Professional Documents
Culture Documents
ْح
َو
المجلد الثالث
مصطفى صادق الرافعي
1
محتويات المجلد الثالث
السمو الروحي العظم والجمال الفني في البلغة النبوية
قرآن الفجر 1
اللغة والدين والعادات 1باعتبارها من مقومات الستقلل
تجديد السلم 1:رسالة الزهر في القرن العشرين*
السد
الحمدية
أمراء للبيع
العجوزان ""1
العجوزان* ""2
العجوزان ""3
العجوازن ""4
السطر الخير من القصة 1
عاصفة القدر 1
القلب المسكين ""1
القلب المسكين ""2
القلب المسكين ""3
القلب المسكين ""4
القلب المسكين* ""5
القلب المسكين ""6
القلب المسكين ""7
القلب المسكين ""8
القلب المسكين "تتمة"
انتصار الحب*
قنبلة بالبارود ل بالماء المقطر*
شيطان وشيطانة*
نهضة القطار العربية 1
ل تجني الصحافة على الدب 1ولكن على فنيته
صعاليك الصحافة ""1
صعاليك الصحافة ""2
صعاليك الصحافة ""3
صعاليك الصحافة* "تتمة"
أبو حنيفة ولكن بغير فقه 1
الدب والديب 1
2
سر النبوغ في الدب 1
نقد الشعر وفلسفته 1
فيلسوف وفلسفة 1
شيطاني وشيطان طاغور1...
فلسفة القصة ولماذا ل أكتب فيها ...؟*
شعر صبري*
حافظ إبراهيم 1
كلمات 1عن حافظ*
شوقي 1
بعد شوقي*
الشعر العربي في خمسين سنة 1
صروف اللغوي*
الشيخ الخضري 1
رأي جديد 1في كتب الدب القديمة
أمير الشعر في العصر القديم 1
البؤساء 1
الملح التائه 1
"المقتطف" و"المتنبي"1
محمد *
ديوان العشاب*
النجاح وكتاب سر النجاح 1
أبو تمام الشاعر :تحقيق مدة إقامته بمصر
القديم والجديد 1
المرأة والميراث
"القتل أنفى للقتل" ليست مترجمة
"القتل أنفى للقتل" ليست جاهلية
3
السمو الروحي العظم والجمال الفني في البلغة النبوية *1
لما أردت أن أكتسسب هسسذا الفصسسل وهممسست بسسه ،عرضسست لسسي مسسسألة
نظرت فيها أطلب جوابها ،ثم قدرت أن يكسسون أبلسسغ فلسسسفة البيسسان
في أوربا لعهدنا هذا رجًل يحسن العربية المبينة ،وقد بلسغ فيهسا مبلسغ
ما وذوًقا ،ودَرس تاريخ النبي صلى اللسسه عليسسه وسسسلم دْرس أئمتها عل ً
قسسه الحكمسسة لسسسرار السسروح لعمسسال السسروح ،وتفقسسه فسسي شسسريعته ف ْ
الحكمة ،واستوعب أحاديثه واعتبرها بفن النقد البيسساني السسذي يبحسسث
في خصائص الكلم عن خصسائص النفسس؛ وتمثلسست أنسي لقيسست هسذا
الرجل فسألته :ما هو الجمال الفني عندك فسسي بلغسسة محمسسد صسسلى
الله عليه وسلم؟ وماذا تستخرج لك فلسفة البيان منسسه؟ ومسسا سسسره
الذي يجتمع فيه؟
ولم يكد يخطر لي ذلك حتى انكشف الخاطر عن وجسسه آخسسر ،وذلسسك
أن يكون معنى هذا السسؤال بعينسه قسسد وقسع فسسي شسسيء مسن حسسديث
النفس لبلغ أولئك العرب الذين رأوا النبي صلى اللسسه عليسسه وسسسلم،
وآمنوا به ،واتبعوا النور الذي أنزل معه ،وقد صحبه فطالت صسسحبته،
ل يفسسوته مسسن كلمسسه فسسي المل شسسيء ،وخسسالطه حسستى كسسان لسسه فسسي
الحاطة بأحوال نفسه كبعض التاريخ ،فتدبر ما عسى أن يكسسون سسسر
الجمال في بلغته صلى الله عليه وسلم ،وما مرجعه الذي يرد إليه؟
لو دار السسسؤال دورتيسسه فسسي هسسذه السسسليقة العربيسسة المحكمسسة السستي
رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتحس ،وفسسي تلسسك الفلسسسفة البيانيسسة
الملهمة التي بلغت أن تكون سسسليقة تسسدرس وتفكسسر لمسسا خلسسص مسسن
كلتيهما إل برأي واحد تلتقي عليه حقيقة البيان من طرفيها :وهسسو أن
ذلك الجمال الفني في بلغته صلى الله عليه وسلم إنما هو أثٌر على
الكلم من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها.
---------------
1أنشأ المؤلف رحمه الله هذا البحسسث جواًبسا لرجساء جمعيسة الهدايسة
السلمية في بغداد سنة 1352هس؛ وانظر كتابنا "حياة الرافعسسي" ص
.178 ،176-175
2بسطنا الكلم في كتابنا "إعجاز القسسرآن" عسسن بلغسسة النسسبي صسسلى
الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ،وبقي هذا المعنى الذي تراه ،فهذه
المقالة كالتكملة على ما هناك.
وبعد ،فأنا في هذه الصفحات ل أصنع شيًئا غير تفصيل هسسذا الجسسواب
وشرحه ،باستخراج معانيه ،واستنباط أدلته ،والكشسسف عسسن أسسسراره
4
وحقائقه؛ ولقد درست كلمه صلى اللسسه عليسسه وسسسلم ،وقضسسيت فسسي
ما أتتبع السر الذي وقع في التاريخ القفر المجسسدب فأخصسسب ذلك أيا ً
سسسا إن عبتهسسم به وأنبت للسسدنيا أزهسساره النسسسانية الجميلسسة ،فكسسانوا نا ً
سسسا ،دارت الكسسرة بشيء لم تعبهسسم إل أنهسسم دون الملئكسسة؛ وكسسانوا نا ً
الرضية في عدهم ثلث دورات :واحدة حول الشمس ،وثانيسسة حسسول
نفسها ،وثالثة حول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم تركت الكلم النبوي يتكلم في نفسي ويلهمني ما أفصح به عنسسه،
فلكأني به يقول في صفة نفسه :إني أصنع أمة لها تاريخ الرض من
بعسسد ،فأنسا أقبسسل مسن هنسا وهنساك ،وأذهسسب هنساك وهنسا ،مسسع القلسسوب
والنفس والحقائق ،ل مع الكلم والناس والوقت.
إن ههنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرة السستي مسسن ذريتهسسا أوربسسا
وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملن في حياة أهل الرض بنسسور متمسسم
لما يعمله نور الشمس والقمر.
وقد كان المسلمون يغزون الدنيا بأسلحة هي فسسي ظاهرهسسا أسسسلحة
المقاتلين ،ولكنها في معانيها أسلحة الطباء؛ وكانوا يحملون الكتسساب
والسنة ،ثم مضوا إلى سبيلهم وبقي الكلم من بعدهم غازًيا محارًبسسا
في العالم كله حرب تغيير وتحويل إلى أن يسسدخل السسسلم علسسى مسسا
دخل عليه الليل*.
هذا منطلق الحديث في نفسي ،وقد كنت أقرؤه وأنا أتمثلسسه مرس سًل
بتلك الفصاحة العالية من فم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يمسسر
إعجاز الوحي أول ما يخرج به الصوت البشري إلسسى العسسالم ،فل أرى
مسسا متص سًل بسسروح الكسسون كلسسه اتصسسال بعسسض ثم إل أن شيًئا إلهًيا عظي ً
السر ببعض السر ،يتكلم بكلم إنساني هو هذا الحديث السسذي يجيسسء
في كلمات قوية رائعة ،فنها في بلغتها كالشباب الدائم.
---------------
1في الحديث الشريف" :ليسسدخلن هسسذا السسدين علسسى مسسا دخسسل عليسسه
الليل" .وكأن العبارة نص علسسى أن السسسلم يعسسم حيسسن تظلسسم السسدنيا
ظلمها الشعري ...إذا طمسسست النسسسانية بلسسذاتها ،وأظلمسست آفاقهسسا
الروحانية؛ فيجيء السلم فسسي قسسوة أخلقسسه كشسسباب الفجسسر ،يبعسسث
دا؛ وهذا هو رأينا في مستقبل السسسلم: حياة النور النساني بعًثا جدي ً
ل بد من انحلل أوربسسا وأمريكسسا ،كمسسا يصسسفر النهسسار ،ثسسم يختلسسط ،ثسسم
يظلم ،ثم تطلب الطبيعة نورها الحي من بعد.
كنت أتأمله قطًعا من البيسسان ،فسسأراه ينقلنسسي إلسسى مثسسل الحالسسة السستي
س،أتأمل فيها روضة تتنفس على القلب ،أو منظًرا يهز جمسساُله النف س َ
5
أو عاطفة تزيد بهسسا الحيسساة فسسي السسدم ،علسسى هسسدوء وروح وإحسسساس
ولذة؛ ثم يزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات النسانية في نفسسسي،
ثم يرزق اللسسه منسسه رزق النسسور فسسإذا أنسسا فسسي ذوق البيسسان كأنمسسا أرى
المتكلم صلى الله عليه وسلم وراء كلمه.
وأعجب من ذلك أني كسسثيًرا مسسا أقسسف عنسسد الحسسديث السسدقيق أتعسسرف
أسراره ،فإذا هو يشرح لي ويهديني بهديه؛ ثم أحسه كأنما يقول لي
ما يقول المعلم لتلميذه :أفهمت؟
ما ركبوا في سسسفينة، وقفت عند قوله صلى الله عليه وسلم" :إن قو ً
فاقتسموا ،فصار لكل رجل منهم موضع ،فنقر رجسسل منهسسم موضسسعه
بفأس ،فقالوا له :ما تصنع؟ قال :هو مكاني أصنع فيه ما شئت! فإن
أخذوا على يده نجا ونجوا ،وإن تركوه هلك وهلكوا"*.
فكان لهذا الحديث في نفسي كلم طويل عن هؤلء الذين يخوضون
معنسسا البحسسر ويسسسمون أنفسسسهم بالمجسسددين ،وينتحلسسون ضسسروًبا مسسن
الوصاف :كحرية الفكر ،والغيسرة ،والصسلح؛ ول يسزال أحسدهم ينقسر
مسسا
موضعه من سفينة ديننا وأخلقنا وآدابنا بفأسسسه ،أي بقلمسسه ...زاع ً
أنه موضعه من الحياة الجتماعية يصنع فيه مسا يشساء ،ويتسوله كيسف
أراد ،موجهًسسا لحمسساقته وجوهًسسا مسسن المعسساذير والحجسسج ،مسسن المدنيسسة
والفلسفة ،جاهًل أن القانون في السفينة إنما هو قانون العاقبة دون
غيرها ،فالحكم ل يكسسون علسى العمسل بعسسد وقسسوعه كمسا يحكسم علسسى
العمال الخسرى؛ بسل قبسل وقسوعه؛ والعقساب ل يكسون علسى الجسرم
يقترفه المجرم كما يعاقب اللص والقاتل وغيرهما ،بل على الشروع
فيه ،بل على توجه النية إليه ،فل حرية هنا فسسي عمسسل يفسسسد خشسسب
السفينة أو يمسه من قسسرب أو بعسسد مسسا دامسست ملججسسة فسسي بحرهسسا،
سائرة إلى غايتها؛ إذ كلمة "الخسسرق" ل تحمسسل فسسي السسسفينة معناهسسا
الرضي ،وهنا لفظة "أصسسغر خسسرق" ليسسس لهسسا إل معنسسى واحسسد وهسسو
"أوسع قبر"..
---------------
1روى البخاري هذا الحديث على وجه آخر ،وفيه زيادة من الجمسسال
الفني؛ قال" :مثل القائم على حدود اللسسه والواقسسع فيهسسا كمثسسل قسسوم
استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسسسفلها؛ فكسسان
الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا:
لو أنا خرقنا في نصيبنا خرًقا ولم نؤذ من فوقنسسا! فسسإن تركسسوهم ومسسا
أرادوا هلكوا جميًعا ،وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميًعا".
6
فهذا تمثيل لحالة طائفة في "السفل" تعمسسل لرحمسسة مسسن هسسم فسسي
"العلى" :عاطفة شريفة ولكنها سافلة ،وحمية ملتهبة ولكنها باردة،
ورحمة خالصة ولكنها مهلكسسة؛ ولسسن تجسسد كهسسذا التمثيسسل فسسي تصسسوير
البلغة الجتماعية والغفلة الفلسفية لناس هسسم عنسسد أنفسسهم أمثلسسة
الجد والعمل والحكمة ،فكسسأن النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم يقسسول
حا مخروًقا!... لهؤلء من ألف وثلثمائة سنة :أنتم المصلحون إصل ً
كر في أعظم فلسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلقسسه ،فهسسو فف ّ
ههنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد تفسرها فسسي
لغة البحر حدود الحياة والمصلحة وكما أن لفظة "الخرق" يكون من
معانيها في البحر القسبر والغسرق والهلك ،فكلمسسة "الفلسسفة" يكسسون
من بعض معانيهسسا فسسي الجتمسساع الحماقسسة والغفلسسة والبلهسسة ،وكلمسسة
الحريسسة يكسسون مسسن معانيهسسا الجنايسسة والزيسسغ والفسسساد ،1وعلسسى هسسذا
القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكتسساب مسسن معسسانيه الفسسأس،
والكاتب من معانيه المخرب ،والكتابة من معانيها الخيانسسة؛ قسسال لسسي
الحديث :أفهمت؟
هكذا يجب تأمل الجمال الفني في كلمه صلى الله عليه وسلم ،فهو
كلم كلما زدته فكًرا زادك معنى ،وتفسسسيره قريسسب ،قريسسب كسسالروح
في جسمها البشري ،ولكنه بعيد بعيد كالروح في سرها اللهي ،فهسسو
معك على قدر ما أنت معه ،إن وقفت علسسى حسسد وقسسف ،وإن مسسددت
مد ،وما أديت به تأدى ،وليس فيه شيء مما تسراه لكسسل بلغسساء السسدنيا
من صناعة عبث القول ،وطريقة تأليف الكلم ،واستخراج وضع مسسن
وضع ،والقيام على الكلمة حتى تسسبيض كلمسسة أخسسرى ...والرغبسسة فسسي
تكثير سواد المعاني ،وترك اللسان يطيش طيشه اللغوي يتعلق بكل
ما عرض له ،ويحذر الكلم علسسى معسساني ألفسساظه ،ويجتلسسب لسسه منهسسا
ويستكرهها على أغراضه ،ويطلب لصناعته مسسن حيسسث أدرك وعجسسز،
ومن حيث كان ولم يكن؛ إنما هو كلم قيل؛ لتصير بسسه المعسساني إلسسى
حقائقها ،فهسسو مسسن لسسسان وراءه قلسسب ،وراءه نسسور ،وراءه اللسسه جسسل
جلله؛ وهو كلم فسسي مجموعسسة كسأنه دنيسسا أصسدرها صسلى اللسه عليسسه
وسلم عن نفسه العظيمة ،ل تبرح ماضية في طريقها السسسوي علسسى
دين الفطرة؛ فل تتسع لخلف ،ول يقع بها التنافر؛ والخلف والتنسسافر
إنما يكونان من الحيوانيسسة المختلفسسة بطبيعتهسا؛ لقيامهسسا علسسى قسانون
التنازع تعدو به وتجترم وتأثم ،فهي نازلة إلسسى الشسسر ،والشسسر بعضسسه
أسفل من بعض؛ أما روحانية الفطرة فمتسقة بطبيعتها ،ل تقبل في
ذاتها افتراًقا ول اختلًفا؛ إذ كسان أولهسا العلسو فسوق الذاتيسة ،وقانونهسا
7
التعاون على البر والتقوى؛ فهي صاعدة إلسسى الخيسسر ،والخيسسر بعضسسه
أعلى من بعض.
---------------
1الزائغون في التاريخ السلمي كله صنفان ليس لهمسسا ثسسالث ،وقسسد
وصفهما الحديث الذي رواه البخاري بسنده إلسسى حذيفسسة بسسن اليمسسان
قال :كان الناس يسألون رسسسول اللسسه صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم عسسن
الخير ،وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ،فقلسست :يسسا رسسسول
الله :إنا كنا في جاهلية وشر ،فجاءنا الله بهذا الخير ،فهسسل بعسسد هسسذا
الخير من شر؟ قال" :نعم" .قلت :وهل بعسسد ذلسسك الشسسر مسسن خيسسر؟
قال" :نعم وفيه دخن" .قلت :ومسا دخنسه؟ قسسال" :قسوم يهسدون بغيسسر
هديي تعرف منهم وتنكر" .قلت :فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال:
"نعم ،دعاة إلى أبواب جهنم ،من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت :يسسا
رسول الله ،صفهم لي .قال" :هم من جلدتنا ،ويتكلمسسون بألسسسنتنا".
قلت :يا رسسسول اللسسه ،فمسسا تسسأمرني إن أدركنسسي ذلسسك؟ قسسال" :تلسسزم
جماعة المسملين وإمسسامهم" .قلسست :فسسإن لسسم تكسسن لهسسم جماعسسة ول
إمام؟ قال" :فاعتزل تلك الفرق كلهسا ،ولسو أن تعسض بأصسل شسجرة
حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" .انتهى الحديث.
فتأمل قوله" :يهدون بغير هديي ،تعسسرف منهسسم وتنكسسر"؛ فهسسؤلء هسسم
الذين يريدون الصلح للمسلمين ل من طريق السلم بل من طرق
أخرى فيهسسا معروفهسسا ومنكرهسسا ،وفيسسه علمهسسا وجهلهسسا ،وفيهسسا عقلهسسا
وحماقتهسسا .ولعسسل مسسن هسسذا قسسولهم :المدينسسة الوروبيسسة بحسسسناتها
وسيئاتها ...وتأمل قوله" :إلى أبواب جهنم" فليست الدعوة إلى باب
واحد بل إلى أبسسواب مختلفسسة لعسسل آخسسر مسسا فتحسسوا منهسسا بسساب الدب
المكشوف...
ثم تأمل قوله صلى الله عليه وسلم" :ولو أن تعسسض بأصسسل شسسجرة"
فإن معناه استمساك بما بقي على الطبيعة السليمة مما ل يستطيع
أولئك أن يغيروه ول أن يجددوه ،أي بالستمسسساك ولسسو بأصسسل واحسسد
من قديم الفضيلة واليمان ،وعبارة العض شسجرة تمثسل أبسسدع وأبلسغ
وصف لمن يلزم أصول الفضائل في هذا الزمن ،ومبلغ ما يعانيه في
التمسك بفضيلته ،وهي وحدها فن كأجمل ما يبدعه مصور عبقري.
فكلمه صلى الله عليه وسلم مجرى عمله :كله دين وتقوى وتعليسسم،
وكله روحانية وقوة وحياة؛ وإنه يخيل إلي وقد أخذت بطهره وجماله
ما في اللفاظ. أن من الفن العجيب أن يكون هذا الكلم صلة وصيا ً
8
أما أسلوبه صلى الله عليه وسلم فأجد له في نفسي روح الشسسريعة
ونظامها وعزيمتها ،فليس له إل قوة قوة أمر نافذ ل يختلف ،وإن له
صسا خلسوص قا هادًئا هدوء اليقين ،مبيًنا بيان الحكمسة ،خال ًمع ذلك نس ً
السر ،واقًعا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها؛ وكيسسف ل
يكون كذلك وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمسسات ربهسسا ووحيسسه؛
ليتوجه بها العالم كأنه منه مكان المحور :دورتسسه بنفسسسه هسسي دورتسسه
بنفسه وبما حوله ،روح نبي مصلح رحيم ،هو بإصسسلحه ورحمتسسه فسسي
النسانية ،وهو بالنبوة فوقها ،وهو بهذه وتلسسك فسسي شسسمائله وطبسساعه
مجمسسوع إنسسساني عظيسسم لسسو شسسبه بشسسيء لقيسسل فيسسه :إنسسه كمجمسسوع
القارات الخمس لعمران الدنيا.
ومن درس تاريخه صلى الله عليه وسسسلم وأعطسساه حقسسه مسسن النظسسر
قا من التاريسسخ العجيسسب كنظسسام فلسسك مسسن والفكر والتحقيق ،رأى نس ً
الفلك موجه بالنور في النور من حيث يبدأ إلى حيث ينتهي ،فليسسس
يمتري عاقل مميز أن هذه الحياة الشسسريفة ،بسسذلك النظسسام السسدقيق،
في ذلك التوجه المحكم -ل يطيقها بشر من لحم ودم علسسى نسساموس
الحياة إل إذا كان في لحمه ودمه معنى النور والكهرباء على ناموس
أقوى من الحياة.
ولم يكن مثله صلى الله عليه وسلم فسسي الصسسبر والثبسسات واسسستقرار
النفس واطمئنانها علسسى زلل السسدنيا ،ول فسسي الرحمسسة ورقسسة القلسسب
والسمو فوق معاني البقسساء الرضسسي؛ فهسسو قسسد خلسسق كسسذلك؛ ليغلسسب
الحسسوادث ويتسسسلط علسسى المسسادة؛ فل يكسسون شسسأنه شسسأن غيسسره مسسن
دهم الناس :تدفنهم معاني السستراب وهسسم أحيسساء فسسوق السستراب ،أو يحس ّ
الجسم النساني من جميع جهاتهم بحسسدود طبسساعه ونزعسساته؛ وبسسذلك
مسسا،
فقد كان عليه الصلة والسلم منبع تاريخ في النسسسانية كلهسسا دائ ً
ولرأس الدنيا نظام أفكاره الصحيحة.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما -قسال :سسمعت رسسول اللسسه
صلى الله عليه وسلم يقول" :انطلق ثلثسسة رهسسط ممسسن كسسان قبلكسسم
حتى أووا المبيت إلسسى غسسار فسسدخلوه ،فانحسسدرت صسسخرة مسسن الجبسسل
فسدت عليهم الغار ،فقالوا :إنه ل ينجيكم مسسن هسسذه الصسسخرة إل أن
تدعوا الله بصالح أعمالكم! فقال رجل منهم :اللهم كسسان لسسي أبسسوان
شيخان كبيران ،وكنت ل أغبق قبلهمسسا أهًل ول 1مسساًل فنسسأى بسسي فسسي
ما فلم أرح عليهما حتى نامسسا ،فحلبسست لهمسسا غبوقهمسسا طلب شيء يو ً
فوجدتهما نائمين ،فكرهت أن أغبق قبلهما أهًل أو ماًل ،فحلبت لهمسسا
غبوقهما فوجسسدتهما نسسائمين ،فكرهسست أن أغبسسق قبلهمسسا أهًل أو مسساًل،
9
فلبثسست والقسسدح علسسى يسسدي أنتظسسر اسسستيقاظهما حسستى بسسرق الفجسسر،
فاستيقظا فشربا غبوقهما ،اللهم إن كنت فعلت ذلسسك ابتغسساء وجهسسك
ففسسرج عنسسا مسسا نحسسن فيسسه مسسن هسسذه الصسسخرة! فسسانفرجت شسسيًئا ل
يستطيعون الخروج".
قال النبي صلى الله عليه وسلم" :وقال الخر :اللهم كانت لي بنسست
عم كانت أحب الناس إلي ،فأدرتها عن نفسها فامتنعت منسسي ،حسستى
ألمت بها سنة 2من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينسسار
على أن تخلي بينسسي وبيسسن نفسسسها! ففعلسست ،حسستى إذا قسسدرت عليهسسا
قالت :ل أحل لك أن تفض الخاتم إل بحقسسه! فسسترحجت مسسن الوقسسوع
عليها ،فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي ،وتركسست السسذهب السسذي
أعطيتها ،اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا مسسا نحسسن
فيه! فانفرجت الصخرة غير أنهم ل يستطيعون الخروج منها".
---------------
دا أو جماعته قبلهما.
1أي ل يسقي الغبوق أح ً
2سنة :جدب وقفر.
قسسال النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم" :وقسسال الثسسالث :اللهسسم إنسسي
استأجرت فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد تسسرك السسذي لسسه وذهسسب،
فثمرت أجره حتى كثرت منه الموال ،فجساءني بعسد حيسن فقسال :يسا
ي أجري .فقلت له :كل ما ترى من أجرك ،مسسن البسسل عبد الله ،أد ّ إل ّ
والبقر والغنم والرقيق! فقال :يا عبد اللسسه ل تسسستهزئ بسسي! فقلسست:
إني ل أستهزئ بك! فأخذه كله فاستاقه فلم يترك شيًئا .اللهسسم فسسإن
كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهسك فسافرج عنسا مسا نحسن فيسه! فسانفرجت
الصخرة فخرجوا يمشون" .انتهى الحديث.
وأنا فلست أدري ،أهذا هو النبي صلى اللسسه عليسسه وسسسلم يتكلسسم فسسي
النسانية وحقوقها بكلم بّين صريح فل فلسسسفة فيسسه ،يجعسسل مسسا بيسسن
النسان والنسان من النية هو ما بين النسان وربسسه مسسن السسدين؛ أم
هي النسانية تنطق على لسانه بهذا البيسسان العسسالي ،فسسي شسسعر مسسن
شعرها ضاربة فيه المثال ،مشيرة فيه إلى الرموز ،واضسسعة إنسسسانها
بين شدة الطبيعة ورحمسسة اللسسه ،محكمسسة عناصسسر روايتهسسا الشسسعرية،
محققة في بيانهسا المكشسسوف أغمسسض معانيهسا فسسي فلسسسفة الحاسسسة
النسانية حيسن تتصسل بأشسسيائها فتظهسر الضسسرورة البشسرية وتختفسي
الحكمسسة ،وفلسسسفة السسروح حيسسن تتصسسل بهسسذه الشسسياء ذاتهسسا فتظهسسر
الحكمة وتختفي الضوررة -مبينة أثر هذه وتلسسك فسسي طبيعسسة الكسسون،
مقررة أن الحقيقة النسانية العالية لن تكون فيما ينال النسان مسسن
10
لذته ،ول فيما ينجح من أغراضه ،ول فيما يقنعه من منطقه ،ول فيما
يلوح من خياله ،ول فيما ينتظم من قوانينه؛ بل هي السمو على هذه
الحقائق الكاذبة كلها ،وهي الرحمة التي تغلب على الثسسرة فيسسسميها
الناس بًرا ،والرحمة التي تغلب على الشهوة فيسميها النسساس عفسسة،
والرحمة التي تغلب على الطمع فيسسسميها النسساس أمانسسة؛ وهسسي فسسي
ضبط الروح لثلث من الحواس :حاسة الدعسسة السستي يقسسوم بهسسا حسسظ
الخمول ،وحاسة اللذة التي يقوم بهسسا حسسظ الهسسوى ،وحاسسسة التملسسك
التي يقوم بها حظ القوة.
وتزيد النسانية على ذلك في نسق شسسعرها أنهسسا تثبسست أن السسبر مسسن
العفة والمانة هو على إطلقه كالساس لهمسسا؛ فمسسن نشسسأ علسسى بسسر
قا أن يتحقق بالعفسسة والمانسسة ،وأن العفسسة مسسن المانسسة أبويه كان خلي ً
والبر هي مسسساكهما وجامعتهمسسا فسسي النفسسس ،وأن المانسسة مسسن السسبر
والعفة هي كمال هذه الفضائل ،وكلهن درجات لحقيقة واحسسدة ،غيسسر
أن بعضها أسمى مسسن بعسسض فسسي الشسسأن والمنزلسسة ،وبعضسسها طريسسق
لبعض يجر سبب منها سسبًبا منهسا ،وأن الرحمسة النسسانية الستي هسي
وحدها الحقيقة الكبرى إنما هي هذا الحسسب ،بسسادًئا مسسن الولسسد لبسسويه،
وهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته ،وهسسو الحسسب الخسسص ،ثسسم
من النسسسان للنسسسانية ،وهسسو الحسسب مطلقًسسا بعمسسومه وبغيسسر أسسسبابه
الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجات كسسدرجات الحيسساة نفسسسها
من طفوتها إلى شبابها إلى الشيخوخة ،ومسسن العاطفسسة إلسسى الرغبسسة
إلى العقل.
ثم إنه ما دام كمال الفضيلة هو المانة ،فما قبلهسسا أنسسواع منهسسا؛ فسسبر
الولسسد أمانسة الطبسسع المتسأدب ،وعفسة المحسسب أمانسسة القلسسب الكريسم،
قا ثابًتسسا
والثالثة أمانة الخلق العالي ،وهي أسماهن؛ لنها لن تكون خل ً
إل وقسسد خضسسع لقانونهسسا الطبسسع والقلسسب ،ودخسسل فسسي أسسسبابها الدب
والكرم؛ فالمانة الكاملة فسسي هسسذه الفلسسسفة هسسي المانسسة للنسسسانية
العامة المتصلة والكسسرم؛ فالمانسسة الكاملسسة فسسي هسسذه الفلسسسفة هسسي
المانسسة للنسسسانية العامسسة المتصسسلة بسسالمرء مسسن أبعسسد جهسساته ،دون
النسانية الخاصة بكل شخص من أب ،أو أم ،أو قريسسب؛ ودون السستي
هي أخص وهي إنسانية الحب.
ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل مسسن هسسؤلء السسذين مثلسسوا روايسسة
النسانية الفاضلة في فصولها الثلثة ،ل يقول إنه فعل ما فعسسل مسسن
ه{ ]البقسسرة ،[272 :وقسسد تطسسابقوا جسهِ الل ّس ِ
صالح أعماله} :إ ِل ّ اب ْت َِغاَء وَ ْ
جميًعا على هذه الكلمة ،وهي من أدق ما في فلسفة النسسسانية فسسي
11
دا
شعرها ذلك ،فإن معناها أن الرجل في صالح عمله إنما كان مجاه ً
نفسه ،يمنعها مسا تحسسرص عليسسه مسن حظهسسا أو لسسذتها أو منفعتهسسا ،أي
منخلعًسسا مسسن طسسبيعته الرضسسية المنازعسسة لسسسواها ،المنفسسردة بسسذاتها،
دا إل بهسسا ،وهسسي
قا بالطبيعسسة السسسماوية السستي ل يرحسسم اللسسه عبس ً
متحق ً
رحمة النسان غيره ،أي اندماجه باستطاعته وقسسوته ،وإعطسساؤه مسسن
ذات نفسه ومعاونته كف أذاه.
والحديث كالنص على أن هذه الرحمة فسسي النفسسس هسسي السسدين عنسسد
الله ،ل يصلح دين بغيرها ،ول يقبسسل اللسسه صسسرًفا ول عسسدًل مسسن نفسسس
تخلو منها؛ وإذا كانت بهذه المنزلة ،وكانت أسسساس مسسا يفسسرض علسسى
النسان من الخير والحق ،فهي من ذلك في معنى الحسسديث أسسساس
ما يصلح هذه النسانية من الشر والباطل؛ وبهسسذا كلسسه تكسسون الغايسسة
الفلسفية التي ينتهي إليها كلمه صلى اللسسه عليسسه وسسسلم ،أن تنشسسئة
النساس علسى السبر والعفسة والمانسة للنسسانية هسسي وحسسدها الطريقسة
العملية الممكنة لحل معضلة الشر والجريمة في الجتماع البشسسري.
وانظر كيف جعل نهاية السمو في رحمة المسسال السسذي يصسسفونه بسسأنه
شقيق الروح ،فكأن النسان ل يخرج فيها لغيره من بعض مساله ،بسل
ينخلع من بعض روحه؛ وهسسذا يقسسرر لسسك فلسسسفة أخسسرى أن السسسعادة
النسانية الصسسحيحة فسسي العطسساء دون الخسسذ ،وأن الزائفسسة هسسي فسسي
الخذ دون العطاء؛ وذلك آخسسر مسسا انتهسست إليسسه فلسسسفة الخلق؛ فمسسا
المرء إل ثمرة تنضج بموادها ،حتى إذا نضجت واحلولت كسسان مظهسر
كمالهسسا ومنفعتهسسا فسسي الوجسسود أن تهسسب حلوتهسسا فسسإذا هسسي أمسسسكت
الحلوة على نفسها لم يكن إل هذه الحلوة بعينها سسسبب فسسي عفنهسسا
وفسادها من بعد .أفهمت؟
وما دمنا قد وصفنا رحمة المال ،فإنا نتسسم الكلم فيهسسا بهسسذا الحسسديث
العجيب في فن تمثيله وبلغة فنه :عن أبي هريرة -رضي اللسسه عنسسه-
أنه سمع رسول الله صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم يقسسول" :مثسسل البخيسسل
والمنفق كمثسسل رجليسسن عليهمسسا جبتسسان مسسن حديسسد ،مسسن ثسديهما إلسسى
تراقيهما؛ فأما المنفق فل ينفق إل سبغت أو وفرت على جلده حسستى
تخفي بنانه وتعفو أثره ،وأما البخيل فل يريد أن ينفق شيًئا إل لزقت
كل حلقة مكانها ،فهو يوسعها فل تتسع" .انتهى.
فأنت ترى ظاهر الحديث ،ولكن فنه العجيب في هسسذا الحديسسد السسذي
يراد به طبيعة الخير والرحمة في النسان ،فهسسي مسسن أشسسد الطبسسائع
دا وصلبة واستعصاء متى اعترضسستها حظسسوظ النفسسس الحريصسسة جمو ً
وأهواءها ،ومع ذلسك فسإن السسخاء بالمسال يبسسط منهسا وينتهسي فسي
12
الطبع إلى أن يجعلها لينة ،فل تزال تمتد وتسبغ حتى يكون والنفسساق
راضها رياضة عملية كرياضة العضسسل بأثقسسال الحديسسد ومعانسساة القسسوة
في الصراع ونحوه؛ أما الشيخ فل يناقض تلك الطبيعة ولكنسسه يسسدعها
جامدة مستعصية ل تلين ول تستجيب ول تتيسر.
وقد جعل الجبة مسسن الثسسدي إلسسى السستراقي ،وهسسذا مسسن أبسسدع مسسا فسسي
الحديث؛ لن كل إنسان فهو منفق على ضروراته ،يستوي فسسي ذلسسك
الكريسسم والبخيسسل ،فهمسسا علسسى قسسدر سسسواء مسسن هسسذه الناحيسسة؛ وإنمسسا
التفاوت فيما زاد وسسسبغ مسسن وراء هسسذا الحسسد ،فههنسسا يبسسسط الكريسسم
بسطه النساني ،أما البخيل فهو "يريد"؛ لنسسه إنسسسان ،والرادة علسسم
عقلي ل أكثر ،فإذا هسسو حسساول تحقيسسق هسسذه الرادة وقسسع مسسن طبيعسسة
نفسه الكزة فيما يعانيه من يوسع جبة من الحديد لزقسست كسسل حلقسسة
من حلقاتها في مكانها ،فهي ،مستعصية متماسكة ،فهو يوسسسعها فل
تتسع.
أل ترى كيف تتوجه الحجسسة ،وكيسسف تسسدق الفلسسسفة وهسسي فسسي أظهسسر
البيان وأوضحه؟ وهل تحسب طبيعة البخيل في دقائقها النفسية لسسو
هي نطقت -بالغة مسسن وصسسف نفسسسها هسسذا المبلسسغ مسسن جمسسال الفسسن
وإبداعه؟ وهو بعد وصف لو نقل إلى كل لغات الرض لزانها جميًعسسا،
ولكان في جميعها كالنسان نفسه :ل يختلف تركيبه فلن يكون بثلثة
أعين ،ل في بلد شكسبير ول في بلد الزنوج.
إن كلم نبينا صلى الله عليه وسلم يجب أن يترجم بفلسسسفة عصسسرنا
وآدابه ،فستراه حينئذ كأنما قيل مرة أخرى من فم النبسسوة ،وسسستراه
في شرحه الفلسفي كالزهار الناضرة :حياتهسا بشاشستها فسسي النسسور؛
وتعرفه إنسانية قائمسسة تصسسحح بهسسا أغلط الزمسسن فسسي أهلسسه ،وأغلط
النسساس فسسي زمنهسسم؛ وتجسسده يسسرف علسسى البشسسرية المسسسكينة بحنسسان
كحنان الم على أطفالها ،والناس الن كالطفال غسسابت أمهسسم ،فهسسم
فسسي تنسسافر صسسبياني ..ومسسا الم بطبيعتهسسا إل الميسسزان لسسستبدادهم،
والحكمة لطيشهم ،والئتلف لتنسسافرهم ،والنظسسام لعبثهسسم؛ وبالجملسسة
فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة.
وقد كتبنا في فلسفة الدب وحقيقته ،ومعانيه النسانية ،وأن الديسسب
التام الداة هو النسان الكوني ،وغيره هو النسسسان فقسسط ،وأن علسسم
الديسسب هسسو النفسسس النسسسانية بأسسسرارها المتجهسسة إلسسى الطبيعسسة،
والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضعه من الحيسساة
موضع فكرة حدودها من كسسل نواحيهسسا السسسرار -وأن الديسسب مكلسسف
بتصحيح النفس النسانية ونفي التزوير عنها ،وإخلصسسها ممسسا يلتبسسس
13
بها على تتابع الضرورات ،ثم تصحيح الفكرة النسسسانية فسسي الوجسسود،
ونفي الوثنية عن هذه الفكرة ،والسمو بها إلى فوق ،ثم إلسسى فسسوق،
ما إلى فوق .1 ودائ ً
فإذا تدبرت هذا المقال ،واعتبرت كلم النبي صلى الله عليسسه وسسسلم
على ما بينا وشرحنا ،وأخذته من عصسسره ومسسن العصسسر السسذي نعيسسش
فيه ،ونظرت إلى ألفاظه ومعانيه ،واسسستبرأت مسسا بينهسسا مسسن خسسواص
الفن بمثل ما نبهناك إليه من التأويل الذي مر بسسك ،وعلمسست أن كسسل
حقيقة فنيسسة ل تكسسون كسسذلك إل بخاصسسة فيهسسا ،وأن سسسر جمالهسسا فسسي
خاصتها -إذا جمعت ذلك لم تر مذهًبا عسسن القسسرار بسسأن النسسبي صسسلى
الله عليه وسلم كما هو أعظم نبي وأعظم مصلح ،فهو أعظم أديب؛
لن فنه الدبي أعظم فن يحقق للنسسسانية حيسساة أخلقهسسا ،وهسسو بكسسل
ذلك أعظم إنسان .صلى الله عليه وسلم.
فالفن في هذه البلغة هسسو فسسي دقسسائقه أثسسر تلسسك السسروح العليسسا بكسسل
خصائصها العظيمة السستي يحتسساج إليهسسا الوجسسود الروحسساني علسسى هسسذه
الرض ،ولذا ترى كلمسسه صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم يخسسرج مسسن حسسدود
الزمان ،فكل عصر واجد فيه ما يقال له ،وهو بذلك نبوة ل تنقضسسي،
وهو حي بالحياة ذاتهسسا ،وكأنمسسا هسسو لسسون علسسى وجسسه منهسسا كمسسا تسسرى
البياض مثًل هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري...
---------------
1نشر هذا المقال في مقتطف شهر يوليسسو سسسنة ،1932وأكسسثر مسسا
ما لفلسفة هذا الفصل؛ وسنجمع كل مقالتنا فسسي كتسساب فيه يعد متم ً
يصدر إن شاء الله في آخر صيف هذا العام؟
قلت :وأحسبه كان يعني كتابه "قول معروف" وقد استغني عنه بهذا
الكتاب "
فإذا نظرت في هذا الفن فانظره في حديثه ،وفي عمله ،وفي الدنيا
التي ألفها من التاريخ تأليف القطعة البليغة النسسادرة مسسن الكلم ،ورد
كل ما تدبرته من ذلك إلى تلك السسروح الجديسسدة علسسى تاريسسخ الرض؛
فلتعلمن حينئذ أن كل بليغ هو شمعة مضيئة صنعت لهسسا مسسادة النسسور
نوًرا وجماًل بجانب هذه الشمس التي خلقت فيهسسا مسسادة النسسور نسسوًرا
وجماًل وحياة وقوة؛ هناك نور لذي عينين ،وهنا النور لكل ذي عينين،
وذاك يتخايل كالحلم ،وهذا يفصح كالحقيقة ،وذلسسك ضسسوء مسسن حسسوله
الظلمة دانية ،وهذا قد طسسرد الظلمسسة عسسن نصسسف السسدنيا إلسسى نصسسف
الدنيا؛ والول نور بل روح ،والثاني هو روح النور.
14
تلك في رأينا هي الطريقة التي كان يفهمسه بهسا أصسحابه صسلى اللسه
عليه وسلم ،كما يفهم الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعسسان مسسن
الزمان والمكان ،ومن النفس والحالسسة ،ومسسن الهيئة والشسسكل ،ومسسن
العين والفكر ،ومن السماء والرض ،ففيه النور وزيادة ،أي الحقيقسسة
وما ترتفع بها على نفسها؛ وبهذه الطريقة كانوا معه كأعظم فلسفة
دا وطاعة حتى انخلعوا من عصرهم الفن مع الفن إعجاًبا وحًبا وانقيا ً
ودنياهم ،وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم ،وانجذبوا إليه أشد انجذاب
عرفه التاريخ ،وأصبحوا مصرفين معه تصسسريف الحسسوادث ل تصسسريف
الشسخاص ،وعسادت أنفسسسهم وكسأن تسأثير الرض يلتقسسي فيهسا بتسسأثير
السماء فيغسل في سحب عالية فل يكون فيهسسا كمسسا يريسسده النسساس،
بل كما يريد الله؛ ورجعت قلوبهم ل تلبس على دينها رأي ًسسا ول هسسوى،
سا علسسى كسسل سسسمع وعلسسى كسسل بصسسر؛ وكأنما وضع لها هذا الدين حر ً
وبالجملة فأولئك قوم كأنما تنسساولهم النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم
فأفرغهم ثم ملهم ،وما انتقلوا إلى منزلهسسم العاليسسة فسسي التاريسسخ إل
بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من منازل نفسه الشريفة.
وناهيك من رجال يمثل لهم بهذا المثل الذي يضربه لهم في اليمسسان
ليبلغوه أو يقاربوه ،فعسسن خبسساب بسسن الرت -رضسسي اللسسه عنسسه -قسسال:
شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسسسد بسسردة لسسه
في ظل الكعبة ،قلنا :أل تستنصر لنا؟ أل تدعو الله لنا؟ قسسال" :كسسان
الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشسسار
فيوضع على رأسه فيشق باثنين وما يصده ذلك عسسن دينسسه ،ويمشسسط
بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصسسب ومسسا يصسسده ذلسسك
عن دينه!"
ضافانظر يا هذا ،فإنه لو اجتمعت قوى الكون فجاءت يشد بعضها بع ً
فنزلسست فسسي عبسسارة مسسن الكلم لتمل نفسسوس المسسؤمنين بقوتهسسا لمسسا
وضعت إل هذا الوضع من هذا التمثيسسل بأمشسساط المسسسامير وأسسسنان
المنشار في عظم النسان الحي ولحمسسه .وظسساهر التمثيسسل علسسى مسسا
رأيت من العجب ،ولكن له باطًنا أعجب من ظاهره ،وهو البلغة كل
البلغة والبيان حسسق البيسسان ،فإنمسسا يريسسد صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم أن
مسسا
مسسا ولح ً
الحديد ل يأكل ول يمزع مسسن أولئك القويسساء بإيمسسانهم عظ ً
دا مثلسسه أو أشسسد منسسه ،فسسإن للسسروح
وعصًبا ،بل هسسو حديسسد يأكسسل حدي س ً
المؤمنة السلطة على جسمها قوة تصنع هذه المعجزة ،فيمر الحديد
في العظم واللحسسم والعصسسب يسسسلبها الحيسساة ،ولكنهسسا تسسسلبه شسسدته
وجلده وصبره!
15
وكل ما جاء من التمثيل في كلمه صلى الله عليه وسلم ينطوي فيه
من إبداع الفن البياني وإعجازه ما يفوت حدود البلغاء ،حتى ل تشك
إذا أنت تدبرته بحقه مسسن النظسسر والعلسسم أن بلغتسسه إنمسسا هسسي شسسيء
كبلغة الحياة في الحسسي :هسسي البلغسسة ولكنهسسا أبسسدع ممسسا هسسي؛ لنهسسا
ضا.
الحياة أي ً
وأنت خبير أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسسلم كسانت تأخسذه
عند نزول السسوحي عليسسه أحسسوال وصسسفت فسسي كتسسب الحسسديث :قسسالت
عائشة -رضي الله عنها :-ولقد رأيته ينسسزل عليسسه السسوحي فسسي اليسسوم
الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرًقا .وفي حسسديث آخسسر
عنها قالت :فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حسستى أنسسه ليتحسسدر عنسسه
ت .وفسسي حسسديث زيسسد بسسن ثسسابت: مثل الجمان من العرق في يوم شا ٍ
فأنزل الله -عز وجل -على رسوله صلى اللسسه عليسسه وسسسلم ،وفخسسذه
ض فخسسذي .وفسسي حسسديث على فخذي ،فثقلت علي حتى خفت أن تر ّ
يعلى بن أمية حين قال لعمر :أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين
يوحي إليه ،فأشار عمر إلي ،فجئت وعلسسى رأس رسسسول اللسسه صسسلى
الله عليه وسلم ثوب قد أظل به فأدخلت رأسي ،فسسإذا رسسسول اللسسه
ط ،أي يسسردد نفسسسه مسسن صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهسسو يغس ّ
شدة ثقل الوحي .فهذه كلها أحوال تصف عمل الدماغ بكل مسسا فيسسه
من جهد القوى العصبية؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها ويتركها لسسوعي
الروح وحدها ،ل يشاركها في هذا الوعي فكر ول هاجس ،ول يتصسسل
به شيء من حياة الحي ،فيتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم وجسسود
آخر غير وجوده المحدود بجسمه وطباعه ودنياه؛ ويخرج بسسوعيه مسسن
هذه الجاذبية الرضية إلى ما وراء حدود الطبيعسسة مسسن قسسوى الغيسسب؛
وبذلك يتلقى عن روح الكون ،ثم يفصسسم عنسسه وقسسد وعسسى مسسا أوحسسي
ض برهان قسساطع إليه .وما وصفه زيد بن ثابت من أن فخذه كادت تر ّ
على أن روحه صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم تنسسسرح مسسن جسسسمه سسساعة
الوحي فيثقل الجسم؛ لنه إنما يخف بالروح وتبقسسى وظسسائف الحيسساة
عاملة أعمالها بعسر وبطء؛ لتصالها بشسعاع مسن السروح دون السروح
بجملتها؛ ولسنا هنا بصدد الكلم عن الوحي ،فله موضع إن شاء اللسسه
ل على أن هذه التهيئة في كتابنا "أسرار العجاز" ،1وإنما نريد أن ند ّ
اللهية لذلك الجهاز العصبي لها أثرها العظيم فسي فسسن بلغتسسه صسلى
الله عليه وسلم ،وبها امتاز عن كسسل بلغسساء السسدنيا؛ فسسإن الملهسسم مسسن
أفذاذ العبقريين على هذه الرض إنما يبلغ ما يبلغه ببعض هسسذا السسذي
رأيت ،وفي بعض هذا أبدع ما ورثت الدنيا مسسن فنسسون البيسسان ،وكسسأن
16
في السدماغ مسادة فسي موضسع منسه يميسز بهسا مسن تختسارهم السسماء
لحكمتهسسا وإلهامهسسا ،وإذا كسسان فسسن العبقرييسسن هسسو أسسسمى الكلم
النساني؛ لما خصوا به من هذه التهيئة ،فسسإن فنسسه صسسلى اللسسه عليسسه
وسلم يكون ول جرم من باب الكبر مما هو أكبر في إلهام النسانية
كلها.
ولهذه القوة النادرة كان بيانه قوًيا على مزج معانيه بالنفس بما فيه
من صنعة الحياة ،وإنمسسا فلسسسفة البيسسان الفنسسي أن تمتسسد الحيسساة مسسن
النفس إلى اللفظ ،فتصنع فيه صسسنعها ،فتفصسسل العبسسارة الفنيسسة عسسن
كاتبهسسا أو قائلهسسا وهسسي قطعسسة مسسن كلمسسه؛ لتسسستحيل عنسسد قارئهسسا أو
سامعها قطعسسة مسسن الحيسساة فسسي صسسورة مسسن صسسور الدراك؛ فالبيسسان
الفني هو الوسيلة لحمل الوجود وبعثرته في مواضسسع غيسسر مواضسسعه،
قا آخر في النفس النسانية؛ وبذلك يؤول قوله صسسلى اللسسه وخلقه خل ً
عليه وسسسلم" :إن مسسن البيسسان لسسسحًرا" .جعسسل نوع ًسسا مسسن البيسسان هسسو
السحر ،ل البيان كله ،فالحسسديث كسسالنص علسسى مسسا تسسسميه الفلسسسفة
الوروبية اليوم "بالبيان الفنسسي" ،كسسأنه قسسال :إن مسسن البيسسان فن ًسسا هسسو
سحر من عمل النفس في اللغة تغير به الشياء ،وله عجسسب السسسحر
وتأثيره وتصرفه؛ وهذا معنى لم يتنبه إليه أحد ،ول يذكر معه كسسل مسسا
قالوه في تفسير الحسسديث ،وبسسذلك التأويسسل يكسسون هسسذا الحسسديث قسسد
احتوى أسمى حقيقة فلسفية للفن.
ضا ما تراه من شدة الوضوح في كلمسسه صسسلى ومن أثر تلك القوة أي ً
الله عليه وسلم ،ولقد رأينا هذه البلغة النبوية العجيبسسة قائمسسة علسسى
أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة ل لفظ اللغة ،فالعناية فيهسسا بالحقسسائق،
ثم الحقائق هي تختسار ألفاظهسسا اللغويسة علسى منازلهسا؛ وبسسذلك يسأتي
الكلم كأنه نطق للحقيقة المعبر عنها ،والكلمة الصادقة تنطق مسسرة
واحدة؛ فصورتها اللغويسسة ل تكسسون إل صسسريحة منكشسسفة عسسن معناهسا
المضيء كأنما ألقي فيها النور.
وهو معلوم أنه صلى الله عليه وسلم ل يتكلف ول يتعمل ،ولم يكتب
ولم يؤلف ،ومع هذا ل تجد في بلغته موضًعا يقبل التنقيح ،أو تعرف
له رقة من الشأن كأنما بين اللفاظ ومعانيها في كل بلغته مقيسساس
وميزان ،أو كأن هذه البلغة تنبثق بسسالكلم علسسى طبيعسسة عاملسسة فيسسه
بقواها الدائبة الثابتة ،ففنها الجميل هو التركيب الذي تجيء فيه كمسسا
ترى الشجر مثًل كاسسًيا مسسن ورقسسه وزهسسره ،فسسأنت منسسه بسسإزاء عمسسل
جميسسل لنسسك بسسإزاء حقيقسسة طبيعيسسة قسسد انفسسردت فسسي ذاتهسسا ،ومعنسسى
انفرادها في ذاتها أنها كذلك هي ،فليس فيها موضع لشسسيء غيسسر مسسا
17
هو فيها؛ ثم ل تنس أن النبوة أكبر السبب في ذلك الوضسسوح البيسساني
العجيب؛ فإن الحياة ل تسسستغلق فسسي البلغسسة بإنسسسان إل وهسسي غنيسسة
عنه؛ ولعل غموض بعسسض الفلسسسفة وبعسسض الشسسعراء هسسو مسسن دليسسل
الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعسسة ..أل تسسرى أن مسسن أسسساليبهم
الفلسفية والشعرية ما يجعل معنى الكلمة أحياًنا هو نقض معناهسسا 1
إذ يتصنعون للفكر ويسسستجلبون لسسه ويشسسققون فيسسه كمسسا يفعسسل أهسسل
صسسناعة اللفسساظ باللفسساظ ،فههنسسا البسسديع اللفظسسي؛ وهنسساك "البسسديع
الفكري" ول طائل وراءهما إل صناعة وبهرجة.
ما من الحياة ،بل مادة لمعانيهسسا الجديسسدة ،فلسسن ومتى كان النبي قس ً
حا ،ومنفعسسة ،ودقسسة، ً
يكون بيانه إل على ما وصفنا لسسك جمسسال ،ووضسسو ً
وا بقدر ذلك كله. وسم ً
وهنا معنى نريد أن ننبه إليه ونتكلم في سره وحقيقته ،فإنك تقرأ ما
جمع من الكلم النبوي فل تصيب فيه ما تصيبه في بلغة أدباء العالم
مما فنه الكلم في المرأة ،والحب ،وجمال الطبيعة ،وهو فسسي بلغسسة
الناس كالقلب في الجسم :ل تخلو منسسه ول تقسسوم إل بسسه ،حسستى تجسسد
الكلم في المرأة وحدها شطر الدب النساني ،كما أن المسسرأة هسسي
شسسطر النسسسانية ،ول يعسسرف لسسه صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم فسسي هسسذه
الغراض إل كلمسسات بيانيسسة جسساءت بمسسا يفسسوق الوصسسف مسسن الجمسسال
والدقة ،متناهية في الحسن ،طسساهرة فسسي الدللسسة ،يظهسسر فسسي وجسسه
بلغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعسة الحيساء والخفسر؛ كقسوله
قا بالقوارير" ،وقسسوله لسسسامة بسسن زيسسد ،وقسسد كسسساهفي النساء" :رف ً
قبطية 2فكسسساها امراتسسه" :أخسساف أن تصسسف حجسسم عظامهسسا" ،قسسال
الشريف الرضي في شرح هذه الكلمة :وهذه اسسستعارة ،والمسسراد أن
القبطية برقتها تلصق بالجسم ،فتبين حجم الثديين ،والرادفتين ،ومسسا
يشتد من لحم العضدين والفخذين ،فيعرف الناظر إليها مقادير هسسذه
العضاء ،حتى تكون كالظساهرة للحظسه ،والممكنسة للمسسه ،فجعلهسا
عليه الصلة والسلم لهذه المحال كالواصفة لمسسا خلفهسسا ،والمخسسبرة
عما استتر بها؛ وهذه من أحسن العبسسارات عسسن هسسذا المعنسسى ،ولهسسذا
الغرض رمى عمر بن الخطاب في قسسوله" :إيسساكم ولبسسس القبسساطي"
فإنها إل تشف تصف" .فكان رسول الله صلى اللسه عليسه وسسلم أبسا
عذرة هذا المعنى ،ومن تبعه فإنما سلك فجه.
---------------
18
1من ذلك قول "جيته" شسساعر اللمسسان :إن الكسسل باطسسل ،معنسساه أن
الكل ليس بباطل ،ولعل هسسذا فسسي "البسسديع الفكسسري" مسسن بسساب أكسسل
النفي للثبات.
2بضم القاف ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء ،وضموا قسسافه فرقًسسا
بينه وبين ما ينسب إلى القبط من غير الثياب.
قلنسسا :وهسسذا كلم حسسسن ،ولكسسن فسسي عبسسارة الحسسديث س سًرا هسسو مسسن
معجزات البلغة النبوية لم يهتد إليه الشريف ،علسسى أنسسه هسسو حقيقسسة
الفن في هذه الكلمة بخاصتها ،ول نظسسن أن بليغًسسا مسسن بلغسساء العسسالم
يتأتى لمثله ،فإنه عليسه الصسلة والسسلم لسم يقسل :أخساف أن تصسف
حجم أعضائها ،بل قال" :حجم عظامها" ،مع أن المراد لحم العضاء
في حجمه وتكوينه ،وذلك منتهسسى السسسمو بسسالدب ،إذ ذكسسر "أعضسساء"
المراة في هذا السياق ،وبهذا المعرض ،هو في الدب الكامل أشسسبه
بالرفث ،ولفظة "العضسساء" تحسست الثسسوب الرقيسسق البيسسض تنبسسه إلسسى
صور ذهنية كثيرة هي التي عدها الرضسسي فسسي شسسرحه ،وهسسي تسسومئ
إلى صورة أخرى من ورائها ،فتنزه النبي صلى الله عليه وسلم عسسن
كل ذلك ،وضرب الحجسساب اللغسسوي علسسى هسسذه المعسساني السسسافرة...
وجاء بكلمة "العظام"؛ لنها اللفظة الطبيعية المبرأة من كسسل نزغسسة،
ضسسا؛ إذ تكسسون فسسيل تقبل أن تلتسسوي ،ول تسسثير معنسسى ،ول تحمسسل غر ً
الحي والميت ،بل هي بهذا أخص؛ وفي الجميل والقبيح ،بل هي هنسسا
أليق؛ وفي الشباب والهرم ،بل هي في هذا أوضح.
والعضاء ل تقوم إل بالعظام فالمجاز على ما ترى ،والحقيقة هي ما
علمت.
ومن كلماته في الوصف الطبيعي قوله صلى الله عليسسه وسسسلم وهسسو
يذكر أوقات الصلة" :العصر إذا كان ظل كل شيء مثله ،وكذلك مسسا
دامت الشمس حية ،والعشاء إذا غاب الشفق إلى أن تمضي كواهل
الليل" ،وكواهل الليل :أوائله وفروعه المتقدمة منسسه ،كالسسذي يتقسسدم
المطايا من أعناقها الممتدة بعض المتداد؛ وقسسوله وقسسد سسسأله رجسسل
متى يصسسلي العشسساء الخسسرة ،فقسسال عليسسه الصسسلة والسسسلم" :إذا مل
الليسسل بطسسن كسسل واٍد"؛ وقسسوله" :إذا طلسسع حسساجب الشسسمس فسسأخروا
الصلة حتى ترتفع" ،وقوله" :إن رجًل مسسن أهسسل الجنسسة اسسستأذن ربسسه
في الزرع ،فقال له :ألست فيما شئت؟ قال :بلسسى ولكنسسي أحسسب أن
أزرع .قال :فبذر فبادر الطسسرف نبسساته واسسستواؤه واستحصسساده فكسسان
أمثال الجبال" .وقوله" :بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش ،فنزل
بئًرا ،فشسسرب منهسسا ثسسم خسسرج ،فسسإذا بكلسسب يلهسسث يأكسسل السسثرى مسسن
19
العطش ،فقال :لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي! فمل خفه ثم أمسسسكه
بفيه ،ثم رقى فسقى الكلب فشسسكر اللسسه لسسه ،فغفسسر لسسه" ،قسسالوا :يسسا
رسول الله ،وإن لنا في البهسسائم أج سًرا؟ قسسال" :فسسي كسسل كبسسد رطبسسة
أجر".
فهذا ونحوه من الفن البديع النادر ،وهو مع ذلسسك ل يسسأتي فسسي كلمسسه
صلى الله عليه وسلم إل في مثل ما رأيت ،فل يسسراد منسسه اسسستجلب
العبارة ،ول صسسناعة الخيسسال ،فيظسسن مسسن ل يميسسز ول يحقسسق أن خلسسو
البلغة النبوية من فن وصف الطبيعة والجمال والحب ،دليل على ما
ينكره أو يستجفيه ،ويقول :بسداوة وسسذاجة ونحسو ذلسك ممسا تشسبهه
الغفلة على جهلة المستشرقين ومن في حكمهم من ضعاف أدبائنسسا
وجهلة كتابنا ،وإنما انتفسسى ذلسسك عسسن النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم
لنتفاء الشعر عنه وكونه ل ينبغي لسسه كمسسا بسسسطناه فسسي موضسسعه 1؛
فعمله أن يهدي النسانية ل أن يزين لهسسا ،وأن يسسدلها علسسى مسسا يجسسب
في العمل ،ل ما يحسن في صناعة الكلم ،وأن يهديها إلى ما تفعلسسه
لتسمو به ،ل إلى ما تتخيله لتلهو به .والخيسسال هسسو الشسسيء الحقيقسسي
عند النفس في ساعة النفعال والتأثر بسه فقسط ،ومعنسسى هسسذا أنسه ل
دا حقيقة ثابتة ،فل يكون إل كذًبا على الحقيقة. يكون أب ً
ثم هو صلى الله عليه وسلم ليس كغيسسره مسسن بلغسساء النسساس :يتصسسل
بالطبيعة ليستملي منها؛ بل هو نبي مرسل متصل بمصسسدرها الزلسسي
ليملي فيها ،وقد كانت آخر ابتسامة له في الدنيا ابتسامات للصلة 2
يتهلسسل لطهسسارة النفسسس المؤمنسسة وجمالهسسا قائمسسة بيسسن يسسدي خالقهسسا،
منسكًبا في طهارتها روح النور ،وكسل إنسسان إنمسا يبسسدو الكسون فسي
عينه على ما يرى مما يشبه مسسا فسسي نفسسسه ،فكسسل مسسا رآه المصسسلي
الخاشع في صلته 3يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة علسسى
نحو من الدين ،وكل ما رآه السكران في سكره يكسساد يسسراه متخبط ًسسا
يعربد ما يتماسك!
ثسسم إن الكلم فسسي وصسسف الطبيعسسة والجمسسال والحسسب علسسى طريقسسة
الساليب البيانية ،إنما هو باب مسسن الحلم؛ إذ ل بسسد فيسسه مسسن عينسسي
شاعر ،أو نظرة عاشق؛ وهنا نبي يوحى إليه ،فل موضع للخيسسال فسسي
أمره ،إل ما كان تمثيًل يراد به تقويسسة الشسسعور النسسساني بحقيقسسة مسسا
في بعض ما يعرض من باب الرشسساد والموعظسسة ،كمسا مسسر بسك مسسن
أمثلته ،وكقوله صلى الله عليه وسلم" :إن المؤمن يرى ذنسسوبه كسسأنه
قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ،وإن الفاجر يسسرى ذنسسوبه كسسذباب
مر على أنفسسه!" ،وهسسذا كلم أبلسسغ مسسا أنسست واجسسد مسسن تفسسسيره تلسسك
20
النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق ،كأنه حاسة مسسن النسسور كبسست فسسي
شعورها ،وتلك النفس الفاجرة بإحساسها الغليظ ،كسسأنه حاسسسة مسسن
التراب....
---------------
1كتابنا "إعجاز القرآن".
2عن أنس أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي صلى الله عليه
وسلم الذي توفي فيه ،حتى إذا كان يسوم الثنيسن وهسسم صسفوف فسي
الصلة ،فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينسسا
وهو قائم كأن وجهه ورقسسة مصسسحف ،ثسسم تبسسسم يضسسحك ،فهممنسسا أن
نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم ،فنكص أبسسو بكسسر
على عقبيه ليصل الصسسف ،وظسسن أن النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم
خارج إلى الصلة ،فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسسسلم أن أتمسسوا
صلتكم ،وأرخى الستر ،فتوفي من يومه.
3من الكلمات الجميلة الدقيقسسة فسسي نحسسو هسسذا المعنسسى قسسوله عليسسه
الصلة والسلم" :ل تزالون في صلة ما انتظرتم الصلة".
كره ذنوبه أن يحس بحركة ويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يذ ّ
كره ذنوبه فإذا م أن ينقلع فيميل عليه ،أما الفاجر فيسمعه يذ ّ جبل يه ّ
هي في خياله نقط سود تمر مرور الذباب ،ليس منه إل الحسسس بسسه،
كما يحس من يضرب على أنفسسه برجسسل ذبابسسة ..وجعسسل السسذباب يمسسر
على أنفه دون عينه أو فمه ،وذلك منتهى الجمال فسسي التصسسوير؛ لن
الذباب إذا وقع على الفم أو العين ثبت وألح ،فإذا وقسسع علسسى قصسسبة
النف لم يكد يقف ومر مروره.
الكون في نظر النبي صلى الله عليه وسلم آية الحكمة ل آية الفسسن،
ومنظر المسسستيقن ل منظسسر المتخيسسل ،ومسسادة العبوديسسة للسسه ل مسسادة
التأله للنسان ،وبذلك حرم السلم أشياء وكره أشياء ل يكون الفسسن
بغيرها فًنا ،في ضروب من الشسسعر والتصسسوير والموسسسيقى والحسسب؛
دا وجمًعا ،وحاضًرا وآتًيا؛ وواجب ًسسا ومنفعسسة،
لنه إنما ينظر للنسان واح ً
ما؛ وهذه كلها ل إطلق فيها إل من أجل القيد ،على حين أن ولذة وأل ً
الفن ل قيد فيه إل من أجل الطلق ،وأسسساس السسدين حسسظ الجماعسسة
وقيودها ،وأساس الفن الفرد وحريته؛ وهذه الحياة ل تبدو فسسي حالسسة
تركيب وانتظام إل إذا كانت للكل ،فإذا كانت لفرد ظهسرت فسسي هيئة
انحلل وانتقاض ،وأصبحت في الكون كله عمر إنسان واحد.
ثم إن للفن ألواًنا ل بد منها لتصويره الجميل الذي تعجب به النفس،
وا وإشسسراًقا
والشيطان هو اللسسون الحمسسر فيهسسا ...أي هسسو أشسسدها زهس ً
21
وجماًل فسي التصسوير الفنسي لكسل مسا فسي المسرأة والحسب والجمسال
وشهوات النفس ،ولسنا ننكر أن الحيسساة القويسسة حيسسن تمازجهسسا هسسذه
طا ويكون لهسسا رونسسق ،وفيهسسا متساع؛ ولكسسن حا ونشا ًالفنون تكسب مر ً
الحياة ل تكون بها كذلك إل من أنها تحتسي خمرها ...فلهسا بعسد مسن
عاقبة هذه الفنون شبيه بما يكون للجسم القوي مسسن عاقبسسة الخمسسر
إذا تغلغلت الخمر في شعاب كبده وأحاطت رطبتها يابسة ،كما وقسسع
في أطوار كثيرة من تاريخ المم؛ فليس العتبار في هذا التشبيه بما
يعرض من تأثير الساعة الزائلسسة بأفراحهسسا وفسسن حياتهسسا ،بسسل الشسسأن
للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتها الباقيسسة بأحزانهسسا وفسسن هلكهسسا،
فالسلم فيما حرم وكره من ذلسك لسم يسزد علسى أن أراد للحيساة أن
تحيا؛ لنه ل يقر صورة من صور انتحارها.
ومن كسسان أكسسبر عملسسه إنشسساء الحقسسائق النسسسانية وتقريرهسسا شسسريعة
وعاطفة وأعماًل ،فل جرم كان فنه غير الذي أكبر عملسسه تمسسويه تلسسك
الحقائق وزخرفتهسسا؛ ليقسسع الحسسساس بهسسا علسسى غيسسر وجههسسا ،فتخسسف
بالواقع منها على النفس خفة الكذب في سسساعة تصسسديقه وهسسذا هسسو
أكبر عمل الشعر.
وههنا سر دقيسسق ل يتسسم كلمنسسا إل بشسسرحه؛ لنقطسسع القسسول فسسي هسسذا
فسسا إن النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه
المعنى ،فيظهر حقه من باطله قلنا آن ً
وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس؛ يتصل بالطبيعسسة يسسستملي منهسسا،
بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الزلي ليملي فيهسسا ،ومعنسسى هسسذا
أنه ل يعرض له من زيغ النفس ما يعرض لغيره من النسساس ،فسسأحكم
ما صادًقاحكماء الدنيا ل يستطيع أن يتبين جزًءا صغيًرا من الكون فه ً
ما ل يتم إل بفهم الكون بأجمعه ،فهو كلسسه ذرة مكسسبرة إلسسى مسسا ل جز ً
ينتهي ول يحد ،وليست النبوة شيًئا غير التصال بالسر.
والحاضر الذي يكون في إنسان من النسساس ،هسسو حاضسسر ليسسس غيسسر؛
لنه يتحول ويفنى ،فهو مسسن الزيسسغ السسذي يعسستري النفسسس ،ومنسسه كسسل
أغراض الحياة البشرية الفانية ،ولهذا كان طابع الله على نبينا صسسلى
الله عليه وسلم هو تجريده من زيغ الهوى وسرف الطبيعة ،فهو من
الناس ولكنه متخلق بأخلق الله سبحانه ،وله في هذا الباب ما ليس
لحد ول يطيقه أحد ،ويجب على من يقسسرأ سسسيرته وشسسمائله وحسسديثه
ما عن طابع الله في كل شيء منها ،فسسإنه سسسيرى حينئذ أن يبحث دائ ً
كأنه يدرسها مع الملئكة ل مع الناس ،وسيظهر له من تفسسسيرها أن
الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الخلقيسسة العليسسا إل فيهسسا ،وأنسسه صسسلى
ضا حركسسة فسسي تقسسدم النسسسانية؛ الله عليه وسلم كان إنساًنا ،وكان أي ً
22
وأن من معجزاته أنه أطلق في تاريخه ما عجزت عنه البشسسرية فسسي
تاريخها ،وأن كل أموره صلى الله عليه وسلم موضوعة وضسسًعا إلهّيسسا
ونها الله وعلقهسسا فسسي التاريسسخ لمعسساني الحيسساة ،تعليسسقكأنها صفات ك ّ
الشمس في السماء لمواد الحياة.
إن الشهوات والمصالح إنما هي حصر النفس في جانب من الشعور
محدود بلذات وهموم وأحاسيس تجعل غرض النسسسان نفسسسه ،فهسسو
كما يمل معدته ويتأنق في الختيار لهسسا ،يريسسد مسسن كسسل ذلسسك أن يمل
شخصه علسسى هسسذه الطريقسسة بعينهسسا ،طريقسسة إشسسباع معسسدته ..وبهسسذا
تسخر منه حقائق الكون؛ لنها ل تحد بشخص ،ول تنحصر فسسي أحسسد،
وكل من كانت حسسدوده النسسسانية جسسسمه ولسسذات جسسسمه ،فهسسو فسسي
مقدار هذا الكون كسالميت المحسدود مسن الرض كلهسا بقسسبره وتسسراب
قبره؛ وإنه ليجد جسمه وأكاذيب الطبيعة عليه ،ولكنه لن يجد السسروح
وحقائقها؛ وإذا لم يجد هذه فلسسن يعسسرف الكسسون وأسسسراره؛ وإذا فقسسد
هذا فهو الحاضر الضيق المشسسوه المكسسذوب ،ومسسن ثسسم ففنسسه شسسهوة
سسسا عليسه، عا ،وشسهوة نظسره وإن كسان ملب ً إحساسه وإن كان مخسسدو ً
وشهوة خياله ،وإن كسان التمسويه والسزور والحاضسر الضسيق المشسوه
المكذوب الخادع هو المسمى فسسي لغسسة القسسرآن والحسسديث "بالسسدنيا"
فإذا اتسسسع النسسسان لروحسسه وأدرك حقيقتهسسا ،ووعسسى مسسا بينهسسا وبيسسن
الكون؛ وأخذ يحقق هذه الروح السماوية في أعماله ،وتخطى حسسدود
جسمه إلى فكرة الخلود؛ فهذا كلسسه هسسو المسسسمى فسسي لغسسة القسسرآن
والحسسديث "بسسالخرة"؛ فهمسسا كلمتسسان فسسي منتهسسى البسسداع مسسن الفسسن
والفلسفة؛ وعلى ذلك يؤول قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته:
"من كان همه الخرة جمع الله شمله ،وجعل غناه فسسي قلبسسه ،وأتتسسه
الدنيا وهي راغمة؛ ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره وجعل فقسسره
بين عينيه ،ولم يأته من الدنيا إل ما كتب له".
وأنت إذا فسرت هذه الكلمات بمسسا وصسسفنا لسسك ووجهتهسسا علسسى ذلسسك
التأويل ،رأيت عجائب معانيها ل تنقضسسي ،وأدركسست سسسر قسسوله صسسلى
الله عليه وسلم" :إني على علم مسسن اللسسه علمنيسسه" فاتسسساع السسذات
دتها لحقائق الكسسون ،يجعسسل النسسسان كسسالكون نفسسسه، النسانية ومما ّ
مجتمًعا غير مفرق على هموم الحياة؛ ويجعل الغنى معنسسى ل مسسادة؛
ولو امتلك إنسان من الناس كل ما طلعت عليه الشمس ،وكسسان لسسه
كنز في الشرق وكنز في المغرب ،لما بلغ شسسيًئا قليًل مسسن لسسذة هسسذا
المعنى في قلبه؛ وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضسسة السستي يهلسسك
الناس في تحصيلها وليست إل ضرورة صغيرة ،قد تكسسون فسسي ثسسوب
23
ولقيمات ونحوهسسا ممسا ل خطسسر لسه ،وهسسذا هسو إرغامهسا وهسي مالكسسة
الملوك ،فإذا ضسساق النسسسان عسسن روحسسه أصسسبحت النفسسس كالمنخسسل
يوضع الدقيق الناعم فيه؛ ليخرج منه فيمسسسكه كلسسه ول يمسسسك منسسه
دا لتمتلسسئ ،ول شيًئا ،ووضع بين عينيها معنسسى الفقسسر ،فهسسي تعمسسل أبس ً
ذا علسسى الطريقسسة السستي صسسنع بهسسا،دا؛ وإذا كان المنخل متخس ً تمتلئ أب ً
ففقره ول جرم معلق عليه من ذات تركيبه" .أفهمت"؟
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم متساوًقا مسسع الحقيقسسة ،متص سلً
جا من حاضر ما نحن فيه، دا بربه ل بنفسه ،كان لذلك خار ً بها ،محدو ً
دا بمعناه النساني الكامل إلى المستقبل الذي وراء الحياة ،فمسسا ممت ً
نحصره نحن بطبيعتنا في بعض السماء ل يلتفت هسسو إليسسه بطسسبيعته؛
ومن ذلك أوصاف الغنى والحلية والنعيم والمتاع والجمال والمطعسسم
والمشرب ،ومسسا داخسسل الطبيعسسة مسسن مثسسل معانيهسسا ،ومسسا جسسرى هسسذا
المجرى ،فهذا كله يراه الناس من جهة الحاجة إليسسه والمطمسسع فيسسه؛
إذ كان ضعف إدراكهم وضيق وعيهم مما يبدع لهسسم أكسساذيب الخيسسال،
فتجيء من ذلك أوصسافهم وفنسون أوصسافهم؛ أمسا النسبي صسلى اللسه
عليه وسلم فيرى ذلك من ناحية الغنى عنه والسمو عليه؛ إذ كسسان ل
ينظر بطبيعة روحسسه العظيمسسة إل أعلسسى النظريسسن وأطهرهمسسا ،فسسآخر
إدراكنا للحقيقة والطبيعسسة أول إدراكسسه هسسو الطبيعسسة والحقيقسسة ،ومسسا
تعجز عنه النسانية تبدأ منه النبوة.
وعلى هذا فإن من أقوى البراهين على كماله صلى الله عليه وسلم
ونبوته واتساع روحه ونفاذ إدراكه لحقائق الكون -أنه لم يتبسط في
تلك الفنون كما يصنع البلغاء ،ولم يأخذ مأخذهم فيها؛ إذ كسسانت كلهسسا
من أكاذيب القلب والفكر والعين.
وفي قانون الحقيقة أن الشياء هي كل الشياء وهسي كمسا هسي ،أمسا
في قانون الكسسذب فالشسسياء كلهسسا هسسي مسا تختسساره أنسست منهسسا ،وكمسا
تختاره.
بحسب الدنيا من جمال فنه صلى الله عليسسه وسسسلم مسسا يضسسيف إلسسى
الحياة عظمة الشياء العظيمة ،ويدفع النسانية في طريقهسسا الواحسسد
الذي هو بين الب والم ،طريق الخ إلى أخيه ،يكون في السسدنيا بيسسن
الرجلين كما هو في الدم بين القلسسبين رحمسسة ومسسودة؛ وبحسسسبنا مسسن
جمال هذا الفن مسا يهسدي النسسان إلسى حقيقسسة نفسسه؛ فيقسره فسي
الحقيقي من وجوده النساني؛ ويجعل الفضسسائل كلهسسا تربيسسة للقلسسب؛
يكبر بها ،ثم يكبر ،ثم ل يزال يكبر حتى يتسسسع لحقيقسسة هسسذه الكلمسسة
الكبرى :الله أكبر.
24
25
قرآن الفجر 1
كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القسسرآن كلسسه حفظ ًسسا وجسسودة
بأحكام القراءة؛ ونحن يومئذ في مدينة "دمنهسسور" عاصسسمة البحيسسرة؛
وكان أبي -رحمه الله -كبير القضاة الشرعيين في هذا القليم ،ومن
عادته أنه كسان يعتكسف كسل سسنة فسي أحسد المسساجد عشسرة اليسام
الخيرة من شسهر رمضسان ،يسدخل المسسجد فل يسبرحه إل ليلسسة عيسد
الفطر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بمعناه الحسسق،
وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد ،ويطسسل علسسى السسدنيا إطلل الواقسسف
على اليام السائرة ويغير الحيسساة فسسي عملسسه وفكسسره ،ويهجسسر تسسراب
الرض فل يمشسسي عليسسه ،وتسسراب المعسساني الرضسسية فل يتعسسرض لسسه،
ويدخل في الزمسسن المتحسسرر مسسن أكسسثر قيسسود النفسسس ،ويسسستقر فسسي
المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة ل تتغير؛ ثم ل يرى من النسساس
إل هذا النوع المرطب الروح بالوضوء ،المدعوّ إلسسى دخسسول المسسسجد
بدعوة القوة السامية ،المنحني فسسي ركسسوعه؛ ليخضسسع لغيسسر المعسساني
الذليلة ،الساجد بين يدي ربه؛ ليدرك معنى الجلل العظم.
وما هي حكمة هذه المكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنسسة قائمسسة
في الحياة ،تشعر القلب البشري في نزاع السسدنيا أنسسه فسسي إنسسسان ل
في بهيمة...
ت عند أبي في المسجد؛ فلمسسا كنسسا فسسي جسسوف الليسسل وذهبت ليلة فب ّ
الخير أيقظني للسحور ،ثم أمرني فتوضأت لصلة الفجر وأقبل هسسو
على قراءته؛ فلما كان السحر العلى هتسسف بالسسدعاء المسسأثور :اللهسسم
لسسك الحمسسد؛ أنسست نسسور السسسموات والرض ،ولسسك الحمسسد؛ أنسست بهسساء
السموات والرض ،ولك الحمد؛ أنسست زيسسن السسسموات والرض ،ولسسك
الحمد؛ أنت قّيام السموات والرض ومسسن فيهسسن ومسسن عليهسسن؛ أنسست
الحق ومنك الحق ...إلى آخر الدعاء.
---------------
1أنشأها قبل موته بثلثة أشهر ،فاعجب له يسسذكر أوليتسسه وهسسو علسسى
أبواب آخرته!..
وأقبسسل النسساس ينتسسابون المسسسجد ،فانحسسدرنا مسسن تلسسك العليسسة السستي
يسمونها "الدكة" وجلسنا ننتظر الصلة .وكانت المسسساجد فسسي ذلسسك
العهد تضاء بقناديل الزيت ،في كل قنديل ذبالسسة يرتعسسش النسسور فيهسسا
صا كأنه بعض معسساني الضسسوء ل الضسسوء نفسسسه؛ خافًتا ضئيًل يبص بصي ً
فكانت هذه القناديل والظلم يرتج حولها ،تلوح كأنها شسسقوق مضسسيئة
26
في الجو ،فل تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة ،وتبدو في
الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ إليه ول يسسبينه ،فمسسا
تشعر النفس إل أن العين تمتد فسسي ضسسوئها مسسن المنظسسور إلسسى غيسسر
المنظور كأنها سر يشف عن سر.
وكان لها منظر كمنظر النجوم يتم جمال الليل بإلقسسائه الشسسعل فسسي
أطرافه العليا وإلبسساس الظلم زينتسسه النوارنيسسة؛ فكسسان الجسسالس فسسي
المسجد وقسست السسسحر يشسسعر بالحيسساة كأنهسسا مخبسسوءة ،ويحسسس فسسي
المكان بقايا أحلم ،ويسري حوله ذلك المجهسسور السسذي سسسيخرج منسسه
الغد؛ وفي هذا الظلم النوراني تنكشف له أعماقه منسكًبا فيها روح
المسجد ،فتعسستريه حالسسة روحانيسسة يسسستكين فيهسسا للقسسدر هسسادًئا وادع ًسسا
سا عليه دا بصفاته ،منعك ً راجًعا إلى نفسه ،مجتمًعا في حواسه ،منفر ً
نور قلبه؛ كسسأنه خسسرج مسسن سسسلطان مسسا يضسسيء عليسسه النهسسار ،أو كسسأن
الظلمة قد طمست فيه على ألوان الرض.
ثم يشسسعر بسسالفجر فسسي ذلسسك الغبسسش عنسسد اختلط آخسسر الظلم بسسأول
الضوء ،شعوًرا ندّيا كأن الملئكسسة قسسد هبطسست تحمسسل سسسحابة رقيقسسة
تمسح بها على قلبه؛ ليتنضسسر مسسن يبسسس ،ويسسرق مسسن غلظسسة ،وكأنمسسا
حسسا جاؤوه مع الفجر؛ ليتناول النهار من أيديهم مبسسدوًءا بالرحمسسة مفتت ً
بالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس التقسى فيسه النسور السسماوي بسالنور
النساني فإذا هو يتلل في روحه تحت الفجر.
دا تلك الساعة ونحن في جو المسسسجد ،والقناديسسل معلقسسة ل أنسى أب ً
كالنجوم في مناطها من الفلك ،وتلك السرج ترتعسسش فيهسسا ارتعسساش
خواطر الحب ،والناس جالسون عليهم وقار أرواحهم ،ومن حول كل
إنسان هدوء قلبه وقد اسسستبهمت الشسسياء فسسي نظسسر العيسسن ليلبسسسها
الحساس الروحاني في النفس ،فيكون لكل شيء معنساه السذي هسو
منه ومعناه الذي ليس منه ،فيخلق فيه الجمال الشعري كمسسا يخلسسق
للنظر المتخيل.
دا تلك الساعة .وقد انبعث في جسسو المسسسجد صسسوت غسسرد ل أنسى أب ً
رخيم يشق سدفة الليل في مثل رنين الجرس تحسست الفسسق العسسالي
ك ل َرب ّس َ سسِبي ِ وهو يرتل هذه اليات من آخر سورة النحسسل} :اد ْع ُ إ ِل َسسى َ
َ
و
ك هُ س َ ن َرب ّس َ ن إِ ّ سس ُ ح َ يأ ْ م ِبال ِّتي ه ِ َ جاد ِل ْهُ ْ سن َةِ وَ َ ح َ عظ َةِ ال ْ َ مو ْ ِ مةِ َوال ْ َ حك ْ َ ِبال ْ ِ
َ َ
م فََعساقُِبوا ن ع َسساقَب ْت ُ ْ ن وَإ ِ ْدي َ م ِبال ْ ُ
مهَْتس ِ سِبيل ِهِ وَهُوَ أع ْل َ ُ ن َ ل عَ ْ ض ّ ن َ م ْ
م بِ َ أع ْل َ ُ
مسا صسب ِْر وَ َن َوا ْ ري َ صساب ِ ِ خي ْسٌر ِلل ّ م ل َهُسوَ َ صسب َْرت ُ ْ ن َ م ِبسهِ وَل َئ ِ ْ عسوقِب ْت ُ ْ مسا ُ ل َ مث ْ ِ بِ ِ
نن إِ ّ مك ُسُرو َ مسسا ي َ ْ م ّق ِ ض سي ْ ٍ
ك فِسسي َ م َول ت َ ُ ن ع َل َي ْهِ ْ حَز ْ ك إ ِل ّ ِبالل ّهِ َول ت َ ْ صب ُْر َ َ
ن{. سُنو َ ح ِ م ْ م ُ ن هُ ْ ذي َ ّ
وا َوال ِ ق ْن ات ّ َ ذي َ ّ
معَ ال ِ ه َ ّ
الل َ
27
وكان هذا القارئ يملك صسسوته أتسسم مسسا يملسسك ذو الصسسوت المطسسرب؛
فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القمري وهو ينسسوح فسسي أنغسسامه،
وبلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القسسادر ،حسستى ل تفسسسر اللسسذة
الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إل كالبلبسسل هزتسه
الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر ،فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال
التغريد.
كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته ،يجمع بين قوة الرقة وبين
رقة القوة ،ويضطرب اضطراًبا روحانًيا كالحزن اعتراه الفسسرح علسسى
فجأة؛ يصسسيح الصسسيحة تترجسسح فسسي الجسسو وفسسي النفسسس ،وتسستردد فسسي
المكان وفي القلب ،ويتحول بها الكلم اللهسسي إلسسى شسسيء حقيقسسي،
فسسا ،وإذا
ض عليها بمثل الندى ،فإذا هسسي تسسرف رفي ً يلمس الروح فيرف ّ
هي كالزهرة التي مسحها الطل.
ضسسا طري ًسسا كسسأول مسسا نسسزل بسسه السسوحي ،فكسسان هسسذا
وسمعنا القسسرآن غ ً
الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعسسض السسسر السسذي يسسدور فسسي
نظام العالم ،وكان القلب وهو يتلقى اليات كقلسسب الشسسجرة يتنسساول
الماء ويكسوها منه.
واهتز المكسسان والزمسسان كأنمسسا تجلسسى المتكلسسم سسسبحانه وتعسسالى فسسي
كلمه ،وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيء من هذا النور!
وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيسست السسدنيا السستي فسسي الخسسارج مسن
المسجد وبطل باطلها ،فلم يبق علسسى الرض إل النسسسانية الطسساهرة
ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى كان النسسسان فسسي لسسذة
روحه مرتفًعا على طبيعته الرضية.
مئذ فكأنما دعي بكل ذلك؛ ليحمسسل هسسذه ي يو َ أما الطفل الذي كان ف ّ
الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجيء فيه من بعسسد؛ فأنسسا فسسي كسسل
حالة أخضع لهذا الصوت :ادع إلى سبيل ربك؛ وأنسسا فسسي كسسل ضسسائقة
أخشع لهذا الصوت :واصبر وما صبرك إل بالله!
28
اللغة والدين والعادات 1باعتبارها من مقومات الستقلل
ليست حقيقة المة في هذا الظسساهر السسذي يبسسدو مسسن شسسعب مجتمسسع
محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقسسة هسسي الكسسائن الروحسسي
ن في الشعب ،الخالص لسسه مسسن طسسبيعته ،المقصسسور عليسسه فسسي المكت ّ
تركيبه كعصير الشجرة؛ ل يرى عمله والشجرة كلها هي عمله.
وهذا الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب فسسي ذوي الوشسسيجة
من الفراد ،بيد أنه يحقق فسسي الشسسعب قرابسسة الصسسفات بعضسسها مسسن
بعض؛ فيجعل للمة شأن السرة ،ويخلق فسسي السسوطن معنسسى السسدار،
ويوجد في الختلف نزعة التشابه ،ويرد المتعدد إلى طبيعة الوحدة،
ويبدع للمة شخصيتها المتميزة ،ويوجب لهذه الشخصية بإزاء غيرهسسا
قسسانون التناصسسر والحميسسة؛ إذ يجعسسل الخسسواطر مشسستركة ،والسسدواعي
مستوية ،والنوزاع متآزرة؛ فتجتمع المة كلها على الرأي :تتساند لسسه
ضا فيه؛ وبهذا كله يكون روح المسسة قسسد وضسسع بقواها ويشد بعضها بع ً
في كلمة المة معناها.
والخلسسق القسسوي السسذي ينشسسئه للمسسة كائنهسسا الروحسسي ،هسسو المبسسادئ
المنتزعة من أثر الدين واللغسسة والعسسادات ،وهسسو قسسانون نافسسذ يسسستمد
قسسوته مسسن نفسسسه؛ إذ يعمسسل فسسي الحيسسز البسساطن مسسن وراء الشسسعور،
طا على الفكر ،مصرًفا لبواعث النفس؛ فهسسو وحسسده السسذي يمل متسل ً
الحي بنوع حياته ،وهو طابع الزمن على المم ،وكأنه علسسى التحقيسسق
وضع الجداد علمتهم الخاصة على ذريتهم.
أما اللغة فهي صورة وجود المة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسسسها،
ما بخصائصه؛ فهي قومية الفكر ،تتحد بها المة في دا متميًزا قائ ً
وجو ً
صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المسسادة؛ والدقسسة فسسي تركيسسب
اللغة دليل على دقة الملكات فسسي أهلهسسا ،وعمقهسا هسو عمسسق السروح
ودليل الحسن على ميل المسسة إلسسى التفكيسسر والبحسسث فسسي السسسباب
والعلل ،وكثرة مشتقاتها برهان علسسى نزعسة الحريسة وطماحهسسا؛ فسسإن
روح الستعباد ضيق ل يتسع ،ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة.
وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة ،وكسسانت أمتهسسا حريصسسة عليهسسا ،ناهضسسة
بها ،متسعة فيها ،مكبرة شأنها ،فما يأتي ذلسسك إل مسسن روح التسسسلط
في شعبها والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته ،وكونه سسسيد أمسسره؛
ومحقق وجوده ،ومستعمل قسسوته ،والخسذ بحقسسه ،فأمسا إذا كسان منسه
التراخي والهمال وتسسرك اللغسسة للطبيعسسة السسسوقية ،وإصسسغار أمرهسسا،
وتهوين خطرها ،وإيثار غيرها بسسالحب والكبسسار؛ فهسسذا شسسعب خسسادم ل
29
مخدوم ،تسسابع ل متبسسوع ،ضسسعيف عسسن تكسساليف السسسيادة ،ل يطيسسق أن
ف بضرورات العيسسش، يحمل عظمة ميراثه ،مجتزئ ببعض حقه ،مكت ٍ
يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفسسائدة السستي هسسي
كالحرمان.
ل جرم كانت لغة المة هي الهدف الول للمستعمرين؛ فلسسن يتحسسول
الشسسعب أول مسسا يتحسسول إل مسسن لغتسسه؛ إذ يكسسون منشسسأ التحسسول مسسن
أفكاره وعواطفه وآماله ،وهو إذا انقطع من نسب لغتسسه انقطسسع مسسن
نسب ماضيه ،ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ ،ل صسسورة
محققة في وجوده؛ فليس كاللغة نسب للعاطفسسة والكفسسرة حسستى أن
أبناء الب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهسسم ناشسسئ علسسى لغسسة،
ونشأ الثاني على أخرى ،والثالث على لغة ثالثة ،لكانوا في العاطفسسة
كأبناء ثلثة آباء.
وما ذلت لغسسة شسسعب إل ذل ،ول انحطسست إل كسسان أمسسره فسسي ذهسساب
ضسسا علسسى المسسة
وإدبار؛ ومن هذا يفرض الجنبي المسسستعمر لغتسسه فر ً
المستعمرة ،ويركبهم بها ،ويشعرهم عظمته فيهسسا ،ويسسستلحقهم مسسن
ما ثلثة في عمل واحد :أما الول فحبسس ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكا ً
دا؛ وأمسسا الثسساني فسسالحكم علسسى ماضسسيهم لغتهم فسسي لغتسسه سسسجًنا مؤبس ً
وا ونسياًنا؛ وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الغلل السستي بالقتل مح ً
يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لمره تبع.
والسسذين يتعلقسسون اللغسسات الجنبيسسة ينزعسسون إلسسى أهلهسسا بطبيعسسة هسسذا
التعلق ،إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قبل السسدين
أو القوميسسة؛ فسستراهم إذا وهنسست فيهسسم هسسذه العصسسبية يخجلسسون مسسن
قسسوميتهم ويتسسبرؤون مسسن سسسلفهم وينسسسلخون مسسن تسساريخهم ،وتقسسوم
بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم ،ولقومهم ،وأشياء قومهم ،فل
يستطيع وطنهسسم أن يسسوحي إليهسسم أسسسرار روحسسه؛ إذ ل يوافسسق منهسسم
استجابة في الطبيعة ،وينقادون بالحب لغيره ،فيتجاوزونه وهم فيسسه،
ويرثون دماءهم مسسن أهلهسسم ،ثسسم تكسسون العواطسسف فسسي هسسذه السسدماء
للجنبي ،ومن ثم تصبح عنسسدهم قيمسسة الشسسياء بمصسسدرها ل بنفسسسها،
وبالخيسسال المتسسوهم فيهسسا ل بالحقيقسسة السستي تحملهسسا؛ فيكسسون شسسيء
الجنسسبي فسسي مسسذهبهم أجمسسل وأثمسسن؛ لن إليسسه الميسسل وفيسسه الكبسسار
والعظام؛ وقد يكون الوطني مثله أو أجمل منه ،بيد أنه فقد الميل،
فضعفت صلته بالنفس ،فعادت كل مميزاته فضعفت ل تميزه.
وأعجب مسسن هسسذا فسسي أمرهسسم ،أن أشسسياء الجنسسبي ل تحمسسل معانيهسا
الساحرة في نفوسسسهم إل إذا بقيسست حاملسة أسسسماءها الجنبيسسة ،فسسإن
30
سمي الجنبي بلغتهم القومية نقص معناه عندهم وتصسساغر وظهسسرت
فيه ذلة ..وما ذاك إل صفر نفوسهم وذلتهسسا؛ إذ ل ينتحسسون لقسسوميتهم
فل يلهمهم الحرف من لغتهم ما يلهمهم الحرف الجنبي.
ى بهذه العلة ،ومنها جاءت مشسساكله أو أكثرهسسا؛ وليسسس والشرق مبتل ً
في العالم أمة عزيزة الجسسانب تقسسدم لغسسة غيرهسسا علسسى لغسسة نفسسسها،
وبهذا ل يعرفون للشياء الجنبية موضًعا إل مسسن وراء حسسدود الشسسياء
جسسا
الوطنية؛ ولو أخسسذنا نحسسن الشسسرقيين بهسسذا ،لكسسان هسسذا وحسسده عل ً
ما لكثر مشاكلنا.حاس ً
فاللغات تتنازع القومية ،ولهي والله احتلل عقلي في الشعوب التي
ضعفت عصبيتها؛ وإذا هانت اللغة القومية علسسى أهلهسسا ،أثسسرت اللغسسة
الجنبية في الخلق القومي ما يؤثر الجو الجنبي فسسي الجسسسم السسذي
انتقل إليه وأقام فيه.
أما إذا قويت العصبية ،وعّزت اللغة وثارت لهسسا الحميسسة ،فلسسن تكسسون
اللغات الجنبية إل خادمة يرتفسسع بهسسا ،ويرجسسع شسسبر الجنسسبي شسسبًرا ل
متًرا ..وتكون تلك العصبية للغسسة القوميسسة مسسادة وعون ًسسا لكسسل مسسا هسسو
قومي ،فيصبح كل شيء أجنبي قد خضع لقوة قاهرة غالبة؛ هي قوة
اليمسسان بالمجسسد السسوطني واسسستقلل اوطسسن؛ ومسستى تعيسسن الول أنسسه
الول ،فكل قوى الوجود ل تجعل الذي بعده شيًئا إل أنه الثاني.
والدين هو حقيقسسة الخلسسق الجتمساعي فسي المسة ،وهسسو السذي يجعسسل
القلوب كلها طبقة واحدة علسسى اختلف المظسساهر الجتماعيسسة عاليسسة
ونازلة وما بينهما ،فهو بذلك الضمير القانوني للشعب ،وبسسه ل بغيسسره
ثبات المة على فضائلها النفسية ،وفيه ل في سسسواه معنسسى إنسسسانية
القلب.
ولهذا كان الدين من أقسسوى الوسسسائل السستي يعسسول عليهسسا فسسي إيقسساظ
ضمير المة ،وتنبيه روحها ،واهتيسساج خيالهسسا؛ إذ فيسسه أعظسسم السسسلطة
التي لها وحدها لها قوة الغلبة علسى الماديسات؛ فسسلطان السدين هسو
سلطان كل فرد على ذاته وطبيعته؛ ومتى قوي هسسذا السسسلطان فسسي
شعب كان حمّيا أبّيا ،ل ترغمه قوة ،ول يعنو للقهر.
ولول التدين بالشريعة؛ لما استقامت الطاعة للقسسانون فسسي النفسسس؛
ولول الطاعة النفسية للقوانين؛ لما انتظمت أمة؛ فليس عمل الدين
إل تحديد مكان الحي في فضائل الحياة؛ وتعيين تبعتسسه فسسي حقوقهسسا
ما مستقًرا فيه ل يتغير ،ودفع النسان وواجباتها ،وجعل ذلك كله نظا ً
ما نحو الكمل. بهذا النظام نحو الكمل ،ودائ ً
31
وكل أمة ضُعف الدين فيها اختلت هندستها الجتماعية ومسساج بعضسسها
في بعض؛ فإن من دقيق الحكمة في هذا الدين أنه لم يجعسسل الغايسسة
الخيرة مسسن الحيسساة غايسسة فسسي هسسذه الرض؛ وذلسسك لتنتظسسم الغايسسات
الرضية في الناس فل يأكل بعضهم بعضا فيغتنسسي الغنسسي وهسسو آمسسن،
ويفتقر الفقير وهو قسسانع ،ويكسسون ثسسواب العلسسى فسسي أن يعسسود علسسى
السفل بالمبرة ،وثواب السفل في أن يصبر على ترك العلسسى فسسي
منزلتسه؛ ثسم ينصسرف الجميسسع بفضسائلهم إلسى تحقيسسق الغايسة اللهيسة
الواحدة ،التي ل يكبر عليهسسا الكسسبير ،ول يصسسغر عنهسسا الصسسغير؛ وهسسي
الحق ،والصلح ،والخير ،والتعاون على البر والتقوى.
وما دام عمل السسدين هسسو تكسسوين الخلسسق الثسسابت السسدائب فسسي عملسسه،
المعتز بقوته ،المطمئن إلى صبره ،النافر من الضسسعف ،البسسي علسسى
الذل ،الكافر بالسسستعباد ،ومفسساداته ،العامسسل فسسي مصسسلحة الجماعسسة،
المقيد في منافعه بواجباته نحو الناس؛ ما دام عمل الدين هو تكوين
هذا الخلق فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشريعة أقوى
من الحس بالمادة؛ ولعمري ما يجسسد السسستقلل قسسوة هسسي أقسسوى لسسه
وأرد عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفوس المة وانطبعت عليه.
وهذه المسسة الدينيسسة السستي يكسسون واجبهسسا أن تشسسرف وتسسسود وتعسستز،
ويكون واجب هذا الواجب فيها أل تسقط ول تخضع ول تذل.
وبتلسسك الصسسول العظيمسسة السستي ينشسسئها السسدين الصسسحيح القسسوي فسسي
النفس ،يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليسسه المنتصسسر لسسه؛
إذ يكون من الخلل الطبيعية في زعمائه ورجاله الثبات على النزعة
السياسية ،والصلبة في الحق ،واليمان بمجد العمسسل ،وتغليسسب ذلسسك
على الحوال المادية التي تعترض ذا الرأي؛ لتفتنه عن رأيه ومذهبه؛
من مال ،أو جاه ،أو منصب ،أو موافقة الهوى ،أو خشسسية النقمسسة ،أو
خوف الوعيد ...إلى غيرها من كل ما يستميل الباطسسل أو يرهسسب بسسه
الظلم.
ول يذهبن عنك أن الرجل المؤمن القوي اليمان الممتلئ ثقة ويقين ًسسا
ما وإصراًرا على فضيلته وثباًتا على مسسا يلقسسى فسسي ووفاء وصدًقا وعز ً
سبيلها ل يكون رجًل كالناس؛ بسسل هسسو رجسسل السسستقلل السسذي واجبسسه
جزء من طسسبيعته وغسسايته السسسامية ل تنفصسسل عنسسه ،هسسو رجسسل صسسدق
المبدأ ،وصدق الكلمة ،وصدق المسسل ،وصسسدق النزعسسة؛ وهسسو الرجسسل
الذي ينفجر في التاريسسخ كلمسسا احتسساجت الحيسساة الوطنيسسة إلسسى إطلق
قنابلها للنصر.
32
والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر ،وهي وحدة تاريخيسسة
في الشعب ،تجمعه كما يجمعه الصل الواحد؛ ثسسم هسسي كالسسدين فسسي
قيامها على أساس أدبي في النفس ،وفسسي اشسستمالها علسسى التحريسسم
صسسا بسسه ،يحصسسرهقا خا ّ والتحليل؛ وتكاد عادات الشعب تكون ديًنا ضسسي ً
في قبيله ووطنسه ،ويحقسق فسي أفسراده اللفسة والتشسابك ،ويأخسذهم
جميًعا بمذهب واحد؛ هو إجلل الماضي.
وإجلل الماضي في كل شعب تسساريخي هسسو الوسسسيلة الروحيسسة السستي
يستوحي بها الشسسعب أبطسساله ،وفلسسسفته ،وعلمسساءه وأدبسساءه ،وأهسسل
الفن منه؛ فيوحون إليه وحي عظمائهم التي لم يغلبها الموت؛ وبهذا
تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه ،وحية في آماله وأعصابه.
والعادات هي وحدها التي تجعل السسوطن شسسيًئا نفس سّيا حقيقي ّسسا ،حسستى
ليشعر النسان أن لرضه أمومة الم التي ولدته ،ولقومه أبسسوة الب
الذي جاء به إلى الحياة ،وليس يعرف هذا إل من اغترب عن وطنسسه،
وخالط غير قومه ،واستوحش من غير عاداته؛ فهنسساك يثبسست السسوطن
نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا.
وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تنبه فسسي
الوطني روح التميز عن الجنبي ،وتسسوحش نفسسسه منسسه كأنهسسا حاسسسة
الرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر.
ومتى صسسدقت الوطنيسسة فسسي النفسسس أقسسرت كسسل شسسيء أجنسسبي فسسي
حقيقته الجنبية؛ فكان هذا هو أول مظسساهر السسستقلل ،وكسسان أقسسوى
الذرائع إلى المجد الوطني.
وباللغسسة والسسدين والعسسادات ،ينحصسسر الشسسعب فسسي ذاتسسه السسسامية
بخصائصسسها ومقوماتهسسا ،فل يسسسهل انسستزاعه منهسسا ول انتسسساقه مسسن
تاريخه؛ وإذا ألجئ إلسسى حسسال مسسن القهسسر لسسم ينخسسذل ولسسم يتضعضسسع،
واستمر يعمل ما تعمله الشوكة الحادة إن لم ُتترك لنفسها ،لم تعط
من نفسها إل الوخز.....
33
تجديد السلم 1:رسالة الزهر في القرن العشرين*
34
الله ل ينظر من النسسان إلسى صسورته ولكسن إلسسى عملسه؛ فسأول مسا
ينبغي أن يحمله الزهر من رسالته :ضمائر أهله.
والناس خاضعون للمسسادة بقسسانون حيسساتهم ،وبقسسانون آخسسر هسسو قسسانون
القرن العشرين ..فهم من ثم في أشد الحاجة إلى أن يجسسدوا بينهسسم
المتسلط على المادة بقسسانون حيسساته؛ ليسسروا بسسأعينهم القسسوى السسدنيئة
مغلوبسسة ،ثسسم ليجسسدوا فسسي هسسذا النسسسان أسسساس القسسدوة والحتسسذاء،
فيتصلوا منه بقوتين :قوة التعليم ،وقوة التحويل.
وهذا هو سر السلم الول الذي نفذ به من أمة إلى أمة ولم يقم له
شيء يصده؛ إذ كان ينفذ في الطبيعة النسانية نفسها.
ومن أخص واجبات الزهر في هسسذا القسسرن العشسسرين أن يعمسسل أول
شيء لقرار معنى السلم الصسسحيح فسسي المسسسلمين أنفسسسهم؛ فسسإن
أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب ل غير ..وما منهم إل مسسن
هو في حاجة إلى تجديد إسلمه.
والحكومات السلمية عاجزة في هذا؛ بل هي من أسباب هذا الشر؛
دا مسسدنّيا؛ أمسسا الزهسسر فهسسو وحسسده السسذي
دا سياسّيا ووجسسو ً
لن لها وجو ً
يصلح لتمام نقص الحكومة في هذا الباب ،وهو وحسسده السسذي يسسسعه
ما تعجز عنه؛ وأسباب نجاحه مهيسأة ثابتسة؛ إذ كسسان لسه بقسوة التاريسسخ
حكم الزعامة السسسلمية ،وكسسانت فيسسه عنسسد المسسلمين بقيسة السسوحي
على الرض ،ثم كان هو صورة المزاج النفسسسي السسلمي المحسسض؛
بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة ،وفقد القسوة الستي كسان يحكسم
بها ،وهي قوة المثل العلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما
قلنسسا مسسرة :إنسسساًنا تتخيسسره المعسساني السياسسسية تظهسسر فيسسه بأسسسلوب
عملي ،فيكون في قومه ضرًبا من التربية والتعليسسم بقاعسسدة منتزعسسة
من مثالها ،مشروحة بهذا المثال نفسه.
والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثسل العلسى هسسي أول مغلسوب
في صراع قوى الحياة.
لقسسد اعتسساد المسسسلمون مسسن قسسديم أن يجعلسسوا أبصسسارهم إلسسى علمسساء
الزهر ،فهم يتبعونهم ،ويتأسون بهم ،ويمنحسسونهم الطاعسسة ،وينزلسسون
على حكمهم ،ويلتمسسون فسي سسيرتهم النفسس لمشسكلت النفسس،
ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر العمال العظيمة؛ وكسسان
غنى العالم الديني شيًئا غير المال ،بسسل شسسيًئا أعظسسم مسسن المسسال؛ إذ
كان يجد حقيقة الغنى فسسي إجلل النسساس لفقسسره كسسأنه ملسسك ل فقسسر؛
وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلبة والشدة والهيبة والسمو ،وفيهسسا
كل سلطان الخير والشر؛ لن فيها كل النزعسسات السسستقللية؛ ويكسساد
35
الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقسسائق
مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم ،ل حقسسائق متروكسسة
لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها.
وعلماء الزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافسسذة علسسى الشسسعب،
وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة ،بل هم التصحيح لهسسذه
القوانين إذا جسسرت المسسور علسسى عللهسسا وأسسسبابها؛ فيجسسب عليهسسم أن
يحققوا وجودهم ،وأن يتناولوا المة من ناحية قلوبهسسا وأرواحهسسا ،وأن
يعدوا تلميذهم فسي الزهسر كمسا يعسدون القسوانين الدقيقسة ،ل طلًبسا
يرتزقون بالعلم.
أين صوت الزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما
في القاع ...وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها
شيء واقع في الحياة العصرية ل خبر تاريخي فيها؟
لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة اليمان ل اليمان نفسه؛ ورجع
السلم في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة ل دين واحسسد.
فرسالة الزهر أن يجدد عمل النبوة فسسي الشسسعب ،وأن ينقسسي عمسسل
التاريخ في الكتب ،وأن يبطل عمل الوثنية في العادات ،وأن يعطسسي
المة دينهسسا الواضسسح السسسمح الميسسسر ،وقانونهسسا العملسسي السسذي فيهسسا
سعادتها وقوتها.
ول وسيلة إلسسى ذلسك إل أن يكسسون الزهسر جسريًئا فسي قيسادة الحركسة
ذا بأسسباب هسذا الروحية السلمية ،جريًئا في عمله لهذه القيادة ،آخس ً
صّرا على هذا الطلسسب؛ وكسسل م ِحا في طلب هذه السبابُ ، العمل ،مل ً
هذا يكون عبًثا إن لم يكن رجسسال الزهسسر وطلبتسسه أمثلسسة مسسن المثلسسة
القوية في الدين والخلق والصلبة؛ لتبدأ الحالة النفسية فيهم ،فإنهسسا
إن بسسدأت ل تقسسف؛ والمثسسل العلسسى حسساكم بطسسبيعته علسسى النسسسانية،
مطاع بحكمه فيها ،محبوب بطاعتها له.
والمادة المطهرة للدين والخلق ل تجدها المة إل في الزهر ،فعلى
الزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملهسسا ل بإلصسساق الورقسسة
المكتوب فيها السم على الزجاجة..
ومسسن ثسسم يكسسون واجسسب الزهسسر أن يطلسسب الشسسراف علسسى التعليسسم
السلمي فسسي المسسدارس ،وأن يسسدفع الحركسسة الدينيسسة دفعًسسا بوسسسائل
مختلفة ،أولها أن يحمل وزارة المعارف علسسى إقامسسة فسسرض الصسسلة
فسسي جميسسع مدارسسسها ،مسسن مدرسسسة حريسسة الفكسسر ..فنسسازًل ،والمسسة
السلمية كلها تشد رأي الزهر في هذا.
36
وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه اليسسة الكريمسسة} :اد ْع ُ إ ِل َسسى
ة{ دلتنا الية بنفسها على كسسل سن َ ِ عظ َةِ ال ْ َ
ح َ مةِ َوال ْ َ
مو ْ ِ ك ِبال ْ ِ
حك ْ َ ل َرب ّ َ
سِبي ِ
َ
تلك الوسائل ،فما الحكمة هنا إل السياسسسة الجتماعيسسة فسسي العمسسل،
وليست الموعظة الحسنة إل الطريقة النفسية في الدعوة.
العلماء ورثة النبياء؛ وليس النبي من النبياء إل تاريخ شدائد ومحن،
ومجاهسسدة فسسي هدايسسة النسساس ،ومراغمسسة للوجسسود الفاسسسد ،ومكابسسدة
التصحيح للحالة النفسية للمة؛ فهذا كله هو الذي يورث عن النبيسساء
ل العلم وتعليمه فقط.
وإذا قامت رسسسالة الزهسسر علسسى هسسذه الحقسسائق ،وأصسسبح وجسسوده هسسو
المعنى المتمم للحكومسسة ،المعسساون لهسسا فسسي ضسسبط الحيسساة النفسسسية
للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها -اتجهت طسسبيعته إلسسى
أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين ،بعد أن يكون قد حقق السسذرائع
إلى هذه الرسالة ،من فتسسح بسساب الجتهسساد ،وتنقيسسة التاريسسخ الفقهسسي،
وتهذيب الروح السلمي والسمو به عسسن المعسساني الكلميسسة الجدليسسة
السخيفة؛ ثم اسسستخراج أسسسرار القسسرآن الكريسسم الكامنسسة فيسسه ،لهسسذه
العصور العلمية الخيرة؛ وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القسسوة السستي
تمسك السلم علسسى سسسنته بيسسن القسسديم والجديسسد ،ل ينكسسره هسسذا ول
يغيره ذاك ،وبعد أن يكون الزهر قد اسسستفاض علسسى العسسالم العربسسي
بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه.
أمسسا تلسسك الرسسسالة الكسسبرى فهسسي بسسث السسدعوة السسسلمية فسسي أوربسسا
وأمريكسسا واليابسسان ،بلغسسات الوروبييسسن والمريكييسسن واليابسسانيين ،فسسي
ألسنة أزهرية مرهفة مصقولة ،لها بيان الدب ،ودقة العلم ،وإحاطسسة
الفلسفة ،وإلهام الشعر ،وبصيرة الحكمة ،وقسسدرة السياسسسة؛ ألسسسنة
أزهرية ل يوجد الن منها لسان واحد في الزهر ،ولكنها لن توجسسد إل
في الزهر؛ ول قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها؛
فتكون المتكلمة عنه ،والحاملة لرسالته ،وما هذه البعثات التي قسسرر
الزهر ابتعاثها إلى أوربا إل أول تاريخ تلك اللسنة.
إن الوسيلة التي نشرت السلم من قبل لسسم تكسسن أجنحسسة الملئكسسة،
ول كانت قوة من جهنم؛ ول تزال هسسي تنشسسره؛ فليسسس مسسستحيًل ول
متعذًرا أن يغزو هذا السدين أوربسا وأمريكسسا واليابسان كمسا غسزا العسالم
القديم ،ولم يكن السلح من قبل إل طريقة ليجاد إسلم فسسي المسسة
الغريبة عنه ،حتى إذا وجد تولي هو السسدعوة لنفسسسه بقسسوة النسساموس
الطبيعي القائم على أن الصلح هو البقى ،وانحازت إليسسه النسسسانية؛
لنه قانون طبيعتها السليمة ،ودين فطرتها القوية ،وقد ظل السسسلم
37
ينتشر ولم يكن يحمله إل التاجر ،كما كسسان ينتشسسر وحسسامله الجيسسش؛
حا مسسن فليس علينسسا إل تغييسسر السسسلح فسسي هسسذا العصسسر وجعلسسه سسسل ً
فلسفة الدين وأسرار حكمته؛ فهذا الدين كما قلنا فسسي بعسسض كلمنسسا
:1أعمال مفصلة على النفس أدق تفصسيل وأوفساه بمصسلحتها ،فهسو
يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظسسم بسسه
أحسسوال النفسسس علسسى ميسسزة وبصسسيرة ،ويسسدع للحيسساة عقلهسسا العلمسسي
المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعسسة علسسى قصسسد وهسسدى؛ وهسسذه
هي حقيقة السلم في أخص معانيه :ل يغني عنه في ذلك دين آخر،
ول يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ول علم ول فلسسسفة ،كأنمسسا هسسو
نبع في الرض لمعاني النور ،بإزاء الشمس نبع النور في السماء.
ليس على الزهر إل أن يوجد من السلم في تلك المم ما يسسستمر،
ثم الستمرار هو ويجد ما يثبت ،والثبات يوجد ما يدوم؛ وكسسأن النسسبي
صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قسسوله" :نضسسر اللسسه امسسرأ
سمع مني شيًئا فبلغه كما سمعه ،فرب مبلغ أوعى له من سامع".
أما والله إن هذا المبلغ الذي هو أوعى له من السامع لن يكسون فسي
التاريخ بأدق المعنى إل أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي إذا نحن
عرفنا كيف نبلغ.
أنا مستيقن أن فيلسوف السلم الذي سينشر الدين على يسسده فسسي
أوربا وأمريكا لن يخرج إل من الزهر ،وما كان الستاذ المام محمسسد
عبده -رحمه الله -إل أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية ،وسسسيكون
عمسسل فلسسسفة الزهسسر تجديسسد السسسلم-رسسسالة الزهسسر فسسي القسسرن
العشرين
استخراج قانون السعادة لتلك المم من آداب السلم وأعمسساله؛ ثسسم
مخاطبة المم بأفكارها وعواطفها ،والفضاء من ذلسسك إلسسى ضسسميرها
الجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به.
هسسذه هسسي رسسسالة الزهسسر فسسي القسسرن العشسسرين ،ويجسسب أن يتحقسسق
قسسا عليسسه.
بوسائلها من الن؛ ومن وسائلها أن يعالن بهسسا؛ لتكسسون موث ً
ويحسن بالزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكسسر إسسسلمي ذي
إلهسسام أو بحسسث دقيسسق أو إحاطسسة شسساملة؛ فتكسسون لسسه ألقسساب علميسسة
يمنحهم إياها وإن لم يتخرجسسوا فيسسه ،ثسسم يسسستعين بعلمهسسم وإلهسسامهم
وآرائهم.
وبهذه اللقاب يمتد الزهر إلى حدود فكرية بعيدة ،ويصبح أوسع في
أثره على الحياة السلمية ،ويحقق لنفسه المعنى الجامعي.
38
ما في كل سنة يجمع وفي تلك السبيل يجب على الزهر أن يختار أيا ً
فيها من المسلمين "قرش السلم"؛ ليجد مادة النفقة الواسعة فسسي
نشر دين الله ،وليس على الرض مسلم ول مسلمة ل يبسسسط يسسده،
فما يحتاج هذا التدبير لكثر من إقراره وتنظيمسسه وإعلنسسه فسسي المسسم
السلمية ومواسمها الكبرى ،وخاصة موسم الحج.
وهذا العمل هو نفسه وسيلة من أقوى الوسسسائل فسسي تنسسبيه الشسسعور
السلمي ،وتحقيق المعاونة فسسي نشسسر السسدين وحيسساطته؛ وعسسسى أن
تكون له نتائج اجتماعيسسة ل موضسسع لتفصسسيلها هنسسا ،وعسسسى أن يكسسون
"قسسرش السسسلم" مسسادة لعمسسال إسسسلمية ذات بسسال ،وهسسو علسسى أي
الحوال صلة روحية تجعل الزهر كأنه معطيه لكل مسلم ل آخذه.
والخلصة أن أول رسالة الزهر في القرن العشرين :اهتسسداء الزهسسر
ق
حس ّهسذ ِهِ ال ْ َ جساَء َ
ك ِفسي َ إلى حقيقة موضعه في القرن العشسرين} :وَ َ
ن{ ]هود.[120:مِني َ ة وَذ ِك َْرى ل ِل ْ ُ
مؤ ْ ِ عظ َ ٌ
موْ ِ
وَ َ
39
السد
جلس أبو علي أحمسسد بسسن محمسسد الروبسسادي البغسسدادي* فسسي مجلسسس
وعظه بمصسسر بعسسد وفسساة شسسيخه أبسسي الحسسسن بنسسان الحمسسال الزاهسسد
الواسسسطي شسسيخ السسديار المصسسرية** ،وكسسان يضسسرب المثسسل بعبسسادته
مسسا
وزهده ،وقد خسسرج أكسسثر أهسسل مصسسر فسسي جنسسازته ،فكسسان يسسومه يو ً
كالبرهان من العالم الخر لهل هذه الدنيا؛ ما بقي أحد إل اقتنع أنسسه
في شهوات الحياة وأباطيلها كسسالعمى فسسي سسسوء تمييسسزه بيسسن لسسون
التراب ولون الدقيق؛ إذ ينظر كل امرئ في مصالحه ومنسسافعه مثسسل
هذه النظرة ،باللمس ل بالبصر ،وبالتوهم ل بسسالتحقيق ،وعلسسى دليسسل
نفسه في الشيء ل على دليسسل الشسيء فسي نفسسه ،وبسالدراك مسن
جهة واحدة دون الدراك من كل جهة؛ ثم يأتي الموت فيكون كالماء
ب علسسى السسدقيق والسستراب جميعًسسا ،فل يرتسساب مبصسسر ول أعمسسى، صس ّ
ُ
ويبطل ما هو باطل ويحق الذي هو حق.
وتكلم أبو علسسي فقسسال :كنسست ذات يسسوم عنسسد شسسيخنا الجنيسسد*** فسسي
بغداد ،فجاءه كتاب من يوسف بن الحسن شيخ السسري والجبسسال فسسي
وقته**** يقول فيه :ل أذاقك الله طعم نفسك ،فإنسسك إن ذقتهسسا لسسم
دا! قال :فجعلت أفكر فسسي طعسسم النفسسس مسسا هسسو، تذق بعدها خيًرا أب ً
وجاءني ما لم أرضه من الرأي ،حتى سمعت بخبر بنان -رحمه اللسسه-
مع أحمد بن طولون أمير مصر ،فهو الذي كسسان سسسبب قسسدومي إلسسى
هنا؛ لرى الشيخ وأصحبه وأنتفع به.
والبلد السسذي فيسسه شسسيخ مسسن أهسسل السسدين الصسسحيح والنفسسس الكاملسسة
والخلق اللهية ،هو في الجهسسل كالبلسسد السسذي ليسسس فيسسه كتسساب مسسن
الكتب البتة وإن كان كل أهله علماء ،وإن كسسان فسسي كسسل محلسسة منسسه
مدرسة ،وفي كل دار من دوره خزانسة كتسب ،فل تغنسي هسذه الكتسسب
عن الرجال؛ فإنمسسا هسسي صسسواب أو خطسسأ ينتهسسي إلسسى العقسسل ،ولكسسن
ب ينتهي إلى الروح ،وهو في تأثيره على النسساس الرجل الكامل صوا ٌ
أقوى من العلم؛ إذ هو تفسسسير الحقسسائق فسسي العمسسل الواقسسع وحياتهسا
عاملسسة مرئيسسة داعيسسة إلسسى نفسسسها؛ ولسسو أقسسام النسساس عشسسر سسسنين
يتناظرون في معسساني الفضسسائل ووسسسائلها ،ووضسسعوا فسسي ذلسسك مسسائة
كتسساب ،ثسسم رأوا رجًل فاضسسًل بأصسسدق معسساني الفضسسيلة ،وخسسالطوه
وصحبوه لكان الرجل وحده أكبر فسائدة مسن تلسك المنساظرة وأجسدى
على الناس منهسسا ،وأدل علسسى الفضسسيلة مسسن مسسائة كتسساب ومسسن ألسسف
كتاب؛ ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتسساب منسسزل؛ ليعطسسي الكلمسسة
40
قوة وجودها ،ويخرج الحالة النفسية من المعنسسى المعقسسول ،وينشسسئ
الفضائل النسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير.
وما مثل الكتاب يتعلم المرء منسه حقسائق الخلق العاليسة ،إل كوضسع
النسان يده تحت إبطه؛ ليرفع جسمه عن الرض؛ فقد أنشسسأ يعمسسل،
ولكنه لن يرتفع؛ ومن ذلك كان شر الناس هم العلماء والمعلمين إذا
سسسا أخسسرى تعمسسل عمًل آخسسر غيسسر الكلم؛ فسسإن لم تكسسن أخلقهسسم درو ً
مسسا ّ
أحدهم ليجلس مجلس المعلم ،ثم تكسسون حسسوله رذائلسسه ت ُعَلسسم تعلي ً
آخر من حيث يدري ول يدري ،ويكون كتاب الله مع النسان الظسساهر
منه ،وكتاب الشيطان مع النسان الخفي فيه.
قال أبو علي :وقدمت إلى مصر؛ لرى أبا الحسن وآخذ عنه وأحقسسق
ما سمعت من خبره مسسع ابسسن طولسسون ،فلمسسا لقيتسسه لقيسست رجًل مسسن
تلميسسذ شسسيخنا الجنيسسد ،يتلل فيسسه نسسوره ويعمسسل فيسسه سسسره؛ وهمسسا
كالشمعة ،والشمعة في الضوء وإن صغرت واحسسدة وكسسبرت واحسسدة؛
وعلمة الرجل مسن هسؤلء أن يعمسل وجسوده فيمسن حسوله أكسثر ممسا
كا ،فله معنى أبسسوة يعمل هو بنفسه ،كأن بين الرواح وبينه نسًبا شاب ً
الب في أبنائه؛ ل يراه من يراه منهم إل أحسسس أنسسه شخصسسه الكسسبر؛
فهذا هو الذي تكسون فيسه التكملسة النسسانية للنسساس ،وكسأنه مخلسوق
خاصة لثبات أن غير المستطاع مستطاع.
ومن عجيب حكمة الله أن المراض الشديدة تعمسسل بالعسسدوى فيمسسن
قاربها أو لمسها ،وأن القوى الشديدة تعمسسل كسسذلك بالعسسدوى فيمسسن
اتصل بها أو صاحبها ولهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهسسم
إصسسابة كإصسسابة المسسرض :تصسسرف عسسن شسسهوات السسدنيا كمسسا يصسسرف
المرض عنها ،وتكسر النفس كما يكسرها ذاك ،وتفقد الشيء ما هو
به شيء ،فتتحول قيمته ،فل يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من
الحق.
وإذا عسسدم النسساس هسسذا الرجسسل السسذي يعسسديهم بقسسوته العجيبسسة فقلمسسا
يصلحون للقوة ،فكبار الصالحين وكبار الزعماء وكبسسار القسسواد وكبسسار
الشجعان وكبار العلماء وأمثالهم -كل هؤلء مسسن بسساب واحسسد ،وكلهسسم
في الحكمة ككبار المرضى.
قال أبو علسسي :وهممسست مسسرة أن أسسسأل الشسسيخ عسسن خسسبره مسسع ابسسن
طولون فقطعتني هيبته ،فقلت :أحتال بسؤاله عن كلمة شيخ الري:
مسسا أجسسري"ل أذاقك الله طعم نفسك"؛ وبينما أهيسسئ فسسي نفسسسي كل ً
فيه هذه العبارة ،جاء رجل فقال للشيخ :لي علسسى فلن مسسائة دينسسار،
وقد ذهبت الوثيقة التي كتب فيهسسا السسدين ،وأخشسسى أن ينكسسر إذا هسسو
41
علم بضياعها؛ فادع الله لي وله أن يظفرنسسي بسسديني وأن يثبتسسه علسسى
الحق .فقال الشيخ :إني رجل قد كبرت وأنا أحسسب الحلسسوى ،فسساذهب
فاشتر رطًل منها وائتني به حتى أدعو لك!
فذهب الرجل فاشترى الحلوى ووضعها له البائع في ورقة فسسإذا هسسي
الوثيقة الضائعة ،وجاء إلى الشسسيخ فسسأخبره ،فقسسال لسسه :خسسذ الحلسسوى
فأطعمها صبيانك ل أذاقنا اللسه طعسم أنفسسنا فيمسا نشستهي! ثسم إنسه
التفت إلي وقال :لو أن شسسجرة اشسستهت غيسسر مسسا بسسه صسسحة وجودهسسا
وكمال منفعتها فأذيقت طعم نفسها لكلت نفسها وذوت.
قال أبو علسسي :والمعجسسزات السستي تحسسدث للنبيسساء ،والكرامسسات السستي
تكون للتقياء ،وما يخرق العادة ويخرج عن النسق -كل ذلسسك كقسسول
القدرة عن الرجل الشاذ :هو هذا .فلسسم تبسسق بسسي حاجسسة إلسسى سسسؤال
الشيخ عن خبره مع ابن طولون ،وكنت كأني أرى بعيني رأسسسي كسسل
ما سمعت ،بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفسسر القاضسسي أحمسسد
بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة السسدينوري* ذاك السسذي يحسسدث بكتسسب
فا فيهسسا الكسسبير
أبيسسه كلهسسا مسسن حفظسسه وهسسي واحسسد وعشسسرون مصسسن ً
والصغير؛ فقال لي :لعلك اشتفيت من خسسبر بنسسان مسسع ابسسن طولسسون،
فمن أجله زعمت جئت إلى مصسسر .قلسست :إنسسه تواضسسع فلسسم يخسسبرني
وه ِْبته فلم أسأله .قال :تعال أحدثك الحديث.
كان أحمد بن طولون** من جارية تركية ،وكان طولون أبوه مملو ً
كا
فا عليسسهحمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظ ً
من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك؛ فولد أحمد في منصب ذلسسة
تستظهر بالطغيان ،وكانت هاتسسان طسسبيعته إلسسى آخسسر عمسسره ،فسسذهب
دا ،ونشسأ مسن أول أمسره علسسى أن يتسم هسذا النقسص بهمته مذهًبا بعيس ً
ويكون أكبر من أصله ،فطلب الفروسية والعلسسم والحسسديث ،وصسسحب
الزهاد وأهل الورع ،وتميز على التراك وطمح إلسسى المعسسالي ،وظسسل
يرمي بنفسه ،وهو في ذلك يكبر ول يزال يكبر ،كأنما يريد أن ينقطع
مسسن أصسسله ويلتحسسق بسسالمراء ،فلمسسا التحسسق بهسسم ظسسل يكسسبر؛ ليلحسسق
بالملوك ،فلما بلغ هؤلء كانت نيته على ما يعلم الله.
قال :وكان عقله من أثر طبيعتيه كالعقلين لرجلين مختلفين فلسسه يسسد
مع الملئكة ويده الخرى مع الشياطين ،فهو السسذي بنسسى المارسسستان
وأنفق عليه وأقام فيسسه الطبسساء ،وشسسرط إذا جيسسء بالعليسسل أن تنسسزع
ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان ،ثم يلبس ثياًبا ويفرش له ويغسسدى
عليه ويراح بالدوية والغذية والطباء حتى يبرأ ،ولم يكسسن هسسذا قبسسل
إمارته؛ وهو أول من نظر في المظالم من أمراء مصر؛ وهو صاحب
42
يوم الصدقة؛ يكثر من صدقاته كلما كثرت نعمة الله عليسسه ،ومراتبسسه
لذلك في كل أسبوع ثلث آلف دينار سوى مطابخه التي أقيمت في
كل يوم في داره وغيرها ،يذبح فيها البقر والكباش ويغسسرف للنسساس،
ولكل مسسسكين أربعسسة أرغفسسة يكسسون فسسي اثنيسسن منهسسا فسسالوذج* وفسسي
الخرين من القدور ،وينادي :من أحب أن يحضر دار المير فليحضر!
وتفتح البواب ويدخل الناس وهو في المجلس ينظر إلى المسسساكين
ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون ،فيسره ذلك ويحمسسد اللسسه علسسى
نعمته؛ وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينسسار؛ واقتسسدى بسسه ابنسسه
خمارويه ،فأنشأ بعده مطبخ العامة** ينفق عليه ثلثة وعشرين ألف
دينار كل شهر.
وقد بلغ ما أرسله ابن طولون إلى فقراء بغسسداد وعلمائهسسا فسسي مسسدة
وليته ألف ومائتي ألف دينسسار*** ،وكسسان كسسثير التلوة للقسسرآن ،وقسسد
اتخذ حجرة بقربه في القصر وضسسع فيهسسا رجسساًل سسسماهم بسسالمكبرين،
يتعاقبون الليل نوًبا يكبرون ويسبحون ،ويحمدون ويهللون ،ويقرءون
القرآن تطويًبا ،وينشدون قصائد الزهد ،ويؤذنون أوقات الذان؛ وهسسو
الذي فتح أنطاكية في سنة خمس وسستين ومسائتين ،ثسسم مضسى إلسى
طرسوس كأنه يريد فتحها ،فلما نابذه أهلها وقاتلهم أمر أصسسحابه أن
ينهزموا عنها؛ ليبلغ ذلك طاغية الروم فيعلم أن جيوش ابسسن طولسسون
على كثرتها وشدتها لم تقم لهل طرسوس ،فيكون بهذا كسسأنه قسساتله
وصده عن بلد من بلد السلم ،ويجعل هذا الخبر كالجيش فسسي تلسسك
الناحية!
ومع كل ذلسسك فسسإنه كسسان رجًل طسسائش السسسيف ،يجسسور ويعسسسف ،قسسد
فسسا؛
أحصى من قتلهم صبًرا أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشسسر أل ً
وأمر بسجن قاضيه بكار بن قتيبة في حادثة معروفة .وقال له :غرك
قول الناس ما في الدنيا مثل بكار؟ أنت شيخ قد خرقت! ثم حبسسسه
وقيده وأخذ منه جميع عطاياه مسسدة وليتسسه القضسساء ،فكسسانت عشسسرة
دا
آلف دينار ،قيل إنها وجدت في بيت بكسسار بختمهسسا لسسم يمسسسها زه س ً
عا.
وتور ً
---------------
* نوع من الحلوى ،وهو ما يسميه العامة "البالوظة".
** هذا هو الصل في مطعم الشعب.
*** الدينار نصف جنيه مصري فعدة ذلك مليسسون ومسسائة ألسسف جنيسسه،
صدقاته على بغداد وحدها رحمه الله.
43
ولما ذهب شيخك أبو الحسن بعنفه ويسسأمره بسسالمعروف وينهسساه عسسن
المنكر ،طاش عقله فأمر بإلقائه إلى السد ،وهسسو الخسسبر السسذي طسسار
في الدنيا حتى بلغك في بغداد..
قال :وكنت حاضًرا أمرهم ذلك اليوم ،فجيء بالسد مسسن قصسسر ابنسسه
خمارويه وكان خمارويه هذا مشغوًفا بالصيد ،ل يكاد يسمع بسبع في
غيضة أو بطن واد ٍ إل قصده ومعه رجال عليهم لبود ،فيسسدخلون إلسسى
السد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنسسوة وهسسو سسسليم ،فيضسسعونه فسسي
أقفاص من خشب محكمسسة الصسسنعة يسسسع الواحسسد منهسسا السسسبع وهسسو
قائم.
ما ،ضسسارًبا،
وكان السد الذي اختاره للشيخ أغلسسظ مسسا عنسسدهم ،جسسسي ً
سسسا،
سا ،فرا ً عارم الوحشية ،متزيل العضل ،شديد عصب الخلق ،هرا ً
أهرت الشدق يلوح شدقه من سعته وروعته كفتحسسة القسسبر ينسسبئ أن
جا مسسن لبسسدته ،يهسسم أن ينقسسذف علسسى جوفه مقبرة ،ويظهر وجهه خار ً
من يراه فيأكله!
وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليسسه ينظسسرون ،ثسسم فتحسسوا بسساب
القفسسص مسسن أعله فجسسذبوه فسسارتفع؛ وهجهجسسوا بالسسسد يزجرونسسه،
فانطلق يزمجر ويزأر زئيًرا تنشق له المرائر ،ويتوهم من يسمعه أنه
الرعد وراءه الصاعقة!
ثم اجتمع الوحش في نفسه واقشعر ،ثم تمطسسى كسسالمنجنيق يقسسذف
الصخرة ،فما بقي من أجل الشيخ إل طرفة عين؛ ورأيناه على ذلسسك
ساكًنا مطرًقا ل ينظر إلى السد ول يحفل بسسه ،ومسسا منسسا إل مسسن كسساد
ينهتك حجاب قلبه من الفزع والرعب والشفاق على الرجل.
ولم يرعنا إل ذهول السد عن وحشيته ،فأقعى على ذنبه ،ثسسم لصسسق
بالرض هنيهة يفترش ذراعيه ،ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير السد،
فمشسسى مترفقسسا ثقيسسل الخطسسو تسسسمع لمفاصسسله قعقعسسة مسسن شسسدته
وجسامته ،وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظسسه ويشسسمه كمسسا
يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به ،وكسسأنه يعلسسن أن هسسذه ليسسست
مصاولة بين الرجسسل التقسسي والسسسد ،ولكنهسسا مبسسارزة بيسسن إرادة ابسسن
طولون وإرادة الله!
44
الحمدية
وانشقت القاديانية -بعد نشأتها بقليل -إلى شسسقين ،وتفسسرع عنهسسا مسسا
يعرف باسم "الحمديسسة" ،أو "جماعسسة لهسسور" ،وزعيمسسا هسسذا الفسسرع:
"خواجة كمال الدين" و"مولي محمد علي" ولهذا الفرع نشاط كبير
في الخارج ،في آسيا وأوروبا ،وقسسد انتهسسى مسسولي محمسسد علسسي مسسن
ترجمة القرآن الكريم إلى النجليزية في سنة 1920م ،وألسسف كتسسابه
"السلم" في 1936م ،ويبلغ عدد الحمدية نحو نصف مليون ،منهسسم
ستون ألفا في الهند.
والفرق بين "القاديانية" الصلية وبين هذه الشعبة التي تعرف باسم
"الحمدية" أو باسسسم "جماعسسة لهسسور" :أن هسسذه الشسسعبة تنظسسر إلسسى
"ميرزا غلم أحمد" مؤسس المذهب علسسى أنسسه مصسسلح دينسسي فقسسط,
بينما تنظر إليه القاديانية على أنه نبي مرسل.
ففي كتاب "حقيقة النبوة" لميسسرزا يشسسير أحمسسد الخليفسسة الثسساني :أن
"غلم" أفضل من بعض أولي العسسزم مسسن الرسسسل "ص ،"257وفسسي
صحيفة الفضل "المجلد الرابع عشر 29أبريسسل سسسنة 1927م" :أنسسه
كان أفضل بكسثير مسن النبيساء ،ويمكسن أن يكسون أفضسل مسن جميسع
النبياء ،وفي صحيفة الفضل "المجلد الخامس"" :لم يكن فرق بيسسن
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم -وتلميسسذ ميسسرزا غلم أحمسسد إل
أن أولئك رجال البعثة الولى وهؤلء رجال البعثة الثانية" وفسسي عسسدد
92بتاريسسخ 28مسسايو سسسنة 1918م مسسن الفضسسل "المجلسسد الثسسالث":
"ميسسرزا هسسو محمسسد -صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم ،وهسسو مصسسدق القسسرآن
الكريم :اسمه أحمد".
وبمساعدة الخير للحركة التقدمية التي قام على الدعوة إليها سسسير
"أحمد خسسان" ،وكسسذا للمسسذهب القاديسساني السسذي أسسسسه "ميسسرزا غلم
أحمد" شهدت الهند السلمية -أو شهد العالم السلمي كلسسه -فرقسسة
أخرى في التوجيه والعقيدة بين المسلمين ،كما شهد مظهسسرا فكريسسا
إسلميا تبناه النجليز لمصلحة الستعمار الغربي إذ ل شك أنه عمسسل
عقلي إنساني انطسسوى علسسى محاولسسة جديسسدة طويلسسة المسسدى ،صسسعبة
المركب ،لتغيير اتجاه الجماعة السلمية إلى ما لم تألفه ،وإلى غيسسر
ما درج عليه اعتقادها.
وضربته روح الشيخ فلم يبق بينه وبين الدمي عمل ،ولسسم يكسسن منسسه
بإزاء لحم ودم ،فلو أكل الضوء والهواء والحجر والحديسسد ،كسسان ذلسسك
أقرب وأيسر من أن يأكل هذا الرجل المتمثل في روحانيته ل يحسسس
45
لصورة السد معنى من معانيها الفاتكة ،ول يرى فيه إل حياة خاضعة
مسخرة للقوة العظمى التي هو مسسؤمن بهسسا ومتوكسسل عليهسسا ،كحيسساة
الدودة والنملة وما دونها من الهوام والذر!
وورد النور على هسسذا القلسسب المسسؤمن يكشسسف لسسه عسسن قسسرب الحسسق
سبحانه وتعالى ،فهو ليس بين يدي السد ولكنه هو والسد بين يدي
حك ْسم ِ َرب ّس َ
ك فَإ ِن ّس َ
ك ص سب ِْر ل ِ ُ
جا في يقين هذه اليسسةَ} :وا ْالله ،وكان مندم ً
ب ِأ َع ْي ُن َِنا{.
ورأى السد رجًل هو خوف الله ،فخاف منه ،وكما خسسرج الشسسيخ مسسن
ذاته ومعانيها الناقصة ،خسسرج السسوحش مسسن ذاتسسه ومعانيهسسا الوحشسسية؛
فليس في الرجل خوف ول هم ول جزع ول تعلق برغبسة ،ومسن ذلسك
ليس في السسسد فتسسك ول ضسسراوة ول جسسوع ول تعلسسق برغبسسة.ونسسسي
الشيخ نفسه فكأنما رآه السد ميًتا ولم يجد فيسسه "أنسسا" السستي يأكلهسسا،
ولو أن خطرة من هم الدنيا خطرت على قلبه فسسي تلسسك السسساعة أو
اختلجت فسسي نفسسسه خالجسسة مسسن الشسسك ،لفسساحت رائحسسة لحمسسه فسسي
خياشيم السد فتمزق في أنيابه ومخالبه.
قال :وانصرفنا عن النظر في السبع إلى النظر في وجه الشيخ ،فإذا
هو ساهم مفكر ،ثم رفعوه وجعل كسسل منسسا يظسسن ظن ّسسا فسسي تفكيسسره،
فمن قائل :إنه الخوف أذهله عن نفسه ،وقائل :إنه النصراف بعقله
إلى الموت ،وثالث يقول :إنه يكون الفكرة لمنع الحركة عن الجسم
فل يضطرب ،وزعم جماعة أن هذه حالة من السسستغراق يسسسحر بهسسا
السد؛ وأكثرنا في ذلك وتجارينا فيسسه ،حسستى سسسأله ابسسن طولسسون :مسسا
الذي كان في قلبك وفيم كنت تفكر؟
فقال الشيخ :لم يكن علي بأس ،وإنما كنت أفكر في لعسساب السسسد،
أهو طائر أم نجس..
أمراء للبيع
قال الشيخ تاج الدين محمد بن علي المقلب طوير الليل ،أحسسد أئمسسة
الفقهاء بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة*:
كان شيخنا المام العظيم شيخ السلم تقي الدين بن مجد الدين بن
دقيسسق العيسسد** ل يخسساطب السسسلطان إل بقسسوله" :يسسا إنسسسان"! فمسسا
يخشاه ول يتعبد لسسه ول ينحلسسه ألقسساب الجسسبروت والعظمسسة ول يزينسسه
بالنفاق ول يداجيه كما يصنع غيره من العلماء؛ وكان هذا عجيًبا؛ غيسسر
46
دا قسسط مسسن عامسسة أن تمام العجب أن الشسسيخ لسسم يكسسن يخسساطب أح س ً
الناس إل بهذا اللفظ عينه" :يا إنسان"؛ فما يعلو بالسلطان والمراء
ول ينزل بالضعفاء والمساكين ،ول يرى أحسن ما في هسسؤلء وهسسؤلء
إل الحقيقة النسانية!
دا
ثم كان ل يعظم في الخطاب إل أئمة الفقهاء فإذا خاطب منهم أح ً
قال له" :يسا فقيسه"؛ علسى أنسه لسم يكسن يسسمح بهسذا إل لمثسل شسيخ
السلم نجم الدين ابن الرقعة*** ،ثم يخص علء الدين بسسن البسساجي
وحده بقوله" :يا إمام"؛ إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجسسة،
ل يكاد يقطعه أحد في المناظرة والمباحثسسة؛ فهسسو كالبرهسسان .إجللسسه
إجلل الحق؛ لن فيه المعنى وتثبيت المعنى.
ما :يا سيدي ،أراك تخسساطب السسسلطان بخطسساب العامسسة؛ وقلت له يو ً
فإن علوت قلسست" :يسا إنسسان" ،وإن نزلسست قلسست" :يسا إنسسان"؛ أفل
يسخطه هذا منك وقد تذّوق حلوة ألفاظ الطاعة والخضوع ،وخصسسه
النفاق بكلمات هي ظل الكلمات السستي يوصسسف اللسسه بهسسا ،ثسسم جعلسسه
الملك إنساًنا بذاته في وجسسود ذاتسسه ،حسستى أصسسبح مسسن غيسسره كالجبسسل
والحصاة؛ يستويان في العنصر ويتباينان في القدر ،وأقله مهمسسا قسسل
هو أكثرها مهما عظمت ،ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟
فتبسم الشيخ وقال :يا ولدي ،إيش هذا؟ إننا نفوس ألفاظ ،والكلمسسة
من قائلها هي بمعناها في نفسه ل بمعناها في نفسسسها؛ فمسسا يحسسسن
بحامل الشريعة أن ينطق بكلم يرده الشرع عليه؛ ولو نسسافق السسدين
لبطل أن يكون ديًنا ،ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف
منه؛ فلطخة في الثوب البيض ليست كلطخسسة فسسي الثسسوب السسسود،
والمنافق رجل مغطى في حياته ،ولكن عالم الدين رجسسل مشسسكوف
في حياته ل مغطى؛ فهو للهدايسسة ل للتلسسبيس ،وفيسسه معسساني النسسور ل
معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل ،فإذا نافق فقسسد
كذب؛ والعالم يتصل بالدين مسن ناحيسة العمسل وناحيسة التسبيين ،فسإذا
نافق فقد كذب وغش وخان.
وما معنى العلماء بالشرع إل أنهم امتسسداد لعمسسل النبسسوة فسسي النسساس
دهًرا بعد دهر ،ينطقسسون بكلمتهسسا ،ويقومسسون بحجتهسسا ،ويأخسسذون مسسن
أخلقها كما تأخذ المرآة النور ،تحويه في نفسها وتلقيه على غيرهسسا،
فهي أداة ٌ لظهاره وإظهار جماله مًعا.
أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخسسذ
من نور واحد ل يختلف؟ إن أولئك في أخلقهسسم كسساللوح مسسن البلسسور؛
47
يظهر النور نفسسسه فيسسه ويظهسسر حقيقتسسه البلوريسسة؛ وهسسؤلء بسسأخلقهم
كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية ل غير!
وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها؛ فيسهل عليه أن يتأول
ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفسسي؛ ولكسسن العسسالم الحسسق يفكسسر مسسع
كتب الشريعة في صاحب الشريعة ،فهو معه فسسي كسسل حالسسة يسسسأله
ماذا تفعل وماذا تقول؟
والرجل الديني ل تتحول أخلقه ول تتفاوت ول يجيسسء كسسل يسسوم مسسن
حوادث اليوم ،فهو بأخلقه كلها ،ل يكون مرة ببعضها ومرة ببعضسسها،
ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السسسوء هسسذا
الذي لو نطقسست أفعسساله لقسسالت للسسه بلسسسانه :هسسم يعطسسوني السسدراهم
والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟
حا في أحد وجهيه دون الخر ،أو في إن الدينار يا ولدي إذا كان صحي ً
بعضه دون بعضه ،فهو زائف كله؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون
مع هؤلء يتعاملون مسسع قسسوة الهضسسم فيهسسم ...فينزلسسون بسسذلك منزلسسة
البهائم؛ تقدم أعمالها لتأخذ بطونها ،والبطن الكل في العالم السسوء
يأكل دين العالم فيما يأكله..
فإذا رأيت لعلماء السوء وقاًرا فهو البلدة ،أو رقة فسسسمها الضسسعف،
أو محاسسسنة فقسسل إنهسسا النفسساق ،أو سسسكوًتا عسسن الظلسسم فتلسسك رشسسوة
يأكلون بها!
قال المام :وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين بن عبد
السلم* فلقد كان المر بالمعروف والنهي عن المنكر شسسيًئا تصسسنعه
طبيعته كما يصنع جسمه الحياة ،فل يبالي هلك فيه أو عسساش؛ إذ هسسو
في الدم كالقلب ،ل تناله يد صاحبه ول يد غيره؛ ولم يتعلق بمال ول
جاه ول ترف ول نعيم ،فكان تجرده من أوهام القوة ل تغلب؛ وانتزع
خوف الدنيا من قلبه فغمرته الروح السماوية التي تخيف كل شسسيء
ول تخاف؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل وتبسسديل فسسي طبسساع النسساس،
حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقسسد رأى كسسثرة الخل ْسسق فسسي جنسسازته
حين مّرت تحت القلعة :الن استقر أمري فسسي الملسسك ،فلسسو أن هسسذا
الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لنتزع مني المملكة!
وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل ،فاستنجد بالفرنج علسسى
الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر؛ فغضب الشيخ وأسسسقط اسسسم
الصالح من الخطبسسة وخسسرج مهسساجًرا ،فسسأتبعه الصسسالح بعسسض خواصسسه
يتلطف به ويقول له :ما بينك وبين أن تعود إلى مناصسسبك ومسسا كنسست
عليه وأكثر مما كنت عليه إل أن تتخشع للسلطان وتقبل يده .فقسسال
48
له الشيخ :يا مسكين! أنا ل أرضى أن يقبل السلطان يدي! أنتم فسسي
واد ٍ وأنا في واٍد!
ثم قدم إلى مصر في سنة ،639فأقبل عليه السلطان نجسسم السسدين
كا شديد أيوب وتحلى به ووله خطابة مصر وقضاءها ،وكان أيوب مل ً
البأس ،ل يجسر أحد أن يخسساطبه إل مجيبسسا ،ول يتكلسسم أحسسد بحضسسرته
ابتداء؛ وقد جمع من المماليك الترك ما لسم يجتمسع مثلسسه لغيسسره مسن
أهسل بيتسه ،حستى كسان أكسسثر أمسراء عسسسكره منهسم ،وهسسم معروفسون
بالخشونة والبأس والفظاظة والسسستهانة بكسسل أمسسر؛ فلمسسا كسسان يسسوم
العيد صعد إليسسه الشسسيخ وهسسو يعسسرض الجنسسد ويظهسسر ملكسسه وسسسطوته
والمراء يقبلون الرض بين يديه؛ فناداه الشيخ بأعلى صوته؛ ليسمع
هذا المل العظيم :يا أيوب! ثم أمره بإبطال منكرٍِ انتهسسى إلسسى علمسسه
في حانة تباع فيها الخمسسر؛ فرسسسم السسسلطان لسسوقته بإبطسسال الحانسسة
واعتذر إليه.
فحدثني الباجي قال :سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شسساع
الخبر ،فقلت :يا سيدي ،كيف كانت الحال؟
قال :يا بني ،رأيته في تلك العظمة فخشيت علسسى نفسسه أن يسسدخلها
الغرور فتبطره فكان ما باديته به.
خفَته؟ قلت :أما ِ
---------------
* هو المام العظيم شيخ السلم عبد العزيز بسسن عبسسد السسسلم بركسسة
الدنيا في عصره ،توفي سنة .660
قال :يا بني ،استحضرت هيبسسة اللسسه تعسسالى فكسسان السسسلطان أمسسامي
كالقط* ولو أن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته السسدنيا كلهسسا؛
بيد أني نظرت بالخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظسسور للنسساس،
فل عظمة ول سلطان ول بقاء ول دنيا ،بل هسسو ل شسسيء فسسي صسسورة
شيء.
نحسن يسا ولسسدي مسع هسسؤلء كسالمعنى السسذي يصسسحح معنسى آخسر ،فسسإذا
أمرناهم ،فالذي يأمرهم فينا هو الشرع ل النسان ،وهم قسسوم يسسرون
لنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفهسسا؛
فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لنفسسسهم الحسسق
فسسي إنطسساق هسسذه الكلمسسة وبيانهسسا وتوضسسيحها؛ فسسإذا كسسان ذلسسك فههنسسا
المعنى بإزاء المعنى؛ فل خوف ول مبالة ول شأن للحياة والموت.
وإنمسسا الشسسر كسسل الشسسر أن يتقسسدم إليهسسم العسسالم لحظسسوظ نفسسسه
ومنافعها ،فيكون باطًل مزوًرا في صورة الحق؛ وههنسسا تكسسون السسذات
49
مع الذات ،فيخشع الضعف أمام القوة ،ويذل الفقر بين يدي الغنسسى،
وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها؛ فإذا العالم من السلطان
كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف!
كل يا ولدي! إن السلطان والحكسسام أدوات يجسسب تعييسسن عملهسسا قبسسل
إقامتها ،فإذا تفككت واحتاجت إلى مسسسامير دقسست فيهسسا المسسسامير؛
وإذا انفتق الثوب فمن أين للبسسرة أن تسسسلك بسسالخيط السسذي فيهسسا إذا
خّزه؟
هي لم ت ُ
إن العسسالم الحسسق كالمسسسمار؛ إذا أوجسسد المسسسمار لسسذاته دون عملسسه
كفرت به كل خشبة..
قال المام تقي الدين :وطغى المراء من المماليك وثقلست وطسأتهم
علسسى النسساس؛ وحيثمسسا وجسسدت القسسوة المسسسلطة المسسستبدة جعلسست
طغيانها واستبدادها أدب ًسسا وشسسريعة؛ إل أن تقسسوم بأزائهسسا قسسوة معنويسة
أقوى منها؛ ففكر شيخنا في هسؤلء المسراء ،وقسال :إن خسداع القسوة
الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد؛ إذ يحسبون كسسل حسسسن منهسسا
حا في ذاته ول أقبح منه؛ ويسسرون كسسل قبيسسح هو الحسن ،وإن كان قبي ً
عندها هو القبيح ،وإن كان حسًنا ول أحسن منه.
وقال :ما معنى المارة والمراء؟ وإنما قوة الكسسل الكسسبير هسسي عمسساد
الفرد الكبير ،فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله؛ وكسسان ينبغسسي أن
تكون هذه المارة أعماًل نافعة قد كسسبرت وعظمسست فاسسستحقت هسسذا
اللقب بطبيعة فيها كطبيعسسة أن العشسسرة أكسسثر مسسن الواحسسد ،ل أهسسواء
وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها فسسي الضسسعفاء بطبيعسسة كطبيعسسة
أن الوحش مفترس.
وفكر الشيخ فهداه تفكيسسره إلسسى أن هسسؤلء المسسراء مماليسسك ،فحكسسم
عا بيعهسسمالرق مستصحب عليهم لبيت مال المسسسلمين ،ويجسسب شسسر ً
كما يباع الرقيق!
وبلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم؛ ثم احتدم المراء
وأيقنوا أنهم بإزاء الشرع ل بإزاء القاضي ابن عبد السلم.
وأفتى الشيخ أنسسه ل يصسسح لهسسم بيسسع ول شسسراء ول زواج ول طلق ول
معاملة ،وأنه ل يصحح لهم شيًئا من هذا حتى يباعوا ويحصل عنقهسسم
بطريق شرعي!
ثم جعلوا يتسسسببون إلسسى رضسساء ،ويتحملسسون عليسسه بالشسسفاعات ،وهسسو
صّر ل يعبأ بجللة أخطارهم ،ول يخشى اتسامه بعسسداوتهم ،فرفعسسوا م ِ
ُ
المر إلى السلطان ،فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه.
50
واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما ل يعنيسسه،
وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه ،وهو رجل ليسسس لسسه إل نفسسسه
وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمسسه وهسسم وافسسرون وفسسي أيسسديهم القسسوة
ولهم المر والنهي.
ل بالسسسلطان ول كسسبر وانتهى ذلك إلى الشيخ المام فغضب ولسسم يبسسا ِ
عليه إعراضه ،وأزمع الهجرة من مصر ،فسساكترى حميسًرا أركسسب أهلسسه
وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام ،فلم يبعد إل
قليًل نحو نصف بريسسد حسستى طسسار الخسسبر فسسي القسساهرة ففسسزع النسساس
وتبعوه ل يتخلف منهم رجل ول امرأة ول صبي ،وصار فيهم العلمسساء
والصلحاء والتجسسار والمحسسترفون كسسأن خروجسسه خسسروج نسسبي مسسن بيسسن
المؤمنين به ،واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم المسسر مسسن
هذه الجماهير ،فقيل للسلطان :إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك!
فارتاع السلطان ،فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضسساه ويسسستدفع بسسه
غضب المة ،وأطلق له أن يأمر بما شاء ،وقد أيقن أنسسه ليسسس رجسسل
الدينار والدرهم والعيش والجاه ولْبس طيلسان العلمسساء كمسسا يلصسسق
الريش على حجر في صورة الطائر.
ورجح الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمسسع المسسراء وينسسادي عليهسسم
للمساومة فسسي بيعهسسم ،وضسسرب لسسذلك أجًل بعسسد أن يكسسون المسسر قسسد
تعالمه كل القاهرة؛ ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيسسق
الغالي!
وكان من المراء المماليك نائب السلطنة ،فبعث إلى الشيخ يلطفه
ويسترضيه ،فلم يعبأ الشيخ به؛ فهاج هائجه وقسسال :كيسسف يبيعنسسا هسسذا
الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلسسة العبيسسد ويفسسسد محلنسسا مسسن النسساس
ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الرض؟ وما الذي يفقد هسسذا الشسسيخ مسسن
الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما ل يملك ،ويفقد غير الموجود،
فل جرم ل يبالي ول يرجع عسسن رأيسسه مسسا دام هسسذا السسرأي ل يمسسر فسسي
منافعه ،ول في شهواته ول في أطماعه ،كالسسذين نراهسسم مسسن علمسساء
الدنيا؛ أما والله لضربنه بسيفي هذا ،فما يموت رأيه وهو حي.
ثم ركب النائب فسسي عسسسكره وجسساء إلسسى دار الشسسيخ واسسستل سسسيفه
وطرق الباب ،فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فانقلب إلى أبيه
وقال له :انج بنفسك ،إنه الموت ،وإنه السيف ،وإنه وإنه ...
فما اكترث الشيخ لذلك ول جزع ول تغير ،بل قال له :يا ولدي! أبوك
أقل من أن يقتل في سبيل الله!
51
وخرج ل يعرف الحياة ول الموت ،فليس فيسسه النسسساني بسسل اللهسسي،
ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف ،فسسانطلقت أشسسعة عينيسسه
في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها.
وتناوله بروحه القوية ،فاضطرب الرجل وتزلسسزل وكأنمسسا تكسسسر مسسن
أعصابه فهو يرعد ول يستقر ول يهدأ.
وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له؛ ثم قال :يا سسسيدي ،مسسا
تصنع بنا؟
قال الشيخ :أنادي عليكم وأبيعكم!
وفيم تصرف ثمننا؟
في مصالح المسلمين.
ومن يقبضه؟
أنا.
وكان الشرع هو الذي يقول" :أنا" ،فتم للشيخ ما أراد ،ونسسادى علسسى
دا ،واشتط في ثمنهسم ،ل يسبيع الواحسد منهسم حستى دا واح ً
المراء واح ً
يبلغ الثمن آخر ما يبلغ؛ وكان كل أميسسر قسد أعسد مسن شسيعته جماعسة
يستامونه؛ ليشتروه...
ودمغ الظلم والنفاق والطغيان والتكبر والستطالة على الناس بهذه
الكلمة التي أعلنها الشرع:
52
العجوزان ""1
قال محدثي :التقى هذان الشيخان بعد فسسراق أربعيسسن سسسنة ،وكسسانت
مثابتهما* ذلك المكان القائم على شاطئ البحر في إسسسكندرية فسسي
جهة كذا؛ وهما صسسديقان كانسسا فسسي صسسدر أيامهمسسا -حيسسن كسسانت لهمسسا
أيام ...رجلي حكومة يعملن فسسي ديسسوان واحسسد ،وكانسسا فسسي عيشسسهما
مسسا اجتمسساع السسسؤال ل ،يجتمعسسان دائ ً ل ورذائ َ
ل ،وفضائ َ أخويّ جد ّ وهز ٍ
والجواب ،فل تنقطسسع وسسيلة أحسدهما مسن الخسر؛ وكسأن بينهمسا فسسي
الحياة قرابة البتسامة من البتسامة والدمعة من الدمعة.
ولبثسسا كسسذلك مسسا شسساء اللسسه ،ثسسم تبسسددا وأخسسذتهما الفسساق كسسدأب
"المسسوظفين"؛ ينتظمسسون وينتشسسرون ،ول يسسزال أحسسدهم ترفعسسه أرض
مسسا
وتخفضه أخرى ،وكأن "الموظسسف" مسسن تفسسسير قسسوله تعسسالى} :وَ َ
ت{ ]لقمان![34 : َ َ
مو ُض تَ ُ
س ب ِأيّ أْر ٍ
ف ٌ ت َد ِْري ن َ ْ
وافترق الصديقان على مضض ،وكثيًرا ما يكون أمر الحكومسسة بنقسسل
بعض "موظفيها" هو أمرها بتمزيق بعضهم مسسن بعسسض؛ ثسسم تصسسرفت
بهما الدنيا فذهبا على طرفي طريق ل يلتقيسسان ،وأصسسبح كلهمسسا مسسن
الخر كيومه الذي مضى ..يحفظ ول يرى..
قال المحدث :وكنت مع الستاذ "م" ،وهسو رجسل فسي السسبعين مسن
عمره ،غير أنه يقول عسسن نفسسسه إنسسه شسساب لسسم يبلسسغ مسسن العمسسر إل
سبعين سنة ..ويزعم أن في جمسه النسساموس الخضسسر السسذي يحيسسي
الشجرة حياة واحدة إلى الخر.
ه ،متأنق ،فاخر السسبزة ،جميسسل السسسمت ،فسسارع الشسسطاط** رجل فار ٌ
كالمصبوب في قالب ل عوج فيه ول انحناء ،مجتمسسع كلسسه لسسم يسسذهب
منسسه شسسيء ،قسسد حفظتسسه أسسساليب القسسوة السستي يعانيهسسا فسسي رياضسسته
اليوميسسة؛ وهسسو منسسذ كسسان فسسي آنفتسسه وشسسبابه ل يمشسسي إل مسسستأخر
دا قفسساه إلسسى طسسوقه؛ الصدر* مشسسدود الظهسسر ،مرتفسسع العنسسق ،مسسسن ً
وبذلك شب وشاب على استواء واحد ،وكلما سسسئل عسسن سسسر قسسامته
وعوده لم يزد على قوله :إن هذا من عمل إسناد القفا**.
دا ل يغيسسره ،يسسرى أن ما عطر عبق ،ثم ل يمس إل عطًرا واح ً وهو دائ ً
هذا الطيب يحفظ خيال الصبي ،وأنه يبقي لليام رائحتها.
---------------
* أي المكان الذي اجتمعا فيه بعد التفرق.
** ممتد الطول.
53
وله فلسفة من حسه ل من عقله ،ولفلسفته قواعد وأصول ثابتسسة ل
تتغير ،ومن بعسسض قواعسسدها الزهسسر ،ومسسن بعضسسها الموسسسيقى ،ومسسن
ضا؛ وكل تلك هي عنده قواعد لحفظ الشباب .ومسسن بعضها الصلة أي ً
فلسفته أن مبادئ الشباب وعاداته إذا هي لم تتغيسسر اتصسسل الشسسباب
فيها واطرد في السسروح ،فتكسسون مسسن ذلسسك قسسوة تحسسرس قسسوة اللحسسم
والدم ،وتمسك على الجسم حالته النفسية الولى.
وهو يزيد في حكمة الصلة فكرة رياضية عملية لم ينتبسه إليهسسا أحسد،
هي رياضة البطن والمعساء بسالركوع والسسجود والقيسسام؛ ويقسول :إن
ثروة الصلة تكنز فسسي صسسندوقين :أحسسدهما السسروح لمسسا بعسسد المسسوت،
والخر البطن لما قبل الموت؛ ويسسرى أن السسسلم لسسم يفسسرض صسسلة
الصبح قبل الشمس إل ليجعل الفجر ينصب في الروح كل يوم.
قال المحسسدث :وبينمسسا نحسسن جالسسسان مسسر بنسسا شسسيخ أعجسسف مهسسزول
موهون في جسمه ،يدلف متقاصر الخطو كسسأن حمسسل السسسنين علسسى
صسسا،
ن يتوكسسأ علسسى ع ًظهره ،مرعش من الكبر ،مستقدم الصدر منح ٍ
ضسا ،وهسو يبسدو فسي ضسعفه ويدل انحناؤه على أن عمره قد اعسوج أي ً
ما ل إنساًنا ،وكأنها ما خبطت إل لتمسك وهزاله كأن ثيابه ملئت عظا ً
ما على عظم.. عظ ً
قال :فحملق إليه "م" ثم صاح :رينا! رينا .فالتفت العجوز ،ومسسا كسساد
كا يقول :أوه! .ريت ،ريت! يأخذنا بصره حتى انفتل إليه وأقبل ضاح ً
ونهسسض "م" فاحتضسسنه وتلزمسسا طسسويًل ،وجعسسل رأسسساهما يسسدوران
وحان ،وكلهما يقبل صسساحبه قبًل ظمئة ل عهسسد لسسي بمثلهسسا فسسي ويتط ّ
صديقين ،حتى لخيل إلي أنهما ل يتعانقان ول يتلءمان ،ولكن بينهمسسا
فكرة يعتنقانها ويقبلنها مًعا..
---------------
* يقال مستقدم الصدر ،للهرم المحني الظهر؛ فأخذنا منها مسسستأخر
دا ،فيكون أعله إلى الوراء. الصدر ،وذلك بروزه حين يكون مشدو ً
** هذه حقيقة رياضية ،ولها أقوى الثسسر فسسي شسسد الجسسسم وانتصسساب
القامة إذا اعتادها النسان ..والمراد بالطوق :البنيقة "الياقة".
وقلت :ما هذا أيها العجوزان؟
فضحك "م" وقال :هذا صديقي القديم "ن" ،تركته منذ أربعين سسسنة
معجزة من معجزات الشباب ،فها هو ذا معجزة أخرى من معجسسزات
الهرم ،ولم يبق منه كامًل إل اسمه...
ثم التفت إليه وقال :كيف أنت يا رينا؟
54
قال العجوز "ن" :لقد أصبحت كما ترى؛ زاد العمسسر فسسي رجلسسي رجًل
من هسسذه العصسسا ،ورجسسع مصسسدر الحيسساة فسسي مصسسدًرا لللم والوجسساع
ودخلت في طبيعتي عادة رابعة من تعاطي الدواء.
فضحك "م" وقال :قبح الله هذه الدخيلسسة ،فمسسا هسسي العسسادات الثلث
الصلية؟
قال العجوز :هي الكل والشرب والنوم ..ثم أنت يا ريت كيسسف تقسسرأ
الصحف الن؟
قال "م" :أقرؤها كما يقرؤها الناس ،فما سؤالك عن هذا؟ وهل تقرأ
ما غير ما تقرأ في يوم؟ الصحف يو ً
قال :آه! إن أول شيء أقرأ في الصحف أخبار الوفيسسات؛ لرى بقايسسا
الدنيا ،ثم "إعلنات الدوية" ...ولكن كيف أنت يا ريت؟ إني لراك ما
تزال من وراء أربعين سنة فسسي ذلسسك العيسسش الرخسسي ،وأراك تحمسسل
شيخوختك بقوة كأن الدهر لم يخرمسك مسن هنسا ول مسن هنسا ،وكسأنه
يلمسك بأصسابعه ل بمسساميره ،فهسل أصسبت معجسزة مسن معجسزات
العلم الحديث؟
قال :نعم.
قال :ناشدتك الله ،أفي معجزات العلم الحديث معجزة لعظمي؟
قال "م" :ويحك يا رينا! إنك على العهسسد لسسم تسسبرح كمسسا كنسست مزبلسسة
أفكار ..ماذا يصنع فيك العلسسم الحسسديث وأنسست كمسسا رأى بمنزلسسة بيسسن
العظم والخشب؟!
قال المحدث :وضحكنا جميًعا ،ثم قلت للستاذ "م" :ولكن مسسا "رينسسا
وريت"؟ وما هذه اللغة؟ .وفي أي معجم تفسيرها؟
قال :فتغامز الشيخان ،ثم قال "م" :يا بني ،هذه لغسسة مسساتت معانيهسسا
وبقيت ألفاظهسسا ،فهسسي كتلسسك اللفسساظ الثريسسة الباقيسسة مسسن الجاهليسسة
الولى.
ض إل فيكما ...ول يزال كل شاب قلت :ولكن الجاهلية الولى لم تنق ِ
في هذه الجاهلية الولى ،وما أحسب "رينسسا ،وريسست" فسسي لغتكمسسا إل
بمعنى "سوسو ،وزوزو" في اللغة الحديثة؟
ي رجسسل فقال "م" :اسمع يا بني :إن رجل سنة *1935متى سأل ف ّ
سسسنة :1895مسسا معنسسى رينسسا وريسست؟ فسسرد عليسسه :إن "رينسسا" معناهسسا
مسسا ،وكسسان مقتتًل قتلسسه حبهسسا .أمسسا
"كاترينا"؛ وكان "ن" بهسسا صسّبا مغر ً
"ريت" فهو ل يعرف معناها.
فامتعض العجوز "ن" ،وقال :سبحان الله! اسسسمع يسسا بنسسي :أن رجسسل
ي يقسول لسك :إن "ريست" معناهسا "مرغريست" ،وكسانت سنة 1895ف ّ
55
الجوى الباطن وكسسانت اللوعسسة والحريسسق السسذي ل ينطفسسئ فسسي قلسسب
الستاذ "م".
قلت :فأنتما أيها العجسسوزان مسن عشسساق سسسنة ،1895فكيسسف تريسان
الحب الن؟
قال العجوز "ن" :يا بني ،أن أواخسسر العمسسر كسسالمنفي ..ونحسسن نتكلسسم
باللفاظ التي تتكلم بها أنت وأنتما وأنتسسم ..غيسسر أن المعسساني تختلسسف
اختلًفا بعي ً
دا.
قلت :واضرب لهم مثًل.
ن :الكسسل قال :واضرب لهم مثًل كلمة "الكل" ،فلها عندنا ثلثسسة معسسا ٍ
ن:ضا ثلثة معا ٍ وسوء الهضم ،ووجع المعدة؛ وكلمة "المشي" فلها أي ً
المشسسي ،والتعسسب ،وغمسسزات العظسسم ...وكلمسسة "النسسسيم" ،النسسسيم
العليل يا بني ،زيد لنا في معناها :تحرك "الروماتيزم"..
فضحك "م" وقال :يا شيخ..
قال العجوز :وتلك الزيادة يا بني ل تجيسسء إل مسسن نقسسص ،فهنسسا بقيسسة
من يدين ،وبقيسسة مسسن رجليسسن ،وبقيسسة مسسن بطسسن ،وبقيسسة مسسن ،ومسسن،
ومن ...ومجموع كل ذلك بقية من إنسان.
قال الستاذ "م" :والبقية في حياتك.
قال "ن" :وبالجملة يا بني فإن حركة الحياة في الرجل الهرم تكسسون
حسسول ذاتهسسا ل حسسول الشسسياء؛ ومسسا أعجسسب أن تكسسون أقصسسر حركسستي
الرض حول نفسها كسسذلك ،وإذا قسسال الشسساب فسسي مغسسامرته :ليمسسض
الزمن ولتتصرم اليام! فإن اليام هي التي تتصرم والزمن هو السسذي
دا؛ فمسسن قسسال منهسسم :ليمسسض الزمسن، يمر؛ أما الشيوخ فلن يتمنوه أب ً
فكأنما قال :فلمض أنا..
فصاح "م" :يا شيخ يا شيخ....
ثم قال العجوز :واعلم يا بني أن العلم نفسه يهرم مع الرجل الهرم،
فا ل غناء عنده ول حيلسسة لسسه؛ وكسسل مصسسانع لنكشسسير فيصبح مثله ضعي ً
ومصانع بنك مصر واليابان والمريكتين ،وما بقي من مصسسانع السسدنيا،
ل فائدة من جميعها؛ فهي عاجزة أن تكسر عظامي...
قال المحدث :فقهقه الستاذ "م" ،وقال :كسسدت واللسسه أتخشسسب مسسن
هسسذا الكلم ،وكسسادت معسساني العظسسم تخسسرج مسسن عظسسامي؛ لقسسد كسسان
المتوحشون حكماء فسسي أمسسر شسسيوخهم ،فسسإذا علسست السسسن بجماعسسة
منهم لم يتركوهم أحياء إل بامتحان ،فهم يجمعونهم ويلجئونهسسم إلسسى
شجرة غضة لينة المهزة ،فيكرهونهم أن يصعدوا فيها ثم يتدلوا منهسسا
وقد عقلسست أيسسديهم بأغصسانها؛ فسإذا صساروا علسى هسسذه الهيئة اجتمسع
56
الشسسداء مسسن فتيسسان القبيلسسة فيأخسسذون بجسسذع الشسسجرة يرجونهسسا
وينفضونها ساعة من نهار؛ فمن ضعفت يسسداه مسسن أولئك الشسسيوخ أو
كلت حوامل ذراعيه فسأفلت الغصسن السذي يتعلسق بسه فوقسع ،أخسذوه
فأكلوه؛ ومن استمسك أنزلوه فأمهلوه إلى حين!
فاقشعر العجوز "ن" ،وقال :أعوذ بالله! هذه شجرة تخرج في أصل
الجحيم ،ولعنها الله من حكمة ،فإنما يطبخسسونهم فسسي الشسسجرة قبسسل
الكل ،أو هسسم يجعلسسونهم كسسذلك؛ ليتوهمسسوهم طيسسوًرا فيكسسون لحمهسسم
أطيب وألذ ،ويتساقطون عليهم من الشجرة حمائم وعصافير.
قال "م" :إن كان في الوشيحة منطق فليس في هذا المنطق "باب
لم" ،ول "بسساب كيسسف" ،ولسسو كسسان بهسسم أن يسسأكلوهم ،غيسسر أنهسسا تربيسسة
الطبيعسسة لهسسل الطبيعسسة؛ فسسإن رؤيسسة الرجسسل هسسذه الشسسجرة وهزهسسا
وعاقبتها يبعد عنسسه الضسسعف والتخلخسسل ،ويسسدفعه إلسسى معانساة القسوة،
طا لسسسبابها، ويزيد نفسسسه انتشسساًرا علسسى الحيسساة وطمعًسسا فيهسسا وتنشس ً
فيكسسون سسساعده آخسسر شسسيء يهسسرم ،ول يسسزال فسسي الحسسدة والنشسساط
والوثبان؛ فل يعجز قبل يومه الطبيعي ،ويكون المتوحشون بهسسذا قسسد
احتالوا على الطبيعة البشرية فاضطروها إلسسى مجهودهسسا ،وأكرهوهسسا
على أن تبذل من القوة ما يسع الجسم.
قال "ن" :فنعم إذن ،ولعن الله معسساني الضسسعف؛ كسسدت واللسسه أظسسن
شا تخاف أن تؤكل ،فتظسسل ما شاّبا ،وما أراك إل متوح ً أني لم أكن يو ً
خا طفًل ،وترى العمر كما يرى البخيسسل ذهبسسه :مهمسسا خا رجًل ل شي ًشي ً
يبلغ فكثرته غير كثيرة.
قال المحدث :وأضجرني حوارهما؛ إذ لم يعسد فيسسه إل أن جسسسم هسذا
يرد على جسم هذا؛ وإنما الشيخ من أمثال هؤلء زمان يتكلم ويقص
ويعظ وينتقد ،ولن يكون الشيخ معك في حقيقته إن لسم ترحسل أنست
فيه إلى دنيا قديمة؛ فقلت لهما :أيها العجوزان! أريد أن أسافر إلسسى
سنة ...1895
57
العجوزان* ""2
قال محدثي :ولما قلت لهمسسا :أيهسسا العجسسوزان ،أريسسد أن أسسسافر إلسسى
سنة 1895نظر إلي العجوز الظريف "ن" ،وقال :يسسا بنسسي ،أحسسسب
رؤيتك إياي قد دنت بك من الخرة ...فتريسسد أن نلسوذ بأخبسسار شسسبابنا؛
لتنظر إلينا وفينا روح الدنيا.
قسسسال السسسستاذ "م" :وكيسسسف ل تريسسسه الخسسسرة وأكسسسثرك الن فسسسي
"المجهول"؟
قال :ويحك يا "م"! ل تزال على وجهسسك مسسسحة مسسن الشسسيطان هنسسا
وهنا؛ كأن الشيطان هو الذي يصلح في داخلك ما اختل مسسن قسسوانين
الطبيعسسة ،فل تسسستبين فيسسك السسسن وقسسد نيفسست علسسى السسسبعين ،ومسسا
أحسب الشيطان في تنظيفك إل كالذي يكنس بيته..
قال "م" :فأنت أيها العجوز الصالح بيت قسسد تركسسه الشسسيطان وعلسسق
عليك كلمة "اليجار" ..فضحك "ن" ،وقال :تالله إن الهرم لهو إعادة
مسسا ل خطسسأ فيسسه؛ إذ ينظسسر الشسسيخدرس الدنيا ،وفهمها مرة أخرى فه ً
بالعين الطاهرة ،ويسمع بالذن الطاهرة ،ويلمسسس باليسسد الطسساهرة...
وتالله إن الشيطان ل معنى له إل أنه وقاحة العصاب.
قال "م" :فأنت أيها العجسسوز الصسسالح إنمسسا أصسسبحت بل شسسيطان؛ لن
الهرم قد أدب أعصابك...
---------------
* الجمهور من أهل اللغة على أن "العجوز" وصف خاص بالمرأة إذا
شاخت وهرمت ،ولكن جسساء فسسي اللسسسان" :ويقسسال للرجسسل عجسسوز"،
ونقله صاحب التاج عن الصاغاني ،ونحن علسسى هسسذا السسرأي ،ولسسو لسسم
يأت فيه نص عن العرب لبتدعناه وزدناه في اللغة؛ ووجهه عندنا أن
الرجل والمرأة إذا بلغا الهرم فقدا خصائص السسذكورة والنوثسسة ،فلسسم
يعسسودا رجًل وامسسرأة ،فاسسستويا فسسي العجسسز ،فكسسان الرجسسل قمين ًسسا أن
يشارك المرأة في وصفها ،فيقع اللفظ عليهما جميًعا!
وإنما امتنع العرب أن يقولوا للرجل "عجوز" ،وخصوا ذلسسك بسسالمرأة،
ما وطغياًنا ،كدأبهم مع النساء ،فإذا شسساخت المسسرأة فقسسد فا وظل ًتعس ً
بطلت أنوثتها عندهم وعجزت عن حاجة الرجل وعجسسزت فسسي كسسثير،
ونفتها الطبيعة وبرأت منها؛ أمسسا الرجسسل فبسسالخلف؛ لنسسه رجسسل؛ وإذا
شاخ وبطسسل وعجسسز ولسسم يسسستطع أن يكسسابر فسسي المعنسسى -كسسابر فسسي
اللفظ ..وأبى أن يقال إنه "عجوز" ،وزعم أن ذلك خاص بالمرأة..
58
إل أن هذا تزوير في اللغة ،وإن كان للرجال عليهن درجة فذلك فسسي
أوصاف القدرة ل في أوصاف العجز!
قال العجوز الظريف :وعند من غيرنا -نحن الشسسيوخ -تطسساع الوامسسر
والنواهي الدبية حق طاعتها؟ عند من غير الشيوخ تقدس مثل هسسذه
الحكم العالية :ل تعتد على أحد ...ل تفسد امرأة على زوجها...
قال المحدث :وضحكنا جميعًسسا ،وكسسان العجسسوز "ن" مسسن اليسسات فسسي
الظرف والنكتة ،فقال :تظنني يا بني فسسي السسسبعين؟ فسسوالله مسسا أنسسا
بجملتي في السبعين ،والله والله.
قال "م" :لقد ُأهتر الشيخ* يا بني؛ فإن هذا من خرفه فل تصدقه.
قا ،فههنا مسسا عمسسره خمسسس قال "ن" :والله ما خرقت وما قلت إل ح ً
سنوات فقط ،وهو أسناني..
قلت" :ورينا وريت" وسنة 1895؟
قال الستاذ "م" :أنت يا بني من المجددين ،فما هسسواك فسسي القسسديم
وما شأنك به؟
وما كاد العجوز "ن" يسمع هذا حسستى طسسرف بعينيسسه** وحسسدد بصسسره
جا وكسسذًبا إلي وقال :أئنسسك لنسست هسسو؟ لعمسسري إن فسسي عينيسسك لضسسجي ً
دا؛ ولعمري...
ما ودعوى وكفًرا وإلحا ً وجداًل واختياًل وزع ً
فقطعت عليه وقلت" :لعمسرك إنهسم لفسي سسكرتهم يعمهسون" ،لقسد
ما والشسسيوخ عقسسوًل؛ وقع التجديد في كل شيء إل في الشيوخ أجسا ً
فهؤلء وهسسؤلء عنسسد النهايسسة ،وغيسسر مسسستنكر مسسن ضسسعفهم أن يسسدينوا
بالماضي ،فإن حياتهم ل تلمس الحاضر إل بضعف!
قال العجسسوز :رحسسم اللسسه الشسسيخ "ع"؛ كسسان هسسذا يسسا بنسسي رجًل ينسسسخ
للعلماء فسسي زمننسسا القسسديم ،وكسسان يأخسسذ عشسسرة قسسروش أجسًرا علسسى
الكراسة الواحدة ،وهو رديء الخسسط ،فسسإذا ورق لديسسب ،ولسسم يعجبسسه
شسسا عسسن خطه فكلمه في ذلك تعلق الشسسيخ بسه وطسسالبه بعشسسرين قر ً
الكراسة؛ منها عشرة للكتابة ،وعشرة غرامة لهانة الكتابة...
---------------
* أي أخطأ في الرأي من تأثير الكبر.
** أي حرك أجفانهما.
نعم يا بني ،إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيهسا فيتمكسن ،ولكسن
قاعدة "اثنان واثنان أربعة" ،ل تعد في الماضي ول فسسي الحاضسسر ول
في المستقبل ،والحقيقة بنفسها ل باسمها؛ وليست تحتاج النار إلسسى
ثوب المرأة إل في رأي المغفل.
قال الستاذ "م" :وكيف ذلك؟
59
قال العجوز :زعموا أن مغفًل كان يرى امرأته تضرم الحطب فتنفسسخ
ما في بعسسض شسسأنه إلسسى نسسار ،ولسسم تكسسن فيه حتى يشتعل ،فاحتاج يو ً
امرأته في دارهسسا فجسساء بسسالحطب وأضسسرم فيسسه وجعسسل ينفسسخ ،وكسسان
الحطب رطًبا فدخن ولم يشتعل ،ففكر المغفل قليًل ثم ذهب فلبس
ثوب امرأته وعاد إلى النار ،وكان الحطسسب قسسد جسسف فلسسم يكسسد ينفسسخ
حتى اشتعل وتضرم؛ فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته ...وأنهسسا ل
تتضرم إل إذا رأت ثوبها!
قال الستاذ "م" :إن الكلم في القديم والجديد أصبح عنسسدنا كفنسسون
الحرب تبدع ما تبدع لتغييسر مسا ل يتغيسر فسي ذات نفسسه ،وعلسى مسا
بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تسسستطع أن تميسست
دا مرتين.أح ً
لقد قرأت يا بني كثيًرا فلسسم أر إلسسى الن مسسن آثسسار المجسسددين عنسسدنا
شيًئا ذا قيمة؛ ما كان من هراء وتقليد فهو من عندهم ،وما كان جي ً
دا
فهو كالنفائس في ملك اللص :لهسسا اعتبسساران ،إن كسسان أحسسدهما عنسسد
مقتنيها ...فالخر عند القاضي*.
كا بهذا السلوب؛ إنما هي كلمة تسسسخر كل أيها اللص ،لن تسمى مال ً
بها من الناس ومن الحق ومن نفسك.
يقولون :العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفسسة والمسسرأة وحريسسة
الفكر واستقلل الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيسسود ،إلسسى آخسسره وإلسسى
آخرها ...فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق إن كان فسسي مقالسسة
أو قصة ،وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له مسسن
ثياب الممثلين أو من بعض النفسسوس السستي يمثسسل بهسسا القسسدر فصسسوله
الساخرة أو فصوله المبكية ،ولكنهم حين يخرجون هسسذا كلسسه للحيسساة
على أنه من قوته الموجبة ،ترده الحياة عليهم بسسالقوة السسسالبة؛ إذ ل
تسسزال تخلسسق خلقهسسا وتعمسسل أعمالهسسا بهسسم وبغيرهسسم ،وإذا كسسان فسسي
النسانية هذا القانون السسذي يجعسسل الفكسسر المريسسض حيسسن يهسسدم مسسن
ضسا القسانون الخسر السذي صاحبه -يهدم في الكون بصساحبه؛ ففيهسا أي ً
يجعل الفكر الصحيح السامي حين يبني من أهله -يبنسسى فسسي الكسسون
بأهله.
---------------
* في كتابنا "تحت راية القرآن" كلم كثير عن التجديسسد والمجسسددين،
قا وما نراه باطًل.وما نراه من ذلك ح ً
قسسال العجسسوز "ن" :زعمسسوا أن أحسسد سسسلكي الكهربسساء كسسان فيلسسسوًفا
دا ول دا ،فقال للخسسر :مسسا أراك إل رجعي ًسسا؛ إذ كنسست ل تتبعنسسي أب س ً مجد ً
60
دا إل أن تأخسسذ مأخسسذي تتصل بي ول تجري في طريقتي؛ ولن تفلح أب ً
وتترك مذهبك إلى مذهبي .فقال له صاحبه :أيها الفيلسوف العظيم،
لو أني اتبعتك لبطلنا مًعا فما أذهب فيك ول تذهب في؛ ومسسا علمتسسك
تشتمني في رأيك إل بما تمدحني به في رأيي.
قال العجوز :وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين عندهم مسسن أجسسل السسدين
أو الفضيلة أو الحياة أو العفة إلى آخرها وإلى آخسسره؛ ونحسسن ل نسسرى
هسسؤلء المجسسددين عنسسد التحقيسسق إل ضسسرورات مسسن مسسذاهب الحيسساة
وشهواتها وحماقاتها تلبست بعض العقول كما يتلبسسس أمثالهسسا بعسسض
الطباع فتزيغ بها؛ وللحياة في لغتها العملية مترادفسسات كالمترادفسسات
اللفظيسسة :تكسسون الكلمتسسان والكلمسسات بمعنسسى واحسسد ،فسسالمخرب
والمخرف والمجدد بمعنى!
كل مجدد يريد أن يضع في كل شيء قاعدة نفسه هو ،فلو أطعناهم
لم تبق لشيء قاعدة.
قال الستاذ "م" إن هذه الحياة الواحدة علسسى هسسذه الرض يجسسب أن
تكون على سنتها وما تصلح به مسسن الضسسبط والحكسسام ،والجلسسب لهسسا
والدفع عنها والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة الموزونسسة المقسسدرة،
والسهلة في عملها الصعبة في تدبيرها؛ فعلى نحو مما كانت الحيسساة
في بطسسن الم يجسسب أن نعيسسش فسسي بطسسن الكسسون بحسسدود مرسسسومة
وقواعسسد مهيسسأة وحيسسز معسسروف؛ وإل بقيسست حركسسات هسسذا النسسسان
كحركات الجنين؛ يرتكض ليخرج عن قانونه ،فإن استمر عمله ألقسسى
ها من جسد كان يعمل في تنظيمه ،أو قذف بسسه ميت ًسسا خا مشو ً به مس ً
من جسم كان كل ما فيه يعمل لحياته وصيانته.
هذا الجسم كله يشرع للجنين ما دام فيه ،وهذا الجتماع كله يشسسرع
دا ل للفرد ما دام فيه؛ فكيف يكون أمر من أمر إذا كان الجنين مجسسد ً
يعجبه مثًل وضسسع القلسسب ول يرضسسيه عمسسل السسدم ،ول يريسسد أن يكسسون
دا؛ لنه حر.
مقي ً
انظر إلى هذا الشرطي في هذا الشارع يضرب مقبًل ليدبر ،ومسسدبًرا
ليقبل ،وقد ألبسته الحكومة ثياًبا يتميز بها ،وهي تتكلم لغة غيسسر لغسسة
الثياب ،وكأنها تقول :أيها الناس ،إن ههنا النسسسان السسذي هسسو قسسانون
دا ،والذي هو سجن حيًنا ،والسسذي هسسو المسسوت ما ،والذي هو قوة أب ً دائ ً
إذا اقتضى الحال.
ما فسسي هسسذا الشسسارع كجسسدران هسسذه أتحسب يا بني هذا الشرطي قائ ً
ضسسا فسسي الرادة النسسسانية وفسسي المنسسازل؟ كل يسسا بنسسي؛ إنسسه واقسسف أي ً
الحس البشري وفي العاطفة الحية؛ فكيف ل يمحوه المجسسددون مسسع
61
أنه في ذاته إرغام بمعنى ،وإكراه بمعنى غيره ،وقيد في حالة ،وبلء
في حالة أخرى؟
لكنه إرغام ليقع به التيسير ،وإكراه ٌ لتنطلق به الرغبسسة ،وقسسد لتتمجسسد
به الحرية؛ وكان هو نفسه بلء من ناحية؛ ليكسسون هسسو نفسسسه عصسسمة
من الناحية التي تقابلها.
يا بني ،كل دين صالح ،وكل فضسسيلة كريمسسة ،وكسسل خلسسق طيسسب -كسسل
شسسيء مسسن ذلسسك إنمسسا هسسو علسسى طريسسق المصسسالح النسسسانية كهسسذا
الشرطي بعينه :فإما تخريسسب العسسالم أيهسسا المجسسددون ،وإمسسا تخريسسب
مذهبكم..
قال العجوز "ن" :أنبحث عما نتسلط به أم نبحث عما يتسلط علينا؟
وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا وأشد ،أو نكون نحن أشد منهسسا
وأقوى؟ هذه هي المسألة ل مسألة الجديد والقديم.
فإن لم يكن هناك المثل العلى السسذي يعظسسم بنسسا ونعظسسم بسسه ،فسسسد
الحس وفسدت الحياة؛ وكل الديان الصسسحيحة والخلق الفاضسسلة إن
هي إل وسائل هذا المثل العلى للسمو بالحيسساة فسسي آمالهسسا وغايتهسسا
عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها.
قال المحدث :ورأيتنسسي بيسسن العجسسوزين كسسأني بيسسن نسسابين؛ ولسسم أكسسن
دا على مذهب إبليس الذي رد على الله والملئكة وظن لحمقسسه مجد ً
أن قوة المنطق تغير ما ل يتغير؛ فسسسكت ،حسستى إذا فرغسسا مسسن هسسذه
الفلسفة قلت :والرحلة إلى سنة 1895؟
62
العجوزان ""3
قال المحدث :وتبين في العجوز "ن" أثسسر التعسسب ،فتوجسسع وأخسسذ يئن
كأن بعضه قد مات لوقته ..أو وقع فيه اختلل جديسد ،أو نسالته ضسربة
اليوم؛ والشيخ متى دخل في الهرم دخل في المعركة الفاصسسلة بينسسه
وبين أيامه.
ثم تأفف وتململ وقال :إن أول ما يظهر على من شسساخ وهسسرم ،هسسو
أن الطبيعة قد غيرت القانون الذي كانت تحكمه به.
قال الستاذ "م" :إن صاحبنا كان قاضسًيا يحكسسم فسسي المحسساكم ،وأرى
المحسساكم قسسد حكمسست عليسسه بهسذه الشسيخوخة "مطبقسسة فيهسا" بعسسض
المواد من قانون العقوبات فما خرج مسسن المحكمسسة إل فسسي الحبسسس
الثالث.
فضسسحك "ن" وقسسال :قسسد عرفنسسا "الحبسسس البسسسيط" و"الحبسسس مسسع
الشغل" فما هو هذا الحبس الثالث؟
قال :هو "الحبس مع المرض"...
قال "ن" :صدقت لعمري ،فإن آخر أجسامنا ل يكون إل بحساب من
صنعة أعمالنا؛ وكأن كرسي الوظيفة الحكومية قد عرف أنه كرسسسي
الحكومة ،فهو يضسسرب الضسسرائب علسسى عظسسام المسسوظفين ...أتسسدري
َ
ر{ ]النحسسل[70 : مس ِل ال ْعُ ُ
ن ي َُرد ّ إ َِلى أْرذ َ ِ
م ْ من ْك ُ ْ
م َ معنى قوله تعالى} :وَ ِ
ولم سماه الرذل؟
قلنا :فلم سماه كذلك؟
قال :لنه خلط النسان بعضه ببعض ،ومسه من أوله إلى آخسسره ،فل
هو رجل ول شباب ول طفل ،فهو أردأ وأرذل ما في البضاعة...
خا حين كنت فسسي فاستضحك الستاذ "م" وقال :أما أنا فقد كنت شي ً
الثلثين من عمري ،وهذا هو الذي جعلني فتى حين بلغت السبعين.
قال "ن" :كأن الحياة تصحح نفسها فيك.
قال :بل أنا كرهتها أن تصحح نفسها؛ فقد عرفت من قبسسل أن سسسعة
النفسساق فسسي الشسسباب هسسي ضسسائقة الفلس فسسي الهسسرم ،وأيقنسست أن
دا" ل يخطئ الحساب ،فإذا أنا اقتصدت عدت لي ،وإذا للطبيعة "عدا ً
أسرفت عدت علي؛ ولسسن تعطينسسي السسدنيا بعسسد الشسسباب إل ممسسا فسسي
جسمي؛ إذ ل يعطسسي الكسسون حي ّسسا أراد أن ينتهسسي منسسه ،فكنسست أجعسسل
نفسي كالشيخ الذي تقول له الملذات الكثيرة :لست لسك؛ ومسن ثسم
كانت لذاتي كلها في قيود الشريعتين :شريعة الدين وشريعة الحياة.
63
قال :وعرفت أن مسسا يسسسميه النسساس وهسسن الشسسيخوخة ل يكسسون مسسن
الشيخوخة ولكن من الشباب؛ فما هو إل عمل النسان فسسي تسسسميم
جسمه ثلثين أو أربعين سنة بالطعام والشسسراب والغفسسال والرهسساق
والسرور والحزن واللذة واللم ،فكنت مع الجسم في شبابه ليكسسون
معي بعد شبابه ،ولم أبسسرح أتعاهسسده كمسسا يتعاهسسد الرجسسل داره :يزيسسد
مسسا
محاسنها وينفي عيوبها ،ويحفظ قوتها ويتقي ضعفها؛ ويجعلهسسا دائ ً
باله وهمه ،وينظر في يومها القريب لغدها البعيد ،فل ينقطع حساب
دا يحتسساط لمسسا يخشسسى وقسسوعه آخرها وإن بعد هذا الخر ،ول يزال أب س ً
وإن لم يقع.
قال العجوز "ن" :صدقت -والله -فمسسا أفلسسح إل مسسن اغتنسسم المكسسان؛
وما نسسوع الشسسيخوخة إل مسسن نسسوع الشسسباب؛ وهسسذا الجسسسم النسسساني
كالمدينة الكبيرة فيها "مجلسها البلدي" القائم على صيانتها ونظامها
وتقويتها؛ ورئيس هذا المجلس الرادة ،وقانونه كلسسه واجبسسات ثقيلسسة،
وهو كغيره من القوانين :إذا لم ينفذ من الول لم يغن في الخر.
قال الستاذ "م" :وكل جهاز في الجسم هو عضسسو مسسن أعضسساء ذلسسك
"المجلس البلدي" فجهاز التنفسسس وجهسساز الهضسسم والجهسساز العضسسلي
والجهاز العصبي والدورة الدمويسسة ،هسسذه كلهسسا يجسسب أن تسسترك علسسى
حريتها الطبيعية وأن تعان على سنتها ،فل يحال بينهسسا وبيسسن أعمالهسسا
برشوة من لسسذة ،أو مفسسسدة مسسن زينسسة ،أو مطمعسسة فسسي رفاهيسسة ،أو
دعسسوة إلسسى مدنيسسة ،أو شسسيء ممسسا يفسسسد حكمهسسا أو يعطسسل عملهسسا
ويضعف طبيعتها.
والقاعدة في العمر أنسسه إذا كسسان الشسسباب هسسو الطفولسسة الثانيسسة فسسي
براءته وطهارته ،كسسانت الشسسيخوخة هسسي الشسسباب الثسساني فسسي قوتهسسا
ونشاطها؛ وما رأيت كالدين وسيلة تجعسسل الطفولسسة ممتسسدة بحقسسائق
إلى آخر العمر في هذا النسان؛ فسر الطفولة إنمسسا هسسو فسسي قوتهسسا
على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة ،فل يطغيهسسا الغنسسى ،ول
يكسسسرها الفقسسر ،ول تسسذلها الشسسهوة ،ول يفزعهسسا الطمسسع ،ول يهولهسسا
الخفاق ،ول يتعاظمهسسا الضسسر ،ول يخيفهسا المسوت؛ ثسسم ل تمسسل وهسسي
الصابرة ،ول تبالغ وهي الراضية ،ول تشك وهي الموقنة ،ول تسسسرف
وهي القانعة ،ول تتبلد وهي العاملسسة ،ول تجمسسد وهسسي المتجولسسة؛ ثسسم
هي ل تكلف النسانية إل العطف والحسسب والبشاشسسة وطبسسائع الخيسسر
التي يملكها كل قلب؛ ول تسسوجب شسسريعتها فسسي المعاملسسة إل قاعسسدة
الرحمة ،ول تقرر فلسفتها للحياة إل طهارة النظر؛ ثم تتهكسم بالسدنيا
64
أكثر ما تهتم لها ،وتستغني فيما أكثر مما تحتاج ،وتستخرج السسسعادة
ما مما أمكن ،قل أو كثر. لنفسها دائ ً
وبكل هذا تعمسسل الطفولسسة فسسي حراسسسة الحيسساة الغضسسة واسسستمرارها
ونموها ،ولول ذلك لما زها طفل ول شب غلم ،ول رأت العيون بيسسن
هموم الدنيا ذلك الرواء وذلك المنظر على وجوه الطفال يثبتسسان أن
البراءة في النفس أقوى من الطبيعة.
ضا من خصائص الدين وبه يعمسسل السسدين فسسي تهسسذيب وكل ذلك هو أي ً
الحياة واطرادها على أصولها القوية السليمة ،ومتى قوي هذا الدين
في إنسان لم تكن مفاسد الدنيا إل من وراء حدوده ،حتى كسسأنه فسسي
أرض وهي في أرض أخرى ،وأصبحت البراءة في نفسسسه أقسسوى مسسن
الطبيعة.
دا
ثم قال :والعجيسسب أن اعتقسساد المسسساواة بيسسن النسساس ل يتحقسسق أبس ً
بأحسن معانيه وأكملها إل في قلبين :قلب الطفل؛ لنه طفل ،وقلب
المؤمن؛ لنه مؤمن.
فقال العجوز "ن" :إنه لكما قلت ،ولعنسسة اللسسه علسسى هسسذه الشسسهوات
الدمية الباطلة ،فإن الشهوة الواحدة في ألف نفس لتجعل الحقيقة
الواحدة كأنها ألف حقيقة متعاديسسة متنازعسسة؛ والطامعسسان فسسي امسسرأة
واحدة قد تكون شهوة أحدهما هي الشهوة وهي القتسسل؛ ولعنسسة اللسسه
على الملحدين وإلحادهم ،يزرون علسسى الديسسان بأنهسا تكساليف وقيسود
وصناعة للحياة ،ثم ل يعلمسسون أن كسسل ذلسسك لصسسناعة اللسسة النفسسسية
السستي تسسستطيع أن تحسسرك المختلفيسسن حركسسة واحسسدة ،فمسسا ابتليسست
النسانية بشيء كما ابتليت بهذا الخلف السذي يفتسح مسن كسل نفسس
على كل نفس أبواب التجني ،ويجعل النفرة وسوء الظن أقرب إلى
الطبيعة البشرية من اللفة والثقة.
لقد جاء العلم بالمعجزات ،ولكن فيما بين النسان والطبيعسسة ،وبيسسن
النسان ومنافعه ،وبين النسسسان وشسسهواته؛ فهسسل غيسسر السسدين يجيسسء
بسسالمعجزات العمليسسة فيمسسا بيسسن النفسسس والنفسسس ،وبيسسن النفسسس
وهمومها ،وبين ما هو حق وما هو واجب؟
ي العجسوز "ن" وقسال :صسل عمسك يسا بنسي قال المحدث :ثم نظر إلس ّ
فا من أمر التجديسسد والمجسسددين؟ بالحاديث الذي مضى ،فأين بلغنا آن ً
وماذا قلنا وماذا قلت؟ أمسسا إن الحماقسسة الجديسسدة والرذيلسسة الجديسسدة
دا مسسن صسساحبه فهسسو قسسديم فسسيوالخطأ الجديد ،كل ذلك إن كان جدي ً
دا من جديد إل إطلق الحرية في استعمال كل الدنيا؛ وليس عندنا أب ً
أديب حقه في الوقاحة والجهل والغرور والمكابرة.
65
قال الستاذ "م" :وليس الظاهر بما يظهر لسسك منسسه ،ولكسسن بالبسساطن
الذي هو فيه ،فمستشفى المجاذيب قصر من القصور فسسي ظسساهره،
ولكن المجاذيب هم حقيقته ل البناء ،وكل مجدد عندنا يزعم لك أنسسه
قصر عظيم ،وهو في الحقيقة مستشفى مجانين ،غيسسر أن المجسسانين
فيسسه طبسساع وشسسهوات ونسسزوات؛ وعلسسى هسسذا مسسا السسذي يمنسسع الفجسسور
المتوقح أن يسمي نفسه الدب المكشوف؟
قال "ن" :وإذا أنت ذهبت تعترض على هذه التسمية زعمسسوا لسسك أن
للفن وقاحة مقدسة ...وأن "ل أدبية" رجسسل الفسسن هسسي "الل أخلقيسسة
العالمية"....
قال الستاذ "م" :فوقاحة الشهوة إذا استعلنت بين أهل الحياء وأهل
دا ما فسسي ذلسسك ريسسب؛ ولكسسن الفضيلة ودعت إلى مذهبها ،كانت تجدي ً
هذا المذهب هو أقدم ما في الرض ،إذا هو بعينه مذهب كل زوجيسسن
اجتمعا من البهائم منذ خلق الله البهائم..
قال "ن" :وقل مثل ذلك في متسخط على الله وعلى الناس يخسسرج
دا ،وفسسي مغسسرور يتغفسسل النسساس، من كفره بين أهل الديان أدًبا جدي س ً
دا أعسسور -كسسل واحسسد مسسن هسسؤلء وفسسي لسسص آراء ،وفسسي مقلسسد تقليسس ً
وأشباههم مبتلى بعلة ،فمذهبه رسالة علته؛ وأكسسثرهم ل يكسسون ثبسساته
على الرأي الفاسد إل من ثبات العلة فيه.
قسسال المحسسدث :وكنسست مسسن المجسسددين ،فأرمضسسني ذلسسك وقلسست
للعجوزين :إن هذا نصف الصحيح ،أما النصسف الخسر فهسو فسي كسثير
من هؤلء الذين ينتحلون الدفاع عسسن السسدين والفضسسيلة؛ نعسسم إنهسسم ل
يستعملون حقهم في الوقاحة ،ولكن القروش تستعمل حقها..
فضحك العجوز "ن" ،وقال :يا بني ،إن الجديد في كل حمسسار هسسو أن
يزعم أن نهيقه موسيقى ...فالحمار والنهيق والموسيقى كل ذلسسك ل
جديد فيه ،ولكن التسمية وحدها هي الجديدة؛ ولو كان البرهسسان فسسي
حلق الحمار لصح هذا الجديد ،غيسسر أن التصسديق والتكسسذيب هنسا فسي
آذان الموسقيين ل في حلق حمارنا المحترم....
خا لصيد العصافير ،فجاء عصسسفور قال "م" :وزعموا أن رجًل نصب ف ّ
فنظر من هذا الفخ إلى شيء جديد ،فقال :يا هذا ،مسسا لسسك مطمسسوًرا
في التراب؟ قال الفخ :ذلك من التواضع لخلق الله! قال :فمم كسسان
انحناؤك؟ قال الفخ :ذلك من طول عبادتي لله! قال :فما هذه الحبة
عندك؟ قال الفخ :أعددتها لطيور الله الصائمين يفطرون عليها! قال
العصفور :فتبيحها لي؟ قال :نعم.
66
فتقدم المسكين إليها ،فلما التقطها وقع الفخ في عنقه ،فقسسال وهسسو
يختنق :إن كان العبسساد يخنقسسون مثسسل هسسذا الخنسسق فقسسد خلسسق إبليسسس
جديد.
قال "ن" :فالحقيقة أن إبليس هو الذي تجسسدد؛ ليصسسلح لزمسسن اللت
والمخترعات والعلوم والفنسسون وعصسسر السسسرعة والتحسسول؛ ومسسا دام
دا وهذا العقل النساني ل يقسسف عنسسد غايسسة فسسي تسسسخير الرقي مطر ً
الطبيعسسة ،فسسسينتهي المسسر بتسسسخير إبليسسس نفسسسه مسسع الطبيعسسة؛
لستخراج كل ما فيه من الشر.
قسسال "م" :ولكسسن العجسسب مسسن إبليسسس هسسذا؛ أتسسراه انقلسسب أوربًيسسا
للوربيين؟ وإل فما باله يخرج مجددين من جبسسابرة العقسسل والخيسسال،
ثم ل يؤتينا نحن إل مجددين من جبابرة التقليد والحماقة؟
قال المحدث :فقلت لهما :أيها العجوزان القديمان ،سأنشسر قولكمسا
هذا اليقرأه المجددون.
قال الستاذ "م" :وانشر يا بني أن الربيع -صاحب المسسام الشسسافعي،
دا،ما في أزقة مصر فنثرت علسسى رأسسسه إجانسسة* مملسسوءة رمسسا ً مر يو ً
فنزل عن دابته وأخذ ينفسسض ثيسسابه ورأسسسه ،فقيسسل لسسه :أل تزجرهسسم؟
قال :من استحق النار وصولح بالرماد فليس له أن يغضب!...
ثم قال محدثنا :واستولى علي العجوزان ،ورأيت قولهما يعلو قولي،
وكنسست فسسي السسسابعة والعشسسرين ،وهسسي سسسن الحسسدة العقليسسة ،فمسسا
حسبتني معهما إل ثلث عجوز ..مما أثرا علسسي ،وانقلبسست ل أرى فسسي
المجددين إل كل سقيم فاسد ،واعتبرت كل واحد منهم بعلتسسه ،فسسإذا
القول ما قال الشيخان ،وإذا تحت كل رأي مريض مرض ،ووراء كل
اتجاه إبرة مغناطيسية طرقها إلي الشيطان....
وفرغنا من هذا ،فقلت للشيخين :لقد حان وقسست نزولكمسسا مسسن بيسسن
الغيوم أيهسسا الفيلسسسوفان ،أمسسا كنتمسسا فسسي سسسنة 1895مسسن الجنسسس
البشري..؟
---------------
* قصعة.
67
العجوازن ""4
68
عاش ثلثمائة وثلثين سنة ،وفي معنى السنة عن العرب كلم ليسسس
هذا موضعه.
ف لك ولما تقول! ل جرم أن هسسذه لغسسة ُ
فتململ الستاذ "م" وقال :أ ّ
عظامك التي ل صلبة فيها ،فمن ذلك ل تجيء معانيك في الحياة إل
واهنة ناحلة فقسسدت أكثرهسسا وبقسسي مسسن كسسل شسسيء منهسسا شسسيء عنسسد
النهاية؛ أليس في الهسسرم إل أن يبقسسى الجسسسم ليكسسون ظسساهًرا فقسسط
كعمشوش العنقود** بعد ذهاب الحب منسسه ،يقسسول :كسسان هنسسا وكسسان
هنا؟
أل فاعلم يا "ن" أن هذه الشيخوخة إنما هي غلبسسة روحانيسسة الجسسسم
على بشريته ،فهذا طور الحياة ل تدعه الحياة إل وفيه لذته وسروره
كمسسا تصسسنع بسسسائر أطوارهسسا؛ غيسسر أن لسسذاته بيسسن السسروح والجمسسال،
ومسراته بين العقل والطبيعة ،وكل مسسا نقسسص مسسن العمسسر وجسسب أن
يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها؛ قد قيسسل لبعسسض
أهل هذا الشأن وكان في مرض موته :كيف تجد العلة؟ فقال :سلوا
العلة عني كيف تجدني.
وإنما تثقل الشسسيخوخة علسسى صسساحبها إذا هسسي انتكسسست فيسسه وكسسانت
مراغمة بينه وبين الحياة ،فيطمع الشيخ فيما مضي ول يسسزال يتعلسسق
به ويتسخط على ذهابه وتصسسنع لسسه ويتكلسسف أسسسبابه ،وقسسد نسسسي أن
الحياة ردته طفل ً كالطفل ،أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين
الشياء الصغيرة البريئة ،وأقسسوى لسسذته أن يتفسسق الجمسسال السسذي فسسي
خياله والجمال والذي في الكون ،وإنه لكما قلت أنت :ل يهنأ الشسسيخ
إل إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر.
وما أصسسدق وأحكسسم هسسذا الحسسديث الشسسريف" :إن اللسسه تعسسالى بعسسدله
وقسسسطه جعسسل السسروح والفسسرح فسسي الرضسسى واليقيسسن ،وجعسسل الهسسم
والحزن في الشك والسخط" .فهذه فسسي قاعسسدة الحيسساة :ل تعاملسسك
الحياة بما تملك من نفسك ،وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقسسة
ممكنة موجودة ،بل تكون في كل ما أمكن وكل مسسا وجسسد؛ وإذا كسسان
الرضى هو التفاق بين النفس وصاحبها ،وكان اليقين هو التفاق بين
النفس وخالقها ،فقد أصبح قانون السعادة شيًئا معنوي ّسسا مسسن فضسسيلة
النفس وإيمانها وعقلها ،ومن السرار التي فيهسسا ،ل شسسيًئا مادي ّسسا مسسن
أعضائها ومتاعها ودنياها والخيلة المثقلة عليها.
من ّسسي{
م ِ ن ال ْعَظ ْس ُ فأطرق العجوز "ن" قليًل ثسسم قسسالَ} :ر ّ
ب إ ِن ّسسي وَهَس َ
]مريم ،[4 :أل ما أحكم هذه الية! فوالله إن قسسرأت ول قسسرأ النسساس
في تصوير الهرم الفاني أبسسدع منهسسا ول أدق ول أوفسسى؛ أل تحسسس أن
69
مسسا فسسي
قائلها يكاد يسقط من عجف وهسسزال وإعيسساء؛ وأنسسه ليسسس قائ ً
الحياة قيامه فيها مسسن قبسسل ،وأن تنسساقض هسسذه الحيسساة قسسد وقسسع فسسي
جسمه فأخل به ،وأن معاني التراب قد تعلقسست بهسسذا الجسسسم تعمسسل
فيها عملها ،فأخذ يتفتت كأنما لمس القسسبر عظسسامه وهسسو حسسي ،وأنسسه
بهسسذا كلسسه أوشسسك أن ينكسسسر انكسسسار العظسسم بلسسغ المسسبرد فيسسه آخسسر
طبقاته؟
قال محدثنا :فقلت له :ترى لو أن نابغة من نوابغ التصوير في زمننسسا
هذا تناول بفنه ذلك المعنى العجيب فكتبسسه صسسورة وألوان ًسسا ،ل أحرفًسسا
وكلمات ،فكيف تراه كان يصنع؟
قال :كان يصنع هكذا :يرسم منظر الشتاء في سسسماء تعلسسق سسسحابها
فا متراكًبا بعضه على بعسسض يخيسسل أن السسسماء تسسدنو مسسن الرض، كثي ً
وقد سدت السحب الفاق وأظلم الجو ظلمه تحت النهار المغطسسى،
واستطارت بينها وشائع مسن السبرق ،ثسم يسترك مسن الشسمس جسانب
الفق لمعة كضوء الشمعة في فتق فن فتوق السسسحاب ،ثسسم يرسسسل
حا ياردة هسسو جسساء يسسدل عليهسسا انحنسساء الشسسجر وتقلسسبفي الصورة ري ً
ً
النبات ،ثم يرسم رجال ونساء يغلي الشباب فيهسسم غليسسانه مسسن قسسوة
وعافية ،وحب وصبابة ،وتغلي فيهم أفكار أخرى ...وهسسم جميعًسسا فسسي
هيئة المسرعين إلى مرقص؛ وهم جميًعا من المجددين.
ثم يرسم يا بني في آخرهم "علسسى بعسسد منهسسم" عمسسك العجسسوز "ن"،
شسسا مسستزلزًل
يرسسسمه كمسسا تسسراه منحسسل القسسوة منحنسسي الصسسلب ،مرع ً
متضعضًعا؛ قد زعزعته الريح ،وضربه السسبرد ،وخنقتسسه السسسحب؛ ولسسه
وجه عليه ذبول الدنيا ،ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه فسسي بسسرادة،
والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتيزم..
ما كئيًبسا ،رافعًسسا رأسسه ينظسسر إلسسىثم يصوره وقسسد وقسف هنسساك سساه ً
السماء.
قال المحدث :وضحكنا جميًعا ،ثم قال الستاذ "م" :لعمسسري إن هسسذه
الحياة الدمية كاللة صاحبها مهندسها؛ فإن صلحت واستقامت فمسن
علمه بها وحياطته لها ،وإن فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهمسساله
إياها ،وليس على الطبيعة في ذلك سسسبيل لئمسسة؛ والشسسيخ الضسسعيف
ليس في هذه الدنيا إل الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينسسه
ودعته ،تظهرها للدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ.
قال "ن" :أكذلك هو يا أستاذ؟
قال الستاذ :بل هي الصورة الجدبة من هذه الباطلسسة السستي دأبهسسا أل
تصرح عن حقيقتها إل في الخر ،فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقسسة مسسن
70
يجلها؛ وليس إل بهسسذه الطريقسسة يعسسرف مسسن خسسراب الصسسورة خسسراب
المعنى.
قال العجسسوز "ن" :آه مسسن إجلل الشسسيخوخة واحسسترام النسساس إياهسسا!
ما للشسسيخ والشسسيخ ل يسسراه إل تعزيسسة ،ومسسا الشسسياخ إنهم يرونه احترا ً
الهرمي إل جنازات قبل وقتها ،ل توحي إلى النساس شسيًئا غيسر وحسي
الجنازة من مهابة وخشوع.
قال الستاذ :بل هي الصورة الجدية من هذه الباطلسسة السستي دأبهسسا أل
تصرح عن حقيقتها إل في الخر ،فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقسسة مسسن
يجلها؛ وليس إل بهسسذه الطريقسسة يعسسرف مسسن خسسراب الصسسورة خسسراب
المعنى.
قال العجوز "ن" :آه من إجلل الشيخوخة واحترام الناس إياها إنهسم
ما للشيخ والشيخ ل يراه إل تعزية .وما الشسسياخ الهرمسسى يرونه احترا ً
إل جنازات قبل وقتها ،ل توحي إلى الناس شسسيًئا غيسسر وحسسي الجنسسازة
من مهابة وخشوع.
ما فسسي حسسديث نفسسسك ،ولسسو كنسست نه سًرا يسسا قال الستاذ :إنما أنت دائ ً
مستنقع لما كان في لغتك هذه الحرف من البعوض.
قال العجوز الظريف :إن هذا ليس من كلم الفلسفة السستي نتنازعهسسا
بيننا ،ترد علي وأرد عليك ،ولكنه كلم القسسانون السسذي لسسك وحسسدك أن
تتكلم به أيها القاضي.
قال "م" :صرح وبّين؛ فما فهمنا شيًئا.
ما في حادثة عجيبة ،فقد رفعت إلسسي قال العجوز :هذا كلم قلته قدي ً
ذات يوم قضية شيخ هرم كان قد سرق دجاجة؛ وتوسسسمته فسسإذا هسسو
من أذكى الناس ،وإذا هو يجل عن موضعه مسسن التهمسسة ،ولكسسن صسسح
عندي أنه قد سرق ،وقامت البينة عليه ووجب الحكم؛ فقلت له :أيها
صا؟
الشيخ ،ما تستحي وأنت شائب أن تكون ل ً
قال :يا سيدي القاضي ،كأنك تقول لي :ما تستحي أن تجوع؟
فورد علي من جوابه ما حيرني ،فقلت له :وإذا جعلسست أمسسا تسسستحي
أن تسرق؟ قال :يا سيدي القاضي ،كأنك تقول لي :وإذا جعلسست أمسسا
تستحيي أن تأكل؟
ما؟فكانت هذه أشد علي ،فقلت له :وإذا أكلت أما تأكل إل حرا ً
جا ل أجد شيًئا ،لم فقال :يا سيدي القاضي ،إنك إذا نظرت إلي محتا ً
ترني سارًقا حين وجدت شيًئا.
فأقحمني الرجل على جهله وسذاجته ،وقلت في نفسسسي :لسسو سسسرق
أفلطون لكان مثل هذا؟ فتركت الكلم بالفلسفة وتكلمت بالقسسانون
71
الذي ل يملك الرجل معه قوًل يراجعني به ،فقلت :ولكنك جئت إلسسى
هذه المحكمة بالسرقة ،فل تسسذهب مسسن هسسذه المحكمسسة إل بسسالحبس
سنتين.
قال محدثنا :وأرمضني هذا العجوز الثرثسسار ومل صسسدري ،إذ مسسا بسسرح
يديرني وأديره عن "كاترينا ومرغريت" ،ورأيت كسسل شسسيء قسسد هسسرم
فيه إل لسانه ،فحملني الضسسجر والطيسسش علسسى أن قلسست لسسه :وهسسب
القضية كانت هي قضية "كاترينا" وقد رفعسست إليسسك متهمسسة ،أفكنسست
قائًل لها :جئت إلى المحكمة بالسسسرقة فل تسسذهبين مسسن المحكمسسة إل
بالحبس سنتين؟
ً
وجرت الكلمة على لساني وما ألقيت لها بال ول عرفت لهسسا خط سًرا؛
فسساكفهر القاضسسي العجسسوز وتربسسد وجهسسه غضسسًبا ،وقسسال :يسسا بغيسسض!
أحسبتني كنت قائًل لها :جئت إلى المحكمة بالسرقة فل تذهبين من
المحكمة إل بالقاضي...؟
وغضب الستاذ "م" :وقسسال :ويحسسك! أهسسذا مسسن أدبكسسم الجديسسد السسذي
تسسأديتم بسسه علسسى أسسساتذة منهسسم الفجسسرة السسذين يكسسذبون النبيسساء ول
يؤمنون إل بدين الغريزة ويسسسوغونكم مسسذاهب الحميسسر والبغسسال فسسي
حرية الدم..؟ أما إني لعلم أنكم نشسسأتم علسسى حريسسة السسرأي ،ولكسسن
الكلمة بين اثنين ل تكون حرة كل الحرية إل وهي أحياًنا سفيهة كسسل
السفاهة ،كهذه القولة التي نطقت بها.
سسسا علسسى حسسدة ،وكسسانت الداب لقد كان الناس في زمننا الماضي أنا ً
حالت عقلية ثابتة ل تتغير ول يجوز أن تتغيسر ،وكسسان السسستاذ الكسافر
بينه وبين نفسه ل يكون مع تلميذه إل كالمومس؛ تجهد أن تربي بنتا
على غير طريقتها!
قال المحدث :فلجلجت وذهبت أعتذر ،ولكن العجوز "ن" قطع علسسي
وأنشأ يقول وقد انفجسسر غيظسسه :لقسسد تمسست فسسي هسسؤلء صسسنعة حريسسة
الفكر ،كما تمت من قبل فسسي ذلسسك السسواعظ* المعلسسم القسسديم السسذي
حسسدثوا عنسسه أنسسه كسسان يقسسص علسسى النسساس فسسي المسسسجد كسسل أربعسساء
فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنتسسه ونسساره؛
قالوا :فاحتبس عليهم في بعض اليام وطال انتظارهم له ،فبينما هم
كذلك إذ جاءهم رسوله فقسسال :يقسسول لكسسم أبسسو كعسسب :انصسسرفوا قسسد
أصبحت مخموًرا...
---------------
* هو أبو كعب القاص ،ذكره الجسساحظ فسسي الحيسسوان وقسسال إنسسه كسسان
يقص كل أربعاء في مسجد عتاب بالبصرة.
72
هذا القاص المخمور هو عند هؤلء السخفاء إمام فسسي مسسذهب حريسسة
الفكر ،وفضيلته عندهم أنه صريح غير منافق ...وكان يكون هذا قوًل
في إمام المسجد لول أنه إمام المسجد؛ غيسر أن حريسة الفكسر تبنسى
ما في كل ما تبنى علسسى غيسسر الصسسل ،وعنسسدها أن المنطسسق السسذي دائ ً
موضوعه ما يجب ،ليس بالمنطق الصحيح؛ إذ ل يجب شسسيء مسسا دام
مذهبها الطلق والحرية.
كل مفتون من هؤلء يتوهم أن العالم ل بد أن يمر من تفكيسسره كمسسا
مر من إرادة الخالق ،وأنه ل بد له أن يحكم على الشياء ولو بكلمسسة
سخيفة تجعله يحكم ،ول بسسد أن يقسسول "كسسن وإن لسسم يكسسن إل جهلسسه؛
ومسذهبه الخلقسي :اطلسب أنست القسوة للمجمسوع ،أمسسا أنسسا فسسألتمس
لنفسي المنفعة واللسذة! ويحسسبون أنهسم يحملسون المجتمسع ،فسإنهم
ليحملونه ،ولكن على طريقة البراغيث في جناح النسر.
قال "م" :وكيف ذلك؟
قال :زعمسسوا أن طائفسسة مسسن السسبراغيث اتصسسلت بجنسساح نسسسر عظيسسم
واستمرأته ورتعت فيه ،فصابرها النسر زمًنا ،ثسسم تسسأذى بهسسا وأراد أن
يرميها عنه ،فطفق يخفق بجناحيه يريد نفضها ،فقالت له السسبراغيث:
أيها النسر الحمق! أما تعلم أننا في جناحيك لنحملك في الجو؟..
أما أساتذة هذه الحرية الدينية الفكرية الدبية ،فقد قال الحكماء :إن
بعرة من البعر كانت معلمة في مدرسة.
قال "م" :وكيف ذلك؟
قال :زعموا أن بعرة كبش كانت معلمة في مدرسة الحصى ،فألفت
لتلميذها كتاًبا أحكمته وأطالت له الفكرة ،وبلغت فيه جهد مسسا تقسسدر
عليه لتظهسسر عبقريتهسسا الجبسسارة؛ فكسسان البسساب الكسسبر فيسسه أن الجبسسل
خرافة من الخرافات ،ل يسوغ في العقل الحر إل هذا ،ول يصح غيسسر
هذا في المنطق؛ قالت :والبرهان على ذلك أنهم يزعمون أن الجبل
شيء عظيم ،يكون في قدر الكبش الكبير ألف ألف مرة؛ فسإذا كسان
الجبسسل فسسي قسسدر الكبسسش ألسسف ألسسف مسسرة فكيسسف يمكسسن أن يبعسسره
الكبش؟....
قال الستاذ "م" :هذا منطق جديد سديد لول أنه منطق بعرة!
قال "ن" :وكل قديم له عنسسدهم جديسسد ،فكلمسسة "رجسسل" قسسد تخنثسست،
وكلمة "شاب" قد تأنثت ،وكلمة "عفيفة" قد تدنست ،وكلمة "حياء"
قد تنجست؛ والزمن الجديد أل يعرف الطسسالب فسسي هسسذا العسسام مسساذا
تكون أخلقه في العام القادم ..والحياة الجديدة أن تتقن الغش أكثر
مما تتقن العمل ..والذمة الجديدة أن مسسال غيسسرك ل يسسسمى مسساًل إل
73
حين يصير في يدك ..والصدق الجديد أن تكسسذب مسائة مسسرة ،فعسسسى
أن يصدق الناس منها مسسرة ..ثسسم النسسسان الجديسسد ،والحسسب الجديسسد،
والمسسرأة الجديسسدة ،والدب الجديسسد ،والسسدين الجديسسد ،والب الجديسسد،
والبن الجديد ،وما أدري وما ل أدري.
قالوا :السوبرمان ،وتنطعوا في إخراج المخلسسوق الكامسسل بغيسسر دينسسه
وأخلقسسه ،فسسسخرت منهسسم الطبيعسسة فلسسم تخسسرج إل النسساقص أفحسسش
النقص ،وتركتهم يعملون في النظرية وعملت هي الحقيقة.
قال محدثنا :ونهض العجوز "ن" وهو يقول :تباركت وتعاليت يا خالق
هذا الخلق! لو فهموا عنك لفهموا الحكمة في أنك قسسد فتحسست علسسى
العلم الجديد بالغازات السامة...
قسسال :ولمسسا انصسسرف العجسسوز ،قلسست للسسستاذ "م" :ولكسسن مسسا خسسبر
"كاترينا" و "مرغريت" وسنة 1895؟
فقسسال :أيهسا البلسسه ،أمسا أدركسست بعسسد أن العجسسوزين قسسد سسسخرا منسسك
بأسلوب جديد..
74
السطر الخير من القصة 1
رجعت إلى أوراق لي قديمة يبلغ عمرها ثلثين سنة أو لواذهسسا ،تزيسسد
قليًل أو تنقص قليًل ،وجعلت أفلي هذه الوراق واحسسدة واحسسدة ،فسسإذا
أنا على أطلل اليام فسسي مدينسسة قائمسسة مسسن تسساريخي القسسديم ،نائمسسة
تحت ظلماتهسسا السستي كسسانت أنسسوار عهسسد مضسسى؛ وإذا أنسسا منهسسا كالسسذي
اغترب ثلثين سنة عن وطنه ثم آب إليه ،فما يرى من شيء كان له
به عهد في أيام حدثانه ونشاطه إل اتصل بينهمسسا سسسر؛ ومسسن طبيعسسة
القلب العاشق في حنينه أن يجعل كل شيء يتصل به كأنه ذو قلسسب
مثله له حنين ونجوى!
وذلك التلشي المحفوظ فسسي هسسذه الوراق ،يحفسسظ لسسي فيهسسا وفيمسسا
سا وطبيعة كانت نفس شاعر وطبيعة روضة ،في عهد من تحتويه نف ً
الصبى كنت فيه أتقدم في الشسسباب وفسسي الكسسون معًسسا كسسأن الشسسياء
قا آخر؛ فإذا قرضت شعًرا واستوى لي علسسى مسسا أحسسب، تخلق في خل ً
أحسست إحساس الملك الذي يضم إلى مملكته مدينة جديسسدة؛ وإذا
تناولت طاقة من الزهر وتأملها على ما أحسسب ،شسسعرت بهسسا كأجمسسل
غانية من النساء تسسوحي إلسسي وحسسي الجمسسال كلسسه؛ وإذا وقفسست علسسى
شاطئ البحر ،ترجرج البحر بأمواجه فسسي نفسسسي ،فكنسست معسسه أكسسبر
من الرض وأوسع من السماء.
أمسسا الحسسب ...أمسسا الحسسب فكسسانت لسسه معسسانيه الصسسغيرة السستي هسسي
كضرورات الطفل للطفل :ليس فيها كسسبير شسسيء ،ولكسسن فيهسسا أكسسبر
السعادة ،وفيها نضرة القلب.
عهد من الصبى كانت فيه طريقة العقل من طريقسسة الحلسسم؛ وكسسانت
العاطفة هي عاطفة في النفسسس ،وهسسي فسسي وقسست معًسسا خدعسسة مسسن
مسسا مسسا مضسسى ول يسسذكر بسسه؛ وكسسانتالطبيعة؛ وكان ما يأتي ينسي دائ ً
اليام كالطفال السعداء :ل ينام أحدهم إل علسسى فكسسرة لعسسب ولهسسو،
ول يستيقظ إل على فكرة لهو ولعب وكانت اللغة نفسسسها كسسأن فيهسسا
ظا من الحلوى؛ وكانت اللم -على قلتها -كسسالمريض السسذي معسسه ألفا ً
دواؤه المجسسرب ،وكسسانت فلسسسفة الجمسسال تضسسحك مسسن فيلسسسوفها
الصغير ،الواضح كل الوضوح ،المقتصر بكل لفظ على ما يعرف من
معناه ،المتفلسف في تحقيق الرغبة أكثر ممسسا يتفلسسسف فسسي تخيسسل
الفكرة!
هو العهد الذي مسسن أخسسص خصائصسسه أن تعمسسل ،فيكسسون العمسسل فسسي
نفسه عمًل ويكون في نفسك لذة.
75
في أوراقي تلك بحثت عن قصسسة عنوانهسسا "السسدرس الول فسسي علبسسة
كبريت" كتبتها في سنة ،1905وأنا ل أدري يسومئذ أنهسا قصسسة يسسسبح
في جوها قدر روائي عجيب ،سسسيأتي بعسسد ثلثيسسن سسسنة فيكتسسب فيهسسا
السطر الخير الذي تتم به فلسفة معناها.
ضا لسسم يصسسلب، وها أنذا أنشرها كما كتبتها؛ وكان هذا القلم إذ ذاك غ ً
وكان كالغصن تميل به النسمة ،على أن أساس بلغته قد كسسان ولسسم
يزل ،بلغة فرحه أو بلغة حزنه؛ وهذه هي القصة:
"عبد الرحمن عبد الرحيم" غلم فلح ،قد شهد من هذه الدنيا تسعة
أعوام ،مرت به كما يمر الزمن على ميت؛ ل تزيده حيسساة الحيسساء إل
إهماًل ،فنشأ منشأ أمثاله ممن فقدوا الوالدين وانتزعوا من شسسملهم
فتركوا للطبيعة تفصلهم وتصلهم بالحياة ،وتضيق لهم فيها وتوسع.
وهيأت الطبيعة منه إنساًنا حيوانًيا ،ل يبلسسغ أشسسده حسستى يغسسالب علسسى
السرزق بالحيلسة أو الجريمسة ،ويسستخلص قسوته كمسا يرتسزق السوحش
بالمخلب والناب؛ ولن يكون بعد إل مجموعسسة مسسن الخلق الحيوانيسسة
الفاتكة الجريئة ،فإن الطبيعة متى ابتدأت عملها في تحويل النسان
عن إنسانيته ،نزلت به إلسسى العسالم الحيسواني ووصسلته بمسا فيسسه مسن
الشر والدناءة ،ثم ل تترك عملها حتى يتحول هو إليها.
وألف "عبد الرحمن" في بلده حانوت رجل فقير ،يستغني بالبيع عن
التكفف وعن المسألة؛ فكان الغلم يكثر الوقوف عنده ،وكان يطعم
ذا،من صاحبه أحياًنا كرزق الطيسر ،فتاًتسا وبقايسا؛ إذ كسان الغلم شسحا ً
وكان صاحب الحانوت ل يرتفع عن الشحاذة إل بمنزلة تجعل النسساس
يتصدقون عليه بالشراء مسسن هنسساته السستي يسسسميها بضسساعة :كسسالخيط،
والبرة ،والكبريت والملسسح ،وغسسزال للولسسد ،وكحسسل للصسسبايا ،ونشسسوق
للعجائز ،ونسخة الشيخ الشعراني ،وما لف لفها مما يصمد ثمنه من
كسور المليم ،إلى المليم وكسوره!
وتغفله الغلم مرة وأهوى بيده إلى ذخائر الحانوت ،فالتقطته "علبسسة
كبريت"
كان الفرق كل الفرق بيسسن أن يسسسرقها وأن يشسستريها -نصسسف مليسسم؛
ولكن من له "بالعشرين الخردة" وهي عند مثلسسه دينسسار مسسن السسذهب
يرن رنيًنا ويرقص على الظفر رقصة إنجليزية؟
وماذا يصنع بالعلبة؟ همت نفسه أن تجادله ولما تسسسكن رعشسسة يسسده
من هول الثم ،ولكن الغلم كان طبيعّيا ولم يكسسن فيسسسلوًفا ،ولسسذلك
رأى أن يحرز الحقيقة بعد أن وقعت يده عليها ،وقد اصسسطلح النسساس
على أن مادة السرقة هسي "مسد اليسد" أخطسأت أم أصسابت ،وجساءت
76
بالغالي أو جسساءت بسسالرخيص؛ فضسسم أصسسابعه علسسى العلبسسة وانتزعهسسا،
وترك في مكانها فضيلة المانسسة السستي لسسم يعسسرف لسسه النسساس قيمتهسسا
فهانت كذلك على نفسه وانطلق وهي تناديه:
أيها الغلم ،أتدفع ثمن علبسة الكسبريت سسنتين مسن عمسرك؟ وهل خل
الناس ممن يعرفون لعمرك قيمة؟
وارتد رجع الصوت الخفي إلى قلبه من حيث ل يشعر ،فضرب قلبسسه
ضربات من الخوف ،ونزا نزوة مضطربة؛ فالتفت الغلم مرة أخرى،
ثم أمعن في الفرار وترك المانة تناديه:
أيها الغلم ،إن لك في الخرة ناًرا ل توقسسد بهسذا الكسبريت ،ولسسك فسسي
الدنيا سجن كهذه العلبة ،فالعب العب مسسا دام النسساس قسسد أهملسسوك!
العب بالثقات الذي في يدك فيسمتد فيك معنى اللهسب حستى يجعسل
دا كهسسذا
حياتك في أعمار الناس دخان ًسسا ونسساًرا؛ وسسستكون أيامسسك أعسسوا ً
الكبريت :تشتعل في الدنيا وتحرق.
وكأن أذناب السياط كانت تلهب ظهر الغلم المسكين ،ولكنه ما كاد
يلتفت هذه المرة حتى كسسان فسسي قبضسسة صسساحب الحسسانوت ،وإذا هسسو
بكلمة من لغة كفه الغليظة ،خيلت له في شسسعرها أن جسسداًرا انقسسض
عليه ،وتلتها جملة مسسن قسسوافي الصسسفع جلجلسست فسسي أذنيسسه كالرعسسد،
وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الطفال أحسساط بسسه فسسترك هسسذا
الزورق النساني الصسسغير يتكفسسأ علسسى صسسدمات اليسسدي ،فمسسا أحسسس
الغلم التعس إل أن الكبريت الذي فسسي يسسده قسسد انقسسدح فسسي رأسسسه،
وكانت أنامل صاحب الحسسانوت كأنمسسا تحسسك أعسسواده فسسي جلسسد وجهسسه
الخشن!
وذهبوا به إلى "دوار" العمدة يقضي فيه الليل ثم يصسبح علسى رحلسة
إلى المركز والنيابة ،وانطرح المسكين منتظًرا حكم الصسسباح ،مسسؤمًل
في عقله الصغير أل يفصح النهار حتى يكسسون "سسسيدنا عزرائيسسل" قسسد
طمس الجريمة وشهودها ،ثم أغفى مطمئًنا إلسى ملسك المسوت وأنسه
قد أخذ في عمله بجد ،وأيقن عند نفسه أن سيشسسحذ فسسي الخميسسس
مما يوزع في المقبرة صدقة على أرواح العمدة ،وصاحب الحسسانوت،
والخفير الذي عهدوا إليه جره إلى المراكسسز ...وكيسسف يشسسك فسسي أن
هذا واقع بهم وهو قد توسل بالولي فلن ونذر له شمعة يسرقها من
حانوت آخر!...
هكذا عرف الشر قلب هذا الصبي ،وانتهى به عدل الناس إلى أفظع
مسسن ظلسسم نفسسسه ،وكسسأنهم بسسذلك القسسانون السسذي يصسسلحونه بسسه علسسى
زعمهم ،قد ناولوه سبحة؛ ليظهر بها مظهر الصالحين؛ ولسسم يفهمسسوه
77
شيًئا ففهم أنهم يقولون له :هذه الجريمة واحدة ،فعد جرائمك علسسى
هذه السبحة؛ لتعرف كم تبلغ!
كسسانت فسسي الحقيقسسة لعبسسة ل سسسرقة ،وكسسانت يسسد الغلم فيمسسا فعلسست
مستجيبة لقانون المرح والنشاط والحركة ،كما تكون أعضاء الطفل
ل كما تكون يد اللص؛ وكان أشبه بالرضيع يمد يده لكل مسسا يسسراه ،ل
يميز ضارة ول نافعة ،وإنما يريد أن يشعر ويحقق طبيعته؛ وكان كسسل
ما في المر وقصارى ما بلسسغ -أن خيسسال هسسذا الغلم ألسسف قصسسة مسسن
قصسسص اللهسسو ،وأن الكبسسار أخطسسؤوا فسسي فهمهسسا وتوجيههسسا ...ليسسست
سرقة الطفل سرقة ،ولكنها حق من حقوق ذكائه يريد أن يظهر.
وانتهى "عبد الرحمن" إلى المحكمة ،فقضت بسجنه فسسي "إصسسلحية
الحداث" مدة سنتين ،واستأنف له بعض أهل الخير في بلدة؛ صدقة
واحتساًبا؛ إذ لم يكف الستئناف إل كناية ورقسسة؛ فلمسسا مثسسل الصسسغير
أمام رئيس المحكمة لم يكن معسسه لفقسسره محسسام ٍ يسسدفع عنسسه ،ولكسسن
انطلق من داخله محام ٍ شسسيطاني يتكلسسم بكلم عجيسسب ،هسسو سسسخرية
الجريمسسة مسسن المحكمسسة ،وسسسخرية عمسسل الشسسيطان مسسن عمسسل
القاضي!..
سأله الرئيس" :ما اسمك؟"
" -اسمي عبده ،ولكن العمدة يسميني :يابن الكلب!.
" -ما سنك؟"
" -أبويا هو اللي كان سنان"*
" -عمرك إيه؟"
" -عمري؟ عمري ما عملت شقاوة!"
---------------
* كان أبو الغلم سناًنا ،ومثل هذا القدر من العامية فسسي القصسسة هسسو
ملح القصة.
النيابة للمحكمة" :ذكسساء مخيسسف يسسا حضسسرات القضسساة! عمسسره تسسسع
سنوات!"
الرئيس" :صنعتك إيه؟"
-صنعتي ألعب مع محمود ومريم ،وأضرب اللي يضربني!"
" -تعيش فين؟"
" -في البلد"
" -تأكل منين؟"
" -آكل من الكل!"
78
النيابسسة للمحكمسسة" :يسسا حضسسرات القضسساة ،مثسسل هسسذا ل يسسسرق عليسسه
كبريت إل ليحرق بها البلد."!...
الرئيس :ألك أم؟"
-أمي غضبت على أبويسسا ،وراحسست قعسسدت فسسي التربسسة؛ مسسا رضسسيتش
ترجع!".
" -وأبوك؟"
" -أبويا لخر غضب وراح لها".
الرئيس ضاح ً
كا" :وأنت؟"
" -والله يا أفندي عاوز أغضب ،مش عارف أغضب ازاي!".
" -إنت سرقت علبة الكبريت؟"
" -دي هي طارت من الدكان ،حسبتها عصفورة ومسكتها"...
النيابة" :وليه ما طارتش العلب اللي معاها في الدكان؟"
" -أنا عارف؟ يمكن خافت مني!".
النيابة للمحكمة" :جراءة مخيفة يا حضرات القضاة ،المتهم وهو في
هذه السن ،يشعر في ذات نفسه أن الشياء تخافه!".
فصاح الغلم مسروًرا من هسسذا الثنساء" :واللسسه يسا أفنسسدي إنست راجسسل
طيب! أديك عرفتني ،ربنا يكفيك شر العمدة والغفير!"
وأمضسسي الحكسسم فسسي السسستئناف ،وخسسرج الصسسغير مسسع رجسسال مسسع
المجرمين يسوقهم الجند ،ثم احتبسوا الجميع فترة من السسوقت عنسسد
كاتب المحكمة؛ ليستوفي أعماله الكتابية ،ثم يساقون من بعسسد إلسسى
السجن.
وجلس "عبد الرحمن" على الرض ،وقد اكتنفسسه عسسن جسسانبيه طائفسسة
مسسن المجرميسسن يتحسسادثون ويتغسسامزون ،وكلهسسم رجسسال ولكنسسه وحسسده
الصغير بينهم؛ فاطمأن شسسيًئا قليًل ،إذ قسسدر فسسي نفسسسه أنسسه لسسو كسسان
هؤلء قد أريد بهم شر لما سكنوا هذا السكون ،وأن الذي يسسراد بهسسم
ل يناله هو إل أصغر منه ،كصسسفعة أو صسسفعتين مثًل ..وهسسو يسسسمع أن
الرجال يقتلسون ويحرقسون ويسسمون ويعتسدون وينهبسون؛ ومسا تكسون
"علبة الكبريت" في جنب ذلك؟ وخاصسسة بعسسد أن اسسستردها صسساحبها،
وقد نال هو ما كفاه قبل الحكم!
وما لبث بعد هذا الخاطر الجميل أن رد الطمئنان فسسي عينسسه دموع ًسسا
كاد يريقها الجزع ،غير أن القلق اعتاده ،فالتفت إلى كتاب المحكمسسة
مرة وإلى الجند مرة ،ثم لسسوى وجهسسه ولسسم يسسستبح لنفسسسه أن يتجسسرأ
على الفكر فيهم؛ لنه قابل مهابتهم بآلهسسة بلسسده :العمسسدة والمشسسايخ
والحفراء؛ فأدرك أن الجنود هم الحكومة القادرة ،واستدل على ذلك
79
بأزرارهم اللمعة ،وخناجرهم الصقيلة :وتمشت في قلبه رهبسسة هسسذه
الخناجر ،فاضطرب خشية أن يكونوا قد أسلموه مسسن يسسذبحه ،فنظسسر
إلى الذي يليه من المجرمين وسأله" :راح ياخدوني فين؟" ،فأجسسابته
لكمة خفية انطلق لها دمعسسه ،حسستى أسسسكته السسذي يليسسه مسسن الجسسانب
الخر ،وكان في رأيه من الصالحين؟
ثم اتصل الجزع بين قلبه وعينيه ،فهما تضطربان إلى الجهات الربع،
حسسا؛ ولسسم يكسسن
وكأنما يحاول أن يستشف من أيها سسسيأتيه المسسوت ذب ً
فهم معنى "الصلحية" ،وحكم القضسساة عليسسه كسسأنه رجسسل يفهسسم كسسل
شيء ،ولم يرحموا هذه الطفولة بكلمة مفسرة ،وعدل التربيسسة غيسسر
عدل القانون ،فكان الواجب على القاضي الذي يحكم على الطفسسل،
أن يجعل حكمه أشبه بصسسيغة القصسسة منسسه بصسسيغة الحكسسم ،وأن يسسدع
الجريمة تنطلق وتذهب فل يقول لها امكثي..
وبقي الخناجر رهبتها في نفس هذا المسكين ،فلو أنهسسم قسسادوه إلسسى
حبل الشناقة لفهمسسه "الحبسسل" معنسسى العقوبسسة ،أمسسا وهسسو بيسسن هسسذه
الخناجر المغمدة -وفي الخناجر معنى الذبح -فإنما هو الذبح ل غيره.
وطرقت أذنيه قهقهة المجرم عن يمينه فاستنقذته من هسسذا الخطسسر،
ما رابسسطفثبت عينيه في الرجل ،فسسإذا هسسو يسسرى وجهًسسا متللًئا ،وجس س ً
ؤا وسخرية بهؤلء الجنود وخناجرهم. الجأش ،وهز ً
واستراح الغلم إلى صاحبه هذا ،وألح بنظره عليه ،وابتدأ يتعلسسم مسسن
وجهه الفلسفة؛ وليست الفلسفة مقصورة عى الكتب ،بسسل إن لكسسل
إنسان حالة تشغله ،فنظره في اعتبار دقائقها وكشف مستورها هسسو
الفلسفة بعينها.
وقال الغلم لنفسه" :هذا الرجل أقوى مسسن كسسل قسسوة؛ فهسسو محكسسوم
كا؛ فهسسذا الحكسسم إذن ل يخيسسف؛ ل ،بسسل عليه ول يبالي ،بل يقهقه ضح ً
هو تعود الحكام؛ إذن فمن تعود الحكام لسسم يخسسف الحكسسام؛ إذن يسسا
عبد الرحمن ستتعود ،فإن الخوف هذه المرة قسسد غطسسك مسسن "علبسسة
الكبريت" في حريق متسعر ،وما قدر "علبة الكسسبريت"؟ فلسسو كسسانت
السرقة جاموسة ما لقيت أكثر من ذلسسك؛ يسسا ليتنسسي إذن ...ولكنسسي ل
أزال صغيًرا ،فمتى كبرت ...آه متى كبرت."..
وبدأ القانون عمله في الغلم؛ فطرد منه الطفل وأقر فيه المجرم.
وأطرق "عبد الرحمن" هادًئا ساكًنا .وقامت في نفسسسه محكمسسة مسسن
ضا ،ويسداولون بينهسم أمسر البالسة بقضاتها ونيابتها؛ يجادل بعضهم بع ً
هذا الغلم على وجه آخر.
80
وقال شيطان منهم" :ولكنا نخشى أمرين :أحسسدهما أن "الصسسلحية"
فا يحترف؛ والثسساني أن النسساس ربمسسا تولسسوه ستخرجه بعد سنتين شري ً
فا
بالتربيسسة والتعليسسم فسسي المسسدارس رحمسسة وشسسفقة؛ فيخسسرج شسسري ً
يحترف".
وما أسرع ما نفى الخوف عنهم قول الغلم نفسه بلهجة فيها الحقسسد
والغيظ وقد صفعه الجندي الذي يقوده إلى السجن" :ودا كلسسه علسسى
شأن علبة كبريت؟."...
....................................................................................
.......
قا علسسى قاتسسل في سنة 1934قضت محكمة الجنايسسات بسسالموت شسسن ً
مجرم خبيث عيار متشطر؛ اسمه "عبد الرحمن عبد الرحيم".
81
عاصفة القدر 1
على شاطئ النيل في إقليم "الغربية" من هذا البر ،قرية ليس فيهسسا
من جبل ،ولكن روح الجبل في رجل مسسن أهلهسسا ،فسسإذا أنسست اعتسسبرته
فا رأيته ينهسسض فيهسسم بمنكسسبيه نهضسسة الجبسسل فيمسسا بالرجال قوة وضع ً
حوله؛ وهو بطل القرية ولسواء كسل معركسة تنشسب فيهسا بيسن فتياتهسا
وبين فتيان القرى المتناثرة حولها؛ ول تزال هذه المعارك بين شبان
القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح المتوارث فيهسسم مسسن أجيسسال
بعيدة ينحدر من جبل إلسسى جبسسل وفيسسه تلسسك القطسسرات الثسسائرة السستي
كانت تغلي وتفور ،وهي كعهدها ل تزال تفسسور وتغلسسي ،ويلقبسسون هسسذا
الرجل الشديد "بالجمل"؛ لمسسا يعرفسسونه مسسن جسسسامة خلقسسه وصسسبره
على الشدائد ،واحتماله فيها ،وكسسونه مسسع ذلسسك سسسلس القيسساد سسسليم
الفطرة رقيق الطبع؛ على أنه أبطسسش ذي يسسدين إن ثسسار ثسسائره ،ولسسه
إيمان قوي يستمسك به كما يتماسسسك الجبسسل بعنصسسره الصسسخري ،إل
أنه يخلطه ببعض الخرافات؛ إذ لبد له من بعسسض الجسسرائم الشسسريفة
التي يمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله.
شا وعت ًً
وا وليس في تلك القرية من بحر ،غير أن فيها شاًبا أعنف طي ً
من الموجة على بحرها في يوم ريح عاتيسسة ،حلسسو المنظسسر لكنسسه مسسر
دا مسسن السسدهاء والخبسسث ،وهسسو الطعم ،صافي الوجه لكن له غوًرا بعيس ً
ابن عمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضسسة ،يبسسسط
يديه على خمسمائة فدان ،وقد أفسدته النعمسسة وأهسسانته عزتسسه علسسى
أهلسسه؛ ولسسو اجتمعسست حسسسنتان التخسسرج منهمسسا سسسيئة مسسن السسسيئات
بأسسسلوب مسسن السسساليب ،لمسسا وسسسعها إل أسسسلوب نشسسأته مسسن أبسسويه
الطيبين ،تعلم وهو يعرف أنه ل حاجة به إلى العلم ،فجعلسست تلفظسسه
المدارس واحدة بعد واحدة كأنه نواة ثمرة إنسانية فإذا قيل له فسسي
ذلك قال :إن خمسمائة فدان ل تسعها مدرسة ....وذهب إلى فرنسا
يطلب العلم الذي استعصسسى عليسسه فسسي مصسسر ،فسسأرهف ذلسسك العلسسم
خياله وصقل حسه ،ورجع من باريس رقيق الحاشية خنًثا متطرفًسسا ل
يصلح شرقًيا ول غربًيا!
وليس في تلك القرية غاية لكن فيها عذراء تلتسسف مسسن جسسسمها فسسي
رداء الجمال الطبيعي الرائع ،ولهسا نفسسس أشسسد وعسسورة ممسا تنطسوي
الغابة عليه؛ ففي ظاهرها الرونسسق السسذي يفتسسن فيجسسذب إليهسسا ،وفسسي
باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها؛ وهي ابنة عم "الجمل" واسمها
"خضراء" وكأن فيها زهو خضرة الربيع ،ولم تكسسن تعشسسق إل القسسوة،
82
فما يزين لها من الرجال إل ابن عمهسسا ،وهسسي شسسديدة العجسساب بسسه،
وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها.
وكانت "خضراء" جاهلة كنساء القرى ،بيد أنها تلميذة بارعة للطبيعة
سسسا وأشسسد التي نشأت فيهسسا وزاولسست أعمالهسسا؛ فهسسي بسسذلك أقسسوى نف ً
سا من الفتيسسات المتعلمسسات؛ إذ اتخسسذت شسسكًل ثابت ًسسا مسسن أشسسكال مرا ً
الحياة ،والحياة هي صنعتها هذه الصنعة أو قامتهسسا علسسى هسسذه الهيئة،
على حيسن أن المتعلمسات يمضسين أيسام النشسأة وسسن الغريسزة فسي
التلقي عن اللفاظ والكتب ،وفي تسسوهم الصسسور المختلفسسة للجتمسساع
دون مباشرتها وفي توقي أعمال الحياة بدًل مسسن مخالطتهسسا؛ فيسسؤول
ذلسك منهسن إلسى قسوة فسي التخيسل قلمسا ترضسي الحقيقسة النسسانية
ما ما؛ وتتسسم الواحسسدة منهسسن ،ولكسسن باعتبسسار المؤلمة حين تصادمها يو ً
أنها تمت تلميذة للمدرسة ل امرأة للحياة بما فيها مما يعجب ومسسا ل
يعجب.
وكانت خضراء أشبه بدورة النهار :تفتح أجفانهسسا علسسى أشسسعة الفجسسر
كل يوم ،ول تزال نهارها في دأب وعمل ،فنفى ذلك عن أخلقهسسا مسسا
يجلبه السكون من الخمول والميل إلسسى العبسسث والدعابسسة ،وحصسسلت
لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامسسل
في النظام النساني؛ عليه أن يصسسبر علسسى الكسسد والتعسسب إذا أراد أن
يظهر بطبيعته الحقيقية ل بطبيعته المزورة المصنوعة؛ ورأت الرجل
يسسستأثر بجلئل العمسسال ول يسسترك للمسسرأة إل كمسسا يسسترك عقسسرب
الساعات لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعهسسا؛ فهسسذا الصسسغير ل
يبرح يضطرب في "دائرته الضيقة" يهتز من جزء إلى جزء ،حتى إذا
أتم الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الول بفضلها كلها وخطا بهسسا
خطوة واحدة :ثم يعود المستضسسعف المسسسكين إلسسى مثسسل عملسسه ول
يزال دأبهما وإن أكثرهما عمًل وتبًعا هو أقلهما قيمة وظهسسوًرا؛ ولكسسن
هذا الضعيف المغبون لم ينله ما ناله إل مسسن كسسونه هسسو وحسسده السسذي
سا للخر؛ بني في هذا النظام على فضيلة الصبر والدقة ،ليكون أسا ً
فعرفت "خضراء" كيف تقيد طبيعتها من تلقاء نفسها ،وتقرهسسا علسسى
الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطسسبيعي والغتبسساط بسسه؛ إذ كسسان
فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منهسسا فض سًل أو أسسسباب
حا وصسسبًرا وإيثسساًرا؛
فضل ،بل فسسي كونهسسا هسسي أكسسثر منسسه حب ّسسا وتسسسام ً
ففضائلها الحقيقية هي التي جعلته الفضسل ،كمسا تجسوع الم لتطعسم
ابنها!.
83
ورآها "ابن العمدة" ولما تمض أيام على رجوعه من أوربا ،وقد لبث
هناك بضع سنين ،وكان عهده بالفتاة صغيرة ،فوثبت إلى نفسه فسسي
وثبة واحدة ،ورأى شباًبا وجماًل وروعة زينتها في قلبسسه ،وسسسولت لسسه
مطمًعا من المطامع ،وجعلته يرى ما يرى بمعنى ويفهم منه ما يفهم
بمعنى غيره.
وكانت حين رآها واقفة على النيل تمل جرتها مسسع نسسساء مسسن قومهسسا
وهن يتعابثن ويتضاحكن ،كأن لخصب الرض في أرواحهن أثًرا بادي ًسسا،
فإذا ما أقبلن على النهر لشأن من شؤونهن تنسسدت روح المسساء علسسى
ذلك الثر فسساهتز واهسستزت المسسرأة بسسه ،فسسإن كسسانت ذات مسسسحة مسسن
فا كرفيف الزهرة حين يمسسسحها النسسدى ،وذهبسست جمال رأيت لها رفي ً
تتموج في جسمها ،وقد حسسسرت عسسن ذراعيهسسا ،ولمسسس المسساء دمهسسا
الجذاب فأرسل فيه تياًرا من العافية والنشاط يتصل منها بقلب مسسن
يراها إن هو كان شاعًرا يحس؛ فإن كانت روح الرجسسل ظمسسأى ورأى
المرأة على هذه الهيئة ،فما أحسبه إل يشرب منها بعينيه شرًبا يجسسد
له في قلبه نشوة كنشوة الخمر؛ وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا
الفتى فزينها له الخبث الذي فيه أضعاف ما زينها لسسه الجمسسال السسذي
فيها ،وقذفها القدر إلى قلبه ليخرج مسسن هسسذا القلسسب تاريسسخ جريمسسة؛
فوقف يتأملها بعين أحد مسسن آلسسة التصسسوير ل تفوتهسسا حركسسة ،وسسسلط
عليها فكره وذوقه ،وأيقظ لها في نفسه المعسساني الراقسسدة ،فنصسسبت
في قلبه عدة من تماثيل الجمال تجسدت في كسل واحسد منهسا علسى
شكل كأنما أفرغت فيه إفرا ً
غا.
وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة؛ إذ قامت من
نشأتها على أن تطلب فتجاب ،وتأمر فتطاع ،وتشتهي فتجسسد؛ وكسسأنه
ما خلق إل ليستعيد قلبي والديه ،وكانا ساذجين ل يعرفان مسسن علسسم
التربية إل أن للحكومة مسسدارس للتربيسسة ،وموسسسرين ل يفهمسسان مسسن
معنى الحاجة في هذه الدنيا إل أنهسسا الحاجسسة إلسسى المسسال ،منقطعيسسن
من النسل إل منه ،فكأنه لم يولد لهما ،بل قد ولسسدا لسسه ..فلسسه المسسر
عليهما من كونه ل أمر لهمسسا عليسسه؛ وبسسذلك أسسسرف لسسه مسسن فضسسائل
الرقة والحنان والشفاق وما إليها ،وهي فسي نفسسها فضسائل ،ولكسن
متى أسرف بها الباء على أولدهم لسسم تنشسسئ فسسي أولدهسسم إل ممسسا
يكون من أضسسدادها ،كالشسسجر تفسسرط عليسسه السسري فل يحسسدث فيسسه إل
اليبس والذوي ،وإنما أنت تستقيه الموت ما دمت ترويه بمقدار مسسن
هواك بمقدار حاجته.
84
ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفسسة جعلسست مسسن أخسسص طبسساعه
تمسسويه نفسسسه علسسى النسساس ،والتبسساهي بسسالغنى ،والتنبسسل بالصسسدقاء
والحاشية مسسن وزرائه وعمسساله ،والتهيسسؤ بالثيسساب والزيسساء؛ فانصسسرف
بسساطنه إلسسى تجميسسل ظسساهره ،ورد ظسساهره علسسى بسساطنه بالشسسهوات
والسسدنايا ،وأعسسانه علسسى ذلسسك أنسسه جميسسل فسساتن كأنمسسا خلقسست صسسورته
"للصفحة الحساسة" من قلوب النساء؛ وذلك ملك عظيسسم لسسم يكسسن
أبوه الرجل الطيب منه إل كما يكون وزير مالية الدولة ..ولما أرسل
إلى باريس وقع منها في بلد عجيب كأنه خيال متخيسسل ل يسسؤمه رجًل
في الدنيا من كامل أو ناقص وعالم أو جاهل وشسسريف أو سسساقط إل
رأى فيه ما يمل كل مداخل نفسه ومخارجها ،فلو قسسامت مدينسسة مسسن
أحلم النفسسوس النسسسانية فسسي خيرهسسا وشسسرها وطهرهسسا وفجورهسسا
واختللها ونظامها لكسسانت هسسي بسساريس؛ وانقطسسع الشسساب هنسساك إلسسى
نفسسسه وإلسسى صسسور نفسسسه مسسن أصسسدقاء السسسوء ،فل أهسسل فيلزمسسوه
الفضيلة ،ول إخوان فيردوه إلى الرأي ،ول خلق متسسبين فيعتصسسم بسسه،
دا في الشسسهوات ول نفس مرة فيفيء إليها ،ول فقر ...فيحد له حدو ً
يقف عندها؛ وما هو إل خيال متوقفد ومزاج مشسسبوب وتربيسسة مدللسسة
وطبع جريء ومال يمر في إنفاقه ،ومن ورائه أب غني مخدوع كسسأنه
دا ،ثسسم مسسا هنالسسك
في يد ابنه كرة الخيط :كلما جذب منها مدت له م ً
من فنون الجمال ومتع اللذات وأسباب اللهو ،مما يتناهى إليه فساد
الفاسد ،وما هسسو فسسي ذاتسسه كسسأنه عقوبسسة مستأصسسلة للخلق الطيبسسة؛
فكان الشيطان الباريسسسي مسسن هسسذا المسسسكين فسسي سسسمعه وبصسسره
ورجله ويده ،ويجهه حيث شاء؛ وبالجملة فقد ذهب ليسسدرس فسسدرس
ذا في كل علوم النفس المختلة الطائشة وفنونها، ما شاء ورجع أستا ً
وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بهسسا لسسسانه مسسن علسسوم وأقاويسسل
ليس فيها إل ما ما يدل الحاذق على أن هذا الشاب لم يفلخ قط في
مدرسة.
فلما وقعت "خضراء" منه ذلك الموقع وأخذت مأخسسذها فسسي نفسسسه،
اعتدها نزوة من نزواته؛ فما بمثله أن يحب مثلها ،ول هي كفايته في
شيء إل أن تكون لهو ساعة من ساعاته ،أو حادثة تجري فيهسسا حسسال
من أحواله الغرامية؛ وحسبها امرأة ليس لقلبهسسا أبسسواب تمتنسسع علسسى
مثله ،فقدر أن غناه وفقرها يقتلعان باًبا ،وعلمه وجهلها يحطمان باًبا
آخر ،وجماله وحده يضع ما بقي من القفال عما بقي مسسن البسسواب!
وكان يحسب أن جمال المرأة من المرأة كالحلية من بائعيهسسا؛ فكسسل
من ملك ثمنها فليس بينه وبينها إل هذا الثمسسن؛ ولكسسن اليسسام جعلسست
85
تأتي وتمر وهو ل يزيد على أن يعرض لها وهي ترميسسه مسسن صسسدودها
كل يسوم بداعيسسة مسن دواعسسي الهسوى؛ وكسسان ل يجسسد بنفسسه قسوة أن
يزيدها على النظر شيًئا ،وترك لوجهه وثيابه ونظراته وغناه أن تصل
بين قلبه وقلبها بسبب ،فلم ينل طائًل؛ وتمادى فسسي حبسسه ،واسسستولت
عليه فكرة مرته بهذه المرأة؛ أمسسا هسسي فأشسسعرتها غريزتهسسا بمسسا فسسي
قلبه منها ،وكانت مسماة لبن عمها* فكسسانت تتحاشسسى هسسذا الشسساب
دا ،وتتسسوهم أن النسساس يحصسسون عليهسسا النظسسرة وتحسسذره حسسذًرا شسسدي ً
واللتفاتة ويحصون عليه في مثلهما ،ووقع في نفسها أن لهذا الرجل
شأًنا غير شأن الرجال الخرين ،فهم ل يستطيعون معهسسا حيلسسة وهسسو
يستطيعها بغناه ومنزلته.
وكان للرجل خادم داهية قد تخرج في مجالس القضاء ..من كثرة ما
حكم عليه في تزويسسر واحتيسسال وغسسش وادعسساء وإنكسسار ونحوهسسا ،وقسسد
سسا** إلسى قسسا؛ وجعلسسه دسي ً
سسا ورفي ً
استخلصسه لنفسسسه واتخسسذه موان ً
شهواته السافلة وكان يسسسميه فيمسسا بينهمسسا "إبليسسس"؛ فلمسسا أراد أن
يرميها به قال :يا سيدي ،هذه قضسسية احتيسسال عليهسسا ،فسسإذا دخسسل ابسسن
ما في الدعوى كانت قضية احتيال على عمسسري أنسسا! قسسال: عمها خص ً
ويحك أيها البله! فأين دهسساؤك ومكسسرك؟ وإنمسسا أرسسسلك إلسسى امسسرأة
فقيرة عيشها كفافها ،وأنت تعدها وتمشسسيها وتبسسذل عنسسي مسسا شسسئت،
ومتى أطمعتها في المال فإن هذا المال سيوجد ما يوجسسده فسسي كسسل
مكان ،فيشري ما ل يشرى ،ويبيع ما ل يباع! قال "إبليسسس" :نعسسم يسسا
سيدي ،وكذلك هو ولكن خوف العار يطرد حب المسسال! قسسال :فسسأنت
إذن ل تقبل؟ قال :ول أرفض ..قال الشاب :قاتلك الله! لقسسد فهمسست
سأشتريها منك بثمنين :أحدهما لك والخر لها؛ ولكسسن أخسسبرني كيسسف
تصنع معها ومن أين تبلغ إليها؟ قال "إبليس" :لما كنت فسسي السسسجن
كا أعيا قومه خبًثا وشّرا؛ وهذا السسسجن يحسسسبه عقاب ًسسا صا فات ًعرفت ل ّ
عا ومنهاة عن الثم ،على أنسسه المدرسسسة السستي تنشسسئها الحكومسسة ورد ً
بنفسسسها لتلقسسي علسسوم الجريمسسة عسسن كبسسار أسسساتذتها؛ إذ ل يمكسسن أن
يجتمع كبارهم في مكان مسسن الرض إل فيسسه؛ فالسسسجن طريقسسة مسسن
طرق حسسل المشسسكلة النسسانية ،ولكنسسه هسسو نفسسه يحسسدث للنسسسانية
مشكلة ل تحل! قال الفتى :ويحك! أين يذهب بك؟ إنما أرسلك إلسسى
المرأة إلى السجن! قال :ترسلني أنت إليهسسا ولكسسن ل يعلسسم إل اللسسه
أين يرسلني ابن عمها :إلى السجن أم إلى
المستشفى !..فاسمع يا سيدي :كان من نصسسائح أسسستاذي فسسي ذلسسك
السجن :أن الحيلة على رجل ينبغسسي لحكامهسسا أن يكسسون فسسي بعسسض
86
أسبابها امرأة ،والكيد لمرأة يجب أن يكون في بعض وسائله رجل..
صه! انظر انظر!
---------------
* معدة لخطبته ،أو كما يقولون :قرأت مع أهلها الفاتحة.
سا وصاحب سر. ** جاسو ً
فالتفت الشاب ،فإذا "الجمل" مقبل يتكفأ في مشيته ،وكان غليظ ًسسا،
فإذا خطا شد على الرض بقدميه وتكدس بعضسسه فسسي بعسسض؛ وكسسان
قا وقتئذ إلى بعض مذاهبه ،فلما حاذاهما قال :السسسلم عليكسسم! منطل ً
فرد جميًعا ،ورمى ابن العمدة بنظرة ،ثم مضسسى لسسوجهه فلسسم يجسساوز
غير بعيد حتى بلغه صوت الشاب يناديه :يا فلن! فانكفأ إليسسه ،فقسسال
له الشاب :لقد بعد عهدك بالقوة على ما أرى .قال :فما ذاك؟ قال:
أما بلغك أن فلًنا في هذه القرية التي تجاوزنا سيقترن بزوجتسسه بعسسد
أيام ،وأنت تعرف الموقعة السستي كسسانت بيسسد بلسسدنا وتلسسك البلسسدة يسسوم
عسرس فلن فسي السسنة الماضسسية ،وكيسسف انسدفعوا علسى أهسسل بلسدنا
وحطموا فيهم تلك الحطمة الشسسديدة ولسسول أنسست أدركتهسسم ورميتهسسم
بنفسك حتى دفعتهم عن الناس وسقتهم أمامك سوق النعاج ،لكانت
ل البلد ،ولستطالوا علينسسا بسسأنهم غلبونسسا؛ ولقسسد حسسدثني بلدنا اليوم أذ ّ
سسسا وعشسسرين هسسراوة، صاحبي هذا كيف تلقيسست بهراوتسسك يسسومئذ خم ً
فأطرتهسسا كلهسسا فسسي جولتسسك ،وهزمسست أصسسحابها بعسسد أن أحسساطوا بسسك
وتكلبوا عليك؛ فأنت فخر بلدنا وصاحب زعامتها ،وما أرى لسسك إل أن
تنتهسسز هسسذه الفرصسسة وتسسسرع الوثنيسسة إليهسسم برجالسك ،فتجزيهسسم فسسي
أرضهم صنيًعا بصنع مثله!
فهز الجمل كتفيه العريضتين وقال :بل سأنتظرهم في يسسوم عرسسسي
بابنة عمي !...قال الشاب :أبلغسست مسسا أرى فإنسسك لتخسسافهم! قسسال :ل
أخسسافهم ولكسسن أخسساف الحكومسسة أن تسسؤخر يسسوم زواجسسي ...سسسنة أو
سنتين! قال الفتى :فإن عملك هذا ل يشد من نفوس رجالنا ،ول بسسد
أن أولئك سينتظرونكم ويعدون لكم ،فإذا لم تنسساجزوهم فسسي بلسسدهم
عدوها عليكم هزيمة من الهزائم ،وكأنهم ضربوكم بل ضرب!
قال الجمل :هم ل يعرفون معنسسى الضسسرب بل ضسسرب؛ لنهسسم رجسسال؛
والذي يضرب بل ضرب ل يكون رجًل ...والسلم عليكم! ثم انطلسسق،
فلما أبعد قال الشاب :لقد بدأت الحسسرب ول بسسد لسسي أن أحطسسم هسسذا
الفلح اللعين! ولقد عرفت الن مسسن وجهسسه أن عينسسه علسسي ،ولسسست
أشك في أن بنت عمه ل تمتنع بقوتها بل بقوته ،ولسسول معرفسستي أنسسه
من انحطاط الغريزة كالوحش في الدفاع عن أنثاه لقسسال "إبليسسس":
87
لقد تأملت القصة فرأيت أنه ل سبيل لك إلى الفتاة وهي بعسسد فتسساة،
فإذا هو وصل إلى امرأته قطعت أنت بهذه الخطسسوة نصسف الطريسسق
إليها ...وستبلو هي مسسن غلظتسسه وخشسسونة طبيعسسة مسسا يسسسهل لسسك أن
تعلمها قيمة ظرفك ورقتك ،وستجد من سوء معاملته وقبح تسسسلطه
ما يفتح قلبها لمن يأتيها قبل الرفق واللين ،وستصب عنده من ضيق
المعيشة وقلتها ويبسها ما يفهمها معنى ذلك العيسسش الحلسسو الخضسسر
الذي تعرضه عليها؛ ثم إنه ل بد مبتليها بغيرته العمياء بعسد مسا عسرف
مسا وتنبسسه المسسرأة من حبك إياها ،والغيرة منك هي توجسسدك بينهمسسا دائ ً
إليك كلما كرهت من رجلها شيًئا ل ترضاه.
ولم تكن إل مدة يسيرة حتى أهديت المرأة إلى زوجها ،وإنما تعجسسل
الزفسساف ليسسأتي أنسسه أن ينصسسب يسسده القويسسة حجاب ًسسا بينهمسسا وبيسسن هسسذا
قا لم يكن له من قبل إذا هسسو مسسد المفتون ،وليكتسب من القانون ح ّ
هذه اليد وعصر في قبضسستها تلسسك الرقبسسة السستي تتطلسسع إلسسى امرأتسسه؛
ورأى الشاب أن هذه الحال ل تعتدل به وبخصمه مًعا ،وكانت الغيرة
تأكل من قلبه أكًل ،وكان يعرض للمرأة كلما خرجسست بمكتلهسسا* إلسسى
السوق أو بجرتها إلى الماء؛ لنه حينئذ يكسسون فسسي الطريسسق السسذي ل
يملكه أحد ..فكسسانت إذا رأتسسه لسسم تسسزد علسسى مسسا يكسسون منهسسا إذا هسسي
أبصسسرت حمسساًرا يمسسد عينسسه إليهسسا! .فعمسسد إلسسى امسسرأة مقينسسة تسسزف
العرائس ،وهي التي زفسست "خضسسراء" فأكرمهسسا وأتحفهسسا وسسسألها أن
تسعفه ببعض ما تحتال به ،وأن يكسسون سسسبيله إلسسى المسسرأة؛ وتحمسسل
عليهسسا "بإبليسسسه" حسستى اسسستوثق منهسسا ،فكسسانت تتحسسدث عنسسه أمسسام
"خضراء"؛ تستجر بذلك أن تلفتها إلى نعمته وجمسساله ،ولكسسن المسسرأة
أغلظت لها وسبتها وحذرتها أن تعود إلى مثل كلمها ،وقالت لها آخر
ما قسسالت :واعلمسسي أننسي لسو دفعسست إلسى طريقيسسن وكسان ل بسد مسن
أحدهما ،ثم كان أحدهما حصسساه السسدنانير وهسسو طريسسق العسسار ،والخسسر
حصباؤه الجمر ويفضي إلى الشسسرف ،إذن لتنزهسست أن أدنسسس نعلسسي
بالذهب ولنثرت لحم قدمي على الجمر نثًرا.
وا ،وإمسسا خسساب دا ،فإمسسا فسساز فسسبرد ورجسسع سسسل ً
والحب ل يبقى حب ّسسا أبس ً
ظا ،ووجد فاضطرم وتحول إلى حقد ونقمة؛ وكذلك انفجر الشاب غي ً
على الخيبة موجدة شديدة ،وأخذ يسسدير رأيسسه ،ففتقسست لسسه الحيلسسة أن
يقتل الشهم بشهامته ،والمرأة العفيفة بعفتها؛ فواطسسأ إبليسسسه علسسى
أن يدفع إلى تلك المقّينة منديًل من الحرير عقسسد طرفسسه علسسى دينسسار
من الذهب ،تلقيه في صندوق "خضراء" وتدسه في طي من أطسسواء
ثيابها فذهبت المرأة ،وما زالت بخضراء تستصلحها وتعتذر إليها حتى
88
استلت ضغينة قلبها ،ثم سألتها أن تأتيها "بسسالعيش والملسسح" لتصسسيب
كلتاهما منه وتتحرم بحرمته؛ فلما نهضت تأتيها أسرعت الخبيثة إلسسى
دى الصندوق فدست المنديل فسسي أبعسسد مواضسسع وأخفاهسسا؛ وكسسان من س ّ
بالعطر؛ لينم على نفسه إذا لم ينم أحد عليه ،ثم رجعسست بمسسا فعلسست
إلى الشاب ،فأطلق خادمه يهمسس لبعسسض أصسدقاء الجمسل أنسه رأى
اليوم في يد "خضراء" ديناًرا ذهًبا على ندرة السسذهب وعزتسسه؛ فجعسسل
هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه ،والحب
الذي أعطاه ،والجمال الذي أخسسذه؛ ثسسم انتهسسى إلسسى الجمسسل ،فكأنمسسا
حمله وطار به إلسسى داره كسسالمجنون وقسسد حمسسى دمسسه الحسّر ،وجسساش
جأشه العنيف ولم تكن امرأته في الدار ،فنثر ما في الصندوق ،ومسسا
كادت تفعمه رائحة العطسسر حسستى نفسسخ الشسسيطان بهسسا نفخسسة الغضسسب
الكسسافر ،ثسسم عسسثر علسسى المنسسديل ،ورأى بصسسيص السسدينار ،فسسدارت بسسه
الرض ،وأيقن أن العار قد طرق ببابه ،وأن الباب قد فتح لسسه؛ ثسسم رد
نفسه على مكروهها ورد معها كل شيء إلى موضسسعه ،وتلقسسف رأيسسه
على جريمتين ،وخرج وروحه تصرخ من ضسسربة بمنسسديل ،وهسسو السسذي
كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشم منه ول يتأوه!
---------------
* هو ما يسمى الغلق.
وذكر أن "حماته" أثنت من عهد قريسسب علسسى ابسسن العمسسدة ووصسسفته
بالرقة والغنى ،فوجه إليهسسا أن تسسأتي فتسسبيت عنسسد امرأتسسه؛ لنسسه علسسى
سفر ،وكان كالعمى في ضللته :ل يرى الشياء إل كما يتخيلهسسا فسسي
نفسه دون مسسا هسسي فسسي نفسسسها ،فسسسألته زوجتسسه :أيسسن أزمعسست مسن
سفرك وكم تلبث عنا؟ فكأنه سمعها تقول :ارحسسل إلسسى مكسسان بعيسسد
وغب عنا زمًنا طويًل ،فبنا إلى غيابك حاجة شديدة! وكاد يبطش بها،
ولكنه كاتم صدره اللوعة اسم جهة بعيسسدة ومضسسى النكسسسار يعسسرف
فيه!
فزع الناس بعد أيام في جوف الليل ،فإذا بيسست الجمسسل يحسسترق مسسن
أرضسه وسسمائه ،واقتحمسوه فسإذا المسرأة وأمهسا فحمتسان :وانطلقست
أسرار اللسنة ،وقبض على الرجل في بلد آخر ،وتولى ابسسن العمسسدة
توجيه البينة عليه ،وشهد الشهود علسى السدينار ،وشسهد السدينار علسى
النار ،وأنكر "الجمل" ولم يقصر في إقامة الحجة ودافع عسسن امرأتسسه
وبالغ في أمانتها وعفتها وشسسهد أنسسه ل يعلسسم عليهسسا مسسن سسسوء ،وإنهسسا
قا!
أطهر النساء وأبّرهن ،ثم كان الحكم أن قضى عليه بالموت شن ً
89
فلما كان يسسوم إنفسساذ الحكسسم سسسئل الرجسسل :هسسل مسسن شسسيء تريسسده؟
فطلب دخينة* فقدمها له قيم السسسجن ،فأشسسعلها ونفسسخ مسسن دخانهسسا
سا في نفسسس ،وعسساد نفخة .ثم أخذ يتكلم وعمره يفنى مع الدخينة نف ً
هذا الدخان المتطاير كأنه سحاب يسبح فيه الوحي بين حسسدود السسدنيا
وحدود الخرة؛ قال المسكين :لم أتعلم ،ولو تعلمت ما وقفسست هنسسا؛
ولكن ربما كنت خرجت نذًل كبعض المتعلمين الذين يعيشون أشراًفا
وفيهم أرواح القتلة واللصوص!
---------------
* وضعناها للسيجارة ،وهي أليق اللفاظ بها.
لم أقر لحد بجريمتي خشية أن تذكر كلمة العار مع اسسسمي ،وآثسسرت
أن أموت بالشنق على أن أحيا ويموت اسمي بالعار!
ولكني سسسأعترف الن أمسسامكم وأنتسسم السسساعة علسسى قسسبري ،فكونسسوا
كالملئكة ل يشهدون بما عرفوا إل عند الله وحده.
أعترف أني قتلت زوجتي وأمها؛ وقد تقولسسون :إنسسه ليسسس مسسن عمسسل
الرجل أن يقتل امسرأة فضسًل عسن اثنستين؛ إننسي رجسل سأشسنق ،أمسا
النساء فل يشنقن وإنما يرسلن الرجال إلى المشنقة ..لم أر أبي؛ إذ
تركني طفًل ،ولكن يقال :إنه كان رجًل ،فأنا رجسسل وابسسن رجسسل ،ولسسم
يذلني رجل قط ،ولكن لو خلق الله قوة مائة جبار فسسي جسسسم رجسسل
واحد لذلته امرأة!
إنه ليس من شيمة الرجل أن يقتل النساء ،ولكن المرأة تذل الرجل
ذًل يهون عليه قتل نفسه ،فكيف ل يهون عليه قتلها؟
علموا المتعلمين ليصيروا في الشرف والمانة والعفة كرجسل جاهسسل
مثلي :ل يرى للحياة كلها قيمة إذا كان فيها معنى العار ،ويقدم عنقه
للمشنقة حتى ل ينكس رأسه للذل.
قا ويزهسسق الرواح الكسسبيرة أصلحوا القانون الذي يحكسسم بسسالموت شسسن ً
في حين تغلبه الرواح الصغيرة بحيلها الدنيئة!
ومع ذلك سألقى الله وهو يعلم سريرتي إن كنت بريًئا أو مجر ً
ما!
قيم السجن :ستلقاه طاهًرا.
السجين :أرأيتم مني خلق سوء؟ أتعتقد علي ذنًبا مدة سجني؟
القيم :كلنا راضون عنك.
السجين :هسسذا مثسسل مسسن أخلقسسي ،والحمسسد للسسه علسسى أن آخسسر كلمسسة
أسمعها من إنسان على الرض -كلمة الرضا.
دا رسول الله! أشهد أن ل إله إل الله وأن محم ً
90
نظرت ريشة من زغب العصفور إلى النجوم فحسبتها ري ً
شا متنسساثًرا،
فامتطت العاصفة وقالت :إلى السماء! ودارت بها العاصفة ما شسساء
الله أن تدور ،ثم رمت بها حيث وقعت لم تبسسال فسسي موضسسع نفسسع أم
ضر؛ فأقبلت الريشة تتسخط وتزعم أنها فوضى ثائرة ل حكمسسة فسسي
خلقها ،وأن الرياح بعثرة في نظام العالم ...وكان إلى جانبها شسسجرة
تهسستز ول تطيسسر ...فلمسسا وعسست مقالتهسسا أقبلسست عليهسسا فقسسالت :أيتهسسا
الريشة! إن الرياح ل تكون بعثرة في نظام العالم إل إذا كان العسسالم
ري ً
شا كله!
91
القلب المسكين ""1
أقبل علي صاحبي الديب وقال :انظسسر ،هسسذه هسسي ،وقسسد حلسست بهسسذا
البلد وما لي عهد بها منذ سنة .ومسسد إلسسي يسسده فنظسسرت إلسسى صسسورة
ما ،تتأود في غللة من اللذ*. امرأة كأحسن النساء وجًها وجس ً
وكأن شعاع الضحى في وجهها ،وكأنها القمر طالًعا من غيمة ،ويكسساد
صدرها يتنهد وهي صورة ،وتبدو هيئة فمهسسا كأنهسسا وعسسد بقبلسسة ،وفسسي
سسسا بينهسسا وبيسسن
عينها نظرة كالسسسكوت بعسسد الكلمسسة السستي قيلسست هم ً
محبها..
فقلت :هذه صورة ما أراها قسد رسسمها إل اثنسان :المصسور وإبليسسس؛
فمن هي؟ قسسال :سسسلها ،أمسسا تراهسسا تكسساد تثسسب مسسن الورقسسة؟ إنهسسا إل
تخسسبرك بشسسيء أخسسبرك عنهسسا وجههسسا أنهسسا أجمسسل النسسساء وأظرفهسسن
دا والذي بعد ذلك.. وأحسن من شاهدت وجًها وأعيًنا ،وثغًرا وجي ً
قلت :ويحك ،لقد شعرت بعدي ،إن هذا شعر موزون:
دا والذي بعد ذلكا... وأحسن من شاهدت وجًها وأعيناوثغًرا وجي ً
مسسا مسسنقال :إن شيطان هذه ل يكسسون إل شسساعًرا؛ ألسسست تسسراه ناظ ً
فنونها على الرسم شعًرا معجًزا كل شاعر؟
ضا شعر موزون: قلت :وهذا أي ً
ما من فنونهاعلى الرسم شعًرا معجًزا كل شاعر ألست تراه ناظ ً
حسسا
قال :بلى والله إنه الشيطان ،إنه شيطانها ،يريك لهذا الجسسسم رو ً
رشيقة ،تلين كلين الجسم ،بل هي أرشق.
ضا ،والقافية التي بعد هذا البيت :وبها شقوا... قلت :وهذا أي ً
---------------
1انظر قصة صاحبة هذا القلب المسكين ص " 239حياة الرافعسسي"
وهي هي صاحبة "الجمال البائس".
2اللذ :الحرير الصيني الرقيق ،والغللة :مثل القميسسص السسذي تحسست
الثياب.
فضحك صاحبنا وقال :حرك الصسسورة فسسي يسسدك ،فإنسسك سسستراها ومسسا
تشك أنها ترقص.
قلت :الن انقطع شيطانك ،فهذا ليس شعًرا ول يجيء منه وزن.
وتضاحكنا وضحك الشيطان ،وظهر الوجه الجميل فسسي الرسسسم كسسأنه
يضحك.
قال صاحب القلب المسسسكين :انظسسر إلسسى هسساتين العينيسسن ،إنهسسا مسسن
العيون التي تفتن الرجل وتسحره متى نظرت إليه ،وتعسسذبه وتضسسنيه
92
متى غابت عنه؛ إن في شعاعهما قدرة على وضع النور فسسي القلسسب
السعيد ،كما أن في سوادهما القدرة على وضع الظلمة فسسي القلسسب
المهجور.
وانظر إلى هذا الفم ،إلى هذا الفم الذي تعجز كل حسدائق الرض أن
تخرج وردة حمراء تشبهه.
وانظر إلى هذا الجيد تحته ذلسسك الصسسدر العسساري ،فسسوقه ذلسسك السسوجه
المشرق؛ تلك ثلثة أنواع من الضوء :أما الوجه ففيه روح الشسسمس،
وأما الجيد ففيه روح النجم ،وأما الصدر ففيه روح القمر الضاحي.
انظر إلى هذه المسافة البيضاء من أعلى جبينها إلى أسسسفل نهسسديها،
تلك منطقة القبلت في جغرافيا هذا الجمال...
وانظر إلى الصدر يحمل ذينك الثديين الناهدين؛ إنسسه المعسسرض السسذي
اختسسارته الطبيعسسة مسسن جسسسم المسسرأة الجميلسسة للعلن عسسن ثمسسار
البستان...
انظر إلسسى النهسسدين لسسم بسسرزا فسسي صسسدر المسسرأة إل إذا كانسسا يتحسسديان
الصدر الخر...؟!
وانظسسر لهسسذا الخصسسر السسدقيق ومسسا فسسوقه ومسسا تحتسسه ،أل تسسراه فتنسسة
متواضعة بين فتنتين متكبرتين...؟
انظر إليها كلهسا ،انظسر إلسى كسل هسذا الجمسال ،وهسذا السسحر ،وهسذا
الغراء؛ أل ترى الكنز الذي يحول القلب إلى لص..؟
هذه مخلوقة مرتين :إحداهما من الله في العالم ،والخرى من حبي
أنا في نفسسسي أنسسا :فكلمسسة "جميلسسة" السستي تصسسف المسسرأة التامسسة ،ل
تصفها هي بعض الوصف؛ ورسمها هسسذا السسذي تسسراه هسسو حسسدود لتلسسك
الروح التي فيها قوة التسلط ،وهيهات يظهر مسسن تلسسك السسروح إل مسسا
يظهر من الجمرة المشتعلة رسم هذه الجمرة في ورقة.
أشهد ما نظرت مسرة إلسى هسذا الرسسم ثسسم نظسسرت إليهسسا إل وجسسدت
الفرق بينها في نفسها وبينها في الصورة ،كأنه اعتذار ناطق من آلة
التصوير بأنها ليست إل أداة.
قلت :اللهم غفرا؛ ثم ماذا يا صديقي المجنون؟
ما ،وكانت أفكاره تنفجر في دماغه انفجاًرا هنسسا فأطرق الديب مهمو ً
وانفجاًرا هناك؛ ثم رفع إلى رأسه ،وقال:
هذه الغانية قد حبسست أفكساري كلهسا فسي فكسرة واحسسدة منهسا هسي؛
وأغلقت أبواب نفسي ومنافذها إلى الدنيا ،وألهبت في دمسسي جمسسرة
من جهنم فيها عذاب الحراق وليس فيها الحراق نفسه؛ كيل ينتهسسي
منها العذاب!
93
وبيننا حب بغير طريقة الحب ،فإن طبيعتي الروحانية الكاملسسة تهسسوى
فيها طبيعتهسسا البشسسرية الناقصسسة ،فأنسسا أمازجهسسا بروحسسي فأتسسألم لهسسا،
وأتجنبها بجسمي فأتألم بها.
حب عقيم مهما يكن من شيء فيه ل يكن فيه شيء من الواقع...
حب عجيب ل تنتفي منه آلمه ول تكون فيه لذاته.....
حب معقد ل يزال يلقي المسألة بعد المسألة ،ثم يرفض الحل الذي
ل تحل المسألة إل به...
حسسب أحمسسق يعشسسق المسسرأة المبذولسسة للنسساس ،ول يراهسسا لنفسسسه إل
قديسة ل مطمع فيها...
حب أبله ل يزال في حقائق الدنيا كالمنتظر أن تقع على شفتيه قبلة
من الفم الذي في الصورة...
حب مجنون كالذي يرى الحسناء أمام مرآتها فيقول لها اذهسسبي أنسست
وستبقي في هذه التي في المرآة...
قلت :اللهم رحمة؛ ثم ماذا يا صاحبي المسكين؟
قال :ثم هذه التي أحبها هي التي ل أريد الستمتاع بها ول أطيقه ول
أجد في طبيعتي جرأة عليه ،فكأنهسسا السسذهب وكسسأني الفقيسسر السسذي ل
صسسا؛ يقسسول لسسه شسسيطان المسسال :تسسستطيع أن تطمسسع؛ يريد أن يكون ل ّ
ويقول له شيطان الحاجة :وتستطيع أن تفعل؛ ويقول هو لنفسسسه :ل
أستطيع إل الفضيلة!
إن عذاب هذا بشيطانين ل بشيطان واحد ،غير أن لذته في انتصسساره
كلذة من يقهر بطلين كلهما أقوى منه وأشد.
وا؛ ثم ماذا يا قاهر الشيطانين؟ قلت :اللهم عف ً
فأطرق ملّيا كالذي ينظر في أمر قسسد حيسسره ل يتسسوجه لسسه فسسي أمسسره
وجه ،ثم تنهد وقال :يا طول علة قلبي! من أين أجيء لحلمي بغيسسر
ما تجيسسء الحلم بسسه ،وإنمسسا هسسي تحسست النسسوم ووراء العقسسل ،وفسسوق
الرادة؟ لقد بلغ بين هواها أن كل كلمة من كلم الحب في كتسساب أو
ي أنا..
رواية أو شعر أو حديث -أراها موجهة إل ّ
مسسا ،فهسسي فسسي ذلسسك ثم قال :انطلق بنسسا فتراهسسا حسستى تعلسسم منهسسا عل ً
المسرح ،هي في ذلك الشر ،هي في تلك الظلمات ،هي كاللؤلؤة ل
تتربى لؤلؤة إل في أعماق بحر.
وذهبنا إلى مسسرح يقسوم فسي حديقسة غنساء متراميسة الجهسات بعيسدة
الطراف ،تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلة بمعاني
الهجر والعشق.
94
وتقدمنا نسير فسسي الغبسسش ،فقسسال صسساحبنا المحسسب :إنسسي لشسسعر أن
الظلم هنا حي كأن فيه غوامض قلب كسسبير ،فمسسا أرى فرقًسسا بيسسن أن
أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهم اللنهايسسة،
فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسسسرح لنراهسسا وهسسي مقبلسسة ،فسسإن
رؤيتها سيدة غير رؤيتها راقصة ،ولهذه جمال فن ولتلك فن جمال.
ولم نلبث إل يسيًرا حتى وافت ،ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنما
تحترم أفكسسار النسساس ،يزهوهسسا علسسى ذلسك إحسسساس نبيسسل كإحسسساس
الملكة الشاعرة بمحبة شعبها ،وانتفض مجنونا وأغمض عينيسسه كأنهسسا
تمر بين ذراعيه ل في طريقها ،وكسسأن لسسذة قربهسسا منسه هسسي الممكسسن
الذي ل يمكن غيره...
وكان عجًبا مسن العجسب أن تحسرك الهسواء فسي الحديقسة واضسطربت
أشجارها ،فقال :أنت ترى؛ فهذا احتجاج من راقصات الطبيعسسة علسسى
دخول هذه الراقصة! قلت :آه يا صديقي! إن المرأة ل تكسسون امسسرأة
بمعانيها إل إذا وجدت في جو قلب يعشقها.
ونفذنا إلى المسرح ،وتحرى صاحبنا موضًعا يكون فيسسه منظسسر العيسسن
من صاحبته ويكون مستخفًيا منها ،ثم رفسسع السسستار عنهسسا بيسسن اثنيسسن
يكتنفانها ،وقد لبسن ثلثتهن أثواب الريفيات ،وظهرن كهيئتهن حيسسن
يجنين القطن.
وبرزت "تلك" في ثوب من الحرير السود ،وهي بيضاء بياض القمسسر
حين يتم وقد شدت وسطها بمشدة من الحرير الحمر ،فتحبكت بها
وظهرت شيئين:
أعلى وأسفل؛ ثم ألقت علسسى شسسعرها السسذهبي قلنسسسوة حمسسراء مسسن
ذلك الحرير أمالتها جانًبا فحبست شيًئا منه وأظهرت سائره ،وأخذت
بيديها صفاقتين* وأقبل الثلث يرقصن ويغنين نشيد الفلحة.
لم أنظر إلى غيرها ،فقد كانت صاحبتاها دليلين على جمالهسسا ل أكسسثر
ول أقل ،وما أحسب الحرير الحمر ،كان معها أحمر ول السود كسسان
عليها أسود ،ول لون الذهب في معصمها كان لسسون السسذهب؛ كل كل،
هذه ألوان فوق الطبيعة؛ لن الوجه يشرق عليهسسا بالجمسسال والحيسساة،
وذلك الجسم يفيض لهسسا بالخفسسة والطسسرب وتلسسك السسروح تبعسسث فيهسسا
المرح والنشوة؛ هذا مزيج من خمر اللوان ل من اللوان نفسها.
وقال مجنوننا :إن أجمل الجمال فسسي المسسرأة الفاتنسسة هسسو ذاك السسذي
يجعل لكل إنسان نوع شعوره بها ،وأنا أشعر الساعة أن قلبي نصف
قلب فقط ،وأن نصفه الخر في هذه وحدها؛ فما شعورك أنت؟
95
قلت :يسسا صسسديقي .إن اللسسه رحيسسم ،ومسسن رحمتسسه أنسسه أخفسسى القلسسب
وأخفى بواعثه ليظل كسسل إنسسسان مخبسسوًءا عسسن كسسل إنسسسان؛ فسسدعني
مخبوًءا عنك!
قال :ل بد!
سسسا ،ومسسا
قلت :إن المصباح في الموضسسع النجسسس ل يبعسسث النسسور نج ً
أشعر إل أن النور الذي في قلبي قد امتزج بالنور الذي في عينيها.
ثم كأنها أحست بأن إنساًنا قد امتل بها ،فأدارت وجهها وهي ترقص،
فتلمحت صسساحبنا ،وجعلسست تقطسسع الطسسرف بينهسسا وبينسسه كأنهسسا تعرفسسه
وتجهله ،ثم تبينت إلحاح نظره فضحكت؛ لنها تعرفه ول تجهله!
أما هو ،أما المجنون ،أما صاحب القلب المسكين!....
---------------
* الصسسفاقات :هسسي السستي يقسسال لهسسا السسساجات ،تكسسون فسسي أصسسابع
الراقصة ،والكلمة واردة في كتاب الغاني.
96
القلب المسكين ""2
97
الطاووس بينهما ناشًرا ذيلسه فسسي كبريسساء روحسه الملوثسة لظهسر فيسه
وحده اللون الملك بين ألوان هي رعيته الخاضعة.
وانتهى رقص الحسناء الفاتنة وغابت وراء السسستارة بعسسد أن أرسسسلت
قبلة في الهواء ..فقسسال صسساحبنا :آه! لسسو أن هسسذه الحسسسناء تصسسدقت
ما وقبلة..بدرهم على فقير ،لجعلته لمسة يدها دره ً
قلت :يا عدو نفسه! هذه قبلسسة محسسررة مسسسددة وقسسد رأيتهسسا وقعسست
ما في خصام بين نفسك وبين حقائق الحياة؛ تعشسسق هنا ..ولكنك دائ ً
القبلة وتخاصم الفم الذي يلقيهسسا ،وتبنسسي العسسش وتسستركه فارغ ًسسا مسسن
طيره؛ إن امرأة تحبك لبد منتهية إلى الجنسسون مسسا دامسست معسك فسسي
غير المفهوم وغير المعقول وغير الممكن.
ثم بدأ فصل آخر على المسرح ،وظهر رجسسال ونسسساء وقصسسة؛ وكسسان
من هسسؤلء الرجسسال شسسيخ يمثسسل فقيهًسسا ،وآخسسر يمثسسل شسسرطًيا؛ فقسسال
صاحبنا الفيلسوف :لقد جاءت هذه الثياب فارغة وكأنهسسا الن تنطسسق
أن صحة أكثر الشياء في هذه الحيسساة صسسحة الظسساهر فقسسط ،مسسا دام
الظاهر يخلع ويلبس بهذه السهولة؛ فكم ي هذه الدنيا من شرفاء لو
حققت أمرهم وبلوت البسساطن منهسسم -إنمسسا يشسسرفون السسرذائل لنهسسم
يرتكبونها بشرف ظاهر ..وكم من أغنياء ليس بينهم وبيسسن اللصسسوص
إل أنهم يسرقون بقانون ..وكم من فقهاء ليس بينهسسم وبيسسن الفجسسرة
إل أنهم يفجرون بمنطسسق وحجسسة ..ليسسست النسسسانية بهسسذه السسسهولة
التي يظنها من يظن ،وإل ففيم كسسان تعسسب النبيسساء وشسسقاء الحكمسساء
وجهاد أهل النفوس؟
العقدة السماوية في هذه الرض أن الله -سبحانه وتعالى -لم يخلسق
فا إنسانًيا ،ثم أراه الخير والشر وقسسال فا تلطي ً
النسان إل حيواًنا ملط ً
له :اجعل نفسك بنفسك إنساًنا وجئني.
قلت :يا عدو نفسه! فما تقول في حبك هذه الراقصة وأنسست حيسسوان
فا إنسانًيا؟
ملطف تلطي ً
قال :ويحك! وهل العقدة إل هنا؟ فهذه مبذولة ممكنة ،ثسسم هسسي لسسي
كالضرورة القاهرة ،فل يكون حبها إل إغراء بنيلها ،ول تكسسون سسسهولة
نيلها إل إغراء لذلك الغراء؛ فأنا منها لست في امرأة وحب ،ولكنسسي
سا من نواميس الكسسون ،وأدافسسع في امتحان شديد عسر؛ أغالب نامو ً
قانوًنا من قوانين الغريزة وأظهر قوتي على قوة الضرورة الميسرة
حا وقهًرا للنفس ،من قيسسل فا وإلحا ً
بأسبابها ،وهي أشد الضرورات عن ً
أنها ضرورة لزمة ،وأنها مهيأة سهلة؛ فلو أن هسذه المسرأة المحبوبسة
كانت ممنعة بعيسدة المنسسال ،لمسا كسانت لسسي فضسيلة فسسي هسذا الحسب
98
العنيف ،ولكنها دانية ميسرة على الشغف والهوى؛ فهذا هو المتحان
لصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي!
ومر الفصل الذي مثلوه وما نشعر منه بتمثيسسل ،فقسسد كسسان كالصسسورة
العقلية المعترضة للعقل وهو يفكر في غيرها ،وكانت "الحقيقة" في
شيء آخر غير هذا؛ ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيسسه فسسن؛
وهذا هو سر كل امرأة محبوبة ،فهي وحدها السستي تسسثير المحسسب فسسي
نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق ،ويجد في معانيهسسا
جواب معانيه ،وتأتيه كأنها صنعت له وحده ،وتجعسسل لسسه فسسي الزمسسان
زمًنا قلبّيا يحصر وجوده في وجودها.
وليسسس فسسن الحسسب شسسيًئا إل اسسستطاعة الحسسبيب أن يجعسسل شسسهوات
المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقسسة عليسسه ،كسسأن بسسه وحسسده ظهسسور
جسدية هذا الجسد وروحانية هذا الروح؛ وكل ما يتزين به المحبسسوب
للمحب ،فإنما هو وسائل من المبالغة لظهار تلك المعاني التي فيه،
كيمسسا تكسسبر فيسسدركها المحسسب بدقسسة ،وتثسسور فيحسسسها العاشسسق بعنسسف
وتستبد فيخضع لها المسكين بقوة.
والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب النسان ،وهي تتبسسع فكسسره
وخياله؛ ول تفاوت بينهما إل بالقوة والضسسعف ،أو التنبسسه والخمسسود ،أو
الحسدة والسسسكون ،غيسر أنهسا فسسي الحسسب تجسسد لهسا فكسًرا وخيساًل مسن
المحبوب ،فتكون كأنها قد عبرت طبيعتها بسر مجهسسول مسسن أسسسرار
اللوهية؛ ومن هنا يتأله الحبيب وهو هو لم يزد ولم ينقص ولم يتغيسسر
ضا ويشرع شسسريعة مسسن ولم يتبدل ،وتراه في وهم محبه يفرض فرو ً
حيث ل قيمة لفروضه وشريعته إل في الشهوة المؤمنة به وحدها.
ومن ثم ل عصسسمة علسسى المحسسب إل إذا وجسسد بيسسن إيمسسانين ،أقواهمسسا
اليمان بالحلل والحرام؛ وبين خسسوفين ،أشسسدهما الخسسوف مسسن اللسسه؛
وبين رغبتين ،أعظمهما الرغبة في السمو.
فإن لم يكن العاشق ذا دين وفضسسيلة فل عصسسمة علسسى الحسسب إل أن
يكون أقسسوى اليمسسانين الحسسرص علسسى مكانسسة المحبسسوب فسسي النسساس،
وأشد الخوفين الخوف من القانون ...وأعظم الرغبسستين الرغبسسة فسسي
نتيجة مشروعة كالزواج.
فإن لم يكن شيء مسسن هسسذا أو ذاك فقلمسسا تجسسد الحسسب إل وهسسو فسسي
جراءة كفرين ،وحماقة جنونين ،وانحطاط سسسفالتين؛ وبهسسذا ل يكسسون
في النسان إل دون ما هو في بهيمتين!
ثم جاء الفصسل الثسالث وظهسرت هسي علسى المسسرح ،ظهسرت هسذه
قا لهسسا ،فيرقصسسان فسسي المرة في ثوب مركزة أوروبية تخاصسسر عشسسي ً
99
أدب أوروبسسي متمسسدن ...متمسسدن بنصسسف وقاحسسة؛ متسسأدب ...متسسأدب
بنصف تسفل؛ مشروع ...مشروع بنصف كفر؛ هو على النصسسف فسسي
كل شيء ،حتى ليجعل العذراء نصف عذراء والزوجة نصف زوجة!..
وكان الذي يمثل دور العشيق فتسساة أخسسرى غلميسسة مجممسسة الشسسعر*
ممسوخة بين المرأة والرجل؛ فلما رآها صاحبنا قال :هذا أفضل..
وهشت الحسناء وتبسمت وأخذت في رقصها البديع ،فانفصسسل عنسسي
الصديق ،وأهملني وأقبل عليهسسا بسسالنظرة بعسسد النظسسرة بعسسد النظسسرة،
كأنه يكرر غير المفهوم ليفهمه ورجع وإياها كأنه في عسسالم مسسن غيسسر
زمننا تقدمه عن عالمنا ساعة أو تؤخره سسساعة؛ وكسسانت جملسسة حسساله
كأنها تقول لي :إن الدنيا الن امرأة! وكان من السسسرور كأنمسسا نقلسسه
الحب إلى رتبة آدم ،ونقل صاحبته إلسسى رتبسسة حسسواء ،ونقسسل المسسسرح
إلى رتبة الجنة!
دا علسسى والعجب أن القمر طلع في هذه السسساعة وأفسساض نسسوًرا جدي س ً
المسسسرح المكشسوف فسي الحديقسة ،فكسسأنه فعسل هسذا ليتسم الحسسن
والحسسب؛ وأخسسذ شسسعاع القمسسر السسسماوي يرقسسص حسسول هسسذا القمسسر
الرضي ،فكانت الصلة تامة وثيقسسة بيسسن نفسسس صسساحبنا وبيسسن الرض
والسماء والقمرين.
---------------
1المعجمات :هي اللواتي يتخذن شعورهن جمسسة "بضسسم الجيسسم" أي
يقصصنها ،كما يفعل نساء هذه اليام ،تشبًها بالرجال؛ وقد كان ذلسسك
مما تصنعه نسسساء العسسرب ونهسسى السسسلم عنسسه كراهسسة لهسسذا التشسسبه؛
فقص الشعر "على المودة" هو التجميم.
ما هذا الوجه لهذه المرأة؟ إنسسه بيسسن اللحظسسة واللحظسسة يعسسبر تعسسبيًرا
دا بقسماته وملمحه الفتانسسة؛ كسسل البيسساض الخسساطف فسسي نجسسوم جدي ً
السماء يجول في أديمسسه المشسسرق ،وكسسل السسسواد السسذي فسسي عيسسون
المها يجتمع في عينيه ،وكل الحمرة التي في الورد هسسي فسسي حمسسرة
هاتين الشفتين.
ما هذا الجسم المتزن المتموج المفرغ كسسأنه يتسسدفق هنسسا وهنسسا؟ إنسسه
جسم كامل النوثة ،إنه صسسارخ صسسارخ ،إنسسه عسسالم جمسسال كمسسا تقسسول
الفلسفة حين تصسسف العسسالم :فيسسه "جهسسة فسسوق" و"جهسسة تحسست"؛ لسسو
امتدت له يد عاشقه لجعل في خمس أصابعها خمس حواس...
ما هذا؟ لقد ختم الرقص بقبلة ألقاها الخليسسل علسسى شسسفتي الخليلسسة،
وكانت تركت خصرها في يديه وانفلتت تميل بأعلها راجعسسة برأسسسها
100
دا إلى الرض ،هاربة بشفتيها من الفسسم دا روي ً
إلى خلف ،نازلة به روي ً
دا؛ ليدرك الهارب... دا روي ً
المطل ،وكان هذا الفم ينزل روي ً
قت القبلة ،أمسسا هسسو ،أمسسا
وقبل أن تقع القبلة التفتت لفتة إلي ..ثم تل ّ
مجنوننا ،أما صاحب القلب المسكين؟...
101
القلب المسكين ""3
أما صاحب القلب المسكين فرمقها وهي تلتفت إليه التفات الظبيسسة
بسواد عينيها :يجعل سوادهما الجميل في النظرة الواحسسدة نظرتيسسن
لعاشق الجمال ،تقول إحداهما :أنت ،وتقسسول الخسسرى :أنسسا ،ثسسم رآهسسا
وقسسد كسسسرت أجفانهسسا وتفسسترت فسسي يسسدي الممثسسل العشسسيق وأفصسسح
منظرها ببلغة ..بلغة جسم المرأة المحبوبة بين ذراعي مسسن تحبسسه؛
ثم اختلجت وصوبت وجهها ،وأهدفت شفتيها .وتلقت القبلة.
وكان به منها ما الله عليم بسسه ،فسسانبعث مسسن صسسدره آهسسة معولسسة تئن
أنيًنا ،غير أنها كلمته بعينيها أنها تقبله هسسو؛ فل ريسسب قسسد حملسست إليسسه
إحسسدى النسسسمات شسسيًئا جميًل عسسن ذلسسك الفسسم ،لمسسست بسسه النفسسس
النفس ،والقبلة هي هي ولكن وقع خطأ في طريقة إرسالها..
وليسسس تحسست الخيسسال شسسيء موجسسود ،ولكسسن الخيسسال المتسسسرح بيسسن
الحبيبين تكون فيه أشياء كثيرة واجبة الوجود؛ إذ هو بطبيعته مجسسرى
أحلم من فكر إلى فكر ،ومسرح شعور يصدر ويرد بين القلبين فسسي
حياة كاملة الحسسساس متجسساورة المعسساني؛ وبهسسذا الخيسسال يكسسون مسسع
القلبين المتحابين روح طسسبيعي كسسأنه قلسسب ثسسالث ينقسسل للواحسسد عسسن
الخر ،ويصل السر بالسر ،ويزيد في الشياء وينقسسص منهسسا ،ويسسدخل
في غير الحقيقي فيجعله أكثر من الحقيقي؛ ومن هنا لسسم يكسسن فسسرح
ول حسسزن ،ول أمسسل ول يسسأس ،ول سسسعادة ول شسسقاء ،إل وكسسل ذلسسك
مضاعف للمحب الصادق الحب بقسسدر قلسبين؛ والسذين يعرفسسون قبلسة
الشغف والهوى ،يعرفون أن العاشق يقبل بلدة أربع شفاه.
وانسسسدلت بعسسد هسسذه القبلسسة سسستارة المسسسرح ،وغسسابت الجميلسسة
المعشسسوقة غيبسسة التمثيسسل فقلسست لصسساحب القلسسب المسسسكين :إن
روحيكما متزوجتان ..قال :آه! ومدها من قلبه كأنه دنف سقيم.
قلت :وماذا بعد آه؟
قال :وماذا كان قبلها؟ إنه الحب :فيه مثل ما في "عمليسسة جراحيسسة"
من تنهدات اللم ولذعاته ،غير أنها مفرقة على الوقسسات والسسسباب،
مبعسسثرة غيسسر مجموعسسة! "آه" هسسذه هسسي الكلمسسة السستي ل تفسسرغ منهسسا
القلوب النسانية ،وهي تقسال بلهفسسة واحسدة فسسي المصسيبة الداهمسسة،
وللسسم البسسالغ ،والمسسرض المسسدنف والحسسب الشسسديد؛ الشسسديد؛ فحينمسسا
توشك النفس أن تختنق تتنفس "بآه"!
قلت :أما رأيتها مرة وقد أوشكت نفسها أن تختنق...؟
102
ما؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في قال :لقد هجت لي داء قدي ً
زمني غرس الشجر ،فبين الحين والحين تثمر هسسذه السسساعات مرهسسا
وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف؛ ولقد رأيتها ذات مسسرة
في ساعة همها! ثم ضحك وسكت.
قلت :يا عدو نفسه! ماذا رأيت منهسسا؟ وكيسسف أراك الوجسسد مسسا رأيسست
منها؟
قال :أتصدقني؟ قلت :نعم.
قال :رأيت الهم على وجه هذه الجميلة كأنه هم مسسؤنث يعشسسقه هسسم
مذكر؛ فله جمال ودلل وفتنة وجاذبية ،وكأن وجهها يصنع من حزنهسسا
حزنين :أحدهما بمعنى الهم لقلبها ،والخر بمعنى الثورة لقلبي!
قلت :يا عدو نفسه! هذا كلم آخر؛ فهذه امرأة ناعمسسة بضسسة مطسسوي
بعضها علسسى بعضسها ،لفسساء مسسن جهسسة هيفسساء مسسن جهسسة ،ثقيلسسة شسسيء
وخفيفة شيء ،جمعت الحسسسن والجسسسم وفن ًسسا بارع ًسسا فسسي هسسذا وفن ّسسا
دا في ذاك؛ وهي جميلة كل ما تتأمل منها ،ساحرة كل ما تتخيل مفر ً
فيها ،وهي مزاحسسة دحداحسسة* وهسسي تطالعسسك وتطعمسسك؛ وأنسست امسسرؤ
عاشق ورجل قسوي الرجولسة؛ فالجميلسة والمسرأة همسا لسك فسي هسذا
الجسم الواحد ،إن ذهبت تفصلهما في خيالك امتزجتا في دمك؛ ولو
أمسكت آلة التصوير نظراتك إليها لبانت فيها أطراف اللهب الحمسسر
مما في نفسك منهسا؛ ولعمسري لسو مسرت عربسة تسدرج فسي الطريسق
ونظسسرت إليهسسا نظرتسسك لهسسذه المسسرأة بهسسذه الغريسسزة المحتسسسبة
جسا يطسارد قا مهتا ً
المكفوفة** لظننتك سسترى العجلسسة الخلفيسة عاشس ً
العجلة المامية وهي تفر منه فرار العذراء!
---------------
* هسسذه كلمسسة اسسستعملها بعسسض المولسسدين فسسي معنسسى الظريفسسة
"المدرجة" ،وليس كذلك معناها في اللغة ،ولكن السسستعمال صسسحيح
عندنا واللغة ل تأباه.
** يستعمل الكتاب في هسسذا المعنسسى لفسسظ "المكبوتسسة" ،وهسسو تعسسبير
ضعيف ،والفصح ما ذكرنا هنا.
فضحك وقال :ل ،ل؛ إن نوع التصوير لنسان هو نسسوع المعرفسسة لهسسذا
النسان ،ومن كل حبيب وحبيبة تجتمسسع مقدمسسة ونتيجسسة بينهمسسا تلزم
في المعنى ،والمقدمة عندي أن إبليسسس هنسسا فسسي غيسسر إبليسسّيته ،فل
يمكن أن تكون النتيجسة وضسعه فسي إبليسسته؛ ومسا أتصسور فسي هسذه
الجميلة إل الفن الذي أسبغه الجمال عليهسسا ،فهسي معرفسستي وخيسالي
103
كالتمثال المبدع إبداعه :ل يستطيع أن يعمسسل عمًل إل إظهسسار شسسكله
الجميل التام حافًل بمعانيه.
وليست هذه المرأة هي الولى ول الثانية ول الثالثة فيمن أحببسست 1؛
دا ،وهسسو هسسذه المعسساني إنها تكرار وإيضاح وتكملة لشيء ل يكمسسل أب س ً
النسوية الجميلة التي يزيد الشيطان فيها من عشق كل عاشسسق؛ إن
بطن المرأة بلد ،ووجه المرأة يلد!
قلت :هذا إن كان وجهها كوجه صاحبتك ،ولكن ما بال الدميمة؟
قال :ل ،هذا وجه عاقر..
قلت :ولكن الخطأ في فلسفتك هذه أنسسك تنظسسر إلسسى المسسرأة نظسسرة
عملية تريد أن تعمل ،ثم تمنعها أن تعمل ،فتأتي فلسفتك بعيدة مسسن
الفلسفة ،وكأن تغذو المعدة الجائعة برائحة الخبز فقط.
قال :نعم هذا خطأ ،ولكنه الخطأ الذي يخسرج الحقسسائق الخياليسة مسن
هسسذا الجمسسال؛ فسسإذا سسسخرت مسسن الحقيقسسة الماديسسة بأسسسلوب فبهسسذا
السلوب عينه تثبت الحقيقة نفسها في شكل آخر قسسد يكسسون أجمسسل
من شكلها الول.
أتعلم كيف كانت نظرتي إلى نور القمر على هذه وإلى حسسسن هسسذه
على القمر؟ إن القمر كان ينسيني بشريتها فأراهسسا متممسسة لسسه كسسأنه
ينظر وجهه في مرآة ،فهي خيال وجهه؛ وكسسانت هسسي تنسسسيني ماديسسة
ما له كأنه خيال وجهها. القمر فأراه متم ً
أتدري ما نظرة الحب؟ إن في هذا القلب النساني شرارة كهربائيسسة
ظا كشافة ،وزادت فسسي الحسسواس متى انقدحت زادت في العين ألحا ً
أضواء مدركة؛ فينفذ العاشق بنظسسره وحواسسسه جميعًسسا فسسي الحقسسائق
الشياء ،فتكون له على الناس زيادة في الرؤية وزيسسادة فسسي الدراك
ما فيما يسسراه ومسسا يسسدركه؛ وبهسسذه الزيسسادة الجديسسدة علسسى يعمل بها ع ّ
النفس تكون للدنيا حالسسة جديسدة فسي هسسذه النفسس؛ ويسأتي السسرور
ضا؛ فألف قبلة يتناولها ألف عاشسسق مسسن دا أي ً
دا ويأتي الحزن جدي ً جدي ً
ألف حبيب ،هي ألف نوع من اللذة ولو كانت كلها في صورة واحدة؛
ولو بكى ألف عاشق من هجر ألف معشوق لكان في كل دمسسع نسسوع
من الحزن ليس في الخر!
قلت :فنوع تصورك لهذه الراقصة التي تحبها ،أن إبليس هنا في غير
إبليستيه!
قال :هكذا هي عندي ،وبهذا أسخر من الحقيقة البليسية.
قلت :أو تسخر الحقيقة البليسية منك ،وهو الصح وعليه الفتوى...؟
104
فضحك طويًل ،وقال :سأحدثك بغريبة :أنت تعرف أن هسسذه الغسادة ل
دا إل في الحرير السود؛ وهي رقيقة البشرة ناصسسعة اللسسون، تظهر أب ً
فيكون لها من سواد الحريسسر بيسساض البيسساض وجمسسال الجمسسال؛ فلقسسد
كنت أمس بعد العشاء في طريقي إلسسى هسسذا المكسسان لراهسسا ،وكسسان
ما يتدجى ،وقد لبس وتلبس وغلب على مصسسابيح الطريسسق الليل مظل ً
فحصر أنوارها حتى بين كسل مصسباحين ظلمسة قائمسة كسالرقيب بيسن
الحبيبين يمنعهما أن يلتقيا؛ فبينا أقلب عيني في النور والغسسسق وأنسسا
في مثل الحالة التي تكون فيها الفكار المحزنة أشسسد حزن ًسسا -إذ رفسسع
لي من بعيد شبح أسود يمشسسي مشسسيته متفسستًرا قصسسير الخطسسو يهسستز
ويتبختر؛ فتبصرته في هيئته فما شككت أنها هي ،وفتحت الجنة التي
في خيالي وبرزت الحقائق الكثيرة تلتمس معانيها مسسن لسسذة الحسسب؛
وكان الطريق خالًيا ،فأحسست به لنا وحسسدنا كالمسسسافة المحصسسورة
بين ثغريسن متعاشسسقين يسسدنو أحسسدهما مسسن الخسسر ،وأسسسرعت إسسسراع
القلب إلى الفرصة حين تمكن؛ فلما صرت بحيث أتبين ذلسسك الشسسبح
إذا هو ..إذا هو قسيس..
فقلت :يا عجًبا! ما أظرف ما داعبك إبليس هذه المرة! وكأنه يقسسول
لك :إيه يا صاحب الفضيلة...
وكان الممثلون يتناوبون المسرح ونحن عنهم في شغل؛ إذ لم تكسسن
نوبتها قد جاءت بعد؛ وألقى الشيطان على لسسساني فقلسست لصسساحبنا:
ما يمنعك أن تبعث إليها فلًنا يستفتح كلمها ثم يدعوها ،فليس بينسسك
وبينها إل كلمة "تعالي" أو تفضلي؟
قال :كل ،يجب أن تنفصل عني لراها فسسي نفسسسي أشسسكاًل وأشسسكاًل؛
ويجب أن تبتعد للمسها لمسات روحية؛ ويجب أن أجهل منها أشسسياء
لحقق فيها علم قلبي؛ ويجب أن تدع جسسسمها وأدع جسسسمي وهنسساك
نلتقي رجًل وامرأة ولكن على فهم جديد وطبيعة جديدة .بهذا الفهسسم
أنا أكتب ،وبهذه الطبيعة أنا أحب!
ما هو الجزء الذي يفتنني منها؟ هو هذا الكل بجميع أجزائه.
وما هو هذا الكل؟ هو الذي يفسر نفسه في قلبي بهذا الحب.
وما هو هذا الحب؟ هو أنا وهي على هذه الحالة من اليأس.
نعم أنا بائس ،ولكن شعور البؤس هو نوع مسسن الغنسسى فسسي الفسسن :ل
يكون هذا الغنى إل من هذا الشعور المؤلم ،والحسسبيب السسذي ل تنسساله
هو وحده القادر قدرة الجمال والسحر؛ يجعلك ل تسسدري أيسسن يختسسبئ
منه جماله فيدعك تبحث عنه بلذة؛ ول تدري أين يسسسفر جمسساله منسسه
105
فيدعك تراه بلذة أخرى؛ أنا أنضج هسسذه الحلسسوى علسسى نسسار مشسسبوبة،
على نار مشبوبة في قلبي!
قلت :يسسا صسسديقي المسسسكين! هسسذه مشسسكلة عرضسست بهسسا المصسسادفة
ضسسا .ومسسا كسسان أشسسد عجسسبي إذ لسسم أفسسرغ مسسن
وستحلها المصسسادفة أي ً
الكلمة حتى رأينا "المشكلة" مقبلة علينا.
أما هو :أما صاحب القلب المسكين...؟
106
القلب المسكين ""4
أما صاحب القلب المسكين فما كاد يرى الحبيبة وهي مقبلة تتيممنسسا
حتى بغته ذلك ،فساوره القلق ،واعتراه ما يعتري المحسسب المهجسسور
قا جفسساه الحسسبيبإذا فاجأه فسسي الطريسسق هسساجره؛ أرأيسست مسسرة عاشس ً
وامتنع عليه دهًرا ل يراه ،وصسسارمه مسسدة ل يكلمسسه ،فنسسزع نسسومه مسسن
ليله ،وراحته من نهاره ،ودنياه من يده ،وبلغ به مسسا بلسسغ مسسن السسسقم
والضسسنى ،ثسسم بينسسا هسسو يمشسسي إذ بسساغته ذلسسك الحسسبيب منحسسدًرا فسسي
الطريق؟
إنك لو أبصرت حينئذ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة
الخفقان ،وكأنه في ضرباته متلعثم يكرر كلمة واحدة :هي هي هي..
ولو نفذت إلى حس هذا البائس لرأيته يشعر مثسسل شسسعور المحتضسسر
أن هذه الدنيا قد نفته منها!
ولو اطلعت على دمه في عروقه لبصرته مخذوًل يتراجع كسسأن السسدم
الخر يطرده.
إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته فسسي خيبسسة ،فيسسرد
عليه الحب مسسع كسسل شسسهوة نوع ًسسا مسسن السسذل ،فيكسسون بسسإزاء الحسسبيب
كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة.
لحظسسة ل يشسسعر المسسسكين فيهسسا مسن البغتسسة والتخسساذل والضسسطراب
والخوف إل أن روه وثبت إلى رأسه هو هوت فجأة إلى قدميه!
غير أن صاحبنا نحن لم يكن مهجوًرا من صاحبته ،ولكن من عجسسائب
دا بالعسساطفتين المختلفسستين؛ إذ كسسان الحب أنه يعمل أحياًنسا عمًل واحس ً
ما على حدد السراف مسسا دام حب ّسسا ،فكسسل شسسيء فيسسه قريسسب مسسن دائ ً
ما لن يقابل بتهمة الكذب مسسن ضده ،والصدق فيه من ناحية مهيأ دائ ً
الناحية الخرى ،واليقين معد له الشك بالطبيعة؛ والحب نفسه قضاء
على العدل ،فإنه ل يخضع لقانون مسسن القسسوانين ،والحسسبيب -مسسع أنسسه
حبيب -يخافه عاشقه من أجل أنه حبيب!
وقد يصفر العاشق لمباغتة اللقاء كما يصسسفر لمباغتسسة الهجسسر ،وهسسذه
كانت حال صاحبنا عندما رآها مقبلسسة عليسسه؛ وكسسان مسسع ذلسسك يخشسسى
إلمامتها به ،توقًيا على نفسه مسسن ظنسسون النسساس؛ وأكسسثر مسسا يحسسسنه
الناس هو أن يسيئوا الظن؛ وهو رجل ذو شأن ضخم ،ومقالة السوء
إلى مثله سريعة إذا رؤي مع مثلهسسا ،وكأنهسسا هسسي ألمسست بكسسل هسسذا أو
طالعها به وجهه المتوقر المتزمت؛ فعدلت عن طريقها إلينا ووقفت
107
على رئيس فرقة الموسيقى ،وما بيننا وبينها إل خطوات؛ ورأيتها قسسد
هيأت في عينيها نظرة غاضبتنا بها ،ثم لم تلبث أن صالحتنا بأخرى!
وكأنها ألقت لرئيس الموسيقى أمًرا ليتأهب أهبته لدورها ،ثسسم همسست
أن ترجع ،ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناهسسا إلينسسا؛ فقسسال صسساحبنا
وأعجبه ذلك من فعلها :إنها نبيلة حتى في سقوطها!
ول أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى ،ولكن هسسذا الرجسسل لسسم
يظهر لي وقتئذ إل كأنه تليفون معلق!
كانت عيناها إلى صاحبها ل تنسسزلن عنسسه ول تتحسسولن إلسسى غيسسره ،ول
تسارقه النظر بل تغلبه عليه مغالبة؛ ورأيتسسه كسسذلك قسسد ثبتسست عينسساه
عليها فخيل إلي أن هذا الوجود قد انحصسسر جمسساله بيسسن أربعسسة أعيسسن
ما مخبوًءا تحت هذه النظرات، عاشقة؛ وكانت تطارحه ويطارحها كل ً
وقد نسيا ما حولهما ،وشعرا بما يشعر به كل حبيسسبين إذا التقيسسا فسسي
بعضه لحظات السسروح السسسامية :أن هسسذا العسسالم العظيسسم ل يعمسسل إل
الثنين فقط :هو وهي..
وكسسان فمهسسا الجميسسل ل يسسزال يسسساقط ألفسساظه لرئيسسس الموسسسيقى،
ما تحفظسسه مسسن وكأنها تسرد له حكاية مروية ،أو تعارض بحافظته كل ً
كلم التمثيل أو الغناء؛ فهسسي تتحسسدث وعيناهسسا مفكرتسسان شاخصسستان،
فلم ينكر الرجل هيئتها هذه؛ ولكن كيف كانت عيناها؟
ما ،حسستى لحسسسبت أن لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كل ً
هذه النظرات الولى تهتف من بعيد :أنت يا أنت!
ثم بدا في عينيها فتور الظمأ ،ظمأ الحب المتكبر المتمرد؛ لنه حسسب
المرأة المعشوقة ،ولن له لذتين ،إحداهما فسسي أن يبقسسى ظمسسأ إلسسى
حين..
ثم أرسلت اللحاظ التي تتوهج أحياًنا فوق كلم المرأة الجميلسسة فسسي
بعض حالتها النفسية ،فتضرم في كلمها شسسرارة مسسن السسروح تظهسسر
الكلم كأنه يحرق ويحترق..
ثم توجعت النظرات؛ لنها تصلها بالرجل السسذي ل يشسبه الرجسال ،فل
يستوهب خضوعها ول يشتريه؛ والرجل كل الرجل عند هسسذه المسسرأة
هو الذي ل يشسسبه البسساقين ممسسن تعرفهسسم ،فسسإذا أحبهسسا فكأنمسسا أحبهسسا
عذراء خفرة لم تمسسس ،وكسسأنه مسسن ذلسسك يصسسلها بماضسسيها وطهارتهسسا
وحياتها وما ل يمكن أن تتمثله إل في مثل حبه.
ثم ذبلت عيناها الجميلتسسان ،ومسسا هسسو ذبسسول عينسسي امسسرأة تنظسسر إلسسى
محبها؛ إنه هو استسلم فكرهسسا لفكسسرة ،أو عنسساد معنسسى فيهسسا لمعنسسى
108
فيه ،أو توكيد خاطرة تحتاج إلى التوكيد؛ ومسسرة هسسو كقولهسسا :لمسساذا؟
وتارة هو كقولها :أفهمت؟ وأحياًنا ،وأحياًنا هو انتهاء مقاومة.
وتمت الحكاية المروية التي كانت تلقيهسسا للتليفسسون ..فكسسرت راجعسسة
إلى المسرح بعد أن صاحت نظراتها مرة أخرى كما بسسدأت :أنسست يسسا
أنت ..فقلت لصاحبنا :ويحك يا عدو نفسه! لو اختار الشيطان عينين
ساحرتين ينظسسر بهمسسا إليسسك نظسسر الفتنسسة ،لمسسا اختسسار إل عينيهسسا ،فسسي
وجهها ،في هيئتها ،في موقفها؛ وأراك مع هذا كمنتظر ما ل يوجد ول
يمكن أن يوجد؛ وأراها معك في حبها كالحيوان الليف إذا طمسع فسي
المستحيل.
قال :وما هو المستحيل الذي يطمع فيه الحيوان الليف؟
قلت :ذلك يطمع في أن تكون له حقسسوق علسسى صسساحبه فسسوق اللفسسة
والمنفعة.
قال :لقد أغمضت في العبارة فبين لي شيًئا من البيان.
قلت :هب كلبة تألف صاحبها وتحبه فهي له ذليلسسة مطسسواع ،ثسسم يبلسسغ
بها الحب أن تطمع في أن يكون لها تمام الشرف ،فل يقول صاحبها
عنها :هذه كلبتي ،بل يقول :هذه زوجتي..
قسسال :وي منسسك! وي منسسك* لقسسد ضسسربت علسسى رأس المسسسمار كمسسا
يقولون هذا هو المستحيل الذي بيني وبينها ،هذا هو المثسسل .يسسا لفسسظ
الحلوى! يا لفظ الحلوى! لو كررتك بلساني ألف مرة فهل تضع فسسي
لساني طعمها..؟
قلت :خفض عليك يسسا صسساحب القلسسب المسسسكين ،فلسسست أكسسثر مسسن
عاشق.
قال :بل أنا مع هذه أكثر من عاشق؛ لن في العاشق راغًبا وفي أنسسا
راهب ،وفيه الجريء وفي المنكمش ،ويغسترف الغرفسة مسن الشسلل
المتحدر فيحسوها فيرتوي وأغسسترف أنسسا الغرفسسة بيسسدي ،وأبقيهسسا فسسي
يدي ،وأطمع أن تهدر في يدي كالشلل أنسسا أكسسثر مسسن عاشسسق؛ فسسإنه
يعشق لينتهي من ألم الجمال ،وأعشق أنا لستمر في هذا اللم!
---------------
* أي عجب ،يتعجب من فطنته.
هذه هذه؛ العجيب يا صديقي أن خيال النسان يلتقسسط صسسوًرا كسسثيرة
من صور الجمال تجيء كما يتفق ،ولكنه يلتقط صورة واحدة بإتقان
عجيب ،هي صورة الحب؛ فهذه هذه.
ألم أقل لسك إن إبليسس هنسسا فسسي غيسسر حقيقتسه البليسسسية ولسم تفهسم
علي*؟ فافهم الن أننا إن كنا ل نرى الملئكة فسسإنه ليخيسسل إلينسسا أننسسا
109
نراها فيمن نحبهم؛ وما دام سر الحب بيسسدل الزمسسن والنفسسس ويسسأتي
بأشياء من خارج الحياة ،فكل حقائق هذا الحب في غير حقيقتها.
هذه هذه؛ ل أطلب في غيرها امرأة أجمل منهسسا ،فهسسذا كالمسسستحيل،
ضسسا؛
ولكني ألتمس فيها هي امرأة أطهر منهسسا ،وهسسذا كالمسسستحيل أي ً
إنها أجمل جسم ،ولكن وا أسفاه! إنهسا أجمسسل جسسسم للمعسساني السستي
يجب أن أبتعد عنها!
وسكت صاحبنا؛ إذ رفعت ستارة المسرح وظهرت هي مسسرة أخسسرى،
ظهرت في زينة ل غاية بعسسدها ،تمثسسل العسسروس ليلسسة جلوتهسسا؛ أل مسسا
أمّرها سخرية منك أيتها المسكينة! عروس ولكن لمن؟
كسسانت تسسبرق علسسى المسسسرح كأنهسسا كسسوكب دري نسسوره نسسور وجمسسال
وعواطف شعر.
وأقبلت تتمايل بجسم رخص لين مسترسل العطاف يتدفق الجمال
والشباب فيه من أعله إلى أسفله.
وأظهر وجهها حسًنا وأبدى جسمها حسًنا آخر ،فتم الحسن بالحسن.
واقفة كالنائمة ،فالجو جو الحلم ،وكان الحب يحلم ،وكسسان السسسرور
يحلم!
مهسستزة كسسالموج فسسي المسسوج ،هسسل خلقسست روح البحسسر فسسي جسسسمها
المترجرج فشيء يعلو وشيء يهبط وشيء يثور ويضطرب؟
ثم دقت الموسيقى بألحانهسا المتكلمسة ،ودقست أعضساء هسذا الجسسم
بألحانها المتحركة ،وأحسسنا كسسأن روح الحديثسسة جالسسسة بيننسسا تنظسسر
إليها وتتعجب .تتعجب من قوامها للغصن الحسسي ،ومسسن بسسدنها للزهسسر
الحي ،ومن عطرها للنسيم الحي.
أما صاحب القلب المسكين..
110
القلب المسكين* ""5
أما صاحب القلب المسكين فتزعزعت كبده مما رأى؛ وجعسسل ينظسسر
إلى هذه الفتانة تمثل العسسروس وقسسد أشسسرق فيهسسا رونقهسا وسسسطعت
ولمعت ،فبدت له مفسرة في هذه الغلئل غلئل العرس؛ وما غلئل
العرس؟
إنها تلك الثياب التي تكسو لبستها إلى ساعة فقط ..ثياب أجمل مسسا
فيها أنها تقدم الجمال إلى الحب ،فأزهى ألوانها اللون المشرق مسسن
روح لبستها ،وأسطع النوار عليها ،النور المنبعث من فرح قلبين.
تلك الثياب التي تكون سكًبا من خالص الحريسسر ورفيسسع الخسسز ،وحيسسن
تلبسها مثل هذه الفاتنة تكاد تنطق أنها ليست مسسن الحريسسر؛ إذ تعلسسم
أن الحرير ما تحتها.
ثم تنهد المسكين وقال :أفهمت؟
قلت :فهمت ماذا؟
قال :هذا هو انتقامها.
قلت :يا عجب ًسسا! أتريسسدها فسسي ثيسساب راهبسسة مكبكبسسة فيهسسا كمسسا ألقيسست
البضاعة في غرارة ،بين سواد هو شعار الحداد على النوثة الهالكسسة،
وبياض هو شعار الكفن لهذه النوثة؟
قال :أنت ل تعرفها؛ إن الرواية التي تمثل فيها بين السروح والجسسم،
هي التي احتاجت إلى هذا الفصل يقسسوى بسسه المعنسسى؛ وكسسل عاشسسقة
فعشقها هو الرواية التي تمثل فيها ،يؤلفها هذا المؤلف السسذي اسسسمه
الحب ،ول تدري هي ماذا يصنع وماذا يؤلسسف ،غيسسر أنسسه ل يفتسسأ يؤلسسف
ويصسسنع وينفسسع كمسسا تتنسسزل بسسه الحسسال بعسسد الحسسال ،وكمسسا تعسسرض بسسه
المصادفة بعد المصادفة؛ وعليها هي أن تمثل..
---------------
1نرجح أن يكون القراء قد أدركوا الغرض في كتابة هسسذه المقسسالت
على هذا السرد الذي وصسسفته لنسسا إحسسدى الدبيسسات بسسأن "فيسسه أشسسياء
مادية" فنحن نرمي إلى تصوير الغزيرة ثسسائرة مهتاجسسة بكسسل أسسسباب
الثورة والهتياج ،ولكنها مكفوحة بأسباب أخرى من الدين والشسسرف
والمروءة وفلسفة العقل..
ما؟
قلت :فهذا؛ ولكن كيف يكون هذا انتقا ً
قال :إن الفكار أشياء حقيقية ،ولسسو كشسسف لسسك الجسسو هسسذه السسساعة
لرأيته مسطوًرا عبارات عبارات كأنه مقالة جريدة.
111
هذا الفصل حوار طويسسل فسسي الهمسسوم واللم ورقسسة الشسسوق وتهالسسك
الصبوة ،ولو كتسسب لسسه عنسسوان لكسسان عنسسوانه هكسسذا :مسسا أشسسهاها ومسسا
أحظاها! إن الهواء بين كل عاشقين متقاتلين يأخذ ويعطي..
قلت :يا عدو نفسه! ما أعجب ما تدّقق! لقد أدركت الن أن المسسرأة
تتسلح بما شاءت ،ل من أجل أن تسسدافع ،ولكسسن لتزيسسد أسسسلحتها فسسي
سلح من تحبه ،فتريده قوة على قهرها وإخضاعها..
ظا تحدها فهسسي تظهسسر أما هذه "العروس" فكانت أفكارها ل تجد ألفا ً
كيفما اتفسسق ،مرسسسلة إرسسساًل فسسي اللفتسسة والحركسسة والهيئة والقومسسة
والقعدة ،وهي من علمست؛ امسرأة تعيسش للحقسائق ،وبيسن الحقسائق،
ككل ذي صنعة في صنعته فكانت في تماديهسا خطسر أي خطسر علسى
صاحب القلب المسكين ،تمثل شيًئا ل أدري أهو ظاهر بخفائه أم هو
ف بظهوره؛ وقد وقع صسساحبنا منهسسا فيمسسا لسسم يسسدخل فسسي حسسسابه، خا ٍ
فكانت الخبثة الماجنة كأنها تسسسكره بمسسسكر حقيقسسي ،غيسسر أنسسه مسسن
جسمها ل من زجاجة خمر.
وكانت لذهنه المتخيل كالسحابة الممتلئة بالبرق؛ تومض كسسل لحظسسة
بأنوار بعد أنوار ،وبين الفترة والفترة ترمي الصاعقة.
وظهرت كأنها امرأة مخلوقة مسسن دم ولهسسب؛ فلقسسد أيقنسست حينئذ أن
الحب إن هو إل الغريزة البهيمية بعينهسسا محاولسسة أن تكسسون شسسيًئا لسسه
وجود فني إلى وجسسوده الطسسبيعي ،فهسسو مصسسيبتان فسسي واحسسدة ،وكسسل
عمله أن يجعل اللذة ألذ ،واللم أشد ،والقلسسة كسسثرة ،والكسسثرة أكسسثر،
وما هو نهاية كأنه ل نهاية..
هذه "العروس" كانت قبل الن واقفة على حدود صسساحبها ،أمسسا الن
فإنها تقتحم الحدود وتغزو غزوها وتمتلك...
يا لسحر الحب من سحر! كل مسسا فسسي الطبيعسسة مسسن جمسسال تظهسسره
الطبيعة لعاشقها في إحدى صسور الفهسم ،أمسا الحسبيب الجميسل فهسو
وحده الذي يظهر لعاشقه في كل صور الفهم ،وبهسسذا يكسسون السسوقت
معه أوقاًتا مختلفة متناقضة ،ففي ساعة يكسسون العقسسل وفسسي سسساعة
يكون الجنون.
يا لسحر الحب! لقد أرادت هذه المرأة أن تذهب بعقل صاحبها ،وأن
تنقله إلى وحشية النسان الول الكامن فيه ،وأن تقذف به إلى بعيد
بعيد وراء فضائله وعصمته؛ فسسسنحت لسسه كمسسا يسسسنح الصسسيد للصسسائد
يحمل في جسمه لحمه الشهي ..وتركت شعوره جائًعا إلى محاسنها
بمثل جوع المعدة ..وبرزت له صريحة كما هي ،ولما هي؛ ومن حيث
إنها هي هي؛ وكل ذلك حين ألبست جسمها ثياب الحقيقة المؤنثة.
112
آه من "هي" إذا امتلت الهاء والياء من قلسسب رجسسل يحسسب! وآه مسسن
"هي" إذا خرجت هذه الكلمة من لغة الناس إلى لغة رجل واحد!
إن في كل امرأة ..امرأة يقال لها "هسسي" 1باعتبسسار الضسسمير للتسسأنيث
فقسسط ،كمسسا يعتسسبر فسسي الدابسسة والحشسسرة والدارة ونحوهسسا مسسن هسسذه
المؤنثات التي يرجع عليها هذا الضسسمير؛ ولكسسن "هسسي" المفسسردة فسسي
الكون كله ل توجد في النساء إل حين يوجد لها "هو"..
أنا أنا الذي يقص للقراء هسسذه القصسسة ،قسسد كابسسدت مسسن شسسدة الحسسب
دا؛ وكسسانت لسسي وإفراط الوجد ما يفعم قلسسبين مسسسكينين ل قلب ًسسا واحس ً
"هي" من إلهيات عانيت فيها الحب واللم دهًرا طسسويًل؛ وقسسد ذهبسست
مسسا ،أو مسسذهًبا يخسسلبسسي فسسي هواهسسا كسسل مسسذهب إل مسسذهًبا يحسسل حرا ً
بمروءة؛ ولقد علمت أن الشيء السامي في الحب هو أل يخرج من
العاشق محرم.
فالشأن كل الشأن أن يستطيع الرجل الفصل بيسسن الحسسب مسسن أجسسل
جمال النثى يظهر عليها ،وبيسسن الحسسب مسسن أجسسل النسسثى تظهسسر فسسي
جمالها؛ فهو في الولى يشهد اللهية في إبسسداعها السسسامي الجميسسل،
وفي الخرى ل يرى غير البشرية حيوانيتها المتجملة..
وقد أدركسست مسسن فلسسسفة الحسسب أن الحقيقسسة الكسسبرى لهسسذا الجمسسال
الزلي الذي يمل العالم -قد جعلت حنين العشق فسسي قلسسب النسسسان
هو أول أمثلتها العملية في تعليمسسه الحنيسسن إليهسسا إن شسساء أن يتعلسسم،
فكما يحب إنسان بروح الشهوة يحب إنسان آخر بروح العبادة؛ وهذا
دا للتوجههو الذي يسميه الفلسفة" :تلطيف السر" ،أي جعله مستع ً
إلى النور والحق والخير ،وقد عدوا فيما يعيسسن عليسسه ،الفكسسر السسدقيق
والعشق العنيف.
وكذلك تبينت مما علمني الحب أن طرد آدم وحواء مسسن الفسسردوس،
كان معناه ثقل معسساني الفسسردوس وعرضسسها لكسسل آدم وحسسواء يمثلن
الرواية ..فإذا "قطفا الثمرة" طردا مسن معسساني الجنسسة* ،وهبسط بعسد
ذلك من أخيلة السماء إلى حقائق الرض.
نعم هو الحب شيء واحد في كل عاشق لكل جميل ،غير أن الفسسرق
بين أهله يكسسون فسسي جمسساله العمسسل أو قبسسح العمسسل؛ وهسسذه النفسسوس
مصانع مختلفة لهذه المادة الواحدة؛ فالحب في بعضسسها يكسسون قسسوة
فا؛ وفسسي نفسسس يكسسون الهسسوى حيواني ّسسا يراكسسم وفي بعضها يكون ضسسع ً
الظلم على الظلمة في الحياة ،وفسسي أخسسرى يكسون روحاني ّسسا يكشسف
الظلم عن الحياة.
113
والمعجزة في هذا النسان الضعيف أنه مع طبيعة كل شيء طبيعيسسة
الحساس به ،فهو مستطيع أن يجد لذة نفسه في اللم ،قسسادر علسسى
أن يأخذ هبة من معاني الحرمان؛ وبهذه الطبيعة يسمو مسسن يسسسمو،
ليسساء تسسأتي
وهي على أتمها وأقواها في عظماء النفوس ،حتى لكأن ا ِ
هؤلء الظلمة سائلة :ماذا يريدون منها؟
فمن أراد أن يسمو بالحب فليضعه فسسي نفسسسه بيسسن شسسيئين :الخلسسق
ل مسسن شسسيئين: الرفيع ،والحكمسسة الناضسسجة؛ فسسإن لسسم يسسستطع فل أقس ّ
الحلل ،والحرام**.
أنا أنا الذي يقص للقراء هسسذه القصسسة ،أعسسرف هسسذا كلسسه ،وبهسسذا كلسسه
فهمت قول صاحب القلب المسكين :إن ظهور صسساحبته فسسي فصسسل
العروس هو انتقامها ،حاصرت عيناهسسا عينسسه ،وزحفسست معانيهسسا علسسى
معسسانيه ،وقسساتلت قتسسال جسسسم المسسرأة المحبوبسسة فسسي معركسسة حبهسسا،
وبكلمة واحدة :كأنما ليست هذه الثياب لتظهر له بل ثياب..
وأردت أن أعيبها بما صنعت نفسها له ،وأن أعيبه هو بدخوله فيمسسا ل
يشبهه ،وقلت في غير طائل ول جدوى ،فمسسا كنسست إل كالسسذي يعيسسب
الورد بقوله :يا عطر الشذى ،ويا أحمر الخدين!
وقد أمسك عن جوابي ،وكانت محاسنها تجعل كلماتي شوهاء ،وكان
ي غامضة ،وكسسانت حلوتهسا تجعسل أقسوالي مسرة، وضوحها يجعل معان ّ
وكانت ثياب العروس وهسسي تسسزف تريسسه ألفسساظي فسسي ثيسساب العجسسوز
المطلقة؛ وكلما غاضسسبته مسسع نفسسسه أوقعسست هسسي الصسسلح بينسسه وبيسسن
نفسه.
---------------
* أي طرًدا كالطرد من الجنة.
** بسطنا هذا المعنى في المقالة الثانية من هسسذه المقسسالت علسسى وجسسه
آخر.
والعجيب العجيب في هذا الحب أن فتح العينين علسسى الجميسسل المحبسسوب
دا إل
هو نوع من تغميضهما للنوم ورؤيا الحلم؛ ليس إل هذا ،ول يكون أب ً
هذا؛ فمهما أعطت من جدل فإقناعك المحب المستهام كإقناعسسك النسسائم
المستثقل؛ وكيف وله ألفاظ من عقله ل من عقلك ،وبينك وبينسسه نسسسيانه
إياك ،وقد تركك على ظاهر الدنيا وغاص هو في دنيا باطنه ل يملك فيهسسا
أخ ً
ذا ول رًدا إل ما تعطي وما تمنع.ثسم ....ثسم غسسابت "العسروس" بعسسد أن
نظرت له وضحكت.ضحكت بحزن ..حزن الذي يسسخر مسن حقيقسة؛ لنسه
يتألم من حقيقة غيرها؛ وكسسان منظرهسسا الجميسسل المنكسسسر فلسسسفة تامسسة
مصورة للخير الذي اعتدى عليه الشر فأحاله ،والرادة التي أكرهها القدر
114
فأخضسسعها ،والعفسسة المسسسكينة السستي أذلتهسسا ضسسرورة الحيسساة ،والفضسسيلة
المغلوبة التي حيل بينها وبين أن تكون فضيلة!
ويا ما كان أجملها ناظرة بمعسساني البكسساء ضسساحكة بغيسسر معسساني الضسسحك؛
تتنهد ملمح وجهها وفمها يبتسم!
قا بسسأن قلبهسسا الحزيسسن يسسسأل سسسؤاًل أبسسداه علسسى وجههسسا
كان منظرها ناط ً
بلطف ورقة؛ كان يسأل إنساًنا :أل تحل هذه العقدة؟...
وانقضى التمثيل وتناهض الناس .أما صاحب القلب المسكين؟..
القلب المسكين ""6
115
غير السرور الذي يعرفه الناس؛ إذ هسسو فسسي الول روح تتضسساعف بسسه
الروح ،فكل ما سرك وانتهى شعرت أنه انتهى؛
ولكن ما ينتهي من سرور العاشق المستهام يشعره أنسسه مسسات ،فلسسه
م الثكل ،وله في نفسه هم الثكسسل وحسسزن في نفسه حزن الموت وه ّ
الموت!
وينظر صاحب القلب المسكين فإذا النوار قد انطفأت في الحديقة،
ضا كأنما كان فيه مسرح وأخذوا يطفئون أنواره. وإذا القمر أي ً
كان وجه القمر في مثل حزن وجه العاشق المبتعد عن حسسبيبته إلسسى
دا ،تتخايل فيه معسساني السسدموع أطراف الدنيا ،فكان أبيض أصفر مكم ً
التي يمسكها التجلد أن تتساقط.
كسسان فسسي وجسسه القمسسر وفسسي وجسسه صسساحبنا معًسسا مظهسسر تسسأثير القسسدر
المفاجئ بالنكبة.
وبدت لنا الحياة تحت الظلمسسة مقفسسرة خاويسسة علسسى أطللهسسا ،فارغسسة
كفراغ نصف الليل من كل ما كان مشرًقا في نصسسف النهسسار؛ يسسا لسسك
ما وضوًءا من ساحر أيها الحب؛ إذ تجعل في ليل العاشق ونهاره ظل ً
ليسا في اليام والليالي!
أما الحديقة فلبسها معنى الفراق ،وما أسرع ما ظهرت كأنما يبست
كلهسسا لتوهسسا وسسساعتها ،وأنكرهسسا النسسسيم فهسسرب منهسسا فهسسي سسساكنة،
وتحولت روحها خشبية جافسسة ،فل نضسسرة فيهسسا علسسى النفسسس؛ وبسسدت
أشجارها في الظلم ،قائمة في سوادها كالنائحات يلطمن ويولسسولن،
مسسا حيسسن تنبسست الصسسلة بيسسنوتنكر فيها مشسسهد الطبيعسسة كمسسا يقسسع دائ ً
المكان ونفس الكائن.
ماذا حدث؟
ل شيء إل ما حدث في النفس ،فقد تغيسسرت طريقسسة الفهسسم ،وكسسان
للحديقة معنى من نفسه فسلب المعنى ،وكان لهسسا فيسسض مسسن قلبسسه
فانحبس عنها الفيض؛ وبهذا وهذا بدت في السلب والعسسدم والتنكسسر،
فلم يبق إبداع في شيء مبدع ،ول جمال في منظر جميل.
أكذا يفعل الحب حين يضع فسسي النفسسس العاشسسقة معنسسى ضسسئيًل مسسن
معاني الفناء كهذا الفراق؟
أكذا يترك الروح إذا فقدت شيًئا محبوًبا ،تتوهم كأنهسسا مسساتت بمقسسدار
هذا الشيء؟
مسكين أنت أيها القلب العاشق! مسكين أنت!
116
ومضينا فملنا إلى نديّ نجلسسس فيسسه ،وأردت معابثسسة صسساحبنا المتسسألم
بالحب والمتألم بسسأنه متسسألم ،فقلسست لسسه :مسسا أراك إل كأنسسك تزوجتهسسا
وطلقتها فتبعتها نفسك!
قال :آه! من أنا الن؟ وما بال ذلك الخيال الذي نسق لي الدنيا فسسي
أجمل أشكالها قد عاد فبعثرها؟ أتدري أن العسسالم كسسان فسسي ثسسم أخسسذ
مني فأنا الن فضاء فضاء.
قلت :أعرف أن كل حبيب هو العالم الشخصي لمحبه.
قال :ولذلك يعيش المحب المهجور ،أو المفارق ،أو المنتظر ،وكسسأنه
في أيام خلت ،وتراه كأنما يجيء إلى الدنيا كل يوم ويرجع.
قلت :إن من بعض ما يكون به الجمال جماًل أنه ظالم قاهر عنيسسف،
كالملك يستبد ليتحقق من نفاذ أخره ،وكأن الجميل ل يتم جمسساله إل
إذا كان أحياًنا غير جميل في المعاملة!
قال :ولكن المر مع هذه الحبيبسسة بسسالخلف؛ فهسسي تطلبنسسي وأتنكبهسسا،
وهي مقبلسسة لكنهسسا مقبلسسة علسسى امتنسساعي؛ وكأنهسسا طسسالب يعسسدو وراء
مطلوب يفر ،فل هذا يقف ول ذلك يدرك.
قلت :فسإن هسذه هسي المشسكلة ،ومستى كسانت الحبيبسة مثلهسا ،وكسان
المحب مثلك ،فقد جاءت العقدة بينهما معقودة من تلقاء نفسسسها فل
حل لها.
قال :كذلك هو ،فهل تعرف في البؤس والهم كئوس العاشسسق السسذي
ل يتدبر كيف يأخذ حبيبته ،ولكن كيف يتركها؟ ما هي المسسسافة بينسسي
وبينها؟ خطوة ،خطوتسسان؟ كل ،كل؛ بسسل فضسسائل وفضسسائل تمل السسدنيا
كلها ،إن مسافة ما بين الحلل والحرام متراخيسة ممتسسدة ذاهبسسة إلسى
غير نهاية؛ وإذا كان الحب الفاسد ل يقبل مسسن الحسسبيب إل "نعسسم" بل
شرط ول قيد؛ لنه فاسد ،فالحب الطاهر يقبل "ل" لنسسه طسساهر! ثسسم
هو ل يرضى "نعم" إل بشرطها وقيدها من الدب والشريعة وكرامسسة
النسانية في المرأة والرجل.
وإذا لم ينته الحب بالثم والرذيلة ،فقد أثبت أنه حب؛ وشسسرفه حينئذ
هو سر قوته وعنصر دوامه.
أتعرف أن بعض عشساق العسرب تمنسى لسو كسان جمًل وكسانت حسبيبته
ناقة ..إنه بهذا يود أل يكون بينهمسسا العقسسل والقسسانون وهسسذا الحرمسسان
الذي يسمي الشرف ،وأل يكون بينهما إل قيسسد غريزتهسسا السسذي ينحسسل
من تلقاء نفسه في لحظة ما ،وأن يترك لقوته وتترك هسسي لضسسعفها؛
والقوة والضعف فسسي قسسانون الطبيعسسة همسسا ملسك وتمليسسك واغتصسساب
وتسليم.
117
قلت :وهذا ما يفعله كل عاشق لمثل هذه الراقصة إذا لم يكسسن فيسسه
فا من نوع آخر ،فمعسسه الثمسسن وبهسسا إل الحيوان؛ فإن بينهما قوة وضع ً
الحاجة ،وهما في قانون الضرورة ملك وتمليك.
قال :وهذا مما يقطع في قلبي؛ فلو أن للمة دين ًسسا وشسسرًفا لمسسا بقسسي
غا من رجل ،وإن هذه وأمثالها إنما ينزلن في تلك موضع الزوجة فار ً
المواضع الخاليسة أول مسا ينزلسن ،فكسل بغسي هسي فسي المعنسى ديسن
متروك وشرف مبتذل في المة.
قلت :فحدثني عنك ما هذا الوجد بها وما هسسذا الحسستراق فيهسسا ،وأنسست
ضا كأنما جمعتهسسا فسسي حواسسسك فأخسسذتها قد كنت بين يديها خيالّيا مح ً
وتركتها في وقت مًعا ،وحواسك هذه ل تزال كما هسسي ،بسسل هسسي قسسد
زادت حدة ،فكما صنعت لك من قرب تصنع لك من بعد؟
قال :أنا في محضرها أحبها كما رأيت بالقدر الذي تقول هي فيه إنك
ل تحبني ،إذ كان بيننا آخر اسمه الخلق؛ ولكن يفي غيابها أفقسسد هسسذا
الميزان الذي يزن المقدار ويحدده ،وإذا كنت لسسم تعلسسم كيسسف يصسسنع
العاشق في غيبة المعشوق ،فاعلم أن كبرياءه حينئذ ل تسسرى بإزائهسسا
ما تقاومه ،فتتخلى عنه وتخسذله؛ وفضسيلته ل تجسد مسا تسستعلن فيسه،
فتتوارى وتدعه؛ وشخصيته ل تجد ما تبرز له ،فتختفسسي وتهملسسه؛ فمسسا
يكون من كل ذلك إل أن يظهسسر المسسسكين وحسسده بكسسل مسسا فيسسه مسسن
الوهن والنقص وحدة الشسسوق؛ وهنسسا ينتقسسم الحسسب ممسسا زورت عليسسه
الكبرياء والفضيلة والشخصية ،فيضسسرب بحقسسائقه ضسسربات مؤلمسسة ل
تقوم ل القوة ،ويجعل غياب الحبيب كسسأنه حضسسوره مسسستخفًيا لرؤيسسة
الحقيقة التي كتمت عنه؛ وكم من عاشقة متكسسبرة علسسى مسسن تهسسواه
تصد وتباعده ،وهي في خلوتها ساجدة على أقدام خياله تمرغ وجهها
هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم!
ل إنه ل بد في الحب من تمثيل رواية المتناع أو الصد أو التهسساون أو
ما ثياب اسسستعارة أي الروايات من مثلها؛ ولكن ثياب المسرح هي دائ ً
ما دام لبسها في دوره من القصة.
ثم وضع المسكين يده على قلبه وقال :آه! إن هسسذا القلسسب يغاضسسب
الحياة كلها متى أراد أن يشعر صاحبه أنه غضبان.
ن الناس ل يعرف أحزانه؟ ولكن من منهم الذي يعرف أسسسرار م َ
ن ِ
م ْ
َ
ً
أحزانه وحكمتها؟ أما إنه لو كشف السر الفراح والحسسزان عمل فسسي
النفس مسن أعمسال تنسسازع البقسساء؛ فهسذا النساموس يعمسل فسسي إيجساد
الصلح والقوى ،ثم يعمسسل كسسذلك ليجسساد الفضسسل والرق ،ومسسن ثسسم
كانت آلم الحب قوية حسستى لكأنهسسا فسسي الرجسسل والمسسرأة تهيسسئ أحسسد
118
القلبين؛ ليستحق القلسسب الخسسر.آه مسسن هسسذا اللواعسسج! إنهسسا مسسا تكسساد
تضطرم حسستى ترجسسع النفسسس وكأنهسسا موقسسد يشسستعل بسسالجمر ،وبسسذلك
يصسسهر المعسسدن النسسساني ويصسسنع صسسنعة جديسسدة؛ وإلسسى أن ينصسسهر
ويتصفى ويصنع ،ماذا يكون للنسان في كل شيء من حبيبه؟
يكون له في كل شيء روحسسه النسسازي.قلسست :بسسخ بسسخ*! هكسسذا فليكسسن
الحب؛ إنها حين تهيج في نفسك الحنين إليها تعطيسسك مسسا هسسو أجمسسل
من جمالها وما هو أبدع من جسمها؛ إذ تعطيك أقوى الشعر وأحسن
الحكمة.قال :وأقوى اللم وأشد اللوعة! يا عجًبا! كأن الحياة ل تقدم
في عشق المحبسسوب إل عشسسقها هسسي؛ فسسإذا وقعسست الجفسسوة ،أو حسسم
البين ،أو اعترى اليأس -قدم الموت نفسه فكل ذلك شبه الموت.
إن الحزن الذي يجيء من قبل العدو يجيء معه بقوة تحمله وتتجلسسد
له وتكابر فيه؛ ولكن أين ذلك فسي حسزن مبعثسه الحسبيب؟ ومسن أيسن
القوة إذا ضعف القلب؟
قلت :ل يصنع الله بك إل خيًرا؛ فإذا كان غد وانسلخ النهار من الليسسل
جئنا إليها فرأيناها في المسرح ،ولعل المر يصدر مصدًرا آخر ،قسسال:
أرجو..
ولم يكد ينطق بهذه الرجية حتى مر بنا سسسبعة رجسسال يقهقهسسون ،ثسسم
تلقينا وجئنا؛ ويا ويلتنا علسى المسسسكين حيسن علسسم أنهسسا رحلسست؛ لقسسد
أدرك أن الشسسسيطان كسسسان يضسسسحك بسسسسبعة أفسسسواه ..مسسسن قسسسوله:
أرجو..ولماذا رحلت؟ لماذا؟ وأما هو..؟
---------------
كلمة العجاب تقسال عنسسد الرضسى والمسسدح ،ومثلهسا "زه" •
وهذه فارسية.
وأما صاحب القلب المسكين فما علم أنها قد رحلت عن ليلته حسستى
أظلم الظلم عليه ،كأنها إذا كانت حاضرة أضاء شسسيء ل يسسرى ،فسسإذا
مسسا كاسسسف البسسال يتنسسازعه فسسي
غابت انطفأ هسسذا الضسسوء؛ ورأيتسسه واج ً
نفسه ما ل أدري ،كأن غيابها وقع في نفسه إنذار حرب.
لماذا كان الشعراء ينوحون علسسى الطلل ويلتسساعون بهسا ويرتمضسون
منها وهي أحجار وآثار وبقايا؟ وما الذي يتلقاهم به المكان بعد رحيل
الحبة؟ يتلقاهم بالفراغ القلسسبي السسذي ل يملسسؤه مسسن الوجسسود كلسسه إل
119
وجود شخص واحد؛ وعند هذا الفراغ تقسسف السسدنيا ملي ّسسا كأنهسسا انتهسست
إلى نهاية في النفسس العاشسقة ،فتبطسسل حينئذ ٍ المبادلسسة بيسن معساني
دا فسسي موضسسعه ول الحياة وبين شعور الحي؛ ويكون العاشسسق موجسسو ً
تجده المعاني التي تمر به ،فترجع منسسه كالحقسسائق تلسسم بسسالفراغ مسسن
وعي سكران.
يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما الذي يجعسل فيسك تلسك القسدرة
السساحرة؟ أهسسو فصسسلك بيسسن زمسسن وزمسسن ،أم جمعسسك الماضسسي فسسي
لحظة؛ أم تحويلك الحياة إلى فكرة ،أم تكبيرك الحقيقة إلى إضعاف
حقيقتها ،أم تصويرك روحية الدنيا في المثال الذي تحسه السسروح ،أم
إشعارك النفس كالموت أن الحياة مبنيسسة علسسى النقلب ،أم قسسدرتك
على زيادة حالة جديسسدة للهسسم والحسسزن ،أم رجوعسسك باللسسذة تسسرى ول
تمكن ،أم أنت كل ذلك؛ لن القلب يفرغ سسساعة مسسن السسدنيا ويمتلسسئ
بك وحدك؟
يا أثر الحبيب حيسسن يفسسارق الحسسبيب! مسسا هسسذه القسسوة السسسحرية فيسسك
تجتذب بها الصدر ليضمك ،وتسسستهوي بهسسا الفسسم ليقبلسسك ،وتسسستدعي
الدمع لينفر لك ،وتهتسساج الحنيسسن لينبعسسث فيسسك؟ أكسسل ذلسك لنسسك أثسسر
الحبيب ،أم لن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ول يجد ما يخفق عليسسه
سواك؟
ووقف صاحبنا المسكين محزوًنا كأن شيًئا يصله بكل همسسوم العسسالم؛
وتلك هي طبيعة اللم الذي يفاجئ النسان من مكمن لذته وموضسسع
عا من الحياة بطريقة سلب الحياة نفسها ،ويأخسذ سروره ،فيسلبه نو ً
مسسا؛ لن فيسسهمن قلبه شيًئا مات فيدفنه فسسي قسسبر الماضسسي ،يكسسون أل ً
المضض ،وكآبة؛ لن فيه الخيبة ،وذهوًل؛ لن فيه الحسرة؛ وتتم هذه
الثلثة الهمسسوم بالضسسيق الشسسديد فسسي النفسسس؛ لجتمسساع ثلثتهسسا علسسى
النفس؛ فإذا المسكين مبغوت كأن اللم أطبقت عليه مسسن الجهسسات
الربع ،فقلبه منها صدوع صدوع..
ذل ،وكلمسا حساولت أن أثبسست لسه وجسود وجعلت أعذل صاحبنا فل يعتس ِ
الصبر كنت كأنما أثبت له أنه غير موجود؛ ثم تنفس وهو يكاد ينشسسق
ظا وقال :لماذا رحلت؟ لماذا؟ غي ً
قلت :أنت أذللت جمالها بهذا السلوب الذي تسسرى أنسسك تعسسز جمالهسسا
ت علسسى قلبسسك وقلبهسسا؛ به ،وقد اشتددت عليهسسا وعلسسى نفسسسك ،وتعن ّس ّ
كانت ظريفة المذهب في عشقها وكنت خشًنا فسسي حبسسك ،وسسسوغتك
قا فرددتسسه عليهسسا ،وتهسسالكت وانقبضسست أنسست ،ورفعسست قسسدرك عسسن ح ّ
دا فخفضت قدرها عن نفسسسك مسسن اطسسراح وجفسساء، نفسها تحبًبا وتود ً
120
واستفرغت وسعها في رضاك فتغاضبت ،ونضت عن محاسنها شسسيًئا
شيًئا تسأل بكل شيء سؤاًل فلم تكن أنت من جوابها في شيء..
ومن طبع المرأة أنهسا إذا أحبسست امتنعسست أن تكسسون البسسادئة ،فسسالتوت
على صاحبها وهي عاشسسقة ،وجاحسسدت وهسسي مقسسرة؛ إذ تريسسد فسسي أن
تتحقق أنها محبوبسسة ،وفسسي الثانيسسة أن يقسسدم لهسسا البرهسسان علسسى أنهسسا
تستحق المهاجمة ،وفسسي الثالثسسة هسسي تريسسد أل تأخسسذها إل قسسوة قويسسة
فتمتحسسن هسسذه القسسوة ،ومسسع هسسذه الثلث تسسأبى طبيعسسة السسسرور فيهسسا
والستمتاع بها إل أن يكون لهذا السرور وهذا المتناع شسسأن وقيمسسة،
فتذيق صاحبها المر قبل الحلو؛ ليكبر هذا بهذا.
غير أنها إذا غلبها الوجد وأكرهها الحب علسسى أن تبتسسدئ صسساحبها ،ثسسم
ت المر فيما بينها وبينسسه علسسى ابتدأت ولم تجد الجواب منه ،أو لم يأ ِ
ما تحب ،فإن البتداء حينئذ يكسسون هسسو النهايسسة ،وينقلسسب الحسسب عسسدو
الحب؛ وأنسا أعسسرف امسرأة وضسسعتها كبرياؤهسا فسسي مثسل هسسذه الحالسة
وقالت لصاحبها :سأتألم ولكن لن أغلب ،فكان السسذي وقسسع واأسسسفاه
-أنها تألمت حتى جنت ،ولكن لم تغلب ..1
ً
قال :فما بال هذه؟ أما تراها تبتدئ كل يوم رجل؟
قلت :إنها تبتدئ متكسبة ل عاشقة ،فإذا أحبت الحب الصحيح أرادت
قيمتها فيما هو قيمتهسسا؛ وأنسسا أحسسسبها تحسسب فيسسك هسسذا العنسسف وهسسذه
القسوة وهذه الروحية الجبارة؛ فإنهسسا لسسذات جديسسدة للمسسرأة السستي ل
تجد من يخضعها؛ وفي طبيعة كل امرأة شيء ل يجسسد تمسسامه إل فسسي
عنف الرجل ،غير أنه العنف الذي أوله رقة وآخره رقة؟
أمسسا واللسسه إن عجسسائب الحسسب أكسسثر مسسن أن تكسسون عجيبسسة؛ والشسسيء
الغريب يسمى غريًبا فيكفي ذلك بياًنا في تعريفه ،غيسسر أنسسه إذا وقسسع
في الحب سمي غريًبا فل تكفيه التسمية ،فيوصف مع التسمية بسسأنه
غريب فل يبلغ فيه الوصف ،فيقع التعجب مع الوصف والتسمية مسسن
أنه شيء غريب ،ثم تبقى وراء ذلك منزلة للغراق في التعجب بيسسن
العاشق وبين نسفه؛ وهكذا يشعرون.
فكل أسرار الحب من أسرار الروح ومن عالم الغيب؛ وكسسأن النبسسوة
نبوتان :كبيرة وصغيرة ،وعامة وخاصة .فإحسسداهما بسسالنفس العظيمسسة
في النبياء ،والخرى بالقلب الرقيق في العشاق؛ وفي هذه من هذه
شبه؛ لوجود العظمة الروحية في كلتيهما غالبة على المادة ،مجسسردة
من إنسان الطين مسسن النسسور ،محركسسة هسسذه الطبيعسسة الدميسسة حركسسة
جديدة في السمو ،ذاهبة بالمعرفسسة النسسسانية إلسسى مسسا هسسو الحسسسن
121
والجمل ،واضعة مبدأ التجديد في كسسل شسسيء يمسسر بسسالنفس ،منبعثسسة
بالفراح من مصدرها العلوي السماوي.
بيسسد أن فسسي العشسسق أنبيسساء كذبسسة؛ فسسإذا تسسسفل الحسسب فسسي جلل،
واستعلنت البهيمية فسي عظمسسة ،وتجسرد مسن إنسسسان الطيسن إنسسسان
الحجر ،وتحركت الطبيعة الدمية حركة جديدة في السقوط ،وذهبت
المعرفة النسانية إلى ما هو القبح .والسوأ ،وتجدد لكل شيء فسسي
النفس معنى فاسد ،وانبعثت الفراح من مصدرها السفلى -إذا وقسسع
كل هذا من الحب فما عساه يكون؟
ل يكون إل أن الشيطان يقلد النبوة الصغيرة في بعض العشاق ،كما
يقلد النبوة الكبيرة في بعض الدجالين.
هكذا قسسال صسساحب القلسسب المسسسكين وقسسد تكلسسم عسسن الحسسب ونحسسن
دا بمجلسسه فلعلسه جالسسان فسي الحديقسة ،وكنسسا دخلناهسسا ليجسدد عهس ً
يسكن بعض ما به؛ واستفاض كلمنا في وصف تلك العبهرة* الفتانة
التي أحلته هذا المحل وبلغست بسه مسا بلغست وكسان فسي رقسة ل رقسة
بعدها ،وفي حب ل نهاية وراءه لمحب؛ وخيل إلى أنسه يسرى الحسديث
عنها كأنه إحضارها بصورة ما!
وأنفع ما في حديث العاشق عسسن حبسسه وألمسسه أن الكلم يخرجسسه مسسن
حالة الفكر ،ويؤنس قلبه باللفاظ ،ويخفف من حركة نفسسسه بحركسسة
لسانه ،ويوجه حواسه إلى الظاهر المتحسسرك؛ فتسسسلبه ألفسساظه أكسسثر
معانيه الوهمية ،وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة ل في النفس؛
وفي كل ذلك حيلة على النسيان ،وتعلل إلى ساعة؛ وهو تسسدبير مسسن
الرحمة بالعاشقين في هذا البلء الذي يسمى الفراق أو الهجر.
قا مر بنا فدعاه صسساحبنا وقسسال وكان من أعجب ما عجبت له أن صدي ً
وهو يومئ إلي :أنا وفلن هذا مختلفان منذ اليوم؛ ل هسسو يقيسسم عسسذًرا
ول أنا أقيم حجة ،وأحسب أن عندك رأًيا فاقض بيننا...
ويسأله الصديق :ما القضية؟ فيقول وهو يشير إلي:
إن هذا قد تخرق قلبسسه مسسن الحسسب فل يسسدري مسسن أيسسن يجيسسء لقلبسسه
برقعة ..وإنه يعشق فلنة الراقصسسة السستي كسسانت فسسي هسسذا المسسسرح،
ويزعم لي ..أنها أجمل وأفتن وأحلى من طلعت عليه الشمس ،وأنه
ليس بين وجهها وبين القمر وجه امسسرأة أخسسرى فسسي كسسل مسسا يضسسيء
دا ...لن ألحاظهسسا دا أب س ً
دا أب س ً
القمر عليه ،وأن عينيها مما ل ينسى أب س ً
تذوب في الدم وتجسسري فيسسه ،وأن الشسسيطان لسو أراد منسساجزة العفسسة
والزهد في حسسرب حاسسمة بينسه وبيسن أزهسسد العبساد لسسترك كسل حيلسه
وأساليبه وقدم جسمها وفنها..
122
فيقول له المسؤول :وما رأيك أنت؟
فيجيبه :لو كان عنها صاحًيا لقد صحا .إن المشكلة في الحب أن كل
عاشق له قلبه الذي هو قلبه ،وحسبها أن مثل هذا هسسو يصسسفها؛ ومسسا
يدرينا من تصاريف القدر بهذه المسكينة ما عليهسسا ممسسا لهسسا ،فلعلهسسا
الجمال حكم عليه أن يعذب بقبح الناس ،ولعلها السرور قضي عليسسه
أن يسجن في أحزان!
وقلت له :يا صديقي المسكين! أَوكل هذا لهسسا فسسي قلبسسك؟ فمسسا هسسذا
القلب الذي تحمله وتتعذب به؟
---------------
* هي التي جمعت الحسن والجسم والمتلء وجمال الخلقة من كسسل
ناحية ،كهذه التي نحن في وصفها منذ شهرين ....
قال :إنه -والله -قلب طفل ،وما حبه إل التماسه الحنان الثسساني مسسن
الحبيبة ،بعد ذلك الحنان الول من الم؛ وكل كلمي في الحسسب إنمسسا
هو إملء هذا القلب على فكره كأنه يخلق به خلق تفكيره.
آه يا صديقي! من السخرية بهذه الدنيا وما فيها أن القلب ل يسسستمر
ما ،ومن طفًل بعد زمن الطفولة إل في اثنين :من كان فيلسوًفا عظي ً
كان مغفًل عظي ً
ما!
وافترقنا؛ ثم أردت أن أتعرف خبره فلقيته من الغسد ،وكسان لسي فسي
أحلمي تلك الليلة شأن عجيب ،وكسسان لسه شسسأن أعجسسب؛ أمسسا أنسسا فل
يعني القراء شأني وقصتي.
وأما هو؟...
123
القلب المسكين ""8
124
أما صافحتك امرأة تحبها وتحبك؟ أما أحسست بيدها قسسد نسسامت فسسي
يدك ولو لحظة؟ أما رأيت بعينيك نعاس يدها وهو ينتقل إلسسى عينيهسسا
فإذا هما فاترتان ذابلتان ،وتحت أجفانهما حلم قصير؟
قلت :يا صديقي دع الفلسفة؛ ثم كان ماذا بعد أن نامت يد على يد؟
قال :ثم كانت سخرية من الشيطان أقبح سخرية قط.
قلت :حسبي لكأنك شرحت لي ما بقي..
ضا ،وكسسأني بسسه فضحك طويًل ،وقال :إن الشيطان يسخر الن منك أي ً
يقول لك :وكان ما كان مما لست أذكره ..أفتدري ما الذي كان ومسسا
بقية الخبر؟
لقد كنت مولًعا بامتحان قوتي في الضغط بيدي على أعواد منصسسوبة
مسسن الحديسسد ،أو علسسى أيسسدي القويسساء إذا سسسلمت عليهسسم 1؛ فلمسسا
صافحتني لبثت مسدة مسن الزمسن ثسم شسسددت علسى يسدها قليًل قليًل،
فتنبهت في هذه العادة ،فمسخت الحلم وانصرف وهمسسي إلسسى أقبسسح
صورة وأشنعها وأبعدها مما أنا فيسه مسن الحسب ولسذات الحسب؛ فسإذا
بإزائي وجه ،وجه من؟ وجه مصارع ألماني كنت أعرفه من عشسسرين
سنة وأضغط على يده..
قلت :إنما هذه كبرياؤك أو عفتك تنبهت في تلسسك الشسسدة مسسن يسسدك،
ول يزال أمرك عجيًبا؛ فهل معك أنت ملئكة ومع الناس شياطين؟
قال :والذي هو أعجب أنسسي رأيسست فسسي أضسسغاث أحلمسسي كسسأن قلسسبي
المسكين يخاصمني وأخاصمه؛ وقسسد خسسرج مسسن أحنسساء الضسسلوع كسسأنه
مخلوق مسسن الظسسل يسسرى ول يسسرى إذ ل شسسكل لسسه؛ وسسسبني وسسسببته،
وقلت له وقال لي ،وتغالظنا كأننا عدوان؛ فهسسو يسسرى أنسسي أنسسا أمنعسسه
لذاته ،وأرى أنه هو يمنعني ،وأنه أشفى بي على ما أشفى؛ وقلت له
فيما قلت :ل قرار على جنايتك ،فاذهب عني ول تتسم باسمي فسسإنه
ل فلن لك* بعسسد اليسسوم؛ ولسسول أنسسك مخسسذول فسسي الحسسب لعلمسست أن
لمسة يد الرجل ليد المرأة الجميلة نسسوع مخفسسف مسسن التقبيسسل ،فسسإذا
ما إلسسى تقبيسسل فمسسه لفمهسسا؛ ولسسول هي تركته يرتفع في الدم انتهى يو ً
أنك مخذول في الحب لعلمت أن هذا الضم بين اليدين نسسوع مخفسسف
مسا إلسسى ضسسم من العناق ،فإذا هسي تركتسه يشستد فسسي السسدم انتهسى يو ً
الصدر للصدر؛ ولكنك مخذول في الحب ،ولكنك مخذول!.
وقسسال لسسي فيمسسا قسسال :وأنسست أيهسسا الخسسائب؟ أمسسا علمسست أن أناملهسسا
الرخصة هي أناملها ،ل أعسسوادك مسسن الحديسسد؟ فكيسسف شسسددت عليهسسا
ويحك تلك الشدة التي أخرجت لك وجه المصارع؟ ولكنك خائب في
الحب ،ولكنك خائب!
125
قلت :فهذه قضية بيني وبينسسك أيهسسا القلسسب العسسدو؛ لقسسد تركتنسسي مسن
الهموم كالشسجرة المنخربسة قسد بليست وصسارت فيهسا التخساريب؛ فل
حياتها بالحياة ول موتها بالموت ،وكم علقتني بفاتنة بعد فاتنة ل عنها
ي إل وحش أكسسبر لسسذته إقصار ينتهي ول فيها مطمع يبتدئ؛ ما أنت ف ّ
لطع الدم!
واستدار الحلم فلم ألبث أن رأيتنسسي فسسي محكمسسة الجنايسسات ،وكسسأني
شكوت قلبي إليها فهو جالس في القفص الحديسسدي بيسسن المجرميسسن
ينتظر ما ينتظرون من الفصل في أمرهم؛ وقد ارتفع المستشسسارون
الثلثة إلى منصة الحكم ،وجلسسس النسائب العسام فسسي مجلسسه يتسولى
إقامة الدعوى وبين يديه أوراقه ينظر فيها ،ورأيت منهسسا غلفًسسا كتسسب
على ظاهره :قضية القلب المسكين.
وتكلم رئيس المحكمة أول من تكلم فقال :ليس فسسي قضسسية القلسسب
م ،فابغوه من يدافع عنه؛ ثم التفت إليه وقال :من عسسسى تختسسار محا ٍ
للدفاع عنك؟
قال القلب :أَوهنا موضع للختيار يا حضرة الرئيس؟ إنه ليسسس تحسست
هذه -وأومأ إلى السماء -ول فوق هذه -وأومأ إلى الرض -إل...
فبدر النائب العام وقال :إل الحبيبة؟ أكسسذلك؟ غيسسر أنهسسا أسسستاذة فسسي
الرقص ل في القانون!
مسسا علسسي؛ أنسسا
مسسا لسسي أو محكو ً -القلب :ولكنني ل أختار غيرهسسا محكو ً
أريد أن أنظر فيها وانظروا أنتم في القضية..
-الرئيس :فليكن؛ فهذه جريمة عواطف إيذن لها أيها الذن.
فنادى المحضر* :الستاذة! الستاذة!
وجاءت مبادرة ،ودخلت تمشي مشيتها وقسسد افسستر ثغرهسسا عسسن النسسور
الذي يسطع في النفس؛ وأومضسست بوجههسسا يمين ًسسا وشسسماًل ،فصسسرف
الناس جميًعا أبصارهم إليها وقد نظروا إلى فتنة مسن الفتسن؛ وثسارت
فسسي كسسل قلسسب نزعسسة ،وغلبسست الحقيقسسة البشسسرية فانتقضسست طبسساع
الموجودين في قاعة الجلسة ،وأبطل قانون جمالها قانون المحكمة،
فوقعت الضسسجة وعلسست الصسسوات واختلطسست؛ وتسسرددت بيسسن جسسدران
المكان صدى في صدى كأن الجدران تتكلم مع المتكلمين.
أصوات أصوات :سبحان الله! سبحان الله! تبارك الله! تبسسارك اللسسه!
ضسسا ..فنفسسرت آه آه! آه آه! وسسسمع صسسوت يقسسول :اتهمسسوني أنسسا أي ً
الكلمات :وأنا ،وأنا ،وأنا! واختفت المحكمة وانبعث المسرح بسسدخول
فاتنته الراقصة؛ وكان المستشارون والنائب العام في أعيسسن النسساس
126
كأنهم صور معلقة علسسى الحسسائط؛ ل يخشساها أحسد أن تنظسسر إلسى مسا
يصنع!
فصاح الرئيس :هنا المحكمة! هنا المحكمة! سبحان الله ..المحكمسسة
المحكمة!
-النائب العام :هذا بدء ل ترضاه النيابسسة ول تقبسسل أن تنسسسحب عليسسه،
نعم إن هذا الوجه الجميل أبسسرع محسسام فسسي هسسذه القضسسية ،ونعسسم إن
جسمها ..آه ماذا؟ إنكم تأتون بالشهوة الغالبسسة القسساهرة لتسسدافع عسسن
المشتهي ..عن المتهم ،هذا وضع كوضسسع العسسذر إلسسى جسسانب السسذنب،
وكأنكم يا حضرات المستشارين..
فبدرت المحامية تقول فسي نغمسة دلل وفتسور :وكسأنكم يسا حضسرات
ضا...
المستشارين قد نسيتم أن النائب العام له قلب أي ً
واشتد ذلك على النائب ،وتبين الغضب في وجهه؛ فقسسال :يسسا حضسسرة
الرئيس..
ما :واحدة بواحدة ،وأرجو أل تكون لهسسا ثانيسسة ،ومعنسسى -الرئيس مبتس ً
هذا كما هو ظاهر أل تكون لها ثالثة" ..ضحك".
---------------
* هو الموظف الذي يكون في الجلسة للنداء على الخصوم.
قال صاحب القلب المسكين :وكنت بل قلب ..فلم ألتفسست للجمسسال،
بل راعني ذكاء المحامية ونفاذها وحسسسن اهتسسدائها إلسسى الحجسسة فسسي
أول ضرباتها ،وتعجبت مسسن ذلسسك أشسسد التعجسسب ،وأيقنسست أن النسسائب
العام سيقع في لسانها ،ل كما يقع مثله في لسان المحامي القسسدير،
ولكن كما يقع زوج في لسان زوجة معشوقة متدللسسة تجسسادله بحجسسج
كثيرة بعضها الكلم ..وقلت في نفسي :يا رحمة الله ل تجعلسسي مسسن
النساء الجميلت الفاتنات محاميات في هذه المحاكم ،فلو ألبسوهن
لحى مستعارة لكان الصوت الرخيم وحده من تلك الفسسواه الجميلسسة
العذبة ،نداء قانونّيا للقبلت..
ونهضت المحامية العجيبة فسلطت عينيها الساحرتين علسسى النسسائب،
ثم قالت تخاطب المحكمة :قبل النظر في هذه القضية قضية الحب
والجمال ،قضية قلبي المسكين ..أريد أن أتعرف الرأي القانوني في
اعتبار الجريمة .أهي شخصية ،فتقصر على صاحبها؛ أو خاصة ،فتضر
غير جانبها ،أو عامة ،فيتناولها العموم المحدود لمن تجمعهسسم جامعسسة
الحب؛ أو هي أعم ،فيتناولها العموم المطلسسق للهيئة الجتماعيسسة؛ مسسا
هي جريمة قلبي؟
-الرئيس :ما رأي النيابة؟
127
كا"" :غزالتها رايقة" كما يقسسول الراقصسسات والممثلت.. النائب "ضاح ً
أرى أنها جريمة آتية من ضرب الخاص في العام" ..ضحك".
المحامية :جواب كجواب القائل :حسسب أبسسي بكسسر؛ كسسان ذلسسك الرجسسل
يحب زوجته الجميلسسة ويخافهسسا ،وكسسانت تقسسسو عليسسه قسسسوة عظيمسسة
ما وقد طسسابت وتغلظ له الكلم ،وهو يفرق منها ول يخالفها؛ فرآها يو ً
نفسها ،فأراد أن ينتهز الفرصة ويشكو قسوتها؛ فقسسال :يسسا فلنسسة قسسد
-والله -أحرق قلبي ..ولم تسسدعه يتسسم الكلمسسة ،فحسسددت نظرهسسا إليسسه
وقطبت وجهها وقالت :أحرق قلبك ماذا؟ فخاف ولم يقدر أن يقسسول
لها سوء أخلقك .فقال؛ حسسب أبسسي بكسسر الصسسديق رضسسي اللسسه عنسسه..
"ضحك" ،ورنت ضحكة المحامية فاضسسطربت لهسسا القلسسوب ،ووقعسست
ضا؛ فانخزل ولم يسسزد علسسى أن يقسسول: في كل دم ،وفي دم النائب أي ً
أحتج من كل قلبي..
الرئيس :لندخل في الموضوع ولتكن المرافعة مطلقة؛ فإن الحسسدود
في جرائم القلب تسدل وترفع كهذه السسستائر فسسي مسسسرح التمثيسسل.
وعشرون ستارة قد تكون كلها لرواية واحدة.
-النائب العام :يا حضرات المستشارين ،ل يطول اتهامي؛ فسسإن هسسذا
القلب هو نفسه تهمة متكلمة.
المحامية :ولكنه قلب.
النائب :وأنا يا سيدتي لم أحرف الكلمة ولم أقل إنه كلب" .ضحك"،
وتضرج وجه المحامية وخجلت*.
-الرئيس :الموضوع الموضوع.
-النائب :يسسا حضسسرات المستشسسارين ،إن ألسسم هسسذه الجريمسسة إمسسا أن
جسسا مثًل ،أو
يكون في شخص الجاني أو ماله ،أو صفته كأن يكسسون زو ً
صيته الدبي؛ فإما الشخص فهذا ظاهر ،وأما المال فنعسسم إن القلسسب
دا تسذكرة دخسول إلسى المسسكين قسرار لنفسسه ولصساحبه أل يبتساع أبس ً
جهنم" ..ضحك".
-المحامية :أسسستميح النسسائب عسسذًرا إذا أنسسا ..إذا أنسسا فهمسست مسسن هسسذا
التعسسبير أن حضسسرته يعسسرف علسسى القسسل أيسسن تبسساع هسسذه "التسسذاكر"..
"ضحك" وتفرج وجه النائب العام وخجل.
-الرئيس :كنت رجوت أل تكون للولى ثانية ،وقلسست :إن معنسسى هسسذا
كما هو ظاهر أل يكون لهسسا ثالثسسة؛ فهسسل أنسسا محتسساج إلسسى القسسول بسسأن
المعنى المنطقي أل يكون للثالثة رابعة؟
-النسسائب :يسسا حضسسرات المستشسسارين ،وأمسسا الصسسفة ،فهسسذا القلسسب
المسكين قلسسب رجسسل مسستزوج؛ ول تغرنكسسم صسسوفية هسسذا القلسسب ،ول
128
يخدعنكم تألهه وزعمه السمو .إنسسه علسسى كسسل حسسال يعشسسق راقصسسة،
وهذا اعتداء في ضمنه اعتداء ،على السسزواج وعلسسى الشسسرف؛ وهبسسوه
متصوًفا متألًها ولم يتصل بالراقصة ،فهو علسسى كسسل حسسال قسسد أخسسذها
واتخذها ولكن بأسلوبه الخاص ..وبهذا اقترف الجريمسة؛ آه! إن هسذه
صسا فسسي الحكسسم القضية ناقصة؛ وذلك نقص فيها أخشى أن يكسسون نق ً
ضا ،فأتموه أنتم .يا حضرات المستشارين ،إن النقسسص فيهسسا أنهسسا ل أي ً
شهود فيهسسا؛ ولكسن هسسذا عمسسل إلهسي ل يظهسسر إل يسوم تشسهد عليهسسم
ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
---------------
* إذا كان كلًبا فهو يتبع كلبة ..وهذه هي غمزة النسسائب للمحاميسسة ،ول
ينس القراء أن المحكمة في الرؤيا؛ وفي الرؤيا علمنا أن هذا النائب
كسسأكثر شسسبان العصسسر فسسي هسسذه المدنيسسة الفاسسسدة ،ل يسستزوجون؛ لن
المدنية جعلتهم بين الفتيان "أنصاف متزوجين" علسسى وزن "أنصسساف
عذارى" بين الفتيات ..وفي الرؤيا علمنا أنسسه يخسسادن راقصسسة ،ويقسسال
ممثلة -بينها وبين صاحب القلب المسكين منافسة ...
-المحامية :هذا تعبير أكبر من قدرة قائله ومن منزلته ووظيفته ،هذا
دا في لسسسانه تعبير جسور! يا حضرة النائب ،من الذي ل يحمل شهو ً
ويديه ورجليه ،بسسل ألسسف شسساهد علسسى ليلسسة واحسسدة ..يجسسب أن يكسسون
ما بيننا يا حضرة النائب أن النون والباء في لفظة "نسسائب" غيسسر مفهو ً
النون والباء في لفظة "نبي".
-النائب :يا حضرات المستشارين ،ل أرى ممسا يحرجنسي فسي التهسام
أن أصرح لكم أن مما حيرني في هسسذه الجريمسسة أن ليسسس فيهسسا مسسن
أوصاف الجرائم إل ثلم الكرامة ،فل قذف ول سسسب ول هتسسك عسسرض
ول فجور ،ول أصغر من ذلك ،ول كأس خمر للراقصة..
-المحامية :ل أرى أمام حضرة النائب كأس ماء ،وسيجف حلقه فسسي
هذه القضية؛ فلعل المحكمة تأمر لي بكأس" ..ضحك".
-النائب :يا حضرات المستشارين ،يعشق راقصسسة؛ اسسسم فاعسسل مسسن
رقص يرقص؛ امرأة ل تلبس ثياًبا ،بل عرًيا في شكل ثياب ..امرأة ل
كالنسسساء ،كسسذبها هسسو صسسدق مسسن شسسفتيها؛ لمسساذا؟ لنهمسسا حمسسراوان
رقيقتان عذبتان محبوبتان مطلوبتان..
المحامية :تضحك..
-النائب "بعد أن تتعتع" :امرأة ل كالنساء ،جعلتها الحرفة امرأة فسسي
العمل ،ورجًل في الكسب..
129
-المحامية :ولكنك ل تدري أي حمل سقطت* المسكينة ،وقد يكسسون
في الرذائل رذائل كبعض أصحاب اللقاب :ذات عظمة..
-النائب :يحب راقصة أي يضعها فسسي عقلسسه البسساطن ويشسستهيها؛ نعسسم
يشسستهيها ،فمسسن عقلسسه البسساطن ،وبتعسسبير اللغسسة ،مسسن واعيتسسه -تخسسرج
الجريمة أو على القل ،فكرة الجريمة.
والصسسيت الدبسسي يسسا حضسسرات المستشسسارين؟ هسسل مسسن كرامسسة لمسسن
يعشق راقصة؟ ل بل هسسل مسسن كرامسسة فسسي الحسسب؟ ألسسم يقولسسوا :إن
كرامسسة الرجسسل تكسسون تحسست قسسدمي المسسرأة المعشسسوقة كالممسسسحة
الخشنة تمسح فيها نعليها!
الحب؟ ما هو الحب؟ إنه ليس فكرة ،بل هو شيطان يتلبسسس لجسسسم
العاشق؛ ليعمل أعماله بأداة حية ،وهذا السستركيب الحيسسواني للنسسسان
هو الذي يهيئ من الحسب مسداخل ومخسارج للشسياطين فسي جسسمه؛
وهل رضي صاحب القلب المسكين بجنايسسة قلبسسه عليسسه ،وعظيسسم مسسا
ض
انتهك من أخلقه السامية؟ هل رضي عشقه راقصسسة؟ إن لسسم يسسر َ
الرضى الصحيح ،أو رضي بقدر ما؛ فعلسسى كليهمسسا يقسسوم فسسي نفسسسه
مانع؛ والمانع من الرضى هو الموجب للعقوبة.
-المحامية :ولكن قدرا من الرضى ينزل بالجناية فيردهسسا إلسسى جنحسسة
كما في القانون النجليزي ،وقد قرر الشراح أنه ما دام الرضى غيسسر
مستلب بكله ،فالجريمة غير واقعة بكلها.
-النائب :جنحة كل قلب هي جناية من هسسذا القلسسب بخصوصسسه ،علسسى
طريقة "حسنات البرار سسسيئات المقربيسن"؛ والعسبرة هنسا بسالواقع ل
بالصفة القانونية ،وقد قرر الشراح أن الواقع قد يكسسون أحيانسسا سسسببا
في تشديد العقوبة ،فل بد من تشديد العقوبسسة فسسي هسسذه القضسسية .ل
أطلب الحكم بالمادة 230عقوبات بل بسسالمواد مسسن 230إلسسى 241
ضربة واحدة.
-المحامية :قد نسيت أن هذا قلب وعقوبته عقوبة لصاحبه البريء.
-النائب :إذن أطلب عقابه بحرمسانه الجمسسال :وهسسذا أشسسق عليسسه مسسن
العقاب باثنتي عشرة مادة وبعشرين وثلثين.
الرئيس :وما هي الطريقة لتنفيذ الحكم بهذا الحرمان؟
النسسائب :تسسأمر المحكسسم بسسالمراقص كلهسسا فتغلسسق ،وبالمسسسارح كلهسسا
فتقفل ،وبالسينما فتبطل إل ما ل جمال فيه منها ول غسسزل ول حسسب،
ويحرم السفور على النساء إل العجائز والدميمات ،ويمنع نشر صور
الجمال في الصحف والكتب ،و...
130
المحامية :قل فسسي كلمسسة واحسسدة :يجسسب إصسسلح العسسالم كلسسه لصسسلح
القلب النساني!
وجلس النائب ،فالتفت الرئيس إلى المحامية وقال لها :وأما هو؟..
131
القلب المسكين "تتمة"
132
كل يا حضرة النائب؛ إن لهذه القضية قانوًنا آخسسر تنسستزع منسسه شسسواهد
وأدلة؛ قانون سحر المرأة للرجل ،فلو اقتضاني أن أرقص لرقصسست،
أو أغني لغنيت ،أو سحر الجمال لثبته أول شيء في النائب..
-الرئيس :يا أستاذة!
-المحاميسسة :لسسم أجسساوز القسسانون ،فالنسسائب فسسي جريمتنسسا هسسو خصسسم
ضا خصم الطبيعة النسوية. القضية ،وهو أي ً
-النائب :لو حدث من هذا شيء لكان إيحسساء لعواطسسف المحكمسسة ...
فأنا أحتج!
-المحامية :احتج ما شئت ،ففي قضايا الحب يكون العدل عدلين؛ إذ
كان الضطرار قد حكم بقانونه قبل أن تحكم أنت بقانونك.
النائب :هذه العقدة ليسسست عقسسدة فسسي منسسديل يسسا سسسيدتي ،بسسل هسسي
عقدة في القانون.
-المحامية :وهذه القضية ليست قضية إخلء دار يا سسيدي ،بسل هسي
قضية إخلء قلب!
-الرئيس :الموضوع ،الموضوع!
-المحاميسسة :يسسا حضسسرات المستشسسارين ،إذا انتفسسى القصسسد الجنسسائي
وجبت البراءة.
هذا مبدأ ل خلف عليه؛ فما هو الفعسسل الوجسسودي فسسي جريمسسة قلسسبي
المسكين؟
-النائب :أوله حب راقصة.
ما هذا الوصف؟ هبوها في معناها غير جديرة بأن -المحامية :آه! دائ ً
يعرفها؛ لنه رجل تقي ،أفليست في حسنها جديرة بسسأن يحبهسسا؛ لنسسه
رجسسل شسساعر؟ أحكمسسوا يسسا حضسسرات القضسساة؛ هسسذه راقصسسة ترتسسزق
وترتفق ،ومعنى ذلك أنهسا رهسسن بأسسسبابها ،ومعنسسى هسسذا أنهسا خاضسعة
للكلمة التي تدفع ..فلماذا لم ينلها وهي متعرضسسة لسسه ،وكلهمسسا مسسن
قسا
صاحبه على النهاية ،وفي آخسر أوصساف الشسوق؟ أليسس هسذا حقي ً
بإعجابكم القانوني كما هسسو جسسدير بإعجسساب السسدين والعقسسل؟ وإن لسسم
يكن هذا الحب شهوة فكسسر ،فمسسا السسذي يحسسول دونهسسا ومسسا يمنعسسه أن
يتزوجها؟
-القضاة يتبسمون.
-النسسائب :نسسسيت المحاميسسة أنهسسا محاميسسة وانتقلسست إلسسى شخصسسيتها
الواقعة على النهاية وفي آخر أوصاف الشوق ..فأرجو أن ترجع إلسسى
الموضوع ،موضوع الراقصة.
133
ما الراقصة ،من هي هذه المسكينة السسيرة فسي -المحامية :آه! دائ ً
أيدي الجوع والحاجة والضطرار؟ أليست مجموعة فضائل مقهورة؟
أليست هي الجائعة التي ل تجد من الفسساجرين إل لحسسم الميتسسة؟ نعسسم
إنها زلت ،إنها سقطت ،ولكسسن بمسساذا؟ بسسالفقر ل غيسسر ،فقسسر الضسسمير
والذمة في رجل فاسد خسسدعها وتركهسسا ،وفقسسر العسدل والرحمسة فسي
اجتماع فاسد خذلها وأهملها! يا للرحمة لليتيمسسة مسسن الهسسل ،وأهلهسسا
موجودون! والمنقطعة من الناس ،والناس حولها!
تقولون :يجب ول يجب ،ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شسساءت
فتجعل ما ل ينبغي هو الذي ينبغي ،وتقلب ما يجب إلى مسسا ل يجسسب،
فإذا ضساع مسن يضسسيع فسي هسذا الختلط ،قلتسم لسه :شسسأنك بنفسسسك،
ونفضتم أيديكم منه فأضعتموه مرة أخسسرى ،ويحكسسم يسسا قسسوم! غيسسروا
اتجاه السباب في هذا الجتماع الفاسد ،تخرج لكم مسسسببات أخسسرى
غير فاسدة.
تأتي المرأة مسسن أعمسسال الرجسسل ل مسسن أعمسسال نفسسسها ،فهسسي تابعسسة
وتظهر كأنها متبوعة؛ وذلك هو ظلم الطبيعة للمسكينة؛ ومسسن كونهسسا
مسا آخسسر فيأخسسذها وحسسدها تظهر كأنهسا متبوعسسة ،يظلمهسا الجتمسساع ظل ً
بالجريمسسة ،ويقسسال :سسسافلة ،وسسساقطة؛ ومسسا جسساءت إل مسسن سسسافل
وساقط!
لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن؟ أهي
تريد القتل والتعذيب والمثلة؟ كل؛ فإن القتل ممكن بغير هذا وبأشد
من هذا ،ولكنها الحكمة السامية العجيبة :إن هذا الفاسسسق هسسدم بيت ًسسا
فهو يرجم بحجارته!
ما أجلك وأسماك يا شسسريعة الطبيعسسة! كسسل الحجسسار يجسسب أن تنتقسسم
لحجر دار السرة إذا انهدم.
تستسسقطون المسسسكينة ،ولسو ذكرتسم آلمهسا لوجسسدتم فسي ألسسنتكم
كلمات الصلح والرحمة ل كلمات الذم والعار؛ إنهسا تسسعى برذيلتهسا
إلى الرزق؛ فهل معنى هذا إل أنها تسعى إلى الرزق بسسأقوى قوتهسسا؟
نعم إن ذلك معنى الفجور ،ولكن أليس هو نفسه معنى القسسوت أيهسسا
الناس؟
-الرئيس وهو يمسح عينيه :الموضوع الموضوع!
-المحامية :ما هو الفعل الوجودي في جريمة قلسسبي المسسسكين؟ مسسا
هو الواقع من جريمسسة يضسسرب صسساحبها المثسسل بنفسسسه للشسسباب فسسي
تسامي غريزته عن معناهسسا إلسى أطهسر وأجمسل مسن معناهسسا؟ لسسبئس
134
القانون إن كان القانون يعاقب على أمر قد صار إلى عمل ديني من
أعمال الفضيلة!
-النائب :أل يخجل من شعوره بأنه يحب راقصة؟
-المحامية :ومم يخجل؟ أمن جمسسال شسسعوره أم مسسن فسسن شسسعوره؟
أيخجل من عظمة في سمو في كمال؟ أيخجسسل البطسسل مسسن أعمسسال
الحرب وهي نفسها أعمال النصر والمجد؟
أتأذنون يا حضرات المستشارين أن أصف لكسسم جمسسال صسساحبته وأن
أظهر شيًئا من سر فنها الذي هو سر البيان في فنه؟
-النائب :إنها تتماجن علينا يا حضرات المستشسسارين ،فالسسذي يحسساكم
على السكر ل يدخل المحكمة ومعه الزجاجة..
-الرئيس :ل حاجة إلى هذا النوع من ترجمسسة الكلم إلسسى أعمسسال يسسا
حضرة الستاذة.
-المحامية :كثيًرا ما تكون اللفاظ مترجمسسة خطسسأ بنيسسات المتكلميسسن
بها أو المصغين إليهسسا؛ فكلمسسة الحسسب مثًل قسسد تنتهسسي إلسسى فكسسر مسسن
الفكار حاملة معنى الفجور ،وهي بعينها تبلسغ إلسى فكسر حاملسة إلسى
سموه من سموها؛ وعلى نحو من هذا يختلف معنسى كلمسة الحجسساب
عند الشرقيين والوربيين؛ فالصل في مدنيسسة هسسؤلء إباحسسة المعسساني
الخفيفة من العفة ..وإكرام المرأة إكرام مغازلة ..يقولون :إن رقسسم
الواحد غير رقم العشرة ،فيضعونه في حياة المرأة ،فمسسا أسسسرع مسسا
يجيء "الصفر" فإذا هو العشرة بعينها!
أما الشرقيون فالصل في مدنيتهم التزام العفة وإقرار المسسرأة فسسي
حقيقتها ،ل جسسرم كسسان الحجسساب هنسسا وهنسساك بسسالمعنيين المتناقضسسين:
الستبداد والعدل ،والقسوة والرحمة ،و ...
-النائب :وامرأة البيت وامرأة الشارع ...
-المحامية :وبصر القانون وعمي القانون ...
-الرئيس :وحسن الدب وسوء الدب ...الموضوع الموضوع.
-المحاميسسسة :ل والسسسذي شسسسرفكم بشسسسرف الحكسسسم ،يسسسا حضسسسرات
المستشارين؛ ما يرى القلب المسكين في حبيبته إل تعسسبير الجمسسال،
فهو يفهمها فهم التعبير ككل موضوعات الفن ،وما بينه وبينهسسا إل أن
حقيقة الجمال تعرفت إليها فيها ،أئن أحس الشاعر سًرا من أسسسرار
الطبيعة في منظر من مناظرها ،قلتم أجرم وأثم؟
هذا قلب ذو أفكار ،وسبيله أن يعان على ما يتحقق به من هذا الفن،
قد تقولون :إن في الطبيعسسة جمسساًل غيسسر جمسسال المسسرأة فليأخسسذ مسسن
الطبيعة وليعط منها؛ ولكن مسسا السسذي يحيسسي الطبيعسسة إل أخسسذها مسسن
135
القلب؟ وما هي طريقة أخذها من القلب إل بسسالحب؟ وقسسد تقولسسون:
إنه يتألم ويتعذب؛ ولكن سلوه :أهو يتألم بإدراكه اللم في الحب ،أو
بإدراكه قسوة الحقيقة وأسرار التعقيد في الخير والشر؟
ما إل في أحسسد الطرفيسسن :هسسم أكسسبر إن شعراء القلوب ل يكونون دائ ً
من الهم ،فرح أكثر من الفرح؛ فإذا عشقوا تجاوزوا موضوع الوسط
السذي ل يكسسون الحسب المعتسسدل إل فيسه؛ ومسن هسذا فليسس لهسسم آلم
معتدلة ول أفراح معتدلة.
هذا قلب مختار من القدرة الموحيسسة إليسسه ،فسسالتي يحبهسسا ل تكسسون إل
مختارة من هذه القدرة اختيار ملك الوحي ،وهما بهذا قوتان في يسسد
الجمال ليداع أثر عظيم ملء قدرتين كلتاهما عظيمة..
فإن قلتم إن حب هسسذا القلسسب جريمسسة علسسى نفسسسه ،قسسالت الحقيقسسة
الفنية :بل امتناع هذه الجريمة جريمة.
إن خمسين وخمسين تأتي منهما مائة ،فهذا بديهي ،ولكن ليس أبين
ول أظهر ول أوضح من قولنا :إن هذا العاشق وهذه المعشوقة يسسأتي
منهما فن.
قسسال صسساحب القلسسب المسسسكين :وانصسسرف القضسساة إلسسى غرفتهسسم؛
ليتداولوا الرأي فيمسسا يحكمسسون بسسه ،وأومسسأت لسسي المحاميسسة الجميلسسة
تدعوني إليها ،فنهضت أقوم فإذا أنا جالس وقد انتبهت من النوم.
جائزة :1لمن يحسن كتابة الحكم في هذه القضية خمس نسخ مسسن
كتاب "
)(1/135
136
انتصار الحب*
كل ما يكتب عن حبيبين ل يفهم منه بعض ما يفهسسم مسسن رؤيسسة وجسسه
أحدهما ينظر إلى وجه الخر.
وما تعرفه العين من العين ل تعرفه بألفاظ ،ولكن بأسرار..
والغليل المتسعر في دم العاشق كجنسسون المجنسسون :يختسسص برأسسسه
وحده.
وضسمة المحسسب لحسسبيبه إحسسساس ل يسسستعار مسن صسسدر آخسسر ،كمسا ل
يستعار المولود لبطن لم يحمله.
وكلمة القبلسسة السستي معناهسسا وضسسع الفسسم ،لسسن ينتقسسل إليهسسا مسسا تسسذوقه
الشفتان!
ويوم الحب يوم ممدود ،ل ينتهي فسسي الزمسسن إل إذا بسسدأ يسسوم السسسلو
في الزمن..
دا يفصسسل بيسسن وقسستين لينتهسسي فهسسل يسسستطيع الخلسسق أن يصسسنعوا ح س ّ
أحدهما..؟
وهبهم صنعوا السلوان من مادة النصيحة والمنفعة ،ومن ألف برهان
وبرهان ،فكيف لهسسم بالمسسستحيل ،وكيسسف لهسسم بوضسسع السسسلوان فسسي
القلب العاشق؟
وإذا سالت النفس مسسن رقسسة الحسسب ،فبسسأي مسسادة تصسسنع فيهسسا صسسلبة
الحجر..؟
وما هو الحب إل إظهسسار الجسسسم الجميسسل حسسامًل للجسسسم الخسسر كسسل
أسراره ،يفهمها وحده فيه وحده؟
ومسسا هسسو الحسسب إل تعلسسق النفسسس بسسالنفس السستي ل يملؤهسسا غيرهسسا
بالحساس؟
وما هو الحب إل إشراق النور الذي فيه قوة الحيسساة ،كنسسور الشسسمس
من الشمس وحدها؟
---------------
* شغلتنا مقالت "القلب المسكين" عن الكتابة فسسي حادثسسة "القلسسب
المسكين العظم" ،قلب الملك إدوارد عندما وقعت الحادثة.
قلت :وحادثة تخلي الملك إدوارد عن عرش المبراطورية البريطانية
في سنة 1936من أجل امرأة -ذائعة مشهورة.
وهل في ذهبت الدنيا وملك الدنيا ما يشسستري السسسرار ،والحسسساس،
وذلك النور الحي؟..
فما هو الحب إل أنه هو الحب؟
137
ما هو هذا السر في الجمال المعشسسوق ،إل أن عاشسسقه يسسدركه كسسأنه
عقسسل للعقسسل ومسسا هسسو هسسذا الدراك إل انحصسسار الشسسعور فسسي جمسسال
متسلط كأنه قلب للقلب؟ وما هو الجمسسال المتسسسلط بإنسسسان علسسى
إنسان ،إل ظهور المحبوب كأنه روح للروح؟ ولكن ما هو السسسر فسسي
حب المحبوب دون سواه؟ ..هنا تقف المسألة وينقطع الجواب.
هنا سر خفي كسّر الوحدانية؛ لنها وحدانيته "أنا وأنت".
ناقشوا الحب؛ فقالوا :أصبحت الدنيا دنيا المسسادة ،والروحانيسسة اليسسوم
كالعظام الهرمة ل تكتسي اللحم العاشق..
وقال الحب :ل بل المادة ل قيمة لهسسا فسسي السسروح؛ وهسسذا القلسسب لسسن
يتحول إلى يد ول إلى رجل..
ناقشوا الحب؛ فقالوا :إن العصسسر عصسسر اللت ،والعمسسل الروحسسي ل
وجود له في اللة ول مع اللة..
ما كما صسسنعه قال الحب :ل ،يصنع النسان ما شاء ،ويبقى القلب دائ ً
الخالق..
وقالوا :الضعيفان :الحب والدين ،والقويان :المال والجاه؛ فبمسساذا رد
الحب..؟
جاء بلؤلؤة روحانية في "مسز سمبسسسون"؛ ووضسسع لهسسا فسسي ميسسزان
المال والجاه أعظم تاج فسسي العسسالم إدوارد الثسسامن "ملسسك بريطانيسسا"
العظمى وإرلنسسدا والممتلكسسات البريطانيسسة فيمسسا وراء البحسسار وملسسك-
إمبراطور الهند".
وتنافسسست الروحانيسسة والماديسسة ،فرجسسع التسساج ومسسا فيسسه إل أضسسعف
المعنيين من القلب.
وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في العلن ،فهز العسسالم كلسسه
هزة صحافية:
الحب .الحب .الحب... .
"مسز سمبسون" ،تلك الجميلة بنصف جمال ،المطلقة مرتين .هسسذا
هو اختيار الحب!
ولكنها المعشوقة؛ وكل معشسسوقة هسسي عسسذراء لحبيبهسسا ولسسو تزوجسست
مرتين؛ هذا هو سر الحب!
ولكنها الفاتنة كل الفتنة ،والظريفة كل الظرف ،والمرأة كل المرأة،
هذا هو فعل الحب!
ولكنهسسا العقسسل للعصسساب المجنونسسة ،والنسسس للقلسسب المسسستوحش،
والنور في ظلمة الكآبة؛ هذا هو حكم الحب!
138
ومن أجلها يقول ملك انجلترا للعسسالم" :ل أسسستطيع أن أعيسسش بسسدون
المرأة التي أحبها"؛ فهذا هو إعلن الحب..
إذا أخذوها عنه أخذوها من دمه ،فلذلك معنى من الذبح.
وإذا انتزعوها انتزعوها من نفسه ،فذلك معنى من القتل.
وهل في غيرها هي روح اللهفة التي في قلبه ،فيكون المسسذهب إلسسى
غيرها؟ لكأنهم يسألونه أن يموت موًتا فيه حياة.
وكأنهم يريدون منه أن يجن جنوًنا بعقل ..هذا هو جبروت الحب!
وللسياسة حجج ،وعند "مسز سمبسون" حجج ،وعند الهوى..
التاج ،الملكية ،امرأة مطلقسسة ،امسسرأة مسسن الشسسعب؛ فهسسذا مسسا تقسسوله
السياسة.
ولكنهسسا امسسرأة قلبسسه ،تزوجسست مرتيسسن؛ ليكسسون لسسه فيهسسا إمتسساع ثلث
زوجات؛ وهذا ما يقوله الحب!
واللحظة الناعسسسة ،والبتسسسامة النائمسسة ،والشسسارة الحالمسسة ،وكلمسسة
"سيدي"1؛ هذا ما يقوله الجمال.
---------------
1ل تخسساطب "مسسسز سمبسسسون" إدوارد إل بكلمسسة "سسسيدي" ،ول
تتحدث عنه ول تسميه إل قالت "سيدي" .ولن يأمر الحب أمره بأبلغ
ول أرق من كلمة العبودية اللطيفة هذه حين تنطق بهسسا المسسرأة فسسي
صوت قلبها وغريزتها؛ وقد كان هذا أدب نساء الشرق مع أزواجهسسن،
أما اليوم..
وانتصر الحب على السياسة .وأبى الملك أن يكون كالم الرملة في
ملك أولدها الكبار..
فا من رجل ،فيكون الثاني كالول. العرش يقبل رجًل خل ً
فا من امرأة ،فلن تكون الثانية كالولى. والحب ل يقبل امرأة خل ً
وطارت في العالم هذه الرسالة" :أنسسا إدوارد الثسسامن ...أتخلسسى عسسن
العرش وذريتي من بعدي"!
"وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في العلن؛ فهز العالم كله
هزة صحافية".
الحب .الحب .الحب ...
139
قنبلة بالبارود ل بالماء المقطر*
140
يريد الشباب مع حقيقة العلم حقيقة الدين؛ فإن العلم ل يعّلم الصبر
ول الصدق ول الذمة.
يريدون قوة النفس مع قوة العقل ،فإن القانون الدبي في الشسسعب
ل يضعه العقل وحده ول ينفذه وحده.
يريدون قوة العقيدة ،حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة مسسا
تعلموه نفعهم ما اعتقدوه.
يريدون السمو الديني ،لن فكرة إدراك الشهوات بمعناها هي فكرة
إدراك الواجبات بغير معناها.
يريسسدون الشسسباب السسامي الطسساهر مسن الجنسسسين ،كسي تولسسد المسة
الجديدة سامية طاهرة.
قوة الخلق يا شباب ،قوة الخلق؛ إن الخطوة المتقدمسسة تبسسدأ مسسن
هنا ...
أحس الشسسباب أنهسسم يفقسسدون مسسن قسسوة المناعسسة الروحيسسة بقسسدر مسسا
أهملوا من الدين.
وما هي الفضائل إل قوة المناعة من أضدادها؟ فالصدق مناعسسة مسسن
الكذب والشرف مناعة من الخسة.
والشباب المثقل بفسروض القسوة هسو القسوة نفسسها؛ وهسل السدين إل
فروض القوة على النفس؟
وشباب الشهوات شباب مفلسسس مسسن رأس مسساله الجتمسساعي ،ينفسسق
دا!
ما ول يكسب أب ً دائ ً
والمدارس تخرج شبانها إلى الحياة ،فتسألهم الحياة :ماذا تعسسودتم ل
ماذا تعلمتم!
قوة الخلق يا شباب ،قوة الخلق؛ إن الخطوة المتقدمسسة تبسسدأ مسسن
هنا...
وأحس الشباب معنى كثرة الفتيات في الجامعة ،وأدركوا معنى هذه
الرقة التي خلقتها الحكمة الخالقة.
والمرأة أداة استمالة بالطبيعة ،تعمل بغير إرادة ما تعملسسه بسسالرادة،
لن رؤيتها أول عملها.
نعم إن المغناطيس ل يتحرك حين يجذب ،ولكن الحديسسد يتحسسرك لسسه
حين ينجذب!
ومتى فهم أحد الجنسين الجنس الخر ،فهمه بإدراكين بإدراك واحد!
وجمال المرأة إذا انتهى إلى قلب الرجل ،وجمال الرجسسل إذا اسسستقر
في قلب المرأة...
هما حينئذ معنيان .ولكنهما على رغم أنف العلم معنيان متزوجان..
141
ل ،ل؛ يا رجسسال الجامعسسة ،إن كسسان هنسساك شسسيء اسسسمه حريسسة الفكسسر
فليس هناك شيء اسمه حرية الخلق.
وتقولون :أوروبا وتقليد أوروبا! ونحن نريسسد الشسسباب السسذين يعملسسون
لستقلنا ل لخضوعنا لوربا.
وتقولون :إن الجامعات ليست محل السسدين ،ومسسن السسذي يجهسسل أنهسسا
بهذا صارت محًل لفوضى الخلق.
وتزعمون أن الشسسباب تعلمسسوا مسسا يكفسسي مسسن السسدين فسسي المسسدارس
البتدائية والثانوية فل حاجة إليه في الجامعة..
سسسا ابتدائيسسة وثانويسسة فقسسط؛ أم تريسسدونه شسسجرة أفسسترون السسسلم رو ً
تغرس هناك لتقلع عندكم..
ل ،ل؛ يا رجال الجامعسسة ،إن قنبلسسة الشسسباب المجاهسسد تمل بالبسسارود ل
بالماء المقطر..
إن الشسسباب مخلوقسسون لغيسسر زمنكسسم ،فل تفسسسدوا عليهسسم الحاسسسة
الجتماعية التي يحسون بها زمنهم.
ل تجعلسسوهم عبيسسد آرائكسسم وهسسم شسسباب السسستقلل؛ إنهسسم تلميسسذكم،
ضا أساتذة المة. ولكنهم أي ً
لقد تكلم بلسانكم هذا البناء الصغير السسذي يسسسمى الجامعسسة ،وتكلسسم
بألسنتهم هذا البناء الكبير الذي يسمى الوطن.
أما بناؤكم فمحدود بالراء والحلم والفكسسار ،وأمسسا السسوطن فمحسسدود
بالمطامع والحوادث والحقائق.
ل ،ل؛ إن المسلمين الذين هدوا العالم ،قد هدوه بالروح الدينية التي
كانوا يعملون بها ل بأحلم الفلسفة.
ل ،ل ،إن الفضيلة فطرة ل علم ،وطبيعة ل قانون ،وعقيدة ل فكسسرة؛
وأساسها أخلق الدين ل آراء الكتب..
من هذا المتكلم يقول للمة" :الجامعيون لسسن يقبلسسوا أن يسسدخل أحسسد
في شئونهم مهما يكن أمره"؟
أهذا صوت جرس المدرسة لطفال المدرسة ترن ترن ..فيجتمعسسون
وينصاعون؟
كل يا رجسسل! لسسي فسسي الجامعسسة قسسالب يصسسب فيسسه المسسسلمون علسسى
قياسك الذي تريد.
إن التعليم في الجامعة بغير دين يعصم الشخصية ،هو تعليم الرذيلسسة
تعليمها العالي..
َ }ويستنبُئون َ َ
ن{ زي س َ
ج ِ
معْ ِ
م بِ ُ
مسسا أن ْت ُس ْ ه لَ َ
ح سقّ وَ َ ل ِإي وََرّبي إ ِن ّس ُحقّ هُوَ قُ ْ
كأ َ ََ ْ َِْ َ
]يونس.[53 :
142
قوة الخلق يا شباب ،قوة الخلق ..إن الخطوة المتقدمة تبسسدأ مسسن
هنا.
143
شيطان وشيطانة*
شغلني مسسا شسسغل النسساس مسسن حسسديث الجامعسسة المصسسرية ومسسا أراده
طلبتها من ورع يحجزهم عن محارم الله ،وديسسن يخلسسص بسسه اليمسسان
إلى قلوبهم ،فل يكون لفظ المسلم على المسلم كأنه مكتوب علسسى
ورقة؛ ثم ابتغوه من الفصل بين الشسسبان والفتيسسات ،تطهيسًرا للطبسساع
دا عسسن مطيسسة الثسسم،ونوازع النفسسس ،واتقسساء لسسسوء المخالطسسة ،وبعس ً
وتوفيًرا لسباب الرجولة على الرجل ولصفات النوثة على النثى.
وقرأت كل ما نشرته الصسسحف ،واستقصسسيت وبسسالغت ،ونظسسرت فسسي
اللفاظ ومعانيها ومعاني معانيها؛ وكنت قبسسل ذلسسك أتتبسسع بسساب "فلن
وفلنة" في المجلت السبوعية التي تكتب عن حوادث الختلط في
الجامعة وتسمى السماء وتصف الوصاف وتسسذكر النسسوادر؛ فمل كسسل
ذلك صدري واجتمع الكلم يترجم نفسه إلي في رؤيا رأيتها وها أنسسذا
أقصها:
رأيتني عند باب الجامعة وكأني ذاهسسب لقطسسع بسساليقين علسسى الظسسن،
وقد علمسست أن الظنسسة تقسسوم فسسي حكمسسة التشسسريع مقسسام الحقيقيسسة؛
لخفائها وكثرة وجودها؛ فإن كان في اختلط الجنسين ما يخشسسى أن
يقع فهو كالواقع ....
ثم رأيت شيطانة قد خرجت من الجامعة ومضت تتبع أنفهسسا تتشسسمم
الهواء وتستروحه كأنه كأن فيه شيًئا ،حتى مسسالت إلسسى خمسسر هنسساك*
من ذلك الشجر الملتف عن يميسسن الطريسسق ،فسسوقفت عنسسده تتنفسسس
وتتنهد؛ ثم تبصرت فإذا شيطان مقبل إلى الجامعة إقبال المغير في
غارته ،فأومأت له ،فعدل إليها وحياها بتحية الشياطين ،ثم قال لهسسا:
ما وقوفك هنا أيتها الخبيثة؟ وكيف تركت صاحبتك التي أنسست موكلسسة
بها؟ ومسسا عسسسى أن يعمسسل الشسسيطان بيسسن الجنسسسين إذا لسسم تسسؤازره
الشيطانة؟
---------------
1لما كتب المؤلف "رحمسه اللسسه" مقسساله السسسابق فسسي تحيسسة شسسباب
الجامعة ،راح يتتبع ما نشر الصسحف مسن حسديث "فلن وفلنسسة" فسي
مناهضة دعوة الطلب؛ فوقع له من حديثهما ما أوحى إليسسه موضسسوع
هذا فكتب يعرض بفلن وفلنة ويروي من خبرهما ويرد رده عليهمسسا،
وبعث به إلسسى الرسسسالة ،ولكسسن صسساحب الرسسسالة أبسسى عليسسه نشسسره،
ظا على ما بينه وبين فلن من صسسلت السسود ،وبقسسي المقسسال فسسي حفا ً
مكتب المؤلف حتى غالته منيته!
144
وانظر ص " 131حياة الرافعي".
* الخمر "بفتح الميم" :ما واراك من شجر وغيره.
قالت :إنما اجتذبتني إلى هنسسا رائحسسة عاشسسقين كانسسا فسسي هسسذا الظسسل
ما ،أفكنت في الزهر..؟ يواريهما عن العين ،وما أراك إل مزكو ً
فجعل الشيطان يتضاحك وقال :أنا مرسل من مستشسسفى المجسسانين
دا لشياطين الجامعة؛ فقد احتاجوا إلى النجدة ..ولكن أنسست كيسسف مد ً
تركت صاحبتك من أجل رائحة قبلة على خمسمائة متر؟ ما أحسسسبها
الن إل جالسسسة تكتسسب فسسي منسسع اختلط الجنسسسين ووجسسوب إدخسسال
التعليم الديني في الجامعة!
قسالت الشسيطانة :إن صساحبتي لبسرع منسي فسي البراعسة ،وأدق فسي
الحيلة وأهدى للمعاذير ،وأنفذ إلى الغرض ،ومثلها قليسسل هنسسا ،ولكسسن
قليل الشر ليس قليًل ،فإنه وصلة وطريق كما تعلم؛ وما تجد الفتسساة
خيًرا من هذا المكان ينفي عنها الريبة وهو يدنيها منها بهسسذا الختلط
مع الفتيان ،ويهيئ لعقلها أسباًبا تكون فيها أسباب قلبهسسا؛ وقسسد كنسست
في أوربا ،أفما رأيت هناك شاّبا وشابة حول كتاب علم وكأنهما على
زجاجة خمر؟
إن هذا العلم شيء ومخالطة الشبان شيء آخر؛ فذلك يطلق فكرها
يتجاوز الحدود والختلط يجعل فكرها ،يحصرها في حدود إحساسها؛
وأحدهما يرهف ذهنها لدراك الشياء ،والخر يرهف عواطفها لدراك
الرجل؛ وقد فرغ الله من خلقة النثى فما تخلق هنا مرة أخرى على
غير الطبيعة المفطورة على الحب في صورة مسسن صسسورة الممكنسسة،
والصورة هي الشاب هنا؛ وأنا الشيطانة قد تعلمت فسسي الجامعسسة أن
قاعدة" :ل حياة في العلم" ،هي التي تقرر في بعض الحيان قاعدة:
"ل حياة في الحب".
قال الشيطان :أنت أدري بسلطان الطبيعة في المرأة ،ولكسسن السسذي
أعرفه أنا أن مفاسد أوربا تدخل إلى الشرق في أشياء كسسثيرة ،منهسسا
الخمر والنساء والعادات والقوانين والكتب ونظام المدارس!
مسسا عسسن
قالت الشيطانة :وإن سلطان الطبيعة في المسسرأة يبحسسث دائ ً
رعيته ما لم يكبح ويرد عن البحث؛ إذ هسسو ل يتحقسسق أنسسه سسسلطان إل
بنفاذ حكمه وجسواز أمسسره؛ ومسسن رعيتسسه نظسسرات العجسساب ،وكلمسسات
الثناء ،وعبارات الغسسراء ،وعواطسسف الميسسل ،ومعسساني الخضسسوع؛ ورب
كلمة من الرجل للمرأة ل يكون فيها شيء ويكون الرجل
145
سا إلى خيالها؛ وكم من أم ترى ابنتهسسا كله فيها ذاهًبا إلى قلبها متدس ً
راجعة إلى الدار وتحس بسسالغريزة النسسسوية أن مسسع ابنتهسسا خيسساًل مسسن
الجنس الخر!.
ومم ينبعث الحسسب إل مسسن اللفسسة والمخاطبسسة والمجاذبسسة والمنازعسسة
التي يسمونها هنا منافسة بين الجنسين ويعدونها حسنة من حسنات
الختلط؟ نعم إنها مشسسحذة للذهسسان وداعيسسة إلسسى بلسسوغ الغايسسة مسسن
الجتهسساد ،وبهسسا يسسرق اللسسسان وتنحسسل عقسسدته ،ويصسسبح الشسساب كمسسا
يقولون" :ابن نكتة ويفهم الطايره "...وتعود الفتسساة وهسسي تجتهسسد أن
تكون حلوة تذوقها الروح؛ ولكن العمال بالنيات والمور بخواتيمهسسا:
والطبيعة نفسها توازن العقل العلمسي بالجهسل الخلقسي ،ولعسل أكسثر
ما مسسن أهسسل الفسسن أو الناس فنوًنا في فسقه وفجوره ل يكون إل عال ً
قا من أهل العلم ،ول يصحح هذه الموازنة إل السسدين ،فهسسو السسذي زندي ً
يقرر القواعد الثابتة في كلتا الناحيتين ،وهذا ما يطلبه المجانين مسسن
شبان هذه الجامعة ويوشك أن يظفروا به ،لول أن هذه المسسة مبتلة
في كل حادثة من دينها بإجالة الرأي حتى يضيع الرأي.
اسمع -ويحك -هذا الفتى الذي يقرأ ..فسسألقى الشسسيطان سسسمعه فسسإذا
ما في صحيفة لحدى خريجسسات الجامعسسة طالب يقرأ على جماعة كل ً
تقول فيه" :ولهذا أصرح أن تجربة اشسستراك الجنسسسين فسسي الجامعسسة
نجحت إلى أبعد غاية :ولسسم يحسسدث خللهسسا قسسط مسسا يسسدعو إلسسى قلسسق
القلقين والمناداة بالفصل؛ بل بالعكس حدث مسا يسدعو إلسى تشسجيع
الخذ بالتجربة أكثر مما هي عليه اليوم".
مسسا أغلسسظ ول فقهقه الشيطان وقال" :قلق القلقيسسن" ..مسسا رأيسست كل ً
أجفى من هذا؛ إنها لو دافعت عسسن الشسسيطان بهسسذه القافسسات لخسسسر
القضية ...
ثم إنه لهز الشيطانة لهزة وقال لها :كذبت علسسي أيتهسسا الخبيثسسة ،فمسسا
لك عمل في الجامعة وأنت تخرجين لرائحة قبلة بين عاشقين علسسى
مسافة خمسمائة متر؛ إن هذه القافسسات لهسسي السسدليل أقسسوى السسدليل
على أن الفتاة هنا تنظسسر فتسساة حيسسن تسسرى ،ولكنهسسا تسسسمع رجًل حيسسن
تتكلم!
قالت الشيطانة :ولكن ألم تسمع قولها" :تشجيع التجربسسة أكسسثر ممسسا
هي عليه اليوم"..؟ أل يرضيك هذا السسذي ل بسسد أن يسسدعو "إلسسى قلسسق
القلقين؟" ثم إني أنا فلنة الشسسيطانة قسسد كنسست السسسبب فسسي حادثسسة
وقعت وطر فيها طالب من الجامعسسة ،أفل يرضسسيك الغسسراء والكسسذب
في بضع كلمات؟
146
قال الشيطان :كل الرضى ،فهذا فن آخر والعلسسم السسذي ينكسسر حادثسسة
وقعت مسن تلميسذة ول يقسر بأنهسا وقعست ،ل يكسون إنكساره إل إجسازة
لوقوع مثلها!
قالت الشيطانة :وهب الحادثة لسسم تقسسع ،فكيسسف تعسسرف الجامعسسة مسسا
يحدث في القلوب؟ ومن هذا السسذي يسسستطيع أن يقسسرأ قصسسة تؤلفهسسا
أربع أعين في وجهيسسن؟ وكيسسف تكشسسف الحقيقسسة السستي أول وجودهسسا
كتمسسسان الكلم عنهسسسا ،وأول الكلم عنهسسسا الهمسسسس بيسسسن اثنيسسسن دون
غيرهما؟ ومن ذا السسذي طسساقته أن يمسسد بيسسده إلسسى قلسسبين فسسي تلقسسي
الرسائل كصندوقي البريد..؟
اسمع اسمع هذا الخر ..فاسترق الشيطان السمع فإذا طسسالب يقسسرأ
في صحيفة أخرى على جماعته:
"والسسذين يزعمسسون أن التصسسال بيسسن الطالبسسات والطلسسة خطسسر ،إنمسسا
يسيئون إلى أخلقكم ..والحق أيها الصسسدقاء أن السسذي حملنسسي علسسى
أن أغصب وأثور إنما هو الدفاع عن الكرامة الجامعية".
قال الشيطان :كل الرضا كل الرضا ..هسسذا كلم داهيسسة أريسسب ،فلقسسد
أحسن قائله الله! إنها عبارات جامعيسسة محكمسسة السسسبك تقسسوم علسسى
أصسسولها مسسن فسسن السياسسسة الخطابيسسة؛ وكسسل مسسن أظنسسوه بتهمسسة فل
يستطيع أن يمخرق على الناس بأحسن من هذا ول بمثل هذا.
وليس لنا أقوى من هذا الطبع القوي الذي يشعر بالنقص فل هم لسسه
إل إثبات ذاته في كل ما يجسسادل فيسسه دون إثبسسات الصسسواب ولسسو كسسان
الناس جميًعا في هذا الجانب وكان هو وحده في جانب الخطأ.
ولكن أف! ماذا صنع هذا القائل؟ وأين التهمسسة السستي ل تبسسدل اسسسمها
في اللغة؟ وأين الذنب الذي يرضى أن توضع اليد عليه؟ وهسسل إنكسسار
المذنب إل احتجاج من كرامتسسه الزائفسسة وإظهسسار الغضسسب فسسي بعسسض
ألفاظ؟..
إن هذا كغيره من الضعفاء حين يمارون؛ أل مسسا أكسسذب الكسسذب هنسسا!
فإن الفساد ليقع من اختلط الجنسين في الجامعسسة الوروبيسسة ثسسم ل
ضا من الكرامة الجامعيسسة؛ يعد ذلك عندهم إساءة إلى الخلق ،ول غ ّ
وفي فرنسا يجتمع الشبان والفتيسسان مسسن طلبسسة الجامعسسة ويحتسسسون
الخمر ويتراقصون ويتواعدون ثم ل تقول لهسسم الخلق :أيسسن أنتسسم؟..
وهناك في الندية الخاصة بالطلبة ينتخبسسون ملكسسة الجمسسال مسسن بيسسن
الطالبات كل سسسنة ،ثسسم ينزعسسون بأيسسديهم ثيابهسسا السستي تسسسمى ثياب ًسسا،
ويطوفون بها غرف النادي كعسسروس واحسسدة مجلسسوة علسسى مسسائة زوج
في المعنى" ،وبلنسوار" أيتها الكرامة الجامعية..
147
والختلط هناك يقرب أن يكون ضرًبا من المذاهب الشتراكية ،وكل
ما بقي عنسسدهم مسسن لغسسة الحيسساء هسسو أن يتلطفسسوا فيقولسسوا :إن هسسذه
الطالبسسة صسسديقة فلن الطسسالب؛ يعسسبرون بلفسسظ الصسسداقة عسسن أول
المعنى ويدعون سائر أحواله؛ إذ ل يبالي أمرهما أحد ل مسسن الطلبسسة
ول من الستاذين ..وهناك يعتذر للشباب في مثسسل هسسذا بسسأنه شسساب،
فتقوم كلمة الشباب في العرف بمعنى كلمة الضرورة في الشرع!
وهم قد عرفوا أن الجامعة لحريسسة الفكسسر ،ومسسن حريسسة الفكسسر حريسسة
النزعة ،ومن هذه حرية الميل الشخصسسي ،ومسسن حريسسة الميسسل حريسسة
الحب؛ وهل يعرف الحب فسسي الجامعسسة أنسسه فسسي الجامعسسة فيسسستحي
ويكون شيًئا آخر غير ما هو في كل مكان؟ أو ليس في لغسسة السسزواج
عنهم عبارة "نسيان ماضي الفتاة"..
ولكن اسمعي اسمعي..
فأصاخت الشيطانة؛ فإذا طالب من الزهسسر يقسسرأ لطسسالب مسسن كليسسة
الحقوق في صحيفة من دفاع أحد خريجي الجامعة!
"ومسسا بسسال إخواننسسا الزهرييسسن يسسسخطون علسسى الجامعسسة واختلط
ح أخسسرى هسسي أحسسق بحربهسسم وأولسسى الجنسين فيهسسا ،وفسسي مصسسر نسسوا ٍ
باهتمامهم؟ لعلهم قد نسوا حالنا في الصيف علسسى شسسواطئ البحسسر،
والناس يمكثون هناك شهوًرا عرايا أو كالعرايا".
فقالت الشيطانة :ما له ولهذا؟ لقد أخسسزى نفسسسه وأخسسزى الجامعسسة،
وهل صنع شيًئا إل أنه يقسول للزهرييسن :إن أهسون الفسساد مسن هسذا
الختلط في الجامعة ،وأكثره في شواطئ البحر؛ فما بالكم تسسدعون
أشده وتأخذون على أهونه؟
قال الشيطان :ويحه! وهل يأخذون على أهونه في الجامعة؛ إل لنسسه
في الجامعة ل في مكان آخر؟ ولكن اسمعي ،ما هذا...؟
فأرعيا الصوت سمعهما ،فإذا طالب يقرأ في مجلة" :ظهرت النسة
فلنة وهي تلبس فستاًنا أحمر شفتشسي بمسبي كريسسبي مشسسجر ببنسي
وفيونكة أحمر على أبيض"..
قالت الشيطانة :هسسذا هسسذا ،فهسسل هسسي إل ألسسوان أفكسسار تحسست ألسسوان
ثياب؟ وهل يظهر سلطان الطبيعة في المرأة بحًثا عن رعيته إل في
ألوان جميلة هي ،أسئلة للعيون؟ لقد مثل سرب من الطالبسسات فسسي
هذه الجامعة فصًل في بعض الحفلت سموه "عرض الزياء" والفتاة
تعرض الثوب ،والثوب يعرض الجسم ،والجسم والثوب مًعا يعرضان
الفتاة! وعرض الزياء في الجامعة هو أمر من الجامعة بإهمال هسسذه
ن{ ]النور.[31 : ن ِزين َت َهُ ّ
دي َ
اليةَ} :ول ي ُب ْ ِ
148
قال الشيطان خبريني عن صاحبتك التي أنت موكلة بها ،أتريها كانت
تأتي إلى هذه الجامعة لسسو ألبسسسوهن مثسسل ثسسوب الراهبسسة وخمروهسسن
بالخمار وأضاعوا مساحة الجسم في مساحة الثوب وأجلسوهن فسسي
آخر الصفوف كأنهم في المسجد؟ لقسسد فعلسسوا مثسسل هسسذا فسسي بعسسض
جامعات أوربا ،فحرموا صبغ الشفاه على الفتيسسات ،ومنعسسوهن إبسسداء
الزينة؛ فامتنعت الزينة والمتزينة مًعا ،وهجرن الجامعسسة ،وقلسسن فيمسسا
قلن :إن المرآة والحمسسر والبيسسض ونحوهسسا هسسي الحقسسائق فسسي علسسم
المرأة ،وهي من أساليب بحسسث كسسل فتسساة عسسن رجلهسسا المخبسسوء بيسسن
الرجال في الجامعة أو غير الجامعة ،والعلم وسسيلة عيسش ،والرجسسل
وسيلة مثلها ،غير أنسسه هسسو أجسسدى الوسسسيلتين علسسى المسسرأة وأحقهمسسا
بالعناية؛ إذ هي ل تتزوج الكيمياء ول الطبيعة ول القانون ،ومعنى هذا
بغير اللغة التي هنا في الجامعة المصرية أن وجود الفتاة مع الشبان
للتعليم ،هو كذلك وجودها بينهم للستمالة والمكر النسوي الجذاب.
اسمعي اسمعي؛ ما هذا الصوت المنكر الجافي الخشن؟
فتسمعت ،فإذا الطالب الزهري يقول لصاحبه وهسسو يحسساوره :قسسالوا:
ويحرم على المرأة أن ترى شيًئا من الرجل ولسسو بل ميسسل ول خسسوف
الفتنة ،وإذا هي اضطرت إلى مداواة أو أداء شهادة أو تعليسسم أو بيسسع
أو نحو ذلك -جاز نظرها بقدر الضرورة.
فقالت الشيطانة :هذا كلم رحمه الله ..لقد كان ذلسسك سسسائًغا لسسو أن
الشبان يتعلمسسون فسسي الجامعسسة ليحملسسوا معهسسم الحسسق كمسا يحملسسون
معهسسم العلسسم؛ وكيسسف لهسسم بهسسذا ومعسساني السسدين قسسد أصسسبحت منهسسم
كأسسسماء البلد البعيسسدة فسسي كتسساب الجغرافيسسا :ل هسسم رأوهسسا ول هسسم
حققوها؟ إنهم يريدون تعليم الدين هنا .فيقول لهسسم رؤسسساؤهم :ألسسم
تعرفوا الصلة وأنهسسا الصسسلة ،والصسسيام وأنسسه الصسسيام ،والزكسساة وأنهسسا
الزكاة ،والحج وأنه الحج؟ وهذا كلم يشسسبه درس مواقسسع البلد علسسى
الخريطة ،فباريس كلمة ،ولندن كلمة ،ل غير؛ أما الحقيقسسة العظيمسسة
الهائلة فشيء غير هسسذا الكلم الجغرافسسي التعليمسسي؛ إذ مسسا هسسي كسسل
فسسروض السسدين إل أعمسسال دقيقسسة ثابتسسة يجسسب فرضسسها علسسى الجميسسع
لتحقيق النفسية الواحسسدة فسسي الجميسسع ،وهسسي سسسر القسسوة والعظمسسة
والنجاح؛ فتعليم الدين في الجامعة هو إقناع النفسسس بجعسسل فروضسسه
من قوانينها الثابتة ،ل بأداء هسسذه الفسسروض فقسسط ،أي باعتبسساره علسسم
فلسفة الروح العملية للمة ،ثم يجعل المدرسسسين أول العسساملين بسسه؛
ليتحقسق معنسى القنساع ،فل ينقلسب السدرس هسزًءا وسسخرية؛ وبسذلك
يخرج الشاب من الجامعة وفسسي روحسسه قسسوة ثابتسسة تعمسسل بسسه العمسسل
149
الصالح ،وتوجهه إلى الخير ،وتحفظسسه بيسسن أهسسواء الحيسساة وشسسدائدها،
ما يشعر أنه في موضعه السامي من النسسسانية وإن كسسان وتجعله دائ ً
في أقل مراتب المال والجاه ،ومن ثم يرجع الشبان في المسسة آلت
قوة منظمة عاملة ،وأيسر ما تعملسسه هسسذه اللت ،إزالسسة المنكسسرات،
وصنع الشعب صنعة جديدة للسلم والحرب..
قال الشيطان :وماذا أيتها الخبيثة؟ لقد هولت علي!
قالت :وطردنا نحن الشياطين من الجامعة!
قال :اسكتي ويحك! فما أرسلت من مستشسسفى المجسسانين إل لهسسذا؛
فلسسن يقسسع الفصسسل بيسسن الجنسسسين ،ولسسن يسسدخل التعليسسم السسديني فسسي
الجامعة ،وسيدافعون بأن هذا كله ضرب من الجنون..
150
نهضة القطار العربية 1
151
ج -هل ينبغي لهل القطار العربية اقتباس عناصر المدنية الغربيسسة؟
وبأي قدر؟ وعند أي حد يجب أن يقف هذا القتباس ،فسي النظامسات
السياسية الحديثة ،وفي الدب والشسسعر ،وفسسي العسسادات الجتماعيسسة،
وفي التربية والتعليم؟
إن الجواب على نهضة أمة نهضة ثابتسسة ل يكسسون مسسن الكلم وفنسسونه،
بل من مبدأ ثابت مستمر يعمل عمله في نفوس أهلهسسا؛ ولسسن يكسسون
مسسا علسسى أربعسسة أركسسان :إرادة قويسسة،
هذا المبدأ كذلك إل إذا كسسان قائ ً
وخلق عزيز ،واستهانة بالحياة ،وصبغة خاصة بالمة.
فأما الرادة القوية فل تنقص الشرقيين ،وإنما الفضسسل فيهسا لساسسة
الغرب الذين بصرونا بأنفسنا إذ وضعونا مع المم الخرى أمام مسسرآة
واحدة وجعلوا يقولون مع ذلك إننا غير هؤلء ،وإن هذا النسان الذي
في المرأة غير هسذا الفسرد السذي فيهسا ...ولكسن أيسن الخلسق؟ وأيسن
العزة القومية؟ وأين العصسسبية الشسسرقية؟ وهسسذه مفاسسسد أوربسسا كلهسسا
تنصب في أخلق الشرقيين كما تنصب أقذار مدينسة كسسبيرة فسسي نهسر
صغير عذب؛ فل الدين بقي فينا أخلًقا ،ول الخلق بقيسست فينسسا دين ًسسا،
وأصسسبحت الميسسزة الشسسرقية فاسسسدة مسسن كسسل وجوههسسا فسسي السسروح
والذوق ،ولم يعد لنا شيء يمكن أن يسمي المدنية الشسسرقية ،وأخسسذ
الحمقى والضعفاء منا يحاولون في إصلحهم أن يؤلفسسوا المسسة علسسى
خلسسق جديسسد ينسستزعونه مسسن المدنيسسة الغربيسسة ،ول يعلمسسون أن الخلسسق
الطسسارئ ل يرسسسخ بمقسسدار مسسا يفسسسد مسسن الخلق الراسسسخة ،وهسسم
يغتبطون إذا قيل لهم مثًل :إن مصر قطعة من أوربا؛ ول يعلمون مسسا
تحسست هسسذه الكلمسسة مسسن تعطيسسل المدنيسسة الشسسرقية ،والسسذهاب بهسسا،
وإفسادها ،وتعريضها للذم ،وتسليط البلد عليها ،مما ل حاجة بنا إلى
التبسط في شرحه.
سسالست أقول إن نهضة الشرق العربي ل أساس لها؛ فسسإن لهسا أسا ً
من حمية الشباب ،وعلم المتعلمين؛ ومن جهل أوربسسا السسذي كشسسفته
الحرب؛ ولكن هذا كله على قوته وكفايته في بعسسض الحيسسان لقامسسة
الحداث الكبرى واهتياج العواصف السياسية -ل يحمسسل ثقسسل الزمسسن
دا يقوم عليه بناء عدة قرون سا وطي ً
الممتد ،ول يكفي لن يكون أسا ً
من الحضارة الشرقية العالية ،بل ما أسرعه إلى الهدم والنقض ،لسسو
صدمته الساليب اللينة من الدهاء الوروبي على اختلفها ...إذا قسسدر
لوربا أن تفوز بأسلوبها الجديد ،أسلوب استعباد الشرق بالصداقة...
على طريقة ادعاء الثعلب للدجاج أنسسه قسسد حسسج وتسساب وجسساء ليصسسلي
بها...
152
والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي ل تعتبر قائمة على أسسساس
وطيد إل إذا نهض بهسسا الركنسسان الخالسسدان :السسدين السسسلمي ،واللغسسة
العربية؛ وما عداهما فعسى أن ل تكون لسسه قيمسسة فسسي حكسسم الزمسسن
الذي ل يقطع بحكمه على شيء إل بشاهدين من المبدأ والنهاية.
وظاهر أن أغلبية الشرق العربسسي ومسسادته العظمسسى هسسي السستي تسسدين
بالسلم ،وما السلم في حقيقته إل مجموعة أخلق قوية ترمي إلى
شد المجموع من كل جهسسة ،ولعمسسري إنسسي لحسسسب عظمسساء أمريكسسا
كأنهم مسلمو التاريخ الحديث في معظم أخلقهسسم ،لسسول شسسيء مسسن
الفرق هو الذي ل يمنعهم أن ينحطوا إذا هم بلغسسوا القمسسة؛ فسسإن مسسن
عجائب السسدنيا أن قمسسة الحضسسارة الرفيعسسة هسسي بعينهسسا مبسسدأ سسسقوط
المم ،وهذا عندنا هو السر في أن الدين السلمي يكره لهله أنسسواع
الترف والزينة والسترخاء ،ول يسسرى النحسست والتصسسوير والموسسسيقى
والمغالة فيها وفي الشعر إل من المكروهات ،بل قد يكون فيهسسا مسسا
يحرم إن وجد سبب لتحريمه؛ إذ كانت هذه الفنون في الغالب وفسسي
الطبيعة النسسسانية هسسي السستي تسؤدي فسسي نهايتهسسا إلسسى سسسقوط أخلق
المة؛ بما تسسستتبعه مسسن أسسساليب الرفاهيسسة والضسسعف المتفنسسن ،ومسسا
تحدثه للنفس من فنون اللذات والغسراق فيهسا والسستهتار بهسا؛ ومسا
سقطت الدولة الرومانية ول الدولة العربية إل بكأس وامسسرأة ووتسسر،
وخيال شعري يفتن في هذه الثلثة ويزينها.
وإذا كان ل بد للمسسة فسسي نهضسستها مسسن أن تتغيسسر ،فسسإن رجوعنسسا إلسسى
الخلق السلمية الكريمة أعظم ما يصلح لنا من التغيسسر ومسسا نصسسلح
به منه ،فلقد بعد ما بيننا وبين بعضها ،وانقطع ما بيننسسا وبيسسن البعسسض
الخر؛ وإذا نحن نبذنا لخمسسر ،والفجسسور ،والقمسسار ،والكسسذب ،والريسساء؛
وإذا أنفنا من التخنث ،والتبرج ،والستهتار بالمنكرات ،والمبالغة فسسي
المجسسون ،والسسسخف ،والرقاعسسة ،وإذا أخسسذنا فسسي أسسسباب القسسوة،
واصطنعنا الخلق المتينة :من الرادة ،والقدام ،والحمية ،وإذا جعلنا
لنا صبغة خاصة تميزنا من سوانا ،وتسسدل علسسى أننسسا أهسسل روح وخلسسق
-إذا كان ذلسسك كلسسه فلعمسسري أي ضسسير فسسي ذلسسك كلسسه ،وهسسل تلسسك إل
الخلق السلمية الصحيحة ،وهل في الرض نهضة ثابتة تقسسوم علسسى
غيرها؟
إن من خصائص هذا الدين الخلقسسي أنسسه صسسلب فيمسسا ل بسسد للنفسسس
النسانية منه إذا أرادت الكمال النساني ،ولكنه مرن فيما ل بد منسسه
لحوال الزمنة المختلفة مما ل يسسأتي علسسى أصسسول الكريمسسة .وليسسس
يخفى أنه ل يغني غناء الدين شيء في نهضة المم الشرقية خاصسسة،
153
فهسسو وحسسده الصسسل الراسسسخ فسسي السسدماء والعصسساب .ومسستى نهسسض
المسلمون وهم مادة الشرق ،نهض إخوانهم فسسي السسوطن والمنفعسسة
والعادة من أهل الملل الخرى ،واضطروا أن يجانسوهم فسسي أغلسسب
أخلقهم الجتماعية ،ول حجر على حريتهم في ذلك إل كبعض الحجر
على حرية المريض إذا أوجرته الدواء المر.
ولما كسسان المسسسلمون إخسسوة بنسسص دينهسسم ،وكسسانت مبسسادئهم واحسسدة،
ومنافعهم واحدة ،وكتابهم واحد؛ فل جرم كان من السهل -لو رجعوا
إلى أخلق دينهم وانتبذوا ما يصدهم عنها -أن يؤلفوا من الشرق كله
دوًل متحدة يحسب لها الغرب حساًبا ذا أرقام ل تنتهي..
إن هذا الشرق في حاجة إلى المبادئ والخلق ،وهي مع ذلك كامنة
فيه ،ومستقبله كسسامن فيهسسا؛ غيسسر أنهسسا ل تصسسلح فسسي الكتسسب ول فسسي
الفنسون ،بسل فسي الرجسال القسائمين عليهسا .فسالقلوب والدمغسة هسي
أساس النهضة الصحيحة الثابتة ،وإذا نحن تأملنا هذه النهضة الراهنة
وجدنا أساسها خرًبا من جهات كثيرة ،ووجدنا المكان السسذي ل يملسسؤه
إل القلب الكبير ليس فيه إل خيال كاتب من الكتاب والموضع السسذي
ل يسده إل الرأس العظيم قد سدته قطعة من صحيفة...
ولقد تنبأ نبي هذا الدين صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم بهسسذه الحالسسة السستي
مسسا :كيسسفانتهى إليها الشرق العربي بإزاء الغرب ،فقال لصسسحابه يو ً
بكم إذا اجتمع عليكم بنو الصفر* اجتماع الكلة على القصاع؟ فقال
عمر رضي الله عنه :أمسسن قلسسة نحسسن يسسومئذ يسسا رسسسول اللسسه أم مسسن
كثرة؟ قال :بل من كثرة ،ولكنكسسم غثسساء كغثسساء السسسيل** قسسد أوهسسن
قلوبكم حب الدنيا.
فوهن القلب بحسسب السسدنيا -علسسى مسا ينطسسوي فسسي هسسذه العبسسارة مسن
المعاني المختلفة -هو علة الشرق ،ول دواء لهذه العلة غير الخلق،
ول أخلق بغير الدين الذي هسسو عمادهسسا ،أل وإن أسسساس النهضسسة قسسد
ما ،وهذا مسسا اعتقسسده؛وضع ،ولكن بقيت الصخرة الكبرى وستوضع يو ً
لن الغسسرب يسسدفع معنسسا هسسذه الصسسخرة؛؛ ليقرهسسا فسسي موضسسعها مسسن
الساس وهو يحسب أنه يدفعنا نحن إلى الحفرة ليدفعنا فيها..
وهذا عمى في السياسة ل يكون إل بخذلن من الله قدره وقضاه.
---------------
* بنو الصفر :هم الروم ومن إليهم من الوربيين.
** الغثاء :ما يحمله السيل من الهشيم ونحوه مما تحطم وتعفن ول
قيمة له ول قوة فيه.
154
وإني أرى أنه ل ينبغي لهل القطار العربية أن يقتبسوا مسسن عناصسسر
المدنية الغربية اقتباس التقليد ،بل اقتباس التحقيق ،بعسسد أن يعطسسوا
كل شيء حقه من التمحيص ويقلبوه على حالتيه الشرقية والغربية؛
فسسإن التقليسسد ل يكسسون طبيعسسة إل فسسي الطبقسسات المنحطسسة ،وصسسناعة
التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحسسد ،ومسسا قلسسد المقلسسد بل
بحث ول روية إل أتى على شيء في نفسه من ملكة البتكار وذهسسب
ببعض خاصيته العقلية؛ على أننا ل نريد من ذلك أل نأخذ مسسن القسسوم
شيًئا؛ فإن الفرق بعيسسد بيسسن الخسسذ فسسي المخترعسسات والعلسسوم ،وبيسسن
الخسسذ مسسن زخسسرف المدنيسسة وأهسسواء النفسسس وفنسسون الخيسسال ورونسسق
الخبيث والطيب؛ إذ الفكر النساني إنما ينتج النسانية كلهسسا ،فليسسس
هسسو ملك ًسسا لمسسة دون أخسسرى؛ ومسسا العقسسل القسسوي إل جسسزء مسسن قسسوة
الطبيعة.
فإن نحن أخذنا من النظامات السياسية فلنأخذ ما يتفسسق مسسع الصسسل
الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الجتماعية عند الحد السسذي ل
يجوز على أخلق المة ول يفسد مزاجها ول يضعف قوتها.
وإذا نقلنسسا مسسن الدب والشسسعر فلنسسدع خرافسسات القسسوم وسسسخافاتهم
الروائيسسة إلسسى لسسب الفكسسر ورائع الخيسسال وصسسميم الحكمسسة ،ولنتتبسسع
طريقتهم في الستقصاء والتحقيق ،وأسسسلوبهم فسسي النقسسد والجسسدل،
وتأتيهم إلى النفس النسانية بتلسسك السساليب البيانيسسة الجميلسة للستي
هي الحكمة بعينها.
وأما في العادات الجتماعية فلنذكر أن الشرق شرق والغرب غسسرب
-وما أرى هذه الكلمة تصدق إل في هذا المعنى وحسده -والقسوم فسي
نصف الرض ونحن في نصسسفها الخسسر ،ولهسسم مسسزاج وإقليسسم وطبيعسسة
وميراث من كل ذلك ولنا ما يتفق ول يختلسسف؛ وإن أول الدلسسة علسسى
استقللنا أن نتسلخ من عادات القوم ،فإن هسسذا يسسؤدي بل ريسسب إلسسى
إبطال صفة التقليسسد فينسسا ،ويحملنسسا علسسى أن نتخسسذ لنفسسسنا مسسا يلئم
طبائعنا وينمي أذواقنا الخاصة بنا ،ويطلق لنا الحرية فسسي السسستقلل
الشخصي؛ ولقد كنا سادة الدنيا قبل أن كانت هذه العسسادات الغربيسسة
التي رأينا منها ومن أثرها فينا من أفسد رجولة رجالنا وأنوثة نسسسائنا
على السواء؛ وما هؤلء الشبان المساكين الذين يسسدعون إلسسى بعسسض
هذه العادات ويعملون على بثها في طبقات المة إل كالسذي يحسسب
أن أوروبا يمكن أن تدخل تحت طربوشه ..ولقد غفلنا عن أننا نسسدعو
الوروبيين إلى أنفسنا وإلسسى التسسسلط علسسى بلدنسسا بانتحالنسسا عسساداتهم
الجتماعية؛ لنها نوع من المشاكلة بيننا وبينهم ،ووجه مسسن التقريسسب
155
بين جنسين يعين على اندماج أضسسعفهما فسسي أقواهمسسا ويضسسيق دائرة
الخلف بينهما ،ثم هو من أين اعتبرته وجدته في فسسائدته للوروبييسسن
أشسسبه بتلييسسن اللقمسسة الصسسلبة تحسست السسسنان القاطعسسة؛ وهسسل نسسسي
الشرقيون أن ل حجة للغرب في استبعادهم إل أنه يريد تمدينهم؟
وحيثما قلنسسا "السسدين السسسلمي" فإنمسسا نريسسد الخلق السستي قسسام بهسسا،
والقانون الذي يسيطر من هذه الخلق على النفس الشرقية؛ وهسسذا
في رأينا هو كل شيء؛ لنه الول والخر .1
---------------
1حذفنا من هذا المقال بعسسض عبسسارات حسسذفها المؤلسسف بقلمسه فسسي
الصل الذي تحت أيدينا.
156
ل تجني الصحافة على الدب 1ولكن على فنيته
قسسالوا :إن الصسسمعي كسسان ينكسسر أن يقسسال فسسي لغسسة العسسرب "مالسسح"،
ويقول :إنما هو ملح ،وإن "مالح" هذه عامية؛ فلما أنشدوه في ذلسسك
شعًرا لذي الرمة يحتجون به عليه قال :إن ذا الرومسسة قسسد بسسات فسسي
حوانيت البقالين بالبصرة زماًنا..
يريد شسسيخنا هسسذا :أن "المالسسح" فسسي الكسسثر العسسم يكسسون ممسسا يسسبيعه
البقالون ،ولغتهم عامية مزالسسة عسسن سسسننها الفصسسيح ،مصسسروفة إلسسى
وجهها التجاري؛ ولكن كيف بات ذو الرمة في حوانيت البقالين زماًنا
حتى علقت الكلمة بمنطقه وجذبه إليها الطبع العسسامي ،ولسسم يخسسالط
عربيته غير هذه الكلمة وحدها؟ لم يقل الصمعي شيًئا ،ولكن روايته
تخبر أن ذا الرمة انحدر من البادية إلى البصرة يلتمسسس مسسا يلتمسسسه
الشعراء ،فلم كان بها استضاق فلم يصسسب لجسسوفه غيسسر الخسسبز ،ولسسم
قا إلسسىيجد للخبز غير "المالحة" والبقلة "المالحة" ،ويعرفسسونه مضسسي ً
فرج ،فينسئون له في الثمن إلى أجسل حستى يمتسدح وينسال الجسائزة؛
قالوا :ثم يمطسسره الممسسدوح ويلسسوي بسسه ول يسسرى فسسي تلفيسسق العيسسش
صا إل في "المالح" ،فيتتسسابع فسسي الشسسراء ويمضسسون فسسي إسسسلفه رخ ً
إبقاء عليه وحسن نظر منهم لمنزلته وشعره ،ويرى هو أن ل ضمان
للوفسساء بسسه عليسسه إل نفسسسه ،فمسسا بسسد أن يسستراءى لهسسم بيسسن السسساعة
والساعة ،فيخالطهم فيحدثهم فيسمع منهم ،وهم على طبعهسسم وهسسو
على سجيته؛ ثم ل يقتضسسونه ثمن ًسسا ،ول يزالسسون يمسسدون لسسه ،فل يسسزال
"المالح" أيسر مناًل عليه ،كما هسسو إلسسى نفسسسه أشسسهى ،وفسسي جسسوفه
أمًرا ،لمكان أعرابيته وخشونة عيشه ،فيصيب عندهم مرتعة من هذا
"المالح" .قالوا :ثم يرى البقالون أن ل ضمان لم اجتمع عليسسه إل أن
يكون الشاعر معهم ،فيلزمونه الحوانيت بياض يومه ،ويغلقونها عليه
سسسواد ليلتسسه ،فهسسم يمسسسكونه بالنهسسار وتمسسسكه الحيطسسان والبسسواب
بالليل!
---------------
1بهذا المقال بدأ المؤلف عمله في الرسالة؛ وانظر ص " 191حياة
الرافعي".
فلما عظم الدين وبلغ الجملة التي فاتت حساب اليام إلسسى حسسساب
الهلة أحضر الشاعر كربه وهمه ،ولسسم يعسسد "المالسسح" ينجسسع فيسسه ،ول
قا في الدم ،ورأى أنه قد امتحن بهسسذا "المالسسح" يجد به غذاء ،بل حري ً
الخبيث وأشرط نفسه فيه وارتهنها بسه؛ فل يسزال مسن "المالسح" هسسم
157
في نفسه ،ومغص في جوفه ،ولفظ على لسانه ،وديسسن علسسى ذمتسسه؛
ما به؛ إذ كان على طريق من طريقين :إما الوفسساء ول ول يزال مهمو ً
قدرة عليه من مفلس ،وإما الحبس ول طاقة به لشاعر؛ وحبس ذي
الرمة في ثمن "المالح" هو حبس عند الشرطة ،ولكنه قتسسل أو شسسر
مسن القتسل عنسسد صساحبته "ميسة" إذا ترامسسى إليهسسا الخسسبر؛ والعرابسسي
الجلف الذي يحبس في ثمن "المالح" عند الوالي بعد أن بسات زماًنسا
قا لمسسي وهسسي :مسسن هسسي: رهًنا به في حوانيت البقالين ل يصلح عاشس ً
"لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشسسي "..فل "المالسسح" مسسن
غذائها ،ول لفظ "المالح" من الكلم الذي يكسسون فسسي فمهسسا العسسذب،
وأبعد الله جاريتها الزنجية إن لم تسأنف لنفسسها ومكانهسا مسن عشسق
هسسذا العرابسسي الغليسسظ الخشسسن السسذي ألحقسسه "المالسسح" باللصسسوص
دا
والغارمين ،وأخزاها الله إن لم يكن عشق هذا العرابسسي لهسسا سسسوا ً
على سوادها في الناس ،فكيف بمي وهي أصفى من المرأة النقيسسة،
وأبيض من الزهرة البيضاء؟
قالوا :ويصنع الله لغيلن المسكين ،فيمسسدح وينسسافق ويحتسسال ،ويعسسده
الممدوح بالجائزة إذا غذا عليسسه ،ويكسسون ذلسسك والشسسمس نازلسسة إلسسى
خدرها ،فينكفئ الشاعر إلى حوانيت غرمائه من البقالين يبيت فيهسسا
أخرى لياليه ،ويغلقون عليه وقد سئموه آكًل وماطًل ،وهان عليهم فل
يعتدونه إل فأًرا من فئران حوانيتهم غير أنه يأكل فيستوفي ،ولم يعد
اسمه عندهم ذا الرمة ،بل ذا الغمة ..فلم يعطوه لعشائه هذه المرة
مسسا ،وداء
إل ما فسد وخبث من عتيق "المالح" ،فهو نتن يسسسمى طعا ً
يباع بثمن ،وهلك يحمل عليه الضطرار كما يحمل على أكل الجيفة؛
وكسسانوا قسسد وضسسعوه فسسي آنيسسة قسسذرة متلجنسسة طسسال عهسسدها بالغسسسل
والنظافة وفيها بقية من عفن قسديم ،فلصسسق بهسا مسا لصسق وتراكسسب
عليها ما تراكب ،ووقع فيها ما وقع.
ثم يتهيأ الشاعر لصلة العشاء يرجو أن تناله بركتها ،فيستجيب اللسسه
له ويفرج عنه ،وقد كان لديه قدح من الماء لوضوئه ،ولكن "المالح"
الذي تغذى به كان قد أحرق جوفه وأضسسرم علسسى أحشسسائه وهسسو فسسي
صسسيف قسسائظ ،فمسا زال يطفئه بالشسسربة بعسسد الشسسربة ،والمصسة بعسسد
المصة ،حتى اشتف القدح وأتى عليسسه ،فيكسسسل عسسن الصسسلة ويلعسسن
"المالح" وما جسسر عليسسه! ثسسم يعضسسه الجسسوع فيكسسسر خسسبرته ويسسسمى
ويغمس اللقمة ثم يرفعها فيجد لها رائحة منكرة ،فينظسسر فسسي النيسسة
وقد نفذ إليه الضوء من قنديل الحارس ،فإذا في "المالسسح" خنفسسساء
قد انفجرت شبًعا ،ويسسدقق النظسسرة فسسإذا دويبسسة أخسسرى قسسد تفسسسخت
158
وهرأها "المالح" وفعل بها وفعل! قالوا :وتثب نفسه إلسسى حلقسسه ،ول
يرى الطاعون والبلد الصفر والحمر إل هذا "المالح" ،فيتحول إلسسى
كوة الحانوت يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد،
ول يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية ،وهو
بين ذلك يلعن "المالح" عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليسسل،
ويطول ذلك عليه ،حتى إذا كسان ينشسق لمسع الفجسر لعينسه ،فل يسراه
الشاعر إل كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هسسذا الضسسوء
في جوفه ليغسسسله مسسن "المالسسح" وأوضسسار "المالسسح"؛ ثسسم يسسأتي اللسسه
بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له ،ويغدو ذو الرمة علسسى الممسسدوح
فيقبض الجائزة ،وينقلب إلى حسسوانيت البقسسالين فيسسوفي أصسسحابها مسسا
عليه؛ ول يبقى معسسه إل دراهسسم معسسدودة ،فيخسسرج مسسن البصسسرة علسسى
حمار اكتراه وقد فتحت له آفسساق السسدنيا ،وكأنمسسا فسسر مسسن مسوت غيسسر
المسسوت ،ليسسس اسسسمه البسسوار ول الهلك ول القتسسل ،ولكسسن اسسسمه
"المالح"!
قسسالوا :ويحركسسه الحمسسار للشسسعر كمسسا كسسانت تحركسسه الناقسسة ،فيقسسول:
أخزاك الله من حمار بصري ،إن أنت في المراكب إل "كالمالح" في
الطعمة! ثم يغلبسسه الطبسسع ينسسزو بسسه الطسسرب وتهسسزه الحيسساة ،فيهتسساج
للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار مي ،وفسي "عقلسه البساطن" حسوانيت
وحوانيت من "المالح" ،فيأتي هذا "المالح" فسسي شسعره ويسدخل فسسي
لغته ،فيقول الشعر الذي أهمل الصسسمعي روايتسسه لن فيسسه "المالسسح"
وما أدري أنا ما هو ،ولكن لعله مثل قول الخر:
ولو تفلت في البحر والبحر "مالح"لصبح ماء البحر من ريقها عذبا
أو مثل قول القائل:
بصرية تزوجت بصريايطعمها "المالح" والطريا
هذه في الرواية التمثيلية التي تفسر كلم الصمعي ،ول مذهب عنها
في التعليل؛ إذ صار "المالح" كلمة نفسية في لغة ذي الرمسسة ،علسسى
رغسم أنسف الحمسر والسسود والصسمعي وأبسي عبيسدة؛ فالرجسل مسن
الحجج فسسي العربيسسة إل فسسي كلمسسة "المالسسح" ،فسسإنه هنسسا عسسامي بقسال
حوانيتي نزل بطبعه على حكم العيش ،وغلبه ما ل بد أن يغلسسب مسسن
تسلط "واعيته الباطنة"*.
والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن أبلغ النسساس ينحسسرف بعملسسه
كيف شاءت الحرفسسة ،ول بسسد أن تقسسع المشسسابهة بيسسن نفسسسه وعملسسه،
فربما أراد بكلمه وجًها وجاء به الهاجس علسسى وجسسه آخسسر؛ وإذا كسسان
في النفس موضع من مواضسعها أفسسده العمسسل -ظهسر فسسساده فسي
159
الذوق والدراك فطمس على مواضع أخرى؛ فل تنتظر من صسسحافي
قد ارتهن نفسه بحرفة الكلم أل يكون له في الدب والبلغة "مالح"
كمالح ذي الرمة ،وإن كان أبلغ الناس ل أبلغ كتاب الصحف وحدهم.
و"المالح" الذي رأيناه لكاتب بليغ من أصحابنا 1أنه كتب فسسي إحسسدى
الصحف عن ديوان هو في شعر هذه اليام كالبعث بعد موت شوقي
وحافظ رحمهما الله فيأتي بالمجاز بعد السسستعارة بعسسد الكنايسسة ممسسا
قاله الشاعر ،ثم يقسسول :هسسذا عجيسسب تصسسوره .ل أعسسرف مسساذا يريسسد.
البلى للشعاع غير مقبول؛ ول يزال ينسحب على هذه الطريقسسة مسسن
النقد ثم يعقب على ذلك بقوله" :والصل فسسي الكتابسسة أنهسسا للفهسسام،
أي نقل الخاطر أو الحساس من ذهسسن إلسسى ذهسسن ومسسن نفسسس إلسسى
نفسسسي ،ول سسسبيل إلسسى ذلسسك إذا كسسانت العبسسارة يتعاورهسسا الضسسعف
والبهام والركاكة وقلة العناية بدقة الداء؛ وإذا كنت تستعمل اللفسسظ
في غير موضعه ولغير ما أريد به فكيف تتوقع مني أن أفهم منك؟
ل ،ل ،هسسذا "مالسسح" مسسن مالسسح الدب ،فسسإذا كسسان الضسسعف والبهسسام
والركاكة وسسسوء الفهسسام وضسسعف الداء -آتيسسة فسسي رأي الكسساتب مسسن
استعمال اللفظ في غير موضعه ولغيسسر مسسا أريسسد لسسه -فسسإن محاسسسن
البيان من التشبيه واستعارة والمجاز والكناية ليس لها مسسأتى كسسذلك
إل استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له.
مَنا إ ِل َسسى َ
مسسا وعلى طريقة الكاتب كيف يصنع في قوله تعسسالى} :وَقَسد ِ ْ
من ُْثوًرا{ ]الفرقان[23 : جعَل َْناه ُ هََباًء َ
ل فَ َ
م ٍ
ن عَ َ مُلوا ِ
م ْ عَ ِ
أتراه يقول :كيف قدم الله ،وهل كان غائًبا أو مسسسافًرا ،وكيسسف قسسدم
إلى عمل ،وهل العمل بيت أو مدينة؟
---------------
* وضعنا هذه الكلمة لمسسا يسسسمى "العقسسل البسساطن" ،وهسسي أدق فسسي
التعبير تستوفي كل معاني الكلمة ،ول معنى لن يكون هنسساك عقسسل،
ثم يكون باطًنا غافًل ،فإن هذا ل يسوغه الشتقاق.
1يعني المازني ،وكان له نقد لديوان "الملح التائه".
َ
ك{ ]هسود: مساَء ِ ض اب ْل َعِسسي َ
ل َيسا أْر ُثم كيف يصنع في هذه الية} :وَِقيس َ
،[44أيسأل :وهل للرض حلق تحركه عضسسلته للبلسسع ،وإذا كسسان لهسسا
حلق أفل يجوز أن ترمي فيه فتحتاج إلى غرغرة وعلج وطب؟
وماذا يقول في حديث البخاري" :إني لسمع صوًتا كأنه صوت السسدم،
أو صوًتا يقطر منه الدم -كمسسا فسسي الغسساني -أيسسوجه العسستراض علسسى
الصوت وجرحه ودمه ،ويسأل :بماذا جرح ،وما لون هذا السسدم ،وهسسل
للصوت عروق فيجري الدم فيها؟
160
إن الفهام ونقل الخاطر والحساس ليسسست هسسي البلغسسة وإن كسسانت
منها ،وإل فكتابة الصحف كلها آيات بينات في الدب؛ إذ هي من هذه
الناحية ل يقدح فيها ول يغض منها ،وما قصرت قط في نقسسل خسساطر
ول استغلقت دون إفهام.
ههنا خوان في مطعم كمطعم "الحسساتي" مثًل عليسسه الشسسواء والملسسح
والفلفل والكواميخ أصناًفا مصنفة ،وآخر في وليمة عرس في قصسسر
وعليه ألوانه وأزهاره ،ومن فوقه الشعة ومن حوله الشعة الخسسرى
من كل مضيئة في القلب ينور وجهها الجميل ،أفسسترى السسسهولة كسسل
السسهولة إل فسسي الول؟ وهسل التعقيسد كسل التعقيسسد إل فسسي الثسساني؟
ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس إل ،به ينضاف الجمسسال فسسي
المنفعة ،فتجتمع الفائدة والسسستمتاع وتزيسسن المسسائدة والنفسسس معًسسا؛
وهو كذلك تعقيد فني لءم بين إبسسداع الطبيعسسة وإبسسداع الفكسسر ،وجسساء
بروح الموسيقى السستي يقسوم عليهسسا الكسسون الجميسسل فبثهسسا فسسي هسسذه
الشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة ،واستنزل سر الجاذبية فجعل
للمائدة بما عليها شسعوًرا متصسًل بسالقلوب مسن حيسث جعسل للقلسوب
شعوًرا متصًل بالمائدة.
وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة ،هو بعينسسه فنيسسة
السهولة وروحيتها؛ وتلسك السسذاجة الستي فسي المسائدة الخسرى هسي
السهولة المادية بغير فن ول روح ،وفرق بينهمسسا أن إحسسداهما تحمسسل
قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به ،والخرى تحمل مسسن الطعسسام
وما يتصل به مقالة كمقالت الصحف!
والسسوجه فسسي الشسسوهاء وفسسي الجميلسسة واحسسد :ل يختلسسف بأعضسسائه ول
منافعه ،ول فسسي تسسأديته معسساني الحيسساة علسسى أتمهسسا وأكملهسسا؛ بيسسد أن
انسجام الجميل يسسأتي مسسن إعجسساز تركيبسسه وتقسسدير قسسسماته وتسسدقيق
تناسبه ،وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسسسي بسسسهولة منسسسجمة هسسي
فنّيته وروحيته؛ أما الخر فل يقبل هذا الفسن ول يظهسر منسسه شسسيًئا؛ إذ
كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيسسد فسسن التناسسسب ،وجسساء
على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير ،إلسسى مسسا يسسستدير ومسسا
يعرض ،إلى ما ينشأ من هنا وينخسف مسسن هنسساك ،كالوجنسسة البسسارزة،
والشدق الغائر ،فهذه السسسهولة فسسي الوضسسع كمسسا يتفسسق ،هسسي بعينهسسا
التعقيد المطلق عند الفن الذي ل محل فيه للفظة "كما يتفق".
والطريقة التي يكسسون بهسسا الجمسسال جميًل هسسي بعينهسسا الطريقسسة السستي
يكون بها البيان بليًغا ،فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفسسس،
وأنت فقل :إن هذا مفهسسوم وهسسذا غيسسر مفهسسوم ،وذاك سسسهل والخسسر
161
معقد ،وواضح ومغلق ،ومستقيم على طريقته ومحول عن طريقتسسه؛
إنك فسسي ذلسسك ل تسسدل علسسى شسسيء تعيبسسه أو تمسسدحه فسسي الجمسسال أو
البلغة أكثر مما تسسدل علسسى مسسا يمسسدح أو يعسساب فسسي نفسسسك وذوقهسسا
وإدراكها.
ومعاني الختلف ل تكون في الشيء المختلف فيه ،بل في النفسسس
المختلفسسة عليسسه؛ فسسإن محسساًل أن تكسسون الجميلسسة ممدوحسسة مذمومسسة
لجمالها في وقت مًعا ،وإل كانت قبيحة بما هي به حسناء ،وهذا أشد
دا في الستحالة ،وحكمسك علسى شسيء هسو عقلسك أنست فسي هسذا بع ً
الشيء.
ومسستى اتفسسق النسساس علسسى معنسسى يستحسسسنونه وجسسدت دواعسسي
الستحسان في أنفسهم مختلفة ،وكسسذلك هسسم فسسي دواعسسي السسذم إذا
عابوا؛ ولكن متى تعينت الوجوه التي بها يكسسون الحكسسم ،ورجسسع إليهسسا
المختلفون ،والتزموا الصسسول السستي رسسسمتها وتقسسررت بهسسا الطريقسسة
عندهم في الذوق والفهم ،فذلك ينفسسي أسسسباب الختلف لمسسا يكسسون
من معاني التكافؤ وخاصة المناسسسبة ،ولهسسذا كسسان الشسسرط فسسي نقسسد
البيان أن يكون من كاتب مبدع في بيسسانه لسسم تفسسسده نزعسسة أخسسرى،
وفي نقد الشعر أن يكون من شاعر علت مرتبته وطسسالت ممارسسسته
لهذا الفن فليس له نزعة أخرى تفسده.
وما المجازات والستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلغة إل
أسلوب طبيعي ل مذهب عنه للنفس الفنيسسة؛ إذ هسسي بطبيعتهسسا تريسسد
ما ما هو أعظم ،وما هو أجمل ،وما هو أدق؛ وربما ظهر ذلك لغير دائ ً
فا ووضًعا للشياء في غير مواضعها ،ويخسسرج فا وتعس ً
هذه النفس تكل ً
من هذا أنه عمل فارغ وإساءة في التأدية وتمحل ل عبرة به ،ولكسسن
فنية النفس الشاعرة تأبى إل زيادة معانيها ،فتصنع ألفاظهسسا صسسناعة
توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها؛ فمن ثسسم ل
تكون الزيادة في صور الكلم وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إل تهيئة
دا
مسسا زائ ًلهذه الزيادة في شعور النفس؛ ومن ذلسسك يسسأتي الشسسعر دائ ً
بالصناعة البياينة؛ لتخرجه هسسذه الصسسناعة مسسن أن يكسسون طبيعي ّسسا فسسي
الطبيعسسة إلسسى أن يكسسون روحاني ّسسا فسسي النسسسانية ،والشسسعور المهتسساج
المتفزز غير الساكن المتبلد ،والبيسسان فسسي صسسناعة اللغسسة يقابسسل هسسذا
ق كالنائم النحو ،فتجد من التعبير ما هو حي متحرك ،وما جامد مستل ٍ
أو كالميت؛ وبهذا ل تكون حقيقة المحسنات البيانية شسسيًئا أكسسثر مسسن
أنهسسا صسسناعة فنيسسة ل بسسد منهسسا لحسسداث الهتيسساج فسسي ألفسساظ اللغسسة
162
الحساسسسة كسسي تعطسسي الكلمسسات مسسا ليسسس فسسي طاقسسة الكلمسسات أن
تعطيه.
لقد تكلموا أخيًرا في جنابة الصحافة على الدب ،والصحافة عندي ل
تجني على الدب ،ولكن على فنيته؛ فلها من الثر على سليقة البليغ
وطبعه قريب مما كان لحوانيت البقالين في البصرة علسسى طبسسع ذي
الرمة وسسسليقته ،وكلمسسا قسسرب الصسسحافي مسسن الصسسنعة وحقهسسا علسسى
الجمهور ،بعد عن الفن وجماله وحقه على النفسسس ،وهسسذا واضسسح بل
كبير تأمل ،بل هو واضح بغير تأمل..
163
صعاليك الصحافة ""1
لما ظهر كتابي " وحي القلم" 1حملت منه إلى فضلء كتابنا في دور
الصحف والمجلت أهديه إليهم؛ ليقرؤوه ويكتبوا عنه ،وأنا رجل ليس
في أكثر مما في ،كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع؛ فمسسا أعلسسم
في طبيعتي موضعا للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحسسة ،ول مكاًنسسا
من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة ،ولست أهدي من كتبي إل
إحسسدى هسسديتين :فإمسسا التحيسسة لمسسن أثسسق بسسأدبهم وكفسسايتهم وسسسلمة
قلوبهم ،وإما إنذار حرب لغير هؤلء!
ه فيه أقوال من عابوه ،ليدل بسسذلك علسسى والقرآن نفسه قد أثبت الل ُ
أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها ،كحاجتها إلى من يقربهسسا
قبلها ،فهسسي بأحسسدهما تثبسست وجودهسسا ،وبسسالخر تثبسست قسسدرتها علسسى وي ْ
الوجود والستمرار.
دا؛ فإذا كانت النفس قويسسة صسسريحة مسسر والشعور بالحق ل يخرس أب ً
من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصسسة ،فسسإن قسسال :ل أو :نعسسم
صدق فيهما؛ وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الغراض والسسدخائل،
فمر من بسساطن إلسسى بسساطن حسستى يخلسسص إلسسى الظسساهر فسسي الكلمسسة
المقلوبة؛ إذ يكون شعوًرا بالحق يغطيه غرض آخر كالحسسسد ونحسسوه،
فإن قال :ل أو نعم كذب فيهما جميًعا.
وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلت أحس فسسي كسسل منهسسا
سؤاًل يسألني به المكان :لماذا لم تجئ؟ فإني في ابتداء أمري كنت
نزعت إلى العمل فسي الصسحافة ،وأنسا يسومئذ متعلسم ريسض ومتسأدب
ناشئ ،ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك ووجهني في سبيلي هذه
والحمد لله ،فلو أننسسي نشسسأت صسسحافّيا لكنسست الن كبعسسض الحسسروف
المكسورة في الطبع..
---------------
1يعني الجزأين الول والثاني في طبعتهما الولى.
164
نفسها ،فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد ،لها من رجلها من يأمرها
ويجعلها في حكمه وهواه ،وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم
في طاعتها ورأيها وأدبها؛ ثم هي عمل الساعة واليسسوم ،فمسسا أبعسسدها
من حقيقة الدب الصحيح؛ إذ ينظسسر فيسسه إلسسى السسوقت السسدائم ل إلسسى
الوقت الغابر ،ويراد به معنى الخلود ل معنى النسيان.
ول يقتل النبوغ شسسيء كالعمسسل فسسي هسسذه الصسسحافة بطريقتهسسا؛ فسسإن
أساس النبسسوغ "مسسا يجسسب كمسسا يجسسب"؛ ودأبسسه العمسسق والتغلغسسل فسسي
أسرار الشياء وإخراج الثمرة الصسسغيرة مسسن مثسسل الشسسجرة الكسسبيرة
بعمل طويل دقيق؛ أما هي فأساسها "ما يمكسسن كمسسا يمكسسن" ودأبهسسا
السرعة والتصفح واللمام وصناعة كصناعة العنوان ل غير.
فليس يحسن بسسالديب أن يعمسسل فسسي هسسذه الصسسحافة اليوميسسة إل إذا
نضج وتم وأصبح كالدولة على "الخريطسسة" ،ل كالمدينسسة فسسي الدولسسة
في الخريطة؛ فهو حينئذ ل يسهل محسسوه ول تبسسديله ..ثسسم هسسو يمسسدها
جا مسسن تيجانهسسا ل خسسرزة مسسن بالقوة ول يستمد القوة منها ،ويكون تا ً
خرزاتها ،ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلسسى الجسسو
إلى مدى بعيد من الفاق ،ل كمصباح من مصابيح الشارع!
وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكان ًسسا طبيعي ّسسا لرجسسل السياسسسة
قبسسل غيسسره؛ إذ كسسان الرجسسل السياسسسي هسسو صسسوت الحسسوادث سسسائًل
ومجيًبا ،ثم يليه الرجل شبه العالم ،ثم الرجل شبه الممثل الهزلسسي..
والديب العظيم فوق هؤلء جميًعا ،غير أنه عندنا في الصسسحافة وراء
هؤلء جميًعا!.
ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في
نومي فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لهدي "
)(1/167
165
وقال الذي عرفني به :حضرته عمسسرو أفنسسدي الجسساحظ ..وهسسو أديسسب
الجريدة.
قلت :شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟
فضحك الجاحظ وقال :وأديب الجريدة ،أي شحاذ الجريدة ،يكتب لها
كما يقرأ القارئ على ضريح :بالرغيف والجبن والبيض والقرش..
قلت :إنا لّله! فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنسست مسسن
سا في الكلم؟ أعاجيب الدنيا؟ وكيف خبت في الصحافة وكنت رأ ً
قال :نجحت أخلقي فخابت آمالي ،ولو جسساء الوضسسع بسسالعكس لكسسان
دا هو قسسانون المر بالعكس؛ والمصيبة في هذه الصحف أن رجًل واح ً
كل رجل هنا.
قلت :وذاك الرجل الواحد ما قانونه؟
قال :له ثلثة قوانين :الجهات العالية ومسسا يسسستوحيه منهسسا ،والجهسسات
النازلة وما يوحيه إليها ،وقانون الصلة بين الجهتين وهو..
قلت :وهو ماذا؟
فحملسسق فسسي وقسسال :مسسا هسسذه البلدة؟ وهسسو السسذي "هسسو" ..أمسسا تسسرى
الصحيفة ككل شيء يباع؟ وأنت فخيرني -ولك الدولة والصولة عنسسد
القراء -ألم تر بعينيك أنك لو جئت تدفع ثمانمائة قسسرش ،لكنسست فسسي
نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تهدي ثمانمائة صفحة مسسن البيسسان
والدب؟
قلت :يا أبا عثمان ،فماذا تكتب هنا؟
قال :إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية ،فماذا ترى أنت
في ...وفي ...وفسسي؟ ...لقسسد كنسسا نسسروي فسسي الحسسديث" :يكسسون قسسوم
يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الرض البقرة بلسانها"؛ فلعل من
هذه اللسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة...
قلت :ولكنك يا شيخنا قد نسيت القراء وحكمهم على الصحيفة.
قال :القراء ما القراء؟ وما أدراك ما القراء؟ وهل أساس أكثرهم إل
بلدة المدارس ،وسخافة الحياء ،وضعف الخلق ،وكسسذب السياسسسة؟
إن البداع كل البداع فسسي أكسسثر مسسا تكتسسب هسسذه الصسسحف ،أن تجعسسل
الكذب يكذب بطريقة جديدة ...وما دام المبدأ هو الكذب ،فسسالمظهر
هو الهزل؛ والناس في حياة قد ماتت فيها المعاني الشسسديدة القويسسة
السامية ،فهم يريدون الصحافة الرخيصة ،واللغة الرخيصة ،والقراءة
الرخيصة؛ وبهذا أصبح الجاحظ وأمثاله هم "صعاليك الصحافة".
166
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيسسس التحريسسر ،فنهسسض إليسسه ،ثسسم
رجع بعينيسسن ل يقسسال فيهمسسا جاحظتسسان ،بسسل خارجتسسان ...وقسسال :أف.
ن{ ]هود.[16 : مُلو َ ما َ
كاُنوا ي َعْ َ صن َُعوا ِفيَها وََباط ِ ٌ
ل َ ما َ ط َحب ِ َ
}وَ َ
"كل والذي حرم التزيد علسسى العلمسساء ،وقبسسح التكلسسف عنسد الحكمساء،
وبهرج الكذابين عند الفقهاء ،ل يظن هذا إل من ضل سعيه"*.
قلت :ماذا دهاك يا أبا عثمان؟
قسسال :ويحهسسا صسسحافة! قسسل فسسي عمسسك مسسا قسسال المثسسل :جحسسظ إليسسه
عمله**.
قلت :ولكن ما القصة؟
ً
قال :ويحها صحافة! وقال الحنف :أربع من كن فيه كان كامل ،ومن
تعلق بخصلة منهن كان مسسن صسسالحي قسسومه :ديسسن يرشسسده ،أو عقسسل
يسدده ،أو حسب يصونه ،أو حياة يقناه" .وقال" :المؤمن بين أربسسع:
مسؤمن يحسسده ،ومنسافق يبغضسه ،وكسافر يجاهسده ،وشسيطان يفتنسه،
وأربع ليس أقل منهن :اليقين ،والعدل ،ودرهم حلل ،وأخ في الله".
وقال الحسن بن علي...*** :
قلت :يا شيخنا ،دعنا الن من الروايسسة والحفسسظ والحسسسن والحنسسف؛
فماذا دهاك عند رئيس التحرير؟
قال :لم أحسن المهسساترة فسسي المقسسال السسذي كتبتسسه اليسسوم ...ويقسسول
رئيس التحرير :إن كان نصف التمويه رذيلة؟ فإن نصسفه الخسر يسدل
على أنه تمويه .ويقول :إن سمو الكتابة انحطاط فصيح؛ لن القسسراء
في هذا العهد ل يخرجون من حفظ القرآن والحسديث ودراسسة كتسب
العلمسساء والفصسسحاء ،بسسل مسسن الروايسسات والمجلت الهزليسسة .وحفسسظ
القسسرآن والحسسديث وكلم العلمسساء يضسسع فسسي النفسسس قسسانون النفسسس،
ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للستجابة لتلك المعسساني الكسسبيرة فسسي
الدين والفضيلة والجد والقوة؛ ولكن ماذا تصسسنع الروايسسات والمجلت
وصور
---------------
1هذه الجملة من كلم الجاحظ.
2يريدون أنه إذا نظر في عمله رأى سوء ما صنع.
ما بالنقل. 3هذه طريقة الجاحظ ،يخلط الكلم دائ ً
الممثلت المغنيسات وخسبر الطسالب فلن والطالبسة فلنسة والمسسارح
والملهي؟
ويقول رئيس التحرير :إن الكاتب الذي ل يسأل نفسه ما يقال عنسسي
في التاريخ ،هو كاتب الصحافة الحقيقي؛ لن القروش هي القسسروش
167
والتاريخ هو التاريخ؛ ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة
البنك الهلي؛ ول يتحقق نسب ما بينهما إل في إخسسراج السسورق السسذي
يصرف كله ول يرد منه شيء!
إنهم يريدون إظهسسار المخسسازي مكتوبسسة ،كحسسوادث الفجسسور والسسسرقة
والقتل والعشق وغيرها؛ يزعمون أنها أخبار تروى وتقص للحكايسسة أو
العبرة ،والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء...
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير...
168
صعاليك الصحافة ""2
وغاب شيخنا أبو عثمان عند رئيسس التحريسر بعسض سساعة ،ثسم رجسع
تدور عيناه في جحاظيهما وقد اكفهر وجهه وعبس كأنما يجسسري فيسسه
الدم السود ل الحمر ،وهو يكاد ينشق من الغيظ ،وبعضه يغلي فسسي
بعضه كالماء على النار؛ فما جلس حتى جاءت ذبابتان فوقعتسسا علسسى
كنفي أنفه تتمان كآبسسة وجهسسه المشسسوه ،فكسسان منظرهمسسا مسن عينيسسه
السوداوين الجاحظتين منظر ذبابتين ولدتا من ذبابتين..
وتركهما الرجل لشأنهما وسسسكت عنهمسسا؛ فقلسست لسسه :يسسا أبسسا عثمسسان،
هاتان ذبابتان ،ويقال إن الذباب يحمل العدوى.
فضحك ضحكة المغيظ وقال :إن الذباب هنا يخسسرج مسسن المطبعسسة ل
من الطبيعة ،فأكثر القول في هسسذه الجسسرائد حشسسرات مسسن اللفسساظ:
منها ما يستقذر وما تنقلب لسه النفسس ،ومسا فيسه العسدوى ،ومسا فيسه
الضرر؛ وما بد أن يعتسساد الكسساتب الصسسحافي مسسن الصسسبر علسسى بعسسض
القول مثل ما يعتاد الفقيسسر مسسن الصسسبر علسسى بعسسض الحشسسرات فسسي
ثيابه ،وقد يريده صاحب الجريدة أو رئيسسس التحريسسر علسسى أن يكتسسب
ما لسسو أعفسساه منسسه وأراده علسسى أن يجمسسع القمسسل والسسبراغيث مسسنكل ً
أهسسدام الفقسسراء والصسسعاليك بقسسدر مسسا يمل مقالسسة ..كسسان أخسسف عليسسه
وأهون ،وكان ذلك أصرح من معنى الطلب والتكليف*.
وكيفما دار المر فإن كثيًرا من كلم الصسسحف لسسو مسسسخه اللسسه شسسيًئا
غير الحروف المطبعية ،لقطار كله ذباًبا على وجوه القراء!
فا إلى رئيس التحرير ورجعسست قلت :ولكنك يا أبا عثمان ذهبت متلط ً
دا فما الذي أنكرت منه؟متعق ً
قال" :لو كان المر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب المسسور؛
لبطل النظر وما يشحذ عليه وما يسسدعو إليسسه ،ولتعطلسست الرواح مسسن
معانيها والعقول من ثمارها ،ولعدمت الشياء حظوظهسسا وحقوقهسسا ،1
هناك رجل من هؤلء المعنيين بالسياسسسة فسسي هسسذا البلسسد ...يريسسد أن
يخلق في الحوادث غير معانيها ،ويربسسط بعضسسها إلسسى بعسسض بأسسسباب
غير أسبابها ،ويخرج منها نتائج غير نتائجها ،ويلفق لهسسا مسسن المنطسسق
رقًعا كهذه الرقع في الثوب المفتوق؛ ثم ل يرضى إل أن تكون بذلك
دا على جماعة خصومه وهي رد عليه وعلى جماعته ،ول يرضى مع ر ّ
الرد إل أن يكسسون كالعاصسسير تسسدفع مثسسل تيسسار البحسسر فسسي المسسستنقع
الراكد.
169
ثم لم يجد لها رئيس التحرير غير عملك أبي عثمان في لطافة حسه
وقوة طبعه وحسسسن بيسسانه واقتسسداره علسسى المعنسسى وضسسده ،كسسأن أبسسا
عثمان ليس عنده ممن يحاسسسبون أنفسسسهم ،ول مسسن المميزيسسن فسسي
الرأي ،ول من المستدلين بالدليل ،ول من النسساظرين بالحجسسة؛ وكسسأن
أبا عثمان هذا رجل حروفي..
كحروف المطبعة :ترفع من طبقة وتوضع في طبقة وتكون على مسسا
شئت ،وأدنى حالتها أن تمد إليها اليد فإذا هي في يدك.
وأنا امرؤ سيد في نفسي ،وأنا رجل صدق ،ولسسست كهسسؤلء السسذين ل
يتسسألمون ول يتسسذممون؛ فسسإن خضسست فسسي مثسسل هسسذا انتقسسض طبعسسي
وضعفت استطاعتي وتبين النقص فيما أكتب ،ونزلت فسسي الجهسستين؛
فل يطرد لي القول على ما أرجو ،ول يستوي على ما أحب؛ فسذهبت
أناقضه وأرد عليه؛ فبهت ينظر إلي ويقلسسب عينيسسه فسسي وجهسسي ،كسسأن
الكاتب عنده خادم رأيه كخادم مطبخه وطعامه ،هذا من هذا.
ثم قال لي :يا أبا عثمان ،إني لستحي أن أعنفسسك؛ وبهسسذا القسسول لسسم
يستح أن يعنف أبا عثمان ..ولهممت والله أن أنشده قول عباس بن
مرداس:
أكليب مالك كل يوم ظالما والظلم أنكد وجهه معلون
لول أن ذكرت قول الخر:
وما بين من لم يعط سمعا وطاعةوبين تميم غير حز الغلصم
وحز الغلصم "وقطع الدراهم" من قافية واحسسدة ..وقسسال سسسعيد بسسن
أبي عروبة" :لن يكون لي نصف وجه ونصف لسان علسسى مسسا فيهمسسا
من قبح المنظر وعجز المخبر -أحب إلى من أن أكون ذا وجهين وذا
لسانين وذا قولين مختلفين" .وقال أيوب السختياني:
وهم شيخنا أن يمر في الحفظ والرواية على طريقته ،فقلت :وقسسال
رئيس التحرير...؟
فضسسحك وقسسال :أمسسا رئيسسس التحريسسر فيقسسول :إن الخلبسسة والمواربسسة
وتقليب المنطق هي كل البلغة في الصحافة الحديثة ،ولهسسي كقلسسب
العيان فسسي معجسسزات النبيسساء -صسلوات اللسه عليهسسم -فكمسسا انقلبسست
العصا حية تسسعى ،وهسي عصسا وهسي مسن الخشسب ،فكسذلك تنقلسب
الحادثة في معجزات الصسسحافة إذا تعاطاهسسا الكسساتب البليسسغ بالفطنسسة
العجيبسسة والمنطسسق الملسسون والمعرفسسة بأسسساليب السياسسسة؛ فتكسسون
للتهويل ،وهي في ذاتها اطمئنان ،وللتهمة وهسسي فسسي نفسسسها بسسراءة،
وللجناية وهي في معناها سسسلمة ،ولسسو نفسسخ الصسسحافي الحسساذق فسسي
قبضة من التراب لسسستطارت منهسسا النسسار وارتفسسع لهبهسسا الحمسسر فسسي
170
دخانها السود .قال :وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنمسسا هسسو
إتقان الحيلة على أن يصدقك الناس؛ فإن العامسسة وأشسسباه العامسسة ل
يصدقون الصدق لنفسه ،ولكن للغرض الذي يساق له؛ إذ كان مسسدار
المر فيهم على اليمان والتقديس ،فسسأذقهم حلوة اليمسسان بالكسسذب
فلن يعرفوه إل صدًقا وفوق الصدق ،وهم من ذات أنفسهم يقيمسسون
السسبراهين العجيبسسة ويسسساعدون بهسسا مسسن يكسسذب عليهسسم مسستى أحكسسم
الكذب؛ ليحققوا لنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا...
ثم قال أبو عثمان :ومعنى هذا كله أن بعض دور الصحافة لسسو كتبسست
عبارة صريحة للعلن لكانت العبارة هكذا :سياسة للبيع...
قلت :يا شسسيخنا ،فإنسسك هنسسا عنسسدهم؛ لتكتسسب كمسسا يكتبسسون ،ومقسسالت
ن ل تكتسسب، السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذبُ :تقسسرأ فيهسسا معسا ٍ
ويكسسون فسسي عبارتهسسا حيسساة وفسسي ضسسمنها طلسسب مسسا يسسستحي منسسه...
والحوادث عندهم على حسب الوقسات ،فسالبيض أسسود فسي الليسل،
والسود أبيض فسسي النهسسار؛ ألسسم تسسر إلسسى فلن كيسسف يصسسنع وكيسسف ل
يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني؟
قال :بلى ،نعم الشاهد هو وأمثاله!؛ إنهم مصدقون حسستى فسسي تاريسسخ
حفر زمزم.
قلت :وكيف ذلك؟
قال :شهد رجل عند بعسض القضساة علسى رجسل آخسر ،فسأراد هسذا أن
يجرح شهادته ،فقال للقاضي :أتقبل منه وهسسو رجسسل يملسسك عشسسرين
ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله؟ فقال الشسساهد :بلسسى قسسد ححجسست.
قال الخصم؛ فاسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي؟ قال الشاهد:
لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها...
قال أبو عثمان :فهسسذه هسسي طريقسسة بعضسسهم فيمسسا يزكسسي بسسه نفسسسه:
ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعسسوا عسسن مثسسل هسسذا التعسسبير؛ إذ
كسسانت الحيسساة السياسسسية جسسدًل فسسي الصسسحف لنفسسي المنفسسي وإثبسسات
المثبت ،ل عمًل يعملونه بالنفي والثبات؛ ومتى استقلت هسسذه المسسة
وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها علسسى الصسسدق ،فل يكسسون الشسسأن
حينئذ في إطلق الكلمة الصحافية إل من معناها الواقع.
والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة ل يترخص فيها مسسا دام
أساسسسها إيجسساد القسسوة وحياطسسة القسسوة وأعمسسال القسسوة ،ومسسا دامسست
طبيعتها قائمة على جعل أخلق الشعب حاكمة ل محكومة؛ وقد كان
العمل السياسي إلى الن هو إيجاد الضعف وحياطسسة الضسسعف وبقسساء
الضعف؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطسة؛ ومسن ثسم كسان الخلسق
171
القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفسسترة
بعد الفترة ،وذلك هو السبب في أن عندنا مسن الكلم المنسافق أكسسثر
من الحر ،ومن الكاذب أكثر من الصسسادق ،ومسسن الممسساري أكسسثر مسسن
الصريح؛ فل جسسرم ارتفعست اللقسساب فسوق حقائقهسا ،وصسارت نعسسوت
المناصب وكلمات "باشا" و"بك" من الكلم المقدس صحافّيا...
يا لعباد الله! يأتيهم اسم الديب العظيم فل يجسدون لسه موضسًعا فسي
"محليات الجريدة"؛ ويأتيهم اسم الباشا أو البك أو صاحب المنصسسب
الكبير فبماذا تتشرف "المحليات" إل به؟ وهسسذا طسسبيعي ،ولكسسن فسسي
طبيعة النفاق؛ وهذا واجب ،ولكن حين يكون الخضسسوع هسسو السسواجب؛
ولو أن للديب وزًنا في ميزان المة لكان له مثسسل ذلسسك فسسي ميسسزان
الصحافة؛ فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عاميسسة الشسسعب
ليس غير ..ومن ذا الذي يصحح معنى الشسرف العامسل لهسذه المسة
وتاريخها ،وأكثر اللقاب عندنا هي أغلط في معنى الشرف...؟
ثسسم ضسسحك أبسسو عثمسسان وقسسال :زعمسسوا أن ذبابسسة وقعسست فسسي بارجسسة
"أميرال" إنجليزي أيام الحرب العظمى؛ فرأت القسسائد العظيسسم وقسسد
ما مسسن رسسسوم جا من الورق وهسسو يخطسسط فيسسه رسس ً نشر بين يديه در ً
الحسسرب؛ ونظسسرت فسسإذا هسسو يلقسسي النقطسسة بعسسد النقطسسة مسسن المسسداد
ويقول :هذه مدينة كذا ،وهذا حصسسن كسسذا ،وهسسذا ميسسدان كسسذا .قسسالوا:
فسخرت منه الذبابة وقسسالت :مسسا أيسسسر هسسذا العمسسل ومسا أخسسف ومسسا
أهون! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي ونيمها* هنا وهناك
وتقول :هذه مدينة ،وهذا حصن...
---------------
* ونيم الذباب :هو " "...أي هذه النقط السود التي يحدثها.
والتفت الجاحظ كأنما توهم الجسسرس يسسدق ...فلمسسا لسسم يسسسمع شسسيًئا
قال:
لو أنني أصدرت صسسحيفة يوميسسة لسسسميتها "الكسساذيب" فمهمسسا أكسسذب
على الناس فقد صدقت في السم ،ومهما أخطئ فلسسن أخطسسئ فسسي
وضع النفاق تحت عنوانه.
قال :ثم أخط تحت اسم الجريسسدة ثلثسسة أسسسطر بسسالخط الثسسالث هسسذا
نصفها:
ما هي عزة الذلء؟ هي الكذب الهازل.
ما هي قوة الضعفاء؟ هي الكذب المكابر.
ما هي فضيلة الكذابين؟ هي استمرار الكذب.
172
قال :ثسسم ل يحسسرر فسسي جريسسدتي إل "صسسعاليك الصسسحافة" مسسن أمثسسال
الجاحظ؛ ثم أكذب على أهل المال فأمجد الفقراء العسساملين ،وعلسسى
رجال الشرف فأعظم العمسسال المسسساكين ،وعلسسى أصسسحاب اللقسساب
فأقدم الدباء والمؤلفين ،و...
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير...
173
صعاليك الصحافة ""3
ولم يلبث أن رجع أبو عثمسسان فسسي هسسذه المسسرة وكسسأنه لسسم يكسسن عنسسد
رئيس التحرير في عمل وأدائه ،بل كسسان عنسسد رئيسسس الشسسرطة فسسي
مسسا شسسوه تشسسويهه جناية وعقابها؛ فظهر منقلسسب السسسحنة انقلب ًسسا دمي ً
وزاد فيه زيادات ...ورأيته ممطوط الوجه مطا شنيًعا بدت فيه عيناه
الجاحظتان كأنهمسسا غيسسر مسسستقرتين فسسي وجهسسه ،بسسل معلقتسسان علسسى
جبهته...
وجعل يضرب إحدى يديه بالخرى ويقول :هسذا بساب علسى حسدة فسي
المتحان والبلوى ،وما فيه إل المؤنسسة العظيمسسة والمشسسقة الشسسديدة؛
والعمل في هذه الصحافة إنما هو امتحانك بالصبر على اثنين :علسسى
ضميرك ،وعلسسى رئيسسس التحريسسر! وسسسأل بعسسض أصسسحابنا أبسسا لقمسسان
الممرور عن الجزء الذي ل يتجزأ ما هو؟ فقال :الجزء الذي ل يتجزأ
علي بن أبي طالب عليه السلم .فقال له أبو العيناء محمد :أفليسسس
في الرض جزء ل يتجزأ غيسسره! قسسال :بلسسى ،حمسسزة جسسزء ل يتجسسزأ...
قال :فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال :أبو بكر يتجزأ ...قسسال :فمسسا
تقول في عثمان؟ قال :ويتجزأ مرتين ،والزبير يتجزأ مرتيسسن ...قسسال:
فأي شيء تقول في معاوية؟ قال :ل يتجزأ.
"فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل اليام أجزاء ل تتجزأ إلى
أي شيء ذهب؟ فلم نقع عليه إل أن يكون أبو لقمان كسسان إذا سسسمع
المتكلمين يذكرون الجزء الذي ل يتجزأ ،هاله ذلك وكسسبر فسسي صسسدره
وتوهم أنه الباب الكسسبر مسسن علسسم الفلسسسفة ،وأن الشسسيء إذا عظسسم
خطره سموه بالجزء الذي ل يتجزأ"*.
قلت :ورجع بنا القول إلى رئيس التحرير...
فضسحك حستى أسسفر وجهسه ثسم قسال :إن رئيسس التحريسر قسد تلقسى
الساعة أمًرا بأن الجزء الذي ل يتجزأ اليوم هو فلن؛ وأن فلًنا الخر
يتجزأ مرتين ...وأن المعنى الذي يبنى عليه رأي الصسسحيفة فسسي هسسذا
النهار هو شأن كذا في عمل كذا؛ وأن هذا الخبر
يجب أن يصور في صيغة تلئم جسسوع الشسسعب فتجعلسسه كسسالخبز السسذي
يطعمسه كسسل النساس ،وتسسثير لسه شسهوة فسي النفسوس كشسهوة الكسسل
وطبيعة كطبيعة الهضم ...وقد رمى إلي رئيس التحرير بجملة الخبر،
قسسا أبيسسض
وعلي أنا بعد ذلسسك أن أضسسرم النسسار وأن أجعسسل السستراب دقي ً
يعجن ويخبز ويؤكل ويسوغ فسي الحلسق وتسستمرئه المعسدة ويسسري
في العروق.
174
وإذا أنا كتبت في هذا احتجت من السسترقيع والتمسسويه ،ومسسن التسسدليس
والتغليط ،ومن الخب والمكر ،ومن الكسسذب والبهتسسان -إلسسى مثسسل مسسا
يحتاج إليه الزنديق والدهري والمعطسسل فسسي إقامسسة البرهانسسات علسسى
ماصحة مذهب عرف الناس جميًعا أنه فاسد بالضرورة؛ إذ كان معلو ً
من الدين بالضرورة أنه فاسد؛ وأين تسسرى إل فسسي تلسسك النحسسل وفسسي
هذه الصحافة أن ينكر المتكلسم وهسو عسارف أنسه منكسر ،وأن يجسترئ
وهو موقن أنه مجترئ ،ويكابر وهو واثق أنه يكابر؟ فقد ظهر تقسسدير
من تقدير ،وعمل مسسن عمسسل ،ومسسذهب مسسن مسسذهب؛ والفسسة أنهسسم ل
يسسستعملون فسسي القنسساع والجسسدل والمغالطسسة إل الحقسسائق المؤكسسدة؛
يأخذونها إذ وجدت ويصنعونها إن لم توجسسد؛ إذ كسسان التسسأثير ل يتسسم إل
بجعل القارئ كالحالم :يملكه الفكر ول يملك هسو منسسه شسسيًئا ،ويلقسسي
إليه ول يمتنع ويعطي ول يرد على من أعطاه.
قا
قلت :ولكن ما هو الخير الذي أرادوك على أن تجعل من ترابه دقي ً
أبيض؟
قال :هو بعينه ذلك الشأن السسذي كتبسست فيسسه لهسسذه الصسسحيفة نفسسسها
أنقضه وأسفهه وأرد عليه ،وكسسان يسسومئذ جسسزًءا يتجسسزأ ..فسسإن صسسنعت
اليوم بلغتي في تأييده وتزيينه والشادة بسسه ،ولسسم يكسسن هسسذا كاسسًرا
لي ،ول حائًل بيني وبين ذات نفسي -فل أقل من أن يكسسون الجسساحظ
تكذيًبا للجاحظ ،آه لو وضع الرديو في غرف رؤساء التحريسسر ليسسسمع
الناس...
قلت :يا أبا عثمان ،هسسذا كقولسسك :لسسو وضسسع الرديسسو فسسي غسسرف قسسواد
الجيوش أو رؤساء الحكومات.
قال :ليس هذا من هذا ،فإن للجيسسش معنسسى غيسسر الحسسذق فسسي تسسدبير
المعاش والتكسب وجمسسع المسسال؛ وفسسي أسسسراره أسسسرار قسسوة المسسة
وعمل قوتها؛ وللحكومة دخائل سياسية ل يحركها أن فلًنا ارتفع وأن
فلًنا انخفض ،ول تصرفها العشرة أكثر من الخمسة؛ وفسسي أسسسرارها
أسرار وجود المة ونظام وجودها.
قال أبو عثمان :وإنما نزل بصحافتنا دون منزلتها أنها ل تجد الشسسعب
القارئ المميز الصحيح القسسراءة الصسسحيح التمييسسز ،ثسسم هسسي تريسسد أن
تذهب أموالها فسسي إيجسساده وتنشسسئته؛ وعمسسل الصسسحافة مسسن الشسسعب
عمسسل التيسسار مسسن السسسفن فسسي تحريكهسسا وتيسسسير مجراهسسا ،غيسسر أن
المضحك أن تيارنا يسسذهب مسسع سسسفينة ويرجسسع مسسع سسسفينة ...ولسسو أن
كا مميًزا معتبًرا مستبصًرا الصحافة العربية وجدت الشعب قارًئا مدر ً
فا وفسسسولة، لما رمت بنفسها على الحكومات والحزاب عجًزا وضسسع ً
175
ول خرجسست عسسن النسسسق الطسسبيعي السسذي وضسسعت لسسه ،فسسإن الشسسعب
تحكمه الحكومة ،وإن الحكومة تحكمها الصحافة ،فهي من ثم لسان
الشعب؛ وإنما يقرؤها القارئ ليرى كلمته مكتوبة؛ وشعور الفسسرد أن
قا في رقابة الحكومة وأنه جزء من حركة السياسسة والجتمساع، له ح ً
هو الذي يوجب عليه أن يبتاع كل يوم صحيفة اليوم.
قال أبو عثمان :فالصحافة ل تقوى إل حيث يكون كل إنسسسان قسسارًئا،
وحيث يكون كل قارئ للصحيفة كأنه محرر فيها ،فهسسو مشسسارك فسسي
الرأي؛ لنه واحد ممن يدور عليهم الرأي ،متتبسسع للحسسوادث؛ لنسسه هسسو
من مادتها أو هي من مادته ،وهو لذلك يريد من أن الصحيفة حكايسسة
الوقت وتفسير الوقت ،وأن تكسسون لسسه كمسسا يكسسون التفكيسسر الصسسحيح
للمفكر ،فيلزمها الصدق ويطلب منها القسسوة ويلتمسسس فيهسسا الهدايسسة،
وتأتي إليه في مطلع كل يوم أو مغربه كما يدخل إلى داره أحد أهله
الساكنين في داره.
وفي قلة القراءة عندنا آفتان :أما واحسسدة فهسسي القلسسة السستي ل تغنسسي
شيًئا؛ وأما الخرى فهم على قلتهم ل ترى أكبر شأنهم إل عبادة قوم
لقوم ،وزرايسسة أنسساس بسسآخرين ،وتعلسسق نفسساق بنفسساق ،وتصسسديق كسسذب
لكذب؛ وآفسسة ثالثسسة تخسسرج مسسن اجتمسساع الثنيسسن :وهسسي أن أكسسثرهم ل
يكونون فسسي قراءتهسسم الصسسحيفة إل كالنظسسارة اجتمعسسوا ليشسسهدوا مسسا
يتلهون به ،أو كالفراغ يلتمسون ما يقطعون به الوقت؛ فهم يأخذون
السياسة مأخذ من ل يشارك فيها ،ويتعاطون الجد تعاطي مسسن يلهسسو
به ،ويتلقون العمال بروح البطالة ،والعزائم بأسلوب عدم المبسسالة،
والمباحثة بفكرة الهمال ،والمعارضة بطبيعة الهسسزء والتحقيسسر؛ وهسسم
عسسا مسسن المصسسلين إذا كالمصسسلين فسسي المسسسجد؛ فمثسسل لنفسسسك نو ً
اصطفوا وراء المام تركوه يصلي عن نفسه وعنهم انصرفوا.
قال أبو عثمان :بهذا ونحوه جاءت الصحف عندنا وأكثرها ل ثبات لسسه
إل في الموضع الذي تكون فيه بين منسسافعه ووسسسائل منسسافعه؛ ومسسن
هسسذا ونحسسوه كسسان أقسسوى المسسادة عنسسدنا أن تظهسسر الصسسحيفة مملسسوءة
حكومة وسلطة وباشوات وبيكوات ...وكسان مسن الطسبيعي أن محسل
الباشا والبك والحوادث الحكومية التفهة ل يكون من الجريدة إل في
موضع قلب الحي من الحي.
ثم استضحك شيخنا وقال :لقسسد كتبسست ذات يسسوم مقالسسة أقسسترح فيهسسا
على الحكومة تصحيح هذه اللقاب ،وذلك بوضع لقب جديد يكون هو
المفسر لجميعها ويكون هو اللقب الكسسبر فيهسسا ،فسسإذا أنعسسم بسه علسسى
176
إنسان كتبت الصحف هكذا :أنعمسست الحكومسسة علسسى فلن بلقسسب "ذو
مال".
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير...
كا وقد طابت نفسه فليس له فلم يلبث إل يسيًرا ثم عاد متهلًل ضاح ً
جحوظ العينين إل بالقدر الطبيعي ،وجلس إلي وهو يقول:
بيد أن رئيس التحرير لم ينشر ذلك المقال ،ولم يسسر فيسسه اسسستطراًفا
ول ابتكاًرا ول نكتة ول حجة صادقة ،بل قال :كأنك يا أبا عثمان تريسسد
أن يأكل عدد اليوم عدد الغد ،فإذا نحن زهدنا في اللقسساب وأصسسغرنا
أمرها وتهكمنا بها وقلنا إنها أفسدت معنى التقدير النساني وتركسست
من لم ينلها من ذوي الجاه والغنى يرى نفسه إلى جسسانب مسسن نالهسسا
كالمرأة المطلقة بجانب المتزوجة ...وقلنا إنها من ذلسسك تكسساد تكسسون
وسيلة من وسائل الدفع إلى التملق والخضوع والنفسساق لمسسن بيسسدهم
المر ،أو وسيلة إلى ما هو أحط من ذلك كما كسسان شسسأنها فسسي عهسسد
الدولة العثمانية البائدة حين كان الوسام كالرقعسسة مسسن جلسسد الدولسسة
يرقع بها الصدر السسذي شسسقوه وانسستزعوا ضسسميره -إذا نحسسن قلنسسا هسسذا
وفعلنا هذا ،لسسم نجسسد الشسسعب السسذي يحكسسم لنسسا ،ووجسسدنا ذوي المسسال
والجاه والمناصب الذي يحكمون علينا؛ فكنا كمن يتقدم فسسي التهمسسة
بغير محام إلى قاض ضعيف.
يا أبا عثمان ،إنما هي حياة ثلثة أشياء :الصحيفة ،ثسسم الصسسحيفة ،ثسسم
الحقيقة ..فالفكرة الولى للصحيفة ،والفكسسرة الثانيسسة هسسي للصسسحيفة
ضسسا؛ ومسستى جسساء الشسسعب السسذي يقسسول :ل ،بسسل هسسي الحقيقسسة ،ثسسم أي ً
الحقيقة ،ثم الصحيفة -فيومئذ ل يقال في الصسحافة مسا قيسل لليهسود
ن ك َِثي سًرا{فسسو َ
خ ُ
دون ََها وَت ُ ْ
س ت ُب ْس ُ
طي س َ جعَل ُسسون َ ُ
ه قََرا ِ فسسي كتسساب موسسسى} :ت َ ْ
]النعام.[91 :
قلت :أراك يا أبا عثمان لم تنكر شيًئا من رئيسسس التحريسسر فسسي هسسذه
المرة ،فشق عليك أل تثلبه ،فغمزته بالكلم عن مرة سالفة.
قال :أما هذه المرة فأنا الرئيس ل هو ،وفي مثل هذا ل يكون عمسسك
أبو عثمان من "صعاليك الصحافة"؛ إن الرجل اشتبه فسسي كلمسسة :مسسا
وجهها :أمرفوعة هي أم منصسسوبة؟ وفسسي لفظسسة مسسا هسسي :أعربيسسة أم
مولدة؟ وفي تعبير أعجمي ما السسذي يسسؤديه مسسن العربيسسة الصسسحيحة؟
وفي جملة :أهي في نسقها أفصح أم يبدلها.
إن المعجم هنا ل يفيدهم شيًئا إل إذا نطق...
ولقد ابتليت هذه المة في عهدها الخير بحب السهولة مما أثر فيهسسا
الحتلل وسياسته وتحملسسه العبسساء عنهسسا واسسستهدافه دونهسسا للخطسسر،
177
فشبه العامية في لغة الصحف وفي أخبارها وفسسي طريقهسسا إنمسسا هسسو
صورة من سهولة تلك الحياة ،وكأنه تثسسبيت للضسسعف والخسسور ،وأنسست
خبير أن كل شيء يتحول بما تحدث له طسسبيعته عالي ًسسا أو نسسازًل ،فقسسد
تحولت السهولة من شبه العامية إلى نصف العامية فسسي كتابسسة أكسسثر
المجلت وفي رسسسائل طلبسسة المسسدارس ،حسستى لتبسسدو المقسسالت فسسي
ألفاظها ومعانيها كأنها القنفد أراد أن يحمل مأكلسسة صسسغاره ،فقسسرض
دا من العنب ،فألقاه في الرض وأتربه وتمسسرغ فيسسه ،ثسسم مشسسى عنقو ً
يحمل كل حبة مرضوضة في عشرين إبرة من شوكه.
ثم مد أبو عثمان يده فتناول مجلة مما أمامه وقعت يده عليها اتفاًقا
ثم دفعها إلي وقال :اقرأ ول تجاوز عنوان كسسل مقالسسة .فقسسرأت هسسذه
العناوين.
"مسئولية طبيب عن فتسساة عسسذراء"" ،مسسودة الراقصسسات الصسسينيات"،
"تخر مغشًيا عليها؛ لنهم اكتشفوا صورة حبيبها"" ،هسسل يعتسسبر قبسسول
الهدية دليًل على الحب ،وإذا كانت ملبس داخلية ...فهل تعتبر وع س ً
دا
بالزواج؟ هل يحق للب أن يطسسالب صسسديق ابنتسسه بتعسسويض إذا كسسانت
ابنته غير شرعية" ،بين خطيبتين لشاب واحد"" ،بعسسد أن قسسص علسسى
زوجته أخبار السهرة ...لماذا أطلقت عليه الرصاص"" ،عروس تأخذ
"شبكة" من شابين ثسسم تطردهمسسا"" ،زوجسسة الموظسسف أيسسن ذهبسست"،
"لماذا خطفت العروس في اليوم المحدد للزفاف؟"" ،في الطريق:
حسسب بسسالكراه" فلنسسون وفلنسسات ،زواج وطلق ،وأخبسسار المراقسسص،
وحوادث أماكن الدعارة" ...الخ الخ.
فقال أبو عثمان :هذه هي حرية النشسسر؛ ولئن كسسان هسسذا طبيعي ّسسا فسسي
قسانون الصسحافة إنسه لثسم كسبير فسي قسانون التربيسة؛ فسإن الحسداث
والضعفاء يجدونه عند أنفسسسهم كسسالتخيير بيسسن الخسسذ بسسالواجب وبيسسن
تركه ،ول يفهمسسون مسسن جسسواز نشسسره إل هسسذا" .وبسساب آخسسر مسسن هسسذا
الشكل فبكم أعظم حاجسسة إلسسى أن تعرفسسوه وتقفسسوا عنسسده ،وهسسو مسسا
يصنع الخبر ول سيما إذا صادق من السسسامع قلسسة تجربسسة ،فسسإن قسسرن
بين قلة التجربة وقلة التحفظ دخسسل ذلسسك الخسسبر إلسسى مسسستقره مسسن
سسسا
ة قابلسسة ونف ًالقلسسب دخسسوًل سسسهًل ،وصسادف موضسًعا وطيًئا وطبيعس ً
خا ل حيلة في إزالته. ساكنة ،ومتى صادف القلب كذلك رسخ رسو ً
ومتى ألقي إلى الفتيان شيء من أمور الفتيسسات فسسي وقسست الغسسرارة
وعند غلبة الطبيعة وشباب الشهوة وقلة التشاغل و.*"...
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير...
178
179
صعاليك الصحافة* "تتمة"
وجاء أبو عثمان وفي بروز عينيه ما يجعلهما في وجهه شيًئا كعلمتي
تعجب ألقتهما الطبيعة في هذا الوجه ،وقد كانوا يلقبسسونه "الحسسدقي"
دا ل يبين عن قبح هذا النتوء فسسي فوق تلقيبه بالجاحظ ،كأن لقًبا واح ً
عينيه إل بمرادف ومساعد من اللغة ...وما تذكرت اللقسسبين إل حيسسن
رأيت عينيه هذه المرة.
وانحط في مجلسه كأن بعضهم يرمي بعضسسه مسسن سسسخط وغيسسظ ،أو
كأن من جسمه ما ل يريسسد أن يكسسون مسسن هسسذا الخلسسق المشسسوه ،ثسسم
نصب وجهه يتأمل ،فبدت عيناه في خروجهمسسا كأنمسسا تهمسسان بسسالفرار
من هذا الوجه الذي تحيا الكآبة فيه كما يحيسسا الهسسم فسسي القلسسب؛ ثسسم
سكت عن الكلم؛ لن أفكاره كانت تكلمه.
فقطعت عليه الصمت وقلت :يا أبا عثمان ،رجعسست مسسن عنسسد رئيسسس
صا شيًئا؛ فما هو يرحمك الله؟ دا شيًئا أو ناق ً التحرير زائ ً
دا أنسسي نسساقص ،وههنسسا شسسيء ل أقسسوله ولسسو أن فسسي قسسال :رجعسست زائ ً
الرض ملئكة يمشون مطمئنين لوقفوا على عمك وأمثال عمك من
كتاب الصحف يتعجبون لهذا النوع الجديد من الشهداء!
---------------
* كتب الدكتور زكي مبارك مقاًل في جريسسدة المصسسري الغسسراء زعسسم
فيه أننا قلنا" :إن الصحافة ل تنجح إل في أيدي الصعاليك" ،ول ندري
كيف أحس هذا المعنى ،ثم تهددنا!! فقال" :ما رأيسسك إذا وقفسست لسسك
أحد الصحفيين "ولعلسه يعنسي نفسسه" فسسي معركسسة فاصسلة!! ورمسساك
بحب التكلف والفتعال فسسي عسسالم النشسساء والتسسأليف؟ "مسسا رأيسسك إذا
حملك رجل منهم "ولعله يعني نفسه" علسسى عسساتقه وألقسسى بسسك فسسي
هاوية التاريخ لتعيش مع صعصعة بن صوحان؟ -أبلسسغ خطبسساء العسسرب
وأنطقهم.
وجوابنا لصاحبنا هذا :أن وزارة الداخلية اطلعت على مقالسسة فسسأمرت
جميع المحال التي تبيع لعب الطفال ،أل يبيعوا "معركة فاصسسلة" ول
"هاوية تاريخ"...
وقال ابن يحيى النديم :دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقسسال:
أنشدني قول عمارة في أهل بغداد ،فأنشدته:
مابع حسًنا وابني هشام بدرهم ِ ومن يشتري مني ملوك مخر ِ
وأعطي "رجاًء" بعد ذاك زيادةوأمنح "ديناًرا" بغير تندم ِ
قال أبو عثمان:
180
م"
ل بن أكث ِ فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم"أبا دلف" و"المستطي َ
ويلي على هذا الشاعر! اثنان بسسدرهم ،واثنسسان زيسسادة فوقهمسسا لعظسسم
الدرهم ،واثنان زيادة على الزيادة لجللة الدرهم :كأنه رئيس تحريسسر
جريدة يرى الدنيا قد ملئت كتاًبا ،ولكن ههنا شيًئا ل أقوله.
وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين ،فأتاه صسسياد
بسمكة عظيمة ،فأعجب بها وأمر له بأربعة آلف درهسسم ،فقسسالت لسسه
شيرين :أمرت للصياد بأربعة آلف درهم ،فإن أمرت بها لرجسسل مسسن
الوجوه قال :إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد! فقسسال كسسسرى :كيسسف
أصنع وقد أمرت له؟
قالت :إذا أتاك فقل له :أخبرني عسسن السسسمكة ،أذكسسر هسسي أم أنسسثى؟
فإن قال أنثى ،فقل له :ل تقع عليك حسستى تسسأتيني بقرينهسسا ،وإن قسسال
غير ذلك فقل له مثل ذلك.
فلما غدا الصياد على الملك قال له :أخبرني عن السمكة ،أذكر هسسي
أم أنثى؟ قال :بل أنثى ،قال الملسسك :فسسأتني بقرينهسسا .فقسسال الصسسياد:
عمر الله الملك ،إنها كانت بكًرا لم تتزوج بعد..
قلت :يا أبا عثمان ،فهل وقعت في مثسسل هسسذه المعضسسلة مسسع رئيسسس
التحرير؟
قال :لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكًرا ،فإنما يريدون إخراجه من
الجريدة؛ وما بلغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلغة التلغراف وبلغة
الخبر وبلغة الرقام وبلغة الصفر وبلغة البيض ...ولكن ههنا شيًئا
ل أريد أن أقوله.
وسسسمكتي هسسذه كسسانت مقالسسة جودتهسسا وأحكمتهسسا وبلغسست بألفاظهسسا
ومعانيها أعلسسى منسسازل الشسسرف وأسسسنى رتسسب البيسسان ،وجعلتهسسا فسسي
البلغة طبقسة وحسدها ،وقيسل أن يقسول الوروبيسون "صساحبة الجللسة
الصحافة" قال المأمون" :الكتاب ملوك علسى النساس" ،فسأراد عمسك
أبسسو عثمسسان أن يجعسسل نفسسسه ملك ًسسا بتلسسك المقالسسة فسسإذا هسسو بهسسا مسسن
"صعاليك الصحافة".
لقد كانت كالعروس في زينتها ليلة الجلوة علسسى محبهسسا ،مسسا هسسي إل
الشمس الضاحية ،وما هي إل أشواق ولذات ،ومسسا هسسي إل اكتشسساف
أسرار الحب ،وما هي إل هي؛ فإذا العروس عند رئيس التحرير هسسي
المطلقسسة ،وإذا المعجسسب هسسو المضسسحك ،ويقسسول الرجسسل :أمسسا نظري ّسسا
فنعم ،وأما عملّيا فل؛ وهذا عصر خفيف يريد الخفيف ،وزمسسن عسسامي
يريد العامي ،وجمهور سسسهل يريسسد السسسهل؛ والفصسساحة هسسي إعسسراب
181
الكلم ل سياسته بقوى البيان والفكر واللغة ،فهي اليوم قد خرجسست
من فنونها واستقرت في علم النحو.
وحسبك من الفرق بينك وبين القارئ العامي :أنك أنت ل تلحن وهسسو
يلحن.
قال أبو عثمان :وهذه -أكرمك الله -منزلة بقل فيها الخاصسسي ويكسسثر
العسسامي فيوشسسك أل يكسسون بعسسدها إل غلبسسة العاميسسة ،ويرجسسع الكلم
الصحافي كله سوقًيا بلدّيا "حنشصّيا" ،وينقلب النحو نفسسسه ومسسا هسسو
إل التكلف والتوعر والتقعر كمسسا يسسرون الن فسسي الفصسساحة ،والقليسسل
من الواجبات ينتهي إلى القل؛ والقل ينتهي إلسسى العسسدم ،والنحسسدار
سريع يبدأ بالخطوة الواحدة ،ثم ل تملك بعدها الخطى الكثيرة.
ل جرم فسد الذوق وفسد الدب وفسدت أشسسياء كسسثيرة كسسانت كلهسسا
صالحة ،وجاءت فنون من الكتابة ما هي إل طبائع كتابها تعمل فيمن
يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها ،ولو كان في قانون الدولة
تهمة إفساد الدب أو إفساد اللغة ،لقبض على كسسثيرين ل يكتبسسون إل
دا؛ والمصيبة فسسي هسسؤلء مسسا دا وإفسا ً
صناعة لهو ومسلة فراغ وفسا ً
يزعمون لك من أنهم يستنشطون القراء ويلهونهم ،ونحن إنسسا نعمسسل
في هذه النهضة لمعالجة اللهو الذي جعل نصسسف وجودنسسا السياسسسي
ما؛ ثم لملء الفراغ الذي جعسسل نصسسف حياتنسسا الجتماعيسسة بطالسسة؛ عد ً
ضا مما جعل عمك أبا عثمان في هذه الصحافة من "صعاليك وهذا أي ً
الصحافة" ،وتركه فسي المقابلسة بينسه وبيسن بعسض الكتسساب كسأنه فسسي
أمس وكأنهم في غد.
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير...
فما شككت أنهم سيطردونه ،فإن الله لم يرزقه لساًنا مطبعًيا ثرثاًرا
يكون كالمتصل مسن دمساغه بصسندوق حسروف ...ولسم يجعلسه كهسؤلء
السياسيين الذين يتم بهم النفاق ويتلون ،ول كهؤلء الدباء الذين يتم
بهم التضليل ويتشكل.
ورجع شيخنا كالمخنوق أرخي عنه وهسسو يقسسول :ويلسسي علسسى الرجسسل!
ويلي من الكلم الظريف الذي يقال في السسوجه ليسسدفع فسسي القفسسا...
كان ينبغي أل يملك هذه الصحافة اليومية إل مجسسالس المسسة؛ فسسذلك
هو إصلح المة والصحافة والكتاب جميعًسسا؛ أمسسا فسسي هسسذه الصسسحف،
فالكاتب يخبز عيشه على نار تأكل منه قدر ما يأكل من عيشه؛ ولسسو
أن عمسسك فسسي خفسسض ورفاهيسسة وسسسعة ،لكسسان فسسي اسسستغنائه عنهسسم
حاجتهم إليه؛ ولكن السيف الذي ل يجد عمًل للبطسسل ،تفضسسله البسسرة
التي تعمل للخياط ،وماذا يملك عمك أبو عثمان؟ يملسسك مسسا ل ينسسزل
182
عنه بدون الملوك ،ول بالسسدنيا كلهسا ،ول بالشسمس والقمسسر؛ إذ يملسسك
عقله وبيانه ،على أنه مستأجر هنسسا بعقلسه وبيسسانه ،ويعقسسل مسا شسساءوا
ويكتب ما شاءوا.
لك الله أن أصدقك القول في هذه الحرفة اليومية :إن الكاتب حيسسن
يخرج من صحيفة إلى صحيفة ،تخرج كتابته من دين إلى دين...
ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثسل البسسارود فسسي دمساغه
ثم أشسعله ،فسسأردت أن أمسازحه وأسسري عنسسه ،فقلست :اسسسمع يسا أبسسا
عثمان ،جاءتني بالمس قضية يرفعهسسا صسساحبها إلسسى المحكمسسة ،وقسسد
كتب في عرض دعسسواه أن جسسار بيتسسه غصسسبه قطعسسة مسسن أرض فنسسائه
الذي تركه حول البيت ،وبنى في هذه الرقعة داًرا ،وفتح لهسسذه السسدار
نافسسذات ،فهسسو يريسسد مسسن القاضسسي أن يحكسسم بسسرد الرض المغصسسوبة،
وهدم هذه الدار المبنية فوقها ...وسد نافذتها المفتوحة!..
فضحك الجاحظ حتى أمسسسك بطنسسه بيسسده وقسسال :هسسذا أديسسب عظيسسم
كبعسض السذين يكتبسسون الدب فسي الصسحافة؛ كسسثرت ألفساظه ونقسص
عقله" ،وسئل بعض الحكمسساء :مسستى يكسسون الدب شسّرا مسسن عسسدمه؟
قال :إذا كثر الدب ونقصت القريحة .وقد قال بعض الولين :من لم
يكن عقله أغلب خصال الخير عليسسه ،كسسان حتفسسه فسسي أغلسسب خصسسال
الخير عليه؛ وهذا كله قريب بعضه مسسن بعسسض" 1والدب وحسسده هسسو
المتروك في هذه الصحافة لمن يتوله كيف يتوله؛ إذ كان أرخص ما
فيها ،وإنما هو أدب؛ لن المم الحية ل بد أن يكون لها أدب؛ إذ كسسان
أرخص ما فيها ،وإنما هو أدب؛ لن المسسم الحيسسة ل بسسد أن يكسسون لهسسا
أدب ،ثم هو من بعد هسسذا السسسم العظيسسم ملسسء فسسراغ ل بسسد أن يمل،
وصفحة الدب وحدها هي التي تظهسسر فسسي الجريسسدة اليوميسسة كبقعسسة
الصدأ على الحديد :تأكل منه ول تعطيه شيًئا.
ثم يأبى من تترك هذه الصفحة إل أن يجعل نفسسسه "رئيسسس تحريسسر"
على الدباء ،فما يدع صسسفة مسسن صسسفات النبسسوغ ول نعت ًسسا مسسن نعسسوت
العبقرية إل نحله نفسه ووضعه تحت ثيابه؛ ومسسا أيسسسر العظمسسة ومسسا
أسهل منالها إذا كانت ل تكفك إل الجراءة والدعوى والزعم ،وتلفيق
الكلم من أعراض الكتب وحواشي الخبار.
وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة ،فسإذا عبتسه بالركاكسة والسسخف
والبتذال وفراغ ما يكتب ،قال :هذا ما يلئم القراء ،وقسسد يكسسون مسسن
أكذب الناس فيما يدعي لنفسه وما يهول بسسه لتقويسسة شسسأنه وإصسسغار
من عداه ،فإذا كذبه من يعرفه قال :هذا ما يلئمني ،وهسسو واثسسق أنسسه
183
في نوع من القراء ليس عليه إل أن يملهم بهذه السسدعاوى كمسسا تمل
الساعة ،فإذا هم جميًعا يقولون :تك تك ...تك ...تك
فمن زعم أن البلغسسة أن يكسسون السسسامع يفهسسم معنسسى القسسائل ،جعسسل
الفصسساحة واللكنسسة والخطسسأ والصسسواب والغلق والبانسسة والملحسسون
والمعرب ،وكله سواء وكله بياًنا 1وكان المكي طيب الحجج ،ظريف
الحيل ،عجيب العلل ،وكان يدعي كل شيء على غاية الحكسسام ولسسم
يحكم شسسيًئا قسسط مسسن الجليسسل ول مسسن السسدقيق؛ وإذ قسسد جسسرى ذكسسره
فسأحدثك ببعض أحاديثه ،قلت له مرة :أعلمت أن الشسساري حسسدثني
أن المخلوع "أي المين" بعث إلسسى المسسأمون بجسسراب فيسسه سمسسسم،
كأنه مخبره أن عنده من الجند بعد ذلك ،وأن المأمون بعث له بديك
أعور ،يريد أن ظاهر بن الحسين يقتل هؤلء كلهم كما يلقسسط السسديك
الحب؟
قال :فإن هذا الحديث أنا ولدته ،ولكن انظر كيف سار في الفسساق...
2
ثم قال أبو عثمان :وقد زعسسم أحسسد أدبسسائكم أنسسه اكتشسسف فسسي تاريسسخ
الدب اكتشاًفا أهمله المتقدمون وغفل عنه المتأخرون ،فنظر عمسسك
في هذا الذي ادعاه ،فسسإذا الرجسسل علسسى التحقيسسق كالسسذي يزعسسم أنسسه
اكتشف أمريكا في كتاب من كتب الجغرافيا...
ومسسا يسسزال البلهسساء يصسسدقون الكلم المنشسسور فسسي الصسسحف ،ل بسسأنه
صدق ،ولكن بأنه "مكتوب في الجريدة" ...فل عجب أن يظن كسساتب
صسسفحة الدب -مسستى كسسان مغسسروًرا -أنسسه إذا تهسسدد إنسسساًنا فمسسا هسسدده
بصفحته ،بل بحكومته...
نعم أيها الرجسسل إنهسسا حكومسسة ودولسسة؛ ولكسسن ويحسسك إن ثلث ذبابسسات
ليست ثلث قطع من أسطول إنجلترا!...
وضحك أبو عثمان وضحكت! فاستيقظت.
---------------
2 ،1هذا من كلم الجاحظ.
3يعنسسي زكسسي مبسسارك فسسي دعسسوى معرفتسسه أول مسسن اخسسترع فسسن
المقامات.
184
أبو حنيفة ولكن بغير فقه 1
185
التعادي بين الذواق والسفاف بمنسازع السرأي والخلسسط والضسسطراب
في كل ذلك؛ حتى أصسبح أمسر الدب علسى أقبحسه وهسم يرونسه علسى
أحسنه ،وحتى قيل في :السلوب أسلوب تلغرافسسي ،وفسسي الفصسساحة
فصاحة عامية ،وفي اللغة لغة الجرائد ،وفسسي الشسسعر شسسعر المقالسة؛
ونجمت الناجمة من كل علة ويزين لهم أنهسسا القسسوة قسسد استحصسسفت
واشتدت ،ونازع الدب العربي إلسسى سسسخرية التقليسسد وإلسسى أن يكسسون
قا دعّيا في آداب المم ،واستهلكه التضييع وسوء النظر له علسسى لصي ً
حين يؤتى له أن كل ذلك من حفظسسه وصسسيانته وحسسسن الصسسنيع فيسسه
ومن توفير المادة عليه.
أين تصيب العلة إذا التمستها؟ أفي الدب من لغتسسه وأسسساليب لغتسسه،
ومعسسانيه وأغسسراض معسسانيه؟ أم فسسي القسسائمين عليسسه فسسي مسسذاهبهم
ومناحيهم وما يتفق من أسبابهم وجواذبهم؟
إن تقل إنها في اللغة والسسساليب والمعسساني والغسسراض ،فهسسذه كلهسسا
تصير إلى حيث يراد بها ،وتتقلد البلية من كل مسسن يعمسسل فيهسسا؛ وقسسد
دت العصور الكثيرة إلى عهدنا فلم تؤت مسسن استوعبت واتسعت وما ّ
دة ول عليهسسا ممسسن ل يحسسسن أن ضيق ول جمود ول ضعف ثم هي ما ّ
يضع يده منها حيث يمل كفه أو حيث تقع يده على حاجته.
وإن قلسست إن العلسسة فسسي الدبسساء ومسسذاهبهم ومنسساحيهم ودواعيهسسم
وأسبابهم ،سألناك :ولسسم قصسسروا عسسن الغايسسة ،ولسسم وقعسسوا بسسالخلف،
وكيسسف ذهبسسوا عسسن المصسسلحة ،وكيسسف اعتقمسست الخسسواطر وفسسسدت
الذواق مع قيام الدب الصحيح في كتبه مقام أمة مسسن أهلسسه أعراب ًسسا
وفصحاء وكتاًبا وشعراء ،ومع انفساح الفق العقلي فسسي هسسذا السسدهر
واجتماعه من أطرافه لمن شسساء ،حسستى لتجسسد عقسسول نوابسسغ القسسارات
الخمس تحتقب في حقيبة من الكتب ،أو تصندق* في صسسندوق مسسن
السفار.
كيف ذهب الدباء في هذه العربية نشًرا متبسددين تعلسو بهسسم السدائرة
وتهبط ،فكل أعلى وكل أسفل؟ هذا فلن شساعر قسسد أحسساط بالشسسعر
عربية وغريبه وهو ينظمه ويفتن في أغراضه ويولد ويسسسرق وينسسسخ
ويمسخ ،وهو عند نفسه الشاعر الذي فقسسدته كسسل أمسسة مسسن تاريخهسسا
ووقسسع فسسي تاريسسخ العربيسسة وحسسدها ابتلء ومحنسسة؛ وهسسو ككسسل هسسؤلء
المغرورين يحسبون أنهم لو كسسانوا فسسي لغسسات غيسسر العربيسسة لظهسسروا
ما ،ولكن العربيسسة جعلسست كّل منهسسم حصسساة بيسسن الحصسسى ،وتقسسرأ نجو ً
شعره فإذا هسسو شسسعر تتسسوهم مسسن قراءتسسه تقطيسسع ثيابسسك ،إذا تجسساذب
نفسك لتفر منه فراًرا.
186
وهذا فلن الكاتب الذي والذي ...والذي يرتفع إلى أقصى السسسموات
على جناحي ذبابة.
وهذا فرعون الدب الذي يقول :أنا ربكسسم العلسسى! وهسسذا فلن وهسسذا
فلن...
أين يكون الزمام على هؤلء وأمثالهم؛ ليعرفوا ما هسسم فيسسه كمسسا هسسم
فيه ،وليضبطوا آراءهم وهواجسهم ،وليعلموا أن حسابهم عند الناس
ل عند أنفسهم فالواحدة منهسسم واحسسدة وإن توهموهسسا مسسائة وتوهمهسسا
فا أو ألفين ،ومتى قال الناس :غلطوا ،فقد غلطسسوا ،ومسستى بعضهم أل ً
قالوا :سخفاء فهم سخفاء.
وأين الزمام عليهم وقد انطلقوا كأنهم مسخرون بالجبر على قسسانون
من التدمير والتخريب ،فليس فيهم إل طبيعة مكابرة ل إقسسرار منهسسا،
باغية ل إنصاف معها ،نافرة ل مساغ إليها ،متهمة ل ثقة بهسسا؛ طبيعسسة
يتحول كل شيء فيها إلى أثر منها كما يتحول ماء الشجر في العسسود
الرطب المشتعل إلى دخان أسود!
يرجع هذا الخلط في رأيي إلى سبب واحد :هو خلو العصر من إمسسام
بالمعنى الحقيقي يلتقي عليه الجماع ويكون ملء الدهر في حكمتسسه
وعقله ورأيه ولسانه ومناقبه وشمائله؛ فإن مثسسل هسسذا المسسام يخسسص
ما بالرادة التي ليس لهسا إل النصسر والغلبسسة والسستي تعطسسي القسوة دائ ً
على قتسسل الصسسغائر والسفاسسسف؛ وهسسو إذا ألقسسي فسسي الميسسزان عنسسد
اختلف الرأي ،وضع فيسسه بسسالجمهور الكسسبير مسسن أنصسساره والمعجسسبين
بآدابه ،وبالسواد الغالب من كل الفاعليسسات المحيطسسة بسسه والمنجذبسسة
إليه؛ ومن ثم تتهيأ قسسوة الترجيسسح ويتعيسسن اليقيسسن والشسسك؛ والميسسزان
اليوم فارغ من هذه القوة فل يرجح ول يعين.
ومكانة هذا المام تحد المكنة ،ومقداره يسزن المقسادير ،فيكسون هسو
المنطق النساني في أكثر الخلف النساني :تقوم به الحجة ،فتلسزم
وإن أنكرها المنكر ،وتمضي وإن عاند فيها المعانسسد ،ويؤخسسذ بهسسا وإن
أصر المصر على غيرها؛ لن بالجماع على القياس بين التطرف في
الزيادة أو التقصير؛ والجمسساع إذا ضسسرب ضسسرب المعصسسية بالطاعسسة،
والزيغ بالستقامة ،والعناد بالتسليم؛ فيخرج من يخرج وعليه وسمه.
ويزيغ من يزيغ وفيه صفته ،ويصر المكابر واسمه المكابر ليس غير،
وإن هو تكذب وتأول ،وإن زعم ما هو زاعم.
ولكل القواعد شواذ ولكن القاعسسدة هسسي إمسسام بابهسسا؛ فمسسا مسسن شسساذ
قا مخلى ،إل هو محدود بها مسردود إليهسا ،متصسل يحسب نفسه منطل ً
من أوسع جهاته بأضيق جهاتها؛ حتى ما يعرف أنه شاذ إل بما تعرف
187
به أنها قاعدة ،فيكون شأنه في نفسه بما تعين هي له على مكرهته
ومحبته.والمام ينبث في آداب عصره فكًرا ورأي ًسسا ،ويزيسسد فيهسسا قسسوة
عا ،ويزين ماضيها بأنه في نهايته ،ومسسستقبلها بسسأنه فسسي بسسدايته، وإبدا ً
فيكون كالتعديل بين المنة من جهة ،والنتقال فيها من جهة أخسسرى؛
لن هذا المام إنما يختار لظهسسار قسسوة الوجسسود النسسساني مسسن بعسسض
وجوهها وإثبات شمولها وإحاطتها كأنه آية مسسن آيسسات الجنسسس يسسأنس
الجنس فيها إلى كماله البعيد ،ويتلقى منه حكم التمام على النقسسص،
وحكم القوة على الضعيف ،وحكم المأمول على الواقسسع؛ ويجسسد فيسسه
قومه كما يجدون في الحقيقة السستي ل يكسسابر عنسسدها متنطسسع بتأويسسل،
وفي القوة التي ل يخالف عندها مبطل بعناد ،وفي الشريفة السستي ل
يروغ منها متعسف بحيلة؛ ولن يضل النسساس فسسي حسسق عرفسسوا حسسده،
فإن ما وراء الحد هو التعدي؛ ولسسن يخطئوا فسسي حكسسم أصسسابوا وجهسه
فإن ما عدا الوجه هو الخلف والمراء.
وقد طبع الناس في باب القدوة على غريزة ل تتحسسول ،فمسسن انفسسرد
بالكمال كان هو القدوة ،ومن غلب كان هو السمت؛ ولبد لهم ممن
يقتاسسسون بسسه ويتوازنسسون فيسسه حسستى يسسستقيموا علسسى مراشسسدهم
ومصالحهم ،فالمام كأنه ميزان من عقل ،فهسسو يتسسسلط فسسي الحكسسم
على الناقص والوافي من كل ما هسسو بسسسبيله ،ثسسم ل خلف عليسسه؛ إذ
كانت فيه أوزان القوى وزن ًسسا بعسسد وزن ،وكسسانت فيسسه منسسازل أحوالهسسا
منزلة بعد منزلة.
هو إنسان تتخير بعض المعاني السامية؛ لتظهر فيه بأسلوب عملسسي،
فيكون في قسومه ضسرًبا مسن التربيسة والتعليسسم بقاعسدة منتزعسة مسن
مثالها ،مشروحة بهذا المثال نفسه ،فإليه يرد المر في ذلسسك وبتلسسوه
يتلى وعلى سبيله ينهج ،فما من شيء يتصل بسسالفن السسذي هسسو إمسسام
فيه ،إل كان فيه شيء منه ،وهو من ذلك متصل بقوى النفوس كسسأنه
هدايسسة فيهسسا؛ لنسسه بفنسسه حكسسم عليهسسا ،فيكسسون قسسوة وتنبيهًسسا ،وتسسسهيًل
ن كثيرة ،ويكسسون فسسي غا وهداية؛ ويكون رجًل وإنه لمعا ٍ حا ،وإبل ًوإيضا ً
نفسه وإنه لفي النفس كلها ،ويعطي من إجلل الناس ما يكسسون بسسه
اسمه كأنه خلق من الحب طريقه على العقل ل على القلب.
ولعل ذلك من حكمة إقامة الخليفة في السلم ووجسسوب ذلسسك علسسى
المسلمين؛ فل بد على هذه الرض من ضوء فسسي لحسسم ودم ،وبعسسض
معاني الخليفة في تنصسسيبه كبعسسض معساني "الشسهيد المجهسسول" فسسي
المم المحاربة المنتصرة المتمدنة :رمز التقديس ،ومعنى المفسساداة،
وصمت يتكلم ،ومكان يوحي ،وقسسوة تسسستمد ،وانفسسراد بجمسسع ،وحكسسم
188
الوطنية على أهلها بأحكام كثيرة فسسي شسسرف الحيسساة والمسسوت؛ وبسسل
الحرب مخبوءة في حفرة ،والنصر مغطى بقبر؛ بل المجهسسول السسذي
فيه كل ما ينبغي أن يعلم.
فعصرنا هذا مضطرب مختل؛ إذ ل إمام فيه يجتمع الناس عليسسه ،وإذ
ما هو من بعض جهاته كأنه أبو حنيفسسة ولكسسن كل من يزعم نفسه إما ً
بغير فقه!
ولعمري ما نشأ قولهم" :الجديد والقديم" إل لن ههنا موض سًعا خالي ًسسا
يظهر خلؤه مكان الفصل بين الناحيتين ويجعل جهة تنماز من جهسسة،
فمنذ مسسات المسسام الكسسبير الشسسيخ محمسسد عبسسده -رحمسسه اللسسه -جسسرت
أحداث ،ونتأت رءوس ،وزاغت طبائع وكأنه لم يمت رجسسل ،بسسل رفسسع
قرآن.
189
الدب والديب 1
190
فالغرض الول للدب المبين أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملئمسسة
لتلك النزعة الثابتسسة فيهسسا إلسسى المجهسسول وإلسسى مجسساز الحقيقسسة ،وأن
يلقي السرار في المور المكشوفة بما يتخيل فيها ،ويرد القليل من
الحياة كثيًرا وافًيا بما يضاعف من معانيه ،ويترك الماضي منهسسا ثابت ًسسا
فا بما يثبث فيه قاًرا بما يخلد من وصفه ،ويجعل المؤلم منها ل ّ
ذا خفي ً
وا بمسسا يكشسسف فيسسه مسسن الجمسسال من العاطفة والمملسسول ممتعًسسا حلس ً
والحكمة؛ ومدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهسسور السستي هسسي
ضسا؛ فسإن هسذه النفسس طلعسة متقلبسة ،ل في نفسها لسذة مجهولسة أي ً
مسسا صسسرًفا ،كأنهسسا مدركسسة بفطرتهسسا أن تبتغي مجهسسوًل صسسرًفا ول معلو ً
ليس في الكون صريح مطلق ول خفسسي مطلسسق؛ وإنمسسا تبتغسسي حالسسة
ملئمة بين هذين ،يثور فيها قلق أو يسكن منها قلق.
وأشسسواق النفسسس هسسي مسسادة الدب؛ فليسسس يكسسون أدب ًسسا إل إذا وضسسع
المعنى في الحياة التي ليس لهسسا معنسسى ،أو كسسان متص سًل بسسسر هسسذه
الحياة فيكشف عنه أو يومئ إليسه مسن قريسب ،أو غّيسر للنفسس هسذه
الحياة تغييًرا يجيء طباًقا لغرضها وأشواقها؛ فإنه كما يرحل النسان
من جو إلى جو غيره ،ينقله الدب من حياته التي ل تختلف إلى حياة
أخرى فيها شعورها ولذتها وإن لسم يكسن لهسا مكسان ول زمسان؛ حيساة
كملت فيها أشواق النفس؛ لن فيهسسا اللسسذات واللم بغيسسر ضسسرورات
ول تكاليف؛ ولعمري ما جاءت الجنسسة والنسسار فسسي الديسسان عبث ًسسا؛ فسسإن
خالق النفس بما ركبه فيها من العجائب ،ل يحكم العقل أنه قسسد أتسسم
خلقهسسا إل بخلسسق الجنسسة والنسسار معهسسا؛ إذ همسسا الصسسورتان السسدائمتان
المتكافئتان لشواقها الخالدة إن هي استقامت مسددة أو انعكسسست
حائلة.
وقد صح عندي أن النفس ل تتحقق من حريتها ول تنطلق انطلقتهسسا
الخالسسدة فتحسسس وحسسدة الشسسعور ووحسسدة الكمسسال السسسمى إل فسسي
ساعات وفترات تنسل فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضسسطرابها
إلى "منطقة حياد" خارجة وراء الزمان والمكان؛ فإذا هبطتها النفس
فكأنما انتقلت إلى الجنة واستروحت الخلد؛ وهذه المنطقة السحرية
ل تكون إل في أربعة :حبيب فاتن معشوق أعطي قوة سحر النفس،
فهي تنسى به؛ وصديق محبوب وفي أوتي قوة جذب النفسسس ،فهسسي
تنسى عنده؛ وقطعة أدبيسسة آخسسذة ،فهسسي سساحرة كسسالحبيب أو جاذبسسة
كالصديق؛ ومنظر فني رائع ،ففيه من كل شيء شيء.
وهذه كلها تنسي المرء زمنه مدة تطول وتقتصسر؛ وذلسك فيهسسا دليسل
على أن النفس النسانية تصيب منها أساليب روحية لتصسالها هنيهسة
191
بالروح الزلي في لحظات من الشعور كأنها ليست مسسن هسسذه السسدنيا
وكأنها من الزلية؛ ومن ثم نستطيع أن نقرر أن أسسساس الفسسن علسسى
الطلق هو ثورة الخالد في النسان علسسى الفسساني فيسسه؛ وأن تصسسوير
هسسذه الثسسورة فسسي أوهامهسسا وحقائقهسسا بمثسسل اختلجاتهسسا فسسي الشسسعور
والتأثير -هو معنى الدب وأسلوبه.
ثم إن التساق والخيسسر والحسسق والجمسسال -وهسسي السستي تجعسسل للحيسساة
النسانية أسرارها -أمور غير طبيعية في عالم يقوم على الضطراب
والثرة والنزاع والشسسهوات؛ فمسسن ذلسسك يسسأتي الشسساعر والديسسب وذو
جسسا مسسن حكمسسة الحيسساة للحيسساة ،فيبسسدعون لتلسسك الصسسفات الفسسن عل ً
النسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعية فيه ،وهسسو عسسالم أركسسانه
التساق في المعاني التي يجسري فيهسا ،والجمسال فسسي التعسسبير السسذي
يتأدى به ،والحق في الفكر السسذي يقسسوم عليسسه ،والخيسسر فسسي الغسسرض
الذي يساق له ،ويكون في الدب مسسن النقسسص والكمسسال بحسسسب مسسا
يجتمع لسسه مسسن هسسذه الربعسسة ،ول معيسسار أدق منهسسا إن ذهبسست تعتسسبره
بالنظر والرأي؛ ففي عمل الديب تخرج الحقيقة مضاًفا إليهسسا الفسسن،
دا فيه الجمال ،وتتمثسسل الطبيعسسة الجامسسدة خارجسة ويجيء التعبير مزي ً
مسسن نفسسس حيسسة ،ويظهسسر الكلم وفيسسه رقسسة حيسساة القلسسب وحرارتهسسا
وشعورها وانتظامها ودقها الموسسسيقي؛ وتلبسسس الشسسهوات النسسسانية
شكلها المهذب لتكون بسسسبب مسسن تقريسسر المثسسل العلسسى ،السسذي هسسو
السر في ثورة الخالد من النسسان علسسى الفسساني ،والسذي هسو الغايسة
الخيسسرة مسسن الدب والفسسن معًسسا؛ وبهسسذا يهسسب لسسك الدب تلسسك القسسوة
الغامضة التي تتسع بك حتى تشعر بالدنيا وأحسسداثها مسسارة مسسن خلل
نفسك ،وتحس الشياء كأنها انتقلست إلسى ذاتسك؛ وذلسك سسر الديسب
العبقري؛ فإنه ل يرى الرأي بالعتقاب 1والجتهاد كما يسسراه النسساس،
ما؛ وليس يؤاتيه وإنما يحس به؛ فل يقع له رأيه بالفكر ،بل يلهمه إلها ً
اللهام إل من كون الشياء تمر فيها بمعانيها وتعبره كما تعبر السفن
ذا بفكسسرهالنهر ،فيحس أثرها فيه فيلهم ما يلهم ،ويحسبه الناس ناف س ً
من خلل الكون ،على حين أن حقائق الكون هي النافذة من خلله.
---------------
1العتقاب :إطالة النظر وكذا الفكر.
ولو أردت أن تعرف الديب من هو ،لمسسا وجسسدت أجمسسع ول أدق فسسي
معناه من أن تسميه النسان الكوني ،وغيره هو النسان فقط؛ ومن
ذلك ما يبلغ من عمق تأثره بجمال الشياء ومعانيها ،ثم مسسا يقسسع مسن
اتصسسال الموجسودات بسسه بآلمهسسا وأفراحهسسا؛ إذ كسسانت فيسسه مسسع خاصسسة
192
النسان خاصية الكون الشامل ،فالطبيعة تثبت بجمال فنه البديع أنه
منها ،وتدل السماء بما في صناعته من الوحي والسسسرار أنسسه كسسذلك
ضسسا منهسسا؛ وهسسذا وذاك
منها ،وتبرهن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هسسو أي ً
وذلك هسسو الشسسمول السسذي ل حسسد لسسه ،والتسسساع السسذي كسسل آخسسر فيسسه
لشيء ،أو ٌ
ل فيه لشيء.
وهو إنسان يدله الجمال على نفسسه ليسسدل غيسره عليسسه ،وبسسذلك زيسسد
على معناه معنى ،وأضيف إليه في إحساسه قسسوة إنشسساء الحسسساس
ما أن يزيد على كسسل فكسسرة صسسورة لهسسا، في غيره؛ فأساس عمله دائ ً
ويزيسسد علسسى كسسل صسسورة فكسسرة فيهسسا ،فهسسو يبسسدع المعسساني للشسسكال
الجامسسدة فيوجسسد الحيسساة فيهسسا ،ويبسسدع الشسسكال للمعسساني المجسسردة
فيوجدها هي في الحياة ،فكأنه خلق ليتلقى الحقيقة ويعطيها للنسساس
ويزيدهم فيها الشعور بجمالها الفني؛ وبالدباء والعلماء تنمسسو معسساني
الحياة ،كأنما أوجدتهم الحكمة؛ لتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالسسة؛
وكأن هذا الكون العظيم يمر في أدمغتهم ليحقق نفسه.
ومشاركة العلماء للدباء توجب أن يتميز الديسسب بالسسسلوب البيسساني؛
إذ هو كالطابع على العمل الفنسسي ،وكالشسسهادة مسسن الحيسساة المعنويسسة
لهذا النسان الموهوب الذي جاءت من طريقه ،ثم لن السلوب هو
تخصيص لنوع من الذوق وطريقة مسسن الدراك ،كسسأن الجمسسال يقسسول
بالسلوب :إن هذا هو عمل فلن.
وفضل ما بين العالم والديب ،أن العالم فكرة ،ولكن الديسسب فكسسرة
وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمسسال متصسسلة متشسسابهة يشسسار إليهسسم جملسسة
واحدة ،على حين يقال في كل أديب عبقري :هسسذا هسسو ،هسسذا وحسسده؛
وعلم الديب هو النفس النسانية بأسسسرارها المتجهسسة إلسسى الطبيعسسة،
والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضع الديسسب مسسن
الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها السرار.
مسسا بحقسسائقه وأوصسسافه،مسسا قائ ً
وإذا رأى الناس هذه النسانية تركيًبا تا ّ
فالدب العبقري ل يراها إل أجزاء ،كأنما هو يشسسهد خلقهسسا وتركيبهسسا،
وكأنما أمرها في "معمله" ،أو كأن اللسه -سسبحانه -دعساه ليسرى فيهسا
رأيه ...وبذلك يجيء النسسابغ مسسن أدب العبسساقرة وبعضسسه كالمقترحسسات
لتجميل الدنيا وتهذيب النسانية ،وبعضه كالموافقة وإقسسرار الحكمسسة؛
وأساسه على كل هذه الحوال النقد ،ثم النقد ،ولشيء غيسسر النقسسد؛
كأن القوة الزلية تقول لهذا الملهم :أنت كلمتي فقل كلمتك..
دا ل يكبر ول يصغر ،ولكن الحس وترى الجمال حيث أصبته شيًئا واح ً
به يكبر في أناس ويصغر في أناس؛ وها هنا يتأله الدب؛ فهسسو خسسالق
193
الجمال في الذهن ،والممكن للسسسباب المعينسسة علسسى إدراكسسه وتسسبين
صفاته ومعانيه ،وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمتسسه النسسسانية بإضسسافة
الصور الفكرية والجميلة إليه ،ومحاولته إظهار النظام المجهول فسسي
متناقضسسات النفسسس البشسسرية ،والرتفسساع بهسسذه النفسسس عسسن الواقسسع
المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة وصولة الغريزة وغرارة الطبسسع
الحيواني.
وإذا كان المر في الدب على ذلك؛ فباضطرار أن تتهذب فيه الحياة
وتتسسأدب ،وأن يكسسون تسسسلطه علسسى بسسواعث النفسسس دربسسة لصسسلحها
وإقامتها ،ل لفسادها والنحراف بها إلى الزيغ والضسسللة؛ وباضسسطرار
فا تصحيح النفس النسانية ،ونفي التزوير عنها، أن يكون الديب مكل ً
وإخلصها مما يلتبس بها على تتابع الضسسرورات؛ ثسسم تصسسحيح الفكسسرة
النسانية في الوجود ،ونفي الوثنية عسسن هسسذه الفكسسرة ،والسسسمو بهسسا
ما إلى فوق!إلى فوق ،ثم إلى فوق ،ودائ ً
وإنما يكلف الديب ذلك لنه مستبصر مسسن خصائصسسه التمييسسز وتقسسدم
النظر وتسقط اللهام ،ولن الصل في عملسسه الفنسسي أل يبحسسث فسسي
الشيء نفسه ،ولكن في البديع منه؛ وأل ينظر إلى وجوده ،بسسل إلسسى
سره؛ ول يعني بتركيبه ،بل بالجمسسال فسسي تركيبسسه؛ ولن مسسادة عملسسه
أحسسوال النسساس ،وأخلقهسسم ،وألسسوان معايشسسهم ،وأحلمهسسم ،ومسسذاهب
أخيلتهم وأفكارهم في معنى الفن ،وتفاوت إحساسهم بسسه ،وأسسسباب
مغاويهم ومراشدهم؛ يسدد على كل ذلك رأيسسه ،ويجيسسل فيسسه نظسسره،
ويخلطه في نفسه ،وينفذه من حواسه ،كأنما له في السرائر القبض
والبسط ،وكأنه ولي الحكم على الجسسزء الخفسسي فسسي النسسسان يقسسوم
علسسى سياسسسته وتسسدبيره ،ويهسسديه إلسسى المثسسل العلسسى ،وهسسل يخلسسق
العبقري إل كالبرهان من الله لعباده على أن فيهسسم مسسن يقسسدر علسسى
الذي هو أكمل والذي هسسو أبسسدع ،حسستى ل ييسسأس العقسسل النسسساني ول
ينخذل ،فيستمر دائًبا في طلب الكمال والبداع اللذين ل نهاية لهما؟
فالديب يشرف على هذه الدنيا من بصيرته فسسإذا وقسسائع الحيسساة فسسي
حذو واحد من النزاع والتناقض ،وإذا هي دائبة في محسسق الشخصسسية
النسانية ،تاركة كل حي مسسن النسساس كسسأنه شسسخص قسسائم مسسن عملسسه
وحوادثه وأسباب عيشه؛ فإذا تلجلج ذلك فسسي نفسسس الديسسب اتجهسست
هذه النفس العالية إلى أن تحفظ للسدنيا حقسائق الضسمير والنسسانية
واليمان والفضيلة ،وقامت حارسة على مسسا ضسسيع النسساس ،وسسسخرت
فسسي ذلسسك تسسسخيًرا ل تملسسك معسسه أن تسسأبى منسسه ،ول يسسستوي لهسسا أن
تغمض فيه؛ ونقلت النسانية كلها ووضعت على مجسساز طريقهسسا أيسسن
194
توجهت ،فتأكد المر فيها ،ووصل بها ،وعلمت أنها من خالصسسة اللسسه،
رسسسالتها للعسسالم هسسي تقريسسر الحسسب للمتعسسادين ،وبسسسط الرحمسسة
للمتنازعين ،وأن تجمع الكل على الجمسسال وهسسو ل يختلسسف فسسي لسسذته
وتصسسل بينهسسم بالحقيقسسة وهسسي ل تتفسسرق فسسي موعظتهسسا ،وتشسسعرهم
الحكمة وهي ل تتنازع في مناحيها :فسسالدب مسن هسسذه الناحيسسة يشسسبه
الدين :كلهما يعين النسانية علسسى السسستمرار فسسي عملهسسا ،وكلهمسسا
قريسب مسن قريسسب؛ غيسر أن السسدين يعسرض للحسسالت النفسسية ليسأمر
وينهي ،والدب يعرض لها ليجمع ويقابل؛ والدين يوجه النسسسان إلسسى
ربه ،والدب يوجهه إلى نفسه؛ وذلك وحي الله إلى الملك إلسسى نسسبي
مختار ،وهذا وحي الله إلى البصيرة إلى إنسان مختار.
فإن لم يكن للديب مثل أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل فسسي سسسبيله،
فهو أديب حالة من الحالت ،ل أديسسب عصسسر ول أديسسب جيسسل؛ وبسسذلك
وحده كان أهل المثل العلى فسسي كسسل عصسسر هسسم الرقسسام النسسسانية
التي يلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته...
ول يخدعنك عن هذا أن تسسرى بعسسض العبقرييسسن ل يسسؤتى فسسي أدبسسه أو
أكثره إل إلى الرذائل ،يتغلغل فيها ،ويتمل بها ،ويكون منهسسا علسسى مسسا
ليس عليه أحد إل السفلة والحشوة من طغام الناس ورعاعهم؛ فإن
هذا وأضرابه مسخرون لخدمة الفضيلة وتحقيقها مسسن جهسسة مسسا فيهسسا
فا وعسسبرة؛ وكسسثيًرا مسسا تكسسون الموعظسسة من النهي؛ ليكونوا مثًل وسسسل ً
برذائلهم أقوى وأشد تأثيًرا ممسسا هسسي فسسي الفضسسائل؛ بسسل هسسم عنسسدي
كبعض الحوال النفسية الدقيقة التي يأمر فيها النهي أقوى مما يأمر
المر ،على نحو ما يكون من قراءتك موعظة الفضسسيلة الدبيسسة السستي
فسسا طسساهًرا؛ ثسسم مسسا يكسسون مسسن رؤيتسسك الفسساجر
تسسأمرك أن تكسسون عفي ً
المبتلى المشوه المتحطم الذي ينهاك بصورته أن تكون مثله؛ ولهذه
الحقيقة القوية في أثرهسسا -حقيقسسة المسسر بسسالنهي -يعمسسد النوابسسغ فسسي
بعض أدبهم إلى صرف الطبيعة النفسية عسسن وجههسسا ،بعكسسس نتيجسسة
الموقسسف السسذي يصسسورونه ،أو الحالسسة فسسي الحادثسسة السستي يصسسفونها؛
دا فاجًرا ،وترتد المسسرأة البغسسي فينتهي الراهب التقي في القصة ملح ً
قديسة ،ويرجع البن البر قسساتًل مجنوًنسا جنسون السدم؛ إلسسى كسثير ممسا
يجسسري فسسي هسسذا النسسسق ،كمسسا تسسراه لنسساطول فرانسسس وشكسسسبير
وغيرهما ،وما كان ذلك عن غفلة منهم ول شر ،ولكنسسه أسسسلوب مسسن
الفن ،يقابله أسلوب من الخلق؛ ليبدع أسلوًبا من التأثير؛ وكسسل ذلسسك
شاذ معدود ينبغي أن ينحصر ول يتعدى؛ لنسسه وصسسف لحسسوال دقيقسسة
طارئة على النفس ،ل تعبير عن حقائق ثابتة مستقرة فيها.
195
والشسسرط فسسي العبقسسري السسذي تلسسك صسسفته وذلسسك أدبسسه ،أن يعلسسو
بالرذيلة ...فسسي أسسسلوبه ومعسسانيه ،آخ س ً
ذا بغايسسة الصسسنعة ،متناهي ًسسا فسسي
حسن العبارة؛ حتى يصبح وكأن الرذائل هي اختسسارت منسسه مفسسسرها
العبقري الشاذ الذي يكون في سمو فنه البياني هسسو وحسسده الطسسرف
المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة ،فيصنع اللهام في هذا وفي هذا
صنعه الفني بطريقة بديعة التأثير ،أصلها في أديب الفضيلة ما يريده
ويجاهد فيه ،وفي أديب الرذيلة مسا يقسوده وينسدفع إليسه ،كسأن منهمسا
كا يكتب ،وإنساًنا عاد حيواًنا يكتب... إنساًنا صار مل ً
وإذا أنت مّيلت بين رذيلة الديب العبقري فسسي فنسسه ،ورذيلسسة الديسسب
الفسل الذي يتشبه بسسه -فسسي التسسأليف والسسرأي والمتابعسسة والمسسذهب-
رأيت الواحدة من الخرى كبكسساء الرجسسل الشسساعر مسسن بكسساء الرجسسل
الغليظ الجلف :هذا دموعه ألمه ،وذاك دمسسوعه ألمسسه وشسسعره؛ وفسسي
كتابة هذه الطبقة من العبقريين خاصة يتحقق لسسك أن السسسلوب هسسو
أساس الفن الدبي ،وأن اللذة به هي علمسة الحيساة فيسه؛ إذ ل تسرى
غير قطعية أدبية فنية ،شاهدها من نفسها على أنها بأسلوبها ليسسست
في الحقيقة إل نكتة نفسية لهتياج البواعث في نفوس قرائها ،وأنها
ضا مسسألة مسن مسسائل النسسانية مطروحسة للنظسر على ذلك هي أي ً
والحل ،بما فيها من جمال الفن ودقائق التحليل.
واللسسذة بسسالدب غيسسر التلهسسي بسسه واتخسساذه للعبسسث والبطالسسة فيجيسسء
فا ومضيعة؛ فإن عا على ذلك فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسخ ً موضو ً
اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلغة معانيه وتناوله الكون والحيسساة
بالسسساليب الشسسعرية السستي فسسي النفسسس ،وهسسي الصسسل فسسي جمسسال
السلوب؛ ثم هو بعد هسسذه اللسسذة منفعسسة كلسسه كسسسائر مسسا ركسسب فسسي
طبيعة الحي؛ إذ يحس الذوق لسسذة الطعسسام مثًل علسسى أن يكسسون مسسن
فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتهسسا؛
أمسسا التلهسسي فيجيسسء مسسن سسسخف الدب؛ وفسسراغ معسسانيه ،ومؤاتسساته
الشهوات الخسيسة والتماسه الجسسوانب الضسسيقة مسن الحيسساة؛ وذلسسك
حين ل يكون أدب الشعب ول النسانية بل أدب فئة بعينها وأحوالهسسا؛
فإن أديب صناعته أو أديب جماعته ،غير أديب قومه وأديسسب عصسسره،
أحدهما إلسسى حسسد محسسدود مسسن الحيسساة ،والخسسر عمسسل جسسامع مسسستمر
متفنن؛ لن عمله الدبي وهو وجوده ،وكل شيء فسسي قسسومه ل يسسبرح
يقول له :اكتب...
ومسسن الصسسول الجتماعيسسة السستي ل تتخلسسف ،أنسسه إذا كسسانت الدولسسة
للشسسعب ،كسسان الدب أدب الشسسعب فسسي حيسساته وأفكسساره ومطسسامحه
196
وألوان عيشه ،وزخسسر الدب بسذلك وتنسوع وافتسن وبنسسي علسى الحيسساة
الجتماعيسسة؛ فسسإن كسسانت الدولسسة لغيسسر الشسسعب ،كسسان الدب أدب
الحاكمين وبني على النفاق والمداهنة والمبالغسسة الصسسناعية والكسسذب
والتدليس ،ونضب الدب من ذلسسك وقسسل وتكسسرر مسسن صسسورة واحسسدة؛
وفي الولى يتسع الديب من الحسسساس بالحيسساة وفنونهسسا وأسسسرارها
في كل من حوله ،إلى الحساس بالكون ومجاليه وأسراره فسسي كسسل
ما حوله؛ أما الثانية فل يحس فيها إل أحوال نفسه وخليطسسه ،فيصسسبح
أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسسسع ل يسسزال يسسذهب فيهسسا
ويجيء حتى يمل ذهابه ومجيئه.
والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كسسل مسسن درسسسوا الدب
ما وحديًثا ،أنك ل تجد تقرير المعنى الفلسفي الجتمسساعي العربي قدي ً
للدب في أسمى معانيه إل في اللغة العربية وحدها ،ولم يغفل عنسسه
مع ذلك إل أهل هذه اللغة وحدهم!
طا فيه ،ويأتي بقسسوة اللغسسةفإذا أردت الدب الذي يقرر السلوب شر ً
صورة لقوة الطباع ،وبعظيمسسة الداء صسورة لعظمسة الخلق ،وبرقسسة
البيان صورة لرقة النفس ،وبدقته المتناهية في العمق صسسورة لدقسسة
النظر إلى الحياة؛ ويريك أن الكلم أمة من اللفاظ عاملة في حيسساة
أمة من الناس ،ضابطة لها المقاييس التاريخية ،محكمة لها الوضسساع
النسانية ،مشترطة فيها المثل العلى ،حاملة لها النور اللهي علسسى
الرض...
....وإذا أردت الدب الذي ينشئ المة إنشسساء سسسامًيا ،ويسسدفعها إلسسى
المعالي دفًعا ،ويردها عسسن سفاسسسف الحيسساة ،ويوجههسسا بدقسسة البسسرة
المغناطيسية إلى الفاق الواسعة ،ويسددها فسي أغراضسها التاريخيسة
العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضسسخم المحسسرز المحكسسم،
ما وأبصارها نظًرا وعقولهسسا حكمسسة، ويمل سرائرها يقيًنا ونفوسها حز ً
وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار اللوهية...
...إذا أردت الدب على كل هذه الوجوه من العتبار -وجدت القرآن
الحكيم قد وضع الصيل الحي في ذلك كله ،وأعجب ما فيه أنه جعل
سا ،وفرض هذا التقديس عقيدة ،واعتبر هذه العقيدة هذا الصل مقد ً
ثابتة لن تتغير؛ ومع ذلك كله لم يتنبه لسسه الدبسساء ولسسم يحسسدوا بسسالدب
حسسذوه ،وحسسسبوه دين ًسسا فقسسط ،وذهبسسوا بسسأدبهم إلسسى العبسسث والمجسسون
والنفاق؛ كأنه ليس منهم إل بقايا تاريخ محتضر بالعلل القائلة ،ذاهب
إلى الفناء الحتم!
197
والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه ل يستخرج منه للدب إل تعريسسف
واحد هو هذا :إن الدب هو السمو بضمير المة.
ول يستخرج منه للديب إل تعريف واحد هو هذا :إن الديب هسسو مسسن
كان لمته وللغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ.
198
سر النبوغ في الدب 1
لو ترجمنا الخاطرة التي تمر في ذهن الحيوان الذكي حين ينقاد في
يد رجل ضعيف أبله يصرفه ويديره على أغراضه ،فنقلناها مسسن فكسسر
الحيوان إلى لغتنا ،وأديناها بمعنى مما بين النسان والحيوان -لكانت
في العبارة هكذا :ما أنت أيها البله فيما يبني وبين الحقيقة المدبرة
للكون إل نبي مرسسسل صسسلى اللسسه عليسسه وسسسلم ...ذلسسك أن السستركيب
مسسا
الذي يبين به النسان من الحيوان قد جعل دماغ هذا الحيوان خات ً
من الله دمغ به على خصائصه فأفرغه اللسسه فسسي جلسسده ،ووضسسع فسسي
رأسه ذلك القفل اللهي الذي حبسه في باب الضطرار من غسسرائزه
البهيمية ،وأقفل به على الدنيا العقلية المتسعة بينسسه وبيسسن النسسسان؛
فالكون عنده لغو كله ليس فيه إل حقائق يسيرة ،ثم ل تفسير لهسسذه
الحقائق إل من طبيعته هسسو ،فجلسسده أدق تفسسسير فلكسسي ...للشسسمس
والنور والهواء وما يجيء منها؛ وجوفه أصح تعبير جغرافسسي ...للكسسرة
الرضية وما تحمل ،وجوعه وشبعه هما كل فلسفة الشر والخير في
العالم!...
فأساس الذكاء عالًيا ونازًل هو التركيب الطسسبيعي ل غيسسره :لسسو زادت
في الدماغ ذرة أو نقصت لزادت للدنيا صورة أو نقصت؛ فبالضرورة
تكون هذه هي القاعدة فيما نرى من تباين حدة الذكاء في أفراد كل
نوع من الحيوان ،وما نشهد من ذلك في أحوال الناس ،من الفطنسسة
إلى الذكاء* إلى اللمعية إلى الجهبذة إلى النبوغ إلى العبقرية؛ وهي
طبقات من ألفاظ اللغة لحوال قائمة من هسسذه المعسساني ترجسسع إلسسى
درجات ثابتة في تركيب الدماغ.
ومما يسجد له العقل النساني سجدة طويلة إذا هو تأمل في حكمة
الله ومر يتصفح من أسرار ما نحن بسسسبيله مسسن الكلم علسسى النبسسوغ
-أن هذا الوجود الذي يحمل أسرار اللوهيسسة فسسي كسسرة متقاذفسسة فسسي
الفضاء البدي ،وأن الرض التي تحمسسل أسسسرار النسسسانية ،هسسي كسسرة
طائرة فيما مد لها من الوجود ،وأن كل حي فيها يحمل أسرار حياته
في كرة خاصة به هي رأسه ،وأن الوجود من كل حي هسسو بعسسد ذلسسك
ليس شسسيًئا فسسي النظسسر ول فسسي الحسسس ول فسسي الفهسسم إل كمسسا يسسرى
ويحس ويفهم في هذا الرأس بعينه علسسى طريقتسسه وتركيبسسه ،فيصسسعد
التدريج إلى الكبير إلى الكبر ،وينزل إلى الصغير إلى الصغر؛ ثسسم ل
معنى لما صعد إل مما نزل ،وبهذا ستكون آخرة جميسسع العلسسوم مسستى
199
نفذ العلماء إلى السر الحقيقي ،أن العقل النساني فهم كسسل شسسيء
ولم يفهم شيًئا...
---------------
1المقتطف :يناير سنة .1933
* عندنا أن الفطنة في اللغة ،دون الذكاء؛ تقابل ما عند الحيوان من
التنبه؛ والذكاء :والتوقد واللهيان.
والناس يختلفون بتركيب أدمغتهم على شبيه من هذا التدريسسج؛ فأمسسا
واحد فيكون دماغه باعتبساره مسن سسائر النساس فسي السذكاء والعقسل
كالوجود المحيط ،وأمسسا آخسسر فكالشسمس ،ثسسم غيرهمسا كسسالرض ،ثسسم
الرابع كالنسان ،ثم يكون منهم كالحيوان ومنهم كالحشرة؛ ول علسسة
لك لهذا إل ما هيسسأت القسسدار "بأسسسبابها الكسسثيرة" ،لكسسل إنسسسان فسسي
تركيب دماغه في نوع المادة السنجابية من المخ ،وأحسسوال السستركيب
في المليين من الخليا العصبية ،وما ل يعد مسسن فسسروع هسسذه الخليسسا
وشعبها :ثم ما يكون من قبل العلقات بيسسن هسسذه الفسسروع السستي هسسي
لكل رأس كرمل الكرة الرضية ،ثم اختلف مقادير المواد الكيماوية
التي تتخلق في غدد الجسم وتنفثها الغدد في الدم.
فقد يكون العمل النابغ المتمرد على العقول آتًيا من قطرة في هذه
الغسسسدد ،كمسسسا ينبعسسسث العملق المسسسارد بعظسسسامه الممتسسسدة وألسسسواحه
المشبوحة من غدته النخامية ل غيرها.
فالذكي مسسن ذكسسي مثلسسه إنمسسا هسسو كسسالجيش مسسن جيسسش بسسإزائه :يقسسع
الختلف بينهما فيما اشسستمل عليسسه مسسن كسسثرة الجنسسد ،وصسسفاتهم مسسن
القسسوة والضسسعف ،وأحسسوالهم مسسن النظسسام والختلل ،وقسسوة آلتهسسم
ومقدارها ونوع الختراع فيها ،ثم طبيعة موضسسعهم وحسسسن تسسوجيههم
وقيادتهم ،وما اكتنفهم من صعب أو سسسهل ،ومسسا تظسساهر علهيسسم مسسن
الحوادث والقدار ،ثم التوفيق الذي ل حيلة فيسسه إن وقسسع فسسي حصسسة
أحدهما واستقر ،أو وقع هوًنا وطار للخر ،وبنحو من هذا كلسسه تكسسون
المفاضلة إذا وازنت بين اثنين من النوابغ في حقيقة نبوغهما.
فالنابغة خلق من خالقه ،يصنع كما ترى بأقدار الله؛ إذ هو قدر علسسى
قسسومه وعلسسى عصسسره ،وهسسو مسسن النسساس كالورقسسة الرابحسسة مسسن ورق
السحب "اليانصيب" :سسسلة يسسد جعلتهسسا مسساًل وتركسست الباقيسسات ورقًسسا
وأحدثت بينهما الفرق الذهبي؛ وبهذا ل يستطيع العالم أن يزيد الدنيا
ما فيصنعه؛ وهبه صسسنعه نابغة إل إذا استطاع أن يزيد في الكوكب نج ً
مسسن الكهربسساء ،فيبقسسى أن يحملسسه ،وإذا حملسسه بقسسي أن يرفعسسه إلسسى
200
السموات؛ وهبه قد رفعه فيبقى كل شيء ...يبقسسى عليسسه أن يقحمسسه
في النجوم ويرسله فيها يدور وينفلك.
وكما يخلق النابغة بتركيبه ،تخلق لسه الحسوال الملئمسة لعملسه السذي
خص بسسه فسسي أسسسرار التقسسدير عسسامًل نافعًسسا ،وإن كسسانت ل تلئمسسه هسسو
منتفًعا؛ فإنه هو غير مقصود إل من حيث إنه وسيلة أو آلسسة تكابسسد مسسا
تحتمل في أعمالهسسا ،ويسسؤتى لهسسا لتأخسسذ علسسى طريقسسة وتعطسسي علسسى
طريقة؛ وبذلك يرجع التقدير إلى أن يكون العقل لنابغة دليًل للنسساس
من الناس أنفسهم على الخالق الذي هو وحده أمره المر.
وإذا كان الجمال يستعلن في كلم هؤلء النوابغ ،والخيال يظهر فسسي
تعبيرهم ،والحكمة تهبط إلى الدنيا في تفكيرهم ،والمثل العلى هسسم
السداعون إليسه ،والشسواق النفسسية هسم موقظوهسا ،والعواطسف هسم
المصورون لها ،وسرور الحياة هم الذين حولوه إلسسى الفسسن -إذا كسسان
هذا كله فهذا كله إنما هسو توكيسد لتصسالهم بسالقوة الزليسة المسدبرة،
وأنهم أدواتها في هسسذه المعسساني؛ فمسسا هسسي أعمسسالهم أكسسثر ممسسا هسسي
أعمالها؛ وقد يظن الناس أن النابغة يلتمس القوى المحيط به ليبسسدع
منها ،والحقيقة أنها هي تلتمسه لتبدع به.
وبعده؛ فالنابغة كأنه إنسان من الفلسك ،فهسو يخسزن الشسعة العقليسة
ويريقها ،وفي يده النوار والظلل واللسسوان يعمسسل بهسسا عمسسل الفجسسر
كلما أظلمت على الناس معاني الحياة؛ ول تزال الحكمة تلقسسي إليسسه
الفكرة الجميلة ليعطيها هو صورة فكرتها ،وتوحي إليه معنى الحلسسق
ليؤتيها هو معنى جمال الحلق؛ والطبيعسسة خلقهسسا اللسه وحسده ،ولكنهسا
ليست معقولة إل بالعلم ،وليست جميلة إل بالشعر ،وليست محبوبة
إل بالفن؛ فالنوابغ في هسذا كلسه هسم شسروح وتفاسسير حسول كلمسات
حا لشياء من الله ،وكلهم يشعر بالوجود فّنا كامًل ويشعر بنفسه شر ً
هسسذا الفسسن ،ويسسرى معسساني الطبيعسسة كأنمسسا تسسأتيه تلتمسسس فسسي كتسسابته
وشعره حيسساة أكسسبر وأوسسسع ممسسا هسسي فيسسه مسسن حقائقهسسا المحسسدودة،
وتتعرض له أحزان النسانية تسأله أن يصحح الرأي فيهسسا باسسستخراج
مسسا وأحزان ًسسا إل أن معناهسسا
معناها الخيالي الجميل ،فإنها وإن كانت آل ً
الخيالي هو سرور تحمله للناس؛ إذ كان من طبيعة النفس البشسسرية
أن تسكن إلى وصسسف آلمهسسا وفلسسسفة حكمتهسسا حيسسن تبسسدو بصسسائرها
حاملة أثرها اللهي ،كأن المؤلم ليس هو اللم ،وإنما هو جهل سره.
وبالجملة فالكون يختار في كل شيء مفسره العبقري ليكشف مسسن
ضا ...ثم ليؤتى الناس المثل العلى من المعنى غموضه ويزيد فيه أي ً
على يد المثل العلى مسسن الفكسسر؛ ولهسسذا تصسسيب الكلم السسذي يكتبسسه
201
النابغسسة الملهسسم فسسي أوقسسات التجلسسي عليسسه كسسأنه كلم صسسور نفسسسه
وصاغها ،أو كأنه قطعة من الحس قد جمدت في أسسسطر؛ ول بسسد أن
تشعرك الجملة أنها قذفت وحيسسا؛ إذ ل تجسسدها إل وكسسأن فسسي كلماتهسسا
حا يرتعض؛ ولقد يخطر لي وأنا أقرأ بعض المعاني الجميلة لسسذهن رو ً
مسسن الذهسسان الملهمسسة كشكسسسبير والمتنسسبي وغيرهمسسا -حيسسن أتأمسسل
اختراع المعنى وإبداع سياقه وضحى البيان عليه وإشسسراقه فيسسه ومسسا
أتيح له من جلل ظاهر في شكل حي يلمح بسره في النفس -يخيل
إلي من ذلك أن سر الطبيعة القادر يعمل عمله أحياًنا بذهن إنساني
ليخلق تعبيًرا عن جلله في مثل جلله.
وأنت فلو أخذت معنى من هذه المعاني التيسة مسن اللهسام وأجريتسسه
في كتابسسة كسساتب أو شسسعر شسساعر مسسن السسدين ليسسس لهسسم إل أذهسسانهم
يكدونها ،وكتبهم يجعلونها أذهانهم أحياًنا ...لرأيت الفسسرق بيسسن شسسيء
وشيء في أحسن ما أنت واجده لهم على نحو مسسا تسسرى بيسسن زهسسرة
حريرية جاءت من عمل النسان بالبرة والخيط ،وزهسسرة أخسسرى قسسد
انبثقت عطرة ناضرة في غصنها الخضر من عمسسل الحيسساة بالسسسماء
والرض.
دا وراء ما ل ينتهي من جمال ،أوله في نفسه وآخسسره والعبقري هو أب ً
في الجمال القدس الذي مسح على هذه النفس الجميلة السسسامية؛
فما دام فيه سر العبقرية فهو دائب يعمل ممزًقا حياته في سسسبحات
قا يجتمع منه أدبه؛ ومسسا أدبسسه إل صسسورة حيسساته؛ وهسسو كلمسسا النور تمزي ً
مسسا إن عمسسل لن أبدع شيئا طلب الذي هسسو أبسسدع منسسه؛ فل يسسزال متأل ً
مسسا إن لسسم يعمسسل؛ لن تلسسك طبيعته ل تقف عند غاية من عمله ،ومتأل ً
الطبيعسسة بعينهسسا ل تهسسدأ إل فسسي عمسسل ،وهسسي طبيعسسة متمسسردة بسسذلك
الجمال القدس تمرد العشق في حامله؛ إذ هما صورتان لمر واحسسد
كما سنشير إليه؛ فكسسل مسسا تجسسده فسسي نفسسس العاشسسق المتدلسسة ممسسا
يترامى به إلى جنونه وهلكه ،تجسسد شسسبًها منسسه فسسي نفسسس العبقسسري؛
فكلهما قانونه من طبيعة وحدها؛ إذ قد اتخذت حياته شسسكلها الفنسسي
من ذوقه هو وحده؛ فليسسس يتبسسع طريقسسة أحسسد ،بسسل هسسو فسسي طريقسسة
دا إلسسى جمسسال مسسستفيض علسسى روحسسه نفسه ،1وكلهما مسترسل أب ً
يتقلب فيها باللذة واللسسم يرجسسع إليسسه ويسسستمد منسسه ،وكلهمسسا ل يجسسد
المعنى الجميل في الطبيعة معنى ،بل رسوًل من الجمال أرسل إليه
وحده ،ول يزال يشعر في كل وقت أن له رسائل ورسًل هو بعد في
انتظارها ،وكلهما متى ظفر بشيء مسسن مصسسدر الجمسسال انتهسسى مسسن
حا لم يكن له مسسن قبسسل، شدة فرحه إلى الظن أنه ربح من الكون رب ً
202
وكلهما متهالك بيسسن قيسسود الحيسساة السستي فسسي الحيسساة والواقسسع ،وبيسسن
حريتها التي في خياله وأمله ،كأن عليه فسسي سسسبيل هسسذه الحريسسة أن
دا مسسن قيسسود الجتمسساع أو العيسسش؛ وكلهمسسا يقطع الليل والنهار ل قي س ً
متصل بقوة غيبية وراء ما يرى وما يحس تجعل نظرته فسسي الشسسياء
خاضسسسعة لقسسسانون النظسسسرة العاشسسسقة فسسسي العينيسسسن السسسساحرتين
المعشوقتين ،فإذا مد عينيه في شيء جميل فهناك سسسؤال وجسسوابه،
ووحي وترجمته ،ومرور من يقظة إلى حلم ،وانتقال من حقيقة إلسسى
خيال!
---------------
1ل وجه عندنا لمسسا اسسستعمله بعسسض الكتسساب فسسي الدب مسسن قسسولهم
مدرسة امرئ القيس ،ومدرسة النابغسسة ونحسسو ذلسسك ،ترجمسسة حرفيسسة
لقول الوروبييسسن مدرسسسة فلن ومدرسسسة فلن؛ فسسإن الدب إن كسسان
ط ل يجعل مدرسسسة يحتسسذى عليهسسا ويتخسسرج بهسسا، دا فهو أدب منح ّ تقلي ً
عا فليسسس البسسداع مدرسسسة تكسسون بسسالتعليم والتلقيسسن وإن كسسان إبسسدا ً
ويتخرج بها الواحد والمائة واللف على طراز ل يختلف؛ إنمسا تنطبسسق
هذه الكلمة على المذاهب المستقرة في الفنون التعليمية ،وفي هذا
ل
مسا تنفسسرد بسه ل تسسستقرغير أن طبيعة العبقري تزيد على كل ذلسك أل ً
معه على رضا ،ول يبرح يسلط العنات عليهسسا ويسسستغرقها قسسالهموم
السامية؛ وذلك ألم الكمال الفني الذي ل يدرك العبقسسري غسسايته عنسسد
نفسه ،وإن كان عند الناس قسسد أدرك غايسسات وغايسسات؛ فطبيعسسة كسسل
عبقري تجهد جهدها في العمل لتخرج به مما يستطيعه الناس ،فسسإذا
تسسأتى صسساحبها لسسذلك وكابسسد فيسسه وأدرك منسسه وبلسسغ وأعجسسز ،انسسدفعت
طبيعته إلسسى الخسسروج ممسسا يسسستطيع هسسو ..كسسأنه خسسارج عسسن الطبيعسسة
وداخل في الطبيعة في وقت معًسسا ،وكسسأنه نفسسسه وفسسوق نفسسسه فسسي
حال ،وهذا سر حريته وسموه ،كما أنه سر ألمه وحيرته.
ومن أثر ذلك ما تحسه أنسست إذا قسسرأت للديسسب البليسسغ التسسام صسساحب
الفكر والسلوب والذهن الملهم؛ فإنك تقف على المعنى من معانيه
يمل نفسك ويتمدد فيها ويهتز بها طرًبا وإعجاًبا ،فنقول :ل أحس من
هذا! ثم تؤمل مع ذلك أن تجد منه ما هو أحسن من هذا ..كأنه وإن
تناهى إلى الغاية ل يزال عندك فسسوق الغايسسة؛ وهسسذا غريسسب ،ولكسسن ل
دليل على العبقرية إل الغرابة دائما؛ فهسسي نظسسام ل نظسسام فيسسه؛ لهسسا
طريقة ل طريقة لها؛ وبهذه الغرابة جاءت العبقرية كلها أمثلة وليس
فيها قواعد يحتذى عليها ول هداية فيها إل من الروح؛ وإذا كان الفسسن
203
قدرة متصرفة فسسي الجمسسال ،فالعبقريسسة قسسدرة متصسسرفة فسسي الفسسن،
والنابغة كالمتكيس* السسذي معسسه قسسوي العقسسل ويريسسد أن يسسزداد علسسى
قدره منها ،ولكن العبقري كاللهي الذي معه قسسوى السسروح ويريسسد أن
يزيد الناس على قدرهم بهسسا؛ وذاك مرجعسسه الفكسسر السسدقيق البسساحث؛
وهذا مناطه البصسسيرة الشسفافة النافسسذة ،وهسسي أغسسرب الغسسرائب فسسي
النسان؛ إذ هي الجهة المطلقة في هذا المخلوق المقيد ،وبها تتسسسع
الناس لدراك المطلق الظاهر من خلل الموجسسودات ،وفيهسسا تتحسسول
الشياء من نظام الحاسة إلى نظام السسروح فيسسسمع المسسرئي ويبصسسر
المسموع ،وتخلع الجسام أنغامسسا ،وتلبسسس الصسسوات أشسسكال ،ويبسسدو
عندها كل مخلوق وكأن فيه بقية زائدة على خلقه تركت ليعمل فيها
الكسساتب أو الشسساعر المحسسدث 2عمسسل فنسسه ،السسزائد علسسى الطبيعسسة
بالحاسة الزائدة على ذهنه ،وهي التي نسميها اللهام.
---------------
= تطلق فسسي الدب العربسسي إل علسسى فئتيسسن فقسسط ،همسسا البصسسريون
والكوفيون ،على أن كلمة مسسذهب هسسي المسسستعملة فسسي هسسذا ،وهسسي
أسد منها؛ إذ يدل المذهب علسسى منحسسى اختسساره السسرأي وذهسسب إليسسه،
فكأنه عن تحقيق في صاحبه وتابعيه؛ أما تسمية مجموعة اللهامسسات
التي مرت في ذهن نابغة من النوابسسغ بالمدرسسسة ،فتسسسمية مضسسحكة
باردة؛ إذ اللهام بصسسيرة محضسسة ،ومسسا هسسو ممسسا يقلسسد ،وقلمسسا تشسسابه
ذهنان على الرض في عناصر التكوين التي يسأتي منهسا النبسسوغ؛ وقسسد
قسسال علماؤنسسا :طريقسسة فلن وطريقسسة فلن؛ فالطريقسسة هسسي الكلمسسة
الصحيحة؛ لن عليها ظاهر العمسسل وأسسسلوبه يتسسوجه بهسسا مسسن يتسسوجه،
ضا ،وهو شيء ويقلد فيها من يقلد ،أما سر العمل فهو سر العامل أي ً
في الروح والبصيرة ،وهو في العبقري أمر ل يستطيعه إنسان وشسسذ
في إنسان بخصوصه.
وهسسذه الحاسسسة هسسي كسسذلك مسسن بعسسض الغرابسسة ،تكسسون فسسي صسساحبها
الموهوب كما تكون حاسة التجاه في الطيسسور السستي تقطسسع فسسي جسسو
السماء إلى غاياتها البعدية من قطب الرض إلى قطبهسسا الخسر بغيسر
دليل تحمله ،ول رسم تنظسسر فيسسه ،ول علسم ترجسع إليسسه؛ وكمسا تكسون
حاسة التمييز في النحل الذي يبني عسلته على هندسة ليسسست مسسن
كتاب ول مدرسة ،وحاسة التدبير في النمل الذي يدبر مملكتسسه بغيسسر
علوم الممالك وسياستها؛ وكثيرا ما يجيء الديب الملهم من حقائق
الفكر وبيسسانه وأسسسرار الطبسسائع وأوصسسافها بمسسا يغطسسي علسسى فلسسسفة
204
الفلسفة وعلم العلماء ،ومثل هذا العبقري هو عندي فوق العلسسم ،ل
أقول بدرجة ،ولكن بحاسة.
وباللهام يكون لكل عبقري ذهنه الذي معه وذهنه الذي ليسسس معسسه؛
إذ كنت له من وراء خياله قوة غير منظورة ليسسست فيسسه ،ومسسع ذلسسك
تعمل كما تعمل العضاء في جسمه ،هينة منقادة كأنها تتصرف على
اطراد العادة بل فكر ول روية ول عسر ما دامت تتجلى عليه.
---------------
* من الكيس وهو العقل فيكون عاقل ويريد أن يزداد على مقداره.
** هذه هي الكلمة القديمسسة السستي تقابسسل مسسا نسسسميه العبقسسري بلغسسة
عصرنا ،كأن الشياء تحدثه بأسرارها ،أو تحسسدثه بهسسا قسسوة أعلسسى مسسن
القوى النسانية؛ وإذا كان محدثا فمعنى ذلسسك أنسه ينطسسق عسسن سسمع
من الغيب؛ ومن ذلك ما زعسسم العسسرب مسسن أن لكسسل شسساعر شسسيطانا
ينفث على لسانه ،وهووصف دقيق للعبقرية إل أنه باللغسسة الجاهليسسة،
وقد صححه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لشاعره حسسسان :قسسل
وروح القسسدس معسسك .وفسسي كلمسسة "روح القسسدس" تنطسسوي فلسسسفة
العبقرية كلها.
وليست تتصل هذه القوة إل بسستركيب عصسسبي تكسسون فيسسه الخصسسائص
التي تصلح أن تتلقى عنها ،وهي في العبقريين خصائص مرضية فسسي
العم الغلب ،بل لعلها كذلك دائما؛ ليتسّر بها العبقري لحالة خفيفة
من الموت ...يحمل بهسسا كسسده وتعبسسه ومسسا يعسسانيه مسسن مضسسض الفكسسر
وثقلته؛ ثم لتكون هذه الحالة كالتقريب بين عالم الشهادة فيه وبيسسن
عالم الغيب منه؛ فالتركيب العصبي في دماغ العبقري إنسسسان علسسى
حيساله مسع إنسسسان آخسر ،أحسدها لمسا فسي الطبيعسة والثسساني لمسا وراء
الطبيعسسة؛ ومسسن ثسسم كسسان الرجسسل مسسن هسسذه الفئة كالمصسسباح :يتقسسد
وينطفئ؛ لنه آلة نور تعرض لها العلل فتذهب بقدرتها عليه ،وتنضب
مادة النور منها ،فكذلك ل تقدر عليه ،وتكون مضيئة فتنطفئ بسبب
ليس منها ول من نورها ،وهي على كل هسسذه الحسسوال ل تملسسك منهسسا
حالة؛ فبينما العبقري الذي يمل السسدنيا مسسن آثسساره النابغسسة ،تسسراه فسسي
حالة من أحواله يدأب ل يأتلي فيجد فسسي العمسسل ويبسسذل الوسسسع فيسسه
ويصبر على مطاولة التعب في إحكامه ويفيض بسسه فيضسسا وكسسأن فسسي
طبيعة الربيع المتفتح طول أيامه بالجمال -إذا هو فسسي حالسسة أخسسرى
يتلكأ ويتربص ل يعمل شيئا كأنمسسا دخسسل فسسي قريحتسسه الشسستاء ،وفسسي
ن له جديسسد كأنمسا حبسس عنسسه فكسسره أو نبسا ثالثة يتباطأ ويتلبث فل يع ّ
205
طبعه أو هو في قيظ طبيعته وخمولها وضجرها؛ ثسسم ل تمضسسي علسسى
ذلك إل توّة ٌ وساعة فإذا على صيفه هواء نوفمبر وديسمبر...
وإذا هو منبعث ملء القسسوة والنشسساط؛ وربمسسا يأخسسذ فسسي غسسرض مسسن
الكتابة قد رسم له المعنى وهيأ له المادة ،فل يكاد يمضي لنحو منسسه
حتى تتناسخ في ذهنه المعاني فسسإذا هسسو يكتسسب مسسا ل يسسستملي؛ وقسسد
يبتدئ معنى ثم يقطع عنه بطسارئ مسن عمسسل أو حسسديث ،ثسسم يعسساوده
فإذا هو معنى آخر وإذا جهة من الفكسسر هسسي جهسسة البسسداع والخسستراع
في موضوعه ،وإذا هو إنما كان يجر بذلك الصارف عن معنسساه الول
جّرا ليدعه إلى الكمل والصح ،وأيقن أنه لو كان اسسستوفى علسسى مسسا
بدأ لسف وضعف وجاء بما غيره أقدر عليه؛ كأن هذه القوة الخفيسسة
ذا في عمله ضا بأساليبها الغريبة؛ وقد يكون آخ ً التي تلهمه تنقح له أي ً
ماضًيا على طبعه مسترسًل إلى ما ينكشف له مسسن أسسسرار المعسساني
فا من هناك* ،ثم ينظر فإذا هو قد مسح لسسوح خيسساله، فا من هنا لق ًثق ً
دا وعسسسرا كأنمسسا ويطلب المعنى فل يتاح له ،ويتمادى فل يزيسسد إل ك س ّ
ذهسسب إلهسسامه فسسي غمسسض مسسن غمسسوض البديسسة*؛ وكسسل مسسن ارتسساض
بصناعة الفكر واسسستحكمت لسسه عادتهسسا ومسسر فسسي درجاتهسسا حسستى بلسسغ
المكانة التي يستشرف منها لللهام ويتعرض فيهسسا بروحسسه وبصسسيرته
لنبضات الوحي وانكشافات الغيب ،يعلم أن كل معنى بديع يسسأتي بسسه
ما من ذلسك المعنسى الحسي المتمسدد فسي في صناعته إنما يقع له إلها ً
الكائنات كلها ،ظاهًرا في شيء منها بالضوء ،وفسسي أشسسياء بسساللوان،
وفي بعضها بالحركة ،وفي بعضها بالنسسسجام ،وفسسي بعضسها بالروعسسة
والفخامة ،وفي غيرها بنبضة الهيئة؛ وظاهًرا فسسي حسسالت كسسثيرة بسسأنه
غير ظاهر؛ ويعرف كذلك أن هذا المعنسسى الشسسامل السسذي ل يحسسد هسسو
الذي ينقل الوجود كله إلسسى نفسسوس النوابسسغ** مسستى نبسسض فسسي هسسذه
النفوس الرقيقة وأشعرها سره ،وإذا هم النابغة أن يتوضحه ل يسسرى
شيًئا ،وإذا أراد حجة عليه لسسم يسسستطع الجلء عسسن بيسسانه بكلمسسة ،وإذا
التمس التعريف به لم يجد إل مسسا يشسسهد لسسه إحساسسسه وقلبسسه ،وهسسذا
الذي ينقدح في أذهان النوابغ أفكاًرا حين يفيسسض لكسل منهسسم بسسبب
من قراءة أو مشاهدة أو حالة أو مراس ،وهو هو بعينه السسذي ينقسسدح
قا في قلوب المحبين حين يتراءى لكسسل منهسسم فسسي معنسسى علسسى عش ً
وجه جميل؛ ومن ثم كان النابغة في الدب ل يتم تمسسامه إل إذا أحسسب
وعشق ،وكان الدب نفسه في تحصيل حقيقته الفلسفية ليس شسسيًئا
سوى صناعة جمال الفكر..
---------------
206
* يقسسال :هسسو ثقسسف لقسسف :أي سسسريع الفهسسم لمسسا يلقسسى إليسسه ،ولكنسسا
استعملناه كما ترى فجاء أشد تمكًنا من أصله.
وهذا العمل في ذلك الجهاز العصبي الخاص به في بعض الدمغة هو
الذي كان يسميه علمسساء الدب العربسسي بالتوليسسد ،وقسسد عرفسسوا أثسسره،
ولكنهم لم يتنبهوا إلى حقيقته ول أدركوا من سره شيًئا؛ وأحسن مسسا
قرأناه فيه قول ابن رشيق في كتاب العمدة" :إنمسسا سسسمي الشسساعر
شاعًرا؛ لنه يشعر بما ل يشعر به غيره؛ فإذا لم يكن
---------------
* قالوا :كان الفرزدق وهو فحل مضر فسسي زمسسانه يقسسول :تمسسر علسسي
الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علسسى مسسن عمسسل بيسست مسسن
الشعر! وذكروا أنسه كسان مسن عملسه إذا استصسحب الشسعر عليسه أن
دا في شسسعاب الجبسسال وبطسسون يركب ناقته ويطوف وحده خالًيا منفر ً
الودية فينقاد له الكلم؛ وأخبارهم كثيرة في الطسسرق السستي يسسستعان
بها على الشعر ويجتلب بها نافره ،والحقيقة أنهسسا علسسل مسسن النفسسس
تعارض حالة اللهام إلى أن تسسزول وتصسسفو النفسسس منهسسا ،أو أسسسباب
تتفق ول تلهم شيًئا إلى أن تتغير بأسباب ملهمة.
غا وما يسمى عبقريسسة ،ولكنسسا ** هناك فرق علمي بين ما يسمى نبو ً
في هذا الفصل أطلقنا الكلم وقيدنا فسسي مواضسسع بخصوصسسها ،ويكسساد
الفرق بين النابغة والعبقري في جماع أمسسره أن يكسسون كسسالفرق بيسسن
التلغراف الذي طريقه مادة السسسلك وبيسسن الخسسر السسذي طريقسسه روح
الجو؛ فكلهما هو الخر ولكن أحسسدهما ل بسسد لسسه مسسن طريسسق سسسلوك
والخر طريقه كل الطرق ،أي فوق أن يقيد بطريقة.
عند الشاعر توليد معنى ول اختراعه ،أو اسسستطراف لفسسظ وابتسسداعه،
أو زيادة فيما أجحف فيسسه غيسسره مسسن المعسساني ،أو نقسسص ممسسا أطسساله
سواه من اللفاظ ،أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر -كان اسم
الشاعر عليه مجاًزا ل حقيقة ،ولسسم يكسسن لسسه إل فضسسل السسوزن" .هسسذا
كلم ابن رشيق ،وليس لهم أحسن منه ،وهو مع ذلك تخليط ل قيمة
له وليس فيه من موضوعنا إل لفظ التوليد.
ومما ل نقضي منه عجًبا في تتبع فلسفة هذه اللغة العربية العجيبسسة،
أننا نرى أكثر ألفاظها كالتامة ل ينقصها شيء من دقائق المعنى في
أصل وضعها ،على حين ل يفهم علماؤنا من هذه اللفاظ إل بعض ما
تدل عليه ،كأنها منزلة تنزيًل ممن يعلم السر؛ وقد نبهنا إلى هذا فسسي
كتاب "تاريخ آداب العرب" وأفضنا فيه واستوفينا هناك من فلسفته،
وجاء القرآن الكريم من هذا بالعجائب التي تفسسوت العقسسل ،حسستى أن
207
أكسسثر ألفسساظه لتكسساد تكسسون مختومسسة نزلسست كسسذلك لتفسسض العلسسوم
والفلسفة خواتمها في عصور آتية ل ريب فيها*؛ وكلمة التوليد السستي
لم يفهم منها العلماء إل أخسسذ معنسسى مسسن معنسسى غيسسره بطريقسسة مسسن
طرق الخذ التي أشاروا إليها فسي كتسب الدب -هسي الكلمسة الستي ل
يخرج عنها شيء من أسرار النبوغ ول تجد ما يسد في ذلك مسسسدها
أو يحيط إحاطتها ،ول نظن في لغة من اللغات ما يشسسبهها فسسي هسسذه
الدللة واستيعابها كل أسرار المعنى؛ إذ هو بلفظها نسسص علسسى حيسساة
الكون في الذهن النساني ،وأنه يتخسسذه وسسسيلة لبسسداع معسسانيه ،كمسسا
يتخذ سر الحيسساة بطسسن الم وسسسيلة لبسسداع موجسسوداته؛ وأن المعسساني
ضا في أسلوب من الحياة ،وأن هذه هي وحدها تتلقح فيلد بعضها بع ً
الطريقة لتطور الفكر وإخراج سللت من المعاني بعضها أجمل من
بعض ،كما يكون مثل ذلك في النسسسل بوسسسائل التلقيسسح مسسن السسدماء
المختلفة ،وأن النبوغ ليس شسسيًئا إل السستركيب العصسسبي الخسساص فسسي
السسذهن ،ثسسم نمسسو هسسذا السستركيب مسسع الحيسساة فسسي طريقسسة سسسواء هسسي
وطريقة الولدة المحيية التي مرجعها كذلك إلى تركيسسب خسساص فسسي
أحشاء النثى؛ ينمو ،ثم يدرك ثم يعمل عمله المعجز؛ وإذا كسسان مسسن
كل شيء في الطبيعة زوجان ،فالكلمة نص علسسى أن أذهسسان النوابسسغ
أذهان مؤنثة في طباعها التي بنيت عليها؛ وهذا صحيح؛ إذ هي أقسسوى
الذهان على الرض في الحس باللم والمسرات ،ومعسساني السسدموع
والبتسام أسرع إليها من غيرها ،بل هي طبيعسسة فيهسسا؛ وهسسي وحسسدها
المبدعسسة للجمسسال والمنشسسئة للسسذوق ،وعملهسسا فسسي ذلسسك هسسو قسسانون
وجودها؛ ثم هي قائمة على الحتمال والعطاء والرضا بالحرمان في
سبيل ذلك وإدمان الصبر على التعسسب والدقسسة والهتمسسام بالتفاصسسيل
وأساسها الحب؛ وكل ذلك من طباع النثى وهي النابغة فيه ،بل هي
النابغة به.
فسر النبوغ في الدب وفي غيره هو التوليد ،وسر التوليد فسسي نضسسج
الذهن المهيأ بأدواته العصسسبية ،المتجسسه إلسسى المجهسسول ومعسسانيه كمسسا
تتجه كل آلت المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛ وبذلك العنصر
الذهني يزيسسد النابغسسة علسسى غيسسره ،كمسسا يزيسسد المسساس علسسى الزجسساج،
والجوهر على الحجر ،والفولذ على الحديد ،والذهب علسسى النحسساس؛
فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليسسد فسسي سسسر تركيبهسسا؛ ويتفسساوت النوابسسغ
أنفسهم في قوة هذه الملكة ،فبعضهم فيها أكمل مسسن بعسسض ،وتمسسد
لهم في الخلف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه
المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقسسة؛ وبسسذلك تتنسسوع
208
الساليب ،ويعاد الكلم غير ما كان في نفسه ،وتتجدد الدنيا بمعانيهسسا
في ذهن كل أديب يفهسسم السسدنيا وتتخسسذ الشسسياء الجاريسسة فسسي العسسادة
غرابة ليست في العادة ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته.
وقسسد سسسئل مصسسور مبسسدع بمسساذا يمسسزج ألسسوانه فتسسأتي ولهسسا إشسسراقها
وجمالها ونبوغ مبانيهسسا وزهسسو الحيسساة بهسسا فسسي الصسسورة ،فقسسال :إنمسسا
أمزجها بمخي ،وهذا هذا؛ فإن اللوان عند الناس جميًعا ،ولكن مخسسه
عنده وحده وله تركيبه الخاص به وحده وسر الصناعة في توليد هسسذا
الدماغ فكأن ألوانه في صناعته جاءت منه بخصوصه ،وكذلك كل مسسا
يتناوله العبقري فإنك لتجد الشعر في وزن خاص به يدل عليه ويتمم
قسسا مسسن الجمسسال وحسسسنه وإلسسى الغرض منسسه ويضسسيف إلسسى معسسانيه أن ً
ما من الموسيقى وطربها ،فما أشبه الجهسساز العصسسبي فسسي صورته نغ ً
دماغ كل نابغة أن يكون وزًنا شسسعرًيا لهسسذا النابغسسة بخاصسسته ،أل تسسرى
أنك ل تقرأ الديب الحسسق إل وجسسدت كسسل مسسا يكتبسسه يجيسسء فسسي وزن
خاص به حتى ل يخرج عنه مرة ،أو تزيد أنسست فيسسه وتنقسسص إل ظهسسر
لك أنه مكسور...؟
والسسذهن العبقسسري ل يتخسسذ المعسساني موضسسوع بحسسث ونظسسر وتعقسسب
يستخرج منها أو يتعلق عليها فهسذا عمسل السذهن السذكي وحسده وهسو
غاية الغايات فيه يبحث وينظر ويتصفح ويجمع من هنا ويأخذ من ثسسم
ويعترض ويصحح ويأتيك بالمقالة يحسب فيها كل شيء وما فيهسسا إل
أشياؤه هو وأمثاله .أما السسذهن العبقسسري فليسسس لسسه مسسن المعسساني إل
مادة عمل فل تكاد تلبسه حتى تتحول فيه وتنمسسو وتتنسسوع وتتسسساقط
له أشكاًل وصسسوًرا فسسي مثسسل خطسسرات السسبرق ،وربمسسا غمسسر بسسالمعنى
الواحد في جماله وسموه وقوة تأثيره مقسسالت عسسدة لولئك الذكيسساء
خا وجعلها منه كالشموع الموقسسدة بسسإزاء الشسسمس .فسسإذا فنسخها نس ً
ذهبت توازن بين مثل هذا المعنى ومثل هذه المقسسالت فسسي الروعسسة
والجلل ورأيت عربدة المقالة وغرورها لم تستطع إل أن تقول لهسسا:
يا حصاة الميزان في إحدى كفتيه أل يكفيك الجبل في الكفة الخرى
...؟
وقد عرف الدباء جميًعا أن كاتب فرنسا العظيم أناتول فرانس كسسان
يكتب الجملة ،ثم ينقحها ،ثم يهذبها ،ثم يعيدها ،ثم يرجع فيها ،وهكذا
خمسسس مسسرات إلسسى ثمسسان ويقسسدم ويسسؤخر مسسن موضسسع إلسسى موضسسع
كا وتهذيًبا ،وما هسسو منهسا فسسي شسسيء ول أحسسسب ويحتسبون هذا تحكي ً
الوروبيين أنفسهم تنبهوا إلى سر هسسذه الطريقسسة ،وإنمسسا سسسرها مسسن
جهاز التوليد في رأس ذلسك الكساتب العظيسم فسإذا قسرأ كتابسة حولهسا
209
فكرة وأبدع له منها من غير أن يعمل في ذلسسك أو يتكلسسف لسسه إل مسسا
وا
جا حلس ًيتكلف من يهز إليه بجذع الشجرة؛ لتساقط عليه ثمسًرا ناضس ً
جنّيا ،فكلما قرأ ولد ذهنه فيثبت ما يأتيه فل تزال صسسورة تخسسرج مسسن
صورة حتى يجيء المعنى في النهاية وإنسسه لغسسرب الغسسرائب ل يكسساد
العقل يهتدي إلى طريقته وسياق الفكر فيه إذ كان لم يأت إل محوًل
عن وجهه مرات ل مرة واحدة.
فجهاز التوليد متى استمر واستحكم في إنسان أصبح له بمقام ملك
الوحي من النبي وهو عندنا دليل من أقوى الدلة على صسسحة النبسسوة
وحسسدوث السسوحي وإمكسسانه؛ إذ ل تتصسسرف بسسه إل قسسوة غيبيسسة ل عمسسل
للنسان فيها ،بل هي تبدع إبداعها وتلقى عليه إلقاء .وليس كل مسسن
تعرض لها أدرك منها ،ول كل من أدرك منها بلغ بها ،بل ل بد لها من
الجهاز العصبي المحكم كجهسساز اللسسسلكي السسدقيق المصسسنوع لتلقسسي
أبعسسد المسسواج الكهربائيسسة وأقواهسسا .وهسسذه القسسوة إن أرادت معسساني
الجمسسال أخرجسست الشسساعر وإن أرادت كشسسف السسسر عسسن الشسسياء
أخرجت الديب وإن أرادت حقائق الوجود أخرجت الحكيم .فإن كان
المر أكبر من هذا كله وكان أمر تغيير الحيسساة وصسسب أزمسسان جديسسدة
للنسانية والوثوب بهذه الدنيا درجة أو درجات في الرقي فهنا تكون
الوسيلة أكبر من البصيرة ،فليسسس لهسسا مسسن قسسوة الغيسسب إل السسوحي،
ويكون الغرض أكبر من الشاعر والديب والحكيم ،فل يختار إل النبي
ثم ل يوحى إليه إل وهو في حس لساعة الوحي وحدها ،وهي سسساعة
ليست من الزمن بسل مسن السروح المنصسرف عسن الزمسن ومسا فيسه؛
ليتلقى عن روح الخلد؛ وقريب مسسن ذلسسك خلسسوة النابغسسة بنفسسسه فسسي
ساعة التوليد؛ فسر النبوغ من سر السسوحي ،ل ريسسب فسسي ذلسسك ،ومسسا
أسهل سر الوحي وأيسر أمره ،ولكن في النبياء وحسسدهم ،وهنسسا كسسل
الصعوبة" ...أن نكون أو ل نكون؛ هذه هي المسألة".
210
نقد الشعر وفلسفته 1
الشاعر في رأينا هو ذاك الذي يرى الطبيعة كلها بعينين لهما عشسسق
خاص وفيهما غزل على حدة ،وقد خلقتا مهيسسأتين بمجموعسسة النفسسس
العصبية لرؤية السحر الذي ل يرى إل بهما ،بل الذي ل وجود له فسسي
الطبيعة الحية لول عينا الشاعر ،كما ل وجود لسسه فسسي الجمسسال الحسسي
لول عينا العاشق.
فإذا كان الشاعر العظيم أعمى كهوميروس وملتون وبشار والمعري
وأضرابهم ،انبعث البصر الشعري من وراء كسسل حاسسسة فيسسه ،وأبصسسر
مسن خسواطره المنبثسسة فسي كسسل معنسى ،فسسأدى بسالنفس فسي الوجسود
المظلم أكثر ما كان يؤديه بهذه النفس في الوجود المضيء ،وقصسسر
ن أخسسرى ،فيجتمسسع ن وأربسسى عليهسسم فسسي معسسا ٍ
عن المبصرين في معا ٍ
الشعر من هؤلء وأولئك مد النفس الملهمة مما بين أطسسراف النسسور
إلى أغوار الظلمة.
والشعر في أسرار الشياء ل في الشياء ذاتها ،ولهسسذا تمتسساز قريحسسة
الشاعر بقدرتها على خلق اللسسوان النفسسسية السستي تصسسبغ كسسل شسسيء
وتلونه لظهار حقائقه ودقائقه حتى يجري مجراه في النفس ويجسسوز
مجازه فيها؛ فكل شيء تعاوره الناس من أشياء هذه الدنيا فهو إنمسسا
يعطيهم مادته في هيئته الصامتة ،حتى إذا انتهى الشاعر أعطاه هذه
المادة في صورتها المتكلمة ،فأبانت عن نفسها في شسسعره الجميسسل
بخصائص ودقائق لم يكن يراها الناس كأنها ليست فيها.
فبالشعر تتكلم الطبيعة في النفس وتتكلسسم النفسسس للحقيقسسة وتسسأتي
الحقيقة في أظرف أشكالها وأجمل معارضها ،أي فسسي البيسسان السسذي
تصنعه هذه النفسس الملهمسة حيسن تتلقسى النسور مسن كسل مسا حولهسا
وتعكسه في صناعة نورانية متموجة باللوان في المعاني والكلمسسات
والنغام.
والنسان من الناس يعيش في عمر واحد ،ولكن الشاعر يبسسدو كسسأنه
في أعمار كثيرة من عواطفه ،وكأنما ينطسسوي علسسى نفسسوس مختلفسسة
تجمع النسانية من أطرافها ،وبسسذلك خلسسق ليفيسسض مسسن هسسذه الحيسساة
على الدنيا ،كأنما هو نبع إنساني للحساس يغترف الناس منه ليزيسسد
كل إنسان معاني وجوده المحسسدود مسا دام هسسذا الوجسسود ل يزيسسد فسسي
مدته ،ثسسم ليرهسسف النسسسان بسسذلك أعصسسابه فتسسدرك شسسيًئا ممسسا فسسوق
المحسوس ،وتكننه طرًفا من أطراف الحقيقسسة الخالسسدة السستي تتسسسع
بسالنفس وتخرجهسا مسن حسود الضسسرورات الضسسيقة الستي تعيسسش فيهسا
211
لتصلها بلذات المعاني الحرة الجميلة الكاملة؛ وكأن الشعر لم يجسسئ
فسسي أوزان إل ليحمسسل فيهسسا نفسسس قسسارئه إلسسى تلسسك اللسسذات علسسى
اهتزازات النغم؛ وما يطرب الشعر إل إذا أحسسته كأنما أخذ النفس
لحظة وردها.
والشاعر الحقيق بهسسذا السسسم -أي السسذي يغسسل بعلسسى الشسسعر ويفتتسسح
معانيه ويهتدي إلى أسراره ويأخذ بغاية الصنعة فيه -تراه يضع نفسه
في مكان ما يعانيه من الشياء وما يتعسساطى وصسسفه منهسسا ،ثسسم يفكسسر
بعقله على أن عقل هذا الشيء مضاًفا إليه النسانية العاليسسة ،وبهسسذا
تنطوي نفسه علسسى الوجسسود فتخسسرج الشسسياء فسسي خلقسسة جميلسسة مسسن
معانيها وتصبح هذه النفس خليقة أخرى لكل معنى داخلهسسا أو اتصسسل
بها؛ ومن ثم فل ريب أن نفس الشاعر العظيم تكاد تكون حاسة من
حواس الكون.
ولو سئلت أزمان الدنيا كيف فهم أهلها معاني الحياة السامية وكيف
رأوها في آثار اللوهية عليها ،لقدم كل جيل في الجسسواب علسسى ذلسسك
معاني الدين ومعاني الشعر.
وليست الفكرة شعًرا إذا جاءت كما هي في العلم والمعرفسسة ،فهسسي
في ذلك علم وفلسفة ،وإنما الشسسعر فسسي تصسسوير خصسسائص الجمسسال
الكامنة في هذه الفكسسرة علسسى دقسسة ولطافسسة كمسسا تتحسسول فسي ذهسن
الشاعر الذي يلونها بعمل نفسه فيها ويتناولها من ناحية أسرارها.
فالفكسسار ممسسا تعسسانيه الذهسسان كلهسسا ويتواطسسأ فيسسه قلسسب كسسل إنسسسان
ولسانه ،بيد أن فن الشاعر هو فن خصائصها الجميلة المؤثرة ،وكأن
الخيال الشعري نحلسسة مسسن النحسسل تلسسم بالشسسياء لتبسسدع فيهسسا المسسادة
الحلوة للسسذوق والشسسعور ،والشسسياء باقيسسة بعسسد كمسسا هسسي لسسم يغيرهسسا
الخيسسال ،وجسساء منهسسا بمسسا ل تحسسسبه منهسسا؛ وهسسذه القسسوة وحسسدها هسسي
الشاعرية.
فالشاعر العظيم ل يرسسسل الفكسسرة ليجسساد العلسسم فسسي نفسسس قارئهسسا
حسسسب ،وإنمسسا هسسو يصسسنعها ويحسسذر الكلم فيهسسا بعضسسه علسسى بعسسض،
ويتصرف بها ذلك التصرف ليوجد بهسسا العلسسم والسسذوق معًسسا؛ وعبقريسسة
الدب ل تكسسون فسسي تقريسسر الفكسسار تقري سًرا علمي ّسسا بحت ًسسا ،ولكسسن فسسي
إرسالها على وجسه مسن التسسديد ل يكسون بينسه وبيسن أن يقرهسا فسي
مكانها من النفس النسانية حائل .وكسسثيًرا مسسا تكسسون الفكسسار الدبيسسة
العالية التي يلهمها أفذاذ الشسسعر والكتسساب هسسي أفكسسار عقسسل التاريسسخ
النساني ،فل تنفصل عنهم الفكرة في أسلوبها البياني الجميل حسستى
تتخذ وضعها التاريخي في السدنيا ،وتقسوم علسى أساسسها فسي أعمسال
212
الناس ،فتتحقق في الوجود ويعمل بها؛ وهذا طسسرف ممسسا بيسسن الدب
العالي وبين الديان من المشابهة.
ومتى نزلت الحقائق في الشعر وجب أن تكون موزونة فسسي شسسكلها
كسوزنه ،فل تسأتي علسى سسردها ول تؤخسذ هوًنسا كسالكلم بل عمسل ول
قا من البيان يكسسون صناعة ،فإنها إن لم يجعل لها الشاعر جماًل ونس ً
حا موسيقية بحيث يجيء الشعر بهسسا لها شبيًها بالوزن ،ويضع فيها رو ً
وله وزنان في شكله وروحه -فتلك حقائق مكسورة تلوح في الذوق
كالنظم الذي دخلته العلل فجاء مختًل قد زاغ أو فسد.
والخيال هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة ،وتخيسسل الشسساعر إنمسسا
هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به ،فهو بهذا يرفسسع الطبيعسسة
درجة إنسانية ،ويرفع النسانية درجسسة سسسماوية؛ وكسسل بسسدائع العلمسساء
والمخترعين هي منه بهذا المعنى ،فهسسو فسسي أصسسله ذكسساء العلسسم ،ثسسم
يسسسمو فيكسسون هسسو بصسسيرة الفلسسسفة ،ثسسم يزيسسد سسسموه فيكسسون روح
الشعر؛ وإذا قلبت هذا النسسسق فانحسدرت بسه نسازًل كمسا صسعدت بسه،
حصل معك أن الخيال روح الشعر ،ثسسم ينحسسط شسسيًئا فيكسسون بصسسيرة
طا فيكون ذكاء العلم ،فالشاعر كما ترى هو الفلسفة ،ثم يزيد انحطا ً
الول إن ارتقت الدنيا ،وهو الول إن انحطت الدنيا؛ وكأنمسسا إنسسسانية
النسان تبدأ منه.
إذا قررنسسا للشسسعر هسسذا المعنسسى وعرفنسسا أنسسه فسسن النفسسس الكسسبيرة
الحساسة الملهمة حين تتناول الوجود من فسسوق وجسسوده فسسي لطسسف
روحاني ظاهر في المعنى واللغة والداء -وجب أن نعتبر نقد الشسسعر
باعتبار مما قررناه ،وأن نقيمه على هذه الصول؛ فإن النقسسد الدبسسي
في أيامنا هذه -وخاصة نقد الشعر -أصبح أكثره ما ل قيمة له ،وساء
التصرف به ،ووقع الخلط فيه ،وتناوله أكثر أهله بعلم نسساقص ،وطبسسع
حا ،ول ضعيف ،وذوق فاسد ،وطمع فيسسه مسسن ل يحصسسل مسسذهًبا صسسحي ً
يتجه لرأي جيد ،حتى جاء كلمهم وإن في اللغو والتخليط ما هو خير
منه وأخسسف محمًل ،فإنسسك مسسن هسسذين فسسي حقيقسسة مكشسسوفة تعرفهسسا
وا ،ولكنك من نقد أولئك فسسي أدب مسسزور ودعسسوى فارغسسة تخلي ً
طا ولغ ً
وزوائد من الفضول والتعسف يتزيسسدون بهسسا للنفسسخ والصسسولة وإيهسسام
دا إل هسسو تحسست قسسدرته ...علسسى أن جهسسد الناس أن الكاتب ل يرى أح ً
عمله إذا فتشته واعتبرت عليه ما يخلط فيه ،أنسسه يكتسسب حيسسث يريسسد
غا من الورق حيث يقتضسسيه البحسسث أن يمل النقد أن يحقق ،ويمل فرا ً
غا من المعرفة. فرا ً
213
وقد قلنا في كتابنا "تحت رايسسة القسسرآن" :إن أسسستاذ الداب يجسسب أن
يجمع إلى الحاطة بتاريخها وتقصي موادها ذوًقا فنًيا مهذًبا مصسسقوًل،
وليس يمكن أن يأتي له هذا الذوق إل من إيداع في صناعتي الشسسعر
والنثر ،ثسم يجمسع إلسى هسذين" :أي الحاطسة والسذوق" تلسك الموهبسة
الغريبة التي تلف بيسسن العلسسم والفكسسر والمخيلسسة فتبسسدع مسسن المسسؤرخ
صا من هؤلء جميًعا هو السسذي نسسسميه الفيلسوف الشاعر العالم شخ ً
الناقد الدبي.
هذه هي صفات الناقد في رأينا؛ فانظر أين تجده بين هؤلء الساتذة
المختصرين ...في أدبهم ،المطولين ...في ألقابهم ،وإنهم ليتعسساطون
النقد وليس لهم وسائله إل ما كان ضعفة وقلة وإدبسساًرا ،وقسسد فسساتهم
ما ل تحمله أقدارهم ول تبلغه قواهم ،وجهلوا أن الناقسسد الدبسسي إنمسسا
سا عالًيا ل يدل فيه على العيوب الفنية إل بإظهار المحاسن يلقي در ً
التي تقابلها في أسمى ما انتهى إليه الفن من آثسسار تسساريخه ،فيكسسون
صا لفنون الدب كلها؛ وهسو بهسذه الطريقسة يجلوهسسا النقد تهذيًبا وتخلي ً
علسسى النسساس ويبسسدع فيهسسا ويزيسسد فسسي مادتهسسا ويسسسهلها علسسى القسسراء
ويحصلها لهم تحصيًل ل يبلغونه بأنفسهم ،ويعطيهم مسسن كسسل ضسسعيف
ما هو قوي ،ومن كل قوي ما هو أقوى.
ورأينسساهم فسسي نقسسد الشسسعر ل يزيسسدون علسسى أن يعلقسسوا علسسى كلم
الشاعر ،فيجيء عملهم في الجملسسة كسسأنه تصسسنيف مسسن هسسذا الشسسعر
وشرح له وتصفح على بعض معانيه؛ وبهسسذا يرجسسع الشسساعر وإنسسه هسسو
دا
المتصسسرف فسسي ناقسسده يسسديره كيسسف شسساء ،ويجيسسء هسسذا الناقسسد زائ ً
متطفًل ،فتسسأتي كتسسابته وإنهسسا لضسسرب مسسن سسسخرية المنقسسود بناقسسده،
ويصبح وضع الكلم على العكس ،فالشاعر المنقود لم يتكلسسم ولكنسسه
أبان قصور الناقد وجهله ،فهو الناقد وإن سسسكت ،وذاك هسسو المنقسسود
وإن تكلم.
وهذا المتعلق على أخبار الشاعر وشعره كتعلق التلخيص على أصله
المطول والشرح على متنه الموجز ،إنمسسا هسسو كسساتب يجسسد مسسن ذلسسك
مسسادة إنشسسائية فيتصسسرف بهسسا ليكتسسب؛ ول يسسراد مسسن النقسسد أن يكسسون
الشاعر وشعره مادة إنشاء ،بل مادة حساب مقدر بحقائق معينسسة ل
بد منها؛ فنقد الشعر هو في الحقيقة علم حساب الشسسعر ،وقواعسسده
الربع التي تقابل الجمسسع والطسسرح والضسسرب والقسسسمة :هسسي الطلع
والذوق والخيال والقريحة الملهمة.
وثم ضرب آخر من تعلق الضعفاء ،يتناول الشساعر باعتبساره رجًل لسه
موضعه من الناس ومنزلة من الحياة ،ثم ل يعدو ذلسسك* وهسسو تزويسسر
214
خسسا؛ علسسى أن هسسذا ل بسسد
دا ،وتزوير للناقد برده مؤر ً للمؤرخ بجعله ناق ً
منه منه في النقد الصحيح ،ولكنه ل يقوم بنفسه ول تنفذ بسسه بصسسيرة
النقد؛ إذ الشاعر لم يكن شسساعًرا بسسأنه رجسسل مسسن النسساس وحسسي فسسي
الحياء وعمر من الحوادث المؤرخسسة ،ولكسسن بموضسسوعه مسسن أسسسرار
الحياة وصلة نفسها بها وقدرة هذه النفس على أن تنفذ إلى حقسسائق
الطبيعة في كائناتها عامة ،وفي إنسانها خاصة ،ثم بقدرة مثسسل هسسذه
في النفاذ إلى أسرار اللغة الشعرية التي هي الوجود المعنسسوي لكسسل
ذلك ،والتصرف بها على طبقات معانيه حتى ل تقصر عن الغايسسة ول
تقسسع دون القصسسد ،فسسإن الشسسعر إن هسسو إل ظهسسور عظمسسة النفسسس
الشاعرة بمظهرها اللغوي ،ولئن كان فسسي نقسسد الشسسعر تاريسسخ ل يتسسم
النقد إل به ،فهو تاريخ الشعر في نفس قائله ،ثم تاريخ هذه النفسسس
في معاني الشعر مسسن عصسسرها ،ثسسم أدب هسسذا الشسساعر مسسن الوجسسود
الدبي للغة التي نظم بهسسا؛ وذلسسك ل بسسد أن يقسسع فيسسه تاريسسخ الشسساعر
قا فيه بالستقصسساء، نفسه محصًل من نواحيه في جهات الحياة ،متعم ً
متغلغًل إليه بالنقد...
---------------
* لم نذكر في هسسذه المقالسسة أمثلسسة ولسسم نعيسسن أسسسماء حسستى ل يمتسسد
الكلم فتخرج المقالة إلى أن تكون كتابسسا ،ولكنسسك إذا قسسرأت الشسسعر
وما يكتب في نقسسده ،والمحاضسسرات السستي تلقسسى عسسن الشسسعراء فقسسد
وجدت المثلة والسماء.
وإن لنا رأًيا بسطناه مراًرا ،وهو أنه ل ينبغي أن يعرض لنقد الشسساعر
والكلم عنه إل شاعر كبير يكون ذا طبيعة في النقد ،أو كاتب عظيم
يكون ذا طبيعة في الشسسعر؛ أي ل بسسد مسسن الدب والشسسعر معًسسا لنقسسد
الشعر وحده فيأتي الكلم فيه من العلم والذوق والحساس واللهام
جميًعا ،فيتبين الناقد وجوه النقص الفني ،ويعرف بمسسا نقصسست ومسساذا
كان ينبغي لها وما وجه تمامها ،ثسسم يعسسرف مسسن الكمسسال الفنسسي مثسسل
ذلك ،ويحس على الحالتين بالمعاني التي أحسها الشاعر حين انسستزع
شعره منها ،وما كان يتخالجه وقتئذ من الفكر ويتمثل له من الصسسور
المعنويسسة السستي ألهمتسسه إلهامهسسا؛ فسسإن المعسساني المكتوبسسة هسسي شسسعر
الشاعر ،ولكن تلك المعسساني المحسوسسسة هسسي شسسعر الشسسعر ،وإنمسسا
يوقف عليها بالتوهم والسترسال إلى ما وراء الطبيعسسة مسسن بسسواعثه،
وما تموجت به روح الشاعر عند عمله ،ومسسا عرضسست لهسسا بسسه طبسسائع
215
المعاني؛ وهذا كله ل يحسه الناقد إن لم يكسسن شسساعًرا فسسي قسسوة مسسا
ينقده أو أقوى منه طبيعة شعر.
والنقد إنما هو إعطاء الكلم لساًنا يتكلسسم بسسه عسسن نفسسسه كلم منهسسم
في محكمة؛ ليقيم أو يزيح شبهة أو يقسسر حقيقسسة أو يبسسسط معنسسى أو
يوجه علة أو يكشف خافًيا أو يثبت نقيصة أو يظهر إحساًنا؛ وبالجملة
فهسسو نقسسص السسسيئة والحسسسنة ،ووقسسوع أدلسسة العلسسم والفسسن والسسذوق
مواقعهسسا ،وتكلسسم الكلم بسسذات نفسسسه مسسا تنكسسر منسسه ومسسا تسسستجيد؛
والشاعر .والناقد يلتقيان جميًعا في القارئ فوجب من ثم أن يكسسون
الناقد قوة تكشف قوة مثلها أو دونها؛ ليصحح فن فّنا مثلسسه أو يقسسره
أو يزيد عليه فضل بيان ومزية فكسسر؛ وبهسسذا يصسسبح القسسارئ كالسسسائح
الذي معه الدليل وأمامه المنظسسر ،أي معسسه التاريسسخ النسساطق وبسسإزائه
التاريخ الصامت .وإذا كان الشاعر وشعره إنما هما النفس الممتازة
مسسا إل
وحوادثها ومعاني الحياة فيها ،فليسسس يتجسسه أن يكسسون الناقسسد تا ً
بنفس من نوعها في دقة الحس ولطف النظسسر والستشسسفاف وقسسوة
التأثر بمعاني الحياة وسمو اللهسسام والعبقريسسة ،وبسسذلك يجيسسء النقسسد
صا منخوًل كأنه شرح نفس لنفس مثلها. الصحيح بياًنا خال ً
وليس النف هو الذي ينقسسد السسوردة العطسسرة الفياحسسة ،وإنمسسا تنقسسدها
الحاسة التي في النف ،وناقد الشعر إن لم يكسسن شسساعًرا فهسسو أنسسف
صحيح التركيب ،ولكن بالجلد والعظسسم دون تلسسك الحاسسسة السستي هسسي
روح العصسسب المنبسسث فسسي هسسذا السستركيب والمتصسسل بمسسا وراءه مسسن
أعصاب السسدماغ ،فهسسذا النسسف ...يسسستطيع أن يتنسساول السسوردة ،ولكسسن
دا أو خشسًبا أيهسا يحس غليظ محقته الفة كمسا يتنساول حجسًرا أو حديس ً
كان ،فالوردة عنده شيء من الشياء يمتاز باللين ويختسسص بالنعومسسة
ويسطع بالرونق ويزهو باللون ،ويذهب يتكلم في هذا كله ،وهذا كله
في الوردة ،ولكنه ليس الوردة.
ومتى كسسان البحسسث هسسو البحسسث فسسي السسسماء وأفلكهسسا وأجرامهسسا فل
يستقل به إل الناظر المركب أي الذي معه عينسسه وتلسسسكوبه وعلمسسه
جميًعا ،إن نقص من ذلك فبقدر نقصانه يكون ضعفه ،وإن تم فبقسسدر
تمامه يكون وفاؤه؛ ولو أمكن أن ينفصل الشاعر من شعره فيقطسسع
دا
ما بينه وبين المعاني من نسبه نفسه ،ويبتعد عن الشعر ليراه جدي ً
عليه ويميسسزه مسسن كسسل جهسساته -لكسسان هسسو الناقسسد؛ فناقسسد الشسسعر هسسو
الشاعر نفسه ،ولكن في وضع أتم وأوفسسى ،وحالسسة أبيسسن وأبصسسر ،أي
ما بغير ضعف ول نقص. حا تا ً
كأنه الشاعر نفسه منق ً
216
ومن أجل ذلك ترى من آية النقد البديع المحكم إذا قرأتسسه مسسا يخيسسل
ضا ويحصسسل لسسك أمسسره ويسسبين إليك أن الشعر يعرض نفسه عليك عر ً
حالته في ذهن شاعره.
وكيف توافى وائتلف ،وكيف انتزعه الشاعر من الحياة ،وما وقع فيه
من قدر اللهام ،وما أصابه مسسن تسسأثير النسسسان ومسسا اتفسسق مسسن خسسظ
الطبيعة والشياء ،وبالجملة يورد النقد عليك ما ترى معه كأن حركسسة
الدم والعصاب قد عادت مرة أخرى إلى الشعر.
أل وإن شعرنا العربي الجميل قد أصبح اليوم في أشد الحاجسسة إلسسى
من يعلم القارئ كيف يذوقه ويتسبينه ويخلسص إلسى سسر التسأثير فيسه،
جا سرّيا في أنغامه وألحانه ويأتي به من نفس شسساعره ويخرجه مخر ً
ومن نفسه جميًعا؛ فقوة التمييز في هذا كلسسه علسسى تسسسديد وصسسواب
هي التي يعطيها الناقد لقرائه؛ والشعر فكر وقراءته فكر آخسسر ،فسسإن
قصر هذا عن أن يبلغ ذاك ليتصل به ويتغلغسسل فيسسه فلبسسد للمفكريسسن
من صلة فكرية هي كتابة الناقد الذي هو مسسن ناحيسسة كمسسال للطبيعسسة
الناقصة ،ومن ناحية أخرى شرح للطبيعة الكاملة ،ومسن ناحيسة ثالثسة
هو بذوقه وفنه قانون النتظام الدقيق الذي يبين به ما اسسستقام فسسي
ج.
الكلم وما اعو ّ
وطريقتنا نحن في نقد الشعر تقوم على ركنين :البحسسث فسسي موهبسسة
الشسساعر ،وهسسذا يتنسساول نفسسسه وإلهسسامه وحسسوادثه؛ والبحسسث فسسي فنسسه
البياني ،وهو يتناول ألفاظه وسبكه وطريقته ،وسنقول فيهما مًعا:
فأما الكلم في فن الشعر ،فالمراد بالشعر -أي نظم الكلم -هو في
رأينا التسسأثير فسسي النفسسس ل غيسسر ،والفسسن كلسسه إنمسسا هسسو هسسذا التسسأثير،
والحتيال على رجة النفس له واهتزازها بألفاظ الشعر ووزنه وإدارة
معانيه وطريقة تأديتها إلى النفسس ،وتسأليف مسادة الشسعور مسن كسل
ما مستوًيا في نسسسجه ل يقسسع فيسسه تفسساوت ول اختلل، فا متلئ ً
ذلك تألي ً
ول يحمل عليه تعسف ول استكره؛ فيأتي الشعر مسسن دقتسسه وتركيبسسه
الحي ونسقه الطبيعي كأنما يقرع بسسه علسسى القلسسب النسسساني ليفتسسح
لمعانيه إلى الروح؛ والشعر العربي إذا تمت له في صسسناعته وسسسائل
التأثير وأحكم من كل جهاته ،كان أسمى شعر إنساني فسستراه يطسسرد
بألفاظه الجميلسسة السسسائغة وكسسأنه ل يحمسسل فيهسسا معسساني ،بسسل يحمسسل
حركات عصبية ليس بينها وبين أن تنساب في الدم حائل ،فما يكون
إل أن يغمرك بالطرب ويهزك من أعماق النفسسس ويسسورد عليسسك فسسي
نفحة الروح ما إن تدبرته في نفسك وأفصسسحت عنسسه شسسعورك رأيتسسه
في حقيقته وجهًسسا مسن نسسسيان الحيسساة الرضسسية والنتقسسال إلسسى حيسساة
217
أخرى من السرور والهتياج واللم والشجو يحياها الدم التأثر وحسسده
غير مشارك فيها إل من القلب.
والذين يجهلون ذلك من أمر الشعر العربي في مزاجسسه الخسساص -فل
يعتبرونه حًيا ذا طبسساع وخصسسائص لبسسد مسسن مراعاتهسسا والنسسزول علسسى
حكمها والتلقي بما يوافقها كما ل بد من أشسسباه ذلسسك لمسسرأة جميلسسة
-تراهم يخلون بقوانين صناعته البيانية وينزلون ألفسساظه دون منازلهسسا
ويرسلون معانيه على غير طريقتها الشعرية ويبتلونه بفضول كسسثيرة
هي كالفات والمراض ،فيأتون بنظم تقرؤه إذا قرأتسسه وأنسست تتلسسوى
كأنما يقرع على قلبك بقبضة يد عليه بحجر ...وقسسد فشسسا هسسذا النسسوع
من الشعر في هذه اليام وأصبح لما فسد من ذوق الدب وما التاث
من أمر اللغة وما اعوج من طرق الفلسفة وما عمت به البلوى مسسن
التقليد الوروبي ،وكثيًرا ما رأيت القصسسيدة مسسن هسسذا الشسسعر كسسامرأة
سلخ وجهها ووضعت لها جلسسدة وجسسه ميسست ...والنسساظم مسسن هسسؤلء ل
يصرف الشعر علسسى حسسدوده النفسسسية ول يحكمسسه فيهسسا ،بسسل تصسسرفه
اللفاظ كيف اتفقت له علسسى وجوههسسا الملتويسسة ،وتسوسسسه المعسساني
سياسة عمياء فقسسدت باصسسرتيها معًسسا ،ويحسسسبون كلمهسسم مسسن النسسور
العقلي ،ولكنه النور في قطعه ثمانين ألف ميل في الثانية ،فل يكسساد
يقال في هذا العالم ،حتى يخرج منه وينسى ويلحق باللنهاية...
وهذا الضرب من الصناعة الفاسدة هسسو بعينسسه ذلسسك النسسوع الصسسناعي
دا
الذي أفسد الشعر منذ القرن الخامس ،غير أن القسسديم كسسان فسسسا ً
في اللفاظ يجعلها كلها أو أكثرها محاًل من الصسسنعة ،والحسسديث جسساء
دا في المعاني يجعلها كلها أو أكثرها محاًل من البيان. فسا ً
ويزعم أصحاب هذا الشعر أنهم فلسفة ،ولكنهم كسسذلك فسسي سسسرقة
الفلسفة ل غير ...ولو علموا لعلموا أن ألفاظ الشعر هي ألفاظ من
الكلم يضع الشعر فيها الكلم والموسسسيقى معًسسا ،فتخسسرج بسسذلك مسسن
طبيعة اللغة القائمة على تأدية المعنسسى بالدللسسة وحسسدها إلسسى طبيعسسة
لغة خاصة أرقى منها تؤدي المعنسسى بالدللسسة والنغسسم والسسذوق ،فكسسل
كلمة في الشعر تجتلب لمعناها من تركيبه ،ثم لموضعها من نسسسقه،
ثم لجرسها فسسي ألحسسانه؛ وذلسسك كلسسه هسسو السسذي يجعسسل للكلمسسة لونهسسا
المعنوي في جملة التصوير بالشعر؛ وما يمر الشاعر العظيم بلفظسسة
من اللغة إل وهي كأنها تكلمه تقول :دعني أو خذني.
وكما أنه ل بد للزهار من جو الشعة ،كذلك لبسسد للمعسساني الشسسعرية
من جو اللغة البيانية ،فالبيان إنما هسسو أشسسعة معسساني القصسسيدة؛ وقسسد
يحسبون أن الصناعة البيانية صناعة متكلفة ل شسسأن لهسسا فسسي جمسسال
218
الشعر ودقة التعبير ،وما ننكر أن من البيان الجميل أشسسياء متكلفسسة،
ولكنها تنزل مسسن أسسساليب البلغسسة العالميسسة منزلسسة كمنزلسسة الظسسرف
والدل والخلعة في الحبيبة الجميلة.
إن هذه الفنسسون ليسسست مسسن جمسسال الخلقسسة والسستركيب فسسي المسسرأة،
ولكنها متى ظهرت فسسي الجمسسال الفسساتن أصسسبح بسسدونها -وهسسو جميسسل
ما -كأنه غير جميل أحياًنا. دائ ً
هنا صناعة هسسي روح الحسسسن فسسي الحيسساة ،وصسسناعة مثلهسسا هسسي روح
الحسن
أحياًنا في البلغة* ،وما التراكيب البيانية فسسي مواضسسعها مسسن الشسسعر
الحي إل كالملمح والتقاسيم في مواضعها من الجمال الحي؛ وكثيًرا
ما يخيل إلي حين أتأمل بلغة اللفظ الرشيق إلى جانب لفظ جميسسل
في شعر محكم السبك ،أن هذه الكلمة من هذه الكلمة كحب رجسسل
متألق يتقرب من حب امرأة جميلة ،وعطسسف أمومسسة علسسى طفولسسة،
وحنين عاطفة لعاطفة ،إلى أشباه ونظائر مسسن هسسذا النسسسق الرقيسسق
الحسسساس؛ فسسإذا قسسرأت فسسي شسسعر أصسسحابنا أولئك رأيسست مسسن لفسسظ
كالشسسرطي أخسسذ بتلبيسسب لفسسظ كسسالمجرم ...إلسسى كلمسستين همسسا معًسسا
كالضارب والمضروب ...إلى همج ورعاع وهرج ومسسرج وهيسسج وفتنسسة؛
ما ...ليسسس أمسسامه ظا ملك ًأما القافية فكثيًرا ما تكون في شعرهم لف ً
إل رأس القارئ.
وكما يهملسسون اختيسسار اللفسسظ والقافيسسة يتسسسهلون فسسي اختيسسار السسوزن
الملئم لموسيقية الموضوع فإن من الوزان مسسا يسسستمر فسسي غسسرض
من المعاني ول يستمر في غيره؛ كما أن من القوافي ما يطرد فسسي
موضوع ول يطرد في سواه ،وإنما الوزن مسسن الكلم كزيسسادة اللحسسن
على الصوت :يراد منه إضافة صناعة من طرب النفس إلسسى صسسناعة
الفكر ،فالذين يهملون كل ذلك ل يدركون شيًئا مسسن فلسسسفة الشسسعر
ول يعلمسسون أنهسسم إنمسسا يفسسسدون أقسسوى الطبيعسستين فسسي صسسناعته؛ إذ
المعنى قد يأتي نثًرا فل ينقصه ذلك عن الشعر من حيث هو معنسسى،
ما وتفصيًل وقوة بمسسا يتهيسسأ فيسسه مسسن البسسسط بل ربما زاده النثر إحكا ً
والشسسرح والتسلسسسل ،ولكنسسه فسسي الشسسعر يسسأتي غنسساء ،وهسسذا مسسا ل
يستطيعه النثر بحال من الحوال.
فإذا لم يستطع الشاعر أن يأتي في نظمه بسسالروي المونسسق والنسسسج
المتلئم والحبك المستوي والمعاني الجيدة التي تخلص إلى النفسسس
خلوص طبيعسسة إلسسى طبيعسسة تمازجهسسا ،ورأيتسسه يسسأتي بالشسسعر الجسسافي
الغليسسظ واللفسساظ المسسستوخمة السسرديئة والقافيسسة القلقسسة النسسافرة
219
والمجازات المتفاوتة المضسسطربة والسسستعارات البعيسسدة الممسسسوخة
-فاعلم أنه رجل قسسد باعسسده اللسسه مسسن الشسسعر وابتله مسسع ذلسسك بزيسسغ
الطبيعة وسرف التقليد ،فما يجيء الشعر على لسسسانه فسسي بيسست إل
بعد أن يجيء اللغو على لسانه في مائة بيت أو أكثر أو أقل.
ذلك قولنا في فن الشسساعر ،أمسسا الكلم فسسي مسسوهبته السستي بهسسا صسسار
شاعًرا وعلى مقدارها يكون مقداره واتصال أسبابه أو انقطاعها من
الشعر ،فذلك باب ل يمكن بسط المعنى فيه ول تحصسسيل دقسسائقه إل
إذا صورت روح الشاعر الدقيق المعجز ووزنت فسسي ميزانهسسا اللهسسي
وعرف نقصها إن نقصت وتمامها إن تمت ،وأمكن تتبع مواقعهسسا مسسن
أسرار الشياء ومساقطها من منازل اللهام ،وهذا مسسا ل سسسبيل إليسسه
ضسسا ،وقسسدإل بالتوهم النفسسسي ،فسسإن الرواح القويسسة يلمسسح بعضسسها بع ً
تكون لمحة الروح الشاعرة لروح مثلها هي تدبرها ووزنها وإدراك ما
تنطوي عليه كما ترى من وضع النور بإزاء النور ،فإن هذا الوضع هسسو
نفسه وزن لكليهما في ميزان البصر دون أن يكسسون ثمسسة موازنسسة إل
في التألق والشعاع؛ فهما في هذه الحالسسة نسسوران يضسسيئان ،ولكنهمسسا
ضا كلمتان يبينان عما فيهما من الكثر والقل. أي ً
لهذا قلنا :إن الشاعر ل يستع لنقسسده و ليحيسسط بسسه إل مسن كسسانت لسسه
روح شعرية تكافئه في وزنها أو تربى على مقداره؛ فإن هناك قسسوى
قا هو روح الشسسعر وروح روحية لدراك الجمال وخلقه في الشياء خل ً
فنه ،وقوى أخرى لصلة العواطف بالفكر صلة هي سر الشسسعر وسسسر
فنه ،وقوى غير هذه وتلك لتحويل ما يخالج النفس الشسساعرة تحويسسل
المبالغة التي هي قوة الشعر وقوة فنه؛ وبمجموع هذه القسسوى كلهسسا
تمتاز روح الشاعر من غير الشاعر :أما ما تمتاز به هسسذه السسروح مسسن
روح شاعرة مثلها فهو ما يكون من تفاوت المقادير التي يهبهسسا اللسسه
وحده ،فيخص شاعًرا بالزيسسادة وآخسسر بسسالنقص ،ويهسسب أسسسبابها السستي
تكون عنها فيوسع لواحد ويضيق على الخر؛ وإذا تمسست تلسسك القسسوى
واستحكمت تهيأ منها للشاعر جهاز عصبي خالص هو جهاز التوليسسد ل
يمر به معنى إل تجسد فيه بصورة غير صورته.
وقد استوفينا الكلم على ذلك في مقالنسسا "سسسر النبسسوغ فسسي الدب".
وهو ل غير سر العبقرية.
فأمثل الطرق في نقد موهبة الشاعر إدراكها بالروح الشعرية القوية
من ناحية إحساسها والنفاذ إلى بصيرتها ،واكتناه مقادير اللهام فيها،
وتأمل آثارها في الفرح والحزن بأشجى وأرق ما تهتسساج فسسي النفسسس
الحساسة ،ومعرفة قوة التحويسسل فسسي عواطفهسسا للمعسساني النسسسانية
220
والطبيعة تحويًل يجعل القسسوة أقسسوى ممسسا تبلسسغ ،والحقيقسسة أكسسبر ممسسا
تظهر ،وتأتي بكل شيء ومعه شيء؛ وليس ينتهي الناقد إلى ذلك إل
بالبحث في الغراض أي "المواضيع" السستي نظسسم فيهسسا الشسساعر ومسسا
يصله بها من أمور عيشه وأحوال زمنه وكيف تناولها من ناحيته ومن
ناحيتها وماذا أبدع ،ثم في أي المنازل يقع شعره من شعر غيره في
تاريخ لغته وآدابه ،ثم نظرته الفلسفية إلى الحياة ومسائلها واتساعه
لفراحها وآلمهسسا وقسسوة أمسسواجه الروحيسسة فسسي هسسذا البحسسر النسسساني
الرجاف المتضرب الذي يبلغ فسسي نفسسوس بعسسض الشسسعراء أن يكسسون
كالقيانوس وفي بعضها أن يكون كالمستنقع ...ثسسم دقسسة فهمسسه عسسن
وحسسي الطبيعسسة والشسسراف علسسى جليسسة معناهسسا بالهمسسسة واللمسسسة،
وتسقط إلهام الغيب منها باليماءة واللحظة؛ وهذا كلسسه ل يستوسسسق
للناقد العظيم إل إذا كان مع روحه الشعرية التي اختص بهسسا محيط ًسسا
مسسا لسسسباب الموازنسسةبآثار الشعراء في لغته ،بصسسيًرا بمآخسسذها؛ محك ً
بينها ،متصرًفا مع ذلك بأداة قوية مسن صسناعة اللغسة والبيسان وفنسون
الدب.
وإذا كان من نقد الشعر علم فهو علم تشريح الفكار ،وإذا كان منسسه
فن فهو فن درس العاطفة ،وإذا كان منه صناعة فهي صناعة إظهار
الجمال البياني في اللغة...
221
فيلسوف وفلسفة 1
أتأمل الن هذا القلم في يدي -وأنا أفكر فيما سأكتبه للزهراء -فأرى
عا حمسًرا فسسي لسسون المرجسسان ،تنسسسرح قليًل ،ثسسم نصسساب القلسسم أضسسل ً
تستدير ،ثم تستدق ،ثم تخرج منها قادمة سوداء كأنهسسا قصسسبة ريشسسة
من جناح ،وقد خيل إلي أن هذا اللون الحمر المزهو يقول للسسسود:
إنما أنت غلطة الذي صنعني ،فكيف ألهم في اللهام فوسسسمني بهسسذا
الميسم من حسن ولون وتركيب ،ثم اعترضته الغفلة فيسسك فأخطسسأ،
وأدركه العجز فلم يميز ،ودخل على رأيه الوهن فإذا هسسو يصسسلك بسسي
كالسيئة بعد الحسنة ،وينزلك مني منزلة القبسسح مسسن الجمسسال! فسسأين
كانت صحة رأيه التي بلغ بها في أحسن ما وفق إليه حيسسن بلسسغ فيسسك
أسوأ ما يمكن أن يصنع؟ فيقول السود؛ إنما فيك أنت غلطة الصانع
وبك أخطأ جهة الفن ،فلم يزن منك ما كان وزن منسسي ،ول قسسدر لسسك
ظا غيسسر مقسسدود ،وكنسست إلسسى العسسرض ولسسم مثل ما قد لي ،وجئت غلي ً
تكن إلى الطول ،وكنت أحمر ولسسم تكسسن أسسسود؛ ومسسا أراك إل فاسسسد
الحس ،متغير الذوق ،وما أراك صنعك هذا الرجل إل في سسساعة هسسم
قاربت بين نفسه ورأيه ،فما زجت بيسسن رأيسسه وعملسسه ،فجمعسست بيسسن
عمله وغلطه.
ذلك منطق اللونين فيما أدركت منهما ،وكلهما مخطئ في جهة مسسا
هو مسسستدل بسسه أو متنظسسر فيسسه؛ والحقيقسسة مسسن ورائهمسسا ،إذ الحكمسسة
ليسست فسي أحسدهما لحمسزة أو سسواد ،بسل هسي فسي اثنيهمسا جميًعسا
لئتلفهما جميًعا ،فل تنقسم عليهما قسسسمة مسسا؛ لنهسسا آتيسسة بالمقابلسسة
دا واحد ل نصف لسسه؛ دا إل من اثنين فهو أب ًبين اثنيهما ،وما ل يخرج أب ً
كالطفل من أبويه :لن تعرف شطره من أمه لنك لن تعرف شطره
من أبيه.
دا فيجعلسسه طفليسسن أفي الرض كلها من يستطيع أن يقسم طفًل واح ً
تعتدل بهما الحياة وتمدهما بروحين مسن روح واحسسدة؟ إنسك لسن تجسد
هذا الخالق الرضسسي ...إل فسسي طسسائفتين :الولسسى قسسوم مسسن ذاهسسبي
العقول يخلقون كل شيء لنهم ل يخلقون شيًئا؛ والثانية قسسومن مسسن
جبابرة العقول ...تعرف لهم من الخلط وسسسخف السسرأي مسسا يريسسدون
أن يعلوا به على الناس؛ إذ كان الناس ل يجسساوزون الحقسسائق ،فظسسن
هؤلء أنهم إن جاوزوها وعدوا عليها خرجوا إلسسى طبقسسة فسسوق العقسسل
النساني .وللجنون طرفان :أحدهما أل يعقل المجنسسون عسسن النسساس،
والخر أل يعقل الناس عن العاقل :فذلك ذلك وهذا هسسذا؛ وكسسأن فسسي
222
رأس كل منهما مضمرة من قوة الخلق تنطوي على محجوبة إلهيسسة،
فكل منهما يزيد في الخلق ما يشاء ،وكل منهما فسسوق الطبيعسسة لنسسه
من ذوي السرار المجهولة التي ل تستبين عندنا مسسن خفائهسسا ،ثسسم ل
تخفى عندهم من استبانتها.
يضحكني من جبابرة العقسسول هسسؤلء أنهسسم يسسرون السسدين مسسرة عسسادة،
دا؛ وكسسل ذلسسك لهسسم رأي، عا ،وحيًنا خرفة ،وطسسوًرا اسسستبعا ًوتارة اخترا ً
وكل ذلك كانوا يعقدونه بالحجة ويشدونه بالدليل؛ فلمسسا جسساء طسساغور
الشاعر الهندي المتوصف إلى مصر ،وجلسوا إليه وسمعوه ،خرجسسوا
يتكلمون كأنما كانوا في معبد ،وكأنما تنزلت عليهم حقيقتسسه اللهيسسة،
وكأنما اتضعت هذه الدنيا عن المكسسان السسذي جلسسس فيسسه الرجسسل ،فل
يعرفونه من الرض ،ول من هذا العالم؛ بل كانوا في غشية قد فسسروا
لها وسكنوا إليها ،وما أراهم صرفوا عن عقولهم ول صرفت عقولهم
عنهم؛ ولكن طسساغور شسساعر فيلسسسوف ،وهسسم يعرفسسون أنفسسسهم مسسن
لصسوص كتبسه وآرائه ،ويقعسسون منسه موقسسع السفسسطة الفارغسة مسن
البرهان القائم ،وإذا قيسوا إليه كانوا كالذباب تزعسسم أنفسسسها نسسسور
المزابل ،ولكنها ل تكابر في أن من الهزؤ بها قياسها بنسور الجو.
لقد ضربهم طاغور ،ل بأنه لمسهم ،بل بسسأنهم لمسسسوه ...وفضسسحهم
فضيحة اللؤلؤة للزجاج المدعى أنه لؤلؤ ،وأظهر لنا تجملهم العقلسسي
كهذه الصباغ في وجه الشوهاء :تذهب تتصنع ول تدري أنسسه إن كسسان
أدهانها وأصباغها روح النقاش ففي وجهها هي معنى الحائط!
لقد قرأت كل ما كتبوا عن طاغور ألتمسسس فيسسه هسسذه الحقيقسسة لرى
كيف يكون جبابرة العقول حين تنكشف عنهم المعاذير وتنزاح العلل
وتنهتسسك السسستار ،فسسإذا هسسم فسسي كسسل مسسا كتبسسوه ل يحسسسون إل هسسذه
الحقيقة ،ول يصفون إل هذا الحس ،فلم يزهم عندنا إل هذا الوصف؛
مسسا لهسسم،
ل جرم فكل ما أثنوا به على الشسساعر الفيلسسسوف قرأنسساه ذ ً
حا فيهم ،وأخذناه تهمسسة عليهسسم ،وكسسل مسسا أعظمسسوه مسسن وعرفناه قد ً
أمره صغر من أمرهم ،ولقد جعلواه إنسسساًنا كأنمسسا تنتهسسي قمسسة هسسذه
الدنيا عند قدمه ،وتبدأ قدمه مسن قمسة السدنيا ،فمسا عرفنسا مسن ذلسك
سسسا لنحطسساط أنفسسسهم سا لسمو طاغور وارتفسساع نفسسسه ،بسسل قيا ً قيا ً
وهوان أمرهم وقلة خطرهم؛ فإن الرجسسل المقلسسد المخسسدوع ل يسسزال
يطول في تقليده ،ول يزال يتوعر فسسي السسرأي السسذي يسسراه ويعتسسسف
طسسرق العلسسم اعتسسساًفا؛ حسستى يرميسسه اللسسه بأصسسل مسسن هسسذه الصسسول
النسانية التي يقلدها؛ فإذا هو مفحم يتقاصر من طول ،ويتسهل من
وعر ،ويهتدي مسسن تعسسسف ،وينحسسط إلسسى الوهسسدة بعسسد أن كسان علسسى
223
الجبل ،ويسلم في نفسه ،ويذعن برأيه ،وينقاد من حيث يسسأبى ومسسن
حيث ل يأبى ،ويصبح وقد غمرته تلك النفس أشبه بالظل مما يرميسسه
ويفيء به؛ فهو مسخ في تمثيله الصورة ،وهو كذب عليها بما يطسسول
ويقصر ،وهو على كل أحواله إبهام سسسخيف مظلسسم لحقيقسسة شسسريفة
نيرة.
وأنت أفل تسسرى هسسذا مسن جبسسابرة العقسسول كتلسسك الشسسيمة فسسي أخلق
دا إل أن يكونسوا تبًعسا ،ول علسم لهسم إل مسا العامسة ،إذ ل يصسلحون أبس ً
يربط في صدورهم من فلن وفلن ،ثم يعملون بل تحقيق ،ويحملون
بل تمييز ،ثم ل تكون نهمة أنفسهم مسسع الرجسسل العسسالم -إذا اجتمعسسوا
به -إل في التسليم له ،واتقاء حقائقه ،والنزول عن آرائهم إلى رأيسسه،
والخروج من أنفسهم إلى نفسه!
لقد قلنا من قبل :إن جبابرة العقول هؤلء الذين يأبون إل أن يكونوا
علماءنا وسادتنا؛ ليصسسرفوا عقولنسسا ويغيسسروا عقائدنسسا ويصسسلحوا آدابنسسا
ويسسدخلونا فسسي مسسساخط اللسسه ويهجمسسوا بنسسا علسسى محسسارمه ويركبونسسا
معاصسسيه -إن هسسم فسسي أنفسسسهم إل عامسسة وجهلسسة وحمقسسى إذا وزنسسوا
بعلمسساء المسسم وقيسسسوا إلسسى حكمسساء السسدنيا ،ومسسا يكتبسسون للمسسة فسسي
نصسسيحتها وتعليمهسسا إل مسسا يتحسسول مسسن كلمسسات وجمسسل فسسي الصسسحف
والكتسسب إلسسى أن يصسسيروا فسسي الواقسسع فسسساًقا وفجسسرة وملحسسدين
وساخرين ومفسدين؛ فالمصيبة فيهم من ناحية العلسسم النسساقص فسسي
وزن المصيبة بهم من ناحيسسة الخلسق الفاسسد ،وهاتسان مًعسا فسسي وزن
المصيبة الكبرى التي يجنون بها على المة لتهسسديمها فيمسسا يعلمسسون،
وتجديدها فيما يزعمون..
لم أنخدع قط في هؤلء مسن فلسسفة أو دكساترة أو جبسابرة ،ولسست
أضع أمرهم إل على حقه ،فإني لعسسرف أن الهسسر مسسن قبيلسسة السسسد،
ولكن أسديته على الفأرية وحدها ...ولعلما عاقبة الجهل خيسسر للمسسة
من عواقب علمهم وتخبطهم وحماقاتهم فإنهم قوم مقلسسدون ،ولهسسم
طباع معتلة زائغسسة ،وعقسسول ل مسساك لهسا مسسن ديسسن أو ضسسمير؛ فمسسا
يجنحون إل إلى بدعة سسسيئة ،أو آفسسة محسسذورة ،أو فكسسرة متهمسسة؛ ول
يعملون إل ما يشبه الظسسن بهسسم ،والسسرأي فيهسسم؛ مسسن تمسسدين الخلق
حا يحكسسم السافلة وإلحاقها بالعلم أو الفلسفة ،مع بقاء العقسسل صسسحي ً
على هذا الخبيث كما كان يحكم على ذلك الطيب؛ وليس من سسسبيل
إلى هذا إل من جهة تحويل الخلق ،فإن هي استمسكت ولم تتحول
فيها هنا موضع النزاع ومحل الخلف ،ول بد مسسن حسسرب منسسا كحسسرب
الستقلل ،ثم حرب منهم كحرب الستعمار...
224
فالذي بيننسسا وبينهسسم ليسسس القسسديم والجديسسد ،ول التسسأخر والتقسسدم ،ول
الجمود والتحول؛ ولكن أخلقنا وتجردهم منها ،وديننا وإلحادهم فيسسه،
وكمالنا ونقصهم ،وتوثقنا وانحللهم ،واعتصامنا بما يمكننسسا وتراخيهسسم
تراخي الحبل ل يجد ما يشده.
والن انظر إلى قلمي فأرى شطره السود ما جعل كسسذلك إل ليزيسسد
في جمال حمرته وبريقهسسا ،ويكسسسبها لمعسسة ل تأتيهسسا إل مسسن السسسواد
خاصة؛ والشر خير إل إذا بقي محصوًرا فسسي موضسسعه ولسسم يتجسساوزه؛
فإذا تنبهت المة لجبابرة العقول هؤلء ،قلنا ل بأس بالسواد المظلم
إذا كانت حكمته حمراء...
225
شيطاني وشيطان طاغور1...
طاغور هسسذا شسساعر الهنسسد ،مسسر بمصسسر مسسرور شسمس الشسستاء بسساليوم
المطير :ل يقع نورها إل في القلوب مما تسسستخف وتسسستهوي ،وممسسا
تمتنع وتتأبى ،ومما ترق وتلطف؛ وتنقدح بين السسسحب الهاميسسة فسسإذا
لها من الجمال والسحر والعجب ما يكسسون لجمسسرة تخرجهسسا السسسماء
معجزة للناس فيرونها ترسل الشعاع مرة وتمطر الماء مرة.
لم ألق طاغور ولكني أنفسسذت إليسسه شسسطاني وقلسست أوصسسيه قبسسل أن
يخرج لوجهه :قد علمت أن هسسذا الرجسل هنسسدي؛ ولكنسه إنسسان ،فمسا
أرض أولى به مسسن أرض؛ وأنسسه شسساعر ،ولكنسسه مخلسسوق ،فمسسا طبيعسسة
أغلب عليه من طبيعة؛ وأنه حكيم ،ولكنه تركيب ما جبلسست لسسه طينسسة
غير الطينة؛ وأنه سماوي ،غير أنسسه سسسماوي كعلمسساء الفلسسك :سسسماؤه
في منظار وكتاب وقلم وحبر ...فاذهب إليه فسسداخل شسيطانه ،فإنسك
واجد له من ذلك ما لكل الشعراء ،وربما عرفسست شسسيطانه مسسن ذوي
قرابتك أو خالصة أهلك ،ثم ائتني بكلمه على جهة ما هو مفكر فيه،
ل على جهة ما متكلم به؛ وخذ ما يهجس على قلبسسه ،ودع مسسا يجسسري
في لسانه؛ فإن هذا سسسيأتي بسسه إخوانسسك مسسن "منسسدوبي الصسسحف"...
مسسا .غيسسر أن معساني واعلم أن كل حكيم مهيئ لمسائل من حسسوله كل ً
من حوله مهيئة لسسه مسسسائل أخسسرى يفكسسر فسسي كسسل جسسواب عليهسسا ول
ينطق بجواب عليها.
فحدثني شيطاني بعد رجوعه قال :حدثني شيطان طاغور قسسال :لمسسا
هبط طاغور هذا الوادي نظر نظرة في الشمس ،ثم قسسال :أنسست هنسسا
وأنت هناك ،تقربين بأثر وتبعدين بأثر ،وتطلعين بجسسو وتغربيسسن بجسسو،
فل تختلفين وتختلف بك القاليم ،ثم تتغير بالقاليم المسسم ،ثسسم تتغيسسر
بالفكار والمنازع أغراضها ومصالحها ،ثم تتغيسسر بمصسسالحها وأغرضسسها
الحقائق النسانية؛ وإنما الباطل والحق فيما تسسستقبل هسسذه الحقسسائق
أو تستدبر ،وقد غلبت
السياسسسة علسسى كسسل شسسيء حسستى أصسسبحت هسسذه الحقسسائق النسسسانية
جغرافية ،لها شعوب ولها مسسستعمرات؛ فالخسساء فسسي الغسسرب سسسيادة
في الشرق ،والمساواة هناك امتياز هنا ،والحرية في مملكة استعباد
لمملكة ،والتحية في موضع صفعة في موضسسع والضسسيافة فسسي مكسسان
ك وَل ِسذ َل ِ َ
ك م َرب ّس َ
حس َ
ن َر ِ ن إ ِل ّ َ
م ْ في َ
خت َل ِ ِ
م ْ استئكال في مكان؛ }َول ي ََزاُلو َ
ن ُ
م{ ]هود [119 ،118 :فلن يتصل الناس بالروح العلى إل من خل َ َ
قهُ ْ َ
الجهة الواحدة التي لم تتغير ولن تتغير فيهسسم ،جهسسة السسدموع السستي ل
226
تختلف في أسود ول أحمسسر ،والسستي ل تنبعسسث إل مسسن الرقسسة والوجسسد
والحزان واللم ،وهي بذلك نسب كل قلب إلى كل قلب ،فلو غمسسر
العالم كله بلء واحد ل تحرز منه أرض أهلها ول تتحسساجز المسسم فيسسه،
لستلب مطامع الناس بعضهم في بعسسض ،وأرجسسع النسسسانية الزائغسسة
إلى مستقرها ،فتجردوا من الدنيا وهم في الدنيا ،فاتصسسلوا باللنهايسسة
وهم في النهاية؛ فإن لسم يكسن بلء عسام ففكسر عسام فسي بلٍء يميست
الشهوات المتطلقة ويكون كالداء تلبسسس بسسالجنس النسسساني كالسسذي
تصفه الديان من جهنم والمصير إليها والحساب عندها والجزاء على
الشر بها ،حتى ل تبقى نفس إل وهي في وثاق من حللها وحرامهسسا،
ول يبقى شر يتخيل أو يشتهى إل وهسسو كالمتسساع النفيسسس بيسسن أربعسسة
صا ،فإن لسسم يكسسنجدران تتساقط وتحترق ل يجد في كل اللصوص ل ّ
هذا ول ذاك فالحب العام حتى ل يبقى جيسسش ول سسسلح ول سياسسسة
ول دول ،ول تكون الممالك إل بيوًتا إنسانية بين الواحدة والكسسل مسسن
الشابكة واللحمة ما بين الكل والواحدة ،وحتى تقول مصر لنجلسسترا:
يا بنت عمي ...فإن استحال كل هذا فالحرية العامة علسسى أن تكسسون
دا
محدودة من كسسل جهاتهسسا بالشسسعر ،وعلسسى أن يكسسون الشسسعر محسسدو ً
بالطبيعة والطبيعة محدودة بسالله ،فينستزع النسوم مسن الرض لتتصسل
اليقظة بالحلم ...من طريق غير النوم.
قال شيطان طاغور :ثم ابتأس طاغور وقال :كسسل ذلسسك مسسستحيل أو
كالمستحيل ولكنه في المسسل ممكسسن أو كسسالممكن؛ وللفسسظ معنيسسان:
أحدهما ما يكون ،والثاني ما يحسن أن يكون؛ ذلك ل بد له منا؛ لنسسه
جانب النظام اللهي ،وهذا ل بد لنا منه؛ لنه جانب الخيال النساني؛
ذلك من الطبيعة التي تعمل ول تتكلم ،وهذا من الشعر السسذي يتكلسسم
ول يعمل .آه آه! إنما السسسلم العسسام أن يكسسون الوجسسود شسسركة إلهيسسة
إنسانية برضى واتفاق بين الطرفين ...ولعمري إن كل المسسستحيلت
ممكنة بالضافة إلى هذا المستحيل .ثم تبسم طاغور إذ خطر له أنه
شاعر عليه أن يصف الوردة ويقول فيها مسسا يجعلهسسا بيسست شسسعر فسسي
كتاب الطبيعة له وزن ونغم ،ولكن على الطبيعة قبل ذلسسك أن تنبتهسسا
ناضرة عطرة جميلة تتميز عن غيرها برائحة ولون وشكل.
قال شيطانه :ولما انتهى من تسسأمله إلسسى هسسذه الخسساطرة قسسدمت لسسه
سيدة هندية عقود الزهر ،وبينا هي تقلده إياهسسا قسسال فسسي نفسسسه :إن
هذه الزهار من معاني الماء العذب؛ فإذا انطلقنسسا فسسي أوهامنسسا وراء
الحب العام والسلم العام فلمن تكون معاني الماء الملح ،وهو ثلثة
أرباع الرض ،ومن أزهاره السطول النجليزي.
227
حدثني شسسيطاني قسسال :حسسدثني شسسيطان طسساغور قسسال :ولمسسا اسسستقر
طاغور في قصر شسسوقي بسك ورآه فسسي مثسل حسسن السدينار ونقشسه
ونفاسته ،قال :ل جرم هذه أمة أغنت شاعرها ،فما أخطسسئ التقسسدير،
وإن أخطأته فل أبعد عن المقارنة إذا حسبت أن هسسذا الشسساعر يطبسسع
لهذه المة نصف مليون نسخة من كل ديوان شعر أو دفتر حكمة أو
كتاب قصة ،وليتني أعرف العربية لعسسرف كيسسف يبسسدع هسسذا الشسسعب
فلسفته في أغانيه المتصلة بغيوم السماء المتكلم بأحسن وأطهر ما
يمكن أن يكون ترجمة للحقيقة الخالدة التي يتوارثها شعب خالد.
الشعر فكرة الوجود في النسان ،وفكرة النسسسان فسسي الوجسسود ،ول
يكفي أن يخلق هذا النسان مرة واحدة مسسن لحسسم ودم ،بسسل لبسسد أن
يخلق مرة أخرى من معان وألفاظ ،وإل خرج حيواًنا أعجم؛ فالشاعر
يبدع أمة كاملة ،إن لم يخلقها فإنه يخلق أفكارها الجميلسسة وحكمتهسسا
الخالسسدة وآدابهسسا العاليسسة وسياسسستها الموفقسسة ومسسا أحسسسب النهضسسة
المصرية إل بالغاني والناشيد ،فتأتي من انجلسسترا جنسود وتخسرج لهسسا
ما حين قلت مرة: من دور الغناء والتمثيل جنود أخرى؛ لقد كنت مله ً
"إن الله يخاطب الناس عن طريق الموسيقى"*.
نعم عن طريق الموسيقى ،فكل شيء هو موسيقى في نفسه حسستى
ضسسا ،فسسإن صلصسسلة السسسلحة حين يتطسساحن النسساس ويذبسسح بعضسسهم بع ً
ودوي القنابل وأزيز الرصاص وتصايح الجند -كل ذلك لحن أعده الله
جلت قدرته "وموسيقاه" ...لجنازات المم.
حدثني شيطاني قال :حدثني شيطان طاغور قال :ولما رأى طسساغور
الستاذ الفاضل مدير الجامعة المصرية -وهي التي دعتسسه إلسسى إلقسساء
محاضرته -قال :نعم وحًبا وكرامة ،إنه ل يستقيم في العقل أن تدعو
هذه الجامعة شاعًرا روحانّيا مثلي إل وهي فلسك نيسر يعسده اللسه مسن
نجومه ،وما أحسب أستاذ آدابها العربية إل تلك الذرة اللؤلؤيسسة السستي
كانت تجاورني في طينة الخلق الزلية ،فلو أن الذرات الثماني السستي
كانت حولنا خلقت في عصرنا هسسذا وتسسوزعت علسسى المسسم الفلسسسفية
لكنا وإياها كوصسسايا اللسسه العشسسر فسسي هسسذا العصسسر المسسادي ...ولملنسسا
طياتها إيماًنا بالله ،ولصار الله -تعالى -في أرضه عشر آلت سماوية
لسسسلكية بينسسه وبيسسن الخلسسق ،تبسساهي الجامعسسة المصسسرية بسسأن فيهسسا
إحداها ...لقد نغسسص علسسي هسسذه الشسسيخوخة أنسسي لسسم أتعلسسم العربيسسة،
وكيف لسسي بسسأن أرتسسل أناشسسيد أسسستاذ الداب فسسي الجامعسسة المصسسرية
لستمتع بألحانه السماوية في شعره وأغانيه ،وأسسسمع الملئكسسة مسسن
هذه المئذنة النسسسانية فسسي الجامعسسة تهتسسف بكلمسسة السسسلم الرهيبسسة
228
صارخة بحقيقة الوجود في الوجود :الله أكبر الله أكسسبر ،أشسسهد أن ل
إله إل الله...
قال شيطاني :وكسسان شسسيطان السسدكتور طسسه حسسسين أسسستاذ الجامعسسة
قسسا إن مسسن
م بما في نفسسس طسساغور قسسال لسسي :ح ّ حاضًرا معنا ،فلما أل ّ
الخير أن ل يعرف هذا الهنسسدي اللغسسة العربيسسة؛ لنسسه لسسو عسسرف اللغسسة
العربية لما أرضسسته اللغسسة العربيسسة ول أداب اللغسسة العربيسسة ول أسسستاذ
آداب اللغة العربية! فقلت :اسكت ويحسسك ودع الرجسسل فسسي أحلمسسه،
ول تكن غيمة سمائه المشرقة؛ أما تسسراه يحلسسم ،أمسسا سسسمعته يقسسول:
"والحقيقة من حيث هي جمال ليس يعدله جمال؛ ألسسست تسسرى إلسسى
صورة هذه المرأة العجوز أبدعها فنان ماهر ،إنك تنظر إلى الصسسورة
فتقر بجمالها ،ولكن المرأة العجوز التي فيها ليست على شيء مسسن
الجمال؛ لكنما جمال الصورة أنهسسا تمثسسل هسسذه المسسرأة العجسسوز علسسى
حقيقتها*" ،فهذه كلمات في سبحات النور ،وهسسي مسسن لغسسة السسسماء
ذات الكواكب ل من لغة النفس ذات العواطف؛ وإل فهل يصسسح فسسي
العقل أن تصوير العجوز التي اضطرب ميسسزان الخلسسق فيهسسا حسستى ل
يزن منها إل بقايا الخلقة وأنقاض العمر وخرائب المرأة ...يكون بمسسا
يظهر من شوهتها وتهدمها وتشنن جلدها وموت ظاهرها -جماًل فسسي
حا لملئت الصورة؛ لنه قبيح في الصل؟ أفليس لسسو كسسان ذلسسك صسسحي ً
المتاحف والقصور بألواح العجائز ،ولما بقيت علسسى الرض عجسسوز إل
ذهبت لحد المصورين تقول له :اخلقني!...
---------------
* هذه العبارة مما ترجمته السياسة من محاضرة طسساغور ،وإذا قيسسل
إن الصناعة في نقل الصورة محكمة فليس معنى ذلسسك أن الصسسورة
جميلة ،والمعنى الذي يرمي إليه الشسساعر معسسروف وقسسد كتبنسساه فسسي
"السحاب الحمر" ولكنه أخطأ في العبارة عنه أو أخطأت الترجمة.
حدثني شسسيطان قسسال :حسدثني شسسيطان طسساغور قسسال :وكسسان طسساغور
رطب اللسان في محاضرته كأن غابة من غابات الهند أمدته بكل ما
اعتصرته الشمس فيها ماء وحياة ونضرة ،فهسسو فسسي كلمسسه ومعسسانيه
ورق وزهر ونسيم وظل وحفيف وتغريسسد ،يسسسحر النسساظر؛ إذ ل يسسرى
الناظر شكله النساني فيه ،بل يراه شسسيًئا مسسن خيسساله كأنمسسا انفصسسل
ما في المرأة فإذا خيالسسك منه فتمثل بشًرا سوّيا ،ولو أنك اطلعت يو ً
فيها يكلمك ويستأنسك ويطلف لك ،لما أدهشك من ذلك ول أطربك
ول استخرج من عجبك وذهولك إل كالذي يعتري نفسك حين يكلمك
طاغور؛ وتراه يستخلص آراءه المتصرفة بكلمه مسسن روح النسسواميس
229
اللهية المدبرة للكون ،فتحسه يضيق إليك زيادة ليست فيسسك؛ فممسسا
كبرت به تصغر نفسك عندك بين يديه؛ ثسسم هسسو يتصسسل بروحسسك مسسرة
في جلل حب الب لطفله ،ومرة في رقة فسسرح الطفسسل بسسأبيه؛ فسسإذا
أنت منه بموقف عجيب من معجزة إنسانية تروعك بطفل شسسيخ قسسد
اجتمع فيه طرًفا العمر وجاء كأنه مظهر روحه التي ل عمر لها.
إنسان كهربائي يحاول أن يزيد في تركيب الناس عظمسسة مسسن حديسسد
أو عصًبا من سلك؛ لتصل بهم جميًعا تلك الشعلة الطائفة؛ فسسإذا هسسم
م{ َ خلسسق آخسسر كأهسسل الجنسسة} :يس سعى نسسورهُم بي س َ
مسسان ِهِ ْ
م وَب ِأي ْ َ
ديهِ ْ
ن أي ْس ِ
ُ ُ ْ َْ َ َ ْ َ
]الحديد[12 :؛ ولكنه بصر وهو خسسارج مسسن المسسسرح بسسإعلن السسسيما
التي تجاوره وما عليه من التصاوير والتهاويل ،فقال في نفسه :بعسسد
قليل تجيء إلى هنا لندن وباريس ونيويورك وغيرهسسا مسسن أرض اللسسه
بناسها وحيوانها ونباتهسسا ،يراهسسا الجالسسسون رأي العيسسن ويتصسسلون بهسسا
دا ل يجعلهم فيها ولكنه ل يخليهم منها؛ ويجب لعمران هذه اتصاًل بعي ً
الرض أن يبقى أهسسل مصسسر فسسي مصسسر فل يسسدعوها جميعًسسا؛ ليتصسسلوا
جميعا بما تشتاقه أنفسهم مسسن بسساريس أو غيسسر بسساريس مسسن حقسسائق
العالم الكبرى ،ول يحسن هذا التصال إل إذا خص ولم يعسسم ،فيقسسوم
به الواحد والثنان والجماعة وتبقى المسسة بمسسا هسسي وكمسسا هسسي؛ لنهسسا
بذلك وحده أمة ،كمسسا أن النسساس بطبسسائعهم نسساس ،والكسسون بسساختلفه
كون ،فهيهات هيهسات الحسب العسام والسسلم العسام والتصسال العسام
بالحقيقة الروحية العليا .ثم تبسم وقال :مسسا أشسسبهني بهسسذه السسسيما،
غير أن شريطي ل يرى فيسسه النسساس روايسسة مسسن لنسسدن وبسساريس ،بسسل
رواية وقعت حوادثها في جنة الخلد...
230
فلسفة القصة ولماذا ل أكتب فيها ...؟*
لسسم أكتسسب فسسي القصسسة إل قليًل ،إذا أنسست أردت الطريقسسة الكتابيسسة
المصطلح على تسميتها بهذا السم ،ولكني مع ذلك ل أراني وضعت
كل كتبي ومقالتي إل في قصة بعينها ،هسسي قصسسة هسسذا العقسسل السسذي
في رأسي ،وهذا القلب الذي بين جنبي...
أنا ل أعبأ بالمظاهر والغراض التي يأتي بها يوم وينسخها يسسوم آخسسر،
والقبلة التي أتجه إليها في الدب إنما هي النفس الشرقية في دينها
وفضائلها ،فل أكتب إل ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسسسمو غايتهسسا،
س من الداب كلها ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا ل أم ّ
مسسا أنسسي رسسسول لغسسوي بعثسست إل نواحيها العليا؛ ثم إنه يخيسسل إلسسي دائ ً
دا في موقسف الجيسش "تحسست للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه ،فأنا أب ً
السلح" :له ما يعانيه وما يكلفه وما يحاوله ويفسسي بسسه ،ومسسا يتحامسساه
ويتحفظ فيه ،وتاريخ نصره وهزيمته في أعماله دون سسسواها؛ وكيسسف
ن نفسه ،ل فنك أنت ول فن سسسواك؛ إذ هسسو اعترضت الجيش رأيته ف ّ
لطريقته وغايته وما يتأدى به للحياة والتاريخ.
صسسا؟ وإنصا ،ثم تقرأ فتبقسسى قص ً أل ترى أن تلك الروايات توضع قص ً
هي صنعت شيًئا في قرائها لم تزد على ما تفعل المخسسدرات؛ تكسسون
مسكنات عصبية إلى حيسسن ،ثسسم تنقلسسب هسسي بنفسسسها بعسسد قيسسل إلسسى
مهيجات عصبية؟
وأنا ل أنكر أن في القصة أدب ًسسا عالي ًسسا ،ولكسسن هسسذا الدب العسسالي فسسي
رأيسسي ل يكسسون إل بأخسسذ الحسسوادث وتربيتهسسا فسسي الروايسسة كمسسا يربسسي
الطفال على أسلوب سواء في العلم والفضيلة؛ فالقصسسة مسسن هسسذه
الناحية مدرسة لها قانون مسنون ،وطريقة ممحصسسة ،وغايسسة معينسسة؛
ول ينبغي أن يتناولها غير الفذاذ من فلسفة الفكر الذين تنصبهم
مواهبهم للقاء الكلمة الحاسمة فسسي المشسسكلة السستي تسسثير الحيسساة أو
تثيرها الحياة؛ والعلم من فلسسفة البيسان السذين رزقسوا مسن أدبهسم
قوة الترجمة عما بيسسن النفسسس النسسسانية والحيسساة ،ومسسا بيسسن الحيسساة
وموادهسسا النفسسسية فسسي هسسؤلء وهسسؤلء ،تتخيسسل الحيسساة فتبسسدع أجمسسل
شعرها ،وتتأمل فتخرج أسمى حكمتها ،وتشرع فتضع أصح قوانينها.
وأما من عداهم ممن يحترفون كتابة القصص ،فهم في الدب رعسساع
وهمج ،كان من أثر قصصهم ما يتخبط فيه العالم اليوم مسسن فوضسسى
الغرائز ،هذه الفوضى الممقوتة الستي لسو حققتهسسا فسسي النفسوس لمسا
231
رأيتها إل عامية روحانية منحطسسة تتسسسكع فيهسسا النفسسس مشسسردة فسسي
طرق رذائلها.
إذا قرأت الرواية الزائفة أحسست في نفسك بأشياء بسسدأت تسسسفل،
وإذا قرأت الرواية الصحيحة أدركت مسسن نفسسك أشسسياء بسدأت تعلسسو،
تنتهي الولى فيك بأثرها السيئ ،وتبسسدأ الثانيسسة منسسك بأثرهسسا الطيسسب؛
وهذا عندي هو فوق ما بين فن القصة وفن التلفيق القصصي!!.
232
شعر صبري*
233
* هو إسماعيل باشا صبري ،توفي رحمه الله في شهر مسسارس سسسنة
1923م.
1المقتطف :مايو سنة .1923
ثم كان أكثر الشعراء يومئذ إنما يحترفون فن الدب صسسناعة كسسسائر
المهسسن والصسسناعات السستي بهسسا قسسوام العيسسش لهسسؤلء المسسستأكلين
والمتكسبين من السوقة والمرتزقة.
ظهر البارودي ونبغ في شعره قبل أن يقول صبري الشعر بسنوات،
ولكن الدب الفارسي والجزالة العربية هما اللذان تحول فيه؛ ثم نبغ
صبري بعد ذلك بزمن ،فتحول فيه الدب الفرنجي والرقسسة العربيسسة؛
وهسسذا موضسسع التفسساوت فسسي شسسعر الرجليسسن اللسسذين اقتنصسسا الخيسسال
الشعري من طرفي الرض ،وكلهما يذهب مذهًبا ويرجسسع إلسسى طبسسع
ويروض شعره على وجسسه؛ فالبسسارودي يسسستجزل ويجمسسع إلسسى سسسبكه
الجيد قوة الفخامة وشدة الجزالة ،ثم يعترض الخيال من حيث يهبط
على النفس في ممر الوحي؛ وصسسبري يسسسترق ويضسسيف إلسسى صسسفاء
لفظه جمال التخير وحلوة الرقة ،ويعارض الفكسسر مسسن حيسسث يتصسسل
بسسالقلب؛ والبسسارودي ل يسسرى إل ميسسزان اللسسسان يقيسسم عليسسه حروفسسه
وكلماته ،وصبري ل يرى إل ميزان الذوق الذي هو من وراء اللسسسان؛
وقد يسرت لكليهما أسباب ناحيته في أحسن ما يتصرف فيه؛ فجسساء
ظا كأنه مجموعة من دواوين العرب والمولسسدين ،وجسساء البارودي حاف ً
صبري مفكًرا كأنه مجموعة أذواق وأفكار؛ وهما يشسستركان معًسسا فسسي
التلوم على صنعة الشعر والتأني في عمله وتقليبه علسسى وجسسوه مسسن
التصسسفح ،وتمحيصسسه بالنقسسد والبتلء لفظ ًسسا لفظ ًسسا وجملسسة جملسسة ،ثسسم
مطاولسسة معسسانيه ومصسسابرتها كأنمسسا ينتزعسسان محاسسسنها مسسن أيسسدي
الملئكة؛ وأنا أعرف ذلك فيهمسسا؛ وقسسال لسسي صسسبري باشسسا مسسرة وقسسد
جاريته في بعض هذا المعنى :إنه يعلم هذا من البارودي ومن نفسه.
قلت :أفيبلغ به ذلك أن يمحو بياض اليوم في سواد بيت واحد؟ قال:
وفي سواد شطرة أحياًنا! وليس ينقصهما هذا المر شيًئا ،فسسإن خسسبر
زهير في حولياته معروف ،وقد عمل سبع قصسسائد فسسي سسسبع سسستين:
يحوك القصيدة منها في سنة.
ونقلوا عن مروان بن أبي حفصة أنه قال :كنت أعمل القصسسيدة فسسي
أربعة أشهر ،وأحككها في أربعة أشهر ،وأعرضسسها فسسي أربعسسة أشسسهر،
ثم أخرج بها إلى الناس؛ فقيل هذا هو الحولي المنقح.
كان مرجع البارودي إلى الحفظ ،فنبغ في وثبات قليلسسة؛ أمسسا صسسبري
فاحتاج إلى زمن حتى استحكمت ناحيته وآتته أسبابه علسسى الجسسادة،
234
لن مرجعه إلى الذوق ،وهسسذا يكتسسسب بسسالمران وينضسسج عنسسد نضسسوج
الفكر ول يأتي بالماء والرونق حسستى تسسأتي لسسه أسسسباب كسسثيرة؛ وأنسست
تعرف ذلك في الرجلين من أوائل شعرهما ،فقد رثى البارودي أبسساه
في سن العشرين بأبياته الدالية الشهيرة التي مطلعها:
ل فسسارس اليسسوم يحمسسي السسسرح بالواديطسساح السسردى بشسسهاب الحسسي
والنادي
وهسسي ثمانيسسة عشسسر بيت ًسسا ،وجيسسدها جيسسد ،وكأنهسسا خرجسست مسسن لسسسان
أعرابسسي؛ وإنمسسا جسساءته مسسن صسسنعة الحفسسظ ،كالسسذي اتفسسق للشسسريف
الرضي في أبياته الخائية التي كتب بها إلى أبيه وعمره أربع عشسسرة
سنة ،وكان أبوه معتقًل بقلعة شيراز ومطلعها:
كاإن ذا الطود بعد بعدك ساخا أبلغا عني الحسين ألو ً
والشهاب الذي اصطليت لظاهعكست ضوءه الخطوب فباخا
هذا على أن البداية كما يقال مزلة؛ وقسسد وفقنسسا إلسسى الوقسسوف علسسى
أول ما نشر من شعر صبري باشا ،وذلك قصيدتان نشرتا في مجلسسة
روضة المدارس في مدح إسماعيل باشا ،فنشرت الولى في العسسدد
الصادر في غاية شوال سنة 1287للهجرة 1870-للميلد؛ ونشرت
الثانية في عدد شهر ربيع الخر من سنة 1288هس س 1871م؛ وبينهمسسا
خمسة أشهر ،كانت وثبته فيها ضعيفة متقاصرة ،مما يدل على بطء
نضجه بطبيعة السباب التي تسبب بها إلى الشسعر؛ وكسانت الروضسة
يسسومئذ تنشسسر لطائفسسة مسسن فحسسول دهرهسسم :كالسسسيد صسسالح مجسسدي،
ورفاعة بك رافع ،ومحمد أفندي قدري "ونابغة الزمان محمد أفنسسدي
رضسسوان" ،وغيرهسسم .وكسسانت تسسستقبل قصسسائدهم بسسسجعات داويسسة
مفرقعسسة ،هسسي لسسذلك العهسسد أشسسبه الشسسياء بطلقسسات مسسدافع التحيسسة
للملوك والمراء؛ فلما نشرت لصبري قسسالت فسسي القصسسيدة الولسسى:
تهنئة بالعيد الكبر للخديوي العظم بقلم إسماعيل صسسبري أفنسسدي".
وقالت في الثانية" :قصيدة رائيسة فسي مسدح الحضسرة الخديويسة مسن
نظم الشاب النجيب إسسسماعيل صسسبري أفنسسدي مسسن تلمسسذة مدرسسسة
الدارة" .ومطلع القصيدة الولى:
سفرت فلح لنا هلل سعودونما الغرام بقلبي المعمود
ول شيء فيها أكثر من حروف المطبعة ...ومطلع الثانية:
ر
أغرتك الغراء أم طلعة البدروقامتك الهيفاءُ أم عادل السم ِ
وفي هذه القصيدة بيت وقفت عنسسده أرى صسسبري باشسسا فسسي صسسبري
أفندي كأنه خيال مولود يستهل ،وذلك قوله:
فطول من الهجران عل وقوفناطول معا -يا قاتلي -ساعة الحشر
235
ويكاد هذا البيت يكون أول انقلب للفكرة فيه :وهو غريب ،والتأمسسل
ما على أقطار السموات. فيه أغرب ،ولكنه يدل على خيال سيثب يو ً
وفي ذلك الزمن عينسه كسان البسارودي شسهاًبا يتلهسب ،وكسان قسد بلسغ
مبلغه واستجمع أسباب نهايته ،بل هو نظم قبل ذلك بسسست سسسنوات
قصيدته الشهيرة:
أخذ الكرى بمعاقد الجفانوهفا السرى بأعنة الفرسان
فلم يكن ليذهب وجسسه الشسسعر عسسن صسسبري ،ولسسم يكسسن ليغضسسي عنسسد
احتذاء هسسذه الصسسنعة البارعسسة ويأخسسذ فسسي غيرهسسا لسسول أن فيسسه طبعًسسا
مستقًل يذهب إلى كماله في أسلوب آخر كأسسسلوب كسسل زهسسرة فسسي
غصنها؛ وأخص أحوال صبري أنه لم يرد أن يكون شاعًرا فجسساء أكسسبر
من شاعر ،وكان السبب الذي صرفه من ناحية هو نفسه السسذي جسساء
به من ناحية أخرى.
ينبغ الشاعر بأربعة أشياء ل بد منها :طريقة السسدرس السستي عالسسج بهسسا
الشعر ،وكتب هذه الطريقة ،والرجال الذين هم أمثلتهسسا فسسي نفسسسه،
ثم ...ويالله من "ثم" هذه ،فهي اللمحة السماوية التي تشرق على
فؤاد الشاعر من وجه جميسسل ،والثلث الولسسى تنشسسئ نبوغ ًسسا معروفًسسا
في نوعه ومقداره ،ولكن الحيرة هي طريسسق القسسدر السستي ل يعسسرف
آخرها؛ وإذا تجددت في حياة الشاعر أو اتصسسلت تجسسدد بهسسا نبسسوغه أو
اتصل ،فعلى قدر ما يحب تحبوه السماء من أسسسرار الجمسسال ،وهسسي
نفسها أجمل أسباب الشعر وأجمل معانيه وأجمل غاياته ،فهسسي هسسي
المادة التي تؤلف بين نفس الشاعر وبيسسن معنسسى الجمسسال الشسسعري
فسسي هسسذا الكسسون كلسسه؛ وإذا أنسست نزعسست النظسسرة والبتسسسامة -وهمسسا
عنصرا تلك المسسادة -مسسن حيسساة الشسساعر ،نزعسست الحيسساة نفسسسها فسسي
شعره فما يبقى منه إل أنه مقبرة لللفاظ والمعاني ،وتسمع شسسعره
فل تجزيه به أحسن من قولك :يرحمسسك اللسسه ...وصسسبري لسسم يسسدرس
الشعر في الكتب أكثر مما درسه في الوجسسوه والعيسسون ،وقسسد عالسسج
هذا الشعر في بدايته ليتسسأتى إليسسه مسسن طرقسسه البعيسسدة؛ أمسسا الرجسسال
الذين كانوا أمثلته فكسسانوا رجسسال الظسسرف والرقسسة والنكتسسة المصسسرية
الشهيرة التي انفرد بها الطبع المصري ونسسص عليهسسا علمسساء البلغسسة،
كالسكاكي وغيره؛؛ بل كان عصره كله عصر هسسذه النكتسسة ،فتحسسولت
قا أرجعها إلسسى الظسسرف المحسسض في طبعه الرقيق المبتكر تحوًل رقي ً
الذي اجتمعت فيه كل طباعه كما يجتمع السحاب من الماء.
ولقد كان في شعره أحق الناس بقول ابن سعيد المغربي:
أسكان مصر جاور النيل أرضكمفأكسبكم تلك الحلوة في الشعر
236
وكان بتلك الرض سحر فما بقيسوى أثر يبدو على النظم والنثر
وإني لعلم أنه كان دائم الحب :يمزج ذكرى ماضيه بحاضره فيخسسرج
دا؛ وكسسان الرجسسل كسسأنه مجسسروح القلسسب ،فل يسسزال يئن منهما حّبا جدي ً
حتى في بعض أنفاسه؛ إذ يرسل النفس الطويل بين هنيهة وأخسسرى،
وكأنه يريد أن يطمئن أن نفسسسه فيسسه ،أو أن شسسيًئا باقي ًسسا فسسي نفسسسه؛
وتلك همهمة ل تكون في شاعر من الشعراء بغير معنى.
كانت النظرة والبتسامة تتمثل له حيث شاء وتعترضه حيسسث أراد أن
حسسا مسسن الشسسعر ،ويقسسرأ لمحاتهسسا مسستى يراها ،فيجد في كل شسسيء رو ً
التمعت ،وكان يعيش في ذات نفسه كأنه معنى في قصيدة هو أمير
أبياتها.
فشاعرنا هذا أخرجه اثنان :الظرف والجمال؛ وهذا سر إبائه أن يعسسد
من الشعراء؛ لنه أرفع من أن يدخل بينهم في هذه المحنة والبلسسوى
التي ابتلوا بها...
ولقد هم صبري في أواخر عمره بمحو شعره لو أنه كسسان فسسي منسسال
يده على أنه محا منه بإهماله أكثر مما أثبسست؛ وعلمسست منسسه أنسسه لسسم
يدون شيًئا ،وأنه ينسى متى انتهسسوا إلسسى التحقيسسق رأوا عمرهسسم كلسسه
بداية ورأوا مسسا فعلسسوا بسساطًل فغسسسلوا كتبهسسم أو أحرقوهسسا ،ولكنسسا لسسم
نعرف هذه الطبيعة في شاعر بعد عصر الكتابة والتسسدوين ،وإن كسسان
بعضهم يأنف لنفسه أن يعد من الشسسعراء وهسسو مسسع ذلسسك يجمسسع يسسده
على شعره ،كالشريف الرضي الذي يقول:
دا لها من عدد الفضائل ما لك ترضى أن تعد شاعًرابع ً
ويقول في مدح أبيه:
حاوعلك ل ترضى بأني شاعر إني لرضى أن أراك ممد ً
ومثله أبو طالب المأموني وآخرون يدعون ذلك دعوى وفي ألسنتهم
ما ليس في قلوبهم.
ولفراط صسسبري فسسي الظسسرف والجمسسال وقيسسام شسسعره علسسى هسسذين
الركنين ،جاء مقّل من أصحاب القصار ،وزاد إقلله في قيمة شسسعره،
فخرجت مقاطيعه مخرج الشسسيء الطريسسف السسذي يتعجسسب منسسه فسسي
وجوده أكثر مما يتعجب منه لقلة وجوده؛ وبذلك ربح تعب المكسسثرين
والمطيلين؛ إذ كسسان ل يقسول إل فيمسسا تسؤاتيه السسسجية وينسسزع الطبسع،
فيسسدنو مأخسسذه ويكسسثر بقليلسسه ويرمسسي منسسه بمثسسل الحجسسة والبرهسسان،
فيطمس بهما على كلم طويل وجدل عريض.
ول يعيب المقل أنه مقل إذا كثرت حسناته ،بل ذلك أعسسون لسسه علسسى
القلوب والنفوس إذا أصابت في شعره ما يغريها بطلب المزيد منه؛
237
وقد عدوا بين المقلين فسسي الجاهليسسة :طرفسسة بسسن العبسسد ،وعبيسسد بسسن
البرص ،وعلقمة الفحل ،وعدي بن زيد ،وسلمة بن جندل ،وحصسسين
بن الحمام ،والمتلمس ،والحارث بسسن حلسسزة ،وابسسن كلثسسوم ،وغيرهسسم
أتينا على أسمائهم في الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب"؛ ومسسن
أولئك من يعسسرف بالقصسسيدة الواحسسدة :كطرفسسة ،ومنهسسم مسسن يعسسرف
بثلث قصائد :كعلقمة ،أو بأربع :كعدي بسسن زيسسد؛ ومنهسسم مسسن يعسسرف
بالبيات المتفرقة ،ول عبرة بما ينسسب إليهسم عنسد غيسر المصسححين
وأهل التحقيق ،فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير؛ وقد يعرفسسون
الشاعر بالبيت الفرد؛ لن العسسرب إنمسسا يعتسسبرون الشسسعر بمقسسدار مسسا
يحرك من ميزانه الطبيعي الذي هو القلسسب ،ل بسسالطول ول بالقصسسر،
وقد قالوا في بيت النابغة:
ولست بمستبق أخا ل تلمهعلى شعث؛ أي الرجال المهذب؟
إنه ل نظير له في كلم العرب؛ وما ذلك إل على العتبار الذي أشرنا
مسسا ،فسسإذا بلسسغ البيسستين والثلثسسة
إليه .وكانوا يسمون البيت الواحسسد :يتي ً
فهي نتفة ،وإلى العشرة تسمى قطعسسة ،وإذا بلسسغ العشسسرين اسسستحق
دا.
أن يسمي قصي ً
وكان من الشعراء مسسن يعتمسسد أن ل يجيسسء فسسي شسسعره الجيسسد بغيسسر
البيتين والثلثة إلى القطع الصغيرة ،كشسساعرنا صسسبري باشسسا؛ ومنهسسم
عقيل بن علقمة:كان يقصر هجسساءه ويقسسول :يكفيسسك مسسن القلدة مسسا
أحاط بالعنق .ومنهم أبو المهوس ،وكسسان يحتسسج لسسذلك بسسأنه لسسم يجسسد
دا؛دا ،ولسسم يجسد الشسسعر السسائر إل بيًتسا واحس ً المثل النادر إل بيًتا واحس ً
ومنهم الجماز :قال له بعضهم وقد أنشده بيتين :ما تزيد على السسبيت
والبيتين؟ فقال :أردت أن أنشدك مذارعة؟؟ وابسسن لنكسسك المصسسري،
وابن فارس ،ومنصور الفقيه الذي كان يقسسال فيسسه :إذا رمسسح بزوجيسسه
قتل .ول نستقصي في هذا فلندعه فإن له موضًعا.
صسسد،غير أن صبري كان له مع جودة المقسساطيع جسسودة القصسسيد إذا ق ّ
كقوم
عرفوا بذلك في التاريخ ،منهم العباس بن الحنف وسواه ،وكان من
أسباب إقللسه مسا أعلمنسي بسه مسن أن طريقتسسه فسي أكسثر مسا ينظسم
معارضة معنى يقف عليسسه ،أو تضسسمين حكمسسة ،أو ضسسرب مثسسل علسسى
طريقة النظسسر والملحظسسة ،أو تسسدوين خطسسرة عرضسست لسه ،أو لمحسسة
أوحيت إليه؛ وهو ينزل في ذلسسك علسسى النصسسفة والمعدلسسة فل ينتحسسل
شيًئا ليس له ،بل يدلك بنفسه على الصل الذي منه أخسسذ أو المثسسال
الذي عليه احتذى.
238
قال لي مرة :إن البستاني عقد حكمة فارسية في قوله:
قضيت إلهي بالعذاب فيا ترىبأي مكان بالعذاب تدين
وليس عذاب حيثما أنت كائنوأي مكان لست فيه تكون؟
ثم قال :فأخذت من هذا المعنى وقلت:
دا وللشرار يا رب أين ترى تقام جهنمللظالمين غ ً
لم يبق عفوك في السموات العلىوالرض شبًرا خالًيا للنار
يا رب ألهني لفضلك واكفنيشطط العقول وفتنة الفكار
مرِ الوجود يشف عنك لكي أرىغضب اللطيف ورحمة الجبار و ُ
يا عالم السرار حسبي محنةعلمي بأنك عالم السرار
والفسسرق بيسسن الشسسعرين أن البسسستاني جسساء بكلمسسه علسسى طريقسسة
المتصسسوفة السستي يسسسمونها طريقسسة أهسسل التحقيسسق ،كسسابن العربسسي
والششتري؛ وأما صسسبري فسسانظر كيسسف اسسستوفى وكيسسف لءم وكيسسف
امتلت أعطاف شعره .وقد يأخذ المأخذ الدقيق الذي ل ينتبسسه لسسه إل
طلع الحاذق بصناعة الكلم ،كقوله:الم ّ
ما في مقاتله سهمي إذا ما صديق عقني بعداوةوفوقت يو ً
تعرض طيف الود بيني وبينهفكسر سهمي فانثنيت ولم أرم
فهذا ينظر إلى قول الحارث بن وعلة:
قومي هم قتلوا أميم أخيفإذا رميت يصيبني سهمي
ولكنه ليس بذاك؛ فإن أساس المعنى قوله" :تعرض طيف الود بيني
وبينه" وهو من قول العباس بن الحنف:
وإذا ما مددت طرفي إلى غيرك مّثلت دونه فأراكا
دا
ضسسا جدي س ً
فتأمل كيف أبدع في انتزاع المعنى وكيسسف جعسسل لسسه معر ً
وكيف أداه أحسن تأدية في ألطف وجه كأنه شيء مخترع.
ومن شعره السائر قوله في العناق وتلزم الحبيبين:
ولما التقينا قرب الشوق جهدهشجيين فاضا لوعة وعتابا
قا في خلل صديقهتسرب أثناء العناق وغابا كأن صدي ً
وهذا المعنى على إبداعه فيه متداول ،وأصله لبشار -أظن -في قوله
:1
وبتنا جميًعا لو تراق زجاجةمن الخمر فيما بيننا لم تسرب
فأبدع صبري في أخذه وجعل من هذه الزجاجسسة المنصسسدعة جسسوهرة
قا "...فمسا هسسذا بعنساق تتألق؛ على أني ل أستحسن قوله" :كأن صسدي ً
الصدقاء ،ولو كان الصديق راجًعا من سفر الخرة؛ وإذا غسساب واحسسد
في الخر ،فالخر حامل به ...وقد أخذت أنا هذا المعنى منه ،ولسسوله
ما اهتديت إليه ،فقلت في ذلك:
239
ولما التقينا ضمنا الحب ضمةبها كل ما في مهجتينا من الحب
وشد الهوى صدًرا لصدر كأنمايريد الهوى إنفاذ قلب إلى قلب
وأحسن ما تجد شعر صبري في الغزل والنسيب والوصف والحكمة،
فهي عناصر قلبه وذوقه ،ول يتصرف معه أقوى مسسا يتصسسرف إل فسسي
هذه الغراض ،ولعله إن جاوزها قصر معسه شسيًئا مسا وضسسعفت أداتسه
فا ما؛ لنه يكون شاعر الصنعة وهو يأباها ويكره أن يكون شاعًرا ضع ً
من أجلها؛ وقلمسسا يجسساريه أحسسد فسسي تلسسك الغسسراض ،وهسسو السسذي فتسسح
أبوابهسا؛ وحسسبك أنسه المثسال السذي احتسذى عليسه شسوقي بسك؛ وقسد
ينقسم المعنى الواحد في رجلين حين يقدر ،فإذا لسسم يوجسسد أحسسدهما
لم يوجد الخر ،وأنا أرى وأعلم أنه لول صبري لما نبغ شوقي ،وكسسان
هذا يختلف إليه يعرض عليه شعره ويرجسع بآثسار ذوقسه فيسه ،وكسذلك
كان يفعل خليفة البارودي حافظ بك إبراهيم ،واسترفد شسسوقي مسسن
صبري باشا هذا البيت السائر:
صوني جمالك عنا إننا بشرمن التراب وهذا الحسن روحاني
---------------
1البيت لعلي بن الجهم ،وقبله:
دا من فؤاد معذب أل رب ليل ضمنا بعد هجعةوأدنى فؤا ً
أخذه من قول بشار:
ومرتجة العطاف مهضومة الحشاتمور بسحر عينها وتدور
إذا نظرت صبت عليك صبابةوكادت قلوب العاشقين تطير
خلوت بها ل يخلص الماء بينناإلى الصبح دوني حاجب وستور
فهو لصبري باشا ،والمرافسسدة سسسنة معروفسسة مسسن قسسديم ،وهسسي غيسسر
النتحال وغير السرقة وما يسمى إغارة وغصًبا؛ وقد استرفد النابغسسة
زهيًرا ابنه كعًبا فرفده ،والحكاية في ذلك مشهورة عنه وعن سواه.
ولم يكن في مصر ممن يحسسسن ذوق البيسسان وتمييسسز أقسسدار اللفسساظ
بعضسسها مسسن بعسسض وألسسوان دللتهسسا كالبسسارودي وصسسبري وإبراهيسسم
المويلحي والشيخ محمد عبده ،رحمهم الله جميعا؛ والبارودي يسسذوق
بالسليقة ،وصبري بالعاطفة ،والمويلحي بالظرف ،والشيخ بالبصسسيرة
النفاذة؛ وذلك شيء ركبه الله في طبيعة صبري لم يحصله بالسسدرس
أكثر مما حصله بالحس ،ومن أجله كان يفضل البحتري علسسى غيسسره،
وهو بل نزاع بحتري مصر ،كمسسا لقبسسوا ابسن زيسدون بحستري المغسسرب؛
وإنك لتجد بعض اللفاظ في شسسعر الرجسسل كأنهسسا شسسعر مسسع الشسسعر،
فتقف على العبارة منها وقلبك يتنفس عليها كأنها إنما وضعت لقلبك
240
خاصة ،فهي تغمز عليه غمًزا وكأنها نفثة ملسسك مسسن الملئكسسة جاءتسسك
في نفس من أنفاس الجنة.
ويمتاز نسيبه بأنه يكاد يكون فسسي طهسسارته وعفتسسه ضسوًءا مسن جمسسال
الشمس والقمر ،وهو عندي أنسب مسسن العبسساس بسسن الحنسسف السسذي
صرف كل شعره إلى هذا المعنسسى؛ ولسسو أن عصسسره كسسان عصسسر أدب
صحيح لخمل كل شعراء هذا الباب ،من ابن أبسسي ربيعسسة إلسسى طبقسسة
عشاق العرب إلى أئمة الطريقة الغرامية لخر القرن السابع.
ومن غزله البديع قوله:
يا من أقام فؤادي إذ تملكهما بين نارين من شوق ومن شجن
تفديك أعين قوم حولك ازدحمتعطشى إلى نهلة من وجهك الحسن
جردت كل مليح من ملحتهلم تتق الله في ظبي ول غصن
وقوله:
أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعةول بشافعة في رد ما كانا
سل الفؤاد الذي شاطرته زمًناخفق الصبابة فاخفق وحدك النا
ويا رحمة الله للقلب الذي يفهم هذا البيت ،فإنه ليجن به من يكسسون
فيه استعداد لهذا النوع من الجنون.
ومن قلئده الغرامية قوله:
يا آسى الحي هل فتشت في كبديوهل تبينت داء في زواياها
أواه من حرق أودت بمعظمهاولم تزل تتمشى في بقاياها
قا بأضلع عصفت بهافالقلب يخفق ذعًرا في حناياها يا شوق رف ً
وله قصيدة "تمثال جمال" وقد نظمها لتنقل إلسسى الفرنسسسوية ،ومسسن
عيونها قوله:
ما وازدهاءوابسمي ،من كان هذا ثغرهيمل الدنيا ابتسا ً
طا من أنفستعثر الصبوة فيها بالحياء ل تخافي شط ً
راضت النخوة من أخلقنا وارتضى آدابنا حسن الولء
فلو امتدت أمانينا إلىملك ما كدرت ذاك الصفاء
والشعراء من أول تاريخ الدب إلى اليوم يقولون فسسي معنسسى قسسوله:
"ل تخافي شططا" البيات ،وما منهم من وفق إلى مثل هسسذا السسبيت
الخير ،وإن كان بعضهم بلسسغ الغايسسة ،كسسابن نباتسسة السسسعدي والسسسري
الرفاء وغيرهما.
ومن أبدع ما اتفق لسسه فسسي الوصسسف أبيسسات فسسي السسدواة تخلسسص فسسي
آخرها إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم ،وهو تخلسسص ليسسس فسسي
الشعر العربي كله مثله في البداع وحسن الختراع ،يقول فيها:
أكرمي العلم وامنحي خادميه ماءك الغالي النفيس الثمينا
241
وابذلي الصافي المطهر منهلهداة السرائر المرشدينا
وإذا الظلم والظلم استعانايوم نحس بأجهل الجاهلينا
دافاجعليه من قسمة الظالمينا واستمدا من الشرور مدا ً
واقذفي في النقطة التي بات فيهاغضب القاهر المذل كمينا
ليراع امرئ إذا خط سطرانبذ الحق وارتضى المين دينا
وإذا كان فيك نقطة سوءكونت من خباثة تكوينا
فاجعليها قسط الذين استباحوافي السياسات حرمة الضعفينا
وإذا خفت أن يكون من الصخر جلميد ترجم السامعينا
فابخلي بالمداد بخل وإن أعطيت فيه المئين ثم المئينا
فإذا أعوز المداد طبيبايصف الداء دائًبا مستعينا
فامنحيه المراد منا وعرًفاواستطيبي معونة المحسنينا
وإذا مهجة الحمائم أسدتنقطة سرها الزكي المصونا
فاوهبيها رسائل الشيقينا فاجعليها على المودات وق ً
فإذا لم يكن بقلبك إلما أعد الخلص للمخلصينا
فاجعليه حظي لكتب منهشرح حالي لسيد المرسلينا
هذا والله هو الشعر ،وما وفق إلى مثله أحد كائًنا من كسسان فسسي هسسذا
العصر.
ول نطيسسل بالنقسسل مسسن شسسعره وتتبسسع أغراضسسه ،فهسسو كاللمسساس فسسي
الشمس :يشع من كل جهة ،ول يختلف ضسسوءه إل فسسي بعسسض اللسسون
مما يكون الجمسل فيمسا كلسه جمسال ،ويمسج مسن الشسعاع مسا ل تجسد
حسنه في الشعاع نفسه ،وأحياًنا يرق كبعض البلور فيمتسسص حسسرارة
الشمس ويستوقد بها في ذاته ليضسسرم مسسا وراء قلبسسه ،ومسسا وارءه إل
قلوبنا الحزينة ..عليه رحمة الله!.
242
حافظ إبراهيم 1
فرغت الن من قراءة شعر حسسافظ بعسسد أن لسسم يعسسد حسسافظ بيننسسا إل
شعره ونثره ،وفبالله أحلف ما نظرت في صسفحة ممسا بيسن يسدي إل
وأحسست أن ذلك الشاعر العيظم يقول في بيسسانه السسرائع وصسسناعته
البديعة :أنا هنا!
ولغة هذا الشعر المتدفعة بالحيسساة كسسأن كلماتهسسا القويسسة عسسروق فسسي
جسم حي متوثب لم تخرج عن أن تكسسون هسسي العربيسسة المبينسسة فسسي
جزالتها ونصاعتها ودقة تركيبها البيسساني ،ومسسع ذلسسك فليسسس فسسي هسسذا
العصر كله من يكابر أو يماري في أنها هي لغسة حسافظ وحسده ،كسأنه
أرغم التاريخ أن يحتفظ به في أجمل آثاره.
وأنا أعرف فسسي شسسعره مواضسسع مسن الضسسطراب والضسسعف والنقسسص
سأشير إلى بعضها ،ولكني على ما أعرفسسه أجسسد هسسذا الشسسعر كالتيسسار
يعب عبابه ل يبالي ما تناثر منه وما ركد وما وقع في غير مسسوقعه ،إذ
كانت عظمته في اجتماع مادته ل في أجزاء منها ،وفي السسسر السسذي
يدفعها في كل موضع ل في المظهر الذي تكون به فسسي موضسسع دون
دا يقول لمن يتصفح عليه أو ينتقده :انظر لما بقي. موضع؛ فهو أب ً
ترجسسع صسسداقتي لحسسافظ رحمسسه اللسسه إلسسى سسسنة ،1900أول عهسسدي
بالدب وطلبه ،وقد شهدت من يومئذ بناءه الدبي عالي ًسسا فعالي ّسسا إلسسى
الذروة التي انتهى إليها ،وأخلسسص لسسي ثقتسسه وأصسسفاني مسسودته ،وكسسان
همك من أخ كريم ،وله في نفسي مكان لم ينكره مسسذ عرفتسسه ،ولسسم
يضق بمحبته منذ اتسع لها .وكنت وإياه يسسرى أحسسدنا الخسسر مسسن هسسذه
اللغسسة كالجسسانبين لصسسورة واحسسدة :ل يتهيسسأ فسسي الطبيعسسة أن يختلفسسا
والصورة بعد قائمة ،ول أن يضطرب ما بينهما والصورة منهمسسا علسسى
وزن وتقدير.
ولكن هذا ل يمنعني أن أقرر أنه كان عندي أكبر مسسن شسسعره -ولعلسسه
كذلك عند كل من خلطوه بأنفسهم -فسسإنه يتعاظمسسك بنفسسسه القويسسة
وبالمعنى الذي تحسه في العبقري ول تدري ما هو؛ وذلك من سسسحر
العبقريين وأثرهم في نفس من يتصل بهم ،فيتسق لهم أمسسران مسسن
أمر واحد ،وحظان بحظ ،ونصيبان بنصيب؛ لن مع العجاب بآثسسارهم
إعجاًبا آخر بالقوة التي أبسسدعت هسسذه الثسسار؛ ففسسي ذواتهسسم المحبوبسة
يستمر العجاب كالسائر على طريق ل موقسسف عليسسه ،وفسسي آثسسارهم
يكون العجاب في موقف قد انتهت الطريق به ،فوقف على حد إن
بعد وإن قرب.
243
ل جرم كان شاعرنا عبقرّيا عجيب الصنعة قوي اللهام بليغ الثر في
عصره ،يشبه تحوًل وقع في صورة من صسسور التاريسسخ ،ولكنسسه كسسذلك
في مذاهب من الشعر دون غيرها ،فلم يكسسن معسسه مسسن التمسسام فسسي
فنون الشعر ما يكون به الشاعر التام أو الديب الكامل الداء؛ وكسسم
من مرة كلمته في ذلك ونبهته إلى أنه كالنمط الواحد ،وأنه يجب أن
يترسل شعره بين النفوس النسسسانية وأغراضسسها الكسسثيرة المختلفسسة،
فإذا كانت السياسة مسسن الحيسساة فليسسست الحيسساة هسسي السياسسسة ،ول
سسا ينبغي أن يكسون شسعره كلسه كشسمس الصسيف ،فسإن للربيسع شم ً
أجمل منها وأحب كأنها مجتمعة من أزهاره وعطره ونسيمه.
ولقد كسسان يفخسسر بسسأنه "الشسساعر الجتمسساعي" ،وهسسذا لقسسب ميسسزه بسسه
ما ،فتعلق بسسه صديقنا الستاذ محمد كرد علي أيام كان في مصر قدي ً
حا لما في نفسه وللملكسسة السستي اختسسص بهسسا، حافظ ورآه تعبيًرا صحي ً
ما في سنة :1903أنا ل أعسسد شسساعًرا إل مسسن كسسان ينظسسم قال لي يو ً
في الجتماعيات ،فقلت له :ومسسا لسسك ل تقسسول بالعبسسارة المكشسسوفة:
إنك ل تعد الشاعر إل من ينظم مقالت الجرائد..
ول بد لي أن أبسط هذا المعنى في هذا الفصل ،فإنه كان يخيل إلي
ما أن شاعرنا "حافظ" خلق للتاريخ في أصل طسسبيعته ،ثسسم زيسسدت دائ ً
خسسا حسسي الوصسسف بليسسغ التسسأثير قسسوي فيه موهبسسة الشسسعر؛ ليكسسون مؤر ً
التصرف؛ ومن ثم جاء أكثر مسسا نظمسسه وأساسسسه التاريسسخ والسياسسسة،
وصح له بهذا العتبار أن يقول إنه الشسساعر الجتمسساعي ،ولكسسن مسسادة
الشعر غير روح الشعر ،فسسإذا كسسان فسسي المسسادة اجتمسساعي وسياسسسي
فليس في الروح إل الشاعر على إطلقه؛ والجتماعيات ليسسست كسسل
ن خاصسسة محصسسورة فسسي زمنهسسا حقائق الحيسساة ،وهسسي بعسسد ذلسسك معسسا ٍ
ومكانها؛ على أن الحقائق ليست هي الشعر ،وإنما الشعر تصسسويرها
والحساس بها في شكل حي تلبسه الحقيقة في النفسسس ،فالشسساعر
الجتماعي شاعر في حيز محدود مسسن وجسسوه الشسسعر ومسسذاهبه ،وإذا
كان الجتماع كل شعره فل يسمى شعره فّنا؛ إذ كسسان الفسسن إنسسسانّيا
ما والمقاييس التي يطرد عليها الفن الدبسسي ل تكسسون وكان شامًل عا ّ
في الزمن ول في الموضع ،بل في النفس النسسسانية السستي ل تخسسص
ما يولد ك لجيسسل مسسن بوقت ول مكان ،فإذا لم يكن الشعر إنسانّيا عا ّ
الناس فيجده كأنما وضع له وارتهسسن بأغراضسسه وحقسسائقه ،فهسسو شسسعر
فسسا
"كالخبار المحلية" ،وهذا وجه الشبه بينه وبين مسسا أشسسرت إليسسه آن ً
من نظم مقالت الجرائد.
244
فمقالت الجرائد هذه ل تأتينا بالشياء التي نحن منها فسسي النسسسانية
والطبيعة والجمال وحقائق الحياة والموت ،بل التي يكون منها يومنا
المرقوم بأنه يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ..فسسإذا مسسات اليسسوم
ماتت الجريدة ،ثم تولد ثسسم تمسسوت ،وقسسد أدرك المتنسسبي سسسر الشسسعر
وأنه قائم على تحويل الشعور النساني إلى معرفسسة إنسسسانية ،فخلسسد
شعره ،فل يمكن أن يمحى من العربية ما بقيت .وهذا على ما يقدح
فا فسي من وجوه العستراض والنقسص ،وعلسى أن المتنسبي كسان ضسعي ً
فا ظاهًرا كضعف شسساعرنا حسسافظ فسسي هسسذا ناحية الجمال والحب ضع ً
المعنسسى ،ولكسسن حكمتسسه النسسسانية ودقسسة أوصسسافه وإقسسامته الفضسسائل
والرذائل في كمالها الفني مقام تماثيل بارعة من الجمال ،كل ذلسسك
تسسسرك شسسسعره مسسسستمّرا باسسسستمرار الحيسسساة وباسسسستمرار النسسسسانية
وباستمرار الذوق.
إن هذا الكون مبني في نفسه مما يعلم العلم تركيبسسه ول يعلسسم سسسر
تركيبه إل الله وحده ،ولكنه مبني في أنفسنا من عمل الحواس ،ثسسم
من التعليل والتفسير؛ أما الحواس ففي كل حسسي ،ل تخلسسق بصسسناعة
ول عمل؛ وأما التعليل والتفسير فهما من صناعة الشسساعر والديسسب،
فكلهما يخلق لتمام الخلق في الحقيقة ،وهي منزلسسة ل أدري كيسسف
يمكسسن أن تمسسسخ حسستى تقتصسسر علسسى معنسسى الشسساعر الجتمسساعي أو
دا ،مع أن الثسار الدبيسة وفسي جملتهسا طا واح ًالسياسي ،فترجع به نم ً
الشسسعر -إن هسسي إل قسسوى الفكسسرة وإلهسسام النفسسس وبصسسيرة السسروح
مسجلة كلها في بواعثها وأسسسبابها مسسن نفسسس عاليسسة ممتسسازة؛ وهسسذه
القوى كثيرة التحول ،فيجب ضرورة أن تكون آثارهسسا كسسثيرة التنسسوع،
وتنوع الصور الفكرية في آثار الشسساعر أو الديسسب ومجيئهسسا متسسوافرة
متتابعة هو معيار أدبه وقياس نبوغه عالًيا أو نازًل ،ومتبًعسا أو مبتكسًرا،
وفيما يضيء من نواحيه وما ينطفئ.
على أن شاعرنا الجتماعي "كما كان يجب أن يوصف -رحمسسه اللسسه-
وإن كان قد نفخ في روح الشعب أنفاسه إلهية ،وأحسن في وصسسف
حوادثه وآلمه وعيوبه ،وأبلغ البيان في كل ذلك -فإنه نزل فسسي هسسذه
المرتبة عن وضعه الصحيح ،فكان في منزلته بمكسسان الشسسرطي فسسي
الطريق :يقف للجرائم والحوادث ،على حيسسن أن مقسسامه الجتمسساعي
من الشعب مقسسام المعلسسم فسسي مدرسسسته :يجلسسس للطبسساع والخلق،
ليس الشأن أن تجسسد فسسي شسسعر الشسساعر حسسوادث عصسسره أكثرهسسا أو
أقلهسسا ،فسسإن فسسوق هسسذه منزلسسة أعلسسى منهسسا ،وهسسي أن توجسسد حسوادث
245
النهضة بشعر الشسساعر ،وأن يكسسون فسسي شسسعره العنصسسر النسساري مسسن
اللغة الشعبية.
على أن "حافظ" -رحمه الله -أدرك كل هذا فسسي آخسسر عهسسده ،فكسسان
يريد أن يميت ديوانه ويستخرج منه جزًءا صغيًرا يختار فيه ألف بيسست
ويسقط ما عداها وإن ...وإن كان فيسسه شسسعر اجتمسساعي ...ومسسع هسسذا
النقص الذي بعثت عليه طبيعسسة الزمسسن وطبيعسسة الشسساعر معًسسا ،فسسإن
تمام حافظ في مذهبه الجتماعي الذي نبغ فيه جاء مسسن وراء القسسوة
وفوق الطاقة ،ل يجاريه فيه شاعر آخر ،بحيسسث دل علسسى أن النابغسسة
قدر إلهي ل ينقص من عظمته أن يكون حادثسسة واحسسدة تسسدوي دويهسسا
في الدنيا ،فهو ميسر منذ نشسسأته لمسسا خلسسق لسه مسسن ذلسك ،فسسأحكمته
المدرسة الحربية ،ثم قيده الجيش ،ثم تقاذفه السودان ،ثم قذف به
الظلم ،ثم توله إمام عصره الشسسيخ محمسسد عبسسده ،وهسسو كسسذلك فسسي
غاياته الوعرة ومقاصده العمرانية ومعاناته لصسسلح -مدرسسسة حربيسسة
وجيسسش وفلة ،فلسسم يكسسن حسسافظ إل الصسسوت النسسساني السسذي أعسسد
بخصائصه للتعبير عن حوادث أمته وخصائصها ،وكأنه في نقلتسسه مسسن
السودان إلى مصر قد انتقل من جيش يحارب القوام العداء لمته،
إلى جيش آخر يحارب المعاني العداء لمته.
ولد حافظ إبراهيم سنة ،1871وكان الكتاب الول السسذي هسسداه إلسسى
سر الدب العربي وأرهف ذوقه وأحكم طبيعته ،هو كتسساب "الوسسسيلة
الدبيسسة" للشسسيخ حسسسين المرصسسفي ،المطبسسوع فسسي مصسسر لخمسسس
وخمسين سنة؛ ففي هذا الكتاب قرأ حافظ خلصسسة مختسسارة محققسسة
من فنون الدب العربي فسسي عصسسوره المختلفسسة ودرس ذوق البلغسسة
في أسمى ما يبلغ بها الذوق ،ووقسسف علسسى أسسسرار تركيبهسسا ،وعسسرف
منه الطريقة الستي نبسغ بهسا البسارودي ،وهسي قراءتسسه دواويسسن فحسول
الشعراء من العرب ومن بعدهم ،وحفظه الكثير منها؛ فبنى شسساعرنا
من يومئذ قريحته على الحفظ ،ولم يزل يحفظ إلسسى آخسسر عمسسره؛ إذ
كانت قريحته كآلة التصوير :ل تنبه لشيء إل علقته وهذا سسسبب مسسن
أسباب ضعف خياله ،ولكنه رد عليه من القوة فسسي اللغسسة مسسا تنسساهى
فيه إلى الغاية.
واتفق لذلك العهد أن طبعت لزوميات المعسسري فسسي مصسسر ،فتناولهسسا
حافظ واسسستظهر أكثرهسسا ،فكسسانت بسساعث ميلسسه ونزعتسسه إلسسى الشسسعر
الجتماعي؛ والفرق بين حافظ وبين المعري في الموهبسسة الفلسسسفية
هو الذي نفذ بالمعري إلى أسرار كثيرة ووقف بحسسافظ عنسسد الظسساهر
وما حوله ،يطير هناك ويقع.
246
وقد كان صاحبنا ضعيف من هذه الناحيسسة ،فاستصسسعبت عليسسه أسسسرار
واستغلقت أخسسرى مسسن أسسسرار الخيسسر والشسسر فسسي الحيسساة ،والجمسسال
والحسن في الخليقة ،والجلل والبداع في الكون ،والقرار والشسسك
في كل ذلك؛ وقد بلغ المعري من هذا مبلغًسسا ل بسأس بسه ،إل أنسه لسسم
يصف كما تصفي الشياء في عين مبصرة؛ فخبط وخلط؛ ووضع من
أغراض نفسه المريضة على الصحيح والمريض جميًعا .وتابعه حافظ
في طريقة أخرى سنشير إليها بعد.
وفتن شاعرنا بما قرأ في "الوسيلة" من شعر البارودي ،فأصبح مسسن
يومئذ تلميسسذه ،وسسسار علسسى نهجسسه فسسي قسسوة اللفسسظ وجزالسسة السسسبك
ومتانة الصنعة وجودة التأليف على نغم اللفاظ وأجسسراس الحسسروف،
ولكنه لم يدرك شأو البارودي في ذلسسك؛ لن هسسذا جمسسع مسسن دواويسسن
الشعراء وكتب الدب ما لسسم يتفسسق لغيسسره فسسي عصسسره ،وأدخسسل فسسي
شعره أحسسسن مسا صسسنعت السسدنيا فسسي ألسسف سسسنة مسن تاريسسخ البلغسسة
العربية؛ ولذا انتقل عنه حسسافظ إلسسى طريقسسة مسسسلم بسسن الوليسسد فسسي
التصنيع ولزمها إلى آخر مدته.
وابتدأ يعالج الشعر في السودان وينظم في جنس ما هو بسبيله من
مسسا فقي سًرا
وصف الهم المستولي عليه مسسن جميسسع جهسساته؛ إذ كسسان يتي ً
دا ،ويرى نفسه شاعًرا تصده الحياة عسسن منزلسسة الشسساعر وعسسن مشر ً
أمكنة الشعر ،كالذي غصب ميراثه من عرش وملك ،ونفي إلى غيسسر
أرضسسه ،ووضسسعت روحسسه بسسإزاء روح الفقسسر وقيسسل لهسسا :عسسدو مسسا مسسن
صداقته بد.
ثم جاء إلى مصر واتصل بالمام الشيخ محمد عبسسده ،واسسستقال مسسن
الجيش وفرغ للدب؛ فبدأ من ثم تكسسوينه الدبسسي المندمسسج المحكسسم،
أما قبل ذلك إلى سنة 1901التي طبع فيها الجزء الول من ديوانه،
فكان شعره قليًل ظاهر التكلف ،وأكثره يدل على طريقة مضسسطربة
لم تستحكم ،وفكر لم ينضج ،وموهبة في التوليد الشعري بينها وبين
الستقلل أمد قريب.
ودرس في مدرسة الشيخ محمد عبسسده مسسن سسسنة 1899إلسسى سسسنة
ذا ،وكأنه ،1905وهذا المام -رحمه الله -كان من كل نواحيه رجًل ف ّ
نبي تأخر عن زمنه؛ فُأعطي الشسسريعة ،ولكسسن فسسي عزيمتسسه ،وُوهسسب
الوحي ولكن في عقله ،واتصل بالسر القدسي ولكن من قلبه؛ ولول
هو ولول أنه بهذه الخصائص ،لكان حافظ شاعًرا من الطبقة الثانيسسة،
فإنه من الشيخ وحده كانت له هذه القوة التي جعلته يصيب اللهسسام
247
من كل عظيم يعرفه ،وكان لسسه مسسن أثرهسسا هسسذا الشسسعر المسستين فسسي
وصف العظماء والعظائم وهو أحسن شعره.
ولم يجد حافظ من قسسومه مسسا يجعلسسه لسسسانهم حسستى تنطقسسه بسسالوحي
نفسيتهم التاريخية الكبرى ،ول توله ملسسك أو أميسسر يرغسسب فسسي أدبسسه
رغبة أديسسب ملسسك ،أو أديسسب أميسسر ،ليظهسسر منسسه عبقريسسة جديسسدة فسسي
التاريخ؛ ول عرف الحب الذي يجعل للشاعر مسسن سسسحر الحسسبيب مسسا
يجمع النفسية التاريخية والملكيسسة معًسسا ويزيسسد عليهمسسا؛ وهسسذه الثلثسسة
التي لم تتفق لحافظ ،هي التي ل ينبغ الشاعر نبوغ ًسسا يفسسرده ويميسسزه
إل بواحد منها أو باثنين أو بها كلها؛ غير أن "حافظ" وجد فسسي المسسام
ما هو أسمى من كل هؤلء في النفس والجاذبيسسة ،وعسسرف فيسسه مسسن
ذوق الدب والبلغة ما لم يعرف شاعر في ملك ول أمير؛ وقد حضر
درسه في المنطق وأسرار البلغة ودلئل العجاز ،وخرج منها بذوقه
الدقيق وأسلوبه المتمكن ،وحضسسر مجالسسسه وخسسرج منهسسا بمواضسسيعه
الجتماعيسسة وأغراضسسه الوثابسسة ،وحضسسر نظسسرات عينيسسه وخسسرج منهسسا
بروحانية قوية هي التي تنضرم في شعره إلى البد ،فحسسافظ إحسسدى
حسنات الشيخ على العالم العربي ،وهو خطة من خططه في عمله
للصسسلح الشسسرقي السسسلمي والنهضسسة المصسسرية الوطنيسسة وإحيسساء
العربية وآدابها؛ وإذا ذكرت حسنات الشسسيخ أو عسسدت للتاريسسخ ،وجسسب
أن يقال :أصلح وفعل وفعل وفسر القرآن وأنشأ حافظ إبراهيم...
جًها بفكرة المام وروحه ،واسسستمر فسسي ذلسسك بعسسد ومضى شاعرنا مو ّ
موت الشيخ كما يستمر النهر إذا احتفر مجراه :ل يستطيع أن يخرج
عنه ما دام يجري إلى مقاّره.
وكان حافظ في بديعه وصناعته على مذهب مسسسلم بسسن الوليسسد كمسسا
دا
ما على حسسوكه ،وانفسسرا ً قلنا ،وهو مثله إبطاء في عمل الشعر ،وتلو ً
بكل لفظة منه ،وتقليًبا للنظر فيما بين الكلمة والكلمة ،واعتبسسار كسسل
بيت كالعروس :لهسسا معسسرض وحليسسة وزينسسة؛ فسسإذا عمسسل شسسعًرا انبسسث
خواطره في كل وجه ،وذهب وراء اللفاظ والمعاني ،وترك هاجسسسه
"العقل الباطن" 1يعمل عمله فيما التسسوى عليسسه أو استصسسعب ،وهسسو
واثق أنه سينقاد ويتسهل بقوة إن لم تكن فيه الن فستكون فيه؛ ثم
ينظسسم مسسا يتسسسمح إن جسساء فسسي موضسسعه مسسن القصسسيدة أو فسسي غيسسر
قا بعينه ،وإنما القصيدة عنده كسسل سسسيجتمع موضعه ،فل يتبع فيها نس ً
من بعد ،تتهيأ أجزاؤه متسقة ومبعثرة كما يجيء بها اللهام وأسباب
التفاق؛ فالقصيدة أوًل في أبياتها ،ثم تكون أبياتها فيها ،أي ثم ترتسسب
البيات وتنزل في منازلها ،ول ينظم إل متغنًيا ،يروض الشسسعر بسسذلك؛
248
لن النفس تتفتسسح للموسسسيقى فتسسسمح وتنقسساد ،وهسسو يتبسسع فسسي ذلسسك
طريقة
---------------
1كذا سماه المؤلف هنا ،وقد سماه في غير هذا الموضسسع "الواعيسسة
الباطنة".
معروفة ذكرها ابن حجة الحموي في كتابه "خزانة الدب" ،وهي من
وصية أبي تمام البحتري ،وكان المتنبي يعمل عليهسسا؛ وبالجملسسة فسسإن
"حافظ" يرتهن فكره بالقصسسيدة السستي ينظمهسسا ويتسسوفر عليهسسا وعلسسى
أسسسبابها ،ل كمسسا يفسسرغ الشسساعر للشسسعر ،ولكسسن كمسسا يتسسوفر المؤلسسف
العظيم على كتاب يؤلفه ،وهو كذلك يبطئ في نثره أكثر مما يبطئ
في الشعر ،دلني بنفسه رحمه الله على صسسفحة فسسي الجسسزء الثسساني
ما*.
من ترجمة البؤساء ،وقال :إنه ترجمها بخمسة عشر يو ً
وحضرته مرة يترجم أسطًرا من الجزء الول "فسسي قهسسوة الشيشسسة"
يخطها في دفتر صغير دون حجم الكف ،فسساجتمعت لسه ثلثسة أسسسطر
في ثلث ساعات ،وهذا ل يعيبه مسا دام يريسد قسسط الفسسن ،ومسا دام
يحاول أن يخرج الكلمات من عالمهسسا إلسسى عسسالمه هسسو المتمسسوج مسسن
اللفاظ والعبارات بمثل الكواكب فسسي السسستواء والجاذبيسسة والشسسعاع
والرونق والجمال.
ويرى مع الصناعة أن يكسسون سسسبك شسسعره سسسبك البسسدوي المطبسسوع:
جزًل سهًل مشرًقا ممتلًئا متعادل الجزاء والتقاسيم ،يرن رنيًنا كأنمسسا
قذفت به سليقة أعرابي فصيح ،تحت ضوء كواكب البادية ،على بسسرد
الرمل ،في نسمات الليل ،حين تمتلسسئ تلسسك النفسسس البدويسسة بحنيسسن
الحب ،أو شوق الجمسسال ،أو عظمسسة القسسوة؛ وهسسذا هسسو الصسسل السسذي
اتبعه ،وقفني عليسسه هسسو بنفسسه فسسي سسسنة ،1902وقرظنسسي بسه فسي
الجزء الول من ديواني فقال:
أنت والله كاتب حضرّيإن عددناك شاعًرا بدوّيا
ولو أنسسك أجريسست شسسعر حسسافظ فسسي أبلسسغ مسسا قسساله المطبوعسسون مسسن
العراب وشسسعراء القسسرن الول ،للتسسأم بسسه وزاد عليسسه فسسي الصسسناعة
وبعض المعنى؛ وقل أن تجسد فسسي شسسعره كلمسة ينبسو بهسا مكانهسا ،إل
ظا قليلة كان يستكرهها ،يحسب أنه يسسستطرف منهسسا ويسسرى فسسي ألفا ً
دا؛ وهذا من خطأ رأيه في السلوب؛ لنه مع بلغته كسسان غرابتها جدي ً
ينقصسه أن يكسون فيلسسسوًفا فسسي البلغسسة ،وأنسا أرى أنسه لسو تمست لسه
الموهبة الفلسفية لما جاراه شسساعر آخسسر ،ولكسسن الكمسسال عزيسسز فسسي
البشرية؛ وقد عرفت رأيه في السلوب في سسسنة ،1906إذ نشسسرت
249
له مجلة القلم السستي كسسان يصسسدرها صسساحبنا الديسسب جسسورج طنسسوس
كلمات كان يريد أن يضمنها كتابه "ليالي سسسطيح" ،أظهسسر فيهسسا رأيسسه
في الشعراء ،فقال فسسي إسسسماعيل صسسبري :يقسسول الشسسعر لنفسسه ل
للنسساس ،وفسسي شسسوقي :أرق الشسسعراء ،طبعًسسا وأسسسماهم خيسساًل وفسسي
ي -ولم يكن مضى مطران :أسرعهم بديهة وأقدرهم ابتكاًرا .وقال ف ّ
علسسي إل سسست سسسنين فسسي طلسسب الدب :مكثسسار راقسسي الخيسسال بعيسسد
الشوط في ميادين الدب ،غير ناضسسج السسسلوب .فلمسسا اجتمعسست بسسه
فاتحته في ذلك وسسألته رأيسه فسي السسلوب الناضسج ،فلسم أر عنسده
طائًل ،وكل ما قاله في ذلك :أن الشيخ عبد القسساهر الجرجسساني قسسرر
أن البلغة ليست في اللفظ ول في المعنى ،ولكنهسسا فسسي السسسلوب.
وعبد القاهر لم يقل هذا ول قاله غيره ،فإن السلوب عنده "طريقسسة
مخصوصة في نسق اللفاظ بعضها على بعض لترتيب المعسساني فسسي
النفس وتنزيلها" ،و"أن المنزلة من حيز المعاني دون اللفاظ ،وأنهسسا
ليسسست لسسك حيسسث تسسسمع بأذنسسك ،بسسل حيسسث تنظسسر بقلبسسك وتسسستعين
بفكرك".
---------------
* لما أهدي إلي هذا الجزء كنا قبل الظهر ،فلم يسسدعني حسستى قرأتسسه
كله معه إلى العصر وكتبت عنه في المقطم بعد ذلك.
وقد قررت أن لللفسساظ مسسا يشسسبه اللسسوان ،فليسسست كلهسسا زرقسساء ول
صفراء ول حمراء ،ورب لفظة رقيقة تقع ضعيفة في موضسسع فيكسسون
ضعفها في موضعها ذاك هو كل بلغتها وقوتها ،كفترة السكوت بيسسن
أنغام الموسيقى :هسسي فسسي نفسسسها صسسمت ل قيمسسة لسسه :ولكنهسسا فسسي
موضعها بين النغام نغم آخر ذو تسسأثير بسسسكونه ل برنينسسه؛ وهسسذا مسسن
روح الفن في السلوب.
وأدرك شاعرنا من يومئذ ما سميته "قوة الضسسعف" ،ولعسسل هسسذا هسسو
السبب في أن طبعه رجع يعدل به إلى التسهيل ،حتى أنه لتقسسع فسسي
شعره أبيات متهافتة فيأتي بهسسا ول ينكرهسسا؛ ولقينسسي مسسرة فأنشسسدني
قول الشاعر:
نا لم أرزق محبتها إنما للعبد ما رزقا
وجعل يعجني من بلغة قوله "لم أرزق" وأنها مع ذلك ضعيفة مبتذلة
تجري في منطق كل عامي ،قلت :ولكن "محبتها" جعلتها كمحبتها...
وضعف الموهبة الفلسفية في حافظ عوضه ناحية أخرى مسسن أقسسوى
القوة في الشعر ،وهي اهتداؤه إلى حقيقة الغرض الذي ينظم فيسسه،
وتركه الحواشي والزيادات ،وانصراف قواه إلى دقسسة الوصسسف حيسسن
250
يصف ،وتعويله على إحساسه أكثر من تعويله على فكره؛ فزاد ذلسسك
في رونق شعره ومائة ،ونحا بسسه منحسسى المطبسسوعين ،فخسسرج يتسسدفق
سلسة وحلوة ،ممتلًئا من صواب المعنى وبلغة الداء وقوة التأثير؛
غا انفرد به ،حتى لحسب أن وبهذا نبغ في الرثاء ووصف الفجائع نبو ً
حا يمده في هذه المواقف ،وأن الحقيقة تتبرج له فسسي هسسذه هناك رو ً
العظائم خاصة ليرى منها ما ل يراه غيره؛ وهو يتحسد ّ بسسالعظيم السسذي
يرثيه فيجيد فيمن يعرفه إجادة منقطعة النظيسسر ،تتسسبين الفسسرق بينهسسا
وبيسسن شسسعره فيمسسن ل يعرفسسه تلسسك المعرفسسة؛ وأحسسسبه يسسسأل روح
العظيم الذي يصفه أو يرثيه :أين المعنى الذي فيسسه حقيقتسسك؟ وأيسسن
الحقيقة التي فيها معناك؟
والفلسفة الشعرية كلهسسا أن يحسسل فسسي الشسساعر الملهسسم ذلسسك السسسر
الجميل الجاذب والمنجذب مًعا ،المستقر والمتحول جميعًسسا ،البسساطن
والظاهر في وقت؛ فيكتنه الشاعر مسسا ل يسسدركه غيسسره ،فيقسسف علسسى
الجمال والحسن والرقة ،ويلهم الحكمة والبصيرة ويتنسساول الغسسراض
بالتحليل والتركيب ،ويؤتى التعبير عن كل ذلك في طريقة خاصة بسسه
هي أسلوبه ،وهذا لم يتفق على أتمه وأحسنه في حافظ ،فقصسسر بسه
في توليد المعاني المبتكرة ،ونزل به في الغزل ووصف الجمال؛ بيد
أنه اتفق له مثل هذا الجلل بعينه في "الجانب المتألم من شسسعره"،
أي الرثاء والشكوى ووصف الفجيعة ،ولو ذهبت تسسستعرض المراثسسي
في الشعر العربي ،ومثلت بينهسسا وبيسسن رثسساء حسسافظ للعظمسساء السسذين
خالطهم ،كالسسستاذ المسسام ،والبسسارودي ،ومصسسطفى كامسسل ،وثسسروت،
لراعك أنك واجسد للشسعراء مسا هسو أسسمى مسن معسانيه وأقسوى مسن
خياله ،ولكنك ل تجد البتة ما هسسو أفخسسر وأدق ممسسا جسساء بسسه فسسي هسسذا
الباب ،كأنه منفرد في العربية بهذه الخاصة.
وهذا المعري يقول:
ولول قولك الخلق ربيلكان لنا بطلعتك افتتان
ويقول في شعر آخر:
أسهب في وصفه علك لناحتى خشينا النفوس تعبدها
وهذان البيتان تراهما صعلوكين إذا قسسستهما بقسسول حسسافظ فسسي رثسساء
الشيخ محمد عبده:
فل تنصبوا للناس تمثال "عبده"وإن كان ذكرى حكمة وثبات
فإني لخشى أن يضلوا فيومئواإلى نور هذا الوجه بالسجدات
مع أن معنى حافظ مأخوذ منهما ،ولكن انظر كيف جسساء بسسه؟ ويقسسول
المعري في رثاء أبيه:
251
ولو حفروا في درة ما رضيتهالجسمك إبقاء عليك من الدفن ويقسسول
في رثاء غيره:
واه الكفان من ورق المصحف كبًرا عن أنفس البرار خب ُ َ
وا ْ
ضا كالصعاليك عند قول حافظ في البارودي: وهذان أي ً
لو أنصفوا أودعوه جوف لؤلؤةمن كنز حكمته ل جوف أخدود
وكفنوه بدرج من صحيفتهأو واضح من قميص الصبح مقدود
م بقول المعري .ومن بديع ما اتفق له في قصسيدة مع أن "حافظ" أل ّ
"المتان تتصافحان" قوله يصف السوريين:
دا ركبوارادوا المناهل في الدنيا ولو وجدواإلى المجرة ركًبا صاع ً
أو قيل في الشمس للراجين منتجعمدوا لها سبًبا في الجو وانتدبوا
فاقرأ هذين وأقرأ بعدهما قول المتنبي في سيف الدولة:
وصول إلى المستصعبات بخيلهفلو كان قرن الشمس ماء لوردا
فإنك تجد بيت المتنبي صعلو ً
كا علسسى بيسستي حسسافظ ،مسسع أنسسه المبتسسدع
السابق.
وأعجب ما عجبت لسسه هسسذا السسبيت مسسن شسسعر صسساحبنا فسسي مقطوعسسة
يخاطب بهسسا المريكسسان ،نشسسرها فسسي المقطسسم مسسن ثلث سسسنوات أو
نحوها ،قال:
وتخذتم موج الثير بريداحين خلتم أن البروق كسالى
سا في زيارة الصديق الستاذ فؤاد صروف واتفق يومئذ أن كنت جال ً
محرر المقتطف ،فجاء حافظ ،فلم يكد يصسسافحني حسستى قسسال :كيسسف
ترى هذا البيت :وتخذتم موج الثير بريدا ...الخ؟ فسسأثنيت عليسسه السسذي
يهوى ،وهنأته بهذا المعنى ،وأظهرت له ما شاء من العجاب ،ولكني
أضمرت عجبي من حسن مسسا اتفسسق لسسه فسسإن الجمسسال الشسسعري فسسي
البيت إنما هو في استعارة الكسل للبروق ،وهذا بعينه من قول ابسسن
نباتة السعدي في سيف الدولة:
دىإل قضيت للمح البرق بالكسل ما في ندى ور ً وما تمهل يو ً
غير أن "حافظ" نقل المعنى إلى حقه ،ومكن له أحسن تمكيسسن فسسي
صدر كلمه ،وأتم جمساله فسي قسوله "حيسسن خلتسم" ،فسساقتطع المعنسى
وانفرد به ،وعاد معنى السعدي كالصسسعلوك علسسى بسساب بيتسسه؛ وكسسانت
هذه المقابلة في المقتطف آخر عهدي بحافظ ،فلم أره مسسن بعسسدها؛
رحمه الله!
وما مر بك إنما كان من صسسناعة الشسسعر فسسي غيسسر الجسسزء الول مسسن
ديوانه بعد أن استفحل وتخرج في مدرسسسة المسسام ،أمسسا فسسي الجسسزء
الول فله هو صعاليك ...كقوله في الخمر:
252
خمرة قيل إنهم عصروهامن خدود الملح في يوم عرس
فهذا البيت صعلوك عند قول ابن الجهم:
مشعشعة من كف ظبي كأنماتناولها من خده فأدارها
وقول حافظ" :عصروها في خسسدود الملح" كلم مسسن لسسم ينضسسج فسسي
البيسسان ول السسذوق ،ل يكسساد يتسسوهم معسسه إل أن فسسي خسسدود الملح
"خراجات" عصرت...
وعلى ضد هذا قول ابن الجهم" :تناولها من خده" ،فهسي كلمسة أكسثر
نعومة من ذلك الخد وأجمل نضرة.
وقول حافظ في مدح الخديو:
يا من تنافس في أوصافه كلميتنافس العرب المجاد في النسب
فهو صعلوك على بيت أبي تمام:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت لهحتى ظننت قوافيه ستقتتل
ول نطيل الستقصاء ،فإنما نريد التمثيل حسب.
وكان الشاعر أول نشأته يأخذ في طريقة المعسري السذي عمسي عسن
الطبيعة فجعل يخلقها من فكسسره ومحفسسوظه بمبالغسسات كاذبسسة يغسسرق
فيها يحسب أنه بذلك يعظم الحقائق فتخرج له الخيلة الكبيرة ،ومسسا
يدري أنه بهذا الغلو ل يجيء إل بالباطيل الكبيرة ...ولكن حافظ في
مزاجه وتركيبه ونشأته كان رجًل مبنًيا علسسى الوضسسوح والقصسسد .فلسسم
يفلسسح فسسي طريقسسة المعسسري؛ ووضسسوحه كسسذلك باعسسده مسسن الفلسسسفة
وإبهامها ،ومن الطبيعة وألغازها ،ومن الغزل ووساوسسسه؛ وهسسو السسذي
أداه إلى الشغف بالحقيقة واستخلصها في كل أغراضسسه السستي أجسساد
فيها؛ ومن ثسسم خل شسسعره أو كسسأنه خل ...مسسن أوصسساف الطبيعسسة فسسي
جمالها بلغة الفكرة المتأمل ،ومن أوصاف الجمال في سسسحره بلغسسة
القلب العاشق.
وأنت فل تحسبن الشاعر يجيد في الغزل والنسسسيب مسسن أنسسه شسساعر
يحسن الصنعة ويجيد السلوب ،فيكون غرض من الشعر سسسبيًل إلسسى
غرض ،وفن عون ًسسا علسسى فسسن ،وتكسسون رقسسة اللفسساظ وهلهلسسة النسسسج،
وقلبي ،وكبدي ،ويا ليلة ويا قمسًرا ،ويسا غسزاًل ...وأشسسباه ذلسك -غسزًل
ضا....
ونسيًبا؛ كل ثم كل ،والثالثة كل أي ً
إن الغزل وأوصاف الجمال موهبة في الشاعر أو الكاتب تسسسخر لهسسا
قوى هي أشبه في معجزاتهسسا بمسسا سسسخر لسسسليمان مسسن قسسوى الجسسن
والريح ،غير أنها قوى آلم ولذات ووساوس؛ تلك عظمسسة فسسي بعسسض
النفوس الشاعرة كعظمسة الملسوك والبطسال ،غيسر أنهسا ل تكمسل إل
خائبة أو مغلوبة ،فإذا انتصرت سقطت فل بد لها من تاريخ وحسسوادث
253
ومزاج عصبي يهيئ لها بروحانية شديدة الحس شديدة الفورة ثسسائرة
دا ل تهدأ إل على توليد معنى بديع في جمال من تحبه أو كجمسساله؛ أب ً
ثم إذا هدأت بذلك أثارها أنهسسا هسسدأت ،فتعسسود إلسسى التوليسسد ،فل تسسزال
تبتدع وتصسسف كأنهسسا آلسسة تعسسبير تسسدور بقلسسب وعصسسب؛ هنسساك قوتسسان:
قا ،والخسسرى فسسوق هسسذه مسسا وعشس ً
إحداهما توتي الحب كما يصلح غرا ً
قا
تؤتي الحب كما يصلح فكًرا وتعبيًرا؛ والولسى تجعسل صساحبها عاشس ً
يحب ويدرك ليس غير ،والثانية تجعله محًبا عمله أن ينقسسل مسسن لغسسة
ما في نفسه إلى ما حوله ،ومن لغة ما حوله إلى ما في نفسه؛ فهو
مترجم النفس إلى الطبيعة ،ومترجم الطبيعسسة إلسسى النفسسس؛ والسسذي
أعرفه أن "حافظ" لم يرزق ل هذه ول تلسسك ،فل طبيعسسة فيسسه للغسسزل
وفلسفة الجمال؛ ثم إن التاريسسخ حصسسره فسسي "الشسساعر الجتمسساعي"
الذي اختار أن يمتاز به ،فهو في أكثر شعره كان ليس فيسسه شسسخص،
بل فيه شعب مأسور غفل عن الجمال وعن الطبيعسسة وعسسن النشسسوة
بهما؛ إذ يعيش في معاناة الحرية ل في التأمل الجميل ،وفي أسباب
القوة ل في أسباب الرقة ،ويريد أن يعمسسل؛ ليوجسسد حقيقتسسه قبسسل أن
يعمل؛ ليبدع خياله.
ومع ذلك فقد جاء فسسي ديسسوان حسسافظ غسسزل قليسسل كسسان كلسسه متابعسسة
دا في فن يحسن التقليد إل فيسسه خاصسسة؛ عمسسل صسسدًرا لقصسسيدة وتقلي ً
مدح بها الخديو مطلعها:
كم تحت أذيال الظلم متيمدامي الفؤاد وليله ل يعلم
قا ظاهًرا ،ثسسم زعسسم أن وقلد ابن أبي ربيعة في حكاية حب لفقها تلفي ً
الحبيبة قالت له في آخرها:
فاذهب بسحرك قد عرفتك واقتصدفيما تزّين للحسان وتوهم
وكلمة صاحبة ابن أبي ربيعة:
أهذا سحرك النسوانقد عرفتني الخبرا
أهذا سحرك النسوان؟ ...هذه كلمة ل تخرج إل من فسسم حسسبيبته آيسسة
في الظرف ،وفيها تجاهلهسسا وعرفانهسسا وابتسسسامها وإشسسراق وجنتيهسسا،
وأكاد والله أرى فيها
تلك الجميلة وهي تدق بيدها على صسسدرها دقسسة السسستفهام المتسسدلل
المتظاهر بالدهشة؛ ليتنهد فيه الكلم والمتكلم مًعا ،أمسا قسسول حبيبسة
حافظ الخشبية ،أو الحجرية ...اذهب ...قد عرفتسسك واقتصسسد ...فهسسذا
ض وهو ينصح المتهسسم بعسسد المسسر بسسالفراج خليق أن يكون من فم قا ٍ
عنه ...أو مأمور قسم عند ضبط الحادثة!
254
أكسسبر ظنسسي أن روح حسسافظ نفسسسه هسسي السستي أوحسست إلسسى الن هسسذه
"النكتة" ،فإنه -رحمسسه اللسسه -كسسان آيسسة فسسي البسساب ،ولسسه مسسن النسسوادر
محفوظة ومخترعة ما ل يلحق فيه؛ ولو كان كاتًبا على قدر مسسا كسسان
شاعًرا ،وزاول النقد واستظهر للكتابة فيه بتلك الملكة المبدعة فسسي
التندر والتهكم ،مع ما أوتسسي مسسن القسسوة فسسي اللغسسة والبيسسان -لكسسانت
النعمة قد تمت به علسسى الدب العربسسي ،ولقلنسسا فسسي شسسعره وكتسسابته
وأدبه ما قال هو في الستاذ المام:
فأطلعت نوًرا من ثلث جهات
وما دمنا قد ذكرنا النقد فمن الوفاء للتاريخ الدبسسي أن نسسذكر مسسذهب
شسساعرنا فيسسه :فلسسم يكسسن عنسسده منسسه إل ذوق الكلم ،وإدراك النفسسرة
والنبسسوة فسسي الحسسرف ،والغلسسظ والجسسسأة فسسي اللفسسظ ،والضسسعف
والتهافت في التركيب ،ثسسم مسسا يجيسسش فسسي الخسساطر أو يتلجلسسج فسسي
الفكر من ذوق المعنى وإدراك كنهه والنفاذ إلسى آثسار النفسس الحيسة
فيه؛ فكأن النقد هو الحسسس بسسالكلم كمسسا تلمسسس الحسسار والبسسارد ومسسا
بينهما؛ ووصف لي مرة إسماعيل صبري باشا وأراد أن يبالغ في دقة
تمييزه وحسن بصره بالشعر وإدراكه دقائق المعسساني ،فقسسال" :ذواق
يا مصطفى" ولم يزد.
ومذهب الحس بسسالكلم هسسذا وإن صسسلح أن يكسسون مسسن بعسسض معسساني
النقد ،فل يتهيأ أن يكون هو النقد بمعنسساه الفلسسسفي أو الدبسسي ،وهسسو
في جملة أمره كقولك حسسسن حسسسن؛ وردي رديسسء ،أمسسا كيسسف كسسان
حسًنا أو رديًئا ،وبمساذا ولمساذا ،فسذلك مسا ل سسبيل إليسه مسن مسذهب
"ذواق" ...ول وسسسيلة لسسه إل العلسسم المسسستفيض ،والطلع الواسسسع،
والحس المرهف ،والقدرة المتمكنة ،مضافة كلها إلسسى الدب البسسارع
وفلسفته الدقيقة؛ ول نعرف لحافظ كتابة في النقد البتة ،وقسسد كسسان
حاول شيًئا من هذا في مقدمة كتابه "ليالي سسسطيح" ،فتنسساول بعسسض
خصومه بكلمات رأى هو أن يمحوها بعد أن طبعت الكراسة الولسسى،
فأسقطها وأعاد كتابسسة المقدمسسة وطبعهسسا مسسرة ثانيسسة ،وكسسانت عنسسدي
دا يعرفسسه الن؛ رحسسم اللسسه النسخة التي محاها ،وهذا مسسا ل أظسسن أح س ً
شاعًرا كان أصفى من الغمام ،وكان شعره كأنه البرق والرعد...
255
كلمات 1عن حافظ*
ذهبت بقلبي إلى كل مكان فوجدت أمكنسسة الشسسياء ولسسم أجسسد مكسسان
قلبي؛ أيها القلب المسكين ،أين أذهب بك؟
هذا ما أجبت به "حافظ" حين سألني مرة :ما لك ل ترضى ول تهسسدأ
ض مستقر هادئ ،كأنمسسا قضسسى ول تستقر؟ وكان يخيل إلي أنه هو را ٍ
من الحياة نهمته ولم يبق فسسي نفسسسه مسسا تقسسول نفسسسه ليسسست ذلسسك
لي! .وكنت أعجب لهذا الخلق فيسسه ول أدري مسسا تعليلسسه إل أن يكسسون
عا بطابع اليتم فلم يعرف منذ أدرك إل أنه ابن القسسدر؛ قد خلق مطبو ً
تأتيه الفراح والحزان من يد واحدة مقبلة كما تنال الصسسبي ألطسساف
أبيه ولطمات أبيه...
وقد قلت له مرة :كأنك يسا حسافظ تنسام بل أحلم! فضسحك وقسال :أو
كأنني أحلم بغير نوم...
ولقد عرفته منذ سنة 1900إلى أن لحق بربه في سنة ،1932فما
مسسا بسسروح القسسبر ،وفسسيكنت أراه على كل أحسسواله إل كسساليتيم :محكو ً
القبر أوله؛ ولما أزمع السسسفر إلسسى اليونسسان قلسست لسسه :أل تخشسسى أن
تموت هنسساك فتمسسوت يوناني ًسسا ...فقسسال :أو ترانسسي لسسم أمسست بعسسد فسسي
مصر؟ ...إن الذي بقي هين!
ومسسن عجسسائب هسسذا اليسستيم الحزيسسن أنسسه كسسان قسسوي الملكسسة فسسي فسسن
الضحك ،كسسأن القسسدر عوضسسه بسسه؛ ليوجسسده فسسي النسساس عطسسف البسساء
ومحبة الخسسوة .ولسسم يخسسل مسسع فقسسره مسسن ذريعسسة قويسسة إلسسى الجسساه،
ووسيلة مؤكدة إلى ما هو خير من الغنى؛ فكانت أسبابه إلى الستاذ
المام الشيخ محمد عبده ،ثم حشمت باشا ،ثم سسسعد باشسسا زغلسسول؛
وهذا نظام عجيب فسسي زمسسن "حسسافظ" يقابسسل الختلل العجيسسب فسسي
نفس حافظ؛ فالرجل كالسفينة المتكفئة :تميسسل بهسسا موجسسة وتعسسدلها
موجة ،وهي بهذه وبهذه تمر وتسير.
---------------
1كتبها في الذكرى الثالثة لوفاته.
* لما توفي حافظ رحمه الله كتبنا فصًل طويًل عن أدبسسه للمقتطسسف،
فلم نعرض في كلماتنا هذه لشيء من أدب الرجل وإنما هي ذكسسرى
وبقايا من اليام.
ما في زمن حافظ، وأولئك الرؤساء العظماء الذين جعلهم القدر نظا ً
كانوا من أفقر الناس إلى الفكاهة والنادرة ،فكان لهم كسسالثروة فسسي
حا فسسي عيشسسه؛ ولسسو حا في عيشهم وكانوا إصل ً هذا الباب ،ووقع إصل ً
256
أن القدار تشبه بالمدارس المختلفة ،لقلنا إن "حسسافظ" تخسسرج منهسسا
في مدرسة التجارة العليا ...فهو كان أبرع من يتاجر بالنادرة.
ضا صنعت "حافظ" في شكل نادرة؛ فكسسان وهذه النوادر كأنها هي أي ً
فقيًرا ،ومع هذا كان للمال عنده متمم ،هو إنفاقه وإخراجه من يسسده؛
ما متودد؛ وكسسان حزين ًسسا ،ولكنسسه أنيسسس الطلعسسة؛ ما ،ولكنه دائ ً
وكان يتي ً
سسسا ،ولكنسسه سسسليم الصسسدر ،وكسسان فسسي ضسسيق ،ولكنسسه واسسسع وكان يائ ً
ً
الخلق؛ وتمام النادرة فيه أنه كان طوال عمره متبسسطا مهسستًزا كسسأن
له زمًنا وحده غير زمن الناس ،فتتراكم عليسسه الهمسسوم وهسسو مسسستنيم
إلى الراحة ،ويعتريه من الجوع مثل مكسلة الشسسبع ويسترسسسل إلسسى
البطالة وكأنه مشمر للجد ،ويستمكن الحزن منه في سسساعة فيتهسسدد
حزنه بالساعة التالية...
رأيته في أحد أيام بؤسسسه الولسى قبسل أن يتصسسل عيشسه ،وكسسان يعسد
شا في يده ،فقلت :ما هذه القروش؟ قرو ً
شا ولم يبق لي غير هسسذه قال :كنت أقامر الساعة فأضعت ثلثين قر ً
ش .ودخل إلى مطعم كسسان وراء حديقسسة القروش الملعونة ،فهلم نتع ّ
الزبكية ،فزعمت له أني تعشيت ...فأكل هو ودفع ثمن طعامه ثلثة
قروش؛ وكنت أطالع في وجهه وهو يأكل ،فمسسا أتسسذكره الن إل كمسسا
طالعته بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ حين دعاني "حسسافظ" إلسسى
مطعم بار اللواء وقد فاضت أنامله ذهًبا وفضة ،وكان رحمه الله قسسد
أصدر الجزء الثاني من "البؤساء" ورآني فسسي القسساهرة فأمسسسك بسسي
حتى قرأت معه الكتاب كله فيما بين الظهسسر والمغسسرب ،وركبنسسا فسسي
الصيل عربة وخرجنا نتنزه ،أي خرجنا نقرأ...
وكان على وجه "حسسافظ" لسسون مسسن الرضسسى ل يتغيسسر فسسي بسسؤس ول
نعيم ،كبياض البيض وسواد السود؛ وهذا من عجسسائب الرجسسل السسذي
كان في ذات نفسسه فّنسا مسن الفوضسى النسسانية ،حستى لكسأنه حلسم
شعري بدأ من أبويه ثم انقطع وترك لتتممه الطبيعة!
ومن نظر إلى "حافظ" على اعتبار أنه فسسن مسسن الفوضسسى النسسسانية
رآه جميًل جمال الشياء الطبيعية ل جمال الناس؛ ففيه من الصحراء
والجبال والصخور والغياض والبرق والرعد وأشباهها؛ وكنت أنسسا أراه
مسسا ،وأرى فسسي شسسكله بهذه العين فأسسستجمله ،ويبسسدو لسسي جسسزًل مطه ً
هندسة كهندسة الكون؛ تتمم محاسنها بمقابحها وكم قلت له :إنك يا
حافظ أجمل من القفر...
مسا شسنيع المسرآة متفساوت الخلسق كسأنه أما هو فكان يرى نفسسه دمي ً
إنسان مغلوط في تركيبه...
257
وقد سألته مرة :هل أحب؟
فقال :النساء اثنتان :فإما جميلة تنفر من قبحسسي ،وإمسسا دميمسسة أنفسسر
من قبحها! ولهذا لم يفلح في الغزل والنسيب ،ولم يحسن مسسن هسسذا
الباب شيًئا يسمى شيًئا؛ وبقي شاعًرا غير تام ،فإن المسسرأة للشسساعر
دا لم يكسسن فيسسه،ما جدي ً كحواء لدم :هي وحدها التي تعطيه بحبها عال ً
وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازًل...
وتهدم حافظ في أواخر أيامه مسسن أثسسر المسسرض والشسسيخوخة ،وكسسان
آخر العهد به أن جاء إلى إدارة "المقتطسسف" وأنسسا هنسساك ،فلسسم يرنسسي
حتى بادرني بقوله :ماذا ترى في هذا البيت في وصف المريكان:
داحين خلتم أن البروق كسالى* م موج الثير بري ً وتخذت ْ
فنظرت إلى وجهه المعروق المتغضن وقلت له :لو كان فيك موضسسع
قبلة لقبلتك لهذا البيت! فضحك وأدار لي خده؛ ولكسسن بقسسي خسسده بل
تقبيل.
وشهرة هذا الديب العظيم بنوادره ومحفوظاته مسسن هسسذا الفسسن أمسسر
مجمع عليه؛ وكان يتقصص النسسوادر والفكاهسسات ومطارحسسات السسسمر
من مظانها في الكتب ورجال الدب وأهل المجون ،فإذا قصها علسسى
من يجالسه زاد في أسلوبها أسلوبه هو ،وجعل يقلبها ويتصرف فيهسسا
ويبين عنها أحسن البانة بمنطقه ووجهه ونبرات في لسسسانه ونسسبرات
في يده.
وهو أصمعي هذا الباب خاصة ،يروي منه رواية عريضة ،فإذا اسسستهل
حا كأنها قوافي قصيدة تدعو الواحدة منها أختها السستي سح بالنوادر س ً
بعدها.
ما فسي سسنة 1901أو سسا حضسرته قسدي ً وقد أذكرتني "ألقوافي" مجل ً
،1900وكان "مصباح الشرق" قد نشر قصيدة رائية لبسسن الرومسسي،
فتعجب المرحوم الشيخ محمد المهدي من بسطة ابن الرومسسي فسسي
قوافيه ،فقال له "حافظ" :هلم نتساجل في هذا الوزن حسستى ينقطسسع
أحدنا؛ وكانت القافيسسة مسن وزن :قسدرها ،أحمرهسا ،أخضسسرها ...السسخ،
وجعلت أنا أحصسي عليهمسا؛ فلمسا ضساق الكلم كسان الشسيخ المهسدي
يفكر طويًل ثم ينطق باللفظ ،ول يكاد يفعل حتى يرميه حافظ علسسى
البديهة ،فيعود الرجل إلى الطراق والتفكير؛ ثم انقطع أخي سًرا وبقسسي
حافظ يسرد له من حفظه الغريب.
---------------
* هذا البيت من قصيدة نظمها حافظ يخاطب فيها المريكيين ،وقسسد
أشرنا في مقالنا في المقتطف إلى أن معناه مسروق.
258
أما في النوادر فالعجيبة التي اتفقت له في هذا الباب أنسسه جسساء إلسسى
طنطا في سنة 1912ومديرها يومئذ المرحوم "محمد محب باشسسا"
قسسا ،وكنسست أخسسالطه وأتصسسل بسسه ،فسسدعافسسا لب ً
وكسسان داهيسسة ذكي ًسسا وظري ً
"حافظ" إلى العشاء في داره؛ فلما مسسدت اليسسدي قسسال الباشسسا :لسسي
عليك شرط يا حافظ ،قال :وما هو؟ قال :كل لقمة بنادرة!
ي ذلسك ،ثسم أخسذ يقسص ويأكسل، فتهلسل حسافظ وقسال :نعسم ،لسك علس ّ
مسسا ،فمسسا انقطسسع ول أخسسل حسستى وفسسىوالعشاء حافل ،وحافظ كان نه ً
بالشرط؛ وهذا ل يمنسسع أن الباشسسا كسسان يتغافسسل ويتغاضسسى ويتشسساغل
بالضحك ،فيسرع حافظ ويغالط بفمه...
ولكن هذه المضحكات أضحكت من "حافظ" مرة كما أضسسحكت بسسه؛
مسسا-
فلما كان يترجم "مكبث" لشكسبير -وهي كأعمسساله الناقصسسة دائ ً
دعوه للقاء محاضرة في نادي المدارس العليا ،والنادي يومئذ يجمع
ما وكان صاحب السر فيسسه "السسسكرتير" زينسسة خير الشباب حمية وعل ً
شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي؛ فقسسام حسسافظ فأنشسسدهم
ما عن شكسبير ،ومثله تمسسثيًل أفسسرغ فيسسه جهسسده، بعض ما ترجمه نظ ً
فسسأطرب وأعجسسب :ثسسم سسسألوه المحاضسسرة فأخسسذ يلقسسي عليهسسم مسسن
نسوادره ،وبسسدأ كلمسسه بهسذه النسسادرة :عرضسست علسسى المعتصسسم جاريسسة
يشتريها ،فسألها أنت بكر أم ثيب؟ فقالت :كثرت الفتوح علسسى عهسسد
المعتصم...
ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرهسسا ...وبقيسست هسسذه الوجسسوه إلسسى
آخر المحاضرة كأنها تقول له :إنك لم تفلح!
ولقد كان هذا من أقوى السسسباب فسسي تنبسسه "حسسافظ" إلسسى مسسا يجسسب
للشسسباب عليسسه إن أراد أن يكسسون شسساعره ،فأقبسسل علسسى القصسسائد
السياسسسية السستي كسسسبهم بهسسا مسسن بعسسد؛ ونسسادرة المعتصسسم كسسالعورة
المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعسسة الخسسرى
أم ل؛ فقد عرضت جارية أديبة ظريفسسة علسسى الرشسسيد فسسسألها :أنسست
بكر أم إيش؟
م إيش" يا أمير المؤمنين... فقالت :أنا "أ ّ
وفن "الشعر الجتماعي" الذي عرف بسسه حسسافظ ،لسسم يكسسن فنسسه مسسن
قبل ،ول كان هو قد تنبه له أو تحراه في طريقته؛ فلمسسا جسساءت إلسسى
مصر المبراطورة "أوجيني" نظم قصيدته النونية التي يقول فيها:
فاعذرينا على القصور ،كلناغيرته طوارئ الحدثان
ولقيته بعدها فسألني رأيي في هذه القصيدة ،وكان بها مدًل معجًبسسا،
شأنه في كل شسعره؛ فانتقسدت منهسا أشسياء فسي ألفاظهسا ومعانيهسا،
259
وأشرت إلى الطريقة التي كان يحسن أن تخاطب بها المسسبراطورة؛
فكسسأنني أغضسسبته؛ فقسسال :إن الشسسيخ محمسسد عبسسده ،وسسسعد زغلسسول،
وقاسم أمين -أجمعوا على أن هذا النمط هو خير الشعر ،وقالوا لي:
إذا نظمت فانظم مثل هذا "الشعر الجتمساعي" ،ثسسم كسسأنه تنبسه إلسى
أنها طريقة يستطيع أن ينفرد بها ،إن كسل قصسائد شسوقي الن غسزل
ومدح ،ول أثر فيها لهذا الشعر ،على أنه هو الشعر.
وتتابعت قصائده الجتماعية ،فلقيني بعدها مرة أخرى فقال لسسي :إن
الشاعر الذي ل ينظم في الجتماعيات ليسسس عنسسدي بشسساعر .وأردت
أن أغيظه فقلت له :وما هي الجتماعيات إل جعل مقسسالت الصسسحف
قصائد؟...
فالستاذ المام وسعد زغلول وقاسم أميسسن :أحسسد هسسؤلء أو جميعهسسم
أصل هذا المذهب الذي ذهب إليه حافظ ،وهو كثيًرا ما كسسان يقتبسسس
من الفكار التي تعرض في مجلس الشيخ محمد عبسسده ،مسسن حسسديثه
أو حديث غيره ،فيبني عليها أو يدخلها في شعره ،وهو أحياًنسسا رديسسء
دا حين يكون المعنى فلسفّيا؛ إذ كسسانت ملكسسة الفلسسسفة فيسسه الخذ ج ّ
كالمعطلة ،وإنمسسا هسسي فسسي الشسساعر مسسن ملكسسة الحسسب ،وإنمسسا أولهسسا
وأصلها دخول المرأة في عالم الكلم بإيهامها وثرثرتها...
وكنت أول عهدي بالشعر نظمت قصيدة مدحت فيها السسستاذ المسسام
وأنفذتها إليه ،ثم قابلت حافظ بعدها فقسال لسي :إنسه هسو تلهسا علسى
المام ،وإنه استحسنها؛ قلسست :فمساذا كسسانت كلمتسسه فيهسسا؟ قسسال :إنسسه
قال :ل بأس بها ...
فاضطرب شيطاني من الغضب ،وقلت له :إن الشيخ ليس بشسساعر،
فليس لرأيه في الشسسعر كسسبير معنسسى! .قسسال :ويحسسك! .إن هسسذا مبلسسغ
الستحسان عنده.
قلت :وماذا يقول لك أنت حين تنشده؟ قال :أعلى مسسن ذلسسك قليًل..
فأرضاني والله أن يكسسون بينسسي وبيسسن حسسافظ "قليسسل" وطمعسست مسسن
يومئذ.
وأنا أرى أن "حافظ إبراهيم" إن هو إل ديوان الشيخ "محمد عبسسده":
لول أن هذا هذا ،لما كان ذلك ذلك.
ما في حاجة إلى من يسسسمعه، ومن أثر الشيخ في حافظ أنه كان دائ ً
فكان إذا عمل أبياًتا ركب إلسسى إسسسماعيل باشسسا صسسبري فسسي القصسسر
العيني ،وطاف علسسى القهسسوات والنديسسة يسسسمع النسساس بسسالقوة ...إذ
كانت أذن المام هي التي ربت الملكة فيه؛ وقد بينا هذا فسسي مقالنسسا
في "المقتطف".
260
وكان تمام الشعر الحافظي أن ينشسسده حسسافظ نفسسسه؛ ومسسا سسسمعت
فسسي النشسساد أعسسرب عربيسسة مسسن البسسارودي ،ول أعسسذب عذوبسسة مسسن
الكاظمي ،ول أفخم فخامة من حافظ -رحمهم الله جميًعا.
ما ،ولما قال في مدحه: وكان أديبنا يجل البارودي إجلًل عظي ً
فمر كل معنى فارسي بطاعتي وكل نفور منه أن يتوددا
قلت له :ما معنى هذا؟ وكيف يأمر البارودي كل معنى فارسسسي ومسسا
هو بفارسي؟ قسسال :إنسسه يعسسرف الفارسسسية ،وقسسد نظسسم فيهسسا ،وعنسسده
مجموعة جمع فيها كل المعاني الفارسية البديعة الستي وقسف عليهسا؛
قلت :فكان الوجه أن تقول له :أعرني المجموعة التي عندك...
أما الكاظمي فكان حافظ يجافيه ويباعده ،حتى قسسال لسسي مسسرة وقسسد
ذكرته به" :عققناه يا مصطفى!".
وما أنسى ل أنسى فسسرح حسسافظ حيسسن أعلمتسسه أن الكسساظمي يحفسسظ
قصيدة من قصائده ،وذلسسك أنهسسم فسسي سسسنة - 1901علسسى مسسا أذكسسر-
أعلنوا عن جوائز يمنحونها من يجيد في مدح الخديو ،وجعلوا الحكسسم
فسسي ذلسسك إلسسى البسسارودي وصسسبري والكسساظمي ،ثسسم تخلسسى البسسارودي
وصبري ،وحكم الكاظمي وحده ،فنال حافظ الميدالية الذهبية ،ونال
مثلها السيد توفيق البكري.
ولما زرت الكاظمي وكنت يسسومئذ مبتسسدًئا فسسي الشسسعر ،ول أزال فسسي
الغرزمة*
---------------
* الغرزمة :أول قول الشسسعر ،حيسسن يكسسثر الرديسسء فيسسه ،يقسسال :فلن
يغرزم.
قال :لماذا لم تدخل في هذه المباراة؟ قلت :وأين أنسسا مسسن شسسوقي
وحافظ وفلن وفلن فقال" :ليه تخلي همتك ضعيفة؟" ثم أسسسمعني
قصيدة حافظ وكان معجًبا بها ،فنقلت ذلك إلى حسسافظ ،فكسساد يطيسسر
عن كرسيه في القهوة.
وكان تعنسست حسسافظ علسسى الكسساظمي؛ لنسه غيسسر مصسسري ،ففسسي سسسنة
1903كانت تصدر في القاهرة مجلسسة اسسسمها "الثريسسا" ،فظهسسر فسسي
أحد أعدادها 1مقال عن الشعراء بهذا التوقيع ،وانفجسسر هسذا المقسال
انفجار البركان ،وقام به الشعراء وقعدوا ،وكان له في الغارة عليهم
كزفيسسسف الجيسسسش وقعقعسسسة السسسسلح ،وتنسسساولته الصسسسحف اليوميسسسة،
واستمرت رجفته الدبية نحو الشهر؛ وانتهى إلى الخديو؛ وتكلم عنسسد
الستاذ المسام فسي مجلسسه ،واجتمسع لسه جماعسة مسن كبسار أسساتذة
العصر السوريين ،كالعلمة سليمان البستاني ،وأديب عصسره الشسيخ
261
إبراهيم اليازجي ،والمسسؤرخ الكسسبير جسسورجي زيسسدان -إذ كسسان صسساحب
سسسا بعسسد
المجلة سسسوريا -وجعلسسوا ينفسسذون إلسسى صسساحب المجلسسة دسي ً
دسيس ليعلموا من هو كاتب المقال.
وشاع يومئذ أني أنا الكاتب له؛ وكان الكاظمي علسسى رأس الشسسعراء
دا ،وما كسساد يرانسسي فسسي القسساهرةفيه ،فغضب حافظ لذلك غضًبا شدي ً
حتى ابتدرني بقوله :ورب الكعبة أنت كاتب المقسسال ،وذمسسة السسسلم
أنت صاحبه!
ثم دخلنا إلى "قهوة الشيشة" ،فقال فسسي كلمسسه :إن السسذي يغيظنسسي
أن يأتي كاتب المقال بشاعر مسسن غيسسر مصسسر فيضسسعه علسسى رءوسسسنا
نحن المصريين! .فقلت :ولعسسل هسسذا قسسد غاظسسك بقسسدر مسسا سسسرك أّل
يكون الذي على رأسك هو شوقي...
وغضب السيد توفيق البكري غضًبا من نوع آخر ،فاستعان بالمرحوم
السيد مصسسطفى المنفلسسوطي اسسستعانة ذهبيسسة ...وشسمر المنفلسسوطي
فكتب مقاًل في "مجلة سركيس" يعارض به مقسسال "الثريسسا" ،وجعسسل
حا يرن رنيًنا.فيه البكري على رأس الشعراء ...ومدحه مد ً
أمسسا أنسسا فتنسساولني بمسسا اسسستطاع مسسن السسذم ،وجردنسسي مسسن اللفسساظ
والمعاني جميًعا ،وعدني في الشسسعراء ليقسسول إنسسي لسسست بشسساعر...
فكان هذا رد نفسه على نفسه*.
---------------
1عدد يناير سنة ،1905وانظر ص " 43-38حياة الرافعي".
2نشر المرحوم المنفلوطي مقسساله فسسي الطبعسسة الولسسى مسسن كتسسابه
"النظرات" بعد أن هذبه ،ثم حذفه مسسن الطبعسسات الخسسرى؛ لنسسه هسسو
كان يعلم أن النائحة المستأجرة ل يسمى بكاؤها بكاء...
وتعلسسسق مقسسسال المنفلسسسوطي علسسسى المقسسسال الول فاشسسستهر بسسسه ل
بالمنفلوطي؛ وغضب حافظ مرة ثانية ،فكتسسب إلسسي كتابسسا يسسذكر فيسسه
تعسف هذا الكاتب وتحامله ،ويقول :قد وكلت إليك أمر تأديبه ....1
فكتب مقاًل في جريسسدة "المنسسبر" ،وكسسان يصسسدرها السسستاذان محمسسد
مسعود وحافظ عوض ،ووضعت كلمسسة المنفلسسوطي السستي ذمنسسي بهسسا
في صدر مقالي أفساخر بهسا ...وقلست :إنسي كسذلك الفيلسسوف السذي
أرادوه أن يشفع إلى ملكه ،فأكب على قدم الملك حتى شفعه؛ فلما
عابوه بأنه أذال حرمة الفلسفة بانحنائه على قسسدم الملسسك وسسسجوده
له ،قال :ويحكم! .فكيف أصنع إذا كسسان الملسسك قسسد جعسسل أذنيسسه فسسي
رجليه...
262
ولم يكن مضى لي في معالجة الشعر غير سنتين حيسسن ظهسسر مقسسال
"الثريسسا" ،ومسسع ذلسسك أصسسبح كسسل شسساعر يريسسد أن يعسسرف رأيسسي فيسسه؛
فمررت ذات يوم "بحافظ" وهو في جماعة ل أعرفهم ،فلما اطمسسأن
بي المجلس قال حافظ :ما رأيك في شعر اليازجي؟ فسسأجبته :قسسال:
فالبستاني؟ فنجيسسب الحسسداد؟ ففلن؟ ففلن؟ فسسداود عمسسون؟ قلسست:
هذا لم أقرأ له إل قليًل ل يسوغ معه الحكم على شعره .قال :فمسساذا
قرأت له؟ قلت :رده على قصيدتك إليه:
شجتنا مطالع أقمارها
قال :فما رأيك في قصسسيدته هسسذه؟ قلسست :هسسي مسسن الشسسعر الوسسسط
الذي ل يعلو ول ينزل.
فمسسا راعنسسي إل رجسسل فسسي المجلسسس يقسسول :أنصسسفت واللسسه! .فقسسال
حافظ :أقدم لك داود بك عمون!...
رحم الله تلك اليام!.
263
شوقي 1
هذا هو الرجل الذي يخيل إلسسي أن مصسسر اختسسارته دون أهلهسسا جميعًسسا
لتضع فيه روحها المتكلم ،فأوجبت له ما لسسم تسسوجب لغيسسره ،وأعسسانته
بما لم يتفق لسواه ،ووهبته من القدرة والتمكيسسن وأسسسباب الرياسسسة
وخصائصها على قدر أمة تريد أن تكون شساعرة ،ل علسسى قسسدر رجسسل
في نفسه؛ وبسسه وحسسده اسسستطاعت مصسسر أن تقسسول للتاريسسح :شسسعري
وأدبي!
شوقي :هذا هو السم الذي كان في الدب كالشمس من المشسسرق:
متى طلعت في موضع فقد طلعت في كل موضع ،ومسستى ذكسسر فسسي
بلد من بلد العالم العربي اتسع معنى اسمه فسسدل علسسى مصسسر كلهسسا
كأنما قيل النيل أو الهرم أو القسساهرة؛ مترادفسسات ل فسسي وضسسع اللغسسة
ولكن في جلل اللغة.
رجل عاش حتى تسسم ،وذلسسك برهسسان التاريسسخ علسسى اصسسطفائه لمصسسر،
ودليل العبقرية على أن فيه السر المتحرك الذي ل يقف ول يكل ول
يقطع نظام عمله ،كأن فيه حاسة نحلسسة فسسي حديقسسة ،ويكسسبر شسسعره
كلما كبر الزمن ،فلم يتخلف عن دهره ،ولسسم يقسسع دون أبعسسد غايسساته،
وكأنه مع الدهر علسسى سسسياق واحسسد ،وكسسأن شسسعره تاريسسخ مسسن الكلم
يتطور أطواره في النمو فلم يجمد ولم يرتكس ،وبقي خيال صسساحبه
إلى آخر عمسره فسي تسدبير السسماء كعسراص الغمامسة ،سسسحابه كسسثير
البرق ممتلئ ممطر ينصب من ناحية ويمتلئ من ناحية.
والناس يكتب عليهم الشباب والكهولة والهرم ،ولكسسن الديسسب الحسسق
يكتب عليه شباب وكهولة وشباب؛ إذ كانت في قلبسسه الغايسسات الحيسسة
ضا إلى ما ل انقطاع له ،فإنها ليست الشاعرة ،ما تنفك يلد بعضها بع ً
من حياة الشاعر التي خلقت في قلبه ،ولكنها من حياة المعاني في
هذا القلب.
أقرر هذا في شسسوقي -رحمسسه اللسسه -وأنسسا مسسن أعسسرف النسساس بعيسسوبه
وأماكن الغميزة في أدبه وشعره؛ ولكن هذا الرجل انفلت من تاريسسخ
الدب لمصسسر وحسدها كسسانفلت المطسرة مسن سسسحابها المتسساير فسسي
الجو ،فأصبحت مصر به سيدة العالم العربي فسسي الشسسعر ،وهسسي لسسم
ما في الدب إل بالنكتسسة والرقسسة وصسسناعات بديعيسسة ملفقسسة، تذكر قدي ً
ولم يستفض لها ذكسسر بنابغسسة ول عبقسسري ،وكسسانت كالمسسستجدية مسسن
تاريخ الحواضر في العالم ،حتى أن أبا محمسد الملقسب بسولي الدولسة
صاحب ديوان النشاء في مصر للظاهر بن المستنصر "-وقسسد تسسوفي
264
سنة 341هس" ،وكان رزقه ثلثسسة آلف دينسسار فسسي السسسنة غيسسر رسسسوم
يستوفيها على كل ما يكتبه -سلم لرسول التجار إلى مصر من بغداد
جزأيسسن مسسن شسسعره ورسسسائله يحملهمسسا إلسسى بغسسداد ليعرضسسهما علسسى
الشريف المرتضي وغيره من أدبائها ،فيستشسسيرهم فسسي تخليسسد هسسذا
الدب المصري بدار العلم إن استجادوه وارتضوه ،كأن حفظ ديسسوان
ما يشسسبه فسسي حسسوادث من شعر مصر ونثرهسسا فسسي مكتبسسة بغسسداد قسسدي ً
دهرنا استقلل مصر وقبولها في عصبة المم.
وهذا أحمد بن علي السواني إمام من أئمة الدب في مصر "تسسوفي
سسسنة ،"562وكسسان كاتًبسسا شسساعًرا يجمسسع إلسسى علسسوم الدب الفقسسه
والمنطق والهندسة والطب والموسيقى والفلك -أراد أن يدون شعر
المصسسريين ،فجمسسع مسسن شسسعرهم "وشسسعر مسسن طسسرأ عليهسسم" أربسسع
مجلسدات ،كسأن الشسعر المصسري وحسده إلسى آخسر القسرن السسادس
للهجسسرة ،فسسي العهسسد السسذي لسسم يكسسن ضسساع فيسسه شسسيء مسسن الكتسسب
والدواوين ل يمل أربع مجلدات ...على اختلفهم في مقدار المجلدة،
فقد تكون جزًءا لطيف الحجسسم؛ والسسسواني نفسسسه يبلسسغ ديسسوانه نحسسو
مائة ورقة.
وأخوه الحسن المعروف بالمهذب "السسسواني المتسسوفى سسسنة "561
قال العماد الكاتب :إنه لم يكن بمصر في زمنه أشعر منه ،وسسسارت
له في الناس قصيدة سموها النواحة ،وصسسف فيهسسا حنينسسه إلسسى أخيسسه
وقد رحل إلى مكة وطالت غيبتسسه بهسسا وخيسسف عليسسه؛ فالرجسسل أشسسعر
أهل مصر في زمنه ،وحادثة النواحة تجعلسه فسي هسذا المعنسى أشسعر
من نفسه ،على أنه مع هذا لم يقل إل من هذا:
يا ربع أين نرى الحبة يممواهل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا
رحلوا وفي القلب المعّنى بعدهموجد على مر الزمان مخيم
وتعوضت بالنس نفسي وحشةل أوحش الله المنازل منهم...
ولول ابن الفارض والبهاء زهير وابن قلقسسس السسسكندري وأمثسسالهم،
وكلهم أصحاب دواوين صغيرة ،وليس فسي شسعرهم إل طسابع النيسل،
أي الرقة والحلوة لول هؤلء فسسي المتقسسدمين لجسسدب تاريسسخ الشسسعر
في مصر؛ ولول البسارودي وصسسبري وحسسافظ فسي المتسأخرين؛ وكلهسسم
كذلك أصحاب دواوين صغيرة ،لما ذكرت مصر بشسسعرها فسسي العسسالم
العربي؛ على أن كل هؤلء وكل أولئك لم يسسستطيعوا أن يضسسعوا تسساج
الشعر على مفرق مصر ،ووضعه شوقي وحده!
والعجسسب أن دواويسسن المجيسسدين مسسن شسسعراء المصسسريين ل تكسسون إل
صغيرة ،كأن طبيعة النيل تأخذ في المعاني كأخسسذها فسسي المسسادة ،فل
265
فيض ول خصب إل في وقت بعد أوقات ،وفي ثلثسسة أشسسهر مسسن كسسل
اثني عشر شهًرا؛ ومن جمسال الفراشسة أن تكسسون صسغيرة ،وحسسسبها
عند نفسها أن أجنحتهسا منقطسة بالسذهب ،وأنهسا هسي نكتسة مسن بسديع
الطبيعة!
على أنك واجد في تاريخ الدب المصري عجيبة من عجائب السسدنيا ل
تذكر معها اللياذة ول النيادة ول الشاهنامة ول غيرها ،ولكنها عجيبسسة
ملتها روح الصحراء إن كانت تلك الدواوين الصغيرة من روح النيل؛
وهي قصيدة نظمها أبو رجاء السواني المتوفى سنة 335هسسس ،وكسسان
ما كمسسا قسسالوا ،وزعمسسوا أنسسه اقتسسص فسسي نظمسسه شاعًرا فقيًها أديبا عال ً
دا بعد واحد ،قالوا :وسئل قبل موته أخبار العالم وقصص النبياء واح ً
كما بلغت قصيدتك؟ فقال :ثلثين ومائة ألف بيسست ....ومسسا أشسسك أن
هذا الرجل وقع له تاريخ الطبري وكتب السير وقصص السسسرائيليات
فنظمها متوًنا متوًنا ...وأفنى عمره في 130ألف بيت حولها التاريخ
إلى خبر مهمل في ثلثة أسطر .1
كل شاعر مصري هو عندي جزء من جزء ،ولكسسن شسسوقي جسسزء مسسن
كسسل ،والفسسرق بيسسن الجزأيسسن أن الخيسسر فسسي قسسوته وعظمتسسه وتمكنسسه
واتساع شعره جزء عظيم كأنه بنفسه الكل؛ ولسسم يسسترك شسساعر فسسي
ما وحديًثا ما تسسرك شسسوقي ،وقسسد اجتمسسع لسسه مسسا لسسم يجتمسسع مصر قدي ً
لسسسواه؛ وذلسسك مسسن الدلسسة علسسى أنسسه هسسو المختسسار لبلده ،فسسساوى
الممتازين من شعراء دهسسره وارتفسسع عليهسسم بسسأمور كسسثيرة هسسي رزق
تاريخه مسن القسوة المسدبرة الستي ل حيلسة لحسد أن يأخسذ منهسا مسا ل
تعطي ،أو يزيد ما تنقسسص ،أو ينقسسص مسسا تزيسسد؛ وقسسد حسساولوا إسسسقاط
ما ،ورجسسع مسسن رجسسع منهسسم شوقي مراًرا فأراهم غباره ومضى متقسسد ً
ليغسل عينيه ...ويرى بهما أن شوقي من النفسسس المصسسرية بمنزلسسة
المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر ،وما هسسو بمنزلسسة شسساعر
وشعره.
ولد شاعرنا سنة 1868في نعمة الخسسديو إسسسماعيل باشسسا ،ونسسثر لسسه
الخديو الذهب وهو رضيع في قصة ذكرها شوقي في مقدمة ديسسوانه
القديم ،ثم كفله الخديو توفيق باشا وعلمه وأنفسسق عليسسه مسسن سسسعة،
وأنزل نفسه منه منزلة أب غني كما يقول شوقي فسسي مقسسدمته ،ثسسم
توله الخديو عباس باشا وجعله شاعره وتركه يقول:
شاعر العزيز ومابالقليل ذا اللقب
وإذا أنت فسرت لقسسب شسساعر الميسسر هسسذا بسسالمير نفسسسه فسسي ذلسسك
ن بأسسسباب كسسثيرة؛ العهد ،خرج لك من التفسير :شسساعر مرهسسف معسسا ٌ
266
ليكون أداة سياسية في الشعب المصري ،تعمل لحيساء التاريسخ فسي
النفس المصرية ،وتبصيرها بعظمتها ،وإقحامهسسا فسسي معسسارك زمنهسسا،
وتهيئتها للمدافعة ،وتصل الشعر بالسياسة الدينية السستي تسسوجهت لهسسا
الخلفسسة يسسومئذ لتضسسرب فكسسرة أوروبسسا فسسي تقسسسيم الدولسسة بفكسسرة
الجامعة السلمية ول يخرج لك شوقي مسن هسذا التفسسير علسى أنسه
رجل في قدر نفسه ،بل فسسي قسسدر أميسسره ذلسسك؛ وكسسان ممتلًئا شسسباًبا
دا يوميذ لمطامع بعيسسدة ملفقسسة حشسسوها السسديناميت يغلي غلياًنا ،ومع ً
السياسي...
كنت ذات مرة أكلم صسسديقي الكسساتب العميسسق فسسرح أنطسسون صسساحب
دا ،فقال لي :إن شسسوقي "الجامعة" وكان معجًبا بشوقي إعجاًبا شدي ً
الن في أفق الملوك ل في أفسسق الشسسعراء! قلسست :كأنسسك نفيتسسه مسن
الملوك والشعراء مًعا؛ إذ لو خرج من هؤلء لم يكن شسسيًئا ،ولسسو نفسسذ
إلى أولئك لم يعد شسسيًئا ،إنمسسا الرجسسل فسسي السياسسسة الملتويسسة السستي
تصله بالمير ،هو مرة كوزير الحربية ،ومرة كوزير المعارف.
وهذه السياسسسة السستي ارتسساض بهسسا شسسوقي ولبسسسها مسسن أول عهسسده،
واتجسسه شسسعره فسسي مسسذاهبها ،مسسن الوطنيسسة المصسسرية ،إلسسى النزعسسة
الفرعونية ،إلى الجامعة السلمية ،فكانت بهذا سسسبب نبسسوغه ومسسادة
مده الشعري هي بعينها مادة نقائصه؛ فلقد ابتلته بحب نفسه وحسسب
الثناء عليها ،وتسخير الناس في ذلسسك بمسسا وسسسعته قسسوته ،إلسسى غيسسرة
أشد من غيرة الحسناء تقشعر كسسل شسسعرة منهسسا إذا جاءهسسا الحسسسن
بثانية ،وهي غيرة وإن كانت مذمومة في صلته بالدباء الذين لسسذعوه
بالجمر ...ونحن منهم ،غير أنها ممدوحسسة فسسي موضسسعها مسسن طسسبيعته
هو؛ إذ جعلتسه كسالجواد العستيق الكريسم ينسافس حستى ظلسه ،فعسارض
المتقدمين بشعره كأنهم معه ،ونسسافس المعاصسسرين ليجعلهسسم كسسأنهم
ضسسا ليجعسسل شسسوقي أشسسعر مسسن شسسوقي؛ ليسوا معه ،ونافس ذاتسسه أي ً
وعندي أن كل ما في هذا الرجل من المتناقضات فمرجعه إلسسى آثسسار
تلسسك السياسسسة الملتويسسة السستي ردت بطبيعسسة القسسوة عسسن وجوههسسا
الصريحة ،فجعلت تضطرب في وجوه من الحيسسل والسسسباب مسسدبرة
مقبلة ،متهدية في كل مجاهلها بسسإبرة مغناطيسسسية عجيبسسة ل يشسسبهها
ما إلى رائحة الدجاج.في الطبيعة إل أنف الثعلب المتجه دائ ً
ومؤرخ الدب الذي يريد أن يكتب عن شسسوقي ل يصسسنع شسسيًئا إن هسسو
لم يذكر أن هذا الشاعر العظيم كسسان هديسسة الخسسديو توفيسسق والخسسديو
عباس لمصر ،كالدلتا بين فرعي النيل؛ وما أصابه المتنبي من سيف
الدولة مما ابتعث قريحته وراش أجنحتسسه السسسماوية وأضسسفى ريشسسها
267
وانتزى بها على الغايات البعيدة في تاريخ الدب أصاب شسسوقي مسسن
قسسا أن يسسساوي المتنسسبي أو سمو الخديو عباس أكسسثر منسسه ،فكسسان حقي ً
يتقدمه ،ولكنه لم يبلغ منزلته؛ لن الخديو لم يكن كسيف الدولة في
معرفته بالدب العربسسي ورغبتسسه فيسسه؛ وسسسر المتنسسبي كسسان فسسي ثلثسسة
أشياء :في جهازه العصبي العجيب الذي ل يقل فسسي رأيسسي عمسسا فسسي
دماغ شكسبير ،وفي ممسسدوحه الديسسب الملسسك السسذي ينسسزل مسسن هسسذا
الجهاز منزلة المهندس الكهربائي من آلة عظيمة يديرها بعلم ويقوم
عليها بتدبير ويحوطها بعنايسسة ،ثسسم فسسي أفسسق عصسسره المتسسألق بنجسسوم
الدب التي ل يمكن أن يظهر بينها إل مسسا هسسو فسسي قسسدرها ،ول يتميسسز
فيها إل ما هو أكبر منها ،ول يتركهسسا كسسالمنطفئة إل شسسمس كشسسمس
المتنبي تتفجر على الدنيا بمعجزاتها النورانية.
ولقد -واللسسه -كسسان هسسذا المتنسسبي كسسأنه يسسوزع الشسسرف علسسى الملسسوك
والرؤساء؛ وهسسل أدل علسسى ذلسسك مسسن أن أبسسا إسسسحاق الصسسابي شسسيخ
الكتاب في عصره يراسله أن يمدحه بقصيدتين ويعطيه خمسة آلف
درهم ،فيرسل إليه المتنبي :ما رأيسست بسسالعراق مسسن يسسستحق المسسدح
غيرك ،ولكني إن مدحتك تنكر لك الوزير "يعنسي المهلسسبي" لنسسي لسسم
أمدحه ،فإن كنت ل تبالي هذا الحال فأنا أجيبك ول أريد منك ماًل ول
ضا! فأين في دهرنا من تشعره عزة الدب مثسسل هسسذا من شعري عو ً
الشسسعور ليسسأتي بالشسسعر مسسن نفسسس مسسستيقنة أن السسدنيا فسسي انتظسسار
كلمتها؟
على أن شوقي لم يكن ينقصه باعتبار زمنه إل "الجمهور الشعري"،
وكل بلء الشعر العربسسي أنسه ل يجسسد هسسذا الجمهسسور ،فالشسساعر بسذلك
ن فرديسسة مسسن ممسسدوح عظيسسم أو حسسبيب عظيسسم أو منصرف إلى معسسا ٍ
سقوط عظيم ...حتى الطبيعة تظهر في الشعر العربسسي كأنهسسا قطسسع
مبتورة من الكون داخلة في الحدود لبسسة الثيساب؛ ومسن ذلسك ينبسغ
الشاعر وليس فيه من الحساس إل قدر نفسه ل قدر جمهوره ،وإل
دا عن المعنى الشامل ملء حاجاته ل ملء الطبيعة؛ فل جرم يقع بعي ً
المتصل بالمجهول ،ويسقط بشعره على صور فردية ضيقة الحسسدود،
فل تجد في طبعه قوة الحاطسسة والتبسسسط والشسسمول والتسسدقيق ،ول
تؤاتيه طبيعته أن يستوعب كل صسورة شسعرية بخصائصسها ،فسسإذا هسسو
على الخاطر العارض يأخذ من عفوه ول يحسن أن يتوغل فيسسه ،وإذا
هو على نزوات ضعيفة من التفكير ل يطول لها بحثه ول يتقدم فيهسسا
نظره ،وإذا نفسه تمر على الكسسون م سّرا سسسريًعا ،وإذا شسسعره مقطسسع
قطًعا ،وإذا آلمه وأفراحه أوصاف ل شعور ،وكلمات ل حقائق ،وظل
268
طامس ملقى على الرض إذا قابلته بتفاصيل الجسم الحسسي السسسائر
على الرض.
واجتمع لشوقي في ميراث دمه ومجاري أعراقه عنصر عربي ،وآخر
تركي ،وثالث يوناني ،ورابع شركسسسي؛ وهسسذه كسسثرة إنسسسانية ل يسأتي
قا أن يكون دولة من دول الشسسعر ،وإلسسى هسسذا منها شاعر إل كان خلي ً
ولد شاعرنا باختلله العصبي في عينيه ،كأن هذا دليل طسسبيعي علسسى
أن وراءهمسسا عينيسسن للمعسساني تزاحمسسان عينسسي البصسسر؛ ومسسا لسسم يكسسن
السستركيب العصسسبي فسسي الشسساعر مهيسسأ للنبسسوغ ،فسساعلم أنسسه وقسسع مسسن
تقاسيم الدنيا في غير الشعر ،وليس في الطبيعسسة ول فسسي الصسسناعة
قوة تجعل حنجرة البلبل في غير البلبل؛ ومع كل ما تقدم فقد أعيسسن
شوقي على الشعر بفراغسسه لسسه أربعًسسا وأربعيسسن سسسنة ،غيسسر مشسسترك
العمل ،ول متقسم الخاطر ،على سعة في الرزق وبسطة في الجاه
وعلسسو فسسي المنزلسسة ،وبيسسن يسسديه دواويسسن الشسسعر العربسسي والوروبسسي
والتركي والفارسي؛ وإن تنس فل تنس أن شاعرنا هذا خص بنشاط
الحياة ،وهو روح الشعر ل روح للشعر بدونه ،فسافر ورحسسل وتقلسسب
في الرض ،وخالط الشعوب واستعرض الطبيعة يتخللهسسا ببصسسره مسسا
بين الندلس والستانة ،وظهيره على ذلك ماله وفراغسسه ،وإنمسا قسوة
الشعر في مساقط الجو ،ففي كل جسسو جديسسد روح للشسساعر جديسسدة؛
والطبيعة كالناس :هي في مكان بيضاء وفي مكان سوداء ،وهي في
موضع نائمة تحلم وفي موضع قائمة تعمسسل ،وفسسي بلسسد هسسي كسسالنثى
الجميلة ،وفي بلد هي كالرجل المصارع؛ ولن يجتمع لك روح الجهسساز
العصسسبي علسسى أقسسواه وأشسسده إل إذا أطعمتسسه مسسع صسسنوف الطعمسسة
اللذيذة المفيدة ،ألوان الهواء اللذيذ المفيد.
وعندي أنه ل أمل أن ينشأ لمصر شاعر عظيسسم فسسي طبقسسة الفحسسول
من شعراء العالم ،إل إذا أعيد تاريخ شسسوقي مهسسذًبا فسسي رجسسل وهبسسه
الله مواهبه ،ثم تهبه الحكومة المصرية مواهبها.
والكتاب الول الذي راض خيال شوقي وصقل طبعه وصسسحح نشسسأته
الدبية ،هو بعينه الذي كانت منه بصيرة حسسافظ وذكرنسساه فسسي مقالنسسا
عنه ،أي كتاب "الوسيلة الدبية" للمرصسسفي؛ وليسسس السسسر فسسي هسسذا
الكتاب ما فيه من فنون البلغة ومختارات الشعر والكتابة ،فهذا كله
ن شيًئا ولم يخرج لهسسا شسساعًرا كشسسوقي، ما ولم يغ ِ كان في مصر قدي ً
ولكسسن السسسر مسسا فسسي الكتسساب مسسن شسسعر البسسارودي؛ لنسسه معاصسسر،
والمعاصرة اقتداء ومتابعة على صواب إن كان الصواب ،وعلى خطأ
إن كان الخطأ؛ وقسسد تصسسرمت القسسرون الكسسثيرة والشسسعراء يتنسساقلون
269
ديوان المتنبي وغيره ،ثم ل يجيئون إل بشعر الصسسناعة والتكلسسف ،ول
يخلد الجيل منهم إل لما رأى في عصره ،ول يستفتح غير الباب الذي
فتح له ،إلى أن كان البسسارودي ،وكسسان جسساهًل بفنسسون العربيسسة وعلسسوم
البلغة ،ل يحسن منها شًئا ،وجهله هسسذا هسسو كسسل العسسالم السسذي حسسول
الشعر من بعد؛ فيسسا لهسسا عجيبسسة مسسن الحكمسسة! وهسسي دليسسل علسسى أن
عا لقوانين نافسسذة علسسى النسساس .وأكسسب أعمال الناس ليست إل خضو ً
البارودي على ما أطاقه ،وهو الحفظ من شعر الفحسسول؛ إذ ل يحتسساج
الحفظ إلى غير القراءة ،ثم المعاناة والمزاولة؛ وكانت فيسسه سسسليقة،
فخرجت مخرج مثلها في شعراء الجاهلية والصدر الول من الحفسسظ
والرواية ،وجاءت بذلك الشعر الجزل السسذي نقلسسه المرصسسفي بإلهسسام
من الله -تعالى -ليخرج به للعربية حافظ وشوقي وغيرهما ،فكل مسسا
في الكتاب أنه ينقل روح المعاصرة إلى روح الديب الناشئ ،فتبعثه
هذه الروح على التمييز وصحة القتداء ،فإذا هو على ميزة وبصسسيرة،
وإذا هو على الطريق التي تنتهي به إلى ما فسسي قسسوة نفسسسه مسسا دام
فيه ذكاء وطبع؛ وبهذا ابتدأ شوقي وحافظ من موضع واحسسد ،وانتهسسى
كلهما إلى طريقة غير طريقة الخر ،والطريقتسسان معًسسا غيسسر طريقسسة
البارودي.
تحول شوقي بهذا الشعر ل إلى طريقة البارودي ،فإنه ل يطيقهسسا ول
تتهيأ في أسبابه ،وخاصة في أول عهده ،وكأن لغة البارودي فيها من
لقبه ،أي فيها البارود ...ولكن تحول نابغتنا كان عن طريقة معاصريه
من أمثال الليثي وأبي النصر وغيرهما ،فسسترك الحيسساء وانطلسسق وراء
الموتى في دواوينهم التي كان من سعادته أن طبع الكثير منهسسا فسسي
ذلك العهد :كالمتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري ،ثسسم أهسسل الرقسسة
أصسسحاب الطريقسسة الغراميسسة :كسسابن الحنسسف والبهسساء زهيسسر والشسساب
الظريسسف والتلعفسسري والحسساجري ،ثسسم مشسساهير المتسسأخرين :كسسابن
النحاس والمير منجك والشرقاوي .وقد حاول شوقي في أول أمره
أن يجمع بين هذا كله ،فظهر في شعره تقليده وعملسسه فسسي محاولسسة
البتكار والبداع وإحكام التوليد ،مع السهولة والرقسسة وتكلسسف الغسسزل
بالطبع المتدفق ل بالحب الصحيح.
وأنا حين أكتسسب عسسن شسساعر ل يكسسون همسسي إل البحسسث فسسي طريقسسة
ابتداعه لمعانيه ،وكيف ألم وكيف لحظ ،وكيسسف كسسان المعنسسى منبهسسة
له ،وهل أبدع أم قلد ،وهل هو شعر بالمعنى شسسعوًرا فخسسالط نفسسسه
وجاء منها ،أم نقله نقًل فجاء مسسن الكتسسب؛ وهسسل يتسسسع فسسي الفكسسرة
الفلسفية لمعانيه ،ويدقق النظرة فسسي أسسسرار الشسسياء ،ويحسسسن أن
270
يستشف هذه الغيوم التي يسبح فيها المجهول الشعري ويتصسسل بهسسا
ويستصسسحب للنسساس مسسن وحيهسسا؛ أم فكسسره استرسسسال وترجيسسم فسسي
الخيال وأخذ للموجود كما هو موجود في الواقع؟ وبالجملسسة هسسل هسسو
ذاتية تمر فيها مخلوقات معانيه لتخلسسق فتكسسون لهسسا مسسع الحيسساة فسسي
نفسها حياة من نفسه ،أم هو تبعية كالسمسار بيسسن طرفيسسن :يكسسون
بينهما ،وليس منهما ول من أحدهما؟ في هذه الطريقسسة مسسن البحسسث
تاريخ موهبة الشاعر ،ول يؤديك إلى هذا التاريخ إل ذلك المذهب إليه
إن أطقته ،أما تاريخ الشاعر نفسه فما أسسسهله؛ إذ هسسو صسسورة أيسسامه
وصلته بعصره ،وليس في تأريخ ما كان إل نقله كما كان.
وإذا عرضنا شوقي بتلك الطريقة رأيناه نابغسة مسن أول أمسره ،ففيسه
تلك الموهبة التي أسميها حاسة الجو؛ إذ يتلمح بها النوابغ معاني مسسا
وراء المنظور ،ويستنزلون بها من كل معنى معنى غيره.
انظر أبياته التي نظمها في أول شبابه وسنه يومئذ 23سنة على ما
أظن ،وهي من شعره السائر:
خدعوها بقولهم حسناءوالغواني يغرهن الثناء
ي لماكثرت في غرامها السماء ما تراها تناست اسم َ
إن رأتني تميل عني كأن لمتك بيني وبينها أشياء
نظرة فابتسامة فسلمفكلم فموعد فلقاء
دع غلطته في قوله "تميل عني" ،1فإن صوابها :تمل؛ إذ هي جسسواب
مسسا ومسسا
إن الشرطية؛ ولكن تأمل كيف استخرج معانيه؛ وأنا كنت دائ ً
أزال معجًبا بالبيتين الثاني والرابع ،ل إكباًرا لمعناهما ،فهمسسا ل شسسيء
عندي ،ولكن إعجاًبسا بموهبسة شسوقي فسي التوليسد ،فسإنه أخسذ السبيت
الثاني من قول أبي تمام:
أتيت فؤادها أشكو إليهفلم أخلص إليه من الزحام
ما
فمر المعنى في ذهن شوقي كما يمر الهواء في روضة ،وجاء نسي ً
يترقرق بعدما كان كالريح السافية بترابها؛ لن الزحام في بيت أبسسي
تمام حقيق بسوق قائمة للبيع والشراء ،ل بقلب امرأة يحبها ،بل هو
وا فسسي جسسمها ،بسل يجعل قلب المرأة شسسيًئا غريب ًسسا كسأنه ليسسس عضس ً
غرفة في بيتها ...وقد سبق شسساعرنا أبسسا تمسسام بمراحسسل فسسي إبسسداعه
وذوقه ورقته.
والبيت الرابع من قول الشاعر الظريف:
قف واسسستمع سسسيرة الصسسب السسذين قتلوافمسسات فسسي حبهسسم لسسم يبلسسغ
الغرضا
رأى فحب فسام الوصل فامتنعوافرام صبًرا فأعيا نيله فقضى
271
وهذه "فاءات" تجر إلى القبر ونعوذ بالله منهسسا ...وممسسا كنسست أعيبسسه
على شوقي ضعفه في فنون الدب ،فإن المويلحي الكسساتب الشسسهير
انتقد في جريسسدته "مصسسباح الشسسرق" أبيسسات "خسسدعوها" عنسسد ظهسسور
الشوقيات في سنة ،1899فارتاع شوقي وتحمل عليك ليمسك عن
النقد ،مع أن كلم المويلحي ل يسقط ذبابة من ارتفاع نصف مسستر...
ومن مصيبة الدب عندنا ،بل من أكبر أسرار ضسسعفه ،أن شسسعراءنا ل
طاقة لهم بالنقسد ،وأنهسم يفسسرون منسسه فسسراًرا ويعملسون علسى تفساديه
وأنهم ل يحسنون غير الشعر؛ فل البارودي ول صسسبري ول حسسافظ ول
شوقي كان يحسن واحد منهم أن يدفع عن نفسه أو يكتب فصًل في
النقد الدبي ،أو يحقق مسألة في تاريخ الدب.
ومن معاني شوقي السائرة:
لك نصحي وما عليك جداليآفة النصح أن يكون جداًل
وكرره في قصيدة أخرى فقال:
آفة النصح أن يكون جداًلوأذى النصح أن يكون جهاًرا
ضا ،وهما من قول ابن الرومي: والبيتان في شعر صباه أي ً
بوفي النصح خير من نصيح موادعول خير فيه من نصيح مواث ِ
فصحح شوقي المعنى وأبدل المواثبة بالجدال ،وذلك هو الذي عجسسز
عنه ابن الرومي؛ ومن إبداعه فسسي قصسسيدته "صسسدى الحسسرب" يصسسف
هزيمة اليونان:
يكادون من ذعر تفر ديارهموتنجو الرواسي لو حواهن مشعب
ضا ويقضب يكاد الثرى من تحتهم يلج الثرىويقضم بعض الرض بع ً
وهذا خيال بديع في الغاية ،جعسسل هزيمتهسسم كأنهسسا ليسسست مسسن هسسول
الترك ،بل من هول القيامة؛ وهو مع ذلك مولد من قسسول أبسسي تمسسام
في وصف كرم ممدوحه أبي دلف:
تكاد مغانيه تهش عراصهافتركب من شوق إلى كل راكب
فقاس شاعرنا على ذلك؛ وإذا كادت الدار تركب إلسسى الراكسسب إليهسسا
من فرحها ،فهي تكاد تفر مع المنهزم من ذعرها؛ ولكن شوقي بنسسي
فأحكم وسما على أبي تمام بالزيادة التي جاء بها في البيت الثاني.
ومن أحسن شعره في الغزل:
دا
حوت الجمال فلو ذهبت تزيدهافي الوهم حسًنا ما استطعت مزي ً
وهو من قول القائل:
ذات حسن لو استزادت من الحسن إليها لما أصابت مزيدا
غير أن شوقي قال :لو ذهبت تزيدها في الوهم ...والشاعر قال :لو
استزادت هي؛ فلو خل بيت شوقي من كلمة "في السسوهم" لمسسا كسسان
272
شيًئا ،ولكن هذه الكلمة حققت فيسسه المعنسسى السسذي تقسسوم عليسسه كسسل
فلسفة الجمال؛ فإن جمال الحبيب ليس شيًئا إل المعاني السستي هسسي
في وهم محبه؛ فالزيادة تكون مسسن السسوهم ،وهسسو بطسسبيعته ل ينتهسسي؛
فإذا لم تبق فيه زيادة في الحسن فما بعد ذلك حسن ،وقسسد بسسسطنا
هذا المعنى في صور كثيرة في كتبنا" :رسائل الحزان" و "السحاب
الحمر" ،و "أوراق الورد"؛ فانظر فيها.
ومما يتمم ذلك البيت قول شوقي في قصيدة النفس:
يا دمية ل يستزاد جمالهازيديه حسن المحسن المتبرع
وهذا المعنى يقع من نفسي موقعًسسا ولسسه مسسن إعجسسابي محسسل؛ فهسسذه
الزيادة التي فيه كزيادة العمر لسسو أمكنسست ،وهسسي فسسي موضسسعها كمسسا
ينقطع الخط ثم يتصل ،وكما يستحيل المل ثم يتفسسق ويسسسهل؛ وقسسد
علمت مأخذ الشطر الول ،أما الثاني فهو من قول ابن الرومي:
يا حسن الوجه لقد شنتهفاضمم إلى حسنك إحسانا
وفي القصيدة التي رثى بها ثروت باشا وهي من أحسن شعره تجسسد
من أبياته هذا البيت النادر:
وقد يموت كثير ل تحسهموكأنهم من هوان الخطب ما وجدوا
وشوقي يعارض بهذه القصيدة أبا خالد بن محمد المهلبي في داليتسسه
التي رثى بها المتوكل ،وكسسان المهلسسبي حاضسًرا قتلسسه هسسو والبحسستري،
فرثاه كل منهما بقصيدة قالوا :إنها من أجود مسسا قيسسل فسسي معناهمسسا؛
وبيت شوقي مأخوذ من قول المهلبي:
إنا فقدناك حتى ل اصطبار لناومات قبلك أقوام فما فقدوا
أي لم يحس موتهم أحد؛ ولكن البيت غير مستقيم؛ لن الذي يمسسوت
فل يفقد هو الخالد الذي كأنه لسسم يمسست؛ فاسسستخرج شسسوقي المعنسسى
الصحيح وجعل العدم الذي هو آخر الوجود فسسي النسساس ،أول الوجسسود
وجسسدوا ومسساتوا ووسطه وآخره في هؤلء الذين هسسانوا علسسى الحيسساة ف ُ
كأنهما ماتوا وما وجدوا.
وإلى ما علمسست مسسن قسسوة هسسذه الشسساعرية ،ودقتهسسا فيمسسا تتسسأتى لسسه،
ومجيئهسسا بالمعسساني النسسادرة مسسستخرجة اسسستخراج السسذهب ،مصسسقولة
صسسقل الجسسوهر ،معدلسسة بسسالفكر ،موزونسسة بسسالمنطق -تجسسد لهسسا تهافت ًسسا
كتهافت الضعفاء ،وغرة كغسسرة الحسسداث؛ حسستى لتحسسسب أن طفولسسة
شسسوقي كسسثيًرا مسسا تنبعسسث فسسي شسسعره لعبسسة هازلسسة ،أو كسسأن للرجسسل
صسا، شخصيتين كما يقول الطبساء ،فهمسا تتعساوران شسعره كمساًل ونق ً
وا ونزوًل ،أو قل هسسي العربيسة واليونانيسسة فسسي ناحيسة مسن نفسسه، وعل ً
والتركيسسة والشركسسسية فسسي ناحيسسة أخسسرى :لتلسسك البتكسسار والبلغسسة
273
والمنطق ،ولهذه التهويل والمبالغة والخلط؛ وشوقي هو بهما جميًعا؛
تفتنه القويسسة منهمسسا فيعجسسب بهسسا إعجسساب القسسوة ،وتخسسدعه الضسسعيفة
فيعجب بها إعجاب الرقة؛ ما أعجب بيته الذي قاله في الحنيسسن إلسسى
الوطن من قصيدته الندلسية الشهيرة:
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهذا البيت مما يتمثل به الشبان وكتاب الصحافة ،ولسسم يفطسسن أحسسد
دا إل بعسسد فنسساء
إلى فساده وسخافة معناه؛ فسسإن الخلسسد ل يكسسون خل س ً
الفاني مسسن النسسسان وطبسسائعه الرضسسية ،وبعسسد أن ل تكسسون أرض ول
وطسسن ول حنيسسن ول عصسسبية؛ فكسسان شسسوقي يقسسول :لسسو شسسغلت عسسن
الوطن حين ل أرض ول وطن ول دول ول أمم ول حنيسسن إلسسى شسسيء
من ذلك -فإني على ذلك أحسسن إلسسى السسوطن السسذي ل وجسسود لسسه فسسي
نفسي ول في نفسه ....وهذا كله لغو ...والمعنى بعد من قسسول ابسسن
الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهموامآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهموعهود الصبي فيها فحنوا لذلكا
حاومنازعة النفس هي الحنين ،ومعنى ابسسن الرومسسي وإن كسسان صسسحي ً
غير أنه ل يصلح لفلسفة الوطنية في زمننا.
وإن في شوقي عيبين يذهبان بكثير من حسناته :أحدهما المبالغات
التركية الفارسية مما تنزعه إليه تركيته ول مبالغة في الدنيا تقاربها،
كقول بعض شسعرائهم إن النملسة بزفرتهسا جففست البحسر السسبعة...
وهو إغراق سخيف ل يسسأتي بخيسسال عجيسسب كمسسا يتوهمسسون ،بسسل يسسأتي
بهذيان عجيب؛ وإذا كان الصدق يأنف من الكذب ،فإن الكذب نفسه
يأنف من هذا الغراق؛ ومن هذه التركية في شوقي إضافات وهمية،
هي من تلك المبالغات كذيل الحمار من الحمار :قطعسسة فيسسه ودليسسل
عليه وآخر لوله ول محل لها في ذوق البلغة العربية ،كقوله:
عيسى الشعور إذا مشىرد الشعوب إلى الحياة
وقوله في سعد باشا في حادثة العتداء عليه:
ولو زلت غيب "عمرو المور" وأخلى المنابر سحبانها
ويسسدخل فسسي جنايسسات هسسذه التركيسسة علسسى شسسعره تكسسراره السسسماء
المقدسة والعلم التاريخية :كيوشع وعيسسسى وموسسسى وخالسسد وبسسدر
وسيناء وحاتم وكعب وغيرها مما هو شائع في نظمه ول تجسسده أكسسثر
ما تجده إل ثقيًل مملوًل؛ ولهسسذه اللفسساظ عنسسدنا فلسسسفة ل محسسل لهسسا
الن ،فهي أحياًنا تكون السسسحر كلسسه والبلغسسة كلهسسا ،علسسى شسسرط أن
يكون القلب هو الذي وضسسعها فسسي موضسسعها ،وأن ل يضسسعها إل علسسى
274
هيئة قلبية ،فيكون كأنه وضع نفسه في الشعر ليخفق خفقانه الحسسي
في بضعة ألفاظ ،وهسسذا مسسا لسسم يحسسسنه شسسوقي -والعيسسب الثسساني أن
ألفاظ شاعرنا يثبت أكثرها على النقد؛ لضعفه في الصناعة البيانيسسة،
ثم لضعف الموهبة الفلسفية فيه واعتباره التهويسسل شسسعًرا والمبالغسسة
بلغة وإن فسدت بهما البلغة والشعر؛ انظر إلى قوله مسسن قصسسيدته
الشهيرة 28فبراير:
قالوا :الحماية زالت قلت ل عجبقد كان باطلها فيكم هو العجبا
ما يقطع الذنبا رأس الحماية مقطوع فل عدمتكنانة الله حز ً
قلنا :فإذا قطع "رأس الحماية" وبقيت منهسسا بقيسسة مسسا ذنسسب أو يسسد أو
رجل؛ فإن هذه البقية في لغة السياسة التي تنقذ اللفسساظ وحروفهسسا
دا ول رجًل ،بسسل هسسي "رأس ونقسسط حروفهسسا ...لسسن تكسسون ذنب ًسسا ول ي س ً
الحماية" بعينه ....على أن شوقي إنما عكس قول الشاعر:
ما فأتبع رأسها الذنبا ن ذنب الفعى وترسلهاإن كنت شه ً ل تقطع ْ
وهذا كلم على سياقه من العقل ،فمسسا غنسساء قطسسع ذنسسب الفعسسى إذا
بقي رأسها ،وإنما الفعى كلها هي هذا الرأس.
ولقد ظهر لي من درس شوقي في ديسسوانه أمسسر عجبسست لسسه؛ فسسإني
رأيته يأخذ من أبي تمام والبحتري والمعري وابن الرومسسي وغيرهسسم؛
فربما ساواهم وربما زاد عليهم ،حتى إذا جاء إلى المتنسسبي وقسسع فسسي
البر وأدركه الغرق؛ لنه نشأ على رهبة منسسه كمسسا تشسسير إليسسه عبسسارته
في مقدمة ديوانه الول؛ وقد وصف خيل السسترك فسسي قصسسيدة أنقسسرة
بقوله:
والصبر فيها وفي فرساها خلقتوارثوه أًبا في الروع بعد أب
كما ولدتم على أعرافها ولدتفي ساحة الحرب ل في باحة الرحب
وشعره هذا كله يرتعد أمام قول المتنبي:
أقبلتها غرر الجياد كأنما أيدي بني عمران في جبهاتها
الثابتين فروسة كجلودهافي ظهرها ،والطعن في لباتها
ما تحتهموكأنهم ولدوا على صهواتها فكأنها نتجت قيا ً
فانظر أين صسسناعة مسسن صسسناعة وأيسسن شسسعر مسسن شسسعر؟ وقسسال فسسي
"صدى الحرب" يصف مدافع الدردنيل:
قذائف تخشى مهجة الشمس كلماعلت مصعدات أنها ل تصوب
إذا هب حاميها على السفن انثنتوغانمها الناجي فكيف المخيب
وهذا الستفهام "فكيسسف المخيسسب" اسسستفهام مضسسحك؛ لنسسه إذا كسسان
مسسا ،فسسالمخيب خاسسسر بل سسسؤال ول فلسسسفة؛ والكلمسسة النسساجي غان ً
275
الشعرية في هذا كله هسسي قسسوله "وغانمهسسا النسساجي" ،وهسسي كالهاربسسة
تتوارى خوًفا من بيت أبي الطيب:
أغر أعداؤه إذا سلموابالهرب استكبروا الذي فعلوا
فهسسذا هسسو الشسسعر ل ذاك؛ علسسى أنسسي أشسسهد أن فسسي قصسسيدة "صسسدى
الحرب" أبياًتا هي من أسمى الشعر ،وكأن شوقي -رحمه الله -كسسان
ينظم هذه القصيدة مسسن إيمسسانه ومسسن دمسسه ومسسن كسسل مطسسامع دنيسساه
وآخرته ،يبتغي بها الشهرة الخالسسدة فسسي النسساس ،والمنزلسسة السسسامية
عند الخديو ،ونباهة الشأن عند الخليفة ،والثواب عند الله تعالى؛ ولو
هو في أثناء عملها أسقط نصفها أو أكثر لجاءت فريسسدة فسسي الشسسعر
العربسسي ،غيسسر أن الحسسرص كسسان يغسستره ،وكسسان طسسول عمسسره مفتون ًسسا
بشعره؛ فجاء في هذا الشعر بالطم والرم كما يقولون؛ وله كثير من
الكلم الرذل الساقط بضعفه وتهافته؛ ولول تلسسك التركيسسة الفارسسسية
وضعفه البياني ،لما رضي أن يكون ذلك فسسي شسسعره؛ وليسست شسسعري
كيف غاب عن مثله أن التهويل والغراق والحالة مما يهجسسن الشسسعر
ويذهب بأثره في النفس ويحيله إلى صناعة هسسي شسسر مسسن الصسسناعة
البديعيسسة؛ لن هسسذه تكسسون فسسي واللفسساظ؛ واللفسساظ تحتمسسل العبسسث
البديعي ويخرج بها المر إلى أن يكون ضسسرًبا مسسن الرياضسسة كمعانسساة
بعض المسائل في الجسسبر والهندسسسة تركيب ًسسا وحًل؛ ولكسسن المعسساني ل
تحتمل ذلك؛ إذ هي تفكير ل يلتوي إل فسد ،والمعاني التي يسأتي بهسسا
الشاعر يجب أن تكون فيها مزية بخاصتها من الجمسسال والبيسسان ،وأن
تكون أخيلتها هي الحقائق التي أول مواضعها فوق حقائق البشر.
وهناك ضرب آخر من المبالغة يجيء مسسن سسسقوط الخيسسال؛ لن فسسي
السفل مبالغة كما في العلى ،وإن كانت مبالغة السفل زيادة فسسي
السسسخرية منسسه والهسسزء بسسه؛ وهسسذه المبالغسسة تسسأتي مسسن جمسسع أشسستات
مختلفة وإدماجها كلها في معنى واحسسد ،كهسسذا السسذي حسساول أن يدمسسج
الطبيعة كلها في حبيبته فزعم أن فيها من كل شيء ،ونسي أن كسسل
قبيح وكل بغيض هو من كل شيء...
إن الخيال الشعري يزيغ بالحقيقة في منطق الشسساعرل ليقبلهسسا عسسن
وضعها ويجيء بها ممسوخة مشوهة ،ولكسسن ليعتسسدل بهسسا فسسي أفهسسام
الناس ويجعلها تامة في تأثيرها؛ وتلسسك مسسن معجزاتسسه؛ إذ كسسانت فيسسه
دا بوضسسوحه مسسرة قسسوة فسسوق القسسوة عملهسسا أن تزيسسد الموجسسود وجسسو ً
وبغموضه أخرى.
ولعلماء الدب العربي كلمة ما أراهم فهموهسسا علسسى حقهسسا ول نفسسذوا
إلى سره؛ قسالوا :أعسسذب الشسسعر أكسذبه؛ يعنسون أن الشسعر المبالغسسة
276
والخيال :ول ينفذون إلى ما وراء ذلك ،وما وراءه إل الحقيقسسة رائعسسة
بصدقها وجللها؛ وفلسفة ذلك أن الطبيعة كلها كذب علسسى الحسسواس
النسانية ،وأن أبصسسارنا وأسسسماعنا وحواسسسنا هسسي عمسسل شسسعري فسسي
الحقيقة؛ إذ تنقل الشيء على غير ما هو في نفسه؛ ليكون شيًئا في
حا وما بينهما؛ وما هي خمرة الشعر نفوسنا ،فيؤثر بها أثره جماًل وقب ً
مثًل؟ هي رضاب الحبيبة؛ ولكن العاشق لو رأى هسسذا الرضسساب تحسست
المجهر لرأي ..لرأى مستنقًعا صغيًرا .ولو كان هذا المجهسسر أضسسعاف
جسسا بسسالهوام
الضعاف مما يجهسسر بسسه لرأيسست ذلسسك الرضسساب يعسسج عجي ً
والحشرات التي ل تخفى بنفسها ولكسسن أخفاهسسا التسسدبير اللهسسي بسسأن
جعل رتبتها في الوجود وراء النظر النساني ،رحمة من الله بالناس؛
فأعذب الشعر ما عمل في تجميل الطبيعة كما تعمل الحواس الحية
بسر الحياة؛
---------------
1يعني قول العقاد في وحي الربعين:
فيك مني ومن الناس ومنكل موجود وموعود توام
ولهذا المعنى كان الشعراء النوابغ في كل مجتمع هم كالحواس لهذا
المجتمع.
ومن سخيف الغراق في شعر شوقي قوله في رثاء مصطفى باشسسا
كامل ،وهي أبيات يظن هو أنسسه أوقسسع كلمسسه فيهسسا موقعًسسا بسسديًعا مسسن
الغراب:
فلوَ ان أوطاًنا تصور هيكًلدفنوك بين جوانح الوطان
أو كان يحمل في الجوارح ميتحملوك في السماع والجفان
ت بعد ُ رثيت في القرآن أو كان للذكر الحكيم بقيةلم تأ ِ
فهذه فروض فوق المستحيل بأربع درجات ...وتصور أنت ميًتا يحمل
في الجوارح فيترمم فيها ويبلى ...وما زال الشاعر في أبيسساته يخسسرج
من طامة إلى طامة ،حتى قال :رثيت فسسي القسسرآن ،ولسسو سسسئلت أنسسا
إعسسراب "لسسو" فسسي هسسذه البيسسات لقلبسست :إنهسسا حسسرف نقسسص وتلفيسسق
وعجز ...وكيف يسوغ في الفرض أن تكون للقسسرآن بقيسسة لسسم تنسسزل،
والله تعالى يقول فيه} :ال ْي سو َ
م{ ]المسسائدة[3 :؛ ت ل َك ُس ْ
م ِدين َك ُس ْ مل ْس ُ
م أك ْ ََ ْ َ
والمر أمر دين قد تم ،وكتاب مقدس ختم ،ونبوة انقضت؛ والشسساعر
ضسسا بهسسدم
ض في غفلته لم يتنبه لشسسيء ولسسم يسسدر أنسسه يفسسرض فر ً ما ٍ
السلم كله ،بل حسب أنه جاء بخيال وبلغة فارسية؛ وشسسوقي فسسي
الحقيقة كامسسل كنسساقص ،وإن مسسن معجسسزات هسسذا الشسساعر أن يكسسون
صا هذا النقص كله ويكمل. ناق ً
277
دا ،وفيها صفحات أخرى تنق وفي الشوقيات صفحات تكاد تغرد تغري ً
نقيق الضفادع؛ وفي هذا الديوان عيوب ل نريد أن نقتصها؛ فإن ذلك
يحتاج إلى كتاب برأسه إذا ذهبنا نأتي بها ونشرح العلة فيهسسا ونخسسرج
الشواهد عليها ،ولكن من عيسوبه فسي التكسرار أن لسه بيًتسا يسدور فسي
قصائده دوران الحمار في الساقية ،وهو هذا البيت:
وإنما المم الخلق ما بقيتفإن همو ذهبت أخلقهم ذهبوا
بل هذا البيت:
وإنما المم الخلق ما بقيتفإن تولت مضوا على آثارهما قدما
بل هو هذا:
كذا الناس بالخلق يبقى صلحهمويذهب عنهم أمرهم حين تذهب
بل هو هذا البيت:
ول المصائب إذ يرمي الرجال بهابقاتلت إذا الخلق لم تصب
وقد تكرر "فيما قرأته من ديوانه" ثلث عشسسرة مسسرة ،فعسساد المعنسسى
كطيلسان ابن حرب الذي جعل الشاعر يرقعه ثم يرقعه حتى ذهسسب
الطيلسان وبقيت الرقسسع ....والسسبيت الول مسسن العيسسن النسسادر ،ولكسسن
أفسده في الباقي سوء ملكة الحرص في شوقي ،أو ضسسعف الحسسس
البياني ،أو ابتذاله الشعر في غير موضعه ،أو وهن فكرتسسه الفلسسسفية
من جوانب كثيرة؛ وهذه الربعة هي البواب التي يقتحم منهسسا النقسسد
على شعر صاحبنا ،ولو هسو كسان قسد حصسنها بأضسدادها لكسان شساعر
العربية من الجاهلية إلى اليوم ،ولكان عسسسى أن ينقسسل الشسسعر إلسسى
طور جديد في التاريخ؛ ولكن الفوضى وقعسست فسسي شسسوقي مسسن أول
أمره؛ فأرسسسل إلسسى أوربسسا لسسدرس الحقسسوق وكسسان السسوجه أن يرسسسل
لدرس الداب والفلسفة ،وغامر في سياسة الرض ،وكان الحسسق أن
يشتغل بسياسة السماء ،وتهالك في مادة الدنيا ،وكسسان الصسسواب أن
يتهالك في معانيها.
إن الفوضى ذاهبة مسسذاهبها فسسي الدب والشسسعر ،فكسسل شسساعر عنسسدنا
كمؤلف يضع روايسة ثسسم يمثلهسسا وحسده وعليسه أن يمثلهسا وحسده ،فهسو
مسسا ملكي ّسسا ،ثسسم ينفتسسل
يخرج على النظارة في ثياب الملك فيلقسسى كل ً
مسسا حربي ّسسا ،ثسسم ينقلسسب فيعسسود فسسي
فيجيء في ثواب القائد فيلقى كل ً
ما سوقّيا ،ثم يروح فيرجع في مبسساذل الخسسادم، هيئة التاجر فيلقى كل ً
ثم ..ثم ..يتوارى فيظهسسر فسسي جلسسدة بربسسري ..وهسسذه الفوضسسى السستي
أهملتها الحكومة وأهملها المراء والكبراء هي حقيقة مؤلمسسة ،ولكسسن
هي الحقيقة!
278
وشوقي على كل هذا هو شوقي :أول من احتفى بتاريسسخ مصسسر مسسن
الشعراء ،وأول من توسع فسسي نظسسم الروايسسة الشسسعرية فوضسسع منهسسا
ست روايات ،وهو صاحب اليات البديعة في الوصف ،وهذه الناحيسسة
هي أقوى نواحيه ،ولقد ألهمتني قراءة البارع من شعره في أغراضه
وفنونه المختلفسسة أن اللسسه تعسسالى ينعسسم علسسى الداب الجميلسسة بسأفراد
ممتازين في جمال أرواحهم وقوتها ،تجد الداب لذتها فيهم وسموها
بهم ،كأن المر قياس على ما يقع من عشق الناس لبعض المعسساني،
فيكون في المعاني ما يعشق بعض الناس ،ومتى بلغ عشق المعنسسى
لنسان مبلغ الختصاص والوجد ظهر الفن أبدع ما يرى ،كأن المعنى
الدبي يتجمسسل ويتحبسسب ليسسستميل هسسذا النسسان الحسساكم عليسسه حكسسم
الحب.
فيا مصسر ،لقسد مسات شساعرك السذي كسان يحساول أن يخسرج بالجيسل
الحاضر إلى الزمن الذي لم يأت بعد ،فسسإذا جسساء هسذا الزمسن الزاخسسر
بفنونه وآدابه العالية ،وذكرت مجد شعرك الماضي ،فليقل أسسساتذتك
يومئذ :كان هذا الماضي شاعًرا اسمه شوقي!
279
بعد شوقي*
كان يتوجه الظن على شوقي رحمه الله فيزعم الزاعسسم أن شسسوقي
هو يحيى شعره ،وهو يرفع منه ،وهو يشسسيع حسسوله قسسوة الجسسذب مسسن
مغنسساطيس السسثروة والمكانسسة ،وأن الرجسسل مسسا أوفسسى علسسى الشسسعراء
جميًعا لنه أفضلهم ،بل لنه أغناهم؛ ول من أنه أقواهم قوة ،بل لنسسه
أقواهم حيلة؛ وأن الشسساعر لسسو جسساء يسسومه لبطسسل السسسحر والسسساحر،
صا بعد أن انقلبت حية ،ويؤول هذا الشسسعر إلسسى فترجع العصا وهي ع ً
حقيقته ،وتتسم الحقيقة بسسسمتها؛ كسسأن شسسوقي كسسان يعمسسل لشسسعره
بقوة السموات والرض ل بقوة رجل من الناس.
فقد ذهب الرجل إلى ربه ،وخل مكانه ،وبطلت كل وسائله ،ونام عن
شعره نومة البدية ،وتركه لما فيه يحفظه أو يضيعه إن كان فيه حق
من الشعر أو باطل ،وأصبح الشاعر هو ومسساله وجسساهه وشسسعره فسسي
حكم الكلمة التي يقولها الزمن ،ولم تعسسد هسسذه الكلمسسة فسسي حكمسسه؛
فهل أثبته الزمسسن أو نفسساه ،وهسسل سسسلم لسسه أو كسسابره ،وهسسل رده فسسي
أغمار الشعراء أو جعل الشعراء بعده أدلة من أدلته؟
أول ما ظهر لي أن الزمن بعد شوقي أصبح أقوى في الدللسسة عليسسه
حاوأصدق في الشهادة له ،كما تكون الظلمة بعد غيسساب القمسسر شسسر ً
طويًل لمعنى ذلك الضياء ،وإن سسسطعت فيهسسا الكسسواكب وتوقسسد منهسسا
شيء وتلل شسسيء؛ فقسسد دل الزمسسن علسسى أن ذلسسك الشسسأن لسسم يكسسن
ن مجيد مبدع؛ ولكنه للسسذي لشاعر كالشعراء يقال في وصفه إنه مفت ّ
يقال فيه إنه صوت بلده وصيحة قومه.
كانت تحدث الحادثة ،أو يتخالج الناس معنى من الهم السسذي يعمهسسم،
أو يستطيرهم فرح من أفراح الوطن ،أو يزول عظيم مسسن العظمسساء
فيزيد صفحة في التاريخ ،أو ينشأ كسون صسسغير مسن أكسوان الحضسسارة
في الشسسرق كبنسسك مصسسر ،أو ترتسسج زلزلسة فسسي الحيسساة العربيسة أينمسا
ارتجت ،فإذا كل ذلك قد وقع في الدنيا بهيئتيسسن :إحسداهما فسي ذهسن
شوقي ،فيرسل قصيدته الشرود السسسائرة داويسسة مجلجلسسة ،فل تكسساد
تظه رفي مصر حتى تلتقي حولها الفكسسار فسسي العسسالم العربسسي كلسسه،
فتكون شعًرا من أسرى الشعر وأحسنه ،ثم تجاوزه فسسإذا هسسي صسسلة
من أقوى الصلت الذهنية بين أدباء العربية وأوثقها ،ثم تجاوزها فإذا
هي عاطفة تجمع القلوب على معناها ،ثم تسمو فوق هذا كلسسه فسسإذا
هي من هذا كله زعامة مصر على الشعر العربي.
---------------
280
* لما توفي شوقي كتبنا لشيخ مجلتنا "المقتطف" فضًل طويًل عنسسه
وعن شعره ومنزلة شعره؛ فلم نعرض لشيء من ذلك هنا.
]قلت :وقد نشرناه قبل هذا الفصل[.
واليوم يقع مثل ذلك فتتطاير بعض الفقاقيع الشسسعرية مسسن هنسسا وثسسم
ملونة منتفخة ماضسسية علسسى قسسانون الفقسساقيع فسسي الطبيعسسة ،مسسن أن
لحظة وجودها هي لحظة فنائها ،وأن ظهورها يكسسون لتظهسسر فقسسط ل
لتنفع.
ولست أماري في أن بيننا شعراء قليلين يجيدون الشعر ،ولهم فكسسر
وبيان ومذهب وطريقة :ولكن ما منهم أحد إل وهسسو يشسسعر مسسن ذات
نفسه أن الحوادث لم تختره كما اختارت شسسوقي ،وأنسسه فسسي الحيسساة
كالواقف على باب ديوان ينتظر أن يعهد إليه ،وأن يخرج له التقليسسد؛
فهو ينتظر وسينتظر.
وهذا عجيب حتى كأنه سحر من سحر الزمن حين تفصل السسدنيا بيسسن
العبقري الفذ وبين مسسن يشسسبهونه أو ينافسسسونه -بضسسروب خفيسسة مسسن
الصرفة والعوائق ،ل هي كلها من قسسوة العبقسسري ،ول هسسي كلهسسا مسسن
عجز الخرين.
وأعجسسب مسسن ذا أن "شسسوقي" كسسان فسسي العسسالم العربسسي كسسأنه عمسسل
تاريخي متميز من أعمال مصر ،غير أنه مسمى باسسسم رجسسل؛ وكسسان
على الحقيقة ل على المجاز -كأن فيه شيًئا من هذه الروح التاريخية
المتغلبسسة السستي تخلسسد بأسسسماء الثسسار الفنيسسة وتكسسسبها العظمسسة فسسي
الوجودين :من محلها ومن نفس النسان.
وأعجب من هذا وذلك أني لم أر شعًرا عربًيا يحسن في وصف الثار
المصرية ما يحسن في وصفها شسسعر شسسوقي ،حسستى لسسسأل نفسسسي:
هل تختار بعض الشياء العظيمة وصفها ومفسر عظمتها ،كما تختسسار
المرأة الجميلة عاشقها ومستجلي حسنها؟
وما بان شسوقي علسى غيسره إل بسأنه رجسل أفسسرغ فسسي رأسسسه السسذهن
الشعري الكبير ،فكان فسسي رأسسسه مصسسنع عمسساله العصسساب ،ومسسادته
المعاني ،ومهندسه اللهام؛ والدنيا ترسسسل إليسسه وتأخسسذ منسسه؛ وعلمسسة
ذلك من كل شاعر عظيم أن تضسسع دنيسساه علسسى اسسسمه شسسهادتها لسسه؛
ولهذا ما يكون بعض الشعراء كأن اسمه في وزن اسم مملكة ،فسسإذا
قلت :شكسبير وانجلترا ،فهما في العظمة النفسية مسسن وزن واحسسد،
وكذلك المتنبي والعالم العربي ،وكذلك شوقي ومصر.
قالوا :كان الفرزدق ينقسح الشسعر ،وكسان جريسر يخشسب "أي يرسسل
شعره كما يجيء فل يتنوق فيه ول ينقحه"؛ وكان خشب جريسسر خيسًرا
281
من تنقيح الفرزدق ولم يتنبه أحد إلسسى السسسر فسسي ذلسسك؛ ومسسا هسسو إل
السر السذي كسان فسي شسوقي بعينسه ،سسر المتلء الروحسي قسد ُأمسد
بالطبع ،وأعين بالذوق ،وأوتسسي القسسوة أن يتحسسول بآثسساره فسسي الكلم؛
مسا قريًبسا بعضسه مسن بعضسه ،ول فكل ما كان منه فهو منه :يجيء دائ ً
يكاد ينفذ إلى شعور إل اتحد به.
وقد كان عمرو بسن ذر السواعظ البليسغ* إذا تكلسم فسي مجلسسه نشسر
وا من روحه ،فيجعسسل كسسل مسسا حسسوله يتمسسوج بسسأمواج نفسسسية؛ حوله ج ّ
فكان كلمه يعصف بالناس عصسسف الهسسواء بسسالبحر يقسسوم بسسه ويقعسسد،
وكان مسن الوعساظ مسن يقلسده ويحكيسه ول يسدري أنسه بسذلك يعسرض
الغلطة على ردها وصوابها ،فقال بعسسض مسسن جالسسسه وجالسسسهم :مسسا
سمعت عمرو بن ذر يتكلم إل ذكرت النفخ في الصور ،ومسسا سسسمعت
دا يحكيه إل تمنيت أن يجلد ثمانين.. أح ً
فالفرق روحاني طبيعي كما ترى ،ل عمل فيه لحد ول لصاحبه ،وهو
يشبه الفرق بين عاصفة من الهواء وبين نسسسيم مسسن الريسسح يرسسسلن
علسسى جهسستين فسسي البحسسر؛ ففسسي ناحيسسة يلتسسج المسساء ويثسسب ويتضسسرب
ويقصسسف قصسسف الرعسسد ،وفسسي الخسسرى يسسترجرج ويسستزحف ويقشسسعر
ويهمس كوسواس الحلي.
والشسسأن كسسل الشسسأن للكميسسة الوجدانيسسة فسسي النفسسس الشسساعرة أو
الممتازة ،فهي التي تعين لهذه النفس عملها على وجسسه مسسا ،وتهيئهسسا
لما يراد منها بقدر مسا ،وتقيمهسا علسى دأبهسا إلسى زمسن مسا ،وتخصسها
بخصائصها لغرض ما؛ وإذا أنت حققت لم تجسسد الفسسروق بيسسن النوابسسغ
بعضهم من بعض إل فروًقا في هذه الكمية ذاتها مقداًرا من مقسسدار؛
ولول ذلك لكان أصغر العلماء أعظم من أكبر الشسسعراء؛ فقسسد يكسسون
الشاعر كأنه تلميذ في العلم ،ثم يكون العلم كأنه تلميسسذ لقلسسب هسسذا
الشاعر وعواطفه؛ ولئن عجسسز النقسسد العلمسسي أن ينسسال مسسن الشسساعر
ما عجز في كل أمة. العبقري ،لقدي ً
---------------
* هو عمر بن ذر الهمذاني الكوفي المتوفى سنة 156للهجرة وكان
من أبلغ المتكلمين.
وقد كان فيمن حاولوا إسقاط شسسوقي مسسن هسسو أوسسسع منسسه اطلع ًسسا
على آداب المم ،وأبصر بأغراض الشسسعر وحقيقتسسه ،وكسسان مسسع ذلسسك
دا شانًئا قد ثقب في قلبسسه الحقسسد؛ والحاسسسد المبغسسض هسسو فسسي حاس ً
اتساع الكلم وطغيان العبارة أخسسو المحسسب العاشسسق؛ فكلهمسسا يسسدور
الدم في كبده معاني ووساوس ،وكلهمسسا يجسسري كلمسسه علسسى أصسسل
282
مما في سريرته ،فل تجد أحدهما إل عالًيا بمن يحب ،ول تجسسد الخسسر
إل نازًل نازًل بمن يبغض ؛ وكان هذا الناقد شسساعًرا ،فانضسساف شسسعره
إلى حسده ،إلى بغضه ،إلى ذكسسائه ،إلسسى اطلعسسه ،إلسسى جهسسده ،إلسسى
طول الوقت وتراخي الزمن؛ وهسسذه كلهسسا مفرقسسات نفسسسية ..بعضسسها
أشد من بعض كالبارود ،إلى الديناميت ،إلى الميلينيت؛ ولكن شوقي
كان في مرتقى لم يبلغسسه الناقسسد ،فسسانقلب جهسسد هسسذا عجسًزا ،وأصسسبح
البارود والتراب في يده بمعنى واحد ..1
ومن أعجب ما عجبت له من أمر هذا الناقد ،أني رأيتسسه يقسسرر لنسساس
صواب الحقيقة بزعمه ،فإذا هو يقسسرر غلطسسه وجهلسسه وتعسسسفه؛ وهسسو
في كل ما يكتب عن شوقي يكون كالذي يرى الماء العسسذاب وعملسسه
في إنبات الروض وتوشيته وتلوينه ،فيذهب يعيبه للنسساس بسسأنه ليسسس
هو البنزين ...الذي يحرك السيارات والطيارات!
تناول شوقي بعد موته فجرده من الشخصية ،أي من حاسة الشسسعر،
ومن إدراك السر ل يخلق الشسساعر الحسسق إل لدراكسسه والكشسسف عسسن
حقائقه؛ وكان فيما استدل به على ذلك أن ل يحسسسن وصسسف الربيسسع
بمثل ما وصفه ابن الرومي في قوله:
تجد الوحوش بها كفايتهاوالطير فيه عتيدة الطعم
فظباؤه تضحى بمنتطحوحمامه يضحى بمختصم
وزعم أن ابن الرومي قد ولسسد بحاسسسة لسسم يولسسد بهسسا شسسوقي ،ولهسسذه
الحاسة اندمج في الطبيعة فأدرك سر الربيع ،وأنه غليان الحياة فسسي
الحياء ،فالظباء تنتطح من الشر ...الخ الخ وبنى على ذلسسك ناطحسسة
سحاب ..ل ناطحة ظباء*.
أما شوقي الشاعر الضعيف العاجز لم يولد بمثل تلك الحاسسسة ،فلسسو
أنه شهد ألف ربيع لما أحس هذا الحسسساس ،ول اسسستطاع أن يجيسسء
هذا القول المعجزة؛ وكل ذلك من هذا الناقسسد جهسسل فسسي جهسسل فسسي
جهل ،وأعاليل بأضاليل بأباطيل؛ فابن الرومي في هذا المعنسسى لسسص
ل أكثر ول أقل ،فلم يحس شيًئا ول ابتدع ول اخترع.
قال الجاحظ :يقال في الخصب "أي الربيسسع" :نفشسست العنسسز لختهسسا؛
ضا تظالم معزاها "أي تتظالم"؛ قال :لنها تنفسسش شسسعرها وخلفت أر ً
وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطسسح أختهسسا ،وإنمسسا ذاك مسسن الثسسر،
"أي حين سمنت وأخصبت وأعجبتها نفسها".
---------------
1أحسبه يعني العقاد.
283
* ل يحضسسرني كلم الكسساتب بنصسسه ،ولكسسن هسسذا بعسسض معنسساه ،وكلسسه
تهويل.
فسأنت تسرى أن ابسن الرومسي لسم يصسنع شسيًئا إل أنسه سسرق المعنسى
واللفظ جميًعا ،ثم جاء للقافية بهذه الزيادة السخيفة التي قاس فيها
الحمام على الظباء والمعسسزى ..فاسسستكره الحمسسام علسسى أن يختصسسم
في زمن بعينه وهو يختصم في كل يسسوم؛ وإنمسسا شسسرط الزيسسادة فسسي
السرقة الشعرية أن تضاف إلى المعنى فتجعله كالمنفرد بنفسسسه أو
كالمخترع.
ولعمري لو كان للطبيعة مائة صورة في الخيال الشسسعري ،ثسسم قسسدم
شوقي للناس تسًعا وتسعين منها ،لقال ذلك الناقسسد المتعنسست :ل ،إل
الصورة التي لم يقدمها..
وكان شعر شوقي في جزالته وسلسته كأنمسسا يحمسسل العصسسا لبعسسض
الشعراء يردهم بها عن السفسفة والتخليط والضطراب في اللفسسظ
والتركيب؛ فكسثر الختلل فسي الناشسئين مسن بعسده ،وجساءوا بسالكلم
المخلط السسذي تبعسسث عليسسه رخسساوة الطبسسع وضسسعف السسسليقة ،فسستراه
مكشوًفا سهًل ولكن سهولته أقبسسح فسسي السسذوق مسسن جفسسوة العسسراب
على كلمهم الوحشي المتروك.
ضا على الشسسعر والفة أن أصحاب هذا المذهب يفرضون مذهبهم فر ً
العربي ،كأنهم يقولون للناس :دعوا اللغة وخذونا نحسسن! وليسسس فسسي
أذهانهم إل ما اختلط عليهم من تقليسسد الدب الوروبسسي ،فكسسل منهسسم
عابد الحياة ،مندمج فسسي وحسسدة الكسسون ،يأخسسذ الطبيعسسة مسسن يسسد اللسسه
ويجاري اللنهاية ،ويفنسسى فسسي اللسسذة ،ويعسسانق الفضسساء ،ويغنسسي علسسى
قيثارته للنجوم؛ وبالختصار :فكل منهم مجنون لغوي..
وأنا فلست أرى أكثر هذا الشعر إل كالجيف ،غيسسر أنهسسم يقولسسون :إن
الجيفة ل تعد كذلك في الوجود العظم ،بل هسسي فيسسه عمسسل تحليلسسي
علمي دقيق؛ لقد صدقوا؛ ولكن هل يكذب من يقول :إن الجيفة هي
فساد ونتن وقذر في اعتبار وجودنا الشخصي ،وجود النظسسر والشسسم،
والنقباض والنبساط ،وسلمة الذوق وفساد الذوق.
وكسسان حاسسسدو شسسوقي يحسسسبون أنسسه إذا أزيسسح مسسن طريقهسسم ظهسسر
تقدمهم؛ فلما أزيح مسسن الطسسرق ظهسسر تسسأخرهم ..وهسسذه وحسسدها مسسن
عجائبه -رحمه الله.
وقد كان هذا الشاعر العظيم هبة ثلثة ملوك للشعب ،فهيهسسات ينبسسغ
مثلسسه إل إذا عمسسل الشسسعب فسسي خدمسسة الشسسعر والدب عمسسل ثلثسسة
ملوك ..وهيهات!
284
285
الشعر العربي في خمسين سنة 1
إذا اعتبرت الشعر العربي قبل خمسين سنة خلسست "أي قبسسل إنشسساء
المقتطف" وتأملت حليته ومعرضه ،ونظرت في منهسساجه وطريقتسسه،
وتصفحت معانيه وأغراضه -لم تر منه إل شبيًها بمسسا تسسراه مسسن بقايسسا
الورق الخضر في شجرة ثقسسل عليهسسا الظسسل فهسسو جامسسد مسسستوخم،
وحم في ظلها شعاع الشمس فهو بارد يرتعد ،فالحياة فيهسسا ضسسعيفة
متهالكة ،ل هي تموت كالموت ول هي تحيا كالحياة ،ومسسا ثسسم إل مسساء
ناشف ورونق عليل ومنظر من الشجرة الواهنسة كسأنه جسسم الربيسع
المعتل بدت عروقه وعظامه.
كان ذلك الشعر فاسد السبك ،متخلف المنزلة ،قليسسل الطلوة ،بيسسن
مديح قد أعيد كسسل معنسسى مسسن معسسانيه فسسي تاريسسخ هسسذه اللغسسة بمسسا ل
يحصيه إل الملئكة الموكلون بإحصاء الكذب ،وبين هجاء سسساقط هسسو
بعض المواد التي تشتعل بها نار الله يسوم تطلسع علسى الفئدة ،وبيسن
غزل مسروق من القلوب التي كانت تحب وتعشسق ،وبيسن وصسف ل
عيب لموصوفه سواه ،وشكوى من الدهر يشكو الدهر منها ،وتحسسزن
وبأس وندب تجعل ديسسوان الشسساعر كمسسا سسسمي أحسسد ظرفسساء القسسرن
الثاني عشر للهجرة ديوان أحد أصحابه "بالملطمة "..ورثسساء كقسسراءة
القراء في جنازات الموتى ،ل فيها عظة السكوت ول فائدة النطسسق،
وتغمر كل ذلك أنواع من الصناعة بينة التعسسسف ،ضسسعيفة التقليسسد ،ل
ترى المتأخر فيها مع المتقدم إل قريًبا ممسسا يكسسون عمسسل اللسسص فسسي
أخذ المال ،من عمل صاحب المسسال فسسي جميعسسه؛ والعجيسسب أنسسك إذا
اعترضت الشعر من القرن العاشر للهجرة إلى القرن الثالث عشسسر
"السادس عشر للميلد إلى التاسع عشر" رأيته نازًل من عصسسر إلسسى
عصر بتدريج مسن الضسسعيف إلسسى الضسسعف ،حسستى كأنمسسا ينحسسط بقسسوة
طبيعية كقوة الجذب ،كلما هبطت شيًئا أسرعت شيًئا إلى أن تلصق
بالرض ،وبعضهم يسمي هذه العصور بالعصور المظلمة ،ولسسم يتنبسسه
سسسا كنسساموس رد الفعسسل ،يخسسرج أضسسعف أحد إلى أن فسسي الدب نامو ً
الضعف مسسن أقسسوى القسسوة ،وأن انحطسساط الشسسعر فسسي تلسسك العصسسور
-على أنسسه لسسم يكسسن إل صسسناعة بديعيسسة -إنمسسا سسسببه القسسوة الصسسناعية
العجيبة التي كانت للشعر منذ القرن السادس إلى العاشسسر ،بعسسد أن
نشأ القاضي الفاضل المتوفى سسسنة 596هس س "1199م"؛ وكسسان رجًل
دا للحوادث تبسسدأ منهسسا أزمنسسة وتنتهسسي من الرجال الذين يخلقون حدو ً
عندها أزمنة؛ ففتن الناس بأدبه وصسسناعته ،وصسسرف الشسسعر والكتابسسة
286
إلسسى أسسساليب النكتسسة البديعيسسة؛ وظهسسرت مسسن بعسسده عصسسابته السستي
يسمونها العصابة الفاضلية ،وما منهسسم إل إمسسام فسسي الدب وعلسسومه،
فكان في مصر القاضي ابن سناء الملك ،وسراج الدين الوراق ،وأبو
الحسين الجزار ،وأضرابهم؛ وكان في الشام عبد العزيسسز النصسساري،
والمير مجير الدين بن تميم ،وبدر الدين يوسسسف بسسن لؤلسسؤ السسذهبي،
وأمثالهم؛ فهذه العصابة هسسي السستي تقابسسل فسسي تاريسسخ الدب العربسسي
عصابة البديع الولى :كمسلم ،وأبسسي تمسسام ،وابسسن المعسستز ،وغيرهسسم؛
وكلتا الفئتين استبدت بالشسسعر وصسسرفته زمن ًسسا ،وأحسسدثت فيسسه انقلب ًسسا
تاريخّيا متميًزا؛ بيد أن العصابة الفاضلية بلغت مسسن الصسسنعة مبلغًسسا ل
مطمع في مثله لحد من بعسسدها ،حسستى كسسأنهم لسسم يسسدعوا كلمسسة فسسي
اللغة يجري فيها نسوع مسسن أنسواع البسسديع إل جسساءوا بهسسا وصسسنعوا فيهسسا
صنعة؛ وكان بعضهم يأخذ مسسن بعسسض ويزيسسد عليسسه ،إلسسى آخسسر المسسائة
الثامنة ،فلم يتركوا باًبا لمن يأتي بعسسدهم إل بسساب السسسرقة بأسسساليبها
المعروفة عند علماء الدب.
ولهذا ل تكساد تجسد شسسعًرا عربي ّسسا بعسد القسرن التاسسسع إل أول النهضسة
الحديثسسة ،إل رأيتسسه صسسوًرا ممسسسوخة ممسسا قبلسسه؛ وكسسل شسسعراء هسسذه
القرون ليسوا ممن وراءهم إل كالظل من النسان :ل وجود لسه مسسن
دا إل في الندرة حين يسطع في مرآة صافية؛ نفسه ،وهو ممسوخ أب ً
ومتى كسسان الشسسعراء ل ينشسسئون إل علسسى فنسسون البلغسسة وصسسناعاتها،
وكانت هذه كلها قد فرغ منها المتقدمون؛ فمسسا ثسسم جديسسد فسسي الدب
والفن إل ولدة الشعراء وموتهم ،وإل تغير تواريخ السنين ..وهسسذا إذا
لم نعد من الدب تلك الصناعات المستحدثة التي ابتدعها المتأخرون
مما سنشير إلى بعضه :كالتاريخ الشعري وغيره.
إن الفكر النساني ل يسير التاريخ ،ول يقدر قدًرا فيه ،ول ينقله مسسن
دا وكمسسا حا خلسسق مفس س ًرسم إلى رسم؛ لنه هو نفسه كما خلق مصل ً
يستطيع أن يوجد يستطيع أن يفني ،وكما تطرد به سسسبيل تلتسسوي بسسه
سبيل أخرى؛ وما أشبه هذا الفكر في روعتسسه بقطسسار الحديسسد :يطيسسر
كالعاصفة ويحمل كالجبل ويدهش كسسالمعجزة ،وهسسو مسسع كسسل ذلسسك ل
شيء لول القضسيبان الممتسدان فسي سسبيله ،يحرفسانه كيسف انحرفسا،
ويسيران به أين ارتميا ،ويقفان به حيث انتهيا؛ ثم هو بجملته ينقلسسب
لوهى اختلل يقع فيهما.
ل جرم كانت العصور مرسومة معينة النمسسط ذاهبسسة إلسسى الكمسسال أو
منحدرة إلى النقص ،حسب الغايات المحتومة التي يسير بهسسا الفكسسر
في طريق القدر الذي يقوده.
287
فسسا فسسي الدب العربسسي، فهسسذه علسسوم البلغسسة السستي أحسسدثت فن ّسسا طري ً
وأنشأت الذوق الدبي نشأته الرابعة في تاريخ هذه اللغة ،بعد الذوق
الجسساهلي ،والمحسسدث والمولسسد -هسسي بعينهسسا السستي أضسسعفت الدب
وأفسسسدت السسذوق وأصسسارته إلسسى رأينسسا فسسي شسسعر المتسسأخرين ،كأنمسسا
ما من الجهل ،حتى صار النمط العالي من الشسسعر انقلبت عليهم علو ً
كأنه ل قيمة له؛ إذ ل رغبة فيه ،ول حفل به؛ لمباينته لما ألفوا وخلوه
من النكتة والصناعة؛ وحسستى كسسان فسسي أهسسل الدب ومدرسسسيه مسسن ل
يعرف ديوان المتنبي!
ول يصف لك معنى الشعر في رأي أدبسساء ذلسسك العهسسد كقسسول الشسسيخ
ناصيف اليازجي المتوفى سنة :1871
مللت من القريض وقلت يكفيلمر شاب قوته بضعف
أحاول نكتة في كل بيتوذلك قد تقصر عنه كفى
أجل الشعر ما في البيت منهغرابة نكتة أو نوع لطف
يريد النكتة البلغية وأنواع البديع ،وذلك ما قصسسرت عنسسه كفسسه وكسسف
غيره؛ لنه شيء مفسروغ منسه ،حستى ل يسأتي المتسأخر بمثسال فيسه إل
وجدته بعينه لمن تقدموه على صور مختلفة ينظر بعضها إلسسى بعسسض
وما يأتي اختلفها إل من ناحية الحسسذق فسسي إخفسساء السسسرقة بالزيسسادة
والنقسسص ،واللمسسام والملحظسسة والتعريسسض والتصسسريح وغيرهسسا ممسسا
يعرفه أئمسسة الصسسناعة ،ول يتسسسبب إليسسه بسسأقوى أسسسبابه إل مسسن رزق
القوة على التوليد والختراع.
إذا عرفت ذلك السر في سقوط الشعر واضسطرابه وسفسسفته ،لسم
تر غريًبا ما هسسو غريسسب فسسي نفسسسه ،ومسسن أن بسسدء النهضسسة الشسسعرية
الحديثة لم تكن العلسسم السسذي يصسسحح السسرأي ،ول الطلع السسذي يسؤتي
الفكسسر ،ول الحضسسارة السستي تهسسذب الشسسعور ،ول نظسسام الحكسسم السسذي
دا منيًعا بين زمسسنيحدث الخلق ،وإنما كان ضرًبا من الجهل وقف ح ّ
فنون البلغة وبين زماننا؛ وكان كالساحل لذلك الموج المتدفع السسذي
يتضرب على مدة ثمانمسسائة سسسنة مسسن القسسرن السسسادس إلسسى الرابسسع
عشر للهجرة؛ ولله أسرار عجيبة في تقليب المسسور وخلسسق الحسسداث
ودفع الحياة الفكرية من نمط إلى نمط ،وإخراج العقل المبتدع مسسن
هيئة إلى هيئة ،وجعل بعض النفسسوس كالينسسابيع للتيسسار النسسساني فسسي
دا علسى عصر واحد أو عصور متعاقبة ،وإقامة بعسض الشسخاص حسدو ً
الزمنة والتواريخ؛ فكان الذي أحدث النقلب الرابع في تاريخ الشعر
العربي ،وأنشأ الذوق نشأته الخامسسسة ،هسسو الشسساعر الفحسسل محمسسود
باشا البارودي الذي لم يكن يعرف شيًئا البتسسة مسسن علسسوم العربيسسة أو
288
مت بسسه الهمسسة؛ لنسسه حادثسسة مرسسسلة للقلسسب فنون البلغسسة؛ وإنمسسا سس َ
والتغييسسر ،فأبعسسده اللسسه مسسن تلسسك العلسسوم ،وأخرجسسه لنسسا مسسن دواويسسن
العرب ،كما نشأ مثل ابن المقفسسع والجسساحظ مسسن فصسسحاء العسسراب،
ويسر له من أسباب ذلك ما لم يتفق لحد غيره مما ل محل لبسطه
هنا ،ول تكاد تجد شعر أديب متأخر يستقيم له أن يذكر في شعر كل
عصر من لدن زمننا إلى صدر السلم ثم ل تنحسسط مرتبتسسه غيسسر كلم
البارودي هذا؛ وهسو وحسده السذي يقابسل القاضسي الفاضسل فسي أدوار
التاريخ الدبي ،على بعد مسسا بينهمسسا؛ لن شسسعره هسسو السسذي نسسسخ آيسسة
الصناعة ،ودار في ألسنة الرواة ،وكسسان المثسسل المحتسسذى فسسي القسوة
والجزالة ودقة التصوير وتصحيح اللغة؛ ولم يشأ الله أن يسسسبقه إلسسى
ذلك أحد؛ لن النهضة الجتماعية في هذا الشرق العربي كسسانت فسسي
علم الله مرهونة بأوقاتها وأسبابها؛ ولول ذلك لسسسبقه شسساعر القسسرن
الحادي عشر المير منجك المتوفى سنة 1080هسسس "1669م"؛ فقسسد
اتفقت لهذا المير نشأة كنشسسأة البسسارودي ،فكسسان كسسثير الحفسسظ مسسن
دواوين العصور الولى ،وكان يقلد أبا فراس الحمداني ويحتذي على
فا
مثاله؛ ولكن عصره كان في العصور الهالكة ،فخرج الشسساعر ضسسعي ً
كمسا يخسرج كسل شسيء فسي غيسر وقتسه ولغيسر تمسامه وبغيسر وسسائله
الطبيعية.
ونشأت العصابة البارودية وفيها إسسسماعيل صسسبري وشسسوقي وحسسافظ
ومطران وغيرهم ،وأدركوا ما لم يدركه البارودي وجاءوا بما لم يجئ
بسسه ،واتصسسل الشسسعر بعضسسه ببعضسسه ،وسسسارت بسسه الصسسحف ،وتنسساقلته
الفواه ،وأنسي ذكر البلغة وفنونها بالنشأة المدرسية الحديثة السستي
جعلت من ترك البلغة بلغة؛ لنها صادفت أوائل النقلب ليس غير؛
وبذلك بطل في مصر عصر أبي النصر والليسسثي والسسساعاتي والنسسديم
وطبقتهم ،وفي الشام عصر اليسسازجي والكسسستي والنسسسي والحسسدب
وأضرابهم ،وفي العراق عهد الفاروقي والموصلي والبزاز والتميمسسي
وسواهم؛ واستقل الشعر عربي ّسسا وخسسرج كمسسا يخسسرج الفكسسر المخسسترع
ماضًيا في سبيل غير محدودة.
ل ريب في أن الطسسرق السستي تتبسسع فسسي تربيسسة المسسة وتكسسوين روحهسسا
العالمية ل بد أن يكون لها أثر بين في شعر شسسعرائها؛ فإنمسسا الشسسعر
فكسسر ينبسسض وعاطفسسة تختلسسج ،ومسسا أرى الشسساعر الحسسق مسسن أمتسسه إل
كالزهرة الصسسغيرة مسسن شسسجوتها :إن لسسم تكسسن خلصسسة مسسا فيهسسا مسسن
القوة ،فهي خلصة ما في الشجر من معنى الجمال ولونه وملمسه،
ول تعدم مع هذه الصفة أن تكون وحدها الكوكب السسساطع فسسي هسسذا
289
الفق الخضر كله ،ولقد اطردت النهضة منذ خمسين سنة أو حولها،
في الدب والعلم؛ وفي الفكر والفن والصناعة؛ وساتوى لنا من ذلك
ما لم يتفق لهذه المة في عصر من عصورها ،حتى بلغنسسا مسسن ذلسسك
ضا مسن أوربسا وتغلبنسسا عليهسا ،أو أنشسسأنا أوربسا
أن صرنا كأنما فتحنا أر ً
عربيسسة ومسسا نسسزال نعمرهسسا وننقسسل إليهسسا العلسسوم والفنسسون والداب،
ونستخرج لها المثلة والساليب؛ غير أن الشعر العربي مع هسسذا كلسسه
لم يوف قسطه ولم يبلغ مبلغه في مجاراة هذه النهضة قسسوة ابتكسسار
وسلمة اختراع وحسن تنوع ،لسببين :الول أنه ل يزال كما كان منذ
فسدت اللغة العربية :شعر فئة ل شعر أمسسة ،فهسسو يوضسسع للخاصسة ل
للشعب .ويدور مع الغراض والحاجات ل مع الطبائع والذواق؛ وذلك
لو تأملت هو من بعض السرار في سمو هذا الشسسعر وقسسوة إحكسسامه
وإبداع تنسسسيقه وجمسسال توشسسيحه منسسذ الدولسسة العباسسسية إلسسى القسسرن
الخامس؛ ثم انحطاطه بعد ذلك وتدنيه شيًئا فشيًئا حسستى بلسسغ السسدرك
السفل في العصور المتأخرة؛ إذا كانت الفئة التي يوضع لها ويصف
أهواءها وأغراضها وتتقبله وتثيب عليه وتحسن وزنه ونقده ،هي فسسي
الناحيتين كما ترى مسسن طرفسسي المنظسسار السسذي يقسسرب البعيسسد ،فهسسي
بالنظر في أوله واضحة جليسسة متراميسسة إلسسى الجهسسات ،وبسسالنظر فسسي
آخره ضئيلة ممسوخة ل تكاد تعرف.
ومسسا أقضسسي العجسسب مسسن غفلسسة بعسسض الكتسساب فسسي هسسذا الزمسسن إذ
يناهضون العربية ويسسزرون علسسى الفصسساحة ويعملسسون علسسى انكمسساش
سوادها وتقليل أهلها ،وما يدرون أنهم بذلك يسسسقطون الشسسعر قبسسل
دا من هؤلء يحسن معالجسسة الكتابة على خطأ أو عمد وقلما تجد واح ً
الشعر ،فإن أصبت له شعًرا وجدته ل غناء فيسه أو فسسي أكسسثره ،وأيسسن
وضعت يدك منه لم تخطئ أن تقع على مثل مما يمثل به لعيب مسسن
عيوب البلغة.
وهذه النهضة التي نحسسن فسسي صسسدد الكلم عنهسسا أوسسسع مسسدى وأوفسسر
أسباًبا من تلك التي كانت في الدولة العباسية ،بمسسا دخلهسسا مسسن أدب
كل أمة ،وما اتصل بها من أساليب الفكر :ولكن أين رجال الفصاحة
المتمكنون منها ،المتعصبون لها العاملون على بثها في اللسنة ،مسسع
أن عصرهم أوسع من عصر الرواة ،بكثرة ما أخرجسست المطسسابع مسسن
أمهات الكتب والدواوين ،حتى أغنت كل مطبعة أدبية عن راوية مسسن
أئمة الرواة.
فسسا عسسن منزلتسسه
والسبب الثاني الذي من أجلسسه ل يسسزال الشسسعر متخل ً
الواجبة له سقوط فن النقد الدبي في هذه النهضة؛ فإن مسسن أقسسوى
290
السباب التي سمت بالشعر فيمسسا بعسسد القسسرن الثساني وجعلست أهلسه
يبالغون في تجويده وتهسذيبه ،كسسثرة النقسساد والحفساظ .وتتبعهسسم علسسى
الشعراء ،واعتبار أقوالهم ،وتدوين الكتسسب فسسي نقسسدهم ،كالسسذي كسسان
في دروس العلماء وحلقات الرواية ومجالس الدب ،وكالسسذي صسسنفه
مهلهل بن يموت في نقد أبي نواس وأحمسسد بسسن طسساهر ،وابسسن عمسسار
في أبي تمام ،وبشر بن تميم في البحتري ،والمسسدي فسسي الموازنسسة،
والحاتمي في رسالته ،والجرجاني في الوساطة ،وما ل يحصسسى مسسن
مثل هذه الكتب والرسائل ،وأنت مسسن النقسسد فسسي هسسذه النهضسسة بيسسن
اثنين :صديق هو الصديق أو عدو هو العدو ..فسسإن ابتغيسست لهمسسا ثالث ًسسا
فكاتب ل تتعادل وسائل النقد فيه فل خير في كلمه ،أما الناقد الذي
استعرض علم العربيسة وآدابهسا ،وكسان شساعًرا كاتًبسا قسوي العارضسة،
دقيق الحسسس ثسساقب السسذهن ،مسسستوي السسرأي بصسسيًرا بمسسذاهب الدب
متمكًنا من فلسفة النقد مبرًزا في ذلك كلسسه -فهسسذا الخيسسال يسسذكرني
مسسا للبسسارودي إذ قلسست لسسه :إن الشسساعر ل يكسسون لسسسانكلمة قلتها يو ً
زمنه حتى يوجد معه الناقد الذي هو عقسسل زمنسسه؛ فقسسال :ومسسن ناقسسد
الشعر في رأيك؟ قلت :الكاتب وهو شاعر ،والديب وهو فيلسسسوف،
والمصلح وهو موفق؛ فكأنمسسا هسسولت عليسسه حسستى قسسال -رحمسسه اللسسه-
"فين دا كلسسه؟" قلسست :فلعلسسه ل ينشسسئ لنسسا هسسذا العقسسل الملتهسسب إل
العصر الذي يوجد لنا أسطوًل كأسطول انجلترا.
وعلى ما نزل بالشسسعر العصسسري مسسن هسسذين السسسببين فقسسد اسسستقلت
طريقته وظهر فيه أثر التحول العلمي والنقلب الفكري ،وعسسدل بسسه
أهلسه إلسى صسور الحيساة بعسد أن كسان فسي أكسثره صسوًرا مسن اللغسسة،
وأضافوا به مادة حسنة إلى مجموعة الفكسسار العربيسسة ،ونوعسسوا منسسه
عا بعد أن كان كالشيء الواحد ،واتسعت فيسسه دائرة الخيسسال بمسسا أنوا ً
نقلوا إليه من المعاني المترجمة من لغسات مختلفسة ،وهسو مسن هسسذه
الناحية أوسع مسسن شسسعر كسسل عصسسر فسسي تاريسسخ هسسذه اللغسسة :إذ كسسان
الولون إنما يأخذون مسسن اليونانيسسة والفارسسسية ،ثسسم أخسسذ المتسسأخرون
قليًل قليًل من التركية؛ أما في العهد الخيسسر فيكسساد العقسسل النسسساني
كله يكون مسسادة الشسساعر العربسسي ،لسسول ضسسعف أكسسثر المحسسدثين مسسن
النشء الجديد في البيان وأساليبه ،وبعدهم من ذوق اللغة واعتيسساص
مرامها عليهم ،حتى حسسسبوا أن الشسسعر معنسسى وفكسسر ،وأن كسسل كلم
أدى المعنسسى فهسسو كلم ،ول عليهسسم مسسن اللغسسة وصسسناعتها ،والبيسسان
وحقيقته؛ وحتى صرنا والله من بعض الغثاثة والركاكة والختلل فسسي
شر من توعر نظم الجاهلية وجفاء ألفاظه وكزازة معانيه؛ وهسسل ثسسم
291
فسرق بيسن أن تنفسسر النفسس مسن الشسسعر؛ لنسه وعسر اللفسساظ عسسير
السسستخراج شسسديد التعسسسف ،وبيسسن أن تمجسسه؛ لنسسه سسساقط اللفسسظ،
متسول المعنى ،مضطرب السياق؟ ثم تراهسم ينجسسزون الشسعر كلسه
دا من تسسسهيل اللفسسظ ونزولسسه ،حسستى على اختلف أغراضه نم ً
طا واح ً
كأن هذه اللغة ل تنوع فسسي ألفاظهسسا وأجسسراس ألفاظهسسا ،مسسع أن هسسذا
التنوع من أحسن محاسنها وأخص خصائصها دون غيرها من اللغات،
كما أن كل تنوع هو من أبدع أسباب الجمال والقوة في كل فن؛ ول
يدري أصحابنا أن كل ذلك مسسن عملهسسم عبسسث فسسي عبسسث إذا هسسم لسسم
يعطوا الشعر حقه من صناعة اللغسسة؛ وهسسذا شسساعر الفسسرس الشسسهير
مصلح الدين السعدي الشيرازي إمام من أئمة البلغسسة فسسي قسسومه ل
يدفع مكانه وشسسعره مثسسل مسسن أسسسمى المثلسسة فسسي جمسسال المنطسسق
الروحي ،وليس في الناس إل من يسلم له هذا المحسسل مسسن النبسسوغ،
وهو مع ذلك حين نظم الشعر لم تنفعه نافعة من حكمة أو خيسسال أو
فكر ،وذهب في التعسف كل مذهب ،وحمل على كلمه من العيوب
ما لم يسسسلم معسسه إل صسسحة السسوزن ،كقسسوله فسسي وصسسف نكبسسة بغسسداد
وتخريبها:
فقد ثكلت أم القرى ولكعبةمدامع في الميزان تسكب في الحجر
على جدر المستنصرية ندبةعلى العلماء الراسخين ذوي الحجر
نوائب دهر ليتني مت قبلهاولم أر عدوان السفيه على الحبر
محابر تبكي بعدهم بسوادهاوبعض قلوب الناس تألف بالغدر
لحى الله من تسدي إليه بنعمةوعند هجوم اليأس أحلك من حبر
فانظر أي شعر هذا فسسي الركاكسسة والهسسذيان والسسسخف ،وفسسي خمسسود
الفكر وضعف الروح وذهاب الرونق ،وتأمل كيف هسسوى بسسه السسسعدي
من مكانته التي بوأه إياها أدبه العالي ،وكيف سقط إلى حيث تسسرى،
مع أنه في محراب الفكر إمام وراءه صفوف من عصور البلغة.
ومن ههنا نشأ في أيامنا ما يسمونه " الشعر المنثور" ،وهي تسسسمية
تدل على جهل واضسسعها ومسسن يرضسساها لنفسسسه؛ فليسسس يضسسيق النسسثر
بالمعاني الشعرية ،ول هو قد خل منها فسسي تاريسسخ الدب؛ ولكسسن سسسر
هذه التسمية أن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقسسة يظهسسر فيهسسا
الختلل لوهى علة وليسر سبب ،ول يوفق إلى سبك المعاني فيهسسا
إل من أمده الله بأصح طبسسع وأسسسلم ذوق وأفصسسح بيسسان؛ فمسسن أجسسل
ذلك ل يحتمل شسسيًئا مسسن سسسخف اللفسسظ أو فسسساد العبسسارة أو ضسسعف
التأليف ،ول تستوي فيه أمسى المعاني مسسع شسسيء مسسن هسسذه العلسسل
وأشسسباهها ،وتسسراه يلقسسي بمثسسل "السسسعدي" مسسن الفلسسك العلسسى إلسسى
292
الحضيض ،ل يقيم له وزًنا ول يرعى له محًل ول يقبسسل فيسسه عسسذًرا ول
رخصة؛ غير النثر يحتمل كل أسلوب ،وما من صسسورة فيسسه إل ودونهسسا
صورة إلى أن تنتهي إلسسى العسسامي السسساقط والسسسوقي البسسارد؛ ومسسن
شأنه أن ينبسط وينقبض علسسى مسسا شسسئت منسسه ،ومسسا يتفسسق فيسسه مسسن
الحسن الشعري فإنما هو كالسسذي يتفسسق فسسي صسسوت المطسسرب حيسسن
يتكلم ل حين يغني :فمسسن قسسال" :الشسسعر المنثسسور" فسساعلم أن معنسساه
عجز الكاتب عن الشعر من ناحية وادعاؤه من ناحية أخرى.
دا في الشعر العربي مما أبدعته هذه النهضة أشياء: والذي أراه جدي ً
أوًل :هذا النوع القصصسسي السسذي توضسسع فيسسه القصسسائد الطسسوال ،فسسإن
الداب العربية خالية منه؛ وكان العرب ومن بعدهم إذا ذكروا القصة
ألمسسوا بهسسا اقتضسساًبا وجسساءوا بهسسا فسسي جملسسة السسسياق علسسى أنهسسا مثسسل
مضروب أو حكمة مرسلة أو برهسسان قسسائم أو احتجسساج أو تعليسسل ومسسا
جرى هذا المجرى مما ل ترد فيه القصة لذاتها ول لتفصيل حوادثهسسا؛
وهو كثير في شعر الجاهليين والسسسلميين ،والجيسسد منسسه قليسسل حسستى
في شعر الفحول؛ فإن طبيعة الشعر العربي تأباه؛ والذين جاءوا بسسه
من العصريين ل يجدون منسه إل قطًعسا تعسسرض فسسي القصسسيدة وأبياًتسا
تتفق في بعض معانيها وأغراضها مما يجسسري علسسى أصسسله فسسي سسسائر
الشعر طال أو قصر؛ والسبب في ذلك أن القصسسة إنمسسا يتسسم تمامهسسا
بالتبسسسط فسسي سسسردها وسسسياقة حوادثهسسا وتسسسمية أشخاصسسها وذكسسر
أوصافهم وحكاية أفعالهم وما يداخل ذلسسك أو يتصسسل بسسه ،وإنمسسا بنسسي
الشعر العربي في أوزانه وقوافيه على التأثير ل على السرد ،وعلسسى
الشعور ل على الحكاية؛ ول يريدون منه حديث اللسان ولكن حسديث
النفس؛ فهو في الحقيقة عندهم صناعة روحية يصنعون بهسسا مقسسادير
من الطرب والهتزاز والفرح والحزن والغضب والحمية والنزعة؛ فل
جرم كان سبيلهم إلى ذلك هو التحديد ل الطلق ،وضبط المقادير ل
السراف؛ إذ كان من شأن هذه المور في طبيعة النفس أن مسسا زاد
ضسسا
منها عن مقداره تحول وانقلب في تسسأثيره ،وذلسسك هسسو السسسبب أي ً
مسسا علسسى اختيسسار اللفسسظ وصسسنعةفي أن هذا الشسسعر مسسا لسسم يكسسن قائ ً
العبارة وتصفيتها وتهذيبها واختيار الوزن للمعنى وإدارة الفكسسر علسسى
ما يلفت من ضروب المجاز والستعارة ونحوها -سقط ورك بمقسسدار
ما ينقصه من ذلك؛ وليس الشأن في إطالة القصيد؛ فمسسن الشسسعراء
دا في أربعة آلف بيسست ،ومنهسسم مسسن نظسسم تفسسسير من نظم روّيا واح ً
القرآن كله؛ ولكن عيب مثل هذا الشعر في العربية أنه شعر ...ومسسا
أخمل ابن الرومي على جللة محله إل طول قصائده وسياقه الكلم
293
فيها مع ذلك على ما يشبه أسلوب الحكاية وخروجها مخرج المقالسسة
ي له إل مقطعات وأبيات ومات سائر شعره وهو ح َ
يتحدث بها ،فلم ت َ ْ
حي وميت على السواء ،حتى قسسال فيسسه صسساحب الوسسساطة" :ونحسسن
نستقرئ القصيدة من شعره وهي تناهز المسسائة أو تربسسي أو تضسسعف،
فل نعثر فيها إل بالبيت الذي يروق أو البيتين ،ثسم قسد تنسسلخ قصسائد
منه وهي واقفة تحت ظلها جارية تحت رسلها ل يحصل منها السامع
إل على عدد القوافي."..
والعجيب أن بعض الكتاب في عصرنا ممن ل تحقيق لهسسم فسسي مثسسل
هذه المسسسائل ،يعسسدون أحسسسن محاسسسن ابسسن الرومسسي مسسا هسسو أقبسسح
عيوبه ،وقاتل الله صناعة الكتابة ،فكما أنها لملء الفراغ هسسي كسسذلك
لفراغ الملن ..1
ثاني ًسسا :صسسياغة بعسسض الشسسعر علسسى أصسسل التفكيسسر فسسي النجليزيسسة أو
الفرنسية أو غيرهما من لغات المم ،فيخرج الشعر عربّيسسا وأسسسلوبه
في تأدية المعنى أجنبي؛ وأكثر ما يأتي هسسذا النسسوع مسن أمريكسسا ،وأنسسا
أعجب بكثير منه لما فيه من الغرابة والحسن.
وما زالت أجناس المم يضيق بعضها بأشسسياء ويتسسسع بعضسسها بأشسسياء
فلسنا مقيدين بسسالفكر العربسسي ول بطريقتسسه ،وعلينسسا أن نضسسيف إلسسى
محاسن لغتنا محاسن اللغات الخرى؛ ولكن من غيسسر أن نفسسسدها أو
نحيف عليها أو نبيعها بيع الوكس؛ ومتى كان هسسذا النسسوع مسسن الشسسعر
ما جيسسد السسسبك رشسسيق المعسسرض ،كسسان فسسي النهايسسة مسسن رصيًنا محك ً
الرقة والبداع؛ ولم يأت التجديد في هذه اللغة إل من هسسذه الناحيسسة،
كالذي تراه فيما أخذ عبد الحميد وابن المقفسسع مسسن نمسسط الداء فسسي
اللغة الفارسية.
ثالًثا :النصراف عن إفسسساد الشسسعر بصسسناعة المديسسح والرثسساء ،وذلسسك
بتأثير الحرية الشخصية في هذا العصر؛ والمدح إذا لم يكن باًبسسا مسسن
التاريخ الصحيح لم يدل على سمو نفس الممدوح ،بل علسسى سسسقوط
حا حين يتلسسى علسسى سسسامعه ،ولكنسسه ذم حيسسن نفس المادح؛ وتراه مد ً
يعزى إلى قائله! وما ابتليت لغسسة مسسن لغسسات السسدنيا بالمديسسح والرثسساء
والهجاء ما ابتليت هذه العربية؛ ولذلك أسباب ل محل لتفصيلها.
رابًعا :الكثار من الوصسسف والبسسداع فسسي بعسسض منسساحيه والتفنسسن فسسي
بعض أغراضه الحديثة :وذلسسك مسسن أسسسمى ضسسروب الشسسعر ،ل تتفسسق
الجادة فيه والكثار منه إل إذا كان الشعر حّيا ،وكانت نزعسسة العصسسر
حا؛ ولما وصف الشيخ أحمد الكردي إليه قوية ،وكان النظر فيه صحي ً
"من شعراء القرن الثاني عشر" السفينة واستهل بهذا الوصف مدح
294
دوا ذلك حادثة مسسن حسسوادث الدب فسسي عصسسره الوزير راغب باشا ،ع ّ
فتأمل!
سا :إهمسسال الصسناعات البديعيسسة الستي كسان يبنسسى عليهسسا الشسعر، خام ً
ما أو تورية ...الخ ،أوسا أو طباًقا أو استخدا ً فينظم البيت؛ ليكون جنا ً
ضرًبا آخر من صناعة العدد والحساب ،كالتاريخ الشعري بسسأنواعه ،أو
صسسناعة الحسسرف ،كسسالمقلوب والمهمسسل وغيرهمسسا :أو صسسناعة الفكسسر،
كسساللغز والمعمسسى؛ أو صسسناعة الوضسسع كالتشسسجير والتطريسسز ،إلسسى مسسا
يلتحق بهذا الباب الذي ذهسسب أهلسسه فل يتيسسسر لحسسد مسسن بعسسدهم أن
يجاريهم فيه ،وكانت لهم في كل ذلك عجائب استقصسسيناها بالتسسدوين
في موضعها من "تاريخ آداب العرب"1؛ بيد أن إهمال صناعة البسسديع
شيء وإهمال فن البديع نفسه شيء آخر؛ ومن هنا جاء ما نراه فسسي
بعض الشعر الحديث "والشعر المنثور" من الغراق السسسخيف السسذي
ل يقوم على أصل ،من التعدي فسي ضسروب السستعارة ،والبعسد فسي
المجاز ،والحالة في الوضع ،ونحوها مما يرجسسع إلسسى الجهسسل بطبيعسسة
البلغسسة ،وممسسا ل نعسسده إل ضسسرًبا مسسن الفسسساد يلتحسسق بمسسا كسسان فسسي
العصور الماضية وإن كان على الضد منه.
سا :النظسم فسي الشسؤون الوطنيسة والحسوادث الجتماعيسة ،ممسا ساد ً
طا بروح العصر وفكره وخياله ،وهو بسساب ل ينهسسض يجعل الشعر محي ً
فا لسسم يسسستحكم؛ وقسسد قسسالوا :إنبسسه إل أفسسراد قلئل ،ول يسسزال ضسسعي ً
للقاضي الفاضل اثني عشر ألف بيت في مدح الوطن والحنين إليسه،
ولكن ل أحسب أن بها مائة من نحو ما ينظسسم فسسي هسسذا العصسسر ممسسا
أدى بالشعر إلى أن يدخل في باب السياسة ويعد من وسائلها ،وفي
طرق التربية ويعد من أسبابها.
سابًعا :اسخراج بعسسض أوزان جديسسدة مسسن الفارسسسية والتركيسسة ،وهسسو
قليل ،جاء به شوقي فسسي قصسسيدتين ولسسم يتسسابعه أحسسد؛ لفسسراط ذلسسك
الوزن في الخفة حتى رجع إلى الثقل ..ثسسم نظسسم بعسسض الشسسعر مسسن
أوزان مختلفة قريبة التناسق على قاعسسدة الموشسسح ،ولكنسسه شسسعر ل
توشيح ،كما ينظم بعض شعراء أمريكا وسوريا؛ ولم يحدث مثل ذلك
في العربية ،فإن القصيدة كانت تنظم من بحر واحد ،وقد يخرج منه
وزن آخر :ول نعرف في تاريسسخ الدب قصسسيدة تتسسألف مسسن وزنيسسن إل
السسذي قسسالوا إن حسسسين بسسن عبسسد الصسسمد المتسسوفى سسسنة 984هس س "
1576م" قد اخترعه ونظم فيه أبياته التي مطلعها:
فاح عرف الصبا وصاح الديكوانثنى البان يشتكي التحريك
قم بنا نجتلي مشعشعةتاه من وصفه بها النسيك
295
وعارضها ولده المام الشهير بهاء الدين العاملي صسساحب الكشسسكول
بأبيات قسالوا :إنهسا سسارت فسي عصسره مسسير المثسل ،ونسسج عليهسا
شعراء ذلك العصر ،كالنابلسي وغيره ،ومطلعها:
يا نديمي بمهجتي أفديكقم وهات الكؤوس من هاتيك
خمرة إن ضللت ساحتهافسنا نور كأسها يهديك
على أن هذا الوزن بشطريه مستخرج من الخفيف ،فليسسس بسساختراع
كما زعموا ،وإنما هو ابتداع في التأليف الشسسعري؛ وقسسد اجتزأنسسا بمسسا
مرت الشارة إليه ،فإنه كل ما تغير بسسه الرسسسم فسسي هسسذه الصسسناعة؛
وتركنا المثلة تفادًيا من الطالة.
دا مسسع دينهسسا الروحسسي وبعد فل ريب أن النفس البشرية في حاجة أب س ً
إلى دين إنساني يقوم علسسى الشسسعور والرغبسسة والتسسأثير ،فيفسسسر لهسسا
حقائق الحياة ،ويكون وسيلة من وسائل تغييرها؛ ليجعلها ألطف مما
هي في اللطف؛ وأرق مما تكون في الرقسسة ،وأبسسدع ممسسا تتفسسق فسسي
البداع؛ ذلك السسذي يصسسل بظهسسوره وإبهسسامه بيسسن الواضسسح والغسسامض،
والخالد والفاني؛ ذلك الذي ل يجمل الجمال إل به ،ول تسكن النفس
إل إليه؛ ذلك هو الشعر!
296
صروف اللغوي*
297
والمعاني؛ فإن ذاك ينقل عن الواقسسع ثسسم ل يتعسسدى هسسذه المنزلسسة ول
يتجسساوز متسسون اللفسساظ ،وأمسسا هسسذا فل يسسزال يضسسطرب مسسع اللفسساظ
ومعانيها يجاذبها ويدافعها ،ثم ل يزال يضع يسسده فسسي النسسسيج اللغسسوي
يسدي ويلحم ،فهو مدفوع إلى المسالك الدقيقة من مذاهب الوضسسع
دا بخسساص المعنسسى وطرقه ،وأساليب الخسسذ والنسستزاع؛ وهسسو مقيسسد أبس ً
وخاص اللفظ على التعيين والتحديد ،ل يجد فسحة من ضيقين؛ فإن
لم يكن مثل هذا في منزلة الواضع فهو في المنزلة بعده ول ريب.
إنما اللغوي الكبر عندي هو هذا الكون ،وما العالم باللغة وفنونهسسا إل
وسيلة لتهذيب الطريقة تهذيًبا عقلًيا ،فيجب من ثم إن يكون للغسسوي
رأي وعلم وذكاء وبصر ،ويجب أن يطابق النسسواميس ،فل يتعسسادى مسسا
بينه وبينها؛ لنه وسيلة إنطاقهسسا ليسس غيسر؛ ومسن ذلسسك أرى السسدكتور
صروف في الغاية ،فقد كان ينزع في مسسذهبه اللغسسوي منسسازع علميسسة
دقيقة تسسوزن وتقسساس وتختسسبر ،فسسي حيسسن ل تزيسسغ ول تهسسن ول تختسسل،
وتراها تنطلق وهي مقيدة ،وتتقيد وهي مطلقة؛ إذ كان ل يعتد اللغسسة
عربية للعرب ،بل عربية للحياة؛ وما تهدمه وتبنيه وما تحدثه وتنسخه
فهي على أصولها فيمن قبلنا ،ولكن فروعها فينسسا نحسسن وفيمسسن يلينسسا
وفيمن بعد هؤلء ،قلنا أن نتولها على تلك الصول وعلى ما يشسسبهها
في الطريقة حيسسن تنتقسسل الحسسال ويتغيسسر الرسسسم ،ولعلسسة إن وجبسست،
ولقياس إن جاز .والدكتور بهذا العتبار يشتد في التمسسسك بالقواعسسد
والضوابط ول يترخص في شيء منها غير أنه ل يكون كسسأقوام يسسرون
الفروع مسسن الجسسذوع قسسد خرجسست ،فيحسسسبون الثمسسرات سسسبيلها مسسن
ضا ..وإن لم تجيء منها فستجيء منها. الجذوع أي ً
ما أحد هؤلء اللغويين فانتقد في المقطسسم قصسسيدة مسسن عرض لي يو ً
القصائد التي رفعتها إلى الملك فؤاد ،وتمحل في نقده ودلل ببعسسض
مسسا نقلسسه مسسن كتسسب اللغسسة ،فكسسان فيمسسا تكلسسم فيسسه لفظسسا" :الزاهسسر
والورود" ،فقال إنهما ليسا من اللغة ولم يجريا في كتبها؛ وكان مسسن
ردي عليه أن قلت له :إن العرب جمعوا الجمل ستة جموع ،وجمعوا
الناقة سبعة؛ لنها أكرم عليهم منه ،وإن لكسسل حيسساة صسسورها السسدائرة
في ألفاظها ،فسسالزهر والسسورد عنسسد المولسسدين والمحسسدثين أكسسرم مسسن
الجمل والناقسسة عنسسد العسسرب ،أو هسسذان كهسسذين؛ ثسسم همسسا مسسن خسساص
اللفسساظ المولسسدة ،فلنسسا أن نجمعهمسسا علسسى كسسل صسسور الجمسسع السستي
يسوغها القياس؛ لن ههنا الموجبة التي لم تكسسن مسسع العسسرب فيهمسسا؛
فمن الصحيح أن تقول :زهور ،وأزهسسار ،وأزاهسسر ،وأزاهيسسر السسخ ،فلمسسا
لقيت السدكتور بعسسد نشسر هسسذا السسرد هنسسأني بسه ،ثسسم قسال فيمسسا قسال:
298
يحسبون أن العرب هم الجمل والناقة وليس غير مسسا اسسستجمل ومسسا
استنوق ..أما هذا الدهر الطويل العريض فليس عنسسدهم شسسيًئا ،وهسسم
يستطيعون أن ينكسسروا علسسى المولسسدين ألسسف كلمسسة ،ولكسسن هسسل فسسي
استطاعتهم أن ينكروا على التاريخ ألسسف سسسنة؟ فسسذكرت لسسه الصسسل
الذي قرره أبو علي الفارسي في العربسسي الصسسحيح نفسسه :مسسن أنسسه
ليس كل ما يجوز في القياس يجب أن يخسسرج بسسه سسسماع ،فسسإذا أخسسذ
إنسان علسسى طريقسسة العسسرب وأم مسسذهبهم فل يسسسأل مسسا دليلسسه ومسسا
سماعه وما روايته ،ول يجب عليسسه مسسن ذلسسك شسسيء ،حسستى قسسال أبسسو
ما وفعًل علي :لو شسساء شسساعر أو متسسسع أن يبنسسي بإلحسساق اللم* اس س ً
وصفة لجسساز لسسه ،ولكسسان ذلسك مسسن كلم العسسرب؛ وذلسسك نحسو قولسسك:
خرجج أكثر من دخلل ،وضربب زيسسد عم سًرا ،ومسسررت برجسسل ضسسربب
وكرمم ،ونحو ذلك .قال تلميذه ابن جني :فقلسست لسسه :أترتجسسل اللغسسة
ذا مسسنارتجاًل؟ قال :ليس بارتجال لكنه مقيس علسسى كلمهسسم فهسسو إ ً
كلمهم.
وسألني مسسرة عسسن وجسسه الخلف بيسسن مسسا يسسسمونه القسسديم والجديسسد،
فقلت له :إن الخلف ليس علي جديد ول قديم ،ولكسسن علسسى ضسسعف
ما يكتبون وينظمون ولكن لم تقسم الفصاحة والبلغة وقوة؛ فإن قو ً
على مقدار ما يطيقونه من ذلك ،ول يتسع الصحيح لرائهم في اللغة
والدب ،وقد أرادوا أن يسعوا كل ذلك من حيسسث ضسساقوا ،ويطسساولوه
من حيث تقاصروا ،وينالوه من حيث عجزوا؛ فظنوا بسسالمر مسسا يظسسن
إنسان يمشي على الرض ويعرف أنها تسسدور ،فيسسؤول ذلسسك بسسأنه هسسو
يسسدير الرض علسسى محورهسسا بحركسسة قسسدميه ...نحسسن نقسسول :أسسسلوب
ركيك ،فيقولون :ل بسسل جديسسد ،وتقسسول :لغسسة سسسقيمة ،فيقولسسون :بسسل
عصرية ،ونقول :وجه من الخطأ ،فيقولسسون :بسسل نسسوع مسسن الصسسواب،
وهلم جّرا أو سخّيا ...ثم قلت له :أفتجد أنت الركاكة واللحن والخطأ
عا أو شسسيًئا يحتسساج إلسسى
دا أو أمًرا مبتسسد ً
والغثاثة وإن وأخواتها باًبا جدي ً
اسم جديد غير اسمه العربي؟ قال :ل ،وأنا معك في هذا ،وطريقتي
في المقتطف أن اللغة في قواعدها عربية ،ولكسسن مسسن قواعسسدها أن
لكل مقام مقاًل ،فنحن نكتب كتابة صحيحة ونريد بها أن ترفع العامة
ول تنزل بالخاصة ،فنخدم العربية من الجهتين.
---------------
* زيادة حرف من جنس لم الكلمة وإلحاقه بها.
ثم نشر بعد ذلك في عدد شهر مايو سنة 1927مقاًل جعسسل عنسسوانه
"أسلوبنا في الترجمة والتعريب" وابتدأه بهذه العبارة" :اللغة جسسسم
299
م ،وشأن من يحاول منعهسسا مسسن النمسسو شسسأن الصسسينيين السسذين حي نا ٍ
يربطون أقدام بناتهم لكي ل تنمسسو وتبلسسغ حسسدها الطسسبيعي ،ولكسسن إذا
ها فل بد من تقييده وتهذيبه؛ وكل ما نقوله نحسسن هسسو كان النمو مشو ً
التقييد والتهذيب واتقاء الشوهة أن تلسسم باللغسسة وأسسساليبها فتسسترادف
علسسى محاسسسنها بمعايبهسسا ،وتطمسسس مفاتنهسسا بمقابحهسسا؛ فسسإن هسسذه
المعايب والمقابح إذا هي استجمعت وانساغت في لغة مسسن اللغسسات
فا يعسسرف، لبستها بأشكالها فل تزال تنكر منها حتى ل تبقسسي لهسسا وصس ً
والحسن وحده هو الذي يحد بالوصاف والتعاريف ،وهو السسذي يسسدقق
فيه ويبالغ فيه قياسه وتقسسديره ،فسسإن وقسسع فيسسه الفضسسول واختلطسست
دا فقد خرج إلى صا وزائ ً
الحدود وضعفت الملءمة وجرى الوصف ناق ً
دا أو يعبسسأون القبح ،وإن خرج إلى القبح لم يعد الناس يحدون لسسه ح س ّ
له بقاعدة ،ووجدوا فيه كل الوصاف الجميلة مقلوبة منكرة؛ لنه هو
جمال مقلوب؛ "فتقييد التشويه وتهذيبه" كلمتسسان فيهمسسا الكلم كلسسه،
أو هما المصراعان لهذا الباب؛ ومن أجل ذلك كنسسا نعسسد السسدكتور مسسن
مسسا
حجتنا علسسى أصسسحاب الجديسسد؛ لنسسه أوسسسعهم إحاطسسة وأكسسثرهم عل ً
وأمدهم عمًل ،ثم لن يدانيه أحسسد منهسسم إل إذا جمسسع لنفسسسه عمريسسن،
وهل في الجديد رجل ذو عمرين؟..
قلنا :إن الشيخ كان في المنزلة التي تلي منزلة الواضع ،وقد دفعتسسه
العلوم إلى ذلك دفًعا ،لنه مقيد بخاص المعنى في كل مسا يسترجم أو
يعرب ،ثم بالخصائص العلمية الدقيقة التي ل تحتمسسل فسسي أدائهسسا مسسا
تحتمل المعاني الدبية؛ وقد تصدر للكتابة والترجمة منذ شسسباب هسسذا
العصر ،ومنذ بدأ الناس يقرأون العلوم الحادثة في الشرق؛ فل جرم
لم يكن لغوّيا كأبي عمرو وأبي زيد والخليسسل والصسسمعي وأبسسي حساتم
وأبي عبيدة وأضرابهم ممن يحملون عن العرب ويؤدون مسسا حملسسوه،
ول كسسان لغوي ّسسا فسسي طريقسة سسسيبويه والكسسسائي والزجسساج والخفسسش
واليزيسسدي وأشسسباههم ممسسن ينظسسرون فسسي اللغسسة وعللهسسا وأقيسسستها
وشواذها؛ ولكنه لغوي فيما يعمر بين الشرق والغرب ،يحمل بلسسسان
ويؤدي بلسان غيره ويوافق بين المعاني الجديدة واللفاظ القديمسسة،
ويشابك بين خيوط التاريخ في هذه وهذه ،ويأخذ اللغة للسسستعمال ل
للحفظ وللتعليم ل للتدوين وللمنفعة ل للمباهسساة وللفسسائدة ل للتنبسسل؛
ويترجم وإن في خياله العالم الواسع الذي ينقل عنه بعلمائه وأدبسسائه
وكتبه ومجلته ومصطلحاته ،ويكتب وإن له تلك الملكة الدقيقة التي
كونتها العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية وغيرهسسا؛ فلسسم يكسسن بسسد
من أن يبتدع ،وأن تكون له طريقة يوافق فيها ويخسالف ،وقسد بسسط
300
هسسو القواعسسد السستي أخسسذ بهسسا وجسسرى عليهسسا ،فكتسسب فيهسسا مقسساًل فسسي
"المقتطف" شهر يوليو لسنة ،1906وأعسساد نشسسره فسسي عسسدد شسسهر
مايو لسسسنة ،1927وهسسو يوافسسق فيسسه أكسسثر العلمسساء ،وخاصسسة المسسام
الجاحظ؛ ومع أن قاعدة الجاحظ لم تكن يسسومئذ معروفسسة ،ولكسسن كل
الشيخين حصيف الرأي تام الدارة في عمله ،قوي الحسبة والتسسدبير
فيمسا يأخسذ ومسا يسدع؛ وخلصسة رأي السدكتور أنسه ينظسر فسي الكلمسة
العجمية ،فإن أصاب لها مرادًفا في العربية يحددها ويفي بها فذاك،
وإل أمرها في كتابته وهو مقيد بقاعدة القسسارئ ومسسا هسسو أخسسف علسسى
قارئه في المئونة وأبين له في الدللة ،فإن كانت اللفظسسة العجميسسة
أوفى وأشبع في استعمال عدل إليهسسا ،قسسال :وغنسسي عسسن البيسسان أننسسا
التزمنا أن نجاري العلماء في المصطلحات العلمية التي تفقد دللتها
بتعريبها :كالحامض الكبريتوس والكبريتيك ...الخ ،فإن لكل من هسسذه
صا يدل على تركيب الحامض الملحقات والزوائد التي فيها ،معنى خا ّ
المسسراد كمسسا يعلسسم دارسسسو الكيميسساء؛ قسسال :فمسسن يسسسمي الحسسامض
الكبريتيك بالحامضي الكبريتي كمن يسمي الفرس حماًرا؛ لن لكسسل
سا وذنًبا..
منهما رأ ً
والجاحظ يقول في مثل ذلك :إن رأيسسي فسسي هسسذا الضسسرب مسسن هسسذا
اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمسسادة فيهسسا
علسسى أن ألفسسظ بالشسسيء العتيسسد الموجسسود "يعنسسي اللفسسظ العلمسسي
الصطلحي" وأدع التكلف لمسا عسسى أل يسسسلس ول يسسهل إل بعسد
الرياضة الطويلة ..ولكل صناعة ألفاظ قد جعلت لهلها بعسسد امتحسسان
سواها ،فلم تلزق بصناعتهم إل بعد أن كانت بينها وبيسسن معسساني تلسسك
الصناعة مشاكلت.
فأنت ترى الجاحظ ل يمتنع من اللفاظ العجمية والعامية كمسسا هسسي
مسسا دامسست المعسساني قائمسسة ،وقاعسسدته هسسي الخسسف والدل والفهسسم
والشيع ،وهذا بعينه يقول الدكتور فيه" :يشترط فسسي حسسسن التعسسبير
أن يؤدي المعنى المراد إلى ذهن السامع بأقل ما يكون مسسن السسوقت
والكلفة والسراف في القوة العصبية".
وقد كلمني بعضهم في خطأ السسدكتور مسسن ناحيسسة اللفسساظ العجميسسة
وإقحامها في كتابته ،وأنه يجنح إلى ذلك بأوهى سبب؛ ول أراه خطأ،
فا من أمسسر الناقسسل والواضسسع ول يعجزنسسا بل أنا أرد ذلك إلى ما بينه آن ً
صا يقوم به وينهض بحجته؛ فقد قال أبو علسسي أن نجد لصنع الدكتور ن ً
الفارسي :إن العرب إذا اشتقت من العجمي خلطت فيه ،فإذا كان
هذا في الشتقاق وهو ل يكون إل من أصل ،فكيف بسسالتعريب؟ علسسى
301
أنه ل خلط ول اضطراب ،إنما هو سبيل الوضسسع وحكمسسة الدللسسة وأن
اللغة هكذا تجيء ،ثم يأتي بعد ذلك النحوي يقول لماذا ولن...
وقد أعجبني حسن تقسيم الدكتور لقواعده التي بسطها فسسي مقسساله
دا فسسي التقسسسيم المعسسروف عنسسد المستفيض ،حتى أني لراه باًبا جدي ً
علماء البلغسسة واللغسسة لبتسسذاله اللفسساظ وغرابتهسسا؛ إذ لسسم يبسسق عنسسدنا
غريب ومبتذل ول بيننا عرب ومحدثون.
بيد أن من تلك القواعد أن الستاذ يترخص في اللفاظ العامية وهسسو
يجد فصيحها ،ويقول في ذلسسك" :إذا أسسسمعت الفلح المصسسري كلمسسة
بذار مرة في السبوع أو في الشهر ،سمع كلمة "تقاوي" مسسائة مسسرة
وألف مرة ،فرأينا أن محاولة تغييسسر لغسسة العامسسة فسسي هسسذه الكلمسسات
وأمثالهسسا ضسسرب مسسن العبسسث وإضسساعة للسسوقت وتضسسييع للفسسائدة،
فجاريناهم فيما نكتبه لهم" .وهذا ما كنت أجسسادله فيسسه ول أسسسلم لسسه
مسسا ،فسسإن عامتنسسا غيسسربشسسيء منسسه؛ لنسسه أغفسسل أص سًل اجتماعي ّسسا عظي ً
منقطعة من العربية الفصحى ،ول يسسزال فيهسسم ميراثهسسا مسسن القسسرآن
والحديث وكلم العلماء في أمور دينهم ،وهسسذه هسسي وسسسائل مزجهسسم
بالفصسسيح وردهسسم إليسسه ،ول تسسزال هسسذه الوسسسائل تفعسسل مسسا تفعلسسه
النواميس المحتومة ولولها لما بقي للفصحى بقية بعد.
وقد كان جاء إلى مصر من بضسسع سسسنين رجسسل مسسن أمريكسسا هسسو مسسن
تلميذ الدكتور القدماء ،فنزح إلى ذلك البر فاتجر فأثرى وفشسست لسسه
نعمة عظيمة؛ ولما لقيته لقيت في يده صسسحيفة وضسسع فيهسسا مسسسائل
في اللغة والنحو ،وكأن أعدها ليسأل عنها؛ وفي أولها هسسذا السسسؤال:
لماذا يقال فصح الرجل فصاحة فهو فصيح ،ثسسم يقسسول :شسسعر شسسعًرا
فهو شاعر؟ ألسسم يكسسن القيسساس أن يقسسال شسسعر شسسعارة فهسسو شسسعير،
والفصاحة والشعر من باب واحد؟
وا وعبًثا ولكنسه دقيسق فسي وهذا السؤال وإن كان في ظاهر الرأي لغ ً
تاريخ اللغة وأقيستها ،ول محل لبسط الكلم عليه في هذا الموضسسع،
غير أني أنهيت الخبر للدكتور صروف وقلت له :إن صاحبك هذا يضع
قواعد اللغة في الميزان الذي في حانوته ..وأنت كذلك تعالسسج بعسسض
اللفاظ أحياًنا ببعض الغازات والحوامض.
قلت هذا؛ لني لم أسسسلم لسسه قسسط فيمسسا كسسان يسسراه فسسي مثسسل البسسذار
والتقاوي ،على أنه قيد الكلم بقوله "فيما نكتبه لهم" ،وهذا احتراس
يدافع عنه بقوة كما ترى.
ول يمتري أحد في أن هذه النهضة اللغوية التي أدركناها وعملنا فيها
لم تكن سوى نمو طبيعي لعمل رجال أفذاذ نظسسن السسدكتور صسسروف
302
دا وأكثرهم عمًل وأظهرهسسم أثسًرا؛ في طليعتهم؛ لنه كان أطولهم جها ً
وكان المقتطسسف يجيسسء لهسسا كسسل شسسهر كسسأنه قطعسسة زمنيسسة مسسسلطة
بناموس كناموس النشوء ،حتى للم هذا المقتطف أن يكسسون عص سًرا
من العصور قد خرج في شكل الكتابة؛ ولقسد كاشسفني السدكتور فسي
آخر أيامه أنه كان يود لو ختم عمله بوضع معجم في اللغة يصسسلح أن
يقال فيه إنه معجم الشعب ،وفصل لي طريقته؛ إذ كنت أكلمسسه فسسي
كتاب لغوي افتتحت العمل فيه من زمسسن ول يعسسرف أحسسد مسسن أمسسره
خبًرا 1فقال لي :خذ بين طريقتي وطريقتك ،وامسسض أنسست فسسي هسسذا
العمل؛ فإني لو وجدت فرا ً
غا لما عسسدلت بهسسذا الثسسر شسسيًئا ،ومسسا كسسل
سهل هو سهل..
على أن شيخنا هذا لو قد كان تفرغ للغسسة وتسسوفر عليهسسا واجتمسسع لهسسا
بذلك العمسسر وتلسسك العلسسوم والدوات ،لكسسان فيهسسا بأمسسة مسن الشسسياخ
الماضين من لدن أبي عمرو بن العلء إلى الدكتور يعقوب صسسروف،
ولكن لعل الدهر أضيق من أن يتسع أو هسسو أوسسسع مسسن أن يضسسيق...
لمام آخر كأبي علي الفارسي ،يفرغ سبعين سسسنة لفسسرع واحسسد مسسن
علوم اللغة هو علم القياس والشتقاق والعلل الصرفية ويجعله همه
وسدسه علسى مسا قسال تلميسذه ابسن جنسسي" :ل يعتسساقه عنسه ولسد ،ول
سسسا؛ فكسسأنه
يعارضه فيه متجر ،ول يسوم به مطلًبا ،ول يخسسدم بسسه رئي ً
إنما كان مخلوًقا له".
وكانت للدكتور طريقة جريئة فسسي رد اللفسساظ العربيسسة إلسسى أصسسولها
والرجوع بها إلى أسباب أخذها واشتقاقها وتصسساريفها مسسن لغسسة إلسسى
لغة ،وأعانه على ذلك ثقوب فكره وسعة علمه ودقسسة تمييسسزه وميلسسه
الغسسالب عليسسه فسسي تحقيسسق نسساموس النشسسوء وتسسبين آثسساره فسسي هسسذه
المخلوقات المعنوية المسماة باللفاظ؛ وكان معجب ًسسا بكسسل مسسا جسساءه
من هذا الباب ولو كان من خطأ؛ لنسسه إلسسى السسرأي يقصسسد وللطريقسسة
يمكن ومع الحاضر يجري.
وهذا بسساب يحتسساج إلسسى التسسسمح والتسسساهل؛ إذ ل يمكسسن تحقيقسسه ،ول
تتفسسق الحيطسسة فيسسه ،وليسسس إل أن يتلسسوح شسسيء منسسه ويسسسنح شسسيء
وتتلمح علة ويعرض سبب؛ ثم هو في الدكتور من بعض الدللة على
استحكام ملكة الوضع فيه ،ونزعه إلى أن يقتاس بقياسه ويسسستخرج
من علله؛ وقد تراه يبعد في ذلك فينصب لك الدليل من وراء بضسسعة
آلف سنة ،وأنا الساعة أعان ذاكرتي وأديرها من ههنسسا وههنسسا لجسسد،
كلمة ،قال لي مرة في تاريخها :إن العرب أخذوها عن اليونان حيسسن
كانت مكة نفسها جارية في حكمهم ،ولكن أنسسسيت هسسذه الكلمسسة؛ إذ
303
لم أرتبطها ،وإذ كنت ل أرى هذا المسسذهب ول أحسسسن أن أقسسول فيسسه
قوًل ،وأعد كل ما يقال فيه مسن بساب تلفيسسق الدلسسة ،كسأنه ذئب ذلسك
العرابي الذي يريد أن يجعل فسسي النسساس منسسه مثسسل غسسرائز الغنسسم...
فيقول" :إل تره تظنه".
---------------
1أحسبه يعني المعجم الذي كان يعاون فيه صديقه المرحوم أحمسسد
زكي باشا ،وانظر ص " 262حياة الرافعي".
والدكتور صروف رجل مالي في المال وفسسي اللغسسة جميعًسسا .فمسسذهبه
القصد فسسي الدللسسة والقصسسد فسسي السسوقت والقصسسد فسسي القسسوة ،وقسسد
صرفته ثلثتها عسسن الشسسعر وعمسسا كسسان فسسي حكمسسه مسسن تحسسبير النسسثر
وتوشيته ،على أنه يحسنهما لو أراد ولو سخت نفسه بسسالوقت ينفقسسه
ول يتعرف قدر ما مضسسى منسسه فسسي هسسذه السساعات ،بسل فسسي سسساعة
الكون الكبرى التي يتعاقب فيها عقربا النهار والليل ،كما كسسان ينفسسق
ما في بيت أو بيتين. البارودي يو ً
وكان شسسيخنا فسسي آخسسر مجالسسسي معسسه قبسسل وفسساته بشسسهر أو نحسسوه،
أطلعني على كل ما نشره فسسي مجلسسدات "المقتطسسف" مسسن شسسعره،
فأعجبت بأشياء منه ،وأشرت على صديقنا الستاذ فسسؤاد صسسروف أن
يعيد نشر قصيدة الرقاش التي ترجمها الدكتور عسسن النجليزيسسة فسسي
نسق سلس موشح القوافي ،والتي يقول فيها صاحبها يصف مخازي
المدنية:
دا وفي العظم سوسا مخازٍ توالت فصالت وصارتعلى الحلم دو ً
وسألني الدكتور بعد أن فرغت من شعره :في أي طبقة تعدني مسسن
شعرائهم؟ ففكرت قليًل ثم قلت له :فسسي طبقسسة السسدكتور صسسروف!.
فضحك لها كثيًرا.
وكانت له آراء في الشعر العربي غير بعضها فسسي آخسسر عهسسده ،وممسسا
قاله لي مسسرة :إن السسذي يريسسد أن يخلسسد ذكسسره فسسي هسسذا الشسسرق فل
ما كهرم الجيزة!. ينسى ،ل ينبغي له أن يطمع في هذا إل إذا بنى هر ً
وهي كلمسسة فلسسسفية كسسبيرة تنطسسوي علسسى شسسرح طويسسل يعرفسسه مسن
يعرفه.
وقد كادت قاعدة القصد التي أومأت إليها تنتهي بسسه فسسي آخسسر مسسدته
إلى القول بإسقاط العراب بتة ،وأظن ذلك خسساطًرا سسسنح لسسه فأخسسذ
بأوله وترك أن ينظر في أعقابه ،فزرته مسسرة فسسي شسسهر ينسساير لسسسنة
،1927وكان يصحح تسويده جواب كتبه عسسن سسسؤال ورد عليسسه فسسي
هل يمكن الرجوع إلسسى اللغسسة الفصسسحى فسسي القسسراءة والتكلسسم ،ومسسا
304
الفائدة من ذلك؟ فلما أمر بالجواب على نظره دفعسسه إلسسي فقرأتسسه،
فإذا هو يرى أن كل حركة من حركسسات العسراب والبنسساء يتهسور فيهسسا
مسسا
وقت ما؛ قال :فسسإذا قضسسينا علسسى أبنسساء العربيسسة أل يتكلمسسوا إل كل ً
معرًبا نكون قد أضعنا عليهم ثلث الوقت السسذي يقضسسونه فسسي التكلسسم
من غير فائدة تجنى.
ولقد جادلته في ذلك ولججت في الخلف معه ،وقلسست لسسه :إن هسسذه
قاعدة مالية ،ثم إنسك أغفلست أمسسر العسادة ومسسا تيسسره ،وفسي الكلم
إيجاز يقوم مع العراب ،هذا المقام ل يكسسون مسسن اليجسساز بسسد ،وفسسي
اللهجات العامية من الحشو ومط الصوت وفساد التركيب ما يسسذهب
بأكثر من ثلث الوقت؛ فأحسبه اقتنع وإن كنت رأيته لم يقتنع.
وإنه ليحضرني بعد هذا كلم كثير في فضائل وآدابه وشسسمائل نفسسسه
الزكيسسة ومنزعسسه فسسي الخلق الطيبسسة الكريمسسة ،ولسسو ذهبسست فضسسل
لخرجت إلى الفاضة في فنون مختلفة ،ولكني أجتزئ من كسسل ذلسسك
ما كأنه في ظل من محبة الله. بأنه كان يظهر لي دائ ً
305
الشيخ الخضري 1
تحول الكتاب إلى كتاب ،ورجع المفكر إلى فكرة ،وأصسسبح مسسن كسسان
مسسا،
يدارس الناس فإذا هو درس يذكر أو ينسى ،وتنسساول التاريسسخ عال ً
من علمائه فجعله نبأ من أنبائه ،وكان يبنيه فوضعه في بنائه ،وقيسسل:
مات الشيخ الخضري!
آه لو يرجع إنسان واحد من طريق الموت السستي أولهسسا هسسذه النقطسسة
الصغيرة المسماة بالكرة الرضية ،وآخرها حيث تجد كلمة" :الخرة"
بل معنى ل محدود ول مظنون! وآه لو استطعنا أن نتكلم عن الميت
كأنه حي بيننا ،ونحن كثيًرا ما نتكلم عن الحي كأنه مسسات فسسي زمسسن!
إني لكتب هذه الكلمات وكسسأني أنظسسر إلسسى وجسسه أبسسي -رحمسسه اللسسه-
وأشهد ذلك السمت العجيب ،وذلك الوقار الذي يغمسسر النفسسس هيبسسة
وجلًل ،وأستروح ذلك الحب السسذي هسسو أحسسد الطسسرق الثلث المنتهيسسة
من الرض إلى السماء ،ومن المخلسسوق إلسسى الخلسسق ،والمبتسسدئة مسسن
السماء إلى الرض ومن الخالق إلى المخلوق :طريق الم ،وطريسسق
دا من وراء المادة تمسح علسسى الب ،وطريق النسانية؛ أكتب وكأن ي ً
قلبي فأجد ثقلة وفترة ،وأستشعر حنيًنا وشوًقا ،وأحسسس هسسذا القلسسب
ينازعني إلى قوم ذهبسسوا بل رجعسسة ،وفسسارقوا بل وداع ،وغسسابوا عن ًسسا بل
خبر؛ دخلوا إلى أنفسنا ول تحويهم ،وخرجوا منها ول تخلو منهم؛ فما
دخلوا ول خرجوا ،وهذه هي الحيرة التي يتركها الميت العزيز للحسسي
المتفجع كيما يعرف بأمواته ما هو الموت!
كنا منذ بضع وثلثين سنة في مدينة المنصورة ،وكان أبي يومئذ كبير
قضاة الشرع في ذلك القليم ،فإني للعب ذات يوم في بهو دارنا إذ
طرق الباب ،فذهبت أفتح فإذا أنا بشيخ لم يبلغ سن العمامسسة* ،ولسسم
أميز من هيئته أهو طالب علم أو هو عالم ،فكسسان حسسدًثا لكنسسه يتسسسم
بسمة الجد؛ ورأيتسسه ل تمسسوج بسسه الجبسسة كالعلمسساء ،غيسسر أنهسسا ل تمجسسه
كالطلبة؛ وكان في يده مجلد ضخم لو نطق لقال له :دعني لمن هسسو
دا مسن مثلسه ،ونظسسر إلسسي أسن منك! فما قسسدرته يسزن عشسسرين مجلس ً
نظرة كأني ل أزال أراها في عينه إلى الساعة ،فسلمت عليه فقال:
أين الشيخ؟ يعني -الوالد -قلسست :خسسرج آنفًسسا؛ قسسال :فسسادفع إليسسه هسسذا
الكتاب ،وقل له جاء به الخضري.
---------------
1المقتطف :مايو سنة .1927
* كناية عن الحداثة وأنه شيخ بالمنظر ل بالسن.
306
ثم أغلقت الباب وانتحيت جانًبا وفتحت المجلسسد ،فسسإذا هسسو جسسزء مسسن
التفسير الكبير للفخر الرازي ،كان قد استعاره من مكتبتنا؛ وعرفسست
ذا للعربيسسة فسسي مدرسسسة الصسسنائع ،يضسسع الشيخ من يومئذ ،وكان أستا ً
كتاب النحو والصرف مع المطرقة والمنشار والقدوم ،فيذهب شيء
في شيء ،وكأنه ل يعلم شيًئا؛ وقلما كنا نذكره في مدرستنا إذ كسسان
لنا شيخ فحل ثقة من رجال الزهر ،غير أن الخضري كان له موضسسع
مسسا مسسن الخاصسسة يعنسسون بالمسسسائل في كل مجلس ،وكان يسسداخل قو ً
السلمية وفلسسسفتها وتقريبهسسا مسسن العامسسة والسسدهماء ،وبإشسسارة مسسن
بعض هؤلء وضع أول كتبه" :نور اليقين في سيرة سيد المرسسسلين"،
ويكاد هذا السم يدل على وزن الستاذ في أول عهده ،وأنه ل يسسزال
وراء السجعة التية من القسسرون الخيسسرة لسسم يمسسض علسسى وجسسه ولسسم
يعرف بمذهب.
حا في هسسذا الفقيسسه العسسالم المسسؤرخ ً
إن الذي يريد أن يقول قول صحي ً
الديب المربي ،يجب أن يرجع بتياره إلى منبعسسه مبلسسغ انبعسساثه وقسسوة
جريته ومد عبابه؛ فما كان الخضري شيًئا قبل أن يتعلق بمسسدار ذلسسك
النجم النساني العظيم الذي أهدته السماء إلى الرض وسسسمى فسسي
أسسسمائها "محمسسد عبسسده" ،لقسسد أخرجتسسه دار العلسسوم كمسسا أخرجسست
الكسسثيرين؛ ولكسسن دار علسسومه الكسسبرى كسسانت أخلق السسستاذ المسسام
وشمائله وآراءه وبلغته وهمة نفسسسه .أل أنسسه ل بسسد مسسن رجسسل واحسسد
يكون هو الواحد الذي يبدأ منه العسسدد فسسي كسسل عصسسر ،وأنسست فكيسسف
تأملت الخضري فاعلم أنسسك بسإزاء معنسسى مسسن معسساني الشسسيخ محمسسد
عبده ،على فرق ما بين النفسين ،بل أنت من الخضسسري كأنسسك تسسرى
الشيخ سارًيا في مظهر من مظاهر الزمن.
كان يحضر دروس الشيخ ،ويختلف إلى ناديه ،وينسساقله بعسسض السسرأي،
ويعارض معه بعض الكتب التي كان يرجع إلى الشيخ فسسي تصسسحيحها
أو الشراف على طبعها ،فنفذ الشيخ إلى نفسه ووجد السسسبيل إلسسى
الستقرار فيها ،فهو من بعسسد حريسسص علسسى وقتسسه ،مجسسد فسسي عملسسه،
ذا بالخلق الفاضلة ،مصلح مرب غيسسور ،وكسسل دائب على طريقه ،آخ ً
ذلك فسسي سسسمت وهيبسسة ،وجزالسسة رأي ،وشسسرف همسسة ،وإخلص حسسق
الخلص؛ وما أرى فوضى عصرنا هذا وانحطاطه وإسفافه وسسسخافة
قولهم :جديسسد وقسسديم ،وجريسسء ورجعسسي ،وحسسر وجامسسد -إل مسسن خلء
العصر وفراغه من النفس الكبيرة ،وحاجته إلى إمام عظيسسم؛ ومسستى
أصبحنا نضرب في دائرة ل مركز لها ،فهي المربع وهسسي المسسستطيل
وهي كل شسسكل إل أن تكسسون السسدائرة؛ والسسذين رأوا طسساغور الشسساعر
307
الهندي المتصوف حين نزل بمصر ،ورأوا سحره وتحسسويله كسسل جديسسد
مدة أيام إلى قديم ،وإخراسسسه هسسذه اللسسسنة عسسن نقسسده ومعارضسسته،
دا ...يسسستطيعون أن شسسا ونزقًسسا وضسسلًل وتجدي س ً
وعن معاندة الحق طي ً
يدركوا ما أومأنا إليه ،ويتبينوا السر فيما نحن فيه ،ويتمثلسسوا مسسا كسسان
للشيخ محمد عبده في عصره ،بل في خلق عصره.
وانتهى الخضري إلسسى مدرسسسة القضسساء الشسسرعي ،فسسألف كتسسابه فسسي
الصول ،اختصر فيه وهذب وقارب ،فهو كتاب في هذا العلم ل كتاب
هذا العلم ،وأساتذة الصول قوم آخرون لو أنسست منهسسم مثسسل الشسسيخ
الرافعي الكبير ،لرأيت البحر الذي يسذهب فسسي سساحله نصسف طسول
الرض ،وقد بعث الخضري علسسى ذلسسك أن جماعسسة يسسومئذ كسسان منهسسا
صديقنا المرحوم حفني ناصف ،والشيخ المهدي ،وغيرهمسسا ،اجتمعسسوا
على إبداع نهضة في التأليف ،فذهب ثلثة منهم بحصة الدب ،وفسسرغ
الخضري للصول؛ أخبرني بذلك حنفي بك -رحمه الله -ثم لما اختسسار
القائمون على الجامعة المصسسرية القديمسسة صسسديقنا العلمسسة المسسؤرخ
جورجي زيدان لدرس التاريخ السلمي فيها .طسسار الخسسبر فسسي المسسة
بأنهم اختاروا القنبلسة ..وشسعر النساس بمعنسى الهسدم قبسل أن يتهسدم
شيء ،فاضطرت الجامعة إلى أن تنحيه ،وعهسسدت فسسي السسدرس إلسسى
الستاذ الخضري ،فألقى دروسه التي جمعها في كتابه "تاريخ المسسم
السلمية" .وقال في مقدمة هذا الكتاب" :أرجو أن أكون قد وفقت
لتذليل صسسعوبة كسسبرى .وهسسي صسسعوبة اسسستفادة التاريسسخ العربسسي مسسن
كتبه"؛ نقول :وعلى أن الشيخ أحسن في كتابه ،وجاء بمسسادة غزيسسرة
من فكره ورأيه ،وبسط واختصر ،وباعد وقرب ،فإن كلمته هسسذه إمسسا
أن تكون أكبر من التاريخ أو أكبر من كتابه.
ورد ّ في السنة الماضية على كتاب "الشسسعر الجسساهلي" للسسدكتور طسسه
حسسسين ،وكسسان رده خطاب ًسسا أراد أن يحاضسسر بسسه طلبسسة الجامعسسة؛ لنسسه
ذا معهسسم ،وأبسست أستاذ أستاذهم؛ فكأنه أراد جعل أستاذهم هسسذا تلمي س ً
عليه الجامعة ما أراد ،ولعلها فطنت إلى هذا الغرض؛ ولما علم أنسسي
شرعت في طبسسع ردي علسى السسدكتور طسه ،1كلمنسسي فسسي اسستلحاق
مقسساله وجعلسسه ذيًل فسسي الكتسساب ،وقسسدرناه يسسومئذ فسسي نحسسو خمسسسين
صسسفحة أو دونهسسا ،وقسسد سسسألته أن ينفسسي منسسه مسسا كسسان فسسي مقسسادير
الرصسساص ،ويقتصسسر علسسى مسسا هسسو فسسي وزن القنابسسل ،فقسسال" :كلسسه
قنابل"! .ثم اتسع كتابي وجاوز مقداره إلى الضعف ،فوسسسع هسسو رده
وزاد فيه وطبعه في قريب من ضعفه على حدة.
308
دع كتابه المشهور "مهذب الغاني" ،فهذا ل يقسسال :إن الشسسيخ ألفسسه،
بل ألفته خمسسس عشسسرة سسسنة؛ وأظسسن كسسل ذلسسك ل يسسذكر فسسي جنسسب
الكتاب الذي كان يعمسسل فيسسه أخيسًرا ،وهسسو كتسساب "الدب المصسسري"،
أخبرني أنه في جزأين ودعاني إلسسى داره لرى "المكتبسسة الخضسسرية"؛
ولطلع على هذا الكتاب ،فوعسسدته ولسسم يقسسدر لسسي؛ وقسسد حسسدثني أنسسه
ي أشد العناية باستجماع الفروق التي يمتاز بهسسا الدب المصسسري معن ّ
عن الدب الحجازي والشامي والعراقي والندلسي ،وأنه أصاب مسسن
ذلك أشياء متميزة منذ الدولة الطولونية ،يحق لمصر أن تقول فيهسا:
هذا أدبي؛ وكسسان يكتسسم خسسبر هسسذا الكتسساب ،حسستى أن صسسديقنا السسستاذ
حافظ بك عوض صاحب جريسسدة "كسسوكب الشسسرق" ،اقسسترح عليسسه أن
يكتب فصسًل فسسي الشسسعراء المصسسريين وأدبهسسم يعقسسده لكتسساب حفلسسة
تكريم شوقي بك؛ ثم لقيه بعد ذلك فقال له الشيخ :إن البحث سائر
على أحسن وجوهه!
كان الخضري يفرح للقائي ويهش لي ،وكنت أتبين في وجهسسه أشسسعة
روحه الصافية ،ولعله كسسان يسسرى بسسي فسسي نفسسسه ذلسسك الشسسيخ السسذي
أعطاني المجلد ،كما كنت أرى به في نفس ذلك التلميسسذ السسذي أخسسذ
المجلد منه! على أن مرجع ذلك في الحق إلى سعة صدره ،وفسحة
رأيه ،وبسطة ذرعه ،وسموّ أدبسسه وإنصسسافه؛ فل يحقسسد ول يحسسسد ،ول
يتجاوز قدره ،ول ينزل بأحد عن قدره ،ول يدعي مسسا ل يحسسسن؛ وقسسد
عرف قراء "المقتطف" مثًل من أخلقه هذه أو أكثرهسسا حسستى انتقسسده
صديقنا الستاذ عبد الرحيم بن محمود ،وتناول الجزء الول من كتابه
"مهذب الغاني" وراح يتقلقسسل لسسه كجلمسسود صسسخر ..فوسسسعه الشسسيخ
وعني به ورد عليه في "المقتطف" ،ونعته بالستاذ الجهبسسذ وانتصسسف
منه ،وأنصفه مًعا .ولقد اقترحت عليه مرة أن يضع كتاًبا فسسي حكمسسة
التشريع السلمي وفلسفته ،فقال لي" :مش قده" يعني أن العمسسل
أكسسبر منسسه ،ولكسسن هسسذا نبهسسه إلسسى وضسسع كتسسابه فسسي "تاريسسخ التشسسريع
السلمي.
ولما أصدرت الجزء الول من "تاريخ آداب العرب" في سنة ،1911
لم أهده إلى الشيخ ،فاشستراه وقسرأه ،ثسم لقيتسه وسسألته رأيسه فيسه،
دا كويس" فقال" :ج ّ
ظا آخر؛ وهو يقسسول هسسذا ظا ،و"كويس" تقري ً دا" تقري ً فكان تقديم "ج ّ
ما بهذا الكتاب وما على حين كان بعض إخوانه الشيوخ يكاد يموت غ ّ
كتب عنه ،وعلى حين كلمني بعضسسهم مرتيسسن فسسي تسسرك هسسذا العمسسل
ونفض يدي منه؛ لنه -زعم -عمل شاقّ بل فائدة..
309
وقد زرت الستاذ الخضري في وزارة المعارف في السنة الماضسسية،
فبعد أن جلست إلى جانبه نهض مرة ثانية وجعسسل يثبتنسسي بقسسوة فسسي
الكرسي ،كأنه لم يطمئن بعد إلى أني جلست ،ثم فاض بكلم كسسثير،
فكان فيما قاله" :أنا الن أعيش في غير زمني" ،وكأنمسسا كسسان ينعسسي
إلي نفسه بهذه الكلمة من حيث ل يسسدري ول أدري ،وقسسال لسسي :إنسسه
يجلس إلى مكتبة في كل يوم ست ساعات ،يقرأ ويؤلسسف أو ينسسسخ؛
لن كل كتبه المخطوطة هو ناقلها وناسخها ومصححها ،وأنه يتلو كل
يوم أربعة أجزاء من القرآن الكريم .قال :ول يعتريه البرد ول مسسرض
من أمراضه ،لما اعتاد من رياضة صدره بهذه التلوة ،وقال :إن كسسل
ما هو فيه إنما هو من بركة القرآن.
ولنمسك عند هذا الحد؛ فإن للسسذكرى غمسًزا علسسى القلسسب ،وبالجملسسة
ما كالك ُّتاب ،وكاتًبا كالعلماء؛ فهو من هؤلء فقد كان -رحمه الله -عال ً
وأولئك يلف الطبقتين ،وهو وحده منزلة بين المنزلتين؛ وبذلك تميسسز
وظهر ،فإنه في إحدى الجهتين عقل جريء تمده رواية واسسسعة فسسي
علوم مختلفة ،فنراه يبعث من عقله الحياة إلى الماضي حسستى كسسأنه
لم يمض ،وهو في الجهة الخسسرى علسسم مسسستفيض ل يقسسف عنسسد حسسد
الصحيفة أو الكتاب ،بل ل يزال يلتمس له عقًل يخرجه ويتصرف به،
ما بحت ًسسا فينتظسسم الحاضسسر إلسسى ماضسسيهحتى يكبر عسسن أن يكسسون قسسدي ً
ما
دا إل بالقديم ،ول قسسدي ً دا ..لم يكن الشيخ جدي ً ويطلقهما إطلًقا واح ً
دا صسسرًفا ،ول نقيسسم ضسا ول جديس ً
ما مح ًإل بالجديد؛ فإننا ل نعسسرف قسسدي ً
وزن أحدهما إل بوزن من الخر إذا أردنا بهما سنة الحياة؛ وأنسست لسسن
تجد حّيا منقطًعا مما وراءه ،بل أنست تسرى الطبيعسة قيسدت كسل حسي
جديد إلى أصلين من القديم ل أصل واحسسد همسسا أبسسواه فمنهمسسا يسسأتي
دا فيه وإن كان على حدة؛ وبعد ،فلسسو جسساريت ما أب ً
ومنهما يستمد وهُ َ
السخافة العصرية المشهورة لقلت :إن المسسذهب القسسديم ..قسسد انهسسد
ركن من أركانه ،ونقص قنطار كتب من ميزانه؛ ولكن هذه السخافة
مسسا فسسي السسسماء؛ في رأيي كما ترى من جماعة ائتلسسوا أن يطفئوا نج ً
لنه قديم ،فسساتفقوا علسسى ذلسسك وأجمعسسوه بينهسسم وفرغسسوا مسسن أمسسره،
وأقبسسسل بعضسسسهم علسسسى بعسسسض يتسسسساءلون كيسسسف يهيئون العربسسسات
والمضسسخات السستي تحمسسل إلسسى السسسماء بضسسعة أبحسسر ليصسسبوها علسسى
النجم...
310
رأي جديد 1في كتب الدب القديمة
أدب الكاتب لبن قتيبة من الدواوين الربعة السستي قسسال ابسسن خلسسدون
فيها مسسن كلمسسه علسسى حسسد علسسم الدب" :وسسسمعنا مسسن شسسيوخنا فسسي
مجالس التعليم أن أصول هسسذا الفسسن وأركسسانه أربعسسة دواويسسن :وهسسي
"أدب الكاتب" لبن قتيبة ،و "كتاب الكامل" للمبرد ،و "كتاب البيسسان
والتبيين" للجاحظ ،وكتاب "النوادر" لبي علي القالي البغدادي؛ ومسسا
سوى هذه الربعة فتبع لها وفروع عنها".
وقد يظن أدباء عصرنا أن كلمة ابن خلدون هذه كانت تصسسلح لزمنسسه
وقومه ،وأنها تتوجه على طريقة من قبلهم في طبقة بعد طبقة إلسسى
أصول هذه السلسلة التي يقولون فيهسسا :حسسدثنا فلن عسسن فلن إلسسى
الصمعي أو أبي عبيدة أو أبي عمرو بسسن العلء وغيرهسسم مسسن شسسيوخ
الرواية ونقلة اللغة .ولكنها ل تستقيم في آدابنا ول تعد من آلئنسسا ول
تقع من معارفنا ،بل يكاد يسسذهب مسسن يتغسسرر منهسسم بسسالراء الوروبيسسة
السستي يسسسميها علمسسه ...ومسسن يسترسسسل إلسسى التقليسسد السسذي يسسسميه
مذهبه ..إلى أن تلك الكتب وما جرى في طريقتها هسسي أمسسوات مسسن
الكتب ،وهي قبور من الوراق ،وأنه يجب أن يكون بيننسسا وبينهسسا مسسن
الهمال أكثر ممسسا بينهسسا وبيننسسا مسسن الزمسسن ،وأن بعسسث الكتسساب منهسسا
وإحياءه يوشك أن يكون كبعث الموتى :علمة على خراب الدنيا..
فأما أن يكون ذلك علمة على خسسراب السسدنيا ،فهسسو صسسحيح إذا كسسانت
الدنيا هي محرر جريدة ..من أمثال أصحابنا هؤلء ،وأما تلسسك الكتسسب
فأنا أحسبها لم توضسع إل لزمننسا هسسذا ولدبسسائه وكتسابه خاصسسة ،وكسسأن
القدر هو أثبت ذلك القول في مقدمة ابن خلدون لينتهي بنصسسه إلينسسا
فنستخرج منه ما يقيمنا على الطريقسسة فسسي هسسذا العصسسر السسذي وقسسع
أدباؤه في متسسسع طويسسل مسسن فنسسون الدب ومضسسطرب عريسسض مسسن
مذاهب الكتابة وأفق ل تستقر حدوده من العلوم والفلسسسفة ...فسسإن
هسسذه المسسادة الحافلسسة مسسن المعسساني تحيسسي آداب المسسم فسسي أوروبسسا
قسسا تسسذهب فيسسه وأمريكسسا ،ولكنهسسا تكسساد تطمسسس آدابنسسا وتمحقنسسا مح ً
خصائصنا ومقوماتنا ،وتحيلنا عن أوضاعنا التاريخيسسة ،وتفسسسد عقولنسسا
ونزعاتنا ،وترمي بنا مراميها بين كل أمة وأمة ،حتى كأن ليست منسسا
أمة في حيزهسسا النسسساني المحسسدود مسسن ناحيسسة بالتاريسسخ ومسسن ناحيسسة
بالصفات ومن ناحية بالعلوم ومن ناحيسسة بسسالداب؛ ومسسن ذلسسك ابتلسسي
أكثر كتابنا بالنحراف عن الدب العربي أو العصسسبية عليسسه أو الزرايسسة
له ،ومنهم من تحسبه قد رمي في عقلسسه لهوسسسه وحمسساقته ،ومنهسسم
311
من كأنه في حقده سلح قلبه ،ومنهم المقلد ل يدري أعلى قصد هسسو
أم جور ،ومنهم الحائر يذهب في مذهب ويجيء من مذهب ول يتجه
لقصد ،ومنهم من هو منهم وكفى..
وقلما تنبه أحد إلى السبب في هسسذا؛ والسسسبب فسسي حقسسارته وضسسعفه
ة ل شسسأن لهسسا ،ولكسسن مسستى تنبسست تنبسست "كالمكروب" :بسسذرة ٌ طامسس ٌ
ما وموًتا وأحزاًنا ومصائب شتى. عا وآل ً
أوجا ً
السبب أن أولئك الدباء كلهم ثسسم مسسن يتشسسيع لهسسم أو يأخسسذ برأيهسسم،
ليسسس منهسسم واحسسد تسسرى فسسي أساسسسه الدبسسي تلسسك الصسسول العربيسسة
المحضة القائمة على دراسة اللغسسة وجمعهسسا وتصسسنيفها وبيسسان عللهسسا
وتصاريفها ومطارح اللسان فيها ،والمتأدية بذلك إلى تمكيسسن الديسسب
مسسا بهسسا وتكسسونالناشئ من أسرار هذه اللغة وتطويعها له ،فيكون قي ً
هي مستجيبة لقلمه جارية في طبيعته مسددة في تصرفه ،حسستى إذا
نشأ بها واستحكم فيها أحسن العمل لها وزاد فسسي مادتهسسا وأخسسذ لهسسا
قسسا أن يمسسد فيهسسا ويحسسسن الملءمسسة بينهسسا وبيسسنمن غيرها وكسسان خلي ً
دا وبياًنا بعضه من بعضه ،فينمسسو الدب جا واح ًالداب ويجعل ذلك نس ً
العربي في صنيعه كما تنمو الشجرة الحية :تأخذ من كسسل مسسا حولهسسا
لعنصرها وطبيعتها وليس إل عنصرها وطبيعتها حسب.
إن "أدب الكاتب" وشرحه هسسذا للمسسام الجسسواليقي* ومسسا صسسنف مسسن
بابهمسسا علسسى طريقسسة الجمسسع مسسن اللغسسة والخسسبر وشسسعر الشسسواهد
والستقصاء في ذلك والتبسط في الوجوه والعلل النحوية والصرفية
والمعان في التحقيق ،كل ذلك عمل ينبغي أن يعرف على حقه في
زمننا هذا؛ فهسسو ليسسس أدب ًسسا كمسسا يفهسسم مسسن المعنسسى الفلسسسفي لهسسذه
الكلمة ،بل هو أبعد الشياء عن هذا المعنى؛ فإنك ل تجد فسسي كتسساب
من هذه الكتب إل التأليف الذي بين يديك ،أما المؤلف فل تجسسده ول
تعرفه منها إل كالكلمة المحبوسة في قاعسسدة ..وكسسأنه لسسم يكسسن فيسسه
روح إنسان بل روح مادة مصمتة ،وكأنه لم ينشأ ليعمل فسسي عصسسره
بل ليعمل عصره فيه ،وكأن ليس في الكتاب جهسسة إنسسسانية متعينسسة،
فثم تأليف ولكن أين المؤلف؟ وهذا كتاب ابن قتيبة ،ولكن أيسسن ابسسن
قتيبة فيه؟
---------------
* الجواليق :جمع شساذ لجوالسق ،وقسسد نسسب هسسذا المسسام إلسى عمسل
الجوالسق وبيعهسا؛ وهسذا الجمسع ليسسس بينسه وبيسن واحسسده إل الحركسسة،
جوالق "بضم الجيم" والجمع بالفتح ،ومثله ألفاظ أحصسسوها: فالمفرد ُ
كحلحل ،وعدامل ،وخثارم ،وغيرها.
312
وما أخطأ المتقدمون في تسميتهم هذه الكتب أدًبا؛ فذلك هسسو رسسسم
الدب في عصرهم ،غير أن هذا الرسم قد انتقل فسسي عصسسرنا نحسسن،
فإنا نحن المخطئون اليوم في هذه التسسسمية ،كمسسا لسسو ذهبنسسا نسسسمي
الجمل في البادية "الكسبريس" ،والهودج عزبة "بولمان".
ومن هذا الخطأ في التسمية ظهر الدب العربي لقصار النظسسر كسسأنه
تكرار عصر واحد على امتداد الزمن ،فسسإن زاد المتسسأخر لسسم يأخسسذ إل
من المتقدم؛ وصارت هذه الكتب كأنها في جملتها قانون من قوانين
الجنسية نافسسذ علسسى السسدهر ،ل ينبغسسي لعصسسر يسسأتي إل أن يكسسون مسسن
جنس القرن الول.
ً
مى لك عس سل ثسسم تسسذوقه فل هذه الكتب من هذه الناحية كالخل :يس ّ
يجني عليه عندك إل السم الذي زور له؛ أما هو فكما هو في نفسسسه
وفي فائدته وفي طبيعته وفي الحاجسسة إليسسه ،ل ينقسسص مسسن ذلسسك ول
يتغير.
الحقيقة التي يعينها الوضع الصحيح أن تلسسك المؤلفسسات إنمسسا وضسسعت
لتكون أدًبا ،ل من معنى أدب الفكر وفنه وجماله وفلسفته ،بسسل مسسن
معنى أدب النفس وتثقيفها وتربيتها وإقامتها ،فهي كتب تربية لغويسسة
قائمة على أصول محكمة في هذا الباب ،حتى ما يقرؤها أعجمي إل
خرج منها عربّيا أو في هوى العربية والميسسل إليهسسا؛ ومسسن أجسسل ذلسسك
بنيت على أوضاع تجعل القارئ المتبصر كأنما يصسساحب مسسن الكتسساب
حا يسأله فيجيبه ،ويسسستهديه فيرشسسده؛ ويخرجسسه الكتسساب أعرابّيا فصي ً
عا وتلقيًنسا ،والقسارئ فسي كسل حا وقراءة كما تخرجه البادية سما ً تصف ً
ذلك مستدرج إلى التعريسب فسي مدرجسسة مدرجسسة مسن هسسوى النفسسس
ومحبتها ،فتصنع به تلك الفصول فيمسسا دبسسرت لسسه مثلمسسا تصسسنع كتسسب
التربية في تكوين الخلسسق بالسسساليب السستي أديسسرت عليهسسا والشسسواهد
التي وضعت لها والمعالم النفسية التي فصلت فيها ومن ثسسم جسساءت
هذه الكتب العربية كلها على نسق واحد ل يختلف في الجملسسة فهسسي
أخبار وأشعار ولغة وعربية وجمع وتحقيسسق وتمحيسسص ،وإنمسسا تتفسساوت
بالزيادة والنقص والختصار والتبسط والتخفيف والتثقيل ونحسسو ذلسسك
فما هو في الموضوع ل في الوضع ،حتى ليخيل إليسسك أن هسسذه كتسسب
جغرافية للغسسة وألفاظهسسا وأخبارهسسا؛ إذ كسسانت مثسسل كتسسب الجغرافيسسة:
متطابقة كلها علسسى وصسسف طبيعسسة ثابتسسة ل تتغيسسر معالمهسسا ول يخلسسق
غيرها إل الخالق سبحانه وتعالى.
وإذا تدبرت هذا الذي بيناه لم تعجسسب كمسسا يعجسسب المتطفلسسون علسسى
الدب العربي والمتخبطون فيه من أن يروا إيمسسان المسسؤلفين متص سًل
313
بكتبهم ظاهر الثر فيها ،وأنهم جميًعا يقرون إنما يريدون بها المنزلسسة
عند الله في العمل لحياطة هذا اللسان الذي نزل به القرآن وتسسأديته
في هذه الكتب إلى قومهم كما تؤدى المانة إلسسى أهلهسسا ،حسستى لسسول
القرآن لما وضع من ذلك شيء البتة.
ما العامل اللهي في كل أطوار هذه اللغة وأراه يديرها وأنا أتلمح دائ ً
على حفظ القرآن الذي هو معجزتها الكبرى ،وأرى من أثسسره مجيسسء
تلك الكتب على ذلسسك الوضسسع ،وتسسسخير تلسسك العقسسول الواسسسعة مسسن
الرواة والعلماء والحفاظ جيًل بعد جيل في الجمع والشرح والتعليسسق
بغير ابتكار ول وضع ول فلسفة ول زيغ عن تلسسك الحسسدود المرسسسومة
التي أومأنا إلسسى حكمتهسسا ،فلسسو أنسسه كسسان فيهسسم مجسسددون مسسن طسسراز
أصحابنا من أهل التخليط ،ثم ترك لهم هذا الشأن يتولونه كمسسا نسسرى
بالنظر القصير والرأي المعاند والهوى المنحرف والكبرياء المصممة
والقول على الهاجس والعلم علسسى التسسوهم ومجادلسسة السسستاذ حيسسص
للستاذ بيص ...إذن لضرب بعضهم وجه بعض وجاءت كتب متدابرة،
ومسخ التاريخ وضاعت العربية وفسد ذلك الشأن كلسسه ،فلسسم يتسسسق
منه شيء.
ومما ترده على قارئها تلك الكتب في تربيته للعربية أنها تمكسسن فيسسه
للصسسبر والمعانسساة والتحقيسسق والتسسورك فسسي البحسسث والتسسدقيق فسسي
التصفح ،وهي الصفات السستي فقسسدها أدبسساء هسسذا الزمسسن ،فأصسسبحوا ل
يثبتسون ول يحققسون ،وطسال عليهسم أن ينظسروا فسي العربيسة ،وثقسل
عليهم أن يستبطنوا كتبها؛ ولو قسسد تربسسوا فسسي تلسسك السسسفار ،وبسسذلك
السلوب العربي لتمت الملءمة بين اللغة في قوتها وجزالتهسسا وبيسسن
ما عسى أن ينكره منها ذوقهم في ضعفه وعاميته وكسسانوا أحسسق بهسسا
وأهلها.
وذلك بعينه هو السر في أن من ل يقرؤون تلك الكتب أول نشسسأتهم،
ل تراهم يكتبون إل بأسلوب منحط ،ول يجيئون إل بكلم سقيم غث،
ول يرون في الدب العربي إل آراء ملتوية؛ ثم هسم ل يسستطيعون أن
يقيموا على درس كتاب عربي .فيساهلون أنفسهم ويحكمسسون علسسى
اللغة والدب بما يشعرون به في حالتهم تلك ،ويتورطون في أقسسوال
مضحكة ،وينسون أنه ل يجوز القطع على الشيء من ناحية الشسسعور
ما دام الشعور يختلف في الناس باختلف أسبابه وعوارضه ،ول من
دا فسسي إحسسدى النسساحيتين أوناحية يجوز أن يكون الخطأ فيها؛ وهم أب س ً
في كلتيهما.
314
وهذا شرح الجواليقي من أمتع الكتب التي أشرنا إليها ،وصاحبه هسسو
المام أبو منصور موهوب الجواليقي المولود في سنة 465للهجرة،
والمتسسوفى سسسنة ،540وهسسو مسسن تلميسسذ المسسام الشسسيخ أبسسي زكريسسا
الخطيسسب التسسبريزي؛ أول مسسن درس الدب فسسي المدرسسسة النظاميسسة
ببغداد* وقرأ الجواليقي على شيخه هذا سبع عشرة سسسنة ،اسسستوفى
فيها علوم الدب من اللغة والشعر والخبر والعربية بفنونها ،ثم خلف
شسسيخه علسسى تسسدريس الدب فسسي النظاميسسة بعسسد علسسي بسسن أبسسي زيسسد
المعروف بالفصيحى**.
وما نشك أن هذا الشرح هو بعض دروسه في تلك المدرسسسة ،فسسأنت
من هذا الكتاب كأنك بإزاء كرسي التدريس في ذلسسك العهسسد ،تسسسمع
من رجل انتهت إليه إمامة اللغة في عصره ،فهو مدقق محيط مبالغ
ي
في الستقصاء ل يند عنه شيء مما هو بسسسبيله مسسن الشسسرح ،معنس ّ
بالتصريف ووجوهه مما انتهى إليه من أثر المام ابن جني فيلسسسوف
هذا العلم في تاريخ الدب العربي ،فإن بين الجواليقي وبينه شيخين
كما تعرف من إسناده في هذا الشرح.
وقد قالوا :إن أبا منصور في اللغة أمثل منه في النحو ،على إمسسامته
فيهما مًعا؛ إذ كان يذهب في بعض علل النحو إلى آراء شسساذة ينفسسرد
بها ،وقد ساق منها عبسسد الرحمسسن النبسساري مثليسسن فسسي كتسسابه "نزهسسة
اللباء" ،ولكن هذا الشذوذ نفسه دليل على اسسستقلل الفكسسر وسسسعته
ومحاولته أن يكون في الطبقة العليا من أئمة العربية*** ،وهو على
ذلك رجل ثقة صدوق كسسثير الضسسبط عجيسسب فسسي التحسسري والتسسدقيق؛
حتى كان من أثر ذلك في طباعه أن اعتاد التفكيسسر وطسسول الصسسمت
فل يقول قوًل إل بعد تدبر وفكر طويل ،فإن لم يهتد إلى شيء قال:
ل أدري ،وكثيًرا ما كان يسأل في المسألة فل يجيب إل بعد أيام.
---------------
* أنشأها نظام الملسسك وزيسسر ملسسك شسساه السسسلجوقي المتسسوفى سسسنة
485هس.
** لقب بذلك لكثرة إعادته كتاب الفصيح في اللغة.
*** قال ياقوت في ترجمة أبي علي الفارسسسي مسسن معجسسم الدبسساء:
قسسرأت بخسسط الشسسيخ أبسسي محمسسد الخشسساب :كسسان شسسيخنا "يعنسسي
الجواليقي" قلما يتنبل عنده ممارس للصناعة النحوية ولو طال فيها
باعه ،ما لم يتمكن من علم الرواية وما تشتمل عليسسه مسسن ضسسروبها،
ول سيما رواية الشعار العربية وما يتعلق بمعرفتها من لغسسة وقصسسة؛
ما لبسسي سسسعيد السسسيرافي علسسى أبسسي علسسي الفسسارس ولهذا كان مقسسد ً
315
قسسا
-رحمهما الله -ويقول :أبو سعيد أروى من أبسسي علسسي ،وأكسسثر تحق ً
منه بالرواية وأثرى منه فيها.
عا قوي اليمان ،انتهى به إيمانه وعلمه وتقواه إلى أن صسسار وكان ور ً
أستاذ الخليفة المقتفي لمسسر اللسه ،فساختص بإمسامته فسسي الصسسلوات،
وقرأ عليه المقتفى شيًئا مسسن الكتسسب ،وانتفسسع بسسذلك وبسسان أثسسره فسسي
توقيعاته كما قالوا.
والذي يتأمل هذا الشرح فضل تأمل يسسرى صسساحبه كأنمسسا خلقسسه اللسسه
رجل إحصاء في اللغة ،ل يفوته شيء مما عرف إلى زمنسسه ،وهسسو ول
ريب يجري في الطريقة الفكرية التي نهجها ابسسن جنسسي وشسسيخه أبسسو
علي الفارس؛ ومسسن أثسسر هسسذه الطريقسسة فيسسه أنسسه ل يتحجسسر ول يمنسسع
القياس في اللغة ،ويلحق ما وضعه المتأخرون بما سمع من العرب،
ويروي ذلك جميعه ويحفظه ويلقيه على طلبته؛ ومسسن أمتسسع مسسا جسساء
من ذلك في شرحه قوله فسسي صسسفحة ،235وهسسو بسساب لسسم يسسستوفه
غيره ول تجده إل في كتابه ،وهذه عبارته:
قولهم :يدي من ذلك فِعلة :المسموع منهم فسسي ذلسك ألفساظ قليلسة،
وقد قاس قوم من أهل اللغسسة علسسى ذلسسك فقسسالوا :يسسدي مسسن الهالسسة
سنخة ،ومن البيض زهمة ،ومسسن السستراب تربسسة ،ومسسن السستين والعنسسب
ضسسا ،ومسسن الجبسسن والفواكه كتنة وكمدة ولزجة ،ومن العشب كتنسسة أي ً
نسمة ،ومن الجص شهرة ،ومن الحديد والشبهة والصفر والرصسساص
ضا ،ومن الحمأة ردغة ورزغة ،ومن الخضاب ردعسسة، سهكة وصدئة أي ً
ومن الحنطة والعجين والخبز نسغة ،ومن الخل والنبيذ خمطة ،ومن
ضا ،ومن الدم شسسحطة وشسسرفة ومسسن الدبس والعسل دبقة ولزقة أي ً
الدهن زنخة ،ومن الرياحين ذكية ،ومسسن الزهسسر زهسسرة ،ومسسن الزيسست
قنمة ،ومن السسمك سسسهكة وصسمرة ،ومسسن السسسمن دسسمة ونمسسسة
ونمسة ،ومن الشهد والطين لثقة ،ومن العطر عطرة ،ومن الغاليسسة
عبقة ،ومن الغسلة والقدر وحسسرة ،ومسن الفرصساد قنئة ،ومسسن اللبسن
وضرة ،ومن اللحم والمرق سمرة ،ومسسن المسساء بللسسة وسسسبرة ،ومسسن
المسك ذفرة وعبقة ،ومن النتن قنمة ،ومن النفط جعدة .انتهى.
فالمسموع من هذه اللفاظ عن العرب ل يتجسساوز سسسبًعا فيمسسا نسسرى،
والباقي كله أجراه علمسساء اللغسسة وأهسسل الدب علسسى القيسساس ،فأبسسدع
القيسساس منهسسا أربعًسسا وثلثيسسن كلمسسة :ولسسو تسسدبرت كيفيسسة اسسستخراجها
ورجعت إلى الصول التي أخذت منها ليقنسست أن هسسذه العربيسسة هسسي
أوسع اللغات كافة ،وأنها من أهلها كالنبوة الخالدة في دينها القسسوي:
316
تنتظر كل جيل يأتي كما ودعت كل جيل غير لنها النسسسانية ،لهسسؤلء
وهؤلء.
إن ظهور مثل هذا الشرح كالتوبيخ لكثر كتاب هذا الزمن أن اقرءوا
وادرسوا وخصوا لغتكم بشطر من عنايتكم ،وتربوا لهسسا بتربيتهسسا فسسي
مدارسسسكم ومعاهسسدكم ،واصسسبروا علسسى معاناتهسا صسبر المحسب علسى
حبيبته ،فإن ضعفتم فصبر البار على من يلزمسسه حقسسه؛ فسسإن ضسسعفتم
عن هذا فصبر المتكلف المتجمل على القل!
317
---------------
" 1المقتطف" :وضع الديب محمد صسسالح سسسمك رسسسالة قيمسسة فسسي
امرئ القيس "أمير الشعر في العصر القديم" تقع فسسي نحسسو مسسائتين
فسسا ،وحلهسسا بمقدمسسة بليغسسة كا طري ًوخمسين صفحة ،سلك فيها مسسسل ً
للستاذ الجليل مصطفى صادق الرافعي ،فخص المؤلسسف المقتطسسف
قا لرغبتنا.المقدمة وبعض أبحاث الرسالة فيها طب ً
وإذا تبينت هذا وحققتسسه أدركسست لمسساذا يتخبسسط منتحلسسو الجديسسد بيننسسا
ها ويتقلده زوًرا ،وجملة عملهسسم كوضسسع الزنجسسي وأكثرهم يدعيه سفا ً
الذرور البيض "البودرة" على وجهه ثم يذهب يدعي أنه خرج أبيسسض
من أمه ل من العلبة ..فإن منهم من يصنع رسالة في شاعر وهسسو ل
يفهم الشعر ول يحسسسن تفسسسيره ول يجسسده فسسي طبعسسه؛ ومنهسسم مسسن
يدرس الكاتب البليغ وقد باعده الله من البلغة ومذاهبها وأسسسرارها،
ومنهم من يجدد في تاريخ الدب ،ولكن بالتكذب عليه والتقحسسم فيسسه
والذهاب فسسي مسسذهب المخالفسسة ،يضسسرب وجسسه المقبسسل حسستى يجيسسء
مدبًرا ،ووجه المدبر حتى يعود مقبًل ،فإذا لكل فريق جديسسد ،وينسسسى
أن جديده بالصنعة ل بالطبيعة وبالزور ل بالحق.
أل إن كل من شاء استطاع أن يطب لكل مريسسض ،ل يكلفسسه ذلسسك إل
قا يدبره ،ولكن أكذلك كل من وصسسف دواء اسسستطاع قوًل يقوله وتلفي ً
أن يشفي به؟
وبعد؛ فقد قرأت رسالة امسسرئ القيسسس السستي وضسسعها الديسسب السسسيد
محمد صسسالح سسسمك ،فرأيسست كاتبهسسا -مسسع أنسسه ناشسسئ بعسسد -قسسد أدرك
حقيقة الفن في هذا الوضع من تجديد الدب ،فاستقام على طريقسسة
غير ملتوية ،ومضسسى فسسي المنهسسج السسسديد ،ولسسم يسسدع التثبسست وإنعسسام
النظسسر وتقليسسب الفكسسر وتحصسسين السسرأي ،ول قصسسر فسسي التحصسسيل
والطلع والستقصاء ،ول أراه قد فساته إل مسا ل بسد أن يفسوت غيسسره
مما ذهب في إهمال الرواة المتقدمين وأصبح الكلم فيه من بعدهم
ما بالظن.ما بالغيب وحك ً رج ً
فإن امرأ القيس في رأيسسي إنمسا هسسو عقسسل بيسساني كسسبير مسسن العقسسول
عا
المفردة التي خلقت خلقتها في هذه اللغة ،فوضع في بيانها أوضسسا ً
كان هو مبتدعها والسابق إليها ،ونهج لمن بعده طريقتها في الحتذاء
عليها والزيادة فيها والتوليد منها؛ وتلك هسسي منقبتسسه السستي انفسسرد بهسسا
والتي هي سرد خلوده في كل عصر إلى دهرنا هذا وإلسسى مسسا بقيسست
اللغسسة؛ فهسسو أصسسل مسسن الصسسول ،فسسي أبسسواب مسسن البلغسسة كالتشسسبيه
والستعارة وغيرهما ،حتى لكأنه مصنع من مصانع الغة ل رجسسل مسسن
318
رجالها؛ وكما يقال في أمننا في أمم الصناعة :سيارة فسسورد وسسسيارة
فيات ،يمكن أن يقسسال مثسسل ذلسسك فسسي بعسسض أنسسواع البلغسسة العربيسسة:
استعارة امرئ القيس ،وتشبيه امرئ القيس.
ولكن تحقيق هذا الباب وإحصاء ما انفرد به الشسساعر وتأريسسخ كلمسساته
البيانية مما ل يستطيعه باحث وليس لنا فيه إل الوقوف عند ما جسساء
به النص.
ولقد نبهنا في "إعجاز القرآن" إلى مثسسل هسسذا؛ إذ نعتقسسد أن أكسسثر مسسا
دا في اللغة ،لم يوضع من قبله ذلك جاء في القرآن الكريم كان جدي ً
الوضع ولم يجر في استعمال العرب كمسسا أجسسراه ،فهسسو يصسسب اللغسسة
صّبا في أوضاعه لهلها ل في أوضاع أهلها؛ وبسسذلك يحقسسق مسسن نحسسو
ألف وأربعمائة سنة ما ل نظن فلسفة الفن قد بلغسست إليسه فسسي هسذا
العصر؛ إذ حقيقة الفن على ما نرى أن تكسسون الشسسياء كأنهسسا ناقصسسة
في ذات أنفسها ليس في تركيبها إل القسسوة السستي بنيسست عليهسسا ،فسسإذا
تناولها الصنع الحاذق الملهم أضاف إليها من تعبيره مسسا يشسسعرك أنسسه
خلق فيها الجمسال العقلسي ،فكأنهسا كسانت فسي الخلقسة ناقصسة حستى
أتمها.
وهذا المعنى الذي بيناه هو الذي كسسان يحسسوم عليسسه السسرواة والعلمسساء
ما ،يحسونه ول يجدون بيانه وتأويله ،فترى الصمعي مثًل بالشعر قدي ً
يقول في شعر لبيد؛ إنه طيلسان طبري .أي محكسسم مسستين ،ولكسسن ل
رونق له؛ أي فيه القوة وليس فيه الجمال؛ أي فيسسه السستركيب وليسسس
فيه الفن.
والعقل البياني كما قلنا في غير هذه الكلمسسة ،هسسو ثسسروة اللغسسة ،وبسسه
ن ألفاظهسسا وصسسورها؛ وبأمثاله تعامل التاريخ ،وهو الذي يحقق فيها فس ّ
فهو بسسذلك امتسسدادها الزمنسسي وانتقالهسسا التسساريخي وتخلقهسسا مسسع أهلهسسا
إنسانية بعد إنسانية في زمن بعد زمن ،ول تجديسسد ول تطسسور إل فسسي
هذا التخلق متى جاء من أهله والجديرين بسسه؛ وهسسو العقسسل المخلسسوق
للتفسير والتوليد وتلقي الوحي وأدائه واعتصار المعنى من كل مادة
وإدارة السلوب على كل ما يتصل به مسسن المعسساني والراء ،فينقلهسسا
من خلقتها وصيغها العالية إلى خلق إنسان بعينه ،هسسو هسسذا العبقسسري
الذي رزق البيان.
وللسبب الذي أومأنا إليه بقي امرؤ القيس كالميزان المنصسسوب فسسي
الشعر العربي يبين به النسساقص والسسوافي؛ قسسال البسساقلني فسسي كتسسابه
"العجاز" :وقد ترى الدباء أوًل يوازنون بشعر "يريسسد امسسرأ القيسسس"
فلًنا وفلًنا ويضمون أشسسعارهم إلسسى شسسعره ،حسستى ربمسسا وازنسسوا بيسسن
319
شعر من لقيناه "توفي الباقلني سنة 403للهجرة" وبين شعره في
أشياء لطيفة وأمور بديعة ،وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينسسه
أو قربوا موضع تقدمه عليهم وبروزه بين أيديهم ،ا هس.
ومعنى كلمه أن امرأ القيس أصل فسسي البلغسسة ،قسسد مسسات ول يسسزال
يخلق ،وتطورت السسدنيا ول يسسزال يجيسسء معهسسا ،وبلسسغ الشسسعر العربسسي
غايته ول تزال عربية عند الغاية.
وعرض الباقلني في كتابه طويلة امرئ القيسسس* فانتقسسد منهسسا أبيات ًسسا
كثيرة ،ليدل بذلك على أن أجود شعر وأبدعه وأفصسسحه ومسسا أجمعسسوا
على تقدمه في الصناعة والبيان ،هو قبيل آخر غيسسر نظسسم القسسرآن ل
يمتنع من آفات البشرية ونقصسها وعوارهسا؛ فركسب فسي ذلسك رأسسه
ورجليه مًعا ...فأصاب وأخطسسأ ،وتعسسسف وتهسسدى ،وأنصسسف وتحامسسل؛
وكل ذلك لمكانة امرئ القيس في ابتكاره البياني الذي ل يمكسسن أن
يدفع عنه؛ ولما انتقد قوله:
وبيضة خدر ل يرام خباؤهاتمتعت من لهو بها غير معجل
قال" :فقد قالوا :عنى بذلك أنهسسا كبيضسسة خسسدر فسسي صسسفائها ورقتهسسا،
وهذه كلمة حسنة ولكن لسسم يسسسبق إليهسسا بسسل هسسي دائرة فسسي أفسسواه
العرب" .أل ليت شعري هل كان الباقلني يسمع مسسن أفسسواه العسسرب
في عصر امرئ القيس قبل أن يقول "وبيضة خدر"؟
على أن الكناية عن الحبيبة "بيضة الخدر" مسسن أبسسدع الكلم وأحسسسن
ما يؤتى العقل الشعري ،ولو قالها اليوم شاعر في لنسسدن أو بسساريس
بسسالمعنى السسذي أراده امسسرؤ القيسسس -بمسسا فسسسرها بسسه البسساقلني-
لستبدعت من قائلها ولصبحت مع القبلة على كسسل فسسم جميسسل؛ بسسل
هم يمرون في بعض بيانهم مسسن طريسسق هسسذه الكلمسسة ،فيكنسسون عسسن
السسبيت السسذي يتلقسسى فيسسه الحبيبسسان "بسسالعش" ،ومسسا يتخسسذ العسسش إل
للبيضة .إنما عنسسي الشسساعر العظيسسم أن حسسبيبته فسسي نعومتهسسا وترفهسسا
ولين ما حولها ،ثم في مسها وحرارة الشسسباب فيهسسا ،ثسسم فسسي رقتهسسا
وصفاء لونها وبريقها ،ثم في قيام أهلها وذويها عليها ولزومهم إياهسسا،
ثم في حذرهم وسهرهم ،ثم في انصرافهم بجملة الحياة إلى شسسأنها
وبجملة القوة إلى حياطتها والمحاماة عنها -هي في كل ذلك منهسسم،
ومن نفسها كبيضة الجارح في عشه ،إل أنها بيضة خدر ،ولذلك قسسال
بعد هذا البيت:
صا لو يسرون مقتلي سا إليها ومعشًراعلي حرا ًتجاوزت أحرا ً
فتلك بعض معاني الكلمة وهي كمسسا تسسرى ،وكسسذلك ينبغسسي أن يفسسسر
البيان....
320
321
البؤساء 1
ترجم حافظ هذا الجزء الثاني من البؤساء فطسسوى بسسه الول ،وكسسانوا
يحسبون الول قد عقمت بمثله البلغة فل ثسساني لسسه .وبيسسن الجزأيسسن
زمن لو اتسع به أديب في قراءة كتب الدب لستوعبها كلهسسا ،فكسسأن
ارتفسساع السسسن بحسسافظ فسسي هسسذه المسسدة جعسسل منسسه فسسي قسسوة الدب
حافظين يترجمان مًعا.
وما البؤساء في ترجمتسسه إل فكسسر فيلسسسوف تعلسسق فسسي قلسسم شسساعر
فانطفعت عليه حواشي البيان من كل نواحيه ،وجاء ما تدري أشسسعًرا
من النثر أم نثًرا من الشعر ،وخرجت به الكتابة في لون من الصفاء
والشراق كأنما تنحل عليه أشعة الضحى.
ترجم حافظ فوضع اللغة بين فكره ولسانه ،ووقف تحت سحابة من
السحب التي خفق عليها جنسساح جبريسسل ،فمسسا تخلسسو كنسسايته مسسن ظسسل
يتنفس عليك برائحة العجاز؛ وتسسراه يتحسسدر مسسع الكلم ويتنسساول منسسه
عا إل وجسده متمكًنسا منسسه وأصسسابه حيسسث ويدع ،فما نزع به الكلم منز ً
أصابه كالتيار جملة واحدة تلف أول النهر وآخره على مد ما يجسسري؛
فهو حيث كان في السهل وفي الصعب ،غير أنه يستسر في موضسسع
ويستعلن في موضع ،ويجيسسش ويهسسدر ويسسترامى فسسي العمسسق فيسسدّوي
دوّيا.
ومن هنا يحسبه بعضهم يجنسسح إلسسى مسسا يسسستجفي مسسن الكلم ،وإلسسى
استكراه بعض اللفاظ والتكليف لبعضها؛ وإنما ذاك وضع من أوضاع
اللغة ومذهب من مذاهب البلغة ،ول بد أن يشتد القول ويليسسن ،وأن
يكون في أجراس الحروف ما في نغسسم اليقسساع؛ ومسسا أشسسبه هندسسسة
البيسسان بهندسسسة الطبيعسسة السستي تغمسسز النهسسر وترمسسي بسسالبحر وتقسسذف
بالجبل الشم ،وما الجبل لو تحققت في وجوه التناسب الطبيعي إل
بحر قد تحجر فانتشرت أمواجه من صسسخوره ،وكل اثنيهمسسا علسسى مسسا
بين الصلبة والليسسن تعسسبير فسسي أسسساليب القسسوة عسسن القسسوة ،وتوضسسح
لقوى ما ل يمكن أن يظهر ،بأقوى ما ل يمكن أن يخفى.
---------------
1كتبها عن الجزء الثاني من البؤسسساء؛ وانظسسر مقسسالي المؤلسسف عسسن
حافظ في هذا الجزء.
يخطئ الضعاف من الكتساب وبخاصسة فسي أيامنسا هسذه ..إذا حسسبوا
دا من اللفظ الرقيق المأنوس؛ ولقسسد تجسسد الفصاحة العربية قبيًل واح ً
بعض هؤلء الضعفاء وإنه ليرى في الكلم الجزل المتفصسسح مسسا يسسرى
322
في جمجمة العاجم إذا نطقوا فلم يبينوا؛ وإنما هسسي العربيسسة ،وإنمسسا
فصاحتها في مجمسسوع مسسا يطسسرد بسه القسسول؛ والفصسساحة فسسي جملتهسسا
وتفصيلها إحكام التناسب بين اللفاظ والمعاني ،والغرض الذي يتجه
إليه كلهما؛ فمتى فصل الكلم على هسسذا السسوجه وأحكسسم علسسى هسسذه
حا بيًنا في كل لفظ تقوم به العبارة ،مسسن الطريقة ،رأيت جماله واض ً
النسج المهلهل الرقيق ،إلى الحبك المحكم السسدقيق ،إلسسى السسسلوب
المندمج الموثق الذي يسرد فسسي قسسوة الحديسسد؛ إذ يكسسون كسسل حسسرف
لموضسسعه ،ويكسسون كسسل موضسسع لحرفسسه ،ويكسسون كسسل ذلسسك بمقسسدار ل
يسسسرف ،وقيسساس ل يخطسسئ ،ووزن ل يختلسسف؛ وهسسذه هسسي طبيعسسة
الفصاحة العربية دون سائر اللغسسات ،وبهسسا أمكسسن العجسساز فسسي هسسذه
اللغة ولم يمكن في سواها.
ومترجم البؤساء أحد الفراد المعدودين الذين أحكموا هذه الطريقسسة
ونفذوا إلى أسرارها ،ففي كل موضع من كتابته موضع روعسسة ،حسستى
ما تدري أيكتب أم يصوغ أم يصسسور ،وكسسأنه ل ينقسسل مسسن لسسسان إلسسى
لسان ،بل من فكر إلى فكسسر ،فسسترى أكسسثر جملسسة كأنهسسا تضسسيء فيهسسا
المصابيح.
ومن الخواص التي انفرد بهسسا حسسافظ أنسسه ظسساهر فسسي صسسنعة ألفسساظه
ظهور هيجو في صنعة معانيه؛ إذ ل تجد غيره من المسسترجمين يتسسسع
لهذا السلوب أو يطيقه؛ وأكثر الكتسسب المترجمسسة إلسسى العربيسسة إنمسسا
تطمس على اسم المترجم قبل أن تكشف عسسن اسسسم المؤلسسف ،فل
يحيا الميت إل بموت الحي؛ وهم في أكثر مسسا يصسسنعون ل يعسسدون أن
يصححوا العامية أو يفصحوا بها قليًل ،فيستوي فسسي صسسنعة البيسسان أن
يكون ناقل الكتاب هسسذا أو ذاك أو ذلسسك؛ لنهسسم سواسسسية ،ول تؤتيسسك
كتبهم أكثر مما يؤتيك السم المعلق على مسماه.
غير أنك في البؤساء ترى مع الترجمة صسسنعة غيسسر الترجمسسة ،وكأنمسسا
ألسسف هيجسسو هسسذا الكتسساب مسسرة وألفسسه حسسافظ مرتيسسن ،إذ ينقسسل عسسن
الفرنسية؛ ثم يفتن في التعسبير عمسا ينقسل ،ثسم يحكسم الصسنعة فيمسا
يفتن ،ثم يبالغ فيما يحكم؛ فأنت من كتابه في لغة الترجمة ،ثسسم فسسي
بيان اللغة ،ثم في قوة البيان؛ وبهذا خرج الكتاب وإن مترجمه لحق
به في العربية مسسن مسسؤلفه ،وجسساء ومسسا يسسستطيع أحسسد أن ينسسسى أنسسه
لحافظ دون سواه.
وتلك طريقة في الكتابة ل يستعان عليها إل بالدب الغزيسسر ،والسسذوق
الناضج ،والبيان المطبوع؛ ثم بالصسبر علسى مطاولسة التعسب ومعانساة
الكد في تخير اللفظ وتجويد السلوب وتصفية العبسسارة؛ فلقسسد ينفسسق
323
الكاتب وقًتا في عمر الليل ليخرج من آخره سطًرا في نسسور الفجسسر،
وبهذا الصنيع جاءت صفحات البؤساء على قلتها كشباب الهوى؛ لكل
يوم منه فجره وشمسه ،ولكل ليلة قمرها ونجومها.
والذي نغتمزه في هسسذه الترجمسسة أن الضسسجر يسسستبد أحيان ًسسا بصسساحبنا
فيسسستكرهه علسسى غيسسر طبعسسه ،ويسسرده إلسسى غيسسر مسسألوفه؛ ومسسن ثسسم
يضطرب ذوقه وسليقته أو يسسذهب بسسه عنهمسسا ،فيعسسدل بسسالمعنى عسسن
لفظه المعروف الذي استعمله الدباء فيه ،كاستعماله قارن بين كسسذا
وكذا ،وإنما يستعملون مثل بينهما ،أو يخل بوزن الكلمة فسسي ميسسزان
الذوق ،فترى العبارة اليابسة في الجملة الخضراء التي ترف؛ وذلسسك
ما ل مطمع لحد أن يسلم منسسه؛ لنسسه أثسسر الضسسعف النسسساني فيمسسن
ارتهنوا أنفسهم بملبسة القوة العليا في هذه النسانية.
ولسسم يتنسسزه عنسسه كتسساب إل ذلسسك الكتسساب العزيسسز السسذي اهسستزت لسسه
السموات السبع والرض ومن فيهن.
324
الملح التائه 1
إذا أردت أن أكتب عن شعر فقرأته ،كان من دأبسسي أن أقسسرأه متثبت ًسسا
أتصفح عليه في الحرف والكلمة ،إلى البيت والقصيدة والنهسسج ،إلسسى
ما وراء الكلم من بواعث النفس الشاعرة ودوافع الحياة فيها ،وعن
أي أحوال هذه النفس يصدر هذا الشاعر ،وبأيها يتسبب إلى اللهام،
وفي أيها يتصل اللهام به ،وكيف يتصرف بمعانيه ،وكيسسف يسترسسسل
إلى طبعه ،ومن أين المأتى في رديئه وسسسقطه ،وبمسساذا يسسسلك إلسسى
تجويده وإبداعه.
ثم كيف حدة قريحته وذكاء فكره والملكة النفسية البيانية فيه ،وهل
هي جبارة متعسفة تملك البيسسان مسسن حسسدود اللغسسة فسسي اللفسسظ إلسسى
حدود اللهام في المعنى ،ملكة استقلل تنفذ بالمر والنهسسي جميًعسسا،
أو هي ضعيفة رخوة ليس معها إل الختلل والضطراب ،وليسسس لهسسا
ما يحمل الضعيف على طبعه المكدود كلما عنف به سقط به؟
أتبين كل هذا فيما أقرأ من الشعر ،ثم أزيسسد عليسسه انتقسساده بمسا كنسست
أصنعه أنا لو أني عسسالجت هسسذا الغسسرض أو تنسساولت هسسذا المعنسسى ،ثسسم
أضيف إلى ذلك كله ما أثبته من أنواع الهسستزاز السستي يحسسدثها الشسسعر
عا مسسن الطسسرب ل في نفسي؛ فإني لطرب للشعر الجيد الوثيق أنوا ً
دا ،وهي تشبه في التفاوت مسسا بيسسن قطسسرة النسسدى الصسسافية عا واح ً
نو ً
فسسي ورق الزنبقسسة وقطسسرة الشسسعاعة المتألقسسة فسسي جسسوهر الماسسسة
وموجة النور المتألهة في كوكب الزهرة.
وأكثر الشعر الذي في أيامنسا هسذه ل يتصسل بنفسسي ول يخسف علسى
طبعي ،ول أراه يقع من الشعر الصسسحيح إل مسسن بعسسد ،وهسسو منسسي أنسسا
كالرجل يمر بي في الطريق ل أعرفه :فل ينظر إلي ول أنظسسر إليسسه،
فمسسا أبصسسر منسسه رجًل وإنسسسانية وحيسساة أكسسثر ممسسا أراه ثوب ًسسا وحسسذاء
شا! والعجيب أنه كلما ضعف الشاعر من هؤلء قوي على وطربو ً
مقدار ذلك في الحتجاج لضعفه ،وألهم من الشواهد والحجج مسسا لسسو
ألهم بعدده من المعاني والخواطر لكان عسى...
فإذا نافرت المعاني ألفاظها واختلفت اللفاظ على معانيها قسسال :إن
هذا في الفن ..هو الستواء والطسسراد والملءمسسة وقسسوة الحبسسك؛ وإذا
عوض وخانه اللفظ والمعنى جميًعا وأساء ليتكلف وتساقط ليتحذلق
وجاءك بشعره وتفسير شعره والطريقة لفهم شعره قال :إنه أعلى
من إدراك معاصريه ،وإن عجرفة معانيه هذه آتية من أن شعره مسسن
وراء اللغسسة ،مسسن وراء الحالسسة النفسسسية ،مسسن وراء العصسسر ،مسسن وراء
325
الغيسسب :كسسأن الموجسسود فسسي السسدنيا بيسسن النسساس هسسو ظسسل شخصسسه ل
شخصه ،والظل بطبيعته مطموس مبهم ل يبين إبانسسة الشسسخص .وإذا
أهلك الشاعر الستعارة وأمرض التشبيه وخنق المجسساز بحبسسل -قسسال
لك :إنه على الطريقة العصرية وإنما سدد وقسسارب وأصسساب وأحكسسم،
وإذا سسسمى المقالسسة قصسسيدة ..وخلسسط فيهسسا خلطسسه وجسساء فسسي أسسسوأ
معرض وأقبحه وخرج إلى ما ل يطاق من الركاكة والغثاثة -قال لك:
هذه هي وحدة القصيدة ،فهي كل واحد أفرغ إفسسراغ الجسسسم الحسسي:
رأسه ل يكون إل في موضسسع رأسسسه ورجله ل تكسسون إل فسسي موضسسع
رجليه..
تلك طبقات من الضسسعف تظسساهرت الحجسسج مسسن أصسسحابها علسسى أنهسسا
طبقسسات مسسن القسسوة ،غيسسر أن مصسسداق الشسسهادة للقويسساء عظسسامهم
المشبوحة ،وعضلتهم المفتولة ،وقلوبهم الجريئة ،أما اللسسسنة فهسسي
شهود الزور في هذه القضية خاصة.
هناك ميزان للشاعر الصسحيح وللخسر المتشسساعر :فسسالول تأخسذ مسن
طريقته ومجموع شعره أنه ما نظم إل ليثبسست أنسسه قسسد وضسسع شسسعًرا،
والثساني تأخسذ مسن شسعره وطريقتسسه أنسه إنمسسا نظسسم ليثبسست أنسه قسرأ
شعًرا ...وهسسذا الثسساني يشسسعرك بضسسعفه وتلفيقسسه أنسسه يخسسدم الشسسعر؛
ليكون شاعًرا ،ولكن الول يريك بقوته وعبقريته إلسسى الشسسعر نفسسسه
يخدمه؛ ليكون هو شاعره.
أما فريق المتشاعرين فليمثل له القارئ بما شسساء وهسسو فسسي سسسعة..
وأما فريق الشعراء ففي أوائل أمثلته عندي الشاعر المهندس علسسي
محمود طه .أشسهد :أنسي أكتسب عنسه الن بنسوع مسن العجساب السذي
كتبسست بسسه فسسي "المقتطسسف" عسسن أصسسدقائي القسسدماء :محمسسود باشسسا
البارودي ،وإسماعيل باشا صسبري ،وحسافظ ،وشسوقي -رحمهسم اللسه
وأطال بقاء صاحبنا -فهذا الشاب المهندس أوتي مسسن هندسسسة البنسساء
قوة التمييز ودقة المحاسبة ،ووهب ملكة الفصل بين الحسن والقبح
عّلته من العلم وما علته من الذوق وهذا إلسسى جلء في الشكال مما ِ
الفطنسسة وصسسقال الطبسسع وتمسسوج الخيسسال وانفسسساح السسذاكرة وانتظسسام
سا شاعًرا، الشياء فيها؛ وبهذا كله استعان في شعره وقد خلق مهند ً
سا؛ وكأن الله -تعالى -لم يقدر لهذا ومعنى هذا أنه خلق شاعًرا مهند ً
الشاعر الكريم تعلم الهندسة ومزاولتها والمهارة فيهسسا إل لمسسا سسسبق
في علمه أنه سينبغ نبوعه للعربية في زمن الفوضى وعهسسد التقلسسل،
وحين فساد الطريقة وتخلف الذواق وتراجسسع الطبسسع ووقسسوع الغلسسط
في هذا المنطسسق لنعكسساس القضسسية ،فيكسسون البرهسسان علسسى أن هسسذا
326
شاعر وذاك نابغة وذلك عبقري -هو عينه البرهسسان علسسى أن ل شسسعر
ول نبوغ ول عبقرية؛ وهذه فوضى تحتاج في تنظيمهسا إلسى "مصسلحة
تنظيسسم" بالهندسسسة وآلتهسسا والرياضسسة وأصسسولها والشسسكال والرسسسوم
وفنونها ،فجاء شاعرنا هذا وفيه الطب لما وصفنا؛ فهو ينظم شسسعره
بقريحة بيانية هندسية ،أساسها التسسزان والضسسبط ،وصسسواب الحسسسبة
فيما يقدر للمعنى ،وإبداع الشكل فيما ينشئ من اللفسسظ ،وأل يسسترك
ما ليقع إذ يكون واهًنا في أساسه من الصناعة ،بل البناء الشعري قائ ً
ليثبت إذ يكون أساسه من الصناعة في رسوخ وعلى قدر.
وديوان "الملح التائه" الذي أخرجه هذا الشاعر ل ينزل بصاحبه مسسن
شعر العصر دون الموضسسع السسذي أومأنسسا إليسسه؛ فمسسا هسسو إل أن تقسسرأه
وتعتبر ما فيه بشعر الخرين حتى تجد الشاعر المهندس كسسأنه قسسادم
للعصر محمًل بسسذهنه وعسسواطفه وآلتسسه ومقاييسسسه ليصسسلح مسسا فسسسد،
ويقيم ما تداعى ،ويرمم ما تخرب ،ويهدم ويبني.
ديوان الشاعر الحق هو إثبات شخصيته بسسبراهين مسسن روحسسه ،وههنسسا
في "الملح التائه" روح قويسسة فلسسسفية بيانيسسة ،تؤتيسسك الشسسعر الجيسسد
الذي تقرؤه بالقلب والعقل والذوق ،وتراه كفاء أغراضه التي ينظسسم
فيها؛ فهو مكثر حين يكون الكثار شعًرا ،مقبل حين يكون الشعر هو
القلل؛ ثم هو على ذلك متين رصين ،بارع الخيال ،واسسسع الحاطسسة،
ل،تراه كالدائرة :يصعد بك محيطهسسا ويهبسسط ل مسسن أنسسه نسسازل أو عسسا ٍ
ف مندمج ،موزون مقدر ،وضع وضعه ذلسسك ليطسسوح ولكن من أنه ملت ٌ
بك.
وهو شعر تعرف فيه فنية الحياة ،وليس بشاعر من ل ينقل لسسك عسسن
الحيسساة نقًل فني ّسسا شسسعرّيا ،فسسترى الشسسيء فسسي الطبيعسسة كسسأنه موجسسود
بظاهره فقط ،وتراه في الشعر بظاهره وباطنه معًسسا؛ وليسسس بشسسعر
ما إذا قرأته ،واسترسلت إليه لم يكن عندك وجًها من وجسسوه الفهسسم
والتصوير للحياة والطبيعة في نفس ممتازة مدركة مصورة.
ولهذا فليس من الشرط عندي أن يكون عصسسر الشسساعر وبيئتسسه فسسي
شعره ،وإنما الشرط أن تكون هناك نفسه الشاعرة علسسى طريقتهسسا
في الفهم والتصوير ،وأنت تثبت هذه النفس بهسسذه الطريقسسة أن لهسسا
أن تقول كلمتها الجديدة ،وأنها مخولسسة لسسه الحسسق فسسي أن تقولهسسا؛ إذ
هي للعقسسول والرواح أخسست الكلمسسة القديمسسة :كلمسسة الشسسريعة السستي
جاءت بها النبوة من قبل.
وليس في شعر علي طه من عصرياتنا غير القليسسل ،ولكسسن العجيسسب
أنه ل ينظم في هذا القليل إل حين يخرج المعنى من عصره ويلتحق
327
بالتاريخ ،كرثاء شسسوقي ،وحسسافظ ،وعسسدلي باشسسا ،وفسسوزي المعلسسوف،
والطيسسارين دوس وحجسساج ،والملسسك العظيسسم فيصسسل؛ فسسإن يكسسن هسسذا
التدبير عن قصد وإرادة فهو عجيب ،وإن كان اتفاقًسسا ومصسسادفة فهسسو
أعجب؛ على أنه في كل ذلك إنما يرمي إلى تمجيسسد الفسسن والبطولسسة
في مظاهرها ،متكلمة ،وسياسية ،ومغامرة ،ومالكة.
أما سائر أغراضه فإنسانية عامة ،تتغنى النفس فسسي بعضسسها ،وتمسسرح
في بعضسسها ،وتصسسلي فسسي بعضسسها؛ وليسسس فيهسسا طيسسش ول فجسسور ول
زندقة إل ...ظلًل من الحيرة أو الشك ،كتلك التي في قصيدة "الله
والشاعر" ،وأظنه يتابع فيها المعري؛ ولست أدري كم ينخدع النسساس
بالمعري هذا ،وهو في رأيي شاعر عظيسسم ،غيسسر أن لسسه بضسساعة مسسن
التلفيق تعدل ما تخرجه "ل نكشير" من بضائعها إلى أسواق الدنيا.
ومما يعجبني في شعر علي طسسه أنسسه فسسي منسساحي فلسسسفته وجهسسات
ما ،وهو أن ثسسورة السسروح النسسسانية تفكيره يوافق رأيي الذي أراه دائ ً
ومعركتها الكبرى مع الوجود -ليستا في ظاهر الثورة ول العراك مسسع
الله كما صنع المعري وأضرابه في طيشهم وحمسساقتهم ،ولكنهسسا فسسي
الهدوء الشعري للروح المتأملة ،ذلسسك الهسسدوء السسذي يجعسسل الطبيعسسة
نفسها تبتسم بكلم الشاعر كما تبتسسسم بأزهارهسسا ونجومهسسا ،ويجعسسل
الشسساعر أداة طبيعيسسة متخسسذة لكشسسف الحكمسسة وتغطيتهسسا معًسسا؛ فسسإن
العجب الذي ليس أعجب منه في التدبير اللهي للنفوس الحساسسسة
-أن زخرفة الشعر وما يجري مجراه في الفن إنمسسا هسسي ضسسرب مسسن
زخرف الطبيعة حين تبتدع الشكل الجميل لتتمم أغراضها من ورائه؛
ولو ثارت الزهار -مثًل -على الوجود وخالقه ثورة أولئك الشعراء لما
صنعت شيًئا غير إفساد حكمتها هسسي ومسسا يتصسسل بهسسذه الحكمسسة مسسن
المصالح والمنافع ،ولن تنتصر إل ببقائها أزهاًرا ،فذلك حربها وسلمها
مًعا.
وأسلوب شسساعرنا أسسسلوب جسسزل ،أو إلسسى الجزالسسة ،تبسسدو اللغسسة فيسسه
وعليها لون خاص من ألوان النفس الجميلة يزهو زهسسوه فيكسسثر منسسه
في النفس تأثيرها وجمالها ،وهذه هي لغة الشعر بخاصته؛ ول بد أن
ننبه هنا إلى معنى غريب ،وذلك أنك تجد بعسسض النظسسامين يحسسسنون
من اللغة وفنون الدب ،فإذا نظمسسوا وخل نظمهسسم مسسن روح الشسسعر-
ظهرت اللفاظ في أوزانهسسم وكأنهسسا فقسسدت شسسيًئا مسسن قيمتهسسا ،كسسأن
موضعها ثم هسسو السسذي أعلسسن إفلسسسه؛ إذ أقسسام مقسسام السسذي يريسسد أن
يعطي ثم هو إذا وقف ل يصسسنع شسسيًئا إل أن يعتسسذر بسسأنه لسسم يجسسد مسسا
يعطيه ..فهذا كان رجًل مسن النساس ،وكسان فسي سستر وعافيسة ،فلمسا
328
سا كاذًبا مدعًيا فاختلفت به الحسسال وهسسو هسسو وقف موقفه انقلب مدل ً
لم يتغير.
وما السلوب البياني إل وسيلة فنية لمضاعفة التعبير ،فإن لسسم يكسسن
هذا ما يعطيه كسان وسسيلة فنيسة أخسرى لمضساعفة الخيبسة؛ وهسذا مسا
تحسه في كثير من شعر النظامين أو البديعيين في العصسسور الميتسسة،
وتحسه في الشعر الميت الذي ل يزال ينشر بيننا.
وعلي طه إذا حرص على أسلوبه وبسسالغ فسسي إتقسسانه واسسستمر بجريسسه
قسسا فسسي أسسسرار اللفسساظ ومسسا ما فيها ،متعم ً على طريقته الجيدة متقد ً
وراء اللفسساظ ،وهسسي تلسسك الروعسسة البيانيسسة السستي تكسسون وراء التعسسبير
وليس لها اسم فسي التعسبير ،معتسبًرا اللغسة الشسعرية -كمسا هسي فسي
فسسا لغوي ًسسا ..فسسإنه ول ريسسب سسسيجد مسسنفا موسيقًيا ل تألي ً
الحقيقة -تألي ً
إسسسعاف طبعسسه القسسوي ،وعسسون فكسسره المشسسبوب ،وإلهسسام قريحتسسه
المولدة -ما يجمع له النبوغ من أطرافه ،بحيث يعده الوجود من كبار
مصوريه ،وتتخذه الحياة من بلغاء المعبرين عنها فسسي العربيسسة؛ ومسسن
ثم تنظمسسه العربيسسة فسسي سسسمط جواهرهسسا التاريخيسسة الثمينسسة ،ويصسسله
السلك بشوقي وحافظ والبارودي وصسبري ،إلسى المتنسبي والبحستري
وابن الرومي وأبي تمام ،إلى مسسا وراء ذلسسك ،إلسسى الجسسوهرة الكسسبرى
المسماة جبل النور البياني ،إلى امرئ القيس.
وليس هذا ببعيد على من يقول في صفة القلب:
يا قلب عندك أي أسرارما زلن في نشر وفي طي
يا ثورة مشبوبة النارأقلقت جسم الكائن الحي
حملته العبء الذي فرقتمنه الجبال وأشفقت رهًبا
وأثرت منه الروح فانطلقتتحسو الحميم وتأكل اللهبا
وعجبت منك ومن إبائك في أسر الجمال وربقة الحب
وتلفت المتكبر الصلفعن ذلة المقهور في الحرب
ووهمت ناًرا ذات إيماضفبسطت كفك نحوها فزعا
مرت بعينك لمحة الماضيفوثبت تمسك بارًقا لمعا
والرض ضاق فضاؤها الرحبوخلت فل أهل ول سكن
حال الهوى وتفرق الصحبوبقيت وحدك أنت والزمن
ولو ذهبنا نختار من هذا الديوان لخترنا أكسسثره ،فقصسسائده ومقسساطيعه
تتعاقب ،ولكن تعاقب الشمس على أيامها :تظهر جديدة الجمال في
كل صباح؛ لن وراء الصباح مادة الفجر ،وكسسذلك تسسأتي القصسسائد مسسن
نفس شاعرها.
329
330
"المقتطف" و"المتنبي"1
331
أشياء كانت خافية ،وكان الصدق فيهسا ،ليسرد بهسا علسى أشسياء كسانت
معروفة ،وكان فيها الكذب ،ثم تعينه بكل ذلك على أن يكتب الحيسساة
التي جاءت من تلك النفس ذاتها ،ل الحياة التي جسساءت مسسن نفسسوس
أعدائها وحسادها.
ولقد كان أول ما خطر لي بعد أن مضيت في قسسراءة هسسذا العسسدد أن
ب تاريخ المتنسسبي ولسسم ينقلسسه؛ المؤلف جاء بما يصح القول فيه إنه كت َ
ثم لم أكد أمعن فسسي القسسراءة حسستى خيسسل إلسي أنسه قسد وضسع لشسعر
دا
المتنبي بعد تفسير الشسسراح المتقسسدمين والمتسسأخرين تفسسسيًرا جديس ً
من المتنسسبي نفسسسه ،ومسسا الكلمسسة الجديسسدة فسسي تاريسسخ هسسذا الشسساعر
الغامض إل الكلمة التي نشرها المقتطف اليوم.
إن هذا المتنبي ل يفرغ ول ينتهي ،فإن العجاب بشعره ل ينتهسسي ول
سا عظيمة خلقها الله كمسسا أراد ،وخلسسق لهسسا مادتهسسا يفرغ وقد كان نف ً
العظيمة على غيسسر مسسا أرادت ،فكأنمسسا جعلهسسا بسسذلك زمن ًسسا يمتسسد فسسي
الزمن.
وكان الرجل مطوًيا على سر ألقسي الغمسوض فيسه مسن أول تساريخه،
وهو سر نفسه ،وشر شعره ،وسر قوته؛ وبهسسذا السسسر كسسان المتنسسبي
كالملك المغصوب الذي يرى التاج والسيف ينتظسسران رأسسسه جميعًسسا،
فهو يتقي السيف بالحذر والتلفف والغموض ،ويطلب التاج بالكتمان
والحيلة والمل.
ومن هذا السر بدأ كسساتب المقتطسسف ،فجسساء بحثسسه يتحسسدر فسسي نسسسق
عجيب ،متسلسًل بالتاريخ كأنه ولدة ونمو وشباب؛ وعرض بين ذلسسك
ضا خيل إلي أن هذا الشعر قد قيل مسسرة أخسسرى شعر أبي الطيب عر ً
من فم شاعره على حوادث نفسه وأحوالها؛ وبسسذلك انكشسسف السسسر
الذي كان مادة التهويل في ذلك الشعر الفخم ،إذ كسسانت فسسي واعيسسة
الرجل دولة أضخم دولة ،عجسسز عسسن خلقهسسا وإيجادهسسا فخلقهسسا شسسعًرا
أضخم شعر ،وجاءت مبالغاته كأنها أكاذيب آماله البعيدة متحققة في
صورة من صور المكان اللغوي.
ومن أعجب ما كشفه من أسرار المتنبي سر حبسسه ،فقسسال :إنسسه كسسان
يحب خولة أخت المير سيف الدولة ،وكتب في ذلك خمسسس عشسسرة
صفحة كبيرة ،وكأنها لم ترضه فقال :إنسسه كسان يؤمسسل أن يكتسسب هسسذا
الفصل في خمسين وجًها من المقتطف؛ وهذا الباب من غرائب هذا
البحث ،فليس من أحد في السسدنيا المكتوبسسة "أي التاريسسخ" يعلسسم هسسذا
السر أو يظنه ،والدلة التي جاء بها المؤلسسف تقسسف البسساحث المسسدقق
بين الثبات والنفي؛ ومتى لم يستطع المرء نفي ًسسا ول إثبات ًسسا فسسي خسسبر
332
جديد يكشفه الباحث ولم يهتد إليه غيره ،فهذا حسبك إعجاب ًسسا يسسذكر،
وهذا حسبه فوًزا يعد.
ولعمري لو كنت أنا في مكان المتنسسبي مسسن سسسيف الدولسسة لقلسست إن
المؤلف قد صدق ..فهناك موضع ل بد أن يبحث في القلسسب الشسساعر
الذي وضعت يه الدنيا حكمتها ،وطوت فيه القسسوة سسسرها ،وبسسث فيسسه
الجمال وحيه؛ وأصغر هذه الثلث أكبر من الملوك والممالك ،ولكسسن
الحبيبة أكبر منها كلها ....
333
محمد *
عمل الستاذ توفيق الحكيسسم فسسي تصسسنيف هسسذا الكتسساب أشسسبه شسسيء
بعمل "كريستوف كولمب" في الكشف عسسن أمريكسسا وإظهارهسسا مسسن
الدنيا للدنيا :لم يخلق وجودها ،ولكنه أوجسسدها فسسي التاريسسخ البشسسري،
وذهب إليها فقيل جاء بها إلى العالم ،وكانت معجزته أنه رآها بالعين
التي في عقله ،ثم وضع بينه وبينها الصبر والمعاناة والحسسذق والعلسسم
حتى انتهى إليها حقيقة ماثلة.
قرأ الستاذ كتب السسسيرة ومسسا تناولهسسا مسسن كتسسب التاريسسخ والطبقسسات
والحديث والشمائل ،بقريحة غير قريحة المؤرخ ،وفكسسرة غيسسر فكسسرة
الفقيه ،وطريقة غيسسر طريقسسة المحسسدث ،وخيسسال غيسسر خيسسال القسساص،
وعقل غير عقل الزندقة ،وطبيعة غير طبيعة الرأي ،وقصد غير قصد
الجدل؛ فخلص له الفن الجميل الذي فيها؛ إذ قرأها بقريحتسسه الفنيسسة
المشبوبة ،وأمرهسا علسى إحساسسه الشساعر المتسوثب ،واسسستلها مسن
التاريخ بهذه القريحة وهذا الحساس كما هي في طبيعتهسسا السسسامية
متجهة إلى غرضها اللهي محققة عجائبها الروحانية المعجزة.
وقد أمدته السيرة بكل ما أراد ،وتطاوعت له على ما اشتهى ،ولنت
في يده كمسسا يليسسن السسذهب فسسي يسسد صسسائغه؛ فجسساء بهسسا مسسن جوهرهسسا
وطبيعتها ليس له فيها خيال ول رأي ول تعبير ،وجاءت مع ذلسسك فسسي
تصنيفه حافلة بأبدع الخيال ،وأسمى السسرأي ،وأبلسسغ العبسسارة؛ إذ أدرك
بنظرته الفنية تلك الحوال النفسية البليغة ،فنظمها على قانونها في
الحياة ،وجمع حوادثها المدونة فصورها في هيئة وقوعها كما وقعت،
واستخرج القصص المرسلة فأدارهسسا حسواًرا كمسسا جساءت فسسي ألسسسنة
أهلها؛ وبهذه الطريقة أعاد التاريخ حّيا يتكلم وفيه الفكسسرة وملئكتهسسا
وشياطينها ،وكشف ذلك الجمال الروحاني فكان هو الفن ،وجل تلسسك
النفوس العالميسسة فكسسانت هسسي الفلسسسفة ،وأبقسسى علسسى تلسسك البلغسسة
فكانت هي البيان ،كانت السيرة كاللؤلؤة في الصسسدفة ،فاسسستخرجها
فجعلها اللؤلؤة وحدها.
إن هذا الكتاب يفرض نفسه بهسسذه الطريقسسة الفنيسسة البديعسسة ،فليسسس
يمكن أن يقال إنه ل ضرورة لوجوده؛ إذ هو الضسسروري مسسن السسسيرة
في زمننا هذا ،ول يغتمز فيه أنه تخريف وتزوير وتلفيق؛ إذ ليس فيه
حرف مسسن ذلسسك ،ول يسسرد بسسأنه آراء يخطسسئ المخطسسئ منهسسا ويصسسيب
المصيب؛ إذ هو على نص التاريسسخ كمسسا حفظتسسه السسسانيد ،ول يرمسسي
بالغثاثة والركاكة وضسسعف النسسسق؛ إذ هسسو فصسساحة العسسرب الفصسسحاء
334
الخلص كما رويت بألفاظها؛ فقد حصسسنه المؤلسسف تحصسسيًنا ل يقتحسسم،
قسسا كسسل
صا أتم الخلص ،أميًنا بأوفى المانة ،دقي ً وكان في عمله مخل ً
الدقة ،حذًرا بغاية الحذر.
ومن فوائد هذه الطريقة أنهسسا هيسسأت السسسيرة للترجمسسة إلسسى اللغسسات
الخرى في شكل من أحسن أشكالها يرغم هذا الزمن على أن يقرأ
بالعجاب تلك الحكاية المنفردة في التاريخ النساني؛ كما أنها قربت
وسهلت فجعلت السيرة ،في نصها العربي كتاًبا مدرسًيا بليغًسسا بلغسسة
حا للملكة البيانية. فا للذوق ،مصح ً القلب واللسان ،مربًيا للروح ،مره ً
وحسب المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الدب العربي :إن ابسسن
هشام كان أول من هذب السيرة تهذيًبا تاريخّيا علسسى نظسسم التاريسسخ،
وأن توفيق الحكيم كان أول من هذبها تهذيًبا فنّيا على نسق الفن.
335
ديوان العشاب*
أبو الوفاء شاعر ملء نفسه ،ما في ذلك شك ،مسسذهبه الجمسسال فسسي
المعنى يبدعه كأنما يزهر به ،والجمال في الصورة يخرجها من بيسسانه
كما تخرج الغصون والوراق من شجرتها ،وله طبع وفيه ورقة ،وهسسو
يجري من البيان علسسى عسسرق ،وسسسليقته تجعلسسه ألسسزم لعمسسود الشسسعر
وأقرب إلى حقيقته ،حتى أنه ليعد أحد الذين يعتصم الشسسعر العربسسي
بهم ،وهم قليل في زمننا ،فإن الشعر منحسسدر فسسي هسسذا العصسسر إلسسى
العاميسسة فسسي نسسسقه ومعسسانيه ،كمسسا انحسسدر التمثيسسل ،وكمسسا انحسسدرت
أساليب الكتابة في بعض الصحف والمجلت.
وللعامية وجوه كثيرة تنقلب فيها الحياة ،ومرجعهسا إلسى روح الباحسة
الذي فشا بيننا ونشأ عليه النشء في هذه المدنيسسة السستي تعمسسل فسسي
الشرق غير عملها في الغرب ،فهي هناك رخص وعسسزائم ،وهسسي هنسسا
تسسسمح وترخسسص ،فسسي ظسسل ضسسعيف مسسن العزيمسسة ،وإهمسسال البلغسسة
العربية الجميلة كما هي في قوانينهسسا ليسسس إل مظه سًرا لتلسسك السسروح
تقسسابله المظسساهر الخسسرى ،مسسن إهمسسال الخلسسق ،وسسسقوط الفضسسيلة،
وتخنث الرجولة ،وزيغ النوثة ،وفساد العقيدة ،واضطراب السياسة،
إلسسى مسسا يجسسري هسسذا المجسسرى ممسسا هسسو فسسي بلغسسة الحيسساة المبينسسة
كالمرذول والمطرح والسفساف في بلغة الكلم الفصيح؛ كسسل ذلسك
في مواضعه تحلل من القيسسود وإباحسسة وتسسمح وترخسسص ،وكسسل ذلسسك
عامية بعضها من بعض ،وكل ذلك لحن في البلغة والخلق والفضيلة
والرجولة والنوثة والعقيدة والسياسة.
والشعر اليوم أكثره "شعر النشر" في الجرائد ،على طبيعة الجسسرائد
ل علسسى طبيعسسة الشسسعر؛ وهسسذه إباحسسة صسسحافية غمسسرت الصسسحف،
وأخضسسعت أذواق كتابهسسا لقسسوانين التجسسارة ،فسسإنهم لينشسسرون بعسسض
القصائد كما تنشر "العلنسسات" :ل يكسسون الحكسسم فسسي هسسذه ول هسسذه
لبيان أو تمييز أو منفعة ،بل على قدر الثمن أو ما فيه معنى الثمن!
ومن مادية هذا العصر وطغيسسان العاميسسة عليسسه ،أننسسا نسسرى فسسي صسسدر
بعض الجرائد أحياًنا شعًرا ل يكون في صناعة الشعر ول في طبقات
النظم أضسسعف ول أبسسرد منسسه .ول أدل علسسى فسسساد السسذوق الشسسعري،
حا للنشر ،وإن ما صال ً
ولكنه على ذلك الصل الذي أومأنا إليه يعد كل ً
حا للشعر.يكن صال ً
---------------
336
1للشاعر المجيد محمود أبو الوفا ،وهذا المقال كان حديًثا مع بعض
الصدقاء عن الديوان ونشر في الرسالة الغراء قلت :وانظسسر "حيسساة
الرافعي" ص ."191 - 189
وهكذا أصبحت العامية في تمكنها تجعسسل مسسن الغفلسسة حسسذًقا تجاري ّسسا،
وا فلسفّيا ،ومن الركاكة بلغة صحفية ،ومتى تغيسسر ومن السقوط عل ً
معنى الحذق ،ودخلته الباحسة ،ووقسع فيسسه التأويسسل ،وأحيسسط بسالتمويه
والشسسبه فالريبسسة حينئذ أخسست الثقسسة ،والعجسسز بسساب مسسن السسستطاعة،
والضعف معنى من التمكين ،وكل ما ل يقوم فيسسه عسسذر صسسحيح كسسان
هو بطبيعة التلفيق عذر نفسه.
وأكثر ما تنشره الصحف من الشعر هو فسسي رأيسسي صسسناعة احتطسساب
من الكلم ..وقد بطل التعب إل تعسسب التقشسسش والحمسسل ،فلسسم تعسسد
هناك صناعة نفسية في وشي الكلم ،ول طبسسع موسسسيقي فسسي نظسسم
اللغة ،ول طريقة فكرية في سسسبك المعسساني ،وبهسسذه العاميسسة الثقيلسسة
أخذ الشعر يزول عن نهجسسه ،ويضسسل عسسن سسسبيله ،ووقسسع فيسسه التسسوغر
السسسهل ..والسسستكراه المحبسسوب ..وصسسرنا إلسسى ضسسرب حسسديث فسسي
الوحشية ،هو الطرف المقابل للشعر الوحشسسي فسسي أيسسام الجاهليسسة؛
دا ،والمعنسسى قسسا ،والمسسأتي بعيسس ً
فمسسا دام الكلم غريًبسسا ،والنظسسم قل ً
كا ،والنسج ل يستوي ،والطريقة ل تتشسسابه فسسذلك كلسسه مسسسخ مستهل ً
وتشويه في الجملة وإن اختلفست السسباب فسي التفصسيل ،وإذا كسان
المسخ جاهلّيا بالغريب من اللفاظ ،والنافر من اللغسسات ،والوحشسسي
من المعاني؛ وكان عصرّيا بالركيك من اللفاظ ،والنازل من التعبير،
والهجين من الساليب ،والسخيف من المعاني؛ ثم بالسقط والخلط
والضطراب والتعقيد فهل بعض ذلك إل مسسن بعضسسه؟ وهسسل هسسو فسسي
نالشعر الجميل إل كسلخ النسان الذي مسخه الله فسلخه من معا ٍ
دا أو خنزيًرا ليس عليسسه ن يصير بها قر ً كان بها إنساًنا ،ليضعه في معا ٍ
إل ظاهر الشبه ،وليس معه إل بقية الصل؟
فالقردية الشسسعرية ،والخنزيريسسة الشسسعرية ،متحققسسان فسسي كسسثير مسن
الشعر الذي ينشر بيننا ،ولكن أصحاب هذا الشعر ل يرونهما إل كماًل
في تطسسور الفسسن والعلسسم والفلسسسفة؛ وأنسست مسستى ذهبسست تحتسسج لزيسسغ
الشعر من قبل الفلسسسفة ،وتسسدفع عسسن ضسسعفه بحجسسة العلسسم ،وتعتسسل
لتصحيح فساده بالفن -فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر
قردي خنزيري ،لم يستو في تركيبه ،ولم يأت على طبعه ،ولم يخرج
في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر مسسن رأي نسساظمه وافتتسسانه
به ودفاعه عنه ،ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به.
337
والشاعر أبو الوفاء جيد الطريقة ،حسسسن السسسبك ،يقسسول علسسى فكسسر
وقريحة ،ويرجع إلى طبع وسليقة ،ولكسسن نفسسسه قلقسسة فسسي موضسسعه
الشعري من الحياة؛ وفي رأيي أن الشاعر ل يتم بأدبه ومواهبه حتى
يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحيسساة فيسسه؛ والكلم
يطول في صفة هذا الموضع ،ولكنه في الجملسسة كمنبسست الزهسسرة :ل
تزكو زكاءهسسا ول تبلسسغ مبلغهسا إل فسسي المكسان السذي يصسسل عناصسسرها
بعناصر الحياة وافية تامة ،فل يقطعها عن شيء ول يرد شسسيًئا عنهسسا؛
إذ هي بما في تركيبها وتهيئتها إنما تتم بموضعها ذاك لتهيئة وتركيبه،
فإن كانت الزهرة على مسسا وصسسفنا ،وإل فمسسا بسسد مسسن مسسرض اللسسون،
وهرم العطر ،وهزال النضرة ،وسقم الجمال.
ولول أن الحكمة وفت الستاذ أبسسا الوفسسا قسسسطه مسسن اللسسم ،ووهبتسسه
مها حص سًرا ل مفسسر منسسه -لفقسسدت سا متألمة حصرتها في أسباب أل َ ِ نف ً
ً
مسسا حسسائل مضسسطرًبا منقطسسع زهرته عنصر تلوينهسسا ،ولخسسرج شسسعره نظ ً
السباب من الوحي؛ غير أن جهة اللسسم فيسسه هسسي هسسي جهسسة السسماء
إليه ،ولو هو تكافسسأت جهسساته المعنويسسة الخسسرى ،وأعطيسست كسسل جهسسة
حقها ،وتخلصت ممسسا يلبسسسها -لرتفسسع مسسن مرتبسسة اللسسم إلسسى مرتبسسة
الشعور بالغامض والمبهم ،ولكان عقًل من العقول الكسسبيرة المولسسدة
التي يحيا فيها كل شيء حياة شعرية ذات حس.
ولكسسن مسا دامسست الحيسساة قسسد وزنسست لسه بمقسسدار ،وطفقسست مسسع ذلسسك
وبخست ،فقد كان يحسن به أن يقصر شسسعره علسسى أبسسواب الزفسسرة
والدمعة واللهفة ،أو انقطعت وسيلته إليه أن تبلغ؛ ويظهر لي أن أبسسا
الوفا يحذو على حذو إسماعيل باشا صبري ،وهو شبيه به في أنه لم
تفتح له علسسى الكسسون إل نافسسذة واحسسدة؛ غيسسر أن صسسبري أقبسسل علسسى
نافذته ونظر ما وسعه النظر ،أمسسا أبسسو الوفسسا فيحسساول أن ينقسسب فسسي
الحائط ليجعلهما نافذتين.
أما أنه ليس من الشعر أن تنزل الحيرة الفلسفية عسسن منزلتهسسا بيسسن
اليقيسسن والعقسسل ،أو المشسسهود والمحجسسب ،أو الواقسسع والسسسبب ،أو
الرسم والمعنى -فتنقلب بيسن شسعر القلسب العاشسق ،وشسعر الفكسر
المتأمل ،شعر المعدة الجائعة ،وتضع بين أشواق الكون شوقها هسسي
إلى الطعام والثياب والمال..
علسسى أنسسه كسسان المثسسل فسسي التسسدبير ،والقسسرب إلسسى طريقسسة النفسسس
الشاعرة أن يصرف أبو الوفا هذا الشسسعور المسسادي السسذي يتلسسذع بسسه،
فيحسسوله فيجعلسسه باب ًسسا مسسن حكمسسة السسسخر الشسسعري بالسسدنيا وأهلهسسا
338
وحوادثها ،كمسسا صسسرفه ابسسن الرومسسي مسسن قبسسل فأخطسسأ فسسي تحسسويله،
فجعله مرة باًبا من المدح والنفاق ،ومرة باًبا من الهجاء والقذاع.
ولو بذل الشاعر أبو الوفا مجهوده في ذلك ،واتهم الدنيا ثم حاكمها،
ونص لها القانون ،وأجلس القاضي ،وافتتح المجلس ،ورفعهسسا قضسسية
ما ،تارة في نادرة بعسسد نسسادرة ،ومسسرة فسسي ما حك ًقضية ،ثم أخذها حك ً
حكمة إلى حكمة ،وآونة في سسسخرية مسسع سسسخرية -إذن لهتسسدى هسسذا
المتألم الرقيق إلى الجانب الخر من سر الموهبة التي فسسي نفسسسه،
فأخرج مكنون هذه الناحية القوية منها ،فكان ول ريسسب شسساعر وقتسسه
في هذا الباب ،وإمام عصره في هذه الطريقة.
على أن في صفحات ديوانه أشسسياء قليلسسة تسسومئ إلسسى هسسذه الملكسسة،
ولكنها مبثوثسسة فسسي تضسساعيف شسسعره ،والسسوجه أن يكسسون وجهسسه فسسي
تضاعيفها ،وإنه ليأتي بأسسسمى الكلم وأبسسدعه ،حيسسن يعمسسد إلسسى ذلسسك
الصل السسذي نبهنسسا إليسسه ،فيصسسرف لهفسسة نفسسسه إلسسى بعسسض وجوههسسا
الشعرية ،كقسسوله فسسي "حلسسم العسسذارى" وهسسي مسن بسسدائعه ومحاسسسن
شعره:
ها هما عيناك تغريني على شتى الظنون
فيهما بحر وموج وسهول وحزون
ووضوح وغموضواضطراب وسكون
ن ل تبينن بيناتومعا ٍ
ومعا ٍ
وتهاويل فنونمن رشاد وجنون
وأشعات حيارىمن منى أو من حنين
ليت شعري أي سرخلف هاتيك الجفون
آه إن السر أنباعنه ذان الطائران
حينما مال على غصنيهما يعتنقان..
فهذه أبيات في شعر الجمال كالمحراب ملؤه عابده..
339
النجاح وكتاب سر النجاح 1
مسسا خلسسق اللسسه ذا عقسسل مسسن بنسسي آدم إل أودع فسسي تركيبسسه شسسيئين
كالمقدمسسة والنتيجسسة ،وأعطسساه بهمسسا القسسدرة علسسى الوسسسيلة والغايسسة،
"ليحيا من حي عن بينة ويهلسسك مسسن هلسسك عسسن بينسسة" ،ففسسي تركيسسب
النسان قوة الرغبة في النجاح وأن يتأتى إلى سسسره أو يبلسسغ منسسه أو
يقاربه ،وفي هذا التركيب عينه ما يهتك به هذا الحجاب ويفضي منسسه
إلى هذا السر ويجمع بك عليه ،وما أنكر أن النجاح قدر من القسسدار،
ولكنه قدر ذو رائحة قوية خاصة به يستروحها من تحت السماء وهسسو
ل يزال في السماء وبينسسه وبيسسن الرض أمسسد ودهسسر وأسسسباب وأقسسدار
كثيرة ،ولول أن هذه الخاصية فيه وفي النسان منه لما توفرت رغبة
في عمل ول صح نشاط في الرغبة ول توجه عسسزم إلسسى النشسساط ول
توثقت عقدة على العزم.
غير أن في النسسسان كسسذلك مسسا يفسسسد هسسذه الخاصسسية أو يضسسعفها أو
يعطلها تعطيًل ،فإذا هي تضل ول تهدي وكانت تهسسدي ول تضسسل ،وإذا
هي زائغة عن الحق ملتوية عن القصد وكانت هي السبيل إلى الحق
وهي الدليل على القصد؛ وما ينسسال منهسسا شسسيء إل واحسسد مسسن ثلث:
العجز ،وضعف الهمة ،واضطراب الرأي.
فأما العجز فمنزلة تجعل النسان كالنبات يرتفسسع عسسن الرض بعسسوده
ولكنه غائر فيها بأصول حيساته ،وأمسسا ضسسعف الهمسة فمنزلسة الحيسسوان
الذي ل هسسم لسسه إل أن يوجسسد كيفمسسا وجسسد وحيثمسسا جسساء موضسسعه مسسن
مسسا وصسسوًفا ووب سًرا
مسسا وعظ ً
الوجود؛ إذ هو يولد ويكدح ويكد ليكون لح ً
عا ،وكأنه ضرب آخر من النبات إل أنه نوع آخسسر مسن وشعًرا أثاًثا ومتا ً
المنفعة.
وأما اضطراب الرأي فمنزلة بين المنزلتين ترجع إلى هذه مرة وإلى
هذه مرة وتقع من كلتيهما موقعها ،والعجز وضعف الهمة واضطراب
ن ثلثة لكلمة واحدة هي الخيبة ،وما أسرار الرأي في لغة العقل معا ٍ
النجاح إل الثلثة التي تقابلها وهي القوة والعزيمة والثبات.
ولكن في هذا النسسسان طفولسسة وشسسباًبا ،وهمسسا حالتسسان ل بسسد منهمسسا،
وهما من الضعف والنسسزق بطبيعتهمسسا ،وفيهمسسا يتثاقسسل النسسسان إلسسى
أغراضه ،ويرتد عن صعابها ،وينخذل دون غاياتها؛ وليس يأتي للطفل
أن يدرك الرجل في معانيه ،ول للشاب أن يبلغ الحكيسسم فسسي كمسساله؛
فكأن هسسذين ليسسس لهمسسا أمسسل فسسي أسسسباب النجسساح ،وكسسأن كليهمسسا ل
يحسن أن يطوي فؤاده على شيء ول أن يجمع رأيه على أمر ،غيسسر
340
أن من حكمة الله ورحمته أنسه أرصسسد مسن نواميسسسه القويسسة لضسسعف
الطفولة ونزق الشباب ما هو سناد يمنع ،وموئل يعصم ،وقوة تصلح،
وهو ناموس القدوة الذي يتمثل في الب والم والصسساحب والعشسسير
والمعلم والكتاب؛ لن الله جلت قدرته يبث في الخلسسق مسسا يسسوجههم
ما إلى العتقاد ويحملهم عليه ويبصرهم به ،حتى كأن الحياة كلهسسا دائ ً
إنما هي ممارسة لفضيلة اليمان به مسسن حيسسث يسسدري النسسسان أو ل
يدري.
و"كتاب سر النجاح" الذي ترجمسسه أسسستاذنا العلمسسة السسدكتور يعقسسوب
صروف في سنة ،1880وظهرت طبعته الرابعة في هذه اليام ،هسسو
والله في باب القدوة ناموس على حدة ،وما رأيت كتاًبا تلءم نسجه
واستوت أجزاؤه ووضع آخر على أوله وانصب كله إلى الغرض الذي
دا في معناه وفائدته -كهسسذا الكتسساب السسذي كتب فيه وجاء مقطًعا واح ً
يعلم الضعيف كيف يقوى ،والعاجز كيسسف يعتمسسد ،والمضسسطرب كيسسف
يقبل ،والساقط كيف ينتهض ،ويعلمك مع ذلك كيف تريح الكد بالكد،
وكيسسف تسسسقط التعسسب بسسالتعب ،وكيسسف تمضسسي عزيمتسسك وتعتقسسدها
حسسا،
دا ول فات ًوتضرب كرة الرض بقدميك وإن لم تكسسن ملك ًسسا ول قسسائ ً
وإن كنت من صميم السوقة ،وإن كنت من فقرك وراء عتبة واحدة؛
ل أقول :إن هذا الكتاب علم ،فإن هذا القول يسقط به دون منزلتسسه
عا من الورق الصقيل على طبسسع ول يعدو في وصفه أن يجعله مجمو ً
جيد ،مع أنه مجموع من الرواح والعزائم وأعصاب القلسسوب؛ ولكنسسي
أقول في وصفه العلمي إن المدارس تخرج من الكتب تلميذ ..وهذا
الكتاب يخرج مسن التلميسذ رجساًل أقويسساء أشسداء معصسومين عصسيب
جذوع الشسسجر العسساتي ،مسسن قسسوة النفسسس وصسسلبتها وصسسحة العزيمسسة
ومضائها ،وتصميم الرأي ونفاذه؛ ومما يعطي من قوة الصبر والثبات
ومطاولة التعب إلى أبعد حدود الطاقة النسانية.
وما تقرؤه حق قراءته وتستوفيه على وجهه من التدبير والمعسسان إل
خرجت منه وقد وضع في نفسك شيًئا أعظم مسسن نفسسسك كائن ًسسا مسسن
كنسست وكيسسف كنسست ،فسسإن تكسسن طفًل خرجسست رجًل ،وإن كنسست رجًل
مسسا اسسستحدث فسسي نفسسسك مسسا يجعلسسك ما ،وإن كنسست حكي ً
خرجت حكي ً
بالحكمة فوق الدنيا وكنت بها في الدنيا.
قال الستاذ المترجم في مقدمته" :أشهد لبناء وطني أنني لم أنتفع
بكتاب قدر ما انتفعت بهذا الكتاب" .وهذه هي الكلمة السستي ل يقسسول
غيرها من يقرأ "سر النجاح" ،ول يمكن أن يقول غيرها؛ إذ هو مبنسسي
فسسي وضسسع مسسن فسسائدة النفسسس ومسسا يرهسسف حسسدها ويبتعسسث ملكاتهسسا
341
ويستنهض قواها ويستنفذ وسسسائلها علسسى مسسا يشسسبه القواعسسد السستي ل
تؤدي إل إلى نتيجة واحدة من أين اعتبرتها ،كس "اثنان واثنان أربعسسة"،
ت أربعة ،وهلم جرا.. وثلثة وواحد أربعة ،وأربعة وحدا ٍ
تلك شهادة المترجم ،أما أنا فأشهد لقد عرفت منذ زمن طالًبسسا فسسي
الزهر ،فلما تعرف إلي جعل يشكو ويتبرم وينفض لي نفسه ويقول:
الزهسسر وعلسسومه وفنسسونه ومسسسائله ومشسساكله ،والمتسسون ومسسا فيهسسا،
والشروح وما إليها ،والحواشي وما يرد ويعسسترض ويجسساب بسسه ويقسسال
فيه ،وكل كلمة بساعة من العمر ،وكل سطر بيوم ،وكل جزء بسنة،
مسسا ،فلوتركسست ورائي كسسذا وكسسذا فسسداًنا وأقبلسست علسسى كسسذا وكسسذا عل ً
حصدت من هذه ول من تلك! قلت :وما يمسكك والبسساب مفتسسوح ول
يسألك الزهر إلى أين ول تسألك السسدنيا إذا خرجسست إليهسسا مسسن أيسسن؟
قال :والله ما ربطني إلى هذه العمسسدة خمسسس عشسسرة سسسنة كاملسسة
على يأس ومضض إل كتاب "سسسر النجسساح" ومسسا أمضسسيت نيسستي مسسرة
على وجه من وجوه العيش إل رأيت هذا الكتاب قد ضرب وجه هذه
النية فردها إلى هذا المكان وألقاها في هسسذا المسسستقر ،ومسسا هممسست
بترك الزهر إل انتصب في وجهي كل البطال الذين قرأت أخبسسارهم
فيسسه وأمسسسكوني ،ل مسسن يسسدي ول مسسن رجلسسي ،ولكسسن مسسن اعتقسسادي
وإيماني وأملي!
قلت :فوالله ل يدعك حسستى تنجسسح ،ومسسا ربسسط اللسسه علسسى قلبسسك بهسسذا
الكتاب وثبت فؤادك باليقين الذي فيه إل وقد كتب لك الخير كله.
342
أبو تمام الشاعر :تحقيق مدة إقامته بمصر
لم يبق بد من أن نبلغ بالكلم في هذا المعنى إلى مقطع الحق فيسسه،
وأن ننفذ بتحقيقه إلى خاصته ،وننتهي من خاصته إلسسى برهسسانه؛ فسسإن
مسسا مرس سًل بحسسري ما وحديًثا ألقوا خبر أبي تمسسام كل ً
علماء الدب قدي ً
فسسي الروايسسة علسسى طرقهسسا المختلفسسة ،ل علسسى التاريسسخ فسسي وجِهسسهِ
المتعين ،ويؤخذ على أنه خبر كالخبار إن صدق فقد صدق وإن كذب
فهسسو علسسى مسسا يجيسسء؛ إذ لسسم يكسسن يعنيهسسم مسسن الشسساعر إل شسسعره،
يحملونه عنه أو يأخذونه من رواته ،أو يجدونه في ديسوانه؛ أمسا أخبسار
الشاعر فهي ل تتصل بالكتاب ول بالسنة ،فتجتمسسع لهسسم كمسسا تجتمسسع
ويتناولونها كما اتفقت بما دخلها من الكسسذب والتزيسسد والتلفيسسق ،ومسسا
ضسسا أو ينقسسض بعضسسه علسسى بعسسض؛ يكون فيهسسا ممسسا يظسساهر بعضسسه بع ً
والمحقق منهم من يروي الصدق والكذب مًعا ليخرج من التبعسسة ،فل
بد من تبعسسة فسسي أحسسد النقيضسسين؛ وليسسبرأ بصسسدق أحسسدهما مسن كسسذب
أحدهما كما صنع ابن خلكان في سسسياقه خسسبر أبسسي تمسسام وهسسذا نسسص
عبارته:
كانت ولدة أبي تمسسام ...بجاسسسم وهسسو قريسسة بيسسن دمشسسق وطبريسسة،
ونشأ بمصر ،قيل :إنه كسسان يسسسقي المسساء بسسالجرة فسسي جسسامع مصسسر،
كا يعمل عنده بدمشق وكان أبوه خماًرا بها. وقيل كان يخدم حائ ً
والذين يعرفون طرق الرواية ومصطلحاتها يدركون من هذه العبسسارة
أن ابن خلكان ينتفي من أن تكون عليه تبعة أحد الخبرين أو كليهما،
فإن الرواية متى افتتح الخبر "بقيل أو يقال" فقسسد دل علسسى أن هسسذا
الخسسبر غيسسر مقطسسوع بسسه؛ إذ تسسسمى هسسذه الصسسيغة عنسسدهم صسسيغة
التمريض ،فهي ل تفيد الصحة ول الجزم بها ،وظسساهر أن أبسسا تمسسام ل
يمكن أن يكون قد نشأ بمصر وبدمشق في وقت مًعا.
---------------
1لما أنشأ المؤلف مقاله عن شوقي "رحمه الله" غضب من غضب
مسسن أدبسساء مصسسر ،وزعمسسوا أنسسه يقصسسد الغسسض مسسن مكانسسة "مصسسر
الشاعرة" ،ورماه من رماه في وطنيته ،وحاول بعضهم أن يرد عليسسه
رأيه في الشعر المصري بتعداد شعراء مصر العربية ،واستتبع شيء
شيًئا فجاء ذكر أبي تمسام ومسا قسسالوا عسن إقسسامته فسسي مصسر؛ فأنشسأ
المؤلف هذا المقال ،وانظر ص " 147-146حياة الرافعي".
343
وابن خلكان قد وقف على الكتاب السسذي عملسسه الصسسولي فسسي أخبسسار
أبي تمام ونقل عنه ،وهو المرجع في هذا الباب؛ فل بد أن يكون هذا
الكتاب قد خل من تحقيق هذه الرواية ،بسسل نحسسن نرجسسح أنسسه قسسد خل
منها بتة ،فلم يسسذكر أن نشسسأة أبسسي تمسسام كسسانت بمصسسر؛ لن صسساحب
الغاني أغفلها ولم يشسسر إليهسسا بحسسرف ،مسسع أنسسه ينقسسل عسسن الصسسولي
نفسه ويقول في كتابه" :أخسسبرني الصسسولي" وكسسانت أهملهسسا صسساحب
ضا عن الصولي ،وهذا يثبت لنسسا أن الخسسبر مروج الذهب ،وهو ينقل أي ً
لم يكن معروًفا يومئذ ،وإل هو التاريخ عند أبسسي الفسسرج والمسسسعودي
إن لم يكن هو هذا؟
ولكن ذكرت الرواية في كتسساب النبسساري "طبقسسات الدبسساء" ،واقتصسسر
ناقلها على أن أبا تمام نشأ بمصر ،وأنه كان يسسقي المسساء بهسا ،ولسم
يذكر رواية عمله بدمشق؛ والنباري متأخر توفي سنة ،577فهو بعد
موت أبي تمام بثلثة قرون ونصف ،فل قيمة لروايتسسه ،وشسسأنه شسسأن
غيره من الناقلين؛ ونحن نرى أن هذه الرواية قد صسسنعت فسسي مصسسر
نفسها للغض من أبي تمام والزرايسسة عليسسه ،وبقيسست مرويسسة فيهسسا ثسسم
حملت كما تحمل كل رواية لذاتها ل لتحقيقها ،سسسواء أكسسانت موجهسسة
على الحق أم معدوًل بها عنه؛ ول أوضع في المهنة من سقاية المسساء
في الجامع بالجرة ،ولعمري ما ذكرت "الجرة" هنا عبًثا؛ والغلسسو فسسي
التحقير هو بعينه الدليل على الكذب ،فهذه الكلمة كأثر المجرم فسسي
جريمته..
وبعد ،فإنا نقرر أن هذا الشاعر العظيسسم لسسم ينشسسأ بمصسسر ،وأنسسه ولسسد
وتأدب في الشام ثم قدم إلى مصر شاعًرا ناشًئا يتكسب بسسأدبه كمسسا
قدم عليها غيره من الندلس والمغرب والشسسام ،والعسسراق ،وأنسسه لسسم
ت إلى مصر إل في ولية عبد الله بن طاهر الديب الشاعر القسسائد يأ ِ
العظيم ،وقد جعلت له ولية مصر والشام والجزيرة فسسي سسسنة 210
أو 211على خلف بين المؤرخين ،وكانت سن أبي تمام يومئذ بيسسن
سسسا للشسسعراء فسسي كسسل 21و 23سنة؛ وقد كسسان ابسسن طسساهر مغناطي ً
مكان ينزله ،حتى قال فيه بعضهم وعزم على الهجرة إلى مصر:
يقول رجال إن مصر بعيدةوما بعدت مصر وفيها ابن طاهر
وأبعد من بمصر رجال نراهمبحضرتنا معروفهم غير ظاهر
عن الخير موتى ما تبالي أزرتهمعلى طمع أم زرت أهل المقابر
وقد قصده أبو تمام إلى مصر ،كما قصده بعسسد ذلسسك إلسسى خراسسسان
في سنة ،220وهي السنة التي وضع فيها أبو تمام أو في التي تليها
كتاب "الحماسة" كما حققناه ول محل لذكره هنا.
344
ونحن نسوق أدلتنا على صحة ما ذهبنا إليسسه فسسي نفسسي أن يكسسون أبسسو
تمام قد نشأ بمصر أو جاءنا طفًل ،أو تكون منها طبيعته في الشسسعر،
أو يكون لها أثر في عبقريته:
-1المجمع عليه بل خلف أن الشاعر ولد في الشسسام ،ومسسا دام كسسذا
لقد قالت الطبيعة كلمتها في أصل نبوغه وعبقريته ،فإن الديب يولد
ول يصنع كما يقول النجليسسزي؛ وكسسل العلمسساء يعرفسسونه بالطسسائي! ول
يطعن في نسبه إل من ل يحقق وهسسو نفسسسه يبسساهي بطسسائيته ،وذلسسك
كالشرح على كلمة الطبيعة في أسسسباب نبسوغه الوراثيسسة؛ وقسسد تنقسسل
الرجل بين مصر والشام والعراق وخراسسسان وأرمينيسسا وغيرهسسا ،فمسسا
بلد أولى من بلد بأن يكون مثار عبقريته.
-2إن الشاعر إنما يتكسب من شعره يمدح مسن يهستز لسه أو يعطسي
دا من أهل مصسسر؛ فسسإن كسسان مسسدح فيهسسا عليه ،ولم يمدح أبو تمام أح ً
عبد الله بن طاهر فإنما إليه قصد وله جاء؛ وابن طاهر ليس مصرّيا،
وقد جاء إلى مصر ورجع منها قبسسل أن يحسسول عليسسه الحسسول ،فلسسو أن
حا كسسثيًرا
نشأة هذا الشاعر كانت بمصر وتأدبه كان فيها لصبنا له مد ً
في أعيانها وعلمائها؛ إذ هو متى قال الشعر ل يتكسب إل منه؛ وفسسي
ديوان الشسساعر هجسساء لبسسن الجلسسودي نظمسسه فسسي مصسسر ،ولكسسن ابسسن
الجلودي ليس مصرّيا بل هو قسسائد مسن قسسواد المسأمون ،وله محاربسة
الزط سنة ،205ثم أقدم بعد ذلك مصر ،ثسسم ولسسي عليهسسا فسسي سسسنة
214؛ فكل المصرية في شسسعر أبسسي تمسسام هسسي فسسي هجسسائه للشساعر
المصري يوسف السراج ،ولعلها في بعض مقاطيع أخرى من الغسسزل
أو الوصف.
-3ولد أبو تمام في سنة 188أو ،190ومن الثابت أنه كسسان بمصسسر
في سنة ،214حين نظم قصيدته الدالية والنونية في رثاء عمير بسسن
الوليد -وعمير هذا ليس مصرّيا ،بل هو مسسن خراسسسان ،وكسسان بمصسسر
عامًل لبي إسحاق المعتصم بن الرشيد فلو كسسان أبسسو تمسسام قسسد جسساء
إلى مصر طفًل كما يقال لكانت مدة قوله الشسسعر فيهسسا ل تقسسل عسسن
عشر سنوات ،مع أن كل ما نظمه وهسسو فيهسسا ل يبلسسغ عشسسر قصسسائد؛
وهذا ديوانه بين أيدينا وإليه وحده المرجع في الدللة على صاحبه.
-4روى المرزباني في "الموشح" عسسن العبسساس بسسن خالسسد السسبرمكي
قال :أول ما نبغ "أي قال الشعر" أبسسو تمسسام الطسسائي أتسساني بدمشسسق
يمدح محمد بن الجهم فكلمته فيه فأذن له؛ فسسدخل عليسسه وأنشسسده،
ثم خرج فأمر له بدراهم يسسسيرة ،ثسسم قسسال :إن عسساش هسسذا ليخرجسسن
شاعًرا.
345
فهذا نص على أن الشاعر لم يكن يومئذ إل في ابتسسداء الشسسعر ،ولسسم
يكن قد خرج شاعًرا بعد وكان شعره من الطبقسسة السستي يثسساب عليهسسا
"بدراهم يسيرة" .وأبو تمام بعد ذلك هو نفسه السسذي نسسثر عليسسه عبسسد
الله بن طاهر ألف دينسسار فسسترفع أن يمسسسها وتسسرك الخسسدم ينتهبونهسسا،
وكان ذلك سبًبا في تغير ابن طاهر عليه.
-5نقسسل ابسسن خلكسسان فسسي ترجمسسة ديسسك الجسسن الشسساعر الحمصسسي
المشهور ،عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قسسال :كنسست
سا عند ديك الجن" ،يعني بحمسسص" فسسدخل عليسسه حسسدث فأنشسسده جال ً
جا كبيًرا فيه كسسثيرشعًرا عمله ،فأخرج ديك الجن من تحت مصله در ً
من شعره ،فسلمه إليه وقال :يا فتى تكسب بهذا واستعن بسسه علسسى
قولك .فلما خرج سألته عنه فقال :هذا فتى من أهسسل جاسسسم ،يسسذكر
أنه من طيء ،يكنى أبسسا تمسسام ،واسسسمه حسسبيب بسسن أوس ،وفيسسه أدب
وذكاء وله قريحة وطبع .فهذا نص آخر على أن أبا تمسسام كسسان يسسومئذ
ما -وكان ل يزال يطلب الدب ،وقد أعانه أستاذه بنسسسخ حدًثا -أي غل ً
من قصائده يتخرج بها ويحذو عليها؛ فهو قد نشأ فسسي الشسسام وتسسأدب
فيها.
-6نظم أبو تمام قصيدته اللمية:
ب بحميا كأسها مقتل العذل أص ّ
يصف تقتير الرزق عليه بمصر وخيبسسة أملسسه السسذي أملسسه مسسن المسسال،
وفسسي هسسذه القصسسيدة يحسسن إلسسى الشسسام ويسسستقي لهسسا ويسسذكر أرض
البقاعين وقرى الجولن التي نشسسأ فيهسسا :ول يحسسن الشسساعر لرض إل
إذا كان فيها حبه أو شبابه وأدبه ،أما الطفولة فمنسسسية بآثارهسسا؛ إذ ل
دا ،وإنما الحنين لمسسا دا بعي ً
آثار لها في النفس متى شب المرء إل بعي ً
تتعلق به الغريزة المميزة.
-7في هذه القصيدة يقول أبو تمام يخاطب أحبابه:
عدتني عنكم مكرها غربة النوىلها وطر في أن تمر ول تحلى
والنوى في لغة الشاعر هي رحيله للتكسب بشعره؛ ولما رجع عوف
بن محلم الشيباني إلى وطنه بعد وفادته علسسى عبسسد اللسسه بسسن طسساهر
في خراسان؛ سئل عن حال فقال :رجعت من عند عبد اللسسه بسسالغنى
"والراحة من النوى"؛ ويؤيده قول أبي تمام في قصيدته تلك:
نأيت فل ماًل حويت ولم أقمفأمتع ،إذ فجعست بالمسال والهسل يعنسي
ها يطلب الكسب ل غير ،ول كسسسب للشسساعر إل مسسن أنه اغترب مكر ً
شعره ،فهو بنص كلمه عن نفسه قسسدم إلسسى مصسسر شسساعًرا يتكسسسب
ويتعرض للغني كما يصنع غيره.
346
-8في هذه القصيدة اللمية يقسسدم لنسسا أبسسو تمسسام -رحمسسه اللسسه -دليًل
يأكل الدلة ،كأنما ألهم من وحي الغيب أننا سنحتاج إلى هسذا السدليل
ما لندفع به عنه؛ فهو يحن إلى حيبب لسسه فسسي الشسسام ،ويقسسول :إن يو ً
غربة النوى التي وصفها:
أنت بعد هجر من حبيب فحركتصبابة ما أبقى الصدود من الوصل
ل
أخمسة أحوال مضت لمغيبه؟وشهران بل يومان ثكل من الثك ِ
يعني أنه قال هذا الشعر وقد مضى علسسى إقسسامته فسسي مصسسر خمسسس
قا ذلسسك العشسسق السسذي فيسسه سنوات ،وكان قد جسساء مسن الشسسام عاشس ً
"الصدود والوصل" ،والطفل ل يحب مثل هسسذا الحسسب ول يحسسن ذلسسك
الحنيسسن؛ فسسإذا كسسان الشسساعر قسسدم إلسسى مصسسر فسسي سسسنة ،210كمسسا
رجحناه ،وسنه بين 21و 23سنة فيكون قد نظم هذه القصيدة فسسي
سنة ،215وعمره يومئذ بين 26و 28سنة؛ فلسسو أن أبسسا تمسسام جسساء
من الشام طفًل صغيًرا فكيف للطفل أن يقول مثل هذا الشسسعر بعسسد
خمس سنوات؟ وما هجسسر الحسسبيب "وصسسبابة مسسا أبقسسى الصسسدود مسسن
الوصل"؟
-9مدح شاعرنا محمد بن حسان الضسسبي بقصسسيدة نونيسسة يسذكر فيهسسا
تنقله في البلد فقال فيها:
بالشام أهلي ،وبغداد الهوى ،وأنابالرقمتين ،وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعتحتى تشافه بي أقصى خراسان!
فأنت ترى أنه جعل أهله بالشام ،وجعسسل أصسسدقاءه بمصسسر؛ فلسسو أنسسه
كان قد نشأ بها لجعل بها أهله؛ إذ ل ينشأ إل مع أبيسسه وأمسسه ،والسسبيت
الثاني دليل منه هو على أنه لم ينسسزل بمصسسر مقيسسم ول متوطن ًسسا ،بسسل
متنقًل كما نزل بغيرها.
-10تقول كتب الدب في مدارس الحكومة :إن أبسا تمسام نقسل إلسسى
مصر صغيًرا فنشأ بها وقد بينا فساد ذلك ،ثم خرج إلى مقر الخلفسسة
فمدح المعتصم؛ وهذا غير صحيح؛ فإن أبا تمام خرج من مصسسر قبسسل
أن يدخلها المأمون في سنة ،216حيسسن جاءهسسا وقتسسل بهسسا عبسسدوس
الفهري؛ فلو كان الشاعر يومئذ لمدح المأمون ،وذكر هسسذه الواقعسسة،
والمعتصم ولي الخلفة سنة ،218وديوان أبي تمسسام يثبسست أنسسه فسسي
سنة ،217كان بالعراق ،وقد مدح المأمون بقصيدته الميمية ،وذكسسر
في مدحه وقعة الروم ،وهذه كانت في تلك السنة.
يخلص من كل ما تقدم أن أبسسا تمسسام ولسسد فسسي الشسام وتسسأدب فيهسسا،
وقدم إلى مصر كبيًرا يتكسب بالشعر ،فأقام بها بيسسن خمسسس سسسنين
شا بها بعد قتل عمير بن الوليد الذي قتل فسسي وست ،ولم يجد له عي ً
347
سنة 214؛ فإنه كان يعيش في كنفه ،وقد صرح في قصيدته النونيسسة
التي رثاه بها أنه يأمل من بعده في ابنه محمد.
فقدوم الشاعر إلى مصر كسان فسي سسنة 210أو حواليهسا ،وخروجسه
منها كان في سنة 215أو حواليها ،والله أعلم.
348
يكون خطأ ،ثم ما يعلو عن الصواب من الجادة والتقان ،وما ينحسسط
عن الخطأ من الساءة والتخليط؛ فهذا هو الفهم.
---------------
1نشرها حين المعركة بينه وبين الدكتور طسسه حسسسين حسسول كتسسابيه:
"رسسسائل الحسسزان" و"السسسحاب الحمسسر"؛ وللسسدكتور فيهمسسا وفسسي
أسلوبهما رأي.
وانظر كتابي" :المعركة تحت راية القرآن" .و"حياة الرافعي".
ويسمعها مرة ثانية بحسه أو لحسه ،فيرى أثر ما فهم ،ويسسديرها فسسي
ذوقه ليعرف كيف موقعها من الغسسرض السسذي وضسسعت لسسه ،فإنهسسا لسسم
توضع لتكون أصواًتا ،بل لتخلق من الصوات شيًئا؛ فهذا هسسو السسذوق،
وهو كما تراه بعد الفهم وناشئ عنسسه .ومثسسل السسستاذ طسسه حسسسين ل
يخفى عليه أن من يقول :إن الذوق في شيء إنما هو فهمه ،أو إنما
هو عن فهمه ،أو إنمسسا ينشسسأ عسسن فهمسسه ،فالعبسسارة فسسي بسساب المجسساز
واحدة ل تختلف.
ثم إن أستاذ الموسيقى وقد سمع القطعة مرتيسسن ،أو مسسرة كمرتيسسن
إن بلغ أن يكون له في كل أذن واحدة أذنان ،يسسستفتي ذوقسسه الفنسسي
ويحكم للقطعة أم عليها؛ فهذا هو أثر الذوق.
الن قد حكسسم السسستاذ وانتقسسد وجسسزم برأيسسه ،فنسسدب لسسه فلن يقسسول:
أخطأت وأسسأت وجهلسست وغفلسست ،أو تعصسسبت وحططست فسسي هسسوى
صاحب اللحن؛ فمن أين جاء هذا الخلف وكيف وقع هذا القول؟ بسسل
كيف ساغ للثاني أن يجهل الول ويرى غير رأيه ويحكم غيسسر حكمسسه،
إل إذا كان قد فهم غير فهمه فأنشأ له الفهم ذوًقا وأحدث له السسذوق
ما وجاءت من هذه المقدمات تلسسك النتيجسسة السستي نسسسميها النقسسد، حك ً
ومسسا هسسي فسسي الحقيقسسة إل السسذوق والفهسسم جميعًسسا ،فالسسذين يسسذوقون
الموسيقى ويطربون لها ول يفهمونها فقسسد فهموهسسا علسسى مقسسدار مسسا
استقر في نفوسهم من أساليب التطريب وما فيهم مسسن المطاوعسسة
لهذه العاطفة؛ أو ل تراهم يقولسون فسي أمثسال هسؤلء :إن لهسم آذاًنسا
موسيقية؟ فهذه الذن هي الفهسسم بعينسسه ،لنهسسا حاسسسة اجتمعسست مسسن
مران طويل ،وقد تقسوم فسي بعسض النساس علسى جهلسه بالموسسيقى
مقام علم برأسه.
ويقول الستاذ طه :إنه قد يقرأ كلمي ويفهمه ول يذوقه ،ولكن عدم
الذوق هنا هو الذوق؛ وليت شعري ما معنى قول المتنبي:
ومن يك ذا فم مر...
349
ولو كان السسستاذ وأمثسساله هسسم فسسي هسسذا القيسساس المسستر والكيلومسستر،
لوجب أل أجد من يذوق كلمي ويعجب به ويغسسالي فيسسه ويكسسون ذنب ًسسا
من ذنوبي عند الله بإسرافه في المغالة ،وأنا واجد لكل واحسسد مثسسل
الستاذ طه عشرة ومائة من غيره ،ولو خرج هسسو إلسسى العسسالم لسسرأى
قا وأضخم هامة وأبسسدع وسمع ،وفيهم من هم أعلى منه كعًبا وأمد عن ً
بديًعا وأبلغ وأزكى وأعلم إلى عدد من هذه الواوات.
وعجبسست للسسدكتور يريسسد أن ل يفهسسم مسسن عبسسارتي كمسسا يقسسول إل أن
"الذوق هو نفس الفهم ،فاللفظسسان يسسدلن علسسى معنسسى واحسسد ،وإذن
وإذن وإذن."..
فهل يرى إذا قلت له :رأيت القمر وفلنة ليلة كذا فكسسانت إنمسسا هسسي
دا فيقول لها" :وإذن" فليسا شيئين القمر -أني أقصد بهما معنى واح ً
مختلفيسسن وإنمسسا هسسو شسسيء واحسسد ،وإذن فكيسسف صسسار لهسسا وجسسه فسسي
السماء ووجه في الرض وبقيت مسسع ذلسسك امسسرأة مسسن النسسس؛ وإذن
فهذا كلم ل يفهم...
قال بعضهم إن "لو" تفتسسح عمسسل الشسسيطان ،يريسسد أنهسسا أداة التمنسسي،
والمذهب الجديد سيضم "إذن" إلى "لو" ثم ما هي الكلمة الثالثة يسسا
ترى؟
أنا -مع إعجابي بالدكتور الفاضل -أرى أنه مستهتر بأشسسياء ،وأن مسسن
خلقه أن ما ل يرضى عنه وما ل يفهمه "ليسا شيئين مختلفين" .فإذا
لم يكن من الفهم بد قال :إنه ل يقتنع ،فإذا ضايقته وضيقت عليه لم
يبق إل ما يقول النحاة فسسي "أي" السستي حيرهسسم إعرابهسسا وبناؤهسسا :أي
كذا خلقت...
وأنا وأمثالي إنما نحرص أشد الحرص على هذه اللغة؛ لنهسسا أسسساس
المة السلمية فل نرضسسى غل أن يكسون هسسذا السسساس ثابت ًسسا متين ًسسا ل
يزعزعه شيء ول يثلمه شيء ول يضعفه شيء؛ والدكتور وأمثسساله ل
يبالون أن تكون هذه المة كبيوت أمريكا المتحركة...
لسسست أنكسسر التجديسسد ،بسسل لعسسل السسدكتور يسسذكر مناقشسستي إيسساه فسسي
"الجريدة" وإصراره يومئذ أن ليس لحد أن يدخل فسسي اللغسسة كلمسسة،
وأن قول النسساس تنسزه ومتنسزه ونزهسة السسخ كلهسا منسا لكلم العسامي،
وتعلقه بنص ابن سيده فسسي ذلسسك ،واسسستخراجي لسسه نسسص ابسسن قتيبسسة
ما كثيًرا من استعمال العلماء ،ثم قوله أحسنت ،ولكن لو جئتني وكل ً
باللفظة في كلم المبرد والجاحظ وفلن وفلن ما اقتنعت.
دا ،وهو أن يقال مذهب قديم ومذهب جديد؛ فقسسد إنما أنكر شيًئا واح ً
وسسع اللسه علسى النسساس فيمسا علمسوا وفيمسا جهلسوا ،ولكسن أصسسحابنا
350
طا بعينه ،ول نذهب إل مسسذهًبا بعينسسه؛ لن كسسل يريدون أل نكتب إل نم ً
ذلك هو الجديد؛ فأيهما خير لنا ولهم وللذين سيخرجون تاريخهم مسسن
قبورنا :أن نعتد اللغة والدب كل ما اجتمع من قسديم وجديسد ونحكسم
هذه اللغة ونحفظها وندفع عنها ونجعل تجديدها كتجدد الحسناء فسسي
أثوابها وفي ألوانها دون تشويه ول مسخ ول مسسس الجسسسم الجميسسل،
أن تقول :هذه الشفة وهذا النف وهذا الموضع الممتلئ الخدل وهذا
الموضع الهضيم الناحسسل وتعسسال يسسا دكتسسور هسسات المبضسسع والمشسسرط
والمقص والمنشار والبرة والخيط وإذن...؟
لقد أذكر أني رأيت فسسي بعسسض مقسسالت السسستاذ طسسه حسسسين أو فسسي
ما أنه أقوى بعض ما يقرظ به الكتب أنه قال :إن القديم قد أثبت دائ ً
وأمتن وأصح؛ فهل رجل عن هذا الرأي أم ظهر فسسي الجديسسد مسسا هسسو
أقوى وأمتن وأصح؟ ثم يا أيها المل أفتوني ما هو هسسذا الجديسسد؟ أهسسو
ذاك الخيال الشارد المجنون ،أم تلك الشهوات المتوثبة المتلهفة ،أم
ذلك السلوب الفج المتسوخم ،أم العامية السقيمة الملحونة؛ أم هو
فسسي الحقيقسسة بيسسن رغبسسة فسسي النبسسوع قبسسل أن تتسسم الداة وتسسستحكم
الطريقة ،كما هو شأن فريق من الكتاب ،فيختصرون الطريق بكلمة
واحدة هي المذهب الجديد -وبين غربة في التعصب للداب الجنبية
كما هو شأن فريق آخر -وبين رغبة في الحط من قيمة بعض الناس
ورميهم بالجهل والسخف وأنه ل قيمة لما يجيئون به ،كسسل ذلسسك فسسي
تعبير علمي يصح أن يكون نظرية علمية ...وقبلهم قالها العرب فسسي
َ َ
ن{ طيُر اْلوِّلي َ ذا إ ِّل أ َ
سا ِ ن هَ َ
ذا إ ِ ْ مث ْ َ
ل هَ َ قل َْنا ِ
شاُء ل َ ُالقرآن الكريم} :ل َوْ ن َ َ
مسسا..فقد شاءوا فلم يقولوا؛ ولو أن المذهب الجديد فسر القسسرآن يو ً
لقال في معنى أساطير الولين إنهم أرادوا بهذا المذهب القديم...
ما ينصرون المسسذهب الجديسسد وليسسس ويقول الدكتور طه :إن هناك قو ً
لهم من اللغسسات الجنبيسسة وآدابهسسا حسسظ ،وحظهسسم مسسن اللغسسة العربيسسة
وآدابها موفور؛ ثم طلب رأيي في هؤلء وما أصسسل مسسذهبهم الجديسسد؛
فأقول :إني أعرف بعضهم ،وأعرف أن أدمغتهم ل يشسسبهها شسسيء إل
جلود بعض الكتسسب السستي ليسسس فيهسسا إل متسسن وشسسرح وحاشسسية :جلسسد
ملفوف على ورق ،وورق ينطوي على قواعد محفوظسسة ،وهسسم أفقسسر
الناس إلى الرأي؛ وهذه علة حبهم للساليب الجديسسدة القائمسسة علسسى
الترجمة ونقسسل الراء مسسن الغسسرب إلسسى الشسسرق ،وبسسالمعنى الصسسريح
المكشوف :من الدمغة المملوءة إلى الدمغة الفارغة ،وفيهم بعسسض
أذكياء ،ولكن ذكاءهم في حواسهم ،فإن لم يكسسن هسسذا فليقولسسوا هسسم
لماذا؟
351
ولسسو أنسسك سسسألت العنكبسسوت :مسسا هسسي الظبيسسة الحسسوارء العينسساء السستي
تطمعين فيها وتنصبين لها كل هذه الشراك والحبسسائل؟ لقسسالت لسسك:
مهًل حتى تقع فتراها! فإذا وقعت رأيتها ثمة ورأيتها ذبابة..
ولكن ماذا يقول السسدكتور فسسي السسستاذ المسسام الكسسبير الشسسيخ محمسسد
عبسسده؟ أكسسان يسسدعو إلسسى مسسذهب جديسسد فسسي اللغسسة والدب ويفتتسسن
بالروايسسات الغراميسسة وبأسسسلوب "إميسسل زول" فسسي روايتسسه المعروفسسة
وبمثل رواية "الجرسون".
إن كان الناس عند الدكتور من بعض الحجج فإن الشيخ وحسسده بأمسسة
كاملة ممن يعنيهم.
وأختتم هذه الكلمة بالشكر للستاذ طه حسين والثناء عليه ،ثم إنسسي
مسترسل في عملي ،وهذا عذري إليه.
352
المرأة والميراث
353
ول ريب أن حضرته ل يفهم الدين السسسلمي؛ لنسسه ليسسس مسسن أهلسسه،
فهو يقرنا على ذلك ،وهو بذلك يقرنا على أنه متطفل فسسي اقسستراحه؛
وإن الذي يقرأ في محاضرته قوله" :إن الطبقة الغنية في المة هسسي
التي تقرر ديانة المة "..يستيقن أنه ل يفهم دينسسا مسسن الديسسان ،وأنسسه
قصير النظر في أمور الجتماع وأبواب السياسة؛ وأن يمينه وشماله
وأمامه ووراءه إن هي إل جهات الزمام الذي ينقاد فيه؛ فل شخصسسية
له ،وإنما يتابع وينقاد للراء التي يترجم منها بل نقد ول تمييز.
إن ميراث البنت في الشسسريعة السسسلمية لسسم يقصسسد لسسذاته ،بسسل هسسو
مرتب على نظام الزواج فيها ،وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمسسع
لخراج نتيجة صحيحة من العملين مًعا ،فسسإذا وجسسب للمسسرأة أن تأخسسذ
من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها؛ وهذا الدين يقوم في
عا ويعسسدل بهسسا طباع ًسسا
أساسه على تربية أخلقية عالية ينشئ بها طبا ً
أخرى ،كما بيناه في مقالنا المنشور في "مقتطف" هذا الشهر؛ فهو
يربأ بالرجل أن يطمع في مال المرأة أو يكون عالة عليها؛ فمسسن ثسسم
أوجب عليه أن يمهرها وأن ينفق عليها وعلى أولدهسسا ،وأن يسسدع لهسسا
رأيهسسا وعملهسسا فسسي أموالهسسا ،ل تحسسد إرادتهسسا بعملسسه ول بأطمسساعه ول
بأهوائه؛ وكسسل ذلسسك ل يقصسسد منسسه إل أن ينشسسأ الرجسسل عسسامًل كاس سًبا
دا ،متهيًئا لمعسسالي المسسور ،فسسإن الخلق كمسسا هسسو مقسسرر يسسدعومعتم س ً
بعضها إلى بعض ،ويعين شيء منها على شيء يماثله ،ويسسدفع قويهسسا
ضعيفها ،ويأنف عاليها من سافلها؛ وقد قلنا إنسسه ل يجسسوز لمتكلسسم أن
يتكلم في حكمة الدين السلمي إل إذا كان قوي الخلق ،فإن مسسن ل
يكون الشيء في طبعه ل يفهمه إل فهم جدل ل فهم اقتناع.
للمرأة حق واجب في مال زوجها ،وليس للرجل مثل هذا الحق فسسي
مال زوجه؛ والسلم يحث على الزواج ،بل يفرضه؛ فهو بهذا يضسسيف
دا ،فإن هي سسساوت أخاهسسا فسسي إلى المرأة رجًل ويعطيها به ح ّ
قا جدي ً
الميراث مع هذه الميزة السستي انفسسردت بهسسا انعسسدمت المسسساواة فسسي
الحقيقة ،فتزيد وينقص؛ إذ لها حق الميراث وحق النفقسسة وليسسس لسسه
إل مثل حقها في الميراث إذا تساويا.
فإن قلت كما يقول سلمة موسى :إن في الحسسق أن تنفسسق المسسرأة
على الرجل وأن تدفع له المهر ثسسم تسسساويه فسسي الميسسراث ،قلنسسا :إذا
تقرر هذا وأصبح أصسًل يعمسسل عليسسه بطسسل زواج كسسل الفقيسسرات وهسسن
سواد النسوة؛ إذ ل يملكن ما يمهرن به ول ما ينفقن منسسه؛ وهسسذا مسسا
يتحاماه السلم؛ لنه فيه فسسساد الجتمسساع وضسسياع الجنسسسين جميعًسسا؛
ض بطسسبيعته إلسسى جعسسل السسزواج للسسساعة ولليسسوم وللسسوقت وهسسو مف س ٍ
354
المحدود ..وليجاد لقطاء الشوارع ،بدًل من أن يكسون السزواج للعمسر
وللواجب ولتربية الرجل على احتمال المسسؤولية الجتماعيسة بإيجساد
السرة وإنشائها والقيام عليها والسعي في مصالحها.
مسسن هنسسا وجسسب أن ينعكسسس القيسساس إذا أريسسد أن تسسستقيم النتيجسسة
الجتماعية التي هي في الغاية ل من حق الرجل ول من حق المسسرأة
بل من حق المة؛ وما نساء الشوارع ونساء المعامل في أوربسسا مسسن
نتائج ذلك النظام الذي جاء مقلوًبا ،فهسسن غلطسسات السسبيوت المتخربسسة
والمسسسؤولية المتهدمسسة ،وهسسن الواجبسسات السستي ألقاهسسا الرجسسال عسسن
أنفسهم فوقعت حيث وقعت!
وإذا انزاحت مسؤولية المسسرأة عسسن الرجسسل انزاحسست عنسسه مسسسؤولية
النسل ،فأصبح لنفسه ل لمته؛ ولو عم هذا المسسسخ الجتمسساع أسسسرع
فيه الهرم وأتى عليه الضعف ،وأصبحت الحكومات هي التي تستولد
الناس على الطريقة التي تستنتج بها البهائم ،وقسسد بسسدأ بعسسض كتسساب
أوربا يدعون حكوماتهم إلى هذا الذي ابتلوا به ول يدرون سسسببه ومسسا
فا.
سببه إل ما بينا آن ً
ثم إن هناك حكمة سامية ،وهي أن المرأة ل تسسدع نصسسف حقهسسا فسسي
الميراث لخيها يفضلها به -بعد الصل الذي نبهنا إليه -إل لتعين بهسسذا
العمل فسسي البنسساء الجتمسساعي؛ إذ تسسترك مسسا تسستركه علسسى أنسسه لمسسرأة
أخرى ،هي زوج أخيها؛ فتكون قد أعانت أخاهسسا علسسى القيسسام بسسواجبه
للمة ،وأسدت للمة عمًل آخر أسمى منسسه بتيسسسير زواج امسسرأة مسسن
النساء.
فأنت ترى أن مسألة الميسسراث هسسذه متغلغلسسة فسسي مسسسائل كسسثيرة ل
منفردة بنفسسسها ،وأنهسسا أحكسسم الحكمسسة إذا أريسسد بالرجسسل رجسسل أمتسسه
وبالمرأة امرأة أمتها ،فأما إذا أريد رجل نفسه وامرأة نفسها ،وتقرر
أن الجتمسساع فسسي نفسسسه حماقسسة وأن الحكومسسة خرافسسة ،وأن المسسة
ضللة ،فحينئذ ل تنقلب آية الميراث وحدها بل تنقلب الحقيقة.
ومما نعجب لسسه أن سسسلمة موسسسى يتكلسسم فسسي محاضسسرته كسسأن كسسل
الوالدين ذوو مال وعقار ،فنصف المة على هذا محروم نصف حقسسه
وكأنه ل يعرف أن السواد العظم من النسساس ل يسسترك مسسا يسسورث ،ل
على الربع ول على النصف؛ وأن كثيًرا ممن يموتسسون عسسن ميسسراث ل
ما من بعدهم ،ثم يسسذهب فسسي السسديون ،إذ ل تركسسة يحيا ميراثهم إل أيا ً
مع ديسسن ،وكسسثيرون ل يسسمن ميراثهسسم ول يغنسسي ،فلسسم تبسسق إل فئات
معينسسة مسسن كسسل أمسسة ل يجسسوز أن تنقلسسب مسسن أجلهسسا تلسسك الحكمسسة
355
الجتماعية التي هي من حظ المومة كلها لقيام بعض الخلق عليهسسا
كما بسطناه.
ومما تشمئز له النفوس الكريمة قول المترجم فسسي محاضسسرته :فلسسو
كانت الفتيان يرثن مثل إخوتهن الذكور ،لكان "فسسي ثروتهسسن" إغسسراء
للشبان على الزواج ..
إن الدين السلمي ل يعرف مثل هذا السفاف في الخلق ول يقسسره،
ما ويسسوجب علسسى كسسل رجسسل أن يحمسسل قسسسطه مسسن بل هو يهدمه هد ً
قا إن كره أو رضي ،ولعمري ،إن تلك الكلمسسة المسؤولية ما دام مطي ً
وحدها من كاتبها لهي أدل من اسم المحل على بضاعة المحل...
كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة
كلمة مؤمنة في رد "كلمة كافرة":1
تلقيت كتاًبا هذه نسخته:
أكتب إليك متعجًل بعد أن قرأت "كلمة كافرة" في "كوكب الشسرق"
الصادر مساء الجمعة 27من أكتوبر؛ كتبها متصدر من نوع قولهم:
حبذا المارة ولو على الحجارة ...وسمى نفسه "السيد ،فإن صسسدق
فيما كتب صدق في هذه التسمية.
طعن القرآن وكفر بفصاحته ،وفضل على آيسسة مسسن كلم اللسسه جملسسة
مسسن أوضسساع العسسرب ،فعقسسد فصسسله بعنسسوان "العسسثرات" علسسى ذلسسك
ن الية عثرة من عثرات الكتسساب يصسسححها ويقسسول فيهسسا التفضيل ،كأ ّ
قوله في غلط الجرائد والناشئين في الكتابة؛ وبرقع وجهه وجبسسن أن
يستعلن ،فأعلن بزندقته أنه حديث في الضللة.
غلى الدم في رأسي حين رأيت الكاتب يلج في تفضيل قول العرب:
"القتل أنفسسى للقتسسل" علسسى قسسول اللسسه -تعسسالى -فسسي كتسسابه الحكيسسم:
ة{ ]البقسسرة ،[179 :فسسذكرت هسسذه اليسسة حي َسسا ٌص َ صسسا ِق َ م فِسسي ال ْ ِ }وَل َك ُس ْ
َ
م{ ]النعسسام[121 : ن إ ِل َسسى أوْل ِي َسسائ ِهِ ْحسسو َ ن ل َُيو ُ طي َ ن ال ّ
ش سَيا ِ القائلسسة} :وَإ ِ ّ
ض{ ض سه ُ ْ َ س َوال ْ ِ وهذه اليسسةَ } :
م إ ِلسسى ب َعْس ٍ حي ب َعْ ُ ن ي ُسسو ِ
جس ّ لنس ِ نا ِ طي َ
شسَيا ِ
]النعام [112 :ثم هممت بالكتابة فاعترضني ذكرك ،فألقيت القلسسم؛
لتناوله بعد ذلك وأكتب به إليك.
ففي عنقك أمانة المسلمين جميًعا لتكتبن في الرد على هذه الكلمة
الكافرة لظهار وجه العجاز في اليسسة الكريمسسة ،وأيسسن يكسسون موقسسع
الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقسسة إن تركسست تأخسسذ مأخسسذها فسسي
ةل قسسوا فِت ْن َس ً
الناس؛ جعلت السسبر فسساجًرا ،وزادت الفسساجر فجسسوًراَ} :وات ّ ُ
ة{ ]النفال.[25 : ص ً خا ّم َ من ْك ُ ْ
موا ِ ن ظ َل َ ُ ن ال ّ ِ
ذي َ صيب َ ّتُ ِ
---------------
356
1البلغ .نوفمسسسسبر سسسسسنة ،1923وانظسسسسر ص " 174-172حيسسسساة
الرافعي".
صا ،يمليها على الحسسق السسذي أعلسسم واعلم أنه ل عذر لك .أقولها مخل ً
إيمانك به ،وتفانيك في إقراره والمدافعة عنه والذود عسسن آيسساته؛ ثسسم
اعلم أنك ملجأ يعتصسسم بسسه المؤمنسسون حيسسن تناوشسسهم ذئاب الزندقسسة
الدبية التي جعلت همها أن تلغ ولوغها في البيان القرآني.
ولست أزيدك ،فإن موقفي هذا موقف المطالب بحقه وحق أصحابه
من المؤمنين وأذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسسسلم" :مسسن
مسسا بلجسسام مسسن نسسار" أو كمسسا
ما فكتمه جاء يسسوم القيامسسة ملج ً سئل عل ً
قال..
والسلم عليكم ورحمة الله.
م.م.ش
قرأت هذا الكتاب فاقشسسعر جسسسمي لوعيسسد النسسبي صسسلى اللسسه عليسسه
وسسسلم ،وجعلسست أردد الحسسديث الشسسريف أسسستكثر منسسه وأمل نفسسسي
ي كسسل مسسرة ،فسسإذا هسسو أبلسسغ تهكسسم بالعلمسساء
بمعسسانيه ،وإنسسه ليكسسثر ف س ّ
المتجسساهلين ،والجهلء المتعسسالمين؛ وإذا هسسو يؤخسسذ مسسن ظسساهره أن
مسسا،العالم الذي يكتم علمه النافع عن الناس يجيء يوم القيامسسة ملج ً
ويؤخذ من باطنه أن الجاهل الذي يبث جهله الضار في الناس يجيء
عا ..أي :فهذا وهذا كلهما من حمير جهنم! ما مبرذ ًيوم القيامة ملج ً
والتمست عدد "الكوكب" الذي فيه المقال وقرأته ،ولم أكن أصسسدق
أن في العالم أديبا مميًزا يضع نفسه هذا الموضع من التصسسفح علسسى
كلم الله وأساء الدب في وضع آية منه بين عسسثرات الكتسساب ،فض سًل
عن أن يسمو لتفضيل كلمة من كلم العرب علسسى اليسسة ،فض سًل عسسن
أن يلج في هذا التفضيل ،فضًل عسسن أن يتهسسوس فسسي هسسذه اللجاجسسة؛
ولكن هذا قد كان ،ول حول ول قوة إل بالله!
ولعمري وعمر أبيسسك أيهسسا القسسارئ ،لسسو أن كاتب ًسسا ذهسسب فأكسسل فخلسسط
فتضلع فنام فاستثقل فحلم ..أنسسه يتكلسسم فسسي تفضسسيل كلمسسة العسسرب
فاعلى تلك الية ،واجتهد جهده ،وهو نائم ذاهب الوعي فلم يأل تخري ً
واستطالة ،وأخذ عقله البسساطن يكنسسس دمسساغه ويخسسرج منسسه "الزبالسسة
العقلية" ليلقيها في طريق النسيان أو في طريق الشيطان -لما جاء
في شأوه بأسخف ول أبسسرد مسسن مقالسسة "السسسيد" فسسسواء أوقسسع هسسذا
التفضيل من جهة الهذيان والتخريف كما فعل كسساتب النسسوم ،أم وقسسع
من جهة الخلط والحبط ما فعل كاتب الكوكب -فهذا من هذا ،طباق
سخافة بسخافة..
357
نعم إن مقالة الكوكب أفضل من مقالة الكاتب الحالم ...ولكن قليل
الزيت في الزجاجة التي أهديت لجحا ل يعد زيًتا ما دام هسسذا القليسسل
يطفو على ملء الزجاجة من ..من البول!
ولقد تنبأ القاضي الباقلني قبل مئات السنين بمقالسسة الكسسوكب هسسذه
فأسفلها الرد بقوله:
"فسسإن اشسستبه علسسى متسسأدب أو متشسساعر أو ناشسسئ أو مرم سد ٍ فصسساحة
القرآن وموقع بلغته وعجيب براعته فما عليك منه ،إنمسسا يخسسبر عسسن
نفسه ،ويدل على عجزه ،ويبين عن جهلسسه ،ويصسسرح بسسسخافة فهمسسه
وركاكة عقله" ما علينا...
يقول كاتب الكوكب بالنص:
ما في معنى القصسساص" :القتسسل أنفسسى للقتسسل" ،ثسسم قالت العرب قدي ً
م فِسسي أقبل القرآن الكريم علسسى آثسسار العسسرب "هكسسذا" فقسسال} :وَل َك ُس ْ
َ ُ
ن{ ]البقسسرة ،[179 :وقسسد قسسو َ ب ل َعَل ّك ُ ْ
م ت َت ّ ُ حَياة ٌ َيا أوِْلي الل َْبا ِ
ص َ
صا ِ ال ْ ِ
ق َ
مضت سسسنة العلمسساء مسن أسساطين البيسان أن يعقسسدوا الموازنسسة بيسسن
مقالة العرب هذه وبين الية الحكيمة أيتهما أشبه بالفصاحة "هكذا"،
ثم يخلصون منها إلى تقديم اليسسة والبيسسان القرآنسسي ...ثسسم قسسال :مسن
رأي كسساتب هسسذه الكلمسسة تقسسديم الكلمسسة العربيسسة علسسى اليسسة الغسسراء،
"اللهم غفًرا" على ثلسسج الصسسدر بإعجسساز القسسرآن "كلمسسة للوقايسسة مسسن
النيابة ...وإل فماذا بقي مسسن العجسساز وقسسد عجسسزت اليسسة؟ ِزه ِزه يسسا
رجل"...
ثم قال :إن فيم تقدم به الكلمة العربية على الية الحكيمسسة "-اللهسسم
غفًرا" -مزايا ثلًثسا :أولسسى هسسذه المزايسسا الثلث ،هسذا اليجساز السساحر
فيها؛ ذلك أن" :ألقتل أنفسسى للقتسسل" ثلث كلمسات ل أكسسثر ،أمسا اليسسة
دا
دا وأسسسبق ميل ً فإنها سبع كلمات "كذا" ،وعلى تلك فهي أقسسدم عه س ً
من آية التنزيل "تأمل" حاشا كلم اللسسه القسسديم ،واليجسساز ميسسزة أيسسة
ميزة؛ الميزة الثانية للكلمة الستقلل الكتابي وقد التعاقد بينها وبين
شيء آخر سابق عليها ،حتى أن المتمثل بهسسا المستشسسهد يبتسسدئ بهسسا
ما ويختتمسسه فسسي غيسسر مزيسسد ول فضسسل ،فل يتوقسسف ول حسسديًثا مسسستت ً
يستعين بغيرها ،أما الية فإنهسسا منسسسوقة مسسع مسسا قبلهسسا بسسالواو ،فهسسي
متعاقدة مترابطة معه ،ل يتمثل بهسسا المتمثسسل حسستى يسسستعين بشسسيء
سواها ،وليس الذي يعتمد على غيره فل يستقل كالذي يعتمسسد علسسى
نفسه فيستقل؛ الميزة الثالثة أن الكلمة ليست متصسسلة فسسي آخرتهسسا
بفضل من القول تغني عنه ،على حين تتصل بالية بما تغني عنه من
َ ُ
ب{ ]البقسسرة[179 : القول .ويعتد كالفضل وهو كلمتا }َيا أوِْلي الل ْب َسسا ِ
358
ن{ ]البقرة ،[179 :وإن كان ل زيسسادة فسسي القسسرآن ول قو َ و}ل َعَل ّك ُ ْ
م ت َت ّ ُ
فضول.
سا جاء بالفصل الذي عقده المسسام السسسيوطي فسسي ثم قال :إن مدر ً
كتسسابه "التقسسان" لتفضسسيل اليسسة علسسى الكلمسسة وفيسسه قرابسسة خمسسسة
حجة؛ قال :إنها انحطت بعد أن رماها بنظسسره العسسالي إلسسى وعشرين ُ
أربع" :أما الباقيات فمن نسسسج النتحسسال والتزيسسد" ،قسسال :وأولهسسا أن
ظا ،والكاتب يرى الية" :سبع كلمات في تحديد ودقة"، الية أوجز لف ً
قال :إذا لقسسد بطلسست حجسسة اليجسساز فسسي اليسسة "اللهسسم غف سًرا" ،قسسال:
والثانية" :أن في الكلمة العربية تكسسراًرا لكلمسسة القتسسل سسسلمت اليسسة
منه ،ورد الكاتب أن هذا التكرار" :يتحلل طلوة ويقطر رقة" ،قال":
وهذا فمسسي فيسسه طعسسم العسسسل" ،قلنسسا :وعليسسه السسذباب يسسا سسسيدنا"...
والثالثة :أن في الية ذكًرا للقصاص بلفظه على حين ل تذكر الكلمة
صسسا؛ ودفسسع الكسساتب هسسذا بسسأن
إل القتل وحسسده ،وليسسس كسسل قتسسل قصا ً
الكلمة انطوت على قتلين أحدهما ينفي صاحبه ،فذاك هو القصاص؛
قال" :إذن فالكلمة والية في قصد القصاص يلتقيان فرسي رهان"؛
والرابعة :أن القصسساص فسسي اليسسة أعسسم يشسسمل القتسسل وغيسسره .وأقسسر
الكاتب أن للية فضًل على الكلمة مسسن هسسذه الناحيسسة ،ولكسسن الكلمسسة
حكمة ل شريعة ،وهي من قضاء الجاهلية ،فليس عليهسسا أن تسسبين مسسا
لم يعرفه العرب ولم يخلق بعد ،قال" :إذن فليست الكلمة مقصسسرة
عن بيان ،متبلدة عن إحسان".
هذا كل مقاله بحروفه بعد تخليصه من الركاكة والحشو وما ل طائل
تحته ،ونحن نستغفر الله ونسسستعينه ونقسسول قولنسسا ،ولكنسسا نقسسدم بيسسن
يدي ذلك مسألة ،فمن أين للكاتب أن كلمسسة" :القتسسل أنفسسى للقتسسل"
مما صحت نسبته إلى عرب الجاهليسسة ،وكيسسف لسسه أن يثبسست إسسسنادها
إليهم وأن يوثق هذا السسسناد حسستى يسسستقيم قسسوله :إن القسسرآن أقبسسل
على آثار العرب؟...
أنا أقرر أن هذه الكلمسسة مولسسدة وضسسعت بعسسد نسسزول القسسرآن الكريسسم
وأخذت من الية ،والتوليد بّين فيها ،وأثر الصنعة ظاهر عليها؛ فعلسسى
الكاتب أن يدفع هذا بما يثبت أنها مما صح نقله عن الجاهليسسة؛ ولقسسد
جاء أبو تمام بأبدع وأبلغ من هذه الكلمة في قوله:
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكمإن الدم المغبر يحرسه الدم
"الدم يحرسه الدم" هذه هي الصناعة وهذه هي البلغة ل تلك ،ومسسع
هذا فكلمة الشاعر مولدة من الية ،يدل عليها البيت كله؛ وكسسأن أبسسا
359
تمام لم يكن سمع قولهم" :القتسسل أنفسسى للقتسسل" ،وأنسسا مسسستيقن أن
الكلمة لم تكن وضعت إلى يومئذ*.
ولو أن متمثًل أراد أن يتمثل بقول أبي تمام فسسانتزع منسسه هسسذا المثسسل
ما من الحتم أن يقسسال لسسه :كل يسسا هسسذا الدم يحرسه الدم" ،أيكون حت ً
فإن البيت سبع كلمات فل يصح انتزاع المثل منه ول بسسد مسسن قسسراءة
البيت بمصراعيه كما يقول كاتب الكوكب في اليسسة الكريمسسة ليزعسسم
أنها ل تقابل الكلمة العربية في اليجاز؟
إن الذي في معاني الية القرآنية مما ينظر إلى معنى قسسولهم القتسسل
أنفى للقتل كلمتان ليس غير ،وهما "القصاص ،حياة"؛ والمقابلة في
المعاني المتمثلة إنما تكون باللفاظ التي تسسؤدي هسسذه المعسساني دون
ما تعلقت به أو تعلق بها مما يصل المعنى بغيره أو يصسسل غيسسره بسسه؛
إذ الموازنة بين معنيين ل تكون إل في صناعة تركيبهما ،ويخيسسل إلسسي
أن الكاتب يريد أن يقول إن في باقي الية الكريمة لغو وحشو ،فهو
حميلة على الكلمتين :القصاص حيساة ،يريسد أن يقولهسا ،ولكنسه غسص
بها ،وإل فلماذا يلج في أنه ل بد في التمثل ،أي ل بسسد فسسي المقابلسسة،
من رد الية بألفاظها جميًعا؟
فإذا قيل :إنه ل يجوز أن يتغير العراب فسسي اليسسة ،ويجسسب أن يكسسون
عا منها على التلوة ،قلنا :فإن ما يقابل الكلمة منها حينئذ المثل منتز ً
هو هسسذا" ،فسسي القصسساص حيسساة" ،وجملتهسا اثنسسا عشسسر حرفًسسا ،مسسع أن
الكلمة أربعة عشر ،فاليجاز عند المقابلة هو في الية دون الكلمة.
َ ُ
ن{ ]البقسسرة ،[179 :لسسو قسسو َ ب ل َعَل ّك ُ ْ
م ت َت ّ ُ وأما قوله تعالى} :أوِْلي الل َْبا ِ
كان الكاتب من أولي اللباب لفهمها وعرف موقعهسسا وحكمتهسسا ،وأن
إعجاز الية ل يتم إل بها ،إذ أريد أن تكون معجزة زمنية كما سنشسسير
إليه ،ولكن أني له وهو من الفن البياني على هذا البعسسد السسسحيق ،ل
يعلم أن آيات القرآن الكريم كالزمن في نسقها :ما فيسسه مسسن شسسيء
يظهره إل ومن ورائه سر يحققه.
ثم إن اليجاز في الكلمة العربية ليسسس مسسن "اليجسساز السسساحر" كمسسا
يصفه الكاتب ،بل هو عندنا من اليجسساز السسساقط؛ وليسسس مسسن قبيسسل
إيجاز الية الكريمة ول يتعلق به فضسًل عسسن أن يشسسبهه؛ إذ ل بسسد فسسي
فهم صيغة التفضيل من تقدير المفضل عليه ،فيكون المعنى "القتل
أكثر نفًيا للقتل من كذا" ،فما هو هذا "الكذا" أيها الكاتب المتعثر؟
أليس تصور معنى العبارة وإحضاره في الذهن قد أسقطها ونزل بها
إلى الكلم السسسوقي المبتسسذل وأوقسسع فيهسسا الختلل؟ وهسسل كسسانت إل
فسسا ،حسستى إذا
صناعة شسسعرية خياليسسة ملفقسسة كمسسا أومأنسسا إلسسى ذلسسك آن ً
360
أجريتها على منهجها من العربية رأيتها في طريقة هذا الكلم العربي
المريكاني كقول القائل" :الفسسرح أعظسسم مسسن السسترح"" ،الحيسساة هسسي
التي تعطى للحياة"...؟
بهذا الرد الموجز بطلت الميسسزات الثلث الستي زعمهسا الكساتب لتلسك
الكلمة ،وإن الكلمة نفسها لتبرأ إلى الله من أن تكون لها على الية
ميزة واحدة فضًل عن ثلثة.
ضا" أن الكلمة وثيقة السناد إلى عرب الجاهليسسة وأنهسسا ولنفرض "فر ً
من بيانهم ،فما الذي فيها؟
-1إنها تشبه قول من يقول لك :إن قتلت خصمك لسسم يقتلسسك .وهسسل
هذا إل هذا؟
وهل هو إل بلغة من الهذيان؟
-2إنها تشبه أن تكون لغة قسساطع طريسسق عسسارم يتسسوثب علسسى الحلل
والحرام ل يخرج لشأنه إل مقرًرا في نفسه أنه إما قاتسسل أو مقتسسول،
ولسسذلك تكسسرر فيهسسا القتسسل علسسى طرفيهسسا ،فهسسو مسسن أشسسنع التكسسرار
وأفظعه.
-3إن فيها الجهل والظلسسم والهمجيسسة ،إذ كسسان مسسن شسسأن العسسرب أل
تسلم القبيلة العزيزة قاتًل منها ،بل تحميه وتمنعسسه ،فتنقلسسب القبيلسسة
كلها قاتلة بهسسذه العصسسبية؛ فمسسن ثسسم ل ينفسسي عسسار القتسسل عسسن قبيلسسة
المقتول إل الحرب والستئصال قتًل قتًل وأكل الحيسساة للحيسساة ،فهسسذا
من معاني الكلمة :أي القتل أنفى لعار القتل ،فل قصسساص ول قضسساء
كما يزعم الكاتب.
-4إن القتل في هذه الكلمة ل يمكن أن يخصص بمعنى القصاص إل
إذا خصصسسته اليسسة فيجيسسء مقترن ًسسا بهسسا ،فهسسو مفتقسسر إليهسسا فسسي هسسذا
المعنى ،وهي تلبسه النسانية كما تسسرى ،ولسسن يسسدخله العقسسل إل مسن
معانيها؛ وهذا وحده إعجاز في الية وعجز من الكلمة.
وقبل أن نبين وجوه العجاز في الية الكريمسسة ونسسستخرج أسسسرارها،
نقول لهذا الطفيلي :إنه ليس كل مسسن اسسستطاع أن يطي ّسسر فسسي الجسسو
ة في قصبة في خيط جاز له أن يقول فسي تفضسسيل ورقتسه علسسى ورق ً
منطاد زبلين ،وأن فيما تتقدم به على المنطاد الكريسسم ميسسزات ثلث ًسسا:
الذيل ،والورق الملون ،والخيط...
ة{ ]البقرة.[179 : حَيا ٌ
ص َ
صا ِ
ق َ م ِفي ال ْ ِ
يقول الله تعالى} :وَل َك ُ ْ
م{ ]البقرة ،[179 :وهذا قيد يجعل هذه الية -1بدأ الية بقوله }وَل َك ُ ْ
خاصة بالنسانية المؤمنة التي تطلب كمالهسا فسي اليمسان ،وتلتمسس
في كمالها نظام النفس ،وتقرر نظام النفس بنظام الحياة؛ فسسإذا لسسم
361
قا في الناس فل حياة في القصسساص ،بسسل تصسسلح حينئذ يكن هذا متحق ً
كلمة الهمجية :القتل أنفى للقتل ،أي اقتلوا أعداءكم ول تدعوا منهم
دا ،فهذا هو الذي يبقيكم أحياء وينفي عنكم القتل؛ فالية الكريمسسة أح ً
بدللسسة كلمتهسسا الولسسى موجهسسة إلسسى النسسسانية العاليسسة ،لتسسوجه هسسذه
النسانية في بعض معانيها إلى حقيقة من حقائق الحياة.
ص{ ]البقرة [179 :ولم يقل في القتل ،فقيسسده صا ِ -2قالِ} :في ال ْ ِ
ق َ
بهذه الصيغة التي تدل على أنه جزاء ومؤاخذة ،فل يمكسسن أن يكسسون
منه المبادأة بالعدوان ،ول أن يكون منه ما يخرج عن قسسدر المجسسازاة
قل أو كثر.
-3تفيد هذه الكلمة "القصاص" بصيغتها "صيغة المفاعلة" ما يشسسعر
بوجوب التحقيق وتمكين القاتسسل مسسن المنازعسسة والسسدفاع ،وأل يكسسون
قصاص إل باستحقاق وعدل؛ ولذا لم يأت بالكلمة من اقتص مع أنها
أكسسثر اسسستعماًل؛ لن القتصسساص شسسريعة الفسسرد ،والقصسساص شسسريعة
المجتمع.
-4من إعجاز لفظة القصاص هذه أن اللسه -تعسالى -سسمى بهسا قتسل
القاتل ،فلم يسمه قتًل كما فعلت الكلمة العربيسسة؛ لن أحسسد القتليسسن
هو جريمة واعتداء ،فنزه -سبحانه -العدل الشرعي حتى عسسن شسسبهه
بلفظ الجريمة؛ وهذا منتهى السمو الدبي في التعبير.
-5ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى
أنه سيأتي في عصور النسانية العالمة المتحضرة عصر ل يسسرى فيسسه
قتل القاتل بجنايته إل شسّرا مسسن قتسسل المقتسسول؛ لن المقتسسول يهلسسك
بأسباب كثيرة مختلفة ،على حين أن أخذ القاتل لقتله ليسسس فيسسه إل
نيسسة قتلسسه؛ فعسسبرت اليسسة باللغسسة السستي تلئم هسسذا العصسسر القسسانوني
الفلسفي ،وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها
في التساع لكل ما يراد بها من فلسفة العقوبة.
-6ومن إعجاز اللفظة أنها كذلك تحمل كسسل ضسسروب القصسساص مسسن
القتل فما دونه ،وعجيب أن تكون بهذا الطلق مسسع تقييسسدها بسسالقيود
التي مرت بك؛ فهي بذلك لغة شريعة إلهية على الحقيقة ،في حيسسن
أن كلمة القتل في المثل العربي تنطق في صراحة أنها لغة الغريزة
البشسسرية بأقبسسح معانيهسسا؛ وبسسذلك كسسان تكرارهسسا فسسي المثسسل كتكسسرار
الغلطة؛ فالية بلفظة القصاص تضعك أمام اللوهية بعدلها وكمالهسسا،
والمثل بلفظة القتل يضعك أمام البشرية بنقصها وظلمها.
-7ول تنس أن التعبير بالقصاص تعبير يدع النسسسانية محلهسا إذا هسسي
تخلصت من وحشيتها الولى وجاهليتها القديمسسة ،فيشسسمل القصسساص
362
أخذ الدية والعفو وغيرهمسسا؛ أمسسا المثسسل فليسسس فيسسه إل حالسسة واحسسدة
بعينها كأنه وحش ليس من طبعه إل أن يفترس.
-8جاءت لفظة القصاص معرفة بأداة التعريف ،لتدل على أنه مقيسسد
بقيوده الكثيرة؛ إذ هو في الحقيقة قوة من قسسوى التسسدمير النسسسانية
فل تصلح النسانية بغير تقييدها.
-9جاءت كلمسسة "حيسساة" منونسسة ،لتسسدل علسسى أن ههنسسا ليسسست بعينهسسا
مقيدة باصطلح معين؛ فقد يكون في القصاص حياة اجتماعية ،وقسسد
يكون فيه حياة سياسية ،وقسسد تكسون الحيسساة أدبيسسة ،وقسسد تعظسسم فسسي
بعض الحوال عن أن تكون حياة.
-10إن لفظ "حيسساة" هسسو فسسي حقيقتسسه الفلسسسفية أعسسم مسسن التعسسبير
"بنفي القتل"؛ لن نفي القتل إنما هو حيساة واحسدة ،أي تسرك السروح
في الجسم ،فل يحتمل شيًئا من المعاني السامية ،وليسسس فيسسه غيسسر
هذا المعنسسى الطسسبيعي السسساذج؛ وتعسسبير الكلمسسة العربيسسة عسسن الحيسساة
"بنفي القتل" تعبير غليظ عامي يدل على جهل مطبق ل محسسل فيسسه
لعلم ول تفكير ،كالذي يقول لك :إن الحرارة هي نفي البرودة.
-11جعل نتيجة القتل حياة تعبير من أعجب مسسا فسسي الشسسعر يسسسمو
إلى الغاية من الخيال ،ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خياًل ،بل يتحول
إلى تعبير علمي يسسمو إلسسى الغايسة مسن الدقسة ،كسأنه يقسول بلسسسان
العلم :في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة.
-12فإذا تأملت ما تقدم وأنعمسست فيسسه تحققسست أن اليسسة الكريمسسة ل
َ ُ
ب{ ]البقسسرة: يتم إعجازها إل بما تمت به من قوله} :ي َسسا أوْل ِسسي الل ْب َسسا ِ
[179فهذا نداء عجيب يسجد له من يفهمه؛ إذ هو موجه للعرب في
ظاهره على قدر ما بلغوا من معاني اللب ،ولكنه في حقيقته مسسوجه
لقامة البرهان على طائفة من فلسفة القانون والجتماع ،هم هؤلء
ذا فسسي السستركيب العصسسبي ،أو وراثسسة الذين يرون إجرام المجرم شذو ً
محتومة ،أو حالة نفسية قاهرة ،إلى ما يجري هذا المجرى؛ فمن ثسسم
يرون أن ل عقاب على جريمة؛ لن المجرم عندهم مريض لسسه حكسسم
المرضى؛ وهذه فلسفة تحملها الدمغة والكتب ،وهي تحسسول القلسسب
إلى مصلحة الفرد وتصرفه عن مصلحة المجتمسع ،فنبههسم اللسسه إلسسى
ألبابهم دون عقولهم ،كأنه يقرر لهم أن حقيقة العلم ليسسست بالعقسسل
والرأي ،بل هي قبل ذلك باللب والبصيرة ،وفلسفة اللسسب هسسذه هسسي
آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا.
ن{ ]البقسسرة،[179 : قسسو َ -13وانتهت اليسسة بقسسوله تعسسالى} :ل َعَل ّك ُس ْ
م ت َت ّ ُ
وهي كلمة مسسن لغسسة كسسل زمسسن ،ومعناهسسا فسسي زمننسسا نحسسن :يسسا أولسسي
363
اللباب ،إنه برهان الحياة في حكمة القصسساص تسسسوقه لكسسم ،لعلكسسم
تتقون على الحياة الجتماعيسسة عاقبسسة خلفسسه فسساجعلوا وجهتكسسم إلسسى
وقاية المجتمع ل إلى وقاية الفرد.
وبعد فإذا كان في الية الكريمة -على ما رأيسست -ثلث عشسسرة وجهًسسا
من وجوه البيان المعجز ،فمعنى ذلك من ناحية أخرى أنها أسسسقطت
الكلمة العربية ثلث عشرة مرة.
364
"القتل أنفى للقتل" ليست مترجمة
365
الحكم مما تتوارد عليه العقول النسسسانية النابغسسة؛ إذ كسسانت الطبيعسسة
البشسسرية كأنهسسا تمليسسه؛ غيسسر أن العبسسارة ليسسست فسسي كلم الجاهليسسة
القديمة ول الحديثة ،وألفاظ المصرية غير ألفاظ العربيسسة ،فلسسم يبسسق
إل توارد الخواطر ،والله أعلم.
366
"القتل أنفى للقتل" ليست جاهلية
وبعسسد كلمتنسسا تلسسك عسسن الترجمسسة نشسسر أديسسب فسسي البلغ أن الكلمسسة
جاهلية ،فتعقبناه بهذا التعليق:
أثبت الستاذ عبد العزيز الزهري فيمسسا نشسسره فسسي "البلغ" أن هسسذه
الكلمة عربية في دعواه ،واحتسج لسذلك بحجسج ،أقواهسا زعمسه" :أنهسا
وردت بين ثنايا عهسسد القضسساء السسذي بعسسث بسسه سسسيدنا عمسسر إلسسى أبسسي
موسى الشعري؛ ول ندري أين وجد الكسساتب كلمسسة" :القتسسل" ،فضسًل
عن" :القتل أنفى للقتل" -في ذلك العهد المشسهور المحفسسوظ ،وقسسد
رواه الجاحظ في "البيان والتبيين" ،وجاء به المسسبرد فسسي "الكامسسل"؛
ونقله ابن قتيبة في "عيون الخبار" .وأورده ابن عبد ربه في "العقد
الفريد" ،وساقه القاضسسي البسساقلني فسسي "العجسساز"؛ وفسسي كسسل هسسذه
الروايات الموثقة لم تأت الكلمة في قول عمر ،بل ل محل لهسسا فسسي
سياقه ،وإنما جاء قوله" :فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإل وجهسست
عليه القضاء ،فإن ذلك أنفى للشك".
أما سائر حجج الكاتب فل وزن لها فسسي بسساب الروايسسة التاريخيسسة وقسسد
أصبح عاليها سافلها كما رأيت.
والذي أنا واثق منسسه أن الكلمسسة لسسم تعسسرف فسسي العربيسسة إلسسى أواخسسر
القرن الثالث من الهجرة ،وهذا المام الجاحظ يقول في موضع مسسن
كتابه "البيان والتبيين" ،في شرح قول علي -كرم الله وجهه" :-بقية
دا ،ما نصه" :ووجد النسساس ذلسسك بالعيسسان دا وأكثر ول ً السيف أنمى عد ً
للذي صار إليه ولده من نهك السيف وكثرة الذرِء وكرم النجل؛ قسسال
َ ُ
ب{ حي َسساة ٌ ي َسسا أوْل ِسسي الل ْب َسسا ِ
ص َ
صسسا ِ
ق َم فِسسي ال ْ ِالله تبارك وتعسسالى} :وَل َك ُس ْ
]البقرة [179 :وقال بعض الحكماء" :قتل البعض إحياء للجميع".
ولم يزد الجاحظ على هذا ،ولسسو كسسانت الكلمسسة معروفسسة يسسومئذ لمسسا
صسسا وهسسي أوجسسز وأعسسذب ممسسا فاتته كما هو صنيعه فسسي كتبسسه* ،خصو ً
نسبه لبعض الحكماء؛ وهذه العبسسارة الخيسسرة "قتسسل البعسسض "...هسسي
التي زعم الرازي في تفسيره أنها للعرب ...فل عبرة في هذا البساب
بكلم المفسسسرين ول المتسسأخرين مسسن علمسساء البلغسسة ،وإنمسسا الشسسأن
للتحقيق التاريخي.
ما منهم ابسسن أبسسي ونص الجاحظ في كتاب "حجج النبوة" على أن قو ً
العوجاء ،وإسحاق بن الموت ،والنعمان بسسن المنسسذر" :أشسسباههم مسسن
الرجسساس السسذين اسسستبدلوا بسسالعز ذًل ،وباليمسسان كفسسًرا ،وبالسسسعادة
شسسقوة ،وبالحجسسة شسسبهة ،كسسانوا يصسسنعون الثسسار ،ويولسسدون الخبسسار،
367
ويبثونها في المصار ،ويطعنون بها علسسى القسسرآن"؛ فهسسذا عنسسدنا مسسن
ذاك.
وإن لم ينهض الدليل القاطع على أن الكلمة مترجمة عن الفارسسسية
بظهور أصلها في تلك اللغة ورجوعه إلى ما قبل السسلم ،فهسسي -ول
ريب -مما وضع على طريقة ابن الرواندي الزنديق الملحد الذي كان
في منتصف القرن الثالث وألف في الطعن على القرآن وقسسال فسسي
كتابه" :الزمردة"" :إنا نجد في كلم أكثم بن صيفي شيًئا أحسن من
ك ال ْك َوْث ََر{ فكأن واضع الكلمة يقول على هذه الطريقسسة: }إ ِّنا أ َع ْط َي َْنا َ
ة{حي َسسا ٌ
ص َ
صسسا ِ م فِسسي ال ْ ِ
ق َ "إنا نجد في كلم العرب شيًئا أبلغ من }وَل َك ُ ْ
]البقرة.[179 :
وهؤلء المتطرفون على القرآن الكريم إنما يريدون ما يصنعونه من
مثل هذه الكلمة أن يوجدوا للعامة وأشباههم من الحسسداث والغسسرار
وأهل الزيغ والضعفاء في العلم -سبيًل إلى القول في نقض العجاز،
غا إلى التهمسسة فسي أن القسسرآن تنزيسل؛ والخطسأ فسي مثسل هسسذا ومسا ً
يتجاوز معنى الخطأ في البيان إلى معنى الكفر في الدين ،وذلك مسسا
يرمون إليه؛ وهذه بعينها هي طريقة المبشرين اليوم ،فكسسأن إبليسسس
من عهد أولئك الزنادقة إلى عهد المبشرين لم يستطع أن يتغير ،ول
دا ...
أن يكون ...أن يكون مجد ً
---------------
* أورد الجاحظ الية الكريمة في الجزء الثاني من كتسسابه "الحيسسوان"
صفحة 31ثم قال :إلى هذا المعنى رجع قسسول الحكيسسم الول :بعسسض
القتل إحياء للجميع .وهذا إلى ما تقدم هو نص على أن الجسساحظ لسسم
يسسسمع هسسذه الكلمسسة ولسسم يعرفهسسا ،وقسسد تسسوفي الجسساحظ سسسنة 255
للهجرة ،وألف كتاب "الحيوان" في آخسسر عمسسره ،وهسسو مفلسسوج ،فلسسم
تكن الكلمة معروفة إلى ذلك العهد ،ل في الرواية ول في الترجمسسة،
مع انتهاء زمن الرواية واستبحار الترجمة عن الفارسية.
تم الجزء الثالث من وحي القلم ،وبه تم الكتاب
368
الفهرس العام
369