You are on page 1of 2

‫الدور العلوي!

‏‬

‫أنا سيدة في الثلثينيات من العمر‪,‬‏ جامعية ومثقفة إلي حد ما‪,‬‏ أحب القراءة والكتابة‪ ..‬وتصورت في فترة من‬
‫الفترات أنني سوف أصبح كاتبة‪,‬‏ لكن الحياة غيرت اتجاهي بعد أن تزوجت وانشغلت بحياتي العائلية‪.‬‬
‫ولقد قرأت الرسالة التي نشرت في هذا الباب منذ بضعه أسابيع بعنوان الب الرسمي للفتاة التي ضمها جدها‬
‫وجدتها إليهما منذ طفولتها فنشأت مرتبطة بهما وبعيدة عن أبيها وأمها‪,‬‏ ورفضت العودة للحياة بينهما‬
‫وشجعها الجدان علي ذلك‪,‬‏ إلي أن بلغت سن الزواج وتوقعت من أبيها الرسمي أن يسهم في نفقات زواجها‬
‫بقدر معقول‪,‬‏ فإذا بالب يرفض المساهمة في ذلك نهائيا لنها ابتعدت عن أبويها وكان منطقه في ذلك أنه‬
‫مادام جداها قد شجعاها علي عدم العودة إليهما فليتكفل دونه بنفقات زواجها ولقد أثارت هذه الرسالة‬
‫أشجاني وأريد أن أروي لها قصتي لعلها تجد فيها بعض ما يرشدها إلي سواء السبيل‪ ..‬فلقد جئت إلي الحياة‬
‫لبوين رزقا قبلي بأربع فتيات‪,‬‏ وتركزت كل آمالهما في أن يجيء المولود الخامس ولدا‪,‬‏ فاذا بي أولد بنتا‬
‫فاستقبلني بالحزن والكتئاب‪ ..‬ولننا كنا في ذلك الوقت نعيش في بيت من دورين باحدي مدن القناة‪,‬‏ ويقيم‬
‫في الدور العلوي من البيت عمي وخالتي وهما زوجان رزقا ببنت غير مكتملة النمو العقلي‪,‬‏ فلقد عرضا علي‬
‫أبي وأمي أن يضماني إليهما وأنا طفلة وليدة ويتكفل بتربيتي وتنشئتي دونهما‪,‬‏ لكي يحل لبي وأمي مشكلة‬
‫طفلتهما الخامسة من ناحية‪,‬‏ ولنهما‪,‬‏ كما أدركت فيما بعد ـ أرادا أن يربياني ويتكفل بي فأصبح أختا لبنتهما‬
‫المسكينة وأرعاها حين أكبر وأتحمل مسئوليتها من بعدهما‪.‬‬
‫وهكذا وجدت نفسي بين أب وأم وأخت مسكينة ينمو جسمها ول ينمو معه عقلها‪ ..‬ويقيم تحتنا عمي وخالتي‬
‫وبنات عمي وخالتي الربع‪,‬‏ ومازلت أذكر من ذكريات طفولتي حين كانت تسألني بعض السيدات اللتي يزرن‬
‫السرة بالطابق العلوي‪ ..‬كيف حال ماما؟‪ ..‬فأتعجب لماذا تسألني عن أمي وهي تجلس إلي جوارها!‏ وبالرغم‬
‫من ذلك فلقد كان هناك شيء غامض ل أدري كنهه يجذبني إلي الطابق الرضي الذي يقيم به عمي وخالتي‬
‫وبناتهما وأشعر بحنين عجيب إليهم جميعا‪,‬‏ ومضت بي العوام والتحقت بالمدرسة ولم ألتفت كثيرا لختلف‬
‫اسم الب في أوراقي الرسمية عن اسمه في الحياة‪,‬‏ فلقد قيل لي ان اسمه في الورق هو السم الرسمي‪,‬‏ وان‬
‫اسمه في الحياة هو اسم الشهرة‪,‬‏ فأحببت اسم الشهرة أكثر مما أحببت السم الرسمي‪,‬‏ إلي أن بلغت سن‬
‫الصبا وبدأت أشعر بتغير غير مفهوم في معاملة أمي لي‪ ..‬وتفاقم هذا التغير حتي بدأت أشعر بعدم حبها لي‪,‬‏‬
‫ولنني لم أكن أدرك دوافع هذا التغير من جانبها تجاهي فلقد كرهتها لمعاملتها السيئة لي‪,‬‏ وأحببت أبي كل‬
‫الحب الذي يمكن أن يتسع له قلب فتاة مثلي‪,‬‏ لنه لم يتغير تجاهي بعد أن كبرت وظل يغمرني بحبه وعطفه‬
‫إلي النهاية‪,‬‏ وخلل ذلك كانت الدنيا قد فرقت بيننا وبين أسرة عمي وخالتي وبناتهما الربع وانتقلنا نحن‬
‫للقامة في القاهرة‪,‬‏ وتخرجت في كليتي وارتبطت بمن زختارني واختارته‪,‬‏ وبدأنا الستعداد للزواج فإذا بأبي‬
‫يصر علي أن يستأذن عمي وخالتي في زواجي وأن يحصل أول علي موافقتهما قبل أن يعلن قبوله‪,‬‏ وتساءلت‬
‫عن ضرورة ذلك‪,‬‏ فعرفت الحقيقة التي خفيت عني كل هذه السنين وهي أن هذا العم وهذه الخالة هما أبواي‬
‫الحقيقيان‪,‬‏ وان هؤلء الفتيات الربع هن أخواتي‪,‬‏ أما هذه الفتاة المسكينة التي أعيش معها فهي ابنة عمي‬
‫وابنة خالتي‪,‬‏ وأدركت في هذه اللحظة فقط سر تغير مشاعر من كنت أظنها أمي تجاهي بعد أن كبرت وصرت‬
‫فتاة في بداية سن الشباب‪ ..‬فلقد كانت الحسرة تنهش قلبها الحزين وهي تري ابنتها الحقيقية تنمو جسما‬
‫وعقلها ليتجاوز عقل طفلة عمرها خمس سنوات‪,‬‏ في حين استوت الفتاة الخري التي تكفلت بها شابة تجذب‬
‫البصار‪,‬‏ ويشيد بها الجيران‪,‬‏ وانفجر بركان الغضب في قلبي تجاه أبي وأمي الحقيقيين‪ ..‬كيف تخليا عني‬
‫وتركاني لغيرهما حتي ولو كان هذا الغير هما عمي وخالتي؟‪,‬‏ ولماذا كرهاني وأنا طفلة وليدة ول ذنب لي في‬
‫مجيئي للحياة بعد أربع فتيات؟‪ ..‬وراح أبي وأمي الحقيقيان يحاولن بكل جهدهما أن يبررا لي ماحدث‬
‫ويؤكدان لي أنهما مظلومان مع عمي وخالتي لنهما كانا في حاجة لبنة طبيعية بعد أن رزئا بابنتهما‬
‫المسكينة‪,‬‏ وانهما اغتصباني منهما باللحاح وبالحراج والضغط النفسي عليهما‪,‬‏ ولم أصدق هذا التبرير ولم‬
‫أقتنع به واستمر الشرخ في داخلي لفترة طويلة حتي كرهت نفسي‪,‬‏ وظل هذا الشرخ يفسد علي حياتي لفترة‬
‫طويلة إلي أن تزوجت وتكفل بنفقات زواجي بل وبشقتي كذلك من تكفل من قبل بتربيتي وتنشئتي وهو أبي‬
‫بالتربية وعمي بالصلة الرسمية‪,‬‏ وانشغلت بحياتي العائلية وأسرتي الجديدة عن ذكريات الماضي وأحزانه‪..‬‬
‫ولهذا فإني أقول لهذه الفتاة التي ابتعدت عن أبويها ورفضت العودة إليهما وفضلت الحياة بين جديها علي‬
‫الحياة في بيت أبيها وتلوم أباها لرفضه القيام بأي دور في زواجها‪ ..‬أقول لها لماذا لم تبحثي عن هذا الدور‬
‫قبل الن‪ ..‬ولماذا لم تقدر احتياج أبويها إليها كما تقدر الن احتياجها إلي أن يقوم والدها بأي دور في‬
‫زواجها؟‪ ..‬انك أيتها الفتاة لن تدركي عمق حزنهما لموقفك منهما إلحين تصبحين أما وتعرفين معني‬
‫المومة‪ ..‬ولقد كان الفضل لجديك مهما يكن حبهما لك أليجعل انتماءك الول إليهما وليس لبويك‪,‬‏ أما‬
‫مسألة زواجك فإن من واجب جدك أن يتكفل به دون أن يزعج الب الرسمي بذلك مادام قد شجعك من البداية‬
‫علي مفارقته والبعد عنه‪,‬‏ ولكي يكمل المشوار الذي بدأه معك وهو القادر علي ذلك‪,‬‏ أم تراه يريد أن يجني‬
‫العسل بغير أن يدفع الثمن؟‪ ..‬لقد استأثر بك علي غير رغبة أبويك حتي ولو كانا قد رضيا في البداية‬
‫بحضانته لك لنشغالهما في العمل‪,‬‏ لنه حين سمحت لهما الظروف باستردادك شجعك علي عدم العودة‬
‫إليهما‪ ..‬ولم يقدر احتياجهما إليك‪.‬‬
‫وفي النهاية فاني أناشد كل الباء وكل المهات أليتخلوا عن أبنائهم لغيرهم مهما تكن أسبابهم لذلك‪,‬‏ ومهما‬
‫يكن هؤلء الغير منهم‪,‬‏ لنه لشيء يعوض البناء عن صحبة البوين ورعايتهما وحبهما لبنائهما والسلم‪.‬‬

‫»»ولكاتبة هذه الرسالة أقول««‬


‫مهما تكن دوافع البوين للتخلي عن أحد أطفالهما للغير حتي ولو كان أقرب الناس إليهما‪,‬‏ ومهما تكن ظروف‬
‫الحياة المادية الفضل التي يقدمها هؤلء الغير للطفل‪,‬‏ فإنه ليغفر لبويه أبدا حين يدرك حقائق الحياة‬
‫تخليهما عنه لغيرهما‪,‬‏ ول يخفف شيء مادي قدمته له حياته الجديدة من مرارة احساسه بالنبذ العاطفي من‬
‫جانب أبويه‪,‬‏ وبأنه لم يكن مرغوبا فيه لديهما‪.‬‬
‫لهذا لم أعجب ياسيدتي حين انفجر بركان الغضب الكامن في أعماقك علي أبويك حين اكتشفت الحقيقة التي‬
‫خفيت عنك سنين طوال‪,‬‏ كما لم أعجب كذلك لعدم اقتناعك بدفاعهما المتهافت عن نفسيهما ومحاولتهما‬
‫ليهامك بأنهما كانا مغلوبين علي أمرهما مع عمك وخالتك اللذين اغتصباك منهما بالكراه المعنوي‪.‬‬
‫فل شيء حقا يمكن أن يقنع عقل البنة أو البن بأنه شيء يمكن التنازل عنه للغير بمثل هذه المبررات‬
‫الواهية‪,‬‏ ول شيء كذلك في الحياة كلها يمكن أن يعوضه عن احساسه الثمين بأنه ثمرة القلب بالنسبة لبيه‬
‫وأمه وانهما علي استعداد للتفكير مجرد التفكير في نبذه أو التخلي عنه‪,‬‏ ولعلي لهذا السبب قد أدركت حين‬
‫قرأت رسالة الب الرسمي أن بعض أسباب رفض كاتبتها للعودة إلي أحضان أبويها حين سمحت لهما‬
‫ظروفهما باستردادها من جديها‪,‬‏ ليرجع فقط إلي اعتيادها الحياة بين جديها منذ نعومة أظافرها‪ ..‬ول فقط إلي‬
‫استنامتها إلي تدليلهما لها وحنانهما عليها مما قد ليتوافر لها بنفس القدر الزائد في بيت أبويها ووسط‬
‫اخوتها الخرين‪,‬‏ وانما يرجع أيضا إلي رغبة عقلها الباطن في معاقبة أبويها علي تخليهما عنها في طفولتها‬
‫المبكرة لجديها‪,‬‏ وهي رغبة قد لتدركها هي نفسها‪,‬‏ لكن ذلك لينفي وجودها ول تأثيرها الغامض علي موقفها‬
‫من أبويها بعد أن شبت عن الطوق‪,‬‏ فنحن نعرف أن العقل الباطن تترسب فيه الخبرات المؤلمة التي يؤلمنا‬
‫تذكرها‪,‬‏ ونرغب في نسيانها والتخلص منها‪,‬‏ وهذه الخبرات قد يخيل إلينا بالفعل أننا قد نسيناها إلي أن نفاجأ‬
‫بها تطل علينا بأعناقها من جديد وتدفعنا في بعض الحيان إلي مواقف وسلوكيات لتتضح لنا نحن أنفسنا‬
‫دوافعها ومبرراتها المنطقية‪,‬‏ فإذا استرجعنا بعض ذكرياتها البعيدة وحاولنا الربط بين أجزائها المتناثرة‬
‫وتحليلها تحليل منطقيا‪,‬‏ قد تتكشف لنا بعض الدوافع التي مالت بنا لتخاذ هذه المواقف غير المبررة لنا أو‬
‫للخرين في حينها‪ .‬وفي هذا النطاق قد اعتبر كذلك نفور هذه الفتاة من القامة بين أبويها واحساسها بالغربة‬
‫النفسية بينها وبين اخوتها كما ذكرت في رسالتها نوعا من رد الفعل الل ارادي لنبذهما المبكر لها في‬
‫الطفولة بنبذ عاطفي مماثل لهما وهي في سن الشباب‪,‬‏ وكل ذلك من تداعيات هذه الرغبة الكامنة في عقلها‬
‫الباطن لمعاقبتهما معنويا علي تلك الجريمة التي ليغتفرها كما قلت طفل لبويه‪.‬‬
‫علي أي حال ياسيدتي فإن النسان حين يروي قصة حياته للخرين كما فعلت في رسالتك هذه فلبد له أن‬
‫يجد فيها مايسعده أن يتذكره وما يؤلمه أيضا أن يتذكره‪,‬‏ وأسعد الناس هم من حظوا في حياتهم بطفولة‬
‫سعيدة هيأتهم للتفاعل مع الحياة علي نحو سليم‪ ..‬وأسعد الناس كذلك من يستطيعون أن يقولوا ماقالته‬
‫الروائية النجليزية الشهيرة أجاثا كريستي في مقدمة مذكراتها‪:‬‏ لقد تذكرت ما أردت أن أتذكره وغمست قلمي‬
‫في مغطس سعيد ليخرج منه بحفنة من الذكريات المحلة بطعم السكر!‏‪ ..‬بمعني أنها قد تذكرت مايسعدها‬
‫تذكره ونسيت كل مايؤلمها أن تسترجعه فعسي أن تجعلي من حياة أطفالك كلها ترنيمة جميلة لبهجة الحياة‬
‫يسعدهم حين يسترجعون ملمحها وهم كبار أن يتذكروا كل تفاصيلها الجميلة فل يجدون فيها إلكل مايزيدهم‬
‫رضا عن أبويهم وحياتهم بين أحضانهما حتي خرجوا إلي الحياة أشخاصا أسوياء فهذا هو أفضل مايقدمه‬
‫أبوان لطفالهما‪ ..‬وهذا هو أفضل مايقدمه كل أبوين للحياة بوجه عام‪..‬‬

You might also like