You are on page 1of 3

‫‪ 1‬من ‪3‬‬

‫التفتيش عن العقائد‪ ..‬الفغاني‬


‫والجدل حول الردة‪ :‬الحكم والبراهين والشكالت‬
‫‪am 12:00 15-04-2006‬‬

‫حدَث الفغاني عبدالرحمن‪ ،‬الذي ارتد عن السلم واعتنق المسيحية أثناء‬ ‫في اليام القريبة الماضية‪ ،‬تداولت أجهزة العلم َ‬
‫عمله لمصلحة جماعة إغاثة اللجئين الفغان‪ ،‬فاعتُقل خلل شهر شباط (فبراير) في كابول إثر تقدم عائلته بشكوى ضده إلى‬
‫الحكومة؛ لرتداده‪ .‬كان عبدالرحمن سيواجه عقوبة العدام؛ لرتداده‪ ،‬لول الضغوط الغربية التي مورست على الحكومة‬
‫الفغانية؛ فقد تعهد الرئيس جورج بوش باستخدام نفوذ بلده على أفغانستان لضمان «حق عبدالرحمن في اختيار دينه»‪.‬‬
‫وقال وزير الخارجية اليطالي إنه سيطلب من حكومة بلده منحه حق اللجوء السياسي‪ ،‬وكان بابا الفاتيكان بنديكت السادس‬
‫عشر طالب كرزاي بالعفو عنه فضلً عن تدخلت المم المتحدة وعدد من الدول الخرى‪ ،‬بينها كندا وإيطاليا وألمانيا‬
‫وأستراليا‪.‬‬
‫هذا الحدث يستدعي عددًا من الفكار التي تجب إثارتها ومناقشتها‪ ،‬تبدأ من حكم المرتد وحرية العتقاد‪ ،‬ول تقف عند حدود‬
‫الموقف الغربي الصاخب من حرية عبدالرحمن‪ ،‬والصمت الذي أحاط بقضية وفاء قسنطين التي اعتنقت السلم‪.‬‬
‫حكم المرتد والخلف فيه‬
‫أما بخصوص عقوبة المرتد‪ ،‬فقد اتفقت المذاهب الربعة‪ ،‬بل الثمانية‪ ،‬على أن المرتد يُقتل‪ .‬ودليلهم في ذلك ثلثة‪ :‬القرآن‬
‫والسنة والجماع‪.‬‬
‫‪ -‬فمن الكتاب‪« :‬ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون» (سورة الفتح‪ ،‬الية ‪ )16‬قيل‪ :‬هؤلء القوم هم‬
‫المرتدون من أهل اليمامة وغيرهم‪.‬‬
‫‪ -‬ومن السنة – وهو أصح وأقوى دليل على ذلك ‪ -‬قوله (صلى ال عليه وسلم)‪« :‬من بدل دينه فاقتلوه» (رواه البخاري)‪،‬‬
‫وقوله‪« :‬ل يحل دم امرئ مسلم إل بإحدى ثلث‪ ... :‬والتارك لدينه المفارق للجماعة»‪ .‬واستدلوا بأن النبي (صلى ال عليه‬
‫وسلم) أمر بقتل عبدال بن أبي سرح وابن خَطل وأناس آخرين‪.‬‬
‫‪ -‬ونقل ابن عبدالبر وابن قدامة وابن دقيق العيد وابن حزم والنووي‪ :‬الجماع على قتل المرتد‪ .‬ولعلهم إنما حكوا الجماع‬
‫استنادًا لقتال أبي بكر المرتدين من غير نكير من الصحابة‪.‬‬
‫وهذا الستنباط الفقهي يرجع – في أصله ‪ -‬إلى ثلث مسائل منهجية‪ ،‬هي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬التعبد بالحديث النبوي المقبول وفق شروط وضعها العلماء‪ ،‬وإن كان هذا الحديث خبرَ آحاد ظنيّا (أي نقله شخص أو‬
‫أشخاص ولم يتواتر بما يفيد اليقين أو القطع)‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن خبر الحاد يُقبل في الحدود‪ ،‬والتي فيها «سفك دمٍ» كما أكد المام الغزالي‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن أحاديث الحاد تخصّص عموم القرآن‪ ،‬ومن هنا اعتبروا أن أحاديث قتل المرتد تخصّص عموم قوله تعالى‪( :‬ل‬
‫إكراه في الدين) (سورة البقرة‪ ،‬الية ‪ )256‬وتخصّص اليات العامة المقرّرة لحرية العتقاد‪ ،‬ومن هنا يكون المرتدّ مستثنى‬
‫من تلك اليات العامة‪.‬‬
‫إلى هنا يبدو الحكم بقتل المرتد – وفق المنظومة الفقهية‪ :‬أصولً وفروعًا – حكمًا ثابتًا ل يحتمل الختلف‪ .‬لكن الدخول في‬
‫تفاصيل كل استدلل سيكشف عن اختلف عريض في مراحل بناء الحكم والستدلل بالنصوص السابقة وغيرها‪.‬‬
‫‪ -1‬دعوى الجماع‪:‬‬
‫إن المتأمل لحادثة حروب الردة بتفاصيلها التي ذكرها المام الطبري في تاريخه‪ ،‬يجد أنها لم تكن حادثة ردة عادية حتى يتم‬
‫الستشهاد بها في هذا السياق للدللة على حدوث إجماع على قتل من ارتد عن دينه‪ ،‬فهي كانت تمثل انشقاقًا وخروجًا على‬
‫الخليفة وشقّ عصا الطاعة بما يهدد وحدة الدولة القائمة مع وفاة قائدها (صلى ال عليه وسلم)‪.‬‬
‫أما المتأمل لمذاهب التابعين فإنه سيجد إمامين من أئمة التابعين ل يقولن بقتل المرتد‪:‬‬
‫فأولهما المام إبراهيم النخعي وعنه تفرع فقه العراق‪.‬‬
‫وثانيهما إمام بارز في الحديث هو سفيان الثوري‪ ،‬بل روي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز أيضًا‪ ،‬ويبدو أن هذا‬
‫الرأي استمرّ إلى وقت متأخر لننا وجدنا المام ابن حزم الندلسي كرس في «المحلّى» مبحث حد الردة للردّ على هذا الرأي‪،‬‬
‫مما يعني أنه كان رأيًا معتبرًا استحق كل تلك العناية بالرد عليه‪.‬‬
‫‪ -2‬مناقشة الستدلل بالقرآن‪:‬‬
‫وتنبغي الشارة إلى أن الستدلل بالقرآن على قتل المرتد ل أعلم أنه من طريقة الفقهاء في هذا المجال‪ ،‬وإنما جرى التركيز‬
‫عليه من جانب المعاصرين في مواجهة من يقولون‪ :‬إن القرآن لم يذكر عقوبة دنيوية للمرتد وإنما ذكر أخروية فقط‪ .‬والية‬
‫السابقة عن (قوم أولي بأس شديد ‪ )...‬أورد فيها ابن كثير أقوالً عدة‪ ،‬فقيل‪ :‬هم هوازن‪ ،‬وقيل‪ :‬ثقيف‪ ،‬وقيل‪ :‬بنو حنيفة‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬أهل فارس‪ ،‬وقيل الروم‪ ،‬وعن عطاء وابن أبي ليلى والحسن البصري وقتادة‪ :‬هم أهل فارس والروم‪ ،‬وعن مجاهد‪ :‬هم‬
‫أهل الوثان ‪ ..‬ما أود قوله‪ :‬أن ل دليل (صريحاً) في الية بل في القرآن كله على وجود عقوبة دنيوية للمرتد‪.‬‬
‫‪ -3‬مناقشة الستدلل بالسنة‬
‫ل لم يثبت أنه أسلم‬ ‫أما السنة‪ ،‬فإنه (صلى ال عليه وسلم) لم يثبت عنه أنه أمر بقـتـل أحد لوصف الردة‪ ،‬فالسود العنسي مث ً‬
‫أصلً حتى نقول بردته‪ ،‬وابن أبي سرح حين ارتد «لحق بالكفار فأمر به رسول ال أن يُقتل فاستجار له عثمان فـأجـاره رسول‬
‫‪ 2‬من ‪3‬‬

‫ال» (النسائي‪ ،‬والحاكم‪ ،‬وأبو داود) فالحدّ ل تُقـبـل فيـه الشفـاعة كما هو مقـرر في الحـديث الشهير‪ ،‬وكل المثلة التي‬
‫يـذكـرونها هنا في هذا المجال سيجد المتتبع للروايات والخبار أنه ثبت أنها «لحقت بالكفار» بعد ردتها‪ ،‬في وقت كان هناك‬
‫معسكران متمايزان في حالة حرب‪ :‬معسكر إيمان ومعسكر كفر‪.‬‬
‫عكْل وعرينة فإنهم ارتكبوا جرائم عدة‪ :‬قتلوا الرعاة‪ ،‬وسرقوا البل‪ ،‬ثم إنما طبّق عليهم رسول ال حد الحرابة‬ ‫أما الناس من ُ‬
‫وليس القتل‪« ،‬فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَل أعينهم وتركهم في الحرّة حتى ماتوا» بحسب رواية البخاري‪ .‬وقال أنس بن‬
‫مالك‪« :‬إنما سمل النبي (صلى ال عليه وسلم) أعين أولئك لنهم سملوا أعين الرّعاء» (رواه مسلم)‪ ،‬وقال ابن تيمية‪:‬‬
‫«هؤلء قَتَلوا مع الردة‪ ،‬وأخذوا الموال‪ ،‬فصاروا قطاع طريق‪ ،‬ومحاربين ل ورسوله»‪.‬‬
‫وأما مِقْيس بن صُبابة فإنما جاء يثأر ممن قتل أخاه هاشم بن صبابة (وكان قد قُتل خطأ) وتظاهر بالسلم وأخذ دية أخيه‪ ،‬ثم‬
‫قتل من قتل أخاه‪ ،‬وهرب مرتدًا‪ ،‬وقال في ذلك شعرًا‪ ،‬فأمر رسول ال بقتله (روى القصة البلذري في أنساب الشراف)‪.‬‬
‫وأما سارة صاحبة كتاب حاطب بن أبي بلتعة وكانت مغنية نوّاحة‪ ،‬فقدمت مكة وادعت السلم فوصلها رسول ال (صلى ال‬
‫عليه وسلم)‪ ،‬ثم رجعت إلى مكة (معسكر الكفر وقتها وفي حالة حرب) وجعلت تتغنى بهجاء رسول ال (صلى ال عليه وسلم)‬
‫فقُتلت (قصتها عند البلذري)‪ .‬وكذلك عبدال بن خطل‪ ،‬فقد أسلم وهاجر إلى المدينة (معسكر اليمان) فبعثه النبي ساعيًا على‬
‫الصدقة وبعث معه رجلً من خزاعة‪ ،‬فوثب على الخزاعي فقتله ثم ارتد وهرب إلى مكة وساق معه الصدقة‪ ،‬وجاء لهل مكة‬
‫وقال لهم‪« :‬لم أجد دينًا خيرًا من دينكم»‪ ،‬وكانت له مغنيتان تغنيان بهجاء رسول ال‪.‬‬
‫هذه هي الحوادث التي يتعلق بها من يقول إن النبي (صلى ال عليه وسلم) قتل مرتدّا‪ ،‬والواقع أن المستدل بها‪ ،‬يسكت عن‬
‫تفاصيلها التي توضح بأن هناك جرائم ارتكبت تستحق القتل وليس لوصف الردة‪.‬‬
‫وبالنظر لواقع السيرة النبوية والوقائع السابقة‪ ،‬يبدو جليّا تعبير حديث «التارك لدينه المفارق للجماعة» وأنهما وصف واحد‬
‫مركب‪ ،‬فقد كان في زمن النبي (صلى ال عليه وسلم) كل من يترك دينه يلحق بجماعة الكفار‪ ،‬ولذلك نجد مجمل حوادث الردة‬
‫إنما وقعت قبل فتح مكة‪ ،‬وهنا تأتي رواية عائشة‪« :‬أو رجل يخرج من السلم ليحارب ال عز وجل ورسوله‪ ،‬فيقتل أو‬
‫يُصلب أو ينفى من الرض» (رواه أبو داود والنسائي)‪.‬‬
‫يبقى حديث «من بدل دينه فاقتلوه» وهو أقوى ما يُستدل به هنا‪ ،‬وقد حاول بعض المعاصرين من غير ذوي العلم بهذا الشأن‬
‫أن ينكروا صحة الحديث‪ ،‬لكن الحديث صحيح رواه البخاري‪ ،‬إل أن الستدلل به غير متفق عليه كما سنبين‪ .‬وقد وقع الخلف‬
‫فيه من ثلث جهات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬هل تشمل (مَن) في (من بدّل ‪ )...‬الذكر والنثى؟ الحنفية يقولون إن المرأة ل تقتل‪ ،‬ويقولون إن (مَن) الشرطية ل‬
‫تشمل النثى‪ ،‬وبأنه (صلى ال عليه وسلم) قد نهى عن قتل النساء في الحرب‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬قوله‪( :‬دينه) هل هو عام في كل دين؟ المام مالك قال إن المراد به «من خرج من السلم إلى غيره وأظهر ذلك»‬
‫(الموطأ)‪ ،‬وتمسك بعض الشافعية بهذا الحديث في قتل من انتقل من دين كفر إلى دين كفر‪ ،‬سواء كان ممن يُق ّر أهله عليه‬
‫بالجزية أم ل‪ ،‬واستدلوا بعموم قوله‪( :‬من بدل دينه)‪ ،‬وهذا أحد قولي الشافعي والروايتين عن أحمد‪ .‬والرواية الخرى عن‬
‫أحمد أنه إن انتقل إلى مثل دينه أو إلى أعلى منه أُق ّر على ذلك‪ ،‬وإن انتقل إلى أنقص من دينه لم يُقرّ‪ .‬فاليهودية مثل‬
‫النصرانية أما المجوسية فهي دون‪.‬‬
‫أما الحنفية فقالوا‪ :‬إن الكفر كله ملة واحدة‪ .‬والتبديل هنا هو نوع خاص بالرجوع عن السلم ل غير‪ .‬ومع هذا الختلف‬
‫الشديد‪ ،‬فإنهم متفقون جميعًا على أن «ظاهر الحديث» غير مراد‪ ،‬ولذلك ل يقال‪ :‬إن من بدل دينه إلى السلم يدخل في‬
‫الحديث‪ ،‬مع أن اللفظ يشمله‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬قوله‪( :‬فاقتلوه) اختلفوا‪ :‬هل يلزم منه مباشرة القتل قبل الستتابة؟ أو ل بد من الستتابة؟ وفي هذا خلف طويل‪،‬‬
‫وبعض الفقهاء حدد مدة الستتابة بثلثة أيام‪ ،‬وبعضهم بأقل‪ ،‬وبعضهم بأكثر‪ ،‬ومنهم من قال يستتاب أبدًا‪ ،‬أي إلى بقية حياته‪.‬‬
‫وقد قال النووي‪« :‬اختلفوا في استتابته‪ :‬هل هي واجبة أم مستحبة؟ وفي قدرها‪ ،‬وفي قبول توبته»‪.‬‬
‫وبناء على ذلك يتضح أن الحكم بقتل المرتد يحيط به اختلف واسع‪ :‬يبدأ من الخلف في قتله أولً‪ ،‬ثم في كيفية بناء الحكم‬
‫على الدلة التي يحيط بها اختلف واسع في كيفية فهمها‪ ،‬وصولً إلى تخصيص الحنفية له بالرجل‪ ،‬وذهاب الجمهور إلى كونه‬
‫للرجل والمرأة‪ ،‬وانتهاء بالخلف حول الستتابة ومدتها وقبولها‪.‬‬
‫والصول التي يرجع إليها الختلف هي‪ :‬الختلف في مباحث اللفاظ كاختلفهم في (مَن)‪ ،‬والختلف في تحديد مناط الحكم‬
‫كما في وقائع الردة‪ .‬ومن هنا فإن الحكم لم يكن – في بنائه على الدلة ‪ -‬صريحًا وقاطعًا‪ ،‬ولذلك وقع الختلف فيه‪ ،‬وباب‬
‫الجتهاد فيه مفتوح‪ ،‬وهذا فضل عن ظنية ثبوته من حيث سند الحاديث الواردة‪ ،‬فإنه ظني في دللته‪ ،‬فالحديث الساسي في‬
‫هذا الموضوع متفق على عدم العمل بظاهره‪ ،‬وأنه مؤول‪ ،‬وباب التأويل واسع‪.‬‬
‫حكم المرتد بين إعادة التفكير ومحاولة التبرير‬
‫غير أن إعادة التفكير في حكم المرتد لم تكن لتُثار إلى بأثر من الحتكاك بالفكر الغربي وأفكار الثورة الفرنسية‪ ،‬وبروز أفكار‬
‫مثل العلمانية والحرية‪ ،‬ومن هنا انشغلت إصلحية محمد عبده بإعادة النظر في الحكم‪ ،‬وذلك بالعودة إلى تأمل الدلة نفسها‪،‬‬
‫فيرى عبده أن كلمة «الدين» جاءت بشكلها العمومي الذي يعني اليمان بال‪ ،‬وباليوم الخر‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬وعلى هذا‬
‫تصبح الردة عنده ردةً عن العناصر الثلثة السابقة‪.‬‬
‫واستمرت مدرسة عبده في المسألة فذهب عبدالعزيز جاويش إلى أن الرتداد عن الدين يعني الرتداد عن «نصرة السلم‬
‫والمسلمين» وعن «منازلة العداء»‪ ،‬أي «التخلف عن الجهاد»‪ ،‬وتردد الشيخ محمود شلتوت في حكم المرتد فقال‪« :‬وقد‬
‫يتغير وجه النظر في المسألة إذا لوحظ أن كثيرًا من العلماء يرى أن الحدود ل تثبُت بحديث الحاد‪ ،‬وأن الكفر بنفسه ليس‬
‫مبيحًا للدم‪ ،‬وإنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم‪ ،‬وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير‬
‫‪ 3‬من ‪3‬‬

‫من اليات تأبى الكراه في الدين»‪.‬‬


‫ثم أعيد الجدل في المسألة في العقود الخيرة‪ ،‬مع فورة الحديث عن حقوق النسان وتشريعاتها‪ ،‬ومع إثارة حوادث ردة في‬
‫مصر وغيرها‪ ،‬وصدور فتاوى بذلك‪ .‬وحرصًا على بيان أن السلم يتفق مع حرية العتقاد‪ ،‬وحقوق النسان‪ ،‬ذهب حقوقيون‬
‫وبعض الكتاب في سورية ومصر إلى عدم قتل المرتد وإثبات الحرية الدينية‪.‬‬
‫في المقابل‪ ،‬راح بعض العلماء يعتبر أن من يثير هذا التناقض بين قتل المرتد والحرية الدينية هو من «المفتئتين على‬
‫السلم»‪ ،‬وانصرفت الجهود إلى «تبرير» الحكم بقتل المرتد‪ ،‬ففي حين كان قائمًا لدى الفقهاء السابقين على اعتبارين‪:‬‬
‫الجمهور يقول إن «علة» قتل المرتد هي «مجرد الكفر» بعد السلم‪ ،‬امتثالً للنصوص‪ .‬والحنفية الذين خصوا القتل بالرجل‬
‫دون المرأة قالوا‪ :‬علة قتل المرتد «الحربية» (من الحرب وليس الحرابة)‪ ،‬والمرأة ل تقاتل في الحرب فل تقتل إذا ارتدت‪.‬‬
‫أما المعاصرون فقد سلموا بالحكم ابتداءً‪ ،‬لكنهم راحوا يبررونه تبريرًا ينسجم مع الفكار المعاصرة‪ ،‬فهناك من يرى مساواة‬
‫الردة بوصف «الحرابة» بمعنى أن «من استعلن بردته عن السلم‪ ،‬ونافح عن أفكاره المناهضة له‪ ،‬وأصرّ على ذلك‪ ،‬فعزم‬
‫الحرابة في نفسه واضحٌ إلى درجة القطع واليقين‪ ،‬وهو الكيد للسلم والمسلمين؛ من طريق بث عوامل الزيغ والتشكيك‬
‫بعقائد النّاس‪ ،‬ومبادئهم السلمية»‪ ،‬وقد ذهب إلى هذا د‪ .‬محمد سعيد البوطي وآخرون‪.‬‬
‫وهناك من يرى أن الردّة تتجاوز مسألة الحرابة‪ ،‬لتدخل في حكم «الخروج على الدولة السلمية» والتمرد عليها‪ ،‬وبالتالي‬
‫فهي بمنزلة «خيانة عظمى للمة» من خلل «الطعن في النظام الجتماعي والسياسي للدولة‪ ،‬والقائمين على السلم»‪،‬‬
‫وعلى أساس أن الردة مؤداها «تبديل الولء والنتماء من السلم إلى العدو»‪ ،‬وهو رأي سيد قطب ومحمد الغزالي‪ .‬ويذهب‬
‫القرضاوي إلى أن الردة «تغيير للولء‪ ،‬وتبديل للهوية‪ ،‬وتحويل للنتماء‪ .‬فالمرتد ينقل ولءه وانتماءه من أمة إلى أمة‬
‫أخرى‪ ،‬ومن وطن إلى وطن آخر‪ ،‬أي من دار السلم إلى دار أخرى»‪.‬‬
‫أما د‪ .‬سليم العوا فإنه يرى أن هذه العقوبة «تعزيرية مفوضة إلى السلطة المختصة في الدولة السلمية‪ ،‬تقرر فيها ما تراه‬
‫ملئمًا من العقوبات‪ ،‬ول تثريب عليها إن هي قررت العدامَ عقوبةً للمرتد»‪ ،‬فالمراد مِن (فاقتلوه)‪« :‬إباحة القتل ل إيجابه»‬
‫بحسب قوله‪.‬‬
‫هذه التأويلت التي توزعت بين إعادة التفكير بالحكم‪ ،‬والتسليم به مع إعادة تبريره تبريرًا «معاصرًا»‪ ،‬تعترف – ضمنًا –‬
‫بأن الحكم نفسه يكتنفه الشكال‪ ،‬مع شيوع قيم حرية العتقاد والحرية الدينية عامة‪.‬‬
‫الجدل الفقهي ‪ ..‬ومكمن الشكال‬
‫ومع ذلك فإن تلك التأويلت ل تخلو من انتقادات جدية‪ ،‬فالمشكلة ل تُحلّ بتوسيع مفهوم «الدين» ليشمل (اليمان بال‪،‬‬
‫وباليوم الخر‪ ،‬والعمل الصالح) كما فعل محمد عبده‪ ،‬ول بإعادة بناء المفهوم ليصبح (نصرة السلم والمسلمين) كما فعل‬
‫جاويش‪.‬‬
‫وكذلك ل يُعقلََن الحكم الفقهي الوارد‪ ،‬ول يصبح «معاصرًا» بتركيب تعليلت معاصرة عليه‪ ،‬من قبيل «الخيانة العظمى»‬
‫و»تبديل الولء والهوية»‪ ،‬فالمجتمعات والدول أصبحت أكثر تركيبًا من تلك البساطة المتصورة‪ ،‬ول يمكن تنزيل هذه‬
‫التبريرات على الواقع المعاصر؛ فما وضع مسلمي الغرب الن من حيث الولء والهوية والنتماء؟ وكيف يمكن فهم فتاوى‬
‫الفقهاء لهم بحمل الجنسية الجنبية‪ ،‬وبالقتال مع الجيوش الجنبية التي يحملون جنسيتها حفاظًا على «وطنيتهم»؟ وماذا لو‬
‫عكسنا المر فقالت أميركا مثلً‪ :‬إن مسلميها خارجون عن «الهوية الميركية» لنهم مسلمون‪ ،‬والهوية الميركية كما يعرفها‬
‫ل انتشار الدعوة السلمية فيها «حرابة» تمثل خروجًا‬ ‫هنتنغتون «هوية مسيحية»؟ ثم‪ ،‬هل يمكن القبول باعتبار فرنسا مث ً‬
‫على النسيج الجتماعي لها؟ أو أن المسلمين الجدد في الدول الغربية ارتكبوا خيانة عظمى؟ وأخيرًا كيف هو حال غير‬
‫المسلمين في الدول المسلمة من حيث الولء والنتماء والهوية إذا نحن حصرنا تلك المفاهيم في «السلم»؟‬
‫ما أود قوله‪ :‬إن هناك ازدواجية متبادلة بيننا وبين الغرب في هذه المسألة تحديدًا‪ ،‬وهو ما حصل من تدخل غربي سافر‬
‫ف جفن لحد منهم عندما انتهكت حقوق وفاء قسنطين من قبل الكنيسة! لكن الفارق أن‬ ‫لحماية الفغاني المرتد‪ ،‬في حين لم ير ّ‬
‫الطرف الغالب يملك الفعل‪ ،‬ويقف الطرف الضعف عند حدود القول و»التبرير»‪.‬‬
‫وأرى أن إعادة التفكير بعقوبة الردة تشكل مثالً بارزًا لعادة التفكير بالبنية الفقهية التي بنيت عليها المسألة نفسها‪ ،‬من‬
‫لحظة انحصارها بمباحث اللفاظ وما يكتنفها من احتمالت مغرقة في ظنيتها‪ ،‬وهنا يجب إعادة العتبار بمكانة الدلة‪ ،‬ففي‬
‫المرتبة الولى يأتي القرآن‪ ،‬ونصوصه واضحة وكثيرة جدّا في تقرير حرية العتقاد‪ ،‬وأبرزها هنا‪( :‬ل إكراه في الدين)‪ ،‬ثم‬
‫بإعادة العتبار لمنهجية المقاصد والصول الكلية‪ ،‬فالحرية مقصد من مقاصد الشريعة يُحمل عليه باقي الدلة ل العكس‪ ،‬وأن‬
‫ل بد من الوصول إلى تفسير منسجم بين مختلف الروايات (للحديث الواحد) والحاديث الخرى‪ ،‬والوقائع‪ ،‬ومحاكمة ذلك الفهم‬
‫إلى كليات الشريعة‪.‬‬
‫غير أنه هنا ل بد من إثارة مسألة مهمة‪ ،‬وهي أن شيخنا العلمة القرضاوي كان قد لحظ في كلمته الفتتاحية لندوة المقاصد‬
‫في لندن ‪ ،2005‬أن مقاصد الشريعة الخمسة‪ ،‬لوحظ فيها العقوبات الخمس‪ :‬الردة‪ ،‬والقتل‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬والزنى‪ ،‬والسرقة‪.‬‬
‫وحين كتب عن الردة قال‪ :‬إنها «خطر على الضرورية الولى من الضروريات الخمس التي حرص السلم على صيانتها»‪.‬‬
‫وكنت قد أثرت هذه المسألة مع أستاذنا د‪ .‬طه العلواني الذي يذهب إلى إسقاط القول بحدّي الردة والرجم‪ ،‬أثناء لقائنا في‬
‫سلطنة عمان ‪ ،2006‬فقلت له‪ :‬ل بد من الفصل بين فكرة المقاصد والعقوبات‪ ،‬وإعادة بنائها من جديد‪ ،‬فحصْرُها بخمسة من‬
‫جهة‪ ،‬وإعادة الجتهاد في بعض الحدود – وأبرزها الردة – من جهة أخرى سيثير عددًا من المشكلت‪.‬‬

You might also like