪ ،‬وحال الشباب‬
‫غير حال المشيب‪ ،‬وحال الصحة غير حال المرض‪ ،‬وملك الموت ل يعصي ال ما أمره‪،‬‬
‫والجل قريب ل يختلف عن موعده‪{ ،‬فإذا جاء أجلهم ل يستأخرون ساعة ول يستقدمون}‬
‫العراف‪ 34 :‬فالبدار البدار إلى فعل الطاعات وانتهاز الفرص‪.‬‬
‫قال ابن قيم الجوزية‪ ...( :‬أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة‪ ،‬فالحزم كل‬
‫الحزم في انتهازها‪ ،‬والمبادرة إليها‪ ،‬والعجز في تأخيرها‪ ،‬والتسويف بها‪ ،‬ول سيما إذا لم‬
‫يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها‪ ،‬فإن العزائم والهمم سريعة النتقاض قلما تثبت‪،‬‬
‫وال سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه‪ ،‬بأن يحول بين قلبه وإرادته‪ ،‬فل‬
‫يمكنه بعد من إرادته عقوبة له‪ ،‬فمن لم يستجب ل ورسوله إذا دعاه ‪ -‬حال بينه وبين قلبه‬

‫‪ - - 5‬جامع بيان العلم وفضله لبن عبد البر ‪ /‬المختصر ص ‪.53‬‬


‫‪ - 6‬مختصر جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ص ‪( 38‬حاشية)‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫وإرادته‪ ،‬فل يمكنه الستجابة بعد ذلك‪ .‬قال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا استجيبوا ل‬
‫‪7‬‬
‫وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن ال يحول بين المرء وقلبه} النفال‪.124 :‬‬

‫التعصب المذهبي‬

‫داء يسري في النفوس يحمل صاحبها على مخالفة الدليل من أجل مذهب درج عليه‪ ،‬فتراه‬
‫ينافح عن قول إمامه ومذهبه وإن علم أن الحق بخلفه!‪ .‬والئمة الربعة رحمهم ال‪،‬‬
‫نصوا على الخذ بالدليل وإن كان مخالفا لقولهم‪ .‬وهذا من تعظيمهم رحمهم ال للثر‪،‬‬
‫وصرف أتباعهم إلى الخذ بالدليل وأن يكونوا مع الدليل والحق حيثما دار‪ .‬قال المام أبو‬
‫حنيفة‪( :‬إذا جاء عن النبي صلى ال عليه وسلم فعلى العين والرأس)‪ .‬وقال المام مالك‪:‬‬
‫(ما من أحد إل ويؤخذ من قوله ويترك‪ ،‬إل صاحب هذا القبر‪ -‬وأشار إلى قبر النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم)‪ .‬وقال المام الشافعي‪( :‬كل ما قلت‪ ،‬وكان قول رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم خلف قولي مما يصح‪ ،‬فحديث النبي صلى ال عليه وسلم أولى‪ ،‬ول تقلدوني)‪ .‬وقال‬
‫المام أحمد‪( :‬ل تكتبوا عني شيئا‪ ،‬ول تقلدوني‪ ،‬ول تقلدوا فلنا وفلنا ‪ -‬وفي رواية‪:‬‬
‫مالكا‪ ،‬والشافعي‪ ،‬والوزاعي‪ ،‬ول الثوري ‪ -‬وخذوا من حيث أخذوا)‪[ .‬ومع أن الئمة‬
‫نصوا على عدم تقليدهم‪ ،‬والخذ بالدليل وإن كان مخالفا لقوالهم‪ ،‬إل أن ذلك لم يمنع من‬
‫وجود طائفة تعصبت لقوال أئمتهم‪ ،‬وغلوا في ذلك غلوا كبيرا‪ ،‬فمن أقوال بعض‬
‫المتعصبة‪ ]:‬قال الحصفكي في أبيات يمدح بها المام أبا حنيفة منها‪:‬‬

‫على من رد قول أبي حنيفة‬ ‫فلعنة ربنا أعداد رمل‬


‫وأنشد منذر بن سعيد عدة أبيات تصور حالة تشبث المالكية بقول المام بدون دليل فقال‪:‬‬
‫طلبت دليل‪ :‬هكذا قال مـالك‬ ‫عذيــري من قوم يقولون كلمـا‬
‫وقد كـان ل تخفى عليه المسالك‬ ‫فإن عدت قالوا هكذا قال أشهـب‬
‫ومــن لم يقل ما قاله فهو آفك‬ ‫فإن زدت قالوا‪ :‬قال سحنون مثلـه‬
‫‪ - 7‬زاد المعاد ‪ /‬ابن القيم (‪.)3/574‬‬
‫‪6‬‬
‫وقالوا جميعا‪ :‬أنت قـرن مماحك‬ ‫فإن قلت‪ :‬قال ال‪ ،‬ضجوا وأكثروا‬
‫أتت مالكا في ترك ذاك المسالك‬ ‫وإن قلت‪ :‬قد قال الرسول‪ ،‬فقولهم‬
‫وقال إمام الحرمين الجويني الشافعي‪( :‬نحن ندعي أنه يجب على كافة العاقلين وعامة‬
‫المسلمين شرقا وغربا‪ ،‬بعدا وقربا ‪ -‬انتحال مذهب الشافعي‪ .‬ويجب على العوام الطغام‬
‫والجهال النذال أيضا انتحال مذهبه بحيث ل يبغون عنه حول‪ ،‬ول يريدون به بدل)‪.‬‬
‫وقال أحد الحنابلة‪:‬‬

‫فوصيتي للناس أن يتحنبلوا‬ ‫أنا حنبلي ما حييت وإن أمت‬


‫[ والحق هو اتباع الدليل والخذ به ممن قاله‪ ،‬ول يقدح ذلك فيمن ترك مذهبه في مسألة‪،‬‬
‫ول يعتبر مخالفا لمامه‪ ،‬بل هو متبع له كما نصوا على ذلك]‪.‬‬
‫قال أبو مزاحم الخاقاني في شعر له‪:‬‬
‫على النصاف جد به اهتمامي‬ ‫أقول الن في الفقهاء قــول‬
‫لـــذي فتياهم بهم ائتمامي‬ ‫أرى بعد الصحابة تابعيهــم‬
‫بهم أني مصيب في اعتزامــي‬ ‫علمت إذا عزمت على اقتدائي‬
‫سأذكر بعضهم عند انتظــام‬ ‫وبعـد التـابعـين أئمـة لي‬
‫حـــجازهم وأوزاعي شام‬ ‫فسفيان العـراق ومالـك في‬
‫نعــم والشافعي أخو الكرام‬ ‫أل وابن المبـارك قــدوة لي‬
‫وأرضــى بابن حنبـل المام‬ ‫ممن أرتضــي فأبو عبيــد‬
‫وما أنا بالمباهي والمســـامي‬ ‫فآخذ من مقالهم اختيــاري‬
‫لتوسيـع الله على النــام‬ ‫وأخذي باختـلفهم مبـاح‬
‫رسول ال قول بالكـــلم‬ ‫ولست مخالفا إن صح لي عن‬
‫خشيت عقاب رب ذي انتقـام‬ ‫إذا خالفت قول رسـول ربي‬
‫له يارب أبلغـه سلمــــي‬ ‫وما قال الرسول فل خـلف‬

‫‪7‬‬
‫صورة من صور التعصب‪ :‬قال الطوفي‪ :‬رأيت بعض العامة‪ ،‬وهو يضرب يدا على يد‪،‬‬
‫ويشير إلى رجل‪ ،‬ويقول‪ :‬ما هذا إل زنديق‪ ،‬ليتني قدرت عليه‪ ،‬فأفعل به‪ ،‬وأفعل‪ ،‬فقلت‪ :‬ما‬
‫‪8‬‬
‫رأيت منه؟ فقال‪ :‬رأيته وهو يجهر بالبسملة في الصلة !‪.‬‬

‫أصل عظيم‬

‫مسائل التكفير والتبديع من المسائل الشائكة التي تحتاج إلى نظر وتأمل في حال المعين‪،‬‬
‫وهناك شروط لبد من توفرها‪ ،‬وموانع لبد من انتفائها‪ ،‬إلى أشياء كثيرة جدا يطول‬
‫ذكرها‪ .‬ولكن هناك من جرد لسانه وقلمه‪ ،‬وأطلق لهما العنان في الناس تكفيرا وتبديعا‬
‫وتفسيقا‪ ،‬وكأنه قد تعبد بذلك! فإلى أولئك وغيرهم هذا الصل العظيم‪.‬‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪( :‬فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره‬
‫فيها‪ ،‬فل يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها‪ ،‬إل إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به‬
‫التغليظ عليه‪ ،‬والتكفير له‪ ،‬فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة‪ ،‬وكان حديث العهد‬
‫بالسلم أو ناشئا ببلد جهل‪ ،‬ل يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية‪.‬‬
‫وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت‪ ،‬لعدم بلوغ‬
‫الحجة له‪ ،‬فل يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للول‪ ،‬فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب‬
‫القبر ونحوها إذا أنكر ذلك‪ ،‬ول تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون‬
‫‪9‬‬
‫في قبورهم‪ ،‬فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع)‪.‬‬

‫المتكلفون في قراءة القرآن‬

‫يعمد بعض القراء إلى تكلف في إخراج الحروف والمدود‪ ،‬فتجده مصروفا عن تدبر كلم‬
‫رب العالمين إلى تقليب نغمة الصوت‪ ،‬وتكلف الداء‪ ،‬والمبالغة في تجويد القراءة‪ .‬ولم‬

‫‪ - 8‬زوابع في وجه السنة‪ /‬صلح الدين مقبول أحمد‪ ،‬ص ‪ ،225 ،224 ،222‬ومختصر (جامع بيان العلم وفضله ‪ /‬لبن عبد البر‪ /‬ص ‪( )253‬قول الطوفي في‬
‫شرح مختصر الروضة ‪.)2/165‬‬
‫‪ - 9‬الفتاوى (‪.)6/61‬‬
‫‪8‬‬
‫يكن على ذلك فعل النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول أمره‪ ،‬ول السلف الصالح من بعده‪ ،‬بل‬
‫كانت قراءتهم وسطا ل غلو فيها ول تفريط‪ ،‬وكانوا يسألون ال عند آيات الوعد‪ ،‬ويفرقون‬
‫من آيات الوعيد‪ ،‬ولهم مع قصصه عبر‪ ،‬وفي آياته نظر‪{ .‬كتاب أنزلناه إليك مبارك‬
‫ليدبروا آياته وليتذكر أولوا اللباب}(ص‪.)29 :‬‬
‫وللذهبي رحمه ال‪ ،‬كلم فيمن بالغ وتكلف في تجويد الكتاب العزيز‪ .‬يقول‪ :‬فالقراء‬
‫المجودة‪ :‬فيهم تنطع وتحرير زائد يؤدي إلى أن المجود القارئ يبقى مصروف الهمة إلى‬
‫مراعاة الحروف والتنطع في تجويدها بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب ال‪،‬‬
‫ويصرفه عن الخشوع في التلوة ويخليه قوي النفس مزدريا بحفاظ كتاب ال تعالى‪،‬‬
‫فينظر إليهم بعين المقت وبأن المسلمين يلحنون وبأن القراء ل يحفظون إل شواذ القراءة‪.‬‬
‫فليت شعري أنت ماذا عرفت وماذا عملت؟ فأما علمك فغير صالح‪ ،‬وأما تلوتك فثقيلة‬
‫عرية من الخشعة والحزن والخوف‪ ،‬فال تعالى يوفقك ويبصرك رشدك ويوقظك من‬
‫مرقدة الجهل والرياء‪.‬‬
‫وضدهم قراء النغم والتمطيط‪ ،‬وهؤلء من قرأ منهم بقلب وخوف قد ينتفع به في الجملة‪،‬‬
‫فقد رأيت منهم من يقرأ صحيحا ويطرب ويبكي‪ ،‬ورأيت منهم من إذا قرأ قسّى القلوب‬
‫وأبرم النفوس وبدل الكلم‪ ،‬وأسوأهم حال الجنائزية‪.‬‬
‫وأما القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع وأقدم شيء على التلوة بما‬
‫يخرج عن القصد‪ ،‬وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ اللمات وترقيق الراءات‪ .‬اقرأ‬
‫يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق وفرط المالة والمدود ووقوف حمزة إلى كم هذا!‪.‬‬
‫وآخر منهم إن حضر في ختم أو تل في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه‬
‫والسكت والتهوع بالتسهيل وأتى بكل خلف ونادى على نفسه أن (أبو اعرفوني) فإني‬
‫عارف بالسبع‪ .‬إيش نعمل بك؟ ل وصبحك ال بخير إنك حجر منجنيق ورصاص على‬
‫‪10‬‬
‫الفئدة‪.‬‬

‫‪ - - 10‬نقل من بدع القراء القديمة والمعاصرة‪ /‬بكر أبو زيد‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪9‬‬
‫الزيارة الشرعية والزيارة البدعية‬

‫عظمت الفتنة واشتد الخطب في أقوام غلوا في بشر مثلهم‪ ،‬فتراهم ركعا سجدا عند القبر‪،‬‬
‫يدعونه من دون ال‪ ،‬ويسألونه حاجاتهم‪ ،‬وإذا أنكرت عليهم قالوا‪ :‬إنما نتوسل بهم لكونهم‬
‫أولياء أتقياء ونحن مذنبون ضعفاء!‪.‬‬
‫وحال الزائر للقبر ل يخلو إما أن يكون مطيعا لموله متبعا لنبيه‪ ،‬أو عاصيا مشركا بال‬
‫مبتدعا في دينه‪.‬‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪ :‬فإن الزيارة الشرعية عبادة ل‪ ،‬وطاعة لرسوله‪،‬‬
‫وتوحيد ل وإحسان إلى عباده‪ ،‬وعمل صالح من الزائر يثاب عليه و (الزيارة البدعية)‬
‫شرك بالخالق‪ ،‬وظلم للمخلوق‪ ،‬وظلم للنفس‪ .‬فصاحب الزيارة الشرعية هو الذي يحقق‬
‫قوله‪{ :‬إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة‪ ]5 :‬أل ترى أن اثنين لو شهدا جنازة‪ ،‬فقام‬
‫أحدهما يدعو للميت‪ ،‬ويقول‪ :‬اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه‪ ،‬وأكرم نزله ووسع‬
‫مدخله‪ ،‬واغسله بماء وثلج وبرد‪ ،‬ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب البيض من‬
‫الدنس‪ ،‬وأبدله دارا خيرا من داره‪ ،‬وأهل خيرا من أهله‪ ،‬وأعذه من عذاب النار وعذاب‬
‫القبر‪ ،‬وأفسح له في قبره ونور له فيه‪ ،‬ونحو ذلك من الدعاء له‪ .‬وقام الخر فقال‪ :‬يا‬
‫سيدي! أشكو لك ديوني‪ ،‬وأعدائي وذنوبي‪ ،‬أنا مستغيث بك‪ ،‬مستجير بك‪ ،‬أغثني! ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬لكان الول عابدا ل‪ ،‬محسنا إلى خلقه‪ ،‬محسنا إلى نفسه بعبادة ال ونفعه عباده‪ ،‬وهذا‬
‫‪11‬‬
‫الثاني مشركا مؤذيا ظالما معتديا على الميت ظالما لنفسه‪.‬‬

‫وساوس الشيطان‬

‫قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪( :‬والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان‪ ،‬وبوساوس‬
‫الكفر التي يضيق بها صدره‪ .‬كما قالت الصحابة‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن أحدنا ليجد في نفسه ما‬
‫لئن يخر من السماء إلى الرض أحب إليه من أن يتكلم به‪ .‬قال‪" :‬ذاك صريح اليمان"‬
‫‪ - 11‬الفتاوى (‪.)6/265‬‬
‫‪10‬‬
‫وفي رواية‪ :‬ما يتعاظم أن يتكلم به‪ .‬قال‪" :‬الحمد ل الذي رد كيده إلى الوسوسة" أي‬
‫حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهية العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح‬
‫اليمان‪ ،‬كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه؛ فهذا أعظم الجهاد‪ ،‬و(الصريح )‬
‫الخالص‪ ،‬كاللبن الصريح‪ .‬وإنما صار صريحا لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية‬
‫ودفعوها فخلص اليمان فصار صريحا‪.‬‬
‫ولبد لعامة الخلق من هذه الوساوس؛ فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا أو منافقا‪ ،‬ومنهم‬
‫من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فل يحس بها إل إذا طلب الدين‪ ،‬فإما أن يصير مؤمنا‬
‫وإما أن يصير منافقا؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلة ما ل يعرض لهم إذا‬
‫لم يصلوا‪ ،‬لن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد النابة إلى ربه والتقرب إليه‬
‫والتصال به؟ فلهذا يعرض للمصلين ما ل يعرض لغيرهم‪ ،‬ويعرض لخاصة أهل العلم‬
‫والدين أكثر مما يعرض للعامة‪ ،‬ولهذا يوجد عند طلب العلم والعبادة من الوساوس‬
‫والشبهات ما ليس عند غيرهم‪ ،‬لنه لم يسلك شرع ال ومنهاجه؟ بل هو مقبل على هواه‬
‫في غفلة عن ذكر ربه‪ .‬وهذا مطلوب الشيطان بخلف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة‬
‫فإنه عدوهم يطلب صدهم عن ال‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا}‬
‫(فاطر‪ )6 :‬ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بال من الشيطان الرجيم‪ ،‬فإن قراءة القرآن‬
‫على الوجه المأمور به تورث القلب اليمان العظيم‪ ،‬وتزيده يقينا وطمأنينة وشفا‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ول يزيد الظالمين إل خسارا}‬
‫(آل عمران‪ ،)138 :‬وقال تعالى‪{ :‬هدى للمتقين} (البقرة‪ )2 :‬وقال تعالى‪{ :‬فأما الذين آم‬
‫‪12‬‬
‫نوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} (التوبة‪.)124 :‬‬

‫إمام الشيعة الحادي عشر ليس له عقب‬

‫لقد قيدت عقائد الشيعة أهلها بأغلل ل يستطيع معها الشيعي أن ينفك منها بحال إل من‬
‫أراد ال به خيرا‪ ،‬فالتقية‪ ،‬والبدا‪ ،‬والغيبة ‪ -‬وغيرها من العقائد التي ابتدعها غلة الشيعة‬
‫‪( - 12‬الفتاوى (‪.)283-7/282‬‬
‫‪11‬‬
‫‪-‬آصار وأغلل تشد الشيعي إلى مذهبه وتختم على سمعه وبصره وتجعل على قلبه‬
‫غشاوة‪ .‬والشيعة المامية تعتقد أن هناك اثنا عشر إماما من نسل علي رضي ال عنه‪ ،‬وهم‬
‫يعتقدون أن المامة منصب إلهي كالنبوة‪ ،‬ولهم معجزات وخوارق‪ ،‬بل إن الغلة منهم‬
‫ألبسوهم صفة اللوهية! والشيعة المامية تدعي أن هناك اثنا عشر إماما ‪ -‬كما سبق ‪-‬‬
‫فظهر منهم أحد عشر‪ ،‬والمام الثاني عشر قالوا عنه‪ :‬أنه غائب وسوف يظهر من سرداب‬
‫في (سامراء) في العراق! ‪ -‬وأنى لهم ذلك ‪ -‬حتى قيل فيهم‪:‬‬

‫كلمتموه بجهلكم ما آنا‬ ‫ما آن للسرداب أن يلد الذي‬


‫ثلثتم العنقاء والغيلنـا‬ ‫فعلى عقولكم العفاء فإنكـم‬

‫ولما أراد ال أن يهتك سترهم جعل إمامهم الحادي عشر وهو الحسن العسكري عقيما ل‬
‫ينجب!‪.‬‬
‫يقول الشيخ ناصر القفاري حفظه ال‪ :‬لقد توفي الحسن العسكري ‪-‬إمامهم الحادي عشر‪-‬‬
‫سنة ‪ 260‬هـ بل عقب كما قاله كبار المؤرخين ‪ 13 ،‬واعترفت كتب الشيعة بأنه (لم ير له‬
‫خلف ولم يعرف له ولد ظاهر‪ ،‬فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه)‪ ،‬واضطرب‬
‫الشيعة بعد وفاة الحسن بل ولد‪ ،‬وتفرقوا ‪ -‬فيمن يخلفه ‪ -‬فرقا شتى بلغت كما يقول‬
‫المسعودي عشرين فرقة‪ ،‬أو خمس عشرة فرقة كما يقول القمي‪ ،‬حتى أن بعضهم قال إن‬
‫المامة قد انقطعت‪ ،‬وكاد أن يكون موت الحسن بل عقب نهاية الشيعة والتشيع حيث سقط‬
‫عموده وهو (المام)‪ ،‬ولكن فكرة (غيبة المام) كانت هي القاعدة التي قام عليها كيان‬
‫الشيعة بعد التصدع‪ ،‬وأمسكت بنيانه عن النهيار‪ .‬لهذا أصبح اليمان بغيبة ابن للحسن‬
‫العسكري هو المحور الذي تدور عليه عقائدهم ودان بذلك أكثر الشيعة بعد تخبط‬
‫‪14‬‬
‫واضطراب لم يكن لهم من ملجأ إل ذلك‪.‬‬

‫‪ - 13‬ذكر الطبري في حوادث سنة ‪ 302‬هـ أن رجل ادعى ‪ -‬في زمن الخليفة المقتدر‪ -‬أنه محمد بن الحسن العسكري بن علي بن موسى بن جعفر‪ ،‬فأمر الخليفة‬
‫بإحضار مشايخ آل أبي طالب وعلي رأسهم نقيب الطالبين أحمد بن عبد الصمد المعروف بابن طومار فقال له ابن طومار‪ :‬لم يعقب الحسن‪ .‬وقد ضج بنو هاشم‬
‫من دعوى هذا المدعي وقالوا‪ :‬يجب أن يشهر هذا بين الناس ويعاقب أشد العقوبة‪ .‬فحمل على جمل وشهر به في الجانبين يوم التروبة ويوم عرفة‪ ،‬ثم حبس في‬
‫حبس المصريين بالجانب الغربي‪.‬‬
‫‪ - 14‬مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة‪ .‬القسم الول ص ‪ 350‬وبيتا الشعر ص ‪ 357‬وكلم الطبري في الحاشية من نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫كلم بليغ‬

‫قال علي بن أبي طالب رضي ال عنه‪ ،‬لكميل بن زياد النخعي‪:‬‬


‫يا كميل‪ ،‬إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير‪ ،‬والناس ثلثة‪ :‬فعالم رباني‪ ،‬ومتعلم‬
‫على سبيل نجاة‪ ،‬وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن‬
‫وثيق‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن ههنا لعلما ‪ -‬وأشار بيده إلى صدره ‪ -‬لو أصبت له حملة لقد أصبت لقنا‬
‫غير مأمون يستعمل الدين للدنيا‪ ،‬ويستظهر بحجج ال على كتابه وبنعمه على معاصيه‪،‬‬
‫أف لحامل حق ل بصيرة له‪ ،‬ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة‪ ،‬ل يدري أين‬
‫الحق‪ ،‬إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر‪ ،‬مشغوف بما ل يدري حقيقته‪ ،‬فهو فتنة لمن فتن به‪،‬‬
‫‪15‬‬
‫وإن من الخير كله من عرفه ال دينه وكفى بالمرء جهل أن ل يعرف دينه‪.‬‬

‫كثير من الناس ل يصلون ل إلى اليقين ول إلى الجهاد‬

‫قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪:‬‬


‫( وكل مؤمن لبد أن يكون مسلما‪ ،‬فإن اليمان يستلزم العمال‪ ،‬وليس كل مسلم مؤمنا‬
‫هذا اليمان المطلق‪ ،‬لن الستسلم ل والعمل له ل يتوقف على هذا اليمان الخاص‪،‬‬
‫وهذا الفرق يجده النسان من نفسه ويعرفه من غيره‪ ،‬فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو‬
‫ولدوا على السلم والتزموا شرائعه‪ ،‬وكانوا من أهل الطاعة ل ورسوله‪ ،‬فهم مسلمون‬
‫ومعهم إيمان مجمل‪ ،‬ولكن دخول حقيقة اليمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن‬
‫أعطاهم ال ذلك‪ ،‬وإل فكثير من الناس ل يصلون إلى اليقين ول إلى الجهاد‪ ،‬ولو شككوا‬
‫‪ - 15‬في لسان العرب‪ :‬التلقين التفهيم‪ ،‬وفلن لقن‪ :‬سريع الفهم (ج ‪- 13‬مادة لقن )‪ /‬مختصر جامع العلم وفضله‪ ،‬ص ‪.296‬‬
‫‪13‬‬
‫لشكوا‪ ،‬ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا وليسوا كفارا ول منافقين‪ ،‬بل ليس عندهم من علم‬
‫القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب‪ ،‬ول عندهم من قوة الحب ل ولرسوله ما يقدمونه‬
‫على الهل والمال‪ ،‬وهؤلء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة‪ ،‬وإن ابتلوا بمن‬
‫يورد عليهم شبهات توجب ريبهم‪ ،‬فإن لم ينعم ال عليهم بما يزيل الريب وإل صاروا‬
‫‪16‬‬
‫مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق) ‪.‬‬

‫ماذا يعني الطعن في الصحابة‬

‫ل زالت مسامعنا وأعيننا تتألم مما تراه وتسمع من كلمات تطعن في خير القرون‪ .‬وهذا‬
‫الطعن إما صريحا ل مواربة فيه‪ ،‬أو مستترا بعبارات مجملة تروج على العوام‪ ،‬وتدمي‬
‫قلب أهل العلم واليمان‪ .‬فالطاعن في الصحابة الكرام متهم في دينه‪ ،‬ساقط المروءة‪ ،‬وهو‬
‫إلى الزندقة أقرب‪ .‬ولو كان لي من المر شيء لجعلت الحسام ينال منه‪ .‬وكفى بهذا‬
‫الطاعن أنه يرد ما دلت عليه النصوص القرآنية والنبوية‪ ،‬من الثناء عليهم وبيان فضلهم‬
‫على من بعدهم‪ ،‬فماذا بعد تعديل ال لهم؟ وماذا بعد ثناء رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫عليهم؟!‪.‬‬
‫قال الشافعي‪( :‬هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل‪ ،‬وكل سبب ينال به علم أو يدرك‬
‫‪17‬‬
‫به هدى‪ ،‬ورأيهم لنا خير من رأينا لنفسنا‬
‫وقال أبو زرعة الرازي‪( :‬إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فاعلم أنه زنديق‪ ،‬وذلك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم حق‪ ،‬والقرآن حق‪،‬‬
‫وما جاء به حق‪ ،‬وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة‪ ،‬وهؤلء يريدون أن يجرحوا شهودنا‪،‬‬
‫‪18‬‬
‫ليبطلوا الكتاب والسنة‪ ،‬والجرح بهم أولى‪ ،‬وهم زنادقة)‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪( :‬فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم قدح في الرسول عليه السلم‪ ،‬كما قال مالك وغيره من أئمة العلم‪:‬‬
‫‪ - 16‬الفتاوى ‪.271-7/270‬‬
‫‪ - 17‬الفتاوى ‪.4/158‬‬
‫‪ - 18‬كتاب الردود لبكر أبو زيد ص ‪.400‬‬
‫‪14‬‬
‫هؤلء طعنوا في أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إنما طعنوا في أصحابه ليقول‬
‫القائل‪ :‬رجل سوء كان له أصحاب سوء‪ ،‬ولو كان رجل صالحا لكان أصحابه صالحين‪.‬‬
‫وأيضا فهؤلء الذين نقلوا القرآن ‪ ،‬والسلم‪ ،‬وشرائع النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم‬
‫الذين نقلوا فضائل علي وغيره‪ ،‬فالقدح فيهم يوجب أن ل يوثق بما نقلوه من الدين‪.)...‬‬
‫ثم قال‪( :‬والقرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع كقوله تعالى‪{ :‬والسابقون الولون‬
‫من المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي ال عنهم ورضوا عنه" [التوبة‪:‬‬
‫‪ ]100‬وقوله تعالى‪{ :‬ل يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من‬
‫الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكل وعد ال الحسنى} [الحديد‪.]10 :‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬محمد رسول ال والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا‬
‫سجدا يبتغون فضل من ال ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في‬
‫التوراة ومثلهم في النجيل كزرع أخرج شطأة فآزرة فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب‬
‫الزراع ليغيظ بهم الكفار} [الفتح‪ ]29 :‬وقال تعالى‪{ :‬لقد رضي ال عن المؤمنين إذ‬
‫يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} [الفتح‪:‬‬
‫‪.]18‬‬
‫وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ل يدخل النار أحد بايع‬
‫تحت الشجرة)‪ ،‬وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬ل‬
‫تسبوا أصحابي‪ ،‬فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ول‬
‫نصيفه"‪ ،‬وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه أنه قال‪" :‬خير القرون القرن الذي بعثت‬
‫فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"‪ .‬وهذه الحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل‬
‫الصحابة‪ ،‬والثناء عليهم‪ ،‬وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون‪ ،‬فالقدح فيهم قدح في‬
‫‪19‬‬
‫القرآن والسنة)‪.‬‬

‫‪ - 19‬الفتاوى ‪.430-4/429‬‬
‫‪15‬‬
‫مناظرة ابن عباس للحرورية‬

‫المناظرة سلح ماض في دفع الشبهة‪ ،‬وقمع البدعة‪ ،‬وهي ل تكون إل لفئة من الرجال‬
‫أوتوا علما وفهما لكتاب ال وسنة نبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومعرفة لما عند الخصوم من‬
‫الشبه وكيف الرد عليها‪ ،‬ولديهم من القوة على إقامة الحجج التي تلزم الخصم ول يستطيع‬
‫لها دفعا‪ .‬ول ينبغي لمن كانت بضاعته في العلم قليلة أن يناظر أهل البدع ونحوهم‪،‬‬
‫وخصوصا إذا كان ذلك المبتدع أقوى منه حججا وأكثر علما‪ ،‬لكي ل يؤتى السلم من‬
‫قِبَله‪.‬‬
‫وابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬له مناظرة مشهورة عند أهل العلم والنقل مع الحرورية‬
‫الذين أرادوا الخروج على علي رضي ال عنه‪ ،‬ولقد ساقها ابن عبد البر في جامعه فكان‬
‫مما جاء فيها‪:‬‬
‫( قالوا‪ :‬ما جاء بك [يا ابن عباس]؟ فقال‪ :‬جئتكم من عند أصحاب رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وليس فيكم منهم أحد‪ ،‬ومن عند ابن عم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وعليهم نزل القرآن‪ ،‬وهم أعلم بتأويله‪ ،‬جئت لبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم؟ فقال بعضهم‪ :‬ل‬
‫تخاصموا قريشا فإن ال يقول‪{ :‬بل هم قوم خصمون} [الزخرف‪ ]58 :‬فقال بعضهم‪ :‬بلى‬
‫فلنكلمنه‪ .‬قال‪ :‬فكلمني منهم رجلن أو ثلثة‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬ماذا نقمتم عليه؟‪ .‬قالوا‪ :‬ثلثا‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬ما هن؟ قالوا‪ :‬حكم الرجال في أمر ال‪ .‬وقال ال‪{ :‬إن الحكم إل ل} [النعام‪.]57 :‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬هذه واحدة‪ ،‬وماذا أيضا؟ قال‪ :‬فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما‬
‫حل قتالهم ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسباؤهم‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬وماذا أيضا؟ قالوا‪ :‬ومحا‬
‫نفسه من أمير المؤمنين‪ ،‬فإن لم يكن أمير المؤمنين‪ ،‬فهو أمير الكافرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب ال وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟‬
‫قالوا‪ :‬وما لنا ل نرجع؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬أما قولكم‪ :‬حكم الرجال في أمر ال فإن ال تعالى قال‬
‫في كتابه‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ل تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل‬
‫ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة‪ ]95 :‬وقال في المرأة وزوجها‪{ :‬وإن‬

‫‪16‬‬
‫خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء‪ ]35 :‬فصير ال ذلك‬
‫إلى حكم الرجال‪ ،‬فنشتدكم ال‪ ،‬أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين‪ ،‬وإصلح ذات‬
‫بينهم أفضل‪ ،‬أو في دم أرنب ثمن ربع درهم‪ ،‬وفي بضع امرأة؟ قالوا‪ :‬بلى هذا أفضل‪.‬‬
‫قال‪ :‬أخرجت من هذه؟ قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأما قولكم‪ :‬قاتل ولم يسب ولم يغنم‪ .‬أفتسبوا أمكم عائشة؟ فإن قلتم نسبيها فنستحل‬
‫منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم‪ ،‬وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم‪ ،‬فأنتم تترددون بين‬
‫ضللتين‪ .‬أخرجت من هذه؟ قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأما قولكم‪ :‬محا نفسه من إمرة المؤمنين‪ ،‬فأنا آتيكم بمن ترضون‪ ،‬إن نبي ال يوم‬
‫الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول ال‪ :‬اكتب يا علي‪ :‬هذا ما‬
‫صالح عليه محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو‪ :‬ما‬
‫نعلم أنك رسول ال‪ ،‬ولو نعلم أنك رسول ال ما قاتلناك‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪" :‬اللهم إنك تعلم أني رسولك‪ ،‬امح يا علي واكتب‪ :‬هذا ما صالح عليه محمد بن عبد‬
‫ال وأبو سفيان وسهيل بن عمرو"‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫قال‪ :‬فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين)‪.‬‬

‫كيف نتعامل مع العصاة؟‬

‫قال ابن رجب رحمه ال تعالى‪( :‬واعلم أن الناس على ضربين‪:‬‬


‫أحدهما‪ :‬من كان مستورا ل يعرف بشيء من المعاصي‪ ،‬فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه‬
‫ل يجوز هتكها ول كشفها ول التحدث بها‪ ،‬لن ذلك غيبة محرمة‪ ،‬وهذا هو الذي وردت‬
‫فيه النصوص‪ ،‬وفي ذلك قال ال تعالى‪{ :‬إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا‬
‫لهم عذاب أليم في الدنيا والخرة} (النور‪ )19 :‬والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما‬
‫وقع منه‪ ،‬أو اتهم به مما هو بريء منه‪ ،‬كما في قصة الفك‪.‬‬
‫قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف‪ :‬اجتهد أن تستر العصاة‪ ،‬فإن‬

‫‪ - 20‬جامع بيان العلم وفضله (المختصر ص ‪.)286 -285‬‬


‫‪17‬‬
‫ظهور معاصيهم عيب في أهل السلم‪ ،‬وأولى المور ستر العيوب‪ ،‬ومثل هذا لو جاء‬
‫تائبا نادما‪ ،‬وأقر بحد ولم يفسره‪ ،‬ولم يستفسر‪ ،‬بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه كما أمر‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ماعزا والغامدية‪ ،‬وكما لم يستفسر الذي قال‪( :‬أصبت حدا فأقمه‬
‫علي)‪ .‬ومثل هذا لو أخذ بجريمته‪ ،‬ولم يبلغ المام بها‪ ،‬فإنه يشفع له حتى ل يبلغ المام‪.‬‬
‫وفي مثله جاء الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"‬
‫خرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬من كان مشتهرا بالمعاصي‪ ،‬معلنا بها‪ ،‬ول يبالي بما ارتكب منها‪ ،‬ول بما قيل‬
‫لـه‪ ،‬فهذا هو الفاجر المعلن‪ ،‬وليس له غيبة‪ ،‬كما نص على ذلك الحسن البصري وغيره‪،‬‬
‫ومثل هذا ل بأس بالبحث عن أمره‪ ،‬لتقام عليه الحدود‪ ،‬وصرح بذلك بعض أصحابنا‪،‬‬
‫واستدل بقول النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬واغد يا أنس إلى امرأة هذا‪ ،‬فان اعترفت‬
‫فارجمها" وهـ ومثل هذا ل يشفع له إذا أخذ‪ ،‬ولو لم يبلغ السلطان بل يترك حتى يقام عليه‬
‫‪21‬‬
‫الحد ليكشف ستره‪ ،‬ويرتدع به أمثاله) ‪.‬‬

‫تدافع الفتوى‬

‫التصدر للفتيا في سن مبكرة وقبل التأهل لذلك مزلق خطر‪ ،‬وشرر مستطر‪ ،‬يوقع صاحبه‬
‫في مهاوي الردى ‪ -‬نسأل ال السلمة والعافية‪.‬‬
‫وكثير من مجالس الشببة فيها من أمثال هذا النوع‪ ،‬بل إن منهم من يفتي بالنوازل! وقد‬
‫يفتي بأمر لو نزل على عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ ،‬لجمع له أهل بدر!! ولكن هو‬
‫حب الرياسة‪ ،‬وحب الظهور‪ ،‬وحب الشهرة‪ ،‬ولن يغني ذلك عنه من ال شيئا‪ .‬وتدافع‬
‫الفتوى مسلك غلب على أئمة الدين‪ ،‬فكل واحد منهم يود لو أن أخاه كفاه‪ ،‬وفي عصورنا‬
‫المتأخرة ظهر عكس تدافع الفتوى‪ ،‬وهو التهافت على الفتوى‪ .‬وإليك بعض أخبار سلفنا‬
‫الصالح في ذلك‪:‬‬
‫‪ - 21‬جامع العلوم والحكم ‪.186-2/185‬‬
‫‪18‬‬
‫عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال‪ :‬أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪-‬أراه قال ‪ :‬في المسجد‪ -‬فما كان منهم محدث إل ود أن أخاه كفاه الحديث‪،‬‬
‫ول مفت إل ود أن أخاه كفاه الفتيا‪.‬‬
‫وعن معاوية بن أبي عياش‪ ،‬أنه كان جالسا عند عبد ال بن الزبير‪ ،‬وعاصم ابن عمر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال‪ :‬إن رجل من أهل البادية طلق امرأته ثلثا‬
‫قبل أن يدخل بها‪ .‬فماذا تريان؟ فقال عبد ال بن الزبير‪ :‬إن هذا المر ما لنا فيه قول‪،‬‬
‫فاذهب إلى عبد ال بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم فسلهم‪ ،‬ثم ائتنا فأخبرنا‪ .‬فذهب فسألهما‪ ،‬فقال ابن عباس لبي هريرة‪ :‬أفته يا أبا‬
‫هريرة‪ ،‬فقد جاءتك معضلة‪ .‬فقال أبو هريرة‪ :‬الواحد تبينها والثلث تحرمها حتى تنكح‬
‫زوجا غيره‪.‬‬
‫وقال سحنون‪ :‬إني لحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف‬
‫ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير‪ ،‬فلم ألم على حبسي الجواب؟‬
‫وعن سفيان بن عيينة قال‪ :‬أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما‪ .‬وقال ابن وهب‪ :‬وأخبرنا‬
‫موسى بن علي أنه سأل ابن شهاب عن شيء‪ ،‬فقال ابن شهاب‪ :‬ما سمعت فيه بشيء وما‬
‫نزل بنا‪.‬‬
‫وعن محمد بن سيرين قال‪ :‬قال حذيفة‪ :‬إنما يفتي الناس أحد ثلثة‪ :‬رجل يعلم ناسخ القرآن‬
‫ومنسوخه‪ ،‬وأمير ل يجد بدا‪ ،‬وأحمق متكلف‪ .‬قال ابن سيرين‪ :‬فأنا لست بأحد هذين‪،‬‬
‫‪22‬‬
‫وأرجو أن ل أكون أحمق متكلفا‪.‬‬

‫علم الكلم طريق ا لحيرة‬

‫الكتاب والسنة هما حبل ال المتين‪ ،‬من تمسك واعتصم بهما نجا‪ ،‬ومن قدم عليهما شيئا‬
‫ضل وطغى‪ .‬وأهل العقول المريضة (أهل الستنارة) يقدمون عقولهم وفهمهم على دللت‬

‫‪ - 22‬جامع العلوم والحكم لبن رجب ص ‪.356 -354‬‬


‫‪19‬‬
‫الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح لها‪ ،‬ويردون فهم الصحابة رضوان ال عليهم‪ ،‬وفهم‬
‫أئمة الدين لهذه النصوص ويقولون (نحن رجال وهم رجال)!!‪ .‬ونقول لهم‪ :‬أما قولكم نحن‬
‫رجال وهم رجال‪ ،‬فكلمكم فيه حق وباطل‪ ،‬فالحق هو الشتراك في جنس الذكورة‪،‬‬
‫والباطل هو تقديم عقولكم وفهمكم على فهم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الذي‬
‫نزل القرآن بلغتهم‪ ،‬وكانوا على معرفة بأسباب نزوله‪ ،‬وناسخه ومنسوخه‪ ،‬ومحكمه‬
‫ومتشابهه‪ ...‬إلخ‪ .‬وهم ‪-‬أيضا ‪-‬أعلم بسنة النبي صلى ال عليه وسلم منكم‪ .‬وكذلك أئمة‬
‫الدين "من بعدهم من سلفنا الصالح ‪ -‬لقرب عهدهم بعهد النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫وصحبه‪ ،‬ولما قام بهم من النصح لكتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ولقد ساق شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪ ،‬نقول تبين حيرة أهل الكلم الذين قدموا‬
‫عقولهم ومقاييسهم وخيالتهم على الكتاب والسنة‪ .‬فقال‪ :‬وتجد عامة هؤلء الخارجين عن‬
‫منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك‪ ،‬إما عند الموت وإما قبل الموت‪،‬‬
‫والحكايات في هذا كثيرة ومعروفة‪...‬‬
‫هذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلم والفلسفة‪ ،‬وسلوكه طريق‬
‫الزهد والرياضة والتصوف‪ ،‬ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة‪ ،‬ويحيل في آخر‬
‫أمره على طريقة أهل الكشف‪ ،‬وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث‪ ،‬وصنف‬
‫(إلجام العوام عن علم ا لكلم)‪.‬‬
‫وكذلك أبو عبد ال محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات‪ :‬لقد‬
‫تأملت الطرق الكلمية والمناهج الفلسفية‪ ،‬فما رأيتها تشفي عليل‪ ،‬ول تروي غليل‪،‬‬
‫ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن‪ :‬اقرأ في الثبات {الرحمن على العرش استوى}‬
‫[طه‪{ ،]5 :‬إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر‪ ،]10 :‬واقرأ في النفي {ليس كمثله شيء}‬
‫[الشورى‪{ ،]11 :‬ول يحيطون به علما} [طه‪{ ،]100 :‬هل تعلم له سميا} [مريم‪،]65 :‬‬
‫ثم قال‪ :‬ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي‪ .‬وكان يتمثل كثيرا‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫وأكثر سعي العالمين ضــــلل‬ ‫نهاية إقـدام العقـول عقـــال‬
‫وحاصل دنيـــانا أذى ووبــال‬ ‫وأرواحنا في وحشة من جسومنــا‬
‫سوى أن جمعنا فيه قيل وقــــال‬ ‫ولم نستفد من بحثنا طول عمــرنا‬
‫وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره‪ ،‬واختار مذهب السلف‪ ،‬وكان يقول‪( :‬يا‬
‫أصحابنا ل تشتغلوا بالكلم‪ ،‬فلو أني عرفت أن الكلم يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به)‪ ،‬وقال‬
‫عند موته‪( :‬لقد خضت البحر الخضم‪ ،‬وخليت أهل السلم وعلومهم‪ ،‬ودخلت فيما نهوني‬
‫عنه‪ ،‬والن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لبن الجويني‪ ،‬وها أنا ذا أموت على‬
‫عقيدة أمي ‪-‬أو قال ‪ :-‬عقيدة عجائز نيسابور)‪.‬‬
‫وكذلك قال أبو عبد ال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني‪( :‬أخبر أنه لم يجد عند الفلسفة‬
‫والمتكلمين إل الحيرة والندم) وكان ينشد‪:‬‬
‫وسيرت طرفي بين تلك المعالم‬ ‫لعمري لقد طفت المعاهد كلها‬
‫على ذقن أو قارعا سن نادم‬ ‫فلم أر إل واضعا كف حائـر‬
‫[ثم قال شيخ السلم]‪ :‬ولقد كان من أصول اليمان‪ :‬أن يثبت ال العبد بالقول الثابت في‬
‫الحياة الدنيا وفي الخرة‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬ألم تر كيف ضرب ال مثل كلمة طيبة كشجرة‬
‫طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب ال المثال‬
‫للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الرض ما لها من‬
‫قرار يثبت ال الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة ويضل ال الظالمين‬
‫‪23‬‬
‫ويفعل ال ما يشاء} [إبراهيم‪.]27- 24 :‬‬

‫خروج المرأة‬

‫ينادي أنصار المرأة ‪ -‬زعموا ‪ -‬بضرورة نزول المرأة إلى ميدان العمل ومشاركة الرجل‬
‫في تحمل أعباء المسئولية‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن نصف المجتمع معطل!! وهذا من أعظم ما‬
‫طالعنا به أنصار المرأة‪-‬بل قل‪ :‬أنصار (الشهوة) ‪ -‬وأعجب منه أنهم اكتشفوا سبب تأخرنا‬

‫‪ - 23‬الفتاوى (‪.)74 - 4/72‬‬


‫‪21‬‬
‫العلمي والتقني‪ ،‬وهو عدم مشاركة المرأة للرجل في خدمة المجتمع‪ .‬وهذا ‪ -‬لعمر ال ‪-‬‬
‫سبب أوهى من بيت العنكبوت‪ .‬بل إن هناك أمرا هاما يغض أنصار المرأة الطرف عنه‪،‬‬
‫وهو ماذا جنت الدول الغربية ‪ -‬المتحضرة ‪ -‬من مشاركة المرأة للرجل في شتى ميادين‬
‫الحياة؟ سؤال يعرف الجابة عليه كل فرد من أنصار (الشهوة)!!‬
‫يقول العلمة محمد المين الشنقيطي رحمه ال‪( :‬اعلم وفقني ال وإياك لما يحبه ويرضاه‪:‬‬
‫أن هذه الفكرة الكافرة‪ ،‬الخاطئة الخاسئة‪ ،‬المخالفة للحس والعقل‪ ،‬وللوحي السماوي‬
‫وتشريع الخالق البارئ‪ :‬من تسوية النثى بالذكر في جميع الحكام والميادين‪ ،‬فيها من‬
‫الفساد والخلل بنظام المجتمع النساني ما ل يخفى على أحد إل من أعمى ال بصيرته‪.‬‬
‫وذلك لن ال جل وعل‪ ،‬جعل النثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لنواع من المشاركة‬
‫في بناء المجتمع النساني‪ ،‬صلحا ل يصلحه لها غيرها‪ :‬كالحمل والوضع‪ ،‬والرضاع‬
‫وتربية الولد‪ ،‬وخدمة البيت‪ ،‬والقيام على شئونه‪ :‬من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك‪.‬‬
‫وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع النساني داخل بيتها في ستر وصيانة وعفاف‬
‫ومحافظة على الشرف والفضيلة والقيم النسانية ل تقل عن خدمة الرجل بالكتساب‪.‬‬
‫فزعم أولئك السفلة الجهلة من الكفار وأتباعهم‪ :‬أن المرأة لها من الحقوق فهي الخدمة‬
‫خارج بيتها مثل ما للرجل‪ ،‬مع أنها في زمن حملها ورضاعها ونفاسها‪ ،‬ل تقدر على‬
‫مزاولة أي عمل فيه أي مشقة كما هو مشاهد‪ .‬فإذا خرجت هي وزوجها بقيت خدمات‬
‫البيت كلها ضائعة‪ :‬من حفظ الولد الصغار‪ ،‬وإرضاع من هو في زمن الرضاع منهم‪،‬‬
‫وتهيئة ا لكل والشرب للرجل إذا جاء من عمله‪ .‬فلو أجروا إنسانا يقوم مقامها‪ ،‬لتعطل‬
‫ذلك النسان في ذلك البيت التعطل الذي خرجت المرأة فرارا منه‪ ،‬فعادت النتيجة في‬
‫حافرتها على أن خروج المرأة وابتذالها فيه ضياع المروءة والدين‪ ،‬لن المرأة متاع‪ ،‬هو‬
‫خير متاع الدنيا‪ ،‬وهو أشد أمتعة الدنيا تعرضا للخيانة‪ ،‬لن العين الخائنة إذا نظرت إلى‬
‫شيء من محاسنها فقد استغلت بعض منافع ذلك الجمال خيانة ومكرا‪ ،‬فتعريضها لن‬
‫تكون مائدة للخونة فيها ما ل يخفى على أدنى عاقل‪.‬‬
‫وكذلك إذا لمس شيئا من بدنها بدن خائن سرت لذة ذلك اللمس في دمه ولحمه بطبيعة‬
‫‪22‬‬
‫الغريزة النسانية‪ ،‬ولسيما إذا كان القلب فارغا من خشية ال تعالى‪ ،‬فاستغل نعمة ذلك‬
‫البدن خيانة وغدرا‪ .‬وتحريك الغرائز بمثل ذلك النظر واللمس يكون غالبا سببا لما هو شر‬
‫منه‪ ،‬كما هو مشاهد بكثرة في البلد التي تخلت عن تعاليم السلم‪ ،‬وتركت الصيانة‪،‬‬
‫فصارت نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الجسام إل ما شاء ال‪ ،‬لن ال نزع من‬
‫رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم ‪ -‬ول حول ول قوة إل بال العلي العظيم‪.‬‬
‫نعوذ بال من مسخ الضمير والذوق‪ ،‬ومن كل سوء‪.‬‬
‫ودعوى الجهلة السفلة‪ :‬أن دوام خروج النساء بادية الرؤوس والعناق والمعاصم‪،‬‬
‫والذرع والسوق‪ ،‬ونحو ذلك ‪ -‬يذهب إثارة غرائز الرجال‪ ،‬لن كثرة المساس تذهب‬
‫الحساس‪ .‬حتى يزل الرب منه بكثرة مزاولته‪ ،‬وهذا كما ترى‪ .‬ولن الدوام ل يذهب‬
‫إثارة الغريزة باتفاق العقلء؟ لن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولدهما‪،‬‬
‫ول تزال ملمسته لها‪ ،‬ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته‪ ،‬كما هو مشاهد ل ينكره إل‬
‫‪24‬‬
‫مكابر‪.‬‬

‫ولكن ل حياة لمن تنادي‬ ‫لقد أسمعت لو ناديت حيا‬

‫شعرا‬

‫منازلُك الولى بها كنت نـــــازل‬ ‫ن فـــإنها‬


‫وحيّ على جناتِ عـد ٍ‬
‫وقفتَ على الطلل تبكـي المنـــازل‬ ‫ك الكاشحون لجـل ذا‬
‫ولكن سبَا َ‬
‫ـخلود فجُ ْد بالنفـس إن كنت بـاذل‬ ‫وحيّ على يوم المزيد بجنّ ِة الـــ‬
‫مقيلٌ وجاوزها فليسـت منــــازل‬ ‫فدعها ُرسُوما دارساتٍ فما بــها‬
‫قتيلٌ وكم فيها لذا الخلق قاتــــل‬ ‫رُسُوما عفت ينتابُها الخلق كم بـها‬
‫عليه سرى وف ُد الحبة آهـــــل‬ ‫وخذ يمنةً عنها على المنهج الـذي‬

‫‪ - 24‬أضواء البيان (ج ‪ )423-3/422‬تفسير قوله تعالى‪{ :‬إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (السراء)‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫فعند اللقاء ذا الكــدّ يصبح زائـل‬ ‫س بالصبر ساعة‬
‫وقل ساعِدي يا نف ُ‬
‫‪25‬‬
‫ويصبح ذو الحزان فرحـان جــاذل‬ ‫فما هي إل سـاع ٌة ثم تنقضــي‬

‫وصية‬

‫أوصى جعفر الصادق رحمه ال‪ ،‬ابنه موسى (الكاظم ) فقال‪:‬‬


‫يا بني‪ :‬من قنع بما قسم له استغنى‪ ،‬ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرا‪ ،‬ومن لم‬
‫يرض بما قسم له اتهم ال في قضائه‪ ،‬ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه‪ ،‬ومن‬
‫كشف حجاب غيره انكشفت عورته‪ ،‬ومن سل سيف البغي قتل به‪ ،‬ومن احتفر بئرا لخيه‬
‫أوقعه ال فيه‪ ،‬ومن داخل السفهاء حقر‪ ،‬ومن خالط العلماء وقر‪ ،‬ومن داخل مداخل السوء‬
‫اتهم‪.‬‬
‫يا بني‪ :‬إياك أن تزري بالرجال فيزرى بك‪ ،‬وإياك والدخول فيما ل يعنيك فتذل لذلك‪.‬‬
‫يا بني‪ :‬قل الحق لك وعليك تستشار من بين أقربائك‪ .‬كن للقرآن تاليا‪ ،‬وللسلم فاشيا‪،‬‬
‫وللمعروف آمرا‪ ،‬وعن المنكر ناهيا‪ ،‬ولمن قطعك واصل‪ ،‬ولمن سكت عنك مبتدئا‪ ،‬ولمن‬
‫سألك معطيا‪ ،‬وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في القلوب‪ .‬وإياك وعيوب الناس فمنزلة‬
‫المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف‪ .‬إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه‪ ،‬فإن للجود‬
‫معادن‪ ،‬وللمعادن أصول‪ ،‬وللصول فروعا‪ ،‬وللفرع ثمرا‪ ،‬ول يطيب ثمر إل بفرع‪ ،‬ول‬
‫فرع إل بأصل‪ ،‬ول أصل إل بمعدن طيب‪ .‬زر الخيار ول تزر الفجار فإنهم صخرة ل‬
‫‪26‬‬
‫يتفجر ماؤها‪ ،‬وشجرة ل يخضر ورقها‪ ،‬وأرض ل يظهر عشبها‪.‬‬

‫لماذا اشتغل أهل الحديث بنقل مثالب أبي حنيفة؟‬

‫المام أبو حنيفة رحمه ال‪ ،‬إمام من أئمة الدين‪ ،‬له فضله وعلمه الذي ل ينكره إل مكابر‪،‬‬
‫ولكن اشتهر عنه أنه كان يرد أخبارا صحيحة بحجة أنها أخبار آحاد‪ ،‬ومن أجل هذا‬
‫‪ - 25‬زاد المعاد لبن القيم ‪3/75‬‬
‫‪ - 26‬مناظرة للمام جعفر الصادق تحقيق علي الشهيل ص ‪.23-21‬‬
‫‪24‬‬
‫وغيره أكثر أهل الحديث وغيرهم من نقل سقطات أبي حنيفة وعد مثالبه‪.‬‬
‫يقول ابن عبد البر بعد كلمه على حديث (البيعان بالخيار)‪:‬‬
‫(وقد روي عن أبي حنيفة أنه كان يرد هذا الخبر باعتباره إياه على أصوله كسائر فعله في‬
‫أخبار الحاد‪ ،‬كان يعرضها على الصول المجتمع عليها عنده‪ ،‬ويجتهد في قبولها أو‬
‫ردها‪ ،‬فهذا أصله في أخبار الحاد‪ ،‬وروي عنه أنه كان يقول في رد هذا الحديث‪ :‬أرأيت‬
‫إن كانا في سفينة‪ ،‬أرأيت إن كانا في سجن أو قيد‪ ،‬كيف يفترقان؟ إذن فل يصح بيع هؤلء‬
‫أبدا‪.‬‬
‫وهذا مما عيب به أبو حنيفة ‪ -‬وهو أكبر عيوبه‪ ،‬وأشد ذنوبه ‪ -‬عند أهل الحديث الناقلين‬
‫لمثالبه‪ ،‬باعتراضه على الثار الصحاح‪ ،‬ورده لها برأيه؟ وأما الرجاء المنسوب إليه‪ ،‬فقد‬
‫كان غيره فيه أدخل‪ ،‬وبه أقول؛ (و) لم يشتغل أهل الحديث من نقل مثالبه‪ ،‬ورواية‬
‫سقطاته‪ ،‬مثل ما اشتغلوا به من مثالب أبي حنيفة؟ والعلة في ذلك ما ذكرت لك ل غير‪،‬‬
‫وذلك ما وجدوا له من ترك السنن‪ ،‬وردها برأيه؛ أعني السنن المنقولة بأخبار العدول‬
‫‪27‬‬
‫الحاد الثقات‪ ،‬وال المستعان)‪.‬‬

‫القرار بربوبية الله عز وجل يستلزم توحيده بالعبادة‬

‫المشركون قديما وحديثا يعترفون ل عز وجل بربوبيته وخلقه وملكه‪ ،‬ومع ذلك فهم‬
‫يشركون في عبادتهم مع ال‪ ،‬ويدعون ويرجون غيره‪ ،‬ويتقربون إلى أوليائهم وأوثانهم‬
‫بالذبح وتقديم القرابين والنذور‪ .‬وهذا منهم جحد لحق ال عليهم‪ ،‬وتنكب عن الصراط‬
‫المستقيم‪ .‬والقرآن الكريم كان يقرر هذه المسألة كثيرا ‪ -‬أعني أن ا لقرار بربوبية ال عز‬
‫وجل يستلزم ‪ -‬ولبد ‪ -‬توحيده بالعبادة‪.‬‬
‫وللشيخ محمد المين الشنقيطي رحمه ال‪ ،‬كلم نفيس في ذلك‪ .‬قال‪" :‬ويكثر في القرآن‬
‫الستدلل على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعل‪ ،‬على وجوب توحيده في عبادته؛‬
‫ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير‪ .‬فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم‬
‫‪ - 27‬التمهيد ‪.14-14/13‬‬
‫‪25‬‬
‫على أنه هو المستحق لن يعبد وحده‪ .‬ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره‪ ،‬مع اعترافهم‬
‫بأنه هو الرب وحده؛ لن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه العتراف بأنه هو‬
‫المستحق لن يعبد وحده‪.‬‬
‫ض أَمّنْ يَ ْمِلكُ السّمْعَ‬
‫ومن أمثلة ذلك قوله تعالى‪ُ { :‬قلْ َمنْ يَرْ ُزقُكُمْ مِنَ السّمَاءِ وَالَرْ ِ‬
‫وَالَ ْبصَارَ)(يونس‪)31 :‬؛ فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره بقوله‪:‬‬
‫{فقل أفل تتقون} (يونس‪.)133 :‬‬
‫ن فِيهَا إِنْ ُكنْتُمْ تَ ْعلَمُونَ سَ َيقُولُونَ لِِّ} (المؤمنون‪:‬‬
‫ل لِمَنِ الَرْضُ وَ َم ْ‬
‫ومنها قوله تعالى‪ُ { :‬ق ْ‬
‫سحَرُونَ}‬
‫ل َفأَنّى تُ ْ‬
‫‪ ،)85 - 84‬فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله ‪{ :‬قُ ْ‬
‫(المؤمنون‪.")89 :‬‬
‫[ثم قال بعد أن ساق جملة من اليات]‪:‬‬
‫"واليات بنحو هذا كثيرة جدا‪ .‬ولجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع‪ :‬أن كل السئلة‬
‫المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير‪ ،‬يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ‬
‫والنكار على ذلك القرار؛ لن المقر بالربوبية يلزمه القرار باللوهية ضرورة؛ نحو‬
‫لّ أَبْغِي رَبّا} (النعام‪:‬‬
‫ل أَغَيْ َر ا ِ‬
‫قوله تعالى‪{ :‬أفي ال شك} (إبراهيم‪ ،)10 :‬وقوله‪ُ { :‬ق ْ‬
‫‪ )164‬وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار؛ لن استقراء القرآن دل على أن‬
‫الستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار‪ ،‬لنهم ل ينكرون الربوبية‪،‬‬
‫‪28‬‬
‫كما رأيت كثرة اليات الدالة عليه"‪.‬‬

‫القدر سر الله‬

‫في مسألة القدر تفرق الناس إلى ثلث طوائف أو فرق؛ ثنتان ضلت عن الطريق المستقيم‪،‬‬
‫وواحدة هداها ال لصابة الحق‪.‬‬
‫فالمجبرة ومنهم الجهمية غلت في ذلك وقالت إن العباد مجبورون على أعمالهم وأن ال‬
‫جبرهم على ذلك‪ ،‬وأنهم ل قدرة لهم ول اختيار‪.‬‬
‫‪ - 28‬أضواء البيان ‪.414-3/411‬‬
‫‪26‬‬
‫والفرقة الثانية‪ :‬هم القدرية المجوسية ومنهم المعتزلة الذين قالوا بأن النسان خالق‬
‫لفعاله‪ ،‬وزعموا أن ال شاء اليمان من الكافر‪ ،‬ولكن الكافر شاء الكفر‪ .‬وهم سلكوا هذا‬
‫المسلك لكي ل يقولوا شاء ال الكفر من الكافر‪ ،‬فوقعوا في شر مما فروا منه‪ ،‬فعلى قولهم‬
‫هذا يلزم منه أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة ال!‪.‬‬
‫والقول الحق قول السلف أهل السنة والجماعة‪ :‬أن كل شيء بقضاء ال وقدره‪ ،‬خيره‬
‫وشره‪ ،‬وحلوه ومره‪ ،‬وأن العباد لهم قدرة ومشيئة ولكنها تابعة لمشيئة ال‪ ،‬فما شاء ال‬
‫كان وما لم يشأ لم يكن‪.‬‬
‫يقرر هذا أبو محمد ابن قدامة المقدسي بقوله‪:‬‬
‫( من صفات ال تعالى أنه الفعال لما يريد‪ ،‬ل يكون شيء إل بإرادته‪ ،‬ول يخرج شيء عن‬
‫مشيئته‪ ،‬وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره‪ ،‬ول يصدر إل عن تدبيره‪ ،‬ول محيد‬
‫لحد عن المقدور‪ ،‬ول يتجاوز ما خط في اللوح المسطور‪ ،‬أراد ما العالم فاعلوه‪ ،‬ولو‬
‫عصمهم لما خالفوه‪ ،‬ولو شاء أن يطيعوه جميعا لطاعوه‪ ،‬خلق الخلئق وأفعالهم‪ ،‬وقدر‬
‫أرزاقهم وآجالهم‪ ،‬يهدي من يشاء برحمته‪ ،‬ويضل من يشاء بحكمته‪ ...‬ول نجعل قضاء ال‬
‫وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬بل يجب أن نؤمن أن ل الحجة علينا‬
‫بإنزال الكتب وبعثة الرسل‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬لئل يكون للناس على ال حجة بعد الرسل}‬
‫(النساء‪ ،)165 :‬ونعلم أن ال ما أمر ونهى إل المستطيع للفعل والترك‪ ،‬وأنه لم يجبر أحدا‬
‫على معصيته‪ ،‬ول اضطره إلى ترك طاعة‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬ل يكلف ال نفسا} (البقرة‪:‬‬
‫‪ ،)286‬وقال تعالى‪{ :‬فاتقوا ال ما استطعتم} (التغابن‪ ،)16 :‬وقال تعالى‪{ :‬اليوم تجزئ‬
‫كل نفس بما كسبت ل ظلم اليوم} (غافر‪ ،)17 :‬فدل على أن للعبد فعل وكسبا‪ ،‬يجزئ‬
‫على حسنه بالثواب‪ ،‬وعلى سيئه بالعقاب‪ ،‬وهو واقع بقضاء ال وقدره)‪ .‬أهـ‪.‬‬
‫وينبغي أن يعلم أنه ل ينبغي التعمق والخوض في أسرار القدر‪ ،‬والسلف رحمهم ال كانوا‬
‫ينهون عن ذلك‪ .‬يقول الطحاوي في عقيدته‪:‬‬
‫(وأصل القدر سر ال تعالى في خلقه‪ ،‬لم يطلع على ذلك ملك مقرب‪ ،‬ول نبي مرسل‪.‬‬
‫والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلن‪ ،‬وسلم الحرمان‪ ،‬ودرجة الطغيان‪ ،‬فالحذر كل‬
‫‪27‬‬
‫الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة‪ ،‬فإن ال تعالى طوى علم القدر عن أنامه‪ ،‬ونهاهم‬
‫عن مرامه‪ ،‬كما قال تعالى في كتابه‪{ :‬ل يسأل عما يفعل وهم يسألون} (النبياء‪.)23 :‬‬
‫فمن سأل‪ :‬لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب‪ ،‬ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين) ‪.29‬‬

‫شعرا‬

‫قال أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم‪:‬‬


‫وأي بني آدم خـالـــد‬ ‫أل إننـا كـلـنا بائــد‬
‫وكــل إلى ربـه عائـد‬ ‫وبدؤهم كان من ربهــم‬
‫لـه أم كيف يجحده الجاحد‬ ‫فيا عجبا كيف يعصـى ال‬
‫‪30‬‬
‫تـدل عــلى أنه واحـد‬ ‫وفي كل شيء لـه آيــة‬

‫معاملة الخلق‬

‫قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪:‬‬


‫( والسعادة في معاملة الخلق‪ ،‬أن تعاملهم ل‪ ،‬فترجو ال فيهم ول ترجوهم في ال‪ ،‬وتخافه‬
‫فيهم ول تخافهم في ال‪ ،‬وتحسن إليهم رجاء ثواب ال لمكافأتهم‪ ،‬وتكف عن ظلمهم خوفا‬
‫من ال ل منهم‪ .‬كما جاء في الثر‪" :‬ارج ال في الناس ول ترج الناس في ال‪ ،‬وخف ال‬
‫في الناس ول تخف الناس في ال) أي‪ :‬ل تفعل شيئا من أنواع العبادات والقرب لجلهم‪،‬‬
‫ل رجاء مدحهم ول خوفا من ذمهم‪ ،‬بل ارج ال ول تخفهم في ال فيما تأتي وما تذر بل‬
‫افعل ما أمرت به وإن كرهوه‪.‬‬
‫وفي الحديث‪" :‬إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط ال أو تذمهم على ما لم يؤتك‬
‫ال" فإن اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر ال وما وعد ال أهل طاعته‪ ،‬ويتضمن اليقين‬

‫‪ - 29‬قول ابن قدامة منقول من كتاب القضاء والقدر‪ ،‬للشيخ عبد الرحمن المحمود‪ ،‬ص ‪ ،257‬والطحاوي من شرح عقيدته لبن أبي العز ‪1/320‬‬
‫‪ - 30‬حاشية شرح العقيدة الطحاوية ‪.1/46‬‬
‫‪28‬‬
‫بقدر ال وخلقه وتدبيره‪ ،‬فإذا أرضيتهم بسخط ال لم تكن موقنا‪ ،‬ل بوعده ول برزقه‪ ،‬فإنه‬
‫إنما يحمل النسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا فيترك القيام فيهم بأمر ال‬
‫لما يرجوه منهم‪ ،‬وإما ضعف تصديق بما وعد ال أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب‬
‫في الدنيا والخرة‪ ،‬فإنك إذا أرضيت ال نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم‪ ،‬فإرضاؤهم‬
‫بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم‪ ،‬وذلك من ضعف اليقين‪ .‬وإذا لم يقدر لك ما‬
‫تظن أنهم يفعلونه معك‪ ،‬فالمر إلى ال ل لهم‪ ،‬فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬فإذا‬
‫ذممتهم على ما لم يقدر‪ ،‬كان ذلك من ضعف يقينك‪ ،‬فل تخفهم ول ترجهم ول تذمهم من‬
‫جهة نفسك وهواك‪ ،‬لكن من حمده ال ورسوله فهو المحمود‪ ،‬ومن ذمه ال ورسوله فهو ا‬
‫‪31‬‬
‫لمذموم)‪.‬‬

‫حكم قول العلماء بعضهم في بعض‬

‫قال ابن عبد البر رحمه ال‪ ،‬في جامعه‪:‬‬


‫عن عبد العزيز بن حازم قال‪ :‬سمعت أبي يقول‪ :‬العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا‬
‫لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة‪ ،‬وإذا لقي من هو مثله ذاكره‪ ،‬وإذا‬
‫لقي من هو دونه لم يزه عليه‪ ،‬حتى كان هذا الزمان‪ ،‬فصار الرجل يعيب من هو فوقه‪،‬‬
‫ي الناس أنه ليس به حاجة إليه‪ ،‬ول يذاكر من هو مثله‪،‬‬
‫ابتغاء أن ينقطع منه حتى يُر َ‬
‫ويزهى على من هو دونه‪ ،‬فهلك الناس‪...‬‬
‫وعن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال‪ :‬خذوا العلم حيث وجدتم ول تقبلوا قول الفقهاء‬
‫بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة‪...‬‬
‫قال أبو عمر‪ :‬هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة ل تدري ما‬
‫عليها في ذلك‪ ،‬والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته‪،‬‬
‫وبانت ثقته وعنايته بالعلم‪ ،‬لم يلتفت فيه إلى قول أحد إل أن يأتي في جرحته بينة عادلة‬
‫تصح بها جرحته على طريق الشهادات‪ ،‬والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما‬
‫‪ - 31‬الفتاوى ‪.52 ،1/51‬‬
‫‪29‬‬
‫يوجب تصديقه فيما قال لبراءته من الغل الحسد والعداوة والمنافسة وسلمته من ذلك كله‪،‬‬
‫فذلك يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر‪.‬‬
‫وأما من لم تثبت إمامته‪ ،‬ول عرفت عدالته‪ ،‬ول صحت لعدم الحفظ والتقان روايته‪ ،‬فإنه‬
‫ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه‪ ،‬ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي‬
‫النظر إليه‪ ،‬والدليل على أنه ل يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في‬
‫الدين قول أحد من الطاعنين‪ ،‬أن السلف رضوان ال عليهم قد سبق من بعضهم في بعض‬
‫كلم كثير منه في حال الغضب‪ ،‬ومنه ما حمل عليه الحسد‪ ،‬ومنه ما كان على جهة‬
‫التأويل مما ل يلزم المقول فيه ما قاله القائل فيه‪ ،‬وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف‬
‫تأويل واجتهادا ل يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان وحجة توجبه‪ ،‬ونحن نورد في‬
‫هذا الباب من قول الئمة الجلة الثقاة السادة بعضهم في بعض‪ ،‬مما ل يوجب أن يلتفت‬
‫فيهم إليه ول يخرج عليه ما يوضح لك صحة ما ذكرناه‪ .‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫عن مغيرة قال‪ :‬قال حماد‪ :‬لقيت عطاء وطاوسا ومجاهدا‪ ،‬فصبيانكم أعلم منهم بل صبيان‬
‫صبيانكم‪ .‬قال مغيرة‪ :‬هذا بغي منه‪.‬‬
‫وعن الزهري قال‪ :‬ما رأيت قوما أنقض لعرى السلم من أهل مكة ول رأيت قوما أشبه‬
‫بالنصارى من السبئية‪ .‬قال أحمد بن يونس يعني‪ :‬الرافضة‪.‬‬
‫قال أبو عمر‪ :‬فهذا حماد بن أبي سليمان وهو فقيه الكوفة بعد النخعي القائم بفتواها وهو‬
‫معلم أبي حنيفة‪ ،‬وهو الذي قال فيه إبراهيم النخعي حين قيل له‪ :‬من نسأل بعدك؟ قال‪:‬‬
‫حماد وقعد مقعده بعده‪ ،‬يقول في عطاء وطاوس ومجاهد وهم عند الجميع أرضى منه‬
‫وأعلم بكتاب ال وسنة رسوله وأرضى منه حال عند الناس وفوقه في كل حال ما ترى‪،‬‬
‫ولم ينسب واحد منه إلى الرجاء وقد نسب إليه حماد هذا وعيب به وعنه أخذه أبو حنيفة‬
‫وال أعلم‪ .‬وهذا ابن شهاب قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى السلم‬
‫ما استثنى منهم أحدا وفيهم من جلة العلماء من ل خفاء بجللته في الدين‪ ،‬وأظن ذلك وال‬
‫أعلم لما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء‪.‬‬
‫وعن العمش قال‪ :‬ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال‪ :‬ذاك العور الذي يستفتيني‬
‫‪30‬‬
‫بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار‪ ،‬قال‪ :‬فذكرت ذلك لبراهيم فقال‪ :‬ذاك الكذاب لم يسمع‬
‫من مسروق شيئا‪.‬‬
‫قال أبو عمر‪ :‬معاذ ال أن يكون الشعبي كذابا‪ ،‬بل هو إمام جليل والنخعي مثله جللة‬
‫وعلما ودينا‪ ،‬وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمذاني‪ ،‬حدثني الحارث وكان أحد‬
‫الكذابين ولم يبن من الحارث كذب‪ ،‬وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي‪ ،‬وتفضيله له على‬
‫غيره‪ ،‬ومن هاهـنا ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬كذبه الشعبي‪ ،‬لن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر‬
‫وإلى أنه أول من أسلم‪ ،‬وتفضيل عمر رضي ال عنه‪.‬‬
‫وعن أيوب قال‪ :‬قدم علينا عكرمة فلم يزل يحدثني حتى صرت بالمربد ثم قال‪ :‬أيحسن‬
‫حَسَنُكم مثل هذا‪.‬‬
‫قال أبو عمر‪ :‬وقد علم الناس أن الحسن البصري يحسن أشياء ل يحسنها عكرمة وإن كان‬
‫‪32‬‬
‫عكرمة مقدما عندهم في تفسير القرآن والسير‪.‬‬

‫من كرامات التابعين‬

‫قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪( :‬وجرى مثل ذلك لبي مسلم الخولني الذي ألقي‬
‫في النار‪ ،‬فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ثم‬
‫التفت إلى أصحابه فقال‪ :‬تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو ال عز وجل فيه؟ فقال‬
‫بعضهم‪ :‬فقدت مخلة‪ ،‬فقال اتبعني‪ ،‬فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها‪ ،‬وطلبه السود‬
‫العنسي لما ادعى النبوة فقال له‪ :‬أتشهد أني رسول ال؟‪ .‬قال‪ :‬ما أسمع‪ ،‬قال‪ :‬أتشهد أن‬
‫محمدا رسول ال؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت‬
‫عليه بردا وسلما‪ ،‬وقدم المدينة بعد موت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأجلسه عمر بينه‬
‫وبين أبي بكر الصديق رضي ال عنهما وقال‪ :‬الحمد ل الذي لم يمتني حتى أرى من أمة‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل ال‪ .‬ووضعت له جارية‬
‫السم في طعامه فلم يضره‪ .‬وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت‪ ،‬وجاءت وتابت‬
‫‪ - 32‬جامع بيان العلم وفضله ( المختصر ص ‪ )343-338‬مع تصرف بسير‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫فدعا لها فرد ال عليها بصرها‪.‬‬
‫وتغيب الحسن البصري عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات فدعا ال عز وجل فلم يروه‪،‬‬
‫ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا‪.‬‬
‫وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم ل تجعل لمخلوق علي منة‪ ،‬ودعا‬
‫ال عز وجل فأحيا له فرسه‪ .‬فلما وصل إلى بيته قال‪ :‬يا بني‪ ،‬خذ سرج الفرس فإنها‬
‫عارية‪ ،‬فأخذ سرجه فمات الفرس‪ ،‬وجاع مرة بالهواز فدعا ال عز وجل واستطعمه‪،‬‬
‫فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زمانا‪.‬‬
‫وجاء السد وهو يصلي في غيضة الليل فلما سلم قال له‪ :‬اطلب الرزق من غير هذا‬
‫الموضع‪ ،‬فولى السد وله زئير‪.‬‬
‫وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الذان من قبر رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪33‬‬
‫أوقات الصلوات‪ ،‬وكان المسجد قد خل فلم يبق غيره‪.‬‬

‫الحوال الشيطانية‬

‫هي الخوارق التي تحدث على أيدي الدجاجلة والمشعوذين وأضرابهم‪ ،‬وهي ليست‬
‫كرامات بل هي أحوال شيطانية تعتريهم وتعينهم على إحداث مثل هذه الخوارق‪ .‬وبين‬
‫الكرامات والحوال الشيطانية فروق عديدة‪ ،‬ولعل أشدها وضوحا قول يزيد البسطامي‪:‬‬
‫( لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فل تغتروا به حتى تنظروا كيف‬
‫وقوفه عند الوامر والنواهي) اهـ‪.‬‬
‫[ومن هؤلء] السود العنسي الذي ادعى النبوة‪ ،‬كان له من الشياطين من يخبره ببعض‬
‫المور المغيبة‪ ،‬فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون‬
‫فيه‪ ،‬حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه‪ .‬وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه‬
‫من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض المور‪.‬‬

‫‪ - 33‬الفتاوى ‪.281-11/279‬‬
‫‪32‬‬
‫وأمثال هؤلء كثير مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان‬
‫وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد‪ ،‬وتمنع السلح أن ينفذ فيه‪،‬‬
‫وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده‪ ،‬وكان يرى الناس رجال وركبانا على خيل في الهواء‬
‫ويقول‪ :‬هي الملئكة‪ ،‬وإنما كانوا جنا‪ ،‬ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح‬
‫فلم ينفذ فيه‪ ،‬فقال له عبد الملك‪ :‬إنك لم تسم ال‪ ،‬فسمى ال فطعنه فقتله‪ .‬ومن هؤلء من‬
‫يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما ل يكون في ذلك الموضع‪ ،‬ومنهم‬
‫من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما‪ ،‬ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم‬
‫يعيده من ليلته فل يحج حجا شرعيا‪ ،‬بل يذهب بثيابه‪ ،‬ول يحرم إذا حاذى الميقات‪ ،‬ول‬
‫يلبي ول يقف بمزدلفة ول يطوف بالبيت‪ ،‬ول يسعى بين الصفا والمروة‪ ،‬ول يرمي‬
‫‪34‬‬
‫الجمار‪ ،‬بل يقف بعرفات بثيابه ثم يرجع من ليلته‪ ،‬وهذا ليس بحج‪.‬‬

‫العين حق‬

‫في موطأ المام مالك رحمه ال‪ ،‬عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه‬
‫يقول‪ :‬اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار‪ ،‬فنزع جبة كانت عليه‪ ،‬وعامر بن ربيعة‬
‫ينظر‪ ،‬قال‪ :‬وكان سهل رجل أبيض حسن الجلد‪ .‬قال‪ :‬فقال له عامر بن ربيعة‪ :‬ما رأيت‬
‫كاليوم ول جلد عذراء‪ ،‬قال‪ :‬فوعك سهل مكانه‪ ،‬واشتد وعكه‪ ،‬فأتى رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم فأخبر أن سهل وعك وأنه غير رائح معك يا رسول ال‪ .‬فأتاه رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪" :‬علم يقتل أحدكم أخاه؟ أل بركت عليه؟ إن العين حق‪ ،‬توضأ له"‪ .‬فتوضأ عامر‬
‫فراح سهل مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ليس به بأس‪.‬‬
‫قال أبو عمر‪ :‬في هذا الحديث أن العين حق‪ ،‬وفيه أن العين إنما تكون من العجاب وربما‬
‫الحسد‪ .‬وفيه أن الرجل الصالح قد يكون عائنا‪ ،‬وأن هذا ليس من باب الصلح ول من باب‬

‫‪ - 34‬الفتاوى ‪ ،286 -11/284‬قول يزيد البسطامي ‪.11/466‬‬


‫‪33‬‬
‫الفسق في شيء‪ .‬وفيه أن العائن ل ينفى كما زعم بعض الناس‪ .‬وفيه أن التبريك ل يضر‬
‫معه عين العائن‪ ،‬والتبريك قول القائل‪ :‬اللهم بارك فيه‪ ،‬ونحو هذا‪ .‬وقد قيل إن التبريك أن‬
‫يقول‪:‬‬
‫تبارك ال أحسن الخالقين‪ ،‬اللهم بارك فيه‪ .‬وفيه دليل على أن العائن يجبر على الغتسال‬
‫للمعين‪.‬‬
‫[ثم قال‪ ]:‬ومما يدلك على أن صاحب العين إذا أعجبه شيء كان منه بقدر ال وقضاه‪ ،‬وأن‬
‫العين ربما قتلت‪ .‬كما قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬علم يقتل أحدكم أخاه؟" ما رويناه عن‬
‫الصمعي أنه قال‪ :‬رأيت رجل عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه صوت شخبها‪ ،‬فقال‪ :‬أيتهن‬
‫هذه؟ قالوا‪ :‬الفلنية لبقرة أخرى يورون عنها‪ ،‬فهلكتا جميعا‪ :‬المورى بها‪ ،‬والمورى عنها‪.‬‬
‫قال الصمعي‪ :‬وسمعته يقول‪ :‬إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني‪.‬‬
‫قال الصمعي‪ :‬وكان عندنا رجلن يعينان الناس‪ ،‬فمر أحدهم بحوض من حجارة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫تال ما رأيت كاليوم قط‪ .‬فتطاير الحوض فرقتين‪ ،‬فأخذه أهله فضببوه بالحديد‪ ،‬فمر عليه‬
‫ثانية فقال‪ :‬وأبيك لعل ما أضررت أهلك فيك‪ ،‬فتطاير أربع فرق‪ .‬قال‪ :‬وأما الخر فسمع‬
‫صوت بول من وراء حائط‪ ،‬فقال‪ :‬إنه لبن الشخب‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنه فلن‪ .‬ابنك‪ ،‬قال‪ :‬وانقطاع‬
‫‪35‬‬
‫ظهراه‪ ،‬قالوا‪ :‬أنه ل بأس عليه‪ ،‬قال‪ :‬ل يبول بعدها أبدا‪ .‬قال‪ :‬فما بال حتى مات‪.‬‬

‫كم من مريد للخير لن يصيبه‬

‫روى الدارمي في سننه قال‪ :‬أخبرنا الحكم بن مبارك أخبرنا عمرو بن يحيى قال‪ :‬سمعت‬
‫أبي يحدث عن أبيه قال‪ :‬كنا نجلس على باب عبد ال بن مسعود قبل صلة الغداة فإذا‬
‫خرج مشينا معه إلى المسجد‪ ،‬فجاءنا أبو موسى الشعري فقال‪ :‬أخرج إليكم أبو عبد‬
‫الرحمن بعد؟ قلنا‪ :‬ل‪ ،‬فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا‪ ،‬فقال أبو موسى‪:‬‬
‫يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته ولم أر والحمد ل إل خيرا‪ .‬قال‪:‬‬

‫‪ - 35‬التمهيد ‪ 71 - 13/68‬بتصرف يسير‪.‬‬


‫‪34‬‬
‫فما هو؟‪ .‬فقال‪ :‬إن عشت فستراه‪ .‬قال‪ :‬رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون‬
‫الصلة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول كبروا مائة فيكبرون مائة‪ ،‬فيقول‬
‫هللوا مائة فيهللون مائة‪ ،‬يقول سبحوا مائة فيسبحون مائة‪ .‬قال‪ :‬فماذا قلت لهم؟ قال‪ :‬ما‬
‫قلت لهم شيئا انتظار رأيك وانتظار أمرك‪ .‬قال‪ :‬أفل أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم‬
‫أن ل يضيع من حسناتهم‪ ،‬ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف‬
‫عليهم فقال‪ :‬ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا‪ :‬يا أبا عبد الرحمن‪ ،‬حصى نعد به التكبير‬
‫والتهليل والتسبيح‪ .‬قال‪ :‬فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن لكم أن ل يضيع من حسناتكم شيء‪.‬‬
‫ويحكم يا أمة محمد‪ ،‬ما أسرع هلكتكم! هؤلء صحابة نبيكم صلى ال عليه وسلم‬
‫متوافرون‪ ،‬وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر‪ ،‬والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى‬
‫من ملة محمد أو مفتتحو باب ضللة؟ قالوا‪ :‬يا أبا عبد الرحمن‪ ،‬ما أردنا إل الخير‪ .‬قال‪:‬‬
‫وكم من مريد للخير لن يصيبه‪ ،‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرءون‬
‫القرآن ل يجاوز تراقيهم‪ ،‬وايم ال ما أدري لعل أكثرهم منكم‪ ،‬ثم تولى عنهم‪ .‬فقال عمرو‬
‫‪36‬‬
‫بن سلمة‪ :‬رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج‪.‬‬

‫السماء قوالب للمعاني‬

‫للسماء تأثير في المسمى سلبا وإيجابا‪ ،‬ولذا كان النبي صلى ال عليه وسلم يغير السماء‬
‫القبيحة والمنهي عن التسمي بها؛ فغير اسم برة إلى زينب وقال‪" :‬ل تزكوا أنفسكم وال‬
‫أعلم بالبر منكم" وغير اسم حزن إلى سهل‪ ،‬وغير اسم عاصية إلى جميلة‪ ...‬وغيرها‬
‫كثير‪ .‬وتغيير النبي صلى ال عليه وسلم لهذه السماء بأفضل منها يدل على أن هناك‬
‫ارتباطا وتلزما بين السم والمسمى‪.‬‬
‫قال ابن قيم الجوزية‪ ( :‬لما كانت السماء قوالب للمعاني‪ ،‬دالة عليها‪ ،‬اقتضت الحكمة أن‬
‫يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب‪ ،‬وأن ل يكون المعنى معها بمنزلة الجنبي المحض‬
‫الذي ل تعلق له بها‪ ،‬فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك‪ ،‬والواقع يشهد بخلفه‪ ،‬بل للسماء تأثير‬
‫‪ - 36‬رواه الدارمي في سننه‪( .‬كتاب المقدمة)‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫في المسميات‪ ،‬وللمسميات تأثّر عن أسمائها في الحسن والقبح‪ ،‬والخفة والثقل‪ ،‬واللطافة‬
‫والكثافة‪ ،‬كما قيل‪:‬‬

‫وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إل ومعناه إن فكرت في لقبه‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم يستحب السم الحسن‪ ،‬وأمر إذا أبردوا إليه بريدا أن يكون‬
‫حسن السم حسن الوجه‪ ،‬وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة‪ ،‬كما رأى أنه‬
‫وأصحابه في دار عقبة بن رافع‪ ،‬فأُتوا برطب من رطب ابن طاب‪ ،‬فأوله بأن لهم الرفعة‬
‫في الدنيا‪ ،‬والعاقبة في الخرة‪ ،‬وأن الدين الذي اختاره ال لهم قد أرطب وطاب‪ ،‬وتأول‬
‫سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجيء سهيل بن عمرو إليه‪.‬‬
‫وندب جماعة إلى حلب شاة‪ ،‬فقام رجل يحلبها‪ ،‬فقال‪" :‬ما اسمك؟ قال‪ :‬مرة‪ ،‬قال ‪ :‬اجلس‪،‬‬
‫فقام آخر فقال‪ :‬ما اسمك؟ قال‪ :‬أظنه حرب‪ ،‬فقال‪ :‬اجلس‪ ،‬فقام آخر فقال‪ :‬ما اسمك؟ فقال‪:‬‬
‫يعيش‪ ،‬فقال‪ :‬احلبها"‪.‬‬
‫وكان يكره المكنة المنكرة السماء‪ ،‬ويكره العبور فيها‪ ،‬كما مرّ في بعض غزواته بين‬
‫جبلين‪ ،‬فسأل عن اسميهما فقالوا‪ :‬فاضخ ومخز‪ ،‬فعدل عنهما ولم يجز بينهما‪.‬‬
‫ولما كان بين السماء والمسميات من الرتباط والتناسب والقرابة‪ ،‬ما بين قوالب الشياء‬
‫وحقائقها‪ ،‬وما بين الرواح والجسام‪ ،‬عبر العقل من كل منهما إلى الخر‪ ،‬كما كان إياس‬
‫بن معاوية وغيره يرى الشخص‪ ،‬فيقول‪ :‬ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت‪ ،‬فل يكاد‬
‫يخطئ‪ ،‬وضد هذا العبور من السم إلى مسماه‪ ،‬كما سأل عمر بن الخطاب رضي ال‬
‫عنه‪ ،‬رجل عن اسمه‪ ،‬فقال‪ :‬جمرة‪ ،‬فقال‪ :‬واسم أبيك؟ قال‪ :‬شهاب‪ ،‬قال‪ :‬ممن؟ قال‪ :‬من‬
‫الحرقة‪ ،‬قال‪ :‬فمنزلك؟ قال‪ :‬بحرة النار‪ ،‬قال‪ :‬فأين مسكنك؟ قال‪ :‬بذات لظى‪ ،‬قال‪ :‬اذهب‬
‫فقد احترق مسكنك‪ ،‬فذهب فوجد المر كذلك‪ .‬فعبر عمر من اللفاظ إلى أرواحها‬
‫ومعانيها‪ ،‬كما عبر النبي صلى ال عليه وسلم من اسم سهيل إلى سهولة أمرهم يوم‬
‫الحديبية‪ ،‬فكان المر كذلك‪ ،‬وقد أمر النبي صلى ال عليه وسلم أمته بتحسين أسمائهم‪،‬‬
‫وأخبر أنهم يدعون يوم القيامة بها‪ ،‬وفي هذا ‪ -‬وال أعلم ‪-‬تنبيه على تحسين الفعال‬
‫‪36‬‬
‫المناسبة لتحسين السماء‪ ،‬لتكون الدعوة على رؤوس الشهاد بالسم الحسن‪ ،‬والوصف‬
‫‪37‬‬
‫المناسب له‪.‬‬

‫حكمة نافعة‬

‫قال الشافعي رحمه ال تعالى‪( :‬رضى الناس غاية ل تدرك‪ ،‬فعليك بالمر الذي يصلحك‬
‫فالزمه‪ ،‬ودع ما سواه‪ ،‬فل تعانه‪ ،‬فإرضاء الخلق ل مقدور ول مأمور‪ ،‬وإرضاء الخالق‬
‫‪38‬‬
‫مقدور ومأمور) ‪.‬‬

‫ل رأي ول قول لحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‬

‫كان من هدي السلف رضوان ال عليهم أنهم يقفون عند كتاب ال وسنة نبيه صلى ال عليه‬
‫ن لِمُؤْ ِمنٍ وَل مُؤْ ِمنَ ٍة إِذَا َقضَى الُّ وَ َرسُولُهُ‬
‫وسلم ول يقدمون عليها رأيا أو قول {وَمَا كَا َ‬
‫ضلّ ضَللً مُبِيناً)‬
‫ص الَّ وَرَسُوَل ُه َفقَ ْد َ‬
‫ن أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَ ْع ِ‬
‫ن لَهُ ُم الْخِيَرَةُ مِ ْ‬
‫أَمْرًا أَنْ يَكُو َ‬
‫(الحزاب‪.)36 :‬‬
‫وتواترت الخبار عن الصحب ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬بذلك؛ فكم حكموا في نازلة برأيهم‪،‬‬
‫ثم استبانت لهم سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرموا برأيهم ورأي أكابرهم وراءهم‬
‫ظهريا‪ .‬ول در ابن عباس عندما قال لخوانه الذين قالوا إن أبا بكر وعمر ل يريان التمتع‬
‫بالعمرة إلى الحج‪ ،‬ويريان أن إفراد الحج أفضل‪ .‬فقال لهم‪ :‬يوشك أن تنزل عليكم حجارة‬
‫من السماء‪ ،‬أقول‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتقولون‪ :‬قال أبو بكر وعمر؟‪.‬‬
‫فشاهت وجوه قدمت رأيها أو قول شيوخها‪ ،‬على قول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وما كان ذاك عند الشيوخ العلم كأحمد ومالك وأبي حنيفة والشافعي‪ ،‬إنما حدث ذلك في‬
‫التباع‪ ،‬وأولئك منه براء‪.‬‬
‫قال البخاري رحمه ال‪( :‬سمعت الحميدي يقول‪ :‬كنا عند الشافعي رحمه ال‪ ،‬فأتاه رجل‪،‬‬
‫‪ - 37‬زاد المعاد ‪.338 ،2/336‬‬
‫‪ - 38‬شرح العقيدة الطحاوية ‪.2/349‬‬
‫‪37‬‬
‫فسأله مسألة‪ ،‬فقال‪ :‬قضى فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم كذا وكذا‪ ،‬فقال رجل‬
‫للشافعي‪ :‬ما تقول أنت؟! فقال‪ :‬سبحان ال! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! ترى على‬
‫وسطي زنارا؟! أقول لك‪ :‬قضى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنت تقول‪ :‬ما تقول‬
‫أنت؟!)‪.‬‬
‫وقال ابن أبي العز‪( :‬حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد‪ ،‬وأن حماد بن زيد‬
‫لما روى له حديث‪" :‬أي السلم أفضل؟" إلى آخره‪ ،‬قال له‪ :‬أل تراه يقول‪ :‬أي السلم‬
‫أفضل؟ قال‪ :‬اليمان‪ ،‬ثم جعل الهجرة والجهاد من اليمان؟ فسكت أبو حنيفة‪ ،‬فقال بعض‬
‫أصحابه‪ :‬أل تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال‪ :‬بم أجيبه؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول ال صلى ال‬
‫‪39‬‬
‫عليه وسلم) ‪.‬‬

‫تم الكتاب ول الحمد والمنة وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين‬


‫والصلة على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين‬

‫‪ - 39‬الزنار‪ :‬هو شيء يشد به الوسط‪ ،‬وهو مما كان يتخذه النصارى في لبسهم‪ .‬النقل من شرح الطحاوية ( ج ‪ / 2‬قصة الشافعي ص ‪ ،494‬وقصة أبي حنيفة ص‬
‫‪.)500‬‬
‫‪38‬‬

You might also like