Professional Documents
Culture Documents
عزلة
علاء أحمد
رقم اإليداع 2015 / 22976 :
الترقيم الدولي 0 :ـ 3ـ 85203ـ 977ـ 978
© مجيع احلقوق حمفوظة لـ الســراچ للنرش والتوزيع ،وال جيوز ،بأي صورة اقتباس ،أو إعادة طبع ،أو
نرش ىف أى صورة كانت ورقية ،أو اليكرتونية ،أو ىف وسيلة سمعية ،أو برصية إال بإذن كتايب مسبق من
الدار وإال تعرض للمساءلة القانونية.
روايـة
علاء أحمد
5
()1
«أحيانًا يكون من نريد بجوارنا ،لكننا ال نرا ُه ألننا
نبحث عنه من خالل صورته الومهية التي رسمناها له يف
خميلتنا عىل أهنا احلقيقة املطلقة التي ال ريب فيها»
7
كان اختالفه الوحيد عن املقابر املعتادة ،أن ما بداخله أحياء ،هكذا
ِ
بدخوله إىل مكان بعيد من عامل بدا يل مع أول يوم يف زياريت إليه ،وانتقايل
آخر ،فقط مدخله يطل عىل عاملنا ،بل يطل عىل أكثر امليادين حداثة وأناقة
ليكون هذا املدخل رشفة يرى منها املستقبل من يسكنون املايض.
كنت أختيله دو ًما مسكونًا بالعفاريت عندما يتصادف مروري من
أمامه ،فكانت صدمتي أن من يسكنه أحياء.
دائم يلفت أنظار املارين لطرازه الغريب عن باقي املباين من حوله،
اً
لكنه أبدً ا مل يشغل تفكريهم حتى يف جمرد الفضول أن يعرفوا طبيعته،
ٍ
لثوان معدودة؛ ألنه كمن خيتزل نفسه يف هيئة خارجية جيذب هبا األنظار
ال يمتلك بالداخل الكثري من التفاصيل العميقه التي تسرتعي التفكري
الطويل.
كانت كل عالقتنا به إذا مررت وأصدقائي عليه هي صورة تُلتقط
بأحدث الكامريات بجوار أقدم املباين ،فكثرينا حيب أن يظهر يف كدر
ٍ
لثوان ،ال أن يعود ليعيش هذا صورة حتوي الرتاث والقديم يف لقطة
الزمن دون هواتف ذكية وال سيارات فارهة..
كثريا من أمامه وأنا أبحث عن العنوان املدون
يف هذا اليوم مررت ً
9
عىل خطاب تكليفي العميل من املعهد العايل للخدمة االجتامعية ،كانوا
يشريون إليه وأنا أسأل عن هذا العنوان ،فكنت أذهب إليه وأبحث
بجواره وأطوف حوله ملساحته الضخمة ،فكل جانب من جوانبه األربعة
يطل عىل شارع كبري ما ظننت مرة واحدة أنه هو ما أريد ،ال سيام أنه ال
يوجد ما يدل عىل احلياة بداخله ،وال الفتة عليه حتمل اسمه.
تنكر من نفسه؛ فنُكر من اآلخرين هو وساكنوه.
مل يكن لدي خيار آخر إال الذهاب إليه بعد أن مسحت كل املنطقة
املحيطة به باح ًثا عنه.
«أحيانًا يكون من نريد بجوارنا ،لكننا ال نرا ُه ألننا نبحث عنه من
خالل صورته الومهية التي رسمناها له يف خميلتنا عىل أهنا احلقيقة املطلقة
التي ال ريب فيها».
دخلت إليه من بوابته الرئيسية ،قد سبقتني نظرايت االستكشافية باح ًثا
مارا بممر طويل عىل جانبيه عن أمن البوابة فال أحد ،واصلت السري ًّ
أشجار متعانقة عند الفروع لتصنع بالتقائها سق ًفا من ورقات الشجر.
متجها إىل املدخل اآلخر والذي يعلو عن األرض بسلم من ثالث ً
درجات عىل نمط القصور امللكية القديمة ،والتي قد ُح ّول أغلبها إىل
مستشفيات أو مديريات للوزارات.
كل ذلك ،وال أحد يعرتضني ،وال أحد قادم نحوي أراه عىل مرمى
السلم ،وقفت
برصي؛ مما زادين ترد ًدا يف اإلقدام ،فقبيل اقرتايب من ُّ
قليلاً ،نظرت خلفي لعل أحدً ا أتى من حراسه؛ فقد توغلت ً
كثريا دون
أن ُيؤذن يل.
10
مسحت حويل بنظرة عابرة فال أحد ،ثم عاودت النظر أمامي بحركة
خارجا من البوابة الثانية ،ومع
ً تعكس توجيس وقلقي عله من خلفي يأيت
أيضا فوجئت ف ُفجعت، التفايف الرسيع حدث ما كنت أحسبه ،لكنني ً
وارجتفت مع قوهلا يف وجهي عند التفايف:
ـ أيوة يا أستاذ طلباتك.
ما كان منها إال أن ضحكت من فجعتي وارجتاف جسدي؛ األمر
الذي حاولت أن أنفيه بردي الرسيع عليها.
ـ حرضتك دا امللجأ الفرنيس؟
مع ردي الرسيع وصويت الذي حاولت أن أخفي وراءه فجعتي ،إال
فاضحا.
ً أن اهتزاز جسدي املفاجئ كان
اصطحبتني «غالية» عاملة اخلدمات املعاونة وأول من رأيت من برش
يف هذا املكان إىل مكتب األستاذة «مارسيل» املرشدة النفسية للملجأ
والتي تستقبل الطالب القادمني للتكليف العميل..
إن كانت «غالية» أول من رأيت من برش فــ «مارسيل» كانت أول
روح يف أرض األموات؛ وجهها كشهاب ىف ليل شعرها األسود املنسدل
عىل كتفيها ،يتطاير فرح ًا بمداعبة اهلواء له ،معقوفة األنف ،ذات عينني
واسعتني،ليست بالقصرية وال الطويلة ،جاذبة لألنظار كحال القمر يف
ظلامت الليل.
طالقة وجهها وطريقتها البسيطة تذيب أي حتفظ وترفع كل تكليف.
جتاذبنا أطراف احلديث؛ فقد توافقت األهداف والرؤى؛ حيث إهنا
11
أيضا فيه عن رغبة وليس ألنه
تعمل يف هذا املجال عن رغبة ودراستها ً
املتاح أو ما فرضه عليها جمموع درجاهتا ،وكذلك حايل يف اختياري
لتخصيص.
طاملا متنيت مثل هذا احلديث ونقل اخلربات الذي كان بعيد املنال بني
أقران دراسة ال يبحثون إال عن بعض األسئلة املتوقع جميئها يف االمتحان
دون أي اهتامم بام يدرسون ،أغلبهم يريد فقط املؤهل دونام أي تأهيل.
ومما ساعد عىل رسيان احلديث بعد توافق االهتاممات هو السن
املتقارب؛ فهي فقط من خرجيي العام املايض ،واستلمت عملها بعد
خترجها مبارشة وأنا يف عامي الدرايس األخري ،وإنا كنا متساويني يف عام
امليالد ،إال أهنا تكربين بشهرين ،هذا ما عرفته من ردها عىل سؤايل عن
عمرها ودفعة خترجها؛ لمِا رأيته منها من خربات وأفكار وفلسفة خاصة
يف التعامل مع النفس وإرشادها.
بينام نحن كذلك ،حوار متدفق نتبادل فيه الرؤى وأسمع منها عن
طبيعة امللجأ وحال املقيمني فيه ،إذ دخلت علينا هبيئة ووجه متناسق متا ًما
مع حال امللجأ؛ حيث مجود املالمح والزي غري التقليدي كغرابة نسق
هذا املبنى عن املباين املجاورة له ،وكأن أحدً ا منهم قد تأثر باآلخر هي
أو املبنى.
فور دخوهلا ،توقفت «مارسيل» يف ثبات عسكري تبادر يف تعريفي
هلا ،بينام هي ال تتحدث ،تنظر بعني حادة شاخصة ووجه متجهم ،كل
تواصلها معي كان نظرة واحدة مسحتني هبا بعد تسلمها ورقة تكليفي
أيضا مل
من «مارسيل» دون أن تتحدث بكلمة واحدة معي أو معها وأنا ً
أحاول ذلك ،فتحفز مالحمها واقتطاب حاجبيها يمنعان أي أحد من أن
12
يبادر باحلديث أو التواصل معها خو ًفا من رد فعل قد يتوقع صل ًبا كحال
مالحمها.
مل يكن منها أي حديث ،ومل أكن قد تعاملت معها بعد ،إال أن ذلك
القدوم هبذا الشكل كفيل وحده أن حيدث انطبا ًعا سي ًئا لدي جتاهها ،متا ًما
أيضاكاالبتسامة التي تسبق حديث صاحبها الذي تراه ألول مرة كفيلة ً
أن تفتح صدرك له وتتهيأ لقبوله وقبول ما يقول حتى قبل أن يتفوه به.
وكأهنا شعرت بمدى فضويل الداخيل ملعرفة من هذه التي دخلت
فجأة دون مقدمات فوقفت هلا احرتا ًما وتبجيلاً ،وخرجت دون أن
تتحدث بكلمة واحدة ،فبادرتني قبل سؤايل:
ـ إهنا األم الراهبة «مارية» راعية امللجأ واملسئولة األوىل عنه.
تفهمت هبذا التعريف ملاذا قامت هلا باعتبارها املسئولة األوىل عن
وأيضا طبيعة ِز هّيا كوهنا راهبة ،لكنني مل َأره ً
مربرا قط لعبوسها امللجأ ً
وتعاملها اجلاف؛ األمر الذي أخفيته فهذا أول انطباعي عليها ،ولعلها
غري ما أظن وجميئي باألساس من أجل تكليف له مدة حمددة أحب أن
أقضيها بحب مع كل الناس هنا ،ال أن أطلق أحكامي عليهم.
اصطحبتني «مارسيل» يف جولة داخل امللجأ لتعرفني عليه وعىل
مقيميه الذين سيصبحون حمل اهتاممي.
يف هذا اليوم الذي ال ينسى والذي ما زلت أذكره بكل تفاصيله،
وكأهنا مل تكن جولة تعريفية داخل أرجاء امللجأ ،بل كانت رحلة يف
أعامق النفوس ودواخل كانت مغلقة بأحزاهنا ،انتهت الرحلة ومل ِ
تنته
معانيها ،بل مل ِ
ينته عبئها النفيس ،فأشعر وأنا أقلب صفحات روايتي،
13
أدراجا إىل تلك األيام ،أعود مع كل صفحة إىل يوم أو ً وكأنني أعود
حدث ،بل أعود مع كل كلمة إىل حلظة عشتها يف ذلك امللجأ ،ولمِ َ ال؟! فام
كنت يو ًما روائ ًّيا وال رغبت يف ذلك ،لكنني اكتشفت ملكتي هذه عندما
صدقت أحاسييس ،عندما شعرت ،وكأن الكتابة ليست سوى حلظة
واقع عشناها بحق ،ومن فرط شعورنا هبا بالغنا يف وصفها؛ فرسحنا يف
ملكوت اخليال ،عندها تيقنت من صدق تلك املقولة «قد جيعل منك
احلزن مبد ًعا ..لكنك مهام كنت مبد ًعا لن تقنعني أنك حزين وأنت لست
تأوها من أوجاع».
كذلك ،فكثري من اإلبداع كان ً
فتحول تقريري عن فرتة تدريبي العميل يف هذا امللجأ إىل رواية دون
قصد لذلك ،فقط احلاجة إىل أن أروي ما أمهني.
14
()2
«عىل بعد خطوات منهم أناس آخرون تائهون بني
خياراهتم وترفهم وهلوهم ،قد يسمعون ضحكاهتم وهم
بالداخل ،وال يسمع من باخلارج أنينهم»
15
ىف مكان قريب ،بعيد ،قريب من الزحام ومن مقاصد الناس ،ويف
أشهر امليادين ،بعيدً ا عن اهتاممهم وأنظارهم وإن كانوا يرتددون حوله
ويمرون من أمامه ،يكون هذا املبنى.
حما ًط��ا باألش��جار العتيق��ة الباس��قة ملتف��ة األغص��ان ،قد رس��مت
بأغصاهن��ا وفروعها املتش��ابكة جتاعي��د ًا عىل وجه هذا املبن��ى ،تظهر فعل
مغمورا يف قلب هذا امليدان
ً السنني واألزمنة عليه ،وختفي معامله ،ليصبح
املش��هور ،ومتن��ع بأوراقه��ا الكثيفة ضوء الش��مس عن نواف��ذه؛ فتكتمل
العزل��ة؛ فيصبح الليل والنهار بداخله س��واء ،بل اللي��ل أفضل حالاً من
النه��ار؛ حيث تُض��اء املصابيح ،أما النهار فيك��ون االعتامد عىل ما ترسب
مصدرا للضوء.
ً خفية من ضوء الشمس من بني فرجات األوراق ليكون
ع��امل يتكون م��ن ممر طويل ،عايل الس��قف ،عىل جانبي��ه غرف كبرية،
ب�ين كل غرفة وأخ��رى لوحة عمالق��ة قديمة ،مرس��وم بداخلها إحدى
رسيرا،
ً األيقونات أو الرسوم املسيحية العقائدية ،ويف كل غرفة اثنا عرش
ويف كل جان��ب ث�لاث غرف من ه��ذه الغرف الكبرية ،ينته��ي هذا املمر
بس��احة مس��قوفة بس��قف من اخلش��ب ،ويف حميط هذه الس��احة الكبرية
مقاع��د للراحة واجللوس وكأهنا مكان التنزه والتغيري لنزالء هذه األسرِ ة
التي يف الغرف الكبرية.
17
يف اجلانب األيمن من هذه الساحة باب قديم من حديد ،وكأنه قطعة
من أثر قد تبقى من زمان سابق ،حمفور بوسطه صليب عليه ترميز هليئة
املسيح مصلو ًبا ،منحوتًا بكتلة من النحاس األمحر ،يفصل هذا الباب
بني ذلك املبنى بكل حمتوياته وهذه الكنيسة املشيدة عىل النسق الغريب
الكاثوليكي القديم كقدم املبنى امللحقة به.
ويف اجلانب األيرس من هذه الصالة باب آخر ،هو مدخل إىل حديقة
املكان والتي تُدخل من الشارع مبارشة عن طريق باهبا الثاين.
حديق��ه ال حتوي بداخلها أية زهور ،بل بع��ض رفات هلا من يرقات،
وال أشجار مثمرة ،بل أعجاز جذوع خاوية عىل أرض مكسوة بحشائش
َبت ق��د اكتفى م��ن األرض تراهبا ،ومن الس�ماء
عش��وائية غ�ير مهذبة ،ن ٌ
قطراهت��ا ال حيتاج منهم أي اهتامم قد خرج من باطن األرض ليموت عىل
ظهرها.
كان من املمكن أن تكون هذه احلديقة هي مصدر الراحة والرتفيه
هلؤالء النزالء ببعض الرعاية ،لكنه اإلمهال املقصود؛ إمعانًا يف العزلة
وكأنه ال جيب أن يكون هنا يشء مجيل ،أو لعلهم يعتقدون أن ال حاجة
للكبار يف األزهار.
يف داخل هذا املكان «أناس» لكن ليسوا كغريهم ممن بخارجه؛ حيث
تقارب أعامر القاطنني ،فجلهم يف أرذل العمر ،الكل بداخله مسري ًا ،فال
اختيار هلم وال رأي إال يف دخوهلم اخلالء ،وإن كان عىل بعد خطوات
منهم أناس آخرون تائهون بني خياراهتم وترفهم وهلوهم ،قد يسمعون
ضحكاهتم وهم بالداخل ،وال يسمع من باخلارج أنينهم.
18
()3
«رغم ذبول خدهيا وساقني يميالن هبا دون رياح ،بيد
أن الناظر إليها سيعلم أهنا وردة كان هلا رحيق يف املايض،
تغري شكلها ومل تتغري صفتها»
19
«ألفونس» أحد قاطني هذا العامل ،خيرج كعادته مع باكورة كل صباح
من حجرته وهي إحدى هذه احلُجر الكبرية.
ً
متوكأ عىل « ُعكّازه» الذي يعتليه الصدأ ،فعلت به األيام كام خيرج
قادرا عىل الصمود ،يتحمل صاحبه دون فعلت بصاحبه ،لكنه ما زال ً
ضجر.
بل هو آخر ما تبقى له من معني إن انكرس فال خروج من هذه احلجرة
إال اخلروج األخري حممولاً عىل األكتاف ،مسو ًقا اىل قربه الثانى.
فشعار العاملني هناك خلدمتهم «اخدم نفسك بنفسك».
ماش ًيا يف املمر املؤدي إىل الصالة الكبرية بخطوات متثاقلة بطيئة ،فال
حاجة له يف الوقت حتى يعجل ،وإن كان هو يف األساس غري قادر عىل
العجلة وحياته تدور يف عملية يومية روتينية لقتل ما تبقى له من الوقت
يف عمره.
ال تتغري وجهته اليومية ،بل ال يتغري مكان جلوسه املفضل بجوار
صديقة عمره «كرستني».
يظل كذلك حتى تغيب الشمس ويذهب كل واحد منهام إىل رسيره.
21
دائم مالبسه كاملعتاد ،قميص يف داخل البنطال ،متحزم الوسط بذلك اً
ِ
احلزام اجللدي الرفيع الذي تشقق جلده من قدمه ومن كثرة الثقوب حتى
يصل إىل مقاس خرصه الضئيل ،قد يتغري البنطال يو ًما أو القميص ،إال
أن احلذاء البالستيك األسود ليس غريه مع كل طقم« ...كرستني» رغم
ذبول خدهيا وساقني يميالن هبا دون رياح ،بيد أن الناظر إليها سيعلم أهنا
وردة كان هلا رحيق يف املايض ،تغري شكلها ومل تتغري صفتها ،كان ال بد هلا
من حديقة تنبت فيها غري بوار ذلك امللجأ.
دائم حتمل بيدها ذلك «الفلوت» العتيق ،فيض اللون ،األنيق كأناقتها،
اً
هو ذكراها الوحيدة من موطنها ،وهوايتها القادرة عىل أن متارسها.
ال تكل من عزفها عليه ،لكنها كانت تعزف عز ًفا ً
نشازا صاخ ًبا ،رغم
أهنا خبرية بعلم املوسيقى ،لكنها كانت جتد يف ذلك النشاز االعرتاض
الوحيد واخلروج عن املألوف ،وإن كان جمرد خروج عن قواعد علم
املوسيقى ،فطاملا ظلت مقيدة بقواعد وقوانني امللجأ الصارمة ،كانت
تستنفد قواها وأنفاسها وهي تنفخ فيه وكأهنا نفخة ضجر من حياهتا
الروتينية تخُ رج هبا ما يف صدرها من ضيق.
أما يف هندامها ،فام زالت حمافظة عىل األناقة الكالسيكية يف ظل املتاح
هلا من مالبس.
ما زالت ـ رغم كرب سنها ـ تلبس التنورة القصرية السوداء ،واجلوارب
الطويل��ة البيضاء ،والقمي��ص األمحر الذي تغلق ياقته ع�لى عنقها وكأهنا
عضوة يف فريق للكورال أو طالبة يف مدرس��ة هلا زهيا اخلاص ،ال تريد إال
أن تعي��ش كفتاة يف العرشين من عمرها أو قبل ذلك ،لعله العمر الوحيد
الذي عاشته بالفعل؛ فال تريد أن تعرتف فيام بعد ذلك عندما أتت ها هنا
وهي اآلن يف السبعني من عمرها.
22
كان ثمة أناس آخرين ،وثمة مشاهدات أخرى هلم ،لكنني كنت
ملتز ًما باحلالتني اللتني ُوكلت هبام ،لكن التزامي هذا مل يمنعني من أن
أتفقد اجلميع حتى لو بسالم عابر يف كل صباح عند جميئي إليهم ،كان
عيل هنا.
ذلك ال ينقطع من أول يوم حتى وقتي هذا ،وقد مر أسبوع ّ
كان كاف ًيا ذلك األسبوع أن أرصد عاداهتم وروتينهم الذي ال يكاد
يتغري ،حتى شكل مالبسهم وأماكن جلوسهم ،انتظرت حتى أرى أي
تغيري فلم أجد ،حتى علمت أهنم يعيشون حول ثوابت ال تتغري ،ال يطرأ
عليهم جتديد ًا ،فام رأيته اليوم ،غال ًبا سيكون مشهد الغد ،بل ظل طوال
األسبوع إن مل يكن هو طوال حياهتم يف امللجأ.
أيضا ،عىل مقعد يف ركن من أركان الصالة الكبرية،
طيلة هذا األسبوع ً
حالتي «ألفونس ـ كرستني» تكون هي،
َّ دائم
املقابل للركن الذي يقبع فيه اً
حاهلا هو هو مل يتغري؛ لغرابته اسرتعى اهتاممي وتفكريي وإن كانت
ليست من ضمن حااليت ،فالتعاطف اإلنساين ال يتقيد بتقسيم روتيني
قد فرضه مكان ما.
دائم سارحة يف ملكوهتا ،حتملق بعينيها يف اجتاه واحد ،ال يزيغ برصها
اً
عنه ،تشاهد أشياء ًا ال نراها ،ال تسمع من حوهلا وإن نودي عليها إال بعد
مرات.
حتى األذن منصتة حلديث آخر ال نعرفه ،قد أخذها عنا.
ٍ
ماض قد خال ،كان يتجمع فيه حوهلا األحباب، وكأهنا مستغرقة يف
كانت فيه مرغوبة من اجلميع.
فتهرب يف تلك الذكريات عن واقع ال حتب أن تعيشه وتعرتف به،
23
تأبى حتى أن تشارك فيه بسامع أو مشاهدة ،فضلاً عن التواصل باملحادثة
مع من حوهلا.
دائم كذلك ،أو عىل النقيض ،كالعاصفة بعد اهلدوء.
اً
فبعد استحضارها لتلك األيام اخلوايل تريد أن تكون حارضة فيها
بنفسها ال بخياهلا ،فرتى أن موانعها هذه األسوار العالية والبوابات
احلديدية؛ فتهرول عليها كعصفور ينتفض بجناحيه وهو يدور يف رحى
القفص باح ًثا عن خمرج للفضاء الطلق.
فتدف��ع الباب امل��ؤدي إىل احلديقة؛ حيث أب��واب امللجأ األخرى غري
الرئيس��ية وب��راح احلديق��ة والس�ماء التي ال حتجبها س��قف ،فه��و املكان
وأيض��ا رؤية الش��ارع الواضحة بني
الوحي��د األق��رب للخ��ارج بطبيعته ً
فرجات القضبان احلديدية للبوابة.
وأيضا من حماولة دفعهم وهم يأتون هبا وهي منهكة من هرولتهاً ،
يمنعوهنا من اخلروج خارج البوابةُ ،يؤتى هبا حممولة إىل رسيرها قد
نفدت كل قواها وقدرهتا من حالة رصعها؛ فتكون جسدً ا هامدً ا ليس
فيه غري أنفاس تدل عىل أهنا ما زالت عىل قيد احلياة.
حاهلا الغريب هذا كان شديد األثر عىل نفيس ،ليس فقط يف ذلك
الوقت الذي أكون فيه داخل امللجأ ،بل وأنا يف بيتى أفكر فيها وفيهم،
أحيانًا كان يذهب عني النوم انشغالاً بحاهلم ،كنت أقول يف نفسى كيف
دائم كانت تراودين مشاهد «احلاجةينام قرير العني من له أحد يف امللجأ ،اً
أمينة» وهي هترول إىل البوابة تريد اخلروج ،كنت أختيل فيها أمي ،لعل
ذلك من هيئتها وتلك «العباءة السوداء» و«الطرحة» التي تلبسها متا ًما
24
كطريقة مالبس أمي ،كنت ال أستطيع أن أختيل ذلك عىل أمي ملجرد
منعم وهي تقايس الوحدة ،ال يصاحبها غري ٍ
نائم اً
التخيل لثوان ،أن أكون اً
الذكريات ،فكيف بأبنائها يتحملون ـ إن كان هلا أبناء ـ وكيف بعائلتها
يرضون ذلك؟!
كانت مشاهدهم حارضة معي يف مواضع كثرية ،فعند طعامي كنت
أتذكرهم ،وأتذكر معاناهتم ،أتذكرهم وأنا أهلو أو يف فرحي وهم قابعون
يف ملجئهم ،مل أستطع الفصل كام كان يفعل زمالئي يف الدراسة ،وكام
كانوا يقولون يل عندما كنت أحتدث معهم عنهم ونحن يف املعهد أو
خارج امللجأ ،كانوا يقولون :عندما نخرج من امللجأ ننسى كل يشء،
نحن نذهب فقط لقضاء ذلك التكليف ،هو فقط ما سنُحاسب عليه ،فال
تُكلف نفسك فوق طاقتها.
أيضا سأحاسب عليه يف ضمريي
كنت أقول يف نفيس لكن حاهلم ً
وداخيل إن مل أحاسب عليه يف املعهد.
كانت «مارسيل» هي األقرب يل كي أحكي هلا ما أمهني ،وإين أريد
دائم ذلك احلرص.
أن أفعل شي ًئا يسعد هؤالء املسنني ،فكنت أرى فيها اً
دائم معي يف جتوايل عليهم ،تفكر معي يف أحواهلم ،فكانت كانت اً
العادة التي داومنا عليها كل يوم أننا نمر نتفقد كل املقيمني ،ونوزع
عليهم بعض احللوى التي تعاوننا يف ثمن رشائها ،ثم بعد جولتنا هذه
حالتي ،وتذهب هي إىل مكتبها ،لكننا كنا نعلم أن هذا ال
ّ أذهب أنا إىل
يكفي ،وإن كان ذلك يسهم يف فرحة كبرية هلم ،ولكنه القليل املتاح ،حتى
نفكر فيام هو أكرب من ذلك.
25
عىل الرغم من أن ما قمنا به يعترب جهدً ا شخص ًّيا لنا ومل نثقل عىل
اإلدارة ىف يشء ولن نثقل ،فحتى ما نفكر ىف عمله مستقبلاً نعتمد يف
أيضا عىل جهدنا الشخيص.تنفيذه ً
إال أنني كنت أشعر بعدم ارتياح من األم «مارية» مسئولة امللجأ،
عىل عكس توقعي أنه سيسعدها كوهنا املديرة وتبحث عن أي نجاح
ملؤسستها.
واضحا
ً مل يكن عدم ارتياحها معلنًا ،ومل يكن ثمة عرقلة منها ،لكنه كان
يف نظراهتا ،فضلاً عن أهنا مل ِ
تبد إعجاهبا وال ثناءها عىل ما كنا نفعله ،حتى
دائم كشبح يراقبهذه اللحظة ،مل يكن أي تواصل بيننا ،فقط أجدها اً
دائم بنظراهتا ،ولكنها ال تشارك بشكل مبارش، حتركاتنا من بعيد ،معنا اً
حتى أنني مع كل جولة أو جلسة مع أحد املسنني أنظر خلفي أو جانبي
متوق ًعا رؤيتها؛ فأراها تنظر إ ّيل من بعيد ،ما إن أنظر إليها إال وتتحرك
كأهنا ذاهبة إىل وجهة أخرى ،كانت أكرب لغز بالنسبة يل يف هذا املكان،
تعدى حتى هنمي يف أن أعرف قصص هؤالء النزالء ،وقد كنت أؤجل
احلديث اخلاص املستفيض معهم وعن قصصهم حتى تتوثق عالقتي هبم
ويذوب جليد صمتهم عند اطمئناهنم يل؛ وهو ما مل أخض فيه حتى بعد
مرور أسبوع عىل جميئي .يف مرات عديدة ،كنت أنوي التحدث يف شأهنا
مع «مارسيل» ولكني كنت أتراجع؛ خو ًفا أن يكون حدي ًثا غري مرغوب
فيه ،أو تعد ًيا يف غري ما جئت من أجله.
أيضا أهنا ال تستسيغ عالقتي بــ «مارسيل» وإن كانت واضحة
شعرت ً
وظاهرة جدًّ ا أهنا يف خدمة املسنني وليس فيها أي يشء خفي ،لكن كل
هذا كان توق ًعا ال أجد قرينة عليه تعضده.
26
مراقبتها يل أصبحت مريبة يف أوقات كثرية ،ففي مرة كنت ذاه ًبا إىل
املرحاض ماش ًيا يف ردهة طويلة تؤدي إليه ،وقبل دخويل املرحاض،
نظرت خلفي ،وبالفعل وجدهتا يف هناية الردهة تنظر إىل أي وجهة أنا
ذاهب.
27
()4
عاما ناقصة من عمري ،كنت فيها من
«مخسة وسبعون ً
عيل حياة»
األموات واحتُسبت َّ
29
أوشك أسبوعي الثاين عىل االنقضاء ،لكنه ليس كسابقه ،فقد ظهرت
بوادر التغيري الذي كنت أنشده ،فتحركت املياه الراكدة بفعل تلك
االبتسامات التي كنت أقذفها عىل الوجوه التي طاملا ظلت ثابتة ،فال
أحد إال وأصبح يعرفني ،كنت أتسامر مع اجلميع حتى ولو مل أجد من
بعضهم تفاعلاً أو حتى ر ًّدا عكس ًّيا كالذي حدث عندما مررت عىل ذلك
املسن الذي يرتدي دو ًما «البالطو» األبيض اخلاص باألطباء والذي قد
مديرا ملستشفى الرمد السابق باإلسكندرية ،قد دار علمت بعد ،أنه كان ً
عليه الزمن وفعلت فيه السنوات فعلها؛ فأصيب بالذهان النفيس والذى
تسبب له ىف اضطرابات حادة ىف سلوكه وتدهور ىف قواه العقلية ،وهو
ماكنت أجهله ،فلو كنت أعلم لكنت عىل األقل قد احتطت من تلك
البصقة التي بصقها عىل وجهي عندما دخلت عليه مداع ًبا إياه،راف ًعا
يدي إليه بسالم حار «صباح اخلري يا دكتور».
غري ذلك املوقف وموقف احلاجة «أمينة» التي ترفض أي تفاعل
دائم ما تكون سلبية جتاه أي تواصل ،فكل الردود كانت إجيابية مع
والتي اً
حالتي اللتني اشتد وثوقي هبام ،وتقلصت
ّ كل املسنني املقيمني ،ال سيام
ملم أكثر
بيني وبينهام احلواجز؛ وهو ما جيعل من الطبيعي أن أكون اًّ
بحالتهام وقصصهام التي يبدو من هيئتهام وطبيعتهام أن هبا الكثري من
31
واضحا من
ً التفاصيل الغريبة؛ حيث إهنام يف األصل فرنسيان ،كان
أسامئهام «ألفونس ـ كرستني» لكنني تأكدت من ذلك من لغتهام العربية
الفصحى املتلعثمة التي تقل فيها العامية ،وكأهنام تعلامها أكاديم ًّيا دون أن
كثريا مع مرصيني.
يتحدثا ً
عالقتي األكرب كانت «بألفونس» حيث إجادته التحدث نو ًعا ما
أيضا ربام
عن «كرستني» للغة العربية ،وهو مايشق عىل األخرية ،وأهنا ً
ال جتد داف ًعا هلذه املشقة وعندها صديقها املقرب «الفلوت» الذي حتدثه
بنفخاهتا؛ فيتحدث إليها بأنغامه التي تعشقها أذناها عن أحاديث البرش.
دائم كان حيب أن يستأثر يب عن باقي النزالء عند جميئي.
«ألفونس» اً
أيضا أن يسمعنيكان حيب أن أكون بجواره وإن مل نتحدث ،حيب ً
وأنا أغني ،حتى وإن مل يفهم بعض كلامت األغاين التي أتغنى هبا ،لكنه
طر ًبا لصويت أكثر ،منذ أول مرة سمعني فيها أدندن.
كان ُم َ
ما زاد هذه العالقة بيني وبينه وثو ًقا ،ذلك احلذاء الذي أهديته إياه،
بدلاً من البالستيك الذي أصاب كعب قدمه بحافته الوعرة.
مل يكن هناك ما أخشى أن أحتدث به مع «ألفونس» أو ما أظن أنه لن
حيب احلديث معي فيه ،بل عىل العكس ،كان كثري ًا ما ينتظر مني األسئلة
دائم ،تكلم معي وحاورين ،فأنا الليسرتسل يف احلديث ،كام كان يقول يل اً
أعرف أن أفتتح حدي ًثا وال أعرف يف أي يشء أتكلم.
فكان سؤايل الذي طاملا كان يراود عقيل :من أتى بك إىل هنا؟ وما
قصتك؟ وما هي قصة رهبانيتك؟..
حيث إنه ُيلقب من بعض العاملني يف امللجأ بـ«الراهب ألفونس»؛
32
وهو ما كان غري ًبا بالنسبة يل ،فال يبدو عليه أي يشء يوضح رهبانيته وإن
كان جمرد املكوث يف امللجأ رهبنة ،لكنني أقصد بذلك ِز ّي ُه العادي ،وأنه
ودائم معهم.
ُيعامل مثل باقي املسنني اً
عيل:
فكان رده ّ
ـ ملاذا ترهبنت وملاذا أنا هنا؟ سؤال يف سطر ،إجابته كل آالم حيايت،
إجابته مخسة وسبعون عا ًما ناقصة من عمري ،كنت فيها من األموات
عيل حياة
واحتُسبت َّ
طأطأ رأسه إىل أسفل وسكت لربهة ثم رفع رأسه ألعىل ،وكان يف
عينيه مسحة من دموع ،جعلت جسدي يرختي أس ًفا ،وعيناي تغالبها
دموعهام ،رغم أنه مل ِ
يرو ما أصابه ،لكنه اإلشفاق من دمعة مسن قد بلغ
من الكرب عت ًّيا ،والضعف املوجع ملن ال يستطيع حيلة.
أردفت قائلاً :
حتك ما يؤملك ،وأتأسف أين ذكرتك باملواجع.ـ ال ِ
ـ مل تعد املواجع بعد ذكرى ،فام زلت أعيش فيام نشأت عليه.
يسمعني!دائم نسمع
اً سأروي لك ،فكيف أخذل أول من أراد أن
ونطيع ،حتى سامعنا حمدود ،فهو مقيد بام تقوله األم ،إن مل تقل فلن نسمع.
اصطحبني إىل رسيره ،وأخذ يبحث يف أمتعته عن يشء ما ،حتى
أخرج يل صورتني ،لرجل وامرأة ،قال:
ـ لوال هاتان الصورتان ما عرفت لوالدي شكلاً ،مها كل مرياثي
عنهام ،وهذه احلقيبة التي حتوي أوراقهام ،وذلك التكليف الكنيس الذي
أيضا.
خط حلياهتام وحيايت من بعدمها ،بل شهادة وفاهتام ووفاتى ً
33
أيب «ألكسندر» وأمي «أنجيليا» كانا من خدام الكنيسة يف فرنسا،
عابدين للرب ،مل يرتهبا ،لكنهام كانا من «املتقربني» جعال نفسهام يف
خدمة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ،وهي الكنيسة األم ،كاألرثوذكسية
القبطية يف مرص ،كانت الكنيسة يف فرنسا يف هذا الوقت ترسل اإلرساليات
للبلدان غري املسيحية ،وهي مهمة يقوم هبا أتباع املسيح لنرش رسالتة لكل
العامل عن طريق خدمة البرش ،قد تكون اإلرسالية مدرسة ،ويف مرص
الكثري من مدارس اإلرساليات ،منها الفرنسية واألملانية واألمريكية،
كاجلامعة األمريكية التي يف األساس إرسالية أمريكية ،وقد تكون
دورا لأليتام ومالجئ للمسنني أيضا مجعيات خريية أو ً اإلرساليات ً
كالتي نحن فيها..
أيضا بالتكليف العظيم يف التقليد املسيحي ،وهي وتسمى اإلرسالية ً
الوصية التي أودعها يسوع املسيح لتالميذه بنرش اإليامن املسيحي وبشارة
اخلالص يف كل العامل ،وأصبحت عقيدة من العقائد املسيحية؛ تأكيدً ا عىل
أمهية العمل التبشريي يف حياة الكنيسة؛ حيث يقول يسوع يف إنجيل
متّى« :اذهبوا إذن ،وتلمذوا مجيع األمم ،وعمدوهم باسم اآلب واالبن
والروح القدس ،وعلموهم أن حيفظوا مجيع ما أوصيتكم به».
فوهب والدي نفسهام لتلك الوصية ،وقررا أن يكونا داعني لبشارة
املسيح ،فجاءمها ذلك التكليف الكنيس ،أن يذهبا إىل مرص وحتديدً ا إىل
هذا املكان ،يف اإلسكندرية ،وكان عملهام يف هذا امللجأ ،منه ينرشان
رسالة املسيح؛ حيث أن امللجأ فاتح أبوابه لإلنسان ،أي إنسان ،من أي
دين وأي ملة ،وهذا هو شعار اإلرساليات يف كل املجاالت ،خريية كانت
أو تعليمية أو طبية ،أن اهلدف هو خدمة اإلنسان.
34
حتوي هذه اإلرساليات راهبات دائامت ،قد وهبن أنفسهن هلذه
كوالدي.
َّ الوظيفة الكربى ،ومتطوعني ليسوا دائمني
مل أكن قد أتيت بعد عندما أتيا إىل مرص عام 1939؛ فقد ولدت بعد
عام من جميئهام إىل مرص.
عيل قصته ،إىل أن جاء ملوضوع سؤايل :ملاذا أنت هنا؟
ما زال يقص ّ
رغم صعوبة مصابه وما حدث له ،أن والديه قد ماتا يف حادثة سيارة
يف اإلسكندرية ،وكان هو الناجي الوحيد؛ ليموت طوال حياته يف هذا
امللجأ الذي توىل رعايته وتربيته؛ خدمة ألبويه اللذين كان خيدمان فيه
املسيح ليكمل هو مسريهتام كام ُحدد له؛ فكُتبت له حياة ُخططت أحداثها
من قبل ،ليس عليه إال أن يكون كام ُأريد له؛ ف ُيسجن دون أن تقرتف يداه.
كثريا عند خرب
ً رغم كل هذا ،إال أن عاطفتي وفكري تعطال
اإلرساليات ،وأن هذا املكان يف األصل قد ُأنشئ للتبشري ...كمسلم أعتز
بديني ،مل أستطع أن أفصل بني تعاطفي مع حالته اإلنسانية وما حدث
أساسا إلينا من أجل التبشري ،لعل هذا
ً أيضا قد أتيا
لوالديه ،وأن والديه ً
من اخلطأ ،لكن هكذا كان شعوري ،وما سيشعر به بالتأكيد أي فرد له
عقيدة ارتبط هبا بفطرته ويغار عليها.
كنت أحاول أن أتغافل عن هذا حتى ال ُيوغل صدري منه أو من
املكان ككل ،وكنت أحاول أن أراه فقط اإلنسان الذي تأثرت بحاله،
بعيدً ا عن انتامئه وسابق حياته ،أو املسن الضعيف الذي حيتاج العون،
الذي ُحرم منذ طفولته من والديه وطوال حياته يحُ رم من أدنى حقوقه
واحتياجه كبرش يف هذا امللجأ؛ وهو ما مل يكن سهلاً ،لكنه مع طبيعتي
العاطفية ،مل يكن مستحيلاً ببعض التحايل من عاطفتي عىل فكري.
35
أنس يف هناية حديثي أن أذكره بباقي سؤايل ،وهو أنه كيف كانمل َ
راه ًبا؟ وما سبب ذلك؟ األمر الذي اتضح يل عند تكرار سؤايل أنه قد
جتاوزا عن تعمد ،قال هذا عندما أردفت له بعد تكرار
ً سهوا وليس
نيس ً
سؤايل« :ولك حق التحفظ عىل اإلجابة إن فضلت ذلك» فقال يل:
ـ مل أرغب يو ًما يف الرهبانية ،ومل أختيل نفيس راه ًبا ،أصبحت راه ًبا
كي أجد مكانًا
أعيش بني جدرانه.
قاطعته هنا:
ـ لكن أصولك فرنسية ،لمِ َ مل ْ تذهب إىل سفارتك بعد أن كربت
وبحثت عن أي طريقة تصل هبا إىل هناك؟
ـ األمر ليس هبذه السهولة ،فقد نشأت بني جدران امللجأ ،ال أعرف
لدي أي مستندات خاصة يب ،ال مستند ميالد وال أي يشء ،وليس َّ
والدي ،مل يكن امللجأ
َّ مايثبت هويتي ،فقط ما أطلعتك عليه من أوراق
ليهتم بذلك ،ثم إن حيايت األوىل مل تكن كالتي عليها اآلن ،فكنت من
أفراد إدارة امللجأ ،كنت راه ًبا معهم ،كنت أخرج وإن كان قليلاً ألماكن
أيضا نزور مالجئ أو كنائسحمددة بسيارات امللجأ لقضاء حاجاته ،وكنا ً
أخرى.
عيل ،ما كنت أحب أن
يف هذا الوقت كنت مترش ًبا فقط بفضل امللجأ ّ
أخالفهم ،كنت أود فقط رد مجيلهم ورسالة الرب ،هكذا كان فكري يف
بداية عمري.
رغم أنني كنت بني املسنني طيلة عمري ،لكنني ما عرفت معاناهتم
36
إال عندما أصبحت واحدً ا منهم ،وأصبحت أعيش يف عنابرهم ،فقد
لراهب آخر شاب جديد ،كانت ٍ ُسحبت مني حجريت اخلاصة كراهب
حجرة جمهزة بكل يشء ،مل أكن أعاين مما أعانيه اليوم ،كل ذلك كان سب ًبا
يف رضائي عن وضعي حتى ترسسبت مني األيام ،ووجدت نفيس وقد
نقص من عمري مخسة وسبعون عا ًما مل أعشها ،لألسف علمت بذلك
بعد فوات األوان ،بعدها تغري اعتقادى وإيامنى بأشياء كثرية حتى هذه
الرهبانية.
فأصبحت أؤمن اآلن بعد أن ضاع عمري ،أن االلتزام ال يأيت بأن
نكون منعزلني عن مواضع الفتن والناس ،وأن نتجرد من كل مشاعرنا
برشا كام أراد لنا الرب بكلونتفرغ للعبادة ،بل اإليامن أن نكون ً
احتياجاتنا ،والتي نجاهد يف أن نشبعها بام أراده الرب ،ال أن نحرمها،
وأن نتعرض للفتن ونرتكها للرب ،ال أن ننعزل دون أي اختبار حقيقي
لنا ،ليس هناك مالئكة إال يف السامء ،نحن برش يعرتينا النقص...
حديث طويل ،شعرت يف أجزاء كثرية منه أنني أسمع من فيلسوف له
فلسفته اخلاصة ،ال من مسن معزول عن احلياة ،قد جعلني أعيد النظر يف
أيضا بشكل كامل مع بعض مفاهيمى ،خاصة بعض مفاهيمي ،وتوافق ً
إيامنه األخري بالرهبانية،
لكن ومع ذلك ،يف هناية احلديث ،كانت نفيس ما تزال تنازعني ،ومع
هذه املحاوالت للفصل ،تذكرت وقتها حدي ًثا يل ساب ًقا مع «مارسيل»
كانت حتدثني فيه عن هدف امللجأ وهدف العاملني فيه ،وقالت يل وقتها:
ـ وإن كنت أتلقى مقابلاً ماد ًّيا نتيجة عميل يف امللجأ ،إال أن الراهبات،
وعىل رأسهم املسئولة ،ال يتلقون أي راتب ،وأن شعار امللجأ هو «خدمة
اإلنسان فقط» بعيدً ا عن أي يشء آخر.
37
تذك��رت كلامهت��ا ،وه��ذا الش��عار ال��ذي جعلن��ي أثم��ن دور امللجأ
وأعظمه ،لكن��ه عىل ما يبدو ال يوجد يشء دون مقابل ،وليس بالرضورة
تبش�يرا أو هل��دف عقائدي ،هكذا كان
ً أن يكون املقابل ماد ًّيا ،فقد يكون
حدي��ث نفيس الذي رسعان ما أتغلب عليه ،ثم يعود فيغلبني ،أحاول أن
أقن��ع نفيس بغريه ،ربام لتعلقي باملكان وأهل��ه ،وأهنم بالفعل جمني عليهم
وليس��وا جناة ،أو ربام أنني وثقت جدًّ ا يف «مارسيل» فال أحب أن أختيل،
ملجرد التخيل ،أهنا دون ثقتي هبا..
ألول مرة وقد قاربت عىل األسبوعني هنا ،أشعر بأنني مسلم وسط
مجع من املسيحيني ،رغم أنني كنت أعلم تلك احلقيقة من أول يوم أتيت
فيه ،لكن اجلديد هو أن هناك شي ًئا قد استثار هذه العصبية والنزعة عندما
كان حدي ًثا يمس األديان ،عندها قد نتنازل عن كل القواسم املشرتكة بيننا
يف اإلنسانية ونتشبث باختالفنا الوحيد ،أن لكل واحد منا دين ًا خمتلف ًا عن
اآلخر ،مع أننا قد نكون بعيدين كل البعد عن تعاليم ديننا ،وذلك يف حد
ذاته ترك واستهانة بام ندين ،لكننا فقط نرى هذه االستهانة عندما تأيت من
معتنق دين آخر.
عاهدت نفيس أن أتعامل بنفس الروح التي أتيت هبا ،وأال أقع يف
نفس اخلطأ الذي أنكره عىل اآلخرين إن كنت متس ًقا مع نفيس؛ فأخدم
دائم حسن النية إىل أن يظهر
فقط اإلنسان من أجل أنه إنسان ،وأفرتض اً
يل عكس ذلك ،وليس من جمرد كالم مل يوثقه شواهد.
طوال هذا احلديث الذي كان بيني وبني «ألفونس» كان شبح املكان
يتغشانا من وقت آلخر؛ فكنت أشعر هبا عندما كانت متر من خلفنا
وتنظر إلينا لربهة ثم تنرصف ،كنت أشعر بذلك من حديث «ألفونس»
38
فكان يتلكأ فيه هنيهة وكأنه ال يريد أن يسمعها شي ًئا من حديثه ،فكنت
متفهم،
اً أعلم وقتها بمرورها وأهنا تتفقدنا من طرف خفي لذلك كنت
تلكئ ِه.
فكنت أنتظر «ألفونس» يف ِ
يف اليوم التايل هلذا احلدي��ث وأنا ذاهب إىل امللجأ كعاديت ،كنت أهيئ
نفيس أثناء ذهايب ك��ي أكون مثل كل يوم ،حماولاً تنايس كل يشء قد يغري
م��ن طريقتي ،فلي��س هلؤالء املس��نني أدنى ذنب حت��ى أحرمهم من جمرد
ابتسامة قد اعتادوا عليها مني قد تسعدهم.
39
()5
«فليس ثم��ة دفاع حقيقي عن اإلنس��انية وأن��ا ما زلت
أرف��ض رشب ك��وب م��ن الش��اي؛ ألن م��ن صنع��ه يل
«نرصاين»»!!
41
انقىض أسبوع وأنا عىل هذه احلالة وهو الثالث يل ،حتى استسغت ما
كنت أرغم عليه نفيس ،وتناسيت ما أود نسيانه ،وإن كان بشكل مؤقت؛
لعدم توافر ما يثري بداخيل ذلك ،حتى جاء ذلك اليوم.
وكعاديت ،أ ُمر أولاً عىل حجرة «مارسيل» عند قدومي ،لكنها مل تكن
كعادهتا؛ حيث استقبالاً ً
فاترا دون ابتسامتها املعتادة وإن حاولت تصنعها،
مرت معي ككل يوم عىل احلاالت ،لكن هذا اليوم من دون أي حديث
بيننا ،قبل املرور خرجت معي وكأهنا تقىض واج ًبا دون روح فيها ،وفور
انتهائنا ،استأذنت دون أي حديث عىل غري العادة معي ،اضطراب يف
املعاملة ،يف وقت كنت أجاهد نفيس فيه حتى ال أتغري يف معامالتى حتى
ال أجرح أحدً ا ،فأجد اآلخرين هم من تغريوا معي دونام سبب.
كنت أفكر يف أن أذهب إليها ألسأهلا عن سبب ذلك ،لكن نفيس
كابرت ،فقلت لن أذهب إليها ألسئلها ،ما دمت مل أسئ إليها ،لن أفرض
نفيس عىل أحد.
مبكرا عن موعدي املعتاد ،فقد سهرت
أتى يوم آخر ،ذهبت إىل امللجأ ً
طوال الليل أفكر يف أمر «مارسيل» وأتذكر حديثي األخري معها ،لعيل قد
مبكرا
أخطأت يف يشء ،فلم أجد إال كل ود ،هذه احلرية جعلتني أذهب ً
43
لعيل أجدها؛ فأستوضح منها ،فلن أستطيع أن أستمر عىل ماعقدت عليه
من قبل.
دائم عندما ال
ال أعلم ملاذا رضخت نفيس لذلك وهي من تكابر اً
تكون خمطئة ،أهو لني القلب الذي جيعل العقل والنفس يتخليان عن
بعض مبادئهام؟!
أتت يف موعدها املعتاد ،بعدما مللت التفكري يف كيفية فتح حواري
معها يف وقت انتظاري الطويل ،ما إن دخلت مكتبها حتى تعقبتها
بالدخول ،وعىل تعجل مني ودون مقدمات معتادة ألقيت هلا ما يف داخيل
حتى أسرتيح وهتدأ ظنوين ،فبدأهتا باحلوار قائلاً :
سمحت يا أستاذة ،ممكن أعرف سبب تغريك معي ،هل كان مني ِ ـ لو
خطأ؟
ـ هل أسأت َ
إليك؟
ِ
ولكنك عىل غري املعتاد معي. ـ مل تسيئي،
ـ كل ما يربطنا هو مدة تكليفك وعملك يف امللجأ ،وهذا ليس فيه
أي مشكلة ،ومل يتعطل يشء ،كل عالقتنا هي عالقة عمل ،والعمل عىل
ما يرام.
ردودها اجلافة الصادمة زدات من انفعايل الداخيل بدلاً من أن ترحيني
كام كنت أريد من حواري إليها ،انسحبت من أمامها غاض ًبا جدًّ ا ،فأنا مل
أسئ إليها ،ومع ذلك جئت استوضح منها؛ متسكًا بعالقتي معها وهي ال
تكرتث يب ،وكأهنا زاهدة يف تلك العالقة التي كانت ودية إىل حد كبري؛
مما زادين اغتيا ًظا ورغبة يف االنتصار للنفس التي أشعر وكأهنا كرست
بذهايب إليها فقابلتني هبذه الردود.
44
فاس��تدعت ذاك��ريت كل ما يش��عل غضب��ي ،وخرج من حت��ت الركام
م��ا كن��ت أجاهد أن أخفي��ه حتى ال يوغ��ل صدري منه��م ،أو باألخص
«مارسيل» لكنني كنت أخفيه كي أبقى عىل بعض الود متحملاً ما يرفضه
عقيل وما تربيت عليه بوازع من القلب؛ فأصبحت أرى أنه ال جدوى من
أن أحتمل ،وأحافظ عىل مش��اعر من مل حيافظ عىل مشاعري ،فعدت إليها
بوجه مكفهر يقودين غيظي.
ـ كنت أمتنى أن يظل ظني كام هو ،أنكم ختدمون اإلنسان ،من أجل
اإلنسان فقط،
ـ ماذا رأيت منا كي تقول هذا؟ نحن بالفعل نخدم اإلنسان لإلنسان،
ال ننتظر مقابلاً من أحد.
ـ املقابل أحيانًا ال يكون مالاً ،مقابلكم هو التبشري ،هذا هو سبب
خدمتكم.
«بدهشة مصطنعة للتدليل عىل أن كالمي خمالف للمنطق»..
قالت:
ـ وهل ترى البشارة مقابلاً ننتفع به؟! بل هي اخلدمة الكربى التي
نقدمها للبرشية ،أن نكون اتصاهلم ومعرفتهم بالرب.
ـ أي رب يا صديقتي؟! الرب الذي تعتقدين؟! الذي خيتلف ِ
معك
ِ
اعتقادك؟ اإلنسانية أوسع وأشمل ،اإلنسانية الرباط فيه من يعتقد غري
املجمع الذي ال خالف عليه.
ـ واإلنسان يا صديقي دون دين ليس له قيمة.
45
ـ بل الدين لن يقام إال باإلنسان ،اإلنسان هو حمور الكون ،وهو مناط
التكليف ،وهو املؤدي لشعائر الدين ،قد أتى الدين لإلنسان ،فهدف
الدين هو حفظ دماء اإلنسان وحفظ ماله وكرامته.
ـ نحن نعمل للدين؛ ألن الدين هو الغاية.
ـ الدين وسيلة للتقرب إىل اهلل ،وجلعل حياة اإلنسان أفضل يف الدنيا
قبل اآلخرة ،عندما ُجعل غاية أصبح اهلدف هو زيادة أعداد املعتنقني
عىل امللتزمني ،كان األوىل من البحث عن معتنقني جدد هو تربية املعتنقني
القدامى عىل دينهم الذي هم عليه ،الكيف وليس الكم سيدتى.
ـ لألسف يا صديقي! أنت تتحدث بطائفية وترفض لنا ما هو متاح
لكم ،أوليس لألزهر مبتعثون يف معظم دول العامل لنرش الدين اإلسالمي؟
ـ نعم يا صديقتي ،لكنهم يعلنون عن أهدافهم ،والكل يعلم دور
األزهر ،ال خيفون أهدافهم وراء ستار فعل اخلري.
ـ أنت ترفض فقط الوسيلة ،التي أراها أنا أهنا وسيلة سامية لغرض
نبيل ،وسيلتنا هي أننا أوينا هؤالء العجزة واملسنني يف املالجئ ،وأننا
قدمنا خدمة طبية ملن ال يستطيعون ،وأننا قدمنا خدمة تعليمية راقية،
فهل تلومنا عىل ذلك؟
ـ كل هذا سيكون أرقى لو كان فقط من أجل اإلنسان ،أال تكفي صفة
سموا؟ ثم إنني ال أعلم ما العائد عىل املسيحية بضم
اإلنسانية وحدها ًّ
هؤالء املسنني! ما الذي من املمكن أن يقدموه؟! ليس أظلم من استغالل
االحتياج وهم حمتاجون ،هم حمتاجون احلياة الكريمة التي أرادها هلم
الدين وليس اعتناق دين آخر.
46
تتخف وراء اإلنسانية ،أنت ال ترى مالمح وجهك َّ ـ يا صديقي ال
وأنت تتحدث ،كل ما يغضبك فقط أنك مسلم حتمل مشاعر سلبية جتاه
دين آخر غري دينك ،ال حتب له أن يدعو البرش إليه ،مشاعر غرية طبيعية
ال أنكرها عليك ،لكن ما أنكره هو حماولة صبغتها بالدفاع عن اإلنسانية؛
أيضا تفرق بني اإلنسان عىل أساس دينه .وإال لمِ َ تتأفف
ألنك بداخلك ً
منذ دخولك هذا امللجأ أن حتتيس من «البوفيه» كو ًبا من الشاي؟ أنا أعلم
ملاذا؛ ألن من يصنعه لك مسيحي ،وأعلم أن أكثركم يتأفف من ذلك.
أنك خترجني من حوارنا األسايس ألشياء طائفية مل تكن هي ـ أرى ِ
هديف من األساس.
ـ بل هي األساس ،لو كانت الدعوة هنا لدينك اإلسالم ،لكنت
بررت لنفسك ،ولكن األمر اختلف؛ فقد جاء ما أغضبك مع ما هو ضد
معتقدك.
انتهى حديثنا الذي قد أحدث تصد ًعا يف عالقتنا التي استمرت لوقت
ليس بالقصري متميزة جدًّ ا؛ فقد جتمعنا من قبل عىل اإلنسانية ومنارصة
اإلنسان أ ًّيا ما كان دينه ،لكننا اختلفنا عندما فكرنا بعد نُرصتِ ِه إىل أي
وجهة سيكون دينه.
انتهى احلديث ،لكن ما زال كالمها األخري عال ًقا بذهني ،فانا أعلم
ما بداخيل حتى ولو حاولت أن يكون خارجي شي ًئا آخر ،أعلم أنه يف
وقت ما اختلطت مشاعري بام هو دفاع عن اإلنسان ،وما هو دفاع عن
اإلسالم ضد هجمة تبشريية ،هكذا وصفتها بداخيل ،وتعاملت عىل ذلك
وإن حاولت أن أظهر العكس ،فليس ثمة دفاع حقيقي عن اإلنسانية وأنا
ما زلت أرفض رشب كوب من الشاي؛ ألن من صنعه يل «نرصاين»..
47
انتهى حوارنا ،بل تناظرنا الفكري ،ذلك التناظر الذي مل يكن عن
طيب نفس للوصول لنقاط االلتقاء والتجمع ،بل هو النبش يف مواضع
االختالف بدافع من خالف سابق ،وطفو ملا كان يف أعامق القلوب،
وظهور ما كنا نتكلف إخفاءه ،ففي كثري من األحيان نتحدث بام
حيب اآلخر سامعه وليس بام نعتقد؛ اسرتضا ًء له ،أما وإن أصبح ذلك
االسرتضاء بال جدوى ،ومع مثريات خروج تلك النزعة الطائفية
املوجودة بالطبع يف كل واحد منا بنسبة ما ،فال دافع هنالك للتحمل.
أيضا
أعرتف بأنني مل أكن مستعدًّ ا لالقتناع بام قالت ،وأعتقد أهنا ً
كذلك ،وهذا أننا نعترب االقتناع بوجهة نظر اآلخر هزيمة ،فكيف يقبل
أحدنا أن هُيزم دينه من منطلق فهمنا هذا؟
فدائ�ًم�اً م��ا تك��ون مناظراتن��ا إلثب��ات خطأ اآلخ��ر ولي��س للوصول
للحقيقة.
ما كنت أحب أن أخوض فيام خضته معها ،لكنه االغتياظ ،والذي
تولد من كوهنا ذات أمهية لدي ،فلو كانت شي ًئا عاد ًّيا ما كنت ألبايل
فدائم يكون العتاب دليلاً دام ًغا عىل
اً بطريقة معاملتها التي اختلفت،
متسكنا بمن نعاتب.
فمن هذا االغتياظ والضيق ظهرت حقيقتي لنفيس ،أن اهتاممي
الكبري بتغري حاهلا معي ليس بدافع خويف عىل امللجأ ،وما كنا نقوم به
خلدمة النزالء ،وإن كان يف ذلك بعض احلقيقة؛ ذلك لتعاهدنا رسم
البسمة عىل شفاه النزالء ،لكن تبقى احلقيقة الكاملة ،أن اهتاممي بدافع
من يشء قد نبت يف القلب جتاهها ،هذا ما بدا يل جل ًّيا من استيائي الشديد
من ذلك االضطراب ىف العالقة.
48
كان هناك بالفعل بعض االنعكاسات ملا حدث بيننا عىل نزالء امللجأ،
مل أستطع الفصل بني هذا وذاك ،كنت أتكلف االبتسامات التي اعتادوا
عليها؛ وهو ما كنت أتغلب فيه عىل نفيس مرة ،ويغلبنى حايل وضيقي يف
مرة أخرى؛ فال أستطيع إال أن أبدي ما أشعر به؛ فيظهر وجهي الضاجر
ألناس ليس هلم أي ذنب ملا أنا فيه.
مع أهنا قالت يل :إن عملنا يف امللجأ لن يؤثر عليه أي يشء وهو عىل
ما يرام ،إال أنني يف هذه اخلمسة أيام التي انقضت ونحن عىل هذه احلالة،
كنت غري منتظم كالسابق بمروري عىل كل املسنني والتسامر معهم،
وكنت ال أمر عىل مكتب»مارسيل» عند جميئي حتى تصطحبني يف هذه
اجلولة الصباحية عليهم ،رغم علمي أهنا لن ترفض ذلك ،إال أنني كنت
ال أفعل ،ربام إمعانًا يف أن أظهر استيائي هلا ،وأن ذلك سيؤثر حتى عىل
ما كنا نفعله من قبل ،وكأنني أدلل بالفعل عىل أن حزين األكرب كان عىل
تلك العالقة التي راقت يل وليس عىل ما كنا نفعله مع نزالء امللجأ ،وإال
لكنت ذهبت إليها كام كنت أفعل كل صباح حتى نمر عليهم ،وأرتيض
بأي طريقة تفضلها يف التعامل معي ما دام ما نصبو إليه من خري يتم ،وال
أيضا كابرت ،وتنتظر أن أدعوها أيضا كذلك من اخلطأ مثيل ،فهي ً
أعفيها ً
ومل تسأل عام اتفقنا عليه ،كذلك هي النفوس ،عندما تنترص لنفسها دون
أي حساب ألي يشء آخر..
جالسا بني «ألفونس وكرستني»
ً أيضا كنت ـ كعاديت ـ
يف ذلك اليوم ً
وفكرا شار ًدا ،فكان من السهل عىل من رآين من قبل
ً بينهام كنت باجلسد
أمرا ما بداخيل ،فلم أستطع إثارة
وأنا عىل طبيعتي أن يعلم أن هناك ً
ألفونس بأسئلتى التي كانت حتفزه عىل احلديث كام كان يقول يل عندما
أصمت أو أهنك من كثرة احلديث:
49
ـ «أسألني وحدثني ،فأنا ال أجيد فتح موضوع للحوار».
يبدو أن معامل وجهي يف ذلك اليوم كانت واضحة فاضحة جدًّ ا حلايل،
حتى عن أي يوم مر؛ هذا ما جعل «ألفونس» يقاوم صمتَه ويبدأ هو
باحلديث ،بل بدأين هبزة مل تكن بيده جلسدي ،بل من فاهه لعقيل ،أن يعيد
التفكري فيام يستحق احلزن وما هو أدنى من ذلك ،فقال يل بنربة استياء
عيل ضيقي وحزين: وكأنه ينكر ّ
ـ ملاذا حتزن؟ وعىل أي يشء حتزن؟ ليس لك أن حتزن ما دمت ال
تسكن هذا امللجأ.
ثم أردف باألسباب قبل أن أتفوه بأي يشء ،بطريقة تظهر مدى قهره
وأمله الداخيل:
ـ يف هذا امللجأ عرفنا أن الرتف ،كل الرتف يف أنك صاحب االختيار
يف حياتك ،وإن كانت خياراتك بني املحدود.
ختتار أن تذهب أو ال تذهب ،ونحن ماكثون ال حيلة لنا سوى
االنتظار عل أحدً ا يأيت لزيارتنا.
تأكل عندما جتوع ،ونحن نأكل وقت أن تأتينا الوجبة ،فضلاً عن أنك
أيضا ما تأكله ،بينام نأكل ما ُيطهى لنا.
ختتار ً
لنا موعد للنوم ،وموعد لالستيقاظ ،فال جيوز لألحالم السعيدة
حتم ستقطع بسيف أجراس االستيقاظ أن تطيل غفوهتا علينا؛ ألهنا اً
اإلجباري.
قل يل عىل أي يشء حتزن؟! أنت يف نعمة مهام كانت مشكالتك.
50
كلامت ،كان هلا عىل رأيس وقع طرق املطرقة ،نبهتني إىل نعم قد
دائم معي؛ فحسبتها مسلامت ،مل أختيل حيايت بدوهنا، اعتدت عليها ألهنا اً
فأحيان ًا انتظارنا ألشياء نتمناها تنسينا فرحة األشياء املتاحة لدينا التي قد
يكون حمرو ًما منها أناس آخرون هي جل ما يتمنون.
أومأت إليه برأيس اتفا ًقا مع ما قال:،
ـ نعم ،أنا يف ترف رغم كل مشكاليت ،الصرب صربكم أنتم ،أضحك
عىل نفيس التي اختزلت كل الدنيا يف مشكلة صغرية.
رد قائلاً :
ـ الدنيا بتفاصيلها أكرب من أن تقف عىل مشكلة.
قلت ..متعجب ًا
ـ بل أحيانًا تقف حياة بعض الناس عند مشكلة ما؛ فال جيدون هلا حلاًّ
سوى االنتحار.
ـ إذ ًا هبذه املقايس فنحن أبطال ،فربغم هذا السوء صابرون ،وال أحد
هنا ُيفكر يف االنتحار.
ـ هل هذا رض ًا منكم بام أنتم عليه..؟
نح َي حتى نموت ،كل ارتباطناـ بل انتظار ًا ليتغري ما نحن عليه ،إننا مل ْ
باحلياة أننا فقط مقيدون يف سجلها أحياء ،ننتظر ،عل الفرج يأيت فيام تبقى
قرارا واحدً ا يف حياتنا بمحض إرادتنا ،أيكونمن أيام ،ثم إننا مل نتخذ ً
أول قرارنا هو أن نموت؟!
ال ينتحر إال من قد حيا بالفعل ،بل أحيانًا يكون انتحاره مللاً من
احلياة ،ونحن مللنا من املوت عىل قيد احلياة!.
51
حديث جعلني أعيد النظر يف كثري من املفاهيم ،بل جعلني أستصغر
كل مشكاليت عندما أقارن حايل هبم ،فأحيانًا ال ندرك قيمة النور الذي
نعيش فيه واعتدنا عليه إال بعد مرورنا بالظالم.
52
()6
«تعجبت جدًّ ًا أن يكون ذلك مبلغ علم راهبة عن
شاب مسلم ،هو أن يضحك عىل فتاة مسيحية وجيعلها
ترتك أهلها ودينها»
53
مرت أيام أخر ،أمتمت شهري األول من شهري التكليف.
ع�لى غ�ير عادهتا ،أش��ارت إ ّيل م��ن بعيد وأن��ا جالس ب�ين «ألفونس
وكرس��تني» فذهب��ت إليها وفضويل أن أعرف س��بب طلبها يل يس��بقني؛
حي��ث أنني ال أتذكر أن حدثتها غري تل��ك املرة األوىل يف أول يوم ملجيئي
وفجعتي التي ال تُنسى.
وصلت إليها ،وبعفويتها وتلقائية حديثها املعتاد الذي أسمعه مع كل
من يف امللجأ ،طلبت مني طل ًبا مل أكن أتوقعه.
ـ أستاذ «مازن» ،ممكن مساعدة لو سمحت؟
ـ حتت أمرك اتفضيل
ـ معلش يعني هي حاجه كدا مش قد مقامك ،بس انت زي ابني واهلل
ولو مش حابب خالص.
ـ وال هيمك حتت أمرك يف أي يشء أؤمريني بس.
ـ األم��ر هلل ،ربن��ا حيفظك ي��ا رب ،معلش لو فيها رزال��ه مني عايزاك
تيجي معايا ،هانجيب ش��وية حاجات للمطبخ رضوري عش��ان الشيف
«مايكل» بيس��تعجلني ،وعم «منصور» الس��واق بيجي��ب حاجات تانية
بعربية امللجأ.
55
مل أستطع إال أن أوافق ،رغم أن املساعدة تبدو وأهنا ستكون شاقة وأنا
يف أول اليوم يف الصباح ،لكنني ما اعتدت أن أرفض طل ًبا لكبري حيتاج
أيضا من الرفض؛ فوافقتها رسي ًعا بعد
املساعدة ،وسيف حيائي يمنعني ً
أن سألتها هل جيوز يل اخلروج يف وقت تكليفي؛ أملاً يف عذر يرفع عني
حرج الرفض.
أيضا قد رتبت لذلك.
لكنها ً
ـ ال ما تقلقش ما دا برضه شغل تبع امللجأ ،وأنا قلت لألم «مارية» إين
هاطلب منك فوافقت.
قلت يف نفيس تود األم «مارية» أن لو كنت يف كل يوم ِ
معك يف السوق
عىل أن أبقى مع املسنني يف امللجأ.
خرجنا سو ًّيا من امللجأ ،ما إن خرجنا حتى حتدثت إ َّيل وكأهنا كانت ال
تريد سوى أن نكون باخلارج.
ـ برصاحه يا أستاذ «مازن» انا أخرتعت حوار السوق دا عشان عايزة
أقولك عىل حاجة رضوري ،بس اوعي كالمي دا خيرج بره مايش؟ أنا
هاقولك بس عشان أنا بعزك وأنت زي ابني ،وكامن برصاحة بقى إحنا
مسلمني زي بعض.
ـ قويل أنا سامعك وكالمك عمره ما هيخرج بره أبدً ا.
ـ متام ،بص يا أستاذ «مازن» أنا عارفة إنك زعالن شوية من أستاذه
«مارسيل» بس معلش الزم تعذرها ألهنا غصب عنها واهلل.
ـ ازاي غصب عنها يعني؟ ممكن توضحييل.
56
ـ أنا برصاحة كنت بنضف فوق جنب مكتب األم «مارية» واستدعت
«مارسيل» فوق عندها وزعقت معاها جامد أوي إهنا بتقف وتتكلم
معاك كتري ،وقالتلها كالم برصاحه جرحها جدًّ ا لدرجة إن»مارسيل»
كانت بتمسح دموعها وهي نازله من مكتب األم «مارية».
ـ إيه هو الكالم اليل جرحها؟ سمعتيه؟
ودايم الشباب املسلم
اً ـ برصاحة مش كله ،بس كان عن إنك مسلم،
ممكن يضحك عىل بنت مسيحية وخيليها تسيب أهلها ودينها عشانه،
فاعذرها بقى إلن الكالم جامد عليها ،وكامن كراهبة الزم يسمعوا
كالمها هنا ،وأنا كمسلمة زيك قلت أقولك إلننا مالناش غري بعض
يف اآلخر ،زي ما «مارسيل» رغم إهنا كويسة جدًّ ا ،لكن يف اآلخر الزم
تسمع كالم الراهبة بتاعتهم.
تعجبت جدًّ ا أن يكون ذلك مبلغ علم راهبة عن شاب مسلم ،هو أن
يضحك عىل فتاة مسيحية وجيعلها ترتك أهلها ودينها
أتفهم أن يكون كالم العامة «كغالية» فكان أكرب دافع هلا ألن تقول
يل:
« أنا كمسلمة زيك قلت أقولك إلننا مالناش غري بعض يف اآلخر»،
وكأن ال رابطة سوى الدين!؟ وكأن جنسيتنا الواحدة ليست كافية لتكون
رباطنا الذى يوحدنا ..،لألسف! هذا هو املفهوم السائد لدى الكثري من
العامة ،وأحيانًا غري العامة ،مثل ما كنت عليه يف وقت ما وأنا أدعي
قبول اآلخر والفهم ،وهذه هي احلقيقة التي يف الصدور ونخفيها خلف
شعارات رنانة.
57
كثريا قدر استغرايب ،فقد علمت ذلك السبب الذي ظل ارحتت ً
يشغلني أليام ،ووجدت العذر الذي كنت أبحث عنه «ملارسيل» وح ًّقا
إنه لعذر يغفر هلا.
58
()7
«ما هذا السبب والظرف العظيم الذي جيعلنا نفعل
هكذا مع من جذبونا بذراعيهم عىل صدورهم عط ًفا
وحنانًا ،نحملهم بأذرعنا إىل املالجئ بعدما أصبحوا
طغمة عىل صدورنا؟!»
59
رأيتها يف ذلك اليوم عىل غري حاهلا املعتاد ،فقد أرشقت شمس وجهها
أيضا ألول مرة ،مل تكن سارحة يف ملكوهتا بفعل ابتسامتها التي رأيتها ً
اخلاص ،بل معه بكل جوراحها ،سألت نفيس متعج ًبا ،من هذا الذي
استطاع أن يستأثرها من عزلتها؟ من هذا الذي رأت فيه أنه اجلدير
دائم ما تنظر إىل يشء ال نراه ،ورأته اجلدير
الوحيد بنظراهتا التي كانت اً
أيضا بسامعها ،فهي متيل بأذنيها عليه ،ال تريد أن تتفلت كلمة واحدة ً
من حديثه هلا ،يكون كيفام يكون ،األهم أن مشهدها هذا كان كفيلاً بأن
ينسيني ما أمهني ،حتى تلك املشكلة التي كانت بيني وبني «مارسيل» ومل َ
دائم ال يفارقني ،وحالة رصعها املتكررة عىلال؟ فقد كان وجهها احلزين اً
البوابات ال أنساها مع ضعف حيلتي أن أستطيع تقديم أي مساعدة هلا
تخُ رجها مما فيه اً
دائم..
سعادة أفتُتح هبا يومي ،كنت أمتنى أن تستمر ليس يل ،بل له يف
األساس ،وبالطبع سأكون سعيدً ا ،لكن هذا هو حال امللجأ الذي ربام
لن يتغري ،ففي منتصف اليوم ،كانت رصخاهتا وهي تتعلق هبذا الشاب
وهو يغادر من البوابة ،ومن خلفها أمن البوابة جيذبوهنا للداخل ،كانت
تتعلق به وكأهنا تتعلق بالروح التي تنتزع منها لتعود إىل املوت ،ما كان
مني إال أن هرولت إىل البوابة أتقىص اخلرب ،حماولاً املساعدة وهتدئتها،
61
ذهبت نحو ذلك الشاب دون حماولة مني ملعرفة شخصه وصلته باحلاجة
«أمينة» فقط كان رجائي له بأن يدخل مرة أخرى رمحة بحاهلا أولاً ،ثم
بعد ذلك أي يشء آخر بعد هدوئها إن أراد الرحيل فلريحل ،وافقني
دونام اعرتاض ،وعىل مالحمه الطيبة تبدو قلة احليلة والضعف اللذين
بدوا مع اغروراق عينيه بمسحة دمع جتاهد السقوط.
عادا وجلسا عىل نفس املقعد الذي كانا عليه وهي متسك بذراعيه،
وتضع وجهها عىل كتفه ،من طيلة وضعها هذا غلبها النوم ،أتاها النعاس
مطمئنة أنه بني يدهيا ،كالطفلة التي تنام حاضنة دميتها ،ختشى أن يأخذها
أحد منها ،فكيف بأم تكون مع ابنها الوحيد وكل معارفها بالدنيا! نعم
ابنها ،ذلك ما صعقني عندما علمت به من أحد حراس األمن ،مل أصعق
من حاهلا معه ،فهذا شعور األمومة الذي ال يضاهيه شعور ،وإنام من
كونه ابنها الوحيد وكل معارفها يف الدنيا ويرتكها وحيدة يف هذا امللجأ
الكئيب عىل هذه احلال التي يرثى هلا.
ما إن غلبها النعاس مطمئنة حتى جاءته الفرصة ألن ينسلخ منها
ويرحل يف نومها بأقل القليل من تأنيب الضمري والذي كان يف أشده عند
رصاخها وتعلقها به وهو يريد اخلروج.
كنت أراه وهو حياول أن خيرج يده من قبضتها يف حذر أن تصحو،
وكأنه خيرج منها ال من امللجأ ،وهو يضع رأسها التي كانت فوق كتفه
عىل طرف من أطراف املقعد الطويل الذي كانا عليه ويرفع قدمها هبدوء
عىل الطرف اآلخر ليرتكها نائمة وخيرج هو متسللاً من باب امللجأ دون
ضجيج من أمه يؤرق ضمريه.
تساءلت يف نفيس ،ما هذا السبب والظرف العظيم الذي جيعلنا نفعل
62
هكذا مع من جذبونا بذراعيهم عىل صدورهم عط ًفا وحنانًا ،نحملهم
بأذرعنا إىل املالجئ بعدما أصبحوا طغمة عىل صدورنا؟! كيف يكون
مربرا يف
هذا؟! كيف تُقابل قمة التضحية بأقسى أنواع النكران؟! ال أجد ً
عذرا ملن يفعل ذلك ،حتى وإن كان بعض نفيس وال سب ًبا جيعلني ألتمس ً
القسوة من األبوين أو أحدمها عىل ابنيهام يف صغره.
63
()8
«أما تعانق ش��يخ األزهر والبابا الذي حيدث كل عام يف
األعي��اد ،ما ه��و إال صورة تقرتب فيها األجس��اد لرضورة
اللقط��ة ،بين�ما النف��وس حتم��ل الكثري م��ن األلغ��ام تنتظر
االشتعال»
65
مشهد احلاجة «أمينة» وما سببه بداخيل من أمل ،عالوة عىل كالم
«ألفونس» الذي جعلني أحتقر مشكلتي ،مقارنة بام يعانيه نزالء امللجأ،
كل ذلك جعلني أعيد تفكريي يف أولويايت ،وأن أختىل عن أنانيتي وذايت،
والعمل فقط هلؤالء املسنني الذين ال حول هلم والقوة ،فاألمر أكرب بكثري
من أن يتعطل تفكريي عند صديقة قد تغري أسلوهبا معي ،وهناك من
يحُ رم من أبسط حاجته الدنيوية كبرش.
عقدت العزم عىل الذهاب لـ «مارسيل» لكن هذه املرة ليس لغرض
ذايت ،ولكن طال ًبا منها املساعدة للعمل معي قدر املستطاع لتحسني
ظروف معيشة وإقامة أولئك النزالء ،أو إقامة أي عمل من شأنه رسم
البسمة عىل وجوه هؤالء البؤساء ،غري مكرتث بأي طريقة ستعاملني
أيضا قد
هبا ،األهم فقط هو حتقيق ذلك اهلدف اإلنساين ،ال سيام أنني ً
علمت حقيقة ذلك التحول ،وأهنا مكرهة عىل ذلك وليس عن يشء قد
حدث مني.
وال أحب أن أكون سب ًبا يضعها يف حرج مع إدارة امللجأ ،خاصة من
األم «مارية».
فكرت قليلاً يف أن يكون غريها سندً ا ومعاونًا يل فيام عقدت عليه
67
العزم ،لكنني وجدهتا األشد اقتنا ًعا وتلبية يف ذلك الشأن ،وكل ما هيمني
اآلن هم أولئك املسنون ،فكيف أتنازل أو أزهد يف وسيلة ستحقق يل
أيضا هدف إنساين نبيل وليس ذات ًّيا؛ لذلك ملذلك اهلدف! ال سيام أنه ً
أتردد ثانية واحدة يف الذهاب إليها.
دخلت عليها وهي يف مكتبها بعد أن أذنت يل ،ما إن دخلت حتى
بادرهتا بأسفي ملا كان مني من حديث حاد ،وتشكيكي يف نواياها ونوايا
العاملني بامللجأ ،اعتذار ليس نا ًجتا عن معرفة احلق؛ ومن ثم العدول عن
الباطل ،ولكن لتجاوز تلك األزمة لغرض يستحق التسامي والرتفع عن
الصغائر.
ثم أردفت هلا بعد أسفي:
لك فقط لذلك اهلدف الذي من أجله نحن هنا ،هم أولئك ـ أتيت ِ
املسنون ،راغ ًبا عونك يف حماوالت مساعدهتم ورسم البسمة عىل
متجاوزا كل مواطن االختالف بذلك الرباط املجمع الذي ال
ً شفاههم،
خالف عليه وهو اإلنسان ،ليس يل حاجة عندك غري ذلك.
قاطعت استطرادي برد أثلج صدري:
حتم مني إليك عىل
ـ ال تثريب عليك يا صديقي ،إن كان اعتذار فهو اً
ما كان مني من حتول غري مسبب ،لكنك يف يوم ما ستعلم رس ذلك،
وأظنك ستعذرين.
أيضا ما
أيضا يف غريتك ونزعتك إىل دينك ،فهو ً ال تثريب عليك ً
حدث معي ،عىل الرغم من أنني أرثوذكسية أختلف يف كثري من أمور
العقيدة مع معظم راهبي امللجأ وبالرضورة مع األم «مارية» لكنه ذلك
68
التعصب الذي يسكن دواخلنا وخيرج بمجرد إثارته ،لكن عىل أية حال
من الطيب أن خيرج كل ذلك ويبدي كل منا لآلخر ما يسيئه منه ،حتى
ال تظل تلك األشياء يف الصدور متأججة؛ فتخرج وقت الضغينة بدافع
من الغيظ وليس يف منافشة يطرح كل منا فيها وجهة نظره دونام إفساد
للود ،فلن يكون صفاء كامل إال إذا أخرج كل منا ما يف نفسه لآلخر،
أما تعانق شيخ األزهر والبابا الذي حيدث كل عام يف األعياد ،ما هو إال
صورة تقرتب فيها األجساد لرضورة اللقطة ،بينام النفوس حتمل الكثري
من األلغام تنتظر االشتعال.
استدركت كالمها رسي ًعا..
األهم اآلن هو ما جئت من أجله ،هؤالء املسنني ،أنا معك يف أي
يشء يكون هلم بكل ما أستطيع من قوة.
ـ هذا ظني ِ
بك وما كنت أتوقعه.
ففاجأتني رسي ًعا بطلبها:
ـ أعطني رقم هاتفك.
تعجبت من طلبها غري املتوقع ،فسألتها علني سمعت ً
خطأ.
ـ نعم حرضتك؟!
متاحا دون حرج.
ـ رقم هاتفك ،إن كان ذلك ً
ـ طب ًعا طب ًعا بكل رسور.
تكلمت يف عجالة ،وكأهنا تريد أن تنهي حوارنا قبل أن يأيت أحد.
فختمت كالمها وهي تتحرك إىل خارج مكتبها.
69
ـ انتظر اليوم مني مكاملة نتحدث فيها عام سنفعله يف األيام القادمة.
عيل مع الكثري من التفكري
طلبها لرقمي كان له بالغ النشوة والسعادة ّ
عن السبب ،أهو فقط من أجل االتفاق عام سنقوم بتنفيذه الح ًقا؟!
أم هناك أمر ًا آخر ًا ستحدثني عنه؟ عىل أية ،حال هو تطور إجيايب يف
عالقتنا ،وجتاوز ملرحلة الفتور التي أساءتني من قبل.
دائم ما كنت أضع اهلاتف بجواري بعد عوديت من امللجأ إىل منزيل ،اً
أينام كنت ،وأنا أغري مالبيس ،وحتى وأنا أتناول طعامي؛ خو ًفا من أن
تأيت تلك املهاتفة املن َت َظرة وأنا بعيد عن هاتفي ،يف الغالب ،كنت أنسى
هاتفي يف بنطايل الذي أتيت به من اخلارج ،أو أتناساه عمدً ا للراحة ،إال
حريصا عىل تذكره ومحله يف كل مكان أكون فيه ،اهتاممي
ً ذلك اليوم كنت
بتلك املكاملة وانتظارها يعكس اهتاممي بصاحبتها يف املقام األول.
لكنني رسعان ما تداركت هلفتي هذه ،وأخذت أحدث نفيس وأذكرها
بسبب االتصال ،وهو االتفاق عام سنقوم به من أجل نزالء امللجأ ،حتى
يكون كل يشء يف نِصابه الطبيعي ،وال أنتظر أكثر من ذلك فيخيب ظني.
خرج ذلك الرنني الذي تنتظره األذن ،والذي أكده البرص أنه هو،
عندما نظرت إىل شاشة هاتفي ،وجدت الرقم غري ًبا دون اسم حمفوظ من
قبل؛ فصدق توقعي.
يف بداية حديثها أكدت عىل اعتذارها ،وأن هلا عذرها الكبري ،وهو ما
كنت تفهمته بشدة من حديثي مع «غالية»
تبادلنا الرؤى حول امللجأ ،وما حيتاجه النزالء هناك ،اتفقنا عىل خطة
عمل تكون يف األيام القادمة ،تبدأ بكل ما هو رضوري ،بعد حرصنا
70
ألهم احتياجات أهل امللجأ ،وجدنا أمهها ،هو أمر طعامهم والذي زاد
استياؤهم منه يف األيام األخرية ،واألمر الثاين هو حماولة كرس الروتني
القاتل يف يومهم يف امللجأ ،وحماولة ابتكار أعامل أخرى يشاركون فيها،
وتنظيم رحلة أو ما شابه ذلك للخروج هبم خارج امللجأ ملن يرغب منهم
أيضا عىل االحتفال معهم بعيد امليالد؛
وحالته تسمح بذلك ،واتفقنا ً
حيث إنه املناسبة األقرب ،واألكرب عند اجلميع منهم.
لكن ما وجدناه حيتاج للتعجيل بشكل فوري ،هو حال احلاجة «أمينة»
فحاهلا خيلع القلب ،اتفقنا «أنا ومارسيل» عىل مهاتفة ابنها املهندس «عمر»
واالتفاق معه عىل موعد عاجل نتقابل فيه ،ونحاول إقناعه بأخذ أمه من
امللجأ ،وال بد أن يكون ذلك االتصال واملقابلة شديدة الرسية ونطلب
منه ذلك ،حتى ال تعرقل األم «مارية» جهودنا ،وخاصة بعد علمي من
«مارسيل» أن لألم مصلحة كبرية يف وجود احلاجة «أمينة» داخل امللجأ؛
حيث املبلغ الكبري الذي يدفعه ابنها شهر ًّيا عىل هيئة تربعات للملجأ،
ظنًّا منه أنه بذلك يويف أمه حقها وال يعلم أهنا تتعذب به وال يصل منه
يشء هلا وإن وصل ،ما الذي يمكن أن يعوض ُبعد االبن عن أمه ،وعن
أن تكون بجوار من حتب؟!
كام اتفقنا عىل إبالغ األم «مارية» بام نود فعله من برنامج حتى تكون
معنا ىف الصورة وال تشعر أننا نتعداها ،حتى ال نستعدهيا لكن بالطبع لن
نبلغها بام سنفعل ىف حالة احلاجة «أمينة» وسيكون ذلك ىف الغد ونجلس
معها أنا و«مارسيل» قررنا مهاتفة املهندس «عمر» وأن أقوم هبذه املهمة
عىل أن يكون ذلك يف نفس اليوم الذى اتفقنا فيه ،حتى نأخذ زمام املبادرة
ونعجل.
71
هاتفت املهندس «عمر» عملاً بام اتفقنا عليه ،ما إن رصحت له أنني
أحدثه بشأن أمه وأنني أحد املرشدين النفسيني يف امللجأ ،حتى بدا يل
اهتاممه من تركيزه معي أثناء حديثي ،ثم أبدى قبوله الفوري لطلبي ،أنني
واألستاذة «مارسيل» املرشدة النفسية للملجأ نريد مقابلته خارج امللجأ
ألمر هام خيص والدته ،تبقى فقط املوعد واملكان ،والذي استأذنته أن
أبلغه به بعد ترتيبه مع األستاذة «مارسيل» بعدما عرفت منه األوقات
املتاحة له.
مل أضيع وقتًا ،اتصلت عقب ذلك مبارشة بـ«مارسيل» أبلغها بقبوله
عرصا من كل يوم،وأنه متفرغ من بعد موعد عودته من عمله يف الرابعة ً
وأيضا
وهو تقري ًبا نفس موعد انتهاء عمل األستاذة «مارسيل» يف امللجأ ً
عيل نفس مواعيد حضور وانرصاف انرصايف؛ حيث إنني كمكلف ينطبق ّ
العاملني هناك.
كان رد «مارسيل» أن يكون املوعد الغد يف اخلامسة بكافيه «مازيكا»
كثريا.
الذي ال يبعد عن امللجأ ً
راق يل جدًّ ا تعجلها والذي كنت أمتناه ،والذى كان البد أن يتوافق
معها.
رسي ًعا وتداركًا للوقت ،وقبل أال أستطيع االتصال باملهندس «عمر»
حيث الساعة اآلن التاسعة والنصف ،وأخشى أن تأيت العارشة؛ فيكون
هناك حرج يف االتصال.
اتصلت عليه يف التو ،ودون انتظار طويل للرد ،كان رده مع بداية
منتظرا ملعاودة اتصايل كي أخربه باملوعد
ً أيضا كان
رنيني عليه وكأنه ً
واملكان.
72
فكان منه القبول الفوري دونام أي تردد.
هذا االهتامم الواضح منه خالل حمادثتي معه وقبوله الفوري ملقابلتنا،
دون كثرة استفس��ارات ،دلل عىل معدن��ه الطيب ،وأن بداخله الكثري من
ظاه��را يف وجهه عندما كان بج��وار أمه ،ومن ً اخل�ير جت��اه أمه ،كان ذلك
األمتع��ة الكثرية جدًّ ا التي جاء هبا حيمله��ا إىل أمه أثناء زيارته هلا ،ظنًّا منه
أنه بذلك يكفر عن تركه هلا ،لكن هناك الكثري من األش��ياء املعنوية ،ومن
احتياجات األنفس ال تس��تطيع املادة أن تس��د مكاهنا ،لكن عىل أية حال،
فاإلنس��ان ال��ذي حيب أن يك ِّفر أو يصحح ش��ي ًئا من خطئ��ه ،ال ُيعدم منه
اخل�ير ،فام زالت نفس لوام��ة بداخله ،وثمة ضمري ح��ي ينازعه؛ ألنه قد
اع�ترف ضمن ًّي��ا بخطئه ،فال يكفر عن خطئه س��وى من اقتن��ع به ،ال من
يكابر.
لكن ربام هناك أمر آخر هو ما أجربه عىل ذلك ،بالتأكيد سنعلمه منه
يف الغد ،ونحاول تذليله له؛ حيث ال أهم من احتواء أم ،قد بلغ هبا من
الكرب عت ًّيا.
73
()9
احلكام املتسلطني ىف بالدهم ،ال ُيصلحون «بعض ُ
وحياربون كل من ينادى أو يقوم بإصالح ظن ًا منهم أنه
ينازعهم ملكهم»
75
تقابلنا ىف الصباح ،ذهبنا س��ويا إاىل حج��رة األم «مارية» حتى نبلغها
ب�ما نود تنفيذه بع��د موافقتها بالطبع «هكذا أوضحنا هل��ا حتى نتقى عدم
موافقتها»
لكن ردها كان واضح ًا من بداية أسقباهلا لنا بوجه عبوس قبل أن
تسمع منا حتى كلمة فهى عازمة ىف قرارة نفسها عىل رفض أى شيئ أيام
كان
حتدثنا إليها بام نريد ...فكان أول صدود منها بعد استطرادنا أهنا
قالت:
ـ هل هذا إعالم ىل أم استذان ..؟!
ردت «مارسيل» ىف عجل:
ـ بل استئذان ِ
فأنت األم الراعية املسئولة عن امللجأ
ردت عليها:
ـ وأنا غري موافقة
طلبت منها إبداء أسباب رفضها ،فردت بحدة وكأهنا ال تُسأل عام
تفعل
77
ـ ليس لك هذا ،قد ُرفض اقرتاحكم
خرجنا من عندها يائسني ،قد خاب سعينا ،ال أدرى ماهو سبب
رفضها ،كيف يرتك األمر كله هلا ،كنت قد متالكت نفيس أن تتفلت من
طريقتها املستفزة وديكتاتوريتها املتسلطة ،لكن «مارسيل» حتاشت كل
ذلك بأن أهنت لقائنا عىل أن سيكون ما أرادت ثم اسئذنتها ىف انرصافنا.
حلكام
ذكّرنى تعنتها عىل مطالبنا البسيطة اهلادفة بام يفعله بعض ا ُ
املتسلطني ىف بالدهم ،ال ُيصلحون وحياربون كل من ينادى أو يقوم
بإصالح ظن ًا منهم أنه ينازعهم ملكهم ،كذلك هى ،ترى أن امللجأ إرثها
بمن فيه من نزالء.
كان رجائنا األخري أن يتم موعدنا اآلخر مع املهندس «عمر» فامال
يدرك كله ال يرتك جله.
ىف متام اخلامسة ،كنت هناك أول من حرض ،فانضم إ َّيل املهندس
«عمر» بعد ذلك تقري ًبا بخمس دقائق ،و«مارسيل» بعده بحوايل دقيقتني
تقري ًبا.
حدثناه عن حالة أمه والتي تزداد سو ًءا لبعده عنها ،ذكرناه أهنا من
املمكن أن تكون يف أيامها األخرية ،وأن الباقي هلا لن يكون أكثر مما
مىض ،فال بد أن يحُ سن إليها فيام تبقى حتى ال ترحل غاضبة عليه؛ األمر
الذي أحزنه بشدة ،وأظهر ما يف معدنه من طيب وأصل.
طلبت منه أن أعرف سبب جميئه بأمه إىل امللجأ ،إن مل يكن يف ذلك
حرج حتى نستطيع تذليل أي عقبة له قدر استطاعتنا ،هذا ما ُقوبل منه
بصدر رحب ،يوضح نيته يف أن جيد أفضل احللول ملعاناة أمه.
78
قص علينا سببه ،والذي يتلخص يف أن والدته أصبحت حتتاج إىل
رعاية خاصة؛ حيث كرب سنها ،وإصابتها ببعض الزهايمر.
ـ أكون يف عميل وزوجتي ال تطيق أن ترعاها ،وباألخص أهنا ـ
أعزكم اهلل ـ تتأفف عندما تتغوط أو تتبول خارج حفاضتها ،وحتى إن
كان يف احلفاضة ،ال تغريها هلا ،وتنتظرين عند جميئي ،حتى أقوم بذلك؛
األمر الذي تسبب يف كثري من املشكالت بيني وبني زوجتي والتي كادت
أن تصل بنا إىل الطالق ،رأيت أن احلل األمثل ،أن آيت هبا إىل امللجأ،
أردت رعايتها ال تركها والبعد عنها ،ال أقرص يف أي مبالغ تطلبها مني
األم «مارية» ولن أبخل أبدً ا عىل والديت...
حديثه أوضح بعض اجلوانب اخلفية التي كنت ال أعلمها ،والتي
رفعت عنه جز ًءا من مآخذي عليه ،وكام يقال« :من يده يف املاء ليس كمن
يده يف النار».
بكثري ،جلليسة تكون
ً اقرتحنا عليه أن يدفع ما يدفعه للملجأ بل أقل
وأيضا رفع عبء رعايتها
مع أمه يف منزله ترعاها ،بذلك تكون أمه يف بيته ً
عن زوجته.
كثريا بذلك احلل الذي قدمناه ،ووعدنا بأسبوع جيهز ألمه
رحب ً
حجرة يف منزله ويتوصل جلليسة هلا.
يف هناية تلك املقابلة املثمرة ،شددنا عليه أن يظل كل ذلك رس ًّيا ،وأننا
مل نبت ِغ إال راحة أمه وإسعادها؛ وهو ما أبدى تفهمه له ،بل وسعادته بام
قدمناه له من نصح وتوجيه.
79
()10
«نشعر هبم وبفقدهم عند رحيلهم ،وكأهنم مل يكونوا
أشياءا أخرى عن
ً أياما وسنوات كنا وقتها نفضل
بيننا ً
اجللوس معهم»
81
يبدو أهنا سرتحل إىل مكان آخر ولن ترحل إىل بيت ابنها؛ ألهنا ناقمة
عليه ،فلطاملا نادته فلم يستجب ،فسلمت نفسها للفراش ،ورضخت
ألمر املرض ،مل تعد هي منذ ثالثة أيام ،فقد توقفت عن املحاوالت
اليومية والركض إىل البوابات ،يئست من اخلروج؛ فاستسلمت للخروج
األيرس وهو خروج الروح منها.
ذلك ما استنبطته ملا آلت إليه حالتها الصحية التي بدأت يف االنتكاسة
منذ ثالثة أيام ،لكن هذا اليوم ،اليوم الثالث ،هو ما جعلني أستشعر
ذلك؛ حيث أصبحت ال حتمل بداخلها سوى نبض ضعيف مستمر
بتلك األنفاس التي تُضخ هلا عن طريق جهاز التنفس الصناعي الذي
وضعه هلا اليوم طبيب امللجأ ،وال حركة جلسدها ولو بسيطة ،مقارنة
باليوم األول ملرضها من بداية تلك الوعكة وهو يوم مقابلتنا بابنها وقد
ظننت يف ذلك اليوم أهنا وعكة عادية كالتي تنتاهبا بعد حالة رصعها،
لكنها قد تكون اليوم أشد قلي ً
ال وهذا ما أبلغناه البنها «ربام املتبقى ألمك
لن يكون كثريا» ،لكننا مل نظن أنه قليل بتلك الدرجة ،ربام بدأت حالتها
تتجه لألسوأ من اليوم الثاين ملرضها ،ذلك اليوم الذي كنت غائ ًبا فيه
يائس ًا من حديثي مع األم «مارية» حتى عدت يف يوم مرضها الثالث
عىل هذا التطور يف مشهدها ،ذلك املشهد الذي أصبحت عليه جعلني
83
أعجل ،باالتصال بابنها للحضور ،وهو ماكنت أود تأجيله ،ال سيام أن
ابنها سيأيت بعد أيام قليلة ليأخذها كام وعدنا ،وقد تبقى يف ذلك اليوم عىل
وعده أربعة أيام فقط ،لكن تطور حاهلا ىف هذا اليوم جعلني أستنبط أهنا
ذهبت إىل نقطة الال رجوع ،وأهنا يف بداية النهاية؛ فكانت مهاتفتي البنها
أن يأيت يف أرسع وقت ،فلربام املتبقي من عمر والدته قليل جدًّ ا ،واألمر
جلل ال حيتمل التأخري.
أغلق معي بعدما أخربين أنه يف الطريق إلينا ،ال يفصله عنا سوى
مسافة الطريق والتي سيطوهيا ط ًّيا للحاق بأمه.
أتى يف عجلة كام أخربين ،ذهبنا سو ًّيا إىل حجرة والدته ،ويف الطريق
إليها ،دخلنا حجرة الطبيب املعالج حتى يسأله عن احلالة يف عجالة
وإن كانت له طلبات من أدوية أو غري ذلك ِ
يأت هبا؛ فأخربه الطبيب
بام توقعته من قبل ،أن املشهد مشهد احتضار ،وال يفصل أمه عن املوت
سوى بعض النبضات الضعيفة التي قد تنتهي ربام يف السويعات أو حتى
اللحظات القادمة.
فام كان منه بعد أن سمع ذلك من الطبيب ،إال أن انطلق نحو حجرة
أمه يف هلفة وعيناه تنهمل بالدموع ،يريد أن يسبق املوت إليها؛ فرتاه قبل
أن ترحل إىل اهلل بشكوى هلا منه ،فتتنازل عن تلك الشكوى.
استدعت ذاكريت تلقائ ًّيا عندما رأيت انطالقته إىل أمه ،ذلك املشهد
عندما كان يتسلل للخروج من امللجأ بعدما مدد أمه عىل «الدكة» بعد
نعاسها عىل كتفه مطمئنة أنه معها ،قد أهنكها الركض وراءه عندما أراد
اخلروج يف املرة األوىل ،اآلن يركض إليها يف وقت ربام لن تسعد بذلك
الركض ولن تشعر به.
84
«نشعر هبم وبفقدهم عند رحيلهم ،وكأهنم مل يكونوا بيننا أيا ًما
وسنوات كنا وقتها نفضل أشيا ًءا أخرى عن اجللوس معهم»
متذكرا كل وفائها ونكرانه،
ً أخذ يتمتم إىل أمه بصوت خيتلط بالبكاء،
عل ضمريه يسرتيح ،ينادي عىل أمه كي جيلد نفسه بحقيقتها عىل املأل َّ
تصحو من غفلتها ،خيربها بأهنا ستذهب إىل ما كانت تتمنى ،وأنه جهز هلا
عل ذلك يوقظها ،لكنها قد ذهبت ،تلك النفس التي كانت غرفة يف بيتهَّ ،
تشتاق ،وأتى املاء بعد بوار الزرع.
انتابته حالة هيسرتية من ندم نفسه ،ونحن نحاول هتدئته ،يقول:
ـ كانت تصاب بالرصع من أجيل ،كيف أكون هادئًا يوم رحيلها؟!
أمي مل تكن مريضة ،بل أنا املريض ،كيف تكون مريضة وكانت تنسى
كل الدنيا وتتذكرين فقط؟ زهايمرها كان من أجيل ،وعافيتى كانت عليها،
إن كانت عافية ،أي عافية هذه تذكرين بكل الناس وتنسيني أمي؟! لقد
كنت يف شدة مرض اجلحود والنكران.
حاولنا أن نخرج به ملا زادت حالته ،لكنه أبى أن خيرج مرة أخرى
دون أمه ،وعزم أال يربح مكانه بجوارها.
كانت حالته قريبة جدًّ ا مما كان ينتاب والدته ،وهي ختشى أن يرتكها.
جلس عىل األرض وأرسه عىل حافة رسيرها ،قد اجتمع عليه احلزن
واإلرهاق الشديدين ،فقد جاء من عمله علينا ،والساعة اآلن جتاوزت
صباحا وهو يأبى الذهاب ،وأنا يف حرج من أن أتركه عىل هذه
ً الواحدة
احلال ،جئت بطعام ،فأبى أن يأكل معي وعامل األمن.
85
دورا كانت تقوم به
وكأنه بوضعه هذا وجلسته هذه يتبادل مع والدته ً
سل ًفا ،عله تذكر يف هذا الوقت أمه عندما كانت جتلس بجواره وهو يذاكر
يف ليايل امتحانات الثانوية العامة يغلبها النعاس ،لكنها تأبى أن تنام دون
ولدها ،وتأبى الطعام حتى يأكل هو ،وهو الذي زهدت نفسه يف الطعام
خو ًفا من اختباره بالغد.
أو لعله تذكر يو ًما ُو ِعك فيه وكانت أمه عىل رأسه بكامدات املاء
البارد ،أنَّى يأتيها النوم وابنها مريض!
ظل عىل هذه احلال حتى ُرفع أذان الفجر ،قد اخرتق جدران امللجأ
أذان ِ
أذ َن اهلل به أن تُرفع هذه حتى يأيت إىل أسامعنا بذلك الصوت النديٌ ،
الروح إىل السامء حتى يطلع عليها هنار يوم جديد يف مكان آخر ،وكأنه
قد انتهى ليلها املظلم.
صعدت روحها إىل بارئها يف مشهد قد امتزجت فيه األديان لإلنسان
يف لوحة طبيعية غري مصطنعة ،فهذا هو االبن ماسكًا ملصحفه يتلو عىل أمه
آيات اهلل وعينه تفيض بالدمع يف حجرة حماطة باللوحات والرسومات
املسيحية الكاثوليكية ،وهذا «ألفونس» يستيقظ من نومه عىل ذلك اخلرب
املفجع؛ فيقوم عىل سجيته يدعو الرب أن حيفظها ،كالذي كان من النبي
صىل اهلل عليه وسلم ،عندما هنض من جلسته عند مرور جنازة هيودي
نفسا؟
أمامه ،فقالوا له :يا رسول اهلل ،إنه هيودي .فقال :أوليست ً
تأت لتفرقة البرش بعضهم عن بعض ،ومل تأمر معتنقيها األديان مل ِ
بأن يكونوا منعزلني عن اآلخر ،كل ذلك من فعل املنتسبني الذين بعدوا
بتدينهم املغلوط عن الدين.
86
كان قد عزم أال خيرج هذه املرة إال بوالدته ،صدّ ق القدر عزمه ،لكنه
أيضا عزمت عىل
لن خيرج هبا إىل بيته ،بل إىل بيتها الثاين ،قربها ،وكأهنا ً
أال تثقل عىل أحد حتى وإن كان ابنها.
انتهى ذلك اليوم الشاق عىل البدن ،الكئيب عىل النفس.
انتهى ،بعد أن وارينا جسد احلاجة «أمينة» الرتاب ،بعدما صلينا
عليها الظهر ،خرجت من امللجأ محُ مولة عىل أعناق بِ ْض َع ِة شباب ،من
شباب التكليف العميل ،الذين أتوا يف الصباح لقضاء يوم جديد من
أيام تكليفهم ،فرأونا ونحن عىل هذه احلال جمتمعني حول جسد احلاجة
«أمينة» فأبوا إال أن خيرجوا معنا حاملني النعش بجوار ولدها ،املثقل
بالندم قبل جثامن والدته الذي حيمله.
انتهت اجلنازة قليلة العدد ،أتى املهندس «عمر» ليشكرين عىل تعبي
ووقويف معه يف الليلة املاضية ،قلت يف نفيس إن كان هناك إرهاق بدين،
حتم سيزول بمجرد الراحة ،أما ذلك اإلحساس بالتقصري ،فإننا مل فهو اً
نستطيع تلبية رغبة بسيطة للحاجة «أمينة» قبل رحيلها ،سيظل يالزمني
كلام تذكرهتا ،وجرب ذلك لن يكون إال بالتفكري يف الذين ما زالوا عىل قيد
أيضا عىل تأخرنا معهم. احلياة ،قبل أن يرحلوا ونندم ً
عدت إىل املنزل ،يشتاق هذا البدن املنهك إىل مضجعه كي يستلقي
عليه بطمأنينة.
مددت جسدي عىل فرايش ،يف حوايل الساعة الثانية بعد الظهر ،بعد
ُ
أن تناولت بعض اللقيامت ،مل أفق من نومتي هذه إال الساعة احلادية
عرشة مسا ًء.
87
اتصلت عىل «مارسيل» كي أخربها بعدم ذهايب يف الغد للملجأ،
فليس هناك سبب رضوري للذهاب ،ما دام األمر سيظل عىل ما تريد
عاجزا عند أناس ينتظرون مني
ً تلك الراهبة املتسلطة ،فال أحب الوقوف
الكثري ،ال أستطيع التأقلم مع عدم الفعل وما تريده الراهبة ،وال أستطيع
الفعل.
وافقتني «مارس��يل» عىل إجازتى ،بل وشجعتني عليها ،لراحتي عىل
حد قوهلا؛ ملا ش��عرت به من إحباطي ويأيس من نربة صويت أثناء مهاتفتي
هلا.
تنس يف النهاية ،أن تشدد «مداعبة» أنه يوم واحد ،وغري ذلك
لكنها مل َ
ستدونني غيا ًبا بدون إذن ،ثم أردفت:
ـ امللجأ ينتظر عودتك يا بطل بعد غد.
بطل! أي بطولة حققتها منذ جميئي امللجأ؟! كان ذلك صوت نفيس
املستنكر بنعتي بالبطل.
88
()11
«اللني ليس معناه التسيب ،االبتسامة ال تقلل من درجة
حزما ،إبداء الرأي واملشورة
االحرتام ،عبوس الوجه ليس ً
كرسا وال تعد ًيا عىل قوانني امللجأ»
ليس ً
89
مل أذهب إىل امللجأ يف ذلك اليوم ،لكن امللجأ مل يذهب عني ،ومل
أسرتح ،عىل األقل الراحة النفسية التي كنت أنشدها ،بل زاد استيائي
ٍ
بتمعن وهدوء ،ملاذا نرتيض االنصياع لديكتاتورية عندما فكرت يف األمر
تلك األم؟ هل ننتظر أن حيدث لباقي املسنني ما حدث للحاجة «أمينة»؟
ليس هناك متسع من الوقت هلؤالء املسنني ،فالباقي هلم أقل بكثري مما
مىض ،ال ينبغي أن يظل ما تبقى هلم من أيام رهن تلك األم وهي التي
حرمتهم حقوقهم فيام انقىض من عمرهم.
حتفزت وقررت وأنا عىل هذه احلال امليض قد ًما فيام قد اتفقت عليه مع
«مارسيل» من قبل ،ولكنني سأميض فيه بمفردي ،فليس لدي ما أخشاه،
غري تلك الدرجات التي ما فكرت هبا من األساس يف هذا التكليف ،ومل
نجاحا فقط فيه
ً تكن يو ًما هد ًفا يل عن التدريب احلقيقي العميل ،وإن كان
يرضيني ،وذلك يضمنه يل جمرد حضوري ،أما «مارسيل» فلدهيا ماختشاه،
وهو وظيفتها ،وهي بالتأكيد يف احتياج هلا ،يف وقت عز فيه احلصول عىل
وظيفة؛ لذلك لن أطلب منها معاونتي ،بعد الرفض الرصيح من األم..
قررت أن أبدأ يف ثاين بند كنا قد وضعناه للتحرك فيه بعد حالة احلاجة
«أمينة» وهو التجمع باملس��نني ورفع شكواهم ومالحظاهتم عن الطعام؛
حي��ث إنه أقل القلي��ل أن يؤخذ رأهيم فيام يأكلون ،وفيام يش��تهون تناوله
91
أيض��ا ،ووضعه يف جدول ،وتنفي��ذ ما تيرس منه عىل األي��ام ،خاصة وأنه
ً
كام علمت من «مارس��يل» أن الظ��روف املالية وخزينة امللجأ ال حتول بني
ذلك وما يشتهون عىل اإلطالق ،لكنه التعنت املقصود؛ إمعانًا يف التحكم
والتسلط.
انطلقت إىل امللجأ يف اليوم التايل ليوم إجازيت ،ذاه ًبا بإرصاري وعزمي
حجرا يف املياه الراكدة.
ً أن أفعل فيه شي ًئا ،أو ألقي
دخلت إىل «مارسيل» ألقيت عليها السالم ،وكانت تغلق حجرهتا
كي خترج ،ربام لقضاء يشء إداري للملجأ باخلارج ،فكانت حتمل حقيبة
أيضا بعدم
حمملة باألوراق ،وكأن القدر يرتب يل املشهد ،فكنت أرغب ً
تواجدها يف ذلك الوقت حتى ال تؤخذ بام سنفعل لو أغضب ذلك األم
«مارية» رغم اقتناعي التام بأنني لن أفعل خطأ.
مررت عىل أصدقائي من املعهد الذين يقضون معي فرتة التكليف،
أتوقع أن يكون هلم دور ،ال سيام وأهنم ما زالوا متأثرين بموت احلاجة
«أمينة» واشتياقها كي تعود لبيت ابنها ،فهذا هو الوقت املناسب الستثامر
ذلك التأثر منهم يف عمل يشء إجيايب للذين مازالوا عىل قيد احلياة.
وبالفعل ،وكام توقعت ،استجاب جلهم إن مل يكن كلهم ملساعديت،
فجمع كل منهم من سيستوعب من حاالته ما سنقول ،ومن عنده الرغبة
يف التحدث وإبداء الرأي ،فكانت املفاجأة هي استجابة أكثر من يف امللجأ،
حتى بعض أصحاب املرض العقيل والنفيس أتوا وإن كانوا ليتواجدوا مع
اجلمع فحسب ،وهم ربام ال يعلمون عن أي يشء يتحدثون.
حتلقنا يف حلقة كبرية عىل أرض صالة امللجأ ،بدأ نقاشنا ،وكأن براكني
92
قد فتحت هلا فواهات كى تتحدث ،فاهنالت علينا الشكاوى ،من سوء
الطعام وسوء حتضريه ،وطريقة تقديمه ،والتي قال عنها أحدهم وكأنه
طعام يقدم إىل دجاج ،فيوضع «الطبيخ» عىل األرز عىل أي يشء ثالث يف
طبق واحد ،ومنهم من اشتكى من املواعيد ،فكانت وجبة العشاء تُقدم
عرصا؛ ألن الطهاة ينرصفون عن امللجأ يف ذلك الوقت،
هلم الساعة الثالثة ً
وهو نفسه ما تناولوه يف الغداء الساعة الثانية عرشة ،والفطور فقط الذي
صباحا.
ً يكون يف الصباح هو املختلف ،وهو يف الساعة التاسعة
عرصا ،فمنهم من يرتكه إىل الليل
يأتيهم العشاء يف هذا الوقت ،الثالثة ً
كي يتعشى به فيأكله بار ًدا قد تعجن؛ ألنه غال ًبا ما يكون أصنا ًفا فوق
بعضها ال تعرف ما هي ،أو من املمكن أن يصيبه التلف؛ فيحمض خاصة
إن كان يف الصيف.
ومنهم من يأكله وهو ساخن حتى وإن مل يكن جائ ًعا حتى ال يتلف
إذا تركه إىل الليل؛ فيكون قد خرسه ،فيفضل أن يأكله وإن كان شبعان
حتس ًبا جلوعه بالليل.
كان هناك الكثري من املآخذ والشكاوى التي هي يف طبيعة احلال بعيدة
كل البعد عن الرفاهية ،بل هي الفرق بني اآلدمية والال آدمية ،أشياء ال
حتتاج إىل كثري من املال ،فقط حتتاج إىل إنسانية يف معاملة إنسان.
بينام نحن كذلك عىل اجتامعنا ،جالس��ون ع�لى األرض ،فإذا هبا فوق
رؤوس��نا بوج��ه متجهم يب��دو عليه الغضب الش��ديد ،ق��د انتفضت كل
عروق وقس�مات وجهها من الغيظ ،فصاحت فينا بصوت حاد متناس��ق
مع ما ظهر عىل وجهها:
93
ـ «ما هذه الفوىض؟ كل نزيل إىل رسيره ،لن يكون لكم اليوم خروج
للرتيض ،موعد النوم بدأ من اآلن ،من سأجده منكم بعد اآلن يف هذه
الصالة أو خارج عنربه سيعاقب بغسل كل أطباق وأواين امللجأ ،الكل
عىل رسيره ،الكل عىل رسيره.
لن يكرس أحد قوانني امللجأ ،ولن أسمح أبدً ا بالفوىض هنا».
فإذا بالكل ينفض من حويل أنا وزمالئي ،منكسني رؤوسهم إىل
األرض ال حيلة هلم ،فهم أعلم بمدى قدرهتا عىل تنفيذ ما هددت به؛ من
جتارهبم السابقة معها؛ لذا فال لوم عليهم.
مل أستطع أن أحتمل أكثر من ذلك ،وإن كان زمالئي من حويل حياولون
إبعادي ،ومنعي من أي حديث معها وأنا عىل هذه احلال لعلمهم بام
سيكون ،ولكن األمر كان فوق االحتامل ،خاصة وهي هتددهم كتالميذ
يف مدرسة ابتدائية ،تأمرهم أن يذهبوا إىل فصوهلم ومتنعهم من «الفسحة»
صغارا،
ً دون أدنى مراعاة لسنهم وال نفوسهم ،حتى وإن كانوا اطفالاً
فال يليق هذا األسلوب معهم ،فضلاً عن أهنم مسنني يف أرذل العمر..
حاول��ت امتصاص غضب��ي ،وضبط نف�سي؛ فتحدث��ت إليها هبدوء
وتأخريا
ً حرصا آلخر الوقت عىل ذلك اخليط الرفيع بيني وبينها، ً أتكلفه؛
لصدام قد يعيق كل ما أرنو إليه ،فقلت هلا:
ـ يا س��يديت ،اللني ليس معناه التس��يب ،االبتس��امة ال تقلل من درجة
كرسا
االح�ترام ،عبوس الوج��ه ليس حز ًما ،إبداء الرأي واملش��ورة ليس ً
ِ
حيب��وك وأن ينفذوا تعارضا بني أن
ً وال تعد ًي��ا عىل قوان�ين امللجأ ،لي��س
تعليامتك ،بل املحب ملن حيب مطيع.
94
مل تعقب وتعمدت جتاهىل كأهنا مل تسمع ،فأردفت هلا بنربة رجاء أن
تسمع:
ـ س��يديت ،فارق كب�ير أن تكوين القائ��دة هلم عن تزكي��ة منهم وحب
ورض��ا ،وأن تك��وين القائدة عن خوف منهم وتس��لط منك ،ففي األخري
إن وجدوا الفرصة فستكونني أول من يقتصون منها ،أما األوىل إن مسك
مكروه ،فهم أول املضحني واملدافعني عنك.
ـ إذن أنت زعيم تلك الفوىض
م��ن أنت حت��ى تعدل علين��ا عملنا وتُن ّظ��ر يل؟ من أنت؟ لن أس��مح
لطيش ش��بابك وعدم فهمك أن يقيض عىل نظام وقوانني امللجأ ،س��أهني
لك تكليفك ،ومن سيكون عىل شاكلتك من باقي ا ُملكلفني.
يف هذه اللحظات ،قد وصل الغضب بداخيل إىل أعىل درجاته ،فكنت
أدفع هؤالء الزمالء الذين حياولون إيقايف عن الرد عليها ،وأنا أتقدم
نحوها غاض ًبا قد تفلتت مني األعصاب:
ـ من أنا؟ أنا إنسان فقط ،تلك اإلنسانية التي ال تعرفني عنها شي ًئا،
أنت لتعطي أو ربام غادرت قلبك ملا فارقته احلياة ،السؤال األصح :من ِ
لك أن تتعاميل هكذا لنفسك حق التسلط عليهم وإذالهلم؟ من سمح ِ ِ
شئت،لك تتحكمني فيه ،أو أنعاما تسوقينها كيف ِ معهم؟ هم ليسوا إر ًثا ِ
ً
هم أناس مثلك ،هم أرواح كرمها اهلل.
ـ أنا رئيسة ذلك امللجأ ،وأنا الراهبة األم ،أهيا اجلاهل.
راهبة ،أي رهبانية هذه؟ هم أكثر رهبانية منك ،فقد ُجردوا هنا من
ِ
بداخلك حب ترفهم ،فضلاً عن أدنى احتياجاهتم كبرش ،أما ِ
أنت فام زال
95
السيادة والقيادة التي ال حتبني أن ينازعك فيها أحد ،مل تتجردي من لذة
السلطة والتحكم ،تأكلني ما تريدين وخترجني وقتام تشاءين ،حتت حجة
توفري ما يتطلبه امللجأ.
ىف هذا الوقت استشاطت غض ًبا من ردودي التي مل تكن تتوقعها،
فالكثري كان يتحاشى مواجهتها ،فلم تتعرض لذلك من قبل.
عال عىل األمن ،وعىل «مارسيل» والتي فأخذت ترصخ بصوت ٍ
وأيضا تصيح
كانت خارج امللجأ ،نادت عليها حتى تأيت وتنهي تكليفيً ،
َّيف أن اخرج خارج امللجأ ،وأهنا سرتسل خطاب إهناء تكليفى إىل كليتي
يف الغد لسوء أديب وسلوكي.
اجتمع األمن وبعض العاملني عىل وقع صياحها ،فوجدتني بني مجع
كبري من زمالئي والعاملني هناك ،والكل يطالبني باخلروج إمخا ًدا هلذا
املوقف ،وحتى يتوقف رصاخها الذي أصبح بشكل هيستريي.
مل أجد سبيلاً بعد كل هذا إال اخلروج ،احرتا ًما لطلب من هو أكرب مني
من العاملني وأفراد األمن بامللجأ ،والذين كانوا يف حرج شديد بني تنفيذ
ما تأمرهم به من إلقائي باخلارج ،وبني معرفتي هبم والتي اشتدت وثو ًقا
يف األيام األخرية ،فام كان مني إال اخلروج؛ رف ًعا لذلك احلرج عنهم.
ع��دت إىل البي��ت ،وما زالت تناتبن��ي تلك احلالة م��ن التوتر وفقدان
األعصاب ،مع انخفاض درجة حرارة أطراف يدي؛ من شدة انفعايل.
نمت حتى الليل ،استيقظت يف الساعة احلادية عرشة مسا ًء ،فتحت
هاتفي ،فإذا بمحاوالت اتصال كثرية من «مارسيل» كنت قد أغلقت
اهلاتف مما اعرتاين من ضيق ،فكنت يف حالة ال تسمح يل بالتحدث ،حتى
96
يف منزيل ،كان ذلك ملحو ًظا من أرسيت ،وقد كثرت أسئلتهم يل يف هذا
الصدد ،ماذا يب وما سبب ضيقي؛ األمر الذي هتربت منه بالنوم؛ معللاً
ذلك باإلرهاق.
اتصلت عىل «مارسيل» فور تنشيطى هلاتفي ،فال بد أنه أمر متعلق
بام حدث وإن كانت هي مل حترض ،لكن بالتأكيد علمت بعد عودهتا إىل
امللجأ ،فاألمر جلل.
أعربت يل يف بداية حديثها عن استغراهبا الشديد ملا حدث ،وأهنا
وسأفوت تلك الفرصة ِّ كانت تثق بأنني سأكون أكثر من ذلك حتملاً ،
عىل األم «مارية» فكان ردي عليها ،األمر كان أكرب من أن يحُ تمل ،ولست
ناد ًما عىل ردي عليها ،كل حزين أنني من املؤكد لن أستطيع العودة إىل
امللجأ مرة أخرى ،ولن أستطيع فعل يشء مما كنت أمتناه جتاه املسنني.
ث��م ذكرتني ب�شيء آخر مل أك��ن أعمل له أي حس��اب م��ن قبل ،وإن
كن��ت أعلم��ه ،وهو أن األم «مارية» س��تنهي تكليفي حتت س��بب س��وء
أيضا
أديب والتع��دي ع�لى إدارة امللج��أ؛ وهو ما سيتس��بب يل يف مش��كلة ً
يف دراس��تي؛ حيث إن نتيجة التكليف تعترب ه��ي نتيجة االختبار العميل،
وعليه درجات ،وسبب مثل ذلك سيؤدي إىل رسويب.
ذكرتني بيشء كنت أتناساه عمدً ا وأهترب منه؛ فازداد حزين أن
اخلسارة من كل اجتاه ،كان سيخفف من وطأة ذلك ،لو كنت قد فعلت
شي ًئا يذكر يف حال امللجأ وحال املسنني هناك ،عىل األقل سيكون هناك
يشء مقابل يشء ،لكن يبدو أنني خرست كل يشء ،سوى ضمريي وما
أراه ح ًّقا ،رغم كل ما يب من سوء ،لكن هذا املوقف ما أمحد نفيس عليه.
97
عيل العهد بعدم العودة إىل امللجأ ال ليشء
تنس يف النهاية أن تأخذ ّ
مل َ
عيل فقالت:
سوى خلوفها ّ
ـ قد استعانت األم «مارية» برشكة أمن بدلاً من األمن القديم ،والذين
حولتهم للتحقيق لرعونتهم معك عىل حد اهتامها هلم ،وقد أخربت أفراد
األمن اجلديد باسمك ،وأطلقت أيدهيم ألي تعامل معك بحجة أنك
تتعدى عىل امللجأ إن أتيت مرة أخرى ،وذلك سبب قانوين يتيح لألمن
أي تعامل يرونه مناس ًبا حلامية املنشأة التي هم مسئولون عن حراستها.
واضحا
ً كان لذلك العهد األثر الطيب عىل نفيس من «مارسيل» فكان
ً
تنفيذا عيل فقط وليس
جدًّ ا من صوهتا وتأكيدها أن الدافع هو خوفها ّ
ألمر من األم «مارية».
عيل يف مثل هذه
ذلك ما دفعني يف هناية احلديث ،وبجرأة غري معهودة ّ
أيضا يل عندك عهد حتى أحفظ عهدك لدي،
املواقف ،أن أقول هلا :وأنا ً
قالت:
ـ وما هو؟
قلت:
ـ أن يستمر تواصلنا ،وإن كنت لن ِ
أراك يف امللجأ مرة أخرى ،أحب
خارسا لكل يشء. دائم ،فعاهديني عىل ذلك ،حتى ال أكون ِ
ً أن أراك اً
قالت:
ـ بل أنا من أترشف بذلك ،أعاهدك.
ليس أمجل من ذلك ختا ًما جيعلني أتصرب عىل ما أصابني يف دراستي،
وفيام كنت أطمح يف حتقيقه.
98
بعد تفكري ،قررت عدم االستسالم ملا حيدث ،عىل األقل يف األمر
املتعلق بدراستي ،ال بد أن أذهب إىل أستاذي باملعهد الدكتور «مراد»
وأقص عليه ما حدث ،وأستبق وصول ما سرتسله له األم «مارية» يف
إهناء تكليفي ،ال بد أن أذهب إليه كي تكون الصورة واضحة أمامه،
أيضا يعرفني
فهو الدكتور املسئول عن التكاليف ،وهو من وزعنا ،وهو ً
جيدً ا ،ويعرف مدى حبي لدراستي.
ذهبت إليه يف اليوم التايل مبارشة إلهناء تكليفي ،قصصت عليه ما
عيل أنني مل أعلمه من قبل بكل هذه الظروف ،حتى يتدخل حدث ،الم ّ
هو وتوسط عند إدارة امللجأ إلمتام ما كنت أود إنجازه ،لكنه يف النهاية
كثريا من روحي املعنوية بإبداء سعادته بام فعلت ،وإن طمأنني ،ورفع ً
كان يود أن لو تريثت قليلاً وأبلغته.
ذلك االطمئنان كان له بالغ األثر عىل نفيس ،فهو أستاذي الذي أعتز
به ،وكنت يف حاجة ماسة إىل أن أسمع ذلك من أحد يف مكانته ،ففي
بعض الوقت ،ورغم قناعتي ورضائي عام فعلت ،إال أنه قد تسلل إ َّيل
بعض االهتزاز يف موقفي ،فكنت أحتاج لذلك التثبيت ،ال سيام وأنه
أيضا عىل درجات تكليفي.
طمأنني ً
99
()12
«كل مسلم دائماً مدان إىل أن يظهر العكس ،واآلخر
بريء وإن ظهر العكس ،ثم يتساءلون بعد ذلك عن سبب
الكراهية!»
101
مرت أيام ،كنا بني يوم وآخر نتحدث ،ختربين بحال أهل امللجأ ،ويف
كل اتصال بيني وبينها ،تنقل يل أشواق «ألفونس» يف أن يراين ،ويدعوين
حتى لو ملجرد زيارة لدقائق معدودة ،فقد أتعبني جدًّ ا قوله الذي عاهد
«مارسيل» عىل أن ترسله يل.
ـ أنت الوحيد من كنت تأتيني كل صباح وتسأل عني وتطئمن عىل
حايل ،يف هذا الوقت فقط شعرت بمعنى األهل ،أرجوك ال تزهد يف
زياريت.
ثم أردفت:
ـ وما حدث باألمس لـ«كرستني» جعله يدخل يف حالة من احلزن
الشديد واالكتئاب.
قلت هلا:
ـ طمئنينى عليها ،ما الذي حدث؟
قالت:
ـ انزلقت وهي خارجة من املرحاض عىل ظهرها ،ولكرب سنها؛
حدثت كسور يف أكثر عظام جسدها النحيف ،وهي اآلن طرحية الفراش،
103
حتتاج لعمليات ،ال تصلح مع كرب سنها ،هي اآلن حتت املالحظة ،ومعها
طبيب امللجأ.
وأيضا ملعرفتي بمدى عالقة حز يف نفيس جدًّ ا ما حدث لـ«كرستني» ً
«ألفونس» هبا توقعت مقدار أمله وحزنه ،وددت جدًّ ا زيارهتا وحتقيق هذا
أيضا لـ«ألفونس» لكنه ما أصعبه يف تلك األيام بعد الذى الطلب اليسري ً
حدث بيني وبني الراهبة!
دائم كع��اديت ،ليس يل ثواب��ت ،غري املتاح باألمس رب�ما بعد تفكريي
اً
فيه طويلاً يكون ً
متاحا بعدما أس��وق لنفيس التربيرات التي حتتاجها ،بعد
أستنتاجها من تفكريي الطويل.
كان من ذلك أن قررت فجأة أن تكون يل زيارة للملجأ! لمِ َ ال؟ كزائر
عادي ،له مسن يزوره ،وأنا يل أكثر من مسن أود االطمئنان عليه ،ال
سيام «كرستني» وما أصاهبا ،وهذه املرة ستكون غري رسمية ،فقد انتهى
تكليفي ،جمرد زائر ملسنني فحسب ،أو حتى مثلام تفعل اجلمعيات اخلريية
يف زيارهتا للمالجئ ،فهم يذهبون ليس ألن هلم أحدً ا ،لكن ألن ذلك
خري ،وإلدخال الرسور عىل املسنني ،هكذا كانت مربرايت التي أوجدهتا
لنفيس حتى أقوم بيشء أرغب فعله.
أيضا أال أخرب
لكنني مل أحدد ذلك اليوم ،لكنه سيكون قري ًبا ،قررت ً
«مارسيل» لسببني ،األول :سأجعله مفاجأة هلا ولكل أهل امللجأ ،الثاين:
دائم بعدما تبلغني طلب «ألفونس» لرؤيتي ،تقول يل :أبلغتك هو أهنا اً
ودائم ما كانت حتذرين من ذلك ،وأن ِ
ألهنا أمانة ،لكن أرجوك ال تأت،
اً
هناك أوامر ألفراد األمن اجلدد بعدم دخويل ،والتعامل معي.
104
ع�لي ،إال أنني وجدت رغ��م صدقها ال��ذي أثق فيه ،وأهنا فعلاً ختاف ّ
األم��ر أيرس م��ن ذلك ،فأن��ا لن أذه��ب معتد ًيا ع�لى أحد ،مل��اذا ُأمنع أو
يتعاملون معي ،ثم إن امللجأ مفتوح لكل الزائرين ،وأنا س��أذهب كزائر،
وحت��ى وإن مل يس��محوا يل بالدخ��ول ،س��يكون ذلك بكل اح�ترام مثلام
سأكون حمرت ًما معهم ،ولن يكون هناك أي مشكلة.
كان ذلك القرار يوم اإلثنني ،وجاءين العزم عىل تنفيذه يف ليلة يوم
أيضا كان هناك اتصال بيني وبني»مارسيل» اخلميس ،يف ذلك اليوم ً
لكنني مل أخربها ،وأردت أن تظل مفاجأة.
يف صب��اح ي��وم اخلميس ،توجه��ت إىل امللجأ ،وعند أبواب��ه إذا بورقة
عليها اسمي وأنني ممنوع من الدخول ،توجهت صوب األمن ،أخرجت
هلم بطاقتي بدعابة ألهنم س�يرون االس��م ،أنا هذا املكت��وب عىل الباب،
لكنن��ي أتيت يف زي��ارة قصرية لـ«ألفون��س» فإذا بأحده��م يدفعني دفعة
ش��ديدة عىل صدري مل أكن أتوقعها ،كدت أن أقع عىل األرض ،أسندت
نف�سي ،أح��اول أن أتفهم منه س��بب ذل��ك ،فإذا ب��ه يكررها بس��بي ،إن
مل أذه��ب من هنا س��يفعل ويفعل ،هن��ا مددت يدي فقط ،حم��اولاً إبعاده
وصد دفعاته ،فأمس��ك بعصا كانت بجاوره ،فرضبني هبا أتت عىل بطني
وخرصي ،هنا مل أجد ُبدًّ ا إال الدفاع عن نفيس؛ فاشتبكت معه ،وأمسكت
العصا بيدي وهو يركل بقدمه ،حتى أتى باقي أصحابه الذين كنت أظنهم
سيفضون هذا االشتباك بيني وبينه ،ما إن قال هلم إنني من يريدون ،حتى
عيل بالركالت وباللكامت القوية ،حتى هتاويت حتتهم ،مل أستطع تكالبوا ّ
التامسك من رضباهتم التي كانوا يوجهوهنا إ َّيل بكل قوة ،غري مكرتثني إن
حتى ِم ُّت ،توقفوا ع��ن الرضب ،ليس رأفة بتوجعي ،ولكن ملا أوجعتهم
105
أيدهيم من كثرة رضيب ،كنت غائ ًبا عن الوعي ،وإن كان ليس بشكل كيل،
وكأنن��ي يف كاب��وس مرعب ،مل أختي��ل نفيس يو ًما أن أك��ون حتت األقدام
ُأركل ،فاض��ت عيني بالدموع ،ليس من ضع��ف ،ولكن حزنًا عىل نفيس
أن أك��ون يف ه��ذا املوقف ،وزاد ذل��ك اجلرح النفيس ،عندم��ا قيدوين يف
حجرة األمن يف انتظار أن تأيت الرشطة كي تأخذين ،وبالطبع ال تأخذهم،
كان ه��ذا أمر تلك املجرم��ة «مارية» عندما صعد إليه��ا أحد أفراد األمن
يس��توضح منها عام س��يفعلونه يب ،مل يش��عر أحد ممن بامللجأ بام حدث إال
«غالية» هي فقط من رأتني يف لقطة وأنا أخرج من حجرة األمن إىل سيارة
الرشطة ،لعل ذلك من حسن القدر ،ما كنت أحب أبدً ا أن يراين أحد ممن
أحبهم وأنا عىل هذه احلال وذلك االنكس��ار ،ذلك املوقف ،مل ولن متحوه
األي��ام ،بمجرد تذكري له ينقبض قلب��ى ويضيق صدري ،وتُكتم بداخيل
أنفايس ،وعيني ال أستطيع إيقافها من أن تبكي.
وصلت إىل قسم الرشطة القريب من امللجأ ،وكان معي يف سيارة
عيل كشاهد ضدي ،وهو من الرشطة أحد أفراد األمن الذين اعتدوا َّ
سيقوم بعمل املحرض.
دونام أي فرصىة للدفاع ،كُتب املحرض ،بام يمليه عىل الضابط ،ذلك
املجرم من أفراد األمن ،إذا حتدثت كي أنفي عني هتمة من هذه التهم
الكثرية ،وجدت املنع والتكذيب من قبل الضابط ،ذلك الضابط الذي
من املفرتض أن يكون عىل احلياد ،فضلاً عن أن يكون مداف ًعا عن احلق.
ال عجب من ذلك ،فكيف يل أن أحتدث وأنا املوصوف عىل ورقة
باإلرهايب الذي تعدى عىل امللجأ؛ ألنه قد ُطرد منه من قبل؛ لتعامله
بطائفية ،مع تقديم اخلطاب املرسل إىل املعهد بإهناء تكليفي دونام دليل
عىل ما يقولون!
106
مل يكن الضابط يف هذا الوقت عىل استعداد أن يقتنع بأي من دفوعي،
بل مل يسمح يل هبا من األساس؛ ذلك أنه ال يوجد يف قاموسهم متطرف
سوى املسلم ،حتى وإن كانت الدولة تزعم أهنا مسلمة ،نعم هذه هي
احلقيقة التي كنت أسمع عنها وأحاول نفيها ،أقوهلا وأنا أعيشها واق ًعا ،ال
بدافع من الطائفية وال كراهية اآلخر ،فام وصلت ها هنا إال حلبي لآلخر،
لن يستمع إ ّيل أحد وأنا أقول إن اإلرهابية هذه املرة ،راهبة مسيحية،
وليس رجلاً ملتح ًيا أو امرأة منتقبة ،رغم أن القاعدة تقول« :إن يف كل
مجاعة من الناس هناك الصالح والطالح ،ويعرب اإلنسان عن نفسه ال عن
دين؛ ألنه ليس ثمة تنزيه عن اخلطأ ألي إنسان» لكن قاعدهتم تقول إن
هناك فئة منزهة عن اخلطأ ال تكون أبد ًا موضع شبهة أو اهتام..
دائم مدان إىل أن يظهر العكس ،واآلخر بريء وإن ظهر
«كل مسلم اً
العكس ،ثم يتساءلون بعد ذلك عن سبب الكراهية»!
ما حتدثت يو ًما بذل��ك اخلطاب ،بل كنت أرفضه ممن يقوله ،كام كنت
أكره��ه من بع��ض املس��يحيني الذين ال يظه��رون إال باملظلومي��ة ،وأهنم
معت��دى عليهم ،لكن ما عش��ته واق ًعا ،جعلني ال أس��تحيي أن أصدح به
وإن نُع��ت بالطائفية ،الطائفيون هم أولئك الضباط ومن عىل ش��اكلتهم،
الذين يؤمنون بأن هناك بعض التهم ال تكون إال لبعض الناس ،بنا ًء عىل
دينهم ،وأحيانًا شكلهم.
بت ليلة يف القسم وأنا مثخن من رضباهتم ،مظلوم باهتامهمُ ،عرضت
يف اليوم التايل عىل النيابة ،يف مشهد أشد قساوة من ذلك الذي خرجت به
من امللجأ إىل القسم ،حيث أيب وأمي باخلارج ،بجوارمها «مارسيل» وأنا
«مكلبش» اليدين أصعد عربة الرتحيالت بجوار املسجلني واملجرمني،
وربام املظلومني من الشباب أمثايل.
107
عيل وكيل النيابة التهم املنسوبة إ ّيل ،ثم
ُعرضت عىل النيابة ،قرأ ّ
طالبني بالتعليق عليها والدفاع عن نفيس ،ترك يل كل الوقت كي أحتدث
بام أحب ،لكنه قال يل يف النهاية هم أتوا باألدلة عىل كالمهم ،ورقة إهناء
تكليفك وأنت مقبوض عليك عندهم وأنت تتعدى عليهم ،ما الذي
جيعلني أصدق ما تقول؟ أين أدلتك؟
_ أين أدلتى؟! أنا شاب مسامل ،مل أحتط بأدلة ،وكيف أحتاط وأنا
ذاهب إىل زيارة مسنني؟!
عيل قائلاً :
رد ّ
وأيضا
ـ صعوبة موقفك أن اخلصم مؤسسة تابعة للغرب يف أصلهاً ،
مسيحية ،وأنت مسلم ،كل ذلك جيعلنا يف حرج ،مثل هذه القضايا تكون
شائكة ألهنا طائفية.
قلت له:
عذرا
ـ هل مرصيتي التي أنا تابع هلا أقل من مؤسسة تابعة للغرب؟! ً
سيدي الوكيل ،كنت أمتنى أن يكون العدل فقط هو العنوان دون النظر
إىل التبعية.
رد قائلاً :
ـ وأنا ليس يل عنوان سوى العدل ،والعدل حيتاج إىل أدلة ،إذا أتيت
هبا لن أتوانى حلظة من تربئتك ،حتى وإن كان خصمك فرنسا ذاهتا
وليست مؤسسة تابعة هلا.
رد دبلوم��ايس منه ،أصلح ب��ه بعض ما فهمت من قول��ه األول ،وإن
108
كان مل ينفه بداخيل ،لكن حماولة التصليح هذه أفضل من ثباته عىل ما قال.
قرارا بحبيس أربعة أيام
كانت الصدمة بعد هذا السجال ،أنه أصدر ً
عىل ذمة التحقيق.
بعد خروجي من حجرة التحقيق ،سمح يل الضابط املرافق بالتحدث
مع والدي ،والذي علم بكل ما حدث من «مارسيل» والتي أكدت يل
أهنا ستكون دليلاً معي يف اجللسة القادمة ،وطالبتني أن أطلب من وكيل
النيابة يف املرة القادمة أن يسمع أقواهلا.
عيل كسنوات ،ال أصدق ما حدث يل، مرت هذه األيام األربعة َّ
أصبحت يف ظرف أيام إرهاب ًّيا ومعتد ًيا ،بل وسجينًا ،صورة أيب وهو أمام
عيل ال تفارقني ،حايل
القسم وهو يشاهدين بـ«كلبشات» اليدين وحرسته ّ
وأنا بني أقدامهم متهاو ًيا من لكامهتم يؤملني أكثر من آالم لكامهتم نفسها.
انقضت األربعة أيام ،ركبت تلك السيارة املهينة للمرة الثانية
بنفس القيد عىل يدي ،أحرض أيب معه املحامي ،دخلت للعرض عىل
وكيل النيابة ،وأول ما بدأنا التحقيق ،طلب املحامي املرافق يل سامع
أقول املرشدة النفسية للملجأ األستاذة «مارسيل» أمر وكيل النيابة
استدعاءها من اخلارج ،دخلت وحكت عني أكثر مما كنت أحكيه عن
نفيس ،وضحت كل احلقائق للنيابة ،وقالت لو أرادت النيابة زيارة امللجأ
وسؤال املسنني سيكون ذلك أوقع ،تعجب وكيل النيابة من أهنا مسيحية
وتدافع عن شاب مسلم ضد مسيحية وليست أي مسيحية ،بل راهبة.
كان ردها عليه:
ـ ما العجيب ىف ذلك ،وقويف مع احلق ال خيرجني من دينى ،ودفاعى
عن مسلم مظلوم ،ال يتعارض مع مسيحيتي.
109
بعد سامعه لشهادة «مارسيل» ،والتى اهتمت فيها بالدفاع عني أكثر
من اهتام «مارية» وكنت أتفهم ذلك ،وكفاين منها أهنا بادرت بذلك ومل
َ
ختش عىل وظيفتها.
بعد سامع وكيل النيابة لتلك الشهادة؛ أمر بإطالق رساحي من رساي
عيل أصعب
عيل يف حيايت ،والتي ال أظن أن يمر ّ
النيابة ،لتمر أشد املحن ّ
منها.
عدت إىل منزيل بعد تلك املعاناة الشديدة وقد تغريت مفاهيم كثرية
لدي ،ظللت أيا ًما ال أستطيع التفكري إال يف هذه املحنة ،ال أستطيع
كثريا عندها ،يف هذه األيام ،مل ترتكني «مارسيل»
جتاوزها ،توقفت حيايت ً
وحدي ،فقد زارتني بعد خروجي بيوم يف بيتي زيارة مل أكن أتوقعها
مطل ًقا ،وتعاهدتني كل يوم باتصال يف املساء ،تطمئن به عىل حايل ،كنت
ال أسأهلا عن امللجأ ،وكانت هي ال تتحدث عنه أبدً ا مساعدة منها يل يف
عيل حتى حبيس وخروجي. طي هذه الصفحة الكئيبة من يوم االعتداء َّ
مرت عرشة أيام ،بدأت العودة لنفيس تدرجي ًّيا ،وشعرت فجأة
وكأنني تذكرت نزالء امللجأ ،وأنني ال أعرف شي ًئا عنهم من وقت ما
حدث؛ فاتصلت عىل الفور عىل «مارسيل» ّأسأهلا عن حالة «ألفونس»
وباقي املسنني هناك ،فأخربتني أهنا كانت تنتظر مني هذا السؤال.
ـ فـ«ألفونس» أصبح طريح الفراش ،تزداد حالته كل يوم سو ًءا حزنًا
عىل ما حدث لـ«كرستني» والتي أصبحت شبه ميتة رسير ًّيا ،وزاد من
أيضا عندما علم بام حدث لك ،شعر بأنه السبب؛ ألنه السبب حدة ذلك ً
فدائم يالزمه شعور بالذنب ،مع حزنه عىل
الرئييس ملجيئك يف هذا اليوم ،اً
«كرستني».
110
يف كل يو ٍم ينادينى ليسألني عنك ،ويقول يل :هل حادثتيه اليوم؟
دائم عنك ،كان كل يوم يرسل لك سال ًما معي، وأقول له نعم ،ويسألني اً
ويقول يل أمتنى أن أراه قبل أن أموت ،لكني كنت أستحيي أن أبلغك
هذا وأنت عىل حالك هذه ،كنت أتعمد أال أذكر شي ًئا عن امللجأ يف هذه
األوقات.
حزنت جدًّ ا ملا وصلت إليه حالة «كرستني» و«ألفونس» حزنت لتلك
الرغبة التي مل أستطع تلبيتها ،وربام لن أستطيع يف املستقبل.
يف هناية حديثي ،طالبتها بنقل سالمي إليهم مجي ًعا ،خاصة «ألفونس»
وأن ختربين بحاهلم كل يوم إن استطاعت ذلك ،قبل أن أغلق معها،
تذكرت أن أسأهلا عن حاهلا هي يف امللجأ ،وهل علمت «مارية» بشهادهتا
معي يف النيابة؟
ضحكت وقالت :نعم علمت ،وأصبحت تراقبني كام كانت تراقبك
خطرا عىل رئاستها للملجأ ،رغم أنني قلت هلا من قبل ،أصبحت تراين ً
إنني مل أشهد ضدها يف يشء ،شهدت فقط بام رأيته عندما سألني وكيل
النيابة عن معاملتك للمسنني ،قلت كانت عىل أفضل حال ،والكل هنا
حيبه ،وهذا أمر ال يمكن نكرانه أبدً ا.
تأسفت هلا إن تسببت هلا يف كل هذا ،فقالت:
ـ أردت أن أقوم ببعض التضحية البسيطة التي تعلمتها منك ،أما عن
وظيفتي ،فمسألة تركي هلا أصبحت وشيكة جدًّ ا وقد نمى إىل علمي
أهنا تبحث عن أخرى حتل مكاين وأنا غري نادمة أبدً ا عىل ذلك القليل
الذي فعلت ،ولو عاد يب الزمن لفعلت ذلك وأكثر ،أنا سعيدة جدًّ ا أين
استطعت أن أختذ موق ًفا ،أكون فيه واقفة يف صف احلق.
111
توالت االتصاالت بيننا عىل مدار األيام ،يف كل يوم تبلغني سالم
«ألفونس» وتأخر صحته عن اليوم الذي مر ،حتى قالت يل آخر مرة إن
ما بقي له أصبح معدو ًدا جدًّ ا..
ـ «مازن» أمتنى أن تزوره ،أعلم أن ذلك من أشد الصعاب ،لكنه
يتمنى أن يراك بشدة ،أشعر وكأنه يدفع املرض بتلك األمنية إن حدثت
فسيستسلم له ،وأود حقيقة أن تتجاوز هذه األزمة بشكل عميل ،أن تأيت
مرة أخرى إىل هذا املكان.
ـ ماذا تقولني يا مارسيل؟! بعد كل ماحدث؟! كيف سأدخل امللجأ
مرة أخرى ،وحتى إن وجدت الطريقة ،أشعر بانكسار النفس من جمرد
أمر عىل تلك البوابة التي ضرُ بت عليها
تذكره ،كيف يب إذ دخلته؟! كيف ُّ
و ُأدميت؟ كيف؟!
ـ لذلك قلت لك هذا ،فأنا أود أن يزول ذلك االنكسار ،أنت أقوى
فلدي
َّ من ذلك ،هذا ليس بملك «مارية» أو حراسها ،أما عن الطريقة،
طريقة سأقوهلا لك وأتركك للتفكري فيها ،املهم أن تقتنع باملبدأ.
لك ،عىل أية حال ،أحب أن أسمع منك هذه ـ ال أدري ماذا أقول ِ
الطريقة ،فأنا أرى أنه من املستحيل دخويل امللجأ مرة أخرى بعد ما
وأيضا ألنني ممنوع من
ً حدث ،واالستحالة هنا من نفيس التي تأبى،
ذلك ،وال أحب أن حيدث ما حدث يل مرة أخرى ،يف هذه املرة ستثبت
عيل ادعاءهتم ،وأنني ذاهب ألعتدي عليهم.
َّ
ـ اسمع مني ،ولك بعد ذلك مطلق احلرية ،طريقتي هي ،أن تذهب
ملاقابلة أو خماطبة بابا بطريرك األقباط الكاثوليك ،وتطلب منه زيارة
112
امللجأ يف عيد امليالد ،لكن من األفضل ألاَّ حتكي له ما حدث ،قل له
فقط أنك ممنوع الختالفك مع األم «مارية» حتى ال يتحول املوضوع
باق عليه ثالثة أيام ،وهذه فرصة ملنحى التحقيق فيطول ،وعيد امليالد ٍ
وأيضا نكون قد حققنا شي ًئا من اتفاقناستكون سعيدة عىل «ألفونس» ً
السابق وهو حفل عيد امليالد ،مع العلم بأن البابا لو تدخل يف ذلك حتى
ولو خماطبة ،فلن تستطيع األم «مارية» إال التنفيذ؛ ملا له من قداسة ،كبابا
األقباط األرثوذكس عندنا ،هذه طريقتي والتي أراها مضمونة بشكل
كبري؛ حيث إنه ال يرد أي فاعل للخري..،
انتهت بيننا املكاملة عىل وعد مني يف التفكري باألمر ثم الرد عليها.
ع�لي «مارس��يل» يف خماطبة أو مقابل��ة بطريركفكرت في�ما اقرتحت ّ
األقب��اط الكاثولي��ك؛ الذي ب��دوره له قي��ادة دينية معتربة عن��د «مارية»
أيض��ا كاثوليكي��ة ،وإن كان لي��س ل��ه دور إداري ،حي��ث إن باعتباره��ا ً
اإلرشاف األكرب لتلك املؤسس��ات اإلرس��الية تابع للكنيسة الكاثوليكية
األم.
عزمت بعد تفكري عميق عىل امليض قد ًما يف ذلك ،ملا استحرضت
أيضا من استفادة يل نفس ًّيا
العائد من ورائها عىل حالة ذلك املسن ،وملا هلا ً
بكرس حالة الفوبيا التي أصابتني من امللجأ لفرتة ،وأحيانًا تعود عند
أيضا أصبح عاجلاً بعد تدهور تذكري ملشهد رضيب عند بوابته ،واألمر ً
حالة «ألفونس» بشدة وطلبه لرؤيتي أكثر من مرة ،فليست فرصة أفضل
يتبق عىل جميئها سوى من ليلة عيد امليالد كام قالت «مارسيل» والتي مل َّ
يومني ،علني أستطيع أن أقابل البطريرك قبلها؛ ومن ثم موافقته حتى
يتسنى يل التواجد معهم ذلك اليوم داخل امللجأ؛ فأكون قد حققت رغبة
113
«ألفونس» إضافة ألمر هام مما اتفقت عليه مع «مارسيل» من قبل وهو
االحتفال معهم بعيد امليالد وتزيني امللجأ يف هذا اليوم.
ذهبت إليه يف مكتبه بكنيسة «الروم» باإلسكندرية ،وكان من حسن
ايضا من مقابلته عندما أخربت مدير
القدر أن يكون هناك ،وأن أمتكن ً
مكتبه أن األمر عاجل بالنسبة يل.
حتدثت معه عن طلبي يف أن أمتكن من زيارة امللجأ يف يوم قداس عيد
امليالد ،دون أن أخوض يف تفاصيل منعي من دخول امللجأ ،فقط أعلمته
بذلك املنع ،لذلك جئت إليه؛ ملا له من صفة دينية هي األكرب يف قطرنا
بالنسبة للطائفة الكاثوليكية التي تدير امللجأ ،أرجعت سبب منعي من
األم «مارية» ألسباب مشادة قد حدثت بيني وبينها عىل أسلوب إدارهتا
للملجأ ،دون اخلوض يف كثري من التفاصيل ،وما آلت إليه األمور من
رضيب وسجني ،وذلك حتى ال يتطلب األمر منه استقصاء لعظم األمر
وهو ما لن يسمح به ضيق الوقت ،واألمر اآلخر ،هو أين لو أفصحت
بكل ما حدث فهو اهتام مبارش وخطري لألم «مارية» وعندها فأي موافقة
من األب يل بالرجوع ستكون تصدي ًقا ضمن ًّيا يل وهو ما سيتطلب منه
أخذ قرار يف هذا الشأن فور ًّيا فقد ارتقت االهتامات لدرجة اجلنائية،
أيضا ما سيتطلب الكثري من الوقت والتوثيق ،بل وقد يطلب رفع وهو ً
األمر ملن هو أكرب من حتى بطريرك األقباط الكاثوليك إىل بابا الكنيسة
األم ذاته ،وهذا مل يكن غريض وال هديف من األساس ،عىل األقل يف
هذا الوقت ،لذلك صدرت له األمر عىل أنه خالف قد أكون احتددت
فيه عليها ،وحتى طلبي هذا كان له بمثابة توصية منه أو طل ًبا من موقع
أمرا يثري بسببه غضبها؛ فال يتحقق ما أريد.
قداسته الدينية وليس ً
114
وبررت له زياريت هذه بأهنا تلبية لرغبة أحد املسنني الذي تربطني به
عالقة ود كأحد زوارهم ،فأردت أن أجعلها يوم عيد امليالد كي أستطيع
إسعاده يف ذلك اليوم ،وقد أبلغته باسمه إن أراد أن يتأكد من ذلك.
مسلم أمتتع هبذه
اً وهو ما قوبل منه باملوافقة ،بل بالسعادة ،كوين
الروح ،عىل حد وصفه.
فقال ىل :بل نسعد نحن بترشيفك يف كل يوم وليس فقط ذلك اليوم،
ثم كتب يل مراسلة عىل ورقة مطبوعة بشعار الكنيسة الكاثوليكية ومكتبه
هو شخص ًّيا ،إىل األم «مارية» أن تتجاوز عام سبق بروح املحبة التي أتى
هبا يسوع ،راج ًيا منها السامح يل بدخول امللجأ واالحتفال مع املسنني
بقداس عيد امليالد املجيد.
صيغة كام متنيتها متوازنة ،ليس فيها أمر ،وليس هبا ما يدل عىل أنني قد
أسأت إىل صورهتا عنده ،وهذا ما مل حيدث مني اتقا ًء لرشها ،بل طالبها
هي بالتجاوز عني يف مراسلته هلا ،عله كان سبب ذلك هو قويل له إنني
احتددت بعض اليشء يف حديثي معها ،ال هيم أن ما وصل إليه أنني من
جتاوزت معها ،األهم هو متام ما أردت ،فإن كان عليها فهي أصبحت
أبغض من عىل األرض إ َّيل ،ولوال هذا الطلب اإلنساين من «ألفونس» ما
عرضت نفيس لذلك أبدً ا. ّ
كثريا! كيف أفعل ذلك بعد كل ما تعرضت إليه! تعجبت من نفيس ً
أيضا
األمر الذي مل يتوقف عند معانايت الشخصية فحسب ،بل ما طاهلم ً
عندي يف البيت ،أثناء تلك الفرتة العصيبة التي مررت هبا وأنا حبيس
فيها قيد التحقيق ،هذه الفرتة التي ربام لن يمحو أثرها زمن ،وما تعلمته
أيضا يف تلك الفرتة من حقائق جعلني أصدق ما كذبته من واكتشفته ً
115
قبل ألنني مل أره بعيني ،فقد حدث معي شخص ًّيا ،عىل أية حال هو يوم
لذلك املسن ،وتلبية لطلب إنسان ،لعله يكون طلبه الوحيد يف حياته
الذي سينفذ ،سأذهب دونام أي خرب لوالدي أو والديت ،حتى ال تثار
خماوفهم مرة أخرى أو يعيقاين من الذهاب خو ًفا ّ
عيل ،لكن األمر أظنه
خمتل ًفا بتلك املراسلة التي بني يدي من البطريرك ،فهي عىل حد قول
«مارسيل» لن تستطيع األم «مارية» خمالفة ذلك؛ ملا لطلبه هذا من قداسة
عندها ،أتعجب! كيف جيتمع يف قلبها النقيضان؟! كيف أهنا ال تستطيع
أن ختالف طلب البطريرك لقداسته الدينية ،وهي التي تتعدى كل حدود
ذلك الدين بأفعاهلا وال قداسة عندها لروح كرمها اهلل؟! لكن رسعان
أيضا من
ماتالشى عجبي هذا بتذكري تلك النامذج التي كنت أتعجبها ً
قبل ،من هذا الرجل الذي تبدو عىل جبهته «زبيبة» الصالة ،ويعامل
الناس بكل صالفة وشدة ،بل ينفر منه كل الناس لسوء خلقه ،اختزلوا
الدين فقط يف بعض املظاهر والعبادات اخلارجية التي ليس هلا أي مردود
عىل دواخلهم وأخالقهم ومعامالهتم كام أراد اهلل من فرضها ،ال عجب
أن حترتم تلك القداسة للبطريرك ،ربام فهمها قد اقترص عند صورهتا لديه
فقط ،كالذي ييسء معاملة اجلميع يف مكان عمله ،إال مديره لسلطته فقط
عليه ،وأظن أن ذلك االحرتام هو فقط لسلطة األب الروحية وليس
من روحها النقية ،كذلك من يتعامل بسلطوية ،ال تردعه إال سلطة وإن
كانت روحية.
كلنا ذوو خطأ ،ويعرتينا النقص ،كام قال «ألفونس» لكن الطامة
تكون أكرب عندما يتساوى خطأ رجل الدين ،أو من هو املفرتض أن
يكون كذلك ،مع خطأ عامة الناس ،بل املجرمني منهم ،تلك هي الطامة
الكربى..
116
ويبقى العجب األكرب ،وهو ما كان مني! ذلك الشطط الذي حدث
يف تفكريي ،الذي حتول من يشء إىل نقيضه ،كيف أجتهد للمشاركة يف
احتفال عيد امليالد ،والذي كنت أقتنع من قبل بحرمة هتنئة املسيحيني
فيه ،بل النصارى ،كام كان يطيب يل تسميتهم ،إنه الفهم ،الفهم الذي
جعلني أرى أنه ليس ثمة تعارض يف أن أختلف عقائد ًّيا مع أحد ،وبني
أن أحرتم اعتقاده هذا ،كالذي قال« :أختلف معك يف الرأي لكني مستعد
أن أموت دفا ًعا عن حريتك يف إبدائه» ذلك الفهم ،الذي جعلني أفرق
بني جماملتي لنفس يف يوم فرحها أو عيدها ،أنه ليس تفري ًطا فيام أعتقد،
وليس بالرضورة أنني أعتقد اعتقاده حتى أههنئه بعيده ،كل ذلك من
باب املودة الطبيعية بني البرش والتسامح الذي أمرت به األديان ،الفهم
الذي جعلني أرى يف ذلك صحيح الدين ،وليس البعد عن الدين ،إن
اعتربناه شي ًئا من الرب الذي أمرنا اهلل به يف قوله تعاىل} :ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉﮊ{ (املمتحنة )8 :فكيف أبيح لنا الزواج من كتابية وهي عىل دينها
وال أستطيع ان أهنئها بعيدها؟!...
وذل��ك أيض ًا م��اكان من «مارس��يل» حيث هى األخ��رى حتتفل بعيد
املي�لاد معهم ع�لى التقويم الكاثوليك��ى والذى فيه عي��د امليالد يوم «25
ديس��مرب» وهى ارثوذكس��ية عيد املي�لاد ىف عقيدهتم ي��وم « 7يناير» لكنه
التسامي عن مواضع اإلختالف لتوحد عىل اإلنسان..
تبق��ى يشء ،ه��و أنني كيف س��أدخل ذلك امل��كان مرة أخ��رى وهو
م��ن رضبت عىل أبوابه؟! نف�سي ال تقبل هذا ،ال تقب��ل أن أذهب هلؤالء
املجرم�ين من أفراد األمن مرة أخرى طال ًبا منهم الدخول ،حتى وإن كان
معي ذلك اخلطاب والتوصية ،أشعر بكرس يف داخيل ،سأتذكر رضهبم يل
وأنني مل آخذ بحقي منهم.
117
انتهى تفكريي إىل االتصال بـ «مارسيل» حتى أخربها بام تم يف زياريت
وأيضا بام أش��عر به من غصة بس��بب ه��ؤالء املجرمني ،وأن
للبطري��ركً ،
نفيس تكره ذلك جدًّ ا..
اتصلت عليها ،أبدت سعادة كبرية بام أنجزت ،وأكدت أن «مارية»
لن تستطيع رفض ذلك أبدً ا ،أما عن كيفية الدخول ،وكيف سنقدم ذلك
اخلطاب لـ «مارية» دونام أي احتكاك باألمن.
قالت يل:
عيل.
ـ دع ذلك ّ
ث��م أخربتن��ي بام س��تفعله ،وهو أنن��ي س��أقوم باالتص��ال عليها عند
قدوم��ي إىل امللجأ حتى تكون يف اس��تقبايل عند البواب��ة األخرى للملجأ
«بوابة دخول السيارات».
حيث إن من يؤمنها املوظفون القدامى والذين أعرفهم وتربطني
هبم عالقة مودة ،وهي ستقابلني عند تلك البوابة وتأخذ مني اخلطاب
وتتوىل رفعه إىل «مارية» وسأظل طيلة هذا الوقت بجوار أصدقائي من
األمن حتي تأتيني بالرد.
عيل ،وحل لدي مشكلة كانت تصدين
ارحتت إىل حد كبري ملا اقرتحت ّ
عن الزيارة.
118
()13
كافرا بام حييت مؤمنًا به.
«اآلن أموت ً
متنكرا من حاجتي كإنسان،
ً كافرا برهبانية جعلتني
ً
متكل ًفا أنني مالك.
كافرا بتدين جعلني بعيدً ا عن اإلنسان ،ال عن املعايص،
ً
زاهدً ا يف الفرحة ال اخلطايا»
119
أتى يوم الزيارة ،ذهبت يف الصباح ،كنت كثري التفكري وأنا يف طريقي
للملجأ ،رشيط ذلك اليوم األليم يمر عىل خاطري وأنا أقرتب شي ًئا فشي ًئا
أيضا أال تقبل هذه «املارية» خطاب من موقع ذلك اليوم ،كنت أخشى ً
البطريرك أو حيدث أى احتكاك بيني وبينها ،كنت أهيئ نفيس لكل
ينه عىل رجائي وسعادتى بمقابلة أهل املواقف حتى أضبطها ،كل ذلك مل ِ
امللجأ واالطمئنان عىل «كرستني» و«ألفونس» إن متت الزيارة عىل خري
ومتكنت من الدخول.
وصل��ت إىل البواب��ة الثانية ،اتصلت عىل «مارس��يل» اس��تقبلتني كام
تواعدنا عندها ،دخلت بكل يرس ،مع استقبال حار وأحضان من العاملني
الذين كنت أعرفهم ،فــ«مارس��يل» قد مهدت لذلك هلم ،وأخربهتم أنني
قادم ومعي خطاب من البطريرك ،انتظرت معهم حتى تأتيني «مارسيل»
وذهبت هي بخطايب إىل «مارية».
ع��ادت بع��د ح��وايل 10دقائق ،قد أش��ارت إيل بالدخ��ول؛ فدخلت
إليه��ا ،فأخربتني أن كل يشء عىل ما يرام ،ثم اصطحبتني لزيارة النزالء،
ويف مقدمتهم «كرس��تني» و«ألفونس» س��ألتها ونح��ن يف طريقنا للصالة
الرئيسية عن رد «مارية» عىل اخلطاب وكيف استقبلت ذلك ،قالت:
121
ـ مل يكن هلا إال أن توافق ،لكنها حترتق اآلن غي ًظا من ذلك ،وأظن
أنك لن تراها إىل آخر اليوم؛ مما أصاهبا من غيظ جيعلها تالزم حجرهتا،
أظن أهنا لن تنزل إال عىل القداس يف املساء.
«خريا ..سأكون سعيدً ا جدًّ ا إن مل أرها».
ً قلت:
ذهبنا إىل احلجرة التى ُي َمرض فيها «كرستني» و«ألفونس» كام كنت
أرامها من قبل جالسني بجوار بعضهام البعض عىل «الدكة» اآلن مها
ممددان بجوار بعضهام البعض عىل رسيرين متجاورين.
كن��ت ق��د علمت حاهل�ما ،وما زادهم من س��وء من «مارس��يل» لكن
واقعهم أش��د سو ًء فـ«كرس��تني» ال تتحرك وال تتكلم ،حماطة باألنابيب،
عظم
أنابي��ب للطع��ام ،أنابي��ب للتنف��س ،جس��دها النحيل أصب��ح فقط اً
مكس��وا بجلد يابس« ..ألفونس» وإن كان أفض��ل منها حالاً ،لكنه ليس
ًّ
حاله الذي كان عليه ،فقط يتقلب ويتكلم بصعوبة شديدة ،ال يقوى عىل
النه��وض من مضجعه ،هكذا ب��دا يل عند دخوىل عليه يف اللحظة األوىل،
ه��م بالنه��وض ،ولكن دون ج��دوى ،خذلته ف�ما أن دخل��ت عليه حتى َّ
قدرت��ه ،فال قوة له عىل ذلك ،أرسعت إليه ،جلس��ت بجواره ،فإذا بعينيه
تنساب بالدمع ،ثم قال يل بصوت خافت مهزوز:
ـ سعيد بمجيئك قبل ذهايب ،كل الشكر لك عىل ما أصابك من أجلنا،
آملني جدًّ ا ماحدث لك من أجلنا.
قاطعته:
ـ بل كل الشكر لك عىل كل ما تعلمته منك ،الشكر أن منحتموين
مساعدتكم ،أن منحتموين إنسانيتي ،كنت أحاول أن أرد لكم شي ًئا من
122
حقكم علينا ،أنا الذي أعتذر لكم ولكل من بامللجأ عىل ما أصابكم.
حاولت تغيري حديثي ونمطه ،حتى أحاول إخراجه مما هو فيه.
فقلت:
عجوزا؟ من سيساعدنا اليوم يف زينة عيد
ً ـ أين قوتك؟ هل أصبحت
امليالد إن مل تقم؟
قال يل بحزن شديد:
ـ وكأنني كنت أستمد قويت منها عندما ضعفت ،ضعفت عندما
متددت عىل فراش املرض ومل أستطع النهوض بجسدي.
جلسنا معه وقتًا طويلاً وهو عىل هذه احلال ،قد اهنار من شدة حزنه،
حتى غلبه النوم من أثر احلقنة املهدئة التي أعطاها له طبيب امللجأ ملا
ساءت حالته.
فخرجن��ا من عنده لنمر عىل باقي النزالء ،ثم نبدأ يف تزيني املكان بعد
ذل��ك؛ اس��تعدا ًدا لقداس عي��د امليالد ،كنت أذه��ب لذلك عىل مضض،
فلم��ن أزين امل��كان؟ وملن س��يكون االحتفال؟ يب��دو أن العي��د قد جاء
متاخرا!
ً
انتهينا من تزيني امللجأ وقلوبنا تعترص حزنًا ،حتى امللجأ ،رغم زينته،
يبدو عليه الكآبة والظالم.
يتبق عىل القداس إال حوايل ساعة واحدة ،يف هذه األثناء ،نادت
مل َّ
علينا «غالية» أن «ألفونس» قد طلبكام باالسم.
انطلقنا إليه ،وجدناه يبكي بحرقة وهيسترييا ،أشار إلينا عندما رآنا
123
أيضا عىل مجيع من كانوا باحلجرة بأن بأن نقرتب من جواره ،وأشار ً
يقرتبوا« :الطبيب ،غالية »،وكأنه يريد أن حيدثنا مجي ًعا بيشء.
أيضا ما
ثم أخذ ينادي بصوت خيتلط بالبكاء عىل «كرستني» لتسمع ً
سيقوله ،ولكن ال حياة ملن تنادي ،متثلت تلك املقولة بكل ما حتتويه من
معنى يف ذلك املشهد.
حاول��ت هتدأت��ه ،وأن أثني��ه عن احلدي��ث حتى ال ُيره��ق مرة أخرى
وحيتاج وقتها إىل حقنة أخرى ،لكنه أبى ،وأخذ يتحدث بكل ما يف صدره
قائلاً يل:
ـ دعن��ي أحتدث يا «مازن» ففي حديث��ي راحة ،دعني أحتدث بام كنت
أود قوله منذ مخس�ين عا ًما ،نعم مخسني عا ًما ،يف مثل هذا اليوم ،دار علينا
الزم��ان وفع��ل فينا فعلته ومل نس��تطع فعل أي يشء ،س��وى االستس�لام
نبد حتى مش��اعرنا ،كن��ا نقيم وزنًا العتب��ارات كثرية فضلناها للق��در ،مل ِ
حت��ى ع�ما نحتاجه كب�شر ،ومل ت ُِعرنا ه��ي أي اهتامم ،وكأهنا تق��ول لنا :مل
أيضا يقولأطلب منكم ذلك ،أنتم من فعلتم هذا بأنفسكم ،وكأن الرب ً
ذلك ،يقول يل :ما كان يل حاجة يف امتناعكم عن احلياة أو االنعزل عنها.
كافرا بام حييت مؤمنًا به.
اآلن أموت ً
متنكرا من حاجتي كإنسان ،متكل ًفا أنني
ً كافرا برهبانية جعلتني
ً
مالك.
كافرا بتدين جعلني بعيدً ا عن اإلنسان ،ال عن املعايص ،زاهدً ا يف
ً
الفرحة ال اخلطايا.
اآلن فقط وأنا عىل فراش املوت ،أشعر بالقوة يف أن أقول ما بداخيل،
124
وما حرمت قوله وأنا يف شبايب ،سأبدي مشاعري حلبيبتي ،استطعت
التحدث يف وقت ال تستطيع هي فيه السامع ،لكن حسبي أنكم شهود،
حسبي أنكم تسمعون.
أتذكر ذلك اليوم جيدً ا بكل تفاصيله ،أتذكره رغم مرور مخسني عا ًما
أتيت هاهنا ،من فرنسا ،شابة يف العرشين من عمرك، عليه ،أتذكر عندما ِ
ِ
أتيت كأحد أفراد كورال الكنيسة الكاثوليكية ،لالحتفال معنا برتانيمكم
كنت أمجل من رأيت من برش ،كنت أختلس بعيد امليالد ،يف ذلك الوقت ِ
إليك ،فأنا الراهب الذي ليس له حاجة يف النساء ،هكذا كنت النظرات ِ
أوهم نفيس وأبدي عكس ما أبطن ،لكن كان يف ذلك ثمة حقيقة أنني من
أنت فقط ،أحببتكقبلك بالفعل ،مل تكن يل حاجة يف النساء ،أنا احتجتك ِ
أنت فقط ،أعجبتني فطرتك السوية الدينية ،تلك الفطرة التي أساءتني ِ
أيضا عندما علمت بقرارك بعدم العودة ،بعد سامعك هلن ،واقتناعك ً
بالرهبانية ،عندها كنت أود الرصاخ يف وجهك أن عودي ،ويكفي بعض
كفاك أنك من فريق الرتانيم الدينية ،عىل رغم من أنِ وقتك للكنيسة،
ِ ِ
جلوسك هنا سيتيح يل النظر إليك ورؤيتك ،لكنني كنت أود أن تظل
زهرتك اجلميلة الندية يف منبتها اخلصب ،كان الكل يعلم أين أحبك،
كنت تعلمني ،فكنت ال أجلس إال بجوارك ،وال أحتدث أيضا ِ وأظنك ً
ِ ِ
معك بالفرنسية التي مل ترق لك غريها ،كانت أناقتها متسقة معك، إال ِ
ومع كل ذلك مل أجترأ عىل البوح بوضوح؛ عندها كانوا سيتخذون معي
أو معنا إجراءات أخرى ،ربام هي من أضعفتني عن البوح ،روحك كانت
طيبة تأثرت رسي ًعا بحديث الراهبات ،لكنك يو ًما مل تكوين منهن كام مل
أكن يو ًما منهم ،فلم ترتدي إال رداءك ،رداء اإلبداع ،وفريق الكورال،
هكذا أرواح املبدعني ،شعرت بك عندما شعرت بخطأ اختيارك وإن مل
125
أيضا أنك قلت يف نفسك ،لقد
تفصحي ،فهذا ما مسني من قبلك ،وأعلم ً
مر الكثري من عمري وأنا هكذا ،فكيف أرجع عن طريق أوشكت عىل
هنايته ،سأميض فيه حتى ال أخرس ما جتاوزته من قبل.
أيضا ،ليتنا عدنا وإن مل يكن لنا
ليتك خرست ما مىض ،وخرست ً
آخرا خري من أن ال نعود
سوى يوم يف احلياة ،كنا عشناه سو ًّيا ،العودة ً
أبدً ا ونموت باحلرمان.
آآآآه يا كرستني ،آآآآآآه يا حبيبتي ،آالن أصدح بحبك ،أحبك أحبك
أحبك...
أخد يردد «أحبك» حتى بح صوته وكأنه ينفس عن نفسه ما كتمه
أعو ًما ،دخل بعد ذلك البوح والذكريات املرهقة عىل النفس يف نوبة
غيبوبة ،استفاق منها بعد حوايل ساعة ،كنا خالل ذلك الوقت نحاول
أيضا باسمها،
إفاقته ،خاصة وأن نبض قلبه وأنفاسه عىل ما يرام ،عاد ً
بصوت خافت :كرستني ،كرستني ،وهو ينظر إليها بطرف عينه من
رسيره وهو بجوارها عىل الرسير اآلخر ،صار عىل هذه احلالة وقتًا ليس
بالقليل ،ونحن حوله ،نحاول إعانته ومتريضه بجوار الطبيب.
مع دقات أجراس عيد امليالد ،يف سجى الليل ،ومع أصوات الرتانيم
ابتهاجا بالعيد ،أبت روح «ألفونس» إال أن
ً الغربية الدينية التي تعلو
حترض العيد يف مكان آخر ،صعدت الروح إىل بارئها ،وكأن ذلك عيدها،
أن تفارق هذه األرض وأن ترحل عن امللجأ ،شعرت أن التوقيت له
داللة ،داللة تقول لنا أن ليس كل املوت حزنًا ،فبعضه عيد ،عندما يكون
الرحيل عن دنيا أبت أن نعيشها ،مات «ألفونس» عىل ذكر حبيبته ،مات
بعد أن أصابه املرض من حزنه عليها ،فامت خو ًفا أن متوت..
126
()14
«ما الذي يمنعنا من أن نفصح عن حبنا ،بينام يكون
متاحا؟ ملاذا نبحث عن تربير للحب،
اإلفصاح عن الكره ً
بينام إظهار الكره يسري؟ ملاذا أصبح االعرتاف باحلب
خماطرة حتتاج جراءة؟ ملاذا أصبح احلب ضع ًفا نخشى أن
يظهر علينا؟ ملاذا؟»
127
كيومي األول ،أتذكره بكل تفاصيله ،كام دخلت ألول مرة مع
أيضا معها ،لكن«مارسيل» كي أتعرف عىل امللجأ وساكنيه ،خرجت ً
ليس فيه أي تفصيلة ال أعرفها ،غري أن ذلك اليوم األول دخلته يف بواكري
الصباح ،خرجت منه ذلك اليوم األخري يف ظلامت الليايل ،وكأهنا تذكرة
يل أن هكذا هو يوم السكن فيه ،حيث إهنم ال يرون من اليوم سوى ضوء
الشمس املتسلل من النوافذ ،والليل الذي يأتيهم بموعد نومهم ،ويعتم
أيضا مل يكن دخويل وخروجي مثل دخوهلم إليه وخروجهم عنابرهمً ،
منه ،فقد خرجت عىل قدمي ،وهم ليس هلم خروج إال ممددين عىل
األلواح ،حممولني عىل األعناق.
دخلت شا ًّبا ال يفكر إال يف مرحلته ومستقبله فقط ،خرجت خائ ًفا!
كيف سأكون يف مشيبتي! دخلت وأنا ككل الشباب ،أشعر بأن أشياء
كثرية تنقصني ،أرى أن الكل أفضل مني ،أمتنى أشياء كثرية بعيدة املنال
قد جعلتني أنسى أشياء أخرى لدي ،قد فضلت هبا عن الغري ،خرجت
وقد علمت ما يف حيايت من نعم ،بل ما فيها من ترف إذا ما قارنته بام عليه
حال أهل امللجأ ،خرجت أستصغر كل مشكاليت عندما رأيت ما هو أكرب
منها؛ خرجت وقد تسامت أهدايف وآمايل.
خرج��ت م��ع «مارس��يل» واعرتاف��ات «ألفون��س» األخ�يرة بحب��ه
129
لـ«كرس��تني» ما زالت ترتدد يف أذين ،وكيف أنه اعرتف وصدح بام يش��عر
يف وقت ،لن يغري ذلك اإلفصاح فيه شي ًئا فقد قيض األمر.
قل��ت يف نفيس ،ما الذي يمنعن��ا من أن نفصح عن حبن��ا ،بينام يكون
متاحا؟ مل��اذا نبحث عن تربير للح��ب ،بينام إظهار
اإلفص��اح عن الك��ره ً
الكره يس�ير؟ مل��اذا أصبح االع�تراف باحلب خماطرة حتتاج ج��راءة؟ ملاذا
أصبح احلب ضع ًفا نخشى أن يظهر علينا؟ ملاذا؟
ما دامت هي حياة واحدة ،فلامذا ال نكون مع من نحب؟! إن مل
نستطع أن نكون معه ،فأقل ذلك أن يعلم أننا نحبه.
كل ذلك شجعني أن أقول هلا وأنا خارج معها دون أي مقدمات:
«مارسيل» إين أحبك ،غري مكرتث ،كيف يكون ردها ،فقط أردت أن
أبدي ما أشعر به ،بل وأتذوق حالوة إبدائها وإعالهنا.
توقفت فور سامعها ،انتظرت مني تعقي ًبا ،مل أعقب ،توارى وجهي
خجلاً ؛ فنظرت أسفل مني ،فام كنت أفكر فيام بعدها ،كان كل مهي فقط
أن أقول هلا« :إين أحبك».
واصلن��ا الس�ير دون اتف��اق بينن��ا ،إىل أي يشء س��نذهب؟ لكن كان
طريقن��ا جتاه كافي��ه «مزيكا» القريب من امللجأ ،مل نجد أنفس��نا إال ونحن
نتجه نحوه ونجل��س فيه ،ربام تلك الرغبة الوحيدة التي انتابتنا ،أننا نريد
أن نجلس حتى نرفع خجل اللحظة.
أيضا دونام حديث لدقائق معدودة ،كل منا خيفي خجله يف
جلسنا ً
هاتفه ،وكأنه يبحث عن اسم أو يتصل ،حتى مجعت «مارسيل» ما يمكن
أن تقوله ،وكيف تقوله.
130
فقطعت ذلك الصمت وقالت:
ـ ال أعرف ماذا أقول ،وال أستطيع الفرح بام قلت ،رغم أنه أسعدين،
أيضا أنني أبادلك نفس
نعم أسعدين ،لن أخفي ذلك ،ولن أخفي ً
شعورك ،لكن أنا ال أستطيع التضحية لذلك الشعور.
ـ تضحية! أي تضحية؟!
ـ نعم تضحية ،عندما أسري وراء شعوري ،فثمة تضحيات لن أستطيع
فعيل أن أضحي بأهيل ألهنم لن يقبلوا أن أكون ملسلم أن أضحي هباّ ،
أيضا بذلك ،أنا من أرسة أبدً ا ،وتضحية بأصدقائي الذين لن يقبلوا ً
أيضا متدينة ،أحب أهيل جدًّ ا وأعلم أن ذلك سيحول متدينة حمافظة ،وأنا ً
بيني وبينهم إىل األبد ،ساحمني إن قلت ذلك ،حب نشأ مل يكن من قبل،
وكنت من قبله بني أهيل سعيدة هبم ،لكن أهيل خرجت منهم وبينهم ،ال
أختيل حيايت بدوهنم ،أقول ذلك وأنا يف قمة حزين ،أقول ذلك يف وقت
كنت أمتنى أن لو أستطيع أن أفرح بام قلت ،لكنها احلقيقة التي ال أستطيع
أحرارا يف حقيقة األمر وإن بدا ذلك ،ما دمنا ً الفكاك منها ،نحن لسنا
خمريين بني ترك مشاعرنا أو أهلنا وأحيان ًا ديننا.
متاحا يف دينكم الزواج بمسيحية ،ولكن
أيضا مثيل ،وإن كان ً وأنت ً
سيقولون لك تركت كل املسلامت وذهبت ملسيحية؟! تركت امللتزمات
وذهبت ملسيحية؟! لن يقبل ذلك أهلك ،ولن يقبل ذلك أصدقاؤك ،وإن
كان مقبولاً يف الدين ،لنعلم أن املشكلة يف دواخلنا وليست يف األديان،
نحن من جعلنا احلواجز وليست األديان.
أيضا ،أس��عدين أن
انته��ى كالمه��ا الذي أس��عدين قدر م��ا أحزنن��ي ً
131
س��معت منها أهنا تبادلني نفس الش��عور ،فكام شعرت بحالوة إبدائي هلا
غري مك�ترث بأي يشء يكون ردها ،س��عدت جدًّ ا من رده��ا أهنا حتبني،
يفض ذلك ليشء ،فعزائي الوحيد ش��عورها ،هذه هي احلقيقة وإنِ وإن مل
كان��ت صادمة ،آثرت أن تكون مع أهلها عىل أن تكون معي إن كان ذلك
سيكون األفضل هلا ،فكان ردي عليها:
ـ وأنا لن أعينك إال عىل ما حتبني ،ولن يكون حبي ِ
لك معول هدم
ِ
عرفت ذلك ،ويكفيني لعالقتك بأهلك أبدً ا فقط أنا أحبك ،يكفيني أنك
أنني أعلنت عن ذلك ،قبل أن يفرق القدر بيننا ،أو أن أقوله يف وقت ال
ِ
إسامعك... أستطيع فيه
132
()15
«ضن عليها املوت بنفسه لتعيش حياة األموات»
َّ
133
مرت أيام ...وأيام ...بل مايتعدى الشهرين ...مل يكن فيام انقىض من
هذه األيام سوى بعض االتصاالت التى كانت عىل فرتات متباعده بيني
وبني «مارسيل» أبقينا فقط عىل اخليط الرفيع الذى حيفظ صداقتنا والذى
يتسنى به أن يطمئن كل منا عىل اآلخر ،حتى جاءت تلك املهاتفة الغريبة،
الغريبة ىف موعدها ،والغريبة ىف أسباهبا وما محلته ىل من أخبار اختلطت
هبا مشاعري بني التشمت والتشفي حين ًا وبني التأمل ىف سنة اهلل ىف تدوال
األيام حين ًا آخر..
غري تلك البصقة التى تلقاها وجهي رد ًا عىل سالمي عليه ،مل يكن مني
أى تفاعل آخر معه السيام وأن العدوانية قد غلبت عىل طباعه وهو ماكان
يحُ بس بسببه ىف حجرة وحيد ًا أليام ،مل أحتدث ىف شأنه سوى مرة واحدة
مع «مارسيل» عندما قلت هلا حتفظي عىل وجوده بامللجأ وأن حالته
حتتاج بشكل كبري إىل مستشفى لألمراض العقلية وكنت مستغرب ًا وجوده
ىف امللجأ وهو عىل هذه احلالة ،لكن بعد علمى بالسبب زال العجب،
فقد كان ايض ًا مثله مثل احلاجة «أمينة» وجوده مصدر ًا للدخل «ملارية»
فكانت أرسته تتربع بمبلغ كبري للملجأ نظري إيوائه ،وعلمت أيض ًا ان
حالته مل تكن كام أصبحت عليه اآلن ،بل تدهورت أثناء وجوده ىف امللجأ،
فكان حيتاج لعالج معني ومعاملة خاصة غري متوفرة ىف امللجأ ،فقد كان
135
كل تعامل «مارية» مع نشاطه الزائد ومترده الدائم وحالة هياجه ،باحلبس
أو بالرضب ،نعم الرضب ،لقد قالت يل:
ـ أحيان�� ًا عندم��ا كان يصدر منه ش��يئ ًا م��ن ذلك كان��ت األم «مارية»
تستدعي األمن فيقيدوه هلا فترضبه بنفسها ثم يظل مقيد ًا حبيس ًا ىف حجرة
وحيد ًا ،ظلت هك��ذا معاملتها له إىل وقت ليس ببعيد ،بيد أهنا قللت من
حدهت��ا علي��ه ىف اآلونه األخرية بعدما زادت عدوانيت��ه وعنفه جتاه اآلخر
بش��كل ملحوظ من ج��راء العنف ال��ذى وقع عليه ،واكتف��ت بعد ذلك
�لا عن الرضب الذى كانت بتقيده وحبس��ه ظن ًا منها أن ذلك عالج ًا بدي ً
نتيجته تدهور حالته وزيادة عناده.
غري ذلك احلديث مل أحتدث عنه مرة أخرى ومل أحاول حتى التفاعل
معه جتنب ًا لعدوانيته ،ماكنت أعلم أن ذلك املجهول سيكون السبب لتقام
عليها سنة اهلل ىف أقداره ىف ذلك اليوم وتلك املهاتفة الغريبة التى كانت
ىف التاسعة صباح ًا عىل غري املعتاد من «مارسيل» كانت منهارة من هول
ما رأت..
قد انقض عليها كأسد ضاري ،وهى تصيح عىل األمن حتى يأتوا
لتقيده ل ُيعاقب عىل مافعل ،عزم أال يستسلم هلا هذه املرة ،فبادر إىل عصا
كانت بجواره فهامجها قبل أن يدركها أحد ،أراد أن يعاقبها عىل كل
أفعاهلا معه ومع نزالء امللجأ طوال هذه السنني ،قبل أن تعاقبه هى بام مل
يقرتفه واعي ًا..
اهنال عليها بالرضب ،ال يبايل برصخاهتا كام مل تبال من قبل ،ليس
هلا ىف قلبه أى رصيد من عطف أو حنان ،ليس ىف ذاكرته غري مشاهد
رضهبا له ووجها العبوس دائ ًام ،اجتمع فقدانه للرمحة جتاها مع فقدانه
لعقله جمنون ينتقم ممن جن جنونه.
136
انطلق��ت «مارس��يل» ،مفزوع��ة ،م��ن ه��ول الرصخ��ات ،إىل املكان
الصادر منه الرصيخ ،وقد كان الكثري من األمن والعاملني وأيض ًا املسنني
هيرولون إىل ذلك املكان ،فإذا هبا فريس��ة حتت أنياب أسد جائع ،يكيل هلا
الرضب��ات بعصاه ويده،بكل ما أوتى من قوة ،اس��تخلصوها منه ،مثخنة
قد تكرست عظامها..
سمعت كل ذلك من «مارسيل» والتى كانت تتحدث باهنيار من هول
مارأت من جراحها ودمائها ،فقد كانت أول من وصل إليها لنجدهتا
حتى جاءت سيارة اإلسعاف لنقلها إىل املستشفي فاقدة الوعي متام ًا.
ظللت عىل اتصال بــ«مارسيل» طيلة هذا اليوم والوقوف عىل أخرُ
ال بأحداثه ،بداية من ذلك احلدثالتطورات عندها ،فقد كان يوما طوي ً
مرور ًا بالتحقيق الذى صار لكل العاملني بامللجأ من الرشطة حتى ذهاهبا
بعد ذلك لــ «مارية» ىف املستشفي ،وقد علمت هنالك أن إصاباهتا التى
أصيبت هبا ىف العمودالفقري ،ستتسبب هلا بنسبة كبرية جد ًا ىف شلل
رباعى ىف أطرافها لن تكون بعد ذلك إال طرحية للفراش...
خرج دكتور «ميالد» بصحبة مندويب مستشفى األمراض العقلية
والنفسية الذين أتوا ليأخذوه من امللجأ إىل املستشفى حيث املكان
الصحيح ملثل حالته ،وكأن «مارية» أبت أن خيرج إال بعد أن خيرجها هى
أوالً عىل ظهرها ،بعدما أصبحت األموال التى كانت تأتيها من أرسته
وباالً عليها كام كانت عىل دكتور «ميالد» من قبل فكانت تعذبه هبا
وحتبسه وحيد ًا ،فخرجت عىل ظهرها نتيجة حرصها عىل هذه األموال
وعدم إرساله إىل مكانه الصحيح مستشفى األمراض العقليه والنفسية
............
137
بعد مكوثها شهر ًا ىف املستشفى ،عادت إىل امللجأ ،لكنها عادت عىل
طاولة ممددة ،لتقيض الباقي من عمرها بداخله طرحية فراشها مثلها كمثل
باقي النزالء بل أقل ،ض َّن عليها املوت بنفسه لتعيش حياة األموات..
(تمت)
138