You are on page 1of 140

‫‪ 18‬ش العرب من شـارع ‪ 77‬املعادى ــ القاهـرة‬

‫‪ 01224068553‬ــ ‪Mobile: 01143679371‬‬


‫ــ ‪Facebook: Seraj for Publishing & Distribution‬‬
‫الســـراچ للنشــر والتــوزيـــع‬
‫‪ mail : seraj.books@gmail.com‬ـ ‪E‬‬

‫عزلة‬
‫علاء أحمد‬
‫رقم اإليداع ‪2015 / 22976 :‬‬
‫الترقيم الدولي ‪ 0 :‬ـ ‪ 3‬ـ ‪ 85203‬ـ‪ 977‬ـ ‪978‬‬

‫الطبعة األولى ‪ 2016 :‬م ـ ‪ 1437‬هـ‬

‫جميع الحقوق محفوظة للناشر‬

‫الناشر‪ © :‬الســراچ للنشر والتوزيع‬


‫جمهورية مصر العربية ـ القاهرة‬

‫تصميم الغالف‪ :‬أسامة عالم‬

‫© مجيع احلقوق حمفوظة لـ الســراچ للنرش والتوزيع‪ ،‬وال جيوز‪ ،‬بأي صورة اقتباس‪ ،‬أو إعادة طبع‪ ،‬أو‬
‫نرش ىف أى صورة كانت ورقية‪ ،‬أو اليكرتونية‪ ،‬أو ىف وسيلة سمعية‪ ،‬أو برصية إال بإذن كتايب مسبق من‬
‫الدار وإال تعرض للمساءلة القانونية‪.‬‬
‫روايـة‬

‫السراج للنشر والتوزيع‬


‫الإهداء‬

‫إلى الجميلتين‪ ،‬إلى من غمراني بحبهما‬


‫أمي‪ ...‬زوجتي‬
‫إلى الإنسان‪ ..‬أيما كان‪ ،‬أينما كان‬

‫علاء أحمد‬

‫‪5‬‬
‫(‪)1‬‬
‫«أحيانًا يكون من نريد بجوارنا‪ ،‬لكننا ال نرا ُه ألننا‬
‫نبحث عنه من خالل صورته الومهية التي رسمناها له يف‬
‫خميلتنا عىل أهنا احلقيقة املطلقة التي ال ريب فيها»‬

‫‪7‬‬
‫كان اختالفه الوحيد عن املقابر املعتادة‪ ،‬أن ما بداخله أحياء‪ ،‬هكذا‬
‫ِ‬
‫بدخوله إىل مكان بعيد من عامل‬ ‫بدا يل مع أول يوم يف زياريت إليه‪ ،‬وانتقايل‬
‫آخر‪ ،‬فقط مدخله يطل عىل عاملنا‪ ،‬بل يطل عىل أكثر امليادين حداثة وأناقة‬
‫ليكون هذا املدخل رشفة يرى منها املستقبل من يسكنون املايض‪.‬‬
‫كنت أختيله دو ًما مسكونًا بالعفاريت عندما يتصادف مروري من‬
‫أمامه‪ ،‬فكانت صدمتي أن من يسكنه أحياء‪.‬‬
‫دائم يلفت أنظار املارين لطرازه الغريب عن باقي املباين من حوله‪،‬‬
‫اً‬
‫لكنه أبدً ا مل يشغل تفكريهم حتى يف جمرد الفضول أن يعرفوا طبيعته‪،‬‬
‫ٍ‬
‫لثوان معدودة؛ ألنه‬ ‫كمن خيتزل نفسه يف هيئة خارجية جيذب هبا األنظار‬
‫ال يمتلك بالداخل الكثري من التفاصيل العميقه التي تسرتعي التفكري‬
‫الطويل‪.‬‬
‫كانت كل عالقتنا به إذا مررت وأصدقائي عليه هي صورة تُلتقط‬
‫بأحدث الكامريات بجوار أقدم املباين‪ ،‬فكثرينا حيب أن يظهر يف كدر‬
‫ٍ‬
‫لثوان‪ ،‬ال أن يعود ليعيش هذا‬ ‫صورة حتوي الرتاث والقديم يف لقطة‬
‫الزمن دون هواتف ذكية وال سيارات فارهة‪..‬‬
‫كثريا من أمامه وأنا أبحث عن العنوان املدون‬
‫يف هذا اليوم مررت ً‬

‫‪9‬‬
‫عىل خطاب تكليفي العميل من املعهد العايل للخدمة االجتامعية‪ ،‬كانوا‬
‫يشريون إليه وأنا أسأل عن هذا العنوان‪ ،‬فكنت أذهب إليه وأبحث‬
‫بجواره وأطوف حوله ملساحته الضخمة‪ ،‬فكل جانب من جوانبه األربعة‬
‫يطل عىل شارع كبري ما ظننت مرة واحدة أنه هو ما أريد‪ ،‬ال سيام أنه ال‬
‫يوجد ما يدل عىل احلياة بداخله‪ ،‬وال الفتة عليه حتمل اسمه‪.‬‬
‫تنكر من نفسه؛ فنُكر من اآلخرين هو وساكنوه‪.‬‬
‫مل يكن لدي خيار آخر إال الذهاب إليه بعد أن مسحت كل املنطقة‬
‫املحيطة به باح ًثا عنه‪.‬‬
‫«أحيانًا يكون من نريد بجوارنا‪ ،‬لكننا ال نرا ُه ألننا نبحث عنه من‬
‫خالل صورته الومهية التي رسمناها له يف خميلتنا عىل أهنا احلقيقة املطلقة‬
‫التي ال ريب فيها»‪.‬‬
‫دخلت إليه من بوابته الرئيسية‪ ،‬قد سبقتني نظرايت االستكشافية باح ًثا‬
‫مارا بممر طويل عىل جانبيه‬ ‫عن أمن البوابة فال أحد‪ ،‬واصلت السري ًّ‬
‫أشجار متعانقة عند الفروع لتصنع بالتقائها سق ًفا من ورقات الشجر‪.‬‬
‫متجها إىل املدخل اآلخر والذي يعلو عن األرض بسلم من ثالث‬ ‫ً‬
‫درجات عىل نمط القصور امللكية القديمة‪ ،‬والتي قد ُح ّول أغلبها إىل‬
‫مستشفيات أو مديريات للوزارات‪.‬‬
‫كل ذلك‪ ،‬وال أحد يعرتضني‪ ،‬وال أحد قادم نحوي أراه عىل مرمى‬
‫السلم‪ ،‬وقفت‬
‫برصي؛ مما زادين ترد ًدا يف اإلقدام‪ ،‬فقبيل اقرتايب من ُّ‬
‫قليلاً ‪ ،‬نظرت خلفي لعل أحدً ا أتى من حراسه؛ فقد توغلت ً‬
‫كثريا دون‬
‫أن ُيؤذن يل‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫مسحت حويل بنظرة عابرة فال أحد‪ ،‬ثم عاودت النظر أمامي بحركة‬
‫خارجا من البوابة الثانية‪ ،‬ومع‬
‫ً‬ ‫تعكس توجيس وقلقي عله من خلفي يأيت‬
‫أيضا فوجئت ف ُفجعت‪،‬‬ ‫التفايف الرسيع حدث ما كنت أحسبه‪ ،‬لكنني ً‬
‫وارجتفت مع قوهلا يف وجهي عند التفايف‪:‬‬
‫ـ أيوة يا أستاذ طلباتك‪.‬‬
‫ما كان منها إال أن ضحكت من فجعتي وارجتاف جسدي؛ األمر‬
‫الذي حاولت أن أنفيه بردي الرسيع عليها‪.‬‬
‫ـ حرضتك دا امللجأ الفرنيس؟‬
‫مع ردي الرسيع وصويت الذي حاولت أن أخفي وراءه فجعتي‪ ،‬إال‬
‫فاضحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن اهتزاز جسدي املفاجئ كان‬
‫اصطحبتني «غالية» عاملة اخلدمات املعاونة وأول من رأيت من برش‬
‫يف هذا املكان إىل مكتب األستاذة «مارسيل» املرشدة النفسية للملجأ‬
‫والتي تستقبل الطالب القادمني للتكليف العميل‪..‬‬
‫إن كانت «غالية» أول من رأيت من برش فــ «مارسيل» كانت أول‬
‫روح يف أرض األموات؛ وجهها كشهاب ىف ليل شعرها األسود املنسدل‬
‫عىل كتفيها‪ ،‬يتطاير فرح ًا بمداعبة اهلواء له‪ ،‬معقوفة األنف‪ ،‬ذات عينني‬
‫واسعتني‪،‬ليست بالقصرية وال الطويلة‪ ،‬جاذبة لألنظار كحال القمر يف‬
‫ظلامت الليل‪.‬‬
‫طالقة وجهها وطريقتها البسيطة تذيب أي حتفظ وترفع كل تكليف‪.‬‬
‫جتاذبنا أطراف احلديث؛ فقد توافقت األهداف والرؤى؛ حيث إهنا‬

‫‪11‬‬
‫أيضا فيه عن رغبة وليس ألنه‬
‫تعمل يف هذا املجال عن رغبة ودراستها ً‬
‫املتاح أو ما فرضه عليها جمموع درجاهتا‪ ،‬وكذلك حايل يف اختياري‬
‫لتخصيص‪.‬‬
‫طاملا متنيت مثل هذا احلديث ونقل اخلربات الذي كان بعيد املنال بني‬
‫أقران دراسة ال يبحثون إال عن بعض األسئلة املتوقع جميئها يف االمتحان‬
‫دون أي اهتامم بام يدرسون‪ ،‬أغلبهم يريد فقط املؤهل دونام أي تأهيل‪.‬‬
‫ومما ساعد عىل رسيان احلديث بعد توافق االهتاممات هو السن‬
‫املتقارب؛ فهي فقط من خرجيي العام املايض‪ ،‬واستلمت عملها بعد‬
‫خترجها مبارشة وأنا يف عامي الدرايس األخري‪ ،‬وإنا كنا متساويني يف عام‬
‫امليالد‪ ،‬إال أهنا تكربين بشهرين‪ ،‬هذا ما عرفته من ردها عىل سؤايل عن‬
‫عمرها ودفعة خترجها؛ لمِا رأيته منها من خربات وأفكار وفلسفة خاصة‬
‫يف التعامل مع النفس وإرشادها‪.‬‬
‫بينام نحن كذلك‪ ،‬حوار متدفق نتبادل فيه الرؤى وأسمع منها عن‬
‫طبيعة امللجأ وحال املقيمني فيه‪ ،‬إذ دخلت علينا هبيئة ووجه متناسق متا ًما‬
‫مع حال امللجأ؛ حيث مجود املالمح والزي غري التقليدي كغرابة نسق‬
‫هذا املبنى عن املباين املجاورة له‪ ،‬وكأن أحدً ا منهم قد تأثر باآلخر هي‬
‫أو املبنى‪.‬‬
‫فور دخوهلا‪ ،‬توقفت «مارسيل» يف ثبات عسكري تبادر يف تعريفي‬
‫هلا‪ ،‬بينام هي ال تتحدث‪ ،‬تنظر بعني حادة شاخصة ووجه متجهم‪ ،‬كل‬
‫تواصلها معي كان نظرة واحدة مسحتني هبا بعد تسلمها ورقة تكليفي‬
‫أيضا مل‬
‫من «مارسيل» دون أن تتحدث بكلمة واحدة معي أو معها وأنا ً‬
‫أحاول ذلك‪ ،‬فتحفز مالحمها واقتطاب حاجبيها يمنعان أي أحد من أن‬

‫‪12‬‬
‫يبادر باحلديث أو التواصل معها خو ًفا من رد فعل قد يتوقع صل ًبا كحال‬
‫مالحمها‪.‬‬
‫مل يكن منها أي حديث‪ ،‬ومل أكن قد تعاملت معها بعد‪ ،‬إال أن ذلك‬
‫القدوم هبذا الشكل كفيل وحده أن حيدث انطبا ًعا سي ًئا لدي جتاهها‪ ،‬متا ًما‬
‫أيضا‬‫كاالبتسامة التي تسبق حديث صاحبها الذي تراه ألول مرة كفيلة ً‬
‫أن تفتح صدرك له وتتهيأ لقبوله وقبول ما يقول حتى قبل أن يتفوه به‪.‬‬
‫وكأهنا شعرت بمدى فضويل الداخيل ملعرفة من هذه التي دخلت‬
‫فجأة دون مقدمات فوقفت هلا احرتا ًما وتبجيلاً ‪ ،‬وخرجت دون أن‬
‫تتحدث بكلمة واحدة‪ ،‬فبادرتني قبل سؤايل‪:‬‬
‫ـ إهنا األم الراهبة «مارية» راعية امللجأ واملسئولة األوىل عنه‪.‬‬
‫تفهمت هبذا التعريف ملاذا قامت هلا باعتبارها املسئولة األوىل عن‬
‫وأيضا طبيعة ِز هّيا كوهنا راهبة‪ ،‬لكنني مل َأره ً‬
‫مربرا قط لعبوسها‬ ‫امللجأ ً‬
‫وتعاملها اجلاف؛ األمر الذي أخفيته فهذا أول انطباعي عليها‪ ،‬ولعلها‬
‫غري ما أظن وجميئي باألساس من أجل تكليف له مدة حمددة أحب أن‬
‫أقضيها بحب مع كل الناس هنا‪ ،‬ال أن أطلق أحكامي عليهم‪.‬‬
‫اصطحبتني «مارسيل» يف جولة داخل امللجأ لتعرفني عليه وعىل‬
‫مقيميه الذين سيصبحون حمل اهتاممي‪.‬‬
‫يف هذا اليوم الذي ال ينسى والذي ما زلت أذكره بكل تفاصيله‪،‬‬
‫وكأهنا مل تكن جولة تعريفية داخل أرجاء امللجأ‪ ،‬بل كانت رحلة يف‬
‫أعامق النفوس ودواخل كانت مغلقة بأحزاهنا‪ ،‬انتهت الرحلة ومل ِ‬
‫تنته‬
‫معانيها‪ ،‬بل مل ِ‬
‫ينته عبئها النفيس‪ ،‬فأشعر وأنا أقلب صفحات روايتي‪،‬‬

‫‪13‬‬
‫أدراجا إىل تلك األيام‪ ،‬أعود مع كل صفحة إىل يوم أو‬ ‫ً‬ ‫وكأنني أعود‬
‫حدث‪ ،‬بل أعود مع كل كلمة إىل حلظة عشتها يف ذلك امللجأ‪ ،‬ولمِ َ ال؟! فام‬
‫كنت يو ًما روائ ًّيا وال رغبت يف ذلك‪ ،‬لكنني اكتشفت ملكتي هذه عندما‬
‫صدقت أحاسييس‪ ،‬عندما شعرت‪ ،‬وكأن الكتابة ليست سوى حلظة‬
‫واقع عشناها بحق‪ ،‬ومن فرط شعورنا هبا بالغنا يف وصفها؛ فرسحنا يف‬
‫ملكوت اخليال‪ ،‬عندها تيقنت من صدق تلك املقولة «قد جيعل منك‬
‫احلزن مبد ًعا‪ ..‬لكنك مهام كنت مبد ًعا لن تقنعني أنك حزين وأنت لست‬
‫تأوها من أوجاع»‪.‬‬
‫كذلك‪ ،‬فكثري من اإلبداع كان ً‬
‫فتحول تقريري عن فرتة تدريبي العميل يف هذا امللجأ إىل رواية دون‬
‫قصد لذلك‪ ،‬فقط احلاجة إىل أن أروي ما أمهني‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫(‪)2‬‬
‫«عىل بعد خطوات منهم أناس آخرون تائهون بني‬
‫خياراهتم وترفهم وهلوهم‪ ،‬قد يسمعون ضحكاهتم وهم‬
‫بالداخل‪ ،‬وال يسمع من باخلارج أنينهم»‬

‫‪15‬‬
‫ىف مكان قريب‪ ،‬بعيد‪ ،‬قريب من الزحام ومن مقاصد الناس‪ ،‬ويف‬
‫أشهر امليادين‪ ،‬بعيدً ا عن اهتاممهم وأنظارهم وإن كانوا يرتددون حوله‬
‫ويمرون من أمامه‪ ،‬يكون هذا املبنى‪.‬‬
‫حما ًط��ا باألش��جار العتيق��ة الباس��قة ملتف��ة األغص��ان‪ ،‬قد رس��مت‬
‫بأغصاهن��ا وفروعها املتش��ابكة جتاعي��د ًا عىل وجه هذا املبن��ى‪ ،‬تظهر فعل‬
‫مغمورا يف قلب هذا امليدان‬
‫ً‬ ‫السنني واألزمنة عليه‪ ،‬وختفي معامله‪ ،‬ليصبح‬
‫املش��هور‪ ،‬ومتن��ع بأوراقه��ا الكثيفة ضوء الش��مس عن نواف��ذه؛ فتكتمل‬
‫العزل��ة؛ فيصبح الليل والنهار بداخله س��واء‪ ،‬بل اللي��ل أفضل حالاً من‬
‫النه��ار؛ حيث تُض��اء املصابيح‪ ،‬أما النهار فيك��ون االعتامد عىل ما ترسب‬
‫مصدرا للضوء‪.‬‬
‫ً‬ ‫خفية من ضوء الشمس من بني فرجات األوراق ليكون‬
‫ع��امل يتكون م��ن ممر طويل‪ ،‬عايل الس��قف‪ ،‬عىل جانبي��ه غرف كبرية‪،‬‬
‫ب�ين كل غرفة وأخ��رى لوحة عمالق��ة قديمة‪ ،‬مرس��وم بداخلها إحدى‬
‫رسيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫األيقونات أو الرسوم املسيحية العقائدية‪ ،‬ويف كل غرفة اثنا عرش‬
‫ويف كل جان��ب ث�لاث غرف من ه��ذه الغرف الكبرية‪ ،‬ينته��ي هذا املمر‬
‫بس��احة مس��قوفة بس��قف من اخلش��ب‪ ،‬ويف حميط هذه الس��احة الكبرية‬
‫مقاع��د للراحة واجللوس وكأهنا مكان التنزه والتغيري لنزالء هذه األسرِ ة‬
‫التي يف الغرف الكبرية‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫يف اجلانب األيمن من هذه الساحة باب قديم من حديد‪ ،‬وكأنه قطعة‬
‫من أثر قد تبقى من زمان سابق‪ ،‬حمفور بوسطه صليب عليه ترميز هليئة‬
‫املسيح مصلو ًبا‪ ،‬منحوتًا بكتلة من النحاس األمحر‪ ،‬يفصل هذا الباب‬
‫بني ذلك املبنى بكل حمتوياته وهذه الكنيسة املشيدة عىل النسق الغريب‬
‫الكاثوليكي القديم كقدم املبنى امللحقة به‪.‬‬
‫ويف اجلانب األيرس من هذه الصالة باب آخر‪ ،‬هو مدخل إىل حديقة‬
‫املكان والتي تُدخل من الشارع مبارشة عن طريق باهبا الثاين‪.‬‬
‫حديق��ه ال حتوي بداخلها أية زهور‪ ،‬بل بع��ض رفات هلا من يرقات‪،‬‬
‫وال أشجار مثمرة‪ ،‬بل أعجاز جذوع خاوية عىل أرض مكسوة بحشائش‬
‫َبت ق��د اكتفى م��ن األرض تراهبا‪ ،‬ومن الس�ماء‬
‫عش��وائية غ�ير مهذبة‪ ،‬ن ٌ‬
‫قطراهت��ا ال حيتاج منهم أي اهتامم قد خرج من باطن األرض ليموت عىل‬
‫ظهرها‪.‬‬
‫كان من املمكن أن تكون هذه احلديقة هي مصدر الراحة والرتفيه‬
‫هلؤالء النزالء ببعض الرعاية‪ ،‬لكنه اإلمهال املقصود؛ إمعانًا يف العزلة‬
‫وكأنه ال جيب أن يكون هنا يشء مجيل‪ ،‬أو لعلهم يعتقدون أن ال حاجة‬
‫للكبار يف األزهار‪.‬‬
‫يف داخل هذا املكان «أناس» لكن ليسوا كغريهم ممن بخارجه؛ حيث‬
‫تقارب أعامر القاطنني‪ ،‬فجلهم يف أرذل العمر‪ ،‬الكل بداخله مسري ًا‪ ،‬فال‬
‫اختيار هلم وال رأي إال يف دخوهلم اخلالء‪ ،‬وإن كان عىل بعد خطوات‬
‫منهم أناس آخرون تائهون بني خياراهتم وترفهم وهلوهم‪ ،‬قد يسمعون‬
‫ضحكاهتم وهم بالداخل‪ ،‬وال يسمع من باخلارج أنينهم‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫(‪)3‬‬
‫«رغم ذبول خدهيا وساقني يميالن هبا دون رياح‪ ،‬بيد‬
‫أن الناظر إليها سيعلم أهنا وردة كان هلا رحيق يف املايض‪،‬‬
‫تغري شكلها ومل تتغري صفتها»‬

‫‪19‬‬
‫«ألفونس» أحد قاطني هذا العامل‪ ،‬خيرج كعادته مع باكورة كل صباح‬
‫من حجرته وهي إحدى هذه احلُجر الكبرية‪.‬‬
‫ً‬
‫متوكأ عىل « ُعكّازه» الذي يعتليه الصدأ‪ ،‬فعلت به األيام كام‬ ‫خيرج‬
‫قادرا عىل الصمود‪ ،‬يتحمل صاحبه دون‬ ‫فعلت بصاحبه‪ ،‬لكنه ما زال ً‬
‫ضجر‪.‬‬
‫بل هو آخر ما تبقى له من معني إن انكرس فال خروج من هذه احلجرة‬
‫إال اخلروج األخري حممولاً عىل األكتاف‪ ،‬مسو ًقا اىل قربه الثانى‪.‬‬
‫فشعار العاملني هناك خلدمتهم «اخدم نفسك بنفسك»‪.‬‬
‫ماش ًيا يف املمر املؤدي إىل الصالة الكبرية بخطوات متثاقلة بطيئة‪ ،‬فال‬
‫حاجة له يف الوقت حتى يعجل‪ ،‬وإن كان هو يف األساس غري قادر عىل‬
‫العجلة وحياته تدور يف عملية يومية روتينية لقتل ما تبقى له من الوقت‬
‫يف عمره‪.‬‬
‫ال تتغري وجهته اليومية‪ ،‬بل ال يتغري مكان جلوسه املفضل بجوار‬
‫صديقة عمره «كرستني»‪.‬‬
‫يظل كذلك حتى تغيب الشمس ويذهب كل واحد منهام إىل رسيره‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫دائم مالبسه كاملعتاد‪ ،‬قميص يف داخل البنطال‪ ،‬متحزم الوسط بذلك‬ ‫اً‬
‫ِ‬
‫احلزام اجللدي الرفيع الذي تشقق جلده من قدمه ومن كثرة الثقوب حتى‬
‫يصل إىل مقاس خرصه الضئيل‪ ،‬قد يتغري البنطال يو ًما أو القميص‪ ،‬إال‬
‫أن احلذاء البالستيك األسود ليس غريه مع كل طقم‪« ...‬كرستني» رغم‬
‫ذبول خدهيا وساقني يميالن هبا دون رياح‪ ،‬بيد أن الناظر إليها سيعلم أهنا‬
‫وردة كان هلا رحيق يف املايض‪ ،‬تغري شكلها ومل تتغري صفتها‪ ،‬كان ال بد هلا‬
‫من حديقة تنبت فيها غري بوار ذلك امللجأ‪.‬‬
‫دائم حتمل بيدها ذلك «الفلوت» العتيق‪ ،‬فيض اللون‪ ،‬األنيق كأناقتها‪،‬‬
‫اً‬
‫هو ذكراها الوحيدة من موطنها‪ ،‬وهوايتها القادرة عىل أن متارسها‪.‬‬
‫ال تكل من عزفها عليه‪ ،‬لكنها كانت تعزف عز ًفا ً‬
‫نشازا صاخ ًبا‪ ،‬رغم‬
‫أهنا خبرية بعلم املوسيقى‪ ،‬لكنها كانت جتد يف ذلك النشاز االعرتاض‬
‫الوحيد واخلروج عن املألوف‪ ،‬وإن كان جمرد خروج عن قواعد علم‬
‫املوسيقى‪ ،‬فطاملا ظلت مقيدة بقواعد وقوانني امللجأ الصارمة‪ ،‬كانت‬
‫تستنفد قواها وأنفاسها وهي تنفخ فيه وكأهنا نفخة ضجر من حياهتا‬
‫الروتينية تخُ رج هبا ما يف صدرها من ضيق‪.‬‬
‫أما يف هندامها‪ ،‬فام زالت حمافظة عىل األناقة الكالسيكية يف ظل املتاح‬
‫هلا من مالبس‪.‬‬
‫ما زالت ـ رغم كرب سنها ـ تلبس التنورة القصرية السوداء‪ ،‬واجلوارب‬
‫الطويل��ة البيضاء‪ ،‬والقمي��ص األمحر الذي تغلق ياقته ع�لى عنقها وكأهنا‬
‫عضوة يف فريق للكورال أو طالبة يف مدرس��ة هلا زهيا اخلاص‪ ،‬ال تريد إال‬
‫أن تعي��ش كفتاة يف العرشين من عمرها أو قبل ذلك‪ ،‬لعله العمر الوحيد‬
‫الذي عاشته بالفعل؛ فال تريد أن تعرتف فيام بعد ذلك عندما أتت ها هنا‬
‫وهي اآلن يف السبعني من عمرها‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫كان ثمة أناس آخرين‪ ،‬وثمة مشاهدات أخرى هلم‪ ،‬لكنني كنت‬
‫ملتز ًما باحلالتني اللتني ُوكلت هبام‪ ،‬لكن التزامي هذا مل يمنعني من أن‬
‫أتفقد اجلميع حتى لو بسالم عابر يف كل صباح عند جميئي إليهم‪ ،‬كان‬
‫عيل هنا‪.‬‬
‫ذلك ال ينقطع من أول يوم حتى وقتي هذا‪ ،‬وقد مر أسبوع ّ‬
‫كان كاف ًيا ذلك األسبوع أن أرصد عاداهتم وروتينهم الذي ال يكاد‬
‫يتغري‪ ،‬حتى شكل مالبسهم وأماكن جلوسهم‪ ،‬انتظرت حتى أرى أي‬
‫تغيري فلم أجد‪ ،‬حتى علمت أهنم يعيشون حول ثوابت ال تتغري‪ ،‬ال يطرأ‬
‫عليهم جتديد ًا‪ ،‬فام رأيته اليوم‪ ،‬غال ًبا سيكون مشهد الغد‪ ،‬بل ظل طوال‬
‫األسبوع إن مل يكن هو طوال حياهتم يف امللجأ‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬عىل مقعد يف ركن من أركان الصالة الكبرية‪،‬‬
‫طيلة هذا األسبوع ً‬
‫حالتي «ألفونس ـ كرستني» تكون هي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫دائم‬
‫املقابل للركن الذي يقبع فيه اً‬
‫حاهلا هو هو مل يتغري؛ لغرابته اسرتعى اهتاممي وتفكريي وإن كانت‬
‫ليست من ضمن حااليت‪ ،‬فالتعاطف اإلنساين ال يتقيد بتقسيم روتيني‬
‫قد فرضه مكان ما‪.‬‬
‫دائم سارحة يف ملكوهتا‪ ،‬حتملق بعينيها يف اجتاه واحد‪ ،‬ال يزيغ برصها‬
‫اً‬
‫عنه‪ ،‬تشاهد أشياء ًا ال نراها‪ ،‬ال تسمع من حوهلا وإن نودي عليها إال بعد‬
‫مرات‪.‬‬
‫حتى األذن منصتة حلديث آخر ال نعرفه‪ ،‬قد أخذها عنا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ماض قد خال‪ ،‬كان يتجمع فيه حوهلا األحباب‪،‬‬ ‫وكأهنا مستغرقة يف‬
‫كانت فيه مرغوبة من اجلميع‪.‬‬
‫فتهرب يف تلك الذكريات عن واقع ال حتب أن تعيشه وتعرتف به‪،‬‬

‫‪23‬‬
‫تأبى حتى أن تشارك فيه بسامع أو مشاهدة‪ ،‬فضلاً عن التواصل باملحادثة‬
‫مع من حوهلا‪.‬‬
‫دائم كذلك‪ ،‬أو عىل النقيض‪ ،‬كالعاصفة بعد اهلدوء‪.‬‬
‫اً‬
‫فبعد استحضارها لتلك األيام اخلوايل تريد أن تكون حارضة فيها‬
‫بنفسها ال بخياهلا‪ ،‬فرتى أن موانعها هذه األسوار العالية والبوابات‬
‫احلديدية؛ فتهرول عليها كعصفور ينتفض بجناحيه وهو يدور يف رحى‬
‫القفص باح ًثا عن خمرج للفضاء الطلق‪.‬‬
‫فتدف��ع الباب امل��ؤدي إىل احلديقة؛ حيث أب��واب امللجأ األخرى غري‬
‫الرئيس��ية وب��راح احلديق��ة والس�ماء التي ال حتجبها س��قف‪ ،‬فه��و املكان‬
‫وأيض��ا رؤية الش��ارع الواضحة بني‬
‫الوحي��د األق��رب للخ��ارج بطبيعته ً‬
‫فرجات القضبان احلديدية للبوابة‪.‬‬
‫وأيضا من حماولة دفعهم وهم‬ ‫يأتون هبا وهي منهكة من هرولتها‪ً ،‬‬
‫يمنعوهنا من اخلروج خارج البوابة‪ُ ،‬يؤتى هبا حممولة إىل رسيرها قد‬
‫نفدت كل قواها وقدرهتا من حالة رصعها؛ فتكون جسدً ا هامدً ا ليس‬
‫فيه غري أنفاس تدل عىل أهنا ما زالت عىل قيد احلياة‪.‬‬
‫حاهلا الغريب هذا كان شديد األثر عىل نفيس‪ ،‬ليس فقط يف ذلك‬
‫الوقت الذي أكون فيه داخل امللجأ‪ ،‬بل وأنا يف بيتى أفكر فيها وفيهم‪،‬‬
‫أحيانًا كان يذهب عني النوم انشغالاً بحاهلم‪ ،‬كنت أقول يف نفسى كيف‬
‫دائم كانت تراودين مشاهد «احلاجة‬‫ينام قرير العني من له أحد يف امللجأ‪ ،‬اً‬
‫أمينة» وهي هترول إىل البوابة تريد اخلروج‪ ،‬كنت أختيل فيها أمي‪ ،‬لعل‬
‫ذلك من هيئتها وتلك «العباءة السوداء» و«الطرحة» التي تلبسها متا ًما‬

‫‪24‬‬
‫كطريقة مالبس أمي‪ ،‬كنت ال أستطيع أن أختيل ذلك عىل أمي ملجرد‬
‫منعم وهي تقايس الوحدة‪ ،‬ال يصاحبها غري‬ ‫ٍ‬
‫نائم اً‬
‫التخيل لثوان‪ ،‬أن أكون اً‬
‫الذكريات‪ ،‬فكيف بأبنائها يتحملون ـ إن كان هلا أبناء ـ وكيف بعائلتها‬
‫يرضون ذلك؟!‬
‫كانت مشاهدهم حارضة معي يف مواضع كثرية‪ ،‬فعند طعامي كنت‬
‫أتذكرهم‪ ،‬وأتذكر معاناهتم‪ ،‬أتذكرهم وأنا أهلو أو يف فرحي وهم قابعون‬
‫يف ملجئهم‪ ،‬مل أستطع الفصل كام كان يفعل زمالئي يف الدراسة‪ ،‬وكام‬
‫كانوا يقولون يل عندما كنت أحتدث معهم عنهم ونحن يف املعهد أو‬
‫خارج امللجأ‪ ،‬كانوا يقولون‪ :‬عندما نخرج من امللجأ ننسى كل يشء‪،‬‬
‫نحن نذهب فقط لقضاء ذلك التكليف‪ ،‬هو فقط ما سنُحاسب عليه‪ ،‬فال‬
‫تُكلف نفسك فوق طاقتها‪.‬‬
‫أيضا سأحاسب عليه يف ضمريي‬
‫كنت أقول يف نفيس لكن حاهلم ً‬
‫وداخيل إن مل أحاسب عليه يف املعهد‪.‬‬
‫كانت «مارسيل» هي األقرب يل كي أحكي هلا ما أمهني‪ ،‬وإين أريد‬
‫دائم ذلك احلرص‪.‬‬
‫أن أفعل شي ًئا يسعد هؤالء املسنني‪ ،‬فكنت أرى فيها اً‬
‫دائم معي يف جتوايل عليهم‪ ،‬تفكر معي يف أحواهلم‪ ،‬فكانت‬ ‫كانت اً‬
‫العادة التي داومنا عليها كل يوم أننا نمر نتفقد كل املقيمني‪ ،‬ونوزع‬
‫عليهم بعض احللوى التي تعاوننا يف ثمن رشائها‪ ،‬ثم بعد جولتنا هذه‬
‫حالتي‪ ،‬وتذهب هي إىل مكتبها‪ ،‬لكننا كنا نعلم أن هذا ال‬
‫ّ‬ ‫أذهب أنا إىل‬
‫يكفي‪ ،‬وإن كان ذلك يسهم يف فرحة كبرية هلم‪ ،‬ولكنه القليل املتاح‪ ،‬حتى‬
‫نفكر فيام هو أكرب من ذلك‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫عىل الرغم من أن ما قمنا به يعترب جهدً ا شخص ًّيا لنا ومل نثقل عىل‬
‫اإلدارة ىف يشء ولن نثقل‪ ،‬فحتى ما نفكر ىف عمله مستقبلاً نعتمد يف‬
‫أيضا عىل جهدنا الشخيص‪.‬‬‫تنفيذه ً‬
‫إال أنني كنت أشعر بعدم ارتياح من األم «مارية» مسئولة امللجأ‪،‬‬
‫عىل عكس توقعي أنه سيسعدها كوهنا املديرة وتبحث عن أي نجاح‬
‫ملؤسستها‪.‬‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫مل يكن عدم ارتياحها معلنًا‪ ،‬ومل يكن ثمة عرقلة منها‪ ،‬لكنه كان‬
‫يف نظراهتا‪ ،‬فضلاً عن أهنا مل ِ‬
‫تبد إعجاهبا وال ثناءها عىل ما كنا نفعله‪ ،‬حتى‬
‫دائم كشبح يراقب‬‫هذه اللحظة‪ ،‬مل يكن أي تواصل بيننا‪ ،‬فقط أجدها اً‬
‫دائم بنظراهتا‪ ،‬ولكنها ال تشارك بشكل مبارش‪،‬‬ ‫حتركاتنا من بعيد‪ ،‬معنا اً‬
‫حتى أنني مع كل جولة أو جلسة مع أحد املسنني أنظر خلفي أو جانبي‬
‫متوق ًعا رؤيتها؛ فأراها تنظر إ ّيل من بعيد‪ ،‬ما إن أنظر إليها إال وتتحرك‬
‫كأهنا ذاهبة إىل وجهة أخرى‪ ،‬كانت أكرب لغز بالنسبة يل يف هذا املكان‪،‬‬
‫تعدى حتى هنمي يف أن أعرف قصص هؤالء النزالء‪ ،‬وقد كنت أؤجل‬
‫احلديث اخلاص املستفيض معهم وعن قصصهم حتى تتوثق عالقتي هبم‬
‫ويذوب جليد صمتهم عند اطمئناهنم يل؛ وهو ما مل أخض فيه حتى بعد‬
‫مرور أسبوع عىل جميئي‪ .‬يف مرات عديدة‪ ،‬كنت أنوي التحدث يف شأهنا‬
‫مع «مارسيل» ولكني كنت أتراجع؛ خو ًفا أن يكون حدي ًثا غري مرغوب‬
‫فيه‪ ،‬أو تعد ًيا يف غري ما جئت من أجله‪.‬‬
‫أيضا أهنا ال تستسيغ عالقتي بــ «مارسيل» وإن كانت واضحة‬
‫شعرت ً‬
‫وظاهرة جدًّ ا أهنا يف خدمة املسنني وليس فيها أي يشء خفي‪ ،‬لكن كل‬
‫هذا كان توق ًعا ال أجد قرينة عليه تعضده‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫مراقبتها يل أصبحت مريبة يف أوقات كثرية‪ ،‬ففي مرة كنت ذاه ًبا إىل‬
‫املرحاض ماش ًيا يف ردهة طويلة تؤدي إليه‪ ،‬وقبل دخويل املرحاض‪،‬‬
‫نظرت خلفي‪ ،‬وبالفعل وجدهتا يف هناية الردهة تنظر إىل أي وجهة أنا‬
‫ذاهب‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫(‪)4‬‬
‫عاما ناقصة من عمري‪ ،‬كنت فيها من‬
‫«مخسة وسبعون ً‬
‫عيل حياة»‬
‫األموات واحتُسبت َّ‬

‫‪29‬‬
‫أوشك أسبوعي الثاين عىل االنقضاء‪ ،‬لكنه ليس كسابقه‪ ،‬فقد ظهرت‬
‫بوادر التغيري الذي كنت أنشده‪ ،‬فتحركت املياه الراكدة بفعل تلك‬
‫االبتسامات التي كنت أقذفها عىل الوجوه التي طاملا ظلت ثابتة‪ ،‬فال‬
‫أحد إال وأصبح يعرفني‪ ،‬كنت أتسامر مع اجلميع حتى ولو مل أجد من‬
‫بعضهم تفاعلاً أو حتى ر ًّدا عكس ًّيا كالذي حدث عندما مررت عىل ذلك‬
‫املسن الذي يرتدي دو ًما «البالطو» األبيض اخلاص باألطباء والذي قد‬
‫مديرا ملستشفى الرمد السابق باإلسكندرية‪ ،‬قد دار‬ ‫علمت بعد‪ ،‬أنه كان ً‬
‫عليه الزمن وفعلت فيه السنوات فعلها؛ فأصيب بالذهان النفيس والذى‬
‫تسبب له ىف اضطرابات حادة ىف سلوكه وتدهور ىف قواه العقلية‪ ،‬وهو‬
‫ماكنت أجهله‪ ،‬فلو كنت أعلم لكنت عىل األقل قد احتطت من تلك‬
‫البصقة التي بصقها عىل وجهي عندما دخلت عليه مداع ًبا إياه‪،‬راف ًعا‬
‫يدي إليه بسالم حار «صباح اخلري يا دكتور»‪.‬‬
‫غري ذلك املوقف وموقف احلاجة «أمينة» التي ترفض أي تفاعل‬
‫دائم ما تكون سلبية جتاه أي تواصل‪ ،‬فكل الردود كانت إجيابية مع‬
‫والتي اً‬
‫حالتي اللتني اشتد وثوقي هبام‪ ،‬وتقلصت‬
‫ّ‬ ‫كل املسنني املقيمني‪ ،‬ال سيام‬
‫ملم أكثر‬
‫بيني وبينهام احلواجز؛ وهو ما جيعل من الطبيعي أن أكون اًّ‬
‫بحالتهام وقصصهام التي يبدو من هيئتهام وطبيعتهام أن هبا الكثري من‬

‫‪31‬‬
‫واضحا من‬
‫ً‬ ‫التفاصيل الغريبة؛ حيث إهنام يف األصل فرنسيان‪ ،‬كان‬
‫أسامئهام «ألفونس ـ كرستني» لكنني تأكدت من ذلك من لغتهام العربية‬
‫الفصحى املتلعثمة التي تقل فيها العامية‪ ،‬وكأهنام تعلامها أكاديم ًّيا دون أن‬
‫كثريا مع مرصيني‪.‬‬
‫يتحدثا ً‬
‫عالقتي األكرب كانت «بألفونس» حيث إجادته التحدث نو ًعا ما‬
‫أيضا ربام‬
‫عن «كرستني» للغة العربية‪ ،‬وهو مايشق عىل األخرية‪ ،‬وأهنا ً‬
‫ال جتد داف ًعا هلذه املشقة وعندها صديقها املقرب «الفلوت» الذي حتدثه‬
‫بنفخاهتا؛ فيتحدث إليها بأنغامه التي تعشقها أذناها عن أحاديث البرش‪.‬‬
‫دائم كان حيب أن يستأثر يب عن باقي النزالء عند جميئي‪.‬‬
‫«ألفونس» اً‬
‫أيضا أن يسمعني‬‫كان حيب أن أكون بجواره وإن مل نتحدث‪ ،‬حيب ً‬
‫وأنا أغني‪ ،‬حتى وإن مل يفهم بعض كلامت األغاين التي أتغنى هبا‪ ،‬لكنه‬
‫طر ًبا لصويت أكثر‪ ،‬منذ أول مرة سمعني فيها أدندن‪.‬‬
‫كان ُم َ‬
‫ما زاد هذه العالقة بيني وبينه وثو ًقا‪ ،‬ذلك احلذاء الذي أهديته إياه‪،‬‬
‫بدلاً من البالستيك الذي أصاب كعب قدمه بحافته الوعرة‪.‬‬
‫مل يكن هناك ما أخشى أن أحتدث به مع «ألفونس» أو ما أظن أنه لن‬
‫حيب احلديث معي فيه‪ ،‬بل عىل العكس‪ ،‬كان كثري ًا ما ينتظر مني األسئلة‬
‫دائم‪ ،‬تكلم معي وحاورين‪ ،‬فأنا ال‬‫ليسرتسل يف احلديث‪ ،‬كام كان يقول يل اً‬
‫أعرف أن أفتتح حدي ًثا وال أعرف يف أي يشء أتكلم‪.‬‬
‫فكان سؤايل الذي طاملا كان يراود عقيل‪ :‬من أتى بك إىل هنا؟ وما‬
‫قصتك؟ وما هي قصة رهبانيتك؟‪..‬‬
‫حيث إنه ُيلقب من بعض العاملني يف امللجأ بـ«الراهب ألفونس»؛‬

‫‪32‬‬
‫وهو ما كان غري ًبا بالنسبة يل‪ ،‬فال يبدو عليه أي يشء يوضح رهبانيته وإن‬
‫كان جمرد املكوث يف امللجأ رهبنة‪ ،‬لكنني أقصد بذلك ِز ّي ُه العادي‪ ،‬وأنه‬
‫ودائم معهم‪.‬‬
‫ُيعامل مثل باقي املسنني اً‬
‫عيل‪:‬‬
‫فكان رده ّ‬
‫ـ ملاذا ترهبنت وملاذا أنا هنا؟ سؤال يف سطر‪ ،‬إجابته كل آالم حيايت‪،‬‬
‫إجابته مخسة وسبعون عا ًما ناقصة من عمري‪ ،‬كنت فيها من األموات‬
‫عيل حياة‬
‫واحتُسبت َّ‬
‫طأطأ رأسه إىل أسفل وسكت لربهة ثم رفع رأسه ألعىل‪ ،‬وكان يف‬
‫عينيه مسحة من دموع‪ ،‬جعلت جسدي يرختي أس ًفا‪ ،‬وعيناي تغالبها‬
‫دموعهام‪ ،‬رغم أنه مل ِ‬
‫يرو ما أصابه‪ ،‬لكنه اإلشفاق من دمعة مسن قد بلغ‬
‫من الكرب عت ًّيا‪ ،‬والضعف املوجع ملن ال يستطيع حيلة‪.‬‬
‫أردفت قائلاً ‪:‬‬
‫حتك ما يؤملك‪ ،‬وأتأسف أين ذكرتك باملواجع‪.‬‬‫ـ ال ِ‬

‫ـ مل تعد املواجع بعد ذكرى‪ ،‬فام زلت أعيش فيام نشأت عليه‪.‬‬
‫يسمعني!دائم نسمع‬
‫اً‬ ‫سأروي لك‪ ،‬فكيف أخذل أول من أراد أن‬
‫ونطيع‪ ،‬حتى سامعنا حمدود‪ ،‬فهو مقيد بام تقوله األم‪ ،‬إن مل تقل فلن نسمع‪.‬‬
‫اصطحبني إىل رسيره‪ ،‬وأخذ يبحث يف أمتعته عن يشء ما‪ ،‬حتى‬
‫أخرج يل صورتني‪ ،‬لرجل وامرأة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ـ لوال هاتان الصورتان ما عرفت لوالدي شكلاً ‪ ،‬مها كل مرياثي‬
‫عنهام‪ ،‬وهذه احلقيبة التي حتوي أوراقهام‪ ،‬وذلك التكليف الكنيس الذي‬
‫أيضا‪.‬‬
‫خط حلياهتام وحيايت من بعدمها‪ ،‬بل شهادة وفاهتام ووفاتى ً‬

‫‪33‬‬
‫أيب «ألكسندر» وأمي «أنجيليا» كانا من خدام الكنيسة يف فرنسا‪،‬‬
‫عابدين للرب‪ ،‬مل يرتهبا‪ ،‬لكنهام كانا من «املتقربني» جعال نفسهام يف‬
‫خدمة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية‪ ،‬وهي الكنيسة األم‪ ،‬كاألرثوذكسية‬
‫القبطية يف مرص‪ ،‬كانت الكنيسة يف فرنسا يف هذا الوقت ترسل اإلرساليات‬
‫للبلدان غري املسيحية‪ ،‬وهي مهمة يقوم هبا أتباع املسيح لنرش رسالتة لكل‬
‫العامل عن طريق خدمة البرش‪ ،‬قد تكون اإلرسالية مدرسة‪ ،‬ويف مرص‬
‫الكثري من مدارس اإلرساليات‪ ،‬منها الفرنسية واألملانية واألمريكية‪،‬‬
‫كاجلامعة األمريكية التي يف األساس إرسالية أمريكية‪ ،‬وقد تكون‬
‫دورا لأليتام ومالجئ للمسنني‬ ‫أيضا مجعيات خريية أو ً‬ ‫اإلرساليات ً‬
‫كالتي نحن فيها‪..‬‬
‫أيضا بالتكليف العظيم يف التقليد املسيحي‪ ،‬وهي‬ ‫وتسمى اإلرسالية ً‬
‫الوصية التي أودعها يسوع املسيح لتالميذه بنرش اإليامن املسيحي وبشارة‬
‫اخلالص يف كل العامل‪ ،‬وأصبحت عقيدة من العقائد املسيحية؛ تأكيدً ا عىل‬
‫أمهية العمل التبشريي يف حياة الكنيسة؛ حيث يقول يسوع يف إنجيل‬
‫متّى‪« :‬اذهبوا إذن‪ ،‬وتلمذوا مجيع األمم‪ ،‬وعمدوهم باسم اآلب واالبن‬
‫والروح القدس‪ ،‬وعلموهم أن حيفظوا مجيع ما أوصيتكم به»‪.‬‬
‫فوهب والدي نفسهام لتلك الوصية‪ ،‬وقررا أن يكونا داعني لبشارة‬
‫املسيح‪ ،‬فجاءمها ذلك التكليف الكنيس‪ ،‬أن يذهبا إىل مرص وحتديدً ا إىل‬
‫هذا املكان‪ ،‬يف اإلسكندرية‪ ،‬وكان عملهام يف هذا امللجأ‪ ،‬منه ينرشان‬
‫رسالة املسيح؛ حيث أن امللجأ فاتح أبوابه لإلنسان‪ ،‬أي إنسان‪ ،‬من أي‬
‫دين وأي ملة‪ ،‬وهذا هو شعار اإلرساليات يف كل املجاالت‪ ،‬خريية كانت‬
‫أو تعليمية أو طبية‪ ،‬أن اهلدف هو خدمة اإلنسان‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫حتوي هذه اإلرساليات راهبات دائامت‪ ،‬قد وهبن أنفسهن هلذه‬
‫كوالدي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الوظيفة الكربى‪ ،‬ومتطوعني ليسوا دائمني‬
‫مل أكن قد أتيت بعد عندما أتيا إىل مرص عام ‪1939‬؛ فقد ولدت بعد‬
‫عام من جميئهام إىل مرص‪.‬‬
‫عيل قصته‪ ،‬إىل أن جاء ملوضوع سؤايل‪ :‬ملاذا أنت هنا؟‬
‫ما زال يقص ّ‬
‫رغم صعوبة مصابه وما حدث له‪ ،‬أن والديه قد ماتا يف حادثة سيارة‬
‫يف اإلسكندرية‪ ،‬وكان هو الناجي الوحيد؛ ليموت طوال حياته يف هذا‬
‫امللجأ الذي توىل رعايته وتربيته؛ خدمة ألبويه اللذين كان خيدمان فيه‬
‫املسيح ليكمل هو مسريهتام كام ُحدد له؛ فكُتبت له حياة ُخططت أحداثها‬
‫من قبل‪ ،‬ليس عليه إال أن يكون كام ُأريد له؛ ف ُيسجن دون أن تقرتف يداه‪.‬‬
‫كثريا عند خرب‬
‫ً‬ ‫رغم كل هذا‪ ،‬إال أن عاطفتي وفكري تعطال‬
‫اإلرساليات‪ ،‬وأن هذا املكان يف األصل قد ُأنشئ للتبشري‪ ...‬كمسلم أعتز‬
‫بديني‪ ،‬مل أستطع أن أفصل بني تعاطفي مع حالته اإلنسانية وما حدث‬
‫أساسا إلينا من أجل التبشري‪ ،‬لعل هذا‬
‫ً‬ ‫أيضا قد أتيا‬
‫لوالديه‪ ،‬وأن والديه ً‬
‫من اخلطأ‪ ،‬لكن هكذا كان شعوري‪ ،‬وما سيشعر به بالتأكيد أي فرد له‬
‫عقيدة ارتبط هبا بفطرته ويغار عليها‪.‬‬
‫كنت أحاول أن أتغافل عن هذا حتى ال ُيوغل صدري منه أو من‬
‫املكان ككل‪ ،‬وكنت أحاول أن أراه فقط اإلنسان الذي تأثرت بحاله‪،‬‬
‫بعيدً ا عن انتامئه وسابق حياته‪ ،‬أو املسن الضعيف الذي حيتاج العون‪،‬‬
‫الذي ُحرم منذ طفولته من والديه وطوال حياته يحُ رم من أدنى حقوقه‬
‫واحتياجه كبرش يف هذا امللجأ؛ وهو ما مل يكن سهلاً ‪ ،‬لكنه مع طبيعتي‬
‫العاطفية‪ ،‬مل يكن مستحيلاً ببعض التحايل من عاطفتي عىل فكري‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫أنس يف هناية حديثي أن أذكره بباقي سؤايل‪ ،‬وهو أنه كيف كان‬‫مل َ‬
‫راه ًبا؟ وما سبب ذلك؟ األمر الذي اتضح يل عند تكرار سؤايل أنه قد‬
‫جتاوزا عن تعمد‪ ،‬قال هذا عندما أردفت له بعد تكرار‬
‫ً‬ ‫سهوا وليس‬
‫نيس ً‬
‫سؤايل‪« :‬ولك حق التحفظ عىل اإلجابة إن فضلت ذلك» فقال يل‪:‬‬
‫ـ مل أرغب يو ًما يف الرهبانية‪ ،‬ومل أختيل نفيس راه ًبا‪ ،‬أصبحت راه ًبا‬
‫كي أجد مكانًا‬
‫أعيش بني جدرانه‪.‬‬
‫قاطعته هنا‪:‬‬
‫ـ لكن أصولك فرنسية‪ ،‬لمِ َ مل ْ تذهب إىل سفارتك بعد أن كربت‬
‫وبحثت عن أي طريقة تصل هبا إىل هناك؟‬
‫ـ األمر ليس هبذه السهولة‪ ،‬فقد نشأت بني جدران امللجأ‪ ،‬ال أعرف‬
‫لدي أي مستندات خاصة يب‪ ،‬ال مستند ميالد وال‬ ‫أي يشء‪ ،‬وليس َّ‬
‫والدي‪ ،‬مل يكن امللجأ‬
‫َّ‬ ‫مايثبت هويتي‪ ،‬فقط ما أطلعتك عليه من أوراق‬
‫ليهتم بذلك‪ ،‬ثم إن حيايت األوىل مل تكن كالتي عليها اآلن‪ ،‬فكنت من‬
‫أفراد إدارة امللجأ‪ ،‬كنت راه ًبا معهم‪ ،‬كنت أخرج وإن كان قليلاً ألماكن‬
‫أيضا نزور مالجئ أو كنائس‬‫حمددة بسيارات امللجأ لقضاء حاجاته‪ ،‬وكنا ً‬
‫أخرى‪.‬‬
‫عيل‪ ،‬ما كنت أحب أن‬
‫يف هذا الوقت كنت مترش ًبا فقط بفضل امللجأ ّ‬
‫أخالفهم‪ ،‬كنت أود فقط رد مجيلهم ورسالة الرب‪ ،‬هكذا كان فكري يف‬
‫بداية عمري‪.‬‬
‫رغم أنني كنت بني املسنني طيلة عمري‪ ،‬لكنني ما عرفت معاناهتم‬

‫‪36‬‬
‫إال عندما أصبحت واحدً ا منهم‪ ،‬وأصبحت أعيش يف عنابرهم‪ ،‬فقد‬
‫لراهب آخر شاب جديد‪ ،‬كانت‬ ‫ٍ‬ ‫ُسحبت مني حجريت اخلاصة كراهب‬
‫حجرة جمهزة بكل يشء‪ ،‬مل أكن أعاين مما أعانيه اليوم‪ ،‬كل ذلك كان سب ًبا‬
‫يف رضائي عن وضعي حتى ترسسبت مني األيام‪ ،‬ووجدت نفيس وقد‬
‫نقص من عمري مخسة وسبعون عا ًما مل أعشها‪ ،‬لألسف علمت بذلك‬
‫بعد فوات األوان‪ ،‬بعدها تغري اعتقادى وإيامنى بأشياء كثرية حتى هذه‬
‫الرهبانية‪.‬‬
‫فأصبحت أؤمن اآلن بعد أن ضاع عمري‪ ،‬أن االلتزام ال يأيت بأن‬
‫نكون منعزلني عن مواضع الفتن والناس‪ ،‬وأن نتجرد من كل مشاعرنا‬
‫برشا كام أراد لنا الرب بكل‬‫ونتفرغ للعبادة‪ ،‬بل اإليامن أن نكون ً‬
‫احتياجاتنا‪ ،‬والتي نجاهد يف أن نشبعها بام أراده الرب‪ ،‬ال أن نحرمها‪،‬‬
‫وأن نتعرض للفتن ونرتكها للرب‪ ،‬ال أن ننعزل دون أي اختبار حقيقي‬
‫لنا‪ ،‬ليس هناك مالئكة إال يف السامء‪ ،‬نحن برش يعرتينا النقص‪...‬‬
‫حديث طويل‪ ،‬شعرت يف أجزاء كثرية منه أنني أسمع من فيلسوف له‬
‫فلسفته اخلاصة‪ ،‬ال من مسن معزول عن احلياة‪ ،‬قد جعلني أعيد النظر يف‬
‫أيضا بشكل كامل مع بعض مفاهيمى‪ ،‬خاصة‬ ‫بعض مفاهيمي‪ ،‬وتوافق ً‬
‫إيامنه األخري بالرهبانية‪،‬‬
‫لكن ومع ذلك‪ ،‬يف هناية احلديث‪ ،‬كانت نفيس ما تزال تنازعني‪ ،‬ومع‬
‫هذه املحاوالت للفصل‪ ،‬تذكرت وقتها حدي ًثا يل ساب ًقا مع «مارسيل»‬
‫كانت حتدثني فيه عن هدف امللجأ وهدف العاملني فيه‪ ،‬وقالت يل وقتها‪:‬‬
‫ـ وإن كنت أتلقى مقابلاً ماد ًّيا نتيجة عميل يف امللجأ‪ ،‬إال أن الراهبات‪،‬‬
‫وعىل رأسهم املسئولة‪ ،‬ال يتلقون أي راتب‪ ،‬وأن شعار امللجأ هو «خدمة‬
‫اإلنسان فقط» بعيدً ا عن أي يشء آخر‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫تذك��رت كلامهت��ا‪ ،‬وه��ذا الش��عار ال��ذي جعلن��ي أثم��ن دور امللجأ‬
‫وأعظمه‪ ،‬لكن��ه عىل ما يبدو ال يوجد يشء دون مقابل‪ ،‬وليس بالرضورة‬
‫تبش�يرا أو هل��دف عقائدي‪ ،‬هكذا كان‬
‫ً‬ ‫أن يكون املقابل ماد ًّيا‪ ،‬فقد يكون‬
‫حدي��ث نفيس الذي رسعان ما أتغلب عليه‪ ،‬ثم يعود فيغلبني‪ ،‬أحاول أن‬
‫أقن��ع نفيس بغريه‪ ،‬ربام لتعلقي باملكان وأهل��ه‪ ،‬وأهنم بالفعل جمني عليهم‬
‫وليس��وا جناة‪ ،‬أو ربام أنني وثقت جدًّ ا يف «مارسيل» فال أحب أن أختيل‪،‬‬
‫ملجرد التخيل‪ ،‬أهنا دون ثقتي هبا‪..‬‬
‫ألول مرة وقد قاربت عىل األسبوعني هنا‪ ،‬أشعر بأنني مسلم وسط‬
‫مجع من املسيحيني‪ ،‬رغم أنني كنت أعلم تلك احلقيقة من أول يوم أتيت‬
‫فيه‪ ،‬لكن اجلديد هو أن هناك شي ًئا قد استثار هذه العصبية والنزعة عندما‬
‫كان حدي ًثا يمس األديان‪ ،‬عندها قد نتنازل عن كل القواسم املشرتكة بيننا‬
‫يف اإلنسانية ونتشبث باختالفنا الوحيد‪ ،‬أن لكل واحد منا دين ًا خمتلف ًا عن‬
‫اآلخر‪ ،‬مع أننا قد نكون بعيدين كل البعد عن تعاليم ديننا‪ ،‬وذلك يف حد‬
‫ذاته ترك واستهانة بام ندين‪ ،‬لكننا فقط نرى هذه االستهانة عندما تأيت من‬
‫معتنق دين آخر‪.‬‬
‫عاهدت نفيس أن أتعامل بنفس الروح التي أتيت هبا‪ ،‬وأال أقع يف‬
‫نفس اخلطأ الذي أنكره عىل اآلخرين إن كنت متس ًقا مع نفيس؛ فأخدم‬
‫دائم حسن النية إىل أن يظهر‬
‫فقط اإلنسان من أجل أنه إنسان‪ ،‬وأفرتض اً‬
‫يل عكس ذلك‪ ،‬وليس من جمرد كالم مل يوثقه شواهد‪.‬‬
‫طوال هذا احلديث الذي كان بيني وبني «ألفونس» كان شبح املكان‬
‫يتغشانا من وقت آلخر؛ فكنت أشعر هبا عندما كانت متر من خلفنا‬
‫وتنظر إلينا لربهة ثم تنرصف‪ ،‬كنت أشعر بذلك من حديث «ألفونس»‬

‫‪38‬‬
‫فكان يتلكأ فيه هنيهة وكأنه ال يريد أن يسمعها شي ًئا من حديثه‪ ،‬فكنت‬
‫متفهم‪،‬‬
‫اً‬ ‫أعلم وقتها بمرورها وأهنا تتفقدنا من طرف خفي لذلك كنت‬
‫تلكئ ِه‪.‬‬
‫فكنت أنتظر «ألفونس» يف ِ‬

‫يف اليوم التايل هلذا احلدي��ث وأنا ذاهب إىل امللجأ كعاديت‪ ،‬كنت أهيئ‬
‫نفيس أثناء ذهايب ك��ي أكون مثل كل يوم‪ ،‬حماولاً تنايس كل يشء قد يغري‬
‫م��ن طريقتي‪ ،‬فلي��س هلؤالء املس��نني أدنى ذنب حت��ى أحرمهم من جمرد‬
‫ابتسامة قد اعتادوا عليها مني قد تسعدهم‪.‬‬

‫ ‬

‫‪39‬‬
‫(‪)5‬‬
‫«فليس ثم��ة دفاع حقيقي عن اإلنس��انية وأن��ا ما زلت‬
‫أرف��ض رشب ك��وب م��ن الش��اي؛ ألن م��ن صنع��ه يل‬
‫«نرصاين»»!!‬

‫‪41‬‬
‫انقىض أسبوع وأنا عىل هذه احلالة وهو الثالث يل‪ ،‬حتى استسغت ما‬
‫كنت أرغم عليه نفيس‪ ،‬وتناسيت ما أود نسيانه‪ ،‬وإن كان بشكل مؤقت؛‬
‫لعدم توافر ما يثري بداخيل ذلك‪ ،‬حتى جاء ذلك اليوم‪.‬‬
‫وكعاديت‪ ،‬أ ُمر أولاً عىل حجرة «مارسيل» عند قدومي‪ ،‬لكنها مل تكن‬
‫كعادهتا؛ حيث استقبالاً ً‬
‫فاترا دون ابتسامتها املعتادة وإن حاولت تصنعها‪،‬‬
‫مرت معي ككل يوم عىل احلاالت‪ ،‬لكن هذا اليوم من دون أي حديث‬
‫بيننا‪ ،‬قبل املرور خرجت معي وكأهنا تقىض واج ًبا دون روح فيها‪ ،‬وفور‬
‫انتهائنا‪ ،‬استأذنت دون أي حديث عىل غري العادة معي‪ ،‬اضطراب يف‬
‫املعاملة‪ ،‬يف وقت كنت أجاهد نفيس فيه حتى ال أتغري يف معامالتى حتى‬
‫ال أجرح أحدً ا‪ ،‬فأجد اآلخرين هم من تغريوا معي دونام سبب‪.‬‬
‫كنت أفكر يف أن أذهب إليها ألسأهلا عن سبب ذلك‪ ،‬لكن نفيس‬
‫كابرت‪ ،‬فقلت لن أذهب إليها ألسئلها‪ ،‬ما دمت مل أسئ إليها‪ ،‬لن أفرض‬
‫نفيس عىل أحد‪.‬‬
‫مبكرا عن موعدي املعتاد‪ ،‬فقد سهرت‬
‫أتى يوم آخر‪ ،‬ذهبت إىل امللجأ ً‬
‫طوال الليل أفكر يف أمر «مارسيل» وأتذكر حديثي األخري معها‪ ،‬لعيل قد‬
‫مبكرا‬
‫أخطأت يف يشء‪ ،‬فلم أجد إال كل ود‪ ،‬هذه احلرية جعلتني أذهب ً‬

‫‪43‬‬
‫لعيل أجدها؛ فأستوضح منها‪ ،‬فلن أستطيع أن أستمر عىل ماعقدت عليه‬
‫من قبل‪.‬‬
‫دائم عندما ال‬
‫ال أعلم ملاذا رضخت نفيس لذلك وهي من تكابر اً‬
‫تكون خمطئة‪ ،‬أهو لني القلب الذي جيعل العقل والنفس يتخليان عن‬
‫بعض مبادئهام؟!‬
‫أتت يف موعدها املعتاد‪ ،‬بعدما مللت التفكري يف كيفية فتح حواري‬
‫معها يف وقت انتظاري الطويل‪ ،‬ما إن دخلت مكتبها حتى تعقبتها‬
‫بالدخول‪ ،‬وعىل تعجل مني ودون مقدمات معتادة ألقيت هلا ما يف داخيل‬
‫حتى أسرتيح وهتدأ ظنوين‪ ،‬فبدأهتا باحلوار قائلاً ‪:‬‬
‫سمحت يا أستاذة‪ ،‬ممكن أعرف سبب تغريك معي‪ ،‬هل كان مني‬ ‫ِ‬ ‫ـ لو‬
‫خطأ؟‬
‫ـ هل أسأت َ‬
‫إليك؟‬
‫ِ‬
‫ولكنك عىل غري املعتاد معي‪.‬‬ ‫ـ مل تسيئي‪،‬‬
‫ـ كل ما يربطنا هو مدة تكليفك وعملك يف امللجأ‪ ،‬وهذا ليس فيه‬
‫أي مشكلة‪ ،‬ومل يتعطل يشء‪ ،‬كل عالقتنا هي عالقة عمل‪ ،‬والعمل عىل‬
‫ما يرام‪.‬‬
‫ردودها اجلافة الصادمة زدات من انفعايل الداخيل بدلاً من أن ترحيني‬
‫كام كنت أريد من حواري إليها‪ ،‬انسحبت من أمامها غاض ًبا جدًّ ا‪ ،‬فأنا مل‬
‫أسئ إليها‪ ،‬ومع ذلك جئت استوضح منها؛ متسكًا بعالقتي معها وهي ال‬
‫تكرتث يب‪ ،‬وكأهنا زاهدة يف تلك العالقة التي كانت ودية إىل حد كبري؛‬
‫مما زادين اغتيا ًظا ورغبة يف االنتصار للنفس التي أشعر وكأهنا كرست‬
‫بذهايب إليها فقابلتني هبذه الردود‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫فاس��تدعت ذاك��ريت كل ما يش��عل غضب��ي‪ ،‬وخرج من حت��ت الركام‬
‫م��ا كن��ت أجاهد أن أخفي��ه حتى ال يوغ��ل صدري منه��م‪ ،‬أو باألخص‬
‫«مارسيل» لكنني كنت أخفيه كي أبقى عىل بعض الود متحملاً ما يرفضه‬
‫عقيل وما تربيت عليه بوازع من القلب؛ فأصبحت أرى أنه ال جدوى من‬
‫أن أحتمل‪ ،‬وأحافظ عىل مش��اعر من مل حيافظ عىل مشاعري‪ ،‬فعدت إليها‬
‫بوجه مكفهر يقودين غيظي‪.‬‬
‫ـ كنت أمتنى أن يظل ظني كام هو‪ ،‬أنكم ختدمون اإلنسان‪ ،‬من أجل‬
‫اإلنسان فقط‪،‬‬
‫ـ ماذا رأيت منا كي تقول هذا؟ نحن بالفعل نخدم اإلنسان لإلنسان‪،‬‬
‫ال ننتظر مقابلاً من أحد‪.‬‬
‫ـ املقابل أحيانًا ال يكون مالاً ‪ ،‬مقابلكم هو التبشري‪ ،‬هذا هو سبب‬
‫خدمتكم‪.‬‬
‫«بدهشة مصطنعة للتدليل عىل أن كالمي خمالف للمنطق»‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ـ وهل ترى البشارة مقابلاً ننتفع به؟! بل هي اخلدمة الكربى التي‬
‫نقدمها للبرشية‪ ،‬أن نكون اتصاهلم ومعرفتهم بالرب‪.‬‬
‫ـ أي رب يا صديقتي؟! الرب الذي تعتقدين؟! الذي خيتلف ِ‬
‫معك‬
‫ِ‬
‫اعتقادك؟ اإلنسانية أوسع وأشمل‪ ،‬اإلنسانية الرباط‬ ‫فيه من يعتقد غري‬
‫املجمع الذي ال خالف عليه‪.‬‬
‫ـ واإلنسان يا صديقي دون دين ليس له قيمة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ـ بل الدين لن يقام إال باإلنسان‪ ،‬اإلنسان هو حمور الكون‪ ،‬وهو مناط‬
‫التكليف‪ ،‬وهو املؤدي لشعائر الدين‪ ،‬قد أتى الدين لإلنسان‪ ،‬فهدف‬
‫الدين هو حفظ دماء اإلنسان وحفظ ماله وكرامته‪.‬‬
‫ـ نحن نعمل للدين؛ ألن الدين هو الغاية‪.‬‬
‫ـ الدين وسيلة للتقرب إىل اهلل‪ ،‬وجلعل حياة اإلنسان أفضل يف الدنيا‬
‫قبل اآلخرة‪ ،‬عندما ُجعل غاية أصبح اهلدف هو زيادة أعداد املعتنقني‬
‫عىل امللتزمني‪ ،‬كان األوىل من البحث عن معتنقني جدد هو تربية املعتنقني‬
‫القدامى عىل دينهم الذي هم عليه‪ ،‬الكيف وليس الكم سيدتى‪.‬‬
‫ـ لألسف يا صديقي! أنت تتحدث بطائفية وترفض لنا ما هو متاح‬
‫لكم‪ ،‬أوليس لألزهر مبتعثون يف معظم دول العامل لنرش الدين اإلسالمي؟‬
‫ـ نعم يا صديقتي‪ ،‬لكنهم يعلنون عن أهدافهم‪ ،‬والكل يعلم دور‬
‫األزهر‪ ،‬ال خيفون أهدافهم وراء ستار فعل اخلري‪.‬‬
‫ـ أنت ترفض فقط الوسيلة‪ ،‬التي أراها أنا أهنا وسيلة سامية لغرض‬
‫نبيل‪ ،‬وسيلتنا هي أننا أوينا هؤالء العجزة واملسنني يف املالجئ‪ ،‬وأننا‬
‫قدمنا خدمة طبية ملن ال يستطيعون‪ ،‬وأننا قدمنا خدمة تعليمية راقية‪،‬‬
‫فهل تلومنا عىل ذلك؟‬
‫ـ كل هذا سيكون أرقى لو كان فقط من أجل اإلنسان‪ ،‬أال تكفي صفة‬
‫سموا؟ ثم إنني ال أعلم ما العائد عىل املسيحية بضم‬
‫اإلنسانية وحدها ًّ‬
‫هؤالء املسنني! ما الذي من املمكن أن يقدموه؟! ليس أظلم من استغالل‬
‫االحتياج وهم حمتاجون‪ ،‬هم حمتاجون احلياة الكريمة التي أرادها هلم‬
‫الدين وليس اعتناق دين آخر‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫تتخف وراء اإلنسانية‪ ،‬أنت ال ترى مالمح وجهك‬ ‫َّ‬ ‫ـ يا صديقي ال‬
‫وأنت تتحدث‪ ،‬كل ما يغضبك فقط أنك مسلم حتمل مشاعر سلبية جتاه‬
‫دين آخر غري دينك‪ ،‬ال حتب له أن يدعو البرش إليه‪ ،‬مشاعر غرية طبيعية‬
‫ال أنكرها عليك‪ ،‬لكن ما أنكره هو حماولة صبغتها بالدفاع عن اإلنسانية؛‬
‫أيضا تفرق بني اإلنسان عىل أساس دينه‪ .‬وإال لمِ َ تتأفف‬
‫ألنك بداخلك ً‬
‫منذ دخولك هذا امللجأ أن حتتيس من «البوفيه» كو ًبا من الشاي؟ أنا أعلم‬
‫ملاذا؛ ألن من يصنعه لك مسيحي‪ ،‬وأعلم أن أكثركم يتأفف من ذلك‪.‬‬
‫أنك خترجني من حوارنا األسايس ألشياء طائفية مل تكن هي‬ ‫ـ أرى ِ‬
‫هديف من األساس‪.‬‬
‫ـ بل هي األساس‪ ،‬لو كانت الدعوة هنا لدينك اإلسالم‪ ،‬لكنت‬
‫بررت لنفسك‪ ،‬ولكن األمر اختلف؛ فقد جاء ما أغضبك مع ما هو ضد‬
‫معتقدك‪.‬‬
‫انتهى حديثنا الذي قد أحدث تصد ًعا يف عالقتنا التي استمرت لوقت‬
‫ليس بالقصري متميزة جدًّ ا؛ فقد جتمعنا من قبل عىل اإلنسانية ومنارصة‬
‫اإلنسان أ ًّيا ما كان دينه‪ ،‬لكننا اختلفنا عندما فكرنا بعد نُرصتِ ِه إىل أي‬
‫وجهة سيكون دينه‪.‬‬
‫انتهى احلديث‪ ،‬لكن ما زال كالمها األخري عال ًقا بذهني‪ ،‬فانا أعلم‬
‫ما بداخيل حتى ولو حاولت أن يكون خارجي شي ًئا آخر‪ ،‬أعلم أنه يف‬
‫وقت ما اختلطت مشاعري بام هو دفاع عن اإلنسان‪ ،‬وما هو دفاع عن‬
‫اإلسالم ضد هجمة تبشريية‪ ،‬هكذا وصفتها بداخيل‪ ،‬وتعاملت عىل ذلك‬
‫وإن حاولت أن أظهر العكس‪ ،‬فليس ثمة دفاع حقيقي عن اإلنسانية وأنا‬
‫ما زلت أرفض رشب كوب من الشاي؛ ألن من صنعه يل «نرصاين»‪..‬‬

‫‪47‬‬
‫انتهى حوارنا‪ ،‬بل تناظرنا الفكري‪ ،‬ذلك التناظر الذي مل يكن عن‬
‫طيب نفس للوصول لنقاط االلتقاء والتجمع‪ ،‬بل هو النبش يف مواضع‬
‫االختالف بدافع من خالف سابق‪ ،‬وطفو ملا كان يف أعامق القلوب‪،‬‬
‫وظهور ما كنا نتكلف إخفاءه‪ ،‬ففي كثري من األحيان نتحدث بام‬
‫حيب اآلخر سامعه وليس بام نعتقد؛ اسرتضا ًء له‪ ،‬أما وإن أصبح ذلك‬
‫االسرتضاء بال جدوى‪ ،‬ومع مثريات خروج تلك النزعة الطائفية‬
‫املوجودة بالطبع يف كل واحد منا بنسبة ما‪ ،‬فال دافع هنالك للتحمل‪.‬‬
‫أيضا‬
‫أعرتف بأنني مل أكن مستعدًّ ا لالقتناع بام قالت‪ ،‬وأعتقد أهنا ً‬
‫كذلك‪ ،‬وهذا أننا نعترب االقتناع بوجهة نظر اآلخر هزيمة‪ ،‬فكيف يقبل‬
‫أحدنا أن هُيزم دينه من منطلق فهمنا هذا؟‬
‫فدائ�ًم�اً م��ا تك��ون مناظراتن��ا إلثب��ات خطأ اآلخ��ر ولي��س للوصول‬
‫للحقيقة‪.‬‬
‫ما كنت أحب أن أخوض فيام خضته معها‪ ،‬لكنه االغتياظ‪ ،‬والذي‬
‫تولد من كوهنا ذات أمهية لدي‪ ،‬فلو كانت شي ًئا عاد ًّيا ما كنت ألبايل‬
‫فدائم يكون العتاب دليلاً دام ًغا عىل‬
‫اً‬ ‫بطريقة معاملتها التي اختلفت‪،‬‬
‫متسكنا بمن نعاتب‪.‬‬
‫فمن هذا االغتياظ والضيق ظهرت حقيقتي لنفيس‪ ،‬أن اهتاممي‬
‫الكبري بتغري حاهلا معي ليس بدافع خويف عىل امللجأ‪ ،‬وما كنا نقوم به‬
‫خلدمة النزالء‪ ،‬وإن كان يف ذلك بعض احلقيقة؛ ذلك لتعاهدنا رسم‬
‫البسمة عىل شفاه النزالء‪ ،‬لكن تبقى احلقيقة الكاملة‪ ،‬أن اهتاممي بدافع‬
‫من يشء قد نبت يف القلب جتاهها‪ ،‬هذا ما بدا يل جل ًّيا من استيائي الشديد‬
‫من ذلك االضطراب ىف العالقة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫كان هناك بالفعل بعض االنعكاسات ملا حدث بيننا عىل نزالء امللجأ‪،‬‬
‫مل أستطع الفصل بني هذا وذاك‪ ،‬كنت أتكلف االبتسامات التي اعتادوا‬
‫عليها؛ وهو ما كنت أتغلب فيه عىل نفيس مرة‪ ،‬ويغلبنى حايل وضيقي يف‬
‫مرة أخرى؛ فال أستطيع إال أن أبدي ما أشعر به؛ فيظهر وجهي الضاجر‬
‫ألناس ليس هلم أي ذنب ملا أنا فيه‪.‬‬
‫مع أهنا قالت يل‪ :‬إن عملنا يف امللجأ لن يؤثر عليه أي يشء وهو عىل‬
‫ما يرام‪ ،‬إال أنني يف هذه اخلمسة أيام التي انقضت ونحن عىل هذه احلالة‪،‬‬
‫كنت غري منتظم كالسابق بمروري عىل كل املسنني والتسامر معهم‪،‬‬
‫وكنت ال أمر عىل مكتب»مارسيل» عند جميئي حتى تصطحبني يف هذه‬
‫اجلولة الصباحية عليهم‪ ،‬رغم علمي أهنا لن ترفض ذلك‪ ،‬إال أنني كنت‬
‫ال أفعل‪ ،‬ربام إمعانًا يف أن أظهر استيائي هلا‪ ،‬وأن ذلك سيؤثر حتى عىل‬
‫ما كنا نفعله من قبل‪ ،‬وكأنني أدلل بالفعل عىل أن حزين األكرب كان عىل‬
‫تلك العالقة التي راقت يل وليس عىل ما كنا نفعله مع نزالء امللجأ‪ ،‬وإال‬
‫لكنت ذهبت إليها كام كنت أفعل كل صباح حتى نمر عليهم‪ ،‬وأرتيض‬
‫بأي طريقة تفضلها يف التعامل معي ما دام ما نصبو إليه من خري يتم‪ ،‬وال‬
‫أيضا كابرت‪ ،‬وتنتظر أن أدعوها‬ ‫أيضا كذلك من اخلطأ مثيل‪ ،‬فهي ً‬
‫أعفيها ً‬
‫ومل تسأل عام اتفقنا عليه‪ ،‬كذلك هي النفوس‪ ،‬عندما تنترص لنفسها دون‬
‫أي حساب ألي يشء آخر‪..‬‬
‫جالسا بني «ألفونس وكرستني»‬
‫ً‬ ‫أيضا كنت ـ كعاديت ـ‬
‫يف ذلك اليوم ً‬
‫وفكرا شار ًدا‪ ،‬فكان من السهل عىل من رآين من قبل‬
‫ً‬ ‫بينهام كنت باجلسد‬
‫أمرا ما بداخيل‪ ،‬فلم أستطع إثارة‬
‫وأنا عىل طبيعتي أن يعلم أن هناك ً‬
‫ألفونس بأسئلتى التي كانت حتفزه عىل احلديث كام كان يقول يل عندما‬
‫أصمت أو أهنك من كثرة احلديث‪:‬‬

‫‪49‬‬
‫ـ «أسألني وحدثني‪ ،‬فأنا ال أجيد فتح موضوع للحوار»‪.‬‬
‫يبدو أن معامل وجهي يف ذلك اليوم كانت واضحة فاضحة جدًّ ا حلايل‪،‬‬
‫حتى عن أي يوم مر؛ هذا ما جعل «ألفونس» يقاوم صمتَه ويبدأ هو‬
‫باحلديث‪ ،‬بل بدأين هبزة مل تكن بيده جلسدي‪ ،‬بل من فاهه لعقيل‪ ،‬أن يعيد‬
‫التفكري فيام يستحق احلزن وما هو أدنى من ذلك‪ ،‬فقال يل بنربة استياء‬
‫عيل ضيقي وحزين‪:‬‬ ‫وكأنه ينكر ّ‬
‫ـ ملاذا حتزن؟ وعىل أي يشء حتزن؟ ليس لك أن حتزن ما دمت ال‬
‫تسكن هذا امللجأ‪.‬‬
‫ثم أردف باألسباب قبل أن أتفوه بأي يشء‪ ،‬بطريقة تظهر مدى قهره‬
‫وأمله الداخيل‪:‬‬
‫ـ يف هذا امللجأ عرفنا أن الرتف‪ ،‬كل الرتف يف أنك صاحب االختيار‬
‫يف حياتك‪ ،‬وإن كانت خياراتك بني املحدود‪.‬‬
‫ختتار أن تذهب أو ال تذهب‪ ،‬ونحن ماكثون ال حيلة لنا سوى‬
‫االنتظار عل أحدً ا يأيت لزيارتنا‪.‬‬
‫تأكل عندما جتوع‪ ،‬ونحن نأكل وقت أن تأتينا الوجبة‪ ،‬فضلاً عن أنك‬
‫أيضا ما تأكله‪ ،‬بينام نأكل ما ُيطهى لنا‪.‬‬
‫ختتار ً‬
‫لنا موعد للنوم‪ ،‬وموعد لالستيقاظ‪ ،‬فال جيوز لألحالم السعيدة‬
‫حتم ستقطع بسيف أجراس االستيقاظ‬ ‫أن تطيل غفوهتا علينا؛ ألهنا اً‬
‫اإلجباري‪.‬‬
‫قل يل عىل أي يشء حتزن؟! أنت يف نعمة مهام كانت مشكالتك‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫كلامت‪ ،‬كان هلا عىل رأيس وقع طرق املطرقة‪ ،‬نبهتني إىل نعم قد‬
‫دائم معي؛ فحسبتها مسلامت‪ ،‬مل أختيل حيايت بدوهنا‪،‬‬ ‫اعتدت عليها ألهنا اً‬
‫فأحيان ًا انتظارنا ألشياء نتمناها تنسينا فرحة األشياء املتاحة لدينا التي قد‬
‫يكون حمرو ًما منها أناس آخرون هي جل ما يتمنون‪.‬‬
‫أومأت إليه برأيس اتفا ًقا مع ما قال‪:،‬‬
‫ـ نعم‪ ،‬أنا يف ترف رغم كل مشكاليت‪ ،‬الصرب صربكم أنتم‪ ،‬أضحك‬
‫عىل نفيس التي اختزلت كل الدنيا يف مشكلة صغرية‪.‬‬
‫رد قائلاً ‪:‬‬
‫ـ الدنيا بتفاصيلها أكرب من أن تقف عىل مشكلة‪.‬‬
‫قلت‪ ..‬متعجب ًا‬
‫ـ بل أحيانًا تقف حياة بعض الناس عند مشكلة ما؛ فال جيدون هلا حلاًّ‬
‫سوى االنتحار‪.‬‬
‫ـ إذ ًا هبذه املقايس فنحن أبطال‪ ،‬فربغم هذا السوء صابرون‪ ،‬وال أحد‬
‫هنا ُيفكر يف االنتحار‪.‬‬
‫ـ هل هذا رض ًا منكم بام أنتم عليه‪..‬؟‬
‫نح َي حتى نموت‪ ،‬كل ارتباطنا‬‫ـ بل انتظار ًا ليتغري ما نحن عليه‪ ،‬إننا مل ْ‬
‫باحلياة أننا فقط مقيدون يف سجلها أحياء‪ ،‬ننتظر‪ ،‬عل الفرج يأيت فيام تبقى‬
‫قرارا واحدً ا يف حياتنا بمحض إرادتنا‪ ،‬أيكون‬‫من أيام‪ ،‬ثم إننا مل نتخذ ً‬
‫أول قرارنا هو أن نموت؟!‬
‫ال ينتحر إال من قد حيا بالفعل‪ ،‬بل أحيانًا يكون انتحاره مللاً من‬
‫احلياة‪ ،‬ونحن مللنا من املوت عىل قيد احلياة!‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫حديث جعلني أعيد النظر يف كثري من املفاهيم‪ ،‬بل جعلني أستصغر‬
‫كل مشكاليت عندما أقارن حايل هبم‪ ،‬فأحيانًا ال ندرك قيمة النور الذي‬
‫نعيش فيه واعتدنا عليه إال بعد مرورنا بالظالم‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫(‪)6‬‬
‫«تعجبت جدًّ ًا أن يكون ذلك مبلغ علم راهبة عن‬
‫شاب مسلم‪ ،‬هو أن يضحك عىل فتاة مسيحية وجيعلها‬
‫ترتك أهلها ودينها»‬

‫‪53‬‬
‫مرت أيام أخر‪ ،‬أمتمت شهري األول من شهري التكليف‪.‬‬
‫ع�لى غ�ير عادهتا‪ ،‬أش��ارت إ ّيل م��ن بعيد وأن��ا جالس ب�ين «ألفونس‬
‫وكرس��تني» فذهب��ت إليها وفضويل أن أعرف س��بب طلبها يل يس��بقني؛‬
‫حي��ث أنني ال أتذكر أن حدثتها غري تل��ك املرة األوىل يف أول يوم ملجيئي‬
‫وفجعتي التي ال تُنسى‪.‬‬
‫وصلت إليها‪ ،‬وبعفويتها وتلقائية حديثها املعتاد الذي أسمعه مع كل‬
‫من يف امللجأ‪ ،‬طلبت مني طل ًبا مل أكن أتوقعه‪.‬‬
‫ـ أستاذ «مازن»‪ ،‬ممكن مساعدة لو سمحت؟‬
‫ـ حتت أمرك اتفضيل‬
‫ـ معلش يعني هي حاجه كدا مش قد مقامك‪ ،‬بس انت زي ابني واهلل‬
‫ولو مش حابب خالص‪.‬‬
‫ـ وال هيمك حتت أمرك يف أي يشء أؤمريني بس‪.‬‬
‫ـ األم��ر هلل‪ ،‬ربن��ا حيفظك ي��ا رب‪ ،‬معلش لو فيها رزال��ه مني عايزاك‬
‫تيجي معايا‪ ،‬هانجيب ش��وية حاجات للمطبخ رضوري عش��ان الشيف‬
‫«مايكل» بيس��تعجلني‪ ،‬وعم «منصور» الس��واق بيجي��ب حاجات تانية‬
‫بعربية امللجأ‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫مل أستطع إال أن أوافق‪ ،‬رغم أن املساعدة تبدو وأهنا ستكون شاقة وأنا‬
‫يف أول اليوم يف الصباح‪ ،‬لكنني ما اعتدت أن أرفض طل ًبا لكبري حيتاج‬
‫أيضا من الرفض؛ فوافقتها رسي ًعا بعد‬
‫املساعدة‪ ،‬وسيف حيائي يمنعني ً‬
‫أن سألتها هل جيوز يل اخلروج يف وقت تكليفي؛ أملاً يف عذر يرفع عني‬
‫حرج الرفض‪.‬‬
‫أيضا قد رتبت لذلك‪.‬‬
‫لكنها ً‬
‫ـ ال ما تقلقش ما دا برضه شغل تبع امللجأ‪ ،‬وأنا قلت لألم «مارية» إين‬
‫هاطلب منك فوافقت‪.‬‬
‫قلت يف نفيس تود األم «مارية» أن لو كنت يف كل يوم ِ‬
‫معك يف السوق‬
‫عىل أن أبقى مع املسنني يف امللجأ‪.‬‬
‫خرجنا سو ًّيا من امللجأ‪ ،‬ما إن خرجنا حتى حتدثت إ َّيل وكأهنا كانت ال‬
‫تريد سوى أن نكون باخلارج‪.‬‬
‫ـ برصاحه يا أستاذ «مازن» انا أخرتعت حوار السوق دا عشان عايزة‬
‫أقولك عىل حاجة رضوري‪ ،‬بس اوعي كالمي دا خيرج بره مايش؟ أنا‬
‫هاقولك بس عشان أنا بعزك وأنت زي ابني‪ ،‬وكامن برصاحة بقى إحنا‬
‫مسلمني زي بعض‪.‬‬
‫ـ قويل أنا سامعك وكالمك عمره ما هيخرج بره أبدً ا‪.‬‬
‫ـ متام‪ ،‬بص يا أستاذ «مازن» أنا عارفة إنك زعالن شوية من أستاذه‬
‫«مارسيل» بس معلش الزم تعذرها ألهنا غصب عنها واهلل‪.‬‬
‫ـ ازاي غصب عنها يعني؟ ممكن توضحييل‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ـ أنا برصاحة كنت بنضف فوق جنب مكتب األم «مارية» واستدعت‬
‫«مارسيل» فوق عندها وزعقت معاها جامد أوي إهنا بتقف وتتكلم‬
‫معاك كتري‪ ،‬وقالتلها كالم برصاحه جرحها جدًّ ا لدرجة إن»مارسيل»‬
‫كانت بتمسح دموعها وهي نازله من مكتب األم «مارية»‪.‬‬
‫ـ إيه هو الكالم اليل جرحها؟ سمعتيه؟‬
‫ودايم الشباب املسلم‬
‫اً‬ ‫ـ برصاحة مش كله‪ ،‬بس كان عن إنك مسلم‪،‬‬
‫ممكن يضحك عىل بنت مسيحية وخيليها تسيب أهلها ودينها عشانه‪،‬‬
‫فاعذرها بقى إلن الكالم جامد عليها‪ ،‬وكامن كراهبة الزم يسمعوا‬
‫كالمها هنا‪ ،‬وأنا كمسلمة زيك قلت أقولك إلننا مالناش غري بعض‬
‫يف اآلخر‪ ،‬زي ما «مارسيل» رغم إهنا كويسة جدًّ ا‪ ،‬لكن يف اآلخر الزم‬
‫تسمع كالم الراهبة بتاعتهم‪.‬‬
‫تعجبت جدًّ ا أن يكون ذلك مبلغ علم راهبة عن شاب مسلم‪ ،‬هو أن‬
‫يضحك عىل فتاة مسيحية وجيعلها ترتك أهلها ودينها‬
‫أتفهم أن يكون كالم العامة «كغالية» فكان أكرب دافع هلا ألن تقول‬
‫يل‪:‬‬
‫« أنا كمسلمة زيك قلت أقولك إلننا مالناش غري بعض يف اآلخر»‪،‬‬
‫وكأن ال رابطة سوى الدين!؟ وكأن جنسيتنا الواحدة ليست كافية لتكون‬
‫رباطنا الذى يوحدنا‪ ..،‬لألسف! هذا هو املفهوم السائد لدى الكثري من‬
‫العامة‪ ،‬وأحيانًا غري العامة‪ ،‬مثل ما كنت عليه يف وقت ما وأنا أدعي‬
‫قبول اآلخر والفهم‪ ،‬وهذه هي احلقيقة التي يف الصدور ونخفيها خلف‬
‫شعارات رنانة‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫كثريا قدر استغرايب‪ ،‬فقد علمت ذلك السبب الذي ظل‬ ‫ارحتت ً‬
‫يشغلني أليام‪ ،‬ووجدت العذر الذي كنت أبحث عنه «ملارسيل» وح ًّقا‬
‫إنه لعذر يغفر هلا‪.‬‬

‫ ‬

‫‪58‬‬
‫(‪)7‬‬
‫«ما هذا السبب والظرف العظيم الذي جيعلنا نفعل‬
‫هكذا مع من جذبونا بذراعيهم عىل صدورهم عط ًفا‬
‫وحنانًا‪ ،‬نحملهم بأذرعنا إىل املالجئ بعدما أصبحوا‬
‫طغمة عىل صدورنا؟!» ‬

‫‪59‬‬
‫رأيتها يف ذلك اليوم عىل غري حاهلا املعتاد‪ ،‬فقد أرشقت شمس وجهها‬
‫أيضا ألول مرة‪ ،‬مل تكن سارحة يف ملكوهتا‬ ‫بفعل ابتسامتها التي رأيتها ً‬
‫اخلاص‪ ،‬بل معه بكل جوراحها‪ ،‬سألت نفيس متعج ًبا‪ ،‬من هذا الذي‬
‫استطاع أن يستأثرها من عزلتها؟ من هذا الذي رأت فيه أنه اجلدير‬
‫دائم ما تنظر إىل يشء ال نراه‪ ،‬ورأته اجلدير‬
‫الوحيد بنظراهتا التي كانت اً‬
‫أيضا بسامعها‪ ،‬فهي متيل بأذنيها عليه‪ ،‬ال تريد أن تتفلت كلمة واحدة‬ ‫ً‬
‫من حديثه هلا‪ ،‬يكون كيفام يكون‪ ،‬األهم أن مشهدها هذا كان كفيلاً بأن‬
‫ينسيني ما أمهني‪ ،‬حتى تلك املشكلة التي كانت بيني وبني «مارسيل» ومل َ‬
‫دائم ال يفارقني‪ ،‬وحالة رصعها املتكررة عىل‬‫ال؟ فقد كان وجهها احلزين اً‬
‫البوابات ال أنساها مع ضعف حيلتي أن أستطيع تقديم أي مساعدة هلا‬
‫تخُ رجها مما فيه اً‬
‫دائم‪..‬‬
‫سعادة أفتُتح هبا يومي‪ ،‬كنت أمتنى أن تستمر ليس يل‪ ،‬بل له يف‬
‫األساس‪ ،‬وبالطبع سأكون سعيدً ا‪ ،‬لكن هذا هو حال امللجأ الذي ربام‬
‫لن يتغري‪ ،‬ففي منتصف اليوم‪ ،‬كانت رصخاهتا وهي تتعلق هبذا الشاب‬
‫وهو يغادر من البوابة‪ ،‬ومن خلفها أمن البوابة جيذبوهنا للداخل‪ ،‬كانت‬
‫تتعلق به وكأهنا تتعلق بالروح التي تنتزع منها لتعود إىل املوت‪ ،‬ما كان‬
‫مني إال أن هرولت إىل البوابة أتقىص اخلرب‪ ،‬حماولاً املساعدة وهتدئتها‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫ذهبت نحو ذلك الشاب دون حماولة مني ملعرفة شخصه وصلته باحلاجة‬
‫«أمينة» فقط كان رجائي له بأن يدخل مرة أخرى رمحة بحاهلا أولاً ‪ ،‬ثم‬
‫بعد ذلك أي يشء آخر بعد هدوئها إن أراد الرحيل فلريحل‪ ،‬وافقني‬
‫دونام اعرتاض‪ ،‬وعىل مالحمه الطيبة تبدو قلة احليلة والضعف اللذين‬
‫بدوا مع اغروراق عينيه بمسحة دمع جتاهد السقوط‪.‬‬
‫عادا وجلسا عىل نفس املقعد الذي كانا عليه وهي متسك بذراعيه‪،‬‬
‫وتضع وجهها عىل كتفه‪ ،‬من طيلة وضعها هذا غلبها النوم‪ ،‬أتاها النعاس‬
‫مطمئنة أنه بني يدهيا‪ ،‬كالطفلة التي تنام حاضنة دميتها‪ ،‬ختشى أن يأخذها‬
‫أحد منها‪ ،‬فكيف بأم تكون مع ابنها الوحيد وكل معارفها بالدنيا! نعم‬
‫ابنها‪ ،‬ذلك ما صعقني عندما علمت به من أحد حراس األمن‪ ،‬مل أصعق‬
‫من حاهلا معه‪ ،‬فهذا شعور األمومة الذي ال يضاهيه شعور‪ ،‬وإنام من‬
‫كونه ابنها الوحيد وكل معارفها يف الدنيا ويرتكها وحيدة يف هذا امللجأ‬
‫الكئيب عىل هذه احلال التي يرثى هلا‪.‬‬
‫ما إن غلبها النعاس مطمئنة حتى جاءته الفرصة ألن ينسلخ منها‬
‫ويرحل يف نومها بأقل القليل من تأنيب الضمري والذي كان يف أشده عند‬
‫رصاخها وتعلقها به وهو يريد اخلروج‪.‬‬
‫كنت أراه وهو حياول أن خيرج يده من قبضتها يف حذر أن تصحو‪،‬‬
‫وكأنه خيرج منها ال من امللجأ‪ ،‬وهو يضع رأسها التي كانت فوق كتفه‬
‫عىل طرف من أطراف املقعد الطويل الذي كانا عليه ويرفع قدمها هبدوء‬
‫عىل الطرف اآلخر ليرتكها نائمة وخيرج هو متسللاً من باب امللجأ دون‬
‫ضجيج من أمه يؤرق ضمريه‪.‬‬
‫تساءلت يف نفيس‪ ،‬ما هذا السبب والظرف العظيم الذي جيعلنا نفعل‬

‫‪62‬‬
‫هكذا مع من جذبونا بذراعيهم عىل صدورهم عط ًفا وحنانًا‪ ،‬نحملهم‬
‫بأذرعنا إىل املالجئ بعدما أصبحوا طغمة عىل صدورنا؟! كيف يكون‬
‫مربرا يف‬
‫هذا؟! كيف تُقابل قمة التضحية بأقسى أنواع النكران؟! ال أجد ً‬
‫عذرا ملن يفعل ذلك‪ ،‬حتى وإن كان بعض‬ ‫نفيس وال سب ًبا جيعلني ألتمس ً‬
‫القسوة من األبوين أو أحدمها عىل ابنيهام يف صغره‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫(‪)8‬‬
‫«أما تعانق ش��يخ األزهر والبابا الذي حيدث كل عام يف‬
‫األعي��اد‪ ،‬ما ه��و إال صورة تقرتب فيها األجس��اد لرضورة‬
‫اللقط��ة‪ ،‬بين�ما النف��وس حتم��ل الكثري م��ن األلغ��ام تنتظر‬
‫االشتعال»‬

‫‪65‬‬
‫مشهد احلاجة «أمينة» وما سببه بداخيل من أمل‪ ،‬عالوة عىل كالم‬
‫«ألفونس» الذي جعلني أحتقر مشكلتي‪ ،‬مقارنة بام يعانيه نزالء امللجأ‪،‬‬
‫كل ذلك جعلني أعيد تفكريي يف أولويايت‪ ،‬وأن أختىل عن أنانيتي وذايت‪،‬‬
‫والعمل فقط هلؤالء املسنني الذين ال حول هلم والقوة‪ ،‬فاألمر أكرب بكثري‬
‫من أن يتعطل تفكريي عند صديقة قد تغري أسلوهبا معي‪ ،‬وهناك من‬
‫يحُ رم من أبسط حاجته الدنيوية كبرش‪.‬‬
‫عقدت العزم عىل الذهاب لـ «مارسيل» لكن هذه املرة ليس لغرض‬
‫ذايت‪ ،‬ولكن طال ًبا منها املساعدة للعمل معي قدر املستطاع لتحسني‬
‫ظروف معيشة وإقامة أولئك النزالء‪ ،‬أو إقامة أي عمل من شأنه رسم‬
‫البسمة عىل وجوه هؤالء البؤساء‪ ،‬غري مكرتث بأي طريقة ستعاملني‬
‫أيضا قد‬
‫هبا‪ ،‬األهم فقط هو حتقيق ذلك اهلدف اإلنساين‪ ،‬ال سيام أنني ً‬
‫علمت حقيقة ذلك التحول‪ ،‬وأهنا مكرهة عىل ذلك وليس عن يشء قد‬
‫حدث مني‪.‬‬
‫وال أحب أن أكون سب ًبا يضعها يف حرج مع إدارة امللجأ‪ ،‬خاصة من‬
‫األم «مارية»‪.‬‬
‫فكرت قليلاً يف أن يكون غريها سندً ا ومعاونًا يل فيام عقدت عليه‬

‫‪67‬‬
‫العزم‪ ،‬لكنني وجدهتا األشد اقتنا ًعا وتلبية يف ذلك الشأن‪ ،‬وكل ما هيمني‬
‫اآلن هم أولئك املسنون‪ ،‬فكيف أتنازل أو أزهد يف وسيلة ستحقق يل‬
‫أيضا هدف إنساين نبيل وليس ذات ًّيا؛ لذلك مل‬‫ذلك اهلدف! ال سيام أنه ً‬
‫أتردد ثانية واحدة يف الذهاب إليها‪.‬‬
‫دخلت عليها وهي يف مكتبها بعد أن أذنت يل‪ ،‬ما إن دخلت حتى‬
‫بادرهتا بأسفي ملا كان مني من حديث حاد‪ ،‬وتشكيكي يف نواياها ونوايا‬
‫العاملني بامللجأ‪ ،‬اعتذار ليس نا ًجتا عن معرفة احلق؛ ومن ثم العدول عن‬
‫الباطل‪ ،‬ولكن لتجاوز تلك األزمة لغرض يستحق التسامي والرتفع عن‬
‫الصغائر‪.‬‬
‫ثم أردفت هلا بعد أسفي‪:‬‬
‫لك فقط لذلك اهلدف الذي من أجله نحن هنا‪ ،‬هم أولئك‬ ‫ـ أتيت ِ‬
‫املسنون‪ ،‬راغ ًبا عونك يف حماوالت مساعدهتم ورسم البسمة عىل‬
‫متجاوزا كل مواطن االختالف بذلك الرباط املجمع الذي ال‬
‫ً‬ ‫شفاههم‪،‬‬
‫خالف عليه وهو اإلنسان‪ ،‬ليس يل حاجة عندك غري ذلك‪.‬‬
‫قاطعت استطرادي برد أثلج صدري‪:‬‬
‫حتم مني إليك عىل‬
‫ـ ال تثريب عليك يا صديقي‪ ،‬إن كان اعتذار فهو اً‬
‫ما كان مني من حتول غري مسبب‪ ،‬لكنك يف يوم ما ستعلم رس ذلك‪،‬‬
‫وأظنك ستعذرين‪.‬‬
‫أيضا ما‬
‫أيضا يف غريتك ونزعتك إىل دينك‪ ،‬فهو ً‬ ‫ال تثريب عليك ً‬
‫حدث معي‪ ،‬عىل الرغم من أنني أرثوذكسية أختلف يف كثري من أمور‬
‫العقيدة مع معظم راهبي امللجأ وبالرضورة مع األم «مارية» لكنه ذلك‬

‫‪68‬‬
‫التعصب الذي يسكن دواخلنا وخيرج بمجرد إثارته‪ ،‬لكن عىل أية حال‬
‫من الطيب أن خيرج كل ذلك ويبدي كل منا لآلخر ما يسيئه منه‪ ،‬حتى‬
‫ال تظل تلك األشياء يف الصدور متأججة؛ فتخرج وقت الضغينة بدافع‬
‫من الغيظ وليس يف منافشة يطرح كل منا فيها وجهة نظره دونام إفساد‬
‫للود‪ ،‬فلن يكون صفاء كامل إال إذا أخرج كل منا ما يف نفسه لآلخر‪،‬‬
‫أما تعانق شيخ األزهر والبابا الذي حيدث كل عام يف األعياد‪ ،‬ما هو إال‬
‫صورة تقرتب فيها األجساد لرضورة اللقطة‪ ،‬بينام النفوس حتمل الكثري‬
‫من األلغام تنتظر االشتعال‪.‬‬
‫استدركت كالمها رسي ًعا‪..‬‬
‫األهم اآلن هو ما جئت من أجله‪ ،‬هؤالء املسنني‪ ،‬أنا معك يف أي‬
‫يشء يكون هلم بكل ما أستطيع من قوة‪.‬‬
‫ـ هذا ظني ِ‬
‫بك وما كنت أتوقعه‪.‬‬
‫ففاجأتني رسي ًعا بطلبها‪:‬‬
‫ـ أعطني رقم هاتفك‪.‬‬
‫تعجبت من طلبها غري املتوقع‪ ،‬فسألتها علني سمعت ً‬
‫خطأ‪.‬‬
‫ـ نعم حرضتك؟!‬
‫متاحا دون حرج‪.‬‬
‫ـ رقم هاتفك‪ ،‬إن كان ذلك ً‬
‫ـ طب ًعا طب ًعا بكل رسور‪.‬‬
‫تكلمت يف عجالة‪ ،‬وكأهنا تريد أن تنهي حوارنا قبل أن يأيت أحد‪.‬‬
‫فختمت كالمها وهي تتحرك إىل خارج مكتبها‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ـ انتظر اليوم مني مكاملة نتحدث فيها عام سنفعله يف األيام القادمة‪.‬‬
‫عيل مع الكثري من التفكري‬
‫طلبها لرقمي كان له بالغ النشوة والسعادة ّ‬
‫عن السبب‪ ،‬أهو فقط من أجل االتفاق عام سنقوم بتنفيذه الح ًقا؟!‬
‫أم هناك أمر ًا آخر ًا ستحدثني عنه؟ عىل أية‪ ،‬حال هو تطور إجيايب يف‬
‫عالقتنا‪ ،‬وجتاوز ملرحلة الفتور التي أساءتني من قبل‪.‬‬
‫دائم ما كنت أضع اهلاتف بجواري‬ ‫بعد عوديت من امللجأ إىل منزيل‪ ،‬اً‬
‫أينام كنت‪ ،‬وأنا أغري مالبيس‪ ،‬وحتى وأنا أتناول طعامي؛ خو ًفا من أن‬
‫تأيت تلك املهاتفة املن َت َظرة وأنا بعيد عن هاتفي‪ ،‬يف الغالب‪ ،‬كنت أنسى‬
‫هاتفي يف بنطايل الذي أتيت به من اخلارج‪ ،‬أو أتناساه عمدً ا للراحة‪ ،‬إال‬
‫حريصا عىل تذكره ومحله يف كل مكان أكون فيه‪ ،‬اهتاممي‬
‫ً‬ ‫ذلك اليوم كنت‬
‫بتلك املكاملة وانتظارها يعكس اهتاممي بصاحبتها يف املقام األول‪.‬‬
‫لكنني رسعان ما تداركت هلفتي هذه‪ ،‬وأخذت أحدث نفيس وأذكرها‬
‫بسبب االتصال‪ ،‬وهو االتفاق عام سنقوم به من أجل نزالء امللجأ‪ ،‬حتى‬
‫يكون كل يشء يف نِصابه الطبيعي‪ ،‬وال أنتظر أكثر من ذلك فيخيب ظني‪.‬‬
‫خرج ذلك الرنني الذي تنتظره األذن‪ ،‬والذي أكده البرص أنه هو‪،‬‬
‫عندما نظرت إىل شاشة هاتفي‪ ،‬وجدت الرقم غري ًبا دون اسم حمفوظ من‬
‫قبل؛ فصدق توقعي‪.‬‬
‫يف بداية حديثها أكدت عىل اعتذارها‪ ،‬وأن هلا عذرها الكبري‪ ،‬وهو ما‬
‫كنت تفهمته بشدة من حديثي مع «غالية»‬
‫تبادلنا الرؤى حول امللجأ‪ ،‬وما حيتاجه النزالء هناك‪ ،‬اتفقنا عىل خطة‬
‫عمل تكون يف األيام القادمة‪ ،‬تبدأ بكل ما هو رضوري‪ ،‬بعد حرصنا‬

‫‪70‬‬
‫ألهم احتياجات أهل امللجأ‪ ،‬وجدنا أمهها‪ ،‬هو أمر طعامهم والذي زاد‬
‫استياؤهم منه يف األيام األخرية‪ ،‬واألمر الثاين هو حماولة كرس الروتني‬
‫القاتل يف يومهم يف امللجأ‪ ،‬وحماولة ابتكار أعامل أخرى يشاركون فيها‪،‬‬
‫وتنظيم رحلة أو ما شابه ذلك للخروج هبم خارج امللجأ ملن يرغب منهم‬
‫أيضا عىل االحتفال معهم بعيد امليالد؛‬
‫وحالته تسمح بذلك‪ ،‬واتفقنا ً‬
‫حيث إنه املناسبة األقرب‪ ،‬واألكرب عند اجلميع منهم‪.‬‬
‫لكن ما وجدناه حيتاج للتعجيل بشكل فوري‪ ،‬هو حال احلاجة «أمينة»‬
‫فحاهلا خيلع القلب‪ ،‬اتفقنا «أنا ومارسيل» عىل مهاتفة ابنها املهندس «عمر»‬
‫واالتفاق معه عىل موعد عاجل نتقابل فيه‪ ،‬ونحاول إقناعه بأخذ أمه من‬
‫امللجأ‪ ،‬وال بد أن يكون ذلك االتصال واملقابلة شديدة الرسية ونطلب‬
‫منه ذلك‪ ،‬حتى ال تعرقل األم «مارية» جهودنا‪ ،‬وخاصة بعد علمي من‬
‫«مارسيل» أن لألم مصلحة كبرية يف وجود احلاجة «أمينة» داخل امللجأ؛‬
‫حيث املبلغ الكبري الذي يدفعه ابنها شهر ًّيا عىل هيئة تربعات للملجأ‪،‬‬
‫ظنًّا منه أنه بذلك يويف أمه حقها وال يعلم أهنا تتعذب به وال يصل منه‬
‫يشء هلا وإن وصل‪ ،‬ما الذي يمكن أن يعوض ُبعد االبن عن أمه‪ ،‬وعن‬
‫أن تكون بجوار من حتب؟!‬
‫كام اتفقنا عىل إبالغ األم «مارية» بام نود فعله من برنامج حتى تكون‬
‫معنا ىف الصورة وال تشعر أننا نتعداها‪ ،‬حتى ال نستعدهيا لكن بالطبع لن‬
‫نبلغها بام سنفعل ىف حالة احلاجة «أمينة» وسيكون ذلك ىف الغد ونجلس‬
‫معها أنا و«مارسيل» قررنا مهاتفة املهندس «عمر» وأن أقوم هبذه املهمة‬
‫عىل أن يكون ذلك يف نفس اليوم الذى اتفقنا فيه‪ ،‬حتى نأخذ زمام املبادرة‬
‫ونعجل‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫هاتفت املهندس «عمر» عملاً بام اتفقنا عليه‪ ،‬ما إن رصحت له أنني‬
‫أحدثه بشأن أمه وأنني أحد املرشدين النفسيني يف امللجأ‪ ،‬حتى بدا يل‬
‫اهتاممه من تركيزه معي أثناء حديثي‪ ،‬ثم أبدى قبوله الفوري لطلبي‪ ،‬أنني‬
‫واألستاذة «مارسيل» املرشدة النفسية للملجأ نريد مقابلته خارج امللجأ‬
‫ألمر هام خيص والدته‪ ،‬تبقى فقط املوعد واملكان‪ ،‬والذي استأذنته أن‬
‫أبلغه به بعد ترتيبه مع األستاذة «مارسيل» بعدما عرفت منه األوقات‬
‫املتاحة له‪.‬‬
‫مل أضيع وقتًا‪ ،‬اتصلت عقب ذلك مبارشة بـ«مارسيل» أبلغها بقبوله‬
‫عرصا من كل يوم‪،‬‬‫وأنه متفرغ من بعد موعد عودته من عمله يف الرابعة ً‬
‫وأيضا‬
‫وهو تقري ًبا نفس موعد انتهاء عمل األستاذة «مارسيل» يف امللجأ ً‬
‫عيل نفس مواعيد حضور وانرصاف‬ ‫انرصايف؛ حيث إنني كمكلف ينطبق ّ‬
‫العاملني هناك‪.‬‬
‫كان رد «مارسيل» أن يكون املوعد الغد يف اخلامسة بكافيه «مازيكا»‬
‫كثريا‪.‬‬
‫الذي ال يبعد عن امللجأ ً‬
‫راق يل جدًّ ا تعجلها والذي كنت أمتناه‪ ،‬والذى كان البد أن يتوافق‬
‫معها‪.‬‬
‫رسي ًعا وتداركًا للوقت‪ ،‬وقبل أال أستطيع االتصال باملهندس «عمر»‬
‫حيث الساعة اآلن التاسعة والنصف‪ ،‬وأخشى أن تأيت العارشة؛ فيكون‬
‫هناك حرج يف االتصال‪.‬‬
‫اتصلت عليه يف التو‪ ،‬ودون انتظار طويل للرد‪ ،‬كان رده مع بداية‬
‫منتظرا ملعاودة اتصايل كي أخربه باملوعد‬
‫ً‬ ‫أيضا كان‬
‫رنيني عليه وكأنه ً‬
‫واملكان‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫فكان منه القبول الفوري دونام أي تردد‪.‬‬
‫هذا االهتامم الواضح منه خالل حمادثتي معه وقبوله الفوري ملقابلتنا‪،‬‬
‫دون كثرة استفس��ارات‪ ،‬دلل عىل معدن��ه الطيب‪ ،‬وأن بداخله الكثري من‬
‫ظاه��را يف وجهه عندما كان بج��وار أمه‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬ ‫اخل�ير جت��اه أمه‪ ،‬كان ذلك‬
‫األمتع��ة الكثرية جدًّ ا التي جاء هبا حيمله��ا إىل أمه أثناء زيارته هلا‪ ،‬ظنًّا منه‬
‫أنه بذلك يكفر عن تركه هلا‪ ،‬لكن هناك الكثري من األش��ياء املعنوية‪ ،‬ومن‬
‫احتياجات األنفس ال تس��تطيع املادة أن تس��د مكاهنا‪ ،‬لكن عىل أية حال‪،‬‬
‫فاإلنس��ان ال��ذي حيب أن يك ِّفر أو يصحح ش��ي ًئا من خطئ��ه‪ ،‬ال ُيعدم منه‬
‫اخل�ير‪ ،‬فام زالت نفس لوام��ة بداخله‪ ،‬وثمة ضمري ح��ي ينازعه؛ ألنه قد‬
‫اع�ترف ضمن ًّي��ا بخطئه‪ ،‬فال يكفر عن خطئه س��وى من اقتن��ع به‪ ،‬ال من‬
‫يكابر‪.‬‬
‫لكن ربام هناك أمر آخر هو ما أجربه عىل ذلك‪ ،‬بالتأكيد سنعلمه منه‬
‫يف الغد‪ ،‬ونحاول تذليله له؛ حيث ال أهم من احتواء أم‪ ،‬قد بلغ هبا من‬
‫الكرب عت ًّيا‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫(‪)9‬‬
‫احلكام املتسلطني ىف بالدهم‪ ،‬ال ُيصلحون‬ ‫«بعض ُ‬
‫وحياربون كل من ينادى أو يقوم بإصالح ظن ًا منهم أنه‬
‫ينازعهم ملكهم»‬

‫‪75‬‬
‫تقابلنا ىف الصباح‪ ،‬ذهبنا س��ويا إاىل حج��رة األم «مارية» حتى نبلغها‬
‫ب�ما نود تنفيذه بع��د موافقتها بالطبع «هكذا أوضحنا هل��ا حتى نتقى عدم‬
‫موافقتها»‬
‫لكن ردها كان واضح ًا من بداية أسقباهلا لنا بوجه عبوس قبل أن‬
‫تسمع منا حتى كلمة فهى عازمة ىف قرارة نفسها عىل رفض أى شيئ أيام‬
‫كان‬
‫حتدثنا إليها بام نريد‪ ...‬فكان أول صدود منها بعد استطرادنا أهنا‬
‫قالت‪:‬‬
‫ـ هل هذا إعالم ىل أم استذان‪ ..‬؟!‬
‫ردت «مارسيل» ىف عجل‪:‬‬
‫ـ بل استئذان ِ‬
‫فأنت األم الراعية املسئولة عن امللجأ‬
‫ردت عليها‪:‬‬
‫ـ وأنا غري موافقة‬
‫طلبت منها إبداء أسباب رفضها‪ ،‬فردت بحدة وكأهنا ال تُسأل عام‬
‫تفعل‬

‫‪77‬‬
‫ـ ليس لك هذا‪ ،‬قد ُرفض اقرتاحكم‬
‫خرجنا من عندها يائسني‪ ،‬قد خاب سعينا‪ ،‬ال أدرى ماهو سبب‬
‫رفضها‪ ،‬كيف يرتك األمر كله هلا‪ ،‬كنت قد متالكت نفيس أن تتفلت من‬
‫طريقتها املستفزة وديكتاتوريتها املتسلطة‪ ،‬لكن «مارسيل» حتاشت كل‬
‫ذلك بأن أهنت لقائنا عىل أن سيكون ما أرادت ثم اسئذنتها ىف انرصافنا‪.‬‬
‫حلكام‬
‫ذكّرنى تعنتها عىل مطالبنا البسيطة اهلادفة بام يفعله بعض ا ُ‬
‫املتسلطني ىف بالدهم‪ ،‬ال ُيصلحون وحياربون كل من ينادى أو يقوم‬
‫بإصالح ظن ًا منهم أنه ينازعهم ملكهم‪ ،‬كذلك هى‪ ،‬ترى أن امللجأ إرثها‬
‫بمن فيه من نزالء‪.‬‬
‫كان رجائنا األخري أن يتم موعدنا اآلخر مع املهندس «عمر» فامال‬
‫يدرك كله ال يرتك جله‪.‬‬
‫ىف متام اخلامسة‪ ،‬كنت هناك أول من حرض‪ ،‬فانضم إ َّيل املهندس‬
‫«عمر» بعد ذلك تقري ًبا بخمس دقائق‪ ،‬و«مارسيل» بعده بحوايل دقيقتني‬
‫تقري ًبا‪.‬‬
‫حدثناه عن حالة أمه والتي تزداد سو ًءا لبعده عنها‪ ،‬ذكرناه أهنا من‬
‫املمكن أن تكون يف أيامها األخرية‪ ،‬وأن الباقي هلا لن يكون أكثر مما‬
‫مىض‪ ،‬فال بد أن يحُ سن إليها فيام تبقى حتى ال ترحل غاضبة عليه؛ األمر‬
‫الذي أحزنه بشدة‪ ،‬وأظهر ما يف معدنه من طيب وأصل‪.‬‬
‫طلبت منه أن أعرف سبب جميئه بأمه إىل امللجأ‪ ،‬إن مل يكن يف ذلك‬
‫حرج حتى نستطيع تذليل أي عقبة له قدر استطاعتنا‪ ،‬هذا ما ُقوبل منه‬
‫بصدر رحب‪ ،‬يوضح نيته يف أن جيد أفضل احللول ملعاناة أمه‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫قص علينا سببه‪ ،‬والذي يتلخص يف أن والدته أصبحت حتتاج إىل‬
‫رعاية خاصة؛ حيث كرب سنها‪ ،‬وإصابتها ببعض الزهايمر‪.‬‬
‫ـ أكون يف عميل وزوجتي ال تطيق أن ترعاها‪ ،‬وباألخص أهنا ـ‬
‫أعزكم اهلل ـ تتأفف عندما تتغوط أو تتبول خارج حفاضتها‪ ،‬وحتى إن‬
‫كان يف احلفاضة‪ ،‬ال تغريها هلا‪ ،‬وتنتظرين عند جميئي‪ ،‬حتى أقوم بذلك؛‬
‫األمر الذي تسبب يف كثري من املشكالت بيني وبني زوجتي والتي كادت‬
‫أن تصل بنا إىل الطالق‪ ،‬رأيت أن احلل األمثل‪ ،‬أن آيت هبا إىل امللجأ‪،‬‬
‫أردت رعايتها ال تركها والبعد عنها‪ ،‬ال أقرص يف أي مبالغ تطلبها مني‬
‫األم «مارية» ولن أبخل أبدً ا عىل والديت‪...‬‬
‫حديثه أوضح بعض اجلوانب اخلفية التي كنت ال أعلمها‪ ،‬والتي‬
‫رفعت عنه جز ًءا من مآخذي عليه‪ ،‬وكام يقال‪« :‬من يده يف املاء ليس كمن‬
‫يده يف النار»‪.‬‬
‫بكثري‪ ،‬جلليسة تكون‬
‫ً‬ ‫اقرتحنا عليه أن يدفع ما يدفعه للملجأ بل أقل‬
‫وأيضا رفع عبء رعايتها‬
‫مع أمه يف منزله ترعاها‪ ،‬بذلك تكون أمه يف بيته ً‬
‫عن زوجته‪.‬‬
‫كثريا بذلك احلل الذي قدمناه‪ ،‬ووعدنا بأسبوع جيهز ألمه‬
‫رحب ً‬
‫حجرة يف منزله ويتوصل جلليسة هلا‪.‬‬
‫يف هناية تلك املقابلة املثمرة‪ ،‬شددنا عليه أن يظل كل ذلك رس ًّيا‪ ،‬وأننا‬
‫مل نبت ِغ إال راحة أمه وإسعادها؛ وهو ما أبدى تفهمه له‪ ،‬بل وسعادته بام‬
‫قدمناه له من نصح وتوجيه‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫(‪)10‬‬
‫«نشعر هبم وبفقدهم عند رحيلهم‪ ،‬وكأهنم مل يكونوا‬
‫أشياءا أخرى عن‬
‫ً‬ ‫أياما وسنوات كنا وقتها نفضل‬
‫بيننا ً‬
‫اجللوس معهم»‬

‫‪81‬‬
‫يبدو أهنا سرتحل إىل مكان آخر ولن ترحل إىل بيت ابنها؛ ألهنا ناقمة‬
‫عليه‪ ،‬فلطاملا نادته فلم يستجب‪ ،‬فسلمت نفسها للفراش‪ ،‬ورضخت‬
‫ألمر املرض‪ ،‬مل تعد هي منذ ثالثة أيام‪ ،‬فقد توقفت عن املحاوالت‬
‫اليومية والركض إىل البوابات‪ ،‬يئست من اخلروج؛ فاستسلمت للخروج‬
‫األيرس وهو خروج الروح منها‪.‬‬
‫ذلك ما استنبطته ملا آلت إليه حالتها الصحية التي بدأت يف االنتكاسة‬
‫منذ ثالثة أيام‪ ،‬لكن هذا اليوم‪ ،‬اليوم الثالث‪ ،‬هو ما جعلني أستشعر‬
‫ذلك؛ حيث أصبحت ال حتمل بداخلها سوى نبض ضعيف مستمر‬
‫بتلك األنفاس التي تُضخ هلا عن طريق جهاز التنفس الصناعي الذي‬
‫وضعه هلا اليوم طبيب امللجأ‪ ،‬وال حركة جلسدها ولو بسيطة‪ ،‬مقارنة‬
‫باليوم األول ملرضها من بداية تلك الوعكة وهو يوم مقابلتنا بابنها وقد‬
‫ظننت يف ذلك اليوم أهنا وعكة عادية كالتي تنتاهبا بعد حالة رصعها‪،‬‬
‫لكنها قد تكون اليوم أشد قلي ً‬
‫ال وهذا ما أبلغناه البنها «ربام املتبقى ألمك‬
‫لن يكون كثريا»‪ ،‬لكننا مل نظن أنه قليل بتلك الدرجة‪ ،‬ربام بدأت حالتها‬
‫تتجه لألسوأ من اليوم الثاين ملرضها‪ ،‬ذلك اليوم الذي كنت غائ ًبا فيه‬
‫يائس ًا من حديثي مع األم «مارية» حتى عدت يف يوم مرضها الثالث‬
‫عىل هذا التطور يف مشهدها‪ ،‬ذلك املشهد الذي أصبحت عليه جعلني‬

‫‪83‬‬
‫أعجل‪ ،‬باالتصال بابنها للحضور‪ ،‬وهو ماكنت أود تأجيله‪ ،‬ال سيام أن‬
‫ابنها سيأيت بعد أيام قليلة ليأخذها كام وعدنا‪ ،‬وقد تبقى يف ذلك اليوم عىل‬
‫وعده أربعة أيام فقط‪ ،‬لكن تطور حاهلا ىف هذا اليوم جعلني أستنبط أهنا‬
‫ذهبت إىل نقطة الال رجوع‪ ،‬وأهنا يف بداية النهاية؛ فكانت مهاتفتي البنها‬
‫أن يأيت يف أرسع وقت‪ ،‬فلربام املتبقي من عمر والدته قليل جدًّ ا‪ ،‬واألمر‬
‫جلل ال حيتمل التأخري‪.‬‬
‫أغلق معي بعدما أخربين أنه يف الطريق إلينا‪ ،‬ال يفصله عنا سوى‬
‫مسافة الطريق والتي سيطوهيا ط ًّيا للحاق بأمه‪.‬‬
‫أتى يف عجلة كام أخربين‪ ،‬ذهبنا سو ًّيا إىل حجرة والدته‪ ،‬ويف الطريق‬
‫إليها‪ ،‬دخلنا حجرة الطبيب املعالج حتى يسأله عن احلالة يف عجالة‬
‫وإن كانت له طلبات من أدوية أو غري ذلك ِ‬
‫يأت هبا؛ فأخربه الطبيب‬
‫بام توقعته من قبل‪ ،‬أن املشهد مشهد احتضار‪ ،‬وال يفصل أمه عن املوت‬
‫سوى بعض النبضات الضعيفة التي قد تنتهي ربام يف السويعات أو حتى‬
‫اللحظات القادمة‪.‬‬
‫فام كان منه بعد أن سمع ذلك من الطبيب‪ ،‬إال أن انطلق نحو حجرة‬
‫أمه يف هلفة وعيناه تنهمل بالدموع‪ ،‬يريد أن يسبق املوت إليها؛ فرتاه قبل‬
‫أن ترحل إىل اهلل بشكوى هلا منه‪ ،‬فتتنازل عن تلك الشكوى‪.‬‬
‫استدعت ذاكريت تلقائ ًّيا عندما رأيت انطالقته إىل أمه‪ ،‬ذلك املشهد‬
‫عندما كان يتسلل للخروج من امللجأ بعدما مدد أمه عىل «الدكة» بعد‬
‫نعاسها عىل كتفه مطمئنة أنه معها‪ ،‬قد أهنكها الركض وراءه عندما أراد‬
‫اخلروج يف املرة األوىل‪ ،‬اآلن يركض إليها يف وقت ربام لن تسعد بذلك‬
‫الركض ولن تشعر به‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫«نشعر هبم وبفقدهم عند رحيلهم‪ ،‬وكأهنم مل يكونوا بيننا أيا ًما‬
‫وسنوات كنا وقتها نفضل أشيا ًءا أخرى عن اجللوس معهم»‬
‫متذكرا كل وفائها ونكرانه‪،‬‬
‫ً‬ ‫أخذ يتمتم إىل أمه بصوت خيتلط بالبكاء‪،‬‬
‫عل ضمريه يسرتيح‪ ،‬ينادي عىل أمه كي‬ ‫جيلد نفسه بحقيقتها عىل املأل َّ‬
‫تصحو من غفلتها‪ ،‬خيربها بأهنا ستذهب إىل ما كانت تتمنى‪ ،‬وأنه جهز هلا‬
‫عل ذلك يوقظها‪ ،‬لكنها قد ذهبت‪ ،‬تلك النفس التي كانت‬ ‫غرفة يف بيته‪َّ ،‬‬
‫تشتاق‪ ،‬وأتى املاء بعد بوار الزرع‪.‬‬
‫انتابته حالة هيسرتية من ندم نفسه‪ ،‬ونحن نحاول هتدئته‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ـ كانت تصاب بالرصع من أجيل‪ ،‬كيف أكون هادئًا يوم رحيلها؟!‬
‫أمي مل تكن مريضة‪ ،‬بل أنا املريض‪ ،‬كيف تكون مريضة وكانت تنسى‬
‫كل الدنيا وتتذكرين فقط؟ زهايمرها كان من أجيل‪ ،‬وعافيتى كانت عليها‪،‬‬
‫إن كانت عافية‪ ،‬أي عافية هذه تذكرين بكل الناس وتنسيني أمي؟! لقد‬
‫كنت يف شدة مرض اجلحود والنكران‪.‬‬
‫حاولنا أن نخرج به ملا زادت حالته‪ ،‬لكنه أبى أن خيرج مرة أخرى‬
‫دون أمه‪ ،‬وعزم أال يربح مكانه بجوارها‪.‬‬
‫كانت حالته قريبة جدًّ ا مما كان ينتاب والدته‪ ،‬وهي ختشى أن يرتكها‪.‬‬
‫جلس عىل األرض وأرسه عىل حافة رسيرها‪ ،‬قد اجتمع عليه احلزن‬
‫واإلرهاق الشديدين‪ ،‬فقد جاء من عمله علينا‪ ،‬والساعة اآلن جتاوزت‬
‫صباحا وهو يأبى الذهاب‪ ،‬وأنا يف حرج من أن أتركه عىل هذه‬
‫ً‬ ‫الواحدة‬
‫احلال‪ ،‬جئت بطعام‪ ،‬فأبى أن يأكل معي وعامل األمن‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫دورا كانت تقوم به‬
‫وكأنه بوضعه هذا وجلسته هذه يتبادل مع والدته ً‬
‫سل ًفا‪ ،‬عله تذكر يف هذا الوقت أمه عندما كانت جتلس بجواره وهو يذاكر‬
‫يف ليايل امتحانات الثانوية العامة يغلبها النعاس‪ ،‬لكنها تأبى أن تنام دون‬
‫ولدها‪ ،‬وتأبى الطعام حتى يأكل هو‪ ،‬وهو الذي زهدت نفسه يف الطعام‬
‫خو ًفا من اختباره بالغد‪.‬‬
‫أو لعله تذكر يو ًما ُو ِعك فيه وكانت أمه عىل رأسه بكامدات املاء‬
‫البارد‪ ،‬أنَّى يأتيها النوم وابنها مريض!‬
‫ظل عىل هذه احلال حتى ُرفع أذان الفجر‪ ،‬قد اخرتق جدران امللجأ‬
‫أذان ِ‬
‫أذ َن اهلل به أن تُرفع هذه‬ ‫حتى يأيت إىل أسامعنا بذلك الصوت الندي‪ٌ ،‬‬
‫الروح إىل السامء حتى يطلع عليها هنار يوم جديد يف مكان آخر‪ ،‬وكأنه‬
‫قد انتهى ليلها املظلم‪.‬‬
‫صعدت روحها إىل بارئها يف مشهد قد امتزجت فيه األديان لإلنسان‬
‫يف لوحة طبيعية غري مصطنعة‪ ،‬فهذا هو االبن ماسكًا ملصحفه يتلو عىل أمه‬
‫آيات اهلل وعينه تفيض بالدمع يف حجرة حماطة باللوحات والرسومات‬
‫املسيحية الكاثوليكية‪ ،‬وهذا «ألفونس» يستيقظ من نومه عىل ذلك اخلرب‬
‫املفجع؛ فيقوم عىل سجيته يدعو الرب أن حيفظها‪ ،‬كالذي كان من النبي‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬عندما هنض من جلسته عند مرور جنازة هيودي‬
‫نفسا؟‬
‫أمامه‪ ،‬فقالوا له‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إنه هيودي‪ .‬فقال‪ :‬أوليست ً‬
‫تأت لتفرقة البرش بعضهم عن بعض‪ ،‬ومل تأمر معتنقيها‬ ‫األديان مل ِ‬
‫بأن يكونوا منعزلني عن اآلخر‪ ،‬كل ذلك من فعل املنتسبني الذين بعدوا‬
‫بتدينهم املغلوط عن الدين‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫كان قد عزم أال خيرج هذه املرة إال بوالدته‪ ،‬صدّ ق القدر عزمه‪ ،‬لكنه‬
‫أيضا عزمت عىل‬
‫لن خيرج هبا إىل بيته‪ ،‬بل إىل بيتها الثاين‪ ،‬قربها‪ ،‬وكأهنا ً‬
‫أال تثقل عىل أحد حتى وإن كان ابنها‪.‬‬
‫انتهى ذلك اليوم الشاق عىل البدن‪ ،‬الكئيب عىل النفس‪.‬‬
‫انتهى‪ ،‬بعد أن وارينا جسد احلاجة «أمينة» الرتاب‪ ،‬بعدما صلينا‬
‫عليها الظهر‪ ،‬خرجت من امللجأ محُ مولة عىل أعناق بِ ْض َع ِة شباب‪ ،‬من‬
‫شباب التكليف العميل‪ ،‬الذين أتوا يف الصباح لقضاء يوم جديد من‬
‫أيام تكليفهم‪ ،‬فرأونا ونحن عىل هذه احلال جمتمعني حول جسد احلاجة‬
‫«أمينة» فأبوا إال أن خيرجوا معنا حاملني النعش بجوار ولدها‪ ،‬املثقل‬
‫بالندم قبل جثامن والدته الذي حيمله‪.‬‬
‫انتهت اجلنازة قليلة العدد‪ ،‬أتى املهندس «عمر» ليشكرين عىل تعبي‬
‫ووقويف معه يف الليلة املاضية‪ ،‬قلت يف نفيس إن كان هناك إرهاق بدين‪،‬‬
‫حتم سيزول بمجرد الراحة‪ ،‬أما ذلك اإلحساس بالتقصري‪ ،‬فإننا مل‬ ‫فهو اً‬
‫نستطيع تلبية رغبة بسيطة للحاجة «أمينة» قبل رحيلها‪ ،‬سيظل يالزمني‬
‫كلام تذكرهتا‪ ،‬وجرب ذلك لن يكون إال بالتفكري يف الذين ما زالوا عىل قيد‬
‫أيضا عىل تأخرنا معهم‪.‬‬ ‫احلياة‪ ،‬قبل أن يرحلوا ونندم ً‬
‫عدت إىل املنزل‪ ،‬يشتاق هذا البدن املنهك إىل مضجعه كي يستلقي‬
‫عليه بطمأنينة‪.‬‬
‫مددت جسدي عىل فرايش‪ ،‬يف حوايل الساعة الثانية بعد الظهر‪ ،‬بعد‬
‫ُ‬
‫أن تناولت بعض اللقيامت‪ ،‬مل أفق من نومتي هذه إال الساعة احلادية‬
‫عرشة مسا ًء‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫اتصلت عىل «مارسيل» كي أخربها بعدم ذهايب يف الغد للملجأ‪،‬‬
‫فليس هناك سبب رضوري للذهاب‪ ،‬ما دام األمر سيظل عىل ما تريد‬
‫عاجزا عند أناس ينتظرون مني‬
‫ً‬ ‫تلك الراهبة املتسلطة‪ ،‬فال أحب الوقوف‬
‫الكثري‪ ،‬ال أستطيع التأقلم مع عدم الفعل وما تريده الراهبة‪ ،‬وال أستطيع‬
‫الفعل‪.‬‬
‫وافقتني «مارس��يل» عىل إجازتى‪ ،‬بل وشجعتني عليها‪ ،‬لراحتي عىل‬
‫حد قوهلا؛ ملا ش��عرت به من إحباطي ويأيس من نربة صويت أثناء مهاتفتي‬
‫هلا‪.‬‬
‫تنس يف النهاية‪ ،‬أن تشدد «مداعبة» أنه يوم واحد‪ ،‬وغري ذلك‬
‫لكنها مل َ‬
‫ستدونني غيا ًبا بدون إذن‪ ،‬ثم أردفت‪:‬‬
‫ـ امللجأ ينتظر عودتك يا بطل بعد غد‪.‬‬
‫بطل! أي بطولة حققتها منذ جميئي امللجأ؟! كان ذلك صوت نفيس‬
‫املستنكر بنعتي بالبطل‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫(‪)11‬‬
‫«اللني ليس معناه التسيب‪ ،‬االبتسامة ال تقلل من درجة‬
‫حزما‪ ،‬إبداء الرأي واملشورة‬
‫االحرتام‪ ،‬عبوس الوجه ليس ً‬
‫كرسا وال تعد ًيا عىل قوانني امللجأ»‬
‫ليس ً‬

‫‪89‬‬
‫مل أذهب إىل امللجأ يف ذلك اليوم‪ ،‬لكن امللجأ مل يذهب عني‪ ،‬ومل‬
‫أسرتح‪ ،‬عىل األقل الراحة النفسية التي كنت أنشدها‪ ،‬بل زاد استيائي‬
‫ٍ‬
‫بتمعن وهدوء‪ ،‬ملاذا نرتيض االنصياع لديكتاتورية‬ ‫عندما فكرت يف األمر‬
‫تلك األم؟ هل ننتظر أن حيدث لباقي املسنني ما حدث للحاجة «أمينة»؟‬
‫ليس هناك متسع من الوقت هلؤالء املسنني‪ ،‬فالباقي هلم أقل بكثري مما‬
‫مىض‪ ،‬ال ينبغي أن يظل ما تبقى هلم من أيام رهن تلك األم وهي التي‬
‫حرمتهم حقوقهم فيام انقىض من عمرهم‪.‬‬
‫حتفزت وقررت وأنا عىل هذه احلال امليض قد ًما فيام قد اتفقت عليه مع‬
‫«مارسيل» من قبل‪ ،‬ولكنني سأميض فيه بمفردي‪ ،‬فليس لدي ما أخشاه‪،‬‬
‫غري تلك الدرجات التي ما فكرت هبا من األساس يف هذا التكليف‪ ،‬ومل‬
‫نجاحا فقط فيه‬
‫ً‬ ‫تكن يو ًما هد ًفا يل عن التدريب احلقيقي العميل‪ ،‬وإن كان‬
‫يرضيني‪ ،‬وذلك يضمنه يل جمرد حضوري‪ ،‬أما «مارسيل» فلدهيا ماختشاه‪،‬‬
‫وهو وظيفتها‪ ،‬وهي بالتأكيد يف احتياج هلا‪ ،‬يف وقت عز فيه احلصول عىل‬
‫وظيفة؛ لذلك لن أطلب منها معاونتي‪ ،‬بعد الرفض الرصيح من األم‪..‬‬
‫قررت أن أبدأ يف ثاين بند كنا قد وضعناه للتحرك فيه بعد حالة احلاجة‬
‫«أمينة» وهو التجمع باملس��نني ورفع شكواهم ومالحظاهتم عن الطعام؛‬
‫حي��ث إنه أقل القلي��ل أن يؤخذ رأهيم فيام يأكلون‪ ،‬وفيام يش��تهون تناوله‬

‫‪91‬‬
‫أيض��ا‪ ،‬ووضعه يف جدول‪ ،‬وتنفي��ذ ما تيرس منه عىل األي��ام‪ ،‬خاصة وأنه‬
‫ً‬
‫كام علمت من «مارس��يل» أن الظ��روف املالية وخزينة امللجأ ال حتول بني‬
‫ذلك وما يشتهون عىل اإلطالق‪ ،‬لكنه التعنت املقصود؛ إمعانًا يف التحكم‬
‫والتسلط‪.‬‬
‫انطلقت إىل امللجأ يف اليوم التايل ليوم إجازيت‪ ،‬ذاه ًبا بإرصاري وعزمي‬
‫حجرا يف املياه الراكدة‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن أفعل فيه شي ًئا‪ ،‬أو ألقي‬
‫دخلت إىل «مارسيل» ألقيت عليها السالم‪ ،‬وكانت تغلق حجرهتا‬
‫كي خترج‪ ،‬ربام لقضاء يشء إداري للملجأ باخلارج‪ ،‬فكانت حتمل حقيبة‬
‫أيضا بعدم‬
‫حمملة باألوراق‪ ،‬وكأن القدر يرتب يل املشهد‪ ،‬فكنت أرغب ً‬
‫تواجدها يف ذلك الوقت حتى ال تؤخذ بام سنفعل لو أغضب ذلك األم‬
‫«مارية» رغم اقتناعي التام بأنني لن أفعل خطأ‪.‬‬
‫مررت عىل أصدقائي من املعهد الذين يقضون معي فرتة التكليف‪،‬‬
‫أتوقع أن يكون هلم دور‪ ،‬ال سيام وأهنم ما زالوا متأثرين بموت احلاجة‬
‫«أمينة» واشتياقها كي تعود لبيت ابنها‪ ،‬فهذا هو الوقت املناسب الستثامر‬
‫ذلك التأثر منهم يف عمل يشء إجيايب للذين مازالوا عىل قيد احلياة‪.‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬وكام توقعت‪ ،‬استجاب جلهم إن مل يكن كلهم ملساعديت‪،‬‬
‫فجمع كل منهم من سيستوعب من حاالته ما سنقول‪ ،‬ومن عنده الرغبة‬
‫يف التحدث وإبداء الرأي‪ ،‬فكانت املفاجأة هي استجابة أكثر من يف امللجأ‪،‬‬
‫حتى بعض أصحاب املرض العقيل والنفيس أتوا وإن كانوا ليتواجدوا مع‬
‫اجلمع فحسب‪ ،‬وهم ربام ال يعلمون عن أي يشء يتحدثون‪.‬‬
‫حتلقنا يف حلقة كبرية عىل أرض صالة امللجأ‪ ،‬بدأ نقاشنا‪ ،‬وكأن براكني‬

‫‪92‬‬
‫قد فتحت هلا فواهات كى تتحدث‪ ،‬فاهنالت علينا الشكاوى‪ ،‬من سوء‬
‫الطعام وسوء حتضريه‪ ،‬وطريقة تقديمه‪ ،‬والتي قال عنها أحدهم وكأنه‬
‫طعام يقدم إىل دجاج‪ ،‬فيوضع «الطبيخ» عىل األرز عىل أي يشء ثالث يف‬
‫طبق واحد‪ ،‬ومنهم من اشتكى من املواعيد‪ ،‬فكانت وجبة العشاء تُقدم‬
‫عرصا؛ ألن الطهاة ينرصفون عن امللجأ يف ذلك الوقت‪،‬‬
‫هلم الساعة الثالثة ً‬
‫وهو نفسه ما تناولوه يف الغداء الساعة الثانية عرشة‪ ،‬والفطور فقط الذي‬
‫صباحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يكون يف الصباح هو املختلف‪ ،‬وهو يف الساعة التاسعة‬
‫عرصا‪ ،‬فمنهم من يرتكه إىل الليل‬
‫يأتيهم العشاء يف هذا الوقت‪ ،‬الثالثة ً‬
‫كي يتعشى به فيأكله بار ًدا قد تعجن؛ ألنه غال ًبا ما يكون أصنا ًفا فوق‬
‫بعضها ال تعرف ما هي‪ ،‬أو من املمكن أن يصيبه التلف؛ فيحمض خاصة‬
‫إن كان يف الصيف‪.‬‬
‫ومنهم من يأكله وهو ساخن حتى وإن مل يكن جائ ًعا حتى ال يتلف‬
‫إذا تركه إىل الليل؛ فيكون قد خرسه‪ ،‬فيفضل أن يأكله وإن كان شبعان‬
‫حتس ًبا جلوعه بالليل‪.‬‬
‫كان هناك الكثري من املآخذ والشكاوى التي هي يف طبيعة احلال بعيدة‬
‫كل البعد عن الرفاهية‪ ،‬بل هي الفرق بني اآلدمية والال آدمية‪ ،‬أشياء ال‬
‫حتتاج إىل كثري من املال‪ ،‬فقط حتتاج إىل إنسانية يف معاملة إنسان‪.‬‬
‫بينام نحن كذلك عىل اجتامعنا‪ ،‬جالس��ون ع�لى األرض‪ ،‬فإذا هبا فوق‬
‫رؤوس��نا بوج��ه متجهم يب��دو عليه الغضب الش��ديد‪ ،‬ق��د انتفضت كل‬
‫عروق وقس�مات وجهها من الغيظ‪ ،‬فصاحت فينا بصوت حاد متناس��ق‬
‫مع ما ظهر عىل وجهها‪:‬‬

‫‪93‬‬
‫ـ «ما هذه الفوىض؟ كل نزيل إىل رسيره‪ ،‬لن يكون لكم اليوم خروج‬
‫للرتيض‪ ،‬موعد النوم بدأ من اآلن‪ ،‬من سأجده منكم بعد اآلن يف هذه‬
‫الصالة أو خارج عنربه سيعاقب بغسل كل أطباق وأواين امللجأ‪ ،‬الكل‬
‫عىل رسيره‪ ،‬الكل عىل رسيره‪.‬‬
‫لن يكرس أحد قوانني امللجأ‪ ،‬ولن أسمح أبدً ا بالفوىض هنا»‪.‬‬
‫فإذا بالكل ينفض من حويل أنا وزمالئي‪ ،‬منكسني رؤوسهم إىل‬
‫األرض ال حيلة هلم‪ ،‬فهم أعلم بمدى قدرهتا عىل تنفيذ ما هددت به؛ من‬
‫جتارهبم السابقة معها؛ لذا فال لوم عليهم‪.‬‬
‫مل أستطع أن أحتمل أكثر من ذلك‪ ،‬وإن كان زمالئي من حويل حياولون‬
‫إبعادي‪ ،‬ومنعي من أي حديث معها وأنا عىل هذه احلال لعلمهم بام‬
‫سيكون‪ ،‬ولكن األمر كان فوق االحتامل‪ ،‬خاصة وهي هتددهم كتالميذ‬
‫يف مدرسة ابتدائية‪ ،‬تأمرهم أن يذهبوا إىل فصوهلم ومتنعهم من «الفسحة»‬
‫صغارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫دون أدنى مراعاة لسنهم وال نفوسهم‪ ،‬حتى وإن كانوا اطفالاً‬
‫فال يليق هذا األسلوب معهم‪ ،‬فضلاً عن أهنم مسنني يف أرذل العمر‪..‬‬
‫حاول��ت امتصاص غضب��ي‪ ،‬وضبط نف�سي؛ فتحدث��ت إليها هبدوء‬
‫وتأخريا‬
‫ً‬ ‫حرصا آلخر الوقت عىل ذلك اخليط الرفيع بيني وبينها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أتكلفه؛‬
‫لصدام قد يعيق كل ما أرنو إليه‪ ،‬فقلت هلا‪:‬‬
‫ـ يا س��يديت‪ ،‬اللني ليس معناه التس��يب‪ ،‬االبتس��امة ال تقلل من درجة‬
‫كرسا‬
‫االح�ترام‪ ،‬عبوس الوج��ه ليس حز ًما‪ ،‬إبداء الرأي واملش��ورة ليس ً‬
‫ِ‬
‫حيب��وك وأن ينفذوا‬ ‫تعارضا بني أن‬
‫ً‬ ‫وال تعد ًي��ا عىل قوان�ين امللجأ‪ ،‬لي��س‬
‫تعليامتك‪ ،‬بل املحب ملن حيب مطيع‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫مل تعقب وتعمدت جتاهىل كأهنا مل تسمع‪ ،‬فأردفت هلا بنربة رجاء أن‬
‫تسمع‪:‬‬
‫ـ س��يديت‪ ،‬فارق كب�ير أن تكوين القائ��دة هلم عن تزكي��ة منهم وحب‬
‫ورض��ا‪ ،‬وأن تك��وين القائدة عن خوف منهم وتس��لط منك‪ ،‬ففي األخري‬
‫إن وجدوا الفرصة فستكونني أول من يقتصون منها‪ ،‬أما األوىل إن مسك‬
‫مكروه‪ ،‬فهم أول املضحني واملدافعني عنك‪.‬‬
‫ـ إذن أنت زعيم تلك الفوىض‬
‫م��ن أنت حت��ى تعدل علين��ا عملنا وتُن ّظ��ر يل؟ من أنت؟ لن أس��مح‬
‫لطيش ش��بابك وعدم فهمك أن يقيض عىل نظام وقوانني امللجأ‪ ،‬س��أهني‬
‫لك تكليفك‪ ،‬ومن سيكون عىل شاكلتك من باقي ا ُملكلفني‪.‬‬
‫يف هذه اللحظات‪ ،‬قد وصل الغضب بداخيل إىل أعىل درجاته‪ ،‬فكنت‬
‫أدفع هؤالء الزمالء الذين حياولون إيقايف عن الرد عليها‪ ،‬وأنا أتقدم‬
‫نحوها غاض ًبا قد تفلتت مني األعصاب‪:‬‬
‫ـ من أنا؟ أنا إنسان فقط‪ ،‬تلك اإلنسانية التي ال تعرفني عنها شي ًئا‪،‬‬
‫أنت لتعطي‬ ‫أو ربام غادرت قلبك ملا فارقته احلياة‪ ،‬السؤال األصح‪ :‬من ِ‬
‫لك أن تتعاميل هكذا‬ ‫لنفسك حق التسلط عليهم وإذالهلم؟ من سمح ِ‬ ‫ِ‬
‫شئت‪،‬‬‫لك تتحكمني فيه‪ ،‬أو أنعاما تسوقينها كيف ِ‬ ‫معهم؟ هم ليسوا إر ًثا ِ‬
‫ً‬
‫هم أناس مثلك‪ ،‬هم أرواح كرمها اهلل‪.‬‬
‫ـ أنا رئيسة ذلك امللجأ‪ ،‬وأنا الراهبة األم‪ ،‬أهيا اجلاهل‪.‬‬
‫راهبة‪ ،‬أي رهبانية هذه؟ هم أكثر رهبانية منك‪ ،‬فقد ُجردوا هنا من‬
‫ِ‬
‫بداخلك حب‬ ‫ترفهم‪ ،‬فضلاً عن أدنى احتياجاهتم كبرش‪ ،‬أما ِ‬
‫أنت فام زال‬

‫‪95‬‬
‫السيادة والقيادة التي ال حتبني أن ينازعك فيها أحد‪ ،‬مل تتجردي من لذة‬
‫السلطة والتحكم‪ ،‬تأكلني ما تريدين وخترجني وقتام تشاءين‪ ،‬حتت حجة‬
‫توفري ما يتطلبه امللجأ‪.‬‬
‫ىف هذا الوقت استشاطت غض ًبا من ردودي التي مل تكن تتوقعها‪،‬‬
‫فالكثري كان يتحاشى مواجهتها‪ ،‬فلم تتعرض لذلك من قبل‪.‬‬
‫عال عىل األمن‪ ،‬وعىل «مارسيل» والتي‬ ‫فأخذت ترصخ بصوت ٍ‬
‫وأيضا تصيح‬
‫كانت خارج امللجأ‪ ،‬نادت عليها حتى تأيت وتنهي تكليفي‪ً ،‬‬
‫َّيف أن اخرج خارج امللجأ‪ ،‬وأهنا سرتسل خطاب إهناء تكليفى إىل كليتي‬
‫يف الغد لسوء أديب وسلوكي‪.‬‬
‫اجتمع األمن وبعض العاملني عىل وقع صياحها‪ ،‬فوجدتني بني مجع‬
‫كبري من زمالئي والعاملني هناك‪ ،‬والكل يطالبني باخلروج إمخا ًدا هلذا‬
‫املوقف‪ ،‬وحتى يتوقف رصاخها الذي أصبح بشكل هيستريي‪.‬‬
‫مل أجد سبيلاً بعد كل هذا إال اخلروج‪ ،‬احرتا ًما لطلب من هو أكرب مني‬
‫من العاملني وأفراد األمن بامللجأ‪ ،‬والذين كانوا يف حرج شديد بني تنفيذ‬
‫ما تأمرهم به من إلقائي باخلارج‪ ،‬وبني معرفتي هبم والتي اشتدت وثو ًقا‬
‫يف األيام األخرية‪ ،‬فام كان مني إال اخلروج؛ رف ًعا لذلك احلرج عنهم‪.‬‬
‫ع��دت إىل البي��ت‪ ،‬وما زالت تناتبن��ي تلك احلالة م��ن التوتر وفقدان‬
‫األعصاب‪ ،‬مع انخفاض درجة حرارة أطراف يدي؛ من شدة انفعايل‪.‬‬
‫نمت حتى الليل‪ ،‬استيقظت يف الساعة احلادية عرشة مسا ًء‪ ،‬فتحت‬
‫هاتفي‪ ،‬فإذا بمحاوالت اتصال كثرية من «مارسيل» كنت قد أغلقت‬
‫اهلاتف مما اعرتاين من ضيق‪ ،‬فكنت يف حالة ال تسمح يل بالتحدث‪ ،‬حتى‬

‫‪96‬‬
‫يف منزيل‪ ،‬كان ذلك ملحو ًظا من أرسيت‪ ،‬وقد كثرت أسئلتهم يل يف هذا‬
‫الصدد‪ ،‬ماذا يب وما سبب ضيقي؛ األمر الذي هتربت منه بالنوم؛ معللاً‬
‫ذلك باإلرهاق‪.‬‬
‫اتصلت عىل «مارسيل» فور تنشيطى هلاتفي‪ ،‬فال بد أنه أمر متعلق‬
‫بام حدث وإن كانت هي مل حترض‪ ،‬لكن بالتأكيد علمت بعد عودهتا إىل‬
‫امللجأ‪ ،‬فاألمر جلل‪.‬‬
‫أعربت يل يف بداية حديثها عن استغراهبا الشديد ملا حدث‪ ،‬وأهنا‬
‫وسأفوت تلك الفرصة‬ ‫ِّ‬ ‫كانت تثق بأنني سأكون أكثر من ذلك حتملاً ‪،‬‬
‫عىل األم «مارية» فكان ردي عليها‪ ،‬األمر كان أكرب من أن يحُ تمل‪ ،‬ولست‬
‫ناد ًما عىل ردي عليها‪ ،‬كل حزين أنني من املؤكد لن أستطيع العودة إىل‬
‫امللجأ مرة أخرى‪ ،‬ولن أستطيع فعل يشء مما كنت أمتناه جتاه املسنني‪.‬‬
‫ث��م ذكرتني ب�شيء آخر مل أك��ن أعمل له أي حس��اب م��ن قبل‪ ،‬وإن‬
‫كن��ت أعلم��ه‪ ،‬وهو أن األم «مارية» س��تنهي تكليفي حتت س��بب س��وء‬
‫أيضا‬
‫أديب والتع��دي ع�لى إدارة امللج��أ؛ وهو ما سيتس��بب يل يف مش��كلة ً‬
‫يف دراس��تي؛ حيث إن نتيجة التكليف تعترب ه��ي نتيجة االختبار العميل‪،‬‬
‫وعليه درجات‪ ،‬وسبب مثل ذلك سيؤدي إىل رسويب‪.‬‬
‫ذكرتني بيشء كنت أتناساه عمدً ا وأهترب منه؛ فازداد حزين أن‬
‫اخلسارة من كل اجتاه‪ ،‬كان سيخفف من وطأة ذلك‪ ،‬لو كنت قد فعلت‬
‫شي ًئا يذكر يف حال امللجأ وحال املسنني هناك‪ ،‬عىل األقل سيكون هناك‬
‫يشء مقابل يشء‪ ،‬لكن يبدو أنني خرست كل يشء‪ ،‬سوى ضمريي وما‬
‫أراه ح ًّقا‪ ،‬رغم كل ما يب من سوء‪ ،‬لكن هذا املوقف ما أمحد نفيس عليه‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫عيل العهد بعدم العودة إىل امللجأ ال ليشء‬
‫تنس يف النهاية أن تأخذ ّ‬
‫مل َ‬
‫عيل فقالت‪:‬‬
‫سوى خلوفها ّ‬
‫ـ قد استعانت األم «مارية» برشكة أمن بدلاً من األمن القديم‪ ،‬والذين‬
‫حولتهم للتحقيق لرعونتهم معك عىل حد اهتامها هلم‪ ،‬وقد أخربت أفراد‬
‫األمن اجلديد باسمك‪ ،‬وأطلقت أيدهيم ألي تعامل معك بحجة أنك‬
‫تتعدى عىل امللجأ إن أتيت مرة أخرى‪ ،‬وذلك سبب قانوين يتيح لألمن‬
‫أي تعامل يرونه مناس ًبا حلامية املنشأة التي هم مسئولون عن حراستها‪.‬‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫كان لذلك العهد األثر الطيب عىل نفيس من «مارسيل» فكان‬
‫ً‬
‫تنفيذا‬ ‫عيل فقط وليس‬
‫جدًّ ا من صوهتا وتأكيدها أن الدافع هو خوفها ّ‬
‫ألمر من األم «مارية»‪.‬‬
‫عيل يف مثل هذه‬
‫ذلك ما دفعني يف هناية احلديث‪ ،‬وبجرأة غري معهودة ّ‬
‫أيضا يل عندك عهد حتى أحفظ عهدك لدي‪،‬‬
‫املواقف‪ ،‬أن أقول هلا‪ :‬وأنا ً‬
‫قالت‪:‬‬
‫ـ وما هو؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ـ أن يستمر تواصلنا‪ ،‬وإن كنت لن ِ‬
‫أراك يف امللجأ مرة أخرى‪ ،‬أحب‬
‫خارسا لكل يشء‪.‬‬ ‫دائم‪ ،‬فعاهديني عىل ذلك‪ ،‬حتى ال أكون‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫أن أراك اً‬
‫قالت‪:‬‬
‫ـ بل أنا من أترشف بذلك‪ ،‬أعاهدك‪.‬‬
‫ليس أمجل من ذلك ختا ًما جيعلني أتصرب عىل ما أصابني يف دراستي‪،‬‬
‫وفيام كنت أطمح يف حتقيقه‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫بعد تفكري‪ ،‬قررت عدم االستسالم ملا حيدث‪ ،‬عىل األقل يف األمر‬
‫املتعلق بدراستي‪ ،‬ال بد أن أذهب إىل أستاذي باملعهد الدكتور «مراد»‬
‫وأقص عليه ما حدث‪ ،‬وأستبق وصول ما سرتسله له األم «مارية» يف‬
‫إهناء تكليفي‪ ،‬ال بد أن أذهب إليه كي تكون الصورة واضحة أمامه‪،‬‬
‫أيضا يعرفني‬
‫فهو الدكتور املسئول عن التكاليف‪ ،‬وهو من وزعنا‪ ،‬وهو ً‬
‫جيدً ا‪ ،‬ويعرف مدى حبي لدراستي‪.‬‬
‫ذهبت إليه يف اليوم التايل مبارشة إلهناء تكليفي‪ ،‬قصصت عليه ما‬
‫عيل أنني مل أعلمه من قبل بكل هذه الظروف‪ ،‬حتى يتدخل‬ ‫حدث‪ ،‬الم ّ‬
‫هو وتوسط عند إدارة امللجأ إلمتام ما كنت أود إنجازه‪ ،‬لكنه يف النهاية‬
‫كثريا من روحي املعنوية بإبداء سعادته بام فعلت‪ ،‬وإن‬ ‫طمأنني‪ ،‬ورفع ً‬
‫كان يود أن لو تريثت قليلاً وأبلغته‪.‬‬
‫ذلك االطمئنان كان له بالغ األثر عىل نفيس‪ ،‬فهو أستاذي الذي أعتز‬
‫به‪ ،‬وكنت يف حاجة ماسة إىل أن أسمع ذلك من أحد يف مكانته‪ ،‬ففي‬
‫بعض الوقت‪ ،‬ورغم قناعتي ورضائي عام فعلت‪ ،‬إال أنه قد تسلل إ َّيل‬
‫بعض االهتزاز يف موقفي‪ ،‬فكنت أحتاج لذلك التثبيت‪ ،‬ال سيام وأنه‬
‫أيضا عىل درجات تكليفي‪.‬‬
‫طمأنني ً‬
‫ ‬

‫‪99‬‬

‫(‪)12‬‬
‫«كل مسلم دائماً مدان إىل أن يظهر العكس‪ ،‬واآلخر‬
‫بريء وإن ظهر العكس‪ ،‬ثم يتساءلون بعد ذلك عن سبب‬
‫الكراهية!»‬

‫‪101‬‬
‫مرت أيام‪ ،‬كنا بني يوم وآخر نتحدث‪ ،‬ختربين بحال أهل امللجأ‪ ،‬ويف‬
‫كل اتصال بيني وبينها‪ ،‬تنقل يل أشواق «ألفونس» يف أن يراين‪ ،‬ويدعوين‬
‫حتى لو ملجرد زيارة لدقائق معدودة‪ ،‬فقد أتعبني جدًّ ا قوله الذي عاهد‬
‫«مارسيل» عىل أن ترسله يل‪.‬‬
‫ـ أنت الوحيد من كنت تأتيني كل صباح وتسأل عني وتطئمن عىل‬
‫حايل‪ ،‬يف هذا الوقت فقط شعرت بمعنى األهل‪ ،‬أرجوك ال تزهد يف‬
‫زياريت‪.‬‬
‫ثم أردفت‪:‬‬
‫ـ وما حدث باألمس لـ«كرستني» جعله يدخل يف حالة من احلزن‬
‫الشديد واالكتئاب‪.‬‬
‫قلت هلا‪:‬‬
‫ـ طمئنينى عليها‪ ،‬ما الذي حدث؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ـ انزلقت وهي خارجة من املرحاض عىل ظهرها‪ ،‬ولكرب سنها؛‬
‫حدثت كسور يف أكثر عظام جسدها النحيف‪ ،‬وهي اآلن طرحية الفراش‪،‬‬

‫‪103‬‬
‫حتتاج لعمليات‪ ،‬ال تصلح مع كرب سنها‪ ،‬هي اآلن حتت املالحظة‪ ،‬ومعها‬
‫طبيب امللجأ‪.‬‬
‫وأيضا ملعرفتي بمدى عالقة‬ ‫حز يف نفيس جدًّ ا ما حدث لـ«كرستني» ً‬
‫«ألفونس» هبا توقعت مقدار أمله وحزنه‪ ،‬وددت جدًّ ا زيارهتا وحتقيق هذا‬
‫أيضا لـ«ألفونس» لكنه ما أصعبه يف تلك األيام بعد الذى‬ ‫الطلب اليسري ً‬
‫حدث بيني وبني الراهبة!‬
‫دائم كع��اديت‪ ،‬ليس يل ثواب��ت‪ ،‬غري املتاح باألمس رب�ما بعد تفكريي‬
‫اً‬
‫فيه طويلاً يكون ً‬
‫متاحا بعدما أس��وق لنفيس التربيرات التي حتتاجها‪ ،‬بعد‬
‫أستنتاجها من تفكريي الطويل‪.‬‬
‫كان من ذلك أن قررت فجأة أن تكون يل زيارة للملجأ! لمِ َ ال؟ كزائر‬
‫عادي‪ ،‬له مسن يزوره‪ ،‬وأنا يل أكثر من مسن أود االطمئنان عليه‪ ،‬ال‬
‫سيام «كرستني» وما أصاهبا‪ ،‬وهذه املرة ستكون غري رسمية‪ ،‬فقد انتهى‬
‫تكليفي‪ ،‬جمرد زائر ملسنني فحسب‪ ،‬أو حتى مثلام تفعل اجلمعيات اخلريية‬
‫يف زيارهتا للمالجئ‪ ،‬فهم يذهبون ليس ألن هلم أحدً ا‪ ،‬لكن ألن ذلك‬
‫خري‪ ،‬وإلدخال الرسور عىل املسنني‪ ،‬هكذا كانت مربرايت التي أوجدهتا‬
‫لنفيس حتى أقوم بيشء أرغب فعله‪.‬‬
‫أيضا أال أخرب‬
‫لكنني مل أحدد ذلك اليوم‪ ،‬لكنه سيكون قري ًبا‪ ،‬قررت ً‬
‫«مارسيل» لسببني‪ ،‬األول‪ :‬سأجعله مفاجأة هلا ولكل أهل امللجأ‪ ،‬الثاين‪:‬‬
‫دائم بعدما تبلغني طلب «ألفونس» لرؤيتي‪ ،‬تقول يل‪ :‬أبلغتك‬ ‫هو أهنا اً‬
‫ودائم ما كانت حتذرين من ذلك‪ ،‬وأن‬ ‫ِ‬
‫ألهنا أمانة‪ ،‬لكن أرجوك ال تأت‪،‬‬
‫اً‬
‫هناك أوامر ألفراد األمن اجلدد بعدم دخويل‪ ،‬والتعامل معي‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫ع�لي‪ ،‬إال أنني وجدت‬ ‫رغ��م صدقها ال��ذي أثق فيه‪ ،‬وأهنا فعلاً ختاف ّ‬
‫األم��ر أيرس م��ن ذلك‪ ،‬فأن��ا لن أذه��ب معتد ًيا ع�لى أحد‪ ،‬مل��اذا ُأمنع أو‬
‫يتعاملون معي‪ ،‬ثم إن امللجأ مفتوح لكل الزائرين‪ ،‬وأنا س��أذهب كزائر‪،‬‬
‫وحت��ى وإن مل يس��محوا يل بالدخ��ول‪ ،‬س��يكون ذلك بكل اح�ترام مثلام‬
‫سأكون حمرت ًما معهم‪ ،‬ولن يكون هناك أي مشكلة‪.‬‬
‫كان ذلك القرار يوم اإلثنني‪ ،‬وجاءين العزم عىل تنفيذه يف ليلة يوم‬
‫أيضا كان هناك اتصال بيني وبني»مارسيل»‬ ‫اخلميس‪ ،‬يف ذلك اليوم ً‬
‫لكنني مل أخربها‪ ،‬وأردت أن تظل مفاجأة‪.‬‬
‫يف صب��اح ي��وم اخلميس‪ ،‬توجه��ت إىل امللجأ‪ ،‬وعند أبواب��ه إذا بورقة‬
‫عليها اسمي وأنني ممنوع من الدخول‪ ،‬توجهت صوب األمن‪ ،‬أخرجت‬
‫هلم بطاقتي بدعابة ألهنم س�يرون االس��م‪ ،‬أنا هذا املكت��وب عىل الباب‪،‬‬
‫لكنن��ي أتيت يف زي��ارة قصرية لـ«ألفون��س» فإذا بأحده��م يدفعني دفعة‬
‫ش��ديدة عىل صدري مل أكن أتوقعها‪ ،‬كدت أن أقع عىل األرض‪ ،‬أسندت‬
‫نف�سي‪ ،‬أح��اول أن أتفهم منه س��بب ذل��ك‪ ،‬فإذا ب��ه يكررها بس��بي‪ ،‬إن‬
‫مل أذه��ب من هنا س��يفعل ويفعل‪ ،‬هن��ا مددت يدي فقط‪ ،‬حم��اولاً إبعاده‬
‫وصد دفعاته‪ ،‬فأمس��ك بعصا كانت بجاوره‪ ،‬فرضبني هبا أتت عىل بطني‬
‫وخرصي‪ ،‬هنا مل أجد ُبدًّ ا إال الدفاع عن نفيس؛ فاشتبكت معه‪ ،‬وأمسكت‬
‫العصا بيدي وهو يركل بقدمه‪ ،‬حتى أتى باقي أصحابه الذين كنت أظنهم‬
‫سيفضون هذا االشتباك بيني وبينه‪ ،‬ما إن قال هلم إنني من يريدون‪ ،‬حتى‬
‫عيل بالركالت وباللكامت القوية‪ ،‬حتى هتاويت حتتهم‪ ،‬مل أستطع‬ ‫تكالبوا ّ‬
‫التامسك من رضباهتم التي كانوا يوجهوهنا إ َّيل بكل قوة‪ ،‬غري مكرتثني إن‬
‫حتى ِم ُّت‪ ،‬توقفوا ع��ن الرضب‪ ،‬ليس رأفة بتوجعي‪ ،‬ولكن ملا أوجعتهم‬

‫‪105‬‬
‫أيدهيم من كثرة رضيب‪ ،‬كنت غائ ًبا عن الوعي‪ ،‬وإن كان ليس بشكل كيل‪،‬‬
‫وكأنن��ي يف كاب��وس مرعب‪ ،‬مل أختي��ل نفيس يو ًما أن أك��ون حتت األقدام‬
‫ُأركل‪ ،‬فاض��ت عيني بالدموع‪ ،‬ليس من ضع��ف‪ ،‬ولكن حزنًا عىل نفيس‬
‫أن أك��ون يف ه��ذا املوقف‪ ،‬وزاد ذل��ك اجلرح النفيس‪ ،‬عندم��ا قيدوين يف‬
‫حجرة األمن يف انتظار أن تأيت الرشطة كي تأخذين‪ ،‬وبالطبع ال تأخذهم‪،‬‬
‫كان ه��ذا أمر تلك املجرم��ة «مارية» عندما صعد إليه��ا أحد أفراد األمن‬
‫يس��توضح منها عام س��يفعلونه يب‪ ،‬مل يش��عر أحد ممن بامللجأ بام حدث إال‬
‫«غالية» هي فقط من رأتني يف لقطة وأنا أخرج من حجرة األمن إىل سيارة‬
‫الرشطة‪ ،‬لعل ذلك من حسن القدر‪ ،‬ما كنت أحب أبدً ا أن يراين أحد ممن‬
‫أحبهم وأنا عىل هذه احلال وذلك االنكس��ار‪ ،‬ذلك املوقف‪ ،‬مل ولن متحوه‬
‫األي��ام‪ ،‬بمجرد تذكري له ينقبض قلب��ى ويضيق صدري‪ ،‬وتُكتم بداخيل‬
‫أنفايس‪ ،‬وعيني ال أستطيع إيقافها من أن تبكي‪.‬‬
‫وصلت إىل قسم الرشطة القريب من امللجأ‪ ،‬وكان معي يف سيارة‬
‫عيل كشاهد ضدي‪ ،‬وهو من‬ ‫الرشطة أحد أفراد األمن الذين اعتدوا َّ‬
‫سيقوم بعمل املحرض‪.‬‬
‫دونام أي فرصىة للدفاع‪ ،‬كُتب املحرض‪ ،‬بام يمليه عىل الضابط‪ ،‬ذلك‬
‫املجرم من أفراد األمن‪ ،‬إذا حتدثت كي أنفي عني هتمة من هذه التهم‬
‫الكثرية‪ ،‬وجدت املنع والتكذيب من قبل الضابط‪ ،‬ذلك الضابط الذي‬
‫من املفرتض أن يكون عىل احلياد‪ ،‬فضلاً عن أن يكون مداف ًعا عن احلق‪.‬‬
‫ال عجب من ذلك‪ ،‬فكيف يل أن أحتدث وأنا املوصوف عىل ورقة‬
‫باإلرهايب الذي تعدى عىل امللجأ؛ ألنه قد ُطرد منه من قبل؛ لتعامله‬
‫بطائفية‪ ،‬مع تقديم اخلطاب املرسل إىل املعهد بإهناء تكليفي دونام دليل‬
‫عىل ما يقولون!‬

‫‪106‬‬
‫مل يكن الضابط يف هذا الوقت عىل استعداد أن يقتنع بأي من دفوعي‪،‬‬
‫بل مل يسمح يل هبا من األساس؛ ذلك أنه ال يوجد يف قاموسهم متطرف‬
‫سوى املسلم‪ ،‬حتى وإن كانت الدولة تزعم أهنا مسلمة‪ ،‬نعم هذه هي‬
‫احلقيقة التي كنت أسمع عنها وأحاول نفيها‪ ،‬أقوهلا وأنا أعيشها واق ًعا‪ ،‬ال‬
‫بدافع من الطائفية وال كراهية اآلخر‪ ،‬فام وصلت ها هنا إال حلبي لآلخر‪،‬‬
‫لن يستمع إ ّيل أحد وأنا أقول إن اإلرهابية هذه املرة‪ ،‬راهبة مسيحية‪،‬‬
‫وليس رجلاً ملتح ًيا أو امرأة منتقبة‪ ،‬رغم أن القاعدة تقول‪« :‬إن يف كل‬
‫مجاعة من الناس هناك الصالح والطالح‪ ،‬ويعرب اإلنسان عن نفسه ال عن‬
‫دين؛ ألنه ليس ثمة تنزيه عن اخلطأ ألي إنسان» لكن قاعدهتم تقول إن‬
‫هناك فئة منزهة عن اخلطأ ال تكون أبد ًا موضع شبهة أو اهتام‪..‬‬
‫دائم مدان إىل أن يظهر العكس‪ ،‬واآلخر بريء وإن ظهر‬
‫«كل مسلم اً‬
‫العكس‪ ،‬ثم يتساءلون بعد ذلك عن سبب الكراهية»!‬
‫ما حتدثت يو ًما بذل��ك اخلطاب‪ ،‬بل كنت أرفضه ممن يقوله‪ ،‬كام كنت‬
‫أكره��ه من بع��ض املس��يحيني الذين ال يظه��رون إال باملظلومي��ة‪ ،‬وأهنم‬
‫معت��دى عليهم‪ ،‬لكن ما عش��ته واق ًعا‪ ،‬جعلني ال أس��تحيي أن أصدح به‬
‫وإن نُع��ت بالطائفية‪ ،‬الطائفيون هم أولئك الضباط ومن عىل ش��اكلتهم‪،‬‬
‫الذين يؤمنون بأن هناك بعض التهم ال تكون إال لبعض الناس‪ ،‬بنا ًء عىل‬
‫دينهم‪ ،‬وأحيانًا شكلهم‪.‬‬
‫بت ليلة يف القسم وأنا مثخن من رضباهتم‪ ،‬مظلوم باهتامهم‪ُ ،‬عرضت‬
‫يف اليوم التايل عىل النيابة‪ ،‬يف مشهد أشد قساوة من ذلك الذي خرجت به‬
‫من امللجأ إىل القسم‪ ،‬حيث أيب وأمي باخلارج‪ ،‬بجوارمها «مارسيل» وأنا‬
‫«مكلبش» اليدين أصعد عربة الرتحيالت بجوار املسجلني واملجرمني‪،‬‬
‫وربام املظلومني من الشباب أمثايل‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫عيل وكيل النيابة التهم املنسوبة إ ّيل‪ ،‬ثم‬
‫ُعرضت عىل النيابة‪ ،‬قرأ ّ‬
‫طالبني بالتعليق عليها والدفاع عن نفيس‪ ،‬ترك يل كل الوقت كي أحتدث‬
‫بام أحب‪ ،‬لكنه قال يل يف النهاية هم أتوا باألدلة عىل كالمهم‪ ،‬ورقة إهناء‬
‫تكليفك وأنت مقبوض عليك عندهم وأنت تتعدى عليهم‪ ،‬ما الذي‬
‫جيعلني أصدق ما تقول؟ أين أدلتك؟‬
‫_ أين أدلتى؟! أنا شاب مسامل‪ ،‬مل أحتط بأدلة‪ ،‬وكيف أحتاط وأنا‬
‫ذاهب إىل زيارة مسنني؟!‬
‫عيل قائلاً ‪:‬‬
‫رد ّ‬
‫وأيضا‬
‫ـ صعوبة موقفك أن اخلصم مؤسسة تابعة للغرب يف أصلها‪ً ،‬‬
‫مسيحية‪ ،‬وأنت مسلم‪ ،‬كل ذلك جيعلنا يف حرج‪ ،‬مثل هذه القضايا تكون‬
‫شائكة ألهنا طائفية‪.‬‬
‫قلت له‪:‬‬
‫عذرا‬
‫ـ هل مرصيتي التي أنا تابع هلا أقل من مؤسسة تابعة للغرب؟! ً‬
‫سيدي الوكيل‪ ،‬كنت أمتنى أن يكون العدل فقط هو العنوان دون النظر‬
‫إىل التبعية‪.‬‬
‫رد قائلاً ‪:‬‬
‫ـ وأنا ليس يل عنوان سوى العدل‪ ،‬والعدل حيتاج إىل أدلة‪ ،‬إذا أتيت‬
‫هبا لن أتوانى حلظة من تربئتك‪ ،‬حتى وإن كان خصمك فرنسا ذاهتا‬
‫وليست مؤسسة تابعة هلا‪.‬‬
‫رد دبلوم��ايس منه‪ ،‬أصلح ب��ه بعض ما فهمت من قول��ه األول‪ ،‬وإن‬

‫‪108‬‬
‫كان مل ينفه بداخيل‪ ،‬لكن حماولة التصليح هذه أفضل من ثباته عىل ما قال‪.‬‬
‫قرارا بحبيس أربعة أيام‬
‫كانت الصدمة بعد هذا السجال‪ ،‬أنه أصدر ً‬
‫عىل ذمة التحقيق‪.‬‬
‫بعد خروجي من حجرة التحقيق‪ ،‬سمح يل الضابط املرافق بالتحدث‬
‫مع والدي‪ ،‬والذي علم بكل ما حدث من «مارسيل» والتي أكدت يل‬
‫أهنا ستكون دليلاً معي يف اجللسة القادمة‪ ،‬وطالبتني أن أطلب من وكيل‬
‫النيابة يف املرة القادمة أن يسمع أقواهلا‪.‬‬
‫عيل كسنوات‪ ،‬ال أصدق ما حدث يل‪،‬‬ ‫مرت هذه األيام األربعة َّ‬
‫أصبحت يف ظرف أيام إرهاب ًّيا ومعتد ًيا‪ ،‬بل وسجينًا‪ ،‬صورة أيب وهو أمام‬
‫عيل ال تفارقني‪ ،‬حايل‬
‫القسم وهو يشاهدين بـ«كلبشات» اليدين وحرسته ّ‬
‫وأنا بني أقدامهم متهاو ًيا من لكامهتم يؤملني أكثر من آالم لكامهتم نفسها‪.‬‬
‫انقضت األربعة أيام‪ ،‬ركبت تلك السيارة املهينة للمرة الثانية‬
‫بنفس القيد عىل يدي‪ ،‬أحرض أيب معه املحامي‪ ،‬دخلت للعرض عىل‬
‫وكيل النيابة‪ ،‬وأول ما بدأنا التحقيق‪ ،‬طلب املحامي املرافق يل سامع‬
‫أقول املرشدة النفسية للملجأ األستاذة «مارسيل» أمر وكيل النيابة‬
‫استدعاءها من اخلارج‪ ،‬دخلت وحكت عني أكثر مما كنت أحكيه عن‬
‫نفيس‪ ،‬وضحت كل احلقائق للنيابة‪ ،‬وقالت لو أرادت النيابة زيارة امللجأ‬
‫وسؤال املسنني سيكون ذلك أوقع‪ ،‬تعجب وكيل النيابة من أهنا مسيحية‬
‫وتدافع عن شاب مسلم ضد مسيحية وليست أي مسيحية‪ ،‬بل راهبة‪.‬‬
‫كان ردها عليه‪:‬‬
‫ـ ما العجيب ىف ذلك‪ ،‬وقويف مع احلق ال خيرجني من دينى‪ ،‬ودفاعى‬
‫عن مسلم مظلوم‪ ،‬ال يتعارض مع مسيحيتي‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫بعد سامعه لشهادة «مارسيل»‪ ،‬والتى اهتمت فيها بالدفاع عني أكثر‬
‫من اهتام «مارية» وكنت أتفهم ذلك‪ ،‬وكفاين منها أهنا بادرت بذلك ومل‬
‫َ‬
‫ختش عىل وظيفتها‪.‬‬
‫بعد سامع وكيل النيابة لتلك الشهادة؛ أمر بإطالق رساحي من رساي‬
‫عيل أصعب‬
‫عيل يف حيايت‪ ،‬والتي ال أظن أن يمر ّ‬
‫النيابة‪ ،‬لتمر أشد املحن ّ‬
‫منها‪.‬‬
‫عدت إىل منزيل بعد تلك املعاناة الشديدة وقد تغريت مفاهيم كثرية‬
‫لدي‪ ،‬ظللت أيا ًما ال أستطيع التفكري إال يف هذه املحنة‪ ،‬ال أستطيع‬
‫كثريا عندها‪ ،‬يف هذه األيام‪ ،‬مل ترتكني «مارسيل»‬
‫جتاوزها‪ ،‬توقفت حيايت ً‬
‫وحدي‪ ،‬فقد زارتني بعد خروجي بيوم يف بيتي زيارة مل أكن أتوقعها‬
‫مطل ًقا‪ ،‬وتعاهدتني كل يوم باتصال يف املساء‪ ،‬تطمئن به عىل حايل‪ ،‬كنت‬
‫ال أسأهلا عن امللجأ‪ ،‬وكانت هي ال تتحدث عنه أبدً ا مساعدة منها يل يف‬
‫عيل حتى حبيس وخروجي‪.‬‬ ‫طي هذه الصفحة الكئيبة من يوم االعتداء َّ‬
‫مرت عرشة أيام‪ ،‬بدأت العودة لنفيس تدرجي ًّيا‪ ،‬وشعرت فجأة‬
‫وكأنني تذكرت نزالء امللجأ‪ ،‬وأنني ال أعرف شي ًئا عنهم من وقت ما‬
‫حدث؛ فاتصلت عىل الفور عىل «مارسيل» ّأسأهلا عن حالة «ألفونس»‬
‫وباقي املسنني هناك‪ ،‬فأخربتني أهنا كانت تنتظر مني هذا السؤال‪.‬‬
‫ـ فـ«ألفونس» أصبح طريح الفراش‪ ،‬تزداد حالته كل يوم سو ًءا حزنًا‬
‫عىل ما حدث لـ«كرستني» والتي أصبحت شبه ميتة رسير ًّيا‪ ،‬وزاد من‬
‫أيضا عندما علم بام حدث لك‪ ،‬شعر بأنه السبب؛ ألنه السبب‬ ‫حدة ذلك ً‬
‫فدائم يالزمه شعور بالذنب‪ ،‬مع حزنه عىل‬
‫الرئييس ملجيئك يف هذا اليوم‪ ،‬اً‬
‫«كرستني»‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫يف كل يو ٍم ينادينى ليسألني عنك‪ ،‬ويقول يل‪ :‬هل حادثتيه اليوم؟‬
‫دائم عنك‪ ،‬كان كل يوم يرسل لك سال ًما معي‪،‬‬ ‫وأقول له نعم‪ ،‬ويسألني اً‬
‫ويقول يل أمتنى أن أراه قبل أن أموت‪ ،‬لكني كنت أستحيي أن أبلغك‬
‫هذا وأنت عىل حالك هذه‪ ،‬كنت أتعمد أال أذكر شي ًئا عن امللجأ يف هذه‬
‫األوقات‪.‬‬
‫حزنت جدًّ ا ملا وصلت إليه حالة «كرستني» و«ألفونس» حزنت لتلك‬
‫الرغبة التي مل أستطع تلبيتها‪ ،‬وربام لن أستطيع يف املستقبل‪.‬‬
‫يف هناية حديثي‪ ،‬طالبتها بنقل سالمي إليهم مجي ًعا‪ ،‬خاصة «ألفونس»‬
‫وأن ختربين بحاهلم كل يوم إن استطاعت ذلك‪ ،‬قبل أن أغلق معها‪،‬‬
‫تذكرت أن أسأهلا عن حاهلا هي يف امللجأ‪ ،‬وهل علمت «مارية» بشهادهتا‬
‫معي يف النيابة؟‬
‫ضحكت وقالت‪ :‬نعم علمت‪ ،‬وأصبحت تراقبني كام كانت تراقبك‬
‫خطرا عىل رئاستها للملجأ‪ ،‬رغم أنني قلت هلا‬ ‫من قبل‪ ،‬أصبحت تراين ً‬
‫إنني مل أشهد ضدها يف يشء‪ ،‬شهدت فقط بام رأيته عندما سألني وكيل‬
‫النيابة عن معاملتك للمسنني‪ ،‬قلت كانت عىل أفضل حال‪ ،‬والكل هنا‬
‫حيبه‪ ،‬وهذا أمر ال يمكن نكرانه أبدً ا‪.‬‬
‫تأسفت هلا إن تسببت هلا يف كل هذا‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ـ أردت أن أقوم ببعض التضحية البسيطة التي تعلمتها منك‪ ،‬أما عن‬
‫وظيفتي‪ ،‬فمسألة تركي هلا أصبحت وشيكة جدًّ ا وقد نمى إىل علمي‬
‫أهنا تبحث عن أخرى حتل مكاين وأنا غري نادمة أبدً ا عىل ذلك القليل‬
‫الذي فعلت‪ ،‬ولو عاد يب الزمن لفعلت ذلك وأكثر‪ ،‬أنا سعيدة جدًّ ا أين‬
‫استطعت أن أختذ موق ًفا‪ ،‬أكون فيه واقفة يف صف احلق‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫توالت االتصاالت بيننا عىل مدار األيام‪ ،‬يف كل يوم تبلغني سالم‬
‫«ألفونس» وتأخر صحته عن اليوم الذي مر‪ ،‬حتى قالت يل آخر مرة إن‬
‫ما بقي له أصبح معدو ًدا جدًّ ا‪..‬‬
‫ـ «مازن» أمتنى أن تزوره‪ ،‬أعلم أن ذلك من أشد الصعاب‪ ،‬لكنه‬
‫يتمنى أن يراك بشدة‪ ،‬أشعر وكأنه يدفع املرض بتلك األمنية إن حدثت‬
‫فسيستسلم له‪ ،‬وأود حقيقة أن تتجاوز هذه األزمة بشكل عميل‪ ،‬أن تأيت‬
‫مرة أخرى إىل هذا املكان‪.‬‬
‫ـ ماذا تقولني يا مارسيل؟! بعد كل ماحدث؟! كيف سأدخل امللجأ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وحتى إن وجدت الطريقة‪ ،‬أشعر بانكسار النفس من جمرد‬
‫أمر عىل تلك البوابة التي ضرُ بت عليها‬
‫تذكره‪ ،‬كيف يب إذ دخلته؟! كيف ُّ‬
‫و ُأدميت؟ كيف؟!‬
‫ـ لذلك قلت لك هذا‪ ،‬فأنا أود أن يزول ذلك االنكسار‪ ،‬أنت أقوى‬
‫فلدي‬
‫َّ‬ ‫من ذلك‪ ،‬هذا ليس بملك «مارية» أو حراسها‪ ،‬أما عن الطريقة‪،‬‬
‫طريقة سأقوهلا لك وأتركك للتفكري فيها‪ ،‬املهم أن تقتنع باملبدأ‪.‬‬
‫لك‪ ،‬عىل أية حال‪ ،‬أحب أن أسمع منك هذه‬ ‫ـ ال أدري ماذا أقول ِ‬
‫الطريقة‪ ،‬فأنا أرى أنه من املستحيل دخويل امللجأ مرة أخرى بعد ما‬
‫وأيضا ألنني ممنوع من‬
‫ً‬ ‫حدث‪ ،‬واالستحالة هنا من نفيس التي تأبى‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬وال أحب أن حيدث ما حدث يل مرة أخرى‪ ،‬يف هذه املرة ستثبت‬
‫عيل ادعاءهتم‪ ،‬وأنني ذاهب ألعتدي عليهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫ـ اسمع مني‪ ،‬ولك بعد ذلك مطلق احلرية‪ ،‬طريقتي هي‪ ،‬أن تذهب‬
‫ملاقابلة أو خماطبة بابا بطريرك األقباط الكاثوليك‪ ،‬وتطلب منه زيارة‬

‫‪112‬‬
‫امللجأ يف عيد امليالد‪ ،‬لكن من األفضل ألاَّ حتكي له ما حدث‪ ،‬قل له‬
‫فقط أنك ممنوع الختالفك مع األم «مارية» حتى ال يتحول املوضوع‬
‫باق عليه ثالثة أيام‪ ،‬وهذه فرصة‬ ‫ملنحى التحقيق فيطول‪ ،‬وعيد امليالد ٍ‬
‫وأيضا نكون قد حققنا شي ًئا من اتفاقنا‬‫ستكون سعيدة عىل «ألفونس» ً‬
‫السابق وهو حفل عيد امليالد‪ ،‬مع العلم بأن البابا لو تدخل يف ذلك حتى‬
‫ولو خماطبة‪ ،‬فلن تستطيع األم «مارية» إال التنفيذ؛ ملا له من قداسة‪ ،‬كبابا‬
‫األقباط األرثوذكس عندنا‪ ،‬هذه طريقتي والتي أراها مضمونة بشكل‬
‫كبري؛ حيث إنه ال يرد أي فاعل للخري‪..،‬‬
‫انتهت بيننا املكاملة عىل وعد مني يف التفكري باألمر ثم الرد عليها‪.‬‬
‫ع�لي «مارس��يل» يف خماطبة أو مقابل��ة بطريرك‬‫فكرت في�ما اقرتحت ّ‬
‫األقب��اط الكاثولي��ك؛ الذي ب��دوره له قي��ادة دينية معتربة عن��د «مارية»‬
‫أيض��ا كاثوليكي��ة‪ ،‬وإن كان لي��س ل��ه دور إداري‪ ،‬حي��ث إن‬ ‫باعتباره��ا ً‬
‫اإلرشاف األكرب لتلك املؤسس��ات اإلرس��الية تابع للكنيسة الكاثوليكية‬
‫األم‪.‬‬
‫عزمت بعد تفكري عميق عىل امليض قد ًما يف ذلك‪ ،‬ملا استحرضت‬
‫أيضا من استفادة يل نفس ًّيا‬
‫العائد من ورائها عىل حالة ذلك املسن‪ ،‬وملا هلا ً‬
‫بكرس حالة الفوبيا التي أصابتني من امللجأ لفرتة‪ ،‬وأحيانًا تعود عند‬
‫أيضا أصبح عاجلاً بعد تدهور‬ ‫تذكري ملشهد رضيب عند بوابته‪ ،‬واألمر ً‬
‫حالة «ألفونس» بشدة وطلبه لرؤيتي أكثر من مرة‪ ،‬فليست فرصة أفضل‬
‫يتبق عىل جميئها سوى‬ ‫من ليلة عيد امليالد كام قالت «مارسيل» والتي مل َّ‬
‫يومني‪ ،‬علني أستطيع أن أقابل البطريرك قبلها؛ ومن ثم موافقته حتى‬
‫يتسنى يل التواجد معهم ذلك اليوم داخل امللجأ؛ فأكون قد حققت رغبة‬

‫‪113‬‬
‫«ألفونس» إضافة ألمر هام مما اتفقت عليه مع «مارسيل» من قبل وهو‬
‫االحتفال معهم بعيد امليالد وتزيني امللجأ يف هذا اليوم‪.‬‬
‫ذهبت إليه يف مكتبه بكنيسة «الروم» باإلسكندرية‪ ،‬وكان من حسن‬
‫ايضا من مقابلته عندما أخربت مدير‬
‫القدر أن يكون هناك‪ ،‬وأن أمتكن ً‬
‫مكتبه أن األمر عاجل بالنسبة يل‪.‬‬
‫حتدثت معه عن طلبي يف أن أمتكن من زيارة امللجأ يف يوم قداس عيد‬
‫امليالد‪ ،‬دون أن أخوض يف تفاصيل منعي من دخول امللجأ‪ ،‬فقط أعلمته‬
‫بذلك املنع‪ ،‬لذلك جئت إليه؛ ملا له من صفة دينية هي األكرب يف قطرنا‬
‫بالنسبة للطائفة الكاثوليكية التي تدير امللجأ‪ ،‬أرجعت سبب منعي من‬
‫األم «مارية» ألسباب مشادة قد حدثت بيني وبينها عىل أسلوب إدارهتا‬
‫للملجأ‪ ،‬دون اخلوض يف كثري من التفاصيل‪ ،‬وما آلت إليه األمور من‬
‫رضيب وسجني‪ ،‬وذلك حتى ال يتطلب األمر منه استقصاء لعظم األمر‬
‫وهو ما لن يسمح به ضيق الوقت‪ ،‬واألمر اآلخر‪ ،‬هو أين لو أفصحت‬
‫بكل ما حدث فهو اهتام مبارش وخطري لألم «مارية» وعندها فأي موافقة‬
‫من األب يل بالرجوع ستكون تصدي ًقا ضمن ًّيا يل وهو ما سيتطلب منه‬
‫أخذ قرار يف هذا الشأن فور ًّيا فقد ارتقت االهتامات لدرجة اجلنائية‪،‬‬
‫أيضا ما سيتطلب الكثري من الوقت والتوثيق‪ ،‬بل وقد يطلب رفع‬ ‫وهو ً‬
‫األمر ملن هو أكرب من حتى بطريرك األقباط الكاثوليك إىل بابا الكنيسة‬
‫األم ذاته‪ ،‬وهذا مل يكن غريض وال هديف من األساس‪ ،‬عىل األقل يف‬
‫هذا الوقت‪ ،‬لذلك صدرت له األمر عىل أنه خالف قد أكون احتددت‬
‫فيه عليها‪ ،‬وحتى طلبي هذا كان له بمثابة توصية منه أو طل ًبا من موقع‬
‫أمرا يثري بسببه غضبها؛ فال يتحقق ما أريد‪.‬‬
‫قداسته الدينية وليس ً‬

‫‪114‬‬
‫وبررت له زياريت هذه بأهنا تلبية لرغبة أحد املسنني الذي تربطني به‬
‫عالقة ود كأحد زوارهم‪ ،‬فأردت أن أجعلها يوم عيد امليالد كي أستطيع‬
‫إسعاده يف ذلك اليوم‪ ،‬وقد أبلغته باسمه إن أراد أن يتأكد من ذلك‪.‬‬
‫مسلم أمتتع هبذه‬
‫اً‬ ‫وهو ما قوبل منه باملوافقة‪ ،‬بل بالسعادة‪ ،‬كوين‬
‫الروح‪ ،‬عىل حد وصفه‪.‬‬
‫فقال ىل‪ :‬بل نسعد نحن بترشيفك يف كل يوم وليس فقط ذلك اليوم‪،‬‬
‫ثم كتب يل مراسلة عىل ورقة مطبوعة بشعار الكنيسة الكاثوليكية ومكتبه‬
‫هو شخص ًّيا‪ ،‬إىل األم «مارية» أن تتجاوز عام سبق بروح املحبة التي أتى‬
‫هبا يسوع‪ ،‬راج ًيا منها السامح يل بدخول امللجأ واالحتفال مع املسنني‬
‫بقداس عيد امليالد املجيد‪.‬‬
‫صيغة كام متنيتها متوازنة‪ ،‬ليس فيها أمر‪ ،‬وليس هبا ما يدل عىل أنني قد‬
‫أسأت إىل صورهتا عنده‪ ،‬وهذا ما مل حيدث مني اتقا ًء لرشها‪ ،‬بل طالبها‬
‫هي بالتجاوز عني يف مراسلته هلا‪ ،‬عله كان سبب ذلك هو قويل له إنني‬
‫احتددت بعض اليشء يف حديثي معها‪ ،‬ال هيم أن ما وصل إليه أنني من‬
‫جتاوزت معها‪ ،‬األهم هو متام ما أردت‪ ،‬فإن كان عليها فهي أصبحت‬
‫أبغض من عىل األرض إ َّيل‪ ،‬ولوال هذا الطلب اإلنساين من «ألفونس» ما‬
‫عرضت نفيس لذلك أبدً ا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كثريا! كيف أفعل ذلك بعد كل ما تعرضت إليه!‬ ‫تعجبت من نفيس ً‬
‫أيضا‬
‫األمر الذي مل يتوقف عند معانايت الشخصية فحسب‪ ،‬بل ما طاهلم ً‬
‫عندي يف البيت‪ ،‬أثناء تلك الفرتة العصيبة التي مررت هبا وأنا حبيس‬
‫فيها قيد التحقيق‪ ،‬هذه الفرتة التي ربام لن يمحو أثرها زمن‪ ،‬وما تعلمته‬
‫أيضا يف تلك الفرتة من حقائق جعلني أصدق ما كذبته من‬ ‫واكتشفته ً‬

‫‪115‬‬
‫قبل ألنني مل أره بعيني‪ ،‬فقد حدث معي شخص ًّيا‪ ،‬عىل أية حال هو يوم‬
‫لذلك املسن‪ ،‬وتلبية لطلب إنسان‪ ،‬لعله يكون طلبه الوحيد يف حياته‬
‫الذي سينفذ‪ ،‬سأذهب دونام أي خرب لوالدي أو والديت‪ ،‬حتى ال تثار‬
‫خماوفهم مرة أخرى أو يعيقاين من الذهاب خو ًفا ّ‬
‫عيل‪ ،‬لكن األمر أظنه‬
‫خمتل ًفا بتلك املراسلة التي بني يدي من البطريرك‪ ،‬فهي عىل حد قول‬
‫«مارسيل» لن تستطيع األم «مارية» خمالفة ذلك؛ ملا لطلبه هذا من قداسة‬
‫عندها‪ ،‬أتعجب! كيف جيتمع يف قلبها النقيضان؟! كيف أهنا ال تستطيع‬
‫أن ختالف طلب البطريرك لقداسته الدينية‪ ،‬وهي التي تتعدى كل حدود‬
‫ذلك الدين بأفعاهلا وال قداسة عندها لروح كرمها اهلل؟! لكن رسعان‬
‫أيضا من‬
‫ماتالشى عجبي هذا بتذكري تلك النامذج التي كنت أتعجبها ً‬
‫قبل‪ ،‬من هذا الرجل الذي تبدو عىل جبهته «زبيبة» الصالة‪ ،‬ويعامل‬
‫الناس بكل صالفة وشدة‪ ،‬بل ينفر منه كل الناس لسوء خلقه‪ ،‬اختزلوا‬
‫الدين فقط يف بعض املظاهر والعبادات اخلارجية التي ليس هلا أي مردود‬
‫عىل دواخلهم وأخالقهم ومعامالهتم كام أراد اهلل من فرضها‪ ،‬ال عجب‬
‫أن حترتم تلك القداسة للبطريرك‪ ،‬ربام فهمها قد اقترص عند صورهتا لديه‬
‫فقط‪ ،‬كالذي ييسء معاملة اجلميع يف مكان عمله‪ ،‬إال مديره لسلطته فقط‬
‫عليه‪ ،‬وأظن أن ذلك االحرتام هو فقط لسلطة األب الروحية وليس‬
‫من روحها النقية‪ ،‬كذلك من يتعامل بسلطوية‪ ،‬ال تردعه إال سلطة وإن‬
‫كانت روحية‪.‬‬
‫كلنا ذوو خطأ‪ ،‬ويعرتينا النقص‪ ،‬كام قال «ألفونس» لكن الطامة‬
‫تكون أكرب عندما يتساوى خطأ رجل الدين‪ ،‬أو من هو املفرتض أن‬
‫يكون كذلك‪ ،‬مع خطأ عامة الناس‪ ،‬بل املجرمني منهم‪ ،‬تلك هي الطامة‬
‫الكربى‪..‬‬

‫‪116‬‬
‫ويبقى العجب األكرب‪ ،‬وهو ما كان مني! ذلك الشطط الذي حدث‬
‫يف تفكريي‪ ،‬الذي حتول من يشء إىل نقيضه‪ ،‬كيف أجتهد للمشاركة يف‬
‫احتفال عيد امليالد‪ ،‬والذي كنت أقتنع من قبل بحرمة هتنئة املسيحيني‬
‫فيه‪ ،‬بل النصارى‪ ،‬كام كان يطيب يل تسميتهم‪ ،‬إنه الفهم‪ ،‬الفهم الذي‬
‫جعلني أرى أنه ليس ثمة تعارض يف أن أختلف عقائد ًّيا مع أحد‪ ،‬وبني‬
‫أن أحرتم اعتقاده هذا‪ ،‬كالذي قال‪« :‬أختلف معك يف الرأي لكني مستعد‬
‫أن أموت دفا ًعا عن حريتك يف إبدائه» ذلك الفهم‪ ،‬الذي جعلني أفرق‬
‫بني جماملتي لنفس يف يوم فرحها أو عيدها‪ ،‬أنه ليس تفري ًطا فيام أعتقد‪،‬‬
‫وليس بالرضورة أنني أعتقد اعتقاده حتى أههنئه بعيده‪ ،‬كل ذلك من‬
‫باب املودة الطبيعية بني البرش والتسامح الذي أمرت به األديان‪ ،‬الفهم‬
‫الذي جعلني أرى يف ذلك صحيح الدين‪ ،‬وليس البعد عن الدين‪ ،‬إن‬
‫اعتربناه شي ًئا من الرب الذي أمرنا اهلل به يف قوله تعاىل‪} :‬ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉﮊ{ (املمتحنة‪ )8 :‬فكيف أبيح لنا الزواج من كتابية وهي عىل دينها‬
‫وال أستطيع ان أهنئها بعيدها؟!‪...‬‬
‫وذل��ك أيض ًا م��اكان من «مارس��يل» حيث هى األخ��رى حتتفل بعيد‬
‫املي�لاد معهم ع�لى التقويم الكاثوليك��ى والذى فيه عي��د امليالد يوم «‪25‬‬
‫ديس��مرب» وهى ارثوذكس��ية عيد املي�لاد ىف عقيدهتم ي��وم «‪ 7‬يناير» لكنه‬
‫التسامي عن مواضع اإلختالف لتوحد عىل اإلنسان‪..‬‬
‫تبق��ى يشء‪ ،‬ه��و أنني كيف س��أدخل ذلك امل��كان مرة أخ��رى وهو‬
‫م��ن رضبت عىل أبوابه؟! نف�سي ال تقبل هذا‪ ،‬ال تقب��ل أن أذهب هلؤالء‬
‫املجرم�ين من أفراد األمن مرة أخرى طال ًبا منهم الدخول‪ ،‬حتى وإن كان‬
‫معي ذلك اخلطاب والتوصية‪ ،‬أشعر بكرس يف داخيل‪ ،‬سأتذكر رضهبم يل‬
‫وأنني مل آخذ بحقي منهم‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫انتهى تفكريي إىل االتصال بـ «مارسيل» حتى أخربها بام تم يف زياريت‬
‫وأيضا بام أش��عر به من غصة بس��بب ه��ؤالء املجرمني‪ ،‬وأن‬
‫للبطري��رك‪ً ،‬‬
‫نفيس تكره ذلك جدًّ ا‪..‬‬
‫اتصلت عليها‪ ،‬أبدت سعادة كبرية بام أنجزت‪ ،‬وأكدت أن «مارية»‬
‫لن تستطيع رفض ذلك أبدً ا‪ ،‬أما عن كيفية الدخول‪ ،‬وكيف سنقدم ذلك‬
‫اخلطاب لـ «مارية» دونام أي احتكاك باألمن‪.‬‬
‫قالت يل‪:‬‬
‫عيل‪.‬‬
‫ـ دع ذلك ّ‬
‫ث��م أخربتن��ي بام س��تفعله‪ ،‬وهو أنن��ي س��أقوم باالتص��ال عليها عند‬
‫قدوم��ي إىل امللجأ حتى تكون يف اس��تقبايل عند البواب��ة األخرى للملجأ‬
‫«بوابة دخول السيارات»‪.‬‬
‫حيث إن من يؤمنها املوظفون القدامى والذين أعرفهم وتربطني‬
‫هبم عالقة مودة‪ ،‬وهي ستقابلني عند تلك البوابة وتأخذ مني اخلطاب‬
‫وتتوىل رفعه إىل «مارية» وسأظل طيلة هذا الوقت بجوار أصدقائي من‬
‫األمن حتي تأتيني بالرد‪.‬‬
‫عيل‪ ،‬وحل لدي مشكلة كانت تصدين‬
‫ارحتت إىل حد كبري ملا اقرتحت ّ‬
‫عن الزيارة‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫(‪)13‬‬
‫كافرا بام حييت مؤمنًا به‪.‬‬
‫«اآلن أموت ً‬
‫متنكرا من حاجتي كإنسان‪،‬‬
‫ً‬ ‫كافرا برهبانية جعلتني‬
‫ً‬
‫متكل ًفا أنني مالك‪.‬‬
‫كافرا بتدين جعلني بعيدً ا عن اإلنسان‪ ،‬ال عن املعايص‪،‬‬
‫ً‬
‫زاهدً ا يف الفرحة ال اخلطايا»‬

‫‪119‬‬
‫أتى يوم الزيارة‪ ،‬ذهبت يف الصباح‪ ،‬كنت كثري التفكري وأنا يف طريقي‬
‫للملجأ‪ ،‬رشيط ذلك اليوم األليم يمر عىل خاطري وأنا أقرتب شي ًئا فشي ًئا‬
‫أيضا أال تقبل هذه «املارية» خطاب‬ ‫من موقع ذلك اليوم‪ ،‬كنت أخشى ً‬
‫البطريرك أو حيدث أى احتكاك بيني وبينها‪ ،‬كنت أهيئ نفيس لكل‬
‫ينه عىل رجائي وسعادتى بمقابلة أهل‬ ‫املواقف حتى أضبطها‪ ،‬كل ذلك مل ِ‬
‫امللجأ واالطمئنان عىل «كرستني» و«ألفونس» إن متت الزيارة عىل خري‬
‫ومتكنت من الدخول‪.‬‬
‫وصل��ت إىل البواب��ة الثانية‪ ،‬اتصلت عىل «مارس��يل» اس��تقبلتني كام‬
‫تواعدنا عندها‪ ،‬دخلت بكل يرس‪ ،‬مع استقبال حار وأحضان من العاملني‬
‫الذين كنت أعرفهم‪ ،‬فــ«مارس��يل» قد مهدت لذلك هلم‪ ،‬وأخربهتم أنني‬
‫قادم ومعي خطاب من البطريرك‪ ،‬انتظرت معهم حتى تأتيني «مارسيل»‬
‫وذهبت هي بخطايب إىل «مارية»‪.‬‬
‫ع��ادت بع��د ح��وايل ‪ 10‬دقائق‪ ،‬قد أش��ارت إيل بالدخ��ول؛ فدخلت‬
‫إليه��ا‪ ،‬فأخربتني أن كل يشء عىل ما يرام‪ ،‬ثم اصطحبتني لزيارة النزالء‪،‬‬
‫ويف مقدمتهم «كرس��تني» و«ألفونس» س��ألتها ونح��ن يف طريقنا للصالة‬
‫الرئيسية عن رد «مارية» عىل اخلطاب وكيف استقبلت ذلك‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪121‬‬
‫ـ مل يكن هلا إال أن توافق‪ ،‬لكنها حترتق اآلن غي ًظا من ذلك‪ ،‬وأظن‬
‫أنك لن تراها إىل آخر اليوم؛ مما أصاهبا من غيظ جيعلها تالزم حجرهتا‪،‬‬
‫أظن أهنا لن تنزل إال عىل القداس يف املساء‪.‬‬
‫«خريا‪ ..‬سأكون سعيدً ا جدًّ ا إن مل أرها»‪.‬‬
‫ً‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ذهبنا إىل احلجرة التى ُي َمرض فيها «كرستني» و«ألفونس» كام كنت‬
‫أرامها من قبل جالسني بجوار بعضهام البعض عىل «الدكة» اآلن مها‬
‫ممددان بجوار بعضهام البعض عىل رسيرين متجاورين‪.‬‬
‫كن��ت ق��د علمت حاهل�ما‪ ،‬وما زادهم من س��وء من «مارس��يل» لكن‬
‫واقعهم أش��د سو ًء فـ«كرس��تني» ال تتحرك وال تتكلم‪ ،‬حماطة باألنابيب‪،‬‬
‫عظم‬
‫أنابي��ب للطع��ام‪ ،‬أنابي��ب للتنف��س‪ ،‬جس��دها النحيل أصب��ح فقط اً‬
‫مكس��وا بجلد يابس‪« ..‬ألفونس» وإن كان أفض��ل منها حالاً ‪ ،‬لكنه ليس‬
‫ًّ‬
‫حاله الذي كان عليه‪ ،‬فقط يتقلب ويتكلم بصعوبة شديدة‪ ،‬ال يقوى عىل‬
‫النه��وض من مضجعه‪ ،‬هكذا ب��دا يل عند دخوىل عليه يف اللحظة األوىل‪،‬‬
‫ه��م بالنه��وض‪ ،‬ولكن دون ج��دوى‪ ،‬خذلته‬ ‫ف�ما أن دخل��ت عليه حتى َّ‬
‫قدرت��ه‪ ،‬فال قوة له عىل ذلك‪ ،‬أرسعت إليه‪ ،‬جلس��ت بجواره‪ ،‬فإذا بعينيه‬
‫تنساب بالدمع‪ ،‬ثم قال يل بصوت خافت مهزوز‪:‬‬
‫ـ سعيد بمجيئك قبل ذهايب‪ ،‬كل الشكر لك عىل ما أصابك من أجلنا‪،‬‬
‫آملني جدًّ ا ماحدث لك من أجلنا‪.‬‬
‫قاطعته‪:‬‬
‫ـ بل كل الشكر لك عىل كل ما تعلمته منك‪ ،‬الشكر أن منحتموين‬
‫مساعدتكم‪ ،‬أن منحتموين إنسانيتي‪ ،‬كنت أحاول أن أرد لكم شي ًئا من‬

‫‪122‬‬
‫حقكم علينا‪ ،‬أنا الذي أعتذر لكم ولكل من بامللجأ عىل ما أصابكم‪.‬‬
‫حاولت تغيري حديثي ونمطه‪ ،‬حتى أحاول إخراجه مما هو فيه‪.‬‬
‫فقلت‪:‬‬
‫عجوزا؟ من سيساعدنا اليوم يف زينة عيد‬
‫ً‬ ‫ـ أين قوتك؟ هل أصبحت‬
‫امليالد إن مل تقم؟‬
‫قال يل بحزن شديد‪:‬‬
‫ـ وكأنني كنت أستمد قويت منها عندما ضعفت‪ ،‬ضعفت عندما‬
‫متددت عىل فراش املرض ومل أستطع النهوض بجسدي‪.‬‬
‫جلسنا معه وقتًا طويلاً وهو عىل هذه احلال‪ ،‬قد اهنار من شدة حزنه‪،‬‬
‫حتى غلبه النوم من أثر احلقنة املهدئة التي أعطاها له طبيب امللجأ ملا‬
‫ساءت حالته‪.‬‬
‫فخرجن��ا من عنده لنمر عىل باقي النزالء‪ ،‬ثم نبدأ يف تزيني املكان بعد‬
‫ذل��ك؛ اس��تعدا ًدا لقداس عي��د امليالد‪ ،‬كنت أذه��ب لذلك عىل مضض‪،‬‬
‫فلم��ن أزين امل��كان؟ وملن س��يكون االحتفال؟ يب��دو أن العي��د قد جاء‬
‫متاخرا!‬
‫ً‬
‫انتهينا من تزيني امللجأ وقلوبنا تعترص حزنًا‪ ،‬حتى امللجأ‪ ،‬رغم زينته‪،‬‬
‫يبدو عليه الكآبة والظالم‪.‬‬
‫يتبق عىل القداس إال حوايل ساعة واحدة‪ ،‬يف هذه األثناء‪ ،‬نادت‬
‫مل َّ‬
‫علينا «غالية» أن «ألفونس» قد طلبكام باالسم‪.‬‬
‫انطلقنا إليه‪ ،‬وجدناه يبكي بحرقة وهيسترييا‪ ،‬أشار إلينا عندما رآنا‬

‫‪123‬‬
‫أيضا عىل مجيع من كانوا باحلجرة بأن‬ ‫بأن نقرتب من جواره‪ ،‬وأشار ً‬
‫يقرتبوا‪« :‬الطبيب‪ ،‬غالية‪ »،‬وكأنه يريد أن حيدثنا مجي ًعا بيشء‪.‬‬
‫أيضا ما‬
‫ثم أخذ ينادي بصوت خيتلط بالبكاء عىل «كرستني» لتسمع ً‬
‫سيقوله‪ ،‬ولكن ال حياة ملن تنادي‪ ،‬متثلت تلك املقولة بكل ما حتتويه من‬
‫معنى يف ذلك املشهد‪.‬‬
‫حاول��ت هتدأت��ه‪ ،‬وأن أثني��ه عن احلدي��ث حتى ال ُيره��ق مرة أخرى‬
‫وحيتاج وقتها إىل حقنة أخرى‪ ،‬لكنه أبى‪ ،‬وأخذ يتحدث بكل ما يف صدره‬
‫قائلاً يل‪:‬‬
‫ـ دعن��ي أحتدث يا «مازن» ففي حديث��ي راحة‪ ،‬دعني أحتدث بام كنت‬
‫أود قوله منذ مخس�ين عا ًما‪ ،‬نعم مخسني عا ًما‪ ،‬يف مثل هذا اليوم‪ ،‬دار علينا‬
‫الزم��ان وفع��ل فينا فعلته ومل نس��تطع فعل أي يشء‪ ،‬س��وى االستس�لام‬
‫نبد حتى مش��اعرنا‪ ،‬كن��ا نقيم وزنًا العتب��ارات كثرية فضلناها‬ ‫للق��در‪ ،‬مل ِ‬
‫حت��ى ع�ما نحتاجه كب�شر‪ ،‬ومل ت ُِعرنا ه��ي أي اهتامم‪ ،‬وكأهنا تق��ول لنا‪ :‬مل‬
‫أيضا يقول‬‫أطلب منكم ذلك‪ ،‬أنتم من فعلتم هذا بأنفسكم‪ ،‬وكأن الرب ً‬
‫ذلك‪ ،‬يقول يل‪ :‬ما كان يل حاجة يف امتناعكم عن احلياة أو االنعزل عنها‪.‬‬
‫كافرا بام حييت مؤمنًا به‪.‬‬
‫اآلن أموت ً‬
‫متنكرا من حاجتي كإنسان‪ ،‬متكل ًفا أنني‬
‫ً‬ ‫كافرا برهبانية جعلتني‬
‫ً‬
‫مالك‪.‬‬
‫كافرا بتدين جعلني بعيدً ا عن اإلنسان‪ ،‬ال عن املعايص‪ ،‬زاهدً ا يف‬
‫ً‬
‫الفرحة ال اخلطايا‪.‬‬
‫اآلن فقط وأنا عىل فراش املوت‪ ،‬أشعر بالقوة يف أن أقول ما بداخيل‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫وما حرمت قوله وأنا يف شبايب‪ ،‬سأبدي مشاعري حلبيبتي‪ ،‬استطعت‬
‫التحدث يف وقت ال تستطيع هي فيه السامع‪ ،‬لكن حسبي أنكم شهود‪،‬‬
‫حسبي أنكم تسمعون‪.‬‬
‫أتذكر ذلك اليوم جيدً ا بكل تفاصيله‪ ،‬أتذكره رغم مرور مخسني عا ًما‬
‫أتيت هاهنا‪ ،‬من فرنسا‪ ،‬شابة يف العرشين من عمرك‪،‬‬ ‫عليه‪ ،‬أتذكر عندما ِ‬
‫ِ‬
‫أتيت كأحد أفراد كورال الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬لالحتفال معنا برتانيمكم‬
‫كنت أمجل من رأيت من برش‪ ،‬كنت أختلس‬ ‫بعيد امليالد‪ ،‬يف ذلك الوقت ِ‬
‫إليك‪ ،‬فأنا الراهب الذي ليس له حاجة يف النساء‪ ،‬هكذا كنت‬ ‫النظرات ِ‬
‫أوهم نفيس وأبدي عكس ما أبطن‪ ،‬لكن كان يف ذلك ثمة حقيقة أنني من‬
‫أنت فقط‪ ،‬أحببتك‬‫قبلك بالفعل‪ ،‬مل تكن يل حاجة يف النساء‪ ،‬أنا احتجتك ِ‬
‫أنت فقط‪ ،‬أعجبتني فطرتك السوية الدينية‪ ،‬تلك الفطرة التي أساءتني‬ ‫ِ‬
‫أيضا عندما علمت بقرارك بعدم العودة‪ ،‬بعد سامعك هلن‪ ،‬واقتناعك‬ ‫ً‬
‫بالرهبانية‪ ،‬عندها كنت أود الرصاخ يف وجهك أن عودي‪ ،‬ويكفي بعض‬
‫كفاك أنك من فريق الرتانيم الدينية‪ ،‬عىل رغم من أن‬‫ِ‬ ‫وقتك للكنيسة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جلوسك هنا سيتيح يل النظر إليك ورؤيتك‪ ،‬لكنني كنت أود أن تظل‬
‫زهرتك اجلميلة الندية يف منبتها اخلصب‪ ،‬كان الكل يعلم أين أحبك‪،‬‬
‫كنت تعلمني‪ ،‬فكنت ال أجلس إال بجوارك‪ ،‬وال أحتدث‬ ‫أيضا ِ‬ ‫وأظنك ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫معك بالفرنسية التي مل ترق لك غريها‪ ،‬كانت أناقتها متسقة معك‪،‬‬ ‫إال ِ‬
‫ومع كل ذلك مل أجترأ عىل البوح بوضوح؛ عندها كانوا سيتخذون معي‬
‫أو معنا إجراءات أخرى‪ ،‬ربام هي من أضعفتني عن البوح‪ ،‬روحك كانت‬
‫طيبة تأثرت رسي ًعا بحديث الراهبات‪ ،‬لكنك يو ًما مل تكوين منهن كام مل‬
‫أكن يو ًما منهم‪ ،‬فلم ترتدي إال رداءك‪ ،‬رداء اإلبداع‪ ،‬وفريق الكورال‪،‬‬
‫هكذا أرواح املبدعني‪ ،‬شعرت بك عندما شعرت بخطأ اختيارك وإن مل‬

‫‪125‬‬
‫أيضا أنك قلت يف نفسك‪ ،‬لقد‬
‫تفصحي‪ ،‬فهذا ما مسني من قبلك‪ ،‬وأعلم ً‬
‫مر الكثري من عمري وأنا هكذا‪ ،‬فكيف أرجع عن طريق أوشكت عىل‬
‫هنايته‪ ،‬سأميض فيه حتى ال أخرس ما جتاوزته من قبل‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬ليتنا عدنا وإن مل يكن لنا‬
‫ليتك خرست ما مىض‪ ،‬وخرست ً‬
‫آخرا خري من أن ال نعود‬
‫سوى يوم يف احلياة‪ ،‬كنا عشناه سو ًّيا‪ ،‬العودة ً‬
‫أبدً ا ونموت باحلرمان‪.‬‬
‫آآآآه يا كرستني‪ ،‬آآآآآآه يا حبيبتي‪ ،‬آالن أصدح بحبك‪ ،‬أحبك أحبك‬
‫أحبك‪...‬‬
‫أخد يردد «أحبك» حتى بح صوته وكأنه ينفس عن نفسه ما كتمه‬
‫أعو ًما‪ ،‬دخل بعد ذلك البوح والذكريات املرهقة عىل النفس يف نوبة‬
‫غيبوبة‪ ،‬استفاق منها بعد حوايل ساعة‪ ،‬كنا خالل ذلك الوقت نحاول‬
‫أيضا باسمها‪،‬‬
‫إفاقته‪ ،‬خاصة وأن نبض قلبه وأنفاسه عىل ما يرام‪ ،‬عاد ً‬
‫بصوت خافت‪ :‬كرستني‪ ،‬كرستني‪ ،‬وهو ينظر إليها بطرف عينه من‬
‫رسيره وهو بجوارها عىل الرسير اآلخر‪ ،‬صار عىل هذه احلالة وقتًا ليس‬
‫بالقليل‪ ،‬ونحن حوله‪ ،‬نحاول إعانته ومتريضه بجوار الطبيب‪.‬‬
‫مع دقات أجراس عيد امليالد‪ ،‬يف سجى الليل‪ ،‬ومع أصوات الرتانيم‬
‫ابتهاجا بالعيد‪ ،‬أبت روح «ألفونس» إال أن‬
‫ً‬ ‫الغربية الدينية التي تعلو‬
‫حترض العيد يف مكان آخر‪ ،‬صعدت الروح إىل بارئها‪ ،‬وكأن ذلك عيدها‪،‬‬
‫أن تفارق هذه األرض وأن ترحل عن امللجأ‪ ،‬شعرت أن التوقيت له‬
‫داللة‪ ،‬داللة تقول لنا أن ليس كل املوت حزنًا‪ ،‬فبعضه عيد‪ ،‬عندما يكون‬
‫الرحيل عن دنيا أبت أن نعيشها‪ ،‬مات «ألفونس» عىل ذكر حبيبته‪ ،‬مات‬
‫بعد أن أصابه املرض من حزنه عليها‪ ،‬فامت خو ًفا أن متوت‪..‬‬

‫‪126‬‬
‫(‪)14‬‬
‫«ما الذي يمنعنا من أن نفصح عن حبنا‪ ،‬بينام يكون‬
‫متاحا؟ ملاذا نبحث عن تربير للحب‪،‬‬
‫اإلفصاح عن الكره ً‬
‫بينام إظهار الكره يسري؟ ملاذا أصبح االعرتاف باحلب‬
‫خماطرة حتتاج جراءة؟ ملاذا أصبح احلب ضع ًفا نخشى أن‬
‫يظهر علينا؟ ملاذا؟»‬

‫ ‬
‫ ‬

‫‪127‬‬
‫كيومي األول‪ ،‬أتذكره بكل تفاصيله‪ ،‬كام دخلت ألول مرة مع‬
‫أيضا معها‪ ،‬لكن‬‫«مارسيل» كي أتعرف عىل امللجأ وساكنيه‪ ،‬خرجت ً‬
‫ليس فيه أي تفصيلة ال أعرفها‪ ،‬غري أن ذلك اليوم األول دخلته يف بواكري‬
‫الصباح‪ ،‬خرجت منه ذلك اليوم األخري يف ظلامت الليايل‪ ،‬وكأهنا تذكرة‬
‫يل أن هكذا هو يوم السكن فيه‪ ،‬حيث إهنم ال يرون من اليوم سوى ضوء‬
‫الشمس املتسلل من النوافذ‪ ،‬والليل الذي يأتيهم بموعد نومهم‪ ،‬ويعتم‬
‫أيضا مل يكن دخويل وخروجي مثل دخوهلم إليه وخروجهم‬ ‫عنابرهم‪ً ،‬‬
‫منه‪ ،‬فقد خرجت عىل قدمي‪ ،‬وهم ليس هلم خروج إال ممددين عىل‬
‫األلواح‪ ،‬حممولني عىل األعناق‪.‬‬
‫دخلت شا ًّبا ال يفكر إال يف مرحلته ومستقبله فقط‪ ،‬خرجت خائ ًفا!‬
‫كيف سأكون يف مشيبتي! دخلت وأنا ككل الشباب‪ ،‬أشعر بأن أشياء‬
‫كثرية تنقصني‪ ،‬أرى أن الكل أفضل مني‪ ،‬أمتنى أشياء كثرية بعيدة املنال‬
‫قد جعلتني أنسى أشياء أخرى لدي‪ ،‬قد فضلت هبا عن الغري‪ ،‬خرجت‬
‫وقد علمت ما يف حيايت من نعم‪ ،‬بل ما فيها من ترف إذا ما قارنته بام عليه‬
‫حال أهل امللجأ‪ ،‬خرجت أستصغر كل مشكاليت عندما رأيت ما هو أكرب‬
‫منها؛ خرجت وقد تسامت أهدايف وآمايل‪.‬‬
‫خرج��ت م��ع «مارس��يل» واعرتاف��ات «ألفون��س» األخ�يرة بحب��ه‬

‫‪129‬‬
‫لـ«كرس��تني» ما زالت ترتدد يف أذين‪ ،‬وكيف أنه اعرتف وصدح بام يش��عر‬
‫يف وقت‪ ،‬لن يغري ذلك اإلفصاح فيه شي ًئا فقد قيض األمر‪.‬‬
‫قل��ت يف نفيس‪ ،‬ما الذي يمنعن��ا من أن نفصح عن حبن��ا‪ ،‬بينام يكون‬
‫متاحا؟ مل��اذا نبحث عن تربير للح��ب‪ ،‬بينام إظهار‬
‫اإلفص��اح عن الك��ره ً‬
‫الكره يس�ير؟ مل��اذا أصبح االع�تراف باحلب خماطرة حتتاج ج��راءة؟ ملاذا‬
‫أصبح احلب ضع ًفا نخشى أن يظهر علينا؟ ملاذا؟‬
‫ما دامت هي حياة واحدة‪ ،‬فلامذا ال نكون مع من نحب؟! إن مل‬
‫نستطع أن نكون معه‪ ،‬فأقل ذلك أن يعلم أننا نحبه‪.‬‬
‫كل ذلك شجعني أن أقول هلا وأنا خارج معها دون أي مقدمات‪:‬‬
‫«مارسيل» إين أحبك‪ ،‬غري مكرتث‪ ،‬كيف يكون ردها‪ ،‬فقط أردت أن‬
‫أبدي ما أشعر به‪ ،‬بل وأتذوق حالوة إبدائها وإعالهنا‪.‬‬
‫توقفت فور سامعها‪ ،‬انتظرت مني تعقي ًبا‪ ،‬مل أعقب‪ ،‬توارى وجهي‬
‫خجلاً ؛ فنظرت أسفل مني‪ ،‬فام كنت أفكر فيام بعدها‪ ،‬كان كل مهي فقط‬
‫أن أقول هلا‪« :‬إين أحبك»‪.‬‬
‫واصلن��ا الس�ير دون اتف��اق بينن��ا‪ ،‬إىل أي يشء س��نذهب؟ لكن كان‬
‫طريقن��ا جتاه كافي��ه «مزيكا» القريب من امللجأ‪ ،‬مل نجد أنفس��نا إال ونحن‬
‫نتجه نحوه ونجل��س فيه‪ ،‬ربام تلك الرغبة الوحيدة التي انتابتنا‪ ،‬أننا نريد‬
‫أن نجلس حتى نرفع خجل اللحظة‪.‬‬
‫أيضا دونام حديث لدقائق معدودة‪ ،‬كل منا خيفي خجله يف‬
‫جلسنا ً‬
‫هاتفه‪ ،‬وكأنه يبحث عن اسم أو يتصل‪ ،‬حتى مجعت «مارسيل» ما يمكن‬
‫أن تقوله‪ ،‬وكيف تقوله‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫فقطعت ذلك الصمت وقالت‪:‬‬
‫ـ ال أعرف ماذا أقول‪ ،‬وال أستطيع الفرح بام قلت‪ ،‬رغم أنه أسعدين‪،‬‬
‫أيضا أنني أبادلك نفس‬
‫نعم أسعدين‪ ،‬لن أخفي ذلك‪ ،‬ولن أخفي ً‬
‫شعورك‪ ،‬لكن أنا ال أستطيع التضحية لذلك الشعور‪.‬‬
‫ـ تضحية! أي تضحية؟!‬
‫ـ نعم تضحية‪ ،‬عندما أسري وراء شعوري‪ ،‬فثمة تضحيات لن أستطيع‬
‫فعيل أن أضحي بأهيل ألهنم لن يقبلوا أن أكون ملسلم‬ ‫أن أضحي هبا‪ّ ،‬‬
‫أيضا بذلك‪ ،‬أنا من أرسة‬ ‫أبدً ا‪ ،‬وتضحية بأصدقائي الذين لن يقبلوا ً‬
‫أيضا متدينة‪ ،‬أحب أهيل جدًّ ا وأعلم أن ذلك سيحول‬ ‫متدينة حمافظة‪ ،‬وأنا ً‬
‫بيني وبينهم إىل األبد‪ ،‬ساحمني إن قلت ذلك‪ ،‬حب نشأ مل يكن من قبل‪،‬‬
‫وكنت من قبله بني أهيل سعيدة هبم‪ ،‬لكن أهيل خرجت منهم وبينهم‪ ،‬ال‬
‫أختيل حيايت بدوهنم‪ ،‬أقول ذلك وأنا يف قمة حزين‪ ،‬أقول ذلك يف وقت‬
‫كنت أمتنى أن لو أستطيع أن أفرح بام قلت‪ ،‬لكنها احلقيقة التي ال أستطيع‬
‫أحرارا يف حقيقة األمر وإن بدا ذلك‪ ،‬ما دمنا‬ ‫ً‬ ‫الفكاك منها‪ ،‬نحن لسنا‬
‫خمريين بني ترك مشاعرنا أو أهلنا وأحيان ًا ديننا‪.‬‬
‫متاحا يف دينكم الزواج بمسيحية‪ ،‬ولكن‬
‫أيضا مثيل‪ ،‬وإن كان ً‬ ‫وأنت ً‬
‫سيقولون لك تركت كل املسلامت وذهبت ملسيحية؟! تركت امللتزمات‬
‫وذهبت ملسيحية؟! لن يقبل ذلك أهلك‪ ،‬ولن يقبل ذلك أصدقاؤك‪ ،‬وإن‬
‫كان مقبولاً يف الدين‪ ،‬لنعلم أن املشكلة يف دواخلنا وليست يف األديان‪،‬‬
‫نحن من جعلنا احلواجز وليست األديان‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬أس��عدين أن‬
‫انته��ى كالمه��ا الذي أس��عدين قدر م��ا أحزنن��ي ً‬

‫‪131‬‬
‫س��معت منها أهنا تبادلني نفس الش��عور‪ ،‬فكام شعرت بحالوة إبدائي هلا‬
‫غري مك�ترث بأي يشء يكون ردها‪ ،‬س��عدت جدًّ ا من رده��ا أهنا حتبني‪،‬‬
‫يفض ذلك ليشء‪ ،‬فعزائي الوحيد ش��عورها‪ ،‬هذه هي احلقيقة وإن‬‫ِ‬ ‫وإن مل‬
‫كان��ت صادمة‪ ،‬آثرت أن تكون مع أهلها عىل أن تكون معي إن كان ذلك‬
‫سيكون األفضل هلا‪ ،‬فكان ردي عليها‪:‬‬
‫ـ وأنا لن أعينك إال عىل ما حتبني‪ ،‬ولن يكون حبي ِ‬
‫لك معول هدم‬
‫ِ‬
‫عرفت ذلك‪ ،‬ويكفيني‬ ‫لعالقتك بأهلك أبدً ا فقط أنا أحبك‪ ،‬يكفيني أنك‬
‫أنني أعلنت عن ذلك‪ ،‬قبل أن يفرق القدر بيننا‪ ،‬أو أن أقوله يف وقت ال‬
‫ِ‬
‫إسامعك‪...‬‬ ‫أستطيع فيه‬

‫‪132‬‬
‫(‪)15‬‬
‫«ضن عليها املوت بنفسه لتعيش حياة األموات»‬
‫َّ‬

‫‪133‬‬
‫مرت أيام‪ ...‬وأيام‪ ...‬بل مايتعدى الشهرين‪ ...‬مل يكن فيام انقىض من‬
‫هذه األيام سوى بعض االتصاالت التى كانت عىل فرتات متباعده بيني‬
‫وبني «مارسيل» أبقينا فقط عىل اخليط الرفيع الذى حيفظ صداقتنا والذى‬
‫يتسنى به أن يطمئن كل منا عىل اآلخر‪ ،‬حتى جاءت تلك املهاتفة الغريبة‪،‬‬
‫الغريبة ىف موعدها‪ ،‬والغريبة ىف أسباهبا وما محلته ىل من أخبار اختلطت‬
‫هبا مشاعري بني التشمت والتشفي حين ًا وبني التأمل ىف سنة اهلل ىف تدوال‬
‫األيام حين ًا آخر‪..‬‬
‫غري تلك البصقة التى تلقاها وجهي رد ًا عىل سالمي عليه‪ ،‬مل يكن مني‬
‫أى تفاعل آخر معه السيام وأن العدوانية قد غلبت عىل طباعه وهو ماكان‬
‫يحُ بس بسببه ىف حجرة وحيد ًا أليام‪ ،‬مل أحتدث ىف شأنه سوى مرة واحدة‬
‫مع «مارسيل» عندما قلت هلا حتفظي عىل وجوده بامللجأ وأن حالته‬
‫حتتاج بشكل كبري إىل مستشفى لألمراض العقلية وكنت مستغرب ًا وجوده‬
‫ىف امللجأ وهو عىل هذه احلالة‪ ،‬لكن بعد علمى بالسبب زال العجب‪،‬‬
‫فقد كان ايض ًا مثله مثل احلاجة «أمينة» وجوده مصدر ًا للدخل «ملارية»‬
‫فكانت أرسته تتربع بمبلغ كبري للملجأ نظري إيوائه‪ ،‬وعلمت أيض ًا ان‬
‫حالته مل تكن كام أصبحت عليه اآلن‪ ،‬بل تدهورت أثناء وجوده ىف امللجأ‪،‬‬
‫فكان حيتاج لعالج معني ومعاملة خاصة غري متوفرة ىف امللجأ‪ ،‬فقد كان‬

‫‪135‬‬
‫كل تعامل «مارية» مع نشاطه الزائد ومترده الدائم وحالة هياجه‪ ،‬باحلبس‬
‫أو بالرضب‪ ،‬نعم الرضب‪ ،‬لقد قالت يل‪:‬‬
‫ـ أحيان�� ًا عندم��ا كان يصدر منه ش��يئ ًا م��ن ذلك كان��ت األم «مارية»‬
‫تستدعي األمن فيقيدوه هلا فترضبه بنفسها ثم يظل مقيد ًا حبيس ًا ىف حجرة‬
‫وحيد ًا‪ ،‬ظلت هك��ذا معاملتها له إىل وقت ليس ببعيد‪ ،‬بيد أهنا قللت من‬
‫حدهت��ا علي��ه ىف اآلونه األخرية بعدما زادت عدوانيت��ه وعنفه جتاه اآلخر‬
‫بش��كل ملحوظ من ج��راء العنف ال��ذى وقع عليه‪ ،‬واكتف��ت بعد ذلك‬
‫�لا عن الرضب الذى كانت‬ ‫بتقيده وحبس��ه ظن ًا منها أن ذلك عالج ًا بدي ً‬
‫نتيجته تدهور حالته وزيادة عناده‪.‬‬
‫غري ذلك احلديث مل أحتدث عنه مرة أخرى ومل أحاول حتى التفاعل‬
‫معه جتنب ًا لعدوانيته‪ ،‬ماكنت أعلم أن ذلك املجهول سيكون السبب لتقام‬
‫عليها سنة اهلل ىف أقداره ىف ذلك اليوم وتلك املهاتفة الغريبة التى كانت‬
‫ىف التاسعة صباح ًا عىل غري املعتاد من «مارسيل» كانت منهارة من هول‬
‫ما رأت‪..‬‬
‫قد انقض عليها كأسد ضاري‪ ،‬وهى تصيح عىل األمن حتى يأتوا‬
‫لتقيده ل ُيعاقب عىل مافعل‪ ،‬عزم أال يستسلم هلا هذه املرة‪ ،‬فبادر إىل عصا‬
‫كانت بجواره فهامجها قبل أن يدركها أحد‪ ،‬أراد أن يعاقبها عىل كل‬
‫أفعاهلا معه ومع نزالء امللجأ طوال هذه السنني‪ ،‬قبل أن تعاقبه هى بام مل‬
‫يقرتفه واعي ًا‪..‬‬
‫اهنال عليها بالرضب‪ ،‬ال يبايل برصخاهتا كام مل تبال من قبل‪ ،‬ليس‬
‫هلا ىف قلبه أى رصيد من عطف أو حنان‪ ،‬ليس ىف ذاكرته غري مشاهد‬
‫رضهبا له ووجها العبوس دائ ًام‪ ،‬اجتمع فقدانه للرمحة جتاها مع فقدانه‬
‫لعقله جمنون ينتقم ممن جن جنونه‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫انطلق��ت «مارس��يل»‪ ،‬مفزوع��ة‪ ،‬م��ن ه��ول الرصخ��ات‪ ،‬إىل املكان‬
‫الصادر منه الرصيخ‪ ،‬وقد كان الكثري من األمن والعاملني وأيض ًا املسنني‬
‫هيرولون إىل ذلك املكان‪ ،‬فإذا هبا فريس��ة حتت أنياب أسد جائع‪ ،‬يكيل هلا‬
‫الرضب��ات بعصاه ويده‪،‬بكل ما أوتى من قوة‪ ،‬اس��تخلصوها منه‪ ،‬مثخنة‬
‫قد تكرست عظامها‪..‬‬
‫سمعت كل ذلك من «مارسيل» والتى كانت تتحدث باهنيار من هول‬
‫مارأت من جراحها ودمائها‪ ،‬فقد كانت أول من وصل إليها لنجدهتا‬
‫حتى جاءت سيارة اإلسعاف لنقلها إىل املستشفي فاقدة الوعي متام ًا‪.‬‬
‫ظللت عىل اتصال بــ«مارسيل» طيلة هذا اليوم والوقوف عىل أخر‬‫ُ‬
‫ال بأحداثه‪ ،‬بداية من ذلك احلدث‬‫التطورات عندها‪ ،‬فقد كان يوما طوي ً‬
‫مرور ًا بالتحقيق الذى صار لكل العاملني بامللجأ من الرشطة حتى ذهاهبا‬
‫بعد ذلك لــ «مارية» ىف املستشفي‪ ،‬وقد علمت هنالك أن إصاباهتا التى‬
‫أصيبت هبا ىف العمودالفقري‪ ،‬ستتسبب هلا بنسبة كبرية جد ًا ىف شلل‬
‫رباعى ىف أطرافها لن تكون بعد ذلك إال طرحية للفراش‪...‬‬
‫خرج دكتور «ميالد» بصحبة مندويب مستشفى األمراض العقلية‬
‫والنفسية الذين أتوا ليأخذوه من امللجأ إىل املستشفى حيث املكان‬
‫الصحيح ملثل حالته‪ ،‬وكأن «مارية» أبت أن خيرج إال بعد أن خيرجها هى‬
‫أوالً عىل ظهرها‪ ،‬بعدما أصبحت األموال التى كانت تأتيها من أرسته‬
‫وباالً عليها كام كانت عىل دكتور «ميالد» من قبل فكانت تعذبه هبا‬
‫وحتبسه وحيد ًا‪ ،‬فخرجت عىل ظهرها نتيجة حرصها عىل هذه األموال‬
‫وعدم إرساله إىل مكانه الصحيح مستشفى األمراض العقليه والنفسية‬
‫‪............‬‬

‫‪137‬‬
‫بعد مكوثها شهر ًا ىف املستشفى‪ ،‬عادت إىل امللجأ‪ ،‬لكنها عادت عىل‬
‫طاولة ممددة‪ ،‬لتقيض الباقي من عمرها بداخله طرحية فراشها مثلها كمثل‬
‫باقي النزالء بل أقل‪ ،‬ض َّن عليها املوت بنفسه لتعيش حياة األموات‪..‬‬

‫(تمت)‬

‫‪138‬‬

You might also like