Professional Documents
Culture Documents
محمد الروكي
يمتاز األستاذ عالل الفاسي ( )1رحمه هللا -في مجال عطائه الشعري -بعمق شاعريته وصدقها،
وطول نفسه الشعري ،يدل على ذلك ويصدقه :كثرة شعره وغزارته ،واستمرار إنتاجه من صباه
إلى آخر حياته.
والمتأمل في شعر عالل – على اختالف أبنيته ومعانيه ومضامينه – يجد انه من حيث المضمون ال
يخرج عن المجال الديني والسياسي واالجتماعي إال قليال ،وتبعا ً لذلك فإنه من حيث الشكل ال يكاد
يجد فيه أثرا ً للجمال الفني ورونق الشعر وبهائه ،إال في قصائد معظمها – أو كلها –من قبيل ما خرج
عن شعره الديني والسياسي واالجتماعي ،وسبب ذلك :أن الرجل لم يستخدم شعره لذات الشعر ،ولم
يجعل منتهى شاعريته أن تخدم الجمال الفني وتبدع فيه ،بل إنه جعل غايته فيه خدمة المبدإ الذي
يؤمن به ،والفكرة التي يعتقد صوابها ،والمعنى الذي ينقدح في قبله وعقله.
فهو إذا شاعر المبدإ ،و شاعر الفكرة ،وشاعر المضمون ،يهمه أن يبلغ غايته – في شعره – بعبارة
واضحة مباشرة ،يدركها ويعيها الجميع ،ويستجيب لها الكثير ،وبعبارة جامعة :إنه شاعر رسالة.
إن العالم الحقيقي الذي يرث سر النبوة وتركتها ،هو الذي يجاهد بعلمه ،ويسهم به في إصالح
المجتمع وبنائه على أساس قيم اإلسالم ومبادئه وفضائله ومكارمه ،باذالً في ذلك فكره ووقته وماله
ونفسه ،وكذلك كان األستاذ عالل ،مجاهدا ً بعلمه على جبهات متعددة ،وأشكال مختلفة ،بنضاله
السياسي ،وإصالحه االجتماعي ،وتدريسه ،وتأليفه ،وخطابته ،وشعره.
فالشعر – إذا -جبهة من جبهات جهاده العلمي ،وأداة من األدوات التي اعتمدها في أداء رسالة العالم،
ومن ثم لم يهتم بمظاهر الجمال الفني ،والرونق األدبي ،إال ما جاء من ذلك عفوا وسجية ،وكأنه
أحس ذلك ،واستعد له منذ طفولته حين قال في إحدى قصائده المبكرة)2(:
وما أنا ذو الشعر الذي طار صيته
وردده من ال يزال مناغيا
فآتي بالسحر الحالل تحديا
ً
وانظم من شعري عقودا غواليا
ولكنني طفل تسيل دموعه
فينظمها للقارئين قوافيا
لقد كان الشعر أول وسيلة سلكها عالل الفاسي في طريقه الجهادي والحركي والنضالي ،وكان الشعر
أول وسيلة اشتهر بها في مجتمعه ،وبين قومه ،شابا يحب اإلصالح والتغيير والبناء والتجديد لوطنه
وأمته ،واستمر يعتمد هذه الوسيلة إلى آخر حياته...خمسون عاما ،إذ كانت مملوءة بالعطاء الشعري
الذي وقفه على خدمة دينه ووطنه وأمته.
ومنذ أن فتح عينيه في الدنيا وجد نفسه في مجتمع يعبث به االستعمار ،وينعم بخيراته ،ويستنزف
دماء أبنائه ويستعبدهم ،فأدرك خطورة الوضع ،ومرارة الواقع ،فأعد نفسه وجندها لخوض المعركة
وأداء الرسالة ،وكانت صرخته األولى هي تلك القصيدة التي بث فيها لوعته وتحسره على أمته
المنكودة ،وأمله في تحريرها من سلطة االستعمار ،واستعداده إلنقاذها بما يملك من نظر بعيد ،ونفس
ال تقبل الضيم ،وال ترضى الظلم.
يقول ( )3في مطلع هذه القصيدة وهو حينئذ ابن سبع عشرة سنة:
ولما كان الشباب هو البديل المرتقب ،والمادة الصالحة لحمل راية الجهاد ،والمعول عليه في الشدائد
والصعاب ،راح الشاعر عالل بشحذ عزائمهم ،وينهض هممهم ،ويذكي فيهم روح الجهاد ،ويعدهم
ليوم الكريهة بالتكوين العلمي والثقافي من جهة ،وبالتحميس العاطفي من جهة ثانية.
يقول في قصيدة أخرى مبكرة يخاطب بها الشباب وهو دون العشرين من عمره)5(:
كل صعب على الشباب يهون
هكذا همة الرجال تكون
قدم في الثرى وفوق الثريا
همة قدرها هناك مكين
قد حسبناهم رجاال فكانوا
ولهم في الحياة مغزى ثمين
مثلوا ما مضى لهم من فخار
ليرى ما أتاه دهر خؤون
ليرى كيف ضاع عزم وعز
وعرى بعده فتور وهون
وفي سياق هذه الروح الحماسية التي يزرعها في الشباب ،ويذكرهم بجهاد اآلباء وقوتهم وجرأتهم
على األعداد فيقول )6(:
أين ضاعت عزائم ونفوس
أين ضاعت معارف وفنون
أين آباؤنا وأين حماهم
أين ساحاتهم وأين الحصون
أين من دوخوا الفرنج ودالت
لهم الهند عن رضى والصين
لتسل عنهم الفرنجة تخبر
ك إذا اشتدت الحروب الزبون
ثم يمضي في قصيدته مخاطبا الشباب)7(:
يا شـبـاب البالد أحييتمونا
فلنا فيكم رجاء متين
قد بعثتم رجاءنا فأديموا
سيركم واعملوا وال تستكينوا
يا شباب البالد فيكم أحيي
همما علقت عليها الظنون
يا شباب البالد فيكم أحيي
كل شهم بما يفيد يدين
ويقول في صرخة أخرى حماسية مبكرة يبث فيها توجهاته النضالية ،وطموحه الجهادي ،معوال فيها
على الشباب ،معبرا فيها عن عقيدته التي يجاهد من أجلها ومبدئه الذي ال يتزحزح عنه ،وهو يومها
ابن سبع عشرة سنة)8(:
ولي أمة غصبت حقها
سأخدمها بسنا الخدمات
وأنفخ في نفسها نهضة
تروق على سائر النهضات
وألقي على نشئها نظرة
ترقي البنين وتعلي البنات
فتبلغ ما أبتغيه لها
وما يرتجيه جميع الحماة
فلي مبدأ سوف أخدمه
وأبلغه رغم أنف العداة
وليس علي إذا غضبوا
وكانوا الوشاة وأردى الوشاة
سيكفيني هللا شرهم
وهل مثلهم يرد العزمات
وإني على مبدئي سائر
فإما حياة وإما ممات
وفعالً ،فقد ظل عالل الفاسي سائرا ً على مبدئه ،مستمسكا ً بعقيدته ومدافعا ً عنها ،مجاهداًُ في سبيل
دينه إلى آخر حياته ،لم يغير من ذلك ولم يبدل ،ولم تؤثر فيه التهديدات واإلغراءات ،يصدق هذه
االستمرارية والثبات على المبدأ قصائده وصرخاته التي جادت بها قريحته في آخر حياته.
من ذلك قوله في قصيدته التي نظمها قبل وفاته بمحو عام)9(:
بني العرب الكرام أال رجوعا
عن الطغيان والنظم الشديدة
كفى استبدادكم في الحكم نهجا
على ما سنت الدول العتيدة
على نهج اليمين بما لديه
من التأييد للفكر البليدة
وفي نهج اليسار لقد قبلتم
جحودا منه واخترتم جموده
أال عودوا إلى اإلسالم إنا
نراه حل أزمتنا المبيدة
نجدد أمرنا منه ونحيي
معالمه المنيرة والمشيدة
فمنه نعيد لإلنسان طرا
كرامته وعزته المريدة
ونبني منه حكما مستقيما
على أسس منظمة جهيدة
ديمقراطية اإلسالم أسمى
حكومات بما التزمت عهوده
يراقبها الضمير وروح شعب
عليها في تصرفها شهيدة
فال ترضى بغير العدل حكما
توطد من شرائعه قيوده
وليس لها سوى تدبير عيش
وحفظ مصالح الشعب األكيدة
وصون الدين والدنيا جميعا
وحفظ كياننا بيد حديدة
بني قومي نصحتكم هلموا
إلى اإلسالم والتزموا بنوده
وجدوا في نضالكم تجدوا
حياتكم كما بدأت سعيدة
فانظر إلى هذه الصرخة التي أسمعها قومه ،وهو في آخر عهده بالدنيا ،وقارنها بصرخاته األولى
المبكرة التي دوى بها في مجتمعه وهو فتى ابن سبع عشرة سنة ،تجد أنها متكاملة متناغمة ،ينظمها
نسق واحد ،وعقد واحد ،ويستوعبها وعاء واحد ،ومعدن واحد أصيل.
لقد شب عالل وتربى على اإليمان بالمبدإ والثبات عليه ،وربى الشباب على الثبات والصبر ،وظل
في شعره يدعو إلى ذلك.
من ذلك مثال قوله في قصيدته التي قالها وهو ابن 23سنة)10(.
ثق يا بالدي أني ما أزال على
ما كان عندي من عزم وإيقان
أنا األبي الذي ال يستكين إلى
ضيم وال يختشي من كيد إنسان
ما أن تلين قناتي عند معضلة
وال يضعضع ركني عند بهتان
أنا الوفي لشعبي والمدافع عن
قومي بكل يد عندي وعرفان
ال يحسب القوم أن النفي يرجعني
عن مبدإ حل في روحي وجسماني
أو أن عزمي يهوى من مؤامرة
قـــد دبرت من فرنسي وإسباني
ما النفي ما السجن بل ما الموت في وطن
مـــازلت أرعاه إخالصا ً ويرعاني
وطدت نفسي على ما كان من زمن
فلست أخشى على عزمي وإيماني
وبنفس هذه الثقة والثبات والرسوخ على المبدإ يخاطب قومه وأبناء وطنه ،وهو ابن 28سنة في
قصيدة أخرى قائال)11(:
ويا وطني إن صرت عنك مغربا
فحبك في قلبي يقيم على المدى
لقيت بك اآلالم لكنني على
هواك مقام مخلص لك في الفدا
وحسبي هناءا ً أن أكون معذبا
لتنعم بالعيش الهنيء وتسعدا
وال يفوته في هذه القصيدة أن يذكر أبناء قومه بما تحملوه من أمانة ،وأنه متأكد من ثباتهم على مبدإ،
وله يقين وثقة باهلل أنه سيحقق آماله.
ولي ثقة في الشعب البد أنه
سيعمل للمبدإ الذي قد تقلدا
سيبقى على ما قد رفعنا أساسه
ويسلك في النهج الذي قد تعبدا
وعندي في هللا اليقين بأنه
يحقق آماال ويبلغ مقصدا
وإلى جانب رسوخه وثباته على القيم والمبادئ ،وصبره وتحمله من أجل ذلك ،فهو عزيز النفس،
أبي ،ال يقبل الضيم ،وال يرضى بالدنية ،مستعد لتحمل الشدائد والمحن المادية والمعنوية دون أن
يرضى بأن يكون محل إشفاق وعطف ،وال أن يشمله جميل أحد أو صنيعه:
إني ألقبل موت الجوع معتزما
كي ال أكون محل البذل والصداقة
ولست أقبل في الألواء أحملها
أني أكون محل العطف والشفقة
وهو يوطن نفسه للدفاع عن وطنه ،وبذل ما يملك في سبيل حمايته ،وجلب كرامته حتى ولو تخلى
عنه الجميع ،فهو مستعد ليفدي بالده بنفسه وروحه ،وال يقبل أن يشاركه في هذه المكرمة أحد:
إني ألقبل بذل النفس في وطني
كي ما يتم به كوني فنتحد
ولست أقبل في بذلي مشاركة
بل أبتغي بفداه الدهر أنفرد
أموت للمغرب األقصى على ثقة
أن لن يموت معي من موطني أحد
فهو – إذا – ال يسمح لنفسه أن تكون دون منزلة العزة واإلباء واالستعالء في الحق ،والقوة والثقة
بالنفس ،التي مأتاها الثقة باهلل عز وجل.
وقد أدرك برسوخه في هذه المنزلة ،واستقراره في هذا المقام ،أنه لم يخلق لنفسه ،وإنما خلق لدينه
ووطنه ،خلق من أجل الجهاد والتضحية لترسيخ القيم اإلسالمية في مجتمعه وبنائه عليها بناء محكما ً
مرصوصا ً ال تمتد إليه األيدي ،وال تؤثر فيه المعاول ،وقد بث هذه المعاني السامية في كثير من
قصائده منها قوله في قصيدة " نموت ويحيى الوطن" )12(:
لذة الموت حياة الوطن
وفداه من صروف الزمن
هو بغياي التي أطلبها
وهو لي كل فخار أبتني
أنا لم أخلق لنفسي إنما
أنا مخلوق ألجل الوطن
وهي معان كبيرة ،وقيم سامية ،واستقاها من معدن اإلسالم ،ورضع لبانها من ينابيعه ،واستخلصها
من قيمه وفضائله ومكارمه ،واستوعبها من مادته ومضامينه ،فصاغ نفسه منها ،وبنى ذاته على
أساسها ،وراح يبثها في قومه ،ويبني نفوسهم عليها ،إعدادا ً ألمة الجهاد التي تدافع عن دينها ووطنها،
وتحمي دماءها وأعرضها وأموالها من يد العدو الغاشم والمستعمر الظالم ،ونظمه وقوانينه وقيمه
التي ميع بها األخالق ،وأفسد بها المبادئ والمثل ،وعلمانيته التي مزق بها شمل الدين واألمة ،وحال
بها بين الدين والدنيا ،وبين الشريعة وحكم الحاكمين ،فأصابها بذلك وهن وضعف وخور عميق،
راحت تلتمس جبره في الحلول الغربية الملفقة ،وترجو ضماد جراحها في االستسالم لهيمنة الغرب،
واالنحناء أمام سوطه وقضيبه! فأدرك عالل أن من لوازم رسالته ورسالة غيره من العلماء :تحريك
األمة المنكودة المستعمرة ،وتحريضها على الجهاد والدفاع عن كرامتها وسيادتها ،ودفعها بقوة إلى
التحرر من سلطة االستعمار وطغيانه المادي والمعنوي.
لقد أدرك عالل أن أمته غزيت غزوين خطيرين:
عزوا ً ماديا وعسكريا سياسيا ،وغزوا ً فكريا ً عقديا ثقافيا إعالميا ،وأن التخلص من الغزو األول
ً ً ً
رهين بقومة األمة ،وجمع شملها ،ووحدة بنائها ،وترصيص صفها ،ألن في ذلك قوتها وصالبتها،
عزت وانتصرت في سابق مجدها ،ومن ثم ركز السيد عالل في تخطيطه لتحرير بالده وألنها بذلك َّ
من هذا الغزو العسكري والسياسي على الدعوة إلى الوحدة والتعاون ،واالنصهار في قيم اإلسالم
ومبادئه ،والتجند الجماعي لحماية اإلسالم وتحقيق مصالحه.
يقول مقررا هذه المعاني في قصيدته الملحمية التي نظمها بمناسبة ذكرى معركة وادي المخازن:
(14( - )13
بني وطني ماذا دهاكم فصرتم
إلى فرقة مبغوضة وتطاحن
أعيدوا لهذا الشعب ماضي مجده
وكونوا لنصر الحق خير مثابن
وال تدعوا األعداء تعبث بيننا
وتخلق فينا موجبات التباين
فمغربنا في حاجة ال تحادنا
لنكسب حقا ضائعا في التشاجن
ألسنا بني اإلسالم والوطن الذي
توحد باإلسالم بين األماكن؟
وهذه الوحدة التي يدعو إليها ،مشروطة عنده بتوحيد العقيدة والتوجهات الكبرى ،وتوحيد األغراض
الكبيرة التي تتطلع إليها النفوس.
وفي ذلك يقول ضمن ملحمته السابقة) (:
إذا نحن وحدنا العقيدة واستوت
مطامحنا نلنا السها الميامين
أصيحوا بني قومي لدعوة ناصح
حريص على اإلصالح بالحق آمن
فهذا نداء الحق من كل جانب
يردده أبطال وادي المـــخازن
وأما التحرر من الغزو الفكري والثقافي والعقدي فطريقه أشق ،ومصاعبه أشذ ،لذلك جاءت صرخاته
فيه أعمق وأعلى صوتاً ،ألن األمة قد تحقق التحرر واالستقالل السياسي ،لكنها تبقى مستعمرة فكريا
مشدودة إلى جهة المستعمر ،منبهرة به ،منصهرة في بوتقته ،ذائبة في شخصيته وذاته! وهذا أشد
وأنكى من الغزو األول.
لذلك دعا الشاعر عالل إلى التخلص من ضواغط الغرب وكسر قيوده ،والتحرر الكامل من التبعية
له ،ونعى على أذنابه الذين ورثوا مخلفاته ،واستحفظوا على تركته ومتابعة سبيله التي سلكها بيده،
وشنع على تلك النابتة التي نبتت في أحضان االستعمار ،وشبت على عينه ونشئت .في حجره،
وأغرودته الشعورية الوجدانية التي سماها ":أغنية من الباطن" نفث فيها زفراته التي انبعثت من
أعماقه وأطلق فيها ثورة بركانية على نفر من أبناء المغرب الذين والوا األجنبي المحتل ،وعقدوا
أنفسهم على الهزيمة ،ورضوا بالفشل ،واستسلموا لليأس ،وقبلوا أن يكونوا من األتباع األدلة الذين ال
يرون إال ما يراه السادة الحاكمون حقا كان أو باطال ،هذه الفئة التي يوجه إليها صرخته وثورته،
هجرت لغتها ،وانبهرت بلغة المحتل ،فأصبح لسانها غريبا في وطنها وعن أمتها ،وهي أيضا
رضيت بحكم األجنبي ،وتخلت عن فكرة التحرير ،فانساقت وراء ما يريده المحتل مبررة ذلك بأسماء
براقة من التقنية والتحرر والتقدمية ،...وأكثر من ذلك فهي قد رضيت أن تكون حربا على كل ما من
شأنه أن يؤكد شخصية األمة ويبعث فيها روح المقاومة للمعتدين والمحتلين ،فحاربت بذلك دين األمة
الذي تؤمن به وتحتكم إليه ،وزرعت في البالد مقابل ذلك قوانين المستعمرين وأحكامهم ونظمهم،
وقاومت المعاهد اإلسالمية وخصوصا جامعة القرويين التي كانت رمز الحفاظ على كيان األمة،
ونشرت مقابل ذلك مدارس التبشير وشجعت المذاهب المنحرفة التي تدين بالوالء للمحتلين كالبهائية
والصهيونية وفي األخير ،ينفي الشاعر عالل أن تكون هذه الفئة ذات انتماء قومي مغربي وديني
إسالمي ،ويصفها بالخروج عن
األمة ويعتبرها عدوا مع األعداء ،ويدعو إلى نبذها ومقاطعتها .يقول الشاعر عالل في أغرودته هذه:
()15
قولوا لنا:
هل أنتم من قومنا؟
من شعبنا من أرضنا
قولوا لنا:
هل أنتم من ديننا؟
من جنسنا من أهلنا؟
أم أنتم اإلفرنج من أبناء غال؟
وتراثكم من غيرنا؟
قولوا لنا:
إن كنتم من قومنا ،فعالم ال ترضون أن تتكلموا بلساننا؟
وعالم في كل المجالس تنطقون
تتحدثون وتدرسون وتكتبون
كأعاجم ال يعرفون من الكالم
سوى لغات الفاتحين؟
وتفرنسون شبابنا وبرامج التعليم
ومناهج التفكير واألبحاث والتدوين
وعالم ال ترضون بالعربية الفصحى
لغة اإلدارة والدراسة والشؤون
قولوا لنا:
مع ذاك هل أنتم لنا؟
من قولنا
قولوا لنا
إن كنتم من شعبنا فعالم ال تتحررون تتحالفون مع األجانب في ابتزاز متاعنا ،أموالنا،خيراتنا
وتدافعون عن الرواسب ،رأس األجنبي وتفضلون تراثه ورجاله ومعلميه
وتخلدون الهيمنات األجنبية والتسلط باسم ما تدعونه بالتقنية
تتحالفون ألنكم تخشون شعبا أنتم منه؟ كذلك تدعون قولوا لنا :مع ذاك هل أنتم لنا؟ ،من شعبنا ،قولوا
لنا
إن كنتم من أرضنا فعالم ال تستعجلون
رد األراضي من يد المستعمرين
وإلى يد الفالح مزدرع الحقول
بفتات ما يرضى به المستعمرون
وذوو الحمى من قومنا ،والغاضبون األرض للفالح باسم الحوز ،حوز الظالمين
وعالم ال تستعجلون خروج جيش األجنبي؟
وتحررون قواعد الوطن العزيز
قولوا لنا :إن كنتم من أرضنا فعالم ال تتقدمون ،وتنظمون نضالنا
لنرد ما أخذوه ،من أقطارنا ،صحرائنا
ولنخرج اإلسبان من تلك المدائن سبتة ومليلية ومن العيون
ولنسترد ألرضنا وادي الذهب
ومن الجيوب لدى الشمال وفي الجنوب
مع ذاك؟ هل أنتم لنا؟
من أرضنا؟
قولوا لنا :إن كنتم من ديننا ،فعالم ال تتحاكمون إلى شريعة ديننا؟
وتفضلون األجنبي إذا تشرع أو حكم
وتقاومون معاهد اإلسالم
وعلومه وثقافة اإلسالم في أسمى أصالة
وتراثنا السامي وجامعة بناها األولون
وتتابعت في رفع رايتها القرون
وتفجرت منها العلوم وكل شيخ قائم بالدرس ،بالتفكير واإلبداع
والتنوير والتبشير بالدين الحنيف
ويرفع ألوية الحضارة ،في افريقيا
وينقل معرفة الجدود إلى أوربا الجاحدة
وتشجعون مدارس التبشير والتنصير
ومعاهد المتهودين
ومراكز البعثات
وتسامحون مبشري الزيغ الجديد
زيغ البهائية الحقود
حلف الصهاينة الكنود
ودعاة كل الهرطقات وكل تحريف وهدم
والريب والتجديد والعدمية
مع ذاك هل أنتم لنا؟ من ديننا؟
قولوا لنا :هل أنتم من ديننا؟ من قومنا؟ من شعبنا؟ من أرضنا؟ قولوا لنا؟
***
وقد أدرك شاعرنا عالل بوعيه السياسي واالجتماعي والثقافي أن العدو المحتل بات مؤكدا عنده أن
مأتى االحتالل ومدخل الغزو في األمة اإلسالمية كافة ،هو ضربها في دينها وقرآنها ولغتها ،وإحداث
قطيعة بينها وبين هذه األصول التي بها ترتبط حضارتها وقوتها وكيانها ،فراح يصرفها عن ذلك،
ويربطها بنواقضه ،مستعمالً في ذلك كل ما يملكه من الوسائل واإلمكانات ،ومجندا ً له كل طاقاته.
ومن ثم فإن شاعرنا لم يفته أن يعي بهذا المخطط الرهيب ،ويتفطن لهذه المؤامرات المرعبة ،فجعل
ضمن صرخاته الجهادية الثورية :الدعوة إلى الحفاظ على القرآن واللغة العربية ،ألن حفظ اللغة
العربية يضمن حفظ القرآن ،وحفظ القرآن يضمن حفظ الدين ،وحفظ الدين يضمن شخصيتها وهويتنا
الحضارية وكياننا اآلدمي ،وسيادتنا اإلسالمية العليا.
يقول رحمه هللا في قصيدته "اضطهاد لغة القرآن")16(:
إلى متى لغة القرآن تضطهد
ويستبيح حناها األهل والولد
أما دروا أنها في الدهر عدتهم
ومالهم دونها في الكون ملتحد
ولن تقوم لهم في الناس قائمة
أو يستقيم لهم في العيش ما نشدوا
إن لم تتم لهم بالضاد معرفة
أو يكتمل لهم في الضاد معتقد
إن العقيدة في األوطان ناقصة
ما لم تكن للسان الشعب تستند
وكيف يصغون لألعداء تذكرها
وأصل ما وصفوه:الحقد والحسد
تآمروا وأعدوا كل مدرسة
بها قواعد االستعمار تقتعد
تعلم الجهل بالماضي الذي صنعت
يد العروبة واآلتي الذي تعد
وتنكر اللغة الفصحى وما نظمت
من المعاني وفيها العلم والرشد
ويستمر في صرخته هذه منددا بالعدو الكائد ،واعيا بمخططاته ومؤامراته على لغة اإلسالم ،ناعيا ً
على المتقاعسين العاجزين الذين ماتت فيهم الغيرة على دينهم ومقدساتهم ،ثم يوجه فيها خطابه إلى
الحكومة ،ويحملها مسؤولية حماية اللغة العربية ،والدفاع عنها من ضربات العدو وأتباع العدو)17(:
قل للحكومة واأليام شاهدة
عودي إلى الحق ال يصددك منتقد
عودي إلى خطة ترضى البالد بها
ويستقيم بها للملة األود
وحرري الضاد حتى يستبين لها ّ
مجالها الحر ال قيد وال صفد
عار رواسب االستعمار نكألها
وعندما الجهل واإلذالل والكمد
عار قد استعجمت أقوالنا وغدت
أفكارنا بمعاني الخصم تتحد
ولم يكن يغيب عن شاعرنا أن مسؤولية حماية اللغة والدفاع عنها ،وجعلها لغة التعليم والتدريس
واإلدارة غير مقصورة على الحكومة ،بل هي مسؤولية الشعب أيضا ،وأمانة في عنق أبنائه ،عليهم
أن ينهضوا بها ،ويطالبوا بحقوقهم فيها ،ويقوموا لها قومة رجل واحد)18(.
األمر للشعب فليعلن إرادته
وكلنا طاعة لألمر يعتمد
إنا بني الوطن األسمى األساة له
والجند للضاد نحميها ونجتهد
من ال يؤدي إلى األوطان واجبه
فهو العدو فما ترضى به البلد
هبّوا بني الوطن األسمى إلى عمل
من شأنه الفوز لألوطان والرغد
وناصروا الضاد في كل المواقف إذ
من فوزها غاية التحرير تمتهد
وبنفس هذه الروح يطلق صرخاته دفاعا ً عن القرآن ،ودعوة إلى االستمساك به والحفاظ عليه ،ألن
في ذلك حفظ الدين ،وإقامة شرائعه وأحكامه ،فالقرآن دستور المسلمين ،وأصل تشريعهم الرباني.
يقول رحمه هللا ضمن قصيدته الطويلة التي نظمها بمناسبة مرور 14قرنا على نزول القرآن
الكريم)19(:
يا أمة قرآنها دستورها
ي المرسال ّ النب كان وزعيمها
عودي إلى الدين الحنيف عقيدة
وشريعة وتخلقا وتعقال
ما في سو القرآن خير يجتبى
أو في سوى اإلسالم نهج يبتلى
هللا خارك للرسالة فانهضي
لتواصلي عمل الجدود األوال
ميراث أحمد دينه وكتابه
لك عدة تغنيك عما أعمال
قل للذين رضوا ثقافة غيرهم
وتصوروا اإلسالم عهدا ً قد خال
أيليق أن تبقى العروبة بيننا
جسدا بال روح ولفظا ً عطال
جربتم دعوات غير محمد
ماذا جنيتم هل عقدتم موصال؟
وفي أجيج هذه الصرخات الشعرية المحركة ،لم يفت شاعرنا عالل أن يخص بعطفه وحنانه الفئات
المستضعفة في مجتمعه ،فيطالب بحقوقها ،ورفع الحيف عنها ،وصرف االهتمام والعناية إليها تسوية
بينها وبين سائر فئات المجتمع ،حتى يكتمل البناء ،وتلتحم الصياغة ،وينصب اهتمامه على وجه
الخصوص بالفالح والمرأة:
أما الفالح فألنه العنصر الذي قاسى كثيراً ،وظلم كثيراً ،وأعطى كثيراً ،وأخذ قليالً.
يقول رحمه هللا ضمن قصيدته ":الفالح المغربي")20(.
وإذا كان األستاذ عالل الفاسي قد تواعد بين وطنه وأمته ساحة العمل ،في قصيدته هذه التي نظمها
قبل وفاته بنحو ثالث سنين ،فإني أقول )23(:محييا إياه ومبكرا ً جهاده ونضاله وبطولته:
صرخت...فأسمعت كل بعيد
وناديت بالقيم السامية
وغذيت بالفكر من قد أتى
يجلجلها صرخة عالية
وأعددت جيال سواعده
تلوح بالراية القانية
فنم آمنا بديار البلى
غدا نلتقي الفئة الباغية
ويبصر كل نهايته
وترجع أنفسنا راضية
) (1هو محمد عالل الفاسي ينتمي إلى أسرة آل الجد التي هاجرت من األندلس إلى المغرب زمان المحنة ،...ولد سنة 1326هـ1912 /م
في أسرة محافظة وبيت علم وصالح حفظ القرآن مبكرا وتلقى تعليمه األول في مدرسة حرة ،ثم التحق بجامع القرويين ،فتخرج منه عام
1936م .بدأ يشتغل بالتدريس وهو طالب بالقرويين فأنشأ مدرسة الناصرية (مدرسة حرة) ثم عين أستاذا لتاريخ اإلسالم بجامع
القرويين.
نشأ منذ فتوته على حب اإلصالح والتغيير وخدمة الوطن واألمة اإلسالمية وخوض المعركة والجهاد ضد المحتل .اهتم منذ شبابه
بإصالح التعليم ومناهجه وهياكله وطرائفه...وإصالح اإلدارة ومراكز التوجيه والتسيير...كم اهتم -في نضاله ودفاعه -بالفئات
المستضعفة مثل المرأة والفالح وغيرهما ،وركز في عمله النضالي والجهادي على فئة الشباب وعلق عليه آماله في إصالح المجتمع
وبنائه من جديد...
جال في كثير من البلدان العربية واألوربية ،وله مؤلفات كثيرة ومقاالت متعددة إلى جانب مجموعات شعرية حافلة بشعره النضالي الذي
سخره للدفاع عن وطنه وأمته ودينه...
توفي رحمه هللا عام 1974م.
)(2انظر :األدب العربي في المغرب األقصى لمحمد بن العباس القباج ،المطبعة الوطنية الرباط 1347 :هـ 1929/م الجزء الثاني :
الصفحة ما قبل األولى (وهي تحمل صورة عالل الفاسي).
)(3انظر :األدب العربي في المغرب األقصى ج .4،3،2 /2 :انظر :المختار من شعر عالل الفاسي ص ( 88-87 :إعداد اللجنة
الثقافية لحزب االستقالل الطبعة األولى 1976م).
)(4نفسه.
(5) –(6) – (7):انظر :المختار من شعر عالل الفاسي ،ص ص ،117 ،116 :واألدب العربي في المغرب األقصى ج 2 :ص ص
.9-8:
)(8انظر المختار من شعر عالل الفاسي :ص ،140واألدب العربي في المغرب األقصى ،ج ،2:ص .6،5 :وقد ورد فيه البيت األول
هكذا...ولي أمة فقدت مجدها...
)(9انظر المختار من شعر عالل الفاسي ص.226 ،225 :
)(10نفسه .ص ص.21/20 :
)(11نفسه .ص ص.78/77 :
)(12تاريخ الشعر العربي الحديث ،ألحمد قبش ،ص ،172 :ط ،لبنان 1971 :م.
(13) - (14المختار من شعر عالل الفاسي ص.51-50 :
)(15نفسه ص 41 :وما بعدها.
)(16انظر المختار من شعر عالل الفاسي ص 133 :وما بعدها .وانظر شعراء الدعوة اإلسالمية في العصر الحديث تأليف :أحمد عبد
اللطيف الجدع ،وحسني أدهم جرار ،الجزء رقم 7ص 52 :وما بعدها.
) (17) -18نفسه.
)(19المختار من شعر عالل الفاسي ،ص .179 :
)(20نفسه ،ص.164:
)(21تاريخ الشعر العربي الحديث ألحمد قبس ص.172:
)(22المختار من شعر عالل الفاسي ،ص.65:
)(23األبيات لصاحب المقال.