You are on page 1of 369

‫ُي القلم‬

‫ْح‬
‫َو‬
‫المجلد الثالث‬
‫مصطفى صادق الرافعي‬

‫قام بفهرسته وترتيبه‬


‫َنة‬
‫ّ‬
‫الباحث في القرآن والس‬
‫علي بن نايف الشحود‬

‫‪1‬‬
‫محتويات المجلد الثالث‬
‫السمو الروحي العظم والجمال الفني في البلغة النبوية‬
‫قرآن الفجر ‪1‬‬
‫اللغة والدين والعادات ‪ 1‬باعتبارها من مقومات الستقلل‬
‫تجديد السلم‪ 1:‬رسالة الزهر في القرن العشرين*‬
‫السد‬
‫الحمدية‬
‫أمراء للبيع‬
‫العجوزان "‪"1‬‬
‫العجوزان* "‪"2‬‬
‫العجوزان "‪"3‬‬
‫العجوازن "‪"4‬‬
‫السطر الخير من القصة ‪1‬‬
‫عاصفة القدر ‪1‬‬
‫القلب المسكين "‪"1‬‬
‫القلب المسكين "‪"2‬‬
‫القلب المسكين "‪"3‬‬
‫القلب المسكين "‪"4‬‬
‫القلب المسكين* "‪"5‬‬
‫القلب المسكين "‪"6‬‬
‫القلب المسكين "‪"7‬‬
‫القلب المسكين "‪"8‬‬
‫القلب المسكين "تتمة"‬
‫انتصار الحب*‬
‫قنبلة بالبارود ل بالماء المقطر*‬
‫شيطان وشيطانة*‬
‫نهضة القطار العربية ‪1‬‬
‫ل تجني الصحافة على الدب ‪ 1‬ولكن على فنيته‬
‫صعاليك الصحافة "‪"1‬‬
‫صعاليك الصحافة "‪"2‬‬
‫صعاليك الصحافة "‪"3‬‬
‫صعاليك الصحافة* "تتمة"‬
‫أبو حنيفة ولكن بغير فقه ‪1‬‬
‫الدب والديب ‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫سر النبوغ في الدب ‪1‬‬
‫نقد الشعر وفلسفته ‪1‬‬
‫فيلسوف وفلسفة ‪1‬‬
‫شيطاني وشيطان طاغور‪1...‬‬
‫فلسفة القصة ولماذا ل أكتب فيها ‪...‬؟*‬
‫شعر صبري*‬
‫حافظ إبراهيم ‪1‬‬
‫كلمات ‪ 1‬عن حافظ*‬
‫شوقي ‪1‬‬
‫بعد شوقي*‬
‫الشعر العربي في خمسين سنة ‪1‬‬
‫صروف اللغوي*‬
‫الشيخ الخضري ‪1‬‬
‫رأي جديد ‪ 1‬في كتب الدب القديمة‬
‫أمير الشعر في العصر القديم ‪1‬‬
‫البؤساء ‪1‬‬
‫الملح التائه ‪1‬‬
‫"المقتطف" و"المتنبي"‪1‬‬
‫محمد *‬
‫ديوان العشاب*‬
‫النجاح وكتاب سر النجاح ‪1‬‬
‫أبو تمام الشاعر‪ :‬تحقيق مدة إقامته بمصر‬
‫القديم والجديد ‪1‬‬
‫المرأة والميراث‬
‫"القتل أنفى للقتل" ليست مترجمة‬
‫"القتل أنفى للقتل" ليست جاهلية‬

‫‪3‬‬
‫السمو الروحي العظم والجمال الفني في البلغة النبوية ‪*1‬‬

‫لما أردت أن أكتسسب هسسذا الفصسسل وهممسست بسسه‪ ،‬عرضسست لسسي مسسسألة‬
‫نظرت فيها أطلب جوابها‪ ،‬ثم قدرت أن يكسسون أبلسسغ فلسسسفة البيسسان‬
‫في أوربا لعهدنا هذا رجًل يحسن العربية المبينة‪ ،‬وقد بلسغ فيهسا مبلسغ‬
‫ما وذوًقا‪ ،‬ودَرس تاريخ النبي صلى اللسسه عليسسه وسسسلم دْرس‬ ‫أئمتها عل ً‬
‫قسسه الحكمسسة لسسسرار‬ ‫السسروح لعمسسال السسروح‪ ،‬وتفقسسه فسسي شسسريعته ف ْ‬
‫الحكمة‪ ،‬واستوعب أحاديثه واعتبرها بفن النقد البيسساني السسذي يبحسسث‬
‫في خصائص الكلم عن خصسائص النفسس؛ وتمثلسست أنسي لقيسست هسذا‬
‫الرجل فسألته‪ :‬ما هو الجمال الفني عندك فسسي بلغسسة محمسسد صسسلى‬
‫الله عليه وسلم؟ وماذا تستخرج لك فلسفة البيان منسسه؟ ومسسا سسسره‬
‫الذي يجتمع فيه؟‬
‫ولم يكد يخطر لي ذلك حتى انكشف الخاطر عن وجسسه آخسسر‪ ،‬وذلسسك‬
‫أن يكون معنى هذا السسؤال بعينسه قسسد وقسع فسسي شسسيء مسن حسسديث‬
‫النفس لبلغ أولئك العرب الذين رأوا النبي صلى اللسسه عليسسه وسسسلم‪،‬‬
‫وآمنوا به‪ ،‬واتبعوا النور الذي أنزل معه‪ ،‬وقد صحبه فطالت صسسحبته‪،‬‬
‫ل يفسسوته مسسن كلمسسه فسسي المل شسسيء‪ ،‬وخسسالطه حسستى كسسان لسسه فسسي‬
‫الحاطة بأحوال نفسه كبعض التاريخ‪ ،‬فتدبر ما عسى أن يكسسون سسسر‬
‫الجمال في بلغته صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وما مرجعه الذي يرد إليه؟‬
‫لو دار السسسؤال دورتيسسه فسسي هسسذه السسسليقة العربيسسة المحكمسسة السستي‬
‫رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتحس‪ ،‬وفسسي تلسسك الفلسسسفة البيانيسسة‬
‫الملهمة التي بلغت أن تكون سسسليقة تسسدرس وتفكسسر لمسسا خلسسص مسسن‬
‫كلتيهما إل برأي واحد تلتقي عليه حقيقة البيان من طرفيها‪ :‬وهسسو أن‬
‫ذلك الجمال الفني في بلغته صلى الله عليه وسلم إنما هو أثٌر على‬
‫الكلم من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬أنشأ المؤلف رحمه الله هذا البحسسث جواًبسا لرجساء جمعيسة الهدايسة‬
‫السلمية في بغداد سنة ‪1352‬هس؛ وانظر كتابنا "حياة الرافعسسي" ص‬
‫‪.178 ،176-175‬‬
‫‪ 2‬بسطنا الكلم في كتابنا "إعجاز القسسرآن" عسسن بلغسسة النسسبي صسسلى‬
‫الله عليه وسلم من وجوه كثيرة‪ ،‬وبقي هذا المعنى الذي تراه‪ ،‬فهذه‬
‫المقالة كالتكملة على ما هناك‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فأنا في هذه الصفحات ل أصنع شيًئا غير تفصيل هسسذا الجسسواب‬
‫وشرحه‪ ،‬باستخراج معانيه‪ ،‬واستنباط أدلته‪ ،‬والكشسسف عسسن أسسسراره‬

‫‪4‬‬
‫وحقائقه؛ ولقد درست كلمه صلى اللسسه عليسسه وسسسلم‪ ،‬وقضسسيت فسسي‬
‫ما أتتبع السر الذي وقع في التاريخ القفر المجسسدب فأخصسسب‬ ‫ذلك أيا ً‬
‫سسسا إن عبتهسسم‬ ‫به وأنبت للسسدنيا أزهسساره النسسسانية الجميلسسة‪ ،‬فكسسانوا نا ً‬
‫سسسا‪ ،‬دارت الكسسرة‬ ‫بشيء لم تعبهسسم إل أنهسسم دون الملئكسسة؛ وكسسانوا نا ً‬
‫الرضية في عدهم ثلث دورات‪ :‬واحدة حول الشمس‪ ،‬وثانيسسة حسسول‬
‫نفسها‪ ،‬وثالثة حول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم تركت الكلم النبوي يتكلم في نفسي ويلهمني ما أفصح به عنسسه‪،‬‬
‫فلكأني به يقول في صفة نفسه‪ :‬إني أصنع أمة لها تاريخ الرض من‬
‫بعسسد‪ ،‬فأنسا أقبسسل مسن هنسا وهنساك‪ ،‬وأذهسسب هنساك وهنسا‪ ،‬مسسع القلسسوب‬
‫والنفس والحقائق‪ ،‬ل مع الكلم والناس والوقت‪.‬‬
‫إن ههنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرة السستي مسسن ذريتهسسا أوربسسا‬
‫وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملن في حياة أهل الرض بنسسور متمسسم‬
‫لما يعمله نور الشمس والقمر‪.‬‬
‫وقد كان المسلمون يغزون الدنيا بأسلحة هي فسسي ظاهرهسسا أسسسلحة‬
‫المقاتلين‪ ،‬ولكنها في معانيها أسلحة الطباء؛ وكانوا يحملون الكتسساب‬
‫والسنة‪ ،‬ثم مضوا إلى سبيلهم وبقي الكلم من بعدهم غازًيا محارًبسسا‬
‫في العالم كله حرب تغيير وتحويل إلى أن يسسدخل السسسلم علسسى مسسا‬
‫دخل عليه الليل*‪.‬‬
‫هذا منطلق الحديث في نفسي‪ ،‬وقد كنت أقرؤه وأنا أتمثلسسه مرس سًل‬
‫بتلك الفصاحة العالية من فم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يمسسر‬
‫إعجاز الوحي أول ما يخرج به الصوت البشري إلسسى العسسالم‪ ،‬فل أرى‬
‫مسسا متص سًل بسسروح الكسسون كلسسه اتصسسال بعسسض‬ ‫ثم إل أن شيًئا إلهًيا عظي ً‬
‫السر ببعض السر‪ ،‬يتكلم بكلم إنساني هو هذا الحديث السسذي يجيسسء‬
‫في كلمات قوية رائعة‪ ،‬فنها في بلغتها كالشباب الدائم‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬في الحديث الشريف‪" :‬ليسسدخلن هسسذا السسدين علسسى مسسا دخسسل عليسسه‬
‫الليل"‪ .‬وكأن العبارة نص علسسى أن السسسلم يعسسم حيسسن تظلسسم السسدنيا‬
‫ظلمها الشعري‪ ...‬إذا طمسسست النسسسانية بلسسذاتها‪ ،‬وأظلمسست آفاقهسسا‬
‫الروحانية؛ فيجيء السلم فسسي قسسوة أخلقسسه كشسسباب الفجسسر‪ ،‬يبعسسث‬
‫دا؛ وهذا هو رأينا في مستقبل السسسلم‪:‬‬ ‫حياة النور النساني بعًثا جدي ً‬
‫ل بد من انحلل أوربسسا وأمريكسسا‪ ،‬كمسسا يصسسفر النهسسار‪ ،‬ثسسم يختلسسط‪ ،‬ثسسم‬
‫يظلم‪ ،‬ثم تطلب الطبيعة نورها الحي من بعد‪.‬‬
‫كنت أتأمله قطًعا من البيسسان‪ ،‬فسسأراه ينقلنسسي إلسسى مثسسل الحالسسة السستي‬
‫س‪،‬‬‫أتأمل فيها روضة تتنفس على القلب‪ ،‬أو منظًرا يهز جمسساُله النف س َ‬

‫‪5‬‬
‫أو عاطفة تزيد بهسسا الحيسساة فسسي السسدم‪ ،‬علسسى هسسدوء وروح وإحسسساس‬
‫ولذة؛ ثم يزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات النسانية في نفسسسي‪،‬‬
‫ثم يرزق اللسسه منسسه رزق النسسور فسسإذا أنسسا فسسي ذوق البيسسان كأنمسسا أرى‬
‫المتكلم صلى الله عليه وسلم وراء كلمه‪.‬‬
‫وأعجب من ذلك أني كسسثيًرا مسسا أقسسف عنسسد الحسسديث السسدقيق أتعسسرف‬
‫أسراره‪ ،‬فإذا هو يشرح لي ويهديني بهديه؛ ثم أحسه كأنما يقول لي‬
‫ما يقول المعلم لتلميذه‪ :‬أفهمت؟‬
‫ما ركبوا في سسسفينة‪،‬‬ ‫وقفت عند قوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬إن قو ً‬
‫فاقتسموا‪ ،‬فصار لكل رجل منهم موضع‪ ،‬فنقر رجسسل منهسسم موضسسعه‬
‫بفأس‪ ،‬فقالوا له‪ :‬ما تصنع؟ قال‪ :‬هو مكاني أصنع فيه ما شئت! فإن‬
‫أخذوا على يده نجا ونجوا‪ ،‬وإن تركوه هلك وهلكوا"*‪.‬‬
‫فكان لهذا الحديث في نفسي كلم طويل عن هؤلء الذين يخوضون‬
‫معنسسا البحسسر ويسسسمون أنفسسسهم بالمجسسددين‪ ،‬وينتحلسسون ضسسروًبا مسسن‬
‫الوصاف‪ :‬كحرية الفكر‪ ،‬والغيسرة‪ ،‬والصسلح؛ ول يسزال أحسدهم ينقسر‬
‫مسسا‬
‫موضعه من سفينة ديننا وأخلقنا وآدابنا بفأسسسه‪ ،‬أي بقلمسسه‪ ...‬زاع ً‬
‫أنه موضعه من الحياة الجتماعية يصنع فيه مسا يشساء‪ ،‬ويتسوله كيسف‬
‫أراد‪ ،‬موجهًسسا لحمسساقته وجوهًسسا مسسن المعسساذير والحجسسج‪ ،‬مسسن المدنيسسة‬
‫والفلسفة‪ ،‬جاهًل أن القانون في السفينة إنما هو قانون العاقبة دون‬
‫غيرها‪ ،‬فالحكم ل يكسسون علسى العمسل بعسسد وقسسوعه كمسا يحكسم علسسى‬
‫العمال الخسرى؛ بسل قبسل وقسوعه؛ والعقساب ل يكسون علسى الجسرم‬
‫يقترفه المجرم كما يعاقب اللص والقاتل وغيرهما‪ ،‬بل على الشروع‬
‫فيه‪ ،‬بل على توجه النية إليه‪ ،‬فل حرية هنا فسسي عمسسل يفسسسد خشسسب‬
‫السفينة أو يمسه من قسسرب أو بعسسد مسسا دامسست ملججسسة فسسي بحرهسسا‪،‬‬
‫سائرة إلى غايتها؛ إذ كلمة "الخسسرق" ل تحمسسل فسسي السسسفينة معناهسسا‬
‫الرضي‪ ،‬وهنا لفظة "أصسسغر خسسرق" ليسسس لهسسا إل معنسسى واحسسد وهسسو‬
‫"أوسع قبر"‪..‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬روى البخاري هذا الحديث على وجه آخر‪ ،‬وفيه زيادة من الجمسسال‬
‫الفني؛ قال‪" :‬مثل القائم على حدود اللسسه والواقسسع فيهسسا كمثسسل قسسوم‬
‫استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسسسفلها؛ فكسسان‬
‫الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا‪:‬‬
‫لو أنا خرقنا في نصيبنا خرًقا ولم نؤذ من فوقنسسا! فسسإن تركسسوهم ومسسا‬
‫أرادوا هلكوا جميًعا‪ ،‬وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميًعا"‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫فهذا تمثيل لحالة طائفة في "السفل" تعمسسل لرحمسسة مسسن هسسم فسسي‬
‫"العلى"‪ :‬عاطفة شريفة ولكنها سافلة‪ ،‬وحمية ملتهبة ولكنها باردة‪،‬‬
‫ورحمة خالصة ولكنها مهلكسسة؛ ولسسن تجسسد كهسسذا التمثيسسل فسسي تصسسوير‬
‫البلغة الجتماعية والغفلة الفلسفية لناس هسسم عنسسد أنفسسهم أمثلسسة‬
‫الجد والعمل والحكمة‪ ،‬فكسسأن النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم يقسسول‬
‫حا مخروًقا‪!...‬‬ ‫لهؤلء من ألف وثلثمائة سنة‪ :‬أنتم المصلحون إصل ً‬
‫كر في أعظم فلسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلقسسه‪ ،‬فهسسو‬ ‫فف ّ‬
‫ههنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد تفسرها فسسي‬
‫لغة البحر حدود الحياة والمصلحة وكما أن لفظة "الخرق" يكون من‬
‫معانيها في البحر القسبر والغسرق والهلك‪ ،‬فكلمسسة "الفلسسفة" يكسسون‬
‫من بعض معانيهسسا فسسي الجتمسساع الحماقسسة والغفلسسة والبلهسسة‪ ،‬وكلمسسة‬
‫الحريسسة يكسسون مسسن معانيهسسا الجنايسسة والزيسسغ والفسسساد ‪ ،1‬وعلسسى هسسذا‬
‫القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكتسساب مسسن معسسانيه الفسسأس‪،‬‬
‫والكاتب من معانيه المخرب‪ ،‬والكتابة من معانيها الخيانسسة؛ قسسال لسسي‬
‫الحديث‪ :‬أفهمت؟‬
‫هكذا يجب تأمل الجمال الفني في كلمه صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فهو‬
‫كلم كلما زدته فكًرا زادك معنى‪ ،‬وتفسسسيره قريسسب‪ ،‬قريسسب كسسالروح‬
‫في جسمها البشري‪ ،‬ولكنه بعيد بعيد كالروح في سرها اللهي‪ ،‬فهسسو‬
‫معك على قدر ما أنت معه‪ ،‬إن وقفت علسسى حسسد وقسسف‪ ،‬وإن مسسددت‬
‫مد‪ ،‬وما أديت به تأدى‪ ،‬وليس فيه شيء مما تسراه لكسسل بلغسساء السسدنيا‬
‫من صناعة عبث القول‪ ،‬وطريقة تأليف الكلم‪ ،‬واستخراج وضع مسسن‬
‫وضع‪ ،‬والقيام على الكلمة حتى تسسبيض كلمسسة أخسسرى‪ ...‬والرغبسسة فسسي‬
‫تكثير سواد المعاني‪ ،‬وترك اللسان يطيش طيشه اللغوي يتعلق بكل‬
‫ما عرض له‪ ،‬ويحذر الكلم علسسى معسساني ألفسساظه‪ ،‬ويجتلسسب لسسه منهسسا‬
‫ويستكرهها على أغراضه‪ ،‬ويطلب لصناعته مسسن حيسسث أدرك وعجسسز‪،‬‬
‫ومن حيث كان ولم يكن؛ إنما هو كلم قيل؛ لتصير بسسه المعسساني إلسسى‬
‫حقائقها‪ ،‬فهسسو مسسن لسسسان وراءه قلسسب‪ ،‬وراءه نسسور‪ ،‬وراءه اللسسه جسسل‬
‫جلله؛ وهو كلم فسسي مجموعسسة كسأنه دنيسسا أصسدرها صسلى اللسه عليسسه‬
‫وسلم عن نفسه العظيمة‪ ،‬ل تبرح ماضية في طريقها السسسوي علسسى‬
‫دين الفطرة؛ فل تتسع لخلف‪ ،‬ول يقع بها التنافر؛ والخلف والتنسسافر‬
‫إنما يكونان من الحيوانيسسة المختلفسسة بطبيعتهسا؛ لقيامهسسا علسسى قسانون‬
‫التنازع تعدو به وتجترم وتأثم‪ ،‬فهي نازلة إلسسى الشسسر‪ ،‬والشسسر بعضسسه‬
‫أسفل من بعض؛ أما روحانية الفطرة فمتسقة بطبيعتها‪ ،‬ل تقبل في‬
‫ذاتها افتراًقا ول اختلًفا؛ إذ كسان أولهسا العلسو فسوق الذاتيسة‪ ،‬وقانونهسا‬

‫‪7‬‬
‫التعاون على البر والتقوى؛ فهي صاعدة إلسسى الخيسسر‪ ،‬والخيسسر بعضسسه‬
‫أعلى من بعض‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬الزائغون في التاريخ السلمي كله صنفان ليس لهمسسا ثسسالث‪ ،‬وقسسد‬
‫وصفهما الحديث الذي رواه البخاري بسنده إلسسى حذيفسسة بسسن اليمسسان‬
‫قال‪ :‬كان الناس يسألون رسسسول اللسسه صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم عسسن‬
‫الخير‪ ،‬وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني‪ ،‬فقلسست‪ :‬يسسا رسسسول‬
‫الله‪ :‬إنا كنا في جاهلية وشر‪ ،‬فجاءنا الله بهذا الخير‪ ،‬فهسسل بعسسد هسسذا‬
‫الخير من شر؟ قال‪" :‬نعم"‪ .‬قلت‪ :‬وهل بعسسد ذلسسك الشسسر مسسن خيسسر؟‬
‫قال‪" :‬نعم وفيه دخن"‪ .‬قلت‪ :‬ومسا دخنسه؟ قسسال‪" :‬قسوم يهسدون بغيسسر‬
‫هديي تعرف منهم وتنكر"‪ .‬قلت‪ :‬فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال‪:‬‬
‫"نعم‪ ،‬دعاة إلى أبواب جهنم‪ ،‬من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت‪ :‬يسسا‬
‫رسول الله‪ ،‬صفهم لي‪ .‬قال‪" :‬هم من جلدتنا‪ ،‬ويتكلمسسون بألسسسنتنا"‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسسسول اللسسه‪ ،‬فمسسا تسسأمرني إن أدركنسسي ذلسسك؟ قسسال‪" :‬تلسسزم‬
‫جماعة المسملين وإمسسامهم"‪ .‬قلسست‪ :‬فسسإن لسسم تكسسن لهسسم جماعسسة ول‬
‫إمام؟ قال‪" :‬فاعتزل تلك الفرق كلهسا‪ ،‬ولسو أن تعسض بأصسل شسجرة‬
‫حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"‪ .‬انتهى الحديث‪.‬‬
‫فتأمل قوله‪" :‬يهدون بغير هديي‪ ،‬تعسسرف منهسسم وتنكسسر"؛ فهسسؤلء هسسم‬
‫الذين يريدون الصلح للمسلمين ل من طريق السلم بل من طرق‬
‫أخرى فيهسسا معروفهسسا ومنكرهسسا‪ ،‬وفيسسه علمهسسا وجهلهسسا‪ ،‬وفيهسسا عقلهسسا‬
‫وحماقتهسسا‪ .‬ولعسسل مسسن هسسذا قسسولهم‪ :‬المدينسسة الوروبيسسة بحسسسناتها‬
‫وسيئاتها‪ ...‬وتأمل قوله‪" :‬إلى أبواب جهنم" فليست الدعوة إلى باب‬
‫واحد بل إلى أبسسواب مختلفسسة لعسسل آخسسر مسسا فتحسسوا منهسسا بسساب الدب‬
‫المكشوف‪...‬‬
‫ثم تأمل قوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ولو أن تعسسض بأصسسل شسسجرة"‬
‫فإن معناه استمساك بما بقي على الطبيعة السليمة مما ل يستطيع‬
‫أولئك أن يغيروه ول أن يجددوه‪ ،‬أي بالستمسسساك ولسسو بأصسسل واحسسد‬
‫من قديم الفضيلة واليمان‪ ،‬وعبارة العض شسجرة تمثسل أبسسدع وأبلسغ‬
‫وصف لمن يلزم أصول الفضائل في هذا الزمن‪ ،‬ومبلغ ما يعانيه في‬
‫التمسك بفضيلته‪ ،‬وهي وحدها فن كأجمل ما يبدعه مصور عبقري‪.‬‬
‫فكلمه صلى الله عليه وسلم مجرى عمله‪ :‬كله دين وتقوى وتعليسسم‪،‬‬
‫وكله روحانية وقوة وحياة؛ وإنه يخيل إلي وقد أخذت بطهره وجماله‬
‫ما في اللفاظ‪.‬‬ ‫أن من الفن العجيب أن يكون هذا الكلم صلة وصيا ً‬

‫‪8‬‬
‫أما أسلوبه صلى الله عليه وسلم فأجد له في نفسي روح الشسسريعة‬
‫ونظامها وعزيمتها‪ ،‬فليس له إل قوة قوة أمر نافذ ل يختلف‪ ،‬وإن له‬
‫صسا خلسوص‬ ‫قا هادًئا هدوء اليقين‪ ،‬مبيًنا بيان الحكمسة‪ ،‬خال ً‬‫مع ذلك نس ً‬
‫السر‪ ،‬واقًعا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها؛ وكيسسف ل‬
‫يكون كذلك وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمسسات ربهسسا ووحيسسه؛‬
‫ليتوجه بها العالم كأنه منه مكان المحور‪ :‬دورتسسه بنفسسسه هسسي دورتسسه‬
‫بنفسه وبما حوله‪ ،‬روح نبي مصلح رحيم‪ ،‬هو بإصسسلحه ورحمتسسه فسسي‬
‫النسانية‪ ،‬وهو بالنبوة فوقها‪ ،‬وهو بهذه وتلسسك فسسي شسسمائله وطبسساعه‬
‫مجمسسوع إنسسساني عظيسسم لسسو شسسبه بشسسيء لقيسسل فيسسه‪ :‬إنسسه كمجمسسوع‬
‫القارات الخمس لعمران الدنيا‪.‬‬
‫ومن درس تاريخه صلى الله عليه وسسسلم وأعطسساه حقسسه مسسن النظسسر‬
‫قا من التاريسسخ العجيسسب كنظسسام فلسسك مسسن‬ ‫والفكر والتحقيق‪ ،‬رأى نس ً‬
‫الفلك موجه بالنور في النور من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي‪ ،‬فليسسس‬
‫يمتري عاقل مميز أن هذه الحياة الشسسريفة‪ ،‬بسسذلك النظسسام السسدقيق‪،‬‬
‫في ذلك التوجه المحكم ‪-‬ل يطيقها بشر من لحم ودم علسسى نسساموس‬
‫الحياة إل إذا كان في لحمه ودمه معنى النور والكهرباء على ناموس‬
‫أقوى من الحياة‪.‬‬
‫ولم يكن مثله صلى الله عليه وسلم فسسي الصسسبر والثبسسات واسسستقرار‬
‫النفس واطمئنانها علسسى زلل السسدنيا‪ ،‬ول فسسي الرحمسسة ورقسسة القلسسب‬
‫والسمو فوق معاني البقسساء الرضسسي؛ فهسسو قسسد خلسسق كسسذلك؛ ليغلسسب‬
‫الحسسوادث ويتسسسلط علسسى المسسادة؛ فل يكسسون شسسأنه شسسأن غيسسره مسسن‬
‫دهم‬ ‫الناس‪ :‬تدفنهم معاني السستراب وهسسم أحيسساء فسسوق السستراب‪ ،‬أو يحس ّ‬
‫الجسم النساني من جميع جهاتهم بحسسدود طبسساعه ونزعسساته؛ وبسسذلك‬
‫مسسا‪،‬‬
‫فقد كان عليه الصلة والسلم منبع تاريخ في النسسسانية كلهسسا دائ ً‬
‫ولرأس الدنيا نظام أفكاره الصحيحة‪.‬‬
‫عن عبد الله بن عمر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬قسال‪ :‬سسمعت رسسول اللسسه‬
‫صلى الله عليه وسلم يقول‪" :‬انطلق ثلثسسة رهسسط ممسسن كسسان قبلكسسم‬
‫حتى أووا المبيت إلسسى غسسار فسسدخلوه‪ ،‬فانحسسدرت صسسخرة مسسن الجبسسل‬
‫فسدت عليهم الغار‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنه ل ينجيكم مسسن هسسذه الصسسخرة إل أن‬
‫تدعوا الله بصالح أعمالكم! فقال رجل منهم‪ :‬اللهم كسسان لسسي أبسسوان‬
‫شيخان كبيران‪ ،‬وكنت ل أغبق قبلهمسسا أهًل ول ‪ 1‬مسساًل فنسسأى بسسي فسسي‬
‫ما فلم أرح عليهما حتى نامسسا‪ ،‬فحلبسست لهمسسا غبوقهمسسا‬ ‫طلب شيء يو ً‬
‫فوجدتهما نائمين‪ ،‬فكرهت أن أغبق قبلهما أهًل أو ماًل‪ ،‬فحلبت لهمسسا‬
‫غبوقهما فوجسسدتهما نسسائمين‪ ،‬فكرهسست أن أغبسسق قبلهمسسا أهًل أو مسساًل‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫فلبثسست والقسسدح علسسى يسسدي أنتظسسر اسسستيقاظهما حسستى بسسرق الفجسسر‪،‬‬
‫فاستيقظا فشربا غبوقهما‪ ،‬اللهم إن كنت فعلت ذلسسك ابتغسساء وجهسسك‬
‫ففسسرج عنسسا مسسا نحسسن فيسسه مسسن هسسذه الصسسخرة! فسسانفرجت شسسيًئا ل‬
‫يستطيعون الخروج"‪.‬‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬وقال الخر‪ :‬اللهم كانت لي بنسست‬
‫عم كانت أحب الناس إلي‪ ،‬فأدرتها عن نفسها فامتنعت منسسي‪ ،‬حسستى‬
‫ألمت بها سنة ‪ 2‬من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينسسار‬
‫على أن تخلي بينسسي وبيسسن نفسسسها! ففعلسست‪ ،‬حسستى إذا قسسدرت عليهسسا‬
‫قالت‪ :‬ل أحل لك أن تفض الخاتم إل بحقسسه! فسسترحجت مسسن الوقسسوع‬
‫عليها‪ ،‬فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي‪ ،‬وتركسست السسذهب السسذي‬
‫أعطيتها‪ ،‬اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا مسسا نحسسن‬
‫فيه! فانفرجت الصخرة غير أنهم ل يستطيعون الخروج منها"‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫دا أو جماعته قبلهما‪.‬‬
‫‪ 1‬أي ل يسقي الغبوق أح ً‬
‫‪ 2‬سنة‪ :‬جدب وقفر‪.‬‬
‫قسسال النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم‪" :‬وقسسال الثسسالث‪ :‬اللهسسم إنسسي‬
‫استأجرت فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد تسسرك السسذي لسسه وذهسسب‪،‬‬
‫فثمرت أجره حتى كثرت منه الموال‪ ،‬فجساءني بعسد حيسن فقسال‪ :‬يسا‬
‫ي أجري‪ .‬فقلت له‪ :‬كل ما ترى من أجرك‪ ،‬مسسن البسسل‬ ‫عبد الله‪ ،‬أد ّ إل ّ‬
‫والبقر والغنم والرقيق! فقال‪ :‬يا عبد اللسسه ل تسسستهزئ بسسي! فقلسست‪:‬‬
‫إني ل أستهزئ بك! فأخذه كله فاستاقه فلم يترك شيًئا‪ .‬اللهسسم فسسإن‬
‫كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهسك فسافرج عنسا مسا نحسن فيسه! فسانفرجت‬
‫الصخرة فخرجوا يمشون"‪ .‬انتهى الحديث‪.‬‬
‫وأنا فلست أدري‪ ،‬أهذا هو النبي صلى اللسسه عليسسه وسسسلم يتكلسسم فسسي‬
‫النسانية وحقوقها بكلم بّين صريح فل فلسسسفة فيسسه‪ ،‬يجعسسل مسسا بيسسن‬
‫النسان والنسان من النية هو ما بين النسان وربسسه مسسن السسدين؛ أم‬
‫هي النسانية تنطق على لسانه بهذا البيسسان العسسالي‪ ،‬فسسي شسسعر مسسن‬
‫شعرها ضاربة فيه المثال‪ ،‬مشيرة فيه إلى الرموز‪ ،‬واضسسعة إنسسسانها‬
‫بين شدة الطبيعة ورحمسسة اللسسه‪ ،‬محكمسسة عناصسسر روايتهسسا الشسسعرية‪،‬‬
‫محققة في بيانهسا المكشسسوف أغمسسض معانيهسا فسسي فلسسسفة الحاسسسة‬
‫النسانية حيسن تتصسل بأشسسيائها فتظهسر الضسسرورة البشسرية وتختفسي‬
‫الحكمسسة‪ ،‬وفلسسسفة السسروح حيسسن تتصسسل بهسسذه الشسسياء ذاتهسسا فتظهسسر‬
‫الحكمة وتختفي الضوررة ‪-‬مبينة أثر هذه وتلسسك فسسي طبيعسسة الكسسون‪،‬‬
‫مقررة أن الحقيقة النسانية العالية لن تكون فيما ينال النسان مسسن‬

‫‪10‬‬
‫لذته‪ ،‬ول فيما ينجح من أغراضه‪ ،‬ول فيما يقنعه من منطقه‪ ،‬ول فيما‬
‫يلوح من خياله‪ ،‬ول فيما ينتظم من قوانينه؛ بل هي السمو على هذه‬
‫الحقائق الكاذبة كلها‪ ،‬وهي الرحمة التي تغلب على الثسسرة فيسسسميها‬
‫الناس بًرا‪ ،‬والرحمة التي تغلب على الشهوة فيسميها النسساس عفسسة‪،‬‬
‫والرحمة التي تغلب على الطمع فيسسسميها النسساس أمانسسة؛ وهسسي فسسي‬
‫ضبط الروح لثلث من الحواس‪ :‬حاسة الدعسسة السستي يقسسوم بهسسا حسسظ‬
‫الخمول‪ ،‬وحاسة اللذة التي يقوم بهسسا حسسظ الهسسوى‪ ،‬وحاسسسة التملسسك‬
‫التي يقوم بها حظ القوة‪.‬‬
‫وتزيد النسانية على ذلك في نسق شسسعرها أنهسسا تثبسست أن السسبر مسسن‬
‫العفة والمانة هو على إطلقه كالساس لهمسسا؛ فمسسن نشسسأ علسسى بسسر‬
‫قا أن يتحقق بالعفسسة والمانسسة‪ ،‬وأن العفسسة مسسن المانسسة‬ ‫أبويه كان خلي ً‬
‫والبر هي مسسساكهما وجامعتهمسسا فسسي النفسسس‪ ،‬وأن المانسسة مسسن السسبر‬
‫والعفة هي كمال هذه الفضائل‪ ،‬وكلهن درجات لحقيقة واحسسدة‪ ،‬غيسسر‬
‫أن بعضها أسمى مسسن بعسسض فسسي الشسسأن والمنزلسسة‪ ،‬وبعضسسها طريسسق‬
‫لبعض يجر سبب منها سسبًبا منهسا‪ ،‬وأن الرحمسة النسسانية الستي هسي‬
‫وحدها الحقيقة الكبرى إنما هي هذا الحسسب‪ ،‬بسسادًئا مسسن الولسسد لبسسويه‪،‬‬
‫وهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته‪ ،‬وهسسو الحسسب الخسسص‪ ،‬ثسسم‬
‫من النسسسان للنسسسانية‪ ،‬وهسسو الحسسب مطلقًسسا بعمسسومه وبغيسسر أسسسبابه‬
‫الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجات كسسدرجات الحيسساة نفسسسها‬
‫من طفوتها إلى شبابها إلى الشيخوخة‪ ،‬ومسسن العاطفسسة إلسسى الرغبسسة‬
‫إلى العقل‪.‬‬
‫ثم إنه ما دام كمال الفضيلة هو المانة‪ ،‬فما قبلهسسا أنسسواع منهسسا؛ فسسبر‬
‫الولسسد أمانسة الطبسسع المتسأدب‪ ،‬وعفسة المحسسب أمانسسة القلسسب الكريسم‪،‬‬
‫قا ثابًتسسا‬
‫والثالثة أمانة الخلق العالي‪ ،‬وهي أسماهن؛ لنها لن تكون خل ً‬
‫إل وقسسد خضسسع لقانونهسسا الطبسسع والقلسسب‪ ،‬ودخسسل فسسي أسسسبابها الدب‬
‫والكرم؛ فالمانة الكاملة فسسي هسسذه الفلسسسفة هسسي المانسسة للنسسسانية‬
‫العامة المتصلة والكسسرم؛ فالمانسسة الكاملسسة فسسي هسسذه الفلسسسفة هسسي‬
‫المانسسة للنسسسانية العامسسة المتصسسلة بسسالمرء مسسن أبعسسد جهسساته‪ ،‬دون‬
‫النسانية الخاصة بكل شخص من أب‪ ،‬أو أم‪ ،‬أو قريسسب؛ ودون السستي‬
‫هي أخص وهي إنسانية الحب‪.‬‬
‫ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل مسسن هسسؤلء السسذين مثلسسوا روايسسة‬
‫النسانية الفاضلة في فصولها الثلثة‪ ،‬ل يقول إنه فعل ما فعسسل مسسن‬
‫ه{ ]البقسسرة‪ ،[272 :‬وقسسد تطسسابقوا‬ ‫جسهِ الل ّس ِ‬
‫صالح أعماله‪} :‬إ ِل ّ اب ْت َِغاَء وَ ْ‬
‫جميًعا على هذه الكلمة‪ ،‬وهي من أدق ما في فلسفة النسسسانية فسسي‬

‫‪11‬‬
‫دا‬
‫شعرها ذلك‪ ،‬فإن معناها أن الرجل في صالح عمله إنما كان مجاه ً‬
‫نفسه‪ ،‬يمنعها مسا تحسسرص عليسسه مسن حظهسسا أو لسسذتها أو منفعتهسسا‪ ،‬أي‬
‫منخلعًسسا مسسن طسسبيعته الرضسسية المنازعسسة لسسسواها‪ ،‬المنفسسردة بسسذاتها‪،‬‬
‫دا إل بهسسا‪ ،‬وهسسي‬
‫قا بالطبيعسسة السسسماوية السستي ل يرحسسم اللسسه عبس ً‬
‫متحق ً‬
‫رحمة النسان غيره‪ ،‬أي اندماجه باستطاعته وقسسوته‪ ،‬وإعطسساؤه مسسن‬
‫ذات نفسه ومعاونته كف أذاه‪.‬‬
‫والحديث كالنص على أن هذه الرحمة فسسي النفسسس هسسي السسدين عنسسد‬
‫الله‪ ،‬ل يصلح دين بغيرها‪ ،‬ول يقبسسل اللسسه صسسرًفا ول عسسدًل مسسن نفسسس‬
‫تخلو منها؛ وإذا كانت بهذه المنزلة‪ ،‬وكانت أسسساس مسسا يفسسرض علسسى‬
‫النسان من الخير والحق‪ ،‬فهي من ذلك في معنى الحسسديث أسسساس‬
‫ما يصلح هذه النسانية من الشر والباطل؛ وبهسسذا كلسسه تكسسون الغايسسة‬
‫الفلسفية التي ينتهي إليها كلمه صلى اللسسه عليسسه وسسسلم‪ ،‬أن تنشسسئة‬
‫النساس علسى السبر والعفسة والمانسة للنسسانية هسسي وحسسدها الطريقسة‬
‫العملية الممكنة لحل معضلة الشر والجريمة في الجتماع البشسسري‪.‬‬
‫وانظر كيف جعل نهاية السمو في رحمة المسسال السسذي يصسسفونه بسسأنه‬
‫شقيق الروح‪ ،‬فكأن النسان ل يخرج فيها لغيره من بعض مساله‪ ،‬بسل‬
‫ينخلع من بعض روحه؛ وهسسذا يقسسرر لسسك فلسسسفة أخسسرى أن السسسعادة‬
‫النسانية الصسسحيحة فسسي العطسساء دون الخسسذ‪ ،‬وأن الزائفسسة هسسي فسسي‬
‫الخذ دون العطاء؛ وذلك آخسسر مسسا انتهسست إليسسه فلسسسفة الخلق؛ فمسسا‬
‫المرء إل ثمرة تنضج بموادها‪ ،‬حتى إذا نضجت واحلولت كسسان مظهسر‬
‫كمالهسسا ومنفعتهسسا فسسي الوجسسود أن تهسسب حلوتهسسا فسسإذا هسسي أمسسسكت‬
‫الحلوة على نفسها لم يكن إل هذه الحلوة بعينها سسسبب فسسي عفنهسسا‬
‫وفسادها من بعد‪ .‬أفهمت؟‬
‫وما دمنا قد وصفنا رحمة المال‪ ،‬فإنا نتسسم الكلم فيهسسا بهسسذا الحسسديث‬
‫العجيب في فن تمثيله وبلغة فنه‪ :‬عن أبي هريرة ‪-‬رضي اللسسه عنسسه‪-‬‬
‫أنه سمع رسول الله صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم يقسسول‪" :‬مثسسل البخيسسل‬
‫والمنفق كمثسسل رجليسسن عليهمسسا جبتسسان مسسن حديسسد‪ ،‬مسسن ثسديهما إلسسى‬
‫تراقيهما؛ فأما المنفق فل ينفق إل سبغت أو وفرت على جلده حسستى‬
‫تخفي بنانه وتعفو أثره‪ ،‬وأما البخيل فل يريد أن ينفق شيًئا إل لزقت‬
‫كل حلقة مكانها‪ ،‬فهو يوسعها فل تتسع"‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فأنت ترى ظاهر الحديث‪ ،‬ولكن فنه العجيب في هسسذا الحديسسد السسذي‬
‫يراد به طبيعة الخير والرحمة في النسان‪ ،‬فهسسي مسسن أشسسد الطبسسائع‬
‫دا وصلبة واستعصاء متى اعترضسستها حظسسوظ النفسسس الحريصسسة‬ ‫جمو ً‬
‫وأهواءها‪ ،‬ومع ذلسك فسإن السسخاء بالمسال يبسسط منهسا وينتهسي فسي‬

‫‪12‬‬
‫الطبع إلى أن يجعلها لينة‪ ،‬فل تزال تمتد وتسبغ حتى يكون والنفسساق‬
‫راضها رياضة عملية كرياضة العضسسل بأثقسسال الحديسسد ومعانسساة القسسوة‬
‫في الصراع ونحوه؛ أما الشيخ فل يناقض تلك الطبيعة ولكنسسه يسسدعها‬
‫جامدة مستعصية ل تلين ول تستجيب ول تتيسر‪.‬‬
‫وقد جعل الجبة مسسن الثسسدي إلسسى السستراقي‪ ،‬وهسسذا مسسن أبسسدع مسسا فسسي‬
‫الحديث؛ لن كل إنسان فهو منفق على ضروراته‪ ،‬يستوي فسسي ذلسسك‬
‫الكريسسم والبخيسسل‪ ،‬فهمسسا علسسى قسسدر سسسواء مسسن هسسذه الناحيسسة؛ وإنمسسا‬
‫التفاوت فيما زاد وسسسبغ مسسن وراء هسسذا الحسسد‪ ،‬فههنسسا يبسسسط الكريسسم‬
‫بسطه النساني‪ ،‬أما البخيل فهو "يريد"؛ لنسسه إنسسسان‪ ،‬والرادة علسسم‬
‫عقلي ل أكثر‪ ،‬فإذا هسسو حسساول تحقيسسق هسسذه الرادة وقسسع مسسن طبيعسسة‬
‫نفسه الكزة فيما يعانيه من يوسع جبة من الحديد لزقسست كسسل حلقسسة‬
‫من حلقاتها في مكانها‪ ،‬فهي‪ ،‬مستعصية متماسكة‪ ،‬فهو يوسسسعها فل‬
‫تتسع‪.‬‬
‫أل ترى كيف تتوجه الحجسسة‪ ،‬وكيسسف تسسدق الفلسسسفة وهسسي فسسي أظهسسر‬
‫البيان وأوضحه؟ وهل تحسب طبيعة البخيل في دقائقها النفسية لسسو‬
‫هي نطقت ‪-‬بالغة مسسن وصسسف نفسسسها هسسذا المبلسسغ مسسن جمسسال الفسسن‬
‫وإبداعه؟ وهو بعد وصف لو نقل إلى كل لغات الرض لزانها جميًعسسا‪،‬‬
‫ولكان في جميعها كالنسان نفسه‪ :‬ل يختلف تركيبه فلن يكون بثلثة‬
‫أعين‪ ،‬ل في بلد شكسبير ول في بلد الزنوج‪.‬‬
‫إن كلم نبينا صلى الله عليه وسلم يجب أن يترجم بفلسسسفة عصسسرنا‬
‫وآدابه‪ ،‬فستراه حينئذ كأنما قيل مرة أخرى من فم النبسسوة‪ ،‬وسسستراه‬
‫في شرحه الفلسفي كالزهار الناضرة‪ :‬حياتهسا بشاشستها فسسي النسسور؛‬
‫وتعرفه إنسانية قائمسسة تصسسحح بهسسا أغلط الزمسسن فسسي أهلسسه‪ ،‬وأغلط‬
‫النسساس فسسي زمنهسسم؛ وتجسسده يسسرف علسسى البشسسرية المسسسكينة بحنسسان‬
‫كحنان الم على أطفالها‪ ،‬والناس الن كالطفال غسسابت أمهسسم‪ ،‬فهسسم‬
‫فسسي تنسسافر صسسبياني‪ ..‬ومسسا الم بطبيعتهسسا إل الميسسزان لسسستبدادهم‪،‬‬
‫والحكمة لطيشهم‪ ،‬والئتلف لتنسسافرهم‪ ،‬والنظسسام لعبثهسسم؛ وبالجملسسة‬
‫فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة‪.‬‬
‫وقد كتبنا في فلسفة الدب وحقيقته‪ ،‬ومعانيه النسانية‪ ،‬وأن الديسسب‬
‫التام الداة هو النسان الكوني‪ ،‬وغيره هو النسسسان فقسسط‪ ،‬وأن علسسم‬
‫الديسسب هسسو النفسسس النسسسانية بأسسسرارها المتجهسسة إلسسى الطبيعسسة‪،‬‬
‫والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضعه من الحيسساة‬
‫موضع فكرة حدودها من كسسل نواحيهسسا السسسرار ‪-‬وأن الديسسب مكلسسف‬
‫بتصحيح النفس النسانية ونفي التزوير عنها‪ ،‬وإخلصسسها ممسسا يلتبسسس‬

‫‪13‬‬
‫بها على تتابع الضرورات‪ ،‬ثم تصحيح الفكرة النسسسانية فسسي الوجسسود‪،‬‬
‫ونفي الوثنية عن هذه الفكرة‪ ،‬والسمو بها إلى فوق‪ ،‬ثم إلسسى فسسوق‪،‬‬
‫ما إلى فوق ‪.1‬‬ ‫ودائ ً‬
‫فإذا تدبرت هذا المقال‪ ،‬واعتبرت كلم النبي صلى الله عليسسه وسسسلم‬
‫على ما بينا وشرحنا‪ ،‬وأخذته من عصسسره ومسسن العصسسر السسذي نعيسسش‬
‫فيه‪ ،‬ونظرت إلى ألفاظه ومعانيه‪ ،‬واسسستبرأت مسسا بينهسسا مسسن خسسواص‬
‫الفن بمثل ما نبهناك إليه من التأويل الذي مر بسسك‪ ،‬وعلمسست أن كسسل‬
‫حقيقة فنيسسة ل تكسسون كسسذلك إل بخاصسسة فيهسسا‪ ،‬وأن سسسر جمالهسسا فسسي‬
‫خاصتها ‪-‬إذا جمعت ذلك لم تر مذهًبا عسسن القسسرار بسسأن النسسبي صسسلى‬
‫الله عليه وسلم كما هو أعظم نبي وأعظم مصلح‪ ،‬فهو أعظم أديب؛‬
‫لن فنه الدبي أعظم فن يحقق للنسسسانية حيسساة أخلقهسسا‪ ،‬وهسسو بكسسل‬
‫ذلك أعظم إنسان‪ .‬صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫فالفن في هذه البلغة هسسو فسسي دقسسائقه أثسسر تلسسك السسروح العليسسا بكسسل‬
‫خصائصها العظيمة السستي يحتسساج إليهسسا الوجسسود الروحسساني علسسى هسسذه‬
‫الرض‪ ،‬ولذا ترى كلمسسه صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم يخسسرج مسسن حسسدود‬
‫الزمان‪ ،‬فكل عصر واجد فيه ما يقال له‪ ،‬وهو بذلك نبوة ل تنقضسسي‪،‬‬
‫وهو حي بالحياة ذاتهسسا‪ ،‬وكأنمسسا هسسو لسسون علسسى وجسسه منهسسا كمسسا تسسرى‬
‫البياض مثًل هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري‪...‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬نشر هذا المقال في مقتطف شهر يوليسسو سسسنة ‪ ،1932‬وأكسسثر مسسا‬
‫ما لفلسفة هذا الفصل؛ وسنجمع كل مقالتنا فسسي كتسساب‬ ‫فيه يعد متم ً‬
‫يصدر إن شاء الله في آخر صيف هذا العام؟‬
‫قلت‪ :‬وأحسبه كان يعني كتابه "قول معروف" وقد استغني عنه بهذا‬
‫الكتاب "‬
‫فإذا نظرت في هذا الفن فانظره في حديثه‪ ،‬وفي عمله‪ ،‬وفي الدنيا‬
‫التي ألفها من التاريخ تأليف القطعة البليغة النسسادرة مسسن الكلم‪ ،‬ورد‬
‫كل ما تدبرته من ذلك إلى تلك السسروح الجديسسدة علسسى تاريسسخ الرض؛‬
‫فلتعلمن حينئذ أن كل بليغ هو شمعة مضيئة صنعت لهسسا مسسادة النسسور‬
‫نوًرا وجماًل بجانب هذه الشمس التي خلقت فيهسسا مسسادة النسسور نسسوًرا‬
‫وجماًل وحياة وقوة؛ هناك نور لذي عينين‪ ،‬وهنا النور لكل ذي عينين‪،‬‬
‫وذاك يتخايل كالحلم‪ ،‬وهذا يفصح كالحقيقة‪ ،‬وذلسسك ضسسوء مسسن حسسوله‬
‫الظلمة دانية‪ ،‬وهذا قد طسسرد الظلمسسة عسسن نصسسف السسدنيا إلسسى نصسسف‬
‫الدنيا؛ والول نور بل روح‪ ،‬والثاني هو روح النور‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫تلك في رأينا هي الطريقة التي كان يفهمسه بهسا أصسحابه صسلى اللسه‬
‫عليه وسلم‪ ،‬كما يفهم الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعسسان مسسن‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬ومن النفس والحالسسة‪ ،‬ومسسن الهيئة والشسسكل‪ ،‬ومسسن‬
‫العين والفكر‪ ،‬ومن السماء والرض‪ ،‬ففيه النور وزيادة‪ ،‬أي الحقيقسسة‬
‫وما ترتفع بها على نفسها؛ وبهذه الطريقة كانوا معه كأعظم فلسفة‬
‫دا وطاعة حتى انخلعوا من عصرهم‬ ‫الفن مع الفن إعجاًبا وحًبا وانقيا ً‬
‫ودنياهم‪ ،‬وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم‪ ،‬وانجذبوا إليه أشد انجذاب‬
‫عرفه التاريخ‪ ،‬وأصبحوا مصرفين معه تصسسريف الحسسوادث ل تصسسريف‬
‫الشسخاص‪ ،‬وعسادت أنفسسسهم وكسأن تسأثير الرض يلتقسسي فيهسا بتسسأثير‬
‫السماء فيغسل في سحب عالية فل يكون فيهسسا كمسسا يريسسده النسساس‪،‬‬
‫بل كما يريد الله؛ ورجعت قلوبهم ل تلبس على دينها رأي ًسسا ول هسسوى‪،‬‬
‫سا علسسى كسسل سسسمع وعلسسى كسسل بصسسر؛‬ ‫وكأنما وضع لها هذا الدين حر ً‬
‫وبالجملة فأولئك قوم كأنما تنسساولهم النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم‬
‫فأفرغهم ثم ملهم‪ ،‬وما انتقلوا إلى منزلهسسم العاليسسة فسسي التاريسسخ إل‬
‫بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من منازل نفسه الشريفة‪.‬‬
‫وناهيك من رجال يمثل لهم بهذا المثل الذي يضربه لهم في اليمسسان‬
‫ليبلغوه أو يقاربوه‪ ،‬فعسسن خبسساب بسسن الرت ‪-‬رضسسي اللسسه عنسسه‪ -‬قسسال‪:‬‬
‫شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسسسد بسسردة لسسه‬
‫في ظل الكعبة‪ ،‬قلنا‪ :‬أل تستنصر لنا؟ أل تدعو الله لنا؟ قسسال‪" :‬كسسان‬
‫الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشسسار‬
‫فيوضع على رأسه فيشق باثنين وما يصده ذلك عسسن دينسسه‪ ،‬ويمشسسط‬
‫بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصسسب ومسسا يصسسده ذلسسك‬
‫عن دينه!"‬
‫ضا‬‫فانظر يا هذا‪ ،‬فإنه لو اجتمعت قوى الكون فجاءت يشد بعضها بع ً‬
‫فنزلسست فسسي عبسسارة مسسن الكلم لتمل نفسسوس المسسؤمنين بقوتهسسا لمسسا‬
‫وضعت إل هذا الوضع من هذا التمثيسسل بأمشسساط المسسسامير وأسسسنان‬
‫المنشار في عظم النسان الحي ولحمسسه‪ .‬وظسساهر التمثيسسل علسسى مسسا‬
‫رأيت من العجب‪ ،‬ولكن له باطًنا أعجب من ظاهره‪ ،‬وهو البلغة كل‬
‫البلغة والبيان حسسق البيسسان‪ ،‬فإنمسسا يريسسد صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم أن‬
‫مسسا‬
‫مسسا ولح ً‬
‫الحديد ل يأكل ول يمزع مسسن أولئك القويسساء بإيمسسانهم عظ ً‬
‫دا مثلسسه أو أشسسد منسسه‪ ،‬فسسإن للسسروح‬
‫وعصًبا‪ ،‬بل هسسو حديسسد يأكسسل حدي س ً‬
‫المؤمنة السلطة على جسمها قوة تصنع هذه المعجزة‪ ،‬فيمر الحديد‬
‫في العظم واللحسسم والعصسسب يسسسلبها الحيسساة‪ ،‬ولكنهسسا تسسسلبه شسسدته‬
‫وجلده وصبره!‬

‫‪15‬‬
‫وكل ما جاء من التمثيل في كلمه صلى الله عليه وسلم ينطوي فيه‬
‫من إبداع الفن البياني وإعجازه ما يفوت حدود البلغاء‪ ،‬حتى ل تشك‬
‫إذا أنت تدبرته بحقه مسسن النظسسر والعلسسم أن بلغتسسه إنمسسا هسسي شسسيء‬
‫كبلغة الحياة في الحسسي‪ :‬هسسي البلغسسة ولكنهسسا أبسسدع ممسسا هسسي؛ لنهسسا‬
‫ضا‪.‬‬
‫الحياة أي ً‬
‫وأنت خبير أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسسلم كسانت تأخسذه‬
‫عند نزول السسوحي عليسسه أحسسوال وصسسفت فسسي كتسسب الحسسديث‪ :‬قسسالت‬
‫عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬ولقد رأيته ينسسزل عليسسه السسوحي فسسي اليسسوم‬
‫الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرًقا‪ .‬وفي حسسديث آخسسر‬
‫عنها قالت‪ :‬فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حسستى أنسسه ليتحسسدر عنسسه‬
‫ت‪ .‬وفسسي حسسديث زيسسد بسسن ثسسابت‪:‬‬ ‫مثل الجمان من العرق في يوم شا ٍ‬
‫فأنزل الله ‪-‬عز وجل‪ -‬على رسوله صلى اللسسه عليسسه وسسسلم‪ ،‬وفخسسذه‬
‫ض فخسسذي‪ .‬وفسسي حسسديث‬ ‫على فخذي‪ ،‬فثقلت علي حتى خفت أن تر ّ‬
‫يعلى بن أمية حين قال لعمر‪ :‬أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين‬
‫يوحي إليه‪ ،‬فأشار عمر إلي‪ ،‬فجئت وعلسسى رأس رسسسول اللسسه صسسلى‬
‫الله عليه وسلم ثوب قد أظل به فأدخلت رأسي‪ ،‬فسسإذا رسسسول اللسسه‬
‫ط‪ ،‬أي يسسردد نفسسسه مسسن‬ ‫صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهسسو يغس ّ‬
‫شدة ثقل الوحي‪ .‬فهذه كلها أحوال تصف عمل الدماغ بكل مسسا فيسسه‬
‫من جهد القوى العصبية؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها ويتركها لسسوعي‬
‫الروح وحدها‪ ،‬ل يشاركها في هذا الوعي فكر ول هاجس‪ ،‬ول يتصسسل‬
‫به شيء من حياة الحي‪ ،‬فيتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم وجسسود‬
‫آخر غير وجوده المحدود بجسمه وطباعه ودنياه؛ ويخرج بسسوعيه مسسن‬
‫هذه الجاذبية الرضية إلى ما وراء حدود الطبيعسسة مسسن قسسوى الغيسسب؛‬
‫وبذلك يتلقى عن روح الكون‪ ،‬ثم يفصسسم عنسسه وقسسد وعسسى مسسا أوحسسي‬
‫ض برهان قسساطع‬ ‫إليه‪ .‬وما وصفه زيد بن ثابت من أن فخذه كادت تر ّ‬
‫على أن روحه صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم تنسسسرح مسسن جسسسمه سسساعة‬
‫الوحي فيثقل الجسم؛ لنه إنما يخف بالروح وتبقسسى وظسسائف الحيسساة‬
‫عاملة أعمالها بعسر وبطء؛ لتصالها بشسعاع مسن السروح دون السروح‬
‫بجملتها؛ ولسنا هنا بصدد الكلم عن الوحي‪ ،‬فله موضع إن شاء اللسسه‬
‫ل على أن هذه التهيئة‬ ‫في كتابنا "أسرار العجاز"‪ ،1‬وإنما نريد أن ند ّ‬
‫اللهية لذلك الجهاز العصبي لها أثرها العظيم فسي فسسن بلغتسسه صسلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬وبها امتاز عن كسسل بلغسساء السسدنيا؛ فسسإن الملهسسم مسسن‬
‫أفذاذ العبقريين على هذه الرض إنما يبلغ ما يبلغه ببعض هسسذا السسذي‬
‫رأيت‪ ،‬وفي بعض هذا أبدع ما ورثت الدنيا مسسن فنسسون البيسسان‪ ،‬وكسسأن‬

‫‪16‬‬
‫في السدماغ مسادة فسي موضسع منسه يميسز بهسا مسن تختسارهم السسماء‬
‫لحكمتهسسا وإلهامهسسا‪ ،‬وإذا كسسان فسسن العبقرييسسن هسسو أسسسمى الكلم‬
‫النساني؛ لما خصوا به من هذه التهيئة‪ ،‬فسسإن فنسسه صسسلى اللسسه عليسسه‬
‫وسلم يكون ول جرم من باب الكبر مما هو أكبر في إلهام النسانية‬
‫كلها‪.‬‬
‫ولهذه القوة النادرة كان بيانه قوًيا على مزج معانيه بالنفس بما فيه‬
‫من صنعة الحياة‪ ،‬وإنمسسا فلسسسفة البيسسان الفنسسي أن تمتسسد الحيسساة مسسن‬
‫النفس إلى اللفظ‪ ،‬فتصنع فيه صسسنعها‪ ،‬فتفصسسل العبسسارة الفنيسسة عسسن‬
‫كاتبهسسا أو قائلهسسا وهسسي قطعسسة مسسن كلمسسه؛ لتسسستحيل عنسسد قارئهسسا أو‬
‫سامعها قطعسسة مسسن الحيسساة فسسي صسسورة مسسن صسسور الدراك؛ فالبيسسان‬
‫الفني هو الوسيلة لحمل الوجود وبعثرته في مواضسسع غيسسر مواضسسعه‪،‬‬
‫قا آخر في النفس النسانية؛ وبذلك يؤول قوله صسسلى اللسسه‬ ‫وخلقه خل ً‬
‫عليه وسسسلم‪" :‬إن مسسن البيسسان لسسسحًرا"‪ .‬جعسسل نوع ًسسا مسسن البيسسان هسسو‬
‫السحر‪ ،‬ل البيان كله‪ ،‬فالحسسديث كسسالنص علسسى مسسا تسسسميه الفلسسسفة‬
‫الوروبية اليوم "بالبيان الفنسسي"‪ ،‬كسسأنه قسسال‪ :‬إن مسسن البيسسان فن ًسسا هسسو‬
‫سحر من عمل النفس في اللغة تغير به الشياء‪ ،‬وله عجسسب السسسحر‬
‫وتأثيره وتصرفه؛ وهذا معنى لم يتنبه إليه أحد‪ ،‬ول يذكر معه كسسل مسسا‬
‫قالوه في تفسير الحسسديث‪ ،‬وبسسذلك التأويسسل يكسسون هسسذا الحسسديث قسسد‬
‫احتوى أسمى حقيقة فلسفية للفن‪.‬‬
‫ضا ما تراه من شدة الوضوح في كلمسسه صسسلى‬ ‫ومن أثر تلك القوة أي ً‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬ولقد رأينا هذه البلغة النبوية العجيبسسة قائمسسة علسسى‬
‫أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة ل لفظ اللغة‪ ،‬فالعناية فيهسسا بالحقسسائق‪،‬‬
‫ثم الحقائق هي تختسار ألفاظهسسا اللغويسة علسى منازلهسا؛ وبسسذلك يسأتي‬
‫الكلم كأنه نطق للحقيقة المعبر عنها‪ ،‬والكلمة الصادقة تنطق مسسرة‬
‫واحدة؛ فصورتها اللغويسسة ل تكسسون إل صسسريحة منكشسسفة عسسن معناهسا‬
‫المضيء كأنما ألقي فيها النور‪.‬‬
‫وهو معلوم أنه صلى الله عليه وسلم ل يتكلف ول يتعمل‪ ،‬ولم يكتب‬
‫ولم يؤلف‪ ،‬ومع هذا ل تجد في بلغته موضًعا يقبل التنقيح‪ ،‬أو تعرف‬
‫له رقة من الشأن كأنما بين اللفاظ ومعانيها في كل بلغته مقيسساس‬
‫وميزان‪ ،‬أو كأن هذه البلغة تنبثق بسسالكلم علسسى طبيعسسة عاملسسة فيسسه‬
‫بقواها الدائبة الثابتة‪ ،‬ففنها الجميل هو التركيب الذي تجيء فيه كمسسا‬
‫ترى الشجر مثًل كاسسًيا مسسن ورقسسه وزهسسره‪ ،‬فسسأنت منسسه بسسإزاء عمسسل‬
‫جميسسل لنسسك بسسإزاء حقيقسسة طبيعيسسة قسسد انفسسردت فسسي ذاتهسسا‪ ،‬ومعنسسى‬
‫انفرادها في ذاتها أنها كذلك هي‪ ،‬فليس فيها موضع لشسسيء غيسسر مسسا‬

‫‪17‬‬
‫هو فيها؛ ثم ل تنس أن النبوة أكبر السبب في ذلك الوضسسوح البيسساني‬
‫العجيب؛ فإن الحياة ل تسسستغلق فسسي البلغسسة بإنسسسان إل وهسسي غنيسسة‬
‫عنه؛ ولعل غموض بعسسض الفلسسسفة وبعسسض الشسسعراء هسسو مسسن دليسسل‬
‫الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعسسة‪ ..‬أل تسسرى أن مسسن أسسساليبهم‬
‫الفلسفية والشعرية ما يجعل معنى الكلمة أحياًنا هو نقض معناهسسا ‪1‬‬
‫إذ يتصنعون للفكر ويسسستجلبون لسسه ويشسسققون فيسسه كمسسا يفعسسل أهسسل‬
‫صسسناعة اللفسساظ باللفسساظ‪ ،‬فههنسسا البسسديع اللفظسسي؛ وهنسساك "البسسديع‬
‫الفكري" ول طائل وراءهما إل صناعة وبهرجة‪.‬‬
‫ما من الحياة‪ ،‬بل مادة لمعانيهسسا الجديسسدة‪ ،‬فلسسن‬ ‫ومتى كان النبي قس ً‬
‫حا‪ ،‬ومنفعسسة‪ ،‬ودقسسة‪،‬‬ ‫ً‬
‫يكون بيانه إل على ما وصفنا لسسك جمسسال‪ ،‬ووضسسو ً‬
‫وا بقدر ذلك كله‪.‬‬ ‫وسم ً‬
‫وهنا معنى نريد أن ننبه إليه ونتكلم في سره وحقيقته‪ ،‬فإنك تقرأ ما‬
‫جمع من الكلم النبوي فل تصيب فيه ما تصيبه في بلغة أدباء العالم‬
‫مما فنه الكلم في المرأة‪ ،‬والحب‪ ،‬وجمال الطبيعة‪ ،‬وهو فسسي بلغسسة‬
‫الناس كالقلب في الجسم‪ :‬ل تخلو منسسه ول تقسسوم إل بسسه‪ ،‬حسستى تجسسد‬
‫الكلم في المرأة وحدها شطر الدب النساني‪ ،‬كما أن المسسرأة هسسي‬
‫شسسطر النسسسانية‪ ،‬ول يعسسرف لسسه صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم فسسي هسسذه‬
‫الغراض إل كلمسسات بيانيسسة جسساءت بمسسا يفسسوق الوصسسف مسسن الجمسسال‬
‫والدقة‪ ،‬متناهية في الحسن‪ ،‬طسساهرة فسسي الدللسسة‪ ،‬يظهسسر فسسي وجسسه‬
‫بلغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعسة الحيساء والخفسر؛ كقسوله‬
‫قا بالقوارير"‪ ،‬وقسسوله لسسسامة بسسن زيسسد‪ ،‬وقسسد كسسساه‬‫في النساء‪" :‬رف ً‬
‫قبطية ‪ 2‬فكسسساها امراتسسه‪" :‬أخسساف أن تصسسف حجسسم عظامهسسا"‪ ،‬قسسال‬
‫الشريف الرضي في شرح هذه الكلمة‪ :‬وهذه اسسستعارة‪ ،‬والمسسراد أن‬
‫القبطية برقتها تلصق بالجسم‪ ،‬فتبين حجم الثديين‪ ،‬والرادفتين‪ ،‬ومسسا‬
‫يشتد من لحم العضدين والفخذين‪ ،‬فيعرف الناظر إليها مقادير هسسذه‬
‫العضاء‪ ،‬حتى تكون كالظساهرة للحظسه‪ ،‬والممكنسة للمسسه‪ ،‬فجعلهسا‬
‫عليه الصلة والسلم لهذه المحال كالواصفة لمسسا خلفهسسا‪ ،‬والمخسسبرة‬
‫عما استتر بها؛ وهذه من أحسن العبسسارات عسسن هسسذا المعنسسى‪ ،‬ولهسسذا‬
‫الغرض رمى عمر بن الخطاب في قسسوله‪" :‬إيسساكم ولبسسس القبسساطي"‬
‫فإنها إل تشف تصف"‪ .‬فكان رسول الله صلى اللسه عليسه وسسلم أبسا‬
‫عذرة هذا المعنى‪ ،‬ومن تبعه فإنما سلك فجه‪.‬‬
‫‪---------------‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ 1‬من ذلك قول "جيته" شسساعر اللمسسان‪ :‬إن الكسسل باطسسل‪ ،‬معنسساه أن‬
‫الكل ليس بباطل‪ ،‬ولعل هسسذا فسسي "البسسديع الفكسسري" مسسن بسساب أكسسل‬
‫النفي للثبات‪.‬‬
‫‪ 2‬بضم القاف ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء‪ ،‬وضموا قسسافه فرقًسسا‬
‫بينه وبين ما ينسب إلى القبط من غير الثياب‪.‬‬
‫قلنسسا‪ :‬وهسسذا كلم حسسسن‪ ،‬ولكسسن فسسي عبسسارة الحسسديث س سًرا هسسو مسسن‬
‫معجزات البلغة النبوية لم يهتد إليه الشريف‪ ،‬علسسى أنسسه هسسو حقيقسسة‬
‫الفن في هذه الكلمة بخاصتها‪ ،‬ول نظسسن أن بليغًسسا مسسن بلغسساء العسسالم‬
‫يتأتى لمثله‪ ،‬فإنه عليسه الصسلة والسسلم لسم يقسل‪ :‬أخساف أن تصسف‬
‫حجم أعضائها‪ ،‬بل قال‪" :‬حجم عظامها"‪ ،‬مع أن المراد لحم العضاء‬
‫في حجمه وتكوينه‪ ،‬وذلك منتهسسى السسسمو بسسالدب‪ ،‬إذ ذكسسر "أعضسساء"‬
‫المراة في هذا السياق‪ ،‬وبهذا المعرض‪ ،‬هو في الدب الكامل أشسسبه‬
‫بالرفث‪ ،‬ولفظة "العضسساء" تحسست الثسسوب الرقيسسق البيسسض تنبسسه إلسسى‬
‫صور ذهنية كثيرة هي التي عدها الرضسسي فسسي شسسرحه‪ ،‬وهسسي تسسومئ‬
‫إلى صورة أخرى من ورائها‪ ،‬فتنزه النبي صلى الله عليه وسلم عسسن‬
‫كل ذلك‪ ،‬وضرب الحجسساب اللغسسوي علسسى هسسذه المعسساني السسسافرة‪...‬‬
‫وجاء بكلمة "العظام"؛ لنها اللفظة الطبيعية المبرأة من كسسل نزغسسة‪،‬‬
‫ضسسا؛ إذ تكسسون فسسي‬‫ل تقبل أن تلتسسوي‪ ،‬ول تسسثير معنسسى‪ ،‬ول تحمسسل غر ً‬
‫الحي والميت‪ ،‬بل هي بهذا أخص؛ وفي الجميل والقبيح‪ ،‬بل هي هنسسا‬
‫أليق؛ وفي الشباب والهرم‪ ،‬بل هي في هذا أوضح‪.‬‬
‫والعضاء ل تقوم إل بالعظام فالمجاز على ما ترى‪ ،‬والحقيقة هي ما‬
‫علمت‪.‬‬
‫ومن كلماته في الوصف الطبيعي قوله صلى الله عليسسه وسسسلم وهسسو‬
‫يذكر أوقات الصلة‪" :‬العصر إذا كان ظل كل شيء مثله‪ ،‬وكذلك مسسا‬
‫دامت الشمس حية‪ ،‬والعشاء إذا غاب الشفق إلى أن تمضي كواهل‬
‫الليل"‪ ،‬وكواهل الليل‪ :‬أوائله وفروعه المتقدمة منسسه‪ ،‬كالسسذي يتقسسدم‬
‫المطايا من أعناقها الممتدة بعض المتداد؛ وقسسوله وقسسد سسسأله رجسسل‬
‫متى يصسسلي العشسساء الخسسرة‪ ،‬فقسسال عليسسه الصسسلة والسسسلم‪" :‬إذا مل‬
‫الليسسل بطسسن كسسل واٍد"؛ وقسسوله‪" :‬إذا طلسسع حسساجب الشسسمس فسسأخروا‬
‫الصلة حتى ترتفع"‪ ،‬وقوله‪" :‬إن رجًل مسسن أهسسل الجنسسة اسسستأذن ربسسه‬
‫في الزرع‪ ،‬فقال له‪ :‬ألست فيما شئت؟ قال‪ :‬بلسسى ولكنسسي أحسسب أن‬
‫أزرع‪ .‬قال‪ :‬فبذر فبادر الطسسرف نبسساته واسسستواؤه واستحصسساده فكسسان‬
‫أمثال الجبال"‪ .‬وقوله‪" :‬بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش‪ ،‬فنزل‬
‫بئًرا‪ ،‬فشسسرب منهسسا ثسسم خسسرج‪ ،‬فسسإذا بكلسسب يلهسسث يأكسسل السسثرى مسسن‬

‫‪19‬‬
‫العطش‪ ،‬فقال‪ :‬لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي! فمل خفه ثم أمسسسكه‬
‫بفيه‪ ،‬ثم رقى فسقى الكلب فشسسكر اللسسه لسسه‪ ،‬فغفسسر لسسه"‪ ،‬قسسالوا‪ :‬يسسا‬
‫رسول الله‪ ،‬وإن لنا في البهسسائم أج سًرا؟ قسسال‪" :‬فسسي كسسل كبسسد رطبسسة‬
‫أجر"‪.‬‬
‫فهذا ونحوه من الفن البديع النادر‪ ،‬وهو مع ذلسسك ل يسسأتي فسسي كلمسسه‬
‫صلى الله عليه وسلم إل في مثل ما رأيت‪ ،‬فل يسسراد منسسه اسسستجلب‬
‫العبارة‪ ،‬ول صسسناعة الخيسسال‪ ،‬فيظسسن مسسن ل يميسسز ول يحقسسق أن خلسسو‬
‫البلغة النبوية من فن وصف الطبيعة والجمال والحب‪ ،‬دليل على ما‬
‫ينكره أو يستجفيه‪ ،‬ويقول‪ :‬بسداوة وسسذاجة ونحسو ذلسك ممسا تشسبهه‬
‫الغفلة على جهلة المستشرقين ومن في حكمهم من ضعاف أدبائنسسا‬
‫وجهلة كتابنا‪ ،‬وإنما انتفسسى ذلسسك عسسن النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم‬
‫لنتفاء الشعر عنه وكونه ل ينبغي لسسه كمسسا بسسسطناه فسسي موضسسعه ‪1‬؛‬
‫فعمله أن يهدي النسانية ل أن يزين لهسسا‪ ،‬وأن يسسدلها علسسى مسسا يجسسب‬
‫في العمل‪ ،‬ل ما يحسن في صناعة الكلم‪ ،‬وأن يهديها إلى ما تفعلسسه‬
‫لتسمو به‪ ،‬ل إلى ما تتخيله لتلهو به‪ .‬والخيسسال هسسو الشسسيء الحقيقسسي‬
‫عند النفس في ساعة النفعال والتأثر بسه فقسط‪ ،‬ومعنسسى هسسذا أنسه ل‬
‫دا حقيقة ثابتة‪ ،‬فل يكون إل كذًبا على الحقيقة‪.‬‬ ‫يكون أب ً‬
‫ثم هو صلى الله عليه وسلم ليس كغيسسره مسسن بلغسساء النسساس‪ :‬يتصسسل‬
‫بالطبيعة ليستملي منها؛ بل هو نبي مرسل متصل بمصسسدرها الزلسسي‬
‫ليملي فيها‪ ،‬وقد كانت آخر ابتسامة له في الدنيا ابتسامات للصلة ‪2‬‬
‫يتهلسسل لطهسسارة النفسسس المؤمنسسة وجمالهسسا قائمسسة بيسسن يسسدي خالقهسسا‪،‬‬
‫منسكًبا في طهارتها روح النور‪ ،‬وكسل إنسسان إنمسا يبسسدو الكسون فسي‬
‫عينه على ما يرى مما يشبه مسسا فسسي نفسسسه‪ ،‬فكسسل مسسا رآه المصسسلي‬
‫الخاشع في صلته ‪ 3‬يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة علسسى‬
‫نحو من الدين‪ ،‬وكل ما رآه السكران في سكره يكسساد يسسراه متخبط ًسسا‬
‫يعربد ما يتماسك!‬
‫ثسسم إن الكلم فسسي وصسسف الطبيعسسة والجمسسال والحسسب علسسى طريقسسة‬
‫الساليب البيانية‪ ،‬إنما هو باب مسسن الحلم؛ إذ ل بسسد فيسسه مسسن عينسسي‬
‫شاعر‪ ،‬أو نظرة عاشق؛ وهنا نبي يوحى إليه‪ ،‬فل موضع للخيسسال فسسي‬
‫أمره‪ ،‬إل ما كان تمثيًل يراد به تقويسسة الشسسعور النسسساني بحقيقسسة مسسا‬
‫في بعض ما يعرض من باب الرشسساد والموعظسسة‪ ،‬كمسا مسسر بسك مسسن‬
‫أمثلته‪ ،‬وكقوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬إن المؤمن يرى ذنسسوبه كسسأنه‬
‫قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه‪ ،‬وإن الفاجر يسسرى ذنسسوبه كسسذباب‬
‫مر على أنفسسه!"‪ ،‬وهسسذا كلم أبلسسغ مسسا أنسست واجسسد مسسن تفسسسيره تلسسك‬

‫‪20‬‬
‫النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق‪ ،‬كأنه حاسة مسسن النسسور كبسست فسسي‬
‫شعورها‪ ،‬وتلك النفس الفاجرة بإحساسها الغليظ‪ ،‬كسسأنه حاسسسة مسسن‬
‫التراب‪....‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬كتابنا "إعجاز القرآن"‪.‬‬
‫‪ 2‬عن أنس أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم الذي توفي فيه‪ ،‬حتى إذا كان يسوم الثنيسن وهسسم صسفوف فسي‬
‫الصلة‪ ،‬فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينسسا‬
‫وهو قائم كأن وجهه ورقسسة مصسسحف‪ ،‬ثسسم تبسسسم يضسسحك‪ ،‬فهممنسسا أن‬
‫نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فنكص أبسسو بكسسر‬
‫على عقبيه ليصل الصسسف‪ ،‬وظسسن أن النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم‬
‫خارج إلى الصلة‪ ،‬فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسسسلم أن أتمسسوا‬
‫صلتكم‪ ،‬وأرخى الستر‪ ،‬فتوفي من يومه‪.‬‬
‫‪ 3‬من الكلمات الجميلة الدقيقسسة فسسي نحسسو هسسذا المعنسسى قسسوله عليسسه‬
‫الصلة والسلم‪" :‬ل تزالون في صلة ما انتظرتم الصلة"‪.‬‬
‫كره ذنوبه أن يحس بحركة‬ ‫ويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يذ ّ‬
‫كره ذنوبه فإذا‬ ‫م أن ينقلع فيميل عليه‪ ،‬أما الفاجر فيسمعه يذ ّ‬ ‫جبل يه ّ‬
‫هي في خياله نقط سود تمر مرور الذباب‪ ،‬ليس منه إل الحسسس بسسه‪،‬‬
‫كما يحس من يضرب على أنفسسه برجسسل ذبابسسة‪ ..‬وجعسسل السسذباب يمسسر‬
‫على أنفه دون عينه أو فمه‪ ،‬وذلك منتهى الجمال فسسي التصسسوير؛ لن‬
‫الذباب إذا وقع على الفم أو العين ثبت وألح‪ ،‬فإذا وقسسع علسسى قصسسبة‬
‫النف لم يكد يقف ومر مروره‪.‬‬
‫الكون في نظر النبي صلى الله عليه وسلم آية الحكمة ل آية الفسسن‪،‬‬
‫ومنظر المسسستيقن ل منظسسر المتخيسسل‪ ،‬ومسسادة العبوديسسة للسسه ل مسسادة‬
‫التأله للنسان‪ ،‬وبذلك حرم السلم أشياء وكره أشياء ل يكون الفسسن‬
‫بغيرها فًنا‪ ،‬في ضروب من الشسسعر والتصسسوير والموسسسيقى والحسسب؛‬
‫دا وجمًعا‪ ،‬وحاضًرا وآتًيا؛ وواجب ًسسا ومنفعسسة‪،‬‬
‫لنه إنما ينظر للنسان واح ً‬
‫ما؛ وهذه كلها ل إطلق فيها إل من أجل القيد‪ ،‬على حين أن‬ ‫ولذة وأل ً‬
‫الفن ل قيد فيه إل من أجل الطلق‪ ،‬وأسسساس السسدين حسسظ الجماعسسة‬
‫وقيودها‪ ،‬وأساس الفن الفرد وحريته؛ وهذه الحياة ل تبدو فسسي حالسسة‬
‫تركيب وانتظام إل إذا كانت للكل‪ ،‬فإذا كانت لفرد ظهسرت فسسي هيئة‬
‫انحلل وانتقاض‪ ،‬وأصبحت في الكون كله عمر إنسان واحد‪.‬‬
‫ثم إن للفن ألواًنا ل بد منها لتصويره الجميل الذي تعجب به النفس‪،‬‬
‫وا وإشسسراًقا‬
‫والشيطان هو اللسسون الحمسسر فيهسسا‪ ...‬أي هسسو أشسسدها زهس ً‬

‫‪21‬‬
‫وجماًل فسي التصسوير الفنسي لكسل مسا فسي المسرأة والحسب والجمسال‬
‫وشهوات النفس‪ ،‬ولسنا ننكر أن الحيسساة القويسسة حيسسن تمازجهسسا هسسذه‬
‫طا ويكون لهسسا رونسسق‪ ،‬وفيهسسا متساع؛ ولكسسن‬ ‫حا ونشا ً‬‫الفنون تكسب مر ً‬
‫الحياة ل تكون بها كذلك إل من أنها تحتسي خمرها‪ ...‬فلهسا بعسد مسن‬
‫عاقبة هذه الفنون شبيه بما يكون للجسم القوي مسسن عاقبسسة الخمسسر‬
‫إذا تغلغلت الخمر في شعاب كبده وأحاطت رطبتها يابسة‪ ،‬كما وقسسع‬
‫في أطوار كثيرة من تاريخ المم؛ فليس العتبار في هذا التشبيه بما‬
‫يعرض من تأثير الساعة الزائلسسة بأفراحهسسا وفسسن حياتهسسا‪ ،‬بسسل الشسسأن‬
‫للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتها الباقيسسة بأحزانهسسا وفسسن هلكهسسا‪،‬‬
‫فالسلم فيما حرم وكره من ذلسك لسم يسزد علسى أن أراد للحيساة أن‬
‫تحيا؛ لنه ل يقر صورة من صور انتحارها‪.‬‬
‫ومن كسسان أكسسبر عملسسه إنشسساء الحقسسائق النسسسانية وتقريرهسسا شسسريعة‬
‫وعاطفة وأعماًل‪ ،‬فل جرم كان فنه غير الذي أكبر عملسسه تمسسويه تلسسك‬
‫الحقائق وزخرفتهسسا؛ ليقسسع الحسسساس بهسسا علسسى غيسسر وجههسسا‪ ،‬فتخسسف‬
‫بالواقع منها على النفس خفة الكذب في سسساعة تصسسديقه وهسسذا هسسو‬
‫أكبر عمل الشعر‪.‬‬
‫وههنا سر دقيسسق ل يتسسم كلمنسسا إل بشسسرحه؛ لنقطسسع القسسول فسسي هسسذا‬
‫فسسا إن النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه‬
‫المعنى‪ ،‬فيظهر حقه من باطله قلنا آن ً‬
‫وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس؛ يتصل بالطبيعسسة يسسستملي منهسسا‪،‬‬
‫بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الزلي ليملي فيهسسا‪ ،‬ومعنسسى هسسذا‬
‫أنه ل يعرض له من زيغ النفس ما يعرض لغيره من النسساس‪ ،‬فسسأحكم‬
‫ما صادًقا‬‫حكماء الدنيا ل يستطيع أن يتبين جزًءا صغيًرا من الكون فه ً‬
‫ما ل يتم إل بفهم الكون بأجمعه‪ ،‬فهو كلسسه ذرة مكسسبرة إلسسى مسسا ل‬ ‫جز ً‬
‫ينتهي ول يحد‪ ،‬وليست النبوة شيًئا غير التصال بالسر‪.‬‬
‫والحاضر الذي يكون في إنسان من النسساس‪ ،‬هسسو حاضسسر ليسسس غيسسر؛‬
‫لنه يتحول ويفنى‪ ،‬فهو مسسن الزيسسغ السسذي يعسستري النفسسس‪ ،‬ومنسسه كسسل‬
‫أغراض الحياة البشرية الفانية‪ ،‬ولهذا كان طابع الله على نبينا صسسلى‬
‫الله عليه وسلم هو تجريده من زيغ الهوى وسرف الطبيعة‪ ،‬فهو من‬
‫الناس ولكنه متخلق بأخلق الله سبحانه‪ ،‬وله في هذا الباب ما ليس‬
‫لحد ول يطيقه أحد‪ ،‬ويجب على من يقسسرأ سسسيرته وشسسمائله وحسسديثه‬
‫ما عن طابع الله في كل شيء منها‪ ،‬فسسإنه سسسيرى حينئذ‬ ‫أن يبحث دائ ً‬
‫كأنه يدرسها مع الملئكة ل مع الناس‪ ،‬وسيظهر له من تفسسسيرها أن‬
‫الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الخلقيسسة العليسسا إل فيهسسا‪ ،‬وأنسسه صسسلى‬
‫ضا حركسسة فسسي تقسسدم النسسسانية؛‬ ‫الله عليه وسلم كان إنساًنا‪ ،‬وكان أي ً‬

‫‪22‬‬
‫وأن من معجزاته أنه أطلق في تاريخه ما عجزت عنه البشسسرية فسسي‬
‫تاريخها‪ ،‬وأن كل أموره صلى الله عليه وسلم موضوعة وضسسًعا إلهّيسسا‬
‫ونها الله وعلقهسسا فسسي التاريسسخ لمعسساني الحيسساة‪ ،‬تعليسسق‬‫كأنها صفات ك ّ‬
‫الشمس في السماء لمواد الحياة‪.‬‬
‫إن الشهوات والمصالح إنما هي حصر النفس في جانب من الشعور‬
‫محدود بلذات وهموم وأحاسيس تجعل غرض النسسسان نفسسسه‪ ،‬فهسسو‬
‫كما يمل معدته ويتأنق في الختيار لهسسا‪ ،‬يريسسد مسسن كسسل ذلسسك أن يمل‬
‫شخصه علسسى هسسذه الطريقسسة بعينهسسا‪ ،‬طريقسسة إشسسباع معسسدته‪ ..‬وبهسسذا‬
‫تسخر منه حقائق الكون؛ لنها ل تحد بشخص‪ ،‬ول تنحصر فسسي أحسسد‪،‬‬
‫وكل من كانت حسسدوده النسسسانية جسسسمه ولسسذات جسسسمه‪ ،‬فهسسو فسسي‬
‫مقدار هذا الكون كسالميت المحسدود مسن الرض كلهسا بقسسبره وتسسراب‬
‫قبره؛ وإنه ليجد جسمه وأكاذيب الطبيعة عليه‪ ،‬ولكنه لن يجد السسروح‬
‫وحقائقها؛ وإذا لم يجد هذه فلسسن يعسسرف الكسسون وأسسسراره؛ وإذا فقسسد‬
‫هذا فهو الحاضر الضيق المشسسوه المكسسذوب‪ ،‬ومسسن ثسسم ففنسسه شسسهوة‬
‫سسسا عليسه‪،‬‬ ‫عا‪ ،‬وشسهوة نظسره وإن كسان ملب ً‬ ‫إحساسه وإن كان مخسسدو ً‬
‫وشهوة خياله‪ ،‬وإن كسان التمسويه والسزور والحاضسر الضسيق المشسوه‬
‫المكذوب الخادع هو المسمى فسسي لغسسة القسسرآن والحسسديث "بالسسدنيا"‬
‫فإذا اتسسسع النسسسان لروحسسه وأدرك حقيقتهسسا‪ ،‬ووعسسى مسسا بينهسسا وبيسسن‬
‫الكون؛ وأخذ يحقق هذه الروح السماوية في أعماله‪ ،‬وتخطى حسسدود‬
‫جسمه إلى فكرة الخلود؛ فهذا كلسسه هسسو المسسسمى فسسي لغسسة القسسرآن‬
‫والحسسديث "بسسالخرة"؛ فهمسسا كلمتسسان فسسي منتهسسى البسسداع مسسن الفسسن‬
‫والفلسفة؛ وعلى ذلك يؤول قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته‪:‬‬
‫"من كان همه الخرة جمع الله شمله‪ ،‬وجعل غناه فسسي قلبسسه‪ ،‬وأتتسسه‬
‫الدنيا وهي راغمة؛ ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره وجعل فقسسره‬
‫بين عينيه‪ ،‬ولم يأته من الدنيا إل ما كتب له"‪.‬‬
‫وأنت إذا فسرت هذه الكلمات بمسسا وصسسفنا لسسك ووجهتهسسا علسسى ذلسسك‬
‫التأويل‪ ،‬رأيت عجائب معانيها ل تنقضسسي‪ ،‬وأدركسست سسسر قسسوله صسسلى‬
‫الله عليه وسلم‪" :‬إني على علم مسسن اللسسه علمنيسسه" فاتسسساع السسذات‬
‫دتها لحقائق الكسسون‪ ،‬يجعسسل النسسسان كسسالكون نفسسسه‪،‬‬ ‫النسانية ومما ّ‬
‫مجتمًعا غير مفرق على هموم الحياة؛ ويجعل الغنى معنسسى ل مسسادة؛‬
‫ولو امتلك إنسان من الناس كل ما طلعت عليه الشمس‪ ،‬وكسسان لسسه‬
‫كنز في الشرق وكنز في المغرب‪ ،‬لما بلغ شسسيًئا قليًل مسسن لسسذة هسسذا‬
‫المعنى في قلبه؛ وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضسسة السستي يهلسسك‬
‫الناس في تحصيلها وليست إل ضرورة صغيرة‪ ،‬قد تكسسون فسسي ثسسوب‬

‫‪23‬‬
‫ولقيمات ونحوهسسا ممسا ل خطسسر لسه‪ ،‬وهسسذا هسو إرغامهسا وهسي مالكسسة‬
‫الملوك‪ ،‬فإذا ضسساق النسسسان عسسن روحسسه أصسسبحت النفسسس كالمنخسسل‬
‫يوضع الدقيق الناعم فيه؛ ليخرج منه فيمسسسكه كلسسه ول يمسسسك منسسه‬
‫دا لتمتلسسئ‪ ،‬ول‬ ‫شيًئا‪ ،‬ووضع بين عينيها معنسسى الفقسسر‪ ،‬فهسسي تعمسسل أبس ً‬
‫ذا علسسى الطريقسسة السستي صسسنع بهسسا‪،‬‬‫دا؛ وإذا كان المنخل متخس ً‬ ‫تمتلئ أب ً‬
‫ففقره ول جرم معلق عليه من ذات تركيبه‪" .‬أفهمت"؟‬
‫ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم متساوًقا مسسع الحقيقسسة‪ ،‬متص سلً‬
‫جا من حاضر ما نحن فيه‪،‬‬ ‫دا بربه ل بنفسه‪ ،‬كان لذلك خار ً‬ ‫بها‪ ،‬محدو ً‬
‫دا بمعناه النساني الكامل إلى المستقبل الذي وراء الحياة‪ ،‬فمسسا‬ ‫ممت ً‬
‫نحصره نحن بطبيعتنا في بعض السماء ل يلتفت هسسو إليسسه بطسسبيعته؛‬
‫ومن ذلك أوصاف الغنى والحلية والنعيم والمتاع والجمال والمطعسسم‬
‫والمشرب‪ ،‬ومسسا داخسسل الطبيعسسة مسسن مثسسل معانيهسسا‪ ،‬ومسسا جسسرى هسسذا‬
‫المجرى‪ ،‬فهذا كله يراه الناس من جهة الحاجة إليسسه والمطمسسع فيسسه؛‬
‫إذ كان ضعف إدراكهم وضيق وعيهم مما يبدع لهسسم أكسساذيب الخيسسال‪،‬‬
‫فتجيء من ذلك أوصسافهم وفنسون أوصسافهم؛ أمسا النسبي صسلى اللسه‬
‫عليه وسلم فيرى ذلك من ناحية الغنى عنه والسمو عليه؛ إذ كسسان ل‬
‫ينظر بطبيعة روحسسه العظيمسسة إل أعلسسى النظريسسن وأطهرهمسسا‪ ،‬فسسآخر‬
‫إدراكنا للحقيقة والطبيعسسة أول إدراكسسه هسسو الطبيعسسة والحقيقسسة‪ ،‬ومسسا‬
‫تعجز عنه النسانية تبدأ منه النبوة‪.‬‬
‫وعلى هذا فإن من أقوى البراهين على كماله صلى الله عليه وسلم‬
‫ونبوته واتساع روحه ونفاذ إدراكه لحقائق الكون ‪-‬أنه لم يتبسط في‬
‫تلك الفنون كما يصنع البلغاء‪ ،‬ولم يأخذ مأخذهم فيها؛ إذ كسسانت كلهسسا‬
‫من أكاذيب القلب والفكر والعين‪.‬‬
‫وفي قانون الحقيقة أن الشياء هي كل الشياء وهسي كمسا هسي‪ ،‬أمسا‬
‫في قانون الكسسذب فالشسسياء كلهسسا هسسي مسا تختسساره أنسست منهسسا‪ ،‬وكمسا‬
‫تختاره‪.‬‬
‫بحسب الدنيا من جمال فنه صلى الله عليسسه وسسسلم مسسا يضسسيف إلسسى‬
‫الحياة عظمة الشياء العظيمة‪ ،‬ويدفع النسانية في طريقهسسا الواحسسد‬
‫الذي هو بين الب والم‪ ،‬طريق الخ إلى أخيه‪ ،‬يكون في السسدنيا بيسسن‬
‫الرجلين كما هو في الدم بين القلسسبين رحمسسة ومسسودة؛ وبحسسسبنا مسسن‬
‫جمال هذا الفن مسا يهسدي النسسان إلسى حقيقسسة نفسسه؛ فيقسره فسي‬
‫الحقيقي من وجوده النساني؛ ويجعل الفضسسائل كلهسسا تربيسسة للقلسسب؛‬
‫يكبر بها‪ ،‬ثم يكبر‪ ،‬ثم ل يزال يكبر حتى يتسسسع لحقيقسسة هسسذه الكلمسسة‬
‫الكبرى‪ :‬الله أكبر‪.‬‬

‫‪24‬‬


25
‫قرآن الفجر ‪1‬‬

‫كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القسسرآن كلسسه حفظ ًسسا وجسسودة‬
‫بأحكام القراءة؛ ونحن يومئذ في مدينة "دمنهسسور" عاصسسمة البحيسسرة؛‬
‫وكان أبي ‪-‬رحمه الله‪ -‬كبير القضاة الشرعيين في هذا القليم‪ ،‬ومن‬
‫عادته أنه كسان يعتكسف كسل سسنة فسي أحسد المسساجد عشسرة اليسام‬
‫الخيرة من شسهر رمضسان‪ ،‬يسدخل المسسجد فل يسبرحه إل ليلسسة عيسد‬
‫الفطر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بمعناه الحسسق‪،‬‬
‫وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد‪ ،‬ويطسسل علسسى السسدنيا إطلل الواقسسف‬
‫على اليام السائرة ويغير الحيسساة فسسي عملسسه وفكسسره‪ ،‬ويهجسسر تسسراب‬
‫الرض فل يمشسسي عليسسه‪ ،‬وتسسراب المعسساني الرضسسية فل يتعسسرض لسسه‪،‬‬
‫ويدخل في الزمسسن المتحسسرر مسسن أكسسثر قيسسود النفسسس‪ ،‬ويسسستقر فسسي‬
‫المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة ل تتغير؛ ثم ل يرى من النسساس‬
‫إل هذا النوع المرطب الروح بالوضوء‪ ،‬المدعوّ إلسسى دخسسول المسسسجد‬
‫بدعوة القوة السامية‪ ،‬المنحني فسسي ركسسوعه؛ ليخضسسع لغيسسر المعسساني‬
‫الذليلة‪ ،‬الساجد بين يدي ربه؛ ليدرك معنى الجلل العظم‪.‬‬
‫وما هي حكمة هذه المكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنسسة قائمسسة‬
‫في الحياة‪ ،‬تشعر القلب البشري في نزاع السسدنيا أنسسه فسسي إنسسسان ل‬
‫في بهيمة‪...‬‬
‫ت عند أبي في المسجد؛ فلمسسا كنسسا فسسي جسسوف الليسسل‬ ‫وذهبت ليلة فب ّ‬
‫الخير أيقظني للسحور‪ ،‬ثم أمرني فتوضأت لصلة الفجر وأقبل هسسو‬
‫على قراءته؛ فلما كان السحر العلى هتسسف بالسسدعاء المسسأثور‪ :‬اللهسسم‬
‫لسسك الحمسسد؛ أنسست نسسور السسسموات والرض‪ ،‬ولسسك الحمسسد؛ أنسست بهسساء‬
‫السموات والرض‪ ،‬ولك الحمد؛ أنسست زيسسن السسسموات والرض‪ ،‬ولسسك‬
‫الحمد؛ أنت قّيام السموات والرض ومسسن فيهسسن ومسسن عليهسسن؛ أنسست‬
‫الحق ومنك الحق‪ ...‬إلى آخر الدعاء‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬أنشأها قبل موته بثلثة أشهر‪ ،‬فاعجب له يسسذكر أوليتسسه وهسسو علسسى‬
‫أبواب آخرته‪!..‬‬
‫وأقبسسل النسساس ينتسسابون المسسسجد‪ ،‬فانحسسدرنا مسسن تلسسك العليسسة السستي‬
‫يسمونها "الدكة" وجلسنا ننتظر الصلة‪ .‬وكانت المسسساجد فسسي ذلسسك‬
‫العهد تضاء بقناديل الزيت‪ ،‬في كل قنديل ذبالسسة يرتعسسش النسسور فيهسسا‬
‫صا كأنه بعض معسساني الضسسوء ل الضسسوء نفسسسه؛‬ ‫خافًتا ضئيًل يبص بصي ً‬
‫فكانت هذه القناديل والظلم يرتج حولها‪ ،‬تلوح كأنها شسسقوق مضسسيئة‬

‫‪26‬‬
‫في الجو‪ ،‬فل تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة‪ ،‬وتبدو في‬
‫الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ إليه ول يسسبينه‪ ،‬فمسسا‬
‫تشعر النفس إل أن العين تمتد فسسي ضسسوئها مسسن المنظسسور إلسسى غيسسر‬
‫المنظور كأنها سر يشف عن سر‪.‬‬
‫وكان لها منظر كمنظر النجوم يتم جمال الليل بإلقسسائه الشسسعل فسسي‬
‫أطرافه العليا وإلبسساس الظلم زينتسسه النوارنيسسة؛ فكسسان الجسسالس فسسي‬
‫المسجد وقسست السسسحر يشسسعر بالحيسساة كأنهسسا مخبسسوءة‪ ،‬ويحسسس فسسي‬
‫المكان بقايا أحلم‪ ،‬ويسري حوله ذلك المجهسسور السسذي سسسيخرج منسسه‬
‫الغد؛ وفي هذا الظلم النوراني تنكشف له أعماقه منسكًبا فيها روح‬
‫المسجد‪ ،‬فتعسستريه حالسسة روحانيسسة يسسستكين فيهسسا للقسسدر هسسادًئا وادع ًسسا‬
‫سا عليه‬ ‫دا بصفاته‪ ،‬منعك ً‬ ‫راجًعا إلى نفسه‪ ،‬مجتمًعا في حواسه‪ ،‬منفر ً‬
‫نور قلبه؛ كسسأنه خسسرج مسسن سسسلطان مسسا يضسسيء عليسسه النهسسار‪ ،‬أو كسسأن‬
‫الظلمة قد طمست فيه على ألوان الرض‪.‬‬
‫ثم يشسسعر بسسالفجر فسسي ذلسسك الغبسسش عنسسد اختلط آخسسر الظلم بسسأول‬
‫الضوء‪ ،‬شعوًرا ندّيا كأن الملئكسسة قسسد هبطسست تحمسسل سسسحابة رقيقسسة‬
‫تمسح بها على قلبه؛ ليتنضسسر مسسن يبسسس‪ ،‬ويسسرق مسسن غلظسسة‪ ،‬وكأنمسسا‬
‫حسسا‬ ‫جاؤوه مع الفجر؛ ليتناول النهار من أيديهم مبسسدوًءا بالرحمسسة مفتت ً‬
‫بالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس التقسى فيسه النسور السسماوي بسالنور‬
‫النساني فإذا هو يتلل في روحه تحت الفجر‪.‬‬
‫دا تلك الساعة ونحن في جو المسسسجد‪ ،‬والقناديسسل معلقسسة‬ ‫ل أنسى أب ً‬
‫كالنجوم في مناطها من الفلك‪ ،‬وتلك السرج ترتعسسش فيهسسا ارتعسساش‬
‫خواطر الحب‪ ،‬والناس جالسون عليهم وقار أرواحهم‪ ،‬ومن حول كل‬
‫إنسان هدوء قلبه وقد اسسستبهمت الشسسياء فسسي نظسسر العيسسن ليلبسسسها‬
‫الحساس الروحاني في النفس‪ ،‬فيكون لكل شيء معنساه السذي هسو‬
‫منه ومعناه الذي ليس منه‪ ،‬فيخلق فيه الجمال الشعري كمسسا يخلسسق‬
‫للنظر المتخيل‪.‬‬
‫دا تلك الساعة‪ .‬وقد انبعث في جسسو المسسسجد صسسوت غسسرد‬ ‫ل أنسى أب ً‬
‫رخيم يشق سدفة الليل في مثل رنين الجرس تحسست الفسسق العسسالي‬
‫ك‬ ‫ل َرب ّس َ‬ ‫سسِبي ِ‬ ‫وهو يرتل هذه اليات من آخر سورة النحسسل‪} :‬اد ْع ُ إ ِل َسسى َ‬
‫َ‬
‫و‬
‫ك هُ س َ‬ ‫ن َرب ّس َ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫سس ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫م ِبال ِّتي ه ِ َ‬ ‫جاد ِل ْهُ ْ‬ ‫سن َةِ وَ َ‬ ‫ح َ‬ ‫عظ َةِ ال ْ َ‬ ‫مو ْ ِ‬ ‫مةِ َوال ْ َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ِبال ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م فََعساقُِبوا‬ ‫ن ع َسساقَب ْت ُ ْ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬‫دي َ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬
‫مهَْتس ِ‬ ‫سِبيل ِهِ وَهُوَ أع ْل َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫أع ْل َ ُ‬
‫مسا‬ ‫صسب ِْر وَ َ‬‫ن َوا ْ‬ ‫ري َ‬ ‫صساب ِ ِ‬ ‫خي ْسٌر ِلل ّ‬ ‫م ل َهُسوَ َ‬ ‫صسب َْرت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ِبسهِ وَل َئ ِ ْ‬ ‫عسوقِب ْت ُ ْ‬ ‫مسا ُ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ِ‬ ‫بِ ِ‬
‫ن‬‫ن إِ ّ‬ ‫مك ُسُرو َ‬ ‫مسسا ي َ ْ‬ ‫م ّ‬‫ق ِ‬ ‫ض سي ْ ٍ‬
‫ك فِسسي َ‬ ‫م َول ت َ ُ‬ ‫ن ع َل َي ْهِ ْ‬ ‫حَز ْ‬ ‫ك إ ِل ّ ِبالل ّهِ َول ت َ ْ‬ ‫صب ُْر َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سُنو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫وا َوال ِ‬ ‫ق ْ‬‫ن ات ّ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫معَ ال ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫الل َ‬

‫‪27‬‬
‫وكان هذا القارئ يملك صسسوته أتسسم مسسا يملسسك ذو الصسسوت المطسسرب؛‬
‫فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القمري وهو ينسسوح فسسي أنغسسامه‪،‬‬
‫وبلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القسسادر‪ ،‬حسستى ل تفسسسر اللسسذة‬
‫الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إل كالبلبسسل هزتسه‬
‫الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر‪ ،‬فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال‬
‫التغريد‪.‬‬
‫كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته‪ ،‬يجمع بين قوة الرقة وبين‬
‫رقة القوة‪ ،‬ويضطرب اضطراًبا روحانًيا كالحزن اعتراه الفسسرح علسسى‬
‫فجأة؛ يصسسيح الصسسيحة تترجسسح فسسي الجسسو وفسسي النفسسس‪ ،‬وتسستردد فسسي‬
‫المكان وفي القلب‪ ،‬ويتحول بها الكلم اللهسسي إلسسى شسسيء حقيقسسي‪،‬‬
‫فسسا‪ ،‬وإذا‬
‫ض عليها بمثل الندى‪ ،‬فإذا هسسي تسسرف رفي ً‬ ‫يلمس الروح فيرف ّ‬
‫هي كالزهرة التي مسحها الطل‪.‬‬
‫ضسسا طري ًسسا كسسأول مسسا نسسزل بسسه السسوحي‪ ،‬فكسسان هسسذا‬
‫وسمعنا القسسرآن غ ً‬
‫الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعسسض السسسر السسذي يسسدور فسسي‬
‫نظام العالم‪ ،‬وكان القلب وهو يتلقى اليات كقلسسب الشسسجرة يتنسساول‬
‫الماء ويكسوها منه‪.‬‬
‫واهتز المكسسان والزمسسان كأنمسسا تجلسسى المتكلسسم سسسبحانه وتعسسالى فسسي‬
‫كلمه‪ ،‬وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيء من هذا النور!‬
‫وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيسست السسدنيا السستي فسسي الخسسارج مسن‬
‫المسجد وبطل باطلها‪ ،‬فلم يبق علسسى الرض إل النسسسانية الطسساهرة‬
‫ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى كان النسسسان فسسي لسسذة‬
‫روحه مرتفًعا على طبيعته الرضية‪.‬‬
‫مئذ فكأنما دعي بكل ذلك؛ ليحمسسل هسسذه‬ ‫ي يو َ‬ ‫أما الطفل الذي كان ف ّ‬
‫الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجيء فيه من بعسسد؛ فأنسسا فسسي كسسل‬
‫حالة أخضع لهذا الصوت‪ :‬ادع إلى سبيل ربك؛ وأنسسا فسسي كسسل ضسسائقة‬
‫أخشع لهذا الصوت‪ :‬واصبر وما صبرك إل بالله!‬

‫‪‬‬

‫‪28‬‬
‫اللغة والدين والعادات ‪ 1‬باعتبارها من مقومات الستقلل‬

‫ليست حقيقة المة في هذا الظسساهر السسذي يبسسدو مسسن شسسعب مجتمسسع‬
‫محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقسسة هسسي الكسسائن الروحسسي‬
‫ن في الشعب‪ ،‬الخالص لسسه مسسن طسسبيعته‪ ،‬المقصسسور عليسسه فسسي‬ ‫المكت ّ‬
‫تركيبه كعصير الشجرة؛ ل يرى عمله والشجرة كلها هي عمله‪.‬‬
‫وهذا الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب فسسي ذوي الوشسسيجة‬
‫من الفراد‪ ،‬بيد أنه يحقق فسسي الشسسعب قرابسسة الصسسفات بعضسسها مسسن‬
‫بعض؛ فيجعل للمة شأن السرة‪ ،‬ويخلق فسسي السسوطن معنسسى السسدار‪،‬‬
‫ويوجد في الختلف نزعة التشابه‪ ،‬ويرد المتعدد إلى طبيعة الوحدة‪،‬‬
‫ويبدع للمة شخصيتها المتميزة‪ ،‬ويوجب لهذه الشخصية بإزاء غيرهسسا‬
‫قسسانون التناصسسر والحميسسة؛ إذ يجعسسل الخسسواطر مشسستركة‪ ،‬والسسدواعي‬
‫مستوية‪ ،‬والنوزاع متآزرة؛ فتجتمع المة كلها على الرأي‪ :‬تتساند لسسه‬
‫ضا فيه؛ وبهذا كله يكون روح المسسة قسسد وضسسع‬ ‫بقواها ويشد بعضها بع ً‬
‫في كلمة المة معناها‪.‬‬
‫والخلسسق القسسوي السسذي ينشسسئه للمسسة كائنهسسا الروحسسي‪ ،‬هسسو المبسسادئ‬
‫المنتزعة من أثر الدين واللغسسة والعسسادات‪ ،‬وهسسو قسسانون نافسسذ يسسستمد‬
‫قسسوته مسسن نفسسسه؛ إذ يعمسسل فسسي الحيسسز البسساطن مسسن وراء الشسسعور‪،‬‬
‫طا على الفكر‪ ،‬مصرًفا لبواعث النفس؛ فهسسو وحسسده السسذي يمل‬ ‫متسل ً‬
‫الحي بنوع حياته‪ ،‬وهو طابع الزمن على المم‪ ،‬وكأنه علسسى التحقيسسق‬
‫وضع الجداد علمتهم الخاصة على ذريتهم‪.‬‬
‫أما اللغة فهي صورة وجود المة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسسسها‪،‬‬
‫ما بخصائصه؛ فهي قومية الفكر‪ ،‬تتحد بها المة في‬ ‫دا متميًزا قائ ً‬
‫وجو ً‬
‫صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المسسادة؛ والدقسسة فسسي تركيسسب‬
‫اللغة دليل على دقة الملكات فسسي أهلهسسا‪ ،‬وعمقهسا هسو عمسسق السروح‬
‫ودليل الحسن على ميل المسسة إلسسى التفكيسسر والبحسسث فسسي السسسباب‬
‫والعلل‪ ،‬وكثرة مشتقاتها برهان علسسى نزعسة الحريسة وطماحهسسا؛ فسسإن‬
‫روح الستعباد ضيق ل يتسع‪ ،‬ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة‪.‬‬
‫وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة‪ ،‬وكسسانت أمتهسسا حريصسسة عليهسسا‪ ،‬ناهضسسة‬
‫بها‪ ،‬متسعة فيها‪ ،‬مكبرة شأنها‪ ،‬فما يأتي ذلسسك إل مسسن روح التسسسلط‬
‫في شعبها والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته‪ ،‬وكونه سسسيد أمسسره؛‬
‫ومحقق وجوده‪ ،‬ومستعمل قسسوته‪ ،‬والخسذ بحقسسه‪ ،‬فأمسا إذا كسان منسه‬
‫التراخي والهمال وتسسرك اللغسسة للطبيعسسة السسسوقية‪ ،‬وإصسسغار أمرهسسا‪،‬‬
‫وتهوين خطرها‪ ،‬وإيثار غيرها بسسالحب والكبسسار؛ فهسسذا شسسعب خسسادم ل‬

‫‪29‬‬
‫مخدوم‪ ،‬تسسابع ل متبسسوع‪ ،‬ضسسعيف عسسن تكسساليف السسسيادة‪ ،‬ل يطيسسق أن‬
‫ف بضرورات العيسسش‪،‬‬ ‫يحمل عظمة ميراثه‪ ،‬مجتزئ ببعض حقه‪ ،‬مكت ٍ‬
‫يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفسسائدة السستي هسسي‬
‫كالحرمان‪.‬‬
‫ل جرم كانت لغة المة هي الهدف الول للمستعمرين؛ فلسسن يتحسسول‬
‫الشسسعب أول مسسا يتحسسول إل مسسن لغتسسه؛ إذ يكسسون منشسسأ التحسسول مسسن‬
‫أفكاره وعواطفه وآماله‪ ،‬وهو إذا انقطع من نسب لغتسسه انقطسسع مسسن‬
‫نسب ماضيه‪ ،‬ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ‪ ،‬ل صسسورة‬
‫محققة في وجوده؛ فليس كاللغة نسب للعاطفسسة والكفسسرة حسستى أن‬
‫أبناء الب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهسسم ناشسسئ علسسى لغسسة‪،‬‬
‫ونشأ الثاني على أخرى‪ ،‬والثالث على لغة ثالثة‪ ،‬لكانوا في العاطفسسة‬
‫كأبناء ثلثة آباء‪.‬‬
‫وما ذلت لغسسة شسسعب إل ذل‪ ،‬ول انحطسست إل كسسان أمسسره فسسي ذهسساب‬
‫ضسسا علسسى المسسة‬
‫وإدبار؛ ومن هذا يفرض الجنبي المسسستعمر لغتسسه فر ً‬
‫المستعمرة‪ ،‬ويركبهم بها‪ ،‬ويشعرهم عظمته فيهسسا‪ ،‬ويسسستلحقهم مسسن‬
‫ما ثلثة في عمل واحد‪ :‬أما الول فحبسس‬ ‫ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكا ً‬
‫دا؛ وأمسسا الثسساني فسسالحكم علسسى ماضسسيهم‬ ‫لغتهم فسسي لغتسسه سسسجًنا مؤبس ً‬
‫وا ونسياًنا؛ وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الغلل السستي‬ ‫بالقتل مح ً‬
‫يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لمره تبع‪.‬‬
‫والسسذين يتعلقسسون اللغسسات الجنبيسسة ينزعسسون إلسسى أهلهسسا بطبيعسسة هسسذا‬
‫التعلق‪ ،‬إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قبل السسدين‬
‫أو القوميسسة؛ فسستراهم إذا وهنسست فيهسسم هسسذه العصسسبية يخجلسسون مسسن‬
‫قسسوميتهم ويتسسبرؤون مسسن سسسلفهم وينسسسلخون مسسن تسساريخهم‪ ،‬وتقسسوم‬
‫بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم‪ ،‬ولقومهم‪ ،‬وأشياء قومهم‪ ،‬فل‬
‫يستطيع وطنهسسم أن يسسوحي إليهسسم أسسسرار روحسسه؛ إذ ل يوافسسق منهسسم‬
‫استجابة في الطبيعة‪ ،‬وينقادون بالحب لغيره‪ ،‬فيتجاوزونه وهم فيسسه‪،‬‬
‫ويرثون دماءهم مسسن أهلهسسم‪ ،‬ثسسم تكسسون العواطسسف فسسي هسسذه السسدماء‬
‫للجنبي‪ ،‬ومن ثم تصبح عنسسدهم قيمسسة الشسسياء بمصسسدرها ل بنفسسسها‪،‬‬
‫وبالخيسسال المتسسوهم فيهسسا ل بالحقيقسسة السستي تحملهسسا؛ فيكسسون شسسيء‬
‫الجنسسبي فسسي مسسذهبهم أجمسسل وأثمسسن؛ لن إليسسه الميسسل وفيسسه الكبسسار‬
‫والعظام؛ وقد يكون الوطني مثله أو أجمل منه‪ ،‬بيد أنه فقد الميل‪،‬‬
‫فضعفت صلته بالنفس‪ ،‬فعادت كل مميزاته فضعفت ل تميزه‪.‬‬
‫وأعجب مسسن هسسذا فسسي أمرهسسم‪ ،‬أن أشسسياء الجنسسبي ل تحمسسل معانيهسا‬
‫الساحرة في نفوسسسهم إل إذا بقيسست حاملسة أسسسماءها الجنبيسسة‪ ،‬فسسإن‬

‫‪30‬‬
‫سمي الجنبي بلغتهم القومية نقص معناه عندهم وتصسساغر وظهسسرت‬
‫فيه ذلة‪ ..‬وما ذاك إل صفر نفوسهم وذلتهسسا؛ إذ ل ينتحسسون لقسسوميتهم‬
‫فل يلهمهم الحرف من لغتهم ما يلهمهم الحرف الجنبي‪.‬‬
‫ى بهذه العلة‪ ،‬ومنها جاءت مشسساكله أو أكثرهسسا؛ وليسسس‬ ‫والشرق مبتل ً‬
‫في العالم أمة عزيزة الجسسانب تقسسدم لغسسة غيرهسسا علسسى لغسسة نفسسسها‪،‬‬
‫وبهذا ل يعرفون للشياء الجنبية موضًعا إل مسسن وراء حسسدود الشسسياء‬
‫جسسا‬
‫الوطنية؛ ولو أخسسذنا نحسسن الشسسرقيين بهسسذا‪ ،‬لكسسان هسسذا وحسسده عل ً‬
‫ما لكثر مشاكلنا‪.‬‬‫حاس ً‬
‫فاللغات تتنازع القومية‪ ،‬ولهي والله احتلل عقلي في الشعوب التي‬
‫ضعفت عصبيتها؛ وإذا هانت اللغة القومية علسسى أهلهسسا‪ ،‬أثسسرت اللغسسة‬
‫الجنبية في الخلق القومي ما يؤثر الجو الجنبي فسسي الجسسسم السسذي‬
‫انتقل إليه وأقام فيه‪.‬‬
‫أما إذا قويت العصبية‪ ،‬وعّزت اللغة وثارت لهسسا الحميسسة‪ ،‬فلسسن تكسسون‬
‫اللغات الجنبية إل خادمة يرتفسسع بهسسا‪ ،‬ويرجسسع شسسبر الجنسسبي شسسبًرا ل‬
‫متًرا‪ ..‬وتكون تلك العصبية للغسسة القوميسسة مسسادة وعون ًسسا لكسسل مسسا هسسو‬
‫قومي‪ ،‬فيصبح كل شيء أجنبي قد خضع لقوة قاهرة غالبة؛ هي قوة‬
‫اليمسسان بالمجسسد السسوطني واسسستقلل اوطسسن؛ ومسستى تعيسسن الول أنسسه‬
‫الول‪ ،‬فكل قوى الوجود ل تجعل الذي بعده شيًئا إل أنه الثاني‪.‬‬
‫والدين هو حقيقسسة الخلسسق الجتمساعي فسي المسة‪ ،‬وهسسو السذي يجعسسل‬
‫القلوب كلها طبقة واحدة علسسى اختلف المظسساهر الجتماعيسسة عاليسسة‬
‫ونازلة وما بينهما‪ ،‬فهو بذلك الضمير القانوني للشعب‪ ،‬وبسسه ل بغيسسره‬
‫ثبات المة على فضائلها النفسية‪ ،‬وفيه ل في سسسواه معنسسى إنسسسانية‬
‫القلب‪.‬‬
‫ولهذا كان الدين من أقسسوى الوسسسائل السستي يعسسول عليهسسا فسسي إيقسساظ‬
‫ضمير المة‪ ،‬وتنبيه روحها‪ ،‬واهتيسساج خيالهسسا؛ إذ فيسسه أعظسسم السسسلطة‬
‫التي لها وحدها لها قوة الغلبة علسى الماديسات؛ فسسلطان السدين هسو‬
‫سلطان كل فرد على ذاته وطبيعته؛ ومتى قوي هسسذا السسسلطان فسسي‬
‫شعب كان حمّيا أبّيا‪ ،‬ل ترغمه قوة‪ ،‬ول يعنو للقهر‪.‬‬
‫ولول التدين بالشريعة؛ لما استقامت الطاعة للقسسانون فسسي النفسسس؛‬
‫ولول الطاعة النفسية للقوانين؛ لما انتظمت أمة؛ فليس عمل الدين‬
‫إل تحديد مكان الحي في فضائل الحياة؛ وتعيين تبعتسسه فسسي حقوقهسسا‬
‫ما مستقًرا فيه ل يتغير‪ ،‬ودفع النسان‬ ‫وواجباتها‪ ،‬وجعل ذلك كله نظا ً‬
‫ما نحو الكمل‪.‬‬ ‫بهذا النظام نحو الكمل‪ ،‬ودائ ً‬

‫‪31‬‬
‫وكل أمة ضُعف الدين فيها اختلت هندستها الجتماعية ومسساج بعضسسها‬
‫في بعض؛ فإن من دقيق الحكمة في هذا الدين أنه لم يجعسسل الغايسسة‬
‫الخيرة مسسن الحيسساة غايسسة فسسي هسسذه الرض؛ وذلسسك لتنتظسسم الغايسسات‬
‫الرضية في الناس فل يأكل بعضهم بعضا فيغتنسسي الغنسسي وهسسو آمسسن‪،‬‬
‫ويفتقر الفقير وهو قسسانع‪ ،‬ويكسسون ثسسواب العلسسى فسسي أن يعسسود علسسى‬
‫السفل بالمبرة‪ ،‬وثواب السفل في أن يصبر على ترك العلسسى فسسي‬
‫منزلتسه؛ ثسم ينصسرف الجميسسع بفضسائلهم إلسى تحقيسسق الغايسة اللهيسة‬
‫الواحدة‪ ،‬التي ل يكبر عليهسسا الكسسبير‪ ،‬ول يصسسغر عنهسسا الصسسغير؛ وهسسي‬
‫الحق‪ ،‬والصلح‪ ،‬والخير‪ ،‬والتعاون على البر والتقوى‪.‬‬
‫وما دام عمل السسدين هسسو تكسسوين الخلسسق الثسسابت السسدائب فسسي عملسسه‪،‬‬
‫المعتز بقوته‪ ،‬المطمئن إلى صبره‪ ،‬النافر من الضسسعف‪ ،‬البسسي علسسى‬
‫الذل‪ ،‬الكافر بالسسستعباد‪ ،‬ومفسساداته‪ ،‬العامسسل فسسي مصسسلحة الجماعسسة‪،‬‬
‫المقيد في منافعه بواجباته نحو الناس؛ ما دام عمل الدين هو تكوين‬
‫هذا الخلق فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشريعة أقوى‬
‫من الحس بالمادة؛ ولعمري ما يجسسد السسستقلل قسسوة هسسي أقسسوى لسسه‬
‫وأرد عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفوس المة وانطبعت عليه‪.‬‬
‫وهذه المسسة الدينيسسة السستي يكسسون واجبهسسا أن تشسسرف وتسسسود وتعسستز‪،‬‬
‫ويكون واجب هذا الواجب فيها أل تسقط ول تخضع ول تذل‪.‬‬
‫وبتلسسك الصسسول العظيمسسة السستي ينشسسئها السسدين الصسسحيح القسسوي فسسي‬
‫النفس‪ ،‬يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليسسه المنتصسسر لسسه؛‬
‫إذ يكون من الخلل الطبيعية في زعمائه ورجاله الثبات على النزعة‬
‫السياسية‪ ،‬والصلبة في الحق‪ ،‬واليمان بمجد العمسسل‪ ،‬وتغليسسب ذلسسك‬
‫على الحوال المادية التي تعترض ذا الرأي؛ لتفتنه عن رأيه ومذهبه؛‬
‫من مال‪ ،‬أو جاه‪ ،‬أو منصب‪ ،‬أو موافقة الهوى‪ ،‬أو خشسسية النقمسسة‪ ،‬أو‬
‫خوف الوعيد‪ ...‬إلى غيرها من كل ما يستميل الباطسسل أو يرهسسب بسسه‬
‫الظلم‪.‬‬
‫ول يذهبن عنك أن الرجل المؤمن القوي اليمان الممتلئ ثقة ويقين ًسسا‬
‫ما وإصراًرا على فضيلته وثباًتا على مسسا يلقسسى فسسي‬ ‫ووفاء وصدًقا وعز ً‬
‫سبيلها ل يكون رجًل كالناس؛ بسسل هسسو رجسسل السسستقلل السسذي واجبسسه‬
‫جزء من طسسبيعته وغسسايته السسسامية ل تنفصسسل عنسسه‪ ،‬هسسو رجسسل صسسدق‬
‫المبدأ‪ ،‬وصدق الكلمة‪ ،‬وصدق المسسل‪ ،‬وصسسدق النزعسسة؛ وهسسو الرجسسل‬
‫الذي ينفجر في التاريسسخ كلمسسا احتسساجت الحيسساة الوطنيسسة إلسسى إطلق‬
‫قنابلها للنصر‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر‪ ،‬وهي وحدة تاريخيسسة‬
‫في الشعب‪ ،‬تجمعه كما يجمعه الصل الواحد؛ ثسسم هسسي كالسسدين فسسي‬
‫قيامها على أساس أدبي في النفس‪ ،‬وفسسي اشسستمالها علسسى التحريسسم‬
‫صسسا بسسه‪ ،‬يحصسسره‬‫قا خا ّ‬ ‫والتحليل؛ وتكاد عادات الشعب تكون ديًنا ضسسي ً‬
‫في قبيله ووطنسه‪ ،‬ويحقسق فسي أفسراده اللفسة والتشسابك‪ ،‬ويأخسذهم‬
‫جميًعا بمذهب واحد؛ هو إجلل الماضي‪.‬‬
‫وإجلل الماضي في كل شعب تسساريخي هسسو الوسسسيلة الروحيسسة السستي‬
‫يستوحي بها الشسسعب أبطسساله‪ ،‬وفلسسسفته‪ ،‬وعلمسساءه وأدبسساءه‪ ،‬وأهسسل‬
‫الفن منه؛ فيوحون إليه وحي عظمائهم التي لم يغلبها الموت؛ وبهذا‬
‫تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه‪ ،‬وحية في آماله وأعصابه‪.‬‬
‫والعادات هي وحدها التي تجعل السسوطن شسسيًئا نفس سّيا حقيقي ّسسا‪ ،‬حسستى‬
‫ليشعر النسان أن لرضه أمومة الم التي ولدته‪ ،‬ولقومه أبسسوة الب‬
‫الذي جاء به إلى الحياة‪ ،‬وليس يعرف هذا إل من اغترب عن وطنسسه‪،‬‬
‫وخالط غير قومه‪ ،‬واستوحش من غير عاداته؛ فهنسساك يثبسست السسوطن‬
‫نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا‪.‬‬
‫وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تنبه فسسي‬
‫الوطني روح التميز عن الجنبي‪ ،‬وتسسوحش نفسسسه منسسه كأنهسسا حاسسسة‬
‫الرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر‪.‬‬
‫ومتى صسسدقت الوطنيسسة فسسي النفسسس أقسسرت كسسل شسسيء أجنسسبي فسسي‬
‫حقيقته الجنبية؛ فكان هذا هو أول مظسساهر السسستقلل‪ ،‬وكسسان أقسسوى‬
‫الذرائع إلى المجد الوطني‪.‬‬
‫وباللغسسة والسسدين والعسسادات‪ ،‬ينحصسسر الشسسعب فسسي ذاتسسه السسسامية‬
‫بخصائصسسها ومقوماتهسسا‪ ،‬فل يسسسهل انسستزاعه منهسسا ول انتسسساقه مسسن‬
‫تاريخه؛ وإذا ألجئ إلسسى حسسال مسسن القهسسر لسسم ينخسسذل ولسسم يتضعضسسع‪،‬‬
‫واستمر يعمل ما تعمله الشوكة الحادة إن لم ُتترك لنفسها‪ ،‬لم تعط‬
‫من نفسها إل الوخز‪.....‬‬

‫‪‬‬

‫‪33‬‬
‫تجديد السلم‪ 1:‬رسالة الزهر في القرن العشرين*‬

‫"الزهر" هذه هي الكلمة التي ل يقابلها في خيال المة المصسسرية إل‬


‫كلمة الهرم؛ وفي كلتا اللفظتين يكمن سر خفي من أسسسرار التاريسسخ‬
‫التي تجعل بعض الكلمات ميراًثا عقلّيا للمة‪ ،‬ينسي مادة اللغة فيهسسا‬
‫ول يبقي منها إل مسادة النفسس؛ إذ تكسون هسذه الكلمسات تعسبيًرا عسن‬
‫شيء ثابت ثبات الفكرة التي ل تتغير‪ ،‬مسسستقر فسسي السسروح القوميسسة‬
‫استقراره في الزمن‪ ،‬متجسم من معنسساه كسسأن الطبيعسسة قسسد أفردتسسه‬
‫بمادته دون ما يشاركه في هذه المسسادة؛ فسسالحجر فسسي الهسسرم الكسسبر‬
‫ما؛ والمكسسان فسسي‬ ‫يكاد يكون في العقل زمان ًسسا ل حجسًرا‪ ،‬وفن ّسسا ل جسس ً‬
‫الزهر يغيب فيه معنى المكان وينقلب إلى قوة عقلية ساحرة توجد‬
‫في المنظور غير المنظور‪.‬‬
‫دا للحسسديث‪:‬‬ ‫ن الزهر في زماننا هذا يكاد يكون تفسيًرا جدي س ً‬ ‫وعندي أ ّ‬
‫م نافسسذة ٌ مسسن أسسسهم ِ‬
‫"مصر كنانة الله في أرضه" فعلماؤه اليوم أسه ٌ‬
‫الله يرمي بهسسا مسسن أراد دينسسه بالسسسوء‪ ،‬فيمسسسكها للهبسسة ويرمسسي بهسسا‬
‫للنصر؛ ويجب أن يكون هسسذا المعنسسى أول معسسانيهم فسسي هسسذا القسسرن‬
‫العشرين الذي ابتلي بملء عشرين قرن ًسسا مسسن الجسسرأة علسسى الديسسان‬
‫وإهمالها واللحاد فيها‪.‬‬
‫أول شيء في رسالة الزهر في القرن العشرين أن يكون أهله قوة‬
‫إلهية معسسدة للنصسسر‪ ،‬مهيسسأة للنضسسال‪ ،‬مسسسددة للصسسابة‪ ،‬مقسسدرة فسسي‬
‫طبيعتها أحسن تقدير‪ ،‬تشعر الناس بالطمئنان إلسسى عملهسسا‪ ،‬وتسسوحي‬
‫إلى كل من يراها اليمان الثابت الثالث بمعناها؛ ولن يأتي لهسسم هسسذا‬
‫إل إذا انقلبوا إلى طبيعتهم الصحيحة‪ ،‬فل يكون العلم تحرًفا ول مهنة‬
‫ول مكسبة ‪ ،3‬ول يكون في أوراق الكتب خيال "أوراق البنك"‪ ...‬بسسل‬
‫تجديد السلم‪-‬رسالة الزهر في القرن العشرين‬
‫تظهر فيهم العظمسسة الروحانيسسة آمسرة ناهيسة فسسي المسادة‪ ،‬ل مسأمورة‬
‫منهية بها؛ ويرتفع كل منهم بنفسه‪ ،‬فيكسسون مقسسرر خلسسق فسسي الحيسساة‬
‫ث منهسسم مغنسساطيس النبسسوة‬ ‫قبل أن يكون معلم علم في الحياة؛ لينبس ّ‬
‫يجذب النفوس بهم أقوى ممسسا تجسسذبها ضسسللت العصسسر؛ فمسسا يحتسساج‬
‫الناس في هذا الزمن إلى العالم ‪-‬وإن الكتسسب والعلسسوم لتمًل السسدنيا‪-‬‬
‫وإنما يحتاجون إلى ضمير العالم‪.‬‬
‫وقسسد عجسسزت المدنيسسة أن توجسسد هسسذا الضسسمير‪ ،‬مسسع أن السسسلم فسسي‬
‫حقيقته ليس شيًئا إل قانون هذا الضمير؛ إذ هسسو ديسسن قسسائم علسسى أن‬

‫‪34‬‬
‫الله ل ينظر من النسسان إلسى صسورته ولكسن إلسسى عملسه؛ فسأول مسا‬
‫ينبغي أن يحمله الزهر من رسالته‪ :‬ضمائر أهله‪.‬‬
‫والناس خاضعون للمسسادة بقسسانون حيسساتهم‪ ،‬وبقسسانون آخسسر هسسو قسسانون‬
‫القرن العشرين‪ ..‬فهم من ثم في أشد الحاجة إلى أن يجسسدوا بينهسسم‬
‫المتسلط على المادة بقسسانون حيسساته؛ ليسسروا بسسأعينهم القسسوى السسدنيئة‬
‫مغلوبسسة‪ ،‬ثسسم ليجسسدوا فسسي هسسذا النسسسان أسسساس القسسدوة والحتسسذاء‪،‬‬
‫فيتصلوا منه بقوتين‪ :‬قوة التعليم‪ ،‬وقوة التحويل‪.‬‬
‫وهذا هو سر السلم الول الذي نفذ به من أمة إلى أمة ولم يقم له‬
‫شيء يصده؛ إذ كان ينفذ في الطبيعة النسانية نفسها‪.‬‬
‫ومن أخص واجبات الزهر في هسسذا القسسرن العشسسرين أن يعمسسل أول‬
‫شيء لقرار معنى السلم الصسسحيح فسسي المسسسلمين أنفسسسهم؛ فسسإن‬
‫أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب ل غير‪ ..‬وما منهم إل مسسن‬
‫هو في حاجة إلى تجديد إسلمه‪.‬‬
‫والحكومات السلمية عاجزة في هذا؛ بل هي من أسباب هذا الشر؛‬
‫دا مسسدنّيا؛ أمسسا الزهسسر فهسسو وحسسده السسذي‬
‫دا سياسّيا ووجسسو ً‬
‫لن لها وجو ً‬
‫يصلح لتمام نقص الحكومة في هذا الباب‪ ،‬وهو وحسسده السسذي يسسسعه‬
‫ما تعجز عنه؛ وأسباب نجاحه مهيسأة ثابتسة؛ إذ كسسان لسه بقسوة التاريسسخ‬
‫حكم الزعامة السسسلمية‪ ،‬وكسسانت فيسسه عنسسد المسسلمين بقيسة السسوحي‬
‫على الرض‪ ،‬ثم كان هو صورة المزاج النفسسسي السسلمي المحسسض؛‬
‫بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة‪ ،‬وفقد القسوة الستي كسان يحكسم‬
‫بها‪ ،‬وهي قوة المثل العلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما‬
‫قلنسسا مسسرة‪ :‬إنسسساًنا تتخيسسره المعسساني السياسسسية تظهسسر فيسسه بأسسسلوب‬
‫عملي‪ ،‬فيكون في قومه ضرًبا من التربية والتعليسسم بقاعسسدة منتزعسسة‬
‫من مثالها‪ ،‬مشروحة بهذا المثال نفسه‪.‬‬
‫والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثسل العلسى هسسي أول مغلسوب‬
‫في صراع قوى الحياة‪.‬‬
‫لقسسد اعتسساد المسسسلمون مسسن قسسديم أن يجعلسسوا أبصسسارهم إلسسى علمسساء‬
‫الزهر‪ ،‬فهم يتبعونهم‪ ،‬ويتأسون بهم‪ ،‬ويمنحسسونهم الطاعسسة‪ ،‬وينزلسسون‬
‫على حكمهم‪ ،‬ويلتمسسون فسي سسيرتهم النفسس لمشسكلت النفسس‪،‬‬
‫ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر العمال العظيمة؛ وكسسان‬
‫غنى العالم الديني شيًئا غير المال‪ ،‬بسسل شسسيًئا أعظسسم مسسن المسسال؛ إذ‬
‫كان يجد حقيقة الغنى فسسي إجلل النسساس لفقسسره كسسأنه ملسسك ل فقسسر؛‬
‫وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلبة والشدة والهيبة والسمو‪ ،‬وفيهسسا‬
‫كل سلطان الخير والشر؛ لن فيها كل النزعسسات السسستقللية؛ ويكسساد‬

‫‪35‬‬
‫الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقسسائق‬
‫مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم‪ ،‬ل حقسسائق متروكسسة‬
‫لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها‪.‬‬
‫وعلماء الزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافسسذة علسسى الشسسعب‪،‬‬
‫وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة‪ ،‬بل هم التصحيح لهسسذه‬
‫القوانين إذا جسسرت المسسور علسسى عللهسسا وأسسسبابها؛ فيجسسب عليهسسم أن‬
‫يحققوا وجودهم‪ ،‬وأن يتناولوا المة من ناحية قلوبهسسا وأرواحهسسا‪ ،‬وأن‬
‫يعدوا تلميذهم فسي الزهسر كمسا يعسدون القسوانين الدقيقسة‪ ،‬ل طلًبسا‬
‫يرتزقون بالعلم‪.‬‬
‫أين صوت الزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما‬
‫في القاع‪ ...‬وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها‬
‫شيء واقع في الحياة العصرية ل خبر تاريخي فيها؟‬
‫لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة اليمان ل اليمان نفسه؛ ورجع‬
‫السلم في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة ل دين واحسسد‪.‬‬
‫فرسالة الزهر أن يجدد عمل النبوة فسسي الشسسعب‪ ،‬وأن ينقسسي عمسسل‬
‫التاريخ في الكتب‪ ،‬وأن يبطل عمل الوثنية في العادات‪ ،‬وأن يعطسسي‬
‫المة دينهسسا الواضسسح السسسمح الميسسسر‪ ،‬وقانونهسسا العملسسي السسذي فيهسسا‬
‫سعادتها وقوتها‪.‬‬
‫ول وسيلة إلسسى ذلسك إل أن يكسسون الزهسر جسريًئا فسي قيسادة الحركسة‬
‫ذا بأسسباب هسذا‬ ‫الروحية السلمية‪ ،‬جريًئا في عمله لهذه القيادة‪ ،‬آخس ً‬
‫صّرا على هذا الطلسسب؛ وكسسل‬ ‫م ِ‬‫حا في طلب هذه السباب‪ُ ،‬‬ ‫العمل‪ ،‬مل ً‬
‫هذا يكون عبًثا إن لم يكن رجسسال الزهسسر وطلبتسسه أمثلسسة مسسن المثلسسة‬
‫القوية في الدين والخلق والصلبة؛ لتبدأ الحالة النفسية فيهم‪ ،‬فإنهسسا‬
‫إن بسسدأت ل تقسسف؛ والمثسسل العلسسى حسساكم بطسسبيعته علسسى النسسسانية‪،‬‬
‫مطاع بحكمه فيها‪ ،‬محبوب بطاعتها له‪.‬‬
‫والمادة المطهرة للدين والخلق ل تجدها المة إل في الزهر‪ ،‬فعلى‬
‫الزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملهسسا ل بإلصسساق الورقسسة‬
‫المكتوب فيها السم على الزجاجة‪..‬‬
‫ومسسن ثسسم يكسسون واجسسب الزهسسر أن يطلسسب الشسسراف علسسى التعليسسم‬
‫السلمي فسسي المسسدارس‪ ،‬وأن يسسدفع الحركسسة الدينيسسة دفعًسسا بوسسسائل‬
‫مختلفة‪ ،‬أولها أن يحمل وزارة المعارف علسسى إقامسسة فسسرض الصسسلة‬
‫فسسي جميسسع مدارسسسها‪ ،‬مسسن مدرسسسة حريسسة الفكسسر‪ ..‬فنسسازًل‪ ،‬والمسسة‬
‫السلمية كلها تشد رأي الزهر في هذا‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه اليسسة الكريمسسة‪} :‬اد ْع ُ إ ِل َسسى‬
‫ة{ دلتنا الية بنفسها على كسسل‬ ‫سن َ ِ‬ ‫عظ َةِ ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫مةِ َوال ْ َ‬
‫مو ْ ِ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬
‫سِبي ِ‬
‫َ‬
‫تلك الوسائل‪ ،‬فما الحكمة هنا إل السياسسسة الجتماعيسسة فسسي العمسسل‪،‬‬
‫وليست الموعظة الحسنة إل الطريقة النفسية في الدعوة‪.‬‬
‫العلماء ورثة النبياء؛ وليس النبي من النبياء إل تاريخ شدائد ومحن‪،‬‬
‫ومجاهسسدة فسسي هدايسسة النسساس‪ ،‬ومراغمسسة للوجسسود الفاسسسد‪ ،‬ومكابسسدة‬
‫التصحيح للحالة النفسية للمة؛ فهذا كله هو الذي يورث عن النبيسساء‬
‫ل العلم وتعليمه فقط‪.‬‬
‫وإذا قامت رسسسالة الزهسسر علسسى هسسذه الحقسسائق‪ ،‬وأصسسبح وجسسوده هسسو‬
‫المعنى المتمم للحكومسسة‪ ،‬المعسساون لهسسا فسسي ضسسبط الحيسساة النفسسسية‬
‫للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها ‪-‬اتجهت طسسبيعته إلسسى‬
‫أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين‪ ،‬بعد أن يكون قد حقق السسذرائع‬
‫إلى هذه الرسالة‪ ،‬من فتسسح بسساب الجتهسساد‪ ،‬وتنقيسسة التاريسسخ الفقهسسي‪،‬‬
‫وتهذيب الروح السلمي والسمو به عسسن المعسساني الكلميسسة الجدليسسة‬
‫السخيفة؛ ثم اسسستخراج أسسسرار القسسرآن الكريسسم الكامنسسة فيسسه‪ ،‬لهسسذه‬
‫العصور العلمية الخيرة؛ وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القسسوة السستي‬
‫تمسك السلم علسسى سسسنته بيسسن القسسديم والجديسسد‪ ،‬ل ينكسسره هسسذا ول‬
‫يغيره ذاك‪ ،‬وبعد أن يكون الزهر قد اسسستفاض علسسى العسسالم العربسسي‬
‫بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه‪.‬‬
‫أمسسا تلسسك الرسسسالة الكسسبرى فهسسي بسسث السسدعوة السسسلمية فسسي أوربسسا‬
‫وأمريكسسا واليابسسان‪ ،‬بلغسسات الوروبييسسن والمريكييسسن واليابسسانيين‪ ،‬فسسي‬
‫ألسنة أزهرية مرهفة مصقولة‪ ،‬لها بيان الدب‪ ،‬ودقة العلم‪ ،‬وإحاطسسة‬
‫الفلسفة‪ ،‬وإلهام الشعر‪ ،‬وبصيرة الحكمة‪ ،‬وقسسدرة السياسسسة؛ ألسسسنة‬
‫أزهرية ل يوجد الن منها لسان واحد في الزهر‪ ،‬ولكنها لن توجسسد إل‬
‫في الزهر؛ ول قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها؛‬
‫فتكون المتكلمة عنه‪ ،‬والحاملة لرسالته‪ ،‬وما هذه البعثات التي قسسرر‬
‫الزهر ابتعاثها إلى أوربا إل أول تاريخ تلك اللسنة‪.‬‬
‫إن الوسيلة التي نشرت السلم من قبل لسسم تكسسن أجنحسسة الملئكسسة‪،‬‬
‫ول كانت قوة من جهنم؛ ول تزال هسسي تنشسسره؛ فليسسس مسسستحيًل ول‬
‫متعذًرا أن يغزو هذا السدين أوربسا وأمريكسسا واليابسان كمسا غسزا العسالم‬
‫القديم‪ ،‬ولم يكن السلح من قبل إل طريقة ليجاد إسلم فسسي المسسة‬
‫الغريبة عنه‪ ،‬حتى إذا وجد تولي هو السسدعوة لنفسسسه بقسسوة النسساموس‬
‫الطبيعي القائم على أن الصلح هو البقى‪ ،‬وانحازت إليسسه النسسسانية؛‬
‫لنه قانون طبيعتها السليمة‪ ،‬ودين فطرتها القوية‪ ،‬وقد ظل السسسلم‬

‫‪37‬‬
‫ينتشر ولم يكن يحمله إل التاجر‪ ،‬كما كسسان ينتشسسر وحسسامله الجيسسش؛‬
‫حا مسسن‬ ‫فليس علينسسا إل تغييسسر السسسلح فسسي هسسذا العصسسر وجعلسسه سسسل ً‬
‫فلسفة الدين وأسرار حكمته؛ فهذا الدين كما قلنا فسسي بعسسض كلمنسسا‬
‫‪ :1‬أعمال مفصلة على النفس أدق تفصسيل وأوفساه بمصسلحتها‪ ،‬فهسو‬
‫يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظسسم بسسه‬
‫أحسسوال النفسسس علسسى ميسسزة وبصسسيرة‪ ،‬ويسسدع للحيسساة عقلهسسا العلمسسي‬
‫المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعسسة علسسى قصسسد وهسسدى؛ وهسسذه‬
‫هي حقيقة السلم في أخص معانيه‪ :‬ل يغني عنه في ذلك دين آخر‪،‬‬
‫ول يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ول علم ول فلسسسفة‪ ،‬كأنمسسا هسسو‬
‫نبع في الرض لمعاني النور‪ ،‬بإزاء الشمس نبع النور في السماء‪.‬‬
‫ليس على الزهر إل أن يوجد من السلم في تلك المم ما يسسستمر‪،‬‬
‫ثم الستمرار هو ويجد ما يثبت‪ ،‬والثبات يوجد ما يدوم؛ وكسسأن النسسبي‬
‫صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قسسوله‪" :‬نضسسر اللسسه امسسرأ‬
‫سمع مني شيًئا فبلغه كما سمعه‪ ،‬فرب مبلغ أوعى له من سامع"‪.‬‬
‫أما والله إن هذا المبلغ الذي هو أوعى له من السامع لن يكسون فسي‬
‫التاريخ بأدق المعنى إل أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي إذا نحن‬
‫عرفنا كيف نبلغ‪.‬‬
‫أنا مستيقن أن فيلسوف السلم الذي سينشر الدين على يسسده فسسي‬
‫أوربا وأمريكا لن يخرج إل من الزهر‪ ،‬وما كان الستاذ المام محمسسد‬
‫عبده ‪-‬رحمه الله‪ -‬إل أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية‪ ،‬وسسسيكون‬
‫عمسسل فلسسسفة الزهسسر تجديسسد السسسلم‪-‬رسسسالة الزهسسر فسسي القسسرن‬
‫العشرين‬
‫استخراج قانون السعادة لتلك المم من آداب السلم وأعمسساله؛ ثسسم‬
‫مخاطبة المم بأفكارها وعواطفها‪ ،‬والفضاء من ذلسسك إلسسى ضسسميرها‬
‫الجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به‪.‬‬
‫هسسذه هسسي رسسسالة الزهسسر فسسي القسسرن العشسسرين‪ ،‬ويجسسب أن يتحقسسق‬
‫قسسا عليسسه‪.‬‬
‫بوسائلها من الن؛ ومن وسائلها أن يعالن بهسسا؛ لتكسسون موث ً‬
‫ويحسن بالزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكسسر إسسسلمي ذي‬
‫إلهسسام أو بحسسث دقيسسق أو إحاطسسة شسساملة؛ فتكسسون لسسه ألقسساب علميسسة‬
‫يمنحهم إياها وإن لم يتخرجسسوا فيسسه‪ ،‬ثسسم يسسستعين بعلمهسسم وإلهسسامهم‬
‫وآرائهم‪.‬‬
‫وبهذه اللقاب يمتد الزهر إلى حدود فكرية بعيدة‪ ،‬ويصبح أوسع في‬
‫أثره على الحياة السلمية‪ ،‬ويحقق لنفسه المعنى الجامعي‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ما في كل سنة يجمع‬ ‫وفي تلك السبيل يجب على الزهر أن يختار أيا ً‬
‫فيها من المسلمين "قرش السلم"؛ ليجد مادة النفقة الواسعة فسسي‬
‫نشر دين الله‪ ،‬وليس على الرض مسلم ول مسلمة ل يبسسسط يسسده‪،‬‬
‫فما يحتاج هذا التدبير لكثر من إقراره وتنظيمسسه وإعلنسسه فسسي المسسم‬
‫السلمية ومواسمها الكبرى‪ ،‬وخاصة موسم الحج‪.‬‬
‫وهذا العمل هو نفسه وسيلة من أقوى الوسسسائل فسسي تنسسبيه الشسسعور‬
‫السلمي‪ ،‬وتحقيق المعاونة فسسي نشسسر السسدين وحيسساطته؛ وعسسسى أن‬
‫تكون له نتائج اجتماعيسسة ل موضسسع لتفصسسيلها هنسسا‪ ،‬وعسسسى أن يكسسون‬
‫"قسسرش السسسلم" مسسادة لعمسسال إسسسلمية ذات بسسال‪ ،‬وهسسو علسسى أي‬
‫الحوال صلة روحية تجعل الزهر كأنه معطيه لكل مسلم ل آخذه‪.‬‬
‫والخلصة أن أول رسالة الزهر في القرن العشرين‪ :‬اهتسسداء الزهسسر‬
‫ق‬
‫حس ّ‬‫هسذ ِهِ ال ْ َ‬ ‫جساَء َ‬
‫ك ِفسي َ‬ ‫إلى حقيقة موضعه في القرن العشسرين‪} :‬وَ َ‬
‫ن{ ]هود‪.[120:‬‬‫مِني َ‬ ‫ة وَذ ِك َْرى ل ِل ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫عظ َ ٌ‬
‫موْ ِ‬
‫وَ َ‬
‫‪‬‬

‫‪39‬‬
‫السد‬

‫جلس أبو علي أحمسسد بسسن محمسسد الروبسسادي البغسسدادي* فسسي مجلسسس‬
‫وعظه بمصسسر بعسسد وفسساة شسسيخه أبسسي الحسسسن بنسسان الحمسسال الزاهسسد‬
‫الواسسسطي شسسيخ السسديار المصسسرية**‪ ،‬وكسسان يضسسرب المثسسل بعبسسادته‬
‫مسسا‬
‫وزهده‪ ،‬وقد خسسرج أكسسثر أهسسل مصسسر فسسي جنسسازته‪ ،‬فكسسان يسسومه يو ً‬
‫كالبرهان من العالم الخر لهل هذه الدنيا؛ ما بقي أحد إل اقتنع أنسسه‬
‫في شهوات الحياة وأباطيلها كسسالعمى فسسي سسسوء تمييسسزه بيسسن لسسون‬
‫التراب ولون الدقيق؛ إذ ينظر كل امرئ في مصالحه ومنسسافعه مثسسل‬
‫هذه النظرة‪ ،‬باللمس ل بالبصر‪ ،‬وبالتوهم ل بسسالتحقيق‪ ،‬وعلسسى دليسسل‬
‫نفسه في الشيء ل على دليسسل الشسيء فسي نفسسه‪ ،‬وبسالدراك مسن‬
‫جهة واحدة دون الدراك من كل جهة؛ ثم يأتي الموت فيكون كالماء‬
‫ب علسسى السسدقيق والسستراب جميعًسسا‪ ،‬فل يرتسساب مبصسسر ول أعمسسى‪،‬‬ ‫صس ّ‬
‫ُ‬
‫ويبطل ما هو باطل ويحق الذي هو حق‪.‬‬
‫وتكلم أبو علسسي فقسسال‪ :‬كنسست ذات يسسوم عنسسد شسسيخنا الجنيسسد*** فسسي‬
‫بغداد‪ ،‬فجاءه كتاب من يوسف بن الحسن شيخ السسري والجبسسال فسسي‬
‫وقته**** يقول فيه‪ :‬ل أذاقك الله طعم نفسك‪ ،‬فإنسسك إن ذقتهسسا لسسم‬
‫دا! قال‪ :‬فجعلت أفكر فسسي طعسسم النفسسس مسسا هسسو‪،‬‬ ‫تذق بعدها خيًرا أب ً‬
‫وجاءني ما لم أرضه من الرأي‪ ،‬حتى سمعت بخبر بنان ‪-‬رحمه اللسسه‪-‬‬
‫مع أحمد بن طولون أمير مصر‪ ،‬فهو الذي كسسان سسسبب قسسدومي إلسسى‬
‫هنا؛ لرى الشيخ وأصحبه وأنتفع به‪.‬‬
‫والبلد السسذي فيسسه شسسيخ مسسن أهسسل السسدين الصسسحيح والنفسسس الكاملسسة‬
‫والخلق اللهية‪ ،‬هو في الجهسسل كالبلسسد السسذي ليسسس فيسسه كتسساب مسسن‬
‫الكتب البتة وإن كان كل أهله علماء‪ ،‬وإن كسسان فسسي كسسل محلسسة منسسه‬
‫مدرسة‪ ،‬وفي كل دار من دوره خزانسة كتسب‪ ،‬فل تغنسي هسذه الكتسسب‬
‫عن الرجال؛ فإنمسسا هسسي صسسواب أو خطسسأ ينتهسسي إلسسى العقسسل‪ ،‬ولكسسن‬
‫ب ينتهي إلى الروح‪ ،‬وهو في تأثيره على النسساس‬ ‫الرجل الكامل صوا ٌ‬
‫أقوى من العلم؛ إذ هو تفسسسير الحقسسائق فسسي العمسسل الواقسسع وحياتهسا‬
‫عاملسسة مرئيسسة داعيسسة إلسسى نفسسسها؛ ولسسو أقسسام النسساس عشسسر سسسنين‬
‫يتناظرون في معسساني الفضسسائل ووسسسائلها‪ ،‬ووضسسعوا فسسي ذلسسك مسسائة‬
‫كتسساب‪ ،‬ثسسم رأوا رجًل فاضسسًل بأصسسدق معسساني الفضسسيلة‪ ،‬وخسسالطوه‬
‫وصحبوه لكان الرجل وحده أكبر فسائدة مسن تلسك المنساظرة وأجسدى‬
‫على الناس منهسسا‪ ،‬وأدل علسسى الفضسسيلة مسسن مسسائة كتسساب ومسسن ألسسف‬
‫كتاب؛ ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتسساب منسسزل؛ ليعطسسي الكلمسسة‬

‫‪40‬‬
‫قوة وجودها‪ ،‬ويخرج الحالة النفسية من المعنسسى المعقسسول‪ ،‬وينشسسئ‬
‫الفضائل النسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير‪.‬‬
‫وما مثل الكتاب يتعلم المرء منسه حقسائق الخلق العاليسة‪ ،‬إل كوضسع‬
‫النسان يده تحت إبطه؛ ليرفع جسمه عن الرض؛ فقد أنشسسأ يعمسسل‪،‬‬
‫ولكنه لن يرتفع؛ ومن ذلك كان شر الناس هم العلماء والمعلمين إذا‬
‫سسسا أخسسرى تعمسسل عمًل آخسسر غيسسر الكلم؛ فسسإن‬ ‫لم تكسسن أخلقهسسم درو ً‬
‫مسسا‬ ‫ّ‬
‫أحدهم ليجلس مجلس المعلم‪ ،‬ثم تكسسون حسسوله رذائلسسه ت ُعَلسسم تعلي ً‬
‫آخر من حيث يدري ول يدري‪ ،‬ويكون كتاب الله مع النسان الظسساهر‬
‫منه‪ ،‬وكتاب الشيطان مع النسان الخفي فيه‪.‬‬
‫قال أبو علي‪ :‬وقدمت إلى مصر؛ لرى أبا الحسن وآخذ عنه وأحقسسق‬
‫ما سمعت من خبره مسسع ابسسن طولسسون‪ ،‬فلمسسا لقيتسسه لقيسست رجًل مسسن‬
‫تلميسسذ شسسيخنا الجنيسسد‪ ،‬يتلل فيسسه نسسوره ويعمسسل فيسسه سسسره؛ وهمسسا‬
‫كالشمعة‪ ،‬والشمعة في الضوء وإن صغرت واحسسدة وكسسبرت واحسسدة؛‬
‫وعلمة الرجل مسن هسؤلء أن يعمسل وجسوده فيمسن حسوله أكسثر ممسا‬
‫كا‪ ،‬فله معنى أبسسوة‬ ‫يعمل هو بنفسه‪ ،‬كأن بين الرواح وبينه نسًبا شاب ً‬
‫الب في أبنائه؛ ل يراه من يراه منهم إل أحسسس أنسسه شخصسسه الكسسبر؛‬
‫فهذا هو الذي تكسون فيسه التكملسة النسسانية للنسساس‪ ،‬وكسأنه مخلسوق‬
‫خاصة لثبات أن غير المستطاع مستطاع‪.‬‬
‫ومن عجيب حكمة الله أن المراض الشديدة تعمسسل بالعسسدوى فيمسسن‬
‫قاربها أو لمسها‪ ،‬وأن القوى الشديدة تعمسسل كسسذلك بالعسسدوى فيمسسن‬
‫اتصل بها أو صاحبها ولهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهسسم‬
‫إصسسابة كإصسسابة المسسرض‪ :‬تصسسرف عسسن شسسهوات السسدنيا كمسسا يصسسرف‬
‫المرض عنها‪ ،‬وتكسر النفس كما يكسرها ذاك‪ ،‬وتفقد الشيء ما هو‬
‫به شيء‪ ،‬فتتحول قيمته‪ ،‬فل يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من‬
‫الحق‪.‬‬
‫وإذا عسسدم النسساس هسسذا الرجسسل السسذي يعسسديهم بقسسوته العجيبسسة فقلمسسا‬
‫يصلحون للقوة‪ ،‬فكبار الصالحين وكبار الزعماء وكبسسار القسسواد وكبسسار‬
‫الشجعان وكبار العلماء وأمثالهم ‪-‬كل هؤلء مسسن بسساب واحسسد‪ ،‬وكلهسسم‬
‫في الحكمة ككبار المرضى‪.‬‬
‫قال أبو علسسي‪ :‬وهممسست مسسرة أن أسسسأل الشسسيخ عسسن خسسبره مسسع ابسسن‬
‫طولون فقطعتني هيبته‪ ،‬فقلت‪ :‬أحتال بسؤاله عن كلمة شيخ الري‪:‬‬
‫مسسا أجسسري‬‫"ل أذاقك الله طعم نفسك"؛ وبينما أهيسسئ فسسي نفسسسي كل ً‬
‫فيه هذه العبارة‪ ،‬جاء رجل فقال للشيخ‪ :‬لي علسسى فلن مسسائة دينسسار‪،‬‬
‫وقد ذهبت الوثيقة التي كتب فيهسسا السسدين‪ ،‬وأخشسسى أن ينكسسر إذا هسسو‬

‫‪41‬‬
‫علم بضياعها؛ فادع الله لي وله أن يظفرنسسي بسسديني وأن يثبتسسه علسسى‬
‫الحق‪ .‬فقال الشيخ‪ :‬إني رجل قد كبرت وأنا أحسسب الحلسسوى‪ ،‬فسساذهب‬
‫فاشتر رطًل منها وائتني به حتى أدعو لك!‬
‫فذهب الرجل فاشترى الحلوى ووضعها له البائع في ورقة فسسإذا هسسي‬
‫الوثيقة الضائعة‪ ،‬وجاء إلى الشسسيخ فسسأخبره‪ ،‬فقسسال لسسه‪ :‬خسسذ الحلسسوى‬
‫فأطعمها صبيانك ل أذاقنا اللسه طعسم أنفسسنا فيمسا نشستهي! ثسم إنسه‬
‫التفت إلي وقال‪ :‬لو أن شسسجرة اشسستهت غيسسر مسسا بسسه صسسحة وجودهسسا‬
‫وكمال منفعتها فأذيقت طعم نفسها لكلت نفسها وذوت‪.‬‬
‫قال أبو علسسي‪ :‬والمعجسسزات السستي تحسسدث للنبيسساء‪ ،‬والكرامسسات السستي‬
‫تكون للتقياء‪ ،‬وما يخرق العادة ويخرج عن النسق ‪-‬كل ذلسسك كقسسول‬
‫القدرة عن الرجل الشاذ‪ :‬هو هذا‪ .‬فلسسم تبسسق بسسي حاجسسة إلسسى سسسؤال‬
‫الشيخ عن خبره مع ابن طولون‪ ،‬وكنت كأني أرى بعيني رأسسسي كسسل‬
‫ما سمعت‪ ،‬بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفسسر القاضسسي أحمسسد‬
‫بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة السسدينوري* ذاك السسذي يحسسدث بكتسسب‬
‫فا فيهسسا الكسسبير‬
‫أبيسسه كلهسسا مسسن حفظسسه وهسسي واحسسد وعشسسرون مصسسن ً‬
‫والصغير؛ فقال لي‪ :‬لعلك اشتفيت من خسسبر بنسسان مسسع ابسسن طولسسون‪،‬‬
‫فمن أجله زعمت جئت إلى مصسسر‪ .‬قلسست‪ :‬إنسسه تواضسسع فلسسم يخسسبرني‬
‫وه ِْبته فلم أسأله‪ .‬قال‪ :‬تعال أحدثك الحديث‪.‬‬
‫كان أحمد بن طولون** من جارية تركية‪ ،‬وكان طولون أبوه مملو ً‬
‫كا‬
‫فا عليسسه‬‫حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظ ً‬
‫من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك؛ فولد أحمد في منصب ذلسسة‬
‫تستظهر بالطغيان‪ ،‬وكانت هاتسسان طسسبيعته إلسسى آخسسر عمسسره‪ ،‬فسسذهب‬
‫دا‪ ،‬ونشسأ مسن أول أمسره علسسى أن يتسم هسذا النقسص‬ ‫بهمته مذهًبا بعيس ً‬
‫ويكون أكبر من أصله‪ ،‬فطلب الفروسية والعلسسم والحسسديث‪ ،‬وصسسحب‬
‫الزهاد وأهل الورع‪ ،‬وتميز على التراك وطمح إلسسى المعسسالي‪ ،‬وظسسل‬
‫يرمي بنفسه‪ ،‬وهو في ذلك يكبر ول يزال يكبر‪ ،‬كأنما يريد أن ينقطع‬
‫مسسن أصسسله ويلتحسسق بسسالمراء‪ ،‬فلمسسا التحسسق بهسسم ظسسل يكسسبر؛ ليلحسسق‬
‫بالملوك‪ ،‬فلما بلغ هؤلء كانت نيته على ما يعلم الله‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكان عقله من أثر طبيعتيه كالعقلين لرجلين مختلفين فلسسه يسسد‬
‫مع الملئكة ويده الخرى مع الشياطين‪ ،‬فهو السسذي بنسسى المارسسستان‬
‫وأنفق عليه وأقام فيسسه الطبسساء‪ ،‬وشسسرط إذا جيسسء بالعليسسل أن تنسسزع‬
‫ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان‪ ،‬ثم يلبس ثياًبا ويفرش له ويغسسدى‬
‫عليه ويراح بالدوية والغذية والطباء حتى يبرأ‪ ،‬ولم يكسسن هسسذا قبسسل‬
‫إمارته؛ وهو أول من نظر في المظالم من أمراء مصر؛ وهو صاحب‬

‫‪42‬‬
‫يوم الصدقة؛ يكثر من صدقاته كلما كثرت نعمة الله عليسسه‪ ،‬ومراتبسسه‬
‫لذلك في كل أسبوع ثلث آلف دينار سوى مطابخه التي أقيمت في‬
‫كل يوم في داره وغيرها‪ ،‬يذبح فيها البقر والكباش ويغسسرف للنسساس‪،‬‬
‫ولكل مسسسكين أربعسسة أرغفسسة يكسسون فسسي اثنيسسن منهسسا فسسالوذج* وفسسي‬
‫الخرين من القدور‪ ،‬وينادي‪ :‬من أحب أن يحضر دار المير فليحضر!‬
‫وتفتح البواب ويدخل الناس وهو في المجلس ينظر إلى المسسساكين‬
‫ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون‪ ،‬فيسره ذلك ويحمسسد اللسسه علسسى‬
‫نعمته؛ وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينسسار؛ واقتسسدى بسسه ابنسسه‬
‫خمارويه‪ ،‬فأنشأ بعده مطبخ العامة** ينفق عليه ثلثة وعشرين ألف‬
‫دينار كل شهر‪.‬‬
‫وقد بلغ ما أرسله ابن طولون إلى فقراء بغسسداد وعلمائهسسا فسسي مسسدة‬
‫وليته ألف ومائتي ألف دينسسار***‪ ،‬وكسسان كسسثير التلوة للقسسرآن‪ ،‬وقسسد‬
‫اتخذ حجرة بقربه في القصر وضسسع فيهسسا رجسساًل سسسماهم بسسالمكبرين‪،‬‬
‫يتعاقبون الليل نوًبا يكبرون ويسبحون‪ ،‬ويحمدون ويهللون‪ ،‬ويقرءون‬
‫القرآن تطويًبا‪ ،‬وينشدون قصائد الزهد‪ ،‬ويؤذنون أوقات الذان؛ وهسسو‬
‫الذي فتح أنطاكية في سنة خمس وسستين ومسائتين‪ ،‬ثسسم مضسى إلسى‬
‫طرسوس كأنه يريد فتحها‪ ،‬فلما نابذه أهلها وقاتلهم أمر أصسسحابه أن‬
‫ينهزموا عنها؛ ليبلغ ذلك طاغية الروم فيعلم أن جيوش ابسسن طولسسون‬
‫على كثرتها وشدتها لم تقم لهل طرسوس‪ ،‬فيكون بهذا كسسأنه قسساتله‬
‫وصده عن بلد من بلد السلم‪ ،‬ويجعل هذا الخبر كالجيش فسسي تلسسك‬
‫الناحية!‬
‫ومع كل ذلسسك فسسإنه كسسان رجًل طسسائش السسسيف‪ ،‬يجسسور ويعسسسف‪ ،‬قسسد‬
‫فسسا؛‬
‫أحصى من قتلهم صبًرا أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشسسر أل ً‬
‫وأمر بسجن قاضيه بكار بن قتيبة في حادثة معروفة‪ .‬وقال له‪ :‬غرك‬
‫قول الناس ما في الدنيا مثل بكار؟ أنت شيخ قد خرقت! ثم حبسسسه‬
‫وقيده وأخذ منه جميع عطاياه مسسدة وليتسسه القضسساء‪ ،‬فكسسانت عشسسرة‬
‫دا‬
‫آلف دينار‪ ،‬قيل إنها وجدت في بيت بكسسار بختمهسسا لسسم يمسسسها زه س ً‬
‫عا‪.‬‬
‫وتور ً‬
‫‪---------------‬‬
‫* نوع من الحلوى‪ ،‬وهو ما يسميه العامة "البالوظة"‪.‬‬
‫** هذا هو الصل في مطعم الشعب‪.‬‬
‫*** الدينار نصف جنيه مصري فعدة ذلك مليسسون ومسسائة ألسسف جنيسسه‪،‬‬
‫صدقاته على بغداد وحدها رحمه الله‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ولما ذهب شيخك أبو الحسن بعنفه ويسسأمره بسسالمعروف وينهسساه عسسن‬
‫المنكر‪ ،‬طاش عقله فأمر بإلقائه إلى السد‪ ،‬وهسسو الخسسبر السسذي طسسار‬
‫في الدنيا حتى بلغك في بغداد‪..‬‬
‫قال‪ :‬وكنت حاضًرا أمرهم ذلك اليوم‪ ،‬فجيء بالسد مسسن قصسسر ابنسسه‬
‫خمارويه وكان خمارويه هذا مشغوًفا بالصيد‪ ،‬ل يكاد يسمع بسبع في‬
‫غيضة أو بطن واد ٍ إل قصده ومعه رجال عليهم لبود‪ ،‬فيسسدخلون إلسسى‬
‫السد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنسسوة وهسسو سسسليم‪ ،‬فيضسسعونه فسسي‬
‫أقفاص من خشب محكمسسة الصسسنعة يسسسع الواحسسد منهسسا السسسبع وهسسو‬
‫قائم‪.‬‬
‫ما‪ ،‬ضسسارًبا‪،‬‬
‫وكان السد الذي اختاره للشيخ أغلسسظ مسسا عنسسدهم‪ ،‬جسسسي ً‬
‫سسسا‪،‬‬
‫سا‪ ،‬فرا ً‬ ‫عارم الوحشية‪ ،‬متزيل العضل‪ ،‬شديد عصب الخلق‪ ،‬هرا ً‬
‫أهرت الشدق يلوح شدقه من سعته وروعته كفتحسسة القسسبر ينسسبئ أن‬
‫جا مسسن لبسسدته‪ ،‬يهسسم أن ينقسسذف علسسى‬ ‫جوفه مقبرة‪ ،‬ويظهر وجهه خار ً‬
‫من يراه فيأكله!‬
‫وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليسسه ينظسسرون‪ ،‬ثسسم فتحسسوا بسساب‬
‫القفسسص مسسن أعله فجسسذبوه فسسارتفع؛ وهجهجسسوا بالسسسد يزجرونسسه‪،‬‬
‫فانطلق يزمجر ويزأر زئيًرا تنشق له المرائر‪ ،‬ويتوهم من يسمعه أنه‬
‫الرعد وراءه الصاعقة!‬
‫ثم اجتمع الوحش في نفسه واقشعر‪ ،‬ثم تمطسسى كسسالمنجنيق يقسسذف‬
‫الصخرة‪ ،‬فما بقي من أجل الشيخ إل طرفة عين؛ ورأيناه على ذلسسك‬
‫ساكًنا مطرًقا ل ينظر إلى السد ول يحفل بسسه‪ ،‬ومسسا منسسا إل مسسن كسساد‬
‫ينهتك حجاب قلبه من الفزع والرعب والشفاق على الرجل‪.‬‬
‫ولم يرعنا إل ذهول السد عن وحشيته‪ ،‬فأقعى على ذنبه‪ ،‬ثسسم لصسسق‬
‫بالرض هنيهة يفترش ذراعيه‪ ،‬ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير السد‪،‬‬
‫فمشسسى مترفقسسا ثقيسسل الخطسسو تسسسمع لمفاصسسله قعقعسسة مسسن شسسدته‬
‫وجسامته‪ ،‬وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظسسه ويشسسمه كمسسا‬
‫يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به‪ ،‬وكسسأنه يعلسسن أن هسسذه ليسسست‬
‫مصاولة بين الرجسسل التقسسي والسسسد‪ ،‬ولكنهسسا مبسسارزة بيسسن إرادة ابسسن‬
‫طولون وإرادة الله!‬

‫‪‬‬

‫‪44‬‬
‫الحمدية‬

‫وانشقت القاديانية ‪-‬بعد نشأتها بقليل‪ -‬إلى شسسقين‪ ،‬وتفسسرع عنهسسا مسسا‬
‫يعرف باسم "الحمديسسة"‪ ،‬أو "جماعسسة لهسسور"‪ ،‬وزعيمسسا هسسذا الفسسرع‪:‬‬
‫"خواجة كمال الدين" و"مولي محمد علي" ولهذا الفرع نشاط كبير‬
‫في الخارج‪ ،‬في آسيا وأوروبا‪ ،‬وقسسد انتهسسى مسسولي محمسسد علسسي مسسن‬
‫ترجمة القرآن الكريم إلى النجليزية في سنة ‪1920‬م‪ ،‬وألسسف كتسسابه‬
‫"السلم" في ‪1936‬م‪ ،‬ويبلغ عدد الحمدية نحو نصف مليون‪ ،‬منهسسم‬
‫ستون ألفا في الهند‪.‬‬
‫والفرق بين "القاديانية" الصلية وبين هذه الشعبة التي تعرف باسم‬
‫"الحمدية" أو باسسسم "جماعسسة لهسسور"‪ :‬أن هسسذه الشسسعبة تنظسسر إلسسى‬
‫"ميرزا غلم أحمد" مؤسس المذهب علسسى أنسسه مصسسلح دينسسي فقسسط‪,‬‬
‫بينما تنظر إليه القاديانية على أنه نبي مرسل‪.‬‬
‫ففي كتاب "حقيقة النبوة" لميسسرزا يشسسير أحمسسد الخليفسسة الثسساني‪ :‬أن‬
‫"غلم" أفضل من بعض أولي العسسزم مسسن الرسسسل "ص ‪ ،"257‬وفسسي‬
‫صحيفة الفضل "المجلد الرابع عشر ‪ 29‬أبريسسل سسسنة ‪1927‬م"‪ :‬أنسسه‬
‫كان أفضل بكسثير مسن النبيساء‪ ،‬ويمكسن أن يكسون أفضسل مسن جميسع‬
‫النبياء‪ ،‬وفي صحيفة الفضل "المجلد الخامس"‪" :‬لم يكن فرق بيسسن‬
‫أصحاب النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬وتلميسسذ ميسسرزا غلم أحمسسد إل‬
‫أن أولئك رجال البعثة الولى وهؤلء رجال البعثة الثانية" وفسسي عسسدد‬
‫‪ 92‬بتاريسسخ ‪ 28‬مسسايو سسسنة ‪1918‬م مسسن الفضسسل "المجلسسد الثسسالث"‪:‬‬
‫"ميسسرزا هسسو محمسسد ‪-‬صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم‪ ،‬وهسسو مصسسدق القسسرآن‬
‫الكريم‪ :‬اسمه أحمد"‪.‬‬
‫وبمساعدة الخير للحركة التقدمية التي قام على الدعوة إليها سسسير‬
‫"أحمد خسسان"‪ ،‬وكسسذا للمسسذهب القاديسساني السسذي أسسسسه "ميسسرزا غلم‬
‫أحمد" شهدت الهند السلمية ‪-‬أو شهد العالم السلمي كلسسه‪ -‬فرقسسة‬
‫أخرى في التوجيه والعقيدة بين المسلمين‪ ،‬كما شهد مظهسسرا فكريسسا‬
‫إسلميا تبناه النجليز لمصلحة الستعمار الغربي إذ ل شك أنه عمسسل‬
‫عقلي إنساني انطسسوى علسسى محاولسسة جديسسدة طويلسسة المسسدى‪ ،‬صسسعبة‬
‫المركب‪ ،‬لتغيير اتجاه الجماعة السلمية إلى ما لم تألفه‪ ،‬وإلى غيسسر‬
‫ما درج عليه اعتقادها‪.‬‬
‫وضربته روح الشيخ فلم يبق بينه وبين الدمي عمل‪ ،‬ولسسم يكسسن منسسه‬
‫بإزاء لحم ودم‪ ،‬فلو أكل الضوء والهواء والحجر والحديسسد‪ ،‬كسسان ذلسسك‬
‫أقرب وأيسر من أن يأكل هذا الرجل المتمثل في روحانيته ل يحسسس‬

‫‪45‬‬
‫لصورة السد معنى من معانيها الفاتكة‪ ،‬ول يرى فيه إل حياة خاضعة‬
‫مسخرة للقوة العظمى التي هو مسسؤمن بهسسا ومتوكسسل عليهسسا‪ ،‬كحيسساة‬
‫الدودة والنملة وما دونها من الهوام والذر!‬
‫وورد النور على هسسذا القلسسب المسسؤمن يكشسسف لسسه عسسن قسسرب الحسسق‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو ليس بين يدي السد ولكنه هو والسد بين يدي‬
‫حك ْسم ِ َرب ّس َ‬
‫ك فَإ ِن ّس َ‬
‫ك‬ ‫ص سب ِْر ل ِ ُ‬
‫جا في يقين هذه اليسسة‪َ} :‬وا ْ‬‫الله‪ ،‬وكان مندم ً‬
‫ب ِأ َع ْي ُن َِنا{‪.‬‬
‫ورأى السد رجًل هو خوف الله‪ ،‬فخاف منه‪ ،‬وكما خسسرج الشسسيخ مسسن‬
‫ذاته ومعانيها الناقصة‪ ،‬خسسرج السسوحش مسسن ذاتسسه ومعانيهسسا الوحشسسية؛‬
‫فليس في الرجل خوف ول هم ول جزع ول تعلق برغبسة‪ ،‬ومسن ذلسك‬
‫ليس في السسسد فتسسك ول ضسسراوة ول جسسوع ول تعلسسق برغبسسة‪.‬ونسسسي‬
‫الشيخ نفسه فكأنما رآه السد ميًتا ولم يجد فيسسه "أنسسا" السستي يأكلهسسا‪،‬‬
‫ولو أن خطرة من هم الدنيا خطرت على قلبه فسسي تلسسك السسساعة أو‬
‫اختلجت فسسي نفسسسه خالجسسة مسسن الشسسك‪ ،‬لفسساحت رائحسسة لحمسسه فسسي‬
‫خياشيم السد فتمزق في أنيابه ومخالبه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وانصرفنا عن النظر في السبع إلى النظر في وجه الشيخ‪ ،‬فإذا‬
‫هو ساهم مفكر‪ ،‬ثم رفعوه وجعل كسسل منسسا يظسسن ظن ّسسا فسسي تفكيسسره‪،‬‬
‫فمن قائل‪ :‬إنه الخوف أذهله عن نفسه‪ ،‬وقائل‪ :‬إنه النصراف بعقله‬
‫إلى الموت‪ ،‬وثالث يقول‪ :‬إنه يكون الفكرة لمنع الحركة عن الجسم‬
‫فل يضطرب‪ ،‬وزعم جماعة أن هذه حالة من السسستغراق يسسسحر بهسسا‬
‫السد؛ وأكثرنا في ذلك وتجارينا فيسسه‪ ،‬حسستى سسسأله ابسسن طولسسون‪ :‬مسسا‬
‫الذي كان في قلبك وفيم كنت تفكر؟‬
‫فقال الشيخ‪ :‬لم يكن علي بأس‪ ،‬وإنما كنت أفكر في لعسساب السسسد‪،‬‬
‫أهو طائر أم نجس‪..‬‬

‫‪‬‬
‫أمراء للبيع‬

‫قال الشيخ تاج الدين محمد بن علي المقلب طوير الليل‪ ،‬أحسسد أئمسسة‬
‫الفقهاء بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة*‪:‬‬
‫كان شيخنا المام العظيم شيخ السلم تقي الدين بن مجد الدين بن‬
‫دقيسسق العيسسد** ل يخسساطب السسسلطان إل بقسسوله‪" :‬يسسا إنسسسان"! فمسسا‬
‫يخشاه ول يتعبد لسسه ول ينحلسسه ألقسساب الجسسبروت والعظمسسة ول يزينسسه‬
‫بالنفاق ول يداجيه كما يصنع غيره من العلماء؛ وكان هذا عجيًبا؛ غيسسر‬

‫‪46‬‬
‫دا قسسط مسسن عامسسة‬ ‫أن تمام العجب أن الشسسيخ لسسم يكسسن يخسساطب أح س ً‬
‫الناس إل بهذا اللفظ عينه‪" :‬يا إنسان"؛ فما يعلو بالسلطان والمراء‬
‫ول ينزل بالضعفاء والمساكين‪ ،‬ول يرى أحسن ما في هسسؤلء وهسسؤلء‬
‫إل الحقيقة النسانية!‬
‫دا‬
‫ثم كان ل يعظم في الخطاب إل أئمة الفقهاء فإذا خاطب منهم أح ً‬
‫قال له‪" :‬يسا فقيسه"؛ علسى أنسه لسم يكسن يسسمح بهسذا إل لمثسل شسيخ‬
‫السلم نجم الدين ابن الرقعة***‪ ،‬ثم يخص علء الدين بسسن البسساجي‬
‫وحده بقوله‪" :‬يا إمام"؛ إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجسسة‪،‬‬
‫ل يكاد يقطعه أحد في المناظرة والمباحثسسة؛ فهسسو كالبرهسسان‪ .‬إجللسسه‬
‫إجلل الحق؛ لن فيه المعنى وتثبيت المعنى‪.‬‬
‫ما‪ :‬يا سيدي‪ ،‬أراك تخسساطب السسسلطان بخطسساب العامسسة؛‬ ‫وقلت له يو ً‬
‫فإن علوت قلسست‪" :‬يسا إنسسان"‪ ،‬وإن نزلسست قلسست‪" :‬يسا إنسسان"؛ أفل‬
‫يسخطه هذا منك وقد تذّوق حلوة ألفاظ الطاعة والخضوع‪ ،‬وخصسسه‬
‫النفاق بكلمات هي ظل الكلمات السستي يوصسسف اللسسه بهسسا‪ ،‬ثسسم جعلسسه‬
‫الملك إنساًنا بذاته في وجسسود ذاتسسه‪ ،‬حسستى أصسسبح مسسن غيسسره كالجبسسل‬
‫والحصاة؛ يستويان في العنصر ويتباينان في القدر‪ ،‬وأقله مهمسسا قسسل‬
‫هو أكثرها مهما عظمت‪ ،‬ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟‬
‫فتبسم الشيخ وقال‪ :‬يا ولدي‪ ،‬إيش هذا؟ إننا نفوس ألفاظ‪ ،‬والكلمسسة‬
‫من قائلها هي بمعناها في نفسه ل بمعناها في نفسسسها؛ فمسسا يحسسسن‬
‫بحامل الشريعة أن ينطق بكلم يرده الشرع عليه؛ ولو نسسافق السسدين‬
‫لبطل أن يكون ديًنا‪ ،‬ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف‬
‫منه؛ فلطخة في الثوب البيض ليست كلطخسسة فسسي الثسسوب السسسود‪،‬‬
‫والمنافق رجل مغطى في حياته‪ ،‬ولكن عالم الدين رجسسل مشسسكوف‬
‫في حياته ل مغطى؛ فهو للهدايسسة ل للتلسسبيس‪ ،‬وفيسسه معسساني النسسور ل‬
‫معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل‪ ،‬فإذا نافق فقسسد‬
‫كذب؛ والعالم يتصل بالدين مسن ناحيسة العمسل وناحيسة التسبيين‪ ،‬فسإذا‬
‫نافق فقد كذب وغش وخان‪.‬‬
‫وما معنى العلماء بالشرع إل أنهم امتسسداد لعمسسل النبسسوة فسسي النسساس‬
‫دهًرا بعد دهر‪ ،‬ينطقسسون بكلمتهسسا‪ ،‬ويقومسسون بحجتهسسا‪ ،‬ويأخسسذون مسسن‬
‫أخلقها كما تأخذ المرآة النور‪ ،‬تحويه في نفسها وتلقيه على غيرهسسا‪،‬‬
‫فهي أداة ٌ لظهاره وإظهار جماله مًعا‪.‬‬
‫أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخسسذ‬
‫من نور واحد ل يختلف؟ إن أولئك في أخلقهسسم كسساللوح مسسن البلسسور؛‬

‫‪47‬‬
‫يظهر النور نفسسسه فيسسه ويظهسسر حقيقتسسه البلوريسسة؛ وهسسؤلء بسسأخلقهم‬
‫كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية ل غير!‬
‫وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها؛ فيسهل عليه أن يتأول‬
‫ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفسسي؛ ولكسسن العسسالم الحسسق يفكسسر مسسع‬
‫كتب الشريعة في صاحب الشريعة‪ ،‬فهو معه فسسي كسسل حالسسة يسسسأله‬
‫ماذا تفعل وماذا تقول؟‬
‫والرجل الديني ل تتحول أخلقه ول تتفاوت ول يجيسسء كسسل يسسوم مسسن‬
‫حوادث اليوم‪ ،‬فهو بأخلقه كلها‪ ،‬ل يكون مرة ببعضها ومرة ببعضسسها‪،‬‬
‫ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السسسوء هسسذا‬
‫الذي لو نطقسست أفعسساله لقسسالت للسسه بلسسسانه‪ :‬هسسم يعطسسوني السسدراهم‬
‫والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟‬
‫حا في أحد وجهيه دون الخر‪ ،‬أو في‬ ‫إن الدينار يا ولدي إذا كان صحي ً‬
‫بعضه دون بعضه‪ ،‬فهو زائف كله؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون‬
‫مع هؤلء يتعاملون مسسع قسسوة الهضسسم فيهسسم‪ ...‬فينزلسسون بسسذلك منزلسسة‬
‫البهائم؛ تقدم أعمالها لتأخذ بطونها‪ ،‬والبطن الكل في العالم السسوء‬
‫يأكل دين العالم فيما يأكله‪..‬‬
‫فإذا رأيت لعلماء السوء وقاًرا فهو البلدة‪ ،‬أو رقة فسسسمها الضسسعف‪،‬‬
‫أو محاسسسنة فقسسل إنهسسا النفسساق‪ ،‬أو سسسكوًتا عسسن الظلسسم فتلسسك رشسسوة‬
‫يأكلون بها!‬
‫قال المام‪ :‬وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين بن عبد‬
‫السلم* فلقد كان المر بالمعروف والنهي عن المنكر شسسيًئا تصسسنعه‬
‫طبيعته كما يصنع جسمه الحياة‪ ،‬فل يبالي هلك فيه أو عسساش؛ إذ هسسو‬
‫في الدم كالقلب‪ ،‬ل تناله يد صاحبه ول يد غيره؛ ولم يتعلق بمال ول‬
‫جاه ول ترف ول نعيم‪ ،‬فكان تجرده من أوهام القوة ل تغلب؛ وانتزع‬
‫خوف الدنيا من قلبه فغمرته الروح السماوية التي تخيف كل شسسيء‬
‫ول تخاف؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل وتبسسديل فسسي طبسساع النسساس‪،‬‬
‫حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقسسد رأى كسسثرة الخل ْسسق فسسي جنسسازته‬
‫حين مّرت تحت القلعة‪ :‬الن استقر أمري فسسي الملسسك‪ ،‬فلسسو أن هسسذا‬
‫الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لنتزع مني المملكة!‬
‫وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل‪ ،‬فاستنجد بالفرنج علسسى‬
‫الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر؛ فغضب الشيخ وأسسسقط اسسسم‬
‫الصالح من الخطبسسة وخسسرج مهسساجًرا‪ ،‬فسسأتبعه الصسسالح بعسسض خواصسسه‬
‫يتلطف به ويقول له‪ :‬ما بينك وبين أن تعود إلى مناصسسبك ومسسا كنسست‬
‫عليه وأكثر مما كنت عليه إل أن تتخشع للسلطان وتقبل يده‪ .‬فقسسال‬

‫‪48‬‬
‫له الشيخ‪ :‬يا مسكين! أنا ل أرضى أن يقبل السلطان يدي! أنتم فسسي‬
‫واد ٍ وأنا في واٍد!‬
‫ثم قدم إلى مصر في سنة ‪ ،639‬فأقبل عليه السلطان نجسسم السسدين‬
‫كا شديد‬ ‫أيوب وتحلى به ووله خطابة مصر وقضاءها‪ ،‬وكان أيوب مل ً‬
‫البأس‪ ،‬ل يجسر أحد أن يخسساطبه إل مجيبسسا‪ ،‬ول يتكلسسم أحسسد بحضسسرته‬
‫ابتداء؛ وقد جمع من المماليك الترك ما لسم يجتمسع مثلسسه لغيسسره مسن‬
‫أهسل بيتسه‪ ،‬حستى كسان أكسسثر أمسراء عسسسكره منهسم‪ ،‬وهسسم معروفسون‬
‫بالخشونة والبأس والفظاظة والسسستهانة بكسسل أمسسر؛ فلمسسا كسسان يسسوم‬
‫العيد صعد إليسسه الشسسيخ وهسسو يعسسرض الجنسسد ويظهسسر ملكسسه وسسسطوته‬
‫والمراء يقبلون الرض بين يديه؛ فناداه الشيخ بأعلى صوته؛ ليسمع‬
‫هذا المل العظيم‪ :‬يا أيوب! ثم أمره بإبطال منكرٍِ انتهسسى إلسسى علمسسه‬
‫في حانة تباع فيها الخمسسر؛ فرسسسم السسسلطان لسسوقته بإبطسسال الحانسسة‬
‫واعتذر إليه‪.‬‬
‫فحدثني الباجي قال‪ :‬سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شسساع‬
‫الخبر‪ ،‬فقلت‪ :‬يا سيدي‪ ،‬كيف كانت الحال؟‬
‫قال‪ :‬يا بني‪ ،‬رأيته في تلك العظمة فخشيت علسسى نفسسه أن يسسدخلها‬
‫الغرور فتبطره فكان ما باديته به‪.‬‬
‫خفَته؟‬ ‫قلت‪ :‬أما ِ‬
‫‪---------------‬‬
‫* هو المام العظيم شيخ السلم عبد العزيز بسسن عبسسد السسسلم بركسسة‬
‫الدنيا في عصره‪ ،‬توفي سنة ‪.660‬‬
‫قال‪ :‬يا بني‪ ،‬استحضرت هيبسسة اللسسه تعسسالى فكسسان السسسلطان أمسسامي‬
‫كالقط* ولو أن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته السسدنيا كلهسسا؛‬
‫بيد أني نظرت بالخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظسسور للنسساس‪،‬‬
‫فل عظمة ول سلطان ول بقاء ول دنيا‪ ،‬بل هسسو ل شسسيء فسسي صسسورة‬
‫شيء‪.‬‬
‫نحسن يسا ولسسدي مسع هسسؤلء كسالمعنى السسذي يصسسحح معنسى آخسر‪ ،‬فسسإذا‬
‫أمرناهم‪ ،‬فالذي يأمرهم فينا هو الشرع ل النسان‪ ،‬وهم قسسوم يسسرون‬
‫لنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفهسسا؛‬
‫فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لنفسسسهم الحسسق‬
‫فسسي إنطسساق هسسذه الكلمسسة وبيانهسسا وتوضسسيحها؛ فسسإذا كسسان ذلسسك فههنسسا‬
‫المعنى بإزاء المعنى؛ فل خوف ول مبالة ول شأن للحياة والموت‪.‬‬
‫وإنمسسا الشسسر كسسل الشسسر أن يتقسسدم إليهسسم العسسالم لحظسسوظ نفسسسه‬
‫ومنافعها‪ ،‬فيكون باطًل مزوًرا في صورة الحق؛ وههنسسا تكسسون السسذات‬

‫‪49‬‬
‫مع الذات‪ ،‬فيخشع الضعف أمام القوة‪ ،‬ويذل الفقر بين يدي الغنسسى‪،‬‬
‫وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها؛ فإذا العالم من السلطان‬
‫كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف!‬
‫كل يا ولدي! إن السلطان والحكسسام أدوات يجسسب تعييسسن عملهسسا قبسسل‬
‫إقامتها‪ ،‬فإذا تفككت واحتاجت إلى مسسسامير دقسست فيهسسا المسسسامير؛‬
‫وإذا انفتق الثوب فمن أين للبسسرة أن تسسسلك بسسالخيط السسذي فيهسسا إذا‬
‫خّزه؟‬
‫هي لم ت ُ‬
‫إن العسسالم الحسسق كالمسسسمار؛ إذا أوجسسد المسسسمار لسسذاته دون عملسسه‬
‫كفرت به كل خشبة‪..‬‬
‫قال المام تقي الدين‪ :‬وطغى المراء من المماليك وثقلست وطسأتهم‬
‫علسسى النسساس؛ وحيثمسسا وجسسدت القسسوة المسسسلطة المسسستبدة جعلسست‬
‫طغيانها واستبدادها أدب ًسسا وشسسريعة؛ إل أن تقسسوم بأزائهسسا قسسوة معنويسة‬
‫أقوى منها؛ ففكر شيخنا في هسؤلء المسراء‪ ،‬وقسال‪ :‬إن خسداع القسوة‬
‫الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد؛ إذ يحسبون كسسل حسسسن منهسسا‬
‫حا في ذاته ول أقبح منه؛ ويسسرون كسسل قبيسسح‬ ‫هو الحسن‪ ،‬وإن كان قبي ً‬
‫عندها هو القبيح‪ ،‬وإن كان حسًنا ول أحسن منه‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ما معنى المارة والمراء؟ وإنما قوة الكسسل الكسسبير هسسي عمسساد‬
‫الفرد الكبير‪ ،‬فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله؛ وكسسان ينبغسسي أن‬
‫تكون هذه المارة أعماًل نافعة قد كسسبرت وعظمسست فاسسستحقت هسسذا‬
‫اللقب بطبيعة فيها كطبيعسسة أن العشسسرة أكسسثر مسسن الواحسسد‪ ،‬ل أهسسواء‬
‫وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها فسسي الضسسعفاء بطبيعسسة كطبيعسسة‬
‫أن الوحش مفترس‪.‬‬
‫وفكر الشيخ فهداه تفكيسسره إلسسى أن هسسؤلء المسسراء مماليسسك‪ ،‬فحكسسم‬
‫عا بيعهسسم‬‫الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسسسلمين‪ ،‬ويجسسب شسسر ً‬
‫كما يباع الرقيق!‬
‫وبلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم؛ ثم احتدم المراء‬
‫وأيقنوا أنهم بإزاء الشرع ل بإزاء القاضي ابن عبد السلم‪.‬‬
‫وأفتى الشيخ أنسسه ل يصسسح لهسسم بيسسع ول شسسراء ول زواج ول طلق ول‬
‫معاملة‪ ،‬وأنه ل يصحح لهم شيًئا من هذا حتى يباعوا ويحصل عنقهسسم‬
‫بطريق شرعي!‬
‫ثم جعلوا يتسسسببون إلسسى رضسساء‪ ،‬ويتحملسسون عليسسه بالشسسفاعات‪ ،‬وهسسو‬
‫صّر ل يعبأ بجللة أخطارهم‪ ،‬ول يخشى اتسامه بعسسداوتهم‪ ،‬فرفعسسوا‬ ‫م ِ‬
‫ُ‬
‫المر إلى السلطان‪ ،‬فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما ل يعنيسسه‪،‬‬
‫وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه‪ ،‬وهو رجل ليسسس لسسه إل نفسسسه‬
‫وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمسسه وهسسم وافسسرون وفسسي أيسسديهم القسسوة‬
‫ولهم المر والنهي‪.‬‬
‫ل بالسسسلطان ول كسسبر‬ ‫وانتهى ذلك إلى الشيخ المام فغضب ولسسم يبسسا ِ‬
‫عليه إعراضه‪ ،‬وأزمع الهجرة من مصر‪ ،‬فسساكترى حميسًرا أركسسب أهلسسه‬
‫وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام‪ ،‬فلم يبعد إل‬
‫قليًل نحو نصف بريسسد حسستى طسسار الخسسبر فسسي القسساهرة ففسسزع النسساس‬
‫وتبعوه ل يتخلف منهم رجل ول امرأة ول صبي‪ ،‬وصار فيهم العلمسساء‬
‫والصلحاء والتجسسار والمحسسترفون كسسأن خروجسسه خسسروج نسسبي مسسن بيسسن‬
‫المؤمنين به‪ ،‬واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم المسسر مسسن‬
‫هذه الجماهير‪ ،‬فقيل للسلطان‪ :‬إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك!‬
‫فارتاع السلطان‪ ،‬فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضسساه ويسسستدفع بسسه‬
‫غضب المة‪ ،‬وأطلق له أن يأمر بما شاء‪ ،‬وقد أيقن أنسسه ليسسس رجسسل‬
‫الدينار والدرهم والعيش والجاه ولْبس طيلسان العلمسساء كمسسا يلصسسق‬
‫الريش على حجر في صورة الطائر‪.‬‬
‫ورجح الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمسسع المسسراء وينسسادي عليهسسم‬
‫للمساومة فسسي بيعهسسم‪ ،‬وضسسرب لسسذلك أجًل بعسسد أن يكسسون المسسر قسسد‬
‫تعالمه كل القاهرة؛ ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيسسق‬
‫الغالي!‬
‫وكان من المراء المماليك نائب السلطنة‪ ،‬فبعث إلى الشيخ يلطفه‬
‫ويسترضيه‪ ،‬فلم يعبأ الشيخ به؛ فهاج هائجه وقسسال‪ :‬كيسسف يبيعنسسا هسسذا‬
‫الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلسسة العبيسسد ويفسسسد محلنسسا مسسن النسساس‬
‫ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الرض؟ وما الذي يفقد هسسذا الشسسيخ مسسن‬
‫الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما ل يملك‪ ،‬ويفقد غير الموجود‪،‬‬
‫فل جرم ل يبالي ول يرجع عسسن رأيسسه مسسا دام هسسذا السسرأي ل يمسسر فسسي‬
‫منافعه‪ ،‬ول في شهواته ول في أطماعه‪ ،‬كالسسذين نراهسسم مسسن علمسساء‬
‫الدنيا؛ أما والله لضربنه بسيفي هذا‪ ،‬فما يموت رأيه وهو حي‪.‬‬
‫ثم ركب النائب فسسي عسسسكره وجسساء إلسسى دار الشسسيخ واسسستل سسسيفه‬
‫وطرق الباب‪ ،‬فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فانقلب إلى أبيه‬
‫وقال له‪ :‬انج بنفسك‪ ،‬إنه الموت‪ ،‬وإنه السيف‪ ،‬وإنه وإنه ‪...‬‬
‫فما اكترث الشيخ لذلك ول جزع ول تغير‪ ،‬بل قال له‪ :‬يا ولدي! أبوك‬
‫أقل من أن يقتل في سبيل الله!‬

‫‪51‬‬
‫وخرج ل يعرف الحياة ول الموت‪ ،‬فليس فيسسه النسسساني بسسل اللهسسي‪،‬‬
‫ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف‪ ،‬فسسانطلقت أشسسعة عينيسسه‬
‫في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها‪.‬‬
‫وتناوله بروحه القوية‪ ،‬فاضطرب الرجل وتزلسسزل وكأنمسسا تكسسسر مسسن‬
‫أعصابه فهو يرعد ول يستقر ول يهدأ‪.‬‬
‫وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له؛ ثم قال‪ :‬يا سسسيدي‪ ،‬مسسا‬
‫تصنع بنا؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬أنادي عليكم وأبيعكم!‬
‫وفيم تصرف ثمننا؟‬
‫في مصالح المسلمين‪.‬‬
‫ومن يقبضه؟‬
‫أنا‪.‬‬
‫وكان الشرع هو الذي يقول‪" :‬أنا"‪ ،‬فتم للشيخ ما أراد‪ ،‬ونسسادى علسسى‬
‫دا‪ ،‬واشتط في ثمنهسم‪ ،‬ل يسبيع الواحسد منهسم حستى‬ ‫دا واح ً‬
‫المراء واح ً‬
‫يبلغ الثمن آخر ما يبلغ؛ وكان كل أميسسر قسد أعسد مسن شسيعته جماعسة‬
‫يستامونه؛ ليشتروه‪...‬‬
‫ودمغ الظلم والنفاق والطغيان والتكبر والستطالة على الناس بهذه‬
‫الكلمة التي أعلنها الشرع‪:‬‬
‫‪‬‬

‫‪52‬‬
‫العجوزان "‪"1‬‬

‫قال محدثي‪ :‬التقى هذان الشيخان بعد فسسراق أربعيسسن سسسنة‪ ،‬وكسسانت‬
‫مثابتهما* ذلك المكان القائم على شاطئ البحر في إسسسكندرية فسسي‬
‫جهة كذا؛ وهما صسسديقان كانسسا فسسي صسسدر أيامهمسسا ‪-‬حيسسن كسسانت لهمسسا‬
‫أيام‪ ...‬رجلي حكومة يعملن فسسي ديسسوان واحسسد‪ ،‬وكانسسا فسسي عيشسسهما‬
‫مسسا اجتمسساع السسسؤال‬ ‫ل‪ ،‬يجتمعسسان دائ ً‬ ‫ل ورذائ َ‬
‫ل‪ ،‬وفضائ َ‬ ‫أخويّ جد ّ وهز ٍ‬
‫والجواب‪ ،‬فل تنقطسسع وسسيلة أحسدهما مسن الخسر؛ وكسأن بينهمسا فسسي‬
‫الحياة قرابة البتسامة من البتسامة والدمعة من الدمعة‪.‬‬
‫ولبثسسا كسسذلك مسسا شسساء اللسسه‪ ،‬ثسسم تبسسددا وأخسسذتهما الفسساق كسسدأب‬
‫"المسسوظفين"؛ ينتظمسسون وينتشسسرون‪ ،‬ول يسسزال أحسسدهم ترفعسسه أرض‬
‫مسسا‬
‫وتخفضه أخرى‪ ،‬وكأن "الموظسسف" مسسن تفسسسير قسسوله تعسسالى‪} :‬وَ َ‬
‫ت{ ]لقمان‪![34 :‬‬ ‫َ َ‬
‫مو ُ‬‫ض تَ ُ‬
‫س ب ِأيّ أْر ٍ‬
‫ف ٌ‬ ‫ت َد ِْري ن َ ْ‬
‫وافترق الصديقان على مضض‪ ،‬وكثيًرا ما يكون أمر الحكومسسة بنقسسل‬
‫بعض "موظفيها" هو أمرها بتمزيق بعضهم مسسن بعسسض؛ ثسسم تصسسرفت‬
‫بهما الدنيا فذهبا على طرفي طريق ل يلتقيسسان‪ ،‬وأصسسبح كلهمسسا مسسن‬
‫الخر كيومه الذي مضى‪ ..‬يحفظ ول يرى‪..‬‬
‫قال المحدث‪ :‬وكنت مع الستاذ "م"‪ ،‬وهسو رجسل فسي السسبعين مسن‬
‫عمره‪ ،‬غير أنه يقول عسسن نفسسسه إنسسه شسساب لسسم يبلسسغ مسسن العمسسر إل‬
‫سبعين سنة‪ ..‬ويزعم أن في جمسه النسساموس الخضسسر السسذي يحيسسي‬
‫الشجرة حياة واحدة إلى الخر‪.‬‬
‫ه‪ ،‬متأنق‪ ،‬فاخر السسبزة‪ ،‬جميسسل السسسمت‪ ،‬فسسارع الشسسطاط**‬ ‫رجل فار ٌ‬
‫كالمصبوب في قالب ل عوج فيه ول انحناء‪ ،‬مجتمسسع كلسسه لسسم يسسذهب‬
‫منسسه شسسيء‪ ،‬قسسد حفظتسسه أسسساليب القسسوة السستي يعانيهسسا فسسي رياضسسته‬
‫اليوميسسة؛ وهسسو منسسذ كسسان فسسي آنفتسسه وشسسبابه ل يمشسسي إل مسسستأخر‬
‫دا قفسساه إلسسى طسسوقه؛‬ ‫الصدر* مشسسدود الظهسسر‪ ،‬مرتفسسع العنسسق‪ ،‬مسسسن ً‬
‫وبذلك شب وشاب على استواء واحد‪ ،‬وكلما سسسئل عسسن سسسر قسسامته‬
‫وعوده لم يزد على قوله‪ :‬إن هذا من عمل إسناد القفا**‪.‬‬
‫دا ل يغيسسره‪ ،‬يسسرى أن‬ ‫ما عطر عبق‪ ،‬ثم ل يمس إل عطًرا واح ً‬ ‫وهو دائ ً‬
‫هذا الطيب يحفظ خيال الصبي‪ ،‬وأنه يبقي لليام رائحتها‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* أي المكان الذي اجتمعا فيه بعد التفرق‪.‬‬
‫** ممتد الطول‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫وله فلسفة من حسه ل من عقله‪ ،‬ولفلسفته قواعد وأصول ثابتسسة ل‬
‫تتغير‪ ،‬ومن بعسسض قواعسسدها الزهسسر‪ ،‬ومسسن بعضسسها الموسسسيقى‪ ،‬ومسسن‬
‫ضا؛ وكل تلك هي عنده قواعد لحفظ الشباب‪ .‬ومسسن‬ ‫بعضها الصلة أي ً‬
‫فلسفته أن مبادئ الشباب وعاداته إذا هي لم تتغيسسر اتصسسل الشسسباب‬
‫فيها واطرد في السسروح‪ ،‬فتكسسون مسسن ذلسسك قسسوة تحسسرس قسسوة اللحسسم‬
‫والدم‪ ،‬وتمسك على الجسم حالته النفسية الولى‪.‬‬
‫وهو يزيد في حكمة الصلة فكرة رياضية عملية لم ينتبسه إليهسسا أحسد‪،‬‬
‫هي رياضة البطن والمعساء بسالركوع والسسجود والقيسسام؛ ويقسول‪ :‬إن‬
‫ثروة الصلة تكنز فسسي صسسندوقين‪ :‬أحسسدهما السسروح لمسسا بعسسد المسسوت‪،‬‬
‫والخر البطن لما قبل الموت؛ ويسسرى أن السسسلم لسسم يفسسرض صسسلة‬
‫الصبح قبل الشمس إل ليجعل الفجر ينصب في الروح كل يوم‪.‬‬
‫قال المحسسدث‪ :‬وبينمسسا نحسسن جالسسسان مسسر بنسسا شسسيخ أعجسسف مهسسزول‬
‫موهون في جسمه‪ ،‬يدلف متقاصر الخطو كسسأن حمسسل السسسنين علسسى‬
‫صسسا‪،‬‬
‫ن يتوكسسأ علسسى ع ً‬‫ظهره‪ ،‬مرعش من الكبر‪ ،‬مستقدم الصدر منح ٍ‬
‫ضسا‪ ،‬وهسو يبسدو فسي ضسعفه‬ ‫ويدل انحناؤه على أن عمره قد اعسوج أي ً‬
‫ما ل إنساًنا‪ ،‬وكأنها ما خبطت إل لتمسك‬ ‫وهزاله كأن ثيابه ملئت عظا ً‬
‫ما على عظم‪..‬‬ ‫عظ ً‬
‫قال‪ :‬فحملق إليه "م" ثم صاح‪ :‬رينا! رينا‪ .‬فالتفت العجوز‪ ،‬ومسسا كسساد‬
‫كا يقول‪ :‬أوه!‪ .‬ريت‪ ،‬ريت!‬ ‫يأخذنا بصره حتى انفتل إليه وأقبل ضاح ً‬
‫ونهسسض "م" فاحتضسسنه وتلزمسسا طسسويًل‪ ،‬وجعسسل رأسسساهما يسسدوران‬
‫وحان‪ ،‬وكلهما يقبل صسساحبه قبًل ظمئة ل عهسسد لسسي بمثلهسسا فسسي‬ ‫ويتط ّ‬
‫صديقين‪ ،‬حتى لخيل إلي أنهما ل يتعانقان ول يتلءمان‪ ،‬ولكن بينهمسسا‬
‫فكرة يعتنقانها ويقبلنها مًعا‪..‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* يقال مستقدم الصدر‪ ،‬للهرم المحني الظهر؛ فأخذنا منها مسسستأخر‬
‫دا‪ ،‬فيكون أعله إلى الوراء‪.‬‬ ‫الصدر‪ ،‬وذلك بروزه حين يكون مشدو ً‬
‫** هذه حقيقة رياضية‪ ،‬ولها أقوى الثسسر فسسي شسسد الجسسسم وانتصسساب‬
‫القامة إذا اعتادها النسان‪ ..‬والمراد بالطوق‪ :‬البنيقة "الياقة"‪.‬‬
‫وقلت‪ :‬ما هذا أيها العجوزان؟‬
‫فضحك "م" وقال‪ :‬هذا صديقي القديم "ن"‪ ،‬تركته منذ أربعين سسسنة‬
‫معجزة من معجزات الشباب‪ ،‬فها هو ذا معجزة أخرى من معجسسزات‬
‫الهرم‪ ،‬ولم يبق منه كامًل إل اسمه‪...‬‬
‫ثم التفت إليه وقال‪ :‬كيف أنت يا رينا؟‬

‫‪54‬‬
‫قال العجوز "ن"‪ :‬لقد أصبحت كما ترى؛ زاد العمسسر فسسي رجلسسي رجًل‬
‫من هسسذه العصسسا‪ ،‬ورجسسع مصسسدر الحيسساة فسسي مصسسدًرا لللم والوجسساع‬
‫ودخلت في طبيعتي عادة رابعة من تعاطي الدواء‪.‬‬
‫فضحك "م" وقال‪ :‬قبح الله هذه الدخيلسسة‪ ،‬فمسسا هسسي العسسادات الثلث‬
‫الصلية؟‬
‫قال العجوز‪ :‬هي الكل والشرب والنوم‪ ..‬ثم أنت يا ريت كيسسف تقسسرأ‬
‫الصحف الن؟‬
‫قال "م"‪ :‬أقرؤها كما يقرؤها الناس‪ ،‬فما سؤالك عن هذا؟ وهل تقرأ‬
‫ما غير ما تقرأ في يوم؟‬ ‫الصحف يو ً‬
‫قال‪ :‬آه! إن أول شيء أقرأ في الصحف أخبار الوفيسسات؛ لرى بقايسسا‬
‫الدنيا‪ ،‬ثم "إعلنات الدوية"‪ ...‬ولكن كيف أنت يا ريت؟ إني لراك ما‬
‫تزال من وراء أربعين سنة فسسي ذلسسك العيسسش الرخسسي‪ ،‬وأراك تحمسسل‬
‫شيخوختك بقوة كأن الدهر لم يخرمسك مسن هنسا ول مسن هنسا‪ ،‬وكسأنه‬
‫يلمسك بأصسابعه ل بمسساميره‪ ،‬فهسل أصسبت معجسزة مسن معجسزات‬
‫العلم الحديث؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ناشدتك الله‪ ،‬أفي معجزات العلم الحديث معجزة لعظمي؟‬
‫قال "م"‪ :‬ويحك يا رينا! إنك على العهسسد لسسم تسسبرح كمسسا كنسست مزبلسسة‬
‫أفكار‪ ..‬ماذا يصنع فيك العلسسم الحسسديث وأنسست كمسسا رأى بمنزلسسة بيسسن‬
‫العظم والخشب؟!‬
‫قال المحدث‪ :‬وضحكنا جميًعا‪ ،‬ثم قلت للستاذ "م"‪ :‬ولكن مسسا "رينسسا‬
‫وريت"؟ وما هذه اللغة؟‪ .‬وفي أي معجم تفسيرها؟‬
‫قال‪ :‬فتغامز الشيخان‪ ،‬ثم قال "م"‪ :‬يا بني‪ ،‬هذه لغسسة مسساتت معانيهسسا‬
‫وبقيت ألفاظهسسا‪ ،‬فهسسي كتلسسك اللفسساظ الثريسسة الباقيسسة مسسن الجاهليسسة‬
‫الولى‪.‬‬
‫ض إل فيكما‪ ...‬ول يزال كل شاب‬ ‫قلت‪ :‬ولكن الجاهلية الولى لم تنق ِ‬
‫في هذه الجاهلية الولى‪ ،‬وما أحسب "رينسسا‪ ،‬وريسست" فسسي لغتكمسسا إل‬
‫بمعنى "سوسو‪ ،‬وزوزو" في اللغة الحديثة؟‬
‫ي رجسسل‬ ‫فقال "م"‪ :‬اسمع يا بني‪ :‬إن رجل سنة ‪ *1935‬متى سأل ف ّ‬
‫سسسنة ‪ :1895‬مسسا معنسسى رينسسا وريسست؟ فسسرد عليسسه‪ :‬إن "رينسسا" معناهسسا‬
‫مسسا‪ ،‬وكسسان مقتتًل قتلسسه حبهسسا‪ .‬أمسسا‬
‫"كاترينا"؛ وكان "ن" بهسسا صسّبا مغر ً‬
‫"ريت" فهو ل يعرف معناها‪.‬‬
‫فامتعض العجوز "ن"‪ ،‬وقال‪ :‬سبحان الله! اسسسمع يسسا بنسسي‪ :‬أن رجسسل‬
‫ي يقسول لسك‪ :‬إن "ريست" معناهسا "مرغريست"‪ ،‬وكسانت‬ ‫سنة ‪ 1895‬ف ّ‬

‫‪55‬‬
‫الجوى الباطن وكسسانت اللوعسسة والحريسسق السسذي ل ينطفسسئ فسسي قلسسب‬
‫الستاذ "م"‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنتما أيها العجسسوزان مسن عشسساق سسسنة ‪ ،1895‬فكيسسف تريسان‬
‫الحب الن؟‬
‫قال العجوز "ن"‪ :‬يا بني‪ ،‬أن أواخسسر العمسسر كسسالمنفي‪ ..‬ونحسسن نتكلسسم‬
‫باللفاظ التي تتكلم بها أنت وأنتما وأنتسسم‪ ..‬غيسسر أن المعسساني تختلسسف‬
‫اختلًفا بعي ً‬
‫دا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واضرب لهم مثًل‪.‬‬
‫ن‪ :‬الكسسل‬ ‫قال‪ :‬واضرب لهم مثًل كلمة "الكل"‪ ،‬فلها عندنا ثلثسسة معسسا ٍ‬
‫ن‪:‬‬‫ضا ثلثة معا ٍ‬ ‫وسوء الهضم‪ ،‬ووجع المعدة؛ وكلمة "المشي" فلها أي ً‬
‫المشسسي‪ ،‬والتعسسب‪ ،‬وغمسسزات العظسسم‪ ...‬وكلمسسة "النسسسيم"‪ ،‬النسسسيم‬
‫العليل يا بني‪ ،‬زيد لنا في معناها‪ :‬تحرك "الروماتيزم"‪..‬‬
‫فضحك "م" وقال‪ :‬يا شيخ‪..‬‬
‫قال العجوز‪ :‬وتلك الزيادة يا بني ل تجيسسء إل مسسن نقسسص‪ ،‬فهنسسا بقيسسة‬
‫من يدين‪ ،‬وبقيسسة مسسن رجليسسن‪ ،‬وبقيسسة مسسن بطسسن‪ ،‬وبقيسسة مسسن‪ ،‬ومسسن‪،‬‬
‫ومن‪ ...‬ومجموع كل ذلك بقية من إنسان‪.‬‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬والبقية في حياتك‪.‬‬
‫قال "ن"‪ :‬وبالجملة يا بني فإن حركة الحياة في الرجل الهرم تكسسون‬
‫حسسول ذاتهسسا ل حسسول الشسسياء؛ ومسسا أعجسسب أن تكسسون أقصسسر حركسستي‬
‫الرض حول نفسها كسسذلك‪ ،‬وإذا قسسال الشسساب فسسي مغسسامرته‪ :‬ليمسسض‬
‫الزمن ولتتصرم اليام! فإن اليام هي التي تتصرم والزمن هو السسذي‬
‫دا؛ فمسسن قسسال منهسسم‪ :‬ليمسسض الزمسن‪،‬‬ ‫يمر؛ أما الشيوخ فلن يتمنوه أب ً‬
‫فكأنما قال‪ :‬فلمض أنا‪..‬‬
‫فصاح "م"‪ :‬يا شيخ يا شيخ‪....‬‬
‫ثم قال العجوز‪ :‬واعلم يا بني أن العلم نفسه يهرم مع الرجل الهرم‪،‬‬
‫فا ل غناء عنده ول حيلسسة لسسه؛ وكسسل مصسسانع لنكشسسير‬ ‫فيصبح مثله ضعي ً‬
‫ومصانع بنك مصر واليابان والمريكتين‪ ،‬وما بقي من مصسسانع السسدنيا‪،‬‬
‫ل فائدة من جميعها؛ فهي عاجزة أن تكسر عظامي‪...‬‬
‫قال المحدث‪ :‬فقهقه الستاذ "م"‪ ،‬وقال‪ :‬كسسدت واللسسه أتخشسسب مسسن‬
‫هسسذا الكلم‪ ،‬وكسسادت معسساني العظسسم تخسسرج مسسن عظسسامي؛ لقسسد كسسان‬
‫المتوحشون حكماء فسسي أمسسر شسسيوخهم‪ ،‬فسسإذا علسست السسسن بجماعسسة‬
‫منهم لم يتركوهم أحياء إل بامتحان‪ ،‬فهم يجمعونهم ويلجئونهسسم إلسسى‬
‫شجرة غضة لينة المهزة‪ ،‬فيكرهونهم أن يصعدوا فيها ثم يتدلوا منهسسا‬
‫وقد عقلسست أيسسديهم بأغصسانها؛ فسإذا صساروا علسى هسسذه الهيئة اجتمسع‬

‫‪56‬‬
‫الشسسداء مسسن فتيسسان القبيلسسة فيأخسسذون بجسسذع الشسسجرة يرجونهسسا‬
‫وينفضونها ساعة من نهار؛ فمن ضعفت يسسداه مسسن أولئك الشسسيوخ أو‬
‫كلت حوامل ذراعيه فسأفلت الغصسن السذي يتعلسق بسه فوقسع‪ ،‬أخسذوه‬
‫فأكلوه؛ ومن استمسك أنزلوه فأمهلوه إلى حين!‬
‫فاقشعر العجوز "ن"‪ ،‬وقال‪ :‬أعوذ بالله! هذه شجرة تخرج في أصل‬
‫الجحيم‪ ،‬ولعنها الله من حكمة‪ ،‬فإنما يطبخسسونهم فسسي الشسسجرة قبسسل‬
‫الكل‪ ،‬أو هسسم يجعلسسونهم كسسذلك؛ ليتوهمسسوهم طيسسوًرا فيكسسون لحمهسسم‬
‫أطيب وألذ‪ ،‬ويتساقطون عليهم من الشجرة حمائم وعصافير‪.‬‬
‫قال "م"‪ :‬إن كان في الوشيحة منطق فليس في هذا المنطق "باب‬
‫لم"‪ ،‬ول "بسساب كيسسف"‪ ،‬ولسسو كسسان بهسسم أن يسسأكلوهم‪ ،‬غيسسر أنهسسا تربيسسة‬
‫الطبيعسسة لهسسل الطبيعسسة؛ فسسإن رؤيسسة الرجسسل هسسذه الشسسجرة وهزهسسا‬
‫وعاقبتها يبعد عنسسه الضسسعف والتخلخسسل‪ ،‬ويسسدفعه إلسسى معانساة القسوة‪،‬‬
‫طا لسسسبابها‪،‬‬ ‫ويزيد نفسسسه انتشسساًرا علسسى الحيسساة وطمعًسسا فيهسسا وتنشس ً‬
‫فيكسسون سسساعده آخسسر شسسيء يهسسرم‪ ،‬ول يسسزال فسسي الحسسدة والنشسساط‬
‫والوثبان؛ فل يعجز قبل يومه الطبيعي‪ ،‬ويكون المتوحشون بهسسذا قسسد‬
‫احتالوا على الطبيعة البشرية فاضطروها إلسسى مجهودهسسا‪ ،‬وأكرهوهسسا‬
‫على أن تبذل من القوة ما يسع الجسم‪.‬‬
‫قال "ن"‪ :‬فنعم إذن‪ ،‬ولعن الله معسساني الضسسعف؛ كسسدت واللسسه أظسسن‬
‫شا تخاف أن تؤكل‪ ،‬فتظسسل‬ ‫ما شاّبا‪ ،‬وما أراك إل متوح ً‬ ‫أني لم أكن يو ً‬
‫خا طفًل‪ ،‬وترى العمر كما يرى البخيسسل ذهبسسه‪ :‬مهمسسا‬ ‫خا رجًل ل شي ً‬‫شي ً‬
‫يبلغ فكثرته غير كثيرة‪.‬‬
‫قال المحدث‪ :‬وأضجرني حوارهما؛ إذ لم يعسد فيسسه إل أن جسسسم هسذا‬
‫يرد على جسم هذا؛ وإنما الشيخ من أمثال هؤلء زمان يتكلم ويقص‬
‫ويعظ وينتقد‪ ،‬ولن يكون الشيخ معك في حقيقته إن لسم ترحسل أنست‬
‫فيه إلى دنيا قديمة؛ فقلت لهما‪ :‬أيها العجوزان! أريد أن أسافر إلسسى‬
‫سنة ‪...1895‬‬
‫‪‬‬

‫‪57‬‬
‫العجوزان* "‪"2‬‬

‫قال محدثي‪ :‬ولما قلت لهمسسا‪ :‬أيهسسا العجسسوزان‪ ،‬أريسسد أن أسسسافر إلسسى‬
‫سنة ‪ 1895‬نظر إلي العجوز الظريف "ن"‪ ،‬وقال‪ :‬يسسا بنسسي‪ ،‬أحسسسب‬
‫رؤيتك إياي قد دنت بك من الخرة‪ ...‬فتريسسد أن نلسوذ بأخبسسار شسسبابنا؛‬
‫لتنظر إلينا وفينا روح الدنيا‪.‬‬
‫قسسسال السسسستاذ "م"‪ :‬وكيسسسف ل تريسسسه الخسسسرة وأكسسسثرك الن فسسسي‬
‫"المجهول"؟‬
‫قال‪ :‬ويحك يا "م"! ل تزال على وجهسسك مسسسحة مسسن الشسسيطان هنسسا‬
‫وهنا؛ كأن الشيطان هو الذي يصلح في داخلك ما اختل مسسن قسسوانين‬
‫الطبيعسسة‪ ،‬فل تسسستبين فيسسك السسسن وقسسد نيفسست علسسى السسسبعين‪ ،‬ومسسا‬
‫أحسب الشيطان في تنظيفك إل كالذي يكنس بيته‪..‬‬
‫قال "م"‪ :‬فأنت أيها العجوز الصالح بيت قسسد تركسسه الشسسيطان وعلسسق‬
‫عليك كلمة "اليجار"‪ ..‬فضحك "ن"‪ ،‬وقال‪ :‬تالله إن الهرم لهو إعادة‬
‫مسسا ل خطسسأ فيسسه؛ إذ ينظسسر الشسسيخ‬‫درس الدنيا‪ ،‬وفهمها مرة أخرى فه ً‬
‫بالعين الطاهرة‪ ،‬ويسمع بالذن الطاهرة‪ ،‬ويلمسسس باليسسد الطسساهرة‪...‬‬
‫وتالله إن الشيطان ل معنى له إل أنه وقاحة العصاب‪.‬‬
‫قال "م"‪ :‬فأنت أيها العجسسوز الصسسالح إنمسسا أصسسبحت بل شسسيطان؛ لن‬
‫الهرم قد أدب أعصابك‪...‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* الجمهور من أهل اللغة على أن "العجوز" وصف خاص بالمرأة إذا‬
‫شاخت وهرمت‪ ،‬ولكن جسساء فسسي اللسسسان‪" :‬ويقسسال للرجسسل عجسسوز"‪،‬‬
‫ونقله صاحب التاج عن الصاغاني‪ ،‬ونحن علسسى هسسذا السسرأي‪ ،‬ولسسو لسسم‬
‫يأت فيه نص عن العرب لبتدعناه وزدناه في اللغة؛ ووجهه عندنا أن‬
‫الرجل والمرأة إذا بلغا الهرم فقدا خصائص السسذكورة والنوثسسة‪ ،‬فلسسم‬
‫يعسسودا رجًل وامسسرأة‪ ،‬فاسسستويا فسسي العجسسز‪ ،‬فكسسان الرجسسل قمين ًسسا أن‬
‫يشارك المرأة في وصفها‪ ،‬فيقع اللفظ عليهما جميًعا!‬
‫وإنما امتنع العرب أن يقولوا للرجل "عجوز"‪ ،‬وخصوا ذلسسك بسسالمرأة‪،‬‬
‫ما وطغياًنا‪ ،‬كدأبهم مع النساء‪ ،‬فإذا شسساخت المسسرأة فقسسد‬ ‫فا وظل ً‬‫تعس ً‬
‫بطلت أنوثتها عندهم وعجزت عن حاجة الرجل وعجسسزت فسسي كسسثير‪،‬‬
‫ونفتها الطبيعة وبرأت منها؛ أمسسا الرجسسل فبسسالخلف؛ لنسسه رجسسل؛ وإذا‬
‫شاخ وبطسسل وعجسسز ولسسم يسسستطع أن يكسسابر فسسي المعنسسى‪ -‬كسسابر فسسي‬
‫اللفظ‪ ..‬وأبى أن يقال إنه "عجوز"‪ ،‬وزعم أن ذلك خاص بالمرأة‪..‬‬

‫‪58‬‬
‫إل أن هذا تزوير في اللغة‪ ،‬وإن كان للرجال عليهن درجة فذلك فسسي‬
‫أوصاف القدرة ل في أوصاف العجز!‬
‫قال العجوز الظريف‪ :‬وعند من غيرنا ‪-‬نحن الشسسيوخ‪ -‬تطسساع الوامسسر‬
‫والنواهي الدبية حق طاعتها؟ عند من غير الشيوخ تقدس مثل هسسذه‬
‫الحكم العالية‪ :‬ل تعتد على أحد‪ ...‬ل تفسد امرأة على زوجها‪...‬‬
‫قال المحدث‪ :‬وضحكنا جميعًسسا‪ ،‬وكسسان العجسسوز "ن" مسسن اليسسات فسسي‬
‫الظرف والنكتة‪ ،‬فقال‪ :‬تظنني يا بني فسسي السسسبعين؟ فسسوالله مسسا أنسسا‬
‫بجملتي في السبعين‪ ،‬والله والله‪.‬‬
‫قال "م"‪ :‬لقد ُأهتر الشيخ* يا بني؛ فإن هذا من خرفه فل تصدقه‪.‬‬
‫قا‪ ،‬فههنا مسسا عمسسره خمسسس‬ ‫قال "ن"‪ :‬والله ما خرقت وما قلت إل ح ً‬
‫سنوات فقط‪ ،‬وهو أسناني‪..‬‬
‫قلت‪" :‬ورينا وريت" وسنة ‪1895‬؟‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬أنت يا بني من المجددين‪ ،‬فما هسسواك فسسي القسسديم‬
‫وما شأنك به؟‬
‫وما كاد العجوز "ن" يسمع هذا حسستى طسسرف بعينيسسه** وحسسدد بصسسره‬
‫جا وكسسذًبا‬ ‫إلي وقال‪ :‬أئنسسك لنسست هسسو؟ لعمسسري إن فسسي عينيسسك لضسسجي ً‬
‫دا؛ ولعمري‪...‬‬
‫ما ودعوى وكفًرا وإلحا ً‬ ‫وجداًل واختياًل وزع ً‬
‫فقطعت عليه وقلت‪" :‬لعمسرك إنهسم لفسي سسكرتهم يعمهسون"‪ ،‬لقسد‬
‫ما والشسسيوخ عقسسوًل؛‬ ‫وقع التجديد في كل شيء إل في الشيوخ أجسا ً‬
‫فهؤلء وهسسؤلء عنسسد النهايسسة‪ ،‬وغيسسر مسسستنكر مسسن ضسسعفهم أن يسسدينوا‬
‫بالماضي‪ ،‬فإن حياتهم ل تلمس الحاضر إل بضعف!‬
‫قال العجسسوز‪ :‬رحسسم اللسسه الشسسيخ "ع"؛ كسسان هسسذا يسسا بنسسي رجًل ينسسسخ‬
‫للعلماء فسسي زمننسسا القسسديم‪ ،‬وكسسان يأخسسذ عشسسرة قسسروش أجسًرا علسسى‬
‫الكراسة الواحدة‪ ،‬وهو رديء الخسسط‪ ،‬فسسإذا ورق لديسسب‪ ،‬ولسسم يعجبسسه‬
‫شسسا عسسن‬ ‫خطه فكلمه في ذلك تعلق الشسسيخ بسه وطسسالبه بعشسسرين قر ً‬
‫الكراسة؛ منها عشرة للكتابة‪ ،‬وعشرة غرامة لهانة الكتابة‪...‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* أي أخطأ في الرأي من تأثير الكبر‪.‬‬
‫** أي حرك أجفانهما‪.‬‬
‫نعم يا بني‪ ،‬إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيهسا فيتمكسن‪ ،‬ولكسن‬
‫قاعدة "اثنان واثنان أربعة"‪ ،‬ل تعد في الماضي ول فسسي الحاضسسر ول‬
‫في المستقبل‪ ،‬والحقيقة بنفسها ل باسمها؛ وليست تحتاج النار إلسسى‬
‫ثوب المرأة إل في رأي المغفل‪.‬‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬وكيف ذلك؟‬

‫‪59‬‬
‫قال العجوز‪ :‬زعموا أن مغفًل كان يرى امرأته تضرم الحطب فتنفسسخ‬
‫ما في بعسسض شسسأنه إلسسى نسسار‪ ،‬ولسسم تكسسن‬ ‫فيه حتى يشتعل‪ ،‬فاحتاج يو ً‬
‫امرأته في دارهسسا فجسساء بسسالحطب وأضسسرم فيسسه وجعسسل ينفسسخ‪ ،‬وكسسان‬
‫الحطب رطًبا فدخن ولم يشتعل‪ ،‬ففكر المغفل قليًل ثم ذهب فلبس‬
‫ثوب امرأته وعاد إلى النار‪ ،‬وكان الحطسسب قسسد جسسف فلسسم يكسسد ينفسسخ‬
‫حتى اشتعل وتضرم؛ فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته‪ ...‬وأنهسسا ل‬
‫تتضرم إل إذا رأت ثوبها!‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬إن الكلم في القديم والجديد أصبح عنسسدنا كفنسسون‬
‫الحرب تبدع ما تبدع لتغييسر مسا ل يتغيسر فسي ذات نفسسه‪ ،‬وعلسى مسا‬
‫بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تسسستطع أن تميسست‬
‫دا مرتين‪.‬‬‫أح ً‬
‫لقد قرأت يا بني كثيًرا فلسسم أر إلسسى الن مسسن آثسسار المجسسددين عنسسدنا‬
‫شيًئا ذا قيمة؛ ما كان من هراء وتقليد فهو من عندهم‪ ،‬وما كان جي ً‬
‫دا‬
‫فهو كالنفائس في ملك اللص‪ :‬لهسسا اعتبسساران‪ ،‬إن كسسان أحسسدهما عنسسد‬
‫مقتنيها ‪ ...‬فالخر عند القاضي*‪.‬‬
‫كا بهذا السلوب؛ إنما هي كلمة تسسسخر‬ ‫كل أيها اللص‪ ،‬لن تسمى مال ً‬
‫بها من الناس ومن الحق ومن نفسك‪.‬‬
‫يقولون‪ :‬العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفسسة والمسسرأة وحريسسة‬
‫الفكر واستقلل الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيسسود‪ ،‬إلسسى آخسسره وإلسسى‬
‫آخرها‪ ...‬فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق إن كان فسسي مقالسسة‬
‫أو قصة‪ ،‬وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له مسسن‬
‫ثياب الممثلين أو من بعض النفسسوس السستي يمثسسل بهسسا القسسدر فصسسوله‬
‫الساخرة أو فصوله المبكية‪ ،‬ولكنهم حين يخرجون هسسذا كلسسه للحيسساة‬
‫على أنه من قوته الموجبة‪ ،‬ترده الحياة عليهم بسسالقوة السسسالبة؛ إذ ل‬
‫تسسزال تخلسسق خلقهسسا وتعمسسل أعمالهسسا بهسسم وبغيرهسسم‪ ،‬وإذا كسسان فسسي‬
‫النسانية هذا القانون السسذي يجعسسل الفكسسر المريسسض حيسسن يهسسدم مسسن‬
‫ضسا القسانون الخسر السذي‬ ‫صاحبه ‪-‬يهدم في الكون بصساحبه؛ ففيهسا أي ً‬
‫يجعل الفكر الصحيح السامي حين يبني من أهله‪ -‬يبنسسى فسسي الكسسون‬
‫بأهله‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* في كتابنا "تحت راية القرآن" كلم كثير عن التجديسسد والمجسسددين‪،‬‬
‫قا وما نراه باطًل‪.‬‬‫وما نراه من ذلك ح ً‬
‫قسسال العجسسوز "ن"‪ :‬زعمسسوا أن أحسسد سسسلكي الكهربسساء كسسان فيلسسسوًفا‬
‫دا ول‬ ‫دا‪ ،‬فقال للخسسر‪ :‬مسسا أراك إل رجعي ًسسا؛ إذ كنسست ل تتبعنسسي أب س ً‬ ‫مجد ً‬

‫‪60‬‬
‫دا إل أن تأخسسذ مأخسسذي‬ ‫تتصل بي ول تجري في طريقتي؛ ولن تفلح أب ً‬
‫وتترك مذهبك إلى مذهبي‪ .‬فقال له صاحبه‪ :‬أيها الفيلسوف العظيم‪،‬‬
‫لو أني اتبعتك لبطلنا مًعا فما أذهب فيك ول تذهب في؛ ومسسا علمتسسك‬
‫تشتمني في رأيك إل بما تمدحني به في رأيي‪.‬‬
‫قال العجوز‪ :‬وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين عندهم مسسن أجسسل السسدين‬
‫أو الفضيلة أو الحياة أو العفة إلى آخرها وإلى آخسسره؛ ونحسسن ل نسسرى‬
‫هسسؤلء المجسسددين عنسسد التحقيسسق إل ضسسرورات مسسن مسسذاهب الحيسساة‬
‫وشهواتها وحماقاتها تلبست بعض العقول كما يتلبسسس أمثالهسسا بعسسض‬
‫الطباع فتزيغ بها؛ وللحياة في لغتها العملية مترادفسسات كالمترادفسسات‬
‫اللفظيسسة‪ :‬تكسسون الكلمتسسان والكلمسسات بمعنسسى واحسسد‪ ،‬فسسالمخرب‬
‫والمخرف والمجدد بمعنى!‬
‫كل مجدد يريد أن يضع في كل شيء قاعدة نفسه هو‪ ،‬فلو أطعناهم‬
‫لم تبق لشيء قاعدة‪.‬‬
‫قال الستاذ "م" إن هذه الحياة الواحدة علسسى هسسذه الرض يجسسب أن‬
‫تكون على سنتها وما تصلح به مسسن الضسسبط والحكسسام‪ ،‬والجلسسب لهسسا‬
‫والدفع عنها والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة الموزونسسة المقسسدرة‪،‬‬
‫والسهلة في عملها الصعبة في تدبيرها؛ فعلى نحو مما كانت الحيسساة‬
‫في بطسسن الم يجسسب أن نعيسسش فسسي بطسسن الكسسون بحسسدود مرسسسومة‬
‫وقواعسسد مهيسسأة وحيسسز معسسروف؛ وإل بقيسست حركسسات هسسذا النسسسان‬
‫كحركات الجنين؛ يرتكض ليخرج عن قانونه‪ ،‬فإن استمر عمله ألقسسى‬
‫ها من جسد كان يعمل في تنظيمه‪ ،‬أو قذف بسسه ميت ًسسا‬ ‫خا مشو ً‬ ‫به مس ً‬
‫من جسم كان كل ما فيه يعمل لحياته وصيانته‪.‬‬
‫هذا الجسم كله يشرع للجنين ما دام فيه‪ ،‬وهذا الجتماع كله يشسسرع‬
‫دا ل‬ ‫للفرد ما دام فيه؛ فكيف يكون أمر من أمر إذا كان الجنين مجسسد ً‬
‫يعجبه مثًل وضسسع القلسسب ول يرضسسيه عمسسل السسدم‪ ،‬ول يريسسد أن يكسسون‬
‫دا؛ لنه حر‪.‬‬
‫مقي ً‬
‫انظر إلى هذا الشرطي في هذا الشارع يضرب مقبًل ليدبر‪ ،‬ومسسدبًرا‬
‫ليقبل‪ ،‬وقد ألبسته الحكومة ثياًبا يتميز بها‪ ،‬وهي تتكلم لغة غيسسر لغسسة‬
‫الثياب‪ ،‬وكأنها تقول‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إن ههنا النسسسان السسذي هسسو قسسانون‬
‫دا‪ ،‬والذي هو سجن حيًنا‪ ،‬والسسذي هسسو المسسوت‬ ‫ما‪ ،‬والذي هو قوة أب ً‬ ‫دائ ً‬
‫إذا اقتضى الحال‪.‬‬
‫ما فسسي هسسذا الشسسارع كجسسدران هسسذه‬ ‫أتحسب يا بني هذا الشرطي قائ ً‬
‫ضسسا فسسي الرادة النسسسانية وفسسي‬ ‫المنسسازل؟ كل يسسا بنسسي؛ إنسسه واقسسف أي ً‬
‫الحس البشري وفي العاطفة الحية؛ فكيف ل يمحوه المجسسددون مسسع‬

‫‪61‬‬
‫أنه في ذاته إرغام بمعنى‪ ،‬وإكراه بمعنى غيره‪ ،‬وقيد في حالة‪ ،‬وبلء‬
‫في حالة أخرى؟‬
‫لكنه إرغام ليقع به التيسير‪ ،‬وإكراه ٌ لتنطلق به الرغبسسة‪ ،‬وقسسد لتتمجسسد‬
‫به الحرية؛ وكان هو نفسه بلء من ناحية؛ ليكسسون هسسو نفسسسه عصسسمة‬
‫من الناحية التي تقابلها‪.‬‬
‫يا بني‪ ،‬كل دين صالح‪ ،‬وكل فضسسيلة كريمسسة‪ ،‬وكسسل خلسسق طيسسب ‪-‬كسسل‬
‫شسسيء مسسن ذلسسك إنمسسا هسسو علسسى طريسسق المصسسالح النسسسانية كهسسذا‬
‫الشرطي بعينه‪ :‬فإما تخريسسب العسسالم أيهسسا المجسسددون‪ ،‬وإمسسا تخريسسب‬
‫مذهبكم‪..‬‬
‫قال العجوز "ن"‪ :‬أنبحث عما نتسلط به أم نبحث عما يتسلط علينا؟‬
‫وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا وأشد‪ ،‬أو نكون نحن أشد منهسسا‬
‫وأقوى؟ هذه هي المسألة ل مسألة الجديد والقديم‪.‬‬
‫فإن لم يكن هناك المثل العلى السسذي يعظسسم بنسسا ونعظسسم بسسه‪ ،‬فسسسد‬
‫الحس وفسدت الحياة؛ وكل الديان الصسسحيحة والخلق الفاضسسلة إن‬
‫هي إل وسائل هذا المثل العلى للسمو بالحيسساة فسسي آمالهسسا وغايتهسسا‬
‫عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها‪.‬‬
‫قال المحدث‪ :‬ورأيتنسسي بيسسن العجسسوزين كسسأني بيسسن نسسابين؛ ولسسم أكسسن‬
‫دا على مذهب إبليس الذي رد على الله والملئكة وظن لحمقسسه‬ ‫مجد ً‬
‫أن قوة المنطق تغير ما ل يتغير؛ فسسسكت‪ ،‬حسستى إذا فرغسسا مسسن هسسذه‬
‫الفلسفة قلت‪ :‬والرحلة إلى سنة ‪1895‬؟‬

‫‪‬‬

‫‪62‬‬
‫العجوزان "‪"3‬‬

‫قال المحدث‪ :‬وتبين في العجوز "ن" أثسسر التعسسب‪ ،‬فتوجسسع وأخسسذ يئن‬
‫كأن بعضه قد مات لوقته‪ ..‬أو وقع فيه اختلل جديسد‪ ،‬أو نسالته ضسربة‬
‫اليوم؛ والشيخ متى دخل في الهرم دخل في المعركة الفاصسسلة بينسسه‬
‫وبين أيامه‪.‬‬
‫ثم تأفف وتململ وقال‪ :‬إن أول ما يظهر على من شسساخ وهسسرم‪ ،‬هسسو‬
‫أن الطبيعة قد غيرت القانون الذي كانت تحكمه به‪.‬‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬إن صاحبنا كان قاضسًيا يحكسسم فسسي المحسساكم‪ ،‬وأرى‬
‫المحسساكم قسسد حكمسست عليسسه بهسذه الشسيخوخة "مطبقسسة فيهسا" بعسسض‬
‫المواد من قانون العقوبات فما خرج مسسن المحكمسسة إل فسسي الحبسسس‬
‫الثالث‪.‬‬
‫فضسسحك "ن" وقسسال‪ :‬قسسد عرفنسسا "الحبسسس البسسسيط" و"الحبسسس مسسع‬
‫الشغل" فما هو هذا الحبس الثالث؟‬
‫قال‪ :‬هو "الحبس مع المرض"‪...‬‬
‫قال "ن"‪ :‬صدقت لعمري‪ ،‬فإن آخر أجسامنا ل يكون إل بحساب من‬
‫صنعة أعمالنا؛ وكأن كرسي الوظيفة الحكومية قد عرف أنه كرسسسي‬
‫الحكومة‪ ،‬فهو يضسسرب الضسسرائب علسسى عظسسام المسسوظفين‪ ...‬أتسسدري‬
‫َ‬
‫ر{ ]النحسسل‪[70 :‬‬ ‫مس ِ‬‫ل ال ْعُ ُ‬
‫ن ي َُرد ّ إ َِلى أْرذ َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫معنى قوله تعالى‪} :‬وَ ِ‬
‫ولم سماه الرذل؟‬
‫قلنا‪ :‬فلم سماه كذلك؟‬
‫قال‪ :‬لنه خلط النسان بعضه ببعض‪ ،‬ومسه من أوله إلى آخسسره‪ ،‬فل‬
‫هو رجل ول شباب ول طفل‪ ،‬فهو أردأ وأرذل ما في البضاعة‪...‬‬
‫خا حين كنت فسسي‬ ‫فاستضحك الستاذ "م" وقال‪ :‬أما أنا فقد كنت شي ً‬
‫الثلثين من عمري‪ ،‬وهذا هو الذي جعلني فتى حين بلغت السبعين‪.‬‬
‫قال "ن"‪ :‬كأن الحياة تصحح نفسها فيك‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل أنا كرهتها أن تصحح نفسها؛ فقد عرفت من قبسسل أن سسسعة‬
‫النفسساق فسسي الشسسباب هسسي ضسسائقة الفلس فسسي الهسسرم‪ ،‬وأيقنسست أن‬
‫دا" ل يخطئ الحساب‪ ،‬فإذا أنا اقتصدت عدت لي‪ ،‬وإذا‬ ‫للطبيعة "عدا ً‬
‫أسرفت عدت علي؛ ولسسن تعطينسسي السسدنيا بعسسد الشسسباب إل ممسسا فسسي‬
‫جسمي؛ إذ ل يعطسسي الكسسون حي ّسسا أراد أن ينتهسسي منسسه‪ ،‬فكنسست أجعسسل‬
‫نفسي كالشيخ الذي تقول له الملذات الكثيرة‪ :‬لست لسك؛ ومسن ثسم‬
‫كانت لذاتي كلها في قيود الشريعتين‪ :‬شريعة الدين وشريعة الحياة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫قال‪ :‬وعرفت أن مسسا يسسسميه النسساس وهسسن الشسسيخوخة ل يكسسون مسسن‬
‫الشيخوخة ولكن من الشباب؛ فما هو إل عمل النسان فسسي تسسسميم‬
‫جسمه ثلثين أو أربعين سنة بالطعام والشسسراب والغفسسال والرهسساق‬
‫والسرور والحزن واللذة واللم‪ ،‬فكنت مع الجسم في شبابه ليكسسون‬
‫معي بعد شبابه‪ ،‬ولم أبسسرح أتعاهسسده كمسسا يتعاهسسد الرجسسل داره‪ :‬يزيسسد‬
‫مسسا‬
‫محاسنها وينفي عيوبها‪ ،‬ويحفظ قوتها ويتقي ضعفها؛ ويجعلهسسا دائ ً‬
‫باله وهمه‪ ،‬وينظر في يومها القريب لغدها البعيد‪ ،‬فل ينقطع حساب‬
‫دا يحتسساط لمسسا يخشسسى وقسسوعه‬ ‫آخرها وإن بعد هذا الخر‪ ،‬ول يزال أب س ً‬
‫وإن لم يقع‪.‬‬
‫قال العجوز "ن"‪ :‬صدقت ‪-‬والله‪ -‬فمسسا أفلسسح إل مسسن اغتنسسم المكسسان؛‬
‫وما نسسوع الشسسيخوخة إل مسسن نسسوع الشسسباب؛ وهسسذا الجسسسم النسسساني‬
‫كالمدينة الكبيرة فيها "مجلسها البلدي" القائم على صيانتها ونظامها‬
‫وتقويتها؛ ورئيس هذا المجلس الرادة‪ ،‬وقانونه كلسسه واجبسسات ثقيلسسة‪،‬‬
‫وهو كغيره من القوانين‪ :‬إذا لم ينفذ من الول لم يغن في الخر‪.‬‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬وكل جهاز في الجسم هو عضسسو مسسن أعضسساء ذلسسك‬
‫"المجلس البلدي" فجهاز التنفسسس وجهسساز الهضسسم والجهسساز العضسسلي‬
‫والجهاز العصبي والدورة الدمويسسة‪ ،‬هسسذه كلهسسا يجسسب أن تسسترك علسسى‬
‫حريتها الطبيعية وأن تعان على سنتها‪ ،‬فل يحال بينهسسا وبيسسن أعمالهسسا‬
‫برشوة من لسسذة‪ ،‬أو مفسسسدة مسسن زينسسة‪ ،‬أو مطمعسسة فسسي رفاهيسسة‪ ،‬أو‬
‫دعسسوة إلسسى مدنيسسة‪ ،‬أو شسسيء ممسسا يفسسسد حكمهسسا أو يعطسسل عملهسسا‬
‫ويضعف طبيعتها‪.‬‬
‫والقاعدة في العمر أنسسه إذا كسسان الشسسباب هسسو الطفولسسة الثانيسسة فسسي‬
‫براءته وطهارته‪ ،‬كسسانت الشسسيخوخة هسسي الشسسباب الثسساني فسسي قوتهسسا‬
‫ونشاطها؛ وما رأيت كالدين وسيلة تجعسسل الطفولسسة ممتسسدة بحقسسائق‬
‫إلى آخر العمر في هذا النسان؛ فسر الطفولة إنمسسا هسسو فسسي قوتهسسا‬
‫على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة‪ ،‬فل يطغيهسسا الغنسسى‪ ،‬ول‬
‫يكسسسرها الفقسسر‪ ،‬ول تسسذلها الشسسهوة‪ ،‬ول يفزعهسسا الطمسسع‪ ،‬ول يهولهسسا‬
‫الخفاق‪ ،‬ول يتعاظمهسسا الضسسر‪ ،‬ول يخيفهسا المسوت؛ ثسسم ل تمسسل وهسسي‬
‫الصابرة‪ ،‬ول تبالغ وهي الراضية‪ ،‬ول تشك وهي الموقنة‪ ،‬ول تسسسرف‬
‫وهي القانعة‪ ،‬ول تتبلد وهي العاملسسة‪ ،‬ول تجمسسد وهسسي المتجولسسة؛ ثسسم‬
‫هي ل تكلف النسانية إل العطف والحسسب والبشاشسسة وطبسسائع الخيسسر‬
‫التي يملكها كل قلب؛ ول تسسوجب شسسريعتها فسسي المعاملسسة إل قاعسسدة‬
‫الرحمة‪ ،‬ول تقرر فلسفتها للحياة إل طهارة النظر؛ ثم تتهكسم بالسدنيا‬

‫‪64‬‬
‫أكثر ما تهتم لها‪ ،‬وتستغني فيما أكثر مما تحتاج‪ ،‬وتستخرج السسسعادة‬
‫ما مما أمكن‪ ،‬قل أو كثر‪.‬‬ ‫لنفسها دائ ً‬
‫وبكل هذا تعمسسل الطفولسسة فسسي حراسسسة الحيسساة الغضسسة واسسستمرارها‬
‫ونموها‪ ،‬ولول ذلك لما زها طفل ول شب غلم‪ ،‬ول رأت العيون بيسسن‬
‫هموم الدنيا ذلك الرواء وذلك المنظر على وجوه الطفال يثبتسسان أن‬
‫البراءة في النفس أقوى من الطبيعة‪.‬‬
‫ضا من خصائص الدين وبه يعمسسل السسدين فسسي تهسسذيب‬ ‫وكل ذلك هو أي ً‬
‫الحياة واطرادها على أصولها القوية السليمة‪ ،‬ومتى قوي هذا الدين‬
‫في إنسان لم تكن مفاسد الدنيا إل من وراء حدوده‪ ،‬حتى كسسأنه فسسي‬
‫أرض وهي في أرض أخرى‪ ،‬وأصبحت البراءة في نفسسسه أقسسوى مسسن‬
‫الطبيعة‪.‬‬
‫دا‬
‫ثم قال‪ :‬والعجيسسب أن اعتقسساد المسسساواة بيسسن النسساس ل يتحقسسق أبس ً‬
‫بأحسن معانيه وأكملها إل في قلبين‪ :‬قلب الطفل؛ لنه طفل‪ ،‬وقلب‬
‫المؤمن؛ لنه مؤمن‪.‬‬
‫فقال العجوز "ن"‪ :‬إنه لكما قلت‪ ،‬ولعنسسة اللسسه علسسى هسسذه الشسسهوات‬
‫الدمية الباطلة‪ ،‬فإن الشهوة الواحدة في ألف نفس لتجعل الحقيقة‬
‫الواحدة كأنها ألف حقيقة متعاديسسة متنازعسسة؛ والطامعسسان فسسي امسسرأة‬
‫واحدة قد تكون شهوة أحدهما هي الشهوة وهي القتسسل؛ ولعنسسة اللسسه‬
‫على الملحدين وإلحادهم‪ ،‬يزرون علسسى الديسسان بأنهسا تكساليف وقيسود‬
‫وصناعة للحياة‪ ،‬ثم ل يعلمسسون أن كسسل ذلسسك لصسسناعة اللسسة النفسسسية‬
‫السستي تسسستطيع أن تحسسرك المختلفيسسن حركسسة واحسسدة‪ ،‬فمسسا ابتليسست‬
‫النسانية بشيء كما ابتليت بهذا الخلف السذي يفتسح مسن كسل نفسس‬
‫على كل نفس أبواب التجني‪ ،‬ويجعل النفرة وسوء الظن أقرب إلى‬
‫الطبيعة البشرية من اللفة والثقة‪.‬‬
‫لقد جاء العلم بالمعجزات‪ ،‬ولكن فيما بين النسان والطبيعسسة‪ ،‬وبيسسن‬
‫النسان ومنافعه‪ ،‬وبين النسسسان وشسسهواته؛ فهسسل غيسسر السسدين يجيسسء‬
‫بسسالمعجزات العمليسسة فيمسسا بيسسن النفسسس والنفسسس‪ ،‬وبيسسن النفسسس‬
‫وهمومها‪ ،‬وبين ما هو حق وما هو واجب؟‬
‫ي العجسوز "ن" وقسال‪ :‬صسل عمسك يسا بنسي‬ ‫قال المحدث‪ :‬ثم نظر إلس ّ‬
‫فا من أمر التجديسسد والمجسسددين؟‬ ‫بالحاديث الذي مضى‪ ،‬فأين بلغنا آن ً‬
‫وماذا قلنا وماذا قلت؟ أمسسا إن الحماقسسة الجديسسدة والرذيلسسة الجديسسدة‬
‫دا مسسن صسساحبه فهسسو قسسديم فسسي‬‫والخطأ الجديد‪ ،‬كل ذلك إن كان جدي ً‬
‫دا من جديد إل إطلق الحرية في استعمال كل‬ ‫الدنيا؛ وليس عندنا أب ً‬
‫أديب حقه في الوقاحة والجهل والغرور والمكابرة‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬وليس الظاهر بما يظهر لسسك منسسه‪ ،‬ولكسسن بالبسساطن‬
‫الذي هو فيه‪ ،‬فمستشفى المجاذيب قصر من القصور فسسي ظسساهره‪،‬‬
‫ولكن المجاذيب هم حقيقته ل البناء‪ ،‬وكل مجدد عندنا يزعم لك أنسسه‬
‫قصر عظيم‪ ،‬وهو في الحقيقة مستشفى مجانين‪ ،‬غيسسر أن المجسسانين‬
‫فيسسه طبسساع وشسسهوات ونسسزوات؛ وعلسسى هسسذا مسسا السسذي يمنسسع الفجسسور‬
‫المتوقح أن يسمي نفسه الدب المكشوف؟‬
‫قال "ن"‪ :‬وإذا أنت ذهبت تعترض على هذه التسمية زعمسسوا لسسك أن‬
‫للفن وقاحة مقدسة‪ ...‬وأن "ل أدبية" رجسسل الفسسن هسسي "الل أخلقيسسة‬
‫العالمية"‪....‬‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬فوقاحة الشهوة إذا استعلنت بين أهل الحياء وأهل‬
‫دا ما فسسي ذلسسك ريسسب؛ ولكسسن‬ ‫الفضيلة ودعت إلى مذهبها‪ ،‬كانت تجدي ً‬
‫هذا المذهب هو أقدم ما في الرض‪ ،‬إذا هو بعينه مذهب كل زوجيسسن‬
‫اجتمعا من البهائم منذ خلق الله البهائم‪..‬‬
‫قال "ن"‪ :‬وقل مثل ذلك في متسخط على الله وعلى الناس يخسسرج‬
‫دا‪ ،‬وفسسي مغسسرور يتغفسسل النسساس‪،‬‬ ‫من كفره بين أهل الديان أدًبا جدي س ً‬
‫دا أعسسور ‪-‬كسسل واحسسد مسسن هسسؤلء‬ ‫وفسسي لسسص آراء‪ ،‬وفسسي مقلسسد تقليسس ً‬
‫وأشباههم مبتلى بعلة‪ ،‬فمذهبه رسالة علته؛ وأكسسثرهم ل يكسسون ثبسساته‬
‫على الرأي الفاسد إل من ثبات العلة فيه‪.‬‬
‫قسسال المحسسدث‪ :‬وكنسست مسسن المجسسددين‪ ،‬فأرمضسسني ذلسسك وقلسست‬
‫للعجوزين‪ :‬إن هذا نصف الصحيح‪ ،‬أما النصسف الخسر فهسو فسي كسثير‬
‫من هؤلء الذين ينتحلون الدفاع عسسن السسدين والفضسسيلة؛ نعسسم إنهسسم ل‬
‫يستعملون حقهم في الوقاحة‪ ،‬ولكن القروش تستعمل حقها‪..‬‬
‫فضحك العجوز "ن"‪ ،‬وقال‪ :‬يا بني‪ ،‬إن الجديد في كل حمسسار هسسو أن‬
‫يزعم أن نهيقه موسيقى‪ ...‬فالحمار والنهيق والموسيقى كل ذلسسك ل‬
‫جديد فيه‪ ،‬ولكن التسمية وحدها هي الجديدة؛ ولو كان البرهسسان فسسي‬
‫حلق الحمار لصح هذا الجديد‪ ،‬غيسسر أن التصسديق والتكسسذيب هنسا فسي‬
‫آذان الموسقيين ل في حلق حمارنا المحترم‪....‬‬
‫خا لصيد العصافير‪ ،‬فجاء عصسسفور‬ ‫قال "م"‪ :‬وزعموا أن رجًل نصب ف ّ‬
‫فنظر من هذا الفخ إلى شيء جديد‪ ،‬فقال‪ :‬يا هذا‪ ،‬مسسا لسسك مطمسسوًرا‬
‫في التراب؟ قال الفخ‪ :‬ذلك من التواضع لخلق الله! قال‪ :‬فمم كسسان‬
‫انحناؤك؟ قال الفخ‪ :‬ذلك من طول عبادتي لله! قال‪ :‬فما هذه الحبة‬
‫عندك؟ قال الفخ‪ :‬أعددتها لطيور الله الصائمين يفطرون عليها! قال‬
‫العصفور‪ :‬فتبيحها لي؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫فتقدم المسكين إليها‪ ،‬فلما التقطها وقع الفخ في عنقه‪ ،‬فقسسال وهسسو‬
‫يختنق‪ :‬إن كان العبسساد يخنقسسون مثسسل هسسذا الخنسسق فقسسد خلسسق إبليسسس‬
‫جديد‪.‬‬
‫قال "ن"‪ :‬فالحقيقة أن إبليس هو الذي تجسسدد؛ ليصسسلح لزمسسن اللت‬
‫والمخترعات والعلوم والفنسسون وعصسسر السسسرعة والتحسسول؛ ومسسا دام‬
‫دا وهذا العقل النساني ل يقسسف عنسسد غايسسة فسسي تسسسخير‬ ‫الرقي مطر ً‬
‫الطبيعسسة‪ ،‬فسسسينتهي المسسر بتسسسخير إبليسسس نفسسسه مسسع الطبيعسسة؛‬
‫لستخراج كل ما فيه من الشر‪.‬‬
‫قسسال "م"‪ :‬ولكسسن العجسسب مسسن إبليسسس هسسذا؛ أتسسراه انقلسسب أوربًيسسا‬
‫للوربيين؟ وإل فما باله يخرج مجددين من جبسسابرة العقسسل والخيسسال‪،‬‬
‫ثم ل يؤتينا نحن إل مجددين من جبابرة التقليد والحماقة؟‬
‫قال المحدث‪ :‬فقلت لهما‪ :‬أيها العجوزان القديمان‪ ،‬سأنشسر قولكمسا‬
‫هذا اليقرأه المجددون‪.‬‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬وانشر يا بني أن الربيع ‪-‬صاحب المسسام الشسسافعي‪،‬‬
‫دا‪،‬‬‫ما في أزقة مصر فنثرت علسسى رأسسسه إجانسسة* مملسسوءة رمسسا ً‬ ‫مر يو ً‬
‫فنزل عن دابته وأخذ ينفسسض ثيسسابه ورأسسسه‪ ،‬فقيسسل لسسه‪ :‬أل تزجرهسسم؟‬
‫قال‪ :‬من استحق النار وصولح بالرماد فليس له أن يغضب!‪...‬‬
‫ثم قال محدثنا‪ :‬واستولى علي العجوزان‪ ،‬ورأيت قولهما يعلو قولي‪،‬‬
‫وكنسست فسسي السسسابعة والعشسسرين‪ ،‬وهسسي سسسن الحسسدة العقليسسة‪ ،‬فمسسا‬
‫حسبتني معهما إل ثلث عجوز‪ ..‬مما أثرا علسسي‪ ،‬وانقلبسست ل أرى فسسي‬
‫المجددين إل كل سقيم فاسد‪ ،‬واعتبرت كل واحد منهم بعلتسسه‪ ،‬فسسإذا‬
‫القول ما قال الشيخان‪ ،‬وإذا تحت كل رأي مريض مرض‪ ،‬ووراء كل‬
‫اتجاه إبرة مغناطيسية طرقها إلي الشيطان‪....‬‬
‫وفرغنا من هذا‪ ،‬فقلت للشيخين‪ :‬لقد حان وقسست نزولكمسسا مسسن بيسسن‬
‫الغيوم أيهسسا الفيلسسسوفان‪ ،‬أمسسا كنتمسسا فسسي سسسنة ‪ 1895‬مسسن الجنسسس‬
‫البشري‪..‬؟‬
‫‪---------------‬‬
‫* قصعة‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪67‬‬
‫العجوازن "‪"4‬‬

‫قسسال محسسدثنا‪ :‬وكنسست قسسد ضسسقت بهسسذه اللجاجسسة الفلسسسفية‪ ،‬ورأيتنسسي‬


‫مضطعنا على الشيخين معًسسا‪ ،‬فقلسست العجسسوز "ن"‪ :‬حسسدثني "رحمسسك‬
‫الله" بشيء من قديمكما‪ ،‬فأنتمسسا اختصسسار لكسسل مسسا مسسر مسسن الحيسساة‬
‫يستدل به على أصله المطسسول إل فسسي الحسسب‪ ..‬ومسسا زلتمسسا فسسي جسسد‬
‫الحديث تعبثان بي منذ اليوم‪ ،‬فقد عدلتما بي إلسسى شسسأنكما ورأيكمسسا‬
‫في القديم والجديد‪ ،‬وبقي أن أميل بكما ميلة إلى سنة ‪ ،1895‬وقسسد‬
‫‪-‬والله‪ -‬كاد ينتحر قلبي يأسا من خسسبر "كاترينسسا ومرغريسست"؛ ولكأنسسك‬
‫تخشي إذ أعلمتني خبر صسساحبتك هسسذه وهسسي وراء أربعيسسن سسسنة‪ -‬مسسا‬
‫تخافه من رجل سيفجؤك معهسسا فسسي الخلسسوة علسسى حسسال مسسن الربيسسة‬
‫فيأخذك "متلبسا بالجريمة" كما تقولون في لغة المحاكم‪....‬‬
‫قال‪ :‬فضحك العجوزان وقال "ن"‪ :‬ل ‪-‬والله‪ -‬يا بني‪ ،‬ولكني أقول ما‬
‫قال ذلك الحكيم العربي* لقومه وقد بلغ مائتي سنة‪" :‬قلسسبي مضسسغة‬
‫من جسدي‪ ،‬ول أظنه إل قد نحل سائر جسدي"‪ ،‬واعلسسم يسسا بنسسي أنسسه‬
‫إذا ذهب الحب عن الشيخ بقي منه الحنان يعمل مثل عمله‪ ،‬فيحسسب‬
‫العجوز مكانا أو شيئا أو معنى أي ذلك كان‪ ،‬ليعيده ذلك إلى الدنيا أو‬
‫يبقيه فيها "بقدر المكان"‪...‬‬
‫فضسسحك السسستاذ "م" وقسسال‪ :‬ولعسسل ثرثسسرة العجسسوز "ن" هسسي الن‬
‫معشوقة العجوز "ن"‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬وكل شيء يرق في قلب الرجل الهرم ويحول وجهة كأنه ل‬
‫يطبق أن ينظر إلى معناه الغليظ؛ ول بد أن يخرج العجوز من معاني‬
‫الدنيا قبسسل أن يخسسرج مسسن السسدنيا؛ ولهسسذا ل يهنسسأ الشسسيخ إل إذا عسساش‬
‫بأفكار جسمه الحاضر‪ ،‬وقدر المور على ما هو فيه ل علسسى مسسا كسسان‬
‫فيه؛ والفسسرف بيسسن جسسسمه الحاضسسر وبيسسن جسسسمه الماضسسي أن هسسذا‬
‫الماضي كانت تحمل أعضاؤه‪ ،‬فهسسو مجتمسسع مسسن أعمالهسسا وشسسهواتها‪،‬‬
‫ض في تحقيق وجودها ومعانيها؛ أما الحاضر‪ ،‬أمسسا الجسسسم الهسسرم‪،‬‬ ‫ما ٍ‬
‫فهو يشعر أنه يحمل أعضاءه كلها ملفوفة في ثيابه كمتسساع المسسسافر‬
‫قبل السفر‪ ..‬وكأن بعضسسها يسسسلم علسسى بعسسض سسسلم السسوداع يقسسول‪:‬‬
‫تفارقني وأفارقك*‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* هو أكثم بن صيفي حكيم العرب‪ ،‬قالهسسا لقسسومه فسسي سسسفرهم إلسسى‬
‫النعمان بن المنذر كيل يتكلوا عليه في حيلة ول منطسسق؛ ويقسسال‪ :‬إنسسه‬

‫‪68‬‬
‫عاش ثلثمائة وثلثين سنة‪ ،‬وفي معنى السنة عن العرب كلم ليسسس‬
‫هذا موضعه‪.‬‬
‫ف لك ولما تقول! ل جرم أن هسسذه لغسسة‬ ‫ُ‬
‫فتململ الستاذ "م" وقال‪ :‬أ ّ‬
‫عظامك التي ل صلبة فيها‪ ،‬فمن ذلك ل تجيء معانيك في الحياة إل‬
‫واهنة ناحلة فقسسدت أكثرهسسا وبقسسي مسسن كسسل شسسيء منهسسا شسسيء عنسسد‬
‫النهاية؛ أليس في الهسسرم إل أن يبقسسى الجسسسم ليكسسون ظسساهًرا فقسسط‬
‫كعمشوش العنقود** بعد ذهاب الحب منسسه‪ ،‬يقسسول‪ :‬كسسان هنسسا وكسسان‬
‫هنا؟‬
‫أل فاعلم يا "ن" أن هذه الشيخوخة إنما هي غلبسسة روحانيسسة الجسسسم‬
‫على بشريته‪ ،‬فهذا طور الحياة ل تدعه الحياة إل وفيه لذته وسروره‬
‫كمسسا تصسسنع بسسسائر أطوارهسسا؛ غيسسر أن لسسذاته بيسسن السسروح والجمسسال‪،‬‬
‫ومسراته بين العقل والطبيعة‪ ،‬وكل مسسا نقسسص مسسن العمسسر وجسسب أن‬
‫يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها؛ قد قيسسل لبعسسض‬
‫أهل هذا الشأن وكان في مرض موته‪ :‬كيف تجد العلة؟ فقال‪ :‬سلوا‬
‫العلة عني كيف تجدني‪.‬‬
‫وإنما تثقل الشسسيخوخة علسسى صسساحبها إذا هسسي انتكسسست فيسسه وكسسانت‬
‫مراغمة بينه وبين الحياة‪ ،‬فيطمع الشيخ فيما مضي ول يسسزال يتعلسسق‬
‫به ويتسخط على ذهابه وتصسسنع لسسه ويتكلسسف أسسسبابه‪ ،‬وقسسد نسسسي أن‬
‫الحياة ردته طفل ً كالطفل‪ ،‬أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين‬
‫الشياء الصغيرة البريئة‪ ،‬وأقسسوى لسسذته أن يتفسسق الجمسسال السسذي فسسي‬
‫خياله والجمال والذي في الكون‪ ،‬وإنه لكما قلت أنت‪ :‬ل يهنأ الشسسيخ‬
‫إل إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر‪.‬‬
‫وما أصسسدق وأحكسسم هسسذا الحسسديث الشسسريف‪" :‬إن اللسسه تعسسالى بعسسدله‬
‫وقسسسطه جعسسل السسروح والفسسرح فسسي الرضسسى واليقيسسن‪ ،‬وجعسسل الهسسم‬
‫والحزن في الشك والسخط"‪ .‬فهذه فسسي قاعسسدة الحيسساة‪ :‬ل تعاملسسك‬
‫الحياة بما تملك من نفسك‪ ،‬وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقسسة‬
‫ممكنة موجودة‪ ،‬بل تكون في كل ما أمكن وكل مسسا وجسسد؛ وإذا كسسان‬
‫الرضى هو التفاق بين النفس وصاحبها‪ ،‬وكان اليقين هو التفاق بين‬
‫النفس وخالقها‪ ،‬فقد أصبح قانون السعادة شيًئا معنوي ّسسا مسسن فضسسيلة‬
‫النفس وإيمانها وعقلها‪ ،‬ومن السرار التي فيهسسا‪ ،‬ل شسسيًئا مادي ّسسا مسسن‬
‫أعضائها ومتاعها ودنياها والخيلة المثقلة عليها‪.‬‬
‫من ّسسي{‬
‫م ِ‬ ‫ن ال ْعَظ ْس ُ‬ ‫فأطرق العجوز "ن" قليًل ثسسم قسسال‪َ} :‬ر ّ‬
‫ب إ ِن ّسسي وَهَس َ‬
‫]مريم‪ ،[4 :‬أل ما أحكم هذه الية! فوالله إن قسسرأت ول قسسرأ النسساس‬
‫في تصوير الهرم الفاني أبسسدع منهسسا ول أدق ول أوفسسى؛ أل تحسسس أن‬

‫‪69‬‬
‫مسسا فسسي‬
‫قائلها يكاد يسقط من عجف وهسسزال وإعيسساء؛ وأنسسه ليسسس قائ ً‬
‫الحياة قيامه فيها مسسن قبسسل‪ ،‬وأن تنسساقض هسسذه الحيسساة قسسد وقسسع فسسي‬
‫جسمه فأخل به‪ ،‬وأن معاني التراب قد تعلقسست بهسسذا الجسسسم تعمسسل‬
‫فيها عملها‪ ،‬فأخذ يتفتت كأنما لمس القسسبر عظسسامه وهسسو حسسي‪ ،‬وأنسسه‬
‫بهسسذا كلسسه أوشسسك أن ينكسسسر انكسسسار العظسسم بلسسغ المسسبرد فيسسه آخسسر‬
‫طبقاته؟‬
‫قال محدثنا‪ :‬فقلت له‪ :‬ترى لو أن نابغة من نوابغ التصوير في زمننسسا‬
‫هذا تناول بفنه ذلك المعنى العجيب فكتبسسه صسسورة وألوان ًسسا‪ ،‬ل أحرفًسسا‬
‫وكلمات‪ ،‬فكيف تراه كان يصنع؟‬
‫قال‪ :‬كان يصنع هكذا‪ :‬يرسم منظر الشتاء في سسسماء تعلسسق سسسحابها‬
‫فا متراكًبا بعضه على بعسسض يخيسسل أن السسسماء تسسدنو مسسن الرض‪،‬‬ ‫كثي ً‬
‫وقد سدت السحب الفاق وأظلم الجو ظلمه تحت النهار المغطسسى‪،‬‬
‫واستطارت بينها وشائع مسن السبرق‪ ،‬ثسم يسترك مسن الشسمس جسانب‬
‫الفق لمعة كضوء الشمعة في فتق فن فتوق السسسحاب‪ ،‬ثسسم يرسسسل‬
‫حا ياردة هسسو جسساء يسسدل عليهسسا انحنسساء الشسسجر وتقلسسب‬‫في الصورة ري ً‬
‫ً‬
‫النبات‪ ،‬ثم يرسم رجال ونساء يغلي الشباب فيهسسم غليسسانه مسسن قسسوة‬
‫وعافية‪ ،‬وحب وصبابة‪ ،‬وتغلي فيهم أفكار أخرى‪ ...‬وهسسم جميعًسسا فسسي‬
‫هيئة المسرعين إلى مرقص؛ وهم جميًعا من المجددين‪.‬‬
‫ثم يرسم يا بني في آخرهم "علسسى بعسسد منهسسم" عمسسك العجسسوز "ن"‪،‬‬
‫شسسا مسستزلزًل‬
‫يرسسسمه كمسسا تسسراه منحسسل القسسوة منحنسسي الصسسلب‪ ،‬مرع ً‬
‫متضعضًعا؛ قد زعزعته الريح‪ ،‬وضربه السسبرد‪ ،‬وخنقتسسه السسسحب؛ ولسسه‬
‫وجه عليه ذبول الدنيا‪ ،‬ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه فسسي بسسرادة‪،‬‬
‫والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتيزم‪..‬‬
‫ما كئيًبسا‪ ،‬رافعًسسا رأسسه ينظسسر إلسسى‬‫ثم يصوره وقسسد وقسف هنسساك سساه ً‬
‫السماء‪.‬‬
‫قال المحدث‪ :‬وضحكنا جميًعا‪ ،‬ثم قال الستاذ "م"‪ :‬لعمسسري إن هسسذه‬
‫الحياة الدمية كاللة صاحبها مهندسها؛ فإن صلحت واستقامت فمسن‬
‫علمه بها وحياطته لها‪ ،‬وإن فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهمسساله‬
‫إياها‪ ،‬وليس على الطبيعة في ذلك سسسبيل لئمسسة؛ والشسسيخ الضسسعيف‬
‫ليس في هذه الدنيا إل الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينسسه‬
‫ودعته‪ ،‬تظهرها للدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ‪.‬‬
‫قال "ن"‪ :‬أكذلك هو يا أستاذ؟‬
‫قال الستاذ‪ :‬بل هي الصورة الجدبة من هذه الباطلسسة السستي دأبهسسا أل‬
‫تصرح عن حقيقتها إل في الخر‪ ،‬فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقسسة مسسن‬

‫‪70‬‬
‫يجلها؛ وليس إل بهسسذه الطريقسسة يعسسرف مسسن خسسراب الصسسورة خسسراب‬
‫المعنى‪.‬‬
‫قال العجسسوز "ن"‪ :‬آه مسسن إجلل الشسسيخوخة واحسسترام النسساس إياهسسا!‬
‫ما للشسسيخ والشسسيخ ل يسسراه إل تعزيسسة‪ ،‬ومسسا الشسسياخ‬ ‫إنهم يرونه احترا ً‬
‫الهرمي إل جنازات قبل وقتها‪ ،‬ل توحي إلى النساس شسيًئا غيسر وحسي‬
‫الجنازة من مهابة وخشوع‪.‬‬
‫قال الستاذ‪ :‬بل هي الصورة الجدية من هذه الباطلسسة السستي دأبهسسا أل‬
‫تصرح عن حقيقتها إل في الخر‪ ،‬فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقسسة مسسن‬
‫يجلها؛ وليس إل بهسسذه الطريقسسة يعسسرف مسسن خسسراب الصسسورة خسسراب‬
‫المعنى‪.‬‬
‫قال العجوز "ن"‪ :‬آه من إجلل الشيخوخة واحترام الناس إياها إنهسم‬
‫ما للشيخ والشيخ ل يراه إل تعزية‪ .‬وما الشسسياخ الهرمسسى‬ ‫يرونه احترا ً‬
‫إل جنازات قبل وقتها‪ ،‬ل توحي إلى الناس شسسيًئا غيسسر وحسسي الجنسسازة‬
‫من مهابة وخشوع‪.‬‬
‫ما فسسي حسسديث نفسسسك‪ ،‬ولسسو كنسست نه سًرا يسسا‬ ‫قال الستاذ‪ :‬إنما أنت دائ ً‬
‫مستنقع لما كان في لغتك هذه الحرف من البعوض‪.‬‬
‫قال العجوز الظريف‪ :‬إن هذا ليس من كلم الفلسفة السستي نتنازعهسسا‬
‫بيننا‪ ،‬ترد علي وأرد عليك‪ ،‬ولكنه كلم القسسانون السسذي لسسك وحسسدك أن‬
‫تتكلم به أيها القاضي‪.‬‬
‫قال "م"‪ :‬صرح وبّين؛ فما فهمنا شيًئا‪.‬‬
‫ما في حادثة عجيبة‪ ،‬فقد رفعت إلسسي‬ ‫قال العجوز‪ :‬هذا كلم قلته قدي ً‬
‫ذات يوم قضية شيخ هرم كان قد سرق دجاجة؛ وتوسسسمته فسسإذا هسسو‬
‫من أذكى الناس‪ ،‬وإذا هو يجل عن موضعه مسسن التهمسسة‪ ،‬ولكسسن صسسح‬
‫عندي أنه قد سرق‪ ،‬وقامت البينة عليه ووجب الحكم؛ فقلت له‪ :‬أيها‬
‫صا؟‬
‫الشيخ‪ ،‬ما تستحي وأنت شائب أن تكون ل ً‬
‫قال‪ :‬يا سيدي القاضي‪ ،‬كأنك تقول لي‪ :‬ما تستحي أن تجوع؟‬
‫فورد علي من جوابه ما حيرني‪ ،‬فقلت له‪ :‬وإذا جعلسست أمسسا تسسستحي‬
‫أن تسرق؟ قال‪ :‬يا سيدي القاضي‪ ،‬كأنك تقول لي‪ :‬وإذا جعلسست أمسسا‬
‫تستحيي أن تأكل؟‬
‫ما؟‬‫فكانت هذه أشد علي‪ ،‬فقلت له‪ :‬وإذا أكلت أما تأكل إل حرا ً‬
‫جا ل أجد شيًئا‪ ،‬لم‬ ‫فقال‪ :‬يا سيدي القاضي‪ ،‬إنك إذا نظرت إلي محتا ً‬
‫ترني سارًقا حين وجدت شيًئا‪.‬‬
‫فأقحمني الرجل على جهله وسذاجته‪ ،‬وقلت في نفسسسي‪ :‬لسسو سسسرق‬
‫أفلطون لكان مثل هذا؟ فتركت الكلم بالفلسفة وتكلمت بالقسسانون‬

‫‪71‬‬
‫الذي ل يملك الرجل معه قوًل يراجعني به‪ ،‬فقلت‪ :‬ولكنك جئت إلسسى‬
‫هذه المحكمة بالسرقة‪ ،‬فل تسسذهب مسسن هسسذه المحكمسسة إل بسسالحبس‬
‫سنتين‪.‬‬
‫قال محدثنا‪ :‬وأرمضني هذا العجوز الثرثسسار ومل صسسدري‪ ،‬إذ مسسا بسسرح‬
‫يديرني وأديره عن "كاترينا ومرغريت"‪ ،‬ورأيت كسسل شسسيء قسسد هسسرم‬
‫فيه إل لسانه‪ ،‬فحملني الضسسجر والطيسسش علسسى أن قلسست لسسه‪ :‬وهسسب‬
‫القضية كانت هي قضية "كاترينا" وقد رفعسست إليسسك متهمسسة‪ ،‬أفكنسست‬
‫قائًل لها‪ :‬جئت إلى المحكمة بالسسسرقة فل تسسذهبين مسسن المحكمسسة إل‬
‫بالحبس سنتين؟‬
‫ً‬
‫وجرت الكلمة على لساني وما ألقيت لها بال ول عرفت لهسسا خط سًرا؛‬
‫فسساكفهر القاضسسي العجسسوز وتربسسد وجهسسه غضسسًبا‪ ،‬وقسسال‪ :‬يسسا بغيسسض!‬
‫أحسبتني كنت قائًل لها‪ :‬جئت إلى المحكمة بالسرقة فل تذهبين من‬
‫المحكمة إل بالقاضي‪...‬؟‬
‫وغضب الستاذ "م"‪ :‬وقسسال‪ :‬ويحسسك! أهسسذا مسسن أدبكسسم الجديسسد السسذي‬
‫تسسأديتم بسسه علسسى أسسساتذة منهسسم الفجسسرة السسذين يكسسذبون النبيسساء ول‬
‫يؤمنون إل بدين الغريزة ويسسسوغونكم مسسذاهب الحميسسر والبغسسال فسسي‬
‫حرية الدم‪..‬؟ أما إني لعلم أنكم نشسسأتم علسسى حريسسة السسرأي‪ ،‬ولكسسن‬
‫الكلمة بين اثنين ل تكون حرة كل الحرية إل وهي أحياًنا سفيهة كسسل‬
‫السفاهة‪ ،‬كهذه القولة التي نطقت بها‪.‬‬
‫سسسا علسسى حسسدة‪ ،‬وكسسانت الداب‬ ‫لقد كان الناس في زمننا الماضي أنا ً‬
‫حالت عقلية ثابتة ل تتغير ول يجوز أن تتغيسر‪ ،‬وكسسان السسستاذ الكسافر‬
‫بينه وبين نفسه ل يكون مع تلميذه إل كالمومس؛ تجهد أن تربي بنتا‬
‫على غير طريقتها!‬
‫قال المحدث‪ :‬فلجلجت وذهبت أعتذر‪ ،‬ولكن العجوز "ن" قطع علسسي‬
‫وأنشأ يقول وقد انفجسسر غيظسسه‪ :‬لقسسد تمسست فسسي هسسؤلء صسسنعة حريسسة‬
‫الفكر‪ ،‬كما تمت من قبل فسسي ذلسسك السسواعظ* المعلسسم القسسديم السسذي‬
‫حسسدثوا عنسسه أنسسه كسسان يقسسص علسسى النسساس فسسي المسسسجد كسسل أربعسساء‬
‫فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنتسسه ونسساره؛‬
‫قالوا‪ :‬فاحتبس عليهم في بعض اليام وطال انتظارهم له‪ ،‬فبينما هم‬
‫كذلك إذ جاءهم رسوله فقسسال‪ :‬يقسسول لكسسم أبسسو كعسسب‪ :‬انصسسرفوا قسسد‬
‫أصبحت مخموًرا‪...‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* هو أبو كعب القاص‪ ،‬ذكره الجسساحظ فسسي الحيسسوان وقسسال إنسسه كسسان‬
‫يقص كل أربعاء في مسجد عتاب بالبصرة‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫هذا القاص المخمور هو عند هؤلء السخفاء إمام فسسي مسسذهب حريسسة‬
‫الفكر‪ ،‬وفضيلته عندهم أنه صريح غير منافق‪ ...‬وكان يكون هذا قوًل‬
‫في إمام المسجد لول أنه إمام المسجد؛ غيسر أن حريسة الفكسر تبنسى‬
‫ما في كل ما تبنى علسسى غيسسر الصسسل‪ ،‬وعنسسدها أن المنطسسق السسذي‬ ‫دائ ً‬
‫موضوعه ما يجب‪ ،‬ليس بالمنطق الصحيح؛ إذ ل يجب شسسيء مسسا دام‬
‫مذهبها الطلق والحرية‪.‬‬
‫كل مفتون من هؤلء يتوهم أن العالم ل بد أن يمر من تفكيسسره كمسسا‬
‫مر من إرادة الخالق‪ ،‬وأنه ل بد له أن يحكم على الشياء ولو بكلمسسة‬
‫سخيفة تجعله يحكم‪ ،‬ول بسسد أن يقسسول "كسسن وإن لسسم يكسسن إل جهلسسه؛‬
‫ومسذهبه الخلقسي‪ :‬اطلسب أنست القسوة للمجمسوع‪ ،‬أمسسا أنسسا فسسألتمس‬
‫لنفسي المنفعة واللسذة! ويحسسبون أنهسم يحملسون المجتمسع‪ ،‬فسإنهم‬
‫ليحملونه‪ ،‬ولكن على طريقة البراغيث في جناح النسر‪.‬‬
‫قال "م"‪ :‬وكيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬زعمسسوا أن طائفسسة مسسن السسبراغيث اتصسسلت بجنسساح نسسسر عظيسسم‬
‫واستمرأته ورتعت فيه‪ ،‬فصابرها النسر زمًنا‪ ،‬ثسسم تسسأذى بهسسا وأراد أن‬
‫يرميها عنه‪ ،‬فطفق يخفق بجناحيه يريد نفضها‪ ،‬فقالت له السسبراغيث‪:‬‬
‫أيها النسر الحمق! أما تعلم أننا في جناحيك لنحملك في الجو؟‪..‬‬
‫أما أساتذة هذه الحرية الدينية الفكرية الدبية‪ ،‬فقد قال الحكماء‪ :‬إن‬
‫بعرة من البعر كانت معلمة في مدرسة‪.‬‬
‫قال "م"‪ :‬وكيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬زعموا أن بعرة كبش كانت معلمة في مدرسة الحصى‪ ،‬فألفت‬
‫لتلميذها كتاًبا أحكمته وأطالت له الفكرة‪ ،‬وبلغت فيه جهد مسسا تقسسدر‬
‫عليه لتظهسسر عبقريتهسسا الجبسسارة؛ فكسسان البسساب الكسسبر فيسسه أن الجبسسل‬
‫خرافة من الخرافات‪ ،‬ل يسوغ في العقل الحر إل هذا‪ ،‬ول يصح غيسسر‬
‫هذا في المنطق؛ قالت‪ :‬والبرهان على ذلك أنهم يزعمون أن الجبل‬
‫شيء عظيم‪ ،‬يكون في قدر الكبش الكبير ألف ألف مرة؛ فسإذا كسان‬
‫الجبسسل فسسي قسسدر الكبسسش ألسسف ألسسف مسسرة فكيسسف يمكسسن أن يبعسسره‬
‫الكبش؟‪....‬‬
‫قال الستاذ "م"‪ :‬هذا منطق جديد سديد لول أنه منطق بعرة!‬
‫قال "ن"‪ :‬وكل قديم له عنسسدهم جديسسد‪ ،‬فكلمسسة "رجسسل" قسسد تخنثسست‪،‬‬
‫وكلمة "شاب" قد تأنثت‪ ،‬وكلمة "عفيفة" قد تدنست‪ ،‬وكلمة "حياء"‬
‫قد تنجست؛ والزمن الجديد أل يعرف الطسسالب فسسي هسسذا العسسام مسساذا‬
‫تكون أخلقه في العام القادم‪ ..‬والحياة الجديدة أن تتقن الغش أكثر‬
‫مما تتقن العمل‪ ..‬والذمة الجديدة أن مسسال غيسسرك ل يسسسمى مسساًل إل‬

‫‪73‬‬
‫حين يصير في يدك‪ ..‬والصدق الجديد أن تكسسذب مسائة مسسرة‪ ،‬فعسسسى‬
‫أن يصدق الناس منها مسسرة‪ ..‬ثسسم النسسسان الجديسسد‪ ،‬والحسسب الجديسسد‪،‬‬
‫والمسسرأة الجديسسدة‪ ،‬والدب الجديسسد‪ ،‬والسسدين الجديسسد‪ ،‬والب الجديسسد‪،‬‬
‫والبن الجديد‪ ،‬وما أدري وما ل أدري‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬السوبرمان‪ ،‬وتنطعوا في إخراج المخلسسوق الكامسسل بغيسسر دينسسه‬
‫وأخلقسسه‪ ،‬فسسسخرت منهسسم الطبيعسسة فلسسم تخسسرج إل النسساقص أفحسسش‬
‫النقص‪ ،‬وتركتهم يعملون في النظرية وعملت هي الحقيقة‪.‬‬
‫قال محدثنا‪ :‬ونهض العجوز "ن" وهو يقول‪ :‬تباركت وتعاليت يا خالق‬
‫هذا الخلق! لو فهموا عنك لفهموا الحكمة في أنك قسسد فتحسست علسسى‬
‫العلم الجديد بالغازات السامة‪...‬‬
‫قسسال‪ :‬ولمسسا انصسسرف العجسسوز‪ ،‬قلسست للسسستاذ "م"‪ :‬ولكسسن مسسا خسسبر‬
‫"كاترينا" و "مرغريت" وسنة ‪1895‬؟‬
‫فقسسال‪ :‬أيهسا البلسسه‪ ،‬أمسا أدركسست بعسسد أن العجسسوزين قسسد سسسخرا منسسك‬
‫بأسلوب جديد‪..‬‬

‫‪‬‬

‫‪74‬‬
‫السطر الخير من القصة ‪1‬‬

‫رجعت إلى أوراق لي قديمة يبلغ عمرها ثلثين سنة أو لواذهسسا‪ ،‬تزيسسد‬
‫قليًل أو تنقص قليًل‪ ،‬وجعلت أفلي هذه الوراق واحسسدة واحسسدة‪ ،‬فسسإذا‬
‫أنا على أطلل اليام فسسي مدينسسة قائمسسة مسسن تسساريخي القسسديم‪ ،‬نائمسسة‬
‫تحت ظلماتهسسا السستي كسسانت أنسسوار عهسسد مضسسى؛ وإذا أنسسا منهسسا كالسسذي‬
‫اغترب ثلثين سنة عن وطنه ثم آب إليه‪ ،‬فما يرى من شيء كان له‬
‫به عهد في أيام حدثانه ونشاطه إل اتصل بينهمسسا سسسر؛ ومسسن طبيعسسة‬
‫القلب العاشق في حنينه أن يجعل كل شيء يتصل به كأنه ذو قلسسب‬
‫مثله له حنين ونجوى!‬
‫وذلك التلشي المحفوظ فسسي هسسذه الوراق‪ ،‬يحفسسظ لسسي فيهسسا وفيمسسا‬
‫سا وطبيعة كانت نفس شاعر وطبيعة روضة‪ ،‬في عهد من‬ ‫تحتويه نف ً‬
‫الصبى كنت فيه أتقدم في الشسسباب وفسسي الكسسون معًسسا كسسأن الشسسياء‬
‫قا آخر؛ فإذا قرضت شعًرا واستوى لي علسسى مسسا أحسسب‪،‬‬ ‫تخلق في خل ً‬
‫أحسست إحساس الملك الذي يضم إلى مملكته مدينة جديسسدة؛ وإذا‬
‫تناولت طاقة من الزهر وتأملها على ما أحسسب‪ ،‬شسسعرت بهسسا كأجمسسل‬
‫غانية من النساء تسسوحي إلسسي وحسسي الجمسسال كلسسه؛ وإذا وقفسست علسسى‬
‫شاطئ البحر‪ ،‬ترجرج البحر بأمواجه فسسي نفسسسي‪ ،‬فكنسست معسسه أكسسبر‬
‫من الرض وأوسع من السماء‪.‬‬
‫أمسسا الحسسب‪ ...‬أمسسا الحسسب فكسسانت لسسه معسسانيه الصسسغيرة السستي هسسي‬
‫كضرورات الطفل للطفل‪ :‬ليس فيها كسسبير شسسيء‪ ،‬ولكسسن فيهسسا أكسسبر‬
‫السعادة‪ ،‬وفيها نضرة القلب‪.‬‬
‫عهد من الصبى كانت فيه طريقة العقل من طريقسسة الحلسسم؛ وكسسانت‬
‫العاطفة هي عاطفة في النفسسس‪ ،‬وهسسي فسسي وقسست معًسسا خدعسسة مسسن‬
‫مسسا مسسا مضسسى ول يسسذكر بسسه؛ وكسسانت‬‫الطبيعة؛ وكان ما يأتي ينسي دائ ً‬
‫اليام كالطفال السعداء‪ :‬ل ينام أحدهم إل علسسى فكسسرة لعسسب ولهسسو‪،‬‬
‫ول يستيقظ إل على فكرة لهو ولعب وكانت اللغة نفسسسها كسسأن فيهسسا‬
‫ظا من الحلوى؛ وكانت اللم ‪-‬على قلتها‪ -‬كسسالمريض السسذي معسسه‬ ‫ألفا ً‬
‫دواؤه المجسسرب‪ ،‬وكسسانت فلسسسفة الجمسسال تضسسحك مسسن فيلسسسوفها‬
‫الصغير‪ ،‬الواضح كل الوضوح‪ ،‬المقتصر بكل لفظ على ما يعرف من‬
‫معناه‪ ،‬المتفلسف في تحقيق الرغبة أكثر ممسسا يتفلسسسف فسسي تخيسسل‬
‫الفكرة!‬
‫هو العهد الذي مسسن أخسسص خصائصسسه أن تعمسسل‪ ،‬فيكسسون العمسسل فسسي‬
‫نفسه عمًل ويكون في نفسك لذة‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫في أوراقي تلك بحثت عن قصسسة عنوانهسسا "السسدرس الول فسسي علبسسة‬
‫كبريت" كتبتها في سنة ‪ ،1905‬وأنا ل أدري يسومئذ أنهسا قصسسة يسسسبح‬
‫في جوها قدر روائي عجيب‪ ،‬سسسيأتي بعسسد ثلثيسسن سسسنة فيكتسسب فيهسسا‬
‫السطر الخير الذي تتم به فلسفة معناها‪.‬‬
‫ضا لسسم يصسسلب‪،‬‬ ‫وها أنذا أنشرها كما كتبتها؛ وكان هذا القلم إذ ذاك غ ً‬
‫وكان كالغصن تميل به النسمة‪ ،‬على أن أساس بلغته قد كسسان ولسسم‬
‫يزل‪ ،‬بلغة فرحه أو بلغة حزنه؛ وهذه هي القصة‪:‬‬
‫"عبد الرحمن عبد الرحيم" غلم فلح‪ ،‬قد شهد من هذه الدنيا تسعة‬
‫أعوام‪ ،‬مرت به كما يمر الزمن على ميت؛ ل تزيده حيسساة الحيسساء إل‬
‫إهماًل‪ ،‬فنشأ منشأ أمثاله ممن فقدوا الوالدين وانتزعوا من شسسملهم‬
‫فتركوا للطبيعة تفصلهم وتصلهم بالحياة‪ ،‬وتضيق لهم فيها وتوسع‪.‬‬
‫وهيأت الطبيعة منه إنساًنا حيوانًيا‪ ،‬ل يبلسسغ أشسسده حسستى يغسسالب علسسى‬
‫السرزق بالحيلسة أو الجريمسة‪ ،‬ويسستخلص قسوته كمسا يرتسزق السوحش‬
‫بالمخلب والناب؛ ولن يكون بعد إل مجموعسسة مسسن الخلق الحيوانيسسة‬
‫الفاتكة الجريئة‪ ،‬فإن الطبيعة متى ابتدأت عملها في تحويل النسان‬
‫عن إنسانيته‪ ،‬نزلت به إلسسى العسالم الحيسواني ووصسلته بمسا فيسسه مسن‬
‫الشر والدناءة‪ ،‬ثم ل تترك عملها حتى يتحول هو إليها‪.‬‬
‫وألف "عبد الرحمن" في بلده حانوت رجل فقير‪ ،‬يستغني بالبيع عن‬
‫التكفف وعن المسألة؛ فكان الغلم يكثر الوقوف عنده‪ ،‬وكان يطعم‬
‫ذا‪،‬‬‫من صاحبه أحياًنا كرزق الطيسر‪ ،‬فتاًتسا وبقايسا؛ إذ كسان الغلم شسحا ً‬
‫وكان صاحب الحانوت ل يرتفع عن الشحاذة إل بمنزلة تجعل النسساس‬
‫يتصدقون عليه بالشراء مسسن هنسساته السستي يسسسميها بضسساعة‪ :‬كسسالخيط‪،‬‬
‫والبرة‪ ،‬والكبريت والملسسح‪ ،‬وغسسزال للولسسد‪ ،‬وكحسسل للصسسبايا‪ ،‬ونشسسوق‬
‫للعجائز‪ ،‬ونسخة الشيخ الشعراني‪ ،‬وما لف لفها مما يصمد ثمنه من‬
‫كسور المليم‪ ،‬إلى المليم وكسوره!‬
‫وتغفله الغلم مرة وأهوى بيده إلى ذخائر الحانوت‪ ،‬فالتقطته "علبسسة‬
‫كبريت"‬
‫كان الفرق كل الفرق بيسسن أن يسسسرقها وأن يشسستريها ‪-‬نصسسف مليسسم؛‬
‫ولكن من له "بالعشرين الخردة" وهي عند مثلسسه دينسسار مسسن السسذهب‬
‫يرن رنيًنا ويرقص على الظفر رقصة إنجليزية؟‬
‫وماذا يصنع بالعلبة؟ همت نفسه أن تجادله ولما تسسسكن رعشسسة يسسده‬
‫من هول الثم‪ ،‬ولكن الغلم كان طبيعّيا ولم يكسسن فيسسسلوًفا‪ ،‬ولسسذلك‬
‫رأى أن يحرز الحقيقة بعد أن وقعت يده عليها‪ ،‬وقد اصسسطلح النسساس‬
‫على أن مادة السرقة هسي "مسد اليسد" أخطسأت أم أصسابت‪ ،‬وجساءت‬

‫‪76‬‬
‫بالغالي أو جسساءت بسسالرخيص؛ فضسسم أصسسابعه علسسى العلبسسة وانتزعهسسا‪،‬‬
‫وترك في مكانها فضيلة المانسسة السستي لسسم يعسسرف لسسه النسساس قيمتهسسا‬
‫فهانت كذلك على نفسه وانطلق وهي تناديه‪:‬‬
‫أيها الغلم‪ ،‬أتدفع ثمن علبسة الكسبريت سسنتين مسن عمسرك؟ وهل خل‬
‫الناس ممن يعرفون لعمرك قيمة؟‬
‫وارتد رجع الصوت الخفي إلى قلبه من حيث ل يشعر‪ ،‬فضرب قلبسسه‬
‫ضربات من الخوف‪ ،‬ونزا نزوة مضطربة؛ فالتفت الغلم مرة أخرى‪،‬‬
‫ثم أمعن في الفرار وترك المانة تناديه‪:‬‬
‫أيها الغلم‪ ،‬إن لك في الخرة ناًرا ل توقسسد بهسذا الكسبريت‪ ،‬ولسسك فسسي‬
‫الدنيا سجن كهذه العلبة‪ ،‬فالعب العب مسسا دام النسساس قسسد أهملسسوك!‬
‫العب بالثقات الذي في يدك فيسمتد فيك معنى اللهسب حستى يجعسل‬
‫دا كهسسذا‬
‫حياتك في أعمار الناس دخان ًسسا ونسساًرا؛ وسسستكون أيامسسك أعسسوا ً‬
‫الكبريت‪ :‬تشتعل في الدنيا وتحرق‪.‬‬
‫وكأن أذناب السياط كانت تلهب ظهر الغلم المسكين‪ ،‬ولكنه ما كاد‬
‫يلتفت هذه المرة حتى كسسان فسسي قبضسسة صسساحب الحسسانوت‪ ،‬وإذا هسسو‬
‫بكلمة من لغة كفه الغليظة‪ ،‬خيلت له في شسسعرها أن جسسداًرا انقسسض‬
‫عليه‪ ،‬وتلتها جملة مسسن قسسوافي الصسسفع جلجلسست فسسي أذنيسسه كالرعسسد‪،‬‬
‫وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الطفال أحسساط بسسه فسسترك هسسذا‬
‫الزورق النساني الصسسغير يتكفسسأ علسسى صسسدمات اليسسدي‪ ،‬فمسسا أحسسس‬
‫الغلم التعس إل أن الكبريت الذي فسسي يسسده قسسد انقسسدح فسسي رأسسسه‪،‬‬
‫وكانت أنامل صاحب الحسسانوت كأنمسسا تحسسك أعسسواده فسسي جلسسد وجهسسه‬
‫الخشن!‬
‫وذهبوا به إلى "دوار" العمدة يقضي فيه الليل ثم يصسبح علسى رحلسة‬
‫إلى المركز والنيابة‪ ،‬وانطرح المسكين منتظًرا حكم الصسسباح‪ ،‬مسسؤمًل‬
‫في عقله الصغير أل يفصح النهار حتى يكسسون "سسسيدنا عزرائيسسل" قسسد‬
‫طمس الجريمة وشهودها‪ ،‬ثم أغفى مطمئًنا إلسى ملسك المسوت وأنسه‬
‫قد أخذ في عمله بجد‪ ،‬وأيقن عند نفسه أن سيشسسحذ فسسي الخميسسس‬
‫مما يوزع في المقبرة صدقة على أرواح العمدة‪ ،‬وصاحب الحسسانوت‪،‬‬
‫والخفير الذي عهدوا إليه جره إلى المراكسسز‪ ...‬وكيسسف يشسسك فسسي أن‬
‫هذا واقع بهم وهو قد توسل بالولي فلن ونذر له شمعة يسرقها من‬
‫حانوت آخر‪!...‬‬
‫هكذا عرف الشر قلب هذا الصبي‪ ،‬وانتهى به عدل الناس إلى أفظع‬
‫مسسن ظلسسم نفسسسه‪ ،‬وكسسأنهم بسسذلك القسسانون السسذي يصسسلحونه بسسه علسسى‬
‫زعمهم‪ ،‬قد ناولوه سبحة؛ ليظهر بها مظهر الصالحين؛ ولسسم يفهمسسوه‬

‫‪77‬‬
‫شيًئا ففهم أنهم يقولون له‪ :‬هذه الجريمة واحدة‪ ،‬فعد جرائمك علسسى‬
‫هذه السبحة؛ لتعرف كم تبلغ!‬
‫كسسانت فسسي الحقيقسسة لعبسسة ل سسسرقة‪ ،‬وكسسانت يسسد الغلم فيمسسا فعلسست‬
‫مستجيبة لقانون المرح والنشاط والحركة‪ ،‬كما تكون أعضاء الطفل‬
‫ل كما تكون يد اللص؛ وكان أشبه بالرضيع يمد يده لكل مسسا يسسراه‪ ،‬ل‬
‫يميز ضارة ول نافعة‪ ،‬وإنما يريد أن يشعر ويحقق طبيعته؛ وكان كسسل‬
‫ما في المر وقصارى ما بلسسغ ‪-‬أن خيسسال هسسذا الغلم ألسسف قصسسة مسسن‬
‫قصسسص اللهسسو‪ ،‬وأن الكبسسار أخطسسؤوا فسسي فهمهسسا وتوجيههسسا‪ ...‬ليسسست‬
‫سرقة الطفل سرقة‪ ،‬ولكنها حق من حقوق ذكائه يريد أن يظهر‪.‬‬
‫وانتهى "عبد الرحمن" إلى المحكمة‪ ،‬فقضت بسجنه فسسي "إصسسلحية‬
‫الحداث" مدة سنتين‪ ،‬واستأنف له بعض أهل الخير في بلدة؛ صدقة‬
‫واحتساًبا؛ إذ لم يكف الستئناف إل كناية ورقسسة؛ فلمسسا مثسسل الصسسغير‬
‫أمام رئيس المحكمة لم يكن معسسه لفقسسره محسسام ٍ يسسدفع عنسسه‪ ،‬ولكسسن‬
‫انطلق من داخله محام ٍ شسسيطاني يتكلسسم بكلم عجيسسب‪ ،‬هسسو سسسخرية‬
‫الجريمسسة مسسن المحكمسسة‪ ،‬وسسسخرية عمسسل الشسسيطان مسسن عمسسل‬
‫القاضي‪!..‬‬
‫سأله الرئيس‪" :‬ما اسمك؟"‬
‫‪" -‬اسمي عبده‪ ،‬ولكن العمدة يسميني‪ :‬يابن الكلب!‪.‬‬
‫‪" -‬ما سنك؟"‬
‫‪" -‬أبويا هو اللي كان سنان"*‬
‫‪" -‬عمرك إيه؟"‬
‫‪" -‬عمري؟ عمري ما عملت شقاوة!"‬
‫‪---------------‬‬
‫* كان أبو الغلم سناًنا‪ ،‬ومثل هذا القدر من العامية فسسي القصسسة هسسو‬
‫ملح القصة‪.‬‬
‫النيابة للمحكمة‪" :‬ذكسساء مخيسسف يسسا حضسسرات القضسساة! عمسسره تسسسع‬
‫سنوات!"‬
‫الرئيس‪" :‬صنعتك إيه؟"‬
‫‪ -‬صنعتي ألعب مع محمود ومريم‪ ،‬وأضرب اللي يضربني!"‬
‫‪" -‬تعيش فين؟"‬
‫‪" -‬في البلد"‬
‫‪" -‬تأكل منين؟"‬
‫‪" -‬آكل من الكل!"‬

‫‪78‬‬
‫النيابسسة للمحكمسسة‪" :‬يسسا حضسسرات القضسساة‪ ،‬مثسسل هسسذا ل يسسسرق عليسسه‬
‫كبريت إل ليحرق بها البلد‪."!...‬‬
‫الرئيس‪ :‬ألك أم؟"‬
‫‪ -‬أمي غضبت على أبويسسا‪ ،‬وراحسست قعسسدت فسسي التربسسة؛ مسسا رضسسيتش‬
‫ترجع!"‪.‬‬
‫‪" -‬وأبوك؟"‬
‫‪" -‬أبويا لخر غضب وراح لها"‪.‬‬
‫الرئيس ضاح ً‬
‫كا‪" :‬وأنت؟"‬
‫‪" -‬والله يا أفندي عاوز أغضب‪ ،‬مش عارف أغضب ازاي!"‪.‬‬
‫‪" -‬إنت سرقت علبة الكبريت؟"‬
‫‪" -‬دي هي طارت من الدكان‪ ،‬حسبتها عصفورة ومسكتها‪"...‬‬
‫النيابة‪" :‬وليه ما طارتش العلب اللي معاها في الدكان؟"‬
‫‪" -‬أنا عارف؟ يمكن خافت مني!"‪.‬‬
‫النيابة للمحكمة‪" :‬جراءة مخيفة يا حضرات القضاة‪ ،‬المتهم وهو في‬
‫هذه السن‪ ،‬يشعر في ذات نفسه أن الشياء تخافه!"‪.‬‬
‫فصاح الغلم مسروًرا من هسسذا الثنساء‪" :‬واللسسه يسا أفنسسدي إنست راجسسل‬
‫طيب! أديك عرفتني‪ ،‬ربنا يكفيك شر العمدة والغفير!"‬
‫وأمضسسي الحكسسم فسسي السسستئناف‪ ،‬وخسسرج الصسسغير مسسع رجسسال مسسع‬
‫المجرمين يسوقهم الجند‪ ،‬ثم احتبسوا الجميع فترة من السسوقت عنسسد‬
‫كاتب المحكمة؛ ليستوفي أعماله الكتابية‪ ،‬ثم يساقون من بعسسد إلسسى‬
‫السجن‪.‬‬
‫وجلس "عبد الرحمن" على الرض‪ ،‬وقد اكتنفسسه عسسن جسسانبيه طائفسسة‬
‫مسسن المجرميسسن يتحسسادثون ويتغسسامزون‪ ،‬وكلهسسم رجسسال ولكنسسه وحسسده‬
‫الصغير بينهم؛ فاطمأن شسسيًئا قليًل‪ ،‬إذ قسسدر فسسي نفسسسه أنسسه لسسو كسسان‬
‫هؤلء قد أريد بهم شر لما سكنوا هذا السكون‪ ،‬وأن الذي يسسراد بهسسم‬
‫ل يناله هو إل أصغر منه‪ ،‬كصسسفعة أو صسسفعتين مثًل‪ ..‬وهسسو يسسسمع أن‬
‫الرجال يقتلسون ويحرقسون ويسسمون ويعتسدون وينهبسون؛ ومسا تكسون‬
‫"علبة الكبريت" في جنب ذلك؟ وخاصسسة بعسسد أن اسسستردها صسساحبها‪،‬‬
‫وقد نال هو ما كفاه قبل الحكم!‬
‫وما لبث بعد هذا الخاطر الجميل أن رد الطمئنان فسسي عينسسه دموع ًسسا‬
‫كاد يريقها الجزع‪ ،‬غير أن القلق اعتاده‪ ،‬فالتفت إلى كتاب المحكمسسة‬
‫مرة وإلى الجند مرة‪ ،‬ثم لسسوى وجهسسه ولسسم يسسستبح لنفسسسه أن يتجسسرأ‬
‫على الفكر فيهم؛ لنه قابل مهابتهم بآلهسسة بلسسده‪ :‬العمسسدة والمشسسايخ‬
‫والحفراء؛ فأدرك أن الجنود هم الحكومة القادرة‪ ،‬واستدل على ذلك‬

‫‪79‬‬
‫بأزرارهم اللمعة‪ ،‬وخناجرهم الصقيلة‪ :‬وتمشت في قلبه رهبسسة هسسذه‬
‫الخناجر‪ ،‬فاضطرب خشية أن يكونوا قد أسلموه مسسن يسسذبحه‪ ،‬فنظسسر‬
‫إلى الذي يليه من المجرمين وسأله‪" :‬راح ياخدوني فين؟"‪ ،‬فأجسسابته‬
‫لكمة خفية انطلق لها دمعسسه‪ ،‬حسستى أسسسكته السسذي يليسسه مسسن الجسسانب‬
‫الخر‪ ،‬وكان في رأيه من الصالحين؟‬
‫ثم اتصل الجزع بين قلبه وعينيه‪ ،‬فهما تضطربان إلى الجهات الربع‪،‬‬
‫حسسا؛ ولسسم يكسسن‬
‫وكأنما يحاول أن يستشف من أيها سسسيأتيه المسسوت ذب ً‬
‫فهم معنى "الصلحية"‪ ،‬وحكم القضسساة عليسسه كسسأنه رجسسل يفهسسم كسسل‬
‫شيء‪ ،‬ولم يرحموا هذه الطفولة بكلمة مفسرة‪ ،‬وعدل التربيسسة غيسسر‬
‫عدل القانون‪ ،‬فكان الواجب على القاضي الذي يحكم على الطفسسل‪،‬‬
‫أن يجعل حكمه أشبه بصسسيغة القصسسة منسسه بصسسيغة الحكسسم‪ ،‬وأن يسسدع‬
‫الجريمة تنطلق وتذهب فل يقول لها امكثي‪..‬‬
‫وبقي الخناجر رهبتها في نفس هذا المسكين‪ ،‬فلو أنهسسم قسسادوه إلسسى‬
‫حبل الشناقة لفهمسسه "الحبسسل" معنسسى العقوبسسة‪ ،‬أمسسا وهسسو بيسسن هسسذه‬
‫الخناجر المغمدة ‪-‬وفي الخناجر معنى الذبح‪ -‬فإنما هو الذبح ل غيره‪.‬‬
‫وطرقت أذنيه قهقهة المجرم عن يمينه فاستنقذته من هسسذا الخطسسر‪،‬‬
‫ما رابسسط‬‫فثبت عينيه في الرجل‪ ،‬فسسإذا هسسو يسسرى وجهًسسا متللًئا‪ ،‬وجس س ً‬
‫ؤا وسخرية بهؤلء الجنود وخناجرهم‪.‬‬ ‫الجأش‪ ،‬وهز ً‬
‫واستراح الغلم إلى صاحبه هذا‪ ،‬وألح بنظره عليه‪ ،‬وابتدأ يتعلسسم مسسن‬
‫وجهه الفلسفة؛ وليست الفلسفة مقصورة عى الكتب‪ ،‬بسسل إن لكسسل‬
‫إنسان حالة تشغله‪ ،‬فنظره في اعتبار دقائقها وكشف مستورها هسسو‬
‫الفلسفة بعينها‪.‬‬
‫وقال الغلم لنفسه‪" :‬هذا الرجل أقوى مسسن كسسل قسسوة؛ فهسسو محكسسوم‬
‫كا؛ فهسسذا الحكسسم إذن ل يخيسسف؛ ل‪ ،‬بسسل‬ ‫عليه ول يبالي‪ ،‬بل يقهقه ضح ً‬
‫هو تعود الحكام؛ إذن فمن تعود الحكام لسسم يخسسف الحكسسام؛ إذن يسسا‬
‫عبد الرحمن ستتعود‪ ،‬فإن الخوف هذه المرة قسسد غطسسك مسسن "علبسسة‬
‫الكبريت" في حريق متسعر‪ ،‬وما قدر "علبة الكسسبريت"؟ فلسسو كسسانت‬
‫السرقة جاموسة ما لقيت أكثر من ذلسسك؛ يسسا ليتنسسي إذن‪ ...‬ولكنسسي ل‬
‫أزال صغيًرا‪ ،‬فمتى كبرت‪ ...‬آه متى كبرت‪."..‬‬
‫وبدأ القانون عمله في الغلم؛ فطرد منه الطفل وأقر فيه المجرم‪.‬‬
‫وأطرق "عبد الرحمن" هادًئا ساكًنا‪ .‬وقامت في نفسسسه محكمسسة مسسن‬
‫ضا‪ ،‬ويسداولون بينهسم أمسر‬ ‫البالسة بقضاتها ونيابتها؛ يجادل بعضهم بع ً‬
‫هذا الغلم على وجه آخر‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫وقال شيطان منهم‪" :‬ولكنا نخشى أمرين‪ :‬أحسسدهما أن "الصسسلحية"‬
‫فا يحترف؛ والثسساني أن النسساس ربمسسا تولسسوه‬ ‫ستخرجه بعد سنتين شري ً‬
‫فا‬
‫بالتربيسسة والتعليسسم فسسي المسسدارس رحمسسة وشسسفقة؛ فيخسسرج شسسري ً‬
‫يحترف"‪.‬‬
‫وما أسرع ما نفى الخوف عنهم قول الغلم نفسه بلهجة فيها الحقسسد‬
‫والغيظ وقد صفعه الجندي الذي يقوده إلى السجن‪" :‬ودا كلسسه علسسى‬
‫شأن علبة كبريت؟‪."...‬‬
‫‪....................................................................................‬‬
‫‪.......‬‬
‫قا علسسى قاتسسل‬ ‫في سنة ‪ 1934‬قضت محكمة الجنايسسات بسسالموت شسسن ً‬
‫مجرم خبيث عيار متشطر؛ اسمه "عبد الرحمن عبد الرحيم"‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪81‬‬
‫عاصفة القدر ‪1‬‬

‫على شاطئ النيل في إقليم "الغربية" من هذا البر‪ ،‬قرية ليس فيهسسا‬
‫من جبل‪ ،‬ولكن روح الجبل في رجل مسسن أهلهسسا‪ ،‬فسسإذا أنسست اعتسسبرته‬
‫فا رأيته ينهسسض فيهسسم بمنكسسبيه نهضسسة الجبسسل فيمسسا‬ ‫بالرجال قوة وضع ً‬
‫حوله؛ وهو بطل القرية ولسواء كسل معركسة تنشسب فيهسا بيسن فتياتهسا‬
‫وبين فتيان القرى المتناثرة حولها؛ ول تزال هذه المعارك بين شبان‬
‫القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح المتوارث فيهسسم مسسن أجيسسال‬
‫بعيدة ينحدر من جبل إلسسى جبسسل وفيسسه تلسسك القطسسرات الثسسائرة السستي‬
‫كانت تغلي وتفور‪ ،‬وهي كعهدها ل تزال تفسسور وتغلسسي‪ ،‬ويلقبسسون هسسذا‬
‫الرجل الشديد "بالجمل"؛ لمسسا يعرفسسونه مسسن جسسسامة خلقسسه وصسسبره‬
‫على الشدائد‪ ،‬واحتماله فيها‪ ،‬وكسسونه مسسع ذلسسك سسسلس القيسساد سسسليم‬
‫الفطرة رقيق الطبع؛ على أنه أبطسسش ذي يسسدين إن ثسسار ثسسائره‪ ،‬ولسسه‬
‫إيمان قوي يستمسك به كما يتماسسسك الجبسسل بعنصسسره الصسسخري‪ ،‬إل‬
‫أنه يخلطه ببعض الخرافات؛ إذ لبد له من بعسسض الجسسرائم الشسسريفة‬
‫التي يمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله‪.‬‬
‫شا وعت ًً‬
‫وا‬ ‫وليس في تلك القرية من بحر‪ ،‬غير أن فيها شاًبا أعنف طي ً‬
‫من الموجة على بحرها في يوم ريح عاتيسسة‪ ،‬حلسسو المنظسسر لكنسسه مسسر‬
‫دا مسسن السسدهاء والخبسسث‪ ،‬وهسسو‬ ‫الطعم‪ ،‬صافي الوجه لكن له غوًرا بعيس ً‬
‫ابن عمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضسسة‪ ،‬يبسسسط‬
‫يديه على خمسمائة فدان‪ ،‬وقد أفسدته النعمسسة وأهسسانته عزتسسه علسسى‬
‫أهلسسه؛ ولسسو اجتمعسست حسسسنتان التخسسرج منهمسسا سسسيئة مسسن السسسيئات‬
‫بأسسسلوب مسسن السسساليب‪ ،‬لمسسا وسسسعها إل أسسسلوب نشسسأته مسسن أبسسويه‬
‫الطيبين‪ ،‬تعلم وهو يعرف أنه ل حاجة به إلى العلم‪ ،‬فجعلسست تلفظسسه‬
‫المدارس واحدة بعد واحدة كأنه نواة ثمرة إنسانية فإذا قيل له فسسي‬
‫ذلك قال‪ :‬إن خمسمائة فدان ل تسعها مدرسة‪ ....‬وذهب إلى فرنسا‬
‫يطلب العلم الذي استعصسسى عليسسه فسسي مصسسر‪ ،‬فسسأرهف ذلسسك العلسسم‬
‫خياله وصقل حسه‪ ،‬ورجع من باريس رقيق الحاشية خنًثا متطرفًسسا ل‬
‫يصلح شرقًيا ول غربًيا!‬
‫وليس في تلك القرية غاية لكن فيها عذراء تلتسسف مسسن جسسسمها فسسي‬
‫رداء الجمال الطبيعي الرائع‪ ،‬ولهسا نفسسس أشسسد وعسسورة ممسا تنطسوي‬
‫الغابة عليه؛ ففي ظاهرها الرونسسق السسذي يفتسسن فيجسسذب إليهسسا‪ ،‬وفسسي‬
‫باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها؛ وهي ابنة عم "الجمل" واسمها‬
‫"خضراء" وكأن فيها زهو خضرة الربيع‪ ،‬ولم تكسسن تعشسسق إل القسسوة‪،‬‬

‫‪82‬‬
‫فما يزين لها من الرجال إل ابن عمهسسا‪ ،‬وهسسي شسسديدة العجسساب بسسه‪،‬‬
‫وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها‪.‬‬
‫وكانت "خضراء" جاهلة كنساء القرى‪ ،‬بيد أنها تلميذة بارعة للطبيعة‬
‫سسسا وأشسسد‬ ‫التي نشأت فيهسسا وزاولسست أعمالهسسا؛ فهسسي بسسذلك أقسسوى نف ً‬
‫سا من الفتيسسات المتعلمسسات؛ إذ اتخسسذت شسسكًل ثابت ًسسا مسسن أشسسكال‬ ‫مرا ً‬
‫الحياة‪ ،‬والحياة هي صنعتها هذه الصنعة أو قامتهسسا علسسى هسسذه الهيئة‪،‬‬
‫على حيسن أن المتعلمسات يمضسين أيسام النشسأة وسسن الغريسزة فسي‬
‫التلقي عن اللفاظ والكتب‪ ،‬وفي تسسوهم الصسسور المختلفسسة للجتمسساع‬
‫دون مباشرتها وفي توقي أعمال الحياة بدًل مسسن مخالطتهسسا؛ فيسسؤول‬
‫ذلسك منهسن إلسى قسوة فسي التخيسل قلمسا ترضسي الحقيقسة النسسانية‬
‫ما ما؛ وتتسسم الواحسسدة منهسسن‪ ،‬ولكسسن باعتبسسار‬ ‫المؤلمة حين تصادمها يو ً‬
‫أنها تمت تلميذة للمدرسة ل امرأة للحياة بما فيها مما يعجب ومسسا ل‬
‫يعجب‪.‬‬
‫وكانت خضراء أشبه بدورة النهار‪ :‬تفتح أجفانهسسا علسسى أشسسعة الفجسسر‬
‫كل يوم‪ ،‬ول تزال نهارها في دأب وعمل‪ ،‬فنفى ذلك عن أخلقهسسا مسسا‬
‫يجلبه السكون من الخمول والميل إلسسى العبسسث والدعابسسة‪ ،‬وحصسسلت‬
‫لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامسسل‬
‫في النظام النساني؛ عليه أن يصسسبر علسسى الكسسد والتعسسب إذا أراد أن‬
‫يظهر بطبيعته الحقيقية ل بطبيعته المزورة المصنوعة؛ ورأت الرجل‬
‫يسسستأثر بجلئل العمسسال ول يسسترك للمسسرأة إل كمسسا يسسترك عقسسرب‬
‫الساعات لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعهسسا؛ فهسسذا الصسسغير ل‬
‫يبرح يضطرب في "دائرته الضيقة" يهتز من جزء إلى جزء‪ ،‬حتى إذا‬
‫أتم الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الول بفضلها كلها وخطا بهسسا‬
‫خطوة واحدة‪ :‬ثم يعود المستضسسعف المسسسكين إلسسى مثسسل عملسسه ول‬
‫يزال دأبهما وإن أكثرهما عمًل وتبًعا هو أقلهما قيمة وظهسسوًرا؛ ولكسسن‬
‫هذا الضعيف المغبون لم ينله ما ناله إل مسسن كسسونه هسسو وحسسده السسذي‬
‫سا للخر؛‬ ‫بني في هذا النظام على فضيلة الصبر والدقة‪ ،‬ليكون أسا ً‬
‫فعرفت "خضراء" كيف تقيد طبيعتها من تلقاء نفسها‪ ،‬وتقرهسسا علسسى‬
‫الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطسسبيعي والغتبسساط بسسه؛ إذ كسسان‬
‫فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منهسسا فض سًل أو أسسسباب‬
‫حا وصسسبًرا وإيثسساًرا؛‬
‫فضل‪ ،‬بل فسسي كونهسسا هسسي أكسسثر منسسه حب ّسسا وتسسسام ً‬
‫ففضائلها الحقيقية هي التي جعلته الفضسل‪ ،‬كمسا تجسوع الم لتطعسم‬
‫ابنها!‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫ورآها "ابن العمدة" ولما تمض أيام على رجوعه من أوربا‪ ،‬وقد لبث‬
‫هناك بضع سنين‪ ،‬وكان عهده بالفتاة صغيرة‪ ،‬فوثبت إلى نفسه فسسي‬
‫وثبة واحدة‪ ،‬ورأى شباًبا وجماًل وروعة زينتها في قلبسسه‪ ،‬وسسسولت لسسه‬
‫مطمًعا من المطامع‪ ،‬وجعلته يرى ما يرى بمعنى ويفهم منه ما يفهم‬
‫بمعنى غيره‪.‬‬
‫وكانت حين رآها واقفة على النيل تمل جرتها مسسع نسسساء مسسن قومهسسا‬
‫وهن يتعابثن ويتضاحكن‪ ،‬كأن لخصب الرض في أرواحهن أثًرا بادي ًسسا‪،‬‬
‫فإذا ما أقبلن على النهر لشأن من شؤونهن تنسسدت روح المسساء علسسى‬
‫ذلك الثر فسساهتز واهسستزت المسسرأة بسسه‪ ،‬فسسإن كسسانت ذات مسسسحة مسسن‬
‫فا كرفيف الزهرة حين يمسسسحها النسسدى‪ ،‬وذهبسست‬ ‫جمال رأيت لها رفي ً‬
‫تتموج في جسمها‪ ،‬وقد حسسسرت عسسن ذراعيهسسا‪ ،‬ولمسسس المسساء دمهسسا‬
‫الجذاب فأرسل فيه تياًرا من العافية والنشاط يتصل منها بقلب مسسن‬
‫يراها إن هو كان شاعًرا يحس؛ فإن كانت روح الرجسسل ظمسسأى ورأى‬
‫المرأة على هذه الهيئة‪ ،‬فما أحسبه إل يشرب منها بعينيه شرًبا يجسسد‬
‫له في قلبه نشوة كنشوة الخمر؛ وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا‬
‫الفتى فزينها له الخبث الذي فيه أضعاف ما زينها لسسه الجمسسال السسذي‬
‫فيها‪ ،‬وقذفها القدر إلى قلبه ليخرج مسسن هسسذا القلسسب تاريسسخ جريمسسة؛‬
‫فوقف يتأملها بعين أحد مسسن آلسسة التصسسوير ل تفوتهسسا حركسسة‪ ،‬وسسسلط‬
‫عليها فكره وذوقه‪ ،‬وأيقظ لها في نفسه المعسساني الراقسسدة‪ ،‬فنصسسبت‬
‫في قلبه عدة من تماثيل الجمال تجسدت في كسل واحسد منهسا علسى‬
‫شكل كأنما أفرغت فيه إفرا ً‬
‫غا‪.‬‬
‫وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة؛ إذ قامت من‬
‫نشأتها على أن تطلب فتجاب‪ ،‬وتأمر فتطاع‪ ،‬وتشتهي فتجسسد؛ وكسسأنه‬
‫ما خلق إل ليستعيد قلبي والديه‪ ،‬وكانا ساذجين ل يعرفان مسسن علسسم‬
‫التربية إل أن للحكومة مسسدارس للتربيسسة‪ ،‬وموسسسرين ل يفهمسسان مسسن‬
‫معنى الحاجة في هذه الدنيا إل أنهسسا الحاجسسة إلسسى المسسال‪ ،‬منقطعيسسن‬
‫من النسل إل منه‪ ،‬فكأنه لم يولد لهما‪ ،‬بل قد ولسسدا لسسه‪ ..‬فلسسه المسسر‬
‫عليهما من كونه ل أمر لهمسسا عليسسه؛ وبسسذلك أسسسرف لسسه مسسن فضسسائل‬
‫الرقة والحنان والشفاق وما إليها‪ ،‬وهي فسي نفسسها فضسائل‪ ،‬ولكسن‬
‫متى أسرف بها الباء على أولدهم لسسم تنشسسئ فسسي أولدهسسم إل ممسسا‬
‫يكون من أضسسدادها‪ ،‬كالشسسجر تفسسرط عليسسه السسري فل يحسسدث فيسسه إل‬
‫اليبس والذوي‪ ،‬وإنما أنت تستقيه الموت ما دمت ترويه بمقدار مسسن‬
‫هواك بمقدار حاجته‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفسسة جعلسست مسسن أخسسص طبسساعه‬
‫تمسسويه نفسسسه علسسى النسساس‪ ،‬والتبسساهي بسسالغنى‪ ،‬والتنبسسل بالصسسدقاء‬
‫والحاشية مسسن وزرائه وعمسساله‪ ،‬والتهيسسؤ بالثيسساب والزيسساء؛ فانصسسرف‬
‫بسساطنه إلسسى تجميسسل ظسساهره‪ ،‬ورد ظسساهره علسسى بسساطنه بالشسسهوات‬
‫والسسدنايا‪ ،‬وأعسسانه علسسى ذلسسك أنسسه جميسسل فسساتن كأنمسسا خلقسست صسسورته‬
‫"للصفحة الحساسة" من قلوب النساء؛ وذلك ملك عظيسسم لسسم يكسسن‬
‫أبوه الرجل الطيب منه إل كما يكون وزير مالية الدولة‪ ..‬ولما أرسل‬
‫إلى باريس وقع منها في بلد عجيب كأنه خيال متخيسسل ل يسسؤمه رجًل‬
‫في الدنيا من كامل أو ناقص وعالم أو جاهل وشسسريف أو سسساقط إل‬
‫رأى فيه ما يمل كل مداخل نفسه ومخارجها‪ ،‬فلو قسسامت مدينسسة مسسن‬
‫أحلم النفسسوس النسسسانية فسسي خيرهسسا وشسسرها وطهرهسسا وفجورهسسا‬
‫واختللها ونظامها لكسسانت هسسي بسساريس؛ وانقطسسع الشسساب هنسساك إلسسى‬
‫نفسسسه وإلسسى صسسور نفسسسه مسسن أصسسدقاء السسسوء‪ ،‬فل أهسسل فيلزمسسوه‬
‫الفضيلة‪ ،‬ول إخوان فيردوه إلى الرأي‪ ،‬ول خلق متسسبين فيعتصسسم بسسه‪،‬‬
‫دا في الشسسهوات‬ ‫ول نفس مرة فيفيء إليها‪ ،‬ول فقر‪ ...‬فيحد له حدو ً‬
‫يقف عندها؛ وما هو إل خيال متوقفد ومزاج مشسسبوب وتربيسسة مدللسسة‬
‫وطبع جريء ومال يمر في إنفاقه‪ ،‬ومن ورائه أب غني مخدوع كسسأنه‬
‫دا‪ ،‬ثسسم مسسا هنالسسك‬
‫في يد ابنه كرة الخيط‪ :‬كلما جذب منها مدت له م ً‬
‫من فنون الجمال ومتع اللذات وأسباب اللهو‪ ،‬مما يتناهى إليه فساد‬
‫الفاسد‪ ،‬وما هسسو فسسي ذاتسسه كسسأنه عقوبسسة مستأصسسلة للخلق الطيبسسة؛‬
‫فكان الشيطان الباريسسسي مسسن هسسذا المسسسكين فسسي سسسمعه وبصسسره‬
‫ورجله ويده‪ ،‬ويجهه حيث شاء؛ وبالجملة فقد ذهب ليسسدرس فسسدرس‬
‫ذا في كل علوم النفس المختلة الطائشة وفنونها‪،‬‬ ‫ما شاء ورجع أستا ً‬
‫وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بهسسا لسسسانه مسسن علسسوم وأقاويسسل‬
‫ليس فيها إل ما ما يدل الحاذق على أن هذا الشاب لم يفلخ قط في‬
‫مدرسة‪.‬‬
‫فلما وقعت "خضراء" منه ذلك الموقع وأخذت مأخسسذها فسسي نفسسسه‪،‬‬
‫اعتدها نزوة من نزواته؛ فما بمثله أن يحب مثلها‪ ،‬ول هي كفايته في‬
‫شيء إل أن تكون لهو ساعة من ساعاته‪ ،‬أو حادثة تجري فيهسسا حسسال‬
‫من أحواله الغرامية؛ وحسبها امرأة ليس لقلبهسسا أبسسواب تمتنسسع علسسى‬
‫مثله‪ ،‬فقدر أن غناه وفقرها يقتلعان باًبا‪ ،‬وعلمه وجهلها يحطمان باًبا‬
‫آخر‪ ،‬وجماله وحده يضع ما بقي من القفال عما بقي مسسن البسسواب!‬
‫وكان يحسب أن جمال المرأة من المرأة كالحلية من بائعيهسسا؛ فكسسل‬
‫من ملك ثمنها فليس بينه وبينها إل هذا الثمسسن؛ ولكسسن اليسسام جعلسست‬

‫‪85‬‬
‫تأتي وتمر وهو ل يزيد على أن يعرض لها وهي ترميسسه مسسن صسسدودها‬
‫كل يسوم بداعيسسة مسن دواعسسي الهسوى؛ وكسسان ل يجسسد بنفسسه قسوة أن‬
‫يزيدها على النظر شيًئا‪ ،‬وترك لوجهه وثيابه ونظراته وغناه أن تصل‬
‫بين قلبه وقلبها بسبب‪ ،‬فلم ينل طائًل؛ وتمادى فسسي حبسسه‪ ،‬واسسستولت‬
‫عليه فكرة مرته بهذه المرأة؛ أمسسا هسسي فأشسسعرتها غريزتهسسا بمسسا فسسي‬
‫قلبه منها‪ ،‬وكانت مسماة لبن عمها* فكسسانت تتحاشسسى هسسذا الشسساب‬
‫دا‪ ،‬وتتسسوهم أن النسساس يحصسسون عليهسسا النظسسرة‬ ‫وتحسسذره حسسذًرا شسسدي ً‬
‫واللتفاتة ويحصون عليه في مثلهما‪ ،‬ووقع في نفسها أن لهذا الرجل‬
‫شأًنا غير شأن الرجال الخرين‪ ،‬فهم ل يستطيعون معهسسا حيلسسة وهسسو‬
‫يستطيعها بغناه ومنزلته‪.‬‬
‫وكان للرجل خادم داهية قد تخرج في مجالس القضاء‪ ..‬من كثرة ما‬
‫حكم عليه في تزويسسر واحتيسسال وغسسش وادعسساء وإنكسسار ونحوهسسا‪ ،‬وقسسد‬
‫سسا** إلسى‬ ‫قسسا؛ وجعلسسه دسي ً‬
‫سسا ورفي ً‬
‫استخلصسه لنفسسسه واتخسسذه موان ً‬
‫شهواته السافلة وكان يسسسميه فيمسسا بينهمسسا "إبليسسس"؛ فلمسسا أراد أن‬
‫يرميها به قال‪ :‬يا سيدي‪ ،‬هذه قضسسية احتيسسال عليهسسا‪ ،‬فسسإذا دخسسل ابسسن‬
‫ما في الدعوى كانت قضية احتيال على عمسسري أنسسا! قسسال‪:‬‬ ‫عمها خص ً‬
‫ويحك أيها البله! فأين دهسساؤك ومكسسرك؟ وإنمسسا أرسسسلك إلسسى امسسرأة‬
‫فقيرة عيشها كفافها‪ ،‬وأنت تعدها وتمشسسيها وتبسسذل عنسسي مسسا شسسئت‪،‬‬
‫ومتى أطمعتها في المال فإن هذا المال سيوجد ما يوجسسده فسسي كسسل‬
‫مكان‪ ،‬فيشري ما ل يشرى‪ ،‬ويبيع ما ل يباع! قال "إبليسسس"‪ :‬نعسسم يسسا‬
‫سيدي‪ ،‬وكذلك هو ولكن خوف العار يطرد حب المسسال! قسسال‪ :‬فسسأنت‬
‫إذن ل تقبل؟ قال‪ :‬ول أرفض‪ ..‬قال الشاب‪ :‬قاتلك الله! لقسسد فهمسست‬
‫سأشتريها منك بثمنين‪ :‬أحدهما لك والخر لها؛ ولكسسن أخسسبرني كيسسف‬
‫تصنع معها ومن أين تبلغ إليها؟ قال "إبليس"‪ :‬لما كنت فسسي السسسجن‬
‫كا أعيا قومه خبًثا وشّرا؛ وهذا السسسجن يحسسسبه عقاب ًسسا‬ ‫صا فات ً‬‫عرفت ل ّ‬
‫عا ومنهاة عن الثم‪ ،‬على أنسسه المدرسسسة السستي تنشسسئها الحكومسسة‬ ‫ورد ً‬
‫بنفسسسها لتلقسسي علسسوم الجريمسسة عسسن كبسسار أسسساتذتها؛ إذ ل يمكسسن أن‬
‫يجتمع كبارهم في مكان مسسن الرض إل فيسسه؛ فالسسسجن طريقسسة مسسن‬
‫طرق حسسل المشسسكلة النسسانية‪ ،‬ولكنسسه هسسو نفسسه يحسسدث للنسسسانية‬
‫مشكلة ل تحل! قال الفتى‪ :‬ويحك! أين يذهب بك؟ إنما أرسلك إلسسى‬
‫المرأة إلى السجن! قال‪ :‬ترسلني أنت إليهسسا ولكسسن ل يعلسسم إل اللسسه‬
‫أين يرسلني ابن عمها‪ :‬إلى السجن أم إلى‬
‫المستشفى‪ !..‬فاسمع يا سيدي‪ :‬كان من نصسسائح أسسستاذي فسسي ذلسسك‬
‫السجن‪ :‬أن الحيلة على رجل ينبغسسي لحكامهسسا أن يكسسون فسسي بعسسض‬

‫‪86‬‬
‫أسبابها امرأة‪ ،‬والكيد لمرأة يجب أن يكون في بعض وسائله رجل‪..‬‬
‫صه! انظر انظر!‬
‫‪---------------‬‬
‫* معدة لخطبته‪ ،‬أو كما يقولون‪ :‬قرأت مع أهلها الفاتحة‪.‬‬
‫سا وصاحب سر‪.‬‬ ‫** جاسو ً‬
‫فالتفت الشاب‪ ،‬فإذا "الجمل" مقبل يتكفأ في مشيته‪ ،‬وكان غليظ ًسسا‪،‬‬
‫فإذا خطا شد على الرض بقدميه وتكدس بعضسسه فسسي بعسسض؛ وكسسان‬
‫قا وقتئذ إلى بعض مذاهبه‪ ،‬فلما حاذاهما قال‪ :‬السسسلم عليكسسم!‬ ‫منطل ً‬
‫فرد جميًعا‪ ،‬ورمى ابن العمدة بنظرة‪ ،‬ثم مضسسى لسسوجهه فلسسم يجسساوز‬
‫غير بعيد حتى بلغه صوت الشاب يناديه‪ :‬يا فلن! فانكفأ إليسسه‪ ،‬فقسسال‬
‫له الشاب‪ :‬لقد بعد عهدك بالقوة على ما أرى‪ .‬قال‪ :‬فما ذاك؟ قال‪:‬‬
‫أما بلغك أن فلًنا في هذه القرية التي تجاوزنا سيقترن بزوجتسسه بعسسد‬
‫أيام‪ ،‬وأنت تعرف الموقعة السستي كسسانت بيسسد بلسسدنا وتلسسك البلسسدة يسسوم‬
‫عسرس فلن فسي السسنة الماضسسية‪ ،‬وكيسسف انسدفعوا علسى أهسسل بلسدنا‬
‫وحطموا فيهم تلك الحطمة الشسسديدة ولسسول أنسست أدركتهسسم ورميتهسسم‬
‫بنفسك حتى دفعتهم عن الناس وسقتهم أمامك سوق النعاج‪ ،‬لكانت‬
‫ل البلد‪ ،‬ولستطالوا علينسسا بسسأنهم غلبونسسا؛ ولقسسد حسسدثني‬ ‫بلدنا اليوم أذ ّ‬
‫سسسا وعشسسرين هسسراوة‪،‬‬ ‫صاحبي هذا كيف تلقيسست بهراوتسسك يسسومئذ خم ً‬
‫فأطرتهسسا كلهسسا فسسي جولتسسك‪ ،‬وهزمسست أصسسحابها بعسسد أن أحسساطوا بسسك‬
‫وتكلبوا عليك؛ فأنت فخر بلدنا وصاحب زعامتها‪ ،‬وما أرى لسسك إل أن‬
‫تنتهسسز هسسذه الفرصسسة وتسسسرع الوثنيسسة إليهسسم برجالسك‪ ،‬فتجزيهسسم فسسي‬
‫أرضهم صنيًعا بصنع مثله!‬
‫فهز الجمل كتفيه العريضتين وقال‪ :‬بل سأنتظرهم في يسسوم عرسسسي‬
‫بابنة عمي‪ !...‬قال الشاب‪ :‬أبلغسست مسسا أرى فإنسسك لتخسسافهم! قسسال‪ :‬ل‬
‫أخسسافهم ولكسسن أخسساف الحكومسسة أن تسسؤخر يسسوم زواجسسي‪ ...‬سسسنة أو‬
‫سنتين! قال الفتى‪ :‬فإن عملك هذا ل يشد من نفوس رجالنا‪ ،‬ول بسسد‬
‫أن أولئك سينتظرونكم ويعدون لكم‪ ،‬فإذا لم تنسساجزوهم فسسي بلسسدهم‬
‫عدوها عليكم هزيمة من الهزائم‪ ،‬وكأنهم ضربوكم بل ضرب!‬
‫قال الجمل‪ :‬هم ل يعرفون معنسسى الضسسرب بل ضسسرب؛ لنهسسم رجسسال؛‬
‫والذي يضرب بل ضرب ل يكون رجًل‪ ...‬والسلم عليكم! ثم انطلسسق‪،‬‬
‫فلما أبعد قال الشاب‪ :‬لقد بدأت الحسسرب ول بسسد لسسي أن أحطسسم هسسذا‬
‫الفلح اللعين! ولقد عرفت الن مسسن وجهسسه أن عينسسه علسسي‪ ،‬ولسسست‬
‫أشك في أن بنت عمه ل تمتنع بقوتها بل بقوته‪ ،‬ولسسول معرفسستي أنسسه‬
‫من انحطاط الغريزة كالوحش في الدفاع عن أنثاه لقسسال "إبليسسس"‪:‬‬

‫‪87‬‬
‫لقد تأملت القصة فرأيت أنه ل سبيل لك إلى الفتاة وهي بعسسد فتسساة‪،‬‬
‫فإذا هو وصل إلى امرأته قطعت أنت بهذه الخطسسوة نصسف الطريسسق‬
‫إليها‪ ...‬وستبلو هي مسسن غلظتسسه وخشسسونة طبيعسسة مسسا يسسسهل لسسك أن‬
‫تعلمها قيمة ظرفك ورقتك‪ ،‬وستجد من سوء معاملته وقبح تسسسلطه‬
‫ما يفتح قلبها لمن يأتيها قبل الرفق واللين‪ ،‬وستصب عنده من ضيق‬
‫المعيشة وقلتها ويبسها ما يفهمها معنى ذلك العيسسش الحلسسو الخضسسر‬
‫الذي تعرضه عليها؛ ثم إنه ل بد مبتليها بغيرته العمياء بعسد مسا عسرف‬
‫مسا وتنبسسه المسسرأة‬ ‫من حبك إياها‪ ،‬والغيرة منك هي توجسسدك بينهمسسا دائ ً‬
‫إليك كلما كرهت من رجلها شيًئا ل ترضاه‪.‬‬
‫ولم تكن إل مدة يسيرة حتى أهديت المرأة إلى زوجها‪ ،‬وإنما تعجسسل‬
‫الزفسساف ليسسأتي أنسسه أن ينصسسب يسسده القويسسة حجاب ًسسا بينهمسسا وبيسسن هسسذا‬
‫قا لم يكن له من قبل إذا هسسو مسسد‬ ‫المفتون‪ ،‬وليكتسب من القانون ح ّ‬
‫هذه اليد وعصر في قبضسستها تلسسك الرقبسسة السستي تتطلسسع إلسسى امرأتسسه؛‬
‫ورأى الشاب أن هذه الحال ل تعتدل به وبخصمه مًعا‪ ،‬وكانت الغيرة‬
‫تأكل من قلبه أكًل‪ ،‬وكان يعرض للمرأة كلما خرجسست بمكتلهسسا* إلسسى‬
‫السوق أو بجرتها إلى الماء؛ لنه حينئذ يكسسون فسسي الطريسسق السسذي ل‬
‫يملكه أحد‪ ..‬فكسسانت إذا رأتسسه لسسم تسسزد علسسى مسسا يكسسون منهسسا إذا هسسي‬
‫أبصسسرت حمسساًرا يمسسد عينسسه إليهسسا!‪ .‬فعمسسد إلسسى امسسرأة مقينسسة تسسزف‬
‫العرائس‪ ،‬وهي التي زفسست "خضسسراء" فأكرمهسسا وأتحفهسسا وسسسألها أن‬
‫تسعفه ببعض ما تحتال به‪ ،‬وأن يكسسون سسسبيله إلسسى المسسرأة؛ وتحمسسل‬
‫عليهسسا "بإبليسسسه" حسستى اسسستوثق منهسسا‪ ،‬فكسسانت تتحسسدث عنسسه أمسسام‬
‫"خضراء"؛ تستجر بذلك أن تلفتها إلى نعمته وجمسساله‪ ،‬ولكسسن المسسرأة‬
‫أغلظت لها وسبتها وحذرتها أن تعود إلى مثل كلمها‪ ،‬وقالت لها آخر‬
‫ما قسسالت‪ :‬واعلمسسي أننسي لسو دفعسست إلسى طريقيسسن وكسان ل بسد مسن‬
‫أحدهما‪ ،‬ثم كان أحدهما حصسساه السسدنانير وهسسو طريسسق العسسار‪ ،‬والخسسر‬
‫حصباؤه الجمر ويفضي إلى الشسسرف‪ ،‬إذن لتنزهسست أن أدنسسس نعلسسي‬
‫بالذهب ولنثرت لحم قدمي على الجمر نثًرا‪.‬‬
‫وا‪ ،‬وإمسسا خسساب‬ ‫دا‪ ،‬فإمسسا فسساز فسسبرد ورجسسع سسسل ً‬
‫والحب ل يبقى حب ّسسا أبس ً‬
‫ظا‪ ،‬ووجد‬ ‫فاضطرم وتحول إلى حقد ونقمة؛ وكذلك انفجر الشاب غي ً‬
‫على الخيبة موجدة شديدة‪ ،‬وأخذ يسسدير رأيسسه‪ ،‬ففتقسست لسسه الحيلسسة أن‬
‫يقتل الشهم بشهامته‪ ،‬والمرأة العفيفة بعفتها؛ فواطسسأ إبليسسسه علسسى‬
‫أن يدفع إلى تلك المقّينة منديًل من الحرير عقسسد طرفسسه علسسى دينسسار‬
‫من الذهب‪ ،‬تلقيه في صندوق "خضراء" وتدسه في طي من أطسسواء‬
‫ثيابها فذهبت المرأة‪ ،‬وما زالت بخضراء تستصلحها وتعتذر إليها حتى‬

‫‪88‬‬
‫استلت ضغينة قلبها‪ ،‬ثم سألتها أن تأتيها "بسسالعيش والملسسح" لتصسسيب‬
‫كلتاهما منه وتتحرم بحرمته؛ فلما نهضت تأتيها أسرعت الخبيثة إلسسى‬
‫دى‬ ‫الصندوق فدست المنديل فسسي أبعسسد مواضسسع وأخفاهسسا؛ وكسسان من س ّ‬
‫بالعطر؛ لينم على نفسه إذا لم ينم أحد عليه‪ ،‬ثم رجعسست بمسسا فعلسست‬
‫إلى الشاب‪ ،‬فأطلق خادمه يهمسس لبعسسض أصسدقاء الجمسل أنسه رأى‬
‫اليوم في يد "خضراء" ديناًرا ذهًبا على ندرة السسذهب وعزتسسه؛ فجعسسل‬
‫هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه‪ ،‬والحب‬
‫الذي أعطاه‪ ،‬والجمال الذي أخسسذه؛ ثسسم انتهسسى إلسسى الجمسسل‪ ،‬فكأنمسسا‬
‫حمله وطار به إلسسى داره كسسالمجنون وقسسد حمسسى دمسسه الحسّر‪ ،‬وجسساش‬
‫جأشه العنيف ولم تكن امرأته في الدار‪ ،‬فنثر ما في الصندوق‪ ،‬ومسسا‬
‫كادت تفعمه رائحة العطسسر حسستى نفسسخ الشسسيطان بهسسا نفخسسة الغضسسب‬
‫الكسسافر‪ ،‬ثسسم عسسثر علسسى المنسسديل‪ ،‬ورأى بصسسيص السسدينار‪ ،‬فسسدارت بسسه‬
‫الرض‪ ،‬وأيقن أن العار قد طرق ببابه‪ ،‬وأن الباب قد فتح لسسه؛ ثسسم رد‬
‫نفسه على مكروهها ورد معها كل شيء إلى موضسسعه‪ ،‬وتلقسسف رأيسسه‬
‫على جريمتين‪ ،‬وخرج وروحه تصرخ من ضسسربة بمنسسديل‪ ،‬وهسسو السسذي‬
‫كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشم منه ول يتأوه!‬
‫‪---------------‬‬
‫* هو ما يسمى الغلق‪.‬‬
‫وذكر أن "حماته" أثنت من عهد قريسسب علسسى ابسسن العمسسدة ووصسسفته‬
‫بالرقة والغنى‪ ،‬فوجه إليهسسا أن تسسأتي فتسسبيت عنسسد امرأتسسه؛ لنسسه علسسى‬
‫سفر‪ ،‬وكان كالعمى في ضللته‪ :‬ل يرى الشياء إل كما يتخيلهسسا فسسي‬
‫نفسه دون مسسا هسسي فسسي نفسسسها‪ ،‬فسسسألته زوجتسسه‪ :‬أيسسن أزمعسست مسن‬
‫سفرك وكم تلبث عنا؟ فكأنه سمعها تقول‪ :‬ارحسسل إلسسى مكسسان بعيسسد‬
‫وغب عنا زمًنا طويًل‪ ،‬فبنا إلى غيابك حاجة شديدة! وكاد يبطش بها‪،‬‬
‫ولكنه كاتم صدره اللوعة اسم جهة بعيسسدة ومضسسى النكسسسار يعسسرف‬
‫فيه!‬
‫فزع الناس بعد أيام في جوف الليل‪ ،‬فإذا بيسست الجمسسل يحسسترق مسسن‬
‫أرضسه وسسمائه‪ ،‬واقتحمسوه فسإذا المسرأة وأمهسا فحمتسان‪ :‬وانطلقست‬
‫أسرار اللسنة‪ ،‬وقبض على الرجل في بلد آخر‪ ،‬وتولى ابسسن العمسسدة‬
‫توجيه البينة عليه‪ ،‬وشهد الشهود علسى السدينار‪ ،‬وشسهد السدينار علسى‬
‫النار‪ ،‬وأنكر "الجمل" ولم يقصر في إقامة الحجة ودافع عسسن امرأتسسه‬
‫وبالغ في أمانتها وعفتها وشسسهد أنسسه ل يعلسسم عليهسسا مسسن سسسوء‪ ،‬وإنهسسا‬
‫قا!‬
‫أطهر النساء وأبّرهن‪ ،‬ثم كان الحكم أن قضى عليه بالموت شن ً‬

‫‪89‬‬
‫فلما كان يسسوم إنفسساذ الحكسسم سسسئل الرجسسل‪ :‬هسسل مسسن شسسيء تريسسده؟‬
‫فطلب دخينة* فقدمها له قيم السسسجن‪ ،‬فأشسسعلها ونفسسخ مسسن دخانهسسا‬
‫سا في نفسسس‪ ،‬وعسساد‬ ‫نفخة‪ .‬ثم أخذ يتكلم وعمره يفنى مع الدخينة نف ً‬
‫هذا الدخان المتطاير كأنه سحاب يسبح فيه الوحي بين حسسدود السسدنيا‬
‫وحدود الخرة؛ قال المسكين‪ :‬لم أتعلم‪ ،‬ولو تعلمت ما وقفسست هنسسا؛‬
‫ولكن ربما كنت خرجت نذًل كبعض المتعلمين الذين يعيشون أشراًفا‬
‫وفيهم أرواح القتلة واللصوص!‬
‫‪---------------‬‬
‫* وضعناها للسيجارة‪ ،‬وهي أليق اللفاظ بها‪.‬‬
‫لم أقر لحد بجريمتي خشية أن تذكر كلمة العار مع اسسسمي‪ ،‬وآثسسرت‬
‫أن أموت بالشنق على أن أحيا ويموت اسمي بالعار!‬
‫ولكني سسسأعترف الن أمسسامكم وأنتسسم السسساعة علسسى قسسبري‪ ،‬فكونسسوا‬
‫كالملئكة ل يشهدون بما عرفوا إل عند الله وحده‪.‬‬
‫أعترف أني قتلت زوجتي وأمها؛ وقد تقولسسون‪ :‬إنسسه ليسسس مسسن عمسسل‬
‫الرجل أن يقتل امسرأة فضسًل عسن اثنستين؛ إننسي رجسل سأشسنق‪ ،‬أمسا‬
‫النساء فل يشنقن وإنما يرسلن الرجال إلى المشنقة‪ ..‬لم أر أبي؛ إذ‬
‫تركني طفًل‪ ،‬ولكن يقال‪ :‬إنه كان رجًل‪ ،‬فأنا رجسسل وابسسن رجسسل‪ ،‬ولسسم‬
‫يذلني رجل قط‪ ،‬ولكن لو خلق الله قوة مائة جبار فسسي جسسسم رجسسل‬
‫واحد لذلته امرأة!‬
‫إنه ليس من شيمة الرجل أن يقتل النساء‪ ،‬ولكن المرأة تذل الرجل‬
‫ذًل يهون عليه قتل نفسه‪ ،‬فكيف ل يهون عليه قتلها؟‬
‫علموا المتعلمين ليصيروا في الشرف والمانة والعفة كرجسل جاهسسل‬
‫مثلي‪ :‬ل يرى للحياة كلها قيمة إذا كان فيها معنى العار‪ ،‬ويقدم عنقه‬
‫للمشنقة حتى ل ينكس رأسه للذل‪.‬‬
‫قا ويزهسسق الرواح الكسسبيرة‬ ‫أصلحوا القانون الذي يحكسسم بسسالموت شسسن ً‬
‫في حين تغلبه الرواح الصغيرة بحيلها الدنيئة!‬
‫ومع ذلك سألقى الله وهو يعلم سريرتي إن كنت بريًئا أو مجر ً‬
‫ما!‬
‫قيم السجن‪ :‬ستلقاه طاهًرا‪.‬‬
‫السجين‪ :‬أرأيتم مني خلق سوء؟ أتعتقد علي ذنًبا مدة سجني؟‬
‫القيم‪ :‬كلنا راضون عنك‪.‬‬
‫السجين‪ :‬هسسذا مثسسل مسسن أخلقسسي‪ ،‬والحمسسد للسسه علسسى أن آخسسر كلمسسة‬
‫أسمعها من إنسان على الرض‪ -‬كلمة الرضا‪.‬‬
‫دا رسول الله!‬ ‫أشهد أن ل إله إل الله وأن محم ً‬

‫‪90‬‬
‫نظرت ريشة من زغب العصفور إلى النجوم فحسبتها ري ً‬
‫شا متنسساثًرا‪،‬‬
‫فامتطت العاصفة وقالت‪ :‬إلى السماء! ودارت بها العاصفة ما شسساء‬
‫الله أن تدور‪ ،‬ثم رمت بها حيث وقعت لم تبسسال فسسي موضسسع نفسسع أم‬
‫ضر؛ فأقبلت الريشة تتسخط وتزعم أنها فوضى ثائرة ل حكمسسة فسسي‬
‫خلقها‪ ،‬وأن الرياح بعثرة في نظام العالم‪ ...‬وكان إلى جانبها شسسجرة‬
‫تهسستز ول تطيسسر‪ ...‬فلمسسا وعسست مقالتهسسا أقبلسست عليهسسا فقسسالت‪ :‬أيتهسسا‬
‫الريشة! إن الرياح ل تكون بعثرة في نظام العالم إل إذا كان العسسالم‬
‫ري ً‬
‫شا كله!‬

‫‪‬‬

‫‪91‬‬
‫القلب المسكين "‪"1‬‬

‫أقبل علي صاحبي الديب وقال‪ :‬انظسسر‪ ،‬هسسذه هسسي‪ ،‬وقسسد حلسست بهسسذا‬
‫البلد وما لي عهد بها منذ سنة‪ .‬ومسسد إلسسي يسسده فنظسسرت إلسسى صسسورة‬
‫ما‪ ،‬تتأود في غللة من اللذ*‪.‬‬ ‫امرأة كأحسن النساء وجًها وجس ً‬
‫وكأن شعاع الضحى في وجهها‪ ،‬وكأنها القمر طالًعا من غيمة‪ ،‬ويكسساد‬
‫صدرها يتنهد وهي صورة‪ ،‬وتبدو هيئة فمهسسا كأنهسسا وعسسد بقبلسسة‪ ،‬وفسسي‬
‫سسسا بينهسسا وبيسسن‬
‫عينها نظرة كالسسسكوت بعسسد الكلمسسة السستي قيلسست هم ً‬
‫محبها‪..‬‬
‫فقلت‪ :‬هذه صورة ما أراها قسد رسسمها إل اثنسان‪ :‬المصسور وإبليسسس؛‬
‫فمن هي؟ قسسال‪ :‬سسسلها‪ ،‬أمسسا تراهسسا تكسساد تثسسب مسسن الورقسسة؟ إنهسسا إل‬
‫تخسسبرك بشسسيء أخسسبرك عنهسسا وجههسسا أنهسسا أجمسسل النسسساء وأظرفهسسن‬
‫دا والذي بعد ذلك‪..‬‬ ‫وأحسن من شاهدت وجًها وأعيًنا‪ ،‬وثغًرا وجي ً‬
‫قلت‪ :‬ويحك‪ ،‬لقد شعرت بعدي‪ ،‬إن هذا شعر موزون‪:‬‬
‫دا والذي بعد ذلكا‪...‬‬ ‫وأحسن من شاهدت وجًها وأعيناوثغًرا وجي ً‬
‫مسسا مسسن‬‫قال‪ :‬إن شيطان هذه ل يكسسون إل شسساعًرا؛ ألسسست تسسراه ناظ ً‬
‫فنونها على الرسم شعًرا معجًزا كل شاعر؟‬
‫ضا شعر موزون‪:‬‬ ‫قلت‪ :‬وهذا أي ً‬
‫ما من فنونهاعلى الرسم شعًرا معجًزا كل شاعر‬ ‫ألست تراه ناظ ً‬
‫حسسا‬
‫قال‪ :‬بلى والله إنه الشيطان‪ ،‬إنه شيطانها‪ ،‬يريك لهذا الجسسسم رو ً‬
‫رشيقة‪ ،‬تلين كلين الجسم‪ ،‬بل هي أرشق‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬والقافية التي بعد هذا البيت‪ :‬وبها شقوا‪...‬‬ ‫قلت‪ :‬وهذا أي ً‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬انظر قصة صاحبة هذا القلب المسكين ص ‪" 239‬حياة الرافعسسي"‬
‫وهي هي صاحبة "الجمال البائس"‪.‬‬
‫‪ 2‬اللذ‪ :‬الحرير الصيني الرقيق‪ ،‬والغللة‪ :‬مثل القميسسص السسذي تحسست‬
‫الثياب‪.‬‬
‫فضحك صاحبنا وقال‪ :‬حرك الصسسورة فسسي يسسدك‪ ،‬فإنسسك سسستراها ومسسا‬
‫تشك أنها ترقص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الن انقطع شيطانك‪ ،‬فهذا ليس شعًرا ول يجيء منه وزن‪.‬‬
‫وتضاحكنا وضحك الشيطان‪ ،‬وظهر الوجه الجميل فسسي الرسسسم كسسأنه‬
‫يضحك‪.‬‬
‫قال صاحب القلب المسسسكين‪ :‬انظسسر إلسسى هسساتين العينيسسن‪ ،‬إنهسسا مسسن‬
‫العيون التي تفتن الرجل وتسحره متى نظرت إليه‪ ،‬وتعسسذبه وتضسسنيه‬

‫‪92‬‬
‫متى غابت عنه؛ إن في شعاعهما قدرة على وضع النور فسسي القلسسب‬
‫السعيد‪ ،‬كما أن في سوادهما القدرة على وضع الظلمة فسسي القلسسب‬
‫المهجور‪.‬‬
‫وانظر إلى هذا الفم‪ ،‬إلى هذا الفم الذي تعجز كل حسدائق الرض أن‬
‫تخرج وردة حمراء تشبهه‪.‬‬
‫وانظر إلى هذا الجيد تحته ذلسسك الصسسدر العسساري‪ ،‬فسسوقه ذلسسك السسوجه‬
‫المشرق؛ تلك ثلثة أنواع من الضوء‪ :‬أما الوجه ففيه روح الشسسمس‪،‬‬
‫وأما الجيد ففيه روح النجم‪ ،‬وأما الصدر ففيه روح القمر الضاحي‪.‬‬
‫انظر إلى هذه المسافة البيضاء من أعلى جبينها إلى أسسسفل نهسسديها‪،‬‬
‫تلك منطقة القبلت في جغرافيا هذا الجمال‪...‬‬
‫وانظر إلى الصدر يحمل ذينك الثديين الناهدين؛ إنسسه المعسسرض السسذي‬
‫اختسسارته الطبيعسسة مسسن جسسسم المسسرأة الجميلسسة للعلن عسسن ثمسسار‬
‫البستان‪...‬‬
‫انظر إلسسى النهسسدين لسسم بسسرزا فسسي صسسدر المسسرأة إل إذا كانسسا يتحسسديان‬
‫الصدر الخر‪...‬؟!‬
‫وانظسسر لهسسذا الخصسسر السسدقيق ومسسا فسسوقه ومسسا تحتسسه‪ ،‬أل تسسراه فتنسسة‬
‫متواضعة بين فتنتين متكبرتين‪...‬؟‬
‫انظر إليها كلهسا‪ ،‬انظسر إلسى كسل هسذا الجمسال‪ ،‬وهسذا السسحر‪ ،‬وهسذا‬
‫الغراء؛ أل ترى الكنز الذي يحول القلب إلى لص‪..‬؟‬
‫هذه مخلوقة مرتين‪ :‬إحداهما من الله في العالم‪ ،‬والخرى من حبي‬
‫أنا في نفسسسي أنسسا‪ :‬فكلمسسة "جميلسسة" السستي تصسسف المسسرأة التامسسة‪ ،‬ل‬
‫تصفها هي بعض الوصف؛ ورسمها هسسذا السسذي تسسراه هسسو حسسدود لتلسسك‬
‫الروح التي فيها قوة التسلط‪ ،‬وهيهات يظهر مسسن تلسسك السسروح إل مسسا‬
‫يظهر من الجمرة المشتعلة رسم هذه الجمرة في ورقة‪.‬‬
‫أشهد ما نظرت مسرة إلسى هسذا الرسسم ثسسم نظسسرت إليهسسا إل وجسسدت‬
‫الفرق بينها في نفسها وبينها في الصورة‪ ،‬كأنه اعتذار ناطق من آلة‬
‫التصوير بأنها ليست إل أداة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اللهم غفرا؛ ثم ماذا يا صديقي المجنون؟‬
‫ما‪ ،‬وكانت أفكاره تنفجر في دماغه انفجاًرا هنسسا‬ ‫فأطرق الديب مهمو ً‬
‫وانفجاًرا هناك؛ ثم رفع إلى رأسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫هذه الغانية قد حبسست أفكساري كلهسا فسي فكسرة واحسسدة منهسا هسي؛‬
‫وأغلقت أبواب نفسي ومنافذها إلى الدنيا‪ ،‬وألهبت في دمسسي جمسسرة‬
‫من جهنم فيها عذاب الحراق وليس فيها الحراق نفسه؛ كيل ينتهسسي‬
‫منها العذاب!‬

‫‪93‬‬
‫وبيننا حب بغير طريقة الحب‪ ،‬فإن طبيعتي الروحانية الكاملسسة تهسسوى‬
‫فيها طبيعتهسسا البشسسرية الناقصسسة‪ ،‬فأنسسا أمازجهسسا بروحسسي فأتسسألم لهسسا‪،‬‬
‫وأتجنبها بجسمي فأتألم بها‪.‬‬
‫حب عقيم مهما يكن من شيء فيه ل يكن فيه شيء من الواقع‪...‬‬
‫حب عجيب ل تنتفي منه آلمه ول تكون فيه لذاته‪.....‬‬
‫حب معقد ل يزال يلقي المسألة بعد المسألة‪ ،‬ثم يرفض الحل الذي‬
‫ل تحل المسألة إل به‪...‬‬
‫حسسب أحمسسق يعشسسق المسسرأة المبذولسسة للنسساس‪ ،‬ول يراهسسا لنفسسسه إل‬
‫قديسة ل مطمع فيها‪...‬‬
‫حب أبله ل يزال في حقائق الدنيا كالمنتظر أن تقع على شفتيه قبلة‬
‫من الفم الذي في الصورة‪...‬‬
‫حب مجنون كالذي يرى الحسناء أمام مرآتها فيقول لها اذهسسبي أنسست‬
‫وستبقي في هذه التي في المرآة‪...‬‬
‫قلت‪ :‬اللهم رحمة؛ ثم ماذا يا صاحبي المسكين؟‬
‫قال‪ :‬ثم هذه التي أحبها هي التي ل أريد الستمتاع بها ول أطيقه ول‬
‫أجد في طبيعتي جرأة عليه‪ ،‬فكأنهسسا السسذهب وكسسأني الفقيسسر السسذي ل‬
‫صسسا؛ يقسسول لسسه شسسيطان المسسال‪ :‬تسسستطيع أن تطمسسع؛‬ ‫يريد أن يكون ل ّ‬
‫ويقول له شيطان الحاجة‪ :‬وتستطيع أن تفعل؛ ويقول هو لنفسسسه‪ :‬ل‬
‫أستطيع إل الفضيلة!‬
‫إن عذاب هذا بشيطانين ل بشيطان واحد‪ ،‬غير أن لذته في انتصسساره‬
‫كلذة من يقهر بطلين كلهما أقوى منه وأشد‪.‬‬
‫وا؛ ثم ماذا يا قاهر الشيطانين؟‬ ‫قلت‪ :‬اللهم عف ً‬
‫فأطرق ملّيا كالذي ينظر في أمر قسسد حيسسره ل يتسسوجه لسسه فسسي أمسسره‬
‫وجه‪ ،‬ثم تنهد وقال‪ :‬يا طول علة قلبي! من أين أجيء لحلمي بغيسسر‬
‫ما تجيسسء الحلم بسسه‪ ،‬وإنمسسا هسسي تحسست النسسوم ووراء العقسسل‪ ،‬وفسسوق‬
‫الرادة؟ لقد بلغ بين هواها أن كل كلمة من كلم الحب في كتسساب أو‬
‫ي أنا‪..‬‬
‫رواية أو شعر أو حديث ‪-‬أراها موجهة إل ّ‬
‫مسسا‪ ،‬فهسسي فسسي ذلسسك‬ ‫ثم قال‪ :‬انطلق بنسسا فتراهسسا حسستى تعلسسم منهسسا عل ً‬
‫المسرح‪ ،‬هي في ذلك الشر‪ ،‬هي في تلك الظلمات‪ ،‬هي كاللؤلؤة ل‬
‫تتربى لؤلؤة إل في أعماق بحر‪.‬‬
‫وذهبنا إلى مسسرح يقسوم فسي حديقسة غنساء متراميسة الجهسات بعيسدة‬
‫الطراف‪ ،‬تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلة بمعاني‬
‫الهجر والعشق‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫وتقدمنا نسير فسسي الغبسسش‪ ،‬فقسسال صسساحبنا المحسسب‪ :‬إنسسي لشسسعر أن‬
‫الظلم هنا حي كأن فيه غوامض قلب كسسبير‪ ،‬فمسسا أرى فرقًسسا بيسسن أن‬
‫أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهم اللنهايسسة‪،‬‬
‫فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسسسرح لنراهسسا وهسسي مقبلسسة‪ ،‬فسسإن‬
‫رؤيتها سيدة غير رؤيتها راقصة‪ ،‬ولهذه جمال فن ولتلك فن جمال‪.‬‬
‫ولم نلبث إل يسيًرا حتى وافت‪ ،‬ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنما‬
‫تحترم أفكسسار النسساس‪ ،‬يزهوهسسا علسسى ذلسك إحسسساس نبيسسل كإحسسساس‬
‫الملكة الشاعرة بمحبة شعبها‪ ،‬وانتفض مجنونا وأغمض عينيسسه كأنهسسا‬
‫تمر بين ذراعيه ل في طريقها‪ ،‬وكسسأن لسسذة قربهسسا منسه هسسي الممكسسن‬
‫الذي ل يمكن غيره‪...‬‬
‫وكان عجًبا مسن العجسب أن تحسرك الهسواء فسي الحديقسة واضسطربت‬
‫أشجارها‪ ،‬فقال‪ :‬أنت ترى؛ فهذا احتجاج من راقصات الطبيعسسة علسسى‬
‫دخول هذه الراقصة! قلت‪ :‬آه يا صديقي! إن المرأة ل تكسسون امسسرأة‬
‫بمعانيها إل إذا وجدت في جو قلب يعشقها‪.‬‬
‫ونفذنا إلى المسرح‪ ،‬وتحرى صاحبنا موضًعا يكون فيسسه منظسسر العيسسن‬
‫من صاحبته ويكون مستخفًيا منها‪ ،‬ثم رفسسع السسستار عنهسسا بيسسن اثنيسسن‬
‫يكتنفانها‪ ،‬وقد لبسن ثلثتهن أثواب الريفيات‪ ،‬وظهرن كهيئتهن حيسسن‬
‫يجنين القطن‪.‬‬
‫وبرزت "تلك" في ثوب من الحرير السود‪ ،‬وهي بيضاء بياض القمسسر‬
‫حين يتم وقد شدت وسطها بمشدة من الحرير الحمر‪ ،‬فتحبكت بها‬
‫وظهرت شيئين‪:‬‬
‫أعلى وأسفل؛ ثم ألقت علسسى شسسعرها السسذهبي قلنسسسوة حمسسراء مسسن‬
‫ذلك الحرير أمالتها جانًبا فحبست شيًئا منه وأظهرت سائره‪ ،‬وأخذت‬
‫بيديها صفاقتين* وأقبل الثلث يرقصن ويغنين نشيد الفلحة‪.‬‬
‫لم أنظر إلى غيرها‪ ،‬فقد كانت صاحبتاها دليلين على جمالهسسا ل أكسسثر‬
‫ول أقل‪ ،‬وما أحسب الحرير الحمر‪ ،‬كان معها أحمر ول السود كسسان‬
‫عليها أسود‪ ،‬ول لون الذهب في معصمها كان لسسون السسذهب؛ كل كل‪،‬‬
‫هذه ألوان فوق الطبيعة؛ لن الوجه يشرق عليهسسا بالجمسسال والحيسساة‪،‬‬
‫وذلك الجسم يفيض لهسسا بالخفسسة والطسسرب وتلسسك السسروح تبعسسث فيهسسا‬
‫المرح والنشوة؛ هذا مزيج من خمر اللوان ل من اللوان نفسها‪.‬‬
‫وقال مجنوننا‪ :‬إن أجمل الجمال فسسي المسسرأة الفاتنسسة هسسو ذاك السسذي‬
‫يجعل لكل إنسان نوع شعوره بها‪ ،‬وأنا أشعر الساعة أن قلبي نصف‬
‫قلب فقط‪ ،‬وأن نصفه الخر في هذه وحدها؛ فما شعورك أنت؟‬

‫‪95‬‬
‫قلت‪ :‬يسسا صسسديقي‪ .‬إن اللسسه رحيسسم‪ ،‬ومسسن رحمتسسه أنسسه أخفسسى القلسسب‬
‫وأخفى بواعثه ليظل كسسل إنسسسان مخبسسوًءا عسسن كسسل إنسسسان؛ فسسدعني‬
‫مخبوًءا عنك!‬
‫قال‪ :‬ل بد!‬
‫سسسا‪ ،‬ومسسا‬
‫قلت‪ :‬إن المصباح في الموضسسع النجسسس ل يبعسسث النسسور نج ً‬
‫أشعر إل أن النور الذي في قلبي قد امتزج بالنور الذي في عينيها‪.‬‬
‫ثم كأنها أحست بأن إنساًنا قد امتل بها‪ ،‬فأدارت وجهها وهي ترقص‪،‬‬
‫فتلمحت صسساحبنا‪ ،‬وجعلسست تقطسسع الطسسرف بينهسسا وبينسسه كأنهسسا تعرفسسه‬
‫وتجهله‪ ،‬ثم تبينت إلحاح نظره فضحكت؛ لنها تعرفه ول تجهله!‬
‫أما هو‪ ،‬أما المجنون‪ ،‬أما صاحب القلب المسكين!‪....‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* الصسسفاقات‪ :‬هسسي السستي يقسسال لهسسا السسساجات‪ ،‬تكسسون فسسي أصسسابع‬
‫الراقصة‪ ،‬والكلمة واردة في كتاب الغاني‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪96‬‬
‫القلب المسكين "‪"2‬‬

‫‪ ...‬أمسسا صسساحب القلسسب المسسسكين فسسرأى الضسسحكة السستي ألقسست بهسسا‬


‫صاحبته وهي ترقص حين عرفتسسه ‪-‬غيسسر مسسا رأيتهسسا أنسسا وغيسسر مسسا رأى‬
‫ما عذًبا من فم جميسسل يتسسم جمسساله بهسسذه‬ ‫الناس‪ :‬كانت لنا نحن ابتسا ً‬
‫ما‬‫الصورة‪ ،‬وكانت له هو لغة من هذا الفم الجميل يتم بها حديًثا قسسدي ً‬
‫كان بينهما؛ واعترانا منها الطرب واعتراه منهسا الفكسر‪ ،‬ووصسفت لنسا‬
‫عا‬
‫عا من الشوق‪ ،‬ومرت علينسسا شسسعا ً‬ ‫عا من الحسن ووصفت له نو ً‬ ‫نو ً‬
‫في الضوء ووقعت في يده هو كبطاقة الزيارة عليها اسم مكتوب‪...‬‬
‫وقوي إحساس الراقصة الجميلة بعد ذلك فانبعث يسسدل علسسى نفسسسه‬
‫ضسسروريا مسسن الدللسسة الخفيسسة‪ ،‬ورجعسست بهسسذا الحسسساس كالحقيقسسة‬
‫الشعرية الغامضة المملوءة بفنون الرمز واليماء‪ ،‬وكأنها زادت بهسسذا‬
‫الغموض زيادة ظاهرة؛ وللمرأة لحظات تكسسون فيهسسا بكفريسسن حينمسسا‬
‫يكون أحد الفكرين ماثًل أمامها في رجل تهواه؛ ففسسي هسسذه السسساعة‬
‫تتحدث المرأة بكلم فيه صسسمت يشسسرح ويفسسسر‪ ،‬وتضسسطرب بحركسسة‬
‫فيهسسا اسسسترخاء يميسسل ويعتنسسق‪ ،‬وتنظسسر بألحسساظ فيهسسا انكسسسار يسسأمر‬
‫ويتوسل؛ وكانت هي في هذه الساعة‪ ...‬فغلبت ‪-‬والله‪ -‬على صاحبها‬
‫المسكين وتركت نفسه كأنها تقطع فيه من أسف وحسرة؛ ثم كانت‬
‫له كالزهرة العبقة‪ :‬بينه وبينها جمالها وعطرها هواؤها والحاسة التي‬
‫فيه‪.‬‬
‫وجعل يستشفها من خلل أعضائها‪ ،‬ثم قال لي‪ :‬أنظر ‪-‬ويحك‪ !-‬لكأن‬
‫ثيابها تضمها وتلتصق بها ضم ذي الهوى لمن يهوى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هي إل كهاتين اللتين ترقصان معها‪ :‬امرأة بين امرأتين وإن‬
‫كانت أحسن الثلث‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل‪ ،‬هذه وحدها قصيدة من أروع الشسسعر‪ ،‬تتحسسرك بسسدًل مسسن أن‬
‫تقرأ وترى بدًل من أن تسمع؛ قصيدة بل ألفاظ‪ ،‬ولكن من شاء وضع‬
‫ظا من دمه إذا هو فهمها بحواسه وفكره وشعوره‪.‬‬ ‫لها ألفا ً‬
‫قلت‪ :‬والخريان؟‬
‫قال‪ :‬كل كل‪ ،‬هذا فسسن آخسسر‪ ،‬فالواحسسدة مسسن هسسؤلء المسسسكينات إنمسسا‬
‫ترقص بمعدتها‪ ..‬ترقص للخبز ل غيسسر؛ أمسسا "تلسسك" فرقصسسها الطسسرب‬
‫عا من جسمها؛ إنها كالطاووس يتبخسستر‬ ‫عا على جسمها ومصنو ً‬ ‫مصنو ً‬
‫في أصباغه‪ .‬في ريشسسه‪ ،‬فسسي خيلئه‪ ،‬بخسسترة يضسساعفها الحسسسن ثلث‬
‫مرات؛ ولو خلق الله جسمين أحدهما من الجواهر أحمرها وأخضرها‬
‫وأصفرها وأزرقها‪ ،‬والخر من الزهار في ألوانها ووشيها‪ ،‬ثسسم اختسسال‬

‫‪97‬‬
‫الطاووس بينهما ناشًرا ذيلسه فسسي كبريسساء روحسه الملوثسة لظهسر فيسه‬
‫وحده اللون الملك بين ألوان هي رعيته الخاضعة‪.‬‬
‫وانتهى رقص الحسناء الفاتنة وغابت وراء السسستارة بعسسد أن أرسسسلت‬
‫قبلة في الهواء‪ ..‬فقسسال صسساحبنا‪ :‬آه! لسسو أن هسسذه الحسسسناء تصسسدقت‬
‫ما وقبلة‪..‬‬‫بدرهم على فقير‪ ،‬لجعلته لمسة يدها دره ً‬
‫قلت‪ :‬يا عدو نفسه! هذه قبلسسة محسسررة مسسسددة وقسسد رأيتهسسا وقعسست‬
‫ما في خصام بين نفسك وبين حقائق الحياة؛ تعشسسق‬ ‫هنا‪ ..‬ولكنك دائ ً‬
‫القبلة وتخاصم الفم الذي يلقيهسسا‪ ،‬وتبنسسي العسسش وتسستركه فارغ ًسسا مسسن‬
‫طيره؛ إن امرأة تحبك لبد منتهية إلى الجنسسون مسسا دامسست معسك فسسي‬
‫غير المفهوم وغير المعقول وغير الممكن‪.‬‬
‫ثم بدأ فصل آخر على المسرح‪ ،‬وظهر رجسسال ونسسساء وقصسسة؛ وكسسان‬
‫من هسسؤلء الرجسسال شسسيخ يمثسسل فقيهًسسا‪ ،‬وآخسسر يمثسسل شسسرطًيا؛ فقسسال‬
‫صاحبنا الفيلسوف‪ :‬لقد جاءت هذه الثياب فارغة وكأنهسسا الن تنطسسق‬
‫أن صحة أكثر الشياء في هذه الحيسساة صسسحة الظسساهر فقسسط‪ ،‬مسسا دام‬
‫الظاهر يخلع ويلبس بهذه السهولة؛ فكم ي هذه الدنيا من شرفاء لو‬
‫حققت أمرهم وبلوت البسساطن منهسسم‪ -‬إنمسسا يشسسرفون السسرذائل لنهسسم‬
‫يرتكبونها بشرف ظاهر‪ ..‬وكم من أغنياء ليس بينهم وبيسسن اللصسسوص‬
‫إل أنهم يسرقون بقانون‪ ..‬وكم من فقهاء ليس بينهسسم وبيسسن الفجسسرة‬
‫إل أنهم يفجرون بمنطسسق وحجسسة‪ ..‬ليسسست النسسسانية بهسسذه السسسهولة‬
‫التي يظنها من يظن‪ ،‬وإل ففيم كسسان تعسسب النبيسساء وشسسقاء الحكمسساء‬
‫وجهاد أهل النفوس؟‬
‫العقدة السماوية في هذه الرض أن الله ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬لم يخلسق‬
‫فا إنسانًيا‪ ،‬ثم أراه الخير والشر وقسسال‬ ‫فا تلطي ً‬
‫النسان إل حيواًنا ملط ً‬
‫له‪ :‬اجعل نفسك بنفسك إنساًنا وجئني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا عدو نفسه! فما تقول في حبك هذه الراقصة وأنسست حيسسوان‬
‫فا إنسانًيا؟‬
‫ملطف تلطي ً‬
‫قال‪ :‬ويحك! وهل العقدة إل هنا؟ فهذه مبذولة ممكنة‪ ،‬ثسسم هسسي لسسي‬
‫كالضرورة القاهرة‪ ،‬فل يكون حبها إل إغراء بنيلها‪ ،‬ول تكسسون سسسهولة‬
‫نيلها إل إغراء لذلك الغراء؛ فأنا منها لست في امرأة وحب‪ ،‬ولكنسسي‬
‫سا من نواميس الكسسون‪ ،‬وأدافسسع‬ ‫في امتحان شديد عسر؛ أغالب نامو ً‬
‫قانوًنا من قوانين الغريزة وأظهر قوتي على قوة الضرورة الميسرة‬
‫حا وقهًرا للنفس‪ ،‬من قيسسل‬ ‫فا وإلحا ً‬
‫بأسبابها‪ ،‬وهي أشد الضرورات عن ً‬
‫أنها ضرورة لزمة‪ ،‬وأنها مهيأة سهلة؛ فلو أن هسذه المسرأة المحبوبسة‬
‫كانت ممنعة بعيسدة المنسسال‪ ،‬لمسا كسانت لسسي فضسيلة فسسي هسذا الحسب‬

‫‪98‬‬
‫العنيف‪ ،‬ولكنها دانية ميسرة على الشغف والهوى؛ فهذا هو المتحان‬
‫لصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي!‬
‫ومر الفصل الذي مثلوه وما نشعر منه بتمثيسسل‪ ،‬فقسسد كسسان كالصسسورة‬
‫العقلية المعترضة للعقل وهو يفكر في غيرها‪ ،‬وكانت "الحقيقة" في‬
‫شيء آخر غير هذا؛ ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيسسه فسسن؛‬
‫وهذا هو سر كل امرأة محبوبة‪ ،‬فهي وحدها السستي تسسثير المحسسب فسسي‬
‫نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق‪ ،‬ويجد في معانيهسسا‬
‫جواب معانيه‪ ،‬وتأتيه كأنها صنعت له وحده‪ ،‬وتجعسسل لسسه فسسي الزمسسان‬
‫زمًنا قلبّيا يحصر وجوده في وجودها‪.‬‬
‫وليسسس فسسن الحسسب شسسيًئا إل اسسستطاعة الحسسبيب أن يجعسسل شسسهوات‬
‫المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقسسة عليسسه‪ ،‬كسسأن بسسه وحسسده ظهسسور‬
‫جسدية هذا الجسد وروحانية هذا الروح؛ وكل ما يتزين به المحبسسوب‬
‫للمحب‪ ،‬فإنما هو وسائل من المبالغة لظهار تلك المعاني التي فيه‪،‬‬
‫كيمسسا تكسسبر فيسسدركها المحسسب بدقسسة‪ ،‬وتثسسور فيحسسسها العاشسسق بعنسسف‬
‫وتستبد فيخضع لها المسكين بقوة‪.‬‬
‫والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب النسان‪ ،‬وهي تتبسسع فكسسره‬
‫وخياله؛ ول تفاوت بينهما إل بالقوة والضسسعف‪ ،‬أو التنبسسه والخمسسود‪ ،‬أو‬
‫الحسدة والسسسكون‪ ،‬غيسر أنهسا فسسي الحسسب تجسسد لهسا فكسًرا وخيساًل مسن‬
‫المحبوب‪ ،‬فتكون كأنها قد عبرت طبيعتها بسر مجهسسول مسسن أسسسرار‬
‫اللوهية؛ ومن هنا يتأله الحبيب وهو هو لم يزد ولم ينقص ولم يتغيسسر‬
‫ضا ويشرع شسسريعة مسسن‬ ‫ولم يتبدل‪ ،‬وتراه في وهم محبه يفرض فرو ً‬
‫حيث ل قيمة لفروضه وشريعته إل في الشهوة المؤمنة به وحدها‪.‬‬
‫ومن ثم ل عصسسمة علسسى المحسسب إل إذا وجسسد بيسسن إيمسسانين‪ ،‬أقواهمسسا‬
‫اليمان بالحلل والحرام؛ وبين خسسوفين‪ ،‬أشسسدهما الخسسوف مسسن اللسسه؛‬
‫وبين رغبتين‪ ،‬أعظمهما الرغبة في السمو‪.‬‬
‫فإن لم يكن العاشق ذا دين وفضسسيلة فل عصسسمة علسسى الحسسب إل أن‬
‫يكون أقسسوى اليمسسانين الحسسرص علسسى مكانسسة المحبسسوب فسسي النسساس‪،‬‬
‫وأشد الخوفين الخوف من القانون‪ ...‬وأعظم الرغبسستين الرغبسسة فسسي‬
‫نتيجة مشروعة كالزواج‪.‬‬
‫فإن لم يكن شيء مسسن هسسذا أو ذاك فقلمسسا تجسسد الحسسب إل وهسسو فسسي‬
‫جراءة كفرين‪ ،‬وحماقة جنونين‪ ،‬وانحطاط سسسفالتين؛ وبهسسذا ل يكسسون‬
‫في النسان إل دون ما هو في بهيمتين!‬
‫ثم جاء الفصسل الثسالث وظهسرت هسي علسى المسسرح‪ ،‬ظهسرت هسذه‬
‫قا لهسسا‪ ،‬فيرقصسسان فسسي‬ ‫المرة في ثوب مركزة أوروبية تخاصسسر عشسسي ً‬

‫‪99‬‬
‫أدب أوروبسسي متمسسدن‪ ...‬متمسسدن بنصسسف وقاحسسة؛ متسسأدب‪ ...‬متسسأدب‬
‫بنصف تسفل؛ مشروع‪ ...‬مشروع بنصف كفر؛ هو على النصسسف فسسي‬
‫كل شيء‪ ،‬حتى ليجعل العذراء نصف عذراء والزوجة نصف زوجة‪!..‬‬
‫وكان الذي يمثل دور العشيق فتسساة أخسسرى غلميسسة مجممسسة الشسسعر*‬
‫ممسوخة بين المرأة والرجل؛ فلما رآها صاحبنا قال‪ :‬هذا أفضل‪..‬‬
‫وهشت الحسناء وتبسمت وأخذت في رقصها البديع‪ ،‬فانفصسسل عنسسي‬
‫الصديق‪ ،‬وأهملني وأقبل عليهسسا بسسالنظرة بعسسد النظسسرة بعسسد النظسسرة‪،‬‬
‫كأنه يكرر غير المفهوم ليفهمه ورجع وإياها كأنه في عسسالم مسسن غيسسر‬
‫زمننا تقدمه عن عالمنا ساعة أو تؤخره سسساعة؛ وكسسانت جملسسة حسساله‬
‫كأنها تقول لي‪ :‬إن الدنيا الن امرأة! وكان من السسسرور كأنمسسا نقلسسه‬
‫الحب إلى رتبة آدم‪ ،‬ونقل صاحبته إلسسى رتبسسة حسسواء‪ ،‬ونقسسل المسسسرح‬
‫إلى رتبة الجنة!‬
‫دا علسسى‬ ‫والعجب أن القمر طلع في هذه السسساعة وأفسساض نسسوًرا جدي س ً‬
‫المسسسرح المكشسوف فسي الحديقسة‪ ،‬فكسسأنه فعسل هسذا ليتسم الحسسن‬
‫والحسسب؛ وأخسسذ شسسعاع القمسسر السسسماوي يرقسسص حسسول هسسذا القمسسر‬
‫الرضي‪ ،‬فكانت الصلة تامة وثيقسسة بيسسن نفسسس صسساحبنا وبيسسن الرض‬
‫والسماء والقمرين‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬المعجمات‪ :‬هي اللواتي يتخذن شعورهن جمسسة "بضسسم الجيسسم" أي‬
‫يقصصنها‪ ،‬كما يفعل نساء هذه اليام‪ ،‬تشبًها بالرجال؛ وقد كان ذلسسك‬
‫مما تصنعه نسسساء العسسرب ونهسسى السسسلم عنسسه كراهسسة لهسسذا التشسسبه؛‬
‫فقص الشعر "على المودة" هو التجميم‪.‬‬
‫ما هذا الوجه لهذه المرأة؟ إنسسه بيسسن اللحظسسة واللحظسسة يعسسبر تعسسبيًرا‬
‫دا بقسماته وملمحه الفتانسسة؛ كسسل البيسساض الخسساطف فسسي نجسسوم‬ ‫جدي ً‬
‫السماء يجول في أديمسسه المشسسرق‪ ،‬وكسسل السسسواد السسذي فسسي عيسسون‬
‫المها يجتمع في عينيه‪ ،‬وكل الحمرة التي في الورد هسسي فسسي حمسسرة‬
‫هاتين الشفتين‪.‬‬
‫ما هذا الجسم المتزن المتموج المفرغ كسسأنه يتسسدفق هنسسا وهنسسا؟ إنسسه‬
‫جسم كامل النوثة‪ ،‬إنه صسسارخ صسسارخ‪ ،‬إنسسه عسسالم جمسسال كمسسا تقسسول‬
‫الفلسفة حين تصسسف العسسالم‪ :‬فيسسه "جهسسة فسسوق" و"جهسسة تحسست"؛ لسسو‬
‫امتدت له يد عاشقه لجعل في خمس أصابعها خمس حواس‪...‬‬
‫ما هذا؟ لقد ختم الرقص بقبلة ألقاها الخليسسل علسسى شسسفتي الخليلسسة‪،‬‬
‫وكانت تركت خصرها في يديه وانفلتت تميل بأعلها راجعسسة برأسسسها‬

‫‪100‬‬
‫دا إلى الرض‪ ،‬هاربة بشفتيها من الفسسم‬ ‫دا روي ً‬
‫إلى خلف‪ ،‬نازلة به روي ً‬
‫دا؛ ليدرك الهارب‪...‬‬ ‫دا روي ً‬
‫المطل‪ ،‬وكان هذا الفم ينزل روي ً‬
‫قت القبلة‪ ،‬أمسسا هسسو‪ ،‬أمسسا‬
‫وقبل أن تقع القبلة التفتت لفتة إلي‪ ..‬ثم تل ّ‬
‫مجنوننا‪ ،‬أما صاحب القلب المسكين؟‪...‬‬
‫‪‬‬

‫‪101‬‬
‫القلب المسكين "‪"3‬‬

‫أما صاحب القلب المسكين فرمقها وهي تلتفت إليه التفات الظبيسسة‬
‫بسواد عينيها‪ :‬يجعل سوادهما الجميل في النظرة الواحسسدة نظرتيسسن‬
‫لعاشق الجمال‪ ،‬تقول إحداهما‪ :‬أنت‪ ،‬وتقسسول الخسسرى‪ :‬أنسسا‪ ،‬ثسسم رآهسسا‬
‫وقسسد كسسسرت أجفانهسسا وتفسسترت فسسي يسسدي الممثسسل العشسسيق وأفصسسح‬
‫منظرها ببلغة‪ ..‬بلغة جسم المرأة المحبوبة بين ذراعي مسسن تحبسسه؛‬
‫ثم اختلجت وصوبت وجهها‪ ،‬وأهدفت شفتيها‪ .‬وتلقت القبلة‪.‬‬
‫وكان به منها ما الله عليم بسسه‪ ،‬فسسانبعث مسسن صسسدره آهسسة معولسسة تئن‬
‫أنيًنا‪ ،‬غير أنها كلمته بعينيها أنها تقبله هسسو؛ فل ريسسب قسسد حملسست إليسسه‬
‫إحسسدى النسسسمات شسسيًئا جميًل عسسن ذلسسك الفسسم‪ ،‬لمسسست بسسه النفسسس‬
‫النفس‪ ،‬والقبلة هي هي ولكن وقع خطأ في طريقة إرسالها‪..‬‬
‫وليسسس تحسست الخيسسال شسسيء موجسسود‪ ،‬ولكسسن الخيسسال المتسسسرح بيسسن‬
‫الحبيبين تكون فيه أشياء كثيرة واجبة الوجود؛ إذ هو بطبيعته مجسسرى‬
‫أحلم من فكر إلى فكر‪ ،‬ومسرح شعور يصدر ويرد بين القلبين فسسي‬
‫حياة كاملة الحسسساس متجسساورة المعسساني؛ وبهسسذا الخيسسال يكسسون مسسع‬
‫القلبين المتحابين روح طسسبيعي كسسأنه قلسسب ثسسالث ينقسسل للواحسسد عسسن‬
‫الخر‪ ،‬ويصل السر بالسر‪ ،‬ويزيد في الشياء وينقسسص منهسسا‪ ،‬ويسسدخل‬
‫في غير الحقيقي فيجعله أكثر من الحقيقي؛ ومن هنا لسسم يكسسن فسسرح‬
‫ول حسسزن‪ ،‬ول أمسسل ول يسسأس‪ ،‬ول سسسعادة ول شسسقاء‪ ،‬إل وكسسل ذلسسك‬
‫مضاعف للمحب الصادق الحب بقسسدر قلسبين؛ والسذين يعرفسسون قبلسة‬
‫الشغف والهوى‪ ،‬يعرفون أن العاشق يقبل بلدة أربع شفاه‪.‬‬
‫وانسسسدلت بعسسد هسسذه القبلسسة سسستارة المسسسرح‪ ،‬وغسسابت الجميلسسة‬
‫المعشسسوقة غيبسسة التمثيسسل فقلسست لصسساحب القلسسب المسسسكين‪ :‬إن‬
‫روحيكما متزوجتان‪ ..‬قال‪ :‬آه! ومدها من قلبه كأنه دنف سقيم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا بعد آه؟‬
‫قال‪ :‬وماذا كان قبلها؟ إنه الحب‪ :‬فيه مثل ما في "عمليسسة جراحيسسة"‬
‫من تنهدات اللم ولذعاته‪ ،‬غير أنها مفرقة على الوقسسات والسسسباب‪،‬‬
‫مبعسسثرة غيسسر مجموعسسة! "آه" هسسذه هسسي الكلمسسة السستي ل تفسسرغ منهسسا‬
‫القلوب النسانية‪ ،‬وهي تقسال بلهفسسة واحسدة فسسي المصسيبة الداهمسسة‪،‬‬
‫وللسسم البسسالغ‪ ،‬والمسسرض المسسدنف والحسسب الشسسديد؛ الشسسديد؛ فحينمسسا‬
‫توشك النفس أن تختنق تتنفس "بآه"!‬
‫قلت‪ :‬أما رأيتها مرة وقد أوشكت نفسها أن تختنق‪...‬؟‬

‫‪102‬‬
‫ما؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في‬ ‫قال‪ :‬لقد هجت لي داء قدي ً‬
‫زمني غرس الشجر‪ ،‬فبين الحين والحين تثمر هسسذه السسساعات مرهسسا‬
‫وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف؛ ولقد رأيتها ذات مسسرة‬
‫في ساعة همها! ثم ضحك وسكت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا عدو نفسه! ماذا رأيت منهسسا؟ وكيسسف أراك الوجسسد مسسا رأيسست‬
‫منها؟‬
‫قال‪ :‬أتصدقني؟ قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬رأيت الهم على وجه هذه الجميلة كأنه هم مسسؤنث يعشسسقه هسسم‬
‫مذكر؛ فله جمال ودلل وفتنة وجاذبية‪ ،‬وكأن وجهها يصنع من حزنهسسا‬
‫حزنين‪ :‬أحدهما بمعنى الهم لقلبها‪ ،‬والخر بمعنى الثورة لقلبي!‬
‫قلت‪ :‬يا عدو نفسه! هذا كلم آخر؛ فهذه امرأة ناعمسسة بضسسة مطسسوي‬
‫بعضها علسسى بعضسها‪ ،‬لفسساء مسسن جهسسة هيفسساء مسسن جهسسة‪ ،‬ثقيلسسة شسسيء‬
‫وخفيفة شيء‪ ،‬جمعت الحسسسن والجسسسم وفن ًسسا بارع ًسسا فسسي هسسذا وفن ّسسا‬
‫دا في ذاك؛ وهي جميلة كل ما تتأمل منها‪ ،‬ساحرة كل ما تتخيل‬ ‫مفر ً‬
‫فيها‪ ،‬وهي مزاحسسة دحداحسسة* وهسسي تطالعسسك وتطعمسسك؛ وأنسست امسسرؤ‬
‫عاشق ورجل قسوي الرجولسة؛ فالجميلسة والمسرأة همسا لسك فسي هسذا‬
‫الجسم الواحد‪ ،‬إن ذهبت تفصلهما في خيالك امتزجتا في دمك؛ ولو‬
‫أمسكت آلة التصوير نظراتك إليها لبانت فيها أطراف اللهب الحمسسر‬
‫مما في نفسك منهسا؛ ولعمسري لسو مسرت عربسة تسدرج فسي الطريسق‬
‫ونظسسرت إليهسسا نظرتسسك لهسسذه المسسرأة بهسسذه الغريسسزة المحتسسسبة‬
‫جسا يطسارد‬ ‫قا مهتا ً‬
‫المكفوفة** لظننتك سسترى العجلسسة الخلفيسة عاشس ً‬
‫العجلة المامية وهي تفر منه فرار العذراء!‬
‫‪---------------‬‬
‫* هسسذه كلمسسة اسسستعملها بعسسض المولسسدين فسسي معنسسى الظريفسسة‬
‫"المدرجة"‪ ،‬وليس كذلك معناها في اللغة‪ ،‬ولكن السسستعمال صسسحيح‬
‫عندنا واللغة ل تأباه‪.‬‬
‫** يستعمل الكتاب في هسسذا المعنسسى لفسسظ "المكبوتسسة"‪ ،‬وهسسو تعسسبير‬
‫ضعيف‪ ،‬والفصح ما ذكرنا هنا‪.‬‬
‫فضحك وقال‪ :‬ل‪ ،‬ل؛ إن نوع التصوير لنسان هو نسسوع المعرفسسة لهسسذا‬
‫النسان‪ ،‬ومن كل حبيب وحبيبة تجتمسسع مقدمسسة ونتيجسسة بينهمسسا تلزم‬
‫في المعنى‪ ،‬والمقدمة عندي أن إبليسسس هنسسا فسسي غيسسر إبليسسّيته‪ ،‬فل‬
‫يمكن أن تكون النتيجسة وضسعه فسي إبليسسته؛ ومسا أتصسور فسي هسذه‬
‫الجميلة إل الفن الذي أسبغه الجمال عليهسسا‪ ،‬فهسي معرفسستي وخيسالي‬

‫‪103‬‬
‫كالتمثال المبدع إبداعه‪ :‬ل يستطيع أن يعمسسل عمًل إل إظهسسار شسسكله‬
‫الجميل التام حافًل بمعانيه‪.‬‬
‫وليست هذه المرأة هي الولى ول الثانية ول الثالثة فيمن أحببسست ‪1‬؛‬
‫دا‪ ،‬وهسسو هسسذه المعسساني‬ ‫إنها تكرار وإيضاح وتكملة لشيء ل يكمسسل أب س ً‬
‫النسوية الجميلة التي يزيد الشيطان فيها من عشق كل عاشسسق؛ إن‬
‫بطن المرأة بلد‪ ،‬ووجه المرأة يلد!‬
‫قلت‪ :‬هذا إن كان وجهها كوجه صاحبتك‪ ،‬ولكن ما بال الدميمة؟‬
‫قال‪ :‬ل‪ ،‬هذا وجه عاقر‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الخطأ في فلسفتك هذه أنسسك تنظسسر إلسسى المسسرأة نظسسرة‬
‫عملية تريد أن تعمل‪ ،‬ثم تمنعها أن تعمل‪ ،‬فتأتي فلسفتك بعيدة مسسن‬
‫الفلسفة‪ ،‬وكأن تغذو المعدة الجائعة برائحة الخبز فقط‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم هذا خطأ‪ ،‬ولكنه الخطأ الذي يخسرج الحقسسائق الخياليسة مسن‬
‫هسسذا الجمسسال؛ فسسإذا سسسخرت مسسن الحقيقسسة الماديسسة بأسسسلوب فبهسسذا‬
‫السلوب عينه تثبت الحقيقة نفسها في شكل آخر قسسد يكسسون أجمسسل‬
‫من شكلها الول‪.‬‬
‫أتعلم كيف كانت نظرتي إلى نور القمر على هذه وإلى حسسسن هسسذه‬
‫على القمر؟ إن القمر كان ينسيني بشريتها فأراهسسا متممسسة لسسه كسسأنه‬
‫ينظر وجهه في مرآة‪ ،‬فهي خيال وجهه؛ وكسسانت هسسي تنسسسيني ماديسسة‬
‫ما له كأنه خيال وجهها‪.‬‬ ‫القمر فأراه متم ً‬
‫أتدري ما نظرة الحب؟ إن في هذا القلب النساني شرارة كهربائيسسة‬
‫ظا كشافة‪ ،‬وزادت فسسي الحسسواس‬ ‫متى انقدحت زادت في العين ألحا ً‬
‫أضواء مدركة؛ فينفذ العاشق بنظسسره وحواسسسه جميعًسسا فسسي الحقسسائق‬
‫الشياء‪ ،‬فتكون له على الناس زيادة في الرؤية وزيسسادة فسسي الدراك‬
‫ما فيما يسسراه ومسسا يسسدركه؛ وبهسسذه الزيسسادة الجديسسدة علسسى‬ ‫يعمل بها ع ّ‬
‫النفس تكون للدنيا حالسسة جديسدة فسي هسسذه النفسس؛ ويسأتي السسرور‬
‫ضا؛ فألف قبلة يتناولها ألف عاشسسق مسسن‬ ‫دا أي ً‬
‫دا ويأتي الحزن جدي ً‬ ‫جدي ً‬
‫ألف حبيب‪ ،‬هي ألف نوع من اللذة ولو كانت كلها في صورة واحدة؛‬
‫ولو بكى ألف عاشق من هجر ألف معشوق لكان في كل دمسسع نسسوع‬
‫من الحزن ليس في الخر!‬
‫قلت‪ :‬فنوع تصورك لهذه الراقصة التي تحبها‪ ،‬أن إبليس هنا في غير‬
‫إبليستيه!‬
‫قال‪ :‬هكذا هي عندي‪ ،‬وبهذا أسخر من الحقيقة البليسية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أو تسخر الحقيقة البليسية منك‪ ،‬وهو الصح وعليه الفتوى‪...‬؟‬

‫‪104‬‬
‫فضحك طويًل‪ ،‬وقال‪ :‬سأحدثك بغريبة‪ :‬أنت تعرف أن هسسذه الغسادة ل‬
‫دا إل في الحرير السود؛ وهي رقيقة البشرة ناصسسعة اللسسون‪،‬‬ ‫تظهر أب ً‬
‫فيكون لها من سواد الحريسسر بيسساض البيسساض وجمسسال الجمسسال؛ فلقسسد‬
‫كنت أمس بعد العشاء في طريقي إلسسى هسسذا المكسسان لراهسسا‪ ،‬وكسسان‬
‫ما يتدجى‪ ،‬وقد لبس وتلبس وغلب على مصسسابيح الطريسسق‬ ‫الليل مظل ً‬
‫فحصر أنوارها حتى بين كسل مصسباحين ظلمسة قائمسة كسالرقيب بيسن‬
‫الحبيبين يمنعهما أن يلتقيا؛ فبينا أقلب عيني في النور والغسسسق وأنسسا‬
‫في مثل الحالة التي تكون فيها الفكار المحزنة أشسسد حزن ًسسا ‪-‬إذ رفسسع‬
‫لي من بعيد شبح أسود يمشسسي مشسسيته متفسستًرا قصسسير الخطسسو يهسستز‬
‫ويتبختر؛ فتبصرته في هيئته فما شككت أنها هي‪ ،‬وفتحت الجنة التي‬
‫في خيالي وبرزت الحقائق الكثيرة تلتمس معانيها مسسن لسسذة الحسسب؛‬
‫وكان الطريق خالًيا‪ ،‬فأحسست به لنا وحسسدنا كالمسسسافة المحصسسورة‬
‫بين ثغريسن متعاشسسقين يسسدنو أحسسدهما مسسن الخسسر‪ ،‬وأسسسرعت إسسسراع‬
‫القلب إلى الفرصة حين تمكن؛ فلما صرت بحيث أتبين ذلسسك الشسسبح‬
‫إذا هو‪ ..‬إذا هو قسيس‪..‬‬
‫فقلت‪ :‬يا عجًبا! ما أظرف ما داعبك إبليس هذه المرة! وكأنه يقسسول‬
‫لك‪ :‬إيه يا صاحب الفضيلة‪...‬‬
‫وكان الممثلون يتناوبون المسرح ونحن عنهم في شغل؛ إذ لم تكسسن‬
‫نوبتها قد جاءت بعد؛ وألقى الشيطان على لسسساني فقلسست لصسساحبنا‪:‬‬
‫ما يمنعك أن تبعث إليها فلًنا يستفتح كلمها ثم يدعوها‪ ،‬فليس بينسسك‬
‫وبينها إل كلمة "تعالي" أو تفضلي؟‬
‫قال‪ :‬كل‪ ،‬يجب أن تنفصل عني لراها فسسي نفسسسي أشسسكاًل وأشسسكاًل؛‬
‫ويجب أن تبتعد للمسها لمسات روحية؛ ويجب أن أجهل منها أشسسياء‬
‫لحقق فيها علم قلبي؛ ويجب أن تدع جسسسمها وأدع جسسسمي وهنسساك‬
‫نلتقي رجًل وامرأة ولكن على فهم جديد وطبيعة جديدة‪ .‬بهذا الفهسسم‬
‫أنا أكتب‪ ،‬وبهذه الطبيعة أنا أحب!‬
‫ما هو الجزء الذي يفتنني منها؟ هو هذا الكل بجميع أجزائه‪.‬‬
‫وما هو هذا الكل؟ هو الذي يفسر نفسه في قلبي بهذا الحب‪.‬‬
‫وما هو هذا الحب؟ هو أنا وهي على هذه الحالة من اليأس‪.‬‬
‫نعم أنا بائس‪ ،‬ولكن شعور البؤس هو نوع مسسن الغنسسى فسسي الفسسن‪ :‬ل‬
‫يكون هذا الغنى إل من هذا الشعور المؤلم‪ ،‬والحسسبيب السسذي ل تنسساله‬
‫هو وحده القادر قدرة الجمال والسحر؛ يجعلك ل تسسدري أيسسن يختسسبئ‬
‫منه جماله فيدعك تبحث عنه بلذة؛ ول تدري أين يسسسفر جمسساله منسسه‬

‫‪105‬‬
‫فيدعك تراه بلذة أخرى؛ أنا أنضج هسسذه الحلسسوى علسسى نسسار مشسسبوبة‪،‬‬
‫على نار مشبوبة في قلبي!‬
‫قلت‪ :‬يسسا صسسديقي المسسسكين! هسسذه مشسسكلة عرضسست بهسسا المصسسادفة‬
‫ضسسا‪ .‬ومسسا كسسان أشسسد عجسسبي إذ لسسم أفسسرغ مسسن‬
‫وستحلها المصسسادفة أي ً‬
‫الكلمة حتى رأينا "المشكلة" مقبلة علينا‪.‬‬
‫أما هو‪ :‬أما صاحب القلب المسكين‪...‬؟‬

‫‪‬‬

‫‪106‬‬
‫القلب المسكين "‪"4‬‬

‫أما صاحب القلب المسكين فما كاد يرى الحبيبة وهي مقبلة تتيممنسسا‬
‫حتى بغته ذلك‪ ،‬فساوره القلق‪ ،‬واعتراه ما يعتري المحسسب المهجسسور‬
‫قا جفسساه الحسسبيب‬‫إذا فاجأه فسسي الطريسسق هسساجره؛ أرأيسست مسسرة عاشس ً‬
‫وامتنع عليه دهًرا ل يراه‪ ،‬وصسسارمه مسسدة ل يكلمسسه‪ ،‬فنسسزع نسسومه مسسن‬
‫ليله‪ ،‬وراحته من نهاره‪ ،‬ودنياه من يده‪ ،‬وبلغ به مسسا بلسسغ مسسن السسسقم‬
‫والضسسنى‪ ،‬ثسسم بينسسا هسسو يمشسسي إذ بسساغته ذلسسك الحسسبيب منحسسدًرا فسسي‬
‫الطريق؟‬
‫إنك لو أبصرت حينئذ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة‬
‫الخفقان‪ ،‬وكأنه في ضرباته متلعثم يكرر كلمة واحدة‪ :‬هي هي هي‪..‬‬
‫ولو نفذت إلى حس هذا البائس لرأيته يشعر مثسسل شسسعور المحتضسسر‬
‫أن هذه الدنيا قد نفته منها!‬
‫ولو اطلعت على دمه في عروقه لبصرته مخذوًل يتراجع كسسأن السسدم‬
‫الخر يطرده‪.‬‬
‫إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته فسسي خيبسسة‪ ،‬فيسسرد‬
‫عليه الحب مسسع كسسل شسسهوة نوع ًسسا مسسن السسذل‪ ،‬فيكسسون بسسإزاء الحسسبيب‬
‫كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة‪.‬‬
‫لحظسسة ل يشسسعر المسسسكين فيهسسا مسن البغتسسة والتخسساذل والضسسطراب‬
‫والخوف إل أن روه وثبت إلى رأسه هو هوت فجأة إلى قدميه!‬
‫غير أن صاحبنا نحن لم يكن مهجوًرا من صاحبته‪ ،‬ولكن من عجسسائب‬
‫دا بالعسساطفتين المختلفسستين؛ إذ كسسان‬ ‫الحب أنه يعمل أحياًنسا عمًل واحس ً‬
‫ما على حدد السراف مسسا دام حب ّسسا‪ ،‬فكسسل شسسيء فيسسه قريسسب مسسن‬ ‫دائ ً‬
‫ما لن يقابل بتهمة الكذب مسسن‬ ‫ضده‪ ،‬والصدق فيه من ناحية مهيأ دائ ً‬
‫الناحية الخرى‪ ،‬واليقين معد له الشك بالطبيعة؛ والحب نفسه قضاء‬
‫على العدل‪ ،‬فإنه ل يخضع لقانون مسسن القسسوانين‪ ،‬والحسسبيب ‪-‬مسسع أنسسه‬
‫حبيب‪ -‬يخافه عاشقه من أجل أنه حبيب!‬
‫وقد يصفر العاشق لمباغتة اللقاء كما يصسسفر لمباغتسسة الهجسسر‪ ،‬وهسسذه‬
‫كانت حال صاحبنا عندما رآها مقبلسسة عليسسه؛ وكسسان مسسع ذلسسك يخشسسى‬
‫إلمامتها به‪ ،‬توقًيا على نفسه مسسن ظنسسون النسساس؛ وأكسسثر مسسا يحسسسنه‬
‫الناس هو أن يسيئوا الظن؛ وهو رجل ذو شأن ضخم‪ ،‬ومقالة السوء‬
‫إلى مثله سريعة إذا رؤي مع مثلهسسا‪ ،‬وكأنهسسا هسسي ألمسست بكسسل هسسذا أو‬
‫طالعها به وجهه المتوقر المتزمت؛ فعدلت عن طريقها إلينا ووقفت‬

‫‪107‬‬
‫على رئيس فرقة الموسيقى‪ ،‬وما بيننا وبينها إل خطوات؛ ورأيتها قسسد‬
‫هيأت في عينيها نظرة غاضبتنا بها‪ ،‬ثم لم تلبث أن صالحتنا بأخرى!‬
‫وكأنها ألقت لرئيس الموسيقى أمًرا ليتأهب أهبته لدورها‪ ،‬ثسسم همسست‬
‫أن ترجع‪ ،‬ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناهسسا إلينسسا؛ فقسسال صسساحبنا‬
‫وأعجبه ذلك من فعلها‪ :‬إنها نبيلة حتى في سقوطها!‬
‫ول أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى‪ ،‬ولكن هسسذا الرجسسل لسسم‬
‫يظهر لي وقتئذ إل كأنه تليفون معلق!‬
‫كانت عيناها إلى صاحبها ل تنسسزلن عنسسه ول تتحسسولن إلسسى غيسسره‪ ،‬ول‬
‫تسارقه النظر بل تغلبه عليه مغالبة؛ ورأيتسسه كسسذلك قسسد ثبتسست عينسساه‬
‫عليها فخيل إلي أن هذا الوجود قد انحصسسر جمسساله بيسسن أربعسسة أعيسسن‬
‫ما مخبوًءا تحت هذه النظرات‪،‬‬ ‫عاشقة؛ وكانت تطارحه ويطارحها كل ً‬
‫وقد نسيا ما حولهما‪ ،‬وشعرا بما يشعر به كل حبيسسبين إذا التقيسسا فسسي‬
‫بعضه لحظات السسروح السسسامية‪ :‬أن هسسذا العسسالم العظيسسم ل يعمسسل إل‬
‫الثنين فقط‪ :‬هو وهي‪..‬‬
‫وكسسان فمهسسا الجميسسل ل يسسزال يسسساقط ألفسساظه لرئيسسس الموسسسيقى‪،‬‬
‫ما تحفظسسه مسسن‬ ‫وكأنها تسرد له حكاية مروية‪ ،‬أو تعارض بحافظته كل ً‬
‫كلم التمثيل أو الغناء؛ فهسسي تتحسسدث وعيناهسسا مفكرتسسان شاخصسستان‪،‬‬
‫فلم ينكر الرجل هيئتها هذه؛ ولكن كيف كانت عيناها؟‬
‫ما‪ ،‬حسستى لحسسسبت أن‬ ‫لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كل ً‬
‫هذه النظرات الولى تهتف من بعيد‪ :‬أنت يا أنت!‬
‫ثم بدا في عينيها فتور الظمأ‪ ،‬ظمأ الحب المتكبر المتمرد؛ لنه حسسب‬
‫المرأة المعشوقة‪ ،‬ولن له لذتين‪ ،‬إحداهما فسسي أن يبقسسى ظمسسأ إلسسى‬
‫حين‪..‬‬
‫ثم أرسلت اللحاظ التي تتوهج أحياًنا فوق كلم المرأة الجميلسسة فسسي‬
‫بعض حالتها النفسية‪ ،‬فتضرم في كلمها شسسرارة مسسن السسروح تظهسسر‬
‫الكلم كأنه يحرق ويحترق‪..‬‬
‫ثم توجعت النظرات؛ لنها تصلها بالرجل السسذي ل يشسبه الرجسال‪ ،‬فل‬
‫يستوهب خضوعها ول يشتريه؛ والرجل كل الرجل عند هسسذه المسسرأة‬
‫هو الذي ل يشسسبه البسساقين ممسسن تعرفهسسم‪ ،‬فسسإذا أحبهسسا فكأنمسسا أحبهسسا‬
‫عذراء خفرة لم تمسسس‪ ،‬وكسسأنه مسسن ذلسسك يصسسلها بماضسسيها وطهارتهسسا‬
‫وحياتها وما ل يمكن أن تتمثله إل في مثل حبه‪.‬‬
‫ثم ذبلت عيناها الجميلتسسان‪ ،‬ومسسا هسسو ذبسسول عينسسي امسسرأة تنظسسر إلسسى‬
‫محبها؛ إنه هو استسلم فكرهسسا لفكسسرة‪ ،‬أو عنسساد معنسسى فيهسسا لمعنسسى‬

‫‪108‬‬
‫فيه‪ ،‬أو توكيد خاطرة تحتاج إلى التوكيد؛ ومسسرة هسسو كقولهسسا‪ :‬لمسساذا؟‬
‫وتارة هو كقولها‪ :‬أفهمت؟ وأحياًنا‪ ،‬وأحياًنا هو انتهاء مقاومة‪.‬‬
‫وتمت الحكاية المروية التي كانت تلقيهسسا للتليفسسون‪ ..‬فكسسرت راجعسسة‬
‫إلى المسرح بعد أن صاحت نظراتها مرة أخرى كما بسسدأت‪ :‬أنسست يسسا‬
‫أنت‪ ..‬فقلت لصاحبنا‪ :‬ويحك يا عدو نفسه! لو اختار الشيطان عينين‬
‫ساحرتين ينظسسر بهمسسا إليسسك نظسسر الفتنسسة‪ ،‬لمسسا اختسسار إل عينيهسسا‪ ،‬فسسي‬
‫وجهها‪ ،‬في هيئتها‪ ،‬في موقفها؛ وأراك مع هذا كمنتظر ما ل يوجد ول‬
‫يمكن أن يوجد؛ وأراها معك في حبها كالحيوان الليف إذا طمسع فسي‬
‫المستحيل‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما هو المستحيل الذي يطمع فيه الحيوان الليف؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك يطمع في أن تكون له حقسسوق علسسى صسساحبه فسسوق اللفسسة‬
‫والمنفعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد أغمضت في العبارة فبين لي شيًئا من البيان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هب كلبة تألف صاحبها وتحبه فهي له ذليلسسة مطسسواع‪ ،‬ثسسم يبلسسغ‬
‫بها الحب أن تطمع في أن يكون لها تمام الشرف‪ ،‬فل يقول صاحبها‬
‫عنها‪ :‬هذه كلبتي‪ ،‬بل يقول‪ :‬هذه زوجتي‪..‬‬
‫قسسال‪ :‬وي منسسك! وي منسسك* لقسسد ضسسربت علسسى رأس المسسسمار كمسسا‬
‫يقولون هذا هو المستحيل الذي بيني وبينها‪ ،‬هذا هو المثسسل‪ .‬يسسا لفسسظ‬
‫الحلوى! يا لفظ الحلوى! لو كررتك بلساني ألف مرة فهل تضع فسسي‬
‫لساني طعمها‪..‬؟‬
‫قلت‪ :‬خفض عليك يسسا صسساحب القلسسب المسسسكين‪ ،‬فلسسست أكسسثر مسسن‬
‫عاشق‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل أنا مع هذه أكثر من عاشق؛ لن في العاشق راغًبا وفي أنسسا‬
‫راهب‪ ،‬وفيه الجريء وفي المنكمش‪ ،‬ويغسترف الغرفسة مسن الشسلل‬
‫المتحدر فيحسوها فيرتوي وأغسسترف أنسسا الغرفسسة بيسسدي‪ ،‬وأبقيهسسا فسسي‬
‫يدي‪ ،‬وأطمع أن تهدر في يدي كالشلل أنسسا أكسسثر مسسن عاشسسق؛ فسسإنه‬
‫يعشق لينتهي من ألم الجمال‪ ،‬وأعشق أنا لستمر في هذا اللم!‬
‫‪---------------‬‬
‫* أي عجب‪ ،‬يتعجب من فطنته‪.‬‬
‫هذه هذه؛ العجيب يا صديقي أن خيال النسان يلتقسسط صسسوًرا كسسثيرة‬
‫من صور الجمال تجيء كما يتفق‪ ،‬ولكنه يلتقط صورة واحدة بإتقان‬
‫عجيب‪ ،‬هي صورة الحب؛ فهذه هذه‪.‬‬
‫ألم أقل لسك إن إبليسس هنسسا فسسي غيسسر حقيقتسه البليسسسية ولسم تفهسم‬
‫علي*؟ فافهم الن أننا إن كنا ل نرى الملئكة فسسإنه ليخيسسل إلينسسا أننسسا‬

‫‪109‬‬
‫نراها فيمن نحبهم؛ وما دام سر الحب بيسسدل الزمسسن والنفسسس ويسسأتي‬
‫بأشياء من خارج الحياة‪ ،‬فكل حقائق هذا الحب في غير حقيقتها‪.‬‬
‫هذه هذه؛ ل أطلب في غيرها امرأة أجمل منهسسا‪ ،‬فهسسذا كالمسسستحيل‪،‬‬
‫ضسسا؛‬
‫ولكني ألتمس فيها هي امرأة أطهر منهسسا‪ ،‬وهسسذا كالمسسستحيل أي ً‬
‫إنها أجمل جسم‪ ،‬ولكن وا أسفاه! إنهسا أجمسسل جسسسم للمعسساني السستي‬
‫يجب أن أبتعد عنها!‬
‫وسكت صاحبنا؛ إذ رفعت ستارة المسرح وظهرت هي مسسرة أخسسرى‪،‬‬
‫ظهرت في زينة ل غاية بعسسدها‪ ،‬تمثسسل العسسروس ليلسسة جلوتهسسا؛ أل مسسا‬
‫أمّرها سخرية منك أيتها المسكينة! عروس ولكن لمن؟‬
‫كسسانت تسسبرق علسسى المسسسرح كأنهسسا كسسوكب دري نسسوره نسسور وجمسسال‬
‫وعواطف شعر‪.‬‬
‫وأقبلت تتمايل بجسم رخص لين مسترسل العطاف يتدفق الجمال‬
‫والشباب فيه من أعله إلى أسفله‪.‬‬
‫وأظهر وجهها حسًنا وأبدى جسمها حسًنا آخر‪ ،‬فتم الحسن بالحسن‪.‬‬
‫واقفة كالنائمة‪ ،‬فالجو جو الحلم‪ ،‬وكان الحب يحلم‪ ،‬وكسسان السسسرور‬
‫يحلم!‬
‫مهسستزة كسسالموج فسسي المسسوج‪ ،‬هسسل خلقسست روح البحسسر فسسي جسسسمها‬
‫المترجرج فشيء يعلو وشيء يهبط وشيء يثور ويضطرب؟‬
‫ثم دقت الموسيقى بألحانهسا المتكلمسة‪ ،‬ودقست أعضساء هسذا الجسسم‬
‫بألحانها المتحركة‪ ،‬وأحسسنا كسسأن روح الحديثسسة جالسسسة بيننسسا تنظسسر‬
‫إليها وتتعجب‪ .‬تتعجب من قوامها للغصن الحسسي‪ ،‬ومسسن بسسدنها للزهسسر‬
‫الحي‪ ،‬ومن عطرها للنسيم الحي‪.‬‬
‫أما صاحب القلب المسكين‪..‬‬

‫‪‬‬

‫‪110‬‬
‫القلب المسكين* "‪"5‬‬

‫أما صاحب القلب المسكين فتزعزعت كبده مما رأى؛ وجعسسل ينظسسر‬
‫إلى هذه الفتانة تمثل العسسروس وقسسد أشسسرق فيهسسا رونقهسا وسسسطعت‬
‫ولمعت‪ ،‬فبدت له مفسرة في هذه الغلئل غلئل العرس؛ وما غلئل‬
‫العرس؟‬
‫إنها تلك الثياب التي تكسو لبستها إلى ساعة فقط‪ ..‬ثياب أجمل مسسا‬
‫فيها أنها تقدم الجمال إلى الحب‪ ،‬فأزهى ألوانها اللون المشرق مسسن‬
‫روح لبستها‪ ،‬وأسطع النوار عليها‪ ،‬النور المنبعث من فرح قلبين‪.‬‬
‫تلك الثياب التي تكون سكًبا من خالص الحريسسر ورفيسسع الخسسز‪ ،‬وحيسسن‬
‫تلبسها مثل هذه الفاتنة تكاد تنطق أنها ليست مسسن الحريسسر؛ إذ تعلسسم‬
‫أن الحرير ما تحتها‪.‬‬
‫ثم تنهد المسكين وقال‪ :‬أفهمت؟‬
‫قلت‪ :‬فهمت ماذا؟‬
‫قال‪ :‬هذا هو انتقامها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا عجب ًسسا! أتريسسدها فسسي ثيسساب راهبسسة مكبكبسسة فيهسسا كمسسا ألقيسست‬
‫البضاعة في غرارة‪ ،‬بين سواد هو شعار الحداد على النوثة الهالكسسة‪،‬‬
‫وبياض هو شعار الكفن لهذه النوثة؟‬
‫قال‪ :‬أنت ل تعرفها؛ إن الرواية التي تمثل فيها بين السروح والجسسم‪،‬‬
‫هي التي احتاجت إلى هذا الفصل يقسسوى بسسه المعنسسى؛ وكسسل عاشسسقة‬
‫فعشقها هو الرواية التي تمثل فيها‪ ،‬يؤلفها هذا المؤلف السسذي اسسسمه‬
‫الحب‪ ،‬ول تدري هي ماذا يصنع وماذا يؤلسسف‪ ،‬غيسسر أنسسه ل يفتسسأ يؤلسسف‬
‫ويصسسنع وينفسسع كمسسا تتنسسزل بسسه الحسسال بعسسد الحسسال‪ ،‬وكمسسا تعسسرض بسسه‬
‫المصادفة بعد المصادفة؛ وعليها هي أن تمثل‪..‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬نرجح أن يكون القراء قد أدركوا الغرض في كتابة هسسذه المقسسالت‬
‫على هذا السرد الذي وصسسفته لنسسا إحسسدى الدبيسسات بسسأن "فيسسه أشسسياء‬
‫مادية" فنحن نرمي إلى تصوير الغزيرة ثسسائرة مهتاجسسة بكسسل أسسسباب‬
‫الثورة والهتياج‪ ،‬ولكنها مكفوحة بأسباب أخرى من الدين والشسسرف‬
‫والمروءة وفلسفة العقل‪..‬‬
‫ما؟‬
‫قلت‪ :‬فهذا؛ ولكن كيف يكون هذا انتقا ً‬
‫قال‪ :‬إن الفكار أشياء حقيقية‪ ،‬ولسسو كشسسف لسسك الجسسو هسسذه السسساعة‬
‫لرأيته مسطوًرا عبارات عبارات كأنه مقالة جريدة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫هذا الفصل حوار طويسسل فسسي الهمسسوم واللم ورقسسة الشسسوق وتهالسسك‬
‫الصبوة‪ ،‬ولو كتسسب لسسه عنسسوان لكسسان عنسسوانه هكسسذا‪ :‬مسسا أشسسهاها ومسسا‬
‫أحظاها! إن الهواء بين كل عاشقين متقاتلين يأخذ ويعطي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬يا عدو نفسه! ما أعجب ما تدّقق! لقد أدركت الن أن المسسرأة‬
‫تتسلح بما شاءت‪ ،‬ل من أجل أن تسسدافع‪ ،‬ولكسسن لتزيسسد أسسسلحتها فسسي‬
‫سلح من تحبه‪ ،‬فتريده قوة على قهرها وإخضاعها‪..‬‬
‫ظا تحدها فهسسي تظهسسر‬ ‫أما هذه "العروس" فكانت أفكارها ل تجد ألفا ً‬
‫كيفما اتفسسق‪ ،‬مرسسسلة إرسسساًل فسسي اللفتسسة والحركسسة والهيئة والقومسسة‬
‫والقعدة‪ ،‬وهي من علمست؛ امسرأة تعيسش للحقسائق‪ ،‬وبيسن الحقسائق‪،‬‬
‫ككل ذي صنعة في صنعته فكانت في تماديهسا خطسر أي خطسر علسى‬
‫صاحب القلب المسكين‪ ،‬تمثل شيًئا ل أدري أهو ظاهر بخفائه أم هو‬
‫ف بظهوره؛ وقد وقع صسساحبنا منهسسا فيمسسا لسسم يسسدخل فسسي حسسسابه‪،‬‬ ‫خا ٍ‬
‫فكانت الخبثة الماجنة كأنها تسسسكره بمسسسكر حقيقسسي‪ ،‬غيسسر أنسسه مسسن‬
‫جسمها ل من زجاجة خمر‪.‬‬
‫وكانت لذهنه المتخيل كالسحابة الممتلئة بالبرق؛ تومض كسسل لحظسسة‬
‫بأنوار بعد أنوار‪ ،‬وبين الفترة والفترة ترمي الصاعقة‪.‬‬
‫وظهرت كأنها امرأة مخلوقة مسسن دم ولهسسب؛ فلقسسد أيقنسست حينئذ أن‬
‫الحب إن هو إل الغريزة البهيمية بعينهسسا محاولسسة أن تكسسون شسسيًئا لسسه‬
‫وجود فني إلى وجسسوده الطسسبيعي‪ ،‬فهسسو مصسسيبتان فسسي واحسسدة‪ ،‬وكسسل‬
‫عمله أن يجعل اللذة ألذ‪ ،‬واللم أشد‪ ،‬والقلسسة كسسثرة‪ ،‬والكسسثرة أكسسثر‪،‬‬
‫وما هو نهاية كأنه ل نهاية‪..‬‬
‫هذه "العروس" كانت قبل الن واقفة على حدود صسساحبها‪ ،‬أمسسا الن‬
‫فإنها تقتحم الحدود وتغزو غزوها وتمتلك‪...‬‬
‫يا لسحر الحب من سحر! كل مسسا فسسي الطبيعسسة مسسن جمسسال تظهسسره‬
‫الطبيعة لعاشقها في إحدى صسور الفهسم‪ ،‬أمسا الحسبيب الجميسل فهسو‬
‫وحده الذي يظهر لعاشقه في كل صور الفهم‪ ،‬وبهسسذا يكسسون السسوقت‬
‫معه أوقاًتا مختلفة متناقضة‪ ،‬ففي ساعة يكسسون العقسسل وفسسي سسساعة‬
‫يكون الجنون‪.‬‬
‫يا لسحر الحب! لقد أرادت هذه المرأة أن تذهب بعقل صاحبها‪ ،‬وأن‬
‫تنقله إلى وحشية النسان الول الكامن فيه‪ ،‬وأن تقذف به إلى بعيد‬
‫بعيد وراء فضائله وعصمته؛ فسسسنحت لسسه كمسسا يسسسنح الصسسيد للصسسائد‬
‫يحمل في جسمه لحمه الشهي‪ ..‬وتركت شعوره جائًعا إلى محاسنها‬
‫بمثل جوع المعدة‪ ..‬وبرزت له صريحة كما هي‪ ،‬ولما هي؛ ومن حيث‬
‫إنها هي هي؛ وكل ذلك حين ألبست جسمها ثياب الحقيقة المؤنثة‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫آه من "هي" إذا امتلت الهاء والياء من قلسسب رجسسل يحسسب! وآه مسسن‬
‫"هي" إذا خرجت هذه الكلمة من لغة الناس إلى لغة رجل واحد!‬
‫إن في كل امرأة‪ ..‬امرأة يقال لها "هسسي"‪ 1‬باعتبسسار الضسسمير للتسسأنيث‬
‫فقسسط‪ ،‬كمسسا يعتسسبر فسسي الدابسسة والحشسسرة والدارة ونحوهسسا مسسن هسسذه‬
‫المؤنثات التي يرجع عليها هذا الضسسمير؛ ولكسسن "هسسي" المفسسردة فسسي‬
‫الكون كله ل توجد في النساء إل حين يوجد لها "هو"‪..‬‬
‫أنا أنا الذي يقص للقراء هسسذه القصسسة‪ ،‬قسسد كابسسدت مسسن شسسدة الحسسب‬
‫دا؛ وكسسانت لسسي‬ ‫وإفراط الوجد ما يفعم قلسسبين مسسسكينين ل قلب ًسسا واحس ً‬
‫"هي" من إلهيات عانيت فيها الحب واللم دهًرا طسسويًل؛ وقسسد ذهبسست‬
‫مسسا‪ ،‬أو مسسذهًبا يخسسل‬‫بسسي فسسي هواهسسا كسسل مسسذهب إل مسسذهًبا يحسسل حرا ً‬
‫بمروءة؛ ولقد علمت أن الشيء السامي في الحب هو أل يخرج من‬
‫العاشق محرم‪.‬‬
‫فالشأن كل الشأن أن يستطيع الرجل الفصل بيسسن الحسسب مسسن أجسسل‬
‫جمال النثى يظهر عليها‪ ،‬وبيسسن الحسسب مسسن أجسسل النسسثى تظهسسر فسسي‬
‫جمالها؛ فهو في الولى يشهد اللهية في إبسسداعها السسسامي الجميسسل‪،‬‬
‫وفي الخرى ل يرى غير البشرية حيوانيتها المتجملة‪..‬‬
‫وقد أدركسست مسسن فلسسسفة الحسسب أن الحقيقسسة الكسسبرى لهسسذا الجمسسال‬
‫الزلي الذي يمل العالم ‪-‬قد جعلت حنين العشق فسسي قلسسب النسسسان‬
‫هو أول أمثلتها العملية في تعليمسسه الحنيسسن إليهسسا إن شسساء أن يتعلسسم‪،‬‬
‫فكما يحب إنسان بروح الشهوة يحب إنسان آخر بروح العبادة؛ وهذا‬
‫دا للتوجه‬‫هو الذي يسميه الفلسفة‪" :‬تلطيف السر"‪ ،‬أي جعله مستع ً‬
‫إلى النور والحق والخير‪ ،‬وقد عدوا فيما يعيسسن عليسسه‪ ،‬الفكسسر السسدقيق‬
‫والعشق العنيف‪.‬‬
‫وكذلك تبينت مما علمني الحب أن طرد آدم وحواء مسسن الفسسردوس‪،‬‬
‫كان معناه ثقل معسساني الفسسردوس وعرضسسها لكسسل آدم وحسسواء يمثلن‬
‫الرواية‪ ..‬فإذا "قطفا الثمرة" طردا مسن معسساني الجنسسة*‪ ،‬وهبسط بعسد‬
‫ذلك من أخيلة السماء إلى حقائق الرض‪.‬‬
‫نعم هو الحب شيء واحد في كل عاشق لكل جميل‪ ،‬غير أن الفسسرق‬
‫بين أهله يكسسون فسسي جمسساله العمسسل أو قبسسح العمسسل؛ وهسسذه النفسسوس‬
‫مصانع مختلفة لهذه المادة الواحدة؛ فالحب في بعضسسها يكسسون قسسوة‬
‫فا؛ وفسسي نفسسس يكسسون الهسسوى حيواني ّسسا يراكسسم‬ ‫وفي بعضها يكون ضسسع ً‬
‫الظلم على الظلمة في الحياة‪ ،‬وفسسي أخسسرى يكسون روحاني ّسسا يكشسف‬
‫الظلم عن الحياة‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫والمعجزة في هذا النسان الضعيف أنه مع طبيعة كل شيء طبيعيسسة‬
‫الحساس به‪ ،‬فهو مستطيع أن يجد لذة نفسه في اللم‪ ،‬قسسادر علسسى‬
‫أن يأخذ هبة من معاني الحرمان؛ وبهذه الطبيعة يسمو مسسن يسسسمو‪،‬‬
‫ليسساء تسسأتي‬
‫وهي على أتمها وأقواها في عظماء النفوس‪ ،‬حتى لكأن ا ِ‬
‫هؤلء الظلمة سائلة‪ :‬ماذا يريدون منها؟‬
‫فمن أراد أن يسمو بالحب فليضعه فسسي نفسسسه بيسسن شسسيئين‪ :‬الخلسسق‬
‫ل مسسن شسسيئين‪:‬‬ ‫الرفيع‪ ،‬والحكمسسة الناضسسجة؛ فسسإن لسسم يسسستطع فل أقس ّ‬
‫الحلل‪ ،‬والحرام**‪.‬‬
‫أنا أنا الذي يقص للقراء هسسذه القصسسة‪ ،‬أعسسرف هسسذا كلسسه‪ ،‬وبهسسذا كلسسه‬
‫فهمت قول صاحب القلب المسكين‪ :‬إن ظهور صسساحبته فسسي فصسسل‬
‫العروس هو انتقامها‪ ،‬حاصرت عيناهسسا عينسسه‪ ،‬وزحفسست معانيهسسا علسسى‬
‫معسسانيه‪ ،‬وقسساتلت قتسسال جسسسم المسسرأة المحبوبسسة فسسي معركسسة حبهسسا‪،‬‬
‫وبكلمة واحدة‪ :‬كأنما ليست هذه الثياب لتظهر له بل ثياب‪..‬‬
‫وأردت أن أعيبها بما صنعت نفسها له‪ ،‬وأن أعيبه هو بدخوله فيمسسا ل‬
‫يشبهه‪ ،‬وقلت في غير طائل ول جدوى‪ ،‬فمسسا كنسست إل كالسسذي يعيسسب‬
‫الورد بقوله‪ :‬يا عطر الشذى‪ ،‬ويا أحمر الخدين!‬
‫وقد أمسك عن جوابي‪ ،‬وكانت محاسنها تجعل كلماتي شوهاء‪ ،‬وكان‬
‫ي غامضة‪ ،‬وكسسانت حلوتهسا تجعسل أقسوالي مسرة‪،‬‬ ‫وضوحها يجعل معان ّ‬
‫وكانت ثياب العروس وهسسي تسسزف تريسسه ألفسساظي فسسي ثيسساب العجسسوز‬
‫المطلقة؛ وكلما غاضسسبته مسسع نفسسسه أوقعسست هسسي الصسسلح بينسسه وبيسسن‬
‫نفسه‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* أي طرًدا كالطرد من الجنة‪.‬‬
‫** بسطنا هذا المعنى في المقالة الثانية من هسسذه المقسسالت علسسى وجسسه‬
‫آخر‪.‬‬
‫والعجيب العجيب في هذا الحب أن فتح العينين علسسى الجميسسل المحبسسوب‬
‫دا إل‬
‫هو نوع من تغميضهما للنوم ورؤيا الحلم؛ ليس إل هذا‪ ،‬ول يكون أب ً‬
‫هذا؛ فمهما أعطت من جدل فإقناعك المحب المستهام كإقناعسسك النسسائم‬
‫المستثقل؛ وكيف وله ألفاظ من عقله ل من عقلك‪ ،‬وبينك وبينسسه نسسسيانه‬
‫إياك‪ ،‬وقد تركك على ظاهر الدنيا وغاص هو في دنيا باطنه ل يملك فيهسسا‬
‫أخ ً‬
‫ذا ول رًدا إل ما تعطي وما تمنع‪.‬ثسم ‪ ....‬ثسم غسسابت "العسروس" بعسسد أن‬
‫نظرت له وضحكت‪.‬ضحكت بحزن‪ ..‬حزن الذي يسسخر مسن حقيقسة؛ لنسه‬
‫يتألم من حقيقة غيرها؛ وكسسان منظرهسسا الجميسسل المنكسسسر فلسسسفة تامسسة‬
‫مصورة للخير الذي اعتدى عليه الشر فأحاله‪ ،‬والرادة التي أكرهها القدر‬

‫‪114‬‬
‫فأخضسسعها‪ ،‬والعفسسة المسسسكينة السستي أذلتهسسا ضسسرورة الحيسساة‪ ،‬والفضسسيلة‬
‫المغلوبة التي حيل بينها وبين أن تكون فضيلة!‬
‫ويا ما كان أجملها ناظرة بمعسساني البكسساء ضسساحكة بغيسسر معسساني الضسسحك؛‬
‫تتنهد ملمح وجهها وفمها يبتسم!‬
‫قا بسسأن قلبهسسا الحزيسسن يسسسأل سسسؤاًل أبسسداه علسسى وجههسسا‬
‫كان منظرها ناط ً‬
‫بلطف ورقة؛ كان يسأل إنساًنا‪ :‬أل تحل هذه العقدة؟‪...‬‬
‫وانقضى التمثيل وتناهض الناس‪ .‬أما صاحب القلب المسكين؟‪..‬‬

‫‪‬‬
‫القلب المسكين "‪"6‬‬

‫أما صسساحب القلسسب المسسسكين فقسسام؛ ليخسسرج وقسسد تفسسارطته الهمسوم‬


‫وتسابقت إليه فانكسسسر وتفسستر؛ وكأنمسسا هسسو قسسد فسسارق صساحبته باكي ًسسا‬
‫وباكية من حيث ل يرى بكاءه غيرها ول يرى بكاءها غيره!‬
‫ورأيته ينظر إلى ما حوله كأنما تغشى الدنيا لون نفسسسه الحزينسسة؛ إذ‬
‫كانت نفسه ألقت ظلها على كل شيء يراه؛ وجعل يدلف ول يمشي‬
‫كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه‪.‬‬
‫ف وزًنا من الدمع‪ ،‬ولكن النفوس المتألمة ل تحمل أثقل‬ ‫إنه ليس أخ ّ‬
‫منه‪ ،‬حتى لينثر على النفس أحياًنا وكأنه وكأنها بناء قائم يتهدم علسسى‬
‫جسم؛ وبعض التنهدات على رقتها وخفتها‪ ،‬قد تشعر بها النفس فسسي‬
‫بعض همها كأنها جبل من الحزان أخذته الرجفة فمادت به‪ ،‬فتقلقل‪،‬‬
‫فهو يتفلق ويتهاوى عليها‪.‬‬
‫آه حين يتغيسسر القلسسب فيتغيسسر كسل شسيء فسي رأي العيسن! لقسسد كسسان‬
‫صاحبنا منذ قليل وكأن كل سرور في الدنيا يقول له‪ :‬أنسسا لسسك! فعسساد‬
‫الن وما يقول له‪" :‬أنسسا لسسك" إل الهسسم؛ والتقسسى هسسو والظلم والعسسالم‬
‫الصامت!‬
‫جعل يدلف ول يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه؛ ومتى وقع‬
‫الطائر من الجو مكسور الجناح‪ ،‬انقلبت النواميس كلها معطلة فيسسه‪،‬‬
‫وظهر الجو نفسسسه مكسسسوًرا فسسي عيسسن الطسسائر المسسسكين؛ وتنفصسسل‬
‫روحه عن السماء وأنوارهسا‪ ،‬حستى لسو غمسره النسور وهسو ملقسى فسي‬
‫التراب لحسه على التراب وحده ل على جسمه‪..‬‬
‫ثم خرجنا‪ ،‬فانتبه صاحبنا مما كان فيه؛ وبهذه النتباهة المؤلمة أدرك‬
‫ما كان فيه على وجه آخر‪ ،‬فتعذب به عذابين‪ :‬أمسسا واحسسد فلنسسه كسسان‬
‫ولم يدم وأما الخر فلنه زال ولم يعد؛ والسسسرور فسسي الحسسب شسسيء‬

‫‪115‬‬
‫غير السرور الذي يعرفه الناس؛ إذ هسسو فسسي الول روح تتضسساعف بسسه‬
‫الروح‪ ،‬فكل ما سرك وانتهى شعرت أنه انتهى؛‬
‫ولكن ما ينتهي من سرور العاشق المستهام يشعره أنسسه مسسات‪ ،‬فلسسه‬
‫م الثكل‪ ،‬وله في نفسه هم الثكسسل وحسسزن‬ ‫في نفسه حزن الموت وه ّ‬
‫الموت!‬
‫وينظر صاحب القلب المسكين فإذا النوار قد انطفأت في الحديقة‪،‬‬
‫ضا كأنما كان فيه مسرح وأخذوا يطفئون أنواره‪.‬‬ ‫وإذا القمر أي ً‬
‫كان وجه القمر في مثل حزن وجه العاشق المبتعد عن حسسبيبته إلسسى‬
‫دا‪ ،‬تتخايل فيه معسساني السسدموع‬ ‫أطراف الدنيا‪ ،‬فكان أبيض أصفر مكم ً‬
‫التي يمسكها التجلد أن تتساقط‪.‬‬
‫كسسان فسسي وجسسه القمسسر وفسسي وجسسه صسساحبنا معًسسا مظهسسر تسسأثير القسسدر‬
‫المفاجئ بالنكبة‪.‬‬
‫وبدت لنا الحياة تحت الظلمسسة مقفسسرة خاويسسة علسسى أطللهسسا‪ ،‬فارغسسة‬
‫كفراغ نصف الليل من كل ما كان مشرًقا في نصسسف النهسسار؛ يسسا لسسك‬
‫ما وضوًءا‬ ‫من ساحر أيها الحب؛ إذ تجعل في ليل العاشق ونهاره ظل ً‬
‫ليسا في اليام والليالي!‬
‫أما الحديقة فلبسها معنى الفراق‪ ،‬وما أسرع ما ظهرت كأنما يبست‬
‫كلهسسا لتوهسسا وسسساعتها‪ ،‬وأنكرهسسا النسسسيم فهسسرب منهسسا فهسسي سسساكنة‪،‬‬
‫وتحولت روحها خشبية جافسسة‪ ،‬فل نضسسرة فيهسسا علسسى النفسسس؛ وبسسدت‬
‫أشجارها في الظلم‪ ،‬قائمة في سوادها كالنائحات يلطمن ويولسسولن‪،‬‬
‫مسسا حيسسن تنبسست الصسسلة بيسسن‬‫وتنكر فيها مشسسهد الطبيعسسة كمسسا يقسسع دائ ً‬
‫المكان ونفس الكائن‪.‬‬
‫ماذا حدث؟‬
‫ل شيء إل ما حدث في النفس‪ ،‬فقد تغيسسرت طريقسسة الفهسسم‪ ،‬وكسسان‬
‫للحديقة معنى من نفسه فسلب المعنى‪ ،‬وكان لهسسا فيسسض مسسن قلبسسه‬
‫فانحبس عنها الفيض؛ وبهذا وهذا بدت في السلب والعسسدم والتنكسسر‪،‬‬
‫فلم يبق إبداع في شيء مبدع‪ ،‬ول جمال في منظر جميل‪.‬‬
‫أكذا يفعل الحب حين يضع فسسي النفسسس العاشسسقة معنسسى ضسسئيًل مسسن‬
‫معاني الفناء كهذا الفراق؟‬
‫أكذا يترك الروح إذا فقدت شيًئا محبوًبا‪ ،‬تتوهم كأنهسسا مسساتت بمقسسدار‬
‫هذا الشيء؟‬
‫مسكين أنت أيها القلب العاشق! مسكين أنت!‬

‫‪116‬‬
‫ومضينا فملنا إلى نديّ نجلسسس فيسسه‪ ،‬وأردت معابثسسة صسساحبنا المتسسألم‬
‫بالحب والمتألم بسسأنه متسسألم‪ ،‬فقلسست لسسه‪ :‬مسسا أراك إل كأنسسك تزوجتهسسا‬
‫وطلقتها فتبعتها نفسك!‬
‫قال‪ :‬آه! من أنا الن؟ وما بال ذلك الخيال الذي نسق لي الدنيا فسسي‬
‫أجمل أشكالها قد عاد فبعثرها؟ أتدري أن العسسالم كسسان فسسي ثسسم أخسسذ‬
‫مني فأنا الن فضاء فضاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أعرف أن كل حبيب هو العالم الشخصي لمحبه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولذلك يعيش المحب المهجور‪ ،‬أو المفارق‪ ،‬أو المنتظر‪ ،‬وكسسأنه‬
‫في أيام خلت‪ ،‬وتراه كأنما يجيء إلى الدنيا كل يوم ويرجع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن من بعض ما يكون به الجمال جماًل أنه ظالم قاهر عنيسسف‪،‬‬
‫كالملك يستبد ليتحقق من نفاذ أخره‪ ،‬وكأن الجميل ل يتم جمسساله إل‬
‫إذا كان أحياًنا غير جميل في المعاملة!‬
‫قال‪ :‬ولكن المر مع هذه الحبيبسسة بسسالخلف؛ فهسسي تطلبنسسي وأتنكبهسسا‪،‬‬
‫وهي مقبلسسة لكنهسسا مقبلسسة علسسى امتنسساعي؛ وكأنهسسا طسسالب يعسسدو وراء‬
‫مطلوب يفر‪ ،‬فل هذا يقف ول ذلك يدرك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فسإن هسذه هسي المشسكلة‪ ،‬ومستى كسانت الحبيبسة مثلهسا‪ ،‬وكسان‬
‫المحب مثلك‪ ،‬فقد جاءت العقدة بينهما معقودة من تلقاء نفسسسها فل‬
‫حل لها‪.‬‬
‫قال‪ :‬كذلك هو‪ ،‬فهل تعرف في البؤس والهم كئوس العاشسسق السسذي‬
‫ل يتدبر كيف يأخذ حبيبته‪ ،‬ولكن كيف يتركها؟ ما هي المسسسافة بينسسي‬
‫وبينها؟ خطوة‪ ،‬خطوتسسان؟ كل‪ ،‬كل؛ بسسل فضسسائل وفضسسائل تمل السسدنيا‬
‫كلها‪ ،‬إن مسافة ما بين الحلل والحرام متراخيسة ممتسسدة ذاهبسسة إلسى‬
‫غير نهاية؛ وإذا كان الحب الفاسد ل يقبل مسسن الحسسبيب إل "نعسسم" بل‬
‫شرط ول قيد؛ لنه فاسد‪ ،‬فالحب الطاهر يقبل "ل" لنسسه طسساهر! ثسسم‬
‫هو ل يرضى "نعم" إل بشرطها وقيدها من الدب والشريعة وكرامسسة‬
‫النسانية في المرأة والرجل‪.‬‬
‫وإذا لم ينته الحب بالثم والرذيلة‪ ،‬فقد أثبت أنه حب؛ وشسسرفه حينئذ‬
‫هو سر قوته وعنصر دوامه‪.‬‬
‫أتعرف أن بعض عشساق العسرب تمنسى لسو كسان جمًل وكسانت حسبيبته‬
‫ناقة‪ ..‬إنه بهذا يود أل يكون بينهمسسا العقسسل والقسسانون وهسسذا الحرمسسان‬
‫الذي يسمي الشرف‪ ،‬وأل يكون بينهما إل قيسسد غريزتهسسا السسذي ينحسسل‬
‫من تلقاء نفسه في لحظة ما‪ ،‬وأن يترك لقوته وتترك هسسي لضسسعفها؛‬
‫والقوة والضعف فسسي قسسانون الطبيعسسة همسسا ملسك وتمليسسك واغتصسساب‬
‫وتسليم‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا ما يفعله كل عاشق لمثل هذه الراقصة إذا لم يكسسن فيسسه‬
‫فا من نوع آخر‪ ،‬فمعسسه الثمسسن وبهسسا‬ ‫إل الحيوان؛ فإن بينهما قوة وضع ً‬
‫الحاجة‪ ،‬وهما في قانون الضرورة ملك وتمليك‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذا مما يقطع في قلبي؛ فلو أن للمة دين ًسسا وشسسرًفا لمسسا بقسسي‬
‫غا من رجل‪ ،‬وإن هذه وأمثالها إنما ينزلن في تلك‬ ‫موضع الزوجة فار ً‬
‫المواضع الخاليسة أول مسا ينزلسن‪ ،‬فكسل بغسي هسي فسي المعنسى ديسن‬
‫متروك وشرف مبتذل في المة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عنك ما هذا الوجد بها وما هسسذا الحسستراق فيهسسا‪ ،‬وأنسست‬
‫ضا كأنما جمعتهسسا فسسي حواسسسك فأخسسذتها‬ ‫قد كنت بين يديها خيالّيا مح ً‬
‫وتركتها في وقت مًعا‪ ،‬وحواسك هذه ل تزال كما هسسي‪ ،‬بسسل هسسي قسسد‬
‫زادت حدة‪ ،‬فكما صنعت لك من قرب تصنع لك من بعد؟‬
‫قال‪ :‬أنا في محضرها أحبها كما رأيت بالقدر الذي تقول هي فيه إنك‬
‫ل تحبني‪ ،‬إذ كان بيننا آخر اسمه الخلق؛ ولكن يفي غيابها أفقسسد هسسذا‬
‫الميزان الذي يزن المقدار ويحدده‪ ،‬وإذا كنت لسسم تعلسسم كيسسف يصسسنع‬
‫العاشق في غيبة المعشوق‪ ،‬فاعلم أن كبرياءه حينئذ ل تسسرى بإزائهسسا‬
‫ما تقاومه‪ ،‬فتتخلى عنه وتخسذله؛ وفضسيلته ل تجسد مسا تسستعلن فيسه‪،‬‬
‫فتتوارى وتدعه؛ وشخصيته ل تجد ما تبرز له‪ ،‬فتختفسسي وتهملسسه؛ فمسسا‬
‫يكون من كل ذلك إل أن يظهسسر المسسسكين وحسسده بكسسل مسسا فيسسه مسسن‬
‫الوهن والنقص وحدة الشسسوق؛ وهنسسا ينتقسسم الحسسب ممسسا زورت عليسسه‬
‫الكبرياء والفضيلة والشخصية‪ ،‬فيضسسرب بحقسسائقه ضسسربات مؤلمسسة ل‬
‫تقوم ل القوة‪ ،‬ويجعل غياب الحبيب كسسأنه حضسسوره مسسستخفًيا لرؤيسسة‬
‫الحقيقة التي كتمت عنه؛ وكم من عاشقة متكسسبرة علسسى مسسن تهسسواه‬
‫تصد وتباعده‪ ،‬وهي في خلوتها ساجدة على أقدام خياله تمرغ وجهها‬
‫هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم!‬
‫ل إنه ل بد في الحب من تمثيل رواية المتناع أو الصد أو التهسساون أو‬
‫ما ثياب اسسستعارة‬ ‫أي الروايات من مثلها؛ ولكن ثياب المسرح هي دائ ً‬
‫ما دام لبسها في دوره من القصة‪.‬‬
‫ثم وضع المسكين يده على قلبه وقال‪ :‬آه! إن هسسذا القلسسب يغاضسسب‬
‫الحياة كلها متى أراد أن يشعر صاحبه أنه غضبان‪.‬‬
‫ن الناس ل يعرف أحزانه؟ ولكن من منهم الذي يعرف أسسسرار‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫َ‬
‫ً‬
‫أحزانه وحكمتها؟ أما إنه لو كشف السر الفراح والحسسزان عمل فسسي‬
‫النفس مسن أعمسال تنسسازع البقسساء؛ فهسذا النساموس يعمسل فسسي إيجساد‬
‫الصلح والقوى‪ ،‬ثم يعمسسل كسسذلك ليجسساد الفضسسل والرق‪ ،‬ومسسن ثسسم‬
‫كانت آلم الحب قوية حسستى لكأنهسسا فسسي الرجسسل والمسسرأة تهيسسئ أحسسد‬

‫‪118‬‬
‫القلبين؛ ليستحق القلسسب الخسسر‪.‬آه مسسن هسسذا اللواعسسج! إنهسسا مسسا تكسساد‬
‫تضطرم حسستى ترجسسع النفسسس وكأنهسسا موقسسد يشسستعل بسسالجمر‪ ،‬وبسسذلك‬
‫يصسسهر المعسسدن النسسساني ويصسسنع صسسنعة جديسسدة؛ وإلسسى أن ينصسسهر‬
‫ويتصفى ويصنع‪ ،‬ماذا يكون للنسان في كل شيء من حبيبه؟‬
‫يكون له في كل شيء روحسسه النسسازي‪.‬قلسست‪ :‬بسسخ بسسخ*! هكسسذا فليكسسن‬
‫الحب؛ إنها حين تهيج في نفسك الحنين إليها تعطيسسك مسسا هسسو أجمسسل‬
‫من جمالها وما هو أبدع من جسمها؛ إذ تعطيك أقوى الشعر وأحسن‬
‫الحكمة‪.‬قال‪ :‬وأقوى اللم وأشد اللوعة! يا عجًبا! كأن الحياة ل تقدم‬
‫في عشق المحبسسوب إل عشسسقها هسسي؛ فسسإذا وقعسست الجفسسوة‪ ،‬أو حسسم‬
‫البين‪ ،‬أو اعترى اليأس ‪-‬قدم الموت نفسه فكل ذلك شبه الموت‪.‬‬
‫إن الحزن الذي يجيء من قبل العدو يجيء معه بقوة تحمله وتتجلسسد‬
‫له وتكابر فيه؛ ولكن أين ذلك فسي حسزن مبعثسه الحسبيب؟ ومسن أيسن‬
‫القوة إذا ضعف القلب؟‬
‫قلت‪ :‬ل يصنع الله بك إل خيًرا؛ فإذا كان غد وانسلخ النهار من الليسسل‬
‫جئنا إليها فرأيناها في المسرح‪ ،‬ولعل المر يصدر مصدًرا آخر‪ ،‬قسسال‪:‬‬
‫أرجو‪..‬‬
‫ولم يكد ينطق بهذه الرجية حتى مر بنا سسسبعة رجسسال يقهقهسسون‪ ،‬ثسسم‬
‫تلقينا وجئنا؛ ويا ويلتنا علسى المسسسكين حيسن علسسم أنهسسا رحلسست؛ لقسسد‬
‫أدرك أن الشسسسيطان كسسسان يضسسسحك بسسسسبعة أفسسسواه‪ ..‬مسسسن قسسسوله‪:‬‬
‫أرجو‪..‬ولماذا رحلت؟ لماذا؟ وأما هو‪..‬؟‬
‫‪---------------‬‬
‫كلمة العجاب تقسال عنسسد الرضسى والمسسدح‪ ،‬ومثلهسا "زه"‬ ‫•‬
‫وهذه فارسية‪.‬‬
‫‪‬‬

‫القلب المسكين "‪"7‬‬

‫وأما صاحب القلب المسكين فما علم أنها قد رحلت عن ليلته حسستى‬
‫أظلم الظلم عليه‪ ،‬كأنها إذا كانت حاضرة أضاء شسسيء ل يسسرى‪ ،‬فسسإذا‬
‫مسسا كاسسسف البسسال يتنسسازعه فسسي‬
‫غابت انطفأ هسسذا الضسسوء؛ ورأيتسسه واج ً‬
‫نفسه ما ل أدري‪ ،‬كأن غيابها وقع في نفسه إنذار حرب‪.‬‬
‫لماذا كان الشعراء ينوحون علسسى الطلل ويلتسساعون بهسا ويرتمضسون‬
‫منها وهي أحجار وآثار وبقايا؟ وما الذي يتلقاهم به المكان بعد رحيل‬
‫الحبة؟ يتلقاهم بالفراغ القلسسبي السسذي ل يملسسؤه مسسن الوجسسود كلسسه إل‬

‫‪119‬‬
‫وجود شخص واحد؛ وعند هذا الفراغ تقسسف السسدنيا ملي ّسسا كأنهسسا انتهسست‬
‫إلى نهاية في النفسس العاشسقة‪ ،‬فتبطسسل حينئذ ٍ المبادلسسة بيسن معساني‬
‫دا فسسي موضسسعه ول‬ ‫الحياة وبين شعور الحي؛ ويكون العاشسسق موجسسو ً‬
‫تجده المعاني التي تمر به‪ ،‬فترجع منسسه كالحقسسائق تلسسم بسسالفراغ مسسن‬
‫وعي سكران‪.‬‬
‫يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما الذي يجعسل فيسك تلسك القسدرة‬
‫السساحرة؟ أهسسو فصسسلك بيسسن زمسسن وزمسسن‪ ،‬أم جمعسسك الماضسسي فسسي‬
‫لحظة؛ أم تحويلك الحياة إلى فكرة‪ ،‬أم تكبيرك الحقيقة إلى إضعاف‬
‫حقيقتها‪ ،‬أم تصويرك روحية الدنيا في المثال الذي تحسه السسروح‪ ،‬أم‬
‫إشعارك النفس كالموت أن الحياة مبنيسسة علسسى النقلب‪ ،‬أم قسسدرتك‬
‫على زيادة حالة جديسسدة للهسسم والحسسزن‪ ،‬أم رجوعسسك باللسسذة تسسرى ول‬
‫تمكن‪ ،‬أم أنت كل ذلك؛ لن القلب يفرغ سسساعة مسسن السسدنيا ويمتلسسئ‬
‫بك وحدك؟‬
‫يا أثر الحبيب حيسسن يفسسارق الحسسبيب! مسسا هسسذه القسسوة السسسحرية فيسسك‬
‫تجتذب بها الصدر ليضمك‪ ،‬وتسسستهوي بهسسا الفسسم ليقبلسسك‪ ،‬وتسسستدعي‬
‫الدمع لينفر لك‪ ،‬وتهتسساج الحنيسسن لينبعسسث فيسسك؟ أكسسل ذلسك لنسسك أثسسر‬
‫الحبيب‪ ،‬أم لن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ول يجد ما يخفق عليسسه‬
‫سواك؟‬
‫ووقف صاحبنا المسكين محزوًنا كأن شيًئا يصله بكل همسسوم العسسالم؛‬
‫وتلك هي طبيعة اللم الذي يفاجئ النسان من مكمن لذته وموضسسع‬
‫عا من الحياة بطريقة سلب الحياة نفسها‪ ،‬ويأخسذ‬ ‫سروره‪ ،‬فيسلبه نو ً‬
‫مسسا؛ لن فيسسه‬‫من قلبه شيًئا مات فيدفنه فسسي قسسبر الماضسسي‪ ،‬يكسسون أل ً‬
‫المضض‪ ،‬وكآبة؛ لن فيه الخيبة‪ ،‬وذهوًل؛ لن فيه الحسرة؛ وتتم هذه‬
‫الثلثة الهمسسوم بالضسسيق الشسسديد فسسي النفسسس؛ لجتمسساع ثلثتهسسا علسسى‬
‫النفس؛ فإذا المسكين مبغوت كأن اللم أطبقت عليه مسسن الجهسسات‬
‫الربع‪ ،‬فقلبه منها صدوع صدوع‪..‬‬
‫ذل‪ ،‬وكلمسا حساولت أن أثبسست لسه وجسود‬ ‫وجعلت أعذل صاحبنا فل يعتس ِ‬
‫الصبر كنت كأنما أثبت له أنه غير موجود؛ ثم تنفس وهو يكاد ينشسسق‬
‫ظا وقال‪ :‬لماذا رحلت؟ لماذا؟‬ ‫غي ً‬
‫قلت‪ :‬أنت أذللت جمالها بهذا السلوب الذي تسسرى أنسسك تعسسز جمالهسسا‬
‫ت علسسى قلبسسك وقلبهسسا؛‬ ‫به‪ ،‬وقد اشتددت عليهسسا وعلسسى نفسسسك‪ ،‬وتعن ّس ّ‬
‫كانت ظريفة المذهب في عشقها وكنت خشًنا فسسي حبسسك‪ ،‬وسسسوغتك‬
‫قا فرددتسسه عليهسسا‪ ،‬وتهسسالكت وانقبضسست أنسست‪ ،‬ورفعسست قسسدرك عسسن‬ ‫ح ّ‬
‫دا فخفضت قدرها عن نفسسسك مسسن اطسسراح وجفسساء‪،‬‬ ‫نفسها تحبًبا وتود ً‬

‫‪120‬‬
‫واستفرغت وسعها في رضاك فتغاضبت‪ ،‬ونضت عن محاسنها شسسيًئا‬
‫شيًئا تسأل بكل شيء سؤاًل فلم تكن أنت من جوابها في شيء‪..‬‬
‫ومن طبع المرأة أنهسا إذا أحبسست امتنعسست أن تكسسون البسسادئة‪ ،‬فسسالتوت‬
‫على صاحبها وهي عاشسسقة‪ ،‬وجاحسسدت وهسسي مقسسرة؛ إذ تريسسد فسسي أن‬
‫تتحقق أنها محبوبسسة‪ ،‬وفسسي الثانيسسة أن يقسسدم لهسسا البرهسسان علسسى أنهسسا‬
‫تستحق المهاجمة‪ ،‬وفسسي الثالثسسة هسسي تريسسد أل تأخسسذها إل قسسوة قويسسة‬
‫فتمتحسسن هسسذه القسسوة‪ ،‬ومسسع هسسذه الثلث تسسأبى طبيعسسة السسسرور فيهسسا‬
‫والستمتاع بها إل أن يكون لهذا السرور وهذا المتناع شسسأن وقيمسسة‪،‬‬
‫فتذيق صاحبها المر قبل الحلو؛ ليكبر هذا بهذا‪.‬‬
‫غير أنها إذا غلبها الوجد وأكرهها الحب علسسى أن تبتسسدئ صسساحبها‪ ،‬ثسسم‬
‫ت المر فيما بينها وبينسسه علسسى‬ ‫ابتدأت ولم تجد الجواب منه‪ ،‬أو لم يأ ِ‬
‫ما تحب‪ ،‬فإن البتداء حينئذ يكسسون هسسو النهايسسة‪ ،‬وينقلسسب الحسسب عسسدو‬
‫الحب؛ وأنسا أعسسرف امسرأة وضسسعتها كبرياؤهسا فسسي مثسل هسسذه الحالسة‬
‫وقالت لصاحبها‪ :‬سأتألم ولكن لن أغلب‪ ،‬فكان السسذي وقسسع واأسسسفاه‬
‫‪-‬أنها تألمت حتى جنت‪ ،‬ولكن لم تغلب ‪..1‬‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬فما بال هذه؟ أما تراها تبتدئ كل يوم رجل؟‬
‫قلت‪ :‬إنها تبتدئ متكسبة ل عاشقة‪ ،‬فإذا أحبت الحب الصحيح أرادت‬
‫قيمتها فيما هو قيمتهسسا؛ وأنسسا أحسسسبها تحسسب فيسسك هسسذا العنسسف وهسسذه‬
‫القسوة وهذه الروحية الجبارة؛ فإنهسسا لسسذات جديسسدة للمسسرأة السستي ل‬
‫تجد من يخضعها؛ وفي طبيعة كل امرأة شيء ل يجسسد تمسسامه إل فسسي‬
‫عنف الرجل‪ ،‬غير أنه العنف الذي أوله رقة وآخره رقة؟‬
‫أمسسا واللسسه إن عجسسائب الحسسب أكسسثر مسسن أن تكسسون عجيبسسة؛ والشسسيء‬
‫الغريب يسمى غريًبا فيكفي ذلك بياًنا في تعريفه‪ ،‬غيسسر أنسسه إذا وقسسع‬
‫في الحب سمي غريًبا فل تكفيه التسمية‪ ،‬فيوصف مع التسمية بسسأنه‬
‫غريب فل يبلغ فيه الوصف‪ ،‬فيقع التعجب مع الوصف والتسمية مسسن‬
‫أنه شيء غريب‪ ،‬ثم تبقى وراء ذلك منزلة للغراق في التعجب بيسسن‬
‫العاشق وبين نسفه؛ وهكذا يشعرون‪.‬‬
‫فكل أسرار الحب من أسرار الروح ومن عالم الغيب؛ وكسسأن النبسسوة‬
‫نبوتان‪ :‬كبيرة وصغيرة‪ ،‬وعامة وخاصة‪ .‬فإحسسداهما بسسالنفس العظيمسسة‬
‫في النبياء‪ ،‬والخرى بالقلب الرقيق في العشاق؛ وفي هذه من هذه‬
‫شبه؛ لوجود العظمة الروحية في كلتيهما غالبة على المادة‪ ،‬مجسسردة‬
‫من إنسان الطين مسسن النسسور‪ ،‬محركسسة هسسذه الطبيعسسة الدميسسة حركسسة‬
‫جديدة في السمو‪ ،‬ذاهبة بالمعرفسسة النسسسانية إلسسى مسسا هسسو الحسسسن‬

‫‪121‬‬
‫والجمل‪ ،‬واضعة مبدأ التجديد في كسسل شسسيء يمسسر بسسالنفس‪ ،‬منبعثسسة‬
‫بالفراح من مصدرها العلوي السماوي‪.‬‬
‫بيسسد أن فسسي العشسسق أنبيسساء كذبسسة؛ فسسإذا تسسسفل الحسسب فسسي جلل‪،‬‬
‫واستعلنت البهيمية فسي عظمسسة‪ ،‬وتجسرد مسن إنسسسان الطيسن إنسسسان‬
‫الحجر‪ ،‬وتحركت الطبيعة الدمية حركة جديدة في السقوط‪ ،‬وذهبت‬
‫المعرفة النسانية إلى ما هو القبح‪ .‬والسوأ‪ ،‬وتجدد لكل شيء فسسي‬
‫النفس معنى فاسد‪ ،‬وانبعثت الفراح من مصدرها السفلى‪ -‬إذا وقسسع‬
‫كل هذا من الحب فما عساه يكون؟‬
‫ل يكون إل أن الشيطان يقلد النبوة الصغيرة في بعض العشاق‪ ،‬كما‬
‫يقلد النبوة الكبيرة في بعض الدجالين‪.‬‬
‫هكذا قسسال صسساحب القلسسب المسسسكين وقسسد تكلسسم عسسن الحسسب ونحسسن‬
‫دا بمجلسسه فلعلسه‬ ‫جالسسان فسي الحديقسة‪ ،‬وكنسسا دخلناهسسا ليجسدد عهس ً‬
‫يسكن بعض ما به؛ واستفاض كلمنا في وصف تلك العبهرة* الفتانة‬
‫التي أحلته هذا المحل وبلغست بسه مسا بلغست وكسان فسي رقسة ل رقسة‬
‫بعدها‪ ،‬وفي حب ل نهاية وراءه لمحب؛ وخيل إلى أنسه يسرى الحسديث‬
‫عنها كأنه إحضارها بصورة ما!‬
‫وأنفع ما في حديث العاشق عسسن حبسسه وألمسسه أن الكلم يخرجسسه مسسن‬
‫حالة الفكر‪ ،‬ويؤنس قلبه باللفاظ‪ ،‬ويخفف من حركة نفسسسه بحركسسة‬
‫لسانه‪ ،‬ويوجه حواسه إلى الظاهر المتحسسرك؛ فتسسسلبه ألفسساظه أكسسثر‬
‫معانيه الوهمية‪ ،‬وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة ل في النفس؛‬
‫وفي كل ذلك حيلة على النسيان‪ ،‬وتعلل إلى ساعة؛ وهو تسسدبير مسسن‬
‫الرحمة بالعاشقين في هذا البلء الذي يسمى الفراق أو الهجر‪.‬‬
‫قا مر بنا فدعاه صسساحبنا وقسسال‬ ‫وكان من أعجب ما عجبت له أن صدي ً‬
‫وهو يومئ إلي‪ :‬أنا وفلن هذا مختلفان منذ اليوم؛ ل هسسو يقيسسم عسسذًرا‬
‫ول أنا أقيم حجة‪ ،‬وأحسب أن عندك رأًيا فاقض بيننا‪...‬‬
‫ويسأله الصديق‪ :‬ما القضية؟ فيقول وهو يشير إلي‪:‬‬
‫إن هذا قد تخرق قلبسسه مسسن الحسسب فل يسسدري مسسن أيسسن يجيسسء لقلبسسه‬
‫برقعة‪ ..‬وإنه يعشق فلنة الراقصسسة السستي كسسانت فسسي هسسذا المسسسرح‪،‬‬
‫ويزعم لي‪ ..‬أنها أجمل وأفتن وأحلى من طلعت عليه الشمس‪ ،‬وأنه‬
‫ليس بين وجهها وبين القمر وجه امسسرأة أخسسرى فسسي كسسل مسسا يضسسيء‬
‫دا ‪ ...‬لن ألحاظهسسا‬ ‫دا أب س ً‬
‫دا أب س ً‬
‫القمر عليه‪ ،‬وأن عينيها مما ل ينسى أب س ً‬
‫تذوب في الدم وتجسسري فيسسه‪ ،‬وأن الشسسيطان لسو أراد منسساجزة العفسسة‬
‫والزهد في حسسرب حاسسمة بينسه وبيسن أزهسسد العبساد لسسترك كسل حيلسه‬
‫وأساليبه وقدم جسمها وفنها‪..‬‬

‫‪122‬‬
‫فيقول له المسؤول‪ :‬وما رأيك أنت؟‬
‫فيجيبه‪ :‬لو كان عنها صاحًيا لقد صحا‪ .‬إن المشكلة في الحب أن كل‬
‫عاشق له قلبه الذي هو قلبه‪ ،‬وحسبها أن مثل هذا هسسو يصسسفها؛ ومسسا‬
‫يدرينا من تصاريف القدر بهذه المسكينة ما عليهسسا ممسسا لهسسا‪ ،‬فلعلهسسا‬
‫الجمال حكم عليه أن يعذب بقبح الناس‪ ،‬ولعلها السرور قضي عليسسه‬
‫أن يسجن في أحزان!‬
‫وقلت له‪ :‬يا صديقي المسكين! أَوكل هذا لهسسا فسسي قلبسسك؟ فمسسا هسسذا‬
‫القلب الذي تحمله وتتعذب به؟‬
‫‪---------------‬‬
‫* هي التي جمعت الحسن والجسم والمتلء وجمال الخلقة من كسسل‬
‫ناحية‪ ،‬كهذه التي نحن في وصفها منذ شهرين ‪....‬‬
‫قال‪ :‬إنه ‪-‬والله‪ -‬قلب طفل‪ ،‬وما حبه إل التماسه الحنان الثسساني مسسن‬
‫الحبيبة‪ ،‬بعد ذلك الحنان الول من الم؛ وكل كلمي في الحسسب إنمسسا‬
‫هو إملء هذا القلب على فكره كأنه يخلق به خلق تفكيره‪.‬‬
‫آه يا صديقي! من السخرية بهذه الدنيا وما فيها أن القلب ل يسسستمر‬
‫ما‪ ،‬ومن‬ ‫طفًل بعد زمن الطفولة إل في اثنين‪ :‬من كان فيلسوًفا عظي ً‬
‫كان مغفًل عظي ً‬
‫ما!‬
‫وافترقنا؛ ثم أردت أن أتعرف خبره فلقيته من الغسد‪ ،‬وكسان لسي فسي‬
‫أحلمي تلك الليلة شأن عجيب‪ ،‬وكسسان لسه شسسأن أعجسسب؛ أمسسا أنسسا فل‬
‫يعني القراء شأني وقصتي‪.‬‬
‫وأما هو؟‪...‬‬
‫‪‬‬

‫‪123‬‬
‫القلب المسكين "‪"8‬‬

‫وأما هو فحدثني بهذا الحديث العجيب من لطائف إلهامه وفنه‪ ،‬قال‪:‬‬


‫ي أن يكون هذا منهسسا وأن يكسسون هسسذا‬ ‫انصرفت إلى داري وقد عز عل ّ‬
‫مني‪ ،‬وهي إن غابت أو حضرت فإنها لي كالشسسمس للسسدنيا‪ :‬ل تظلسسم‬
‫الدنيا في ناحية إل من أنهسسا تضسسيء فسي ناحيسسة؛ فظلمتهسسا مسن عمسسل‬
‫نورها؛ وكانت ليلتي فارغة مسسن النسسوم فبسست أتملمسسل‪ ،‬وجعسسل القلسسب‬
‫يدق في جنبي كأنه آلة في ساعة ل قلسب إنسسان؛ وكسان فسي السدنيا‬
‫من حولي صمت كصمت الذي سكت بعسسد خطبسسة طويلسسة‪ ،‬وفسسي أنسسا‬
‫صمت آخر كصمت السسذي سسسكت بعسسد سسسؤال ل جسسواب عليسسه؛ وكسسان‬
‫دا كالسكران الذي انطرح من ثقلسسه السسسكر بعسسد أن هسسذى‬ ‫الهواء راك ً‬
‫طويًل وعربد؛ والوجود كله يبدو كالمختنق؛ لن معنسسى الختنسساق فسسي‬
‫مسسا بعسسد‬
‫قلبي وأفكاري؛ ونظرت نظرة في النجوم فإذا هي تتغسسور نج ً‬
‫نجسسم‪ ،‬كسسأن معنسسى الرحيسسل انتشسسر فسسي الرض والسسسماء إذ رحلسست‬
‫الحبيبة؛ وكأن كل وجه مضيء يقول لي كلمة‪ :‬ل تنتظر!‬
‫فلما عسعس الليل رميت بنفسي فنمسست والعقسسل يقظسسان‪ ،‬وصسسنعت‬
‫الحلم ما تصنع‪ ،‬فرأيتها هي في تلسسك الشسسفوف السستي ظهسسرت فيهسسا‬
‫سا؛ وما أعجب كبرياء المرأة المحبوبة! إنها لتبدو لعينسسي محبهسسا‬ ‫عرو ً‬
‫كالعارية وراء ستر رقيق يشسف عنهسا كالضسوء‪ ،‬ثسم تسدل بنفسسسها أن‬
‫ترفع هذا الستر‪ ،‬فإن لم يتجرأ هو لم تتجرأ هي؛ وكأنها تقول له‪ :‬قد‬
‫رفعته بطريقتي فارفعه أنت بطريقتك‪..‬‬
‫وكانت مصسورة فسي الحلسسم تصسويًرا آخسر؛ فل ينسسكب مسن جسسمها‬
‫معنى الحسن الذي أتأمله وأعقله‪ ،‬ولكن معنسسى السسسكر السسذي يسسترك‬
‫المرء بل عقل؛ ولم تكن غلئلها عليها كالثياب علسسى المسسرأة‪ ،‬ولكنهسسا‬
‫ظهرت لي كاللون على الوردة الزاهية‪ :‬تظهر فتنة وتتم فتنة‪.‬‬
‫أيتها الحلم‪ ،‬ماذا تبدعين إل مخلوقات الدم النساني‪ ،‬ماذا تبدعين؟‬
‫قلت‪ :‬يا صديقي دع الن هذه الفلسفة وخذ في قص مسسا رأيسست‪ ،‬ثسسم‬
‫ماذا بعد الوردة ولون الوردة؟‬
‫ما‪ ،‬إنه القلب المسسسكين‪ ،‬لقسسد ضسسحكت‬ ‫قال‪ :‬إنه القلب المسكين دائ ً‬
‫لي وقالت‪ :‬ها أنذا قد جئت! وأقبلت ترائيني بوجهها‪ ،‬وتتغزل بعينيها‪،‬‬
‫وتتنهد بصدرها‪ ،‬وألقت يديها في يدي‪ ،‬فأحسست اليدين تتعانقان ول‬
‫تتصافحان؛ ثم تركناهما نائمتين إحداهما على الخرى‪ ،‬وسكتنا هنيهة‬
‫وقد خيل إلينا أننا إذا تكلمنا استيقظت يدانا!‬

‫‪124‬‬
‫أما صافحتك امرأة تحبها وتحبك؟ أما أحسست بيدها قسسد نسسامت فسسي‬
‫يدك ولو لحظة؟ أما رأيت بعينيك نعاس يدها وهو ينتقل إلسسى عينيهسسا‬
‫فإذا هما فاترتان ذابلتان‪ ،‬وتحت أجفانهما حلم قصير؟‬
‫قلت‪ :‬يا صديقي دع الفلسفة؛ ثم كان ماذا بعد أن نامت يد على يد؟‬
‫قال‪ :‬ثم كانت سخرية من الشيطان أقبح سخرية قط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حسبي لكأنك شرحت لي ما بقي‪..‬‬
‫ضا‪ ،‬وكسسأني بسسه‬ ‫فضحك طويًل‪ ،‬وقال‪ :‬إن الشيطان يسخر الن منك أي ً‬
‫يقول لك‪ :‬وكان ما كان مما لست أذكره‪ ..‬أفتدري ما الذي كان ومسسا‬
‫بقية الخبر؟‬
‫لقد كنت مولًعا بامتحان قوتي في الضغط بيدي على أعواد منصسسوبة‬
‫مسسن الحديسسد‪ ،‬أو علسسى أيسسدي القويسساء إذا سسسلمت عليهسسم ‪1‬؛ فلمسسا‬
‫صافحتني لبثت مسدة مسن الزمسن ثسم شسسددت علسى يسدها قليًل قليًل‪،‬‬
‫فتنبهت في هذه العادة‪ ،‬فمسخت الحلم وانصرف وهمسسي إلسسى أقبسسح‬
‫صورة وأشنعها وأبعدها مما أنا فيسه مسن الحسب ولسذات الحسب؛ فسإذا‬
‫بإزائي وجه‪ ،‬وجه من؟ وجه مصارع ألماني كنت أعرفه من عشسسرين‬
‫سنة وأضغط على يده‪..‬‬
‫قلت‪ :‬إنما هذه كبرياؤك أو عفتك تنبهت في تلسسك الشسسدة مسسن يسسدك‪،‬‬
‫ول يزال أمرك عجيًبا؛ فهل معك أنت ملئكة ومع الناس شياطين؟‬
‫قال‪ :‬والذي هو أعجب أنسسي رأيسست فسسي أضسسغاث أحلمسسي كسسأن قلسسبي‬
‫المسكين يخاصمني وأخاصمه؛ وقسسد خسسرج مسسن أحنسساء الضسسلوع كسسأنه‬
‫مخلوق مسسن الظسسل يسسرى ول يسسرى إذ ل شسسكل لسسه؛ وسسسبني وسسسببته‪،‬‬
‫وقلت له وقال لي‪ ،‬وتغالظنا كأننا عدوان؛ فهسسو يسسرى أنسسي أنسسا أمنعسسه‬
‫لذاته‪ ،‬وأرى أنه هو يمنعني‪ ،‬وأنه أشفى بي على ما أشفى؛ وقلت له‬
‫فيما قلت‪ :‬ل قرار على جنايتك‪ ،‬فاذهب عني ول تتسم باسمي فسسإنه‬
‫ل فلن لك* بعسسد اليسسوم؛ ولسسول أنسسك مخسسذول فسسي الحسسب لعلمسست أن‬
‫لمسة يد الرجل ليد المرأة الجميلة نسسوع مخفسسف مسسن التقبيسسل‪ ،‬فسسإذا‬
‫ما إلسسى تقبيسسل فمسسه لفمهسسا؛ ولسسول‬ ‫هي تركته يرتفع في الدم انتهى يو ً‬
‫أنك مخذول في الحب لعلمت أن هذا الضم بين اليدين نسسوع مخفسسف‬
‫مسا إلسسى ضسسم‬ ‫من العناق‪ ،‬فإذا هسي تركتسه يشستد فسسي السسدم انتهسى يو ً‬
‫الصدر للصدر؛ ولكنك مخذول في الحب‪ ،‬ولكنك مخذول!‪.‬‬
‫وقسسال لسسي فيمسسا قسسال‪ :‬وأنسست أيهسسا الخسسائب؟ أمسسا علمسست أن أناملهسسا‬
‫الرخصة هي أناملها‪ ،‬ل أعسسوادك مسسن الحديسسد؟ فكيسسف شسسددت عليهسسا‬
‫ويحك تلك الشدة التي أخرجت لك وجه المصارع؟ ولكنك خائب في‬
‫الحب‪ ،‬ولكنك خائب!‬

‫‪125‬‬
‫قلت‪ :‬فهذه قضية بيني وبينسسك أيهسسا القلسسب العسسدو؛ لقسسد تركتنسسي مسن‬
‫الهموم كالشسجرة المنخربسة قسد بليست وصسارت فيهسا التخساريب؛ فل‬
‫حياتها بالحياة ول موتها بالموت‪ ،‬وكم علقتني بفاتنة بعد فاتنة ل عنها‬
‫ي إل وحش أكسسبر لسسذته‬ ‫إقصار ينتهي ول فيها مطمع يبتدئ؛ ما أنت ف ّ‬
‫لطع الدم!‬
‫واستدار الحلم فلم ألبث أن رأيتنسسي فسسي محكمسسة الجنايسسات‪ ،‬وكسسأني‬
‫شكوت قلبي إليها فهو جالس في القفص الحديسسدي بيسسن المجرميسسن‬
‫ينتظر ما ينتظرون من الفصل في أمرهم؛ وقد ارتفع المستشسسارون‬
‫الثلثة إلى منصة الحكم‪ ،‬وجلسسس النسائب العسام فسسي مجلسسه يتسولى‬
‫إقامة الدعوى وبين يديه أوراقه ينظر فيها‪ ،‬ورأيت منهسسا غلفًسسا كتسسب‬
‫على ظاهره‪ :‬قضية القلب المسكين‪.‬‬
‫وتكلم رئيس المحكمة أول من تكلم فقال‪ :‬ليس فسسي قضسسية القلسسب‬
‫م‪ ،‬فابغوه من يدافع عنه؛ ثم التفت إليه وقال‪ :‬من عسسسى تختسسار‬ ‫محا ٍ‬
‫للدفاع عنك؟‬
‫قال القلب‪ :‬أَوهنا موضع للختيار يا حضرة الرئيس؟ إنه ليسسس تحسست‬
‫هذه ‪-‬وأومأ إلى السماء‪ -‬ول فوق هذه ‪-‬وأومأ إلى الرض‪ -‬إل‪...‬‬
‫فبدر النائب العام وقال‪ :‬إل الحبيبة؟ أكسسذلك؟ غيسسر أنهسسا أسسستاذة فسسي‬
‫الرقص ل في القانون!‬
‫مسسا علسسي؛ أنسسا‬
‫مسسا لسسي أو محكو ً‬‫‪ -‬القلب‪ :‬ولكنني ل أختار غيرهسسا محكو ً‬
‫أريد أن أنظر فيها وانظروا أنتم في القضية‪..‬‬
‫‪ -‬الرئيس‪ :‬فليكن؛ فهذه جريمة عواطف إيذن لها أيها الذن‪.‬‬
‫فنادى المحضر*‪ :‬الستاذة! الستاذة!‬
‫وجاءت مبادرة‪ ،‬ودخلت تمشي مشيتها وقسسد افسستر ثغرهسسا عسسن النسسور‬
‫الذي يسطع في النفس؛ وأومضسست بوجههسسا يمين ًسسا وشسسماًل‪ ،‬فصسسرف‬
‫الناس جميًعا أبصارهم إليها وقد نظروا إلى فتنة مسن الفتسن؛ وثسارت‬
‫فسسي كسسل قلسسب نزعسسة‪ ،‬وغلبسست الحقيقسسة البشسسرية فانتقضسست طبسساع‬
‫الموجودين في قاعة الجلسة‪ ،‬وأبطل قانون جمالها قانون المحكمة‪،‬‬
‫فوقعت الضسسجة وعلسست الصسسوات واختلطسست؛ وتسسرددت بيسسن جسسدران‬
‫المكان صدى في صدى كأن الجدران تتكلم مع المتكلمين‪.‬‬
‫أصوات أصوات‪ :‬سبحان الله! سبحان الله! تبارك الله! تبسسارك اللسسه!‬
‫ضسسا‪ ..‬فنفسسرت‬ ‫آه آه! آه آه! وسسسمع صسسوت يقسسول‪ :‬اتهمسسوني أنسسا أي ً‬
‫الكلمات‪ :‬وأنا‪ ،‬وأنا‪ ،‬وأنا! واختفت المحكمة وانبعث المسرح بسسدخول‬
‫فاتنته الراقصة؛ وكان المستشارون والنائب العام في أعيسسن النسساس‬

‫‪126‬‬
‫كأنهم صور معلقة علسسى الحسسائط؛ ل يخشساها أحسد أن تنظسسر إلسى مسا‬
‫يصنع!‬
‫فصاح الرئيس‪ :‬هنا المحكمة! هنا المحكمة! سبحان الله‪ ..‬المحكمسسة‬
‫المحكمة!‬
‫‪-‬النائب العام‪ :‬هذا بدء ل ترضاه النيابسسة ول تقبسسل أن تنسسسحب عليسسه‪،‬‬
‫نعم إن هذا الوجه الجميل أبسسرع محسسام فسسي هسسذه القضسسية‪ ،‬ونعسسم إن‬
‫جسمها‪ ..‬آه ماذا؟ إنكم تأتون بالشهوة الغالبسسة القسساهرة لتسسدافع عسسن‬
‫المشتهي‪ ..‬عن المتهم‪ ،‬هذا وضع كوضسسع العسسذر إلسسى جسسانب السسذنب‪،‬‬
‫وكأنكم يا حضرات المستشارين‪..‬‬
‫فبدرت المحامية تقول فسي نغمسة دلل وفتسور‪ :‬وكسأنكم يسا حضسرات‬
‫ضا‪...‬‬
‫المستشارين قد نسيتم أن النائب العام له قلب أي ً‬
‫واشتد ذلك على النائب‪ ،‬وتبين الغضب في وجهه؛ فقسسال‪ :‬يسسا حضسسرة‬
‫الرئيس‪..‬‬
‫ما‪ :‬واحدة بواحدة‪ ،‬وأرجو أل تكون لهسسا ثانيسسة‪ ،‬ومعنسسى‬ ‫‪-‬الرئيس مبتس ً‬
‫هذا كما هو ظاهر أل تكون لها ثالثة‪" ..‬ضحك"‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* هو الموظف الذي يكون في الجلسة للنداء على الخصوم‪.‬‬
‫قال صاحب القلب المسكين‪ :‬وكنت بل قلب‪ ..‬فلم ألتفسست للجمسسال‪،‬‬
‫بل راعني ذكاء المحامية ونفاذها وحسسسن اهتسسدائها إلسسى الحجسسة فسسي‬
‫أول ضرباتها‪ ،‬وتعجبت مسسن ذلسسك أشسسد التعجسسب‪ ،‬وأيقنسست أن النسسائب‬
‫العام سيقع في لسانها‪ ،‬ل كما يقع مثله في لسان المحامي القسسدير‪،‬‬
‫ولكن كما يقع زوج في لسان زوجة معشوقة متدللسسة تجسسادله بحجسسج‬
‫كثيرة بعضها الكلم‪ ..‬وقلت في نفسي‪ :‬يا رحمة الله ل تجعلسسي مسسن‬
‫النساء الجميلت الفاتنات محاميات في هذه المحاكم‪ ،‬فلو ألبسوهن‬
‫لحى مستعارة لكان الصوت الرخيم وحده من تلك الفسسواه الجميلسسة‬
‫العذبة‪ ،‬نداء قانونّيا للقبلت‪..‬‬
‫ونهضت المحامية العجيبة فسلطت عينيها الساحرتين علسسى النسسائب‪،‬‬
‫ثم قالت تخاطب المحكمة‪ :‬قبل النظر في هذه القضية قضية الحب‬
‫والجمال‪ ،‬قضية قلبي المسكين‪ ..‬أريد أن أتعرف الرأي القانوني في‬
‫اعتبار الجريمة‪ .‬أهي شخصية‪ ،‬فتقصر على صاحبها؛ أو خاصة‪ ،‬فتضر‬
‫غير جانبها‪ ،‬أو عامة‪ ،‬فيتناولها العموم المحدود لمن تجمعهسسم جامعسسة‬
‫الحب؛ أو هي أعم‪ ،‬فيتناولها العموم المطلسسق للهيئة الجتماعيسسة؛ مسسا‬
‫هي جريمة قلبي؟‬
‫‪-‬الرئيس‪ :‬ما رأي النيابة؟‬

‫‪127‬‬
‫كا"‪" :‬غزالتها رايقة" كما يقسسول الراقصسسات والممثلت‪..‬‬ ‫النائب "ضاح ً‬
‫أرى أنها جريمة آتية من ضرب الخاص في العام‪" ..‬ضحك"‪.‬‬
‫المحامية‪ :‬جواب كجواب القائل‪ :‬حسسب أبسسي بكسسر؛ كسسان ذلسسك الرجسسل‬
‫يحب زوجته الجميلسسة ويخافهسسا‪ ،‬وكسسانت تقسسسو عليسسه قسسسوة عظيمسسة‬
‫ما وقد طسسابت‬ ‫وتغلظ له الكلم‪ ،‬وهو يفرق منها ول يخالفها؛ فرآها يو ً‬
‫نفسها‪ ،‬فأراد أن ينتهز الفرصة ويشكو قسوتها؛ فقسسال‪ :‬يسسا فلنسسة قسسد‬
‫‪-‬والله‪ -‬أحرق قلبي ‪ ..‬ولم تسسدعه يتسسم الكلمسسة‪ ،‬فحسسددت نظرهسسا إليسسه‬
‫وقطبت وجهها وقالت‪ :‬أحرق قلبك ماذا؟ فخاف ولم يقدر أن يقسسول‬
‫لها سوء أخلقك‪ .‬فقال؛ حسسب أبسسي بكسسر الصسسديق رضسسي اللسسه عنسسه‪..‬‬
‫"ضحك"‪ ،‬ورنت ضحكة المحامية فاضسسطربت لهسسا القلسسوب‪ ،‬ووقعسست‬
‫ضا؛ فانخزل ولم يسسزد علسسى أن يقسسول‪:‬‬ ‫في كل دم‪ ،‬وفي دم النائب أي ً‬
‫أحتج من كل قلبي‪..‬‬
‫الرئيس‪ :‬لندخل في الموضوع ولتكن المرافعة مطلقة؛ فإن الحسسدود‬
‫في جرائم القلب تسدل وترفع كهذه السسستائر فسسي مسسسرح التمثيسسل‪.‬‬
‫وعشرون ستارة قد تكون كلها لرواية واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬النائب العام‪ :‬يا حضرات المستشارين‪ ،‬ل يطول اتهامي؛ فسسإن هسسذا‬
‫القلب هو نفسه تهمة متكلمة‪.‬‬
‫المحامية‪ :‬ولكنه قلب‪.‬‬
‫النائب‪ :‬وأنا يا سيدتي لم أحرف الكلمة ولم أقل إنه كلب‪" .‬ضحك"‪،‬‬
‫وتضرج وجه المحامية وخجلت*‪.‬‬
‫‪ -‬الرئيس‪ :‬الموضوع الموضوع‪.‬‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬يسسا حضسسرات المستشسسارين‪ ،‬إن ألسسم هسسذه الجريمسسة إمسسا أن‬
‫جسسا مثًل‪ ،‬أو‬
‫يكون في شخص الجاني أو ماله‪ ،‬أو صفته كأن يكسسون زو ً‬
‫صيته الدبي؛ فإما الشخص فهذا ظاهر‪ ،‬وأما المال فنعسسم إن القلسسب‬
‫دا تسذكرة دخسول إلسى‬ ‫المسسكين قسرار لنفسسه ولصساحبه أل يبتساع أبس ً‬
‫جهنم‪" ..‬ضحك"‪.‬‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬أسسستميح النسسائب عسسذًرا إذا أنسسا‪ ..‬إذا أنسسا فهمسست مسسن هسسذا‬
‫التعسسبير أن حضسسرته يعسسرف علسسى القسسل أيسسن تبسساع هسسذه "التسسذاكر"‪..‬‬
‫"ضحك" وتفرج وجه النائب العام وخجل‪.‬‬
‫‪ -‬الرئيس‪ :‬كنت رجوت أل تكون للولى ثانية‪ ،‬وقلسست‪ :‬إن معنسسى هسسذا‬
‫كما هو ظاهر أل يكون لهسسا ثالثسسة؛ فهسسل أنسسا محتسساج إلسسى القسسول بسسأن‬
‫المعنى المنطقي أل يكون للثالثة رابعة؟‬
‫‪ -‬النسسائب‪ :‬يسسا حضسسرات المستشسسارين‪ ،‬وأمسسا الصسسفة‪ ،‬فهسسذا القلسسب‬
‫المسكين قلسسب رجسسل مسستزوج؛ ول تغرنكسسم صسسوفية هسسذا القلسسب‪ ،‬ول‬

‫‪128‬‬
‫يخدعنكم تألهه وزعمه السمو‪ .‬إنسسه علسسى كسسل حسسال يعشسسق راقصسسة‪،‬‬
‫وهذا اعتداء في ضمنه اعتداء‪ ،‬على السسزواج وعلسسى الشسسرف؛ وهبسسوه‬
‫متصوًفا متألًها ولم يتصل بالراقصة‪ ،‬فهو علسسى كسسل حسسال قسسد أخسسذها‬
‫واتخذها ولكن بأسلوبه الخاص‪ ..‬وبهذا اقترف الجريمسة؛ آه! إن هسذه‬
‫صسا فسسي الحكسسم‬ ‫القضية ناقصة؛ وذلك نقص فيها أخشى أن يكسسون نق ً‬
‫ضا‪ ،‬فأتموه أنتم‪ .‬يا حضرات المستشارين‪ ،‬إن النقسسص فيهسسا أنهسسا ل‬ ‫أي ً‬
‫شهود فيهسسا؛ ولكسن هسسذا عمسسل إلهسي ل يظهسسر إل يسوم تشسهد عليهسسم‬
‫ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* إذا كان كلًبا فهو يتبع كلبة‪ ..‬وهذه هي غمزة النسسائب للمحاميسسة‪ ،‬ول‬
‫ينس القراء أن المحكمة في الرؤيا؛ وفي الرؤيا علمنا أن هذا النائب‬
‫كسسأكثر شسسبان العصسسر فسسي هسسذه المدنيسسة الفاسسسدة‪ ،‬ل يسستزوجون؛ لن‬
‫المدنية جعلتهم بين الفتيان "أنصاف متزوجين" علسسى وزن "أنصسساف‬
‫عذارى" بين الفتيات‪ ..‬وفي الرؤيا علمنا أنسسه يخسسادن راقصسسة‪ ،‬ويقسسال‬
‫ممثلة ‪-‬بينها وبين صاحب القلب المسكين منافسة ‪...‬‬
‫‪-‬المحامية‪ :‬هذا تعبير أكبر من قدرة قائله ومن منزلته ووظيفته‪ ،‬هذا‬
‫دا في لسسسانه‬ ‫تعبير جسور! يا حضرة النائب‪ ،‬من الذي ل يحمل شهو ً‬
‫ويديه ورجليه‪ ،‬بسسل ألسسف شسساهد علسسى ليلسسة واحسسدة‪ ..‬يجسسب أن يكسسون‬
‫ما بيننا يا حضرة النائب أن النون والباء في لفظة "نسسائب" غيسسر‬ ‫مفهو ً‬
‫النون والباء في لفظة "نبي"‪.‬‬
‫‪-‬النائب‪ :‬يا حضرات المستشارين‪ ،‬ل أرى ممسا يحرجنسي فسي التهسام‬
‫أن أصرح لكم أن مما حيرني في هسسذه الجريمسسة أن ليسسس فيهسسا مسسن‬
‫أوصاف الجرائم إل ثلم الكرامة‪ ،‬فل قذف ول سسسب ول هتسسك عسسرض‬
‫ول فجور‪ ،‬ول أصغر من ذلك‪ ،‬ول كأس خمر للراقصة‪..‬‬
‫‪-‬المحامية‪ :‬ل أرى أمام حضرة النائب كأس ماء‪ ،‬وسيجف حلقه فسسي‬
‫هذه القضية؛ فلعل المحكمة تأمر لي بكأس‪" ..‬ضحك"‪.‬‬
‫‪-‬النائب‪ :‬يا حضرات المستشارين‪ ،‬يعشق راقصسسة؛ اسسسم فاعسسل مسسن‬
‫رقص يرقص؛ امرأة ل تلبس ثياًبا‪ ،‬بل عرًيا في شكل ثياب‪ ..‬امرأة ل‬
‫كالنسسساء‪ ،‬كسسذبها هسسو صسسدق مسسن شسسفتيها؛ لمسساذا؟ لنهمسسا حمسسراوان‬
‫رقيقتان عذبتان محبوبتان مطلوبتان‪..‬‬
‫المحامية‪ :‬تضحك‪..‬‬
‫‪ -‬النائب "بعد أن تتعتع"‪ :‬امرأة ل كالنساء‪ ،‬جعلتها الحرفة امرأة فسسي‬
‫العمل‪ ،‬ورجًل في الكسب‪..‬‬

‫‪129‬‬
‫‪-‬المحامية‪ :‬ولكنك ل تدري أي حمل سقطت* المسكينة‪ ،‬وقد يكسسون‬
‫في الرذائل رذائل كبعض أصحاب اللقاب‪ :‬ذات عظمة‪..‬‬
‫‪-‬النائب‪ :‬يحب راقصة أي يضعها فسسي عقلسسه البسساطن ويشسستهيها؛ نعسسم‬
‫يشسستهيها‪ ،‬فمسسن عقلسسه البسساطن‪ ،‬وبتعسسبير اللغسسة‪ ،‬مسسن واعيتسسه ‪-‬تخسسرج‬
‫الجريمة أو على القل‪ ،‬فكرة الجريمة‪.‬‬
‫والصسسيت الدبسسي يسسا حضسسرات المستشسسارين؟ هسسل مسسن كرامسسة لمسسن‬
‫يعشق راقصة؟ ل بل هسسل مسسن كرامسسة فسسي الحسسب؟ ألسسم يقولسسوا‪ :‬إن‬
‫كرامسسة الرجسسل تكسسون تحسست قسسدمي المسسرأة المعشسسوقة كالممسسسحة‬
‫الخشنة تمسح فيها نعليها!‬
‫الحب؟ ما هو الحب؟ إنه ليس فكرة‪ ،‬بل هو شيطان يتلبسسس لجسسسم‬
‫العاشق؛ ليعمل أعماله بأداة حية‪ ،‬وهذا السستركيب الحيسسواني للنسسسان‬
‫هو الذي يهيئ من الحسب مسداخل ومخسارج للشسياطين فسي جسسمه؛‬
‫وهل رضي صاحب القلب المسكين بجنايسسة قلبسسه عليسسه‪ ،‬وعظيسسم مسسا‬
‫ض‬
‫انتهك من أخلقه السامية؟ هل رضي عشقه راقصسسة؟ إن لسسم يسسر َ‬
‫الرضى الصحيح‪ ،‬أو رضي بقدر ما؛ فعلسسى كليهمسسا يقسسوم فسسي نفسسسه‬
‫مانع؛ والمانع من الرضى هو الموجب للعقوبة‪.‬‬
‫‪-‬المحامية‪ :‬ولكن قدرا من الرضى ينزل بالجناية فيردهسسا إلسسى جنحسسة‬
‫كما في القانون النجليزي‪ ،‬وقد قرر الشراح أنه ما دام الرضى غيسسر‬
‫مستلب بكله‪ ،‬فالجريمة غير واقعة بكلها‪.‬‬
‫‪-‬النائب‪ :‬جنحة كل قلب هي جناية من هسسذا القلسسب بخصوصسسه‪ ،‬علسسى‬
‫طريقة "حسنات البرار سسسيئات المقربيسن"؛ والعسبرة هنسا بسالواقع ل‬
‫بالصفة القانونية‪ ،‬وقد قرر الشراح أن الواقع قد يكسسون أحيانسسا سسسببا‬
‫في تشديد العقوبة‪ ،‬فل بد من تشديد العقوبسسة فسسي هسسذه القضسسية‪ .‬ل‬
‫أطلب الحكم بالمادة ‪ 230‬عقوبات بل بسسالمواد مسسن ‪ 230‬إلسسى ‪241‬‬
‫ضربة واحدة‪.‬‬
‫‪-‬المحامية‪ :‬قد نسيت أن هذا قلب وعقوبته عقوبة لصاحبه البريء‪.‬‬
‫‪-‬النائب‪ :‬إذن أطلب عقابه بحرمسانه الجمسسال‪ :‬وهسسذا أشسسق عليسسه مسسن‬
‫العقاب باثنتي عشرة مادة وبعشرين وثلثين‪.‬‬
‫الرئيس‪ :‬وما هي الطريقة لتنفيذ الحكم بهذا الحرمان؟‬
‫النسسائب‪ :‬تسسأمر المحكسسم بسسالمراقص كلهسسا فتغلسسق‪ ،‬وبالمسسسارح كلهسسا‬
‫فتقفل‪ ،‬وبالسينما فتبطل إل ما ل جمال فيه منها ول غسسزل ول حسسب‪،‬‬
‫ويحرم السفور على النساء إل العجائز والدميمات‪ ،‬ويمنع نشر صور‬
‫الجمال في الصحف والكتب‪ ،‬و‪...‬‬

‫‪130‬‬
‫المحامية‪ :‬قل فسسي كلمسسة واحسسدة‪ :‬يجسسب إصسسلح العسسالم كلسسه لصسسلح‬
‫القلب النساني!‬
‫وجلس النائب‪ ،‬فالتفت الرئيس إلى المحامية وقال لها‪ :‬وأما هو؟‪..‬‬

‫‪‬‬

‫‪131‬‬
‫القلب المسكين "تتمة"‬

‫قال صاحب القلب المسكين‪ :‬ووقفت المحامية وكأنها بين الحسسراس‬


‫تزدحم عليها من كل ناحية‪ ،‬وقد ظهرت للموجسسودين ظهسسور الجمسسال‬
‫للحب‪ ،‬ونقلتهم في الزمن إلى مثل السسساعة المصسسورة السستي ينتظسسر‬
‫فيها الطفال سسسماع القصسسة العجيبسسة؛ سسساعة فيهسسا كسسل صسسور اللسسذة‬
‫للقلب‪.‬‬
‫وكانت تدافع بكلمها ووجهها يدافع عسسن كلمهسسا‪ ،‬فلسسو نطقسست غي ًسسا أو‬
‫دا فلهذا صواب ولهذا صواب‪ ،‬لن أحد الصوابين منظور بالعين‪.‬‬ ‫رش ً‬
‫مسسا يسسسمع ويفهسسم‪ :‬أمسسا صسسوت المحاميسسة‬ ‫كان صوت النائب العام كل ً‬
‫الجميلة فكان يسمع ويفهم ويحس ويذاق‪ ،‬تلقيه هسسي مسسن ناحيسسة مسسا‬
‫يدرك‪ ،‬وتتلقاه النفس من ناحية ما يعشق؛ فهو متصل بحقيقتين من‬
‫معناه ومعناها‪ ،‬وهو كله حلوة؛ لنه من فمها الحلو‪.‬‬
‫وبدأت فتناولت من أشيائها مرآة صغيرة فنظرن فيها‪.‬‬
‫‪ -‬النائب العام‪ :‬ما هذا يا أستاذة؟‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬إنكم تزعمون أن هذه الجريمة تأليف عيني‪ ،‬فأنسسا أسسسأل‬
‫عيني قبل أن أتكلم!‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬نعم يا سيدتي‪ ،‬ولكنسسي أرجسسو أل تسسدخلي القضسسية فسسي سسسر‬
‫المرآة وأخواتهسسا‪ ..‬إن النيابسسة تخشسسى علسسى اتهامهسسا إذا تكحلسست لغسسة‬
‫الدفاع!‬
‫فضحكت المحامية ضحكة كانت أول البلغة المؤثرة‪..‬‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬من الوقار القانون أن تكون المحامية الفتانة غير فتانسسة ول‬
‫جذابة أمام المحكمة‪.‬‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬تريد أن تجعلها عجوًزا بأمر النيابة؟ "ضحك"‪.‬‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬جمال حسناء‪ ،‬في ظرف غانية‪ ،‬فسسي شسسمائل راقصسسة‪ ،‬فسسي‬
‫حماسة عاشقة‪ ،‬في ذكاء محامية‪ ،‬في قدرة حب؛ هذا كثير!‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬يا حضسسرات المستشسسارين‪ ،‬لسسم تكسسن المسسرآة هفسسوة مسسن‬
‫طبيعة المرأة‪ ،‬ولكنها الكلمة الولى في الدفاع‪ ،‬كلمسسة كسسان الجسسواب‬
‫عنها من النائب العام أنه أقر بتأثير الجمال وخطره‪ ،‬حتى لقد خشي‬
‫على اتهامه إذا تكحلت له لغتي‪.‬‬
‫‪ -‬القضاة يتبسمون‪.‬‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬لم أزد على أن طلبت الوقار القانوني‪ ،‬الوقار‪ ،‬نعم الوقار؛‬
‫فإن المحامية أمام المحكمة‪ ،‬هي متكلم ل متكلمة‪.‬‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬متكلم بلحية مقدرة منع من ظهورها التعذر "ضحك"‪..‬‬

‫‪132‬‬
‫كل يا حضرة النائب؛ إن لهذه القضية قانوًنا آخسسر تنسستزع منسسه شسسواهد‬
‫وأدلة؛ قانون سحر المرأة للرجل‪ ،‬فلو اقتضاني أن أرقص لرقصسست‪،‬‬
‫أو أغني لغنيت‪ ،‬أو سحر الجمال لثبته أول شيء في النائب‪..‬‬
‫‪ -‬الرئيس‪ :‬يا أستاذة!‬
‫‪ -‬المحاميسسة‪ :‬لسسم أجسساوز القسسانون‪ ،‬فالنسسائب فسسي جريمتنسسا هسسو خصسسم‬
‫ضا خصم الطبيعة النسوية‪.‬‬ ‫القضية‪ ،‬وهو أي ً‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬لو حدث من هذا شيء لكان إيحسساء لعواطسسف المحكمسسة ‪...‬‬
‫فأنا أحتج!‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬احتج ما شئت‪ ،‬ففي قضايا الحب يكون العدل عدلين؛ إذ‬
‫كان الضطرار قد حكم بقانونه قبل أن تحكم أنت بقانونك‪.‬‬
‫النائب‪ :‬هذه العقدة ليسسست عقسسدة فسسي منسسديل يسسا سسسيدتي‪ ،‬بسسل هسسي‬
‫عقدة في القانون‪.‬‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬وهذه القضية ليست قضية إخلء دار يا سسيدي‪ ،‬بسل هسي‬
‫قضية إخلء قلب!‬
‫‪ -‬الرئيس‪ :‬الموضوع‪ ،‬الموضوع!‬
‫‪ -‬المحاميسسة‪ :‬يسسا حضسسرات المستشسسارين‪ ،‬إذا انتفسسى القصسسد الجنسسائي‬
‫وجبت البراءة‪.‬‬
‫هذا مبدأ ل خلف عليه؛ فما هو الفعسسل الوجسسودي فسسي جريمسسة قلسسبي‬
‫المسكين؟‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬أوله حب راقصة‪.‬‬
‫ما هذا الوصف؟ هبوها في معناها غير جديرة بأن‬ ‫‪ -‬المحامية‪ :‬آه! دائ ً‬
‫يعرفها؛ لنه رجل تقي‪ ،‬أفليست في حسنها جديرة بسسأن يحبهسسا؛ لنسسه‬
‫رجسسل شسساعر؟ أحكمسسوا يسسا حضسسرات القضسساة؛ هسسذه راقصسسة ترتسسزق‬
‫وترتفق‪ ،‬ومعنى ذلك أنهسا رهسسن بأسسسبابها‪ ،‬ومعنسسى هسسذا أنهسا خاضسعة‬
‫للكلمة التي تدفع‪ ..‬فلماذا لم ينلها وهي متعرضسسة لسسه‪ ،‬وكلهمسسا مسسن‬
‫قسا‬
‫صاحبه على النهاية‪ ،‬وفي آخسر أوصساف الشسوق؟ أليسس هسذا حقي ً‬
‫بإعجابكم القانوني كما هسسو جسسدير بإعجسساب السسدين والعقسسل؟ وإن لسسم‬
‫يكن هذا الحب شهوة فكسسر‪ ،‬فمسسا السسذي يحسسول دونهسسا ومسسا يمنعسسه أن‬
‫يتزوجها؟‬
‫‪ -‬القضاة يتبسمون‪.‬‬
‫‪ -‬النسسائب‪ :‬نسسسيت المحاميسسة أنهسسا محاميسسة وانتقلسست إلسسى شخصسسيتها‬
‫الواقعة على النهاية وفي آخر أوصاف الشوق‪ ..‬فأرجو أن ترجع إلسسى‬
‫الموضوع‪ ،‬موضوع الراقصة‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ما الراقصة‪ ،‬من هي هذه المسكينة السسيرة فسي‬ ‫‪ -‬المحامية‪ :‬آه! دائ ً‬
‫أيدي الجوع والحاجة والضطرار؟ أليست مجموعة فضائل مقهورة؟‬
‫أليست هي الجائعة التي ل تجد من الفسساجرين إل لحسسم الميتسسة؟ نعسسم‬
‫إنها زلت‪ ،‬إنها سقطت‪ ،‬ولكسسن بمسساذا؟ بسسالفقر ل غيسسر‪ ،‬فقسسر الضسسمير‬
‫والذمة في رجل فاسد خسسدعها وتركهسسا‪ ،‬وفقسسر العسدل والرحمسة فسي‬
‫اجتماع فاسد خذلها وأهملها! يا للرحمة لليتيمسسة مسسن الهسسل‪ ،‬وأهلهسسا‬
‫موجودون! والمنقطعة من الناس‪ ،‬والناس حولها!‬
‫تقولون‪ :‬يجب ول يجب‪ ،‬ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شسساءت‬
‫فتجعل ما ل ينبغي هو الذي ينبغي‪ ،‬وتقلب ما يجب إلى مسسا ل يجسسب‪،‬‬
‫فإذا ضساع مسن يضسسيع فسي هسذا الختلط‪ ،‬قلتسم لسه‪ :‬شسسأنك بنفسسسك‪،‬‬
‫ونفضتم أيديكم منه فأضعتموه مرة أخسسرى‪ ،‬ويحكسسم يسسا قسسوم! غيسسروا‬
‫اتجاه السباب في هذا الجتماع الفاسد‪ ،‬تخرج لكم مسسسببات أخسسرى‬
‫غير فاسدة‪.‬‬
‫تأتي المرأة مسسن أعمسسال الرجسسل ل مسسن أعمسسال نفسسسها‪ ،‬فهسسي تابعسسة‬
‫وتظهر كأنها متبوعة؛ وذلك هو ظلم الطبيعة للمسكينة؛ ومسسن كونهسسا‬
‫مسا آخسسر فيأخسسذها وحسسدها‬ ‫تظهر كأنهسا متبوعسسة‪ ،‬يظلمهسا الجتمسساع ظل ً‬
‫بالجريمسسة‪ ،‬ويقسسال‪ :‬سسسافلة‪ ،‬وسسساقطة؛ ومسسا جسساءت إل مسسن سسسافل‬
‫وساقط!‬
‫لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن؟ أهي‬
‫تريد القتل والتعذيب والمثلة؟ كل؛ فإن القتل ممكن بغير هذا وبأشد‬
‫من هذا‪ ،‬ولكنها الحكمة السامية العجيبة‪ :‬إن هذا الفاسسسق هسسدم بيت ًسسا‬
‫فهو يرجم بحجارته!‬
‫ما أجلك وأسماك يا شسسريعة الطبيعسسة! كسسل الحجسسار يجسسب أن تنتقسسم‬
‫لحجر دار السرة إذا انهدم‪.‬‬
‫تستسسقطون المسسسكينة‪ ،‬ولسو ذكرتسم آلمهسا لوجسسدتم فسي ألسسنتكم‬
‫كلمات الصلح والرحمة ل كلمات الذم والعار؛ إنهسا تسسعى برذيلتهسا‬
‫إلى الرزق؛ فهل معنى هذا إل أنها تسعى إلى الرزق بسسأقوى قوتهسسا؟‬
‫نعم إن ذلك معنى الفجور‪ ،‬ولكن أليس هو نفسه معنى القسسوت أيهسسا‬
‫الناس؟‬
‫‪ -‬الرئيس وهو يمسح عينيه‪ :‬الموضوع الموضوع!‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬ما هو الفعل الوجودي في جريمة قلسسبي المسسسكين؟ مسسا‬
‫هو الواقع من جريمسسة يضسسرب صسساحبها المثسسل بنفسسسه للشسسباب فسسي‬
‫تسامي غريزته عن معناهسسا إلسى أطهسر وأجمسل مسن معناهسسا؟ لسسبئس‬

‫‪134‬‬
‫القانون إن كان القانون يعاقب على أمر قد صار إلى عمل ديني من‬
‫أعمال الفضيلة!‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬أل يخجل من شعوره بأنه يحب راقصة؟‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬ومم يخجل؟ أمن جمسسال شسسعوره أم مسسن فسسن شسسعوره؟‬
‫أيخجل من عظمة في سمو في كمال؟ أيخجسسل البطسسل مسسن أعمسسال‬
‫الحرب وهي نفسها أعمال النصر والمجد؟‬
‫أتأذنون يا حضرات المستشارين أن أصف لكسسم جمسسال صسساحبته وأن‬
‫أظهر شيًئا من سر فنها الذي هو سر البيان في فنه؟‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬إنها تتماجن علينا يا حضرات المستشسسارين‪ ،‬فالسسذي يحسساكم‬
‫على السكر ل يدخل المحكمة ومعه الزجاجة‪..‬‬
‫‪ -‬الرئيس‪ :‬ل حاجة إلى هذا النوع من ترجمسسة الكلم إلسسى أعمسسال يسسا‬
‫حضرة الستاذة‪.‬‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬كثيًرا ما تكون اللفاظ مترجمسسة خطسسأ بنيسسات المتكلميسسن‬
‫بها أو المصغين إليهسسا؛ فكلمسسة الحسسب مثًل قسسد تنتهسسي إلسسى فكسسر مسسن‬
‫الفكار حاملة معنى الفجور‪ ،‬وهي بعينها تبلسغ إلسى فكسر حاملسة إلسى‬
‫سموه من سموها؛ وعلى نحو من هذا يختلف معنسى كلمسة الحجسساب‬
‫عند الشرقيين والوربيين؛ فالصل في مدنيسسة هسسؤلء إباحسسة المعسساني‬
‫الخفيفة من العفة‪ ..‬وإكرام المرأة إكرام مغازلة‪ ..‬يقولون‪ :‬إن رقسسم‬
‫الواحد غير رقم العشرة‪ ،‬فيضعونه في حياة المرأة‪ ،‬فمسسا أسسسرع مسسا‬
‫يجيء "الصفر" فإذا هو العشرة بعينها!‬
‫أما الشرقيون فالصل في مدنيتهم التزام العفة وإقرار المسسرأة فسسي‬
‫حقيقتها‪ ،‬ل جسسرم كسسان الحجسساب هنسسا وهنسساك بسسالمعنيين المتناقضسسين‪:‬‬
‫الستبداد والعدل‪ ،‬والقسوة والرحمة‪ ،‬و ‪...‬‬
‫‪ -‬النائب‪ :‬وامرأة البيت وامرأة الشارع ‪...‬‬
‫‪ -‬المحامية‪ :‬وبصر القانون وعمي القانون ‪...‬‬
‫‪ -‬الرئيس‪ :‬وحسن الدب وسوء الدب‪ ...‬الموضوع الموضوع‪.‬‬
‫‪ -‬المحاميسسسة‪ :‬ل والسسسذي شسسسرفكم بشسسسرف الحكسسسم‪ ،‬يسسسا حضسسسرات‬
‫المستشارين؛ ما يرى القلب المسكين في حبيبته إل تعسسبير الجمسسال‪،‬‬
‫فهو يفهمها فهم التعبير ككل موضوعات الفن‪ ،‬وما بينه وبينهسسا إل أن‬
‫حقيقة الجمال تعرفت إليها فيها‪ ،‬أئن أحس الشاعر سًرا من أسسسرار‬
‫الطبيعة في منظر من مناظرها‪ ،‬قلتم أجرم وأثم؟‬
‫هذا قلب ذو أفكار‪ ،‬وسبيله أن يعان على ما يتحقق به من هذا الفن‪،‬‬
‫قد تقولون‪ :‬إن في الطبيعسسة جمسساًل غيسسر جمسسال المسسرأة فليأخسسذ مسسن‬
‫الطبيعة وليعط منها؛ ولكن مسسا السسذي يحيسسي الطبيعسسة إل أخسسذها مسسن‬

‫‪135‬‬
‫القلب؟ وما هي طريقة أخذها من القلب إل بسسالحب؟ وقسسد تقولسسون‪:‬‬
‫إنه يتألم ويتعذب؛ ولكن سلوه‪ :‬أهو يتألم بإدراكه اللم في الحب‪ ،‬أو‬
‫بإدراكه قسوة الحقيقة وأسرار التعقيد في الخير والشر؟‬
‫ما إل في أحسسد الطرفيسسن‪ :‬هسسم أكسسبر‬ ‫إن شعراء القلوب ل يكونون دائ ً‬
‫من الهم‪ ،‬فرح أكثر من الفرح؛ فإذا عشقوا تجاوزوا موضوع الوسط‬
‫السذي ل يكسسون الحسب المعتسسدل إل فيسه؛ ومسن هسذا فليسس لهسسم آلم‬
‫معتدلة ول أفراح معتدلة‪.‬‬
‫هذا قلب مختار من القدرة الموحيسسة إليسسه‪ ،‬فسسالتي يحبهسسا ل تكسسون إل‬
‫مختارة من هذه القدرة اختيار ملك الوحي‪ ،‬وهما بهذا قوتان في يسسد‬
‫الجمال ليداع أثر عظيم ملء قدرتين كلتاهما عظيمة‪..‬‬
‫فإن قلتم إن حب هسسذا القلسسب جريمسسة علسسى نفسسسه‪ ،‬قسسالت الحقيقسسة‬
‫الفنية‪ :‬بل امتناع هذه الجريمة جريمة‪.‬‬
‫إن خمسين وخمسين تأتي منهما مائة‪ ،‬فهذا بديهي‪ ،‬ولكن ليس أبين‬
‫ول أظهر ول أوضح من قولنا‪ :‬إن هذا العاشق وهذه المعشوقة يسسأتي‬
‫منهما فن‪.‬‬
‫قسسال صسساحب القلسسب المسسسكين‪ :‬وانصسسرف القضسساة إلسسى غرفتهسسم؛‬
‫ليتداولوا الرأي فيمسسا يحكمسسون بسسه‪ ،‬وأومسسأت لسسي المحاميسسة الجميلسسة‬
‫تدعوني إليها‪ ،‬فنهضت أقوم فإذا أنا جالس وقد انتبهت من النوم‪.‬‬
‫جائزة ‪ :1‬لمن يحسن كتابة الحكم في هذه القضية خمس نسخ مسسن‬
‫كتاب "‬
‫)‪(1/135‬‬

‫وحي القلم"‪ ،‬وترسل المقالت "باسمنا إلى طنطا"‪ ،‬والموعسسد "إلسسى‬


‫آخر شسسهر ينسساير هسسذا" والشسسرط رضسسى المحكميسسن‪ ،‬ومنهسسم صسساحب‬
‫القلب المسكين وصاحبته‪..‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬قلت‪ :‬وردت إلى المؤلف مئات الرسائل بحكم أصحابها في قضية‬
‫"القلب المسكين"‪ ،‬ولكن مسابقة الحكم في هذه القضية لم يفصل‬
‫فيها؛ لن قاضيها الول ومتهمها الول قد غاله المسسوت قبسسل أن يسسرى‬
‫رأيه ويحكم حكمه!‬

‫‪‬‬

‫‪136‬‬
‫انتصار الحب*‬

‫كل ما يكتب عن حبيبين ل يفهم منه بعض ما يفهسسم مسسن رؤيسسة وجسسه‬
‫أحدهما ينظر إلى وجه الخر‪.‬‬
‫وما تعرفه العين من العين ل تعرفه بألفاظ‪ ،‬ولكن بأسرار‪..‬‬
‫والغليل المتسعر في دم العاشق كجنسسون المجنسسون‪ :‬يختسسص برأسسسه‬
‫وحده‪.‬‬
‫وضسمة المحسسب لحسسبيبه إحسسساس ل يسسستعار مسن صسسدر آخسسر‪ ،‬كمسا ل‬
‫يستعار المولود لبطن لم يحمله‪.‬‬
‫وكلمة القبلسسة السستي معناهسسا وضسسع الفسسم‪ ،‬لسسن ينتقسسل إليهسسا مسسا تسسذوقه‬
‫الشفتان!‬
‫ويوم الحب يوم ممدود‪ ،‬ل ينتهي فسسي الزمسسن إل إذا بسسدأ يسسوم السسسلو‬
‫في الزمن‪..‬‬
‫دا يفصسسل بيسسن وقسستين لينتهسسي‬ ‫فهسسل يسسستطيع الخلسسق أن يصسسنعوا ح س ّ‬
‫أحدهما‪..‬؟‬
‫وهبهم صنعوا السلوان من مادة النصيحة والمنفعة‪ ،‬ومن ألف برهان‬
‫وبرهان‪ ،‬فكيف لهسسم بالمسسستحيل‪ ،‬وكيسسف لهسسم بوضسسع السسسلوان فسسي‬
‫القلب العاشق؟‬
‫وإذا سالت النفس مسسن رقسسة الحسسب‪ ،‬فبسسأي مسسادة تصسسنع فيهسسا صسسلبة‬
‫الحجر‪..‬؟‬
‫وما هو الحب إل إظهسسار الجسسسم الجميسسل حسسامًل للجسسسم الخسسر كسسل‬
‫أسراره‪ ،‬يفهمها وحده فيه وحده؟‬
‫ومسسا هسسو الحسسب إل تعلسسق النفسسس بسسالنفس السستي ل يملؤهسسا غيرهسسا‬
‫بالحساس؟‬
‫وما هو الحب إل إشراق النور الذي فيه قوة الحيسساة‪ ،‬كنسسور الشسسمس‬
‫من الشمس وحدها؟‬
‫‪---------------‬‬
‫* شغلتنا مقالت "القلب المسكين" عن الكتابة فسسي حادثسسة "القلسسب‬
‫المسكين العظم"‪ ،‬قلب الملك إدوارد عندما وقعت الحادثة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وحادثة تخلي الملك إدوارد عن عرش المبراطورية البريطانية‬
‫في سنة ‪ 1936‬من أجل امرأة‪ -‬ذائعة مشهورة‪.‬‬
‫وهل في ذهبت الدنيا وملك الدنيا ما يشسستري السسسرار‪ ،‬والحسسساس‪،‬‬
‫وذلك النور الحي؟‪..‬‬
‫فما هو الحب إل أنه هو الحب؟‬

‫‪137‬‬
‫ما هو هذا السر في الجمال المعشسسوق‪ ،‬إل أن عاشسسقه يسسدركه كسسأنه‬
‫عقسسل للعقسسل ومسسا هسسو هسسذا الدراك إل انحصسسار الشسسعور فسسي جمسسال‬
‫متسلط كأنه قلب للقلب؟ وما هو الجمسسال المتسسسلط بإنسسسان علسسى‬
‫إنسان‪ ،‬إل ظهور المحبوب كأنه روح للروح؟ ولكن ما هو السسسر فسسي‬
‫حب المحبوب دون سواه؟‪ ..‬هنا تقف المسألة وينقطع الجواب‪.‬‬
‫هنا سر خفي كسّر الوحدانية؛ لنها وحدانيته "أنا وأنت"‪.‬‬
‫ناقشوا الحب؛ فقالوا‪ :‬أصبحت الدنيا دنيا المسسادة‪ ،‬والروحانيسسة اليسسوم‬
‫كالعظام الهرمة ل تكتسي اللحم العاشق‪..‬‬
‫وقال الحب‪ :‬ل بل المادة ل قيمة لهسسا فسسي السسروح؛ وهسسذا القلسسب لسسن‬
‫يتحول إلى يد ول إلى رجل‪..‬‬
‫ناقشوا الحب؛ فقالوا‪ :‬إن العصسسر عصسسر اللت‪ ،‬والعمسسل الروحسسي ل‬
‫وجود له في اللة ول مع اللة‪..‬‬
‫ما كما صسسنعه‬ ‫قال الحب‪ :‬ل‪ ،‬يصنع النسان ما شاء‪ ،‬ويبقى القلب دائ ً‬
‫الخالق‪..‬‬
‫وقالوا‪ :‬الضعيفان‪ :‬الحب والدين‪ ،‬والقويان‪ :‬المال والجاه؛ فبمسساذا رد‬
‫الحب‪..‬؟‬
‫جاء بلؤلؤة روحانية في "مسز سمبسسسون"؛ ووضسسع لهسسا فسسي ميسسزان‬
‫المال والجاه أعظم تاج فسسي العسسالم إدوارد الثسسامن "ملسسك بريطانيسسا"‬
‫العظمى وإرلنسسدا والممتلكسسات البريطانيسسة فيمسسا وراء البحسسار وملسسك‪-‬‬
‫إمبراطور الهند"‪.‬‬
‫وتنافسسست الروحانيسسة والماديسسة‪ ،‬فرجسسع التسساج ومسسا فيسسه إل أضسسعف‬
‫المعنيين من القلب‪.‬‬
‫وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في العلن‪ ،‬فهز العسسالم كلسسه‬
‫هزة صحافية‪:‬‬
‫الحب‪ .‬الحب‪ .‬الحب‪... .‬‬
‫"مسز سمبسون"‪ ،‬تلك الجميلة بنصف جمال‪ ،‬المطلقة مرتين‪ .‬هسسذا‬
‫هو اختيار الحب!‬
‫ولكنها المعشوقة؛ وكل معشسسوقة هسسي عسسذراء لحبيبهسسا ولسسو تزوجسست‬
‫مرتين؛ هذا هو سر الحب!‬
‫ولكنها الفاتنة كل الفتنة‪ ،‬والظريفة كل الظرف‪ ،‬والمرأة كل المرأة‪،‬‬
‫هذا هو فعل الحب!‬
‫ولكنهسسا العقسسل للعصسساب المجنونسسة‪ ،‬والنسسس للقلسسب المسسستوحش‪،‬‬
‫والنور في ظلمة الكآبة؛ هذا هو حكم الحب!‬

‫‪138‬‬
‫ومن أجلها يقول ملك انجلترا للعسسالم‪" :‬ل أسسستطيع أن أعيسسش بسسدون‬
‫المرأة التي أحبها"؛ فهذا هو إعلن الحب‪..‬‬
‫إذا أخذوها عنه أخذوها من دمه‪ ،‬فلذلك معنى من الذبح‪.‬‬
‫وإذا انتزعوها انتزعوها من نفسه‪ ،‬فذلك معنى من القتل‪.‬‬
‫وهل في غيرها هي روح اللهفة التي في قلبه‪ ،‬فيكون المسسذهب إلسسى‬
‫غيرها؟ لكأنهم يسألونه أن يموت موًتا فيه حياة‪.‬‬
‫وكأنهم يريدون منه أن يجن جنوًنا بعقل‪ ..‬هذا هو جبروت الحب!‬
‫وللسياسة حجج‪ ،‬وعند "مسز سمبسون" حجج‪ ،‬وعند الهوى‪..‬‬
‫التاج‪ ،‬الملكية‪ ،‬امرأة مطلقسسة‪ ،‬امسسرأة مسسن الشسسعب؛ فهسسذا مسسا تقسسوله‬
‫السياسة‪.‬‬
‫ولكنهسسا امسسرأة قلبسسه‪ ،‬تزوجسست مرتيسسن؛ ليكسسون لسسه فيهسسا إمتسساع ثلث‬
‫زوجات؛ وهذا ما يقوله الحب!‬
‫واللحظة الناعسسسة‪ ،‬والبتسسسامة النائمسسة‪ ،‬والشسسارة الحالمسسة‪ ،‬وكلمسسة‬
‫"سيدي"‪1‬؛ هذا ما يقوله الجمال‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬ل تخسساطب "مسسسز سمبسسسون" إدوارد إل بكلمسسة "سسسيدي"‪ ،‬ول‬
‫تتحدث عنه ول تسميه إل قالت "سيدي"‪ .‬ولن يأمر الحب أمره بأبلغ‬
‫ول أرق من كلمة العبودية اللطيفة هذه حين تنطق بهسسا المسسرأة فسسي‬
‫صوت قلبها وغريزتها؛ وقد كان هذا أدب نساء الشرق مع أزواجهسسن‪،‬‬
‫أما اليوم‪..‬‬
‫وانتصر الحب على السياسة‪ .‬وأبى الملك أن يكون كالم الرملة في‬
‫ملك أولدها الكبار‪..‬‬
‫فا من رجل‪ ،‬فيكون الثاني كالول‪.‬‬ ‫العرش يقبل رجًل خل ً‬
‫فا من امرأة‪ ،‬فلن تكون الثانية كالولى‪.‬‬ ‫والحب ل يقبل امرأة خل ً‬
‫وطارت في العالم هذه الرسالة‪" :‬أنسسا إدوارد الثسسامن ‪ ...‬أتخلسسى عسسن‬
‫العرش وذريتي من بعدي"!‬
‫"وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في العلن؛ فهز العالم كله‬
‫هزة صحافية"‪.‬‬
‫الحب‪ .‬الحب‪ .‬الحب ‪...‬‬

‫‪‬‬

‫‪139‬‬
‫قنبلة بالبارود ل بالماء المقطر*‬

‫حياكم الله يا شسسباب الجامعسسة المصسسرية؛ لقسسد كتبتسسم الكلمسسات السستي‬


‫تصرخ منها الشياطين‪..‬‬
‫كلمات لو انتسبن لنتسبت كل واحدة منهسسن إلسسى آيسسة ممسسا نسسزل بسسه‬
‫الوحي في كتاب الله‪.‬‬
‫ريد ُ‬‫ما ي ُ ِ‬ ‫فطلب تعليم الدين لشباب الجامعة ينتمي إلى هذه الية‪} :‬إ ِن ّ َ‬
‫س{‪.‬‬ ‫ج َ‬ ‫م الّر ْ‬ ‫ب ع َن ْك ُ ُ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه ل ِي ُذ ْه ِ َ‬
‫م‬ ‫وطلب الفصل بين الشبان والفتيات يرجسسع إلسسى هسسذه اليسسة‪} :‬ذ َل ِك ُس ْ‬
‫ن{‪.‬‬‫م وَقُُلوب ِهِ ّ‬ ‫قُلوب ِك ُ ْ‬‫أ َط ْهَُر ل ِ ُ‬
‫وطلب إيجاد المثل الخلقي لهذه المة من شبابها المتعلم هو معنى‬
‫ة{‪.‬‬‫م ٌ‬
‫ح َ‬
‫دى وََر ْ‬ ‫س وَهُ ً‬ ‫صائ ُِر ِللّنا ِ‬ ‫ذا ب َ َ‬ ‫الية‪} :‬هَ َ‬
‫قوة الخلق يا شباب الجامعة؛ لقد كتبتم الكلمات السستي يصسسفق لهسسا‬
‫العالم السلمي كله‪.‬‬
‫كلمات ليس فيها شيء جديد على السسسلم‪ ،‬ولكسسن كسسل جديسسد علسسى‬
‫المسلمين ل يوجد إل فيها‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬رفع طلبة الكليات في الجامعسسة المصسسرية إلسسى مسسديرها وعمسسدائها‬
‫وأساتذتها ‪-‬طلًبا يلتمسون فيه إدخسسال التعليسسم السسديني فسسي الجامعسسة‬
‫والفصل بيسسن الشسسبان والفتيسسات؛ إذ "ل إصسسلح إل بعسسد إصسسلح وروح‬
‫الشباب الناهض‪ ،‬حتى يكون له من قوة روحه وسسسمو أخلقسسه سسسلح‬
‫يحاب بسسه الرذيلسسة وينصسسر بسسه الفضسسيلة"‪ .‬قسسالوا‪" :‬ول شسسك أن المسسة‬
‫بأسرها قد أحسسست بنقسسص الناحيسسة الدينيسسة فسسي المجتمسسع المصسسري‪،‬‬
‫عا"‪.‬‬ ‫ونقص أخلق الفرد ووطنيته تبا ً‬
‫قلت‪ :‬وكان ذلك في مارس سنة ‪.1937‬‬
‫كلمات القوة الروحية التي تريد أن تقود التاريسسخ مسسرة أخسسرى بقسسوى‬
‫النصر ل بعوامل الهزيمة‪.‬‬
‫كلمسسات الشسسباب الطسساهر السسذي هسسو حركسسة الرقسسي فسسي المسسة كلهسسا‪،‬‬
‫فسيكون منها المحرك للمة كلها‪.‬‬
‫كلمسسات ليسسست قسسوانين‪ ،‬ولكنهسسا سسستكون هسسي السسسبب فسسي إصسسلح‬
‫القوانين‪...‬‬
‫قوة الخلق يا شباب‪ ،‬قوة الخلق‪ :‬إن الخطوة المتقدمسسة تبسسدأ مسسن‬
‫هنا‪...‬‬

‫‪140‬‬
‫يريد الشباب مع حقيقة العلم حقيقة الدين؛ فإن العلم ل يعّلم الصبر‬
‫ول الصدق ول الذمة‪.‬‬
‫يريدون قوة النفس مع قوة العقل‪ ،‬فإن القانون الدبي في الشسسعب‬
‫ل يضعه العقل وحده ول ينفذه وحده‪.‬‬
‫يريدون قوة العقيدة‪ ،‬حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة مسسا‬
‫تعلموه نفعهم ما اعتقدوه‪.‬‬
‫يريدون السمو الديني‪ ،‬لن فكرة إدراك الشهوات بمعناها هي فكرة‬
‫إدراك الواجبات بغير معناها‪.‬‬
‫يريسسدون الشسسباب السسامي الطسساهر مسن الجنسسسين‪ ،‬كسي تولسسد المسة‬
‫الجديدة سامية طاهرة‪.‬‬
‫قوة الخلق يا شباب‪ ،‬قوة الخلق؛ إن الخطوة المتقدمسسة تبسسدأ مسسن‬
‫هنا ‪...‬‬
‫أحس الشسسباب أنهسسم يفقسسدون مسسن قسسوة المناعسسة الروحيسسة بقسسدر مسسا‬
‫أهملوا من الدين‪.‬‬
‫وما هي الفضائل إل قوة المناعة من أضدادها؟ فالصدق مناعسسة مسسن‬
‫الكذب والشرف مناعة من الخسة‪.‬‬
‫والشباب المثقل بفسروض القسوة هسو القسوة نفسسها؛ وهسل السدين إل‬
‫فروض القوة على النفس؟‬
‫وشباب الشهوات شباب مفلسسس مسسن رأس مسساله الجتمسساعي‪ ،‬ينفسسق‬
‫دا!‬
‫ما ول يكسب أب ً‬ ‫دائ ً‬
‫والمدارس تخرج شبانها إلى الحياة‪ ،‬فتسألهم الحياة‪ :‬ماذا تعسسودتم ل‬
‫ماذا تعلمتم!‬
‫قوة الخلق يا شباب‪ ،‬قوة الخلق؛ إن الخطوة المتقدمسسة تبسسدأ مسسن‬
‫هنا‪...‬‬
‫وأحس الشباب معنى كثرة الفتيات في الجامعة‪ ،‬وأدركوا معنى هذه‬
‫الرقة التي خلقتها الحكمة الخالقة‪.‬‬
‫والمرأة أداة استمالة بالطبيعة‪ ،‬تعمل بغير إرادة ما تعملسسه بسسالرادة‪،‬‬
‫لن رؤيتها أول عملها‪.‬‬
‫نعم إن المغناطيس ل يتحرك حين يجذب‪ ،‬ولكن الحديسسد يتحسسرك لسسه‬
‫حين ينجذب!‬
‫ومتى فهم أحد الجنسين الجنس الخر‪ ،‬فهمه بإدراكين بإدراك واحد!‬
‫وجمال المرأة إذا انتهى إلى قلب الرجل‪ ،‬وجمال الرجسسل إذا اسسستقر‬
‫في قلب المرأة‪...‬‬
‫هما حينئذ معنيان‪ .‬ولكنهما على رغم أنف العلم معنيان متزوجان‪..‬‬

‫‪141‬‬
‫ل‪ ،‬ل؛ يا رجسسال الجامعسسة‪ ،‬إن كسسان هنسساك شسسيء اسسسمه حريسسة الفكسسر‬
‫فليس هناك شيء اسمه حرية الخلق‪.‬‬
‫وتقولون‪ :‬أوروبا وتقليد أوروبا! ونحن نريسسد الشسسباب السسذين يعملسسون‬
‫لستقلنا ل لخضوعنا لوربا‪.‬‬
‫وتقولون‪ :‬إن الجامعات ليست محل السسدين‪ ،‬ومسسن السسذي يجهسسل أنهسسا‬
‫بهذا صارت محًل لفوضى الخلق‪.‬‬
‫وتزعمون أن الشسسباب تعلمسسوا مسسا يكفسسي مسسن السسدين فسسي المسسدارس‬
‫البتدائية والثانوية فل حاجة إليه في الجامعة‪..‬‬
‫سسسا ابتدائيسسة وثانويسسة فقسسط؛ أم تريسسدونه شسسجرة‬ ‫أفسسترون السسسلم رو ً‬
‫تغرس هناك لتقلع عندكم‪..‬‬
‫ل‪ ،‬ل؛ يا رجال الجامعسسة‪ ،‬إن قنبلسسة الشسسباب المجاهسسد تمل بالبسسارود ل‬
‫بالماء المقطر‪..‬‬
‫إن الشسسباب مخلوقسسون لغيسسر زمنكسسم‪ ،‬فل تفسسسدوا عليهسسم الحاسسسة‬
‫الجتماعية التي يحسون بها زمنهم‪.‬‬
‫ل تجعلسسوهم عبيسسد آرائكسسم وهسسم شسسباب السسستقلل؛ إنهسسم تلميسسذكم‪،‬‬
‫ضا أساتذة المة‪.‬‬ ‫ولكنهم أي ً‬
‫لقد تكلم بلسانكم هذا البناء الصغير السسذي يسسسمى الجامعسسة‪ ،‬وتكلسسم‬
‫بألسنتهم هذا البناء الكبير الذي يسمى الوطن‪.‬‬
‫أما بناؤكم فمحدود بالراء والحلم والفكسسار‪ ،‬وأمسسا السسوطن فمحسسدود‬
‫بالمطامع والحوادث والحقائق‪.‬‬
‫ل‪ ،‬ل؛ إن المسلمين الذين هدوا العالم‪ ،‬قد هدوه بالروح الدينية التي‬
‫كانوا يعملون بها ل بأحلم الفلسفة‪.‬‬
‫ل‪ ،‬ل‪ ،‬إن الفضيلة فطرة ل علم‪ ،‬وطبيعة ل قانون‪ ،‬وعقيدة ل فكسسرة؛‬
‫وأساسها أخلق الدين ل آراء الكتب‪..‬‬
‫من هذا المتكلم يقول للمة‪" :‬الجامعيون لسسن يقبلسسوا أن يسسدخل أحسسد‬
‫في شئونهم مهما يكن أمره"؟‬
‫أهذا صوت جرس المدرسة لطفال المدرسة ترن ترن‪ ..‬فيجتمعسسون‬
‫وينصاعون؟‬
‫كل يا رجسسل! لسسي فسسي الجامعسسة قسسالب يصسسب فيسسه المسسسلمون علسسى‬
‫قياسك الذي تريد‪.‬‬
‫إن التعليم في الجامعة بغير دين يعصم الشخصية‪ ،‬هو تعليم الرذيلسسة‬
‫تعليمها العالي‪..‬‬
‫َ‬ ‫}ويستنبُئون َ َ‬
‫ن{‬ ‫زي س َ‬
‫ج ِ‬
‫معْ ِ‬
‫م بِ ُ‬
‫مسسا أن ْت ُس ْ‬ ‫ه لَ َ‬
‫ح سقّ وَ َ‬ ‫ل ِإي وََرّبي إ ِن ّس ُ‬‫حقّ هُوَ قُ ْ‬
‫كأ َ‬ ‫ََ ْ َِْ َ‬
‫]يونس‪.[53 :‬‬

‫‪142‬‬
‫قوة الخلق يا شباب‪ ،‬قوة الخلق‪ ..‬إن الخطوة المتقدمة تبسسدأ مسسن‬
‫هنا‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪143‬‬
‫شيطان وشيطانة*‬

‫شغلني مسسا شسسغل النسساس مسسن حسسديث الجامعسسة المصسسرية ومسسا أراده‬
‫طلبتها من ورع يحجزهم عن محارم الله‪ ،‬وديسسن يخلسسص بسسه اليمسسان‬
‫إلى قلوبهم‪ ،‬فل يكون لفظ المسلم على المسلم كأنه مكتوب علسسى‬
‫ورقة؛ ثم ابتغوه من الفصل بين الشسسبان والفتيسسات‪ ،‬تطهيسًرا للطبسساع‬
‫دا عسسن مطيسسة الثسسم‪،‬‬‫ونوازع النفسسس‪ ،‬واتقسساء لسسسوء المخالطسسة‪ ،‬وبعس ً‬
‫وتوفيًرا لسباب الرجولة على الرجل ولصفات النوثة على النثى‪.‬‬
‫وقرأت كل ما نشرته الصسسحف‪ ،‬واستقصسسيت وبسسالغت‪ ،‬ونظسسرت فسسي‬
‫اللفاظ ومعانيها ومعاني معانيها؛ وكنت قبسسل ذلسسك أتتبسسع بسساب "فلن‬
‫وفلنة" في المجلت السبوعية التي تكتب عن حوادث الختلط في‬
‫الجامعة وتسمى السماء وتصف الوصاف وتسسذكر النسسوادر؛ فمل كسسل‬
‫ذلك صدري واجتمع الكلم يترجم نفسه إلي في رؤيا رأيتها وها أنسسذا‬
‫أقصها‪:‬‬
‫رأيتني عند باب الجامعة وكأني ذاهسسب لقطسسع بسساليقين علسسى الظسسن‪،‬‬
‫وقد علمسست أن الظنسسة تقسسوم فسسي حكمسسة التشسسريع مقسسام الحقيقيسسة؛‬
‫لخفائها وكثرة وجودها؛ فإن كان في اختلط الجنسين ما يخشسسى أن‬
‫يقع فهو كالواقع ‪....‬‬
‫ثم رأيت شيطانة قد خرجت من الجامعة ومضت تتبع أنفهسسا تتشسسمم‬
‫الهواء وتستروحه كأنه كأن فيه شيًئا‪ ،‬حتى مسسالت إلسسى خمسسر هنسساك*‬
‫من ذلك الشجر الملتف عن يميسسن الطريسسق‪ ،‬فسسوقفت عنسسده تتنفسسس‬
‫وتتنهد؛ ثم تبصرت فإذا شيطان مقبل إلى الجامعة إقبال المغير في‬
‫غارته‪ ،‬فأومأت له‪ ،‬فعدل إليها وحياها بتحية الشياطين‪ ،‬ثم قال لهسسا‪:‬‬
‫ما وقوفك هنا أيتها الخبيثة؟ وكيف تركت صاحبتك التي أنسست موكلسسة‬
‫بها؟ ومسسا عسسسى أن يعمسسل الشسسيطان بيسسن الجنسسسين إذا لسسم تسسؤازره‬
‫الشيطانة؟‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬لما كتب المؤلف "رحمسه اللسسه" مقسساله السسسابق فسسي تحيسسة شسسباب‬
‫الجامعة‪ ،‬راح يتتبع ما نشر الصسحف مسن حسديث "فلن وفلنسسة" فسي‬
‫مناهضة دعوة الطلب؛ فوقع له من حديثهما ما أوحى إليسسه موضسسوع‬
‫هذا فكتب يعرض بفلن وفلنة ويروي من خبرهما ويرد رده عليهمسسا‪،‬‬
‫وبعث به إلسسى الرسسسالة‪ ،‬ولكسسن صسساحب الرسسسالة أبسسى عليسسه نشسسره‪،‬‬
‫ظا على ما بينه وبين فلن من صسسلت السسود‪ ،‬وبقسسي المقسسال فسسي‬ ‫حفا ً‬
‫مكتب المؤلف حتى غالته منيته!‬

‫‪144‬‬
‫وانظر ص ‪" 131‬حياة الرافعي"‪.‬‬
‫* الخمر "بفتح الميم"‪ :‬ما واراك من شجر وغيره‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إنما اجتذبتني إلى هنسسا رائحسسة عاشسسقين كانسسا فسسي هسسذا الظسسل‬
‫ما‪ ،‬أفكنت في الزهر‪..‬؟‬ ‫يواريهما عن العين‪ ،‬وما أراك إل مزكو ً‬
‫فجعل الشيطان يتضاحك وقال‪ :‬أنا مرسل من مستشسسفى المجسسانين‬
‫دا لشياطين الجامعة؛ فقد احتاجوا إلى النجدة‪ ..‬ولكن أنسست كيسسف‬ ‫مد ً‬
‫تركت صاحبتك من أجل رائحة قبلة على خمسمائة متر؟ ما أحسسسبها‬
‫الن إل جالسسسة تكتسسب فسسي منسسع اختلط الجنسسسين ووجسسوب إدخسسال‬
‫التعليم الديني في الجامعة!‬
‫قسالت الشسيطانة‪ :‬إن صساحبتي لبسرع منسي فسي البراعسة‪ ،‬وأدق فسي‬
‫الحيلة وأهدى للمعاذير‪ ،‬وأنفذ إلى الغرض‪ ،‬ومثلها قليسسل هنسسا‪ ،‬ولكسسن‬
‫قليل الشر ليس قليًل‪ ،‬فإنه وصلة وطريق كما تعلم؛ وما تجد الفتسساة‬
‫خيًرا من هذا المكان ينفي عنها الريبة وهو يدنيها منها بهسسذا الختلط‬
‫مع الفتيان‪ ،‬ويهيئ لعقلها أسباًبا تكون فيها أسباب قلبهسسا؛ وقسسد كنسست‬
‫في أوربا‪ ،‬أفما رأيت هناك شاّبا وشابة حول كتاب علم وكأنهما على‬
‫زجاجة خمر؟‬
‫إن هذا العلم شيء ومخالطة الشبان شيء آخر؛ فذلك يطلق فكرها‬
‫يتجاوز الحدود والختلط يجعل فكرها‪ ،‬يحصرها في حدود إحساسها؛‬
‫وأحدهما يرهف ذهنها لدراك الشياء‪ ،‬والخر يرهف عواطفها لدراك‬
‫الرجل؛ وقد فرغ الله من خلقة النثى فما تخلق هنا مرة أخرى على‬
‫غير الطبيعة المفطورة على الحب في صورة مسسن صسسورة الممكنسسة‪،‬‬
‫والصورة هي الشاب هنا؛ وأنا الشيطانة قد تعلمت فسسي الجامعسسة أن‬
‫قاعدة‪" :‬ل حياة في العلم"‪ ،‬هي التي تقرر في بعض الحيان قاعدة‪:‬‬
‫"ل حياة في الحب"‪.‬‬
‫قال الشيطان‪ :‬أنت أدري بسلطان الطبيعة في المرأة‪ ،‬ولكسسن السسذي‬
‫أعرفه أنا أن مفاسد أوربا تدخل إلى الشرق في أشياء كسسثيرة‪ ،‬منهسسا‬
‫الخمر والنساء والعادات والقوانين والكتب ونظام المدارس!‬
‫مسسا عسسن‬
‫قالت الشيطانة‪ :‬وإن سلطان الطبيعة في المسسرأة يبحسسث دائ ً‬
‫رعيته ما لم يكبح ويرد عن البحث؛ إذ هسسو ل يتحقسسق أنسسه سسسلطان إل‬
‫بنفاذ حكمه وجسواز أمسسره؛ ومسسن رعيتسسه نظسسرات العجسساب‪ ،‬وكلمسسات‬
‫الثناء‪ ،‬وعبارات الغسسراء‪ ،‬وعواطسسف الميسسل‪ ،‬ومعسساني الخضسسوع؛ ورب‬
‫كلمة من الرجل للمرأة ل يكون فيها شيء ويكون الرجل‬

‫‪145‬‬
‫سا إلى خيالها؛ وكم من أم ترى ابنتهسسا‬ ‫كله فيها ذاهًبا إلى قلبها متدس ً‬
‫راجعة إلى الدار وتحس بسسالغريزة النسسسوية أن مسسع ابنتهسسا خيسساًل مسسن‬
‫الجنس الخر!‪.‬‬
‫ومم ينبعث الحسسب إل مسسن اللفسسة والمخاطبسسة والمجاذبسسة والمنازعسسة‬
‫التي يسمونها هنا منافسة بين الجنسين ويعدونها حسنة من حسنات‬
‫الختلط؟ نعم إنها مشسسحذة للذهسسان وداعيسسة إلسسى بلسسوغ الغايسسة مسسن‬
‫الجتهسساد‪ ،‬وبهسسا يسسرق اللسسسان وتنحسسل عقسسدته‪ ،‬ويصسسبح الشسساب كمسسا‬
‫يقولون‪" :‬ابن نكتة ويفهم الطايره‪ "...‬وتعود الفتسساة وهسسي تجتهسسد أن‬
‫تكون حلوة تذوقها الروح؛ ولكن العمال بالنيات والمور بخواتيمهسسا‪:‬‬
‫والطبيعة نفسها توازن العقل العلمسي بالجهسل الخلقسي‪ ،‬ولعسل أكسثر‬
‫ما مسسن أهسسل الفسسن أو‬ ‫الناس فنوًنا في فسقه وفجوره ل يكون إل عال ً‬
‫قا من أهل العلم‪ ،‬ول يصحح هذه الموازنة إل السسدين‪ ،‬فهسسو السسذي‬ ‫زندي ً‬
‫يقرر القواعد الثابتة في كلتا الناحيتين‪ ،‬وهذا ما يطلبه المجانين مسسن‬
‫شبان هذه الجامعة ويوشك أن يظفروا به‪ ،‬لول أن هذه المسسة مبتلة‬
‫في كل حادثة من دينها بإجالة الرأي حتى يضيع الرأي‪.‬‬
‫اسمع ‪-‬ويحك‪ -‬هذا الفتى الذي يقرأ‪ ..‬فسسألقى الشسسيطان سسسمعه فسسإذا‬
‫ما في صحيفة لحدى خريجسسات الجامعسسة‬ ‫طالب يقرأ على جماعة كل ً‬
‫تقول فيه‪" :‬ولهذا أصرح أن تجربة اشسستراك الجنسسسين فسسي الجامعسسة‬
‫نجحت إلى أبعد غاية‪ :‬ولسسم يحسسدث خللهسسا قسسط مسسا يسسدعو إلسسى قلسسق‬
‫القلقين والمناداة بالفصل؛ بل بالعكس حدث مسا يسدعو إلسى تشسجيع‬
‫الخذ بالتجربة أكثر مما هي عليه اليوم"‪.‬‬
‫مسسا أغلسسظ ول‬ ‫فقهقه الشيطان وقال‪" :‬قلق القلقيسسن"‪ ..‬مسسا رأيسست كل ً‬
‫أجفى من هذا؛ إنها لو دافعت عسسن الشسسيطان بهسسذه القافسسات لخسسسر‬
‫القضية ‪...‬‬
‫ثم إنه لهز الشيطانة لهزة وقال لها‪ :‬كذبت علسسي أيتهسسا الخبيثسسة‪ ،‬فمسسا‬
‫لك عمل في الجامعة وأنت تخرجين لرائحة قبلة بين عاشقين علسسى‬
‫مسافة خمسمائة متر؛ إن هذه القافسسات لهسسي السسدليل أقسسوى السسدليل‬
‫على أن الفتاة هنا تنظسسر فتسساة حيسسن تسسرى‪ ،‬ولكنهسسا تسسسمع رجًل حيسسن‬
‫تتكلم!‬
‫قالت الشيطانة‪ :‬ولكن ألم تسمع قولها‪" :‬تشجيع التجربسسة أكسسثر ممسسا‬
‫هي عليه اليوم"‪..‬؟ أل يرضيك هذا السسذي ل بسسد أن يسسدعو "إلسسى قلسسق‬
‫القلقين؟" ثم إني أنا فلنة الشسسيطانة قسسد كنسست السسسبب فسسي حادثسسة‬
‫وقعت وطر فيها طالب من الجامعسسة‪ ،‬أفل يرضسسيك الغسسراء والكسسذب‬
‫في بضع كلمات؟‬

‫‪146‬‬
‫قال الشيطان‪ :‬كل الرضى‪ ،‬فهذا فن آخر والعلسسم السسذي ينكسسر حادثسسة‬
‫وقعت مسن تلميسذة ول يقسر بأنهسا وقعست‪ ،‬ل يكسون إنكساره إل إجسازة‬
‫لوقوع مثلها!‬
‫قالت الشيطانة‪ :‬وهب الحادثة لسسم تقسسع‪ ،‬فكيسسف تعسسرف الجامعسسة مسسا‬
‫يحدث في القلوب؟ ومن هذا السسذي يسسستطيع أن يقسسرأ قصسسة تؤلفهسسا‬
‫أربع أعين في وجهيسسن؟ وكيسسف تكشسسف الحقيقسسة السستي أول وجودهسسا‬
‫كتمسسسان الكلم عنهسسسا‪ ،‬وأول الكلم عنهسسسا الهمسسسس بيسسسن اثنيسسسن دون‬
‫غيرهما؟ ومن ذا السسذي طسساقته أن يمسسد بيسسده إلسسى قلسسبين فسسي تلقسسي‬
‫الرسائل كصندوقي البريد‪..‬؟‬
‫اسمع اسمع هذا الخر‪ ..‬فاسترق الشيطان السمع فإذا طسسالب يقسسرأ‬
‫في صحيفة أخرى على جماعته‪:‬‬
‫"والسسذين يزعمسسون أن التصسسال بيسسن الطالبسسات والطلسسة خطسسر‪ ،‬إنمسسا‬
‫يسيئون إلى أخلقكم‪ ..‬والحق أيها الصسسدقاء أن السسذي حملنسسي علسسى‬
‫أن أغصب وأثور إنما هو الدفاع عن الكرامة الجامعية"‪.‬‬
‫قال الشيطان‪ :‬كل الرضا كل الرضا‪ ..‬هسسذا كلم داهيسسة أريسسب‪ ،‬فلقسسد‬
‫أحسن قائله الله! إنها عبارات جامعيسسة محكمسسة السسسبك تقسسوم علسسى‬
‫أصسسولها مسسن فسسن السياسسسة الخطابيسسة؛ وكسسل مسسن أظنسسوه بتهمسسة فل‬
‫يستطيع أن يمخرق على الناس بأحسن من هذا ول بمثل هذا‪.‬‬
‫وليس لنا أقوى من هذا الطبع القوي الذي يشعر بالنقص فل هم لسسه‬
‫إل إثبات ذاته في كل ما يجسسادل فيسسه دون إثبسسات الصسسواب ولسسو كسسان‬
‫الناس جميًعا في هذا الجانب وكان هو وحده في جانب الخطأ‪.‬‬
‫ولكن أف! ماذا صنع هذا القائل؟ وأين التهمسسة السستي ل تبسسدل اسسسمها‬
‫في اللغة؟ وأين الذنب الذي يرضى أن توضع اليد عليه؟ وهسسل إنكسسار‬
‫المذنب إل احتجاج من كرامتسسه الزائفسسة وإظهسسار الغضسسب فسسي بعسسض‬
‫ألفاظ؟‪..‬‬
‫إن هذا كغيره من الضعفاء حين يمارون؛ أل مسسا أكسسذب الكسسذب هنسسا!‬
‫فإن الفساد ليقع من اختلط الجنسين في الجامعسسة الوروبيسسة ثسسم ل‬
‫ضا من الكرامة الجامعيسسة؛‬ ‫يعد ذلك عندهم إساءة إلى الخلق‪ ،‬ول غ ّ‬
‫وفي فرنسا يجتمع الشبان والفتيسسان مسسن طلبسسة الجامعسسة ويحتسسسون‬
‫الخمر ويتراقصون ويتواعدون ثم ل تقول لهسسم الخلق‪ :‬أيسسن أنتسسم؟‪..‬‬
‫وهناك في الندية الخاصة بالطلبة ينتخبسسون ملكسسة الجمسسال مسسن بيسسن‬
‫الطالبات كل سسسنة‪ ،‬ثسسم ينزعسسون بأيسسديهم ثيابهسسا السستي تسسسمى ثياب ًسسا‪،‬‬
‫ويطوفون بها غرف النادي كعسسروس واحسسدة مجلسسوة علسسى مسسائة زوج‬
‫في المعنى‪" ،‬وبلنسوار" أيتها الكرامة الجامعية‪..‬‬

‫‪147‬‬
‫والختلط هناك يقرب أن يكون ضرًبا من المذاهب الشتراكية‪ ،‬وكل‬
‫ما بقي عنسسدهم مسسن لغسسة الحيسساء هسسو أن يتلطفسسوا فيقولسسوا‪ :‬إن هسسذه‬
‫الطالبسسة صسسديقة فلن الطسسالب؛ يعسسبرون بلفسسظ الصسسداقة عسسن أول‬
‫المعنى ويدعون سائر أحواله؛ إذ ل يبالي أمرهما أحد ل مسسن الطلبسسة‬
‫ول من الستاذين‪ ..‬وهناك يعتذر للشباب في مثسسل هسسذا بسسأنه شسساب‪،‬‬
‫فتقوم كلمة الشباب في العرف بمعنى كلمة الضرورة في الشرع!‬
‫وهم قد عرفوا أن الجامعة لحريسسة الفكسسر‪ ،‬ومسسن حريسسة الفكسسر حريسسة‬
‫النزعة‪ ،‬ومن هذه حرية الميل الشخصسسي‪ ،‬ومسسن حريسسة الميسسل حريسسة‬
‫الحب؛ وهل يعرف الحب فسسي الجامعسسة أنسسه فسسي الجامعسسة فيسسستحي‬
‫ويكون شيًئا آخر غير ما هو في كل مكان؟ أو ليس في لغسسة السسزواج‬
‫عنهم عبارة "نسيان ماضي الفتاة"‪..‬‬
‫ولكن اسمعي اسمعي‪..‬‬
‫فأصاخت الشيطانة؛ فإذا طالب من الزهسسر يقسسرأ لطسسالب مسسن كليسسة‬
‫الحقوق في صحيفة من دفاع أحد خريجي الجامعة!‬
‫"ومسسا بسسال إخواننسسا الزهرييسسن يسسسخطون علسسى الجامعسسة واختلط‬
‫ح أخسسرى هسسي أحسسق بحربهسسم وأولسسى‬ ‫الجنسين فيهسسا‪ ،‬وفسسي مصسسر نسسوا ٍ‬
‫باهتمامهم؟ لعلهم قد نسوا حالنا في الصيف علسسى شسسواطئ البحسسر‪،‬‬
‫والناس يمكثون هناك شهوًرا عرايا أو كالعرايا"‪.‬‬
‫فقالت الشيطانة‪ :‬ما له ولهذا؟ لقد أخسسزى نفسسسه وأخسسزى الجامعسسة‪،‬‬
‫وهل صنع شيًئا إل أنه يقسول للزهرييسن‪ :‬إن أهسون الفسساد مسن هسذا‬
‫الختلط في الجامعة‪ ،‬وأكثره في شواطئ البحر؛ فما بالكم تسسدعون‬
‫أشده وتأخذون على أهونه؟‬
‫قال الشيطان‪ :‬ويحه! وهل يأخذون على أهونه في الجامعة؛ إل لنسسه‬
‫في الجامعة ل في مكان آخر؟ ولكن اسمعي‪ ،‬ما هذا‪...‬؟‬
‫فأرعيا الصوت سمعهما‪ ،‬فإذا طالب يقرأ في مجلة‪" :‬ظهرت النسة‬
‫فلنة وهي تلبس فستاًنا أحمر شفتشسي بمسبي كريسسبي مشسسجر ببنسي‬
‫وفيونكة أحمر على أبيض"‪..‬‬
‫قالت الشيطانة‪ :‬هسسذا هسسذا‪ ،‬فهسسل هسسي إل ألسسوان أفكسسار تحسست ألسسوان‬
‫ثياب؟ وهل يظهر سلطان الطبيعة في المرأة بحًثا عن رعيته إل في‬
‫ألوان جميلة هي‪ ،‬أسئلة للعيون؟ لقد مثل سرب من الطالبسسات فسسي‬
‫هذه الجامعة فصًل في بعض الحفلت سموه "عرض الزياء" والفتاة‬
‫تعرض الثوب‪ ،‬والثوب يعرض الجسم‪ ،‬والجسم والثوب مًعا يعرضان‬
‫الفتاة! وعرض الزياء في الجامعة هو أمر من الجامعة بإهمال هسسذه‬
‫ن{ ]النور‪.[31 :‬‬ ‫ن ِزين َت َهُ ّ‬
‫دي َ‬
‫الية‪َ} :‬ول ي ُب ْ ِ‬

‫‪148‬‬
‫قال الشيطان خبريني عن صاحبتك التي أنت موكلة بها‪ ،‬أتريها كانت‬
‫تأتي إلى هذه الجامعة لسسو ألبسسسوهن مثسسل ثسسوب الراهبسسة وخمروهسسن‬
‫بالخمار وأضاعوا مساحة الجسم في مساحة الثوب وأجلسوهن فسسي‬
‫آخر الصفوف كأنهم في المسجد؟ لقسسد فعلسسوا مثسسل هسسذا فسسي بعسسض‬
‫جامعات أوربا‪ ،‬فحرموا صبغ الشفاه على الفتيسسات‪ ،‬ومنعسسوهن إبسسداء‬
‫الزينة؛ فامتنعت الزينة والمتزينة مًعا‪ ،‬وهجرن الجامعسسة‪ ،‬وقلسسن فيمسسا‬
‫قلن‪ :‬إن المرآة والحمسسر والبيسسض ونحوهسسا هسسي الحقسسائق فسسي علسسم‬
‫المرأة‪ ،‬وهي من أساليب بحسسث كسسل فتسساة عسسن رجلهسسا المخبسسوء بيسسن‬
‫الرجال في الجامعة أو غير الجامعة‪ ،‬والعلم وسسيلة عيسش‪ ،‬والرجسسل‬
‫وسيلة مثلها‪ ،‬غير أنسسه هسسو أجسسدى الوسسسيلتين علسسى المسسرأة وأحقهمسسا‬
‫بالعناية؛ إذ هي ل تتزوج الكيمياء ول الطبيعة ول القانون‪ ،‬ومعنى هذا‬
‫بغير اللغة التي هنا في الجامعة المصرية أن وجود الفتاة مع الشبان‬
‫للتعليم‪ ،‬هو كذلك وجودها بينهم للستمالة والمكر النسوي الجذاب‪.‬‬
‫اسمعي اسمعي؛ ما هذا الصوت المنكر الجافي الخشن؟‬
‫فتسمعت‪ ،‬فإذا الطالب الزهري يقول لصاحبه وهسسو يحسساوره‪ :‬قسسالوا‪:‬‬
‫ويحرم على المرأة أن ترى شيًئا من الرجل ولسسو بل ميسسل ول خسسوف‬
‫الفتنة‪ ،‬وإذا هي اضطرت إلى مداواة أو أداء شهادة أو تعليسسم أو بيسسع‬
‫أو نحو ذلك ‪-‬جاز نظرها بقدر الضرورة‪.‬‬
‫فقالت الشيطانة‪ :‬هذا كلم رحمه الله‪ ..‬لقد كان ذلسسك سسسائًغا لسسو أن‬
‫الشبان يتعلمسسون فسسي الجامعسسة ليحملسسوا معهسسم الحسسق كمسا يحملسسون‬
‫معهسسم العلسسم؛ وكيسسف لهسسم بهسسذا ومعسساني السسدين قسسد أصسسبحت منهسسم‬
‫كأسسسماء البلد البعيسسدة فسسي كتسساب الجغرافيسسا‪ :‬ل هسسم رأوهسسا ول هسسم‬
‫حققوها؟ إنهم يريدون تعليم الدين هنا‪ .‬فيقول لهسسم رؤسسساؤهم‪ :‬ألسسم‬
‫تعرفوا الصلة وأنهسسا الصسسلة‪ ،‬والصسسيام وأنسسه الصسسيام‪ ،‬والزكسساة وأنهسسا‬
‫الزكاة‪ ،‬والحج وأنه الحج؟ وهذا كلم يشسسبه درس مواقسسع البلد علسسى‬
‫الخريطة‪ ،‬فباريس كلمة‪ ،‬ولندن كلمة‪ ،‬ل غير؛ أما الحقيقسسة العظيمسسة‬
‫الهائلة فشيء غير هسسذا الكلم الجغرافسسي التعليمسسي؛ إذ مسسا هسسي كسسل‬
‫فسسروض السسدين إل أعمسسال دقيقسسة ثابتسسة يجسسب فرضسسها علسسى الجميسسع‬
‫لتحقيق النفسية الواحسسدة فسسي الجميسسع‪ ،‬وهسسي سسسر القسسوة والعظمسسة‬
‫والنجاح؛ فتعليم الدين في الجامعة هو إقناع النفسسس بجعسسل فروضسسه‬
‫من قوانينها الثابتة‪ ،‬ل بأداء هسسذه الفسسروض فقسسط‪ ،‬أي باعتبسساره علسسم‬
‫فلسفة الروح العملية للمة‪ ،‬ثم يجعل المدرسسسين أول العسساملين بسسه؛‬
‫ليتحقسق معنسى القنساع‪ ،‬فل ينقلسب السدرس هسزًءا وسسخرية؛ وبسذلك‬
‫يخرج الشاب من الجامعة وفسسي روحسسه قسسوة ثابتسسة تعمسسل بسسه العمسسل‬

‫‪149‬‬
‫الصالح‪ ،‬وتوجهه إلى الخير‪ ،‬وتحفظسسه بيسسن أهسسواء الحيسساة وشسسدائدها‪،‬‬
‫ما يشعر أنه في موضعه السامي من النسسسانية وإن كسسان‬ ‫وتجعله دائ ً‬
‫في أقل مراتب المال والجاه‪ ،‬ومن ثم يرجع الشبان في المسسة آلت‬
‫قوة منظمة عاملة‪ ،‬وأيسر ما تعملسسه هسسذه اللت‪ ،‬إزالسسة المنكسسرات‪،‬‬
‫وصنع الشعب صنعة جديدة للسلم والحرب‪..‬‬
‫قال الشيطان‪ :‬وماذا أيتها الخبيثة؟ لقد هولت علي!‬
‫قالت‪ :‬وطردنا نحن الشياطين من الجامعة!‬
‫قال‪ :‬اسكتي ويحك! فما أرسلت من مستشسسفى المجسسانين إل لهسسذا؛‬
‫فلسسن يقسسع الفصسسل بيسسن الجنسسسين‪ ،‬ولسسن يسسدخل التعليسسم السسديني فسسي‬
‫الجامعة‪ ،‬وسيدافعون بأن هذا كله ضرب من الجنون‪..‬‬
‫‪‬‬

‫‪150‬‬
‫نهضة القطار العربية ‪1‬‬

‫ل ريب في أن النهضة واقعة فسسي القطسسار العربيسسة‪ ،‬مسسستطيرة فسسي‬


‫أرجائها استطارة الشرر يضرم في كل جهة ناًرا حامية‪ ،‬ويستمد من‬
‫كل ما يتصل به لعنصره الملتهب‪ ،‬ول ريب في أن الشرق قد تفلسست‬
‫من أوهسسام السياسسسة وخرافاتهسسا‪ ،‬وقسسد اختلسسف علسسى الغسسرب بعسسد أن‬
‫طابقه زمًنا‪ ،‬وتابعه مدة‪ ،‬وعرفه بمقسسدار مسا بله‪ ،‬وكسسذبه مسا صسدقه‪،‬‬
‫ونفر منه بقدر ما اطمأن إليه؛ ول ريب في أن العقسسل الشسسرقي قسسد‬
‫تطور وأدرك معنى نكث العهد ونقض الشرط في السياسة الغربية‪،‬‬
‫وعلم أن ذلك هو بعينه العهد والشرط في هذه السياسسسة مسسا دامسست‬
‫المفاوضة والتعاقد بين الذئب والشاة‪ ..‬ول ريب أن الشسسرق يجسساذب‬
‫الن مقاليده السستي ألقاهسسا‪ ،‬ويضسسرب علسسى سلسسسله السستي تقيسسد بهسسا‪،‬‬
‫ويكابد الصعود والهبوط في نهضته هذه؛ وقسسد كسسان بلسسغ مسسن رضسسائه‬
‫على الذل وقراره علسسى الضسسيم‪ ،‬وجهلسسه وتجسساهله ‪-‬أن أوربسسا ربطسست‬
‫أقطاره كلها في بضعة أساطيل تجذبها جذب الكواكب للرض‪.‬‬
‫غير أنسسي مسسع هسسذا كلسسه ل أسسسمي هسسذه النهضسسة إل مسسن بساب المجسساز‬
‫والتوسع في العبارة‪ ،‬والدللة بما كان على مسسا يكسسون؛ فسسإن أسسسباب‬
‫النهضة الصحيحة السستي تطسسرد اطسسراد الزمسسن‪ ،‬وتنمسسو نمسسو الشسسباب‪،‬‬
‫وتندفع اندفاع العمر إلى أجل بعينسسه ‪-‬ل يسسزال بيننسسا وبينهسسا مثسسل هسسذا‬
‫المسسوت السسذي يفصسسل بيننسسا وبيسسن سسسلفنا وأوليتنسسا؛ وإل فسسأين الخلق‬
‫الشرقية‪ ،‬وأن المزاج العقلي الصحيح لمم الشرق‪ ،‬ومسسا هسسذا السسذي‬
‫نحن فيه من روح ل شرقية ول غربيسسة ثسسم أيسسن المصسسلحون السسذين ل‬
‫ضسسا مسسن أغسسراض‬ ‫يساومون يملك ول إمارة‪ ،‬ول يطلبون بالصسسلح غر ً‬
‫الدنيا أو باطًل من زخرفهسسا؟ ثسسم أيسسن أولئك السسذين تجعلهسسم مبسسادئهم‬
‫العالية القوية أول ضحاياها‪ ،‬وتروي منهم عسسرق السسثرى السسذي يغتسسذي‬
‫من بقايا الجداد لينبت منه الحفاد؟‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬كتب هذا المقال جواًبا للسسستفتاء التسسي السسذي وجهتسسه إليسسه إحسسدى‬
‫المجلت العربية‪:‬‬
‫أ‪ -‬هل تعتقدون أن نهضة القطار العربية قائمة علسسى أسسساس وطيسسد‬
‫يضمن لها البقاء‪ ،‬أم هي فوران وقتي ل يلبث أن يخمد؟‬
‫ب‪ -‬هل تعتقدون بإمكان تضامن هذه القطار وتآلفها؟ ومتى؟ وبسسأي‬
‫العوامل؟ وما شأن اللغة في ذلك؟‬

‫‪151‬‬
‫ج‪ -‬هل ينبغي لهل القطار العربية اقتباس عناصر المدنية الغربيسسة؟‬
‫وبأي قدر؟ وعند أي حد يجب أن يقف هذا القتباس‪ ،‬فسي النظامسات‬
‫السياسية الحديثة‪ ،‬وفي الدب والشسسعر‪ ،‬وفسسي العسسادات الجتماعيسسة‪،‬‬
‫وفي التربية والتعليم؟‬
‫إن الجواب على نهضة أمة نهضة ثابتسسة ل يكسسون مسسن الكلم وفنسسونه‪،‬‬
‫بل من مبدأ ثابت مستمر يعمل عمله في نفوس أهلهسسا؛ ولسسن يكسسون‬
‫مسسا علسسى أربعسسة أركسسان‪ :‬إرادة قويسسة‪،‬‬
‫هذا المبدأ كذلك إل إذا كسسان قائ ً‬
‫وخلق عزيز‪ ،‬واستهانة بالحياة‪ ،‬وصبغة خاصة بالمة‪.‬‬
‫فأما الرادة القوية فل تنقص الشرقيين‪ ،‬وإنما الفضسسل فيهسا لساسسة‬
‫الغرب الذين بصرونا بأنفسنا إذ وضعونا مع المم الخرى أمام مسسرآة‬
‫واحدة وجعلوا يقولون مع ذلك إننا غير هؤلء‪ ،‬وإن هذا النسان الذي‬
‫في المرأة غير هسذا الفسرد السذي فيهسا ‪ ...‬ولكسن أيسن الخلسق؟ وأيسن‬
‫العزة القومية؟ وأين العصسسبية الشسسرقية؟ وهسسذه مفاسسسد أوربسسا كلهسسا‬
‫تنصب في أخلق الشرقيين كما تنصب أقذار مدينسة كسسبيرة فسسي نهسر‬
‫صغير عذب؛ فل الدين بقي فينا أخلًقا‪ ،‬ول الخلق بقيسست فينسسا دين ًسسا‪،‬‬
‫وأصسسبحت الميسسزة الشسسرقية فاسسسدة مسسن كسسل وجوههسسا فسسي السسروح‬
‫والذوق‪ ،‬ولم يعد لنا شيء يمكن أن يسمي المدنية الشسسرقية‪ ،‬وأخسسذ‬
‫الحمقى والضعفاء منا يحاولون في إصلحهم أن يؤلفسسوا المسسة علسسى‬
‫خلسسق جديسسد ينسستزعونه مسسن المدنيسسة الغربيسسة‪ ،‬ول يعلمسسون أن الخلسسق‬
‫الطسسارئ ل يرسسسخ بمقسسدار مسسا يفسسسد مسسن الخلق الراسسسخة‪ ،‬وهسسم‬
‫يغتبطون إذا قيل لهم مثًل‪ :‬إن مصر قطعة من أوربا؛ ول يعلمون مسسا‬
‫تحسست هسسذه الكلمسسة مسسن تعطيسسل المدنيسسة الشسسرقية‪ ،‬والسسذهاب بهسسا‪،‬‬
‫وإفسادها‪ ،‬وتعريضها للذم‪ ،‬وتسليط البلد عليها‪ ،‬مما ل حاجة بنا إلى‬
‫التبسط في شرحه‪.‬‬
‫سسا‬‫لست أقول إن نهضة الشرق العربي ل أساس لها؛ فسسإن لهسا أسا ً‬
‫من حمية الشباب‪ ،‬وعلم المتعلمين؛ ومن جهل أوربسسا السسذي كشسسفته‬
‫الحرب؛ ولكن هذا كله على قوته وكفايته في بعسسض الحيسسان لقامسسة‬
‫الحداث الكبرى واهتياج العواصف السياسية ‪-‬ل يحمسسل ثقسسل الزمسسن‬
‫دا يقوم عليه بناء عدة قرون‬ ‫سا وطي ً‬
‫الممتد‪ ،‬ول يكفي لن يكون أسا ً‬
‫من الحضارة الشرقية العالية‪ ،‬بل ما أسرعه إلى الهدم والنقض‪ ،‬لسسو‬
‫صدمته الساليب اللينة من الدهاء الوروبي على اختلفها‪ ...‬إذا قسسدر‬
‫لوربا أن تفوز بأسلوبها الجديد‪ ،‬أسلوب استعباد الشرق بالصداقة‪...‬‬
‫على طريقة ادعاء الثعلب للدجاج أنسسه قسسد حسسج وتسساب وجسساء ليصسسلي‬
‫بها‪...‬‬

‫‪152‬‬
‫والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي ل تعتبر قائمة على أسسساس‬
‫وطيد إل إذا نهض بهسسا الركنسسان الخالسسدان‪ :‬السسدين السسسلمي‪ ،‬واللغسسة‬
‫العربية؛ وما عداهما فعسى أن ل تكون لسسه قيمسسة فسسي حكسسم الزمسسن‬
‫الذي ل يقطع بحكمه على شيء إل بشاهدين من المبدأ والنهاية‪.‬‬
‫وظاهر أن أغلبية الشرق العربسسي ومسسادته العظمسسى هسسي السستي تسسدين‬
‫بالسلم‪ ،‬وما السلم في حقيقته إل مجموعة أخلق قوية ترمي إلى‬
‫شد المجموع من كل جهسسة‪ ،‬ولعمسسري إنسسي لحسسسب عظمسساء أمريكسسا‬
‫كأنهم مسلمو التاريخ الحديث في معظم أخلقهسسم‪ ،‬لسسول شسسيء مسسن‬
‫الفرق هو الذي ل يمنعهم أن ينحطوا إذا هم بلغسسوا القمسسة؛ فسسإن مسسن‬
‫عجائب السسدنيا أن قمسسة الحضسسارة الرفيعسسة هسسي بعينهسسا مبسسدأ سسسقوط‬
‫المم‪ ،‬وهذا عندنا هو السر في أن الدين السلمي يكره لهله أنسسواع‬
‫الترف والزينة والسترخاء‪ ،‬ول يسسرى النحسست والتصسسوير والموسسسيقى‬
‫والمغالة فيها وفي الشعر إل من المكروهات‪ ،‬بل قد يكون فيهسسا مسسا‬
‫يحرم إن وجد سبب لتحريمه؛ إذ كانت هذه الفنون في الغالب وفسسي‬
‫الطبيعة النسسسانية هسسي السستي تسؤدي فسسي نهايتهسسا إلسسى سسسقوط أخلق‬
‫المة؛ بما تسسستتبعه مسسن أسسساليب الرفاهيسسة والضسسعف المتفنسسن‪ ،‬ومسسا‬
‫تحدثه للنفس من فنون اللذات والغسراق فيهسا والسستهتار بهسا؛ ومسا‬
‫سقطت الدولة الرومانية ول الدولة العربية إل بكأس وامسسرأة ووتسسر‪،‬‬
‫وخيال شعري يفتن في هذه الثلثة ويزينها‪.‬‬
‫وإذا كان ل بد للمسسة فسسي نهضسستها مسسن أن تتغيسسر‪ ،‬فسسإن رجوعنسسا إلسسى‬
‫الخلق السلمية الكريمة أعظم ما يصلح لنا من التغيسسر ومسسا نصسسلح‬
‫به منه‪ ،‬فلقد بعد ما بيننا وبين بعضها‪ ،‬وانقطع ما بيننسسا وبيسسن البعسسض‬
‫الخر؛ وإذا نحن نبذنا لخمسسر‪ ،‬والفجسسور‪ ،‬والقمسسار‪ ،‬والكسسذب‪ ،‬والريسساء؛‬
‫وإذا أنفنا من التخنث‪ ،‬والتبرج‪ ،‬والستهتار بالمنكرات‪ ،‬والمبالغة فسسي‬
‫المجسسون‪ ،‬والسسسخف‪ ،‬والرقاعسسة‪ ،‬وإذا أخسسذنا فسسي أسسسباب القسسوة‪،‬‬
‫واصطنعنا الخلق المتينة‪ :‬من الرادة‪ ،‬والقدام‪ ،‬والحمية‪ ،‬وإذا جعلنا‬
‫لنا صبغة خاصة تميزنا من سوانا‪ ،‬وتسسدل علسسى أننسسا أهسسل روح وخلسسق‬
‫‪-‬إذا كان ذلسسك كلسسه فلعمسسري أي ضسسير فسسي ذلسسك كلسسه‪ ،‬وهسسل تلسسك إل‬
‫الخلق السلمية الصحيحة‪ ،‬وهل في الرض نهضة ثابتة تقسسوم علسسى‬
‫غيرها؟‬
‫إن من خصائص هذا الدين الخلقسسي أنسسه صسسلب فيمسسا ل بسسد للنفسسس‬
‫النسانية منه إذا أرادت الكمال النساني‪ ،‬ولكنه مرن فيما ل بد منسسه‬
‫لحوال الزمنة المختلفة مما ل يسسأتي علسسى أصسسول الكريمسسة‪ .‬وليسسس‬
‫يخفى أنه ل يغني غناء الدين شيء في نهضة المم الشرقية خاصسسة‪،‬‬

‫‪153‬‬
‫فهسسو وحسسده الصسسل الراسسسخ فسسي السسدماء والعصسساب‪ .‬ومسستى نهسسض‬
‫المسلمون وهم مادة الشرق‪ ،‬نهض إخوانهم فسسي السسوطن والمنفعسسة‬
‫والعادة من أهل الملل الخرى‪ ،‬واضطروا أن يجانسوهم فسسي أغلسسب‬
‫أخلقهم الجتماعية‪ ،‬ول حجر على حريتهم في ذلك إل كبعض الحجر‬
‫على حرية المريض إذا أوجرته الدواء المر‪.‬‬
‫ولما كسسان المسسسلمون إخسسوة بنسسص دينهسسم‪ ،‬وكسسانت مبسسادئهم واحسسدة‪،‬‬
‫ومنافعهم واحدة‪ ،‬وكتابهم واحد؛ فل جرم كان من السهل ‪-‬لو رجعوا‬
‫إلى أخلق دينهم وانتبذوا ما يصدهم عنها‪ -‬أن يؤلفوا من الشرق كله‬
‫دوًل متحدة يحسب لها الغرب حساًبا ذا أرقام ل تنتهي‪..‬‬
‫إن هذا الشرق في حاجة إلى المبادئ والخلق‪ ،‬وهي مع ذلك كامنة‬
‫فيه‪ ،‬ومستقبله كسسامن فيهسسا؛ غيسسر أنهسسا ل تصسسلح فسسي الكتسسب ول فسسي‬
‫الفنسون‪ ،‬بسل فسي الرجسال القسائمين عليهسا‪ .‬فسالقلوب والدمغسة هسي‬
‫أساس النهضة الصحيحة الثابتة‪ ،‬وإذا نحن تأملنا هذه النهضة الراهنة‬
‫وجدنا أساسها خرًبا من جهات كثيرة‪ ،‬ووجدنا المكان السسذي ل يملسسؤه‬
‫إل القلب الكبير ليس فيه إل خيال كاتب من الكتاب والموضع السسذي‬
‫ل يسده إل الرأس العظيم قد سدته قطعة من صحيفة‪...‬‬
‫ولقد تنبأ نبي هذا الدين صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم بهسسذه الحالسسة السستي‬
‫مسسا‪ :‬كيسسف‬‫انتهى إليها الشرق العربي بإزاء الغرب‪ ،‬فقال لصسسحابه يو ً‬
‫بكم إذا اجتمع عليكم بنو الصفر* اجتماع الكلة على القصاع؟ فقال‬
‫عمر رضي الله عنه‪ :‬أمسسن قلسسة نحسسن يسسومئذ يسسا رسسسول اللسسه أم مسسن‬
‫كثرة؟ قال‪ :‬بل من كثرة‪ ،‬ولكنكسسم غثسساء كغثسساء السسسيل** قسسد أوهسسن‬
‫قلوبكم حب الدنيا‪.‬‬
‫فوهن القلب بحسسب السسدنيا ‪-‬علسسى مسا ينطسسوي فسسي هسسذه العبسسارة مسن‬
‫المعاني المختلفة‪ -‬هو علة الشرق‪ ،‬ول دواء لهذه العلة غير الخلق‪،‬‬
‫ول أخلق بغير الدين الذي هسسو عمادهسسا‪ ،‬أل وإن أسسساس النهضسسة قسسد‬
‫ما‪ ،‬وهذا مسسا اعتقسسده؛‬‫وضع‪ ،‬ولكن بقيت الصخرة الكبرى وستوضع يو ً‬
‫لن الغسسرب يسسدفع معنسسا هسسذه الصسسخرة؛؛ ليقرهسسا فسسي موضسسعها مسسن‬
‫الساس وهو يحسب أنه يدفعنا نحن إلى الحفرة ليدفعنا فيها‪..‬‬
‫وهذا عمى في السياسة ل يكون إل بخذلن من الله قدره وقضاه‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* بنو الصفر‪ :‬هم الروم ومن إليهم من الوربيين‪.‬‬
‫** الغثاء‪ :‬ما يحمله السيل من الهشيم ونحوه مما تحطم وتعفن ول‬
‫قيمة له ول قوة فيه‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫وإني أرى أنه ل ينبغي لهل القطار العربية أن يقتبسوا مسسن عناصسسر‬
‫المدنية الغربية اقتباس التقليد‪ ،‬بل اقتباس التحقيق‪ ،‬بعسسد أن يعطسسوا‬
‫كل شيء حقه من التمحيص ويقلبوه على حالتيه الشرقية والغربية؛‬
‫فسسإن التقليسسد ل يكسسون طبيعسسة إل فسسي الطبقسسات المنحطسسة‪ ،‬وصسسناعة‬
‫التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحسسد‪ ،‬ومسسا قلسسد المقلسسد بل‬
‫بحث ول روية إل أتى على شيء في نفسه من ملكة البتكار وذهسسب‬
‫ببعض خاصيته العقلية؛ على أننا ل نريد من ذلك أل نأخذ مسسن القسسوم‬
‫شيًئا؛ فإن الفرق بعيسسد بيسسن الخسسذ فسسي المخترعسسات والعلسسوم‪ ،‬وبيسسن‬
‫الخسسذ مسسن زخسسرف المدنيسسة وأهسسواء النفسسس وفنسسون الخيسسال ورونسسق‬
‫الخبيث والطيب؛ إذ الفكر النساني إنما ينتج النسانية كلهسسا‪ ،‬فليسسس‬
‫هسسو ملك ًسسا لمسسة دون أخسسرى؛ ومسسا العقسسل القسسوي إل جسسزء مسسن قسسوة‬
‫الطبيعة‪.‬‬
‫فإن نحن أخذنا من النظامات السياسية فلنأخذ ما يتفسسق مسسع الصسسل‬
‫الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الجتماعية عند الحد السسذي ل‬
‫يجوز على أخلق المة ول يفسد مزاجها ول يضعف قوتها‪.‬‬
‫وإذا نقلنسسا مسسن الدب والشسسعر فلنسسدع خرافسسات القسسوم وسسسخافاتهم‬
‫الروائيسسة إلسسى لسسب الفكسسر ورائع الخيسسال وصسسميم الحكمسسة‪ ،‬ولنتتبسسع‬
‫طريقتهم في الستقصاء والتحقيق‪ ،‬وأسسسلوبهم فسسي النقسسد والجسسدل‪،‬‬
‫وتأتيهم إلى النفس النسانية بتلسسك السساليب البيانيسسة الجميلسة للستي‬
‫هي الحكمة بعينها‪.‬‬
‫وأما في العادات الجتماعية فلنذكر أن الشرق شرق والغرب غسسرب‬
‫‪-‬وما أرى هذه الكلمة تصدق إل في هذا المعنى وحسده‪ -‬والقسوم فسي‬
‫نصف الرض ونحن في نصسسفها الخسسر‪ ،‬ولهسسم مسسزاج وإقليسسم وطبيعسسة‬
‫وميراث من كل ذلك ولنا ما يتفق ول يختلسسف؛ وإن أول الدلسسة علسسى‬
‫استقللنا أن نتسلخ من عادات القوم‪ ،‬فإن هسسذا يسسؤدي بل ريسسب إلسسى‬
‫إبطال صفة التقليسسد فينسسا‪ ،‬ويحملنسسا علسسى أن نتخسسذ لنفسسسنا مسسا يلئم‬
‫طبائعنا وينمي أذواقنا الخاصة بنا‪ ،‬ويطلق لنا الحرية فسسي السسستقلل‬
‫الشخصي؛ ولقد كنا سادة الدنيا قبل أن كانت هذه العسسادات الغربيسسة‬
‫التي رأينا منها ومن أثرها فينا من أفسد رجولة رجالنا وأنوثة نسسسائنا‬
‫على السواء؛ وما هؤلء الشبان المساكين الذين يسسدعون إلسسى بعسسض‬
‫هذه العادات ويعملون على بثها في طبقات المة إل كالسذي يحسسب‬
‫أن أوروبا يمكن أن تدخل تحت طربوشه‪ ..‬ولقد غفلنا عن أننا نسسدعو‬
‫الوروبيين إلى أنفسنا وإلسسى التسسسلط علسسى بلدنسسا بانتحالنسسا عسساداتهم‬
‫الجتماعية؛ لنها نوع من المشاكلة بيننا وبينهم‪ ،‬ووجه مسسن التقريسسب‬

‫‪155‬‬
‫بين جنسين يعين على اندماج أضسسعفهما فسسي أقواهمسسا ويضسسيق دائرة‬
‫الخلف بينهما‪ ،‬ثم هو من أين اعتبرته وجدته في فسسائدته للوروبييسسن‬
‫أشسسبه بتلييسسن اللقمسسة الصسسلبة تحسست السسسنان القاطعسسة؛ وهسسل نسسسي‬
‫الشرقيون أن ل حجة للغرب في استبعادهم إل أنه يريد تمدينهم؟‬
‫وحيثما قلنسسا "السسدين السسسلمي" فإنمسسا نريسسد الخلق السستي قسسام بهسسا‪،‬‬
‫والقانون الذي يسيطر من هذه الخلق على النفس الشرقية؛ وهسسذا‬
‫في رأينا هو كل شيء؛ لنه الول والخر ‪.1‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬حذفنا من هذا المقال بعسسض عبسسارات حسسذفها المؤلسسف بقلمسه فسسي‬
‫الصل الذي تحت أيدينا‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪156‬‬
‫ل تجني الصحافة على الدب ‪ 1‬ولكن على فنيته‬

‫قسسالوا‪ :‬إن الصسسمعي كسسان ينكسسر أن يقسسال فسسي لغسسة العسسرب "مالسسح"‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬إنما هو ملح‪ ،‬وإن "مالح" هذه عامية؛ فلما أنشدوه في ذلسسك‬
‫شعًرا لذي الرمة يحتجون به عليه قال‪ :‬إن ذا الرومسسة قسسد بسسات فسسي‬
‫حوانيت البقالين بالبصرة زماًنا‪..‬‬
‫يريد شسسيخنا هسسذا‪ :‬أن "المالسسح" فسسي الكسسثر العسسم يكسسون ممسسا يسسبيعه‬
‫البقالون‪ ،‬ولغتهم عامية مزالسسة عسسن سسسننها الفصسسيح‪ ،‬مصسسروفة إلسسى‬
‫وجهها التجاري؛ ولكن كيف بات ذو الرمة في حوانيت البقالين زماًنا‬
‫حتى علقت الكلمة بمنطقه وجذبه إليها الطبع العسسامي‪ ،‬ولسسم يخسسالط‬
‫عربيته غير هذه الكلمة وحدها؟ لم يقل الصمعي شيًئا‪ ،‬ولكن روايته‬
‫تخبر أن ذا الرمة انحدر من البادية إلى البصرة يلتمسسس مسسا يلتمسسسه‬
‫الشعراء‪ ،‬فلم كان بها استضاق فلم يصسسب لجسسوفه غيسسر الخسسبز‪ ،‬ولسسم‬
‫قا إلسسى‬‫يجد للخبز غير "المالحة" والبقلة "المالحة"‪ ،‬ويعرفسسونه مضسسي ً‬
‫فرج‪ ،‬فينسئون له في الثمن إلى أجسل حستى يمتسدح وينسال الجسائزة؛‬
‫قالوا‪ :‬ثم يمطسسره الممسسدوح ويلسسوي بسسه ول يسسرى فسسي تلفيسسق العيسسش‬
‫صا إل في "المالح"‪ ،‬فيتتسسابع فسسي الشسسراء ويمضسسون فسسي إسسسلفه‬ ‫رخ ً‬
‫إبقاء عليه وحسن نظر منهم لمنزلته وشعره‪ ،‬ويرى هو أن ل ضمان‬
‫للوفسساء بسسه عليسسه إل نفسسسه‪ ،‬فمسسا بسسد أن يسستراءى لهسسم بيسسن السسساعة‬
‫والساعة‪ ،‬فيخالطهم فيحدثهم فيسمع منهم‪ ،‬وهم على طبعهسسم وهسسو‬
‫على سجيته؛ ثم ل يقتضسسونه ثمن ًسسا‪ ،‬ول يزالسسون يمسسدون لسسه‪ ،‬فل يسسزال‬
‫"المالح" أيسر مناًل عليه‪ ،‬كما هسسو إلسسى نفسسسه أشسسهى‪ ،‬وفسسي جسسوفه‬
‫أمًرا‪ ،‬لمكان أعرابيته وخشونة عيشه‪ ،‬فيصيب عندهم مرتعة من هذا‬
‫"المالح"‪ .‬قالوا‪ :‬ثم يرى البقالون أن ل ضمان لم اجتمع عليسسه إل أن‬
‫يكون الشاعر معهم‪ ،‬فيلزمونه الحوانيت بياض يومه‪ ،‬ويغلقونها عليه‬
‫سسسواد ليلتسسه‪ ،‬فهسسم يمسسسكونه بالنهسسار وتمسسسكه الحيطسسان والبسسواب‬
‫بالليل!‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬بهذا المقال بدأ المؤلف عمله في الرسالة؛ وانظر ص ‪" 191‬حياة‬
‫الرافعي"‪.‬‬
‫فلما عظم الدين وبلغ الجملة التي فاتت حساب اليام إلسسى حسسساب‬
‫الهلة أحضر الشاعر كربه وهمه‪ ،‬ولسسم يعسسد "المالسسح" ينجسسع فيسسه‪ ،‬ول‬
‫قا في الدم‪ ،‬ورأى أنه قد امتحن بهسسذا "المالسسح"‬ ‫يجد به غذاء‪ ،‬بل حري ً‬
‫الخبيث وأشرط نفسه فيه وارتهنها بسه؛ فل يسزال مسن "المالسح" هسسم‬

‫‪157‬‬
‫في نفسه‪ ،‬ومغص في جوفه‪ ،‬ولفظ على لسانه‪ ،‬وديسسن علسسى ذمتسسه؛‬
‫ما به؛ إذ كان على طريق من طريقين‪ :‬إما الوفسساء ول‬ ‫ول يزال مهمو ً‬
‫قدرة عليه من مفلس‪ ،‬وإما الحبس ول طاقة به لشاعر؛ وحبس ذي‬
‫الرمة في ثمن "المالح" هو حبس عند الشرطة‪ ،‬ولكنه قتسسل أو شسسر‬
‫مسن القتسل عنسسد صساحبته "ميسة" إذا ترامسسى إليهسسا الخسسبر؛ والعرابسسي‬
‫الجلف الذي يحبس في ثمن "المالح" عند الوالي بعد أن بسات زماًنسا‬
‫قا لمسسي وهسسي‪ :‬مسسن هسسي‪:‬‬ ‫رهًنا به في حوانيت البقالين ل يصلح عاشس ً‬
‫"لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشسسي‪ "..‬فل "المالسسح" مسسن‬
‫غذائها‪ ،‬ول لفظ "المالح" من الكلم الذي يكسسون فسسي فمهسسا العسسذب‪،‬‬
‫وأبعد الله جاريتها الزنجية إن لم تسأنف لنفسسها ومكانهسا مسن عشسق‬
‫هسسذا العرابسسي الغليسسظ الخشسسن السسذي ألحقسسه "المالسسح" باللصسسوص‬
‫دا‬
‫والغارمين‪ ،‬وأخزاها الله إن لم يكن عشق هذا العرابسسي لهسسا سسسوا ً‬
‫على سوادها في الناس‪ ،‬فكيف بمي وهي أصفى من المرأة النقيسسة‪،‬‬
‫وأبيض من الزهرة البيضاء؟‬
‫قالوا‪ :‬ويصنع الله لغيلن المسكين‪ ،‬فيمسسدح وينسسافق ويحتسسال‪ ،‬ويعسسده‬
‫الممدوح بالجائزة إذا غذا عليسسه‪ ،‬ويكسسون ذلسسك والشسسمس نازلسسة إلسسى‬
‫خدرها‪ ،‬فينكفئ الشاعر إلى حوانيت غرمائه من البقالين يبيت فيهسسا‬
‫أخرى لياليه‪ ،‬ويغلقون عليه وقد سئموه آكًل وماطًل‪ ،‬وهان عليهم فل‬
‫يعتدونه إل فأًرا من فئران حوانيتهم غير أنه يأكل فيستوفي‪ ،‬ولم يعد‬
‫اسمه عندهم ذا الرمة‪ ،‬بل ذا الغمة‪ ..‬فلم يعطوه لعشائه هذه المرة‬
‫مسسا‪ ،‬وداء‬
‫إل ما فسد وخبث من عتيق "المالح"‪ ،‬فهو نتن يسسسمى طعا ً‬
‫يباع بثمن‪ ،‬وهلك يحمل عليه الضطرار كما يحمل على أكل الجيفة؛‬
‫وكسسانوا قسسد وضسسعوه فسسي آنيسسة قسسذرة متلجنسسة طسسال عهسسدها بالغسسسل‬
‫والنظافة وفيها بقية من عفن قسديم‪ ،‬فلصسسق بهسا مسا لصسق وتراكسسب‬
‫عليها ما تراكب‪ ،‬ووقع فيها ما وقع‪.‬‬
‫ثم يتهيأ الشاعر لصلة العشاء يرجو أن تناله بركتها‪ ،‬فيستجيب اللسسه‬
‫له ويفرج عنه‪ ،‬وقد كان لديه قدح من الماء لوضوئه‪ ،‬ولكن "المالح"‬
‫الذي تغذى به كان قد أحرق جوفه وأضسسرم علسسى أحشسسائه وهسسو فسسي‬
‫صسسيف قسسائظ‪ ،‬فمسا زال يطفئه بالشسسربة بعسسد الشسسربة‪ ،‬والمصسة بعسسد‬
‫المصة‪ ،‬حتى اشتف القدح وأتى عليسسه‪ ،‬فيكسسسل عسسن الصسسلة ويلعسسن‬
‫"المالح" وما جسسر عليسسه! ثسسم يعضسسه الجسسوع فيكسسسر خسسبرته ويسسسمى‬
‫ويغمس اللقمة ثم يرفعها فيجد لها رائحة منكرة‪ ،‬فينظسسر فسسي النيسسة‬
‫وقد نفذ إليه الضوء من قنديل الحارس‪ ،‬فإذا في "المالسسح" خنفسسساء‬
‫قد انفجرت شبًعا‪ ،‬ويسسدقق النظسسرة فسسإذا دويبسسة أخسسرى قسسد تفسسسخت‬

‫‪158‬‬
‫وهرأها "المالح" وفعل بها وفعل! قالوا‪ :‬وتثب نفسه إلسسى حلقسسه‪ ،‬ول‬
‫يرى الطاعون والبلد الصفر والحمر إل هذا "المالح"‪ ،‬فيتحول إلسسى‬
‫كوة الحانوت يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد‪،‬‬
‫ول يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية‪ ،‬وهو‬
‫بين ذلك يلعن "المالح" عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليسسل‪،‬‬
‫ويطول ذلك عليه‪ ،‬حتى إذا كسان ينشسق لمسع الفجسر لعينسه‪ ،‬فل يسراه‬
‫الشاعر إل كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هسسذا الضسسوء‬
‫في جوفه ليغسسسله مسسن "المالسسح" وأوضسسار "المالسسح"؛ ثسسم يسسأتي اللسسه‬
‫بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له‪ ،‬ويغدو ذو الرمة علسسى الممسسدوح‬
‫فيقبض الجائزة‪ ،‬وينقلب إلى حسسوانيت البقسسالين فيسسوفي أصسسحابها مسسا‬
‫عليه؛ ول يبقى معسسه إل دراهسسم معسسدودة‪ ،‬فيخسسرج مسسن البصسسرة علسسى‬
‫حمار اكتراه وقد فتحت له آفسساق السسدنيا‪ ،‬وكأنمسسا فسسر مسسن مسوت غيسسر‬
‫المسسوت‪ ،‬ليسسس اسسسمه البسسوار ول الهلك ول القتسسل‪ ،‬ولكسسن اسسسمه‬
‫"المالح"!‬
‫قسسالوا‪ :‬ويحركسسه الحمسسار للشسسعر كمسسا كسسانت تحركسسه الناقسسة‪ ،‬فيقسسول‪:‬‬
‫أخزاك الله من حمار بصري‪ ،‬إن أنت في المراكب إل "كالمالح" في‬
‫الطعمة! ثم يغلبسسه الطبسسع ينسسزو بسسه الطسسرب وتهسسزه الحيسساة‪ ،‬فيهتسساج‬
‫للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار مي‪ ،‬وفسي "عقلسه البساطن" حسوانيت‬
‫وحوانيت من "المالح"‪ ،‬فيأتي هذا "المالح" فسسي شسعره ويسدخل فسسي‬
‫لغته‪ ،‬فيقول الشعر الذي أهمل الصسسمعي روايتسسه لن فيسسه "المالسسح"‬
‫وما أدري أنا ما هو‪ ،‬ولكن لعله مثل قول الخر‪:‬‬
‫ولو تفلت في البحر والبحر "مالح"لصبح ماء البحر من ريقها عذبا‬
‫أو مثل قول القائل‪:‬‬
‫بصرية تزوجت بصريايطعمها "المالح" والطريا‬
‫هذه في الرواية التمثيلية التي تفسر كلم الصمعي‪ ،‬ول مذهب عنها‬
‫في التعليل؛ إذ صار "المالح" كلمة نفسية في لغة ذي الرمسسة‪ ،‬علسسى‬
‫رغسم أنسف الحمسر والسسود والصسمعي وأبسي عبيسدة؛ فالرجسل مسن‬
‫الحجج فسسي العربيسسة إل فسسي كلمسسة "المالسسح"‪ ،‬فسسإنه هنسسا عسسامي بقسال‬
‫حوانيتي نزل بطبعه على حكم العيش‪ ،‬وغلبه ما ل بد أن يغلسسب مسسن‬
‫تسلط "واعيته الباطنة"*‪.‬‬
‫والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن أبلغ النسساس ينحسسرف بعملسسه‬
‫كيف شاءت الحرفسسة‪ ،‬ول بسسد أن تقسسع المشسسابهة بيسسن نفسسسه وعملسسه‪،‬‬
‫فربما أراد بكلمه وجًها وجاء به الهاجس علسسى وجسسه آخسسر؛ وإذا كسسان‬
‫في النفس موضع من مواضسعها أفسسده العمسسل‪ -‬ظهسر فسسساده فسي‬

‫‪159‬‬
‫الذوق والدراك فطمس على مواضع أخرى؛ فل تنتظر من صسسحافي‬
‫قد ارتهن نفسه بحرفة الكلم أل يكون له في الدب والبلغة "مالح"‬
‫كمالح ذي الرمة‪ ،‬وإن كان أبلغ الناس ل أبلغ كتاب الصحف وحدهم‪.‬‬
‫و"المالح" الذي رأيناه لكاتب بليغ من أصحابنا ‪ 1‬أنه كتب فسسي إحسسدى‬
‫الصحف عن ديوان هو في شعر هذه اليام كالبعث بعد موت شوقي‬
‫وحافظ رحمهما الله فيأتي بالمجاز بعد السسستعارة بعسسد الكنايسسة ممسسا‬
‫قاله الشاعر‪ ،‬ثم يقسسول‪ :‬هسسذا عجيسسب تصسسوره‪ .‬ل أعسسرف مسساذا يريسسد‪.‬‬
‫البلى للشعاع غير مقبول؛ ول يزال ينسحب على هذه الطريقسسة مسسن‬
‫النقد ثم يعقب على ذلك بقوله‪" :‬والصل فسسي الكتابسسة أنهسسا للفهسسام‪،‬‬
‫أي نقل الخاطر أو الحساس من ذهسسن إلسسى ذهسسن ومسسن نفسسس إلسسى‬
‫نفسسسي‪ ،‬ول سسسبيل إلسسى ذلسسك إذا كسسانت العبسسارة يتعاورهسسا الضسسعف‬
‫والبهام والركاكة وقلة العناية بدقة الداء؛ وإذا كنت تستعمل اللفسسظ‬
‫في غير موضعه ولغير ما أريد به فكيف تتوقع مني أن أفهم منك؟‬
‫ل‪ ،‬ل‪ ،‬هسسذا "مالسسح" مسسن مالسسح الدب‪ ،‬فسسإذا كسسان الضسسعف والبهسسام‬
‫والركاكة وسسسوء الفهسسام وضسسعف الداء ‪-‬آتيسسة فسسي رأي الكسساتب مسسن‬
‫استعمال اللفظ في غير موضعه ولغيسسر مسسا أريسسد لسسه ‪-‬فسسإن محاسسسن‬
‫البيان من التشبيه واستعارة والمجاز والكناية ليس لها مسسأتى كسسذلك‬
‫إل استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له‪.‬‬
‫مَنا إ ِل َسسى َ‬
‫مسسا‬ ‫وعلى طريقة الكاتب كيف يصنع في قوله تعسسالى‪} :‬وَقَسد ِ ْ‬
‫من ُْثوًرا{ ]الفرقان‪[23 :‬‬ ‫جعَل َْناه ُ هََباًء َ‬
‫ل فَ َ‬
‫م ٍ‬
‫ن عَ َ‬ ‫مُلوا ِ‬
‫م ْ‬ ‫عَ ِ‬
‫أتراه يقول‪ :‬كيف قدم الله‪ ،‬وهل كان غائًبا أو مسسسافًرا‪ ،‬وكيسسف قسسدم‬
‫إلى عمل‪ ،‬وهل العمل بيت أو مدينة؟‬
‫‪---------------‬‬
‫* وضعنا هذه الكلمة لمسسا يسسسمى "العقسسل البسساطن"‪ ،‬وهسسي أدق فسسي‬
‫التعبير تستوفي كل معاني الكلمة‪ ،‬ول معنى لن يكون هنسساك عقسسل‪،‬‬
‫ثم يكون باطًنا غافًل‪ ،‬فإن هذا ل يسوغه الشتقاق‪.‬‬
‫‪ 1‬يعني المازني‪ ،‬وكان له نقد لديوان "الملح التائه"‪.‬‬
‫َ‬
‫ك{ ]هسود‪:‬‬ ‫مساَء ِ‬ ‫ض اب ْل َعِسسي َ‬
‫ل َيسا أْر ُ‬‫ثم كيف يصنع في هذه الية‪} :‬وَِقيس َ‬
‫‪ ،[44‬أيسأل‪ :‬وهل للرض حلق تحركه عضسسلته للبلسسع‪ ،‬وإذا كسسان لهسسا‬
‫حلق أفل يجوز أن ترمي فيه فتحتاج إلى غرغرة وعلج وطب؟‬
‫وماذا يقول في حديث البخاري‪" :‬إني لسمع صوًتا كأنه صوت السسدم‪،‬‬
‫أو صوًتا يقطر منه الدم ‪-‬كمسسا فسسي الغسساني‪ -‬أيسسوجه العسستراض علسسى‬
‫الصوت وجرحه ودمه‪ ،‬ويسأل‪ :‬بماذا جرح‪ ،‬وما لون هذا السسدم‪ ،‬وهسسل‬
‫للصوت عروق فيجري الدم فيها؟‬

‫‪160‬‬
‫إن الفهام ونقل الخاطر والحساس ليسسست هسسي البلغسسة وإن كسسانت‬
‫منها‪ ،‬وإل فكتابة الصحف كلها آيات بينات في الدب؛ إذ هي من هذه‬
‫الناحية ل يقدح فيها ول يغض منها‪ ،‬وما قصرت قط في نقسسل خسساطر‬
‫ول استغلقت دون إفهام‪.‬‬
‫ههنا خوان في مطعم كمطعم "الحسساتي" مثًل عليسسه الشسسواء والملسسح‬
‫والفلفل والكواميخ أصناًفا مصنفة‪ ،‬وآخر في وليمة عرس في قصسسر‬
‫وعليه ألوانه وأزهاره‪ ،‬ومن فوقه الشعة ومن حوله الشعة الخسسرى‬
‫من كل مضيئة في القلب ينور وجهها الجميل‪ ،‬أفسسترى السسسهولة كسسل‬
‫السسهولة إل فسسي الول؟ وهسل التعقيسد كسل التعقيسسد إل فسسي الثسساني؟‬
‫ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس إل‪ ،‬به ينضاف الجمسسال فسسي‬
‫المنفعة‪ ،‬فتجتمع الفائدة والسسستمتاع وتزيسسن المسسائدة والنفسسس معًسسا؛‬
‫وهو كذلك تعقيد فني لءم بين إبسسداع الطبيعسسة وإبسسداع الفكسسر‪ ،‬وجسساء‬
‫بروح الموسيقى السستي يقسوم عليهسسا الكسسون الجميسسل فبثهسسا فسسي هسسذه‬
‫الشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة‪ ،‬واستنزل سر الجاذبية فجعل‬
‫للمائدة بما عليها شسعوًرا متصسًل بسالقلوب مسن حيسث جعسل للقلسوب‬
‫شعوًرا متصًل بالمائدة‪.‬‬
‫وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة‪ ،‬هو بعينسسه فنيسسة‬
‫السهولة وروحيتها؛ وتلسك السسذاجة الستي فسي المسائدة الخسرى هسي‬
‫السهولة المادية بغير فن ول روح‪ ،‬وفرق بينهمسسا أن إحسسداهما تحمسسل‬
‫قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به‪ ،‬والخرى تحمل مسسن الطعسسام‬
‫وما يتصل به مقالة كمقالت الصحف!‬
‫والسسوجه فسسي الشسسوهاء وفسسي الجميلسسة واحسسد‪ :‬ل يختلسسف بأعضسسائه ول‬
‫منافعه‪ ،‬ول فسسي تسسأديته معسساني الحيسساة علسسى أتمهسسا وأكملهسسا؛ بيسسد أن‬
‫انسجام الجميل يسسأتي مسسن إعجسساز تركيبسسه وتقسسدير قسسسماته وتسسدقيق‬
‫تناسبه‪ ،‬وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسسسي بسسسهولة منسسسجمة هسسي‬
‫فنّيته وروحيته؛ أما الخر فل يقبل هذا الفسن ول يظهسر منسسه شسسيًئا؛ إذ‬
‫كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيسسد فسسن التناسسسب‪ ،‬وجسساء‬
‫على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير‪ ،‬إلسسى مسسا يسسستدير ومسسا‬
‫يعرض‪ ،‬إلى ما ينشأ من هنا وينخسف مسسن هنسساك‪ ،‬كالوجنسسة البسسارزة‪،‬‬
‫والشدق الغائر‪ ،‬فهذه السسسهولة فسسي الوضسسع كمسسا يتفسسق‪ ،‬هسسي بعينهسسا‬
‫التعقيد المطلق عند الفن الذي ل محل فيه للفظة "كما يتفق"‪.‬‬
‫والطريقة التي يكسسون بهسسا الجمسسال جميًل هسسي بعينهسسا الطريقسسة السستي‬
‫يكون بها البيان بليًغا‪ ،‬فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفسسس‪،‬‬
‫وأنت فقل‪ :‬إن هذا مفهسسوم وهسسذا غيسسر مفهسسوم‪ ،‬وذاك سسسهل والخسسر‬

‫‪161‬‬
‫معقد‪ ،‬وواضح ومغلق‪ ،‬ومستقيم على طريقته ومحول عن طريقتسسه؛‬
‫إنك فسسي ذلسسك ل تسسدل علسسى شسسيء تعيبسسه أو تمسسدحه فسسي الجمسسال أو‬
‫البلغة أكثر مما تسسدل علسسى مسسا يمسسدح أو يعسساب فسسي نفسسسك وذوقهسسا‬
‫وإدراكها‪.‬‬
‫ومعاني الختلف ل تكون في الشيء المختلف فيه‪ ،‬بل في النفسسس‬
‫المختلفسسة عليسسه؛ فسسإن محسساًل أن تكسسون الجميلسسة ممدوحسسة مذمومسسة‬
‫لجمالها في وقت مًعا‪ ،‬وإل كانت قبيحة بما هي به حسناء‪ ،‬وهذا أشد‬
‫دا في الستحالة‪ ،‬وحكمسك علسى شسيء هسو عقلسك أنست فسي هسذا‬ ‫بع ً‬
‫الشيء‪.‬‬
‫ومسستى اتفسسق النسساس علسسى معنسسى يستحسسسنونه وجسسدت دواعسسي‬
‫الستحسان في أنفسهم مختلفة‪ ،‬وكسسذلك هسسم فسسي دواعسسي السسذم إذا‬
‫عابوا؛ ولكن متى تعينت الوجوه التي بها يكسسون الحكسسم‪ ،‬ورجسسع إليهسسا‬
‫المختلفون‪ ،‬والتزموا الصسسول السستي رسسسمتها وتقسسررت بهسسا الطريقسسة‬
‫عندهم في الذوق والفهم‪ ،‬فذلك ينفسسي أسسسباب الختلف لمسسا يكسسون‬
‫من معاني التكافؤ وخاصة المناسسسبة‪ ،‬ولهسسذا كسسان الشسسرط فسسي نقسسد‬
‫البيان أن يكون من كاتب مبدع في بيسسانه لسسم تفسسسده نزعسسة أخسسرى‪،‬‬
‫وفي نقد الشعر أن يكون من شاعر علت مرتبته وطسسالت ممارسسسته‬
‫لهذا الفن فليس له نزعة أخرى تفسده‪.‬‬
‫وما المجازات والستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلغة إل‬
‫أسلوب طبيعي ل مذهب عنه للنفس الفنيسسة؛ إذ هسسي بطبيعتهسسا تريسسد‬
‫ما ما هو أعظم‪ ،‬وما هو أجمل‪ ،‬وما هو أدق؛ وربما ظهر ذلك لغير‬ ‫دائ ً‬
‫فا ووضًعا للشياء في غير مواضعها‪ ،‬ويخسسرج‬ ‫فا وتعس ً‬
‫هذه النفس تكل ً‬
‫من هذا أنه عمل فارغ وإساءة في التأدية وتمحل ل عبرة به‪ ،‬ولكسسن‬
‫فنية النفس الشاعرة تأبى إل زيادة معانيها‪ ،‬فتصنع ألفاظهسسا صسسناعة‬
‫توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها؛ فمن ثسسم ل‬
‫تكون الزيادة في صور الكلم وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إل تهيئة‬
‫دا‬
‫مسسا زائ ً‬‫لهذه الزيادة في شعور النفس؛ ومن ذلسسك يسسأتي الشسسعر دائ ً‬
‫بالصناعة البياينة؛ لتخرجه هسسذه الصسسناعة مسسن أن يكسسون طبيعي ّسسا فسسي‬
‫الطبيعسسة إلسسى أن يكسسون روحاني ّسسا فسسي النسسسانية‪ ،‬والشسسعور المهتسساج‬
‫المتفزز غير الساكن المتبلد‪ ،‬والبيسسان فسسي صسسناعة اللغسسة يقابسسل هسسذا‬
‫ق كالنائم‬ ‫النحو‪ ،‬فتجد من التعبير ما هو حي متحرك‪ ،‬وما جامد مستل ٍ‬
‫أو كالميت؛ وبهذا ل تكون حقيقة المحسنات البيانية شسسيًئا أكسسثر مسسن‬
‫أنهسسا صسسناعة فنيسسة ل بسسد منهسسا لحسسداث الهتيسساج فسسي ألفسساظ اللغسسة‬

‫‪162‬‬
‫الحساسسسة كسسي تعطسسي الكلمسسات مسسا ليسسس فسسي طاقسسة الكلمسسات أن‬
‫تعطيه‪.‬‬
‫لقد تكلموا أخيًرا في جنابة الصحافة على الدب‪ ،‬والصحافة عندي ل‬
‫تجني على الدب‪ ،‬ولكن على فنيته؛ فلها من الثر على سليقة البليغ‬
‫وطبعه قريب مما كان لحوانيت البقالين في البصرة علسسى طبسسع ذي‬
‫الرمة وسسسليقته‪ ،‬وكلمسسا قسسرب الصسسحافي مسسن الصسسنعة وحقهسسا علسسى‬
‫الجمهور‪ ،‬بعد عن الفن وجماله وحقه على النفسسس‪ ،‬وهسسذا واضسسح بل‬
‫كبير تأمل‪ ،‬بل هو واضح بغير تأمل‪..‬‬

‫‪‬‬

‫‪163‬‬
‫صعاليك الصحافة "‪"1‬‬

‫لما ظهر كتابي " وحي القلم"‪ 1‬حملت منه إلى فضلء كتابنا في دور‬
‫الصحف والمجلت أهديه إليهم؛ ليقرؤوه ويكتبوا عنه‪ ،‬وأنا رجل ليس‬
‫في أكثر مما في‪ ،‬كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع؛ فمسسا أعلسسم‬
‫في طبيعتي موضعا للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحسسة‪ ،‬ول مكاًنسسا‬
‫من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة‪ ،‬ولست أهدي من كتبي إل‬
‫إحسسدى هسسديتين‪ :‬فإمسسا التحيسسة لمسسن أثسسق بسسأدبهم وكفسسايتهم وسسسلمة‬
‫قلوبهم‪ ،‬وإما إنذار حرب لغير هؤلء!‬
‫ه فيه أقوال من عابوه‪ ،‬ليدل بسسذلك علسسى‬ ‫والقرآن نفسه قد أثبت الل ُ‬
‫أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها‪ ،‬كحاجتها إلى من يقربهسسا‬
‫قبلها‪ ،‬فهسسي بأحسسدهما تثبسست وجودهسسا‪ ،‬وبسسالخر تثبسست قسسدرتها علسسى‬ ‫وي ْ‬
‫الوجود والستمرار‪.‬‬
‫دا؛ فإذا كانت النفس قويسسة صسسريحة مسسر‬ ‫والشعور بالحق ل يخرس أب ً‬
‫من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصسسة‪ ،‬فسسإن قسسال‪ :‬ل أو‪ :‬نعسسم‬
‫صدق فيهما؛ وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الغراض والسسدخائل‪،‬‬
‫فمر من بسساطن إلسسى بسساطن حسستى يخلسسص إلسسى الظسساهر فسسي الكلمسسة‬
‫المقلوبة؛ إذ يكون شعوًرا بالحق يغطيه غرض آخر كالحسسسد ونحسسوه‪،‬‬
‫فإن قال‪ :‬ل أو نعم كذب فيهما جميًعا‪.‬‬
‫وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلت أحس فسسي كسسل منهسسا‬
‫سؤاًل يسألني به المكان‪ :‬لماذا لم تجئ؟ فإني في ابتداء أمري كنت‬
‫نزعت إلى العمل فسي الصسحافة‪ ،‬وأنسا يسومئذ متعلسم ريسض ومتسأدب‬
‫ناشئ‪ ،‬ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك ووجهني في سبيلي هذه‬
‫والحمد لله‪ ،‬فلو أننسسي نشسسأت صسسحافّيا لكنسست الن كبعسسض الحسسروف‬
‫المكسورة في الطبع‪..‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬يعني الجزأين الول والثاني في طبعتهما الولى‪.‬‬

‫وللصحافة العربيسسة شسسأن عجيسسب‪ ،‬فهسسي كلمسسا تمسست نقصسست‪ ،‬وكلمسسا‬


‫نقصت تمت؛ إذ كان مدار المر فيها على اعتبار أكسسثر مسن يقرؤونهسا‬
‫أنصاف قراء أو أنصاف أميين؛ وهي بهذا كالطريقسسة لتعليسسم القسسراءة‬
‫الجتماعية أو السياسية أو الدبية؛ فتمامهسسا بمراعسساة قواعسسد النقسسص‬
‫في القارئ‪ ..‬وما بد أن تتقيد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيد بحقيقسسة‬

‫‪164‬‬
‫نفسها‪ ،‬فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد‪ ،‬لها من رجلها من يأمرها‬
‫ويجعلها في حكمه وهواه‪ ،‬وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم‬
‫في طاعتها ورأيها وأدبها؛ ثم هي عمل الساعة واليسسوم‪ ،‬فمسسا أبعسسدها‬
‫من حقيقة الدب الصحيح؛ إذ ينظسسر فيسسه إلسسى السسوقت السسدائم ل إلسسى‬
‫الوقت الغابر‪ ،‬ويراد به معنى الخلود ل معنى النسيان‪.‬‬
‫ول يقتل النبوغ شسسيء كالعمسسل فسسي هسسذه الصسسحافة بطريقتهسسا؛ فسسإن‬
‫أساس النبسسوغ "مسسا يجسسب كمسسا يجسسب"؛ ودأبسسه العمسسق والتغلغسسل فسسي‬
‫أسرار الشياء وإخراج الثمرة الصسسغيرة مسسن مثسسل الشسسجرة الكسسبيرة‬
‫بعمل طويل دقيق؛ أما هي فأساسها "ما يمكسسن كمسسا يمكسسن" ودأبهسسا‬
‫السرعة والتصفح واللمام وصناعة كصناعة العنوان ل غير‪.‬‬
‫فليس يحسن بسسالديب أن يعمسسل فسسي هسسذه الصسسحافة اليوميسسة إل إذا‬
‫نضج وتم وأصبح كالدولة على "الخريطسسة"‪ ،‬ل كالمدينسسة فسسي الدولسسة‬
‫في الخريطة؛ فهو حينئذ ل يسهل محسسوه ول تبسسديله‪ ..‬ثسسم هسسو يمسسدها‬
‫جا مسسن تيجانهسسا ل خسسرزة مسسن‬ ‫بالقوة ول يستمد القوة منها‪ ،‬ويكون تا ً‬
‫خرزاتها‪ ،‬ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلسسى الجسسو‬
‫إلى مدى بعيد من الفاق‪ ،‬ل كمصباح من مصابيح الشارع!‬
‫وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكان ًسسا طبيعي ّسسا لرجسسل السياسسسة‬
‫قبسسل غيسسره؛ إذ كسسان الرجسسل السياسسسي هسسو صسسوت الحسسوادث سسسائًل‬
‫ومجيًبا‪ ،‬ثم يليه الرجل شبه العالم‪ ،‬ثم الرجل شبه الممثل الهزلسسي‪..‬‬
‫والديب العظيم فوق هؤلء جميًعا‪ ،‬غير أنه عندنا في الصسسحافة وراء‬
‫هؤلء جميًعا!‪.‬‬
‫ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في‬
‫نومي فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لهدي "‬
‫)‪(1/167‬‬

‫وحي القلم" إلسى الديسب المتخصسص فيهسا للكتابسة الدبيسة؛ ودلسوني‬


‫عليه فإذا رجسسل مربسسوع مشسسوه الخلسسق صسسغير السسرأس دقيسسق العنسسق‬
‫جاحظ العينين‪ ،‬تسسدوران فسسي محجريهمسسا دورة وحشسسية كأنمسسا رعبتسسه‬
‫الحياة مذ كان جنيًنا في بطن أمه؛ لنه خلق للحساس والوصف‪ ،‬أو‬
‫كأنما ركب فيه هذا النظر الساخر ليسسرى أكسسثر ممسسا يسسرى غيسسره مسسن‬
‫أسرار السخرية فينبغ في فنونها‪ ،‬أو هو قد خلق بهسساتين الجسساحظتين‬
‫دللة عليه من القدرة اللهية بأنه رجل قد أرسل لتدقيق النظر‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫وقال الذي عرفني به‪ :‬حضرته عمسسرو أفنسسدي الجسساحظ‪ ..‬وهسسو أديسسب‬
‫الجريدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟‬
‫فضحك الجاحظ وقال‪ :‬وأديب الجريدة‪ ،‬أي شحاذ الجريدة‪ ،‬يكتب لها‬
‫كما يقرأ القارئ على ضريح‪ :‬بالرغيف والجبن والبيض والقرش‪..‬‬
‫قلت‪ :‬إنا لّله! فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنسست مسسن‬
‫سا في الكلم؟‬ ‫أعاجيب الدنيا؟ وكيف خبت في الصحافة وكنت رأ ً‬
‫قال‪ :‬نجحت أخلقي فخابت آمالي‪ ،‬ولو جسساء الوضسسع بسسالعكس لكسسان‬
‫دا هو قسسانون‬ ‫المر بالعكس؛ والمصيبة في هذه الصحف أن رجًل واح ً‬
‫كل رجل هنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وذاك الرجل الواحد ما قانونه؟‬
‫قال‪ :‬له ثلثة قوانين‪ :‬الجهات العالية ومسسا يسسستوحيه منهسسا‪ ،‬والجهسسات‬
‫النازلة وما يوحيه إليها‪ ،‬وقانون الصلة بين الجهتين وهو‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وهو ماذا؟‬
‫فحملسسق فسسي وقسسال‪ :‬مسسا هسسذه البلدة؟ وهسسو السسذي "هسسو"‪ ..‬أمسسا تسسرى‬
‫الصحيفة ككل شيء يباع؟ وأنت فخيرني ‪-‬ولك الدولة والصولة عنسسد‬
‫القراء‪ -‬ألم تر بعينيك أنك لو جئت تدفع ثمانمائة قسسرش‪ ،‬لكنسست فسسي‬
‫نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تهدي ثمانمائة صفحة مسسن البيسسان‬
‫والدب؟‬
‫قلت‪ :‬يا أبا عثمان‪ ،‬فماذا تكتب هنا؟‬
‫قال‪ :‬إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية‪ ،‬فماذا ترى أنت‬
‫في‪ ...‬وفي‪ ...‬وفسسي؟‪ ...‬لقسسد كنسسا نسسروي فسسي الحسسديث‪" :‬يكسسون قسسوم‬
‫يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الرض البقرة بلسانها"؛ فلعل من‬
‫هذه اللسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة‪...‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنك يا شيخنا قد نسيت القراء وحكمهم على الصحيفة‪.‬‬
‫قال‪ :‬القراء ما القراء؟ وما أدراك ما القراء؟ وهل أساس أكثرهم إل‬
‫بلدة المدارس‪ ،‬وسخافة الحياء‪ ،‬وضعف الخلق‪ ،‬وكسسذب السياسسسة؟‬
‫إن البداع كل البداع فسسي أكسسثر مسسا تكتسسب هسسذه الصسسحف‪ ،‬أن تجعسسل‬
‫الكذب يكذب بطريقة جديدة‪ ...‬وما دام المبدأ هو الكذب‪ ،‬فسسالمظهر‬
‫هو الهزل؛ والناس في حياة قد ماتت فيها المعاني الشسسديدة القويسسة‬
‫السامية‪ ،‬فهم يريدون الصحافة الرخيصة‪ ،‬واللغة الرخيصة‪ ،‬والقراءة‬
‫الرخيصة؛ وبهذا أصبح الجاحظ وأمثاله هم "صعاليك الصحافة"‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيسسس التحريسسر‪ ،‬فنهسسض إليسسه‪ ،‬ثسسم‬
‫رجع بعينيسسن ل يقسسال فيهمسسا جاحظتسسان‪ ،‬بسسل خارجتسسان‪ ...‬وقسسال‪ :‬أف‪.‬‬
‫ن{ ]هود‪.[16 :‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫صن َُعوا ِفيَها وََباط ِ ٌ‬
‫ل َ‬ ‫ما َ‬ ‫ط َ‬‫حب ِ َ‬
‫}وَ َ‬
‫"كل والذي حرم التزيد علسسى العلمسساء‪ ،‬وقبسسح التكلسسف عنسد الحكمساء‪،‬‬
‫وبهرج الكذابين عند الفقهاء‪ ،‬ل يظن هذا إل من ضل سعيه"*‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا دهاك يا أبا عثمان؟‬
‫قسسال‪ :‬ويحهسسا صسسحافة! قسسل فسسي عمسسك مسسا قسسال المثسسل‪ :‬جحسسظ إليسسه‬
‫عمله**‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ما القصة؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬ويحها صحافة! وقال الحنف‪ :‬أربع من كن فيه كان كامل‪ ،‬ومن‬
‫تعلق بخصلة منهن كان مسسن صسسالحي قسسومه‪ :‬ديسسن يرشسسده‪ ،‬أو عقسسل‬
‫يسدده‪ ،‬أو حسب يصونه‪ ،‬أو حياة يقناه"‪ .‬وقال‪" :‬المؤمن بين أربسسع‪:‬‬
‫مسؤمن يحسسده‪ ،‬ومنسافق يبغضسه‪ ،‬وكسافر يجاهسده‪ ،‬وشسيطان يفتنسه‪،‬‬
‫وأربع ليس أقل منهن‪ :‬اليقين‪ ،‬والعدل‪ ،‬ودرهم حلل‪ ،‬وأخ في الله"‪.‬‬
‫وقال الحسن بن علي‪...*** :‬‬
‫قلت‪ :‬يا شيخنا‪ ،‬دعنا الن من الروايسسة والحفسسظ والحسسسن والحنسسف؛‬
‫فماذا دهاك عند رئيس التحرير؟‬
‫قال‪ :‬لم أحسن المهسساترة فسسي المقسسال السسذي كتبتسسه اليسسوم‪ ...‬ويقسسول‬
‫رئيس التحرير‪ :‬إن كان نصف التمويه رذيلة؟ فإن نصسفه الخسر يسدل‬
‫على أنه تمويه‪ .‬ويقول‪ :‬إن سمو الكتابة انحطاط فصيح؛ لن القسسراء‬
‫في هذا العهد ل يخرجون من حفظ القرآن والحسديث ودراسسة كتسب‬
‫العلمسساء والفصسسحاء‪ ،‬بسسل مسسن الروايسسات والمجلت الهزليسسة‪ .‬وحفسسظ‬
‫القسسرآن والحسسديث وكلم العلمسساء يضسسع فسسي النفسسس قسسانون النفسسس‪،‬‬
‫ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للستجابة لتلك المعسساني الكسسبيرة فسسي‬
‫الدين والفضيلة والجد والقوة؛ ولكن ماذا تصسسنع الروايسسات والمجلت‬
‫وصور‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬هذه الجملة من كلم الجاحظ‪.‬‬
‫‪ 2‬يريدون أنه إذا نظر في عمله رأى سوء ما صنع‪.‬‬
‫ما بالنقل‪.‬‬ ‫‪ 3‬هذه طريقة الجاحظ‪ ،‬يخلط الكلم دائ ً‬
‫الممثلت المغنيسات وخسبر الطسالب فلن والطالبسة فلنسة والمسسارح‬
‫والملهي؟‬
‫ويقول رئيس التحرير‪ :‬إن الكاتب الذي ل يسأل نفسه ما يقال عنسسي‬
‫في التاريخ‪ ،‬هو كاتب الصحافة الحقيقي؛ لن القروش هي القسسروش‬

‫‪167‬‬
‫والتاريخ هو التاريخ؛ ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة‬
‫البنك الهلي؛ ول يتحقق نسب ما بينهما إل في إخسسراج السسورق السسذي‬
‫يصرف كله ول يرد منه شيء!‬
‫إنهم يريدون إظهسسار المخسسازي مكتوبسسة‪ ،‬كحسسوادث الفجسسور والسسسرقة‬
‫والقتل والعشق وغيرها؛ يزعمون أنها أخبار تروى وتقص للحكايسسة أو‬
‫العبرة‪ ،‬والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء‪...‬‬
‫ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير‪...‬‬
‫‪‬‬

‫‪168‬‬
‫صعاليك الصحافة "‪"2‬‬

‫وغاب شيخنا أبو عثمان عند رئيسس التحريسر بعسض سساعة‪ ،‬ثسم رجسع‬
‫تدور عيناه في جحاظيهما وقد اكفهر وجهه وعبس كأنما يجسسري فيسسه‬
‫الدم السود ل الحمر‪ ،‬وهو يكاد ينشق من الغيظ‪ ،‬وبعضه يغلي فسسي‬
‫بعضه كالماء على النار؛ فما جلس حتى جاءت ذبابتان فوقعتسسا علسسى‬
‫كنفي أنفه تتمان كآبسسة وجهسسه المشسسوه‪ ،‬فكسسان منظرهمسسا مسن عينيسسه‬
‫السوداوين الجاحظتين منظر ذبابتين ولدتا من ذبابتين‪..‬‬
‫وتركهما الرجل لشأنهما وسسسكت عنهمسسا؛ فقلسست لسسه‪ :‬يسسا أبسسا عثمسسان‪،‬‬
‫هاتان ذبابتان‪ ،‬ويقال إن الذباب يحمل العدوى‪.‬‬
‫فضحك ضحكة المغيظ وقال‪ :‬إن الذباب هنا يخسسرج مسسن المطبعسسة ل‬
‫من الطبيعة‪ ،‬فأكثر القول في هسسذه الجسسرائد حشسسرات مسسن اللفسساظ‪:‬‬
‫منها ما يستقذر وما تنقلب لسه النفسس‪ ،‬ومسا فيسه العسدوى‪ ،‬ومسا فيسه‬
‫الضرر؛ وما بد أن يعتسساد الكسساتب الصسسحافي مسسن الصسسبر علسسى بعسسض‬
‫القول مثل ما يعتاد الفقيسسر مسسن الصسسبر علسسى بعسسض الحشسسرات فسسي‬
‫ثيابه‪ ،‬وقد يريده صاحب الجريدة أو رئيسسس التحريسسر علسسى أن يكتسسب‬
‫ما لسسو أعفسساه منسسه وأراده علسسى أن يجمسسع القمسسل والسسبراغيث مسسن‬‫كل ً‬
‫أهسسدام الفقسسراء والصسسعاليك بقسسدر مسسا يمل مقالسسة‪ ..‬كسسان أخسسف عليسسه‬
‫وأهون‪ ،‬وكان ذلك أصرح من معنى الطلب والتكليف*‪.‬‬
‫وكيفما دار المر فإن كثيًرا من كلم الصسسحف لسسو مسسسخه اللسسه شسسيًئا‬
‫غير الحروف المطبعية‪ ،‬لقطار كله ذباًبا على وجوه القراء!‬
‫فا إلى رئيس التحرير ورجعسست‬ ‫قلت‪ :‬ولكنك يا أبا عثمان ذهبت متلط ً‬
‫دا فما الذي أنكرت منه؟‬‫متعق ً‬
‫قال‪" :‬لو كان المر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب المسسور؛‬
‫لبطل النظر وما يشحذ عليه وما يسسدعو إليسسه‪ ،‬ولتعطلسست الرواح مسسن‬
‫معانيها والعقول من ثمارها‪ ،‬ولعدمت الشياء حظوظهسسا وحقوقهسسا ‪،1‬‬
‫هناك رجل من هؤلء المعنيين بالسياسسسة فسسي هسسذا البلسسد‪ ...‬يريسسد أن‬
‫يخلق في الحوادث غير معانيها‪ ،‬ويربسسط بعضسسها إلسسى بعسسض بأسسسباب‬
‫غير أسبابها‪ ،‬ويخرج منها نتائج غير نتائجها‪ ،‬ويلفق لهسسا مسسن المنطسسق‬
‫رقًعا كهذه الرقع في الثوب المفتوق؛ ثم ل يرضى إل أن تكون بذلك‬
‫دا على جماعة خصومه وهي رد عليه وعلى جماعته‪ ،‬ول يرضى مع‬ ‫ر ّ‬
‫الرد إل أن يكسسون كالعاصسسير تسسدفع مثسسل تيسسار البحسسر فسسي المسسستنقع‬
‫الراكد‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫ثم لم يجد لها رئيس التحرير غير عملك أبي عثمان في لطافة حسه‬
‫وقوة طبعه وحسسسن بيسسانه واقتسسداره علسسى المعنسسى وضسسده‪ ،‬كسسأن أبسسا‬
‫عثمان ليس عنده ممن يحاسسسبون أنفسسسهم‪ ،‬ول مسسن المميزيسسن فسسي‬
‫الرأي‪ ،‬ول من المستدلين بالدليل‪ ،‬ول من النسساظرين بالحجسسة؛ وكسسأن‬
‫أبا عثمان هذا رجل حروفي‪..‬‬
‫كحروف المطبعة‪ :‬ترفع من طبقة وتوضع في طبقة وتكون على مسسا‬
‫شئت‪ ،‬وأدنى حالتها أن تمد إليها اليد فإذا هي في يدك‪.‬‬
‫وأنا امرؤ سيد في نفسي‪ ،‬وأنا رجل صدق‪ ،‬ولسسست كهسسؤلء السسذين ل‬
‫يتسسألمون ول يتسسذممون؛ فسسإن خضسست فسسي مثسسل هسسذا انتقسسض طبعسسي‬
‫وضعفت استطاعتي وتبين النقص فيما أكتب‪ ،‬ونزلت فسسي الجهسستين؛‬
‫فل يطرد لي القول على ما أرجو‪ ،‬ول يستوي على ما أحب؛ فسذهبت‬
‫أناقضه وأرد عليه؛ فبهت ينظر إلي ويقلسسب عينيسسه فسسي وجهسسي‪ ،‬كسسأن‬
‫الكاتب عنده خادم رأيه كخادم مطبخه وطعامه‪ ،‬هذا من هذا‪.‬‬
‫ثم قال لي‪ :‬يا أبا عثمان‪ ،‬إني لستحي أن أعنفسسك؛ وبهسسذا القسسول لسسم‬
‫يستح أن يعنف أبا عثمان‪ ..‬ولهممت والله أن أنشده قول عباس بن‬
‫مرداس‪:‬‬
‫أكليب مالك كل يوم ظالما والظلم أنكد وجهه معلون‬
‫لول أن ذكرت قول الخر‪:‬‬
‫وما بين من لم يعط سمعا وطاعةوبين تميم غير حز الغلصم‬
‫وحز الغلصم "وقطع الدراهم" من قافية واحسسدة‪ ..‬وقسسال سسسعيد بسسن‬
‫أبي عروبة‪" :‬لن يكون لي نصف وجه ونصف لسان علسسى مسسا فيهمسسا‬
‫من قبح المنظر وعجز المخبر‪ -‬أحب إلى من أن أكون ذا وجهين وذا‬
‫لسانين وذا قولين مختلفين"‪ .‬وقال أيوب السختياني‪:‬‬
‫وهم شيخنا أن يمر في الحفظ والرواية على طريقته‪ ،‬فقلت‪ :‬وقسسال‬
‫رئيس التحرير‪...‬؟‬
‫فضسسحك وقسسال‪ :‬أمسسا رئيسسس التحريسسر فيقسسول‪ :‬إن الخلبسسة والمواربسسة‬
‫وتقليب المنطق هي كل البلغة في الصحافة الحديثة‪ ،‬ولهسسي كقلسسب‬
‫العيان فسسي معجسسزات النبيسساء ‪-‬صسلوات اللسه عليهسسم‪ -‬فكمسسا انقلبسست‬
‫العصا حية تسسعى‪ ،‬وهسي عصسا وهسي مسن الخشسب‪ ،‬فكسذلك تنقلسب‬
‫الحادثة في معجزات الصسسحافة إذا تعاطاهسسا الكسساتب البليسسغ بالفطنسسة‬
‫العجيبسسة والمنطسسق الملسسون والمعرفسسة بأسسساليب السياسسسة؛ فتكسسون‬
‫للتهويل‪ ،‬وهي في ذاتها اطمئنان‪ ،‬وللتهمة وهسسي فسسي نفسسسها بسسراءة‪،‬‬
‫وللجناية وهي في معناها سسسلمة‪ ،‬ولسسو نفسسخ الصسسحافي الحسساذق فسسي‬
‫قبضة من التراب لسسستطارت منهسسا النسسار وارتفسسع لهبهسسا الحمسسر فسسي‬

‫‪170‬‬
‫دخانها السود‪ .‬قال‪ :‬وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنمسسا هسسو‬
‫إتقان الحيلة على أن يصدقك الناس؛ فإن العامسسة وأشسسباه العامسسة ل‬
‫يصدقون الصدق لنفسه‪ ،‬ولكن للغرض الذي يساق له؛ إذ كان مسسدار‬
‫المر فيهم على اليمان والتقديس‪ ،‬فسسأذقهم حلوة اليمسسان بالكسسذب‬
‫فلن يعرفوه إل صدًقا وفوق الصدق‪ ،‬وهم من ذات أنفسهم يقيمسسون‬
‫السسبراهين العجيبسسة ويسسساعدون بهسسا مسسن يكسسذب عليهسسم مسستى أحكسسم‬
‫الكذب؛ ليحققوا لنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا‪...‬‬
‫ثم قال أبو عثمان‪ :‬ومعنى هذا كله أن بعض دور الصحافة لسسو كتبسست‬
‫عبارة صريحة للعلن لكانت العبارة هكذا‪ :‬سياسة للبيع‪...‬‬
‫قلت‪ :‬يا شسسيخنا‪ ،‬فإنسسك هنسسا عنسسدهم؛ لتكتسسب كمسسا يكتبسسون‪ ،‬ومقسسالت‬
‫ن ل تكتسسب‪،‬‬ ‫السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب‪ُ :‬تقسسرأ فيهسسا معسا ٍ‬
‫ويكسسون فسسي عبارتهسسا حيسساة وفسسي ضسسمنها طلسسب مسسا يسسستحي منسسه‪...‬‬
‫والحوادث عندهم على حسب الوقسات‪ ،‬فسالبيض أسسود فسي الليسل‪،‬‬
‫والسود أبيض فسسي النهسسار؛ ألسسم تسسر إلسسى فلن كيسسف يصسسنع وكيسسف ل‬
‫يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ،‬نعم الشاهد هو وأمثاله!؛ إنهم مصدقون حسستى فسسي تاريسسخ‬
‫حفر زمزم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬شهد رجل عند بعسض القضساة علسى رجسل آخسر‪ ،‬فسأراد هسذا أن‬
‫يجرح شهادته‪ ،‬فقال للقاضي‪ :‬أتقبل منه وهسسو رجسسل يملسسك عشسسرين‬
‫ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله؟ فقال الشسساهد‪ :‬بلسسى قسسد ححجسست‪.‬‬
‫قال الخصم؛ فاسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي؟ قال الشاهد‪:‬‬
‫لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها‪...‬‬
‫قال أبو عثمان‪ :‬فهسسذه هسسي طريقسسة بعضسسهم فيمسسا يزكسسي بسسه نفسسسه‪:‬‬
‫ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعسسوا عسسن مثسسل هسسذا التعسسبير؛ إذ‬
‫كسسانت الحيسساة السياسسسية جسسدًل فسسي الصسسحف لنفسسي المنفسسي وإثبسسات‬
‫المثبت‪ ،‬ل عمًل يعملونه بالنفي والثبات؛ ومتى استقلت هسسذه المسسة‬
‫وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها علسسى الصسسدق‪ ،‬فل يكسسون الشسسأن‬
‫حينئذ في إطلق الكلمة الصحافية إل من معناها الواقع‪.‬‬
‫والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة ل يترخص فيها مسسا دام‬
‫أساسسسها إيجسساد القسسوة وحياطسسة القسسوة وأعمسسال القسسوة‪ ،‬ومسسا دامسست‬
‫طبيعتها قائمة على جعل أخلق الشعب حاكمة ل محكومة؛ وقد كان‬
‫العمل السياسي إلى الن هو إيجاد الضعف وحياطسسة الضسسعف وبقسساء‬
‫الضعف؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطسة؛ ومسن ثسم كسان الخلسق‬

‫‪171‬‬
‫القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفسسترة‬
‫بعد الفترة‪ ،‬وذلك هو السبب في أن عندنا مسن الكلم المنسافق أكسسثر‬
‫من الحر‪ ،‬ومن الكاذب أكثر من الصسسادق‪ ،‬ومسسن الممسساري أكسسثر مسسن‬
‫الصريح؛ فل جسسرم ارتفعست اللقسساب فسوق حقائقهسا‪ ،‬وصسارت نعسسوت‬
‫المناصب وكلمات "باشا" و"بك" من الكلم المقدس صحافّيا‪...‬‬
‫يا لعباد الله! يأتيهم اسم الديب العظيم فل يجسدون لسه موضسًعا فسي‬
‫"محليات الجريدة"؛ ويأتيهم اسم الباشا أو البك أو صاحب المنصسسب‬
‫الكبير فبماذا تتشرف "المحليات" إل به؟ وهسسذا طسسبيعي‪ ،‬ولكسسن فسسي‬
‫طبيعة النفاق؛ وهذا واجب‪ ،‬ولكن حين يكون الخضسسوع هسسو السسواجب؛‬
‫ولو أن للديب وزًنا في ميزان المة لكان له مثسسل ذلسسك فسسي ميسسزان‬
‫الصحافة؛ فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عاميسسة الشسسعب‬
‫ليس غير ‪ ..‬ومن ذا الذي يصحح معنى الشسرف العامسل لهسذه المسة‬
‫وتاريخها‪ ،‬وأكثر اللقاب عندنا هي أغلط في معنى الشرف‪...‬؟‬
‫ثسسم ضسسحك أبسسو عثمسسان وقسسال‪ :‬زعمسسوا أن ذبابسسة وقعسست فسسي بارجسسة‬
‫"أميرال" إنجليزي أيام الحرب العظمى؛ فرأت القسسائد العظيسسم وقسسد‬
‫ما مسسن رسسسوم‬ ‫جا من الورق وهسسو يخطسسط فيسسه رسس ً‬ ‫نشر بين يديه در ً‬
‫الحسسرب؛ ونظسسرت فسسإذا هسسو يلقسسي النقطسسة بعسسد النقطسسة مسسن المسسداد‬
‫ويقول‪ :‬هذه مدينة كذا‪ ،‬وهذا حصسسن كسسذا‪ ،‬وهسسذا ميسسدان كسسذا‪ .‬قسسالوا‪:‬‬
‫فسخرت منه الذبابة وقسسالت‪ :‬مسسا أيسسسر هسسذا العمسسل ومسا أخسسف ومسسا‬
‫أهون! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي ونيمها* هنا وهناك‬
‫وتقول‪ :‬هذه مدينة‪ ،‬وهذا حصن‪...‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* ونيم الذباب‪ :‬هو "‪ "...‬أي هذه النقط السود التي يحدثها‪.‬‬
‫والتفت الجاحظ كأنما توهم الجسسرس يسسدق‪ ...‬فلمسسا لسسم يسسسمع شسسيًئا‬
‫قال‪:‬‬
‫لو أنني أصدرت صسسحيفة يوميسسة لسسسميتها "الكسساذيب" فمهمسسا أكسسذب‬
‫على الناس فقد صدقت في السم‪ ،‬ومهما أخطئ فلسسن أخطسسئ فسسي‬
‫وضع النفاق تحت عنوانه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم أخط تحت اسم الجريسسدة ثلثسسة أسسسطر بسسالخط الثسسالث هسسذا‬
‫نصفها‪:‬‬
‫ما هي عزة الذلء؟ هي الكذب الهازل‪.‬‬
‫ما هي قوة الضعفاء؟ هي الكذب المكابر‪.‬‬
‫ما هي فضيلة الكذابين؟ هي استمرار الكذب‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫قال‪ :‬ثسسم ل يحسسرر فسسي جريسسدتي إل "صسسعاليك الصسسحافة" مسسن أمثسسال‬
‫الجاحظ؛ ثم أكذب على أهل المال فأمجد الفقراء العسساملين‪ ،‬وعلسسى‬
‫رجال الشرف فأعظم العمسسال المسسساكين‪ ،‬وعلسسى أصسسحاب اللقسساب‬
‫فأقدم الدباء والمؤلفين‪ ،‬و‪...‬‬
‫ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير‪...‬‬

‫‪‬‬

‫‪173‬‬
‫صعاليك الصحافة "‪"3‬‬

‫ولم يلبث أن رجع أبو عثمسسان فسسي هسسذه المسسرة وكسسأنه لسسم يكسسن عنسسد‬
‫رئيس التحرير في عمل وأدائه‪ ،‬بل كسسان عنسسد رئيسسس الشسسرطة فسسي‬
‫مسسا شسسوه تشسسويهه‬ ‫جناية وعقابها؛ فظهر منقلسسب السسسحنة انقلب ًسسا دمي ً‬
‫وزاد فيه زيادات‪ ...‬ورأيته ممطوط الوجه مطا شنيًعا بدت فيه عيناه‬
‫الجاحظتان كأنهمسسا غيسسر مسسستقرتين فسسي وجهسسه‪ ،‬بسسل معلقتسسان علسسى‬
‫جبهته‪...‬‬
‫وجعل يضرب إحدى يديه بالخرى ويقول‪ :‬هسذا بساب علسى حسدة فسي‬
‫المتحان والبلوى‪ ،‬وما فيه إل المؤنسسة العظيمسسة والمشسسقة الشسسديدة؛‬
‫والعمل في هذه الصحافة إنما هو امتحانك بالصبر على اثنين‪ :‬علسسى‬
‫ضميرك‪ ،‬وعلسسى رئيسسس التحريسسر! وسسسأل بعسسض أصسسحابنا أبسسا لقمسسان‬
‫الممرور عن الجزء الذي ل يتجزأ ما هو؟ فقال‪ :‬الجزء الذي ل يتجزأ‬
‫علي بن أبي طالب عليه السلم‪ .‬فقال له أبو العيناء محمد‪ :‬أفليسسس‬
‫في الرض جزء ل يتجزأ غيسسره! قسسال‪ :‬بلسسى‪ ،‬حمسسزة جسسزء ل يتجسسزأ‪...‬‬
‫قال‪ :‬فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال‪ :‬أبو بكر يتجزأ‪ ...‬قسسال‪ :‬فمسسا‬
‫تقول في عثمان؟ قال‪ :‬ويتجزأ مرتين‪ ،‬والزبير يتجزأ مرتيسسن‪ ...‬قسسال‪:‬‬
‫فأي شيء تقول في معاوية؟ قال‪ :‬ل يتجزأ‪.‬‬
‫"فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل اليام أجزاء ل تتجزأ إلى‬
‫أي شيء ذهب؟ فلم نقع عليه إل أن يكون أبو لقمان كسسان إذا سسسمع‬
‫المتكلمين يذكرون الجزء الذي ل يتجزأ‪ ،‬هاله ذلك وكسسبر فسسي صسسدره‬
‫وتوهم أنه الباب الكسسبر مسسن علسسم الفلسسسفة‪ ،‬وأن الشسسيء إذا عظسسم‬
‫خطره سموه بالجزء الذي ل يتجزأ"*‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ورجع بنا القول إلى رئيس التحرير‪...‬‬
‫فضسحك حستى أسسفر وجهسه ثسم قسال‪ :‬إن رئيسس التحريسر قسد تلقسى‬
‫الساعة أمًرا بأن الجزء الذي ل يتجزأ اليوم هو فلن؛ وأن فلًنا الخر‬
‫يتجزأ مرتين‪ ...‬وأن المعنى الذي يبنى عليه رأي الصسسحيفة فسسي هسسذا‬
‫النهار هو شأن كذا في عمل كذا؛ وأن هذا الخبر‬
‫يجب أن يصور في صيغة تلئم جسسوع الشسسعب فتجعلسسه كسسالخبز السسذي‬
‫يطعمسه كسسل النساس‪ ،‬وتسسثير لسه شسهوة فسي النفسوس كشسهوة الكسسل‬
‫وطبيعة كطبيعة الهضم‪ ...‬وقد رمى إلي رئيس التحرير بجملة الخبر‪،‬‬
‫قسسا أبيسسض‬
‫وعلي أنا بعد ذلسسك أن أضسسرم النسسار وأن أجعسسل السستراب دقي ً‬
‫يعجن ويخبز ويؤكل ويسوغ فسي الحلسق وتسستمرئه المعسدة ويسسري‬
‫في العروق‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫وإذا أنا كتبت في هذا احتجت من السسترقيع والتمسسويه‪ ،‬ومسسن التسسدليس‬
‫والتغليط‪ ،‬ومن الخب والمكر‪ ،‬ومن الكسسذب والبهتسسان ‪-‬إلسسى مثسسل مسسا‬
‫يحتاج إليه الزنديق والدهري والمعطسسل فسسي إقامسسة البرهانسسات علسسى‬
‫ما‬‫صحة مذهب عرف الناس جميًعا أنه فاسد بالضرورة؛ إذ كان معلو ً‬
‫من الدين بالضرورة أنه فاسد؛ وأين تسسرى إل فسسي تلسسك النحسسل وفسسي‬
‫هذه الصحافة أن ينكر المتكلسم وهسو عسارف أنسه منكسر‪ ،‬وأن يجسترئ‬
‫وهو موقن أنه مجترئ‪ ،‬ويكابر وهو واثق أنه يكابر؟ فقد ظهر تقسسدير‬
‫من تقدير‪ ،‬وعمل مسسن عمسسل‪ ،‬ومسسذهب مسسن مسسذهب؛ والفسسة أنهسسم ل‬
‫يسسستعملون فسسي القنسساع والجسسدل والمغالطسسة إل الحقسسائق المؤكسسدة؛‬
‫يأخذونها إذ وجدت ويصنعونها إن لم توجسسد؛ إذ كسسان التسسأثير ل يتسسم إل‬
‫بجعل القارئ كالحالم‪ :‬يملكه الفكر ول يملك هسو منسسه شسسيًئا‪ ،‬ويلقسسي‬
‫إليه ول يمتنع ويعطي ول يرد على من أعطاه‪.‬‬
‫قا‬
‫قلت‪ :‬ولكن ما هو الخير الذي أرادوك على أن تجعل من ترابه دقي ً‬
‫أبيض؟‬
‫قال‪ :‬هو بعينه ذلك الشأن السسذي كتبسست فيسسه لهسسذه الصسسحيفة نفسسسها‬
‫أنقضه وأسفهه وأرد عليه‪ ،‬وكسسان يسسومئذ جسسزًءا يتجسسزأ‪ ..‬فسسإن صسسنعت‬
‫اليوم بلغتي في تأييده وتزيينه والشادة بسسه‪ ،‬ولسسم يكسسن هسسذا كاسسًرا‬
‫لي‪ ،‬ول حائًل بيني وبين ذات نفسي‪ -‬فل أقل من أن يكسسون الجسساحظ‬
‫تكذيًبا للجاحظ‪ ،‬آه لو وضع الرديو في غرف رؤساء التحريسسر ليسسسمع‬
‫الناس‪...‬‬
‫قلت‪ :‬يا أبا عثمان‪ ،‬هسسذا كقولسسك‪ :‬لسسو وضسسع الرديسسو فسسي غسسرف قسسواد‬
‫الجيوش أو رؤساء الحكومات‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس هذا من هذا‪ ،‬فإن للجيسسش معنسسى غيسسر الحسسذق فسسي تسسدبير‬
‫المعاش والتكسب وجمسسع المسسال؛ وفسسي أسسسراره أسسسرار قسسوة المسسة‬
‫وعمل قوتها؛ وللحكومة دخائل سياسية ل يحركها أن فلًنا ارتفع وأن‬
‫فلًنا انخفض‪ ،‬ول تصرفها العشرة أكثر من الخمسة؛ وفسسي أسسسرارها‬
‫أسرار وجود المة ونظام وجودها‪.‬‬
‫قال أبو عثمان‪ :‬وإنما نزل بصحافتنا دون منزلتها أنها ل تجد الشسسعب‬
‫القارئ المميز الصحيح القسسراءة الصسسحيح التمييسسز‪ ،‬ثسسم هسسي تريسسد أن‬
‫تذهب أموالها فسسي إيجسساده وتنشسسئته؛ وعمسسل الصسسحافة مسسن الشسسعب‬
‫عمسسل التيسسار مسسن السسسفن فسسي تحريكهسسا وتيسسسير مجراهسسا‪ ،‬غيسسر أن‬
‫المضحك أن تيارنا يسسذهب مسسع سسسفينة ويرجسسع مسسع سسسفينة‪ ...‬ولسسو أن‬
‫كا مميًزا معتبًرا مستبصًرا‬ ‫الصحافة العربية وجدت الشعب قارًئا مدر ً‬
‫فا وفسسسولة‪،‬‬ ‫لما رمت بنفسها على الحكومات والحزاب عجًزا وضسسع ً‬

‫‪175‬‬
‫ول خرجسست عسسن النسسسق الطسسبيعي السسذي وضسسعت لسسه‪ ،‬فسسإن الشسسعب‬
‫تحكمه الحكومة‪ ،‬وإن الحكومة تحكمها الصحافة‪ ،‬فهي من ثم لسان‬
‫الشعب؛ وإنما يقرؤها القارئ ليرى كلمته مكتوبة؛ وشعور الفسسرد أن‬
‫قا في رقابة الحكومة وأنه جزء من حركة السياسسة والجتمساع‪،‬‬ ‫له ح ً‬
‫هو الذي يوجب عليه أن يبتاع كل يوم صحيفة اليوم‪.‬‬
‫قال أبو عثمان‪ :‬فالصحافة ل تقوى إل حيث يكون كل إنسسسان قسسارًئا‪،‬‬
‫وحيث يكون كل قارئ للصحيفة كأنه محرر فيها‪ ،‬فهسسو مشسسارك فسسي‬
‫الرأي؛ لنه واحد ممن يدور عليهم الرأي‪ ،‬متتبسسع للحسسوادث؛ لنسسه هسسو‬
‫من مادتها أو هي من مادته‪ ،‬وهو لذلك يريد من أن الصحيفة حكايسسة‬
‫الوقت وتفسير الوقت‪ ،‬وأن تكسسون لسسه كمسسا يكسسون التفكيسسر الصسسحيح‬
‫للمفكر‪ ،‬فيلزمها الصدق ويطلب منها القسسوة ويلتمسسس فيهسسا الهدايسسة‪،‬‬
‫وتأتي إليه في مطلع كل يوم أو مغربه كما يدخل إلى داره أحد أهله‬
‫الساكنين في داره‪.‬‬
‫وفي قلة القراءة عندنا آفتان‪ :‬أما واحسسدة فهسسي القلسسة السستي ل تغنسسي‬
‫شيًئا؛ وأما الخرى فهم على قلتهم ل ترى أكبر شأنهم إل عبادة قوم‬
‫لقوم‪ ،‬وزرايسسة أنسساس بسسآخرين‪ ،‬وتعلسسق نفسساق بنفسساق‪ ،‬وتصسسديق كسسذب‬
‫لكذب؛ وآفسسة ثالثسسة تخسسرج مسسن اجتمسساع الثنيسسن‪ :‬وهسسي أن أكسسثرهم ل‬
‫يكونون فسسي قراءتهسسم الصسسحيفة إل كالنظسسارة اجتمعسسوا ليشسسهدوا مسسا‬
‫يتلهون به‪ ،‬أو كالفراغ يلتمسون ما يقطعون به الوقت؛ فهم يأخذون‬
‫السياسة مأخذ من ل يشارك فيها‪ ،‬ويتعاطون الجد تعاطي مسسن يلهسسو‬
‫به‪ ،‬ويتلقون العمال بروح البطالة‪ ،‬والعزائم بأسلوب عدم المبسسالة‪،‬‬
‫والمباحثة بفكرة الهمال‪ ،‬والمعارضة بطبيعة الهسسزء والتحقيسسر؛ وهسسم‬
‫عسسا مسسن المصسسلين إذا‬ ‫كالمصسسلين فسسي المسسسجد؛ فمثسسل لنفسسسك نو ً‬
‫اصطفوا وراء المام تركوه يصلي عن نفسه وعنهم انصرفوا‪.‬‬
‫قال أبو عثمان‪ :‬بهذا ونحوه جاءت الصحف عندنا وأكثرها ل ثبات لسسه‬
‫إل في الموضع الذي تكون فيه بين منسسافعه ووسسسائل منسسافعه؛ ومسسن‬
‫هسسذا ونحسسوه كسسان أقسسوى المسسادة عنسسدنا أن تظهسسر الصسسحيفة مملسسوءة‬
‫حكومة وسلطة وباشوات وبيكوات‪ ...‬وكسان مسن الطسبيعي أن محسل‬
‫الباشا والبك والحوادث الحكومية التفهة ل يكون من الجريدة إل في‬
‫موضع قلب الحي من الحي‪.‬‬
‫ثم استضحك شيخنا وقال‪ :‬لقسسد كتبسست ذات يسسوم مقالسسة أقسسترح فيهسسا‬
‫على الحكومة تصحيح هذه اللقاب‪ ،‬وذلك بوضع لقب جديد يكون هو‬
‫المفسر لجميعها ويكون هو اللقب الكسسبر فيهسسا‪ ،‬فسسإذا أنعسسم بسه علسسى‬

‫‪176‬‬
‫إنسان كتبت الصحف هكذا‪ :‬أنعمسست الحكومسسة علسسى فلن بلقسسب "ذو‬
‫مال"‪.‬‬
‫ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير‪...‬‬
‫كا وقد طابت نفسه فليس له‬ ‫فلم يلبث إل يسيًرا ثم عاد متهلًل ضاح ً‬
‫جحوظ العينين إل بالقدر الطبيعي‪ ،‬وجلس إلي وهو يقول‪:‬‬
‫بيد أن رئيس التحرير لم ينشر ذلك المقال‪ ،‬ولم يسسر فيسسه اسسستطراًفا‬
‫ول ابتكاًرا ول نكتة ول حجة صادقة‪ ،‬بل قال‪ :‬كأنك يا أبا عثمان تريسسد‬
‫أن يأكل عدد اليوم عدد الغد‪ ،‬فإذا نحن زهدنا في اللقسساب وأصسسغرنا‬
‫أمرها وتهكمنا بها وقلنا إنها أفسدت معنى التقدير النساني وتركسست‬
‫من لم ينلها من ذوي الجاه والغنى يرى نفسه إلى جسسانب مسسن نالهسسا‬
‫كالمرأة المطلقة بجانب المتزوجة‪ ...‬وقلنا إنها من ذلسسك تكسساد تكسسون‬
‫وسيلة من وسائل الدفع إلى التملق والخضوع والنفسساق لمسسن بيسسدهم‬
‫المر‪ ،‬أو وسيلة إلى ما هو أحط من ذلك كما كسسان شسسأنها فسسي عهسسد‬
‫الدولة العثمانية البائدة حين كان الوسام كالرقعسسة مسسن جلسسد الدولسسة‬
‫يرقع بها الصدر السسذي شسسقوه وانسستزعوا ضسسميره ‪-‬إذا نحسسن قلنسسا هسسذا‬
‫وفعلنا هذا‪ ،‬لسسم نجسسد الشسسعب السسذي يحكسسم لنسسا‪ ،‬ووجسسدنا ذوي المسسال‬
‫والجاه والمناصب الذي يحكمون علينا؛ فكنا كمن يتقدم فسسي التهمسسة‬
‫بغير محام إلى قاض ضعيف‪.‬‬
‫يا أبا عثمان‪ ،‬إنما هي حياة ثلثة أشياء‪ :‬الصحيفة‪ ،‬ثسسم الصسسحيفة‪ ،‬ثسسم‬
‫الحقيقة‪ ..‬فالفكرة الولى للصحيفة‪ ،‬والفكسسرة الثانيسسة هسسي للصسسحيفة‬
‫ضسسا؛ ومسستى جسساء الشسسعب السسذي يقسسول‪ :‬ل‪ ،‬بسسل هسسي الحقيقسسة‪ ،‬ثسسم‬ ‫أي ً‬
‫الحقيقة‪ ،‬ثم الصحيفة ‪-‬فيومئذ ل يقال في الصسحافة مسا قيسل لليهسود‬
‫ن ك َِثي سًرا{‬‫فسسو َ‬
‫خ ُ‬
‫دون ََها وَت ُ ْ‬
‫س ت ُب ْس ُ‬
‫طي س َ‬ ‫جعَل ُسسون َ ُ‬
‫ه قََرا ِ‬ ‫فسسي كتسساب موسسسى‪} :‬ت َ ْ‬
‫]النعام‪.[91 :‬‬
‫قلت‪ :‬أراك يا أبا عثمان لم تنكر شيًئا من رئيسسس التحريسسر فسسي هسسذه‬
‫المرة‪ ،‬فشق عليك أل تثلبه‪ ،‬فغمزته بالكلم عن مرة سالفة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما هذه المرة فأنا الرئيس ل هو‪ ،‬وفي مثل هذا ل يكون عمسسك‬
‫أبو عثمان من "صعاليك الصحافة"؛ إن الرجل اشتبه فسسي كلمسسة‪ :‬مسسا‬
‫وجهها‪ :‬أمرفوعة هي أم منصسسوبة؟ وفسسي لفظسسة مسسا هسسي‪ :‬أعربيسسة أم‬
‫مولدة؟ وفي تعبير أعجمي ما السسذي يسسؤديه مسسن العربيسسة الصسسحيحة؟‬
‫وفي جملة‪ :‬أهي في نسقها أفصح أم يبدلها‪.‬‬
‫إن المعجم هنا ل يفيدهم شيًئا إل إذا نطق‪...‬‬
‫ولقد ابتليت هذه المة في عهدها الخير بحب السهولة مما أثر فيهسسا‬
‫الحتلل وسياسته وتحملسسه العبسساء عنهسسا واسسستهدافه دونهسسا للخطسسر‪،‬‬

‫‪177‬‬
‫فشبه العامية في لغة الصحف وفي أخبارها وفسسي طريقهسسا إنمسسا هسسو‬
‫صورة من سهولة تلك الحياة‪ ،‬وكأنه تثسسبيت للضسسعف والخسسور‪ ،‬وأنسست‬
‫خبير أن كل شيء يتحول بما تحدث له طسسبيعته عالي ًسسا أو نسسازًل‪ ،‬فقسسد‬
‫تحولت السهولة من شبه العامية إلى نصف العامية فسسي كتابسسة أكسسثر‬
‫المجلت وفي رسسسائل طلبسسة المسسدارس‪ ،‬حسستى لتبسسدو المقسسالت فسسي‬
‫ألفاظها ومعانيها كأنها القنفد أراد أن يحمل مأكلسسة صسسغاره‪ ،‬فقسسرض‬
‫دا من العنب‪ ،‬فألقاه في الرض وأتربه وتمسسرغ فيسسه‪ ،‬ثسسم مشسسى‬ ‫عنقو ً‬
‫يحمل كل حبة مرضوضة في عشرين إبرة من شوكه‪.‬‬
‫ثم مد أبو عثمان يده فتناول مجلة مما أمامه وقعت يده عليها اتفاًقا‬
‫ثم دفعها إلي وقال‪ :‬اقرأ ول تجاوز عنوان كسسل مقالسسة‪ .‬فقسسرأت هسسذه‬
‫العناوين‪.‬‬
‫"مسئولية طبيب عن فتسساة عسسذراء"‪" ،‬مسسودة الراقصسسات الصسسينيات"‪،‬‬
‫"تخر مغشًيا عليها؛ لنهم اكتشفوا صورة حبيبها"‪" ،‬هسسل يعتسسبر قبسسول‬
‫الهدية دليًل على الحب‪ ،‬وإذا كانت ملبس داخلية‪ ...‬فهل تعتبر وع س ً‬
‫دا‬
‫بالزواج؟ هل يحق للب أن يطسسالب صسسديق ابنتسسه بتعسسويض إذا كسسانت‬
‫ابنته غير شرعية‪" ،‬بين خطيبتين لشاب واحد"‪" ،‬بعسسد أن قسسص علسسى‬
‫زوجته أخبار السهرة‪ ...‬لماذا أطلقت عليه الرصاص"‪" ،‬عروس تأخذ‬
‫"شبكة" من شابين ثسسم تطردهمسسا"‪" ،‬زوجسسة الموظسسف أيسسن ذهبسست"‪،‬‬
‫"لماذا خطفت العروس في اليوم المحدد للزفاف؟"‪" ،‬في الطريق‪:‬‬
‫حسسب بسسالكراه" فلنسسون وفلنسسات‪ ،‬زواج وطلق‪ ،‬وأخبسسار المراقسسص‪،‬‬
‫وحوادث أماكن الدعارة"‪ ...‬الخ الخ‪.‬‬
‫فقال أبو عثمان‪ :‬هذه هي حرية النشسسر؛ ولئن كسسان هسسذا طبيعي ّسسا فسسي‬
‫قسانون الصسحافة إنسه لثسم كسبير فسي قسانون التربيسة؛ فسإن الحسداث‬
‫والضعفاء يجدونه عند أنفسسسهم كسسالتخيير بيسسن الخسسذ بسسالواجب وبيسسن‬
‫تركه‪ ،‬ول يفهمسسون مسسن جسسواز نشسسره إل هسسذا‪" .‬وبسساب آخسسر مسسن هسسذا‬
‫الشكل فبكم أعظم حاجسسة إلسسى أن تعرفسسوه وتقفسسوا عنسسده‪ ،‬وهسسو مسسا‬
‫يصنع الخبر ول سيما إذا صادق من السسسامع قلسسة تجربسسة‪ ،‬فسسإن قسسرن‬
‫بين قلة التجربة وقلة التحفظ دخسسل ذلسسك الخسسبر إلسسى مسسستقره مسسن‬
‫سسسا‬
‫ة قابلسسة ونف ً‬‫القلسسب دخسسوًل سسسهًل‪ ،‬وصسادف موضسًعا وطيًئا وطبيعس ً‬
‫خا ل حيلة في إزالته‪.‬‬ ‫ساكنة‪ ،‬ومتى صادف القلب كذلك رسخ رسو ً‬
‫ومتى ألقي إلى الفتيان شيء من أمور الفتيسسات فسسي وقسست الغسسرارة‬
‫وعند غلبة الطبيعة وشباب الشهوة وقلة التشاغل و‪.*"...‬‬
‫ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير‪...‬‬

‫‪178‬‬


179
‫صعاليك الصحافة* "تتمة"‬

‫وجاء أبو عثمان وفي بروز عينيه ما يجعلهما في وجهه شيًئا كعلمتي‬
‫تعجب ألقتهما الطبيعة في هذا الوجه‪ ،‬وقد كانوا يلقبسسونه "الحسسدقي"‬
‫دا ل يبين عن قبح هذا النتوء فسسي‬ ‫فوق تلقيبه بالجاحظ‪ ،‬كأن لقًبا واح ً‬
‫عينيه إل بمرادف ومساعد من اللغة‪ ...‬وما تذكرت اللقسسبين إل حيسسن‬
‫رأيت عينيه هذه المرة‪.‬‬
‫وانحط في مجلسه كأن بعضهم يرمي بعضسسه مسسن سسسخط وغيسسظ‪ ،‬أو‬
‫كأن من جسمه ما ل يريسسد أن يكسسون مسسن هسسذا الخلسسق المشسسوه‪ ،‬ثسسم‬
‫نصب وجهه يتأمل‪ ،‬فبدت عيناه في خروجهمسسا كأنمسسا تهمسسان بسسالفرار‬
‫من هذا الوجه الذي تحيا الكآبة فيه كما يحيسسا الهسسم فسسي القلسسب؛ ثسسم‬
‫سكت عن الكلم؛ لن أفكاره كانت تكلمه‪.‬‬
‫فقطعت عليه الصمت وقلت‪ :‬يا أبا عثمان‪ ،‬رجعسست مسسن عنسسد رئيسسس‬
‫صا شيًئا؛ فما هو يرحمك الله؟‬ ‫دا شيًئا أو ناق ً‬ ‫التحرير زائ ً‬
‫دا أنسسي نسساقص‪ ،‬وههنسسا شسسيء ل أقسسوله ولسسو أن فسسي‬ ‫قسسال‪ :‬رجعسست زائ ً‬
‫الرض ملئكة يمشون مطمئنين لوقفوا على عمك وأمثال عمك من‬
‫كتاب الصحف يتعجبون لهذا النوع الجديد من الشهداء!‬
‫‪---------------‬‬
‫* كتب الدكتور زكي مبارك مقاًل في جريسسدة المصسسري الغسسراء زعسسم‬
‫فيه أننا قلنا‪" :‬إن الصحافة ل تنجح إل في أيدي الصعاليك"‪ ،‬ول ندري‬
‫كيف أحس هذا المعنى‪ ،‬ثم تهددنا!! فقال‪" :‬ما رأيسسك إذا وقفسست لسسك‬
‫أحد الصحفيين "ولعلسه يعنسي نفسسه" فسسي معركسسة فاصسلة!! ورمسساك‬
‫بحب التكلف والفتعال فسسي عسسالم النشسساء والتسسأليف؟ "مسسا رأيسسك إذا‬
‫حملك رجل منهم "ولعله يعني نفسه" علسسى عسساتقه وألقسسى بسسك فسسي‬
‫هاوية التاريخ لتعيش مع صعصعة بن صوحان؟ ‪-‬أبلسسغ خطبسساء العسسرب‬
‫وأنطقهم‪.‬‬
‫وجوابنا لصاحبنا هذا‪ :‬أن وزارة الداخلية اطلعت على مقالسسة فسسأمرت‬
‫جميع المحال التي تبيع لعب الطفال‪ ،‬أل يبيعوا "معركة فاصسسلة" ول‬
‫"هاوية تاريخ"‪...‬‬
‫وقال ابن يحيى النديم‪ :‬دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقسسال‪:‬‬
‫أنشدني قول عمارة في أهل بغداد‪ ،‬فأنشدته‪:‬‬
‫مابع حسًنا وابني هشام بدرهم ِ‬ ‫ومن يشتري مني ملوك مخر ِ‬
‫وأعطي "رجاًء" بعد ذاك زيادةوأمنح "ديناًرا" بغير تندم ِ‬
‫قال أبو عثمان‪:‬‬

‫‪180‬‬
‫م"‬
‫ل بن أكث ِ‬ ‫فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم"أبا دلف" و"المستطي َ‬
‫ويلي على هذا الشاعر! اثنان بسسدرهم‪ ،‬واثنسسان زيسسادة فوقهمسسا لعظسسم‬
‫الدرهم‪ ،‬واثنان زيادة على الزيادة لجللة الدرهم‪ :‬كأنه رئيس تحريسسر‬
‫جريدة يرى الدنيا قد ملئت كتاًبا‪ ،‬ولكن ههنا شيًئا ل أقوله‪.‬‬
‫وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين‪ ،‬فأتاه صسسياد‬
‫بسمكة عظيمة‪ ،‬فأعجب بها وأمر له بأربعة آلف درهسسم‪ ،‬فقسسالت لسسه‬
‫شيرين‪ :‬أمرت للصياد بأربعة آلف درهم‪ ،‬فإن أمرت بها لرجسسل مسسن‬
‫الوجوه قال‪ :‬إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد! فقسسال كسسسرى‪ :‬كيسسف‬
‫أصنع وقد أمرت له؟‬
‫قالت‪ :‬إذا أتاك فقل له‪ :‬أخبرني عسسن السسسمكة‪ ،‬أذكسسر هسسي أم أنسسثى؟‬
‫فإن قال أنثى‪ ،‬فقل له‪ :‬ل تقع عليك حسستى تسسأتيني بقرينهسسا‪ ،‬وإن قسسال‬
‫غير ذلك فقل له مثل ذلك‪.‬‬
‫فلما غدا الصياد على الملك قال له‪ :‬أخبرني عن السمكة‪ ،‬أذكر هسسي‬
‫أم أنثى؟ قال‪ :‬بل أنثى‪ ،‬قال الملسسك‪ :‬فسسأتني بقرينهسسا‪ .‬فقسسال الصسسياد‪:‬‬
‫عمر الله الملك‪ ،‬إنها كانت بكًرا لم تتزوج بعد‪..‬‬
‫قلت‪ :‬يا أبا عثمان‪ ،‬فهل وقعت في مثسسل هسسذه المعضسسلة مسسع رئيسسس‬
‫التحرير؟‬
‫قال‪ :‬لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكًرا‪ ،‬فإنما يريدون إخراجه من‬
‫الجريدة؛ وما بلغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلغة التلغراف وبلغة‬
‫الخبر وبلغة الرقام وبلغة الصفر وبلغة البيض‪ ...‬ولكن ههنا شيًئا‬
‫ل أريد أن أقوله‪.‬‬
‫وسسسمكتي هسسذه كسسانت مقالسسة جودتهسسا وأحكمتهسسا وبلغسست بألفاظهسسا‬
‫ومعانيها أعلسسى منسسازل الشسسرف وأسسسنى رتسسب البيسسان‪ ،‬وجعلتهسسا فسسي‬
‫البلغة طبقسة وحسدها‪ ،‬وقيسل أن يقسول الوروبيسون "صساحبة الجللسة‬
‫الصحافة" قال المأمون‪" :‬الكتاب ملوك علسى النساس"‪ ،‬فسأراد عمسك‬
‫أبسسو عثمسسان أن يجعسسل نفسسسه ملك ًسسا بتلسسك المقالسسة فسسإذا هسسو بهسسا مسسن‬
‫"صعاليك الصحافة"‪.‬‬
‫لقد كانت كالعروس في زينتها ليلة الجلوة علسسى محبهسسا‪ ،‬مسسا هسسي إل‬
‫الشمس الضاحية‪ ،‬وما هي إل أشواق ولذات‪ ،‬ومسسا هسسي إل اكتشسساف‬
‫أسرار الحب‪ ،‬وما هي إل هي؛ فإذا العروس عند رئيس التحرير هسسي‬
‫المطلقسسة‪ ،‬وإذا المعجسسب هسسو المضسسحك‪ ،‬ويقسسول الرجسسل‪ :‬أمسسا نظري ّسسا‬
‫فنعم‪ ،‬وأما عملّيا فل؛ وهذا عصر خفيف يريد الخفيف‪ ،‬وزمسسن عسسامي‬
‫يريد العامي‪ ،‬وجمهور سسسهل يريسسد السسسهل؛ والفصسساحة هسسي إعسسراب‬

‫‪181‬‬
‫الكلم ل سياسته بقوى البيان والفكر واللغة‪ ،‬فهي اليوم قد خرجسست‬
‫من فنونها واستقرت في علم النحو‪.‬‬
‫وحسبك من الفرق بينك وبين القارئ العامي‪ :‬أنك أنت ل تلحن وهسسو‬
‫يلحن‪.‬‬
‫قال أبو عثمان‪ :‬وهذه ‪-‬أكرمك الله‪ -‬منزلة بقل فيها الخاصسسي ويكسسثر‬
‫العسسامي فيوشسسك أل يكسسون بعسسدها إل غلبسسة العاميسسة‪ ،‬ويرجسسع الكلم‬
‫الصحافي كله سوقًيا بلدّيا "حنشصّيا"‪ ،‬وينقلب النحو نفسسسه ومسسا هسسو‬
‫إل التكلف والتوعر والتقعر كمسسا يسسرون الن فسسي الفصسساحة‪ ،‬والقليسسل‬
‫من الواجبات ينتهي إلى القل؛ والقل ينتهي إلسسى العسسدم‪ ،‬والنحسسدار‬
‫سريع يبدأ بالخطوة الواحدة‪ ،‬ثم ل تملك بعدها الخطى الكثيرة‪.‬‬
‫ل جرم فسد الذوق وفسد الدب وفسدت أشسسياء كسسثيرة كسسانت كلهسسا‬
‫صالحة‪ ،‬وجاءت فنون من الكتابة ما هي إل طبائع كتابها تعمل فيمن‬
‫يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها‪ ،‬ولو كان في قانون الدولة‬
‫تهمة إفساد الدب أو إفساد اللغة‪ ،‬لقبض على كسسثيرين ل يكتبسسون إل‬
‫دا؛ والمصيبة فسسي هسسؤلء مسسا‬ ‫دا وإفسا ً‬
‫صناعة لهو ومسلة فراغ وفسا ً‬
‫يزعمون لك من أنهم يستنشطون القراء ويلهونهم‪ ،‬ونحن إنسسا نعمسسل‬
‫في هذه النهضة لمعالجة اللهو الذي جعل نصسسف وجودنسسا السياسسسي‬
‫ما؛ ثم لملء الفراغ الذي جعسسل نصسسف حياتنسسا الجتماعيسسة بطالسسة؛‬ ‫عد ً‬
‫ضا مما جعل عمك أبا عثمان في هذه الصحافة من "صعاليك‬ ‫وهذا أي ً‬
‫الصحافة"‪ ،‬وتركه فسي المقابلسة بينسه وبيسن بعسض الكتسساب كسأنه فسسي‬
‫أمس وكأنهم في غد‪.‬‬
‫ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير‪...‬‬
‫فما شككت أنهم سيطردونه‪ ،‬فإن الله لم يرزقه لساًنا مطبعًيا ثرثاًرا‬
‫يكون كالمتصل مسن دمساغه بصسندوق حسروف‪ ...‬ولسم يجعلسه كهسؤلء‬
‫السياسيين الذين يتم بهم النفاق ويتلون‪ ،‬ول كهؤلء الدباء الذين يتم‬
‫بهم التضليل ويتشكل‪.‬‬
‫ورجع شيخنا كالمخنوق أرخي عنه وهسسو يقسسول‪ :‬ويلسسي علسسى الرجسسل!‬
‫ويلي من الكلم الظريف الذي يقال في السسوجه ليسسدفع فسسي القفسسا‪...‬‬
‫كان ينبغي أل يملك هذه الصحافة اليومية إل مجسسالس المسسة؛ فسسذلك‬
‫هو إصلح المة والصحافة والكتاب جميعًسسا؛ أمسسا فسسي هسسذه الصسسحف‪،‬‬
‫فالكاتب يخبز عيشه على نار تأكل منه قدر ما يأكل من عيشه؛ ولسسو‬
‫أن عمسسك فسسي خفسسض ورفاهيسسة وسسسعة‪ ،‬لكسسان فسسي اسسستغنائه عنهسسم‬
‫حاجتهم إليه؛ ولكن السيف الذي ل يجد عمًل للبطسسل‪ ،‬تفضسسله البسسرة‬
‫التي تعمل للخياط‪ ،‬وماذا يملك عمك أبو عثمان؟ يملسسك مسسا ل ينسسزل‬

‫‪182‬‬
‫عنه بدون الملوك‪ ،‬ول بالسسدنيا كلهسا‪ ،‬ول بالشسمس والقمسسر؛ إذ يملسسك‬
‫عقله وبيانه‪ ،‬على أنه مستأجر هنسسا بعقلسه وبيسسانه‪ ،‬ويعقسسل مسا شسساءوا‬
‫ويكتب ما شاءوا‪.‬‬
‫لك الله أن أصدقك القول في هذه الحرفة اليومية‪ :‬إن الكاتب حيسسن‬
‫يخرج من صحيفة إلى صحيفة‪ ،‬تخرج كتابته من دين إلى دين‪...‬‬
‫ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثسل البسسارود فسسي دمساغه‬
‫ثم أشسعله‪ ،‬فسسأردت أن أمسازحه وأسسري عنسسه‪ ،‬فقلست‪ :‬اسسسمع يسا أبسسا‬
‫عثمان‪ ،‬جاءتني بالمس قضية يرفعهسسا صسساحبها إلسسى المحكمسسة‪ ،‬وقسسد‬
‫كتب في عرض دعسسواه أن جسسار بيتسسه غصسسبه قطعسسة مسسن أرض فنسسائه‬
‫الذي تركه حول البيت‪ ،‬وبنى في هذه الرقعة داًرا‪ ،‬وفتح لهسسذه السسدار‬
‫نافسسذات‪ ،‬فهسسو يريسسد مسسن القاضسسي أن يحكسسم بسسرد الرض المغصسسوبة‪،‬‬
‫وهدم هذه الدار المبنية فوقها‪ ...‬وسد نافذتها المفتوحة!‪..‬‬
‫فضحك الجاحظ حتى أمسسسك بطنسسه بيسسده وقسسال‪ :‬هسسذا أديسسب عظيسسم‬
‫كبعسض السذين يكتبسسون الدب فسي الصسحافة؛ كسسثرت ألفساظه ونقسص‬
‫عقله‪" ،‬وسئل بعض الحكمسساء‪ :‬مسستى يكسسون الدب شسّرا مسسن عسسدمه؟‬
‫قال‪ :‬إذا كثر الدب ونقصت القريحة‪ .‬وقد قال بعض الولين‪ :‬من لم‬
‫يكن عقله أغلب خصال الخير عليسسه‪ ،‬كسسان حتفسسه فسسي أغلسسب خصسسال‬
‫الخير عليه؛ وهذا كله قريب بعضه مسسن بعسسض" ‪ 1‬والدب وحسسده هسسو‬
‫المتروك في هذه الصحافة لمن يتوله كيف يتوله؛ إذ كان أرخص ما‬
‫فيها‪ ،‬وإنما هو أدب؛ لن المم الحية ل بد أن يكون لها أدب؛ إذ كسسان‬
‫أرخص ما فيها‪ ،‬وإنما هو أدب؛ لن المسسم الحيسسة ل بسسد أن يكسسون لهسسا‬
‫أدب‪ ،‬ثم هو من بعد هسسذا السسسم العظيسسم ملسسء فسسراغ ل بسسد أن يمل‪،‬‬
‫وصفحة الدب وحدها هي التي تظهسسر فسسي الجريسسدة اليوميسسة كبقعسسة‬
‫الصدأ على الحديد‪ :‬تأكل منه ول تعطيه شيًئا‪.‬‬
‫ثم يأبى من تترك هذه الصفحة إل أن يجعل نفسسسه "رئيسسس تحريسسر"‬
‫على الدباء‪ ،‬فما يدع صسسفة مسسن صسسفات النبسسوغ ول نعت ًسسا مسسن نعسسوت‬
‫العبقرية إل نحله نفسه ووضعه تحت ثيابه؛ ومسسا أيسسسر العظمسسة ومسسا‬
‫أسهل منالها إذا كانت ل تكفك إل الجراءة والدعوى والزعم‪ ،‬وتلفيق‬
‫الكلم من أعراض الكتب وحواشي الخبار‪.‬‬
‫وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة‪ ،‬فسإذا عبتسه بالركاكسة والسسخف‬
‫والبتذال وفراغ ما يكتب‪ ،‬قال‪ :‬هذا ما يلئم القراء‪ ،‬وقسسد يكسسون مسسن‬
‫أكذب الناس فيما يدعي لنفسه وما يهول بسسه لتقويسسة شسسأنه وإصسسغار‬
‫من عداه‪ ،‬فإذا كذبه من يعرفه قال‪ :‬هذا ما يلئمني‪ ،‬وهسسو واثسسق أنسسه‬

‫‪183‬‬
‫في نوع من القراء ليس عليه إل أن يملهم بهذه السسدعاوى كمسسا تمل‬
‫الساعة‪ ،‬فإذا هم جميًعا يقولون‪ :‬تك تك‪ ...‬تك‪ ...‬تك‬
‫فمن زعم أن البلغسسة أن يكسسون السسسامع يفهسسم معنسسى القسسائل‪ ،‬جعسسل‬
‫الفصسساحة واللكنسسة والخطسسأ والصسسواب والغلق والبانسسة والملحسسون‬
‫والمعرب‪ ،‬وكله سواء وكله بياًنا ‪ 1‬وكان المكي طيب الحجج‪ ،‬ظريف‬
‫الحيل‪ ،‬عجيب العلل‪ ،‬وكان يدعي كل شيء على غاية الحكسسام ولسسم‬
‫يحكم شسسيًئا قسسط مسسن الجليسسل ول مسسن السسدقيق؛ وإذ قسسد جسسرى ذكسسره‬
‫فسأحدثك ببعض أحاديثه‪ ،‬قلت له مرة‪ :‬أعلمت أن الشسساري حسسدثني‬
‫أن المخلوع "أي المين" بعث إلسسى المسسأمون بجسسراب فيسسه سمسسسم‪،‬‬
‫كأنه مخبره أن عنده من الجند بعد ذلك‪ ،‬وأن المأمون بعث له بديك‬
‫أعور‪ ،‬يريد أن ظاهر بن الحسين يقتل هؤلء كلهم كما يلقسسط السسديك‬
‫الحب؟‬
‫قال‪ :‬فإن هذا الحديث أنا ولدته‪ ،‬ولكن انظر كيف سار في الفسساق‪...‬‬
‫‪2‬‬
‫ثم قال أبو عثمان‪ :‬وقد زعسسم أحسسد أدبسسائكم أنسسه اكتشسسف فسسي تاريسسخ‬
‫الدب اكتشاًفا أهمله المتقدمون وغفل عنه المتأخرون‪ ،‬فنظر عمسسك‬
‫في هذا الذي ادعاه‪ ،‬فسسإذا الرجسسل علسسى التحقيسسق كالسسذي يزعسسم أنسسه‬
‫اكتشف أمريكا في كتاب من كتب الجغرافيا‪...‬‬
‫ومسسا يسسزال البلهسساء يصسسدقون الكلم المنشسسور فسسي الصسسحف‪ ،‬ل بسسأنه‬
‫صدق‪ ،‬ولكن بأنه "مكتوب في الجريدة"‪ ...‬فل عجب أن يظن كسساتب‬
‫صسسفحة الدب ‪-‬مسستى كسسان مغسسروًرا‪ -‬أنسسه إذا تهسسدد إنسسساًنا فمسسا هسسدده‬
‫بصفحته‪ ،‬بل بحكومته‪...‬‬
‫نعم أيها الرجسسل إنهسسا حكومسسة ودولسسة؛ ولكسسن ويحسسك إن ثلث ذبابسسات‬
‫ليست ثلث قطع من أسطول إنجلترا!‪...‬‬
‫وضحك أبو عثمان وضحكت! فاستيقظت‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 2 ،1‬هذا من كلم الجاحظ‪.‬‬
‫‪ 3‬يعنسسي زكسسي مبسسارك فسسي دعسسوى معرفتسسه أول مسسن اخسسترع فسسن‬
‫المقامات‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪184‬‬
‫أبو حنيفة ولكن بغير فقه ‪1‬‬

‫قد انتهينا في الدب إلى نهاية صحافية عجيبة‪ ،‬فأصبح كل من يكتسسب‬


‫سا أديّبا‪ ،‬وكل من عد نفسسسه أديب ًسسا‬‫ينشر له‪ ،‬وكل من ينشر له يعد نف ً‬
‫جاز له أن يكون صساحب مسذهب وأن يقسول فسي مسذهبه ويسرد علسى‬
‫مذهب غيره‪.‬‬
‫فعندنا اليوم كلمات ضخمة تدور في الصحف بين الدبسساء كمسسا تسسدور‬
‫أسماء المستعمرات بين السياسسسيين المتنسسازعين عليهسسا‪ ،‬يتعلسسق بهسسا‬
‫الطمسسع وتنبعسسث لهسسا الفتنسسة وتكسسون فيهسسا الخصسسومة والعسسداوة‪ ،‬منهسسا‬
‫قولهم‪ :‬أدب الشيوخ وأدب الشباب؛ ودكتاتوريسسة الدب وديمقراطيسسة‬
‫الدب‪ ،‬وأدب اللفسساظ وأدب الحيسساة‪ ،‬والجمسسود والتحسسول‪ ،‬والقسسديم‬
‫والجديد‪ ،‬ثم ماذا وراء ذلك من أصحاب هذا المذهب؟‬
‫وراء ذلك أن منهم أبا حنيفة ولكن بغير فقه‪ ،‬والشافعي ولكسسن بغيسسر‬
‫اجتهاد‪ ،‬ومالك ولكسسن بغيسسر روايسسة‪ ،‬وابسسن حنبسسل ولكسسن بغيسسر حسسديث؛‬
‫أسماء بينها وبين العمل أنها كذب عليه وأنه رد عليها‪.‬‬
‫وليسسس يكسسون الدب أدب ًسسا إل إذا ذهسسب يسسستحدث ويخسسترع علسسى مسسا‬
‫يصرفه النوابغ من أهله حتى يسسؤرخ بهسسم فيقسسال‪ :‬أدب فلن وطريقسسة‬
‫فلن ومذهب فلن؛ إذ ل يجري المر فيما عل وتوسط ونزل إل على‬
‫إبداع غير تقليد‪ ،‬وتقليسسد غيسسر اتبسساع‪ ،‬واتبسساع غيسسر تسسسليم؛ فل بسسد مسسن‬
‫الرأي ونبوغ الرأي واستقلل الرأي حستى يكسون فسي الكتابسة إنسسان‬
‫جالس هو كاتبها‪ ،‬كما أن الحي الجالس فسسي كسسل حسسي هسسو مجمسسوعه‬
‫العصبي‪ ،‬فيخرج ضسسرب مسسن الداب كسسأنه مسسن التحسسول فسسي الوجسسود‬
‫النسسساني يرجسسع بالحيسساة إلسسى ذرات معانيهسسا‪ ،‬ثسسم يرسسسم مسسن هسسذه‬
‫المعاني مثل ما أبدعت ذرات الخليقة فسسي تركيسسب مسسن تركيسسب‪ ،‬فل‬
‫يكون للديب تعريف إل أنه المقلد اللهي*‪.‬‬
‫وإذا اعتبرنا هذا الصل فهل يبدأ الدب العربي في عصرنا أو ينتهسسي؛‬
‫وهل تراه يعلو أو ينزل؛ وهل يستجمع أو ينقض‪ ،‬وهل هو من قسسديمه‬
‫الصريح بعيد من بعيد أو قريب من قريب أو هو في مكان بينهما؟‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬وهذا فصل من المعركة الخيرة بينه وبين زكي مبارك‪.‬‬
‫* استوفينا هذه المعاني في مقالة "الدب والديب"‪.‬‬
‫خا طسويًل أمسر فيسه بعظسام‬ ‫ن لو ذهبت أفضلها لقتحمت تاري ً‬ ‫هذه معا ٍ‬
‫مبعثرة في ثيابها ل في قبورها‪ ...‬ولكني موجز مقتصسسر علسسى معنسسى‬
‫هو جمهور هذه الطراف كلها‪ ،‬وإليه وحده يرجسسع مسسا نحسسن فيسسه مسسن‬

‫‪185‬‬
‫التعادي بين الذواق والسفاف بمنسازع السرأي والخلسسط والضسسطراب‬
‫في كل ذلك؛ حتى أصسبح أمسر الدب علسى أقبحسه وهسم يرونسه علسى‬
‫أحسنه‪ ،‬وحتى قيل في‪ :‬السلوب أسلوب تلغرافسسي‪ ،‬وفسسي الفصسساحة‬
‫فصاحة عامية‪ ،‬وفي اللغة لغة الجرائد‪ ،‬وفسسي الشسسعر شسسعر المقالسة؛‬
‫ونجمت الناجمة من كل علة ويزين لهم أنهسسا القسسوة قسسد استحصسسفت‬
‫واشتدت‪ ،‬ونازع الدب العربي إلسسى سسسخرية التقليسسد وإلسسى أن يكسسون‬
‫قا دعّيا في آداب المم‪ ،‬واستهلكه التضييع وسوء النظر له علسسى‬ ‫لصي ً‬
‫حين يؤتى له أن كل ذلك من حفظسسه وصسسيانته وحسسسن الصسسنيع فيسسه‬
‫ومن توفير المادة عليه‪.‬‬
‫أين تصيب العلة إذا التمستها؟ أفي الدب من لغتسسه وأسسساليب لغتسسه‪،‬‬
‫ومعسسانيه وأغسسراض معسسانيه؟ أم فسسي القسسائمين عليسسه فسسي مسسذاهبهم‬
‫ومناحيهم وما يتفق من أسبابهم وجواذبهم؟‬
‫إن تقل إنها في اللغة والسسساليب والمعسساني والغسسراض‪ ،‬فهسسذه كلهسسا‬
‫تصير إلى حيث يراد بها‪ ،‬وتتقلد البلية من كل مسسن يعمسسل فيهسسا؛ وقسسد‬
‫دت العصور الكثيرة إلى عهدنا فلم تؤت مسسن‬ ‫استوعبت واتسعت وما ّ‬
‫دة ول عليهسسا ممسسن ل يحسسسن أن‬ ‫ضيق ول جمود ول ضعف ثم هي ما ّ‬
‫يضع يده منها حيث يمل كفه أو حيث تقع يده على حاجته‪.‬‬
‫وإن قلسست إن العلسسة فسسي الدبسساء ومسسذاهبهم ومنسساحيهم ودواعيهسسم‬
‫وأسبابهم‪ ،‬سألناك‪ :‬ولسسم قصسسروا عسسن الغايسسة‪ ،‬ولسسم وقعسسوا بسسالخلف‪،‬‬
‫وكيسسف ذهبسسوا عسسن المصسسلحة‪ ،‬وكيسسف اعتقمسست الخسسواطر وفسسسدت‬
‫الذواق مع قيام الدب الصحيح في كتبه مقام أمة مسسن أهلسسه أعراب ًسسا‬
‫وفصحاء وكتاًبا وشعراء‪ ،‬ومع انفساح الفق العقلي فسسي هسسذا السسدهر‬
‫واجتماعه من أطرافه لمن شسساء‪ ،‬حسستى لتجسسد عقسسول نوابسسغ القسسارات‬
‫الخمس تحتقب في حقيبة من الكتب‪ ،‬أو تصندق* في صسسندوق مسسن‬
‫السفار‪.‬‬
‫كيف ذهب الدباء في هذه العربية نشًرا متبسددين تعلسو بهسسم السدائرة‬
‫وتهبط‪ ،‬فكل أعلى وكل أسفل؟ هذا فلن شساعر قسسد أحسساط بالشسسعر‬
‫عربية وغريبه وهو ينظمه ويفتن في أغراضه ويولد ويسسسرق وينسسسخ‬
‫ويمسخ‪ ،‬وهو عند نفسه الشاعر الذي فقسسدته كسسل أمسسة مسسن تاريخهسسا‬
‫ووقسسع فسسي تاريسسخ العربيسسة وحسسدها ابتلء ومحنسسة؛ وهسسو ككسسل هسسؤلء‬
‫المغرورين يحسبون أنهم لو كسسانوا فسسي لغسسات غيسسر العربيسسة لظهسسروا‬
‫ما‪ ،‬ولكن العربيسسة جعلسست كّل منهسسم حصسساة بيسسن الحصسسى‪ ،‬وتقسسرأ‬ ‫نجو ً‬
‫شعره فإذا هسسو شسسعر تتسسوهم مسسن قراءتسسه تقطيسسع ثيابسسك‪ ،‬إذا تجسساذب‬
‫نفسك لتفر منه فراًرا‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫وهذا فلن الكاتب الذي والذي‪ ...‬والذي يرتفع إلى أقصى السسسموات‬
‫على جناحي ذبابة‪.‬‬
‫وهذا فرعون الدب الذي يقول‪ :‬أنا ربكسسم العلسسى! وهسسذا فلن وهسسذا‬
‫فلن‪...‬‬
‫أين يكون الزمام على هؤلء وأمثالهم؛ ليعرفوا ما هسسم فيسسه كمسسا هسسم‬
‫فيه‪ ،‬وليضبطوا آراءهم وهواجسهم‪ ،‬وليعلموا أن حسابهم عند الناس‬
‫ل عند أنفسهم فالواحدة منهسسم واحسسدة وإن توهموهسسا مسسائة وتوهمهسسا‬
‫فا أو ألفين‪ ،‬ومتى قال الناس‪ :‬غلطوا‪ ،‬فقد غلطسسوا‪ ،‬ومسستى‬ ‫بعضهم أل ً‬
‫قالوا‪ :‬سخفاء فهم سخفاء‪.‬‬
‫وأين الزمام عليهم وقد انطلقوا كأنهم مسخرون بالجبر على قسسانون‬
‫من التدمير والتخريب‪ ،‬فليس فيهم إل طبيعة مكابرة ل إقسسرار منهسسا‪،‬‬
‫باغية ل إنصاف معها‪ ،‬نافرة ل مساغ إليها‪ ،‬متهمة ل ثقة بهسسا؛ طبيعسسة‬
‫يتحول كل شيء فيها إلى أثر منها كما يتحول ماء الشجر في العسسود‬
‫الرطب المشتعل إلى دخان أسود!‬
‫يرجع هذا الخلط في رأيي إلى سبب واحد‪ :‬هو خلو العصر من إمسسام‬
‫بالمعنى الحقيقي يلتقي عليه الجماع ويكون ملء الدهر في حكمتسسه‬
‫وعقله ورأيه ولسانه ومناقبه وشمائله؛ فإن مثسسل هسسذا المسسام يخسسص‬
‫ما بالرادة التي ليس لهسا إل النصسر والغلبسسة والسستي تعطسسي القسوة‬ ‫دائ ً‬
‫على قتسسل الصسسغائر والسفاسسسف؛ وهسسو إذا ألقسسي فسسي الميسسزان عنسسد‬
‫اختلف الرأي‪ ،‬وضع فيسسه بسسالجمهور الكسسبير مسسن أنصسساره والمعجسسبين‬
‫بآدابه‪ ،‬وبالسواد الغالب من كل الفاعليسسات المحيطسسة بسسه والمنجذبسسة‬
‫إليه؛ ومن ثم تتهيأ قسسوة الترجيسسح ويتعيسسن اليقيسسن والشسسك؛ والميسسزان‬
‫اليوم فارغ من هذه القوة فل يرجح ول يعين‪.‬‬
‫ومكانة هذا المام تحد المكنة‪ ،‬ومقداره يسزن المقسادير‪ ،‬فيكسون هسو‬
‫المنطق النساني في أكثر الخلف النساني‪ :‬تقوم به الحجة‪ ،‬فتلسزم‬
‫وإن أنكرها المنكر‪ ،‬وتمضي وإن عاند فيها المعانسسد‪ ،‬ويؤخسسذ بهسسا وإن‬
‫أصر المصر على غيرها؛ لن بالجماع على القياس بين التطرف في‬
‫الزيادة أو التقصير؛ والجمسساع إذا ضسسرب ضسسرب المعصسسية بالطاعسسة‪،‬‬
‫والزيغ بالستقامة‪ ،‬والعناد بالتسليم؛ فيخرج من يخرج وعليه وسمه‪.‬‬
‫ويزيغ من يزيغ وفيه صفته‪ ،‬ويصر المكابر واسمه المكابر ليس غير‪،‬‬
‫وإن هو تكذب وتأول‪ ،‬وإن زعم ما هو زاعم‪.‬‬
‫ولكل القواعد شواذ ولكن القاعسسدة هسسي إمسسام بابهسسا؛ فمسسا مسسن شسساذ‬
‫قا مخلى‪ ،‬إل هو محدود بها مسردود إليهسا‪ ،‬متصسل‬ ‫يحسب نفسه منطل ً‬
‫من أوسع جهاته بأضيق جهاتها؛ حتى ما يعرف أنه شاذ إل بما تعرف‬

‫‪187‬‬
‫به أنها قاعدة‪ ،‬فيكون شأنه في نفسه بما تعين هي له على مكرهته‬
‫ومحبته‪.‬والمام ينبث في آداب عصره فكًرا ورأي ًسسا‪ ،‬ويزيسسد فيهسسا قسسوة‬
‫عا‪ ،‬ويزين ماضيها بأنه في نهايته‪ ،‬ومسسستقبلها بسسأنه فسسي بسسدايته‪،‬‬ ‫وإبدا ً‬
‫فيكون كالتعديل بين المنة من جهة‪ ،‬والنتقال فيها من جهة أخسسرى؛‬
‫لن هذا المام إنما يختار لظهسسار قسسوة الوجسسود النسسساني مسسن بعسسض‬
‫وجوهها وإثبات شمولها وإحاطتها كأنه آية مسسن آيسسات الجنسسس يسسأنس‬
‫الجنس فيها إلى كماله البعيد‪ ،‬ويتلقى منه حكم التمام على النقسسص‪،‬‬
‫وحكم القوة على الضعيف‪ ،‬وحكم المأمول على الواقسسع؛ ويجسسد فيسسه‬
‫قومه كما يجدون في الحقيقة السستي ل يكسسابر عنسسدها متنطسسع بتأويسسل‪،‬‬
‫وفي القوة التي ل يخالف عندها مبطل بعناد‪ ،‬وفي الشريفة السستي ل‬
‫يروغ منها متعسف بحيلة؛ ولن يضل النسساس فسسي حسسق عرفسسوا حسسده‪،‬‬
‫فإن ما وراء الحد هو التعدي؛ ولسسن يخطئوا فسسي حكسسم أصسسابوا وجهسه‬
‫فإن ما عدا الوجه هو الخلف والمراء‪.‬‬
‫وقد طبع الناس في باب القدوة على غريزة ل تتحسسول‪ ،‬فمسسن انفسسرد‬
‫بالكمال كان هو القدوة‪ ،‬ومن غلب كان هو السمت؛ ولبد لهم ممن‬
‫يقتاسسسون بسسه ويتوازنسسون فيسسه حسستى يسسستقيموا علسسى مراشسسدهم‬
‫ومصالحهم‪ ،‬فالمام كأنه ميزان من عقل‪ ،‬فهسسو يتسسسلط فسسي الحكسسم‬
‫على الناقص والوافي من كل ما هسسو بسسسبيله‪ ،‬ثسسم ل خلف عليسسه؛ إذ‬
‫كانت فيه أوزان القوى وزن ًسسا بعسسد وزن‪ ،‬وكسسانت فيسسه منسسازل أحوالهسسا‬
‫منزلة بعد منزلة‪.‬‬
‫هو إنسان تتخير بعض المعاني السامية؛ لتظهر فيه بأسلوب عملسسي‪،‬‬
‫فيكون في قسومه ضسرًبا مسن التربيسة والتعليسسم بقاعسدة منتزعسة مسن‬
‫مثالها‪ ،‬مشروحة بهذا المثال نفسه‪ ،‬فإليه يرد المر في ذلسسك وبتلسسوه‬
‫يتلى وعلى سبيله ينهج‪ ،‬فما من شيء يتصل بسسالفن السسذي هسسو إمسسام‬
‫فيه‪ ،‬إل كان فيه شيء منه‪ ،‬وهو من ذلك متصل بقوى النفوس كسسأنه‬
‫هدايسسة فيهسسا؛ لنسسه بفنسسه حكسسم عليهسسا‪ ،‬فيكسسون قسسوة وتنبيهًسسا‪ ،‬وتسسسهيًل‬
‫ن كثيرة‪ ،‬ويكسسون فسسي‬ ‫غا وهداية؛ ويكون رجًل وإنه لمعا ٍ‬ ‫حا‪ ،‬وإبل ً‬‫وإيضا ً‬
‫نفسه وإنه لفي النفس كلها‪ ،‬ويعطي من إجلل الناس ما يكسسون بسسه‬
‫اسمه كأنه خلق من الحب طريقه على العقل ل على القلب‪.‬‬
‫ولعل ذلك من حكمة إقامة الخليفة في السلم ووجسسوب ذلسسك علسسى‬
‫المسلمين؛ فل بد على هذه الرض من ضوء فسسي لحسسم ودم‪ ،‬وبعسسض‬
‫معاني الخليفة في تنصسسيبه كبعسسض معساني "الشسهيد المجهسسول" فسسي‬
‫المم المحاربة المنتصرة المتمدنة‪ :‬رمز التقديس‪ ،‬ومعنى المفسساداة‪،‬‬
‫وصمت يتكلم‪ ،‬ومكان يوحي‪ ،‬وقسسوة تسسستمد‪ ،‬وانفسسراد بجمسسع‪ ،‬وحكسسم‬

‫‪188‬‬
‫الوطنية على أهلها بأحكام كثيرة فسسي شسسرف الحيسساة والمسسوت؛ وبسسل‬
‫الحرب مخبوءة في حفرة‪ ،‬والنصر مغطى بقبر؛ بل المجهسسول السسذي‬
‫فيه كل ما ينبغي أن يعلم‪.‬‬
‫فعصرنا هذا مضطرب مختل؛ إذ ل إمام فيه يجتمع الناس عليسسه‪ ،‬وإذ‬
‫ما هو من بعض جهاته كأنه أبو حنيفسسة ولكسسن‬ ‫كل من يزعم نفسه إما ً‬
‫بغير فقه!‬
‫ولعمري ما نشأ قولهم‪" :‬الجديد والقديم" إل لن ههنا موض سًعا خالي ًسسا‬
‫يظهر خلؤه مكان الفصل بين الناحيتين ويجعل جهة تنماز من جهسسة‪،‬‬
‫فمنذ مسسات المسسام الكسسبير الشسسيخ محمسسد عبسسده ‪-‬رحمسسه اللسسه‪ -‬جسسرت‬
‫أحداث‪ ،‬ونتأت رءوس‪ ،‬وزاغت طبائع وكأنه لم يمت رجسسل‪ ،‬بسسل رفسسع‬
‫قرآن‪.‬‬
‫‪‬‬

‫‪189‬‬
‫الدب والديب ‪1‬‬

‫إذا اعتبرت الخيال في الذكاء النساني وأوليتسسه دقسسة النظسسر وحسسسن‬


‫دا مسسن النفسسس لللوهيسسة بوسسسائل‬ ‫التمييز‪ ،‬لم تجده في الحقيقة تقلي س ً‬
‫عاجزة منقطعة‪ ،‬قسسادرة علسسى التصسسور والسسوهم بمقسسدار عجزهسسا عسسن‬
‫اليجاد والتحقيق‪.‬‬
‫وهذه النفس البشرية التية من المجهول في أول حياتهسا‪ ،‬والراجعسة‬
‫إليه آخسسر حياتهسسا‪ ،‬والمسسسددة فسسي طريقسسه مسسدة حياتهسسا‪ ،‬ل يمكسسن أن‬
‫يتقرر في خيالها أن الشيء الموجسسود قسسد انتهسسى بوجسسوه‪ ،‬ول ترضسسى‬
‫طبيعتها بما ينتهي؛ فهي ل تتعاطى الموجود فيمسسا بينهسسا وبيسسن خيالهسا‬
‫على أنه قد فرغ منه فما يبدأ‪ ،‬وتم فما يزاد‪ ،‬وخلد فل يتحول؛ بسسل ل‬
‫تزال تضرب ظنها وتصرف وهمها فسسي كسسل مسسا تسسراه أو يتلجلسسج فسسي‬
‫خاطرها‪ ،‬فل تبرح تتلمح في كل وجود غيب ًسسا‪ ،‬وتكشسسف مسسن الغسسامض‬
‫وتزيد في غموضه‪ ،‬وتجري دأب ًسسا علسسى مجاريهسسا الخياليسسة السستي توثسسق‬
‫صلتها بالمجهول؛ فمن ثم ل بد في أمرها مع الموجود ممسسا ل وجسسود‬
‫له‪ ،‬تتعلق بسه وتسسكن إليسه؛ وعلسى ذلسك ل بسد فسي كسل شسيء ‪-‬مسع‬
‫المعاني التي له في الحق‪ -‬من المعاني التي له في الخيال؛ وها هنا‬
‫موضع الدب والبيان في طبيعة النفسس النسسانية‪ ،‬فكلهمسا طسبيعي‬
‫فيها كما ترى‪.‬‬
‫وإذا قيل‪ :‬الدب‪ ،‬فاعلم أنه ل بد معه من البيسسان؛ لن النفسسس تخلسسق‬
‫فتصور فتحسن الصسسورة؛ وإنمسسا يكسسون تمسسام السستركيب فسسي معرضسسه‬
‫وجمال صورته ودقة لمحاته؛ بل ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه‬
‫منزلة النضج من الثمرة الحلوة إذا كانت الثمرة وحدها قبسسل النضسسج‬
‫مسا ول‬ ‫شيًئا مسمى أو متميًزا بنفسه‪ ،‬فلن تكون بغير النضسسج شسسيًئا تا ً‬
‫حا‪ ،‬وما بد من أن تستوفي كمال عمرها الخضر الذي هو بيانهسسا‬ ‫صحي ً‬
‫وبلغتها‪.‬‬
‫وهذه مسألة كيفما تناولتها فهي هي حتى تمضسسيها علسسى هسسذا السسوجه‬
‫الذي رأيت في الثمرة ونضجها‪ ،‬فإن البيان صناعة الجمال في شيء‬
‫جماله هو من فائدته‪ ،‬وفائدته من جماله؛ فإذا خل من هذه الصسسناعة‬
‫التحق بغيره‪ ،‬وعاد باًبا من الستعمال بعد أن كسسان باب ًسسا مسسن التسسأثير؛‬
‫وصار الفرق بين حاليه كالفرق بين الفاكهة؛ إذ هي باب من النبسسات‪،‬‬
‫وبين الفاكهة إذ هي باب من الخمسسر؛ ولهسسذا كسسان الصسسل فسسي الدب‬
‫البيان والسلوب في جميع لغسات الفكسر النسساني‪ ،‬لنسه كسسذلك فسسي‬
‫طبيعة النفس النسانية‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫فالغرض الول للدب المبين أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملئمسسة‬
‫لتلك النزعة الثابتسسة فيهسسا إلسسى المجهسسول وإلسسى مجسساز الحقيقسسة‪ ،‬وأن‬
‫يلقي السرار في المور المكشوفة بما يتخيل فيها‪ ،‬ويرد القليل من‬
‫الحياة كثيًرا وافًيا بما يضاعف من معانيه‪ ،‬ويترك الماضي منهسسا ثابت ًسسا‬
‫فا بما يثبث فيه‬ ‫قاًرا بما يخلد من وصفه‪ ،‬ويجعل المؤلم منها ل ّ‬
‫ذا خفي ً‬
‫وا بمسسا يكشسسف فيسسه مسسن الجمسسال‬ ‫من العاطفة والمملسسول ممتعًسسا حلس ً‬
‫والحكمة؛ ومدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهسسور السستي هسسي‬
‫ضسا؛ فسإن هسذه النفسس طلعسة متقلبسة‪ ،‬ل‬ ‫في نفسها لسذة مجهولسة أي ً‬
‫مسسا صسسرًفا‪ ،‬كأنهسسا مدركسسة بفطرتهسسا أن‬ ‫تبتغي مجهسسوًل صسسرًفا ول معلو ً‬
‫ليس في الكون صريح مطلق ول خفسسي مطلسسق؛ وإنمسسا تبتغسسي حالسسة‬
‫ملئمة بين هذين‪ ،‬يثور فيها قلق أو يسكن منها قلق‪.‬‬
‫وأشسسواق النفسسس هسسي مسسادة الدب؛ فليسسس يكسسون أدب ًسسا إل إذا وضسسع‬
‫المعنى في الحياة التي ليس لهسسا معنسسى‪ ،‬أو كسسان متص سًل بسسسر هسسذه‬
‫الحياة فيكشف عنه أو يومئ إليسه مسن قريسب‪ ،‬أو غّيسر للنفسس هسذه‬
‫الحياة تغييًرا يجيء طباًقا لغرضها وأشواقها؛ فإنه كما يرحل النسان‬
‫من جو إلى جو غيره‪ ،‬ينقله الدب من حياته التي ل تختلف إلى حياة‬
‫أخرى فيها شعورها ولذتها وإن لسم يكسن لهسا مكسان ول زمسان؛ حيساة‬
‫كملت فيها أشواق النفس؛ لن فيهسسا اللسسذات واللم بغيسسر ضسسرورات‬
‫ول تكاليف؛ ولعمري ما جاءت الجنسسة والنسسار فسسي الديسسان عبث ًسسا؛ فسسإن‬
‫خالق النفس بما ركبه فيها من العجائب‪ ،‬ل يحكم العقل أنه قسسد أتسسم‬
‫خلقهسسا إل بخلسسق الجنسسة والنسسار معهسسا؛ إذ همسسا الصسسورتان السسدائمتان‬
‫المتكافئتان لشواقها الخالدة إن هي استقامت مسددة أو انعكسسست‬
‫حائلة‪.‬‬
‫وقد صح عندي أن النفس ل تتحقق من حريتها ول تنطلق انطلقتهسسا‬
‫الخالسسدة فتحسسس وحسسدة الشسسعور ووحسسدة الكمسسال السسسمى إل فسسي‬
‫ساعات وفترات تنسل فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضسسطرابها‬
‫إلى "منطقة حياد" خارجة وراء الزمان والمكان؛ فإذا هبطتها النفس‬
‫فكأنما انتقلت إلى الجنة واستروحت الخلد؛ وهذه المنطقة السحرية‬
‫ل تكون إل في أربعة‪ :‬حبيب فاتن معشوق أعطي قوة سحر النفس‪،‬‬
‫فهي تنسى به؛ وصديق محبوب وفي أوتي قوة جذب النفسسس‪ ،‬فهسسي‬
‫تنسى عنده؛ وقطعة أدبيسسة آخسسذة‪ ،‬فهسسي سساحرة كسسالحبيب أو جاذبسسة‬
‫كالصديق؛ ومنظر فني رائع‪ ،‬ففيه من كل شيء شيء‪.‬‬
‫وهذه كلها تنسي المرء زمنه مدة تطول وتقتصسر؛ وذلسك فيهسسا دليسل‬
‫على أن النفس النسانية تصيب منها أساليب روحية لتصسالها هنيهسة‬

‫‪191‬‬
‫بالروح الزلي في لحظات من الشعور كأنها ليست مسسن هسسذه السسدنيا‬
‫وكأنها من الزلية؛ ومن ثم نستطيع أن نقرر أن أسسساس الفسسن علسسى‬
‫الطلق هو ثورة الخالد في النسان علسسى الفسساني فيسسه؛ وأن تصسسوير‬
‫هسسذه الثسسورة فسسي أوهامهسسا وحقائقهسسا بمثسسل اختلجاتهسسا فسسي الشسسعور‬
‫والتأثير‪ -‬هو معنى الدب وأسلوبه‪.‬‬
‫ثم إن التساق والخيسسر والحسسق والجمسسال ‪-‬وهسسي السستي تجعسسل للحيسساة‬
‫النسانية أسرارها‪ -‬أمور غير طبيعية في عالم يقوم على الضطراب‬
‫والثرة والنزاع والشسسهوات؛ فمسسن ذلسسك يسسأتي الشسساعر والديسسب وذو‬
‫جسسا مسسن حكمسسة الحيسساة للحيسساة‪ ،‬فيبسسدعون لتلسسك الصسسفات‬ ‫الفسسن عل ً‬
‫النسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعية فيه‪ ،‬وهسسو عسسالم أركسسانه‬
‫التساق في المعاني التي يجسري فيهسا‪ ،‬والجمسال فسسي التعسسبير السسذي‬
‫يتأدى به‪ ،‬والحق في الفكر السسذي يقسسوم عليسسه‪ ،‬والخيسسر فسسي الغسسرض‬
‫الذي يساق له‪ ،‬ويكون في الدب مسسن النقسسص والكمسسال بحسسسب مسسا‬
‫يجتمع لسسه مسسن هسسذه الربعسسة‪ ،‬ول معيسسار أدق منهسسا إن ذهبسست تعتسسبره‬
‫بالنظر والرأي؛ ففي عمل الديب تخرج الحقيقة مضاًفا إليهسسا الفسسن‪،‬‬
‫دا فيه الجمال‪ ،‬وتتمثسسل الطبيعسسة الجامسسدة خارجسة‬ ‫ويجيء التعبير مزي ً‬
‫مسسن نفسسس حيسسة‪ ،‬ويظهسسر الكلم وفيسسه رقسسة حيسساة القلسسب وحرارتهسسا‬
‫وشعورها وانتظامها ودقها الموسسسيقي؛ وتلبسسس الشسسهوات النسسسانية‬
‫شكلها المهذب لتكون بسسسبب مسسن تقريسسر المثسسل العلسسى‪ ،‬السسذي هسسو‬
‫السر في ثورة الخالد من النسسان علسسى الفسساني‪ ،‬والسذي هسو الغايسة‬
‫الخيسسرة مسسن الدب والفسسن معًسسا؛ وبهسسذا يهسسب لسسك الدب تلسسك القسسوة‬
‫الغامضة التي تتسع بك حتى تشعر بالدنيا وأحسسداثها مسسارة مسسن خلل‬
‫نفسك‪ ،‬وتحس الشياء كأنها انتقلست إلسى ذاتسك؛ وذلسك سسر الديسب‬
‫العبقري؛ فإنه ل يرى الرأي بالعتقاب ‪ 1‬والجتهاد كما يسسراه النسساس‪،‬‬
‫ما؛ وليس يؤاتيه‬ ‫وإنما يحس به؛ فل يقع له رأيه بالفكر‪ ،‬بل يلهمه إلها ً‬
‫اللهام إل من كون الشياء تمر فيها بمعانيها وتعبره كما تعبر السفن‬
‫ذا بفكسسره‬‫النهر‪ ،‬فيحس أثرها فيه فيلهم ما يلهم‪ ،‬ويحسبه الناس ناف س ً‬
‫من خلل الكون‪ ،‬على حين أن حقائق الكون هي النافذة من خلله‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬العتقاب‪ :‬إطالة النظر وكذا الفكر‪.‬‬
‫ولو أردت أن تعرف الديب من هو‪ ،‬لمسسا وجسسدت أجمسسع ول أدق فسسي‬
‫معناه من أن تسميه النسان الكوني‪ ،‬وغيره هو النسان فقط؛ ومن‬
‫ذلك ما يبلغ من عمق تأثره بجمال الشياء ومعانيها‪ ،‬ثم مسسا يقسسع مسن‬
‫اتصسسال الموجسودات بسسه بآلمهسسا وأفراحهسسا؛ إذ كسسانت فيسسه مسسع خاصسسة‬

‫‪192‬‬
‫النسان خاصية الكون الشامل‪ ،‬فالطبيعة تثبت بجمال فنه البديع أنه‬
‫منها‪ ،‬وتدل السماء بما في صناعته من الوحي والسسسرار أنسسه كسسذلك‬
‫ضسسا منهسسا؛ وهسسذا وذاك‬
‫منها‪ ،‬وتبرهن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هسسو أي ً‬
‫وذلك هسسو الشسسمول السسذي ل حسسد لسسه‪ ،‬والتسسساع السسذي كسسل آخسسر فيسسه‬
‫لشيء‪ ،‬أو ٌ‬
‫ل فيه لشيء‪.‬‬
‫وهو إنسان يدله الجمال على نفسسه ليسسدل غيسره عليسسه‪ ،‬وبسسذلك زيسسد‬
‫على معناه معنى‪ ،‬وأضيف إليه في إحساسه قسسوة إنشسساء الحسسساس‬
‫ما أن يزيد على كسسل فكسسرة صسسورة لهسسا‪،‬‬ ‫في غيره؛ فأساس عمله دائ ً‬
‫ويزيسسد علسسى كسسل صسسورة فكسسرة فيهسسا‪ ،‬فهسسو يبسسدع المعسساني للشسسكال‬
‫الجامسسدة فيوجسسد الحيسساة فيهسسا‪ ،‬ويبسسدع الشسسكال للمعسساني المجسسردة‬
‫فيوجدها هي في الحياة‪ ،‬فكأنه خلق ليتلقى الحقيقة ويعطيها للنسساس‬
‫ويزيدهم فيها الشعور بجمالها الفني؛ وبالدباء والعلماء تنمسسو معسساني‬
‫الحياة‪ ،‬كأنما أوجدتهم الحكمة؛ لتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالسسة؛‬
‫وكأن هذا الكون العظيم يمر في أدمغتهم ليحقق نفسه‪.‬‬
‫ومشاركة العلماء للدباء توجب أن يتميز الديسسب بالسسسلوب البيسساني؛‬
‫إذ هو كالطابع على العمل الفنسسي‪ ،‬وكالشسسهادة مسسن الحيسساة المعنويسسة‬
‫لهذا النسان الموهوب الذي جاءت من طريقه‪ ،‬ثم لن السلوب هو‬
‫تخصيص لنوع من الذوق وطريقة مسسن الدراك‪ ،‬كسسأن الجمسسال يقسسول‬
‫بالسلوب‪ :‬إن هذا هو عمل فلن‪.‬‬
‫وفضل ما بين العالم والديب‪ ،‬أن العالم فكرة‪ ،‬ولكن الديسسب فكسسرة‬
‫وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمسسال متصسسلة متشسسابهة يشسسار إليهسسم جملسسة‬
‫واحدة‪ ،‬على حين يقال في كل أديب عبقري‪ :‬هسسذا هسسو‪ ،‬هسسذا وحسسده؛‬
‫وعلم الديب هو النفس النسانية بأسسسرارها المتجهسسة إلسسى الطبيعسسة‪،‬‬
‫والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضع الديسسب مسسن‬
‫الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها السرار‪.‬‬
‫مسسا بحقسسائقه وأوصسسافه‪،‬‬‫مسسا قائ ً‬
‫وإذا رأى الناس هذه النسانية تركيًبا تا ّ‬
‫فالدب العبقري ل يراها إل أجزاء‪ ،‬كأنما هو يشسسهد خلقهسسا وتركيبهسسا‪،‬‬
‫وكأنما أمرها في "معمله"‪ ،‬أو كأن اللسه ‪-‬سسبحانه‪ -‬دعساه ليسرى فيهسا‬
‫رأيه‪ ...‬وبذلك يجيء النسسابغ مسسن أدب العبسساقرة وبعضسسه كالمقترحسسات‬
‫لتجميل الدنيا وتهذيب النسانية‪ ،‬وبعضه كالموافقة وإقسسرار الحكمسسة؛‬
‫وأساسه على كل هذه الحوال النقد‪ ،‬ثم النقد‪ ،‬ولشيء غيسسر النقسسد؛‬
‫كأن القوة الزلية تقول لهذا الملهم‪ :‬أنت كلمتي فقل كلمتك‪..‬‬
‫دا ل يكبر ول يصغر‪ ،‬ولكن الحس‬ ‫وترى الجمال حيث أصبته شيًئا واح ً‬
‫به يكبر في أناس ويصغر في أناس؛ وها هنا يتأله الدب؛ فهسسو خسسالق‬

‫‪193‬‬
‫الجمال في الذهن‪ ،‬والممكن للسسسباب المعينسسة علسسى إدراكسسه وتسسبين‬
‫صفاته ومعانيه‪ ،‬وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمتسسه النسسسانية بإضسسافة‬
‫الصور الفكرية والجميلة إليه‪ ،‬ومحاولته إظهار النظام المجهول فسسي‬
‫متناقضسسات النفسسس البشسسرية‪ ،‬والرتفسساع بهسسذه النفسسس عسسن الواقسسع‬
‫المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة وصولة الغريزة وغرارة الطبسسع‬
‫الحيواني‪.‬‬
‫وإذا كان المر في الدب على ذلك؛ فباضطرار أن تتهذب فيه الحياة‬
‫وتتسسأدب‪ ،‬وأن يكسسون تسسسلطه علسسى بسسواعث النفسسس دربسسة لصسسلحها‬
‫وإقامتها‪ ،‬ل لفسادها والنحراف بها إلى الزيغ والضسسللة؛ وباضسسطرار‬
‫فا تصحيح النفس النسانية‪ ،‬ونفي التزوير عنها‪،‬‬ ‫أن يكون الديب مكل ً‬
‫وإخلصها مما يلتبس بها على تتابع الضسسرورات؛ ثسسم تصسسحيح الفكسسرة‬
‫النسانية في الوجود‪ ،‬ونفي الوثنية عسسن هسسذه الفكسسرة‪ ،‬والسسسمو بهسسا‬
‫ما إلى فوق!‬‫إلى فوق‪ ،‬ثم إلى فوق‪ ،‬ودائ ً‬
‫وإنما يكلف الديب ذلك لنه مستبصر مسسن خصائصسسه التمييسسز وتقسسدم‬
‫النظر وتسقط اللهام‪ ،‬ولن الصل في عملسسه الفنسسي أل يبحسسث فسسي‬
‫الشيء نفسه‪ ،‬ولكن في البديع منه؛ وأل ينظر إلى وجوده‪ ،‬بسسل إلسسى‬
‫سره؛ ول يعني بتركيبه‪ ،‬بل بالجمسسال فسسي تركيبسسه؛ ولن مسسادة عملسسه‬
‫أحسسوال النسساس‪ ،‬وأخلقهسسم‪ ،‬وألسسوان معايشسسهم‪ ،‬وأحلمهسسم‪ ،‬ومسسذاهب‬
‫أخيلتهم وأفكارهم في معنى الفن‪ ،‬وتفاوت إحساسهم بسسه‪ ،‬وأسسسباب‬
‫مغاويهم ومراشدهم؛ يسدد على كل ذلك رأيسسه‪ ،‬ويجيسسل فيسسه نظسسره‪،‬‬
‫ويخلطه في نفسه‪ ،‬وينفذه من حواسه‪ ،‬كأنما له في السرائر القبض‬
‫والبسط‪ ،‬وكأنه ولي الحكم على الجسسزء الخفسسي فسسي النسسسان يقسسوم‬
‫علسسى سياسسسته وتسسدبيره‪ ،‬ويهسسديه إلسسى المثسسل العلسسى‪ ،‬وهسسل يخلسسق‬
‫العبقري إل كالبرهان من الله لعباده على أن فيهسسم مسسن يقسسدر علسسى‬
‫الذي هو أكمل والذي هسسو أبسسدع‪ ،‬حسستى ل ييسسأس العقسسل النسسساني ول‬
‫ينخذل‪ ،‬فيستمر دائًبا في طلب الكمال والبداع اللذين ل نهاية لهما؟‬
‫فالديب يشرف على هذه الدنيا من بصيرته فسسإذا وقسسائع الحيسساة فسسي‬
‫حذو واحد من النزاع والتناقض‪ ،‬وإذا هي دائبة في محسسق الشخصسسية‬
‫النسانية‪ ،‬تاركة كل حي مسسن النسساس كسسأنه شسسخص قسسائم مسسن عملسسه‬
‫وحوادثه وأسباب عيشه؛ فإذا تلجلج ذلك فسسي نفسسس الديسسب اتجهسست‬
‫هذه النفس العالية إلى أن تحفظ للسدنيا حقسائق الضسمير والنسسانية‬
‫واليمان والفضيلة‪ ،‬وقامت حارسة على مسسا ضسسيع النسساس‪ ،‬وسسسخرت‬
‫فسسي ذلسسك تسسسخيًرا ل تملسسك معسسه أن تسسأبى منسسه‪ ،‬ول يسسستوي لهسسا أن‬
‫تغمض فيه؛ ونقلت النسانية كلها ووضعت على مجسساز طريقهسسا أيسسن‬

‫‪194‬‬
‫توجهت‪ ،‬فتأكد المر فيها‪ ،‬ووصل بها‪ ،‬وعلمت أنها من خالصسسة اللسسه‪،‬‬
‫رسسسالتها للعسسالم هسسي تقريسسر الحسسب للمتعسسادين‪ ،‬وبسسسط الرحمسسة‬
‫للمتنازعين‪ ،‬وأن تجمع الكل على الجمسسال وهسسو ل يختلسسف فسسي لسسذته‬
‫وتصسسل بينهسسم بالحقيقسسة وهسسي ل تتفسسرق فسسي موعظتهسسا‪ ،‬وتشسسعرهم‬
‫الحكمة وهي ل تتنازع في مناحيها‪ :‬فسسالدب مسن هسسذه الناحيسسة يشسسبه‬
‫الدين‪ :‬كلهما يعين النسانية علسسى السسستمرار فسسي عملهسسا‪ ،‬وكلهمسسا‬
‫قريسب مسن قريسسب؛ غيسر أن السسدين يعسرض للحسسالت النفسسية ليسأمر‬
‫وينهي‪ ،‬والدب يعرض لها ليجمع ويقابل؛ والدين يوجه النسسسان إلسسى‬
‫ربه‪ ،‬والدب يوجهه إلى نفسه؛ وذلك وحي الله إلى الملك إلسسى نسسبي‬
‫مختار‪ ،‬وهذا وحي الله إلى البصيرة إلى إنسان مختار‪.‬‬
‫فإن لم يكن للديب مثل أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل فسسي سسسبيله‪،‬‬
‫فهو أديب حالة من الحالت‪ ،‬ل أديسسب عصسسر ول أديسسب جيسسل؛ وبسسذلك‬
‫وحده كان أهل المثل العلى فسسي كسسل عصسسر هسسم الرقسسام النسسسانية‬
‫التي يلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته‪...‬‬
‫ول يخدعنك عن هذا أن تسسرى بعسسض العبقرييسسن ل يسسؤتى فسسي أدبسسه أو‬
‫أكثره إل إلى الرذائل‪ ،‬يتغلغل فيها‪ ،‬ويتمل بها‪ ،‬ويكون منهسسا علسسى مسسا‬
‫ليس عليه أحد إل السفلة والحشوة من طغام الناس ورعاعهم؛ فإن‬
‫هذا وأضرابه مسخرون لخدمة الفضيلة وتحقيقها مسسن جهسسة مسسا فيهسسا‬
‫فا وعسسبرة؛ وكسسثيًرا مسسا تكسسون الموعظسسة‬ ‫من النهي؛ ليكونوا مثًل وسسسل ً‬
‫برذائلهم أقوى وأشد تأثيًرا ممسسا هسسي فسسي الفضسسائل؛ بسسل هسسم عنسسدي‬
‫كبعض الحوال النفسية الدقيقة التي يأمر فيها النهي أقوى مما يأمر‬
‫المر‪ ،‬على نحو ما يكون من قراءتك موعظة الفضسسيلة الدبيسسة السستي‬
‫فسسا طسساهًرا؛ ثسسم مسسا يكسسون مسسن رؤيتسسك الفسساجر‬
‫تسسأمرك أن تكسسون عفي ً‬
‫المبتلى المشوه المتحطم الذي ينهاك بصورته أن تكون مثله؛ ولهذه‬
‫الحقيقة القوية في أثرهسسا ‪-‬حقيقسسة المسسر بسسالنهي‪ -‬يعمسسد النوابسسغ فسسي‬
‫بعض أدبهم إلى صرف الطبيعة النفسية عسسن وجههسسا‪ ،‬بعكسسس نتيجسسة‬
‫الموقسسف السسذي يصسسورونه‪ ،‬أو الحالسسة فسسي الحادثسسة السستي يصسسفونها؛‬
‫دا فاجًرا‪ ،‬وترتد المسسرأة البغسسي‬ ‫فينتهي الراهب التقي في القصة ملح ً‬
‫قديسة‪ ،‬ويرجع البن البر قسساتًل مجنوًنسا جنسون السدم؛ إلسسى كسثير ممسا‬
‫يجسسري فسسي هسسذا النسسسق‪ ،‬كمسسا تسسراه لنسساطول فرانسسس وشكسسسبير‬
‫وغيرهما‪ ،‬وما كان ذلك عن غفلة منهم ول شر‪ ،‬ولكنسسه أسسسلوب مسسن‬
‫الفن‪ ،‬يقابله أسلوب من الخلق؛ ليبدع أسلوًبا من التأثير؛ وكسسل ذلسسك‬
‫شاذ معدود ينبغي أن ينحصر ول يتعدى؛ لنسسه وصسسف لحسسوال دقيقسسة‬
‫طارئة على النفس‪ ،‬ل تعبير عن حقائق ثابتة مستقرة فيها‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫والشسسرط فسسي العبقسسري السسذي تلسسك صسسفته وذلسسك أدبسسه‪ ،‬أن يعلسسو‬
‫بالرذيلة‪ ...‬فسسي أسسسلوبه ومعسسانيه‪ ،‬آخ س ً‬
‫ذا بغايسسة الصسسنعة‪ ،‬متناهي ًسسا فسسي‬
‫حسن العبارة؛ حتى يصبح وكأن الرذائل هي اختسسارت منسسه مفسسسرها‬
‫العبقري الشاذ الذي يكون في سمو فنه البياني هسسو وحسسده الطسسرف‬
‫المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة‪ ،‬فيصنع اللهام في هذا وفي هذا‬
‫صنعه الفني بطريقة بديعة التأثير‪ ،‬أصلها في أديب الفضيلة ما يريده‬
‫ويجاهد فيه‪ ،‬وفي أديب الرذيلة مسا يقسوده وينسدفع إليسه‪ ،‬كسأن منهمسا‬
‫كا يكتب‪ ،‬وإنساًنا عاد حيواًنا يكتب‪...‬‬ ‫إنساًنا صار مل ً‬
‫وإذا أنت مّيلت بين رذيلة الديب العبقري فسسي فنسسه‪ ،‬ورذيلسسة الديسسب‬
‫الفسل الذي يتشبه بسسه ‪-‬فسسي التسسأليف والسسرأي والمتابعسسة والمسسذهب‪-‬‬
‫رأيت الواحدة من الخرى كبكسساء الرجسسل الشسساعر مسسن بكسساء الرجسسل‬
‫الغليظ الجلف‪ :‬هذا دموعه ألمه‪ ،‬وذاك دمسسوعه ألمسسه وشسسعره؛ وفسسي‬
‫كتابة هذه الطبقة من العبقريين خاصة يتحقق لسسك أن السسسلوب هسسو‬
‫أساس الفن الدبي‪ ،‬وأن اللذة به هي علمسة الحيساة فيسه؛ إذ ل تسرى‬
‫غير قطعية أدبية فنية‪ ،‬شاهدها من نفسها على أنها بأسلوبها ليسسست‬
‫في الحقيقة إل نكتة نفسية لهتياج البواعث في نفوس قرائها‪ ،‬وأنها‬
‫ضا مسسألة مسن مسسائل النسسانية مطروحسة للنظسر‬ ‫على ذلك هي أي ً‬
‫والحل‪ ،‬بما فيها من جمال الفن ودقائق التحليل‪.‬‬
‫واللسسذة بسسالدب غيسسر التلهسسي بسسه واتخسساذه للعبسسث والبطالسسة فيجيسسء‬
‫فا ومضيعة؛ فإن‬ ‫عا على ذلك فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسخ ً‬ ‫موضو ً‬
‫اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلغة معانيه وتناوله الكون والحيسساة‬
‫بالسسساليب الشسسعرية السستي فسسي النفسسس‪ ،‬وهسسي الصسسل فسسي جمسسال‬
‫السلوب؛ ثم هو بعد هسسذه اللسسذة منفعسسة كلسسه كسسسائر مسسا ركسسب فسسي‬
‫طبيعة الحي؛ إذ يحس الذوق لسسذة الطعسسام مثًل علسسى أن يكسسون مسسن‬
‫فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتهسسا؛‬
‫أمسسا التلهسسي فيجيسسء مسسن سسسخف الدب؛ وفسسراغ معسسانيه‪ ،‬ومؤاتسساته‬
‫الشهوات الخسيسة والتماسه الجسسوانب الضسسيقة مسن الحيسساة؛ وذلسسك‬
‫حين ل يكون أدب الشعب ول النسانية بل أدب فئة بعينها وأحوالهسسا؛‬
‫فإن أديب صناعته أو أديب جماعته‪ ،‬غير أديب قومه وأديسسب عصسسره‪،‬‬
‫أحدهما إلسسى حسسد محسسدود مسسن الحيسساة‪ ،‬والخسسر عمسسل جسسامع مسسستمر‬
‫متفنن؛ لن عمله الدبي وهو وجوده‪ ،‬وكل شيء فسسي قسسومه ل يسسبرح‬
‫يقول له‪ :‬اكتب‪...‬‬
‫ومسسن الصسسول الجتماعيسسة السستي ل تتخلسسف‪ ،‬أنسسه إذا كسسانت الدولسسة‬
‫للشسسعب‪ ،‬كسسان الدب أدب الشسسعب فسسي حيسساته وأفكسساره ومطسسامحه‬

‫‪196‬‬
‫وألوان عيشه‪ ،‬وزخسسر الدب بسذلك وتنسوع وافتسن وبنسسي علسى الحيسساة‬
‫الجتماعيسسة؛ فسسإن كسسانت الدولسسة لغيسسر الشسسعب‪ ،‬كسسان الدب أدب‬
‫الحاكمين وبني على النفاق والمداهنة والمبالغسسة الصسسناعية والكسسذب‬
‫والتدليس‪ ،‬ونضب الدب من ذلسسك وقسسل وتكسسرر مسسن صسسورة واحسسدة؛‬
‫وفي الولى يتسع الديب من الحسسساس بالحيسساة وفنونهسسا وأسسسرارها‬
‫في كل من حوله‪ ،‬إلى الحساس بالكون ومجاليه وأسراره فسسي كسسل‬
‫ما حوله؛ أما الثانية فل يحس فيها إل أحوال نفسه وخليطسسه‪ ،‬فيصسسبح‬
‫أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسسسع ل يسسزال يسسذهب فيهسسا‬
‫ويجيء حتى يمل ذهابه ومجيئه‪.‬‬
‫والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كسسل مسسن درسسسوا الدب‬
‫ما وحديًثا‪ ،‬أنك ل تجد تقرير المعنى الفلسفي الجتمسساعي‬ ‫العربي قدي ً‬
‫للدب في أسمى معانيه إل في اللغة العربية وحدها‪ ،‬ولم يغفل عنسسه‬
‫مع ذلك إل أهل هذه اللغة وحدهم!‬
‫طا فيه‪ ،‬ويأتي بقسسوة اللغسسة‬‫فإذا أردت الدب الذي يقرر السلوب شر ً‬
‫صورة لقوة الطباع‪ ،‬وبعظيمسسة الداء صسورة لعظمسة الخلق‪ ،‬وبرقسسة‬
‫البيان صورة لرقة النفس‪ ،‬وبدقته المتناهية في العمق صسسورة لدقسسة‬
‫النظر إلى الحياة؛ ويريك أن الكلم أمة من اللفاظ عاملة في حيسساة‬
‫أمة من الناس‪ ،‬ضابطة لها المقاييس التاريخية‪ ،‬محكمة لها الوضسساع‬
‫النسانية‪ ،‬مشترطة فيها المثل العلى‪ ،‬حاملة لها النور اللهي علسسى‬
‫الرض‪...‬‬
‫‪ ....‬وإذا أردت الدب الذي ينشئ المة إنشسساء سسسامًيا‪ ،‬ويسسدفعها إلسسى‬
‫المعالي دفًعا‪ ،‬ويردها عسسن سفاسسسف الحيسساة‪ ،‬ويوجههسسا بدقسسة البسسرة‬
‫المغناطيسية إلى الفاق الواسعة‪ ،‬ويسددها فسي أغراضسها التاريخيسة‬
‫العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضسسخم المحسسرز المحكسسم‪،‬‬
‫ما وأبصارها نظًرا وعقولهسسا حكمسسة‪،‬‬ ‫ويمل سرائرها يقيًنا ونفوسها حز ً‬
‫وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار اللوهية‪...‬‬
‫‪ ...‬إذا أردت الدب على كل هذه الوجوه من العتبار ‪-‬وجدت القرآن‬
‫الحكيم قد وضع الصيل الحي في ذلك كله‪ ،‬وأعجب ما فيه أنه جعل‬
‫سا‪ ،‬وفرض هذا التقديس عقيدة‪ ،‬واعتبر هذه العقيدة‬ ‫هذا الصل مقد ً‬
‫ثابتة لن تتغير؛ ومع ذلك كله لم يتنبه لسسه الدبسساء ولسسم يحسسدوا بسسالدب‬
‫حسسذوه‪ ،‬وحسسسبوه دين ًسسا فقسسط‪ ،‬وذهبسسوا بسسأدبهم إلسسى العبسسث والمجسسون‬
‫والنفاق؛ كأنه ليس منهم إل بقايا تاريخ محتضر بالعلل القائلة‪ ،‬ذاهب‬
‫إلى الفناء الحتم!‬

‫‪197‬‬
‫والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه ل يستخرج منه للدب إل تعريسسف‬
‫واحد هو هذا‪ :‬إن الدب هو السمو بضمير المة‪.‬‬
‫ول يستخرج منه للديب إل تعريف واحد هو هذا‪ :‬إن الديب هسسو مسسن‬
‫كان لمته وللغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪198‬‬
‫سر النبوغ في الدب ‪1‬‬

‫لو ترجمنا الخاطرة التي تمر في ذهن الحيوان الذكي حين ينقاد في‬
‫يد رجل ضعيف أبله يصرفه ويديره على أغراضه‪ ،‬فنقلناها مسسن فكسسر‬
‫الحيوان إلى لغتنا‪ ،‬وأديناها بمعنى مما بين النسان والحيوان ‪-‬لكانت‬
‫في العبارة هكذا‪ :‬ما أنت أيها البله فيما يبني وبين الحقيقة المدبرة‬
‫للكون إل نبي مرسسسل صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم‪ ...‬ذلسسك أن السستركيب‬
‫مسسا‬
‫الذي يبين به النسان من الحيوان قد جعل دماغ هذا الحيوان خات ً‬
‫من الله دمغ به على خصائصه فأفرغه اللسسه فسسي جلسسده‪ ،‬ووضسسع فسسي‬
‫رأسه ذلك القفل اللهي الذي حبسه في باب الضطرار من غسسرائزه‬
‫البهيمية‪ ،‬وأقفل به على الدنيا العقلية المتسعة بينسسه وبيسسن النسسسان؛‬
‫فالكون عنده لغو كله ليس فيه إل حقائق يسيرة‪ ،‬ثم ل تفسير لهسسذه‬
‫الحقائق إل من طبيعته هسسو‪ ،‬فجلسسده أدق تفسسسير فلكسسي‪ ...‬للشسسمس‬
‫والنور والهواء وما يجيء منها؛ وجوفه أصح تعبير جغرافسسي‪ ...‬للكسسرة‬
‫الرضية وما تحمل‪ ،‬وجوعه وشبعه هما كل فلسفة الشر والخير في‬
‫العالم!‪...‬‬
‫فأساس الذكاء عالًيا ونازًل هو التركيب الطسسبيعي ل غيسسره‪ :‬لسسو زادت‬
‫في الدماغ ذرة أو نقصت لزادت للدنيا صورة أو نقصت؛ فبالضرورة‬
‫تكون هذه هي القاعدة فيما نرى من تباين حدة الذكاء في أفراد كل‬
‫نوع من الحيوان‪ ،‬وما نشهد من ذلك في أحوال الناس‪ ،‬من الفطنسسة‬
‫إلى الذكاء* إلى اللمعية إلى الجهبذة إلى النبوغ إلى العبقرية؛ وهي‬
‫طبقات من ألفاظ اللغة لحوال قائمة من هسسذه المعسساني ترجسسع إلسسى‬
‫درجات ثابتة في تركيب الدماغ‪.‬‬
‫ومما يسجد له العقل النساني سجدة طويلة إذا هو تأمل في حكمة‬
‫الله ومر يتصفح من أسرار ما نحن بسسسبيله مسسن الكلم علسسى النبسسوغ‬
‫‪-‬أن هذا الوجود الذي يحمل أسرار اللوهيسسة فسسي كسسرة متقاذفسسة فسسي‬
‫الفضاء البدي‪ ،‬وأن الرض التي تحمسسل أسسسرار النسسسانية‪ ،‬هسسي كسسرة‬
‫طائرة فيما مد لها من الوجود‪ ،‬وأن كل حي فيها يحمل أسرار حياته‬
‫في كرة خاصة به هي رأسه‪ ،‬وأن الوجود من كل حي هسسو بعسسد ذلسسك‬
‫ليس شسسيًئا فسسي النظسسر ول فسسي الحسسس ول فسسي الفهسسم إل كمسسا يسسرى‬
‫ويحس ويفهم في هذا الرأس بعينه علسسى طريقتسسه وتركيبسسه‪ ،‬فيصسسعد‬
‫التدريج إلى الكبير إلى الكبر‪ ،‬وينزل إلى الصغير إلى الصغر؛ ثسسم ل‬
‫معنى لما صعد إل مما نزل‪ ،‬وبهذا ستكون آخرة جميسسع العلسسوم مسستى‬

‫‪199‬‬
‫نفذ العلماء إلى السر الحقيقي‪ ،‬أن العقل النساني فهم كسسل شسسيء‬
‫ولم يفهم شيًئا‪...‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬المقتطف‪ :‬يناير سنة ‪.1933‬‬
‫* عندنا أن الفطنة في اللغة‪ ،‬دون الذكاء؛ تقابل ما عند الحيوان من‬
‫التنبه؛ والذكاء‪ :‬والتوقد واللهيان‪.‬‬
‫والناس يختلفون بتركيب أدمغتهم على شبيه من هذا التدريسسج؛ فأمسسا‬
‫واحد فيكون دماغه باعتبساره مسن سسائر النساس فسي السذكاء والعقسل‬
‫كالوجود المحيط‪ ،‬وأمسسا آخسسر فكالشسمس‪ ،‬ثسسم غيرهمسا كسسالرض‪ ،‬ثسسم‬
‫الرابع كالنسان‪ ،‬ثم يكون منهم كالحيوان ومنهم كالحشرة؛ ول علسسة‬
‫لك لهذا إل ما هيسسأت القسسدار "بأسسسبابها الكسسثيرة"‪ ،‬لكسسل إنسسسان فسسي‬
‫تركيب دماغه في نوع المادة السنجابية من المخ‪ ،‬وأحسسوال السستركيب‬
‫في المليين من الخليا العصبية‪ ،‬وما ل يعد مسسن فسسروع هسسذه الخليسسا‬
‫وشعبها‪ :‬ثم ما يكون من قبل العلقات بيسسن هسسذه الفسسروع السستي هسسي‬
‫لكل رأس كرمل الكرة الرضية‪ ،‬ثم اختلف مقادير المواد الكيماوية‬
‫التي تتخلق في غدد الجسم وتنفثها الغدد في الدم‪.‬‬
‫فقد يكون العمل النابغ المتمرد على العقول آتًيا من قطرة في هذه‬
‫الغسسسدد‪ ،‬كمسسسا ينبعسسسث العملق المسسسارد بعظسسسامه الممتسسسدة وألسسسواحه‬
‫المشبوحة من غدته النخامية ل غيرها‪.‬‬
‫فالذكي مسسن ذكسسي مثلسسه إنمسسا هسسو كسسالجيش مسسن جيسسش بسسإزائه‪ :‬يقسسع‬
‫الختلف بينهما فيما اشسستمل عليسسه مسسن كسسثرة الجنسسد‪ ،‬وصسسفاتهم مسسن‬
‫القسسوة والضسسعف‪ ،‬وأحسسوالهم مسسن النظسسام والختلل‪ ،‬وقسسوة آلتهسسم‬
‫ومقدارها ونوع الختراع فيها‪ ،‬ثم طبيعة موضسسعهم وحسسسن تسسوجيههم‬
‫وقيادتهم‪ ،‬وما اكتنفهم من صعب أو سسسهل‪ ،‬ومسسا تظسساهر علهيسسم مسسن‬
‫الحوادث والقدار‪ ،‬ثم التوفيق الذي ل حيلة فيسسه إن وقسسع فسسي حصسسة‬
‫أحدهما واستقر‪ ،‬أو وقع هوًنا وطار للخر‪ ،‬وبنحو من هذا كلسسه تكسسون‬
‫المفاضلة إذا وازنت بين اثنين من النوابغ في حقيقة نبوغهما‪.‬‬
‫فالنابغة خلق من خالقه‪ ،‬يصنع كما ترى بأقدار الله؛ إذ هو قدر علسسى‬
‫قسسومه وعلسسى عصسسره‪ ،‬وهسسو مسسن النسساس كالورقسسة الرابحسسة مسسن ورق‬
‫السحب "اليانصيب"‪ :‬سسسلة يسسد جعلتهسسا مسساًل وتركسست الباقيسسات ورقًسسا‬
‫وأحدثت بينهما الفرق الذهبي؛ وبهذا ل يستطيع العالم أن يزيد الدنيا‬
‫ما فيصنعه؛ وهبه صسسنعه‬ ‫نابغة إل إذا استطاع أن يزيد في الكوكب نج ً‬
‫مسسن الكهربسساء‪ ،‬فيبقسسى أن يحملسسه‪ ،‬وإذا حملسسه بقسسي أن يرفعسسه إلسسى‬

‫‪200‬‬
‫السموات؛ وهبه قد رفعه فيبقى كل شيء‪ ...‬يبقسسى عليسسه أن يقحمسسه‬
‫في النجوم ويرسله فيها يدور وينفلك‪.‬‬
‫وكما يخلق النابغة بتركيبه‪ ،‬تخلق لسه الحسوال الملئمسة لعملسه السذي‬
‫خص بسسه فسسي أسسسرار التقسسدير عسسامًل نافعًسسا‪ ،‬وإن كسسانت ل تلئمسسه هسسو‬
‫منتفًعا؛ فإنه هو غير مقصود إل من حيث إنه وسيلة أو آلسسة تكابسسد مسسا‬
‫تحتمل في أعمالهسسا‪ ،‬ويسسؤتى لهسسا لتأخسسذ علسسى طريقسسة وتعطسسي علسسى‬
‫طريقة؛ وبذلك يرجع التقدير إلى أن يكون العقل لنابغة دليًل للنسساس‬
‫من الناس أنفسهم على الخالق الذي هو وحده أمره المر‪.‬‬
‫وإذا كان الجمال يستعلن في كلم هؤلء النوابغ‪ ،‬والخيال يظهر فسسي‬
‫تعبيرهم‪ ،‬والحكمة تهبط إلى الدنيا في تفكيرهم‪ ،‬والمثل العلى هسسم‬
‫السداعون إليسه‪ ،‬والشسواق النفسسية هسم موقظوهسا‪ ،‬والعواطسف هسم‬
‫المصورون لها‪ ،‬وسرور الحياة هم الذين حولوه إلسسى الفسسن ‪-‬إذا كسسان‬
‫هذا كله فهذا كله إنما هسو توكيسد لتصسالهم بسالقوة الزليسة المسدبرة‪،‬‬
‫وأنهم أدواتها في هسسذه المعسساني؛ فمسسا هسسي أعمسسالهم أكسسثر ممسسا هسسي‬
‫أعمالها؛ وقد يظن الناس أن النابغة يلتمس القوى المحيط به ليبسسدع‬
‫منها‪ ،‬والحقيقة أنها هي تلتمسه لتبدع به‪.‬‬
‫وبعده؛ فالنابغة كأنه إنسان من الفلسك‪ ،‬فهسو يخسزن الشسعة العقليسة‬
‫ويريقها‪ ،‬وفي يده النوار والظلل واللسسوان يعمسسل بهسسا عمسسل الفجسسر‬
‫كلما أظلمت على الناس معاني الحياة؛ ول تزال الحكمة تلقسسي إليسسه‬
‫الفكرة الجميلة ليعطيها هو صورة فكرتها‪ ،‬وتوحي إليه معنى الحلسسق‬
‫ليؤتيها هو معنى جمال الحلق؛ والطبيعسسة خلقهسسا اللسه وحسده‪ ،‬ولكنهسا‬
‫ليست معقولة إل بالعلم‪ ،‬وليست جميلة إل بالشعر‪ ،‬وليست محبوبة‬
‫إل بالفن؛ فالنوابغ في هسذا كلسه هسم شسروح وتفاسسير حسول كلمسات‬
‫حا لشياء من‬ ‫الله‪ ،‬وكلهم يشعر بالوجود فّنا كامًل ويشعر بنفسه شر ً‬
‫هسسذا الفسسن‪ ،‬ويسسرى معسساني الطبيعسسة كأنمسسا تسسأتيه تلتمسسس فسسي كتسسابته‬
‫وشعره حيسساة أكسسبر وأوسسسع ممسسا هسسي فيسسه مسسن حقائقهسسا المحسسدودة‪،‬‬
‫وتتعرض له أحزان النسانية تسأله أن يصحح الرأي فيهسسا باسسستخراج‬
‫مسسا وأحزان ًسسا إل أن معناهسسا‬
‫معناها الخيالي الجميل‪ ،‬فإنها وإن كانت آل ً‬
‫الخيالي هو سرور تحمله للناس؛ إذ كان من طبيعة النفس البشسسرية‬
‫أن تسكن إلى وصسسف آلمهسسا وفلسسسفة حكمتهسسا حيسسن تبسسدو بصسسائرها‬
‫حاملة أثرها اللهي‪ ،‬كأن المؤلم ليس هو اللم‪ ،‬وإنما هو جهل سره‪.‬‬
‫وبالجملة فالكون يختار في كل شيء مفسره العبقري ليكشف مسسن‬
‫ضا‪ ...‬ثم ليؤتى الناس المثل العلى من المعنى‬ ‫غموضه ويزيد فيه أي ً‬
‫على يد المثل العلى مسسن الفكسسر؛ ولهسسذا تصسسيب الكلم السسذي يكتبسسه‬

‫‪201‬‬
‫النابغسسة الملهسسم فسسي أوقسسات التجلسسي عليسسه كسسأنه كلم صسسور نفسسسه‬
‫وصاغها‪ ،‬أو كأنه قطعة من الحس قد جمدت في أسسسطر؛ ول بسسد أن‬
‫تشعرك الجملة أنها قذفت وحيسسا؛ إذ ل تجسسدها إل وكسسأن فسسي كلماتهسسا‬
‫حا يرتعض؛ ولقد يخطر لي وأنا أقرأ بعض المعاني الجميلة لسسذهن‬ ‫رو ً‬
‫مسسن الذهسسان الملهمسسة كشكسسسبير والمتنسسبي وغيرهمسسا ‪-‬حيسسن أتأمسسل‬
‫اختراع المعنى وإبداع سياقه وضحى البيان عليه وإشسسراقه فيسسه ومسسا‬
‫أتيح له من جلل ظاهر في شكل حي يلمح بسره في النفس‪ -‬يخيل‬
‫إلي من ذلك أن سر الطبيعة القادر يعمل عمله أحياًنا بذهن إنساني‬
‫ليخلق تعبيًرا عن جلله في مثل جلله‪.‬‬
‫وأنت فلو أخذت معنى من هذه المعاني التيسة مسن اللهسام وأجريتسسه‬
‫في كتابسسة كسساتب أو شسسعر شسساعر مسسن السسدين ليسسس لهسسم إل أذهسسانهم‬
‫يكدونها‪ ،‬وكتبهم يجعلونها أذهانهم أحياًنا‪ ...‬لرأيت الفسسرق بيسسن شسسيء‬
‫وشيء في أحسن ما أنت واجده لهم على نحو مسسا تسسرى بيسسن زهسسرة‬
‫حريرية جاءت من عمل النسان بالبرة والخيط‪ ،‬وزهسسرة أخسسرى قسسد‬
‫انبثقت عطرة ناضرة في غصنها الخضر من عمسسل الحيسساة بالسسسماء‬
‫والرض‪.‬‬
‫دا وراء ما ل ينتهي من جمال‪ ،‬أوله في نفسه وآخسسره‬ ‫والعبقري هو أب ً‬
‫في الجمال القدس الذي مسح على هذه النفس الجميلة السسسامية؛‬
‫فما دام فيه سر العبقرية فهو دائب يعمل ممزًقا حياته في سسسبحات‬
‫قا يجتمع منه أدبه؛ ومسسا أدبسسه إل صسسورة حيسساته؛ وهسسو كلمسسا‬ ‫النور تمزي ً‬
‫مسسا إن عمسسل لن‬ ‫أبدع شيئا طلب الذي هسسو أبسسدع منسسه؛ فل يسسزال متأل ً‬
‫مسسا إن لسسم يعمسسل؛ لن تلسسك‬ ‫طبيعته ل تقف عند غاية من عمله‪ ،‬ومتأل ً‬
‫الطبيعسسة بعينهسسا ل تهسسدأ إل فسسي عمسسل‪ ،‬وهسسي طبيعسسة متمسسردة بسسذلك‬
‫الجمال القدس تمرد العشق في حامله؛ إذ هما صورتان لمر واحسسد‬
‫كما سنشير إليه؛ فكسسل مسسا تجسسده فسسي نفسسس العاشسسق المتدلسسة ممسسا‬
‫يترامى به إلى جنونه وهلكه‪ ،‬تجسسد شسسبًها منسسه فسسي نفسسس العبقسسري؛‬
‫فكلهما قانونه من طبيعة وحدها؛ إذ قد اتخذت حياته شسسكلها الفنسسي‬
‫من ذوقه هو وحده؛ فليسسس يتبسسع طريقسسة أحسسد‪ ،‬بسسل هسسو فسسي طريقسسة‬
‫دا إلسسى جمسسال مسسستفيض علسسى روحسسه‬ ‫نفسه ‪ ،1‬وكلهما مسترسل أب ً‬
‫يتقلب فيها باللذة واللسسم يرجسسع إليسسه ويسسستمد منسسه‪ ،‬وكلهمسسا ل يجسسد‬
‫المعنى الجميل في الطبيعة معنى‪ ،‬بل رسوًل من الجمال أرسل إليه‬
‫وحده‪ ،‬ول يزال يشعر في كل وقت أن له رسائل ورسًل هو بعد في‬
‫انتظارها‪ ،‬وكلهما متى ظفر بشيء مسسن مصسسدر الجمسسال انتهسسى مسسن‬
‫حا لم يكن له مسسن قبسسل‪،‬‬ ‫شدة فرحه إلى الظن أنه ربح من الكون رب ً‬

‫‪202‬‬
‫وكلهما متهالك بيسسن قيسسود الحيسساة السستي فسسي الحيسساة والواقسسع‪ ،‬وبيسسن‬
‫حريتها التي في خياله وأمله‪ ،‬كأن عليه فسسي سسسبيل هسسذه الحريسسة أن‬
‫دا مسسن قيسسود الجتمسساع أو العيسسش؛ وكلهمسسا‬ ‫يقطع الليل والنهار ل قي س ً‬
‫متصل بقوة غيبية وراء ما يرى وما يحس تجعل نظرته فسسي الشسسياء‬
‫خاضسسسعة لقسسسانون النظسسسرة العاشسسسقة فسسسي العينيسسسن السسسساحرتين‬
‫المعشوقتين‪ ،‬فإذا مد عينيه في شيء جميل فهناك سسسؤال وجسسوابه‪،‬‬
‫ووحي وترجمته‪ ،‬ومرور من يقظة إلى حلم‪ ،‬وانتقال من حقيقة إلسسى‬
‫خيال!‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬ل وجه عندنا لمسسا اسسستعمله بعسسض الكتسساب فسسي الدب مسسن قسسولهم‬
‫مدرسة امرئ القيس‪ ،‬ومدرسة النابغسسة ونحسسو ذلسسك‪ ،‬ترجمسسة حرفيسسة‬
‫لقول الوروبييسسن مدرسسسة فلن ومدرسسسة فلن؛ فسسإن الدب إن كسسان‬
‫ط ل يجعل مدرسسسة يحتسسذى عليهسسا ويتخسسرج بهسسا‪،‬‬ ‫دا فهو أدب منح ّ‬ ‫تقلي ً‬
‫عا فليسسس البسسداع مدرسسسة تكسسون بسسالتعليم والتلقيسسن‬ ‫وإن كسسان إبسسدا ً‬
‫ويتخرج بها الواحد والمائة واللف على طراز ل يختلف؛ إنمسا تنطبسسق‬
‫هذه الكلمة على المذاهب المستقرة في الفنون التعليمية‪ ،‬وفي هذا‬
‫ل‬
‫مسا تنفسسرد بسه ل تسسستقر‬‫غير أن طبيعة العبقري تزيد على كل ذلسك أل ً‬
‫معه على رضا‪ ،‬ول يبرح يسلط العنات عليهسسا ويسسستغرقها قسسالهموم‬
‫السامية؛ وذلك ألم الكمال الفني الذي ل يدرك العبقسسري غسسايته عنسسد‬
‫نفسه‪ ،‬وإن كان عند الناس قسسد أدرك غايسسات وغايسسات؛ فطبيعسسة كسسل‬
‫عبقري تجهد جهدها في العمل لتخرج به مما يستطيعه الناس‪ ،‬فسسإذا‬
‫تسسأتى صسساحبها لسسذلك وكابسسد فيسسه وأدرك منسسه وبلسسغ وأعجسسز‪ ،‬انسسدفعت‬
‫طبيعته إلسسى الخسسروج ممسسا يسسستطيع هسسو‪ ..‬كسسأنه خسسارج عسسن الطبيعسسة‬
‫وداخل في الطبيعة في وقت معًسسا‪ ،‬وكسسأنه نفسسسه وفسسوق نفسسسه فسسي‬
‫حال‪ ،‬وهذا سر حريته وسموه‪ ،‬كما أنه سر ألمه وحيرته‪.‬‬
‫ومن أثر ذلك ما تحسه أنسست إذا قسسرأت للديسسب البليسسغ التسسام صسساحب‬
‫الفكر والسلوب والذهن الملهم؛ فإنك تقف على المعنى من معانيه‬
‫يمل نفسك ويتمدد فيها ويهتز بها طرًبا وإعجاًبا‪ ،‬فنقول‪ :‬ل أحس من‬
‫هذا! ثم تؤمل مع ذلك أن تجد منه ما هو أحسن من هذا ‪ ..‬كأنه وإن‬
‫تناهى إلى الغاية ل يزال عندك فسسوق الغايسسة؛ وهسسذا غريسسب‪ ،‬ولكسسن ل‬
‫دليل على العبقرية إل الغرابة دائما؛ فهسسي نظسسام ل نظسسام فيسسه؛ لهسسا‬
‫طريقة ل طريقة لها؛ وبهذه الغرابة جاءت العبقرية كلها أمثلة وليس‬
‫فيها قواعد يحتذى عليها ول هداية فيها إل من الروح؛ وإذا كان الفسسن‬

‫‪203‬‬
‫قدرة متصرفة فسسي الجمسسال‪ ،‬فالعبقريسسة قسسدرة متصسسرفة فسسي الفسسن‪،‬‬
‫والنابغة كالمتكيس* السسذي معسسه قسسوي العقسسل ويريسسد أن يسسزداد علسسى‬
‫قدره منها‪ ،‬ولكن العبقري كاللهي الذي معه قسسوى السسروح ويريسسد أن‬
‫يزيد الناس على قدرهم بهسسا؛ وذاك مرجعسسه الفكسسر السسدقيق البسساحث؛‬
‫وهذا مناطه البصسسيرة الشسفافة النافسسذة‪ ،‬وهسسي أغسسرب الغسسرائب فسسي‬
‫النسان؛ إذ هي الجهة المطلقة في هذا المخلوق المقيد‪ ،‬وبها تتسسسع‬
‫الناس لدراك المطلق الظاهر من خلل الموجسسودات‪ ،‬وفيهسسا تتحسسول‬
‫الشياء من نظام الحاسة إلى نظام السسروح فيسسسمع المسسرئي ويبصسسر‬
‫المسموع‪ ،‬وتخلع الجسام أنغامسسا‪ ،‬وتلبسسس الصسسوات أشسسكال‪ ،‬ويبسسدو‬
‫عندها كل مخلوق وكأن فيه بقية زائدة على خلقه تركت ليعمل فيها‬
‫الكسساتب أو الشسساعر المحسسدث ‪ 2‬عمسسل فنسسه‪ ،‬السسزائد علسسى الطبيعسسة‬
‫بالحاسة الزائدة على ذهنه‪ ،‬وهي التي نسميها اللهام‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫= تطلق فسسي الدب العربسسي إل علسسى فئتيسسن فقسسط‪ ،‬همسسا البصسسريون‬
‫والكوفيون‪ ،‬على أن كلمة مسسذهب هسسي المسسستعملة فسسي هسسذا‪ ،‬وهسسي‬
‫أسد منها؛ إذ يدل المذهب علسسى منحسسى اختسساره السسرأي وذهسسب إليسسه‪،‬‬
‫فكأنه عن تحقيق في صاحبه وتابعيه؛ أما تسمية مجموعة اللهامسسات‬
‫التي مرت في ذهن نابغة من النوابسسغ بالمدرسسسة‪ ،‬فتسسسمية مضسسحكة‬
‫باردة؛ إذ اللهام بصسسيرة محضسسة‪ ،‬ومسسا هسسو ممسسا يقلسسد‪ ،‬وقلمسسا تشسسابه‬
‫ذهنان على الرض في عناصر التكوين التي يسأتي منهسا النبسسوغ؛ وقسسد‬
‫قسسال علماؤنسسا‪ :‬طريقسسة فلن وطريقسسة فلن؛ فالطريقسسة هسسي الكلمسسة‬
‫الصحيحة؛ لن عليها ظاهر العمسسل وأسسسلوبه يتسسوجه بهسسا مسسن يتسسوجه‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬وهو شيء‬ ‫ويقلد فيها من يقلد‪ ،‬أما سر العمل فهو سر العامل أي ً‬
‫في الروح والبصيرة‪ ،‬وهو في العبقري أمر ل يستطيعه إنسان وشسسذ‬
‫في إنسان بخصوصه‪.‬‬
‫وهسسذه الحاسسسة هسسي كسسذلك مسسن بعسسض الغرابسسة‪ ،‬تكسسون فسسي صسساحبها‬
‫الموهوب كما تكون حاسة التجاه في الطيسسور السستي تقطسسع فسسي جسسو‬
‫السماء إلى غاياتها البعدية من قطب الرض إلى قطبهسسا الخسر بغيسر‬
‫دليل تحمله‪ ،‬ول رسم تنظسسر فيسسه‪ ،‬ول علسم ترجسع إليسسه؛ وكمسا تكسون‬
‫حاسة التمييز في النحل الذي يبني عسلته على هندسة ليسسست مسسن‬
‫كتاب ول مدرسة‪ ،‬وحاسة التدبير في النمل الذي يدبر مملكتسسه بغيسسر‬
‫علوم الممالك وسياستها؛ وكثيرا ما يجيء الديب الملهم من حقائق‬
‫الفكر وبيسسانه وأسسسرار الطبسسائع وأوصسسافها بمسسا يغطسسي علسسى فلسسسفة‬

‫‪204‬‬
‫الفلسفة وعلم العلماء‪ ،‬ومثل هذا العبقري هو عندي فوق العلسسم‪ ،‬ل‬
‫أقول بدرجة‪ ،‬ولكن بحاسة‪.‬‬
‫وباللهام يكون لكل عبقري ذهنه الذي معه وذهنه الذي ليسسس معسسه؛‬
‫إذ كنت له من وراء خياله قوة غير منظورة ليسسست فيسسه‪ ،‬ومسسع ذلسسك‬
‫تعمل كما تعمل العضاء في جسمه‪ ،‬هينة منقادة كأنها تتصرف على‬
‫اطراد العادة بل فكر ول روية ول عسر ما دامت تتجلى عليه‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* من الكيس وهو العقل فيكون عاقل ويريد أن يزداد على مقداره‪.‬‬
‫** هذه هي الكلمة القديمسسة السستي تقابسسل مسسا نسسسميه العبقسسري بلغسسة‬
‫عصرنا‪ ،‬كأن الشياء تحدثه بأسرارها‪ ،‬أو تحسسدثه بهسسا قسسوة أعلسسى مسسن‬
‫القوى النسانية؛ وإذا كان محدثا فمعنى ذلسسك أنسه ينطسسق عسسن سسمع‬
‫من الغيب؛ ومن ذلك ما زعسسم العسسرب مسسن أن لكسسل شسساعر شسسيطانا‬
‫ينفث على لسانه‪ ،‬وهووصف دقيق للعبقرية إل أنه باللغسسة الجاهليسسة‪،‬‬
‫وقد صححه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لشاعره حسسسان‪ :‬قسسل‬
‫وروح القسسدس معسسك‪ .‬وفسسي كلمسسة "روح القسسدس" تنطسسوي فلسسسفة‬
‫العبقرية كلها‪.‬‬
‫وليست تتصل هذه القوة إل بسستركيب عصسسبي تكسسون فيسسه الخصسسائص‬
‫التي تصلح أن تتلقى عنها‪ ،‬وهي في العبقريين خصائص مرضية فسسي‬
‫العم الغلب‪ ،‬بل لعلها كذلك دائما؛ ليتسّر بها العبقري لحالة خفيفة‬
‫من الموت‪ ...‬يحمل بهسسا كسسده وتعبسسه ومسسا يعسسانيه مسسن مضسسض الفكسسر‬
‫وثقلته؛ ثم لتكون هذه الحالة كالتقريب بين عالم الشهادة فيه وبيسسن‬
‫عالم الغيب منه؛ فالتركيب العصبي في دماغ العبقري إنسسسان علسسى‬
‫حيساله مسع إنسسسان آخسر‪ ،‬أحسدها لمسا فسي الطبيعسة والثسساني لمسا وراء‬
‫الطبيعسسة؛ ومسسن ثسسم كسسان الرجسسل مسسن هسسذه الفئة كالمصسسباح‪ :‬يتقسسد‬
‫وينطفئ؛ لنه آلة نور تعرض لها العلل فتذهب بقدرتها عليه‪ ،‬وتنضب‬
‫مادة النور منها‪ ،‬فكذلك ل تقدر عليه‪ ،‬وتكون مضيئة فتنطفئ بسبب‬
‫ليس منها ول من نورها‪ ،‬وهي على كل هسسذه الحسسوال ل تملسسك منهسسا‬
‫حالة؛ فبينما العبقري الذي يمل السسدنيا مسسن آثسساره النابغسسة‪ ،‬تسسراه فسسي‬
‫حالة من أحواله يدأب ل يأتلي فيجد فسسي العمسسل ويبسسذل الوسسسع فيسسه‬
‫ويصبر على مطاولة التعب في إحكامه ويفيض بسسه فيضسسا وكسسأن فسسي‬
‫طبيعة الربيع المتفتح طول أيامه بالجمال ‪ -‬إذا هو فسسي حالسسة أخسسرى‬
‫يتلكأ ويتربص ل يعمل شيئا كأنمسسا دخسسل فسسي قريحتسسه الشسستاء‪ ،‬وفسسي‬
‫ن له جديسسد كأنمسا حبسس عنسسه فكسسره أو نبسا‬ ‫ثالثة يتباطأ ويتلبث فل يع ّ‬

‫‪205‬‬
‫طبعه أو هو في قيظ طبيعته وخمولها وضجرها؛ ثسسم ل تمضسسي علسسى‬
‫ذلك إل توّة ٌ وساعة فإذا على صيفه هواء نوفمبر وديسمبر‪...‬‬
‫وإذا هو منبعث ملء القسسوة والنشسساط؛ وربمسسا يأخسسذ فسسي غسسرض مسسن‬
‫الكتابة قد رسم له المعنى وهيأ له المادة‪ ،‬فل يكاد يمضي لنحو منسسه‬
‫حتى تتناسخ في ذهنه المعاني فسسإذا هسسو يكتسسب مسسا ل يسسستملي؛ وقسسد‬
‫يبتدئ معنى ثم يقطع عنه بطسارئ مسن عمسسل أو حسسديث‪ ،‬ثسسم يعسساوده‬
‫فإذا هو معنى آخر وإذا جهة من الفكسسر هسسي جهسسة البسسداع والخسستراع‬
‫في موضوعه‪ ،‬وإذا هو إنما كان يجر بذلك الصارف عن معنسساه الول‬
‫جّرا ليدعه إلى الكمل والصح‪ ،‬وأيقن أنه لو كان اسسستوفى علسسى مسسا‬
‫بدأ لسف وضعف وجاء بما غيره أقدر عليه؛ كأن هذه القوة الخفيسسة‬
‫ذا في عمله‬ ‫ضا بأساليبها الغريبة؛ وقد يكون آخ ً‬ ‫التي تلهمه تنقح له أي ً‬
‫ماضًيا على طبعه مسترسًل إلى ما ينكشف له مسسن أسسسرار المعسساني‬
‫فا من هناك*‪ ،‬ثم ينظر فإذا هو قد مسح لسسوح خيسساله‪،‬‬ ‫فا من هنا لق ً‬‫ثق ً‬
‫دا وعسسسرا كأنمسسا‬ ‫ويطلب المعنى فل يتاح له‪ ،‬ويتمادى فل يزيسسد إل ك س ّ‬
‫ذهسسب إلهسسامه فسسي غمسسض مسسن غمسسوض البديسسة*؛ وكسسل مسسن ارتسساض‬
‫بصناعة الفكر واسسستحكمت لسسه عادتهسسا ومسسر فسسي درجاتهسسا حسستى بلسسغ‬
‫المكانة التي يستشرف منها لللهام ويتعرض فيهسسا بروحسسه وبصسسيرته‬
‫لنبضات الوحي وانكشافات الغيب‪ ،‬يعلم أن كل معنى بديع يسسأتي بسسه‬
‫ما من ذلسك المعنسى الحسي المتمسدد فسي‬ ‫في صناعته إنما يقع له إلها ً‬
‫الكائنات كلها‪ ،‬ظاهًرا في شيء منها بالضوء‪ ،‬وفسسي أشسسياء بسساللوان‪،‬‬
‫وفي بعضها بالحركة‪ ،‬وفي بعضها بالنسسسجام‪ ،‬وفسسي بعضسها بالروعسسة‬
‫والفخامة‪ ،‬وفي غيرها بنبضة الهيئة؛ وظاهًرا فسسي حسسالت كسسثيرة بسسأنه‬
‫غير ظاهر؛ ويعرف كذلك أن هذا المعنسسى الشسسامل السسذي ل يحسسد هسسو‬
‫الذي ينقل الوجود كله إلسسى نفسسوس النوابسسغ** مسستى نبسسض فسسي هسسذه‬
‫النفوس الرقيقة وأشعرها سره‪ ،‬وإذا هم النابغة أن يتوضحه ل يسسرى‬
‫شيًئا‪ ،‬وإذا أراد حجة عليه لسسم يسسستطع الجلء عسسن بيسسانه بكلمسسة‪ ،‬وإذا‬
‫التمس التعريف به لم يجد إل مسسا يشسسهد لسسه إحساسسسه وقلبسسه‪ ،‬وهسسذا‬
‫الذي ينقدح في أذهان النوابغ أفكاًرا حين يفيسسض لكسل منهسسم بسسبب‬
‫من قراءة أو مشاهدة أو حالة أو مراس‪ ،‬وهو هو بعينه السسذي ينقسسدح‬
‫قا في قلوب المحبين حين يتراءى لكسسل منهسسم فسسي معنسسى علسسى‬ ‫عش ً‬
‫وجه جميل؛ ومن ثم كان النابغة في الدب ل يتم تمسسامه إل إذا أحسسب‬
‫وعشق‪ ،‬وكان الدب نفسه في تحصيل حقيقته الفلسفية ليس شسسيًئا‬
‫سوى صناعة جمال الفكر‪..‬‬
‫‪---------------‬‬

‫‪206‬‬
‫* يقسسال‪ :‬هسسو ثقسسف لقسسف‪ :‬أي سسسريع الفهسسم لمسسا يلقسسى إليسسه‪ ،‬ولكنسسا‬
‫استعملناه كما ترى فجاء أشد تمكًنا من أصله‪.‬‬
‫وهذا العمل في ذلك الجهاز العصبي الخاص به في بعض الدمغة هو‬
‫الذي كان يسميه علمسساء الدب العربسسي بالتوليسسد‪ ،‬وقسسد عرفسسوا أثسسره‪،‬‬
‫ولكنهم لم يتنبهوا إلى حقيقته ول أدركوا من سره شيًئا؛ وأحسن مسسا‬
‫قرأناه فيه قول ابن رشيق في كتاب العمدة‪" :‬إنمسسا سسسمي الشسساعر‬
‫شاعًرا؛ لنه يشعر بما ل يشعر به غيره؛ فإذا لم يكن‬
‫‪---------------‬‬
‫* قالوا‪ :‬كان الفرزدق وهو فحل مضر فسسي زمسسانه يقسسول‪ :‬تمسسر علسسي‬
‫الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علسسى مسسن عمسسل بيسست مسسن‬
‫الشعر! وذكروا أنسه كسان مسن عملسه إذا استصسحب الشسعر عليسه أن‬
‫دا في شسسعاب الجبسسال وبطسسون‬ ‫يركب ناقته ويطوف وحده خالًيا منفر ً‬
‫الودية فينقاد له الكلم؛ وأخبارهم كثيرة في الطسسرق السستي يسسستعان‬
‫بها على الشعر ويجتلب بها نافره‪ ،‬والحقيقة أنهسسا علسسل مسسن النفسسس‬
‫تعارض حالة اللهام إلى أن تسسزول وتصسسفو النفسسس منهسسا‪ ،‬أو أسسسباب‬
‫تتفق ول تلهم شيًئا إلى أن تتغير بأسباب ملهمة‪.‬‬
‫غا وما يسمى عبقريسسة‪ ،‬ولكنسسا‬ ‫** هناك فرق علمي بين ما يسمى نبو ً‬
‫في هذا الفصل أطلقنا الكلم وقيدنا فسسي مواضسسع بخصوصسسها‪ ،‬ويكسساد‬
‫الفرق بين النابغة والعبقري في جماع أمسسره أن يكسسون كسسالفرق بيسسن‬
‫التلغراف الذي طريقه مادة السسسلك وبيسسن الخسسر السسذي طريقسسه روح‬
‫الجو؛ فكلهما هو الخر ولكن أحسسدهما ل بسسد لسسه مسسن طريسسق سسسلوك‬
‫والخر طريقه كل الطرق‪ ،‬أي فوق أن يقيد بطريقة‪.‬‬
‫عند الشاعر توليد معنى ول اختراعه‪ ،‬أو اسسستطراف لفسسظ وابتسسداعه‪،‬‬
‫أو زيادة فيما أجحف فيسسه غيسسره مسسن المعسساني‪ ،‬أو نقسسص ممسسا أطسساله‬
‫سواه من اللفاظ‪ ،‬أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر‪ -‬كان اسم‬
‫الشاعر عليه مجاًزا ل حقيقة‪ ،‬ولسسم يكسسن لسسه إل فضسسل السسوزن"‪ .‬هسسذا‬
‫كلم ابن رشيق‪ ،‬وليس لهم أحسن منه‪ ،‬وهو مع ذلك تخليط ل قيمة‬
‫له وليس فيه من موضوعنا إل لفظ التوليد‪.‬‬
‫ومما ل نقضي منه عجًبا في تتبع فلسفة هذه اللغة العربية العجيبسسة‪،‬‬
‫أننا نرى أكثر ألفاظها كالتامة ل ينقصها شيء من دقائق المعنى في‬
‫أصل وضعها‪ ،‬على حين ل يفهم علماؤنا من هذه اللفاظ إل بعض ما‬
‫تدل عليه‪ ،‬كأنها منزلة تنزيًل ممن يعلم السر؛ وقد نبهنا إلى هذا فسسي‬
‫كتاب "تاريخ آداب العرب" وأفضنا فيه واستوفينا هناك من فلسفته‪،‬‬
‫وجاء القرآن الكريم من هذا بالعجائب التي تفسسوت العقسسل‪ ،‬حسستى أن‬

‫‪207‬‬
‫أكسسثر ألفسساظه لتكسساد تكسسون مختومسسة نزلسست كسسذلك لتفسسض العلسسوم‬
‫والفلسفة خواتمها في عصور آتية ل ريب فيها*؛ وكلمة التوليد السستي‬
‫لم يفهم منها العلماء إل أخسسذ معنسسى مسسن معنسسى غيسسره بطريقسسة مسسن‬
‫طرق الخذ التي أشاروا إليها فسي كتسب الدب ‪-‬هسي الكلمسة الستي ل‬
‫يخرج عنها شيء من أسرار النبوغ ول تجد ما يسد في ذلك مسسسدها‬
‫أو يحيط إحاطتها‪ ،‬ول نظن في لغة من اللغات ما يشسسبهها فسسي هسسذه‬
‫الدللة واستيعابها كل أسرار المعنى؛ إذ هو بلفظها نسسص علسسى حيسساة‬
‫الكون في الذهن النساني‪ ،‬وأنه يتخسسذه وسسسيلة لبسسداع معسسانيه‪ ،‬كمسسا‬
‫يتخذ سر الحيسساة بطسسن الم وسسسيلة لبسسداع موجسسوداته؛ وأن المعسساني‬
‫ضا في أسلوب من الحياة‪ ،‬وأن هذه هي وحدها‬ ‫تتلقح فيلد بعضها بع ً‬
‫الطريقة لتطور الفكر وإخراج سللت من المعاني بعضها أجمل من‬
‫بعض‪ ،‬كما يكون مثل ذلك في النسسسل بوسسسائل التلقيسسح مسسن السسدماء‬
‫المختلفة‪ ،‬وأن النبوغ ليس شسسيًئا إل السستركيب العصسسبي الخسساص فسسي‬
‫السسذهن‪ ،‬ثسسم نمسسو هسسذا السستركيب مسسع الحيسساة فسسي طريقسسة سسسواء هسسي‬
‫وطريقة الولدة المحيية التي مرجعها كذلك إلى تركيسسب خسساص فسسي‬
‫أحشاء النثى؛ ينمو‪ ،‬ثم يدرك ثم يعمل عمله المعجز؛ وإذا كسسان مسسن‬
‫كل شيء في الطبيعة زوجان‪ ،‬فالكلمة نص علسسى أن أذهسسان النوابسسغ‬
‫أذهان مؤنثة في طباعها التي بنيت عليها؛ وهذا صحيح؛ إذ هي أقسسوى‬
‫الذهان على الرض في الحس باللم والمسرات‪ ،‬ومعسساني السسدموع‬
‫والبتسام أسرع إليها من غيرها‪ ،‬بل هي طبيعسسة فيهسسا؛ وهسسي وحسسدها‬
‫المبدعسسة للجمسسال والمنشسسئة للسسذوق‪ ،‬وعملهسسا فسسي ذلسسك هسسو قسسانون‬
‫وجودها؛ ثم هي قائمة على الحتمال والعطاء والرضا بالحرمان في‬
‫سبيل ذلك وإدمان الصبر على التعسسب والدقسسة والهتمسسام بالتفاصسسيل‬
‫وأساسها الحب؛ وكل ذلك من طباع النثى وهي النابغة فيه‪ ،‬بل هي‬
‫النابغة به‪.‬‬
‫فسر النبوغ في الدب وفي غيره هو التوليد‪ ،‬وسر التوليد فسسي نضسسج‬
‫الذهن المهيأ بأدواته العصسسبية‪ ،‬المتجسسه إلسسى المجهسسول ومعسسانيه كمسسا‬
‫تتجه كل آلت المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛ وبذلك العنصر‬
‫الذهني يزيسسد النابغسسة علسسى غيسسره‪ ،‬كمسسا يزيسسد المسساس علسسى الزجسساج‪،‬‬
‫والجوهر على الحجر‪ ،‬والفولذ على الحديد‪ ،‬والذهب علسسى النحسساس؛‬
‫فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليسسد فسسي سسسر تركيبهسسا؛ ويتفسساوت النوابسسغ‬
‫أنفسهم في قوة هذه الملكة‪ ،‬فبعضهم فيها أكمل مسسن بعسسض‪ ،‬وتمسسد‬
‫لهم في الخلف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه‬
‫المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقسسة؛ وبسسذلك تتنسسوع‬

‫‪208‬‬
‫الساليب‪ ،‬ويعاد الكلم غير ما كان في نفسه‪ ،‬وتتجدد الدنيا بمعانيهسسا‬
‫في ذهن كل أديب يفهسسم السسدنيا وتتخسسذ الشسسياء الجاريسسة فسسي العسسادة‬
‫غرابة ليست في العادة ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته‪.‬‬
‫وقسسد سسسئل مصسسور مبسسدع بمسساذا يمسسزج ألسسوانه فتسسأتي ولهسسا إشسسراقها‬
‫وجمالها ونبوغ مبانيهسسا وزهسسو الحيسساة بهسسا فسسي الصسسورة‪ ،‬فقسسال‪ :‬إنمسسا‬
‫أمزجها بمخي‪ ،‬وهذا هذا؛ فإن اللوان عند الناس جميًعا‪ ،‬ولكن مخسسه‬
‫عنده وحده وله تركيبه الخاص به وحده وسر الصناعة في توليد هسسذا‬
‫الدماغ فكأن ألوانه في صناعته جاءت منه بخصوصه‪ ،‬وكذلك كل مسسا‬
‫يتناوله العبقري فإنك لتجد الشعر في وزن خاص به يدل عليه ويتمم‬
‫قسسا مسسن الجمسسال وحسسسنه وإلسسى‬ ‫الغرض منسسه ويضسسيف إلسسى معسسانيه أن ً‬
‫ما من الموسيقى وطربها‪ ،‬فما أشبه الجهسساز العصسسبي فسسي‬ ‫صورته نغ ً‬
‫دماغ كل نابغة أن يكون وزًنا شسسعرًيا لهسسذا النابغسسة بخاصسسته‪ ،‬أل تسسرى‬
‫أنك ل تقرأ الديب الحسسق إل وجسسدت كسسل مسسا يكتبسسه يجيسسء فسسي وزن‬
‫خاص به حتى ل يخرج عنه مرة‪ ،‬أو تزيد أنسست فيسسه وتنقسسص إل ظهسسر‬
‫لك أنه مكسور‪...‬؟‬
‫والسسذهن العبقسسري ل يتخسسذ المعسساني موضسسوع بحسسث ونظسسر وتعقسسب‬
‫يستخرج منها أو يتعلق عليها فهسذا عمسل السذهن السذكي وحسده وهسو‬
‫غاية الغايات فيه يبحث وينظر ويتصفح ويجمع من هنا ويأخذ من ثسسم‬
‫ويعترض ويصحح ويأتيك بالمقالة يحسب فيها كل شيء وما فيهسسا إل‬
‫أشياؤه هو وأمثاله‪ .‬أما السسذهن العبقسسري فليسسس لسسه مسسن المعسساني إل‬
‫مادة عمل فل تكاد تلبسه حتى تتحول فيه وتنمسسو وتتنسسوع وتتسسساقط‬
‫له أشكاًل وصسسوًرا فسسي مثسسل خطسسرات السسبرق‪ ،‬وربمسسا غمسسر بسسالمعنى‬
‫الواحد في جماله وسموه وقوة تأثيره مقسسالت عسسدة لولئك الذكيسساء‬
‫خا وجعلها منه كالشموع الموقسسدة بسسإزاء الشسسمس‪ .‬فسسإذا‬ ‫فنسخها نس ً‬
‫ذهبت توازن بين مثل هذا المعنى ومثل هذه المقسسالت فسسي الروعسسة‬
‫والجلل ورأيت عربدة المقالة وغرورها لم تستطع إل أن تقول لهسسا‪:‬‬
‫يا حصاة الميزان في إحدى كفتيه أل يكفيك الجبل في الكفة الخرى‬
‫‪...‬؟‬
‫وقد عرف الدباء جميًعا أن كاتب فرنسا العظيم أناتول فرانس كسسان‬
‫يكتب الجملة‪ ،‬ثم ينقحها‪ ،‬ثم يهذبها‪ ،‬ثم يعيدها‪ ،‬ثم يرجع فيها‪ ،‬وهكذا‬
‫خمسسس مسسرات إلسسى ثمسسان ويقسسدم ويسسؤخر مسسن موضسسع إلسسى موضسسع‬
‫كا وتهذيًبا‪ ،‬وما هسسو منهسا فسسي شسسيء ول أحسسسب‬ ‫ويحتسبون هذا تحكي ً‬
‫الوروبيين أنفسهم تنبهوا إلى سر هسسذه الطريقسسة‪ ،‬وإنمسسا سسسرها مسسن‬
‫جهاز التوليد في رأس ذلسك الكساتب العظيسم فسإذا قسرأ كتابسة حولهسا‬

‫‪209‬‬
‫فكرة وأبدع له منها من غير أن يعمل في ذلسسك أو يتكلسسف لسسه إل مسسا‬
‫وا‬
‫جا حلس ً‬‫يتكلف من يهز إليه بجذع الشجرة؛ لتساقط عليه ثمسًرا ناضس ً‬
‫جنّيا‪ ،‬فكلما قرأ ولد ذهنه فيثبت ما يأتيه فل تزال صسسورة تخسسرج مسسن‬
‫صورة حتى يجيء المعنى في النهاية وإنسسه لغسسرب الغسسرائب ل يكسساد‬
‫العقل يهتدي إلى طريقته وسياق الفكر فيه إذ كان لم يأت إل محوًل‬
‫عن وجهه مرات ل مرة واحدة‪.‬‬
‫فجهاز التوليد متى استمر واستحكم في إنسان أصبح له بمقام ملك‬
‫الوحي من النبي وهو عندنا دليل من أقوى الدلة على صسسحة النبسسوة‬
‫وحسسدوث السسوحي وإمكسسانه؛ إذ ل تتصسسرف بسسه إل قسسوة غيبيسسة ل عمسسل‬
‫للنسان فيها‪ ،‬بل هي تبدع إبداعها وتلقى عليه إلقاء‪ .‬وليس كل مسسن‬
‫تعرض لها أدرك منها‪ ،‬ول كل من أدرك منها بلغ بها‪ ،‬بل ل بد لها من‬
‫الجهاز العصبي المحكم كجهسساز اللسسسلكي السسدقيق المصسسنوع لتلقسسي‬
‫أبعسسد المسسواج الكهربائيسسة وأقواهسسا‪ .‬وهسسذه القسسوة إن أرادت معسساني‬
‫الجمسسال أخرجسست الشسساعر وإن أرادت كشسسف السسسر عسسن الشسسياء‬
‫أخرجت الديب وإن أرادت حقائق الوجود أخرجت الحكيم‪ .‬فإن كان‬
‫المر أكبر من هذا كله وكان أمر تغيير الحيسساة وصسسب أزمسسان جديسسدة‬
‫للنسانية والوثوب بهذه الدنيا درجة أو درجات في الرقي فهنا تكون‬
‫الوسيلة أكبر من البصيرة‪ ،‬فليسسس لهسسا مسسن قسسوة الغيسسب إل السسوحي‪،‬‬
‫ويكون الغرض أكبر من الشاعر والديب والحكيم‪ ،‬فل يختار إل النبي‬
‫ثم ل يوحى إليه إل وهو في حس لساعة الوحي وحدها‪ ،‬وهي سسساعة‬
‫ليست من الزمن بسل مسن السروح المنصسرف عسن الزمسن ومسا فيسه؛‬
‫ليتلقى عن روح الخلد؛ وقريب مسسن ذلسسك خلسسوة النابغسسة بنفسسسه فسسي‬
‫ساعة التوليد؛ فسر النبوغ من سر السسوحي‪ ،‬ل ريسسب فسسي ذلسسك‪ ،‬ومسسا‬
‫أسهل سر الوحي وأيسر أمره‪ ،‬ولكن في النبياء وحسسدهم‪ ،‬وهنسسا كسسل‬
‫الصعوبة‪" ...‬أن نكون أو ل نكون؛ هذه هي المسألة"‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪210‬‬
‫نقد الشعر وفلسفته ‪1‬‬

‫الشاعر في رأينا هو ذاك الذي يرى الطبيعة كلها بعينين لهما عشسسق‬
‫خاص وفيهما غزل على حدة‪ ،‬وقد خلقتا مهيسسأتين بمجموعسسة النفسسس‬
‫العصبية لرؤية السحر الذي ل يرى إل بهما‪ ،‬بل الذي ل وجود له فسسي‬
‫الطبيعة الحية لول عينا الشاعر‪ ،‬كما ل وجود لسسه فسسي الجمسسال الحسسي‬
‫لول عينا العاشق‪.‬‬
‫فإذا كان الشاعر العظيم أعمى كهوميروس وملتون وبشار والمعري‬
‫وأضرابهم‪ ،‬انبعث البصر الشعري من وراء كسسل حاسسسة فيسسه‪ ،‬وأبصسسر‬
‫مسن خسواطره المنبثسسة فسي كسسل معنسى‪ ،‬فسسأدى بسالنفس فسي الوجسود‬
‫المظلم أكثر ما كان يؤديه بهذه النفس في الوجود المضيء‪ ،‬وقصسسر‬
‫ن أخسسرى‪ ،‬فيجتمسسع‬ ‫ن وأربسسى عليهسسم فسسي معسسا ٍ‬
‫عن المبصرين في معا ٍ‬
‫الشعر من هؤلء وأولئك مد النفس الملهمة مما بين أطسسراف النسسور‬
‫إلى أغوار الظلمة‪.‬‬
‫والشعر في أسرار الشياء ل في الشياء ذاتها‪ ،‬ولهسسذا تمتسساز قريحسسة‬
‫الشاعر بقدرتها على خلق اللسسوان النفسسسية السستي تصسسبغ كسسل شسسيء‬
‫وتلونه لظهار حقائقه ودقائقه حتى يجري مجراه في النفس ويجسسوز‬
‫مجازه فيها؛ فكل شيء تعاوره الناس من أشياء هذه الدنيا فهو إنمسسا‬
‫يعطيهم مادته في هيئته الصامتة‪ ،‬حتى إذا انتهى الشاعر أعطاه هذه‬
‫المادة في صورتها المتكلمة‪ ،‬فأبانت عن نفسها في شسسعره الجميسسل‬
‫بخصائص ودقائق لم يكن يراها الناس كأنها ليست فيها‪.‬‬
‫فبالشعر تتكلم الطبيعة في النفس وتتكلسسم النفسسس للحقيقسسة وتسسأتي‬
‫الحقيقة في أظرف أشكالها وأجمل معارضها‪ ،‬أي فسسي البيسسان السسذي‬
‫تصنعه هذه النفسس الملهمسة حيسن تتلقسى النسور مسن كسل مسا حولهسا‬
‫وتعكسه في صناعة نورانية متموجة باللوان في المعاني والكلمسسات‬
‫والنغام‪.‬‬
‫والنسان من الناس يعيش في عمر واحد‪ ،‬ولكن الشاعر يبسسدو كسسأنه‬
‫في أعمار كثيرة من عواطفه‪ ،‬وكأنما ينطسسوي علسسى نفسسوس مختلفسسة‬
‫تجمع النسانية من أطرافها‪ ،‬وبسسذلك خلسسق ليفيسسض مسسن هسسذه الحيسساة‬
‫على الدنيا‪ ،‬كأنما هو نبع إنساني للحساس يغترف الناس منه ليزيسسد‬
‫كل إنسان معاني وجوده المحسسدود مسا دام هسسذا الوجسسود ل يزيسسد فسسي‬
‫مدته‪ ،‬ثسسم ليرهسسف النسسسان بسسذلك أعصسسابه فتسسدرك شسسيًئا ممسسا فسسوق‬
‫المحسوس‪ ،‬وتكننه طرًفا من أطراف الحقيقسسة الخالسسدة السستي تتسسسع‬
‫بسالنفس وتخرجهسا مسن حسود الضسسرورات الضسسيقة الستي تعيسسش فيهسا‬

‫‪211‬‬
‫لتصلها بلذات المعاني الحرة الجميلة الكاملة؛ وكأن الشعر لم يجسسئ‬
‫فسسي أوزان إل ليحمسسل فيهسسا نفسسس قسسارئه إلسسى تلسسك اللسسذات علسسى‬
‫اهتزازات النغم؛ وما يطرب الشعر إل إذا أحسسته كأنما أخذ النفس‬
‫لحظة وردها‪.‬‬
‫والشاعر الحقيق بهسسذا السسسم ‪-‬أي السسذي يغسسل بعلسسى الشسسعر ويفتتسسح‬
‫معانيه ويهتدي إلى أسراره ويأخذ بغاية الصنعة فيه‪ -‬تراه يضع نفسه‬
‫في مكان ما يعانيه من الشياء وما يتعسساطى وصسسفه منهسسا‪ ،‬ثسسم يفكسسر‬
‫بعقله على أن عقل هذا الشيء مضاًفا إليه النسانية العاليسسة‪ ،‬وبهسسذا‬
‫تنطوي نفسه علسسى الوجسسود فتخسسرج الشسسياء فسسي خلقسسة جميلسسة مسسن‬
‫معانيها وتصبح هذه النفس خليقة أخرى لكل معنى داخلهسسا أو اتصسسل‬
‫بها؛ ومن ثم فل ريب أن نفس الشاعر العظيم تكاد تكون حاسة من‬
‫حواس الكون‪.‬‬
‫ولو سئلت أزمان الدنيا كيف فهم أهلها معاني الحياة السامية وكيف‬
‫رأوها في آثار اللوهية عليها‪ ،‬لقدم كل جيل في الجسسواب علسسى ذلسسك‬
‫معاني الدين ومعاني الشعر‪.‬‬
‫وليست الفكرة شعًرا إذا جاءت كما هي في العلم والمعرفسسة‪ ،‬فهسسي‬
‫في ذلك علم وفلسفة‪ ،‬وإنما الشسسعر فسسي تصسسوير خصسسائص الجمسسال‬
‫الكامنة في هذه الفكسسرة علسسى دقسسة ولطافسسة كمسسا تتحسسول فسي ذهسن‬
‫الشاعر الذي يلونها بعمل نفسه فيها ويتناولها من ناحية أسرارها‪.‬‬
‫فالفكسسار ممسسا تعسسانيه الذهسسان كلهسسا ويتواطسسأ فيسسه قلسسب كسسل إنسسسان‬
‫ولسانه‪ ،‬بيد أن فن الشاعر هو فن خصائصها الجميلة المؤثرة‪ ،‬وكأن‬
‫الخيال الشعري نحلسسة مسسن النحسسل تلسسم بالشسسياء لتبسسدع فيهسسا المسسادة‬
‫الحلوة للسسذوق والشسسعور‪ ،‬والشسسياء باقيسسة بعسسد كمسسا هسسي لسسم يغيرهسسا‬
‫الخيسسال‪ ،‬وجسساء منهسسا بمسسا ل تحسسسبه منهسسا؛ وهسسذه القسسوة وحسسدها هسسي‬
‫الشاعرية‪.‬‬
‫فالشاعر العظيم ل يرسسسل الفكسسرة ليجسساد العلسسم فسسي نفسسس قارئهسسا‬
‫حسسسب‪ ،‬وإنمسسا هسسو يصسسنعها ويحسسذر الكلم فيهسسا بعضسسه علسسى بعسسض‪،‬‬
‫ويتصرف بها ذلك التصرف ليوجد بهسسا العلسسم والسسذوق معًسسا؛ وعبقريسسة‬
‫الدب ل تكسسون فسسي تقريسسر الفكسسار تقري سًرا علمي ّسسا بحت ًسسا‪ ،‬ولكسسن فسسي‬
‫إرسالها على وجسه مسن التسسديد ل يكسون بينسه وبيسن أن يقرهسا فسي‬
‫مكانها من النفس النسانية حائل‪ .‬وكسسثيًرا مسسا تكسسون الفكسسار الدبيسسة‬
‫العالية التي يلهمها أفذاذ الشسسعر والكتسساب هسسي أفكسسار عقسسل التاريسسخ‬
‫النساني‪ ،‬فل تنفصل عنهم الفكرة في أسلوبها البياني الجميل حسستى‬
‫تتخذ وضعها التاريخي في السدنيا‪ ،‬وتقسوم علسى أساسسها فسي أعمسال‬

‫‪212‬‬
‫الناس‪ ،‬فتتحقق في الوجود ويعمل بها؛ وهذا طسسرف ممسسا بيسسن الدب‬
‫العالي وبين الديان من المشابهة‪.‬‬
‫ومتى نزلت الحقائق في الشعر وجب أن تكون موزونة فسسي شسسكلها‬
‫كسوزنه‪ ،‬فل تسأتي علسى سسردها ول تؤخسذ هوًنسا كسالكلم بل عمسل ول‬
‫قا من البيان يكسسون‬ ‫صناعة‪ ،‬فإنها إن لم يجعل لها الشاعر جماًل ونس ً‬
‫حا موسيقية بحيث يجيء الشعر بهسسا‬ ‫لها شبيًها بالوزن‪ ،‬ويضع فيها رو ً‬
‫وله وزنان في شكله وروحه ‪-‬فتلك حقائق مكسورة تلوح في الذوق‬
‫كالنظم الذي دخلته العلل فجاء مختًل قد زاغ أو فسد‪.‬‬
‫والخيال هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة‪ ،‬وتخيسسل الشسساعر إنمسسا‬
‫هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به‪ ،‬فهو بهذا يرفسسع الطبيعسسة‬
‫درجة إنسانية‪ ،‬ويرفع النسانية درجسسة سسسماوية؛ وكسسل بسسدائع العلمسساء‬
‫والمخترعين هي منه بهذا المعنى‪ ،‬فهسسو فسسي أصسسله ذكسساء العلسسم‪ ،‬ثسسم‬
‫يسسسمو فيكسسون هسسو بصسسيرة الفلسسسفة‪ ،‬ثسسم يزيسسد سسسموه فيكسسون روح‬
‫الشعر؛ وإذا قلبت هذا النسسسق فانحسدرت بسه نسازًل كمسا صسعدت بسه‪،‬‬
‫حصل معك أن الخيال روح الشعر‪ ،‬ثسسم ينحسسط شسسيًئا فيكسسون بصسسيرة‬
‫طا فيكون ذكاء العلم‪ ،‬فالشاعر كما ترى هو‬ ‫الفلسفة‪ ،‬ثم يزيد انحطا ً‬
‫الول إن ارتقت الدنيا‪ ،‬وهو الول إن انحطت الدنيا؛ وكأنمسسا إنسسسانية‬
‫النسان تبدأ منه‪.‬‬
‫إذا قررنسسا للشسسعر هسسذا المعنسسى وعرفنسسا أنسسه فسسن النفسسس الكسسبيرة‬
‫الحساسة الملهمة حين تتناول الوجود من فسسوق وجسسوده فسسي لطسسف‬
‫روحاني ظاهر في المعنى واللغة والداء ‪-‬وجب أن نعتبر نقد الشسسعر‬
‫باعتبار مما قررناه‪ ،‬وأن نقيمه على هذه الصول؛ فإن النقسسد الدبسسي‬
‫في أيامنا هذه ‪-‬وخاصة نقد الشعر‪ -‬أصبح أكثره ما ل قيمة له‪ ،‬وساء‬
‫التصرف به‪ ،‬ووقع الخلط فيه‪ ،‬وتناوله أكثر أهله بعلم نسساقص‪ ،‬وطبسسع‬
‫حا‪ ،‬ول‬ ‫ضعيف‪ ،‬وذوق فاسد‪ ،‬وطمع فيسسه مسسن ل يحصسسل مسسذهًبا صسسحي ً‬
‫يتجه لرأي جيد‪ ،‬حتى جاء كلمهم وإن في اللغو والتخليط ما هو خير‬
‫منه وأخسسف محمًل‪ ،‬فإنسسك مسسن هسسذين فسسي حقيقسسة مكشسسوفة تعرفهسسا‬
‫وا‪ ،‬ولكنك من نقد أولئك فسسي أدب مسسزور ودعسسوى فارغسسة‬ ‫تخلي ً‬
‫طا ولغ ً‬
‫وزوائد من الفضول والتعسف يتزيسسدون بهسسا للنفسسخ والصسسولة وإيهسسام‬
‫دا إل هسسو تحسست قسسدرته‪ ...‬علسسى أن جهسسد‬ ‫الناس أن الكاتب ل يرى أح ً‬
‫عمله إذا فتشته واعتبرت عليه ما يخلط فيه‪ ،‬أنسسه يكتسسب حيسسث يريسسد‬
‫غا من الورق حيث يقتضسسيه البحسسث أن يمل‬ ‫النقد أن يحقق‪ ،‬ويمل فرا ً‬
‫غا من المعرفة‪.‬‬ ‫فرا ً‬

‫‪213‬‬
‫وقد قلنا في كتابنا "تحت رايسسة القسسرآن"‪ :‬إن أسسستاذ الداب يجسسب أن‬
‫يجمع إلى الحاطة بتاريخها وتقصي موادها ذوًقا فنًيا مهذًبا مصسسقوًل‪،‬‬
‫وليس يمكن أن يأتي له هذا الذوق إل من إيداع في صناعتي الشسسعر‬
‫والنثر‪ ،‬ثسم يجمسع إلسى هسذين‪" :‬أي الحاطسة والسذوق" تلسك الموهبسة‬
‫الغريبة التي تلف بيسسن العلسسم والفكسسر والمخيلسسة فتبسسدع مسسن المسسؤرخ‬
‫صا من هؤلء جميًعا هو السسذي نسسسميه‬ ‫الفيلسوف الشاعر العالم شخ ً‬
‫الناقد الدبي‪.‬‬
‫هذه هي صفات الناقد في رأينا؛ فانظر أين تجده بين هؤلء الساتذة‬
‫المختصرين‪ ...‬في أدبهم‪ ،‬المطولين‪ ...‬في ألقابهم‪ ،‬وإنهم ليتعسساطون‬
‫النقد وليس لهم وسائله إل ما كان ضعفة وقلة وإدبسساًرا‪ ،‬وقسسد فسساتهم‬
‫ما ل تحمله أقدارهم ول تبلغه قواهم‪ ،‬وجهلوا أن الناقسسد الدبسسي إنمسسا‬
‫سا عالًيا ل يدل فيه على العيوب الفنية إل بإظهار المحاسن‬ ‫يلقي در ً‬
‫التي تقابلها في أسمى ما انتهى إليه الفن من آثسسار تسساريخه‪ ،‬فيكسسون‬
‫صا لفنون الدب كلها؛ وهسو بهسذه الطريقسة يجلوهسسا‬ ‫النقد تهذيًبا وتخلي ً‬
‫علسسى النسساس ويبسسدع فيهسسا ويزيسسد فسسي مادتهسسا ويسسسهلها علسسى القسسراء‬
‫ويحصلها لهم تحصيًل ل يبلغونه بأنفسهم‪ ،‬ويعطيهم مسسن كسسل ضسسعيف‬
‫ما هو قوي‪ ،‬ومن كل قوي ما هو أقوى‪.‬‬
‫ورأينسساهم فسسي نقسسد الشسسعر ل يزيسسدون علسسى أن يعلقسسوا علسسى كلم‬
‫الشاعر‪ ،‬فيجيء عملهم في الجملسسة كسسأنه تصسسنيف مسسن هسسذا الشسسعر‬
‫وشرح له وتصفح على بعض معانيه؛ وبهسسذا يرجسسع الشسساعر وإنسسه هسسو‬
‫دا‬
‫المتصسسرف فسسي ناقسسده يسسديره كيسسف شسساء‪ ،‬ويجيسسء هسسذا الناقسسد زائ ً‬
‫متطفًل‪ ،‬فتسسأتي كتسسابته وإنهسسا لضسسرب مسسن سسسخرية المنقسسود بناقسسده‪،‬‬
‫ويصبح وضع الكلم على العكس‪ ،‬فالشاعر المنقود لم يتكلسسم ولكنسسه‬
‫أبان قصور الناقد وجهله‪ ،‬فهو الناقد وإن سسسكت‪ ،‬وذاك هسسو المنقسسود‬
‫وإن تكلم‪.‬‬
‫وهذا المتعلق على أخبار الشاعر وشعره كتعلق التلخيص على أصله‬
‫المطول والشرح على متنه الموجز‪ ،‬إنمسسا هسسو كسساتب يجسسد مسسن ذلسسك‬
‫مسسادة إنشسسائية فيتصسسرف بهسسا ليكتسسب؛ ول يسسراد مسسن النقسسد أن يكسسون‬
‫الشاعر وشعره مادة إنشاء‪ ،‬بل مادة حساب مقدر بحقائق معينسسة ل‬
‫بد منها؛ فنقد الشعر هو في الحقيقة علم حساب الشسسعر‪ ،‬وقواعسسده‬
‫الربع التي تقابل الجمسسع والطسسرح والضسسرب والقسسسمة‪ :‬هسسي الطلع‬
‫والذوق والخيال والقريحة الملهمة‪.‬‬
‫وثم ضرب آخر من تعلق الضعفاء‪ ،‬يتناول الشساعر باعتبساره رجًل لسه‬
‫موضعه من الناس ومنزلة من الحياة‪ ،‬ثم ل يعدو ذلسسك* وهسسو تزويسسر‬

‫‪214‬‬
‫خسسا؛ علسسى أن هسسذا ل بسسد‬
‫دا‪ ،‬وتزوير للناقد برده مؤر ً‬ ‫للمؤرخ بجعله ناق ً‬
‫منه منه في النقد الصحيح‪ ،‬ولكنه ل يقوم بنفسه ول تنفذ بسسه بصسسيرة‬
‫النقد؛ إذ الشاعر لم يكن شسساعًرا بسسأنه رجسسل مسسن النسساس وحسسي فسسي‬
‫الحياء وعمر من الحوادث المؤرخسسة‪ ،‬ولكسسن بموضسسوعه مسسن أسسسرار‬
‫الحياة وصلة نفسها بها وقدرة هذه النفس على أن تنفذ إلى حقسسائق‬
‫الطبيعة في كائناتها عامة‪ ،‬وفي إنسانها خاصة‪ ،‬ثم بقدرة مثسسل هسسذه‬
‫في النفاذ إلى أسرار اللغة الشعرية التي هي الوجود المعنسسوي لكسسل‬
‫ذلك‪ ،‬والتصرف بها على طبقات معانيه حتى ل تقصر عن الغايسسة ول‬
‫تقسسع دون القصسسد‪ ،‬فسسإن الشسسعر إن هسسو إل ظهسسور عظمسسة النفسسس‬
‫الشاعرة بمظهرها اللغوي‪ ،‬ولئن كان فسسي نقسسد الشسسعر تاريسسخ ل يتسسم‬
‫النقد إل به‪ ،‬فهو تاريخ الشعر في نفس قائله‪ ،‬ثم تاريخ هذه النفسسس‬
‫في معاني الشعر مسسن عصسسرها‪ ،‬ثسسم أدب هسسذا الشسساعر مسسن الوجسسود‬
‫الدبي للغة التي نظم بهسسا؛ وذلسسك ل بسسد أن يقسسع فيسسه تاريسسخ الشسساعر‬
‫قا فيه بالستقصسساء‪،‬‬ ‫نفسه محصًل من نواحيه في جهات الحياة‪ ،‬متعم ً‬
‫متغلغًل إليه بالنقد‪...‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* لم نذكر في هسسذه المقالسسة أمثلسسة ولسسم نعيسسن أسسسماء حسستى ل يمتسسد‬
‫الكلم فتخرج المقالة إلى أن تكون كتابسسا‪ ،‬ولكنسسك إذا قسسرأت الشسسعر‬
‫وما يكتب في نقسسده‪ ،‬والمحاضسسرات السستي تلقسسى عسسن الشسسعراء فقسسد‬
‫وجدت المثلة والسماء‪.‬‬

‫وإن لنا رأًيا بسطناه مراًرا‪ ،‬وهو أنه ل ينبغي أن يعرض لنقد الشسساعر‬
‫والكلم عنه إل شاعر كبير يكون ذا طبيعة في النقد‪ ،‬أو كاتب عظيم‬
‫يكون ذا طبيعة في الشسسعر؛ أي ل بسسد مسسن الدب والشسسعر معًسسا لنقسسد‬
‫الشعر وحده فيأتي الكلم فيه من العلم والذوق والحساس واللهام‬
‫جميًعا‪ ،‬فيتبين الناقد وجوه النقص الفني‪ ،‬ويعرف بمسسا نقصسست ومسساذا‬
‫كان ينبغي لها وما وجه تمامها‪ ،‬ثسسم يعسسرف مسسن الكمسسال الفنسسي مثسسل‬
‫ذلك‪ ،‬ويحس على الحالتين بالمعاني التي أحسها الشاعر حين انسستزع‬
‫شعره منها‪ ،‬وما كان يتخالجه وقتئذ من الفكر ويتمثل له من الصسسور‬
‫المعنويسسة السستي ألهمتسسه إلهامهسسا؛ فسسإن المعسساني المكتوبسسة هسسي شسسعر‬
‫الشاعر‪ ،‬ولكن تلك المعسساني المحسوسسسة هسسي شسسعر الشسسعر‪ ،‬وإنمسسا‬
‫يوقف عليها بالتوهم والسترسال إلى ما وراء الطبيعسسة مسسن بسسواعثه‪،‬‬
‫وما تموجت به روح الشاعر عند عمله‪ ،‬ومسسا عرضسست لهسسا بسسه طبسسائع‬

‫‪215‬‬
‫المعاني؛ وهذا كله ل يحسه الناقد إن لم يكسسن شسساعًرا فسسي قسسوة مسسا‬
‫ينقده أو أقوى منه طبيعة شعر‪.‬‬
‫والنقد إنما هو إعطاء الكلم لساًنا يتكلسسم بسسه عسسن نفسسسه كلم منهسسم‬
‫في محكمة؛ ليقيم أو يزيح شبهة أو يقسسر حقيقسسة أو يبسسسط معنسسى أو‬
‫يوجه علة أو يكشف خافًيا أو يثبت نقيصة أو يظهر إحساًنا؛ وبالجملة‬
‫فهسسو نقسسص السسسيئة والحسسسنة‪ ،‬ووقسسوع أدلسسة العلسسم والفسسن والسسذوق‬
‫مواقعهسسا‪ ،‬وتكلسسم الكلم بسسذات نفسسسه مسسا تنكسسر منسسه ومسسا تسسستجيد؛‬
‫والشاعر‪ .‬والناقد يلتقيان جميًعا في القارئ فوجب من ثم أن يكسسون‬
‫الناقد قوة تكشف قوة مثلها أو دونها؛ ليصحح فن فّنا مثلسسه أو يقسسره‬
‫أو يزيد عليه فضل بيان ومزية فكسسر؛ وبهسسذا يصسسبح القسسارئ كالسسسائح‬
‫الذي معه الدليل وأمامه المنظسسر‪ ،‬أي معسسه التاريسسخ النسساطق وبسسإزائه‬
‫التاريخ الصامت‪ .‬وإذا كان الشاعر وشعره إنما هما النفس الممتازة‬
‫مسسا إل‬
‫وحوادثها ومعاني الحياة فيها‪ ،‬فليسسس يتجسسه أن يكسسون الناقسسد تا ً‬
‫بنفس من نوعها في دقة الحس ولطف النظسسر والستشسسفاف وقسسوة‬
‫التأثر بمعاني الحياة وسمو اللهسسام والعبقريسسة‪ ،‬وبسسذلك يجيسسء النقسسد‬
‫صا منخوًل كأنه شرح نفس لنفس مثلها‪.‬‬ ‫الصحيح بياًنا خال ً‬
‫وليس النف هو الذي ينقسسد السسوردة العطسسرة الفياحسسة‪ ،‬وإنمسسا تنقسسدها‬
‫الحاسة التي في النف‪ ،‬وناقد الشعر إن لم يكسسن شسساعًرا فهسسو أنسسف‬
‫صحيح التركيب‪ ،‬ولكن بالجلد والعظسسم دون تلسسك الحاسسسة السستي هسسي‬
‫روح العصسسب المنبسسث فسسي هسسذا السستركيب والمتصسسل بمسسا وراءه مسسن‬
‫أعصاب السسدماغ‪ ،‬فهسسذا النسسف‪ ...‬يسسستطيع أن يتنسساول السسوردة‪ ،‬ولكسسن‬
‫دا أو خشسًبا أيهسا‬ ‫يحس غليظ محقته الفة كمسا يتنساول حجسًرا أو حديس ً‬
‫كان‪ ،‬فالوردة عنده شيء من الشياء يمتاز باللين ويختسسص بالنعومسسة‬
‫ويسطع بالرونق ويزهو باللون‪ ،‬ويذهب يتكلم في هذا كله‪ ،‬وهذا كله‬
‫في الوردة‪ ،‬ولكنه ليس الوردة‪.‬‬
‫ومتى كسسان البحسسث هسسو البحسسث فسسي السسسماء وأفلكهسسا وأجرامهسسا فل‬
‫يستقل به إل الناظر المركب أي الذي معه عينسسه وتلسسسكوبه وعلمسسه‬
‫جميًعا‪ ،‬إن نقص من ذلك فبقدر نقصانه يكون ضعفه‪ ،‬وإن تم فبقسسدر‬
‫تمامه يكون وفاؤه؛ ولو أمكن أن ينفصل الشاعر من شعره فيقطسسع‬
‫دا‬
‫ما بينه وبين المعاني من نسبه نفسه‪ ،‬ويبتعد عن الشعر ليراه جدي ً‬
‫عليه ويميسسزه مسسن كسسل جهسساته ‪-‬لكسسان هسسو الناقسسد؛ فناقسسد الشسسعر هسسو‬
‫الشاعر نفسه‪ ،‬ولكن في وضع أتم وأوفسسى‪ ،‬وحالسسة أبيسسن وأبصسسر‪ ،‬أي‬
‫ما بغير ضعف ول نقص‪.‬‬ ‫حا تا ً‬
‫كأنه الشاعر نفسه منق ً‬

‫‪216‬‬
‫ومن أجل ذلك ترى من آية النقد البديع المحكم إذا قرأتسسه مسسا يخيسسل‬
‫ضا ويحصسسل لسسك أمسسره ويسسبين‬ ‫إليك أن الشعر يعرض نفسه عليك عر ً‬
‫حالته في ذهن شاعره‪.‬‬
‫وكيف توافى وائتلف‪ ،‬وكيف انتزعه الشاعر من الحياة‪ ،‬وما وقع فيه‬
‫من قدر اللهام‪ ،‬وما أصابه مسسن تسسأثير النسسسان ومسسا اتفسسق مسسن خسسظ‬
‫الطبيعة والشياء‪ ،‬وبالجملة يورد النقد عليك ما ترى معه كأن حركسسة‬
‫الدم والعصاب قد عادت مرة أخرى إلى الشعر‪.‬‬
‫أل وإن شعرنا العربي الجميل قد أصبح اليوم في أشد الحاجسسة إلسسى‬
‫من يعلم القارئ كيف يذوقه ويتسبينه ويخلسص إلسى سسر التسأثير فيسه‪،‬‬
‫جا سرّيا في أنغامه وألحانه ويأتي به من نفس شسساعره‬ ‫ويخرجه مخر ً‬
‫ومن نفسه جميًعا؛ فقوة التمييز في هذا كلسسه علسسى تسسسديد وصسسواب‬
‫هي التي يعطيها الناقد لقرائه؛ والشعر فكر وقراءته فكر آخسسر‪ ،‬فسسإن‬
‫قصر هذا عن أن يبلغ ذاك ليتصل به ويتغلغسسل فيسسه فلبسسد للمفكريسسن‬
‫من صلة فكرية هي كتابة الناقد الذي هو مسسن ناحيسسة كمسسال للطبيعسسة‬
‫الناقصة‪ ،‬ومن ناحية أخرى شرح للطبيعة الكاملة‪ ،‬ومسن ناحيسة ثالثسة‬
‫هو بذوقه وفنه قانون النتظام الدقيق الذي يبين به ما اسسستقام فسسي‬
‫ج‪.‬‬
‫الكلم وما اعو ّ‬
‫وطريقتنا نحن في نقد الشعر تقوم على ركنين‪ :‬البحسسث فسسي موهبسسة‬
‫الشسساعر‪ ،‬وهسسذا يتنسساول نفسسسه وإلهسسامه وحسسوادثه؛ والبحسسث فسسي فنسسه‬
‫البياني‪ ،‬وهو يتناول ألفاظه وسبكه وطريقته‪ ،‬وسنقول فيهما مًعا‪:‬‬
‫فأما الكلم في فن الشعر‪ ،‬فالمراد بالشعر ‪-‬أي نظم الكلم‪ -‬هو في‬
‫رأينا التسسأثير فسسي النفسسس ل غيسسر‪ ،‬والفسسن كلسسه إنمسسا هسسو هسسذا التسسأثير‪،‬‬
‫والحتيال على رجة النفس له واهتزازها بألفاظ الشعر ووزنه وإدارة‬
‫معانيه وطريقة تأديتها إلى النفسس‪ ،‬وتسأليف مسادة الشسعور مسن كسل‬
‫ما مستوًيا في نسسسجه ل يقسسع فيسسه تفسساوت ول اختلل‪،‬‬ ‫فا متلئ ً‬
‫ذلك تألي ً‬
‫ول يحمل عليه تعسف ول استكره؛ فيأتي الشعر مسسن دقتسسه وتركيبسسه‬
‫الحي ونسقه الطبيعي كأنما يقرع بسسه علسسى القلسسب النسسساني ليفتسسح‬
‫لمعانيه إلى الروح؛ والشعر العربي إذا تمت له في صسسناعته وسسسائل‬
‫التأثير وأحكم من كل جهاته‪ ،‬كان أسمى شعر إنساني فسستراه يطسسرد‬
‫بألفاظه الجميلسسة السسسائغة وكسسأنه ل يحمسسل فيهسسا معسساني‪ ،‬بسسل يحمسسل‬
‫حركات عصبية ليس بينها وبين أن تنساب في الدم حائل‪ ،‬فما يكون‬
‫إل أن يغمرك بالطرب ويهزك من أعماق النفسسس ويسسورد عليسسك فسسي‬
‫نفحة الروح ما إن تدبرته في نفسك وأفصسسحت عنسسه شسسعورك رأيتسسه‬
‫في حقيقته وجهًسسا مسن نسسسيان الحيسساة الرضسسية والنتقسسال إلسسى حيسساة‬

‫‪217‬‬
‫أخرى من السرور والهتياج واللم والشجو يحياها الدم التأثر وحسسده‬
‫غير مشارك فيها إل من القلب‪.‬‬
‫والذين يجهلون ذلك من أمر الشعر العربي في مزاجسسه الخسساص ‪-‬فل‬
‫يعتبرونه حًيا ذا طبسساع وخصسسائص لبسسد مسسن مراعاتهسسا والنسسزول علسسى‬
‫حكمها والتلقي بما يوافقها كما ل بد من أشسسباه ذلسسك لمسسرأة جميلسسة‬
‫‪-‬تراهم يخلون بقوانين صناعته البيانية وينزلون ألفسساظه دون منازلهسسا‬
‫ويرسلون معانيه على غير طريقتها الشعرية ويبتلونه بفضول كسسثيرة‬
‫هي كالفات والمراض‪ ،‬فيأتون بنظم تقرؤه إذا قرأتسسه وأنسست تتلسسوى‬
‫كأنما يقرع على قلبك بقبضة يد عليه بحجر‪ ...‬وقسسد فشسسا هسسذا النسسوع‬
‫من الشعر في هذه اليام وأصبح لما فسد من ذوق الدب وما التاث‬
‫من أمر اللغة وما اعوج من طرق الفلسفة وما عمت به البلوى مسسن‬
‫التقليد الوروبي‪ ،‬وكثيًرا ما رأيت القصسسيدة مسسن هسسذا الشسسعر كسسامرأة‬
‫سلخ وجهها ووضعت لها جلسسدة وجسسه ميسست‪ ...‬والنسساظم مسسن هسسؤلء ل‬
‫يصرف الشعر علسسى حسسدوده النفسسسية ول يحكمسسه فيهسسا‪ ،‬بسسل تصسسرفه‬
‫اللفاظ كيف اتفقت له علسسى وجوههسسا الملتويسسة‪ ،‬وتسوسسسه المعسساني‬
‫سياسة عمياء فقسسدت باصسسرتيها معًسسا‪ ،‬ويحسسسبون كلمهسسم مسسن النسسور‬
‫العقلي‪ ،‬ولكنه النور في قطعه ثمانين ألف ميل في الثانية‪ ،‬فل يكسساد‬
‫يقال في هذا العالم‪ ،‬حتى يخرج منه وينسى ويلحق باللنهاية‪...‬‬
‫وهذا الضرب من الصناعة الفاسدة هسسو بعينسسه ذلسسك النسسوع الصسسناعي‬
‫دا‬
‫الذي أفسد الشعر منذ القرن الخامس‪ ،‬غير أن القسسديم كسسان فسسسا ً‬
‫في اللفاظ يجعلها كلها أو أكثرها محاًل من الصسسنعة‪ ،‬والحسسديث جسساء‬
‫دا في المعاني يجعلها كلها أو أكثرها محاًل من البيان‪.‬‬ ‫فسا ً‬
‫ويزعم أصحاب هذا الشعر أنهم فلسفة‪ ،‬ولكنهم كسسذلك فسسي سسسرقة‬
‫الفلسفة ل غير‪ ...‬ولو علموا لعلموا أن ألفاظ الشعر هي ألفاظ من‬
‫الكلم يضع الشعر فيها الكلم والموسسسيقى معًسسا‪ ،‬فتخسسرج بسسذلك مسسن‬
‫طبيعة اللغة القائمة على تأدية المعنسسى بالدللسسة وحسسدها إلسسى طبيعسسة‬
‫لغة خاصة أرقى منها تؤدي المعنسسى بالدللسسة والنغسسم والسسذوق‪ ،‬فكسسل‬
‫كلمة في الشعر تجتلب لمعناها من تركيبه‪ ،‬ثم لموضعها من نسسسقه‪،‬‬
‫ثم لجرسها فسسي ألحسسانه؛ وذلسسك كلسسه هسسو السسذي يجعسسل للكلمسسة لونهسسا‬
‫المعنوي في جملة التصوير بالشعر؛ وما يمر الشاعر العظيم بلفظسسة‬
‫من اللغة إل وهي كأنها تكلمه تقول‪ :‬دعني أو خذني‪.‬‬
‫وكما أنه ل بد للزهار من جو الشعة‪ ،‬كذلك لبسسد للمعسساني الشسسعرية‬
‫من جو اللغة البيانية‪ ،‬فالبيان إنما هسسو أشسسعة معسساني القصسسيدة؛ وقسسد‬
‫يحسبون أن الصناعة البيانية صناعة متكلفة ل شسسأن لهسسا فسسي جمسسال‬

‫‪218‬‬
‫الشعر ودقة التعبير‪ ،‬وما ننكر أن من البيان الجميل أشسسياء متكلفسسة‪،‬‬
‫ولكنها تنزل مسسن أسسساليب البلغسسة العالميسسة منزلسسة كمنزلسسة الظسسرف‬
‫والدل والخلعة في الحبيبة الجميلة‪.‬‬
‫إن هذه الفنسسون ليسسست مسسن جمسسال الخلقسسة والسستركيب فسسي المسسرأة‪،‬‬
‫ولكنها متى ظهرت فسسي الجمسسال الفسساتن أصسسبح بسسدونها ‪-‬وهسسو جميسسل‬
‫ما‪ -‬كأنه غير جميل أحياًنا‪.‬‬ ‫دائ ً‬
‫هنا صناعة هسسي روح الحسسسن فسسي الحيسساة‪ ،‬وصسسناعة مثلهسسا هسسي روح‬
‫الحسن‬
‫أحياًنا في البلغة*‪ ،‬وما التراكيب البيانية فسسي مواضسسعها مسسن الشسسعر‬
‫الحي إل كالملمح والتقاسيم في مواضعها من الجمال الحي؛ وكثيًرا‬
‫ما يخيل إلي حين أتأمل بلغة اللفظ الرشيق إلى جانب لفظ جميسسل‬
‫في شعر محكم السبك‪ ،‬أن هذه الكلمة من هذه الكلمة كحب رجسسل‬
‫متألق يتقرب من حب امرأة جميلة‪ ،‬وعطسسف أمومسسة علسسى طفولسسة‪،‬‬
‫وحنين عاطفة لعاطفة‪ ،‬إلى أشباه ونظائر مسسن هسسذا النسسسق الرقيسسق‬
‫الحسسساس؛ فسسإذا قسسرأت فسسي شسسعر أصسسحابنا أولئك رأيسست مسسن لفسسظ‬
‫كالشسسرطي أخسسذ بتلبيسسب لفسسظ كسسالمجرم‪ ...‬إلسسى كلمسستين همسسا معًسسا‬
‫كالضارب والمضروب‪ ...‬إلى همج ورعاع وهرج ومسسرج وهيسسج وفتنسسة؛‬
‫ما‪ ...‬ليسسس أمسسامه‬ ‫ظا ملك ً‬‫أما القافية فكثيًرا ما تكون في شعرهم لف ً‬
‫إل رأس القارئ‪.‬‬
‫وكما يهملسسون اختيسسار اللفسسظ والقافيسسة يتسسسهلون فسسي اختيسسار السسوزن‬
‫الملئم لموسيقية الموضوع فإن من الوزان مسسا يسسستمر فسسي غسسرض‬
‫من المعاني ول يستمر في غيره؛ كما أن من القوافي ما يطرد فسسي‬
‫موضوع ول يطرد في سواه‪ ،‬وإنما الوزن مسسن الكلم كزيسسادة اللحسسن‬
‫على الصوت‪ :‬يراد منه إضافة صناعة من طرب النفس إلسسى صسسناعة‬
‫الفكر‪ ،‬فالذين يهملون كل ذلك ل يدركون شيًئا مسسن فلسسسفة الشسسعر‬
‫ول يعلمسسون أنهسسم إنمسسا يفسسسدون أقسسوى الطبيعسستين فسسي صسسناعته؛ إذ‬
‫المعنى قد يأتي نثًرا فل ينقصه ذلك عن الشعر من حيث هو معنسسى‪،‬‬
‫ما وتفصيًل وقوة بمسسا يتهيسسأ فيسسه مسسن البسسسط‬ ‫بل ربما زاده النثر إحكا ً‬
‫والشسسرح والتسلسسسل‪ ،‬ولكنسسه فسسي الشسسعر يسسأتي غنسساء‪ ،‬وهسسذا مسسا ل‬
‫يستطيعه النثر بحال من الحوال‪.‬‬
‫فإذا لم يستطع الشاعر أن يأتي في نظمه بسسالروي المونسسق والنسسسج‬
‫المتلئم والحبك المستوي والمعاني الجيدة التي تخلص إلى النفسسس‬
‫خلوص طبيعسسة إلسسى طبيعسسة تمازجهسسا‪ ،‬ورأيتسسه يسسأتي بالشسسعر الجسسافي‬
‫الغليسسظ واللفسساظ المسسستوخمة السسرديئة والقافيسسة القلقسسة النسسافرة‬

‫‪219‬‬
‫والمجازات المتفاوتة المضسسطربة والسسستعارات البعيسسدة الممسسسوخة‬
‫‪-‬فاعلم أنه رجل قسسد باعسسده اللسسه مسسن الشسسعر وابتله مسسع ذلسسك بزيسسغ‬
‫الطبيعة وسرف التقليد‪ ،‬فما يجيء الشعر على لسسسانه فسسي بيسست إل‬
‫بعد أن يجيء اللغو على لسانه في مائة بيت أو أكثر أو أقل‪.‬‬
‫ذلك قولنا في فن الشسساعر‪ ،‬أمسسا الكلم فسسي مسسوهبته السستي بهسسا صسسار‬
‫شاعًرا وعلى مقدارها يكون مقداره واتصال أسبابه أو انقطاعها من‬
‫الشعر‪ ،‬فذلك باب ل يمكن بسط المعنى فيه ول تحصسسيل دقسسائقه إل‬
‫إذا صورت روح الشاعر الدقيق المعجز ووزنت فسسي ميزانهسسا اللهسسي‬
‫وعرف نقصها إن نقصت وتمامها إن تمت‪ ،‬وأمكن تتبع مواقعهسسا مسسن‬
‫أسرار الشياء ومساقطها من منازل اللهام‪ ،‬وهذا مسسا ل سسسبيل إليسسه‬
‫ضسسا‪ ،‬وقسسد‬‫إل بالتوهم النفسسسي‪ ،‬فسسإن الرواح القويسسة يلمسسح بعضسسها بع ً‬
‫تكون لمحة الروح الشاعرة لروح مثلها هي تدبرها ووزنها وإدراك ما‬
‫تنطوي عليه كما ترى من وضع النور بإزاء النور‪ ،‬فإن هذا الوضع هسسو‬
‫نفسه وزن لكليهما في ميزان البصر دون أن يكسسون ثمسسة موازنسسة إل‬
‫في التألق والشعاع؛ فهما في هذه الحالسسة نسسوران يضسسيئان‪ ،‬ولكنهمسسا‬
‫ضا كلمتان يبينان عما فيهما من الكثر والقل‪.‬‬ ‫أي ً‬
‫لهذا قلنا‪ :‬إن الشاعر ل يستع لنقسسده و ليحيسسط بسسه إل مسن كسسانت لسسه‬
‫روح شعرية تكافئه في وزنها أو تربى على مقداره؛ فإن هناك قسسوى‬
‫قا هو روح الشسسعر وروح‬ ‫روحية لدراك الجمال وخلقه في الشياء خل ً‬
‫فنه‪ ،‬وقوى أخرى لصلة العواطف بالفكر صلة هي سر الشسسعر وسسسر‬
‫فنه‪ ،‬وقوى غير هذه وتلك لتحويل ما يخالج النفس الشسساعرة تحويسسل‬
‫المبالغة التي هي قوة الشعر وقوة فنه؛ وبمجموع هذه القسسوى كلهسسا‬
‫تمتاز روح الشاعر من غير الشاعر‪ :‬أما ما تمتاز به هسسذه السسروح مسسن‬
‫روح شاعرة مثلها فهو ما يكون من تفاوت المقادير التي يهبهسسا اللسسه‬
‫وحده‪ ،‬فيخص شاعًرا بالزيسسادة وآخسسر بسسالنقص‪ ،‬ويهسسب أسسسبابها السستي‬
‫تكون عنها فيوسع لواحد ويضيق على الخر؛ وإذا تمسست تلسسك القسسوى‬
‫واستحكمت تهيأ منها للشاعر جهاز عصبي خالص هو جهاز التوليسسد ل‬
‫يمر به معنى إل تجسد فيه بصورة غير صورته‪.‬‬
‫وقد استوفينا الكلم على ذلك في مقالنسسا "سسسر النبسسوغ فسسي الدب"‪.‬‬
‫وهو ل غير سر العبقرية‪.‬‬
‫فأمثل الطرق في نقد موهبة الشاعر إدراكها بالروح الشعرية القوية‬
‫من ناحية إحساسها والنفاذ إلى بصيرتها‪ ،‬واكتناه مقادير اللهام فيها‪،‬‬
‫وتأمل آثارها في الفرح والحزن بأشجى وأرق ما تهتسساج فسسي النفسسس‬
‫الحساسة‪ ،‬ومعرفة قوة التحويسسل فسسي عواطفهسسا للمعسساني النسسسانية‬

‫‪220‬‬
‫والطبيعة تحويًل يجعل القسسوة أقسسوى ممسسا تبلسسغ‪ ،‬والحقيقسسة أكسسبر ممسسا‬
‫تظهر‪ ،‬وتأتي بكل شيء ومعه شيء؛ وليس ينتهي الناقد إلى ذلك إل‬
‫بالبحث في الغراض أي "المواضيع" السستي نظسسم فيهسسا الشسساعر ومسسا‬
‫يصله بها من أمور عيشه وأحوال زمنه وكيف تناولها من ناحيته ومن‬
‫ناحيتها وماذا أبدع‪ ،‬ثم في أي المنازل يقع شعره من شعر غيره في‬
‫تاريخ لغته وآدابه‪ ،‬ثم نظرته الفلسفية إلى الحياة ومسائلها واتساعه‬
‫لفراحها وآلمهسسا وقسسوة أمسسواجه الروحيسسة فسسي هسسذا البحسسر النسسساني‬
‫الرجاف المتضرب الذي يبلغ فسسي نفسسوس بعسسض الشسسعراء أن يكسسون‬
‫كالقيانوس وفي بعضها أن يكون كالمستنقع‪ ...‬ثسسم دقسسة فهمسسه عسسن‬
‫وحسسي الطبيعسسة والشسسراف علسسى جليسسة معناهسسا بالهمسسسة واللمسسسة‪،‬‬
‫وتسقط إلهام الغيب منها باليماءة واللحظة؛ وهذا كلسسه ل يستوسسسق‬
‫للناقد العظيم إل إذا كان مع روحه الشعرية التي اختص بهسسا محيط ًسسا‬
‫مسسا لسسسباب الموازنسسة‬‫بآثار الشعراء في لغته‪ ،‬بصسسيًرا بمآخسسذها؛ محك ً‬
‫بينها‪ ،‬متصرًفا مع ذلك بأداة قوية مسن صسناعة اللغسة والبيسان وفنسون‬
‫الدب‪.‬‬
‫وإذا كان من نقد الشعر علم فهو علم تشريح الفكار‪ ،‬وإذا كان منسسه‬
‫فن فهو فن درس العاطفة‪ ،‬وإذا كان منه صناعة فهي صناعة إظهار‬
‫الجمال البياني في اللغة‪...‬‬

‫‪‬‬

‫‪221‬‬
‫فيلسوف وفلسفة ‪1‬‬

‫أتأمل الن هذا القلم في يدي ‪-‬وأنا أفكر فيما سأكتبه للزهراء‪ -‬فأرى‬
‫عا حمسًرا فسسي لسسون المرجسسان‪ ،‬تنسسسرح قليًل‪ ،‬ثسسم‬ ‫نصسساب القلسسم أضسسل ً‬
‫تستدير‪ ،‬ثم تستدق‪ ،‬ثم تخرج منها قادمة سوداء كأنهسسا قصسسبة ريشسسة‬
‫من جناح‪ ،‬وقد خيل إلي أن هذا اللون الحمر المزهو يقول للسسسود‪:‬‬
‫إنما أنت غلطة الذي صنعني‪ ،‬فكيف ألهم في اللهام فوسسسمني بهسسذا‬
‫الميسم من حسن ولون وتركيب‪ ،‬ثم اعترضته الغفلة فيسسك فأخطسسأ‪،‬‬
‫وأدركه العجز فلم يميز‪ ،‬ودخل على رأيه الوهن فإذا هسسو يصسسلك بسسي‬
‫كالسيئة بعد الحسنة‪ ،‬وينزلك مني منزلة القبسسح مسسن الجمسسال! فسسأين‬
‫كانت صحة رأيه التي بلغ بها في أحسن ما وفق إليه حيسسن بلسسغ فيسسك‬
‫أسوأ ما يمكن أن يصنع؟ فيقول السود؛ إنما فيك أنت غلطة الصانع‬
‫وبك أخطأ جهة الفن‪ ،‬فلم يزن منك ما كان وزن منسسي‪ ،‬ول قسسدر لسسك‬
‫ظا غيسسر مقسسدود‪ ،‬وكنسست إلسسى العسسرض ولسسم‬ ‫مثل ما قد لي‪ ،‬وجئت غلي ً‬
‫تكن إلى الطول‪ ،‬وكنت أحمر ولسسم تكسسن أسسسود؛ ومسسا أراك إل فاسسسد‬
‫الحس‪ ،‬متغير الذوق‪ ،‬وما أراك صنعك هذا الرجل إل في سسساعة هسسم‬
‫قاربت بين نفسه ورأيه‪ ،‬فما زجت بيسسن رأيسسه وعملسسه‪ ،‬فجمعسست بيسسن‬
‫عمله وغلطه‪.‬‬
‫ذلك منطق اللونين فيما أدركت منهما‪ ،‬وكلهما مخطئ في جهة مسسا‬
‫هو مسسستدل بسسه أو متنظسسر فيسسه؛ والحقيقسسة مسسن ورائهمسسا‪ ،‬إذ الحكمسسة‬
‫ليسست فسي أحسدهما لحمسزة أو سسواد‪ ،‬بسل هسي فسي اثنيهمسا جميًعسا‬
‫لئتلفهما جميًعا‪ ،‬فل تنقسم عليهما قسسسمة مسسا؛ لنهسسا آتيسسة بالمقابلسسة‬
‫دا واحد ل نصف لسسه؛‬ ‫دا إل من اثنين فهو أب ً‬‫بين اثنيهما‪ ،‬وما ل يخرج أب ً‬
‫كالطفل من أبويه‪ :‬لن تعرف شطره من أمه لنك لن تعرف شطره‬
‫من أبيه‪.‬‬
‫دا فيجعلسسه طفليسسن‬ ‫أفي الرض كلها من يستطيع أن يقسم طفًل واح ً‬
‫تعتدل بهما الحياة وتمدهما بروحين مسن روح واحسسدة؟ إنسك لسن تجسد‬
‫هذا الخالق الرضسسي ‪ ...‬إل فسسي طسسائفتين‪ :‬الولسسى قسسوم مسسن ذاهسسبي‬
‫العقول يخلقون كل شيء لنهم ل يخلقون شيًئا؛ والثانية قسسومن مسسن‬
‫جبابرة العقول‪ ...‬تعرف لهم من الخلط وسسسخف السسرأي مسسا يريسسدون‬
‫أن يعلوا به على الناس؛ إذ كان الناس ل يجسساوزون الحقسسائق‪ ،‬فظسسن‬
‫هؤلء أنهم إن جاوزوها وعدوا عليها خرجوا إلسسى طبقسسة فسسوق العقسسل‬
‫النساني‪ .‬وللجنون طرفان‪ :‬أحدهما أل يعقل المجنسسون عسسن النسساس‪،‬‬
‫والخر أل يعقل الناس عن العاقل‪ :‬فذلك ذلك وهذا هسسذا؛ وكسسأن فسسي‬

‫‪222‬‬
‫رأس كل منهما مضمرة من قوة الخلق تنطوي على محجوبة إلهيسسة‪،‬‬
‫فكل منهما يزيد في الخلق ما يشاء‪ ،‬وكل منهما فسسوق الطبيعسسة لنسسه‬
‫من ذوي السرار المجهولة التي ل تستبين عندنا مسسن خفائهسسا‪ ،‬ثسسم ل‬
‫تخفى عندهم من استبانتها‪.‬‬
‫يضحكني من جبابرة العقسسول هسسؤلء أنهسسم يسسرون السسدين مسسرة عسسادة‪،‬‬
‫دا؛ وكسسل ذلسسك لهسسم رأي‪،‬‬ ‫عا‪ ،‬وحيًنا خرفة‪ ،‬وطسسوًرا اسسستبعا ً‬‫وتارة اخترا ً‬
‫وكل ذلك كانوا يعقدونه بالحجة ويشدونه بالدليل؛ فلمسسا جسساء طسساغور‬
‫الشاعر الهندي المتوصف إلى مصر‪ ،‬وجلسوا إليه وسمعوه‪ ،‬خرجسسوا‬
‫يتكلمون كأنما كانوا في معبد‪ ،‬وكأنما تنزلت عليهم حقيقتسسه اللهيسسة‪،‬‬
‫وكأنما اتضعت هذه الدنيا عن المكسسان السسذي جلسسس فيسسه الرجسسل‪ ،‬فل‬
‫يعرفونه من الرض‪ ،‬ول من هذا العالم؛ بل كانوا في غشية قد فسسروا‬
‫لها وسكنوا إليها‪ ،‬وما أراهم صرفوا عن عقولهم ول صرفت عقولهم‬
‫عنهم؛ ولكن طسساغور شسساعر فيلسسسوف‪ ،‬وهسسم يعرفسسون أنفسسسهم مسسن‬
‫لصسوص كتبسه وآرائه‪ ،‬ويقعسسون منسه موقسسع السفسسطة الفارغسة مسن‬
‫البرهان القائم‪ ،‬وإذا قيسوا إليه كانوا كالذباب تزعسسم أنفسسسها نسسسور‬
‫المزابل‪ ،‬ولكنها ل تكابر في أن من الهزؤ بها قياسها بنسور الجو‪.‬‬
‫لقد ضربهم طاغور‪ ،‬ل بأنه لمسهم‪ ،‬بل بسسأنهم لمسسسوه ‪ ...‬وفضسسحهم‬
‫فضيحة اللؤلؤة للزجاج المدعى أنه لؤلؤ‪ ،‬وأظهر لنا تجملهم العقلسسي‬
‫كهذه الصباغ في وجه الشوهاء‪ :‬تذهب تتصنع ول تدري أنسسه إن كسسان‬
‫أدهانها وأصباغها روح النقاش ففي وجهها هي معنى الحائط!‬
‫لقد قرأت كل ما كتبوا عن طاغور ألتمسسس فيسسه هسسذه الحقيقسسة لرى‬
‫كيف يكون جبابرة العقول حين تنكشف عنهم المعاذير وتنزاح العلل‬
‫وتنهتسسك السسستار‪ ،‬فسسإذا هسسم فسسي كسسل مسسا كتبسسوه ل يحسسسون إل هسسذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬ول يصفون إل هذا الحس‪ ،‬فلم يزهم عندنا إل هذا الوصف؛‬
‫مسسا لهسسم‪،‬‬
‫ل جرم فكل ما أثنوا به على الشسساعر الفيلسسسوف قرأنسساه ذ ً‬
‫حا فيهم‪ ،‬وأخذناه تهمسسة عليهسسم‪ ،‬وكسسل مسسا أعظمسسوه مسسن‬ ‫وعرفناه قد ً‬
‫أمره صغر من أمرهم‪ ،‬ولقد جعلواه إنسسساًنا كأنمسسا تنتهسسي قمسسة هسسذه‬
‫الدنيا عند قدمه‪ ،‬وتبدأ قدمه مسن قمسة السدنيا‪ ،‬فمسا عرفنسا مسن ذلسك‬
‫سسسا لنحطسساط أنفسسسهم‬ ‫سا لسمو طاغور وارتفسساع نفسسسه‪ ،‬بسسل قيا ً‬ ‫قيا ً‬
‫وهوان أمرهم وقلة خطرهم؛ فإن الرجسسل المقلسسد المخسسدوع ل يسسزال‬
‫يطول في تقليده‪ ،‬ول يزال يتوعر فسسي السسرأي السسذي يسسراه ويعتسسسف‬
‫طسسرق العلسسم اعتسسساًفا؛ حسستى يرميسسه اللسسه بأصسسل مسسن هسسذه الصسسول‬
‫النسانية التي يقلدها؛ فإذا هو مفحم يتقاصر من طول‪ ،‬ويتسهل من‬
‫وعر‪ ،‬ويهتدي مسسن تعسسسف‪ ،‬وينحسسط إلسسى الوهسسدة بعسسد أن كسان علسسى‬

‫‪223‬‬
‫الجبل‪ ،‬ويسلم في نفسه‪ ،‬ويذعن برأيه‪ ،‬وينقاد من حيث يسسأبى ومسسن‬
‫حيث ل يأبى‪ ،‬ويصبح وقد غمرته تلك النفس أشبه بالظل مما يرميسسه‬
‫ويفيء به؛ فهو مسخ في تمثيله الصورة‪ ،‬وهو كذب عليها بما يطسسول‬
‫ويقصر‪ ،‬وهو على كل أحواله إبهام سسسخيف مظلسسم لحقيقسسة شسسريفة‬
‫نيرة‪.‬‬
‫وأنت أفل تسسرى هسسذا مسن جبسسابرة العقسسول كتلسسك الشسسيمة فسسي أخلق‬
‫دا إل أن يكونسوا تبًعسا‪ ،‬ول علسم لهسم إل مسا‬ ‫العامسة‪ ،‬إذ ل يصسلحون أبس ً‬
‫يربط في صدورهم من فلن وفلن‪ ،‬ثم يعملون بل تحقيق‪ ،‬ويحملون‬
‫بل تمييز‪ ،‬ثم ل تكون نهمة أنفسهم مسسع الرجسسل العسسالم ‪-‬إذا اجتمعسسوا‬
‫به‪ -‬إل في التسليم له‪ ،‬واتقاء حقائقه‪ ،‬والنزول عن آرائهم إلى رأيسسه‪،‬‬
‫والخروج من أنفسهم إلى نفسه!‬
‫لقد قلنا من قبل‪ :‬إن جبابرة العقول هؤلء الذين يأبون إل أن يكونوا‬
‫علماءنا وسادتنا؛ ليصسسرفوا عقولنسسا ويغيسسروا عقائدنسسا ويصسسلحوا آدابنسسا‬
‫ويسسدخلونا فسسي مسسساخط اللسسه ويهجمسسوا بنسسا علسسى محسسارمه ويركبونسسا‬
‫معاصسسيه‪ -‬إن هسسم فسسي أنفسسسهم إل عامسسة وجهلسسة وحمقسسى إذا وزنسسوا‬
‫بعلمسساء المسسم وقيسسسوا إلسسى حكمسساء السسدنيا‪ ،‬ومسسا يكتبسسون للمسسة فسسي‬
‫نصسسيحتها وتعليمهسسا إل مسسا يتحسسول مسسن كلمسسات وجمسسل فسسي الصسسحف‬
‫والكتسسب إلسسى أن يصسسيروا فسسي الواقسسع فسسساًقا وفجسسرة وملحسسدين‬
‫وساخرين ومفسدين؛ فالمصيبة فيهم من ناحية العلسسم النسساقص فسسي‬
‫وزن المصيبة بهم من ناحيسسة الخلسق الفاسسد‪ ،‬وهاتسان مًعسا فسسي وزن‬
‫المصيبة الكبرى التي يجنون بها على المة لتهسسديمها فيمسسا يعلمسسون‪،‬‬
‫وتجديدها فيما يزعمون‪..‬‬
‫لم أنخدع قط في هؤلء مسن فلسسفة أو دكساترة أو جبسابرة‪ ،‬ولسست‬
‫أضع أمرهم إل على حقه‪ ،‬فإني لعسسرف أن الهسسر مسسن قبيلسسة السسسد‪،‬‬
‫ولكن أسديته على الفأرية وحدها‪ ...‬ولعلما عاقبة الجهل خيسسر للمسسة‬
‫من عواقب علمهم وتخبطهم وحماقاتهم فإنهم قوم مقلسسدون‪ ،‬ولهسسم‬
‫طباع معتلة زائغسسة‪ ،‬وعقسسول ل مسساك لهسا مسسن ديسسن أو ضسسمير؛ فمسسا‬
‫يجنحون إل إلى بدعة سسسيئة‪ ،‬أو آفسسة محسسذورة‪ ،‬أو فكسسرة متهمسسة؛ ول‬
‫يعملون إل ما يشبه الظسسن بهسسم‪ ،‬والسسرأي فيهسسم؛ مسسن تمسسدين الخلق‬
‫حا يحكسسم‬ ‫السافلة وإلحاقها بالعلم أو الفلسفة‪ ،‬مع بقاء العقسسل صسسحي ً‬
‫على هذا الخبيث كما كان يحكم على ذلك الطيب؛ وليس من سسسبيل‬
‫إلى هذا إل من جهة تحويل الخلق‪ ،‬فإن هي استمسكت ولم تتحول‬
‫فيها هنا موضع النزاع ومحل الخلف‪ ،‬ول بد مسسن حسسرب منسسا كحسسرب‬
‫الستقلل‪ ،‬ثم حرب منهم كحرب الستعمار‪...‬‬

‫‪224‬‬
‫فالذي بيننسسا وبينهسسم ليسسس القسسديم والجديسسد‪ ،‬ول التسسأخر والتقسسدم‪ ،‬ول‬
‫الجمود والتحول؛ ولكن أخلقنا وتجردهم منها‪ ،‬وديننا وإلحادهم فيسسه‪،‬‬
‫وكمالنا ونقصهم‪ ،‬وتوثقنا وانحللهم‪ ،‬واعتصامنا بما يمكننسسا وتراخيهسسم‬
‫تراخي الحبل ل يجد ما يشده‪.‬‬
‫والن انظر إلى قلمي فأرى شطره السود ما جعل كسسذلك إل ليزيسسد‬
‫في جمال حمرته وبريقهسسا‪ ،‬ويكسسسبها لمعسسة ل تأتيهسسا إل مسسن السسسواد‬
‫خاصة؛ والشر خير إل إذا بقي محصوًرا فسسي موضسسعه ولسسم يتجسساوزه؛‬
‫فإذا تنبهت المة لجبابرة العقول هؤلء‪ ،‬قلنا ل بأس بالسواد المظلم‬
‫إذا كانت حكمته حمراء‪...‬‬

‫‪‬‬

‫‪225‬‬
‫شيطاني وشيطان طاغور‪1...‬‬

‫طاغور هسسذا شسساعر الهنسسد‪ ،‬مسسر بمصسسر مسسرور شسمس الشسستاء بسساليوم‬
‫المطير‪ :‬ل يقع نورها إل في القلوب مما تسسستخف وتسسستهوي‪ ،‬وممسسا‬
‫تمتنع وتتأبى‪ ،‬ومما ترق وتلطف؛ وتنقدح بين السسسحب الهاميسسة فسسإذا‬
‫لها من الجمال والسحر والعجب ما يكسسون لجمسسرة تخرجهسسا السسسماء‬
‫معجزة للناس فيرونها ترسل الشعاع مرة وتمطر الماء مرة‪.‬‬
‫لم ألق طاغور ولكني أنفسسذت إليسسه شسسطاني وقلسست أوصسسيه قبسسل أن‬
‫يخرج لوجهه‪ :‬قد علمت أن هسسذا الرجسل هنسسدي؛ ولكنسه إنسسان‪ ،‬فمسا‬
‫أرض أولى به مسسن أرض؛ وأنسسه شسساعر‪ ،‬ولكنسسه مخلسسوق‪ ،‬فمسسا طبيعسسة‬
‫أغلب عليه من طبيعة؛ وأنه حكيم‪ ،‬ولكنه تركيب ما جبلسست لسسه طينسسة‬
‫غير الطينة؛ وأنه سماوي‪ ،‬غير أنسسه سسسماوي كعلمسساء الفلسسك‪ :‬سسسماؤه‬
‫في منظار وكتاب وقلم وحبر‪ ...‬فاذهب إليه فسسداخل شسيطانه‪ ،‬فإنسك‬
‫واجد له من ذلك ما لكل الشعراء‪ ،‬وربما عرفسست شسسيطانه مسسن ذوي‬
‫قرابتك أو خالصة أهلك‪ ،‬ثم ائتني بكلمه على جهة ما هو مفكر فيه‪،‬‬
‫ل على جهة ما متكلم به؛ وخذ ما يهجس على قلبسسه‪ ،‬ودع مسسا يجسسري‬
‫في لسانه؛ فإن هذا سسسيأتي بسسه إخوانسسك مسسن "منسسدوبي الصسسحف"‪...‬‬
‫مسسا‪ .‬غيسسر أن معساني‬ ‫واعلم أن كل حكيم مهيئ لمسائل من حسسوله كل ً‬
‫من حوله مهيئة لسسه مسسسائل أخسسرى يفكسسر فسسي كسسل جسسواب عليهسسا ول‬
‫ينطق بجواب عليها‪.‬‬
‫فحدثني شيطاني بعد رجوعه قال‪ :‬حدثني شيطان طاغور قسسال‪ :‬لمسسا‬
‫هبط طاغور هذا الوادي نظر نظرة في الشمس‪ ،‬ثم قسسال‪ :‬أنسست هنسسا‬
‫وأنت هناك‪ ،‬تقربين بأثر وتبعدين بأثر‪ ،‬وتطلعين بجسسو وتغربيسسن بجسسو‪،‬‬
‫فل تختلفين وتختلف بك القاليم‪ ،‬ثم تتغير بالقاليم المسسم‪ ،‬ثسسم تتغيسسر‬
‫بالفكار والمنازع أغراضها ومصالحها‪ ،‬ثم تتغيسسر بمصسسالحها وأغرضسسها‬
‫الحقائق النسانية؛ وإنما الباطل والحق فيما تسسستقبل هسسذه الحقسسائق‬
‫أو تستدبر‪ ،‬وقد غلبت‬
‫السياسسسة علسسى كسسل شسسيء حسستى أصسسبحت هسسذه الحقسسائق النسسسانية‬
‫جغرافية‪ ،‬لها شعوب ولها مسسستعمرات؛ فالخسساء فسسي الغسسرب سسسيادة‬
‫في الشرق‪ ،‬والمساواة هناك امتياز هنا‪ ،‬والحرية في مملكة استعباد‬
‫لمملكة‪ ،‬والتحية في موضع صفعة في موضسسع والضسسيافة فسسي مكسسان‬
‫ك وَل ِسذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫م َرب ّس َ‬
‫حس َ‬
‫ن َر ِ‬ ‫ن إ ِل ّ َ‬
‫م ْ‬ ‫في َ‬
‫خت َل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫استئكال في مكان؛ }َول ي ََزاُلو َ‬
‫ن ُ‬
‫م{ ]هود‪ [119 ،118 :‬فلن يتصل الناس بالروح العلى إل من‬ ‫خل َ َ‬
‫قهُ ْ‬ ‫َ‬
‫الجهة الواحدة التي لم تتغير ولن تتغير فيهسسم‪ ،‬جهسسة السسدموع السستي ل‬

‫‪226‬‬
‫تختلف في أسود ول أحمسسر‪ ،‬والسستي ل تنبعسسث إل مسسن الرقسسة والوجسسد‬
‫والحزان واللم‪ ،‬وهي بذلك نسب كل قلب إلى كل قلب‪ ،‬فلو غمسسر‬
‫العالم كله بلء واحد ل تحرز منه أرض أهلها ول تتحسساجز المسسم فيسسه‪،‬‬
‫لستلب مطامع الناس بعضهم في بعسسض‪ ،‬وأرجسسع النسسسانية الزائغسسة‬
‫إلى مستقرها‪ ،‬فتجردوا من الدنيا وهم في الدنيا‪ ،‬فاتصسسلوا باللنهايسسة‬
‫وهم في النهاية؛ فإن لسم يكسن بلء عسام ففكسر عسام فسي بلٍء يميست‬
‫الشهوات المتطلقة ويكون كالداء تلبسسس بسسالجنس النسسساني كالسسذي‬
‫تصفه الديان من جهنم والمصير إليها والحساب عندها والجزاء على‬
‫الشر بها‪ ،‬حتى ل تبقى نفس إل وهي في وثاق من حللها وحرامهسسا‪،‬‬
‫ول يبقى شر يتخيل أو يشتهى إل وهسسو كالمتسساع النفيسسس بيسسن أربعسسة‬
‫صا‪ ،‬فإن لسسم يكسسن‬‫جدران تتساقط وتحترق ل يجد في كل اللصوص ل ّ‬
‫هذا ول ذاك فالحب العام حتى ل يبقى جيسسش ول سسسلح ول سياسسسة‬
‫ول دول‪ ،‬ول تكون الممالك إل بيوًتا إنسانية بين الواحدة والكسسل مسسن‬
‫الشابكة واللحمة ما بين الكل والواحدة‪ ،‬وحتى تقول مصر لنجلسسترا‪:‬‬
‫يا بنت عمي‪ ...‬فإن استحال كل هذا فالحرية العامة علسسى أن تكسسون‬
‫دا‬
‫محدودة من كسسل جهاتهسسا بالشسسعر‪ ،‬وعلسسى أن يكسسون الشسسعر محسسدو ً‬
‫بالطبيعة والطبيعة محدودة بسالله‪ ،‬فينستزع النسوم مسن الرض لتتصسل‬
‫اليقظة بالحلم‪ ...‬من طريق غير النوم‪.‬‬
‫قال شيطان طاغور‪ :‬ثم ابتأس طاغور وقال‪ :‬كسسل ذلسسك مسسستحيل أو‬
‫كالمستحيل ولكنه في المسسل ممكسسن أو كسسالممكن؛ وللفسسظ معنيسسان‪:‬‬
‫أحدهما ما يكون‪ ،‬والثاني ما يحسن أن يكون؛ ذلك ل بد له منا؛ لنسسه‬
‫جانب النظام اللهي‪ ،‬وهذا ل بد لنا منه؛ لنه جانب الخيال النساني؛‬
‫ذلك من الطبيعة التي تعمل ول تتكلم‪ ،‬وهذا من الشعر السسذي يتكلسسم‬
‫ول يعمل‪ .‬آه آه! إنما السسسلم العسسام أن يكسسون الوجسسود شسسركة إلهيسسة‬
‫إنسانية برضى واتفاق بين الطرفين‪ ...‬ولعمري إن كل المسسستحيلت‬
‫ممكنة بالضافة إلى هذا المستحيل‪ .‬ثم تبسم طاغور إذ خطر له أنه‬
‫شاعر عليه أن يصف الوردة ويقول فيها مسسا يجعلهسسا بيسست شسسعر فسسي‬
‫كتاب الطبيعة له وزن ونغم‪ ،‬ولكن على الطبيعة قبل ذلسسك أن تنبتهسسا‬
‫ناضرة عطرة جميلة تتميز عن غيرها برائحة ولون وشكل‪.‬‬
‫قال شيطانه‪ :‬ولما انتهى من تسسأمله إلسسى هسسذه الخسساطرة قسسدمت لسسه‬
‫سيدة هندية عقود الزهر‪ ،‬وبينا هي تقلده إياهسسا قسسال فسسي نفسسسه‪ :‬إن‬
‫هذه الزهار من معاني الماء العذب؛ فإذا انطلقنسسا فسسي أوهامنسسا وراء‬
‫الحب العام والسلم العام فلمن تكون معاني الماء الملح‪ ،‬وهو ثلثة‬
‫أرباع الرض‪ ،‬ومن أزهاره السطول النجليزي‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫حدثني شسسيطاني قسسال‪ :‬حسسدثني شسسيطان طسساغور قسسال‪ :‬ولمسسا اسسستقر‬
‫طاغور في قصر شسسوقي بسك ورآه فسسي مثسل حسسن السدينار ونقشسه‬
‫ونفاسته‪ ،‬قال‪ :‬ل جرم هذه أمة أغنت شاعرها‪ ،‬فما أخطسسئ التقسسدير‪،‬‬
‫وإن أخطأته فل أبعد عن المقارنة إذا حسبت أن هسسذا الشسساعر يطبسسع‬
‫لهذه المة نصف مليون نسخة من كل ديوان شعر أو دفتر حكمة أو‬
‫كتاب قصة‪ ،‬وليتني أعرف العربية لعسسرف كيسسف يبسسدع هسسذا الشسسعب‬
‫فلسفته في أغانيه المتصلة بغيوم السماء المتكلم بأحسن وأطهر ما‬
‫يمكن أن يكون ترجمة للحقيقة الخالدة التي يتوارثها شعب خالد‪.‬‬
‫الشعر فكرة الوجود في النسان‪ ،‬وفكرة النسسسان فسسي الوجسسود‪ ،‬ول‬
‫يكفي أن يخلق هذا النسان مرة واحدة مسسن لحسسم ودم‪ ،‬بسسل لبسسد أن‬
‫يخلق مرة أخرى من معان وألفاظ‪ ،‬وإل خرج حيواًنا أعجم؛ فالشاعر‬
‫يبدع أمة كاملة‪ ،‬إن لم يخلقها فإنه يخلق أفكارها الجميلسسة وحكمتهسسا‬
‫الخالسسدة وآدابهسسا العاليسسة وسياسسستها الموفقسسة ومسسا أحسسسب النهضسسة‬
‫المصرية إل بالغاني والناشيد‪ ،‬فتأتي من انجلسسترا جنسود وتخسرج لهسسا‬
‫ما حين قلت مرة‪:‬‬ ‫من دور الغناء والتمثيل جنود أخرى؛ لقد كنت مله ً‬
‫"إن الله يخاطب الناس عن طريق الموسيقى"*‪.‬‬
‫نعم عن طريق الموسيقى‪ ،‬فكل شيء هو موسيقى في نفسه حسستى‬
‫ضسسا‪ ،‬فسسإن صلصسسلة السسسلحة‬ ‫حين يتطسساحن النسساس ويذبسسح بعضسسهم بع ً‬
‫ودوي القنابل وأزيز الرصاص وتصايح الجند ‪-‬كل ذلك لحن أعده الله‬
‫جلت قدرته "وموسيقاه"‪ ...‬لجنازات المم‪.‬‬
‫حدثني شيطاني قال‪ :‬حدثني شيطان طاغور قال‪ :‬ولما رأى طسساغور‬
‫الستاذ الفاضل مدير الجامعة المصرية ‪-‬وهي التي دعتسسه إلسسى إلقسساء‬
‫محاضرته‪ -‬قال‪ :‬نعم وحًبا وكرامة‪ ،‬إنه ل يستقيم في العقل أن تدعو‬
‫هذه الجامعة شاعًرا روحانّيا مثلي إل وهي فلسك نيسر يعسده اللسه مسن‬
‫نجومه‪ ،‬وما أحسب أستاذ آدابها العربية إل تلك الذرة اللؤلؤيسسة السستي‬
‫كانت تجاورني في طينة الخلق الزلية‪ ،‬فلو أن الذرات الثماني السستي‬
‫كانت حولنا خلقت في عصرنا هسسذا وتسسوزعت علسسى المسسم الفلسسسفية‬
‫لكنا وإياها كوصسسايا اللسسه العشسسر فسسي هسسذا العصسسر المسسادي‪ ...‬ولملنسسا‬
‫طياتها إيماًنا بالله‪ ،‬ولصار الله ‪-‬تعالى‪ -‬في أرضه عشر آلت سماوية‬
‫لسسسلكية بينسسه وبيسسن الخلسسق‪ ،‬تبسساهي الجامعسسة المصسسرية بسسأن فيهسسا‬
‫إحداها‪ ...‬لقد نغسسص علسسي هسسذه الشسسيخوخة أنسسي لسسم أتعلسسم العربيسسة‪،‬‬
‫وكيف لسسي بسسأن أرتسسل أناشسسيد أسسستاذ الداب فسسي الجامعسسة المصسسرية‬
‫لستمتع بألحانه السماوية في شعره وأغانيه‪ ،‬وأسسسمع الملئكسسة مسسن‬
‫هذه المئذنة النسسسانية فسسي الجامعسسة تهتسسف بكلمسسة السسسلم الرهيبسسة‬

‫‪228‬‬
‫صارخة بحقيقة الوجود في الوجود‪ :‬الله أكبر الله أكسسبر‪ ،‬أشسسهد أن ل‬
‫إله إل الله‪...‬‬
‫قال شيطاني‪ :‬وكسسان شسسيطان السسدكتور طسسه حسسسين أسسستاذ الجامعسسة‬
‫قسسا إن مسسن‬
‫م بما في نفسسس طسساغور قسسال لسسي‪ :‬ح ّ‬ ‫حاضًرا معنا‪ ،‬فلما أل ّ‬
‫الخير أن ل يعرف هذا الهنسسدي اللغسسة العربيسسة؛ لنسسه لسسو عسسرف اللغسسة‬
‫العربية لما أرضسسته اللغسسة العربيسسة ول أداب اللغسسة العربيسسة ول أسسستاذ‬
‫آداب اللغة العربية! فقلت‪ :‬اسكت ويحسسك ودع الرجسسل فسسي أحلمسسه‪،‬‬
‫ول تكن غيمة سمائه المشرقة؛ أما تسسراه يحلسسم‪ ،‬أمسسا سسسمعته يقسسول‪:‬‬
‫"والحقيقة من حيث هي جمال ليس يعدله جمال؛ ألسسست تسسرى إلسسى‬
‫صورة هذه المرأة العجوز أبدعها فنان ماهر‪ ،‬إنك تنظر إلى الصسسورة‬
‫فتقر بجمالها‪ ،‬ولكن المرأة العجوز التي فيها ليست على شيء مسسن‬
‫الجمال؛ لكنما جمال الصورة أنهسسا تمثسسل هسسذه المسسرأة العجسسوز علسسى‬
‫حقيقتها*"‪ ،‬فهذه كلمات في سبحات النور‪ ،‬وهسسي مسسن لغسسة السسسماء‬
‫ذات الكواكب ل من لغة النفس ذات العواطف؛ وإل فهل يصسسح فسسي‬
‫العقل أن تصوير العجوز التي اضطرب ميسسزان الخلسسق فيهسسا حسستى ل‬
‫يزن منها إل بقايا الخلقة وأنقاض العمر وخرائب المرأة‪ ...‬يكون بمسسا‬
‫يظهر من شوهتها وتهدمها وتشنن جلدها وموت ظاهرها ‪-‬جماًل فسسي‬
‫حا لملئت‬ ‫الصورة؛ لنه قبيح في الصل؟ أفليس لسسو كسسان ذلسسك صسسحي ً‬
‫المتاحف والقصور بألواح العجائز‪ ،‬ولما بقيت علسسى الرض عجسسوز إل‬
‫ذهبت لحد المصورين تقول له‪ :‬اخلقني!‪...‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* هذه العبارة مما ترجمته السياسة من محاضرة طسساغور‪ ،‬وإذا قيسسل‬
‫إن الصناعة في نقل الصورة محكمة فليس معنى ذلسسك أن الصسسورة‬
‫جميلة‪ ،‬والمعنى الذي يرمي إليه الشسساعر معسسروف وقسسد كتبنسساه فسسي‬
‫"السحاب الحمر" ولكنه أخطأ في العبارة عنه أو أخطأت الترجمة‪.‬‬
‫حدثني شسسيطان قسسال‪ :‬حسدثني شسسيطان طسساغور قسسال‪ :‬وكسسان طسساغور‬
‫رطب اللسان في محاضرته كأن غابة من غابات الهند أمدته بكل ما‬
‫اعتصرته الشمس فيها ماء وحياة ونضرة‪ ،‬فهسسو فسسي كلمسسه ومعسسانيه‬
‫ورق وزهر ونسيم وظل وحفيف وتغريسسد‪ ،‬يسسسحر النسساظر؛ إذ ل يسسرى‬
‫الناظر شكله النساني فيه‪ ،‬بل يراه شسسيًئا مسسن خيسساله كأنمسسا انفصسسل‬
‫ما في المرأة فإذا خيالسسك‬ ‫منه فتمثل بشًرا سوّيا‪ ،‬ولو أنك اطلعت يو ً‬
‫فيها يكلمك ويستأنسك ويطلف لك‪ ،‬لما أدهشك من ذلك ول أطربك‬
‫ول استخرج من عجبك وذهولك إل كالذي يعتري نفسك حين يكلمك‬
‫طاغور؛ وتراه يستخلص آراءه المتصرفة بكلمه مسسن روح النسسواميس‬

‫‪229‬‬
‫اللهية المدبرة للكون‪ ،‬فتحسه يضيق إليك زيادة ليست فيسسك؛ فممسسا‬
‫كبرت به تصغر نفسك عندك بين يديه؛ ثسسم هسسو يتصسسل بروحسسك مسسرة‬
‫في جلل حب الب لطفله‪ ،‬ومرة في رقة فسسرح الطفسسل بسسأبيه؛ فسسإذا‬
‫أنت منه بموقف عجيب من معجزة إنسانية تروعك بطفل شسسيخ قسسد‬
‫اجتمع فيه طرًفا العمر وجاء كأنه مظهر روحه التي ل عمر لها‪.‬‬
‫إنسان كهربائي يحاول أن يزيد في تركيب الناس عظمسسة مسسن حديسسد‬
‫أو عصًبا من سلك؛ لتصل بهم جميًعا تلك الشعلة الطائفة؛ فسسإذا هسسم‬
‫م{‬ ‫َ‬ ‫خلسسق آخسسر كأهسسل الجنسسة‪} :‬يس سعى نسسورهُم بي س َ‬
‫مسسان ِهِ ْ‬
‫م وَب ِأي ْ َ‬
‫ديهِ ْ‬
‫ن أي ْس ِ‬
‫ُ ُ ْ َْ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫]الحديد‪[12 :‬؛ ولكنه بصر وهو خسسارج مسسن المسسسرح بسسإعلن السسسيما‬
‫التي تجاوره وما عليه من التصاوير والتهاويل‪ ،‬فقال في نفسه‪ :‬بعسسد‬
‫قليل تجيء إلى هنا لندن وباريس ونيويورك وغيرهسسا مسسن أرض اللسسه‬
‫بناسها وحيوانها ونباتهسسا‪ ،‬يراهسسا الجالسسسون رأي العيسسن ويتصسسلون بهسسا‬
‫دا ل يجعلهم فيها ولكنه ل يخليهم منها؛ ويجب لعمران هذه‬ ‫اتصاًل بعي ً‬
‫الرض أن يبقى أهسسل مصسسر فسسي مصسسر فل يسسدعوها جميعًسسا؛ ليتصسسلوا‬
‫جميعا بما تشتاقه أنفسهم مسسن بسساريس أو غيسسر بسساريس مسسن حقسسائق‬
‫العالم الكبرى‪ ،‬ول يحسن هذا التصال إل إذا خص ولم يعسسم‪ ،‬فيقسسوم‬
‫به الواحد والثنان والجماعة وتبقى المسسة بمسسا هسسي وكمسسا هسسي؛ لنهسسا‬
‫بذلك وحده أمة‪ ،‬كمسسا أن النسساس بطبسسائعهم نسساس‪ ،‬والكسسون بسساختلفه‬
‫كون‪ ،‬فهيهات هيهسات الحسب العسام والسسلم العسام والتصسال العسام‬
‫بالحقيقة الروحية العليا‪ .‬ثم تبسم وقال‪ :‬مسسا أشسسبهني بهسسذه السسسيما‪،‬‬
‫غير أن شريطي ل يرى فيسسه النسساس روايسسة مسسن لنسسدن وبسساريس‪ ،‬بسسل‬
‫رواية وقعت حوادثها في جنة الخلد‪...‬‬

‫‪‬‬

‫‪230‬‬
‫فلسفة القصة ولماذا ل أكتب فيها ‪...‬؟*‬

‫لسسم أكتسسب فسسي القصسسة إل قليًل‪ ،‬إذا أنسست أردت الطريقسسة الكتابيسسة‬
‫المصطلح على تسميتها بهذا السم‪ ،‬ولكني مع ذلك ل أراني وضعت‬
‫كل كتبي ومقالتي إل في قصة بعينها‪ ،‬هسسي قصسسة هسسذا العقسسل السسذي‬
‫في رأسي‪ ،‬وهذا القلب الذي بين جنبي‪...‬‬
‫أنا ل أعبأ بالمظاهر والغراض التي يأتي بها يوم وينسخها يسسوم آخسسر‪،‬‬
‫والقبلة التي أتجه إليها في الدب إنما هي النفس الشرقية في دينها‬
‫وفضائلها‪ ،‬فل أكتب إل ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسسسمو غايتهسسا‪،‬‬
‫س من الداب كلها‬ ‫ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا ل أم ّ‬
‫مسسا أنسسي رسسسول لغسسوي بعثسست‬ ‫إل نواحيها العليا؛ ثم إنه يخيسسل إلسسي دائ ً‬
‫دا في موقسف الجيسش "تحسست‬ ‫للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه‪ ،‬فأنا أب ً‬
‫السلح"‪ :‬له ما يعانيه وما يكلفه وما يحاوله ويفسسي بسسه‪ ،‬ومسسا يتحامسساه‬
‫ويتحفظ فيه‪ ،‬وتاريخ نصره وهزيمته في أعماله دون سسسواها؛ وكيسسف‬
‫ن نفسه‪ ،‬ل فنك أنت ول فن سسسواك؛ إذ هسسو‬ ‫اعترضت الجيش رأيته ف ّ‬
‫لطريقته وغايته وما يتأدى به للحياة والتاريخ‪.‬‬
‫صسسا؟ وإن‬‫صا‪ ،‬ثم تقرأ فتبقسسى قص ً‬ ‫أل ترى أن تلك الروايات توضع قص ً‬
‫هي صنعت شيًئا في قرائها لم تزد على ما تفعل المخسسدرات؛ تكسسون‬
‫مسكنات عصبية إلى حيسسن‪ ،‬ثسسم تنقلسسب هسسي بنفسسسها بعسسد قيسسل إلسسى‬
‫مهيجات عصبية؟‬
‫وأنا ل أنكر أن في القصة أدب ًسسا عالي ًسسا‪ ،‬ولكسسن هسسذا الدب العسسالي فسسي‬
‫رأيسسي ل يكسسون إل بأخسسذ الحسسوادث وتربيتهسسا فسسي الروايسسة كمسسا يربسسي‬
‫الطفال على أسلوب سواء في العلم والفضيلة؛ فالقصسسة مسسن هسسذه‬
‫الناحية مدرسة لها قانون مسنون‪ ،‬وطريقة ممحصسسة‪ ،‬وغايسسة معينسسة؛‬
‫ول ينبغي أن يتناولها غير الفذاذ من فلسفة الفكر الذين تنصبهم‬
‫مواهبهم للقاء الكلمة الحاسمة فسسي المشسسكلة السستي تسسثير الحيسساة أو‬
‫تثيرها الحياة؛ والعلم من فلسسفة البيسان السذين رزقسوا مسن أدبهسم‬
‫قوة الترجمة عما بيسسن النفسسس النسسسانية والحيسساة‪ ،‬ومسسا بيسسن الحيسساة‬
‫وموادهسسا النفسسسية فسسي هسسؤلء وهسسؤلء‪ ،‬تتخيسسل الحيسساة فتبسسدع أجمسسل‬
‫شعرها‪ ،‬وتتأمل فتخرج أسمى حكمتها‪ ،‬وتشرع فتضع أصح قوانينها‪.‬‬
‫وأما من عداهم ممن يحترفون كتابة القصص‪ ،‬فهم في الدب رعسساع‬
‫وهمج‪ ،‬كان من أثر قصصهم ما يتخبط فيه العالم اليوم مسسن فوضسسى‬
‫الغرائز‪ ،‬هذه الفوضى الممقوتة الستي لسو حققتهسسا فسسي النفسوس لمسا‬

‫‪231‬‬
‫رأيتها إل عامية روحانية منحطسسة تتسسسكع فيهسسا النفسسس مشسسردة فسسي‬
‫طرق رذائلها‪.‬‬
‫إذا قرأت الرواية الزائفة أحسست في نفسك بأشياء بسسدأت تسسسفل‪،‬‬
‫وإذا قرأت الرواية الصحيحة أدركت مسسن نفسسك أشسسياء بسدأت تعلسسو‪،‬‬
‫تنتهي الولى فيك بأثرها السيئ‪ ،‬وتبسسدأ الثانيسسة منسسك بأثرهسسا الطيسسب؛‬
‫وهذا عندي هو فوق ما بين فن القصة وفن التلفيق القصصي!!‪.‬‬
‫‪‬‬

‫‪232‬‬
‫شعر صبري*‬

‫في الحادي والعشرين من شهر مارس من سنتنا ‪ 1‬هذه نزع الشسسعر‬


‫العربي عن رأسه عمامة المشيخة ونشرها للمسسوت‪ ،‬فكسسانت الكفسسن‬
‫الذي طوي فيه بقية شيوخ الدب‪ :‬المرحوم إسماعيل باشا صبري‪.‬‬
‫كان ‪-‬رحمه الله‪ -‬من الرجال الذين نشأوا فسسي تاريسسخ ل ينشسسئ رجًل‪،‬‬
‫وجاءوا في غير زمنهم ليجيء بهم زمنهسسم بعسسد؛ وهسسؤلء إن لسسم يكسسن‬
‫فيهم قوة أكبر من القوة‪ ،‬فهم أقدار وأحداث تولد وتنشأ وتنمسسو فسسي‬
‫صا‪ ،‬ويحسن شيًئا كان هجنسسة‪،‬‬ ‫أسلوب إنساني؛ ليتم بها شيء كان نق ً‬
‫ما؛ ثم ليكون للزمن منها حدود يبدأ عنسسد الواحسسد‬ ‫ويوجد أمًرا كان عد ً‬
‫دا‬
‫منها فيتغير فيه ويتحول به ويخرج معه في بعض معانيه زمن ًسسا جدي س ً‬
‫في رجل جديد‪.‬‬
‫كذلك كان صبري فسسي منحسسى مسسن منسساحي الشسسعر‪ ،‬وكسسان البسسارودي‬
‫‪-‬رحمهما الله‪ -‬في منحى آخر؛ فهما طرفا المحور الذي استدار عليه‬
‫خسسا حي ّسسا‪ ،‬وليخسسرج مسسن الجسسو‬
‫هذا الفلك ليبدأ بعسسد تسساريخه الميسست تاري ً‬
‫القاتم في أعراض الرض إلى الفضاء المشرق بمعاني السسسماء‪ ،‬ثسسم‬
‫لينفض عنه في مهب الريسساح العلويسسة مسسا لصسسق بسسه مسسن طبسساع أهلسسه‬
‫وأخلقهم‪ ،‬ويغلق بها ما فتح الزمن عليهم من أبسسواب هسسذه الحرفسسة‪،‬‬
‫فكان الشعر في حاجة إلى رجل كالملك‪ ،‬فأصاب رجلين؛ وعلم الله‬
‫قسسا‬
‫سا تعد معهمسسا‪ ،‬ول خل ً‬ ‫ما رأيت في كل من رأيتهم من الشعراء نف ً‬
‫يجري في أخلقهمسسا‪ ،‬ول ظرفًسسا ول رقسسة ول أدب ًسسا ول شسسيًئا يصسسلح أن‬
‫دا لشسسيء فيهمسسا أو تقويسسة لمعنسسى مسسن‬ ‫حا منهمسسا أو توكيس ً‬‫يكسسون شسسر ً‬
‫معانيهما‪ ،‬كأنما وجسسدا ليكسسون أحسسدهما مبسسدأ والخسسر نهايسسة‪ ،‬ولينفسسردا‬
‫انفراد الطرفين من المسافة بالغة ما بلغت‪.‬‬
‫كان الشعر لعهدهما بقية رثة في معرض خلق مما كان يسميه أدباء‬
‫الندلس بالغراض المشرقية وطريقة المشارقة‪ ،‬وهم يعنسسون بسسذلك‬
‫الصناعة والتكلف للبسسديع والنصسسراف إلسسى اللفسسظ واسسستكراهه علسسى‬
‫الوجه الذي أرادوا‪ ،‬إلى ما يتشسسعب مسسن ذلسسك ويخسسرج أو يسسدخل فسسي‬
‫بابه؛ وقد كان هذا ومثله مما يساغ ويحتمل في القرن الثامن وأكسسثر‬
‫التاسع للهجرة‪ ،‬ثم في أيام بعد ذلك؛ غير أنه بلي وتهتسسك فسسي مصسسر‬
‫خاصة ولم يبق منه إلى منتصف القرن الثالث عشر إل رقع وخيسسوط‬
‫في قصائد ومقاطيع‪.‬‬
‫‪---------------‬‬

‫‪233‬‬
‫* هو إسماعيل باشا صبري‪ ،‬توفي رحمه الله في شهر مسسارس سسسنة‬
‫‪1923‬م‪.‬‬
‫‪ 1‬المقتطف‪ :‬مايو سنة ‪.1923‬‬
‫ثم كان أكثر الشعراء يومئذ إنما يحترفون فن الدب صسسناعة كسسسائر‬
‫المهسسن والصسسناعات السستي بهسسا قسسوام العيسسش لهسسؤلء المسسستأكلين‬
‫والمتكسبين من السوقة والمرتزقة‪.‬‬
‫ظهر البارودي ونبغ في شعره قبل أن يقول صبري الشعر بسنوات‪،‬‬
‫ولكن الدب الفارسي والجزالة العربية هما اللذان تحول فيه؛ ثم نبغ‬
‫صبري بعد ذلك بزمن‪ ،‬فتحول فيه الدب الفرنجي والرقسسة العربيسسة؛‬
‫وهسسذا موضسسع التفسساوت فسسي شسسعر الرجليسسن اللسسذين اقتنصسسا الخيسسال‬
‫الشعري من طرفي الرض‪ ،‬وكلهما يذهب مذهًبا ويرجسسع إلسسى طبسسع‬
‫ويروض شعره على وجسسه؛ فالبسسارودي يسسستجزل ويجمسسع إلسسى سسسبكه‬
‫الجيد قوة الفخامة وشدة الجزالة‪ ،‬ثم يعترض الخيال من حيث يهبط‬
‫على النفس في ممر الوحي؛ وصسسبري يسسسترق ويضسسيف إلسسى صسسفاء‬
‫لفظه جمال التخير وحلوة الرقة‪ ،‬ويعارض الفكسسر مسسن حيسسث يتصسسل‬
‫بسسالقلب؛ والبسسارودي ل يسسرى إل ميسسزان اللسسسان يقيسسم عليسسه حروفسسه‬
‫وكلماته‪ ،‬وصبري ل يرى إل ميزان الذوق الذي هو من وراء اللسسسان؛‬
‫وقد يسرت لكليهما أسباب ناحيته في أحسن ما يتصرف فيه؛ فجسساء‬
‫ظا كأنه مجموعة من دواوين العرب والمولسسدين‪ ،‬وجسساء‬ ‫البارودي حاف ً‬
‫صبري مفكًرا كأنه مجموعة أذواق وأفكار؛ وهما يشسستركان معًسسا فسسي‬
‫التلوم على صنعة الشعر والتأني في عمله وتقليبه علسسى وجسسوه مسسن‬
‫التصسسفح‪ ،‬وتمحيصسسه بالنقسسد والبتلء لفظ ًسسا لفظ ًسسا وجملسسة جملسسة‪ ،‬ثسسم‬
‫مطاولسسة معسسانيه ومصسسابرتها كأنمسسا ينتزعسسان محاسسسنها مسسن أيسسدي‬
‫الملئكة؛ وأنا أعرف ذلك فيهمسسا؛ وقسسال لسسي صسسبري باشسسا مسسرة وقسسد‬
‫جاريته في بعض هذا المعنى‪ :‬إنه يعلم هذا من البارودي ومن نفسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفيبلغ به ذلك أن يمحو بياض اليوم في سواد بيت واحد؟ قال‪:‬‬
‫وفي سواد شطرة أحياًنا! وليس ينقصهما هذا المر شيًئا‪ ،‬فسسإن خسسبر‬
‫زهير في حولياته معروف‪ ،‬وقد عمل سبع قصسسائد فسسي سسسبع سسستين‪:‬‬
‫يحوك القصيدة منها في سنة‪.‬‬
‫ونقلوا عن مروان بن أبي حفصة أنه قال‪ :‬كنت أعمل القصسسيدة فسسي‬
‫أربعة أشهر‪ ،‬وأحككها في أربعة أشهر‪ ،‬وأعرضسسها فسسي أربعسسة أشسسهر‪،‬‬
‫ثم أخرج بها إلى الناس؛ فقيل هذا هو الحولي المنقح‪.‬‬
‫كان مرجع البارودي إلى الحفظ‪ ،‬فنبغ في وثبات قليلسسة؛ أمسسا صسسبري‬
‫فاحتاج إلى زمن حتى استحكمت ناحيته وآتته أسبابه علسسى الجسسادة‪،‬‬

‫‪234‬‬
‫لن مرجعه إلى الذوق‪ ،‬وهسسذا يكتسسسب بسسالمران وينضسسج عنسسد نضسسوج‬
‫الفكر ول يأتي بالماء والرونق حسستى تسسأتي لسسه أسسسباب كسسثيرة؛ وأنسست‬
‫تعرف ذلك في الرجلين من أوائل شعرهما‪ ،‬فقد رثى البارودي أبسساه‬
‫في سن العشرين بأبياته الدالية الشهيرة التي مطلعها‪:‬‬
‫ل فسسارس اليسسوم يحمسسي السسسرح بالواديطسساح السسردى بشسسهاب الحسسي‬
‫والنادي‬
‫وهسسي ثمانيسسة عشسسر بيت ًسسا‪ ،‬وجيسسدها جيسسد‪ ،‬وكأنهسسا خرجسست مسسن لسسسان‬
‫أعرابسسي؛ وإنمسسا جسساءته مسسن صسسنعة الحفسسظ‪ ،‬كالسسذي اتفسسق للشسسريف‬
‫الرضي في أبياته الخائية التي كتب بها إلى أبيه وعمره أربع عشسسرة‬
‫سنة‪ ،‬وكان أبوه معتقًل بقلعة شيراز ومطلعها‪:‬‬
‫كاإن ذا الطود بعد بعدك ساخا‬ ‫أبلغا عني الحسين ألو ً‬
‫والشهاب الذي اصطليت لظاهعكست ضوءه الخطوب فباخا‬
‫هذا على أن البداية كما يقال مزلة؛ وقسسد وفقنسسا إلسسى الوقسسوف علسسى‬
‫أول ما نشر من شعر صبري باشا‪ ،‬وذلك قصيدتان نشرتا في مجلسسة‬
‫روضة المدارس في مدح إسماعيل باشا‪ ،‬فنشرت الولى في العسسدد‬
‫الصادر في غاية شوال سنة ‪ 1287‬للهجرة ‪ 1870-‬للميلد؛ ونشرت‬
‫الثانية في عدد شهر ربيع الخر من سنة ‪1288‬هس س ‪1871‬م؛ وبينهمسسا‬
‫خمسة أشهر‪ ،‬كانت وثبته فيها ضعيفة متقاصرة‪ ،‬مما يدل على بطء‬
‫نضجه بطبيعة السباب التي تسبب بها إلى الشسعر؛ وكسانت الروضسة‬
‫يسسومئذ تنشسسر لطائفسسة مسسن فحسسول دهرهسسم‪ :‬كالسسسيد صسسالح مجسسدي‪،‬‬
‫ورفاعة بك رافع‪ ،‬ومحمد أفندي قدري "ونابغة الزمان محمد أفنسسدي‬
‫رضسسوان"‪ ،‬وغيرهسسم‪ .‬وكسسانت تسسستقبل قصسسائدهم بسسسجعات داويسسة‬
‫مفرقعسسة‪ ،‬هسسي لسسذلك العهسسد أشسسبه الشسسياء بطلقسسات مسسدافع التحيسسة‬
‫للملوك والمراء؛ فلما نشرت لصبري قسسالت فسسي القصسسيدة الولسسى‪:‬‬
‫تهنئة بالعيد الكبر للخديوي العظم بقلم إسماعيل صسسبري أفنسسدي"‪.‬‬
‫وقالت في الثانية‪" :‬قصيدة رائيسة فسي مسدح الحضسرة الخديويسة مسن‬
‫نظم الشاب النجيب إسسسماعيل صسسبري أفنسسدي مسسن تلمسسذة مدرسسسة‬
‫الدارة"‪ .‬ومطلع القصيدة الولى‪:‬‬
‫سفرت فلح لنا هلل سعودونما الغرام بقلبي المعمود‬
‫ول شيء فيها أكثر من حروف المطبعة‪ ...‬ومطلع الثانية‪:‬‬
‫ر‬
‫أغرتك الغراء أم طلعة البدروقامتك الهيفاءُ أم عادل السم ِ‬
‫وفي هذه القصيدة بيت وقفت عنسسده أرى صسسبري باشسسا فسسي صسسبري‬
‫أفندي كأنه خيال مولود يستهل‪ ،‬وذلك قوله‪:‬‬
‫فطول من الهجران عل وقوفناطول معا ‪-‬يا قاتلي‪ -‬ساعة الحشر‬

‫‪235‬‬
‫ويكاد هذا البيت يكون أول انقلب للفكرة فيه‪ :‬وهو غريب‪ ،‬والتأمسسل‬
‫ما على أقطار السموات‪.‬‬ ‫فيه أغرب‪ ،‬ولكنه يدل على خيال سيثب يو ً‬
‫وفي ذلك الزمن عينسه كسان البسارودي شسهاًبا يتلهسب‪ ،‬وكسان قسد بلسغ‬
‫مبلغه واستجمع أسباب نهايته‪ ،‬بل هو نظم قبل ذلك بسسست سسسنوات‬
‫قصيدته الشهيرة‪:‬‬
‫أخذ الكرى بمعاقد الجفانوهفا السرى بأعنة الفرسان‬
‫فلم يكن ليذهب وجسسه الشسسعر عسسن صسسبري‪ ،‬ولسسم يكسسن ليغضسسي عنسسد‬
‫احتذاء هسسذه الصسسنعة البارعسسة ويأخسسذ فسسي غيرهسسا لسسول أن فيسسه طبعًسسا‬
‫مستقًل يذهب إلى كماله في أسلوب آخر كأسسسلوب كسسل زهسسرة فسسي‬
‫غصنها؛ وأخص أحوال صبري أنه لم يرد أن يكون شاعًرا فجسساء أكسسبر‬
‫من شاعر‪ ،‬وكان السبب الذي صرفه من ناحية هو نفسه السسذي جسساء‬
‫به من ناحية أخرى‪.‬‬
‫ينبغ الشاعر بأربعة أشياء ل بد منها‪ :‬طريقة السسدرس السستي عالسسج بهسسا‬
‫الشعر‪ ،‬وكتب هذه الطريقة‪ ،‬والرجال الذين هم أمثلتهسسا فسسي نفسسسه‪،‬‬
‫ثم ‪ ...‬ويالله من "ثم" هذه‪ ،‬فهي اللمحة السماوية التي تشرق على‬
‫فؤاد الشاعر من وجه جميسسل‪ ،‬والثلث الولسسى تنشسسئ نبوغ ًسسا معروفًسسا‬
‫في نوعه ومقداره‪ ،‬ولكن الحيرة هي طريسسق القسسدر السستي ل يعسسرف‬
‫آخرها؛ وإذا تجددت في حياة الشاعر أو اتصسسلت تجسسدد بهسسا نبسسوغه أو‬
‫اتصل‪ ،‬فعلى قدر ما يحب تحبوه السماء من أسسسرار الجمسسال‪ ،‬وهسسي‬
‫نفسها أجمل أسباب الشعر وأجمل معانيه وأجمل غاياته‪ ،‬فهسسي هسسي‬
‫المادة التي تؤلف بين نفس الشاعر وبيسسن معنسسى الجمسسال الشسسعري‬
‫فسسي هسسذا الكسسون كلسسه؛ وإذا أنسست نزعسست النظسسرة والبتسسسامة ‪-‬وهمسسا‬
‫عنصرا تلك المسسادة‪ -‬مسسن حيسساة الشسساعر‪ ،‬نزعسست الحيسساة نفسسسها فسسي‬
‫شعره فما يبقى منه إل أنه مقبرة لللفاظ والمعاني‪ ،‬وتسمع شسسعره‬
‫فل تجزيه به أحسن من قولك‪ :‬يرحمسسك اللسسه‪ ...‬وصسسبري لسسم يسسدرس‬
‫الشعر في الكتب أكثر مما درسه في الوجسسوه والعيسسون‪ ،‬وقسسد عالسسج‬
‫هذا الشعر في بدايته ليتسسأتى إليسسه مسسن طرقسسه البعيسسدة؛ أمسسا الرجسسال‬
‫الذين كانوا أمثلته فكسسانوا رجسسال الظسسرف والرقسسة والنكتسسة المصسسرية‬
‫الشهيرة التي انفرد بها الطبع المصري ونسسص عليهسسا علمسساء البلغسسة‪،‬‬
‫كالسكاكي وغيره؛؛ بل كان عصره كله عصر هسسذه النكتسسة‪ ،‬فتحسسولت‬
‫قا أرجعها إلسسى الظسسرف المحسسض‬ ‫في طبعه الرقيق المبتكر تحوًل رقي ً‬
‫الذي اجتمعت فيه كل طباعه كما يجتمع السحاب من الماء‪.‬‬
‫ولقد كان في شعره أحق الناس بقول ابن سعيد المغربي‪:‬‬
‫أسكان مصر جاور النيل أرضكمفأكسبكم تلك الحلوة في الشعر‬

‫‪236‬‬
‫وكان بتلك الرض سحر فما بقيسوى أثر يبدو على النظم والنثر‬
‫وإني لعلم أنه كان دائم الحب‪ :‬يمزج ذكرى ماضيه بحاضره فيخسسرج‬
‫دا؛ وكسسان الرجسسل كسسأنه مجسسروح القلسسب‪ ،‬فل يسسزال يئن‬ ‫منهما حّبا جدي ً‬
‫حتى في بعض أنفاسه؛ إذ يرسل النفس الطويل بين هنيهة وأخسسرى‪،‬‬
‫وكأنه يريد أن يطمئن أن نفسسسه فيسسه‪ ،‬أو أن شسسيًئا باقي ًسسا فسسي نفسسسه؛‬
‫وتلك همهمة ل تكون في شاعر من الشعراء بغير معنى‪.‬‬
‫كانت النظرة والبتسامة تتمثل له حيث شاء وتعترضه حيسسث أراد أن‬
‫حسسا مسسن الشسسعر‪ ،‬ويقسسرأ لمحاتهسسا مسستى‬ ‫يراها‪ ،‬فيجد في كل شسسيء رو ً‬
‫التمعت‪ ،‬وكان يعيش في ذات نفسه كأنه معنى في قصيدة هو أمير‬
‫أبياتها‪.‬‬
‫فشاعرنا هذا أخرجه اثنان‪ :‬الظرف والجمال؛ وهذا سر إبائه أن يعسسد‬
‫من الشعراء؛ لنه أرفع من أن يدخل بينهم في هذه المحنة والبلسسوى‬
‫التي ابتلوا بها‪...‬‬
‫ولقد هم صبري في أواخر عمره بمحو شعره لو أنه كسسان فسسي منسسال‬
‫يده على أنه محا منه بإهماله أكثر مما أثبسست؛ وعلمسست منسسه أنسسه لسسم‬
‫يدون شيًئا‪ ،‬وأنه ينسى متى انتهسسوا إلسسى التحقيسسق رأوا عمرهسسم كلسسه‬
‫بداية ورأوا مسسا فعلسسوا بسساطًل فغسسسلوا كتبهسسم أو أحرقوهسسا‪ ،‬ولكنسسا لسسم‬
‫نعرف هذه الطبيعة في شاعر بعد عصر الكتابة والتسسدوين‪ ،‬وإن كسسان‬
‫بعضهم يأنف لنفسه أن يعد من الشسسعراء وهسسو مسسع ذلسسك يجمسسع يسسده‬
‫على شعره‪ ،‬كالشريف الرضي الذي يقول‪:‬‬
‫دا لها من عدد الفضائل‬ ‫ما لك ترضى أن تعد شاعًرابع ً‬
‫ويقول في مدح أبيه‪:‬‬
‫حاوعلك ل ترضى بأني شاعر‬ ‫إني لرضى أن أراك ممد ً‬
‫ومثله أبو طالب المأموني وآخرون يدعون ذلك دعوى وفي ألسنتهم‬
‫ما ليس في قلوبهم‪.‬‬
‫ولفراط صسسبري فسسي الظسسرف والجمسسال وقيسسام شسسعره علسسى هسسذين‬
‫الركنين‪ ،‬جاء مقّل من أصحاب القصار‪ ،‬وزاد إقلله في قيمة شسسعره‪،‬‬
‫فخرجت مقاطيعه مخرج الشسسيء الطريسسف السسذي يتعجسسب منسسه فسسي‬
‫وجوده أكثر مما يتعجب منه لقلة وجوده؛ وبذلك ربح تعب المكسسثرين‬
‫والمطيلين؛ إذ كسسان ل يقسول إل فيمسسا تسؤاتيه السسسجية وينسسزع الطبسع‪،‬‬
‫فيسسدنو مأخسسذه ويكسسثر بقليلسسه ويرمسسي منسسه بمثسسل الحجسسة والبرهسسان‪،‬‬
‫فيطمس بهما على كلم طويل وجدل عريض‪.‬‬
‫ول يعيب المقل أنه مقل إذا كثرت حسناته‪ ،‬بل ذلك أعسسون لسسه علسسى‬
‫القلوب والنفوس إذا أصابت في شعره ما يغريها بطلب المزيد منه؛‬

‫‪237‬‬
‫وقد عدوا بين المقلين فسسي الجاهليسسة‪ :‬طرفسسة بسسن العبسسد‪ ،‬وعبيسسد بسسن‬
‫البرص‪ ،‬وعلقمة الفحل‪ ،‬وعدي بن زيد‪ ،‬وسلمة بن جندل‪ ،‬وحصسسين‬
‫بن الحمام‪ ،‬والمتلمس‪ ،‬والحارث بسسن حلسسزة‪ ،‬وابسسن كلثسسوم‪ ،‬وغيرهسسم‬
‫أتينا على أسمائهم في الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب"؛ ومسسن‬
‫أولئك من يعسسرف بالقصسسيدة الواحسسدة‪ :‬كطرفسسة‪ ،‬ومنهسسم مسسن يعسسرف‬
‫بثلث قصائد‪ :‬كعلقمة‪ ،‬أو بأربع‪ :‬كعدي بسسن زيسسد؛ ومنهسسم مسسن يعسسرف‬
‫بالبيات المتفرقة‪ ،‬ول عبرة بما ينسسب إليهسم عنسد غيسر المصسححين‬
‫وأهل التحقيق‪ ،‬فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير؛ وقد يعرفسسون‬
‫الشاعر بالبيت الفرد؛ لن العسسرب إنمسسا يعتسسبرون الشسسعر بمقسسدار مسسا‬
‫يحرك من ميزانه الطبيعي الذي هو القلسسب‪ ،‬ل بسسالطول ول بالقصسسر‪،‬‬
‫وقد قالوا في بيت النابغة‪:‬‬
‫ولست بمستبق أخا ل تلمهعلى شعث؛ أي الرجال المهذب؟‬
‫إنه ل نظير له في كلم العرب؛ وما ذلك إل على العتبار الذي أشرنا‬
‫مسسا‪ ،‬فسسإذا بلسسغ البيسستين والثلثسسة‬
‫إليه‪ .‬وكانوا يسمون البيت الواحسسد‪ :‬يتي ً‬
‫فهي نتفة‪ ،‬وإلى العشرة تسمى قطعسسة‪ ،‬وإذا بلسسغ العشسسرين اسسستحق‬
‫دا‪.‬‬
‫أن يسمي قصي ً‬
‫وكان من الشعراء مسسن يعتمسسد أن ل يجيسسء فسسي شسسعره الجيسسد بغيسسر‬
‫البيتين والثلثة إلى القطع الصغيرة‪ ،‬كشسساعرنا صسسبري باشسسا؛ ومنهسسم‬
‫عقيل بن علقمة‪:‬كان يقصر هجسساءه ويقسسول‪ :‬يكفيسسك مسسن القلدة مسسا‬
‫أحاط بالعنق‪ .‬ومنهم أبو المهوس‪ ،‬وكسسان يحتسسج لسسذلك بسسأنه لسسم يجسسد‬
‫دا؛‬‫دا‪ ،‬ولسسم يجسد الشسسعر السسائر إل بيًتسا واحس ً‬ ‫المثل النادر إل بيًتا واحس ً‬
‫ومنهم الجماز‪ :‬قال له بعضهم وقد أنشده بيتين‪ :‬ما تزيد على السسبيت‬
‫والبيتين؟ فقال‪ :‬أردت أن أنشدك مذارعة؟؟ وابسسن لنكسسك المصسسري‪،‬‬
‫وابن فارس‪ ،‬ومنصور الفقيه الذي كان يقسسال فيسسه‪ :‬إذا رمسسح بزوجيسسه‬
‫قتل‪ .‬ول نستقصي في هذا فلندعه فإن له موضًعا‪.‬‬
‫صسسد‪،‬‬‫غير أن صبري كان له مع جودة المقسساطيع جسسودة القصسسيد إذا ق ّ‬
‫كقوم‬
‫عرفوا بذلك في التاريخ‪ ،‬منهم العباس بن الحنف وسواه‪ ،‬وكان من‬
‫أسباب إقللسه مسا أعلمنسي بسه مسن أن طريقتسسه فسي أكسثر مسا ينظسم‬
‫معارضة معنى يقف عليسسه‪ ،‬أو تضسسمين حكمسسة‪ ،‬أو ضسسرب مثسسل علسسى‬
‫طريقة النظسسر والملحظسسة‪ ،‬أو تسسدوين خطسسرة عرضسست لسه‪ ،‬أو لمحسسة‬
‫أوحيت إليه؛ وهو ينزل في ذلسسك علسسى النصسسفة والمعدلسسة فل ينتحسسل‬
‫شيًئا ليس له‪ ،‬بل يدلك بنفسه على الصل الذي منه أخسسذ أو المثسسال‬
‫الذي عليه احتذى‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫قال لي مرة‪ :‬إن البستاني عقد حكمة فارسية في قوله‪:‬‬
‫قضيت إلهي بالعذاب فيا ترىبأي مكان بالعذاب تدين‬
‫وليس عذاب حيثما أنت كائنوأي مكان لست فيه تكون؟‬
‫ثم قال‪ :‬فأخذت من هذا المعنى وقلت‪:‬‬
‫دا وللشرار‬ ‫يا رب أين ترى تقام جهنمللظالمين غ ً‬
‫لم يبق عفوك في السموات العلىوالرض شبًرا خالًيا للنار‬
‫يا رب ألهني لفضلك واكفنيشطط العقول وفتنة الفكار‬
‫مرِ الوجود يشف عنك لكي أرىغضب اللطيف ورحمة الجبار‬ ‫و ُ‬
‫يا عالم السرار حسبي محنةعلمي بأنك عالم السرار‬
‫والفسسرق بيسسن الشسسعرين أن البسسستاني جسساء بكلمسسه علسسى طريقسسة‬
‫المتصسسوفة السستي يسسسمونها طريقسسة أهسسل التحقيسسق‪ ،‬كسسابن العربسسي‬
‫والششتري؛ وأما صسسبري فسسانظر كيسسف اسسستوفى وكيسسف لءم وكيسسف‬
‫امتلت أعطاف شعره‪ .‬وقد يأخذ المأخذ الدقيق الذي ل ينتبسسه لسسه إل‬
‫طلع الحاذق بصناعة الكلم‪ ،‬كقوله‪:‬‬‫الم ّ‬
‫ما في مقاتله سهمي‬ ‫إذا ما صديق عقني بعداوةوفوقت يو ً‬
‫تعرض طيف الود بيني وبينهفكسر سهمي فانثنيت ولم أرم‬
‫فهذا ينظر إلى قول الحارث بن وعلة‪:‬‬
‫قومي هم قتلوا أميم أخيفإذا رميت يصيبني سهمي‬
‫ولكنه ليس بذاك؛ فإن أساس المعنى قوله‪" :‬تعرض طيف الود بيني‬
‫وبينه" وهو من قول العباس بن الحنف‪:‬‬
‫وإذا ما مددت طرفي إلى غيرك مّثلت دونه فأراكا‬
‫دا‬
‫ضسسا جدي س ً‬
‫فتأمل كيف أبدع في انتزاع المعنى وكيسسف جعسسل لسسه معر ً‬
‫وكيف أداه أحسن تأدية في ألطف وجه كأنه شيء مخترع‪.‬‬
‫ومن شعره السائر قوله في العناق وتلزم الحبيبين‪:‬‬
‫ولما التقينا قرب الشوق جهدهشجيين فاضا لوعة وعتابا‬
‫قا في خلل صديقهتسرب أثناء العناق وغابا‬ ‫كأن صدي ً‬
‫وهذا المعنى على إبداعه فيه متداول‪ ،‬وأصله لبشار ‪-‬أظن‪ -‬في قوله‬
‫‪:1‬‬
‫وبتنا جميًعا لو تراق زجاجةمن الخمر فيما بيننا لم تسرب‬
‫فأبدع صبري في أخذه وجعل من هذه الزجاجسسة المنصسسدعة جسسوهرة‬
‫قا‪ "...‬فمسا هسسذا بعنساق‬ ‫تتألق؛ على أني ل أستحسن قوله‪" :‬كأن صسدي ً‬
‫الصدقاء‪ ،‬ولو كان الصديق راجًعا من سفر الخرة؛ وإذا غسساب واحسسد‬
‫في الخر‪ ،‬فالخر حامل به‪ ...‬وقد أخذت أنا هذا المعنى منه‪ ،‬ولسسوله‬
‫ما اهتديت إليه‪ ،‬فقلت في ذلك‪:‬‬

‫‪239‬‬
‫ولما التقينا ضمنا الحب ضمةبها كل ما في مهجتينا من الحب‬
‫وشد الهوى صدًرا لصدر كأنمايريد الهوى إنفاذ قلب إلى قلب‬
‫وأحسن ما تجد شعر صبري في الغزل والنسيب والوصف والحكمة‪،‬‬
‫فهي عناصر قلبه وذوقه‪ ،‬ول يتصرف معه أقوى مسسا يتصسسرف إل فسسي‬
‫هذه الغراض‪ ،‬ولعله إن جاوزها قصر معسه شسيًئا مسا وضسسعفت أداتسه‬
‫فا ما؛ لنه يكون شاعر الصنعة وهو يأباها ويكره أن يكون شاعًرا‬ ‫ضع ً‬
‫من أجلها؛ وقلمسسا يجسساريه أحسسد فسسي تلسسك الغسسراض‪ ،‬وهسسو السسذي فتسسح‬
‫أبوابهسا؛ وحسسبك أنسه المثسال السذي احتسذى عليسه شسوقي بسك؛ وقسد‬
‫ينقسم المعنى الواحد في رجلين حين يقدر‪ ،‬فإذا لسسم يوجسسد أحسسدهما‬
‫لم يوجد الخر‪ ،‬وأنا أرى وأعلم أنه لول صبري لما نبغ شوقي‪ ،‬وكسسان‬
‫هذا يختلف إليه يعرض عليه شعره ويرجسع بآثسار ذوقسه فيسه‪ ،‬وكسذلك‬
‫كان يفعل خليفة البارودي حافظ بك إبراهيم‪ ،‬واسترفد شسسوقي مسسن‬
‫صبري باشا هذا البيت السائر‪:‬‬
‫صوني جمالك عنا إننا بشرمن التراب وهذا الحسن روحاني‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬البيت لعلي بن الجهم‪ ،‬وقبله‪:‬‬
‫دا من فؤاد معذب‬ ‫أل رب ليل ضمنا بعد هجعةوأدنى فؤا ً‬
‫أخذه من قول بشار‪:‬‬
‫ومرتجة العطاف مهضومة الحشاتمور بسحر عينها وتدور‬
‫إذا نظرت صبت عليك صبابةوكادت قلوب العاشقين تطير‬
‫خلوت بها ل يخلص الماء بينناإلى الصبح دوني حاجب وستور‬
‫فهو لصبري باشا‪ ،‬والمرافسسدة سسسنة معروفسسة مسسن قسسديم‪ ،‬وهسسي غيسسر‬
‫النتحال وغير السرقة وما يسمى إغارة وغصًبا؛ وقد استرفد النابغسسة‬
‫زهيًرا ابنه كعًبا فرفده‪ ،‬والحكاية في ذلك مشهورة عنه وعن سواه‪.‬‬
‫ولم يكن في مصر ممن يحسسسن ذوق البيسسان وتمييسسز أقسسدار اللفسساظ‬
‫بعضسسها مسسن بعسسض وألسسوان دللتهسسا كالبسسارودي وصسسبري وإبراهيسسم‬
‫المويلحي والشيخ محمد عبده‪ ،‬رحمهم الله جميعا؛ والبارودي يسسذوق‬
‫بالسليقة‪ ،‬وصبري بالعاطفة‪ ،‬والمويلحي بالظرف‪ ،‬والشيخ بالبصسسيرة‬
‫النفاذة؛ وذلك شيء ركبه الله في طبيعة صبري لم يحصله بالسسدرس‬
‫أكثر مما حصله بالحس‪ ،‬ومن أجله كان يفضل البحتري علسسى غيسسره‪،‬‬
‫وهو بل نزاع بحتري مصر‪ ،‬كمسسا لقبسسوا ابسن زيسدون بحستري المغسسرب؛‬
‫وإنك لتجد بعض اللفاظ في شسسعر الرجسسل كأنهسسا شسسعر مسسع الشسسعر‪،‬‬
‫فتقف على العبارة منها وقلبك يتنفس عليها كأنها إنما وضعت لقلبك‬

‫‪240‬‬
‫خاصة‪ ،‬فهي تغمز عليه غمًزا وكأنها نفثة ملسسك مسسن الملئكسسة جاءتسسك‬
‫في نفس من أنفاس الجنة‪.‬‬
‫ويمتاز نسيبه بأنه يكاد يكون فسسي طهسسارته وعفتسسه ضسوًءا مسن جمسسال‬
‫الشمس والقمر‪ ،‬وهو عندي أنسب مسسن العبسساس بسسن الحنسسف السسذي‬
‫صرف كل شعره إلى هذا المعنسسى؛ ولسسو أن عصسسره كسسان عصسسر أدب‬
‫صحيح لخمل كل شعراء هذا الباب‪ ،‬من ابن أبسسي ربيعسسة إلسسى طبقسسة‬
‫عشاق العرب إلى أئمة الطريقة الغرامية لخر القرن السابع‪.‬‬
‫ومن غزله البديع قوله‪:‬‬
‫يا من أقام فؤادي إذ تملكهما بين نارين من شوق ومن شجن‬
‫تفديك أعين قوم حولك ازدحمتعطشى إلى نهلة من وجهك الحسن‬
‫جردت كل مليح من ملحتهلم تتق الله في ظبي ول غصن‬
‫وقوله‪:‬‬
‫أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعةول بشافعة في رد ما كانا‬
‫سل الفؤاد الذي شاطرته زمًناخفق الصبابة فاخفق وحدك النا‬
‫ويا رحمة الله للقلب الذي يفهم هذا البيت‪ ،‬فإنه ليجن به من يكسسون‬
‫فيه استعداد لهذا النوع من الجنون‪.‬‬
‫ومن قلئده الغرامية قوله‪:‬‬
‫يا آسى الحي هل فتشت في كبديوهل تبينت داء في زواياها‬
‫أواه من حرق أودت بمعظمهاولم تزل تتمشى في بقاياها‬
‫قا بأضلع عصفت بهافالقلب يخفق ذعًرا في حناياها‬ ‫يا شوق رف ً‬
‫وله قصيدة "تمثال جمال" وقد نظمها لتنقل إلسسى الفرنسسسوية‪ ،‬ومسسن‬
‫عيونها قوله‪:‬‬
‫ما وازدهاء‬‫وابسمي‪ ،‬من كان هذا ثغرهيمل الدنيا ابتسا ً‬
‫طا من أنفستعثر الصبوة فيها بالحياء‬ ‫ل تخافي شط ً‬
‫راضت النخوة من أخلقنا وارتضى آدابنا حسن الولء‬
‫فلو امتدت أمانينا إلىملك ما كدرت ذاك الصفاء‬
‫والشعراء من أول تاريخ الدب إلى اليوم يقولون فسسي معنسسى قسسوله‪:‬‬
‫"ل تخافي شططا" البيات‪ ،‬وما منهم من وفق إلى مثل هسسذا السسبيت‬
‫الخير‪ ،‬وإن كان بعضهم بلسسغ الغايسسة‪ ،‬كسسابن نباتسسة السسسعدي والسسسري‬
‫الرفاء وغيرهما‪.‬‬
‫ومن أبدع ما اتفق لسسه فسسي الوصسسف أبيسسات فسسي السسدواة تخلسسص فسسي‬
‫آخرها إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وهو تخلسسص ليسسس فسسي‬
‫الشعر العربي كله مثله في البداع وحسن الختراع‪ ،‬يقول فيها‪:‬‬
‫أكرمي العلم وامنحي خادميه ماءك الغالي النفيس الثمينا‬

‫‪241‬‬
‫وابذلي الصافي المطهر منهلهداة السرائر المرشدينا‬
‫وإذا الظلم والظلم استعانايوم نحس بأجهل الجاهلينا‬
‫دافاجعليه من قسمة الظالمينا‬ ‫واستمدا من الشرور مدا ً‬
‫واقذفي في النقطة التي بات فيهاغضب القاهر المذل كمينا‬
‫ليراع امرئ إذا خط سطرانبذ الحق وارتضى المين دينا‬
‫وإذا كان فيك نقطة سوءكونت من خباثة تكوينا‬
‫فاجعليها قسط الذين استباحوافي السياسات حرمة الضعفينا‬
‫وإذا خفت أن يكون من الصخر جلميد ترجم السامعينا‬
‫فابخلي بالمداد بخل وإن أعطيت فيه المئين ثم المئينا‬
‫فإذا أعوز المداد طبيبايصف الداء دائًبا مستعينا‬
‫فامنحيه المراد منا وعرًفاواستطيبي معونة المحسنينا‬
‫وإذا مهجة الحمائم أسدتنقطة سرها الزكي المصونا‬
‫فاوهبيها رسائل الشيقينا‬ ‫فاجعليها على المودات وق ً‬
‫فإذا لم يكن بقلبك إلما أعد الخلص للمخلصينا‬
‫فاجعليه حظي لكتب منهشرح حالي لسيد المرسلينا‬
‫هذا والله هو الشعر‪ ،‬وما وفق إلى مثله أحد كائًنا من كسسان فسسي هسسذا‬
‫العصر‪.‬‬
‫ول نطيسسل بالنقسسل مسسن شسسعره وتتبسسع أغراضسسه‪ ،‬فهسسو كاللمسساس فسسي‬
‫الشمس‪ :‬يشع من كل جهة‪ ،‬ول يختلف ضسسوءه إل فسسي بعسسض اللسسون‬
‫مما يكون الجمسل فيمسا كلسه جمسال‪ ،‬ويمسج مسن الشسعاع مسا ل تجسد‬
‫حسنه في الشعاع نفسه‪ ،‬وأحياًنا يرق كبعض البلور فيمتسسص حسسرارة‬
‫الشمس ويستوقد بها في ذاته ليضسسرم مسسا وراء قلبسسه‪ ،‬ومسسا وارءه إل‬
‫قلوبنا الحزينة‪ ..‬عليه رحمة الله!‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪242‬‬
‫حافظ إبراهيم ‪1‬‬

‫فرغت الن من قراءة شعر حسسافظ بعسسد أن لسسم يعسسد حسسافظ بيننسسا إل‬
‫شعره ونثره‪ ،‬وفبالله أحلف ما نظرت في صسفحة ممسا بيسن يسدي إل‬
‫وأحسست أن ذلك الشاعر العيظم يقول في بيسسانه السسرائع وصسسناعته‬
‫البديعة‪ :‬أنا هنا!‬
‫ولغة هذا الشعر المتدفعة بالحيسساة كسسأن كلماتهسسا القويسسة عسسروق فسسي‬
‫جسم حي متوثب لم تخرج عن أن تكسسون هسسي العربيسسة المبينسسة فسسي‬
‫جزالتها ونصاعتها ودقة تركيبها البيسساني‪ ،‬ومسسع ذلسسك فليسسس فسسي هسسذا‬
‫العصر كله من يكابر أو يماري في أنها هي لغسة حسافظ وحسده‪ ،‬كسأنه‬
‫أرغم التاريخ أن يحتفظ به في أجمل آثاره‪.‬‬
‫وأنا أعرف فسسي شسسعره مواضسسع مسن الضسسطراب والضسسعف والنقسسص‬
‫سأشير إلى بعضها‪ ،‬ولكني على ما أعرفسسه أجسسد هسسذا الشسسعر كالتيسسار‬
‫يعب عبابه ل يبالي ما تناثر منه وما ركد وما وقع في غير مسسوقعه‪ ،‬إذ‬
‫كانت عظمته في اجتماع مادته ل في أجزاء منها‪ ،‬وفي السسسر السسذي‬
‫يدفعها في كل موضع ل في المظهر الذي تكون به فسسي موضسسع دون‬
‫دا يقول لمن يتصفح عليه أو ينتقده‪ :‬انظر لما بقي‪.‬‬ ‫موضع؛ فهو أب ً‬
‫ترجسسع صسسداقتي لحسسافظ رحمسسه اللسسه إلسسى سسسنة ‪ ،1900‬أول عهسسدي‬
‫بالدب وطلبه‪ ،‬وقد شهدت من يومئذ بناءه الدبي عالي ًسسا فعالي ّسسا إلسسى‬
‫الذروة التي انتهى إليها‪ ،‬وأخلسسص لسسي ثقتسسه وأصسسفاني مسسودته‪ ،‬وكسسان‬
‫همك من أخ كريم‪ ،‬وله في نفسي مكان لم ينكره مسسذ عرفتسسه‪ ،‬ولسسم‬
‫يضق بمحبته منذ اتسع لها‪ .‬وكنت وإياه يسسرى أحسسدنا الخسسر مسسن هسسذه‬
‫اللغسسة كالجسسانبين لصسسورة واحسسدة‪ :‬ل يتهيسسأ فسسي الطبيعسسة أن يختلفسسا‬
‫والصورة بعد قائمة‪ ،‬ول أن يضطرب ما بينهما والصورة منهمسسا علسسى‬
‫وزن وتقدير‪.‬‬
‫ولكن هذا ل يمنعني أن أقرر أنه كان عندي أكبر مسسن شسسعره ‪-‬ولعلسسه‬
‫كذلك عند كل من خلطوه بأنفسهم‪ -‬فسسإنه يتعاظمسسك بنفسسسه القويسسة‬
‫وبالمعنى الذي تحسه في العبقري ول تدري ما هو؛ وذلك من سسسحر‬
‫العبقريين وأثرهم في نفس من يتصل بهم‪ ،‬فيتسق لهم أمسسران مسسن‬
‫أمر واحد‪ ،‬وحظان بحظ‪ ،‬ونصيبان بنصيب؛ لن مع العجاب بآثسسارهم‬
‫إعجاًبا آخر بالقوة التي أبسسدعت هسسذه الثسسار؛ ففسسي ذواتهسسم المحبوبسة‬
‫يستمر العجاب كالسائر على طريق ل موقسسف عليسسه‪ ،‬وفسسي آثسسارهم‬
‫يكون العجاب في موقف قد انتهت الطريق به‪ ،‬فوقف على حد إن‬
‫بعد وإن قرب‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫ل جرم كان شاعرنا عبقرّيا عجيب الصنعة قوي اللهام بليغ الثر في‬
‫عصره‪ ،‬يشبه تحوًل وقع في صورة من صسسور التاريسسخ‪ ،‬ولكنسسه كسسذلك‬
‫في مذاهب من الشعر دون غيرها‪ ،‬فلم يكسسن معسسه مسسن التمسسام فسسي‬
‫فنون الشعر ما يكون به الشاعر التام أو الديب الكامل الداء؛ وكسسم‬
‫من مرة كلمته في ذلك ونبهته إلى أنه كالنمط الواحد‪ ،‬وأنه يجب أن‬
‫يترسل شعره بين النفوس النسسسانية وأغراضسسها الكسسثيرة المختلفسسة‪،‬‬
‫فإذا كانت السياسة مسسن الحيسساة فليسسست الحيسساة هسسي السياسسسة‪ ،‬ول‬
‫سسا‬ ‫ينبغي أن يكسون شسعره كلسه كشسمس الصسيف‪ ،‬فسإن للربيسع شم ً‬
‫أجمل منها وأحب كأنها مجتمعة من أزهاره وعطره ونسيمه‪.‬‬
‫ولقد كسسان يفخسسر بسسأنه "الشسساعر الجتمسساعي"‪ ،‬وهسسذا لقسسب ميسسزه بسسه‬
‫ما‪ ،‬فتعلق بسسه‬ ‫صديقنا الستاذ محمد كرد علي أيام كان في مصر قدي ً‬
‫حا لما في نفسه وللملكسسة السستي اختسسص بهسسا‪،‬‬ ‫حافظ ورآه تعبيًرا صحي ً‬
‫ما في سنة ‪ :1903‬أنا ل أعسسد شسساعًرا إل مسسن كسسان ينظسسم‬ ‫قال لي يو ً‬
‫في الجتماعيات‪ ،‬فقلت له‪ :‬ومسسا لسسك ل تقسسول بالعبسسارة المكشسسوفة‪:‬‬
‫إنك ل تعد الشاعر إل من ينظم مقالت الجرائد‪..‬‬
‫ول بد لي أن أبسط هذا المعنى في هذا الفصل‪ ،‬فإنه كان يخيل إلي‬
‫ما أن شاعرنا "حافظ" خلق للتاريخ في أصل طسسبيعته‪ ،‬ثسسم زيسسدت‬ ‫دائ ً‬
‫خسسا حسسي الوصسسف بليسسغ التسسأثير قسسوي‬ ‫فيه موهبسسة الشسسعر؛ ليكسسون مؤر ً‬
‫التصرف؛ ومن ثم جاء أكثر مسسا نظمسسه وأساسسسه التاريسسخ والسياسسسة‪،‬‬
‫وصح له بهذا العتبار أن يقول إنه الشسساعر الجتمسساعي‪ ،‬ولكسسن مسسادة‬
‫الشعر غير روح الشعر‪ ،‬فسسإذا كسسان فسسي المسسادة اجتمسساعي وسياسسسي‬
‫فليس في الروح إل الشاعر على إطلقه؛ والجتماعيات ليسسست كسسل‬
‫ن خاصسسة محصسسورة فسسي زمنهسسا‬ ‫حقائق الحيسساة‪ ،‬وهسسي بعسسد ذلسسك معسسا ٍ‬
‫ومكانها؛ على أن الحقائق ليست هي الشعر‪ ،‬وإنما الشعر تصسسويرها‬
‫والحساس بها في شكل حي تلبسه الحقيقة في النفسسس‪ ،‬فالشسساعر‬
‫الجتماعي شاعر في حيز محدود مسسن وجسسوه الشسسعر ومسسذاهبه‪ ،‬وإذا‬
‫كان الجتماع كل شعره فل يسمى شعره فّنا؛ إذ كسسان الفسسن إنسسسانّيا‬
‫ما والمقاييس التي يطرد عليها الفن الدبسسي ل تكسسون‬ ‫وكان شامًل عا ّ‬
‫في الزمن ول في الموضع‪ ،‬بل في النفس النسسسانية السستي ل تخسسص‬
‫ما يولد ك لجيسسل مسسن‬ ‫بوقت ول مكان‪ ،‬فإذا لم يكن الشعر إنسانّيا عا ّ‬
‫الناس فيجده كأنما وضع له وارتهسسن بأغراضسسه وحقسسائقه‪ ،‬فهسسو شسسعر‬
‫فسسا‬
‫"كالخبار المحلية"‪ ،‬وهذا وجه الشبه بينه وبين مسسا أشسسرت إليسسه آن ً‬
‫من نظم مقالت الجرائد‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫فمقالت الجرائد هذه ل تأتينا بالشياء التي نحن منها فسسي النسسسانية‬
‫والطبيعة والجمال وحقائق الحياة والموت‪ ،‬بل التي يكون منها يومنا‬
‫المرقوم بأنه يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا‪ ..‬فسسإذا مسسات اليسسوم‬
‫ماتت الجريدة‪ ،‬ثم تولد ثسسم تمسسوت‪ ،‬وقسسد أدرك المتنسسبي سسسر الشسسعر‬
‫وأنه قائم على تحويل الشعور النساني إلى معرفسسة إنسسسانية‪ ،‬فخلسسد‬
‫شعره‪ ،‬فل يمكن أن يمحى من العربية ما بقيت‪ .‬وهذا على ما يقدح‬
‫فا فسي‬ ‫من وجوه العستراض والنقسص‪ ،‬وعلسى أن المتنسبي كسان ضسعي ً‬
‫فا ظاهًرا كضعف شسساعرنا حسسافظ فسسي هسسذا‬ ‫ناحية الجمال والحب ضع ً‬
‫المعنسسى‪ ،‬ولكسسن حكمتسسه النسسسانية ودقسسة أوصسسافه وإقسسامته الفضسسائل‬
‫والرذائل في كمالها الفني مقام تماثيل بارعة من الجمال‪ ،‬كل ذلسسك‬
‫تسسسرك شسسسعره مسسسستمّرا باسسسستمرار الحيسسساة وباسسسستمرار النسسسسانية‬
‫وباستمرار الذوق‪.‬‬
‫إن هذا الكون مبني في نفسه مما يعلم العلم تركيبسسه ول يعلسسم سسسر‬
‫تركيبه إل الله وحده‪ ،‬ولكنه مبني في أنفسنا من عمل الحواس‪ ،‬ثسسم‬
‫من التعليل والتفسير؛ أما الحواس ففي كل حسسي‪ ،‬ل تخلسسق بصسسناعة‬
‫ول عمل؛ وأما التعليل والتفسير فهما من صناعة الشسساعر والديسسب‪،‬‬
‫فكلهما يخلق لتمام الخلق في الحقيقة‪ ،‬وهي منزلسسة ل أدري كيسسف‬
‫يمكسسن أن تمسسسخ حسستى تقتصسسر علسسى معنسسى الشسساعر الجتمسساعي أو‬
‫دا‪ ،‬مع أن الثسار الدبيسة وفسي جملتهسا‬ ‫طا واح ً‬‫السياسي‪ ،‬فترجع به نم ً‬
‫الشسسعر ‪-‬إن هسسي إل قسسوى الفكسسرة وإلهسسام النفسسس وبصسسيرة السسروح‬
‫مسجلة كلها في بواعثها وأسسسبابها مسسن نفسسس عاليسسة ممتسسازة؛ وهسسذه‬
‫القوى كثيرة التحول‪ ،‬فيجب ضرورة أن تكون آثارهسسا كسسثيرة التنسسوع‪،‬‬
‫وتنوع الصور الفكرية في آثار الشسساعر أو الديسسب ومجيئهسسا متسسوافرة‬
‫متتابعة هو معيار أدبه وقياس نبوغه عالًيا أو نازًل‪ ،‬ومتبًعسا أو مبتكسًرا‪،‬‬
‫وفيما يضيء من نواحيه وما ينطفئ‪.‬‬
‫على أن شاعرنا الجتماعي "كما كان يجب أن يوصف ‪-‬رحمسسه اللسسه‪-‬‬
‫وإن كان قد نفخ في روح الشعب أنفاسه إلهية‪ ،‬وأحسن في وصسسف‬
‫حوادثه وآلمه وعيوبه‪ ،‬وأبلغ البيان في كل ذلك‪ -‬فإنه نزل فسسي هسسذه‬
‫المرتبة عن وضعه الصحيح‪ ،‬فكان في منزلته بمكسسان الشسسرطي فسسي‬
‫الطريق‪ :‬يقف للجرائم والحوادث‪ ،‬على حيسسن أن مقسسامه الجتمسساعي‬
‫من الشعب مقسسام المعلسسم فسسي مدرسسسته‪ :‬يجلسسس للطبسساع والخلق‪،‬‬
‫ليس الشأن أن تجسسد فسسي شسسعر الشسساعر حسسوادث عصسسره أكثرهسسا أو‬
‫أقلهسسا‪ ،‬فسسإن فسسوق هسسذه منزلسسة أعلسسى منهسسا‪ ،‬وهسسي أن توجسسد حسوادث‬

‫‪245‬‬
‫النهضة بشعر الشسساعر‪ ،‬وأن يكسسون فسسي شسسعره العنصسسر النسساري مسسن‬
‫اللغة الشعبية‪.‬‬
‫على أن "حافظ" ‪-‬رحمه الله‪ -‬أدرك كل هذا فسسي آخسسر عهسسده‪ ،‬فكسسان‬
‫يريد أن يميت ديوانه ويستخرج منه جزًءا صغيًرا يختار فيه ألف بيسست‬
‫ويسقط ما عداها وإن‪ ...‬وإن كان فيسسه شسسعر اجتمسساعي‪ ...‬ومسسع هسسذا‬
‫النقص الذي بعثت عليه طبيعسسة الزمسسن وطبيعسسة الشسساعر معًسسا‪ ،‬فسسإن‬
‫تمام حافظ في مذهبه الجتماعي الذي نبغ فيه جاء مسسن وراء القسسوة‬
‫وفوق الطاقة‪ ،‬ل يجاريه فيه شاعر آخر‪ ،‬بحيسسث دل علسسى أن النابغسسة‬
‫قدر إلهي ل ينقص من عظمته أن يكون حادثسسة واحسسدة تسسدوي دويهسسا‬
‫في الدنيا‪ ،‬فهو ميسر منذ نشسسأته لمسسا خلسسق لسه مسسن ذلسك‪ ،‬فسسأحكمته‬
‫المدرسة الحربية‪ ،‬ثم قيده الجيش‪ ،‬ثم تقاذفه السودان‪ ،‬ثم قذف به‬
‫الظلم‪ ،‬ثم توله إمام عصره الشسسيخ محمسسد عبسسده‪ ،‬وهسسو كسسذلك فسسي‬
‫غاياته الوعرة ومقاصده العمرانية ومعاناته لصسسلح‪ -‬مدرسسسة حربيسسة‬
‫وجيسسش وفلة‪ ،‬فلسسم يكسسن حسسافظ إل الصسسوت النسسساني السسذي أعسسد‬
‫بخصائصه للتعبير عن حوادث أمته وخصائصها‪ ،‬وكأنه في نقلتسسه مسسن‬
‫السودان إلى مصر قد انتقل من جيش يحارب القوام العداء لمته‪،‬‬
‫إلى جيش آخر يحارب المعاني العداء لمته‪.‬‬
‫ولد حافظ إبراهيم سنة ‪ ،1871‬وكان الكتاب الول السسذي هسسداه إلسسى‬
‫سر الدب العربي وأرهف ذوقه وأحكم طبيعته‪ ،‬هو كتسساب "الوسسسيلة‬
‫الدبيسسة" للشسسيخ حسسسين المرصسسفي‪ ،‬المطبسسوع فسسي مصسسر لخمسسس‬
‫وخمسين سنة؛ ففي هذا الكتاب قرأ حافظ خلصسسة مختسسارة محققسسة‬
‫من فنون الدب العربي فسسي عصسسوره المختلفسسة ودرس ذوق البلغسسة‬
‫في أسمى ما يبلغ بها الذوق‪ ،‬ووقسسف علسسى أسسسرار تركيبهسسا‪ ،‬وعسسرف‬
‫منه الطريقة الستي نبسغ بهسا البسارودي‪ ،‬وهسي قراءتسسه دواويسسن فحسول‬
‫الشعراء من العرب ومن بعدهم‪ ،‬وحفظه الكثير منها؛ فبنى شسساعرنا‬
‫من يومئذ قريحته على الحفظ‪ ،‬ولم يزل يحفظ إلسسى آخسسر عمسسره؛ إذ‬
‫كانت قريحته كآلة التصوير‪ :‬ل تنبه لشيء إل علقته وهذا سسسبب مسسن‬
‫أسباب ضعف خياله‪ ،‬ولكنه رد عليه من القوة فسسي اللغسسة مسسا تنسساهى‬
‫فيه إلى الغاية‪.‬‬
‫واتفق لذلك العهد أن طبعت لزوميات المعسسري فسسي مصسسر‪ ،‬فتناولهسسا‬
‫حافظ واسسستظهر أكثرهسسا‪ ،‬فكسسانت بسساعث ميلسسه ونزعتسسه إلسسى الشسسعر‬
‫الجتماعي؛ والفرق بين حافظ وبين المعري في الموهبسسة الفلسسسفية‬
‫هو الذي نفذ بالمعري إلى أسرار كثيرة ووقف بحسسافظ عنسسد الظسساهر‬
‫وما حوله‪ ،‬يطير هناك ويقع‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫وقد كان صاحبنا ضعيف من هذه الناحيسسة‪ ،‬فاستصسسعبت عليسسه أسسسرار‬
‫واستغلقت أخسسرى مسسن أسسسرار الخيسسر والشسسر فسسي الحيسساة‪ ،‬والجمسسال‬
‫والحسن في الخليقة‪ ،‬والجلل والبداع في الكون‪ ،‬والقرار والشسسك‬
‫في كل ذلك؛ وقد بلغ المعري من هذا مبلغًسسا ل بسأس بسه‪ ،‬إل أنسه لسسم‬
‫يصف كما تصفي الشياء في عين مبصرة؛ فخبط وخلط؛ ووضع من‬
‫أغراض نفسه المريضة على الصحيح والمريض جميًعا‪ .‬وتابعه حافظ‬
‫في طريقة أخرى سنشير إليها بعد‪.‬‬
‫وفتن شاعرنا بما قرأ في "الوسيلة" من شعر البارودي‪ ،‬فأصبح مسسن‬
‫يومئذ تلميسسذه‪ ،‬وسسسار علسسى نهجسسه فسسي قسسوة اللفسسظ وجزالسسة السسسبك‬
‫ومتانة الصنعة وجودة التأليف على نغم اللفاظ وأجسسراس الحسسروف‪،‬‬
‫ولكنه لم يدرك شأو البارودي في ذلسسك؛ لن هسسذا جمسسع مسسن دواويسسن‬
‫الشعراء وكتب الدب ما لسسم يتفسسق لغيسسره فسسي عصسسره‪ ،‬وأدخسسل فسسي‬
‫شعره أحسسسن مسا صسسنعت السسدنيا فسسي ألسسف سسسنة مسن تاريسسخ البلغسسة‬
‫العربية؛ ولذا انتقل عنه حسسافظ إلسسى طريقسسة مسسسلم بسسن الوليسسد فسسي‬
‫التصنيع ولزمها إلى آخر مدته‪.‬‬
‫وابتدأ يعالج الشعر في السودان وينظم في جنس ما هو بسبيله من‬
‫مسسا فقي سًرا‬
‫وصف الهم المستولي عليه مسسن جميسسع جهسساته؛ إذ كسسان يتي ً‬
‫دا‪ ،‬ويرى نفسه شاعًرا تصده الحياة عسسن منزلسسة الشسساعر وعسسن‬ ‫مشر ً‬
‫أمكنة الشعر‪ ،‬كالذي غصب ميراثه من عرش وملك‪ ،‬ونفي إلى غيسسر‬
‫أرضسسه‪ ،‬ووضسسعت روحسسه بسسإزاء روح الفقسسر وقيسسل لهسسا‪ :‬عسسدو مسسا مسسن‬
‫صداقته بد‪.‬‬
‫ثم جاء إلى مصر واتصل بالمام الشيخ محمد عبسسده‪ ،‬واسسستقال مسسن‬
‫الجيش وفرغ للدب؛ فبدأ من ثم تكسسوينه الدبسسي المندمسسج المحكسسم‪،‬‬
‫أما قبل ذلك إلى سنة ‪ 1901‬التي طبع فيها الجزء الول من ديوانه‪،‬‬
‫فكان شعره قليًل ظاهر التكلف‪ ،‬وأكثره يدل على طريقة مضسسطربة‬
‫لم تستحكم‪ ،‬وفكر لم ينضج‪ ،‬وموهبة في التوليد الشعري بينها وبين‬
‫الستقلل أمد قريب‪.‬‬
‫ودرس في مدرسة الشيخ محمد عبسسده مسسن سسسنة ‪ 1899‬إلسسى سسسنة‬
‫ذا‪ ،‬وكأنه‬ ‫‪ ،1905‬وهذا المام ‪-‬رحمه الله‪ -‬كان من كل نواحيه رجًل ف ّ‬
‫نبي تأخر عن زمنه؛ فُأعطي الشسسريعة‪ ،‬ولكسسن فسسي عزيمتسسه‪ ،‬وُوهسسب‬
‫الوحي ولكن في عقله‪ ،‬واتصل بالسر القدسي ولكن من قلبه؛ ولول‬
‫هو ولول أنه بهذه الخصائص‪ ،‬لكان حافظ شاعًرا من الطبقة الثانيسسة‪،‬‬
‫فإنه من الشيخ وحده كانت له هذه القوة التي جعلته يصيب اللهسسام‬

‫‪247‬‬
‫من كل عظيم يعرفه‪ ،‬وكان لسسه مسسن أثرهسسا هسسذا الشسسعر المسستين فسسي‬
‫وصف العظماء والعظائم وهو أحسن شعره‪.‬‬
‫ولم يجد حافظ من قسسومه مسسا يجعلسسه لسسسانهم حسستى تنطقسسه بسسالوحي‬
‫نفسيتهم التاريخية الكبرى‪ ،‬ول توله ملسسك أو أميسسر يرغسسب فسسي أدبسسه‬
‫رغبة أديسسب ملسسك‪ ،‬أو أديسسب أميسسر‪ ،‬ليظهسسر منسسه عبقريسسة جديسسدة فسسي‬
‫التاريخ؛ ول عرف الحب الذي يجعل للشاعر مسسن سسسحر الحسسبيب مسسا‬
‫يجمع النفسية التاريخية والملكيسسة معًسسا ويزيسسد عليهمسسا؛ وهسسذه الثلثسسة‬
‫التي لم تتفق لحافظ‪ ،‬هي التي ل ينبغ الشاعر نبوغ ًسسا يفسسرده ويميسسزه‬
‫إل بواحد منها أو باثنين أو بها كلها؛ غير أن "حافظ" وجد فسسي المسسام‬
‫ما هو أسمى من كل هؤلء في النفس والجاذبيسسة‪ ،‬وعسسرف فيسسه مسسن‬
‫ذوق الدب والبلغة ما لم يعرف شاعر في ملك ول أمير؛ وقد حضر‬
‫درسه في المنطق وأسرار البلغة ودلئل العجاز‪ ،‬وخرج منها بذوقه‬
‫الدقيق وأسلوبه المتمكن‪ ،‬وحضسسر مجالسسسه وخسسرج منهسسا بمواضسسيعه‬
‫الجتماعيسسة وأغراضسسه الوثابسسة‪ ،‬وحضسسر نظسسرات عينيسسه وخسسرج منهسسا‬
‫بروحانية قوية هي التي تنضرم في شعره إلى البد‪ ،‬فحسسافظ إحسسدى‬
‫حسنات الشيخ على العالم العربي‪ ،‬وهو خطة من خططه في عمله‬
‫للصسسلح الشسسرقي السسسلمي والنهضسسة المصسسرية الوطنيسسة وإحيسساء‬
‫العربية وآدابها؛ وإذا ذكرت حسنات الشسسيخ أو عسسدت للتاريسسخ‪ ،‬وجسسب‬
‫أن يقال‪ :‬أصلح وفعل وفعل وفسر القرآن وأنشأ حافظ إبراهيم‪...‬‬
‫جًها بفكرة المام وروحه‪ ،‬واسسستمر فسسي ذلسسك بعسسد‬ ‫ومضى شاعرنا مو ّ‬
‫موت الشيخ كما يستمر النهر إذا احتفر مجراه‪ :‬ل يستطيع أن يخرج‬
‫عنه ما دام يجري إلى مقاّره‪.‬‬
‫وكان حافظ في بديعه وصناعته على مذهب مسسسلم بسسن الوليسسد كمسسا‬
‫دا‬
‫ما على حسسوكه‪ ،‬وانفسسرا ً‬ ‫قلنا‪ ،‬وهو مثله إبطاء في عمل الشعر‪ ،‬وتلو ً‬
‫بكل لفظة منه‪ ،‬وتقليًبا للنظر فيما بين الكلمة والكلمة‪ ،‬واعتبسسار كسسل‬
‫بيت كالعروس‪ :‬لهسسا معسسرض وحليسسة وزينسسة؛ فسسإذا عمسسل شسسعًرا انبسسث‬
‫خواطره في كل وجه‪ ،‬وذهب وراء اللفاظ والمعاني‪ ،‬وترك هاجسسسه‬
‫"العقل الباطن"‪ 1‬يعمل عمله فيما التسسوى عليسسه أو استصسسعب‪ ،‬وهسسو‬
‫واثق أنه سينقاد ويتسهل بقوة إن لم تكن فيه الن فستكون فيه؛ ثم‬
‫ينظسسم مسسا يتسسسمح إن جسساء فسسي موضسسعه مسسن القصسسيدة أو فسسي غيسسر‬
‫قا بعينه‪ ،‬وإنما القصيدة عنده كسسل سسسيجتمع‬ ‫موضعه‪ ،‬فل يتبع فيها نس ً‬
‫من بعد‪ ،‬تتهيأ أجزاؤه متسقة ومبعثرة كما يجيء بها اللهام وأسباب‬
‫التفاق؛ فالقصيدة أوًل في أبياتها‪ ،‬ثم تكون أبياتها فيها‪ ،‬أي ثم ترتسسب‬
‫البيات وتنزل في منازلها‪ ،‬ول ينظم إل متغنًيا‪ ،‬يروض الشسسعر بسسذلك؛‬

‫‪248‬‬
‫لن النفس تتفتسسح للموسسسيقى فتسسسمح وتنقسساد‪ ،‬وهسسو يتبسسع فسسي ذلسسك‬
‫طريقة‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬كذا سماه المؤلف هنا‪ ،‬وقد سماه في غير هذا الموضسسع "الواعيسسة‬
‫الباطنة"‪.‬‬
‫معروفة ذكرها ابن حجة الحموي في كتابه "خزانة الدب"‪ ،‬وهي من‬
‫وصية أبي تمام البحتري‪ ،‬وكان المتنبي يعمل عليهسسا؛ وبالجملسسة فسسإن‬
‫"حافظ" يرتهن فكره بالقصسسيدة السستي ينظمهسسا ويتسسوفر عليهسسا وعلسسى‬
‫أسسسبابها‪ ،‬ل كمسسا يفسسرغ الشسساعر للشسسعر‪ ،‬ولكسسن كمسسا يتسسوفر المؤلسسف‬
‫العظيم على كتاب يؤلفه‪ ،‬وهو كذلك يبطئ في نثره أكثر مما يبطئ‬
‫في الشعر‪ ،‬دلني بنفسه رحمه الله على صسسفحة فسسي الجسسزء الثسساني‬
‫ما*‪.‬‬
‫من ترجمة البؤساء‪ ،‬وقال‪ :‬إنه ترجمها بخمسة عشر يو ً‬
‫وحضرته مرة يترجم أسطًرا من الجزء الول "فسسي قهسسوة الشيشسسة"‬
‫يخطها في دفتر صغير دون حجم الكف‪ ،‬فسساجتمعت لسه ثلثسة أسسسطر‬
‫في ثلث ساعات‪ ،‬وهذا ل يعيبه مسا دام يريسد قسسط الفسسن‪ ،‬ومسا دام‬
‫يحاول أن يخرج الكلمات من عالمهسسا إلسسى عسسالمه هسسو المتمسسوج مسسن‬
‫اللفاظ والعبارات بمثل الكواكب فسسي السسستواء والجاذبيسسة والشسسعاع‬
‫والرونق والجمال‪.‬‬
‫ويرى مع الصناعة أن يكسسون سسسبك شسسعره سسسبك البسسدوي المطبسسوع‪:‬‬
‫جزًل سهًل مشرًقا ممتلًئا متعادل الجزاء والتقاسيم‪ ،‬يرن رنيًنا كأنمسسا‬
‫قذفت به سليقة أعرابي فصيح‪ ،‬تحت ضوء كواكب البادية‪ ،‬على بسسرد‬
‫الرمل‪ ،‬في نسمات الليل‪ ،‬حين تمتلسسئ تلسسك النفسسس البدويسسة بحنيسسن‬
‫الحب‪ ،‬أو شوق الجمسسال‪ ،‬أو عظمسسة القسسوة؛ وهسسذا هسسو الصسسل السسذي‬
‫اتبعه‪ ،‬وقفني عليسسه هسسو بنفسسه فسسي سسسنة ‪ ،1902‬وقرظنسسي بسه فسي‬
‫الجزء الول من ديواني فقال‪:‬‬
‫أنت والله كاتب حضرّيإن عددناك شاعًرا بدوّيا‬
‫ولو أنسسك أجريسست شسسعر حسسافظ فسسي أبلسسغ مسسا قسساله المطبوعسسون مسسن‬
‫العراب وشسسعراء القسسرن الول‪ ،‬للتسسأم بسسه وزاد عليسسه فسسي الصسسناعة‬
‫وبعض المعنى؛ وقل أن تجسد فسسي شسسعره كلمسة ينبسو بهسا مكانهسا‪ ،‬إل‬
‫ظا قليلة كان يستكرهها‪ ،‬يحسب أنه يسسستطرف منهسسا ويسسرى فسسي‬ ‫ألفا ً‬
‫دا؛ وهذا من خطأ رأيه في السلوب؛ لنه مع بلغته كسسان‬ ‫غرابتها جدي ً‬
‫ينقصسه أن يكسون فيلسسسوًفا فسسي البلغسسة‪ ،‬وأنسا أرى أنسه لسو تمست لسه‬
‫الموهبة الفلسفية لما جاراه شسساعر آخسسر‪ ،‬ولكسسن الكمسسال عزيسسز فسسي‬
‫البشرية؛ وقد عرفت رأيه في السلوب في سسسنة ‪ ،1906‬إذ نشسسرت‬

‫‪249‬‬
‫له مجلة القلم السستي كسسان يصسسدرها صسساحبنا الديسسب جسسورج طنسسوس‬
‫كلمات كان يريد أن يضمنها كتابه "ليالي سسسطيح"‪ ،‬أظهسسر فيهسسا رأيسسه‬
‫في الشعراء‪ ،‬فقال فسسي إسسسماعيل صسسبري‪ :‬يقسسول الشسسعر لنفسسه ل‬
‫للنسساس‪ ،‬وفسسي شسسوقي‪ :‬أرق الشسسعراء‪ ،‬طبعًسسا وأسسسماهم خيسساًل وفسسي‬
‫ي ‪-‬ولم يكن مضى‬ ‫مطران‪ :‬أسرعهم بديهة وأقدرهم ابتكاًرا‪ .‬وقال ف ّ‬
‫علسسي إل سسست سسسنين فسسي طلسسب الدب‪ :‬مكثسسار راقسسي الخيسسال بعيسسد‬
‫الشوط في ميادين الدب‪ ،‬غير ناضسسج السسسلوب‪ .‬فلمسسا اجتمعسست بسسه‬
‫فاتحته في ذلك وسسألته رأيسه فسي السسلوب الناضسج‪ ،‬فلسم أر عنسده‬
‫طائًل‪ ،‬وكل ما قاله في ذلك‪ :‬أن الشيخ عبد القسساهر الجرجسساني قسسرر‬
‫أن البلغة ليست في اللفظ ول في المعنى‪ ،‬ولكنهسسا فسسي السسسلوب‪.‬‬
‫وعبد القاهر لم يقل هذا ول قاله غيره‪ ،‬فإن السلوب عنده "طريقسسة‬
‫مخصوصة في نسق اللفاظ بعضها على بعض لترتيب المعسساني فسسي‬
‫النفس وتنزيلها"‪ ،‬و"أن المنزلة من حيز المعاني دون اللفاظ‪ ،‬وأنهسسا‬
‫ليسسست لسسك حيسسث تسسسمع بأذنسسك‪ ،‬بسسل حيسسث تنظسسر بقلبسسك وتسسستعين‬
‫بفكرك"‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* لما أهدي إلي هذا الجزء كنا قبل الظهر‪ ،‬فلم يسسدعني حسستى قرأتسسه‬
‫كله معه إلى العصر وكتبت عنه في المقطم بعد ذلك‪.‬‬
‫وقد قررت أن لللفسساظ مسسا يشسسبه اللسسوان‪ ،‬فليسسست كلهسسا زرقسساء ول‬
‫صفراء ول حمراء‪ ،‬ورب لفظة رقيقة تقع ضعيفة في موضسسع فيكسسون‬
‫ضعفها في موضعها ذاك هو كل بلغتها وقوتها‪ ،‬كفترة السكوت بيسسن‬
‫أنغام الموسيقى‪ :‬هسسي فسسي نفسسسها صسسمت ل قيمسسة لسسه‪ :‬ولكنهسسا فسسي‬
‫موضعها بين النغام نغم آخر ذو تسسأثير بسسسكونه ل برنينسسه؛ وهسسذا مسسن‬
‫روح الفن في السلوب‪.‬‬
‫وأدرك شاعرنا من يومئذ ما سميته "قوة الضسسعف"‪ ،‬ولعسسل هسسذا هسسو‬
‫السبب في أن طبعه رجع يعدل به إلى التسهيل‪ ،‬حتى أنه لتقسسع فسسي‬
‫شعره أبيات متهافتة فيأتي بهسسا ول ينكرهسسا؛ ولقينسسي مسسرة فأنشسسدني‬
‫قول الشاعر‪:‬‬
‫نا لم أرزق محبتها إنما للعبد ما رزقا‬
‫وجعل يعجني من بلغة قوله "لم أرزق" وأنها مع ذلك ضعيفة مبتذلة‬
‫تجري في منطق كل عامي‪ ،‬قلت‪ :‬ولكن "محبتها" جعلتها كمحبتها‪...‬‬
‫وضعف الموهبة الفلسفية في حافظ عوضه ناحية أخرى مسسن أقسسوى‬
‫القوة في الشعر‪ ،‬وهي اهتداؤه إلى حقيقة الغرض الذي ينظم فيسسه‪،‬‬
‫وتركه الحواشي والزيادات‪ ،‬وانصراف قواه إلى دقسسة الوصسسف حيسسن‬

‫‪250‬‬
‫يصف‪ ،‬وتعويله على إحساسه أكثر من تعويله على فكره؛ فزاد ذلسسك‬
‫في رونق شعره ومائة‪ ،‬ونحا بسسه منحسسى المطبسسوعين‪ ،‬فخسسرج يتسسدفق‬
‫سلسة وحلوة‪ ،‬ممتلًئا من صواب المعنى وبلغة الداء وقوة التأثير؛‬
‫غا انفرد به‪ ،‬حتى لحسب أن‬ ‫وبهذا نبغ في الرثاء ووصف الفجائع نبو ً‬
‫حا يمده في هذه المواقف‪ ،‬وأن الحقيقة تتبرج له فسسي هسسذه‬ ‫هناك رو ً‬
‫العظائم خاصة ليرى منها ما ل يراه غيره؛ وهو يتحسد ّ بسسالعظيم السسذي‬
‫يرثيه فيجيد فيمن يعرفه إجادة منقطعة النظيسسر‪ ،‬تتسسبين الفسسرق بينهسسا‬
‫وبيسسن شسسعره فيمسسن ل يعرفسسه تلسسك المعرفسسة؛ وأحسسسبه يسسسأل روح‬
‫العظيم الذي يصفه أو يرثيه‪ :‬أين المعنى الذي فيسسه حقيقتسسك؟ وأيسسن‬
‫الحقيقة التي فيها معناك؟‬
‫والفلسفة الشعرية كلهسسا أن يحسسل فسسي الشسساعر الملهسسم ذلسسك السسسر‬
‫الجميل الجاذب والمنجذب مًعا‪ ،‬المستقر والمتحول جميعًسسا‪ ،‬البسساطن‬
‫والظاهر في وقت؛ فيكتنه الشاعر مسسا ل يسسدركه غيسسره‪ ،‬فيقسسف علسسى‬
‫الجمال والحسن والرقة‪ ،‬ويلهم الحكمة والبصيرة ويتنسساول الغسسراض‬
‫بالتحليل والتركيب‪ ،‬ويؤتى التعبير عن كل ذلك في طريقة خاصة بسسه‬
‫هي أسلوبه‪ ،‬وهذا لم يتفق على أتمه وأحسنه في حافظ‪ ،‬فقصسسر بسه‬
‫في توليد المعاني المبتكرة‪ ،‬ونزل به في الغزل ووصف الجمال؛ بيد‬
‫أنه اتفق له مثل هذا الجلل بعينه في "الجانب المتألم من شسسعره"‪،‬‬
‫أي الرثاء والشكوى ووصف الفجيعة‪ ،‬ولو ذهبت تسسستعرض المراثسسي‬
‫في الشعر العربي‪ ،‬ومثلت بينهسسا وبيسسن رثسساء حسسافظ للعظمسساء السسذين‬
‫خالطهم‪ ،‬كالسسستاذ المسسام‪ ،‬والبسسارودي‪ ،‬ومصسسطفى كامسسل‪ ،‬وثسسروت‪،‬‬
‫لراعك أنك واجسد للشسعراء مسا هسو أسسمى مسن معسانيه وأقسوى مسن‬
‫خياله‪ ،‬ولكنك ل تجد البتة ما هسسو أفخسسر وأدق ممسسا جسساء بسسه فسسي هسسذا‬
‫الباب‪ ،‬كأنه منفرد في العربية بهذه الخاصة‪.‬‬
‫وهذا المعري يقول‪:‬‬
‫ولول قولك الخلق ربيلكان لنا بطلعتك افتتان‬
‫ويقول في شعر آخر‪:‬‬
‫أسهب في وصفه علك لناحتى خشينا النفوس تعبدها‬
‫وهذان البيتان تراهما صعلوكين إذا قسسستهما بقسسول حسسافظ فسسي رثسساء‬
‫الشيخ محمد عبده‪:‬‬
‫فل تنصبوا للناس تمثال "عبده"وإن كان ذكرى حكمة وثبات‬
‫فإني لخشى أن يضلوا فيومئواإلى نور هذا الوجه بالسجدات‬
‫مع أن معنى حافظ مأخوذ منهما‪ ،‬ولكن انظر كيف جسساء بسسه؟ ويقسسول‬
‫المعري في رثاء أبيه‪:‬‬

‫‪251‬‬
‫ولو حفروا في درة ما رضيتهالجسمك إبقاء عليك من الدفن ويقسسول‬
‫في رثاء غيره‪:‬‬
‫واه الكفان من ورق المصحف كبًرا عن أنفس البرار‬ ‫خب ُ َ‬
‫وا ْ‬
‫ضا كالصعاليك عند قول حافظ في البارودي‪:‬‬ ‫وهذان أي ً‬
‫لو أنصفوا أودعوه جوف لؤلؤةمن كنز حكمته ل جوف أخدود‬
‫وكفنوه بدرج من صحيفتهأو واضح من قميص الصبح مقدود‬
‫م بقول المعري‪ .‬ومن بديع ما اتفق له في قصسيدة‬ ‫مع أن "حافظ" أل ّ‬
‫"المتان تتصافحان" قوله يصف السوريين‪:‬‬
‫دا ركبوا‬‫رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدواإلى المجرة ركًبا صاع ً‬
‫أو قيل في الشمس للراجين منتجعمدوا لها سبًبا في الجو وانتدبوا‬
‫فاقرأ هذين وأقرأ بعدهما قول المتنبي في سيف الدولة‪:‬‬
‫وصول إلى المستصعبات بخيلهفلو كان قرن الشمس ماء لوردا‬
‫فإنك تجد بيت المتنبي صعلو ً‬
‫كا علسسى بيسستي حسسافظ‪ ،‬مسسع أنسسه المبتسسدع‬
‫السابق‪.‬‬
‫وأعجب ما عجبت لسسه هسسذا السسبيت مسسن شسسعر صسساحبنا فسسي مقطوعسسة‬
‫يخاطب بهسسا المريكسسان‪ ،‬نشسسرها فسسي المقطسسم مسسن ثلث سسسنوات أو‬
‫نحوها‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وتخذتم موج الثير بريداحين خلتم أن البروق كسالى‬
‫سا في زيارة الصديق الستاذ فؤاد صروف‬ ‫واتفق يومئذ أن كنت جال ً‬
‫محرر المقتطف‪ ،‬فجاء حافظ‪ ،‬فلم يكد يصسسافحني حسستى قسسال‪ :‬كيسسف‬
‫ترى هذا البيت‪ :‬وتخذتم موج الثير بريدا‪ ...‬الخ؟ فسسأثنيت عليسسه السسذي‬
‫يهوى‪ ،‬وهنأته بهذا المعنى‪ ،‬وأظهرت له ما شاء من العجاب‪ ،‬ولكني‬
‫أضمرت عجبي من حسن مسسا اتفسسق لسسه فسسإن الجمسسال الشسسعري فسسي‬
‫البيت إنما هو في استعارة الكسل للبروق‪ ،‬وهذا بعينه من قول ابسسن‬
‫نباتة السعدي في سيف الدولة‪:‬‬
‫دىإل قضيت للمح البرق بالكسل‬ ‫ما في ندى ور ً‬ ‫وما تمهل يو ً‬
‫غير أن "حافظ" نقل المعنى إلى حقه‪ ،‬ومكن له أحسن تمكيسسن فسسي‬
‫صدر كلمه‪ ،‬وأتم جمساله فسي قسوله "حيسسن خلتسم"‪ ،‬فسساقتطع المعنسى‬
‫وانفرد به‪ ،‬وعاد معنى السعدي كالصسسعلوك علسسى بسساب بيتسسه؛ وكسسانت‬
‫هذه المقابلة في المقتطف آخر عهدي بحافظ‪ ،‬فلم أره مسسن بعسسدها؛‬
‫رحمه الله!‬
‫وما مر بك إنما كان من صسسناعة الشسسعر فسسي غيسسر الجسسزء الول مسسن‬
‫ديوانه بعد أن استفحل وتخرج في مدرسسسة المسسام‪ ،‬أمسسا فسسي الجسسزء‬
‫الول فله هو صعاليك‪ ...‬كقوله في الخمر‪:‬‬

‫‪252‬‬
‫خمرة قيل إنهم عصروهامن خدود الملح في يوم عرس‬
‫فهذا البيت صعلوك عند قول ابن الجهم‪:‬‬
‫مشعشعة من كف ظبي كأنماتناولها من خده فأدارها‬
‫وقول حافظ‪" :‬عصروها في خسسدود الملح" كلم مسسن لسسم ينضسسج فسسي‬
‫البيسسان ول السسذوق‪ ،‬ل يكسساد يتسسوهم معسسه إل أن فسسي خسسدود الملح‬
‫"خراجات" عصرت‪...‬‬
‫وعلى ضد هذا قول ابن الجهم‪" :‬تناولها من خده"‪ ،‬فهسي كلمسة أكسثر‬
‫نعومة من ذلك الخد وأجمل نضرة‪.‬‬
‫وقول حافظ في مدح الخديو‪:‬‬
‫يا من تنافس في أوصافه كلميتنافس العرب المجاد في النسب‬
‫فهو صعلوك على بيت أبي تمام‪:‬‬
‫تغاير الشعر فيه إذ سهرت لهحتى ظننت قوافيه ستقتتل‬
‫ول نطيل الستقصاء‪ ،‬فإنما نريد التمثيل حسب‪.‬‬
‫وكان الشاعر أول نشأته يأخذ في طريقة المعسري السذي عمسي عسن‬
‫الطبيعة فجعل يخلقها من فكسسره ومحفسسوظه بمبالغسسات كاذبسسة يغسسرق‬
‫فيها يحسب أنه بذلك يعظم الحقائق فتخرج له الخيلة الكبيرة‪ ،‬ومسسا‬
‫يدري أنه بهذا الغلو ل يجيء إل بالباطيل الكبيرة‪ ...‬ولكن حافظ في‬
‫مزاجه وتركيبه ونشأته كان رجًل مبنًيا علسسى الوضسسوح والقصسسد‪ .‬فلسسم‬
‫يفلسسح فسسي طريقسسة المعسسري؛ ووضسسوحه كسسذلك باعسسده مسسن الفلسسسفة‬
‫وإبهامها‪ ،‬ومن الطبيعة وألغازها‪ ،‬ومن الغزل ووساوسسسه؛ وهسسو السسذي‬
‫أداه إلى الشغف بالحقيقة واستخلصها في كل أغراضسسه السستي أجسساد‬
‫فيها؛ ومن ثسسم خل شسسعره أو كسسأنه خل‪ ...‬مسسن أوصسساف الطبيعسسة فسسي‬
‫جمالها بلغة الفكرة المتأمل‪ ،‬ومن أوصاف الجمال في سسسحره بلغسسة‬
‫القلب العاشق‪.‬‬
‫وأنت فل تحسبن الشاعر يجيد في الغزل والنسسسيب مسسن أنسسه شسساعر‬
‫يحسن الصنعة ويجيد السلوب‪ ،‬فيكون غرض من الشعر سسسبيًل إلسسى‬
‫غرض‪ ،‬وفن عون ًسسا علسسى فسسن‪ ،‬وتكسسون رقسسة اللفسساظ وهلهلسسة النسسسج‪،‬‬
‫وقلبي‪ ،‬وكبدي‪ ،‬ويا ليلة ويا قمسًرا‪ ،‬ويسا غسزاًل ‪ ...‬وأشسسباه ذلسك‪ -‬غسزًل‬
‫ضا‪....‬‬
‫ونسيًبا؛ كل ثم كل‪ ،‬والثالثة كل أي ً‬
‫إن الغزل وأوصاف الجمال موهبة في الشاعر أو الكاتب تسسسخر لهسسا‬
‫قوى هي أشبه في معجزاتهسسا بمسسا سسسخر لسسسليمان مسسن قسسوى الجسسن‬
‫والريح‪ ،‬غير أنها قوى آلم ولذات ووساوس؛ تلك عظمسسة فسسي بعسسض‬
‫النفوس الشاعرة كعظمسة الملسوك والبطسال‪ ،‬غيسر أنهسا ل تكمسل إل‬
‫خائبة أو مغلوبة‪ ،‬فإذا انتصرت سقطت فل بد لها من تاريخ وحسسوادث‬

‫‪253‬‬
‫ومزاج عصبي يهيئ لها بروحانية شديدة الحس شديدة الفورة ثسسائرة‬
‫دا ل تهدأ إل على توليد معنى بديع في جمال من تحبه أو كجمسساله؛‬ ‫أب ً‬
‫ثم إذا هدأت بذلك أثارها أنهسسا هسسدأت‪ ،‬فتعسسود إلسسى التوليسسد‪ ،‬فل تسسزال‬
‫تبتدع وتصسسف كأنهسسا آلسسة تعسسبير تسسدور بقلسسب وعصسسب؛ هنسساك قوتسسان‪:‬‬
‫قا‪ ،‬والخسسرى فسسوق هسسذه‬ ‫مسسا وعشس ً‬
‫إحداهما توتي الحب كما يصلح غرا ً‬
‫قا‬
‫تؤتي الحب كما يصلح فكًرا وتعبيًرا؛ والولسى تجعسل صساحبها عاشس ً‬
‫يحب ويدرك ليس غير‪ ،‬والثانية تجعله محًبا عمله أن ينقسسل مسسن لغسسة‬
‫ما في نفسه إلى ما حوله‪ ،‬ومن لغة ما حوله إلى ما في نفسه؛ فهو‬
‫مترجم النفس إلى الطبيعة‪ ،‬ومترجم الطبيعسسة إلسسى النفسسس؛ والسسذي‬
‫أعرفه أن "حافظ" لم يرزق ل هذه ول تلسسك‪ ،‬فل طبيعسسة فيسسه للغسسزل‬
‫وفلسفة الجمال؛ ثم إن التاريسسخ حصسسره فسسي "الشسساعر الجتمسساعي"‬
‫الذي اختار أن يمتاز به‪ ،‬فهو في أكثر شعره كان ليس فيسسه شسسخص‪،‬‬
‫بل فيه شعب مأسور غفل عن الجمال وعن الطبيعسسة وعسسن النشسسوة‬
‫بهما؛ إذ يعيش في معاناة الحرية ل في التأمل الجميل‪ ،‬وفي أسباب‬
‫القوة ل في أسباب الرقة‪ ،‬ويريد أن يعمسسل؛ ليوجسسد حقيقتسسه قبسسل أن‬
‫يعمل؛ ليبدع خياله‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد جاء فسسي ديسسوان حسسافظ غسسزل قليسسل كسسان كلسسه متابعسسة‬
‫دا في فن يحسن التقليد إل فيسسه خاصسسة؛ عمسسل صسسدًرا لقصسسيدة‬ ‫وتقلي ً‬
‫مدح بها الخديو مطلعها‪:‬‬
‫كم تحت أذيال الظلم متيمدامي الفؤاد وليله ل يعلم‬
‫قا ظاهًرا‪ ،‬ثسسم زعسسم أن‬ ‫وقلد ابن أبي ربيعة في حكاية حب لفقها تلفي ً‬
‫الحبيبة قالت له في آخرها‪:‬‬
‫فاذهب بسحرك قد عرفتك واقتصدفيما تزّين للحسان وتوهم‬
‫وكلمة صاحبة ابن أبي ربيعة‪:‬‬
‫أهذا سحرك النسوانقد عرفتني الخبرا‬
‫أهذا سحرك النسوان؟ ‪ ...‬هذه كلمة ل تخرج إل من فسسم حسسبيبته آيسسة‬
‫في الظرف‪ ،‬وفيها تجاهلهسسا وعرفانهسسا وابتسسسامها وإشسسراق وجنتيهسسا‪،‬‬
‫وأكاد والله أرى فيها‬
‫تلك الجميلة وهي تدق بيدها على صسسدرها دقسسة السسستفهام المتسسدلل‬
‫المتظاهر بالدهشة؛ ليتنهد فيه الكلم والمتكلم مًعا‪ ،‬أمسا قسسول حبيبسة‬
‫حافظ الخشبية‪ ،‬أو الحجرية‪ ...‬اذهب‪ ...‬قد عرفتسسك واقتصسسد‪ ...‬فهسسذا‬
‫ض وهو ينصح المتهسسم بعسسد المسسر بسسالفراج‬ ‫خليق أن يكون من فم قا ٍ‬
‫عنه‪ ...‬أو مأمور قسم عند ضبط الحادثة!‬

‫‪254‬‬
‫أكسسبر ظنسسي أن روح حسسافظ نفسسسه هسسي السستي أوحسست إلسسى الن هسسذه‬
‫"النكتة"‪ ،‬فإنه ‪-‬رحمسسه اللسسه‪ -‬كسسان آيسسة فسسي البسساب‪ ،‬ولسسه مسسن النسسوادر‬
‫محفوظة ومخترعة ما ل يلحق فيه؛ ولو كان كاتًبا على قدر مسسا كسسان‬
‫شاعًرا‪ ،‬وزاول النقد واستظهر للكتابة فيه بتلك الملكة المبدعة فسسي‬
‫التندر والتهكم‪ ،‬مع ما أوتسسي مسسن القسسوة فسسي اللغسسة والبيسسان ‪-‬لكسسانت‬
‫النعمة قد تمت به علسسى الدب العربسسي‪ ،‬ولقلنسسا فسسي شسسعره وكتسسابته‬
‫وأدبه ما قال هو في الستاذ المام‪:‬‬
‫فأطلعت نوًرا من ثلث جهات‬
‫وما دمنا قد ذكرنا النقد فمن الوفاء للتاريخ الدبسسي أن نسسذكر مسسذهب‬
‫شسساعرنا فيسسه‪ :‬فلسسم يكسسن عنسسده منسسه إل ذوق الكلم‪ ،‬وإدراك النفسسرة‬
‫والنبسسوة فسسي الحسسرف‪ ،‬والغلسسظ والجسسسأة فسسي اللفسسظ‪ ،‬والضسسعف‬
‫والتهافت في التركيب‪ ،‬ثسسم مسسا يجيسسش فسسي الخسساطر أو يتلجلسسج فسسي‬
‫الفكر من ذوق المعنى وإدراك كنهه والنفاذ إلسى آثسار النفسس الحيسة‬
‫فيه؛ فكأن النقد هو الحسسس بسسالكلم كمسسا تلمسسس الحسسار والبسسارد ومسسا‬
‫بينهما؛ ووصف لي مرة إسماعيل صبري باشا وأراد أن يبالغ في دقة‬
‫تمييزه وحسن بصره بالشعر وإدراكه دقائق المعسساني‪ ،‬فقسسال‪" :‬ذواق‬
‫يا مصطفى" ولم يزد‪.‬‬
‫ومذهب الحس بسسالكلم هسسذا وإن صسسلح أن يكسسون مسسن بعسسض معسساني‬
‫النقد‪ ،‬فل يتهيأ أن يكون هو النقد بمعنسساه الفلسسسفي أو الدبسسي‪ ،‬وهسسو‬
‫في جملة أمره كقولك حسسسن حسسسن؛ وردي رديسسء‪ ،‬أمسسا كيسسف كسسان‬
‫حسًنا أو رديًئا‪ ،‬وبمساذا ولمساذا‪ ،‬فسذلك مسا ل سسبيل إليسه مسن مسذهب‬
‫"ذواق"‪ ...‬ول وسسسيلة لسسه إل العلسسم المسسستفيض‪ ،‬والطلع الواسسسع‪،‬‬
‫والحس المرهف‪ ،‬والقدرة المتمكنة‪ ،‬مضافة كلها إلسسى الدب البسسارع‬
‫وفلسفته الدقيقة؛ ول نعرف لحافظ كتابة في النقد البتة‪ ،‬وقسسد كسسان‬
‫حاول شيًئا من هذا في مقدمة كتابه "ليالي سسسطيح"‪ ،‬فتنسساول بعسسض‬
‫خصومه بكلمات رأى هو أن يمحوها بعد أن طبعت الكراسة الولسسى‪،‬‬
‫فأسقطها وأعاد كتابسسة المقدمسسة وطبعهسسا مسسرة ثانيسسة‪ ،‬وكسسانت عنسسدي‬
‫دا يعرفسسه الن؛ رحسسم اللسسه‬ ‫النسخة التي محاها‪ ،‬وهذا مسسا ل أظسسن أح س ً‬
‫شاعًرا كان أصفى من الغمام‪ ،‬وكان شعره كأنه البرق والرعد‪...‬‬

‫‪‬‬

‫‪255‬‬
‫كلمات ‪ 1‬عن حافظ*‬

‫ذهبت بقلبي إلى كل مكان فوجدت أمكنسسة الشسسياء ولسسم أجسسد مكسسان‬
‫قلبي؛ أيها القلب المسكين‪ ،‬أين أذهب بك؟‬
‫هذا ما أجبت به "حافظ" حين سألني مرة‪ :‬ما لك ل ترضى ول تهسسدأ‬
‫ض مستقر هادئ‪ ،‬كأنمسسا قضسسى‬ ‫ول تستقر؟ وكان يخيل إلي أنه هو را ٍ‬
‫من الحياة نهمته ولم يبق فسسي نفسسسه مسسا تقسسول نفسسسه ليسسست ذلسسك‬
‫لي!‪ .‬وكنت أعجب لهذا الخلق فيسسه ول أدري مسسا تعليلسسه إل أن يكسسون‬
‫عا بطابع اليتم فلم يعرف منذ أدرك إل أنه ابن القسسدر؛‬ ‫قد خلق مطبو ً‬
‫تأتيه الفراح والحزان من يد واحدة مقبلة كما تنال الصسسبي ألطسساف‬
‫أبيه ولطمات أبيه‪...‬‬
‫وقد قلت له مرة‪ :‬كأنك يسا حسافظ تنسام بل أحلم! فضسحك وقسال‪ :‬أو‬
‫كأنني أحلم بغير نوم‪...‬‬
‫ولقد عرفته منذ سنة ‪ 1900‬إلى أن لحق بربه في سنة ‪ ،1932‬فما‬
‫مسسا بسسروح القسسبر‪ ،‬وفسسي‬‫كنت أراه على كل أحسسواله إل كسساليتيم‪ :‬محكو ً‬
‫القبر أوله؛ ولما أزمع السسسفر إلسسى اليونسسان قلسست لسسه‪ :‬أل تخشسسى أن‬
‫تموت هنسساك فتمسسوت يوناني ًسسا‪ ...‬فقسسال‪ :‬أو ترانسسي لسسم أمسست بعسسد فسسي‬
‫مصر؟‪ ...‬إن الذي بقي هين!‬
‫ومسسن عجسسائب هسسذا اليسستيم الحزيسسن أنسسه كسسان قسسوي الملكسسة فسسي فسسن‬
‫الضحك‪ ،‬كسسأن القسسدر عوضسسه بسسه؛ ليوجسسده فسسي النسساس عطسسف البسساء‬
‫ومحبة الخسسوة‪ .‬ولسسم يخسسل مسسع فقسسره مسسن ذريعسسة قويسسة إلسسى الجسساه‪،‬‬
‫ووسيلة مؤكدة إلى ما هو خير من الغنى؛ فكانت أسبابه إلى الستاذ‬
‫المام الشيخ محمد عبده‪ ،‬ثم حشمت باشا‪ ،‬ثم سسسعد باشسسا زغلسسول؛‬
‫وهذا نظام عجيب فسسي زمسسن "حسسافظ" يقابسسل الختلل العجيسسب فسسي‬
‫نفس حافظ؛ فالرجل كالسفينة المتكفئة‪ :‬تميسسل بهسسا موجسسة وتعسسدلها‬
‫موجة‪ ،‬وهي بهذه وبهذه تمر وتسير‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬كتبها في الذكرى الثالثة لوفاته‪.‬‬
‫* لما توفي حافظ رحمه الله كتبنا فصًل طويًل عن أدبسسه للمقتطسسف‪،‬‬
‫فلم نعرض في كلماتنا هذه لشيء من أدب الرجل وإنما هي ذكسسرى‬
‫وبقايا من اليام‪.‬‬
‫ما في زمن حافظ‪،‬‬ ‫وأولئك الرؤساء العظماء الذين جعلهم القدر نظا ً‬
‫كانوا من أفقر الناس إلى الفكاهة والنادرة‪ ،‬فكان لهم كسسالثروة فسسي‬
‫حا فسسي عيشسسه؛ ولسسو‬ ‫حا في عيشهم وكانوا إصل ً‬ ‫هذا الباب‪ ،‬ووقع إصل ً‬

‫‪256‬‬
‫أن القدار تشبه بالمدارس المختلفة‪ ،‬لقلنا إن "حسسافظ" تخسسرج منهسسا‬
‫في مدرسة التجارة العليا‪ ...‬فهو كان أبرع من يتاجر بالنادرة‪.‬‬
‫ضا صنعت "حافظ" في شكل نادرة؛ فكسسان‬ ‫وهذه النوادر كأنها هي أي ً‬
‫فقيًرا‪ ،‬ومع هذا كان للمال عنده متمم‪ ،‬هو إنفاقه وإخراجه من يسسده؛‬
‫ما متودد؛ وكسسان حزين ًسسا‪ ،‬ولكنسسه أنيسسس الطلعسسة؛‬ ‫ما‪ ،‬ولكنه دائ ً‬
‫وكان يتي ً‬
‫سسسا‪ ،‬ولكنسسه سسسليم الصسسدر‪ ،‬وكسسان فسسي ضسسيق‪ ،‬ولكنسسه واسسسع‬ ‫وكان يائ ً‬
‫ً‬
‫الخلق؛ وتمام النادرة فيه أنه كان طوال عمره متبسسطا مهسستًزا كسسأن‬
‫له زمًنا وحده غير زمن الناس‪ ،‬فتتراكم عليسسه الهمسسوم وهسسو مسسستنيم‬
‫إلى الراحة‪ ،‬ويعتريه من الجوع مثل مكسلة الشسسبع ويسترسسسل إلسسى‬
‫البطالة وكأنه مشمر للجد‪ ،‬ويستمكن الحزن منه في سسساعة فيتهسسدد‬
‫حزنه بالساعة التالية‪...‬‬
‫رأيته في أحد أيام بؤسسسه الولسى قبسل أن يتصسسل عيشسه‪ ،‬وكسسان يعسد‬
‫شا في يده‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذه القروش؟‬ ‫قرو ً‬
‫شا ولم يبق لي غير هسسذه‬ ‫قال‪ :‬كنت أقامر الساعة فأضعت ثلثين قر ً‬
‫ش‪ .‬ودخل إلى مطعم كسسان وراء حديقسسة‬ ‫القروش الملعونة‪ ،‬فهلم نتع ّ‬
‫الزبكية‪ ،‬فزعمت له أني تعشيت‪ ...‬فأكل هو ودفع ثمن طعامه ثلثة‬
‫قروش؛ وكنت أطالع في وجهه وهو يأكل‪ ،‬فمسسا أتسسذكره الن إل كمسسا‬
‫طالعته بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ حين دعاني "حسسافظ" إلسسى‬
‫مطعم بار اللواء وقد فاضت أنامله ذهًبا وفضة‪ ،‬وكان رحمه الله قسسد‬
‫أصدر الجزء الثاني من "البؤساء" ورآني فسسي القسساهرة فأمسسسك بسسي‬
‫حتى قرأت معه الكتاب كله فيما بين الظهسسر والمغسسرب‪ ،‬وركبنسسا فسسي‬
‫الصيل عربة وخرجنا نتنزه‪ ،‬أي خرجنا نقرأ‪...‬‬
‫وكان على وجه "حسسافظ" لسسون مسسن الرضسسى ل يتغيسسر فسسي بسسؤس ول‬
‫نعيم‪ ،‬كبياض البيض وسواد السود؛ وهذا من عجسسائب الرجسسل السسذي‬
‫كان في ذات نفسسه فّنسا مسن الفوضسى النسسانية‪ ،‬حستى لكسأنه حلسم‬
‫شعري بدأ من أبويه ثم انقطع وترك لتتممه الطبيعة!‬
‫ومن نظر إلى "حافظ" على اعتبار أنه فسسن مسسن الفوضسسى النسسسانية‬
‫رآه جميًل جمال الشياء الطبيعية ل جمال الناس؛ ففيه من الصحراء‬
‫والجبال والصخور والغياض والبرق والرعد وأشباهها؛ وكنت أنسسا أراه‬
‫مسسا‪ ،‬وأرى فسسي شسسكله‬ ‫بهذه العين فأسسستجمله‪ ،‬ويبسسدو لسسي جسسزًل مطه ً‬
‫هندسة كهندسة الكون؛ تتمم محاسنها بمقابحها وكم قلت له‪ :‬إنك يا‬
‫حافظ أجمل من القفر‪...‬‬
‫مسا شسنيع المسرآة متفساوت الخلسق كسأنه‬ ‫أما هو فكان يرى نفسسه دمي ً‬
‫إنسان مغلوط في تركيبه‪...‬‬

‫‪257‬‬
‫وقد سألته مرة‪ :‬هل أحب؟‬
‫فقال‪ :‬النساء اثنتان‪ :‬فإما جميلة تنفر من قبحسسي‪ ،‬وإمسسا دميمسسة أنفسسر‬
‫من قبحها! ولهذا لم يفلح في الغزل والنسيب‪ ،‬ولم يحسن مسسن هسسذا‬
‫الباب شيًئا يسمى شيًئا؛ وبقي شاعًرا غير تام‪ ،‬فإن المسسرأة للشسساعر‬
‫دا لم يكسسن فيسسه‪،‬‬‫ما جدي ً‬ ‫كحواء لدم‪ :‬هي وحدها التي تعطيه بحبها عال ً‬
‫وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازًل‪...‬‬
‫وتهدم حافظ في أواخر أيامه مسسن أثسسر المسسرض والشسسيخوخة‪ ،‬وكسسان‬
‫آخر العهد به أن جاء إلى إدارة "المقتطسسف" وأنسسا هنسساك‪ ،‬فلسسم يرنسسي‬
‫حتى بادرني بقوله‪ :‬ماذا ترى في هذا البيت في وصف المريكان‪:‬‬
‫داحين خلتم أن البروق كسالى*‬ ‫م موج الثير بري ً‬ ‫وتخذت ْ‬
‫فنظرت إلى وجهه المعروق المتغضن وقلت له‪ :‬لو كان فيك موضسسع‬
‫قبلة لقبلتك لهذا البيت! فضحك وأدار لي خده؛ ولكسسن بقسسي خسسده بل‬
‫تقبيل‪.‬‬
‫وشهرة هذا الديب العظيم بنوادره ومحفوظاته مسسن هسسذا الفسسن أمسسر‬
‫مجمع عليه؛ وكان يتقصص النسسوادر والفكاهسسات ومطارحسسات السسسمر‬
‫من مظانها في الكتب ورجال الدب وأهل المجون‪ ،‬فإذا قصها علسسى‬
‫من يجالسه زاد في أسلوبها أسلوبه هو‪ ،‬وجعل يقلبها ويتصرف فيهسسا‬
‫ويبين عنها أحسن البانة بمنطقه ووجهه ونبرات في لسسسانه ونسسبرات‬
‫في يده‪.‬‬
‫وهو أصمعي هذا الباب خاصة‪ ،‬يروي منه رواية عريضة‪ ،‬فإذا اسسستهل‬
‫حا كأنها قوافي قصيدة تدعو الواحدة منها أختها السستي‬ ‫سح بالنوادر س ً‬
‫بعدها‪.‬‬
‫ما فسي سسنة ‪ 1901‬أو‬ ‫سسا حضسرته قسدي ً‬ ‫وقد أذكرتني "ألقوافي" مجل ً‬
‫‪ ،1900‬وكان "مصباح الشرق" قد نشر قصيدة رائية لبسسن الرومسسي‪،‬‬
‫فتعجب المرحوم الشيخ محمد المهدي من بسطة ابن الرومسسي فسسي‬
‫قوافيه‪ ،‬فقال له "حافظ"‪ :‬هلم نتساجل في هذا الوزن حسستى ينقطسسع‬
‫أحدنا؛ وكانت القافيسسة مسن وزن‪ :‬قسدرها‪ ،‬أحمرهسا‪ ،‬أخضسسرها ‪ ...‬السسخ‪،‬‬
‫وجعلت أنا أحصسي عليهمسا؛ فلمسا ضساق الكلم كسان الشسيخ المهسدي‬
‫يفكر طويًل ثم ينطق باللفظ‪ ،‬ول يكاد يفعل حتى يرميه حافظ علسسى‬
‫البديهة‪ ،‬فيعود الرجل إلى الطراق والتفكير؛ ثم انقطع أخي سًرا وبقسسي‬
‫حافظ يسرد له من حفظه الغريب‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* هذا البيت من قصيدة نظمها حافظ يخاطب فيها المريكيين‪ ،‬وقسسد‬
‫أشرنا في مقالنا في المقتطف إلى أن معناه مسروق‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫أما في النوادر فالعجيبة التي اتفقت له في هذا الباب أنسسه جسساء إلسسى‬
‫طنطا في سنة ‪ 1912‬ومديرها يومئذ المرحوم "محمد محب باشسسا"‬
‫قسسا‪ ،‬وكنسست أخسسالطه وأتصسسل بسسه‪ ،‬فسسدعا‬‫فسسا لب ً‬
‫وكسسان داهيسسة ذكي ًسسا وظري ً‬
‫"حافظ" إلى العشاء في داره؛ فلما مسسدت اليسسدي قسسال الباشسسا‪ :‬لسسي‬
‫عليك شرط يا حافظ‪ ،‬قال‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬كل لقمة بنادرة!‬
‫ي ذلسك‪ ،‬ثسم أخسذ يقسص ويأكسل‪،‬‬ ‫فتهلسل حسافظ وقسال‪ :‬نعسم‪ ،‬لسك علس ّ‬
‫مسسا‪ ،‬فمسسا انقطسسع ول أخسسل حسستى وفسسى‬‫والعشاء حافل‪ ،‬وحافظ كان نه ً‬
‫بالشرط؛ وهذا ل يمنسسع أن الباشسسا كسسان يتغافسسل ويتغاضسسى ويتشسساغل‬
‫بالضحك‪ ،‬فيسرع حافظ ويغالط بفمه‪...‬‬
‫ولكن هذه المضحكات أضحكت من "حافظ" مرة كما أضسسحكت بسسه؛‬
‫مسسا‪-‬‬
‫فلما كان يترجم "مكبث" لشكسبير ‪-‬وهي كأعمسساله الناقصسسة دائ ً‬
‫دعوه للقاء محاضرة في نادي المدارس العليا‪ ،‬والنادي يومئذ يجمع‬
‫ما وكان صاحب السر فيسسه "السسسكرتير" زينسسة‬ ‫خير الشباب حمية وعل ً‬
‫شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي؛ فقسسام حسسافظ فأنشسسدهم‬
‫ما عن شكسبير‪ ،‬ومثله تمسسثيًل أفسسرغ فيسسه جهسسده‪،‬‬ ‫بعض ما ترجمه نظ ً‬
‫فسسأطرب وأعجسسب‪ :‬ثسسم سسسألوه المحاضسسرة فأخسسذ يلقسسي عليهسسم مسسن‬
‫نسوادره‪ ،‬وبسسدأ كلمسسه بهسذه النسسادرة‪ :‬عرضسست علسسى المعتصسسم جاريسسة‬
‫يشتريها‪ ،‬فسألها أنت بكر أم ثيب؟ فقالت‪ :‬كثرت الفتوح علسسى عهسسد‬
‫المعتصم‪...‬‬
‫ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرهسسا‪ ...‬وبقيسست هسسذه الوجسسوه إلسسى‬
‫آخر المحاضرة كأنها تقول له‪ :‬إنك لم تفلح!‬
‫ولقد كان هذا من أقوى السسسباب فسسي تنبسسه "حسسافظ" إلسسى مسسا يجسسب‬
‫للشسسباب عليسسه إن أراد أن يكسسون شسساعره‪ ،‬فأقبسسل علسسى القصسسائد‬
‫السياسسسية السستي كسسسبهم بهسسا مسسن بعسسد؛ ونسسادرة المعتصسسم كسسالعورة‬
‫المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعسسة الخسسرى‬
‫أم ل؛ فقد عرضت جارية أديبة ظريفسسة علسسى الرشسسيد فسسسألها‪ :‬أنسست‬
‫بكر أم إيش؟‬
‫م إيش" يا أمير المؤمنين‪...‬‬ ‫فقالت‪ :‬أنا "أ ّ‬
‫وفن "الشعر الجتماعي" الذي عرف بسسه حسسافظ‪ ،‬لسسم يكسسن فنسسه مسسن‬
‫قبل‪ ،‬ول كان هو قد تنبه له أو تحراه في طريقته؛ فلمسسا جسساءت إلسسى‬
‫مصر المبراطورة "أوجيني" نظم قصيدته النونية التي يقول فيها‪:‬‬
‫فاعذرينا على القصور‪ ،‬كلناغيرته طوارئ الحدثان‬
‫ولقيته بعدها فسألني رأيي في هذه القصيدة‪ ،‬وكان بها مدًل معجًبسسا‪،‬‬
‫شأنه في كل شسعره؛ فانتقسدت منهسا أشسياء فسي ألفاظهسا ومعانيهسا‪،‬‬

‫‪259‬‬
‫وأشرت إلى الطريقة التي كان يحسن أن تخاطب بها المسسبراطورة؛‬
‫فكسسأنني أغضسسبته؛ فقسسال‪ :‬إن الشسسيخ محمسسد عبسسده‪ ،‬وسسسعد زغلسسول‪،‬‬
‫وقاسم أمين ‪-‬أجمعوا على أن هذا النمط هو خير الشعر‪ ،‬وقالوا لي‪:‬‬
‫إذا نظمت فانظم مثل هذا "الشعر الجتمساعي"‪ ،‬ثسسم كسسأنه تنبسه إلسى‬
‫أنها طريقة يستطيع أن ينفرد بها‪ ،‬إن كسل قصسائد شسوقي الن غسزل‬
‫ومدح‪ ،‬ول أثر فيها لهذا الشعر‪ ،‬على أنه هو الشعر‪.‬‬
‫وتتابعت قصائده الجتماعية‪ ،‬فلقيني بعدها مرة أخرى فقال لسسي‪ :‬إن‬
‫الشاعر الذي ل ينظم في الجتماعيات ليسسس عنسسدي بشسساعر‪ .‬وأردت‬
‫أن أغيظه فقلت له‪ :‬وما هي الجتماعيات إل جعل مقسسالت الصسسحف‬
‫قصائد؟‪...‬‬
‫فالستاذ المام وسعد زغلول وقاسم أميسسن‪ :‬أحسسد هسسؤلء أو جميعهسسم‬
‫أصل هذا المذهب الذي ذهب إليه حافظ‪ ،‬وهو كثيًرا ما كسسان يقتبسسس‬
‫من الفكار التي تعرض في مجلس الشيخ محمد عبسسده‪ ،‬مسسن حسسديثه‬
‫أو حديث غيره‪ ،‬فيبني عليها أو يدخلها في شعره‪ ،‬وهو أحياًنسسا رديسسء‬
‫دا حين يكون المعنى فلسفّيا؛ إذ كسسانت ملكسسة الفلسسسفة فيسسه‬ ‫الخذ ج ّ‬
‫كالمعطلة‪ ،‬وإنمسسا هسسي فسسي الشسساعر مسسن ملكسسة الحسسب‪ ،‬وإنمسسا أولهسسا‬
‫وأصلها دخول المرأة في عالم الكلم بإيهامها وثرثرتها‪...‬‬
‫وكنت أول عهدي بالشعر نظمت قصيدة مدحت فيها السسستاذ المسسام‬
‫وأنفذتها إليه‪ ،‬ثم قابلت حافظ بعدها فقسال لسي‪ :‬إنسه هسو تلهسا علسى‬
‫المام‪ ،‬وإنه استحسنها؛ قلسست‪ :‬فمساذا كسسانت كلمتسسه فيهسسا؟ قسسال‪ :‬إنسسه‬
‫قال‪ :‬ل بأس بها ‪...‬‬
‫فاضطرب شيطاني من الغضب‪ ،‬وقلت له‪ :‬إن الشيخ ليس بشسساعر‪،‬‬
‫فليس لرأيه في الشسسعر كسسبير معنسسى!‪ .‬قسسال‪ :‬ويحسسك!‪ .‬إن هسسذا مبلسسغ‬
‫الستحسان عنده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا يقول لك أنت حين تنشده؟ قال‪ :‬أعلى مسسن ذلسسك قليًل‪..‬‬
‫فأرضاني والله أن يكسسون بينسسي وبيسسن حسسافظ "قليسسل" وطمعسست مسسن‬
‫يومئذ‪.‬‬
‫وأنا أرى أن "حافظ إبراهيم" إن هو إل ديوان الشيخ "محمد عبسسده"‪:‬‬
‫لول أن هذا هذا‪ ،‬لما كان ذلك ذلك‪.‬‬
‫ما في حاجة إلى من يسسسمعه‪،‬‬ ‫ومن أثر الشيخ في حافظ أنه كان دائ ً‬
‫فكان إذا عمل أبياًتا ركب إلسسى إسسسماعيل باشسسا صسسبري فسسي القصسسر‬
‫العيني‪ ،‬وطاف علسسى القهسسوات والنديسسة يسسسمع النسساس بسسالقوة ‪ ...‬إذ‬
‫كانت أذن المام هي التي ربت الملكة فيه؛ وقد بينا هذا فسسي مقالنسسا‬
‫في "المقتطف"‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫وكان تمام الشعر الحافظي أن ينشسسده حسسافظ نفسسسه؛ ومسسا سسسمعت‬
‫فسسي النشسساد أعسسرب عربيسسة مسسن البسسارودي‪ ،‬ول أعسسذب عذوبسسة مسسن‬
‫الكاظمي‪ ،‬ول أفخم فخامة من حافظ ‪-‬رحمهم الله جميًعا‪.‬‬
‫ما‪ ،‬ولما قال في مدحه‪:‬‬ ‫وكان أديبنا يجل البارودي إجلًل عظي ً‬
‫فمر كل معنى فارسي بطاعتي وكل نفور منه أن يتوددا‬
‫قلت له‪ :‬ما معنى هذا؟ وكيف يأمر البارودي كل معنى فارسسسي ومسسا‬
‫هو بفارسي؟ قسسال‪ :‬إنسسه يعسسرف الفارسسسية‪ ،‬وقسسد نظسسم فيهسسا‪ ،‬وعنسسده‬
‫مجموعة جمع فيها كل المعاني الفارسية البديعة الستي وقسف عليهسا؛‬
‫قلت‪ :‬فكان الوجه أن تقول له‪ :‬أعرني المجموعة التي عندك‪...‬‬
‫أما الكاظمي فكان حافظ يجافيه ويباعده‪ ،‬حتى قسسال لسسي مسسرة وقسسد‬
‫ذكرته به‪" :‬عققناه يا مصطفى!"‪.‬‬
‫وما أنسى ل أنسى فسسرح حسسافظ حيسسن أعلمتسسه أن الكسساظمي يحفسسظ‬
‫قصيدة من قصائده‪ ،‬وذلسسك أنهسسم فسسي سسسنة ‪- 1901‬علسسى مسسا أذكسسر‪-‬‬
‫أعلنوا عن جوائز يمنحونها من يجيد في مدح الخديو‪ ،‬وجعلوا الحكسسم‬
‫فسسي ذلسسك إلسسى البسسارودي وصسسبري والكسساظمي‪ ،‬ثسسم تخلسسى البسسارودي‬
‫وصبري‪ ،‬وحكم الكاظمي وحده‪ ،‬فنال حافظ الميدالية الذهبية‪ ،‬ونال‬
‫مثلها السيد توفيق البكري‪.‬‬
‫ولما زرت الكاظمي وكنت يسسومئذ مبتسسدًئا فسسي الشسسعر‪ ،‬ول أزال فسسي‬
‫الغرزمة*‬
‫‪---------------‬‬
‫* الغرزمة‪ :‬أول قول الشسسعر‪ ،‬حيسسن يكسسثر الرديسسء فيسسه‪ ،‬يقسسال‪ :‬فلن‬
‫يغرزم‪.‬‬
‫قال‪ :‬لماذا لم تدخل في هذه المباراة؟ قلت‪ :‬وأين أنسسا مسسن شسسوقي‬
‫وحافظ وفلن وفلن فقال‪" :‬ليه تخلي همتك ضعيفة؟" ثم أسسسمعني‬
‫قصيدة حافظ وكان معجًبا بها‪ ،‬فنقلت ذلك إلى حسسافظ‪ ،‬فكسساد يطيسسر‬
‫عن كرسيه في القهوة‪.‬‬
‫وكان تعنسست حسسافظ علسسى الكسساظمي؛ لنسه غيسسر مصسسري‪ ،‬ففسسي سسسنة‬
‫‪ 1903‬كانت تصدر في القاهرة مجلسسة اسسسمها "الثريسسا"‪ ،‬فظهسسر فسسي‬
‫أحد أعدادها ‪ 1‬مقال عن الشعراء بهذا التوقيع‪ ،‬وانفجسسر هسذا المقسال‬
‫انفجار البركان‪ ،‬وقام به الشعراء وقعدوا‪ ،‬وكان له في الغارة عليهم‬
‫كزفيسسسف الجيسسسش وقعقعسسسة السسسسلح‪ ،‬وتنسسساولته الصسسسحف اليوميسسسة‪،‬‬
‫واستمرت رجفته الدبية نحو الشهر؛ وانتهى إلى الخديو؛ وتكلم عنسسد‬
‫الستاذ المسام فسي مجلسسه‪ ،‬واجتمسع لسه جماعسة مسن كبسار أسساتذة‬
‫العصر السوريين‪ ،‬كالعلمة سليمان البستاني‪ ،‬وأديب عصسره الشسيخ‬

‫‪261‬‬
‫إبراهيم اليازجي‪ ،‬والمسسؤرخ الكسسبير جسسورجي زيسسدان ‪-‬إذ كسسان صسساحب‬
‫سسسا بعسسد‬
‫المجلة سسسوريا‪ -‬وجعلسسوا ينفسسذون إلسسى صسساحب المجلسسة دسي ً‬
‫دسيس ليعلموا من هو كاتب المقال‪.‬‬
‫وشاع يومئذ أني أنا الكاتب له؛ وكان الكاظمي علسسى رأس الشسسعراء‬
‫دا‪ ،‬وما كسساد يرانسسي فسسي القسساهرة‬‫فيه‪ ،‬فغضب حافظ لذلك غضًبا شدي ً‬
‫حتى ابتدرني بقوله‪ :‬ورب الكعبة أنت كاتب المقسسال‪ ،‬وذمسسة السسسلم‬
‫أنت صاحبه!‬
‫ثم دخلنا إلى "قهوة الشيشة"‪ ،‬فقال فسسي كلمسسه‪ :‬إن السسذي يغيظنسسي‬
‫أن يأتي كاتب المقال بشاعر مسسن غيسسر مصسسر فيضسسعه علسسى رءوسسسنا‬
‫نحن المصريين!‪ .‬فقلت‪ :‬ولعسسل هسسذا قسسد غاظسسك بقسسدر مسسا سسسرك أّل‬
‫يكون الذي على رأسك هو شوقي‪...‬‬
‫وغضب السيد توفيق البكري غضًبا من نوع آخر‪ ،‬فاستعان بالمرحوم‬
‫السيد مصسسطفى المنفلسسوطي اسسستعانة ذهبيسسة‪ ...‬وشسمر المنفلسسوطي‬
‫فكتب مقاًل في "مجلة سركيس" يعارض به مقسسال "الثريسسا"‪ ،‬وجعسسل‬
‫حا يرن رنيًنا‪.‬‬‫فيه البكري على رأس الشعراء‪ ...‬ومدحه مد ً‬
‫أمسسا أنسسا فتنسساولني بمسسا اسسستطاع مسسن السسذم‪ ،‬وجردنسسي مسسن اللفسساظ‬
‫والمعاني جميًعا‪ ،‬وعدني في الشسسعراء ليقسسول إنسسي لسسست بشسساعر‪...‬‬
‫فكان هذا رد نفسه على نفسه*‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬عدد يناير سنة ‪ ،1905‬وانظر ص ‪" 43-38‬حياة الرافعي"‪.‬‬
‫‪ 2‬نشر المرحوم المنفلوطي مقسساله فسسي الطبعسسة الولسسى مسسن كتسسابه‬
‫"النظرات" بعد أن هذبه‪ ،‬ثم حذفه مسسن الطبعسسات الخسسرى؛ لنسسه هسسو‬
‫كان يعلم أن النائحة المستأجرة ل يسمى بكاؤها بكاء‪...‬‬
‫وتعلسسسق مقسسسال المنفلسسسوطي علسسسى المقسسسال الول فاشسسستهر بسسسه ل‬
‫بالمنفلوطي؛ وغضب حافظ مرة ثانية‪ ،‬فكتسسب إلسسي كتابسسا يسسذكر فيسسه‬
‫تعسف هذا الكاتب وتحامله‪ ،‬ويقول‪ :‬قد وكلت إليك أمر تأديبه ‪....1‬‬
‫فكتب مقاًل في جريسسدة "المنسسبر"‪ ،‬وكسسان يصسسدرها السسستاذان محمسسد‬
‫مسعود وحافظ عوض‪ ،‬ووضعت كلمسسة المنفلسسوطي السستي ذمنسسي بهسسا‬
‫في صدر مقالي أفساخر بهسا‪ ...‬وقلست‪ :‬إنسي كسذلك الفيلسسوف السذي‬
‫أرادوه أن يشفع إلى ملكه‪ ،‬فأكب على قدم الملك حتى شفعه؛ فلما‬
‫عابوه بأنه أذال حرمة الفلسفة بانحنائه على قسسدم الملسسك وسسسجوده‬
‫له‪ ،‬قال‪ :‬ويحكم!‪ .‬فكيف أصنع إذا كسسان الملسسك قسسد جعسسل أذنيسسه فسسي‬
‫رجليه‪...‬‬

‫‪262‬‬
‫ولم يكن مضى لي في معالجة الشعر غير سنتين حيسسن ظهسسر مقسسال‬
‫"الثريسسا"‪ ،‬ومسسع ذلسسك أصسسبح كسسل شسساعر يريسسد أن يعسسرف رأيسسي فيسسه؛‬
‫فمررت ذات يوم "بحافظ" وهو في جماعة ل أعرفهم‪ ،‬فلما اطمسسأن‬
‫بي المجلس قال حافظ‪ :‬ما رأيك في شعر اليازجي؟ فسسأجبته‪ :‬قسسال‪:‬‬
‫فالبستاني؟ فنجيسسب الحسسداد؟ ففلن؟ ففلن؟ فسسداود عمسسون؟ قلسست‪:‬‬
‫هذا لم أقرأ له إل قليًل ل يسوغ معه الحكم على شعره‪ .‬قال‪ :‬فمسساذا‬
‫قرأت له؟ قلت‪ :‬رده على قصيدتك إليه‪:‬‬
‫شجتنا مطالع أقمارها‬
‫قال‪ :‬فما رأيك في قصسسيدته هسسذه؟ قلسست‪ :‬هسسي مسسن الشسسعر الوسسسط‬
‫الذي ل يعلو ول ينزل‪.‬‬
‫فمسسا راعنسسي إل رجسسل فسسي المجلسسس يقسسول‪ :‬أنصسسفت واللسسه!‪ .‬فقسسال‬
‫حافظ‪ :‬أقدم لك داود بك عمون!‪...‬‬
‫رحم الله تلك اليام!‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪263‬‬
‫شوقي ‪1‬‬

‫هذا هو الرجل الذي يخيل إلسسي أن مصسسر اختسسارته دون أهلهسسا جميعًسسا‬
‫لتضع فيه روحها المتكلم‪ ،‬فأوجبت له ما لسسم تسسوجب لغيسسره‪ ،‬وأعسسانته‬
‫بما لم يتفق لسواه‪ ،‬ووهبته من القدرة والتمكيسسن وأسسسباب الرياسسسة‬
‫وخصائصها على قدر أمة تريد أن تكون شساعرة‪ ،‬ل علسسى قسسدر رجسسل‬
‫في نفسه؛ وبسسه وحسسده اسسستطاعت مصسسر أن تقسسول للتاريسسح‪ :‬شسسعري‬
‫وأدبي!‬
‫شوقي‪ :‬هذا هو السم الذي كان في الدب كالشمس من المشسسرق‪:‬‬
‫متى طلعت في موضع فقد طلعت في كل موضع‪ ،‬ومسستى ذكسسر فسسي‬
‫بلد من بلد العالم العربي اتسع معنى اسمه فسسدل علسسى مصسسر كلهسسا‬
‫كأنما قيل النيل أو الهرم أو القسساهرة؛ مترادفسسات ل فسسي وضسسع اللغسسة‬
‫ولكن في جلل اللغة‪.‬‬
‫رجل عاش حتى تسسم‪ ،‬وذلسسك برهسسان التاريسسخ علسسى اصسسطفائه لمصسسر‪،‬‬
‫ودليل العبقرية على أن فيه السر المتحرك الذي ل يقف ول يكل ول‬
‫يقطع نظام عمله‪ ،‬كأن فيه حاسة نحلسسة فسسي حديقسسة‪ ،‬ويكسسبر شسسعره‬
‫كلما كبر الزمن‪ ،‬فلم يتخلف عن دهره‪ ،‬ولسسم يقسسع دون أبعسسد غايسساته‪،‬‬
‫وكأنه مع الدهر علسسى سسسياق واحسسد‪ ،‬وكسسأن شسسعره تاريسسخ مسسن الكلم‬
‫يتطور أطواره في النمو فلم يجمد ولم يرتكس‪ ،‬وبقي خيال صسساحبه‬
‫إلى آخر عمسره فسي تسدبير السسماء كعسراص الغمامسة‪ ،‬سسسحابه كسسثير‬
‫البرق ممتلئ ممطر ينصب من ناحية ويمتلئ من ناحية‪.‬‬
‫والناس يكتب عليهم الشباب والكهولة والهرم‪ ،‬ولكسسن الديسسب الحسسق‬
‫يكتب عليه شباب وكهولة وشباب؛ إذ كانت في قلبسسه الغايسسات الحيسسة‬
‫ضا إلى ما ل انقطاع له‪ ،‬فإنها ليست‬ ‫الشاعرة‪ ،‬ما تنفك يلد بعضها بع ً‬
‫من حياة الشاعر التي خلقت في قلبه‪ ،‬ولكنها من حياة المعاني في‬
‫هذا القلب‪.‬‬
‫أقرر هذا في شسسوقي ‪-‬رحمسسه اللسسه‪ -‬وأنسسا مسسن أعسسرف النسساس بعيسسوبه‬
‫وأماكن الغميزة في أدبه وشعره؛ ولكن هذا الرجل انفلت من تاريسسخ‬
‫الدب لمصسسر وحسدها كسسانفلت المطسرة مسن سسسحابها المتسساير فسسي‬
‫الجو‪ ،‬فأصبحت مصر به سيدة العالم العربي فسسي الشسسعر‪ ،‬وهسسي لسسم‬
‫ما في الدب إل بالنكتسسة والرقسسة وصسسناعات بديعيسسة ملفقسسة‪،‬‬ ‫تذكر قدي ً‬
‫ولم يستفض لها ذكسسر بنابغسسة ول عبقسسري‪ ،‬وكسسانت كالمسسستجدية مسسن‬
‫تاريخ الحواضر في العالم‪ ،‬حتى أن أبا محمسد الملقسب بسولي الدولسة‬
‫صاحب ديوان النشاء في مصر للظاهر بن المستنصر ‪"-‬وقسسد تسسوفي‬

‫‪264‬‬
‫سنة ‪341‬هس"‪ ،‬وكان رزقه ثلثسسة آلف دينسسار فسسي السسسنة غيسسر رسسسوم‬
‫يستوفيها على كل ما يكتبه‪ -‬سلم لرسول التجار إلى مصر من بغداد‬
‫جزأيسسن مسسن شسسعره ورسسسائله يحملهمسسا إلسسى بغسسداد ليعرضسسهما علسسى‬
‫الشريف المرتضي وغيره من أدبائها‪ ،‬فيستشسسيرهم فسسي تخليسسد هسسذا‬
‫الدب المصري بدار العلم إن استجادوه وارتضوه‪ ،‬كأن حفظ ديسسوان‬
‫ما يشسسبه فسسي حسسوادث‬ ‫من شعر مصر ونثرهسسا فسسي مكتبسسة بغسسداد قسسدي ً‬
‫دهرنا استقلل مصر وقبولها في عصبة المم‪.‬‬
‫وهذا أحمد بن علي السواني إمام من أئمة الدب في مصر "تسسوفي‬
‫سسسنة ‪ ،"562‬وكسسان كاتًبسسا شسساعًرا يجمسسع إلسسى علسسوم الدب الفقسسه‬
‫والمنطق والهندسة والطب والموسيقى والفلك‪ -‬أراد أن يدون شعر‬
‫المصسسريين‪ ،‬فجمسسع مسسن شسسعرهم "وشسسعر مسسن طسسرأ عليهسسم" أربسسع‬
‫مجلسدات‪ ،‬كسأن الشسعر المصسري وحسده إلسى آخسر القسرن السسادس‬
‫للهجسسرة‪ ،‬فسسي العهسسد السسذي لسسم يكسسن ضسساع فيسسه شسسيء مسسن الكتسسب‬
‫والدواوين ل يمل أربع مجلدات‪ ...‬على اختلفهم في مقدار المجلدة‪،‬‬
‫فقد تكون جزًءا لطيف الحجسسم؛ والسسسواني نفسسسه يبلسسغ ديسسوانه نحسسو‬
‫مائة ورقة‪.‬‬
‫وأخوه الحسن المعروف بالمهذب "السسسواني المتسسوفى سسسنة ‪"561‬‬
‫قال العماد الكاتب‪ :‬إنه لم يكن بمصر في زمنه أشعر منه‪ ،‬وسسسارت‬
‫له في الناس قصيدة سموها النواحة‪ ،‬وصسسف فيهسسا حنينسسه إلسسى أخيسسه‬
‫وقد رحل إلى مكة وطالت غيبتسسه بهسسا وخيسسف عليسسه؛ فالرجسسل أشسسعر‬
‫أهل مصر في زمنه‪ ،‬وحادثة النواحة تجعلسه فسي هسذا المعنسى أشسعر‬
‫من نفسه‪ ،‬على أنه مع هذا لم يقل إل من هذا‪:‬‬
‫يا ربع أين نرى الحبة يممواهل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا‬
‫رحلوا وفي القلب المعّنى بعدهموجد على مر الزمان مخيم‬
‫وتعوضت بالنس نفسي وحشةل أوحش الله المنازل منهم‪...‬‬
‫ولول ابن الفارض والبهاء زهير وابن قلقسسس السسسكندري وأمثسسالهم‪،‬‬
‫وكلهم أصحاب دواوين صغيرة‪ ،‬وليس فسي شسعرهم إل طسابع النيسل‪،‬‬
‫أي الرقة والحلوة لول هؤلء فسسي المتقسسدمين لجسسدب تاريسسخ الشسسعر‬
‫في مصر؛ ولول البسارودي وصسسبري وحسسافظ فسي المتسأخرين؛ وكلهسسم‬
‫كذلك أصحاب دواوين صغيرة‪ ،‬لما ذكرت مصر بشسسعرها فسسي العسسالم‬
‫العربي؛ على أن كل هؤلء وكل أولئك لم يسسستطيعوا أن يضسسعوا تسساج‬
‫الشعر على مفرق مصر‪ ،‬ووضعه شوقي وحده!‬
‫والعجسسب أن دواويسسن المجيسسدين مسسن شسسعراء المصسسريين ل تكسسون إل‬
‫صغيرة‪ ،‬كأن طبيعة النيل تأخذ في المعاني كأخسسذها فسسي المسسادة‪ ،‬فل‬

‫‪265‬‬
‫فيض ول خصب إل في وقت بعد أوقات‪ ،‬وفي ثلثسسة أشسسهر مسسن كسسل‬
‫اثني عشر شهًرا؛ ومن جمسال الفراشسة أن تكسسون صسغيرة‪ ،‬وحسسسبها‬
‫عند نفسها أن أجنحتهسا منقطسة بالسذهب‪ ،‬وأنهسا هسي نكتسة مسن بسديع‬
‫الطبيعة!‬
‫على أنك واجد في تاريخ الدب المصري عجيبة من عجائب السسدنيا ل‬
‫تذكر معها اللياذة ول النيادة ول الشاهنامة ول غيرها‪ ،‬ولكنها عجيبسسة‬
‫ملتها روح الصحراء إن كانت تلك الدواوين الصغيرة من روح النيل؛‬
‫وهي قصيدة نظمها أبو رجاء السواني المتوفى سنة ‪335‬هسسس‪ ،‬وكسسان‬
‫ما كمسسا قسسالوا‪ ،‬وزعمسسوا أنسسه اقتسسص فسسي نظمسسه‬ ‫شاعًرا فقيًها أديبا عال ً‬
‫دا بعد واحد‪ ،‬قالوا‪ :‬وسئل قبل موته‬ ‫أخبار العالم وقصص النبياء واح ً‬
‫كما بلغت قصيدتك؟ فقال‪ :‬ثلثين ومائة ألف بيسست‪ ....‬ومسسا أشسسك أن‬
‫هذا الرجل وقع له تاريخ الطبري وكتب السير وقصص السسسرائيليات‬
‫فنظمها متوًنا متوًنا‪ ...‬وأفنى عمره في ‪ 130‬ألف بيت حولها التاريخ‬
‫إلى خبر مهمل في ثلثة أسطر ‪.1‬‬
‫كل شاعر مصري هو عندي جزء من جزء‪ ،‬ولكسسن شسسوقي جسسزء مسسن‬
‫كسسل‪ ،‬والفسسرق بيسسن الجزأيسسن أن الخيسسر فسسي قسسوته وعظمتسسه وتمكنسسه‬
‫واتساع شعره جزء عظيم كأنه بنفسه الكل؛ ولسسم يسسترك شسساعر فسسي‬
‫ما وحديًثا ما تسسرك شسسوقي‪ ،‬وقسسد اجتمسسع لسسه مسسا لسسم يجتمسسع‬ ‫مصر قدي ً‬
‫لسسسواه؛ وذلسسك مسسن الدلسسة علسسى أنسسه هسسو المختسسار لبلده‪ ،‬فسسساوى‬
‫الممتازين من شعراء دهسسره وارتفسسع عليهسسم بسسأمور كسسثيرة هسسي رزق‬
‫تاريخه مسن القسوة المسدبرة الستي ل حيلسة لحسد أن يأخسذ منهسا مسا ل‬
‫تعطي‪ ،‬أو يزيد ما تنقسسص‪ ،‬أو ينقسسص مسسا تزيسسد؛ وقسسد حسساولوا إسسسقاط‬
‫ما‪ ،‬ورجسسع مسسن رجسسع منهسسم‬ ‫شوقي مراًرا فأراهم غباره ومضى متقسسد ً‬
‫ليغسل عينيه‪ ...‬ويرى بهما أن شوقي من النفسسس المصسسرية بمنزلسسة‬
‫المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر‪ ،‬وما هسسو بمنزلسسة شسساعر‬
‫وشعره‪.‬‬
‫ولد شاعرنا سنة ‪ 1868‬في نعمة الخسسديو إسسسماعيل باشسسا‪ ،‬ونسسثر لسسه‬
‫الخديو الذهب وهو رضيع في قصة ذكرها شوقي في مقدمة ديسسوانه‬
‫القديم‪ ،‬ثم كفله الخديو توفيق باشا وعلمه وأنفسسق عليسسه مسسن سسسعة‪،‬‬
‫وأنزل نفسه منه منزلة أب غني كما يقول شوقي فسسي مقسسدمته‪ ،‬ثسسم‬
‫توله الخديو عباس باشا وجعله شاعره وتركه يقول‪:‬‬
‫شاعر العزيز ومابالقليل ذا اللقب‬
‫وإذا أنت فسرت لقسسب شسساعر الميسسر هسسذا بسسالمير نفسسسه فسسي ذلسسك‬
‫ن بأسسسباب كسسثيرة؛‬ ‫العهد‪ ،‬خرج لك من التفسير‪ :‬شسساعر مرهسسف معسسا ٌ‬

‫‪266‬‬
‫ليكون أداة سياسية في الشعب المصري‪ ،‬تعمل لحيساء التاريسخ فسي‬
‫النفس المصرية‪ ،‬وتبصيرها بعظمتها‪ ،‬وإقحامهسسا فسسي معسسارك زمنهسسا‪،‬‬
‫وتهيئتها للمدافعة‪ ،‬وتصل الشعر بالسياسة الدينية السستي تسسوجهت لهسسا‬
‫الخلفسسة يسسومئذ لتضسسرب فكسسرة أوروبسسا فسسي تقسسسيم الدولسسة بفكسسرة‬
‫الجامعة السلمية ول يخرج لك شوقي مسن هسذا التفسسير علسى أنسه‬
‫رجل في قدر نفسه‪ ،‬بل فسسي قسسدر أميسسره ذلسسك؛ وكسسان ممتلًئا شسسباًبا‬
‫دا يوميذ لمطامع بعيسسدة ملفقسسة حشسسوها السسديناميت‬ ‫يغلي غلياًنا‪ ،‬ومع ً‬
‫السياسي‪...‬‬
‫كنت ذات مرة أكلم صسسديقي الكسساتب العميسسق فسسرح أنطسسون صسساحب‬
‫دا‪ ،‬فقال لي‪ :‬إن شسسوقي‬ ‫"الجامعة" وكان معجًبا بشوقي إعجاًبا شدي ً‬
‫الن في أفق الملوك ل في أفسسق الشسسعراء! قلسست‪ :‬كأنسسك نفيتسسه مسن‬
‫الملوك والشعراء مًعا؛ إذ لو خرج من هؤلء لم يكن شسسيًئا‪ ،‬ولسسو نفسسذ‬
‫إلى أولئك لم يعد شسسيًئا‪ ،‬إنمسسا الرجسسل فسسي السياسسسة الملتويسسة السستي‬
‫تصله بالمير‪ ،‬هو مرة كوزير الحربية‪ ،‬ومرة كوزير المعارف‪.‬‬
‫وهذه السياسسسة السستي ارتسساض بهسسا شسسوقي ولبسسسها مسسن أول عهسسده‪،‬‬
‫واتجسسه شسسعره فسسي مسسذاهبها‪ ،‬مسسن الوطنيسسة المصسسرية‪ ،‬إلسسى النزعسسة‬
‫الفرعونية‪ ،‬إلى الجامعة السلمية‪ ،‬فكانت بهذا سسسبب نبسسوغه ومسسادة‬
‫مده الشعري هي بعينها مادة نقائصه؛ فلقد ابتلته بحب نفسه وحسسب‬
‫الثناء عليها‪ ،‬وتسخير الناس في ذلسسك بمسسا وسسسعته قسسوته‪ ،‬إلسسى غيسسرة‬
‫أشد من غيرة الحسناء تقشعر كسسل شسسعرة منهسسا إذا جاءهسسا الحسسسن‬
‫بثانية‪ ،‬وهي غيرة وإن كانت مذمومة في صلته بالدباء الذين لسسذعوه‬
‫بالجمر‪ ...‬ونحن منهم‪ ،‬غير أنها ممدوحسسة فسسي موضسسعها مسسن طسسبيعته‬
‫هو؛ إذ جعلتسه كسالجواد العستيق الكريسم ينسافس حستى ظلسه‪ ،‬فعسارض‬
‫المتقدمين بشعره كأنهم معه‪ ،‬ونسسافس المعاصسسرين ليجعلهسسم كسسأنهم‬
‫ضسسا ليجعسسل شسسوقي أشسسعر مسسن شسسوقي؛‬ ‫ليسوا معه‪ ،‬ونافس ذاتسسه أي ً‬
‫وعندي أن كل ما في هذا الرجل من المتناقضات فمرجعه إلسسى آثسسار‬
‫تلسسك السياسسسة الملتويسسة السستي ردت بطبيعسسة القسسوة عسسن وجوههسسا‬
‫الصريحة‪ ،‬فجعلت تضطرب في وجوه من الحيسسل والسسسباب مسسدبرة‬
‫مقبلة‪ ،‬متهدية في كل مجاهلها بسسإبرة مغناطيسسسية عجيبسسة ل يشسسبهها‬
‫ما إلى رائحة الدجاج‪.‬‬‫في الطبيعة إل أنف الثعلب المتجه دائ ً‬
‫ومؤرخ الدب الذي يريد أن يكتب عن شسسوقي ل يصسسنع شسسيًئا إن هسسو‬
‫لم يذكر أن هذا الشاعر العظيم كسسان هديسسة الخسسديو توفيسسق والخسسديو‬
‫عباس لمصر‪ ،‬كالدلتا بين فرعي النيل؛ وما أصابه المتنبي من سيف‬
‫الدولة مما ابتعث قريحته وراش أجنحتسسه السسسماوية وأضسسفى ريشسسها‬

‫‪267‬‬
‫وانتزى بها على الغايات البعيدة في تاريخ الدب أصاب شسسوقي مسسن‬
‫قسسا أن يسسساوي المتنسسبي أو‬ ‫سمو الخديو عباس أكسسثر منسسه‪ ،‬فكسسان حقي ً‬
‫يتقدمه‪ ،‬ولكنه لم يبلغ منزلته؛ لن الخديو لم يكن كسيف الدولة في‬
‫معرفته بالدب العربسسي ورغبتسسه فيسسه؛ وسسسر المتنسسبي كسسان فسسي ثلثسسة‬
‫أشياء‪ :‬في جهازه العصبي العجيب الذي ل يقل فسسي رأيسسي عمسسا فسسي‬
‫دماغ شكسبير‪ ،‬وفي ممسسدوحه الديسسب الملسسك السسذي ينسسزل مسسن هسسذا‬
‫الجهاز منزلة المهندس الكهربائي من آلة عظيمة يديرها بعلم ويقوم‬
‫عليها بتدبير ويحوطها بعنايسسة‪ ،‬ثسسم فسسي أفسسق عصسسره المتسسألق بنجسسوم‬
‫الدب التي ل يمكن أن يظهر بينها إل مسسا هسسو فسسي قسسدرها‪ ،‬ول يتميسسز‬
‫فيها إل ما هو أكبر منها‪ ،‬ول يتركهسسا كسسالمنطفئة إل شسسمس كشسسمس‬
‫المتنبي تتفجر على الدنيا بمعجزاتها النورانية‪.‬‬
‫ولقد ‪-‬واللسسه‪ -‬كسسان هسسذا المتنسسبي كسسأنه يسسوزع الشسسرف علسسى الملسسوك‬
‫والرؤساء؛ وهسسل أدل علسسى ذلسسك مسسن أن أبسسا إسسسحاق الصسسابي شسسيخ‬
‫الكتاب في عصره يراسله أن يمدحه بقصيدتين ويعطيه خمسة آلف‬
‫درهم‪ ،‬فيرسل إليه المتنبي‪ :‬ما رأيسست بسسالعراق مسسن يسسستحق المسسدح‬
‫غيرك‪ ،‬ولكني إن مدحتك تنكر لك الوزير "يعنسي المهلسسبي" لنسسي لسسم‬
‫أمدحه‪ ،‬فإن كنت ل تبالي هذا الحال فأنا أجيبك ول أريد منك ماًل ول‬
‫ضا! فأين في دهرنا من تشعره عزة الدب مثسسل هسسذا‬ ‫من شعري عو ً‬
‫الشسسعور ليسسأتي بالشسسعر مسسن نفسسس مسسستيقنة أن السسدنيا فسسي انتظسسار‬
‫كلمتها؟‬
‫على أن شوقي لم يكن ينقصه باعتبار زمنه إل "الجمهور الشعري"‪،‬‬
‫وكل بلء الشعر العربسسي أنسه ل يجسسد هسسذا الجمهسسور‪ ،‬فالشسساعر بسذلك‬
‫ن فرديسسة مسسن ممسسدوح عظيسسم أو حسسبيب عظيسسم أو‬ ‫منصرف إلى معسسا ٍ‬
‫سقوط عظيم‪ ...‬حتى الطبيعة تظهر في الشعر العربسسي كأنهسسا قطسسع‬
‫مبتورة من الكون داخلة في الحدود لبسسة الثيساب؛ ومسن ذلسك ينبسغ‬
‫الشاعر وليس فيه من الحساس إل قدر نفسه ل قدر جمهوره‪ ،‬وإل‬
‫دا عن المعنى الشامل‬ ‫ملء حاجاته ل ملء الطبيعة؛ فل جرم يقع بعي ً‬
‫المتصل بالمجهول‪ ،‬ويسقط بشعره على صور فردية ضيقة الحسسدود‪،‬‬
‫فل تجد في طبعه قوة الحاطسسة والتبسسسط والشسسمول والتسسدقيق‪ ،‬ول‬
‫تؤاتيه طبيعته أن يستوعب كل صسورة شسعرية بخصائصسها‪ ،‬فسسإذا هسسو‬
‫على الخاطر العارض يأخذ من عفوه ول يحسن أن يتوغل فيسسه‪ ،‬وإذا‬
‫هو على نزوات ضعيفة من التفكير ل يطول لها بحثه ول يتقدم فيهسسا‬
‫نظره‪ ،‬وإذا نفسه تمر على الكسسون م سّرا سسسريًعا‪ ،‬وإذا شسسعره مقطسسع‬
‫قطًعا‪ ،‬وإذا آلمه وأفراحه أوصاف ل شعور‪ ،‬وكلمات ل حقائق‪ ،‬وظل‬

‫‪268‬‬
‫طامس ملقى على الرض إذا قابلته بتفاصيل الجسم الحسسي السسسائر‬
‫على الرض‪.‬‬
‫واجتمع لشوقي في ميراث دمه ومجاري أعراقه عنصر عربي‪ ،‬وآخر‬
‫تركي‪ ،‬وثالث يوناني‪ ،‬ورابع شركسسسي؛ وهسسذه كسسثرة إنسسسانية ل يسأتي‬
‫قا أن يكون دولة من دول الشسسعر‪ ،‬وإلسسى هسسذا‬ ‫منها شاعر إل كان خلي ً‬
‫ولد شاعرنا باختلله العصبي في عينيه‪ ،‬كأن هذا دليل طسسبيعي علسسى‬
‫أن وراءهمسسا عينيسسن للمعسساني تزاحمسسان عينسسي البصسسر؛ ومسسا لسسم يكسسن‬
‫السستركيب العصسسبي فسسي الشسساعر مهيسسأ للنبسسوغ‪ ،‬فسساعلم أنسسه وقسسع مسسن‬
‫تقاسيم الدنيا في غير الشعر‪ ،‬وليس في الطبيعسسة ول فسسي الصسسناعة‬
‫قوة تجعل حنجرة البلبل في غير البلبل؛ ومع كل ما تقدم فقد أعيسسن‬
‫شوقي على الشعر بفراغسسه لسسه أربعًسسا وأربعيسسن سسسنة‪ ،‬غيسسر مشسسترك‬
‫العمل‪ ،‬ول متقسم الخاطر‪ ،‬على سعة في الرزق وبسطة في الجاه‬
‫وعلسسو فسسي المنزلسسة‪ ،‬وبيسسن يسسديه دواويسسن الشسسعر العربسسي والوروبسسي‬
‫والتركي والفارسي؛ وإن تنس فل تنس أن شاعرنا هذا خص بنشاط‬
‫الحياة‪ ،‬وهو روح الشعر ل روح للشعر بدونه‪ ،‬فسافر ورحسسل وتقلسسب‬
‫في الرض‪ ،‬وخالط الشعوب واستعرض الطبيعة يتخللهسسا ببصسسره مسسا‬
‫بين الندلس والستانة‪ ،‬وظهيره على ذلك ماله وفراغسسه‪ ،‬وإنمسا قسوة‬
‫الشعر في مساقط الجو‪ ،‬ففي كل جسسو جديسسد روح للشسساعر جديسسدة؛‬
‫والطبيعة كالناس‪ :‬هي في مكان بيضاء وفي مكان سوداء‪ ،‬وهي في‬
‫موضع نائمة تحلم وفي موضع قائمة تعمسسل‪ ،‬وفسسي بلسسد هسسي كسسالنثى‬
‫الجميلة‪ ،‬وفي بلد هي كالرجل المصارع؛ ولن يجتمع لك روح الجهسساز‬
‫العصسسبي علسسى أقسسواه وأشسسده إل إذا أطعمتسسه مسسع صسسنوف الطعمسسة‬
‫اللذيذة المفيدة‪ ،‬ألوان الهواء اللذيذ المفيد‪.‬‬
‫وعندي أنه ل أمل أن ينشأ لمصر شاعر عظيسسم فسسي طبقسسة الفحسسول‬
‫من شعراء العالم‪ ،‬إل إذا أعيد تاريخ شسسوقي مهسسذًبا فسسي رجسسل وهبسسه‬
‫الله مواهبه‪ ،‬ثم تهبه الحكومة المصرية مواهبها‪.‬‬
‫والكتاب الول الذي راض خيال شوقي وصقل طبعه وصسسحح نشسسأته‬
‫الدبية‪ ،‬هو بعينه الذي كانت منه بصيرة حسسافظ وذكرنسساه فسسي مقالنسسا‬
‫عنه‪ ،‬أي كتاب "الوسيلة الدبية" للمرصسسفي؛ وليسسس السسسر فسسي هسسذا‬
‫الكتاب ما فيه من فنون البلغة ومختارات الشعر والكتابة‪ ،‬فهذا كله‬
‫ن شيًئا ولم يخرج لهسسا شسساعًرا كشسسوقي‪،‬‬ ‫ما ولم يغ ِ‬ ‫كان في مصر قدي ً‬
‫ولكسسن السسسر مسسا فسسي الكتسساب مسسن شسسعر البسسارودي؛ لنسسه معاصسسر‪،‬‬
‫والمعاصرة اقتداء ومتابعة على صواب إن كان الصواب‪ ،‬وعلى خطأ‬
‫إن كان الخطأ؛ وقسسد تصسسرمت القسسرون الكسسثيرة والشسسعراء يتنسساقلون‬

‫‪269‬‬
‫ديوان المتنبي وغيره‪ ،‬ثم ل يجيئون إل بشعر الصسسناعة والتكلسسف‪ ،‬ول‬
‫يخلد الجيل منهم إل لما رأى في عصره‪ ،‬ول يستفتح غير الباب الذي‬
‫فتح له‪ ،‬إلى أن كان البسسارودي‪ ،‬وكسسان جسساهًل بفنسسون العربيسسة وعلسسوم‬
‫البلغة‪ ،‬ل يحسن منها شًئا‪ ،‬وجهله هسسذا هسسو كسسل العسسالم السسذي حسسول‬
‫الشعر من بعد؛ فيسسا لهسسا عجيبسسة مسسن الحكمسسة! وهسسي دليسسل علسسى أن‬
‫عا لقوانين نافسسذة علسسى النسساس‪ .‬وأكسسب‬ ‫أعمال الناس ليست إل خضو ً‬
‫البارودي على ما أطاقه‪ ،‬وهو الحفظ من شعر الفحسسول؛ إذ ل يحتسساج‬
‫الحفظ إلى غير القراءة‪ ،‬ثم المعاناة والمزاولة؛ وكانت فيسسه سسسليقة‪،‬‬
‫فخرجت مخرج مثلها في شعراء الجاهلية والصدر الول من الحفسسظ‬
‫والرواية‪ ،‬وجاءت بذلك الشعر الجزل السسذي نقلسسه المرصسسفي بإلهسسام‬
‫من الله ‪-‬تعالى‪ -‬ليخرج به للعربية حافظ وشوقي وغيرهما‪ ،‬فكل مسسا‬
‫في الكتاب أنه ينقل روح المعاصرة إلى روح الديب الناشئ‪ ،‬فتبعثه‬
‫هذه الروح على التمييز وصحة القتداء‪ ،‬فإذا هو على ميزة وبصسسيرة‪،‬‬
‫وإذا هو على الطريق التي تنتهي به إلى ما فسسي قسسوة نفسسسه مسسا دام‬
‫فيه ذكاء وطبع؛ وبهذا ابتدأ شوقي وحافظ من موضع واحسسد‪ ،‬وانتهسسى‬
‫كلهما إلى طريقة غير طريقة الخر‪ ،‬والطريقتسسان معًسسا غيسسر طريقسسة‬
‫البارودي‪.‬‬
‫تحول شوقي بهذا الشعر ل إلى طريقة البارودي‪ ،‬فإنه ل يطيقهسسا ول‬
‫تتهيأ في أسبابه‪ ،‬وخاصة في أول عهده‪ ،‬وكأن لغة البارودي فيها من‬
‫لقبه‪ ،‬أي فيها البارود‪ ...‬ولكن تحول نابغتنا كان عن طريقة معاصريه‬
‫من أمثال الليثي وأبي النصر وغيرهما‪ ،‬فسسترك الحيسساء وانطلسسق وراء‬
‫الموتى في دواوينهم التي كان من سعادته أن طبع الكثير منهسسا فسسي‬
‫ذلك العهد‪ :‬كالمتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري‪ ،‬ثسسم أهسسل الرقسسة‬
‫أصسسحاب الطريقسسة الغراميسسة‪ :‬كسسابن الحنسسف والبهسساء زهيسسر والشسساب‬
‫الظريسسف والتلعفسسري والحسساجري‪ ،‬ثسسم مشسساهير المتسسأخرين‪ :‬كسسابن‬
‫النحاس والمير منجك والشرقاوي‪ .‬وقد حاول شوقي في أول أمره‬
‫أن يجمع بين هذا كله‪ ،‬فظهر في شعره تقليده وعملسسه فسسي محاولسسة‬
‫البتكار والبداع وإحكام التوليد‪ ،‬مع السهولة والرقسسة وتكلسسف الغسسزل‬
‫بالطبع المتدفق ل بالحب الصحيح‪.‬‬
‫وأنا حين أكتسسب عسسن شسساعر ل يكسسون همسسي إل البحسسث فسسي طريقسسة‬
‫ابتداعه لمعانيه‪ ،‬وكيف ألم وكيف لحظ‪ ،‬وكيسسف كسسان المعنسسى منبهسسة‬
‫له‪ ،‬وهل أبدع أم قلد‪ ،‬وهل هو شعر بالمعنى شسسعوًرا فخسسالط نفسسسه‬
‫وجاء منها‪ ،‬أم نقله نقًل فجاء مسسن الكتسسب؛ وهسسل يتسسسع فسسي الفكسسرة‬
‫الفلسفية لمعانيه‪ ،‬ويدقق النظرة فسسي أسسسرار الشسسياء‪ ،‬ويحسسسن أن‬

‫‪270‬‬
‫يستشف هذه الغيوم التي يسبح فيها المجهول الشعري ويتصسسل بهسسا‬
‫ويستصسسحب للنسساس مسسن وحيهسسا؛ أم فكسسره استرسسسال وترجيسسم فسسي‬
‫الخيال وأخذ للموجود كما هو موجود في الواقع؟ وبالجملسسة هسسل هسسو‬
‫ذاتية تمر فيها مخلوقات معانيه لتخلسسق فتكسسون لهسسا مسسع الحيسساة فسسي‬
‫نفسها حياة من نفسه‪ ،‬أم هو تبعية كالسمسار بيسسن طرفيسسن‪ :‬يكسسون‬
‫بينهما‪ ،‬وليس منهما ول من أحدهما؟ في هذه الطريقسسة مسسن البحسسث‬
‫تاريخ موهبة الشاعر‪ ،‬ول يؤديك إلى هذا التاريخ إل ذلك المذهب إليه‬
‫إن أطقته‪ ،‬أما تاريخ الشاعر نفسه فما أسسسهله؛ إذ هسسو صسسورة أيسسامه‬
‫وصلته بعصره‪ ،‬وليس في تأريخ ما كان إل نقله كما كان‪.‬‬
‫وإذا عرضنا شوقي بتلك الطريقة رأيناه نابغسة مسن أول أمسره‪ ،‬ففيسه‬
‫تلك الموهبة التي أسميها حاسة الجو؛ إذ يتلمح بها النوابغ معاني مسسا‬
‫وراء المنظور‪ ،‬ويستنزلون بها من كل معنى معنى غيره‪.‬‬
‫انظر أبياته التي نظمها في أول شبابه وسنه يومئذ ‪ 23‬سنة على ما‬
‫أظن‪ ،‬وهي من شعره السائر‪:‬‬
‫خدعوها بقولهم حسناءوالغواني يغرهن الثناء‬
‫ي لماكثرت في غرامها السماء‬ ‫ما تراها تناست اسم َ‬
‫إن رأتني تميل عني كأن لمتك بيني وبينها أشياء‬
‫نظرة فابتسامة فسلمفكلم فموعد فلقاء‬
‫دع غلطته في قوله "تميل عني"‪ ،1‬فإن صوابها‪ :‬تمل؛ إذ هي جسسواب‬
‫مسسا ومسسا‬
‫إن الشرطية؛ ولكن تأمل كيف استخرج معانيه؛ وأنا كنت دائ ً‬
‫أزال معجًبا بالبيتين الثاني والرابع‪ ،‬ل إكباًرا لمعناهما‪ ،‬فهمسسا ل شسسيء‬
‫عندي‪ ،‬ولكن إعجاًبسا بموهبسة شسوقي فسي التوليسد‪ ،‬فسإنه أخسذ السبيت‬
‫الثاني من قول أبي تمام‪:‬‬
‫أتيت فؤادها أشكو إليهفلم أخلص إليه من الزحام‬
‫ما‬
‫فمر المعنى في ذهن شوقي كما يمر الهواء في روضة‪ ،‬وجاء نسي ً‬
‫يترقرق بعدما كان كالريح السافية بترابها؛ لن الزحام في بيت أبسسي‬
‫تمام حقيق بسوق قائمة للبيع والشراء‪ ،‬ل بقلب امرأة يحبها‪ ،‬بل هو‬
‫وا فسسي جسسمها‪ ،‬بسل‬ ‫يجعل قلب المرأة شسسيًئا غريب ًسسا كسأنه ليسسس عضس ً‬
‫غرفة في بيتها‪ ...‬وقد سبق شسساعرنا أبسسا تمسسام بمراحسسل فسسي إبسسداعه‬
‫وذوقه ورقته‪.‬‬
‫والبيت الرابع من قول الشاعر الظريف‪:‬‬
‫قف واسسستمع سسسيرة الصسسب السسذين قتلوافمسسات فسسي حبهسسم لسسم يبلسسغ‬
‫الغرضا‬
‫رأى فحب فسام الوصل فامتنعوافرام صبًرا فأعيا نيله فقضى‬

‫‪271‬‬
‫وهذه "فاءات" تجر إلى القبر ونعوذ بالله منهسسا‪ ...‬وممسسا كنسست أعيبسسه‬
‫على شوقي ضعفه في فنون الدب‪ ،‬فإن المويلحي الكسساتب الشسسهير‬
‫انتقد في جريسسدته "مصسسباح الشسسرق" أبيسسات "خسسدعوها" عنسسد ظهسسور‬
‫الشوقيات في سنة ‪ ،1899‬فارتاع شوقي وتحمل عليك ليمسك عن‬
‫النقد‪ ،‬مع أن كلم المويلحي ل يسقط ذبابة من ارتفاع نصف مسستر‪...‬‬
‫ومن مصيبة الدب عندنا‪ ،‬بل من أكبر أسرار ضسسعفه‪ ،‬أن شسسعراءنا ل‬
‫طاقة لهم بالنقسد‪ ،‬وأنهسم يفسسرون منسسه فسسراًرا ويعملسون علسى تفساديه‬
‫وأنهم ل يحسنون غير الشعر؛ فل البارودي ول صسسبري ول حسسافظ ول‬
‫شوقي كان يحسن واحد منهم أن يدفع عن نفسه أو يكتب فصًل في‬
‫النقد الدبي‪ ،‬أو يحقق مسألة في تاريخ الدب‪.‬‬
‫ومن معاني شوقي السائرة‪:‬‬
‫لك نصحي وما عليك جداليآفة النصح أن يكون جداًل‬
‫وكرره في قصيدة أخرى فقال‪:‬‬
‫آفة النصح أن يكون جداًلوأذى النصح أن يكون جهاًرا‬
‫ضا‪ ،‬وهما من قول ابن الرومي‪:‬‬ ‫والبيتان في شعر صباه أي ً‬
‫ب‬‫وفي النصح خير من نصيح موادعول خير فيه من نصيح مواث ِ‬
‫فصحح شوقي المعنى وأبدل المواثبة بالجدال‪ ،‬وذلك هو الذي عجسسز‬
‫عنه ابن الرومي؛ ومن إبداعه فسسي قصسسيدته "صسسدى الحسسرب" يصسسف‬
‫هزيمة اليونان‪:‬‬
‫يكادون من ذعر تفر ديارهموتنجو الرواسي لو حواهن مشعب‬
‫ضا ويقضب‬ ‫يكاد الثرى من تحتهم يلج الثرىويقضم بعض الرض بع ً‬
‫وهذا خيال بديع في الغاية‪ ،‬جعسسل هزيمتهسسم كأنهسسا ليسسست مسسن هسسول‬
‫الترك‪ ،‬بل من هول القيامة؛ وهو مع ذلك مولد من قسسول أبسسي تمسسام‬
‫في وصف كرم ممدوحه أبي دلف‪:‬‬
‫تكاد مغانيه تهش عراصهافتركب من شوق إلى كل راكب‬
‫فقاس شاعرنا على ذلك؛ وإذا كادت الدار تركب إلسسى الراكسسب إليهسسا‬
‫من فرحها‪ ،‬فهي تكاد تفر مع المنهزم من ذعرها؛ ولكن شوقي بنسسي‬
‫فأحكم وسما على أبي تمام بالزيادة التي جاء بها في البيت الثاني‪.‬‬
‫ومن أحسن شعره في الغزل‪:‬‬
‫دا‬
‫حوت الجمال فلو ذهبت تزيدهافي الوهم حسًنا ما استطعت مزي ً‬
‫وهو من قول القائل‪:‬‬
‫ذات حسن لو استزادت من الحسن إليها لما أصابت مزيدا‬
‫غير أن شوقي قال‪ :‬لو ذهبت تزيدها في الوهم ‪ ...‬والشاعر قال‪ :‬لو‬
‫استزادت هي؛ فلو خل بيت شوقي من كلمة "في السسوهم" لمسسا كسسان‬

‫‪272‬‬
‫شيًئا‪ ،‬ولكن هذه الكلمة حققت فيسسه المعنسسى السسذي تقسسوم عليسسه كسسل‬
‫فلسفة الجمال؛ فإن جمال الحبيب ليس شيًئا إل المعاني السستي هسسي‬
‫في وهم محبه؛ فالزيادة تكون مسسن السسوهم‪ ،‬وهسسو بطسسبيعته ل ينتهسسي؛‬
‫فإذا لم تبق فيه زيادة في الحسن فما بعد ذلك حسن‪ ،‬وقسسد بسسسطنا‬
‫هذا المعنى في صور كثيرة في كتبنا‪" :‬رسائل الحزان" و "السحاب‬
‫الحمر"‪ ،‬و "أوراق الورد"؛ فانظر فيها‪.‬‬
‫ومما يتمم ذلك البيت قول شوقي في قصيدة النفس‪:‬‬
‫يا دمية ل يستزاد جمالهازيديه حسن المحسن المتبرع‬
‫وهذا المعنى يقع من نفسي موقعًسسا ولسسه مسسن إعجسسابي محسسل؛ فهسسذه‬
‫الزيادة التي فيه كزيادة العمر لسسو أمكنسست‪ ،‬وهسسي فسسي موضسسعها كمسسا‬
‫ينقطع الخط ثم يتصل‪ ،‬وكما يستحيل المل ثم يتفسسق ويسسسهل؛ وقسسد‬
‫علمت مأخذ الشطر الول‪ ،‬أما الثاني فهو من قول ابن الرومي‪:‬‬
‫يا حسن الوجه لقد شنتهفاضمم إلى حسنك إحسانا‬
‫وفي القصيدة التي رثى بها ثروت باشا وهي من أحسن شعره تجسسد‬
‫من أبياته هذا البيت النادر‪:‬‬
‫وقد يموت كثير ل تحسهموكأنهم من هوان الخطب ما وجدوا‬
‫وشوقي يعارض بهذه القصيدة أبا خالد بن محمد المهلبي في داليتسسه‬
‫التي رثى بها المتوكل‪ ،‬وكسسان المهلسسبي حاضسًرا قتلسسه هسسو والبحسستري‪،‬‬
‫فرثاه كل منهما بقصيدة قالوا‪ :‬إنها من أجود مسسا قيسسل فسسي معناهمسسا؛‬
‫وبيت شوقي مأخوذ من قول المهلبي‪:‬‬
‫إنا فقدناك حتى ل اصطبار لناومات قبلك أقوام فما فقدوا‬
‫أي لم يحس موتهم أحد؛ ولكن البيت غير مستقيم؛ لن الذي يمسسوت‬
‫فل يفقد هو الخالد الذي كأنه لسسم يمسست؛ فاسسستخرج شسسوقي المعنسسى‬
‫الصحيح وجعل العدم الذي هو آخر الوجود فسسي النسساس‪ ،‬أول الوجسسود‬
‫وجسسدوا ومسساتوا‬ ‫ووسطه وآخره في هؤلء الذين هسسانوا علسسى الحيسساة ف ُ‬
‫كأنهما ماتوا وما وجدوا‪.‬‬
‫وإلى ما علمسست مسسن قسسوة هسسذه الشسساعرية‪ ،‬ودقتهسسا فيمسسا تتسسأتى لسسه‪،‬‬
‫ومجيئهسسا بالمعسساني النسسادرة مسسستخرجة اسسستخراج السسذهب‪ ،‬مصسسقولة‬
‫صسسقل الجسسوهر‪ ،‬معدلسسة بسسالفكر‪ ،‬موزونسسة بسسالمنطق‪ -‬تجسسد لهسسا تهافت ًسسا‬
‫كتهافت الضعفاء‪ ،‬وغرة كغسسرة الحسسداث؛ حسستى لتحسسسب أن طفولسسة‬
‫شسسوقي كسسثيًرا مسسا تنبعسسث فسسي شسسعره لعبسسة هازلسسة‪ ،‬أو كسسأن للرجسسل‬
‫صسا‪،‬‬ ‫شخصيتين كما يقول الطبساء‪ ،‬فهمسا تتعساوران شسعره كمساًل ونق ً‬
‫وا ونزوًل‪ ،‬أو قل هسسي العربيسة واليونانيسسة فسسي ناحيسة مسن نفسسه‪،‬‬ ‫وعل ً‬
‫والتركيسسة والشركسسسية فسسي ناحيسسة أخسسرى‪ :‬لتلسسك البتكسسار والبلغسسة‬

‫‪273‬‬
‫والمنطق‪ ،‬ولهذه التهويل والمبالغة والخلط؛ وشوقي هو بهما جميًعا؛‬
‫تفتنه القويسسة منهمسسا فيعجسسب بهسسا إعجسساب القسسوة‪ ،‬وتخسسدعه الضسسعيفة‬
‫فيعجب بها إعجاب الرقة؛ ما أعجب بيته الذي قاله في الحنيسسن إلسسى‬
‫الوطن من قصيدته الندلسية الشهيرة‪:‬‬
‫وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي‬
‫وهذا البيت مما يتمثل به الشبان وكتاب الصحافة‪ ،‬ولسسم يفطسسن أحسسد‬
‫دا إل بعسسد فنسساء‬
‫إلى فساده وسخافة معناه؛ فسسإن الخلسسد ل يكسسون خل س ً‬
‫الفاني مسسن النسسسان وطبسسائعه الرضسسية‪ ،‬وبعسسد أن ل تكسسون أرض ول‬
‫وطسسن ول حنيسسن ول عصسسبية؛ فكسسان شسسوقي يقسسول‪ :‬لسسو شسسغلت عسسن‬
‫الوطن حين ل أرض ول وطن ول دول ول أمم ول حنيسسن إلسسى شسسيء‬
‫من ذلك‪ -‬فإني على ذلك أحسسن إلسسى السسوطن السسذي ل وجسسود لسسه فسسي‬
‫نفسي ول في نفسه‪ ....‬وهذا كله لغو‪ ...‬والمعنى بعد من قسسول ابسسن‬
‫الرومي‪:‬‬
‫وحبب أوطان الرجال إليهموامآرب قضاها الشباب هنالكا‬
‫إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهموعهود الصبي فيها فحنوا لذلكا‬
‫حا‬‫ومنازعة النفس هي الحنين‪ ،‬ومعنى ابسسن الرومسسي وإن كسسان صسسحي ً‬
‫غير أنه ل يصلح لفلسفة الوطنية في زمننا‪.‬‬
‫وإن في شوقي عيبين يذهبان بكثير من حسناته‪ :‬أحدهما المبالغات‬
‫التركية الفارسية مما تنزعه إليه تركيته ول مبالغة في الدنيا تقاربها‪،‬‬
‫كقول بعض شسعرائهم إن النملسة بزفرتهسا جففست البحسر السسبعة‪...‬‬
‫وهو إغراق سخيف ل يسسأتي بخيسسال عجيسسب كمسسا يتوهمسسون‪ ،‬بسسل يسسأتي‬
‫بهذيان عجيب؛ وإذا كان الصدق يأنف من الكذب‪ ،‬فإن الكذب نفسه‬
‫يأنف من هذا الغراق؛ ومن هذه التركية في شوقي إضافات وهمية‪،‬‬
‫هي من تلك المبالغات كذيل الحمار من الحمار‪ :‬قطعسسة فيسسه ودليسسل‬
‫عليه وآخر لوله ول محل لها في ذوق البلغة العربية‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫عيسى الشعور إذا مشىرد الشعوب إلى الحياة‬
‫وقوله في سعد باشا في حادثة العتداء عليه‪:‬‬
‫ولو زلت غيب "عمرو المور" وأخلى المنابر سحبانها‬
‫ويسسدخل فسسي جنايسسات هسسذه التركيسسة علسسى شسسعره تكسسراره السسسماء‬
‫المقدسة والعلم التاريخية‪ :‬كيوشع وعيسسسى وموسسسى وخالسسد وبسسدر‬
‫وسيناء وحاتم وكعب وغيرها مما هو شائع في نظمه ول تجسسده أكسسثر‬
‫ما تجده إل ثقيًل مملوًل؛ ولهسسذه اللفسساظ عنسسدنا فلسسسفة ل محسسل لهسسا‬
‫الن‪ ،‬فهي أحياًنا تكون السسسحر كلسسه والبلغسسة كلهسسا‪ ،‬علسسى شسسرط أن‬
‫يكون القلب هو الذي وضسسعها فسسي موضسسعها‪ ،‬وأن ل يضسسعها إل علسسى‬

‫‪274‬‬
‫هيئة قلبية‪ ،‬فيكون كأنه وضع نفسه في الشعر ليخفق خفقانه الحسسي‬
‫في بضعة ألفاظ‪ ،‬وهسسذا مسسا لسسم يحسسسنه شسسوقي ‪-‬والعيسسب الثسساني أن‬
‫ألفاظ شاعرنا يثبت أكثرها على النقد؛ لضعفه في الصناعة البيانيسسة‪،‬‬
‫ثم لضعف الموهبة الفلسفية فيه واعتباره التهويسسل شسسعًرا والمبالغسسة‬
‫بلغة وإن فسدت بهما البلغة والشعر؛ انظر إلى قوله مسسن قصسسيدته‬
‫الشهيرة ‪ 28‬فبراير‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬الحماية زالت قلت ل عجبقد كان باطلها فيكم هو العجبا‬
‫ما يقطع الذنبا‬ ‫رأس الحماية مقطوع فل عدمتكنانة الله حز ً‬
‫قلنا‪ :‬فإذا قطع "رأس الحماية" وبقيت منهسسا بقيسسة مسسا ذنسسب أو يسسد أو‬
‫رجل؛ فإن هذه البقية في لغة السياسة التي تنقذ اللفسساظ وحروفهسسا‬
‫دا ول رجًل‪ ،‬بسسل هسسي "رأس‬ ‫ونقسسط حروفهسسا‪ ...‬لسسن تكسسون ذنب ًسسا ول ي س ً‬
‫الحماية" بعينه‪ ....‬على أن شوقي إنما عكس قول الشاعر‪:‬‬
‫ما فأتبع رأسها الذنبا‬ ‫ن ذنب الفعى وترسلهاإن كنت شه ً‬ ‫ل تقطع ْ‬
‫وهذا كلم على سياقه من العقل‪ ،‬فمسسا غنسساء قطسسع ذنسسب الفعسسى إذا‬
‫بقي رأسها‪ ،‬وإنما الفعى كلها هي هذا الرأس‪.‬‬
‫ولقد ظهر لي من درس شوقي في ديسسوانه أمسسر عجبسست لسسه؛ فسسإني‬
‫رأيته يأخذ من أبي تمام والبحتري والمعري وابن الرومسسي وغيرهسسم؛‬
‫فربما ساواهم وربما زاد عليهم‪ ،‬حتى إذا جاء إلى المتنسسبي وقسسع فسسي‬
‫البر وأدركه الغرق؛ لنه نشأ على رهبة منسسه كمسسا تشسسير إليسسه عبسسارته‬
‫في مقدمة ديوانه الول؛ وقد وصف خيل السسترك فسسي قصسسيدة أنقسسرة‬
‫بقوله‪:‬‬
‫والصبر فيها وفي فرساها خلقتوارثوه أًبا في الروع بعد أب‬
‫كما ولدتم على أعرافها ولدتفي ساحة الحرب ل في باحة الرحب‬
‫وشعره هذا كله يرتعد أمام قول المتنبي‪:‬‬
‫أقبلتها غرر الجياد كأنما أيدي بني عمران في جبهاتها‬
‫الثابتين فروسة كجلودهافي ظهرها‪ ،‬والطعن في لباتها‬
‫ما تحتهموكأنهم ولدوا على صهواتها‬ ‫فكأنها نتجت قيا ً‬
‫فانظر أين صسسناعة مسسن صسسناعة وأيسسن شسسعر مسسن شسسعر؟ وقسسال فسسي‬
‫"صدى الحرب" يصف مدافع الدردنيل‪:‬‬
‫قذائف تخشى مهجة الشمس كلماعلت مصعدات أنها ل تصوب‬
‫إذا هب حاميها على السفن انثنتوغانمها الناجي فكيف المخيب‬
‫وهذا الستفهام "فكيسسف المخيسسب" اسسستفهام مضسسحك؛ لنسسه إذا كسسان‬
‫مسسا‪ ،‬فسسالمخيب خاسسسر بل سسسؤال ول فلسسسفة؛ والكلمسسة‬ ‫النسساجي غان ً‬

‫‪275‬‬
‫الشعرية في هذا كله هسسي قسسوله "وغانمهسسا النسساجي"‪ ،‬وهسسي كالهاربسسة‬
‫تتوارى خوًفا من بيت أبي الطيب‪:‬‬
‫أغر أعداؤه إذا سلموابالهرب استكبروا الذي فعلوا‬
‫فهسسذا هسسو الشسسعر ل ذاك؛ علسسى أنسسي أشسسهد أن فسسي قصسسيدة "صسسدى‬
‫الحرب" أبياًتا هي من أسمى الشعر‪ ،‬وكأن شوقي ‪-‬رحمه الله‪ -‬كسسان‬
‫ينظم هذه القصيدة مسسن إيمسسانه ومسسن دمسسه ومسسن كسسل مطسسامع دنيسساه‬
‫وآخرته‪ ،‬يبتغي بها الشهرة الخالسسدة فسسي النسساس‪ ،‬والمنزلسسة السسسامية‬
‫عند الخديو‪ ،‬ونباهة الشأن عند الخليفة‪ ،‬والثواب عند الله تعالى؛ ولو‬
‫هو في أثناء عملها أسقط نصفها أو أكثر لجاءت فريسسدة فسسي الشسسعر‬
‫العربسسي‪ ،‬غيسسر أن الحسسرص كسسان يغسستره‪ ،‬وكسسان طسسول عمسسره مفتون ًسسا‬
‫بشعره؛ فجاء في هذا الشعر بالطم والرم كما يقولون؛ وله كثير من‬
‫الكلم الرذل الساقط بضعفه وتهافته؛ ولول تلسسك التركيسسة الفارسسسية‬
‫وضعفه البياني‪ ،‬لما رضي أن يكون ذلك فسسي شسسعره؛ وليسست شسسعري‬
‫كيف غاب عن مثله أن التهويل والغراق والحالة مما يهجسسن الشسسعر‬
‫ويذهب بأثره في النفس ويحيله إلى صناعة هسسي شسسر مسسن الصسسناعة‬
‫البديعيسسة؛ لن هسسذه تكسسون فسسي واللفسساظ؛ واللفسساظ تحتمسسل العبسسث‬
‫البديعي ويخرج بها المر إلى أن يكون ضسسرًبا مسسن الرياضسسة كمعانسساة‬
‫بعض المسائل في الجسسبر والهندسسسة تركيب ًسسا وحًل؛ ولكسسن المعسساني ل‬
‫تحتمل ذلك؛ إذ هي تفكير ل يلتوي إل فسد‪ ،‬والمعاني التي يسأتي بهسسا‬
‫الشاعر يجب أن تكون فيها مزية بخاصتها من الجمسسال والبيسسان‪ ،‬وأن‬
‫تكون أخيلتها هي الحقائق التي أول مواضعها فوق حقائق البشر‪.‬‬
‫وهناك ضرب آخر من المبالغة يجيء مسسن سسسقوط الخيسسال؛ لن فسسي‬
‫السفل مبالغة كما في العلى‪ ،‬وإن كانت مبالغة السفل زيادة فسسي‬
‫السسسخرية منسسه والهسسزء بسسه؛ وهسسذه المبالغسسة تسسأتي مسسن جمسسع أشسستات‬
‫مختلفة وإدماجها كلها في معنى واحسسد‪ ،‬كهسسذا السسذي حسساول أن يدمسسج‬
‫الطبيعة كلها في حبيبته فزعم أن فيها من كل شيء‪ ،‬ونسي أن كسسل‬
‫قبيح وكل بغيض هو من كل شيء‪...‬‬
‫إن الخيال الشعري يزيغ بالحقيقة في منطق الشسساعرل ليقبلهسسا عسسن‬
‫وضعها ويجيء بها ممسوخة مشوهة‪ ،‬ولكسسن ليعتسسدل بهسسا فسسي أفهسسام‬
‫الناس ويجعلها تامة في تأثيرها؛ وتلسسك مسسن معجزاتسسه؛ إذ كسسانت فيسسه‬
‫دا بوضسسوحه مسسرة‬ ‫قسسوة فسسوق القسسوة عملهسسا أن تزيسسد الموجسسود وجسسو ً‬
‫وبغموضه أخرى‪.‬‬
‫ولعلماء الدب العربي كلمة ما أراهم فهموهسسا علسسى حقهسسا ول نفسسذوا‬
‫إلى سره؛ قسالوا‪ :‬أعسسذب الشسسعر أكسذبه؛ يعنسون أن الشسعر المبالغسسة‬

‫‪276‬‬
‫والخيال‪ :‬ول ينفذون إلى ما وراء ذلك‪ ،‬وما وراءه إل الحقيقسسة رائعسسة‬
‫بصدقها وجللها؛ وفلسفة ذلك أن الطبيعة كلها كذب علسسى الحسسواس‬
‫النسانية‪ ،‬وأن أبصسسارنا وأسسسماعنا وحواسسسنا هسسي عمسسل شسسعري فسسي‬
‫الحقيقة؛ إذ تنقل الشيء على غير ما هو في نفسه؛ ليكون شيًئا في‬
‫حا وما بينهما؛ وما هي خمرة الشعر‬ ‫نفوسنا‪ ،‬فيؤثر بها أثره جماًل وقب ً‬
‫مثًل؟ هي رضاب الحبيبة؛ ولكن العاشق لو رأى هسسذا الرضسساب تحسست‬
‫المجهر لرأي‪ ..‬لرأى مستنقًعا صغيًرا‪ .‬ولو كان هذا المجهسسر أضسسعاف‬
‫جسسا بسسالهوام‬
‫الضعاف مما يجهسسر بسسه لرأيسست ذلسسك الرضسساب يعسسج عجي ً‬
‫والحشرات التي ل تخفى بنفسها ولكسسن أخفاهسسا التسسدبير اللهسسي بسسأن‬
‫جعل رتبتها في الوجود وراء النظر النساني‪ ،‬رحمة من الله بالناس؛‬
‫فأعذب الشعر ما عمل في تجميل الطبيعة كما تعمل الحواس الحية‬
‫بسر الحياة؛‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬يعني قول العقاد في وحي الربعين‪:‬‬
‫فيك مني ومن الناس ومنكل موجود وموعود توام‬
‫ولهذا المعنى كان الشعراء النوابغ في كل مجتمع هم كالحواس لهذا‬
‫المجتمع‪.‬‬
‫ومن سخيف الغراق في شعر شوقي قوله في رثاء مصطفى باشسسا‬
‫كامل‪ ،‬وهي أبيات يظن هو أنسسه أوقسسع كلمسسه فيهسسا موقعًسسا بسسديًعا مسسن‬
‫الغراب‪:‬‬
‫فلوَ ان أوطاًنا تصور هيكًلدفنوك بين جوانح الوطان‬
‫أو كان يحمل في الجوارح ميتحملوك في السماع والجفان‬
‫ت بعد ُ رثيت في القرآن‬ ‫أو كان للذكر الحكيم بقيةلم تأ ِ‬
‫فهذه فروض فوق المستحيل بأربع درجات‪ ...‬وتصور أنت ميًتا يحمل‬
‫في الجوارح فيترمم فيها ويبلى‪ ...‬وما زال الشاعر في أبيسساته يخسسرج‬
‫من طامة إلى طامة‪ ،‬حتى قال‪ :‬رثيت فسسي القسسرآن‪ ،‬ولسسو سسسئلت أنسسا‬
‫إعسسراب "لسسو" فسسي هسسذه البيسسات لقلبسست‪ :‬إنهسسا حسسرف نقسسص وتلفيسسق‬
‫وعجز‪ ...‬وكيف يسوغ في الفرض أن تكون للقسسرآن بقيسسة لسسم تنسسزل‪،‬‬
‫والله تعالى يقول فيه‪} :‬ال ْي سو َ‬
‫م{ ]المسسائدة‪[3 :‬؛‬ ‫ت ل َك ُس ْ‬
‫م ِدين َك ُس ْ‬ ‫مل ْس ُ‬
‫م أك ْ َ‬‫َ ْ َ‬
‫والمر أمر دين قد تم‪ ،‬وكتاب مقدس ختم‪ ،‬ونبوة انقضت؛ والشسساعر‬
‫ضسسا بهسسدم‬
‫ض في غفلته لم يتنبه لشسسيء ولسسم يسسدر أنسسه يفسسرض فر ً‬ ‫ما ٍ‬
‫السلم كله‪ ،‬بل حسب أنه جاء بخيال وبلغة فارسية؛ وشسسوقي فسسي‬
‫الحقيقة كامسسل كنسساقص‪ ،‬وإن مسسن معجسسزات هسسذا الشسساعر أن يكسسون‬
‫صا هذا النقص كله ويكمل‪.‬‬ ‫ناق ً‬

‫‪277‬‬
‫دا‪ ،‬وفيها صفحات أخرى تنق‬ ‫وفي الشوقيات صفحات تكاد تغرد تغري ً‬
‫نقيق الضفادع؛ وفي هذا الديوان عيوب ل نريد أن نقتصها؛ فإن ذلك‬
‫يحتاج إلى كتاب برأسه إذا ذهبنا نأتي بها ونشرح العلة فيهسسا ونخسسرج‬
‫الشواهد عليها‪ ،‬ولكن من عيسوبه فسي التكسرار أن لسه بيًتسا يسدور فسي‬
‫قصائده دوران الحمار في الساقية‪ ،‬وهو هذا البيت‪:‬‬
‫وإنما المم الخلق ما بقيتفإن همو ذهبت أخلقهم ذهبوا‬
‫بل هذا البيت‪:‬‬
‫وإنما المم الخلق ما بقيتفإن تولت مضوا على آثارهما قدما‬
‫بل هو هذا‪:‬‬
‫كذا الناس بالخلق يبقى صلحهمويذهب عنهم أمرهم حين تذهب‬
‫بل هو هذا البيت‪:‬‬
‫ول المصائب إذ يرمي الرجال بهابقاتلت إذا الخلق لم تصب‬
‫وقد تكرر "فيما قرأته من ديوانه" ثلث عشسسرة مسسرة‪ ،‬فعسساد المعنسسى‬
‫كطيلسان ابن حرب الذي جعل الشاعر يرقعه ثم يرقعه حتى ذهسسب‬
‫الطيلسان وبقيت الرقسسع‪ ....‬والسسبيت الول مسسن العيسسن النسسادر‪ ،‬ولكسسن‬
‫أفسده في الباقي سوء ملكة الحرص في شوقي‪ ،‬أو ضسسعف الحسسس‬
‫البياني‪ ،‬أو ابتذاله الشعر في غير موضعه‪ ،‬أو وهن فكرتسسه الفلسسسفية‬
‫من جوانب كثيرة؛ وهذه الربعة هي البواب التي يقتحم منهسسا النقسسد‬
‫على شعر صاحبنا‪ ،‬ولو هسو كسان قسد حصسنها بأضسدادها لكسان شساعر‬
‫العربية من الجاهلية إلى اليوم‪ ،‬ولكان عسسسى أن ينقسسل الشسسعر إلسسى‬
‫طور جديد في التاريخ؛ ولكن الفوضى وقعسست فسسي شسسوقي مسسن أول‬
‫أمره؛ فأرسسسل إلسسى أوربسسا لسسدرس الحقسسوق وكسسان السسوجه أن يرسسسل‬
‫لدرس الداب والفلسفة‪ ،‬وغامر في سياسة الرض‪ ،‬وكان الحسسق أن‬
‫يشتغل بسياسة السماء‪ ،‬وتهالك في مادة الدنيا‪ ،‬وكسسان الصسسواب أن‬
‫يتهالك في معانيها‪.‬‬
‫إن الفوضى ذاهبة مسسذاهبها فسسي الدب والشسسعر‪ ،‬فكسسل شسساعر عنسسدنا‬
‫كمؤلف يضع روايسة ثسسم يمثلهسسا وحسده وعليسه أن يمثلهسا وحسده‪ ،‬فهسو‬
‫مسسا ملكي ّسسا‪ ،‬ثسسم ينفتسسل‬
‫يخرج على النظارة في ثياب الملك فيلقسسى كل ً‬
‫مسسا حربي ّسسا‪ ،‬ثسسم ينقلسسب فيعسسود فسسي‬
‫فيجيء في ثواب القائد فيلقى كل ً‬
‫ما سوقّيا‪ ،‬ثم يروح فيرجع في مبسساذل الخسسادم‪،‬‬ ‫هيئة التاجر فيلقى كل ً‬
‫ثم‪ ..‬ثم‪ ..‬يتوارى فيظهسسر فسسي جلسسدة بربسسري‪ ..‬وهسسذه الفوضسسى السستي‬
‫أهملتها الحكومة وأهملها المراء والكبراء هي حقيقة مؤلمسسة‪ ،‬ولكسسن‬
‫هي الحقيقة!‬

‫‪278‬‬
‫وشوقي على كل هذا هو شوقي‪ :‬أول من احتفى بتاريسسخ مصسسر مسسن‬
‫الشعراء‪ ،‬وأول من توسع فسسي نظسسم الروايسسة الشسسعرية فوضسسع منهسسا‬
‫ست روايات‪ ،‬وهو صاحب اليات البديعة في الوصف‪ ،‬وهذه الناحيسسة‬
‫هي أقوى نواحيه‪ ،‬ولقد ألهمتني قراءة البارع من شعره في أغراضه‬
‫وفنونه المختلفسسة أن اللسسه تعسسالى ينعسسم علسسى الداب الجميلسسة بسأفراد‬
‫ممتازين في جمال أرواحهم وقوتها‪ ،‬تجد الداب لذتها فيهم وسموها‬
‫بهم‪ ،‬كأن المر قياس على ما يقع من عشق الناس لبعض المعسساني‪،‬‬
‫فيكون في المعاني ما يعشق بعض الناس‪ ،‬ومتى بلغ عشق المعنسسى‬
‫لنسان مبلغ الختصاص والوجد ظهر الفن أبدع ما يرى‪ ،‬كأن المعنى‬
‫الدبي يتجمسسل ويتحبسسب ليسسستميل هسسذا النسسان الحسساكم عليسسه حكسسم‬
‫الحب‪.‬‬
‫فيا مصسر‪ ،‬لقسد مسات شساعرك السذي كسان يحساول أن يخسرج بالجيسل‬
‫الحاضر إلى الزمن الذي لم يأت بعد‪ ،‬فسسإذا جسساء هسذا الزمسن الزاخسسر‬
‫بفنونه وآدابه العالية‪ ،‬وذكرت مجد شعرك الماضي‪ ،‬فليقل أسسساتذتك‬
‫يومئذ‪ :‬كان هذا الماضي شاعًرا اسمه شوقي!‬
‫‪‬‬

‫‪279‬‬
‫بعد شوقي*‬

‫كان يتوجه الظن على شوقي رحمه الله فيزعم الزاعسسم أن شسسوقي‬
‫هو يحيى شعره‪ ،‬وهو يرفع منه‪ ،‬وهو يشسسيع حسسوله قسسوة الجسسذب مسسن‬
‫مغنسساطيس السسثروة والمكانسسة‪ ،‬وأن الرجسسل مسسا أوفسسى علسسى الشسسعراء‬
‫جميًعا لنه أفضلهم‪ ،‬بل لنه أغناهم؛ ول من أنه أقواهم قوة‪ ،‬بل لنسسه‬
‫أقواهم حيلة؛ وأن الشسساعر لسسو جسساء يسسومه لبطسسل السسسحر والسسساحر‪،‬‬
‫صا بعد أن انقلبت حية‪ ،‬ويؤول هذا الشسسعر إلسسى‬ ‫فترجع العصا وهي ع ً‬
‫حقيقته‪ ،‬وتتسم الحقيقة بسسسمتها؛ كسسأن شسسوقي كسسان يعمسسل لشسسعره‬
‫بقوة السموات والرض ل بقوة رجل من الناس‪.‬‬
‫فقد ذهب الرجل إلى ربه‪ ،‬وخل مكانه‪ ،‬وبطلت كل وسائله‪ ،‬ونام عن‬
‫شعره نومة البدية‪ ،‬وتركه لما فيه يحفظه أو يضيعه إن كان فيه حق‬
‫من الشعر أو باطل‪ ،‬وأصبح الشاعر هو ومسساله وجسساهه وشسسعره فسسي‬
‫حكم الكلمة التي يقولها الزمن‪ ،‬ولم تعسسد هسسذه الكلمسسة فسسي حكمسسه؛‬
‫فهل أثبته الزمسسن أو نفسساه‪ ،‬وهسسل سسسلم لسسه أو كسسابره‪ ،‬وهسسل رده فسسي‬
‫أغمار الشعراء أو جعل الشعراء بعده أدلة من أدلته؟‬
‫أول ما ظهر لي أن الزمن بعد شوقي أصبح أقوى في الدللسسة عليسسه‬
‫حا‬‫وأصدق في الشهادة له‪ ،‬كما تكون الظلمة بعد غيسساب القمسسر شسسر ً‬
‫طويًل لمعنى ذلك الضياء‪ ،‬وإن سسسطعت فيهسسا الكسسواكب وتوقسسد منهسسا‬
‫شيء وتلل شسسيء؛ فقسسد دل الزمسسن علسسى أن ذلسسك الشسسأن لسسم يكسسن‬
‫ن مجيد مبدع؛ ولكنه للسسذي‬ ‫لشاعر كالشعراء يقال في وصفه إنه مفت ّ‬
‫يقال فيه إنه صوت بلده وصيحة قومه‪.‬‬
‫كانت تحدث الحادثة‪ ،‬أو يتخالج الناس معنى من الهم السسذي يعمهسسم‪،‬‬
‫أو يستطيرهم فرح من أفراح الوطن‪ ،‬أو يزول عظيم مسسن العظمسساء‬
‫فيزيد صفحة في التاريخ‪ ،‬أو ينشأ كسون صسسغير مسن أكسوان الحضسسارة‬
‫في الشسسرق كبنسسك مصسسر‪ ،‬أو ترتسسج زلزلسة فسسي الحيسساة العربيسة أينمسا‬
‫ارتجت‪ ،‬فإذا كل ذلك قد وقع في الدنيا بهيئتيسسن‪ :‬إحسداهما فسي ذهسن‬
‫شوقي‪ ،‬فيرسل قصيدته الشرود السسسائرة داويسسة مجلجلسسة‪ ،‬فل تكسساد‬
‫تظه رفي مصر حتى تلتقي حولها الفكسسار فسسي العسسالم العربسسي كلسسه‪،‬‬
‫فتكون شعًرا من أسرى الشعر وأحسنه‪ ،‬ثم تجاوزه فسسإذا هسسي صسسلة‬
‫من أقوى الصلت الذهنية بين أدباء العربية وأوثقها‪ ،‬ثم تجاوزها فإذا‬
‫هي عاطفة تجمع القلوب على معناها‪ ،‬ثم تسمو فوق هذا كلسسه فسسإذا‬
‫هي من هذا كله زعامة مصر على الشعر العربي‪.‬‬
‫‪---------------‬‬

‫‪280‬‬
‫* لما توفي شوقي كتبنا لشيخ مجلتنا "المقتطف" فضًل طويًل عنسسه‬
‫وعن شعره ومنزلة شعره؛ فلم نعرض لشيء من ذلك هنا‪.‬‬
‫]قلت‪ :‬وقد نشرناه قبل هذا الفصل[‪.‬‬
‫واليوم يقع مثل ذلك فتتطاير بعض الفقاقيع الشسسعرية مسسن هنسسا وثسسم‬
‫ملونة منتفخة ماضسسية علسسى قسسانون الفقسساقيع فسسي الطبيعسسة‪ ،‬مسسن أن‬
‫لحظة وجودها هي لحظة فنائها‪ ،‬وأن ظهورها يكسسون لتظهسسر فقسسط ل‬
‫لتنفع‪.‬‬
‫ولست أماري في أن بيننا شعراء قليلين يجيدون الشعر‪ ،‬ولهم فكسسر‬
‫وبيان ومذهب وطريقة‪ :‬ولكن ما منهم أحد إل وهسسو يشسسعر مسسن ذات‬
‫نفسه أن الحوادث لم تختره كما اختارت شسسوقي‪ ،‬وأنسسه فسسي الحيسساة‬
‫كالواقف على باب ديوان ينتظر أن يعهد إليه‪ ،‬وأن يخرج له التقليسسد؛‬
‫فهو ينتظر وسينتظر‪.‬‬
‫وهذا عجيب حتى كأنه سحر من سحر الزمن حين تفصل السسدنيا بيسسن‬
‫العبقري الفذ وبين مسسن يشسسبهونه أو ينافسسسونه ‪-‬بضسسروب خفيسسة مسسن‬
‫الصرفة والعوائق‪ ،‬ل هي كلها من قسسوة العبقسسري‪ ،‬ول هسسي كلهسسا مسسن‬
‫عجز الخرين‪.‬‬
‫وأعجسسب مسسن ذا أن "شسسوقي" كسسان فسسي العسسالم العربسسي كسسأنه عمسسل‬
‫تاريخي متميز من أعمال مصر‪ ،‬غير أنه مسمى باسسسم رجسسل؛ وكسسان‬
‫على الحقيقة ل على المجاز‪ -‬كأن فيه شيًئا من هذه الروح التاريخية‬
‫المتغلبسسة السستي تخلسسد بأسسسماء الثسسار الفنيسسة وتكسسسبها العظمسسة فسسي‬
‫الوجودين‪ :‬من محلها ومن نفس النسان‪.‬‬
‫وأعجب من هذا وذلك أني لم أر شعًرا عربًيا يحسن في وصف الثار‬
‫المصرية ما يحسن في وصفها شسسعر شسسوقي‪ ،‬حسستى لسسسأل نفسسسي‪:‬‬
‫هل تختار بعض الشياء العظيمة وصفها ومفسر عظمتها‪ ،‬كما تختسسار‬
‫المرأة الجميلة عاشقها ومستجلي حسنها؟‬
‫وما بان شسوقي علسى غيسره إل بسأنه رجسل أفسسرغ فسسي رأسسسه السسذهن‬
‫الشعري الكبير‪ ،‬فكان فسسي رأسسسه مصسسنع عمسساله العصسساب‪ ،‬ومسسادته‬
‫المعاني‪ ،‬ومهندسه اللهام؛ والدنيا ترسسسل إليسسه وتأخسسذ منسسه؛ وعلمسسة‬
‫ذلك من كل شاعر عظيم أن تضسسع دنيسساه علسسى اسسسمه شسسهادتها لسسه؛‬
‫ولهذا ما يكون بعض الشعراء كأن اسمه في وزن اسم مملكة‪ ،‬فسسإذا‬
‫قلت‪ :‬شكسبير وانجلترا‪ ،‬فهما في العظمة النفسية مسسن وزن واحسسد‪،‬‬
‫وكذلك المتنبي والعالم العربي‪ ،‬وكذلك شوقي ومصر‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬كان الفرزدق ينقسح الشسعر‪ ،‬وكسان جريسر يخشسب "أي يرسسل‬
‫شعره كما يجيء فل يتنوق فيه ول ينقحه"؛ وكان خشب جريسسر خيسًرا‬

‫‪281‬‬
‫من تنقيح الفرزدق ولم يتنبه أحد إلسسى السسسر فسسي ذلسسك؛ ومسسا هسسو إل‬
‫السر السذي كسان فسي شسوقي بعينسه‪ ،‬سسر المتلء الروحسي قسد ُأمسد‬
‫بالطبع‪ ،‬وأعين بالذوق‪ ،‬وأوتسسي القسسوة أن يتحسسول بآثسساره فسسي الكلم؛‬
‫مسا قريًبسا بعضسه مسن بعضسه‪ ،‬ول‬ ‫فكل ما كان منه فهو منه‪ :‬يجيء دائ ً‬
‫يكاد ينفذ إلى شعور إل اتحد به‪.‬‬
‫وقد كان عمرو بسن ذر السواعظ البليسغ* إذا تكلسم فسي مجلسسه نشسر‬
‫وا من روحه‪ ،‬فيجعسسل كسسل مسسا حسسوله يتمسسوج بسسأمواج نفسسسية؛‬ ‫حوله ج ّ‬
‫فكان كلمه يعصف بالناس عصسسف الهسسواء بسسالبحر يقسسوم بسسه ويقعسسد‪،‬‬
‫وكان مسن الوعساظ مسن يقلسده ويحكيسه ول يسدري أنسه بسذلك يعسرض‬
‫الغلطة على ردها وصوابها‪ ،‬فقال بعسسض مسسن جالسسسه وجالسسسهم‪ :‬مسسا‬
‫سمعت عمرو بن ذر يتكلم إل ذكرت النفخ في الصور‪ ،‬ومسسا سسسمعت‬
‫دا يحكيه إل تمنيت أن يجلد ثمانين‪..‬‬ ‫أح ً‬
‫فالفرق روحاني طبيعي كما ترى‪ ،‬ل عمل فيه لحد ول لصاحبه‪ ،‬وهو‬
‫يشبه الفرق بين عاصفة من الهواء وبين نسسسيم مسسن الريسسح يرسسسلن‬
‫علسسى جهسستين فسسي البحسسر؛ ففسسي ناحيسسة يلتسسج المسساء ويثسسب ويتضسسرب‬
‫ويقصسسف قصسسف الرعسسد‪ ،‬وفسسي الخسسرى يسسترجرج ويسستزحف ويقشسسعر‬
‫ويهمس كوسواس الحلي‪.‬‬
‫والشسسأن كسسل الشسسأن للكميسسة الوجدانيسسة فسسي النفسسس الشسساعرة أو‬
‫الممتازة‪ ،‬فهي التي تعين لهذه النفس عملها على وجسسه مسسا‪ ،‬وتهيئهسسا‬
‫لما يراد منها بقدر مسا‪ ،‬وتقيمهسا علسى دأبهسا إلسى زمسن مسا‪ ،‬وتخصسها‬
‫بخصائصها لغرض ما؛ وإذا أنت حققت لم تجسسد الفسسروق بيسسن النوابسسغ‬
‫بعضهم من بعض إل فروًقا في هذه الكمية ذاتها مقداًرا من مقسسدار؛‬
‫ولول ذلك لكان أصغر العلماء أعظم من أكبر الشسسعراء؛ فقسسد يكسسون‬
‫الشاعر كأنه تلميذ في العلم‪ ،‬ثم يكون العلم كأنه تلميسسذ لقلسسب هسسذا‬
‫الشاعر وعواطفه؛ ولئن عجسسز النقسسد العلمسسي أن ينسسال مسسن الشسساعر‬
‫ما عجز في كل أمة‪.‬‬ ‫العبقري‪ ،‬لقدي ً‬
‫‪---------------‬‬
‫* هو عمر بن ذر الهمذاني الكوفي المتوفى سنة ‪ 156‬للهجرة وكان‬
‫من أبلغ المتكلمين‪.‬‬
‫وقد كان فيمن حاولوا إسقاط شسسوقي مسسن هسسو أوسسسع منسسه اطلع ًسسا‬
‫على آداب المم‪ ،‬وأبصر بأغراض الشسسعر وحقيقتسسه‪ ،‬وكسسان مسسع ذلسسك‬
‫دا شانًئا قد ثقب في قلبسسه الحقسسد؛ والحاسسسد المبغسسض هسسو فسسي‬ ‫حاس ً‬
‫اتساع الكلم وطغيان العبارة أخسسو المحسسب العاشسسق؛ فكلهمسسا يسسدور‬
‫الدم في كبده معاني ووساوس‪ ،‬وكلهمسسا يجسسري كلمسسه علسسى أصسسل‬

‫‪282‬‬
‫مما في سريرته‪ ،‬فل تجد أحدهما إل عالًيا بمن يحب‪ ،‬ول تجسسد الخسسر‬
‫إل نازًل نازًل بمن يبغض ؛ وكان هذا الناقد شسساعًرا‪ ،‬فانضسساف شسسعره‬
‫إلى حسده‪ ،‬إلى بغضه‪ ،‬إلى ذكسسائه‪ ،‬إلسسى اطلعسسه‪ ،‬إلسسى جهسسده‪ ،‬إلسسى‬
‫طول الوقت وتراخي الزمن؛ وهسسذه كلهسسا مفرقسسات نفسسسية‪ ..‬بعضسسها‬
‫أشد من بعض كالبارود‪ ،‬إلى الديناميت‪ ،‬إلى الميلينيت؛ ولكن شوقي‬
‫كان في مرتقى لم يبلغسسه الناقسسد‪ ،‬فسسانقلب جهسسد هسسذا عجسًزا‪ ،‬وأصسسبح‬
‫البارود والتراب في يده بمعنى واحد ‪..1‬‬
‫ومن أعجب ما عجبت له من أمر هذا الناقد‪ ،‬أني رأيتسسه يقسسرر لنسساس‬
‫صواب الحقيقة بزعمه‪ ،‬فإذا هو يقسسرر غلطسسه وجهلسسه وتعسسسفه؛ وهسسو‬
‫في كل ما يكتب عن شوقي يكون كالذي يرى الماء العسسذاب وعملسسه‬
‫في إنبات الروض وتوشيته وتلوينه‪ ،‬فيذهب يعيبه للنسساس بسسأنه ليسسس‬
‫هو البنزين‪ ...‬الذي يحرك السيارات والطيارات!‬
‫تناول شوقي بعد موته فجرده من الشخصية‪ ،‬أي من حاسة الشسسعر‪،‬‬
‫ومن إدراك السر ل يخلق الشسساعر الحسسق إل لدراكسسه والكشسسف عسسن‬
‫حقائقه؛ وكان فيما استدل به على ذلك أن ل يحسسسن وصسسف الربيسسع‬
‫بمثل ما وصفه ابن الرومي في قوله‪:‬‬
‫تجد الوحوش بها كفايتهاوالطير فيه عتيدة الطعم‬
‫فظباؤه تضحى بمنتطحوحمامه يضحى بمختصم‬
‫وزعم أن ابن الرومي قد ولسسد بحاسسسة لسسم يولسسد بهسسا شسسوقي‪ ،‬ولهسسذه‬
‫الحاسة اندمج في الطبيعة فأدرك سر الربيع‪ ،‬وأنه غليان الحياة فسسي‬
‫الحياء‪ ،‬فالظباء تنتطح من الشر‪ ...‬الخ الخ وبنى على ذلسسك ناطحسسة‬
‫سحاب‪ ..‬ل ناطحة ظباء*‪.‬‬
‫أما شوقي الشاعر الضعيف العاجز لم يولد بمثل تلك الحاسسسة‪ ،‬فلسسو‬
‫أنه شهد ألف ربيع لما أحس هذا الحسسساس‪ ،‬ول اسسستطاع أن يجيسسء‬
‫هذا القول المعجزة؛ وكل ذلك من هذا الناقسسد جهسسل فسسي جهسسل فسسي‬
‫جهل‪ ،‬وأعاليل بأضاليل بأباطيل؛ فابن الرومي في هذا المعنسسى لسسص‬
‫ل أكثر ول أقل‪ ،‬فلم يحس شيًئا ول ابتدع ول اخترع‪.‬‬
‫قال الجاحظ‪ :‬يقال في الخصب "أي الربيسسع"‪ :‬نفشسست العنسسز لختهسسا؛‬
‫ضا تظالم معزاها "أي تتظالم"؛ قال‪ :‬لنها تنفسسش شسسعرها‬ ‫وخلفت أر ً‬
‫وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطسسح أختهسسا‪ ،‬وإنمسسا ذاك مسسن الثسسر‪،‬‬
‫"أي حين سمنت وأخصبت وأعجبتها نفسها"‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬أحسبه يعني العقاد‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫* ل يحضسسرني كلم الكسساتب بنصسسه‪ ،‬ولكسسن هسسذا بعسسض معنسساه‪ ،‬وكلسسه‬
‫تهويل‪.‬‬
‫فسأنت تسرى أن ابسن الرومسي لسم يصسنع شسيًئا إل أنسه سسرق المعنسى‬
‫واللفظ جميًعا‪ ،‬ثم جاء للقافية بهذه الزيادة السخيفة التي قاس فيها‬
‫الحمام على الظباء والمعسسزى‪ ..‬فاسسستكره الحمسسام علسسى أن يختصسسم‬
‫في زمن بعينه وهو يختصم في كل يسسوم؛ وإنمسسا شسسرط الزيسسادة فسسي‬
‫السرقة الشعرية أن تضاف إلى المعنى فتجعله كالمنفرد بنفسسسه أو‬
‫كالمخترع‪.‬‬
‫ولعمري لو كان للطبيعة مائة صورة في الخيال الشسسعري‪ ،‬ثسسم قسسدم‬
‫شوقي للناس تسًعا وتسعين منها‪ ،‬لقال ذلك الناقسسد المتعنسست‪ :‬ل‪ ،‬إل‬
‫الصورة التي لم يقدمها‪..‬‬
‫وكان شعر شوقي في جزالته وسلسته كأنمسسا يحمسسل العصسسا لبعسسض‬
‫الشعراء يردهم بها عن السفسفة والتخليط والضطراب في اللفسسظ‬
‫والتركيب؛ فكسثر الختلل فسي الناشسئين مسن بعسده‪ ،‬وجساءوا بسالكلم‬
‫المخلط السسذي تبعسسث عليسسه رخسساوة الطبسسع وضسسعف السسسليقة‪ ،‬فسستراه‬
‫مكشوًفا سهًل ولكن سهولته أقبسسح فسسي السسذوق مسسن جفسسوة العسسراب‬
‫على كلمهم الوحشي المتروك‪.‬‬
‫ضا على الشسسعر‬ ‫والفة أن أصحاب هذا المذهب يفرضون مذهبهم فر ً‬
‫العربي‪ ،‬كأنهم يقولون للناس‪ :‬دعوا اللغة وخذونا نحسسن! وليسسس فسسي‬
‫أذهانهم إل ما اختلط عليهم من تقليسسد الدب الوروبسسي‪ ،‬فكسسل منهسسم‬
‫عابد الحياة‪ ،‬مندمج فسسي وحسسدة الكسسون‪ ،‬يأخسسذ الطبيعسسة مسسن يسسد اللسسه‬
‫ويجاري اللنهاية‪ ،‬ويفنسسى فسسي اللسسذة‪ ،‬ويعسسانق الفضسساء‪ ،‬ويغنسسي علسسى‬
‫قيثارته للنجوم؛ وبالختصار‪ :‬فكل منهم مجنون لغوي‪..‬‬
‫وأنا فلست أرى أكثر هذا الشعر إل كالجيف‪ ،‬غيسسر أنهسسم يقولسسون‪ :‬إن‬
‫الجيفة ل تعد كذلك في الوجود العظم‪ ،‬بل هسسي فيسسه عمسسل تحليلسسي‬
‫علمي دقيق؛ لقد صدقوا؛ ولكن هل يكذب من يقول‪ :‬إن الجيفة هي‬
‫فساد ونتن وقذر في اعتبار وجودنا الشخصي‪ ،‬وجود النظسسر والشسسم‪،‬‬
‫والنقباض والنبساط‪ ،‬وسلمة الذوق وفساد الذوق‪.‬‬
‫وكسسان حاسسسدو شسسوقي يحسسسبون أنسسه إذا أزيسسح مسسن طريقهسسم ظهسسر‬
‫تقدمهم؛ فلما أزيح مسسن الطسسرق ظهسسر تسسأخرهم‪ ..‬وهسسذه وحسسدها مسسن‬
‫عجائبه ‪-‬رحمه الله‪.‬‬
‫وقد كان هذا الشاعر العظيم هبة ثلثة ملوك للشعب‪ ،‬فهيهسسات ينبسسغ‬
‫مثلسسه إل إذا عمسسل الشسسعب فسسي خدمسسة الشسسعر والدب عمسسل ثلثسسة‬
‫ملوك‪ ..‬وهيهات!‬

‫‪284‬‬


285
‫الشعر العربي في خمسين سنة ‪1‬‬

‫إذا اعتبرت الشعر العربي قبل خمسين سنة خلسست "أي قبسسل إنشسساء‬
‫المقتطف" وتأملت حليته ومعرضه‪ ،‬ونظرت في منهسساجه وطريقتسسه‪،‬‬
‫وتصفحت معانيه وأغراضه ‪-‬لم تر منه إل شبيًها بمسسا تسسراه مسسن بقايسسا‬
‫الورق الخضر في شجرة ثقسسل عليهسسا الظسسل فهسسو جامسسد مسسستوخم‪،‬‬
‫وحم في ظلها شعاع الشمس فهو بارد يرتعد‪ ،‬فالحياة فيهسسا ضسسعيفة‬
‫متهالكة‪ ،‬ل هي تموت كالموت ول هي تحيا كالحياة‪ ،‬ومسسا ثسسم إل مسساء‬
‫ناشف ورونق عليل ومنظر من الشجرة الواهنسة كسأنه جسسم الربيسع‬
‫المعتل بدت عروقه وعظامه‪.‬‬
‫كان ذلك الشعر فاسد السبك‪ ،‬متخلف المنزلة‪ ،‬قليسسل الطلوة‪ ،‬بيسسن‬
‫مديح قد أعيد كسسل معنسسى مسسن معسسانيه فسسي تاريسسخ هسسذه اللغسسة بمسسا ل‬
‫يحصيه إل الملئكة الموكلون بإحصاء الكذب‪ ،‬وبين هجاء سسساقط هسسو‬
‫بعض المواد التي تشتعل بها نار الله يسوم تطلسع علسى الفئدة‪ ،‬وبيسن‬
‫غزل مسروق من القلوب التي كانت تحب وتعشسق‪ ،‬وبيسن وصسف ل‬
‫عيب لموصوفه سواه‪ ،‬وشكوى من الدهر يشكو الدهر منها‪ ،‬وتحسسزن‬
‫وبأس وندب تجعل ديسسوان الشسساعر كمسسا سسسمي أحسسد ظرفسساء القسسرن‬
‫الثاني عشر للهجرة ديوان أحد أصحابه "بالملطمة‪ "..‬ورثسساء كقسسراءة‬
‫القراء في جنازات الموتى‪ ،‬ل فيها عظة السكوت ول فائدة النطسسق‪،‬‬
‫وتغمر كل ذلك أنواع من الصناعة بينة التعسسسف‪ ،‬ضسسعيفة التقليسسد‪ ،‬ل‬
‫ترى المتأخر فيها مع المتقدم إل قريًبا ممسسا يكسسون عمسسل اللسسص فسسي‬
‫أخذ المال‪ ،‬من عمل صاحب المسسال فسسي جميعسسه؛ والعجيسسب أنسسك إذا‬
‫اعترضت الشعر من القرن العاشر للهجرة إلى القرن الثالث عشسسر‬
‫"السادس عشر للميلد إلى التاسع عشر" رأيته نازًل من عصسسر إلسسى‬
‫عصر بتدريج مسن الضسسعيف إلسسى الضسسعف‪ ،‬حسستى كأنمسسا ينحسسط بقسسوة‬
‫طبيعية كقوة الجذب‪ ،‬كلما هبطت شيًئا أسرعت شيًئا إلى أن تلصق‬
‫بالرض‪ ،‬وبعضهم يسمي هذه العصور بالعصور المظلمة‪ ،‬ولسسم يتنبسسه‬
‫سسسا كنسساموس رد الفعسسل‪ ،‬يخسسرج أضسسعف‬ ‫أحد إلى أن فسسي الدب نامو ً‬
‫الضعف مسسن أقسسوى القسسوة‪ ،‬وأن انحطسساط الشسسعر فسسي تلسسك العصسسور‬
‫‪-‬على أنسسه لسسم يكسسن إل صسسناعة بديعيسسة‪ -‬إنمسسا سسسببه القسسوة الصسسناعية‬
‫العجيبة التي كانت للشعر منذ القرن السادس إلى العاشسسر‪ ،‬بعسسد أن‬
‫نشأ القاضي الفاضل المتوفى سسسنة ‪596‬هس س "‪1199‬م"؛ وكسسان رجًل‬
‫دا للحوادث تبسسدأ منهسسا أزمنسسة وتنتهسسي‬ ‫من الرجال الذين يخلقون حدو ً‬
‫عندها أزمنة؛ ففتن الناس بأدبه وصسسناعته‪ ،‬وصسسرف الشسسعر والكتابسسة‬

‫‪286‬‬
‫إلسسى أسسساليب النكتسسة البديعيسسة؛ وظهسسرت مسسن بعسسده عصسسابته السستي‬
‫يسمونها العصابة الفاضلية‪ ،‬وما منهسسم إل إمسسام فسسي الدب وعلسسومه‪،‬‬
‫فكان في مصر القاضي ابن سناء الملك‪ ،‬وسراج الدين الوراق‪ ،‬وأبو‬
‫الحسين الجزار‪ ،‬وأضرابهم؛ وكان في الشام عبد العزيسسز النصسساري‪،‬‬
‫والمير مجير الدين بن تميم‪ ،‬وبدر الدين يوسسسف بسسن لؤلسسؤ السسذهبي‪،‬‬
‫وأمثالهم؛ فهذه العصابة هسسي السستي تقابسسل فسسي تاريسسخ الدب العربسسي‬
‫عصابة البديع الولى‪ :‬كمسلم‪ ،‬وأبسسي تمسسام‪ ،‬وابسسن المعسستز‪ ،‬وغيرهسسم؛‬
‫وكلتا الفئتين استبدت بالشسسعر وصسسرفته زمن ًسسا‪ ،‬وأحسسدثت فيسسه انقلب ًسسا‬
‫تاريخّيا متميًزا؛ بيد أن العصابة الفاضلية بلغت مسسن الصسسنعة مبلغًسسا ل‬
‫مطمع في مثله لحد من بعسسدها‪ ،‬حسستى كسسأنهم لسسم يسسدعوا كلمسسة فسسي‬
‫اللغة يجري فيها نسوع مسسن أنسواع البسسديع إل جسساءوا بهسسا وصسسنعوا فيهسسا‬
‫صنعة؛ وكان بعضهم يأخذ مسسن بعسسض ويزيسسد عليسسه‪ ،‬إلسسى آخسسر المسسائة‬
‫الثامنة‪ ،‬فلم يتركوا باًبا لمن يأتي بعسسدهم إل بسساب السسسرقة بأسسساليبها‬
‫المعروفة عند علماء الدب‪.‬‬
‫ولهذا ل تكساد تجسد شسسعًرا عربي ّسسا بعسد القسرن التاسسسع إل أول النهضسة‬
‫الحديثسسة‪ ،‬إل رأيتسسه صسسوًرا ممسسسوخة ممسسا قبلسسه؛ وكسسل شسسعراء هسسذه‬
‫القرون ليسوا ممن وراءهم إل كالظل من النسان‪ :‬ل وجود لسه مسسن‬
‫دا إل في الندرة حين يسطع في مرآة صافية؛‬ ‫نفسه‪ ،‬وهو ممسوخ أب ً‬
‫ومتى كسسان الشسسعراء ل ينشسسئون إل علسسى فنسسون البلغسسة وصسسناعاتها‪،‬‬
‫وكانت هذه كلها قد فرغ منها المتقدمون؛ فمسسا ثسسم جديسسد فسسي الدب‬
‫والفن إل ولدة الشعراء وموتهم‪ ،‬وإل تغير تواريخ السنين‪ ..‬وهسسذا إذا‬
‫لم نعد من الدب تلك الصناعات المستحدثة التي ابتدعها المتأخرون‬
‫مما سنشير إلى بعضه‪ :‬كالتاريخ الشعري وغيره‪.‬‬
‫إن الفكر النساني ل يسير التاريخ‪ ،‬ول يقدر قدًرا فيه‪ ،‬ول ينقله مسسن‬
‫دا وكمسسا‬ ‫حا خلسسق مفس س ً‬‫رسم إلى رسم؛ لنه هو نفسه كما خلق مصل ً‬
‫يستطيع أن يوجد يستطيع أن يفني‪ ،‬وكما تطرد به سسسبيل تلتسسوي بسسه‬
‫سبيل أخرى؛ وما أشبه هذا الفكر في روعتسسه بقطسسار الحديسسد‪ :‬يطيسسر‬
‫كالعاصفة ويحمل كالجبل ويدهش كسسالمعجزة‪ ،‬وهسسو مسسع كسسل ذلسسك ل‬
‫شيء لول القضسيبان الممتسدان فسي سسبيله‪ ،‬يحرفسانه كيسف انحرفسا‪،‬‬
‫ويسيران به أين ارتميا‪ ،‬ويقفان به حيث انتهيا؛ ثم هو بجملته ينقلسسب‬
‫لوهى اختلل يقع فيهما‪.‬‬
‫ل جرم كانت العصور مرسومة معينة النمسسط ذاهبسسة إلسسى الكمسسال أو‬
‫منحدرة إلى النقص‪ ،‬حسب الغايات المحتومة التي يسير بهسسا الفكسسر‬
‫في طريق القدر الذي يقوده‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫فسسا فسسي الدب العربسسي‪،‬‬ ‫فهسسذه علسسوم البلغسسة السستي أحسسدثت فن ّسسا طري ً‬
‫وأنشأت الذوق الدبي نشأته الرابعة في تاريخ هذه اللغة‪ ،‬بعد الذوق‬
‫الجسساهلي‪ ،‬والمحسسدث والمولسسد ‪-‬هسسي بعينهسسا السستي أضسسعفت الدب‬
‫وأفسسسدت السسذوق وأصسسارته إلسسى رأينسسا فسسي شسسعر المتسسأخرين‪ ،‬كأنمسسا‬
‫ما من الجهل‪ ،‬حتى صار النمط العالي من الشسسعر‬ ‫انقلبت عليهم علو ً‬
‫كأنه ل قيمة له؛ إذ ل رغبة فيه‪ ،‬ول حفل به؛ لمباينته لما ألفوا وخلوه‬
‫من النكتة والصناعة؛ وحسستى كسسان فسسي أهسسل الدب ومدرسسسيه مسسن ل‬
‫يعرف ديوان المتنبي!‬
‫ول يصف لك معنى الشعر في رأي أدبسساء ذلسسك العهسسد كقسسول الشسسيخ‬
‫ناصيف اليازجي المتوفى سنة ‪:1871‬‬
‫مللت من القريض وقلت يكفيلمر شاب قوته بضعف‬
‫أحاول نكتة في كل بيتوذلك قد تقصر عنه كفى‬
‫أجل الشعر ما في البيت منهغرابة نكتة أو نوع لطف‬
‫يريد النكتة البلغية وأنواع البديع‪ ،‬وذلك ما قصسسرت عنسسه كفسسه وكسسف‬
‫غيره؛ لنه شيء مفسروغ منسه‪ ،‬حستى ل يسأتي المتسأخر بمثسال فيسه إل‬
‫وجدته بعينه لمن تقدموه على صور مختلفة ينظر بعضها إلسسى بعسسض‬
‫وما يأتي اختلفها إل من ناحية الحسسذق فسسي إخفسساء السسسرقة بالزيسسادة‬
‫والنقسسص‪ ،‬واللمسسام والملحظسسة والتعريسسض والتصسسريح وغيرهسسا ممسسا‬
‫يعرفه أئمسسة الصسسناعة‪ ،‬ول يتسسسبب إليسسه بسسأقوى أسسسبابه إل مسسن رزق‬
‫القوة على التوليد والختراع‪.‬‬
‫إذا عرفت ذلك السر في سقوط الشعر واضسطرابه وسفسسفته‪ ،‬لسم‬
‫تر غريًبا ما هسسو غريسسب فسسي نفسسسه‪ ،‬ومسسن أن بسسدء النهضسسة الشسسعرية‬
‫الحديثة لم تكن العلسسم السسذي يصسسحح السسرأي‪ ،‬ول الطلع السسذي يسؤتي‬
‫الفكسسر‪ ،‬ول الحضسسارة السستي تهسسذب الشسسعور‪ ،‬ول نظسسام الحكسسم السسذي‬
‫دا منيًعا بين زمسسن‬‫يحدث الخلق‪ ،‬وإنما كان ضرًبا من الجهل وقف ح ّ‬
‫فنون البلغة وبين زماننا؛ وكان كالساحل لذلك الموج المتدفع السسذي‬
‫يتضرب على مدة ثمانمسسائة سسسنة مسسن القسسرن السسسادس إلسسى الرابسسع‬
‫عشر للهجرة؛ ولله أسرار عجيبة في تقليب المسسور وخلسسق الحسسداث‬
‫ودفع الحياة الفكرية من نمط إلى نمط‪ ،‬وإخراج العقل المبتدع مسسن‬
‫هيئة إلى هيئة‪ ،‬وجعل بعض النفسسوس كالينسسابيع للتيسسار النسسساني فسسي‬
‫دا علسى‬ ‫عصر واحد أو عصور متعاقبة‪ ،‬وإقامة بعسض الشسخاص حسدو ً‬
‫الزمنة والتواريخ؛ فكان الذي أحدث النقلب الرابع في تاريخ الشعر‬
‫العربي‪ ،‬وأنشأ الذوق نشأته الخامسسسة‪ ،‬هسسو الشسساعر الفحسسل محمسسود‬
‫باشا البارودي الذي لم يكن يعرف شيًئا البتسسة مسسن علسسوم العربيسسة أو‬

‫‪288‬‬
‫مت بسسه الهمسسة؛ لنسسه حادثسسة مرسسسلة للقلسسب‬ ‫فنون البلغسسة؛ وإنمسسا سس َ‬
‫والتغييسسر‪ ،‬فأبعسسده اللسسه مسسن تلسسك العلسسوم‪ ،‬وأخرجسسه لنسسا مسسن دواويسسن‬
‫العرب‪ ،‬كما نشأ مثل ابن المقفسسع والجسساحظ مسسن فصسسحاء العسسراب‪،‬‬
‫ويسر له من أسباب ذلك ما لم يتفق لحد غيره مما ل محل لبسطه‬
‫هنا‪ ،‬ول تكاد تجد شعر أديب متأخر يستقيم له أن يذكر في شعر كل‬
‫عصر من لدن زمننا إلى صدر السلم ثم ل تنحسسط مرتبتسسه غيسسر كلم‬
‫البارودي هذا؛ وهسو وحسده السذي يقابسل القاضسي الفاضسل فسي أدوار‬
‫التاريخ الدبي‪ ،‬على بعد مسسا بينهمسسا؛ لن شسسعره هسسو السسذي نسسسخ آيسسة‬
‫الصناعة‪ ،‬ودار في ألسنة الرواة‪ ،‬وكسسان المثسسل المحتسسذى فسسي القسوة‬
‫والجزالة ودقة التصوير وتصحيح اللغة؛ ولم يشأ الله أن يسسسبقه إلسسى‬
‫ذلك أحد؛ لن النهضة الجتماعية في هذا الشرق العربي كسسانت فسسي‬
‫علم الله مرهونة بأوقاتها وأسبابها؛ ولول ذلك لسسسبقه شسساعر القسسرن‬
‫الحادي عشر المير منجك المتوفى سنة ‪1080‬هسسس "‪1669‬م"؛ فقسسد‬
‫اتفقت لهذا المير نشأة كنشسسأة البسسارودي‪ ،‬فكسسان كسسثير الحفسسظ مسسن‬
‫دواوين العصور الولى‪ ،‬وكان يقلد أبا فراس الحمداني ويحتذي على‬
‫فا‬
‫مثاله؛ ولكن عصره كان في العصور الهالكة‪ ،‬فخرج الشسساعر ضسسعي ً‬
‫كمسا يخسرج كسل شسيء فسي غيسر وقتسه ولغيسر تمسامه وبغيسر وسسائله‬
‫الطبيعية‪.‬‬
‫ونشأت العصابة البارودية وفيها إسسسماعيل صسسبري وشسسوقي وحسسافظ‬
‫ومطران وغيرهم‪ ،‬وأدركوا ما لم يدركه البارودي وجاءوا بما لم يجئ‬
‫بسسه‪ ،‬واتصسسل الشسسعر بعضسسه ببعضسسه‪ ،‬وسسسارت بسسه الصسسحف‪ ،‬وتنسساقلته‬
‫الفواه‪ ،‬وأنسي ذكر البلغة وفنونها بالنشأة المدرسية الحديثة السستي‬
‫جعلت من ترك البلغة بلغة؛ لنها صادفت أوائل النقلب ليس غير؛‬
‫وبذلك بطل في مصر عصر أبي النصر والليسسثي والسسساعاتي والنسسديم‬
‫وطبقتهم‪ ،‬وفي الشام عصر اليسسازجي والكسسستي والنسسسي والحسسدب‬
‫وأضرابهم‪ ،‬وفي العراق عهد الفاروقي والموصلي والبزاز والتميمسسي‬
‫وسواهم؛ واستقل الشعر عربي ّسسا وخسسرج كمسسا يخسسرج الفكسسر المخسسترع‬
‫ماضًيا في سبيل غير محدودة‪.‬‬
‫ل ريب في أن الطسسرق السستي تتبسسع فسسي تربيسسة المسسة وتكسسوين روحهسسا‬
‫العالمية ل بد أن يكون لها أثر بين في شعر شسسعرائها؛ فإنمسسا الشسسعر‬
‫فكسسر ينبسسض وعاطفسسة تختلسسج‪ ،‬ومسسا أرى الشسساعر الحسسق مسسن أمتسسه إل‬
‫كالزهرة الصسسغيرة مسسن شسسجوتها‪ :‬إن لسسم تكسسن خلصسسة مسسا فيهسسا مسسن‬
‫القوة‪ ،‬فهي خلصة ما في الشجر من معنى الجمال ولونه وملمسه‪،‬‬
‫ول تعدم مع هذه الصفة أن تكون وحدها الكوكب السسساطع فسسي هسسذا‬

‫‪289‬‬
‫الفق الخضر كله‪ ،‬ولقد اطردت النهضة منذ خمسين سنة أو حولها‪،‬‬
‫في الدب والعلم؛ وفي الفكر والفن والصناعة؛ وساتوى لنا من ذلك‬
‫ما لم يتفق لهذه المة في عصر من عصورها‪ ،‬حتى بلغنسسا مسسن ذلسسك‬
‫ضا مسن أوربسا وتغلبنسسا عليهسا‪ ،‬أو أنشسسأنا أوربسا‬
‫أن صرنا كأنما فتحنا أر ً‬
‫عربيسسة ومسسا نسسزال نعمرهسسا وننقسسل إليهسسا العلسسوم والفنسسون والداب‪،‬‬
‫ونستخرج لها المثلة والساليب؛ غير أن الشعر العربي مع هسسذا كلسسه‬
‫لم يوف قسطه ولم يبلغ مبلغه في مجاراة هذه النهضة قسسوة ابتكسسار‬
‫وسلمة اختراع وحسن تنوع‪ ،‬لسببين‪ :‬الول أنه ل يزال كما كان منذ‬
‫فسدت اللغة العربية‪ :‬شعر فئة ل شعر أمسسة‪ ،‬فهسسو يوضسسع للخاصسة ل‬
‫للشعب‪ .‬ويدور مع الغراض والحاجات ل مع الطبائع والذواق؛ وذلك‬
‫لو تأملت هو من بعض السرار في سمو هذا الشسسعر وقسسوة إحكسسامه‬
‫وإبداع تنسسسيقه وجمسسال توشسسيحه منسسذ الدولسسة العباسسسية إلسسى القسسرن‬
‫الخامس؛ ثم انحطاطه بعد ذلك وتدنيه شيًئا فشيًئا حسستى بلسسغ السسدرك‬
‫السفل في العصور المتأخرة؛ إذا كانت الفئة التي يوضع لها ويصف‬
‫أهواءها وأغراضها وتتقبله وتثيب عليه وتحسن وزنه ونقده‪ ،‬هي فسسي‬
‫الناحيتين كما ترى مسسن طرفسسي المنظسسار السسذي يقسسرب البعيسسد‪ ،‬فهسسي‬
‫بالنظر في أوله واضحة جليسسة متراميسسة إلسسى الجهسسات‪ ،‬وبسسالنظر فسسي‬
‫آخره ضئيلة ممسوخة ل تكاد تعرف‪.‬‬
‫ومسسا أقضسسي العجسسب مسسن غفلسسة بعسسض الكتسساب فسسي هسسذا الزمسسن إذ‬
‫يناهضون العربية ويسسزرون علسسى الفصسساحة ويعملسسون علسسى انكمسساش‬
‫سوادها وتقليل أهلها‪ ،‬وما يدرون أنهم بذلك يسسسقطون الشسسعر قبسسل‬
‫دا من هؤلء يحسن معالجسسة‬ ‫الكتابة على خطأ أو عمد وقلما تجد واح ً‬
‫الشعر‪ ،‬فإن أصبت له شعًرا وجدته ل غناء فيسه أو فسسي أكسسثره‪ ،‬وأيسسن‬
‫وضعت يدك منه لم تخطئ أن تقع على مثل مما يمثل به لعيب مسسن‬
‫عيوب البلغة‪.‬‬
‫وهذه النهضة التي نحسسن فسسي صسسدد الكلم عنهسسا أوسسسع مسسدى وأوفسسر‬
‫أسباًبا من تلك التي كانت في الدولة العباسية‪ ،‬بمسسا دخلهسسا مسسن أدب‬
‫كل أمة‪ ،‬وما اتصل بها من أساليب الفكر‪ :‬ولكن أين رجال الفصاحة‬
‫المتمكنون منها‪ ،‬المتعصبون لها العاملون على بثها في اللسنة‪ ،‬مسسع‬
‫أن عصرهم أوسع من عصر الرواة‪ ،‬بكثرة ما أخرجسست المطسسابع مسسن‬
‫أمهات الكتب والدواوين‪ ،‬حتى أغنت كل مطبعة أدبية عن راوية مسسن‬
‫أئمة الرواة‪.‬‬
‫فسسا عسسن منزلتسسه‬
‫والسبب الثاني الذي من أجلسسه ل يسسزال الشسسعر متخل ً‬
‫الواجبة له سقوط فن النقد الدبي في هذه النهضة؛ فإن مسسن أقسسوى‬

‫‪290‬‬
‫السباب التي سمت بالشعر فيمسسا بعسسد القسسرن الثساني وجعلست أهلسه‬
‫يبالغون في تجويده وتهسذيبه‪ ،‬كسسثرة النقسساد والحفساظ‪ .‬وتتبعهسسم علسسى‬
‫الشعراء‪ ،‬واعتبار أقوالهم‪ ،‬وتدوين الكتسسب فسسي نقسسدهم‪ ،‬كالسسذي كسسان‬
‫في دروس العلماء وحلقات الرواية ومجالس الدب‪ ،‬وكالسسذي صسسنفه‬
‫مهلهل بن يموت في نقد أبي نواس وأحمسسد بسسن طسساهر‪ ،‬وابسسن عمسسار‬
‫في أبي تمام‪ ،‬وبشر بن تميم في البحتري‪ ،‬والمسسدي فسسي الموازنسسة‪،‬‬
‫والحاتمي في رسالته‪ ،‬والجرجاني في الوساطة‪ ،‬وما ل يحصسسى مسسن‬
‫مثل هذه الكتب والرسائل‪ ،‬وأنت مسسن النقسسد فسسي هسسذه النهضسسة بيسسن‬
‫اثنين‪ :‬صديق هو الصديق أو عدو هو العدو‪ ..‬فسسإن ابتغيسست لهمسسا ثالث ًسسا‬
‫فكاتب ل تتعادل وسائل النقد فيه فل خير في كلمه‪ ،‬أما الناقد الذي‬
‫استعرض علم العربيسة وآدابهسا‪ ،‬وكسان شساعًرا كاتًبسا قسوي العارضسة‪،‬‬
‫دقيق الحسسس ثسساقب السسذهن‪ ،‬مسسستوي السسرأي بصسسيًرا بمسسذاهب الدب‬
‫متمكًنا من فلسفة النقد مبرًزا في ذلك كلسسه‪ -‬فهسسذا الخيسسال يسسذكرني‬
‫مسسا للبسسارودي إذ قلسست لسسه‪ :‬إن الشسساعر ل يكسسون لسسسان‬‫كلمة قلتها يو ً‬
‫زمنه حتى يوجد معه الناقد الذي هو عقسسل زمنسسه؛ فقسسال‪ :‬ومسسن ناقسسد‬
‫الشعر في رأيك؟ قلت‪ :‬الكاتب وهو شاعر‪ ،‬والديب وهو فيلسسسوف‪،‬‬
‫والمصلح وهو موفق؛ فكأنمسسا هسسولت عليسسه حسستى قسسال ‪-‬رحمسسه اللسسه‪-‬‬
‫"فين دا كلسسه؟" قلسست‪ :‬فلعلسسه ل ينشسسئ لنسسا هسسذا العقسسل الملتهسسب إل‬
‫العصر الذي يوجد لنا أسطوًل كأسطول انجلترا‪.‬‬
‫وعلى ما نزل بالشسسعر العصسسري مسسن هسسذين السسسببين فقسسد اسسستقلت‬
‫طريقته وظهر فيه أثر التحول العلمي والنقلب الفكري‪ ،‬وعسسدل بسسه‬
‫أهلسه إلسى صسور الحيساة بعسد أن كسان فسي أكسثره صسوًرا مسن اللغسسة‪،‬‬
‫وأضافوا به مادة حسنة إلى مجموعة الفكسسار العربيسسة‪ ،‬ونوعسسوا منسسه‬
‫عا بعد أن كان كالشيء الواحد‪ ،‬واتسعت فيسسه دائرة الخيسسال بمسسا‬ ‫أنوا ً‬
‫نقلوا إليه من المعاني المترجمة من لغسات مختلفسة‪ ،‬وهسو مسن هسسذه‬
‫الناحية أوسع مسسن شسسعر كسسل عصسسر فسسي تاريسسخ هسسذه اللغسسة‪ :‬إذ كسسان‬
‫الولون إنما يأخذون مسسن اليونانيسسة والفارسسسية‪ ،‬ثسسم أخسسذ المتسسأخرون‬
‫قليًل قليًل من التركية؛ أما في العهد الخيسسر فيكسساد العقسسل النسسساني‬
‫كله يكون مسسادة الشسساعر العربسسي‪ ،‬لسسول ضسسعف أكسسثر المحسسدثين مسسن‬
‫النشء الجديد في البيان وأساليبه‪ ،‬وبعدهم من ذوق اللغة واعتيسساص‬
‫مرامها عليهم‪ ،‬حتى حسسسبوا أن الشسسعر معنسسى وفكسسر‪ ،‬وأن كسسل كلم‬
‫أدى المعنسسى فهسسو كلم‪ ،‬ول عليهسسم مسسن اللغسسة وصسسناعتها‪ ،‬والبيسسان‬
‫وحقيقته؛ وحتى صرنا والله من بعض الغثاثة والركاكة والختلل فسسي‬
‫شر من توعر نظم الجاهلية وجفاء ألفاظه وكزازة معانيه؛ وهسسل ثسسم‬

‫‪291‬‬
‫فسرق بيسن أن تنفسسر النفسس مسن الشسسعر؛ لنسه وعسر اللفسساظ عسسير‬
‫السسستخراج شسسديد التعسسسف‪ ،‬وبيسسن أن تمجسسه؛ لنسسه سسساقط اللفسسظ‪،‬‬
‫متسول المعنى‪ ،‬مضطرب السياق؟ ثم تراهسم ينجسسزون الشسعر كلسه‬
‫دا من تسسسهيل اللفسسظ ونزولسسه‪ ،‬حسستى‬ ‫على اختلف أغراضه نم ً‬
‫طا واح ً‬
‫كأن هذه اللغة ل تنوع فسسي ألفاظهسسا وأجسسراس ألفاظهسسا‪ ،‬مسسع أن هسسذا‬
‫التنوع من أحسن محاسنها وأخص خصائصها دون غيرها من اللغات‪،‬‬
‫كما أن كل تنوع هو من أبدع أسباب الجمال والقوة في كل فن؛ ول‬
‫يدري أصحابنا أن كل ذلك مسسن عملهسسم عبسسث فسسي عبسسث إذا هسسم لسسم‬
‫يعطوا الشعر حقه من صناعة اللغسسة؛ وهسسذا شسساعر الفسسرس الشسسهير‬
‫مصلح الدين السعدي الشيرازي إمام من أئمة البلغسسة فسسي قسسومه ل‬
‫يدفع مكانه وشسسعره مثسسل مسسن أسسسمى المثلسسة فسسي جمسسال المنطسسق‬
‫الروحي‪ ،‬وليس في الناس إل من يسلم له هذا المحسسل مسسن النبسسوغ‪،‬‬
‫وهو مع ذلك حين نظم الشعر لم تنفعه نافعة من حكمة أو خيسسال أو‬
‫فكر‪ ،‬وذهب في التعسف كل مذهب‪ ،‬وحمل على كلمه من العيوب‬
‫ما لم يسسسلم معسسه إل صسسحة السسوزن‪ ،‬كقسسوله فسسي وصسسف نكبسسة بغسسداد‬
‫وتخريبها‪:‬‬
‫فقد ثكلت أم القرى ولكعبةمدامع في الميزان تسكب في الحجر‬
‫على جدر المستنصرية ندبةعلى العلماء الراسخين ذوي الحجر‬
‫نوائب دهر ليتني مت قبلهاولم أر عدوان السفيه على الحبر‬
‫محابر تبكي بعدهم بسوادهاوبعض قلوب الناس تألف بالغدر‬
‫لحى الله من تسدي إليه بنعمةوعند هجوم اليأس أحلك من حبر‬
‫فانظر أي شعر هذا فسسي الركاكسسة والهسسذيان والسسسخف‪ ،‬وفسسي خمسسود‬
‫الفكر وضعف الروح وذهاب الرونق‪ ،‬وتأمل كيف هسسوى بسسه السسسعدي‬
‫من مكانته التي بوأه إياها أدبه العالي‪ ،‬وكيف سقط إلى حيث تسسرى‪،‬‬
‫مع أنه في محراب الفكر إمام وراءه صفوف من عصور البلغة‪.‬‬
‫ومن ههنا نشأ في أيامنا ما يسمونه " الشعر المنثور"‪ ،‬وهي تسسسمية‬
‫تدل على جهل واضسسعها ومسسن يرضسساها لنفسسسه؛ فليسسس يضسسيق النسسثر‬
‫بالمعاني الشعرية‪ ،‬ول هو قد خل منها فسسي تاريسسخ الدب؛ ولكسسن سسسر‬
‫هذه التسمية أن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقسسة يظهسسر فيهسسا‬
‫الختلل لوهى علة وليسر سبب‪ ،‬ول يوفق إلى سبك المعاني فيهسسا‬
‫إل من أمده الله بأصح طبسسع وأسسسلم ذوق وأفصسسح بيسسان؛ فمسسن أجسسل‬
‫ذلك ل يحتمل شسسيًئا مسسن سسسخف اللفسسظ أو فسسساد العبسسارة أو ضسسعف‬
‫التأليف‪ ،‬ول تستوي فيه أمسى المعاني مسسع شسسيء مسسن هسسذه العلسسل‬
‫وأشسسباهها‪ ،‬وتسسراه يلقسسي بمثسسل "السسسعدي" مسسن الفلسسك العلسسى إلسسى‬

‫‪292‬‬
‫الحضيض‪ ،‬ل يقيم له وزًنا ول يرعى له محًل ول يقبسسل فيسسه عسسذًرا ول‬
‫رخصة؛ غير النثر يحتمل كل أسلوب‪ ،‬وما من صسسورة فيسسه إل ودونهسسا‬
‫صورة إلى أن تنتهي إلسسى العسسامي السسساقط والسسسوقي البسسارد؛ ومسسن‬
‫شأنه أن ينبسط وينقبض علسسى مسسا شسسئت منسسه‪ ،‬ومسسا يتفسسق فيسسه مسسن‬
‫الحسن الشعري فإنما هو كالسسذي يتفسسق فسسي صسسوت المطسسرب حيسسن‬
‫يتكلم ل حين يغني‪ :‬فمسسن قسسال‪" :‬الشسسعر المنثسسور" فسساعلم أن معنسساه‬
‫عجز الكاتب عن الشعر من ناحية وادعاؤه من ناحية أخرى‪.‬‬
‫دا في الشعر العربي مما أبدعته هذه النهضة أشياء‪:‬‬ ‫والذي أراه جدي ً‬
‫أوًل‪ :‬هذا النوع القصصسسي السسذي توضسسع فيسسه القصسسائد الطسسوال‪ ،‬فسسإن‬
‫الداب العربية خالية منه؛ وكان العرب ومن بعدهم إذا ذكروا القصة‬
‫ألمسسوا بهسسا اقتضسساًبا وجسساءوا بهسسا فسسي جملسسة السسسياق علسسى أنهسسا مثسسل‬
‫مضروب أو حكمة مرسلة أو برهسسان قسسائم أو احتجسساج أو تعليسسل ومسسا‬
‫جرى هذا المجرى مما ل ترد فيه القصة لذاتها ول لتفصيل حوادثهسسا؛‬
‫وهو كثير في شعر الجاهليين والسسسلميين‪ ،‬والجيسسد منسسه قليسسل حسستى‬
‫في شعر الفحول؛ فإن طبيعة الشعر العربي تأباه؛ والذين جاءوا بسسه‬
‫من العصريين ل يجدون منسه إل قطًعسا تعسسرض فسسي القصسسيدة وأبياًتسا‬
‫تتفق في بعض معانيها وأغراضها مما يجسسري علسسى أصسسله فسسي سسسائر‬
‫الشعر طال أو قصر؛ والسبب في ذلك أن القصسسة إنمسسا يتسسم تمامهسسا‬
‫بالتبسسسط فسسي سسسردها وسسسياقة حوادثهسسا وتسسسمية أشخاصسسها وذكسسر‬
‫أوصافهم وحكاية أفعالهم وما يداخل ذلسسك أو يتصسسل بسسه‪ ،‬وإنمسسا بنسسي‬
‫الشعر العربي في أوزانه وقوافيه على التأثير ل على السرد‪ ،‬وعلسسى‬
‫الشعور ل على الحكاية؛ ول يريدون منه حديث اللسان ولكن حسديث‬
‫النفس؛ فهو في الحقيقة عندهم صناعة روحية يصنعون بهسسا مقسسادير‬
‫من الطرب والهتزاز والفرح والحزن والغضب والحمية والنزعة؛ فل‬
‫جرم كان سبيلهم إلى ذلك هو التحديد ل الطلق‪ ،‬وضبط المقادير ل‬
‫السراف؛ إذ كان من شأن هذه المور في طبيعة النفس أن مسسا زاد‬
‫ضسسا‬
‫منها عن مقداره تحول وانقلب في تسسأثيره‪ ،‬وذلسسك هسسو السسسبب أي ً‬
‫مسسا علسسى اختيسسار اللفسسظ وصسسنعة‬‫في أن هذا الشسسعر مسسا لسسم يكسسن قائ ً‬
‫العبارة وتصفيتها وتهذيبها واختيار الوزن للمعنى وإدارة الفكسسر علسسى‬
‫ما يلفت من ضروب المجاز والستعارة ونحوها‪ -‬سقط ورك بمقسسدار‬
‫ما ينقصه من ذلك؛ وليس الشأن في إطالة القصيد؛ فمسسن الشسسعراء‬
‫دا في أربعة آلف بيسست‪ ،‬ومنهسسم مسسن نظسسم تفسسسير‬ ‫من نظم روّيا واح ً‬
‫القرآن كله؛ ولكن عيب مثل هذا الشعر في العربية أنه شعر‪ ...‬ومسسا‬
‫أخمل ابن الرومي على جللة محله إل طول قصائده وسياقه الكلم‬

‫‪293‬‬
‫فيها مع ذلك على ما يشبه أسلوب الحكاية وخروجها مخرج المقالسسة‬
‫ي له إل مقطعات وأبيات ومات سائر شعره وهو‬ ‫ح َ‬
‫يتحدث بها‪ ،‬فلم ت َ ْ‬
‫حي وميت على السواء‪ ،‬حتى قسسال فيسسه صسساحب الوسسساطة‪" :‬ونحسسن‬
‫نستقرئ القصيدة من شعره وهي تناهز المسسائة أو تربسسي أو تضسسعف‪،‬‬
‫فل نعثر فيها إل بالبيت الذي يروق أو البيتين‪ ،‬ثسم قسد تنسسلخ قصسائد‬
‫منه وهي واقفة تحت ظلها جارية تحت رسلها ل يحصل منها السامع‬
‫إل على عدد القوافي‪."..‬‬
‫والعجيب أن بعض الكتاب في عصرنا ممن ل تحقيق لهسسم فسسي مثسسل‬
‫هذه المسسسائل‪ ،‬يعسسدون أحسسسن محاسسسن ابسسن الرومسسي مسسا هسسو أقبسسح‬
‫عيوبه‪ ،‬وقاتل الله صناعة الكتابة‪ ،‬فكما أنها لملء الفراغ هسسي كسسذلك‬
‫لفراغ الملن ‪..1‬‬
‫ثاني ًسسا‪ :‬صسسياغة بعسسض الشسسعر علسسى أصسسل التفكيسسر فسسي النجليزيسسة أو‬
‫الفرنسية أو غيرهما من لغات المم‪ ،‬فيخرج الشعر عربّيسسا وأسسسلوبه‬
‫في تأدية المعنى أجنبي؛ وأكثر ما يأتي هسسذا النسسوع مسن أمريكسسا‪ ،‬وأنسسا‬
‫أعجب بكثير منه لما فيه من الغرابة والحسن‪.‬‬
‫وما زالت أجناس المم يضيق بعضها بأشسسياء ويتسسسع بعضسسها بأشسسياء‬
‫فلسنا مقيدين بسسالفكر العربسسي ول بطريقتسسه‪ ،‬وعلينسسا أن نضسسيف إلسسى‬
‫محاسن لغتنا محاسن اللغات الخرى؛ ولكن من غيسسر أن نفسسسدها أو‬
‫نحيف عليها أو نبيعها بيع الوكس؛ ومتى كان هسسذا النسسوع مسسن الشسسعر‬
‫ما جيسسد السسسبك رشسسيق المعسسرض‪ ،‬كسسان فسسي النهايسسة مسسن‬ ‫رصيًنا محك ً‬
‫الرقة والبداع؛ ولم يأت التجديد في هذه اللغة إل من هسسذه الناحيسسة‪،‬‬
‫كالذي تراه فيما أخذ عبد الحميد وابن المقفسسع مسسن نمسسط الداء فسسي‬
‫اللغة الفارسية‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬النصراف عن إفسسساد الشسسعر بصسسناعة المديسسح والرثسساء‪ ،‬وذلسسك‬
‫بتأثير الحرية الشخصية في هذا العصر؛ والمدح إذا لم يكن باًبسسا مسسن‬
‫التاريخ الصحيح لم يدل على سمو نفس الممدوح‪ ،‬بل علسسى سسسقوط‬
‫حا حين يتلسسى علسسى سسسامعه‪ ،‬ولكنسسه ذم حيسسن‬ ‫نفس المادح؛ وتراه مد ً‬
‫يعزى إلى قائله! وما ابتليت لغسسة مسسن لغسسات السسدنيا بالمديسسح والرثسساء‬
‫والهجاء ما ابتليت هذه العربية؛ ولذلك أسباب ل محل لتفصيلها‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬الكثار من الوصسسف والبسسداع فسسي بعسسض منسساحيه والتفنسسن فسسي‬
‫بعض أغراضه الحديثة‪ :‬وذلسسك مسسن أسسسمى ضسسروب الشسسعر‪ ،‬ل تتفسسق‬
‫الجادة فيه والكثار منه إل إذا كان الشعر حّيا‪ ،‬وكانت نزعسسة العصسسر‬
‫حا؛ ولما وصف الشيخ أحمد الكردي‬ ‫إليه قوية‪ ،‬وكان النظر فيه صحي ً‬
‫"من شعراء القرن الثاني عشر" السفينة واستهل بهذا الوصف مدح‬

‫‪294‬‬
‫دوا ذلك حادثة مسسن حسسوادث الدب فسسي عصسسره‬ ‫الوزير راغب باشا‪ ،‬ع ّ‬
‫فتأمل!‬
‫سا‪ :‬إهمسسال الصسناعات البديعيسسة الستي كسان يبنسسى عليهسسا الشسعر‪،‬‬ ‫خام ً‬
‫ما أو تورية‪ ...‬الخ‪ ،‬أو‬‫سا أو طباًقا أو استخدا ً‬ ‫فينظم البيت؛ ليكون جنا ً‬
‫ضرًبا آخر من صناعة العدد والحساب‪ ،‬كالتاريخ الشعري بسسأنواعه‪ ،‬أو‬
‫صسسناعة الحسسرف‪ ،‬كسسالمقلوب والمهمسسل وغيرهمسسا‪ :‬أو صسسناعة الفكسسر‪،‬‬
‫كسساللغز والمعمسسى؛ أو صسسناعة الوضسسع كالتشسسجير والتطريسسز‪ ،‬إلسسى مسسا‬
‫يلتحق بهذا الباب الذي ذهسسب أهلسسه فل يتيسسسر لحسسد مسسن بعسسدهم أن‬
‫يجاريهم فيه‪ ،‬وكانت لهم في كل ذلك عجائب استقصسسيناها بالتسسدوين‬
‫في موضعها من "تاريخ آداب العرب"‪1‬؛ بيد أن إهمال صناعة البسسديع‬
‫شيء وإهمال فن البديع نفسه شيء آخر؛ ومن هنا جاء ما نراه فسسي‬
‫بعض الشعر الحديث "والشعر المنثور" من الغراق السسسخيف السسذي‬
‫ل يقوم على أصل‪ ،‬من التعدي فسي ضسروب السستعارة‪ ،‬والبعسد فسي‬
‫المجاز‪ ،‬والحالة في الوضع‪ ،‬ونحوها مما يرجسسع إلسسى الجهسسل بطبيعسسة‬
‫البلغسسة‪ ،‬وممسسا ل نعسسده إل ضسسرًبا مسسن الفسسساد يلتحسسق بمسسا كسسان فسسي‬
‫العصور الماضية وإن كان على الضد منه‪.‬‬
‫سا‪ :‬النظسم فسي الشسؤون الوطنيسة والحسوادث الجتماعيسة‪ ،‬ممسا‬ ‫ساد ً‬
‫طا بروح العصر وفكره وخياله‪ ،‬وهو بسساب ل ينهسسض‬ ‫يجعل الشعر محي ً‬
‫فا لسسم يسسستحكم؛ وقسسد قسسالوا‪ :‬إن‬‫بسسه إل أفسسراد قلئل‪ ،‬ول يسسزال ضسسعي ً‬
‫للقاضي الفاضل اثني عشر ألف بيت في مدح الوطن والحنين إليسه‪،‬‬
‫ولكن ل أحسب أن بها مائة من نحو ما ينظسسم فسسي هسسذا العصسسر ممسسا‬
‫أدى بالشعر إلى أن يدخل في باب السياسة ويعد من وسائلها‪ ،‬وفي‬
‫طرق التربية ويعد من أسبابها‪.‬‬
‫سابًعا‪ :‬اسخراج بعسسض أوزان جديسسدة مسسن الفارسسسية والتركيسسة‪ ،‬وهسسو‬
‫قليل‪ ،‬جاء به شوقي فسسي قصسسيدتين ولسسم يتسسابعه أحسسد؛ لفسسراط ذلسسك‬
‫الوزن في الخفة حتى رجع إلى الثقل‪ ..‬ثسسم نظسسم بعسسض الشسسعر مسسن‬
‫أوزان مختلفة قريبة التناسق على قاعسسدة الموشسسح‪ ،‬ولكنسسه شسسعر ل‬
‫توشيح‪ ،‬كما ينظم بعض شعراء أمريكا وسوريا؛ ولم يحدث مثل ذلك‬
‫في العربية‪ ،‬فإن القصيدة كانت تنظم من بحر واحد‪ ،‬وقد يخرج منه‬
‫وزن آخر‪ :‬ول نعرف في تاريسسخ الدب قصسسيدة تتسسألف مسسن وزنيسسن إل‬
‫السسذي قسسالوا إن حسسسين بسسن عبسسد الصسسمد المتسسوفى سسسنة ‪984‬هس س "‬
‫‪1576‬م" قد اخترعه ونظم فيه أبياته التي مطلعها‪:‬‬
‫فاح عرف الصبا وصاح الديكوانثنى البان يشتكي التحريك‬
‫قم بنا نجتلي مشعشعةتاه من وصفه بها النسيك‬

‫‪295‬‬
‫وعارضها ولده المام الشهير بهاء الدين العاملي صسساحب الكشسسكول‬
‫بأبيات قسالوا‪ :‬إنهسا سسارت فسي عصسره مسسير المثسل‪ ،‬ونسسج عليهسا‬
‫شعراء ذلك العصر‪ ،‬كالنابلسي وغيره‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬
‫يا نديمي بمهجتي أفديكقم وهات الكؤوس من هاتيك‬
‫خمرة إن ضللت ساحتهافسنا نور كأسها يهديك‬
‫على أن هذا الوزن بشطريه مستخرج من الخفيف‪ ،‬فليسسس بسساختراع‬
‫كما زعموا‪ ،‬وإنما هو ابتداع في التأليف الشسسعري؛ وقسسد اجتزأنسسا بمسسا‬
‫مرت الشارة إليه‪ ،‬فإنه كل ما تغير بسسه الرسسسم فسسي هسسذه الصسسناعة؛‬
‫وتركنا المثلة تفادًيا من الطالة‪.‬‬
‫دا مسسع دينهسسا الروحسسي‬ ‫وبعد فل ريب أن النفس البشرية في حاجة أب س ً‬
‫إلى دين إنساني يقوم علسسى الشسسعور والرغبسسة والتسسأثير‪ ،‬فيفسسسر لهسسا‬
‫حقائق الحياة‪ ،‬ويكون وسيلة من وسائل تغييرها؛ ليجعلها ألطف مما‬
‫هي في اللطف؛ وأرق مما تكون في الرقسسة‪ ،‬وأبسسدع ممسسا تتفسسق فسسي‬
‫البداع؛ ذلك السسذي يصسسل بظهسسوره وإبهسسامه بيسسن الواضسسح والغسسامض‪،‬‬
‫والخالد والفاني؛ ذلك الذي ل يجمل الجمال إل به‪ ،‬ول تسكن النفس‬
‫إل إليه؛ ذلك هو الشعر!‬

‫‪‬‬

‫‪296‬‬
‫صروف اللغوي*‬

‫كان شيخنا هذا رجًل حصي ً‬


‫فا جيسسد المنزعسسة حسسسن السسرأي‪ ،‬ممكن ًسسا لسه‬
‫فيما كان يعترضه من مسائل اللغة‪ ،‬قوّيا على الحسسوال السستي تجسسري‬
‫له من أوضاعها فيما يعانيه مسسن النقسسل ويزاولسسه مسسن الترجمسسة علسسى‬
‫اختلف مناحيها وكثرة فنونها‪ ،‬وعلى أنها ل تزال كل يوم تنبعسث مسن‬
‫علم وتحتفل من رأي وتمد مد السيل كأنها دنيا عقلية ل يسسبرح عقسسل‬
‫النسان دائب ًسسا يحلسسق فيهسسا ويبنيهسسا مسسن معسساني الكسسون وأسسسراره‪ ،‬فل‬
‫الكون ينفد لتتم‪ ،‬ول هي تتم قبل أن ينفد الكون‪.‬‬
‫وثبت شيخنا على ذلك عمر دولة من الدول في خمسين سنة ونيف‪،‬‬
‫يضرب قلمه في السهل والصعب‪ ،‬وفي الممكن والممتنع؛ وإنه ليمر‬
‫في كل ذلك مّرا ل ينثني‪ ،‬ويحذو حذًوا ل يختلف‪ ،‬كأن الصسسعب عنسسده‬
‫نسق السهل‪ ،‬والممتنع صوغ الممكن؛ فلو قلت‪ :‬إنه بنسسي فسسي أصسسل‬
‫خلقسسه وتركيبسسه علسسى أن يكسسون قسسوة مسسن قسسوى التحويسسل لتحقيسسق‬
‫المشابهة العقلية بين الشرق والغسسرب لمسسا أبعسسدت‪ ،‬ولسسو زعمسست أن‬
‫ذلك القلم الحي لم يكن إل عرًفا في جسم النسانية لكان عسى‪..‬‬
‫وانتهى شيخنا في العهد الخير إلى أن صسسار يعسسد وحسسده حجسسة اللغسسة‬
‫العربيسسة فسسي دهسسر مسسن دهورهسسا العاتيسسة‪ ،‬ل فسسي الصسسول والقيسسسة‬
‫والشواذ وما يكون من جهة الحفظ والضبط والتقسسان‪ ،‬بسسل فيمسسا هسسو‬
‫أبعد من ذلك وأرد بالمنفعة على اللغة وتاريخها وقومها‪ ،‬بسسل فيمسسا ل‬
‫تنتهي إليه مطمعه أحد من علمائها وكتابها وأدبائها؛ إذ وقسسع الجمسساع‬
‫على أنه انفرد في إقامة الدليل العلمي على سعة العربية وتصسسرفها‬
‫وحسن انقيادها وكفايتها‪ ،‬وأنها تؤاتي كسسل ذي فسسن علسسى فنسسه‪ ،‬وتمساد‬
‫كل عصر بمادته؛ وأنها من دقة التركيب ومطاوعته مسسع تمسسام اللت‬
‫والدوات بحيث ينزل منها رجل واحد بجهده وعمله منزلة الجماعات‬
‫الكثيرة في اللغات الخرى‪ ،‬كأنها آخر ما انتهت إليسسه الحضسسارة قبسسل‬
‫أن تبدأ الحضارة‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬هو العلمة الدكتور يعقوب صروف صاحب "المقتطف"‪ ،‬وقد نشر‬
‫هذا المقال في مقتطف شهر يناير سنة ‪.1928‬‬
‫ول يذهبن عنك الفرق بين رجل حافظ والكتاب أحفظ منه‪ ،‬وهو مسسن‬
‫الكتاب خسسرج وإلسسى الكتسساب يرجسسع؛ وبيسسن رجسسل يكسسون ترجمان ًسسا مسسن‬
‫تراجمة العقل النساني المعنسسي بتأويسسل الكسسون وتفسسسيره‪ ،‬والطسسائر‬
‫باللفسساظ النسسسانية علسسى أجنحسسة العلسسوم والفنسسون والمخترعسسات‬

‫‪297‬‬
‫والمعاني؛ فإن ذاك ينقل عن الواقسسع ثسسم ل يتعسسدى هسسذه المنزلسسة ول‬
‫يتجسساوز متسسون اللفسساظ‪ ،‬وأمسسا هسسذا فل يسسزال يضسسطرب مسسع اللفسساظ‬
‫ومعانيها يجاذبها ويدافعها‪ ،‬ثم ل يزال يضع يسسده فسسي النسسسيج اللغسسوي‬
‫يسدي ويلحم‪ ،‬فهو مدفوع إلى المسالك الدقيقة من مذاهب الوضسسع‬
‫دا بخسساص المعنسسى‬ ‫وطرقه‪ ،‬وأساليب الخسسذ والنسستزاع؛ وهسسو مقيسسد أبس ً‬
‫وخاص اللفظ على التعيين والتحديد‪ ،‬ل يجد فسحة من ضيقين؛ فإن‬
‫لم يكن مثل هذا في منزلة الواضع فهو في المنزلة بعده ول ريب‪.‬‬
‫إنما اللغوي الكبر عندي هو هذا الكون‪ ،‬وما العالم باللغة وفنونهسسا إل‬
‫وسيلة لتهذيب الطريقة تهذيًبا عقلًيا‪ ،‬فيجب من ثم إن يكون للغسسوي‬
‫رأي وعلم وذكاء وبصر‪ ،‬ويجب أن يطابق النسسواميس‪ ،‬فل يتعسسادى مسسا‬
‫بينه وبينها؛ لنه وسيلة إنطاقهسسا ليسس غيسر؛ ومسن ذلسسك أرى السسدكتور‬
‫صروف في الغاية‪ ،‬فقد كان ينزع في مسسذهبه اللغسسوي منسسازع علميسسة‬
‫دقيقة تسسوزن وتقسساس وتختسسبر‪ ،‬فسسي حيسسن ل تزيسسغ ول تهسسن ول تختسسل‪،‬‬
‫وتراها تنطلق وهي مقيدة‪ ،‬وتتقيد وهي مطلقة؛ إذ كان ل يعتد اللغسسة‬
‫عربية للعرب‪ ،‬بل عربية للحياة؛ وما تهدمه وتبنيه وما تحدثه وتنسخه‬
‫فهي على أصولها فيمن قبلنا‪ ،‬ولكن فروعها فينسسا نحسسن وفيمسسن يلينسسا‬
‫وفيمن بعد هؤلء‪ ،‬قلنا أن نتولها على تلك الصول وعلى ما يشسسبهها‬
‫في الطريقة حيسسن تنتقسسل الحسسال ويتغيسسر الرسسسم‪ ،‬ولعلسسة إن وجبسست‪،‬‬
‫ولقياس إن جاز‪ .‬والدكتور بهذا العتبار يشتد في التمسسسك بالقواعسسد‬
‫والضوابط ول يترخص في شيء منها غير أنه ل يكون كسسأقوام يسسرون‬
‫الفروع مسسن الجسسذوع قسسد خرجسست‪ ،‬فيحسسسبون الثمسسرات سسسبيلها مسسن‬
‫ضا‪ ..‬وإن لم تجيء منها فستجيء منها‪.‬‬ ‫الجذوع أي ً‬
‫ما أحد هؤلء اللغويين فانتقد في المقطسسم قصسسيدة مسسن‬ ‫عرض لي يو ً‬
‫القصائد التي رفعتها إلى الملك فؤاد‪ ،‬وتمحل في نقده ودلل ببعسسض‬
‫مسسا نقلسسه مسسن كتسسب اللغسسة‪ ،‬فكسسان فيمسسا تكلسسم فيسسه لفظسسا‪" :‬الزاهسسر‬
‫والورود"‪ ،‬فقال إنهما ليسا من اللغة ولم يجريا في كتبها؛ وكان مسسن‬
‫ردي عليه أن قلت له‪ :‬إن العرب جمعوا الجمل ستة جموع‪ ،‬وجمعوا‬
‫الناقة سبعة؛ لنها أكرم عليهم منه‪ ،‬وإن لكسسل حيسساة صسسورها السسدائرة‬
‫في ألفاظها‪ ،‬فسسالزهر والسسورد عنسسد المولسسدين والمحسسدثين أكسسرم مسسن‬
‫الجمل والناقسسة عنسسد العسسرب‪ ،‬أو هسسذان كهسسذين؛ ثسسم همسسا مسسن خسساص‬
‫اللفسساظ المولسسدة‪ ،‬فلنسسا أن نجمعهمسسا علسسى كسسل صسسور الجمسسع السستي‬
‫يسوغها القياس؛ لن ههنا الموجبة التي لم تكسسن مسسع العسسرب فيهمسسا؛‬
‫فمن الصحيح أن تقول‪ :‬زهور‪ ،‬وأزهسسار‪ ،‬وأزاهسسر‪ ،‬وأزاهيسسر السسخ‪ ،‬فلمسسا‬
‫لقيت السدكتور بعسسد نشسر هسسذا السسرد هنسسأني بسه‪ ،‬ثسسم قسال فيمسسا قسال‪:‬‬

‫‪298‬‬
‫يحسبون أن العرب هم الجمل والناقة وليس غير مسسا اسسستجمل ومسسا‬
‫استنوق‪ ..‬أما هذا الدهر الطويل العريض فليس عنسسدهم شسسيًئا‪ ،‬وهسسم‬
‫يستطيعون أن ينكسسروا علسسى المولسسدين ألسسف كلمسسة‪ ،‬ولكسسن هسسل فسسي‬
‫استطاعتهم أن ينكروا على التاريخ ألسسف سسسنة؟ فسسذكرت لسسه الصسسل‬
‫الذي قرره أبو علي الفارسي في العربسسي الصسسحيح نفسسه‪ :‬مسسن أنسسه‬
‫ليس كل ما يجوز في القياس يجب أن يخسسرج بسسه سسسماع‪ ،‬فسسإذا أخسسذ‬
‫إنسان علسسى طريقسسة العسسرب وأم مسسذهبهم فل يسسسأل مسسا دليلسسه ومسسا‬
‫سماعه وما روايته‪ ،‬ول يجب عليسسه مسسن ذلسسك شسسيء‪ ،‬حسستى قسسال أبسسو‬
‫ما وفعًل‬ ‫علي‪ :‬لو شسساء شسساعر أو متسسسع أن يبنسسي بإلحسساق اللم* اس س ً‬
‫وصفة لجسساز لسسه‪ ،‬ولكسسان ذلسك مسسن كلم العسسرب؛ وذلسسك نحسو قولسسك‪:‬‬
‫خرجج أكثر من دخلل‪ ،‬وضربب زيسسد عم سًرا‪ ،‬ومسسررت برجسسل ضسسربب‬
‫وكرمم‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬قال تلميذه ابن جني‪ :‬فقلسست لسسه‪ :‬أترتجسسل اللغسسة‬
‫ذا مسسن‬‫ارتجاًل؟ قال‪ :‬ليس بارتجال لكنه مقيس علسسى كلمهسسم فهسسو إ ً‬
‫كلمهم‪.‬‬
‫وسألني مسسرة عسسن وجسسه الخلف بيسسن مسسا يسسسمونه القسسديم والجديسسد‪،‬‬
‫فقلت له‪ :‬إن الخلف ليس علي جديد ول قديم‪ ،‬ولكسسن علسسى ضسسعف‬
‫ما يكتبون وينظمون ولكن لم تقسم الفصاحة والبلغة‬ ‫وقوة؛ فإن قو ً‬
‫على مقدار ما يطيقونه من ذلك‪ ،‬ول يتسع الصحيح لرائهم في اللغة‬
‫والدب‪ ،‬وقد أرادوا أن يسعوا كل ذلك من حيسسث ضسساقوا‪ ،‬ويطسساولوه‬
‫من حيث تقاصروا‪ ،‬وينالوه من حيث عجزوا؛ فظنوا بسسالمر مسسا يظسسن‬
‫إنسان يمشي على الرض ويعرف أنها تسسدور‪ ،‬فيسسؤول ذلسسك بسسأنه هسسو‬
‫يسسدير الرض علسسى محورهسسا بحركسسة قسسدميه‪ ...‬نحسسن نقسسول‪ :‬أسسسلوب‬
‫ركيك‪ ،‬فيقولون‪ :‬ل بسسل جديسسد‪ ،‬وتقسسول‪ :‬لغسسة سسسقيمة‪ ،‬فيقولسسون‪ :‬بسسل‬
‫عصرية‪ ،‬ونقول‪ :‬وجه من الخطأ‪ ،‬فيقولسسون‪ :‬بسسل نسسوع مسسن الصسسواب‪،‬‬
‫وهلم جّرا أو سخّيا‪ ...‬ثم قلت له‪ :‬أفتجد أنت الركاكة واللحن والخطأ‬
‫عا أو شسسيًئا يحتسساج إلسسى‬
‫دا أو أمًرا مبتسسد ً‬
‫والغثاثة وإن وأخواتها باًبا جدي ً‬
‫اسم جديد غير اسمه العربي؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬وأنا معك في هذا‪ ،‬وطريقتي‬
‫في المقتطف أن اللغة في قواعدها عربية‪ ،‬ولكسسن مسسن قواعسسدها أن‬
‫لكل مقام مقاًل‪ ،‬فنحن نكتب كتابة صحيحة ونريد بها أن ترفع العامة‬
‫ول تنزل بالخاصة‪ ،‬فنخدم العربية من الجهتين‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* زيادة حرف من جنس لم الكلمة وإلحاقه بها‪.‬‬
‫ثم نشر بعد ذلك في عدد شهر مايو سنة ‪ 1927‬مقاًل جعسسل عنسسوانه‬
‫"أسلوبنا في الترجمة والتعريب" وابتدأه بهذه العبارة‪" :‬اللغة جسسسم‬

‫‪299‬‬
‫م‪ ،‬وشأن من يحاول منعهسسا مسسن النمسسو شسسأن الصسسينيين السسذين‬ ‫حي نا ٍ‬
‫يربطون أقدام بناتهم لكي ل تنمسسو وتبلسسغ حسسدها الطسسبيعي‪ ،‬ولكسسن إذا‬
‫ها فل بد من تقييده وتهذيبه؛ وكل ما نقوله نحسسن هسسو‬ ‫كان النمو مشو ً‬
‫التقييد والتهذيب واتقاء الشوهة أن تلسسم باللغسسة وأسسساليبها فتسسترادف‬
‫علسسى محاسسسنها بمعايبهسسا‪ ،‬وتطمسسس مفاتنهسسا بمقابحهسسا؛ فسسإن هسسذه‬
‫المعايب والمقابح إذا هي استجمعت وانساغت في لغة مسسن اللغسسات‬
‫فا يعسسرف‪،‬‬ ‫لبستها بأشكالها فل تزال تنكر منها حتى ل تبقسسي لهسسا وصس ً‬
‫والحسن وحده هو الذي يحد بالوصاف والتعاريف‪ ،‬وهو السسذي يسسدقق‬
‫فيه ويبالغ فيه قياسه وتقسسديره‪ ،‬فسسإن وقسسع فيسسه الفضسسول واختلطسست‬
‫دا فقد خرج إلى‬ ‫صا وزائ ً‬
‫الحدود وضعفت الملءمة وجرى الوصف ناق ً‬
‫دا أو يعبسسأون‬ ‫القبح‪ ،‬وإن خرج إلى القبح لم يعد الناس يحدون لسسه ح س ّ‬
‫له بقاعدة‪ ،‬ووجدوا فيه كل الوصاف الجميلة مقلوبة منكرة؛ لنه هو‬
‫جمال مقلوب؛ "فتقييد التشويه وتهذيبه" كلمتسسان فيهمسسا الكلم كلسسه‪،‬‬
‫أو هما المصراعان لهذا الباب؛ ومن أجل ذلك كنسسا نعسسد السسدكتور مسسن‬
‫مسسا‬
‫حجتنا علسسى أصسسحاب الجديسسد؛ لنسسه أوسسسعهم إحاطسسة وأكسسثرهم عل ً‬
‫وأمدهم عمًل‪ ،‬ثم لن يدانيه أحسسد منهسسم إل إذا جمسسع لنفسسسه عمريسسن‪،‬‬
‫وهل في الجديد رجل ذو عمرين؟‪..‬‬
‫قلنا‪ :‬إن الشيخ كان في المنزلة التي تلي منزلة الواضع‪ ،‬وقد دفعتسسه‬
‫العلوم إلى ذلك دفًعا‪ ،‬لنه مقيد بخاص المعنى في كل مسا يسترجم أو‬
‫يعرب‪ ،‬ثم بالخصائص العلمية الدقيقة التي ل تحتمسسل فسسي أدائهسسا مسسا‬
‫تحتمل المعاني الدبية؛ وقد تصدر للكتابة والترجمة منذ شسسباب هسسذا‬
‫العصر‪ ،‬ومنذ بدأ الناس يقرأون العلوم الحادثة في الشرق؛ فل جرم‬
‫لم يكن لغوّيا كأبي عمرو وأبي زيد والخليسسل والصسسمعي وأبسسي حساتم‬
‫وأبي عبيدة وأضرابهم ممن يحملون عن العرب ويؤدون مسسا حملسسوه‪،‬‬
‫ول كسسان لغوي ّسسا فسسي طريقسة سسسيبويه والكسسسائي والزجسساج والخفسسش‬
‫واليزيسسدي وأشسسباههم ممسسن ينظسسرون فسسي اللغسسة وعللهسسا وأقيسسستها‬
‫وشواذها؛ ولكنه لغوي فيما يعمر بين الشرق والغرب‪ ،‬يحمل بلسسسان‬
‫ويؤدي بلسان غيره ويوافق بين المعاني الجديدة واللفاظ القديمسسة‪،‬‬
‫ويشابك بين خيوط التاريخ في هذه وهذه‪ ،‬ويأخذ اللغة للسسستعمال ل‬
‫للحفظ وللتعليم ل للتدوين وللمنفعة ل للمباهسساة وللفسسائدة ل للتنبسسل؛‬
‫ويترجم وإن في خياله العالم الواسع الذي ينقل عنه بعلمائه وأدبسسائه‬
‫وكتبه ومجلته ومصطلحاته‪ ،‬ويكتب وإن له تلك الملكة الدقيقة التي‬
‫كونتها العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية وغيرهسسا؛ فلسسم يكسسن بسسد‬
‫من أن يبتدع‪ ،‬وأن تكون له طريقة يوافق فيها ويخسالف‪ ،‬وقسد بسسط‬

‫‪300‬‬
‫هسسو القواعسسد السستي أخسسذ بهسسا وجسسرى عليهسسا‪ ،‬فكتسسب فيهسسا مقسساًل فسسي‬
‫"المقتطف" شهر يوليو لسنة ‪ ،1906‬وأعسساد نشسسره فسسي عسسدد شسسهر‬
‫مايو لسسسنة ‪ ،1927‬وهسسو يوافسسق فيسسه أكسسثر العلمسساء‪ ،‬وخاصسسة المسسام‬
‫الجاحظ؛ ومع أن قاعدة الجاحظ لم تكن يسسومئذ معروفسسة‪ ،‬ولكسسن كل‬
‫الشيخين حصيف الرأي تام الدارة في عمله‪ ،‬قوي الحسبة والتسسدبير‬
‫فيمسا يأخسذ ومسا يسدع؛ وخلصسة رأي السدكتور أنسه ينظسر فسي الكلمسة‬
‫العجمية‪ ،‬فإن أصاب لها مرادًفا في العربية يحددها ويفي بها فذاك‪،‬‬
‫وإل أمرها في كتابته وهو مقيد بقاعدة القسسارئ ومسسا هسسو أخسسف علسسى‬
‫قارئه في المئونة وأبين له في الدللة‪ ،‬فإن كانت اللفظسسة العجميسسة‬
‫أوفى وأشبع في استعمال عدل إليهسسا‪ ،‬قسسال‪ :‬وغنسسي عسسن البيسسان أننسسا‬
‫التزمنا أن نجاري العلماء في المصطلحات العلمية التي تفقد دللتها‬
‫بتعريبها‪ :‬كالحامض الكبريتوس والكبريتيك‪ ...‬الخ‪ ،‬فإن لكل من هسسذه‬
‫صا يدل على تركيب الحامض‬ ‫الملحقات والزوائد التي فيها‪ ،‬معنى خا ّ‬
‫المسسراد كمسسا يعلسسم دارسسسو الكيميسساء؛ قسسال‪ :‬فمسسن يسسسمي الحسسامض‬
‫الكبريتيك بالحامضي الكبريتي كمن يسمي الفرس حماًرا؛ لن لكسسل‬
‫سا وذنًبا‪..‬‬
‫منهما رأ ً‬
‫والجاحظ يقول في مثل ذلك‪ :‬إن رأيسسي فسسي هسسذا الضسسرب مسسن هسسذا‬
‫اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمسسادة فيهسسا‬
‫علسسى أن ألفسسظ بالشسسيء العتيسسد الموجسسود "يعنسسي اللفسسظ العلمسسي‬
‫الصطلحي" وأدع التكلف لمسا عسسى أل يسسسلس ول يسسهل إل بعسد‬
‫الرياضة الطويلة‪ ..‬ولكل صناعة ألفاظ قد جعلت لهلها بعسسد امتحسسان‬
‫سواها‪ ،‬فلم تلزق بصناعتهم إل بعد أن كانت بينها وبيسسن معسساني تلسسك‬
‫الصناعة مشاكلت‪.‬‬
‫فأنت ترى الجاحظ ل يمتنع من اللفاظ العجمية والعامية كمسسا هسسي‬
‫مسسا دامسست المعسساني قائمسسة‪ ،‬وقاعسسدته هسسي الخسسف والدل والفهسسم‬
‫والشيع‪ ،‬وهذا بعينه يقول الدكتور فيه‪" :‬يشترط فسسي حسسسن التعسسبير‬
‫أن يؤدي المعنى المراد إلى ذهن السامع بأقل ما يكون مسسن السسوقت‬
‫والكلفة والسراف في القوة العصبية"‪.‬‬
‫وقد كلمني بعضهم في خطأ السسدكتور مسسن ناحيسسة اللفسساظ العجميسسة‬
‫وإقحامها في كتابته‪ ،‬وأنه يجنح إلى ذلك بأوهى سبب؛ ول أراه خطأ‪،‬‬
‫فا من أمسسر الناقسسل والواضسسع ول يعجزنسسا‬ ‫بل أنا أرد ذلك إلى ما بينه آن ً‬
‫صا يقوم به وينهض بحجته؛ فقد قال أبو علسسي‬ ‫أن نجد لصنع الدكتور ن ً‬
‫الفارسي‪ :‬إن العرب إذا اشتقت من العجمي خلطت فيه‪ ،‬فإذا كان‬
‫هذا في الشتقاق وهو ل يكون إل من أصل‪ ،‬فكيف بسسالتعريب؟ علسسى‬

‫‪301‬‬
‫أنه ل خلط ول اضطراب‪ ،‬إنما هو سبيل الوضسسع وحكمسسة الدللسسة وأن‬
‫اللغة هكذا تجيء‪ ،‬ثم يأتي بعد ذلك النحوي يقول لماذا ولن‪...‬‬
‫وقد أعجبني حسن تقسيم الدكتور لقواعده التي بسطها فسسي مقسساله‬
‫دا فسسي التقسسسيم المعسسروف عنسسد‬ ‫المستفيض‪ ،‬حتى أني لراه باًبا جدي ً‬
‫علماء البلغسسة واللغسسة لبتسسذاله اللفسساظ وغرابتهسسا؛ إذ لسسم يبسسق عنسسدنا‬
‫غريب ومبتذل ول بيننا عرب ومحدثون‪.‬‬
‫بيد أن من تلك القواعد أن الستاذ يترخص في اللفاظ العامية وهسسو‬
‫يجد فصيحها‪ ،‬ويقول في ذلسسك‪" :‬إذا أسسسمعت الفلح المصسسري كلمسسة‬
‫بذار مرة في السبوع أو في الشهر‪ ،‬سمع كلمة "تقاوي" مسسائة مسسرة‬
‫وألف مرة‪ ،‬فرأينا أن محاولة تغييسسر لغسسة العامسسة فسسي هسسذه الكلمسسات‬
‫وأمثالهسسا ضسسرب مسسن العبسسث وإضسساعة للسسوقت وتضسسييع للفسسائدة‪،‬‬
‫فجاريناهم فيما نكتبه لهم"‪ .‬وهذا ما كنت أجسسادله فيسسه ول أسسسلم لسسه‬
‫مسسا‪ ،‬فسسإن عامتنسسا غيسسر‬‫بشسسيء منسسه؛ لنسسه أغفسسل أص سًل اجتماعي ّسسا عظي ً‬
‫منقطعة من العربية الفصحى‪ ،‬ول يسسزال فيهسسم ميراثهسسا مسسن القسسرآن‬
‫والحديث وكلم العلماء في أمور دينهم‪ ،‬وهسسذه هسسي وسسسائل مزجهسسم‬
‫بالفصسسيح وردهسسم إليسسه‪ ،‬ول تسسزال هسسذه الوسسسائل تفعسسل مسسا تفعلسسه‬
‫النواميس المحتومة ولولها لما بقي للفصحى بقية بعد‪.‬‬
‫وقد كان جاء إلى مصر من بضسسع سسسنين رجسسل مسسن أمريكسسا هسسو مسسن‬
‫تلميذ الدكتور القدماء‪ ،‬فنزح إلى ذلك البر فاتجر فأثرى وفشسست لسسه‬
‫نعمة عظيمة؛ ولما لقيته لقيت في يده صسسحيفة وضسسع فيهسسا مسسسائل‬
‫في اللغة والنحو‪ ،‬وكأن أعدها ليسأل عنها؛ وفي أولها هسسذا السسسؤال‪:‬‬
‫لماذا يقال فصح الرجل فصاحة فهو فصيح‪ ،‬ثسسم يقسسول‪ :‬شسسعر شسسعًرا‬
‫فهو شاعر؟ ألسسم يكسسن القيسساس أن يقسسال شسسعر شسسعارة فهسسو شسسعير‪،‬‬
‫والفصاحة والشعر من باب واحد؟‬
‫وا وعبًثا ولكنسه دقيسق فسي‬ ‫وهذا السؤال وإن كان في ظاهر الرأي لغ ً‬
‫تاريخ اللغة وأقيستها‪ ،‬ول محل لبسط الكلم عليه في هذا الموضسسع‪،‬‬
‫غير أني أنهيت الخبر للدكتور صروف وقلت له‪ :‬إن صاحبك هذا يضع‬
‫قواعد اللغة في الميزان الذي في حانوته‪ ..‬وأنت كذلك تعالسسج بعسسض‬
‫اللفاظ أحياًنا ببعض الغازات والحوامض‪.‬‬
‫قلت هذا؛ لني لم أسسسلم لسسه قسسط فيمسسا كسسان يسسراه فسسي مثسسل البسسذار‬
‫والتقاوي‪ ،‬على أنه قيد الكلم بقوله "فيما نكتبه لهم"‪ ،‬وهذا احتراس‬
‫يدافع عنه بقوة كما ترى‪.‬‬
‫ول يمتري أحد في أن هذه النهضة اللغوية التي أدركناها وعملنا فيها‬
‫لم تكن سوى نمو طبيعي لعمل رجال أفذاذ نظسسن السسدكتور صسسروف‬

‫‪302‬‬
‫دا وأكثرهم عمًل وأظهرهسسم أثسًرا؛‬ ‫في طليعتهم؛ لنه كان أطولهم جها ً‬
‫وكان المقتطسسف يجيسسء لهسسا كسسل شسسهر كسسأنه قطعسسة زمنيسسة مسسسلطة‬
‫بناموس كناموس النشوء‪ ،‬حتى للم هذا المقتطف أن يكسسون عص سًرا‬
‫من العصور قد خرج في شكل الكتابة؛ ولقسد كاشسفني السدكتور فسي‬
‫آخر أيامه أنه كان يود لو ختم عمله بوضع معجم في اللغة يصسسلح أن‬
‫يقال فيه إنه معجم الشعب‪ ،‬وفصل لي طريقته؛ إذ كنت أكلمسسه فسسي‬
‫كتاب لغوي افتتحت العمل فيه من زمسسن ول يعسسرف أحسسد مسسن أمسسره‬
‫خبًرا ‪ 1‬فقال لي‪ :‬خذ بين طريقتي وطريقتك‪ ،‬وامسسض أنسست فسسي هسسذا‬
‫العمل؛ فإني لو وجدت فرا ً‬
‫غا لما عسسدلت بهسسذا الثسسر شسسيًئا‪ ،‬ومسسا كسسل‬
‫سهل هو سهل‪..‬‬
‫على أن شيخنا هذا لو قد كان تفرغ للغسسة وتسسوفر عليهسسا واجتمسسع لهسسا‬
‫بذلك العمسسر وتلسسك العلسسوم والدوات‪ ،‬لكسسان فيهسسا بأمسسة مسن الشسسياخ‬
‫الماضين من لدن أبي عمرو بن العلء إلى الدكتور يعقوب صسسروف‪،‬‬
‫ولكن لعل الدهر أضيق من أن يتسع أو هسسو أوسسسع مسسن أن يضسسيق‪...‬‬
‫لمام آخر كأبي علي الفارسي‪ ،‬يفرغ سبعين سسسنة لفسسرع واحسسد مسسن‬
‫علوم اللغة هو علم القياس والشتقاق والعلل الصرفية ويجعله همه‬
‫وسدسه علسى مسا قسال تلميسذه ابسن جنسسي‪" :‬ل يعتسساقه عنسه ولسد‪ ،‬ول‬
‫سسسا؛ فكسسأنه‬
‫يعارضه فيه متجر‪ ،‬ول يسوم به مطلًبا‪ ،‬ول يخسسدم بسسه رئي ً‬
‫إنما كان مخلوًقا له"‪.‬‬
‫وكانت للدكتور طريقة جريئة فسسي رد اللفسساظ العربيسسة إلسسى أصسسولها‬
‫والرجوع بها إلى أسباب أخذها واشتقاقها وتصسساريفها مسسن لغسسة إلسسى‬
‫لغة‪ ،‬وأعانه على ذلك ثقوب فكره وسعة علمه ودقسسة تمييسسزه وميلسسه‬
‫الغسسالب عليسسه فسسي تحقيسسق نسساموس النشسسوء وتسسبين آثسساره فسسي هسسذه‬
‫المخلوقات المعنوية المسماة باللفاظ؛ وكان معجب ًسسا بكسسل مسسا جسساءه‬
‫من هذا الباب ولو كان من خطأ؛ لنسسه إلسسى السسرأي يقصسسد وللطريقسسة‬
‫يمكن ومع الحاضر يجري‪.‬‬
‫وهذا بسساب يحتسساج إلسسى التسسسمح والتسسساهل؛ إذ ل يمكسسن تحقيقسسه‪ ،‬ول‬
‫تتفسسق الحيطسسة فيسسه‪ ،‬وليسسس إل أن يتلسسوح شسسيء منسسه ويسسسنح شسسيء‬
‫وتتلمح علة ويعرض سبب؛ ثم هو في الدكتور من بعض الدللة على‬
‫استحكام ملكة الوضع فيه‪ ،‬ونزعه إلى أن يقتاس بقياسه ويسسستخرج‬
‫من علله؛ وقد تراه يبعد في ذلك فينصب لك الدليل من وراء بضسسعة‬
‫آلف سنة‪ ،‬وأنا الساعة أعان ذاكرتي وأديرها من ههنسسا وههنسسا لجسسد‪،‬‬
‫كلمة‪ ،‬قال لي مرة في تاريخها‪ :‬إن العرب أخذوها عن اليونان حيسسن‬
‫كانت مكة نفسها جارية في حكمهم‪ ،‬ولكن أنسسسيت هسسذه الكلمسسة؛ إذ‬

‫‪303‬‬
‫لم أرتبطها‪ ،‬وإذ كنت ل أرى هذا المسسذهب ول أحسسسن أن أقسسول فيسسه‬
‫قوًل‪ ،‬وأعد كل ما يقال فيه مسن بساب تلفيسسق الدلسسة‪ ،‬كسأنه ذئب ذلسك‬
‫العرابي الذي يريد أن يجعل فسسي النسساس منسسه مثسسل غسسرائز الغنسسم‪...‬‬
‫فيقول‪" :‬إل تره تظنه"‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬أحسبه يعني المعجم الذي كان يعاون فيه صديقه المرحوم أحمسسد‬
‫زكي باشا‪ ،‬وانظر ص ‪" 262‬حياة الرافعي"‪.‬‬
‫والدكتور صروف رجل مالي في المال وفسسي اللغسسة جميعًسسا‪ .‬فمسسذهبه‬
‫القصد فسسي الدللسسة والقصسسد فسسي السسوقت والقصسسد فسسي القسسوة‪ ،‬وقسسد‬
‫صرفته ثلثتها عسسن الشسسعر وعمسسا كسسان فسسي حكمسسه مسسن تحسسبير النسسثر‬
‫وتوشيته‪ ،‬على أنه يحسنهما لو أراد ولو سخت نفسه بسسالوقت ينفقسسه‬
‫ول يتعرف قدر ما مضسسى منسسه فسسي هسسذه السساعات‪ ،‬بسل فسسي سسساعة‬
‫الكون الكبرى التي يتعاقب فيها عقربا النهار والليل‪ ،‬كما كسسان ينفسسق‬
‫ما في بيت أو بيتين‪.‬‬ ‫البارودي يو ً‬
‫وكان شسسيخنا فسسي آخسسر مجالسسسي معسسه قبسسل وفسساته بشسسهر أو نحسسوه‪،‬‬
‫أطلعني على كل ما نشره فسسي مجلسسدات "المقتطسسف" مسسن شسسعره‪،‬‬
‫فأعجبت بأشياء منه‪ ،‬وأشرت على صديقنا الستاذ فسسؤاد صسسروف أن‬
‫يعيد نشر قصيدة الرقاش التي ترجمها الدكتور عسسن النجليزيسسة فسسي‬
‫نسق سلس موشح القوافي‪ ،‬والتي يقول فيها صاحبها يصف مخازي‬
‫المدنية‪:‬‬
‫دا وفي العظم سوسا‬ ‫مخازٍ توالت فصالت وصارتعلى الحلم دو ً‬
‫وسألني الدكتور بعد أن فرغت من شعره‪ :‬في أي طبقة تعدني مسسن‬
‫شعرائهم؟ ففكرت قليًل ثم قلت له‪ :‬فسسي طبقسسة السسدكتور صسسروف!‪.‬‬
‫فضحك لها كثيًرا‪.‬‬
‫وكانت له آراء في الشعر العربي غير بعضها فسسي آخسسر عهسسده‪ ،‬وممسسا‬
‫قاله لي مسسرة‪ :‬إن السسذي يريسسد أن يخلسسد ذكسسره فسسي هسسذا الشسسرق فل‬
‫ما كهرم الجيزة!‪.‬‬ ‫ينسى‪ ،‬ل ينبغي له أن يطمع في هذا إل إذا بنى هر ً‬
‫وهي كلمسسة فلسسسفية كسسبيرة تنطسسوي علسسى شسسرح طويسسل يعرفسسه مسن‬
‫يعرفه‪.‬‬
‫وقد كادت قاعدة القصد التي أومأت إليها تنتهي بسسه فسسي آخسسر مسسدته‬
‫إلى القول بإسقاط العراب بتة‪ ،‬وأظن ذلك خسساطًرا سسسنح لسسه فأخسسذ‬
‫بأوله وترك أن ينظر في أعقابه‪ ،‬فزرته مسسرة فسسي شسسهر ينسساير لسسسنة‬
‫‪ ،1927‬وكان يصحح تسويده جواب كتبه عسسن سسسؤال ورد عليسسه فسسي‬
‫هل يمكن الرجوع إلسسى اللغسسة الفصسسحى فسسي القسسراءة والتكلسسم‪ ،‬ومسسا‬

‫‪304‬‬
‫الفائدة من ذلك؟ فلما أمر بالجواب على نظره دفعسسه إلسسي فقرأتسسه‪،‬‬
‫فإذا هو يرى أن كل حركة من حركسسات العسراب والبنسساء يتهسور فيهسسا‬
‫مسسا‬
‫وقت ما؛ قال‪ :‬فسسإذا قضسسينا علسسى أبنسساء العربيسسة أل يتكلمسسوا إل كل ً‬
‫معرًبا نكون قد أضعنا عليهم ثلث الوقت السسذي يقضسسونه فسسي التكلسسم‬
‫من غير فائدة تجنى‪.‬‬
‫ولقد جادلته في ذلك ولججت في الخلف معه‪ ،‬وقلسست لسسه‪ :‬إن هسسذه‬
‫قاعدة مالية‪ ،‬ثم إنسك أغفلست أمسسر العسادة ومسسا تيسسره‪ ،‬وفسي الكلم‬
‫إيجاز يقوم مع العراب‪ ،‬هذا المقام ل يكسسون مسسن اليجسساز بسسد‪ ،‬وفسسي‬
‫اللهجات العامية من الحشو ومط الصوت وفساد التركيب ما يسسذهب‬
‫بأكثر من ثلث الوقت؛ فأحسبه اقتنع وإن كنت رأيته لم يقتنع‪.‬‬
‫وإنه ليحضرني بعد هذا كلم كثير في فضائل وآدابه وشسسمائل نفسسسه‬
‫الزكيسسة ومنزعسسه فسسي الخلق الطيبسسة الكريمسسة‪ ،‬ولسسو ذهبسست فضسسل‬
‫لخرجت إلى الفاضة في فنون مختلفة‪ ،‬ولكني أجتزئ من كسسل ذلسسك‬
‫ما كأنه في ظل من محبة الله‪.‬‬ ‫بأنه كان يظهر لي دائ ً‬

‫‪‬‬

‫‪305‬‬
‫الشيخ الخضري ‪1‬‬

‫تحول الكتاب إلى كتاب‪ ،‬ورجع المفكر إلى فكرة‪ ،‬وأصسسبح مسسن كسسان‬
‫مسسا‪،‬‬
‫يدارس الناس فإذا هو درس يذكر أو ينسى‪ ،‬وتنسساول التاريسسخ عال ً‬
‫من علمائه فجعله نبأ من أنبائه‪ ،‬وكان يبنيه فوضعه في بنائه‪ ،‬وقيسسل‪:‬‬
‫مات الشيخ الخضري!‬
‫آه لو يرجع إنسان واحد من طريق الموت السستي أولهسسا هسسذه النقطسسة‬
‫الصغيرة المسماة بالكرة الرضية‪ ،‬وآخرها حيث تجد كلمة‪" :‬الخرة"‬
‫بل معنى ل محدود ول مظنون! وآه لو استطعنا أن نتكلم عن الميت‬
‫كأنه حي بيننا‪ ،‬ونحن كثيًرا ما نتكلم عن الحي كأنه مسسات فسسي زمسسن!‬
‫إني لكتب هذه الكلمات وكسسأني أنظسسر إلسسى وجسسه أبسسي ‪-‬رحمسسه اللسسه‪-‬‬
‫وأشهد ذلك السمت العجيب‪ ،‬وذلك الوقار الذي يغمسسر النفسسس هيبسسة‬
‫وجلًل‪ ،‬وأستروح ذلك الحب السسذي هسسو أحسسد الطسسرق الثلث المنتهيسسة‬
‫من الرض إلى السماء‪ ،‬ومن المخلسسوق إلسسى الخلسسق‪ ،‬والمبتسسدئة مسسن‬
‫السماء إلى الرض ومن الخالق إلى المخلوق‪ :‬طريق الم‪ ،‬وطريسسق‬
‫دا من وراء المادة تمسح علسسى‬ ‫الب‪ ،‬وطريق النسانية؛ أكتب وكأن ي ً‬
‫قلبي فأجد ثقلة وفترة‪ ،‬وأستشعر حنيًنا وشوًقا‪ ،‬وأحسسس هسسذا القلسسب‬
‫ينازعني إلى قوم ذهبسسوا بل رجعسسة‪ ،‬وفسسارقوا بل وداع‪ ،‬وغسسابوا عن ًسسا بل‬
‫خبر؛ دخلوا إلى أنفسنا ول تحويهم‪ ،‬وخرجوا منها ول تخلو منهم؛ فما‬
‫دخلوا ول خرجوا‪ ،‬وهذه هي الحيرة التي يتركها الميت العزيز للحسسي‬
‫المتفجع كيما يعرف بأمواته ما هو الموت!‬
‫كنا منذ بضع وثلثين سنة في مدينة المنصورة‪ ،‬وكان أبي يومئذ كبير‬
‫قضاة الشرع في ذلك القليم‪ ،‬فإني للعب ذات يوم في بهو دارنا إذ‬
‫طرق الباب‪ ،‬فذهبت أفتح فإذا أنا بشيخ لم يبلغ سن العمامسسة*‪ ،‬ولسسم‬
‫أميز من هيئته أهو طالب علم أو هو عالم‪ ،‬فكسسان حسسدًثا لكنسسه يتسسسم‬
‫بسمة الجد؛ ورأيتسسه ل تمسسوج بسسه الجبسسة كالعلمسساء‪ ،‬غيسسر أنهسسا ل تمجسسه‬
‫كالطلبة؛ وكان في يده مجلد ضخم لو نطق لقال له‪ :‬دعني لمن هسسو‬
‫دا مسن مثلسه‪ ،‬ونظسسر إلسسي‬ ‫أسن منك! فما قسسدرته يسزن عشسسرين مجلس ً‬
‫نظرة كأني ل أزال أراها في عينه إلى الساعة‪ ،‬فسلمت عليه فقال‪:‬‬
‫أين الشيخ؟ يعني ‪-‬الوالد‪ -‬قلسست‪ :‬خسسرج آنفًسسا؛ قسسال‪ :‬فسسادفع إليسسه هسسذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وقل له جاء به الخضري‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬المقتطف‪ :‬مايو سنة ‪.1927‬‬
‫* كناية عن الحداثة وأنه شيخ بالمنظر ل بالسن‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫ثم أغلقت الباب وانتحيت جانًبا وفتحت المجلسسد‪ ،‬فسسإذا هسسو جسسزء مسسن‬
‫التفسير الكبير للفخر الرازي‪ ،‬كان قد استعاره من مكتبتنا؛ وعرفسست‬
‫ذا للعربيسسة فسسي مدرسسسة الصسسنائع‪ ،‬يضسسع‬ ‫الشيخ من يومئذ‪ ،‬وكان أستا ً‬
‫كتاب النحو والصرف مع المطرقة والمنشار والقدوم‪ ،‬فيذهب شيء‬
‫في شيء‪ ،‬وكأنه ل يعلم شيًئا؛ وقلما كنا نذكره في مدرستنا إذ كسسان‬
‫لنا شيخ فحل ثقة من رجال الزهر‪ ،‬غير أن الخضري كان له موضسسع‬
‫مسسا مسسن الخاصسسة يعنسسون بالمسسسائل‬ ‫في كل مجلس‪ ،‬وكان يسسداخل قو ً‬
‫السلمية وفلسسسفتها وتقريبهسسا مسسن العامسسة والسسدهماء‪ ،‬وبإشسسارة مسسن‬
‫بعض هؤلء وضع أول كتبه‪" :‬نور اليقين في سيرة سيد المرسسسلين"‪،‬‬
‫ويكاد هذا السم يدل على وزن الستاذ في أول عهده‪ ،‬وأنه ل يسسزال‬
‫وراء السجعة التية من القسسرون الخيسسرة لسسم يمسسض علسسى وجسسه ولسسم‬
‫يعرف بمذهب‪.‬‬
‫حا في هسسذا الفقيسسه العسسالم المسسؤرخ‬ ‫ً‬
‫إن الذي يريد أن يقول قول صحي ً‬
‫الديب المربي‪ ،‬يجب أن يرجع بتياره إلى منبعسسه مبلسسغ انبعسساثه وقسسوة‬
‫جريته ومد عبابه؛ فما كان الخضري شيًئا قبل أن يتعلق بمسسدار ذلسسك‬
‫النجم النساني العظيم الذي أهدته السماء إلى الرض وسسسمى فسسي‬
‫أسسسمائها "محمسسد عبسسده"‪ ،‬لقسسد أخرجتسسه دار العلسسوم كمسسا أخرجسست‬
‫الكسسثيرين؛ ولكسسن دار علسسومه الكسسبرى كسسانت أخلق السسستاذ المسسام‬
‫وشمائله وآراءه وبلغته وهمة نفسسسه‪ .‬أل أنسسه ل بسسد مسسن رجسسل واحسسد‬
‫يكون هو الواحد الذي يبدأ منه العسسدد فسسي كسسل عصسسر‪ ،‬وأنسست فكيسسف‬
‫تأملت الخضري فاعلم أنسسك بسإزاء معنسسى مسسن معسساني الشسسيخ محمسسد‬
‫عبده‪ ،‬على فرق ما بين النفسين‪ ،‬بل أنت من الخضسسري كأنسسك تسسرى‬
‫الشيخ سارًيا في مظهر من مظاهر الزمن‪.‬‬
‫كان يحضر دروس الشيخ‪ ،‬ويختلف إلى ناديه‪ ،‬وينسساقله بعسسض السسرأي‪،‬‬
‫ويعارض معه بعض الكتب التي كان يرجع إلى الشيخ فسسي تصسسحيحها‬
‫أو الشراف على طبعها‪ ،‬فنفذ الشيخ إلى نفسه ووجد السسسبيل إلسسى‬
‫الستقرار فيها‪ ،‬فهو من بعسسد حريسسص علسسى وقتسسه‪ ،‬مجسسد فسسي عملسسه‪،‬‬
‫ذا بالخلق الفاضلة‪ ،‬مصلح مرب غيسسور‪ ،‬وكسسل‬ ‫دائب على طريقه‪ ،‬آخ ً‬
‫ذلك فسسي سسسمت وهيبسسة‪ ،‬وجزالسسة رأي‪ ،‬وشسسرف همسسة‪ ،‬وإخلص حسسق‬
‫الخلص؛ وما أرى فوضى عصرنا هذا وانحطاطه وإسفافه وسسسخافة‬
‫قولهم‪ :‬جديسسد وقسسديم‪ ،‬وجريسسء ورجعسسي‪ ،‬وحسسر وجامسسد ‪-‬إل مسسن خلء‬
‫العصر وفراغه من النفس الكبيرة‪ ،‬وحاجته إلى إمام عظيسسم؛ ومسستى‬
‫أصبحنا نضرب في دائرة ل مركز لها‪ ،‬فهي المربع وهسسي المسسستطيل‬
‫وهي كل شسسكل إل أن تكسسون السسدائرة؛ والسسذين رأوا طسساغور الشسساعر‬

‫‪307‬‬
‫الهندي المتصوف حين نزل بمصر‪ ،‬ورأوا سحره وتحسسويله كسسل جديسسد‬
‫مدة أيام إلى قديم‪ ،‬وإخراسسسه هسسذه اللسسسنة عسسن نقسسده ومعارضسسته‪،‬‬
‫دا‪ ...‬يسسستطيعون أن‬ ‫شسسا ونزقًسسا وضسسلًل وتجدي س ً‬
‫وعن معاندة الحق طي ً‬
‫يدركوا ما أومأنا إليه‪ ،‬ويتبينوا السر فيما نحن فيه‪ ،‬ويتمثلسسوا مسسا كسسان‬
‫للشيخ محمد عبده في عصره‪ ،‬بل في خلق عصره‪.‬‬
‫وانتهى الخضري إلسسى مدرسسسة القضسساء الشسسرعي‪ ،‬فسسألف كتسسابه فسسي‬
‫الصول‪ ،‬اختصر فيه وهذب وقارب‪ ،‬فهو كتاب في هذا العلم ل كتاب‬
‫هذا العلم‪ ،‬وأساتذة الصول قوم آخرون لو أنسست منهسسم مثسسل الشسسيخ‬
‫الرافعي الكبير‪ ،‬لرأيت البحر الذي يسذهب فسسي سساحله نصسف طسول‬
‫الرض‪ ،‬وقد بعث الخضري علسسى ذلسسك أن جماعسسة يسسومئذ كسسان منهسسا‬
‫صديقنا المرحوم حفني ناصف‪ ،‬والشيخ المهدي‪ ،‬وغيرهمسسا‪ ،‬اجتمعسسوا‬
‫على إبداع نهضة في التأليف‪ ،‬فذهب ثلثة منهم بحصة الدب‪ ،‬وفسسرغ‬
‫الخضري للصول؛ أخبرني بذلك حنفي بك ‪-‬رحمه الله‪ -‬ثم لما اختسسار‬
‫القائمون على الجامعة المصسسرية القديمسسة صسسديقنا العلمسسة المسسؤرخ‬
‫جورجي زيدان لدرس التاريخ السلمي فيها‪ .‬طسسار الخسسبر فسسي المسسة‬
‫بأنهم اختاروا القنبلسة‪ ..‬وشسعر النساس بمعنسى الهسدم قبسل أن يتهسدم‬
‫شيء‪ ،‬فاضطرت الجامعة إلى أن تنحيه‪ ،‬وعهسسدت فسسي السسدرس إلسسى‬
‫الستاذ الخضري‪ ،‬فألقى دروسه التي جمعها في كتابه "تاريخ المسسم‬
‫السلمية"‪ .‬وقال في مقدمة هذا الكتاب‪" :‬أرجو أن أكون قد وفقت‬
‫لتذليل صسسعوبة كسسبرى‪ .‬وهسسي صسسعوبة اسسستفادة التاريسسخ العربسسي مسسن‬
‫كتبه"؛ نقول‪ :‬وعلى أن الشيخ أحسن في كتابه‪ ،‬وجاء بمسسادة غزيسسرة‬
‫من فكره ورأيه‪ ،‬وبسط واختصر‪ ،‬وباعد وقرب‪ ،‬فإن كلمته هسسذه إمسسا‬
‫أن تكون أكبر من التاريخ أو أكبر من كتابه‪.‬‬
‫ورد ّ في السنة الماضية على كتاب "الشسسعر الجسساهلي" للسسدكتور طسسه‬
‫حسسسين‪ ،‬وكسسان رده خطاب ًسسا أراد أن يحاضسسر بسسه طلبسسة الجامعسسة؛ لنسسه‬
‫ذا معهسسم‪ ،‬وأبسست‬ ‫أستاذ أستاذهم؛ فكأنه أراد جعل أستاذهم هسسذا تلمي س ً‬
‫عليه الجامعة ما أراد‪ ،‬ولعلها فطنت إلى هذا الغرض؛ ولما علم أنسسي‬
‫شرعت في طبسسع ردي علسى السسدكتور طسه ‪ ،1‬كلمنسسي فسسي اسستلحاق‬
‫مقسساله وجعلسسه ذيًل فسسي الكتسساب‪ ،‬وقسسدرناه يسسومئذ فسسي نحسسو خمسسسين‬
‫صسسفحة أو دونهسسا‪ ،‬وقسسد سسسألته أن ينفسسي منسسه مسسا كسسان فسسي مقسسادير‬
‫الرصسساص‪ ،‬ويقتصسسر علسسى مسسا هسسو فسسي وزن القنابسسل‪ ،‬فقسسال‪" :‬كلسسه‬
‫قنابل"!‪ .‬ثم اتسع كتابي وجاوز مقداره إلى الضعف‪ ،‬فوسسسع هسسو رده‬
‫وزاد فيه وطبعه في قريب من ضعفه على حدة‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫دع كتابه المشهور "مهذب الغاني"‪ ،‬فهذا ل يقسسال‪ :‬إن الشسسيخ ألفسسه‪،‬‬
‫بل ألفته خمسسس عشسسرة سسسنة؛ وأظسسن كسسل ذلسسك ل يسسذكر فسسي جنسسب‬
‫الكتاب الذي كان يعمسسل فيسسه أخيسًرا‪ ،‬وهسسو كتسساب "الدب المصسسري"‪،‬‬
‫أخبرني أنه في جزأين ودعاني إلسسى داره لرى "المكتبسسة الخضسسرية"؛‬
‫ولطلع على هذا الكتاب‪ ،‬فوعسسدته ولسسم يقسسدر لسسي؛ وقسسد حسسدثني أنسسه‬
‫ي أشد العناية باستجماع الفروق التي يمتاز بهسسا الدب المصسسري‬ ‫معن ّ‬
‫عن الدب الحجازي والشامي والعراقي والندلسي‪ ،‬وأنه أصاب مسسن‬
‫ذلك أشياء متميزة منذ الدولة الطولونية‪ ،‬يحق لمصر أن تقول فيهسا‪:‬‬
‫هذا أدبي؛ وكسسان يكتسسم خسسبر هسسذا الكتسساب‪ ،‬حسستى أن صسسديقنا السسستاذ‬
‫حافظ بك عوض صاحب جريسسدة "كسسوكب الشسسرق"‪ ،‬اقسسترح عليسسه أن‬
‫يكتب فصسًل فسسي الشسسعراء المصسسريين وأدبهسسم يعقسسده لكتسساب حفلسسة‬
‫تكريم شوقي بك؛ ثم لقيه بعد ذلك فقال له الشيخ‪ :‬إن البحث سائر‬
‫على أحسن وجوهه!‬
‫كان الخضري يفرح للقائي ويهش لي‪ ،‬وكنت أتبين في وجهسسه أشسسعة‬
‫روحه الصافية‪ ،‬ولعله كسسان يسسرى بسسي فسسي نفسسسه ذلسسك الشسسيخ السسذي‬
‫أعطاني المجلد‪ ،‬كما كنت أرى به في نفس ذلك التلميسسذ السسذي أخسسذ‬
‫المجلد منه! على أن مرجع ذلك في الحق إلى سعة صدره‪ ،‬وفسحة‬
‫رأيه‪ ،‬وبسطة ذرعه‪ ،‬وسموّ أدبسسه وإنصسسافه؛ فل يحقسسد ول يحسسسد‪ ،‬ول‬
‫يتجاوز قدره‪ ،‬ول ينزل بأحد عن قدره‪ ،‬ول يدعي مسسا ل يحسسسن؛ وقسسد‬
‫عرف قراء "المقتطف" مثًل من أخلقه هذه أو أكثرهسسا حسستى انتقسسده‬
‫صديقنا الستاذ عبد الرحيم بن محمود‪ ،‬وتناول الجزء الول من كتابه‬
‫"مهذب الغاني" وراح يتقلقسسل لسسه كجلمسسود صسسخر‪ ..‬فوسسسعه الشسسيخ‬
‫وعني به ورد عليه في "المقتطف"‪ ،‬ونعته بالستاذ الجهبسسذ وانتصسسف‬
‫منه‪ ،‬وأنصفه مًعا‪ .‬ولقد اقترحت عليه مرة أن يضع كتاًبا فسسي حكمسسة‬
‫التشريع السلمي وفلسفته‪ ،‬فقال لي‪" :‬مش قده" يعني أن العمسسل‬
‫أكسسبر منسسه‪ ،‬ولكسسن هسسذا نبهسسه إلسسى وضسسع كتسسابه فسسي "تاريسسخ التشسسريع‬
‫السلمي‪.‬‬
‫ولما أصدرت الجزء الول من "تاريخ آداب العرب" في سنة ‪،1911‬‬
‫لم أهده إلى الشيخ‪ ،‬فاشستراه وقسرأه‪ ،‬ثسم لقيتسه وسسألته رأيسه فيسه‪،‬‬
‫دا كويس"‬ ‫فقال‪" :‬ج ّ‬
‫ظا آخر؛ وهو يقسسول هسسذا‬ ‫ظا‪ ،‬و"كويس" تقري ً‬ ‫دا" تقري ً‬ ‫فكان تقديم "ج ّ‬
‫ما بهذا الكتاب وما‬ ‫على حين كان بعض إخوانه الشيوخ يكاد يموت غ ّ‬
‫كتب عنه‪ ،‬وعلى حين كلمني بعضسسهم مرتيسسن فسسي تسسرك هسسذا العمسسل‬
‫ونفض يدي منه؛ لنه ‪-‬زعم‪ -‬عمل شاقّ بل فائدة‪..‬‬

‫‪309‬‬
‫وقد زرت الستاذ الخضري في وزارة المعارف في السنة الماضسسية‪،‬‬
‫فبعد أن جلست إلى جانبه نهض مرة ثانية وجعسسل يثبتنسسي بقسسوة فسسي‬
‫الكرسي‪ ،‬كأنه لم يطمئن بعد إلى أني جلست‪ ،‬ثم فاض بكلم كسسثير‪،‬‬
‫فكان فيما قاله‪" :‬أنا الن أعيش في غير زمني"‪ ،‬وكأنمسسا كسسان ينعسسي‬
‫إلي نفسه بهذه الكلمة من حيث ل يسسدري ول أدري‪ ،‬وقسسال لسسي‪ :‬إنسسه‬
‫يجلس إلى مكتبة في كل يوم ست ساعات‪ ،‬يقرأ ويؤلسسف أو ينسسسخ؛‬
‫لن كل كتبه المخطوطة هو ناقلها وناسخها ومصححها‪ ،‬وأنه يتلو كل‬
‫يوم أربعة أجزاء من القرآن الكريم‪ .‬قال‪ :‬ول يعتريه البرد ول مسسرض‬
‫من أمراضه‪ ،‬لما اعتاد من رياضة صدره بهذه التلوة‪ ،‬وقال‪ :‬إن كسسل‬
‫ما هو فيه إنما هو من بركة القرآن‪.‬‬
‫ولنمسك عند هذا الحد؛ فإن للسسذكرى غمسًزا علسسى القلسسب‪ ،‬وبالجملسسة‬
‫ما كالك ُّتاب‪ ،‬وكاتًبا كالعلماء؛ فهو من هؤلء‬ ‫فقد كان ‪-‬رحمه الله‪ -‬عال ً‬
‫وأولئك يلف الطبقتين‪ ،‬وهو وحده منزلة بين المنزلتين؛ وبذلك تميسسز‬
‫وظهر‪ ،‬فإنه في إحدى الجهتين عقل جريء تمده رواية واسسسعة فسسي‬
‫علوم مختلفة‪ ،‬فنراه يبعث من عقله الحياة إلى الماضي حسستى كسسأنه‬
‫لم يمض‪ ،‬وهو في الجهة الخسسرى علسسم مسسستفيض ل يقسسف عنسسد حسسد‬
‫الصحيفة أو الكتاب‪ ،‬بل ل يزال يلتمس له عقًل يخرجه ويتصرف به‪،‬‬
‫ما بحت ًسسا فينتظسسم الحاضسسر إلسسى ماضسسيه‬‫حتى يكبر عسسن أن يكسسون قسسدي ً‬
‫ما‬
‫دا إل بالقديم‪ ،‬ول قسسدي ً‬ ‫دا‪ ..‬لم يكن الشيخ جدي ً‬ ‫ويطلقهما إطلًقا واح ً‬
‫دا صسسرًفا‪ ،‬ول نقيسسم‬ ‫ضسا ول جديس ً‬
‫ما مح ً‬‫إل بالجديد؛ فإننا ل نعسسرف قسسدي ً‬
‫وزن أحدهما إل بوزن من الخر إذا أردنا بهما سنة الحياة؛ وأنسست لسسن‬
‫تجد حّيا منقطًعا مما وراءه‪ ،‬بل أنست تسرى الطبيعسة قيسدت كسل حسي‬
‫جديد إلى أصلين من القديم ل أصل واحسسد همسسا أبسسواه فمنهمسسا يسسأتي‬
‫دا فيه وإن كان على حدة؛ وبعد‪ ،‬فلسسو جسساريت‬ ‫ما أب ً‬
‫ومنهما يستمد وهُ َ‬
‫السخافة العصرية المشهورة لقلت‪ :‬إن المسسذهب القسسديم‪ ..‬قسسد انهسسد‬
‫ركن من أركانه‪ ،‬ونقص قنطار كتب من ميزانه؛ ولكن هذه السخافة‬
‫مسسا فسسي السسسماء؛‬ ‫في رأيي كما ترى من جماعة ائتلسسوا أن يطفئوا نج ً‬
‫لنه قديم‪ ،‬فسساتفقوا علسسى ذلسسك وأجمعسسوه بينهسسم وفرغسسوا مسسن أمسسره‪،‬‬
‫وأقبسسسل بعضسسسهم علسسسى بعسسسض يتسسسساءلون كيسسسف يهيئون العربسسسات‬
‫والمضسسخات السستي تحمسسل إلسسى السسسماء بضسسعة أبحسسر ليصسسبوها علسسى‬
‫النجم‪...‬‬

‫‪‬‬

‫‪310‬‬
‫رأي جديد ‪ 1‬في كتب الدب القديمة‬

‫أدب الكاتب لبن قتيبة من الدواوين الربعة السستي قسسال ابسسن خلسسدون‬
‫فيها مسسن كلمسسه علسسى حسسد علسسم الدب‪" :‬وسسسمعنا مسسن شسسيوخنا فسسي‬
‫مجالس التعليم أن أصول هسسذا الفسسن وأركسسانه أربعسسة دواويسسن‪ :‬وهسسي‬
‫"أدب الكاتب" لبن قتيبة‪ ،‬و "كتاب الكامل" للمبرد‪ ،‬و "كتاب البيسسان‬
‫والتبيين" للجاحظ‪ ،‬وكتاب "النوادر" لبي علي القالي البغدادي؛ ومسسا‬
‫سوى هذه الربعة فتبع لها وفروع عنها"‪.‬‬
‫وقد يظن أدباء عصرنا أن كلمة ابن خلدون هذه كانت تصسسلح لزمنسسه‬
‫وقومه‪ ،‬وأنها تتوجه على طريقة من قبلهم في طبقة بعد طبقة إلسسى‬
‫أصول هذه السلسلة التي يقولون فيهسسا‪ :‬حسسدثنا فلن عسسن فلن إلسسى‬
‫الصمعي أو أبي عبيدة أو أبي عمرو بسسن العلء وغيرهسسم مسسن شسسيوخ‬
‫الرواية ونقلة اللغة‪ .‬ولكنها ل تستقيم في آدابنا ول تعد من آلئنسسا ول‬
‫تقع من معارفنا‪ ،‬بل يكاد يسسذهب مسسن يتغسسرر منهسسم بسسالراء الوروبيسسة‬
‫السستي يسسسميها علمسسه‪ ...‬ومسسن يسترسسسل إلسسى التقليسسد السسذي يسسسميه‬
‫مذهبه‪ ..‬إلى أن تلك الكتب وما جرى في طريقتها هسسي أمسسوات مسسن‬
‫الكتب‪ ،‬وهي قبور من الوراق‪ ،‬وأنه يجب أن يكون بيننسسا وبينهسسا مسسن‬
‫الهمال أكثر ممسسا بينهسسا وبيننسسا مسسن الزمسسن‪ ،‬وأن بعسسث الكتسساب منهسسا‬
‫وإحياءه يوشك أن يكون كبعث الموتى‪ :‬علمة على خراب الدنيا‪..‬‬
‫فأما أن يكون ذلك علمة على خسسراب السسدنيا‪ ،‬فهسسو صسسحيح إذا كسسانت‬
‫الدنيا هي محرر جريدة‪ ..‬من أمثال أصحابنا هؤلء‪ ،‬وأما تلسسك الكتسسب‬
‫فأنا أحسبها لم توضسع إل لزمننسا هسسذا ولدبسسائه وكتسابه خاصسسة‪ ،‬وكسسأن‬
‫القدر هو أثبت ذلك القول في مقدمة ابن خلدون لينتهي بنصسسه إلينسسا‬
‫فنستخرج منه ما يقيمنا على الطريقسسة فسسي هسسذا العصسسر السسذي وقسسع‬
‫أدباؤه في متسسسع طويسسل مسسن فنسسون الدب ومضسسطرب عريسسض مسسن‬
‫مذاهب الكتابة وأفق ل تستقر حدوده من العلوم والفلسسسفة‪ ...‬فسسإن‬
‫هسسذه المسسادة الحافلسسة مسسن المعسساني تحيسسي آداب المسسم فسسي أوروبسسا‬
‫قسسا تسسذهب فيسسه‬ ‫وأمريكسسا‪ ،‬ولكنهسسا تكسساد تطمسسس آدابنسسا وتمحقنسسا مح ً‬
‫خصائصنا ومقوماتنا‪ ،‬وتحيلنا عن أوضاعنا التاريخيسسة‪ ،‬وتفسسسد عقولنسسا‬
‫ونزعاتنا‪ ،‬وترمي بنا مراميها بين كل أمة وأمة‪ ،‬حتى كأن ليست منسسا‬
‫أمة في حيزهسسا النسسساني المحسسدود مسسن ناحيسسة بالتاريسسخ ومسسن ناحيسسة‬
‫بالصفات ومن ناحية بالعلوم ومن ناحيسسة بسسالداب؛ ومسسن ذلسسك ابتلسسي‬
‫أكثر كتابنا بالنحراف عن الدب العربي أو العصسسبية عليسسه أو الزرايسسة‬
‫له‪ ،‬ومنهم من تحسبه قد رمي في عقلسسه لهوسسسه وحمسساقته‪ ،‬ومنهسسم‬

‫‪311‬‬
‫من كأنه في حقده سلح قلبه‪ ،‬ومنهم المقلد ل يدري أعلى قصد هسسو‬
‫أم جور‪ ،‬ومنهم الحائر يذهب في مذهب ويجيء من مذهب ول يتجه‬
‫لقصد‪ ،‬ومنهم من هو منهم وكفى‪..‬‬
‫وقلما تنبه أحد إلى السبب في هسسذا؛ والسسسبب فسسي حقسسارته وضسسعفه‬
‫ة ل شسسأن لهسسا‪ ،‬ولكسسن مسستى تنبسست تنبسست‬ ‫"كالمكروب"‪ :‬بسسذرة ٌ طامسس ٌ‬
‫ما وموًتا وأحزاًنا ومصائب شتى‪.‬‬ ‫عا وآل ً‬
‫أوجا ً‬
‫السبب أن أولئك الدباء كلهم ثسسم مسسن يتشسسيع لهسسم أو يأخسسذ برأيهسسم‪،‬‬
‫ليسسس منهسسم واحسسد تسسرى فسسي أساسسسه الدبسسي تلسسك الصسسول العربيسسة‬
‫المحضة القائمة على دراسة اللغسسة وجمعهسسا وتصسسنيفها وبيسسان عللهسسا‬
‫وتصاريفها ومطارح اللسان فيها‪ ،‬والمتأدية بذلك إلى تمكيسسن الديسسب‬
‫مسسا بهسسا وتكسسون‬‫الناشئ من أسرار هذه اللغة وتطويعها له‪ ،‬فيكون قي ً‬
‫هي مستجيبة لقلمه جارية في طبيعته مسددة في تصرفه‪ ،‬حسستى إذا‬
‫نشأ بها واستحكم فيها أحسن العمل لها وزاد فسسي مادتهسسا وأخسسذ لهسسا‬
‫قسسا أن يمسسد فيهسسا ويحسسسن الملءمسسة بينهسسا وبيسسن‬‫من غيرها وكسسان خلي ً‬
‫دا وبياًنا بعضه من بعضه‪ ،‬فينمسسو الدب‬ ‫جا واح ً‬‫الداب ويجعل ذلك نس ً‬
‫العربي في صنيعه كما تنمو الشجرة الحية‪ :‬تأخذ من كسسل مسسا حولهسسا‬
‫لعنصرها وطبيعتها وليس إل عنصرها وطبيعتها حسب‪.‬‬
‫إن "أدب الكاتب" وشرحه هسسذا للمسسام الجسسواليقي* ومسسا صسسنف مسسن‬
‫بابهمسسا علسسى طريقسسة الجمسسع مسسن اللغسسة والخسسبر وشسسعر الشسسواهد‬
‫والستقصاء في ذلك والتبسط في الوجوه والعلل النحوية والصرفية‬
‫والمعان في التحقيق‪ ،‬كل ذلك عمل ينبغي أن يعرف على حقه في‬
‫زمننا هذا؛ فهسسو ليسسس أدب ًسسا كمسسا يفهسسم مسسن المعنسسى الفلسسسفي لهسسذه‬
‫الكلمة‪ ،‬بل هو أبعد الشياء عن هذا المعنى؛ فإنك ل تجد فسسي كتسساب‬
‫من هذه الكتب إل التأليف الذي بين يديك‪ ،‬أما المؤلف فل تجسسده ول‬
‫تعرفه منها إل كالكلمة المحبوسة في قاعسسدة‪ ..‬وكسسأنه لسسم يكسسن فيسسه‬
‫روح إنسان بل روح مادة مصمتة‪ ،‬وكأنه لم ينشأ ليعمل فسسي عصسسره‬
‫بل ليعمل عصره فيه‪ ،‬وكأن ليس في الكتاب جهسسة إنسسسانية متعينسسة‪،‬‬
‫فثم تأليف ولكن أين المؤلف؟ وهذا كتاب ابن قتيبة‪ ،‬ولكن أيسسن ابسسن‬
‫قتيبة فيه؟‬
‫‪---------------‬‬
‫* الجواليق‪ :‬جمع شساذ لجوالسق‪ ،‬وقسسد نسسب هسسذا المسسام إلسى عمسل‬
‫الجوالسق وبيعهسا؛ وهسذا الجمسع ليسسس بينسه وبيسن واحسسده إل الحركسسة‪،‬‬
‫جوالق "بضم الجيم" والجمع بالفتح‪ ،‬ومثله ألفاظ أحصسسوها‪:‬‬ ‫فالمفرد ُ‬
‫كحلحل‪ ،‬وعدامل‪ ،‬وخثارم‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫وما أخطأ المتقدمون في تسميتهم هذه الكتب أدًبا؛ فذلك هسسو رسسسم‬
‫الدب في عصرهم‪ ،‬غير أن هذا الرسم قد انتقل فسسي عصسسرنا نحسسن‪،‬‬
‫فإنا نحن المخطئون اليوم في هذه التسسسمية‪ ،‬كمسسا لسسو ذهبنسسا نسسسمي‬
‫الجمل في البادية "الكسبريس"‪ ،‬والهودج عزبة "بولمان"‪.‬‬
‫ومن هذا الخطأ في التسمية ظهر الدب العربي لقصار النظسسر كسسأنه‬
‫تكرار عصر واحد على امتداد الزمن‪ ،‬فسسإن زاد المتسسأخر لسسم يأخسسذ إل‬
‫من المتقدم؛ وصارت هذه الكتب كأنها في جملتها قانون من قوانين‬
‫الجنسية نافسسذ علسسى السسدهر‪ ،‬ل ينبغسسي لعصسسر يسسأتي إل أن يكسسون مسسن‬
‫جنس القرن الول‪.‬‬
‫ً‬
‫مى لك عس سل ثسسم تسسذوقه فل‬ ‫هذه الكتب من هذه الناحية كالخل‪ :‬يس ّ‬
‫يجني عليه عندك إل السم الذي زور له؛ أما هو فكما هو في نفسسسه‬
‫وفي فائدته وفي طبيعته وفي الحاجسسة إليسسه‪ ،‬ل ينقسسص مسسن ذلسسك ول‬
‫يتغير‪.‬‬
‫الحقيقة التي يعينها الوضع الصحيح أن تلسسك المؤلفسسات إنمسسا وضسسعت‬
‫لتكون أدًبا‪ ،‬ل من معنى أدب الفكر وفنه وجماله وفلسفته‪ ،‬بسسل مسسن‬
‫معنى أدب النفس وتثقيفها وتربيتها وإقامتها‪ ،‬فهي كتب تربية لغويسسة‬
‫قائمة على أصول محكمة في هذا الباب‪ ،‬حتى ما يقرؤها أعجمي إل‬
‫خرج منها عربّيا أو في هوى العربية والميسسل إليهسسا؛ ومسسن أجسسل ذلسسك‬
‫بنيت على أوضاع تجعل القارئ المتبصر كأنما يصسساحب مسسن الكتسساب‬
‫حا يسأله فيجيبه‪ ،‬ويسسستهديه فيرشسسده؛ ويخرجسسه الكتسساب‬ ‫أعرابّيا فصي ً‬
‫عا وتلقيًنسا‪ ،‬والقسارئ فسي كسل‬ ‫حا وقراءة كما تخرجه البادية سما ً‬ ‫تصف ً‬
‫ذلك مستدرج إلى التعريسب فسي مدرجسسة مدرجسسة مسن هسسوى النفسسس‬
‫ومحبتها‪ ،‬فتصنع به تلك الفصول فيمسسا دبسسرت لسسه مثلمسسا تصسسنع كتسسب‬
‫التربية في تكوين الخلسسق بالسسساليب السستي أديسسرت عليهسسا والشسسواهد‬
‫التي وضعت لها والمعالم النفسية التي فصلت فيها ومن ثسسم جسساءت‬
‫هذه الكتب العربية كلها على نسق واحد ل يختلف في الجملسسة فهسسي‬
‫أخبار وأشعار ولغة وعربية وجمع وتحقيسسق وتمحيسسص‪ ،‬وإنمسسا تتفسساوت‬
‫بالزيادة والنقص والختصار والتبسط والتخفيف والتثقيل ونحسسو ذلسسك‬
‫فما هو في الموضوع ل في الوضع‪ ،‬حتى ليخيل إليسسك أن هسسذه كتسسب‬
‫جغرافية للغسسة وألفاظهسسا وأخبارهسسا؛ إذ كسسانت مثسسل كتسسب الجغرافيسسة‪:‬‬
‫متطابقة كلها علسسى وصسسف طبيعسسة ثابتسسة ل تتغيسسر معالمهسسا ول يخلسسق‬
‫غيرها إل الخالق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وإذا تدبرت هذا الذي بيناه لم تعجسسب كمسسا يعجسسب المتطفلسسون علسسى‬
‫الدب العربي والمتخبطون فيه من أن يروا إيمسسان المسسؤلفين متص سًل‬

‫‪313‬‬
‫بكتبهم ظاهر الثر فيها‪ ،‬وأنهم جميًعا يقرون إنما يريدون بها المنزلسسة‬
‫عند الله في العمل لحياطة هذا اللسان الذي نزل به القرآن وتسسأديته‬
‫في هذه الكتب إلى قومهم كما تؤدى المانة إلسسى أهلهسسا‪ ،‬حسستى لسسول‬
‫القرآن لما وضع من ذلك شيء البتة‪.‬‬
‫ما العامل اللهي في كل أطوار هذه اللغة وأراه يديرها‬ ‫وأنا أتلمح دائ ً‬
‫على حفظ القرآن الذي هو معجزتها الكبرى‪ ،‬وأرى من أثسسره مجيسسء‬
‫تلك الكتب على ذلسسك الوضسسع‪ ،‬وتسسسخير تلسسك العقسسول الواسسسعة مسسن‬
‫الرواة والعلماء والحفاظ جيًل بعد جيل في الجمع والشرح والتعليسسق‬
‫بغير ابتكار ول وضع ول فلسفة ول زيغ عن تلسسك الحسسدود المرسسسومة‬
‫التي أومأنا إلسسى حكمتهسسا‪ ،‬فلسسو أنسسه كسسان فيهسسم مجسسددون مسسن طسسراز‬
‫أصحابنا من أهل التخليط‪ ،‬ثم ترك لهم هذا الشأن يتولونه كمسسا نسسرى‬
‫بالنظر القصير والرأي المعاند والهوى المنحرف والكبرياء المصممة‬
‫والقول على الهاجس والعلم علسسى التسسوهم ومجادلسسة السسستاذ حيسسص‬
‫للستاذ بيص‪ ...‬إذن لضرب بعضهم وجه بعض وجاءت كتب متدابرة‪،‬‬
‫ومسخ التاريخ وضاعت العربية وفسد ذلك الشأن كلسسه‪ ،‬فلسسم يتسسسق‬
‫منه شيء‪.‬‬
‫ومما ترده على قارئها تلك الكتب في تربيته للعربية أنها تمكسسن فيسسه‬
‫للصسسبر والمعانسساة والتحقيسسق والتسسورك فسسي البحسسث والتسسدقيق فسسي‬
‫التصفح‪ ،‬وهي الصفات السستي فقسسدها أدبسساء هسسذا الزمسسن‪ ،‬فأصسسبحوا ل‬
‫يثبتسون ول يحققسون‪ ،‬وطسال عليهسم أن ينظسروا فسي العربيسة‪ ،‬وثقسل‬
‫عليهم أن يستبطنوا كتبها؛ ولو قسسد تربسسوا فسسي تلسسك السسسفار‪ ،‬وبسسذلك‬
‫السلوب العربي لتمت الملءمة بين اللغة في قوتها وجزالتهسسا وبيسسن‬
‫ما عسى أن ينكره منها ذوقهم في ضعفه وعاميته وكسسانوا أحسسق بهسسا‬
‫وأهلها‪.‬‬
‫وذلك بعينه هو السر في أن من ل يقرؤون تلك الكتب أول نشسسأتهم‪،‬‬
‫ل تراهم يكتبون إل بأسلوب منحط‪ ،‬ول يجيئون إل بكلم سقيم غث‪،‬‬
‫ول يرون في الدب العربي إل آراء ملتوية؛ ثم هسم ل يسستطيعون أن‬
‫يقيموا على درس كتاب عربي‪ .‬فيساهلون أنفسهم ويحكمسسون علسسى‬
‫اللغة والدب بما يشعرون به في حالتهم تلك‪ ،‬ويتورطون في أقسسوال‬
‫مضحكة‪ ،‬وينسون أنه ل يجوز القطع على الشيء من ناحية الشسسعور‬
‫ما دام الشعور يختلف في الناس باختلف أسبابه وعوارضه‪ ،‬ول من‬
‫دا فسسي إحسسدى النسساحيتين أو‬‫ناحية يجوز أن يكون الخطأ فيها؛ وهم أب س ً‬
‫في كلتيهما‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫وهذا شرح الجواليقي من أمتع الكتب التي أشرنا إليها‪ ،‬وصاحبه هسسو‬
‫المام أبو منصور موهوب الجواليقي المولود في سنة ‪ 465‬للهجرة‪،‬‬
‫والمتسسوفى سسسنة ‪ ،540‬وهسسو مسسن تلميسسذ المسسام الشسسيخ أبسسي زكريسسا‬
‫الخطيسسب التسسبريزي؛ أول مسسن درس الدب فسسي المدرسسسة النظاميسسة‬
‫ببغداد* وقرأ الجواليقي على شيخه هذا سبع عشرة سسسنة‪ ،‬اسسستوفى‬
‫فيها علوم الدب من اللغة والشعر والخبر والعربية بفنونها‪ ،‬ثم خلف‬
‫شسسيخه علسسى تسسدريس الدب فسسي النظاميسسة بعسسد علسسي بسسن أبسسي زيسسد‬
‫المعروف بالفصيحى**‪.‬‬
‫وما نشك أن هذا الشرح هو بعض دروسه في تلك المدرسسسة‪ ،‬فسسأنت‬
‫من هذا الكتاب كأنك بإزاء كرسي التدريس في ذلسسك العهسسد‪ ،‬تسسسمع‬
‫من رجل انتهت إليه إمامة اللغة في عصره‪ ،‬فهو مدقق محيط مبالغ‬
‫ي‬
‫في الستقصاء ل يند عنه شيء مما هو بسسسبيله مسسن الشسسرح‪ ،‬معنس ّ‬
‫بالتصريف ووجوهه مما انتهى إليه من أثر المام ابن جني فيلسسسوف‬
‫هذا العلم في تاريخ الدب العربي‪ ،‬فإن بين الجواليقي وبينه شيخين‬
‫كما تعرف من إسناده في هذا الشرح‪.‬‬
‫وقد قالوا‪ :‬إن أبا منصور في اللغة أمثل منه في النحو‪ ،‬على إمسسامته‬
‫فيهما مًعا؛ إذ كان يذهب في بعض علل النحو إلى آراء شسساذة ينفسسرد‬
‫بها‪ ،‬وقد ساق منها عبسسد الرحمسسن النبسساري مثليسسن فسسي كتسسابه "نزهسسة‬
‫اللباء"‪ ،‬ولكن هذا الشذوذ نفسه دليل على اسسستقلل الفكسسر وسسسعته‬
‫ومحاولته أن يكون في الطبقة العليا من أئمة العربية***‪ ،‬وهو على‬
‫ذلك رجل ثقة صدوق كسسثير الضسسبط عجيسسب فسسي التحسسري والتسسدقيق؛‬
‫حتى كان من أثر ذلك في طباعه أن اعتاد التفكيسسر وطسسول الصسسمت‬
‫فل يقول قوًل إل بعد تدبر وفكر طويل‪ ،‬فإن لم يهتد إلى شيء قال‪:‬‬
‫ل أدري‪ ،‬وكثيًرا ما كان يسأل في المسألة فل يجيب إل بعد أيام‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫* أنشأها نظام الملسسك وزيسسر ملسسك شسساه السسسلجوقي المتسسوفى سسسنة‬
‫‪485‬هس‪.‬‬
‫** لقب بذلك لكثرة إعادته كتاب الفصيح في اللغة‪.‬‬
‫*** قال ياقوت في ترجمة أبي علي الفارسسسي مسسن معجسسم الدبسساء‪:‬‬
‫قسسرأت بخسسط الشسسيخ أبسسي محمسسد الخشسساب‪ :‬كسسان شسسيخنا "يعنسسي‬
‫الجواليقي" قلما يتنبل عنده ممارس للصناعة النحوية ولو طال فيها‬
‫باعه‪ ،‬ما لم يتمكن من علم الرواية وما تشتمل عليسسه مسسن ضسسروبها‪،‬‬
‫ول سيما رواية الشعار العربية وما يتعلق بمعرفتها من لغسسة وقصسسة؛‬
‫ما لبسسي سسسعيد السسسيرافي علسسى أبسسي علسسي الفسسارس‬ ‫ولهذا كان مقسسد ً‬

‫‪315‬‬
‫قسسا‬
‫‪-‬رحمهما الله‪ -‬ويقول‪ :‬أبو سعيد أروى من أبسسي علسسي‪ ،‬وأكسسثر تحق ً‬
‫منه بالرواية وأثرى منه فيها‪.‬‬
‫عا قوي اليمان‪ ،‬انتهى به إيمانه وعلمه وتقواه إلى أن صسسار‬ ‫وكان ور ً‬
‫أستاذ الخليفة المقتفي لمسسر اللسه‪ ،‬فساختص بإمسامته فسسي الصسسلوات‪،‬‬
‫وقرأ عليه المقتفى شيًئا مسسن الكتسسب‪ ،‬وانتفسسع بسسذلك وبسسان أثسسره فسسي‬
‫توقيعاته كما قالوا‪.‬‬
‫والذي يتأمل هذا الشرح فضل تأمل يسسرى صسساحبه كأنمسسا خلقسسه اللسسه‬
‫رجل إحصاء في اللغة‪ ،‬ل يفوته شيء مما عرف إلى زمنسسه‪ ،‬وهسسو ول‬
‫ريب يجري في الطريقة الفكرية التي نهجها ابسسن جنسسي وشسسيخه أبسسو‬
‫علي الفارس؛ ومسسن أثسسر هسسذه الطريقسسة فيسسه أنسسه ل يتحجسسر ول يمنسسع‬
‫القياس في اللغة‪ ،‬ويلحق ما وضعه المتأخرون بما سمع من العرب‪،‬‬
‫ويروي ذلك جميعه ويحفظه ويلقيه على طلبته؛ ومسسن أمتسسع مسسا جسساء‬
‫من ذلك في شرحه قوله فسسي صسسفحة ‪ ،235‬وهسسو بسساب لسسم يسسستوفه‬
‫غيره ول تجده إل في كتابه‪ ،‬وهذه عبارته‪:‬‬
‫قولهم‪ :‬يدي من ذلك فِعلة‪ :‬المسموع منهم فسسي ذلسك ألفساظ قليلسة‪،‬‬
‫وقد قاس قوم من أهل اللغسسة علسسى ذلسسك فقسسالوا‪ :‬يسسدي مسسن الهالسسة‬
‫سنخة‪ ،‬ومن البيض زهمة‪ ،‬ومسسن السستراب تربسسة‪ ،‬ومسسن السستين والعنسسب‬
‫ضسسا‪ ،‬ومسسن الجبسسن‬ ‫والفواكه كتنة وكمدة ولزجة‪ ،‬ومن العشب كتنسسة أي ً‬
‫نسمة‪ ،‬ومن الجص شهرة‪ ،‬ومن الحديد والشبهة والصفر والرصسساص‬
‫ضا‪ ،‬ومن الحمأة ردغة ورزغة‪ ،‬ومن الخضاب ردعسسة‪،‬‬ ‫سهكة وصدئة أي ً‬
‫ومن الحنطة والعجين والخبز نسغة‪ ،‬ومن الخل والنبيذ خمطة‪ ،‬ومن‬
‫ضا‪ ،‬ومن الدم شسسحطة وشسسرفة ومسسن‬ ‫الدبس والعسل دبقة ولزقة أي ً‬
‫الدهن زنخة‪ ،‬ومن الرياحين ذكية‪ ،‬ومسسن الزهسسر زهسسرة‪ ،‬ومسسن الزيسست‬
‫قنمة‪ ،‬ومن السسمك سسسهكة وصسمرة‪ ،‬ومسسن السسسمن دسسمة ونمسسسة‬
‫ونمسة‪ ،‬ومن الشهد والطين لثقة‪ ،‬ومن العطر عطرة‪ ،‬ومن الغاليسسة‬
‫عبقة‪ ،‬ومن الغسلة والقدر وحسسرة‪ ،‬ومسن الفرصساد قنئة‪ ،‬ومسسن اللبسن‬
‫وضرة‪ ،‬ومن اللحم والمرق سمرة‪ ،‬ومسسن المسساء بللسسة وسسسبرة‪ ،‬ومسسن‬
‫المسك ذفرة وعبقة‪ ،‬ومن النتن قنمة‪ ،‬ومن النفط جعدة‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فالمسموع من هذه اللفاظ عن العرب ل يتجسساوز سسسبًعا فيمسسا نسسرى‪،‬‬
‫والباقي كله أجراه علمسساء اللغسسة وأهسسل الدب علسسى القيسساس‪ ،‬فأبسسدع‬
‫القيسساس منهسسا أربعًسسا وثلثيسسن كلمسسة‪ :‬ولسسو تسسدبرت كيفيسسة اسسستخراجها‬
‫ورجعت إلى الصول التي أخذت منها ليقنسست أن هسسذه العربيسسة هسسي‬
‫أوسع اللغات كافة‪ ،‬وأنها من أهلها كالنبوة الخالدة في دينها القسسوي‪:‬‬

‫‪316‬‬
‫تنتظر كل جيل يأتي كما ودعت كل جيل غير لنها النسسسانية‪ ،‬لهسسؤلء‬
‫وهؤلء‪.‬‬
‫إن ظهور مثل هذا الشرح كالتوبيخ لكثر كتاب هذا الزمن أن اقرءوا‬
‫وادرسوا وخصوا لغتكم بشطر من عنايتكم‪ ،‬وتربوا لهسسا بتربيتهسسا فسسي‬
‫مدارسسسكم ومعاهسسدكم‪ ،‬واصسسبروا علسسى معاناتهسا صسبر المحسب علسى‬
‫حبيبته‪ ،‬فإن ضعفتم فصبر البار على من يلزمسسه حقسسه؛ فسسإن ضسسعفتم‬
‫عن هذا فصبر المتكلف المتجمل على القل!‬
‫‪‬‬

‫أمير الشعر في العصر القديم ‪1‬‬

‫الوجه في إفراد شسساعر أو كسساتب مسسن الماضسسين بالتسسأليف‪ ،‬أن تصسسنع‬


‫كأنك تعيده إلى الدنيا فسسي كتسساب وكسسان إنسسساًنا وكسسان عمسًرا‪ ،‬وتسسرده‬
‫حكاية وكان عمًل‪ ،‬وتنقله بزمنسسه إلسسى زمنسسك‪ ،‬وتعرضسسه بقسسومه علسسى‬
‫قومك‪ ،‬حتى كأنه بعد أن خلقه الله خلقة إيجاد بخلقسسه العقسسل خلقسسة‬
‫تفكير‪.‬‬
‫من أجل ذلك ل بد أن يتقصى المؤلف في الجمع من آثسسار المسسترجم‬
‫وأخباره‪ ،‬وأن يحمل في ذلك من العنت ما يحمله لو هو كسسان يجسسري‬
‫وراء ملكي من يترجمه لقراءة كتاب أعماله فسي يسديهما‪ ..‬ول بسد أن‬
‫يبالغ في التمحيص والمقابلسسة‪ ،‬ويسسدقق فسسي السسستنباط والسسستخراج‪،‬‬
‫ويضيف إلى عامة ما وجسسد مسن العلسسم والخسبر خاصسة مسا عنسسده مسن‬
‫الرأي والفكر‪ ،‬ويعمل على أن ينقح ما انتهى إليه الماضي فسسي أدبسسه‬
‫وعلمه بما بلغ إليه الحاضر في فنه وفلسفته؛ وذلك من عمل العقل‬
‫دا والمترادف على هذه الحيسساة بمسسذاهبه المختلفسسة‪ ،‬يشسسبه‬ ‫المتجدد أب ً‬
‫دا والمترادف بالليل والنهار على هذه الرض‪،‬‬ ‫عمل الدهر المتجدد أب ً‬
‫كل نهار أو ليل هو آخر وهو أول‪ ،‬وكذلك العقول كلها آخر من ناحيسسة‬
‫وأول من ناحية‪.‬‬
‫والتجديد في الدب إنمسا يكسسون مسن طريقستين‪ :‬فأمسسا واحسسدة فإيسداع‬
‫الديب الحي في آثار تفكيره بما يخلق من الصور الجديدة في اللغة‬
‫والبيان‪ ،‬وأما الخرى فإبداع الحي في آثار الميت بما يتناولها به مسسن‬
‫مذاهب النقد المستحدثة وأساليب الفن الجديدة وفي البسسداع الول‬
‫إيجاد ما لم يوجد‪ ،‬وفي الثاني إتمام ما لم يتم؛ فل جرم كانت فيهمسا‬
‫مًعا حقيقة التجديد بكل معانيها‪ ،‬ول تجديد إل من ثمسسة‪ ،‬فل جديسسد؛ إل‬
‫مع القديم‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪" 1‬المقتطف"‪ :‬وضع الديب محمد صسسالح سسسمك رسسسالة قيمسسة فسسي‬
‫امرئ القيس "أمير الشعر في العصر القديم" تقع فسسي نحسسو مسسائتين‬
‫فسسا‪ ،‬وحلهسسا بمقدمسسة بليغسسة‬ ‫كا طري ً‬‫وخمسين صفحة‪ ،‬سلك فيها مسسسل ً‬
‫للستاذ الجليل مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬فخص المؤلسسف المقتطسسف‬
‫قا لرغبتنا‪.‬‬‫المقدمة وبعض أبحاث الرسالة فيها طب ً‬
‫وإذا تبينت هذا وحققتسسه أدركسست لمسساذا يتخبسسط منتحلسسو الجديسسد بيننسسا‬
‫ها ويتقلده زوًرا‪ ،‬وجملة عملهسسم كوضسسع الزنجسسي‬ ‫وأكثرهم يدعيه سفا ً‬
‫الذرور البيض "البودرة" على وجهه ثم يذهب يدعي أنه خرج أبيسسض‬
‫من أمه ل من العلبة‪ ..‬فإن منهم من يصنع رسالة في شاعر وهسسو ل‬
‫يفهم الشعر ول يحسسسن تفسسسيره ول يجسسده فسسي طبعسسه؛ ومنهسسم مسسن‬
‫يدرس الكاتب البليغ وقد باعده الله من البلغة ومذاهبها وأسسسرارها‪،‬‬
‫ومنهم من يجدد في تاريخ الدب‪ ،‬ولكن بالتكذب عليه والتقحسسم فيسسه‬
‫والذهاب فسسي مسسذهب المخالفسسة‪ ،‬يضسسرب وجسسه المقبسسل حسستى يجيسسء‬
‫مدبًرا‪ ،‬ووجه المدبر حتى يعود مقبًل‪ ،‬فإذا لكل فريق جديسسد‪ ،‬وينسسسى‬
‫أن جديده بالصنعة ل بالطبيعة وبالزور ل بالحق‪.‬‬
‫أل إن كل من شاء استطاع أن يطب لكل مريسسض‪ ،‬ل يكلفسسه ذلسسك إل‬
‫قا يدبره‪ ،‬ولكن أكذلك كل من وصسسف دواء اسسستطاع‬ ‫قوًل يقوله وتلفي ً‬
‫أن يشفي به؟‬
‫وبعد؛ فقد قرأت رسالة امسسرئ القيسسس السستي وضسسعها الديسسب السسسيد‬
‫محمد صسسالح سسسمك‪ ،‬فرأيسست كاتبهسسا ‪-‬مسسع أنسسه ناشسسئ بعسسد‪ -‬قسسد أدرك‬
‫حقيقة الفن في هذا الوضع من تجديد الدب‪ ،‬فاستقام على طريقسسة‬
‫غير ملتوية‪ ،‬ومضسسى فسسي المنهسسج السسسديد‪ ،‬ولسسم يسسدع التثبسست وإنعسسام‬
‫النظسسر وتقليسسب الفكسسر وتحصسسين السسرأي‪ ،‬ول قصسسر فسسي التحصسسيل‬
‫والطلع والستقصاء‪ ،‬ول أراه قد فساته إل مسا ل بسد أن يفسوت غيسسره‬
‫مما ذهب في إهمال الرواة المتقدمين وأصبح الكلم فيه من بعدهم‬
‫ما بالظن‪.‬‬‫ما بالغيب وحك ً‬ ‫رج ً‬
‫فإن امرأ القيس في رأيسسي إنمسا هسسو عقسسل بيسساني كسسبير مسسن العقسسول‬
‫عا‬
‫المفردة التي خلقت خلقتها في هذه اللغة‪ ،‬فوضع في بيانها أوضسسا ً‬
‫كان هو مبتدعها والسابق إليها‪ ،‬ونهج لمن بعده طريقتها في الحتذاء‬
‫عليها والزيادة فيها والتوليد منها؛ وتلك هسسي منقبتسسه السستي انفسسرد بهسسا‬
‫والتي هي سرد خلوده في كل عصر إلى دهرنا هذا وإلسسى مسسا بقيسست‬
‫اللغسسة؛ فهسسو أصسسل مسسن الصسسول‪ ،‬فسسي أبسسواب مسسن البلغسسة كالتشسسبيه‬
‫والستعارة وغيرهما‪ ،‬حتى لكأنه مصنع من مصانع الغة ل رجسسل مسسن‬

‫‪318‬‬
‫رجالها؛ وكما يقال في أمننا في أمم الصناعة‪ :‬سيارة فسسورد وسسسيارة‬
‫فيات‪ ،‬يمكن أن يقسسال مثسسل ذلسسك فسسي بعسسض أنسسواع البلغسسة العربيسسة‪:‬‬
‫استعارة امرئ القيس‪ ،‬وتشبيه امرئ القيس‪.‬‬
‫ولكن تحقيق هذا الباب وإحصاء ما انفرد به الشسساعر وتأريسسخ كلمسساته‬
‫البيانية مما ل يستطيعه باحث وليس لنا فيه إل الوقوف عند ما جسساء‬
‫به النص‪.‬‬
‫ولقد نبهنا في "إعجاز القرآن" إلى مثسسل هسسذا؛ إذ نعتقسسد أن أكسسثر مسسا‬
‫دا في اللغة‪ ،‬لم يوضع من قبله ذلك‬ ‫جاء في القرآن الكريم كان جدي ً‬
‫الوضع ولم يجر في استعمال العرب كمسسا أجسسراه‪ ،‬فهسسو يصسسب اللغسسة‬
‫صّبا في أوضاعه لهلها ل في أوضاع أهلها؛ وبسسذلك يحقسسق مسسن نحسسو‬
‫ألف وأربعمائة سنة ما ل نظن فلسفة الفن قد بلغسست إليسه فسسي هسذا‬
‫العصر؛ إذ حقيقة الفن على ما نرى أن تكسسون الشسسياء كأنهسسا ناقصسسة‬
‫في ذات أنفسها ليس في تركيبها إل القسسوة السستي بنيسست عليهسسا‪ ،‬فسسإذا‬
‫تناولها الصنع الحاذق الملهم أضاف إليها من تعبيره مسسا يشسسعرك أنسسه‬
‫خلق فيها الجمسال العقلسي‪ ،‬فكأنهسا كسانت فسي الخلقسة ناقصسة حستى‬
‫أتمها‪.‬‬
‫وهذا المعنى الذي بيناه هو الذي كسسان يحسسوم عليسسه السسرواة والعلمسساء‬
‫ما‪ ،‬يحسونه ول يجدون بيانه وتأويله‪ ،‬فترى الصمعي مثًل‬ ‫بالشعر قدي ً‬
‫يقول في شعر لبيد؛ إنه طيلسان طبري‪ .‬أي محكسسم مسستين‪ ،‬ولكسسن ل‬
‫رونق له؛ أي فيه القوة وليس فيه الجمال؛ أي فيسسه السستركيب وليسسس‬
‫فيه الفن‪.‬‬
‫والعقل البياني كما قلنا في غير هذه الكلمسسة‪ ،‬هسسو ثسسروة اللغسسة‪ ،‬وبسسه‬
‫ن ألفاظهسسا وصسسورها؛‬ ‫وبأمثاله تعامل التاريخ‪ ،‬وهو الذي يحقق فيها فس ّ‬
‫فهو بسسذلك امتسسدادها الزمنسسي وانتقالهسسا التسساريخي وتخلقهسسا مسسع أهلهسسا‬
‫إنسانية بعد إنسانية في زمن بعد زمن‪ ،‬ول تجديسسد ول تطسسور إل فسسي‬
‫هذا التخلق متى جاء من أهله والجديرين بسسه؛ وهسسو العقسسل المخلسسوق‬
‫للتفسير والتوليد وتلقي الوحي وأدائه واعتصار المعنى من كل مادة‬
‫وإدارة السلوب على كل ما يتصل به مسسن المعسساني والراء‪ ،‬فينقلهسسا‬
‫من خلقتها وصيغها العالية إلى خلق إنسان بعينه‪ ،‬هسسو هسسذا العبقسسري‬
‫الذي رزق البيان‪.‬‬
‫وللسبب الذي أومأنا إليه بقي امرؤ القيس كالميزان المنصسسوب فسسي‬
‫الشعر العربي يبين به النسساقص والسسوافي؛ قسسال البسساقلني فسسي كتسسابه‬
‫"العجاز"‪ :‬وقد ترى الدباء أوًل يوازنون بشعر "يريسسد امسسرأ القيسسس"‬
‫فلًنا وفلًنا ويضمون أشسسعارهم إلسسى شسسعره‪ ،‬حسستى ربمسسا وازنسسوا بيسسن‬

‫‪319‬‬
‫شعر من لقيناه "توفي الباقلني سنة ‪ 403‬للهجرة" وبين شعره في‬
‫أشياء لطيفة وأمور بديعة‪ ،‬وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينسسه‬
‫أو قربوا موضع تقدمه عليهم وبروزه بين أيديهم‪ ،‬ا هس‪.‬‬
‫ومعنى كلمه أن امرأ القيس أصل فسسي البلغسسة‪ ،‬قسسد مسسات ول يسسزال‬
‫يخلق‪ ،‬وتطورت السسدنيا ول يسسزال يجيسسء معهسسا‪ ،‬وبلسسغ الشسسعر العربسسي‬
‫غايته ول تزال عربية عند الغاية‪.‬‬
‫وعرض الباقلني في كتابه طويلة امرئ القيسسس* فانتقسسد منهسسا أبيات ًسسا‬
‫كثيرة‪ ،‬ليدل بذلك على أن أجود شعر وأبدعه وأفصسسحه ومسسا أجمعسسوا‬
‫على تقدمه في الصناعة والبيان‪ ،‬هو قبيل آخر غيسسر نظسسم القسسرآن ل‬
‫يمتنع من آفات البشرية ونقصسها وعوارهسا؛ فركسب فسي ذلسك رأسسه‬
‫ورجليه مًعا‪ ...‬فأصاب وأخطسسأ‪ ،‬وتعسسسف وتهسسدى‪ ،‬وأنصسسف وتحامسسل؛‬
‫وكل ذلك لمكانة امرئ القيس في ابتكاره البياني الذي ل يمكسسن أن‬
‫يدفع عنه؛ ولما انتقد قوله‪:‬‬
‫وبيضة خدر ل يرام خباؤهاتمتعت من لهو بها غير معجل‬
‫قال‪" :‬فقد قالوا‪ :‬عنى بذلك أنهسسا كبيضسسة خسسدر فسسي صسسفائها ورقتهسسا‪،‬‬
‫وهذه كلمة حسنة ولكن لسسم يسسسبق إليهسسا بسسل هسسي دائرة فسسي أفسسواه‬
‫العرب"‪ .‬أل ليت شعري هل كان الباقلني يسمع مسسن أفسسواه العسسرب‬
‫في عصر امرئ القيس قبل أن يقول "وبيضة خدر"؟‬
‫على أن الكناية عن الحبيبة "بيضة الخدر" مسسن أبسسدع الكلم وأحسسسن‬
‫ما يؤتى العقل الشعري‪ ،‬ولو قالها اليوم شاعر في لنسسدن أو بسساريس‬
‫بسسالمعنى السسذي أراده امسسرؤ القيسسس ‪-‬بمسسا فسسسرها بسسه البسساقلني‪-‬‬
‫لستبدعت من قائلها ولصبحت مع القبلة على كسسل فسسم جميسسل؛ بسسل‬
‫هم يمرون في بعض بيانهم مسسن طريسسق هسسذه الكلمسسة‪ ،‬فيكنسسون عسسن‬
‫السسبيت السسذي يتلقسسى فيسسه الحبيبسسان "بسسالعش"‪ ،‬ومسسا يتخسسذ العسسش إل‬
‫للبيضة‪ .‬إنما عنسسي الشسساعر العظيسسم أن حسسبيبته فسسي نعومتهسسا وترفهسسا‬
‫ولين ما حولها‪ ،‬ثم في مسها وحرارة الشسسباب فيهسسا‪ ،‬ثسسم فسسي رقتهسسا‬
‫وصفاء لونها وبريقها‪ ،‬ثم في قيام أهلها وذويها عليها ولزومهم إياهسسا‪،‬‬
‫ثم في حذرهم وسهرهم‪ ،‬ثم في انصرافهم بجملة الحياة إلى شسسأنها‬
‫وبجملة القوة إلى حياطتها والمحاماة عنها ‪-‬هي في كل ذلك منهسسم‪،‬‬
‫ومن نفسها كبيضة الجارح في عشه‪ ،‬إل أنها بيضة خدر‪ ،‬ولذلك قسسال‬
‫بعد هذا البيت‪:‬‬
‫صا لو يسرون مقتلي‬ ‫سا إليها ومعشًراعلي حرا ً‬‫تجاوزت أحرا ً‬
‫فتلك بعض معاني الكلمة وهي كمسسا تسسرى‪ ،‬وكسسذلك ينبغسسي أن يفسسسر‬
‫البيان‪....‬‬

‫‪320‬‬


321
‫البؤساء ‪1‬‬

‫ترجم حافظ هذا الجزء الثاني من البؤساء فطسسوى بسسه الول‪ ،‬وكسسانوا‬
‫يحسبون الول قد عقمت بمثله البلغة فل ثسساني لسسه‪ .‬وبيسسن الجزأيسسن‬
‫زمن لو اتسع به أديب في قراءة كتب الدب لستوعبها كلهسسا‪ ،‬فكسسأن‬
‫ارتفسساع السسسن بحسسافظ فسسي هسسذه المسسدة جعسسل منسسه فسسي قسسوة الدب‬
‫حافظين يترجمان مًعا‪.‬‬
‫وما البؤساء في ترجمتسسه إل فكسسر فيلسسسوف تعلسسق فسسي قلسسم شسساعر‬
‫فانطفعت عليه حواشي البيان من كل نواحيه‪ ،‬وجاء ما تدري أشسسعًرا‬
‫من النثر أم نثًرا من الشعر‪ ،‬وخرجت به الكتابة في لون من الصفاء‬
‫والشراق كأنما تنحل عليه أشعة الضحى‪.‬‬
‫ترجم حافظ فوضع اللغة بين فكره ولسانه‪ ،‬ووقف تحت سحابة من‬
‫السحب التي خفق عليها جنسساح جبريسسل‪ ،‬فمسسا تخلسسو كنسسايته مسسن ظسسل‬
‫يتنفس عليك برائحة العجاز؛ وتسسراه يتحسسدر مسسع الكلم ويتنسساول منسسه‬
‫عا إل وجسده متمكًنسا منسسه وأصسسابه حيسسث‬ ‫ويدع‪ ،‬فما نزع به الكلم منز ً‬
‫أصابه كالتيار جملة واحدة تلف أول النهر وآخره على مد ما يجسسري؛‬
‫فهو حيث كان في السهل وفي الصعب‪ ،‬غير أنه يستسر في موضسسع‬
‫ويستعلن في موضع‪ ،‬ويجيسسش ويهسسدر ويسسترامى فسسي العمسسق فيسسدّوي‬
‫دوّيا‪.‬‬
‫ومن هنا يحسبه بعضهم يجنسسح إلسسى مسسا يسسستجفي مسسن الكلم‪ ،‬وإلسسى‬
‫استكراه بعض اللفاظ والتكليف لبعضها؛ وإنما ذاك وضع من أوضاع‬
‫اللغة ومذهب من مذاهب البلغة‪ ،‬ول بد أن يشتد القول ويليسسن‪ ،‬وأن‬
‫يكون في أجراس الحروف ما في نغسسم اليقسساع؛ ومسسا أشسسبه هندسسسة‬
‫البيسسان بهندسسسة الطبيعسسة السستي تغمسسز النهسسر وترمسسي بسسالبحر وتقسسذف‬
‫بالجبل الشم‪ ،‬وما الجبل لو تحققت في وجوه التناسب الطبيعي إل‬
‫بحر قد تحجر فانتشرت أمواجه من صسسخوره‪ ،‬وكل اثنيهمسسا علسسى مسسا‬
‫بين الصلبة والليسسن تعسسبير فسسي أسسساليب القسسوة عسسن القسسوة‪ ،‬وتوضسسح‬
‫لقوى ما ل يمكن أن يظهر‪ ،‬بأقوى ما ل يمكن أن يخفى‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬كتبها عن الجزء الثاني من البؤسسساء؛ وانظسسر مقسسالي المؤلسسف عسسن‬
‫حافظ في هذا الجزء‪.‬‬
‫يخطئ الضعاف من الكتساب وبخاصسة فسي أيامنسا هسذه‪ ..‬إذا حسسبوا‬
‫دا من اللفظ الرقيق المأنوس؛ ولقسسد تجسسد‬ ‫الفصاحة العربية قبيًل واح ً‬
‫بعض هؤلء الضعفاء وإنه ليرى في الكلم الجزل المتفصسسح مسسا يسسرى‬

‫‪322‬‬
‫في جمجمة العاجم إذا نطقوا فلم يبينوا؛ وإنما هسسي العربيسسة‪ ،‬وإنمسسا‬
‫فصاحتها في مجمسسوع مسسا يطسسرد بسه القسسول؛ والفصسساحة فسسي جملتهسسا‬
‫وتفصيلها إحكام التناسب بين اللفاظ والمعاني‪ ،‬والغرض الذي يتجه‬
‫إليه كلهما؛ فمتى فصل الكلم على هسسذا السسوجه وأحكسسم علسسى هسسذه‬
‫حا بيًنا في كل لفظ تقوم به العبارة‪ ،‬مسسن‬ ‫الطريقة‪ ،‬رأيت جماله واض ً‬
‫النسج المهلهل الرقيق‪ ،‬إلى الحبك المحكم السسدقيق‪ ،‬إلسسى السسسلوب‬
‫المندمج الموثق الذي يسرد فسسي قسسوة الحديسسد؛ إذ يكسسون كسسل حسسرف‬
‫لموضسسعه‪ ،‬ويكسسون كسسل موضسسع لحرفسسه‪ ،‬ويكسسون كسسل ذلسسك بمقسسدار ل‬
‫يسسسرف‪ ،‬وقيسساس ل يخطسسئ‪ ،‬ووزن ل يختلسسف؛ وهسسذه هسسي طبيعسسة‬
‫الفصاحة العربية دون سائر اللغسسات‪ ،‬وبهسسا أمكسسن العجسساز فسسي هسسذه‬
‫اللغة ولم يمكن في سواها‪.‬‬
‫ومترجم البؤساء أحد الفراد المعدودين الذين أحكموا هذه الطريقسسة‬
‫ونفذوا إلى أسرارها‪ ،‬ففي كل موضع من كتابته موضع روعسسة‪ ،‬حسستى‬
‫ما تدري أيكتب أم يصوغ أم يصسسور‪ ،‬وكسسأنه ل ينقسسل مسسن لسسسان إلسسى‬
‫لسان‪ ،‬بل من فكر إلى فكسسر‪ ،‬فسسترى أكسسثر جملسسة كأنهسسا تضسسيء فيهسسا‬
‫المصابيح‪.‬‬
‫ومن الخواص التي انفرد بهسسا حسسافظ أنسسه ظسساهر فسسي صسسنعة ألفسساظه‬
‫ظهور هيجو في صنعة معانيه؛ إذ ل تجد غيره من المسسترجمين يتسسسع‬
‫لهذا السلوب أو يطيقه؛ وأكثر الكتسسب المترجمسسة إلسسى العربيسسة إنمسسا‬
‫تطمس على اسم المترجم قبل أن تكشف عسسن اسسسم المؤلسسف‪ ،‬فل‬
‫يحيا الميت إل بموت الحي؛ وهم في أكثر مسسا يصسسنعون ل يعسسدون أن‬
‫يصححوا العامية أو يفصحوا بها قليًل‪ ،‬فيستوي فسسي صسسنعة البيسسان أن‬
‫يكون ناقل الكتاب هسسذا أو ذاك أو ذلسسك؛ لنهسسم سواسسسية‪ ،‬ول تؤتيسسك‬
‫كتبهم أكثر مما يؤتيك السم المعلق على مسماه‪.‬‬
‫غير أنك في البؤساء ترى مع الترجمة صسسنعة غيسسر الترجمسسة‪ ،‬وكأنمسسا‬
‫ألسسف هيجسسو هسسذا الكتسساب مسسرة وألفسسه حسسافظ مرتيسسن‪ ،‬إذ ينقسسل عسسن‬
‫الفرنسية؛ ثم يفتن في التعسبير عمسا ينقسل‪ ،‬ثسم يحكسم الصسنعة فيمسا‬
‫يفتن‪ ،‬ثم يبالغ فيما يحكم؛ فأنت من كتابه في لغة الترجمة‪ ،‬ثسسم فسسي‬
‫بيان اللغة‪ ،‬ثم في قوة البيان؛ وبهذا خرج الكتاب وإن مترجمه لحق‬
‫به في العربية مسسن مسسؤلفه‪ ،‬وجسساء ومسسا يسسستطيع أحسسد أن ينسسسى أنسسه‬
‫لحافظ دون سواه‪.‬‬
‫وتلك طريقة في الكتابة ل يستعان عليها إل بالدب الغزيسسر‪ ،‬والسسذوق‬
‫الناضج‪ ،‬والبيان المطبوع؛ ثم بالصسبر علسى مطاولسة التعسب ومعانساة‬
‫الكد في تخير اللفظ وتجويد السلوب وتصفية العبسسارة؛ فلقسسد ينفسسق‬

‫‪323‬‬
‫الكاتب وقًتا في عمر الليل ليخرج من آخره سطًرا في نسسور الفجسسر‪،‬‬
‫وبهذا الصنيع جاءت صفحات البؤساء على قلتها كشباب الهوى؛ لكل‬
‫يوم منه فجره وشمسه‪ ،‬ولكل ليلة قمرها ونجومها‪.‬‬
‫والذي نغتمزه في هسسذه الترجمسسة أن الضسسجر يسسستبد أحيان ًسسا بصسساحبنا‬
‫فيسسستكرهه علسسى غيسسر طبعسسه‪ ،‬ويسسرده إلسسى غيسسر مسسألوفه؛ ومسسن ثسسم‬
‫يضطرب ذوقه وسليقته أو يسسذهب بسسه عنهمسسا‪ ،‬فيعسسدل بسسالمعنى عسسن‬
‫لفظه المعروف الذي استعمله الدباء فيه‪ ،‬كاستعماله قارن بين كسسذا‬
‫وكذا‪ ،‬وإنما يستعملون مثل بينهما‪ ،‬أو يخل بوزن الكلمة فسسي ميسسزان‬
‫الذوق‪ ،‬فترى العبارة اليابسة في الجملة الخضراء التي ترف؛ وذلسسك‬
‫ما ل مطمع لحد أن يسلم منسسه؛ لنسسه أثسسر الضسسعف النسسساني فيمسسن‬
‫ارتهنوا أنفسهم بملبسة القوة العليا في هذه النسانية‪.‬‬
‫ولسسم يتنسسزه عنسسه كتسساب إل ذلسسك الكتسساب العزيسسز السسذي اهسستزت لسسه‬
‫السموات السبع والرض ومن فيهن‪.‬‬
‫‪‬‬

‫‪324‬‬
‫الملح التائه ‪1‬‬

‫إذا أردت أن أكتب عن شعر فقرأته‪ ،‬كان من دأبسسي أن أقسسرأه متثبت ًسسا‬
‫أتصفح عليه في الحرف والكلمة‪ ،‬إلى البيت والقصيدة والنهسسج‪ ،‬إلسسى‬
‫ما وراء الكلم من بواعث النفس الشاعرة ودوافع الحياة فيها‪ ،‬وعن‬
‫أي أحوال هذه النفس يصدر هذا الشاعر‪ ،‬وبأيها يتسبب إلى اللهام‪،‬‬
‫وفي أيها يتصل اللهام به‪ ،‬وكيف يتصرف بمعانيه‪ ،‬وكيسسف يسترسسسل‬
‫إلى طبعه‪ ،‬ومن أين المأتى في رديئه وسسسقطه‪ ،‬وبمسساذا يسسسلك إلسسى‬
‫تجويده وإبداعه‪.‬‬
‫ثم كيف حدة قريحته وذكاء فكره والملكة النفسية البيانية فيه‪ ،‬وهل‬
‫هي جبارة متعسفة تملك البيسسان مسسن حسسدود اللغسسة فسسي اللفسسظ إلسسى‬
‫حدود اللهام في المعنى‪ ،‬ملكة استقلل تنفذ بالمر والنهسسي جميًعسسا‪،‬‬
‫أو هي ضعيفة رخوة ليس معها إل الختلل والضطراب‪ ،‬وليسسس لهسسا‬
‫ما يحمل الضعيف على طبعه المكدود كلما عنف به سقط به؟‬
‫أتبين كل هذا فيما أقرأ من الشعر‪ ،‬ثم أزيسسد عليسسه انتقسساده بمسا كنسست‬
‫أصنعه أنا لو أني عسسالجت هسسذا الغسسرض أو تنسساولت هسسذا المعنسسى‪ ،‬ثسسم‬
‫أضيف إلى ذلك كله ما أثبته من أنواع الهسستزاز السستي يحسسدثها الشسسعر‬
‫عا مسسن الطسسرب ل‬ ‫في نفسي؛ فإني لطرب للشعر الجيد الوثيق أنوا ً‬
‫دا‪ ،‬وهي تشبه في التفاوت مسسا بيسسن قطسسرة النسسدى الصسسافية‬ ‫عا واح ً‬
‫نو ً‬
‫فسسي ورق الزنبقسسة وقطسسرة الشسسعاعة المتألقسسة فسسي جسسوهر الماسسسة‬
‫وموجة النور المتألهة في كوكب الزهرة‪.‬‬
‫وأكثر الشعر الذي في أيامنسا هسذه ل يتصسل بنفسسي ول يخسف علسى‬
‫طبعي‪ ،‬ول أراه يقع من الشعر الصسسحيح إل مسسن بعسسد‪ ،‬وهسسو منسسي أنسسا‬
‫كالرجل يمر بي في الطريق ل أعرفه‪ :‬فل ينظر إلي ول أنظسسر إليسسه‪،‬‬
‫فمسسا أبصسسر منسسه رجًل وإنسسسانية وحيسساة أكسسثر ممسسا أراه ثوب ًسسا وحسسذاء‬
‫شا! والعجيب أنه كلما ضعف الشاعر من هؤلء قوي على‬ ‫وطربو ً‬
‫مقدار ذلك في الحتجاج لضعفه‪ ،‬وألهم من الشواهد والحجج مسسا لسسو‬
‫ألهم بعدده من المعاني والخواطر لكان عسى‪...‬‬
‫فإذا نافرت المعاني ألفاظها واختلفت اللفاظ على معانيها قسسال‪ :‬إن‬
‫هذا في الفن‪ ..‬هو الستواء والطسسراد والملءمسسة وقسسوة الحبسسك؛ وإذا‬
‫عوض وخانه اللفظ والمعنى جميًعا وأساء ليتكلف وتساقط ليتحذلق‬
‫وجاءك بشعره وتفسير شعره والطريقة لفهم شعره قال‪ :‬إنه أعلى‬
‫من إدراك معاصريه‪ ،‬وإن عجرفة معانيه هذه آتية من أن شعره مسسن‬
‫وراء اللغسسة‪ ،‬مسسن وراء الحالسسة النفسسسية‪ ،‬مسسن وراء العصسسر‪ ،‬مسسن وراء‬

‫‪325‬‬
‫الغيسسب‪ :‬كسسأن الموجسسود فسسي السسدنيا بيسسن النسساس هسسو ظسسل شخصسسه ل‬
‫شخصه‪ ،‬والظل بطبيعته مطموس مبهم ل يبين إبانسسة الشسسخص‪ .‬وإذا‬
‫أهلك الشاعر الستعارة وأمرض التشبيه وخنق المجسساز بحبسسل ‪-‬قسسال‬
‫لك‪ :‬إنه على الطريقة العصرية وإنما سدد وقسسارب وأصسساب وأحكسسم‪،‬‬
‫وإذا سسسمى المقالسسة قصسسيدة‪ ..‬وخلسسط فيهسسا خلطسسه وجسساء فسسي أسسسوأ‬
‫معرض وأقبحه وخرج إلى ما ل يطاق من الركاكة والغثاثة‪ -‬قال لك‪:‬‬
‫هذه هي وحدة القصيدة‪ ،‬فهي كل واحد أفرغ إفسسراغ الجسسسم الحسسي‪:‬‬
‫رأسه ل يكون إل في موضسسع رأسسسه ورجله ل تكسسون إل فسسي موضسسع‬
‫رجليه‪..‬‬
‫تلك طبقات من الضسسعف تظسساهرت الحجسسج مسسن أصسسحابها علسسى أنهسسا‬
‫طبقسسات مسسن القسسوة‪ ،‬غيسسر أن مصسسداق الشسسهادة للقويسساء عظسسامهم‬
‫المشبوحة‪ ،‬وعضلتهم المفتولة‪ ،‬وقلوبهم الجريئة‪ ،‬أما اللسسسنة فهسسي‬
‫شهود الزور في هذه القضية خاصة‪.‬‬
‫هناك ميزان للشاعر الصسحيح وللخسر المتشسساعر‪ :‬فسسالول تأخسذ مسن‬
‫طريقته ومجموع شعره أنه ما نظم إل ليثبسست أنسسه قسسد وضسسع شسسعًرا‪،‬‬
‫والثساني تأخسذ مسن شسعره وطريقتسسه أنسه إنمسسا نظسسم ليثبسست أنسه قسرأ‬
‫شعًرا‪ ...‬وهسسذا الثسساني يشسسعرك بضسسعفه وتلفيقسسه أنسسه يخسسدم الشسسعر؛‬
‫ليكون شاعًرا‪ ،‬ولكن الول يريك بقوته وعبقريته إلسسى الشسسعر نفسسسه‬
‫يخدمه؛ ليكون هو شاعره‪.‬‬
‫أما فريق المتشاعرين فليمثل له القارئ بما شسساء وهسسو فسسي سسسعة‪..‬‬
‫وأما فريق الشعراء ففي أوائل أمثلته عندي الشاعر المهندس علسسي‬
‫محمود طه‪ .‬أشسهد‪ :‬أنسي أكتسب عنسه الن بنسوع مسن العجساب السذي‬
‫كتبسست بسسه فسسي "المقتطسسف" عسسن أصسسدقائي القسسدماء‪ :‬محمسسود باشسسا‬
‫البارودي‪ ،‬وإسماعيل باشا صسبري‪ ،‬وحسافظ‪ ،‬وشسوقي ‪-‬رحمهسم اللسه‬
‫وأطال بقاء صاحبنا‪ -‬فهذا الشاب المهندس أوتي مسسن هندسسسة البنسساء‬
‫قوة التمييز ودقة المحاسبة‪ ،‬ووهب ملكة الفصل بين الحسن والقبح‬
‫عّلته من العلم وما علته من الذوق وهذا إلسسى جلء‬ ‫في الشكال مما ِ‬
‫الفطنسسة وصسسقال الطبسسع وتمسسوج الخيسسال وانفسسساح السسذاكرة وانتظسسام‬
‫سا شاعًرا‪،‬‬ ‫الشياء فيها؛ وبهذا كله استعان في شعره وقد خلق مهند ً‬
‫سا؛ وكأن الله ‪-‬تعالى‪ -‬لم يقدر لهذا‬ ‫ومعنى هذا أنه خلق شاعًرا مهند ً‬
‫الشاعر الكريم تعلم الهندسة ومزاولتها والمهارة فيهسسا إل لمسسا سسسبق‬
‫في علمه أنه سينبغ نبوعه للعربية في زمن الفوضى وعهسسد التقلسسل‪،‬‬
‫وحين فساد الطريقة وتخلف الذواق وتراجسسع الطبسسع ووقسسوع الغلسسط‬
‫في هذا المنطسسق لنعكسساس القضسسية‪ ،‬فيكسسون البرهسسان علسسى أن هسسذا‬

‫‪326‬‬
‫شاعر وذاك نابغة وذلك عبقري ‪-‬هو عينه البرهسسان علسسى أن ل شسسعر‬
‫ول نبوغ ول عبقرية؛ وهذه فوضى تحتاج في تنظيمهسا إلسى "مصسلحة‬
‫تنظيسسم" بالهندسسسة وآلتهسسا والرياضسسة وأصسسولها والشسسكال والرسسسوم‬
‫وفنونها‪ ،‬فجاء شاعرنا هذا وفيه الطب لما وصفنا؛ فهو ينظم شسسعره‬
‫بقريحة بيانية هندسية‪ ،‬أساسها التسسزان والضسسبط‪ ،‬وصسسواب الحسسسبة‬
‫فيما يقدر للمعنى‪ ،‬وإبداع الشكل فيما ينشئ من اللفسسظ‪ ،‬وأل يسسترك‬
‫ما ليقع إذ يكون واهًنا في أساسه من الصناعة‪ ،‬بل‬ ‫البناء الشعري قائ ً‬
‫ليثبت إذ يكون أساسه من الصناعة في رسوخ وعلى قدر‪.‬‬
‫وديوان "الملح التائه" الذي أخرجه هذا الشاعر ل ينزل بصاحبه مسسن‬
‫شعر العصر دون الموضسسع السسذي أومأنسسا إليسسه؛ فمسسا هسسو إل أن تقسسرأه‬
‫وتعتبر ما فيه بشعر الخرين حتى تجد الشاعر المهندس كسسأنه قسسادم‬
‫للعصر محمًل بسسذهنه وعسسواطفه وآلتسسه ومقاييسسسه ليصسسلح مسسا فسسسد‪،‬‬
‫ويقيم ما تداعى‪ ،‬ويرمم ما تخرب‪ ،‬ويهدم ويبني‪.‬‬
‫ديوان الشاعر الحق هو إثبات شخصيته بسسبراهين مسسن روحسسه‪ ،‬وههنسسا‬
‫في "الملح التائه" روح قويسسة فلسسسفية بيانيسسة‪ ،‬تؤتيسسك الشسسعر الجيسسد‬
‫الذي تقرؤه بالقلب والعقل والذوق‪ ،‬وتراه كفاء أغراضه التي ينظسسم‬
‫فيها؛ فهو مكثر حين يكون الكثار شعًرا‪ ،‬مقبل حين يكون الشعر هو‬
‫القلل؛ ثم هو على ذلك متين رصين‪ ،‬بارع الخيال‪ ،‬واسسسع الحاطسسة‪،‬‬
‫ل‪،‬‬‫تراه كالدائرة‪ :‬يصعد بك محيطهسسا ويهبسسط ل مسسن أنسسه نسسازل أو عسسا ٍ‬
‫ف مندمج‪ ،‬موزون مقدر‪ ،‬وضع وضعه ذلسسك ليطسسوح‬ ‫ولكن من أنه ملت ٌ‬
‫بك‪.‬‬
‫وهو شعر تعرف فيه فنية الحياة‪ ،‬وليس بشاعر من ل ينقل لسسك عسسن‬
‫الحيسساة نقًل فني ّسسا شسسعرّيا‪ ،‬فسسترى الشسسيء فسسي الطبيعسسة كسسأنه موجسسود‬
‫بظاهره فقط‪ ،‬وتراه في الشعر بظاهره وباطنه معًسسا؛ وليسسس بشسسعر‬
‫ما إذا قرأته‪ ،‬واسترسلت إليه لم يكن عندك وجًها من وجسسوه الفهسسم‬
‫والتصوير للحياة والطبيعة في نفس ممتازة مدركة مصورة‪.‬‬
‫ولهذا فليس من الشرط عندي أن يكون عصسسر الشسساعر وبيئتسسه فسسي‬
‫شعره‪ ،‬وإنما الشرط أن تكون هناك نفسه الشاعرة علسسى طريقتهسسا‬
‫في الفهم والتصوير‪ ،‬وأنت تثبت هذه النفس بهسسذه الطريقسسة أن لهسسا‬
‫أن تقول كلمتها الجديدة‪ ،‬وأنها مخولسسة لسسه الحسسق فسسي أن تقولهسسا؛ إذ‬
‫هي للعقسسول والرواح أخسست الكلمسسة القديمسسة‪ :‬كلمسسة الشسسريعة السستي‬
‫جاءت بها النبوة من قبل‪.‬‬
‫وليس في شعر علي طه من عصرياتنا غير القليسسل‪ ،‬ولكسسن العجيسسب‬
‫أنه ل ينظم في هذا القليل إل حين يخرج المعنى من عصره ويلتحق‬

‫‪327‬‬
‫بالتاريخ‪ ،‬كرثاء شسسوقي‪ ،‬وحسسافظ‪ ،‬وعسسدلي باشسسا‪ ،‬وفسسوزي المعلسسوف‪،‬‬
‫والطيسسارين دوس وحجسساج‪ ،‬والملسسك العظيسسم فيصسسل؛ فسسإن يكسسن هسسذا‬
‫التدبير عن قصد وإرادة فهو عجيب‪ ،‬وإن كان اتفاقًسسا ومصسسادفة فهسسو‬
‫أعجب؛ على أنه في كل ذلك إنما يرمي إلى تمجيسسد الفسسن والبطولسسة‬
‫في مظاهرها‪ ،‬متكلمة‪ ،‬وسياسية‪ ،‬ومغامرة‪ ،‬ومالكة‪.‬‬
‫أما سائر أغراضه فإنسانية عامة‪ ،‬تتغنى النفس فسسي بعضسسها‪ ،‬وتمسسرح‬
‫في بعضسسها‪ ،‬وتصسسلي فسسي بعضسسها؛ وليسسس فيهسسا طيسسش ول فجسسور ول‬
‫زندقة إل ‪ ...‬ظلًل من الحيرة أو الشك‪ ،‬كتلك التي في قصيدة "الله‬
‫والشاعر"‪ ،‬وأظنه يتابع فيها المعري؛ ولست أدري كم ينخدع النسساس‬
‫بالمعري هذا‪ ،‬وهو في رأيي شاعر عظيسسم‪ ،‬غيسسر أن لسسه بضسساعة مسسن‬
‫التلفيق تعدل ما تخرجه "ل نكشير" من بضائعها إلى أسواق الدنيا‪.‬‬
‫ومما يعجبني في شعر علي طسسه أنسسه فسسي منسساحي فلسسسفته وجهسسات‬
‫ما‪ ،‬وهو أن ثسسورة السسروح النسسسانية‬ ‫تفكيره يوافق رأيي الذي أراه دائ ً‬
‫ومعركتها الكبرى مع الوجود ‪-‬ليستا في ظاهر الثورة ول العراك مسسع‬
‫الله كما صنع المعري وأضرابه في طيشهم وحمسساقتهم‪ ،‬ولكنهسسا فسسي‬
‫الهدوء الشعري للروح المتأملة‪ ،‬ذلسسك الهسسدوء السسذي يجعسسل الطبيعسسة‬
‫نفسها تبتسم بكلم الشاعر كما تبتسسسم بأزهارهسسا ونجومهسسا‪ ،‬ويجعسسل‬
‫الشسساعر أداة طبيعيسسة متخسسذة لكشسسف الحكمسسة وتغطيتهسسا معًسسا؛ فسسإن‬
‫العجب الذي ليس أعجب منه في التدبير اللهي للنفوس الحساسسسة‬
‫‪-‬أن زخرفة الشعر وما يجري مجراه في الفن إنمسسا هسسي ضسسرب مسسن‬
‫زخرف الطبيعة حين تبتدع الشكل الجميل لتتمم أغراضها من ورائه؛‬
‫ولو ثارت الزهار ‪-‬مثًل‪ -‬على الوجود وخالقه ثورة أولئك الشعراء لما‬
‫صنعت شيًئا غير إفساد حكمتها هسسي ومسسا يتصسسل بهسسذه الحكمسسة مسسن‬
‫المصالح والمنافع‪ ،‬ولن تنتصر إل ببقائها أزهاًرا‪ ،‬فذلك حربها وسلمها‬
‫مًعا‪.‬‬
‫وأسلوب شسساعرنا أسسسلوب جسسزل‪ ،‬أو إلسسى الجزالسسة‪ ،‬تبسسدو اللغسسة فيسسه‬
‫وعليها لون خاص من ألوان النفس الجميلة يزهو زهسسوه فيكسسثر منسسه‬
‫في النفس تأثيرها وجمالها‪ ،‬وهذه هي لغة الشعر بخاصته؛ ول بد أن‬
‫ننبه هنا إلى معنى غريب‪ ،‬وذلك أنك تجد بعسسض النظسسامين يحسسسنون‬
‫من اللغة وفنون الدب‪ ،‬فإذا نظمسسوا وخل نظمهسسم مسسن روح الشسسعر‪-‬‬
‫ظهرت اللفاظ في أوزانهسسم وكأنهسسا فقسسدت شسسيًئا مسسن قيمتهسسا‪ ،‬كسسأن‬
‫موضعها ثم هسسو السسذي أعلسسن إفلسسسه؛ إذ أقسسام مقسسام السسذي يريسسد أن‬
‫يعطي ثم هو إذا وقف ل يصسسنع شسسيًئا إل أن يعتسسذر بسسأنه لسسم يجسسد مسسا‬
‫يعطيه‪ ..‬فهذا كان رجًل مسن النساس‪ ،‬وكسان فسي سستر وعافيسة‪ ،‬فلمسا‬

‫‪328‬‬
‫سا كاذًبا مدعًيا فاختلفت به الحسسال وهسسو هسسو‬ ‫وقف موقفه انقلب مدل ً‬
‫لم يتغير‪.‬‬
‫وما السلوب البياني إل وسيلة فنية لمضاعفة التعبير‪ ،‬فإن لسسم يكسسن‬
‫هذا ما يعطيه كسان وسسيلة فنيسة أخسرى لمضساعفة الخيبسة؛ وهسذا مسا‬
‫تحسه في كثير من شعر النظامين أو البديعيين في العصسسور الميتسسة‪،‬‬
‫وتحسه في الشعر الميت الذي ل يزال ينشر بيننا‪.‬‬
‫وعلي طه إذا حرص على أسلوبه وبسسالغ فسسي إتقسسانه واسسستمر بجريسسه‬
‫قسسا فسسي أسسسرار اللفسساظ ومسسا‬ ‫ما فيها‪ ،‬متعم ً‬ ‫على طريقته الجيدة متقد ً‬
‫وراء اللفسساظ‪ ،‬وهسسي تلسسك الروعسسة البيانيسسة السستي تكسسون وراء التعسسبير‬
‫وليس لها اسم فسي التعسبير‪ ،‬معتسبًرا اللغسة الشسعرية ‪-‬كمسا هسي فسي‬
‫فسسا لغوي ًسسا‪ ..‬فسسإنه ول ريسسب سسسيجد مسسن‬‫فا موسيقًيا ل تألي ً‬
‫الحقيقة‪ -‬تألي ً‬
‫إسسسعاف طبعسسه القسسوي‪ ،‬وعسسون فكسسره المشسسبوب‪ ،‬وإلهسسام قريحتسسه‬
‫المولدة‪ -‬ما يجمع له النبوغ من أطرافه‪ ،‬بحيث يعده الوجود من كبار‬
‫مصوريه‪ ،‬وتتخذه الحياة من بلغاء المعبرين عنها فسسي العربيسسة؛ ومسسن‬
‫ثم تنظمسسه العربيسسة فسسي سسسمط جواهرهسسا التاريخيسسة الثمينسسة‪ ،‬ويصسسله‬
‫السلك بشوقي وحافظ والبارودي وصسبري‪ ،‬إلسى المتنسبي والبحستري‬
‫وابن الرومي وأبي تمام‪ ،‬إلى مسسا وراء ذلسسك‪ ،‬إلسسى الجسسوهرة الكسسبرى‬
‫المسماة جبل النور البياني‪ ،‬إلى امرئ القيس‪.‬‬
‫وليس هذا ببعيد على من يقول في صفة القلب‪:‬‬
‫يا قلب عندك أي أسرارما زلن في نشر وفي طي‬
‫يا ثورة مشبوبة النارأقلقت جسم الكائن الحي‬
‫حملته العبء الذي فرقتمنه الجبال وأشفقت رهًبا‬
‫وأثرت منه الروح فانطلقتتحسو الحميم وتأكل اللهبا‬
‫وعجبت منك ومن إبائك في أسر الجمال وربقة الحب‬
‫وتلفت المتكبر الصلفعن ذلة المقهور في الحرب‬
‫ووهمت ناًرا ذات إيماضفبسطت كفك نحوها فزعا‬
‫مرت بعينك لمحة الماضيفوثبت تمسك بارًقا لمعا‬
‫والرض ضاق فضاؤها الرحبوخلت فل أهل ول سكن‬
‫حال الهوى وتفرق الصحبوبقيت وحدك أنت والزمن‬
‫ولو ذهبنا نختار من هذا الديوان لخترنا أكسسثره‪ ،‬فقصسسائده ومقسساطيعه‬
‫تتعاقب‪ ،‬ولكن تعاقب الشمس على أيامها‪ :‬تظهر جديدة الجمال في‬
‫كل صباح؛ لن وراء الصباح مادة الفجر‪ ،‬وكسسذلك تسسأتي القصسسائد مسسن‬
‫نفس شاعرها‪.‬‬

‫‪329‬‬


330
‫"المقتطف" و"المتنبي"‪1‬‬

‫"المقتطف" شيخ مجلتنا؛ كلهن أولده وأحفاده؛ وهو كالجسسد الكسسبر‪:‬‬


‫زمن يجتمع‪ ،‬وتاريخ يتراكم‪ ،‬وانفراد ل يلحق‪ ،‬وعلم يزيد علسسى العلسسم‬
‫ضا وتجسسب لهسسا الحرمسسة وجوب ًسسا‬‫بأنه في الذات التي تفرض إجللها فر ً‬
‫ويتضاعف منها الستحقاق فيتضاعف لها الحق‪.‬‬
‫وهل الجد إل أبوة فيها أبوة أخرى‪ .‬وهل هسسو إل عسسرش حسسي درجسساته‬
‫الجيل تحت الجيل‪ ،‬وهل هو إل امتداد مسافاته العصر فوق العصر؟‬
‫والمقتطف يكسسبر ول يهسسرم‪ ،‬ويتقسسدم فسسي الزمسسن تقسسدم المخترعسسات‬
‫ماضية بالنواميس إلى النسسواميس‪ ،‬مقيسسدة بالمبسسدأ إلسسى الغايسسة؛ وهسسو‬
‫مسسا الول؛ فلقسسد‬ ‫كالعقل المنفرد بعبقريته‪ :‬واجبسسه الول أن يكسسون دائ ً‬
‫أنشئ هذا المقتطف ومسسا فسسي المجلت العربيسسة مسسا يغنسسي عنسسه‪ ،‬ثسسم‬
‫دا أقامهسسا سسسبعة وثمسسانين دليًل‬ ‫طوى في الدهر سسسبعة وثمسسانين مجلس ً‬
‫على أن ليس ما يغني عنه؛ ثم أسفت الدنيا حوله بأخلقها وطباعها‪،‬‬
‫وتحولت مجلت كثيرة إلى مثل الراقصسسات والمغنيسسات والممثلت‪...‬‬
‫وبقي هو على وفائه لمبدئه العلمي والسمو فيه والسسسمو بسسه‪ ،‬كأنمسسا‬
‫أخسسذ عليسسه فسسي العلسسم والدب ميثسساق كميثسساق النسسبيين فسسي السسدين‬
‫والفضيلة؛ فبين يديه الواجب ل الغرض‪ ،‬وهمه البداع بقوى العقل ل‬
‫الحتيال بها‪ ،‬وهديه الحقيقة الثابتة في الدنيا ل الحلم المتقلبة بهذه‬
‫الدنيا‪ ،‬وطريقه في كل ذلك طريق الفيلسسوف‪ ،‬مسن هسسدوء نفسسسه ل‬
‫ض على اليقين‪ ،‬نافذ إلى الثقة‪ ،‬متنقل في‬ ‫من أحوال الدهر‪ ،‬فهو ما ٍ‬
‫منزلةٍ منزلةٍ من يقينه إلى ثقته‪ ،‬ومن ثقته إلى يقينه‪.‬‬
‫وقسسد بسسدأ المقتطسسف مجلسسدة الثسسامن والثمسسانين بعسسدد ضسسخم أفسسرده‬
‫للمتنبي ‪ .2‬ولئن كانت النديسسة والمجلت قسسد احتفلسست بهسسذا الشسساعر‬
‫العظيم‪ ،‬فما أحسب إل أن روح الشسساعر العظيسسم قسسد احتفلسست بهسسذا‬
‫العدد من المقتطف‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬كتاب "المتنبي" للصديق محمود محمد شاكر‪.‬‬
‫‪ 2‬يناير سنة ‪.1936‬‬
‫ولست أغلو إذا قلت‪ :‬إن هذه الروح المتكبرة قسسد أظهسسرت كبرياءهسسا‬
‫مسسرة أخسسرى‪ ،‬فسساعتزلت المشسسهورين مسسن الكتسساب والدبسساء‪ ،‬ولزمسست‬
‫صسسديقنا المتواضسسع السسستاذ محمسسود شسساكر مسسدة كتسسابته هسسذا البحسسث‬
‫النفيس الذي أخرجه المقتطف في زهاء ستين ومسسائة صسسفحة‪ ،‬تسسدله‬
‫في تفكيره‪ ،‬وتوحي إليه في استنباطه‪ ،‬وتنبهه في شعوره‪ ،‬وتبصسسره‬

‫‪331‬‬
‫أشياء كانت خافية‪ ،‬وكان الصدق فيهسا‪ ،‬ليسرد بهسا علسى أشسياء كسانت‬
‫معروفة‪ ،‬وكان فيها الكذب‪ ،‬ثم تعينه بكل ذلك على أن يكتب الحيسساة‬
‫التي جاءت من تلك النفس ذاتها‪ ،‬ل الحياة التي جسساءت مسسن نفسسوس‬
‫أعدائها وحسادها‪.‬‬
‫ولقد كان أول ما خطر لي بعد أن مضيت في قسسراءة هسسذا العسسدد أن‬
‫ب تاريخ المتنسسبي ولسسم ينقلسسه؛‬ ‫المؤلف جاء بما يصح القول فيه إنه كت َ‬
‫ثم لم أكد أمعن فسسي القسسراءة حسستى خيسسل إلسي أنسه قسد وضسع لشسعر‬
‫دا‬
‫المتنبي بعد تفسير الشسسراح المتقسسدمين والمتسسأخرين تفسسسيًرا جديس ً‬
‫من المتنسسبي نفسسسه‪ ،‬ومسسا الكلمسسة الجديسسدة فسسي تاريسسخ هسسذا الشسساعر‬
‫الغامض إل الكلمة التي نشرها المقتطف اليوم‪.‬‬
‫إن هذا المتنبي ل يفرغ ول ينتهي‪ ،‬فإن العجاب بشعره ل ينتهسسي ول‬
‫سا عظيمة خلقها الله كمسسا أراد‪ ،‬وخلسسق لهسسا مادتهسسا‬ ‫يفرغ وقد كان نف ً‬
‫العظيمة على غيسسر مسسا أرادت‪ ،‬فكأنمسسا جعلهسسا بسسذلك زمن ًسسا يمتسسد فسسي‬
‫الزمن‪.‬‬
‫وكان الرجل مطوًيا على سر ألقسي الغمسوض فيسه مسن أول تساريخه‪،‬‬
‫وهو سر نفسه‪ ،‬وشر شعره‪ ،‬وسر قوته؛ وبهسسذا السسسر كسسان المتنسسبي‬
‫كالملك المغصوب الذي يرى التاج والسيف ينتظسسران رأسسسه جميعًسسا‪،‬‬
‫فهو يتقي السيف بالحذر والتلفف والغموض‪ ،‬ويطلب التاج بالكتمان‬
‫والحيلة والمل‪.‬‬
‫ومن هذا السر بدأ كسساتب المقتطسسف‪ ،‬فجسساء بحثسسه يتحسسدر فسسي نسسسق‬
‫عجيب‪ ،‬متسلسًل بالتاريخ كأنه ولدة ونمو وشباب؛ وعرض بين ذلسسك‬
‫ضا خيل إلي أن هذا الشعر قد قيل مسسرة أخسسرى‬ ‫شعر أبي الطيب عر ً‬
‫من فم شاعره على حوادث نفسه وأحوالها؛ وبسسذلك انكشسسف السسسر‬
‫الذي كان مادة التهويل في ذلك الشعر الفخم‪ ،‬إذ كسسانت فسسي واعيسسة‬
‫الرجل دولة أضخم دولة‪ ،‬عجسسز عسسن خلقهسسا وإيجادهسسا فخلقهسسا شسسعًرا‬
‫أضخم شعر‪ ،‬وجاءت مبالغاته كأنها أكاذيب آماله البعيدة متحققة في‬
‫صورة من صور المكان اللغوي‪.‬‬
‫ومن أعجب ما كشفه من أسرار المتنبي سر حبسسه‪ ،‬فقسسال‪ :‬إنسسه كسسان‬
‫يحب خولة أخت المير سيف الدولة‪ ،‬وكتب في ذلك خمسسس عشسسرة‬
‫صفحة كبيرة‪ ،‬وكأنها لم ترضه فقال‪ :‬إنسسه كسان يؤمسسل أن يكتسسب هسسذا‬
‫الفصل في خمسين وجًها من المقتطف؛ وهذا الباب من غرائب هذا‬
‫البحث‪ ،‬فليس من أحد في السسدنيا المكتوبسسة "أي التاريسسخ" يعلسسم هسسذا‬
‫السر أو يظنه‪ ،‬والدلة التي جاء بها المؤلسسف تقسسف البسساحث المسسدقق‬
‫بين الثبات والنفي؛ ومتى لم يستطع المرء نفي ًسسا ول إثبات ًسسا فسسي خسسبر‬

‫‪332‬‬
‫جديد يكشفه الباحث ولم يهتد إليه غيره‪ ،‬فهذا حسبك إعجاب ًسسا يسسذكر‪،‬‬
‫وهذا حسبه فوًزا يعد‪.‬‬
‫ولعمري لو كنت أنا في مكان المتنسسبي مسسن سسسيف الدولسسة لقلسست إن‬
‫المؤلف قد صدق‪ ..‬فهناك موضع ل بد أن يبحث في القلسسب الشسساعر‬
‫الذي وضعت يه الدنيا حكمتها‪ ،‬وطوت فيه القسسوة سسسرها‪ ،‬وبسسث فيسسه‬
‫الجمال وحيه؛ وأصغر هذه الثلث أكبر من الملوك والممالك‪ ،‬ولكسسن‬
‫الحبيبة أكبر منها كلها ‪....‬‬

‫‪‬‬

‫‪333‬‬
‫محمد *‬

‫عمل الستاذ توفيق الحكيسسم فسسي تصسسنيف هسسذا الكتسساب أشسسبه شسسيء‬
‫بعمل "كريستوف كولمب" في الكشف عسسن أمريكسسا وإظهارهسسا مسسن‬
‫الدنيا للدنيا‪ :‬لم يخلق وجودها‪ ،‬ولكنه أوجسسدها فسسي التاريسسخ البشسسري‪،‬‬
‫وذهب إليها فقيل جاء بها إلى العالم‪ ،‬وكانت معجزته أنه رآها بالعين‬
‫التي في عقله‪ ،‬ثم وضع بينه وبينها الصبر والمعاناة والحسسذق والعلسسم‬
‫حتى انتهى إليها حقيقة ماثلة‪.‬‬
‫قرأ الستاذ كتب السسسيرة ومسسا تناولهسسا مسسن كتسسب التاريسسخ والطبقسسات‬
‫والحديث والشمائل‪ ،‬بقريحة غير قريحة المؤرخ‪ ،‬وفكسسرة غيسسر فكسسرة‬
‫الفقيه‪ ،‬وطريقة غيسسر طريقسسة المحسسدث‪ ،‬وخيسسال غيسسر خيسسال القسساص‪،‬‬
‫وعقل غير عقل الزندقة‪ ،‬وطبيعة غير طبيعة الرأي‪ ،‬وقصد غير قصد‬
‫الجدل؛ فخلص له الفن الجميل الذي فيها؛ إذ قرأها بقريحتسسه الفنيسسة‬
‫المشبوبة‪ ،‬وأمرهسا علسى إحساسسه الشساعر المتسوثب‪ ،‬واسسستلها مسن‬
‫التاريخ بهذه القريحة وهذا الحساس كما هي في طبيعتهسسا السسسامية‬
‫متجهة إلى غرضها اللهي محققة عجائبها الروحانية المعجزة‪.‬‬
‫وقد أمدته السيرة بكل ما أراد‪ ،‬وتطاوعت له على ما اشتهى‪ ،‬ولنت‬
‫في يده كمسسا يليسسن السسذهب فسسي يسسد صسسائغه؛ فجسساء بهسسا مسسن جوهرهسسا‬
‫وطبيعتها ليس له فيها خيال ول رأي ول تعبير‪ ،‬وجاءت مع ذلسسك فسسي‬
‫تصنيفه حافلة بأبدع الخيال‪ ،‬وأسمى السسرأي‪ ،‬وأبلسسغ العبسسارة؛ إذ أدرك‬
‫بنظرته الفنية تلك الحوال النفسية البليغة‪ ،‬فنظمها على قانونها في‬
‫الحياة‪ ،‬وجمع حوادثها المدونة فصورها في هيئة وقوعها كما وقعت‪،‬‬
‫واستخرج القصص المرسلة فأدارهسسا حسواًرا كمسسا جساءت فسسي ألسسسنة‬
‫أهلها؛ وبهذه الطريقة أعاد التاريخ حّيا يتكلم وفيه الفكسسرة وملئكتهسسا‬
‫وشياطينها‪ ،‬وكشف ذلك الجمال الروحاني فكان هو الفن‪ ،‬وجل تلسسك‬
‫النفوس العالميسسة فكسسانت هسسي الفلسسسفة‪ ،‬وأبقسسى علسسى تلسسك البلغسسة‬
‫فكانت هي البيان‪ ،‬كانت السيرة كاللؤلؤة في الصسسدفة‪ ،‬فاسسستخرجها‬
‫فجعلها اللؤلؤة وحدها‪.‬‬
‫إن هذا الكتاب يفرض نفسه بهسسذه الطريقسسة الفنيسسة البديعسسة‪ ،‬فليسسس‬
‫يمكن أن يقال إنه ل ضرورة لوجوده؛ إذ هو الضسسروري مسسن السسسيرة‬
‫في زمننا هذا‪ ،‬ول يغتمز فيه أنه تخريف وتزوير وتلفيق؛ إذ ليس فيه‬
‫حرف مسسن ذلسسك‪ ،‬ول يسسرد بسسأنه آراء يخطسسئ المخطسسئ منهسسا ويصسسيب‬
‫المصيب؛ إذ هو على نص التاريسسخ كمسسا حفظتسسه السسسانيد‪ ،‬ول يرمسسي‬
‫بالغثاثة والركاكة وضسسعف النسسسق؛ إذ هسسو فصسساحة العسسرب الفصسسحاء‬

‫‪334‬‬
‫الخلص كما رويت بألفاظها؛ فقد حصسسنه المؤلسسف تحصسسيًنا ل يقتحسسم‪،‬‬
‫قسسا كسسل‬
‫صا أتم الخلص‪ ،‬أميًنا بأوفى المانة‪ ،‬دقي ً‬ ‫وكان في عمله مخل ً‬
‫الدقة‪ ،‬حذًرا بغاية الحذر‪.‬‬
‫ومن فوائد هذه الطريقة أنهسسا هيسسأت السسسيرة للترجمسسة إلسسى اللغسسات‬
‫الخرى في شكل من أحسن أشكالها يرغم هذا الزمن على أن يقرأ‬
‫بالعجاب تلك الحكاية المنفردة في التاريخ النساني؛ كما أنها قربت‬
‫وسهلت فجعلت السيرة‪ ،‬في نصها العربي كتاًبا مدرسًيا بليغًسسا بلغسسة‬
‫حا للملكة البيانية‪.‬‬ ‫فا للذوق‪ ،‬مصح ً‬ ‫القلب واللسان‪ ،‬مربًيا للروح‪ ،‬مره ً‬
‫وحسب المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الدب العربي‪ :‬إن ابسسن‬
‫هشام كان أول من هذب السيرة تهذيًبا تاريخّيا علسسى نظسسم التاريسسخ‪،‬‬
‫وأن توفيق الحكيم كان أول من هذبها تهذيًبا فنّيا على نسق الفن‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪335‬‬
‫ديوان العشاب*‬

‫أبو الوفاء شاعر ملء نفسه‪ ،‬ما في ذلك شك‪ ،‬مسسذهبه الجمسسال فسسي‬
‫المعنى يبدعه كأنما يزهر به‪ ،‬والجمال في الصورة يخرجها من بيسسانه‬
‫كما تخرج الغصون والوراق من شجرتها‪ ،‬وله طبع وفيه ورقة‪ ،‬وهسسو‬
‫يجري من البيان علسسى عسسرق‪ ،‬وسسسليقته تجعلسسه ألسسزم لعمسسود الشسسعر‬
‫وأقرب إلى حقيقته‪ ،‬حتى أنه ليعد أحد الذين يعتصم الشسسعر العربسسي‬
‫بهم‪ ،‬وهم قليل في زمننا‪ ،‬فإن الشعر منحسسدر فسسي هسسذا العصسسر إلسسى‬
‫العاميسسة فسسي نسسسقه ومعسسانيه‪ ،‬كمسسا انحسسدر التمثيسسل‪ ،‬وكمسسا انحسسدرت‬
‫أساليب الكتابة في بعض الصحف والمجلت‪.‬‬
‫وللعامية وجوه كثيرة تنقلب فيها الحياة‪ ،‬ومرجعهسا إلسى روح الباحسة‬
‫الذي فشا بيننا ونشأ عليه النشء في هذه المدنيسسة السستي تعمسسل فسسي‬
‫الشرق غير عملها في الغرب‪ ،‬فهي هناك رخص وعسسزائم‪ ،‬وهسسي هنسسا‬
‫تسسسمح وترخسسص‪ ،‬فسسي ظسسل ضسسعيف مسسن العزيمسسة‪ ،‬وإهمسسال البلغسسة‬
‫العربية الجميلة كما هي في قوانينهسسا ليسسس إل مظه سًرا لتلسسك السسروح‬
‫تقسسابله المظسساهر الخسسرى‪ ،‬مسسن إهمسسال الخلسسق‪ ،‬وسسسقوط الفضسسيلة‪،‬‬
‫وتخنث الرجولة‪ ،‬وزيغ النوثة‪ ،‬وفساد العقيدة‪ ،‬واضطراب السياسة‪،‬‬
‫إلسسى مسسا يجسسري هسسذا المجسسرى ممسسا هسسو فسسي بلغسسة الحيسساة المبينسسة‬
‫كالمرذول والمطرح والسفساف في بلغة الكلم الفصيح؛ كسسل ذلسك‬
‫في مواضعه تحلل من القيسسود وإباحسسة وتسسمح وترخسسص‪ ،‬وكسسل ذلسسك‬
‫عامية بعضها من بعض‪ ،‬وكل ذلك لحن في البلغة والخلق والفضيلة‬
‫والرجولة والنوثة والعقيدة والسياسة‪.‬‬
‫والشعر اليوم أكثره "شعر النشر" في الجرائد‪ ،‬على طبيعة الجسسرائد‬
‫ل علسسى طبيعسسة الشسسعر؛ وهسسذه إباحسسة صسسحافية غمسسرت الصسسحف‪،‬‬
‫وأخضسسعت أذواق كتابهسسا لقسسوانين التجسسارة‪ ،‬فسسإنهم لينشسسرون بعسسض‬
‫القصائد كما تنشر "العلنسسات"‪ :‬ل يكسسون الحكسسم فسسي هسسذه ول هسسذه‬
‫لبيان أو تمييز أو منفعة‪ ،‬بل على قدر الثمن أو ما فيه معنى الثمن!‬
‫ومن مادية هذا العصر وطغيسسان العاميسسة عليسسه‪ ،‬أننسسا نسسرى فسسي صسسدر‬
‫بعض الجرائد أحياًنا شعًرا ل يكون في صناعة الشعر ول في طبقات‬
‫النظم أضسسعف ول أبسسرد منسسه‪ .‬ول أدل علسسى فسسساد السسذوق الشسسعري‪،‬‬
‫حا للنشر‪ ،‬وإن‬ ‫ما صال ً‬
‫ولكنه على ذلك الصل الذي أومأنا إليه يعد كل ً‬
‫حا للشعر‪.‬‬‫يكن صال ً‬
‫‪---------------‬‬

‫‪336‬‬
‫‪ 1‬للشاعر المجيد محمود أبو الوفا‪ ،‬وهذا المقال كان حديًثا مع بعض‬
‫الصدقاء عن الديوان ونشر في الرسالة الغراء قلت‪ :‬وانظسسر "حيسساة‬
‫الرافعي" ص ‪."191 - 189‬‬
‫وهكذا أصبحت العامية في تمكنها تجعسسل مسسن الغفلسسة حسسذًقا تجاري ّسسا‪،‬‬
‫وا فلسفّيا‪ ،‬ومن الركاكة بلغة صحفية‪ ،‬ومتى تغيسسر‬ ‫ومن السقوط عل ً‬
‫معنى الحذق‪ ،‬ودخلته الباحسة‪ ،‬ووقسع فيسسه التأويسسل‪ ،‬وأحيسسط بسالتمويه‬
‫والشسسبه فالريبسسة حينئذ أخسست الثقسسة‪ ،‬والعجسسز بسساب مسسن السسستطاعة‪،‬‬
‫والضعف معنى من التمكين‪ ،‬وكل ما ل يقوم فيسسه عسسذر صسسحيح كسسان‬
‫هو بطبيعة التلفيق عذر نفسه‪.‬‬
‫وأكثر ما تنشره الصحف من الشعر هو فسسي رأيسسي صسسناعة احتطسساب‬
‫من الكلم‪ ..‬وقد بطل التعب إل تعسسب التقشسسش والحمسسل‪ ،‬فلسسم تعسسد‬
‫هناك صناعة نفسية في وشي الكلم‪ ،‬ول طبسسع موسسسيقي فسسي نظسسم‬
‫اللغة‪ ،‬ول طريقة فكرية في سسسبك المعسساني‪ ،‬وبهسسذه العاميسسة الثقيلسسة‬
‫أخذ الشعر يزول عن نهجسسه‪ ،‬ويضسسل عسسن سسسبيله‪ ،‬ووقسسع فيسسه التسسوغر‬
‫السسسهل‪ ..‬والسسستكراه المحبسسوب‪ ..‬وصسسرنا إلسسى ضسسرب حسسديث فسسي‬
‫الوحشية‪ ،‬هو الطرف المقابل للشعر الوحشسسي فسسي أيسسام الجاهليسسة؛‬
‫دا‪ ،‬والمعنسسى‬ ‫قسسا‪ ،‬والمسسأتي بعيسس ً‬
‫فمسسا دام الكلم غريًبسسا‪ ،‬والنظسسم قل ً‬
‫كا‪ ،‬والنسج ل يستوي‪ ،‬والطريقة ل تتشسسابه فسسذلك كلسسه مسسسخ‬ ‫مستهل ً‬
‫وتشويه في الجملة وإن اختلفست السسباب فسي التفصسيل‪ ،‬وإذا كسان‬
‫المسخ جاهلّيا بالغريب من اللفاظ‪ ،‬والنافر من اللغسسات‪ ،‬والوحشسسي‬
‫من المعاني؛ وكان عصرّيا بالركيك من اللفاظ‪ ،‬والنازل من التعبير‪،‬‬
‫والهجين من الساليب‪ ،‬والسخيف من المعاني؛ ثم بالسقط والخلط‬
‫والضطراب والتعقيد فهل بعض ذلك إل مسسن بعضسسه؟ وهسسل هسسو فسسي‬
‫ن‬‫الشعر الجميل إل كسلخ النسان الذي مسخه الله فسلخه من معا ٍ‬
‫دا أو خنزيًرا ليس عليسسه‬ ‫ن يصير بها قر ً‬ ‫كان بها إنساًنا‪ ،‬ليضعه في معا ٍ‬
‫إل ظاهر الشبه‪ ،‬وليس معه إل بقية الصل؟‬
‫فالقردية الشسسعرية‪ ،‬والخنزيريسسة الشسسعرية‪ ،‬متحققسسان فسسي كسسثير مسن‬
‫الشعر الذي ينشر بيننا‪ ،‬ولكن أصحاب هذا الشعر ل يرونهما إل كماًل‬
‫في تطسسور الفسسن والعلسسم والفلسسسفة؛ وأنسست مسستى ذهبسست تحتسسج لزيسسغ‬
‫الشعر من قبل الفلسسسفة‪ ،‬وتسسدفع عسسن ضسسعفه بحجسسة العلسسم‪ ،‬وتعتسسل‬
‫لتصحيح فساده بالفن‪ -‬فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر‬
‫قردي خنزيري‪ ،‬لم يستو في تركيبه‪ ،‬ولم يأت على طبعه‪ ،‬ولم يخرج‬
‫في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر مسسن رأي نسساظمه وافتتسسانه‬
‫به ودفاعه عنه‪ ،‬ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫والشاعر أبو الوفاء جيد الطريقة‪ ،‬حسسسن السسسبك‪ ،‬يقسسول علسسى فكسسر‬
‫وقريحة‪ ،‬ويرجع إلى طبع وسليقة‪ ،‬ولكسسن نفسسسه قلقسسة فسسي موضسسعه‬
‫الشعري من الحياة؛ وفي رأيي أن الشاعر ل يتم بأدبه ومواهبه حتى‬
‫يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحيسساة فيسسه؛ والكلم‬
‫يطول في صفة هذا الموضع‪ ،‬ولكنه في الجملسسة كمنبسست الزهسسرة‪ :‬ل‬
‫تزكو زكاءهسسا ول تبلسسغ مبلغهسا إل فسسي المكسان السذي يصسسل عناصسسرها‬
‫بعناصر الحياة وافية تامة‪ ،‬فل يقطعها عن شيء ول يرد شسسيًئا عنهسسا؛‬
‫إذ هي بما في تركيبها وتهيئتها إنما تتم بموضعها ذاك لتهيئة وتركيبه‪،‬‬
‫فإن كانت الزهرة على مسسا وصسسفنا‪ ،‬وإل فمسسا بسسد مسسن مسسرض اللسسون‪،‬‬
‫وهرم العطر‪ ،‬وهزال النضرة‪ ،‬وسقم الجمال‪.‬‬
‫ولول أن الحكمة وفت الستاذ أبسسا الوفسسا قسسسطه مسسن اللسسم‪ ،‬ووهبتسسه‬
‫مها حص سًرا ل مفسسر منسسه ‪-‬لفقسسدت‬ ‫سا متألمة حصرتها في أسباب أل َ ِ‬ ‫نف ً‬
‫ً‬
‫مسسا حسسائل مضسسطرًبا منقطسسع‬ ‫زهرته عنصر تلوينهسسا‪ ،‬ولخسسرج شسسعره نظ ً‬
‫السباب من الوحي؛ غير أن جهة اللسسم فيسسه هسسي هسسي جهسسة السسماء‬
‫إليه‪ ،‬ولو هو تكافسسأت جهسساته المعنويسسة الخسسرى‪ ،‬وأعطيسست كسسل جهسسة‬
‫حقها‪ ،‬وتخلصت ممسسا يلبسسسها ‪-‬لرتفسسع مسسن مرتبسسة اللسسم إلسسى مرتبسسة‬
‫الشعور بالغامض والمبهم‪ ،‬ولكان عقًل من العقول الكسسبيرة المولسسدة‬
‫التي يحيا فيها كل شيء حياة شعرية ذات حس‪.‬‬
‫ولكسسن مسا دامسست الحيسساة قسسد وزنسست لسه بمقسسدار‪ ،‬وطفقسست مسسع ذلسسك‬
‫وبخست‪ ،‬فقد كان يحسن به أن يقصر شسسعره علسسى أبسسواب الزفسسرة‬
‫والدمعة واللهفة‪ ،‬أو انقطعت وسيلته إليه أن تبلغ؛ ويظهر لي أن أبسسا‬
‫الوفا يحذو على حذو إسماعيل باشا صبري‪ ،‬وهو شبيه به في أنه لم‬
‫تفتح له علسسى الكسسون إل نافسسذة واحسسدة؛ غيسسر أن صسسبري أقبسسل علسسى‬
‫نافذته ونظر ما وسعه النظر‪ ،‬أمسسا أبسسو الوفسسا فيحسساول أن ينقسسب فسسي‬
‫الحائط ليجعلهما نافذتين‪.‬‬
‫أما أنه ليس من الشعر أن تنزل الحيرة الفلسفية عسسن منزلتهسسا بيسسن‬
‫اليقيسسن والعقسسل‪ ،‬أو المشسسهود والمحجسسب‪ ،‬أو الواقسسع والسسسبب‪ ،‬أو‬
‫الرسم والمعنى ‪-‬فتنقلب بيسن شسعر القلسب العاشسق‪ ،‬وشسعر الفكسر‬
‫المتأمل‪ ،‬شعر المعدة الجائعة‪ ،‬وتضع بين أشواق الكون شوقها هسسي‬
‫إلى الطعام والثياب والمال‪..‬‬
‫علسسى أنسسه كسسان المثسسل فسسي التسسدبير‪ ،‬والقسسرب إلسسى طريقسسة النفسسس‬
‫الشاعرة أن يصرف أبو الوفا هذا الشسسعور المسسادي السسذي يتلسسذع بسسه‪،‬‬
‫فيحسسوله فيجعلسسه باب ًسسا مسسن حكمسسة السسسخر الشسسعري بالسسدنيا وأهلهسسا‬

‫‪338‬‬
‫وحوادثها‪ ،‬كمسسا صسسرفه ابسسن الرومسسي مسسن قبسسل فأخطسسأ فسسي تحسسويله‪،‬‬
‫فجعله مرة باًبا من المدح والنفاق‪ ،‬ومرة باًبا من الهجاء والقذاع‪.‬‬
‫ولو بذل الشاعر أبو الوفا مجهوده في ذلك‪ ،‬واتهم الدنيا ثم حاكمها‪،‬‬
‫ونص لها القانون‪ ،‬وأجلس القاضي‪ ،‬وافتتح المجلس‪ ،‬ورفعهسسا قضسسية‬
‫ما‪ ،‬تارة في نادرة بعسسد نسسادرة‪ ،‬ومسسرة فسسي‬ ‫ما حك ً‬‫قضية‪ ،‬ثم أخذها حك ً‬
‫حكمة إلى حكمة‪ ،‬وآونة في سسسخرية مسسع سسسخرية ‪-‬إذن لهتسسدى هسسذا‬
‫المتألم الرقيق إلى الجانب الخر من سر الموهبة التي فسسي نفسسسه‪،‬‬
‫فأخرج مكنون هذه الناحية القوية منها‪ ،‬فكان ول ريسسب شسساعر وقتسسه‬
‫في هذا الباب‪ ،‬وإمام عصره في هذه الطريقة‪.‬‬
‫على أن في صفحات ديوانه أشسسياء قليلسسة تسسومئ إلسسى هسسذه الملكسسة‪،‬‬
‫ولكنها مبثوثسسة فسسي تضسساعيف شسسعره‪ ،‬والسسوجه أن يكسسون وجهسسه فسسي‬
‫تضاعيفها‪ ،‬وإنه ليأتي بأسسسمى الكلم وأبسسدعه‪ ،‬حيسسن يعمسسد إلسسى ذلسسك‬
‫الصل السسذي نبهنسسا إليسسه‪ ،‬فيصسسرف لهفسسة نفسسسه إلسسى بعسسض وجوههسسا‬
‫الشعرية‪ ،‬كقسسوله فسسي "حلسسم العسسذارى" وهسسي مسن بسسدائعه ومحاسسسن‬
‫شعره‪:‬‬
‫ها هما عيناك تغريني على شتى الظنون‬
‫فيهما بحر وموج وسهول وحزون‬
‫ووضوح وغموضواضطراب وسكون‬
‫ن ل تبين‬‫ن بيناتومعا ٍ‬
‫ومعا ٍ‬
‫وتهاويل فنونمن رشاد وجنون‬
‫وأشعات حيارىمن منى أو من حنين‬
‫ليت شعري أي سرخلف هاتيك الجفون‬
‫آه إن السر أنباعنه ذان الطائران‬
‫حينما مال على غصنيهما يعتنقان‪..‬‬
‫فهذه أبيات في شعر الجمال كالمحراب ملؤه عابده‪..‬‬

‫‪‬‬

‫‪339‬‬
‫النجاح وكتاب سر النجاح ‪1‬‬

‫مسسا خلسسق اللسسه ذا عقسسل مسسن بنسسي آدم إل أودع فسسي تركيبسسه شسسيئين‬
‫كالمقدمسسة والنتيجسسة‪ ،‬وأعطسساه بهمسسا القسسدرة علسسى الوسسسيلة والغايسسة‪،‬‬
‫"ليحيا من حي عن بينة ويهلسسك مسسن هلسسك عسسن بينسسة"‪ ،‬ففسسي تركيسسب‬
‫النسان قوة الرغبة في النجاح وأن يتأتى إلى سسسره أو يبلسسغ منسسه أو‬
‫يقاربه‪ ،‬وفي هذا التركيب عينه ما يهتك به هذا الحجاب ويفضي منسسه‬
‫إلى هذا السر ويجمع بك عليه‪ ،‬وما أنكر أن النجاح قدر من القسسدار‪،‬‬
‫ولكنه قدر ذو رائحة قوية خاصة به يستروحها من تحت السماء وهسسو‬
‫ل يزال في السماء وبينسسه وبيسسن الرض أمسسد ودهسسر وأسسسباب وأقسسدار‬
‫كثيرة‪ ،‬ولول أن هذه الخاصية فيه وفي النسان منه لما توفرت رغبة‬
‫في عمل ول صح نشاط في الرغبة ول توجه عسسزم إلسسى النشسساط ول‬
‫توثقت عقدة على العزم‪.‬‬
‫غير أن في النسسسان كسسذلك مسسا يفسسسد هسسذه الخاصسسية أو يضسسعفها أو‬
‫يعطلها تعطيًل‪ ،‬فإذا هي تضل ول تهدي وكانت تهسسدي ول تضسسل‪ ،‬وإذا‬
‫هي زائغة عن الحق ملتوية عن القصد وكانت هي السبيل إلى الحق‬
‫وهي الدليل على القصد؛ وما ينسسال منهسسا شسسيء إل واحسسد مسسن ثلث‪:‬‬
‫العجز‪ ،‬وضعف الهمة‪ ،‬واضطراب الرأي‪.‬‬
‫فأما العجز فمنزلة تجعل النسان كالنبات يرتفسسع عسسن الرض بعسسوده‬
‫ولكنه غائر فيها بأصول حيساته‪ ،‬وأمسسا ضسسعف الهمسة فمنزلسة الحيسسوان‬
‫الذي ل هسسم لسسه إل أن يوجسسد كيفمسسا وجسسد وحيثمسسا جسساء موضسسعه مسسن‬
‫مسسا وصسسوًفا ووب سًرا‬
‫مسسا وعظ ً‬
‫الوجود؛ إذ هو يولد ويكدح ويكد ليكون لح ً‬
‫عا‪ ،‬وكأنه ضرب آخر من النبات إل أنه نوع آخسسر مسن‬ ‫وشعًرا أثاًثا ومتا ً‬
‫المنفعة‪.‬‬
‫وأما اضطراب الرأي فمنزلة بين المنزلتين ترجع إلى هذه مرة وإلى‬
‫هذه مرة وتقع من كلتيهما موقعها‪ ،‬والعجز وضعف الهمة واضطراب‬
‫ن ثلثة لكلمة واحدة هي الخيبة‪ ،‬وما أسرار‬ ‫الرأي في لغة العقل معا ٍ‬
‫النجاح إل الثلثة التي تقابلها وهي القوة والعزيمة والثبات‪.‬‬
‫ولكن في هذا النسسسان طفولسسة وشسسباًبا‪ ،‬وهمسسا حالتسسان ل بسسد منهمسسا‪،‬‬
‫وهما من الضعف والنسسزق بطبيعتهمسسا‪ ،‬وفيهمسسا يتثاقسسل النسسسان إلسسى‬
‫أغراضه‪ ،‬ويرتد عن صعابها‪ ،‬وينخذل دون غاياتها؛ وليس يأتي للطفل‬
‫أن يدرك الرجل في معانيه‪ ،‬ول للشاب أن يبلغ الحكيسسم فسسي كمسساله؛‬
‫فكأن هسسذين ليسسس لهمسسا أمسسل فسسي أسسسباب النجسساح‪ ،‬وكسسأن كليهمسسا ل‬
‫يحسن أن يطوي فؤاده على شيء ول أن يجمع رأيه على أمر‪ ،‬غيسسر‬

‫‪340‬‬
‫أن من حكمة الله ورحمته أنسه أرصسسد مسن نواميسسسه القويسسة لضسسعف‬
‫الطفولة ونزق الشباب ما هو سناد يمنع‪ ،‬وموئل يعصم‪ ،‬وقوة تصلح‪،‬‬
‫وهو ناموس القدوة الذي يتمثل في الب والم والصسساحب والعشسسير‬
‫والمعلم والكتاب؛ لن الله جلت قدرته يبث في الخلسسق مسسا يسسوجههم‬
‫ما إلى العتقاد ويحملهم عليه ويبصرهم به‪ ،‬حتى كأن الحياة كلهسسا‬ ‫دائ ً‬
‫إنما هي ممارسة لفضيلة اليمان به مسسن حيسسث يسسدري النسسسان أو ل‬
‫يدري‪.‬‬
‫و"كتاب سر النجاح" الذي ترجمسسه أسسستاذنا العلمسسة السسدكتور يعقسسوب‬
‫صروف في سنة ‪ ،1880‬وظهرت طبعته الرابعة في هذه اليام‪ ،‬هسسو‬
‫والله في باب القدوة ناموس على حدة‪ ،‬وما رأيت كتاًبا تلءم نسجه‬
‫واستوت أجزاؤه ووضع آخر على أوله وانصب كله إلى الغرض الذي‬
‫دا في معناه وفائدته ‪-‬كهسسذا الكتسساب السسذي‬ ‫كتب فيه وجاء مقطًعا واح ً‬
‫يعلم الضعيف كيف يقوى‪ ،‬والعاجز كيسسف يعتمسسد‪ ،‬والمضسسطرب كيسسف‬
‫يقبل‪ ،‬والساقط كيف ينتهض‪ ،‬ويعلمك مع ذلك كيف تريح الكد بالكد‪،‬‬
‫وكيسسف تسسسقط التعسسب بسسالتعب‪ ،‬وكيسسف تمضسسي عزيمتسسك وتعتقسسدها‬
‫حسسا‪،‬‬
‫دا ول فات ً‬‫وتضرب كرة الرض بقدميك وإن لم تكسسن ملك ًسسا ول قسسائ ً‬
‫وإن كنت من صميم السوقة‪ ،‬وإن كنت من فقرك وراء عتبة واحدة؛‬
‫ل أقول‪ :‬إن هذا الكتاب علم‪ ،‬فإن هذا القول يسقط به دون منزلتسسه‬
‫عا من الورق الصقيل على طبسسع‬ ‫ول يعدو في وصفه أن يجعله مجمو ً‬
‫جيد‪ ،‬مع أنه مجموع من الرواح والعزائم وأعصاب القلسسوب؛ ولكنسسي‬
‫أقول في وصفه العلمي إن المدارس تخرج من الكتب تلميذ‪ ..‬وهذا‬
‫الكتاب يخرج مسن التلميسذ رجساًل أقويسساء أشسداء معصسومين عصسيب‬
‫جذوع الشسسجر العسساتي‪ ،‬مسسن قسسوة النفسسس وصسسلبتها وصسسحة العزيمسسة‬
‫ومضائها‪ ،‬وتصميم الرأي ونفاذه؛ ومما يعطي من قوة الصبر والثبات‬
‫ومطاولة التعب إلى أبعد حدود الطاقة النسانية‪.‬‬
‫وما تقرؤه حق قراءته وتستوفيه على وجهه من التدبير والمعسسان إل‬
‫خرجت منه وقد وضع في نفسك شيًئا أعظم مسسن نفسسسك كائن ًسسا مسسن‬
‫كنسست وكيسسف كنسست‪ ،‬فسسإن تكسسن طفًل خرجسست رجًل‪ ،‬وإن كنسست رجًل‬
‫مسسا اسسستحدث فسسي نفسسسك مسسا يجعلسسك‬ ‫ما‪ ،‬وإن كنسست حكي ً‬
‫خرجت حكي ً‬
‫بالحكمة فوق الدنيا وكنت بها في الدنيا‪.‬‬
‫قال الستاذ المترجم في مقدمته‪" :‬أشهد لبناء وطني أنني لم أنتفع‬
‫بكتاب قدر ما انتفعت بهذا الكتاب"‪ .‬وهذه هي الكلمة السستي ل يقسسول‬
‫غيرها من يقرأ "سر النجاح"‪ ،‬ول يمكن أن يقول غيرها؛ إذ هو مبنسسي‬
‫فسسي وضسسع مسسن فسسائدة النفسسس ومسسا يرهسسف حسسدها ويبتعسسث ملكاتهسسا‬

‫‪341‬‬
‫ويستنهض قواها ويستنفذ وسسسائلها علسسى مسسا يشسسبه القواعسسد السستي ل‬
‫تؤدي إل إلى نتيجة واحدة من أين اعتبرتها‪ ،‬كس "اثنان واثنان أربعسسة"‪،‬‬
‫ت أربعة‪ ،‬وهلم جرا‪..‬‬ ‫وثلثة وواحد أربعة‪ ،‬وأربعة وحدا ٍ‬
‫تلك شهادة المترجم‪ ،‬أما أنا فأشهد لقد عرفت منذ زمن طالًبسسا فسسي‬
‫الزهر‪ ،‬فلما تعرف إلي جعل يشكو ويتبرم وينفض لي نفسه ويقول‪:‬‬
‫الزهسسر وعلسسومه وفنسسونه ومسسسائله ومشسساكله‪ ،‬والمتسسون ومسسا فيهسسا‪،‬‬
‫والشروح وما إليها‪ ،‬والحواشي وما يرد ويعسسترض ويجسساب بسسه ويقسسال‬
‫فيه‪ ،‬وكل كلمة بساعة من العمر‪ ،‬وكل سطر بيوم‪ ،‬وكل جزء بسنة‪،‬‬
‫مسسا‪ ،‬فل‬‫وتركسست ورائي كسسذا وكسسذا فسسداًنا وأقبلسست علسسى كسسذا وكسسذا عل ً‬
‫حصدت من هذه ول من تلك! قلت‪ :‬وما يمسكك والبسساب مفتسسوح ول‬
‫يسألك الزهر إلى أين ول تسألك السسدنيا إذا خرجسست إليهسسا مسسن أيسسن؟‬
‫قال‪ :‬والله ما ربطني إلى هذه العمسسدة خمسسس عشسسرة سسسنة كاملسسة‬
‫على يأس ومضض إل كتاب "سسسر النجسساح" ومسسا أمضسسيت نيسستي مسسرة‬
‫على وجه من وجوه العيش إل رأيت هذا الكتاب قد ضرب وجه هذه‬
‫النية فردها إلى هذا المكان وألقاها في هسسذا المسسستقر‪ ،‬ومسسا هممسست‬
‫بترك الزهر إل انتصب في وجهي كل البطال الذين قرأت أخبسسارهم‬
‫فيسسه وأمسسسكوني‪ ،‬ل مسسن يسسدي ول مسسن رجلسسي‪ ،‬ولكسسن مسسن اعتقسسادي‬
‫وإيماني وأملي!‬
‫قلت‪ :‬فوالله ل يدعك حسستى تنجسسح‪ ،‬ومسسا ربسسط اللسسه علسسى قلبسسك بهسسذا‬
‫الكتاب وثبت فؤادك باليقين الذي فيه إل وقد كتب لك الخير كله‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪342‬‬
‫أبو تمام الشاعر‪ :‬تحقيق مدة إقامته بمصر‬

‫لم يبق بد من أن نبلغ بالكلم في هذا المعنى إلى مقطع الحق فيسسه‪،‬‬
‫وأن ننفذ بتحقيقه إلى خاصته‪ ،‬وننتهي من خاصته إلسسى برهسسانه؛ فسسإن‬
‫مسسا مرس سًل بحسسري‬ ‫ما وحديًثا ألقوا خبر أبي تمسسام كل ً‬
‫علماء الدب قدي ً‬
‫فسسي الروايسسة علسسى طرقهسسا المختلفسسة‪ ،‬ل علسسى التاريسسخ فسسي وجِهسسهِ‬
‫المتعين‪ ،‬ويؤخذ على أنه خبر كالخبار إن صدق فقد صدق وإن كذب‬
‫فهسسو علسسى مسسا يجيسسء؛ إذ لسسم يكسسن يعنيهسسم مسسن الشسساعر إل شسسعره‪،‬‬
‫يحملونه عنه أو يأخذونه من رواته‪ ،‬أو يجدونه في ديسوانه؛ أمسا أخبسار‬
‫الشاعر فهي ل تتصل بالكتاب ول بالسنة‪ ،‬فتجتمسسع لهسسم كمسسا تجتمسسع‬
‫ويتناولونها كما اتفقت بما دخلها من الكسسذب والتزيسسد والتلفيسسق‪ ،‬ومسسا‬
‫ضسسا أو ينقسسض بعضسسه علسسى بعسسض؛‬ ‫يكون فيهسسا ممسسا يظسساهر بعضسسه بع ً‬
‫والمحقق منهم من يروي الصدق والكذب مًعا ليخرج من التبعسسة‪ ،‬فل‬
‫بد من تبعسسة فسسي أحسسد النقيضسسين؛ وليسسبرأ بصسسدق أحسسدهما مسن كسسذب‬
‫أحدهما كما صنع ابن خلكان في سسسياقه خسسبر أبسسي تمسسام وهسسذا نسسص‬
‫عبارته‪:‬‬
‫كانت ولدة أبي تمسسام ‪ ...‬بجاسسسم وهسسو قريسسة بيسسن دمشسسق وطبريسسة‪،‬‬
‫ونشأ بمصر‪ ،‬قيل‪ :‬إنه كسسان يسسسقي المسساء بسسالجرة فسسي جسسامع مصسسر‪،‬‬
‫كا يعمل عنده بدمشق وكان أبوه خماًرا بها‪.‬‬ ‫وقيل كان يخدم حائ ً‬
‫والذين يعرفون طرق الرواية ومصطلحاتها يدركون من هذه العبسسارة‬
‫أن ابن خلكان ينتفي من أن تكون عليه تبعة أحد الخبرين أو كليهما‪،‬‬
‫فإن الرواية متى افتتح الخبر "بقيل أو يقال" فقسسد دل علسسى أن هسسذا‬
‫الخسسبر غيسسر مقطسسوع بسسه؛ إذ تسسسمى هسسذه الصسسيغة عنسسدهم صسسيغة‬
‫التمريض‪ ،‬فهي ل تفيد الصحة ول الجزم بها‪ ،‬وظسساهر أن أبسسا تمسسام ل‬
‫يمكن أن يكون قد نشأ بمصر وبدمشق في وقت مًعا‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬لما أنشأ المؤلف مقاله عن شوقي "رحمه الله" غضب من غضب‬
‫مسسن أدبسساء مصسسر‪ ،‬وزعمسسوا أنسسه يقصسسد الغسسض مسسن مكانسسة "مصسسر‬
‫الشاعرة"‪ ،‬ورماه من رماه في وطنيته‪ ،‬وحاول بعضهم أن يرد عليسسه‬
‫رأيه في الشعر المصري بتعداد شعراء مصر العربية‪ ،‬واستتبع شيء‬
‫شيًئا فجاء ذكر أبي تمسام ومسا قسسالوا عسن إقسسامته فسسي مصسر؛ فأنشسأ‬
‫المؤلف هذا المقال‪ ،‬وانظر ص ‪" 147-146‬حياة الرافعي"‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫وابن خلكان قد وقف على الكتاب السسذي عملسسه الصسسولي فسسي أخبسسار‬
‫أبي تمام ونقل عنه‪ ،‬وهو المرجع في هذا الباب؛ فل بد أن يكون هذا‬
‫الكتاب قد خل من تحقيق هذه الرواية‪ ،‬بسسل نحسسن نرجسسح أنسسه قسسد خل‬
‫منها بتة‪ ،‬فلم يسسذكر أن نشسسأة أبسسي تمسسام كسسانت بمصسسر؛ لن صسساحب‬
‫الغاني أغفلها ولم يشسسر إليهسسا بحسسرف‪ ،‬مسسع أنسسه ينقسسل عسسن الصسسولي‬
‫نفسه ويقول في كتابه‪" :‬أخسسبرني الصسسولي" وكسسانت أهملهسسا صسساحب‬
‫ضا عن الصولي‪ ،‬وهذا يثبت لنسسا أن الخسسبر‬ ‫مروج الذهب‪ ،‬وهو ينقل أي ً‬
‫لم يكن معروًفا يومئذ‪ ،‬وإل هو التاريخ عند أبسسي الفسسرج والمسسسعودي‬
‫إن لم يكن هو هذا؟‬
‫ولكن ذكرت الرواية في كتسساب النبسساري "طبقسسات الدبسساء"‪ ،‬واقتصسسر‬
‫ناقلها على أن أبا تمام نشأ بمصر‪ ،‬وأنه كان يسسقي المسساء بهسا‪ ،‬ولسم‬
‫يذكر رواية عمله بدمشق؛ والنباري متأخر توفي سنة ‪ ،577‬فهو بعد‬
‫موت أبي تمام بثلثة قرون ونصف‪ ،‬فل قيمة لروايتسسه‪ ،‬وشسسأنه شسسأن‬
‫غيره من الناقلين؛ ونحن نرى أن هذه الرواية قد صسسنعت فسسي مصسسر‬
‫نفسها للغض من أبي تمام والزرايسسة عليسسه‪ ،‬وبقيسست مرويسسة فيهسسا ثسسم‬
‫حملت كما تحمل كل رواية لذاتها ل لتحقيقها‪ ،‬سسسواء أكسسانت موجهسسة‬
‫على الحق أم معدوًل بها عنه؛ ول أوضع في المهنة من سقاية المسساء‬
‫في الجامع بالجرة‪ ،‬ولعمري ما ذكرت "الجرة" هنا عبًثا؛ والغلسسو فسسي‬
‫التحقير هو بعينه الدليل على الكذب‪ ،‬فهذه الكلمة كأثر المجرم فسسي‬
‫جريمته‪..‬‬
‫وبعد‪ ،‬فإنا نقرر أن هذا الشاعر العظيسسم لسسم ينشسسأ بمصسسر‪ ،‬وأنسسه ولسسد‬
‫وتأدب في الشام ثم قدم إلى مصر شاعًرا ناشًئا يتكسب بسسأدبه كمسسا‬
‫قدم عليها غيره من الندلس والمغرب والشسسام‪ ،‬والعسسراق‪ ،‬وأنسسه لسسم‬
‫ت إلى مصر إل في ولية عبد الله بن طاهر الديب الشاعر القسسائد‬ ‫يأ ِ‬
‫العظيم‪ ،‬وقد جعلت له ولية مصر والشام والجزيرة فسسي سسسنة ‪210‬‬
‫أو ‪ 211‬على خلف بين المؤرخين‪ ،‬وكانت سن أبي تمام يومئذ بيسسن‬
‫سسسا للشسسعراء فسسي كسسل‬ ‫‪ 21‬و ‪ 23‬سنة؛ وقد كسسان ابسسن طسساهر مغناطي ً‬
‫مكان ينزله‪ ،‬حتى قال فيه بعضهم وعزم على الهجرة إلى مصر‪:‬‬
‫يقول رجال إن مصر بعيدةوما بعدت مصر وفيها ابن طاهر‬
‫وأبعد من بمصر رجال نراهمبحضرتنا معروفهم غير ظاهر‬
‫عن الخير موتى ما تبالي أزرتهمعلى طمع أم زرت أهل المقابر‬
‫وقد قصده أبو تمام إلى مصر‪ ،‬كما قصده بعسسد ذلسسك إلسسى خراسسسان‬
‫في سنة ‪ ،220‬وهي السنة التي وضع فيها أبو تمام أو في التي تليها‬
‫كتاب "الحماسة" كما حققناه ول محل لذكره هنا‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫ونحن نسوق أدلتنا على صحة ما ذهبنا إليسسه فسسي نفسسي أن يكسسون أبسسو‬
‫تمام قد نشأ بمصر أو جاءنا طفًل‪ ،‬أو تكون منها طبيعته في الشسسعر‪،‬‬
‫أو يكون لها أثر في عبقريته‪:‬‬
‫‪ -1‬المجمع عليه بل خلف أن الشاعر ولد في الشسسام‪ ،‬ومسسا دام كسسذا‬
‫لقد قالت الطبيعة كلمتها في أصل نبوغه وعبقريته‪ ،‬فإن الديب يولد‬
‫ول يصنع كما يقول النجليسسزي؛ وكسسل العلمسساء يعرفسسونه بالطسسائي! ول‬
‫يطعن في نسبه إل من ل يحقق وهسسو نفسسسه يبسساهي بطسسائيته‪ ،‬وذلسسك‬
‫كالشرح على كلمة الطبيعة في أسسسباب نبسوغه الوراثيسسة؛ وقسسد تنقسسل‬
‫الرجل بين مصر والشام والعراق وخراسسسان وأرمينيسسا وغيرهسسا‪ ،‬فمسسا‬
‫بلد أولى من بلد بأن يكون مثار عبقريته‪.‬‬
‫‪ -2‬إن الشاعر إنما يتكسب من شعره يمدح مسن يهستز لسه أو يعطسي‬
‫دا من أهل مصسسر؛ فسسإن كسسان مسسدح فيهسسا‬ ‫عليه‪ ،‬ولم يمدح أبو تمام أح ً‬
‫عبد الله بن طاهر فإنما إليه قصد وله جاء؛ وابن طاهر ليس مصرّيا‪،‬‬
‫وقد جاء إلى مصر ورجع منها قبسسل أن يحسسول عليسسه الحسسول‪ ،‬فلسسو أن‬
‫حا كسسثيًرا‬
‫نشأة هذا الشاعر كانت بمصر وتأدبه كان فيها لصبنا له مد ً‬
‫في أعيانها وعلمائها؛ إذ هو متى قال الشعر ل يتكسب إل منه؛ وفسسي‬
‫ديوان الشسساعر هجسساء لبسسن الجلسسودي نظمسسه فسسي مصسسر‪ ،‬ولكسسن ابسسن‬
‫الجلودي ليس مصرّيا بل هو قسسائد مسن قسسواد المسأمون‪ ،‬وله محاربسة‬
‫الزط سنة ‪ ،205‬ثم أقدم بعد ذلك مصر‪ ،‬ثسسم ولسسي عليهسسا فسسي سسسنة‬
‫‪214‬؛ فكل المصرية في شسسعر أبسسي تمسسام هسسي فسسي هجسسائه للشساعر‬
‫المصري يوسف السراج‪ ،‬ولعلها في بعض مقاطيع أخرى من الغسسزل‬
‫أو الوصف‪.‬‬
‫‪ -3‬ولد أبو تمام في سنة ‪ 188‬أو ‪ ،190‬ومن الثابت أنه كسسان بمصسسر‬
‫في سنة ‪ ،214‬حين نظم قصيدته الدالية والنونية في رثاء عمير بسسن‬
‫الوليد ‪-‬وعمير هذا ليس مصرّيا‪ ،‬بل هو مسسن خراسسسان‪ ،‬وكسسان بمصسسر‬
‫عامًل لبي إسحاق المعتصم بن الرشيد فلو كسسان أبسسو تمسسام قسسد جسساء‬
‫إلى مصر طفًل كما يقال لكانت مدة قوله الشسسعر فيهسسا ل تقسسل عسسن‬
‫عشر سنوات‪ ،‬مع أن كل ما نظمه وهسسو فيهسسا ل يبلسسغ عشسسر قصسسائد؛‬
‫وهذا ديوانه بين أيدينا وإليه وحده المرجع في الدللة على صاحبه‪.‬‬
‫‪ -4‬روى المرزباني في "الموشح" عسسن العبسساس بسسن خالسسد السسبرمكي‬
‫قال‪ :‬أول ما نبغ "أي قال الشعر" أبسسو تمسسام الطسسائي أتسساني بدمشسسق‬
‫يمدح محمد بن الجهم فكلمته فيه فأذن له؛ فسسدخل عليسسه وأنشسسده‪،‬‬
‫ثم خرج فأمر له بدراهم يسسسيرة‪ ،‬ثسسم قسسال‪ :‬إن عسساش هسسذا ليخرجسسن‬
‫شاعًرا‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫فهذا نص على أن الشاعر لم يكن يومئذ إل في ابتسسداء الشسسعر‪ ،‬ولسسم‬
‫يكن قد خرج شاعًرا بعد وكان شعره من الطبقسسة السستي يثسساب عليهسسا‬
‫"بدراهم يسيرة"‪ .‬وأبو تمام بعد ذلك هو نفسه السسذي نسسثر عليسسه عبسسد‬
‫الله بن طاهر ألف دينسسار فسسترفع أن يمسسسها وتسسرك الخسسدم ينتهبونهسسا‪،‬‬
‫وكان ذلك سبًبا في تغير ابن طاهر عليه‪.‬‬
‫‪ -5‬نقسسل ابسسن خلكسسان فسسي ترجمسسة ديسسك الجسسن الشسساعر الحمصسسي‬
‫المشهور‪ ،‬عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قسسال‪ :‬كنسست‬
‫سا عند ديك الجن‪" ،‬يعني بحمسسص" فسسدخل عليسسه حسسدث فأنشسسده‬ ‫جال ً‬
‫جا كبيًرا فيه كسسثير‬‫شعًرا عمله‪ ،‬فأخرج ديك الجن من تحت مصله در ً‬
‫من شعره‪ ،‬فسلمه إليه وقال‪ :‬يا فتى تكسب بهذا واستعن بسسه علسسى‬
‫قولك‪ .‬فلما خرج سألته عنه فقال‪ :‬هذا فتى من أهسسل جاسسسم‪ ،‬يسسذكر‬
‫أنه من طيء‪ ،‬يكنى أبسسا تمسسام‪ ،‬واسسسمه حسسبيب بسسن أوس‪ ،‬وفيسسه أدب‬
‫وذكاء وله قريحة وطبع‪ .‬فهذا نص آخر على أن أبا تمسسام كسسان يسسومئذ‬
‫ما‪ -‬وكان ل يزال يطلب الدب‪ ،‬وقد أعانه أستاذه بنسسسخ‬ ‫حدًثا ‪-‬أي غل ً‬
‫من قصائده يتخرج بها ويحذو عليها؛ فهو قد نشأ فسسي الشسسام وتسسأدب‬
‫فيها‪.‬‬
‫‪ -6‬نظم أبو تمام قصيدته اللمية‪:‬‬
‫ب بحميا كأسها مقتل العذل‬ ‫أص ّ‬
‫يصف تقتير الرزق عليه بمصر وخيبسسة أملسسه السسذي أملسسه مسسن المسسال‪،‬‬
‫وفسسي هسسذه القصسسيدة يحسسن إلسسى الشسسام ويسسستقي لهسسا ويسسذكر أرض‬
‫البقاعين وقرى الجولن التي نشسسأ فيهسسا‪ :‬ول يحسسن الشسساعر لرض إل‬
‫إذا كان فيها حبه أو شبابه وأدبه‪ ،‬أما الطفولة فمنسسسية بآثارهسسا؛ إذ ل‬
‫دا‪ ،‬وإنما الحنين لمسسا‬ ‫دا بعي ً‬
‫آثار لها في النفس متى شب المرء إل بعي ً‬
‫تتعلق به الغريزة المميزة‪.‬‬
‫‪ -7‬في هذه القصيدة يقول أبو تمام يخاطب أحبابه‪:‬‬
‫عدتني عنكم مكرها غربة النوىلها وطر في أن تمر ول تحلى‬
‫والنوى في لغة الشاعر هي رحيله للتكسب بشعره؛ ولما رجع عوف‬
‫بن محلم الشيباني إلى وطنه بعد وفادته علسسى عبسسد اللسسه بسسن طسساهر‬
‫في خراسان؛ سئل عن حال فقال‪ :‬رجعت من عند عبد اللسسه بسسالغنى‬
‫"والراحة من النوى"؛ ويؤيده قول أبي تمام في قصيدته تلك‪:‬‬
‫نأيت فل ماًل حويت ولم أقمفأمتع‪ ،‬إذ فجعست بالمسال والهسل يعنسي‬
‫ها يطلب الكسب ل غير‪ ،‬ول كسسسب للشسساعر إل مسسن‬ ‫أنه اغترب مكر ً‬
‫شعره‪ ،‬فهو بنص كلمه عن نفسه قسسدم إلسسى مصسسر شسساعًرا يتكسسسب‬
‫ويتعرض للغني كما يصنع غيره‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫‪ -8‬في هذه القصيدة اللمية يقسسدم لنسسا أبسسو تمسسام ‪-‬رحمسسه اللسسه‪ -‬دليًل‬
‫يأكل الدلة‪ ،‬كأنما ألهم من وحي الغيب أننا سنحتاج إلى هسذا السدليل‬
‫ما لندفع به عنه؛ فهو يحن إلى حيبب لسسه فسسي الشسسام‪ ،‬ويقسسول‪ :‬إن‬ ‫يو ً‬
‫غربة النوى التي وصفها‪:‬‬
‫أنت بعد هجر من حبيب فحركتصبابة ما أبقى الصدود من الوصل‬
‫ل‬
‫أخمسة أحوال مضت لمغيبه؟وشهران بل يومان ثكل من الثك ِ‬
‫يعني أنه قال هذا الشعر وقد مضى علسسى إقسسامته فسسي مصسسر خمسسس‬
‫قا ذلسسك العشسسق السسذي فيسسه‬ ‫سنوات‪ ،‬وكان قد جسساء مسن الشسسام عاشس ً‬
‫"الصدود والوصل"‪ ،‬والطفل ل يحب مثل هسسذا الحسسب ول يحسسن ذلسسك‬
‫الحنيسسن؛ فسسإذا كسسان الشسساعر قسسدم إلسسى مصسسر فسسي سسسنة ‪ ،210‬كمسسا‬
‫رجحناه‪ ،‬وسنه بين ‪ 21‬و ‪ 23‬سنة فيكون قد نظم هذه القصيدة فسسي‬
‫سنة ‪ ،215‬وعمره يومئذ بين ‪ 26‬و ‪ 28‬سنة؛ فلسسو أن أبسسا تمسسام جسساء‬
‫من الشام طفًل صغيًرا فكيف للطفل أن يقول مثل هذا الشسسعر بعسسد‬
‫خمس سنوات؟ وما هجسسر الحسسبيب "وصسسبابة مسسا أبقسسى الصسسدود مسسن‬
‫الوصل"؟‬
‫‪ -9‬مدح شاعرنا محمد بن حسان الضسسبي بقصسسيدة نونيسسة يسذكر فيهسسا‬
‫تنقله في البلد فقال فيها‪:‬‬
‫بالشام أهلي‪ ،‬وبغداد الهوى‪ ،‬وأنابالرقمتين‪ ،‬وبالفسطاط إخواني‬
‫وما أظن النوى ترضى بما صنعتحتى تشافه بي أقصى خراسان!‬
‫فأنت ترى أنه جعل أهله بالشام‪ ،‬وجعسسل أصسسدقاءه بمصسسر؛ فلسسو أنسسه‬
‫كان قد نشأ بها لجعل بها أهله؛ إذ ل ينشأ إل مع أبيسسه وأمسسه‪ ،‬والسسبيت‬
‫الثاني دليل منه هو على أنه لم ينسسزل بمصسسر مقيسسم ول متوطن ًسسا‪ ،‬بسسل‬
‫متنقًل كما نزل بغيرها‪.‬‬
‫‪ -10‬تقول كتب الدب في مدارس الحكومة‪ :‬إن أبسا تمسام نقسل إلسسى‬
‫مصر صغيًرا فنشأ بها وقد بينا فساد ذلك‪ ،‬ثم خرج إلى مقر الخلفسسة‬
‫فمدح المعتصم؛ وهذا غير صحيح؛ فإن أبا تمام خرج من مصسسر قبسسل‬
‫أن يدخلها المأمون في سنة ‪ ،216‬حيسسن جاءهسسا وقتسسل بهسسا عبسسدوس‬
‫الفهري؛ فلو كان الشاعر يومئذ لمدح المأمون‪ ،‬وذكر هسسذه الواقعسسة‪،‬‬
‫والمعتصم ولي الخلفة سنة ‪ ،218‬وديوان أبي تمسسام يثبسست أنسسه فسسي‬
‫سنة ‪ ،217‬كان بالعراق‪ ،‬وقد مدح المأمون بقصيدته الميمية‪ ،‬وذكسسر‬
‫في مدحه وقعة الروم‪ ،‬وهذه كانت في تلك السنة‪.‬‬
‫يخلص من كل ما تقدم أن أبسسا تمسسام ولسسد فسسي الشسام وتسسأدب فيهسسا‪،‬‬
‫وقدم إلى مصر كبيًرا يتكسب بالشعر‪ ،‬فأقام بها بيسسن خمسسس سسسنين‬
‫شا بها بعد قتل عمير بن الوليد الذي قتل فسسي‬ ‫وست‪ ،‬ولم يجد له عي ً‬

‫‪347‬‬
‫سنة ‪214‬؛ فإنه كان يعيش في كنفه‪ ،‬وقد صرح في قصيدته النونيسسة‬
‫التي رثاه بها أنه يأمل من بعده في ابنه محمد‪.‬‬
‫فقدوم الشاعر إلى مصر كسان فسي سسنة ‪ 210‬أو حواليهسا‪ ،‬وخروجسه‬
‫منها كان في سنة ‪ 215‬أو حواليها‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬

‫القديم والجديد ‪1‬‬


‫أقول للستاذ الفاضل الدكتور طسسه حسسسين "فسسي رفسسق وليسسن" وفسسي‬
‫ضا‪ :‬إني في هسسذه اليسسام ضسسنين بمسسا أملسسك مسسن وفسستي أشسسد‬ ‫عجلة أي ً‬
‫الضن‪ ،‬أحسسسب السسسماء تتفجسسر مسسن يسسومي فسسي سسساعة كسسالفجر‪ ،‬فل‬
‫يصرفني عن تلك الساعة شيء ول يصرفها عني شيء؛ إذ بين يسسدي‬
‫كتاب في الرسائل أعمل فيه وأسستعين اللسسه علسسى الفسراغ منسه فسسي‬
‫وقت معين‪ ،‬وقد أظل أو كسساد؛ فل يريسن السسستاذ أنسسي أسسستطير هسسذه‬
‫المرة كالطيرة الولى‪ ،‬فإن جناحي في فضاء آخر‪ ،‬وإن هسسذا الكتسساب‬
‫ما‪ ،‬بسسل لعلسسه‬ ‫الذي أعالجه ل يجشمني عرًفا من القرية كما قالوا قدي ً‬
‫في ألمه أشبه "بعملية" تشريح في القلب‪ ،‬وستذهب السسدقائق السستي‬
‫أكتب فيها هسسذه الكلمسسة مأسسسوًفا عليهسسا‪ ،‬لنهسسا ذاهبسسة بصسسفحتين مسسن‬
‫كتابي‪.‬‬
‫وأما بعد‪ ،‬فل أرى من النصاف أن يعمد الدكتور إلى جمل يقتضسسبهن‬
‫من مقالي في مجلة الهلل ثم يهدفها للسسرد‪ ،‬وكسسان عسسسى أن يسسدفع‬
‫عنها شيء مما قبلها أو ما بعدها أو يشد منها بعسسض جهاتهسسا أو يسسأتي‬
‫بها في سياق يبين عن معناها‪.‬‬
‫وزعم الستاذ أنه ل يفهم من كلمسسي هسسذه الجملسسة "وأنسست تعلسسم أن‬
‫الذوق الدبي في شيء إنما هو فهمه‪ ،‬وأن الحكم علسسى شسسيء إنمسسا‬
‫هو أثر الذوق فيه‪ ،‬وأن النقد إنما هو الذوق والفهسسم جميعًسسا‪ ..‬ثسسم دار‬
‫بهسسذه الكلمسسات دورة العاصسسفة وجعلهسسا مسسسألة كمسسسألة السسدور‬
‫والتسلسل المشهورة‪ ،‬بل جعلها من قبيسسل "قصسسة وقضسسية"‪ ..‬فسستراه‬
‫يقول‪ :‬ذوق هو الفهم‪ ،‬وفهم هو السسذوق‪ ،‬وفهسسم ليسسس بالسسذوق‪ ،‬وذوق‬
‫دا ونازًل؛ وضرب لنا مثًل بالموسيقى فقسسال‪:‬‬ ‫ليس بالفهم‪ ،‬وهلم صاع ً‬
‫"مسسا نظسسن أن السسذين يطوقسسون الموسسسيقى ويطربسسون لهسسا يفهمونهسسا‬
‫جميًعا"‪ .‬وأنا أفسر كلمي بهذا المثل نفسه‪ ،‬أقتصر عليه ول أعدوه‪.‬‬
‫نأتي الن بأستاذ قد برع فسسي الموسسسيقى وخسسالطت أعصسسابه ولحمسسه‬
‫ودمه‪ ،‬وندفع إليسسه قطعسسة ملحنسسة ونقسسول لسسه‪ :‬اسسسمع وافهسسم واحكسسم‬
‫وانتقد؛ يسمعها مرة بعقله أو لعقله يتبين ما يكسون فيهسسا صسواًبا ومسا‬

‫‪348‬‬
‫يكون خطأ‪ ،‬ثم ما يعلو عن الصواب من الجادة والتقان‪ ،‬وما ينحسسط‬
‫عن الخطأ من الساءة والتخليط؛ فهذا هو الفهم‪.‬‬
‫‪---------------‬‬
‫‪ 1‬نشرها حين المعركة بينه وبين الدكتور طسسه حسسسين حسسول كتسسابيه‪:‬‬
‫"رسسسائل الحسسزان" و"السسسحاب الحمسسر"؛ وللسسدكتور فيهمسسا وفسسي‬
‫أسلوبهما رأي‪.‬‬
‫وانظر كتابي‪" :‬المعركة تحت راية القرآن"‪ .‬و"حياة الرافعي"‪.‬‬
‫ويسمعها مرة ثانية بحسه أو لحسه‪ ،‬فيرى أثر ما فهم‪ ،‬ويسسديرها فسسي‬
‫ذوقه ليعرف كيف موقعها من الغسسرض السسذي وضسسعت لسسه‪ ،‬فإنهسسا لسسم‬
‫توضع لتكون أصواًتا‪ ،‬بل لتخلق من الصوات شيًئا؛ فهذا هسسو السسذوق‪،‬‬
‫وهو كما تراه بعد الفهم وناشئ عنسسه‪ .‬ومثسسل السسستاذ طسسه حسسسين ل‬
‫يخفى عليه أن من يقول‪ :‬إن الذوق في شيء إنما هو فهمه‪ ،‬أو إنما‬
‫هو عن فهمه‪ ،‬أو إنمسسا ينشسسأ عسسن فهمسسه‪ ،‬فالعبسسارة فسسي بسساب المجسساز‬
‫واحدة ل تختلف‪.‬‬
‫ثم إن أستاذ الموسيقى وقد سمع القطعة مرتيسسن‪ ،‬أو مسسرة كمرتيسسن‬
‫إن بلغ أن يكون له في كل أذن واحدة أذنان‪ ،‬يسسستفتي ذوقسسه الفنسسي‬
‫ويحكم للقطعة أم عليها؛ فهذا هو أثر الذوق‪.‬‬
‫الن قد حكسسم السسستاذ وانتقسسد وجسسزم برأيسسه‪ ،‬فنسسدب لسسه فلن يقسسول‪:‬‬
‫أخطأت وأسسأت وجهلسست وغفلسست‪ ،‬أو تعصسسبت وحططست فسسي هسسوى‬
‫صاحب اللحن؛ فمن أين جاء هذا الخلف وكيف وقع هذا القول؟ بسسل‬
‫كيف ساغ للثاني أن يجهل الول ويرى غير رأيه ويحكم غيسسر حكمسسه‪،‬‬
‫إل إذا كان قد فهم غير فهمه فأنشأ له الفهم ذوًقا وأحدث له السسذوق‬
‫ما وجاءت من هذه المقدمات تلسسك النتيجسسة السستي نسسسميها النقسسد‪،‬‬ ‫حك ً‬
‫ومسسا هسسي فسسي الحقيقسسة إل السسذوق والفهسسم جميعًسسا‪ ،‬فالسسذين يسسذوقون‬
‫الموسيقى ويطربون لها ول يفهمونها فقسسد فهموهسسا علسسى مقسسدار مسسا‬
‫استقر في نفوسهم من أساليب التطريب وما فيهم مسسن المطاوعسسة‬
‫لهذه العاطفة؛ أو ل تراهم يقولسون فسي أمثسال هسؤلء‪ :‬إن لهسم آذاًنسا‬
‫موسيقية؟ فهذه الذن هي الفهسسم بعينسسه‪ ،‬لنهسسا حاسسسة اجتمعسست مسسن‬
‫مران طويل‪ ،‬وقد تقسوم فسي بعسض النساس علسى جهلسه بالموسسيقى‬
‫مقام علم برأسه‪.‬‬
‫ويقول الستاذ طه‪ :‬إنه قد يقرأ كلمي ويفهمه ول يذوقه‪ ،‬ولكن عدم‬
‫الذوق هنا هو الذوق؛ وليت شعري ما معنى قول المتنبي‪:‬‬
‫ومن يك ذا فم مر‪...‬‬

‫‪349‬‬
‫ولو كان السسستاذ وأمثسساله هسسم فسسي هسسذا القيسساس المسستر والكيلومسستر‪،‬‬
‫لوجب أل أجد من يذوق كلمي ويعجب به ويغسسالي فيسسه ويكسسون ذنب ًسسا‬
‫من ذنوبي عند الله بإسرافه في المغالة‪ ،‬وأنا واجد لكل واحسسد مثسسل‬
‫الستاذ طه عشرة ومائة من غيره‪ ،‬ولو خرج هسسو إلسسى العسسالم لسسرأى‬
‫قا وأضخم هامة وأبسسدع‬ ‫وسمع‪ ،‬وفيهم من هم أعلى منه كعًبا وأمد عن ً‬
‫بديًعا وأبلغ وأزكى وأعلم إلى عدد من هذه الواوات‪.‬‬
‫وعجبسست للسسدكتور يريسسد أن ل يفهسسم مسسن عبسسارتي كمسسا يقسسول إل أن‬
‫"الذوق هو نفس الفهم‪ ،‬فاللفظسسان يسسدلن علسسى معنسسى واحسسد‪ ،‬وإذن‬
‫وإذن وإذن‪."..‬‬
‫فهل يرى إذا قلت له‪ :‬رأيت القمر وفلنة ليلة كذا فكسسانت إنمسسا هسسي‬
‫دا فيقول لها‪" :‬وإذن" فليسا شيئين‬ ‫القمر ‪-‬أني أقصد بهما معنى واح ً‬
‫مختلفيسسن وإنمسسا هسسو شسسيء واحسسد‪ ،‬وإذن فكيسسف صسسار لهسسا وجسسه فسسي‬
‫السماء ووجه في الرض وبقيت مسسع ذلسسك امسسرأة مسسن النسسس؛ وإذن‬
‫فهذا كلم ل يفهم‪...‬‬
‫قال بعضهم إن "لو" تفتسسح عمسسل الشسسيطان‪ ،‬يريسسد أنهسسا أداة التمنسسي‪،‬‬
‫والمذهب الجديد سيضم "إذن" إلى "لو" ثم ما هي الكلمة الثالثة يسسا‬
‫ترى؟‬
‫أنا ‪-‬مع إعجابي بالدكتور الفاضل‪ -‬أرى أنه مستهتر بأشسسياء‪ ،‬وأن مسسن‬
‫خلقه أن ما ل يرضى عنه وما ل يفهمه "ليسا شيئين مختلفين"‪ .‬فإذا‬
‫لم يكن من الفهم بد قال‪ :‬إنه ل يقتنع‪ ،‬فإذا ضايقته وضيقت عليه لم‬
‫يبق إل ما يقول النحاة فسسي "أي" السستي حيرهسسم إعرابهسسا وبناؤهسسا‪ :‬أي‬
‫كذا خلقت‪...‬‬
‫وأنا وأمثالي إنما نحرص أشد الحرص على هذه اللغة؛ لنهسسا أسسساس‬
‫المة السلمية فل نرضسسى غل أن يكسون هسسذا السسساس ثابت ًسسا متين ًسسا ل‬
‫يزعزعه شيء ول يثلمه شيء ول يضعفه شيء؛ والدكتور وأمثسساله ل‬
‫يبالون أن تكون هذه المة كبيوت أمريكا المتحركة‪...‬‬
‫لسسست أنكسسر التجديسسد‪ ،‬بسسل لعسسل السسدكتور يسسذكر مناقشسستي إيسساه فسسي‬
‫"الجريدة" وإصراره يومئذ أن ليس لحد أن يدخل فسسي اللغسسة كلمسسة‪،‬‬
‫وأن قول النسساس تنسزه ومتنسزه ونزهسة السسخ كلهسا منسا لكلم العسامي‪،‬‬
‫وتعلقه بنص ابن سيده فسسي ذلسسك‪ ،‬واسسستخراجي لسسه نسسص ابسسن قتيبسسة‬
‫ما كثيًرا من استعمال العلماء‪ ،‬ثم قوله أحسنت‪ ،‬ولكن لو جئتني‬ ‫وكل ً‬
‫باللفظة في كلم المبرد والجاحظ وفلن وفلن ما اقتنعت‪.‬‬
‫دا‪ ،‬وهو أن يقال مذهب قديم ومذهب جديد؛ فقسسد‬ ‫إنما أنكر شيًئا واح ً‬
‫وسسع اللسه علسى النسساس فيمسا علمسوا وفيمسا جهلسوا‪ ،‬ولكسن أصسسحابنا‬

‫‪350‬‬
‫طا بعينه‪ ،‬ول نذهب إل مسسذهًبا بعينسسه؛ لن كسسل‬ ‫يريدون أل نكتب إل نم ً‬
‫ذلك هو الجديد؛ فأيهما خير لنا ولهم وللذين سيخرجون تاريخهم مسسن‬
‫قبورنا‪ :‬أن نعتد اللغة والدب كل ما اجتمع من قسديم وجديسد ونحكسم‬
‫هذه اللغة ونحفظها وندفع عنها ونجعل تجديدها كتجدد الحسناء فسسي‬
‫أثوابها وفي ألوانها دون تشويه ول مسخ ول مسسس الجسسسم الجميسسل‪،‬‬
‫أن تقول‪ :‬هذه الشفة وهذا النف وهذا الموضع الممتلئ الخدل وهذا‬
‫الموضع الهضيم الناحسسل وتعسسال يسسا دكتسسور هسسات المبضسسع والمشسسرط‬
‫والمقص والمنشار والبرة والخيط وإذن‪...‬؟‬
‫لقد أذكر أني رأيت فسسي بعسسض مقسسالت السسستاذ طسسه حسسسين أو فسسي‬
‫ما أنه أقوى‬ ‫بعض ما يقرظ به الكتب أنه قال‪ :‬إن القديم قد أثبت دائ ً‬
‫وأمتن وأصح؛ فهل رجل عن هذا الرأي أم ظهر فسسي الجديسسد مسسا هسسو‬
‫أقوى وأمتن وأصح؟ ثم يا أيها المل أفتوني ما هو هسسذا الجديسسد؟ أهسسو‬
‫ذاك الخيال الشارد المجنون‪ ،‬أم تلك الشهوات المتوثبة المتلهفة‪ ،‬أم‬
‫ذلك السلوب الفج المتسوخم‪ ،‬أم العامية السقيمة الملحونة؛ أم هو‬
‫فسسي الحقيقسسة بيسسن رغبسسة فسسي النبسسوع قبسسل أن تتسسم الداة وتسسستحكم‬
‫الطريقة‪ ،‬كما هو شأن فريق من الكتاب‪ ،‬فيختصرون الطريق بكلمة‬
‫واحدة هي المذهب الجديد ‪ -‬وبين غربة في التعصب للداب الجنبية‬
‫كما هو شأن فريق آخر‪ -‬وبين رغبة في الحط من قيمة بعض الناس‬
‫ورميهم بالجهل والسخف وأنه ل قيمة لما يجيئون به‪ ،‬كسسل ذلسسك فسسي‬
‫تعبير علمي يصح أن يكون نظرية علمية‪ ...‬وقبلهم قالها العرب فسسي‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫طيُر اْلوِّلي َ‬ ‫ذا إ ِّل أ َ‬
‫سا ِ‬ ‫ن هَ َ‬
‫ذا إ ِ ْ‬ ‫مث ْ َ‬
‫ل هَ َ‬ ‫قل َْنا ِ‬
‫شاُء ل َ ُ‬‫القرآن الكريم‪} :‬ل َوْ ن َ َ‬
‫مسسا‪..‬‬‫فقد شاءوا فلم يقولوا؛ ولو أن المذهب الجديد فسر القسسرآن يو ً‬
‫لقال في معنى أساطير الولين إنهم أرادوا بهذا المذهب القديم‪...‬‬
‫ما ينصرون المسسذهب الجديسسد وليسسس‬ ‫ويقول الدكتور طه‪ :‬إن هناك قو ً‬
‫لهم من اللغسسات الجنبيسسة وآدابهسسا حسسظ‪ ،‬وحظهسسم مسسن اللغسسة العربيسسة‬
‫وآدابها موفور؛ ثم طلب رأيي في هؤلء وما أصسسل مسسذهبهم الجديسسد؛‬
‫فأقول‪ :‬إني أعرف بعضهم‪ ،‬وأعرف أن أدمغتهم ل يشسسبهها شسسيء إل‬
‫جلود بعض الكتسسب السستي ليسسس فيهسسا إل متسسن وشسسرح وحاشسسية‪ :‬جلسسد‬
‫ملفوف على ورق‪ ،‬وورق ينطوي على قواعد محفوظسسة‪ ،‬وهسسم أفقسسر‬
‫الناس إلى الرأي؛ وهذه علة حبهم للساليب الجديسسدة القائمسسة علسسى‬
‫الترجمة ونقسسل الراء مسسن الغسسرب إلسسى الشسسرق‪ ،‬وبسسالمعنى الصسسريح‬
‫المكشوف‪ :‬من الدمغة المملوءة إلى الدمغة الفارغة‪ ،‬وفيهم بعسسض‬
‫أذكياء‪ ،‬ولكن ذكاءهم في حواسهم‪ ،‬فإن لم يكسسن هسسذا فليقولسسوا هسسم‬
‫لماذا؟‬

‫‪351‬‬
‫ولسسو أنسسك سسسألت العنكبسسوت‪ :‬مسسا هسسي الظبيسسة الحسسوارء العينسساء السستي‬
‫تطمعين فيها وتنصبين لها كل هذه الشراك والحبسسائل؟ لقسسالت لسسك‪:‬‬
‫مهًل حتى تقع فتراها! فإذا وقعت رأيتها ثمة ورأيتها ذبابة‪..‬‬
‫ولكن ماذا يقول السسدكتور فسسي السسستاذ المسسام الكسسبير الشسسيخ محمسسد‬
‫عبسسده؟ أكسسان يسسدعو إلسسى مسسذهب جديسسد فسسي اللغسسة والدب ويفتتسسن‬
‫بالروايسسات الغراميسسة وبأسسسلوب "إميسسل زول" فسسي روايتسسه المعروفسسة‬
‫وبمثل رواية "الجرسون"‪.‬‬
‫إن كان الناس عند الدكتور من بعض الحجج فإن الشيخ وحسسده بأمسسة‬
‫كاملة ممن يعنيهم‪.‬‬
‫وأختتم هذه الكلمة بالشكر للستاذ طه حسين والثناء عليه‪ ،‬ثم إنسسي‬
‫مسترسل في عملي‪ ،‬وهذا عذري إليه‪.‬‬
‫‪‬‬

‫‪352‬‬
‫المرأة والميراث‬

‫قرأت في "المقطم" كلمة الكسساتب المعسسروف سسسلمة موسسسى فيمسسا‬


‫يزعمه إجابات مختصرة عن اعتراضات تهافت بها رأيه فسسي السسدعوة‬
‫إلى مساواة المرأة بالرجل في الميراث‪ ،‬وهسسو ينصسسح لمسسن يريسسد أن‬
‫يناقشه أن يقرأ نص محاضرته في "السياسة السبوعية"‪.‬‬
‫وقد رجعت إلسسى نسسص المحاضسسرة فسسإذا الكسساتب هسسو هسسو فسسي ضسسعف‬
‫تفكيره وسوء تقليده‪ ،‬يكاد ل يميسسز بيسسن السسرأي الصسسحيح الثسسابت فسسي‬
‫نفسه؛ لنه قائم على حكمته الباعثة عليه‪ ،‬وبين السسرأي المتغيسسر فسسي‬
‫كسسل نفسسس بحسسسبها؛ لنسسه قسسائم علسسى منسسزع أو غفلسسة أو مسسرض فسسي‬
‫النفس‪.‬‬
‫ترى الكاتب ل يدعو إل إلى تقليد أوربسسا‪ ،‬وتكسساد عبسساراته فسسي ذلسسك ل‬
‫تحصى ويقول‪ :‬إن "المصلح المثمر عندنا هو مقلد لوربا ل غش في‬
‫تقليده" فليس إل أوربا وتقليسسدها وإذا لسسم يكسسن فسسي أوربسسا قسسرآن ول‬
‫إسلم فالصلح المثمر عند الكاتب أل يبقى من ذلك شيء‪...‬‬
‫"مقلد أوربا ل غش في تقليده"‪ ،‬وما هو الغش فسسي التقليسسد؟ هسسو أن‬
‫تستعمل رأيك وفكرك فتدع وتأخذ على بينة في الحسسالين‪ ،‬وأن تسسأبى‬
‫أن تحمل على طبيعتك الشرقية ما ل تصلح عليسسه ول تقسوم بسسه؛ وإذا‬
‫انقلبت أوربسسا شسسيوعية أو إباحيسسة وجسسب أل نغسسش فسسي التقليسسد‪ ..‬وإذا‬
‫كانت الشمس ل تطلع ستة أشهر في بعض جهات أوربا وتطلسسع فسسي‬
‫مصر كل يوم وجب أن يكون المصري أعمى ستة أشهر‪...‬‬
‫والظاهر أن الكسساتب يقسسول بالتقليسسد؛ لنسسه طسسبيعي فيسسه‪ ..‬ورأيسسه فسسي‬
‫الميراث إنما هو ترجمة ‪ ..‬لعمل مصطفى كمال؛ وإن كان مصطفى‬
‫كمال قد أصلح الترك في سسسنوات كمسسا يقولسسون‪ :‬فبرهسسان التاريسسخ ل‬
‫يخضع للمشقة ول لمحسساكم السسستقلل ول يسسأتي إل فسسي وقتسسه السسذي‬
‫ما مما يكون حقيقة‪.‬‬ ‫سيأتي فيه‪ ،‬وسيرى الناس يومئذ ما يكون وه ً‬
‫ويرد الكاتب على رأي الستاذ الخلقي رئيس تحرير "المقطم" في‬
‫خشيته أن يقتصر الصسسلح علسسى القشسسور دون اللبسساب‪ ،‬فيقسسول‪ :‬إنسسه‬
‫"معتقد أن المة التي تشرع في اتخاذ المدنية الحديثة يجب أن تبسسدأ‬
‫بالقشور‪ ...‬لنها أسسسهل عليهسسا مسسن اللبسساب بسسل هسسي ل تسسستطيع غيسسر‬
‫ذلك"‪ .‬أكذلك بدأت اليابان؟‪ .‬وهل كل الطباع كطبيعة بعسسض النسساس‪،‬‬
‫تسسسستطيع أن تعتلسسسف قشسسسور المدنيسسسة‪ ..‬وتنصسسسرف إلسسسى مسسسداقها‬
‫وسفاسفها؟‬

‫‪353‬‬
‫ول ريب أن حضرته ل يفهم الدين السسسلمي؛ لنسسه ليسسس مسسن أهلسسه‪،‬‬
‫فهو يقرنا على ذلك‪ ،‬وهو بذلك يقرنا على أنه متطفل فسسي اقسستراحه؛‬
‫وإن الذي يقرأ في محاضرته قوله‪" :‬إن الطبقة الغنية في المة هسسي‬
‫التي تقرر ديانة المة‪ "..‬يستيقن أنه ل يفهم دينسسا مسسن الديسسان‪ ،‬وأنسسه‬
‫قصير النظر في أمور الجتماع وأبواب السياسة؛ وأن يمينه وشماله‬
‫وأمامه ووراءه إن هي إل جهات الزمام الذي ينقاد فيه؛ فل شخصسسية‬
‫له‪ ،‬وإنما يتابع وينقاد للراء التي يترجم منها بل نقد ول تمييز‪.‬‬
‫إن ميراث البنت في الشسسريعة السسسلمية لسسم يقصسسد لسسذاته‪ ،‬بسسل هسسو‬
‫مرتب على نظام الزواج فيها‪ ،‬وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمسسع‬
‫لخراج نتيجة صحيحة من العملين مًعا‪ ،‬فسسإذا وجسسب للمسسرأة أن تأخسسذ‬
‫من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها؛ وهذا الدين يقوم في‬
‫عا ويعسسدل بهسسا طباع ًسسا‬
‫أساسه على تربية أخلقية عالية ينشئ بها طبا ً‬
‫أخرى‪ ،‬كما بيناه في مقالنا المنشور في "مقتطف" هذا الشهر؛ فهو‬
‫يربأ بالرجل أن يطمع في مال المرأة أو يكون عالة عليها؛ فمسسن ثسسم‬
‫أوجب عليه أن يمهرها وأن ينفق عليها وعلى أولدهسسا‪ ،‬وأن يسسدع لهسسا‬
‫رأيهسسا وعملهسسا فسسي أموالهسسا‪ ،‬ل تحسسد إرادتهسسا بعملسسه ول بأطمسساعه ول‬
‫بأهوائه؛ وكسسل ذلسسك ل يقصسسد منسسه إل أن ينشسسأ الرجسسل عسسامًل كاس سًبا‬
‫دا‪ ،‬متهيًئا لمعسسالي المسسور‪ ،‬فسسإن الخلق كمسسا هسسو مقسسرر يسسدعو‬‫معتم س ً‬
‫بعضها إلى بعض‪ ،‬ويعين شيء منها على شيء يماثله‪ ،‬ويسسدفع قويهسسا‬
‫ضعيفها‪ ،‬ويأنف عاليها من سافلها؛ وقد قلنا إنسسه ل يجسسوز لمتكلسسم أن‬
‫يتكلم في حكمة الدين السلمي إل إذا كان قوي الخلق‪ ،‬فإن مسسن ل‬
‫يكون الشيء في طبعه ل يفهمه إل فهم جدل ل فهم اقتناع‪.‬‬
‫للمرأة حق واجب في مال زوجها‪ ،‬وليس للرجل مثل هذا الحق فسسي‬
‫مال زوجه؛ والسلم يحث على الزواج‪ ،‬بل يفرضه؛ فهو بهذا يضسسيف‬
‫دا‪ ،‬فإن هي سسساوت أخاهسسا فسسي‬ ‫إلى المرأة رجًل ويعطيها به ح ّ‬
‫قا جدي ً‬
‫الميراث مع هذه الميزة السستي انفسسردت بهسسا انعسسدمت المسسساواة فسسي‬
‫الحقيقة‪ ،‬فتزيد وينقص؛ إذ لها حق الميراث وحق النفقسسة وليسسس لسسه‬
‫إل مثل حقها في الميراث إذا تساويا‪.‬‬
‫فإن قلت كما يقول سلمة موسى‪ :‬إن في الحسسق أن تنفسسق المسسرأة‬
‫على الرجل وأن تدفع له المهر ثسسم تسسساويه فسسي الميسسراث‪ ،‬قلنسسا‪ :‬إذا‬
‫تقرر هذا وأصبح أصسًل يعمسسل عليسسه بطسسل زواج كسسل الفقيسسرات وهسسن‬
‫سواد النسوة؛ إذ ل يملكن ما يمهرن به ول ما ينفقن منسسه؛ وهسسذا مسسا‬
‫يتحاماه السلم؛ لنه فيه فسسساد الجتمسساع وضسسياع الجنسسسين جميعًسسا؛‬
‫ض بطسسبيعته إلسسى جعسسل السسزواج للسسساعة ولليسسوم وللسسوقت‬ ‫وهسسو مف س ٍ‬

‫‪354‬‬
‫المحدود‪ ..‬وليجاد لقطاء الشوارع‪ ،‬بدًل من أن يكسون السزواج للعمسر‬
‫وللواجب ولتربية الرجل على احتمال المسسؤولية الجتماعيسة بإيجساد‬
‫السرة وإنشائها والقيام عليها والسعي في مصالحها‪.‬‬
‫مسسن هنسسا وجسسب أن ينعكسسس القيسساس إذا أريسسد أن تسسستقيم النتيجسسة‬
‫الجتماعية التي هي في الغاية ل من حق الرجل ول من حق المسسرأة‬
‫بل من حق المة؛ وما نساء الشوارع ونساء المعامل في أوربسسا مسسن‬
‫نتائج ذلك النظام الذي جاء مقلوًبا‪ ،‬فهسسن غلطسسات السسبيوت المتخربسسة‬
‫والمسسسؤولية المتهدمسسة‪ ،‬وهسسن الواجبسسات السستي ألقاهسسا الرجسسال عسسن‬
‫أنفسهم فوقعت حيث وقعت!‬
‫وإذا انزاحت مسؤولية المسسرأة عسسن الرجسسل انزاحسست عنسسه مسسسؤولية‬
‫النسل‪ ،‬فأصبح لنفسه ل لمته؛ ولو عم هذا المسسسخ الجتمسساع أسسسرع‬
‫فيه الهرم وأتى عليه الضعف‪ ،‬وأصبحت الحكومات هي التي تستولد‬
‫الناس على الطريقة التي تستنتج بها البهائم‪ ،‬وقسسد بسسدأ بعسسض كتسساب‬
‫أوربا يدعون حكوماتهم إلى هذا الذي ابتلوا به ول يدرون سسسببه ومسسا‬
‫فا‪.‬‬
‫سببه إل ما بينا آن ً‬
‫ثم إن هناك حكمة سامية‪ ،‬وهي أن المرأة ل تسسدع نصسسف حقهسسا فسسي‬
‫الميراث لخيها يفضلها به ‪-‬بعد الصل الذي نبهنا إليه‪ -‬إل لتعين بهسسذا‬
‫العمل فسسي البنسساء الجتمسساعي؛ إذ تسسترك مسسا تسستركه علسسى أنسسه لمسسرأة‬
‫أخرى‪ ،‬هي زوج أخيها؛ فتكون قد أعانت أخاهسسا علسسى القيسسام بسسواجبه‬
‫للمة‪ ،‬وأسدت للمة عمًل آخر أسمى منسسه بتيسسسير زواج امسسرأة مسسن‬
‫النساء‪.‬‬
‫فأنت ترى أن مسألة الميسسراث هسسذه متغلغلسسة فسسي مسسسائل كسسثيرة ل‬
‫منفردة بنفسسسها‪ ،‬وأنهسسا أحكسسم الحكمسسة إذا أريسسد بالرجسسل رجسسل أمتسسه‬
‫وبالمرأة امرأة أمتها‪ ،‬فأما إذا أريد رجل نفسه وامرأة نفسها‪ ،‬وتقرر‬
‫أن الجتمسساع فسسي نفسسسه حماقسسة وأن الحكومسسة خرافسسة‪ ،‬وأن المسسة‬
‫ضللة‪ ،‬فحينئذ ل تنقلب آية الميراث وحدها بل تنقلب الحقيقة‪.‬‬
‫ومما نعجب لسسه أن سسسلمة موسسسى يتكلسسم فسسي محاضسسرته كسسأن كسسل‬
‫الوالدين ذوو مال وعقار‪ ،‬فنصف المة على هذا محروم نصف حقسسه‬
‫وكأنه ل يعرف أن السواد العظم من النسساس ل يسسترك مسسا يسسورث‪ ،‬ل‬
‫على الربع ول على النصف؛ وأن كثيًرا ممن يموتسسون عسسن ميسسراث ل‬
‫ما من بعدهم‪ ،‬ثم يسسذهب فسسي السسديون‪ ،‬إذ ل تركسسة‬ ‫يحيا ميراثهم إل أيا ً‬
‫مع ديسسن‪ ،‬وكسسثيرون ل يسسمن ميراثهسسم ول يغنسسي‪ ،‬فلسسم تبسسق إل فئات‬
‫معينسسة مسسن كسسل أمسسة ل يجسسوز أن تنقلسسب مسسن أجلهسسا تلسسك الحكمسسة‬

‫‪355‬‬
‫الجتماعية التي هي من حظ المومة كلها لقيام بعض الخلق عليهسسا‬
‫كما بسطناه‪.‬‬
‫ومما تشمئز له النفوس الكريمة قول المترجم فسسي محاضسسرته‪ :‬فلسسو‬
‫كانت الفتيان يرثن مثل إخوتهن الذكور‪ ،‬لكان "فسسي ثروتهسسن" إغسسراء‬
‫للشبان على الزواج ‪..‬‬
‫إن الدين السلمي ل يعرف مثل هذا السفاف في الخلق ول يقسسره‪،‬‬
‫ما ويسسوجب علسسى كسسل رجسسل أن يحمسسل قسسسطه مسسن‬ ‫بل هو يهدمه هد ً‬
‫قا إن كره أو رضي‪ ،‬ولعمري‪ ،‬إن تلك الكلمسسة‬ ‫المسؤولية ما دام مطي ً‬
‫وحدها من كاتبها لهي أدل من اسم المحل على بضاعة المحل‪...‬‬
‫كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة‬
‫كلمة مؤمنة في رد "كلمة كافرة"‪:1‬‬
‫تلقيت كتاًبا هذه نسخته‪:‬‬
‫أكتب إليك متعجًل بعد أن قرأت "كلمة كافرة" في "كوكب الشسرق"‬
‫الصادر مساء الجمعة ‪ 27‬من أكتوبر؛ كتبها متصدر من نوع قولهم‪:‬‬
‫حبذا المارة ولو على الحجارة ‪ ...‬وسمى نفسه "السيد‪ ،‬فإن صسسدق‬
‫فيما كتب صدق في هذه التسمية‪.‬‬
‫طعن القرآن وكفر بفصاحته‪ ،‬وفضل على آيسسة مسسن كلم اللسسه جملسسة‬
‫مسسن أوضسساع العسسرب‪ ،‬فعقسسد فصسسله بعنسسوان "العسسثرات" علسسى ذلسسك‬
‫ن الية عثرة من عثرات الكتسساب يصسسححها ويقسسول فيهسسا‬ ‫التفضيل‪ ،‬كأ ّ‬
‫قوله في غلط الجرائد والناشئين في الكتابة؛ وبرقع وجهه وجبسسن أن‬
‫يستعلن‪ ،‬فأعلن بزندقته أنه حديث في الضللة‪.‬‬
‫غلى الدم في رأسي حين رأيت الكاتب يلج في تفضيل قول العرب‪:‬‬
‫"القتل أنفسسى للقتسسل" علسسى قسسول اللسسه ‪-‬تعسسالى‪ -‬فسسي كتسسابه الحكيسسم‪:‬‬
‫ة{ ]البقسسرة‪ ،[179 :‬فسسذكرت هسسذه اليسسة‬ ‫حي َسسا ٌ‬‫ص َ‬ ‫صسسا ِ‬‫ق َ‬ ‫م فِسسي ال ْ ِ‬ ‫}وَل َك ُس ْ‬
‫َ‬
‫م{ ]النعسسام‪[121 :‬‬ ‫ن إ ِل َسسى أوْل ِي َسسائ ِهِ ْ‬‫حسسو َ‬ ‫ن ل َُيو ُ‬ ‫طي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ش سَيا ِ‬ ‫القائلسسة‪} :‬وَإ ِ ّ‬
‫ض{‬ ‫ض سه ُ ْ َ‬ ‫س َوال ْ ِ‬ ‫وهذه اليسسة‪َ } :‬‬
‫م إ ِلسسى ب َعْس ٍ‬ ‫حي ب َعْ ُ‬ ‫ن ي ُسسو ِ‬
‫جس ّ‬ ‫لنس ِ‬ ‫نا ِ‬ ‫طي َ‬
‫شسَيا ِ‬
‫]النعام‪ [112 :‬ثم هممت بالكتابة فاعترضني ذكرك‪ ،‬فألقيت القلسسم؛‬
‫لتناوله بعد ذلك وأكتب به إليك‪.‬‬
‫ففي عنقك أمانة المسلمين جميًعا لتكتبن في الرد على هذه الكلمة‬
‫الكافرة لظهار وجه العجاز في اليسسة الكريمسسة‪ ،‬وأيسسن يكسسون موقسسع‬
‫الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقسسة إن تركسست تأخسسذ مأخسسذها فسسي‬
‫ةل‬ ‫قسسوا فِت ْن َس ً‬
‫الناس؛ جعلت السسبر فسساجًرا‪ ،‬وزادت الفسساجر فجسسوًرا‪َ} :‬وات ّ ُ‬
‫ة{ ]النفال‪.[25 :‬‬ ‫ص ً‬ ‫خا ّ‬‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫موا ِ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫صيب َ ّ‬‫تُ ِ‬
‫‪---------------‬‬

‫‪356‬‬
‫‪ 1‬البلغ‪ .‬نوفمسسسسبر سسسسسنة ‪ ،1923‬وانظسسسسر ص ‪" 174-172‬حيسسسساة‬
‫الرافعي"‪.‬‬
‫صا‪ ،‬يمليها على الحسسق السسذي أعلسسم‬ ‫واعلم أنه ل عذر لك‪ .‬أقولها مخل ً‬
‫إيمانك به‪ ،‬وتفانيك في إقراره والمدافعة عنه والذود عسسن آيسساته؛ ثسسم‬
‫اعلم أنك ملجأ يعتصسسم بسسه المؤمنسسون حيسسن تناوشسسهم ذئاب الزندقسسة‬
‫الدبية التي جعلت همها أن تلغ ولوغها في البيان القرآني‪.‬‬
‫ولست أزيدك‪ ،‬فإن موقفي هذا موقف المطالب بحقه وحق أصحابه‬
‫من المؤمنين وأذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسسسلم‪" :‬مسسن‬
‫مسسا بلجسسام مسسن نسسار" أو كمسسا‬
‫ما فكتمه جاء يسسوم القيامسسة ملج ً‬ ‫سئل عل ً‬
‫قال‪..‬‬
‫والسلم عليكم ورحمة الله‪.‬‬
‫م‪.‬م‪.‬ش‬
‫قرأت هذا الكتاب فاقشسسعر جسسسمي لوعيسسد النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه‬
‫وسسسلم‪ ،‬وجعلسست أردد الحسسديث الشسسريف أسسستكثر منسسه وأمل نفسسسي‬
‫ي كسسل مسسرة‪ ،‬فسسإذا هسسو أبلسسغ تهكسسم بالعلمسساء‬
‫بمعسسانيه‪ ،‬وإنسسه ليكسسثر ف س ّ‬
‫المتجسساهلين‪ ،‬والجهلء المتعسسالمين؛ وإذا هسسو يؤخسسذ مسسن ظسساهره أن‬
‫مسسا‪،‬‬‫العالم الذي يكتم علمه النافع عن الناس يجيء يوم القيامسسة ملج ً‬
‫ويؤخذ من باطنه أن الجاهل الذي يبث جهله الضار في الناس يجيء‬
‫عا‪ ..‬أي‪ :‬فهذا وهذا كلهما من حمير جهنم!‬ ‫ما مبرذ ً‬‫يوم القيامة ملج ً‬
‫والتمست عدد "الكوكب" الذي فيه المقال وقرأته‪ ،‬ولم أكن أصسسدق‬
‫أن في العالم أديبا مميًزا يضع نفسه هذا الموضع من التصسسفح علسسى‬
‫كلم الله وأساء الدب في وضع آية منه بين عسسثرات الكتسساب‪ ،‬فض سًل‬
‫عن أن يسمو لتفضيل كلمة من كلم العرب علسسى اليسسة‪ ،‬فض سًل عسسن‬
‫أن يلج في هذا التفضيل‪ ،‬فضًل عسسن أن يتهسسوس فسسي هسسذه اللجاجسسة؛‬
‫ولكن هذا قد كان‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله!‬
‫ولعمري وعمر أبيسسك أيهسسا القسسارئ‪ ،‬لسسو أن كاتب ًسسا ذهسسب فأكسسل فخلسسط‬
‫فتضلع فنام فاستثقل فحلم‪ ..‬أنسسه يتكلسسم فسسي تفضسسيل كلمسسة العسسرب‬
‫فا‬‫على تلك الية‪ ،‬واجتهد جهده‪ ،‬وهو نائم ذاهب الوعي فلم يأل تخري ً‬
‫واستطالة‪ ،‬وأخذ عقله البسساطن يكنسسس دمسساغه ويخسسرج منسسه "الزبالسسة‬
‫العقلية" ليلقيها في طريق النسيان أو في طريق الشيطان ‪-‬لما جاء‬
‫في شأوه بأسخف ول أبسسرد مسسن مقالسسة "السسسيد" فسسسواء أوقسسع هسسذا‬
‫التفضيل من جهة الهذيان والتخريف كما فعل كسساتب النسسوم‪ ،‬أم وقسسع‬
‫من جهة الخلط والحبط ما فعل كاتب الكوكب ‪-‬فهذا من هذا‪ ،‬طباق‬
‫سخافة بسخافة‪..‬‬

‫‪357‬‬
‫نعم إن مقالة الكوكب أفضل من مقالة الكاتب الحالم‪ ...‬ولكن قليل‬
‫الزيت في الزجاجة التي أهديت لجحا ل يعد زيًتا ما دام هسسذا القليسسل‬
‫يطفو على ملء الزجاجة من‪ ..‬من البول!‬
‫ولقد تنبأ القاضي الباقلني قبل مئات السنين بمقالسسة الكسسوكب هسسذه‬
‫فأسفلها الرد بقوله‪:‬‬
‫"فسسإن اشسستبه علسسى متسسأدب أو متشسساعر أو ناشسسئ أو مرم سد ٍ فصسساحة‬
‫القرآن وموقع بلغته وعجيب براعته فما عليك منه‪ ،‬إنمسسا يخسسبر عسسن‬
‫نفسه‪ ،‬ويدل على عجزه‪ ،‬ويبين عن جهلسسه‪ ،‬ويصسسرح بسسسخافة فهمسسه‬
‫وركاكة عقله" ما علينا‪...‬‬
‫يقول كاتب الكوكب بالنص‪:‬‬
‫ما في معنى القصسساص‪" :‬القتسسل أنفسسى للقتسسل"‪ ،‬ثسسم‬ ‫قالت العرب قدي ً‬
‫م فِسسي‬ ‫أقبل القرآن الكريم علسسى آثسسار العسسرب "هكسسذا" فقسسال‪} :‬وَل َك ُس ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن{ ]البقسسرة‪ ،[179 :‬وقسسد‬ ‫قسسو َ‬ ‫ب ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬ ‫حَياة ٌ َيا أوِْلي الل َْبا ِ‬
‫ص َ‬
‫صا ِ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ق َ‬
‫مضت سسسنة العلمسساء مسن أسساطين البيسان أن يعقسسدوا الموازنسسة بيسسن‬
‫مقالة العرب هذه وبين الية الحكيمة أيتهما أشبه بالفصاحة "هكذا"‪،‬‬
‫ثم يخلصون منها إلى تقديم اليسسة والبيسسان القرآنسسي‪ ...‬ثسسم قسسال‪ :‬مسن‬
‫رأي كسساتب هسسذه الكلمسسة تقسسديم الكلمسسة العربيسسة علسسى اليسسة الغسسراء‪،‬‬
‫"اللهم غفًرا" على ثلسسج الصسسدر بإعجسساز القسسرآن "كلمسسة للوقايسسة مسسن‬
‫النيابة‪ ...‬وإل فماذا بقي مسسن العجسساز وقسسد عجسسزت اليسسة؟ ِزه ِزه يسسا‬
‫رجل‪"...‬‬
‫ثم قال‪ :‬إن فيم تقدم به الكلمة العربية على الية الحكيمسسة ‪"-‬اللهسسم‬
‫غفًرا"‪ -‬مزايا ثلًثسا‪ :‬أولسسى هسسذه المزايسسا الثلث‪ ،‬هسذا اليجساز السساحر‬
‫فيها؛ ذلك أن‪" :‬ألقتل أنفسسى للقتسسل" ثلث كلمسات ل أكسسثر‪ ،‬أمسا اليسسة‬
‫دا‬
‫دا وأسسسبق ميل ً‬ ‫فإنها سبع كلمات "كذا"‪ ،‬وعلى تلك فهي أقسسدم عه س ً‬
‫من آية التنزيل "تأمل" حاشا كلم اللسسه القسسديم‪ ،‬واليجسساز ميسسزة أيسسة‬
‫ميزة؛ الميزة الثانية للكلمة الستقلل الكتابي وقد التعاقد بينها وبين‬
‫شيء آخر سابق عليها‪ ،‬حتى أن المتمثل بهسسا المستشسسهد يبتسسدئ بهسسا‬
‫ما ويختتمسسه فسسي غيسسر مزيسسد ول فضسسل‪ ،‬فل يتوقسسف ول‬ ‫حسسديًثا مسسستت ً‬
‫يستعين بغيرها‪ ،‬أما الية فإنهسسا منسسسوقة مسسع مسسا قبلهسسا بسسالواو‪ ،‬فهسسي‬
‫متعاقدة مترابطة معه‪ ،‬ل يتمثل بهسسا المتمثسسل حسستى يسسستعين بشسسيء‬
‫سواها‪ ،‬وليس الذي يعتمد على غيره فل يستقل كالذي يعتمسسد علسسى‬
‫نفسه فيستقل؛ الميزة الثالثة أن الكلمة ليست متصسسلة فسسي آخرتهسسا‬
‫بفضل من القول تغني عنه‪ ،‬على حين تتصل بالية بما تغني عنه من‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب{ ]البقسسرة‪[179 :‬‬ ‫القول‪ .‬ويعتد كالفضل وهو كلمتا }َيا أوِْلي الل ْب َسسا ِ‬

‫‪358‬‬
‫ن{ ]البقرة‪ ،[179 :‬وإن كان ل زيسسادة فسسي القسسرآن ول‬ ‫قو َ‬ ‫و}ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬
‫فضول‪.‬‬
‫سا جاء بالفصل الذي عقده المسسام السسسيوطي فسسي‬ ‫ثم قال‪ :‬إن مدر ً‬
‫كتسسابه "التقسسان" لتفضسسيل اليسسة علسسى الكلمسسة وفيسسه قرابسسة خمسسسة‬
‫حجة؛ قال‪ :‬إنها انحطت بعد أن رماها بنظسسره العسسالي إلسسى‬ ‫وعشرين ُ‬
‫أربع‪" :‬أما الباقيات فمن نسسسج النتحسسال والتزيسسد"‪ ،‬قسسال‪ :‬وأولهسسا أن‬
‫ظا‪ ،‬والكاتب يرى الية‪" :‬سبع كلمات في تحديد ودقة"‪،‬‬ ‫الية أوجز لف ً‬
‫قال‪ :‬إذا لقسسد بطلسست حجسسة اليجسساز فسسي اليسسة "اللهسسم غف سًرا"‪ ،‬قسسال‪:‬‬
‫والثانية‪" :‬أن في الكلمة العربية تكسسراًرا لكلمسسة القتسسل سسسلمت اليسسة‬
‫منه‪ ،‬ورد الكاتب أن هذا التكرار‪" :‬يتحلل طلوة ويقطر رقة‪" ،‬قال"‪:‬‬
‫وهذا فمسسي فيسسه طعسسم العسسسل‪" ،‬قلنسسا‪ :‬وعليسسه السسذباب يسسا سسسيدنا‪"...‬‬
‫والثالثة‪ :‬أن في الية ذكًرا للقصاص بلفظه على حين ل تذكر الكلمة‬
‫صسسا؛ ودفسسع الكسساتب هسسذا بسسأن‬
‫إل القتل وحسسده‪ ،‬وليسسس كسسل قتسسل قصا ً‬
‫الكلمة انطوت على قتلين أحدهما ينفي صاحبه‪ ،‬فذاك هو القصاص؛‬
‫قال‪" :‬إذن فالكلمة والية في قصد القصاص يلتقيان فرسي رهان"؛‬
‫والرابعة‪ :‬أن القصسساص فسسي اليسسة أعسسم يشسسمل القتسسل وغيسسره‪ .‬وأقسسر‬
‫الكاتب أن للية فضًل على الكلمة مسسن هسسذه الناحيسسة‪ ،‬ولكسسن الكلمسسة‬
‫حكمة ل شريعة‪ ،‬وهي من قضاء الجاهلية‪ ،‬فليس عليهسسا أن تسسبين مسسا‬
‫لم يعرفه العرب ولم يخلق بعد‪ ،‬قال‪" :‬إذن فليست الكلمة مقصسسرة‬
‫عن بيان‪ ،‬متبلدة عن إحسان"‪.‬‬
‫هذا كل مقاله بحروفه بعد تخليصه من الركاكة والحشو وما ل طائل‬
‫تحته‪ ،‬ونحن نستغفر الله ونسسستعينه ونقسسول قولنسسا‪ ،‬ولكنسسا نقسسدم بيسسن‬
‫يدي ذلك مسألة‪ ،‬فمن أين للكاتب أن كلمسسة‪" :‬القتسسل أنفسسى للقتسسل"‬
‫مما صحت نسبته إلى عرب الجاهليسسة‪ ،‬وكيسسف لسسه أن يثبسست إسسسنادها‬
‫إليهم وأن يوثق هذا السسسناد حسستى يسسستقيم قسسوله‪ :‬إن القسسرآن أقبسسل‬
‫على آثار العرب؟‪...‬‬
‫أنا أقرر أن هذه الكلمسسة مولسسدة وضسسعت بعسسد نسسزول القسسرآن الكريسسم‬
‫وأخذت من الية‪ ،‬والتوليد بّين فيها‪ ،‬وأثر الصنعة ظاهر عليها؛ فعلسسى‬
‫الكاتب أن يدفع هذا بما يثبت أنها مما صح نقله عن الجاهليسسة؛ ولقسسد‬
‫جاء أبو تمام بأبدع وأبلغ من هذه الكلمة في قوله‪:‬‬
‫وأخافكم كي تغمدوا أسيافكمإن الدم المغبر يحرسه الدم‬
‫"الدم يحرسه الدم" هذه هي الصناعة وهذه هي البلغة ل تلك‪ ،‬ومسسع‬
‫هذا فكلمة الشاعر مولدة من الية‪ ،‬يدل عليها البيت كله؛ وكسسأن أبسسا‬

‫‪359‬‬
‫تمام لم يكن سمع قولهم‪" :‬القتسسل أنفسسى للقتسسل"‪ ،‬وأنسسا مسسستيقن أن‬
‫الكلمة لم تكن وضعت إلى يومئذ*‪.‬‬
‫ولو أن متمثًل أراد أن يتمثل بقول أبي تمام فسسانتزع منسسه هسسذا المثسسل‬
‫ما من الحتم أن يقسسال لسسه‪ :‬كل يسسا هسسذا‬ ‫الدم يحرسه الدم"‪ ،‬أيكون حت ً‬
‫فإن البيت سبع كلمات فل يصح انتزاع المثل منه ول بسسد مسسن قسسراءة‬
‫البيت بمصراعيه كما يقول كاتب الكوكب في اليسسة الكريمسسة ليزعسسم‬
‫أنها ل تقابل الكلمة العربية في اليجاز؟‬
‫إن الذي في معاني الية القرآنية مما ينظر إلى معنى قسسولهم القتسسل‬
‫أنفى للقتل كلمتان ليس غير‪ ،‬وهما "القصاص‪ ،‬حياة"؛ والمقابلة في‬
‫المعاني المتمثلة إنما تكون باللفاظ التي تسسؤدي هسسذه المعسساني دون‬
‫ما تعلقت به أو تعلق بها مما يصل المعنى بغيره أو يصسسل غيسسره بسسه؛‬
‫إذ الموازنة بين معنيين ل تكون إل في صناعة تركيبهما‪ ،‬ويخيسسل إلسسي‬
‫أن الكاتب يريد أن يقول إن في باقي الية الكريمة لغو وحشو‪ ،‬فهو‬
‫حميلة على الكلمتين‪ :‬القصاص حيساة‪ ،‬يريسد أن يقولهسا‪ ،‬ولكنسه غسص‬
‫بها‪ ،‬وإل فلماذا يلج في أنه ل بد في التمثل‪ ،‬أي ل بسسد فسسي المقابلسسة‪،‬‬
‫من رد الية بألفاظها جميًعا؟‬
‫فإذا قيل‪ :‬إنه ل يجوز أن يتغير العراب فسسي اليسسة‪ ،‬ويجسسب أن يكسسون‬
‫عا منها على التلوة‪ ،‬قلنا‪ :‬فإن ما يقابل الكلمة منها حينئذ‬ ‫المثل منتز ً‬
‫هو هسسذا‪" ،‬فسسي القصسساص حيسساة"‪ ،‬وجملتهسا اثنسسا عشسسر حرفًسسا‪ ،‬مسسع أن‬
‫الكلمة أربعة عشر‪ ،‬فاليجاز عند المقابلة هو في الية دون الكلمة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن{ ]البقسسرة‪ ،[179 :‬لسسو‬ ‫قسسو َ‬ ‫ب ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬ ‫وأما قوله تعالى‪} :‬أوِْلي الل َْبا ِ‬
‫كان الكاتب من أولي اللباب لفهمها وعرف موقعهسسا وحكمتهسسا‪ ،‬وأن‬
‫إعجاز الية ل يتم إل بها‪ ،‬إذ أريد أن تكون معجزة زمنية كما سنشسسير‬
‫إليه‪ ،‬ولكن أني له وهو من الفن البياني على هذا البعسسد السسسحيق‪ ،‬ل‬
‫يعلم أن آيات القرآن الكريم كالزمن في نسقها‪ :‬ما فيسسه مسسن شسسيء‬
‫يظهره إل ومن ورائه سر يحققه‪.‬‬
‫ثم إن اليجاز في الكلمة العربية ليسسس مسسن "اليجسساز السسساحر" كمسسا‬
‫يصفه الكاتب‪ ،‬بل هو عندنا من اليجسساز السسساقط؛ وليسسس مسسن قبيسسل‬
‫إيجاز الية الكريمة ول يتعلق به فضسًل عسسن أن يشسسبهه؛ إذ ل بسسد فسسي‬
‫فهم صيغة التفضيل من تقدير المفضل عليه‪ ،‬فيكون المعنى "القتل‬
‫أكثر نفًيا للقتل من كذا"‪ ،‬فما هو هذا "الكذا" أيها الكاتب المتعثر؟‬
‫أليس تصور معنى العبارة وإحضاره في الذهن قد أسقطها ونزل بها‬
‫إلى الكلم السسسوقي المبتسسذل وأوقسسع فيهسسا الختلل؟ وهسسل كسسانت إل‬
‫فسسا‪ ،‬حسستى إذا‬
‫صناعة شسسعرية خياليسسة ملفقسسة كمسسا أومأنسسا إلسسى ذلسسك آن ً‬

‫‪360‬‬
‫أجريتها على منهجها من العربية رأيتها في طريقة هذا الكلم العربي‬
‫المريكاني كقول القائل‪" :‬الفسسرح أعظسسم مسسن السسترح"‪" ،‬الحيسساة هسسي‬
‫التي تعطى للحياة"‪...‬؟‬
‫بهذا الرد الموجز بطلت الميسسزات الثلث الستي زعمهسا الكساتب لتلسك‬
‫الكلمة‪ ،‬وإن الكلمة نفسها لتبرأ إلى الله من أن تكون لها على الية‬
‫ميزة واحدة فضًل عن ثلثة‪.‬‬
‫ضا" أن الكلمة وثيقة السناد إلى عرب الجاهليسسة وأنهسسا‬ ‫ولنفرض "فر ً‬
‫من بيانهم‪ ،‬فما الذي فيها؟‬
‫‪ -1‬إنها تشبه قول من يقول لك‪ :‬إن قتلت خصمك لسسم يقتلسسك‪ .‬وهسسل‬
‫هذا إل هذا؟‬
‫وهل هو إل بلغة من الهذيان؟‬
‫‪ -2‬إنها تشبه أن تكون لغة قسساطع طريسسق عسسارم يتسسوثب علسسى الحلل‬
‫والحرام ل يخرج لشأنه إل مقرًرا في نفسه أنه إما قاتسسل أو مقتسسول‪،‬‬
‫ولسسذلك تكسسرر فيهسسا القتسسل علسسى طرفيهسسا‪ ،‬فهسسو مسسن أشسسنع التكسسرار‬
‫وأفظعه‪.‬‬
‫‪ -3‬إن فيها الجهل والظلسسم والهمجيسسة‪ ،‬إذ كسسان مسسن شسسأن العسسرب أل‬
‫تسلم القبيلة العزيزة قاتًل منها‪ ،‬بل تحميه وتمنعسسه‪ ،‬فتنقلسسب القبيلسسة‬
‫كلها قاتلة بهسسذه العصسسبية؛ فمسسن ثسسم ل ينفسسي عسسار القتسسل عسسن قبيلسسة‬
‫المقتول إل الحرب والستئصال قتًل قتًل وأكل الحيسساة للحيسساة‪ ،‬فهسسذا‬
‫من معاني الكلمة‪ :‬أي القتل أنفى لعار القتل‪ ،‬فل قصسساص ول قضسساء‬
‫كما يزعم الكاتب‪.‬‬
‫‪ -4‬إن القتل في هذه الكلمة ل يمكن أن يخصص بمعنى القصاص إل‬
‫إذا خصصسسته اليسسة فيجيسسء مقترن ًسسا بهسسا‪ ،‬فهسسو مفتقسسر إليهسسا فسسي هسسذا‬
‫المعنى‪ ،‬وهي تلبسه النسانية كما تسسرى‪ ،‬ولسسن يسسدخله العقسسل إل مسن‬
‫معانيها؛ وهذا وحده إعجاز في الية وعجز من الكلمة‪.‬‬
‫وقبل أن نبين وجوه العجاز في الية الكريمسسة ونسسستخرج أسسسرارها‪،‬‬
‫نقول لهذا الطفيلي‪ :‬إنه ليس كل مسسن اسسستطاع أن يطي ّسسر فسسي الجسسو‬
‫ة في قصبة في خيط جاز له أن يقول فسي تفضسسيل ورقتسه علسسى‬ ‫ورق ً‬
‫منطاد زبلين‪ ،‬وأن فيما تتقدم به على المنطاد الكريسسم ميسسزات ثلث ًسسا‪:‬‬
‫الذيل‪ ،‬والورق الملون‪ ،‬والخيط‪...‬‬
‫ة{ ]البقرة‪.[179 :‬‬ ‫حَيا ٌ‬
‫ص َ‬
‫صا ِ‬
‫ق َ‬ ‫م ِفي ال ْ ِ‬
‫يقول الله تعالى‪} :‬وَل َك ُ ْ‬
‫م{ ]البقرة‪ ،[179 :‬وهذا قيد يجعل هذه الية‬ ‫‪ -1‬بدأ الية بقوله }وَل َك ُ ْ‬
‫خاصة بالنسانية المؤمنة التي تطلب كمالهسا فسي اليمسان‪ ،‬وتلتمسس‬
‫في كمالها نظام النفس‪ ،‬وتقرر نظام النفس بنظام الحياة؛ فسسإذا لسسم‬

‫‪361‬‬
‫قا في الناس فل حياة في القصسساص‪ ،‬بسسل تصسسلح حينئذ‬ ‫يكن هذا متحق ً‬
‫كلمة الهمجية‪ :‬القتل أنفى للقتل‪ ،‬أي اقتلوا أعداءكم ول تدعوا منهم‬
‫دا‪ ،‬فهذا هو الذي يبقيكم أحياء وينفي عنكم القتل؛ فالية الكريمسسة‬ ‫أح ً‬
‫بدللسسة كلمتهسسا الولسسى موجهسسة إلسسى النسسسانية العاليسسة‪ ،‬لتسسوجه هسسذه‬
‫النسانية في بعض معانيها إلى حقيقة من حقائق الحياة‪.‬‬
‫ص{ ]البقرة‪ [179 :‬ولم يقل في القتل‪ ،‬فقيسسده‬ ‫صا ِ‬ ‫‪ -2‬قال‪ِ} :‬في ال ْ ِ‬
‫ق َ‬
‫بهذه الصيغة التي تدل على أنه جزاء ومؤاخذة‪ ،‬فل يمكسسن أن يكسسون‬
‫منه المبادأة بالعدوان‪ ،‬ول أن يكون منه ما يخرج عن قسسدر المجسسازاة‬
‫قل أو كثر‪.‬‬
‫‪ -3‬تفيد هذه الكلمة "القصاص" بصيغتها "صيغة المفاعلة" ما يشسسعر‬
‫بوجوب التحقيق وتمكين القاتسسل مسسن المنازعسسة والسسدفاع‪ ،‬وأل يكسسون‬
‫قصاص إل باستحقاق وعدل؛ ولذا لم يأت بالكلمة من اقتص مع أنها‬
‫أكسسثر اسسستعماًل؛ لن القتصسساص شسسريعة الفسسرد‪ ،‬والقصسساص شسسريعة‬
‫المجتمع‪.‬‬
‫‪ -4‬من إعجاز لفظة القصاص هذه أن اللسه ‪-‬تعسالى‪ -‬سسمى بهسا قتسل‬
‫القاتل‪ ،‬فلم يسمه قتًل كما فعلت الكلمة العربيسسة؛ لن أحسسد القتليسسن‬
‫هو جريمة واعتداء‪ ،‬فنزه ‪-‬سبحانه‪ -‬العدل الشرعي حتى عسسن شسسبهه‬
‫بلفظ الجريمة؛ وهذا منتهى السمو الدبي في التعبير‪.‬‬
‫‪ -5‬ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى‬
‫أنه سيأتي في عصور النسانية العالمة المتحضرة عصر ل يسسرى فيسسه‬
‫قتل القاتل بجنايته إل شسّرا مسسن قتسسل المقتسسول؛ لن المقتسسول يهلسسك‬
‫بأسباب كثيرة مختلفة‪ ،‬على حين أن أخذ القاتل لقتله ليسسس فيسسه إل‬
‫نيسسة قتلسسه؛ فعسسبرت اليسسة باللغسسة السستي تلئم هسسذا العصسسر القسسانوني‬
‫الفلسفي‪ ،‬وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها‬
‫في التساع لكل ما يراد بها من فلسفة العقوبة‪.‬‬
‫‪ -6‬ومن إعجاز اللفظة أنها كذلك تحمل كسسل ضسسروب القصسساص مسسن‬
‫القتل فما دونه‪ ،‬وعجيب أن تكون بهذا الطلق مسسع تقييسسدها بسسالقيود‬
‫التي مرت بك؛ فهي بذلك لغة شريعة إلهية على الحقيقة‪ ،‬في حيسسن‬
‫أن كلمة القتل في المثل العربي تنطق في صراحة أنها لغة الغريزة‬
‫البشسسرية بأقبسسح معانيهسسا؛ وبسسذلك كسسان تكرارهسسا فسسي المثسسل كتكسسرار‬
‫الغلطة؛ فالية بلفظة القصاص تضعك أمام اللوهية بعدلها وكمالهسسا‪،‬‬
‫والمثل بلفظة القتل يضعك أمام البشرية بنقصها وظلمها‪.‬‬
‫‪ -7‬ول تنس أن التعبير بالقصاص تعبير يدع النسسسانية محلهسا إذا هسسي‬
‫تخلصت من وحشيتها الولى وجاهليتها القديمسسة‪ ،‬فيشسسمل القصسساص‬

‫‪362‬‬
‫أخذ الدية والعفو وغيرهمسسا؛ أمسسا المثسسل فليسسس فيسسه إل حالسسة واحسسدة‬
‫بعينها كأنه وحش ليس من طبعه إل أن يفترس‪.‬‬
‫‪ -8‬جاءت لفظة القصاص معرفة بأداة التعريف‪ ،‬لتدل على أنه مقيسسد‬
‫بقيوده الكثيرة؛ إذ هو في الحقيقة قوة من قسسوى التسسدمير النسسسانية‬
‫فل تصلح النسانية بغير تقييدها‪.‬‬
‫‪ -9‬جاءت كلمسسة "حيسساة" منونسسة‪ ،‬لتسسدل علسسى أن ههنسسا ليسسست بعينهسسا‬
‫مقيدة باصطلح معين؛ فقد يكون في القصاص حياة اجتماعية‪ ،‬وقسسد‬
‫يكون فيه حياة سياسية‪ ،‬وقسسد تكسون الحيسساة أدبيسسة‪ ،‬وقسسد تعظسسم فسسي‬
‫بعض الحوال عن أن تكون حياة‪.‬‬
‫‪ -10‬إن لفظ "حيسساة" هسسو فسسي حقيقتسسه الفلسسسفية أعسسم مسسن التعسسبير‬
‫"بنفي القتل"؛ لن نفي القتل إنما هو حيساة واحسدة‪ ،‬أي تسرك السروح‬
‫في الجسم‪ ،‬فل يحتمل شيًئا من المعاني السامية‪ ،‬وليسسس فيسسه غيسسر‬
‫هذا المعنسسى الطسسبيعي السسساذج؛ وتعسسبير الكلمسسة العربيسسة عسسن الحيسساة‬
‫"بنفي القتل" تعبير غليظ عامي يدل على جهل مطبق ل محسسل فيسسه‬
‫لعلم ول تفكير‪ ،‬كالذي يقول لك‪ :‬إن الحرارة هي نفي البرودة‪.‬‬
‫‪ -11‬جعل نتيجة القتل حياة تعبير من أعجب مسسا فسسي الشسسعر يسسسمو‬
‫إلى الغاية من الخيال‪ ،‬ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خياًل‪ ،‬بل يتحول‬
‫إلى تعبير علمي يسسمو إلسسى الغايسة مسن الدقسة‪ ،‬كسأنه يقسول بلسسسان‬
‫العلم‪ :‬في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة‪.‬‬
‫‪ -12‬فإذا تأملت ما تقدم وأنعمسست فيسسه تحققسست أن اليسسة الكريمسسة ل‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب{ ]البقسسرة‪:‬‬ ‫يتم إعجازها إل بما تمت به من قوله‪} :‬ي َسسا أوْل ِسسي الل ْب َسسا ِ‬
‫‪ [179‬فهذا نداء عجيب يسجد له من يفهمه؛ إذ هو موجه للعرب في‬
‫ظاهره على قدر ما بلغوا من معاني اللب‪ ،‬ولكنه في حقيقته مسسوجه‬
‫لقامة البرهان على طائفة من فلسفة القانون والجتماع‪ ،‬هم هؤلء‬
‫ذا فسسي السستركيب العصسسبي‪ ،‬أو وراثسسة‬ ‫الذين يرون إجرام المجرم شذو ً‬
‫محتومة‪ ،‬أو حالة نفسية قاهرة‪ ،‬إلى ما يجري هذا المجرى؛ فمن ثسسم‬
‫يرون أن ل عقاب على جريمة؛ لن المجرم عندهم مريض لسسه حكسسم‬
‫المرضى؛ وهذه فلسفة تحملها الدمغة والكتب‪ ،‬وهي تحسسول القلسسب‬
‫إلى مصلحة الفرد وتصرفه عن مصلحة المجتمسع‪ ،‬فنبههسم اللسسه إلسسى‬
‫ألبابهم دون عقولهم‪ ،‬كأنه يقرر لهم أن حقيقة العلم ليسسست بالعقسسل‬
‫والرأي‪ ،‬بل هي قبل ذلك باللب والبصيرة‪ ،‬وفلسفة اللسسب هسسذه هسسي‬
‫آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا‪.‬‬
‫ن{ ]البقسسرة‪،[179 :‬‬ ‫قسسو َ‬ ‫‪ -13‬وانتهت اليسسة بقسسوله تعسسالى‪} :‬ل َعَل ّك ُس ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬
‫وهي كلمة مسسن لغسسة كسسل زمسسن‪ ،‬ومعناهسسا فسسي زمننسسا نحسسن‪ :‬يسسا أولسسي‬

‫‪363‬‬
‫اللباب‪ ،‬إنه برهان الحياة في حكمة القصسساص تسسسوقه لكسسم‪ ،‬لعلكسسم‬
‫تتقون على الحياة الجتماعيسسة عاقبسسة خلفسسه فسساجعلوا وجهتكسسم إلسسى‬
‫وقاية المجتمع ل إلى وقاية الفرد‪.‬‬
‫وبعد فإذا كان في الية الكريمة ‪-‬على ما رأيسست‪ -‬ثلث عشسسرة وجهًسسا‬
‫من وجوه البيان المعجز‪ ،‬فمعنى ذلك من ناحية أخرى أنها أسسسقطت‬
‫الكلمة العربية ثلث عشرة مرة‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪364‬‬
‫"القتل أنفى للقتل" ليست مترجمة‬

‫بعد أن نشرت مقالة "الكلمسسة المؤمنسسة" فسسي "البلغ"‪ ،‬كتسسب الديسسب‬


‫الفلسطيني الستاذ إسسسعاف النشاشسسيبي‪ :‬إن هسسذه الكلمسسة مترجمسسة‬
‫عن الفارسسية‪ ،‬وقسسد نقلهسسا الثعسسالبي فسسي كتسابه "اليجسساز والعجساز"‪،‬‬
‫فنشرنا في "البلغ" هذا التعليق‪:‬‬
‫قال الستاذ الكبير محمد إسسسعاف النشاشسسيبي فسسي كلمتسسه للبلغ إن‬
‫عبسسارة "القتسسل أنفسسى للقتسسل"‪ ،‬ليسسست بعربيسسة ول مولسسدة‪ ،‬بسسل هسسي‬
‫مترجمة؛ أي فهي مطموسة الوجه من كونها أعجمية وقع الخطأ في‬
‫نقلها إلى العربية‪ ،‬فكانت غلطة من جهتين‪.‬‬
‫وإنه ليسرني أن تكون فسسوق ذلسسك زنجيسسة نقلسست إلسسى المالطيسسة‪ ،‬ثسسم‬
‫ترجمت إلى العربية‪ ،‬فتكون غلطة مسسن أربسسع جهسسات‪ ،‬ل مسسن جهسستين‬
‫فقط‪ ...‬ولكن هذه الكلمة لم يشر إلى أصلها غيسسر "الثعسسالبي"‪ ،‬وهسسو‬
‫مع ذلك لم يقطع فيها برأي‪ ،‬بل أشار إلى ترجمتهسسا فسسي صسسيغة مسسن‬
‫صيغ التمريض المعروفة عند السسرواة فقسسال‪" :‬يحكسسى أن فيمسسا ترجسسم‬
‫صسسا فسسي بسساب الروايسسة‪ ،‬وقسسد‬
‫عن أزدشير‪ "..‬و"يحكى" هسسذه ليسسست ن ّ‬
‫يكون هذا المام اتقى الله فابتعد بالكلمة وطوح بها إلى ما وراء بلد‬
‫العرب‪ ،‬أو تكون الكلمة ألقيت إليه على أنها مشتبه في نسبتها؛ ولسو‬
‫كانت العبارة مترجمة لتناقلها الئمة معزوة إلى قائلها أو لغتها السستي‬
‫قيلت فيها‪.‬‬
‫ولقسسد ذكرهسسا العسسسكري فسسي كتسسابه "الصسسناعتين" علسسى أنهسسا "مسسن‬
‫قولهم"‪ ،‬أي العرب أو المولدين؛ ونقلها الرازي في تفسسسيره‪ ،‬فقسسال‪:‬‬
‫إن للعرب في هذا المعنى كلمات منها "قتل البعض إحيسساء للجميسسع"‬
‫وأحسنها "القتل أنفى للقتل"؛ وكذلك جاء بها ابسسن الثيسسر فسسي كتسساب‬
‫"المثل السائر" ولسسم يعزهسسا؛ وقسسال مفسسسر النسسدلس أبسسو حيسسان فسسي‬
‫تفسيره‪ :‬إنها تروى برواية أخرى وهي‪" :‬القتل أوقسسى للقتسسل"‪ ،‬وكسسل‬
‫ذلك صريح في أن خبر الترجمة قد انفرد به الثعالبي‪.‬‬
‫ول يقوم الدليل على ترجمتها إل بظهور أصلها الفارسي‪ ،‬فسسإن كسسان‬
‫علم ذلك عند أحد فليتفضل به مشكوًرا مأجوًرا‪.‬‬
‫"تنبيه"‪ :‬نشرنا هذه الكلمة ومضت بعدها سنوات ولم يقف أحد على‬
‫أن للعبارة أصًل فارسّيا‪ ،‬فلم يبق عنسدنا ريسب أنهسا مسن صسنيع بعسسض‬
‫الزنادقة وقد ولدها من الية الكريمة ليجريها في مجرى المعارضسسة؛‬
‫وقد كتب الستاذ الكبير عبد القادر حمزة صاحب جريدة "البلغ" أن‬
‫تلك العبارة حكمة مصرية قديمة؛ ول نمنع أن يكون هذا‪ ،‬فسسإن بعسسض‬

‫‪365‬‬
‫الحكم مما تتوارد عليه العقول النسسسانية النابغسسة؛ إذ كسسانت الطبيعسسة‬
‫البشسسرية كأنهسسا تمليسسه؛ غيسسر أن العبسسارة ليسسست فسسي كلم الجاهليسسة‬
‫القديمة ول الحديثة‪ ،‬وألفاظ المصرية غير ألفاظ العربيسسة‪ ،‬فلسسم يبسسق‬
‫إل توارد الخواطر‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪366‬‬
‫"القتل أنفى للقتل" ليست جاهلية‬

‫وبعسسد كلمتنسسا تلسسك عسسن الترجمسسة نشسسر أديسسب فسسي البلغ أن الكلمسسة‬
‫جاهلية‪ ،‬فتعقبناه بهذا التعليق‪:‬‬
‫أثبت الستاذ عبد العزيز الزهري فيمسسا نشسسره فسسي "البلغ" أن هسسذه‬
‫الكلمة عربية في دعواه‪ ،‬واحتسج لسذلك بحجسج‪ ،‬أقواهسا زعمسه‪" :‬أنهسا‬
‫وردت بين ثنايا عهسسد القضسساء السسذي بعسسث بسسه سسسيدنا عمسسر إلسسى أبسسي‬
‫موسى الشعري؛ ول ندري أين وجد الكسساتب كلمسسة‪" :‬القتسسل"‪ ،‬فضسًل‬
‫عن‪" :‬القتل أنفى للقتل" ‪-‬في ذلك العهد المشسهور المحفسسوظ‪ ،‬وقسسد‬
‫رواه الجاحظ في "البيان والتبيين"‪ ،‬وجاء به المسسبرد فسسي "الكامسسل"؛‬
‫ونقله ابن قتيبة في "عيون الخبار"‪ .‬وأورده ابن عبد ربه في "العقد‬
‫الفريد"‪ ،‬وساقه القاضسسي البسساقلني فسسي "العجسساز"؛ وفسسي كسسل هسسذه‬
‫الروايات الموثقة لم تأت الكلمة في قول عمر‪ ،‬بل ل محل لهسسا فسسي‬
‫سياقه‪ ،‬وإنما جاء قوله‪" :‬فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإل وجهسست‬
‫عليه القضاء‪ ،‬فإن ذلك أنفى للشك"‪.‬‬
‫أما سائر حجج الكاتب فل وزن لها فسسي بسساب الروايسسة التاريخيسسة وقسسد‬
‫أصبح عاليها سافلها كما رأيت‪.‬‬
‫والذي أنا واثق منسسه أن الكلمسسة لسسم تعسسرف فسسي العربيسسة إلسسى أواخسسر‬
‫القرن الثالث من الهجرة‪ ،‬وهذا المام الجاحظ يقول في موضع مسسن‬
‫كتابه "البيان والتبيين"‪ ،‬في شرح قول علي ‪-‬كرم الله وجهه‪" :-‬بقية‬
‫دا‪ ،‬ما نصه‪" :‬ووجد النسساس ذلسسك بالعيسسان‬ ‫دا وأكثر ول ً‬ ‫السيف أنمى عد ً‬
‫للذي صار إليه ولده من نهك السيف وكثرة الذرِء وكرم النجل؛ قسسال‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب{‬ ‫حي َسساة ٌ ي َسسا أوْل ِسسي الل ْب َسسا ِ‬
‫ص َ‬
‫صسسا ِ‬
‫ق َ‬‫م فِسسي ال ْ ِ‬‫الله تبارك وتعسسالى‪} :‬وَل َك ُس ْ‬
‫]البقرة‪ [179 :‬وقال بعض الحكماء‪" :‬قتل البعض إحياء للجميع"‪.‬‬
‫ولم يزد الجاحظ على هذا‪ ،‬ولسسو كسسانت الكلمسسة معروفسسة يسسومئذ لمسسا‬
‫صسسا وهسسي أوجسسز وأعسسذب ممسسا‬ ‫فاتته كما هو صنيعه فسسي كتبسسه*‪ ،‬خصو ً‬
‫نسبه لبعض الحكماء؛ وهذه العبسسارة الخيسسرة "قتسسل البعسسض‪ "...‬هسسي‬
‫التي زعم الرازي في تفسيره أنها للعرب‪ ...‬فل عبرة في هذا البساب‬
‫بكلم المفسسسرين ول المتسسأخرين مسسن علمسساء البلغسسة‪ ،‬وإنمسسا الشسسأن‬
‫للتحقيق التاريخي‪.‬‬
‫ما منهم ابسسن أبسسي‬ ‫ونص الجاحظ في كتاب "حجج النبوة" على أن قو ً‬
‫العوجاء‪ ،‬وإسحاق بن الموت‪ ،‬والنعمان بسسن المنسسذر‪" :‬أشسسباههم مسسن‬
‫الرجسساس السسذين اسسستبدلوا بسسالعز ذًل‪ ،‬وباليمسسان كفسسًرا‪ ،‬وبالسسسعادة‬
‫شسسقوة‪ ،‬وبالحجسسة شسسبهة‪ ،‬كسسانوا يصسسنعون الثسسار‪ ،‬ويولسسدون الخبسسار‪،‬‬

‫‪367‬‬
‫ويبثونها في المصار‪ ،‬ويطعنون بها علسسى القسسرآن"؛ فهسسذا عنسسدنا مسسن‬
‫ذاك‪.‬‬
‫وإن لم ينهض الدليل القاطع على أن الكلمة مترجمة عن الفارسسسية‬
‫بظهور أصلها في تلك اللغة ورجوعه إلى ما قبل السسلم‪ ،‬فهسسي ‪-‬ول‬
‫ريب‪ -‬مما وضع على طريقة ابن الرواندي الزنديق الملحد الذي كان‬
‫في منتصف القرن الثالث وألف في الطعن على القرآن وقسسال فسسي‬
‫كتابه‪" :‬الزمردة"‪" :‬إنا نجد في كلم أكثم بن صيفي شيًئا أحسن من‬
‫ك ال ْك َوْث ََر{ فكأن واضع الكلمة يقول على هذه الطريقسسة‪:‬‬ ‫}إ ِّنا أ َع ْط َي َْنا َ‬
‫ة{‬‫حي َسسا ٌ‬
‫ص َ‬
‫صسسا ِ‬ ‫م فِسسي ال ْ ِ‬
‫ق َ‬ ‫"إنا نجد في كلم العرب شيًئا أبلغ من }وَل َك ُ ْ‬
‫]البقرة‪.[179 :‬‬
‫وهؤلء المتطرفون على القرآن الكريم إنما يريدون ما يصنعونه من‬
‫مثل هذه الكلمة أن يوجدوا للعامة وأشباههم من الحسسداث والغسسرار‬
‫وأهل الزيغ والضعفاء في العلم ‪-‬سبيًل إلى القول في نقض العجاز‪،‬‬
‫غا إلى التهمسسة فسي أن القسسرآن تنزيسل؛ والخطسأ فسي مثسل هسسذا‬ ‫ومسا ً‬
‫يتجاوز معنى الخطأ في البيان إلى معنى الكفر في الدين‪ ،‬وذلك مسسا‬
‫يرمون إليه؛ وهذه بعينها هي طريقة المبشرين اليوم‪ ،‬فكسسأن إبليسسس‬
‫من عهد أولئك الزنادقة إلى عهد المبشرين لم يستطع أن يتغير‪ ،‬ول‬
‫دا ‪...‬‬
‫أن يكون‪ ...‬أن يكون مجد ً‬
‫‪---------------‬‬
‫* أورد الجاحظ الية الكريمة في الجزء الثاني من كتسسابه "الحيسسوان"‬
‫صفحة ‪ 31‬ثم قال‪ :‬إلى هذا المعنى رجع قسسول الحكيسسم الول‪ :‬بعسسض‬
‫القتل إحياء للجميع‪ .‬وهذا إلى ما تقدم هو نص على أن الجسساحظ لسسم‬
‫يسسسمع هسسذه الكلمسسة ولسسم يعرفهسسا‪ ،‬وقسسد تسسوفي الجسساحظ سسسنة ‪255‬‬
‫للهجرة‪ ،‬وألف كتاب "الحيوان" في آخسسر عمسسره‪ ،‬وهسسو مفلسسوج‪ ،‬فلسسم‬
‫تكن الكلمة معروفة إلى ذلك العهد‪ ،‬ل في الرواية ول في الترجمسسة‪،‬‬
‫مع انتهاء زمن الرواية واستبحار الترجمة عن الفارسية‪.‬‬
‫تم الجزء الثالث من وحي القلم‪ ،‬وبه تم الكتاب‬

‫‪‬‬

‫‪368‬‬
‫الفهرس العام‬

‫‪369‬‬

You might also like