Professional Documents
Culture Documents
حدَث الفغاني عبدالرحمن ،الذي ارتد عن السلم واعتنق المسيحية أثناء في اليام القريبة الماضية ،تداولت أجهزة العلم َ
عمله لمصلحة جماعة إغاثة اللجئين الفغان ،فاعتُقل خلل شهر شباط (فبراير) في كابول إثر تقدم عائلته بشكوى ضده إلى
الحكومة؛ لرتداده .كان عبدالرحمن سيواجه عقوبة العدام؛ لرتداده ،لول الضغوط الغربية التي مورست على الحكومة
الفغانية؛ فقد تعهد الرئيس جورج بوش باستخدام نفوذ بلده على أفغانستان لضمان «حق عبدالرحمن في اختيار دينه».
وقال وزير الخارجية اليطالي إنه سيطلب من حكومة بلده منحه حق اللجوء السياسي ،وكان بابا الفاتيكان بنديكت السادس
عشر طالب كرزاي بالعفو عنه فضلً عن تدخلت المم المتحدة وعدد من الدول الخرى ،بينها كندا وإيطاليا وألمانيا
وأستراليا.
هذا الحدث يستدعي عددًا من الفكار التي تجب إثارتها ومناقشتها ،تبدأ من حكم المرتد وحرية العتقاد ،ول تقف عند حدود
الموقف الغربي الصاخب من حرية عبدالرحمن ،والصمت الذي أحاط بقضية وفاء قسنطين التي اعتنقت السلم.
حكم المرتد والخلف فيه
أما بخصوص عقوبة المرتد ،فقد اتفقت المذاهب الربعة ،بل الثمانية ،على أن المرتد يُقتل .ودليلهم في ذلك ثلثة :القرآن
والسنة والجماع.
-فمن الكتاب« :ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون» (سورة الفتح ،الية )16قيل :هؤلء القوم هم
المرتدون من أهل اليمامة وغيرهم.
-ومن السنة – وهو أصح وأقوى دليل على ذلك -قوله (صلى ال عليه وسلم)« :من بدل دينه فاقتلوه» (رواه البخاري)،
وقوله« :ل يحل دم امرئ مسلم إل بإحدى ثلث ... :والتارك لدينه المفارق للجماعة» .واستدلوا بأن النبي (صلى ال عليه
وسلم) أمر بقتل عبدال بن أبي سرح وابن خَطل وأناس آخرين.
-ونقل ابن عبدالبر وابن قدامة وابن دقيق العيد وابن حزم والنووي :الجماع على قتل المرتد .ولعلهم إنما حكوا الجماع
استنادًا لقتال أبي بكر المرتدين من غير نكير من الصحابة.
وهذا الستنباط الفقهي يرجع – في أصله -إلى ثلث مسائل منهجية ،هي:
أولً :التعبد بالحديث النبوي المقبول وفق شروط وضعها العلماء ،وإن كان هذا الحديث خبرَ آحاد ظنيّا (أي نقله شخص أو
أشخاص ولم يتواتر بما يفيد اليقين أو القطع).
الثانية :أن خبر الحاد يُقبل في الحدود ،والتي فيها «سفك دمٍ» كما أكد المام الغزالي.
الثالثة :أن أحاديث الحاد تخصّص عموم القرآن ،ومن هنا اعتبروا أن أحاديث قتل المرتد تخصّص عموم قوله تعالى( :ل
إكراه في الدين) (سورة البقرة ،الية )256وتخصّص اليات العامة المقرّرة لحرية العتقاد ،ومن هنا يكون المرتدّ مستثنى
من تلك اليات العامة.
إلى هنا يبدو الحكم بقتل المرتد – وفق المنظومة الفقهية :أصولً وفروعًا – حكمًا ثابتًا ل يحتمل الختلف .لكن الدخول في
تفاصيل كل استدلل سيكشف عن اختلف عريض في مراحل بناء الحكم والستدلل بالنصوص السابقة وغيرها.
-1دعوى الجماع:
إن المتأمل لحادثة حروب الردة بتفاصيلها التي ذكرها المام الطبري في تاريخه ،يجد أنها لم تكن حادثة ردة عادية حتى يتم
الستشهاد بها في هذا السياق للدللة على حدوث إجماع على قتل من ارتد عن دينه ،فهي كانت تمثل انشقاقًا وخروجًا على
الخليفة وشقّ عصا الطاعة بما يهدد وحدة الدولة القائمة مع وفاة قائدها (صلى ال عليه وسلم).
أما المتأمل لمذاهب التابعين فإنه سيجد إمامين من أئمة التابعين ل يقولن بقتل المرتد:
فأولهما المام إبراهيم النخعي وعنه تفرع فقه العراق.
وثانيهما إمام بارز في الحديث هو سفيان الثوري ،بل روي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز أيضًا ،ويبدو أن هذا
الرأي استمرّ إلى وقت متأخر لننا وجدنا المام ابن حزم الندلسي كرس في «المحلّى» مبحث حد الردة للردّ على هذا الرأي،
مما يعني أنه كان رأيًا معتبرًا استحق كل تلك العناية بالرد عليه.
-2مناقشة الستدلل بالقرآن:
وتنبغي الشارة إلى أن الستدلل بالقرآن على قتل المرتد ل أعلم أنه من طريقة الفقهاء في هذا المجال ،وإنما جرى التركيز
عليه من جانب المعاصرين في مواجهة من يقولون :إن القرآن لم يذكر عقوبة دنيوية للمرتد وإنما ذكر أخروية فقط .والية
السابقة عن (قوم أولي بأس شديد )...أورد فيها ابن كثير أقوالً عدة ،فقيل :هم هوازن ،وقيل :ثقيف ،وقيل :بنو حنيفة،
وقيل :أهل فارس ،وقيل الروم ،وعن عطاء وابن أبي ليلى والحسن البصري وقتادة :هم أهل فارس والروم ،وعن مجاهد :هم
أهل الوثان ..ما أود قوله :أن ل دليل (صريحاً) في الية بل في القرآن كله على وجود عقوبة دنيوية للمرتد.
-3مناقشة الستدلل بالسنة
ل لم يثبت أنه أسلم أما السنة ،فإنه (صلى ال عليه وسلم) لم يثبت عنه أنه أمر بقـتـل أحد لوصف الردة ،فالسود العنسي مث ً
أصلً حتى نقول بردته ،وابن أبي سرح حين ارتد «لحق بالكفار فأمر به رسول ال أن يُقتل فاستجار له عثمان فـأجـاره رسول
2من 3
ال» (النسائي ،والحاكم ،وأبو داود) فالحدّ ل تُقـبـل فيـه الشفـاعة كما هو مقـرر في الحـديث الشهير ،وكل المثلة التي
يـذكـرونها هنا في هذا المجال سيجد المتتبع للروايات والخبار أنه ثبت أنها «لحقت بالكفار» بعد ردتها ،في وقت كان هناك
معسكران متمايزان في حالة حرب :معسكر إيمان ومعسكر كفر.
عكْل وعرينة فإنهم ارتكبوا جرائم عدة :قتلوا الرعاة ،وسرقوا البل ،ثم إنما طبّق عليهم رسول ال حد الحرابة أما الناس من ُ
وليس القتل« ،فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَل أعينهم وتركهم في الحرّة حتى ماتوا» بحسب رواية البخاري .وقال أنس بن
مالك« :إنما سمل النبي (صلى ال عليه وسلم) أعين أولئك لنهم سملوا أعين الرّعاء» (رواه مسلم) ،وقال ابن تيمية:
«هؤلء قَتَلوا مع الردة ،وأخذوا الموال ،فصاروا قطاع طريق ،ومحاربين ل ورسوله».
وأما مِقْيس بن صُبابة فإنما جاء يثأر ممن قتل أخاه هاشم بن صبابة (وكان قد قُتل خطأ) وتظاهر بالسلم وأخذ دية أخيه ،ثم
قتل من قتل أخاه ،وهرب مرتدًا ،وقال في ذلك شعرًا ،فأمر رسول ال بقتله (روى القصة البلذري في أنساب الشراف).
وأما سارة صاحبة كتاب حاطب بن أبي بلتعة وكانت مغنية نوّاحة ،فقدمت مكة وادعت السلم فوصلها رسول ال (صلى ال
عليه وسلم) ،ثم رجعت إلى مكة (معسكر الكفر وقتها وفي حالة حرب) وجعلت تتغنى بهجاء رسول ال (صلى ال عليه وسلم)
فقُتلت (قصتها عند البلذري) .وكذلك عبدال بن خطل ،فقد أسلم وهاجر إلى المدينة (معسكر اليمان) فبعثه النبي ساعيًا على
الصدقة وبعث معه رجلً من خزاعة ،فوثب على الخزاعي فقتله ثم ارتد وهرب إلى مكة وساق معه الصدقة ،وجاء لهل مكة
وقال لهم« :لم أجد دينًا خيرًا من دينكم» ،وكانت له مغنيتان تغنيان بهجاء رسول ال.
هذه هي الحوادث التي يتعلق بها من يقول إن النبي (صلى ال عليه وسلم) قتل مرتدّا ،والواقع أن المستدل بها ،يسكت عن
تفاصيلها التي توضح بأن هناك جرائم ارتكبت تستحق القتل وليس لوصف الردة.
وبالنظر لواقع السيرة النبوية والوقائع السابقة ،يبدو جليّا تعبير حديث «التارك لدينه المفارق للجماعة» وأنهما وصف واحد
مركب ،فقد كان في زمن النبي (صلى ال عليه وسلم) كل من يترك دينه يلحق بجماعة الكفار ،ولذلك نجد مجمل حوادث الردة
إنما وقعت قبل فتح مكة ،وهنا تأتي رواية عائشة« :أو رجل يخرج من السلم ليحارب ال عز وجل ورسوله ،فيقتل أو
يُصلب أو ينفى من الرض» (رواه أبو داود والنسائي).
يبقى حديث «من بدل دينه فاقتلوه» وهو أقوى ما يُستدل به هنا ،وقد حاول بعض المعاصرين من غير ذوي العلم بهذا الشأن
أن ينكروا صحة الحديث ،لكن الحديث صحيح رواه البخاري ،إل أن الستدلل به غير متفق عليه كما سنبين .وقد وقع الخلف
فيه من ثلث جهات:
الولى :هل تشمل (مَن) في (من بدّل )...الذكر والنثى؟ الحنفية يقولون إن المرأة ل تقتل ،ويقولون إن (مَن) الشرطية ل
تشمل النثى ،وبأنه (صلى ال عليه وسلم) قد نهى عن قتل النساء في الحرب.
الثانية :قوله( :دينه) هل هو عام في كل دين؟ المام مالك قال إن المراد به «من خرج من السلم إلى غيره وأظهر ذلك»
(الموطأ) ،وتمسك بعض الشافعية بهذا الحديث في قتل من انتقل من دين كفر إلى دين كفر ،سواء كان ممن يُق ّر أهله عليه
بالجزية أم ل ،واستدلوا بعموم قوله( :من بدل دينه) ،وهذا أحد قولي الشافعي والروايتين عن أحمد .والرواية الخرى عن
أحمد أنه إن انتقل إلى مثل دينه أو إلى أعلى منه أُق ّر على ذلك ،وإن انتقل إلى أنقص من دينه لم يُقرّ .فاليهودية مثل
النصرانية أما المجوسية فهي دون.
أما الحنفية فقالوا :إن الكفر كله ملة واحدة .والتبديل هنا هو نوع خاص بالرجوع عن السلم ل غير .ومع هذا الختلف
الشديد ،فإنهم متفقون جميعًا على أن «ظاهر الحديث» غير مراد ،ولذلك ل يقال :إن من بدل دينه إلى السلم يدخل في
الحديث ،مع أن اللفظ يشمله.
الثالثة :قوله( :فاقتلوه) اختلفوا :هل يلزم منه مباشرة القتل قبل الستتابة؟ أو ل بد من الستتابة؟ وفي هذا خلف طويل،
وبعض الفقهاء حدد مدة الستتابة بثلثة أيام ،وبعضهم بأقل ،وبعضهم بأكثر ،ومنهم من قال يستتاب أبدًا ،أي إلى بقية حياته.
وقد قال النووي« :اختلفوا في استتابته :هل هي واجبة أم مستحبة؟ وفي قدرها ،وفي قبول توبته».
وبناء على ذلك يتضح أن الحكم بقتل المرتد يحيط به اختلف واسع :يبدأ من الخلف في قتله أولً ،ثم في كيفية بناء الحكم
على الدلة التي يحيط بها اختلف واسع في كيفية فهمها ،وصولً إلى تخصيص الحنفية له بالرجل ،وذهاب الجمهور إلى كونه
للرجل والمرأة ،وانتهاء بالخلف حول الستتابة ومدتها وقبولها.
والصول التي يرجع إليها الختلف هي :الختلف في مباحث اللفاظ كاختلفهم في (مَن) ،والختلف في تحديد مناط الحكم
كما في وقائع الردة .ومن هنا فإن الحكم لم يكن – في بنائه على الدلة -صريحًا وقاطعًا ،ولذلك وقع الختلف فيه ،وباب
الجتهاد فيه مفتوح ،وهذا فضل عن ظنية ثبوته من حيث سند الحاديث الواردة ،فإنه ظني في دللته ،فالحديث الساسي في
هذا الموضوع متفق على عدم العمل بظاهره ،وأنه مؤول ،وباب التأويل واسع.
حكم المرتد بين إعادة التفكير ومحاولة التبرير
غير أن إعادة التفكير في حكم المرتد لم تكن لتُثار إلى بأثر من الحتكاك بالفكر الغربي وأفكار الثورة الفرنسية ،وبروز أفكار
مثل العلمانية والحرية ،ومن هنا انشغلت إصلحية محمد عبده بإعادة النظر في الحكم ،وذلك بالعودة إلى تأمل الدلة نفسها،
فيرى عبده أن كلمة «الدين» جاءت بشكلها العمومي الذي يعني اليمان بال ،وباليوم الخر ،والعمل الصالح ،وعلى هذا
تصبح الردة عنده ردةً عن العناصر الثلثة السابقة.
واستمرت مدرسة عبده في المسألة فذهب عبدالعزيز جاويش إلى أن الرتداد عن الدين يعني الرتداد عن «نصرة السلم
والمسلمين» وعن «منازلة العداء» ،أي «التخلف عن الجهاد» ،وتردد الشيخ محمود شلتوت في حكم المرتد فقال« :وقد
يتغير وجه النظر في المسألة إذا لوحظ أن كثيرًا من العلماء يرى أن الحدود ل تثبُت بحديث الحاد ،وأن الكفر بنفسه ليس
مبيحًا للدم ،وإنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم ،وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير
3من 3