You are on page 1of 316

‫إيكادولي‬

‫إيكادولي‬

‫رواية‬

‫حنان الشني‬
‫إهـــــداء‬

‫إلى‬

‫المحــــــاربين‬
‫مقدّمة‬

‫ميتة‪ّ ،‬‬
‫مكفنة في أوراق‬ ‫"قد تكون الكلمات وكل الكتابات ّ‬
‫دفاترنا البيضاء‪ ،‬معانيها مدفونة بين السطور‪،‬‬
‫على الرفوف وفي أدراج املكاتب‪ ،‬ال تحيا إال عندما ُتقرأ‬
‫فتجري الدماء في أوصالها بخيال القارئ‪ ،‬وعندما ّ‬
‫يصدقها‬
‫ّ‬
‫تضج بالحياة!"‬
‫(‪)1‬‬

‫"أبـــادول"‬

‫بعيد ّثمة نهر رّيان‬ ‫مطر خفيف كالبكاء يرشق الرمال الناعمة بعذوبة‪ ،‬من ٍ‬
‫يتدفق ماؤه العذب بهدوء‪ .‬ضوء الشمس الذهبي يميل بدالل فيداعب تلك‬
‫الغدران الصغيرة التي تكونت هنا وهناك لتنعكس ألوان الطيف وتتعانق في‬
‫وكأنه سحاب أخضر‪ .‬صيحة‬ ‫الهواء‪ .‬سعف النخيل يظلل األفق من بعيد ّ‬
‫ُ‬
‫صمت أذنيه ث ّم شعر فجأة بمخالب تقبض على كتفيه‪ ،‬فرفع بصره‬ ‫غريبة ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ورأى ً‬
‫طائرا عمالقا يبسط جناحيه مظلال فوق رأسه‪ ،‬تسارعت أنفاسه وهو‬
‫مردي اللون!‬ ‫واد عميق يقطعه نهر ماؤه رقراق ز ّ‬ ‫تفاع شاهق فوق ٍ‬ ‫يطير على ار ٍ‬
‫لكنها متقاربة مصفوفة بانتظام في مجاميع‬ ‫ٌ‬
‫أكواخ صغيرة ّ‬ ‫الحت من بعيد‬
‫ممرات أرضها مغطاة بزهور صغيرة صفراء‪ .‬تناهى إلى سمعه‬ ‫يفصل بينها ّ‬
‫صوت أنثوي ناعم‪ ،‬كان يناديه ويكرر كلمة غريبة لم يدرك كنهها! استعذب‬
‫لكن خفقات قلبه التي بدأت تؤمله في صدره أنسته حالوة‬ ‫الصوت للحظات ّ‬
‫مصب ذاك النهر‬ ‫ّ‬ ‫الصوت‪ ،‬وفجأة! انفلت من بين مخالب الطائر ليهوي تجاه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفياض بسرعة شديدة‪ ،‬كان لون املاء يزداد قتامة كلما اقترب منه‪ ،‬أراد أن‬
‫يرفع عينيه ليرى هيئة الطائر الذي كان يحمله‪ ،‬لكن ِظ ّل جناحيه الكبيرين‬
‫كل ش يء‪ ،‬فتح ذراعيه وباعد بين ساقيه‬ ‫املهيبين كان قد حجب عن عينيه ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وجيزة‪ ،‬للحظات شعر ّأنه أخف من الريشة‪ ،‬وكأنه يحلق بروحه ال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫فحلق لفترة‬
‫حدق فيه وهو يقترب‪،‬‬ ‫بجسده‪ ،‬على صفحة املاء الح له رمز غريب الشكل‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫ويقترب‪ ،‬ويقترب‪ ،‬وفجأة‪..‬التقمه الظالم‪ ،‬وظل رنين حاد يتصاعد مخترقا‬
‫أذنيه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أيقظه رنين هاتفه النقال‪ ،‬وكان قد وقته على السادسة والنصف‪ّ ،‬‬
‫مد‬
‫بأنه مشلول البدن ليوقف صوت‬ ‫ذ اعه بصعوبة بعد أن قاوم ذاك الشعور ّ‬
‫ر‬
‫ق‬ ‫ّ‬
‫الرنين املزعج‪ .‬مسح جبينه الذي كانت تتألأل عليه حبات العر وجلس على‬
‫‪9‬‬
‫طرف الفراش يلتقط أنفاسه‪ .‬نفس الكابوس الذي يتكرر‪ ،‬نفس املخالب‪،‬‬
‫نفس الطائر الذي ال يدرك كنهه! ونفس النهر ذي املاء األخضر ّ‬
‫الزمردي‪ ،‬وذاك‬
‫ّ‬
‫الرمز الغريب‪ .‬سار بخطوات بطيئة نحو املرآة وطالع وجهه وكأنه يطالع‬
‫غريبا عنه‪ ،‬عينان بندقيتان وحاجبان كثيفان على وشك االلتحام‪،‬‬ ‫شخصا ً‬
‫ً‬
‫مستديرا ظللته لحية خفيفة‪ .‬أحياناً‬
‫ً‬ ‫وأنف ذو انحناءة لطيفة ّ‬
‫يتوسط ً‬
‫وجها‬
‫يشعر ّأنه غريب عن نفسه وخاصة في تلك الحظات التي تعقب استيقاظه من‬
‫ّ‬
‫ومر برواق البيت فلمح والديه ّ‬
‫فحياهما‬ ‫ذاك الكابوس املتكرر‪ .‬غادر غرفته ّ‬
‫يصب املاء البارد على رأسه ّ‬
‫لعل األفكار التي تنهش عقله تهدأ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫سريعا وأسرع‬
‫ّثم لحق بهما في املطبخ الذي كان يعبق برائحة القهوة‪ ،‬جلس وقد بدت على‬
‫وجهه عالمات اإلرهاق‪ ،‬أزاح والد ه الجريدة التي كانت تحجب وجهه عنه‬
‫بتمعن وقال َبنبرة هادئة‪:‬‬
‫وطالعه من فوق عويناته ّ‬
‫‪ -‬هل رأيت نفس الكابوس؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬هل سقطت في املاء؟‬
‫‪ -‬ال‪...‬كالعادة استيقظت قبل أن يلمس جسدي املاء‪.‬‬
‫‪ -‬هل رأيت رأس الطائر؟‬
‫‪ -‬ال‪...‬ال يا أبي‪.‬‬
‫رفع األب سبابته وحرك عويناته على أرنبة أنفه وعاد للقراءة‪ ،‬كانت تلك‬
‫مرة يستيقظ فيها "أنس" وعلى وجهه عالمات‬ ‫األسئلة الثالثة تتكرر في ّ‬
‫كل ّ‬
‫ّ‬
‫وكأن أباه يقرأ صفحة وجهه فيدرك أنه رأى نفس الكابوس! شرد‬ ‫اإلرهاق‪ّ ،‬‬
‫"أنس" للحظات قبل أن يقول بخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬لكنني سمعت ً‬
‫صوتا لم أسمعه من قبل!‬
‫انتفض والده وكأن هناك من وخزه ب إبرة وألقى الصحيفة وسأله وقد‬
‫اتسعت حدقتا عينيه‪:‬‬
‫‪ -‬صف لي الصوت وأخبرني ماذا قال لك‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫وأحس به‪ّ ،‬ثم قال بصوت ّ‬
‫متهدج‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ليجتر ما رآه‬ ‫أغمض "أنس" عينيه‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫فيقا وجميال‪ ،‬لم أسمع مثله من قبل‪ ،‬غناء رّبما أو ّ‬
‫كأن‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬
‫‪ -‬كان صوتا أنثويا ر ُ‬
‫هناك فتاة ما تهمس في أذني‪.‬‬
‫يحدق في وجهه وسأله ّ‬
‫بتوتر‪:‬‬ ‫خلع األب عويناته وعاد ّ‬

‫‪ -‬ماذا قالت لك؟‬


‫‪ -‬كانت تردد كلمة لم أفهمها ولم أدرك معناها‪ّ ،‬‬
‫أظنها بلغة غريبة ما !‬
‫‪ -‬ما هي الكلمة؟‬
‫‪ -‬ال أذكر‪.‬‬
‫‪ -‬حاول أن تركز أرجوك‪...‬كررها أمامي‪.‬‬
‫متعجبا من إلحاح والده عليه ّ‬
‫وهز كتفيه بال اكتراث وهو‬ ‫ً‬ ‫التفت "أنس"‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪ -‬لألسف نسيتها‪.‬‬
‫ألمه التي مسحت‬ ‫شحب وجه األب وطالعه بنظرات مرتابة‪ ،‬التفت "أنس" ّ‬
‫يطمئن‪ ،‬التقط يدها ووضعها على صدره‪ ،‬كان يشعر‬ ‫ّ‬ ‫على ظهره بحنان لكي‬
‫ّ‬
‫بانقباض ال يبارحه عادة إال بعد فترة طويلة في مثل هذا املوقف‪ ،‬يتالش ى رّبما‬
‫بعد ّ‬
‫عدة ّأيام!‪.‬‬
‫ّ‬
‫تناول قهوته على عجل ولم يكمل إفطاره‪ ،‬فقد دقت الساعة معلنة ّأنها‬
‫السابعة والنصف‪..‬وال ّبد أن ُيسرع حتى ال يفوته موعد القطار‪ .‬على مكتبه‬ ‫ّ‬
‫كانت تستقر حقيبة جلدية من النوع الفاخر اعتاد أن يحملها على ظهره‬
‫أهم ما حرص‬ ‫عندما يسافر‪ ،‬شاحن الهاتف وجهاز الحاسوب ّ‬
‫النقال‪ ،‬كانا ّ‬
‫"أنس" على وضعه في حقيبته‪.‬‬
‫ُ‬
‫املكوية ّأولها القميص السماوي اللون الذي‬‫ّ‬ ‫ث ّم العديد من القمصان‬
‫ّ‬
‫صوفية تقيه البرد‪ ،‬والكثير من‬ ‫يفضله‪ ،‬مع بنطال من الجينز‪ ،‬ومنامات‬
‫كل هذا ما حرصت ّ‬
‫األم على وضعه في حقيبة ابنها األخرى منذ‬ ‫الجوارب كان ّ‬
‫أسبوعا ً‬
‫لطيفا‪ ،‬فهو لم‬ ‫ً‬ ‫البارحة‪ ،‬فسيسافر لبيت جده في ّ‬
‫الفيوم ليقض ي معه‬
‫‪11‬‬
‫بكلية الهندسة‪ .‬ال بد‬ ‫ير ّ ِوح عن نفسه منذ أنهى عامه األخير حيث كان يدرس ّ‬
‫كثيرا في األيام‬‫من وقت مستقطع يبتعد فيه عن صخب الحياة فقد أرهق ً‬
‫عجل‬‫الوقت في بيت جده املحبب إليه‪ .‬على ٍ‬ ‫املاضية‪ ،‬وما أجمل أن يكون هذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ركض على الدرج خلف والده‪ ،‬ملوحا ألمه وشقيقته من نافذة السيارة‪،‬‬
‫سيارة والده لشارع جانبي‪ .‬راقب‬ ‫اختفى طيف وجه ّأمه املالئكي عندما دلفت ّ‬
‫األبخرة التي تتكاثف على زجاج النافذة إثر مالمسة أنفاسه الدافئة له‪ ،‬رفع‬
‫إصبعه ورسم عليها ذاك الرمز الذي رآه على سطح املاء وهو نائم‪ ،‬قطع ذلك‬
‫الشرود الذي غرق فيه صوت والده وهو يلقي على مسامعه نصائحه مثلما‬
‫جده‪ ،‬يبدو ّأنه لن يتوقف‬ ‫مرة يسافرون فيها لقضاء اإلجازة مع ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫اعتاد في ّ‬
‫تخرجه وربما عمله أو حتى لو‬ ‫عن نصحه ومعاملته بتلك الطريقة‪ ،‬حتى بعد ّ‬
‫ُ‬
‫تزوج وأنجب العديد من األحفاد‪ ،‬كان هذا يضايق "أنس" لكنه لم يظهر‬
‫أبدا ألبيه وكان ينصت إليه بأدب بليغ‪ ،‬سيبقى في عينيه االبن الذي‬ ‫ضيقه ً‬
‫ّ‬
‫يحتاج النصيحة‪ ،‬قال األب وهو يعدل عويناته‪:‬‬
‫جدك وحده لفترة طويلة‪ ،‬فأنت هناك لكي تؤنسه‪ ،‬ليس من الالئق‬ ‫‪ -‬ال تترك ّ‬
‫كثيرا‪ ،‬أنصت إلى نصائحه بال‬ ‫يحدثك فهذا يزعجه ً‬ ‫ّأال تنظر إليه وهو ّ‬
‫الخاصة‪ ،‬كن‬ ‫ّ‬ ‫أي كتاب من مكتبته‬ ‫جدال‪ ،‬استأذن منه قبل أن تستعير ّ‬
‫خفيفا وال ُتثقل عليه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ضيفا‬
‫ُ‬
‫املرة األولى التي يسافر فيها وحده‪ ،‬لم ُيفاجأ بقرار أبيه وأ ّمه فقد‬ ‫كانت تلك ّ‬
‫أخبراه ّأنهما لن يتمكنا من السفر معه ألن شقيقته "حبيبة" مرتبطة بدروسها‬
‫أصر "أنس" على السفر فقد كان‬ ‫الخاصة بالثانوية العامة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الخص وصية‬
‫كثيرا على القراءة فقد قضيا معاً‬ ‫جده‪ ،‬والذي كان يشجعه ً‬ ‫مشتاقا لرؤية ّ‬ ‫ً‬
‫واملكون من غرفة‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬ذاك البناء البديع‬ ‫ّ‬ ‫ساعات طويلة في مكتبة ّ‬
‫جده‬ ‫ٍ‬
‫كل‬‫أشجار الياسمين من ّ‬ ‫ُ‬ ‫ويتوسط حديقة منزله حيث تحيط به‬ ‫ّ‬ ‫واحدة واسعة‬
‫عمرا في جمعها‬ ‫الجد ً‬ ‫ّ‬ ‫جانب‪ ،‬وحيث الكثير من الكتب العتيقة التي قض ى‬
‫أعزاء من عائلته‪ .‬لم يكن لدى "أنس"‬ ‫وكأنها أفراد ّ‬ ‫وقراءتها واالعتناء بها ّ‬
‫تقليديا كما يقولون له‪ ،‬ال‬ ‫ًّ‬ ‫شابا‬‫العديد من األصدقاء ليخرج معهم‪ ،‬كان ًّ‬
‫الحب على شرفات قلبه‬ ‫ّ‬ ‫يدخن وال يصاحب الفتيات‪ ،‬لم تمطر سحابات‬
‫ّ‬
‫طوال سنوات الدراسة! رغم كثرة قراءاته عن الحب فهو لم يجربه حتى اآلن‪،‬‬
‫تمر على جبينه من ٍآن آلخر‪ ،‬لكنه لم يصطدم بتـ ـ ـلك‬ ‫النفس تشتاق‪ ،‬واألحالم ّ‬

‫‪12‬‬
‫التي تحسن التوقيع على شغاف قلبه حتى اآلن‪.‬‬
‫ً‬
‫طريقته في تناول األمور كانت تزعج زمالءه أحيانا‪ ،‬فهو حاد في حكمه‬
‫واحدا ويبتعد عنه حتى وإن كانت‬ ‫ً‬ ‫كل من يخطيء خطأ‬ ‫يستبعد من طريقه ّ‬
‫فيه ميزات أخرى تشفع له! خطأ واحد من صديق كان يكفي لكي ينحيه جانباً‬
‫وده ويتقربون إليه فهو شاب‬ ‫جميعا يطلبون ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫وكأنما ُو ِص َم به لألبد! كانوا‬
‫ً‬
‫أحيانا‬ ‫ً‬
‫مندفعا‬ ‫جذاب مثقف ذو خلق ورياض ي‪ ،‬كما ّأنه ذكي ً‬
‫جدا‪ ،‬لكنه كان‬
‫يركض خلف حدسه‪ ،‬في الحقيقة‪ ..‬لم يفسح املجال إال لصديقين فقط من‬
‫جملة من التفوا حوله‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سريعا ملحطة القطار والتي كانت –كعادتها ‪ -‬مزدحمة بالركاب‪ ،‬كان‬ ‫وصال‬
‫األب يسرع في خطواته ليجاري خطوات "أنس" الواسعة‪ ،‬انتبه "أنس" َف َرقَّ‬
‫جدا‪ً .‬‬‫الجو بار ًدا ً‬
‫قليال حتى ال ُيرهقه‪ .‬كان ّ‬ ‫ً‬ ‫ألبيه ّ‬
‫اقتربا‬ ‫فهدأ من سرعة خطواته‬
‫ّ‬
‫من أحد املقاعد وجلسا يراقبان األبخرة الهاربة من أفواه ر ّواد املحطة‪ ،‬كانت‬
‫هناك مسحة من الضباب تشوب األجواء‪ .‬أما السماء فكانت ندف السحاب‬
‫تنتشر فيها بشكل واسع‪ ،‬بدت وكأنها على وشك ا لبكاء‪ .‬التفت "أنس" لوالده‬
‫وقال وهو يفرك َّ‬
‫كف ْيه‪:‬‬
‫‪ -‬لقد وصلنا ً‬
‫مبكرا‪.‬‬
‫عميقا وقال َبنبرة حازمة بعد أن رمق ساعة يده بسرعة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫سحب األب ً‬
‫نفسا‬
‫‪ -‬هذا أفضل‪ ....‬أن تصل ً‬
‫مبكرا وتنتظر خير لك من أن تصل بعد فوات‬
‫األوان‪.‬‬
‫‪ -‬اشتقت ّ‬
‫لجدي‪.‬‬
‫بشغف يا "أنس"‪.‬‬ ‫أيضا ينتظر وصولك‬‫‪ -‬وهو ً‬
‫ٍ‬
‫‪ -‬ال أدري ملاذا يرفض االنتقال إلى االسكندرية ليقيم معنا!‬
‫جدك مرتبط ببيته وله فيه ذكريات طويلة‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬

‫‪ -‬وأسرار‪.‬‬
‫رفع األب حاجبيه الكثيفين وقال وهو يطالعه من فوق عويناته‪:‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫أي أسرار؟‬
‫ّ‬
‫الحت ابتسامة ساخرة على شفتي "أنس" عندما تذكر تلك الغرفة القابعة‬
‫في الطابق العلوي والتي ال يجرؤ أحد على اقتحامها وكيف كان يركض مع أبناء‬
‫ٌ‬
‫صغار ويلصقون آذانهم ببابها‬ ‫ّ‬
‫عمه عندما كانوا يقتربون من بابها املهجور وهم‬
‫ً‬
‫وينصتون فيسمعون أصواتا تهمهم وهسهسات غريبة فيفزعون ويركضون‬
‫هاربين‪ .‬قال ألبيه بحماس‪:‬‬
‫‪ -‬غرفة األشباح‪.‬‬
‫وتلفت ً‬
‫يمينا ويسا ًرا قبل أن يقول له‬ ‫انزعج األب من ارتفاع صوت "أنس" ّ‬
‫ً‬
‫الئما‪:‬‬
‫‪ -‬تعلم ّأنها غرفة خالية‪ ،‬ولقد رأيتها بنفسك‪ ،‬فال تزعج ّ‬
‫جدك باقتحامها‬
‫والسؤال عن سبب إغالقها‪..‬أرجوك‪.‬‬
‫يهمني األمر‪ ،‬فقط هو فضول! وددت‬ ‫‪ -‬ال تقلق يا أبي‪ ،‬ما عدت أخافها‪ ،‬وال ّ‬
‫شبحا أو رأيته‪ ،‬يشغلني أمر ّ‬
‫الجن وهيأ تهم‪ ،‬كما أنني‪.....‬‬ ‫لو أنني حاورت ً‬
‫ً‬
‫قاطعه أبوه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬بعض الفضول قد يفيد‪ ،‬وبعضه قد يؤذيك‪ ،‬فاحذر يا ّ‬
‫بني‪.‬‬
‫ران عليهما الصمت للحظات‪ ،‬فلم يكن ذاك فقط هو ما يشغل بال "أنس"‬
‫جده ممتلئ باألسرار‪ ،‬ولديه الكثير من األسئلة عنه‪ ،‬ور ّبما حانت‬ ‫فبيت ّ‬
‫سر ّ‬
‫كل ركن فيه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الفرصة لينفرد بجده ويسأله عن ّ‬
‫معلنا عن وصوله‪ ،‬همهم األب في أذن‬ ‫عال صفير القطار وهو يشق الضباب ً‬
‫ويلوح ألبيه وعلى وجهه‬ ‫"أنس" بالدعاء وهو يعانقه وصعد األخير ليقف ّ‬
‫ابتسامة حنون‪ ،‬انطلق القطار وجلس "أنس" يراقب الحقول الخضراء التي‬
‫ّ‬
‫انبسطت أمام عينيه‪ .‬لوحة رّبانية تموج بالكثير من املعاني التي ال يترجمها إال‬
‫عاشق للطبيعة الخرساء!‬
‫أحب صوت قطرات املطر الذي استحال‬ ‫ّ‬ ‫مزق البرق صفحة السماء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫سماعه بعد لحظات وهي ترشق زجاج النافذة بجواره فشرد مسحو ًرا بالصور‬
‫املتتابعة مصحوبة بتلك األلحان التي تعزفها قطرات املطر‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫سريعا ما‬ ‫التفت يراقب ركاب القطار‪ ،‬ذاك رجل في العقد الرابع من عمره‬
‫أغمض عينيه ليسحب حبل النوم الذي قطعه منذ ساعة ويتعلق به ّ‬
‫مرة‬
‫لعله ينعم ّ‬‫ى ّ‬
‫ببقية حلم‪ .‬وتلك فتاة صغيرة تراقب مرور األشجار أمام‬ ‫أخر‬
‫تضحك‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫هي التي ً تركض وليس القطار‪ ،‬كانت ّ ُ‬ ‫ً‬
‫عينيها بسرعة خاطفة وكأنها‬
‫ببراءة وتحرك وجهها ً‬
‫ر‬
‫يمينا ويسارا تزامنا مع حركة الصو الخاطفة‪ ،‬أما أمها‬
‫فاخرة المرأة أخرى تجلس قبالتها بإعجاب‪ ،‬والتي‬ ‫ٍ‬ ‫فكانت تطالع حقيبة ٍيد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كانت تلقي على كتفيها معطفا أنيقا من القطيفة السوداء‪ .‬من بعيد تناهى‬
‫لسمعه حوار بين رجلين يبدو أن كالهما يعمل في هيئة ما تختص بصناعة‬
‫كثيرا عن الفوسفات‪ّ .‬أما ذاك الشاب األنيق الذي‬ ‫تحدثا ً‬ ‫األس مدة الزراعية‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫معاتبا صديقه على إلغاء‬ ‫كان يرتدي سترة جلدية سوداء فكان يصيح في هاتفه‬
‫املوعد الذي كان بينهما ليلة أمس‪ .‬في مقعد آخر كانت هناك فتاة ساكنة‬
‫مر الوقت‬ ‫وكأنها حجر ّ‬
‫أصم‪ّ ،‬‬ ‫كتابا وتقرأ سطوره بهدوء شديد ّ‬ ‫كالصنم‪ ،‬تطالع ً‬
‫سريعا وما زال "أنس" يحتفظ بهدوئه وحضوره اللطيف‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫محملقا في‬ ‫في تلك اللحظة كان أبوه ال يزال يقف خارج محطة القطار‬
‫زجاج نافذة سيارته التي كان "أنس" يجلس بجوارها منذ ربع ساعة بينما كان‬
‫ً‬ ‫هو يقود ّ‬
‫السيارة منشغال بالزحام على الطريق وهو يقله ملحطة القطار‪ ،‬لقد‬
‫رأى الرمز الذي رسمه ابنه على الزجاج بإصبعه عندما تكاثف البخار‪ ،‬أخرج‬
‫الهرم على الطرف‬
‫هاتفه الجوال وقام باالتصال بالجد ليخبره‪ ،‬جاء صوته ِ‬
‫اآلخر من الهاتف‪:‬‬
‫‪ -‬مرحبا يا "كمال"‪.‬‬
‫‪ -‬أبي‪....‬لقد رآه يا أبي‪ ،‬لقد رأى"أنس" الرمز‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟!!‬
‫‪ -‬رسمه منذ قليل على زجاج النافذة الذي تكاثف عليه البخار بإصبعه‪ ،‬وما‬
‫ً‬
‫مرسوما أمامي‪.‬‬ ‫زال‬
‫‪ -‬امسحه بسرعة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سيارته ث ّم مسح الزجاج من الداخل بمنديل ورقي ث ّم ّ‬ ‫فتح األب باب ّ‬
‫تلفت‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫حوله ليتأكد أن ليس هناك من يراقبه‪ ،‬ث ّم عاد يقول ألبيه‪:‬‬

‫‪15‬‬
‫‪ -‬محوته يا أبي‪.‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪..‬ال ّبد أن نستعد‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬وماذا سنفعل؟ هل سنخبره أم سننتظر حتى يحين الوقت؟‬
‫‪ -‬يبدو ّأنه قد حان الوقت بالفعل!‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬فالكابوس يتكرر‪ ،‬كما ّأنه‪...‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬سمع صوتا ًّ‬
‫أنثويا الليلة‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا قال له؟‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ال يذكر‪...‬أخبرني ّأنه نس ي ما همس به ذاك الصوت في أذنه‪ ،‬أنا قلق عليه‪،‬‬
‫أظنه سيستوعب األمر بسهولة!‬ ‫ال ّ‬
‫‪ -‬ال تقلق عليه‪.‬‬
‫ّ‬
‫سيمر به من قبل!‬ ‫‪ -‬وكيف ال أقلق وقد مرر ُت بما‬
‫‪ّ -‬‬
‫لكنك بخير يا ولدي‪..‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬نعم أنا بخير ال تقلق يا أبي‪ ،‬وماذا عنك؟‬
‫‪ -‬ال تقلق‪...‬سأكون بخير ‪"،‬كمال" ال ّبد أن تأتي اآلن في القطار التالي‬
‫حسنا يا أبي سأفعل إن شاء هللا‬‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫قوية فأصابته‬ ‫هبت ريح ّ‬ ‫ّ‬
‫يستبد بـ"كمال"‪ّ ،‬‬ ‫انتهت املكاملة وقد بدأ القلق‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫سيارته‪ ،‬تقوقع أمام املقود وأطرق مفكرا يجتر ما‬ ‫قشعريرة فأسرع إلى داخل ّ‬
‫ً‬
‫سيمر به ابنه "أنس"‪ .‬كان يجلس صامتا وعيناه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫متفكرا فيما‬ ‫ّ‬
‫مر به في املاض ي‪،‬‬
‫تجوسان في حزن بين أمواج البشر‪ ،‬تذكر الخوف‪ ،‬الرهبة‪ ،‬أن يختاره أحد ما‬
‫ويثق به وينتظر منه أن يقدم له الكثير! وتذكر الشعور املقيت بالوحدة هناك‪،‬‬
‫ّ‬
‫يستقل القطار التالي ليلحق بابنه‬ ‫سيارته وأسرع‬ ‫انتبه للوقت فوثب خار ًجا من ّ‬
‫"أنس"‪.‬‬
‫❐❐❐‬
‫‪16‬‬
‫خفف القطار من سرعته وأطلق صفيرا ّ‬
‫اهتز له زجاج النوافذ‪ ،‬وثب الركاب‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫واحدا تلو اآلخر عندما الحت لهم الفتة املحطة‪ ،‬تزاحموا في املمر‬ ‫من أماكنهم‬
‫املؤدي لباب القطار فسق طت بعض الحقائب من أعلى الرفوف‪ ،‬ترجل "أنس"‬
‫جده‪ ،‬أخيرا التقطته‬‫من القطار ُث ّم وقف يفتش بين وجوه املا ّرة عن وجه ّ‬
‫عيناه من وسط الحشود فقامته املديدة وعليها املعطف األزرق الطويل‪،‬‬
‫ولحيته الرمادية اللطيفة التي برزت من الوشاح الخوخي اللون الذي كان يلف‬
‫به عنقه‪ ،‬عوي ناته املستديرة‪ ،‬ونظرته الواثقة من خلفها‪ ،‬وتلك االبتسامة‬
‫الواسعة التي كانت تض يء وجهه‪ ،‬كل تلك اللفتات البسيطة التي ّ‬
‫يحبها "أنس"‬
‫عمن حوله فأسرع يحتويه في حضنه‪ .‬طال العناق قبل أن يقول‬ ‫ّميزت ّ‬
‫جده ّ‬
‫الجد وهو يمسح وجه حفيده ّ‬
‫بكفه الدافئة‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫‪ -‬ازددت طوال يا أنس‪ ،‬وتباعد منكباك‪.‬‬
‫جدي وليس العكس‪.‬‬ ‫‪ -‬أرأيت‪ ،‬اآلن أنا الذي يحتويك في حضنه يا ّ‬
‫‪ -‬أوحشتني يا "أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬وأنت يا جدي‪..‬أوحشتني ً‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫الجد حيث كانت هناك‬ ‫معا إلى بيت ّ‬ ‫أسرعا بالخروج من الزحام واتجها ً‬
‫الكثير من األحجيات التي ال يعرفها "أنس"‪ .‬من بعيد كان هناك من يراقبه‬
‫بإمعان شديد‪.‬‬ ‫جده‪ .‬كان ّ‬
‫يتفحصه‬ ‫ويرصد حركاته وهو يبتعد مع ّ‬
‫ٍ‬
‫الجد الحديدية‪ ،‬والتي كانت تتوسط‬‫وقفت سيارة األجرة أمام بوابة بيت ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫السور الحجري الذي يحيط بالبيت‪ ،‬كان ارتفاع السور‬
‫شاهقا وقد تدلت من‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فوقه أغصان األشجار ّ‬
‫وكأنها تراقب الطريق‪ .‬بعض الفروع بدت مخيفة وكأنها‬
‫ّ‬
‫تهدد من ينظر إليها‪ .‬كان السائق يحدق في التواءات حديد ّ‬
‫البوابة باندهاش‪،‬‬
‫الجد الذي رمقه بصرامة وهو ينصت‬ ‫رفع حاجبيه وهو يلتقط النقود من يد ّ‬
‫إليه وهو يقول‪:‬‬
‫ٌ‬
‫‪ -‬بوابة رائعة وبيت أنيق‪.‬‬
‫الجد‪ّ ،‬‬
‫وكأن السائق قد‬ ‫تبرم من ّ‬ ‫ً‬
‫ومتبوعا بنظرة ّ‬ ‫ً‬
‫مبتعدا‬ ‫انطلق السائق‬
‫للتو إحدى نسائه املختبئة في خدرها! حمل "أنس" حقيبته الجلدية على‬ ‫طالع ّ‬
‫جده من البوابة وسارا معاً‬‫ظهره‪ ،‬ورفع األخرى بيده عن األرض ُث ّم دلف مع ّ‬

‫‪17‬‬
‫صفين من األشجار القصيرة على‬ ‫فوق ممر ضيق مرصوف بالحجارة بين ّ‬
‫الزان العتيق‪ ،‬أخرج‬ ‫أخيرا أمام باب البيت املصنوع من خشب ّ‬ ‫الجانبين‪ .‬وقفا ً‬
‫الجد مفتاح الباب من جيبه ليفتح الباب بينما كان "أنس" يتفحص النقوش‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫دقيقة من النحاس‪ .‬انعكس‬ ‫ّ‬
‫واملطعمة بقطع‬ ‫الغريبة التي كانت تتوسط الباب‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫الضوء عليها فتالعب بريقها الذهبي بعيني "أنس" الذي قال باندهاش‪:‬‬
‫حقا‪ ،‬ال أدري ملاذا لم أنتبه لها من قبل!‬ ‫‪ -‬تلك النقوش بديعة ً‬
‫ّ ُ‬ ‫رمقه ّ‬
‫خفي ولم يعلق‪ ،‬ث ّم دفع بـاب البيت بحـ ـ ـ ـ ـرص فأصـ ـ ـ ـ ـ ـدر‬
‫الجد بطرف ّ‬
‫غريبا عن"أنس" بل ربما يشتاق إليه‪ ،‬أسرع "أنس" بخطى‬ ‫ً‬
‫مزعجا ليس ً‬ ‫أز ًيزا‬
‫واثبة وألقى بحقيبته بجوار الحائط ووقف في وسط ردهة االستقبال وفتح‬
‫ُ‬ ‫ذ اعيه ودار حول نفسه ّ‬
‫وكأنه يحتضن أجواء البيت ث ّم قال بمرح‪:‬‬ ‫ر‬
‫حبه ً‬ ‫ُ‬
‫حب هذا البيت ‪....‬أ ّ‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬كم أ ّ‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫الجد وقال ّ‬
‫بود‪:‬‬ ‫ابتسم ّ‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫‪ -‬هو بيتك يا حبيبي‪ ،‬وبيتكم‬
‫فاجأهما صوت ارتطام قوي‪ ،‬سقط ش يء ما على األرض‪ .‬أسرع الجد إلى‬
‫غرفة املعيشة وتبعه "أنس"‪ ،‬كان هناك كتاب على األرض وحوله تبعثر حطام‬
‫جزء من تمثال رائع من خشب األبنوس األسود لشجرة عجيبة‪ ،‬انحنى ّ‬
‫الجد‬
‫فرعا من فروع الشجرة‪ ،‬بدت على وجهه عالمات‬ ‫وأمسك بالجزء املحطم‪ ،‬كان ً‬
‫ّ‬
‫القلق وجال بعينيه في الغرفة وكأنه يبحث عن ش يء ما‪ ،‬انحنى "أنس" والتقط‬
‫تأمل غالفه الجلدي الباهت بتعجب‪ ،‬كان لونه يشبه لون التراب‬ ‫الكتاب‪ّ ،‬‬
‫املبتل بماء املطر‪ ،‬شابته لفحات من لون يشبه لون قشر البرتقال الجاف‪ّ ،‬أما‬
‫األوراق فقد بدت صفراء عتيقة‪.‬‬
‫وقرأ عنوانه بصوت مسموع‪:‬‬
‫‪" -‬أبادول"‪...‬ماذا تعني تلك الكلمة يا جدي؟‬
‫كاد "أنس" يفتح الكتاب ليقرأ اسم مؤلفه‪ ،‬لكـ ّن جـ ـ ـده خطفه م ـ ـ ـ ـن بين‬

‫‪18‬‬
‫ُ‬
‫يديه بطريقة لم يعهدها منه من قبل! وأعاده إلى الرف ث ّم أسرع نحو النافذة‬
‫غير مكترث برد فعل أنس وأزاح الستار ونظر إلى الحديقة نظرة فاحصة ّثم‬
‫ً‬
‫التفت وعقد حاجبيه قائال‪:‬‬
‫‪" -‬أبادول" كلمة نوبية‪ ،‬تعني ّ‬
‫الجد (أبا) بمعنى ( أبى) و( دوول) بمعنى (كبير)‪.‬‬
‫ً‬ ‫ابتسم "أنس" ومازح ّ‬
‫جده قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫حسنا يا أبادول‪...‬من كسر الشجرة‪ ،‬وملاذا ألقى الكتاب على األرض؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬رّبما "صفية"‬
‫‪ -‬ولكن أين هي "صفية"!‬
‫‪ -‬أو زوجها‪..‬ربما!‬
‫قطة يا ّ‬‫ّ‬ ‫‪ -‬ال أرى ّ‬
‫جدي؟‬ ‫العم "راغب" هنا كذلك! هل لديك‬
‫وكأنه وجد ضالته وقال‪:‬‬‫الجد حاجبيه ّ‬ ‫رفع ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أحيانا تقفز القطط من نافذة الحديقة‪ ،‬سأخبر "راغب" ليبحث عنها‪.‬‬ ‫‪ -‬ربما‪،‬‬
‫‪ -‬جدي‪..‬هل أنت بخير؟ يدك ترتجف!‬
‫ً‬
‫سريعا على وجهه ابتسامة‬ ‫الجد أن "أنس" قد الحظ ارتباكه فرسم‬ ‫أدرك ّ‬
‫واسعة وأمسك بذراع حفيده وسار معه وهو يقول‪:‬‬
‫السكر قد انخفض في دمي‪.‬‬ ‫معدل ّ‬ ‫‪ -‬لم أفطر حتى اآلن‪ ،‬يبدو أن ّ‬
‫ُث ّم قال وهو ّ‬
‫يحثه على السير‪:‬‬
‫ّ‬
‫"صفية"‬ ‫معا‪ ،‬فقد أعدته‬ ‫هيا‪ّ ،‬بدل مالبسك لنتناول الفطير الشهي ً‬ ‫هيا ّ‬‫‪ّ -‬‬
‫ّ‬
‫خصيصا لك‪ ،‬فهي تستعد منذ أيام لوصولك‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪ -‬اشتقت للحديث معها‪ ،‬ولقصصها عن ّ‬
‫جدتي‪.‬‬
‫جدا‪.‬‬ ‫جدتك ُت ّ‬
‫حبها ً‬ ‫‪ -‬نعم‪ ،‬كانت ّ‬
‫ً‬
‫حريصا على إخفاء الكتاب عن عين حفيده‬ ‫سار "أنس" مع ّ‬
‫جده الذي كان‬

‫‪19‬‬
‫اللحظات كانت تتعالى الهمسات في‬
‫ُ‬ ‫قبل أن يخرج من غرفة املعيشة‪ ،‬في تلك‬
‫غرفة األشباح بالطابق العلوي‪ ،‬هناك صوت أنثوي رفيق يصدر من تلك‬
‫الغرفة الغريبة و ينادي على "أنس"‪...‬بينما هو يمضغ قطعة من الفطير‬
‫ّ‬
‫"صفية" عن جدته التي توفيت قبل أن‬ ‫جده وينصت لحكايات‬ ‫الساخن بجوار ّ‬
‫يولد‪.‬‬
‫وقف "أنس" ليراقب اهتزاز األغصان من نافذة املطبخ‪ ،‬لم يغادره مذ أنهى‬
‫ّ‬ ‫وجده‪ ،‬كان املطبخ ً‬‫طعامه هو ّ‬
‫دافئا وكانت أحاديث "صفية" و زوجها ‪ -‬واللذان‬
‫يعمالن في هذا البيت منذ عمر طويل ‪ -‬عن املاض ي لطيفة وحميمية‪ ،‬وضع‬
‫"أنس" كوب الشاي على طرف املائدة برفق وهمس لجده وهو ي ّ‬
‫مد يده‪:‬‬
‫جدي‪.‬‬‫‪ -‬أعطني مفتاح املكتبة يا ّ‬
‫ً‬
‫متوترا قال‪:‬‬ ‫التفت الجد‬
‫‪ -‬دعك من القراءة اآلن واجلس معي فاإلجازة طويلة‪.‬‬
‫‪ -‬إذن فلنذهب ً‬
‫معا‪.‬‬
‫ً ُ‬ ‫ّ‬
‫الجد للحظات‪ ،‬وأطرق قليال ث ّم أخرج املفتاح من جيبه وأعطاه‬ ‫تردد‬
‫لحفيده وقال له‪:‬‬
‫املرة ال ّبد أن تذهب وحدك‪.‬‬
‫‪ -‬هذه ّ‬
‫جده‪ ،‬فهو يعلم حرصه الشديد على‬ ‫تعجب من كالم ّ‬ ‫ابتسم "أنس" فقد ّ‬
‫أبدا يذهب إلى املكتبة وحده! أسرع بالتقاط املفتاح من يد‬‫كتبه ولم يتركه ً‬
‫جده وهرول إلى املكتبة‪ ،‬بينما وقف الثالثة ‪ -‬الجد وصفية و زوجها راغب ‪-‬‬ ‫ّ‬
‫يراقبونه من خلف زجاج نافذة املطبخ املطلة على الحديقة‪ ،‬لو التفت إليهم‬
‫ألفزعته عيونهم الشاخصة تجاهه! ّ‬
‫لكنه لم يلتفت‪.‬‬
‫دلف "أنس" إلى الغرفة بعد أن فتح بابها بصعوبة‪ ،‬يبدو أن املفتاح القديم‬
‫قد صدئ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كانت الغرفة باردة ً‬
‫جدا على عكس أجواء الحديقة التي دفأتها أشعة‬
‫الشمس‪ ،‬وكانت تعبق برائحة الورق العتيق املمتزج برائحة الرطوبة‪ ،‬التفت‬
‫كل ّ‬
‫مرة يقرر أن يقرأ‬ ‫بتمعن‪ .‬في ّ‬
‫بعد أ ن قام بإضاءة املصابيح وراقب الرفوف ّ‬

‫‪20‬‬
‫لكنه في النهاية يستقر على كتاب واحد‪ .‬ويرفض ّ‬
‫الجد أن‬ ‫العديد من الكتب ّ‬
‫وكأنها قطع من ماضيه وذكرياته‬ ‫أبدا‪ ،‬فتلك الكتب غالية عليه ّ‬ ‫يعيره ًّأيا منها ً‬
‫حزينا ويظ ّل على شوقه حتى يعود في‬ ‫تستقر على الرفوف‪ .‬كان "أنس" يعود ً‬
‫إجازة أخرى ليقرأها‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ً ُّ‬
‫من عادته أن يقرأ اسم الكتاب أوال‪ ،‬ثم يطالع شكل الغالف‪ ،‬ثم يقرأ اسم‬
‫وأخيرا يطالع الفهرس بسرعة‪ .‬ملح على أحد الرفوف العلوية مجموعة‬ ‫ً‬ ‫املؤلف‪،‬‬
‫من الكتب تشبه ذاك الكتاب الذي رآه اليوم في غرفة املعيشة حيث كان‬
‫ملقى على أرض الغرفة‪ .‬نفس الغالف الجلدي الباهت‪ ،‬نفس اللون القريب‬
‫املبتل بماء املطر‪ ،‬وقد شابته لفحات من لون آخر يشبه لون‬ ‫ّ‬ ‫من لون التراب‬
‫ّ‬
‫قشر البرتقال الجاف‪ ،‬ونفس األوراق الصفراء العتيقة‪ .‬استدار ليحمل السلم‬
‫كتابا من تلك‬‫الرف‪ّ ،‬ثم تسلقه بحذر ليسحب ً‬ ‫وقربه من ّ‬ ‫املسنود على الجدار ّ‬
‫ً ٍ‬ ‫ّ‬
‫املجموعة‪ ،‬اهتز السلم الخشبي فأسرع يهبط خوفا من السقوط‪.‬‬
‫وكأنه صوت صرصور يعبث بالورق‪.‬‬ ‫تناهى إلى سمعه صوت غريب‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫تجاهل الصوت وكاد يسحب ً‬
‫كتابا من رف آخر ليفاجأ بالكتب العتيقة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التي كانت تستقر على الرف العلوي تطير في الهواء‪ .‬حلقت فوقه وكأن هناك‬
‫ّ‬ ‫خفية ّ‬ ‫ًيدا ّ‬
‫تحركها‪ ،‬كانت صفحاتها تتقلب بسرعة رهيبة‪ ،‬تصاعد صوت أنين‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫شخصا ُيعذب‪ ،‬تاله صراخ رهيب أفزع "أنس"‪ ،‬حاول أن يهرب‬ ‫ً‬ ‫وكأن هناك‬
‫يحدق في الكتب وهي تدور حوله في‬ ‫لكن ساقيه تسمرتا بأرض الغرفة‪ ،‬كان ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫دوامة‪ ،‬توقفت الكتب فجأة وظلت معلقة في الهواء للح ظات ثم هوت على‬
‫بقوة انخلع لها قلبه‪،‬‬ ‫ودوى صوتها ّ‬ ‫أرض الغرفة بانتظام في حلقة حوله َّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫متراكما على أرض الغرفة فشكل هالة من الدخان‬ ‫تصاعد الغبار الذي كان‬
‫ّ‬
‫الخفيف حوله‪ ،‬عادت صفحات الكتب تتقلب بسرعة كطواحين الهواء‪،‬‬
‫انتشرت رائحة غريبة تشبه رائحة الصدأ‪ّ ،‬ثم انغلقت األغلفة فجأة ّإال ً‬
‫كتابا‬
‫مفتوحا أمام "أنس" الذي كان يشعر بنبضات قلبه في عنقه‪ ،‬كانت‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫واحدا ّ‬
‫ظل‬
‫األوردة نافرة توشك على االنفجار‪ ،‬شفتاه وعضالت وجهه ترتجف في فزع‪،‬‬
‫وقد احتقن وجهه ‪ ،‬رفع يده التي كانت ترتجف ومسح وجهه‪ّ ،‬ثم بصعوبة‬
‫حرك قدميه تجاه الكتاب وانحنى ينظر إليه‪ ،‬كانت صورة وجهه تظهر تدر ً‬
‫يجيا‬ ‫ّ‬
‫شبحا يرسمها بينما هو ينظر! ازدرد ريقه‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫وكأن هناك‬ ‫على الصفحة األولى‬
‫بوجل وأغلق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مرة أخرى فيها وكأنه ال يصدق‪ ،‬ثم مد يده‬ ‫وحدق ّ‬ ‫بصعوبة ّ‬
‫ٍ‬
‫‪21‬‬
‫الكتاب ليقرأ عنوانه‪ ،‬كانت هناك كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح‬
‫"إيكادولي "‪ ،‬قلب الكتاب باح ًثا عن اسم الكاتب فلم يجده‪ّ ،‬‬
‫لكنه فزع عندما‬
‫رأى العالمة التي رآها في الكابوس ليلة أمس على سطح ماء النهر الذي كاد‬
‫يسقط فيه قبل أن يستيقظ‪ ،‬كانت العالمة مكتوبة باللون األحمر الكرزي‬
‫كل صفحات الكتاب كانت خالية من الكالم!‬‫على الغالف من الخلف‪ ،‬بيد ّأن ّ‬
‫التقط "أنس" الكتاب وركض إلى داخل البيت‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪22‬‬
‫(‪)2‬‬

‫" غرفة األشباح "‬

‫كان الجد في غرفة املعيشة عندما اقتحم "أنس" الباب وركض نحوه‪ّ ،‬ثم‬
‫جلس بجواره وبين يديه الكتاب‪ ،‬أنفاسه املتسارعة والتي كان يلتقطها من فمه‬
‫تسببت في جفاف حلقه ولسانه‪ ،‬صاح بفزع ‪:‬‬
‫‪ -‬الجن‪..‬تلك الغرفة مسكونة ال ريب‪ ...‬األرواح‪ ...‬األشباح‪.‬‬
‫‪ -‬اهدأ يا "أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬الكتب تطير‪ ...‬و‪ ..‬و‪ ..‬األوراق تتحرك بسرعة‪ ..‬هناك صوت يصدر من بين‬
‫الكتب‪.‬‬
‫الجد بنظرة ثاقبة وقال ّ‬
‫بجدية‪:‬‬ ‫حدجه ّ‬
‫‪ -‬هل رأيت الرمز؟‬
‫انقطعت أنفاس "أنس" فجأة‪ ،‬لم يتوقع هذا السؤال! ازدرد ريقه وقال‬
‫بخفوت‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫أي رمز!‬
‫الجد بعلبة السكر التي أحضرتها "صفية" قبل دخول "أنس"‬‫ّ‬ ‫أمسك‬
‫بلحظات مع كوب آخر من الشاي الساخن وسكبها على سطح الطاولة ثم‬
‫حرك إصبعه ورسم الرمز الذي رآه "أنس" في الكابوس وعلى ظهر الكتاب‪ ،‬كان‬
‫الرمز يشبه حرف "تي" باللغة اإلنجليزية ‪..‬‬
‫ـــــ‬
‫‪T‬‬
‫‪23‬‬
‫قمة الحرف‪ ،‬حملق في وجه ّ‬
‫جده ّثم سأله‪:‬‬ ‫وفوقه خط أفقي يوازي ّ‬
‫جدي أرجوك‪ ،‬ماذا يعني هذا الرمز؟‬‫‪ -‬أخبرني يا ّ‬

‫‪ -‬ا لرقم ثالثة باللغة النوبية ‪ ..‬تويكو ‪ .. toycko‬لقد اختارك الكتاب يا‬
‫"أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجد واتجه إلى رفوف خشبية معلقة على جدار الغرفة وسحب‬ ‫وقف‬
‫ّ‬
‫الكتاب الذي كان بالغرفة عندما وصال من محطة القطار‪ ،‬ووجده كالهما‬
‫ملقى على األرض‪ ،‬أمسكه ّ‬
‫الجد أمام صدره وقال ّ‬
‫بجدية‪:‬‬
‫‪ -‬لقد اختارني من قبل كتاب "أبادول" ومعناها ّ‬
‫الجد كما أخبرتك‪ ،‬وكان‬
‫رمزي الرقم واحد ويرا ‪ .. wera‬أما والدك فاختاره كتاب "أمباب تود"‬
‫ومعناه ابن أبيه وكان رمزه الرقم اثنان‪ ..‬أويووو ‪ .. oywwo‬كال الكتابين‬
‫يحكي قصة‪ ،‬صراع بين الخير والشر‪ ،‬النهار والليل‪ ،‬األبيض واألسود‪ ،‬وكان‬
‫ال ّبد من التدخل!‬
‫صدق‪ ،‬هذا هراء‪ ،‬الكتاب جماد! ال ّبد أن هناك أرواح تعبث به أو ّ‬
‫جن‬ ‫‪ -‬ال ُأ ّ‬
‫يسكنه!‬
‫الجد بذراع حفيده وسحبه‪ ،‬سارا ً‬
‫معا تجاه غرفة "أنس"‪ ،‬قال وهو‬ ‫أمسك ّ‬
‫يسير بخطوات سريعة‪:‬‬
‫حية يا ولدي‪ّ ،‬إنها تتنفس‪ ،‬تعيش‪ ،‬وتشعر بنا‪.‬‬
‫‪ -‬تلك الكتب ّ‬
‫ّ‬
‫هز "أنس" رأسه باستنكار وقال‪:‬‬
‫‪ -‬مستحيل!‬
‫‪ -‬ما حدث معك حدث مع أبيك ومعي ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ال أدري عن أي ش يء سيحكي كتابك‪ ،‬فالكلمات لن تظهر إال لك‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫‪ -‬ال أفهم‪.‬‬
‫لجد باب غرفة "أنس" وأمسك حقيبة حفيده الجلدية وأخرج منها‬ ‫فتح ا ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الحاسوب النقال ثم قلبها على الفراش ليفرغ ّ‬
‫كل ما بها‪ ،‬ثم قال وهو يتجاهل‬
‫نظرات "أنس" الذي بدا عليه الضيق ألشيائه املبعثرة‪:‬‬
‫‪ -‬بعد أن تبدأ رحلتك ستظهر الكلمات على السطور‪ ،‬صفحة بعد صفحة‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا أفرغت حقيبتي بتلك الطريقة يا ّ‬
‫جدي!‬
‫‪ -‬لن تحتاج لتلك األشياء‪ ،‬سأز ّودك ببعض األشياء ّ‬
‫األهم‪ ،‬ال بد أن تستعد‪،‬‬
‫ولتحمد هللا أن هناك من يدلك فقد كنت أمض ي في رحلتي قبلك ّ‬
‫ألول ّ‬
‫مرة‬
‫ً‬
‫وحيدا بال دليل‪..‬هيا تعال معي‪.‬‬
‫‪ -‬إلى أين؟‬
‫غرفتي‪...‬هيا بسرعة الوقت ّ‬
‫ضيق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬ما زلت ال أفهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خشبيا بديع الشكل عليه‬ ‫دلف الجد لغرفته وفتح خزانته وأخرج صندوقا‬
‫مطعمة باللون الذهبي‪ ،‬له قفل نحاس ي المع وبراق‬ ‫نقوش أزهار عجيبة وبارزة ّ‬
‫ُ‬
‫ث ّم قال‪:‬‬
‫‪ -‬يبدأ األمر عندما يختارك ُالكتاب‪ ،‬لتدافع عنه‪ ،‬رّبما عن تاريخ‪ ،‬ور ّبما عن‬
‫قيمة عظمى‪ ،‬سطرها أحد أمراء النوبة املعروفين ً‬
‫قديما وهو األمير "أواوا"‬
‫ً ً‬
‫نبيال‪ ،‬وأميراً‬ ‫ّ‬
‫على أوراق البردي من خالل قصص ألفها بنفسه‪ ،‬كان شابا‬
‫لكن امللك لم ُيحبه‪.‬‬
‫أحبه الشعب‪ّ ،‬‬‫طيب الخلق ّ‬ ‫ّ‬
‫الجد قالدة عجيبة ألبسها ألنس فور أن سحبها من الصندوق‪ ،‬و‬ ‫ّ‬ ‫أخرج‬
‫ٌ‬ ‫ي‬ ‫ر‬
‫زجاجة صغيرة ز قاء تحتو على سائل أسود لزج محفوظة في علبة مبطنة‬
‫بالقطيفة الحمراء‪ ،‬وقال بجدية‪:‬‬
‫ّ ّ‬
‫لدي إال القليل فحافظ عليه‪.‬‬ ‫‪ -‬ستحتاجه‪ ،‬لم يتبق‬
‫‪ -‬ما هذا؟‬
‫‪25‬‬
‫ً‬
‫عجيبا له مقبض ذهبي نقوشه بديعة‬ ‫ً‬
‫خنجرا‬ ‫لكنه سحب‬ ‫الجد ّ‬
‫لم ُيجبه ّ‬
‫ودسهما في الحقيبة الجلدية الخاصة بأنس‪ ،‬قال "أنس" ّ‬
‫بتوتر‪:‬‬ ‫ّ‬
‫الشكل‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫خنجرا!‬ ‫‪-‬خ ّ‬
‫نجر ولم سأحتاج‬
‫‪ -‬ليس ّ‬
‫مجرد خنجر عادي يا "أنس"‪ ....‬ستقطع به مسافات طويلة‬
‫‪ -‬كيف!‪ ..‬وإلى أين سأذهب!!‬
‫‪ -‬سأخبرك بالتفصيل بعد أن ّ‬
‫أمدك بما أملكه ور ّبما سيفيدك‪.‬‬
‫ّ‬
‫"الجد" من الغرفة وهو يشير له ليتبعه‪.‬‬ ‫خرج‬
‫سأله "أنس" ّ‬
‫بتعجب وهو يتحسس القالدة ّ‬
‫ويتأمل النقوش التي عليها‪:‬‬
‫‪ -‬هل كان ذاك امللك يكره ابنه "أواوا"؟‬
‫ً‬
‫ممتلئا بالحقد‬ ‫عمه‪ ...‬امللك "كاشتا" الذي لم ُينجب ً‬
‫أبدا‪ ،‬وكان قلبه‬ ‫‪ -‬بل ّ‬
‫تجاه أخيه امللك "أالرا"‪ ،‬كان يغار منه فقتله ليفوز بالعرش‪.‬‬
‫‪ -‬واألمير؟ ماذا حدث له؟‬
‫الجد إلى صالة االستق بال حيث كانت تتدلى من السقف ثريا بديعة‬ ‫أسرع ّ‬
‫وكأنه يبحث عن ش ي ء ما‪ ،‬وقال على مهل وعيناه‬ ‫بتمعن ّ‬ ‫ّ‬
‫يتفحصها ّ‬ ‫ووقف‬
‫ّ‬
‫معلقتين بالثريا التي تتدلى من السقف‪:‬‬
‫وحبس في سرداب تحت‬ ‫حراس امللك القبض على األمير النبيل"أواوا"‪ُ ،‬‬ ‫‪ -‬ألقى ّ‬
‫األرض مع زوجته وأبنائه‪ ،‬كانوا يطعمونهم كالكالب‪ ،‬يلقون إليهم بالطعام‬
‫ضيقة‪ ،‬حتى األطفال لم يرحموهم من هذا القهر‪ ،‬حتى ر ّق إلى‬ ‫من فتحة ّ‬
‫حالهم أحد الجنود فكان يحمل إليهم املزيد من الطعام في الخفاء‪ ،‬وطلب‬
‫بعضا من األوراق ليبدأ بالكتابة والتدوين‪ ،‬وعكف على‬ ‫منه األمير"أواوا" ً‬
‫مرجعا ألبنائه ‪ ،‬ليتعلموا منها‪ ..‬نفدت األوراق فانتقل ينحت‬ ‫ً‬ ‫كتابتها لتكون‬
‫على الجدران‪ ،‬لم يتمكن من التوقف عن التدوين‪ ،‬كان يكتب طوال‬
‫وظل يكررها‬‫بقيتها لزوجته‪ّ ،‬‬‫الوقت‪ّ ،‬ثم امتألت الجدران فجلس يحكي ّ‬
‫عليها حتى ال تنساها‪ ...‬ولكن‪...‬‬

‫‪26‬‬
‫‪ -‬ما الذي حدث؟‬
‫ً‬
‫متوترا ومرتبكا بينما "أنس" يتبعه كظله وهو ّ‬
‫ً‬ ‫كان ّ‬
‫يتحرك بالبيت‪ .‬ما‬ ‫الجد‬
‫لكنه كان ينصت ّ‬
‫لجده بتركيز شديد‪:‬‬ ‫يسمعه كان أكبر مما يستوعبه عقله‪ّ ،‬‬

‫ظنت زوجته ّأنه سيموت‪ ،‬أوصاها‬ ‫شديدا‪ّ ،‬‬


‫ً‬ ‫‪ -‬مرض األمير "أواوا" ً‬
‫مرضا‬
‫وصيته األخيرة ُث ّم اختفى فجأة‪ ،‬فقد فوجىء ّ‬
‫الحراس بزوجته وأبنائه‬
‫وحدهم داخل السرداب! كما اختفى معه الحارس الذي كان يساعده‪،‬‬
‫استيقظت زوجته ولم تجده! في هذا الوقت لم يكن ابنه قد ّ‬
‫أتم العاشرة‬
‫من عمره بعد‪ ،‬فخرجت زوجة األمير ومعها ابنها وابنتها ‪ ،‬وحملت معها‬
‫وخلفت وراءها ما على الجدران ر ً‬ ‫ّ‬
‫غما عنها‪ ،‬لو ملكت أن‬ ‫كتابات زوجها‪،‬‬
‫تنزع الجدران لفعلت‪ ،‬اكتفت بما تحمله من أوراق وما تحفظه من حكايا‪،‬‬
‫ّ‬
‫هربت بابنها وابنتها واختفت لفترة طويلة‪ ،‬ولم تعد إال بعد أن علمت بوفاة‬
‫امللك الظالم‪ ،‬خالل فترة اختفائها كانت تقرأ ما ّ‬
‫دونه زوجها على ابنها‬
‫جدا على استيعاب مثل‬ ‫كل يوم‪ ،‬وكانت شقيقته ما زالت صغيرة ً‬ ‫األكبر ّ‬
‫تلك األمور‪.‬‬
‫مد يده إلى قطع الكريستال‬ ‫الجد عن سرد الحكاية على "أنس" ُث ّم ّ‬
‫توقف ّ‬
‫ا لبديعة التي كانت تتدلى من الثريا وبدأ يجذبها‪ ،‬أشار ألنس وقال ّ‬
‫وكأنه‬
‫يستعجله‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬اقترب فأنت أكثر مني طوال‪ ،‬اخلع القطع الزرقاء التي تبرق فقط‪،‬‬
‫ستحتاجها هناك‪ ،‬لقد أخفيتها هنا منذ سنوات‪.‬‬
‫رفع "أنس" عينيه تجاه الثريا وأخذ يحملق في قطع الكريستال‪ ،‬كانت‬
‫لكنه بعد لحظات بدأ ّ‬
‫يميز‬ ‫جميعها متشابهة‪ ،‬المعة وتبرق! ال اختالف بينها‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫خفيفا وكأنها تضاء من‬ ‫ً‬
‫وميضا‬ ‫التي تبرق بشكل غريب عن غيرها‪ ،‬كانت تومض‬
‫ّ ّ‬
‫كفه كلما التقط‬ ‫الداخل‪ ،‬بدأ يخلعها واحدة تلو األخرى‪ ،‬كان يشعر بحرارة في‬
‫لجده الذي وضعها في كيس جلدي حتى مأله ّ‬
‫ودسها في‬ ‫واحدة منها‪ ،‬أعطاها ّ‬
‫حقيبة أنس‪ .‬سأله أنس وما زال القلق يستبد به‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا حدث لهم؟‬
‫‪ -‬عندما كبر االبن واشتد عوده وخرج للحياة‪ ،‬صدم بالواقع‪ ،‬وبحث حوله‬
‫‪27‬‬
‫شيئا من تلك املبادئ! فغضب غضبة‬ ‫عما قرأه في كتابات والده فلم يجد ً‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫شديدة‪ ،‬وتعملق الشر في نفسه إثر الظلم الذي وقع على والده وعليهم‪،‬‬
‫ّ‬
‫التمسك‬ ‫ورأى من منظوره الضيق أن تلك املبادئ ال تصلح للحياة‪ ،‬وأن‬
‫حرا ال يخضع لحدود وال‬ ‫وأن من أراد الحياة ال ّبد أن يكون ًّ‬ ‫بها ضعف‪ّ ،‬‬
‫تحكمه قيم‪ ،‬وأن هذا هو األبقى واألصلح للحياة األهنأ واألرغد‪ ،‬عاث في‬
‫لكنه تراجع عندما غضب‬ ‫فسادا‪ ،‬وأقبل على كتابات أبيه ليحرقها ّ‬ ‫ً‬ ‫األرض‬
‫الكثيرون منه وبدأوا يدونونها بأنفسهم في أماكن متفرقة ليحفظوها مرةّ‬
‫أخرى‪ ،‬فقد انتشرت بشكل كبير واشتهر أبوه بها‪ ،‬بعد فترة تخللتها الكثير‬
‫بارع في الكتابة‪ ،‬فساعده في تغيير محتوى‬ ‫لئيم ٍ‬‫بكهل ٍ‬
‫من األحداث استعان ٍ‬
‫ّ‬
‫الكتابات والقصص التي كتبها والده األمير "أواوا" قبل وفاته وكأنه ينتقم‬
‫منها‪ ،‬كره ما فيها وألقى عليها اللوم وكأنها السبب‪ُ ،‬زّيفت العبارات وحتى‬
‫القصص قلبت نهاياتها وأصبح البقاء لألكثر سوداوية ً‬
‫وخبثا‪.‬‬
‫مرت األيام والشهور وكبرت شقيقته وقرأت ما بالكتب‪ ،‬وآل أمر حكم‬
‫البالد إليهما‪ ،‬فتنازعا أمر الحكم فيما بينهما‪ ،‬وأصبح االبن األكبر يحارب‬
‫ظلت على نقائها وفطرتها ولم تنس ً‬ ‫ّ‬
‫أبدا ما روته ّأمها‬ ‫شقيقته الصغرى التي‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عن أبيها من فضائل‪ ،‬وأنكرت ما فعله‪ ،‬انقلب عليها ثم حبسها في نفس‬
‫املكان الذي ُحبس فيه من قبل‪ ..‬و‪....‬‬
‫ً‬
‫قاطعه " أنس" قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن تلك الكتب رغم اصفرار أوراقها ولونها املختنق هي حديثة عهد‬
‫بالطباعة مقارنة ملا تحكيه لي‪ ،‬ليست تلك أوراق ّ‬
‫بردي!‬
‫الجد وقال ّ‬
‫بحدة‪:‬‬ ‫تعصب ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ال تقاطعني فالوقت يمر‪ ،‬دعني أكمل لك الحكاية حتى ال يداهموننا فجأة‬
‫وأنت غير مستعد‪.‬‬
‫‪ -‬من هم؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أغمض الجد عينيه وتجاهل السؤال األخير وبدا وكأنه يصر على إكمال ما‬
‫ً‬
‫أوال حتى ال ينس ى ً‬
‫شيئا وقال‪:‬‬ ‫يسرده على حفيده‬

‫‪28‬‬
‫ً‬
‫منحوتا على أجزاء من‬ ‫‪ -‬عثر علماء اآلثار على اسم األمير "أواوا" املختفي‬
‫تمثال فخاري مهشم ألسير مقيد‪ .‬يبدو أن عمه "كاشتا" قد طلب صنعه‬
‫عندما فشل في العثور عليه‪ ،‬وهشموه عن قصد‪ .‬كانوا يعتقدون أنه في‬
‫حالة صنع مجسد للعدو‪ ،‬وكتابة اسمه عليه‪ ،‬ومن ثم تهشيمه‪ ،‬فإن ذلك‬
‫سيلحق به األذى أو يقتله عن طريق السحر‪ .‬فقد رغبوا في إيذائه ‪ -‬عن‬
‫طريق السحر ‪ -‬طاملا أنهم كانوا عاجزين عن إلحاق األذى به‪ ،‬هكذا كان‬
‫اعتقادهم‪ .‬كما عثر علماء اآلثار أثناء الحفر على األوراق املزيفة بجوار‬
‫التمثال‪ ،‬وكانت مهترئة تفوح منها رائحة الصدأ‪ ،‬ولم يتمكن أحد من قراءة‬
‫نظرا لحالتها السيئة‪ ،‬كانت تتمزق وتتفتت بين أصابعهم‪ ،‬بقيت‬ ‫ما فيها ً‬
‫صفحات قليلة منها وتم إهمالها ورأى الباحثون ّأنها ليست ذات قيمة‪،‬‬
‫تركوها مهملة حتى يقرروا هل سيعرضونها في متحف على حالتها أم ماذا‪،‬‬
‫بحرص شديد في أغلفة مخصصة‪ ،‬وعاد إلى‬ ‫ٍ‬ ‫سرقها أحدهم وجمعها‬
‫ظانا أنها من املمكن أن تباع ويحصل على ثروة إن‬ ‫الفيوم‪ ،‬وحملها لبيته ً‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أفلح في تهريبها وبيعها‪ ،‬وبات ليلته ُيفكر في الرموز ال قليلة التي بقيت على‬
‫األجزاء السليمة منها‪ ،‬في اليوم التالي استيقظ على صوت عجيب ّ‬
‫وكأن‬
‫أحدهم يعبث في األوراق‪ ،‬وفوجىء بها وقد تجددت‪ ،‬والكلمات والرموز وقد‬
‫اتضحت‪ ،‬فعكف يترجمها للغة العربية واحدة تلو األخرى‪ ،‬رتب أموره‬
‫وقام بدفع رشوة إلى العمال الذين يقومون بالحفر في املكان األثري الذي‬
‫كانوا يبحثون فيه‪ ،‬وزعم أنه قد عثر على كتابات جديدة في بقعة آخرى‪،‬‬
‫تضم ً‬
‫بعضا من‬ ‫ضجة كبيرة فقد كانت ّ‬ ‫أحدث اكتشافه هذا ‪ -‬كما زعم ‪ّ -‬‬
‫الحكم والقصص النوبية القديمة‪ ،‬وتم طباعتها بإشراف هذا الباحث بعد‬
‫كل الكلمات‪،‬‬‫ذلك‪ .‬ومرت سنون ابتلعت فيها صفحات الكتب ال تي ُطبعت ّ‬
‫تشربت األحبار املطبوعة‪ ،‬رفضت الكتب أن تعكس األكاذيب التي تسبب‬
‫ابن األمير أواوا في نشرها حين طمس ِحكم ومبادئ وقصص أبيه‪ ،‬وحان‬
‫وقت استعادة الحقيقة ولك دور في هذا!‬
‫‪ -‬وكيف عرفت ّ‬
‫كل هذا؟‬
‫‪ -‬ألنني ذهبت إلى هناك بنفس ي‪.‬‬
‫‪ -‬إلى أين؟‬

‫‪29‬‬
‫‪ -‬مملكة غريبة‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫أي مملكة!‬
‫‪" -‬مملكة البالغة"‪.‬‬
‫جدي‪...‬أليس كذلك!‬‫‪ -‬أنت تمزح معي يا ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بحنق ث ّم قال وهو يثقبه بنظراته‪:‬‬
‫زفر الجد ٍ‬
‫‪" -‬أنس"‪ ،‬األمر أكبر مما تظنه‪ ،‬هي بالفعل مملكة غريبة‪.‬‬
‫هرول "أنس خلف ّ‬
‫جده وسأله‪:‬‬
‫جدي غريب ويوترني‪ ،‬هل سأسافر اآلن؟‬ ‫‪ -‬أريد أن أفهم‪ ،‬ما تفعله يا ّ‬

‫‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬إلى أين‪...‬النوبة؟‬
‫‪ -‬ال‪..‬ال‪ ...‬تلك ليست بالد النوبة! كما أخبرتك سترحل إلى "مملكة البالغة"‪.‬‬
‫جده بعصبية لم‬ ‫متوترا وكاد يفقد عقله‪ ،‬سأل ّ‬
‫ً‬ ‫ضحك "أنس" بتهكم‪ ،‬كان‬
‫يفلح في إخفائها‪:‬‬
‫أي مملكة تلك!‬ ‫‪ّ -‬‬
‫دائما يشبه ذاك الذي نراه في نهار الشتاء‪،‬‬‫‪ -‬أرض غريبة‪ ،‬املناخ فيها ً‬
‫الشمس باهتة‪ ،‬لن تكون ً‬
‫واثقا ّأنها أشرقت‪ ،‬وفي ذات الوقت ال تستطيع‬
‫أن تنفي ّأنها هناك! ستشعر ً‬
‫دائما بالبرودة‪ ،‬الطيور هناك يغطيها ر ٌ‬
‫يش‬
‫غريب الشكل واللون‪ ،‬ستجدها أكبر ً‬
‫حجما مما هي عليه هنا‪ ،‬املاء أخضر‬
‫كل ش يء‪ ،‬األشخاص غريبوا األطوار والهيئة‬ ‫اللون‪ ،‬الضباب يلف ّ‬
‫كل مجموعة منهم أتوا من حقبة زمنية مختلفة‪ ،‬وبيئة‬ ‫واملالبس‪ّ ،‬‬
‫وكأن ّ‬
‫وكأن هناك من جمعهم فجأة من أزمنتهم أو استدعاهم ملهمة ما‪،‬‬‫مختلفة‪ّ ،‬‬
‫كما ستنتقل أنت إلى هناك‪.‬‬
‫ّثم التفت ّ‬
‫جده إليه وطالعه بنظرة جادة وقال‪:‬‬
‫‪30‬‬
‫‪ -‬لقد تم استدعاؤك اليوم‪.‬‬
‫‪ -‬ومن قال أنني سأذهب!‬
‫‪ -‬بل ستذهب إن شاء هللا‪.‬‬
‫الجد َبنبرة واثقة وهو يركز في عيني "أنس" الذي رفع كتفيه باستنكار‬
‫قالها ّ‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لن أذهب‬
‫‪ -‬بل ستذهب!‬
‫بربك ما الدليل على وجود تلك اململكة؟ ال ّبد من دليل مادي قوي‬
‫‪ -‬أخبرني ّ‬
‫ً‬ ‫قبل أن أصدق ً‬
‫كالما كهذا‪ ،‬ما عدت ذاك الغالم الذي يحب القصص‬
‫جدي‪..‬أرجوك ت وقف عن معاملتي بتلك الطريقة أنت وأبي‪...‬لقد‬‫الخيالية يا ّ‬
‫كبرت‪.‬‬
‫‪ -‬ألننا نخش ى عليك‪ ،‬لن تفهمنا اآلن يا "أنس"‪ ،‬رّبما عندما تعود من رحلتك‬
‫ستجد لنا العذر‪.‬‬
‫الجد إلى غرفة املعيشة ً‬
‫باحثا عن الكتاب الذي اختار حفيده والذي‬ ‫عاد ّ‬
‫كان عنوانه كلمة لم يسمع بها "أنس" من قبل‪" ...‬إيكادولي" وقام بوضعه في‬
‫ً‬ ‫الحقيبة‪ُ ،‬ث ّم التقط هاتفه ّ‬
‫الجوال‪ ،‬والتفت لحفيده قائال‪:‬‬
‫‪ -‬هل تثق بي؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫طبعا‪.‬‬
‫‪ -‬أتظنني أكذب عليك؟‬
‫‪ -‬ربما أنت تمزح معي يا ّ‬
‫جدي!‬
‫بني كيف ظهرت فجأة شجرة األبانوس تلك في بيتي وتيبست‬ ‫‪ -‬أخبرني يا ّ‬
‫كالصنم بعد عودتي منذ سنوات؟‬
‫ً‬ ‫ُث ّم رفع رأسه ً‬
‫ناظرا لسقف الغرفة ّ‬
‫املزين بالنقوش وأردف قائال‪:‬‬
‫‪31‬‬
‫ّ‬
‫املطعمة بالنحاس املوجودة على أسقف‬ ‫‪ -‬وكيف ظهرت النقوش الغريبة‬
‫ّ‬
‫البيت كله هنا فجأة بعد عودة أبيك من رحلته هناك؟‬
‫جدي؟‬‫تفسر هذا يا ّ‬‫‪ -‬وبم ّ‬
‫‪ّ -‬إنها هدايا "الحراس" لنا على ما ّ‬
‫قدمناه‪.‬‬
‫‪ -‬أي حراس؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫حراس املكتبة‬
‫أي مكتبة؟‬‫‪ّ -‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الجد الهاتف على أذنه بعد أن قام باالتصال بابنه "كمال" وقال‬ ‫رفع‬
‫بصوت حاد‪:‬‬
‫‪ -‬ال تتأخر يا "كمال"‪...‬لقد اختاره الكتاب‪ ،‬ال ّبد ّأنهم على وصول!‬
‫‪..... -‬‬
‫ً‬
‫حسنا نحن في انتظارك يا ولدي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ّ‬
‫تسارعت دقات قلب "أنس"‪ ،‬كان يشعر بها في أعلى عنقه‪ ،‬وصوتها املتسارع‬
‫كان يطغى على مسامعه‪ ،‬يبدو أن أباه في الطريق بالفعل‪ ،‬قال بصوت‬
‫متحشرج‪:‬‬
‫‪ -‬هل ً‬
‫حقا زار أبي ً‬
‫أيضا تلك اململكة!‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬كيف سافر؟‪..‬أو انتقل كما تقول؟ وأنت ً‬
‫أيضا؟‬
‫‪ -‬صقر كبير‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫تذكر "أنس" الطائر الذي يراه في الكابوس‪ ،‬ومخالبه الكبيرة وهي تقبض‬
‫ّ‬
‫على كتفيه‪ ،‬فسرت قشعريرة في جسده كله كالنار‪ ،‬قال وقد زاغت نظراته‪:‬‬
‫‪32‬‬
‫‪ -‬يحملكم من أكتافكم ويلقي بكم هناك‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬ليس هذا ما يحدث بالضبط فاألمر صعب التفسير ولكن‪ ..‬بلى سيحملك‬
‫الصقر إلى هناك‪.‬‬
‫‪ -‬وأين هذا الصقر؟‬
‫‪ -‬يظهر في الغرفة املوجودة بالطابق العلوي‪.‬‬
‫‪ -‬غرفة األشباح!‬
‫رفع ّ‬
‫الجد يده ّ‬
‫وهز سبابته بعصبية وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أما زلت ً‬
‫مصرا على تسميتها بهذا االسم؟ ال توجد أشباح‪.‬‬
‫‪ -‬بل توجد وها أنت تحكي عنها‪.‬‬
‫ّ‬
‫ستصدقها عندما تراها بنفسك‪.‬‬ ‫‪ -‬هي حقائق‪...‬‬
‫‪ -‬وملاذا ال يظهر هذا الصقر في الحديقة أو املكتبة!‬
‫الجد بنظرة توحي ّ‬
‫بأنه سيخبره بأمر مهم وقال‪:‬‬ ‫رمقه ّ‬
‫ً‬
‫تحديدا وفوق أرض‬ ‫‪ -‬السبب هو البعد الجغرافي يا ولدي‪ ...‬فوق تلك البقعة‬
‫غرفة األشباح ‪ -‬كما تسميها أنت ‪ -‬عكف عالم اآلثار الذي أخبرتك عنه‬
‫والذي كان يعيش هنا على ترجمة الرموز والحروف وإعادة كتابة تلك‬
‫القصص باللغة العربية واحدة تلو األخرى‪ ،‬مشوهة كما زيفوها ً‬
‫قديما‪،‬‬
‫وكأن الروح قد ّدبت فيها‪،‬‬‫ّ‬ ‫فغضبت الكلمات‪ ،‬واستيقظت الحروف‪،‬‬
‫واجتمعت الكتب وقررت أن تختار من يدافع عن القيم واملعاني السامية‪.‬‬
‫كل مكان لتبحث عن املحاربين‪ ،‬الذين يؤمنون‬ ‫فأرسلت الصقور في ّ‬
‫باملبادئ السامية‪ ،‬ليدافعوا عنها ويستردوا الحقيقة‪.‬‬
‫‪ -‬إذن هناك صلة بين الحكام هناك والكتب؟‬
‫‪ -‬بل بين حروف الكتابة ّ‬
‫وحراس املكتبة‪ ...‬ستعرف عندما تصل إلى هناك‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ولكن ما الذي يجبرني على تصديق هذا الكالم؟ وملاذا سأسلم نفس ي‬
‫لصقر! كل هذا يدفعني إلى الجنون يا ّ‬
‫جدي‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫‪ -‬ال ّبد أن ترحل‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬ألن امتناعك عن إجابة نداء الكتب سيعرضك للخطر هنا‪ ،‬فهناك من‬
‫يترصدونك‪ ،‬كما ّأنك ستلتقي بأعداء هناك ولديهم عيون‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني بالعيون؟‬
‫‪ -‬الرمز كما يظهر لك يظهر ألحد أعدائك‪ ،‬سيتربصون بك ويرسلون لك‬
‫صي ًادا تلو اآلخر‪ ،‬ليأسرك أو يقتلك قبل أن تصل إلى الحقيقة هناك‪ .‬كما‬ ‫ّ‬
‫أن هذا سيؤدي إلى محو القيمة السامية ال تي في كتاب "إيكادولي" إلى األبد‬
‫‪ ..‬ستقرأ األجيال القادمة ما سيكتب وسيصدقونه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫صمت ّ‬
‫الجد هنيهة ث ّم سأله‪:‬‬
‫‪ -‬واآلن‪ ،‬ما هي الكلمة التي ترددت في النداء؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫أي نداء!‬
‫‪ -‬ذاك الصوت الذي سمعته يناديك في الحلم‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف عرفت أنني سمعت ً‬
‫نداء في الحلم؟‬
‫‪ -‬أخبرني أبوك‪ ،‬فقد هاتفني فور خروجه من محطة القطار‪ ،‬رأى ما رسمته‬
‫على الزجاج‪...‬الرمز!‬
‫فغر "أنس" فاه ولم ينبس ببنت شفة‪ ،‬اآلن فقط انتبه‪ ،‬لقد كانت الكلمة‬
‫التي تتردد هي "إيكادولي ‪ ...‬إيكادولي"‪ ،‬كانت الفتاة التي تقولها تطيل الحرف‬
‫وكأنها تصيح به‪ ،‬صوت عذب جميل تشوبه مسحة ألم وأنين كنوح‬ ‫األخير ّ‬
‫سيارة أجرة‪ ،‬لقد وصل للتو‪ ،‬ترك "كمال" باب ّ‬
‫السيارة‬ ‫الحمام‪ .‬ارتفع زامور ّ‬
‫ّ‬
‫مفتوحا وركض نحو البيت بعد نقد السائق األجرة‪ ،‬اقترب "كمال" وطالع ولده‬ ‫ً‬
‫ّ‬ ‫بإشفاق ُثم ّ‬
‫مد يده وأظهر سلسلة كان يرتديها في عنقه يتدلى منها مفتاح قديم‬ ‫ٍ‬
‫نحاس ي اللون وأمسك بيد "أنس" ووضع املفتاح فيها وأطبقها على املفتاح‬
‫بقوة ّ‬
‫وكأنه يؤكد على أهميته‪ ،‬سأله "أنس" وما زال القلق‬ ‫بحنان ُث ّم ضغط ّ‬
‫ً‬
‫قابعا في عينيه‪:‬‬
‫‪34‬‬
‫‪ -‬ما هذا املفتاح؟‬
‫علقه مع القالدة‪ ،‬منذ أن بدأ الكابوس يتكرر عليك ً‬ ‫ّ‬
‫يوميا وأنا‬ ‫‪ -‬ستحتاجه‪،‬‬
‫أحمله لكي أعطيه لك في الوقت املناسب‪.‬‬
‫ُ‬
‫نظر "أنس" لوجه أبيه القلق وهو يربت على كتفه بحنان‪ ،‬ث ّم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ال ّ‬
‫أود أن أرحل يا أبي‪...‬ملاذا أنا؟‬
‫مسح األب بحنان على ّ‬
‫خد ابنه وقال بإشفاق‪:‬‬
‫‪ -‬أين الفضول؟ وأين ّ‬
‫حس املغامرة؟ ألم تخبرني أنك مللت من حياتك‬
‫الرتيبة ّ‬
‫وأنك تشتاق لتغيير ما في حياتك‪ ،‬ظننتك ّ‬
‫تود أن تلتقي بشبح!‬
‫أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬وهل تلك أشباح؟‬
‫‪ -‬ال يا ّ‬
‫بني‪ ...‬األمر مختلف!‬
‫ّ‬
‫خاص يختاره‪ .‬كتاب جدي معناه الجد األكبر‪ ،‬وكتابك‬ ‫‪ -‬إذن ّ‬
‫لكل منا كتاب‬
‫يا أبي معناه ابن أبيه و عنوان كتابي "إيكادولي" وهي تعني الحفيد إذن؟‬
‫‪ -‬ال!!‬
‫‪ -‬إذن ماذا تعني يا أبي؟‬
‫‪ -‬أحبك‬
‫‪ -‬وأنا أيضا يا أبي أحبك‪ ...‬فأخبرني اآلن أرجوك ما معنى تلك الكلمة‪.‬‬
‫الجد إليهما وهما يتعانقان وقال َبنبرة ساخرة‪:‬‬
‫التفت ّ‬
‫‪ -‬أيها الساذج!‪" ...‬إيكادولي" تعني ّ‬
‫"أحبك"‪.‬‬
‫قوية ّ‬
‫اهتزت لها جدران البيت‪ ،‬سقطت أوراق‬ ‫هبت ريح ّ‬ ‫في تلك اللحظة ّ‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫وكأن فصل الخريف ّ‬
‫حل فجأة‪ ،‬طارت األوراق ثم‬ ‫بكثافة‬
‫ٍ‬ ‫أشجار الحديقة‬

‫‪35‬‬
‫رشقت النوافذ فصدر صوت مخيف مزعج‪ ،‬أظلمت السماء‪ ،‬وامتألت بالغربان‬
‫ً‬
‫موجها‬ ‫كأنها تحاول اختراقها‪ ،‬صاح ّ‬
‫الجد‬ ‫السود‪ ،‬تدافعت الطيور نحو النوافذ ّ‬
‫كالمه لحفيده والذي كان ً‬
‫فاغرا فاه وقد اتسعت عيناه‪:‬‬
‫‪" -‬أنس" أسرع إلى الغرفة‪ ،‬فهي آمن مكان لك اآلن‪.‬‬
‫صاح "كمال" وهو يدفع ابنه أمامه على الدرج‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬لن ترحل تلك الطيور إال بعد أن يحلق فوق البيت‪.‬‬
‫قال "أنس" وهو يصعد الدرج بخطوات متردده‪:‬‬
‫‪ -‬من؟‬
‫‪ -‬الرمادي"‬
‫‪ -‬وما هو "الرمادي"؟‬
‫‪ -‬الصقر الذي سيحملك إلى هناك‪.‬‬
‫‪ -‬أهذا هو اسمه؟‬
‫‪ -‬نعم‪...‬‬
‫‪ -‬أنا خائف يا أبي‪.‬‬
‫قبل رأسه وقال بحنان‪:‬‬ ‫وضمه إلى صدره بقوة‪ُ ،‬ث ّم ّ‬
‫عانق "كمال" ابنه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وثابتا مهما كان ّ‬ ‫ً‬
‫صادقا ً‬
‫"الرمادي" فلن‬ ‫الثمن‪ ،‬وال تخف من‬ ‫‪" -‬أنس" كن‬
‫يؤذيك‪.‬‬
‫شيئا لوالده وهو يساعده في رفع الحقيبة على ظهره‪ ،‬لوال‬ ‫كاد "أنس" يقول ً‬
‫صوت تحطم الزجاج الذي دوى في بهو البيت‪ ،‬لقد استطاعت الغربان أن‬
‫ّ‬
‫تحطم النوافذ‪ ،‬كانت تتجه مباشرة نحو الطابق العلوي‪ ،‬نحـ ـ ـ ـ ـو "أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس"‪ ،‬إنها‬

‫‪36‬‬
‫تريده‪ ...‬تستهدفه‪ ...‬تطير تجاهه‪.‬‬
‫أدرك "كمال" ّأنها تقترب فدفع "أنس" إلى داخل الغرفة فأسقطه على‬
‫األرض وصاح بصوت يمزقه القلق‪:‬‬
‫‪ -‬أستودعك هللا يا ولدي‪ ...‬في حفظ هللا‪..‬‬
‫عم سكون مهيب على املكان‪...‬‬ ‫وأغلق الباب بسرعة‪ُ ،‬ث ّم بعد لحظات ّ‬
‫ّ‬
‫الرمادي‬ ‫كل األصوات عدا صوت خفق جناحيه في الهواء‪ ،‬لقد بدأ‬ ‫اختفت ّ‬
‫ّ‬
‫يحلق فوق البيت فأضاءت السماء فجأة!‬

‫❐❐❐‬

‫‪37‬‬
‫(‪)3‬‬

‫" الرمادي "‬

‫مستلقيا على أرض الغرفة عندما انفتحت النافذة فجأة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان "أنس"‬
‫أضاءت السماء بنور قوي ناصع‪ ،‬حملق في تلك البقعة السوداء التي تظهر‬
‫اتساعا‪ ،‬وتزيد‪ ،‬وتزيد‪ ،‬ظهر‬ ‫ً‬ ‫وسط الضوء أمامه‪ ،‬كانت البقعة تكبر وتزداد‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫طائر يبسط جناحيه على الجانبين ويخفق بهما‪ ،‬رأى ظله يتعملق أمامه حتى‬
‫ظل يحلق في سقف الغرفة املرتفع في دائرة فوق‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫اندفع فجأة من النافذة ث ّم ّ‬
‫ّ‬
‫رأس "أنس" الذي زحف بصعوبة تجاه باب الغرفة يحاول فتحه لكنه فشل‪.‬‬
‫كان الصقر ذا ظهر أزرق ضارب إلى الرمادي األردوازي‪ ،‬والجسد أسود يخرج‬
‫ضيق مستدير عند نهايته‪ ،‬ذو طرف أسود‬ ‫منه جناحان مبرقشان‪ ،‬وذيل طويل ّ‬
‫وعالمة بيضاء على أقصاه‪ .‬ويظهر أعلى رأسه على الجانبين لون أزرق بديع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جانبي العنق‬ ‫ويمتد على الوجنتين كخط كما الشارب يتباين بشكل حاد مع‬
‫متينا مهيب الطلعة‪.‬‬ ‫الباهتين‪ .‬بدا الصقر ً‬
‫ضم جناحيه‬ ‫هبط الصقر فجأة وانزوى في ركن الغرف وطأطأ رأسه ُث ّم ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وألصقهما بجسده‪ّ ،‬‬
‫حدق في "أنس" بعينيه املخيفتين‪ ،‬ث ّم غطس رأسه في‬
‫كل حواسه‪ ،‬كان‬ ‫مرت لحظات طويلة على "أنس" استيقظت فيها ّ‬ ‫جسده‪ّ .‬‬
‫أي صوت يؤنسه‪ ،‬بالتحديد كان يتمنى أن‬ ‫بشدة لعله يسمع ّ‬ ‫يرهف السمع ّ‬
‫ّ‬
‫مرة أخرى لكنه فشل‪،‬‬ ‫جده من خلف الباب‪ ،‬حاول أن يفتحه ّ‬ ‫يناديه أبوه أو ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كان ً‬
‫األصم وكأنه جزء من الجدار‪ .‬سار ببطء محاوال االقتراب‬ ‫صلبا كالصخر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النافذة‪ ،‬غمغم الصقر وكأنه يحاول أن يمنعه من االقتراب منها فتسمرت‬ ‫من ّ‬
‫ًّ‬ ‫ُّ‬
‫بطرف خفي وهمس محدثا‬ ‫ٍ‬ ‫ساقا أنس والتصقتا باألرض‪ ،‬ثم رمى الصقر‬
‫نفسه‪:‬‬
‫حجما أيها " ا‪..‬ل‪..‬ر‪..‬م‪..‬ا‪..‬د‪..‬ي" كصقور األساطير العمالقة‪.‬‬ ‫‪ -‬ظننتك أكب ر ً‬

‫‪38‬‬
‫فتحرك الصقر موازًيا‬
‫ّ‬ ‫حرك قدمه ببطء شديد ليخطو خطوة أخرى‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫لخطواته فتوقف "أنس" مرة أخرى وقال بسخرية‪:‬‬
‫ً‬
‫تترصدني إذا ّأيها الصغير!‬
‫‪ّ -‬‬
‫ً‬
‫صغيرا يا صديقي‪ ....‬أنا شيخ كبير!‬ ‫‪ -‬لست‬
‫شعر "أنس"وكأن ألف إبرة رشقت جسده‪ ،‬تكورت جذوع الشعر على جلده‬
‫ّ‬
‫فاستحال جلد إوزة‪ ،‬الصقر يتكلم! ابتلع ريقه بصعوبة وكأن كتلة من‬
‫ّ‬
‫األشواك تحتل حلقه‪ ،‬بسمل وحوقل وبدأ يقرأ آية الكرس ي لعله يختفي من‬
‫ّ‬
‫الكابوس‪..‬لكنه لم يكن ً‬ ‫ّ‬
‫حلما‬ ‫أمامه‪ ،‬أغمض عينيه لعله يستيقظ من ذاك‬
‫ّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬باغته الصقر ّ‬ ‫ً‬
‫أبدا! لم يتمكن من تحريك جسده ّ‬
‫وهب فجأة محلقا‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫بضربة جناح واحدة ووقف على كتفه األيسر‪ ،‬ثم همس في أذنه‪:‬‬
‫‪ -‬ال تخف ّ‬
‫مني يا "أنس"‪.‬‬
‫كانت قطرات العرق تنسال على ظهر "أنس" متتابعة‪ ،‬وكاد يفقد الوعي‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محدقا بطرف عينيه بتربص نحو موضع‬ ‫يخشب رقبته‬ ‫لكنه تماسك‪ .‬كان‬
‫ظن ّأنه سينقره في رقبته أو‬ ‫الصقر وراءه‪ّ ،‬‬
‫وكأنه يخش ى انقضاضه عليه فجأة‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫وساكنا‪ .‬مرت دقيقة وهما على ذاك الحال‬ ‫لكن الصقر كان ً‬
‫هادئا ً‬
‫جدا‬ ‫ُأذنه ّ‬
‫مرة أخرى وقال بلطف‪:‬‬ ‫وكأنهما تمثاالن من الشمع‪ً .‬‬
‫أخيرا نطق الصقر ّ‬
‫‪ -‬هل هدأت اآلن؟ ال ُأ ّ‬
‫حب أن نبدأ رحلتنا وأنت ترتجف هكذا‪.‬‬
‫حرك "أنس" عينيه تجاه كتفه وأدار رأسه ببطء وكذلك فعل الصقر‬ ‫ّ‬
‫كل منهما في اآلخر للحظات‪ ،‬ازدرد "أنس" ريقه‬ ‫ّ‬
‫تماما وحدق ّ‬
‫فتقاربت عيناهما ً‬
‫بصعوبة وقال بصوت مرتعش‪:‬‬
‫‪ -‬ال ُأ ّ‬
‫صدق ّأنك ستحملني؟‬
‫زفر الصقر فالمست أنفاسه بشرة "أنس" فانتصبت شعيرات ذقنه‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الخفيفة‪ ،‬ث ّم قال له وهو يتسلق رأسه‪:‬‬
‫‪ -‬ال تسير األمور بتلك الطريقة يا صديقي‪ ،‬سأحملك حتما ولكن بطريقتي‬
‫الخاصة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫استوى الصقر على رأس "أنس" الذي رفع مقلتيه ألعلى بينما بسط الصقر‬
‫ُ‬
‫وبهدوء شديد‪ ،‬حيث‬‫ٍ‬ ‫جناحيه في الهواء‪ ،‬ث ّم احتضن وجه أنس بهما ببطء‬
‫ّ‬
‫غطى وجهه كله بريش جناحيه ريشة فوق ر ٍ‬
‫يشة بانتظام‪ ،‬جبهته وعينيه وأذنيه‬
‫وخديه‪ ،‬لم يترك إال أنفه وفمه ليتمكن من التنفس والكالم‪ .‬شعر "أنس"‬
‫خف جسده ّ‬
‫وكأنه‬ ‫فشيئا ّ‬
‫ً‬ ‫يخدر‪ ،‬وسرى في نفسه شعور غريب‪ً ،‬‬
‫شيئا‬ ‫بجسده ّ‬
‫يظن أن ريش جناح الصقر ما‬ ‫الصقر! حاول فتح عينيه‪..‬كان ّ‬
‫ريشة في جناح ّ‬
‫كل ش يء حوله‪،‬‬ ‫لكنه فوجئ بنفسه يطير وقد غمر الضباب ّ‬ ‫زال يغطيهما‪ّ ،‬‬
‫لفحته الرياح الباردة‪ ،‬وشعر برذاذ خفيف يبلل جبينه وكفيه‪ ،‬رائحة املطر‬
‫الخفيف داعبت أنفه‪ ،‬عطس فجأة فإذا بصوت الصقر يصدر من أعاله‪:‬‬
‫‪ -‬يرحمك هللا يا صديقي‪.‬‬
‫رفع رأسه ففوجئ بالصقر وقد ازداد حجمه أضعاف حجمه الحقيقي الذي‬
‫ّ‬
‫رآه منذ قليل في الغرفة‪ ،‬كانت مخالبه تقبض على كتفي "أنس" حيث يحلق به‬
‫ً‬
‫فوق "مملكة البالغة"‪ ،‬ر ّد بعد أن اضطرب قليال وتأرجح بجسده من املفاجأة‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ياهلل!‪ ...‬يا له من شعور غريب!‬
‫‪ -‬ال تخف من السقوط‬
‫‪ -‬ال أصدق!‬
‫‪ -‬بل ّ‬
‫صدق واستعد ملا هو أكثر مفاجأة لك‬
‫‪ -‬هل وصلنا؟‬
‫‪ -‬اقتربنا‪ ،‬حاول أن تستمتع بالطيران‪.‬‬
‫بدأ الشعور بالخوف يغادر ص ـ ـ ـدر "أنس" وحـ ـ ـ ـ ّل مكانـ ـ ـه تدر ً‬
‫يجيا الشعـ ـ ـ ـ ـور‬
‫حس املغامرة يدغدغ نفسه‪ ،‬كانت حياته راكدة لفترة طويلة‪،‬‬ ‫بالفضول وبدأ ّ‬
‫مستأنسا بحواره معه‪:‬‬‫ً‬ ‫وها هي األمور تتغير فجأة! سأل "الرمادي"‬
‫‪ -‬هل تعرف ّ‬
‫جدي؟‬

‫‪40‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫‪ -‬أخبرني أبي ّأنك صديق‪.‬‬
‫‪ -‬أتمنى أن أحوز لديك نفس املكانة التي حزتها عند أبيك‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ّ‬
‫تتحدث كالبشر؟‬
‫‪ -‬ال تسأل‪.‬‬
‫‪ -‬ال ّبد أن أسأل!‬
‫يمر‪ ،‬حاول أن تتقبل بعض‬ ‫‪ -‬إذن ستقض ي وقتك ّكله في األسئلة‪ ،‬والوقت ّ‬
‫األشياء كما هي‪ ،‬ال تسأل ّإال ّ‬
‫عما يفيدك‪ّ ،‬أما ما ال يعنيك وال يفيدك فال‬
‫تضيع وقتك بالركض خلفه‪.‬‬
‫ً‬
‫متلعثما‪:‬‬ ‫قال "أنس"‬
‫‪ّ -‬إنه‪ ...‬فضول أنيس‪.‬‬
‫ً‬
‫استعدادا للهبوط‪:‬‬ ‫قال الصقر وهو يخفف من سرعة طيرانه‬
‫‪ -‬بعض الفضول قد يفيد‪ ،‬وبعضه قد يؤذيك‪ ،‬فاحذر يا صديقي‪.‬‬
‫ّ‬
‫سرت طمأنينة في نفس "أنس"عندما تذكر والده وهو ينصحه بنفس‬
‫النصيحة‪ ،‬بنفس الكلمات عندما كان يجلس بجواره في محطة القطار‬
‫ّ‬
‫"الرمادي" يقترب‬ ‫ً‬
‫سريعا عندما بدأ‬ ‫باإلسكندرية‪ ،‬لكن تلك الطمأنينة تالشت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مصب النهر األخضر‪ .‬تسارعت دقات قلبه أكثر فأكثر‪ ،‬كاد يقفز من بين‬ ‫به من‬
‫ن‬
‫ضلوعه‪ ،‬كان البرد يزداد كلما اقتربا من سطح املاء‪ ،‬بينما كان لو املاء‬
‫الزمردي يزداد بهاء وو ً‬
‫ضوحا‪.‬‬ ‫األخضر ّ‬
‫هبت رياح خفيفة فمسحت وجه املاء مخلفة وراءها تموجات متوازية‬ ‫ّ‬
‫بديعة‪ ،‬من بعيد وعلى شاطئ النهر كانت أوراق األشجار املتساقطة تدور مع‬
‫خفية تتالعب بها‪ ،‬كادت ساقا "أنس" تلمس املاء‪،‬‬‫وكأن هناك أياد ّ‬ ‫الرياح‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫"الرمادي" وبعد أن حلق به برشاقة فوق سطح املاء تركه على ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ضفة النهر‬ ‫لكن‬
‫ّ‬
‫وارتفع محلقا لدورة كاملة قبل أن يعود ليقف أمامه من جديد ويحني رأسه‬

‫‪41‬‬
‫ضم جناحيه وألصقهما بجسده فبدا ّ‬
‫وكأنه أمير‬ ‫وكأنه يحييه‪ ،‬من جديد ّ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتطوح‪ ،‬للحظات قليلة كان قد فقد‬ ‫يتلحف برداء أنيق‪ .‬كان "أنس" ما زال‬
‫اتزانه‪ّ ،‬‬
‫لكنه تمالك نفسه وقال بعفوية‪:‬‬
‫سريع ً‬
‫جدا‪.‬‬ ‫‪ -‬أنت ٌ‬
‫ران عليهما صمت خفيف قبل أن ّ‬
‫يحرك الصقر جناحيه ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬واآلن اسمح لي أن أنصرف‪ ،‬انتهت مهمتي‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن! ماذا سأفعل أنا!‬
‫‪ -‬سيستقبلك "املغاتير" ويصحبونك للقاء "الحوراء"‪.‬‬
‫‪ -‬ومن هم "املغاتير"؟‬
‫‪ -‬قوم صالحون يخفون وجوههم فال تهبهم‪.‬‬
‫‪ -‬ولم يخفون وجوههم!‬
‫‪ -‬ال ينتظرون الشكر‪ ،‬وال يبتغون األجر‪ ،‬استغنوا عن الناس فأغناهم هللا‬
‫ً‬
‫ودائما هم في الطليعة‪ .‬انتظرهم‬ ‫عن الناس وصار الجميع يحتاجون إليهم‪،‬‬
‫هنا على أطراف الغابة خارج حدودها وال تتحرك من مكانك فهم لن‬
‫يدخلوها ً‬
‫أبدا‪.‬‬
‫ً‬
‫رفع "أنس" حاجبيه وكاد يسأله ملاذا لوال ّأن "الرمادي" باغته قائال‪:‬‬
‫ّ‬
‫سأمر عليك في وقت الحق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫ومتجه ـ ـ ـ ـا‬ ‫مبتعدا عـ ـ ـ ـ ـن "أنس"‬ ‫ث ّم بسط جناحيه وارتقى يحلق في الفض ـ ـاء‬
‫قمته هالة حمراء قاتمة‪ ،‬برزت من وسطها تلك‬ ‫صوب جبل مهيب أحاطت ّ‬
‫القمة بشموخ وقد كساها الجليد األبيض‪ ،‬شعر "أنس" بقشعريرة تجتاح‬ ‫ّ‬
‫جدا‪ .‬صاح وهو يركض موازياً‬ ‫الجو بار ًدا ً‬
‫ّ‬ ‫جسده عندما رأى الجليد‪ ،‬كان‬
‫لطيران الصقر على األرض‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬أرجوك ال تتركني اآلن‪ ،‬أريد أن أسألك عن أشياء كثيرة‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫أجابه "الرمادي" وهو يبتعد‪:‬‬
‫‪ -‬ستجيبك عنها جاللة امللكة‪.‬‬
‫توقف "أنس" عن الركض حيث انتهى ُالطريق ووقف على حافة ٍ‬
‫واد كبير‪،‬‬
‫بيأس وهو يراقب‬
‫ٍ‬ ‫أوشك أن يسقط فيه لوال ّأنه انتبه ث ّم أرخى ذراعيه‬
‫"الرمادي" وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫وداعا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫َ‬
‫عاد "الرمادي" للتحليق فوقه وقال بنبرة حميمية‪:‬‬
‫‪ -‬ال تقل ً‬
‫وداعا يا صديقي‪ ،‬بل قل إلى اللقاء‪.‬‬
‫ً‬
‫حسنا‪..‬إلى اللقاء‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يتلفت حوله ّ‬
‫يتأمل األشجار التي‬ ‫مخلفا وراءه "أنس" وهو ّ‬
‫ً‬ ‫اختفى "الرمادي"‬
‫ّ‬ ‫ل‬
‫وكأنها تطالعه بفضو ‪ ،‬سار بضع خطوات نحو ممر ضيق بينها‪ ،‬أجفل‬ ‫بدت ّ‬
‫عندما تناهى إلى سمعه حفيف األشجار وشقشقة العصافير‪،‬‬
‫مرة أخرى‪،‬‬ ‫تحسس القالدة التي ألبسها له ّ‬
‫جده وطالع النقوش التي عليها ّ‬
‫فأحس باإلرهاق‪ ،‬تفحص ساعة يده فإذا بعقاربها ال تتحرك! لقد‬‫ّ‬ ‫طال سيره‬
‫ً‬
‫توقفت عند الواحدة ظهرا‪ ،‬نفس التوقيت الذي غادر فيه بيت جده!‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تذكر شعوره وهو يحلق في الهواء‪ ،‬مزيج من الخوف والحماس بدأ يعتمل‬
‫فزعا كما كان لحظة‬ ‫في صدره‪ ،‬استعاد رباطة جأشه على نحو سريع! ما عاد ً‬
‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫مرة‪ ،‬بل ّ‬ ‫ظهور الصقر ّ‬
‫خف ذاك الشعور‪ ،‬وما عاد خائفا كما كان‬ ‫ألول ّ‬
‫والكتب تدور حوله في غرفة املكتبة‪ ،‬لكنه بالطبع قلق‪ .‬استغرقته املشاهد‬
‫مر به خالل الساعات املاضية في شرود بينما ينتظر ظهور‬ ‫وهو ّ‬
‫يجتر ما ّ‬
‫( ‪)1‬‬
‫"املغاتير" ‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫‪ - 1‬املغاتير لقب يطلق على نوع من اإلبل البيضاء النفيسة جميلة املظهر وغ زيرة الوبر‪ ،‬يقول عنها أهل البادية‪ :‬املغاتير نور‬
‫القلب‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫ّ‬ ‫يمر ً‬ ‫ملح "أنس" ً‬
‫طيفا ّ‬
‫قريبا منه قد افترش ظله على األرض وقبل أن يلتفت‬
‫نحوه فوجئ بخبطة على كتفه فالتفت ّ‬
‫متأه ًبا وأمسك بذراع هذا الذي باغته‬
‫ً‬
‫واضعا ركبته فوق صدره‬ ‫فجأة من الخلف وسحبه ثم انقلب به على األرض‬
‫ّ‬
‫وقابضا بأصابعه العشرة على رقبته‪ ،‬ابتسم الشاب بسخرية وقد فتح كفيه‬ ‫ً‬
‫مظهرا استسالمه الكامل لـ"أنس" وقال بصعوبة من أثر قوة قبضة "أنس" على‬ ‫ً‬
‫أنفاسه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫‪ -‬مهال يا رجل‪ ،‬وددت فقط أن أر ّحب بك‪.‬‬
‫خفف "أنس" من قبضته وتركه وتراجع إلى الخلف‪ ،‬تحسس الشاب رقبته‬
‫وقال بنظرة ماكرة‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو ّأنك تمارس الرياضة‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬من أنت؟ وماذا تريد؟‬
‫تعلمت تلك املهارات؟ ّ‬ ‫ّ‬
‫هيا أخبرني؟‬ ‫‪ -‬أين‬
‫حدجه "أنس" بنظراته‪ ،‬بدا وجه الشاب يحمل مسحة من الوسامة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫البني‪ ،‬وبشرته الباهتة وفكه العريض‪ ،‬وتلك النظرة الساخرة التي ُت ّ‬ ‫بشعره ّ‬
‫طل‬
‫من عينيه الضيقتين‪ ،‬لكن تلك املالمح جعلت "أنس" يرتاب منه‪ .‬كان ّ‬
‫يظن أنه‬
‫سيلتقي بأناس سمر البشرة وبمالمح نوبية‪ ،‬كتلك التي قرأ عنها ورآها من قبل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سأله متجاهال سؤاله األخير قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ما اسمك؟‬
‫‪ -‬أنا "شهاب" وأنت؟‬
‫‪" -‬أنس"‪.‬‬
‫ً‬ ‫ويتأمله ّ‬
‫ّ‬
‫بتمعن ناقال عينيه من أخمص‬ ‫بدأ "شهاب" يدور حول "أنس"‬
‫ُ‬
‫قمة رأسه‪ ،‬ث ّم قال باستخفاف‪:‬‬
‫قدميه وحتى ّ‬
‫‪ -‬تبدو ً‬
‫غريبا عن املكان‪ ،‬ألك صديق هنا؟‬
‫أجابه "أنس" ّ‬
‫بتحفز‪:‬‬

‫‪44‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫الرمادي‪.‬‬
‫‪ -‬ذاك الكهل األحمق‪.‬‬
‫ّ‬
‫شعر "أنس" باإلهانة وكأن ّ‬
‫السبة وجهت له‪ ،‬فأخفى غضبه وسأله‪:‬‬
‫‪ -‬وهل تعرفه؟‬
‫‪ -‬أنا أعرف الجميع هنا‪...‬حتى ذاك الكهل البغيض‪.‬‬
‫ّ‬
‫بدأ كالهما يدور حول اآلخر‪ ،‬سأله "أنس" بترقب‪:‬‬
‫‪ -‬هل‪...‬أنت مثلي!‬
‫للحظات قبل أن يقترب‬
‫ٍ‬ ‫خرجت من "شهاب" قهقهات عالية‪ ،‬استغرقته‬
‫ص فيه بسحنة ّ‬
‫متوعدة‪:‬‬ ‫حد مالمسته وقد َش َخ َ‬‫منه ّ‬
‫ُ‬
‫لست مثلك!‬ ‫‪-‬‬
‫ُّ‬
‫ثم تغيرت مالمحه الضاحكة فجأة وصارت صارمة‪ ،‬وقال وهو يتراجع إلى‬
‫الخلف‪:‬‬
‫‪ -‬أنا لست مثل أحد‪...‬أنا مختلف! أنا ّ‬
‫مميز‪.‬‬
‫التفت "أنس" تجـ ـاه الطريق املمتـ ـ ـد أمام ـ ـ ـ ـه بين األشج ـ ـ ـار ورم ـ ـ ـ ـاه بنظ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة‬
‫ُ‬
‫خاطفة ث ّم قال بهدوء محاكيا طريقة "شهاب" في الكالم‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫‪ -‬كيف تعالج األمور هنا؟‬
‫أي أمور؟‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ُ‬
‫كل اتجاه ث ّم قال‪:‬‬ ‫طاف "أنس" بنظراته في ّ‬
‫كل ش يء‪...‬أود أن أعرف ما دوري‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬ليس لديك دور هنا‪ ،‬أنت مجرد شاهد‪.‬‬
‫‪ -‬على ماذا؟‬

‫‪45‬‬
‫‪ -‬على ما ستراه هنا من أحداث‪.‬‬
‫‪ -‬ال ّ‬
‫أظن‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ومن أنت حتى تظن أو حتى تفكر!‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫تجاهل "أنس" نبرة االستخفاف التي شابت الكلمات‪ ،‬وتخطاها قائال‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫لكل منا دور في حياته وحياة اآلخرين‪ ،‬كل كلمة ننطق بها وكل فعل نفعله‪.‬‬
‫‪ -‬لكن األمور هنا ستسير رغم أنفك على طريقة لن تحددها أنت‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬صحيح‪ ،‬وهكذا الحياة كلها‪ ،‬لكن ال تخبرني أننا هنا لنراقب في صمت‬
‫كالجمادات‪.‬‬
‫ّ‬
‫ران عليهما الصمت للحظة‪ ،‬بدا فيها "شهاب" وكأنه ّ‬
‫يجتر بعض الذكريات‬
‫قبل أن يقول َبنبرة تشوبها املرارة‪:‬‬
‫‪ -‬أتدري‪ ،‬ربما أنت على صواب‪ ..‬كلمة (مسئول) قد تقلب حياة شاب‪ ،‬كلمة‬
‫(خبيثة) قد تفرق بين اثنين‪ ،‬وإشاحة بنظرة قد تعني (أكرهك)‪.‬‬
‫رمقه "أنس" وقرأ على وجهه اآللم فتحرك تجاهه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬والتفاتة قد تعني الحب‪ّ ،‬‬
‫مجرد الحضور في موقف ما قد يعني الكثير‬
‫آلخرين دون أن ندرك هذا‪ ،‬لكنهم يدركون‪ ،‬حتى الصمت أحيانا إن كان في‬
‫موضعه الصحيح فله دور‪.‬‬
‫‪ -‬حتى إساءتنا لآلخرين؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬حتى إساءتنا لآلخرين وإساءتهم لنا‪ ،‬أنت مثال قد تعزم على إزاحة‬
‫جبل لكي تثبت ملن آذاك وأساء إليك أنه على خطأ‪ ،‬نحن نتعلم في مدرسة‬
‫الحياة وما زال أمامنا الكثير من الدروس‪.‬‬
‫ً‬
‫إعجابا‪:‬‬ ‫ابتسم "شهاب" وقال وهو ّ‬
‫يهز رأسه‬
‫‪ -‬تبدو حكيما يا فتى‪ ،‬بدأت أحبك‪.‬‬
‫فحص وجه "أنس" قبل أن يقول وهو ّ‬
‫يحك أنفه‪:‬‬ ‫ُث ّم عاد يت ّ‬
‫‪46‬‬
‫‪ -‬كم عمرك؟‬
‫‪ -‬ثالثة وعشرون ً‬
‫عاما‪ ،‬وأنت؟‬
‫‪ -‬خمسة وثالثون ً‬
‫عاما‪.‬‬
‫ثم سكت هنيهة وقال لـ"أنس"‪:‬‬
‫ّ‬
‫هل‪..‬تحب أن تأتي معي؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬إلى أين؟‬
‫‪ -‬حيث أقيم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لكنني ال ّبد أن ألتقي امللكة ّأوال‪.‬‬
‫‪ -‬الحوراء؟‬
‫‪ -‬نعم هي "الحوراء"‬
‫ما كادا ينهيان الكالم حتى تناهى إلى سمعهما صوت حوافر الخيـ ـ ـ ـول وهي‬
‫ُ‬
‫تضرب األرض ‪ ،‬أفزع صهيلها "شهاب" الذي تلفت في اضطراب ث ّم شهق وقد‬
‫سريعا وشق الطريق بين األشجار ّ‬
‫وكأن‬ ‫ً‬ ‫كست وجهه عالمات الرهبة وركض‬
‫املوت يطارده! تبعه "أنس" وهو يتساءل عن سبب فزعه‪ ،‬أصابته عدوى الفزع‬
‫ملجرد رؤية نظرات "شهاب" الشاخصة ثم شهقته التي جعلت "أنس" يرتبك‬
‫بشدة‪ ،‬كان "أنس" يركض وعينه على رأس شهاب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫في تلك اللحظة‪ ،‬ارتفع صهيل الخيول ث ّم علت أصوات حوافرها وأصدرت‬
‫شرارة وهي تقدح األرض التي انتقلت إليها للتو بعد أن غادرت البستان املجاور‬
‫للغابة‪ ،‬كانت تلك األرض تبدو ك شريط عريض يفصل بين البستان والغابة‬
‫التي ركض فيها "أنس" خلف "شهاب"‪ ،‬لم تتحرك الخيول خطوة واحدة‪،‬‬
‫واحدا على ذاك الشريط الحجري الفاصل بين الجهتين‪ ،‬وهي‬ ‫ً‬ ‫وقفت ً‬
‫صفا‬
‫تنظر تجاه "أنس"‪ ،‬صاح "الزاجل األزرق" بصوته الجهوري‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ ..‬تأخرنا!‬

‫‪47‬‬
‫ّثم قال بتوجس‪:‬‬
‫‪ -‬بدأت رحلته دون أن يسمع ّ‬
‫منا!!‬
‫❐❐❐‬

‫بحياء فأضاءت شرفات‬ ‫ٍ‬ ‫مالت الشمس فانزاح النقاب عن وجهها‬


‫القصر‪ ،‬جلست"الحوراء" في ديوانها بوقار‪ ،‬حيث كانت ترتدي برنساً‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫مطعمة باألحجار الكريمة‪،‬‬ ‫مرصعا بالجواهر تتدلى منه سلسلة ذهبية‬
‫وسكينة كانت تلف رأسها‬
‫ٍ‬ ‫بمهابة‬
‫ٍ‬ ‫ثيابها البيضاء الواسعة تشعر من يراها‬
‫طويل غطى كتفيها وقد‬‫ٌ‬ ‫بوشاح أبيض وقد انسدل من فوق رأسها ٌ‬
‫شال‬
‫لكنها جميلة!‬‫ّلفته باحتشام على صدرها‪ .‬عجوز كانت ‪ّ ..‬‬
‫حياها بإجالل‪:‬‬ ‫استأذن أحد رجال الديوان وقال بعد أن ّ‬
‫بعض الجند في املنطقة الشرقية‪ ...‬ماذا سنفعل؟‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬موالتي شغب‬
‫ً‬
‫جالسا بالقرب منها وعلى يمينـ ـ ـه الـ ـ ـ ـ ـدواة‬ ‫أشارت "الحوراء" للكاتب الذي كان‬
‫والقلم وأمامه األوراق ّ‬
‫متأه ًبا ليكتب ما ستقوله وقالت‪:‬‬
‫حوجون فيما بعد إلى الطلب‪.‬‬‫‪ -‬ال ُيلب وا على الشغب‪ ،‬وال ُي َ‬
‫مرت لحظات ناقشوا فيها‬ ‫هز رجال الديوان رءوسهم وهمهموا موافقين‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الجند حتى يتفرغوا ملا هو أهم‪ ،‬وهو حماية "مملكة‬ ‫كيف يكفون حاجة ُ‬
‫البالغة" من األعداء‪ّ ،‬ثم قال أحدهم‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬إن أهل املنطقة الشمالية رفعوا مظلمة يشكون فيها عامال هناك‪.‬‬
‫مرة أخرى للكاتب ّ‬
‫ليدون خلفها وقال‪:‬‬ ‫أشارت "الحوراء" ّ‬
‫‪ -‬أرسل لهم‪"...‬عيني تراكم‪ ،‬وقلبي يرعاكم"‬
‫وأمرت "الحوراء" بإرسال من يتحقق من األمر ويعود إليها‪ ،‬ثم التفتت إلى‬
‫أحد رجال القضاء الذي قال وهو يرنو لرجل يقف ً‬
‫بعيدا يراهم وال يكاد‬
‫يسمعهم‪:‬‬
‫‪48‬‬
‫أمرت وهو يستأذن‬
‫‪ -‬موالتي لقد قمت باستدعاء والي املنطقة الغربية كما ِ‬
‫بالدخول‪.‬‬
‫‪ -‬أذنت "الحوراء" له بالدخول وبعد أن ألقى عليها السالم‬
‫قالت بحزم‪:‬‬
‫‪ -‬أخربت البالد‪ ،‬وأهلكت العباد؟‬
‫ً‬
‫فقال الوالي مرتبكا‪:‬‬
‫وقفت بين يديه‪ ،‬وقد قرعتك‬
‫ِ‬ ‫بك إذا‬ ‫‪ -‬يا موالتي‪ ،‬ما ّ‬
‫تحبين أن يفعل هللا ِ‬
‫ِ‬
‫ذنوبك؟‬
‫فقالت "الحوراء‪:‬‬
‫‪ -‬العفو والصفح‪.‬‬
‫قال الوالي بلهجة يشوبها اإلحساس بالذنب‪:‬‬
‫‪ -‬فافعلي بغيرك ما تختارين أن ُيفعل بك‪.‬‬
‫صمتت "الحوراء" لوهلة ّثم قالت‪:‬‬
‫وال مستأنف‪.‬‬
‫فوال مستعطف خير من ٍ‬ ‫‪ -‬قد فعلت‪ ،‬ارجع إلى عملك ٍ‬
‫أسرع الوالي باالنصراف ّ‬
‫وشيعه رجال الديوان بأعينهم ثم قال أحدهم فور‬
‫أن انصرف‪:‬‬
‫ّ‬
‫حكام اململكة ً‬
‫حلما‪.‬‬ ‫حقا يا موالتي ّإنك من أفضل‬
‫‪ً -‬‬

‫قالت"الحوراء"‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا وهللا أستلذ العفو حتى أخاف أال أؤجر عليه‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫فرغ الرجال من باقي مراسيمهم‪ ،‬وانتهى وقت الديوان وعادت "الحوراء"‬
‫ّ‬
‫يستعدون لالحتفال‬ ‫لقصرها واتجهت إلى صالة واسعة حيث كان الجميع‬
‫ّ ( ‪)1‬‬
‫هامة ‪.‬‬ ‫بمناسبة‬
‫❐❐❐‬

‫بعنفوان قبل أن يقفز‬‫ٍ‬ ‫شد "الزاجل األزرق" سرج فرسه الذي صهل‬
‫فيعا يفصل املكان الذي كانوا‬ ‫نهرا ر ً‬
‫عابرا ً‬
‫صاحبه به في الهواء قفزة رشيقة ً‬
‫قصرا مهيب الطلعة‪ ،‬كان القصر بارزاً‬ ‫واد فسيح بين جبلين يحتضن ً‬ ‫فيه عن ٍ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫كل جزء منه كان رائعا في حد ذاته‪ ،‬تحفة‬ ‫وكأنه ُنحت داخل بلورة عمالقة‪ّ ،‬‬
‫وكأنها محار مفتوح تطل منه لؤلؤات‬ ‫فنية ال تشبه ما يجاورها‪ ،‬شرفاته كانت ّ‬
‫ّ‬
‫بديعة‪ ،‬بواباته عليها نقوش والتواءات تشبه فروع األشجار‪ ،‬وكأن األزهار‬
‫أخيرا وكانت قوائم خيولهم‬ ‫املنحوته ّ‬
‫تضج بالحياة من روعتها‪ .‬وقف "املغاتير" ً‬
‫مصطفة على التوازي بشكل أنيق أمام البوابات‪ ،‬رفع "الزاجل األزرق" يده‬ ‫ّ‬
‫ولوح لحراس القصر ففتحت البوابات‪ ،‬فدلف ومعه رفاقه للقاء امللكة‪.‬‬‫ّ‬
‫مرة مهيبة تجاه جناح امللكة‪ ،‬توقفوا‬
‫بخطوات منتظمة سار "املغاتير" في ز ًٍ‬
‫ّ‬
‫جميعا فجأة عندما بدأت األرض ترتفع قليال في مستواها عما خلفهم‪ ،‬تقدم‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫"الزاجل األزرق" حيث استقبله خدام القصر بوجوه باسمة‪ ،‬وكأنهم كانوا‬
‫يترقبون وصوله!‬
‫يخيم على املكان‪ ،‬أشعة الشمس الحانية كانت تتسلل من‬ ‫كان الصمت ّ‬
‫النوافذ لتلقي على األرض أمامه انعكاسات ذهبية خالبة‪ ،‬كانت تتراقص أمام‬
‫ترحب به‪ ،‬بدت النقوش والزخارف بديعة على الحوائط وهي‬ ‫خطواته ّ‬
‫وكأنها ّ‬
‫تصت أوعية من الفخار على الرفوف تطالع أهل القصر‬ ‫تحتضن وتتكاتف‪ ،‬وار ّ‬
‫من أعلى بشموخ‪ .‬دلف حيث كانت امللكة تجلس بوقار وعلى الجانبين عدد‬
‫صفين منتظمين وأمام ّ‬
‫كل منهم طاولة‬ ‫كبير من الرجال يجلسون على األرض في ّ‬
‫والكل مشغو ٌل بالتدوين‪ ،‬كان للملكة وجه به بقايا جمال‬ ‫ّ‬ ‫صغيرة عليها كتاب‬
‫ّ‬
‫متعب‪ ،‬بدت عجو ًزا تخطت السبعين لكنها كانت جميلة الروح‪ ،‬تلك التجاعيد‬
‫ّ‬

‫‪ - 1‬بعض العبارات في حوار ديوان امللكة مقتبسة من حوار الخليفة املأمون في ديوانه‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫التي حول عينيها من الطرفين بدت ّ‬
‫وكأنها تحتضن نظراتها بحنان‪ ،‬كان بؤبؤاها‬
‫شديدي السواد يسبحان في بياض عينيها الشاهق بحياء‪ ،‬سقط حاجباها ّ‬
‫لكن‬
‫هشت فور أن رأت "الزاجل األزرق"‪ ،‬أشارت له‬ ‫بعزة‪ّ ،‬‬
‫شامخا ّ‬‫ً‬ ‫جبينها كان‬
‫ليجلس مكانه ففعل بهدوء‪ ،‬كانت تقف أمامها فتاة احتشمت برداء أرجواني‬
‫بشكل بديع‪ ،‬أكمام ردائها‬ ‫اللون فضفاض واسع‪ ،‬له قلنسوة ّ‬
‫مذهبة األطراف‬
‫ٍ‬
‫الواسعة كانت تصطف على حروفها فصوص من الياقوت األحمر دقيقة ً‬
‫جدا‬
‫ّ‬
‫كتاب بين يديها وبصوت تشوبه بقايا بكاء‪:‬‬
‫كانت الفتاة تقرأ بتأث ٍر من ٍ‬

‫كل ّ‬
‫الرجال‬ ‫أغلقت الفتاة الكتاب بين يديها‪ ،‬وفي نفس اللحظة أغلق ّ‬
‫الكتب أمامهم في آن واحد وكأنهم قد اتفقوا على التوقيت‪ّ ،‬‬
‫وتقدمت الفتاة‬
‫تسلمه لها‪ ،‬وضج املكان بأصواتهم ّ‬ ‫ّ‬
‫وكأنهم‬ ‫بخطوات ثابتة نحو "الحوراء"‬
‫يحتفلون بحدث عظيم‪ .‬كانوا يحتفلون بـ "هيال" وهو اسم ألميرة نبيلة وهو‬
‫ً‬
‫أيضا عنوان قصة يحكي عنها هذا الكتاب‪.‬‬
‫في تلك اللحظة استدارت الفتاة التي كانت تقف أمام "الحوراء" وتقرأ‪،‬‬
‫مكتوبا عليه بخط واضح "هيال"‪ ،‬فهلل الجميع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ورفعت الكتاب الذي كان‬
‫كانت الفتاة مشرقة ولها وجه طفولي بريء‪ ،‬لون عينيها كان يتأرجح بين اللون‬
‫الرمادي واألزرق الشاحب‪ ،‬كانت تطالعهم وعلى وجهها ابتسامة فخر‪ ،‬فور أن‬
‫رأت "الزاجل األزرق" الذي ال تعرف من مالمحه سوى عينيه الواسعتين فهو‬
‫دائما كعادة املغاتير‪ ،‬شخصت بعينيها تجاهه وانتفضت فجأة ّ‬
‫وتغيرت‬ ‫يتلثم ً‬
‫‪51‬‬
‫مالمحها‪ ،‬فهي تريد الرحيل فو ًرا والعودة إلى بيتها وعاملها فقد أدت مهمتها على‬
‫أكمل وجه‪ ،‬وتخش ى أن يتحقق ما أخبرها به الحكيم "سامي كول"!!‬
‫❐❐❐‬

‫ّ‬
‫تقدم "الزاجل األزرق" ووجه ّ‬
‫تحيته للملكة وقال بعد أن الحظت عالمات‬
‫التوتر التي ّ‬
‫تطل من عينيه‪:‬‬
‫‪ -‬موالتي‪ ،‬لقد وصل املحارب‪ ،‬وصل "أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬وأين هو؟‬
‫‪ -‬لألسف ركض في الغابة ولم نتمكن من الحديث معه‪.‬‬
‫‪ -‬يا للمصيبة! كيف حدث هذا! أين الرمادي؟ وأين كنتم أنتم؟‬
‫‪ -‬تأخرنا للحظات فقط‪ ...‬مجرد لحظات‪.‬‬
‫كل كلمة َبنبرة صوتها املميزة‪:‬‬
‫رفعت صوتها وقالت وهي توقع ّ‬
‫‪ -‬أن تصل ً‬
‫مبكرا وتنتظر خير لك من أن تصل بعد فوات األوان‪.‬‬
‫‪ -‬أعلم موالتي‪ ،‬وأعتذر‪ ..‬لن تتكرر‪.‬‬
‫‪ -‬واآلن كيف سنتواصل معه؟‬
‫من بعيد‪ ،‬ومن خلف الستار‪ ،‬كانت َ"مرام" تراقب الحوار وقد كتمت‬
‫أنفاسها عندما سمعت اسم "أنس"‪ ،‬ذاك الشاب الذي يتحدثون عنه تعرفه‪،‬‬
‫فقد أخبرها "سامي كول"‪ ،‬ذاك العجوز ذو اللحية ّأنها ستلتقي بهذا الشاب‪،‬‬
‫وربما تضطر للبقاء‪ ،‬وهي تود الرجوع إلى أهلها في الحال‪.‬‬
‫ركضت خارجة من القصر في فزع والتف حولها العديد من الفتيات والجواري‪،‬‬
‫اتجهت إلى الوادي القريب من القصر تنتظر أنثى الصقر التي ستحملها لتعود‬
‫إلى بيتها‪ ،‬كانت ترتجف‪ ،‬غابت فرحتها فجأة‪ ،‬أرادت أن تتخذ القرار‪ ،‬تريد‬
‫العودة ّ‬
‫لكن ضميرها يؤنبها هل تخبر "الحوراء" بما قاله لها "سامي كول" أم ال؟‬
‫كانت خائفة‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫اقتربت "الحوراء" في موكبها وحولها ّ‬
‫الحراس‪ ،‬من خلفها كان يسير "الزاجل‬
‫ّ‬
‫األزرق" وهو يقلب ما حدث في رأسه‪ ،‬ماذا لو وصل "أنس" إلى الجنوب؟‬
‫في تلك اللحظة قالت "الحوراء" موجهة كالمها لـ َ"مرام" التي بدت على‬
‫مالمحها عالمات االرتباك‪:‬‬
‫شكرا لك يا َ"مرام"‪ ،‬حان وقت الرحيل‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫ودعوها ووقف الجميع رافعين رءوسهم ينتظرون "قطرة الدمع" لتحملها‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫وتعيدها إلى موطنها‪ّ ،‬‬
‫مناد قائال‪:‬‬
‫لكن "قطرة الدمع" ابتعدت فجأة عندما صاح ٍ‬
‫‪ -‬موالي الحكيم "سامي كول"‬
‫التفت الجميع نحو باب القصر‪ ،‬واقتربوا حيث كان يقف الكهل فكلهم‬
‫يعظمونه ويقدرونه ألنه ذو شأن عظيم في اململكة‪ ،‬كان يشير وهو مغمض‬
‫تحلق في السماء والتي يطلقون‬‫ّ‬
‫العينين! رفع ذراعه تجاه أنثى الصقر التي كانت‬
‫عليها "قطرة الدمع" لتبتعد‪ ...‬كان الجميع يتساءلون‪:‬‬
‫ّ‬
‫(ملاذا جاء ذاك الحكيم الذي ال يغادر بيته إال للضرورة في هذا الوقت من‬
‫النهار؟)‬
‫رفعت َ"مرام" رأسها تجاه "قطرة الدمع" التي كانت تحلق فوق رءوسهم في‬
‫ُ‬
‫السماء‪ ،‬تابعتها بنظراتها وهي تبتعد بدون أن تحملها معها كما كانت ترجو‪ ،‬ث ّم‬
‫ترجرجت الدموع في مقلتيها‪ ،‬بدت حائرة ويائسة وقالت بخفوت وهي تسير‬
‫بجوار امللكة‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا يبعد الحكيم "سامي كول" "قطرة الدمع"! ألن تحملني لدياري؟ ألن‬
‫أرحل اآلن؟‬
‫ً‬
‫جديدا‪ ،‬انظري لوجه أبي!‬ ‫‪ -‬يبدو ّأن هناك ً‬
‫خبرا‬
‫تمتمت َ"مرام" قائلة وهي ترنو إليه‪:‬‬
‫‪ -‬بالفعل‪...‬هناك ش يء ما!‬
‫‪ -‬ما هو يا عزيزتي؟‬

‫‪53‬‬
‫زفرت بوهن وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ذاك الشاب الذي كنتم تتحدثون عنه منذ قليل‪..‬‬
‫‪ -‬ما به؟‬
‫بشكل واضح‪ ،‬وأخبرني‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬رأيت اسمه في منتصف كتاب "هيال"‪ ،‬ظهر لي‬
‫مرة أخرى على صفحات كتابي‪،‬‬ ‫العظيم "سامي كول" أن أبلغه إن ظهر ّ‬
‫وأنه من األفضل أن أبقى لو وصل قبل رحيلي‪.‬‬
‫‪ -‬وهل ظهر اسمه ّ‬
‫مرة أخرى؟‬
‫وكأن الكتاب يريد أن يخبرني عنه ً‬
‫شيئا ما‪.‬‬ ‫مرة‪ّ ،‬‬ ‫‪ -‬نعم‪ ..‬أكثر من ّ‬
‫ٌ‬
‫بإخبار أبي؟‬
‫ِ‬ ‫مت‬
‫‪ -‬وهل ق ِ‬
‫‪ -‬بصراحة‪ ...‬ال!‬
‫التفتت "الحوراء" ورمقت "الزاجل األزرق" بنظرة ذات معنى‪ ،‬همهم‬
‫"الزاجل األزرق" وغضن حاجبيه قبل أن يقول وهو يقترب منها‪:‬‬
‫‪ -‬هل كان هناك رمز؟‬
‫قالت َ"مرام" متلعثمة‪:‬‬
‫‪ -‬ال أذكر‪..‬فكما تعلمون كنت مشوشة في الفترة األخيرة حتى أن إكمال‬
‫صعبا ً‬
‫جدا‪.‬‬ ‫مهمتي كان ً‬
‫جل قو ّي البنية بارز العضالت‪ ،‬يرتدي‬‫دلف الجميع إلى القصر يتقدمهم ر ٌ‬
‫ّ‬ ‫َّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وقميصا أبيض ودراعة من الكتان‪ ،‬وعلى رأسه قلنسوة‬ ‫فضفاضا‬ ‫سرواال‬
‫كل من بالقصر‪:‬‬ ‫بيضاء‪ّ ،‬ثم صاح بصوت جهوري ليعلم ّ‬
‫‪ -‬موالي الحكيم "سامي كول"‪.‬‬
‫ارتبك كل من بالقصر‪ ،‬وأسرعت الحوراء نحو الديوان ّ‬
‫تعدل من مكان‬
‫ُ‬
‫جلوس أبيها‪ ،‬ث ّم أمسكت بزجاجة مرصعة باألحجار الكريمة ونثرت بعض‬
‫قطرات العطر منها على الكرس ي بجوارها ّ‬
‫وكأنها تهيؤه الستقباله‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫جلس "سامي كول" تجلله الهيبة وابتسامته العذبة تضوي على ثغره‪،‬‬
‫جدا كشجرة بلوط قديمة‪،‬‬ ‫كانت لديه لحية بيضاء طويلة ناعمة‪ ،‬بدا عجو ًزا ً‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫أيضا!‬ ‫صلبا متماسكا‪ ،‬وأنيقا‬ ‫ولكنه بدا‬ ‫قامته ووهن عظمه‬ ‫َ‬ ‫انحنت‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫كان يرتدي قباء بنفسجية اللون مفتوحة عند الرقبة‪ ،‬أكمامها محالة بخيوط‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫طيلسانا‬ ‫ذهبية‪ ،‬تغطي رأسه قلنسوة زاهية اللون ومطرزة‪ ،‬وعلى كتفيه وضع‬
‫أخضر‪َ.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫حياهم بحبور وشرد بفكره قليال‪ ،‬كانت له عينان شفافتان كالبلور! بدت‬
‫اللب حاذقة‬
‫على وجهه عالمات القلق فأسرعت ابنته بسؤاله وكانت ذكية ِ‬
‫الفهم تقرأ حال أبيها على وجهه فقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت بخير يا أبي؟‬
‫قال بألم وهو يمسح وجهه بكفيه ‪:‬‬
‫‪ -‬مات صديقي الحبيب‪.‬‬
‫‪ -‬رحمه هللا يا أبي‪ ،‬ال تحزن‪.‬‬
‫قالت "الحوراء" الجملة األخيرة وهي تمسح على كتفه مخففة عنه ما ألم‬
‫به من حزن على فراق صديقه العزيز والحبيب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫شاخصا بعينيه ً‬
‫ً‬
‫حزينا وجلست "الحوراء" تواسيه ثم‬ ‫دمعت عيناه وجلس‬
‫قالت بعد أن هدأت نفسه‪:‬‬
‫لكنها رأت اسم "أنس" يتكرر في كتابها‪ ،‬وتقول ّأنك‬
‫‪ -‬أنهت َ"مرام" مهمتها‪ّ ،‬‬
‫أخبرتها أن من الضروري أن تخبرك إن تكرر ظهوره‪.‬‬
‫‪ -‬وهل تكرر؟‬
‫‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬وهل وصل "أنس"؟‬
‫‪ -‬نعم وصل‪.‬‬
‫‪ -‬وأين هو؟‬
‫‪55‬‬
‫‪ -‬لألسف‪ ،‬بدأت رحلته قبل أن يلتقي بنا وتوغل في الغابة وحده‪.‬‬
‫التفت العجوز فجأة تجاه َ"مرام"‪ُ ،‬ث ّم قال لها وهو ّ‬
‫يحرك سبابته في الهواء‬
‫ّ‬
‫محذ ًرا‪:‬‬
‫‪ -‬ال ترحلي‪ ،‬وأسرعي خلفه فأنت تستطيعين دخول الغابة أما نحن فال‪...‬‬
‫هيا‪.‬‬
‫اقترب"الزاجل األزرق" من الشيخ وسأله بإجالل‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬هال أخبرتنا ّأيها الحكيم عن سبب ظهور اسم "أنس" في كتاب "هيال"‬
‫الخاص ب َـ"مرام"؟‬
‫‪ -‬كان ال ّبد من هذا‪ ،‬ور ّبما ستظهر صورتها في كتابه!‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً ُ‬ ‫سحب "سامي كول" ً‬
‫نفسا عميقا ثم صمت حتى أنهم ظنوا أنه لن يتكلم‪،‬‬
‫ّثم قال ً‬
‫أخيرا‪:‬‬
‫‪ -‬ستخبرنا َ"مرام" بنفسها ً‬
‫يوما ما‪.‬‬
‫كانت "الحوراء" تدرك شعور َ"مرام"وشوقها للعودة لبيتها‪ ،‬سألت والدها‬
‫وهي ترنو إليها بحنان‪:‬‬
‫‪ -‬هل عليها البقاء وقد ّأدت مهمتها؟ أظنها اشتاقت ألمها‪.‬‬
‫رفع الحكيم حاجبيه وقال‪:‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬على األقل تحاول اللحاق به وتعيده‪ ،‬لن يستغرق األمر منها ً‬
‫وقتا طويال‪،‬‬
‫رّبما ساعة أو ساعتين!‬
‫نهض "سامي كول" فجأة‪ ،‬قرر العودة لداره‪ ،‬يأبى البقاء في القصر‪،‬‬
‫ويرفض اإلقامة مع ابنته‪ ،‬حتى واملطر يهطل بغزارة صمم على الرحيل!‬
‫‪ّ -‬‬
‫لكنك لم تخبرنا بأ ّي ش يء جديد! ما سبب ظهور اسمه في كتابي؟ ألست‬
‫حكيم اململكة يا سيدي؟‬

‫‪56‬‬
‫شيئا ما‪ ،‬فهي تود العودة إلى‬ ‫وضح العجوز ً‬ ‫قالتها َ"مرام" بضيق‪ ،‬ودت لو ّ‬
‫بيتها في الحال‪.‬‬
‫التفت الكهل بعينيه البلوريتين ثم قال موجها كالمه ل َـ"مرام"‪:‬‬
‫يوما ما‪.‬‬ ‫لك‪ ،‬وستكونين طوق نجاة له ً‬ ‫‪ -‬سيكون طوق نجاة ِ‬
‫ُ‬
‫ث ّم سألها‪:‬‬
‫‪ -‬هل تدركين معنى كالمي يا َ"مرام"؟‬
‫ابتلعت َ"مرام" ريقها بصعوبة‪ُ ،‬ث ّم قالت بصوت ّ‬
‫مهتز‪:‬‬
‫‪ -‬في الحقيقة‪...‬ال!‬
‫الح على شفتيه شبح ابتسامة‪ ،‬استدار وتركها وعالمات الخوف ّ‬
‫تتمش ى في‬
‫وجهها‪.‬‬
‫التفتت "الحوراء" تجاه َ"مرام" التي كانت تطالعها باهتمام شديد ممزوج‬
‫بالتوتر‪ ،‬كانت تعصر كفيها ّ‬
‫وتتنفس بصعوبة‪ ،‬رمقتها امللكة بنظرة تش ي بالكثير‬
‫وقالت لها‪:‬‬
‫‪"َ -‬مرام" أعلم أن مهمتك قد انتهت‪ ،‬لكننا في الحقيقة نحتاج لوجودك معنا‬
‫فأنت تعلمين أننا ال‬
‫ِ‬ ‫في اململكة لفترة وجيزة ملساعدتنا في هذا األمر‪،‬‬
‫ألنك محاربة‪.‬‬‫نستطيع دخول الغابة‪ّ ،‬أما أنت فتستطيعين ّ‬
‫زفرت َ"مرام" بيأس وقالت وهي ّ‬
‫تهز رأسها‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬وهل لي أن أقرر أو أختار؟ قد كان اليوم احتفاال بانتهاء مهمتي وكنت على‬
‫قيد أنملة من عودتي لداري!‬
‫رمشت امللكة بعينيها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬لألسف‪...‬لن نستطيع السماح لك بالرحيل اآلن‪.‬‬
‫مرت َ"مرام" بلحظة عصيبة قبل أن تقول‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬لكن لي طلب واحد‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫‪ -‬وما هو؟‬
‫‪ -‬عند انتهاء األمر ّبما أطلب منك ً‬
‫شيئا ما‪ ،‬وأريد منك أن تعديني بأن‬ ‫ر‬
‫تحققيه لي‪.‬‬
‫‪ -‬وما هو؟‬
‫‪ -‬ليس اآلن‪...‬‬
‫‪ -‬أعدك يا ابنتي طاملا األمر في استطاعتي‪.‬‬
‫ً‬
‫حسنا‪ ،‬واآلن‪...‬ما املطلوب مني؟‬ ‫‪-‬‬
‫اقترب منها "الزاجل األزرق" وقال َبنبرة جادة‪:‬‬
‫‪ -‬األمر هام‪ ،‬وصل "أنس" وها هي رحلته على أرض مملكتنا قد بدأت دون أن‬
‫يلتقي بنا‪ ،‬أخش ى أن تختلط عليه األمور وال يميز بين النقيضين‪ ،‬وقد‬
‫تخدعه املظاهر ويثق بأحدهم فيقع أسيره ويختل ميزان الحكم لديه‬
‫فيسلب منه حق استرداد كتابه‪ ،‬ودورك أن تتبعيه في الغابة‪ ،‬وكما تعلمين‬
‫فأنت في أمان فيها ّأما نحن فال‪ ،‬وعندما تلتقين به عودي‬ ‫ّ‬
‫ألنك محاربة ِ‬
‫معه إلى هنا بسرعة‪.‬‬
‫ً‬
‫حسنا‪...‬ولكن!‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬ولكن ماذا؟‬
‫‪ -‬كيف سأعرفه؟ هال وصفته لي‪.‬‬
‫‪ -‬الحقيقة أنني‪....‬ال أعرف شكله‪...‬لقد رأيته من الخلف فقط‪ ،‬كل ما‬
‫الحظته ّأنه طويل القامة وقوي البنية‪ ،‬ذراعاه مفتوال العضالت‪ ،‬كما أن‬
‫قصيرا‪ ،‬ويحمل على ظهره حقيبة جلدية‪ ،‬ويرتدي‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬
‫فحميا‬ ‫ً‬
‫شعرا‬ ‫لديه‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫وً‬
‫سر اال سماو اللو ‪ ،‬لكنني لم أشاهد وجهه‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫زفرت "الحوراء" بحنق وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬لحظة واحدة كانت فارقة‪.‬‬
‫ّ‬
‫نكس "الزاجل األزرق" رأسه وقال بخجل‪:‬‬
‫‪ -‬أعتذر ّ‬
‫مرة أخرى يا موالتي‪.‬‬
‫أمسكت "الحوراء" بذراع َ"مرام" وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هيا يا َ"مرام" إلى الغابة‪ ،‬لن نضيع الوقت‪.‬‬
‫في الحال‪ ،‬هرول "الزاجل األزرق" تجاه فرسه وامتطاه بقفزة واحدة‪ ،‬صهل‬
‫الفرس ّ‬
‫بقو ٍة فأجابته الخيول بصهيل جماعي وكأنهم يستجيبون ألمره‪ ،‬انطلق‬
‫املغاتير يصحبون َ"مرام" نحو الغابة‪ ،‬حيث ستدخلها وحدها باحثة عن "أنس"‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪59‬‬
‫(‪)4‬‬

‫" ناردين "‬

‫سريعا‪ ،‬الذين ال تنطبع على نفوسهم بصمات‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫هنيئا لهؤالء الذين ينسون‬
‫ّ‬
‫اآلخرين‪ ،‬ما زالت "ناردين" تشقى بقلب لين كالصلصال؛ كلما المسته روح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وجف‬ ‫أحدهم في موضع غاصت فيه احترق من حرارة تعلقها بتلك الروح‬
‫ليحفظ تلك الذكريات‪ ،‬أصبح فؤادها كالقالب‪ ،‬ذكرى ذكرى منقوشة فيه‪،‬‬
‫ندبة ندبة تتحسسها فتوجعها‪ ،‬نقوش تحكيهم‪ ،‬هؤالء الذين عبروا من بين‬
‫ً‬
‫طويال وتنس ى ّ‬ ‫ضلوعها‪ ،‬ولن تفنى ً‬
‫كل‬ ‫أبدا تلك العالمات إال بموتها‪ ،‬ليتها تنام‬
‫ش يء في الصباح‪.‬‬
‫نشأت "ناردين" في أسرة صغيرة من الفالحين البسطاء‪ ،‬كانوا يعيشون في‬
‫السهل الكبير الذي يتوسط قرى مملكة الجنوب التي تناثرت حولها تلك القرى‬
‫وكأنها حفنة من النجوم حول القمر‪ ،‬كانت القرى صغيرة وسكانها متشابهون‬ ‫ّ‬
‫عدة بيوت‬ ‫لكنهم متفرقون‪ ،‬لو استطاعوا ملء الفراغات بين القرى ببناء ّ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫عظيما‪ ،‬أو حتى يحولونها إلى ممرات ويرصفون‬ ‫واحدا‬ ‫التصلت وأصبحت ً‬
‫كيانا ً‬
‫أرضها بالحجارة ويتنقلون بين القرى بالعربات‪ ،‬لكن لكل قرية معتقداتها‬
‫ولسكانها طباعهم الخاصة‪ ،‬يقولون ّإن البعض حاول أن ينتقل من قرية‬
‫لكنه لم يتمكن‪ ،‬أخبرها أبوها بأن هناك من لفظ أنفاسه األخيرة على‬‫ألخرى ّ‬
‫وكأن روحه تأبى الخروج من الحدود‪ ،‬تستطيع أن تخرج وتعود‬ ‫حدود قريته! ّ‬
‫ُّ‬
‫للتجارة أو غيرها‪ّ ،‬أما أن تعقد العزم على هجران أرض القرية وتبيع دارك ثم‬
‫وكأنها لعنة أصابت سكان‬‫تحمل متاعك للرحيل فأنت هالك ال محالة‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫اململكة‬
‫مرة في حياتها‪ ،‬في‬ ‫كانت صغيرة عندما استمعت ألنين األشجار ّ‬
‫ألول ّ‬
‫الخامسة ربما أو السادسة من عمرها‪ ،‬كان هذا عندما صحبها أبوها للغابة‬

‫‪60‬‬
‫ليجمع بعض أوراق النباتات العطرية التي يستخدمها في صناعة األدوية‬
‫الخاص به‪ ،‬أحبت "ناردين" جمع‬ ‫ّ‬ ‫والوصفات التي يبيعها في دكان العطارة‬
‫أوراق الريحان فقد كانت رائحته تعلق بمالبسها وكفيها الصغيرين‪ ،‬كما كانت‬
‫نظرا ألهميته الشديدة بالنسبة ألبيها‪ ،‬فقد أخبرها‬ ‫تفضل جمع إكليل الجبل ً‬
‫تنش ط القلب‪ ،‬وشرابه الساخن يزيل الصداع ويعالج غازات‬ ‫ّأن أوراقه ّ‬
‫ّ‬
‫البطن‪ ،‬كما أن زيته يفيد األطراف املرهقة لو دلكت به‪ ،‬أحبت رائحته التي‬
‫ً‬
‫تغلف اللحم به أحيانا قبل أن تقوم ّ‬ ‫ّ‬
‫بشيه‪،‬‬ ‫تشبه رائحة الصنوبر‪ ،‬كانت ّأمها‬
‫ّ‬
‫كثيرا‪ ،‬حتى أنها دهنت بشرتها‬‫تحبه ً‬ ‫كان يضفي نكهة لطيفة للحم وكانت هي ّ‬
‫بزيته‪..‬كم كانت ّأمها جميلة! ال تدري ملاذا ال تشبهها‪ .‬كانت تجمع األوراق ألبيها‬
‫وتحتفظ باألغ صان فقد أوصتها أمها أن تجمع بعضها لتحرقها في أركان البيت‬
‫فلها رائحة عطرية جميلة‪ ،‬وبينما كنت تضع األغصان في جراب من القماش‬
‫كانت تلفه فوق خصرها سمعت هذا األنين‪ ،‬انتفضت حينها وصرخت‪ ،‬ألقت‬
‫األغصان ووقفت تحملق فيها وهي تئن‪ ،‬استمر أنينها فأدركت أن الصوت صادر‬
‫بحنان كطفل رضيع فسكنت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مرة أخرى ومسحت عليها‬ ‫منها بالتأكيد‪ ،‬حملتها ّ‬
‫وكأن بينهما وشيجة ما تربطهما! تفهم همهماتها وتفهمها‪.‬‬
‫دستها في جرابها وسارت بين أشجار الغابة فإذا بفروع األشجار تنحني‬
‫وكأنها تحييها ثم تعود لهيأ تها‪ ،‬وعندما‬ ‫وتقترب منها‪ ،‬تالمس بشرتها بلطف ّ‬
‫لكنه لم‬‫شيئا لم يكن‪ .‬أخبرت أباها ّ‬ ‫وكأن ً‬
‫يقترب أبوها أو أحد رفاقه تسكن ّ‬
‫يصدقها‪ ،‬وأخبرت أمها فوصفتها باملجنونة‪ ،‬تكرر األمر وكانت تخبرهم‬
‫فيسخرون منها فتوقفت عن إخبارهم بما تراه وتسمعه وتشعر به‪ ،‬وأصبحت‬
‫تعشق السير في الغابة وحدها‪ ،‬حتى أنها أحضرت نبتة صغيرة من تلك الغابة‬
‫مرت‬ ‫ووضعتها في أصيص بدارها وصارت تحدثها ً‬
‫كثيرا وتخبرها بأسرارها‪ّ ،‬‬
‫ً ُّ‬ ‫السنون ومات أبوها فجأة وبعده مرضت ّأمها ً‬
‫مرضا شديدا ثم لحقت به‪،‬‬
‫وتزوجت "ناردين" من شاب كان يعمل مع أبيها في دكان عطارته‪ ،‬أخبرته بأمر‬
‫النباتات التي تحدثها فغضب وظنها مريضة وتهلوس بسب ب الحمل‪ ،‬فبدأ‬
‫ً‬
‫خصيصا‬ ‫يسقيها منقوع الزعتر والزنجبيل وداواها بخلطة مميزة قام بصنعها‬
‫لها لكي تبرأ من الهلوسة فتوقفت عن الحديث معه عن أمر النباتات فعاد‬
‫وحبه لها ونس ي األمر‪ ،‬أنجبت بعدها ولدها الوحيد وقتل زوجها في‬ ‫لحنانه ّ‬
‫شجار عنيف وكانت ال تزال ترضع وليدها‪ ،‬انف طر فؤادها ولم تفلح في مداواة‬

‫‪61‬‬
‫بالحب والرضا‪ ،‬حب ابنها ّ‬
‫وقرة عينها وشبيه‬ ‫ّ‬ ‫جرح قلبها بالعطارة‪ّ ،‬‬
‫لكنها داوته‬
‫أبيه فصبرت عليه طويال طويال‪.‬‬
‫شيبا‪ ،‬وانحنى ظهرها وكبر‬ ‫مرت السنون ووهن العظم منها واشتعل رأسها ً‬
‫ّ‬
‫ولدها وصار هو عكازها الذي تتوكأ عليه‪ .‬ما زالت تذكر كل ش يء‪ ،‬نظراتها إليها‬
‫َ‬
‫عندما أيقظتها صباح ذاك اليوم‪ ،‬نبرة صوتها وهي تخبرها ببهجة مزيفة أن‬
‫تستعد ألنهم سيخرجون لنزهة في البساتين املحيطة بالقرية كعادتهم ً‬
‫معا‬
‫ويأكلون الحلوى التي تتقن صنعها بعد أن يتناولوا لحم الخراف املشوي ّ‬
‫املتبل‬
‫ّ‬
‫بإكليل الجبل كما تحبه‪ ،‬ضحكاتها املصطنعة وهي تضع سلة التفاح في العربة‬
‫الخشبية‪ ،‬حتى الحصانين املبرقشين كانا ّ‬
‫يحركان رأسيهما ويتلفتان إليها وهما‬
‫وكأنها اتفقت معهما على الخطة‪ ،‬أخبرتها أن ولدها ينتظرها على‬ ‫على الطريق ّ‬
‫ّ‬
‫أطراف البستان فصدقتها‪ ،‬وكيف تكذب زوجة ولدها عليها؟! وظلت طوال‬
‫الطريق تطا لع مجاميع األشجار الباسقة من نافذة العربة بتعجب‪ ،‬أي بستان‬
‫ّ‬
‫والتفت بتلك الطريقة!‬ ‫ذاك الذي ارتفعت أشجاره‬
‫ّ‬
‫لم يلحق بهم ولدها وال أحفادها‪ ،‬لم يكن إال هي وزوجة ابنها تلك وسائق‬
‫العربة السكير الذي كانت تفوح منه رائحة الخمر والقذارة‪ ،‬ال ّبد أنه قبض‬
‫يتوسط السماء عندما وصلوا إلى ذاك‬ ‫ّ‬ ‫غاليا‪ ،‬كان قرص الشمس‬ ‫الثمن ً‬
‫الكوخ‪ ،‬كانت تسير ببطء وتتأبط ذراع زوجة ابنها بعدما ترجال من العربة بينما‬
‫كانت تهمس األخيرة في أذنها بصوت يشبه الفحيح‪:‬‬
‫‪ -‬أسرعي فأنا على عجل أيتها العجوز الشمطاء!‬
‫تخشب لسانها في فمها فقد كانت تلك ّ‬
‫املرة األولى التي تخاطبها فيها بتلك‬ ‫ّ‬
‫بأحب األسماء أمام ولدها الحبيب!!‬‫ّ‬ ‫الطريقة‪ ،‬حتى ّأنها كانت تدللها وتناديها‬
‫جلست على باب الكوخ تلتقط أنفاسها‪ ،‬أدبرت زوجة ابنها وهي تهرول تجاه‬
‫ّ‬
‫العربة بعد أن ألقت السلة أمامها وألقى السائق بجوارها خرقة من القماش‬
‫جمعوا فيها ثيابها على ع جل عندما كانوا بالبيت ولم تنتبه لهم‪ ،‬تركوها ورحلوا‬
‫وبدأت تصرخ حتى احترق حلقها‪ ،‬سقطت الشمس والتقمها األفق وبدأت‬
‫ترتجف‪ ،‬أوت إلى الكوخ وهي خائفة‪ ،‬فانحنت األشجار واحتضنت جدران‬
‫كوخها وأظلتها بظاللها الوارفة والتفت الوشائج حوله من كل جانب‪ ،‬هدأت‬
‫بعد أن أرهقها البكاء‪ ،‬وربط هللا على قلبها بعد أن استعصمت به وصبرت‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫يمهد إلشراق‬‫وليل ّ‬‫صباح يشر ُق على ليل بهيم‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ومرت األيام تتوالى عليها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫عظيم‪.‬‬
‫يمر الناس بعضهم يراها وبعضهم ّ‬
‫وكأنه ال‬ ‫ومنذ تلك الليلة وهي هناك‪ّ ،‬‬
‫لكنه الشوق! اشتاقت لرائحة ولدها‪ ،‬رائحة عنقه‪،‬‬ ‫يراها‪ ،‬ما عادت تخاف‪ّ ،‬‬
‫رائحة عرقه‪ ،‬اشتاقت ألحفادها‪.‬‬
‫ً‬
‫حاولت أن تعود وسارت طويال بين أشجار الغابة‪ ،‬حاولت أن تتذكر‬
‫مر وقت طويل منذ صغرها‪ ،‬كانت تنجح في الوصول ألطراف الغابة‪،‬‬ ‫الطريق‪ّ ،‬‬
‫مرة تصل فيها إلى الخط الحجري الفاصل بين أرض الغابة‬ ‫كل ّ‬ ‫ولكن في ّ‬
‫واألرض خارجها كانت وشائج األشجار تتمدد وتطول وتلتف حول جسدها‬
‫وتتلقفها قبل أن تخطو بقدمها خارج حدود الغابة‪ ،‬وكانت تحملها بلطف‬
‫مرة أخرى لذاك الكوخ‪ ،‬ترفض رحيلها! تعبت من تكرار املحاولة وما‬ ‫وتعيدها ّ‬
‫عادت تقوى على املسير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هطلت أشجار الياسمين بزهراتها على رأسها ّ‬
‫وكأنها تهاتفها أال تحزني‪ ،‬حتى‬
‫تحلق أمامها على مقربة ّ‬ ‫ّ‬
‫وكأنها تؤنسها برفيف أجنحتها حتى‬ ‫العصافير كانت‬
‫ّ‬
‫تعود‪ .‬كانت تفرك يديها بأوراق الريحان من آن آلخر وتشمها فتتعطر روحها‪،‬‬
‫حمدا هلل على تلك الروائح الزكية التي تخفف عنها‪..‬‬ ‫ً‬
‫حسنا‪...‬لن أرحل يا أحبائي لكنني ما زلت أشتاق‪ ،‬وما أقوى هذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حسنا‬ ‫"‬
‫الشوق‪ ،‬أشتاق لرائحة ولدي األزكى من رائحة الريحان"‬
‫همست بصوتها الحنون ووقفت تتأمل‪ ،‬مض ى نصف اليوم حيث كنت‬
‫قريبا من الكوخ تراقب انعكاس صورة وجهها على صفحة جدول املاء‬ ‫تقف ً‬
‫القريب‪ ،‬أصبحت صلعاء! صلعاء منذ فترة طويلة‪ ،‬رأسها ال يحمل شعرة‬
‫ظنت أنها تخيف الناس‬ ‫واحدة‪ ،‬حتى حاجبيها تالشيا‪ ،‬تساقطت رموشها! ّ‬
‫بهيأ تها تلك‪ ،‬كانت ال تعلم أنها جميلة حتى وإن أرهقتها السنون‪ ،‬عادت تهمس‬
‫محدثة نفسها‪:‬‬ ‫ّ‬
‫"حمدا هلل أنني هنا فاألشجار ترعاني وتحبني وهذا يكفيني‪ ،‬أسمع أنينها‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫وتسمع أنيني‪ ،‬أربت على جذوعها وتملس أوراقها على وجهي"‪.‬‬
‫وكأنها شخص آخر ينصت إليها ويوافقها على كالمها‪ ،‬قد يبدو‬ ‫هزت رأسها ّ‬ ‫ّ‬

‫‪63‬‬
‫لكن "ناردين" كانت تتسلى‬ ‫نوعا من الجنون‪ّ ،‬‬ ‫حديث النفس بصوت مسموع ً‬
‫وتحدث األشجار‪ ،‬وتنصت إلى الرياح وما‬ ‫ّ‬ ‫بهذا من آن آلخر‪ّ ،‬‬
‫تحدث نفسها‬
‫تحمله من حكايا‪ ...‬وربما تهمس لها ببعضها!!‬
‫مر بجواره ذاك الشاب املشاغب الذي يدعى‬ ‫اهتز سطح املاء فجأة فقد ّ‬‫ّ‬
‫"شهاب" كان يركض كعادته بسرعة كالبرق‪ ،‬حيرها ذاك الفتى بحواراته من آن‬
‫ً‬
‫مشاكسا‬ ‫ً‬
‫وأحيانا‬ ‫ً‬
‫مجنونا‬ ‫ً‬
‫أحيانا تراه‬ ‫ً‬
‫معجبا بنفسه للغاية‪،‬‬ ‫آلخر معها‪ ،‬يبدو‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫و‬ ‫ً‬
‫وكثيرا ما يبدو مغر را بنفسه‪ .‬لم تنتبه ملن كان يلحق به إال بعد أن صدمها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫دون قصد منه فسقطت على األرض وندت منها صرخة مكتومة اهتزت لها‬
‫وشائج األشجار وكادت تفتك به لوال ّأنه توقف وانحنى يحملها وينفض الغبار‬
‫عن ثوبها البالي وقال بحنان كانت تشتاق إليه‪:‬‬
‫أنت بخير يا أمي؟‬
‫‪ -‬هل ِ‬
‫‪ -‬أمي!!‬
‫موقعا ً‬
‫بليغا‪ ،‬لم تسمعها منذ‬ ‫ً‬ ‫خرجت الكلمة من فمه فوقعت من فؤادها‬
‫سنوات‪ ،‬اشتاقت لكونها أم‪ ،‬اشتاقت للهفة األبناء عليها‪ ،‬اشتاقت لتلك اللذة‬
‫ّ‬
‫التي كانت تقع في نفسها كلما ناداها ولدها بها‪ .‬رفعت رأسها تجاه وجهه‬
‫بتمعن‪ ،‬كان من ذاك النوع الذي يأسرك فال أنت تملك أن تصرف‬ ‫ّ‬
‫وتفحصته ّ‬
‫ّ‬
‫نظرك عنه وال تملك أن تطيل الن ظر إليه‪ ،‬ليس شديد الوسامة لكنه ساحر‬
‫ّ‬
‫وجذاب‪ ،‬قالت وهي تحاول استعادة اتزانها إثر السقوط بينما تتكئ على‬
‫الغصن الغليظ الذي صار يالزمها‪:‬‬
‫‪ -‬بخير يا ولدي‪.‬‬
‫‪ -‬آسف‪ ،‬كنت أحاول اللحاق بـ‪....‬‬
‫‪" -‬شهاب"‪ ..‬اسمه "شهاب" ولن تستطيع يا ولدي اللحاق به فهو سريع ً‬
‫جدا‪.‬‬
‫‪ -‬أتعرفينه يا أمي؟ أخبريني أين يسكن؟‬
‫كانت تستعذب منه كلمة "أمي"‪ ،‬أجابته وهي تتفحص ثيابه وتستغربها‪:‬‬
‫يمر ّ‬
‫علي من آن آلخر‪ ،‬لكنني ال أعرف أين يسكن ذاك املغرور‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬

‫‪64‬‬
‫‪ -‬أستأذنك فربما لو أسرعت اآلن سأستطيع اللحاق به‪.‬‬
‫كاد ينصرف ّ‬
‫لكنه استدار عندما قالت له‪:‬‬
‫‪ -‬سيعود إليك ً‬
‫حتما فأنت محارب‪.‬‬
‫غضن حاجبيه وقال بتعجب‪:‬‬
‫ُ‬
‫عني‪...‬محارب!‬ ‫قلت‬
‫‪ -‬هل ِ‬
‫‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬ولكنني لست محارًبا!‬
‫‪ -‬بل أنت محارب بالفعل‪.‬‬
‫‪ -‬ولم تقولين هذا؟‬
‫‪ -‬مالبسك وحقيبتك وحذاؤك‪ ،‬هكذا تكون هيأتكم عندما تصلون إلى هنا‪،‬‬
‫مر بعضكم ّ‬
‫علي من قبل‪ ،‬أنت محارب يا فتى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اب عادي‪ ،‬رّبما أجيد‬‫مجرد ش ٍ‬‫أخبرك بهذا‪ ،‬لكنني‪ ..‬لست ّإال ّ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ال أدري من‬
‫بعض الفنون القتالية كالكاراتية‪ ،‬لكنني لست محاربا!ً‬
‫ابتسمت له وسارت ببطء نحو درج حجري صغير غطاه العشب من‬
‫الجانبين كان يفصل بين األرض املجاورة لجدول املاء التي كانوا يقفون عليها‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫والتلة البسيطة التي يعلوها الكوخ الذي تسكن فيه وجلست عليه ث ّم قالت‬
‫له‪:‬‬
‫ٌ‬
‫متواضع أنت يا فتى‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم أومأت بيدها وأردفت‪:‬‬
‫‪ -‬على العموم‪ ،‬ستكتشف نفسك هنا‪ ،‬على هذه األرض ستعرف ما ال تعرفه‬
‫شرطا أن تحارب بسيف أو سالح‪ ،‬بعض املحاربين ّ‬‫ً‬
‫قوتهم في‬ ‫عنها‪ ،‬ليس‬
‫ّ‬
‫القوية‪.‬‬ ‫ثباتهم على ّ‬
‫الحق وليس في أجسادهم‬
‫‪ -‬ماذا تعنين؟‬
‫‪65‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫قوة الروح‪ ،‬العزيمة يا بني‪ ،‬أرأيت كيف يقوى الكهل على صيام الهواجر‬
‫ً‬
‫وال يقوى الشاب الفتي أحيانا! هكذا تكون ّ‬
‫قوة بعض املحاربين‪ ،‬قوة‬
‫قوة النفس يا ّ‬
‫بني‪.‬‬ ‫اإليمان‪ّ ،‬‬
‫قمة رأسه ألخمص قدميه ثم غاصت‬ ‫ُث ّم رمته بنظرة سريعة ّ‬
‫وتفحصته من ّ‬
‫في عينيه وقالت له‪:‬‬
‫قوة الجسد‪ّ ،‬‬
‫وقوة الثبات على الحق إن شاء‬ ‫القوتين‪ّ ،‬‬
‫أظنك تملك ّ‬ ‫‪ -‬لكنني ّ‬
‫هللا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أغمضت عينيها للحظة لتقتنص فكرة ث ّم أردفت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬انتبه لكتابك‪ ،‬ستظهر ّأول سطوره عندما تلتقي بأبطال ّ‬
‫قصتك‪.‬‬
‫‪ -‬وما أدراك بأمر الكتاب؟‬
‫‪ -‬هكذا أخبروني هؤالء الذين مروا من هنا‪.‬‬
‫ً‬
‫أوجاعا‬ ‫وأشارت لصدرها وتحسست ضلوعها بكفها الضعيف وكأنها تمسح‬
‫التصقت به‪.‬‬
‫اقترب الشاب منها وأنزل حقيبته عن ظهره وأخرج الكتاب وفتحه ً‬
‫باحثا‬
‫عن أي جملة رّبما تكون قد ظهرت على صفحاته الخالية‪ ،‬أغلقه ورفعه على‬
‫صدره أمام عينيها فقرأت العجوز عنوان كتابه بصوت مسموع‪:‬‬
‫‪ -‬إيكادولي‪ !!..‬انتبه إذن وحافظ عليه وفور أن تلتقي بهما عليك أن تراقبهما‪،‬‬
‫فهما في حاجة ملساعدتك‪.‬‬
‫‪ -‬هما!!‪...‬ومن هما؟‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫عنوانا لعبارة ال تقال إال بين‬ ‫فقصتك تحمل‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬ال ّبد أنهما اثنان وال ريب‪،‬‬
‫اثنين‪" ،‬إيكادولي"‪ ،‬وهي تعني أنا أحبك باللغة النوبية‪.‬‬
‫حب إذن!‬
‫‪ -‬قصة ٍ‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫‪ -‬وماذا بعد؟‬
‫‪ -‬ستراقبهما‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫ألنهما سيحتاجانك‪ ،‬ادعمهما حتى ال يقعا في الخطأ‪ ،‬فكل قصة وكل كتاب‬
‫تعتبر دعامة للخير أو الشر هنا‪ ،‬ونجاحك نجاح لها يا‪ ....‬أخبرني ما اسمك؟‬
‫‪" -‬أنس"‬
‫‪ -‬يا له من اسم جميل‪ ،‬وأنا "ناردين"‬
‫‪ -‬وما معناه!‬
‫‪ -‬هو اسم نبات طيب الرائحة‪ ،‬بديع الشكل‪ ،‬ال ينبت هنا بل ينبت في أرض‬
‫بعيدة‪ ،‬هكذا أخبرني أبي فقد كان عطا ًرا بار ًعا وكان يسافر ً‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫مرة أخرى‪:‬‬‫ابتسم بلطف ّثم قال بعد أن تصفح كتابه ّ‬
‫‪ُ -‬عفوا‪...‬هل سأقوم بكتابة ش يء ما على تلك الصفحات؟ في الحقيقة أنا ال‬
‫أجيد كتابة القصص والروايات!‬
‫ً‬
‫أسنانا تزين ابتسامتها‪ّ ،‬ثم‬ ‫وضعت يدها على فمها لتخفيه فما عادت تملك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫احتراما وإجالال لها‪ ،‬وسار بجوارها فقالت له‪:‬‬ ‫قامت فقام "أنس"‬
‫لكن ما تراه بعينك وتعيشه سيظهر على السطور‪ ،‬فالكتاب‬ ‫‪ -‬لن تكتب أنت‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ر ّ‬
‫لتستقر على السطو إال عندما يشعر أنك تثق به‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لن ُيطلق سراح كلماته‬
‫ألنه يحتاجك‪،‬‬ ‫ثق في كتابك يا "أنس"‪" ،‬إيكادولي" يثق بك وقد اختا ك ّ‬
‫ر‬
‫شديدا فأعنه على ما يالقيه من صعاب‪ ،‬ال تظهره‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صراعا‬ ‫الكتاب يعاني‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ألحد‪ ،‬وال تخبر أي شخص باسم الكتاب‪ ،‬كن حاذقا واعلم أنك ستعتمد‬
‫ادلهمت األمور ابحث ّ‬
‫عمن‬ ‫ً‬
‫أحيانا‪ ،‬ولو ّ‬ ‫وقوة شخصيتك‬ ‫على حصافتك ّ‬
‫يعينك‪.‬‬
‫كل هذا؟‬ ‫عرفت ّ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬ومن أين‬
‫ّ‬
‫‪ -‬مرت سنون يا ول دي تعلمت فيها الكثير والتقيت فيها بالعديد من البشـ ـ ـ ـ ـ ـر‪،‬‬
‫‪67‬‬
‫ّ‬
‫البد أن ّ‬
‫يمر املحاربون من هنا‪.‬‬
‫وأشارت لضلوعها ّ‬
‫مرة أخرى‪....‬‬
‫هز "أنس" رأسه ومسح جبهته وضغط ّ‬
‫بكفيه على عينيه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬ما زلت ال أستوعب األمر‪ ،‬األحداث تتسارع وتتوالى ّ‬
‫علي بسرعة‪ ،‬ترى هل‬
‫من املمكن أن تدليني على قصر امللكة "الحوراء"؟‬
‫‪ -‬ليتني أستطيع الخروج من الغابة!‬
‫‪ -‬ولم ال؟‬
‫جاست بعينيها في املكان وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬الحقيقة أنا ال أعرف أين قصرها‪ ،‬ولم أرها من قبل‪.‬‬
‫‪ -‬هل ّ‬
‫يمر املغاتير من هنا؟‬
‫صمتت برهة ّثم ركزت عينيها في عينيه وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬أولم تلتق بأي شخص غير "شهاب" قبل أن تلتقي بي يا ّ‬
‫بني؟‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫ال‪...‬كنت أنت أول من رأيته بعد "شهاب"‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم سألها بقلق‪:‬‬
‫‪ -‬بعد استعادة الكلمات في هذا الكتاب‪ ،‬هل سأعود؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫شعرت بانقباضة في صدرها‪ ،‬خافت عليه وكأنه قطعة منها فقالت تحذره‪:‬‬
‫‪ -‬احذر "املجاهيم"‪.‬‬
‫‪ -‬ومن هم "املجاهيم"؟‬
‫قالت بعد أن أمسكت بذراعه‪:‬‬
‫‪ -‬قوم وجوههم كالحة‪ ،‬يسلبون الناس أنفسهم وأنفاسهم‪.‬‬
‫‪68‬‬
‫ُ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ونظر إلى السماء ث ّم قال‪:‬‬
‫رفع "أنس" حقيبته على ظهره ّ‬
‫‪ -‬ذاك الصقر "الرمادي"‪ ..‬أين هو اآلن؟‬
‫كادت تجيب ه لكنها اكتفت بتأمل مالمحه‪ ،‬عيناه مألوفتان! وكأنها تعرف‬
‫تلك املقلتين البندقيتين ورأتهما من قبل! ‪ .‬كان حديثها معه قد أضاء الكثير من‬
‫الدهاليز املظلمة‪ ،‬سار شار ًدا بجوارها نحو كوخها‪ ،‬قررت أن تمده بمالبس‬
‫ٌ‬
‫واحد‬ ‫يتسنى له التجوال في اململكة ّ‬
‫وكأنه‬ ‫أخرى غير تلك التي كان يرتديها حتى ّ‬
‫من أهلها‪.‬‬
‫ً‬
‫حذاء رآه هو‬ ‫ترك "أنس" حذاءه الغريب كما وصفته "ناردين" وارتدى‬
‫لكنه مجبر على ارتدائه‪َ ،‬وب َّد َل بنطاله السماوي وارتدى سرو ًاال وقميصاً‬
‫غريبا! ّ‬‫ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من الكتان األزرق‪،‬كانت املالبس تناسبه تماما وكأنها قد خيطت خصيصا له‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فلف خصره بحزام عريض من القماش وأخرج خنجره‬ ‫لم يجد أزرا ً ا لقميصه ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫ذا املقبض الذهبي ودس ه في حزام بنطاله من جهة الظهر وأسدل عليه‬
‫القميص حتى ال يالحظه أحد‪ ،‬لم تشعر "ناردين" بالخوف منه عندما الحظت‬
‫ّ‬ ‫الخنجر ومقبضه ّ‬
‫املذهب! أعطته حقيبة من القماش كانت تعلقها بكتفها وهي‬
‫تجمع أوراق األشجار والنباتات العطرية ليحمل فيها متاعه‪ ،‬ومنحته حفنة من‬
‫ممتنا وكأنها أعطته ً‬
‫كنزا‪ ،‬ودت لو بقي‬ ‫بعضا من إكليل الجبل‪ ،‬كان ً‬ ‫الريحان و ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"أنس" قليال لكنه كان متعجال‪ .‬صاحت وهي تراقبه وهو ينساب بين أشجار‬
‫الغابة‪:‬‬
‫وتأمل كل ركن من اململكة‪ ،‬وافتح كتابك من آن آلخر‪ ،‬إن‬ ‫‪ -‬تجول في القرية ّ‬
‫ّ‬
‫ظهرت ّأول الكلمات فاعلم أنك التقيت بأبطال القصة‪ ،‬فاألحداث تتم هنا‬
‫بمشيئة هللا‪ ،‬وما زلنا ال نعرف النهاية!‬
‫مودعا‪ ،‬رفعت‬ ‫ً‬ ‫وحياها بابتسامة عذبة ثم لوح لها‬ ‫استدار وأومأ برأسه ّ‬
‫ُّ‬ ‫العجوز يدها وأغمضت عينيها ّ‬
‫وتنفست بعمق ثم طرقت األرض بالغصن الذي‬
‫تتكئ عليه فانتفضت األشجار‪ ،‬وار ّتج السهل وما حوله‪ ،‬وصدر من األرض دوي‬
‫فحلقت ً‬ ‫ر ّ‬
‫بعيدا عن األشجار‪.‬‬ ‫مكتوم أفزع الطيو‬
‫سار "أنس" على نحو بطيء وسط الغابة‪ ،‬فهو لم يعتد انتعال حذاء‬
‫مصنوع بتلك الطريقة من قبل‪ ،‬كان يشعر ّأن لألشجار ً‬
‫عيونا‪ّ ،‬‬
‫وكأنها تراقبه!‬

‫‪69‬‬
‫كان يراقب السماء من آن آلخر يخش ى أن يهبط عليه الليل وهو وحيد في تلك‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫سريعا إلى أطراف الغابة‪ ،‬بدأ يركض‬ ‫الغابة‪ ،‬قرر أن يحاول الركض لعله يصل‬
‫تحولت إلى بساط وبدأت تدور‬ ‫وبينما تنطوي األرض تحت قدميه شعر ّ‬
‫وكأنها ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وتتكور تحت ساقيه ث ّم انشقت فجأة فتعثر وسقط على ركبتيه ليظهر أمامه‬
‫ٌ‬
‫واحد منهم وعليه‬ ‫زمرة من الرجال طوال القامة ال مالمح لهم! كان يتقدمهم‬
‫برنس أسود تتدلى منه ثالث جماجم صغيرة‪ ،‬تراجع "أنس" بينما كان ذاك‬
‫الشبح يتقدم تجاهه‪ ،‬نعم‪ ..‬كان يشبه األشباح‪ ،‬هذا ما وقع في نفس "أنس"‬
‫وكأن الظالم ارتدى ً‬
‫برنسا ووقف‬ ‫تحتل وجهه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وهو يحملق في تلك الظلمة التي‬
‫أمامه!‬
‫يصعد في السماء‪،‬‬ ‫رفع الشبح يده إلى السماء فشعر "أنس" ّ‬
‫وكأن صدره ّ‬
‫خرجت أنفاسه واصطبغ وجهه بالزرقة وما عاد قاد ًرا على سحب شهيق‬
‫وكأن هناك من يحمله‪،‬‬ ‫يتشبث به في الحياة‪ ،‬ارتفع جسده في الهواء وانثنى ّ‬
‫ً‬
‫كاد الشبح يقتله بعد أن أداره في الهواء وجعل وجهه مقابال لألرض لوال‬
‫ّ‬
‫القالدة التي تدلت من عنق "أنس" فجعلته يخفض يده فجأة ويسقط "أنس"‬
‫على األرض وهو يسعل ويشهق شهقات متتابعة‪ ،‬دار ذاك الكائن حول "أنس"‬
‫وكأنه خرج من مقبرة‬‫وانتظر حتى هدأ سعاله ّثم خرج منه صوت غليظ نان ّ‬
‫ر‬
‫وسأله‪:‬‬
‫‪ -‬أنت محارب؟‬
‫ر ّد "أنس" بصعوبة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬أنا محارب‪.‬‬
‫‪ -‬من أين لك بتلك القالدة؟‬
‫‪ -‬أعطاها لي ّ‬
‫جدي‬
‫قال الشبح بصوت فيه إجالل‪:‬‬
‫‪" -‬أبادول"؟‬
‫عندما سمع البقية زعيمهم ينطق باسم "أبادول" وضعوا جم ً‬
‫يعا أيديهم‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫احتراما له! يبدو ّأنهم‬
‫ً‬ ‫على صدورهم وأحنوا رءوسهم وهم واقفون‬
‫‪70‬‬
‫ّ‬
‫يعرفونه‪ ،‬الحظ "أنس" ما حدث فتحامل وتجلد وقام يستند على جذع‬
‫الشجرة التي كانت بجواره‪ ،‬وسأله وهو يتحسس القالدة على صدره‪:‬‬
‫‪ -‬أوتعرف جدي؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬كلنا نعرفه‪ ،‬وله فضل كبير على استرداد مكانتنا بين باقي الشعوب‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم أشار إليه بإصبع وسأله‪:‬‬
‫‪ -‬ما اسمك؟‬
‫‪" -‬أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬ما اسم "كتابك"؟‬
‫ّ‬
‫تذكر "أنس" وصية العجوز "ناردين" له أال يخبر ً‬
‫أحدا باسم كتابه‪ ،‬فرد‬
‫ً‬
‫محاوال أن يتجاوز السؤال‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ال أرى مالمحكم؟‬
‫يوما كما رآها ّ‬
‫جدك "أبادول"‪.‬‬ ‫‪ -‬ليس اآلن‪ ،‬ستراها ً‬
‫عندما كرر الزعيم اسم "أبادول" كرر كل من معه ما فعلوه ّأول ّ‬
‫مرة‬
‫ّ‬
‫وضم يده إلى صدره وأحناها في هيبة‬ ‫بإجالل وتقدير‪ ،‬وفعل هو كما فعلوا‬
‫الجد يقف أمامه‪ ،‬قال بعد أن رفع رأسه تجاه "أنس" الذي كان يحملق‬‫وكأن ّ‬
‫في تلك الظلمة التي تتحدث إليه وال يعرف كنهها‪:‬‬
‫‪ -‬امض يا "أنس" فأنت في أمان حتى تخرج من الغابة‪ ،‬واحتفظ بالقالدة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وكلما مررت من هنا أظهرها وأنت تسير حتى يعرفك "املجاهيم"( ‪.)1‬‬
‫ّ‬
‫برهبة وقد كانت دقات قلبه تتواثب في أسفل عنقه‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫همس "أنس"‬
‫‪ -‬املجاهيم! ومن أنتم أيها املجاهيم؟‬

‫‪ - 1‬رجل جهم الوجه أي كالح الوجه‪ ،‬ومعنى جهمه ً‬


‫جهما أي استقبله بوجه ك ريه‪ ،‬ولقب املجاهيم يطلق على بعض أنواع اإلبل‬
‫النجدية السوداء ‪ ،‬كبيرة الحجم وضخمة العظام‪ ،‬تتحمل الظروف القاسية بكل تضاريسها وتحوالتها املختلفة‬
‫‪71‬‬
‫التفت إليه زعيمهم وقال قبل أن تبتلعه األرض‪:‬‬
‫جدك فهو من أطلق علينا ذاك اللقب بعد أن ألبسناه تلك القالدة‪.‬‬‫‪ -‬اسأل ّ‬
‫تماما‪ ،‬وعادت األرض ّ‬
‫تتكور تحت قدمي "أنس" فانطلق‬ ‫اختفى "املجاهيم" ً‬
‫ً‬
‫يكمل ركضه حتى حدود الغابة آمال أن يخرج منها قبل حلول الظالم ويصل إلى‬
‫ً‬
‫تحديدا كم تبلغ‬ ‫القرية التي أخبرته العجوز "ناردين" عنها‪ ،‬فهو ال يعرف‬
‫املسافة‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪72‬‬
‫(‪)5‬‬

‫" كلودة "‬


‫خرج "أنس" من الغابة يبحث عن "شهاب"‪ ،‬من بعيد بدأت ّ‬
‫تطل أمام‬
‫ّ‬ ‫عينيه القرية التي ّ‬
‫حدثته عنها العجوز "ناردين"‪ ،‬دلف القرية يفتش بين‬
‫وكأنه لبيع األغراض القديمة‪،‬‬‫مر بحانوت بدا ّ‬ ‫الوجوه عن وجه "شهاب"‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫بعض األوعية النحاسية‪ ،‬وأخرى فخارية‪ ،‬والكثير من املالبس‪ ،‬لكن ما جذب‬
‫تكدست فيه الكتب العتيقة فوق بعضها البعض بإهمال‪ ،‬الكثير‬ ‫انتباهه ركن ّ‬
‫من الكتب كانت بال أغلفة‪ ،‬مهترئة األوراق وملتفة األطراف‪ّ ،‬‬
‫ولكن القليل منها‬
‫جيدة‪ .‬أوراق صفراء وأغلفة باهتة من الجلد املدبوغ والكثير من‬ ‫كان بحالة ّ‬
‫ً‬
‫العناوين الغريبة‪ .‬كان هناك شاب نحيل جد ا‪ ،‬أقنى األنف‪ ،‬له حاجبان‬
‫مقوسان كأنهما هاللين‪ ،‬تبدو عليه أمارات الذكاء‪ ،‬نابه العينين‪ ،‬يجمع‬
‫خصالت شعره الفحمي خلف رأسه برباط بلون أحمر فاقع‪ ،‬كانت أصابعه‬
‫فخمن "أنس" ّأنه رّبما يعمل في صباغة األقمشة‪ ،‬وقف‬ ‫مصبوغة بنفس اللون ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الشاب ينظم الكتب ويرتبها ويتفحصها بعناية ثم يرفعها وينفخ عنها الغبار‬
‫ببطن‬ ‫كمه بحرص شديد‪ ،‬كان صاحب الحانوت يقف‬ ‫ويمسحها بطرف ّ‬
‫ٍ‬
‫جراج ويطالعه بازدراء حيث قال‪:‬‬‫عمالق ر ٍ‬
‫ٍ‬
‫كل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬لوال أنك تنظم الكتب وترتبها في ّ‬
‫مرة تزورني ما تركتك تدلف للحانوت‬
‫بحذائك املهترئ أيها البائس‪.‬‬
‫التفت إليه الشاب وقال في حرج‪:‬‬
‫‪ -‬اهدأ يا رجل‪ ،‬أتيتك هذه املرة ببعض املال‪ ،‬سأشتري ً‬
‫كتابا‬
‫‪ -‬يا للهول! ومن أين لك املال أيها الحثالة؟‬
‫كدي ومن عرق جبيني!‬ ‫‪ -‬من ّ‬
‫‪73‬‬
‫تركه صاحب الحانوت بعد أن تسببت كلماته في التفات جميع من‬
‫بالحانوت لحذاء الشاب املهترئ‪ ،‬بعضهم قام بالهمز واللمز وتعالت بعض‬
‫الهمهمات من هنا وهناك‪ ،‬ملاذا يهتم هذا البائس بالكتب!‬
‫حرك صاحب الحانوت يديه بال مباالة وعاد ليجلس على الباب ّ‬
‫يحك رأسه‬ ‫ّ‬
‫وقد تدلى أمامه بطنه الكبير‪ ،‬واختنقت أنفاسه بسبب سمنته املفرطة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مجهودا بسيطا‪ ،‬وبدأ يراقب‬ ‫فتصاعد من صدره أزيز مزعج كلما تنحنح أو بذل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املتكدسة والتي تبعثرت هنا‬ ‫النساء في الس وق وهن يقلبن أكوام املالبس‬
‫وهناك‪.‬‬
‫فرد الشاب تحيته‬‫وحياه بصوت خفيض‪ّ ،‬‬ ‫اقترب "أنس" من الشاب ّ‬
‫ّ‬
‫باقتضاب بعد أن استقرت عيناه على وجه "أنس" للحظات وكأنه يحاول‬
‫التعرف إليه‪ ،‬عاد الشاب يقلب الكتب وينفض عنها الغبار ويمسحها بطرف‬ ‫ّ‬
‫كتابا له غالفه جوزي اللون مشبوح بلفحات خضراء‬ ‫كمه‪ ،‬التقط "أنس" ً‬
‫وقال وهو يتصفحه‪:‬‬
‫‪ -‬ال يدرك هذا الرجل قيمة تلك الكتب‪..‬أليس كذلك؟‪.‬‬
‫ّ‬
‫مر الشاب على وجهه بسرعة بعينيه الكليلتين ثم عاد لصنيعه بالكتب ولم‬
‫ينبس ببنت شفة‪ ،‬قرأ "أنس" عنوان الكتاب الذي بين يديه بصوت مسموع‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬اإلكثير‬
‫‪ -‬نعم‪..‬اإلكثير!‬
‫‪ -‬أعتقد أنني أعرف معناها‪ ،‬رّبما قرأت عنها من قبل!‬
‫رفع الشاب حاجبية وقال باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬تعني الذهب الخالص‪ ،‬وهو كتاب رائع‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو ّأنك ّ‬
‫تحب القراءة‪.‬‬
‫الحت على وجهه ابتسامة وقال وقد ضوى بريق في عينيه‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أتنفس الكتب!‬
‫‪74‬‬
‫‪ -‬اسمي "أنس"‬
‫مد يده إليه ليصافحه وطالعه‬‫حرك الشاب رأسه تجاه "أنس" الذي ّ‬ ‫ّ‬
‫سريعا ما كست وجهه عالمات البشر‪ّ ،‬‬
‫مد يده‬ ‫ً‬ ‫بانتباه وقد اتسعت حدقتاه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املحمرة من أثر الصباغة وصافحه بود‪ ،‬شعر بانتعاش ملجرد اهتمام أحد ما‬
‫به‪ ،‬تهلل وجهه وابتسم فكشفت ابتسامته اللثام عن أسنان ناصعة البياض‬
‫وروح عذبة‪ ،‬يبدو ّأنه يعاني من تجاهل الجميع له‪ ،‬قال بصوت مرتجف‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا " كلودة" أنت غريب عن اململكة‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬بلى‬
‫‪ -‬لهذا إذا تعاملني ّ‬
‫بود!‬
‫‪ -‬وما العيب في ذلك؟‬
‫‪ -‬لو عرفت ّ‬
‫قصتي ما صافحتني كما صافحتني منذ قليل‬
‫‪ -‬ولم ال!‬
‫ساخرا ّثم التقط ً‬
‫كتابا ومد يده في جيب بنطاله‬ ‫ً‬ ‫هز الشاب رأسه وابتسم‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ودسها في كف صاحب الحانوت وخرج مسرعا‪ ،‬شيعه‬ ‫وأخرج حفنة من النقود ّ‬
‫ّ‬
‫صاحب الحانوت السمين بصوته األجش باملزيد من السخرية من حذائه ويديه‬
‫الحمراوين‪ ،‬وباملزيد من األلفاظ البذيئة‪.‬‬
‫تبعه "أنس" وصاح ً‬
‫مناديا عليه‪:‬‬
‫‪" -‬كلودة" انتظر‬
‫ً‬
‫متعجبا‪:‬‬ ‫التفت "كلودة" إليه وقال‬
‫‪ -‬ماذا تريد ّأيها الغريب!‬
‫‪ّ -‬‬
‫هون عليك يا فتى‪ ،‬كنت أبحث عن صحبة‪ ،‬فأنا أشعر بالغربة هنا‪.‬‬
‫‪ -‬أين أهلك؟‬

‫‪75‬‬
‫‪ -‬أنا وحدي هنا‪ ،‬أحاول الوصول إلى صديق التقيت به أمس‪ ،‬فهال ساعدتني‬
‫في البحث عنه؟‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫استدار "كلودة" وسار ّ‬
‫عدة خطوات بتؤدة وقد أحنى رأسه وكأنه يفكر‪ ،‬ثم‬
‫التفت ألنس وأشار إليه فلحق به وسارا ً‬
‫معا لفترة وجيزة قبل أن ينحني بهما‬
‫يتوسطها مجموعة من التجار وقفوا يعرضون‬ ‫ّ‬ ‫الطريق إلى ساحة واسعة‪،‬‬
‫ثوبا من القطيفة الحمراء‬‫ستعراضا أمام الجميع‪ ،‬بسط أحدهم ً‬ ‫ً‬ ‫بضاعتهم ا‬
‫ّ‬
‫على ذراعه وكتفه ووقف ينادي واحتشدت حوله النساء كل منهن تتحسس‬
‫بكفها وتحملق فيه ّثم تسأل عن الثمن‪ ،‬لم ّ‬
‫يمل من تكرار الرد‪،‬‬ ‫طرف الرداء ّ‬
‫كل منهن تشتهي أن يكون الرداء لها وزاغت أعينهن‬ ‫بدت النساء مسحورات ّ‬
‫ّ‬
‫وهن يتخيلن أنفسهن أميرات يرتدينه‪ .‬وجلس آخر على األرض وقد صف أمامه‬
‫أباريق من الزجاج امللون بديعة الشكل انعكست عليها أشعة الشمس الحانية‬
‫ً‬
‫وجماال‪ ،‬أما الثالث فكان يبيع العطور في زجاجات صغيرة ّ‬ ‫فزادتها ً‬
‫مزينة‬ ‫تألقا‬
‫وكأن هذا السوق لألثرياء فقط‪ .‬أشار "كلودة" إلى الجهة األخرى‬ ‫بالنقوش‪ ،‬بدا ّ‬
‫من امليدان الفسيح لينتقال إليها وقال ألنس‪:‬‬
‫‪ -‬ما اسم صديقك؟‬
‫‪ -‬في الحقيقة‪ ..‬كنت أتبع ً‬
‫شابا يدعى"شهاب"‬
‫‪" -‬شهاب"!‪ ..‬إذن أنت محارب‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو أن األمر مألوف لديكم‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫هال ساعدتني‪ّ ،‬‬
‫أود أن أصل إلى قصر امللكة "الحوراء"‬ ‫‪ -‬إذن‪،‬‬
‫‪ -‬ال أعرف الطريق إليه!‬
‫‪ -‬هل سمعت عن "املغاتير"؟‬
‫ألتق بهم من قبل!‬
‫‪ -‬سمعت لكنني لم ِ‬
‫ً‬
‫"شهابا" أليس كذلك؟‬ ‫‪ّ -‬‬
‫لكنك تعرف‬

‫‪76‬‬
‫‪ -‬ومن منا ال يعرفه!‬
‫ُّ‬ ‫معا ً‬‫سارا ً‬
‫كتفا بكتف‪ ،‬ثم قال "كلودة" بعد فترة وجيزة‪:‬‬
‫أوال على الطبيب‪ ،‬سأشتري ً‬ ‫ّ ً‬
‫دواء فأنا مريض‪.‬‬ ‫‪ -‬سنمر‬
‫‪ -‬شفاك هللا‪.‬‬
‫ً‬
‫حرك "كلودة" رأسه ممتنا واخترقا معا ذاك الحشد الكبير وبخطى سريعة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وصال إلى عدة بيوت متالصقة ذات أسقف منخفضة‪ ،‬طرق "كلودة" باب بيت‬
‫ً‬
‫سريعا ما رحب بهما‬ ‫منهم ففتح له رجل أربعيني تكسو وجهه ابتسامة واسعة‬
‫ودعاهما للدخول‪ ،‬على أريكة من الخشب جلسا يراقبان حركته البطيئة‬
‫بردائه الطويل والواسع األكمام وقد انتشرت حوله على الطاوالت والرفوف‬
‫زجاجات الدواء‪ ،‬قال الطبيب بصوت متحشرج بسبب صمته الطويل قبل أن‬
‫يدخال إلى بيته املتواضع‪:‬‬
‫‪ -‬أعددت لك الدواء منذ أسبوع ّ‬
‫لكنك تأخرت‪.‬‬
‫ّ‬
‫خاص‪.‬‬ ‫سيدي لم أتمكن من الحضور لسبب‬ ‫عفوا ّ‬
‫‪ً -‬‬
‫مرة أنك تحتاجه لتتحسن حالتك املزاجية والذهنية‪ ،‬أما‬ ‫‪ -‬أخبرتك أكثر من ّ‬
‫ً‬
‫مشتتا وترى تلك الكوابيس؟‬ ‫زلت‬
‫كل ليلة‪ ..‬ولكن‪ ..‬سيدي‪ ،‬ألن أشفى من مرض ي هذا؟ هل سأظل‬ ‫‪ -‬نعم‪..‬أراها ّ‬
‫هكذا؟‬
‫كل من‬‫‪ -‬لألسف يا "كلودة" لم أسمع عن حالة مماثلة عادت ملا كانت عليه‪ّ ،‬‬
‫أعرفهم يستمرون على هذا الحال حتى‪...‬‬
‫واثبا وكأن هناك من وخزه بإبرة بعد أن ّنقد الطبيب قيمة‬
‫وقف "كلودة" ً‬
‫الدواء وخرج من باب البيت كطلقة املدفع‪ ،‬تبعه "أنس" بخطوات واثبة‪ ،‬بدا‬
‫ًّ‬
‫جليا أن "ك لودة" حزين وغاضب‪ ،‬وكان هذا ما وقع في نفسه منذ اللحظة األولى‬
‫عما يسلي الفكر‬‫التي رآه فيها‪ ،‬روح متعبة لشاب بسيط تفتش بين الكتب ّ‬
‫ويجبر خاطر النفس املكسورة كحال الكثيرين‪ ،‬يهرب بالقراءة من واقع مؤلم‬
‫فيعيش بين الكتب ويتنفس الكلمات‪ ،‬تردد "أنس" بين أن يتركه لحاله ويعود‬
‫‪77‬‬
‫ً‬ ‫فهو في حالة ال تسمح له بمجاراته في أحاديثه الودية‪ ،‬وبين أن ّ‬
‫يتحمله قليال‬
‫أخيرا أن يفارقه وسيسأل‬‫ويسير معه على األقل حتى بيته ليعرفه‪ ،‬لكنه قرر ً‬
‫ُ‬ ‫غيره‪ ،‬التفت ً‬
‫عائدا من حيث أتى‪ ،‬فإذا بـ"كلودة" ينادي عليه ث ّم يقول‪:‬‬
‫‪ً -‬‬
‫عفوا سامحني‪ ،‬سأسير معك ألخرجك من القرية‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬ألم تسأل عن "شهاب"؟ هو يقيم بالغابة‪ ،‬ال ّبد أن تعود‪ ،‬ظننتك ال تعرف‬
‫هيا وسأسير معك‪.‬‬‫الطريق إلى الحدود املقابلة للغابة‪ّ ،‬‬
‫عمه "أشريا"‬ ‫مهموما بجوار "أنس"‪ ،‬كان "كلودة" يحب ابنة ّ‬ ‫ً‬ ‫سار "كلودة"‬
‫لكنه لم يملك سمات الشخصية التي تتمناها وتحلم بها‪ ،‬كان يعشق‬ ‫جما‪ّ ،‬‬‫حبا ّ‬
‫ً‬
‫اسمها‪ ،‬ومالمحها‪ ،‬ودارها‪ ،‬والدار التي بجوار دارها‪ ،‬والطريق إليها‪ ،‬والجدران‬
‫التي تستند عليها‪ ،‬والهواء الذي ّ‬
‫تتنفسه‪ ،‬طلبها للزواج مرا ًرا وتكرا ًرا وكانت‬
‫ومرت األيام ّ‬
‫تشد‬ ‫مرة أخرى من أبيها‪ّ ،‬‬ ‫تأبى‪ ،‬لم ييأس وكان يعود فيطلبها ّ‬
‫بعضها ً‬
‫بعضا ومات أبوها وما زال قلبه على العهد‪.‬‬
‫كان عندما يستبد به ألم جرح قلبه يخرج للبساتين القريبة من بيته‬
‫واملمتلئة بأشجار البلوط العمالقة‪ ،‬فيجمع أوراق النباتات العطرية ويردد‬
‫تغيرت‬‫ويتصبر بخلوته مع الطبيعة الخالقة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫وأحيانا يدندن باألشعار‪،‬‬ ‫األذكار‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أخيرا وصارت تضع له الشروط واحدا تلو اآلخر‪ ،‬لو بنيت بيتا كهذا ربما‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫أوافق‪ ،‬لو توقفت عن فعل كذا ربما أوافق‪ ،‬لو ‪..‬لو‪..‬‬
‫ّ‬
‫وكانت تمتنع عن الكالم معه وتكلف ّأمها بالرد عليه‪ .‬كان ذاك الهوان‬
‫حبه لها يظهره ضعيف الشخصية أمامها‪ ،‬وكانت هي‬ ‫الذي يصيبه بسبب ّ‬
‫تطمح إلى الزواج بشاب قوي الشكيم ة تعتمد عليه‪ .‬لم يكن هناك من يوجهه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ليتجمل ويتصنع ويتخلى عن تلك العفوية التي يعاملها وأمها بها‬ ‫أو ينصحه‬
‫فقد أساءت فهمه‪ ،‬فهو وحيد بال أب أو أم‪ ،‬وليس له شقيق يشد عضده‪،‬‬
‫بينما يسيران ويتبادالن أطراف الحديث سأله "كلودة" بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬هل عرفت الحب ً‬
‫يوما؟‬
‫ّ‬
‫الحب قلبي بعد‪ ،‬لم ألتق بمن تخطف روحي حتى اآلن‪.‬‬ ‫‪ -‬ال‪...‬لم يطرق‬

‫‪78‬‬
‫ّ‬
‫رد "كلودة" بتأثر‪:‬‬
‫‪ّ -‬أما أنا فلقيتها‪ ..‬وليتها ما خطفت روحي!‬
‫ً‬
‫وصال ً‬
‫أخيرا إلى الحدود‪ ،‬حيث كان هناك فاصل حجري يحيط بالغابة‪،‬‬
‫ً‬
‫تخطاه "أنس" والتفت تجاه "كلودة" متسائال عن سبب وقوفه ً‬ ‫ّ‬
‫واجما كما كان‬
‫يفعل‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك يا "كلودة؟‬
‫‪ -‬لم أدخل الغابة من قبل! يقولون أن من يدخلها يختفي لألبد وال يعود‪.‬‬
‫استدار "أنس" وطالع مجاميع األشجار أمامه وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أوتظن هذا فعال؟‬
‫ّ‬
‫معل ًقا في الهواء حتى التفت إليه "أنس" ّ‬
‫ومد يده ليصافحه‪،‬‬ ‫بقي السؤال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فمال "كلودة" وكأنه يخش ى أن يتعثر فتمس قدمه الخط الفاصل‪ ،‬اهتزت‬
‫األرض فجأة وتأرجح كالهما فوجد "أنس" نفسه يجذب ذراع "كلودة" دون‬
‫قصد منه فدخل األخير الغابة‪ ،‬ابتسم "أنس" ّ‬
‫بتوتر وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬أرأيت‪ ،‬ها أنت هنا ولم يحدث لك ش يء!‪.‬‬
‫شعر "كلودة" برهبة تجتاح جسده‪ ،‬كان يترقب أن يحدث ش يء ما! ّ‬
‫لكن‬
‫األمر بدا ً‬
‫آمنا كما يبدو!! سار مع "أنس" وانطلق معه يتوغالن في الغابة‪،‬‬
‫ّ ُ‬ ‫ً‬
‫كفه ث ّم شرب‬ ‫فضوال‪ّ .‬‬
‫مرا بجدول ماء فانحنى "كلودة" وغسل‬ ‫وعيناه تطفحان‬
‫منه‪...‬‬
‫"سبحانك سبحانك‪ ،‬ما أعذب املاء‪ .‬ماذا لو لم يكن هناك ماء! كيف كنا‬
‫سنرتوي‪ ،‬كيف كنا سنبلل ألسنتنا لنسبحك! حمدا لك يا ودود‪".‬‬
‫هكذا همس "ك لودة" وهو يسير‪ ،‬كاد يسأل "أنس" كيف أتى إلى هنا ليسمع‬
‫منه بالتفصيل‪ ،‬لوال الضربة التي باغتته فجأة وهو يمش ي معه والتي‬
‫ً‬
‫متضرعا إلى هللا وهو يتوجع‪:‬‬ ‫صاح على إثرها‬
‫"سبحانك سبحانك‪ ،‬اكفنا شرهم واجعل كيدهم في نحرهم"‬

‫‪79‬‬
‫بينما كان "أنس" يصارع جال ضخم ّ‬
‫الجثة له وجه قبيح‪ ،‬الحقه اآلخر‬ ‫ر‬
‫مقبح‪ ،‬استسلم "كلودة" حتى يتوقف عن‬ ‫بعصاة غليظة وصوت أجش ووجه ّ‬
‫لكنه لم يتوقف‪ ،‬ضربة على كتفه‪ ،‬واألخرى على ذراعه‪ ،‬والكثير على‬ ‫ضربه ّ‬
‫قيده ذاك الفحل ّ‬
‫املقبح بالحبال‬ ‫ّ‬
‫ظهره حتى شعر أن جسده تخدر من األلم‪ّ ،‬‬
‫بسرعة‪ ،‬ما زال "أنس" يصارع القبيح‪ ،‬كان يوجه ضرباته ألماكن متفرقة‬
‫وكأنه ال يخافه‪ ،‬لم تند منه صرخة ألم‪ ،‬لكنه كان‬ ‫مواجها القبيح بجسا ة ّ‬
‫ً‬
‫ر‬
‫يصيح ّ‬
‫بقوة‪ ،‬تارة بيديه وتارة بقدميه‪ ،‬ود "كلودة" لو كان مثله‪ ،‬وصلت حفنة‬
‫من "البغضاء" وأمسكوا بـ "أنس"‪ ،‬فالكثرة تغلب الشجاعة‪ ،‬ضربوا "كلودة"‬
‫بشدة ففقد وعيه‪ ،‬قيدوهما بعد أن سلبوهما متاعهما‪ ،‬كان كل‬ ‫على رأسه ّ‬
‫منهما يملك ً‬
‫كتابا‪" ،‬أنس" بكتابه "إيكادولي" في حقيبته‪ ،‬و"كلودة" بكتابه الذي‬
‫اشتراه من الحانوت قبل أن يدخال الغابة‪ ،‬بصق القبيح على وجه "أنس" وكاد‬
‫املقبح الذي صاح وهو يمسك بكتاب "أنس" بعد أن أخرجه من‬ ‫يقتله لوال ّ‬
‫الحقيبة القماشية التي أعطتها له ّ‬
‫السيدة "ناردين"‪:‬‬
‫‪ -‬انظروا‪ ،‬كتاب غريب ٍ‬
‫وخال من الكالم!‬
‫ّ‬
‫املقبح‬ ‫تمشت عالمات الرهبة على وجوههم الكالحة‪ ،‬التفوا حول‬
‫وتصفحوا الكتاب وقرأوا عنوانه‪ ،‬عادوا ينظرون لـ"أنس" بارتياب وقال أحدهم‬
‫ً‬
‫هامسا حتى ال يسمعه "أنس"‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو ّأنه محارب جديد‪ ،‬فلنأخذه لقصر امللك ِ"كمشاق"‬
‫رد آخر‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬نطلب املال أوال قبل تسليم املحارب والكتاب‪.‬‬
‫قال القبيح‪:‬‬
‫‪ -‬فلنقتله‪ ،‬ما حاجتنا إليه!‬
‫رد ّ‬
‫املقبح وهو يحك شعر رأسه‪:‬‬
‫‪ -‬ربما كان له ثمن فنحن ال نعلم كيف تسير األمور‪ ،‬سمعت أنهم يعلقونه‬
‫من قدميه ويثقبون قلبه وعندما تسيل الدماء يجمعونها في قوارير ويكتب‬
‫الكاهن القصة في الكتاب وتنتهي أحداثها وهو يلفظ أنفاسه األخيرة‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫كان "أنس" يراقبهم ويبحث بين أياديهم عن كتاب "كلودة"‪ ،‬أين اختفى!!‬
‫افعا صوته‬ ‫ّ‬
‫بتوعد ر ً‬ ‫اقترب أحدهم من "أنس" برأسه ونظر في عينه وقال‬
‫األجش‪:‬‬
‫‪ -‬سنقتلك أيها املحارب‪.‬‬
‫رائحة أنفاسه الكريهة التي فاحت من بين أسنانه النخرة واملسوسة كادت‬
‫مرت فحملتها ً‬
‫بعيدا عن أنفه‪ ،‬قال بصوت‬ ‫تخنق "أنس" لوال نسمة هواء باردة ّ‬
‫حاول أن تكون نبرته ّ‬
‫قوية‪:‬‬
‫‪ -‬وما أدراكما ّأنني املحارب!‬
‫همهم البغضاء وقال أحدهم‪:‬‬
‫‪ -‬هل رأيتم الرمز؟‬
‫‪ -‬وما ذاك الرمز؟‬
‫‪ -‬سمعتهم يقولون أن للمحاربين رمو ًزا! فلنبحث عن الرمز!‬
‫أطبق "أنس" فمه وجلس يراقبهم وهم يفتشون حقيبته ومالبسه‪ ،‬زمجر‬
‫غضبا وأمسك بالخنجر ذى املقبض ّ‬
‫املذهب و كان قد أخرجه من ثيابه‬ ‫القبيح ً‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وكاد يذبح به رقبته‪ ،‬حملق في وجهه بسحنة متوعدة ثم عاد خطوة للخلف‪،‬‬
‫ران عليهم صمت مهيب وتنقلوا بأعينهم بين الشابين‪ ،‬خلصوا ً‬
‫نجيا وابتعدوا‬
‫همسا حتى ال يسمعهم‪ ،‬كان "كلودة" ال يزال ً‬
‫فاقدا لوعيه‪،‬‬ ‫وبدأوا يتحدثون ً‬
‫ُّ‬
‫عادوا واقتربوا ّمنهما ثم لطمه ذو األنفاس الكريهة على وجهه وقال بعد أن‬
‫جذبه من شعر رأسه‪:‬‬
‫الثمن‪.‬‬‫معا بعد أن نقبض ّ‬ ‫‪ -‬سنقتلكما ً‬
‫ومرت لحظات ثقيلة‪ ،‬لم يسمع‬ ‫رحل بعضهم وبقي ثالثة يحرسونهما‪ّ ،‬‬
‫"أنس" حديثهم عن امللك ِ"كمشاق"‪ ،‬لم يدرك أنه يسير تجاهه دون أن يشعر‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪81‬‬
‫(‪)6‬‬

‫" نَربة "‬

‫أسدل الليل عباءته السوداء على اململكة فغرقت في ظالم حالك‪ .‬كان‬
‫يتحرك ببطء كالشبح في السماء‪ ،‬وكانت الغربان تقف على شرفات‬ ‫القمر ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القصر املكون من عدة طوابق‪ ،‬بدا البناء ضخما مهيبا يشبه الجبل‪ ،‬أعاله‬
‫َ‬ ‫اسعا ً‬ ‫ً‬
‫عريضا وو ً‬ ‫ضيق‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫جدا‪ .‬وثبت األميرة "نبرة" من‬ ‫وأما الطابق السفلي فكان‬
‫ُّ‬
‫خاطفة‪ ،‬كانت تتمتع‬
‫ٍ‬ ‫بنظرة‬
‫ٍ‬ ‫فراشها ودفعت النافذة بعنف ثم طالعت السماء‬
‫بخفة العصفور‪ ،‬وكبرياء الطاووس‪ ،‬لع ينيها الكحيلتين بريق عجيب يشبه بريق‬ ‫ّ‬
‫عيني القطط في الظالم! من يراها بجملة النظر من بعيد يصور له ّ‬
‫وكأن عينيها‬
‫لكنها كانت ً‬
‫دائما كالقدر الذي يغلي‬ ‫جوهرتان! كانت َ"نبرة" تدرك أنها جميلة‪ّ ،‬‬
‫فيه املاء بجنون‪ .‬التفتت صارخة في وجه خادمتها بحنق شديد لكي ّ‬
‫تجهز لها‬
‫ّ‬
‫مالبسها وتعينها في زينتها‪ .‬قالت بتسلط‪:‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬هيا‪ ،‬أمامك ٌ‬
‫عمل طويل‪ ،‬أريد أن أخطف األنظار الليلة‪.‬‬
‫ُ‬
‫بمكر واقتربت منها ث ّم قالت‪:‬‬‫غمزت الوصيفة ٍ‬
‫أنت ال تحتاجين لزينة يا موالتي‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫َ‬
‫داء أحمر اللون ُي ظهر أكثر مما يستر‪ ،‬فتحت "نبرة"‬ ‫ألبستها الوصيفة ر ً‬
‫ّ‬
‫صندوق زينتها وتخيرت ما يناسبها من جواهر‪ ،‬ودهنت شفتيها بصبغ أحمر ٍ‬
‫قان‬
‫يناسب بشرتها السمراء‪ّ ،‬ثم استرخت في مقعدها وأسلمت رأسها للوصيفة التي‬
‫بحرص شديد‪ ،‬بعد لحظات كانت تهبط على الدرج‬ ‫تمشط شعرها‬‫بدأت ّ‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫وكأنها القمر ينحدر على سحب السماء‪.‬‬
‫وكأنها على وشك دخول حرب مع شخص‬ ‫بخطى سريعة كانت تدق األرض ّ‬
‫متكئا على أريكة وثيرة وبجواره صديقه‬ ‫ما‪ ،‬اتجهت إلى غرفة أخيها الذي كان ً‬
‫‪82‬‬
‫مرت عيناها‬ ‫"حليم" الذي كان يرفل في ثياب فخمة تليق بمنصبه‪ ،‬والذي ّ‬
‫تود قراءته‪ ،‬هي ال ّ‬
‫تحبه‪ ،‬لم يفلح في الدق على أوتار‬ ‫عليه ّ‬
‫وكأنه كتاب ممل ال ّ‬
‫ّ‬
‫قلبها رغم عشقه الشديد لها‪ّ ،‬أما هو فأقبل عليها بنظراته وكأنه ّ‬
‫يود التهامها‬
‫بعينيه‪ّ ،‬‬
‫وجهت نظراتها نحو أخيها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬رأيت الرمز مرة أخرى‪ ،‬هناك محارب على أرض اململكة‪.‬‬
‫‪ -‬أين هو بالتحديد‪.‬‬
‫‪ -‬ال أعرف املكان لألسف‪.‬‬
‫ابتسم "حليم" وقال بلطف وهو يطلب ّ‬
‫ودها‪:‬‬
‫‪ -‬سأرسل رجالنا ليبحثوا عنه فال تجهدي عقلك الجميل بالبحث عن مكانه‪،‬‬
‫أرى ّأنه من املتوقع أن يكون في مملكة الشمال اآلن‪.‬‬
‫فكزت على أسنانها واستدارت مقتربة‬ ‫على عكس مراده‪ ..‬استفزتها كلماته ّ‬
‫ُ‬
‫تستمد منها الدفء ثم قالت ّ‬‫ّ‬
‫بتنمر‪:‬‬ ‫من املدفأة ورفعت كفيها نحوها‬
‫مجرد ضيف ثقيل!‬‫‪ -‬أرى‪..‬أرى‪ !!..‬ومن أنت حتى ترى!‪ ،‬ما شأنك أنت؟ أنت ّ‬
‫اهتز القدح الذي كان بين يدي "حليم"‪ ،‬سقط الشراب على مالبسه فوثب‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫غاضبا نحو أخيها ِ"كمشاق" الذي‬ ‫من مكانه ث ّم وضعه على املائدة والتفت‬
‫رمقه بنظرة واثقة وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬دعك منها يا "حليم"‪ّ ،‬إنها مجنونة‪.‬‬
‫دائما غاضبة‪ ،‬لديها لسان كحية قرمزية داعرة تنفث سمومها‬ ‫كانت َ"نبرة" ً‬
‫ُ‬
‫في وجوه الناس‪ ،‬أدارت رأسها بعصبية ورمقته بمكر ث ّم قالت‪:‬‬
‫‪ُ -‬أشبهك ً‬
‫كثيرا يا أخي‪.‬‬
‫مشيرا للوصيفات ليخرجن من الغرفة‪ ،‬واقترب منها وسألها بغلظة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫كفه‬‫رفع ّ‬
‫ُ‬
‫‪ -‬أين أختك "أونتي"؟‬
‫قالت بسماجة‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ -‬الحمقاء‪ ،‬نامت ً‬
‫مبكرا كعادتها‪.‬‬
‫اقترب "حليم" وقال‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ال أدري ملاذا تختلف "أونتي" عنكما!‬
‫ثم أضاف‪:‬‬
‫تتبسط مع الجميع‬ ‫‪ -‬حتى أنها ال تعرف أي ش يء عن األخطار التي تتهددنا!‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وكأنها ليست أميرة! رّبما لقلة نضجها وعمرها فهي تصغرك بسنوات يا‬
‫َ‬
‫"نبرة"‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫استفز األميرة "نبرة" التي‬ ‫ث ّم ارتبك "حليم " فقد شعر أنه بآخر كلماته قد‬
‫هزت كتفيها وقالت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫ألنها حمقاء‪ ...‬مثلك‪.‬‬
‫متوترا‪ ،‬وأراد ِ"كمشاق" أن يلطف من األجواء فقال‬ ‫ً‬ ‫أصبح جو الغرفة‬
‫بهدوء‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬فلنهدأ قليال يا رفاق‪ ،‬ليس هذا وقت املشاكسة‪.‬‬
‫كان "حليم" في الثامنة والعشرين من ُعمره‪ ،‬كانت صداقته للملك ً‬
‫سببا في‬
‫ّ‬
‫تغيير مسار حياته‪ ،‬فهو فارس مقدام شجاع وشاب ذكي وحاذق‪ ،‬وملا رأى امللك‬
‫ً‬
‫منه هذا كشف األوراق أمامه وعقد معه صفقة‪ ،‬فطرح "حليم" فيها شروطا‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يتحصل عليها كاملة بعد مقابل والئه الكامل له‪ ،‬لم تكن "نبرة" من ضمن‬ ‫لم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصفقة! لكنها صارت هدفه الذي يسعى وراءه فهو يتمنى رضاها‪ ،‬يحبها‬ ‫ّ‬
‫بشغف وجنون‪ ،‬يرغب بها‪ ،‬وهي تتمنع وترفض‪ .‬وكان ِ"كمشاق" يعلم عشقه‬
‫عونا له على الحكم وعلى‬ ‫ويستغل هذا ملصلحته‪ ،‬فصار "حليم" ً‬
‫ّ‬ ‫الشديد لها‬
‫اصطياد املحاربين ومحاولة السيطرة عليهم لخدمة أفكاره السوداء‪ ،‬كان‬
‫ٌ‬
‫ونساء ولهو‪ ،‬غارق‬ ‫ِ"كمشاق" يعربد بال حساب‪ ،‬أطلق العنان لشهواته‪ٌ ،‬‬
‫خمر‬
‫في الشهوات حتى أذنيه‪ّ ،‬أما "حليم" فحبس نفسه عليها‪ ،‬ولم تنجح أنثى في‬
‫َ‬
‫اختراق شغاف قلبه‪ ،‬وبقيت "نبرة" الفاكهة املحرمة التي ال يجرؤ على مساسها‬
‫حتى اآلن‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ساق وقالت بمرارة‪:‬‬ ‫جلست "نبرة" أمام أخيها ِ"كمشاق" ووضعت ساقا على ٍ‬
‫‪84‬‬
‫‪ -‬ال ّبد أن نقض ي على هذا املحارب بسرعة‪.‬‬
‫اقترب منها "كمشاق" وقال ّ‬
‫بتوتر‪:‬‬ ‫ِ‬
‫أيت وجهه؟‬
‫‪ -‬هل ر ِ‬
‫‪ -‬ال‪...‬ليس يعد‪.‬‬
‫فقدت مهاراتك؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬هل‬
‫قالت بعصبية‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪...‬اختفت فقط بومتي العزيزة؟ لم أ ها الليلة! ّكلما حاولت أن أرى ً‬
‫شيئا‬ ‫ر‬
‫ال أرى إال الظالم!‬
‫كانت َ"نبرة" تفخر ً‬
‫دوما بتلك املوهبة التي حباها هللا بها‪ّ ،‬‬
‫لكنها لم تشكر هللا‬
‫كل ليلة ما تراه تلك البومة البيضاء‬‫أبدا! من آن آلخر كانت ترى بعينيها ّ‬ ‫عليها ً‬
‫ّ‬
‫التي يعرف الجميع ارتباطها بها منذ الصغر‪ ،‬كانوا يخشون منها ألنها ستنقل‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫شاهدا على الكثير من األشياء التي قلبت‬ ‫الخبر لألميرة "نبرة"‪ ،‬كما ّأن ها كانت‬
‫ً‬
‫مفضوحا لديها‪ ،‬في الحقيقة‬ ‫وهزت البعض حيث أصبح أمرهم‬ ‫املوازين ّ‬
‫موهبتها تلك جعلت حربتها قوية‪ ،‬فال يجرؤ أحد أن يقف أمامها في اململكة‬
‫كلها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫تتجرعه‬ ‫صفقت "نبرة" فأسرعت جارية بملء كأسها بالخمر وجلست‬
‫و"حليم" يراقبها‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫غربت الشمس وكان "كلودة" قد بدأ يستعيد وعيه بصعوبة‪ ،‬فتح عينيه‬
‫على طقطقات النار التي أشعلها اللصوص في املكان الذي قاموا بالتخييم فيه‪،‬‬
‫وكان "أنس"و "كلودة" بال قميصيهما فقد خلعهما اللصوص ّ‬
‫عنهما وبحثوا في‬
‫أجسادهما عن عالمة ما تدل على كون من يحملها محارًبا‪ ،‬األغبياء ال يعرفون‬
‫عن رمز املحارب الذي يظهر في الرؤى لبعضهم‪ ،‬ظنوا عندما أخبرهم "أنس" أن‬

‫‪85‬‬
‫ً‬
‫مصابا‬ ‫الرمز يظهر كعالمة على الجسد‪ .‬اعتدل "كلودة" في جلسته‪ ،‬كان‬
‫بصداع قوي‪:‬‬
‫"سبحانك سبحانك‪ ،‬نجنا من مكر املاكرين‪".‬‬
‫ً‬ ‫قالها وهو يئن من األلم‪ّ ،‬‬
‫مر الوقت ثقيال‪ ،‬لم يغمض لهما جفن‪ ،‬أما‬
‫ّ‬ ‫الثالثة فكان شخيرهم يزعج ّ‬
‫كل ش يء حتى الطيور في أعشاشها‪ ،‬إال تلك‬
‫البومة البيضاء التي اقتربت منهما قبل طلوع الفجر بساعة‪ ،‬كانت تقف بكبرياء‬
‫على غصن شجرة البلوط الكبيرة التي كانا يستندان عليها‪ ،‬جميلة وأنيقة‬
‫ّ‬
‫كملكة تقف وتتلحف بردائها املتألق‪ ،‬وقف "أنس" واقترب منها ويداه ما زالتا‬
‫معقودتين خلف ظهره‪ ،‬قفز بساقيه املقيدتين واقترب منها وطالعها بعينيه عن‬
‫ُ‬
‫قرب ث ّم قال بحنان‪:‬‬
‫هيا أسمعيني صوتك‪،‬‬ ‫أنت جميلة‪ ،‬أنت فاتنة! ترى هل تتحدثين؟ ّ‬ ‫‪ -‬كم ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تحدثت إلى الصقور من قبل‪ ،‬ال بد أنك تتحدثين كالرمادي‪.‬‬
‫عاد يتأملها عن قرب وكانت تطالعه بفضول بعينيها الواسعتين‪ ،‬ابتسم‬
‫ً‬
‫عندما حملق قليال في عينيها وقال بعذوبة‪:‬‬
‫‪ -‬أنت جميلة‪ ،‬ما أروعك! ما أبدع لونك! تبارك هللا!‬
‫صاح "كلودة" من خلفه وكانت يداه تؤملانه ّ‬
‫بشدة‪:‬‬
‫"سبحانك سبحانك! يا خالق الجمال سبحانك!"‬
‫استيقظ أحد الرجال وصرخ في "أنس " بصوته األجش فطارت البومة‬
‫ّ‬
‫وحلقت فوقهما وبسطت جناحيها األبيضين وظل "أنس" يتابعها حتى اختفت‬
‫ً‬
‫بعيدا وعاد يجلس بجوار"كلودة"‪:‬‬
‫ّ‬
‫"سبحانك سبحانك‪ ،‬الكون كله يسبحك‪ ،‬أفال نسبحك!"‬
‫يسبح ّ‬
‫لعل هللا يجعل لهما مخرجا‪.‬‬ ‫همس بها كلودة وهو يئن من األلم وبدأ ّ‬
‫َ‬
‫في مكان آخر وتحت سقف بديع وعلى فراش فاخر‪ ،‬كانت "نبرة" تستعد‬
‫للنوم بعد أن سهرت لساعات طويلة مع رفيقاتها وجواريها عندما شخصت‬
‫فجأة بعينيها! لقد راودتها رؤى بعيني بومتها البيضاء‪ ،‬لقد نظرت ّ‬
‫للتو في عيني‬

‫‪86‬‬
‫شاب مليح الوجه‪ ،‬له عينان بندقيتان وحاجبان كثيفان على وشك االلتحام‪،‬‬
‫حركت‬ ‫ً‬
‫هامسا بصوت بديع‪ّ ،‬‬ ‫وضاء مستدير تظلله لحية خفيفة ّ‬
‫يتحدث‬ ‫وو ٍجه ّ‬
‫يتحدث‬ ‫بتمعن‪ ،‬كانت َ"نبرة" تحملق ّ‬
‫وكأنها أمامه‪ ،‬وكان ّ‬ ‫بومتها مقلتيها وتأملته ّ‬
‫بعفوية إلى البومة ّ‬
‫وكأنها تفهمه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫حلقت البومة وأدرات رأسها فرأت "نبرة" القيد حول ساقي "أنس"‪ ،‬تأكدت‬
‫تحدث لصقر! خيل إليها للحظات‬ ‫اآلن ّأنه املحارب‪ ،‬فقد قال في كالمه ّأنه ّ‬
‫أنه يغازلها هي وليس بومتها البيضاء‪ ،‬سقطت جذوة الفتنة فوق قلبها ولن‬
‫أبدا‪ ،‬اآلن تعرف وجهه‪ ،‬ولكن‪ ..‬هل سترغب في قتله اآلن وقد‪...‬‬ ‫تنطفىء ً‬
‫أعجبها!‬

‫❐❐❐‬

‫‪87‬‬
‫(‪)7‬‬

‫" مَرام "‬

‫هدأ الهواء وجمع ضحاياه من األغصان املتناثرة في أكوام تحت األشجار‪،‬‬


‫انتزعت َ"مرام" نفسها من أفكارها وبدأت تسير في الغابة‪ ،‬ال ّبد أن تسرع حتى‬
‫يحل الظالم‪ ،‬وتعود به إلى قصر‬ ‫ّ‬ ‫تتمكن من الوصول لـ"أنس" قبل أن‬
‫"الحوراء"‪ ،‬كانت رائحة زهور الياسمين تفوح باردة وتفرش مخمل عبيرها‬
‫ألقدام َ"مرام" وهي تسير بلطف فوق الحشائش‪ ،‬لم تكن تلك ّ‬
‫املرة األولى التي‬
‫تسير فيها بتلك الغابة‪ ،‬باتت تعرف الطريق إلى بيت "ناردين" فقد التقت بها‬
‫دوما من اللصوص‬ ‫لكنها بالطبع لم ُتحط ّ‬
‫بكل أسرار الغابة‪ .‬حذروها ً‬ ‫من قبل‪ّ ،‬‬
‫في الجهة الغربية من النهر‪ ،‬لكنها لم تسلكها ً‬
‫يوما ولم تعبر النهر‪ ،‬كانت تعقد‬
‫ذراعيها أمام صدرها وتضع كفها األيمن تحت إبطها األيسر والعكس بالعكس‪،‬‬
‫سريعا لذاك الكوخ الذي تسكنه‬ ‫ً‬ ‫فالبرد شديد وحاد هذا اليوم‪ ،‬وصلت‬
‫ّ‬
‫"ناردين" منذ سنوات‪ ،‬كم تشفق على تلك العجوز فهي تذكرها بجدتها‪ ،‬كان‬
‫هادئا هدوء املقابر عندما وقفت أمامه وأخرجت يدها من تحت إبطها‬ ‫الكوخ ً‬
‫ضعيفا‪ ،‬فتحت "ناردين" باب الكوخ ونظرت ّ‬
‫محدقة في‬ ‫ً‬ ‫لتخفق الباب ً‬
‫خفقا‬
‫عينيها بذهول قبل أن تقول‪:‬‬
‫‪"َ -‬مرام"!! أما زلت هنا؟!‬
‫‪ -‬كيف حالك يا ّ‬
‫جدة‬
‫‪ -‬تعالي يا حبيبتي فالرياح باردة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫دلفت َ"مرام" وهي ترتجف‪ ،‬دثرتها العجوز بثوب مرقع من الصوف كانت‬
‫ً‬
‫ً‬
‫شخصا‬ ‫تتخذه شاال تدفئ به كتفيها‪ .‬كان من املناسب ل َـ"مرام" اآلن أن تجد‬
‫ّ‬
‫ستحن عليها كعادتها وستسمع‬ ‫تبثه أساها‪ ،‬وكانت تعلم أن العجوز‬ ‫متعاطفا ّ‬
‫ً‬

‫‪88‬‬
‫لها وتحتويها كما فعلت من قبل‪ ،‬قالت بعد أن رشفت من القدح الذي‬
‫سكبت لها العجوز فيه ً‬
‫بعضا من الحساء الساخن‪:‬‬
‫‪ -‬أحتاجه ّ‬
‫بشده فالبرد ينخر عظامي‪.‬‬
‫وضعت العجوز يدها على كتف َ"مرام" وسألتها بصوت خفيض‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا لم تعودي للديار يا َ"مرام"؟ من الخطر أن تبقي هنا‪ ،‬فقد انتهت‬
‫ً‬ ‫عما قبل‪ ،‬ستكونين ً‬‫ضعفا ّ‬‫مهمتك وصرت اآلن أكثر ً‬
‫ّ‬
‫صيدا سهال يا ابنتي!‬
‫مهمة أخرى كلفتني بها "الحوراء"‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بيدي‪...‬إنها ّ‬ ‫‪ -‬ليس‬
‫‪ّ -‬‬
‫مهمة أخرى!‪ ...‬وما هي؟‬
‫‪ -‬شاب جديد وصل اليوم ودلف إلى الغابة قبل أن يلتقي باملغاتير وكما‬
‫تعلمين ال يستطيع أحد من أهل مملكة الشمال الدخول إلى هنا‪ ،‬طلبت‬
‫مني امللكة اللحاق به ألنبهه‪.‬‬
‫‪ -‬أتقصدين "أنس"؟‬
‫‪ -‬بلى ‪ ...‬هل ّ‬
‫مر بك اليوم؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬رحل منذ ساعة‪ ،‬لقد كان مشغوال بأمر "شهاب"‪ ،‬كان يركض خلفه‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ملاذا لم تنبهيه أنه ال ّبد أن يلتقي بامللكة واملغاتير أوال؟‬
‫ُ‬ ‫بعيدا عن وجه َ"مرام" ّ‬‫أشاحت العجوز بنظرها ً‬
‫وتنهدت بعمق ث ّم أغمضت‬
‫عينيها وقالت بهدوء شديد‪:‬‬
‫‪ -‬لقد ركض خلف حدسه‪ ،‬هو ليس من ذاك النوع الذي ينتظر أن يملي‬
‫ع ليه أحدهم ما يفعله‪ ،‬لن يستطيع التراجع وليس له أن يخطو خطوة‬
‫واحدة إلى الخلف!‬
‫ً‬
‫قليال ّ‬ ‫ُ‬
‫وكأنها تقتنص فكرة وأضافت‪:‬‬ ‫ث ّم صمتت‬
‫‪ -‬ال تقلقي فقد أخبرته بالقليل ّ‬
‫عما سيفعله‪ ،‬وسيكفيه ليؤدي مهمته‪.‬‬
‫زفرت َ"مرام" بأس ى وقالت‪:‬‬
‫‪89‬‬
‫‪ -‬وددت أن أعود للديار‪ ،‬أخش ى مما أخبرني به الحكيم "سامي كول"‬
‫‪ -‬وبماذا أخبرك الحكيم؟‬
‫‪ -‬سأحكي لك ّ‬
‫كل ش يء‪...‬‬
‫بدأت َ"مرام" تصف للعجوز "ناردين" كيف كان يتكرر ظهور اسم "أنس"‬
‫في كتاب "هيال" من آن آلخر‪ ،‬طقطقت النار تحت القدر وتصاعد الدخان من‬
‫ً‬ ‫تلك الفتحة التي تعلوه فانبثقت من سقف الكوخ سحب ّ‬
‫الدخان مشكلة جبال‬
‫ّ‬
‫مقلوبا من تموجات في السماء‪ ،‬مالت األشجار تنصت للحكاية‪ ،‬وكأنها تهتم‬ ‫ً‬
‫ومتبعا لشخص‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ألمر "مرام" وذاك املحارب الذي بدأ رحلته منقادا وراء حدسه‬
‫سريعا وكان ال ّبد من املض ي في الطريق حتى ال يداهمها‬ ‫ً‬ ‫مر الوقت‬ ‫ال يعرفه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الليل وهي وحيدة في الغابة‪ ،‬ودعت العجوز في تلك اللحظة التي اقتربت منها‬
‫تحلق ً‬ ‫ّ‬
‫قريبا منها لتؤنسها‪ ،‬كانت تلك هي أنثى الصقر التي‬ ‫"قطرة الدمع" وبدأت‬
‫حملتها إلى ذاك العالم الغريب هنا‪.‬‬
‫ألمها وانطلقت‬ ‫قاومت َ"مرام" شعورها بالحنين لبيتها واحتياجها الشديد ّ‬
‫ّ‬ ‫تتحسس جذوع األشجار وهي تسير ّ‬
‫وكأنها تسلم عليها واحدة تلو األخرى‪ ،‬عبرت‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صغيرا وهي شاردة ولم تنتبه لدخولها للجهة الغربية من الغابة‪ ،‬ملا‬ ‫جسرا‬
‫ّ‬
‫أدركت عادت سريعا لتعدل مسارها‪ ،‬تناهى إلى سمعها صوت صهيل‬ ‫ً‬
‫الجثة له وجه‬ ‫فاستدا ت تجاه الصوت‪ ،‬على حين غفلة منها وثب جل ضخم ّ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مثقوب بعينين ضيقتين تحتهما أنف عريض مفلطح وفم متكور كفوهة بركان‬
‫غضبا‪ ،‬كمم فمها بكفه الغليظ وأحاط جذعها بذراعه األيسر وحملها‬ ‫ً‬ ‫ينفث‬
‫ّ‬
‫وهي تقاوم وتصارع‪ ،‬انقضت" قطرة الدمع" على الرجل وبدأت تنبش رأسه‬
‫بمخلبيها بينما تفلتت َ"مرام" من بين ذراعيه وهربت‪ ،‬انزلقت وهي تركض‬
‫ً‬
‫فأسرها رجل آخر وعاملها بصلف وقسوة‪ ،‬لطمها أوال ّثم ضربها على رأسها‬
‫ففقدت الوعي‪ ،‬كان مقيتا له سحنة شخص خارج من قبره للتو‪ ،‬عاد الرجل‬
‫ُ‬
‫الضخم ورأسه تقطر دما وركلها بقدمه في غيظ ث ّم حملها على حصانه‬
‫وانطلق االثنان خارجين من الغابة ومتجهين نحو القرية‪ ،‬لقد وقعت َ"مرام" في‬
‫أسر تاجر للرقيق‪ ،‬عادت "قطرة الدمع" لتخبر امللكة بما حدث‪ ،‬وبقيت َ"مرام"‬
‫ملقاة على أرض في غرفة مكتظة بالفتيات‪ .‬أفاقت بصعوبة وأمسكت برأسها‪،‬‬
‫تحس‬‫ّ‬ ‫همهمت ببضع كلمات غير مفهومة وسرحت نظراتها للحظات وهي‬
‫‪90‬‬
‫وأخيرا استوعبت ما حدث لها ّ‬
‫فندت منها صرخة‬ ‫ً‬ ‫بانقباض ال تدري مصدره‪،‬‬
‫قصيرة جعلت كل من بالغرفة ينظر إليها‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫الكثير من القدور الكبيرة املمتلئة باملاء الساخن‪ ،‬بعض املناشف ملقاة هنا‬
‫وهناك‪ ،‬املكان يعبق برائحة عطور مختلطة‪ ،‬وامرأة شقراء تجلس في ركن تزين‬
‫يعدون الفتيات قبل أن يعرضوهن في السوق للبيع‪،‬‬ ‫وجه فتاة باألصباغ‪ .‬هنا ّ‬
‫أحيانا في بعض القرى ينتهي األمر بم وت من يسرقونهم من العبيد على حدود‬ ‫ً‬
‫قريتهم وبالتحديد عند الحاجز الحجري املحيط بها‪ ،‬وهم ال يعرفون السبب!‬
‫هذا ما يتناقلونه من قديم الزمان‪ ،‬ولهذا كان اللصوص يسرقون الفتيات من‬
‫الغابة والبساتين حول القرى‪ ،‬ألنهن خرجن بأنفسهن وتخطين ذاك الحاجز‬
‫الحجري بأمان للتسكع أ و للقاء حبيب رّبما وسيعدن في وقت الحق‪ ،‬وكانت‬
‫ً‬ ‫َ"مرام" ً‬
‫صيدا سهال في الغابة‪.‬‬
‫بوجه ممتلئ مستدير‪ ،‬وبعينين مكحولتين بإتقان‪ ،‬وشفتين أغرقهما الصبغ‬
‫وكأنها التهمت فريستها للتو وقفت امرأة ممتلئة القوام تتأرجح في‬‫األحمر ّ‬
‫مشيتها أمام َ"مرام" تتفحصها ّ‬
‫وكأنها تتفحص طي ًرا قبل أن تشتريه من السوق‪،‬‬
‫ُ‬
‫لكزتها بقسوة ث ّم جذبتها من ذراعها وقالت بغيظ‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫هيا أيتها الحمقاء اخلعي مالبسك‪.‬‬
‫حدقت َ"مرام" فيها بعدم استيعاب وقالت بخوف‪:‬‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬لن أخلع مالبس ي‪ ...‬اتركيني‪.‬‬


‫جذبتها املرأة من شعر رأسها وقالت وهي تزمجر‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬كفي عن الكالم واخلعي مالبسك لتستحمي وإال مزقتها أمام الجميع‪ ،‬يبدو‬
‫ّأنك من قرية "الرباب" فأنت تشبهينهم‪.‬‬
‫صاحت إحداهن بصوت رقيع‪:‬‬
‫شك ّأنك كنت تلتقين بعشيقك في الغابة‪ ،‬أيتها الخبيثة!‬
‫‪ -‬ال ّ‬

‫‪91‬‬
‫تلفتت َ"مرام" حولها وهي تضع كفيها فوق بعضهما على صدرها‪ ،‬كانت‬
‫ترتجف‪ ،‬في حركة عصبية سريعة أمسكت َمرام بإبريق نحاس ي قريب منها‬
‫وسكبت املاء على رأسها وبدأت تستحم بمالبسها‪ ،‬رفعت املرأة حاجبيها وقالت‬
‫في تهكم تشوبه مرارة وهي ّ‬
‫تكز على أسنانها‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو ّأنك حمقاء‪ ...‬حمقاء‬
‫ّ‬
‫تسبها ورفعت صوتها بينما استمرت َ"مرام" في‬ ‫مطت املرأة كلماتها وهي ّ‬
‫سكب املاء على رأسها بيد مرتعشة‪ ،‬كانت في هلع وخوف من أن يلقوا بها في‬
‫تفكر أين املغاتير وأين الصقور‬‫ّ‬
‫أحضان رجل حقير يفترسها‪ ،‬أطرقت للحظة‬
‫وأين هؤالء الذين كانوا حولها خالل األيام املاضية‪ ،‬وكيف ال يعرفها أحد هنا‪،‬‬
‫كادت تصرخ وتقول أنا محاربة‪ّ ،‬‬
‫لكن‪...‬أي محاربة هي اآلن!!‬
‫علت ضحكات البعض وهم يراقبون َ"مرام" وهي تتحمم بمالبسها‪ ،‬ألقت‬
‫باإلبريق عليهن‪ ،‬وبدأت تصرخ عليهن‪ ،‬تشابكت مع بعضهن باأليدي تارة‪،‬‬
‫وبساقيها كانت تركلهن تارة‪ ،‬لكنها كانت تنال منهن ما ال تطيقه‪ ،‬بعض‬
‫عضتها إحداهن في ذراعها‪ ،‬وضربتها أخرى‬ ‫الصفعات والركالت والقرصات‪ّ ،‬‬
‫على ظهرها بقسوة بالغة‪ ،‬جذبوا غطاء رأسها فانساب شعرها على كتفيها‪،‬‬
‫وقفت املرأة أمامها تغلي كالقدر‪ ،‬كادت تلطمها لوال تلك املرأة طويلة القامة‬
‫وهزت رأسها بثقة وهي‬‫بمالبسها السافرة وشعرها األحمر التي اقتربت منهن ّ‬
‫تطالع عيني املرأة البدينة وقالت بصوت شابته رّنة دالل مصطنعة‪:‬‬
‫‪ -‬اتركيها لي‪ ،‬لن تفلح تلك الطريقة معها فلديها بعض الكبرياء‪ ،‬سأجهزها‬
‫بنفس ي‪.‬‬
‫ّ‬
‫تبرم بعد أن نالت َ"مرام" حظها من‬
‫استدارت املرأة وغادرت املكان في ّ‬
‫ً‬
‫نظراتها البغيضة‪ ،‬وقالت ولسانها يقطر حقدا‪:‬‬
‫‪ -‬فلتكسري ذاك الكبرياء‪.‬‬
‫وتركتها بين يدي تلك املرأة التي أحاطتها بمنشفة كبيرة وهمست في أذنها‬
‫بحنان‪:‬‬
‫‪ -‬تعالي يا صغيرتي‪ ،‬تعالي معي‪.‬‬
‫❐❐❐‬
‫‪92‬‬
‫كانت الغرفة تسبح في هدوء غريب‪ ،‬الكثير من املالبس املزركشة‬
‫وكأنه معرض كبير‪ ،‬بخطوات واثقة ّ‬ ‫معلقة هنا وهناك ّ‬ ‫ّ‬
‫تحركت املرأة‬
‫ً‬
‫بقامتها الطويلة وسحبت رداء شفافا واقتربت من َ"مرام" وقالت بصوت‬
‫ّ‬
‫متهدج‪:‬‬
‫‪ -‬خذي هذا الثوب وارتديه سيزيد جمالك‪ ،‬فلونه يناسب لون بشرتك‪.‬‬
‫رفعت َ"مرام" عينيها في انزعاج وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬لن أرتدي هذا الثوب املهين‪ ،‬سأظل بمالبس ي‪.‬‬
‫ضحكت املرأة بخالعة وقالت لها وهي تربت على طرف الفراش‪:‬‬
‫أنت؟‬ ‫‪ -‬اجلس ي يا فتاتي واخبريني ّ‬
‫بقصتك‪ ،‬من أين ِ‬
‫جلست َمرام ّ‬
‫بتحفظ على طرف الفراش وقالت بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬أنا محاربة!‬
‫ران عليهما الصمت لوهلة قبل أن تنخرط املرأة في موجه ضحك هستيري‬
‫ظلت َ"مرام" على حالها تقبض على طرف املنشفة فوق‬ ‫ّ‬
‫بطريقة مبتذلة‪،‬‬
‫ّ‬
‫مالبسها املبتلة وتراقبها في توتر‪ ،‬بعد حين خرجت املرأة وعادت بكوبين من‬
‫الفخار تتصاعد منهما األبخرة‪ّ ،‬‬
‫مدت أحدهما ل َـ"مرام" وقالت بصوت أكثر‬ ‫ّ‬
‫هدوءا مما كانت تتحدث به ً‬
‫سابقا وبدت جادة ومنضبطة وهي تقول‪:‬‬ ‫ً‬

‫‪ -‬كلهن حمقاوات‪ ،‬ال يعلمن قدرك‪ ،‬تناولي هذا يا حبيبتي سيدفئك‪،‬‬


‫وسأحضر لك املالبس التي تليق بك‪ ،‬يبدو ّأنك فتاة نبيلة‪.‬‬
‫ي ً‬
‫خوفا أم ً‬
‫بردا‪ ،‬أمسكت بالكوب واحتضنته‬ ‫كانت َ"مرام" ترتجف ال تدر‬
‫بكفيها وأغمضت عينيها لتسمح باألبخرة املتصاعدة منه باملرور على صفحة‬ ‫ّ‬
‫يدب في أوصالها‪ ،‬شعرت بحرقة‬ ‫وجهها البريء‪ ،‬رشفت ببطء وقد بدأ الدفء ّ‬
‫فشيئا بدأت األصوات تختلط عليها‪ ،‬ضحكات‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وشيئا‬ ‫خفيفة في معدتها‬
‫متواصلة وأيدي تتلقفها‪ ،‬تلك املرأة الطويلة تمسك بذقنها وتنظر إلى وجهها‪،‬‬
‫بدت مالمحها غريبة وهي تتحدث بلؤم وترفع حاجبها األيسر وتسألها إن كانت‬
‫تحب أن تصبغ لها شعرها هي األخرى باللون األحمر‪ ،‬أرادت َ"مرام" أن ّ‬
‫ترد‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫محبوسا بطريقة ما!‬ ‫ّ‬
‫لكن صوتها كان‬
‫‪93‬‬
‫رائحة غريبة ال تدري أهي لعطر أم نوع من البخور بدأت تتسرب إلى‬
‫خيشومها‪ ،‬طعم غريب لش يء لزج على شفتيها‪ ،‬دهان من مسحوق ناعم على‬
‫صوتا تلفها إحداهن حول عنقها‪ ،‬كان الشراب يحتوي على‬ ‫حلي تصدر ً‬ ‫كفيها‪ّ ،‬‬
‫مسحوق نوع من املخدر جعلها في حالة من عدم االتزان مما سمح للنساء‬
‫بتهيئتها بما رغبوا في إظهارها به‪ ،‬تستحق بعض النفقة والزينة فحسن عرضها‬
‫ً‬
‫وأخيرا نقلوها في عربة‬ ‫عال وسيعود عليهم هذا بالكثير‪.‬‬ ‫ُ‬
‫سيجعلها تباع بسعر ٍ‬
‫أخيرا وسط السوق بجوار األخريات على‬ ‫مع باقي الفتيات وهي تترنح‪ ،‬استقرت ً‬
‫أبسطة مزركشة وتحتهن الوسائد الحريرية‪ ،‬وحولهن الحراس يصدون عنهن‬
‫ً‬
‫األعين الحقيرة واألنفس الجائعة‪ ،‬إن أردتها فادفع الثمن أوال! وقف زعيم تلك‬
‫يجيا‪ ،‬وتحسست جسدها‬ ‫العصابة ينادي لبيعهن‪ ،‬بدأت تستعيد وعيها تدر ً‬
‫املتكشف وأرادت أن تصرخ‪ ،‬أن تبكي ّ‬
‫لكن أثر املخدر ما زال يسري في دمها‪...‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪94‬‬
‫(‪)8‬‬

‫" أشريا "‬

‫هس‪ ..‬هسس‪ ..‬همست بها فتاة صبيحة الوجه من خلف األشجار‪ ،‬كان‬
‫"كلودة" يغفو فتسقط رأسه تارة ً‬
‫يمينا‪ ،‬وتارة يسا ًرا‪ ،‬ما زال القيد يؤمله‪ .‬لم‬
‫تحركت وسارت على أطراف أصابعها وتقوقعت خلف‬ ‫ينتبه إليها إال عندما ّ‬
‫ظهره ثم بدأت تلكزه بيدها حتى ينتبه لوجودها‪ ،‬قال متفاجئا‪ً:‬‬

‫أنت مجنونة؟ كيف تدخلين الغابة!!‬


‫‪" -‬أشريا"!! ما الذي أتى بك إلى هنا! هل ِ‬
‫ّ‬
‫كانت الفتاة ذات نظرة متقدة كلها ذكاء‪ ،‬همست قائلة‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫تأخرت يا "كلودة" ‪ ،‬كان من املفترض أن تكون بالبيت منذ ساعات‪.‬‬
‫وصلت إلى هنا؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬كيف‬
‫ُ‬
‫‪ -‬أتيت وحدي‪ ،‬كنت أتبعك أمس وأنت في حانوت الكتب‪ ،‬ورأيتك مع ذاك‬
‫ّ‬
‫الشاب وأنتما تدخالن الغابة‪ ،‬فجلست مع النساء في قافلة تجار خرجت‬
‫ّ‬
‫من قريتنا حتى أطمئن أنك عدت‪ ،‬تابعوا سيرهم فسرت معهم حتى حدود‬
‫الغابة‪ ،‬ودلفت أفتش عنكما‪ ،‬أنتما بالكاد على أطرافها‪ ،‬عثرت عليكما‬
‫سريعا ورأيت القيد على يديك وكنت قد أتيت بذلك املسحوق ألحمي‬ ‫ً‬
‫نفس ي إن هاجمتني تلك الذئاب فألقيه على أعينها‪.‬‬
‫ً‬ ‫رفعته ّ‬
‫ليشمه فغضن حاجبيه وهمس ينهرها قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ابعديه عن يديك‪ّ ،‬إنه حارق يا "أشريا"‪ ،‬قد يؤذيك يا مجنونة!‬
‫ُ‬
‫لم يلمها على إلصاق املسحوق الحارق بأنفه‪ ،‬فهو يخش ى عليها أكثر مم ـ ـا‬
‫يخش ى على نفسه‪ ،‬سكنت الفتاة للحظات خلف ظهر "كلودة" ورمقت "أنس"‬
‫ّ‬
‫تأكدت أن الحراس غارقين في النوم فتحت ً‬
‫كيسا من‬ ‫بعينيها النابهتين‪ ،‬وعندما‬
‫‪95‬‬
‫الجلد كانت تضع املسحوق فيها‪ ،‬كان املسحوق لنوع من األحجار التي يجمعها‬
‫"كلودة" من الكهوف التي تمأل الجبال‪ ،‬ويسحقها ويضعها في قارورة كبيرة‬
‫ويغلقها بإحكام‪ ،‬طاملا حذرها منها‪ ،‬أخبرها أال تقرب منه املاء ألنه يفور وربما‬
‫يأكل بشرتها لو المسته بأصابعها‪ ،‬نثرت الفتاة بعض املسحوق على الحبال‬
‫قيدوا "كلودة بها‪ ،‬ثم أخرجت قربة ماء صغيرة كانت تحملها‪ ،‬سحبت‬ ‫التي ّ‬
‫بعض املاء بفمها وعادت فلفظته ببطء من بين شفتيها فوق املسحوق املنثور‬
‫ً‬
‫على الحبال‪ ،‬تراجعت قليال وجلست بوجه ما زال رغم أنوثتها الظاهرة يحتفظ‬
‫باستدارة الطفولة وتعبيراتها البريئة تراقب ذاك الفوران الذي يحدث ّثم‬
‫ً‬
‫سريعا ووقف‬ ‫تفتت الحبال وذابت أمام عينيها‪ ،‬سحب "كلودة" يديه‬
‫ّ‬ ‫يتفحصهما‪ّ ،‬‬
‫ظن أن الفتاة ستؤذيه بقلة خبرتها‪ ،‬لكنها كانت ذكية وأجادت‬
‫دوما وتتعلم منه‪ ،‬همس وهو ّ‬
‫يحدق في‬ ‫يوما يفعله‪ ،‬فهي تراقبه ً‬‫تقليد ما رأته ً‬
‫وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬حمدا هلل ّأنك جئت يا "أشريا"‪.‬‬
‫مسب ًحا‪:‬‬
‫ثم همس ّ‬

‫‪ -‬سبحانك سبحانك يا من تدبر األمر من السماء إلى األرض!‬


‫أسرع "كلودة" يفك قيد قدميه‪ ،‬وساعد "أنس" على فك قيده‪ ،‬هرول‬
‫الثالثة مبتعدين بعد أن سحب "أنس" حقيبته وما فيها عدا الكتاب الذي‬
‫موجودا‪ ،‬كانت القالدة ال تزال حول عنقه‪ ،‬وكان قد وضع‬ ‫ً‬ ‫سرقوه ولم يكن‬
‫ّ‬
‫املفتاح مع قطع الكريستال في الكيس الجلدي الصغير‪ ،‬فتحه ليتأكد من‬
‫لكنه فوجيء‬‫وجودها فال ريب أن اللصوص طمعوا فيها وأغراهم بريقها ّ‬
‫بتحولها إلى قطع من الفحم األسود!‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املذهب‪ ،‬كيف‬ ‫ساروا ملسافة غير بعيدة عندما تذكر "أنس" خنجره‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جده أن ينتبه لكل ش يء أمده به ألنه‬ ‫سيكمل رحلته بدونه وقد أوصاه ّ‬
‫لكنه قرر في النهاية أن يعود إلحضاره رغم اعتراض‬ ‫سيحتاجه‪ ،‬للحظة تردد ّ‬
‫ً‬
‫سريعا في أي‬ ‫"كلودة" و "أشريا"‪ ،‬على مقربة من املكان بحيث يتسنى لهم الهرب‬
‫لحظة وقفا يراقبانه خلف األشجار‪ ،‬كان "أنس" يسير بحذر شديد وهو يكتم‬
‫وتحرك ببطء حتى ال‬ ‫ّ‬ ‫أنفاسه‪ ،‬نجح في سحب الخنجر من حزام أحدهم‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يوقظه‪ ،‬لكنه تعثر بساق اآلخر وسقط فوقه‪ ،‬صرخ األخير فزعا وكاد يمسك بـ‬
‫‪96‬‬
‫ُ‬ ‫"أنس" الذي وثب ً‬
‫واقفا وباغته بضربة على صدره ث ّم لف جذعه بذراعيه‬
‫وقلبه على األرض فصرخ فاستيقظ ّ‬
‫البقية فزعين وأمسك اثنان منهم بـ"أنس"‪،‬‬
‫بخفة من بين األشجار ونثر باقي املسحوق الذي أحضرته‬ ‫لكن "كلودة" قفز ّ‬
‫"أشريا" على عين أحدهما فذاب في ماء عينيه وبدأ يحرقه فترك ذراع "أنس"‬
‫ً‬
‫وبدأ يصرخ أملا ويقفز هنا وهناك وهو يفركها بيديه‪ ،‬وركل "أنس" اآلخر في‬
‫قوة وانطلق الثالثة هاربين يتبعهم اللصوص‪.‬‬‫بكل ما أوتي من ّ‬
‫ساقه ّ‬
‫ُ‬
‫ركضوا بين األشجار ث ّم عبروا فوق جسر صغير حيث كان ماء النهر األخضر‬
‫وندت منها صرخة‬‫يجري تحتهم‪ ،‬فور أن عبروه للجهة املقابلة وقفت "أشريا" ّ‬
‫مكتومة! كانت هناك طفلة رضيعة ملفوفة بخرقة ومعلقة في غصن شجرة‬
‫ّ‬
‫وتحرك كفيها كما الفراشة‬ ‫أمام أعينهم‪ ،‬تركل بقدميها الدقيقتين في الهواء‪،‬‬
‫ّ‬
‫فتهز الغصن‪.‬‬
‫صاح "أنس"‪:‬‬
‫‪ -‬معقول! أي أم تلك التي تفعل هذا!‬
‫غرقت "أشريا" في موجة بكا ء عنيف واستمرت تبكي بنشيج مسموع بينما‬
‫يحل عقدة الخرقة ويساعده "كلودة" الذي التقط الرضيعة‬ ‫كان "أنس" ّ‬
‫ّ‬
‫بعينين تهميان بالدموع وقال بصوت مزقه الحزن‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫وأي أب!‬
‫كانت رائحة العسل تفوح منها‪ ،‬على نحو سريع تلفتوا ً‬
‫يمينا ويسا ًرا باحثين‬ ‫ٍ ٍ‬ ‫ّ‬
‫عن أي أثر ملخلوق حولهم‪ ،‬وملا لم يعثروا على أحد! انطلقوا راكضين بأقص ى‬
‫سرعة وكانت "أشريا" تحمل الصغيرة في حضنها‪ ،‬كادوا يخرجون لوال ّأن قبيلة‬
‫مرة أخرى‪ ،‬كان"أنس" يراهم يتواثبون من تحت األرض‬ ‫"املجاهيم" ظهروا ّ‬
‫كل جانب‪ ،‬بدا وكأن‬ ‫ويصطفون بجنب بعضهم البعض حتى أحاطوهم من ّ‬ ‫ّ‬
‫أوال فقد كان أسرعهم ً‬‫ً‬
‫ركضا‪ ،‬وفجأة‬ ‫"كلودة" و"أشريا" ال يرونهم! خرج "كلودة"‬
‫ُّ‬
‫اقترب أحد "املجاهيم" من "أشريا" ووقف أمامها ثم قبض على عنقها بيديه‬
‫فخرت على ركبتيها وبدأ وجهها يزرق وهي تمسك رقبتها وتحاول الصراخ ّ‬
‫لكنها‬ ‫ّ‬
‫نفسا يعينها‪ ،‬كادت تسقط على وجهها فوق الصغيرة‪ ،‬لوال‬ ‫ً‬
‫ال تجد صوتا وال ً‬ ‫ّ‬
‫"أنس" الذي خلع قالدته ووضعها حول عنقها هي والصغيرة حيث أحاطهما‬

‫‪97‬‬
‫بقوة خارج حدود الغابة حيث كانت "أشريا" تقف‬ ‫بحبلها املجدول ودفعهما ّ‬
‫بأقدامها فوق الحاجز الحجري فسقطت على األرض وبدأت تسعل وشهقت‬
‫سريعا وتخطى الحاجز الحجري ووقف يلتقط أنفاسه وقلبه‬ ‫ً‬ ‫بينما قفز "أنس"‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يكاد يثب من بين أضلعه وظل يحدق في وجه أحد "املجاهيم" والذي كان يقف‬
‫بتوعد فقد خدعهم وأخرج "أشريا" والصغيرة‬‫مشيرا إليه ّ‬
‫ً‬ ‫داخل حدود الغابة‬
‫من الغابة بذكاء‪.‬‬
‫فهزتها "أشريا" بحنان وأخذت تحضنها وتغطيها‬ ‫بدأت الصغيرة في البكاء ّ‬
‫بخمارها‪ ،‬استعاد "أنس" القالدة منها وارتداها وهو ّ‬
‫يتلفت ويراقب "املجاهيم"‬
‫يصطفون على أطراف الغابة من الداخل‪ .‬اتجه الثالثة إلى القرية ً‬
‫ركضا‬ ‫ّ‬ ‫وهم‬
‫ّ‬
‫حيث التقوا بقافلة تجارية كبيرة‪ ،‬تعرف أحد التجار على "كلودة" فحياه‬
‫آخرا لـ"أنس"‪،‬‬ ‫ً‬
‫قميصا ً‬ ‫قميصا يرتديه‪ ،‬فطلب "كلودة" على استحياء‬ ‫ً‬ ‫وأعاره‬
‫وساروا في حمايتهم حتى دلفوا القرية بأمان‪ ،‬وجلسوا ليلتقطوا أنفاسهم‪.‬‬
‫ران عليهم صمت خفيف قطعه ظهور وجه قبيح لرجل أشعث امتأل وجهه‬
‫بندبات جروح عميقة وله نظرة تخلع القلب‪ ،‬فور أن ملحه "كلودة" وثب في‬
‫مكانه وركض مع "أشريا" وهي تحتضن الصغيرة‪ ،‬وخلفهما "أنس" تجاه سوق‬
‫ظل يطاردهم حتى أحاطتهم أمواج البشر‬ ‫القرية‪ ،‬كان أحد اللصوص الذي ّ‬
‫املزدحمين حول البائعين‪ ،‬غابوا عن عينيه فتراجع وهو ّ‬
‫يسب ويلعن‪.‬‬
‫أخيرا إلى دار ّأم "أشريا"‪ ،‬فتحت "أشريا" الباب بهدوء‪ ،‬كانت‬ ‫ً‬ ‫وصلوا‬
‫ّ‬
‫الصغيرة قد سكنت في حضنها‪ ،‬واستسلمت للنوم بينما كانت"أشريا" تشمها‬
‫وتلثمها على جبينها فاستيقظت الصغيرة وبدأت تصرخ‪ ،‬قالت في نفسها طاملا‬
‫تحبه‪ ،‬أحضرت أشريا" العسل وغمست إصبعها‬ ‫تفوح منها رائحة العسل فهي ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫فيه‪ ،‬وأطعمتها ً‬
‫بعضا منه فشبعت وهدأت وابتسمت‪ ،‬ثم هرولت بها نحو أمها‬
‫العجوز وفتحت باب غرفتها فأجفلت! كانت العجوز تبكي بنشيج مسموع‬
‫وعيناها محتقنتان من كثرة البكاء‪ ،‬وضعت "أشريا" الصغيرة في حجرها‬
‫شديد وطلبت‬
‫ٍ‬ ‫وقصت عليها ما حدث‪ ،‬صرخت العجوز في وجهها بفزع‬ ‫بهدوء‪ّ ،‬‬
‫من "كلودة" أن يخرج بالصغيرة من الدار!!‬
‫وقفت "أشريا" تتعجب من ر ّد فعل ّأمها التي عادت للبكاء الذي أدمى‬
‫عينيها فصارت ال ترى وجه ابنتها "أشريا" وهي تقف أمامها‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫ً‬
‫مهموما وسار في الطرقات يحملها‪ ،‬ربطها حول صدره وك ـ ـ ـانت‬ ‫خرج" كلودة"‬
‫تهش له وتبتسم‪ ،‬وقف وسط السوق‬ ‫ّكلما التقت عيناه بعينيها الصغيرتين ّ‬
‫وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬عثرت على تلك الصغيرة بالغابة‪ ،‬وأنا سأربيها وأحتاج العون‪.‬‬
‫نال من الهمز واللمز ما لم ينله من قبل‪ ،‬واتهموه بالسوء‪ ،‬لكن هللا ألقى‬
‫الرحمة في قلوب البعض‪.‬‬
‫َ‬
‫احتضنها "كلودة" وك ّور جذعه عليها ليحميها من الح جارة التي قذفه بها‬
‫ً‬
‫متعجبا من فعلهم هذا!‬ ‫البعض‪ ،‬كان "أنس" يدفعهم ويصيح عليهم‬
‫ُ‬ ‫بكي "كلودة" وانهار وكأنه قد فقد ّ‬
‫كل أهله فجأة‪ ،‬ثم رفع نظره إلى‬
‫السماء وقال‪:‬‬
‫‪ -‬سبحانك سبحانك‪ ،‬يا رحيم يا ودود‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم أكمل بصوت تخنقه العبرات‪:‬‬
‫‪ -‬وما ذنب الصغيرة‪ ...‬وما ذنب الصغيرة!‬
‫خرج ت امرأة ثالثينية من بيتها وعليها ثياب ملطخة بالطحين األبيض‪،‬‬
‫وخلفها تهرول طفلتان صغيرتان‪ ،‬سارت بخطوات ثابتة وهي توزع نظرات‬
‫ُ‬
‫تحمل الكثير من التحدي ملن تجمهروا حول "كلودة"‪ ،‬ث ّم نظرت للرضيعة‬
‫وحملتها منه وبدأت الدموع تجري على خديها‪..‬‬
‫‪ -‬سأرضعها‪ ..‬ال تخف عليها‪.‬‬
‫ً‬
‫قالتها بصوت واثق وهي تحتضنها‪ ،‬كانت تلك زوجة الخباز‪ ،‬وكان رجال‬
‫ً‬
‫بسيطا قد أحسن إليه "كلودة" من قبل‪ ،‬وكانت تحفظ وزوجها له الجميل‪،‬‬
‫ً‬
‫أخبرته أن يتركها في دارهم طوال النهار‪ ،‬ويعود ليأخذها لتبيت معه ليال‪.‬‬
‫‪ -‬سبحانك سبحانك‪ ،‬تسخر من خلقك من تشاء ملن تشاء!‬
‫قالها وهو يتركها بين يديها‪ ،‬كانت َنبرة صوت "كلودة" تقطر حنانا ً‬
‫وحبا‬

‫‪99‬‬
‫ً‬
‫وحزنا في نفس الوقت‪ّ ،‬‬
‫تجول "أنس" في مالمحه التي تطفح بالحزن وقال وهو‬
‫يمسح على رأس الصغيرة بينما زوجة الخباز تحملها‪:‬‬
‫أحسنت إليها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫إليك كما‬
‫صنعت‪ ،‬أحسن هللا ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬جميل ما‬
‫رفع "كلودة" صوته وسط السوق وقال وما زالت الدموع تسيل من عينيه‪:‬‬
‫ّ‬
‫الخفية لهلكت األنفاس‪.‬‬ ‫النقية ّ‬
‫واألنات‬ ‫‪ -‬سبحانك سبحانك‪ ،‬لوال العبرات ّ‬
‫ً‬
‫منكسرا!‬ ‫انصرفا وتركا الصغيرة مع زوجة الخباز‪ ،‬بدا "كلودة" ً‬
‫حزينا‬
‫كان "أنس" يتساءل عن حال ذاك الشاب! وهل هو ناسك عابد؟ أم‬
‫يحب ابنة ّ‬
‫عمه بشغف!‬ ‫مريض؟ أم عاشق ولهان ّ‬
‫ً‬
‫صامتا حتى وصال إلى بيته‪ ،‬قال "أنس" وهو‬ ‫سار خلفه ملسافة طويلة‬
‫يمسح على جبهته‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ليتني واجهت ذاك اللص الذي تبعنا للقرية بدال من الهرب منه‪ ،‬ال ّبد أن‬
‫ّ‬
‫أسترد كتابي؟‬
‫التفت إليه "كلودة" وهو يفتح باب داره البسيطة‪:‬‬
‫‪ -‬رّبما من األفضل أن تنتظر حتى تسأل شهاب‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬سأستعيده بنفس ي‪.‬‬
‫واملقبح در ًسا فهو لم يعتد‬
‫ّ‬ ‫ود أن ّ‬
‫يلقن القبيح‬ ‫قالها بعد أن ز ّم شفتيه‪ّ ،‬‬
‫حقه طاملا هو قادر على استرداده‪ ،‬كان عص ي عليه أن يشرح هذا‬ ‫على ترك ّ‬
‫ً‬
‫سريعا‪ ،‬وكانا‬ ‫لـ"كلودة"‪ ،‬لن يهدأ له بال حتى يسترد الكتاب بنفسه‪ّ .‬‬
‫حل الليل‬
‫مرت من فوقهما تلك‬ ‫معا لبيت "كلودة" بعد أن ّ‬‫قد أرهقا من السير‪ ،‬دلفا ً‬
‫البومة العجيبة التي تمنح أميرتها رؤى ليلية تكشف عن املحاربين‪ ،‬فرأتهما‬
‫األميرة َ"نبرة" بعيني بومتها‪ ،‬هي تعلم اآلن أن "أنس" بصحبة شاب ما‪ّ ،‬‬
‫لكنها ما‬
‫الشاب الذي يستضيفه! ألقى‬ ‫الت ال تعرف مكانه‪ ،‬ولم تر بعد وجه هذا ّ‬
‫ز‬
‫محشوة بريش الطيور‪ ،‬واستسلم للنوم‪ ،‬كان متعباً‬
‫ّ‬ ‫"أنس" رأسه على وسادة‬
‫حد كبير‪.‬‬ ‫ً‬
‫ومرهقا إلى ٍ‬
‫❐❐❐‬
‫‪100‬‬
‫(‪)9‬‬

‫"أُونيت"‬
‫ً ّ‬
‫‪ -‬ستون كشتاال وإال فلتنصرف فليس لك بضاعة عندنا‪.‬‬
‫يتأمل وجه َ"مرام" والتي كانت تبدو ظاهرة عن الفتيات حولها‬
‫وقف الشاب ّ‬
‫ألنها كانت تبكي وتحاول جذب أي‬ ‫ليس بسبب لون بشرتها املختلف‪ ،‬ولكن ّ‬
‫ّ‬
‫قطعة قماش لتغطي جسدها‪ ،‬حتى ّأنها شقت وسادة حريرية واستخدمت‬
‫كسوتها كغطاء لكتفيها ّ‬
‫لكنهم جذبوه منها ونهروها أكثر من ّ‬
‫مرة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬سبعون كشتاال‪.‬‬
‫‪ -‬بل خمسون كشتاال فقط‪.‬‬
‫مر "أنس" من أمامها‪ ،‬كان هو و "كلودة" يهروالن خلف "أشريا" وجميعهم‬ ‫ّ‬
‫يتلفت باحثا عن اللصوص هنا وهناك‪ ،‬ظهر وجه قبيح ألحدهم من بين‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الزحام ورفع رأسه يفتش بين الوجوه عن "أنس" دون أن يراه األخير‪ ،‬فعلم‬
‫"أنس" للتو ّأنه مطلوب في القصر بالفعل ‪ ،‬فقد أخبر امللك رجاله أن من يأتيه‬
‫قيمة‪ ،‬دلف " أنس" و"كلودة" وسط الحشود التي‬ ‫برأس "أنس" سينال جائزة ّ‬
‫كانت تلتف حول الفتيات يقلبن في وجوههن وأجسادهن بإهانة ليشتروهن‪،‬‬
‫كل يد تمتد إليها‪ ،‬رأت "أنس" وحول عنقه القالدة التي‬ ‫كانت َ"مرام" تضرب ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جده وكانت جدتها قد أعطتها قالدة تشبهها فأدركت أنه هو‪،‬‬ ‫أعطاها له ّ‬
‫جي ًدا وكان "كلودة" الذي صاح‬ ‫التفتت حين ناداه شاب آخر لم َتر وجهه ّ‬
‫ّ‬
‫باسم "أنس"وسط السوق فتأكدت ّأنه هو‪ ،‬كان قد ابتعد فلم يسمع صوتها‬
‫صغيرا من على األرض تحت قدميها وقذفته‬‫ً‬ ‫الضعيف‪ ،‬فانحنت وحملت ً‬
‫حجرا‬
‫ً‬
‫ومر عليها دون أن يتوقف أمام وجهها‪ ،‬كان مشمئزا من جمع‬ ‫به‪ ،‬التفت ّ‬
‫ً‬
‫حجما‬ ‫ً‬
‫حجرا أكبر‬ ‫مرة أخرى وحملت‬ ‫الفتيات بمالبسهن العارية‪ ،‬انحنت ّ‬
‫‪101‬‬
‫ًّ‬
‫وقذفته فأصاب رأسه‪ ،‬التفت نحوها متأملا فالتقت عيناهما‪ ،‬وجد أمامه فتاة‬
‫سافرا من الحرير فأجفل ثم صرف نظره عنها‬ ‫ً‬ ‫جميلة وفاتنة وترتدي ً‬
‫ثوبا‬
‫وابتعد‪ ،‬فقذفته بحجر آخر في رأسه فانحني وتناوله ونظر إليها بغضب‬
‫وتصميم ورماها به فأصابها في عينها فصرخت أملا ّثم حاولت أن تنادي عليه‬
‫وقالت بصوت ابتعلته ضوضاء الحشد حولها‪:‬‬
‫اشترني‪ ..‬أرجوك‪ ..‬ادفع ثمني‪ ..‬ال تتركني‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫لم يسمعها فحاولت أن تترك مكانها وتلحق به فصدها ذراع غليظ ألحد‬
‫الحراس الذين كانوا يحيطون بهن‪ ،‬عادت ملكانها وكانت عينها تؤملها ّ‬
‫بشدة‪،‬‬
‫اختفى "أنس" بين جموع البشر في السوق وعادت تقف كالقط الغاضب تغرز‬
‫كل ٍيد تمتد لتمسك بها‪ ،‬كانت معركة شرسة تدور بينها وبين زبائن‬ ‫مخالبها في ّ‬
‫التاجر‪ ،‬حتى عال صوت الخيول‪ ،‬أفسح الناس فرجة بينهم فترجل أحدهم عن‬
‫ومر بين الصفوف حتى وصل إلى التاجر الذي انحنى ليحييه بإجالل‪،‬‬ ‫حصانه ّ‬
‫ّ‬
‫وقف شاب قوي البنية له حضور قوي عليه مالبس تليق باألمراء‪ ،‬مر على‬
‫وجوه الفتيات بعينيه اليقظتين وتفحص نظراتهن بإمعان‪ ،‬اختار ثالث فتيات‬
‫بارعات الجمال وجريئات ال يستحين من عرض أنفسهن‪ ،‬وعلى عكس املتوقع‬
‫دوما حيث كان ال يختار املنكسرات مثلها ‪ ،‬جذبت َ"مرام" انتباهه حيث كانت‬ ‫ً‬
‫تمزق النمارق الحريرية التي كان من املفترض أن تجلس عليها وتستند كباقي‬
‫لكنها كانت تشقها وتغطي جسدها بقماشها ودموعها تسيل على‬ ‫الفتيات‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫وجنتيها‪ ،‬كانت ترتجف عندما اقترب منها ثم أشار عليها وعلى الفتيات الثالثة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم ألقى بكيس ممتلئ بالنقود للتاجر الذي تغيرت مالمحه عندما أمسك املال‬
‫وطرب لصوت خشخشته داخل الكيس‪ ،‬دفع الفتيات بقسوة خلف الشاب‬
‫الذي التفت عندما صرخت َ"مرام" عندما جذبوا الخرق الحريرية املمزقة التي‬
‫وشاحا كان يرتديه فوق قميصه ولفها به فستر‬ ‫ً‬ ‫كانت تغطي بها جسدها وخلع‬
‫ّ‬
‫جسدها الضئيل كله فرفعته بحياء على رأسها‪ ،‬كان لديه بقايا خير وإن كانت‬
‫ً‬
‫وأخيرا وجدت من يسترها!‬ ‫قليلة‪،‬‬
‫سارت خلفه مع الفتيات حتى خرجوا من السوق‪ ،‬عاد لحصانه وأشار‬
‫تجرها الخيول إلى هناك‪ ....‬حيث‬ ‫ألحد رجاله الذي حملهن في عربة مغطاة ّ‬
‫َ‬
‫قصر امللك ِ"كمشاق" واألميرة "نبرة"‪ ،‬كان "حليم" يزور السوق من آن آلخر‬
‫ليشتري اإلماء من النساء ويهدي لـ ِ"كمشاق" أجملهن حتى يرضيه ويكسب‬
‫‪102‬‬
‫وده‪ ،‬ويدفع بعضهن للخدمة في مطبخ القصر حيث ينعمن بخيرات امللك‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫وامللكة إشفاقا عليهن‪ ،‬كان لديه مزيج من الخير والشر يموج في نفسه‬
‫ّ َ‬
‫املضطربة بحب "نبرة" الذي يطغى عليه ويفطر فؤاده‪ ،‬كان "حليم" يتفادى‬
‫شراء الفتيات على شاكلة َ"مرام"‪ّ ،‬‬
‫لكنها على ضعف بنيتها كانت جميلة الوجه‪،‬‬
‫ّ‬
‫فحازت على انتباهه بما كانت تفعله فرق لحالها وتعجب ألمرها‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫‪ -‬أريد أن أعمل بمطبخ القصر‪.‬‬


‫قالتها َ"مرام" بتصميم وهي تتوجع وتضع ّ‬
‫كفها على عينها التي تو ّرمت بعد‬
‫أن قذفها "أنس" بحجارة أصابتها فيها‪ ،‬كانت تقف أمام املسئولة عن شئون‬
‫قصر امللك ِ"كمشاق" الذي ّ‬
‫يتوسط أكبر قرى مملكة الجنوب‪ ،‬تلك القرية التي‬
‫على أطرافها يعيش "كلودة" حيث يستضيف "أنس" الذي كان مصير كتابه‬
‫مجهوال حتى تلك اللحظة‪ ،‬صرخت املسئ ولة ّ‬ ‫ً‬
‫وعنفت َ"مرام" ونهرتها وأمرت‬ ‫ُ‬
‫بضمها لجواري امللك‪ ،‬سمعتها األميرة "أونتي" التي كانت تتسلل من جناح‬
‫الخدم في ثياب جارية من جواريها لتلتقي بحبيبها في البستان‪ ،‬كانت تقف‬
‫يتوسط الساحة وتخفي وجهها بطرف غطاء رأسها‬ ‫ّ‬ ‫خلف عامود عريض‬
‫َ‬
‫الحريري عندما تناهى إلى سمعها ص وت بكاء "مرام"‪ ،‬انصرفت املسئولة ومعها‬
‫الجواري وتركن ُ َ"مرام" وحدها تبكي‪ ،‬كانت تسير تجاه بوابة القصر عندما‬
‫جذبتها األميرة "أونتي" نحوها وسألتها هامسة ولم يظهر ل َـ"مرام" منها سوى‬
‫عينيها الكحيلتين وبشرتها السمراء‪:‬‬
‫‪ -‬ما اسمك؟‬
‫‪"َ -‬مرام"‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫وتضمك إلى جواريها‪ ،‬كفكفي‬ ‫‪ -‬ال تخافي يا َ"مرام"‪ ،‬ستطلبك األميرة "أونتي"‬
‫دموعك وال تحزني‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ث ّم انصرفت تلك األميرة التي تختلف في طباعها عن شقيقتها "نبرة"‬
‫وشقيقها ِ"كمشاق" دون أن تكشف لـ َ"مرام" عن شخصيتها‪ ،‬وهرولت على‬

‫‪103‬‬
‫عجل وانسلت بين أشجار البستان املحيط بالقصر‪ ،‬كفكفت َ"مرام" دموعها‬
‫ّ‬
‫وتك ّورت وسكنت تنتظر وتترقب وتفكر في حالها وما آلت إليه‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫‪ -‬موالي امللك ِ"كمشاق"‬


‫ً‬
‫قالها أحد الحراس بإجالل وهو ينحني أمام امللك باسطا ذراعه‬
‫استقرت نظرة ساخرة ملؤها الكبر‬ ‫ّ‬ ‫باستعراض‪ّ ،‬‬
‫هز امللك رأسه وبعينيه‬
‫واالستعالء فقد كان يتلذذ بمراقبة حاشيته وهم يعاملونه بتلك الطريقة‪ ،‬قال‬
‫بصوت رخيم وهو يلتقم حبات العنب في فمه من يد جاريته الحسناء‪:‬‬
‫‪ -‬ما الجديد؟‬
‫‪ -‬وصل أحدهم يزعم ّأنه حصل على كتاب ألحد املحاربين‪ ،‬ويقول أنهم‬
‫أسروه في الغابة‪.‬‬
‫اعتدل امللك في جلسته حيث استيقظت كل جوارحه‪ ،‬ورفع يده بإيماءة‬
‫تعني أن أدخله في الحال‪ ،‬كان " ِكمشاق" قد فاز بعدة جوالت مع هؤالء‬
‫املحاربين‪ ،‬ما زال يعزز عرشه ومملكته بنشر بعض املعتقدات التي تخدم‬
‫كل فرصة ليمنع هؤالء املحاربين‬ ‫كيانه‪ ،‬كانت نصيحة الكهان له أن يقتنص ّ‬
‫من استرداد تلك الكتب التي يزعمون ّأنها لهم‪ ،‬ال سبيل إال مراقبة املحاربين‪،‬‬
‫فهم وحدهم يمرون من مكان آلخر‪ ،‬أما أهل القصرين‪ ،‬قصر "الحوراء"‬
‫أي منهما على دخول الغابة ولم يصل أحدهم إلى‬ ‫وقصر ِ"كمشاق"‪..‬ال يجرؤ ّ‬
‫ُ‬
‫املكتبة العظيمة التي تقع خلف الجبل‪ ،‬أمجاد عظيمة تسطر هناك‪ ،‬تاريخ‬
‫يضم أسماء من منحوا البشرية الكثير من التجارب والعلوم والفنون‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫والقصص‪ ،‬من بالد شتى ومن جنسيات مختلفة‪ ،‬أما ِ"كمشاق" وألنه من أصل‬
‫ً‬
‫وأخيرا‬ ‫نوبي عريق فكان يهتم لتلك الكتب التي تحكي قصص األمير "أواوا"‪،‬‬
‫تهز عرشها‪ ،‬يستطيع اآلن أن يأمر أحد الكهان‬ ‫ستتلقى "الحوراء" ضربة ّ‬
‫باستالم الكتاب لتمأل صفحاته بما يرض ي نفسه ويرضيه ويعزز كيانه وسلطته‬
‫ويخلد اسمه‪ ،‬صرف الجواري وجلس ّ‬ ‫ّ‬
‫يعدل ثيابه الفاخرة‪ ،‬دلف كبير‬

‫‪104‬‬
‫اللصوص ومعه رفاقه‪ ،‬كانت رائحة القذارة تفوح منهم‪ ،‬انحنوا في إذالل أمامه‬
‫وقال كبيرهم‪:‬‬
‫‪ -‬موالي امللك‪ ،‬جئناك ّ‬
‫بهدية‪.‬‬
‫‪ -‬إن كانت كما تزعم فلك جائزة كبيرة‬
‫ابتسم فأسقطت ابتسامته اللثام عن أسنان صفراء ّ‬
‫حفتها القذارة من‬
‫أعالها وأسفلها وقال بصوت أجش متحشرج‪:‬‬
‫‪ -‬هذا كتاب ألحد املحاربين عثرنا عليه في الغابة وهو في طريقه إليكم‪.‬‬
‫وقلب صفحاته الخالية‪ ،‬راوده شعور‬ ‫ّ‬
‫تناول ِ"كمشاق" الكتاب منه‬
‫ّ‬
‫باالطمئنان عندما تأكد أن الكتاب لم يطلق سراح كلمة واحدة‪ ،‬ما زال أمامه‬
‫فرصة كبيرة‪ ،‬رفع رأسه ونظر لكبير اللصوص بازدراء وسأله‪:‬‬
‫‪ -‬وأين هو املحارب؟‬
‫‪ -‬ممم‪ ..‬سنحضره يا موالي ولكن‪..‬‬
‫‪ -‬ولكن ماذا؟‬
‫‪ -‬نطمع في سخائك وكرمك‪ ،‬وال أظنك ستبخل علينا‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫ُّ‬
‫قهقه امللك وانتفض وانتفش ورشقه بنظرة أوقعت الرعب في نفسه‪ ،‬ثم‬
‫قال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أحضره ّأوال ثم أرني وجهك هذا ّ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم أردف وهو يثقبه بنظرة أخرى وقعت حيث وقعت األولى فتراجع كبير‬
‫ً‬
‫اللصوص مرتبكا إثرها‪:‬‬
‫‪ -‬وسيبقى الكتاب هنا حتى تعودوا به‪.‬‬
‫بخطى مترددة ونفس غاضبة‪ ،‬ودماء تغلي‪ ،‬ونظرات متقدة‪ ،‬انصرف‬
‫اللصوص عائدين إلى حيث تركوا "أنس" و "كلودة" في صحبة ثالثة منهم‪ ،‬ال ّبد‬
‫أن يعودوا بهم للملك ِ"كمشاق"‪ ،‬والذي كان ّ‬
‫يتأمل غالف الكتاب ويقرأ عنوانه‬
‫في فضول‪:‬‬
‫‪105‬‬
‫‪" -‬إيكادولي"! ال ّبد أن يكون هذا الحب لي وحدي‪ ،‬فليحبني الجميع‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫‪ -‬تعالي‪ّ ،‬‬
‫هيا أيتها الكسولة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تريدين؟‬
‫ُ‬
‫‪ -‬طلبتك األميرة "أونتي" لتكوني خادمتها الشخصية‪ ،‬أنت محظوظة يا فتاة!‬
‫لوال عينك املتو ّرمة تلك ِ‬
‫لكنت اآلن بين يدي امللك ِ"كمشاق"‪ ،‬لقد أنقذتك‬
‫األميرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقعت كلماتها بضحكة خبيثة‪ ،‬كانت َ"مرام" تضغط على ذراعها حيث‬
‫قرصتها ُاملسئولة وهي تجذبها من ذراعها‪ ،‬سارت وراءها بهدوء تجاه جناح‬
‫األميرة "أونتي" وهي تحبس دموعها‪ ،‬أصابها الكثير من الضرب والقرص منذ‬
‫خرجت من بيت العجوز "ناردين" في الغابة‪ ،‬لم تعتد على تلك العدوانية ولم‬
‫تتعرض لها خالل حلتها مع كتابها "هيال"‪ ،‬كان األمر ً‬
‫هادئا رغم مرور أبطال‬ ‫ر‬
‫قصتها ببعض املصاعب‪ .‬منذ ظهور أنس هذا انقلبت األمور كلها شقاء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أطرقت في حزن لكنها حين تذكرت ّأن ورم عينها أنقذها من أشنع البالء‬
‫اطمأنت وعلمت أن لطف هللا الخفي ال تجزع معه القلوب‪ .‬وصلت ً‬
‫أخيرا حيث‬
‫كانت األميرة تقف في شرفتها وتتأمل القمر في السماء‪ ،‬التفتت حين دخال عليها‬
‫وابتسمت بلطف‪ ،‬وفور أن انصرفت املسئولة أسرعت تجاه َ"مرام" ووضعت‬
‫يدها بحنان على كتفها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت بخير؟‬
‫‪ -‬بخير يا موالتي‬
‫ُ‬
‫التفتت إليها "أونتي" وقالت بإشفاق‪:‬‬
‫ً‬
‫مناسبا لك من املالبس التي فيه‪.‬‬ ‫‪ -‬افتحي هذا الصندوق وتخيري ما ترينه‬
‫أسرعت َ"مرام" التي كانت ال تزال تتلحف بوشاح "حليم" الذي لفها به‬
‫تعجبت َ"مرام" فالثياب في الصندوق ال تناسب‬ ‫عندما اشتراها في السوق‪ّ ،‬‬
‫‪106‬‬
‫األميرة وال تشبه الرداء الذي ترتديه‪ ،‬آثرت الصمت وسحبت ر ً‬
‫داء طويل‬
‫األكمام وسرواال ً‬
‫واسعا وارتدتهما في الحال وخلعت املالبس الخليعة التي كانت‬
‫ّ‬
‫عليها‪ ،‬تذكرت نظرة "أنس" لها في السوق فأصابها الحزن‪ ،‬ذاك الشاب ظنها‬
‫فتاة سيئة‪ ،‬أمسكت بطرف ُ الوشاح الذي كان عليها وبدأت تمسح األصباغ‬
‫على وجهها فالتفتت األميرة "أونتي" وضحكت وهي تراقبها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬أليس هذا وشاح "حليم"؟‬
‫‪ -‬نعم هو‪ ،‬سترني به وأنا في السوق‪.‬‬
‫الحت على وجه األميرة ابتسامة وهي تقول‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬كم هو شهم! ال بد ّأنه ر ّق لحالك‪ ،‬عجيب أمر "حليم" هذا! يتقلب بين‬
‫حالتين وكأن النهار والليل يتعاقبان فيه!‬
‫‪ -‬ماذا تعنين؟‬
‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أحيانا يكون ً‬
‫وحنونا‪ ،‬وأحيانا يكون غليظا فظا!!‪ ،‬أتعلمين‪ ،‬لو رآك‬ ‫طيبا‬ ‫‪-‬‬
‫تمسحين األصباغ به لعاقبك في الحال‪.‬‬
‫تنهدت َ"مرام" وقالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ما أنا فيه هو عقاب بالفعل‪ ،‬ليتني لم أكن ً‬
‫يوما أنثى!‬
‫‪ -‬لم تقولين هذا؟‬
‫‪ -‬أجبروني على ما ال طاقة لي به‪ ،‬خلعوا حجابي‪ ،‬مزقوا حيائي‪ ،‬هتكوا‬
‫ً‬
‫ستري‪ ...‬ليتني كنت رجال‪.‬‬
‫ّ ُ‬
‫وانخرطت تبكي بنشيج مسموع فرقت "أونتي" لحالها وجلست بجوارها‬
‫ّ‬ ‫تهدئ من روعها‪ُ ،‬ث ّم سألتها عن ّ‬
‫قصتها فصمتت َ"مرام" هنيهة وفكرت هل من‬
‫الصواب أن تعرف األميرة ّ‬
‫بقصتها أم ال‪ ،‬فضلت أن تكتم أمر كونها محاربة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واستأنفت البكاء ّ‬
‫وكأنها ال تقدر ُعلى الكالم حتى ملت األميرة وعادت لشرفتها‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تتأمل القمر في السماء‪ ،‬كانت "أونتي" ساهمة تفكر في حبيبها‪ ،‬تطرق طويال‬
‫وتغرق في أحالم يقظتها حتى ّأنها ال تشعر بمن حولها‪ ،‬أدركت َ"مرام" أن وراء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تلك األميرة ًّ‬
‫وتتصبر لعلها تعينها على الهروب من ذاك‬ ‫سرا ما‪ ،‬قررت أن تتجلد‬
‫‪107‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫القصر‪ ،‬كانت عينها تؤملها ّ‬
‫بشدة‪ ،‬بدأ جفنها يزرق وبرز قليال‪ ،‬تذكرت كيف‬
‫كان "أنس" ينظر إليها وهو يصوب الحجر تجاهها فاعتصر الحزن قلبها وغضبت‬
‫منه‪ ،‬همست لنفسها وهي ّ‬
‫تعدل وسادتها لتنام‪:‬‬
‫أيظنني ًّ‬
‫بغيا تناديه! يوما ما سأنتقم من هذا املحارب األحمق‪ ...‬واملغرور!‬
‫❐❐❐‬

‫‪"َ -‬مرام"‪...‬استيقظي‪.‬‬
‫ُ‬
‫همست األميرة "أونتي" في أذنها فانتصبت جالسة وبدأت تفرك عينيها‪،‬‬
‫اعتادت على االستيقاظ في مكان يختلف عن بيتها الذي ولدت فيه‪ ،‬اشتاقت‬
‫ّ‬
‫الخاصة‪ ،‬التفتت فرأت األميرة‬ ‫ُلغرفتها وأمها‪ ،‬كادت تنس ى سريرها وأشياءها‬
‫مالبسا بسيطة ال ت ليق بها كأميرة‪ ،‬سحبتها من يدها‬ ‫ً‬ ‫"أونتي" وقد ارتدت‬
‫ّ‬
‫وهمست قبل أن يخرجا من جناح األميرة الخاص بها‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪"َ -‬مرام"‪..‬اخترتك ألني أدركت من اللحظة األولى أنك لست من ذاك النوع‬
‫من الفتيات الذي يبحث عنه أخي ِ"كمشاق" وغيره‪ ،‬وأشعر ّأنك لست من‬
‫هذا املكان‪.‬‬
‫ُ‬
‫سريعا‪ ،‬كانت طريقة َ"مرام" في‬‫ً‬ ‫ث ّم صمتت برهة وعبرت على مالمح َ"مرام"‬
‫مرة‪ ،‬وهلعها عندما ذكرت املسئولة أمر الجواري وما‬ ‫الكالم عندما رأتها ّأول ّ‬
‫ّ‬
‫يفعلنه إلرضاء امللك‪ ،‬ودموعها التي كانت تنساب على وجنتيها‪ ،‬توحي بأنها على‬
‫استعداد أن تفعل أي ش يء مقابل أن ينقذها أحدهم من هذا املأزق‪ ،‬رمقتها‬
‫بثقة وقالت‪:‬‬
‫سري‬ ‫‪ -‬بقاؤك هنا في جناحي مرهون بإخالصك لي‪ ،‬فأنا أحتاج ملن تكتم ّ‬
‫سري‪ ،‬وطاملا‬‫وتعينني‪ ،‬فقد سلبوني أفضل الجواري عندي ومن كانت تكتم ّ‬
‫كل رجال القصر‪.‬‬ ‫أثبت والءك لي يا َ"مرام" سأحميك من ّ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫سألتها "مرام" بتعجب‪:‬‬
‫سلبوك جاريتك املخلصة؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬وملاذا‬
‫‪ -‬سأخبرك ً‬
‫الحقا‪ّ ،‬أما اآلن فغطي وجهك وسيري خلفي‪.‬‬
‫‪108‬‬
‫‪ -‬إلى أين؟‬
‫ُ‬
‫انطلقت "أونتي" وخلفها َ"مرام" تتساءل في نفسها كيف ستستطيع تلك‬
‫التي ُسلبت أقرب جواريها أن تحميها! بدأ القلق يستبد بها وأكملت سيرها‬
‫والوساوس تنهشها‪ .‬كانت السماء ما زالت شاحبة‪ ،‬ال يتبين الخيط األبيض من‬
‫الخيط األسود من الفجر‪ ،‬انسابت بين أشجار البستان وخلفها َ"مرام" التي ال‬
‫تدري أين تذهب بها األميرة‪ ،‬بعد حين من الوقت وحيث غمر النور املكان‬
‫وسريعا ما ظهر شاب طويل القامة‬ ‫ً‬ ‫تنتظران‪،‬‬
‫ً‬ ‫بالتد ّريج وقفتا تحت شجرة ُ‬
‫وقوي البنية‪ ،‬أسرعت تجاهه "أونتي" ‪ ،‬كانت متلهفة لرؤيته للغاية‪ ،‬بدأت‬
‫تتحدث معه وتتبعه هنا وهناك‪ ،‬بدا ل َـ"مرام" أن األميرة تحاول جاهدة أن‬ ‫ّ‬
‫تغريه وتراوده عن نفسه‪.‬‬
‫سر هذا وما تلك‬ ‫أي ّ‬‫فاستدارت َ"مرام" بانزعاج وكانت في حالة يرثى لها‪ّ ،‬‬
‫املصيبة التي أشركتها فيها تلك األميرة‪ ،‬وقفت تعتصر يديها بقلق‪ ،‬جاست‬
‫بعينيها في السماء تسأل هللا أال يؤاخذها بما يحدث خلف ظهرها‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫استيقظ "أنس" وكبح تثاؤبا وهو يبحث عن "كلودة" في الغرفة‪ ،‬يبدو ّأنه‬
‫سريعا‪ ،‬كان في حالة من النشاط‬ ‫ً‬ ‫خرج من البيت! لم يدم انتظاره له فقد عاد‬
‫ّ‬
‫وكأنه لم يكن بنفس الروح التي كانت تبكي بالسوق أمس وهي منكسرة! وكأنه‬ ‫ّ‬
‫قد غسل وجهه من ال حزن وعاد بسحنة جديدة!‬
‫سريعا وغادرا البيت حيث انصرف "كلودة" إلى دكانه‬ ‫مرت ساعة اإلفطار ً‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫بينما فارقه "أنس"‪ ،‬فقد قرر العودة إلى الغابة ربما يلتقي بالرمادي هناك‬
‫ويسأله ما مصير كتابه! أو رّبما يعثر على "شهاب"‪ .‬كان "أنس" يسير وعيناه على‬
‫قوية‪،‬‬ ‫قمة الجبل يراقب الحلقة الحمراء التي تحيطه‪ ،‬كان الجو بار ًدا والرياح ّ‬ ‫ّ‬
‫كل ما ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتنصت ويراقب الطريق بحذر‪ ،‬بدأ يقلب ّ‬ ‫ّ‬
‫مر به‬ ‫من آن آلخر كان يقف‬
‫في رأسه‪ ،‬ال يدري بالتحديد كيف ستكون خطوته القادمة‪ ،‬فالعجوز "ناردين"‬
‫أخبرته أن يحرص على كتابه ويراقبه من آن آلخر‪ ،‬ولكن أين الكتاب اآلن!!‬
‫سكنت الرياح‪ ،‬وغمرته موجة من الدفء وهو يسير‪ ،‬لـ ـ ـ ـم يتخيل ً‬
‫يوما أنـ ـ ـ ـه‬
‫‪109‬‬
‫ً‬
‫وحيدا في‬ ‫سيبتعد عن أسرته بتلك الطريقة‪ ،‬ولم يخطر بباله أنه سيكون ً‬
‫يوما‬
‫عالم ال يعرف عنه أي ش يء‪.‬‬
‫حياه بحبور ودعاه لبيته‪ ،‬لم‬ ‫ظهر "شهاب" أمامه فجأة كما لو كان ً‬
‫شبحا‪ّ ،‬‬
‫يتوقف "أنس " عن األسئلة منذ أن رأته عيناه‪ ،‬أخبره أن الكتاب قد ُسرق‬
‫ُ‬
‫منه‪ ،‬أخبره بأمر "كلودة" و "أشريا" والصغيرة‪ ،‬أنصت إليه "شهاب" ث ّم طمأنه‪،‬‬
‫املرة األولى‪ ،‬سارا معا على طريق‬ ‫وأخبره أن الكتاب سيجده كما وجده في ّ‬
‫أطل بيت "شهاب" في نهايته فتهلل وجه "أنس"‪ ،‬فالبيت‬ ‫معشوشبة طويلة‪ّ ،‬‬
‫مختلفا عن كل ما شاهده منذ وصوله‪ ،‬فهو أقرب لعامله الذي نشأ فيه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يبدو‬
‫ً‬
‫سعيدا ومرحاً‬ ‫وأبعد عن تلك األعاجيب التي يراها ويعيشها اآلن‪ .‬بدا "شهاب"‬
‫ٌ‬
‫مع بناته الثالثة‪ ،‬حتى زوجته بدت في حالة رائعة‪ ،‬وجه مشرق عليه مسحة‬
‫مطمئنة‪ ،‬كانت البنات ملتصقات بأبيهن‪ ،‬واحدة‬ ‫ّ‬ ‫نفس‬
‫طي ٍبة وقسمات تنم عن ٍ‬
‫تحتضن ساقه اليسرى وكانت أقصرهن قامة‪ ،‬واألخر تحتضن جذعه وكانت‬
‫ى‬
‫تبدو كأنها تكبر شقيقتها بعامين‪ ،‬والثالثة كانت تمسك بيده وتلك أكبرهن‬
‫البني الحريري املجدول في ضفيرتين‪،‬‬ ‫وأطولهن قامة‪ ،‬نفس املالمح‪ ،‬والشعر ّ‬
‫مرات في‬‫حتى ألوان ثيابهن كانت متطابقة‪ ،‬وكأنهن نسخة تكررت وولدت ثالث ّ‬
‫متفرقة‪ ،‬قال "شهاب" بترحاب شديد‪:‬‬‫ثالث أعوام ّ‬
‫طعاما ً‬
‫شهيا‪ ،‬انضم إلينا‪.‬‬ ‫أعدت زوجتي ً‬ ‫هيا يا "أنس"‪ّ ،‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫فتح "شهاب" باب البيت واجتاز البهو ومن خلفه بناته يقفزن حوله‬
‫ّ‬
‫ووراءهن "أنس"‪ ،‬كانت النوافذ كلها مفتوحة‪ ،‬والغرفة تسبح في نور لطيف‪،‬‬
‫لتضيف "أنس" وكانت قد ّ‬
‫أعدت‬ ‫ّ‬ ‫وتفوح برائحة الطعام‪ .‬اقتربت زوجة "شهاب"‬
‫ّ‬
‫حساء الخضراوات اللذيذ والكثير من الفطائر الشهية‪ ،‬جلس "أنس" بين بنات‬
‫"شهاب" الثالثة وقد أصابته عدوى السعادة‪ ،‬كانت لديهن كفوف صغيرة‬
‫وأنامل دقيقة‪ ،‬ووجوه جميلة‪ .‬أصواتهن الرقيقة وضحكات هن الجزلة جعلت‬
‫االبتسامة ال تفارق وجهه‪ ،‬التفتت إليه أكبرهن وسألته‪:‬‬
‫‪ -‬ما اسمك؟‬
‫‪" -‬أنس" وأنت؟‬
‫‪" -‬جمانة"‬
‫‪110‬‬
‫‪ -‬اسمك جميل‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم التفتت لشقيقتيها وقالت بحماس شديد وهي تشير إليهما بسبابتها‪:‬‬
‫‪ -‬هذه أختي "جميلة" وتلك أختي "جويرية"‪ ،‬نحن الشقيقات الثالثة "ج "‬
‫هل أنت صديق ألبي؟‬
‫ضحك "أنس" وقد أعجبته طريقتها في تقديم نفسها وشقيقتيها له وقال‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫أظن ذلك‪.‬‬
‫ابتسم "شهاب" وقال ّ‬
‫بود‪:‬‬
‫‪ -‬هو صديقي ً‬
‫طبعا يا "جمانة"‪.‬‬
‫جذبته ابنته الصغرى من قميصه وقالت بكسل‪:‬‬
‫املرة‪ ،‬طال غيابك ً‬
‫كثيرا‪ ....‬أنا‬ ‫‪ -‬أبي‪ ،‬ال تغب عن البيت كما فعلت هذه ّ‬
‫حبك يا أبي‪.‬‬ ‫ُأ ّ‬
‫ضم "شهاب" ابنته إليه وغمره شعور ال نهائي بالعرفان‪ ،‬طالعته بعذوبة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ث ّم كبحت تثاؤبا ووضعت رأسها على كتفه واستسلمت للنعاس‪.‬‬
‫بدأ "أنس" يتناول طعامه والسؤال يدور في رأسه‪ ،‬ملاذا كان "شهاب" ً‬
‫غائبا‬
‫ّ‬
‫عن بيته في الفترة املاضية؟‪ ،‬توقع "شهاب" ما يدور في رأسه فقال باهتمام‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬خالل الفترة املاضية كنت أراقب "محاربة" لحمايتها‪.‬‬
‫‪ -‬وملاذا كنت تحميها؟‬
‫ً‬
‫جديدا كان يولد على يديها‪ ،‬خشيت أن تتعرض للخطر‪،‬‬ ‫‪ -‬ألن هناك ً‬
‫كتابا‬
‫ّ‬
‫الخاصة‪..‬‬ ‫كنت أتدخل بطريقتي‬
‫تبادل "شهاب" وزوجته النظرات عندما سألهما "أنس" بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ال تشبهون أهل النوبة؟ أنت وزوجتك وبناتك تختلفون في املالمح ولون‬
‫البشرة!‬
‫الح شبح ابتسامة على شفتي "شهاب" وهو يقول‪:‬‬
‫‪111‬‬
‫أيضا؟‬‫‪ -‬وماذا الحظت ً‬
‫‪ -‬املالبس‪ ...‬تختلفون عن بعضكم البعض‪ ،‬رغم ّأنكم في مملكة واحدة‬
‫كل قرية‬‫تباينا من نوع ما‪ّ ،‬‬‫جليا إال ّأن هناك ً‬ ‫ويبدو لي التناغم بينكم ً‬
‫تختلف عن األخرى!‬
‫ّ‬
‫تبادل "شهاب" وزوجته نظرات أخرى تش ي بالكثير‪ ،‬ولم يعلقا على‬
‫مالحظات "أنس" الذي أنهى تناول الحساء وشعر بالنعاس يداهمه‪ّ ،‬‬
‫تخدر‬
‫منو ًما‪ ،‬طلب من "شهاب" أن يسمح له بالنوم ّ‬
‫ألنه‬ ‫وكأنه قد تناول للتو ّ‬ ‫جسده ّ‬
‫يشعر باإلرهاق الشديد فقاده فو ًرا إلى غرفة أخرى‪ ،‬فقيلولة بسيطة قد‬
‫تفيده اآلن‪.‬‬
‫متعبا ّ‬ ‫ُ‬
‫هز "أنس" رأسه ث ّم استلقى على الفراش ً‬ ‫ّ‬
‫وظل يحملق في سقف‬
‫ّ‬
‫الغرفة ويده على الحقيبة بجواره‪ ،‬وكأنه يخش ى أن يفقدها‪ ،‬ومضت ساعات‬
‫ظل شجرة وضوء‬ ‫عميقا‪ُ ،‬ث ّم استيقظ ليجد نفسه تحت ّ‬ ‫ً‬ ‫نام فيها ً‬
‫نوما‬
‫الشمس الضعيف يتالعب أمامه‪ ،‬وثب مذعو ًرا‪ ،‬أين "شهاب" وزوجته وبناته!‬
‫وأين البيت!!‬
‫حائرا‪ ،‬هل يكمل الطريق إلى الجبل أم يعود للقرية!‬ ‫ً‬ ‫هز رأسه ووقف‬ ‫ّ‬
‫الشجرة من أصعب اللحظات‬ ‫وحيدا تحت ّ‬ ‫ً‬ ‫كانت تلك اللحظات التي قضاها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التي قضاها منذ وصوله‪ ،‬كان يشعر أن رأسه يضج بالتساؤالت‪ ،‬وكان أكثر‬
‫ّ‬
‫سيسترد كتابه؟‬ ‫ترددا في رأسه‪ ،‬كيف‬ ‫األسئلة ً‬
‫ومر على "كلودة" في دكانه والذي أخبره أن‬ ‫قرر أنس" أن يعود إلى القرية ّ‬
‫عمه أرسلت إليهما ابنتها "أشريا" لتوصيهما أن ّ‬
‫يمرا عليهم في الدار لتناول‬ ‫زوجة ّ‬
‫طعام الغداء‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪112‬‬
‫(‪)10‬‬

‫يف بيت أشريا‬

‫ّ‬
‫الشهي كانت "أشريا"‬ ‫خلف النافذة وحيث كان البيت يعبق برائحة الطعام‬
‫تأخر "كلودة"! كانت تنتظر وصوله بشغف هذه‬ ‫تراقب الطريق وتتساءل‪ ،‬ملاذا ّ‬
‫ّ‬
‫مقي ًدا بال قميص في هذا البرد‪،‬‬
‫تذكرت كيف كان ّ‬ ‫ّ‬
‫املرة‪ ،‬أشفقت عليه عندما‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كانت تعلم أنه يحبها‪ ،‬في كل مرة كان يطلبها للزواج كانت ترفضه‪ ،‬تتمنع حتى‬
‫ُيصلح من حاله وتبقى على أمل أن يعود ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬حيرت أباها من قبل واآلن‬
‫تتأمل تمايلها خلف النافذة ً‬
‫يمينا ويسا ًرا‬ ‫ازدادت حيرة ّأمها التي نادتها وهي ّ‬
‫ّ‬
‫وتشب على قدميها‪:‬‬ ‫وتتأرجح‬
‫‪ -‬ملاذا ترفضين الزواج منه وهذا حالك!‬
‫جوك عن ترديد هذا السؤال‪..‬‬
‫‪ -‬أمي‪ ..‬كفي أر ِ‬
‫‪ -‬ما با ل هذا الشاب الذي أحضره معه؟‬
‫‪ -‬ما باله؟‬
‫‪ -‬هل سيقيم ببيت "كلودة"؟‬
‫‪ -‬يبدو هذا يا أمي‪.‬‬
‫ملحتهما "أشريا" من بعيد يقتربان‪ ،‬وبينما كان "كلودة" يمسح على صدره‬
‫وكأنه يسكت قلبه الذي يكاد يقفز من بين ضلوعه‪ ،‬فهو سيكون بالقرب منها‬‫ّ‬
‫ّ‬ ‫اآلن‪ّ ،‬‬
‫يتنفس نفس الهواء الذي تتنفسه‪ ،‬همس وعلى وجهه أطلت عالمات‬
‫القلق‪:‬‬
‫‪ -‬سبحانك سبحانك‪ ،‬يا عالم ّ‬
‫السر والنجوى!‬

‫‪113‬‬
‫ّ‬
‫التحية بجوار أم "أشريا" ‪ ،‬بينما كانت‬ ‫دلفا على استحياء وجلسا بعد‬
‫ّ‬
‫وكأنها غير موجودة‪ ،‬حيث كان كل منهما‬ ‫"أشريا" تجلس بجوارها منكفئة ّ‬
‫ً‬
‫يتوارى خجال من اآلخر بينما كان "أنس" يتبادل الحوار مع أم "أشريا" التي‬
‫سألته‪:‬‬
‫‪ -‬أنت محارب إذن يا "أنس"‬
‫‪ -‬يقولون هذا يا خالة‪ ،‬فما رأيك؟‬
‫بفم ممتلئ بالطعام‪:‬‬
‫قالت ٍ‬
‫قيدك اللصوص بالحبال!‬ ‫‪ -‬لو كنت محارًبا ما ّ‬
‫ً‬
‫موافقا وعلى وجهه ابتسامة وقال لها‪:‬‬ ‫ّ‬
‫هز رأسه‬
‫صدقت وهللا!‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫قالت "أشريا" التي كانت تلوك الطعام ببطء‪:‬‬
‫‪ -‬أتساءل حتى متى سيظل املحاربون يفدون إلى قريتنا؟‬
‫أجابتها ّأمها وهي ّ‬
‫تنقل نظراتها بين وجوههم‪:‬‬
‫ّ‬
‫وتصب‬ ‫‪ -‬لن ينقطع املحاربون ّ‬
‫عنا طاملا الدنيا تهمس بالحكايا في الغابات‪،‬‬
‫الرياح همسها في آذان البشر‪ ،‬وطاملا هناك حيوات ّ‬
‫تدون بين دفتي كتاب!‬
‫جميعا إليها في سكون‪ ،‬كان لكالمها سحر غريب‪ ،‬انتهوا من تناول‬‫ً‬ ‫التفتوا‬
‫طعامهم واستأذن"كلودة" وخرج من البيت ومعه "أنس"‪ ،‬همس "كلودة" وهو‬
‫يغلق الباب خلفه برفق وشرود‪:‬‬
‫‪ -‬سبحانك سبحانك‪ ،‬اجبر ً‬
‫فؤادا ً‬
‫متعبا ليس له إال بابك‪.‬‬
‫باغته "أنس" يسأله‪:‬‬
‫‪ -‬أخبرتني أنك تريد الزواج من "أشريا"‪ ،‬ملاذا لم تتزوجها؟‬
‫عقد "كلودة" يديه خلف ظهره وقال وهو ّ‬
‫يحدق في الطريق أمامه‪:‬‬
‫‪ّ -‬كلما طلبتها للزواج امتنعت‪ّ ،‬‬
‫وكأن هناك ما يحجبها عني ويحجبني عنها‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫‪ -‬رّبما لهوانك هذا عندما تراها!‬
‫أي هوان؟‬‫‪ّ -‬‬
‫حدثتك ترتج كالجرس‪ ،‬العرق يغطي جبهتك‬ ‫منكسرا في حضورها‪ ،‬إن ّ‬
‫ً‬ ‫‪ -‬أراك‬
‫ّ‬
‫وتتعثر في الكلمات‪.‬‬
‫ً‬
‫أوحقا هذا! أتعلم أنني لم أكن كذلك! كانوا يصفونني بالجريء و‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬معقول!‪ ..‬أنت!‬
‫أطرق "كلودة" وسار ً‬
‫صامتا لدقيقتين ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬أتدري يا "أنس"‪ ،‬وكأنك بقولك هذا رفعت النقاب عن الكثير من الكالم‬
‫تحدثني به‪ ،‬الكثير من الهمزات واللمزات‬ ‫ّ‬ ‫الذي كانت زوجة عمي‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫واإلشارات‪ ،‬لم أفطن إليها إال اآلن وكأن عقلي كان محجوبا بحجاب!‬
‫‪ -‬غير من طريقتك إذن ‪ّ ..‬‬
‫تجمل يا فتى‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫كف عن اللجلجة والتلعثم وأنت تتحدث إليها‪.‬‬
‫‪ -‬أنا أتلعثم!!‬
‫تنفس بعمق وادخل مرفوع الرأس وال ْ‬
‫تح ِنها كما تفعل‪،‬‬ ‫‪ -‬نعم أنت تتلعثم! ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وتحدث على مهل‪ ،‬ليس من‬ ‫افتح صدرك واجلس معتدال‪ ،‬قلل كالمك‬
‫كل يوم‪ ،‬وحتى إن أردت السؤال عنهم فخفف‬ ‫الضروري أن تذهب ّ‬
‫ّ‬ ‫وانصرف وكن ً‬
‫عزيزا وال تأكل إال لو دعوك للطعام بأنفسهم‪ ،‬وال تحط من‬
‫نفسك عندما تحكي عن مشاكلك في الدكان‪ ،‬واألفضل أال تحكيها‪ ،‬وال‬
‫وتطيب فالطيب رسول يقدم لك ويعطر حضورك‪.‬‬ ‫تذهب بمالبس العمل‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫حكيما يا "أنس"‪ ،‬من أين لك بهذا؟!‬ ‫‪ -‬هللا! هللا! أراك‬
‫‪ -‬من ّ‬
‫جدي الحبيب‪ ،‬كم أشتاق إليه!‬
‫ُ‬
‫ث ّم التفت "أنس" وسأله‪:‬‬
‫‪115‬‬
‫‪ -‬واآلن‪..‬ماذا سأفعل يا "كلودة"؟ دبرني يا صديقي‪ ،‬كيف سأصل لكتابي؟‬
‫رفع "كلودة" يده وأشار إليه ليستدير معه وقال بحماس‪:‬‬
‫‪ -‬سنرتاح الليلة ُث ّم نفكر ً‬
‫غدا‪.‬‬
‫بخطى سريعة مض ى كالهما تجاه بيت "كلودة"‪ ،‬كانت املسافة كبيرة بين بيت‬
‫مرا خالل الطريق على سهول واسعة تتدرج في االرتفاع‬‫"أشريا" وبيت "كلودة"‪ّ ،‬‬
‫وكأنها درج يرتقي نحو السماء‪ ،‬يعلوها من بعيد قصر امللك ِ"كمشاق" كان‬
‫تحلق فوق ّ‬‫ّ‬
‫قمته الغربان‪ ،‬بينما تحيطه البساتين‬ ‫القصر يبدو كالجبل‬
‫الخضراء الزاهية من كل الجهات‪.‬‬
‫"سبحانك سبحانك يا بديع األكوان"‬
‫ّ‬
‫همس بها "كلودة" وهو يتأمل السهول وألوانها الرائعة‪ ،‬تمش ى "أنس" بعينيه في‬
‫السماء وسأله بفضول‪:‬‬
‫وكأنها على وشك أن تمطر؟ وكأننا ً‬
‫دوما في نهار‬ ‫‪ -‬ملاذا يبدو الطقس هنا دوما ّ‬
‫الشتاء‪ ،‬الشمس باهتة‪ ،‬لست ً‬
‫واثقا ّأنها أشرقت‪ ،‬وال تستطيع أن تنفي ّأنها‬
‫هناك!‬
‫لم يجبه "كلودة"‪ ،‬فهو ال يعلم!‬
‫ضا واسعة وكأن الناس قد هجروا تلك‬ ‫يتوسط أر ً‬
‫من بعيد الح بيت صغير ّ‬
‫ّ‬
‫املنطقة النائية‪ ،‬دلفوا حيث بدأت الهررة الصغيرة تحلق حولهما وكان "كلودة"‬
‫بود صادق‪ ،‬انصرفت القطط وجلس "كلودة" مع "أنس"‪ ،‬وقال فور‬ ‫يداعبهم ّ‬
‫أن استقر على املقعد أمامه‪:‬‬
‫حراس املكتبة‪ّ ،‬بما يعلمون ً‬
‫شيئا عن كتابك‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ر‬
‫‪ -‬سمعت عنهم من جدي‪ ،‬هل التقيت بهم من قبل يا "كلودة"؟‬
‫لكنهم يرسلون ّ‬
‫إلي من آن آلخر يطلبون‬ ‫‪ -‬نحن ال نجرؤ على االقتراب منهم‪ّ ،‬‬
‫علي رسولهم‪ ،‬فإن شئت أن تسأله عن‬‫سيمر ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫صباحا‬ ‫الحبر بألوانه‪ً ،‬‬
‫وغدا‬
‫الطريقة الصحيحة السترداد الكتاب فلك هذا‪.‬‬
‫❐❐❐‬
‫‪116‬‬
‫َ‬
‫وضعت "نبرة" الكأس على الطاولة وتناولت من أخيها امللك ِ"كمشاق"‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫حرفا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫كتاب "إيكادولي" ّ‬
‫تنهدت عندما تذكرت‬ ‫ومرت بأناملها على الكلمة حرفا‬
‫ً‬
‫موجها كالمه لـ "حليم" بلهجة‬ ‫صورة "أنس"‪ ،‬أزعجها صوت أخيها عندما قال‬
‫ال تقبل النقاش‪:‬‬
‫‪ -‬فور أن يأتوني باملحارب سنستدعي الكهنة وننهي األمر في الحال‪.‬‬
‫قالت بتلعثم جعلهما يلتفتان إليها فليس من عادتها التلعثم‪:‬‬
‫‪ -‬فلنسمع منه ّأوال‪ ،‬ال داعي لقتله بتلك الطريقة التي اعتاد الكهنة فعلها‬
‫باملحاربين‪.‬‬
‫َ‬
‫كانت "نبرة" تتلذذ بمراقبتهم وهم يثقبون قلب املحارب ويكتبون بدمه‬
‫املراق ما يوافق أفكارهم حتى يلفظ أنفاسه األخيرة‪ ،‬وألن "حليم" يعرف عنها‬
‫تعجب في نفسه وسألها بفضول شديد ‪:‬‬ ‫هذا ّ‬

‫‪ -‬وملاذا؟‬
‫ً‬
‫قالت وهي تعبث بخصالت شعرها األبنوس ي وتؤرجح ساقا فوق األخرى‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬يبدو الشاب مساملا حتى اآلن‪.‬‬
‫أيته ّ‬
‫مرة أخرى؟‬ ‫‪ -‬هل ر ِ‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬هو اآلن بصحبة شاب آخر من إحدى القرى حولنا‪ ،‬لكنني ال أعرف‬
‫املكان‪ ،‬لم أر عالمة مميزة تكشف لي عن موقع البيت‪ ....‬كما أن‬
‫عنوان الكتاب مختلف‪ ،‬وأعجبني‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم قالت وهي تطالعه بعينيها الكحيلتين‪:‬‬
‫‪" -‬إيكادولي"‬
‫ظنها النت له‪،‬‬ ‫لكنها لم تعد النظر إليه‪ّ ،‬‬
‫اجيا ّ‬
‫ظل ينظر لها ر ً‬
‫ارتبك"حليم"‪ّ ،‬‬
‫لكنها نهضت فجأة وهي تحتضن الكتاب‪ ،‬وأخبرت شقيقها امللك ّأنها ستحتفظ‬ ‫ّ‬
‫به في غرفتها حتى يأتيه اللص وص باملحارب‪ ،‬كان هناك شموع تبعث الظالل‬
‫ّ‬ ‫ّ َ‬
‫فتكسرت الظالل للحظة وانكس ـ ـ ـ ـ ـر معه ـ ـ ـ ـا‬ ‫مرت "نبرة" على عجل‬ ‫على الجدران‪،‬‬
‫‪117‬‬
‫ً‬
‫سريعا رباطة جأشه‪.‬‬ ‫قلب "حليم"‪ّ ،‬‬
‫لكنه استعاد‬
‫❐❐❐‬

‫قلقا على زوجته "قطرة‬‫واصل الرمادي التحليق فوق قصر "الحوراء"‪ ،‬كان ً‬
‫الدمع"‪ ،‬منذ عودتها بعد أن انقضت على اللص وهو يحاول اختطاف َ"مرام"‬
‫في الغابة وهي في قصر امللكة "الحوراء" يطببون جرحها فقد طعنها اللص‬
‫بخنجر وكاد يكسر جناحها‪ ،‬على الشرفة وقف "الزاجل األزرق" يراقبها وهي‬
‫تستعد للتحليق مع زوجها‪ ،‬رفرفت بجناحيها ثم انطلقت تتحامل على آالمها‬
‫حتى تنضم لشريك حياتها الحبيب‪ ،‬كانت "الحوراء" ترقبهما من خلف كتف‬
‫"الزاجل األزرق" الذي التفت بعد أن ابتعدا وقال بإجالل‪:‬‬
‫‪ -‬موالتي‪ ،‬ماذا سنفعل اآلن؟ َ"مرام" في خطر‪ ،‬وال ندري أين "أنس" اآلن‪،‬‬
‫كيف سنساعدهما ونحن ال نستطيع دخول الغابة‪ ،‬كما ّأن الصقور لن‬
‫تستطيع الوصول إلى قرى الجنوب إن كانا قد وصال إليها‪.‬‬
‫ُ‬
‫صمتت "الحوراء" هنيهة ث ّم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ال ّبد أن تذهب ومعك "املغاتير" إلى املكتبة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا! وكيف هذا! ومن يجرؤ؟‬
‫‪ -‬لن تدخلوها ّ‬
‫ولكنكم ستنتظرون هناك‪.‬‬
‫‪ -‬ننتظر ماذا؟‬
‫‪ -‬وصول "أنس"!‬
‫‪ -‬وما أدراك يا موالتي أنه سيذهب إلى هناك؟‬
‫‪ -‬رّبما يذهب‬
‫‪ -‬هل سمعت بالخبر؟‬
‫ّ‬
‫هزت امللكة رأسها موافقة‪ ،‬فقد كان هذا ّ‬
‫سرها الذي ال يعلمه إال الحكيم‬

‫‪118‬‬
‫"سامي كول" و "الزاجل األزرق"‪ ،‬فالرياح تحمل أخبار املحاربين إلى الحوراء‬
‫ً‬
‫أحيانا‬ ‫وتهمس بها في أذنيها طوال الوقت‪ ،‬كانت تسمع أصواتهم‪ ،‬تختلط‬
‫تلتقها أو ترها من قبل‪ّ ،‬‬
‫لكنها تسمعها‬ ‫بصوت امرأة عجوز تدعى "ناردين" لم ِ‬
‫ودت لو رأتها يوما ما‪ ،‬لكن دخولها الغابة مستحيل!‬ ‫وهي تهمس وسط الغابة‪ّ ،‬‬
‫ليت الرياح تنقل كالمها إليهم‪ ،‬وإلى املحاربين‪ّ ،‬‬
‫لكنها كانت تحمل إليها أصواتهم‬
‫هم فقط دون أن تحمل صوتها هي إليهم‪ ،‬كانت "الحوراء" تعاني من ذاك األمر‬
‫فهي تعيش صراعات طوال الوقت‪ّ ،‬‬
‫لكن الرياح تراها أهال لحمل تلك األمانة‪،‬‬
‫غضنت "الحوراء" حاجبيها وقالت بقلق‪:‬‬ ‫ّ‬

‫أظنها فقدت بعض امتيازاتها‬ ‫‪ -‬توقفت الرياح عن حمل أخبار َ"مرام" لي‪ّ ،‬‬
‫املرة األولى التي ّ‬
‫يظل فيها محارب هنا‬ ‫كمحاربة‪ ،‬ال أدري ملاذا وكيف! ولكنها ّ‬
‫ّ‬
‫بعد انتهاء مهمته في استرداد كتابه وقد استعادت كتابها بالفعل‪ ،‬أو ربما‬
‫ألنهما محاربان على أرضنا في آن واحد!‬
‫‪ -‬إذن هي اآلن أضعف؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬وأصبحت أخبارها بعيدة عني‪ ،‬لم يبق لها سوى أن تحملها "قطرة‬
‫الدمع" إلى موطنها‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬وهل فقدت جميع مميزاتها؟ كلها!!‬
‫‪ -‬هللا أعلم! رّبما هناك ش يء ما ما زالت تحتفظ به!‬
‫‪ -‬يا إلهي! كيف سنساعدها؟‬
‫‪ -‬ال أدري‪ ،‬املهم اآلن أن تنتظروا "أنس" خارج أسوار املكتبة‪ ،‬اسلكوا الطريق‬
‫الشرقية‪ ،‬أعلم ّأنها ّ‬
‫مشقة عليكم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الطويل ودوروا حول الغابة من الجهة‬
‫ولكن ال ّبد من الوصول إليه ليعلم أن َ"مرام" دخلت الغابة من أجله‬
‫فتعرضت للخطر‪ ،‬ال ّبد أن يساعدها بينما يسترد كتابه‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا!! هل فقد الكتاب؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬سرقه اللصوص منه‪ ،‬وهو اآلن مع شاب يدعى" كلودة"‬
‫❐❐❐‬
‫‪119‬‬
‫ُ‬
‫كانت َ"مرام" تقف خلف األميرة "أونتي" والتي جلست مسترخية وأغمضت‬
‫تمشط لها شعرها بلطف‬ ‫عينيها وغرقت في أحالم يقظتها بينما كانت َ"مرام" ّ‬
‫وهدوء‪ ،‬ما زالت عينها تؤملها‪ ،‬ربطتها بقماشة بعد أن دهنتها بدهان ّ‬
‫أمدتها به‬
‫طبيبة القصر‪ ،‬كان الضوء يؤذيها في عينها ففضلت أن تغطيها حتى تبرأ‬
‫وتختفي الظالل الزرقاء التي أحاطت بها‪ ،‬ترددت قبل أن تسأل األميرة ‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذ ال تتزوجيه؟‬
‫انتفضت األميرة وفتحت عينيها ّثم التفتت إليها وقالت بحزم‪:‬‬
‫‪ -‬اخفض ي صوتك يا َ"مرام"‪ ،‬سيقتلنا أخي لو علم بأمرنا‪ ،‬كما ّأنه لن يوافق‬
‫على زواجي منه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ث ّم عادت لحالتها وسلمتها رأسها بينما سلمت ما بداخل رأسها لعالم الخيال‬
‫وقالت ّ‬
‫بتهدج‪:‬‬
‫‪ -‬املهم أنه يحبني وأنا ّ‬
‫أحبه‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن هذا ال يليق بأميرة‪ ،‬كما أنه‪...‬‬
‫‪ -‬كل ش يء مباح بأمر الحب‬
‫‪ -‬حتى الخطيئة!‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تمعضت "أونتي" وقالت بضيق تنهرها‪:‬‬
‫‪ -‬ال شأن لك بهذا‪..‬ال تحشري أنفك فيما ال يعنيك!‬
‫ُ‬
‫ران عليهما صمت ثقيل‪ ،‬كانت "أونتي" تترقب ر ّد فعل َ"مرام" على زجرها‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫سريعا ما رقت لها فهي رغم أخطائها طيبة القلب تحن للبسطاء‪ ،‬وكانت‬ ‫لها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫تشفق على "مرام"‪ ،‬قالت بعذوبة وكأنها لم تنهرها منذ لحظات‪:‬‬
‫الحب ليس خطيئة‪ ،‬الحب ش يء جميل عذب قو ّي كالسحر يا َ"مرام"‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬وهل هذا ّ‬
‫حب!‬
‫ُ‬
‫استدارت "أونتي" وأمسكت بذراع َ"مرام" لتجلسها أمامها وسألتها باهتمام‪:‬‬

‫‪120‬‬
‫أحببت من قبل؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬وماذا تعرفين عن الحب؟ هل‬
‫‪ -‬ال‪..‬ال‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ال يعرف الحب إال من يعانيه‪ ،‬ال تتحدثي عن ش يء ال تعرفي كنهه‪.‬‬
‫ُ‬
‫أشاحت َ"مرام" بنظراتها عن وجه "أونتي" وقالت‪:‬‬
‫أحبك ً‬
‫حقا ما استباحك إال بالحالل!‬ ‫‪ -‬تلك شهوة! لو ّ‬
‫ُ‬
‫على نحو سريع انزوت نظرة ساخطة في عيني "أونتي" وقالت بحزن‪:‬‬
‫‪ -‬من املستحيل أن يقبل أخي أن يزوجني له‪ ،‬فهو ّ‬
‫شاب بسيط يكاد ال يملك‬
‫قوت يومه‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف التقيتما؟‬
‫‪ -‬كنت أهرب مع جاريتي وأرتدي مالبسها ّ‬
‫وأتنزه في البساتين حول القصر‪،‬‬
‫مرات ّ‬
‫ومرات‪ ،‬وكان ألعيننا حديث‬ ‫فأخي كان يمنعني من الخروج‪ ،‬ورأيته ّ‬
‫ّ‬
‫ولنظراتنا اشتباكات‪ ،‬أعجبتني مالمحه وفتن روحي‪ ،‬كان يخش ى أن يحدثني‬
‫فذهبت إليه‪...‬وآه يا َ"مرام" من حديثه‪ّ ،‬إنه بليغ يجيد الكالم‪.‬‬
‫‪ -‬طاملا يحدث بينكما ما يحدث فاألولى أن تتزوجيه!‬
‫ُ‬
‫ردت "أونتي" بمرارة‪:‬‬
‫‪ -‬مستحيل! هو يعلم أنني أميرة فقد أخبرته‪ ،‬واآلن ليس أمامنا إال هذا!‬
‫ثم أردفت ساهمة وهي تقول‪:‬‬
‫إلي‪َ ،‬ونبرة صوته وهو يخبرني أنه ّ‬
‫يحبني‪،‬‬ ‫‪ -‬أنا أعشقه‪ ،‬عينيه ونظراته ّ‬
‫همساته لي باألشعار‪...‬‬
‫ّ‬ ‫رفعت َ"مرام" ّ‬
‫كفها وغطت أذنيها وقالت بصوت خفيض‪:‬‬
‫جوك‪ ،‬ذاك ليس ً‬
‫حبا‪...‬ما تصفيه مجرد شهوة!! ليس من‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬ال تكملي أر ِ‬
‫الضروري أن تدنسا الحب بأفعالكما‪ ،‬من املمكن أن ّ‬
‫يحبك دون أن‬
‫يطفيء شمسك‪ ،‬دون أن ّ‬
‫يجرك في الوحل‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫ّ ُ‬
‫هزت "أونتي" كتفيها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬تلك فطرة خلقها هللا فينا‪ ،‬ال تزعمي ّأنك ال تشتهين الحب بتلك الطريقة‪،‬‬
‫أنت لو قلت غير هذا!!‬ ‫ً‬
‫لن أصدقك أبدا‪ ..‬كاذبة ِ‬
‫ثم رشقتها بنظرة ماكرة وقالت‪:‬‬
‫حد الصبابة‪ ،‬وسأسمع‬ ‫الحب‪ ،‬وستغرمين ّ‬ ‫ّ‬ ‫يوما ما ستقعين في‬‫‪ -‬أتعلمين‪ً ،‬‬
‫الحب شغاف قلبك‪.‬‬‫ّ‬ ‫منك وقتها‪ ..‬اصبري يا فتاة حتى يصيب سهم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ث ّم رفعت "أونتي" حاجبيها وهي تطالع عينيها‪ ،‬تنتظر أثر كلماتها عليها‪ ،‬صمتت‬
‫ُ‬
‫َ"مرام" هنيهة ث ّم قالت‪:‬‬
‫يوما سأتحصن‬ ‫قوية‪ ،‬فإن وقعت في الحب ً‬ ‫‪ -‬الفضيلة تتطلب إرادة ّ‬
‫وأستعفف حتى يأذن هللا‪ ،‬ولن أخطئ ولو كان السيف على رقبتي‪.‬‬
‫وهزت كتفيها وهي تبتعد عنها‪ ،‬كانت َ"مرام" مرتبكة‪،‬‬ ‫أعرضت عنها ُ"أونتي" ّ‬
‫ّ‬
‫الحب‬ ‫أحقا ستضعف لو وقعت في‬ ‫أخافتها الكلمات‪ ،‬داهمتها وساوس نفسها‪ً ،‬‬
‫يوما ُما؟ هل سيجرها الحب ملا ال يرض ي هللا رغم أنفها؟‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫تركتها "أونتي" وألقت برأسها على وسادتها وظلت تحملق في سقف الغرفة‪،‬‬
‫وكأنها في عالم آخر ً‬
‫بعيدا عن َ"مرام" التي كان ألم عينها يزداد حتى أنها بدأت‬ ‫ّ‬
‫تشعر بصداع شديد‪.‬‬
‫ُ‬
‫تفتش "أونتي" بين ّ‬ ‫ّ‬
‫حليها فوجئت باختفاء عقد ثمين‬ ‫بعد نحو ساعة وبينما‬
‫وعزيز عليها‪ ،‬خرجت من غرفتها كقنبلة على وشك االنفجار‪ ،‬واتجهت نحو‬
‫َ‬
‫جناح أختها "نبرة" في الجهة األخرى من القصر‪...‬‬
‫‪ -‬أين عقد أمي؟‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫بغضب وهي تدفع ُباب جناح شقيقتها "نبرة" والتي كانت‬
‫صاحت "أونتي" ّ ٍ‬
‫ً‬
‫دوما قاسية عليها‪ ،‬كلما رأت املسكينة "أونتي" تستمتع بش يء ما كانت تسلبها‬
‫ّإياه‪ ،‬حتى الحلوى وهما صغيرتان كانت تجذبها من كفها الصغير‪ ،‬عندما ماتت‬
‫ظن الجميع ّأن َ"نبرة" ستحنو على شقيقت ها التي تصغرها‪ّ ،‬‬
‫لكنها باتت‬ ‫أمهما ّ‬
‫ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫تتحكم فيها وكأنها دمية صغيرة ورثتها‪ ،‬ظلت "أونتي" خاضعة لها حتى بدأت‬
‫تمردت عليها وانفصلت عنها‬‫تكبر‪ ،‬وعندما بلغت السابعة عشرة من عمرها ّ‬
‫‪122‬‬
‫ً‬
‫مستمرا لوال تدخل شقيقهما ُ ِ"كمشاق" الذي فصل بينهما في‬ ‫وأصبح شجارهما‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جناحين مستقلين حتى يهد أ القصر‪ ،‬تركت "أونتي" كل ش يء ألختها‪ ،‬كانت ال‬
‫تظهر في تلك الحفالت الصاخبة‪ ،‬تقوقعت على نفسها ومألت الفراغات‬
‫َ‬ ‫بعالقاتها مع البسطاء‪ ،‬كانت لها جارية ّ‬
‫تحبها وتطمئن إليها‪ ،‬سلبتها "نبرة" تلك‬
‫ُالجارية منذ أيام‪ ،‬وها هي قد أرسلتها اليوم لتحضر ُلها عقد أمهما من خزانة‬
‫"أونتي"‪ ،‬كان ذلك هو الش يء الوحيد الذي تعتز به"أونتي" فقد ألبستها أمها‬
‫َ‬
‫ذلك العقد وطلبت منها أن تحتفظ به لتتذكرها‪ ،‬قالت "نبرة" ساخرة منها‪:‬‬
‫‪ -‬يقولون أن لديك جارية جديدة حمقاء تربط عينها بخرقة بالية‪ ،‬أصحيح‬
‫ذلك الخبر؟ أريد أن أراها!‬
‫‪ -‬أين عقد أمي؟‬
‫َ‬
‫ر ّدت "نبرة" وهي تتحسس العقد على رقبتها‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ها هو‪ ...‬عقدك يا "أونتي"‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫غضبا وهرولت تجاهها وحاولت أن تنتزعه منها‪ ،‬لكن‬ ‫استشاطت "أونتي"‬
‫َ‬
‫"نبرة" غرزت أظافرها في ذراعها وأبعدتها بعنف قائلة لها‪:‬‬
‫‪ -‬العقد ال يليق بك‪ ،‬اتركيه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وأحبتها‪ ،‬ورمتها بنظرة‬ ‫التفتت "أونتي" تجاه جاريتها التي طاملا وثقت فيها‬
‫تترجح في مقلتيها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والدموع‬ ‫وعتابا‪ ،‬وخرجت من الغرفة‬ ‫ً‬ ‫تقطر ً‬
‫لوما‬
‫ُ‬
‫بعد ساعات من تلك العاصفة بينهما وحيث كانت "أونتي" غارقة في أحالم‬
‫يقظتها أمام شرفتها كعادتها‪ ،‬دلفت الجارية على عجل وهمست معتذرة إلى‬
‫ً‬
‫باديا عليهاُ وهي تعتذر منها‪ ،‬احتضنتها طويال وكانت َ"مرام"‬ ‫أميرتها‪ ،‬كان الندم ً‬
‫َ‬
‫تراقبهما في صمت‪ .‬وقفت "أونتي" وهي تسترجع ما فعلته به أختها "نبرة"‪،‬‬
‫خرجت غاضبة لتسترد العقد من جناح أختها‪ ،‬دلفت فإذا الغرفة خالية فقد‬
‫حفل كبير‬ ‫مرتفعا فهناك ٌ‬
‫ً‬ ‫ذهب الجميع إلى ساحة القصر حيث كان الضجيج‬
‫سيمتد حتى تظهر الخيوط األولى ألشعة شمس الصباح‪ ،‬فتشت عن العقد‬
‫فلم تجده فأدركت أن أختها ما زالت ترتديه‪ .‬كادت تنصرف لوال أن عينيها‬
‫مدت يدها وأمسكته‬ ‫علقتا بغالف كتاب يستقر على أحد رفوف خزانة أختها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫دقات قلبها عندما قرأت عنوانه‪" ،‬إيكادولي"‪ّ ...‬‬ ‫ّ‬
‫أحبك‪ ،‬تصفحته‬ ‫وتسارعت‬
‫‪123‬‬
‫خاصا‬‫ً‬ ‫لكنها ظنته ً‬
‫شيئا‬ ‫تعجبت لخلوه من الكالم‪ّ ،‬‬ ‫فوجدت صفحاته خالية‪ّ ،‬‬
‫بأختها‪ ،‬وطاملا أخفته في خزاتها فهو عزيز عليها‪ ،‬وتلك فرصة لكي تقهرها‪،‬‬
‫أعجبها أن يكون هدية منها لحبيبها‪ ،‬هو بارع في الكتابة ويستطيع أن يكتب‬
‫قصة حبهما هنا‪ ،‬أخفته تحت ثيابها وعادت لغرفتها وشرعت تصنع منه ً‬
‫شيئا‬ ‫ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫قصت أطراف ضفيرتها ووضعتها في داخله ث ّم أغلقته ووضعته‬ ‫وخاصا‪ّ ،‬‬‫ًّ‬ ‫مميزا‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫تحت وسادتها‪ ،‬ثم ذهبت لتهمس في أذن "مرام" التي كانت متكورة على األرض‬
‫حيث كانت تنام بجوار فراش األميرة‬ ‫ُ‬ ‫في ركن الغرفة ووجهها مواجه للحائط‬
‫تماما كالليلة املاضية‪ ،‬أخب رتها "أونتي" أن تستعد فهي ستوقظها‬ ‫وتحت قدميها ً‬
‫ّ‬ ‫بعد طلوع الفجر لتصحبها ّ‬
‫للمرة الثانية للقاء حبيبها‪ ،‬ثم سلمت رأسها‬
‫ً‬
‫سريعا في‬ ‫مرة أخرى في سقف الغرفة‪ ،‬وغرقت‬ ‫للوسادة حيث بدأ التحديق ّ‬
‫أحالم يقظتها‪ ،‬بينما كانت َ"مرام" تبكي وتخفي عبراتها وتدفنها في وسادتها‪ ،‬لوال‬
‫خفية النقطعت األنفاس‪.‬‬ ‫عبرات ّ‬
‫في مكان آخر وفي طرقات القرية‪ ،‬كان "أنس" يسير بجوار "كلودة" حيث ّ‬
‫مرا‬
‫هدأ "كلودة" من خطواته‪ ،‬والتفت تجاه"أنس"‪ ،‬كاد يخبره‬ ‫أمام بيت "أشريا"‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫عمه ليطمئن على "أشريا"‪ ،‬ود أن يكون ولو للحظة‬ ‫ّ‬ ‫سيمران على بيت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّأنهما‬
‫جائعا كما تظن‬ ‫ً‬ ‫عمه الغالية والتي ملكت فؤاده‪ ،‬لم يكن‬ ‫بالقرب من ابنة ّ‬
‫جده لكي يكون مرغوباً‬ ‫تذكر ما أخبره به "أنس" من نصائح ّ‬ ‫ّ‬ ‫عمه ً‬ ‫زوجة ّ‬
‫أحيانا!‬
‫عزيزا‪ ،‬أسرع بخطواته ورفع‬ ‫من الناس‪ ،‬قرر أن يخفف من زياراته‪ ،‬وأن يكون ً‬
‫رأسه وفتح صدره‪ ،‬ابتسم "أنس" وهو يتابع مشيته‪ ،‬همس "كلودة" بعد أن‬
‫بانكسار‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ابتعدا عن البيت وقد عاد يسير متكو ًرا على نفسه‬
‫‪ -‬سبحانك سبحانك‪ ،‬يا من وسع ملكه ارحم من ضاق صدره!‬
‫وتشب على‬‫ّ‬ ‫كانت "أشريا" تقف خلف النافذة حيث كانت تراقب الطريق‬
‫ّ‬
‫قدميها لتتابعهما‪ ،‬تأرجحت بقامتها القصيرة على نحو خفيف‪ ،‬لم يمر "كلودة"‬
‫تغير ّ‬
‫فغيره عليها!‬ ‫كعادته! ما الذي ّ‬

‫❐❐❐‬

‫‪124‬‬
‫(‪)11‬‬

‫هدية احلبيب‬

‫بزغ الفجر كقبلة في ثغر الصباح الباسم فكشف اللثام عن سحب بيضاء‬
‫السماء‪ ،‬كانت َ"مرام" تهرول خلف األميرة‬
‫ُ‬ ‫يزين‬‫مرتصة كعقد من اللؤلؤ ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫"أونتي" تتسلالن خارج القصر‪ ،‬وكانت "أونتي" تحتضن كتاب "إيكادولي" والذي‬
‫ّ‬ ‫قررت أن تهديه لحبيبها بعد أن ّلفته بثوب من حرير ّ‬
‫يخصها كانت قد عطرته‬
‫ّ‬
‫املفضل‪ ،‬انسابت الفتاتان بين األشجار ووقفتا في البستان تنتظران‬ ‫بعطرها‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ظهور حبيب األميرة‪ ،‬باغتتها "مرام" سائلة إياها بعد أن كبحت تثاؤبا وعدلت‬
‫ربطة عينها التي ما زالت تؤملها‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫هدية لحبيبي‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا تلتقيان ً‬
‫مبكرا في ذاك الوقت؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أقابله تحت ستار الليل‪ ،‬البومة البيضاء تحلق طوال الليل‬
‫في البستان‪.‬‬
‫‪ -‬أتخافين البوم؟‬
‫َ‬
‫‪ -‬بل أخاف أختي "نبرة"!‬
‫‪ -‬ماذا تعنين؟‬
‫َ‬
‫‪ -‬أختي "نبرة" منذ والدتها مسحورة!‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫‪125‬‬
‫تجولت البومة‬‫متفرقة في ظالم الليل‪ّ ،‬كلما ّ‬
‫‪ -‬لديها بومة ترى بعينيها رؤى ّ‬
‫ّ‬
‫تحت جنح الليل ونظرت هنا وهناك ترى أختي ما تراه‪ ،‬يقولون إنها موهبة‬
‫وهبت إياها‪ ،‬لكنني أراها ال تستحق موهبة‪ ،‬فلديها قلب أسود ‪ّ ....‬‬
‫أظنها‬
‫مسحورة!‬
‫همهمت َ"مرام" بضيق‪:‬‬
‫تراك بومة أختك وال تخافين هللا!‬
‫‪ -‬تخافين أن ِ‬
‫تجاهلتها ُ"أونتي"‪ّ ،‬‬
‫وكأنها لم تسمعها‪ ،‬كانت الكلمات ال تقع في مرماها‪ ،‬لم‬
‫ّ‬
‫تتأثر ولم يرف لها جفن‪ ،‬ورغم هذا‪ ..‬كانت العالقة بينهما ُتتنامى كصديقتين ال‬
‫كأميرة وجاريتها‪ ،‬فالفارق بينهما عام واحد‪ ،‬كما أن "أونتي" كانت تحتاج‬
‫لصديقة‪.‬‬
‫وأطل الشاب من بينها وهو ّ‬
‫يتلفت يمنة‬ ‫تحركت أغصان األشجار ّ‬ ‫من بعيد ّ‬
‫ُ‬
‫ويسرة‪ ،‬هرولت "أونتي" تجاهه وعانقته فاستدارت َ"مرام" على الفور قبل أن‬
‫ّ‬
‫ُي ْخدش حياؤها وجلست تراقب الطريق‪ ،‬كانت تفكر في طريقة تهرب بها من‬
‫ً‬ ‫ذاك القصر‪ ،‬وتلك الصحبة التي ُأجبرت عليها وهي تكرهها‪ّ ،‬‬
‫مر الوقت ثقيال‬
‫هديته وانصرف وهو يحتضن‬ ‫عليها‪ ،‬انتهى اللقاء وحمل الحبيب العاشق ّ‬
‫ويشم العطر الذي أغرقته األميرة به‪ ،‬اختفى ومعه الكتاب‪،‬‬‫ّ‬ ‫الثوب الحريري‬
‫وعادت الفتاتان إلى القصر‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫على باب الدار وهو ينتعل حذاءه وقف "كلودة" وقد بدا اإلرهاق على‬
‫ّ‬
‫محياه وسأل "أنس"‪:‬‬
‫‪ -‬أتراها غضبت ألنني لم أمر عليها أمس‪.‬‬
‫‪ -‬وملاذا ستغضب "أشريا" منك يا "كلودة"‪ ،‬هل كنت على موعد معها أو‬
‫وعدتها بذلك؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬لكنني أخش ى أن تكون قد غضبت‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫تمر علينا أخبرها ّأنك لم ترغب في إزعاجها‪.‬‬
‫‪ -‬ال تقلق‪ ،‬لو سألتك ملاذا لم ّ‬
‫ً ُ‬ ‫ّ‬
‫موافقا ث ّم قال بخفوت‪:‬‬ ‫هز "كلودة" رأسه‬
‫ً‬ ‫أفكر في كالمك‪ ،‬لقد عشت ً‬ ‫ّ‬
‫أياما ثقاال ولقد‬ ‫‪ -‬لم أذق طعم النوم‪ ،‬كنت‬
‫رأتني "أشريا" في حال ال تسر‪ّ.‬‬
‫‪ -‬كيف هذا؟‬
‫‪ -‬عندما مات أبي‪ ،‬كنت ً‬
‫فقيرا مشقوق الثياب‪ ،‬حافي األقدام أبلى أديم‬
‫األرض كعوبي وأصابعي‪ ،‬لم أنتبه ملظهري هذا‪ ،‬ولم أحاول تعديله‪ ،‬ألنني‬
‫معرة لصقت بي‪ ،‬كنت أراني أرفل بالنعم‪ ،‬وكنت‬ ‫يوما ّأن الفقر ّ‬
‫لم أظن ً‬
‫ّ‬
‫أتردد عليهم في تلك الحالة‪ ،‬أتعلل بأي ش يء ألراها‪ ،‬أجلس حتى يملوا مني‬
‫فأنصرف‪ ،‬أتراها كرهتني لهذا؟‬
‫‪ -‬ال تغتل نفسك بتلك الطريقة! إن خاطبت نفسك بضعف فستبقى‬
‫بقوة فستكون ً‬
‫قويا‪ ،‬الناس لها الحاضر‪ ،‬وهم يرونك‬ ‫ً‬
‫ضعيفا‪ ،‬وإن خاطبتها ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خاص بك‪ ،‬اهتم‬ ‫كما تعامل نفسك‪ ،‬أنت اآلن عطار ماهر ولك دكان‬
‫بنفسك وثق في ذاتك‪.‬‬
‫ً‬
‫حسنا سأفعل يا "أنس"‬ ‫‪-‬‬
‫ّثم سكت هنيهة وأضاف‪:‬‬
‫‪ -‬أتدري يا "أنس"‪ ،‬أنا ال أستحقها‪" ،‬أشريا" ّ‬
‫نقية‪...‬أما أنا‪...‬‬
‫‪ -‬توقف عن ازدراء نفسك‬
‫‪ -‬أنت ال تعرفني يا "أنس"‪...‬أنا ال ش يء لوال ستر ربي‬
‫‪ -‬كلنا كذلك‬
‫مر الوقت وانشغل كالهما عن اآلخر‪ ،‬كان "أنس" قد بدأ يألف املكان‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ويتعرف على تلك التفاصيل الصغيرة في القرية‪ ،‬غادر بيت "كلودة" وسار قليال‬
‫ُّ‬ ‫يتأمل السوق ّ‬
‫وكل ما فيه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫مر على حانوت الكتب في الطريق‪ ،‬ثم عاد إلى بيت‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫"كلودة" حيث استقبلته الهررة وهي تتمسح بقدميه‪ ،‬كان قدر كبير يغلي بينما‬
‫‪127‬‬
‫ً‬
‫متعجبا‪:‬‬ ‫كان كلودة" يضع فيه ً‬
‫شيئا ما‪ ،‬عندما اقترب "أنس" ّ‬
‫وحياه قال‬
‫‪ -‬ديدان!! أتطبخ الديدان؟‬
‫ّ‬
‫قهقه "كلودة" وقال وهو يقلب الديدان التي أضافها إلى القدر وهو يغلي‪:‬‬
‫‪ -‬هكذا أعد اللون األحمر‪ ،‬أستخدمه في الصباغة‪ ،‬ويطلبه التجار مني‪ ،‬كما‬
‫أنني أصنع الحبر األحمر وأركزه بنفس الطريقة‪.‬‬
‫قل "أنس" باشمئزاز‪:‬‬
‫‪ -‬من الدود!!‬
‫خاصة‪ ،‬أجمعها من فوق أشجار‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬نعم‪ ،‬فتلك الديدان تفرز عصارات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العفص والبلوط‪ ،‬أضيف عليها لحاء شجرة البلوط نفسه مع بعض‬
‫األمالح الحامضة‪.‬‬
‫ً‬
‫مشمئزا للغاية وهو يراقب‬ ‫شعر "أنس" برعشة تجتاح جسده‪ ،‬كان‬
‫ّ‬
‫الديدان املجففة وهي تغلي‪ ،‬كان كلما غلى السائل في القدر ازداد اللون األحمر‬
‫ً‬
‫قتامة‪ ،‬الحظ"كلودة" انزعاجه فابتسم قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ال تحزن هكذا يا صديقي‪ ،‬أحيانا أستخدم الرمان‪.‬‬
‫سارا ً‬
‫معا تجاه قدر آخر‪ ،‬كانت رائحة الكركم تفوح منه‪ّ ،‬‬
‫تعرف "أنس" على‬
‫رائحته في الحال‪ ،‬قال وهو يحاول تقليب منقوع زهور الكركم في القدر‪:‬‬
‫‪ -‬اللون األصفر الذهبي‪ ،‬ما أروعه‪.‬‬
‫يتلفت يمنة ويسرة ويراقب القدور وهي تغلي‪ ،‬واألوعية وما‬ ‫بدأ "أنس" ّ‬
‫تحويها من مساحيق األلوان الزاهية‪ ،‬والزجاجات املمتلئة باألصباغ واألحبار‬
‫مر بعينيه حيث كان مسحوق حجر الالزورد األزرق يمأل‬ ‫السائلة هنا وهناك‪ّ ،‬‬
‫وعاء‪ ،‬بينما امتأل آخر بمسحوق أسود‪ ،‬وبجوارهما األصفر واألحمر‪ ،‬وجد‬
‫يتحدث بطريقة "كلودة" التي كان ّ‬
‫يتحدث بها عندمـ ـ ـ ـا التقـ ـ ـى ب ـ ـ ـ ـه‬ ‫نفسه ّ‬
‫مرة فقال بصوت مسموع‪:‬‬ ‫ّأول ّ‬
‫‪ -‬سبحانك سبحانك ما أجمل األلوان!‬
‫‪128‬‬
‫ُ‬
‫التفت يراقب األفق ث ّم سأل "كلودة" باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬متى سيأتي ذاك املسئول الذي أخبرتني ّأنه سيشتري منك األحبار؟‬
‫غدا‪ ،‬إن لم يأت اليوم فلك أن تبيت معي‪.‬‬ ‫‪ -‬رّبما اليوم ور ّبما ً‬

‫ّثم سأله "أنس" عن الكتاب الذي اشتراه أمس من الحانوت حيث التقى‬
‫به هناك‪ ،‬تهلل وجه "كلودة"‪ ،‬فهو عاشق للكتب‪ ،‬أشار إليه ليتبعه وسارا نحو‬
‫يحدثه عن ّ‬ ‫ممتلئا بالكتب‪ ،‬جلس ّ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫كل كتاب‪ ،‬كان‬ ‫غرفته‪ ،‬أخرج له صندوقا‬
‫وأديبا‪ ،‬حتى ّأنه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومثقفا‬ ‫الشاب يقرأ في مجاالت مختلفة‪ ،‬بدا واسع االطالع‬
‫ّ‬
‫ألقى على سمع "أنس" البعض من أشعاره‪ ،‬قلب "أنس" في الكتب وكان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متعجبا من روعة الخطوط فيها‪ ،‬أن يكون الكتاب مخطوطا بيد كاتب يختلف‬
‫مر الوقت وهما يتحدثان عن ذاك‬ ‫مجرد صورة مطبوعة بآلة! ّ‬ ‫عن أن يكون ّ‬
‫الكتاب‪ ،‬وذاك‪ ،‬وذاك‪ ،‬أعجب "أنس" بشخصية "كلودة"‪ ،‬فهو شاب ذكي واسع‬
‫لكنه قليل‬‫االطالع‪ ،‬يصبر على الحياة‪ ،‬جاد ومجتهد يعتمد على نفسه‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫خيم الظالم عليهما ولم يظهر ذاك الرجل الذي زعم "كلودة" أنه‬ ‫األصدقاء‪ّ ،‬‬
‫سيشتري األحبار ّ‬
‫لكتاب املكتبة العظيمة‪.‬‬
‫شيئا ما‪ ،‬فخرج "أنس" من الغرفة إلى الساحة‬ ‫تركه "كلودة" ليحضر ً‬
‫الواسعة أمام البيت وجلس يتأمل حفنة من النجوم كانت ّ‬
‫تزين السماء‪ ،‬بينما‬
‫ومد يده تحت ال وسادة‪ ،‬وأخرج الهدية التي‬ ‫مرة أخرى ّ‬ ‫عاد "كلودة" إلى غرفته ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أهدتها له "أونتي" بحرص‪ ،‬أخرج الكتاب وقد كان قد بدأ يكتب فيه بنفسه‬
‫وكتبه بخط جلي واضح وبإتقان شديد‪ ،‬ثم أعاد كتاب‬ ‫ً‬
‫سطرا‬ ‫شيئا ما‪ ،‬أضاف‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫"إيكادولي" الذي أهدته له "أونتي" حيث كان يخفيه‪ ،‬بعد أن ّلفه بثوبها ّ‬
‫مرة‬
‫أخرى!‬
‫كيف يتأرجح القلب بين فتاتين؟ وكيف تشتاق روح واحدة إليهما في آن‬
‫ّ‬ ‫واحد! وكيف يكثر "كلودة" من التسبيح أمام ّ‬
‫الناس ويقع في تلك الذلة بين‬
‫أشجار البستان حيث يلتقي باألميرة؟ لو انكشف املستور وعلم "أنس" بذلك‬
‫السر النصرف عنه وهجره في الحال!‬ ‫ّ‬
‫من بعيد وبينما كان "أنس" يراقب السماء الح شبح يقترب‪ ،‬كانت الجميلة‬
‫"أشريا"‪ ،‬تهرول على الطريق ويهرول أمامها قلبها‪ ،‬تتلحف بثوبها الفضفاض‬

‫‪129‬‬
‫وتمش ي على استحياء‪ ،‬فقد الحظت ّأن "كلودة" لم يمر على دارهم وقت الغذاء‬
‫مرة‪ ،‬في كلمات مقتضبة‬ ‫وهذا ليس من عادته! حملت الطعام له ألول ّ‬
‫سلمت من بعيد وأعطته الطعام وعادت ّ‬ ‫ّ‬
‫تجر خلفها قلبها وهو‬ ‫ومعدودة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتلفت‪ ،‬كانت تتعذب في صمت‪.‬‬
‫ّ‬
‫الندي حيث كانت الليلة دافئة‪،‬‬ ‫أقبل املساء‪ ،‬وبات الشابان على العشب‬
‫وبعد أن تناوال الطعام الشهي كانا يعقدان كفوفهما خلف رأسيهما ويتأمالن‬
‫وكل منهما َ‬
‫يسبح في عامله الخاص‪.‬‬ ‫صفحة السماء ّ‬

‫❐❐❐‬

‫َ‬ ‫أخيرا انتهت الوصيفات من إزالة ّ‬‫ً‬


‫الحناء عن أقدام "نبرة"‪ ،‬كانت مستلقية‬
‫باسترخاء تستمتع بتدليك طبيبة القصر لجبينها بدهان زيتي منعش وقويّ‬
‫الرائحة‪ ،‬فقد أصابها صداع شديد بعد ذاك الحفل الذي امتد حتى ّ‬
‫أطل‬
‫الصباح وانصرف الجميع منه يترنحون‪ ،‬كانت قد نسيت أمر كتاب "إيكادولي"‬
‫الذي لم تكتشف اختفاءه بعد‪ ،‬فقد كانت تئن من ألم رأسها طوال اليوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫فاهتزت نوافذ القصر‬ ‫وبعد مرور يوم كامل على اختفائه‪ ،‬صرخت "نبرة"‬
‫وارتبك الجميع‪...‬‬
‫‪ -‬أين الكتاب؟‬
‫ُ سألتهم بغضب شديد كاملجنونة‪ ،‬وبدأ الجميع يفتش بارتباك‪ ،‬أدركت‬
‫شيئا ذا قيمة كبيرة بالنسبة إليها فشعرت بنشوة‬ ‫"أونتي" ّأنها سرقت من أختها ً‬
‫َ‬ ‫االنتصار‪ّ ،‬‬
‫لكن جاريتها القديمة واملخلصة إليها التي سلبتها إياها "نبرة" جعلتها‬
‫ترتجف وهي تهرول إليها وتسألها بهلع إن كانت قد أخذت هذا الكتاب أم ال‪.‬‬
‫وملّا أنكرت ُ"أونتي" ركضت الجارية نحو الحراس تخبرهم أن يفتشوا ّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬
‫غرف القصر‪ ،‬فارتبكت "أونتي" أكثر وأدركت أن األمر أكبر مما تتخيل‪ ،‬وقفت‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫سريعا ودقات قلبها تتوالى كطبول الحرب‪ ،‬عادت‬ ‫ُتقرض أظافرها وتفكر‬
‫"أونتي" لغرفتها بعد أن اهتدت لفكرة وأمسكت بذراع َ"مرام" التي لم تكن على‬
‫خمنت من هيئتها ّأنها كتاب لكنها لم تتخيل أنه‬ ‫علم بمحتوى الهدية‪ ،‬لكن قد ّ‬
‫كتاب املحارب الجديد "أنس" والذي كانت تتبعه‪ ،‬وقالت لها بصوت مرتعش‪:‬‬
‫‪130‬‬
‫‪"َ -‬مرام" اخرجي اآلن من القصر واذهبي إلى البستان الذي أصحبك إليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وحذري "كلودة"‪ ،‬أخبريه أن يتخلص من الهدية في الحال‪ ،‬وال تعودي فأنت‬
‫حرة‪.‬‬‫ّ‬
‫ارتبكت َ"مرام" وطالعتها بذهول وقالت‪:‬‬
‫أحقا أنا ّ‬
‫حرة!!‬ ‫‪ً -‬‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬أخرجي فو ًرا وهو سيدلك على الطريق إلى القرى القريبة‪ ،‬اهربي يا‬
‫َ"مرام"‪.‬‬
‫ّ‬
‫الضجة بالقصر؟ ومن التي تصرخ؟‬ ‫‪ -‬ولكن ملاذا فجأة! وما تلك‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫جوك يا َ"مرام" اخرجي حاال واهربي‪.‬‬
‫‪ -‬إنها أختي "نبرة"‪ ،‬أر ِ‬
‫ُث ّم التفتت ُ"أونتي" وأخرجت ً‬
‫كيسا ممت ًلئا بالنقود وأعطته لها وقالت‬
‫ّ‬
‫بجدية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬حذري "كلودة" أخبريه أال يأتي إال بعد أسبوع من اليوم‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف سأعرف الطريق لبيته؟‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أخبرني أكثر من ّ‬
‫مرة أنني لو سرت في خط مستقيم تجاه الشرق وهبطت‬
‫مع السهول تدريجيا دون أن أحيد عن استقامة خطاي‪ ،‬سأجد بيته‬
‫وحيدا وسط ساحة واسعة‪ ،‬لكنني لم أذهب ً‬
‫يوما إليه‪ ،‬كان هو من يأتيني‬ ‫ً‬
‫فقد التقيت به بين أشجار البلوط املنتشرة على مقربة منا‪ّ.‬‬
‫بقوة وأدارتها بعنف من كتفيها وسارت خلفها تدفعها في ظهرها‬ ‫ُث ّم عانقتها ّ‬
‫ّ‬
‫لتتحرك وقالت‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬لو رأتك "نبرة" ستأخذك مني‪ ،‬ور ّبما تبيتين الليلة حيث ال ترغبين‪ ،‬وفي‬
‫حضن من تكرهين‪ ،‬وعلى حال ال ترضينها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫كحمامة ضالة‬ ‫أدركت "مرام" أنها في خطر و كضت وهي تخفي وجهها ُ‬
‫تاهت بين األشجار‪ ،‬وانطلقت تجاه ذاك املكان حيث كانت "أونتي" تلتقي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الهدية‪ ،‬وتسير معه هاربة من القصر‬ ‫بحبيبها "كلودة" لتحذره ليتخلص من‬
‫‪131‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫استعدادا للمواجهة مع‬ ‫ومن فيه‪ .‬بينما كانت "أونتي" ترتب الكلمات في رأسها‬
‫َ‬
‫أختها "نبرة"‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫كان "أنس" يراقب "كلودة" وهو يذيب مسحوق حجر الالزورد ليعد اللون‬
‫ّ‬
‫ويصبه في زجاجات رفيعة‪ ،‬قال وما‬ ‫األزرق ثم يذيبه في سائل ما ّ‬
‫ليعد الحبر‬
‫زالت عيناه مثبتتين على يدي صديقه‪:‬‬
‫‪ -‬لم يأت من يشتري الحبر يا "كلودة"‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬انتظر ً‬ ‫ّ‬
‫مبكر ً‬ ‫ّ‬
‫غدا‪.‬‬ ‫وأظنه لن يأتي اليوم‪ ،‬فهو ال يظهر إال في وقت‬ ‫‪-‬‬
‫ث ّم أردف "كلودة"‪:‬‬
‫ّ‬
‫الدكان‪ّ ،‬‬
‫هيا تعال معي‪.‬‬ ‫‪ -‬ال ّبد أن أذهب إلى‬
‫ّ‬
‫جليا على "كلودة" ّأنه بدأ يتعلق بـ"أنس"‪ ،‬فهو يأنس به ويميل إليه‪،‬‬
‫كان ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ّأما "أنس" فقد كان شاردا يفكر‪ ،‬وبعد لحظات كان قد اتخذ قرا ًرا حيث قال‪:‬‬
‫‪ -‬سأذهب إلى املكتبة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا!!‬
‫‪ -‬أنت هالك ال محالة‪ ،‬هذا خطر عظيم‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫ُ‬
‫‪ -‬لم نسمع أن أحدهم قد ذهب إلى هناك ث ّم عاد‪.‬‬
‫‪ -‬سأعود إن شاء هللا‪.‬‬
‫مبال بتحذيراته انطلق يسير تجاه املكتبة‬
‫"أنس" وبعد أن ودعه ّغير ٍ‬ ‫وثب‬
‫ً‬
‫العظمى‪ ،‬باحثا عن أي عالمة تدله على سبيل السترداد كتابه وإكمال مهمته‬
‫ليعود لبيته وأسرته‪ ،‬لم يكن على علم أن كتابه ملفوف بعناية بثوب من حرير‬
‫تفوح منه رائحة العطر تحت وسادة "كلودة"‪ ،‬وفور أن انسل بقامته بين‬
‫‪132‬‬
‫األشجار‪ ،‬وبينما يستعد "كلودة" للرحيل‪ ،‬ظهرت َ"مرام" وهي تركض تجاه بيته‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تعثرت فتدحرجت على تلة يغطيها العشب األخضر حتى استقر جسدها‬
‫أسفلها‪ ،‬قامت تعرج في مشيتها‪ ،‬وكانت ما زالت تربط عينها‪ّ ،‬‬
‫مر يومان منذ‬
‫جرحها "أنس" وما زالت تؤملها‪ ،‬فقد تسبب الدهان الذي طببتها به طبيبة‬
‫ّ‬
‫تتحسن حالتها‪.‬‬ ‫القصر في التهابها ولم‬
‫"كلودة" الذي عرفها من مالبسها ومن رباط‬ ‫وصلت ً‬
‫أخيرا ووقفت أمام‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫عينها فقد كان يراها بصحبة األميرة "أونتي"‪ ،‬قال مرتابا في أمرها‪:‬‬
‫‪ -‬أنت َ"مرام"؟‬
‫‪ -‬أوتعرف اسمي؟‬
‫ُ‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬أخبرتني "أونتي"‪ ،‬ما الذي أتى بك إلى هنا؟‬
‫‪ -‬األميرة ُ"أونتي" طلبت ّ‬
‫مني أن أحذرك‪.‬‬
‫‪ -‬مم؟‬
‫‪ -‬ال ّبد أن تتخلص من هديتها لك في الحال‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬ال أعرف‪ ،‬كما أنها تطلب منك ّأال تذهب للقائها ّ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬عودي فأخبريها أال تقلق‪ ،‬فقد انتهى أمر الهدية‪ ،‬وأخبريها ً‬
‫أيضا أنني ال‬
‫أريد‪....‬‬
‫‪ -‬لن أعود!‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫‪ -‬لقد منحتني األميرة حريتي‪ ،‬وأخبرتني ّأنك ستدلني على القرية‪ ،‬أرجوك‬
‫ساعدني ‪ ،‬لو رآني الحراس سيعيدونني إلى هناك‪.‬‬
‫جلست َ"مرام" أمام الدار ترتجف‪ ،‬عاد "كلودة" إلى غرفته وسحب الهدية‬
‫وهي ملفوفة بالثوب الحريري وقام بدفن الكتاب تحت شجرة خلف بيته في‬
‫‪133‬‬
‫ُ‬
‫صندوق مع العديد من الكتب القيمة التي كان يحتفظ بها‪ ،‬وغطاه بالتراب ث ّم‬
‫بأغصان األشجار‪ ،‬وعاد فألقى بالثوب في النار التي كان يستخدمها بعد أن‬
‫بزيت ما فالتهمه اللهب في الحال‪ ،‬كان يمسك في يده تلك الضفيرة التي‬ ‫بلله ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قصتها "أونتي" من شعرها ووضعتها له بين دفتي الكتاب‪ ،‬ألقاها في النار ووقف‬
‫أحب إليه من عطرها!‬ ‫يراقبها وهي تحترق‪ ،‬في تلك اللحظة كانت رائحة الحريق ّ‬
‫قرر أن يصحب َ"مرام" للقرية ويتركها ً‬
‫سريعا‪ ،‬فلو التقت بـ"أشريا" وأخبرتها‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫غاضبا‪ ،‬ماذا سيقول‬ ‫بأمر األميرة "أونتي" ستفسد عليه حياته‪ ،‬سار "كلودة"‬
‫عائدا ومعه فتاة! ال ّبد أنها ستغضب‪.‬‬
‫لـ"أشريا" لو رأته ً‬

‫تعرفت ُ اآلن عليه‪ ،‬فمالمحه لم‬ ‫كانت َ"مرام" تسير خلفه في صمت وقد ّ‬
‫بعيدا عنه وعن "أونتي"‪ ،‬اآلن اتضحت لها‬ ‫تكن ظاهرة لها عندما كانت تقف ً‬
‫عندما اقتربت منه‪ّ ،‬إنه ذاك الشاب الذي رأته في السوق يركض مع فتاة‬
‫ً‬
‫غاضبا‬ ‫وينادي على "أنس"‪ ،‬لم يترك لها الفرصة لتتحدث إليه‪ ،‬كان يسير‬
‫بسرعة بينما كانت هي منهكة من طول ركضها بين السهول هاربة من القصر‪،‬‬
‫طالت املسافة بينهما وكانت تسير خلفه وتراه من بعيد وهو يلتفت من آن آلخر‬
‫ّ‬
‫ليتأكد أنها تتبعه‪ ،‬كانت تناديه وهو يتجاهلها‪ ،‬أرادت أن تسأله عن "أنس"‪،‬‬
‫ً‬
‫سريعا حتى ال ينكشف أمره‪.‬‬ ‫وأراد هو أن يتخلص من صحبتها‬

‫❐❐❐‬

‫‪134‬‬
‫(‪)12‬‬

‫اخلنجر!‬

‫تقدم "أنس" في طريقه إلى املكتبة‪ ،‬حيث أخبره‬ ‫كان الجو يزداد برودة ّكلما ّ‬
‫"كلودة" ّأنها تقع خارج حدود القرية في منطقة نائية وحدها‪ ،‬تفصلها عن‬
‫ً‬
‫مستمتعا بمرور‬ ‫فضل أن يركض بين ّ‬
‫كل بستان وآخر‬ ‫عدة بساتين‪ّ ،‬‬ ‫القرى ّ‬
‫مجرد شعوره بالبرد أو األلم يجعله على يقين ّأنه ما‬‫الهواء البارد على وجهه‪ّ ،‬‬
‫زال على قيد الحياة!‬
‫حس املغامرة يموج في صدره‪.‬‬ ‫كانت تنتابه اللهفة إلى مغازلة الخطر‪ ،‬بدأ ّ‬
‫ّ‬
‫يتوغل ويغامر بشكل أكبر‪ ،‬ال بد أن يحتك بالناس بشكل أعمق وربما‬ ‫قرر أن ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫يحس معها‬ ‫يستفزهم قليال‪ ،‬كانت تلك إحدى طرقه التي قرر أن يسلكها لكي‬
‫حلما يعيش في أوهامه‪ .‬كان شوقه لبيته‬ ‫بأنه على قيد الحياة وأن ذاك ليس ً‬ ‫ّ‬
‫وجده قد بلغ أقصاه‪ .‬ساعده سيره على صفاء ذهنه‪ ،‬وما‬ ‫وأبيه وأمه‪ ،‬وأخته‪ّ ،‬‬
‫عدة بساتين‪ ،‬ولم‬ ‫مر وقت طويل وهو ّ‬
‫يتمش ى في ّ‬ ‫أحوجه اآلن لصفاء الذهن‪ّ .‬‬
‫تظهر املكتبة بعد!‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫كاد ييأس ويعود من حيث جاء‪ّ ،‬‬
‫لكنه قرر أن يجلس قليال ويفكر بهدوء‪.‬‬
‫أمده به "كلودة" قبل أن يترك بيته‪ ،‬وبدأ يأكل التمر‬ ‫أخرج ما بحقيبته من تمر ّ‬
‫كفه‪ ،‬برز أمامه من حقيبته الخنجر الذي أعطاه له‬ ‫بالنويات في ّ‬
‫ّ‬ ‫وكان يحتفظ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫جده‪ ،‬أمسكه وتفحصه بإمعان‪ ،‬ثم وثب واقفا يحركه ويولجه في طبقات‬ ‫ّ‬
‫أحيانا‪ّ ،‬‬
‫ظل‬ ‫ً‬ ‫شيئا ما‪ ،‬ال بأس ببعض اللعب‬‫الهواء هنا وهناك وكأنه يقاتل ً‬
‫يحركه‬‫يمينا ويسا ًرا وفي خطين متقاطعين‪ ،‬ثم قال بصوت مسموع وهو ّ‬ ‫يحركه ً‬
‫ّ‬
‫وهو يتذكر مواجهته للصوص وللمجاهيم‪:‬‬
‫‪ -‬ليتني أعود إلى الغابة اآلن بخنجري هذا!‬

‫‪135‬‬
‫وفجأة انبثق أمامه من حيث كان خنجره ّ‬
‫يمر في الهواء راسما خطين‬
‫ُ‬
‫متقاطعين ش يء يشبه االنفجار الصغير‪ ،‬ث ّم ظهرت فجوة تدور فيها ألوان‬
‫ممزوجة تموج في بعضها البعض‪ ،‬انثنت والتوت حروفها كما تلتوي أحرف‬
‫األوراق وصدر دوي غريب‪ ،‬وتبعه صوت رياح ساحبة‪ّ ،‬‬
‫وكأن تلك الفجوة ٌ‬
‫بئر‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫متخشبا في مكانه يحبس أنفاسه عندما حدث‬ ‫معلقة في الهواء‪ ،‬كان "أنس"‬
‫جده عن الخنجر‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫تذكر ما قاله ّ‬
‫وأنه سيقطع به مسافات طويلة!‬ ‫هذا أمامه‪،‬‬
‫ّ‬
‫انحنى والتقط النويات التي كان قد جمعها بعد أن تناول التمر وألقاها واحدة‬
‫تلو األخرى داخل الفجوة وكانت تلتقمها بسرعة خاطفة‪ ،‬حمل حقيبته وتراجع‬
‫للخلف فسارت الفجوة معه واقتربت منه‪ ،‬شعر بها تسحبه إلى داخلها‪،‬‬
‫وابتلعته في لحظة فاختفى‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫ّ‬
‫سقط "أنس" على األرض حيث التقى باملجاهيم من قبل‪ ،‬تذكر ما قاله‬
‫قبل أن تظهر الفجوة‪ ،‬أدرك أن الخنجر يفتح له فجوات لينتقل من مكان إلى‬
‫مكان آخر‪ ،‬اآلن عاد إلى الغابة‪ ،‬وثب ً‬
‫قائما وركض بأقص ى سرعة تجاه أشجار‬
‫الياسمين التي ّ‬
‫مر بها بعد أن غادر بيت العجوز "ناردين"‪ ،‬وجدها أمامه فأسرع‬
‫تجاهها ّ‬
‫وخر على ركبتيه أمامها يلتقط أنفاسه‪ ،‬بينما صاحت في وجهه‪:‬‬
‫‪" -‬أنس"! ما الذي جاء بك إلى هنا؟‬
‫‪ -‬فقدت كتابي‪.‬‬
‫اقتربت منه وأمسكته من ذراعه‪ ،‬فقام معها وسارا نحو كوخها‪ ،‬وجلسا‬
‫حيث كانت تجلس مع َ"مرام" من قبل‪ ،‬وبدأ يحكي لها ما ّ‬
‫مر به بعد أن تركها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عندما التقى باملجاهيم ث ّم "كلودة" الذي عاد به للغابة‪ ،‬ثم اللصوص ثم‬
‫صفقت العجوز عندما سمعت منه‬ ‫"أشريا" والطفلة الصغيرة‪ ،‬بشكل فجائي ّ‬
‫جليا أنها سعيدة ً‬
‫جدا لنجاتهما‪ ،‬بعد‬ ‫ّأنه أخرج أشريا والطفلة من الغابة‪ ،‬بدا ًّ‬
‫أن أخبرها ّأنه كان في طريقه للمكتبة قالت بحزم‪:‬‬
‫تلتق ب َـ"مرام"‪ ،‬فاألفضل أن تستخدم خنجرك‬ ‫‪ -‬طاملا فقدت كتابك‪ ،‬ولم ِ‬
‫ّ‬
‫وتنتقل إلى قصر "الحوراء"‪ ،‬البد أن تلتقي بها‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫أسرع "أنس" يسألها بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬ومن هي َ"مرام"؟‬
‫ً‬
‫خصيصا من‬ ‫‪ -‬محاربة كادت ترحل بعد انتهاء مهمتها لكنها دخلت الغابة‬
‫لتحذ ك‪ ،‬فقد َ‬ ‫ّ‬
‫بدأت رحلتك قبل أن تلتقي بـ"الحوراء" و "املغاتير"‪.‬‬ ‫ر‬ ‫أجلك‬
‫‪ -‬وأين ذهبت َ"مرام" اآلن؟‬
‫‪ -‬ال أدري‪ ...‬املهم‪ ،‬ال ّبد أن تذهب إلى قصر "الحوراء"‪ّ ،‬‬
‫هيا‪ ،‬قم يا فتى‪،‬‬
‫الوقت ّ‬
‫يمر‪.‬‬
‫قامت تدفعه أمامها وتتعجله‪ ،‬ووقفت تراقبه وهو ّ‬
‫يحرك خنجره في الهواء‬
‫ويقول كما قال من قبل‪:‬‬
‫‪" -‬قصر "الحوراء"‬
‫ّ‬
‫تحرك الهواء أمامه‪ ،‬وكأن هناك بقعة شفافة تشبه املاء تغلي وتبقبق ثم‬
‫انفرجت كاشفة عن فجوة عمالقة دلفها "أنس" هذه ّ‬
‫املرة بنفسه دون أن‬
‫ً‬
‫يتراجع‪ ،‬كان أكثر ثقة من ذي قبل‪ ،‬وكان وصوله لقصر الحوراء أسرع‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫بثيابها املحتشمة‪ ،‬وحيث تجللها املهابة والسكينة‪ ،‬وعلى كتفيها ينسدل‬


‫الوشاح األبيض كانت "الحوراء" في ديوانها تجلس بوقار‪ ،‬وتنتظر ظهور "أنس"‪،‬‬
‫فقد حملت لها الرياح صوته وكانت تعلم أنه على وشك الوصول‪ ،‬انشق‬
‫وأطلت الفجوة وخرج "أنس" منها ّ‬ ‫ّ‬
‫وكأنه ولد من رحمها للتو‪ ،‬التفت‬ ‫الهواء‬
‫بثبات وجال بعينيه في‬
‫ٍ‬ ‫ورأي امللكة أمامه‪ ،‬شعر بسكينة عندما رآها‪ ،‬وقف‬
‫يتأمل سقف الغرفة الواسعة‪ .‬قالت "الحوراء" بصوت حنو صاحبته‬
‫ن‬ ‫املكان ّ‬
‫ارتعاشة مميزة‪:‬‬
‫ً‬ ‫‪ً -‬‬
‫حمدا هلل على سالمتك يا "أنس"‪ ،‬كان من املفترض أن نلتقي بك أوال‪..‬‬
‫ّ‬
‫لكنها أقدار هللا‪ ...‬أخبرني كيف هو جدك؟‬

‫‪137‬‬
‫‪ -‬بخير يا ّ‬
‫سيدتي‪.‬‬
‫ُ‬
‫تمعنت في عينيه ث ّم قالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ال ّبد ّأنك قلق يا ّ‬
‫بني؟‬
‫‪ -‬ال تلوميني‪...‬أشعر وكأنني في حلم! ال أصدق ما يحدث!‬
‫ُ‬
‫ابتسمت بعذوبة ث ّم قالت بهدوء‪:‬‬
‫بعض الحقائق من فرط صدقها تبدو كحلم جميل‪ ،‬وبعضها من فرط‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ككابوس مزعج‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫تبدو‬ ‫قسوتها‬
‫ً‬
‫أردف "أنس" مكمال كالمها‪:‬‬
‫ً‬
‫وأحيانا نحن نخلق الوهم في عقولنا ونعيشه‪ ،‬ال بد أن ما أعيشه اآلن وهم‬ ‫‪-‬‬
‫وخيال في عقلي‪.‬‬
‫‪ -‬الوهم يختلف عن الحقائق‪ ،‬كل ما حولك هنا ليس ً‬
‫وهما يا ّ‬
‫بني!‬
‫‪ -‬رّبما أنا أحلم‪ ،‬أين نحن اآلن!! وما الذي يحدث؟ ما فائدة قصص قديمة‬
‫كتبها أحد ما! ملاذا ننبش املاض ي بال هدف‪.‬‬
‫رفعت حاجبيها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬قد نفتش عن املاض ي لبشاعة حاضرنا‪ ..‬وما أبشع ما نعيشه اآلن!‬
‫ُ‬
‫بأدب موافقا لكالمها‪ ،‬ث ّم سألها‪:‬‬
‫أومأ برأسه ٍ‬
‫ُ‬
‫‪ -‬أريد أن أعرف ما دوري هنا بالتحديد؟ ومتى سأعود؟ فمنذ وصولي وأنا‬
‫ألتقي بأشخاص وال جديد حتى اآلن!‬
‫صمت قصير‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قالت بعد‬
‫أصيلة ًأبا عن جد‪ ،‬حتى اإلناث في عائلتك‬
‫ٍ‬ ‫عائلة‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬في الحقيقة؛ أنت من‬
‫ً‬
‫مثال! مميزة ً‬ ‫لهن ٌ‬‫سيكون ّ‬
‫جدا‪.‬‬ ‫شأن عظيم إن شاء هللا‪ ،‬شقيقتك "حبيبة"‬
‫تعجب "أنس" من ذكرها لشقيقته‪ ،‬كاد يسألها كيف هي مميزة! لوال ّأنها‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫أردفت قائلة‪:‬‬
‫‪138‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬لست وحدك هنا‪ ،‬غيرك الكثيرون‪ ،‬الصقور تنقلكم إلى هنا كل ٍ‬
‫عام‪،‬‬
‫مع‪"...‬كمشاق"‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هناك من ينجح‪ ،‬وهناك من يفشل‪ ،‬وهناك من يتحالف‬
‫‪ -‬امللك؟‬
‫انتفضت بغضب وقالت ّ‬
‫بحدة‪:‬‬
‫‪ -‬ملك على نفسه‪"ِ ،‬كمشاق" ملك مملكة الجنوب فقط‪.‬‬
‫ً‬
‫سريعا ما تمالكت نفسها وأردفت بهدوء‪:‬‬ ‫ثم‬
‫ً‬
‫مظلما في مملكة الجنوب‪ ،‬وجانبنا الذي نرجو أن‬ ‫بني ستجد ً‬
‫جانبا‬ ‫‪ -‬هنا يا ّ‬
‫ً‬
‫غامضا ما‬ ‫ً‬
‫وجانبا‬ ‫ً‬
‫جميعا اآلن‪،‬‬ ‫يكون هو املض يء في الشمال حيث نقف‬
‫ً‬
‫زلنا نكتشف أسراره خلف أستار الغابة هنا وهناك‪ ،‬وجانبا لم تطأه قدم‬
‫قط وذاك ربما ستكتشفه بنفسك‪"ِ .‬كمشاق" ومن حوله يحاولون‬
‫السيطرة على اململكة كلها‪ .‬ما زالوا يحاولون إغواء كل محارب يأتي‪،‬‬
‫يطاردونه‪ ،‬يقطعون عليه الطريق‪ُ ،‬يفشلون خططه إلظهار الحق ويدلسون‬
‫لخدمة أفكارهم السوداء‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن! ليس كل من بمملكة الجنوب سيئين‪ ،‬هناك الخير يكمن هنا‬
‫أيضا‪ّ ،‬‬
‫لكنكم‬ ‫الشر ً‬
‫وهناك‪ ،‬أهل القرية طيبون‪ ،‬وربما هنا باململكة بعض ّ‬
‫ال تعلمون عنه‪.‬‬
‫حسنا‪ ،‬طاملا ّأنك تدرك هذا ً‬
‫جيدا فأنت تعرف دورك‪ ،‬أنت ستخبرنا أين‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫الخير وتدلنا عليه‪.‬‬
‫‪ -‬وهل سأستطيع؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أنت الوحيد القادر على هذا بإذن هللا‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‪ ...‬أال تقدرون أنتم؟‬
‫‪ -‬ليتنا نستطيع! حاولنا من قبل ولم نتمكن‪ ،‬جربنا ولم ننجح‪.‬‬
‫ّ‬
‫هز "أنس" رأسه بحيرة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا اململكة هنا مختلفة! وأين موقعنا اآلن‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫‪ -‬ستتعب يا "أنس"‬
‫‪ -‬من ماذا؟‬
‫أيضا حيرتني تلك القصص التي كان ّ‬
‫جدك‬ ‫‪ -‬من تكرار هذا السؤال‪ ،‬فأنا ً‬
‫يخبرني عنها عن عاملكم‪ ،‬وددت أن أكون هناك‪ ،‬أن أرى ما يصفه عن‬
‫عاملكم‪ ،‬بيوتكم‪ ،‬هواتفكم‪ ،‬الطائرات‪ ،‬السيارات‪ ،‬لكنني ‪..‬‬
‫لكنك ماذا؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أشاحت بنظراتها بعيدا ّثم أردفت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أتعلم يا "أنس"؛ حاولنا ً‬
‫كثيرا إرسال بعض املغاتير لعاملكم‪ ،‬حملتهم‬
‫الصقور لكن كل محاوالتنا باءت بالفشل‪ ،‬إنهم يرفضون أن نتولى نحن‬
‫املهمة‪.‬‬
‫‪ -‬ومن هم؟‬
‫‪ -‬الكتب‪.‬‬
‫جدي أن تلك األوراق ّتدب فيها الحياة!‬
‫أيضا تزعمين مثل ّ‬
‫‪ -‬أنت ً‬
‫ّ‬
‫هزت رأسها موافقة فقال بانفعال‪:‬‬
‫‪ -‬ما زلت ال أصدق أن الكتب ّ‬
‫حية ولها إرادة!‬
‫‪ -‬ألم تطر الكتب في الهواء وتلف حولك؟!‬
‫عرفت؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬وكيف‬
‫‪ -‬هكذا تتعرف الكتب على املحاربين‪ ،‬هكذا اختارت ّ‬
‫جدك من سنين طويلة‪،‬‬
‫ألول ّ‬
‫مرة هنا‪.‬‬ ‫وهكذا التقيت به ّ‬
‫ّ‬
‫هز "أنس" رأسه بحيرة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا أنا؟!‬
‫ألن الكتب أدركت وهي تدور حولك ّأنك تؤمن بش يء ما ّ‬
‫يتحدث عنه كتاب‬ ‫‪ّ -‬‬
‫إيكادولي‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫‪ -‬ربما‪...‬‬
‫قاطعته "الحوراء" وأردفت قائلة‪:‬‬
‫أحست بقلبك‪ّ ،‬‬
‫شمت الرائحة في دمائك‪ ،‬هي‬ ‫ألن صفحاته ّ‬‫‪ -‬اختارك الكتاب ّ‬
‫شيئا احتضنته تلك الصفحات بين‬ ‫صدقت في نفسك ً‬ ‫ألنك ّ‬ ‫تعرفك ّ‬
‫ْ‬
‫وأدركت أنت قيمة ذاك الش يء ومعناه‪.‬‬ ‫سطورها‬
‫‪ -‬وما هو هذا الش يء؟‬
‫مهمتك أن تكتشف القيمة التي يتحدث‬ ‫‪ -‬أنت هنا لهذا السبب يا "أنس"‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ونتمسك بها‪ ،‬األمر ليس‬ ‫عنها الكتاب وتدلنا عليها لنعلمها ألنفسنا وأبنائنا‬
‫ظاهرا ً‬
‫جليا بالنسبة لنا لألسف‪.‬‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫تذكر "أنس" كيف كانت الكتب تدور حوله في غرفة املكتبة‪ ،‬وكيف كانت‬
‫صفحاتها تقلب بسرعة شديدة‪ ،‬وكيف كان شعوره عندما رأى صورته ُترسم‬
‫في ّأول صفحة‪ .‬قال وهو يرجو إجابة تريحه‪:‬‬
‫‪ -‬فقدت كتابي‪ ،‬سرقه اللصوص‪ ،‬فهل من طريقة السترده؟‬
‫حيته‬‫على حين غفلة منهما دلف الحكيم "سامي كول" إلى ديوان ابنته‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫وسيما‬ ‫تأملته بإمعان‪ ،‬وكان "أنس" ً‬
‫شابا‬ ‫بإجالل ُث ّم التفتت تجاه "أنس" و ّ‬
‫تقر بالنظر إليه العيون‪ ،‬قالت بعد أن استقرت عيناها على‬ ‫مليحا ً‬
‫فاتنا ّ‬ ‫ً‬
‫القالدة التي كان يرتديها‪:‬‬
‫‪ -‬ها هو "أنس" يا أبي‪ ،‬نفس العينين‪ ،‬نفس النظرة الواثقة‪ ،‬يشبه أباه ّ‬
‫وجده‬
‫ً‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫قال سامي كول بعد أن أغمض عينيه‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الشبل من ذاك األسد!‬
‫تنحنح"أنس" في ارتباك وقال ّ‬
‫بتحفز‪:‬‬
‫‪ -‬التماثل في الشكل ال يعنى التشابه في املستقبل والنهايات‪ ..‬أخش ى أنكم‬
‫يوما محارًبا‪.‬‬
‫تظنون بي ما لست أنا بأهل له‪ ،‬لم أكن ً‬
‫ٍ‬
‫‪141‬‬
‫مرحب بما يعيشه اآلن‪ّ ،‬‬
‫وأنه قلق مما‬ ‫أدرك "سامي كول" أن "أنس" غير ّ‬
‫ً‬
‫موافقا‪:‬‬ ‫يتعرض له‪ ،‬قال وهو ّ‬
‫يهز رأسه‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬صدقت‪ ،‬وربما أنت مختلف عنهما!‬
‫ُ‬
‫ثم أردف باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬كنت تسأل عن طريقة تسترد بها كتابك‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬بلى‬
‫‪ -‬رّبما يساعدك حراس املكتبة العظمى‪ ،‬عليك أن تنتقل إلى هناك‪ ،‬وطاملا‬
‫عرفت كيف تصل إلينا‪ ،‬ال تتردد في القدوم هنا في أي وقت‪ ،‬أو عندما‬
‫تتعرض للخطر‪.‬‬
‫اقتربت "الحوراء" وأضافت على كالم أبيها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬وال تنس أن تبحث عن َ"مرام"‪ ،‬فقد خرجت في إثرك‪ ،‬وقد ّ‬
‫تعرضت للخطر‬
‫حيث اختطفها اللصوص في الغابة‪ ،‬عليك إنقاذها يا "أنس"‬
‫‪ -‬ماذا! ولكن كيف وأنا ال أعرفها! وال أعرف شكلها!‬
‫‪ -‬وهي لم تكن تعلم كيف هي مالمحك عندما دخلت لتبحث عنك‪ ،‬وكان من‬
‫املفترض أن ترحل وتعود لديارها‪.‬‬
‫‪ -‬وما الذي أجبرها على الدخول!‬
‫ّ‬
‫‪ -‬كان اسمك يظهر لها في كتابها من آن آلخر‪ ،‬فحذرها أبي من أن ترحل طاملا‬
‫ّأنك وصلت ألرض اململكة قبل رحيلها‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ومن أي ش يء حذرها؟‬
‫كان "سامي كول" ينصت إليهما بهدوء‪ ،‬وكان دوره أن ّ‬
‫يوضح األمر ألنس‪،‬‬
‫ّ‬
‫لكنه بدال من هذا أخرج من أكمامه الواسعة ورقة ملفوفة ومدها نحو‬
‫"أنس"‪ ،‬فتح "أنس" الورقة وكانت خريطة فبدأ ّ‬
‫يتفحصها ّ‬
‫بتمعن في ما رسم‬
‫ً‬
‫فيها وهو حائر‪ ،‬اقتربت امللكة وأشارت له على الخطوط فيها وتتبعت خطا‬
‫أحمر وقالت‪:‬‬
‫‪142‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬كان من املفترض أن تبدأ رحلتك من هنا‪ ،‬القصر أوال لنشرف بلقائك‬
‫ُ‬
‫وتأخذ هذه الخريطة‪ ،‬ثم تسير في الغابة من هنا‪.‬‬
‫ً‬
‫وتتبعت خطا أخضر موازًيا للنهر األخضر‪ ،‬وقالت وهي تنقر على الجهة‬
‫األخرى‪:‬‬
‫‪ -‬هنا اللصوص واملجاهيم‪ ،‬ويبدو أنك مررت من تلك الجهة الخاطئة‪.‬‬
‫رفع "أنس" حاجبيه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أنني أجبرت نفس ي على االنخراط في اللعبة بطريقة خاطئة‪.‬‬
‫ّ‬
‫غضنت "الحوراء" جبينها وقالت وهي توقع كلماتها‪:‬‬
‫‪ -‬هي ليست لعبة!‬
‫ُ‬
‫ث ّم أضافت‪:‬‬
‫‪ -‬كان األصح أن تسير من الجهة الشرقية حتى تصل إلى القرية‪ ،‬حيث تظهر‬
‫ّأول جملة في كتابك وسط السوق‪ ،‬عندما تلتقي بأبطال القصة التي يحكي‬
‫عنها "إيكادولي"‪ ،‬ولكنك أضعت الكتاب‪ ،‬ونحن اآلن ال نعرف من هم أبطال‬
‫ّ‬
‫تسترد‬ ‫ً‬
‫تحديدا ألننا ال نعرف متى ستظهر أول كلماته‪ ،‬ولهذا عندما‬ ‫ّ‬
‫القصة‬
‫الكتاب عد وابدأ رحلتك من البداية واستخدم الخريطة حتى تبدأ الكلمات‬
‫ُتنقش في الكتاب‪ ،‬وأما إن عثرت عليه وقد ظهرت بالفعل الكلمات ‪...‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪ -‬ستكون مهمتك أصعب ألنك بالفعل قد التقيت بأكثر من شخصية قبل‬
‫أن نراك هنا‪.‬‬
‫‪ -‬أظن ّأن مهمتي صعبة بالفعل منذ بدايتها‪.‬‬
‫الحظ "أنس" وجود أرقام مختلفة وعشوائية مكتوبة بال ترتيب على ّ‬
‫عدة‬
‫أماكن في الخريطة‪ ،‬سأل "الحوراء" وهو يشير إليها‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ما هذه األرقام ّ‬
‫املدونة هنا وهناك ؟‬

‫‪143‬‬
‫غضنت حاجبيها وقالت‪:‬‬
‫خاصة بين الكتاب واملحارب املسئول عنه‪ ،‬لن يفهمها غيره ال‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬هي شفرة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أنا وال أبي وال ح تى حراس املكتبة‪ ...‬أتظن أنك تدرك معناها؟‬
‫قال وهو ينقل عينيه بينها‪:‬‬
‫‪ -‬الش يء الذي ليس له معنى اآلن قد يكون له معنى ً‬
‫الحقا!‬
‫صمتت "الحوراء" هنيهة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬واآلن‪ّ ،‬‬
‫هيا إلى املكتبة‪ ،‬فأنت تحتاج الوقت‪.‬‬
‫حمل "أنس" خنجره وعاد يحركه في الهواء في خطوط متقاطعة‪ ،‬انبثقت‬
‫الفجوة من جديد‪ ،‬وألقى بنفسه فيها بعد أن أخفى الخريطة في حقيبته‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪144‬‬
‫(‪)13‬‬

‫" كُومبو "‬

‫خرج "أنس" من الفجوة والخنجر ال يزال في يده‪ ،‬فوجد نفسه أمام بناء‬
‫كل الجهات‪ ،‬وحول تلك األشجار وعلى‬ ‫عظيم مهيب تحوطه األشجار من ّ‬
‫ّ‬
‫امتداد البصر كانت الصحراء تبسط رمالها الذهبية إلى ما ال نهاية‪ .‬تقدم‬
‫ّ‬
‫ستفتح له وسيكون‬ ‫خطوة واحدة وكان ً‬
‫واثقا من خطاه يظن أن أبواب املكتبة‬
‫ً‬
‫األمر سهال كما دلف إلى الغابة من قبل‪ ،‬وإلى قصر "الحوراء" منذ دقائق‬
‫اشتدت الرياح فجأة ّ‬
‫وكأنها‬ ‫ّ‬ ‫ماضية‪ ،‬لكن األمر لم يكن كما يخاله‪ ،‬فقد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تمنعه‪ ،‬وبد أت الرمال تتحرك وتبتلع جسده وكأنها تعوقه لكي ال يتقدم‪ ،‬حتى‬
‫ً‬ ‫اختفى نصفه األسفل تحتها‪ ،‬رفع ذراعه ّ‬
‫وحرك الخنجر في الهواء وصرخ قائال‪:‬‬
‫‪ -‬بيت "كلودة"‬
‫انبثقت الفجوة والرياح تخفق بأطرافها املنثنية أمامه‪ ،‬ودوي الرياح يصدر‬
‫مزعجا‪ ،‬لم يتمكن "أنس" من القفز في داخلها فساقيه تحت الرمال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صفيرا‬
‫فاقتربت الفجوة منه وارتفعت كسحابة فوق رأسه وسحبته إلى داخلها بقوة‬
‫فانتقل إلى بيت "كلودة" وكانت الرمال تتساقط من مالبسه على األرض! جلس‬
‫ً‬
‫طويال يستجمع قواه‪ ،‬فقد ّ‬ ‫ً‬
‫هزه األمر وشعر أنه هالك ال محالة‪ ،‬أراد أن‬ ‫وقتا‬
‫يقوم ليبحث عن شربة ماء فقد جف حلقه وفتح باب البيت حيث كان هناك‬
‫متحفزا وفي يده عصاة غليظة‪ ،‬فور أن رأى "أنس" ضربه‬ ‫ً‬ ‫شاب طويل يقف‬
‫على رأسه ففقد "أنس" وعيه في الحال‪.‬‬

‫❐❐❐‬
‫‪145‬‬
‫مقيد الساقين واليدين ّ‬
‫مرة‬ ‫ً‬
‫ممددا على األرض‪ّ ،‬‬ ‫أفاق "أنس" فوجد نفسه‬
‫أخرى! وقف أمامه الشاب واضعا راحتي كفيه على خصره‪ ،‬كانت له عينان‬
‫نابهتان وشعر مجعد‪ ،‬خصالته داكنة‪ ،‬كان بريق نظراته يش ي بذكاء متقد‬
‫ً‬
‫ساخرا‪:‬‬ ‫وكأن الحياة عركته ً‬
‫سلفا‪ ،‬قال‬ ‫ومتحفز‪ ،‬بدا بهيئته وإيماءاته ونظراته ّ‬

‫‪ -‬كيف تجرؤ على اقتحام بيت "كلودة" في غيابه؟‬


‫ْ‬
‫‪" -‬كلودة" صديقي‪َ ...‬سله بنفسك!‬
‫‪ -‬سننتظر إذن حتى يعود‪.‬‬
‫‪ -‬ولم النذهب إليه في دكان عطارته؟‬
‫‪ -‬أوتعرف مكان الدكان؟‬
‫‪ -‬أجل أعرفه‪.‬‬
‫‪ -‬كاذب ألنني أعمل هناك فأنا شريكه‪ ،‬ولو كنت صديقه لرأيتك معه‪ ،‬أنت‬
‫لص‪.‬‬
‫‪ -‬أخبرني باهلل عليك ّ‬
‫وأي ش يء سأسرقه من بيت "كلودة"!‬
‫ّ ُ‬
‫بتدبر ث ّم قال له‪:‬‬ ‫ّ‬
‫تفرس الشاب في مالمحه وصمت هنيهة يفكر‬
‫‪ -‬ما اسمك؟ ومن أي البالد أنت؟‬
‫‪" -‬أنس"‪ ،‬وأنا‪ ...‬محارب!‬
‫وتحرك في الغرفة بانفعال‪ ،‬اقترب من النافذة ّ‬
‫ومر على‬ ‫ّ‬ ‫انتبه الشاب‬
‫ّ‬
‫السماء بعينيه النابهتين‪ ،‬ثم عاد ينظر ألنس وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬إن كنت محارًبا‪ ،‬فأين كتابك؟‬
‫‪ -‬سرقه اللصوص عندما كنت مع "كلودة" في الغابة‬
‫‪ -‬ألم أخبرك ّ‬
‫بأنك كاذب! من املستحيل أن يدخل "كلودة" للغابة!‬
‫‪ -‬بل حدث عندما أنقذتنا ابنة ّ‬
‫عمه "أشريا" وفكت قيودنا‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫‪ -‬كاذب‪ ،‬كاذب‪ ،‬كاذب‪ ..‬من يدخل الغابة ال يعود‪ ،‬ولقد التقيت بـ"كلودة"‬
‫منذ قليل وهو في طريقه للدكان‪.‬‬
‫‪ -‬وملاذا لم تذهب معه؟‬
‫أعدها ّ‬
‫ألنه ال يستطيع‬ ‫بعضا من األصباغ التي ّ‬
‫علي‪ ،‬أتيت ألجلب ً‬ ‫َ‬
‫تتذاك ّ‬ ‫‪ -‬ال‬
‫العودة بتلك الفتاة التي كانت تتبعه إلى البيت هنا‪ ،‬فهناك من يهددها‪،‬‬
‫وأظنه أنت!‬
‫‪ -‬أقسم لك أنه صديقي وأننا دخلنا الغابة و"أشريا" هي التي أنقذتنا عندما‬
‫فكت قيد "كلودة" بذاك املسحوق الذي أذاب الحبال‪.‬‬
‫ّ‬
‫قالها "أنس" بضيق وهو يتأفف‪ ،‬فقد طفح الكيل‪ ،‬كلما شعر ّأنه يتقدم‬
‫خطوة لألمام يتعثر في ش يء ما‪ ،‬ح ّك الشاب ذقنه نصف النامية وقال وهو‬
‫ّ‬
‫يتفحص مالمح "أنس" ّ‬
‫بتمعن‪:‬‬
‫حسنا‪ ،‬سأفك قيد قدميك وستسير معي لدكان "كلودة" َ‬
‫ولنر ما سيقوله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫وإن كنت ً‬
‫كاذبا فستنال مني ما لم تنله في حياتك‪.‬‬
‫سحب الشاب خنجر "أنس" والذي كان قد استولى عليه وقطع الحبال‬
‫التي كان يربط بها ساقي أنس‪ّ ،‬‬
‫ودسه في حزام بنطاله‪ ،‬وسحب "أنس" وسار‬
‫معه نحو دكان "كلودة"‬
‫سار الشاب يدفع أمامه "أنس" بقسوة‪ ،‬اصطك الرعد فانهمر املطر مدرارا‪،‬‬
‫بروق متوالية انقدحت في السماء‪ ،‬كانت القرية في هذا الوقت ترزح تحت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫موحال ر ً‬
‫سريعا ما وصال إلى‬ ‫طبا‪،‬‬ ‫موجة صقيع شديدة‪ ،‬جعلت األمطار ك ّل ش ىء‬
‫الدكان حيث حملق "كلودة" في وجهيهما واملاء قد أغرقهما بالكامل وقال‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪" -‬كومبو"!!‬
‫‪" -‬كلودة" هذا الشاب يزعم ّأنه صديقك‪.‬‬
‫أسرع "كلودة" يفك قيد "أنس" ورشق ُ"كومبو" بنظرة تقطر ً‬
‫عتابا ً‬
‫ولوما‬
‫وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬إنه صديقي "أنس"‬
‫‪147‬‬
‫من خلف "كلودة" أطلت َ"مرام" برأسها وقالت بغضب‪:‬‬
‫ً‬
‫وأخيرا ظهرت!‬ ‫‪-‬‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬
‫مر على وجهها بعينيه البندقيتين بينما كان يتحسس معصميه متأملا من‬
‫ّ‬
‫أثر القيد‪ ،‬تعرف عليها في الحال‪ ،‬طالعها باستغراب وقال بضيق‪:‬‬
‫أنت؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟‬
‫‪ِ -‬‬
‫ُ‬
‫دفعه "كومبو" في كتفه وقال بصوت حاد‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا تتحدث إليها باشمئزاز هكذا!‬
‫‪ -‬رأيتها في السوق وعليها ثياب خليعة!‬
‫وندت منها صرخة مكتومة وأشارت لعينها وقالت‬‫غضبا ّ‬ ‫استشاطت َ"مرام" ً‬
‫بصوت لم تفلح في ضبط نبرته‪:‬‬
‫تجار العبيد‪ ،‬وسقوني ً‬
‫شيئا ما وألبسوني تلك الثياب رغم أنفي‪،‬‬ ‫‪ -‬خطفني ّ‬
‫ً‬ ‫وكنت أناديك لتحررني منهم‪ّ ،‬‬
‫لكنك بدال من هذا قذفتني في عيني وهربت!‬
‫ُ‬
‫ث ّم خلعت الرباط عن عينها فإذا بها متورمة وحولها هالة زرقاء‪ ،‬أضافت‬
‫ً‬
‫غضبا‪:‬‬ ‫وما زالت تنتفض‬
‫‪ -‬اسمي َ"مرام"‪ ،‬أرسلتني امللكة "الحوراء" من أجل‪...‬‬
‫ّ‬
‫تذكر "أنس" ما أخبرته به "الحوراء"‪ ،‬فقاطعها وقد أشفق عليها عندما رأى‬
‫ما حدث لعينها وقال معتذ ًرا‪:‬‬
‫‪ -‬آسف‪...‬ظننتك من الـ‪!....‬‬
‫اصطبغ وجهها بلون كرزي‪ ،‬شعرت بإهانة شديدة‪ ،‬وكأن "أنس" قد مرر‬
‫مرة أخرى‪ ،‬فقد كان خلعهم لحجابها وكشفهم لجسدها‬ ‫السكين على الجرح ّ‬
‫أثقل ما حدث لها منذ وصلت لتلك اململكة العجيبة‪ ،‬وكانت قد تعبت مما‬
‫القته خالل الليالي املاضية‪ ،‬قالت وهي ّ‬
‫تكز على أسنانها‪:‬‬
‫‪ -‬عد إلى قصر "الحوراء"‪ ،‬ال ّبد أن تلتقي بامللكة في الحال‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫‪ -‬وكيف سأعود وليس معي كتابي‪.‬‬
‫‪ -‬كيف!‬
‫‪ُ -‬سرق مني في الغابة وأنا أبحث عنه‪.‬‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫سريعا‪.‬‬ ‫أي حال‪ ،‬ال ّبد أن تعيدني‬
‫‪ -‬فلنعد للقصر على ّ‬
‫‪ -‬لن أرحل بدون كتابي!‬
‫ّ‬
‫رفعت سبابتها نحوه وقالت بتحفز‪:‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬أنت‬‫‪ -‬وأنا أريد أن أعود لدياري‪ ،‬ولن أسير في الغابة وحدي ّ‬
‫كل ما حدث لي‪ ،‬وعودتي إلى القصر هي مسئوليتك!‬‫السبب في ّ‬
‫ولم يكن من السهل عليه أن يثق بها من أول لقاء‪ ،‬فلم يخبرها عن أمر‬
‫ُ‬
‫الخنجر وانتقاله عبر الفجوات‪ ،‬وبينما يتحدثان اعترضهما "كومبو" ووقف‬
‫بينهما بقامته الطويلة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أي ملكة تتحدثان عنها؟ أريد أن أعرف قصتكما من البداية‪.‬‬
‫كوبا من املاء بعد أن الحظ توترها وجفاف‬‫قال "كلودة" وهو يناول َ"مرام" ً‬
‫شفتيها وهي تتحدث إلى "أنس" بغضب‪:‬‬
‫‪ -‬استريحي واهدئي‪ ،‬يبدو ّأنك مررت بالكثير‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ث ّم قال لـ "كومبو"‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬كم أنت فضولي يا "كومبو"!‬
‫سألته َ"مرام" وهي تعيد ربط عينها في ارتباك‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ملاذا اسمك "كومبو"‪ ...‬أليست تلك الكلمة تعنى السمين!!‬
‫قهقه ثم أجابها‪:‬‬
‫ً‬
‫سمينا طوال‬ ‫ً‬
‫سمينا‪ ،‬فاختار لي أبي ذاك االسم‪ ،‬وبقيت‬ ‫‪ -‬عندما ولدت كنت‬
‫حياتي‪ ،‬وها قد فقدت سمنتي منذ عامين وما ال ذاك االسم ً‬
‫عالقا بي‪.‬‬ ‫ز‬

‫‪149‬‬
‫ُ‬ ‫دلف الجميع إلى الدكان‪ ،‬وباختصار ّ‬
‫قص "أنس" على "كومبو" ما أراد أن‬
‫يكشفه له‪ ،‬وأخفى عنه ما أراد أن يخفيه‪ ،‬واستعاد خنجره‪ ،‬وبقي "كلودة"‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وخائفا من أن ينكشف أمر عالقته باألميرة‪ ،‬كان يفكر في طريقة يتخلص‬ ‫قلقا‬
‫بها من َ"مرام" بسرعة‪.‬‬
‫وكانت َ"مرام" تتمنى أن تغمض عي نيها وتفتحهما فتجد نفسها في بيتها‪ ،‬متى‬
‫ستعود!‬
‫❐❐❐‬

‫في الطريق وحيث اتفقوا على أن تبيت َ"مرام" ليلتها في بيت "أشريا" بينما‬
‫يذهبون لبيت "كلودة"‪ ،‬كانت َ"مرام" تسير خلفهم وهي غاضبة‪ ،‬تريد أن ترحل‬
‫اآلن‪ ،‬رفعت رأسها تبحث عن "قطرة الدمع" هنا وهناك‪ ،‬لم تعد تظهر لها في‬
‫نفس اللحظة التي تفكر بها في الحال‪ ،‬كما كان يحدث‪ ،‬تلك كانت ميزة تبعث‬
‫في نفسها االطمئنان‪ ،‬لكن يبدو ّأنها فقدت تلك امليزة! ّ‬
‫تمهل"كلودة" في سيره‬
‫ً‬
‫قليال واقترب منها وأعطاها زجاجتين صغيرتين وقال‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬خذي‪ ،‬ضعي قطرة من هذا السائل في عينك قبل النوم‪ ،‬ث ّم ضعي هذا‬
‫الدهان على الجفن وما حوله‪ ،‬سيخفف من تو ّرم عينك إن شاء هللا‪.‬‬
‫انكمشت َ"مرام" وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬لقد قمت بدهنها من قبل في القصر بذاك الدواء الذي أعطته لي‬
‫الطبيبة هناك‪ ،‬فانتفخت عيني وأصبحت الدموع تسيل منها على الدوام‪.‬‬
‫‪ -‬ال تخافي‪ ،‬جربيه‪.‬‬
‫ُ‬
‫بعد تردد أخذتهما ث ّم قالت له‪:‬‬
‫شكرا لك‪.‬‬ ‫ً‬
‫حسنا‪ً ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬أرجو منك أال تخبري أي أحد بما بيني وبين األميرة "أونتي"‪ ،‬حتى زوجة عمي‬
‫وابنتها "أشريا" التي ستبيتين في بيتهما الليلة‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫‪ -‬اطمئن‪ ،‬سأستركما‪ ،‬رغم أنكما ال تستحقان!‬
‫‪ -‬أهكذا تردين الجميل ألميرتك التي أطلقت سراحك؟‬
‫‪ -‬قلت سأستركما! ولكنني أكره فعلكما!‬
‫التفتت مبتعدة عنه‪ ،‬كانت تتمنى أن تنشق األرض وتبتلعها وتلفظها في‬
‫ً‬
‫سريعا إلى بيت "أشريا"‪ ،‬التي انزعجت في البداية عندما‬ ‫بيتها في الحال‪ ،‬وصال‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫رأت َ"مرام"‪ ،‬ث ّم سريعا ما انفرجت أساريرها عندما علمت أنها محاربة‪ ،‬على‬
‫ً‬
‫نحو سريع تآلفتا‪ ،‬وباتتا ليلتهما تتحدثان عن األميرة "هيال"‪ ،‬كانت "أشريا" قد‬
‫ٍ‬
‫سمعت عنها‪ ،‬لكنها لم تكن تعلم قصتها بالتفصيل‪ ،‬خفف هذا عن َ"مرام"‬
‫التي كانت تغلي‪ ،‬كم هو مهين أن يظن بها أحدهم أنها فتاة لعوب‪ ،‬وكم هو‬
‫مرت به من ذل وهوان‪ ،‬وكم تؤملها عينها اآلن‪.‬‬ ‫قاهر ما ّ‬

‫❐❐❐‬

‫‪151‬‬
‫(‪)14‬‬

‫يف بيت "كلودة"‬

‫مرت الليلة هادئة حيث استسلمت َ"مرام" للنوم العميق حتى الظهيرة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫بينما كان "أنس" في صحبة "كلودة" و "كومبو" في دكانهما منذ الصباح الباكر‪،‬‬
‫كان قد اتخذ قرا ًرا قبل أن يغمض عينيه الليلة املاضية‪ ،‬وهو ّأنه سينقل‬
‫َ"مرام" إلى قصر "الحوراء" قبل أن يعود للمكتبة العظمى‪ ،‬لقد القت الكثير‬
‫بسببه‪ ،‬وكان يشعر بالذنب واملسئولية تجاهها‪ ،‬كما أنه كان يشعر بالضيق‬
‫ّكلما تذكر اللحظة التي قذفها فيها بالحجارة في عينها‪ ،‬أساء بها الظن ّ‬
‫وظنها‬
‫لعوبا وكانت املسكينة تستغيث به لينقذها‪ ،‬كان يسترجع ما روته له عن‬ ‫فتاة ً‬
‫ذاك الشاب الذي غطاها بوشاحه وحملها إلى القصر‪ ،‬وكيف نجاها هللا مما‬
‫كانت تخشاه بأن اختارتها أميرة هناك لتكون وصيفة لها‪ ،‬جلس ينتظر انتهاء‬
‫"كلودة" من عمله ليذهبا ً‬
‫معا لبيت "أشريا"‪.‬‬
‫مر معظم النهار ولم يبق إال القليل منه‪ .‬على الباب‪ ،‬وبينما يتعالى صوت‬ ‫ّ‬
‫زوجة عمه وهي تقترب لتفتحه‪ ،‬كان "كلودة" يقف ومعه "أنس" ينتظران‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أطلت برأسها من فرجة الباب ‪ ،‬أخبرتهما أن "أشريا" حملت إليهم الطعام إلى‬
‫بيته مع َ"مرام"‪ ،‬فقد ظنت أنه لن يأتي كاملرة السابقة‪ ،‬انصرف مع "أنس"‬
‫متوجها لبيته‪ ،‬راوده شعور باالرتياح‪ ،‬فما دامت تحمل له الطعام فهي ال‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫تعرف شيئا‪ ،‬كانت َ"مرام" صادقة‪ ،‬ستسترهما وإن لم يعجبها فعلهما‪.‬‬
‫كان بيت "كلود ة" رغم بساطته يوحي بالدفء‪ ،‬غرفتان فسيحتان يفصل‬
‫بينهما جدار حجري ال يصل إلى السقف‪ ،‬ال أثاث يذكر سوى فراش من الليف‬
‫ّ‬
‫مغطى بقماش من الكتان املصبوغ‪ ،‬الكثير من الحقائب القماشية املعلقة على‬
‫الجدران‪ ،‬يبدو أنها تحتوي على املالبس وأشياء أخرى‪ ،‬في أركان البيت تناثرت‬
‫ّ‬
‫محشوة بريش الطيور صنعتها "أشريا" كمـا قال له ـم وهو يتنق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل‬ ‫عدة وسائد‬
‫‪152‬‬
‫بسرعة بين الغرفتين‪.‬‬
‫واسعة تطل على فناء الدار‪ ،‬بينما انصرف "كلودة"‬ ‫ٍ‬ ‫جلسوا في ُشرفة‬
‫ّ‬
‫ويسخن القدر املمتلئ بالطعام فقد برد‬ ‫ليحضر بعض الحطب ليشعل النار‬
‫ً‬ ‫سريعا حتى أن الدهن بدأ ّ‬‫ً‬
‫يكون طبقة جامدة على سطحه‪ ،‬وضعت "أشريا"‬
‫ّ‬
‫خزفيا مكسور الحافة به بعض ّ‬ ‫ً‬
‫حبات الفاكهة الشهية حتى‬ ‫أمامهما وعاء‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫تقوم بتسخين الطعام‪ ،‬لم تمد "مرام" يدها‪ ،‬وكذلك لم يفعل "أنس"‪ ،‬فقد‬
‫شهيته‪ ،‬كان الشعور بالغربة يقبع على صدره‪ّ ،‬أما هي فكانت‬ ‫فقد َكالهما ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫خائفة‪.‬كانت "أشريا" تنقل عينيها بينهما وأطرقت تفكر طويال‪.‬‬
‫مد "أنس" يده في جيب سرواله وأخرج ساعته‪ ،‬لو انتبه إليها اللصوص في‬ ‫ّ‬
‫الغابة في أول يوم وصل فيه لسرقوها منه‪ ،‬عاد يحاول إصالحها‪ ،‬ما زالت‬
‫وكأنه خارج الزمان واملكان‪ ،‬نادى "كلودة" على "أشريا"‬‫عقا بها مكانها متوقفة ّ‬
‫ر‬
‫لتس اعده والتي كانت تراقبهما بفضول شديد‪ .‬كانت َ"مرام" مرتبكة‪ ،‬بدأت‬
‫بتوتر‪ ،‬الحظ "أنس" الكثير من عالمات الجروح على ظهر كفيها‪،‬‬ ‫تفرك يديها ّ‬
‫قط شرس‪ ،‬بدأ "أنس" ّ‬ ‫ّ‬
‫يتفحص ساعة‬ ‫ووجنتيها‪ ،‬وكأنها خرجت من معركة مع ٍ‬
‫فظنت َ"مرام" ّأنه يسخر منها ويسترجع في ذاكرته‬‫يده بإمعان‪ ،‬ضحك بسخرية ّ‬
‫ما حدث في السوق يوم قذفها بالحجارة فأصاب عينها‪ ،‬باغتته سائلة بضيق‪:‬‬
‫‪ -‬ما يضحكك!‬
‫ً‬
‫ساخرا‪:‬‬ ‫قال‬
‫ٌ‬
‫الوقت هنا ضائع‪.‬‬ ‫‪ -‬لن تعود الساعة للعمل‪ ،‬يبدو أننا نعيش بين ثانيتين‪،‬‬
‫قالت ّ‬
‫بحدة‪:‬‬
‫كل حياتنا السابقة هى التي كانت‬ ‫ضائعا ً‬
‫أبدا‪ ،‬بل ّ‬ ‫ً‬ ‫أظن وقتنا هنا‬ ‫‪ -‬ال ّ‬
‫ضائعة‪.‬‬
‫مرت‬ ‫ً‬
‫بحياء بعيدا عن وجهه‪ّ ،‬‬ ‫التفت إليها فتالقت عيناهما‪ ،‬انزوت نظرتها‬
‫ٍ‬
‫بصوت خافت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫دقيقة من الصمت اللطيف قبل أن يسألها "أنس"‬
‫بأن ّ‬
‫كل حياتنا املاضية كانت ضائعة؟‬ ‫‪ -‬ماذا تقصدين ّ‬
‫ُ‬
‫‪ -‬عندما يصل املحاربون يكونون بال هدف‪ ،‬ولعلك كنت بال هدف قبل‬
‫مجيئك إلى هنا‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫اك؟‬‫‪ -‬وما أدر ِ‬
‫‪ّ -‬‬
‫مجرد ظن!‬
‫شعر "أنس" أنها تتحدث إليه ّ‬
‫بتحفز‪ ،‬رّبما ملا فعله عندما رآها ّأول ّ‬
‫مرة‪،‬‬
‫سريعا فرأى عينها املتو ّرمة فأشفق عليها وسألها‪:‬‬
‫ً‬ ‫وما ّ‬
‫ظنه بها‪ ،‬رنا إليها‬
‫‪ -‬كيف هي عينك اآلن؟‬
‫تحسستها بأناملها بحرص وقالت دون أن تنظر إليه‪:‬‬
‫‪ -‬هي أفضل‪.‬‬
‫‪ -‬أعتذر ّ‬
‫مرة أخرى‪ ..‬سامحيني‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪.‬‬
‫طارت فيها نظرة من نظراته فالحظ جمالها على استحياء وسألها‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬كنت تقولين إن املحاربين يكونون بال هدف عندما يصلون‪ ،‬ث ّم يتغير‬
‫أنت اآلن؟ أخبريني؟‬
‫حالهم‪..‬فما هدفك ِ‬
‫ّ‬
‫غاصت في نفسها مفكرة وقالت‪:‬‬
‫أود أن أختبئ وإن أخطأت‪ ،‬وإن‬ ‫‪ -‬أن أعيش حياتي ّكلها في الضوء‪ ،‬ال ّ‬
‫ُ‬
‫فشلت‪ ،‬وإن كان بي خطب ما! ث ّم أموت على ما أؤمن به‪.‬‬
‫‪ -‬ومن منا ال يطلب هذا!‬
‫ّثم سألها بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬كم عمرك؟‬
‫‪ -‬ثمانية عشر ً‬
‫عاما‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تدرسين؟‬
‫‪ -‬اآلداب‬

‫‪154‬‬
‫‪ -‬وأنت؟ كم عمرك؟ وهل تد س ً‬
‫شيئا ما؟‬ ‫ر‬
‫الح شبح ابتسامة على وجهه وقال بسخرية‪:‬‬
‫قريبا‪ ،‬كما أنني د ست بالفعل ً‬ ‫ُ‬
‫سأتم الثالثة والعشرين ً‬
‫شيئا ما‪.‬‬ ‫ر‬ ‫‪-‬‬
‫التفتت إليه تنتظر أن يكمل كالمه فأردف ً‬
‫مجيبا‪:‬‬
‫‪ -‬درست الهندسة‪.‬‬
‫كانت َ"مرام" تستغرب ً‬
‫تغيرا بدأ يحدث في مشاعرها‪ ،‬فرغم غضبها الشديد‬
‫ّ‬
‫منه‪ ،‬ورغبتها في ضربه على عينه حتى يتألم كما فعل بها‪ ،‬فقد بدأت تشعر‬
‫لطيفا عندما يعتذر لها!‬ ‫بانجذاب نحوه! يبدو ً‬
‫ُ‬
‫أطرق "أنس" للحظات ث ّم عاد يسألها‪:‬‬
‫‪ -‬كيف بدأ األمر معك؟‬
‫ارتبكت َ"مرام" وشعرت بالدماء تصعد لوجنتيها‪ ،‬وكأنه قرأ أفكارها ويسألها‬
‫ً‬
‫موضحا‪:‬‬ ‫كيف بدأ أمر إعجابها به!! تمتمت تستوضح السؤال‪ ،‬قال‬
‫‪ -‬أقصد مجيئك إلى هنا‪ ...‬كتابك؟ صقر حملك مثال!!‬
‫فمدت يدها وأمسكت ّ‬
‫بحبة تفاح‬ ‫حاولت َ"مرام" أن تبدو متماسكة ّ‬
‫وجلست تحملق فيها وهي تروي ما حدث لها‪:‬‬
‫جدتي مغرمة بالكتب‪ ،‬تعشق القراءة‪ ،‬لديها مكتبة عظيمة‪ ،‬الكثير من‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ً‬
‫قصصا نوبية قديمة‪.‬‬ ‫املجلدات القديمة‪ ،‬منها البعض يحوي‬
‫تخص ً‬
‫أيضا األمير "أواوا" ؟‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬هل تلك الكتب‬
‫ّ‬
‫تخص "دهل كول"‪.‬‬ ‫‪ -‬ال‪ّ ،‬إنها‬
‫نوبي ً‬
‫أيضا!!‬ ‫‪ -‬ومن هو "دهل كول" هذا؟ ٌ‬
‫أمير ٌ‬
‫‪ -‬ال‪ ....‬تلك الكلمة لقب نوبي وتعني‪...‬املجنون!‬
‫‪ -‬وهل يكتب املجنون الكتب!!‬

‫‪155‬‬
‫لكن من حوله لقبوه بهذا االسم فقد‬ ‫ً‬
‫مجنونا‪ّ ،‬‬ ‫‪ -‬في الحقيقة هو لم يكن ً‬
‫يوما‬
‫تظنه مجنونا‪ً.‬‬
‫صادقا ذاك الحد الذي يجعلك ّ‬ ‫ً‬
‫كان‬
‫ً‬
‫مستغربا وقال‪:‬‬ ‫هز "أنس" كتفيه‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬األسماء كلها غريبة! "أبادول"‪" ،‬سامي كول"‪" ،‬دهل كول"‪" ،‬إيكادولي"‪.‬‬
‫التفتت َ"مرام" تجاهه ّ‬
‫وكأن الكلمة األخيرة قد استفزت حواسها وقالت‪:‬‬
‫‪ّ -‬كلها ألقاب نوبية ما عدا "إيكادولي" ليست ً‬
‫لقبا بل هي كلمة تعني‪...‬‬
‫ً‬
‫قاطعها "أنس" بتلقائ ٍية وهو ينظر إليها قائال‪:‬‬
‫‪ُ -‬أ ّ‬
‫حبك!‬
‫بخجل‪ ،‬واصطبغ وجه َ"مرام" بحمرة خفيفة‪ ،‬ألقت بالتفاحة‬ ‫ٍ‬ ‫أطرق كالهما‬
‫تمسها في الطبق الخزفي وكادت تنصرف لوال سؤاله لها بعد أن‬ ‫التي لم ّ‬
‫استدارت‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا لم ترحلي طاملا تم استرداد كتابك كما تقولين؟ كان الخيار لك!‬
‫حرج وقالت‪:‬‬
‫التفتت تجاهه في ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مضطرة‪ ،‬ال أحد يستطيع دخول الغابة إال املحاربين‪.‬‬ ‫‪ -‬كنت‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫صفق صوت الرعد الذي ارتج له بدنها الهزيل‪ ،‬فقد بدأ املطر يهطل بغزار ٍة‬
‫فأسرع كالهما إلى الداخل حيث جلسا بهدوء في بيت "كلودة" الذي كان يعد‬
‫ّ‬ ‫الطعام مع "أشريا" ‪ ،‬جلس ّ‬
‫كل منهما في غرفة‪ ،‬كان "أنس" يفكر في حال‬
‫ّ‬
‫الرقة! إنها تشبه قطعة البسكويت الناعمة‪،‬‬ ‫َ"مرام"‪ ،‬كيف كانت ّ‬
‫تتحدث بتلك ّ‬
‫لو أغرقها املطر ستذوب!‬
‫تمدد "أنس" على الفراش وعقد كفيه خلف رأسه وحملق في سقف الدار‬
‫جده‪ ،‬فهذا ليس وقت الفتيات‪ ،‬طاملا‬ ‫مر به منذ وصوله لبيت ّ‬ ‫وهو ّ‬
‫يجتر ما ّ‬
‫أزعجته الفتيات‪ ،‬همس لنفسه‪:‬‬
‫‪ -‬ليس هذا وقت الفتيات! ليس وقتك يا َ"مرام"‪.‬‬
‫‪156‬‬
‫ناداهما "كلودة" فخرج كل منهما من غرفته لتناول الطعام‪ ،‬تنحنح "أنس"‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ث ّم قال لها بصوت جاهد ليخرجه منضبطا‪:‬‬
‫‪"َ -‬مرام"‪ ،‬ال ّبد أن أعيدك إلى القصر‪ ،‬حان وقت عودتك ألهلك‪ ،‬ال ّبد أن‬
‫أطمئن عليك قبل أن أعود ألبحث عن كتابي‪.‬‬
‫‪ -‬أرجو ذلك وبسرعة‬
‫‪ -‬لكننا سننتظر حتى يتوقف املطر‪ ،‬واألفضل أن نؤجل رحيلنا للغد حتى‬
‫ندخل الغابة في ّأول النهار‬
‫هزت رأسها موافقة‪ ،‬ويبدو أن هذا قد أراح نفسه بطريقة ما‪ ،‬التفت‬ ‫ّ‬
‫يطالع السماء وقد راق له أنها ستبقى ليلة أخرى‪ .‬كان هناك ش يء ما يتلجلج‬
‫في صدره‪ ،‬إحساس لم يعهده من قبل‪ ،‬وخزة في قلبه موجعة على نحو ما ّ‬
‫لكنها‬
‫لطيفة‪ ،‬وكأن شرارة تتذبذب بين ضلوعه‪ ،‬وقف بجوار َ"مرام" بعد تناول‬
‫كقبة تحمي مدخل الدار كان "كلودة"‬ ‫الطعام أمام باب الدار تحت مظلة بدت ّ‬
‫قد صنعها من جريد النخل‪ ،‬كان كالهما يراقب املطر في صمت‪ ،‬هدأت ثورة‬
‫أخيرا‪ ،‬ستعود إلى البيت‪ ،‬كانا ساكنين وكأنهما حرفان متجاوران على‬ ‫غضبها ً‬
‫سطر في رواية‪ ،‬حاء وباء‪ ...‬و ربما سيكون بينهما الكثير‪....‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪157‬‬
‫(‪)15‬‬

‫النهر األخضر‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫فجر وردي شاحب يبزغ على ال ّقرية مبش ًرا ٍ‬
‫بنهار مشرق‪ ،‬فتح "أنس" عينيه‬ ‫ٌ‬
‫ولثوان راح يتساءل‬
‫ٍ‬ ‫ديك يؤذن‪ ،‬اعتدل في فراشه‬ ‫عندما تناهى لسمعه صوت ٍ‬
‫وعما حدث له‪ ،‬عاد وعيه إليه ببطء‪ ،‬نهض بوثبة‬ ‫عن املكان الذي يوجد فيه ّ‬
‫واحدة واقترب من النافذة‪ ،‬توضأ من كوب املاء الفخاري الذي كان على‬
‫ّ‬
‫الطاولة بجواره وصلى الفجر‪ ،‬كان يحتاج لتلك السكينة‪ ،‬تلك السجدة التي‬
‫تحتويه فتعيد إليه صوابه‪.‬‬
‫بع د لحظات سمع طرقات خفيفة على النافذة من الخارج‪ ،‬أسرع يقترب‬
‫منها فإذا به "كلودة" الذي أشار إليه بهدوء ليتبعه‪ ،‬كانت َ"مرام" قد خرجت‬
‫الليلة املاضية بعد انتهاء املطر مع "أشريا" لتبيت معها ببيتها‪ ،‬حمل "أنس"‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫خرجا ً‬
‫معا حيث كان "كومبو" ينتظرهما‪ ،‬حوارات‬ ‫حقيبته وتبع "كلودة"‪،‬‬
‫معا عرف منها بعض املعلومات عن الحياة في أرجاء القرية‪.‬‬ ‫لطيفة تبادلوها ً‬
‫ُ‬ ‫سريعا وتناول ً‬
‫أفطر ً‬
‫قدحا من مشروب ساخن لطيف مع "كومبو" الذي أسرع‬
‫ً‬
‫عشبا ما!‬ ‫نحو دكان العطارة‪ ،‬بينما انسل "كلودة" وصعد السهول ليجمع‬
‫هكذا أخبرهما قبل أن ينصرف‪ .‬جلس "أنس" أمام ال دار واألفكار تتناطح في‬
‫مرة أخرى لتلك الغابة‪ ،‬ال ّبد من استرداد‬ ‫رأسه‪ ،‬كان قد أخبرهما أنه سيعود ّ‬
‫كتابه‪ ،‬ما زال يخفي اسمه عن الجميع كما نصحته العجوز "ناردين"‪.‬‬
‫مشط "أنس" املكان بعينيه وجلس يتساءل‬ ‫كان البيت على أطراف القرية‪ّ ،‬‬
‫لتقدم هناك‪ ،‬ال أجهزة‪ ،‬ال سيارات‪ ،‬ال‬ ‫أي مظهر من مظاهر ا ّ‬‫في نفسه‪ ،‬ال يرى ّ‬
‫تلفاز! الصقور تنتقل إلى مدينته وعامله الذي يعيش فيه‪ ،‬وها هو هنا‪ ،‬فهل‬
‫انتقل أحد من أهل اململكة ً‬
‫أيضا إلى نفس املكان؟‬

‫‪158‬‬
‫وأين تقع تلك اململكة؟‬
‫ّ‬ ‫لعله ّ‬
‫حلم‪ ،‬رفرف هذا االحتمال في أعماقه لكنه لم يرح نفسه‪ ،‬بل زاد من‬
‫ّ‬
‫توتره‪.‬‬
‫وصل إلى مكان حيث تأكد أال أحد يراه وأخرج خنجره وحركه في الهواء‬
‫وقال وعلى وجهه استقرت نظرة تصميم‪:‬‬
‫‪ -‬الغابة‬
‫انبثقت الفجوة تتالعب في الهواء بألوانها املائجة في بعضها فوثب فيها‬
‫وانتقل للغابة في الحال‪ ،‬اقترب من شاطئ النهر الذي ينحدر مصبه جوار‬
‫الجبال البعيدة خارج الغابة ثم يقتحمها ويشقها حتى نهايتها‪ ،‬وبدأ يسير موازًيا‬
‫له‪ ،‬كان لون املاء األخضر يسرق نظراته‪ ،‬راقب انعكاس صورته في املاء‪ ،‬كانت‬
‫عدل من قميصه بينما كان يسير‪ ،‬فور‬ ‫املالبس الجديدة رغم غرابتها تليق به‪ّ ،‬‬
‫يشقها من بدايتها لنهايتها تغير‬ ‫أن خطت قدماه أ ض الغابة والتي كان النهر ّ‬
‫ر‬
‫تسمرت قدماه باألرض! انقطعت أنفاسه عندما‬ ‫انعكاس صورته في املاء فجأة! ّ‬
‫رأى انعكاس صورته في املاء‪ ،‬كانت الصورة لصقر أبيض! كان الصقر يسير‬
‫موازًيا لخطوات "أنس"‪ ،‬تراجع "أنس" للخلف فتراجع الصقر معه‪ ،‬عادت‬
‫صورته العادية عندما المست قدماه األرض خارج الغابة! وكان هناك تحت‬
‫قدميه خط واضح يميز أرض الغابة عن األرض خارجها‪.‬‬
‫يتقدم موازيا له!‬ ‫مرة أخرى‪ّ ،‬‬
‫وكأنه ّ‬ ‫عاد وخطا لألمام فظهرت صورة الصقر ّ‬
‫ّ‬
‫الصقر الجناح املقابل لها‪ ،‬لوح بذراعه اليسرى فرفرف‬ ‫رفع ذراعه اليمني فرفع ّ‬
‫ُ‬
‫الصقر بجناحه املقابل‪ ،‬تراجع للخلف حتى اختفت الصورة‪ ،‬ث ّم عاد ّ‬
‫وتقدم‬
‫قرب رأسه فبدأ انعكاس صورة وجه‬ ‫مرة أخرى‪ّ ،‬‬ ‫لألمام فظهر االنعكاس ّ‬
‫ّ‬
‫الصقر يزيد كلما اقترب "أنس" بوجهه من صفحة املاء‪ ...‬همس لنفسه بفزع‪:‬‬
‫ٌ‬
‫صقر أبيض!‬ ‫‪ -‬أنا صقر!‪...‬‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫محدثا نفسه‪:‬‬ ‫ث ّم تمتم‬
‫ً‬
‫محبوسا تحت املاء!‬ ‫‪ -‬ال ُيعقل أن يكون الصقر‬
‫ً‬
‫وخفيفا‪ ،‬ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـالعبـ ـت‬ ‫وحركها‪ ،‬كان املاء بار ًدا‬
‫مد يده في املاء وغمسها فيه ّ‬ ‫ّ‬

‫‪159‬‬
‫يحدق في‬‫تتغير‪ ،‬انحنى وهو ّ‬
‫لكنها لم ّ‬‫صورة الصقر على صفحة املاء واهتزت ّ‬
‫كفه املمتلئة باملاء وشرب منه‪،‬‬‫عيني ذاك الصقر األبيض الذي يطالعه ورفع ّ‬
‫كان مذاق املاء شديد العذوبة‪ ،‬ما زالت صورة الصقر األبيض تنعكس على‬
‫املاء‪ ،‬يشرب كما يشرب‪ ،‬يتحرك كما ّ‬
‫يتحرك‪.‬‬
‫طويل فأمسكه‬ ‫غصن‬ ‫تلفت حوله وبحث عن غصن شجرة‪ ،‬عثر على‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫وعاد لشاطئ النهر‪ ،‬كانت املياه تتدفق نحو الشمال‪ ،‬غرسه في املاء ليقيس‬
‫غصن‬ ‫تعجب وعاد ً‬
‫باحثا عن‬ ‫عمقه فابتلع النهر الغصن وسحبه بقوة من يده‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫املرة الثالثة وبينما يضع الغصن بحرص في مكان آخر‬ ‫آخر وتكرر األمر‪ ،‬في ّ‬
‫بقوة إلى‬
‫شديدة فسقط في النهر‪ ،‬سحبته تيارات املاء ٍ‬ ‫جذبه ش يء ما ّ‬
‫بقوة‬
‫ٍّ‬
‫أسفل وكان يقاوم بينما تشكلت حوله دوامة جعلته يغوص في األعماق‪ ،‬كأن‬
‫ضوءا ينير قاع النهر‪ ،‬ابقى عينيه مفتوحتين كعادته عند السباحة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫هناك‬
‫ّ‬
‫وألنه اعتاد على كتم أنفاسه لدقائق طويلة لم يشعر بضيق في التنفس‪ ،‬تلفت‬ ‫ّ‬
‫يحرك جسمه نحو الضوء‪،‬‬ ‫عما جذبه فلم يظهر له ش يء‪ ،‬بدأ ّ‬ ‫حوله ً‬
‫باحثا ّ‬
‫تحفها الطحالب‬ ‫فشيئا بدأ يقترب من مصدره‪ ،‬كانت هناك فتحة دائرية ّ‬ ‫ً‬ ‫شيئا‬‫ً‬
‫كل جانب‪ ،‬أدخل رأسه فيها فأذهله املنظر الرائع فدخل في الحال‬ ‫الخضراء من ّ‬
‫وبدأ يسبح لألعلى فاألعلى حتى رفع رأسه فإذا هو في مغارة غطت جدرانها‬
‫الطحالب الخضراء املضيئة‪ ،‬صعد على األحجار واقترب يتحسسها بيده‪ ،‬أراد‬
‫واستل الخنجر الذي كان يخفيه في حزام‬ ‫ّ‬ ‫فمد يده‬ ‫جزءا منها ّ‬
‫أن يقتطع ً‬
‫تباعا ّ‬
‫وكأنها متصلة‬ ‫بنطاله‪ ،‬بدأ ي قطع الطحالب فإذا بها تسقط بين يديه ً‬
‫برباط واحد! ليظهر خلفها كتابات غريبة على الجدران‪ ،‬بدأ يزيل بقاياها‬
‫واحدة تلو األخرى وانهمك في األمر حتى خال الجدار من الطحالب‪ ،‬تراجع‬
‫للخلف فإذا هي عبارات مكتوبة بلغة غريبة‪ ،‬كان بينها رموز مرسومة لم يدرك‬
‫ّ‬ ‫كنهها‪ ،‬تمنى لو ّأنه يستطيع قراءتها‪ّ ،‬‬
‫لكنه لم يتمكن‪.‬‬
‫ممر طويل‪ ،‬استند إلى الجدار ورفع رأسه ونظر ّ ٍ‬
‫بتأن‬ ‫على يمينه كان هناك ّ‬
‫وكأنه يدرس طوبوغرافية املكان‪ ،‬تناهى إلى سمعه أصوات عجيبة‪ ،‬وكأنها‬ ‫ّ‬
‫قصيرة وكانت‬
‫ٍ‬ ‫ملسافة‬
‫ٍ‬ ‫أحاديث مبهمة يتردد صداها في جوف املمر! سار فيه‬
‫الطحالب الخضراء على الجدران تنير الطريق‪ ،‬توقف حيث بدأت العتمة‬
‫بضوء يشع من حقيبته‪ ،‬أخرج الكيس الجلدي الذي وضعه‬ ‫ٍ‬ ‫تغش ى املمر‪ ،‬وإذا‬
‫الجد من حقيبته‪ّ ،‬إنها قطع الكريستال! والتي كانت قد تحولت لقطع من‬ ‫ّ‬

‫‪160‬‬
‫الفحم عندما داهمه اللصوص في الغابة‪ ،‬وها هي قد عادت لحالتها األولى تبرق‬
‫من جديد!‬
‫أمسك واحدة منها فازداد توهجها وأنارت املمر‪ ،‬سار حتى بدأ وهجها‬
‫يخفت بالتدريج فاستبدلها بأخرى‪ ،‬شعر أن ذاك املمر ال نهاية له‪ ،‬كانت هناك‬
‫فتحة علوية يتسلل منها ضوء الشمس‪ ،‬على الجدار كانت هناك بروزات‬
‫وكأنها َدرج ُي ستخدم للصعود تجاه تلك الفتحة‪،‬‬
‫حجرية على مسافات منتظمة ّ‬
‫ّ‬
‫تسلقها في الحال واقترب من الفتحة‪ ،‬كان غطاء الفتحة مصنوع من خشب‬
‫جدا‬ ‫غليظ وقو ّي‪ ،‬صنع بإتقان بحيث يعلو فوق سطح األرض بمساحة ضئيلة ً‬
‫ال تظهره بينما على جانبيه كانت هناك فتحة مستطيلة ورفيعة تتيح للناظر‬
‫مراقبة الطريق ورؤية من يقف ف وق رأسه بوضوح‪ ،‬رأى "أنس" فتاة جميلة‬
‫شخص‬ ‫يمينا ويسا ًرا ّ‬
‫وكأنها تنتظر وصول‬ ‫تتلفت ً‬
‫وتغني بصوت خفيض‪ّ ،‬‬ ‫تجلس ّ‬
‫ٍّ‬
‫فظن "أنس" ّأنها انتبهت لوجوده تحت قدميها‪ ،‬لكن‬
‫ما! وثبت من مكانها فجأة ّ‬
‫الشاب الذي اقترب من مكانها كان هو سبب وثوبها ً‬
‫فرحا بقدومه‪ ،‬قالت‬
‫ً‬
‫وشغفا‪:‬‬ ‫وعيناها تقطران ً‬
‫حبا‬
‫‪ -‬كنت أعلم ّأنك لن تصبر وستأتي في نفس املوعد؟ هل تخلصت من‬
‫الهدية؟ وهل أنت بخير؟‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫كفرس‬
‫ٍ‬ ‫أومأ برأسه ففهمت أنه قد تخلص منها‪ ،‬ثم تراجع وجلس يلهث‬
‫جريح وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أنا بخير‪ ،‬وددت فقط أن أخبرك بش يء هام‪.‬‬
‫ابتسمت ّبرقة وقالت بصوت ّ‬
‫متهدج‪:‬‬
‫‪ -‬خشيت ّأال أراك ّ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫مبتعدا وقال بصوت يشوبه القلق‪:‬‬ ‫سار‬
‫‪ -‬قد ال ترينني ّ‬
‫مرة أخرى بالفعل‪.‬‬
‫أغلقت فمه بيديها على الفور‪ ،‬ثم قالت ‪:‬‬
‫‪ -‬ال تقل هذا‪ ....‬أرجوك‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫عانقته بينما كان يقاومها ويبعد يديها عنه وفجأة! قطع حوارهما ٌ‬
‫نداء من‬
‫فتاة أخرى تغطي وجهها بطرف خمارها وتصيح في فزع‪:‬‬
‫‪ -‬موالتي‪ ..‬موالتي‪.‬‬
‫تتلفت في خوف‪ ،‬نظر "أنس"‬ ‫أسرع الشاب بالهروب وبقيت الفتاة مكانها ّ‬
‫وتمعن في وجهه‪ّ ،‬إنه‪"....‬كلودة"!! والذي كان قد‬ ‫تجاه الشاب قبل أن ينصرف ّ‬
‫بدأ يظن أنه مالك يسير على األرض!‬
‫معينا من املاء الساخن فوق‬ ‫كان "أنس" يشعر وكأن هناك من سكب ً‬
‫رأسه‪ ،‬كانت دماؤه تفور وتغلي‪ ،‬أراد أن يصرخ ويقفز فوق األرض فيحطم رأس‬
‫"كلودة"‪ ،‬اقتربت جارية من تلك الفتاة وأخبرتها أن تسرع إلى القصر‪ ،‬فاألميرة‬
‫َ‬
‫"نبرة" تطلبها في الحال!‪ .‬بعد انصرافهما حاول أنس أن يزيل الغطاء ليصعد‬
‫لكنه لم يتمكن من رفعه‪ ،‬عاد لسيره داخل ه ذا املمر العجيب‪.‬‬ ‫من الفتحة ّ‬
‫سدها بالحجارة‪ ،‬بدأ يزيلها‬ ‫وجد "أنس" فتحة ضيقة يبدو أن هناك من ّ‬
‫واحدة تلو اآلخرى بحرص شديد‪ ،‬عندما أزاح بعضها وأصبح من السهل أن‬
‫يدخل رأسه ليرى ما وراءها ألقى واحدة من قطع الكريستال فسقطت على‬
‫وتوهجت بقوة فأضاءت املكان‪ ،‬تملكته الدهشة عندما وجد غرفة‬ ‫ّ‬ ‫األرض‬
‫مستديرة تبدو كأنها نحتت في جوف صخرة عمالقة‪ ،‬أزال باقي األحجار‬ ‫ُ‬
‫تابوتا في صدر تلك الغرفة‪،‬‬ ‫الصغيرة ودلف الغرفة وقد تملكته الرهبة‪ ،‬وجد ً‬
‫وآخر عن يمينه‪ ،‬كان غطاء كل منهما يبدو كتحفة فنية رائعة‪ ،‬حيث وزعت‬
‫وطعمت بألوان زاهية‪ ،‬شذرات‬ ‫النقوش العجيبة عليهما بشكل هندس ي بديع ّ‬
‫حطم شيئاً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ذهبية كثيرة كانت منتشرة على األرض هنا وهناك‪ ،‬وكأن هناك من‬
‫ً‬
‫ما! فتح "أنس" التابوت يتوقع أن يجد مومياء‪ ،‬فأجفل عندم ـ ـ ـ ـ ـ ـا رأى هيك ـ ـ ـ ـ ـال‬
‫عظميا على صدره قالدة تشبه التي يرتديها! والتي جعلت "املجاهيم" يتركونه‬ ‫ً‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يمر بسالم‪ ،‬على وجه الهيكل العظمي كانت هناك بقايا قناع ذهبي محطم‪،‬‬
‫ّ‬
‫أدرك أن هناك من حاول نزع القناع أو ربما نزعه وأعاده إلى مكانه فتسبب في‬ ‫ّ‬
‫حجما‬‫فضل أال يلمسه واتجه إلى التابوت اآلخر‪ ،‬وكان أصغر ً‬ ‫تلك الفوض ى‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫عظميا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫آخرا بال قناع وبال قالدة! تلفت‬ ‫وكأن صاحبه أقصر طوال‪ ،‬فوجد هيكال‬
‫يمينا ويسا ًرا فلم يجد ما يلفت نظره‪ ،‬كانت الغرفة خالية وباردة ومهيبة‪،‬‬ ‫ً‬
‫لألول فأغلقه‪ ،‬وقبل أن يخرج من‬ ‫تشبه القبر! أغلق التابوت الثاني‪ ،‬وعاد ّ‬
‫‪162‬‬
‫وكأنه يسقط في بئر‬ ‫الغرفة انطفأ بريق قطعة الكريستال فجأة‪ ،‬وشعر "أنس" ّ‬
‫سحيق‪ ،‬ابتلعه الظالم‪ ،‬ودارت رأسه فغاب عن الوعي لفترة ال يعلم قدرها!‬
‫فتح عينيه فوجد نفسه في نفس الغرفة وقد غمرها النور‪ ،‬وأمامه يجلس رجل‬
‫مهيب الطلعة له سحنة مريحة ونظرة هادئة وابتسامة وديعة‪ ،‬وعلى يساره‬
‫ً‬ ‫قصير لم يرفع عينيه ّ‬
‫ٌ‬ ‫يجلس ر ٌ‬
‫عما أمامه‪ ،‬فقد كان مشغوال بالكتابة على‬ ‫جل‬
‫ّ‬
‫أوراق البردي باهتمام شديد‪ ،‬اعتدل "أنس" وحاول أن يتحدث لكن صوته لم‬
‫يخرج من حلقه‪ ،‬فع يده يتحسس عنقه ُث ّم فمه فالحظه الرجل وقال ً‬
‫شيئا‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ما بلغة لم يفهمها "أنس"‪ ،‬كان يرفع كفه وهو يحدثه‪ ،‬بدت تعبيرات وجهه‬
‫شيئا من كالمه‪ ،‬اعتدل الرجل في‬ ‫مساملة ومطمئنة‪ ،‬لكن "أنس" لم يفهم ً‬
‫ُ‬
‫جلسته وأقام ظهره‪ ،‬ث ّم نصب عنقه وأغمض عينيه ووضع كلتا يديه على‬
‫ساقيه‪ ،‬ثم ركز في عيني "أنس" وقال الكثير من الجمل‪ ،‬واحدة تلو األخرى‪،‬‬
‫ً ً‬ ‫ّ‬
‫أحيانا ثالثا‪ ،‬وبعضها كان يقولها وهو يشرحها بيديه‪ ،‬جملة منها قالها‬ ‫كررها‬
‫وأخيرا قال تلك الكمة التي قلبت حياة‬ ‫ً‬ ‫وهو ُيمسك بالقالدة على صدره‪،‬‬
‫أسا على عقب‪" ...‬إيكادولي"‪"...‬إيكادولي"‬‫"أنس" ر ً‬
‫كل ش يء‪ ،‬وأفاق "أنس" من تلك اإلغماءة التي‬ ‫كثيرا ُث ّم اختفى ّ‬
‫كررها ً‬
‫أصابته‪ ،‬فوجد التابوتين على حالهما‪ ،‬فخرج من الغرفة وقد حفظ الكلمات‪،‬‬
‫وكأنه طبع الكلمات بتلك اللغة الغريبة‬ ‫كان يكرر ما قاله الرجل بالتفصيل! ّ‬
‫ولقنها له! شعر بإرهاق ذهني كبير‪ ،‬فأخرج خنجره ّ‬
‫وحركه في‬ ‫على ذاكرته ّ‬
‫طبقات الهواء‪ ،‬قرر أن يعود من حيث أتى وبطريقة سريعة فسلك فجوة‬
‫فتحها بخنجره كما فعل من قبل وانتقل إلى سطح ماء النهر‪ ،‬جلس منهك‬
‫ً‬
‫مخلفا وراءه‬ ‫القوى‪ ،‬كان املاء ال يزال يقطر من جسده‪ ،‬سار ملسافة قصيرة‬
‫غدر ًانا صغيرة من املاء على األرض‪ ،‬وصل أخي ًرا إلى جذع شجرة مقطوعة‬
‫فجلس عليه يلتقط أنفاسه‪.‬‬
‫ال ّبد أن يعود لـ"كلودة" ويسأله عن تلك الفتاة! وملاذا يفعل هذا! كانت‬
‫تتحطم‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫ظنه‬ ‫تلك الصورة املثالية التي رسمها لـ"كلودة" في ذهنه قد بدأت‬
‫كل ش يء‪ ،‬ولكن يبدو ّأنه خبيث يظهر غير ما يبطن ويخدع‬ ‫ائعا في ّ‬ ‫ً‬
‫شابا ر ً‬
‫الناس‪.‬‬
‫ّ‬
‫انتشل نفسه من هذه األفكار‪،‬وبدأ يفكر في العبارات التي حفظها ويكررها‬

‫‪163‬‬
‫وهو ال يفهم كنهها‪ ،‬والكتابات األخرى التي رآها على الجدران في املغارة‪ ،‬خلع‬
‫قميصه ليعصره فأزال القالدة عن عنقه دون قصد منه فلمح ً‬
‫طيفا فأسرع‬
‫مرة أخرى‪ ،‬كان زعيم "املجاهيم" الذ ي انشقت عنه األرض و اقترب‬ ‫يرتديها ّ‬
‫ً‬
‫منه قائال‪:‬‬
‫ألنك‬‫غاضبا منك ّ‬
‫ً‬ ‫‪ -‬انتبه لقالدتك لتحمي نفسك‪ ،‬ما زال أحد رجالنا‬
‫أخرجت الفتاة وا لرضيعة من الغابة وألبستهما القالدة‪ ،‬وحافظ عليها‬
‫إكراما ّ‬
‫لجدك "أبادول"‬ ‫ً‬
‫الجد بإجالل وهو يضع يده على صدره‪ ،‬استدار‬ ‫ردد زعيم "املجاهيم" لقب ّ‬
‫لينصرف‪ ...‬فأسرع "أنس" ينادي عليه ويستمهله‪ ،‬سأله عن تلك الغرفة التي‬
‫عثر عليها أسفل النهر‪ ،‬والقالدة التي رآها على صدر الهيكل العظمي داخل‬
‫التابوت‪ ،‬وذاك الرجل الذي رآه فيما يشبه الغفوة السريعة‪ ،‬قال زعيم‬
‫"املجاهيم" بعد أن أنهى "أنس" كالمه‪:‬‬
‫عمه‬ ‫‪ -‬إنه تابوت األمير "أواوا"‪ ،‬كان هنا منذ وقت طويل ً‬
‫جدا‪ ،‬هارًبا من ّ‬
‫ومعه خادمه املخلص "سربل"‪ ،‬دلفا إليه من خالل فتحة في أرض حديقة‬
‫عمه‪ ،‬ما زالت الفتحة موجودة‪ ،‬وما زال القصر ً‬
‫قائما حتى اآلن‪ ،‬وما‬ ‫قصر ّ‬
‫زال الظلم يسكنه‪ ،‬تتجدد جدرانه ويتجدد معها الحاكم الظالم في مملكة‬
‫الجنوب‪ ،‬كن ت أجلس دون أن يراني األمير "أواوا" وأستمع إلى ما يمليه على‬
‫خادمه من حكم وقصص‪ ،‬ورأيته يكتب على جدران ذاك املمر تحت النهر‬
‫عبارات كثيرة‪.‬‬
‫ً‬
‫متعجبا‪:‬‬ ‫قاطعه "أنس"‬
‫‪ -‬وهل كنت تفهم لغته؟‬
‫ّ‬
‫وتحدثت معه‪ ،‬كان هذا قبل أن‬ ‫‪ -‬بالتأكيد! وقد أظهرت نفس ي له ولخادمه‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأخبرته عن قصة قومي وكان‬ ‫نسكن األرض هنا‪ ،‬نشأت بيننا صداقة‬
‫ً‬ ‫مرة من ّ‬‫ينصت لي‪ ،‬عدت في ّ‬
‫املرات ووجدته مقتوال هو وخادمة‪ ،‬فأحضرت‬ ‫ً‬
‫تابوتا له وآخر لخادمه‪ ،‬ودفنتهما كما كان يفعل قومهما‪ ،‬وألبسته قالدة‬
‫تخصني ً‬
‫إكراما له‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حسنا‪ ،‬سأخبرك ببعض العبارات التي سمعتها من شخص ما أظنه األمير‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫"أواوا"‪ ،‬رأيته فيما يشبه الرؤى عندما فقدت ال وعي داخل تلك الغرفة‬
‫أسفل النهر‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫وبدأ "أنس" ُيكرر ما سمعه بتلك اللغة التي ال يعرفها! وكان زعيم‬
‫"املجاهيم" ينصت إليه باهتمام ويترجم له‪ ،‬أخبره ّأن تلك هي لغة األمير‬
‫"أواوا"‪ ،‬اللغة النوبية األصيلة‪ ،‬كان األمير يطلب منه أن ينتبه ملا هو قادم‪،‬‬
‫الفخ‪ .‬وطلب منه أن يهتم‬ ‫فهناك من يطلبه ويطارده‪ ،‬وأن عليه أال يقع في ّ‬
‫باألرقام‪ ،‬ويسأل عنها ويتتبعها‪ ،‬فهي املفتاح لكي يصل إلى الحقيقة‪.‬‬
‫ّ‬
‫تذكر آخر كلمات األمير "أواوا"‪ ،‬كرر األمير عشر ّ‬ ‫ّ‬
‫مرات‬ ‫لم يتمكن "أنس" من‬
‫لكن "أنس" لم‬‫شيئا ما! ّ‬ ‫وكأنه يشرح ً‬ ‫كلمة "إيكادولي" وتبعها بعبا ات كثيرة ّ‬
‫ر‬
‫يتمكن من إعادة إلقائها على مسامع زعيم "املجاهيم" ‪ ،‬انتهى اللقاء واختفى‬
‫الزعيم بعد أن جدد تنبيهه لـ"أنس" بأال يخلع القالدة وهو يسير في الغابة‪ ،‬وعاد‬
‫"أنس" لسيره بجوار النهر‪ ،‬ما عادت صورة الصقر األبيض املنعكسة على‬
‫كل ش يء غريب حوله‪ّ ،‬‬
‫وكأنه يعيش على‬ ‫صفحة املاء تشغله‪ ،‬ألفها كما ألف ّ‬
‫أرض تلك اململكة منذ أمد بعيد‪.‬‬
‫يربت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هبت رياح دافئة فبدأت مالبسه تجف‪ ،‬وكأن الهواء ّ‬ ‫على غير العادة ّ‬
‫على كتفيه ليشجعه على البقاء‪ ،‬والصمود‪.‬‬
‫وفجأة‪......‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪165‬‬
‫(‪)16‬‬

‫الغابة‬
‫مر من أمامه سهم كاد يخترق صدغه‪ّ ،‬‬
‫تخشبت أطرافه‪ ،‬بينما خرجت منها‬ ‫ّ‬
‫صرخة عالية! وقفت أمامه مرتبكة وهي تضع يدها على فمها‪ ،‬هرولت نحوه‬
‫وقالت بصوت يحمل قد ًرا من االنفعال والدهشة‪:‬‬
‫‪ -‬آسفه‪ ،‬لم أنتبه ملرورك‪.‬‬
‫‪"َ -‬مرام"! ماذا تفعلين هنا؟‬
‫‪ -‬أتد ّرب على الرمي بالقوس‪.‬‬
‫رفعت قوسها واستدارت وأشارت بيدها ملا تحمله على ظهرها‪ ،‬فرأى كنانة‬
‫ّ‬
‫السهام وقد علقتها على ظهرها‪.‬‬
‫وكأنها قد تدحرجت ّ‬
‫للتو في‬ ‫اقترب "أنس" منها والحظ مالبسها املتسخة ّ‬
‫وكأنما أشفقت أن ينظرإليها وهي بتلك الهيئة املزرية‪،‬‬ ‫الوحل! كسرت طرفها ّ‬
‫فسكتت ولم تنبس ببنت شفة‪ ،‬كانت لديها نظرة شفافة كالبلور‪ ،‬تبدو تلك‬
‫يتحدث ليزيل عنها الحرج فثقل عليه ذلك‪،‬‬‫الفتاة على فطرتها نقية‪ ،‬حاول أن ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫يحس أن لديهما شيئا ما يربطهما‪ ،‬وكأنهما‬‫ّ‬ ‫من دون أن يعرفها من قبل‪ ..‬بدأ‬
‫ق ًّ ُ‬
‫يقتسمان الوجع نفسه‪ ،‬أطر مفكرا ثم قال‪:‬‬
‫أتيت بهذا القوس؟‬
‫‪ -‬من أين ِ‬
‫ّ‬
‫مدته نحوه بلطف فأمسكه وبدأ ّ‬
‫يتفحصه أمامها وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬من شاب يمتهن صناعة األقواس والسهام وأشياء أخرى‪ ،‬دكانه يقع ً‬
‫قريبا‬
‫من بيت ""أشريا"‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫ً‬
‫سريعا فالحظ آثار الوحل على وجنتها‪ ،‬الحت ابتسامة على شفتيه‪،‬‬ ‫رمقها‬
‫يبدو ّأنها ال تعلم أن وجهها ملطخ بتلك الطريقة‪ ،‬أخفى ابتسامته وسألها‬
‫ّ‬
‫مت ّ‬
‫صن ًعا االهتمام وهو يعيده إليها‪:‬‬
‫علمك الرمي ّ‬ ‫ّ‬
‫بالسهام؟‬ ‫‪ -‬ومن‬
‫‪" -‬الصهباء"‪.‬‬
‫‪ -‬ومن هي "الصهباء"؟‬
‫‪ -‬امرأة جلدة ّ‬
‫وقوية البنية‪ ،‬التقيت بها بعد أن وصلت إلى اململكة‪ ،‬تد ّرب‬
‫معظم فتيات مملكة الشمال على الرماية‪.‬‬
‫سألها باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬كم ثمن القوس؟‬
‫‪ -‬يختلف حسب حجمه‪.‬‬
‫‪ -‬ما اسم العملة التي يستخدمونها هنا؟‬
‫من الجلد يحتوي على بعض العمالت الفضية‪،‬‬ ‫ً‬
‫أخرجت من جيبها كيسا ُ‬
‫والذي كانت قد أعطته لها "أونتي" قبل أن تعتقها وأعطته له وهي تقول‬
‫بلطف‪:‬‬
‫التقيت باملغاتير ّأوًال َ‬
‫ألم ّد َك "الزاجل األزرق" باملال‪ ،‬فالحوراء ال تترك‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬لو‬
‫محارًبا يمض ي دون مال ً‬
‫أبدا‪.‬‬
‫‪ -‬أعطاني "كلودة" بعض املال بالفعل‪ ،‬وددت فقط أن أتأكد من اسمها‪،‬‬
‫علي االسم‪ ،‬احتفظي باملال‪ ،‬فأنا ال أحتاجه اآلن‪ً ،‬‬
‫شكرا لك يا‬ ‫فقد اختلط ّ‬
‫َ"مرام"‪.‬‬
‫َ"مرام"! لقد نطق باسمها!‪ ..‬وقعت تلك الكلمة منه موقعا ً‬
‫بليغا في نفسها‪،‬‬
‫سرت بكلمة قيلت لها من كلمات اإلطراء سرورها بنطقه‬ ‫فلم تذكر ّأنها ّ‬
‫اسمها‪"..‬مرام"! ّ‬
‫وكأنها لم تعرف اسمها من قبل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لحروف‬
‫أخرجت عملة من الكيس وقالت‪:‬‬
‫‪167‬‬
‫‪ِ -‬كشتان‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم رفعت العملة أمام عينيها وقالت وهي ُتحملق في الصورة املنقوشة عليها‪:‬‬
‫‪ -‬وتلك صورة ّأول محارب على أرض اململكة‪.‬‬
‫يركز على العملة‪ ،‬لوال ّأنها‬
‫وحدق في الصورة‪ ،‬كان كالهما ّ‬ ‫انحنى "أنس" ّ‬
‫حركت يدها فجأة فغرس شعاع عينيه دون قصد في عينيها فتالقت نظراتهما‬
‫مجددا كيوم أمس على غير موعد‪ ،‬عيناه الواثقتان وفوقهما حاجباه اللذان لو‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫زحفا قليال القترنا أصاباها باالرتباك‪ ،‬كانت تلك امل ّرة كافية لكي يالحظ فيها‬
‫خف وتغير لون‬ ‫لون عينيها الرائعتين‪ ،‬كما الحظ أن تورم عينها املصابة قد ّ‬
‫مرت بذاكرته صورتها وهي‬ ‫الهالة الزرقاء حولها للون آخر‪ ،‬أشاح بنظره عنها‪ّ ،‬‬
‫بزينتها في السوق عندما رآها ّأول مرة‪ ،‬تعجب كيف كان متضر ًرا عندما رآها‬
‫ً‬
‫استحسانا لها وهو يسترجع صورتها في‬ ‫مرة‪ ،‬وكيف اآلن يجد في نفسه‬ ‫ّأول ّ‬
‫مخيلته! استبعد الخواطر التي هجمت على رأسه متكالبة ّ‬
‫تزينها له! فالتفت‬
‫ملجرد قربها منه‪ ،‬هو غريب عنها فكيف‬ ‫وكأنه ينفض رأسه‪ ،‬بات يشعر بالخطر ّ‬ ‫ّ‬
‫يسير هكذا معها! ال ّبد أن يحفظها من نفسه‪.‬‬
‫ضيق وفيه ش ٌ‬‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫غمره شعو ٌر‬
‫ىء من الفرح! رمقها‬ ‫غريب فيه رهبة وفيه‬
‫ّ ُ‬
‫خفي ث ّم قال‪:‬‬ ‫بطرف‬
‫واجهت متاعب في معامالتك مع الناس هنا؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬هل‬
‫‪ -‬بالتأكيد‬
‫‪ -‬هل لديهم بعض املعتقدات الغريبة؟‬
‫‪ -‬مثل؟‬

‫‪ -‬أي ش يء! ًرالناس يختلفون‪ ،‬ومثال قرأت أنه من ً‬


‫الخطأ فيً إحدى البالد أن‬
‫ً‬
‫تهدي زهو ا لشخص بعدد ز جي ألنهم يعتبرونه فأال سيئا ومزعجا ألنها ال‬
‫تهدى بعدد زوجي إال في الجنازات فقط‪.‬‬
‫‪ -‬لكننا لسنا في تلك البالد وال في أي بلد تعرفها أنت من قبل‪.‬‬
‫كنا هناك‪ ...‬أو في أي مكان أستطيع فيه أن أخاطب أمي‬ ‫‪ -‬نعم‪ ،‬ليتنا ّ‬
‫بالهاتف‪ ،‬فقد اشتقت إليها‪.‬‬
‫‪168‬‬
‫‪ -‬أتكره اململكة هنا؟‬
‫‪ -‬ال أدري‪ ،‬أشعر بمزيج من املشاعر‪ ،‬لكنني ال ريب أشتاق ألهلي‪.‬‬
‫‪ -‬ربما لو انتقل أهلنا معنا لكانت أفضل من عاملنا‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬ربما‬
‫‪ -‬أتدر ّي يا "أنس"‪ ،‬بعض من التقيت بهم هنا يقولون إن قصص الحياة ال‬
‫تدون‪ ،‬يريدون أن تكون الحياة على هوى من ّيعيشها‪ ،‬لحظة‬ ‫بد أال ّ‬
‫بحياتك فقط وال تهتم باملاض ي وال تفكر في املستقبل‬ ‫بلحظة‪ ،‬استمتع ّ‬
‫واغنم من الحاضر لذاته فليس من طبع الليالي األمان‪.‬‬
‫سارت َ"مرام" تجاه سهمها والذي استقر في جذع شجرة قريبة منهما لتقوم‬
‫مرة أخرى‪ ،‬أسرع‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬انزلقت قدمها وكادت تسقط في الوحل ّ‬ ‫بنزع ه ّ‬
‫"أنس" وحاول أن يمسك يدها قبل أن تسقط‪ ،‬اضطربت وأبعدت يدها عن‬
‫وكأن نا ًرا ستلسعها فتراجعت إلى الوراء وعيناها الزائغتان ال تفارق وجهه‪.‬‬ ‫يده ّ‬
‫مرت لحظات قبل أن تستعيد توازنها‪ ،‬قال وهو يجول بنظراته في املكان‬ ‫ّ‬
‫متفحصا أرضه‪:‬‬‫ً‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬ملاذا تتمرنين في تلك املنطقة‪ ،‬وما حاجتك لهذا التمرين أصال؟ األرض‬
‫زلقة! كانت ُتمطر طوال الليل!‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تلون وجهها حياء منه‪ ،‬فقد جاءت تبحث عنه بعد أن أخبرها "كومبو"‬
‫عندما ذهبت تبحث عنه في دكان العطارة أنه سيقصد الغابة‪ ،‬فاشترت ً‬
‫قوسا‬
‫وسهاما وهرولت به نحو الغابة‪ ،‬كانت تخش ى أن يرحل ملكان ما وال تعثر عليه‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫سريعا‪ ،‬قالت بانفعال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وهي تود العودة لديارها‬ ‫ّ‬
‫علي لتصحبني؟ ألم نتفق على أن تعيدني‬ ‫تمر ّ‬
‫‪ -‬كيف أتيت للغابة دون أن ّ‬
‫اليوم إلى القصر؟‬
‫عجل ألمر ما‪ ،‬وكنت سأعود‬ ‫سأمر عليك‪ ،‬أتيت على ٍ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬كنت‬
‫ُ‬
‫ث ّم قال وعلى وجهه تلوح ابتسامة‪:‬‬
‫‪ -‬تذكرينني بأختي "حبيبة"‪ ،‬تشبهك ً‬
‫كثيرا‪ ،‬نفس العصبية ونفس الطريقة في‬
‫الهروب من السؤال‬
‫‪169‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫أي سؤال!!‬
‫‪ -‬ما حاجتك لهذا التمرين! ولم تلك املنطقة بالذات! أنت ضعيفة البنية‬
‫وال تحتاجين إلى قوس وسهم‪ ،‬حتى أنني حائر كيف أمضيت رحلتك مع‬
‫كتابك هنا!‬
‫قالت على استحياء‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ال أستطيع التوغل في الغابة وحدي أكثر من ذلك‪ ،‬هنا تحلق الصقور فوق‬
‫ّ‬
‫فكلما ّ‬
‫توغلت ّ‬
‫قل‬ ‫األشجار وأستأنس بوجودهم‪ّ ،‬أما داخل الغابة‬
‫األصدقاء‪ ،‬أخش ى أن يعود ّ‬
‫تجار العبيد ّ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫تجار العبيد واللصوص ّ‬
‫يمرون في الجهة الغربية من النهر‪ ،‬ال تخافي فنحن‬ ‫‪ّ -‬‬
‫في الجهة الشرقية‪.‬‬
‫وكأنه يسأل طفلة صغيرة‪:‬‬ ‫تنهد وسألها ّ‬ ‫ُث ّم ّ‬
‫‪ -‬ال ّبد ّأنك تشتاقين لبيتك يا َ"مرام"؟‬
‫ّ‬
‫ترقرقت دمعة في عينيها وقالت بتأثر‪:‬‬
‫‪ -‬نعم ‪...‬أوحشتني ُأ ّمي ً‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪ -‬ووالدك؟ وأشقاؤك؟‬
‫‪ -‬والدي توفاه هللا وأنا صغيرة‪ ،‬وليس لدي أشقاء‪.‬‬
‫‪ -‬آسف‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪.‬‬
‫أخرج خنجره وقال لها بجدية‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعي‪ ،‬ذاك الخنجر أستطيع أن أنتقل به من مكان آلخر‪ ،‬انتقلت به‬
‫لقصر "الحوراء"‪ ،‬كما انتقلت اليوم إلى الغابة بسرعة‪ ،‬سأفتح فجوة في‬
‫الهواء اآلن وأنقلك إلى القصر‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫حرك خنجره في الهواء وقال‬ ‫تحدق في وجهه باستغراب‪ّ ،‬‬ ‫كانت َ"مرام" ّ‬
‫"قصر الحوراء" ف انبثقت الفجوة املتلونة أمامهما‪ ،‬كانت األلوان تموج في‬
‫بعضها البعض‪ ،‬وقفت َ"مرام" مرتبكة أمامها‪ ،‬سألها "أنس"‪:‬‬
‫‪ -‬سأدخل قبلك‬
‫‪ -‬ال تتركني وحدي هنا!‬
‫‪ -‬ادخلي إذن قبلي‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪...‬ال‬
‫‪ -‬ال ّبد أن يدخل أحدنا قبل اآلخر‪ّ ،‬‬
‫هيا يا َ"مرام"‬
‫‪ -‬ال أستطيع دخول هذا الش يء! رّبما هو ش يء خاص بك‪ ،‬وأنا أخاف!‬
‫ً‬
‫هيا يا َ"مرام" سيختصر هذا الكثير من الوقت‪ ،‬بدال من أن نسير تلك‬ ‫‪ّ -‬‬
‫املسافة الكبيرة‬
‫‪ -‬األفضل أن نسير‪..‬لن أدخل هذا الش يء‪..‬مستحيل!‬
‫قالت جملتها األخيرة صارخة‪ ،‬كانت تبدو مرتبكة وخائفة للغاية‪ ،‬اختفت‬
‫ٌ‬
‫صمت ثقيل ‪،‬كالهما‬ ‫وكأنها كانت تنصت لحديثهما!‪ ،‬ران عليهما‬ ‫الفجوة فجأة ّ‬
‫لكنهما يأنسان ببعضهما‪ ،‬أراد "أنس" أن ُيخفف‬ ‫يتحرج من تواجده مع اآلخر‪ّ ،‬‬
‫يجرب القوس‪ ،‬تناوله منها وقال ماز ًحا‪:‬‬
‫عنها‪ ،‬طلب أن ّ‬
‫‪ -‬قوسك خفيف ً‬
‫جدا‪ ،‬يبدو كاللعبة!‬
‫ّ‬
‫مدت يدها إلى كنانة السهام وسحبت ً‬
‫سهما وناولته له قائلة‪:‬‬
‫جرب بنفسك‪.‬‬‫‪ّ -‬‬
‫خطوات ً‬
‫تقريبا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مرماك‪ ،‬الشجرة تبعد عنك عشر‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬أراك تقفين ً‬
‫قريبا من‬
‫‪ -‬ال أحسن الرمي إن ابتعدت أكثر من تلك املسافة‪.‬‬
‫رفع "أنس" أحد السهام أمام عينيه وقال‪:‬‬

‫‪171‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬اخبريني يا َ"مرام" ما معنى تلك األسماء؟‪"..‬كلودة"‪" ،‬أونتي"‪" ،‬أشريا"‪" ،‬نبرة"!‬
‫ارتبكت َ"مرام" عند سماع االسم األخير وسألته بارتياب‪:‬‬
‫َ‬
‫‪" -‬نبرة"! أين سمعت هذا االسم؟‬
‫ً‬
‫مدعيا‬ ‫فضل أال يخبرها عن النهر وما حدث فيه وقال‬ ‫هز "أنس" كتفيه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الال مباالة‪:‬‬
‫‪ -‬سمعت أحدهم يذكر االسم أمامي‪.‬‬
‫دارت بعينيها في املكان وقالت وما زالت عالمات القلق مرسومة على وجهها‪:‬‬
‫"كلودة" أي املولود بعد الشهر السابع وهو من أسماء الذكور الشائعة هنا‪،‬‬ ‫‪ُ -‬‬
‫و"أونتي" تعني القمر ليلة البدر‪" ،‬أشريا" تعني الفتاة السمحة والحلوة‪ّ ،‬أما‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫"نبرة" فتعني‪ ...‬املرأة الجميلة‪ ،‬وكلها أسماء نوبية قديمة‪.‬‬
‫حرك"أنس" كتفيه وقال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬األشخاص هنا غرباء!‪ ،‬أشعر أنهم من بالد مختلفة‪ ،‬يختلفون في املالمح‬
‫واملالبس! حتى البيوت تختلف!‬
‫‪ -‬كل قرية هنا تختلف ً‬
‫تماما عن األخرى‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك األشخاص‪ ...‬أليس كذلك يا "مرام"؟‬
‫رفعت "مرام" حاجبيها وقالت‪:‬‬
‫ومرت سنون طويلة‪ ،‬ورحلوا من مكان ملكان‪..‬‬ ‫‪ -‬ربما اختلطت األنساب‪ّ ،‬‬
‫نحن نعيش اآلن في مكان عجيب‪ ،‬هناك العديد من القرى حولنا‪ ،‬الغابة‬
‫ً‬ ‫تعتبر ً‬
‫شيئا منفصال يهابون االقتراب منها‪ ،‬لكن ما يحيرني هو تلك القرى‪.‬‬
‫‪ -‬ما بها!‬
‫قالت َ"مرام"‪:‬‬
‫‪ -‬كل قرية تختلف عن األخرى‪ ،‬لو دخلتها وتعاملت من سكانها ستشعر‬
‫ّ‬
‫وكأنك قد انفصلت عن القرى األخرى وما فيها‪ ،‬حاول ّ‬
‫وجرب بنفسك‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫أنت من قبل؟‬ ‫‪ -‬هل ّ‬
‫جربت ِ‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫أيت؟‬
‫‪ -‬وماذا ر ِ‬
‫لك ّ‬
‫‪...‬لكنها تجربة تستحق‪ ،‬وتبقى مملكة الشمال‬ ‫‪ -‬ال أدري كيف أصف َ‬
‫حيث قصر "الحوراء" أحبهم إلى قلبي‪.‬‬
‫‪ -‬وملاذا؟‬
‫‪ -‬ألنني هناك‪ ..‬أشعر باألمان يا "أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬باملناسبة‪ ،‬هل تعلمين يا َ"مرام" أين نحن اآلن؟‪ ،‬أين موقع تلك اململكة‬
‫على الخريطة؟‬
‫جر ُونكسر‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬ال أعرف يا "أنس"‪ ...‬أشعر أحيانا أننا بين السطور‪ُ ،‬نرفع ُون ّ‬
‫من أجل املعاني‪.‬‬
‫ُ‬
‫ابتسم بسخرية ث ّم قال‪:‬‬
‫مملكة ال ّ‬
‫محل لها من اإلعراب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪ -‬إذن نحن في‬
‫وضع "أنس" السهم في كبد القوس ورفع ذراعه ٍ‬
‫بثبات‪،‬باعد بين ساقيه‬
‫بقوة ثم كتم‬‫وأغلق إحدى عينيه ور ّكز األخرى على الهدف‪ ،‬جذب السهم ّ‬
‫أنفاسه وتركه فجأة ليستقر في وسط بقعة سوداء كانت على جذع شجرة‬
‫بلوط اتخذتها َ"مرام" مرمى لسهامها‪ ،‬ابتسمت عندما رأت السهم وقد رشق‬
‫فيها وقالت بإعجاب‪:‬‬
‫جدا يا "أنس"‪.‬‬ ‫‪ -‬يبدو ّأنك ٌ‬
‫ماهر ً‬

‫‪ -‬املسافة قصيرة‪ ،‬ال ّبد أن أتد ّرب على الرمي من مسافات أطول‪ ،‬ولكنني ال‬
‫أظن أنني سأحتاج للقوس والسهام هنا! أليس كذلك؟‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬ربما تحتاجها‪ ،‬حاول أن تتعلم ّ‬
‫كل ش ىء في تلك اململكة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثم تفحصت مالبسه بنظرة سريعة‪ ،‬كانت أطراف سرواله ما زالت مبتلة‪،‬‬
‫سألته بفضول‪:‬‬
‫‪173‬‬
‫‪ -‬هل سقطت في املاء؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬أين؟‬
‫‪ -‬النهر األخضر‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا قلت؟‬
‫‪ -‬النهر األخضر‪ ...‬ذاك النهر الذي يقطع الغابة‪ ،‬تعرفينه بالتأكيد!‬
‫‪ -‬اتبعني أرجوك‪.‬‬
‫ّ‬
‫متحفزة وزاولتها حالة‬ ‫سارت َ"مرام" بخطوات سريعة نحو النهر‪ ،‬بدت‬
‫ّ‬
‫نشاط فجائي‪ ،‬تخطت األشجار الكثيفة التي تفصل املكان الذي كانا يقفان‬
‫ّ‬
‫فيه عن شاطئ النهر ووقفت على حافته دون أن تلتفت لـ"أنس" الذي تبعها‬
‫حتى وقف بجانبها ونظر كالهما النعكاس صورته في املاء‪ ،‬قالت بصوت خافت‪:‬‬
‫‪ -‬أرأيت!‬
‫حملق في صفحة ماء النهر وقال بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬نعم رأيت‪ ،‬صقور بيضاء‪.‬‬
‫‪ -‬هكذا تظهر صورنا في املاء‪ ،‬صقور بيضاء‪ ،‬نحن املحاربون فقط من تظهر‬
‫صورهم على س طح ماء هذا النهر بتلك الطريقة‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا يا َ"مرام"؟‬
‫‪ -‬ال أدري! أخبرتني "الحوراء" ً‬
‫أيضا أننا نستطيع التحليق والطيران داخل‬
‫نطاق الغابة وحول الجبل األحمر‪ ،‬وإن حاولنا وتدربنا سنتقن األمر‪،‬‬
‫مرة على درج القصر‬ ‫لكنني لم أجرؤ ً‬
‫يوما على تلك الفعلة‪ ،‬حاولت القفز ّ‬
‫وحلقت لل حظات فراودني شعور بالخوف الرهيب‪ ،‬حاول أن ّ‬ ‫ّ‬
‫تجرب يا‬
‫"أنس"‬
‫‪ -‬ال أظنني سأفعلها! ولن أجربها!‬
‫‪174‬‬
‫ُ‬
‫فقدت الكثير‬ ‫تجرب كل ميزة تعرفها عن نفسك كمحارب‪ ،‬فلقد‬‫‪ -‬حاول أن ّ‬
‫من مميزاتي التي اكتشفت بعضها وال أدري السبب!‬
‫عاد "أنس" يحملق في صورة الصقر املنعكسة على سطح ماء النهر وسألها‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا عن "الحوراء" و "الزاجل األزرق" هل تظهر صورهما ً‬
‫أيضا هكذا؟‬
‫‪ -‬أتمزح! "الحوراء" وعشيرتها!! ال يجرؤ أحد منهم على دخول الغابة يا‬
‫"أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬يفقدون أبصارهم‪ ،‬ال يرون إال الظالم‪ ،‬ور ّبما يفقدون حياتهم‪ ،‬تلك الغابة‬
‫قد تبتلع كل أهل اململكة في لحظة ‪.‬‬
‫أنت هنا إذن! أال تخافين؟‬
‫‪ -‬ولم ِ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬كنت أخاف‪ ،‬وأرتجف‪ ،‬لم أجرؤ على دخول الغابة إال بعد أن شجعتني‬
‫"قطرة الدمع"‪.‬‬
‫‪ -‬ومن هي؟‬
‫‪ -‬أنثى الصقر التي أحضرتني إلى هنا‪ ،‬ألم ترها؟ ّإنها زوجة "الرمادي"‪.‬‬
‫واد على أطراف الغابة بالقرب من الجبل األحمر جهة‬ ‫أشارت َ"مرام" إلى ٍ‬
‫كوة بالجبل‪،‬‬ ‫الشرق‪ ،‬أخبرته أ ّن "الرمادي" و "قطرة الدمع" يعيشان هناك في ّ‬
‫ً‬
‫كانت املسافة طويلة‪ ،‬ترددا قليال قبل أن يقررا السير إلى هناك‪ ،‬فقد رفضت‬
‫َ"مرام" استخدام الخنجر لالنتقال إلى هناك‪ ،‬ما زالت تخاف‪ ،‬كانت تأمل أن‬
‫تحملها "قطرة الدمع" وتعيدها في الحال إلى ديارها‪ .‬بعد نحو ساعة من السير‬
‫ّ‬
‫وصال إلى هناك‪ .‬حلق "الرمادي" فوقهما وشاركته "قطرة الدمع" واقترب‬
‫ّ‬
‫التحية‪ ،‬قال "الرمادي"‪:‬‬ ‫كالهما من َ"مرام" و "أنس" ووقفا أمامهما يؤديان‬
‫حمدا هلل ّأنك عثرت على َ"مرام"‪.‬‬
‫‪ -‬مرحبا "أنس" ‪ ،‬أتيت في الوقت املناسب‪ً ،‬‬

‫‪ -‬مرحبا يا صديقي‪.‬‬
‫قالت َ"مرام" ّ‬
‫بتلهف‪:‬‬
‫‪175‬‬
‫أنت؟ وكيف هو جرحك؟‬
‫‪" -‬قطرة الدمع" كيف ِ‬
‫أجابتها "قطرة الدمع" وهي ّ‬
‫تحرك جناحها‪:‬‬
‫‪ -‬بخير كما ترين‬
‫‪ -‬هل ستعيدينني اآلن إلى بيتي؟‬
‫ّ‬
‫نكست "قطرة الدمع" رأسها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ليس قبل أن يصدر "سامي كول" األمر املباشر لي يا َ"مرام"‪ ،‬تعلمين أن‬
‫األمر ليس بيدي‪.‬‬
‫‪ -‬إذن احمليني إلى القصر‬
‫‪ -‬لن أستطيع‬
‫‪ -‬حتى القصر!‪ ...‬ملاذا!‬
‫ّ‬
‫‪ -‬هذا أمر من الحكيم "سامي كول"‪ ،‬لن أحملك إال بتوجيه مباشر منه‬
‫بدا اإلحباط الشديد على َ"مرام"‪ ،‬والحظ "أنس" ما أصابها‪ ،‬كان يرزح‬
‫تحت موجة عنيفة من الشعور بالذنب تجاهها‪ ،‬أراد "الرمادي" أن يخفف‬
‫عنهما فقال موجها كالمه لـ"أنس"‪:‬‬
‫‪ -‬شاركانا احتفالنا بالزواج‪.‬‬
‫ّ‬
‫لم يترك له "الرمادي" فرصة سؤاله! بل حلق في الحال‪ ،‬التفت "أنس" نحو‬
‫َ"مرام" وسألها ّ‬
‫بتعجب‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تخبريني أن "قطرة الدمع" زوجته؟‬
‫‪ -‬بلى أخبرتك‪ ،‬وهي كذلك بالفعل‪ ،‬ولكننا نشهد احتفاال بطريقة ما‪ ،‬يعود‬
‫الزوجان إلى نفس املوقع الذي عششا فيه كل عام‪ ،‬حيث يؤديان عرضا‬
‫ملراسم الزواج ُليجددا الروابط فيما بينهما‪ ،‬وعندما يتودد الذكر إلى أنثاه‬
‫يقوم بتقديم طريدة لها‪ ،‬ويتضمن هذا العرض عددا من الحركات‬
‫جوية حادة‪ ،‬وكي تستطيع‬ ‫البهلوانية واللولبية في الجو‪ ،‬باإلضافة لغطسات ّ‬

‫‪176‬‬
‫األنثى أن تتلقى الطريدة فإنها تطير بطريقة عكسية وتلتقطها بمخالبها من‬
‫قوائم الذكر‪.‬‬
‫وقف "أنس" يراقب الحركات البهلوانية التي يقوم بها "الرمادي" حتى ينال‬
‫رضاء زوجته‪ ،‬وتابعها وهي تشاركه التحليق برشاقة‪ ،‬علت وجهه ابتسامة‬
‫واسعة‪ ،‬سأل َ"مرام" عن سبب تسميتها بـ "قطرة الدمع" فقالت له‪:‬‬
‫‪ -‬ألنها من أسرع الطيور على أرض اململكة ‪ ،‬تبدو في هيئتها كقطرة دمع وهي‬
‫جوية ّ‬
‫حادة‬ ‫لعلو شاهق ومن ثم تقوم بغطسة ّ‬ ‫تهبط على فريستها‪ ،‬تطير ّ‬
‫وسريعة لتضرب بعدها أحد جناحي طريدتها كي ال تؤذي نفسها عند‬
‫االصطدام‪.‬‬
‫ّ‬
‫يتجوالن في الغابة‪ ،‬بدأت بطن "أنس" تقرقر من الجوع‬ ‫مر الوقت وهما‬‫ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وكذلك كانت "مرام"‪ ،‬مالت الشمس للغروب واكتست الدنيا حلة ذهبية‬
‫بديعة‪ّ .‬‬
‫ودعا "الرمادي" و"قطرة الدمع" وبدأت رحلة عودتهما‪ ،‬سألته َ"مرام"‬
‫باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬ما خطوتنا التالية؟ هل سنكمل الطريق إلى القصر الحوراء؟‬
‫‪ -‬نستطيع أن ننتقل إلى هناك في لحظة! فلنستخدم الخنجر وننتقل من‬
‫خالل فجوة‬
‫‪ -‬ال‪...‬ال‬
‫سريعا يا َ"مرام" ال تخافي‬
‫ً‬ ‫‪ -‬سأعيدك‬
‫‪ -‬ماذا لو خرجت منها إلى عالم ثالث ال أعرف كنهه ولم أجدك هناك! يكفي‬
‫ما مررت به‪ ..‬يكفي‪ ،‬سنسير على األقدام‬
‫بدا عليه الضيق‪ ،‬فهي ّ‬
‫تصعب األمور‪:‬‬
‫حسنا‪ ،‬فلنعد ألننا أقرب اآلن إلى القرية منها للقصر‪ ،‬ونعود ً‬
‫غدا ومعنا‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ر‬
‫بعض الطعام‪ ،‬و بما نستعين بحصانين‪ ،‬أود أن أعيدك سريعا حتى أعود‬
‫للبحث عن الكتاب‪ ،‬ال ّبد أن أحصل عليه بأسرع وقت‪ ،‬حاولت الوصول‬
‫إلى املكتبة العظمي كما أخبرتك‪ ،‬لكنني لم أصل إليها‪ ،‬ولست على يقين من‬
‫‪177‬‬
‫وقوعه في يد امللك ِ"كمشاق"‪ ،‬رّبما ما زال مع اللصوص‪ ،‬ألم تسمعي عن‬
‫وأنت هناك؟‬
‫ذاك األمر ِ‬
‫‪ -‬إن أردت أن تسأل فاسأل "كلودة"‪ ،‬فله أصدقاء هناك بالقصر‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا!! "كلودة"!!‬
‫أدرك "أنس" أن املكان الذي رأى فيه كلودة مع فتاة من خالل تلك‬
‫الفتحة في املمر قرب النهر األخضر تقع في بالط القصر وما حوله‪ ،‬كان ّ‬
‫يحدق‬
‫في الفراغ بينما أكملت َ"مرام" قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬اطلب منه أن يسأل أصدقاءه هناك عن الكتاب‪ ،‬باملناسبة‪ ،‬الحظت أنك‬
‫تتجنب الحديث عن اسم الكتاب أمامه‪ّ ،‬‬
‫وكأنك تخش ى أن يعرف عنوانه‪.‬‬
‫حذرتني السيدة "ناردين" من أن أخبر ً‬ ‫ّ‬
‫أحدا بعنوان‬ ‫‪ -‬بالفعل هذا ما أفعله‪،‬‬
‫الكتاب‪ ،‬إال من أثق به‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم أومأ إليها فشابت نفسها السعادة أنه يثق بها‪ ،‬وقد أخبرها باسم كتابه‬
‫ً ّ‬
‫في بيت "كلودة" من قبل‪ ،‬أردف قائال بتأثر‪:‬‬
‫‪ -‬هل أخبرتك "أشريا" عن الرضيعة التي عثرنا عليها في الغابة؟‬
‫‪ -‬ال‬
‫‪ -‬هال سألتها عنها وعن حالها‪ ،‬وكيف ترعاها زوجة الخباز؟ يبدو أنها و أمها‬
‫يتوليان رعايتها‪ ،‬فلم أر "كلودة" يحضرها إلى البيت‪ ،‬وكنت قد سمعته يخبر‬
‫زوجة الخباز التي ترضعها ّأنه سيعود كل ليلة ليحضرها لتبيت معه‪ّ ،‬‬
‫لكنه‬
‫لم يفعل!‬
‫ً‬
‫حسنا سأفعل‪ ،‬لكنني لم أالحظ وجود رضيعة بالبيت!‬ ‫‪ -‬يا مسكينة!‪...‬‬
‫‪ -‬سمعت أ ّن "أشريا" ترفض الزواج من "كلودة" وهذا ُيحزنه‪.‬‬
‫رفعت َ"مرام" حاجبيها في استغراب وقالت‪:‬‬
‫ً ُ ّ‬
‫وقريبا ستزف إليه!‬ ‫‪ -‬كيف هذا! لقد طلبها أمس للزواج بالفعل ووافقت‪،‬‬

‫‪178‬‬
‫ً‬
‫غضبا‪ ،‬يبدو أن "كلودة" يتالعب بتلك الفتاة الرقيقة‪،‬‬ ‫استشاط "أنس"‬
‫يخدعها ويطلبها للزواج ويتصنع الهوان والضعف ويخونها مع غيرها! وفوق‬
‫هذا يظهر ّ‬
‫التنسك ويكثر التسبيح وهو‪!!....‬‬
‫أكمال سيرهما صامتين‪ ،‬سيسأله بالفعل عن الكتاب‪ ،‬وإن كان قد وصل‬
‫للقصر أم ال‪ ،‬وسيسأله عن أشياء أخرى‪.‬‬
‫عادت َ"مرام" لدار "أشريا" وسألتها فور أن وصلت عن الطفلة الرضيعة‬
‫شيئا!‪ ،‬وأنكرت أمرها‬‫لكنها أخبرتها أنها ال تعرف عنها ً‬
‫كما أوصاها "أنس"‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫تماما!‬
‫ّ‬
‫ظلت َ"مرام" تثرثر معها وكأنها طفلة صغيرة وقد رجعت للتو من يومها ّ‬ ‫ّ‬
‫األول في‬
‫املدرسة‪ ،‬كانت "أشريا" تراقبها ُوتنصت لحديثها بفضو ٍل‪ ،‬أدركت ّأن َ"مرام"‬
‫الحب واإلعجاب لـ "أنس"‪ ،‬عرفت ذلك من نظرات عينيها املنكسرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُتضمر‬
‫وفلتات حديثها ونشاطها عند كالمهما عنه‪.‬‬
‫عندما أرخى الليل عباءته املرصعة بالنجوم على سماء القرية كانت َ"مرام"‬
‫تجلس ساهمة في غرفة "أشريا" تلوم نفسها على تلك املشاعر التي بدأت تحاك‬
‫ألمها أن‬‫في نفسها تجاه "أنس"‪ ،‬كيف تعجب به! وذاك يتعارض مع وعدها ّ‬
‫تحافظ على قلبها‪ ،‬أدركت اليوم فقط أن ال سلطان لها على قلبها‪ ،‬لكنها بال‬
‫غدا ستحاول أن تصلح ما‬ ‫شك تملك أفعالها الظاهرة‪ .‬عندما تسير معه ً‬ ‫ّ‬
‫بنفسها من أمره‪ ،‬وذاك ما عجزت عن إصالحه طوال اليوم وهي معه‪،‬‬
‫ربما‪..‬لن تتكلم معه طوال الطريق! ولن تنظر إلى وجهه! أو ربما تطلب منه أن‬
‫يستخدم الخنجر وتنتقل فو ًرا إلى القصر ّثم إلى بيتها‪ ،‬لكنها تخاف هذه‬
‫تحرك في الهواء! كانت تشعر ّأن قلبها يقفز من بين ضلوعها‬ ‫الفجوات التي ّ‬
‫ّ‬
‫عندما تفكر في "أنس"‪ ،‬جلست تتآكل في صمت‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫‪ -‬ملاذا لم ّ‬
‫تمر علي في الدكان؟‬
‫سأله "كلودة" عندما رآه يجلس أمام البيت وعلى وجهه تتمش ى عالم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات‬

‫‪179‬‬
‫الضيق والغضب‪ ،‬لم يجبه "أنس" ّ‬
‫فظن "كلودة" أنه متعب أو محبط ألنه لم‬
‫يعثر على كتابه بعد‪ ،‬قال يخفف عنه‪:‬‬
‫‪ -‬ال تحزن يا صديقي‪.‬‬
‫رشقه "أنس" بنظرة جعلته يرتبك‪ ،‬تراجع خطوة وسأله باستنكار‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك؟ وملاذا تنظر ّ‬
‫إلي هكذا!‬
‫‪ -‬ما ذنب "أشريا"؟ أتخدعها وتزعم ّأنك تريد الزواج منها وأنت تعشق‬
‫غيرها؟‬
‫‪ -‬إذن أخبرتك َ"مرام"! كنت أعلم ّأنها لن تسترنا‪.‬‬
‫‪ -‬تستركما!!!‬
‫‪ -‬أخطأت عندما طلبت الستر من بشر! واآلن أنا أطلبه من هللا‪.‬‬
‫عجبا للناس يطلبون الستر وهم عاكفون على املعصية! أنت تخش ى الناس‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫وال تخش ى هللا!‬
‫‪ -‬وهللا أخشاه‪ ..‬وهللا أخشاه‪ ...‬لكنني ضعفت! واآلن تبت‪.‬‬
‫‪ -‬كاذب!! لم تخبرني َ"مرام" أي ش يء‪ ،‬رأيتك بعيني وأنت معها اليوم‪ ،‬رأيت‬
‫سكا ً‬ ‫ً‬
‫عابدا!‬ ‫بنفس ي ولم يخبرني أحد‪ ،‬أين ذكرك وتسبيحك؟ ظننتك نا‬
‫‪ -‬ما رأيته اليوم كان آخر لقاء لنا!‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أنت كذاب! كنت تراودها عن نفسها وتراودك عن نفسك‬
‫حقا ورأيت‪ ،‬ألم تلحظ‬ ‫شيئا‪ ،‬إن كنت هناك ً‬
‫‪" -‬أنس"‪..‬أ جوك! أنت ال تفهم ً‬
‫ر‬
‫ّأنها هي التي كانت تلقي بنفسها علي اليوم وكنت أدفعها! لقد أخبرتها أنها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لن تراني ّ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫ثم أردف وقد تظللت عيناه بالدموع‪:‬‬
‫ُ‬ ‫‪" -‬أنس"‪ً ...‬‬
‫فقا بي‪ ،‬رفقا بمن وقع في املعصية ث ّم عاد‪ ،‬أنا اآلن أعرف قيمة‬‫ر‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫التوبة أكثر منك‪ ،‬ألنني وقعت في املعصية بعد أن استقام حالي ثم ندمت‬
‫‪180‬‬
‫وعدت‪ ،‬فتلك السقطة جعلتني على يقين أن ال طريق الحق هو طريق‬
‫التوبة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ث ّم أجهش بالبكاء‪ ،‬فلزم "أنس" الصمت‪ ،‬ثم قال بعد أن هدأ بكاء "كلودة"‪:‬‬
‫‪ -‬الفضيلة التي فيك ال ّبد أن تنضح على أفعالك‪ ،‬يراها الناس كما يرون‬
‫ظاهر ثوبك‪ ،‬كنت تظهر الصالح وأنت تخفي املعصية‪.‬‬
‫‪ -‬ألنني غفلت‪ ،‬طلبت الستر فيها ونسيت أن أطلب من هللا الستر عنها‪ ..‬أن‬
‫ُتحجب عني املعصية وأن يحول هللا بيني وبينها‪ ،‬وهللا لقد تبت وندمت‪،‬‬
‫ساعدني أرجوك‪.‬‬
‫ساكنا ّ‬
‫وكأن على رأسه الطير‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صامتا‬ ‫وعاد لبكائه‪ ،‬وجلس "أنس" بجواره‬
‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫يتنصت على حديثهما منذ‬ ‫أطل "كومبو" من خلف الباب على استحياء‪ ،‬كان‬
‫ّ‬
‫البداية‪ ،‬سار وهو منكس الرأس تجاه صديق طفولته "كلودة" وجلس بعد أن‬
‫أحاط كتفه بذراعه‪ ،‬ثم رفع عيناه تجاه "أنس" وقال بخفوت‪:‬‬
‫القصة منذ بدايتها‪ً ..‬‬
‫فقا به و ال تعن‬ ‫ّ‬ ‫جي ًدا وأعرف‬
‫‪ -‬لقد تاب‪ ..‬أنا أعرفه ّ‬
‫ر‬
‫الشيطان عليه!‬
‫ً‬
‫مصفرا وحول عينيه‬ ‫تفحص "أنس" وجه "كلوده"‪ ،‬كان وجهه املتعب‬ ‫ّ‬
‫جليا ّأنه يعاني‪ ،‬بعد ردح من الزمن قال‬ ‫محفور بهالتين من السواد‪ ،‬بدا ًّ‬
‫بهدوء‪:‬‬
‫ّ‬
‫وتتمزق هيبتك‪.‬‬ ‫ستهدر كرامتك على األرض‬ ‫‪ -‬لو علمت "أشريا" ُ‬
‫انسحقت روح "كلودة" وقال بخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬لن يخذلني ربي‪ ...‬حاشاه أن يرد ً‬
‫قلبا باليقين ناجاه‪.‬‬
‫ُ‬
‫كانت ليلة عصيبة على "كلودة"‪ ،‬انصرف "كومبو" وهو يطارد بومة بيضاء‬
‫كانت تطوف بالبيت وتحلق فوق شجرة قريبة‪ ،‬قذفها بالحجارة فابتعدت في‬
‫ظل "كلودة" يبكي طوال الليل حتى أن "أنس" أشفق عليه ور ّق لحاله‪.‬‬‫الحال‪ّ ،‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪181‬‬
‫ّ‬
‫تستعد للنوم‪ ،‬التفتت‬ ‫كانت َ"مرام" ّ‬
‫تمشط شعرها بينما كانت "أشريا"‬
‫َ"مرام" إليها وسألتها بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ترفضين الزواج من "كلودة"؟‬
‫قليال ُث ّم اقتربت من َ"مرام" وجلست بجوارها ث ّم ّ‬
‫تأبطت ذراعها‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫شردت "أشريا"‬
‫بلطف وهمست‪:‬‬
‫حبه لكنني أخاف!‬ ‫‪ -‬أنا ُأ ّ‬

‫‪ -‬من ماذا؟‬
‫ُ‬
‫‪ -‬كما ترين‪ ،‬لست ببارعة الجمال كما أنني ال أحسن ما تفعله الفتيات في‬
‫ُأنفسهن‪ ،‬حتى أنني ال أجيد الحديث مثلهن‪ ،‬ال أظنني سأعجبه‪ ،‬أخش ى أال‬
‫أرضيه إن تزوجته‪ّ ،‬‬
‫فربما يراني كالطعام الخالي من امللح والتوابل‪.‬‬
‫ُ‬
‫صمتت َ"مرام"‪ ،‬كانت صورة "أونتي" وهي تتحدث عن "كلودة" ال تفارق‬
‫شيئا‪ ،‬فها هي اآلن تجلس بجوار فتاة‬ ‫ودت لو لم تعرف عن عالقتهما ً‬ ‫ذهنها‪ّ ،‬‬
‫ُت ّ‬
‫حبه لكنها ال تعرف أنه خائن‪ ،‬فاجأتها "أشريا" وهي تهمس‪:‬‬
‫حب فتاة بالفعل‪ ،‬سمعت الفتيات يهمسن بهذا‪.‬‬ ‫‪ -‬رّبما يكون قد وقع في ّ‬

‫‪ -‬معقول!‬
‫تظاهرت َ"مرام" بالتعجب‪ ،‬فأردفت "أشريا"‪:‬‬
‫‪ -‬ما يحيرني هو تكرار طلبه للزواج ّ‬
‫مني‪ ،‬ال أدري ملاذا ال يتزوجها!‬
‫أطبقت َ"مرام" شفتيها‪ ،‬واستمرت "أشريا"في بوحها لها‪:‬‬
‫‪ -‬يظن بعض الشباب أن كل الفتيات مباحات‪ ،‬يستطيع أن ينظر‪ّ ،‬‬
‫ويتأمل‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويتفحص‪ ،‬ويمزح مع تلك‪ ،‬ويحب تلك‪ ،‬ويحلم بتلك‪ ،‬وعندما يريد الزواج‬
‫يبحث عن فتاة بعيدة املنال!‬
‫زفرت َ"مرام" بحنق وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬عندك ّ‬
‫حق‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫قامت "أشريا" وبدأت تروح وتجيء في الغرفة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬لكن سلوكه قد تغير منذ فترة‪ ،‬أتعلمين تلك النظرة التي تقرئين فيها‬
‫انكسار من أمامك‪ ،‬ذاك الشحوب الذي يكسو وجه من يتوقفون عن فعل‬
‫الخطأ فيبدون وكأنهم يتعافون من مرض‪ ،‬الضعف الذي يصابون به‪،‬‬
‫ً‬
‫فشيئا في‬ ‫يحل ً‬
‫شيئا‬ ‫الهوان الحلو بعد التوبة‪ ،‬ذاك الضوء الشاحب الذي ّ‬
‫وجه من يعود للصواب‪...‬لقد تغير "كلودة" صار ال يرفع حتى عينيه في وجوه‬
‫النساء وهو يسير‪.‬‬
‫‪ -‬أتراقبينه؟‬
‫على استحياء أجابتها‪:‬‬
‫سري وستري وهي تعرف‬ ‫‪ -‬من بعيد‪ ،‬أمي تسأل عنه أم ُ"كومبو"‪ ،‬فأمي ّ‬
‫خبيئتي‪ ،‬أما أنا ُ‬
‫فأدعو له‪..‬وأراقبه من بعيد‪.‬‬
‫تنهدت وقالت بصوت تشوبه رّنة ألم‪:‬‬ ‫ُث ّم ّ‬
‫تقر عينه بي يا َ"مرام"إن تزوجته؟ هل سأعجبه؟‬ ‫‪ -‬ترى هل من املمكن أن ّ‬
‫ً‬
‫مخلصا لي؟‬ ‫هل سيكون‬
‫ّ‬
‫بقي السؤال معل ًقا في الهواء‪ ،‬ف َـ"مرام" تخش ى أن تخبرها بما تعرفه‪ ،‬قالت‬
‫وكأنها تجيب نفسها بنفسها‪:‬‬ ‫"أشريا" بثقة ّ‬
‫تجب ما قبلها! سيشفى وهللا قلبه‪ ،‬أليس كذلك يا‬ ‫‪ -‬ولم ال! أوليست التوبة ّ‬
‫َ"مرام"؟ سيرضيه هللا بي‪ ،‬وسيستجيب لدعائي‪ ...‬أليس كذلك؟‬
‫أجابتها َ"مرام" وهي تراقب تعابير وجهها البريء الصادق قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬نعم حبيبتي‪ ....‬سيستجيب‪.‬‬
‫بعد قليل نامت "أشريا"‪ّ ،‬أما َ"مرام" فلم يغمض لها جفن حتى طلع‬
‫ّ‬
‫الفجر‪ ،‬ظلت األفكار تدور في رأسها‪ ،‬صار معرفة بداية تلك األفكار مستحيل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫استسلمت ً‬
‫أخيرا للنوم فمهما فكرت وحللت وخططت فهي لن تخبىء النجوم‬
‫ولن تطفىء وجه القمر‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫‪183‬‬
‫كل الغرف‪ ،‬وكانت‬ ‫يومان والحراس يدورون في القصر كالنحل‪ ،‬يفتشون ّ‬
‫أسا على عقب‪ ،‬فقد أشرفت‬ ‫البداية من غرفة ُ"أونتي" التي قلبتها الجواري ر ً‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫"نبرة" بنفسها على تفتيشها بينما كانت "أونتي" وقتها في حديقة القصر‪،‬‬
‫َ‬
‫خرجت "نبرة" من غرفتها كاإلعصار تزوم وتزمجر‪ ،‬فهي لم تعث ر على الكتاب‪،‬‬
‫استبعدت أن تكون قد وصلت إليه فاتجهت وأخيها إلى تفتيش غرف الوزراء‬
‫أحدا منهم قد طمح وطمع لالستيالء على الكتاب‪.‬‬ ‫وكبار الحراس ظانين أن ً‬
‫ُ‬
‫في اليوم األول وعقب مغادرة َ"مرام" للقصر‪ ،‬أغلقت "أونتي" غرفتها عليها‬
‫مرة في حياتها‪ ،‬لم تطلب‬ ‫كل ش يء ملكانه بنفسها ّ‬
‫وألول ّ‬ ‫في سكون رهيب‪ ،‬أعادت ّ‬
‫عونا من أحد حتى ال ينتبه أحدهم لغياب َ"م ُرام"‪ ،‬لم يدخل عليها إال جاريتها‬ ‫ً‬
‫القديمة التي الحظت غياب َ"مرام"‪ ،‬أخبرتها "أونتي" بالحقيقة‪ ،‬ونفحتها ً‬
‫كيسا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ممتلئا باملال لقاء صمتها وإخفائها لألمر‪.‬‬ ‫ثقيال‬
‫أرض ى ذلك غرور الجارية وانصرفت على وعد بأنها سترسل إليها جارية‬
‫َ‬
‫جديدة أمينة تحفظ السر مثلها‪ ،‬هرولت خارجة من غرفتها فاألميرة "نبرة"‬
‫غاضبة واألولوية إلرضائها‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪184‬‬
‫(‪)17‬‬

‫رائحة احلب‬

‫تحت شجرة البلوط‪ ،‬وحيث كانت تتلهف َ"مرام" للعودة إلى منزلها‪ ،‬وقفت‬
‫تنصت إلى "أنس" وهو يقول‪:‬‬
‫حسنا يا َ"مرام" سألقي بنفس ي داخل الفجوة اآلن وأعود من خاللها‪،‬‬‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫راقبيني‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دلف "أنس" والذي قض ى وقتا طويال يحاول فيه إقناع َ"مرام" بأن‬
‫انتقالهما من خالل الفجوة سيكون أسرع لها وأيسر له حتى يستطيع إكمال‬
‫وحركه كما يفعل وذكر اسم‬‫استل الخنجر وأولجه في طبقات الهواء ّ‬ ‫ّ‬ ‫رحلته‪،‬‬
‫َ‬
‫قصر الحوراء‪ ،‬دلف إلى الفجوة فابتلعته واختفى من أمام "مرام"! وقفت‬
‫وحيدة تحت شجرة البلوط التي كانا يقفان تحت ظاللها‪ ،‬شعرت بوحشة‬
‫رهيبة وخوف شديد‪ ،‬سكن كل ش يءحولها فجأة‪ ،‬اختفى الشخص الوحيد‬
‫ُ‬
‫ظنت ّأنه سيوصلها إلى القصر ث ّم تحملها "قطرة‬‫الذي اطمأنت ألنه من عاملها‪ّ ،‬‬
‫مرت به‪ ،‬فهل هناك مزيد من املفاجآت في‬ ‫الدمع" إلى بيتها! كان يكفيها ما ّ‬
‫ّ‬
‫انتظارها! تذكرت تجار العبيد‪ ،‬والسوق ونظرات الرجال لجسدها‪ ،‬وضرب‬
‫الجواري لها في القصر‪ ،‬وتلك اللحظة التي قذفها فيها "أنس" بالحجارة في‬
‫عينها‪ ،‬تحسستها بأنامل مرتعشة حيث كانت تؤملها‪ ،‬تلفتت حولها ونادت بهمس‬
‫وتأهبت‬‫على "أنس" وملا لم يأتها الرد انحنت وسحبت غصن شجرة غليظ ّ‬
‫للدفاع عن نفسها‪ ،‬لقد رحل إذن وتركها وحدها‪ ،‬قررت أن تعود من حيث‬
‫ّ‬
‫أتيا إلى بيت "أشريا"‪ ،‬لعلها تساعدها‪ ،‬اعتصر قلبها الذي أصبحت دقاته‬
‫كطبول الحرب وكادت تركض لوال أن الفجوة انبثقت من الال ش يء أمامها‬
‫ً‬
‫موحيا إليها‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وقف يبتسم ّ‬
‫وحرك كتفيه‬ ‫ّ‬
‫وأطل "أنس" منها ّ‬ ‫فأجفلت‬
‫ّأن األمر بسيط‪ ،‬وقال بهدوء‪:‬‬
‫‪185‬‬
‫ً‬
‫سريعا‬ ‫‪ -‬أرأيت! ها أنا قد عدت‬
‫بوجه شاحب وشفتين هربت منهما الدماء ويدين تقبضان على غصن‬
‫متأهبة في الهواء ّ‬
‫وكأنه سيف تقاتل به كانت َ"مرام" ّ‬
‫مجمدة‬ ‫الشجرة وترفعه ّ‬
‫ً‬
‫كتمثال من الشمع‪ ،‬فوجيء بها تنهال على كتفه ضربا بغصن الشجرة وهي‬
‫تصيح بهستيرية‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪..‬ال‪...‬ال‬
‫كانت في حالة هياج وغضب شديد‪ ،‬أمسك "أنس" الغصن وجذبه منها‬
‫ّ‬
‫بعنف فجرح يدها‪ ،‬فقدت تماسكها وتهانفت وتكورت على األرض وغطت‬
‫بكفيها وانفجرت باكية تنشج في حرار ٍة فوقف أمامها ً‬
‫حائرا‪ ،‬كان ال‬ ‫وجهها ّ‬
‫ً‬
‫متعجبا‪:‬‬ ‫يحسن التعامل مع الفتيات! سألها‬
‫‪ -‬ملاذا تبكين؟‬
‫قالت بصوت يخنقه البكاء‪:‬‬
‫‪ -‬كنت خائفة‪.‬‬
‫ّ‬
‫تذكر كيف كان يفعل والده مع أخته "حبيبة" عندما كانت تجهش بالبكاء‬
‫ويربت على كتفها بحنان ويحتضنها في‬ ‫فجأة‪ ،‬كان يتوقف عن الكالم معها ّ‬
‫كل ش يء‪ ،‬لكنه ليس والدها! وال يستطيع فعل ّ‬
‫أي‬ ‫صمت‪ ،‬وكانت تهدأ وينتهي ّ‬
‫ّ‬ ‫من هذا‪ ،‬فماذا يفعل! سالت الدماء من ّ‬
‫كفها فتلطخ وجهها بمزيج من الدموع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والدماء‪ ،‬كانت ترتجف‪ ،‬بدت له ضعيفة كالقشة‪ ،‬ال بد أن يعيدها إلى القصر‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مناسبا ملرافقة‬ ‫اآلن‪ ،‬فهو لن يتحمل تقلبات شخصيتها تلك‪ ،‬وليس الوقت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولعل "سامي كول" يأمر بإعادتها لبيتها في الحال‪ ،‬فليتخلص من تلك‬ ‫الفتيات!‬
‫الورطة‪ ،‬قطع "أنس" جزء ً‬
‫يسيرا من طرف قميصه وبلله بماء النهر حيث كانا‬
‫ً‬ ‫يسيران بموازاته ّ‬
‫ومده إليها بلطف قائال‪:‬‬
‫‪ -‬امسحي وجهك فقد تلطخ بالدماء‪ ،‬ودعيني أربط لك جرح يدك‪.‬‬
‫سحبت منه القماشة بعصبية ومسحت وجهها ُث ّم ّ‬
‫كفها املجروح‪ ،‬كانت‬
‫هناك شذرات من الغصن قد علقت بجرحها‪ ،‬بدأت تسحبها بحرص وعالمات‬
‫ُ‬
‫األلم تلوح على صفحة وجهها ث ّم قالت بصوت ممزق حزين‪:‬‬
‫‪186‬‬
‫‪ -‬كرهت تلك اململكة وتلك الغابة وهذا العالم‪.‬‬
‫وعادت للبكاء‪ ،‬سألها وقد ر ّق لحالها‪:‬‬
‫حسنا يا َ"مرام"‪ ،‬إن كنت ترفضين استخدام الفجوات وتخافينها سأسير‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫معك‪ ،‬ال تخافي وال تحزني‪ ،‬هيا فنحن في أو النهار‪ ،‬وخذي هذا لتضمدي‬
‫جرح يدك‪.‬‬
‫بحرص‬ ‫لتضمد جرحها‬ ‫ّ‬ ‫وقام باقتطاع جزء آخر من قميصه‪ ،‬وساعدها‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫املرة األولى التي يقترب فيها ذاك الحد من فتاة‪،‬‬ ‫معا‪ ،‬كانت تلك ّ‬ ‫شديد‪ ،‬وسارا ً‬
‫وكان يراها فتاة لطيفة رغم بعض العصبية والكثير من البكاء‪ ،‬ور ّبما ألنه آملها‬
‫أبدا أن يؤملها‪ ،‬أراد‬‫لكنه لم يقصد ً‬ ‫مرتين فهي تعامله أحيانا بعنف‪ّ ،‬‬ ‫وجرحها ّ‬
‫أن يخبرها بهذا!‬
‫ّ‬
‫رنا إليها فبدت له كندفة هشة من غزل البنات لو أمطرت السماء عليها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لذابت من فرط رقتها‪ ،‬تتبعه كقطة صغيرة تطلب األمان‪ ،‬كانت خطوة منه‬
‫فهدأ من سيره حتى ال يرهقها‪ ،‬راوده شعور جميل ّأنه‬ ‫تعادل خطوات منها‪ّ ،‬‬
‫مسئول عنها‪ ،‬وراق له بشكل ما ّأنها تخاف عندما يختفي‪ ،‬أو عندما تفصل‬
‫بينهما أثناء سيرهما شجرة ضخمة‪ ،‬كانت تهرول وتبحث عنه خلفها تخش ى أن‬
‫سببا في بكائها‪ ،‬مزيج من املشاعر‬ ‫مرة أخرى‪ .‬أصابه الضيق ألنه كان ً‬ ‫يختفي ّ‬
‫كان يختلج في صدره‪.‬‬
‫ً‬
‫توقف عن السير والتفت إليها وأخبرها أنهما سيجلسان للراحة قليال‪،‬‬
‫وكأنها كانت تنتظر تلك اللحظة لكنها كانت تخجل أن‬ ‫جلست فو ًرا في صمت ّ‬
‫تطلبها منه‪ ،‬فقد أرهقها السير‪ ،‬أخرجت من حقيبتها تفاحتين كانت "أشريا"‬
‫ومدت يدها إليه بإحداهما‪ ،‬تناولها منها وجلس يلقيها في الهواء‬ ‫قد أعطتهما لها ّ‬
‫ُ‬
‫ويتلقفها بيده ويراقب وجهها ب طرف خفي‪ ،‬ث ّم سألها بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬كيف قضيت الفترة املاضية وحدك؟ حدثيني يا َ"مرام" عن رحلتك‬
‫ً‬ ‫كنت ً‬
‫دائما خائفة وتبكين هكذا؟‬ ‫وكتابك‪ ،‬هل ِ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أطرقت قليال وكأن مالحظته جعلتها تتأمل حالها وما آلت إليه‪ ،‬قالت وهي‬
‫تحملق في األرض أمامها‪:‬‬

‫‪187‬‬
‫قوية‪ ،‬لم أكن أشعر‬ ‫‪ -‬لم أكن بتلك الهشاشة‪ ،‬كان لدي شعور بأنني ّ‬
‫بالخوف كما أشعر به اآلن‪ ،‬وكان للقائي باملغاتير فور وصولي أثر كبير في‬
‫نفس ي‪ ،‬كانت "الحوراء" معهم‪ ،‬احتضنتني فور أن تركتني "قطرة الدمع"‬
‫شيئا ما أحاطني فغمرني الشعور باألمان‪ ،‬في الحقيقة‬ ‫وكأن ً‬
‫ّ‬ ‫فشعرت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫راودني شعور جديد‪ ...‬ربما روح امل ِ‬
‫قاتلة التي وصلت للتو ألرض املغامرات!‬
‫ّ‬ ‫شعور يشبه ما قرأت عنه ً‬
‫دوما في الروايات‪ ،‬سلمتني "الحوراء" خريطة‬
‫سريعا ما ظهرت كلمات كتابي عندما التقيت باألميرة‬ ‫ً‬ ‫وبدأت رحلتي‪،‬‬
‫"هيال"‪ ،‬كانت فتاة رقيقة وواثقة بنفسها تكبرني بخمس سنوات‪ ،‬الزمتها‬
‫طوال الوقت‪ ،‬فقد استضافتني في قصرها وعاملتني كشقيقة لها‪" ،‬هيال"‬
‫لدي خنجر مثلك‪،‬‬ ‫تعيش في منطقة تقع خلف مملكة الشمال‪ ،‬لم يكن ّ‬
‫لكنني كنت أستطيع سماع أفكار الناس‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا! تقرئين األفكار!‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬أسمع صوتها كما أسمع صوتك اآلن‪ ،‬تلك كانت من مميزاتي ويبدو أنني‬
‫فقدتها منذ انتهاء مهمتي‪ ،‬كنت أنصت إلى صوت أفكار من أمامي‪ ،‬فكنت‬
‫ً‬
‫صراعا‬ ‫جدا‪ ،‬كنت أعاني‬ ‫ً‬
‫مرهقا ً‬ ‫أعرف الصادقين والكاذبين‪ ،‬وكان ذاك‬
‫نفسيا عندما أرى على وجوه الناس وألسنتهم عكس ما يفكرون به‪ ،‬وفي‬ ‫ً‬
‫تأملت فأدركت أن هللا ستر خواطرنا رحمة‬ ‫النهاية وبعد أن انتهت مهمتي ّ‬
‫ّ‬
‫بكل ما نفكر به كما هو ما طاب لنا العيش ً‬ ‫بنا‪ ،‬ولو بحنا ملن حولنا ّ‬
‫معا‪،‬‬
‫الحمد هلل أنني فقدت تلك امليزة و أنا اآلن ال أسمع إال نفس ي‪.‬‬
‫يدر ِل َم! وهرب من إجابة‬
‫ارتاح "أنس" حين تأكد أنها فقدت تلك امليزة‪ ..‬ال ِ‬
‫نفسه‪..‬أشار إليها لتقوم ليكمال حديثهما وهما يسيران لعلهما يقطعان الغابة‬
‫وكلما حاول أن ّ‬ ‫ّ‬
‫يقدمها أمامه ليطمئن‬ ‫قبل حلول الظالم‪ ،‬كانت تسير خلفه‪،‬‬
‫أخيرا أن تسير بجواره ففعلت‪،‬‬‫عليها تتأخر خلفه لبطء خطواتها‪ ،‬فطلب منها ً‬
‫سألته على استحياء‪:‬‬
‫‪ -‬كم عمر أختك"حبيبة"‬
‫‪ -‬تصغرك بعام؟‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫سريعا‪:‬‬ ‫ث ّم أردف بعد أن رنا إليها‬
‫‪188‬‬
‫‪ -‬وتشبهك ً‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫بقوة ّ‬ ‫ّ‬
‫فتعلقت بحقيبتها وقبضت عليها ّ‬
‫وكأنها‬ ‫أخجلتها مالحظته وارتبكت‬
‫تستمد منها األمان وقالت‪:‬‬
‫شك ّأنك تفتقدها‬‫‪ -‬ال ّ‬

‫كل ش يء في حياتي‪ ،‬بيتي‪ ،‬وأهلي‪ ،‬رائحة عطر أبي‪ ،‬حضن ّأمي‪،‬‬


‫‪ -‬أفتقد ّ‬
‫صوت جدي‪ ،‬دفء البيت‪ ،‬حتى مالبس ي وهاتفي الجوال‪ ،‬ورفاقي‪،‬‬
‫وحاسوبي‪.‬‬
‫‪ -‬وأنا أفتقد‪ ....‬األمان‪.‬‬
‫ّ‬
‫التفت إليها وقال بتأثر‪:‬‬
‫‪"َ -‬مرام" سامحيني ألنني أوجعتك ّ‬
‫مرتين‬
‫أيضا ضربتك بالغصن على كتفك كاملجنونة‪.‬‬ ‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬أنا ً‬
‫قال ماز ًحا‪:‬‬
‫أي محاربة أنت! وأين قوسك البالستيكي الذي كنت‬ ‫‪ -‬لكنك لم تؤمليني‪ّ ...‬‬
‫تلعبين به في الغابة!‬
‫املضمدة بجزء من قميصه‪ ،‬كانت‬‫ّ‬ ‫خبأتها ّ‬
‫بكفها‬ ‫الحت على شفتيها ابتسامة ّ‬
‫يخص "أنس" شعرت بارتباك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كفها وتأملته وهو ملفوف بش يء‬ ‫ّكلما رفعت ّ‬
‫وكأنه يمسك يدها بنفسه! سارت بجواره وفي صدرها يتلجلج صراع بين رفضها‬ ‫ّ‬
‫للسير مع شاب غريب عنها‪ ،‬وبين اضطرارها لهذا لتعود إلى القصر‪ ،‬فهي لم‬
‫تختر تلك الظروف‪ ،‬هي مجبرة عليها ال ريب‪ ،‬بدأت تتمتم بالدعاء أال يتركها‬
‫شر نفسها ونفس "أنس"‪.‬‬ ‫هللا‪ ،‬وأن يكفيها ّ‬
‫قال وعلى وجهه ابتسامة مشرقة بينما كانا يعبران تحت أشجار الياسمين‬
‫حيث هطل عليهما الياسمين ّ‬
‫وكأنه ّ‬
‫يرحب بهما‪:‬‬
‫‪ -‬أعشق رائحة الياسمين‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫قالت وهي تحمل بين كفيها حفنة من زهور الياسمين التي تراكمت على‬
‫األرض ّ‬
‫وتقربها من أنفها‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا‪ ،‬ليتني أستطيع الحديث مع زهراته كما تفعل السيدة "ناردين" فهي‬
‫تسمع أنين النباتات وتسبيحها وتنصت لحكاياها العجيبة‪.‬‬
‫‪ -‬معقول!‬
‫‪ -‬أال تعرف ّ‬
‫قصة السيدة "ناردين" مع الغابة هنا؟‬
‫‪ -‬ال‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنا‪ ...‬سأخبرك بها‬
‫تقص عليه ما حدث مع السيدة "ناردين"‪ ،‬أشفق على‬ ‫ّ‬ ‫بدأت َ"مرام"‬
‫وتعجب عندما علم بحديثها‬‫ّ‬ ‫العجوز عندما علم بما فعلته معها زوجة ابنها‪،‬‬
‫َ‬
‫إلى النباتات وكيف تنصت إلى أنينها وتحاورها‪ ،‬بينما كانت"مرام" تحكي له عنها‬
‫ضجة أحدثتها َ"مرام" في عقله ووجدانه‪ ،‬طريقتها في الكالم راقت‬ ‫كان يقاوم ّ‬
‫ّ‬
‫له‪ ،‬ذاك الهدوء وتلك السكينة التي حلت عليها بعد أن انتهت تلك العاصفة‬
‫التي أصابتها عندما اختفى من أمامها فجأة يعجبه‪ ،‬وهذا الضعف األنثوي‬
‫الرفيق الذي فيها ّأثر في نفسه‪ ،‬وقارها واحتشامها َ‬
‫أس َرا فؤاده‪ ،‬أما دموعها‬
‫صوبت تجاه قلبه الضربة القاضية! سألها وقد اقتربا من بيت "ناردين"‪:‬‬ ‫فقد ّ‬
‫‪ -‬أتساءل هل ظهرت العبارات في كتابي أم ليس بعد!‬
‫‪ -‬ال أدري هل سيطلق كتاب "إيكادولي"سراح الكلمات وهو بعيد عن يديك يا‬
‫"أنس" أم ال!‬
‫‪ -‬كيف كانت العبارات تظهر في كتابك؟‬
‫يتحرك في مكانه فكنت أنتبه‪ ،‬وكانت تنبثق الحروف ً‬
‫تباعا‬ ‫ً‬
‫وأحيانا ّ‬ ‫‪ -‬كان ّ‬
‫يهتز‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نقش بريشة ومحبرة حرفا حرفا على ّ‬ ‫وكأنها ُت ُ‬
‫ّ‬
‫أحيانا كنت أشعر أن‬ ‫السطر‪،‬‬
‫يتنفس وله قلب ينبض وهو يظهر الكلمات‪ ،‬تلك الكتب ّ‬
‫حية يا‬ ‫الكتاب ّ‬
‫"أنس"!‬
‫ّ‬
‫أفكر أنه ربما يكون "كلودة" و"أشريا" هما بطال ّ‬
‫قصتي‪ ،‬أليس كذلك؟‬ ‫‪ -‬كنت‬

‫‪190‬‬
‫ُ‬
‫تمتمت بضيق ث ّم قالت‪:‬‬
‫ن ً‬
‫بطال ألي قصة ّ‬
‫حب!‬ ‫‪ -‬أرى "كلودة" ال يستحق أن يكو‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫ُّ‬
‫تجهالت سؤاله حتى ال تضطر لفضح "كلودة"‪ ....‬ثم قالت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬رّبما بطل ّ‬
‫قصة كتابك هو "كومبو" وفتاة أخرى! ولم ال؟‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫هز كتفيه قائال‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬أو رّبما "أونتي" وأي شخص آخر!‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬ال تذكرني بـ"أونتي" أرجوك‪...‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫هزت رأسها في ضيق وقالت‪:‬‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬ال ش يء‪ ..‬فلننس أمرها‪.‬‬


‫كانت العجوز "ناردين" تجلس أمام الكوخ وتستند بذقنها على كفيها‬
‫أبدا عندما تهلل وجهها‬ ‫ً‬
‫صديقا ال يفارقها ً‬ ‫املعقودتين فوق عكازها الذي أصبح‬
‫وبرقت أساريرها من الفرح وهي تراهما يقتربان‪ ،‬أصابتها السعادة وتهللت‬
‫معا‪ ،‬لم تتمكن من منع نفسها من الضحك بصوت‬ ‫أساريرها عندما رأتهما ً‬
‫سرت بقطعة من الحلوى أهديت إليها‪ ،‬جلسا عن‬ ‫وكأنها طفلة صغيرة ّ‬ ‫عال ّ‬
‫يمينها وشمالها بينما احتضنت ّ‬ ‫ٍ‬
‫كف َ"مرام" بحنان فور أن رأت ضمادتها‬
‫عما أصابها‪ّ ،‬ثم سألتهما كيف كان الطريق‪ ،‬وماذا حدث لهما‬ ‫وجلست تسألها ّ‬
‫حتى اآلن‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫لطيفا حيث استأنست َ"مرام" بالعجوز "ناردين" وكذلك ّ‬


‫سر‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مر الوقت‬
‫"أنس"‪ ،‬وسعدت هي بزيارتهما‪ ،‬وقفت َ"مرام" ّ‬
‫تودعها‪ ،‬كانت العجوز تبكي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فتلك هي ّ‬
‫املرة األخيرة التي ستراها فيها‪ ،‬كانت قد ودعتها من قبل بعد انتهاء‬
‫‪191‬‬
‫هم تلك اللحظات‪،‬‬ ‫مهمتها‪ ،‬وها هي لحظة الوداع تتكرر‪ ،‬وكانت "ناردين" تحمل ّ‬
‫تحبهم‪ ،‬تكره الوداع‪ ،‬سارت‬ ‫فهي تشعر باأللم في صدرها عندما يغادرها من ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫معهما قليال حتى أصبح الطريق أمامها مكشوفا وحتى حدود الغابة‪ ،‬حيث كان‬
‫يتلفت من آن آلخر ويلوح لها‪،‬‬‫الفاصل الحجري يحيط بالغابة‪ ،‬ابتعدا وكالهما ّ‬
‫مرة وفور أن خطت َ"مرام" خارج الغابة شعرت‬ ‫وما أن ّلوحت لـ"ناردين" آخر ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سهما نارًيا يخترق رأسها‪ ،‬سقطت على األرض وعيناها معلقتان بالسماء‪،‬‬ ‫وكأن ً‬
‫ُ‬
‫ث ّم فقدت الوعي‪.‬‬
‫صب "أنس" املاء املتبقي معه على رأسها لكنها لم تفق‪ ،‬تحسس نبض يدها‬ ‫ّ‬
‫ليتأكد أنها لم تفارق الحياة‪ُ ،‬ث ّم حملها وعاد للغابة وأسرع وخلفه العجوز‬
‫تربت على‬‫"ناردين" تجاه كوخها‪ ،‬وضعها على فراش "ناردين" التي أسرعت ّ‬
‫لعلها تفيق‪ ،‬أحضرت زجاجة بها سائل ّنفاذ الرائحة ّ‬ ‫ّ‬
‫وقربته من أنفها‬ ‫جبهتها‬
‫فأفاقت َ"مرام" وبدأت تسعل‪ ،‬كانت تشعر بدوار شديد‪ ،‬أخبرتهم أنها تشعر أنّ‬
‫دماءها تغلي في عروقها‪ ،‬تحسست "ناردين" جبهتها ففوجئت ّ‬
‫بأن حرارتها‬
‫بعضا من املاء وبدأت‬ ‫عشبا ما وأشارت لـ"أنس" ليحضر ً‬‫مرتفعة! قامت تطحن ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تذيبه في القليل منه‪ ،‬وسقتها منه شيئا فشيئا‪ ،‬بعد قليل بدأت َ"مرام" ترتجف‬
‫ّ‬
‫فدثرتها العجوز وجلست تحنو عليها وتتمتم بالدعاء‪ ،‬وعندما بدأت املسكينة‬
‫ّ‬
‫استبد به القلق عليها‪:‬‬ ‫تتعرق قالت "ناردين" بثقة وهي تطالع وجه "أنس" الذي‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬ستكون بخير إن شاء هللا‬
‫ً‬
‫مستغربا‪:‬‬ ‫قال‬
‫‪ -‬ال أدري ما الذي حدث لها! كانت بخير!‬
‫ّ‬
‫فتحت َ"مرام" عينيها وطالعته بنظرة تعني أال تتركني وحيدة هنا‪ ،‬لم تتمكن‬
‫من فتح فمها ّ‬
‫لتحدثه‪ ،‬لكنه فطن ملا ترمي إليه وقال يطمئنها‪:‬‬
‫‪ -‬ال تخافي يا َ"مرام"‬
‫ّ‬
‫أغمضت عينيها وخرج من الكوخ‪ ،‬جلس على الدرج الحجري يتفكر فيما آل‬
‫ً‬
‫إليه األمر اآلن! اقتربت "ناردين" ور ّبتت على كتفه‪ ،‬همس إليها قائال‪:‬‬
‫‪ -‬هل أستطيع الذهاب إلى القصر دون أن تخبريها؟‬
‫‪ -‬نعم تستطيع‪ ،‬ولكنك ستعود إليها بالتأكيد‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪192‬‬
‫‪ -‬بالطبع سأفعل إن شاء هللا‪ ،‬وددت فقط أن أسأل "سامي كول" عن ش يء‬
‫ما‬
‫‪ -‬سأغلق باب الكوخ علينا ولن أخبرها‪ ،‬فال تتأخر‪ ،‬أراها تخش ى أن تغادر‬
‫وتتركها وحيدة‬
‫‪ -‬ال تقلقي يا أمي‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫تأثرت العجوز ّ‬ ‫ّ‬
‫مرة أخرى بندائه‪ ،‬لم يدرك أنه يربت على قلبها بتلك‬
‫الكلمة‪ ...‬يا "أمي"! كانت نظراتها له تقطر ً‬
‫حنانا وهي تراقبه وهو ي ّ‬
‫ستل خنجره‬
‫ويحركه في طبقات الهواء‪ ،‬انبثقت الفجوة تتالعب ّ‬
‫وكأنها تناديه‪ ،‬قفز داخلها‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫بينما أسرعت العجوز ودلفت إلى الكوخ وأغلقت الباب‪ ،‬كانت "مرام" تئن‬
‫تربت على كتفها بحنان‪.‬‬ ‫وترتجف وقد غمر العرق جبينها‪ ،‬فبدأت العجوز ّ‬

‫❐❐❐‬

‫كل همسة تخرج‬ ‫كانت "الحوراء" تعلم بأخبار "أنس"‪ ،‬فالرياح تحمل إليها ّ‬
‫من بين شفتيه‪ ،‬وقفت تنتظر وصوله وهي تطرق بأصابعها على الطاولة في‬
‫أخيرا فقامت فور أن رأته وسارت نحوه بخطوات سريعة‪ ،‬كان‬ ‫قلق‪ ،‬ظهر ً‬
‫القلق ً‬
‫باديا على محياها‪:‬‬
‫‪ -‬كيف هي َ"مرام" اآلن؟ وما الذي أصابها؟‬
‫‪ -‬ال أدري! فور أن خرجنا من الغابة سقطت على األرض‪ ،‬تركتها في كوخ‬
‫العجوز"ناردين"‬
‫‪ -‬كان ُم ً‬
‫توقعا أن يحدث هذا‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أخبرني أبي أنها لن تستطيع الرحيل إال بعد استعادة كتابك‪ ،‬كالكما‬
‫شريكان في كتاب "إيكادولي" بطريقة ما‪ ،‬حتى لو وافقت أن تنتقل معك من‬
‫خالل الفجوات كنا سنعيدكما إلى القرية‪ ،‬وددت أن أخبرها هذا بنفس ي‬
‫ألخفف عنها فهي تثق بي وأنا أعلم كيف تشتاق اآلن للعودة لديارها‬
‫‪193‬‬
‫جدا بعد أن فقدت مميزاتها‬ ‫ألمها‪ ،‬لكن يبدو ّأنها صارت ضعيفة ً‬ ‫و ّ‬
‫ً‬
‫كمحاربة‪ ،‬أرجوك يا "أنس" عد إليها سريعا‪ ،‬واعتن بها‪ ..‬أرجوك‪.‬‬
‫‪ -‬سأفعل ولكن هل من املمكن أن أطلب من الحكيم "سامي كول" أن يسمح‬
‫لها بالعودة إلى بيتها‪ ،‬وسأتحمل وحدي مسئولية استرداد كتاب "إيكادولي"؟‬
‫‪ -‬لألسف يا "أنس"‪ ،‬ال تسير األمور بتلك الطريقة‪ ،‬ليس أبي من يحدد‬
‫‪ -‬لقد تعبت َ"مرام" ّ‬
‫وتعرضت للكثير من األمور‪ ،‬وهي فتاة رقيقة وضعيفة‪،‬‬
‫أخش ى عليها‬
‫‪ -‬إذن فلتحمها َ‬
‫وترعها حتى تسترد كتابك‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬موالتي‪..‬‬
‫أغمضت "الحوراء" عينيها وكسا وجهها تعبير أدرك منه "أنس" أنه ال مجال‬
‫للنقاش في أمر رحيل َ"مرام"‪ ،‬كاد ينصرف ّ‬
‫لكنه استدار وسألها‪:‬‬
‫‪ -‬هل من دواء لها أستطيع حمله معي على األقل!‬
‫ابتسمت "الحوراء" وقالت بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬أنت في بيت طبيبة بارعة‪" ،‬ناردين" ستعتني بأمر الدواء‪ ،‬ال تقلق يا "أنس"‪،‬‬
‫عد اآلن لتكون بجوار َ"مرام"‪ ...‬أرجوك‪.‬‬
‫توقف ّ‬ ‫ّ‬ ‫استدار "أنس" بعد أن ّ‬
‫وتأمله‬ ‫حياها‪ ،‬وأخرج خنجره بعد أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تذكر فيها وجه ّ‬
‫جده وهو يسلمه إليه ويخبره أنه سيقطع به مسافات‬ ‫للحظات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كبيرة! لم يفطن وقتها لهذا املعنى‪ ،‬لكنه يدركه اآلن‪ ،‬حركه في الهواء وعاد إلى‬
‫بخفة ففتحته "ناردين"‬‫الكوخ‪ ،‬حيث كانت َ"مرام" ترتجف‪ ،‬طرق على الباب ّ‬
‫محتميا من األمطار الغزيرة التي سقطت فجأة‪ ،‬هذا املكان عجيب!‬ ‫ً‬ ‫ودلف‬
‫اشتد البرد واشتدت قوة الرياح‪ ،‬البروق تنقدح في السماء‪ ،‬ستار سميك‬ ‫ّ‬
‫من املطر حجب الرؤية‪ ،‬انحنت األشجار وتعانقت فوق سطح الكوخ تظلله‬
‫وتبعد سيول األمطار عنه‪ ،‬والتفت وشائج األشجار وأحاطت بأركان البيت‬
‫تمنع ّ‬
‫تسرب الرياح من فتحات الكوخ‪ ،‬كانت النباتات تعتني بـ"ناردين" لسنوات‬
‫َ‬
‫طويلة‪ ،‬وها هي تعتني بها وبضيفيها‪ ،‬كانت "مرام" تنتفض من آن آلخر فما زالت‬
‫‪194‬‬
‫حرارتها مرتفعة‪ ،‬وكانت العجوز تغفو بجوارها وهي جالسة فتسقط رأسها‬
‫مرة أخرى‪ ،‬بينما جلس "أنس" في ركن الكوخ‬ ‫فتنتبه وترفعه ُث ّم تعود فتغفو ّ‬
‫يحدث نفسه‪..‬‬‫مستندا بظهره على الجدار‪ .‬وبدأ ّ‬
‫ً‬
‫عاما! ما زالت َ"مرام" في بداية مرحلتها الجامعية‪ ،‬ال‬ ‫عمرها ثمانية عشر ً‬
‫تصده وتعامله بنوع من‬ ‫ّ‬ ‫شك أن خبرتها قليلة في معاملة الشباب‪ ،‬لهذا‬
‫أحيانا‪ ،‬رّبما هي ترى أنها هكذا تحمي نفسها كما تظن الكثير من‬ ‫ً‬ ‫العدوانية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفتيات! تحتاج وقتا لتنضج وتصبح أكثر انضباطا في ردود أفعالها حتى ال‬
‫ّ‬
‫تحرج من يتعامل معها‪ ،‬ولكنها تبدو فتاة خلوقة ومهذبة و‪ ...‬جميلة‪ ،‬نعم هي‬
‫حبا كما‬ ‫كل حال ذلك ليس ًّ‬ ‫جميلة‪ ،‬هكذا يراها‪ ،‬فهي تعجبه وتروق له‪ ،‬وعلى ّ‬
‫ّ‬
‫يحبها بتلك السرعة! ملاذا يفكر فيها ً‬ ‫يقولون‪ ،‬فليس من املعقول أن ّ‬
‫كثيرا!‬
‫فليحاول اآلن التفكي ر في طريقة يصل بها إلى كتابه‪ ،‬أما هي وبأي حال من‬
‫األحوال سترافقه طوال رحلته مع كتابه‪ ،‬ولكن‪...‬كيف سيتعامل معها؟‬
‫كانت األفكار تتناطح في رأسه وهو يراقب انعكاسات أضواء الشموع وهي‬
‫وتوسد ذراعه واستسلم‬ ‫ّ‬ ‫تتراقص وتتشابك على الجدران‪ّ ،‬‬
‫تكور على األرض‬
‫أخيرا أن حرارة َ"مرام" قد انخفضت‪ ،‬وأنها‬ ‫ً‬ ‫للنوم‪ ،‬فقد أخبرته العجوز‬
‫ّ‬ ‫ز‬ ‫ّ‬ ‫تستبشر بكثرة ّ‬
‫تعرقها ألن تلك عالمة خير‪ .‬دثرته العجو بغطاء من الصوف‪،‬‬
‫َ‬
‫وعادت حيث كانت "مرام" ترنو إلى "أنس" بعينيها الكليلتين‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫على استحياء أشرقت الشمس وأقبلت زرقة السماء ّ‬


‫وفتتت الغيوم‬
‫فأضاءت أرجاء الغابة‪ ،‬نفحتهم بعض الدفء فأطلق الريحان عبيره ّ‬
‫الفواح‪،‬‬
‫ّ‬
‫كانت نباتات الغابة تتألق بخضارها الزاهي بعد أن غسلتها األمطار طوال الليل‪،‬‬
‫قالت "ناردين" وهي ترشف بتلذذ املشروب الساخن من كوبها الذي تحتضنه‬
‫ّ‬
‫بكفيها‪:‬‬
‫ّ‬
‫تسترد‬ ‫‪ -‬إذن أخبرتك "الحوراء" أن َ"مرام" لن تغادر اآلن‪ ،‬وستالزمك حتى‬
‫كتاب "إيكادولي"‪ ..‬غريب!‬
‫‪ -‬وما الغريب؟‬

‫‪195‬‬
‫لكل كتاب محارب واحد يتدخل بطريقة ما حتى يمنع من يريدون‬ ‫‪ -‬عادة ّ‬
‫ّ‬
‫تغيير محتوى الكتاب ليخدم أفكارهم الشاذة‬
‫‪ -‬ترى‪ ...‬من يريد تغيير قصة كتاب "إيكادولي"؟‬
‫الحب‪ ،‬هناك حبيبين‪ ،‬رّبما هناك من يقهرهما ويفعل األفاعيل‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الكتاب عن‬
‫ليمنع اجتماعهما‪.‬‬
‫وضع "أنس" كوبه برفق وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أو قد يخطئان عندما تغلب الشهوة فوق الفضيلة‪ ،‬وتسقط الروح فيغلب‬
‫الجسد!‬
‫قالت العجوز وهي تتلذذ باملشروب‪:‬‬
‫ّ‬
‫الحب فضيلة؛ جزء منها نولد به‪ ،‬فهي مغروسة في أنفسنا‪ ،‬وجزء آخر من‬ ‫‪-‬‬
‫تلك الفضيلة نجاهد لنصل إليه‪.‬‬
‫قال "أنس"‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬من يحب الطعام سيشتهيه وسيجد لذته في تناوله بأي طريقة‪ ،‬ولو تخلى‬
‫ّ‬ ‫يحب ويعشق ً‬ ‫عن الفضيلة سيسرق الطعام! وكذلك من ّ‬
‫أيضا سيجد لذته‬
‫ّ‬ ‫في النظر إلى حبيبه ّ‬
‫بأي طريقة‪ ،‬ولو تخلى عن الفضيلة سيسقط في‬
‫الحرام‪".‬‬
‫قالت "ناردين" وقد أعجبتها كلماته‪:‬‬
‫‪ -‬نحن ال نعرف ما تحمله لنا األيام القادمة!‬
‫ّ‬
‫هز "أنس" كتفيه وقال‪:‬‬
‫الحب مقصو ًرا بين حبيبين فقط! قد يكون الحب من نوع آخر‪ّ ،‬‬
‫حب‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬ليس‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هللا‪ ،‬األمومة واألبوة‪ ،‬حب الصديق‪ ،‬وحب الخير كما يفعل املغاتير‪.‬‬
‫كان الهواء ً‬
‫عذبا وكانت تنظر إليه ّ‬
‫بحنو‪ ،‬ابتسمت وقالت‪:‬‬
‫شاب ّ‬
‫طيب القلب يا "أنس"‬ ‫‪ -‬أنت ٌ‬
‫طالعها بإشفاق وقال لها‪:‬‬
‫‪196‬‬
‫وأنت ٌأم رائعة وحنونة‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫وقبل رأسها وأحاط كتفيها بذراعه‪ ،‬كادت العجوز تبكي‪ ،‬كانت‬ ‫دنا منها ّ‬
‫تشتاق إلى ابنها الحبيب‪ ،‬أرادت أن تبوح لـ"أنس" ببعض مما حملته بين‬
‫ّ‬
‫لكن عطسة َ"مرام" وهي تقف متدثرة بشال "ناردين"‬ ‫ضلوعها لسنين طويلة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫حافة باب الكوخ انتشلتهما من حديثهما‪ّ ،‬‬
‫هش "أنس"‬ ‫وهي تستند برأسها على‬
‫فور أن رآها أمام عينيه‪ ،‬قال برفق وهو يبتسم‪:‬‬
‫‪ -‬يرحمك هللا!‬
‫كان على وجهها ابتسامة متعبة‪ ،‬اقترب منها مع العجوز "ناردين"‪ ،‬والتي‬
‫تمعنت في عينيها‪:‬‬‫قالت بعد أن ّ‬
‫سأعد لكما حساء ً‬
‫شهيا في الحال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬أنت اليوم أفضل‪،‬‬
‫ّ‬
‫أسرعت تجمع بعض األعشاب والثمار ّ‬
‫لتعده بينما كان "أنس" يحاول‬
‫ّ‬
‫ترتيب الكلمات‪ ،‬ال ّبد أن َ"مرام" ستحزن عندما تعرف أنها لن ترحل إال بعد‬
‫ً‬
‫متلعثما‪:‬‬ ‫استرداد كتابه‪ ،‬قال‬
‫‪ -‬لقد ذهبت إلى قصر الحوراء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫الحب‪،‬‬ ‫سريعا‪ ،‬كان جفناها يرفان من‬ ‫رفعت عينيها إليه ث ّم كسرت نظرتها‬
‫قالت تلومه‪:‬‬
‫‪ -‬تركتني إذن!‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫كنت مع السيدة "ناردين"‪ ،‬وأنا أثق‬
‫‪ -‬لم أغب طويال كما تعلمين‪ ،‬كما أنك ِ‬
‫بها‬
‫ثبتت نظراتها على األرض أمامها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا ً‬
‫أيضا أثق بها‬
‫‪ -‬املهم‪ ،‬أخبرتني "الحوراء" ّأن "قطرة الدمع" لن تتمكن من إعادتك إلى بيتك‬
‫اآلن يا َ"مرام"‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪197‬‬
‫‪ -‬ألن لك دو ًرا في كتابي‪ ،‬ولهذا كانت صورتي تظهر لك في كتاب "هيال"‪ ،‬ال ّبد‬
‫ّ‬
‫أسترده‬ ‫أن تبقي معي حتى‬
‫ُ‬ ‫شدت َ"مرام" الشال على كتفيها ّ‬ ‫ّ‬
‫وهزت رأسها برفق ولم تثر كما فعلت من‬
‫ّ‬
‫قبل‪ ،‬كان ينتظر منها الهستيريا والصراخ في تلك اللحظة!‪ ،‬لكنه رآها ساكنة‬
‫راضية بما سمعته منه‪ ،‬حتى ّأنها لم تسأله عن التفاصيل‪ ،‬ولم تسأله عن‬
‫خطوتهما التالية‪ ،‬سألها باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬كيف هي يدك؟‬
‫‪ -‬ما زالت تؤملني‬
‫‪ -‬آسف‪ ..‬أنا السبب!‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬بدأت أعتاد األلم‬
‫انسحب بلطف وتركها وانضم يساعد "ناردين" التي كانت تحاول إشعال‬
‫النار تحت القدر‪ ،‬ووقفت َ"مرام" تراقبهما في هدوء شديد‪ .‬كانت كل عظام‬
‫لكنها كانت تستمتع‬‫جسدها تؤملها‪ ،‬أرادت أن تعود للفراش لترقد وترتاح‪ّ ،‬‬
‫بمراقبتهما من بعيد‪ ،‬كانت العجوز سعيدة‪ ،‬فابتسامتها ومزاجها الرائق يمتعان‬
‫الناظر إليها‪ ،‬وكان "أنس" يرفق بها ويكثر املزاح معها‪ ،‬يبدو ّأنه أشفق عليها‬
‫ويقص عليها الطرائف مما أدخل‬ ‫ّ‬ ‫بقصتها‪ ،‬فصار ّ‬
‫يهون عليها‬ ‫ّ‬ ‫عندما علم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السرور على قلبها‪ ،‬واهتزت لتلك األحاديث الندية أشجار الياسمين وبعثرت‬
‫عبيرها فاختلط برائحة الحب‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫ً‬
‫مر يومان‪ ،‬كانت َ"مرام" أفضل حاال‪ ،‬قررا أن يعودا إلى القرية‪ ،‬وجلسا‬
‫ليخبرا "ناردين" التي أصابها الضيق عندما أدركت أن تلك اللحظات السعيدة‬
‫ّ‬
‫مرت وانتهت‪ ،‬كانت قد بدأت تأنس بهما‪ ،‬فهي تفتقد الشعور بهذا الجو األسري‬
‫الدافئ‪ ،‬مارست أمومتها خالل يومين بشكل عميق‪ ،‬كانت تستمتع بهذا وكانا‬
‫كثيرا وهما يتحاوران بهدوء‪ ،‬قبل‬ ‫بكل لحظة معها‪ ،‬راقبتهما ً‬ ‫يستمتعان ّ‬
‫ّ‬
‫انصرافهما وقفت أمامهما وقالت وهي تستند إلى عكازها‪:‬‬
‫‪198‬‬
‫‪ -‬هو الوداع األخير إذن هذه املرة‪...‬‬
‫لم يتمكنا من التعقيب سوى بنظرات عاجزة مرتبكة ملؤها األس ى‪..‬‬
‫قالت سريعا لتتخطى لحظات الحزن املؤملة تلك‪:‬‬
‫‪ -‬ليس من الضروري أن تقطعا املسافة ً‬
‫سيرا على األقدام‬
‫ابتسم "أنس" وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ال تحاولي‪"َ ،‬مرام" تصاب بالهلع عندما ترى الفجوات‪.‬‬
‫‪ -‬لم أقصد الفجوات التي تصنعها بخنجرك!‬
‫‪ -‬إذن ماذا تقصدين؟‬
‫رفعت حاجبيها وقالت في كياسة‪:‬‬
‫‪ -‬النهر!‬
‫ّ‬
‫سارت العجوز "ناردين" وسارا خلفها حتى اقتربا من ضفة النهر األخضر‪،‬‬
‫وقفت تراقب املاء ووقفا خلف كتفيها وطالعت إنعكاس صوريتهما وتأملت‬
‫الصقر الكبير على يمينها‪ ،‬وذاك الصقر اللطيف على يسارها وضحكت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬صقر قصير مصاب في جناحه‪ ،‬كم أنت قصيرة يا َ"مرام"!‬
‫ابتسمت َ"مرام" وعادت تسألها‪:‬‬
‫‪ -‬كيف سنعود من خالل النهر؟‬
‫ر ُّ‬ ‫ّ‬
‫ضربت العجوز األرض بعكازها فبدأت الرياح تدو ثم دفعت سطح ماء‬
‫ّ‬
‫النهر ل يتدفق بسرعة شديدة تجاه الطريق الذي جاء منه "أنس" و َ"مرام" منذ‬
‫يومين‪ ،‬كانت املياه تسير بسرعة شديدة محدثة تموجات تشكل أنصاف دوائر‬
‫مرة أخرى فتساقطت أوراق‬ ‫متوازية في اتجاه واحد‪ ،‬ضربت العجوز األرض ّ‬
‫ّ‬
‫أياد تتالعب بها وارتصت فوق بعضها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتحر ًكت وكأن هناك ٍ‬ ‫الشجر بكثافة‬
‫البعض وشكلت بساطا أخضر فوق سطح املاء‪ ،‬أشارت إليهما وقالت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬اصعدا فوق املاء وستنقلكما أوراق األشجار إلى نهاية الغابة‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫قالت َ"مرام" باندهاش شديد‪:‬‬
‫‪ -‬أتمزحين يا خالة!‬
‫مدت العجوز ساقها وخطت فوق البساط الذي شكلته أوراق األشجار‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وكأنها تقف فوق أرض صلبة! وقفت تطالعهما وعلى وجهها‬ ‫استقرت عليه ّ‬ ‫ّ‬
‫ابتسامة واسعة‪ ،‬قالت تشجعهما‪:‬‬
‫هيا سأسير معكما حتى نهاية الغابة‬ ‫‪ -‬تعاليا‪ّ ،‬‬
‫صعد "أنس" فوق البساط‪ّ ،‬‬
‫ومدت العجوز يدها لـ َ"مرام" التي كانت‬
‫ترتجف وهي تنقل ساقيها‪ ،‬صرخت عندما بدأ البساط يسير بسرعة فوق املاء‬
‫وتمسكت بذراع "ناردين" كان الهواء البارد يصافح وجوههم ويموج بثيابهم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وثالثتهم يضحكون وكأنهم في مدينة املالهي‪ ،‬منظر فردوس ي بدا على األفق‬
‫سريعا إلى الجهة األخرى من الغابة‪ ،‬قفز "أنس" وخلفه َ"مرام"‪،‬‬
‫أمامهم‪ ،‬وصلوا ً‬
‫والتفتا نحو "ناردين" التي ّلوحت لهما وودعتهما ّثم انطلق بساط األوراق‬
‫عائدا بها إلى حيث كوخها في أقص ى الغابة‪ ،‬فهي ال تستطيع تخطي‬ ‫األخضر ً‬
‫الحاجز الحجري الذي يحيط بها ً‬
‫أبدا‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫دلفت َ"نبرة" بخطوات متسارعة تكاد تشق األرض بحذائها‪ ،‬كانت ّ‬


‫تجر ثوبها‬
‫أخيها"كمشاق"‪ ،‬تجاهلت "حليم" كالعادة وقالت‬
‫ِ‬ ‫بغطرسة أمام‬
‫ٍ‬ ‫خيالء وتسير‬
‫بغضب‪:‬‬
‫‪ -‬أين الساحر "قرجة"‪ ،‬أريده في الحال‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫‪ -‬أرسلت أستدعيه‪ ،‬اهدئي يا "نبرة"‪ ،‬ال بد أن الكتاب في القصر‪ ،‬ألم‬
‫تراودك رؤى عنه؟‬
‫‪ -‬ال ‪ ،‬عن املحارب فقط‪ ،‬كنت قد رأيته أكثر من ّ‬
‫مرة مع ذاك الشاب‪ ،‬ما‬
‫زال يقيم بداره‪ ،‬لم يظهر الكتاب معه بعد‪ ،‬لكن الرؤى لم تراودني منذ‬
‫ليلتين‪ ،‬ال أدري أين اختفت البومة!!‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وجه "حليم" كالمه إليها قائال‪:‬‬
‫‪200‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ربما يظهره نها ًرا‪ ،‬فأنت ال تراودك الرؤى إال ليال‪.‬‬
‫رمقته بازدراء وقالت‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬املحاربون يديمون النظر في الكتاب ليال ونها ًرا ليراقبوا ظهور الكلمات فيه‪،‬‬
‫وذاك املحارب يحمل حقيبة ال يبدو أن الكتاب فيها‪.‬‬
‫ُ‬
‫ثم استدارت وأشارت بعنجهية إلى أحد الحراس وقالت‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬احضروا الساحر "قرجة" حاال‬
‫ً‬
‫انصرف أحد الحراس مهروال ليستدعي الساحر "قرجة" ذا الستة أصابع‪،‬‬
‫والذي يخشاه الجميع‪ ،‬حيث كان يستعين بالجان ويقوم بأفاعيل يشيب لها‬
‫الولدان‪ ،‬جلست َ"نبرة" تفرقع أصابعها وتقرض شفتيها في غضب‪ ،‬لم يجرؤ‬
‫أخوها ِ"كمشاق" على لومها فالكتاب قد ُسرق من غرفتها وهي التي ّ‬
‫أصرت على‬
‫غاضبا منها ّ‬
‫بشدة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫االحتفاظ به عندها‪ّ ،‬‬
‫لكنه كان‬
‫عشا أحضره بستاني‬‫عادت لجناحها فإذا بجا ية تهرول نحوها وهي تحمل ًّ‬
‫ر‬
‫القصر من فوق الشجرة‪ ،‬كان يحوي صغار بومتها البيضاء‪ ،‬اتسعت حدقتاها‬
‫َ‬
‫وكانت في غاية الغضب‪ ،‬قالت "نبرة" بحنق شديد‪:‬‬
‫‪ -‬ألهذا انشغلت عني تلك الب ومة الحقيرة!‬
‫مدت كفيها وخنقت الصغيرين داخل العش‪ ،‬كانت الجارية ترتجف وهي‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫تراقب أنفاسهما وهي تتباطأ ث ّم تنقطع‪ ،‬هرولت باكية وأعادت العش للبستاني‬
‫الذي أعادة ملكانه في وجل وإشفاق‪ ،‬واختبأ مع الجارية يراقبان البومة‬
‫ُ‬
‫املسكينة عندما عادت وقد فجعت في صغارها‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫‪201‬‬
‫(‪)18‬‬

‫خوف!‬

‫عاد "أنس" إلى دكان "كلودة" بعد أن ترك َ"مرام" أمام بيت "أشريا"‬
‫ُ‬
‫واطمأن ّأنها دلفت إلى الدار بأمان‪ ،‬استقبله "كومبو" بالعناق وكان في غاية‬
‫ّ‬
‫وكأن هناك ما يشغل فكره‪ ،‬حتى‬ ‫ساهما ّ‬
‫ً‬ ‫السعادة بعودته‪ّ ،‬أما "كلودة" فبدا‬
‫ُ‬ ‫ّأنه لم يسأل "أنس" ّ‬
‫عما فعله في الغابة‪ ،‬واكتفى بمتابعة حواره مع "كومبو"‪،‬‬
‫قرر "أنس" أن يبدأ رحلة بحثه عن كتابه‪ ،‬أخرج الخريطة التي أعطتها له‬
‫ّ‬
‫يتفكر في األرقام ّ‬ ‫"الحوراء" وعاد ّ‬
‫املدونة عليها‪ ،‬ترى ما‬ ‫يتفحصها بإمعان‪ ،‬كان‬
‫اجتر ّ‬
‫كل املعادالت‬ ‫الذي تعنيه! حاول أن يجري بعض الحسابات ليربط بينها‪ّ ،‬‬
‫يفك تلك الشفرة‪ّ ،‬‬ ‫لعله ّ‬‫ّ‬
‫لكنه لم يصل إلى ش يء واضح‬ ‫التي درسها بالجامعة‪،‬‬
‫ومحدد! يبدو ّأنه سيعود إلى املكتبة العظمى‪ ،‬ال مجال لتأجيل زيارتها ليسألهم‬
‫عن مصير الكتاب‪ ،‬بينما هو غارق في أفكاره فوجيء بها تقف أمامه! قال‬
‫ً‬
‫متعجبا‪:‬‬
‫‪"َ -‬مرام"! ما الذي أتي بك إلى هنا؟ أ لم نتفق على أن تبقي في دار "أشريا" وال‬
‫ّ‬
‫تخرجي إال للضرورة؟‬
‫‪ -‬أصابني الخوف‬
‫‪ -‬من ماذا؟‬
‫قالت بصوت تخنقه العبرات‪:‬‬
‫ّ‬
‫وسأظل هنا لألبد‬ ‫‪ -‬ال أدري‪ ،‬أشعر أنني لن أعود إلى بيتي‪ ،‬لقد انتهى أمري‬
‫‪ -‬بل ستعودين إن شاء هللا‪ ..‬ثقي باهلل!‬

‫‪202‬‬
‫ً‬
‫حسنا‪ ..‬ماذا سنفعل؟ ما خطوتنا التالية؟‬ ‫‪ -‬ونعم باهلل‪.‬‬
‫‪ -‬كما اتفقنا‪ ،‬سأحاول البحث عن الكتاب‬
‫‪ -‬إذن سأذهب معك‪.‬‬
‫‪ -‬لكنني سأذهب إلى املكتبة العظمى‪ ،‬وسأنتقل من خالل فجوة‬
‫‪ -‬ولم الفجوات! هل من املمكن أن نسير ً‬
‫معا؟‬
‫جدا يا َ"مرام"‪ ،‬لقد حاولت من قبل‪ ،‬كما ّأن املكان هناك‬
‫‪ -‬املسافة طويلة ً‬
‫أنت بأمان‪ ،‬وكونك في‬ ‫مهيب ويكاد يكون ً‬
‫خاليا من البشر! هنا في القرية ِ‬
‫مطمئنا عليك عندما أغيب عن القرية‪ ،‬أرجوك‬ ‫ً‬ ‫دار "أشريا" سيجعلني‬
‫عودي إلى هناك‪.‬‬
‫ّ‬
‫بتضجر‪:‬‬ ‫قالت‬
‫‪ -‬يبدو ّأنك نسيت أنني كنت أعيش هنا وحدي قبل مجيئك‪ ،‬ووصولك ال‬
‫يعني أنك وص ّي ّ‬
‫علي! لقد علقت معك رغم أنفي!‬
‫ُ‬
‫ث ّم استدارت وسارت بعصبية فالحقها وسار بجوارها وقال يلومها‪:‬‬
‫‪ -‬ظننتك توقفت عن هذا!‬
‫استدارت بعصبية وسألته‪:‬‬
‫‪ -‬ظننتني توقفت عن ماذا؟‬
‫ً ُ‬
‫نت أكثر‬
‫‪ -‬عن الغضب فجأة وبال سبب‪ ..‬كما تفعل أختي"حبيبة" أحيانا! ك ِ‬
‫ً‬
‫هدوئا عندما ّ‬
‫كنا مع "ناردين" في الغابة‬
‫شعرت بالحرج منه‪ ،‬قالت بتلعثم‪:‬‬
‫‪ -‬لست غاضبة‪ ،‬أنا فقط‪..‬‬
‫ً‬
‫قاطعها قائال‪:‬‬
‫‪203‬‬
‫وأن فقدك ملميزاتك كمحاربة جعلك أكثر‬ ‫‪ -‬أعلم ّأنك قلقة وخائفة‪ّ ،‬‬
‫حساسية عن ذي قبل‪ ،‬ولكنك اآلن مجبرة على التعامل مع األمور كما هي‪،‬‬
‫ً‬
‫مطمئنا‬ ‫فهوني على نفسك‪ ،‬ودعيني أقوم بمهمتي وساعديني بأن تجعليني‬
‫عليك وأنا أؤديها‪.‬‬
‫راقت لها كلماته البسيطة‪ ،‬وسارت بجواره تغمرها حالة من السكون‬
‫الجميل‪ ،‬تحتاج من آن آلخر لبعض الطمأنة ال أكثر‪ ،‬فالوضع مربك وهي ترزح‬
‫ودعها بعد أن وعدته‬ ‫تحت ضغوط نفسية متشابكة‪ .‬أعادها إلى بيت "أشريا"‪ّ ،‬‬
‫مرة أخرى حتى يعود إليها‪ُ .‬ث ّم أسرع إلى أحد البساتين بعيداً‬
‫ّأال تغادر البيت ّ‬
‫وحركه في الهواء‪ ،‬انتقل إلى املكتبة العظمى‪،‬‬ ‫عن أعين الناس‪ ،‬أخرج خنجره ّ‬
‫ّ‬
‫املتحركة‪ ،‬كادت الرمال تبتلعه لوال‬ ‫تكر ّر األمر! وتكرر ما حدث له مع الرمال‬
‫ّ‬ ‫ّأنه فعل كما فعل في ّ‬
‫املرة السابقة ليخلص نفسه منها‪ ،‬سحبته الفجوة وعاد‬
‫إلى بيت "كلودة"‪ ،‬يبدو أن االنتقال إلى املكتبة العظمي أصعب من االنتقال إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫كل األماكن في تلك اململكة‪ ،‬كان ً‬‫ّ‬
‫ومرهقا ففضل أن يرتاح قليال‪ ،‬مكث‬ ‫متعبا‬
‫ً‬
‫هناك حتى عاد "كلودة" ليال‪ ،‬وكان لهما حديث طويل‪ ،‬استسلما بعده لنوم‬
‫عميق‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫ً‬
‫ما زالت السماء مظلمة‪ ،‬لم يبسط الفجر رداءه كامال بعد! أفاق "أنس"‬
‫على صوت الباب وهو ُيغلق‪ ،‬وثب وتبع "كلودة" حيث خرج قبل أن تشرق‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫متوجها للقصر للقاء "أونتي"‪ ،‬لحقه‬ ‫الشمس بدقائق‪ ،‬كان يسير نحو السهول‬
‫ً‬
‫غاضبا‪،‬‬ ‫"أنس" دون أن يشعر به وضربه على كتفه‪ ،‬أجفل "كلودة" واستدار‬
‫سأله "أنس" وعيناه تتهمانه‪:‬‬
‫‪ -‬هل عدت للقائها؟‬
‫‪ -‬أنا فقط أريد أن‪...‬‬
‫هربت منه الكلمات‪ ،‬لم يجد ما يقوله!‪ ،‬سأله "أنس"‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تخبرني ّأنك ندمت وتبت يا "كلودة"؟‬
‫‪204‬‬
‫‪ -‬كنت فقط ّ‬
‫أود أن أتحدث إليها ألخبرها أنني لم أقصد أن أجرحها أو أس يء‬
‫إليها‪.‬‬
‫‪ -‬تشفق عليها‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫ّ‬
‫بالذنب الشديد‪ ،‬كان الصواب أن ّ‬
‫أصدها من البداية‪.‬‬ ‫‪ -‬وأشعر‬
‫‪ّ -‬‬
‫لكنك إن التقيت بها ستضعف وتعود‪.‬‬
‫‪ -‬لن أعود لذلك يا "أنس"‪ ،‬صدقني‪ ،‬أنا فقط‪..‬‬
‫‪ -‬انظر لنفسك! تستدرجك شهوتك لتنزلق ّ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪..‬أنا ذاهب فقط لكي يرتاح ضميري ولست ً‬
‫ذاهبا إلرضاء شهوتي‪ ،‬اتركني‬
‫يا "أنس" أرجوك‪.‬‬
‫واستدار وترك "أنس" وأكمل طريقه تجاه القصر‪ ،‬الحقه "أنس" وسبقه‬
‫ووقف يعترض طريقه وقال وهو يمسك بكتفيه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬عد معي‪ ،‬وأغلق تلك الصفحة ً‬
‫تماما‪ ،‬ولتنس أمرها وتسلمه هلل‪ ،‬هو‬
‫يكفيها‪ ،‬وادع لها في صالتك هي وكل من يخطئ‪ ،‬توبتك تحتاج منك أن‬
‫مجرد عودتك إلى نفس املكان ستنبش‬ ‫تقطع صلتك باملاض ي إلى األبد‪ّ ،‬‬
‫الذكريات‪ ،‬ستضغط على بقايا علقت بنفسك ولم تزل بعد أدرانها‪ ،‬ما‬
‫بعيدا واضرب خيمتك في فالة واربأ بنفسك‬‫فشدها ً‬ ‫زالت روحك تتأرجح‪ّ ،‬‬
‫وعض على بنانك إن استبدت بك الشهوة‬ ‫ّ‬ ‫عن هذا واستغفر واستعصم‪،‬‬
‫وأصابك الحنين إلى العودة إلى هنا‪.‬‬
‫ً‬
‫وأحيانا أخرى أنني قبيح وقذر ونفس ي متسخة‪...‬‬ ‫ً‬
‫أحيانا أنني قوي‪،‬‬ ‫‪ -‬أشعر‬
‫ً‬
‫ولن أتغير أبدا‪ ،‬وسأظل كما أنا‪ ،‬لن يغفر لي الناس‪ ،‬ستظل بقايا املاض ي‬
‫عالقة بي‪ ،‬وستطاردني‪.‬‬
‫‪ -‬املهم أن يغفر لك ر ّب الناس‬
‫‪ -‬أخش ى أن‪...‬‬
‫خيرا!‪ ،‬سيغفر لك‪ ،‬وسيستجيب‪ ،‬أتظن أن ّ‬
‫كل من‬ ‫‪ -‬ال تكملها‪ ...‬ظن به ً‬
‫حولك مالئكة! كلهم يخطئون ويذنبون يا "كلودة"‪.‬‬
‫‪205‬‬
‫ذنوبا خفيفة‪ّ ،‬أما أنا فخطئي أكبر! ابتليت في شهوتي يا‬ ‫‪ -‬لعلهم يذنبون ً‬
‫"أنس"‬
‫ّ‬
‫‪ -‬كل الذنوب شهوات‪ ،‬شهوة جسد‪ ،‬لذة جوارح مادية‪ ،‬تذوقها أعضاؤك‬
‫جرب أن تتلذذ وأشبع روحك بذكر‬ ‫فقط‪ ،‬أما روحك‪...‬فلها ملكوت آخر‪ّ ،‬‬
‫هللا‪ ،‬سيغادرك هذا اإلحساس بالدونية‪ ،‬وستكون أقوى‪ّ ...‬‬
‫جرب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ -‬وددت أن أكون‬
‫إنسانا فاضال يا "أنس"‪ ...‬ولكن فات األوان!‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ونقيا‪ ،‬أ ِم َن‬
‫طي ًبا ً‬
‫إنسانا ّ‬ ‫‪ -‬من قال هذا؟ أن تكون فاضال تعني أن تكون‬
‫اآلخرون أذاه‪.‬‬
‫‪ -‬ويحب مكارم األخالق وتتمثل فيه‪ ،‬أنا أخطأت‪ ..‬كيف سأعود ًّ‬
‫نقيا؟‬
‫كل سيئة ستقلب برحمة هللا إلى حسنة‪ ،‬وكل ظلمة‬ ‫‪ -‬لكنك ندمت! ّ‬
‫ً‬
‫معصوما‪ ،‬أنت‬ ‫ستبيض‪ ،‬أنت بشر ولست ً‬
‫نبيا‬ ‫ّ‬ ‫ستض يء‪ ،‬وكل نكتة سوداء‬
‫ّ‬
‫تخطئ لكنك تداركت األخطاء‪ ،‬قد تذنب‪ ،‬لكنك تريد التوبة‪ ،‬يكفي أن‬
‫ً‬
‫يكون معظمك فاضال يا "كلودة"‪ ،‬لسنا مالئكة يا صديقي‬
‫تنته‪ ،‬نفرت‬‫ظللتهما السكينة ووقفا للحظات‪ ،‬انتهى الكالم لكن معانيه لم ِ‬
‫يتأبط ذراعه‬‫بكفه واحتضنه ُث ّم سار ّ‬
‫دمعة من عين "كلودة" فاستقبلها "أنس" ّ‬
‫ن حو البيت‪ ،‬عاد كالهما لفراشه لينعم بساعة يغفو فيها قبل أن ينطلقا‬
‫للعمل‪.‬‬
‫ً‬
‫طرقات خفيفة على باب الدار أيقظته من غفوته‪ ،‬كان "كلودة" غارقا في‬
‫النوم عندما أفاق "أنس" وسار نحو الباب‪ ،‬فتحه فأصدر الباب أز ًيزا ً‬
‫غريبا‬
‫وامتألت الدار بضوء ذهبي قو ّي رفع "أنس" كفيه ليحجبه عن عينيه‪ ،‬خرج‬
‫ً‬
‫مصباحا أو ماذا! اختفى الضوء فجأة وظهر أمامه‬ ‫من باب الدار ليرى إن كان‬
‫األمير "أواوا" الذي كان قد رآه من قبل في النفق تحت املاء‪ ،‬كانت عليه ثياب‬
‫كتانية مصبوغة بلون برتقالي فاقع ومحفورة بخيوط ذهبية على أطرافها‪ ،‬على‬ ‫ّ‬
‫عاكسا ألوان فصوص الياقوت‬ ‫ً‬ ‫رأسه كان التاج يومض تحت ضوء الشمس‬
‫تطعم التاج‪ ،‬فغر "أنس" فاه وهو يتأمل هيئة األمير الساحرة بقامته‬ ‫التي ّ‬
‫املديدة ومالمحه املستضيئة‪ ،‬أجفل عندما رآه ينزع التاج عن رأسه ويركض‬
‫ُ‬ ‫وكأن هناك من يطارده‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫تلفت "أنس" ث ّم تبعه حيث دار خلف البيت وأسرع‬
‫‪206‬‬
‫يختبي خلف جذع شجرة‪ ،‬رأى األمير "أواوا" ينحني حيث كانت هناك كومة‬
‫تغبرت رموشه‬‫من األغصان وبدأ يزيلها ُث ّم بدأ يحفر األرض بأصابعه حتى ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خشبيا وجلس بجواره وأخرج‬ ‫وحاجباه و مالبسه‪ ،‬نفض يديه وأخرج صندوقا‬
‫ّ‬ ‫منه ً‬
‫كتابا ما‪ ،‬فتحه فدار وتقلب في الهواء وانفصلت ورقاته وطارت في الهواء‬
‫ّ‬
‫وح لقت حول األمير "أواوا"‪ ،‬عاد األمير يكرر العبارات التي رددها على مسامع‬
‫"أنس" في املمر تحت املاء بينما تدور الصفحات حوله‪ ،‬وبعد أن انتهى عادت‬
‫دفتي الكتاب‪ ،‬أغلقه بحرص شديد وحمله ّ‬ ‫ّ‬
‫وكأنه يحمل‬ ‫تستقر بانتظام بين‬
‫وتأمله بامتنان ومد يديه بالكتاب لـ"أنس"‪ ،‬تالقت عيناهما فشعر‬ ‫ضيعا ّ‬
‫ر ً‬
‫"أنس" وكأن روحه تنسحب من بين جنبيه‪ ،‬استيقظ على صوت "كلودة" وهو‬ ‫ّ‬
‫بقوة ويقول له‪:‬‬ ‫ّ‬
‫يهزه ّ‬

‫‪ -‬ما بك يا "أنس"؟ ملاذا تشهق بتلك الطريق؟‬


‫ُ‬
‫في تلك اللحظة‪ ،‬كان "كومبو" يقف ويصيح عليهما بصوته الجهوري من‬
‫ّ‬
‫أمام باب البيت‪ ،‬وملا لم يفتحا ركل الباب بقدمه ودلف بعينيه الضاحكتين‪،‬‬
‫قال بمرح‪:‬‬
‫ّ‬
‫محشوة بالتفاح والعسل‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫أعدت أمي لكما إفطا ًرا ًّ‬
‫شهيا‪ ،‬فطيرة‬
‫ثوان معدودة كانت الغرفة تعبق برائحة الفطير الشهي‪ ،‬وثب "أنس" من‬‫في ٍ‬
‫ً‬
‫فراشه‪ ،‬كان يشعر أن عظام جسده تكاد تتفتت‪ ،‬جلس ساكنا كالصنم‬
‫ُ‬
‫للحظات ث ّم قال لهما‪:‬‬
‫‪ -‬سأعود بعد لحظات‪.‬‬
‫اكضا ودار خلف البيت ّ‬
‫يتفحص األشجار‪ ،‬عثر على كومة األغصان‬ ‫خرج ر ً‬
‫تحت شجرة جذعها عريض‪ ،‬أسرع "أنس" يحفر تحت الشجرة كما فعل األمير‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ممتلئا بالكتب‪ ،‬جلس‬ ‫"أواوا" في الحلم الذي رآه‪ ،‬انحنى وسحب صندوقا‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫والتراب يغطي رأسه وثيابه ثم أخرج منه كتابه الذي يبحث عنه‪ ،‬لقد دله‬
‫األمير "أواوا" على مكانه!‬
‫عاد بالكتاب لرفيقيه‪ ،‬فور أن رآه "كلودة" شهق وألقى الفطيرة من يده‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪207‬‬
‫‪ّ -‬إنه كتابي!!‬
‫‪ -‬بل كتابي‪" ...‬إيكادولي"‬
‫‪ -‬كيف عرفت مكانه!!‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تصدق‪ ...‬بعد أن عدنا غفوت لدقائق ورأيت رؤيا تدلني على املكان‬ ‫‪ -‬لن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تحت الشجرة‪ ،‬دلني عليها األمير "أواوا"‬
‫ُ‬
‫قال "كومبو"‪:‬‬
‫‪ -‬يا هللا! إذن الكتاب من ضمن كتاباته العظيمة يا "أنس"!‬
‫ارتبك ُ"كلودة" وبدا عليه التوتر‪ ،‬لم يتخيل أن يكون الكتاب الذي أهدته‬
‫له األميرة "أونتي" هو كتاب "أنس"‪ ،‬قال ّ‬
‫بتحرج‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬لم أكن أعلم‪ ،‬فقد أهدته لي "أونتي"‪ ،‬وجدت صفحاته خالية فكتبت به!‬
‫إلي مع َ"مرام" لتطلب مني أن أتخلص منها‪.‬‬
‫كانت تلك الهدية التي أرسلت ّ‬
‫‪ -‬إذن كانت َ"مرام" قريبة من الكتاب وهي ال تعلم!‬
‫شيئا‪ّ ،‬‬
‫تعجب "كلودة" وأخذ يبحث ّ‬
‫عما‬ ‫ّقلب "أنس" صفحاته فلم يجد ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫متعجبا‪:‬‬ ‫كتبه فيه‪ ،‬ث ّم قال‬
‫‪ -‬كنت قد كتبت بعض الكلمات‪ ،‬ال أدري أين اختفت!‬
‫أغلق "أنس" كتابه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬الكتاب ال يقبل ما يكتب عليه‪ ،‬يبتلع الكلمات ويرفضها‪ ،‬ستظهر الكلمات‬
‫ً‬
‫تباعا في وقت ما‪ ،‬هذا ما أعرفه!‬
‫ُ‬
‫بفم ممتلئ بالفطير وكان يتابعهما بفضول شديد ‪:‬‬
‫قال "كومبو" ٍ‬
‫ً‬
‫حسنا أيها املحارب‪ ،‬ها أنت قد استعدت كتابك‪،‬‬ ‫‪ -‬هكذا إذن تحدث األمور‪،‬‬
‫فهل سترحل ّ‬
‫عنا؟‬
‫ّ‬ ‫قالها وفي عينيه مسحة حزن تش ي ّ‬
‫بأنه قد تعلق بـ"أنس" ويصعب عليه أن‬
‫يغادرهما‪ ،‬قال "أنس" يالطفه‪:‬‬
‫‪208‬‬
‫‪ -‬ال أيها السمين! سأبقى معكما وسأظل بالقرية حتى يسترد الكتاب كلماته‪.‬‬
‫ً‬
‫سمينا‬ ‫‪ -‬لست‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ألست "كومبو"؟‬
‫ُ‬
‫‪ -‬نعم أنا "كومبو"!‬
‫‪ -‬إذن أنت سمين‬
‫ً‬
‫انطلق الثالثة إلى دكان العطارة‪ ،‬كان "أنس" سعيدا باسترداد كتابه‪ّ ،،‬‬
‫ظل‬
‫ُ‬
‫يشاكس "كومبو" طوال الطريق‪ ،‬بينما البسمة املتعبة لم تغادر وجه "كلودة"‪،‬‬
‫ّ‬
‫النقية‪ ،‬عاد يسبح‪ ،‬قال‬ ‫الذي كان يتعافى من املاض ي‪ ،‬وقد بدأ يسترد روحه‬
‫بصوت مكسور‪:‬‬
‫‪ -‬سبحانك سبحانك‪ ،‬ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله!‬
‫❐ ❐❐‬

‫ّ‬
‫عريض مثقوب تتخلله حلقة ذهبية رفيعة‪ ،‬وأذنين يتدلى منهما‬ ‫ٍ‬ ‫بأنف‬
‫ّ‬
‫فصان من الياقوت األحمر‪ ،‬وبوجه ضامر مغبر تثقبه عينان ضيقتان‪ ،‬وعليه‬ ‫ّ‬
‫قبعة‬‫ثياب سوداء مشبوحة باللون األصفر دلف الساحر "قرجة" وعلى رأسه ّ‬
‫غريبة تنفر منها ضفائره املجدولة بحبال تتدلى منها أجراس صغيرة ‪ ،‬جلس‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫أجش‪:‬‬ ‫أمام األميرة "نبرة" وقال بصوت‬
‫َ‬
‫‪ -‬موالتي األميرة "نبرة"‬
‫َ‬
‫كانت "نبرة" تخافه لكنها تأبى أن تظهر هذا‪ ،‬لم تجرؤ على إطالة النظر إلى‬
‫عينيه أكثر من ثانيتين‪ ،‬كا نت تركز على أصابع يده الستة وهي تتحدث إليه‬
‫قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أيها الساحر العظيم‪ ،‬أرسلت إليك لتساعدني‪.‬‬
‫نظر إليها بعينيه املتلصصتين تحت حواجبه املرتعشة على نحو شائن وقال‪:‬‬

‫‪209‬‬
‫‪ -‬طوع أمرك موالتي‪.‬‬
‫يخصني ُسرق من غرفتي‪ ،‬وأنا أبحث عمن سرقه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬هناك كتاب ثمين‬
‫َ‬
‫مد "قرجة" يده فجأة وأمسك بيدها فانتفضت وركز عينيه في عينيها‬
‫فارتجفت وراعتها نظراته‪ ،‬ترك يدها فتراجعت وقبضتها نحو صدرها وقالت له‪:‬‬
‫‪ -‬سأعطيك ما تطلبه‪ ،‬ودلني على السارق‪.‬‬
‫صب في أحدهما‬ ‫صفق "قرجة" فاقترب مساعده‪ ،‬ووضع إنائين أمام نبره‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫طينا أسود‪ ،‬وبدأ يتمتم بكلمات لم تفهمها َ"نبرة"‪ّ ،‬‬
‫ظل‬ ‫املاء‪ ،‬ووضع في اآلخر ً‬
‫يرددها وكانت تشعر بالجو حولها يزداد حرارة‪ ،‬طلب منها أن تختار إناء‬
‫َ‬
‫وتحمله‪ ،‬حملت "نبرة" إناء املاء فانسكب عليها‪ ،‬غضن الساحر حاجبيه ثم‬
‫وأحست هي‬‫ّ‬ ‫أغمض عينيه في غضب‪ ،‬صرخ صرخة ار ّ‬
‫تجت لها أركان الغرفة‪،‬‬
‫بأن هناك ألف إبرة رشقت في ذراعها‪ ،‬طلب منها أن تحمل اإلناء اآلخر املمتلئ‬ ‫ّ‬
‫يحدق فيه‪،‬‬ ‫بالطين األسود‪ ،‬حملته بين يديها بحرص شديد‪ ،‬بدأ الساحر ّ‬
‫مرة أخرى ورأى فتاة تفتش في خزانة‬ ‫حية ّ‬ ‫وبدأت الصور ّ‬
‫تتمثل أمام عينيه ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫"نبرة" وتسرق الكتاب‪ ،‬كان ينتظر أن تستدير ليرى وجهها‪ ،‬وكانت "نبرة" تتابع‬
‫تعابير وجهه بتركيز شديد وتنصت إليه وهو يصف ما يراه من مشاهد أمام‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ولكن الطين األسود ماج في بعضه ث ّم تصلب‬ ‫عينيه لتعرف مصير الكتاب‪،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وتحول إلى حجر صلد‪ ،‬فشهق الساحر وأغمض عينيه‪ ،‬صاحت "نبرة"‬ ‫فجأة‬
‫بعصبية‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي حدث؟ من هي الفتاة؟‬
‫أمسك الساحر باإلناء وسحب منه الحجر األسود الذي تكون وقال لها‪:‬‬
‫‪ -‬أغلق الطين عينه!‬
‫‪ -‬ما هذا الهراء! أعد ما قلته ولتحضر املزيد من الطين وأخبرني إلى أين ذهب‬
‫الكتاب؟‬
‫‪ -‬هذا الكتاب ليس لك‪.‬‬
‫‪ -‬وما أدراك؟‬
‫‪210‬‬
‫‪ -‬الكتاب مسروق من صاحبه‪.‬‬
‫وقفت وسارت خطوتين ّثم التفتت إليه وخلعت خواتمها ّ‬
‫وكل ما ترتديه‬
‫من جواهر وألقتها أمام الساحر وقالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ولك املزيد‪ ،‬فقط دلني على مكانه‪.‬‬
‫‪ -‬لن أستطيع‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬منعنى "املجاهيم" من تتبع مكان الكتاب‬
‫‪ -‬ومن هؤالء‬
‫‪ -‬قبيلة من قبائل الجان‪ ،‬يبدو أن الكتاب يهمهم‪ ،‬ملاذا تريدين هذا الكتاب؟‬
‫‪ -‬أريده ألتمكن من السيطرة على املحارب‪ ،‬أريده‪ ...‬أتفهم؟‬
‫رفع حاجبيه وقال وهو يرشقها بنظرة خبيثة‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو ّأنك تريدين املحارب ال الكتاب يا موالتي!‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫عضت األميرة "نبرة" على شفتيها بغيظ‪ ،‬كادت تنصرف لوال أن "قرجة"‬
‫قال لها بصوت يشبه الفحيح‪:‬‬
‫‪ -‬قد أساعدك في السيطرة على املحارب نفسه‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؟‬
‫ّ‬
‫يخصه‪ ،‬واتركي األمر لي‪.‬‬ ‫‪ -‬أحضري لي ً‬
‫شيئا‬
‫❐❐❐‬

‫أشرقت الشمس تكنس بقايا الليل‪ ،‬تنزع أدر ًانا علقت بثوب ُ‬
‫الصبح‪،‬‬
‫كل ش يء بنور هللا‪ ،‬صفحة من ليل بهيم ّولت تطوي‬ ‫منيبا‪ ،‬وأنار ّ‬
‫تائبا ً‬ ‫ّ‬
‫فتنفس ً‬
‫شكرا هلل على ستره‬‫ً‬ ‫ذنوبا غسلتها دموع التائبين‪ ،‬نسمات الهواء تهمس‬ ‫ً‬
‫للخاطئين‪ ،‬فهو لم يفضحهم ولم ينزع الغطاء عنهم ألنه أراد أن يمهلهم ليتوبوا‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫يتفحص كتابه باطمئنان وهو يجلس في ركن هادئ بدكان‬ ‫ّ‬ ‫كان أنس‬
‫ّ‬
‫"كلودة"‪ ،‬كان يتفكر كيف ستظهر الكلمات‪ ،‬وكيف ستكون؟ هل هي قصة؟ أم‬
‫مجموعة من النصائح والحكم في شكل قصص ي؟ أم ماذا!! هو ال يحتاج اآلن‬
‫إلى الذهاب إلى املكتبة العظمى ليسألهم عن الكتاب‪ ،‬بل يحتاج ملخالطة‬
‫ّ‬ ‫الناس حتى يظهر أبطال ّ‬
‫قصة كتابه‪ ،‬ألقى عصا التسيار في القرية التي امتألت‬
‫ّ‬
‫طرقاتها بالغائدين والرائحين‪ ،‬مر الوقت فعاد وكان قد قرر أن يعاون "كلودة"‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫و"كومبو" في عملهما بدال من الجلوس معهما في الدكان بال فائدة‪ ،‬بعد يوم‬
‫طويل مر الثالثة ببيت أشريا"‪ ،‬دعتهم األم الكريمة كعادتها لتناول الطعام‪،‬‬
‫كانت تلك املرأة النوبية تجد متعة في الحياة االجتماعية‪ ،‬مهما ازدادت‬
‫أعدت لهم "الكابد" حيث كانت ّ‬
‫تعده‬ ‫مسئولياته ال تتأخر عن إطعام الطعام‪ّ ،‬‬
‫أحيانا بعد أن يختمر ليتناولوه في اإلفطار مع العسل واللبن‪ ،‬كانت تجيد‬ ‫ً‬
‫صنعه من دقيق الذرة والشعير‪ ،‬كما كانت تطعمهم "الدوركد"‪،‬‬
‫و"الشط يطة"‪ ،‬و "املرجيجة"‪ ،‬و"الشيلد"‪ ،‬والعديد من أصناف األكالت النوبية‬
‫ّ‬
‫الشهية‪.‬‬
‫اقترب "أنس" من َ"مرام" وأخرج الكتاب لتراه‪ ،‬قالت وهي ّ‬
‫تمر بيدها على‬
‫غالفه‪:‬‬
‫مني طوال الوقت وأنا في القصر!‬ ‫قريبا ّ‬
‫‪ -‬يا إلهي! كان الكتاب ً‬
‫ّ‬
‫وكنت تطلبين من "كلودة" أن يتخلص منه! ماذا لو‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬نعم وفي نفس الغرفة‪،‬‬
‫ً‬
‫حرقه "كلودة" مثال!‪ ..‬تخيلي!‬
‫‪ -‬تلك الكتب تدافع عن نفسها يا "أنس" ال تقلق‬
‫ُ‬
‫ث ّم أضافت مقطبة جبينها‪:‬‬
‫‪ -‬إنها تشعر ّ‬
‫بكل ش ىء!‬
‫ُ‬
‫‪ -‬باملناسبة‪ ،‬ال تخبري "أشريا" بأمر األميرة "أونتي" وعالقتها السابقة بـ "كلودة"‬
‫‪ -‬لن أخبرها‪...‬‬
‫‪ -‬أعلم ّأنك ساخطة عليه‪ ،‬لكنني أشعر ّأنه و "أشريا" أبطال ّ‬
‫قصة كتابي‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫‪ -‬هو ال يستحق "أشريا"!‬
‫‪ -‬يا َ"مرام"‪" ،‬كلودة" كان قد اتخذ قرا ًرا بالتوقف عن رؤيتها من قبل أن‬
‫ً‬
‫شخصيا لها لتخبريها بهذا‪.‬‬ ‫تصلي إليه برسالتها‪ ،‬كما أنه كان سيرسلك‬
‫هزت كتفيها وهي تجلس وقالت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬أوقال لك هذا!‬
‫ّ‬
‫أخبرته أنك ّ‬
‫حرة ولن تعودي للقصر‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬ولكنك ِ‬
‫أشاحت بوجهها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬أشك في صدقه‬
‫مرة أخرى‪.‬‬‫‪ -‬لقد ذهب بالفعل وأخبرها أنه لن يذهب إليها ّ‬
‫ُ‬
‫كانت َ"مرام" غاضبة وهي تنصت إليه‪ ،‬فقد رأت "كلودة" بعينها مع "أونتي"‬
‫وكانت تكره فعلهما حيث كانت مجبرة على الذهاب معها‪ ،‬لم تكن قد شهدت‬
‫ُ‬
‫بكاء "كلودة" ولم تسمع كالمه الذي أثر في "أنس" و"كومبو"‪ ،‬وعدته أن تكتم‬
‫السر‪ ،‬بعد لحظات وبشكل فجائي انطلقت أم "أشريا" تزغرد في فرح فقد‬
‫طلب "كلودة" الزواج من أشريا" مرة أخرى ووافقت ً‬
‫أخيرا الفتاة على الزواج!‬
‫ّ‬
‫تذكرت َ"مرام" حديثها معها في غرفتها وأدركت ّأنها قررت أن تقف بجوار‬
‫تحبه‪ ،‬كانت َ"مرام" ترى تلك مجازفة‬ ‫وتثبته وتتقبله بعيوبه ّ‬
‫ألنها ّ‬ ‫"كلودة" ّ‬
‫َ‬
‫وحماقة! ما زالت "مرام" ال تثق في "كلودة"‪ ،‬لكنها ال تستطيع أن تفتح فمها!‬
‫اقتربت منها وهنأتها‪ ،‬وكذلك فعل "أنس" مع "كلودة"‪ ،‬وعادا إلى أماكنهما‬
‫يتحدثان‪ ،‬همست َ"مرام" لـ"أنس"‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا يفعلون هذا!‬
‫‪ -‬من هم؟‬
‫‪ -‬الرجال!‬
‫‪ -‬ما بهم؟‬
‫ُ‬
‫‪ -‬أترى "كلودة"! يعربد مع فتاة ويتزوج بأخرى عفيفة! أشفق على "أشريا"‬
‫لكنني ال أستطيع البوح لها بش يء‪.‬‬
‫‪213‬‬
‫‪ -‬شش‪ ...‬كفي عن هذا! ال تفضحيه!‬
‫‪ -‬ال أدري كيف تدافع عنه!‬
‫‪ -‬لقد تاب‪ ،‬وهو نادم على ما فعله ّ‬
‫بشدة‪.‬‬
‫غمغمت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬وما أدراك؟‬
‫مرت أيام قليلة ّ‬
‫لكن ما شهدته فيها يكفي‪.‬‬ ‫‪ -‬أعرف‪ ،‬فأنا شاب مثله‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬ال يوجد شاب بكر العواطف على وجه األرض‪...‬ملاذا ال تكون الزوجة أول‬
‫حب لزوجها؟‬
‫‪ -‬وما أدراك أن كل األزواج هكذا؟‬
‫مجرد ّ‬
‫ظن‪.‬‬ ‫‪ -‬ال أدري‪ّ ...‬‬
‫‪ -‬أتحسبين أن أي خاطرة ترد على فكر رجل أو شاب تعتبر ً‬
‫حبا؟ األمر ليس‬
‫بتلك السهولة‪ ،‬رّبما هناك إعجاب‪ ،‬ور ّبما يفكر الشاب في فتاة ويتراجع كما‬
‫أيضا‪ ،‬حتى الفتاة العفيفة تعرض على عقلها صورة الخاطب‬ ‫تفعل هي ً‬
‫كل منهما لحاله تستخلص نفسها‬ ‫لها‪ ،‬وتمر بخاطرها‪ ،‬لكنها وإن انصرف ّ‬
‫حبا‪ ..‬أليس كذلك؟‬‫من حالة الفكر تلك‪ ،‬وال يحسب هذا عليها ًّ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬لو فتشت في قلب أي شاب ستجده مغارة علي بابا‪ ،‬ممتلئة بآالف قصص‬
‫الحب لكل الفتيات الالتي التقى ّ‬
‫بهن في حياته‪.‬‬
‫كل الفتيات تملك ً‬
‫قلبا كمدينة املالهي‬ ‫‪ -‬ال تقعي في ّ‬
‫فخ التعميم‪ ،‬فليست ّ‬
‫التي يستطيع أي شاب تلتقي به أن ّ‬
‫يتنزه فيها‪.‬‬
‫أطبقت فمها‪ ،‬وعادت تتحفز له‪ ،‬كانت تشعر بالغضب تجاه "كلودة"‪،‬‬
‫وكأنه مسئول عن أخطاء غيره! الحظ‬ ‫تصب غضبها على "أنس"‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكانت‬
‫توترها‪ ،‬أراد أن يخفف عنها فقال بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬لم يكن قلبي ً‬
‫يوما كمغارة علي بابا‪ ،‬كنت أتعامل مع زميالتي في الجامعة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بتحفظ حتى أن البعض كان يظنني شخصا باردا ال يجيد فنون التعامل‬
‫‪214‬‬
‫معهن بلي اقة ولطف‪ ،‬لكنني كنت ً‬
‫دوما أرى أنه في يوم ما سألتقي بفتاة‬
‫مميزة‪ ،‬وكما أنني حفظت قلبي من أجلها سيحفظها هللا من أجلي‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن! انظر ها هي "أشريا" حفظت قلبها! وها هي ستتزوج من شاب‪....‬‬
‫‪ -‬رّبما لصدقه حفظها هللا له‪ ،‬ور ّبما لنقائها أصلحه هللا لها!‪ ،‬ال يوجد‬
‫شخص مثالي يا َ"مرام"‪ ،‬كلنا نخطئ‪ ،‬وأخطاؤنا متفاوتة‪.‬‬
‫ابتلعه صمت خفيف بعد أن أنصت لنفسه! كان يسترجع فيه ما كان‬
‫سابقا‪ ،‬كيف كا ن يلغي صداقته بمن يخطئ خطأ واحدا راوده‬‫يفعله مع فاقه ً‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫شعور بالذنب تجاه كل من أقصاهم من حياته‪ ،‬ملاذا لم يتراجع ويعطيهم‬
‫فرصة! أو حتى يسأل عنهم ويكون هناك عندما يحتاجونه‪ ،‬فربما يثبتهم وال‬
‫يعودون للخطأ‪ ،‬انتشلته من فقاعة الصمت التي الذ بها وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬ربما أصلحه هللا من أجلها يا "أنس"‪ ...‬أرجو هذا‪.‬‬
‫ازدحم البيت في الحال‪ ،‬أقبل الجيران يفدون إلى الدار يهنئونهم‪ ،‬وكان‬
‫يسلم على الناس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ"كومبو" يهلل ً‬
‫وكأنه هو صاحب‬ ‫فرحا ويقفز هنا وهناك‬
‫و"مرام" في حالة سكون لطيف يسترقان النظر‬ ‫العرس‪ ،‬بينما وقف "أنس" َ‬
‫خلسة لبعضهما‪ ،‬ويراقبان ميالد حب جديد‪ ،‬كانت الفرحة تطل من عيني‬
‫"أشريا"‪ ،‬وكان "كلودة" يشعر بفرحة ممزوجة بالخوف والوجل‪.‬‬
‫في لحظة ما تالقت عيناها بعيني "أنس" فأسرعت تصرفهما‪ ،‬شعرت‬
‫ّ‬
‫بدقات قلبها تتواثب‪ ،‬هو الحب ال ريب‪ ،‬هكذا كانت تطقطق الكلمات في ذهنه‬
‫هو اآلخر‪ ،‬وكالهما يشيح بنظره عن اآلخر بينما القلبان يتبادالن النظرات‪،‬‬
‫ّ‬
‫اهتز كتاب "إيكادولي" في حقيبة "أنس"‪ ،‬فأخرجه وفتحه واقتربت َ"مرام" عندما‬
‫الحظت ارتباكه والكتاب بين يديه‪ ،‬لقد ظهرت ّأول عبارات الكتاب‪ ،‬وقف‬
‫كالهما يقرؤها بفضو ٍل شديد‪:‬‬

‫‪215‬‬
‫تبادل "أنس" مع َ"مرام" نظرة خاطفة على استحياء‪ ،‬وعادا يتابعان ما‬
‫يدور أمامهما في صمت وسكون جميل‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪216‬‬
‫(‪)19‬‬

‫فرحة!‬

‫أسا على عقب‪ ،‬الزواج اليوم! كانت تلك مفاجأة لـ"أنس"‪،‬‬ ‫انقلب البيت ر ً‬
‫كما كانت مفاجأة ل َ"مرام"‪ ،‬فهما من عالم يستغرق الزواج فيه شهوراً‬
‫عاما أو عامين حتى يتم! كان اإلسراع في الزواج وتسهيله من‬ ‫طويلة‪ ،‬وربما ً‬
‫ّ‬
‫وخاصة إن كانا أبناء عم أو خال‪ ،‬كانوا يعاونون بعضهم‬ ‫عادات أهل القرية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫البعض ّ‬
‫وكأنهم أهل بيت واحد‪ ،‬حمل بعض األهالي أثاثا بسيطا لبيت "كلودة"‬
‫كل منهم ينفحه هدية‪ ،‬كما أسرعت النساء بإعداد الطعام كل منهن تعد‬
‫شهيا‪ ،‬أما الفتيات فتجمعن في بيت "أشريا" التي كانت مشغولة بش يء‬ ‫صنفا ً‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫تتفحصه بينما كانت صديقاتها يمشطن لها شعرها‪ ،‬سألتها َ"مرام" عنه‬ ‫ّ‬ ‫ما‬
‫ّ‬
‫فأخبرتها أنه "متكأ الحبيب"‪ ،‬وهو نوع من البروش مصنوع من سيقان القمح‬
‫ّ‬
‫ومشغول بقماش بديع األلوان شغلته "أشريا" ليعلق خلف العريس "كلودة"‪،‬‬
‫كل عروس بالقرية‪ ،‬ابتسمت َ"مرام" بينما كانت تتابع ضحكات‬ ‫وكذلك تفعل ّ‬
‫الفتيات‪ ،‬وأحاديثهن الخج ولة‪ ،‬وتلك الهمسات واللكمات الخفيفة على الظهور‬
‫في جو من الفضول والخجل‪ ،‬ستتزوج "أشريا" ً‬
‫أخيرا من حبيبها الذي تعففت‬
‫حتى طلبها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مر اليوم جميال‪ ،‬وبسطت الفرحة رداءها على الجميع‪ ،‬انتقل "أنس" لبيت‬
‫ُ‬
‫"كومبو" وبات ليلته عنده‪ ،‬بينما عادت َ"مرام" مع أم "أشريا" تكفكف لها‬
‫كل منهما في مساحة أخرى‪،‬‬ ‫قرة عينها لبيتها الجديد‪ ،‬كان ّ‬
‫دموعها فقد غادرت ّ‬
‫ّ‬ ‫يحلقان ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحب‪ ،‬همس "أنس" لنفسه والكرى يعقد‬ ‫معا في سماء‬ ‫لكنهما كانا‬
‫بمعاقل جفنيه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬سأتزوجها‪...‬ولم ال؟‬

‫‪217‬‬
‫بينما كانت َ"مرام" ساهمة وهي ّ‬
‫تحدق في الفراغ وتقول‪:‬‬
‫‪" -‬إيكادولي"‬
‫❐❐❐‬

‫لكن السكينة والهدوء ال يزوران القصر حتى يطلع الفجر‪،‬‬ ‫انتصف الليل‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫كالعادة يحتفل امللك ِ"كمشاق" ورفاقه بأي ش يء‪ ،‬ليس ضروريا أن يكون‬
‫َ‬
‫هناك سبب محدد‪ ،‬ولكنهم يحتفلون! ّأما"نبرة" فما زالت غاضبة‪ ،‬لكن غضبها‬
‫لم يمنعها من الجلوس وسط االحتفال لتستمتع وتتلذذ بمراقبة العيون‬
‫لقوامها وجمالها‪.‬‬
‫ُ‬
‫في غرفتها كانت "أونتي" تفرك يديها في غضب وهي تسترجع آخر حوار لها مع‬
‫لكن هذا لم يكن‬ ‫مرة أخرى)‪ّ ،‬‬
‫"كلودة"‪ ،‬تذكرت عندما قال لها (ربما ال ترينني ّ‬
‫يقض مضجعها بل تلك املقاومة التي القتها وهي تحاول أن تقترب منه كاملرة‬ ‫ّ‬ ‫ما‬
‫ّ‬
‫السابقة! كان يم سك بذراعيها بقسوة! ويدفعها وهي ترغب فيه وتحبه! حتى أنه‬
‫عاد وظهر من بين األشجار بعد أن انصرفت الجارية وأخبرها بوضوح وبكلمات‬
‫مقتضبة أنه سيتوقف عن لقائها‪ ،‬وأنه نادم على كل لحظة رآها فيها‪ ،‬وأنه‬
‫يخش ى هللا ويرجو مغفرته! شعرت بطعنة وكأنه وجه إليها إهانة شديدة‪ ..‬لم‬
‫يترك لها الفرصة وأسرع هارًبا منها ّ‬
‫وكأنها املوت يالحقه‪.‬‬
‫‪ -‬فليذهب للجحيم ذاك الحقير!‬
‫قالتها بمرارة وكل خلية في جسدها تنفر غاضبة‪ ،‬فتحت خزانتها وأخرجت‬
‫أحسن أثوابها وأكثرها إظها ًرا ملفاتنها وارتدته ونزلت في كامل زينتها للحفل‪،‬‬
‫أرادت أن ترض ي غرورها بشكل ما‪ ،‬ش يء ما يعيد إليها كرامتها التي أهدرها‬
‫"كلودة" بنفوره بتلك الطريقة‪ ،‬فور دخولها ران صمت مفاجئ على الحضور‪،‬‬
‫لو ألقى أحدهم إبرة الستمع الجميع لرنينها‪ ،‬كان جمالها في تلك اللحظة يفوق‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫بوجود من‬
‫ُ‬ ‫تقبل‬ ‫ال‬ ‫فهي‬ ‫أتها‪،‬‬‫ر‬ ‫عندما‬ ‫ا‬ ‫غضب‬ ‫استشاطت‬ ‫التي‬ ‫برة"‬‫"ن‬ ‫جمال‬
‫ينازعها عرش الجما ل في ذلك القصر‪ ،‬حتى أختها الشقيقة‪ ،‬انضمت "أونتي"‬
‫للحضور‪ ،‬وعاد الصخب للقاعة‪.‬‬
‫❐❐❐‬
‫‪218‬‬
‫ّ‬
‫ائعا في عيني َ"مرام" وهي تسير بتؤده نحو الدكان‪ ،‬كانت‬
‫كان كل ش يء يبدو ر ً‬
‫تراودها أحالم يقظة خاطفة وهي تسير‪ ،‬وكانت تبتسم وهي شاردة كطفلة‬
‫ّ‬
‫وتزف إليه‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تخيلت‬ ‫واسعا‬ ‫فستانا أبيض‬ ‫تخيلت نفسها عرو ًسا ترتدي‬‫صغيرة‪ّ ،‬‬
‫كل ش يء حتى لون ربطة عنقه‪ ،‬كل تلك التفاصيل الصغيرة التي لم تكن تعلم‬ ‫ّ‬
‫أنها ستدقق فيها حتى وهي تحلم به وتتخيله‪ ،‬حمدت هللا أنه ال أحد يرى ما‬
‫ّ‬
‫يدور برأسها‪ .‬اقتربت منهما بانضباط وحيتهما بوقار ّثم وضعت سلة ممتلئة‬
‫ُ‬
‫بالطعام أعد تها أم "أشريا" للعروسين أمام "كومبو" و"أنس" وسألتهما‪:‬‬
‫‪ -‬من منكما سيحمل الطعام للعروسين؟‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قهقه "كومبو" قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ما زلت ال أصدق أن "كلودة" تزوج!‬
‫كان "أنس" على غير عادته‪ ،‬لقد بدأ يرتبك في حضور َ"مرام"! كان يشعر أن‬
‫نفسه التي بين جنبيه ترتج كالجرس‪ ،‬هربت الكلمات منه‪ ،‬شعر أنه ال يستطيع‬
‫تذكر كيف كان يرى "كلودة" وهو ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحدث إلى‬ ‫الكالم‪ ،‬وكأن الوهن أصابه!‬
‫َ‬
‫"أشريا"‪ ،‬وكيف كان يتهمه بالهوان والضعف‪ ،‬اخترقت "مرام" فقاعة الصمت‬
‫ً‬
‫التي كان الئذا بها وسألته‪:‬‬
‫‪ -‬هل ستحمل أنت الطعام يا "أنس"؟‬
‫‪ -‬يبدو هذا ألن ُ"كومبو" لن يستطيع ترك الدكان‪ ،‬هل من املمكن أن تسيري‬
‫معي؟‬
‫فاجأته بردها الذي نزل عليه كالصاعقة عندما قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ال!‬
‫رد ّ‬
‫بتحرج‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أنني أزعجتك‪.‬‬
‫قالت بارتباك‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪..‬ال‪..‬لم تزعجني ولكنني‪ ،‬أفضل أن أعود ألم "أشريا" فهي حزينة لفراق‬
‫ابنتها كما تعلم‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫ً‬
‫حسنا سأذهب اآلن‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬ال تنس أن تنقل سالمي إليهما‪.‬‬
‫َ‬
‫استدار كالهما وافترقا‪ ،‬كانت "مرام" قد قررت أال تسير معه وحدها ّ‬
‫مرة‬
‫أخرى‪ ،‬ال تدري كيف في تلك الظروف العجيبة! وفي تلك اململكة الغريبة! لكنها‬
‫أرادت أن تحتفظ بتلك املنطقة املحظورة التي تربت على أن تحيط نفسها‬
‫وقلبها بها‪ ،‬فال تسمح لغريب بأن يقتحمها‪ ،‬حتى لوكانت‪ .....‬تحبه!‪ّ ،‬‬
‫اجترت ذلك‬ ‫ُ‬
‫الحوار الذي دار بينها وبين "أونتي" التي أخبرتها أنها لن تستطيع السيطرة على‬
‫وأنها ستخطئ‪ ،‬وكان ردها أنها‬ ‫الحب‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫مشاعرها ونفسها إن وقعت في‬
‫ستستعصم‪.‬‬
‫سار "أنس" نحو بيت "كلودة"‪ ،‬شار ًدا يفكر كيف أصابه سهم الحب فجعله‬
‫هشا بتلك الطريقة! في تلك اللحظة شعر باهتزاز في حقيبته فأدرك أن هناك‬ ‫ً‬
‫عبارة جديدة ظهرت في الكتاب‪....‬‬

‫ّ‬
‫أكمل "أنس" طريقه يتفكر في الكلمات‪ ،‬وبعد أن وصل لبيت "كلودة"‬
‫ً ُ‬
‫والتقى به وعانقه طويال‪ ،‬ث ّم أعطاه الطعام طلب منه الدعاء‪ ،‬شعر "كلودة"‬
‫لكنه أسرع يغادر على استحياء وعاد من‬‫مرة أن "أنس" أصابه ش يء ما! ّ‬ ‫ألول ّ‬
‫حيث أتى‪.‬‬
‫يتعرف عليها ّ‬
‫ألول ّ‬
‫مرة! هناك‬ ‫ّ‬
‫أغمض "أنس" عينيه‪ ،‬وجال في نفسه‪ ،‬وكأنه ّ‬
‫لحظات عديدة في أيام مضت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مرت به رّبما في‬‫اشتياق لحالة من الشفافية ّ‬
‫ً‬
‫ً‬
‫وكثيرا لحظة إفطاره بعد صيام رق فيه قلبه‪ ،‬وربما عندما‬ ‫أحيانا وهو ساجد‪،‬‬
‫ّ‬
‫كان يقرأ القرآن‪ ،‬تنفس بعمق ّثم فتح عينيه‪ ،‬وسار وهو يطالع كل ش يء حوله‬
‫بعين أخرى‪ ،‬ومن منظور مختلف‪.‬‬
‫ُ‬
‫عاد إلى الدكان حيث كان "كومبو" يوزع االبتسامات‪ ،‬ذاك الشاب لديه‬
‫روح تضج بالسعادة‪ ،‬يفرقها على اآلخرين‪ ،‬وكأنه ال يخش ى الحزن ً‬
‫أبدا‪.‬‬
‫❐❐❐‬
‫‪220‬‬
‫مر أسبوع عاش فيه "كلودة" أسعد لحظات حياته مع حبيبة قلبه‬ ‫ّ‬
‫"أشريا"‪ ،‬كانت كل لحظة تمر بهما تزيدهما قربا‪ ،‬وكانت هادئة كقطة وديعة‬
‫شديدا ّ‬
‫وكأن‬ ‫ً‬ ‫وسيدها فسكنت له‪ .‬ما زال البرد‬‫أخيرا لجوار صاحبها ّ‬
‫اطمأنت ً‬
‫تلك اململكة فصولها األربعة شتاء! كانت "أشريا" ترتجف عندما أخبرها‬
‫أحبت أن تسير‬‫"كلودة" وهو يحتضن كفيها بين كفيه أنه سيعود للعمل‪ ،‬وإن ّ‬
‫هبت واثبة ووضعت على رأسها خماراً‬ ‫معه لبيت أمها فلتستعد في الحال‪ّ ،‬‬
‫بكفه وسارا‬‫كفها ّ‬
‫فضفاضا وسارت ترفل فيه خلف زوجها‪ ،‬استدار يحتضن ّ‬
‫معا نحو بيت أمها التي أغرقت دموع فرحتها وجهها فور أن رأتها‪ ،‬توجه إلى‬ ‫ً‬
‫استقر في نفس "أنس"‬‫ّ‬ ‫الدكان حيث كان "أنس" يقرأ في كتابه ّ‬
‫بتمعن‪ ،‬كان قد‬
‫أن "كلودة" و "أشريا" هما بطال قصة الكتاب بالفعل‪ ،‬أخفى عنه ما كان يقرؤه‬
‫ً‬ ‫سلم عليه انخرط كالهما في العمل‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫لطيفا على الجميع‪،‬‬ ‫مر اليوم‬ ‫وبعد أن‬
‫َ‬
‫واجتمعوا على الطعام كالعادة‪ ،‬وقف "أنس" بجوار "مرام" غير ناظر إليها وقال‬
‫ّ‬
‫التحرج‪:‬‬ ‫وقد بدا عليه‬
‫أنت بخير؟‬
‫‪ -‬هل ِ‬
‫‪ -‬نعم أنا بخير‪.‬‬
‫‪ -‬كيف هي عينك ويدك؟‬
‫ّ‬
‫يتحسن والحمد هلل‪.‬‬ ‫‪ -‬عيني أفضل‪ ،‬وبدأ الجرح في ّ‬
‫كفي‬
‫كانت وكلما تنظف جرح يدها تعيد تضميده بتلك القماشة التي ّ‬
‫مزقها من‬
‫قميصه‪ّ ،‬‬
‫ودت أن تخبره بالكثير من األشياء‪ ،‬عن خوفها فما زالت خائفة‪ ،‬لكنها‬
‫أصبحت تخجل من أن تخبره أنها تخاف أن يختفي فجأة‪ ،‬أو أن يحدث له‬
‫خطب ما‪ ،‬مض ى "أنس" بخياله يطوي األيام وقال فجأة‪:‬‬
‫‪ -‬عندما نعود لديارنا‪ ...‬ما رأيك أن ّ‬
‫تتعرفي بأختي "حبيبة"‪.‬‬
‫بدا على وجهها االستبشار وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬أود ذلك بالفعل‪.‬‬
‫ّ‬
‫افترت شفتاه عن ابتسامة وقال‪:‬‬

‫‪221‬‬
‫‪ -‬ستسعد بهذا‪ ،‬فهي قليلة األصدقاء‪ ،‬كما ّأنها تشبهك ً‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪ -‬أخبرتني بهذا من قبل‪.‬‬
‫عال عن‬ ‫ّ‬
‫نس ى وجودهما في بيت أشريا ووسط الجميع وبدأ يحدثها‬
‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬
‫نفسه أمام الجميع‪ّ ،‬‬
‫حدثها عن أيام الجامعة‪ ،‬ورفاقه‪ ،‬وطبيعة دراسته‪ ،‬حتى‬
‫ّأنه أخبرها عن طفولته‪ ،‬كانت تنصت إليه مستمتعة بحديثه‪ ،‬قالت مبتهجة‪:‬‬
‫بحب وشغف‪.‬‬‫‪ -‬يبدو ّأن دراسة الهندسة ممتعة‪ ،‬أظنك درستها ّ‬
‫وكأنه اليوم ال يريدها أن تتحدث‪ ،‬بل أن‬ ‫موافقا وأكمل حديثه‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫أومأ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تنصت إليه وحسب‪ ،‬فهو يود أن يخبرها بكل شاردة وواردة عن حياته‪،‬‬
‫كانت حريصة على أن تبدو هادئة منضبطة في تصرفاتها وأقوالها لتداري بهذا‬
‫ٌ‬
‫جميل‬ ‫املظهر ما يضطرب في نفسها من نوازع‪ .‬وكان ّ‬
‫يحدثها وفي عينيه وهج‬
‫تطل منه إشراقة مسحورة‪ .‬كان يراها قريبة منه جدا وبعيدة عنه جدا‪ ،‬فهو‬
‫يتعجل الخروج من تلك اململكة ليطمئن أنها موجودة بالفعل‪ ،‬وأنها واقع في‬ ‫ّ‬
‫حلما‬‫جزءا منه‪ ،‬أصبح يخش ى أن تكون َ"مرام" ً‬‫حياته يستطيع أن يجعلها ً‬
‫يراوده!‬
‫حبا لكنها كانت تخفض الطرف‪ ،‬وكان هو‬ ‫لو تنبهت لعينيه لرأتهما تقطران ً‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يتحدث إليها طويال ّثم يختلس نظرة ويعود فيخفض الطرف عنها‪ ،‬كانت هناك‬
‫معركة تدور في صدره‪ ،‬كان يستجيب فيصمت ويسكن‪ّ ،‬ثم يجد نفسه وقد‬
‫محبوسا لسنوات وأطلق سراحه للتو‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫يحدثها وكأن لسانه كان‬‫عاد ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كلها آذان صاغية‪ ،‬بينما كان "كومبو" يراقبما في سكينة وهدوء شديد‪ .‬جاء‬
‫ً‬
‫وقت الفراق‪ ،‬وكان ثقيال على قلبه كما لم يكن من قبل‪ ،‬ودعها وانصرف مع‬
‫وأمه إلى بيتهما ترف كل جوارحه هوى إليها‪ّ .‬‬
‫اهتز الكتاب في حقيبته‪،‬‬ ‫ُ"كومبو" ّ‬
‫فأخرجه وقرأ ما كتب فيه‪:‬‬

‫ُ‬
‫وتأمل "كلودة" و"أشريا" وهما يسيران أمامه نحو بيتهما‪ ،‬ث ّم‬
‫رفع رأسه ّ‬
‫ُ‬
‫أغلقه وأعاده إلى حقيبته ومض ى مع صديقه "كومبو"‪.‬‬
‫‪222‬‬
‫ّأما َ"مرام" فجلست هادئة القلب راضية النفس نشوانة الخيال‪ّ ،‬‬
‫لكنها‬
‫شعرت بضيق فجأة‪ ،‬كانت تعلم أنه ال ّبد من صراع قبل أن ُيسترد الكتاب‪،‬‬
‫وال ّبد أن وقته اقترب‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫ُ‬
‫في الصباح التالي وفي غرفتها وحيث كانت "أونتي" تتلوى من الغيظ دلفت‬
‫َ‬
‫عليها شقيقتها "نبرة" وجلست بعد أن أشارت للجواري ليتركنهما وحدهما‪،‬‬
‫قالت بلهجة آمرة‪:‬‬
‫ُ‬
‫أنت لست "أونتي" التي أعرفها‪ ،‬أخبريني ما الذي يحدث؟‬
‫‪ -‬هناك ش يء ما! ِ‬
‫‪ -‬ال ش يء!! لم تقولين هذا الكالم‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قامت وسارت نحوها وامسكت باملقعد حيث غطست "أونتي" فيه خوفا‬
‫عبا منها‪ ،‬وألصقت جبهتها بجبهة أختها وقالت‪:‬‬‫ور ً‬
‫ّ‬
‫الخاصة‪.‬‬ ‫‪ -‬إن لم تنطقي فسأستخرج منك الكالم بطريقتي‬
‫ُ‬
‫تمتمت "أونتي" بخوف وقالت بصوت مخنوق‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تريدين؟‬
‫سرقته أليس كذلك؟‬
‫ِ‬ ‫أنت‬
‫‪ -‬الكتاب‪ِ ..‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫شعرت "أونتي" بقشعريرة تجتاح جسدها كله وبعد أن ابتعدت عنها أختها‬
‫وقفت ترتجف كورقة شجرة تتالعب بها الرياح وقالت بصوت مرتعش‪:‬‬
‫‪ -‬بل سرقته تلك الجارية‪.‬‬
‫‪ -‬من؟‬
‫‪"َ -‬مرام"‬
‫‪ -‬تلك املريضة؟‬

‫‪223‬‬
‫‪ -‬لم تكن مريضة‪ ،‬كانت مصابة في عينها فقط‪ ،‬أحضرها "حليم"‪..‬اسأليه‬
‫ّ‬
‫عنها‪ ،‬فقد دثرها بوشاحه عندما أحضرها‪ ،‬وكانت سعيدة بهذا! هي‬
‫سرقت الكتاب من غرفتك ّ‬
‫وفرت بعد أن سرقت املال من خزانتي‪.‬‬
‫كطلقة مدفع خرجت َ"نبرة" من غرفة أختها وهي تهمهم بعبارات ّ‬
‫توعد‬
‫وتهديد لها ألنها لم تخبرها في الحال‪ ،‬كما بدأت تسب وتلعن في "حليم"‪،‬‬
‫انحدرت ككرة من النار على الدرج واقتحمت ديوان أخيها ِ"كمشاق" وقذفت‬
‫بكلماتها في وجه "حليم" الذي كان يقف بجواره‪:‬‬
‫‪ -‬أنت السبب‪ ،‬تلك الجارية التي أحضرتها هي ُالتي سرقت الكتاب من غرفتي‬
‫وهربت من القصر بعد أن سرقت املال من "أونتي"‬
‫‪ -‬أي جارية؟‬
‫‪"َ -‬مرام"‬
‫‪ -‬أيهم؟ أنا ال أذكرها!‬
‫‪ -‬تلك التي غطيتها بوشاحك أيها الـ‪...‬‬
‫تسبه‪ ،‬فهو يكره أن يغضبه ّ‬
‫ألنه‬ ‫صاح ِ"كمشاق" يستوقفها قبل أن ّ‬
‫ساعده األيمن‪ ،‬وألقت بجسدها على الكرس ي وكأن صاعقة أصابتها‪ ،‬قال‬
‫"حليم" ّ‬
‫بجدية‪:‬‬
‫‪ -‬ليس هذا بوجه سارقة‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو أنك عاشق أيها الحليم‪.‬‬
‫قالتها باستهزاء‪ ،‬فتجاهل مالحظتها وقال‪:‬‬
‫ُ‬
‫الفتاة ليست سارقة‪ ،‬وهي فتاة‬
‫ُ‬ ‫تلك‬ ‫خدع!‬ ‫أ‬ ‫‪ -‬لست بسفيه أو أحمق حتى‬
‫يمسها رجل من قبل‪ ،‬عودي ألختك "أونتي" فهناك ش يء ما وراء‬ ‫شريفة لم ّ‬
‫سر وراء اختفاء الكتاب‪.‬‬‫اختفاء تلك الجارية‪ ،‬وهناك ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عادت "نبرة" إلى غرفة أختها "أونتي" ودار بينهما حوار أدارته بطريقتها‬
‫الخاصة حتى استخلصت منها القصة بحذافيرها من البداية وحتى تلك‬ ‫ّ‬

‫‪224‬‬
‫اللحظة التي ماتت فيها روحها عندما لفظها "كلودة" ورفض غرامها‪ ،‬انكشف‬
‫األمر ل َـ"نبرة"‪ّ ،‬‬
‫لكنها لم تخبر أخاها ولم تخبر "حليم" بما عرفته‪ ،‬فهي تود رؤية‬
‫ً‬
‫"أنس" أوال!‬
‫ّ‬
‫الخاصين بها بعد طلوع الفجر يبحثون عن "كلودة"‬ ‫انطلق بعض الحراس‬
‫سريعا فالوصول إلى بيته سهل عليهم‪ ،‬وانتزعوه من حضن بيته‬‫ً‬ ‫وعثروا عليه‬
‫ً‬
‫وأمنه وزوجته "أشريا" التي مادت األرض تحت قدميها وسقطت مغشيا عليها في‬
‫الحال‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫عادت "أشريا" إلى بيت "أمها" وأخبرتها و َ"مرام" بما حدث بعبارات قليلة‬
‫يتخللها بكاء شديد بنشيج مسموع‪ ،‬كانت ال تعرف ملاذا أخذوه! سألت َ"مرام"‬
‫التي كانت في ذاك القصر‪ ،‬وكانت َ"مرام" في حيرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مرارا وتكرارا فهي الوحيدة ُ‬
‫ّ‬
‫من أمرها أتخبرها بأمر األميرة "أونتي" وقصتها مع "كلودة" أم ال‪ .‬آثرت الصمت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وخرجت لتخبر "كومبو" و "أنس" اللذين أغلقا الدكان وتوجها فو ًرا لبيت‬
‫هدأها "أنس"‪ ،‬وأخبرها أن "كلودة" يعشق الكتب كما تعرف هي‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫"أشريا"‪ّ ،‬‬
‫كتابه كان عنده‪ ،‬وحراس امللك يطاردون ا ملحاربين‪ ،‬ويطلبون كتبهم‪ ،‬وألن الخبر‬
‫وتعلقت ّ‬‫ّ‬
‫بكمه وتوسلت إليه أن‬ ‫وصلهم بأن الكتاب عنده اعتقلوه‪ ،‬بكت‬
‫ً‬
‫يعطيهم الكتاب ويعيد إليها زوجها "كلودة"‪ ،‬وعدها أن يعيده وخرج حائرا‪ ،‬ال‬
‫يدري ماذا يفعل!‬
‫❐❐❐‬

‫كانت ضربات السياط على ظهر "كلودة" متواليه حتى أنه فقد وعيه‪ ،‬كان‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫خائرا مضعضع القوى حيث علقوه من قدميه فشعر بأن رأسه سينفجر‪،‬‬
‫كرروا عليه السؤال‪:‬‬
‫‪ -‬أين الكتاب؟‬
‫وكانت إجابته واحدة ال تتغير‪:‬‬
‫‪225‬‬
‫‪ -‬الكتاب مع "أنس"‪.‬‬
‫َ‬
‫لكنهم كانوا يتلذذون بتعذيبه‪ ،‬كانت "نبرة" تراقبهم وهم يضربونه‪ ،‬وجلست‬
‫ّ‬
‫تفكر فقد أخبروها أنه تزوج منذ أسبوع‪ ،‬فهل هو بطل قصة الكتاب؟‪ ،‬وهل‬
‫إن حصلوا على الكتاب اآلن وثقبوا قلبه سيستطيعون كتابة ما يريدون بدمه‬
‫يثبتوه في عقول‬‫يحبون‪ ،‬ويثبتون ما يريدون أن ّ‬ ‫حسب هواهم! يغيرون ما ّ‬
‫كفها فتوقفوا عن جلده‪ ،‬واقتربت منه ووقفت أمام وجهه‬ ‫الناس! رفعت ّ‬
‫املقلوب حيث كان ال يزال ً‬
‫معلقا في الهواء‪ ،‬كانت عالمات األلم بادية في عينيه‬
‫الذابلتين وسحنته الشاحبة‪ ،‬سألته مهدده له‪:‬‬
‫‪ -‬إن لم تخبرنا أين "أنس" اآلن سأجعلهم يخلعون ً‬
‫عينا من عينيك‪.‬‬
‫أخبرها عن مكانه‪ ،‬كان منها ًرا ال يحتمل نفخة هواء أخرى تمر على صفحة‬
‫وجهه‪ ،‬فوصف لها العنوان بالتفصيل‪ ،‬أشارت لرجالها ليحضروا ً‬
‫قلما‬
‫ً‬
‫وقرطاسا‪ ،‬وكتبت لـ"أنس" تستدعيه لتراه بطريقة أدبية راقية‪ ،‬وأرسلتهم إليه‪،‬‬
‫ّ‬
‫الخاصة‪.‬‬ ‫أرادت أن تلتقي به لتحاربه بطريقتها‬
‫❐❐❐‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مرضت"أشريا" ً‬


‫يتفصد عرقا‪ ،‬فسيرها‬ ‫شديدا‪ ،‬كانت تنتفض وجبينها‬ ‫مرضا‬
‫ً‬
‫صباحا من بيتها لبيت أمها أضر‬ ‫في ذاك الطقس البارد بعد أن سلبوها زوجها‬
‫بصحتها‪ ،‬أصابتها الحمى وكانت كسيرة ومهزومة النفس بسبب ما حدث‬
‫لزوجها وحبيبها‪ ،‬جلست َمرام تمسح جبينها باملاء‪ ،‬أما أمها فكانت ال تتوقف‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عن البكاء‪ ،‬في غرفة أخرى من الدار كان "أنس" يجلس مع "كومبو" يفكر هل‬
‫يذهب إلى قصر ِ"كمشاق" اآلن ويستخدم خنجره أم يذهب أوال للحوراء‬
‫ُ‬
‫ويسألها! تناهى إلى سمعهما صهيل خيول‪ ،‬فانتفض "كومبو" وخرج يرى من‬
‫بالباب فإذا برجل مهيب الطلعة قال بطريقة رسمية‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬معي رسالة من األميرة "نبرة"‪.‬‬
‫َ‬
‫كانت طريقته في الكالم توحي بالتوقير الشديد‪ ،‬يبدو ّأن "نبرة" أوصته‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بذلك‪ ،‬اقترب "أنس" وتسلم الرسالة‪ ،‬ث ّم قرأها وقال‪:‬‬

‫‪226‬‬
‫‪ّ -‬إنها تدعوني للقائها‪.‬‬
‫اقتربت َ"مرام" في قلق وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ال تذهب‪.‬‬
‫لحظ "أنس" أن يدها ترتعش ونظر فإذا دمعة تند من عينيها‪ ،‬قال بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫غامت على وجهها سحابة من األس ى وقالت‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬أرجوك ال تذهب‪ّ ،‬إنها "نبرة"!‬
‫قال يطمئنها‪:‬‬
‫‪ -‬هي تطلب اللقاء في مكان بعيد عن القصر‪ ،‬وليست الرسالة من امللك‬
‫وبأي حال ال ّبد أن أساعد "كلودة"‪ ،‬سأساومها على‬
‫ِ"كمشاق" نفسه‪ّ ،‬‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫وضع "أنس" في حقيبته ً‬
‫كتابا ً‬
‫آخرا ليوهمهم أنه يحمل كتابه في حقيبته‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫سريعا ليجبرهم على عدم قتله‪ .‬قالت‬ ‫ذاك ما تبادر إلى ذهنه بعد أن فكر‬
‫َ"مرام" وهي تحبس دموعها‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا إن لم تعد؟‬
‫أجابها بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬سأعود إن شاء هللا‬
‫شعرت بشوكة حادة تنغرز في فؤادها‪ ،‬قالت بخفوت‪:‬‬
‫مرة أخرى هنا على أرض تلك اململكة؟‬‫‪ -‬وماذا لو‪ ...‬لم نلتق ّ‬
‫ِ‬
‫اضطربت في دمه الكلمات ّثم قال‪:‬‬

‫‪227‬‬
‫‪ -‬دعينا نتعاهد على ش يء‪ ،‬إن لم ُيكتب لنا اللقاء هنا‪ ،‬وعاد ّ‬
‫كل منا ألهله‪،‬‬
‫فلنلتق في اإلسكندرية‪ ،‬في مكان محدد‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪ -‬فليكن‬
‫واتفقا على املكان‪ ،‬وودعها "أنس" وهو يقرأ األلم على وجهها وفي عينيها‪،‬‬
‫وشد على‬‫كان ال ّبد من إطالع ُ"كومبو" على بعض األمور‪ ،‬استأمنه على َ"مرام" ّ‬
‫مشيرا إلى َ"مرام"‬
‫يتلفت من آن آلخر ً‬‫يديه وهو يصافحه‪ ،‬وابتعد مع الحراس ّ‬
‫التي انخلع قلبها لرحيله‪.‬‬

‫❐❐❐‬

‫‪228‬‬
‫(‪)20‬‬

‫خطر!‬
‫َ‬
‫على حصان كستنائي اللون وتحت ستار الليل‪ ،‬كانت األميرة "نبرة" متجهة‬
‫وبعيدا عن عين أخيها امللك ِ"كمشاق"‪ ،‬ترجلت‬‫ً‬ ‫صوب مكان بعيد عن القصر‬
‫فتان وأقبلت ترفل في زينتها حيث كان "أنس"‪ ،‬عندما رأت وجه "أنس"‬ ‫بثوب ّ‬
‫لكنها نجحت في السيطرة على مشاعرها‪ ،‬كان يقف‬ ‫أحست بقلبها ينسحق ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫بكبرياء‪ ،‬تأملت فتوته بإعجاب‪ ،‬قطرات العرق كانت تتألأل على جبينه رغم‬
‫برودة الجو! فأدركت أنه كالبركان داخله يغلي رغم القوة والثبات الذي يحاول‬
‫ً‬
‫الظهور بهما‪ ،‬كان قد أغمض عينيه وأرخى ذراعيه يبدو منهمكا في التفكير‬
‫ُ‬
‫بعمق‪ ،‬وقفت لدقيقة تتأمله وتراقبه‪ ،‬فتنت به فنسيت من هي وأين هي ولم‬
‫وكل حركة يقوم بها بإعجاب‪ ،‬كانت‬ ‫كل لفتة منه ّ‬
‫جاءت‪ ،‬بينما كانت تراقب ّ‬
‫تقترب بخطوات هادئة‪ ،‬أشارت للحراس الذين حيوها بإجالل‪ ،‬انتبه "أنس"‬
‫ورفع عينيه ورنا نحوها بنظرة خاطفة وقال وهو يطوف في األرجاء بعينيه‪:‬‬
‫‪ -‬أين "كلودة"؟‬
‫اقتربت ووقفت قبالته حتى اخترق عطرها القو ّي أنفه وقالت وهي ترمقه‬
‫بجرأة‪:‬‬
‫‪ -‬أنت قو ّي‪ ،‬وجريء! كيف لبيت دعوتي بتلك السهولة! أال تخش ى أن‬
‫أقتلك؟‬
‫بغيضا ّ‬
‫بأنها تتحدث إلى الفراغ‪ .‬كادت‬ ‫ً‬ ‫مثيرا لديها شعو ًرا‬
‫لم يرد عليها ً‬
‫لكنها وقفت‬ ‫ّ‬
‫ويحدثها‪ّ ،‬‬ ‫تصرخ في وجهه كما اعتادت‪ ،‬تنهره‪ ،‬تصفعه ليرفع عينيه‬
‫أمامه كالقط الصغير‪ ،‬قالت َبنبرة مرهفة‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬اسمي‪"...‬نبرة"‪.‬‬
‫‪229‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مبتعدا عنها بينما وقفت تتابع خطواته‪،‬‬ ‫الئذا بفقاعة من الصمت انصرف‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يتسن لها التنفس‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وكأن نبض قلبها يتردد في صدغيها‪ ،‬لقد فتنت "نبرة"‬ ‫لم‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وألول مرة في حياتها! فتنت باملحارب الذي جاء خصيصا ليسترد نهاية كتاب‬ ‫ّ‬
‫ستنازعه عليه!‬
‫ً‬ ‫قربه إليها أحد ّ‬
‫جلست على مقعد ّ‬
‫حراسها ووضعت ساقا على ساق وقالت‬
‫بخضوع‪:‬‬
‫‪" -‬إيكادولي"‪ ..‬هل تعرف معناها؟‬
‫لم يلتفت "أنس" ‪ ،‬قالت هامسة‪:‬‬
‫‪ -‬أحبك‬
‫لم يرف له جفن‪ ،‬كان ً‬
‫ثابتا كالطود فشعرت بانزعاج وأردفت‪:‬‬
‫‪ -‬أين الكتاب؟‬
‫‪ -‬ليس معي‬
‫‪ -‬وأين هو؟‬
‫‪ -‬في أمان‪.‬‬
‫قالت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا لم تحضره معك‪ ،‬أال تثق بي؟‬
‫‪ -‬وما الذي يدعوني للثقة بك! لقد خطفتم صديقي!‬
‫ّ‬ ‫كانت تحاول أن ّ‬
‫تمد حبائلها حوله ببطء‪ ،‬قالت وهي توقع كلماتها‪:‬‬
‫‪ -‬وما الذي جعلك تثق بـ"الحوراء"؟ أليس من الغريب أن تمنح ثقتك لغرباء‬
‫دون آخرين‪ ،‬أتيت إلى مملكتنا ً‬
‫غريبا عنا‪ ،‬ال تعرف عن ماضينا فما لك‬
‫تحكم على الناس دون أن تسمع منهم؟‬
‫‪ -‬كان جدي هنا من قبل وكذلك أبي‪ ،‬وأنا أثق بهما وبمن وثقا به من قبل‪.‬‬
‫ابتسمت وقالت‪:‬‬
‫‪230‬‬
‫‪ -‬وهل ال ّبد أن نفعل كل ما فعله أباؤنا وأجدادنا دون تفكير!‬
‫ّ‬
‫تستفزه‪ ،‬قال بعصبية‪:‬‬ ‫بدأت كلماتها‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬ولكنني أثق في حكمهما على األشخاص‪ ،‬ولكل منهما تاريخه وتجربته‬
‫هنا‪.‬‬
‫ّ‬
‫تحولت ابتسامتها إلى تقلص مريع على جانبي فمها وقالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أين عقلك‪ ،‬أليس لك عقل تفكر به وتحكم على الصواب والخطأ‪ ،‬وتختار‬
‫بإرادتك؟ أم أنت تساق كاألعمى!‬
‫بدأ الوريد في جبهته ينبض‪ ،‬ر ّد ّ‬
‫بحدة‪:‬‬
‫‪ -‬اخترت بإرادتي وعقلي أن أثق بأبي وجدي‪.‬‬
‫ً‬
‫سريعا كالحرباء ونظرت إليه نظرة فيها كل معاني االستسالم والغزل‬ ‫تلونت‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا أنت غاضب؟ هل ضايقناك في ش يء؟ أنت تعلم أنني كنت أستطيع أن‬
‫أطلب منهم إحضارك بنفس الطريقة التي أحضروا بها ُ "كلودة"‪ ،‬لكنني‬
‫أعلم أنك مختلف عنه‪ ،‬أنت شريف‪ ...‬لكنه خائن غدر بـ"أونتي" املسكينة‪،‬‬
‫وكانت ّ‬
‫تحبه‪.‬‬
‫‪ -‬هو ليس بخائن!‬
‫ً‬
‫سريعا حيث رمشت عندما التقطت مقلتيه‬ ‫قالها وهو ّ‬
‫يمر على وجهها‬
‫ً‬
‫مدافعا عن "كلودة"‪:‬‬ ‫فأردف‬
‫‪ -‬كانت تطارده‪ ،‬لم يكن ليفكر في أميرة وهو شاب بسيط وفقير‪ ،‬هي التي‬
‫فتحت له األبواب‪ ،‬وكانت تستدرجه وتغويه‪ ،‬وقد ندم وتراجع وأنهى‬
‫عالقته بها وأخبرها بنفسه‪.‬‬
‫لم يكن أمر ُ"أونتي" يشكل أهمية لدى َ"نبرة"‪ ،‬كان ّ‬
‫جل تركيزها على "أنس"‪،‬‬
‫ّ‬
‫شعرت للحظات أنها فهمته‪ ،‬هو من ذاك النوع من الشباب املهذب الذي‬
‫يسهل الطريق إلى قلبه عن طريق معاملته بذوق وأدب‪ ،‬ال بأس من إظهار‬

‫‪231‬‬
‫بعض الضعف حتى تستميله‪ ،‬وربما تشهر أسلحة أنوثتها ً‬
‫الحقا‪ ،‬قالت بعد‬
‫صمت خفيف‪:‬‬
‫‪ -‬أنت على صواب‪ ،‬أهلكتني أختي ُ"أونتي"‪ ،‬كنت أنصحها ً‬
‫كثيرا لكنها كانت‬
‫تس يء إلى أسرتنا بأفعالها‪ ،‬ال أدري كيف أتصرف معها‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم سألته‪:‬‬
‫‪ -‬هل هما أبطال ّ‬
‫قصة كتابك؟ هل ظهرت العبارات بعد أن التقيت بهما؟‬
‫‪ -‬رّبما‪ ...‬ربما "كلودة"و زوجته‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬أو "كلودة" و "أونتي"!‬
‫‪ -‬ال أظن‪.‬‬
‫‪ -‬الكتب هنا تفاجئنا‪ ،‬تكون عكس كل التوقعات! ربما أنا وأنت أبطال هذه‬
‫ّ‬
‫القصة‪.‬‬
‫ارتبك "أنس" عندما قالت هذا ورنا إليها حيث اقتنصت نظرة منه‪،‬‬
‫ُ‬
‫ابتعدت عنه خطوات ث ّم استدارت فجأة قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬هل أحببت من قبل؟‬
‫‪ -‬ولم تسألين؟‬
‫ّ‬
‫هزت كتفيها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬طاملا قلت هذا فأنت عاشق‪ ،‬من ال يحب يجيب ً‬
‫نافيا بثقة في الحال‪ ،‬ترى‬
‫من هي؟‬
‫ً‬
‫أشاح "أنس" بوجهه بعيدا عنها وقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫ألتحدث عن "كلودة"‪ ،‬أين هو اآلن؟‬ ‫‪ -‬أتيت‬
‫‪ -‬ال بأس بحديث جانبي‪ ،‬وسنعرج للحديث عنه فال تقلق‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬ال مجال لحديث آخر‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫قام يسير بغضب فعلق قميصه بمسمار بارز من خشب الجدار‪ ،‬نزعه منه‬
‫فتمزقت منه قطعة وعلقت باملسمار فابتعد وهو يفرك ذراعه حيث‬ ‫بعصبية ّ‬
‫َ‬
‫أصابه املسمار بجرح‪ ،‬بينما اتجهت"نبرة" والتقطت قطعة القماش التي ت ّ‬
‫مزقت‬
‫كفها‪ ،‬أومأت لكبير الحراس فقد اتفقت معه أن ينزع‬ ‫من قميصه وكورتها في ّ‬
‫عن "أنس" قميصه قبل رحليه لتعطيه للساحر "قرجة"‪ ،‬لكنها اآلن ستكتفي‬
‫بهذا الجزء املمزق‪ ،‬فهمها الحارس في الحال‪.‬‬
‫كرر "أنس" كالمه باستياء شديد‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أريد أن أرى "كلودة" حاال‪.‬‬
‫كان ّ‬
‫يتحدث بثقة‪ ،‬فهو ال يهابها وال يخشاها‪ ،‬حتى أنه لم ينظر إليها! شعرت‬
‫َ‬
‫"نبرة" أن هناك من رشق كومة من اإلبر في جسدها‪ ،‬انتفضت وسارت نحو‬
‫ُّ‬
‫حصانها حيث ساعدها أحد الحراس في ركوبه‪ ،‬ثم التفتت نحو "أنس" وقالت‬
‫بعنجهية‪:‬‬
‫‪ -‬أحضر كتاب "إيكادولي" واستبدله بصديقك‪ ،‬وأسرع قبل أن يقتله امللك‪.‬‬
‫َ‬
‫انصرفت "نبرة" والغيرة تتأجج في صدرها‪ ،‬ذاك الشاب عاشق ال محالة‪،‬‬
‫لم يرف له جفن وهي من هي تتألق في زينتها أمامه‪ ،‬وكأنه قد عمي وهي بقربه!‬
‫❐❐❐‬

‫كان اللصوص ومنذ خروجهم من قصر امللك ِ"كمشاق" يبحثون عن‬


‫"أنس" في كل مكان‪ ،‬توزعوا بين القرى يبحثون عنه‪ ،‬على حين غفلة منه‪،‬‬
‫َ‬
‫وبينما هو عائد من لقاء "نبرة"‪ ،‬وبعد أن تتبعوه نجحوا في أسره بعد اشتباك‬
‫ّ‬
‫عسير مع رجالهم‪ ،‬فقد كان "أنس" من ذاك النوع الذي يصعب أن تغلبه إال‬
‫بالكثرة‪ ،‬فهو خصم قو ّي وعنيد‪ .‬أسرعوا به نحو قصر امللك ‪ ،‬ودخلوا به‬
‫مرغما على ركبتيه أمامه‪،‬‬ ‫مقي ًدا‪ ،‬وقدموه لـ "حليم"‪ ،‬ركلوا "أنس" بقسوة ّ‬
‫ليخر ً‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫لكنه وثب بقيوده واقفا وأبى أن ينحني‪ ،‬ف انهالوا عليه بالركالت حتى فقد‬ ‫ّ‬
‫وعيه‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫ّ‬
‫استيقظ على أثر ضرب السياط وقد كان معل ًقا من ساقيه‪ ،‬كان يشعر أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫دماءه التي ّ‬
‫تجمعت في رأسه املتدلي تكاد تخرج من عينيه‪ ،‬كان الجالد ينهال‬
‫ّ‬
‫على جذعه بالسياط‪ ،‬بينما كان "حليم" يتمش ى أمامه‪ ،‬أش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار للجالد ليتوقف‬
‫فيعا واقترب من قلبه ليثقبه‪ ،‬وقال يهدده‪:‬‬ ‫خنجرا ر ً‬
‫ً‬ ‫عن ضربه‪ ،‬أخرج‬
‫‪ -‬أتعلم أنني أستطيع اآلن أن أثقب قلبك؟‬
‫‪ -‬وماذا بعد؟‬
‫‪ -‬ستموت‪.‬‬
‫‪ -‬وهل أنا على قيد الحياة اآلن!‬
‫قالها "أنس" وكان يعنيها‪ ،‬فقد بدأت األمور تختلط عليه‪ّ ،‬‬
‫مل من تلك‬
‫اململكة‪ ،‬وبدأ يكره ّ‬
‫كل ركن فيها‪ .‬كاد "حليم" يشير للجالد ليعود لجلده‪ ،‬لكن‬
‫ً‬
‫"أنس" باغته سائال‪:‬‬
‫‪ -‬في أي عام نحن اآلن؟‬
‫‪ -‬ماذا!‬
‫‪ -‬وددت أن أعرف‪ ...‬في أي عام نحن؟‬
‫‪ -‬مائه وثالثة وأربعون‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا!‬
‫‪ -‬كما قلت لك مائة وثالثة وأربعون‪ ،‬ملاذا تتعجب؟‬
‫‪ -‬معقول!‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫كاد "أنس" يقول شيئا ما‪ ،‬فقد تذكر نصيحة األمير "أواوا" التي أخب ره بها‬
‫َ‬
‫في املمر تحت املاء في تلك الرؤيا‪ ،‬أن ينتبه لألرقام! لوال دخول"نبرة" التي‬
‫صرخت فالتفت "حليم" تجاهها وقال‪:‬‬
‫َ‬
‫‪" -‬نبرة"! صحيح‪ ،‬نسيت أن أدعوك لتشهدي تلك اللحظة‪ ،‬ها هو املحارب‬
‫وسنثقب قلبه اآلن‪.‬‬
‫‪234‬‬
‫اقتربت وهمست وهي ترشقه بنظراتها‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف ستثقب قلبه والكتاب ليس معنا أيها األحمق!‬
‫غاضبا حيث استفزته كلماتها وقال بصوت جهوري ليسمعه ويخيفه‪:‬‬‫ً‬ ‫زمجر‬
‫‪ -‬سنجمع دماءه في وعاء لوقت الحق وعندما نعثر على الكتاب سنكتب ما‬
‫يليق بملكنا العظيم ِ"كمشاق"‪.‬‬
‫‪ -‬وما أدراك أن هذا صواب؟ لم يحدث هذا من قبل‪.‬‬
‫التفتت َ"نبرة" نحو وجه "أنس" فسحبت "حليم" من ذراعه ً‬
‫بعيدا حتى ال‬
‫يسمعهما وأردفت قائلة‪:‬‬
‫حيا حتى نحصل على الكتاب‪ ،‬لقد كنت ً‬
‫سببا في ضياعه‬ ‫‪ -‬أرى أن نستبقيه ًّ‬
‫يا "حليم"‪ ،‬ألم تعثر على تلك الجارية التي اشتريتها من السوق‪...‬التي سرقت‬
‫الكتاب؟‬
‫‪ -‬ليس بعد‪ ،‬لكنني سأعثر عليها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫انصرفا ً‬
‫معا وتركا "أنس" بعد أن أمر "حليم" الجالد أن ينزله ويقيد ساقيه‬
‫بالسالسل‪.‬‬
‫َ‬
‫وبعد نحو ساعتين‪ ،‬وتحت جنح الليل تسللت "نب رة" إلى زنزانته وهي تخفي‬
‫وجهها‪ .‬كان ثمن صمت الحراس ً‬
‫غاليا‪ ،‬لكنها وألنها تعرف عن زعيمهم الكثير‬
‫من األسرار بسبب عيني بومتها كان التهديد وسيلة لتصل إلى ما أرادته‪،‬‬
‫استطاعت أن تحرر "أنس"‪ ،‬وقفت تلتقط أنفاسها وقالت هامسة‪:‬‬
‫‪ -‬سنذهب اآلن إلى غرفتي‪ ،‬سأخفيك حتى أرتب أمر هروبك مع الحراس‪.‬‬
‫‪ -‬ال‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬وملاذا أذهب معك وأنا استطيع الفرار اآلن!‬

‫‪235‬‬
‫سببا لكي يهرب‪ ،‬ما زال ال يفهمها! رّبما‬
‫كان "أنس" ال يثق بها‪ ،‬لكنها كانت ً‬
‫فيها بعض الضعف الذي يراه في عينيها‪ ،‬أو ربما هي فعال ذات قلب طيب‪ ،‬لكن‬
‫ّ‬
‫جرأتها وسفورها عظما في قلبه االمتعاض والحذر منها‪ ،‬كان محتا ًرا في أمرها‪،‬‬
‫ً‬
‫وهو بالـتأكيد لن يبيت في غرفة امرأة! ال سيما التي ال حياء لها! قال محاوال أن‬
‫يستشف ما وراء أفعالها‪:‬‬
‫استطعت دخول زنزانتي؟‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬كيف‬
‫قالت في دالل وقد تملكها الزهو‪:‬‬
‫‪ -‬لي عيون ورجال‪ ،‬ال تستهن بي!‬
‫ّ‬
‫ران عليهما الصمت للحظات كانت تفكر في مخرج ما‪ ،‬يبدو أنه صعب‬
‫مرة أخرى وقتما‬ ‫املراس‪ ،‬رأت أن تتركه يرحل لتكتسب ثقته مؤقتا‪ ،‬وتستدعيه ّ‬
‫ّ‬ ‫شاءت‪ ،‬سمعت ً‬
‫صوتا أربكها‪ ،‬فأسرعت تجاه أحد رجالها‪ ،‬وكلفته أن يدله‬
‫على الطريق لكي يخرج من القصر بسالم‪.‬‬
‫ّ‬
‫ركضا وكأنه يهرب من‬ ‫مهتديا بضوء القمر‪ ،‬قطع املسافة ً‬
‫ً‬ ‫هرب في الظالم‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املوت‪ ،‬كان غضبه هادرا وشديدا‪ ،‬هدأ من ركضه عندما اقترب من بيت‬
‫"أشريا"‪ ،‬في تلك الساعة كانت القرية قد خلت إال من أواخر الناس وطوارق‬
‫وبقية من األنفاس تحبو في الطرقات ذاهبة إلى مضاجعها‪ ،‬وضعت‬ ‫الليل ّ‬
‫وتنهدت باطمئنان عندما رأته يقترب‪ ،‬حيث كانت‬ ‫َ"مرام" يدها على صدرها ّ‬
‫تتنقل بين "أشريا" وهي تنتفض بين يدي أمها‪ ،‬وبين النافذة تراقب الطريق‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وتنتظر عودته‪ ،‬أسرع "كومبو" مهروال نحوه فور أن رآه ليسأله عن "كلوده"‪،‬‬
‫إليهما"مرام"‪ ،‬فهو ال ّ‬
‫يود إزعاج "أشريا" ألنه ال‬ ‫َ‬ ‫طلب منه أن ينتظر حتى تنضم‬
‫قص عليهما ما حدث‬ ‫جديدا عن زوجها‪ ،‬وبعد أن خرجت َ"مرام" ّ‬ ‫ً‬ ‫يحمل ً‬
‫خبرا‬
‫كل الكالم قد تالش ى‬ ‫الصمت ّ‬
‫كأن ّ‬ ‫بالتفصيل‪ ،‬وفور أن انتهى أطبق عليه ّ‬
‫متعبا تؤمله آثار السياط على جذعه‪ ،‬فارقه نشاطه‬ ‫وتبخر على شفتيه‪.‬كان ً‬ ‫ّ‬
‫وخفته وبدأ يجثم على صدره نوع من الكآبة‪ ،‬قالت َ"مرام" وهي تسقيه املاء‪:‬‬
‫شيئا ما؟‬‫عنا ً‬
‫‪" -‬أنس" ما بك؟ هل تخفي ّ‬
‫كانت تلك ّ‬
‫املرة األولى في حياته التي يجلد ويضرب فيها بتلك الطريقة‪ ،‬وكان‬
‫يشعر باإلهانة‪ ،‬أمسك الكوب وفي يده بقية من اضطراب وقال‪:‬‬
‫‪236‬‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬ولكنني أشعر أن األمور قد بدأت ّ‬
‫تتعقد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اختلس نظرة واقتبس ً‬
‫شيئا من عينيها ليسترد شيئا من إرادته ث ّم خفض‬
‫طرفه وقال‪:‬‬
‫ستمر إن شاء هللا‪ ،‬وسنعود إلى ديارنا يا َ"مرام"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫لكن تلك األزمة‬
‫لتشجعه وتخفف عنه‪ّ ،‬‬
‫لكنها ملحت في‬ ‫ّ‬ ‫حاولت أن تمنحه ابتسامة مغتصبة‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫وجوما أخافها‪ .‬انصرف مع "كومبو" ليطبب له جراح‬ ‫وجهه مرارة وفي قسماته‬
‫ظهره في بيته‪ ،‬وعادت َ"مرام" وسهرت ليلتها بجوار "أشريا"‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫يقولون ّإن تحت البحر نار‪ ،‬وإن جوف األرض يتلجلج بجحيم يتلظى‪،‬‬
‫وهناك تحت هذا الرماد شظيات تختبئ‪ ،‬وهنا تحت بشرة تلك األميرة التي‬
‫َ‬
‫تبدو للناظرين باردة دماء تغلي وقلب يحترق‪ ...‬كانت "نبرة" تتساءل في نفسها‪،‬‬
‫كيف تجاهلها "أنس"؟‪ ،‬كيف لم ُيفتن بجمالها؟‪ ،‬كان يشبه تلك التماثيل‬
‫شيئا‪ ،‬ينظر إليها ّ‬
‫وكأنه ال‬ ‫الخالية من النقوش‪ ،‬يتحدث معها وك ّأنه ال يقول ً‬
‫مر يومان على رحيله من‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وكان قد ّ‬ ‫يراها! قررت أن ترسل إليه ّ‬
‫الحراس كلفتها الكثير من املال‪ ،‬واضطرت‬ ‫ضجة بين ّ‬ ‫القصر‪ ،‬والذي أحدث ّ‬
‫لقتل أحد رجال "حليم" حيث ذبحه رجالها ألنه كاد يش ي بأمر تهريبها لـ "أنس"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لم يكن "حليم " يعلم ّ‬
‫بأنها تعرف عنوان "أنس"‪ ،‬وظلت تخطط لكي ال ينكشف‬
‫أمره ألخيها ولـ "حليم" ففي نفسها ش يء تجاهه‪ ،‬ترى أنه يصلح أن يكون ً‬
‫حبيبا‬
‫اململكة!‬ ‫تلك‬ ‫في‬ ‫كثيرة‬ ‫أمو ًرا‬ ‫تغير‬ ‫وربما‬ ‫لها‪،‬‬
‫كانت تتعجل رؤيته‪ ،‬أرسلت إليه رسالة تطلب منه أن يلتقي بها ألمر هام‬
‫وضروري‪ ،‬أرسلتها في الخفاء مع أحد رجالها‪.‬‬
‫ّ‬
‫وسط النهار‪ ،‬وبينما يفكر في طريقة ما يعرف بها أخبار "كلودة"‪ ،‬حيث‬
‫مرة أن ينتقل بالخنجر لبالط القصر ليبحث عنه‪ ،‬كان يدلف‬ ‫حاول أكثر من ّ‬
‫إلى الفج وة ويعود لنفس املكان! هناك ش يء غريب! ال ينجح األمر مع قصر‬
‫امللك ِ"كمشاق" كما نجح مع غيره! وأصابه إرهاق شديد‪.‬‬
‫معطرة بعطرها وملفوفة بشكل أنيق وكأنها رسالة ّ‬ ‫ّ‬
‫حب مما‬ ‫جاءته الرسالة‬
‫‪237‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يتعجب! أرادت "نبرة" أن تلتقي به بالقرب من بيت "كلودة"! تعجب‬ ‫جعله‬
‫ُ‬
‫مرة أخرى‬‫و"كومبو" وأسرع إلى هناك‪ّ ،‬‬ ‫للمكان الذي اختارته‪ ،‬أخبر َ"مرام"‬
‫ومرة أخرى تركه والخنجر مع َ"مرام" التي ماتت على‬ ‫ذهب للقائها دون الكتاب‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫لسانها الكلمات‪ ،‬فهي تشعر أن األميرة "نبرة" ّ‬
‫تدبر لش يء ما‪ ،‬وكانت تخش ى على‬
‫"أنس"‪.‬‬
‫فور أن وصل إلى البيت انطلق يفتش بعينيه هنا وهناك‪ ،‬ال حراس وال‬
‫خيول! فأين هي؟ خلف البيت‪ ،‬وفي بستان كثيف األشجار فوجئ بصقر مهيب‬
‫َ‬
‫الطلعة ينتظره مع "نبرة" التي ر ّحبت به في ش ىء من الحرارة‪ ،‬وقفت أمامه‬
‫بزينتها وكأنها قطعة من الفتنة املتحركة‪.‬‬
‫قدمته له بإجالل‪ ،‬كانت تلك هي ّ‬
‫املرة األولى التي يرى فيها "القرناس"! ذاك‬ ‫ّ‬
‫الصقر الذي سمع عنه الكثير‪ ،‬كان يختلف في هيئته عن "الرمادي"‪ ،‬كان‬
‫"القرناس" ذا ظهر أسود‪ ،‬والجسد أبيض يخرج منه جناحين مبرقشين‪ ،‬وذيل‬
‫طويل‪ ،‬وعريض‪ ،‬ومدبب عند نهايته‪ ،‬ذو طرف أزرق وعالمة بيضاء على‬
‫أقصاه‪ .‬يظهر أعلى رأسه السوداء كما الشارب الذي يمتد على الوجنتين بلون‬
‫جانبي العنق الداكنين والحلق األبيض‪ّ .‬‬
‫اهتز فور‬ ‫ّ‬ ‫أردوازي يتباين بشكل حاد مع‬
‫أن رأى "أنس" وقال بصوت أجش‪ّ:‬‬
‫ً‬
‫مرحبا أيها املحارب!‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬مرحبا أيها "القرناس"‪.‬‬
‫‪ -‬أين كتابك؟‬
‫‪ -‬ليس معي‪.‬‬
‫‪ -‬من الخطأ أن تسير بال كتابك‪.‬‬
‫جي ًدا‪ ،‬واآلن‪ ..‬ماذا تريدان مني؟‬
‫‪ -‬أعرف هذا ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫شغف و إعجاب وقالت‪:‬‬
‫تقدمت "نبرة" تجاهه وطالعته ب ٍ‬
‫‪ -‬صفقة!‬
‫‪ -‬أي صفقة؟‬
‫‪238‬‬
‫أشارت بارتباك للقرناس الذي قال بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تعلم أننا نحن الصقور نعرف عن التاريخ والكتب ما ال تعرفونه‪،‬‬
‫فدعني أطلعك على السر‪.‬‬
‫‪ -‬أي سر؟‬
‫حب أميرة ومحارب‪،‬‬ ‫قصة ّ‬ ‫يتحدث عن الحب‪" ،‬إيكادولي" يحكي ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬كتابك‬
‫ّ‬
‫األميرة وقعت في حبه منذ النظرة األولى‪ ،‬أنت محارب وها هي األميرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫مشيرا إلى "نبرة" وأردف قائال‪:‬‬ ‫ث ّم بسط جناحه‬
‫ّ‬
‫القصة كانت تنتهي بموت املحارب‪ ،‬حيث سيقتله أحد األمراء غيرة عليها‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫َ‬
‫وألن األميرة "نبرة" تكره هذا وتخشاه‪ ،‬والصفقة هنا أعرضها عليك بنفس ي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫فأنا لي مكانتي بين باقي الصقور‪ .‬األميرة "نبرة" تعرض عليك أن تسلمها‬
‫معا قصتك ما على صفحاته بدماء جرح بسيط‬ ‫الكتاب بنفسك‪ ،‬وتكتبا ً‬
‫ّ‬
‫على كفيكما‪ ،‬وتسلمك نفسها وتسلمها نفسك‪ ،‬ليخلد حبكما إلى األبد‪.‬‬
‫ً‬
‫ساخرا‪:‬‬ ‫ّ‬
‫حرك "أنس" رأسه وقال‬
‫‪ -‬أتعني أن أتزوجها!‬
‫تطلعت إليه بنظرة كلها نداء وقالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫الحب‬ ‫‪ -‬وملاذا نتزوج! أنت تعلم أن زواجنا مستحيل ّ‬
‫ألنك محارب‪ ،‬يكفينا‬
‫قال باشمئزاز‪:‬‬
‫حب هذا!!‬‫‪ -‬أي ّ‬
‫قالت ّ‬
‫بتهدج‪:‬‬
‫‪ -‬الحب ال يحتاج إلى زواج!‬
‫ً‬
‫غاضبا‪:‬‬ ‫قال‬
‫‪ -‬ما هذا الهراء! أنت تخرفين‪..‬‬

‫‪239‬‬
‫َ‬
‫ثارت "نبرة" ومادت األرض تحت قدميها‪ ،‬وبدال من أن تصرخ في وجهه‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مبتعدا‪،‬‬ ‫غطت وجهها بكفيها وبدأت تبكي‪ ،‬رفرف "القرناس" بجناحيه وحلق‬
‫َ‬
‫كان الصقر يفهم ما تقدم على فعله األميرة "نبرة"‪ ،‬فانصرف وترك لها الساحة‬
‫لتكمل دورها‪ ،‬بينما هرولت هي نحو "أنس" وقالت بخفوت‪:‬‬
‫صدق أليس كذلك؟‬ ‫‪ -‬أنت ال ت ّ‬
‫‪ -‬أصدق ماذا؟‬
‫‪ -‬أنني أحبك!‪ ..‬أرجوك‪ ...‬أنا أحبك!‬
‫ً‬
‫مستعجبا وهو يراقب عينيها‬ ‫شعر "أنس" بكارثة تظلله‪ ،‬تراجع للخلف‬
‫املغرورقتين بالدموع وقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫بالتوسل والرجاء‬ ‫ّ‬
‫الحب ال يأتي‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬لكنه يقع على اإلنسان بغير اختياره‪ ،‬ال أريد منك سوى القرب‪ ،‬دعني‬
‫أسكب روحي بروحك‪ ،‬اسمح لي أن أحبك‪.‬‬
‫أنهت كلماتها وعادت تبكي‪ ،‬كانت ماهرة في استجالب دموعها‪ ،‬وبارعة في‬
‫توظيف إيماءاتها ونظراتها‪ .‬أقبلت عليه فقال في صوت غائر كأنما ينبعث من‬
‫أعماق هاوية‪:‬‬
‫‪ -‬اتركيني‪ ..‬ابتعدي ّ‬
‫عني‪.‬‬
‫شعر "أنس" بالخطر عندما بدأ يتعاطف معها! وعندما بدأت كلماتها تؤثر‬
‫ً‬
‫فيه‪ ،‬أسرع مهروال خارج البستان‪ ،‬وعاد واألفكار تتناطح في رأسه‪ .‬وكأن‬
‫عاصفة تجتاح نفسه فتحطمها وتوشك أن تحطم حياته كلها‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫ً‬
‫مختنقا‪ ،‬في ضوء واهن لشمعة أوشكت أن تنطفئ‬ ‫ّ‬
‫وأطل القمر‬ ‫ّ‬
‫حل الليل‬
‫ويحترق فتيلها‪ ،‬وكانت هناك ظالل صغيرة قد ظهرت وانعكست على األرض‬
‫يراقب أصحابها وجه "أشريا"‪ .‬في ركن يلفه الظالم إال من بصيص مصباح‬
‫هوان وبجوارها ّأمها تمسح‬ ‫ً‬
‫صغير‪ ،‬كان جبينها مغمورا بالعرق وهي تجلس في ٍ‬
‫‪240‬‬
‫شدت الغطاء الصوفي على جسد ابنتها‬ ‫رأسها باملاء من آن آلخر وهي ترتجف‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫املتكورة بجوارها قبل تسقيها الدواء‪..‬‬
‫خرج "أنس" ومعه ُ"كومبو" و َ"مرام" يتحاورون‪ ،‬كان "أنس" قد ّ‬
‫قص‬
‫متعبا وكأنه خرج للتو من حرب‪،‬‬‫عليهما ما حدث مع األميرة َ"نبرة‪ ،‬كان "أنس" ً‬
‫َ‬
‫مرت البومة البيضاء من فوقهم فصرخت َ"مرام"‪ ،‬أخبرت "أنس" أن "نبرة"‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫تراقبهم وأخبرته عن تلك البومة وكيف تمنح "نبرة" رؤى ليلية وها هي ستنقل‬
‫ُ‬
‫إليها أنهم التقوا هنا ومعهم الكتاب‪ ،‬الحق "كومبو" البومة وطاردها بالقاء‬
‫األحجار عليها حتى ابتعدت‪ ،‬قرروا االنتقال مع "أشريا " وأمها إلى مكان أمين‪،‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بعيدا عن أعين الناس‪ ،‬وعن عيني "نبرة"‬ ‫حتى أم "كومبو" ذهبت معهم‪،‬‬
‫وبومتها قضوا ليلتهم غير مطم ئنين‪ ،‬فالقلق يستبد بهم على "كلودة" املسكين‪،‬‬
‫أمرا لم تستحسنه أمها لهذا قاومتهم ً‬
‫كثيرا‬ ‫وكان االنتقال بـ"أشريا" وهي مريضة ً‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫لكنهم في النهاية اضطروا إلى هذا‪ ،‬خوفا من حراس "نبرة"‪ .‬وكانت "أشريا" ال‬
‫الحمى‪ ،‬لم يخرج أحد منهم‪ ،‬وكانوا الثالثة "أنس" و َ"مرام" و‬ ‫تزال تعاني من ّ‬
‫ُ‬
‫"كومبو" يفكرون في طريقة للوصول إلى "كلودة"‪ ،‬قرروا أن يحاولوا الذهاب‬
‫سيرا على األقدام في اليوم التالي‪ ،‬ف َـ"مرام" تعرف الطريق إلى القصر‪ ،‬ور ّبما‬ ‫ً‬
‫تسطيع مساعدتهم للتسلل من أحد األبواب‪ .‬أرخى الظالم ستره‪ ،‬وسكنوا حيث‬
‫َ‬
‫هم‪ ،‬وبعد أن عانت "نبرة" طوال الن هار من نفسها التي تتقلب بين جنبيها‬
‫حبا وباتت مغرمة به‪ ،‬وقد بدأ ذاك‬ ‫وعاودت البكاء‪ ،‬فقد شغفها "أنس" ً‬
‫الشغف منذ رأته بعيني بومتها في الغابة‪.‬‬
‫تمزقت من قميصه‪ ،‬كانت تشمها ّ‬
‫وتقبلها‪.‬‬ ‫خرجت ومعها تلك القطعة التي ّ‬
‫وصلت في مكان ما حيث اجتمعت زمرة من النساء غليظات املالمح‪ ،‬لديهن‬
‫أجساد ضخمة‪ ،‬ووجوه كستها صفرة كالحة‪ .‬ساهمات الخدود‪ ،‬ك ّأنما تدلين‬ ‫ُ‬
‫حلقة حول‬ ‫ً‬ ‫على األرض من مشنقة‪ .‬جلست ّ‬
‫كل منهن بجوار األخرى وشكلوا‬
‫َ‬
‫األميرة "نبرة"‪ ،‬وعليهن ثياب سوداء طويلة مطبوع عليها رموز خضراء وصفراء‬
‫فاقعة‪ ،‬كتابات غريبة ترمز لش ىء ما!‬
‫َ‬
‫ذهبت إليهن "نبرة" حيث أخبرتها الوصيفة أنهن سيساعدنها على استجالب‬
‫وأنه سيغرم بها إن نادت عليه الليلة وهن يرتلن ترانيما‬ ‫الحب لقلب "أنس"‪ّ ،‬‬
‫معينة بينما تعقد كبيرتهن عقدة على قطعة من قميص "أنس" الذي يحمل‬ ‫ّ‬

‫‪241‬‬
‫َ‬
‫عرقه‪ .‬وكانت "نبرة" تؤمن ّأن السحر هو الحل! فقد فشلت في إغوائه بجمالها‪،‬‬
‫مرة أمام رجل! وهي التي ال يصمد أمام جمالها الرجال!‬ ‫فشلت ّ‬
‫ألول ّ‬
‫ّ‬
‫من خلفهن كان هناك بعض الغلمان يعلقون الطبول على رقابهم‪ّ ،‬أما‬
‫مجوفة تصدر ً‬‫ّ‬ ‫استقرت بين أيديهن أوعية من ّ‬
‫ّ‬
‫دويا‬ ‫الفخار‬ ‫النساء الغالظ فقد‬
‫مكتوما عندما يطرقونها بكفوفهن‪ .‬رفع زعيمهم عصاه فبدأ القرع على الطبول‬ ‫ً‬
‫بانتظام‪ ،‬امتزج صوت قرع الطبول بأصواتهم الغليظة‪ ،‬همهم الرجال وهم‬
‫ُ‬
‫أجراسا نحاسية في أيديهم‪ ،‬ث ّم بدأت النساء بترديد ترانيم حزينة‪،‬‬
‫ً‬ ‫يقرعون‬
‫َ‬
‫كان للصوت وقع مهيب ومخيف‪ ،‬بدأت الترانيم تتغير لنبرة غاضبة‪ ،‬وتسارع‬
‫ّ‬ ‫إيقاع القرع على الطبول واألجراس‪ ،‬بدأت َ"نبرة" تنفعل‪ّ ،‬‬
‫اهتز جسدها كله‬
‫التفت حولها‬‫وكأنها ُأصيبت بصاعقة من السماء‪ ،‬وبكت بنشيج مسموع‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫حركن رءوسهن وأكتفاهن بطريقة‬ ‫بعض النساء وقمن بحركات منتظمة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫غريبة‪ّ ،‬إنها رقصة ّ‬
‫النار‪ ،‬شهقت "نبرة" ثم قالت بصوت مخنوق وكأنه يصدر‬
‫بئر عميق‪ ،‬وقد نبع من س ويداء قلبها‪:‬‬ ‫من ٍ‬
‫‪" -‬إيكادولي"‬
‫تعالت أصوات النساء يردون عليها بنفس الكلمة‪ ،‬مصحوبة بنغمة حزينة‪:‬‬
‫‪" -‬إيكادولي‪ ......‬إيكادولي"‬
‫حن معها ويستجلبن البكاء‪،‬‬ ‫كانوا يطيلون الصوت بالحرف األخير وكأنهن َي ُن َ‬
‫مرات ّ‬
‫ومرات‪ ،‬دموعها‬ ‫فشيئا‪ ،‬بدأت تصرخ كاملذبوحة‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫عال صوت َ"نبرة" ً‬
‫شيئا‬
‫ضمت يديها لصدرها‪ ،‬كانت رغبتها الجامحة إليه تستنفض‬ ‫أغرقت وجنتيها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫على وجهها‪ ،‬وتسوقها في عنان الغيظ‪ ،‬دارت حول نفسها وكأنها غابت عنهم‪،‬‬
‫ً‬
‫متقوقعة ّ‬
‫وكأنها تتلقى طعنة في فؤادها‪،‬‬ ‫حتى انهارت وغرقت في يأسها وانحنت‬
‫تلوت من األلم‪ ،‬سقطت على األرض وهي تكررها "إيكادولي‪....‬إيكادولي"‪ ،‬بينما‬ ‫ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫كان "أنس" في مكان آخر مشغوال بحديثه مع "كومبو" شعر ّ‬
‫وكأن أحدهم غرز‬
‫يتقدم ببطء كما لو كان بصدد‬ ‫في قلبه شوكة‪ .‬حاول الوقوف على قدميه‪ ،‬بدأ ّ‬
‫ُ‬
‫غطسة انقطع نفسه لها ث ّم غاب عن الوعي فجأة‪.‬‬

‫❐❐ ❐‬
‫‪242‬‬
‫(‪)21‬‬

‫سحر!‬

‫ّ‬
‫الحس تجيء به الخواطر‬ ‫لم ينم "أنس" تلك الليلة‪ ،‬كان شارد اللب ذاهل‬
‫وكأنهم أخيلة تتراقص‪ ،‬وأشباح تضطرب‪ ،‬كان‬ ‫وتذهب‪ ،‬يرى الناس حوله ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وال يعرف فيها‬
‫ّ‬ ‫فينكرها‬ ‫وأمها‬ ‫و"أشريا"‬ ‫ه‪،‬‬ ‫و"كومبو" ّ‬
‫وأم‬ ‫يتصفح وجوه َ"مرام"‬
‫ّ‬ ‫ر َ‬
‫وجها! كانت صو ة "نبرة" تتمثل أمامه بزينتها‪ ،‬صوتها كان يهمس في أذنيه نفس‬
‫الكلمة التي كانت تصرخ بها وسط النساء وهي تتلوى‪" ...‬إيكادولي"‪ ،‬حتى عندما‬
‫أغمض عينيه رأى عينيها أمامه‪ ،‬رائحة عطرها التي عرفها يوم رآها كانت‬
‫تخترق أنفه! انفصل عن الواقع وبدا ّ‬
‫وكأنه قد ُسلب عقله!‬
‫ُ‬
‫سأله "كومبو" باهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك يا "أنس"؟‬
‫ابتسم ابتسامة ممزقة ُيخالطها األس ى‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أشعر وكأني لست أنا!‬
‫‪ -‬رّبما أصابتك ّ‬
‫الحمى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تحسس رأسه فانتفض "أنس" وأبعد ّ‬
‫كفه بانزعاج‪ ،‬تراجع "كومبو" ورمقه‬
‫ُ‬
‫بنظرة فاحصة ث ّم قال‪:‬‬
‫تود أن ُتخبرني به؟‬
‫‪ -‬هل هناك ش ىء ما ّ‬
‫ُ‬
‫باضطراب ووجل طاف "أنس" بنظراته في املكان ث ّم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪...‬ال‪...‬ال يوجد ش ىء‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫متمتما بصوت متقطع‪:‬‬ ‫ث ّم أردف‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪" -‬نبرة"‪ ....‬أريد "نبرة"‪.‬‬
‫ُ‬
‫فغر "كومبو" فاه وقال باندهاش‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬نبرة!‬
‫ُ‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬أريدها!‬
‫ُ‬
‫أغمض "كومبو" عينيه وحاول أن ُيعيد أفكاره إلى نصابها ‪ ..‬اقتربت أم‬
‫ُ‬
‫"كومبو" وكانت تراقبهما‪ ،‬قالت وهي تشير إليه بأصابع ترتجف‪:‬‬
‫‪ّ -‬إنه مسحور‪...‬‬
‫ُ‬
‫قال "كومبو"‪:‬‬
‫‪ -‬كيف؟ كيف يا أمي؟‬
‫‪ -‬أال ترى عينيه!‪ ..‬وكيف يردد اسمها!‬
‫قال ُ"كومبو" ّ‬
‫بتوتر شديد‪:‬‬
‫ًّ‬
‫ممزقا يا أمي‪ ،‬وعندما سألته عنه و طلبت منه‬ ‫‪ -‬قميصه! نعم‪..‬قميصه كان‬
‫املمزق ألرقعه له أخبرني بما حدث وقال إنه ترك الجزء املقطوع‬ ‫الجزء ّ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫سحرا‪.‬‬ ‫وراءه هناك‪ ،‬ال بد أن الخبيثة "نبرة" أخذته وعقدت عليه‬
‫خرج "أنس" من البيت القديم الذي كانوا يختفون فيه ً‬
‫هائما على وجهه‪،‬‬
‫يتحدث إلى َ"مرام"‪ ،‬ركض وهو يترنح نحو السهول حول بيت‬ ‫ّ‬ ‫حتى ّأنه لم‬
‫ُ‬
‫"كلودة"‪ ،‬والحقه "كومبو" الذي صاح فور أن رآه يتجه إلى هناك‪:‬‬
‫‪ -‬كنت فريسة سهلة‪ ،‬انشغلت بخنجرك وانتقالك عبر الفجوات‪ ،‬وكتابك‬
‫كل هذا هباء إن لم‬ ‫العجيب‪ ،‬وأصابك العجب بنفسك‪ ،‬نسيت ّأن ّ‬
‫تستعصم باهلل!‬
‫ً‬
‫قال له هذا محاوال أن يكبح جماح تلك الوساوس والخواطر التي تجتاح‬
‫ّ‬
‫منكسرا بحلق جاف ووجه ملتهب وهو ُيردد‪:‬‬
‫ً‬ ‫صديقه الذي كان يقف أمامه‬

‫‪244‬‬
‫‪ -‬وماذا سأفعل اآلن‪ ...‬ساعدني‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تريد؟‬
‫َ‬
‫‪ -‬أن أذهب إلى "نبرة"‬
‫‪ -‬لن تذهب! ولن أتركك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫دفعه "أنس" بعنف‪ ،‬وصارعه للحظات‪ ،‬كان أكثر منه ّ‬
‫قوة فتراجع "كومبو"‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫قليال ثم ّ‬
‫ويحدثه‪ ،‬قال يذكره‪:‬‬ ‫ظل يالحقه‬
‫‪ -‬أترى؟ أنت اآلن تفعل ما كان يفعله "كلودة"‪.‬‬
‫‪ -‬ال‬
‫‪ -‬أنت تسعى إلى الرذيلة‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬أنا سألتقي بها فقط‪ ،‬سأتحدث إليها‪.‬‬
‫‪ -‬عد يا "أنس" أرجوك‪ ،‬أفق قبل أن ّ‬
‫تتمزق هيبتك‬
‫طالعة "أنس" بعينين محتقنتين وقال صار ًخا‪:‬‬
‫‪ -‬اغرب عن وجهي‪.‬‬
‫ّ‬
‫اعترضه "كومبو" بصدره وثبت ساقيه باألرض وقال له‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬إذن‪ ...‬تخطني أوال إن أردت صعود ذلك السهل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ووقف ُ"كومبو" مكانه ولم يتزحزح قيد أنملة ّ‬
‫وظل يدفعه ويمنعه‪ ،‬ث ّم‬
‫ُ‬
‫أرهق كالهما من دفع اآلخر له‪ ،‬هرب "أنس" من "كومبو" الذي كان يالحقه‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫سريعا‬ ‫ويمنعه من الذهاب لـ "نبرة"‪ ،‬حاول أن يستخدم الخنجر ليصل إليها‬
‫وجرب أن يردد اسم القصر‪،‬‬ ‫وحركه في الهواء‪ ،‬ظهرت الفجوة فوقف أمامها ّ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫وجرب أن يردد اسمها‪" ...‬نبرة"‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫لكن الخنجر لم ينقله إليها!‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وملّا ّ‬
‫مل من مالحقة "كومبو" له انتقل إلى الغابة‪ ،‬فأسرع "كومبو" وأخبر‬
‫َ"مرام" بما حدث‪ ،‬فهي وحدها تستطيع الدخول إلى الغابة‪ .‬كانت َ"مرام"‬
‫متعرجة وبال هدف‬ ‫تركض خلفه محاولة اللحاق به‪ ،‬بينما كان يسير بخطوات ّ‬
‫‪245‬‬
‫وكأن هناك من يسوقه بحبل‪ ،‬وصلت ً‬
‫أخيرا حيث استطاعت‬ ‫وسط الغابة‪ّ ،‬‬
‫أن تنادي عليه فسمعها والتفت ورمقها بعينين ذابلتين وسألها في حنق‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تريدين‪.‬‬
‫ّ‬
‫كانت أنفاسها املتالحقة تمنعها من الكالم‪ ،‬دقات قلبها كانت تتواثب بسبب‬
‫ركضها املتواصل من بيت "أشريا" وحتى مكان "أنس"‪ ،‬بصعوبة قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ال تذهب إليها يا "أنس"‪ ..‬أرجوك‪.‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع‪ ،‬ال ّبد أن أراها‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪...‬ال‬
‫بغضب هادر‪:‬‬ ‫ً‬
‫غاضبا كما لم يفعل من قبل وقال‬ ‫صرخت فالتفت إليها‬
‫ٍ‬
‫مرة أخرى تصرخين؟‪ ...‬هيا انتحبي بالبكاء واضربيني بغصن شجرة‬ ‫‪ّ -‬‬
‫كاألطفال‪..‬‬
‫كانت َ"مرام" تدرك أنه ليس "أنس" الذي تعرفه‪ ،‬حاولت أن تتماسك‬
‫وقالت بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬أنت لست بوعيك يا "أنس"‪ ،‬أرجوك عد معي وسنحاول الخروج من تلك‬
‫األزمة ً‬
‫معا‪.‬‬
‫‪ -‬عودي أنت واتركيني‪ ،‬أو سيري في الغابة وحدك‪..‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا "أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬ابتعدي عني‪.‬‬
‫مبال بنداءاتها‬
‫دفعها فسقطت على األرض بينما أكمل طريقه غير ٍ‬
‫املتتالية‪ ،‬صاحت قائلة‪:‬‬
‫‪"َ -‬نبرة" ال تحبك‪ ..‬ذاك ليس ًّ‬
‫حبا يا "أنس"‪ ،‬وأنت ال ّ‬
‫تحبها‬
‫‪ -‬ومن أخبرك أنني ال ّ‬
‫أحبها؟‬

‫‪246‬‬
‫انسحقت روحها وقالت بخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أعرف‪.‬‬
‫قرأت أفكاري؟‬
‫اك؟ هل ِ‬ ‫‪ -‬وما أدر ِ‬
‫ً‬
‫ساخرا وقال‪:‬‬ ‫ّثم ضحك‬
‫‪ -‬هل عادت لك تلك املوهبة؟‬
‫وقفت وسارت نحوه بهدوء وقالت وهي ّ‬
‫تحدق في وجهه بعين منطفئة‪:‬‬
‫‪ -‬لم أقرأ أفكارك‪ ...‬لكنني شعرت بك!‬
‫حرك عيناه كاملجنون وقال‪:‬‬‫ّ‬
‫‪ -‬أنت ال تعلمين ً‬
‫شيئا يا َ"مرام"‪ ،‬عودي إلى الغابة‪ ،‬إلى "ناردين" واتركيني‬
‫لحالي‪.‬‬
‫رفعت صوتها قائلة‪:‬‬
‫َ‬
‫‪" -‬نبرة" تريد الكتاب‪" ..‬إيكادولي" وفور أن تحصل عليه ستقتلك‪.‬‬
‫مخيفا‪ ،‬بحركة فجائية عنيفة أخرج "أنس"‬ ‫ً‬ ‫صارت عيناه تقدحان شر ًرا‬
‫ً‬
‫الكتاب والتفت نحو َ"مرام" وألقاه في وجهها فأحدث الكتاب خدشا بطول‬
‫خدها األيمن وسقط أمامها على األرض‪ ،‬تحسست وجهها وكان الخدش‬ ‫ّ‬
‫يحرقها‪ ،‬كادت تبكي لكنها تماسكت‪ ،‬قال دون أن ينظر إليها‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬أنا ذاهب ألجلها‪ ...‬ألجل "نبرة"‪ ،‬خذي الكتاب واتركيني لحالي‪.‬‬
‫لكنه كان في حالة من الهوان‬ ‫فع خنجره في الهواء‪ ،‬أ اد أن يقول ً‬
‫شيئا ّ‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫والضعف حتى أنه لم يتمكن من نطق حرف واحد‪ ،‬كان غارقا في غياهب فكره‬
‫ّ‬
‫وتحلت بالشجاعة واستجمعت ّ‬
‫كل‬ ‫وكأنه قد ُش ّل فجأة‪ ،‬اقتربت َ"مرام" بسرعة‬
‫وحدقت في الفجوة وهي تتالعب أمامهما في الهواء‬ ‫ما لديها من قوة وعزيمة ّ‬
‫وقالت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬البيت القديم مع "كومبو"‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫ُث ّم دفعته بأقص ى ّ‬
‫قوة أمامها فالتقمته الفجوة‪ ،‬وقفزت خلفه ّ‬
‫ألول م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّرة‬
‫ُ‬
‫تبتلع خوفها من أجل إنقاذه‪ ،‬وفور أن وصال ورآه "كومبو" حيث كان‬
‫ّ‬
‫وصب‬ ‫ينتظرهما وهو في غاية القلق أمسك بـ"أنس" وأسنده حيث كان ّ‬
‫يترنح‬
‫على رأسه املاء‪ ،‬فهدأ "أنس" وقال له بخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬ساعدني أرجوك‪.‬‬
‫ً‬
‫جاهدا أن يظهر رباطة جأشه ليثبته وقال له‪:‬‬ ‫ً‬
‫مبتسما وحاول‬ ‫رمقه‬
‫عبد ضعيف الحيلة إن لم َ‬
‫تقو أنت على األمر بنفسك‪.‬‬ ‫‪ -‬ما أنا ّإال ٌ‬

‫‪ -‬أرجوك‪....‬‬
‫‪ -‬ولم ُ‬
‫ترجون ي يا "أنس"! وما أملك لك أنا! اطلبها من هللا!‬
‫ً‬
‫مسحوقا مكسو ًرا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫مرت الدقائق ثقيلة عليه‪ ،‬كان‬ ‫خر "أنس" على ركبتيه‬
‫ّ‬
‫يقاوم رغبة تنازعه وتدفعه للركوض إليها‪ ،‬وكان جسده يؤمله وكأن هناك من‬
‫كل جزء فيه بمطرقة من حديد‪ ،‬وقفت َ"مرام" تبكي وهي تراه في تلك‬ ‫ّيدق ّ‬
‫الحالة‪ ،‬غربت الشمس فاضطرت لتركهما‪ ،‬قبل انصرافها قالت له‪:‬‬
‫‪" -‬أنس" سأرحل اآلن‪ ،‬أرجوك تماسك‪.‬‬
‫‪ -‬ساعديني‪.‬‬
‫‪ -‬ليتني أستطيع‪.‬‬
‫نخر الحزن قلبها بال هوادة‪ ،‬أرادت أن تخبره ّأنها ّ‬
‫تحبه‪ ،‬كانت تغربل ذهنها‬
‫ضلت الطريق إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫باحثة عن كلمة ّ‬
‫تبث فيها ما تشعر به‪ّ ،‬‬
‫كل املعاني‬ ‫لكنها‬
‫والكلمات! وأرادت أن تطلب منه أن يحفظ نفسه لها فكل راجفة من رواجف‬
‫قلبها تهتف باسمه‪ ..‬لكنها ال تستطيع أن تخبره ّ‬
‫بكل هذا!‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتكلم ّ‬ ‫ً‬
‫كل ش يء فيهما دون أن يتكلما‪،‬‬ ‫ضجيجا في نفسه‪،‬‬ ‫أحدث صمتها‬
‫ّ‬
‫وانصرفت تمش ي على استحياء تجر قلبها املمزق خلفها‪ ،‬وعادت حيث "أشريا"‪.‬‬
‫الزمه ُ"كومبو" ولم يفارقه‪ ،‬تعاهدا على اجتياز تلك الضربة القاسية ً‬
‫معا‪ ،‬قرر‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫أال يتركه‪ ،‬وقف "كومبو" يقلب األفكار في رأسه‪ ،‬األحداث تتسارع‪ ،‬ال ّبد أن‬

‫‪248‬‬
‫يزول أثر السحر‪ ،‬بينما هو غارق في االحتماالت ّكلها زفر "أنس" ّ‬
‫وكأن روحة‬
‫تتفلت من بين جنبيه وقال بعد جهد شديد‪:‬‬
‫قيدني يا أخي‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫قيدك يا "أنس"؟‬ ‫‪ -‬ماذا!‪ ..‬لم ُأ ّ‬

‫قيدني أرجوك‪...‬‬ ‫‪ّ -‬‬

‫‪ -‬اجلس واذكر هللا‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ً‬
‫قيدني أوال‪ ،‬حتى ال أركض نحوها‪ ،‬ال أريد أن أقع فيما ال يرض ي رّبي‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حسنا فلننتقل إذا إلى مكان آخر حيث أستطيع أن أغلق عليك بابا يا‬ ‫‪-‬‬
‫"أنس"‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وانتقال ً‬
‫معا إلى مكان آخر‪ ،‬أسرع "كومبو" بتقي يد "أنس" بسلسلة من‬
‫أيضا ففعل على مضض‪ ،‬أغلق‬ ‫حديد‪ ،‬طلب "أنس" منه أن يقيد قدميه ً‬
‫ُ‬
‫النوافذ‪ ،‬ث ّم تراجع للخلف وهو يراقب "أنس"‪ ،‬وجلس على األرض أمامه وبدأ‬
‫ناسكا ّ‬‫ً‬ ‫في تالوة ما يحفظه من القرآن‪ ،‬لم يكن ُ"كومبو" ً‬
‫يتحدث عنه‬ ‫شيخا وال‬
‫يقينا قد ال يحمله شيخ فقيه‪،‬‬ ‫الناس ويشيرون إليه‪ ،‬لكنه كان يحمل في قلبه ً‬
‫يكل طوال‬‫يمل ولم ّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬لم ّ‬ ‫كان ينهي القراءة ويعود للبداية فيقرأ ّ‬
‫الليل‪ ،‬بينما كان "أنس" كالوحش الكاسر يزوم في قيده‪ ،‬انطفأ بريق عينيه‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتسارعت دقات قلبه‪ ،‬كان في املاض ي مستريح النفس‪ ،‬خالي الفكر‪ ،‬ال تملكه‬
‫تبرجت له‬ ‫شهوة وكان يبكي من خشية هللا‪ ،‬فماذا سيفعل اآلن وقد ّ‬
‫الدنيا!‪ ...‬أين تلك اللوعة التي كان يشعر بها عند ذكر هللا؟‬
‫أغمض عينيه ودفع بآخر قواه في أتون املعركة الداخلية التي من شأنها أن‬
‫تعيد نفسه إليه‪ ،‬دارت بين نفسه العفيفة ونفسه التي أسرتها الشهوة حرب‬
‫ضيقا ّ‬
‫وكأنه‬ ‫عنيفة ملتهبة كان وقود نارها من روحه وجسمه‪ ،‬كان صدره ّ‬
‫وتقدم ببطء‪ ،‬ارتعدت أوصاله‪.‬‬ ‫جر أقدامه ّ‬ ‫يص ّعد في السماء‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫مرت ثالثة ّأيام وهو على حاله‪ ،‬ينازع في قيده الذي أدمى ساقيه‪ ،‬يطعمه‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫"كومبو" ويرقيه بالقرآن ويعتني به‪ ،‬ويتركه لساعة يز ُور فيها أمه و"أشريا"‬
‫و"مرام"‪ ،‬بدأ ينتشل نفسه من غيابة الجب الذي ألقي فيه‪ ،‬وداس على‬ ‫وأمها‪َ ،‬‬
‫‪249‬‬
‫ً‬
‫مغشيا‬ ‫يتسن له ّ‬
‫التنفس وسقط‬ ‫ّ‬ ‫الشهوة التي تتأجج في صدره مخافة رّبه‪ .‬لم‬
‫أخيرا ّ‬
‫وكأن روحه قد ُعتقت من رق الجسد وارتفعت عن األرض‬ ‫عليه‪ .‬شعر ً‬
‫فهامت في السماء‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫ّ‬
‫ثالثة أيام بلياليها مضت تملس على بعضها البعض‪ ،‬بنهارها العكر وليلها‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫وأخيرا جلس "كومبو" أمامه بابتسامة متعبة حزينة‪ ،‬عندما شعر أن‬ ‫البهيم‪،‬‬
‫مرة التقى به فيها‪ ،‬كان "أنس" ثابتاً‬
‫"أنس" قد استرد نفسه التي رآه بها ّأول ّ‬
‫ً‬
‫ساكنا بعد أن داس على الشهوة التي كانت تتأرجح في صدره مخافة ربه‪.‬‬
‫أراد "كومبو" أن يخبره بما دار خالل األيام الثالثة املاضية‪ ،‬حيث كانت‬
‫تحمل الكثير من األلم‪ ،‬فقد داهم الحراس ذاك البيت القديم الذي كانوا‬
‫يختبئون فيه‪ ،‬سرقوا الكتاب "إيكادولي" من َ"مرام"‪ ،‬وأسروا َ"مرام" عندما‬
‫تعرف عليها أحد الحراس حيث كان بصحبة "حليم" عندما اشترى الجواري‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫وكانت من ضمنهم‪ ،‬عادت "أشريا" مع أمها لدارهما‪ ،‬ما زالت أم "كومبو"‬
‫ُ‬
‫تالزمهما‪ .‬أنهى "كومبو" سرد التفاصيل على "أنس"‪ ،‬ووضع أمامه خنجره وذاك‬
‫مرة‬‫تحولت إلى قطع فحم ّ‬‫الكيس الذي يحتوي على قطع الكريستال التي ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أخرى‪ ،‬وبجوارهما بسط الخريطة التي أعطتها "الحوراء" ألنس‪ ،‬ثم خلع قالدة‬
‫"أنس" وأعادها له فقد كان يرتديها ألن "أنس" كان قد ألقاها على األرض في‬
‫املرات‪ ،‬وأخرج من جيبة الزجاجة الزرقاء الصغيرة وقال وهو يطرق‬ ‫إحدى ّ‬
‫عليها بأطراف أصابعه‪:‬‬
‫أسود‬ ‫املعتق‪ ،‬نوع نادر مصنوع من مسحوق حجر‬ ‫‪ -‬ذاك نوع من الحبر ّ‬
‫ٍ‬
‫نفيس ما عاد يصنع اآلن‪ ،‬أظنه معك لسبب وجيه‪.‬‬
‫‪ -‬ظننته دواء!!‬
‫همس " أنس" بكلماته األخيرة وهو في حالة انهزام نفس ي وهوان شديد‪،‬‬
‫أشفق عليه ُ"كومبو" فانطلق ّ‬
‫يحثه ويشجعه‪:‬‬
‫‪ -‬هيا يا "أنس"‪ ،‬قم أيها املحارب‪ ،‬ال بد أن تستعيد كل ش يء‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫‪ -‬وكيف هذا؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬فكر‪ ،‬فما كان "إيكادولي" ليختارك إن لم تكن أهال السترداده‪ ،‬أشعر أنك‬
‫اقتربت من النهاية‪ ،‬ستسترد الكتاب‪ ،‬وتحرر "كلودة" ليعود لعروسه‪،‬‬
‫وتنقذ َ"مرام" من أيديهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ران عليهما صمت ثقيل‪ ،‬قطعه صوت "كومبو" الذي حاول أن يخرجه من‬
‫شروده عندما أشار إلى الخريطة وهو يسأله‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني تلك األرقام التي على الخريطة؟‬
‫ً‬
‫كل بقعة في الخريطة‪ ،‬كان يحكي موقفا ّ‬
‫مر بهم‬ ‫بدأ يقرؤها وهو يشير إلى ّ‬
‫معا هنا وهناك‪ ،‬وهناك‪ .‬وبينما يتحدث بعفوية كان "أنس" ينظر في الخريطة‪،‬‬
‫وثب فجأة وقد بدأ يتضح له ش يء ما! تلك األرقام تعني الكثير‪ ،‬وهي املفتاح‪،‬‬
‫وقف وقد بدت في عينيه نظرة واثقة والح على شفتيه شبح ابتسامة‪ ،‬فسأله‬
‫ُ‬
‫"كومبو"بفضول‪:‬‬
‫شيئا ما؟ أليس كذلك؟‬ ‫‪ -‬أشعر أنك اكتشفت للتو ً‬
‫ُ‬
‫‪ -‬بلى‪ ،‬أنت رائع يا "كومبو"‪.‬‬
‫يحرك خنجره في الهواء‪ ،‬تارة يقول‬‫قالها وطلب منه أال يغادر مكانه‪ ،‬وبدأ ّ‬
‫قصر "الحوراء"‪ ،‬وتارة يقول الغابة‪ ،‬وتارة يقول بيت كلودة‪ ،‬كان يختفي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ومخيفا‬ ‫لدقائق ث ّم يعود وينبثق من الهواء‪ ،‬وكان األمر يبدو لـ"كومبو" مضحكا‬
‫في الوقت نفسه‪.‬‬
‫ويتحدث مع "الحوراء" و"سامي كول" و"املغاتير"‬ ‫ّ‬ ‫وبينما يتنقل "أنس"‬
‫والعجوز "ناردين" و"املجاهيم"‪ ،‬وخالل فجوة منهم ظهر له فجأة "شهاب"‬
‫وجذبه من قميصه بعنف إلى بيته الذي زاره فيه بالغابة والذي لم يعثر عليه‬
‫غاضبا للغاية‪ ،‬ألصقه بالجدار وغرس عينيه في عيني "أنس"‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬كان‬
‫وصرخ في وجهه قائال‪:‬‬
‫شيئا ّأيها األحمق؟ أنت مجرد حرف ال قيمة له‪..‬أنت‬ ‫ستغير ً‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬أتظن ّأنك‬
‫مجرد عالمة‪ ،‬رمز ال يلتفت إليه من يعيش هنا‪ ،‬وجودك غير هام ّ‬
‫باملرة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أنت ال ش يء‪ ...‬ولن تغير شيئا‪ً.‬‬

‫‪251‬‬
‫‪ -‬ما كنت ّ‬
‫ألغير املاض ي‪ ،‬أنا فقط سأجاهد لكي أستعيد الحقيقة كما كتبها‬
‫صاحبها ّأول ّ‬
‫مرة‪.‬‬
‫‪ -‬أنت أضعف من أن تعيد الحروف‪ ،‬وعقلك أضيق من أن يستوعب تلك‬
‫الكلمات‪ ،‬أنت بال فائدة‪.‬‬
‫يقرب بين معنيين‪،‬‬ ‫ً‬
‫وضوحا‪ ،‬حرف عطف ّ‬ ‫‪ -‬سأكون عالمة ترقيم تزيد املعنى‬
‫وفاصلة تفصل بين كذبتين‪ ،‬ونقطة تنهي بعض الجمل املؤملة‪ ،‬وعالمة‬
‫استفهام بعد سؤال بليغ‪ ،‬ور ّبما قوسين ّ‬
‫يضمان الحقيقة التي أؤمن بها‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫قوسا يغلق جملة ما فينهي حقبة بأكملها!‬
‫‪ -‬لن تفعل يا "أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬بل سأفعل إن شاء هللا يا "شهاب"‪.‬‬
‫‪ -‬مستحيل‪.‬‬
‫كل ش يء ممكن طاملا ّأنك تسعى وراءه وتطلبه‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬

‫‪ -‬لن تستطيع‪.‬‬
‫‪ -‬راقبني إذن‪.‬‬
‫‪ -‬سأراقبك‪ ...‬ولن أسمح لك بإفساد ّ‬
‫كل ش يء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أفلت منه "أنس" وغاص في الفجوة‪ ،‬ث ّم عاد إلى حيث كان "كومبو"‬
‫ً‬
‫مستلقيا على األرض ينتظره‪ ،‬سأله بملل وهو يتثاءب‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ّ‬
‫تأخرت هذا ّ‬
‫املرة يا "أنس"؟‬
‫بصوت واثق ونظرة ثاقبة سحبه من ذراعه وقال له‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫جميعا إلنقاذ‬ ‫‪ -‬اآلن يا "كومبو" ستنتقل معي خالل الفجوات‪ ،‬وسنذهب‬
‫"كلودة" َ‬
‫و"مرام"‪ ،‬هل أنت مستعد؟‬
‫‪252‬‬
‫ُ‬
‫ازدرد "كومبو" ريقه بصعوبة‪ ،‬وهمس بخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬أنا مستعد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وأطل منهما بريق روح املحارب التي تسكنه‪:‬‬ ‫قال "أنس" وقد تألقت عيناه‬
‫‪ -‬اآلن نعالج األمور على طريقة عاملكم العجيب بإذن هللا‪ّ ،‬‬
‫هيا بنا‪.‬‬
‫حرك "أنس" خنجره في الهواء‪ ،‬فانبثقت فجوة تتالعب وتموج ألوانها في‬ ‫ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ساحبا معه صديقه "كومبو"‪.‬‬ ‫بعضها البعض‪ ،‬ث ّم دلف فيها‬

‫❐❐❐‬

‫‪253‬‬
‫(‪)22‬‬

‫روح احملارب‬

‫كانت العجوز "ناردين" جالسة أمام كوخها عندما ظهر "أنس" وبصحبته‬
‫ومد يده فأعطته عكازها الذي‬ ‫حياها بإجالل ّ‬ ‫ُ"كومبو" من خالل فجوة أمامها‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وكأنها تسلمه ً‬‫تتكئ عليه‪ّ ،‬‬
‫وساما! كان عكازها يعني لها‬ ‫عظيما أو تقلده‬ ‫شيئا‬
‫الكثير‪ ،‬غصن شجرة غل يظ ومتين سحبته يوم ألقت بها زوجة ابنها في الغابة‪،‬‬
‫كانت تنصت ألنينه‪ ،‬وينصت لهمساتها‪ ،‬يؤنسها الغصن وتستأنس به‪ ،‬ومنحها‬
‫بحة لطيفة‪:‬‬‫عظيما‪ .‬قالت بصوت مرتعش تصاحبه ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سرا‬
‫ُ‬
‫‪ -‬ال تنس يا "أنس"‪ ،‬ثالث طرقات ثم انتظر‪ ،‬وأتبعهم بطرقة وسيكونون طوع‬
‫أمرك‪.‬‬
‫يحرك خنجره في الهواء‪ ،‬انتقال إلى قصر "الحوراء"‪،‬‬ ‫حياها بحبو ٍر‪ ،‬وعاد ّ‬
‫ُ‬
‫كان "كومبو" يرتعد‪ ،‬تلك كانت أول مرة يرى فيها "املغاتير"‪ ،‬كانوا يقفون في‬
‫صفوف منتظمة وهم يمتطون خيولهم بكبرياء وعلى رء وسهم قلنسوات زرقاء‬
‫تلثموا بمناديل بيضاء تخفي مالمحهم عن الناظرين‪ ،‬توقفوا أمامه وترجل‬ ‫وقد ّ‬
‫ً‬ ‫أحدهم ً‬
‫مقتربا من "أنس" ّ‬
‫وحياه بوقار قائال‪:‬‬
‫‪ -‬طوع أمرك أيها املحارب‪.‬‬
‫كان ذاك الزاجل األزرق"‪ ،‬والذي كان لحضوره أثر عميق في نفس "أنس"‪،‬‬
‫مرة سابقة من تلك ّ‬
‫املرات التي كان‬ ‫تحدث معه في ّ‬‫فقد شعر بالطمأنينة بعدما ّ‬
‫ً‬
‫يلج فيها خالل الفجوات منتقال إلى القصر‪ .‬رفعت "الحوراء" يدها وأصدرت‬
‫حرك "أنس" خنجره في طبقات الهواء وردد اسم قصر‬ ‫لهم األمر‪ ،‬وفور أن ّ‬
‫ً‬
‫امللك " ِكمشاق" ‪..‬انبثقت الفجوة‪ ،‬وبدأ املغاتير يقفزون فيها واحدا تلو اآلخر‬
‫ُ‬
‫بخيولهم‪ ،‬تبعهم "أنس" ومعه "كومبو" وعندما اطمأن أنهم يقفون على‬
‫‪254‬‬
‫قريبا من القصر ترك ُ"كومبو" معهم وانتقل من خالل فجوة أخرى‬ ‫السهول ً‬
‫حيث "املجاهيم"‪ ،‬وطلب منهم األمان‪ ،‬وتعاهد معهم أن ينقلهم من خالل‬
‫فجوات خنجره إلى حيث يستطيعون السيطرة على ما تحت أرض قصر امللك‬
‫ِ"كمشاق"‪ ،‬لتتوسع مملكتهم‪ ،‬فتلك هي الطريقة الوحيدة لكي يتمكنوا من‬
‫عبور الفاصل الحجري الذي يحبسهم في الغابة وبسببه ال يخرجون منها‪،‬‬
‫مقابل أن يعينوه على اقتحام القصر وتحرير صديقه "كلودة"‪َ ،‬‬
‫و"مرام" التي‬
‫ً‬ ‫كان ّ‬
‫يتحرق شوقا لالطمئنان عليها‪ ،‬وافق زعيم "املجاهيم"‪ ،‬وأعطاه األمان له‬
‫ولرفاقه وللمغاتير‪ ،‬فسمح لهم "أنس" باالنتقال عبر الفجوة‪ ،‬لم يرهم "املغاتير"‬
‫ُ‬
‫وال "كومب و"‪ ،‬لكنهم سمعوا أصواتهم فقط بجوارهم فأصابهم الرعب الشديد‬
‫كل مكان‪ ،‬لكن "أنس" وحده كان يستطيع رؤيتهم‪ ،‬في‬ ‫وقد كانوا حولهم في ّ‬
‫الجهة املقابلة غير بعيد ظهرت كوكبة من الفرسان يتقدمها أحدهم يبدو كأنّ‬
‫عظيما بينهم‪ ،‬رّبما فارس عال املرتبة‪ ،‬كان وشاحه من قماش فخم‬ ‫ً‬ ‫له ً‬
‫شأنا‬
‫محفور بفراء ثمين مختلف ومميز عن بقية الفرسان‪ ،‬كان ذاك "حليم" يستعد‬
‫للدفاع عن قصر امللك الذي يفديه بحياته‪ ،‬والذي يثق به ثقة عمياء‪ ،‬فقد‬
‫أربكهم ذاك الحشد وهو يقترب‪.‬‬
‫كان فارع الطول‪ ،‬له وجه يشع مهابة‪ ،‬ينفث الرعب في قلب أي غريب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫وحيدا بجواده ث ّم توقف‪ ،‬استعار "أنس" جواد "الزاجل األزرق" وامتطاه‬ ‫تقدم‬
‫ً‬
‫بقفزة واحدة‪ ،‬وسار وحيدا حتى وقف في مواجهة "حليم" الذي أومأ يحييه‬
‫وقال‪:‬‬
‫املرة السابقة‪ ،‬ليتني ثقبت قلبك ولم أستمع لنصيحة األميرة‬ ‫‪ -‬هربت مني ّ‬
‫َ‬
‫"نبرة"‪.‬‬
‫‪ -‬كان من حسن حظي أن حررتني بنفسها من أسرك لتنكشف لي نواياها‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا! أنت كاذب!‬
‫حراسها الذين يالزمونها‪ ،‬واسألها ً‬
‫أيضا عن‬ ‫‪ -‬لست بكاذب‪ ،‬ولك أن تسأل ّ‬
‫كتاب "إيكادولي" فهو معها اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬أنت كاذب!‬

‫‪255‬‬
‫‪ -‬أنا ال أكذب‪ ،‬وأستطيع أن أكشف لك الحقيقة كلها‪ ،‬وما ال تعرفه ً‬
‫أيضا!‬
‫ولتعلم أن اقتحامنا للقصر سيتم ال ريب! وسأكون بعد قليل في ديوان‬
‫امللك‪ ،‬وسأضرب عنقه‪.‬‬
‫شهر "حليم" سيفه وقال وهو يشير إليه به‪:‬‬
‫‪ -‬لن ّ‬
‫تمر‪ ...‬سأقتلك قبل أن تفكر في األمر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تفحص "أنس" بهدوء مالمح "حليم"‪ ،‬ث ّم قال له‪:‬‬
‫‪ -‬أتذكر عندما سألتك عندما وقعت في أسرك عن أي عام نحن فيه؟‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬أذكر‪.‬‬
‫ً‬
‫حسنا‪ ...‬إلى أي حد أنت مغامر؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬لو رأيتني أقفز في الهواء بجوادي هذا خالل فجوة معلقة في الهواء‪ ،‬هل‬
‫ستقبل أن تقفز إليها بجوادك خلفي؟‬
‫ّ‬ ‫ً ُ‬
‫متحف ًزا‪:‬‬ ‫تردد قليال ث ّم شدد قبضته على سيفه وقال‬
‫‪ -‬ولو قفزت للجحيم سأقفز خلفك‪.‬‬
‫ابتسم "أنس" بعد أن سمع جملته األخيرة‪ ،‬وتراجع بجواده إلى الخلف‬
‫حرك خنجره في الهواء وقال "مملكة الجنوب"‪ ...‬ثالثة وعشرون‪...‬‬ ‫خطوتين ُث ّم ّ‬
‫ّ‬
‫انبثقت الفجوة وتعلقت في الهواء‪ ،‬التفت نحو "حليم" ودعاه ليتبعه‪ ،‬وقفز‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مترددا للحظات‪ ،‬ث ّم قفز واختفى كالهما‬ ‫خاللها قبله‪ ،‬وخلفه وقف"حليم"‬
‫ُ‬ ‫لوقت تعدى النصف ساعة‪ّ .‬‬
‫ظن املغاتير أن "أنس" لن يعود‪ ،‬ووقف "كومبو"‬
‫وأخيرا عاد وكأنه يقفز من رحم الهواء وتبعه "حليم"‪ ،‬دار‬‫ً‬ ‫يقرض أظافره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وجيز كان‬
‫ٍ‬ ‫كالهما حول اآلخر بفرسه‪ ،‬ثم توقف "حليم" ونكس رأسه لوقت‬
‫كافيا التخاذ أهم قرار في حياته‪ ،‬قالها بثقة وهو ّ‬
‫يحدق في رأس جواده‪:‬‬ ‫ً‬
‫‪ -‬كما اتفقنا‪ ...‬اتركه لي يا "أنس"‪ ،‬واهتم أنت بصديقك‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫قال "أنس"‪:‬‬
‫‪َ -‬‬
‫و"مرام"؟‬
‫‪ -‬عندما تنقذ صديقك‪ ،‬وعندما أفعل ما ّ‬
‫علي أن أفعله‪ ،‬سأقلب القصر‬
‫ً‬
‫بحثا عنها‪ ،‬وسأنقذها بنفس ي‪.‬‬
‫‪ -‬كلمة شرف؟‬
‫‪ -‬نعم أيها املحارب‪ ..‬كلمة شرف!‬
‫دهشة‬
‫ٍ‬ ‫حدث ّ‬
‫كل ذلك و"املغاتير" و"كومبو" وحتى "ا ملجاهيم" كانوا في‬
‫شديدة‪ .‬تراجع "حليم" وأمر الجنود بالبقاء في أماكنهم على بوابات القصر‬
‫وفوق سطحه‪ ،‬ودلف إلى داخل ديوان امللك ِ"كمشاق‪ ،‬وعلى عينيه تستقر‬
‫ّ‬
‫نظرة غريبة‪ .‬كان "أنس" يلملم شتات فكره‪ ،‬ويحاول التركيز على إنجاح خطته‪،‬‬
‫يحرك خنجره في الهواء‪ ،‬كانوا يفدون‬ ‫بقي أن يستدعي الصقور‪ ،‬وقبل أن ّ‬
‫ّ‬
‫أفواجا ف وقهم حتى أظلمت السماء‪ ،‬تحرك "املغاتير " وتبعهم "املجاهيم"‬ ‫ً‬
‫وأحاطوا القصر من جهاته األربعة‪ ،‬وارتفعت الصقور فوقه فحجبت ضوء‬
‫الشمس عنه فارتج امللك ِ"كمشاق" وحاشيته‪ ،‬وخرج الجميع بأسلحتهم‪،‬‬
‫ّ‬
‫فاسودت نوافذه من الخارج‪ ،‬وارتص الحراس بالنبال‬ ‫وغطت الغربان القصر‬
‫الرماة أوضاع التصويب نحو "املغاتير"‪ ،‬ووقف جند القصر‬ ‫واتخذ عدد من ّ‬
‫شاهرين سيوفهم وحرابهم أمام البوابات‪ ،‬وبدأ صدام عنيف‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫كان "أنس" يقف أمام القصر بثقة حيث رفع صوته وصرخ بأقص ى ما أوتي‬
‫ً‬
‫مناديا على امللك ِ"كمشاق"‪ ،‬لم يخرج إليه أحد‪ ،‬كان يمسك بعصاة‬ ‫من ّ‬
‫قوة‬
‫ُّ‬
‫العجوز "ناردين" التي سلمتها له‪ ،‬رفعها في الهواء ثم ضرب األرض ثالث ضربات‬
‫ً‬ ‫متتاليات فأحدث ً‬
‫دويا خلع قلوب ّ‬
‫كل من بالقصر‪ ،‬وانتظر قليال ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬اخرجي بأمر هللا‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫قوية فانغرست العصاة في األرض التي بدأت تنش ـ ـ ـ ـ ـق‬ ‫ُث ّم ضرب ضربة ّ‬
‫ّ‬
‫وتتفتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح جنباتها بسرعة‪ ،‬وبرزت وشائج أشجار متشابكة ظلت ترتفع‬
‫ّ‬
‫وتتشابك وتسير كما تسير األفاعي هنا وهناك‪ ،‬شلت أركان القصر‪ ،‬وسحبت‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫جميعا‬ ‫الجنود والتفت على سيقانهم ث ّم سحبتهم لباطن األرض فابتلعتهم‬
‫محلقة ً‬ ‫ّ‬
‫بعيدا وسقط‬ ‫فارتبكت الغربان وانتفضت تتخبط في بعضها البعض‬
‫منها ما سقط‪ .‬التفت تجاه "الزاجل األزرق" وتبادل معه نظرة ذات معنى‬
‫ُ‬
‫فاقترب منه‪ ،‬ثم استدار نحو زعيم "املجاهيم" الذي دنا منه في الحال‪ ،‬ثم أشار‬
‫ُ‬
‫للرمادي فاقترب‪ ،‬كاد "كومبو" أن ينضم إليهم‪ ،‬فقال له "أنس"‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪" -‬كومبو" انتظر أنت‪ ،‬من أجل أمك و"أشريا" وأمها‪ ،‬ولو لم أعد وكتب هللا‬
‫ل َـ"مرام" النجاة‪ ،‬عاهدني أن تساعدها على العودة لقصر "الحوراء" إن لم‬
‫ُ‬
‫ينج أحد من "املغاتير" ليعود بها‪.‬‬
‫متأثرا حتى أن عينيه‬ ‫كفه ً‬ ‫أومأ ُ"كومبو" برأسه في صمت ووجوم‪ّ ،‬‬
‫شد على ّ‬
‫الضاحكتين امتألتا بالدموع‪ ،‬خش ي أن يكون هذا الوداع! ووقف في رهبة‬
‫ً‬ ‫يراقب "أنس" الذي ّ‬
‫حرك خنجره في طبقات الهواء قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ديوان امللك ِ"كمشاق"‬
‫انبثقت الفجوة فدلف منها "أنس" مع "الزاجل األزرق" و زعيم " املجاهيم"‬
‫الذي ال يراه إال "أنس" ومعهم الرمادي‪ ،‬فوجيء امللك ِ"كمشاق" ومن حوله‬
‫بظهورهم أمامهم‪ ،‬كان أول ما روع "أنس" هو رؤيته لـ"كلودة" وهو معلق من‬
‫قدميه‪ ،‬كان الساحر "قرجة" يجلس تحت رأسه‪ ،‬وبين يديه كتاب "إيكادولي"‪،‬‬
‫يستعد لكتابة أول عبارات فيه على طريقتهم بدماء كلودة بعد أن يثقبوا قلبه‪،‬‬
‫اهتزت يدها عندما رأت "أنس"‪ ،‬لكنها‬‫وكانت َ"نبرة" تمسك بسهم وتستعد‪ّ ،‬‬
‫عادت تطالعه كذئبة جريحة ما زال بها بعض خبث ودهاء‪ ،‬كان الغل‬
‫والغضب يطغى على مشاعرها‪ ،‬إن لم يكن هو لها‪ ،‬فالكتاب سيكون!‬
‫ُ‬
‫وإن كتب على صفحاته باسمها واسم أخيها وعلى شريعتهما التي تكفر بكل‬
‫ش يء إال ملكهما‪ ،‬فذاك سيجعل "أنس" ً‬
‫أسيرا لديها ألنه فشل في استرداد‬
‫كتابه‪ ،‬ستسيطر على كل ش يء‪ ،‬هكذا كا نت تظن‪ ،‬أسرعت نحو "كلودة"‬
‫ورشقت السهم في قلبه‪ ،‬فصرخ صرخة مدوية وبدأت الدماء تسيل منه‪ ،‬وبدأ‬
‫الساحر يجمعها في إناء صغير و يكتب بها في صفحة من الكتاب‪ ،‬بينما وقف‬
‫‪258‬‬
‫ويحركه ً‬
‫مهددا في الهواء أي شخص يفكر‬ ‫سيفا ّ‬ ‫الجثة يحمل ً‬‫أمامه جل ضخم ّ‬
‫ر‬
‫مطلقا إشارة الهجوم فانقض‬ ‫ً‬ ‫في االقتراب من الساحر‪ ،‬صرخ "أنس"‬
‫واحدا تلو اآلخر وفور أن رأى املغاتير سقوط‬ ‫ً‬ ‫"املجاهيم" على بقية الجنود‬
‫الجنود أمامهم‪ ،‬انطلقوا وبدأوا يقتحمون القصر بالتدريج‪ ،‬بينما انقض‬
‫"الزاجل األزرق" على الفارس الذي كان يحمي الساحر وهو يكتب وبارزه حتى‬
‫جندله بسيفه وصرعه فأحاط به آخرون‪ ،‬استمر يضرب ويجندل‪ ،‬وحوله‬
‫زعيم " املجاهيم" يصرع بعضهم هنا وبعضهم هناك يخنقهم ويحبس أنفاسهم‬
‫مقتربا من الساحر وضربه ضربة‬ ‫ً‬ ‫‪ ،‬من بينهما وهما يساعدانه تسلل "أنس"‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫بالسيف فقطع ذراعه التي كان يكتب بها‪ ،‬ثم قطع الحبال التي كان "كلودة"‬
‫يتألم وبدا ّ‬‫ّ‬ ‫ً‬
‫وكأنه يلفظ أنفاسه األخيرة‪ ،‬نظر‬ ‫معلقا بها من قدميه‪ ،‬كان "كلودة"‬
‫إليه "أنس" فألفاه ساكن األطراف‪ ،‬شاخص البصر‪ ،‬وصدره يرتفع وينخفض‬
‫واستل خنجره وحركه في الهواء لينتقل به إلى‬ ‫ّ‬ ‫وشفتيه تختلجان‪ ،‬فالتفت‬
‫الغابة حيث العجوز "ناردين"‪ ،‬وسحبه معه خالل الفجوة‪ ،‬هرولت العجوز‬
‫تجاههما وفور أن رأت "كلودة" شهقت وانحنت تتحسس السهم املرشوق في‬
‫قلبه‪ ،‬رفعت عينيها تجاه "أنس" وقالت له‪:‬‬
‫‪ -‬هل أحضرت الزجاجة التي سألتك عنها؟‬
‫‪ُ -‬نعم‪ ..‬ها هي‪ ،‬ولكن هل أنت على يقين مما أخبرتني به؟ لقد أخبرني‬
‫"كومبو" ّأنها حبر ّ‬
‫معتق!‬
‫ُ‬ ‫ابتسمت العجوز‪ّ ،‬‬
‫وهزت رأسها بثقة‪ ،‬ثم سحبت زجاجة الحبر الزرقاء من‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫قربتها ألنفها ّأوال ّ‬
‫يدي "أنس"‪ ،‬وفتحتها بحرص‪ّ ،‬‬
‫وشمتها ثم قالت بصوت واثق‪:‬‬
‫‪ -‬اآلن يا "أنس"‬
‫َ‬
‫قبض "أنس" على السهم الذي رشقته "نبرة" في قلب "كلودة"‪ ،‬وانتزعه‬
‫بقوة‪ ،‬فانفجرت الدماء من ال جرح‪ ،‬كانت الدماء حالكة السواد! ار ّتج قلب‬‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫"أنس" فزعا وهو يراها تسيل‪ ،‬وضعت العجوز كفها عليها وهمست‪:‬‬
‫‪ -‬يكفي‪ ..‬يكفي‪.‬‬
‫فتوقفت الدماء عن السيالن وبدأت تقطر من الزجاجة داخل الجرح‬
‫نقطة نقطة‪ ،‬ورفعت رأسها تجاه "أنس" قائلة‪:‬‬
‫‪259‬‬
‫وعد لتنقذ َ"مرام"‪ ،‬فلن أستطيع عالج جراحها‬
‫‪ -‬اتركه اآلن وال تقلق عليه‪ُ ،‬‬
‫هنا!‬
‫حرك خنجره في الهواء وعاد‬‫انتفض "أنس" وشعر بالخوف يعتصر قلبه‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫لقصر ِ"كمشاق"‪ ،‬كانت املعركة ما زالت مستمرة‪ ،‬وكانت "نبرة" والتي كانت‬
‫سوادا على األرض وتكتب بنفسها في‬‫ً‬ ‫تكفكف دماء "كلودة" التي استحالت‬
‫كتاب "إيكادولي"‪ ،‬فور أن رأته يقترب احتضنت الكتاب وفرت به‪ .‬بينما كان‬
‫"حليم" يغرس سيفه في قلب أخيها ِ"كمشاق"!! ويراقبه وهو يلفظ أنفاسه‬
‫فهز أركان‬ ‫ً‬
‫ممجدا ذكرى أبيه ّ‬ ‫األخيرة‪ّ ،‬ثم سحب سيفه ورفعه وهتف بصوته‬
‫القصر‪ ،‬هنا يعلو سلطان امللك على سلطان الصداقة‪ ،‬كانت نظراته كالبرق‬
‫املتطاير من عين جواد مفترس‪ ،‬توقف الجند عن القتال والتفوا حوله‬
‫يأتمرون بأمره بعدما صارت الغلبة والسلطة له منذ تلك اللحظة‪ ،‬بينما‬
‫انسحب "املغاتير" بأمر "الزاجل األزرق" وعادوا أدراجهم على السهول حول‬
‫ّ‬
‫القصر‪ ،‬وعادت الصقور تحلق بعد أن فتكت بمجاميع الغربان التي كانت قد‬
‫تبقت حول القصر‪ ،‬كان " القرناس" قد حمل َ"مرام" وطار بها ً‬
‫بعيدا دون أن‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫يلتفتوا إليه‪ ،‬وانطلقت "نبرة" على جوادها وهي تحتضن كتاب "إيكادولي"‬
‫يحميها رجالها بالنبال ويرشقون كل من يتبعها‪ ،‬كانت تتجه نحو الجبل األحمر‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫بكلمات مقتضبة تحدث "حليم" حيث كانت دماء ِ"كمشاق" ال تزال على‬
‫سيفه‪ ،‬لم يجرؤ أحد أن يناقشه‪ ،‬فقد كان قوي الشكيمة‪ ،‬حتى نقطة ضعفه‬
‫ّ َ‬
‫حبه لـ"نبرة" ‪ -‬تالشت عندما تبعثر تلك الليلة التي اقتحمت فيها‬ ‫ُالوحيدة ‪ -‬وهي‬
‫ّ‬
‫"أونتي" الحفل وتحدثت معه بكل أريحية وصراحة‪ ،‬وأخبرته بقصتها مع‬
‫"كلودة" وكيف كانت تحبه لكنها اآلن تشعر وكأنه شبح عديم املالمح ّ‬
‫مر بها‪،‬‬
‫كانت تدرك أنها ركضت خلف شهوة‪ ،‬نعم‪ ،‬لقد أطلقت العنان لجسدها‬
‫ليمتطي روحها وكانت تتصرف كالحيوانات‪ ،‬وها هي نادمة‪ ،‬فالحب ال يأتي‬
‫َ‬ ‫بالتوسل‪ .‬أنصت إليها ّ‬
‫وتأمل حال نفسه وما يراه من "نبرة" من إهانات‬
‫متوالية‪ ُ ،‬وهي تنفر منه وتهينه وتقاومه‪ ،‬قرر أن يخرجها من قلبه‪ ،‬وكان‬
‫لكلمات "أونتي" وقع عظيم في نفسه‪.‬‬
‫‪260‬‬
‫ّ‬
‫تقدم "أنس" ووجه الكالم إليه بإجالل أمام الجميع ّ‬
‫ليثبت أركان ملكه‬
‫ً‬
‫مسبقا‪:‬‬ ‫الجديد‪ ،‬وطلب منه ما وعده به‬
‫‪ -‬جاللة امللك "حليم"‪.‬‬
‫هز "حليم" رأسه وفي عينيه نظرة امتنان على تلك اللمحة التي تركت ً‬
‫أثرا‬ ‫ّ‬
‫على حاشية امللك البائد "كمشاق"‪ ،‬وأصدر األمر لجنوده ليفتشوا القصر بحثاً‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫عن َ"مرام"‪ ،‬كانت "أ ونتي" تنتحب في غرفتها وتبكي شقيقها ِ"كمشاق"‪ ،‬وكانت‬
‫َ‬
‫تخش ى ما هو قادم‪ .‬أخبرتهم أن املسكينة َ"مرام" اآلن بين يدي أختها "نبرة" وهي‬
‫في طريقها لتلقي بها من فوق الجبل األحمر‪.‬‬
‫كان "حليم" يقف بإجالل أمامها‪ ،‬أراد أن يشرح لها سبب قتله له‪ ،‬والذي‬
‫صحبه "أنس" خالل فجوة ليكشفه له‪ ،‬ففوجئ بها تعرف السبب! فقد ّ‬
‫أسرت‬
‫لها ّأمها به قبل أن تموت‪ ،‬ران عليهما صمت طويل وحولهما بعض ّ‬
‫املقربين‪،‬‬
‫توقفت عن البكاء‪ ،‬وأخبرته أنها سترحل وتترك القصر فرفض ّ‬
‫بشدة‪ ،‬وخيرها‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بين أن تظل في القصر معززة مكرمة‪ ،‬أو أن تختار مكانا قريبا ليأمر ببناء ٍ‬
‫قصر‬
‫جديد يليق بها وتكون تحت رعايته‪ ،‬كانت حائرة ومكلومة فلم تجبه‪ ،‬فتركها‬
‫لتهدأ‪ ،‬وأمر حراسه بأال يتركوها تغادر القصر‪ ،‬وانصرف وقد بدأ يحمل لها في‬
‫قلبه من املشاعر ما قد يغير مصيرهما ً‬
‫يوما ما!‬
‫❐❐❐‬

‫حرك "أنس" خنجره في الهواء وشعر وكأنه يشق به صدره وردد بصوت‬ ‫ّ‬
‫مرتعش‪:‬‬
‫قمة الجبل األحمر‪.‬‬‫‪ّ -‬‬
‫ّ‬
‫انبثقت الفجوة وكان يتعجل ظهورها ودقات قلبه تتواثب‪ ،‬كان يخش ى أن‬
‫يصل فيراها صريعة وقد فارقت الحياة‪ ،‬كان قلبه ينتفض بين ضلوعه وهو‬
‫َ‬
‫يقفز في الفجوة ليصل إلى هناك‪ ،‬حيث كانت "نبرة" تقف وقد انحنت تكتب‬
‫نهاية قصتين‪ ،‬أنهت أولهما بموت املحب "كلودة" الذي كان يعشق "أشريا"‬
‫لكنه أخطأ وفطر قلب أختها‪ ،‬وكادت تنهي األخرى بموت َ"مرام"‪ ،‬كانت َ"مرام"‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫مقيدة من يديها بحبل طويل‪ ،‬أوقفها رجال "نبرة" على حافة الجبل الذي‬
‫‪261‬‬
‫ّ‬ ‫غطى الجليد ّ‬
‫قمته‪ ،‬وتحلقت فوقه سحب حمراء‪ ،‬قيل إنها من دماء املحاربين‬
‫َ‬ ‫الذين ُقتلوا ً‬
‫ظلما من قبل‪ ،‬على مر السنين‪ ،‬ولم يسمع بهم أحد‪ ،‬كانت "مرام"‬
‫صبرا وثباتاً‬
‫تحدق في السحب وعليها سكينة عجيبة! وكأن روحها قد سقيت ً‬ ‫ّ‬
‫حتى رضيت واطمأنت‪.‬‬
‫أما "أنس" فكان يقترب في وجل وحرص شديدين وهو يراقبها ويتلفت‬
‫َ‬
‫ويراقب "نبرة" وهي تكتب‪ ،‬كان الحراس على مسافة بعيدة منها‪ ،‬يحمون ظهرها‬
‫أي هجوم جديد‪ ،‬حاول‬ ‫و يراقبون الطريق‪ ،‬ووقفوا في حالة استعداد ّ‬
‫لصد ّ‬
‫َ‬
‫"أنس" أن يتخطى "نبرة" ليقترب من َ"مرام" وينقذها‪ ،‬لكنها انتفضت وشعرت‬
‫قمة الجبل وهي‬ ‫به‪ ،‬فأسرعت وركلت َ"مرام" من ظهرها فسقطت من فوق ّ‬
‫ّ‬ ‫حافة ّ‬‫ّ‬
‫القمة وأغمض عينيه وقفز فحلق كما‬ ‫تصرخ‪ ،‬انطلق "أنس" يركض نحو‬
‫أخبرته َ"مرام" من قبل‪ّ ..‬أن املحاربين وحدهم يستطيعون التحليق كالصقور‬
‫يوما على فعلها‪ ،‬وألنها فقدت‬‫حول الجبل وفي نطاق الغابة‪ ،‬لكنها لم تجرؤ ً‬
‫مميزاتها كمحاربة منذ عادت ودخلت الغابة لتتبع "أنس" لم تتمكن من‬
‫ّ‬
‫التحليق مثله‪ ،‬كانت تهوي بسرعة شديدة نحو القاع‪ ،‬تذكر "أنس" ما أخبرته‬
‫فضم يديه إلى جنبيه وألصق ساقيه ببعضهما وانطلق‬ ‫ّ‬ ‫به عن "قطرة الدمع"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ز‬
‫بسرعة شديدة وسبقها لثقل و نه عنها ثم بحركة خاطفة التقطها من الحبل‬
‫الذي قيدتها به "نبرة"‪ ،‬شقهت عندما شعرت أن هناك من يجذبها وكانت قد‬
‫أغمضت عينيها بعد أن نطقت بالشهادتين تنتظر ا ملوت والفناء‪ ،‬فتحت عينيها‬
‫ّ‬
‫فوجدت نفسها معلقة في الهواء‪ ،‬رفعت رأسها فرأت "أنس" وهو يمسك‬
‫ً‬ ‫وكأنه صقر يطير بجناحين‪ ،‬صعد بها ً‬
‫ويحلق ّ‬ ‫ّ‬
‫فشيئا‬ ‫شيئا‬ ‫بالحبل ويرتفع ويرتقي‬
‫ى‬
‫وكان يتعجب من قدرته على االنتقال من طبقة ألخر في الهواء‪ ،‬حتى شعر أنه‬
‫ّ‬
‫يثبت نفسه معل ًقا كما تفعل الطيور في الهواء‪ ،‬فعلها للحظات‬ ‫يستطيع أن ّ‬
‫َ‬
‫وث ُب َت ونظر إلى معصمها فإذا بالحبل ينغرس في لحمها يكاد يذبح يديها‪ ،‬وكذا‬
‫كان أثره مؤملا في يده‪ ،‬بدأ يسحب الحبل ليمسك يديها فتأرجحت وكاد الحبل‬
‫ينفلت من يده فشخصت نحوه وصرخت صرخة انخلع لها قلبه‪ ،‬شدد‬
‫قمة‬ ‫قبضته على الحبل وأسرع يرفعها حتى وصال لبروز حجري عريض ُقرب ّ‬
‫الجبل تعلوه ندف السحاب األحمر التي تشكل تلك الحلقة الحمراء‪ ،‬رنا إليها‬
‫بإشفاق وهو يتحسس يده وذراعه حيث كان يلف عليها الحبل‪ ،‬كانت تحرقه‬ ‫ّ ٍ‬
‫بشدة وتوجعه‪ ،‬وكذلك يداها‪ ،‬أجهشت َ"مرام" بالبكاء‪ ،‬قال "أنس" وصوته‬
‫يقطر ً‬
‫حنانا ً‬
‫وحبا‪:‬‬
‫‪262‬‬
‫كل ش يء أن أخبرك بش يء ما‪ ،‬ش يء يهمنا ً‬
‫معا‪...‬‬ ‫‪ -‬ذكريني بعد أن ينتهي ّ‬
‫ذكريني يا َ"مرام"‪.‬‬
‫بال كالم‪ ،‬وفي مساحة من الزمن لم ُتحسب‪ ،‬وفي عالم عجيب لم يعرفا‬
‫قصيا‪ ،‬كان قلبه وقلبها متناغمين في‬ ‫ًّ‬ ‫موقعه لكنه احتل من قلبيهما ً‬
‫مكانا‬
‫ّ‬
‫الدقات‪ ،‬فكل دقة في صدرها ص داها قو ٌّي في صدره‪ ،‬كانت روحه وروحها‬
‫نفس‪..‬وأخرى تريد أن تسكن إليها‪ ،‬لكنهما يتعففان رغم‬ ‫منسجمتين بال عناق‪ٌ ،‬‬
‫كونهما على حافة جبل حيث ال تراهما عيون الناس‪ ،‬لكنهما على يقين أن ر ّب‬
‫الناس يراهما‪.‬‬
‫وحركه في الهواء وانتقلت قبله َ"مرام" إلى الغابة وتبعها‬ ‫أخرج خنجره ّ‬
‫خوفا عليها‪ ،‬لم يحب أن يتركها وحيدة ّ‬ ‫ً‬
‫مرة أخرى‪ ،‬في تلك اللحظة الخفيفة‬
‫فور اختفائها داخل الفجوة أمامه بدت وكأنها فجوة تفصل شطري حياته‪،‬‬
‫مالئكيا‪ ،‬وأمام كوخ العجوز "ناردين"كان "كلودة" قد برأ‬ ‫ً‬ ‫حبا ًّ‬
‫نقيا‬ ‫يحبها ً‬
‫كان ّ‬
‫ُ‬
‫وكأنه لم ُيصب بسهم من قبل‪ ،‬أعاده "أنس" لعروسه وداره‪ ،‬وأعاد "كومبو"‬
‫إلى أمه‪ ،‬ونقل "املغاتير" إلى قصر "الحوراء" مع َ"مرام"‪ُ ،‬ث ّم عاد للغابة ّ‬
‫ليرد‬
‫للعجوز "ناردين" عكازها الذي تتكئ عليه‪ ،‬كان الغصن يحن إليها كما كانت هي‬
‫حياها وشكرها‪:‬‬ ‫تحن إليه! وقف "أنس" أمامها وقال بعد أن ّ‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ها هو عكازك يا أمي‪.‬‬
‫غائبا و ُر ّد إليها‪ّ ،‬‬
‫عزيزا كان ً‬ ‫وكأن ً‬ ‫عكازها ّ‬‫ز ّ‬
‫قربته من‬ ‫احتضنت العجو‬
‫ُّ‬ ‫أذنها وبدت ّ‬
‫وكأنها تنصت لش يء ما‪ ،‬ثم رفعت عينيها تجاه وجه "أنس"‬
‫وقالت‪:‬‬
‫ظني بك‪ ،‬منذ اللحظة األولى‬ ‫سيحبك يا "أنس"‪ ،‬لم يخب ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬كنت أعلم ّأنه‬
‫وأنا أشعر ّأنك شاب ّ‬
‫نقي‪.‬‬
‫ابتسم "أنس" ووضع يده على كتفها وقال بحنان بليغ‪:‬‬
‫‪ -‬واآلن يا أمي‪ ،‬هل ستقبلين هديتي؟‬
‫أي هدية!‬‫‪ّ -‬‬

‫‪ -‬رحلة ‪.‬‬
‫‪263‬‬
‫‪ -‬إلى أين؟!‬
‫‪ -‬مفاجأة!‬
‫‪ -‬أخبرني أرجوك‪ ،‬فأشجار الغابة لن تسمح لي بالرحيل ً‬
‫أبدا‪.‬‬
‫‪ -‬حتى من الفجوات التي أحدثها بخنجري؟‬
‫‪ -‬سيسحبونني منها يا ولدي‪ ....‬سيرفضون‪.‬‬
‫يود أن تسمعه ّ‬
‫كل أشجار الغابة وقال‪:‬‬ ‫فع "أنس" صوته ّ‬
‫وكأنه ّ‬ ‫ر‬
‫‪ -‬سأنقلك إلى بيتك‪ ..‬إلى ولدك يا أمي‪ ..‬فأنت تشتاقين لرؤيته وقلبك ّ‬
‫يتوجع‪.‬‬
‫ّ‬
‫اهتزت أشجار الغابة وعال همسها وضجيجها حتى أن "ناردين" رفعت يديها‬
‫على أذنيها وهي تسأله‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف عرفت عنوانه!‬
‫ً‬
‫وأخيرا وصلنا إلى ولدك الحبيب ولقد رأيته يقف أمام‬ ‫‪ -‬سألت أنا و "كومبو"‬
‫داره ويالعب أبناءه‪ ،‬كم هم رائعون!‬
‫شعرت العجوز بارتباك شديد‪ ،‬كانت مشاعرها تتأرجح بين شوقها لرؤية‬
‫أقر ما فعلته زوجته‪ ،‬كانت تخش ى أن‬ ‫ابنها وبين خوفها من أن يكون قد ّ‬
‫ّ‬
‫أي خبر عن أنه جاء ليبحث عنها‪،‬‬ ‫تكشف النقاب عن الحقيقة‪ ،‬فهي لم تسمع ّ‬
‫حتى عندما تخبرها أشجار ونباتات الغابة عن دخول أحدهم أو حتى وفاته‬
‫ّ‬
‫كانت تذهب لتتحرى األمر وتتصفح الوجوه لعلها ترى وجه ابنها بينهم‪ ،‬لكنها‬
‫كانت تصاب ً‬
‫دوما بخيبة األمل‪ ،‬وتعود مكسورة القلب إلى كوخها‪.‬‬
‫قالت وقد دمعت عيناها‪:‬‬
‫‪ -‬ال يا "أنس"‪ ..‬اتركني هنا كما أنا بين أشجاري‪.‬‬
‫حل السكون وعاد الجميع لينصت لحديثهما‪،‬‬ ‫طربت األشجار ملا سمعته‪ّ ،‬‬
‫حاول "أنس" أن يشجعها ويبث في قلبها الطمأنينة فقال وهو يبتسم‪:‬‬
‫‪ -‬أحد أحفادك ُيدعى "بدر" وله وجه كالبدر يا أمي‪ً ،‬‬
‫حقا إنه خفيف الدم‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫أثر ٌ‬‫ض وكان البتسامتها البريئة ٌ‬
‫بليغ في قلب‬ ‫ابتسمت العجوز ً ٍ‬
‫بفم مفضو ٍ‬
‫"أنس" الذي أردف قائال‪:‬‬
‫‪ -‬وشقيقته الصغرى تدعى "شموس"! يبدو أن ابنك يكثر من مراقبة السماء!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جديدا أن يسميه "رعد" أو "برق"!‬ ‫أخش ى إن أنجب طفال‬
‫ضحكت "ناردين" وأمسكت بذراع "أنس" وقالت بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬متى ذهبت‪.‬‬
‫أجلت‬ ‫علي أعراض السحر‪ ،‬وانشغلت بما عرفته ّ‬
‫عني ف َّ‬ ‫‪ -‬قبل أن تظهر ّ‬
‫ِ‬
‫إخبارك حتى اللحظة‪.‬‬
‫قالت وقد بدت عالمات الخوف على وجهها ّ‬
‫الطيب‪:‬‬
‫‪ -‬وهل‪ ...‬رأيت زوجته؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬كان هو فقط من يداعب الصغيرين أمام داره‪ ،‬وكان أشقاؤهما األكبر‬
‫هيا بنا‪ ،‬الوقت ّ‬
‫يمر‪..‬‬ ‫عمرا يجلسون في هدوء وسكينة‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لحظة يا "أنس"‪ ،‬سأرتدي ً‬
‫ثوبا آخر وأغسل وجهي‪.‬‬
‫دب النشاط في أوصالها وهرولت تجاه الكوخ وبعد‬ ‫أسرعت "ناردين" وقد ّ‬
‫حرك "أنس"‬ ‫دقائق كانت تقف أمامه بابتسامة رائعة كانت هي أبلغ زينتها‪ّ ،‬‬
‫خنجره في الهواء فظهرت الفجوة‪ ،‬امتدت وشائج األشجار واقتربت من ساقي‬
‫"ناردين" وكادت تلتف حولها‪ ،‬لكنها لم تجرؤ! توقفت عن الزحف وعادت إلى‬
‫أماكنها بينما كانت "ناردين" تراقبها بعينين مغرورقتين بالدموع‪ ،‬دلف "أنس"‬
‫إلى الفجوة بعد أن أمسك بذراع "نادرين" تاركين خلفهما أشجار الغابة ّ‬
‫تهز‬
‫أغصانها وتئن وتبكي في نشيج عجيب‪ ،‬يخشون أن ترحل لألبد! علت أصوات‬
‫وتهتز‪ ،‬فهناك خطب جلل قد حدث في تلك‬ ‫األغصان وهي تتشابك وتتخبط ّ‬
‫الغابة!‬
‫لكل من‬ ‫الحب للجميع‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬ ‫رحلت الحبيبة "ناردين"‪ ،‬رحلت تلك التي تمنح‬
‫يمر من بين ضلوعها!‬ ‫ّ‬
‫كان ال ّبد أن ين قلها "أنس" إلى بيت ابنها فما كانت لتخرج من حدود الغابـ ـة‬
‫‪265‬‬
‫وتتخطى ذاك الحاجز الحجري إال بواسطة الفجوة التي يفتحها بخنجره‪ ،‬بعد‬
‫لحظات خرج "أنس" من الفجوة ويده في يد العجوز التي شهقت فور أن رأت‬
‫أمامها ابنها يقف بقامته املتوسطة الطول ووجهه املستدير‪ ،‬كان يحمل فتاة‬
‫صغيرة رائعة الجمال‪ ،‬اقترب "أنس" منه وكانت "ناردين" ّ‬
‫تتأبط ذراعه بيدها‬
‫حبات من‬‫اليسرى بينما تتكئ بيدها اليمنى على عكازها‪ ،‬كان يطعم ابنته ّ‬
‫التوت بحنان ولطف‪ ،‬فور أن وقعت عيناه على وجه أمه انتفض ووضع‬
‫ُ‬
‫الصغيرة على األرض ث ّم وثب وصرخ كطفل صغير مذهول‪:‬‬
‫‪ -‬أمي‪ ...‬إنها أمي!!!‬
‫صاحت "ناردين" وقد انهمرت دموعها في الحال‪:‬‬
‫‪" -‬ربيع"!‬
‫هرول "ربيع" تجاه ّأمه وانكب عليها يقبل يديها تارة ويقبل رأسها تارة أخرى‬
‫وقد اختلطت دموعه بدموعها ‪ ،‬كان يبكي وهو عاجز عن الكالم‪ ،‬لم يجد كلمة‬
‫بكفيها وقالت بصوت‬‫عما يعتمل في صدره‪ ،‬مسحت "ناردين" وجهه ّ‬ ‫ّ‬
‫تعبر ّ‬
‫تقطعه الدموع‪:‬‬
‫أشمك يا "ربيع"‪ ،‬أشتاق رائحتك‪.‬‬ ‫‪ -‬اشتقت إليك يا حبيبي‪ ،‬دعني ّ‬
‫وظلت ّ‬ ‫ّ‬
‫تشم عنقه وهو يبكي في حضنها‪ ،‬قال‬ ‫أجهش "ربيع" بالبكاء‪ ،‬وعانقها‬
‫بعد أن تحامل على نفسه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫كثيرا في ّ‬
‫‪ -‬بحثت عنك ً‬
‫كل مكان‪ ،‬ظننت أنك هربت من الدار‪ ،‬كنت أعلم أن‬
‫زوجتي ال ّ‬
‫تحبك‪.‬‬
‫وضعت العجوز يدها على فم ابنها لتسكته وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هسس‪ ...‬ال ترفع صوتك يا "ربيع" حتى ال تسمعك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬ال تخافي يا أ ّمي‪ ،‬لقد طلقتها‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا!‬

‫‪266‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫وتركت الصغار ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫بكل قسوة وتخلت عن‬ ‫جحيما فطلقتها‬ ‫‪ -‬قلبت حياتي‬
‫أمومتها‪.‬‬
‫قالت العجوز بألم‪:‬‬
‫‪ -‬وحرمتني من أمومتي ومنك‪.‬‬
‫احتواها "ربيع" في حضنه وقال بحنان‪:‬‬
‫‪ -‬ال يا أمي‪ ،‬لن يحرمك أحد مني ً‬
‫أبدا بعد اآلن‪.‬‬
‫ُث ّم حمل صغيرته ّ‬
‫وقربها من وجهها وقال لها‪:‬‬
‫‪ -‬لقد تزوجت "سندس" أتذكرينها‪ ،‬وأنجبنا "بدر" و"شموس"‪ ،‬انظري يا‬
‫هيا ّ‬
‫هيا احمليها‪.‬‬ ‫ّأمي‪ّ ..‬‬
‫ورفع صوته ينادي زوجته التي كانت تخبز فوق سطح الدار‪ ،‬أجابت زوجته‬
‫ّ‬
‫النداء وهبطت الدرج على عجل وأسرعت تجاهه بوجهها الطيب‪ ،‬تذكرتها في‬
‫أعز صديقة لـ‬ ‫الحال فقد كانت تقطن في البناية املجاورة مع أمها التي كانت ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حنينا‬ ‫"ناردين"‪ ،‬عانقتها طويال وجلس الجميع داخل الدار‪ ،‬إن للماض ي‬
‫يتغلغل في القلوب ويتمكن منها‪ ،‬عادت "ناردين" بذاكرتها إلى سنين مضت‪،‬‬
‫ّ‬
‫كانت تقلب عينيها بين أحفادها بفرحة وحبور‪ ،‬مضت ساعة وهم على تلك‬
‫تطل من أعينهم‪،‬‬ ‫جدتهم والفرحة ّ‬ ‫الحال‪ ،‬وحولهم الصغار يلعبون ويراقبون ّ‬
‫ّ‬ ‫ودعهم كاد ّ‬ ‫وقف "أنس" ليستعد للرحيل‪ ،‬وبعد أن ّ‬
‫يحرك خنجره لوال تعلق‬
‫"ناردين" فجأة بذراعه! كانت في هلع وكأنها طفل يتيم سيرحل من يرعاه‬
‫ويتركه في بيت غريب!‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تعجب عندما توسلت إليه ليعي دها إلى كوخها في الغابة‪ ،‬قالت بتوتر‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا "أنس" أعدني إلى الغابة‪.‬‬
‫ً‬
‫متعجبا وقد سمعها‪:‬‬ ‫صاح "ربيع"‬
‫‪ -‬كيف يا أمي! كيف!!‬
‫‪ -‬أرجوك يا "ربيع"‪ ،‬لن أستطيع البقاء هنا‪ ..‬سأموت‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫‪ -‬غير معقول يا أمي! أتفضلين وحدتك في غابة موحشة على البقاء معي أنا‬
‫وأبنائي!‬
‫‪ -‬عشت لسنوات هناك فال تقلق‪.‬‬
‫‪ -‬أنت تعلمين أنني لن أستطيع دخول تلك الغابة ً‬
‫أبدا ولن أتمكن من عبور‬
‫ذاك الحاجز الحجري! أنا حتى ال أعلم كيف تعيشين في تلك الغابة‬
‫املخيفة وحدك!‬
‫‪ -‬اتركني يا ولدي ألعود ‪ ..‬أرجوك؟‬
‫ً‬
‫قال "أنس" محاوال إقناعها بالبقاء مع ابنها "ربيع"‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تحتاجين للسيد "ربيع" وهو لن يستغني عنك يا ّأمي‪ ،‬أرجوك ابقي هنا‬
‫معهم‪.‬‬
‫قالت بعد صمت ثقيل‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أصبح الكوخ بيتي‪ ،‬وأنا ال أرتاح إال في بيتي‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم ج ذبت "أنس" بلطف من ذراعه فانحني لتهمس في أذنه‪:‬‬
‫‪ -‬دعني أرحل حتى ال تتغير نظرة الحب التي رأيتها في عيني "سندس" اليوم‪،‬‬
‫ً‬
‫فإن بقيت ستتغير‪ ،‬اإلنسان ثقيل يا ولدي‪ ،‬وأنا أكره أن أكون حمال‬
‫يستثقله اآلخرون‪.‬‬
‫أصرت وأخبرتهم أنها ستسير إلى هناك إن لم‬ ‫لم يفلح أحد في إقناعها‪ّ ،‬‬
‫ينقلها "أنس"‪ ،‬لم يطب لها البقاء بين أحفادها‪ ،‬حتى دموع ابنها لم تشفع‬
‫كل أسبوع على أطراف الغابة!‪ ،‬أخبرت "ربيع" أن‬ ‫لديها‪ ،‬ستكتفي برؤيته ّ‬
‫األشجار ستتركها تتخطى الحاجز الحجري بأمان ولن تعيدها كالعادة طاملا ّأنها‬
‫ستراها اليوم وقد عادت لتقيم هناك لألبد‪ ،‬هكذا همس لها عكازها‪ .‬خضع‬
‫مضض وودعها بالدموع‪ .‬استجاب "أنس" لرغبتها وأعادها إلى‬ ‫ٍ‬ ‫"ربيع" على‬
‫الغابة حيث كوخها فهاجت األشجار وماجت وعال الضجيج‪ ،‬وأقيم عرس‬
‫بالغابة‪ ،‬عادت الحبيبة "ناردين"‪ ...‬عادت الحبيبة "ناردين"‪.‬‬
‫❐❐❐‬
‫‪268‬‬
‫أخيرا على ما تحت أرض قصر‬ ‫في بقعة أخرى‪ ،‬بسط "املجاهيم" نفوذهم ً‬
‫يطل قصر امللك "حليم" فوق تلك املساحات الواسعة‬ ‫مملكة الجنوب حيث ّ‬
‫كل جانب‪ ،‬فتوسعت مملكتهم‬ ‫كوتد ضخم تحيطه السهول الخضراء من ّ‬ ‫ٍ‬
‫وانتقل بعضهم إليها لألبد‪ ،‬أصاب "أنس" إرهاق شديد‪ ،‬فكثرة التنقل جعلته‬
‫كل ش يء باألرقام‪ ،‬وباتت لديه خريطة منحوتة‬ ‫يشعر بدوار شديد‪ ،‬أصبح يرى ّ‬
‫كل بقعة فيها رقم منقوش له داللة بات يعرفها‪ ،‬أراد أن يرتاح‬ ‫في ذهنه‪ ،‬على ّ‬
‫ولو للحظة لكنه ال يستطيع‪ ،‬ما زال أمامه األهم وهو أن يسترد كتاب‬
‫"إيكادولي" من بين مخالب وأنياب الذئاب‪.‬‬
‫قمة الجبل األحمر بعد أن أنهت‬ ‫كان "القرناس" قد حمل الكتاب من فوق ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫"نبرة"آخر جملة فيه إلى املكتبةالعظمى‪ ،‬تسلمه منه الحراس باملكتبة‬
‫واجتمعوا ليطلعوا على ما فيه‪ ،‬كانت تلك العبارات التي ظهرت بينما كان‬
‫الكتاب مع "أنس" قد اختفت جميعها‪ ،‬وامتأل الكتاب بعبارات صاغها الساحر‬
‫َ‬
‫"قرجة" قبل أن يقطع "أنس" يده‪ ،‬وأكملتها األميرة "نبرة" بدماء "كلودة" التي‬
‫كانت على األرض‪ ،‬فور أن ُيختم الكتاب ويضاف إلى رفوف املكتبة سيكون‬
‫حراس الكتب باملكتبة العظمى يتصفحون الكتاب‬ ‫ل َـ"نبرة" شأن عظيم‪ ،‬كان ّ‬
‫بينما حدث ش يء عجيب لم يحدث منذ فترة بعيدة!‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫اندفعت حزمة من أشعة الشمس الوردية على أوراق أشجار السنديان‬


‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الوارفة املحيطة بالبناء العظيم‪ ،‬ث ّم انسابت على جذوعها املغطاة بالطحالب‬
‫أخيرا انزلقت على األرض ّ‬ ‫ّ‬
‫املتسلقة‪ ،‬و ً‬
‫وكأنها ترقص فوق العشب!‬ ‫والنباتات‬
‫فوق املمر املؤدي إلى البوابة الرئيسية للمكتبة‪ ،‬كانت األشجار تتالحم وتتعانق‬
‫مع بعضها البعض لتحبس ضوء الشمس عن الوصول إلى املمر‪ ،‬نسمات‬
‫الهواء كانت باردة‪ ،‬صفان من الحجارة البيضاء كانا على الجانبين مرصوصان‬
‫بنظام دقيق‪ ،‬كان "أنس" قد انتقل إلى املكتبة عبر فجوة ونجحت املحاولة‬
‫تصبه صاعقة‬ ‫املرة‪ ،‬لم يسقط في بحر من الرمال املتحركة ليبتلعه‪ ،‬ولم ِ‬‫هذه ّ‬
‫من السماء تفتك به‪ .‬كان من الضروري أن يزور املكتبة العظمى بنفسه‪،‬‬
‫ً‬
‫حاضرا في تلك‬ ‫فالكتاب هناك كما أخبروه في قصر "الحوراء"‪ ،‬وال ّبد أن يكون‬

‫‪269‬‬
‫لعله ينجح في استرداده‪ ،‬كان "أنس" يرى ّ‬‫ّ‬
‫كل هذا من خلف‬ ‫اللحظات الفارقة‬
‫صوتا ّ‬
‫لعل‬ ‫بوابة ضخمة من الحديد مشغولة بطريقة عجيبة‪ ،‬حاول أن يصدر ً‬
‫يهزها بيديه لكنها كانت متينة وثقيلة‪ ،‬من بعيد‬ ‫هناك من يجيبه‪ ،‬حاول أن ّ‬
‫أسرع بعض الرجال األقوياء نحو البوابة يتعجبون من ذاك الذي وصل إليها‬
‫ووقف يراقب البناء العظيم‪ ،‬كانوا يتبادلون النظرات التي تش ي بتعجبهم‪ ،‬من‬
‫يجرؤ على االقتراب من حدود املكتبة العظيمة! قبل أن يصلوا إلى البوابة‪،‬‬
‫وحيث انتهت صفوف الحجارة البيضاء‪ ،‬وقفوا بجوار بعضهم البعض عاقدين‬
‫أذرعتهم أمام صدورهم‪ ،‬تقدم أحدهم وكان يثقب "أنس" بنظراته‪ ،‬بينما كان‬
‫ُ‬
‫يمسك بالبوابة الحديدية ينتظر أن يدنو منه ليسأله‪ ،‬وقبل أن يقترب فتحت‬
‫نوافذ البناء من خلفهم فجأة وصرخ أحد ما‪:‬‬
‫‪ -‬ال ّ‬
‫تتحرك من مكانك نحن في خطر داهم وأنت امللوم!‬
‫ومرة أخرى صرخ ً‬
‫مناديا كما صرخ منذ قليل‪:‬‬ ‫ُث ّم فجأة ّ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫‪ -‬أدخلوه حاال‪ ...‬أدخلوه‪ ..‬فلقد حدث ما لم يحدث من قبل!‬
‫أسرع الرجال يفتحون البوابة الحديدية وأفسحوا الطريق لـ "أنس"‬
‫يمينا ويسا ًرا‪ ،‬فهو يشعر ّأن هناك من يالزمه‬ ‫يتلفت ً‬ ‫ليدخل‪ ،‬كان يسير وهو ّ‬
‫كتفا بكتف ويسير معه‪ ،‬يكاد يسمع أنفاسه املتتابعة! بل يشعر بدفئها! ّ‬
‫لكنه‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫اليراه!‬
‫دلف إلى البناء فأحاط به شعور بالسكينة رغم ارتباك الجميع وازدحام‬
‫وكأن كل من بالبناء تخطوا الستين من‬ ‫املكان بوجوه تطالعه باهتمام‪ ،‬بدا ّ‬
‫مزينة بنقوش ذهبية بديعة‪ّ ،‬‬
‫مطعمة بألوان زاهية‪،‬‬ ‫أعمارهم‪ ،‬كانت السقوف ّ‬
‫تذكر اآلن كيف تشبه بوابة بيت ّ‬ ‫ّ‬ ‫تشبه تلك التي رآها في بيت ّ‬
‫جده تلك‬ ‫جده‪،‬‬
‫مر بشجرة من خشب األبنوس تشبه‬ ‫حجما‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫البوابة الخارجية لكنها تصغرها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تلك التي سقط فرع منها في غرفة جده عندما رأى كتاب "أبادول" ألول مرة‪،‬‬
‫يتجول‬ ‫ّ‬ ‫يتجول في متحف عريق ممتلئ بالتحف الثمينة كان "أنس"‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وكأنه‬
‫كثة‬‫متوسط القامة له لحية ّ‬‫ّ‬ ‫مستمتعا بما يراه‪ ،‬صعد الدرج خلف كهل‬ ‫ً‬
‫وأخيرا وصل إلى قاعة تتوسطها طاولة‬ ‫ً‬ ‫طويلة بيضاء بعد أن ر ّح ب به‪،‬‬
‫ّ‬
‫مستديرة يحلق حولها رجال يتشابهون في الخلقة لهم سحنة طيبة مريحة‪،‬‬
‫على رأس الطاولة كان أكبرهم يجلس بوقار تحتل وجهه ابتسامة مشرقة‪ ،‬تلوح‬
‫‪270‬‬
‫على جبهته الواسعة سجدة رمادية خفيفة ال يشك الناظر إليها أنها جبهة عابد‪،‬‬
‫حافة الطاولة ووقف ّ‬ ‫ّ‬
‫يرحب بـ"أنس" وأشار إلى بهو كبير‬ ‫استند الكه ل على‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تتفرع منه ممرات طويلة ممتلئة بالرفوف يمينا ويسارا حيث تستقر عليها‬ ‫ّ‬
‫ُّ‬ ‫الكتب‪ ،‬سارا ً‬
‫معا من بينها حيث كان الكهل يمسك بذراع "أنس" ويشير إليها ثم‬
‫قال‪:‬‬
‫تحركت اليوم‪ ،‬لقد أصابنا الرعب‪،‬‬ ‫تتحرك الكتب منذ ثالثين ً‬
‫عاما كما ّ‬ ‫‪ -‬لم ّ‬
‫ر ُّ‬ ‫ظننا أن البناء سينهار‪ ،‬كانت ّأول ّ‬
‫مرة تخرج من أماكنها وتدو ثم تعود يوم‬
‫جدك يا "أنس"‪ ،‬ومن بعدها حين جاء أبوك وها هو األمر يتكرر‬ ‫وصول ّ‬
‫ً‬
‫مبتهجا‪:‬‬ ‫اليوم‪ّ ،‬ثم أكمل‬
‫‪ -‬اآلن يا "أنس"‪ ..‬حان الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬اآلن ماذا؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬سأتركك هنا لتخلو بصديقك قليال‪.‬‬
‫‪ -‬صديقي!!‬
‫ّ‬ ‫‪" -‬إيكادولي"‪ ...‬الكتاب! وسأنتظرك مع ّ‬
‫حراس الكتب‪ ،‬لنتسلمه منك‪.‬‬
‫‪ -‬وأين هو الكتاب؟‬
‫‪ -‬في تلك الغرفة‪ ،‬أرسلناه مع كوكبة من الصقور وغسلوه في ماء النهر‬
‫األخضر‪ ،‬فالكتابة بالدماء ال تزول إال بغسله هناك‪ ،‬أتدري يا "أنس"؟ لو‬
‫قتلوك لبقيت الكلمات في "إيكادولي" لألبد‪ ،‬وما كان ماء النهر ليمحوها‪،‬‬
‫وكنا سنضطر لقبول الكتاب ّ‬
‫وضمه للرفوف‪.‬‬
‫‪ -‬وهل حدث هذا من قبل؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لكن ال تقلق‪ ،‬الكتب ال تهدأ وستظل تدافع عن نفسها ‪ّ ،‬‬
‫وكل كتاب‬
‫يصدق شخص ما‬ ‫ّ‬ ‫ُسرق سيبحث عن محارب جديد ليسترده‪ ،‬عندما‬
‫بالقيم التي فيها تسترد عزيمتها وروحها فتبتلع الكلمات‪ ،‬وحتى إن كانت‬
‫ً‬
‫صراعا حتى‬ ‫بالدماء‪ ،‬فوجود ذاك املحارب يمنحها القوة لتعافر وتعاني‬
‫يأتي ويساعدها‪.‬‬
‫‪271‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫استقرت عيناه على عيني "أنس" وقال‪:‬‬ ‫ثم‬
‫‪ّ -‬‬
‫أظنك تحمل مفتاح الغرفة‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫أخرج "أنس" ذاك املفتاح الذي أعطاه له والده‪ ،‬ورفعه ليراه الكهل الذي‬
‫ُ‬
‫هش حين رآه‪ ،‬ث ّم أشار تجاه غرفة في صدر ممر يقع على يمينهما وطلب من‬ ‫ّ‬
‫"أنس" أن يتجه إليها‪ ،‬سار "أنس"تجاه الغرفة وعاوده الشعور بأن هناك من‬
‫دس املفتاح في الباب وفتحه‪ ،‬ودلف‬ ‫كتفا بكتف‪ّ ،‬‬‫قربا منه ً‬ ‫يالزمه ويسير ً‬
‫بهدوء‪.‬‬
‫في غرفة مضيئة جدرانها بيضاء وخالية من النقوش كان كتاب "إيكادولي"‬
‫تقر على طاولة بيضاء مستديرة تحتل بقعة صغير وسط الغرفة‪ ،‬اقترب‬ ‫يس ّ‬
‫"أنس" والمس الكتاب بأطراف أنامله‪ ،‬فور أن فتح الكتاب شعر بقشعريرة‬
‫ّ‬
‫تجتاح جسده‪ ،‬ثم انطلقت صفحات الكتاب هاربة من بين دفتيه واحدة تلو‬
‫تتعلق في الهواء‪ ،‬أحاطت الصفحات الخالية بـ"أنس" ودارت ّ‬ ‫ى ّ‬
‫عدة مرات‬ ‫األخر‬
‫ُ‬
‫ث ّم توقفت عن الدو ان‪ ،‬ابتعدت عنه وارتفعت وبطريقة فجائية اقترب أولها‬
‫ر‬
‫وانبسط أمام عينيه‪ ،‬ظهرت عليها ً‬
‫تباعا العبارات التي رآها "أنس" في املغارة‬
‫فك‬‫تحت النهر األخضر‪ ،‬رآها أوال بنفس اللغة الغريبة التي لم يتمكن من ّ‬
‫لتستقر معانيها باللغة العربية أمام عينيه‪ ،‬كانت ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫طالسمها‪ ،‬ثم تالشت‬
‫ورقة تحمل عبارة واحدة‪ ،‬كانت العبارة تظهر وفي نفس الوقت يتردد معها‬
‫صوت األمير "أواوا" وهو يقولها باللغة النوبية عندما رآه "أنس" في املمر تحت‬
‫ً‬
‫ومتناغما مع الكتابة‪:‬‬ ‫ً‬
‫متزامنا‬ ‫النهر األخضر‪ ،‬كان صوته‬

‫‪272‬‬
273
‫ُ‬
‫دارت تلك الصفحات وكانت العبارات العشر قد كتبت عليها أمام عيني‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫"أنس"‪ ،‬ث ّم انطوت من جديد بين دفتي الكتاب املفتوح على الطاولة‪ ،‬وبدأت‬
‫مر به بالتفصيل‪ّ ،‬‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫مرقمة تتوالى أمام عينيه‪ ،‬تحكي ما ّ‬ ‫صفحات أخرى‬
‫َ‬
‫كل همسة‪ ،‬كل شخص التقى به‪ ،‬حتى "مرام"‪ ،‬حتى الغابة وما فيها‪،‬‬‫خطوة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫والقصرين‪ ،‬وبقيت الصفحة األخيرة‪ ،‬كان يكتب فيها ما يحدث له في تلك‬
‫ُ ُ‬
‫الغرفة بالتحديد‪ ،‬تركت مساحة فارغة !‪ ...‬ث ّم كتب أمام عينيه على السطر‬
‫األخير‪:‬‬

‫‪274‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واستقرت داخل الغالف‪ ،‬وأغلق‬‫ّ‬ ‫ث ّم ُسحبت الورقة األخيرة فجأة من الهواء‬
‫دويا أجفل منه "أنس"‪ ،‬في تلك اللحظة فتح الكهل ذو‬ ‫بقوة فأصدر ً‬ ‫الكتاب ّ‬
‫يربت على كتفه‪،‬‬ ‫اللحية البيضاء الباب خلفه‪ ،‬وحمل الكتاب‪ ،‬وسار معه ّ‬
‫ويهنئه باسترداد كتاب "إيكادولي"‪ .‬وبعد أن أنهى "أنس" زيارته إلى املكتبة‪،‬‬
‫وحركه في الهواء وانتقل إلى قصر "الحوراء"‪ ،‬حيث كان الجميع‬ ‫أخرج خنجره ّ‬
‫ينتظرونه‪ ،‬حمله "املغاتير" على األعناق‪ ،‬كانوا يحتفلون بنجاحه‪ ،‬سقطت‬
‫ّ‬
‫حقيبته فالتقطتها َ"مرام" وعلقتها بكتفها كما يفعل "أنس"‪ ،‬ووقفت تراقبه‪،‬‬
‫ّ‬
‫تخلص بلطف منهم واقترب على استحياء ليبوح لها بمكنون صدره‪ ،‬كانت‬
‫دقات قلبه تتواثب وكذلك كانت هي‪ ،‬كاد يقول ً‬ ‫ّ‬
‫شيئا لوال "الرمادي" الذي‬
‫ظهر فجأة وانطلق تجاه "أنس" كقذيفة مدفع‪ ،‬وفجأة! انقض عليه بمخلبيه‬
‫محل ًقا فوق مملكة البالغة وسط صياح الجميع‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ظل الصقر العجيب‬ ‫وطار به‬
‫ّ‬
‫يخفق بجناحيه ويبتعد‪ ...‬ويبتعد‪ ...‬ثم ابتلعتهما سحب السماء‪ .‬شعر "أنس"‬
‫وكأن ملزمة تضغط على صدره‪ ،‬دوائر‬ ‫بدوار شديد‪ ،‬وغرق في الظالم وشعر ّ‬
‫يغوص فيها وتتسع‪ ..‬وتتسع‪ ..‬وتتسع‪ ،‬صرخ ً‬
‫مناديا باسمها‪:‬‬
‫‪" -‬مرام"‪"...‬مرام"‬

‫❐❐❐‬

‫‪275‬‬
‫(‪)23‬‬

‫عودة!‬
‫ً‬
‫ممددا على أرض‬ ‫وأخيرا فتح عينيه ليجد نفسه في بيت ّ‬
‫جده بالفيوم‪،‬‬ ‫ً‬
‫مرة‪ ،‬حاول أن يرفع رأسه فإذا بباب‬‫ألول ّ‬‫الغرفة التي التقى فيها بالرمادي ّ‬
‫ّ‬
‫الغرفة يفتح ليهرول تجاهه والده وجده‪ ،‬لم يتمكن من فتح فمه‪ ،‬أراد أن‬
‫لكن والده رّبت على يده بحنان وطالعة بنظرات تعني أن‬ ‫يقول ً‬
‫شيئا ما! ّ‬
‫ُّ‬
‫الوقت قد حان لكي ترتاح‪ ،‬ارتخى جفناه واستسلم للنوم لفترة‪ ،‬ثم أفاق فجأة‬
‫جده الذي‬‫وكأنه يبحث عن ش يء ما‪ ،‬قال ّ‬‫وانتفض وقفز يتلفت يمنة ويسرة ّ‬
‫دلف للغرفة وهو يحمل في يده الجريدة‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك يا "أنس"؟ عن أي ش يء تبحث؟‬
‫‪ -‬الكتاب‪" ...‬إيكادولي"‪ ..‬أين هو؟‬
‫‪ -‬اهدأ يا "أنس"‪.‬‬
‫‪"َ -‬مرام"!‬
‫‪ -‬من َ"مرام"؟‬
‫‪ -‬فتاة التقيت بها هناك‪.‬‬
‫‪ -‬سيبقى هؤالء هناك‪ ،‬ال ّبد أن تعلم ّأنك اآلن انفصلت عن عاملهم‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫طالعه أبوه الذي كان يراقب حوارهما بتأثر وقال بصوت غلبته نبرة حانية‪:‬‬

‫‪276‬‬
‫تعلقت بهم‪ ،‬أحببتهم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وكأن هناك‬ ‫‪ -‬أعلم وأقدر شعورك اآلن‪ ،‬أنت تتوجع‪،‬‬
‫من اقتلعهم فجأة من قلبك‪.‬‬
‫‪ -‬اسمعني يا أبي‪"َ ،‬مرام" كانت مثلي‪ ،‬م‪..‬م‪ ...‬محاربة‪ ،‬ال ّبد أنها قد عادت هي‬
‫األخرى إلى هنا‪ ،‬إلى عاملنا! كيف سأصل إليها؟‬
‫فكل ما عشته سيظل‪...‬‬ ‫‪" -‬أنس"‪...‬تمالك نفسك‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬سيظل ماذا؟‬
‫‪ -‬في الحقيقة‪ ...‬أنت‪..‬‬
‫‪ -‬أنا ماذا!!‬
‫‪ -‬كنت ّ‬
‫مجرد‪ ...‬شخصية في رواية!‬
‫بدأ الغضب يأخذ طريقه إلى رأسه‪ ،‬صاح بعصبية‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا!! ما الذي تقوله!‬
‫‪ -‬كما سمعت‪ّ ..‬‬
‫مجرد شخصية في رواية!‬
‫‪ -‬وتلك املالبس التي ما زلت أرتديها!! ال تحدثني بتلك الطريقة أرجوك!‬
‫أياما وسينتهي ّ‬
‫كل‬ ‫فقا بنفسك يا بني‪ ،‬مررت بما تمر به من قبل‪ ،‬اصبر ً‬ ‫‪ً -‬‬
‫ر‬
‫ش يء‪.‬‬
‫‪ -‬كيف‪ ...‬كيف!! هذا لم يكن ً‬
‫حلما!‬
‫ّ‬
‫‪ -‬تحلم لفترة تخ طت األسبوع!! وتختفي عن الوجود يا "أنس"!‬
‫‪ -‬أرأيت‪ ..‬تعترف إذن أن ما مررت به حقيقي‪ ،‬لقد اختفيت من هنا‪ ،‬لم‬
‫نائما ولم أغرق في غيبوبة‪ ،‬كنت أعلم أن الشمس‬ ‫أفقد الوعي ولم أكن ً‬
‫التي تشرق على تلك اململكة هي نفس الشمس التي تشرق علينا هنا فكيف‬
‫تقول أنني غصت في رواية! أنا بشر‪ ،‬أنا روح‪ ،‬أنا إنسان!‬
‫‪ -‬يا ّ‬
‫بني‪ ،‬انتهى األمر‪...‬‬

‫‪277‬‬
‫تحسس "أنس" يده وقال بحماس‪:‬‬
‫‪ -‬انظر ‪ ..‬أثر هذه الحبال املجدولة على يدي‪ ،‬ما زال يحرقني!‬
‫يأس وقال‪:‬‬
‫أغمض األب عينيه في ِ‬
‫‪ -‬لن يصدقك أحد‪ ،‬ولن تستطيع العودة إلى هناك‪ ،‬حاولنا قبلك وفشلنا‪..‬‬
‫أنسيت؟‬
‫ّ‬
‫هز "أنس" رأسه وقام يجول في الغرفة كاملجنون وقال‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف أنس ى نفس ي التي وجدتها هناك؟‬
‫جده بذراعه وأعطاه الجريدة وقال بهدوء‪:‬‬‫أمسك ّ‬

‫‪ -‬انظر‪ ..‬ها هي الجريدة هناك إعالن عن رواية جديدة للكاتب "شهاب‬


‫السيوفي"‪ ،‬ستصدر عن دار "مملكة البالغة" للنشر والتوزيع‪ ،‬مكتوب هنا‬
‫ّأن الرواية تحكي قصة حب نوبية قديمة‪ ،‬هكذا تسير األمور‪.‬‬
‫ً‬
‫متعجبا‪:‬‬ ‫أمسك "أنس" الجريدة وطالع صورة الكاتب‪ ،‬وصاح‬
‫‪ -‬إنه هو‪"...‬شهاب"!!‬
‫‪ -‬ال ّبد ّأنك التقيت به هناك‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪ ،‬كان يظهر ويختفي من آن آلخر‪.‬‬
‫ّ‬
‫هز الجد رأسه بثقة وقال بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬وهذا ما حدث معنا من قبل‪ ،‬معي ومع أبيك‪ ،‬صدرت روايتان بعد عودتنا‬
‫وكنا نلتقي بالكاتب هناك‪ ،‬يظهر فجأة‪ ،‬ويختفي فجأة‪ ،‬وانتهى األمر‪.‬‬
‫ً‬
‫مراقبا انعكاس ضوء‬ ‫التفت إليهما األب الذي كان يحملق في زجاج النافذة‬
‫الشمس عليه‪:‬‬
‫كل ما مررت به مخطوط في تلك الرواية بعناية‬ ‫‪ -‬هذا ما أعنيه يا ولدي‪ّ ،‬‬
‫شديدة‪ ،‬وانتهى اآلن فقد ت م تسليمها لدار النشر وستتم طباعتها‪ ،‬فلتنس‬
‫ّ‬
‫كل ما مررت به هناك‪.‬‬
‫‪278‬‬
‫‪َ -‬‬
‫و"مرام"!!‬
‫‪ -‬كانت ً‬
‫أيضا ّ‬
‫مجرد شخصية في رواية‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬ال‪ ..‬مستحيل!‬
‫‪ -‬أعلم أن األمر يصعب عليك‪ ،‬هكذا هو في البداية‪ ،‬ستعاني ً‬
‫كثيرا يا ولدي‪،‬‬
‫جيدا ّأنك لن تعود إلى هناك‪ .‬واأليام كفيلة بلملمة‬
‫اهدأ فأنت عاقل وتعلم ً‬
‫الجراح‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن‪ ...‬الرمادي! ألن يعود!‬
‫‪ -‬لن يظهر إال بظهور رمز جديد‪ ،‬ألحد أفراد العائلة‪ ،‬ربما بعد سنوات طويلة‬
‫من اآلن‪ ،‬ابن لك أو حفيد من أحفادك‪ ،‬حاول أن تتجاوز الصدمة لتكمل‬
‫حياتك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن‪...‬‬
‫قبض "أنس" على صدره‪ ،‬و قال بخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬ش يء ما مني بقي عالقا هناك ولم يغادر‪.‬‬
‫قال والده‪:‬‬
‫‪ -‬اثبت يا "أنس"‪ ،‬واحمد هللا أن األمر لن يتكرر‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني؟‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫‪ّ -‬‬
‫تخيل مثال لو تكرر األمر من آن آلخر كلما قرأ أحدهم الرواية تعود أنت‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫لنقطة البداية وكأن شيئا لم يكن‪ ،‬وتتكرر األحداث!‬
‫كل يوم‪ ،‬ليتني أراهم ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬عزائي‬ ‫‪ -‬ليت هذا يحدث‪ ،‬ليته يتكرر ّ‬
‫الوحيد وقتها أنني سألتقي بمن أحببتهم مرات ّ‬
‫ومرات‪.‬‬
‫‪ -‬لكن إن حدث هذا لن تستطيع إخبارهم بأي ش يء‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬

‫‪279‬‬
‫كل ش يء وتعود لنقطة البداية‪ ،‬وكأن ذاكرتك قد محيت‬ ‫‪ -‬ألنك ستنس ى ّ‬
‫ً‬
‫تماما‪ ،‬انتهى األمر يا بني‪ ...‬تماسك أرجوك‪.‬‬
‫ألن "أنس"‬‫ارتفع رنين هاتف والده‪ ،‬كانت والدته‪ ،‬يبدو ّأنها كانت غاضبة ّ‬
‫لم يرد على مكاملاتها طوال أسبوع كامل!‪ ،‬كان األب يحاول شرح موقف "أنس"‬
‫وأنه كان مع رفاقه‪ ،‬أصرت على سماع صوته‬ ‫مفقودا ّ‬
‫ً‬ ‫وأخبرها أن هاتفه كان‬
‫شيئا ما قد حدث له‪ ،‬فليس من عادته أال يهاتفها‬ ‫فقد كانت تشعر ّأن هناك ً‬
‫ً‬
‫ليطمئنها عليه بنفسه‪ ،‬اقترب األب من "أنس" وهمس في أذنه قائال‪:‬‬
‫شيئا‪ ،‬فأنا أخبرتها ّأنك كنت مع رفاقك‪ ،‬وهذا ما‬
‫‪ -‬ال تخبر ّأمك فهي ال تعلم ً‬
‫حدث بالفعل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ضم ُ‬‫ّ‬
‫األب الهاتف لصدره ليكتم الصوت ورمقه بحزم وأردف قائال ‪:‬‬
‫وجدك‪ ...‬لن تصدقك وسيظنك الجميع‬ ‫‪ -‬ال تخبرها وال أي أحد آخر غيري ّ‬
‫ً‬
‫مجنونا‪.‬‬
‫أمسك "أنس" الهاتف وتحدث مع أمه بصعوبة‪ ،‬كان يعتذر وحسب‪ ،‬ويكرر‬
‫ّ‬ ‫مرات ّ‬ ‫اعتذاره ّ‬
‫ومرات‪ ،‬ظلت تصيح عليه في الهاتف وتلومه فقد كانت في غاية‬
‫القلق عليه وظنت أنه أصيب في حادث أو ش يء ما‪ ،‬أنهت صياحها ببكاء شديد‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫فأخذ يهدئ من روعها ثم قال بصوت يقطر أملا‪:‬‬
‫‪ -‬كنت مع رفاقي‪...‬‬
‫قالها "أنس" وهو يتألم‪ ،‬كان يفتقد رفاق رحلته العجيبة‪ ،‬فقد احتل ّ‬
‫كل‬
‫ّ‬ ‫منهم ً‬
‫جزءا من كيانه‪ ،‬تذكر قول العجوز "ناردين" عن كل من تلتقي بهم‬
‫وتحبهم‪ ،‬وكيف كانت تشير إلى صدرها وتقول ّأنهم مروا من هنا‪ ..‬كان "أنس" في‬‫ّ‬
‫غاية الحزن‪.‬‬
‫أغلق الهاتف وأمسك برأسه فجأة‪ ،‬كان يشعر بخفقان يضغط على صدره‬
‫مغشيا عليه فحمله أبوه وجده وأعاداه إلى‬ ‫ً‬ ‫والحرقة تنخر معدته فسقط‬
‫فراشه وجلسا طوال الليل بجواره يتأملان ألمله ويسأالن هللا له الثبات‪.‬‬
‫❐❐❐‬

‫‪280‬‬
‫أطلت الشمس من خلف السحب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وكأنها تتخفى من "أنس"‪ ،‬كان بالفعل‬
‫كل لحظة ّ‬ ‫مستيقظا منذ وقت طويل‪ ،‬يحملق في سقف الغرفة ويسترجع ّ‬ ‫ً‬
‫مرت‬
‫به‪ ،‬وثب وارتدى مالبسه على عجل وخرج دون أن يشعر به أبوه ّ‬
‫وجده‪ ،‬قرر‬
‫أن يذهب للقاء "شهاب" بالقاهرة‪ ،‬بعد ساعات كان يهرول خار ًجا من محطة‬
‫سيارة أجرة‪ ،‬ولكي يحصل على عنوان بيته اتجه‬ ‫القطار فور وصوله ً‬
‫باحثا عن ّ‬
‫ً‬
‫أوال لدار "مملكة البالغة" للنشر والتوزيع‪ ،‬بناء أنيق من القرميد األحمر تحيط‬
‫به حديقة رائعة من كل الجهات‪ ،‬أخرج بطاقته الشخصية للحارس النحيف‬
‫الجوال‪ ،‬لم يطالع الحارس‬ ‫ّ‬ ‫الذي كان يعبث بشاربه وهو ّ‬
‫يتفحص هاتفه‬
‫تأخر املصعد وكان "أنس" في ّ‬
‫قمة التوتر حتى‬ ‫البطاقة ولم ينظر حتى لوجهه‪ّ ،‬‬
‫وثبا متوجها ملكتب مديرة‬‫ّأنه بدأ يقرض شفتيه‪ ،‬هرول نحو الدرج وصعده ً‬
‫الدار في الطابق الخامس من تلك البناية‪ ،‬وبعد أن أشارت إليه موظفة‬
‫االستقبال بلطف ليتفضل بالدخول طرق الباب وفتحه وهم بالدخول وكانت‬
‫املفاجأة‪.‬‬
‫الحوراء تجلس أمامه بشحمها ولحمها‪ ،‬تجلس بوقار خلف املكتب على‬
‫كرس ي من الجلد الفاخر وعلى أنفها عوينات صغيرة تطل من خلفها عيناها‬
‫الواسعتان والسوداوان حيث كانت تطالع شاشة الحاسوب باهتمام شديد‪،‬‬
‫ُ‬
‫التفتت إليه وخلعت عويناتها وابتسمت له‪ ،‬ث ّم قالت مرحبة به‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬أهال وسهال‪ ،‬تفضل بالجلوس‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم أمسكت ببطاقة ورقية صغيرة وقرأت ما دون عليها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬املهندس "أنس كمال"‪.‬‬
‫‪ -‬نعم أنا‪.‬‬
‫‪ -‬مرحبا بك‪ ،‬كيف أستطيع أن أساعدك؟‬
‫سيدتي‪ ،‬هل التقينا من قبل؟‬ ‫عفوا ّ‬
‫‪ً -‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال أظن! تبدو مألوفا لكنني لم أرك من قبل يا ولدي!‬
‫حسنا‪ ،‬وددت أن أسأل عن رقم هاتف السيد "شهاب السيوفي"‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬

‫‪281‬‬
‫‪ -‬هل أستطيع أن أعرف السبب؟‬
‫‪ -‬أمر خاص بروايته الجديدة‪.‬‬
‫‪ -‬وما بها؟‬
‫ً‬
‫شخصيا‪.‬‬ ‫‪ -‬أفضل أن أخبره‬
‫اعتدلت املديرة في جلستها وتأرجحت على مقعدها على نحو خفيف وقالت‬
‫باهتمام‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يخصنا‪.‬‬ ‫‪ -‬كل ما يخص تلك الرواية بالذات‬
‫‪ -‬وددت فقط أن أسأله عن نهايتها ومصير أحد األبطال في الرواية‪.‬‬
‫‪ -‬انتظر إذن حتى ُتطبع وتقرأها‪.‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع االنتظار فهناك أحداث ال ّبد أن ُت ّ‬
‫عدل بشكل سريع‪.‬‬
‫‪ -‬وهل تعرف أحداثها؟‬
‫‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬أقرأتها؟‪ ..‬معقول!! من ّ‬
‫سربها‪ ...‬أخبرني؟‬
‫‪ -‬لم أقرأها ور ً‬
‫قيا ولكن‪...‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬مهال‪ ...‬أنت ال تعرف رقم هاتف السيد شهاب وال عنوانه‪ ،‬ولم تلتق به!‬
‫فكيف تعرف أحداث الرواية!‬
‫ً‬
‫شخصيا‪.‬‬ ‫‪ -‬علمت أن اسمي مدرج بها‪ ،‬وبعض ما يخصني‬
‫‪ -‬كيف هذا! الرواية تتحدث عن قصة نوبية قديمة! واألسماء فيها ال‬
‫تتضمن اسمك!‬
‫‪ -‬رّبما‪...‬‬
‫ً‬
‫واضحا معي!‬ ‫‪ -‬أرجوك كن‬

‫‪282‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫أود أن ألتقي به‪ .‬ولتعتبري ما أعرفه عن الرواية مجرد تخمين‪ ،‬أو ش يء‬
‫يشبه الرؤى‪.‬‬
‫لدي وقت لهذه الحوارات‪ ،‬ولن أستطيع إمدادك بعنوان‬‫‪ -‬من فضلك ليس ّ‬
‫السيد "شهاب"‪ ،‬فكالمك يقلقني‪ ،‬ربما ّ‬
‫تود أن تلتقي به إلعجابك به يا‬
‫بني‪ ،‬ولكن ليس بتلك الطريقة! للكتاب حياتهم الخاصة‪ ،‬انتظر حتى تلتقي‬‫ّ‬
‫به في حفل التوقيع‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن‪..‬‬
‫‪ -‬من فضلك!!‬
‫رفعت يدها لتستوقفه فأدرك ّأن ال مجال للنقاش‪ .‬خرج من الغرفة‬
‫غاضبا‪ ،‬يبدو أن األمر أعقد مما تخيله‪ ،‬وقف شار ًدا أمام املصعد ينتظر‬ ‫ً‬
‫وصوله‪ ،‬كان يغمض عينيه ويتأفف بينما اقترب شاب أنيق يرتدي بذلة‬
‫سوداء فاخرة حسنة التقاطيع أظهرت تناسق جسده‪ ،‬عطره النفاذ أرغم‬
‫"أنس" على فتح عينيه‪ ،‬كاد يصرخ عندما رأى مالمحه‪ّ ،‬إنه "الزاجل األزرق"!!‬
‫دلف معه املصعد وهو يطالعه بفضول شديد‪ ،‬كان الشاب يمسك هاتفه‬
‫ويقلب فيه باهتمام‪ ،‬رفع عينيه على نحو سريع ّ‬ ‫ّ‬
‫وحياه بابتسامة‬ ‫النقال‬
‫مرة أخرى عندما الحظ اندهاشه فقال له‪:‬‬ ‫مقتضبة ّثم عاد ينظر إليه ّ‬
‫‪ -‬هل أنت جديد هنا؟‬
‫ّ‬
‫قال "أنس" وما زالت عيناه معلقتين على وجه الشاب‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬أنا مجرد زائر‪.‬‬
‫‪ -‬أنت كاتب إذن!‬
‫ً‬
‫تقريبا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬هل قمت بتقديم عملك اليوم؟‬
‫‪ -‬ليس بعد‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫‪ -‬أسرع إذن فالسيدة "ناردين" ستنتهي من مراجعة رواية األديب "شهاب‬
‫السيوفي" الليلة‪ ،‬حتى تضم عملك في جدولها قبل أن ُتنشر الرواية‪،‬‬
‫فبعدها ستنهال علينا األعمال من الكتاب واألدباء كالعادة‪ ،‬وربما يتأخر‬
‫دورك‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعمل هنا؟‬
‫‪ -‬أنا " أحمد" وبالفعل أعمل هنا‪.‬‬
‫ً‬
‫مرحبا بك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شابا ً‬
‫لطيفا‪ ،‬ال بد أن كتاباتك رائعة‪.‬‬ ‫‪ -‬تبدو ً‬
‫ً‬ ‫‪ -‬هل من املمكن أن أطلب منك ً‬
‫شيئا بسيطا؟‬
‫‪ -‬وما هو؟‬
‫ً‬ ‫‪ -‬رقم هاتف السيد "شهاب السيوفي"‪ّ ،‬‬
‫أود أن ألتقي به وأعرض عليه عمال‬
‫ما‪.‬‬
‫ً‬
‫حسنا‪ ،‬ها هو رقمه‪ ،‬دونه اآلن‪ ،‬وال تنس أن تضيفني على "الفيسبوك"‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬وما اسمك هناك؟‬
‫‪" -‬الزاجل األزرق"‬
‫ً‬
‫متعجبا‪ ،‬األمر مضحك وموجع في آن واحد‪ ،‬ما‬ ‫فغر "أنس" فاه ُث ّم ّ‬
‫هز رأسه‬
‫الذي يحدث اآلن بالتحديد!!‬
‫يدب في نفسه فربما يلتقي بـ"مرام" ً‬
‫أيضا! كان يرزح تحت موجة‬ ‫بدأ األمل ّ‬
‫من الحنين إليها‪ ،‬يشتاق لوجودها بجواره‪ ،‬تتنفس نفس الهواء‪ ،‬تسير وتتحرك‬
‫وتروح وتجيء وإن كانت بعيدة عنه ولكن في نفس املكان‪ ،‬نفس العالم!‬
‫خرج من املصعد وسار بخطوات بطيئة خلف "أحمد"‪ ،‬نفس طريقة‬
‫الخاصة‪ّ ،‬إنه هو "الزاجل األزرق"!‬
‫ّ‬ ‫السير‪ ،‬نفس الصوت‪ ،‬نفس اإليماءات‬
‫ّ‬
‫بأصابع مرتعشة ضغط "أنس" على أزرار هاتفه ليحدث السيد "شهاب"‪ ،‬كان‬
‫صوته على الهاتف أكثر ً‬
‫اتزانا من صوته في مملكة البالغة‪ ،‬حتى طريقته في‬
‫‪284‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهدوءا‪ ،‬عرفه بنفسه وطلب منه أن يلتقي به‪ ،‬وأخبره‬ ‫الكالم بدت أكثر تعقال‬
‫أن السيد "أحمد" هو الذي نصحه بلقائه قبل أن يعرض أي عمل على‬
‫السيدة "ناردين"‪ ،‬بعد مماطلة من "شهاب" وافق ً‬
‫أخيرا على لقاء "أنس"‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وأعطاه عنوانه‪ ،‬أسرع يوقف ّ‬
‫سريعا إلى هناك‪ ،‬كانت دقات‬ ‫سيارة أجرة لتقله‬
‫ّ‬
‫قلبه تتواثب وتتسابق على نحو سريع‪ ،‬شعر بها وكأ نها طبول تدق في أذنيه‪،‬‬
‫السيارة األجرة أمام بناء عتيق مكون من طابقين‪ ،‬كانت البوابة‬ ‫ّ‬ ‫وقفت‬
‫الحديدية تحمل الفتة مكتوب عليها بخط واضح "فيال شهاب السيوفي"‪ ،‬ترجل‬
‫السيارة بعد أن ّنقد السائق األجرة ووقف شار ًدا ّ‬
‫يتأمل البناية‪ ،‬كانت‬ ‫ّ‬ ‫من‬
‫ّ‬
‫باق ربع ساعة على موعده معه‪ ،‬تنهد بعمق وأغمض‬
‫ّ‬ ‫الربع‪ٍ ،‬‬
‫ً‬
‫الثانية عشرة إال‬
‫عينيه‪ ،‬ما زال موجوعا‪ ،‬مسح على صدره بيده وكأنه يتحسس األلم‪ ،‬لم ينتظر‬
‫تمر الربع ساعة‪ ،‬بل أسرع يدق جرس الباب‪.‬‬‫حتى ّ‬

‫❐❐❐‬

‫‪285‬‬
‫(‪)24‬‬

‫شهاب‬

‫السيد "شهاب" له‬ ‫تناهى إلى سمعه صوت خطوات تقترب من الباب‪ ،‬فتح ّ‬
‫الباب بنفسه‪ ،‬كانت مالمحه كما هي عندما رآه هناك‪ ،‬وجه يحمل مسحة من‬
‫ّ‬
‫وفكه العريض‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وأما تلك النظرة‬ ‫البني‪ ،‬وبشرته الباهته‬ ‫الوسامة بشعره‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الساخرة التي كانت تطل من عينيه الضيقتين تبدلت بنظرة عميقة منكسرة‪،‬‬
‫ً‬
‫لطيفا‪.‬‬ ‫وكانت عيناه خلف عوينات أضفت على مظهره وقا ًرا‬
‫كانت دقات قلب "أنس" متسارعة‪ ،‬حتى أن "شهاب" شعر بتوتره وهو يصافحه‬
‫حيث قال وهو ّ‬
‫يهز يده بحرارة‪:‬‬
‫جد ّ‬
‫اوكأنها قطعة من الثلج‪.‬‬ ‫جدا‪ ،‬يدك باردة ً‬ ‫مرحبا بك‪ ،‬يبدو ّأنك متوتر ً‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫يتأمل وجه "شهاب"‪ ،‬بدا أكثر ً‬ ‫تنحنح "أنس" في ارتباك وهو ّ‬
‫اتزانا وتعقال‬
‫عمرا ّبما! ّ‬ ‫مما كان عليه‪ً ،‬‬
‫وكأنه أربعيني!‬ ‫أكبرا ً ر‬
‫كما ّأنه تخلى عن نزعة الغرور التي كانت تطفح من عينيه‪ ،‬أغلق "أنس"‬
‫مر برواق البيت حيث كان كل ش يء يسبح في هدوء شديد‪،‬‬ ‫الباب وسار خلفه‪ّ ،‬‬
‫سريعا إلى غرفة كبيرة جدرانها تحتضن الكثير من الرفوف املكتظة‬ ‫ً‬ ‫وصال‬
‫بالكتب‪ ،‬كانت رائحة الصندل تفوح من ا ملكان‪ ،‬ذكرته الرائحة بالغابة‬
‫والعجوز "ناردين"‪.‬قال "شهاب"‪:‬‬
‫‪ -‬أخبرتني على الهاتف أنك حصلت على رقمي من "أحمد"‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬الزاجل األزرق‪.‬‬
‫قهقه "شهاب" وهو يتأرجح بالكرس ي الجلدي الفاخر الذي غاص فيه خلف‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ساخرا‪:‬‬ ‫مكتبه ثم خلع عويناته وقال‬
‫‪286‬‬
‫أيضا‪ ،‬كم هو لطيف ذاك الفتى‪ ،‬أحبه‬ ‫‪ -‬أنت صديق له على الفيسبوك ً‬
‫ً‬
‫حسنا أخبرني عن روايتك أو كتابك‪ ،‬أم‪ ...‬هل أنت شاعر؟‬ ‫ً‬
‫كثيرا‪،‬‬
‫‪ -‬في الحقيقة لست بكاتب ولكنني جئتك في أمر آخر هام ً‬
‫جدا بالنسبة لي‪.‬‬
‫اعتدل "شهاب" في جلسته أعاد ارتداء عويناته ونظر إليه بجدية وسأله‪:‬‬
‫‪ -‬وما هو؟‬
‫‪ -‬أنت تعرفه‪ ..‬ال تزعم ّأنك لم ترني من قبل!‬
‫‪ -‬أنا بالفعل ال أعرفك!‬
‫لم يتمالك "أنس" نفسه وثار فجأة ووقف ّ‬
‫يتحدث بعصبية شديدة‪:‬‬
‫‪ -‬أين َ"مرام"؟‬
‫‪ -‬ومن هي َ"مرام"!‬
‫‪ -‬ملاذا أخرجتني من هناك قبل أن ألتقي بها؟‬
‫‪ -‬أخرجتك من أين!!‬
‫طرق "أنس" بقوة على سطح املكتب وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫واضحا في بدايته‪ ،‬لكنني أدركت الحقيقة عندما ربطت بين‬ ‫‪ -‬لم يكن األمر‬
‫ّ‬
‫األرقام التي كانت على الخريطة والفجوات‪ ،‬وما مر من أحداث محدده في‬
‫أماكن محدده برقم خاص‪.‬‬
‫شعر "شهاب" بالقلق وبدأ ّ‬
‫يتحرك من مكانه نحو باب الغرفة وهو يقول‪:‬‬
‫وأي فجوات؟ هل أنت مجنون!‬‫أي أرقام! ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫رفع "أنس" سبابته ّ‬
‫وحركها بعصبية في الهواء وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لم تنجح خدعتك‪ ،‬ال تحاول العبث بعقل من درس الهندسة‪ ،‬فأنا ّ‬
‫لدي‬
‫سهلت ّ‬
‫علي كشف الحقيقة!‬ ‫خيال واسع وسرعة بديهة ّ‬
‫ثار "شهاب" ودفع "أنس" تجاه باب الغرفة وقال‪:‬‬
‫‪287‬‬
‫‪ -‬اخرج من بيتي!‬
‫كاد "أنس" يسقط‪ ،‬لكنه عاد ووقف بثبات ّ‬
‫وقرب وجهه من وجه "شهاب"‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬األرقام كانت أرقام صفحات رواياتك‪ ،‬وكنت أنتقل بالفجوات من رواية‬
‫ألخرى‪ ،‬حتى أنني عدت بـ"حليم" لصفحات سابقة ليرى كيف قتل‬
‫"كمشاق" والده وذبحه واستولى على عرشه‪ ،‬وكان ذاك ً‬
‫عونا لي ليكون في‬ ‫ِ‬
‫صفي عندما اقتحمت القصر ألخرج "كلودة"‪.‬‬
‫‪" -‬حليم" و ِ"كمشاق" و "كلودة" شخصيات في رواية لي بالفعل‪ ،‬لكنني ال‬
‫أفهمك!!‬
‫ّ‬
‫بدأ "شهاب" يرتجف‪ ،‬كانت يداه تهتزان كما لو كان يعاني من اضطراب أو‬
‫مرض ما‪ ،‬ارتبك "أنس" وعاونه على الجلوس على أقرب مقعد‪ ،‬هدأ كالهما‬
‫للحظات كانت كافية لخلط األفكار في رأس "أنس"‪ ،‬رّبما "شهاب" ال يعرف‬
‫أي‬ ‫ً‬
‫مجنونا كما سيظنه ّ‬ ‫عما رآه وعاشه‪ ،‬وكما قال والد ه ّ‬
‫وجده سيظنه‬ ‫ً‬
‫شيئا ّ‬
‫ُ‬
‫شخص آخر لم يخض تلك التجربة بنفسه‪ ،‬قرر أن يشرح له األمر بطريقة‬
‫ُ‬ ‫لعله يصل إلى أي معلومة عن َ"مرام"‪ ،‬قال بعد أن ّ‬ ‫ى ّ‬
‫تنفس بعمق ث ّم‬ ‫أخر ‪،‬‬
‫مسح وجهه ّ‬
‫بكفيه‪:‬‬
‫حسنا يا سيدي‪ ...‬اسمع‪ ،‬أنا مررت بتجربة غريبة وحدث لي ش يء ال‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ّ‬
‫يصدق‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫هز "شهاب" رأسه ليشجعه على إكمال كالمه فأردف "أنس" مكمال حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬بطريقة ما انتقلت إلى مملكة البالغة وعشت هناك لفترة‪.‬‬
‫‪ -‬أتقصد دار النشر؟‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬مملكة البالغة هي بالد غريبة‪ ،‬حتى أنني التقيت هناك ّ‬
‫بعدة أشخاص‬
‫قد تكون أنت كتبت عنهم في روايتك‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا!!‪..‬‬
‫ّ‬
‫حملق "شهاب" في وجهه وأطرق للحظات يفكر‪ّ ،‬‬
‫ظنه يعاني من اضطـ ـ ـ ـ ـراب‬
‫‪288‬‬
‫ً‬
‫اهتماما بكالمه‪:‬‬ ‫ً‬
‫مظهرا‬ ‫نفس ي فقرر أن يجاريه‪ ،‬سأله‬
‫‪ -‬وأين تلك البالد؟‬
‫‪ -‬ال أدري مكانها بالتحديد‪.‬‬
‫‪ -‬كيف سافرت إلى هناك؟‬
‫‪ -‬حملني صقر‪.‬‬
‫بتعجب وقال بنغمة تخالطها رّنة ارتياب‪:‬‬
‫رمقه "شهاب" ّ‬

‫‪ -‬من فضلك‪ ...‬إن كنت تريد إخباري بفكرة رواية ألكتب عنها فال تتبع تلك‬
‫منطقيا وتحدث بشكل طبيعي وسأتجاوب معك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الطريقة معي‪ ...‬كن‬
‫‪ -‬أليس هذا ما كتبته في روايتك؟‪.‬ألم تكتب اسمي فيها؟‬
‫‪ -‬في الحقيقة‪....‬‬
‫قاطعه "أنس" بعصبية وقال‪:‬‬
‫‪ -‬املغاتير‪ ،‬املجاهيم‪ ،‬األمير "أواوا"‪ ،‬املحاربون!‬
‫ُ‬
‫رفع "شهاب" حاجبيه ث ّم قال‪:‬‬
‫‪ -‬هل اطلعت على النسخة التي قدمتها للسيدة "ناردين؟‬
‫مبال بسؤاله‪:‬‬
‫أكمل "أنس" غير ٍ‬
‫‪ -‬قصر امللك‪ ،‬والقرية‪ ،‬والغابة‪...‬‬
‫ً‬
‫غاضبا وقال‪:‬‬ ‫غضن "شهاب" حاجبيه‬
‫‪ -‬كيف سمحوا لك بقراءتها!! ال بد أن أتحدث معهم اآلن‪ ،‬هذا غير الئق!‬
‫فمد "أنس" يده ووضعها فوق يده يستوقفه وقال‬ ‫أمسك "شهاب" بهاتفه ّ‬
‫برجاء‪:‬‬
‫‪ -‬سيدي من فضلك‪ ....‬أرجوك صدقني‪ ،‬الكتاب اختارني بنفسه‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫ّ َ‬
‫احتدت نبرة صوت "شهاب" وهو يسأله‪:‬‬
‫‪ -‬أي كتاب؟‬
‫‪ -‬كتاب قديم صفحاته خالية كان بمكتبة جدي‪.‬‬
‫‪ -‬أنت شخص غريب!‬
‫شيئا؟‬ ‫‪" -‬أبادول"‪ ..‬هل تعني لك ً‬
‫ُ‬
‫حرك "شهاب" عينيه في املكان ث ّم قال‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬تلك رواية كتبها روائي عظيم من أساتذتي منذ سنوات‪ ،‬وأصدرتها نفس‬
‫دار النشر ‪ ..‬ملاذا تذكرها؟‬
‫‪ -‬هذا جدي‪ ..‬أبادول هو ّ‬
‫جدي‪.‬‬
‫ران عليهما صمت ثقيل للحظات‪ ،‬حاول "شهاب" أن يستعيد رباطة‬
‫وتفرس في مالمحه ُث ّم قال ّ‬
‫بجدية‪:‬‬ ‫تأمل وجه "أنس" ّ‬ ‫جأشه‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬يبدو ّأنك واسع الخيال يا فتى‪ ،‬ربما األفضل لك أن تتجه للكتابة‪ ،‬تلك‬
‫كاتبا مشهو ًرا ً‬
‫يوما ما‪،‬‬ ‫األفكار ستساعدك وربما ينجح األمر معك وتصبح ً‬
‫أرجوك انتهت الزيارة‪.‬‬
‫وقف "شهاب" فوقف "أنس" ّ‬
‫متأه ًبا وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إيكادولي‪ ...‬هل تعني لك ً‬
‫شيئا؟‬
‫رفع "شهاب" كتفيه في استغراب شديد وقال‪:‬‬
‫‪ -‬كيف عرفت اسم روايتي!! لم أخبر أي مخلوق أنني اخترت هذا االسم بعد‬
‫لروايتي! حتى دار النشر نفسها ال تعلمه! حتى ّ‬
‫السيدة "ناردين" فقد أرسلتها‬
‫بعدة اقتراحات لالسم ليس هذا من بينها فقد فكرت فيه‬ ‫إليها معنونة ّ‬
‫أمس!‪ ،‬حتى زوجتي وتوأم روحي التي تشاركني في كل ش يء ال تعرفه!‬
‫قال "أنس" في ثقة‪:‬‬
‫‪ -‬ألم أخبرك أنني كنت هناك؟ اآلن ستصدقني‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫‪290‬‬
‫ً‬
‫منطقيا أرجوك‪..‬‬ ‫‪ -‬ماذا تقول؟‪ ..‬كن‬
‫ً‬
‫محتجا‪:‬‬ ‫قاطعه "أنس" وقال‬
‫‪ -‬ما حدث لي خارج نطاق املنطق‪ ،‬ال تخبرني بأن الغابة واململكة والقرى‬
‫َّ‬
‫حولها غير موجوده‪ ،‬انظر إلى يدي‪ ،‬ذاك أثر الحبال ملا حملت َ"مرام"‬
‫عندما سقطت من فوق الجبل‪.‬‬
‫مد "أنس" يده أمام "شهاب" الذي اتسعت حدقتا عينيه عندما رأى أثر‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الحبال املجدولة على يد أنس وذراعه‪ ،‬تذكر ما كتبه في روايته‪ ،‬شعر‬
‫دقات قلبه من ّ‬ ‫ّ‬
‫شدة االنفعال وتراجع‬ ‫بقشعريرة تجتاح جسده‪ ،‬تسارعت‬
‫ّ‬
‫خطوة للخلف‪ ،‬حملق في وجه "أنس" مرة أخرى!! قال بصوت مرتعش‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬الحبل الذي تعلقت الفتاة به!!‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫خر "شهاب" على الكرس ي خلفه بعد أن ترنح قليال وقال بخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي!! ال ّ‬
‫أصدق‪..‬‬
‫‪ -‬هل ستساعدني إذن؟‬
‫‪ -‬في أي ش يء؟‬
‫‪ّ -‬‬
‫عدل نهاية روايتك‪ ...‬أرجوك‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان "شهاب" ّ‬
‫يحدق في وجه "أنس" الذي انطلق متحدثا بسرعة‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أعيش في روايتك‪ ،‬ال أدري كيف‪ ،‬لكنها الحقيقة‪ ،‬حتى أنني التقيت‬
‫بمحاربة أخرى هناك اسمها َ"مرام" كانت تعيش أحداث رواية أخرى تسمى‬
‫"هيال"‪.‬‬
‫ً‬
‫‪" -‬هيال" رواية أخرى لي بالفعل‪ ...‬ولكن مهال‪ ..‬أنت تقول أنك التقيت بتلك‬
‫الفتاة هناك؟‬
‫َ‬
‫نعم‪"...‬مرام"‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬بالفعل روايتي الجديدة "إيكادولي" والتي ال يعلم مخلوق أنني اخترت لها‬
‫هذا االسم تحتوي على أحداث متشابكة وبها شخصية محارب و محاربة!‬
‫‪291‬‬
‫‪ -‬أتقصد أنا و َ"مرام"؟‬
‫ً‬
‫حسنا كما تحب‪ ...‬أنتما‪...‬‬ ‫‪-‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫التوسل والرجاء‪:‬‬ ‫قال "أنس" بصوت غلبت عليه نبرة‬
‫سيدي تحدث عن األمر بت لك الطريقة فهذا سيعني لي الكثير‬ ‫‪ -‬أرجوك يا ّ‬
‫ألنني عشته بالفعل‪ ...‬قل أنت و َ"مرام"‬
‫ّ‬
‫تنهد "شهاب" بعمق وقال بهدوء‪:‬‬
‫ّ‬ ‫حسنا يا "أنس"‪ ،‬اجلس وأخبرني ّ‬ ‫ً‬
‫بكل ما مررت به بالتفصيل‪ ،‬وكلي آذان‬ ‫‪-‬‬
‫صاغية‪.‬‬
‫كفيه بتوتر شديد وهو‬ ‫يحرك رأسه يمنة ويسرة ويفرك ّ‬ ‫كان "شهاب" ّ‬
‫ينصت إلى"أنس" الذي بدأ يحكي له بالتفصيل كل شاردة وواردة ّ‬
‫مر بها‪ ،‬كان‬
‫ما يرويه الشاب عص ي على الفهم‪ ،‬عص ي على الشرح‪ ،‬عص ي على التصديق!‬
‫في النهاية‪ ،‬وبعد أن أفرغ "أنس" ما بجعبته‪ ،‬قال "شهاب" بعد أن خلع عويناته‬
‫وكأنه يرتب أفكاره‪:‬‬ ‫ومسح وجهه وصمت لوهلة ّ‬

‫يب‪ ،‬فروايتي وإن كان أبطالها من‬


‫‪ -‬في الحقيقة يا "أنس" ما تخبرني به عج ُ‬
‫َ‬
‫و"كمشاق" و"نبرة"‪ ،‬إال‬
‫النوبة وبها من الشخصيات مثل "كلودة" و"أونتي" ِ‬
‫أنني لم أكتب عن الصقور‪ ،‬كما أن أمر الكتب واختيارها للمحارب لم يكن‬
‫ً‬
‫موجودا‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني!‬
‫‪ -‬إن كان ما تحكيه صدق‪..‬‬
‫ثم رمقه بنظرة عميقة وأردف‪:‬‬
‫‪ -‬فهذا يعني ّأن الكتب ّ‬
‫حية وتنبض وتشعر بنا‪.‬‬
‫قاطعهما أزيز الباب وهو ُيدفع بلطف‪ ،‬ظهرت زوجة "شهاب" التي عادت‬
‫جمال‬
‫ٍ‬ ‫طيبة وقسمات تنم عن‬
‫ٍ‬ ‫للبيت منذ دقائق‪ ،‬وجه مريح عليه مسحة‬

‫‪292‬‬
‫متعب‪ ،‬ر ّحبت بـ "أنس" ووضعت أمامهما كوبين من عصير البرتقال وانصرفت‬
‫بهدوء‪.‬‬
‫التفت "أنس" تجاه "شهاب" وسأله‪:‬‬
‫‪ -‬لديك ثالث بنات‪" ،‬جميلة"‪ ،‬و"جمانة"‪ ،‬و"جويرية"‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫شخص "شهاب" للحظات‪ ،‬ثم قال مذهوال‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أنك اخترقت رأس ي‪ ...‬وقرأت أفكاري‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني؟‬
‫اقترب "شهاب" من باب الغرفة وأغلقه بحرص وعاد ملكانه وقال بصوت‬
‫خفيض‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ما كنت أحلم به قبل زواجي‪ ،‬أن ننجب أنا زوجتي ثالث فتيات‬
‫متشابهات وكأنهن توائم ولدن في سنوات متفرقة‪ ،‬نسخة متطابقة‬
‫ّ‬
‫ومتكررة‪ ،‬يركضن حولي ويتعلقن بساقي عندما أدلف إلى البيت‪ ،‬يغرقوني‬
‫بالحب‪" ،‬جميلة" و"جمانة" و "جويرية"‪ ،‬هكذا تمنيت‪ ،‬لكن هللا برحمته‬
‫كتب على زوجتي أن تتعثر على درج األمومة‪ ،‬فهي ال تتخطى الشهر الثاني في‬
‫ً‬
‫وسريعا ما يسقط الجنين‪ ،‬وما زلت أحلم‪ ...‬وما زلنا ننتظر الفرج من‬ ‫حملها‬
‫أبدا بذاك الحلم وتلك األمنية‪ ،‬ولم أحدث به‬ ‫هللا‪ ،‬لكنني ال أحدثها ً‬
‫مخلوق!‬
‫‪ -‬لقد رأيتهن هناك‪.‬‬
‫ابتسم "شهاب" ور ّبت على ساق "أنس" وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬بل رأيتهن في رأس ي‪ ،‬يبدو ّأنك كنت هنا‪.‬‬
‫وأشار لرأسه وهو يبتسم بلطف‪ ،‬الحظ "أنس" في تلك اللحظة عالمات‬
‫ً‬
‫متعبة ذاك ّ‬ ‫ّ‬
‫الحد الذي‬ ‫الهم التي ارتسمت على وجه "شهاب"‪ ،‬كانت روحه‬
‫جعله ال يقوى على إكمال حديثه مع "أنس"‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫أطبق عليهما الصمت حيث ندم "أنس" على ما قاله‪ ،‬بينما جعل هذا‬
‫"شهاب" يزداد ثقة به‪ ،‬فها هو يتحدث عن أحالمه وأمنياته التي يخبئها في‬
‫ً‬
‫رأسه‪ ،‬قال "أنس" محاوال أن يخفف عن "شهاب"‪:‬‬
‫‪ -‬آسف‬
‫ّ‬
‫هز "شهاب" رأسه وقال بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬أعلم ّأنك من النوع الذي يراعي مشاعر اآلخرين‪ ،‬أنسيت؟ أنا‬
‫كل ش يء عنك‪ ،‬كتبت عنك طوال ّ‬
‫األيام املاضية‪ .‬فسمات‬ ‫أعرف ّ‬
‫شخصيتك مطابقة لسمات شخصية املحارب في الرواية‪.‬‬
‫قام "شهاب" وتوجه نحو أحد الرفوف وأحضر مجموعة من الروايات‬
‫وبسطها على مكتبه أمام "أنس" وبدأ يقرأ العناوين‪:‬‬
‫‪ -‬هذه رواياتي الخمس‪ ،‬كل منها رواية منفصلة عن األخريات‪ ،‬ويا للعجب!‬
‫سببا في انتقال الشخصيات من رواية‬ ‫يبدو ّأنك بالفعل عشتها بل وكنت ً‬
‫ألخرى بطريقة ما!‪ ..‬رواية "الغابة املسحورة" حيث العجوز "ناردين‪ ،‬ورواية‬
‫"املجاهيم" وعاملهم تحت األرض‪ ،‬ورواية "مملكة الشمال" حيث امللكة‬
‫ً‬
‫متخفيا مع‬ ‫العادلة "الحوراء" وابنها الذي يفعل الخير ويساعد الناس‬
‫رفاقه‪ ،‬ورواية "مملكة الجنوب" حيث كان ملك ظالم وشقيقته األميرة‬
‫أحبها شاب حليم الطباع ّ‬
‫لكنها كانت أنانية وال‬ ‫شديدة الجمال التي ّ‬
‫ّ‬
‫تستحقه‪ ،‬وفي تلك اململكة عدة قرى متجاورة تعكس روعة أهل النوبة‬ ‫ّ‬
‫سرها الغامض ‪ ،‬واحدة منها كان‬ ‫لكل قرية ّ‬ ‫وأخالقهم وعاداتهم الجميلة‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫وأخيرا هذه‬ ‫فيها كهل يسمى "الرمادي" ّ‬
‫يتجول فيها والقى الكثير مع زوجته‪.‬‬
‫رواية "هيال" التي يبدو ّأنك لم تخترق صفحاتها‪ ،‬ولو اخترقتها وعشتها‬
‫لعشقت أهل النوبة بحق!‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ث ّم سكت هنيهة وأردف قائال‪:‬‬
‫‪ّ -‬أما أمر الكتب واملكتبة فهو عظيم لكنني لم أكتب عنه وال عن الصقور!‪،‬‬
‫وددت لو ذهبت إلى هناك يا "أنس"‪ ..‬ال شك ّأنه شعور رائع‪ ،‬وصفك‬
‫ّ‬
‫والحراس وهيبتهم فتن‬ ‫للمكان والرفوف ولقاؤك بالكتاب في تلك الغرفة‬
‫عقلي وأسر روحي‪.‬‬
‫‪294‬‬
‫قال "أنس" وهو ينقل عينيه بين أغلفة الروايات‪:‬‬
‫‪ -‬ولهذا كان هناك فاصل حجري يفصل بين ّ‬
‫كل مكان واآلخر ال يتعداه أحد‪،‬‬
‫ّ‬
‫فكل رواية منفصلة عن األخريات‪.‬‬
‫‪ -‬وتلك الفجوات التي كنت تصنعها بالخنجر وتنتقل بها من مكان آلخر كانت‬
‫ذكية تنتقل بها من صفحة ألخرى‪ ،‬وخاصة استخدامك ألرقام‬ ‫طريقة ّ‬
‫الصفحات‪ ،‬حتى ّأنك نجحت في تغيير بعض األحداث! ونقلت بعض‬
‫الشخصيات من رواية ألخرى يا "أنس"‪.‬‬
‫‪ -‬أدركت هذا وأنا هناك‪.‬‬
‫‪ -‬لكن ما لم تدركه ّأنك دخلت رواية منهم بطريقة معكوسة‪ ،‬لقد بدأت‬
‫رحلتك من صفحاتها األخيرة يا "أنس"‬
‫‪ -‬ماذا!‬
‫عمه في صمت‪،‬‬ ‫تحبه ابنة ّ‬
‫‪ -‬القصة تبدأ بشاب س يء الخلق يسمى "كلودة"‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫تتمناه زو ًجا بينما يعيش ّ‬
‫قصة حب مع أميرة تدعى "أونتي" كانت أنانية‬
‫ّ‬
‫وشهوانية‪ ،‬ال تفكر في مشاعر اآلخرين‪ ،‬تطارده فيقع في غرامها‪ ،‬كان الناس‬
‫يعرفون بقصتهما‪ ،‬وكانوا ينفرون منه‪.‬‬
‫‪ -‬ألهذا كانت "أشريا" ترفض الزواج منه؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬كانت تعلم خبيئته وتتألم‪ ،‬وعندما أفاق من غفلته وندم وتوقف عن‬
‫عمه ثارت األميرة وغضبت‪ ،‬وظلت تهدده ليعود إليها‪،‬‬‫لقائها وتزوج من ابنة ّ‬
‫فعاني ً‬
‫كثيرا ومرض بسبب فراق زوجته التي جرحها األمر‪.‬‬
‫تذكر "أنس" عندما ذهب معه للطبيب ّأول ّ‬‫ّ‬
‫مرة التقي به فيها وقال‪:‬‬
‫يعدها طبيب له‪ ،‬عاني من الهلوسات‬ ‫خاصة ّ‬‫ّ‬ ‫‪ -‬كان يتناول ً‬
‫عالجا من خلطة‬
‫وكان ً‬
‫حزينا‪..‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫لكنه ظل على ثباته فأمرت األميرة بقتل ابنتهما‪ ،‬فهربا للغابة‪ ،‬فتبعهما‬
‫حراس األميرة وقتلت "أشريا" وخطفت ابنتها الرضيعة‪ ،‬فانطلق "كلودة‬
‫ً‬
‫هائما على وجهه يبحث عنها حتى وجدها‪ ،‬وعاد للقرية وأعطاها لزوجة‬
‫‪295‬‬
‫باكيا‬ ‫منكسرا ً‬
‫حزينا و ً‬ ‫ً‬ ‫وتنسك وظل على حاله‬ ‫الخباز لترضعها وترعاها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ ً‬
‫يسبح ليال ونها ًرا ويذكر هللا في كل حين‪.‬‬ ‫على زوجته‪،‬‬
‫ُ‬
‫سكت "شهاب" للحظات ث ّم أردف‪:‬‬
‫لكنك بإلباسك القالدة‬ ‫‪ -‬كان ّأول لقائك ب"كلودة" في الصفحة األخيرة‪ّ ،‬‬
‫لـ"أشريا" وابنتها أنقذتهما من الهالك واملوت على يد "املجاهيم"‪ّ ،‬‬
‫تغيرت‬
‫ُ‬
‫بعض املواقف بالطبع‪ ،‬ث ّم عدت إلى البداية حيث بيت "كلودة" عندما بدأ‬
‫صباح أول يوم لك معه‪ ،‬ولهذا أخبرتني ّأنك شعرت ّأنه بروح جديدة وكأنه‬
‫أيضا عندما سألت عن‬ ‫لم يبك في الليلة املاضية كما أخبرتني! ولهذا ً‬
‫ً‬
‫فاسدا ثم تاب‬ ‫الرضيعة لم تحصل على إجابة شافية‪ ،‬لقد بدأ "كلودة"‬
‫ّ‬
‫وتنسك بعد ذلك ولم ينتكس ويضل كما‬ ‫ّ‬ ‫وتزوج من حبيبته "أشريا"‪،‬‬
‫ّ‬
‫ومرت األحداث تتوالى‪ ،‬وانطلقت تعدل في الرواية أيها‬ ‫ظنن ت أنت‪ّ ،‬‬
‫املحارب!‪ ،‬بل وسحبت شخصيتين من رواية "إيكادولي" وأدخلتهم رواية‬
‫"الغابة املسحورة"! في الحقيقة أنا مذهول! حتى الحبر الذي سكبته‬
‫العجوز "ناردين" في جرح "كلودة" أنقذه ألنه شخصية مكتوبة في رواية!‪..‬‬
‫دماؤه سوداء ّ‬
‫ألنها مجرد حبر!‬
‫كنت تظن أن "كلودة" و"أشريا" هما أبطال روا ية "إيكادولي"‪ ،‬والصحيح أن‬
‫املحارب واملحاربة هما البطالن! أنتما! أنت و َ"مرام"! كان الجميع هناك‬
‫يراكما في صورة املحاربين! كنتما مكانهما!‬
‫ّ‬
‫شعر "أنس" وكأن هناك من ألقى بجبل من الحجارة على رأسه‪ ،‬تخشب‬
‫لسانه للحظات قبل أن يسأل بصوت متقطع‪:‬‬
‫‪ -‬وأي ش يء كنت أحاربه ؟‬
‫أود أن أوضحها لك يا "أنس"‪ ،‬املحارب ال يحارب‬ ‫تحديدا ّ‬
‫ً‬ ‫‪ -‬هذه النقطة‬
‫ّ‬
‫بخنجر وال بسيف وليست معركته بالنبال والسهام‪ ،‬حياتنا كلها معارك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫أحيانا أفكارنا الشاذة‪ ،‬ونحارب أنفسنا عندما‬ ‫وكلنا محاربون‪ ،‬نحارب‬
‫نضل‪ ،‬ونحارب شهواتنا عندما نتوب ونعود لخالقنا‪ ،‬ونصارع األنانية فينا‪،‬‬
‫نحارب الحقد وتلك النفس املتقلبة التي تجرنا أحيانا إلى الشر وتسقطنا في‬
‫ّ‬
‫الحب‪ ...‬كلنا‬ ‫الفتنة‪ ،‬نحارب حتى ننطق بالحق والصدق‪ ،‬ونحارب من أجل‬
‫محاربون‪.‬‬
‫‪296‬‬
‫‪ -‬ملاذا اختارني كتاب "إيكادولي"؟‬
‫ً‬
‫وجليا وأنت تحكي لي‬ ‫ً‬
‫واضحا‬ ‫‪ -‬ألنك تؤمن بالفضيلة يا "أنس"‪ ،‬كان‬
‫بالتف صيل ّأنك كنت ً‬
‫ثابتا عليها حتى وأنت تعاني من السحر‪ ،‬وحتى عندما‬
‫دق الحب على أوتار قلبك‪ ،‬أنتما أو املحاربان‪ ،‬كنتما من وجهة نظري‬
‫كمؤلف تحاربان نفسيكما ألنكما وقعتما في الحب رغم أنفيكما‪ ،‬وهذا ما‬
‫وصفته في رواية "إيكادولي"‪ ،‬املحاربان شخصيتان رئيسيتان‪ ،‬أنت َ‬
‫و"مرام"!‬
‫كالكما كان يجاهد نفسه‪ ،‬تمسكتما بالفضيلة آلخر لحظة‪ ،‬دار صراع‬
‫عظيم وأحداث عدة‪ ،‬وتفرقتما ّ‬
‫عدة ّ‬
‫مرات‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا حدث في نهاية الرواية؟ أخبرني كيف كتبتها؟‬
‫‪ -‬تركت النهاية مفتوحة‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫‪ -‬وددت أن أترك للقارئ مساحة ليفكر بنفسه‪ ،‬ليحدد ما يراه من منظوره‬
‫ً‬
‫مناسبا‪.‬‬
‫‪ -‬وملاذا‪ ..‬ملاذا تفعل هذا! إما نهاية سعيدة أو مؤملة‪....‬اقتلني إذن لكن ال‬
‫تتركني هكذا بدونها‪.‬‬
‫‪ -‬رضاء القراء غاية ال تدرك‪ ،‬إن كتبت نهاية سعيدة سيقولون هذا هراء‬
‫ّ‬
‫القصة‬ ‫ويشبهونها باألفالم التافهة واملسلسالت الفاشلة‪ ،‬وسيتهمون‬
‫بالضعف كالعادة‪ ،‬وإن كتبت نهاية حزينة سيسبونني ويقولون إن الر اية‬
‫و‬
‫كئيبة‪ ،‬النهاية املفتوحة ترمي الكرة في ملعبهم‪ ،‬فلينهها ّ‬
‫كل منهم في خاطره‬
‫كما يحب‪ ،‬أوتدري! حتى النهاية املفتوحة ُتحزن البعض مثلك فهي تتركهم‬
‫في تخبط مؤلم كمن سقط منه ش يء ثمين وحزن عليه‪.‬‬
‫‪ -‬وأنا؟ َ‬
‫و"مرام"؟‬
‫الح شبح ابتسامة على وجه "شهاب" وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أتعلم أنها فكرة مجنونة!‬

‫‪297‬‬
‫‪ -‬أي فكرة؟‬
‫‪ -‬أن ألتقي بشخصية في رواية كتبتها!!‬
‫‪ -‬لكنني التقيت بك هناك! كنت تهددني‪ ،‬وأخبرتني أنني لن أستطيع تغيير‬
‫ش يء!‬
‫‪ -‬لم أكن أنا! وكانت تلك نفسك تيهئ لك هذا!‪ ...‬ال تستهن بالصراع الداخلي‬
‫الذي كنت تخوضه مع نفسك‪ ،‬ليتني كنت هناك مع بناتي الالتي وصفتهن‬
‫لي!‬
‫ّ‬
‫همهم "أنس" بكالم غير مفهوم‪ ،‬بدأ ينهار وتخلى عن تماسكه‪ ،‬أمسك‬
‫"شهاب" بيده بعد أن أشفق عليه وسارا نحو أريكة وثيرة ّ‬
‫تتوسط غرفة املكتب‬
‫وجلس بجواره يحدثه بهدوء حيث قال‪:‬‬
‫بأنك شاب طيب وصادق ألنهيت‬ ‫‪ -‬لوال إحساس ي الذي ال أستطيع تكذيبه ّ‬
‫ّ‬
‫أنصت إليك‬ ‫هذا اللقاء فو ًرا‪ّ .‬‬
‫وألنك أخبرتني بأشياء مخبوءة في رأس ي فقد‬
‫وأنا اآلن أصدقك‪ ...‬لكن أتظنني أستطيع تغيير ش يء؟‬
‫‪ -‬ال أدري!‬
‫ّ‬
‫منطقي‪.‬‬ ‫‪ -‬بل تدري‪ّ ،‬‬
‫فكل ش يء يحدث لنا في حياتنا له تفسير‬
‫‪ -‬وبعد؟‬
‫‪ -‬ال أدري؟ وددت لو أستطيع أن أساعدك‪ ،‬لكنني عاجز‪ ،‬ليس بيدي ش يء!‬
‫قال"أنس" وهو يتحسس ضلعه‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا سأفعل أنا!‪.‬‬
‫كفه على صدر "أنس" وقال‪:‬‬ ‫وضع "شهاب" ّ‬
‫ً‬
‫أحيانا وأنا أكتب تراودني مشاعر‬ ‫‪ -‬ألم الفراق‪ ،‬أعلم ما شعرت به هناك‪،‬‬
‫مشابهة وكأنني رحلت إلى تلك األماكن التي أكتب عنها‪ ،‬أشعر بك‪..‬‬
‫قال "أنس" وكأنه يقطتع الكلمات من قلبه‪:‬‬
‫‪298‬‬
‫‪ -‬و ما أحمله اآلن من ألم؟‬
‫ّ‬
‫ترقرقت دمعة في عينيه فتأثر "شهاب" وقال وهو يضع يده على صدر‬
‫"أنس"‪:‬‬
‫ً‬
‫مفتوحا أمامي ّأيها الشاب‬ ‫‪ -‬حتى ما تحمله اآلن من ألم‪ ...‬فقد صرت ً‬
‫كتابا‬
‫الطيب‪ ،‬قد تظن أن حياتك قد انتهت‪ ،‬وأن كل لحظة تعيشها ستزيد‬ ‫ّ‬
‫لكنك ستسعد عندما‬ ‫وأنه ال يوجد بصيص نور في هذا الظالم‪ّ ،‬‬ ‫همك‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫تبتسم في وجه عجوز‪ ،‬أو تنظر برحمة لصديق‪ ،‬أو تقف بجواره في محنة‪،‬‬
‫جائعا‪ ،‬أو تسعد أحدهم بكلمة‪ ،‬نفحات السعادة التي‬ ‫ً‬ ‫أو تطعم ً‬
‫فما‬
‫ّ‬
‫ستمنحها لآلخرين سترتد إليك بعد حين‪ ،‬قد يكون الحصول على السعادة‬
‫لكن منحها ملن حولنا أيسر بكثير‪.‬‬ ‫أمر صعب‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫ثم قال بحنان‪:‬‬
‫يدي أنا مخلوق ضعيف مثلك‪ ،‬ما مررت به‬ ‫تظن أن قدرك بين ّ‬ ‫‪" -‬أنس"‪ ،‬ال ّ‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫لكن األقدار بيد هللا وحده‪ ،‬هو الذي يكتب علينا‬ ‫غريب وعجيب‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ما سيحدث لنا‪ ،‬ما أنا إال شخص ضعيف يحاول أن يكتب شيئا يبني ً‬
‫قيما‬
‫ً‬
‫هنا‪ ،‬ويزرع أمال يزهر هناك‪ ،‬لكنني في النهاية ضعيف ليس بيدي ش يء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أقدمه لك‪ ،‬وإال كنت قد قدمته لنفس ي قبلك! فال تلجأ إال هلل‬
‫وحده‪...‬اطلبها منه!‬
‫ٌ‬
‫تند منه َّأنة‬
‫وأقر ما سمعه وعيناه ساهمتان‪ ،‬كادت ّ‬ ‫رمش "أنس" بعينيه‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬
‫موجعة ّ‬
‫لكنه تماسك‪ ،‬تمتم بالدعاء بصوت خفيض "اللهم اجبر كسر قلبي"‪،‬‬
‫ودع "شهاب" وشكره على إنصاته له وكاد ينصرف‬ ‫ساكنا للحظات‪ُ .‬ث ّم ّ‬ ‫ً‬ ‫وجلس‬
‫لوال ّأن "شهاب" استوقفه وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬األمر يشبه ما حكيته عن العجوز "ناردين"‪ ،‬اهمس بالدعاء‪ ..‬فالهمس‬
‫طيات سهام الليل يسبق ما‬ ‫بالدعاء وبحكايانا التي توجعنا ونخبئها بين ّ‬
‫نعيشه وما نكتبه! أما تعلم أن الدعاء يتصارع مع القدر ويغلبه أحياناً‬
‫ويسبقه!‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ثم ابتسم "شهاب" وعانقه طويال‪ ،‬انصرف "أنس" وقد ازداد شعوره‬
‫هائل من الحزن‪ .‬كانت زوجة "شهاب"‬‫برصيد ٍ‬
‫ٍ‬ ‫بالغربة والوحشة‪ ،‬وغادر املكان‬
‫‪299‬‬
‫تراقبه من خلف زجاج النافذة‪ ،‬اقترب منها "شهاب" وأحاط كتفها بذراعه‪ ،‬كاد‬
‫ّ‬ ‫يخبرها عن "أنس" ّ‬
‫لكنه خش ي أال تصدقه! ظال يراقبانه وهو يبتعد‪ .‬قالت‬
‫بهدوء‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أليس هذا هو الشاب اللطيف الذي كان يداعب األطفال الصغار في محطة‬
‫القطار والذي رأي ناه منذ أسبوع أو أكثر ونحن عائدان من الفيوم؟‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ ...‬يبدو ّأنه هو!‬
‫ً‬
‫مفكرا‪ ،‬هل من املمكن أن ينقله صقر إلى مملكة‬ ‫ابتسم "شهاب" وأطرق‬
‫البالغة في يوم ما!‬

‫❐❐❐‬

‫‪300‬‬
‫(‪)25‬‬

‫النهاية‬

‫اختفى "أنس"‪...‬اختفي املحارب!‬


‫ارتبك كل من بالوادي‪ّ ،‬ثمة ملسة من الحزن الشاجي تظلل املكان‪ ،‬كانت‬
‫الحوراء تتلفت يمنة ويسرة في تعجب‪ ،‬ركض "الزاجل األزرق" تجاه "سامي‬
‫كول" الذي كان ً‬
‫ثابتا في مكانه كالصنم‪ ،‬عيناه ثابتتان كعادته‪ ،‬وسأله عن‬
‫سبب اختطاف "الرمادي" فجأة لـ"أنس"‪ ،‬قال "سامي كول" بعد أن ّ‬
‫تنهد بعمق‬
‫ورفع صوته ليسكن الجميع وكأن الصمت ألقى فوق رءوسهم عباءته فجأة‪:‬‬
‫كل ش يء‪ ،‬الصفحات امتألت بالكلمات‪ ،‬وتم‬ ‫‪ -‬لقد نجح "أنس" واستعاد ّ‬
‫ختم الكتاب ّ‬
‫وضمه لسجالت املكتبة وسينشر في اآلفاق‪.‬‬
‫قالت "الحوراء"‪:‬‬
‫‪ -‬وملاذا إذن اختطفه "الرمادي" بتلك الطريقة! لم نودعه كما يليق به!‬
‫أجابها "سامي كول" بجدية شديدة‪:‬‬
‫‪ -‬كان ال بد من حمايته‪" ،‬الرمادي" أنقذه في اللحظة األخيرة‪ ،‬كاد "القرناس"‬
‫يقتلع رأسه‪.‬‬
‫‪ -‬القرناس!!‪ ...‬ملاذا؟‬
‫َ‬
‫‪ّ -‬إنها "نبرة" عادت لتثأر ‪.‬‬
‫سألته َ"مرام" وعالمات القهر على وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬هل سأراه ّ‬
‫مرة أخرى؟‬
‫‪301‬‬
‫‪ -‬ربما نعم‪ ...‬وربما ال‪ ...‬هللا وحده يعلم‪.‬‬
‫‪ -‬لقد حدث ما أخبرتني به أيها الحكيم‪ ،‬كان طوق نجاة لي‪..‬‬
‫سالت دموعها وسط صمت الجميع‪ ،‬لم يجدوا من الكلمات ما يواسونها‬
‫ّ‬
‫به‪ ،‬لم تفلح في إخفاء مشاعرها‪ ،‬اآلن بدأت "قطرة الدمع تحلق فوق رءوسهم‪،‬‬
‫ُ‬
‫تريد أن تعيد َ"مرام" لعاملها‪ .‬رفعت َ"مرام" رأسها بوجه أغرقته الدموع‪ ،‬ث ّم‬
‫كفكفت دموعها وركضت نحو "الحوراء" وأمسكت بثوبها وقالت تترجاها‬
‫والدموع تمأل عينيها‪:‬‬
‫جوك يا موالتي حققي لي ما وعدتني به‪ ،‬ألم تعديني بتحقيق ما أطلبه‬
‫‪ -‬أر ِ‬
‫منك بعد انتهاء مهمتي هنا؟‬
‫‪ -‬بلى‬
‫‪ -‬اآلن‪...‬حققي لي طلبي‪.‬‬
‫انحنت "الحوراء" وأمسكت بيديها وساعدتها على النهوض وقالت لها‬
‫بحنان‪:‬‬
‫‪ -‬وما هو طلبك يا ابنتي؟‬
‫‪ -‬ستحققينه مهما كان؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد أنت تعلمين أنني عندما ُ‬
‫أعد ال أخلف الوعد يا ابنتي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬أريد حق التدوين‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا!!‬
‫َ‬
‫اقتربت "مرام" من "الحوراء" وهمست لها‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أنت الوحيدة التي يسمع لها الصقور‪ ،‬وتسمع لها الحروف‪ ،‬أريد أن‬
‫أكتب نهاية ّ‬
‫قصتنا‪ ،‬لم أتوقع أن أحب "أنس"‪ ،‬ظننت األمر أبسط لكنني ال‬
‫حبه عنه‪ ،‬لقد ابتليت ّ‬
‫بحبه‪.‬‬ ‫أملك قلبي اآلن ولم أتمكن من حجب ّ‬
‫طالعتها "الحوراء" بإشفاق وقالت‪:‬‬
‫‪302‬‬
‫‪ -‬عودي يا ابنتي لبيتك‪ ،‬رّبما تلتقين به ً‬
‫يوما ما‪.‬‬
‫‪ -‬قبل أن أعود‪ ...‬ال ّبد أن يكون هنا كتاب يحكي قصتنا‪ ،‬ينتهي بلقاء!‬
‫أرجوك‪ ،‬اسمحي لي بالتدوين‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تقولين!!‬
‫مجرد قصة ستقرأ ً‬
‫يوما ما‪...‬‬ ‫‪ -‬نعم‪ ،‬ولن تحتاجوا إلى استدعاء محارب‪ ،‬فهي ّ‬
‫‪ -‬عن ماذا؟‬
‫ً‬
‫طاهرا حتى اللحظة األخيرة وإن‬ ‫‪ -‬عني وعن "أنس"‪ ،‬عن الحب الذي يعيش‬
‫يلتق الحبيبان‪.‬‬
‫لم ِ‬
‫‪ -‬ولكن يا َ"مرام" ‪..‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا موالتي ارفقي بقلبي واطلبي من الصقور وحراس املكتبة أن‬
‫يسمحوا لي‪.‬‬
‫نقلت "الحوراء" نظراتها ألبيها "سامي كول" واقتربت منه وأمسكت بيده‪،‬‬
‫ّ‬
‫فسحب كفه من بين يديها برفق ونكس رأسه‪ ،‬لم ينبس ببنت شفة‪ ،‬أدركت‬
‫مرت األحداث أمام‬ ‫أنه يحيل القرار لها وحدها‪ ،‬بدا عليها االرتباك الشديد‪ّ ،‬‬
‫كل ما قدمته َ"مرام" وقدمه "أنس" للمكتبة‪ ،‬سارت عدة‬ ‫عينيها تتوالى‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خطوات تتبعها نظرات الجميع‪ ،‬ثم ارتقت فوق درجات السلم املؤدي لبوابة‬
‫قصرها ورفعت صوتها قائلة لتفاجئ الجميع بقرارات متوالية‪:‬‬
‫‪ -‬أيها الجمع الكريم الطيب‪ ،‬كنت أخطط لتلك اللحظة‪ ،‬أفكر فيها وأرتب‬
‫لها‪ ،‬لكنني لم أتخيل أنها ستكون اآلن‪...‬‬
‫ُ‬
‫صمتت هنيهة والكل يترقب ث ّم أردفت قائلة‪:‬‬
‫ظل لفترة طويلة بين صفوف‬ ‫‪ -‬حان وقت انتقال الحكم لولدي األكبر والذي ّ‬
‫مجدا وال شهرة‪ ،‬فاسمحوا لي بإلباسه‬ ‫ساعيا لخدمتكم ال يطلب ً‬ ‫ً‬ ‫"املغاتير"‬
‫التاج‪ ،‬فأنا على وشك القيام بأمر جلل‪.‬‬
‫رفعت "الحوراء" كفيها وخلعت التاج عن رأسها‪ّ ،‬‬
‫وتقدمت تج ـ ـ ـ ـاه "الزاجـ ـ ـ ـل‬
‫‪303‬‬
‫األزرق" ووضعته على رأسه وسحبت غطاء وجهه لينكشف أمام الجميع‪ ،‬كان‬
‫ً‬
‫مرتبكا ذاك الحد الذي عقد لسانه وجعله يقف صامتا أمام نظرات عيني ّأمه‬
‫كل ش يء‪ ،‬كل الحب‪ ،‬كل التقدير‪ ،‬كل الفخر به‪.‬‬ ‫التي ترجمت ّ‬
‫وقبل يد أمه بإجالل‬ ‫دائما أمام الجميع ّ‬
‫اندفع بمشاعر االبن التي كان يخفيها ً‬
‫ُث ّم عانقها‪ ،‬فقد اعتاد وأمه على التعامل بشكل رسمي أمامهم حيث كان ّ‬
‫يصر‬
‫على إخفاء هويته ليفعل الخير ويساعد الناس دون أن ينال منهم ً‬
‫شكرا وال‬
‫جزاء على فعله‪ ،‬سالت دمعة من عيني "الحوراء" وهي تضع كفها على ّ‬
‫خده‬
‫ّ‬
‫وتتأمله وكأنها تملي عينيها منه‪ ،‬تصافح كل التفاصيل الصغيرة بمقلتيها!‬
‫تحرك املوكب والكل في ذهول مما حدث‪ ،‬أصبح لديهم ملك جديد!‪ ،‬حتى‬ ‫ّ‬
‫"سامي كول" لم يجد كلمات يعبر بها عما يعتمل بصدره من مشاعر‪ ،‬سارت‬
‫"الحوراء" نحو الغابة‪ ،‬يبدو أنها سترسل َ"مرام" لحراس املكتبة‪ ،‬تحرك املوكب‬
‫تكلله الهيبة‪ ،‬وصلوا للحدود حيث وقفت "الحوراء" وهي تمسك بيد َ"مرام"‬
‫أمام الفاصل الحجري بين أرض مملكتها والغابة‪ ،‬التفتت ولوحت لشعبها الذي‬
‫وتخطت الحاجز الحجري‬ ‫ّ‬
‫كان يهتف باسمها‪ ،‬فاجأتهم ورفعت طرف ثوبها‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ومشت خطوة واحدة ووقفت تتأرجح على أرض الغابة ثم ندت منها صيحة‬
‫فزع‪ ،‬لقد أظلمت الدنيا في عينيها فجأة‪ ،‬فقدت "الحوراء" بصرها لألبد‪ ،‬صرخ‬
‫"الزاجل األزرق"‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا يا أمي؟!!‬
‫أدرك اآلن أن أمه دخلت الغابة بإرادتها وهي تعلم أنها ستفقد بصرها لألبد‬
‫لتلتقي بكبار الصقور وتتحدث إليهم‪ ،‬ولتنقل رياح الغابة كلماتها للحروف فوق‬
‫الجبل األحمر‪ ،‬ولحراس املكتبة األجالء‪ ،‬وأدرك ً‬
‫أيضا أنها لن تتراجع عن قرارها‬
‫وأنه لن يستطيع الدخول معها للغابة‪.‬‬
‫ارتفع صوت أبيها "سامي كول" وهو يقول ً‬
‫مثبتا إياها‪:‬‬
‫‪ -‬رعاك هللا يا ابنتي‪ ،‬هذا عهدي بك‪ ،‬ال ّبد من تضحية ألجل املحاربين‪ ،‬هذا‬
‫َدين وستسددينه ّ‬
‫عنا‪.‬‬
‫ُ‬
‫ث ّم همس لحفيده "الزاجل األزرق" الذي اقترب وعيناه تراقبان ّأمه وهي‬
‫تبتعد‪:‬‬

‫‪304‬‬
‫‪ -‬كان "أنس" طوق النجاة ل َـ"مرام" عندما أنقذها من املوت‪ ،‬وستكون طوق‬
‫النجاة لقلبه‪.‬‬
‫مضت "الحوراء" في الغابة تسحبها َ"مرام" وهي تبكي‪ ،‬كانت ّ‬
‫تظن أن امللكة‬
‫ستستدعي الصقور ربما أو ترسلها إلى مكان ما‪ ،‬لكنها لم تتخيل أنها ستدخل‬
‫معها الغابة بنفسها!‬
‫لم تتمن َ"مرام" أن يحدث هذا‪ ،‬لكنه القدر!‬
‫❐❐❐‬

‫وكأن هناك من يتالعب بها‪ ،‬األشجار ّ‬


‫تهتز‬ ‫أوراق األشجار املتساقطة تدور ّ‬
‫وكأن هناك صاعقة تضربها‪ ،‬الرياح تهب من هنا وهناك‪ ،‬الغابة ترتج‪ ،‬وهناك‬
‫من يهمسون‪..‬‬
‫"امللكة في الغابة‪ ..‬امللكة في الغابة"‬
‫ّ‬
‫حتى الفراشات التي كانت تغطي جذوع األشجار في سكون طارت وحلقت‬
‫فجأة‪" ...‬وووووو‪...‬وووو‪"...‬‬
‫ً‬
‫وحوشا تسكنها‪ ،‬أظلمت فجأة! ثم‬ ‫دوي مخيف يصدر من األكواخ وكأن‬
‫عبر شعاع الشمس فشق الضباب فسقطت خيوط ذهبية وتقاطعت على‬
‫األرض أمام َ"مرام"‪ ،‬كانت "الحوراء" تتخبط وتتعثر‪ ،‬قالت بارتباك‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬لم أدرك قدر نعمة البصر إال اآلن! سبحان هللا!‬
‫‪ -‬سامحيني يا موالتي‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك يا َ"مرام"‪ ،‬كان ال ّبد من هذا‪ ،‬كنت أعلم أنني سأدخل الغابة ً‬
‫يوما‬
‫ما‪ ،‬لكنني لم أعلم متى بالتحديد‪ ،‬حتى أنني كنت أربط عيني من آن آلخر‬
‫وأسير في غرفات القصر‪ ..‬كنت أستعد!‬
‫‪ -‬تستعدين ملاذا؟‬
‫‪ -‬هكذا تمض ي األمور‪ ،‬عند انتقال الحكم ال ب ـ ـ ـ ـ ـ ّد من الخ ـ ـ ـ ـ ـ ـروج من نط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق‬
‫‪305‬‬
‫ّ‬
‫اململكة و دخول الغابة‪ ،‬مرحلة جديدة تبدأ‪ ،‬وملك جديد يتولى الحكم‪.‬‬
‫فقد أبي بصره هو اآلخر عندما دخل إلى الغابة‪ ،‬ألبسني التاج قبل أن‬‫َ‬
‫يدخلها بإرادته‪ ،‬من أجل محارب قديم‪ ،‬ضحى من أجله هو اآلخر‪..‬‬
‫يحرك عينيه ويطالع من‬ ‫‪ -‬أتعلمين يا جاللة امللكة‪ ..‬كنت ّ‬
‫أظنه يرى‪ ،‬فهو ّ‬
‫يحدثه ّ‬
‫وكأنه يراه!‬ ‫ّ‬

‫أيضا يسير وحده بدون مساعدة‪ ،‬فهو يحفظ‬ ‫‪ -‬هكذا يظن الكثيرون‪ ،‬ألنه ً‬
‫كل شبر باململكة‪.‬‬
‫‪ّ -‬إنه رجل عظيم‪.‬‬
‫عظيما ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬إن كان‬ ‫‪ -‬نعم يا ابنتي‪ ،‬هو رجل عظيم وأب رائع‪ ،‬وكان ملكا‬
‫فقد بصره فهو لم يفقد بصيرته‪.‬‬
‫هبت رياح قوية أطارت أوراق األشجار املتساقطة على األرض وأطاحت‬ ‫ّ‬
‫باألغصان الصغيرة فوق سطح مياة النهر األخضر حيث كانت "الحوراء" تسير‬
‫مع َ"مرام"‪ ،‬ظهرت "ناردين" فجأة ووقفت وهي تستند على عكازها‪ ،‬همست‬
‫بكلمات لم تفهمها َ"مرام" فإذا بالحوراء تبتسم وتضغط على يدها وتقول‬
‫بحماس‪:‬‬
‫‪" -‬ناردين"؟ أهذا أنت؟‬
‫طالعتها العجوز وقالت بإجالل‪:‬‬
‫‪ -‬نعم يا موالتي‪ ،‬هي أنا‪ ...‬العجوز الوحيدة في الغابة‪.‬‬
‫‪ -‬كم كنت أتمنى أن ألقاك‪.‬‬
‫‪ -‬وها نحن ذا‪ ..‬نلتقي ً‬
‫أخيرا‪.‬‬
‫أحنت امللكة رأسها وقالت بخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬ليتني أرى وجهك‪.‬‬
‫‪ -‬لقد فات األوان يا موالتي‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬لقد فات األوان‪.‬‬
‫دخلت الغابة؟‬‫ِ‬ ‫‪ -‬ملاذا‬
‫‪ -‬من أجل َ"مرام"‪ ...‬طلبت حق التدوين‪ ،‬تريد أن تكتب ّ‬
‫قصة حبها‪.‬‬
‫التفتت "ناردين" إلى َ"مرام" وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن نهايتها مؤملة يا َ"مرام"!‬
‫ّ‬
‫زفرت َ"مرام" بقهر ولم تتكلم‪ ،‬استدارت "ناردين" وضربت األرض بعكازها‬
‫واهتزت أشجارها وأسقط املزيد من أوراقها على األرض‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫تجت الغابة‬‫فار ّ‬
‫بعيد ومن خلف الجبل األحمر أطلت كوكبة من الصقور يحلقون في نظام‬
‫بديع‪ ،‬كان هناك صقر كبير يتقدمهم بينما يصطف خلفه الصقور على‬
‫وعددا ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وكأنهم جيش كبير‪ ،‬اقتربوا تجللهم‬ ‫التوازي في خطوط تزداد طوال‬
‫الهيبة وحلقوا للحظات قبل أن يهبطوا على األرض الفسيحة أمام "ناردين"‪،‬‬
‫ضموا أجنحتهم إلى أجسادهم ووقفوا‬‫وقفوا بنظام كما كانوا يطيرون بنظام‪ّ ،‬‬
‫برءوس شامخة ينظرون تجاه امللكة "الحوراء"‪ ،‬ارتجفت َ"مرام" وجاست‬
‫ّ‬
‫استقرت‬ ‫خالل الصفوف تبحث عن قطرة الدمع‪ ،‬اطمأنت ً‬
‫أخيرا عندما‬
‫عيناها عليها وقد عرفتها من لون ريش رأسها املميز‪ ،‬استدارت "ناردين"‬
‫ووجهت حديثها إلى امللكة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬تفضلي يا موالتي‪.‬‬
‫ّ‬
‫التحية على‬ ‫خطت "الحوراء" خطوة لألمام‪ ،‬وبدأت تتحدث بإيجاز‪ ،‬ألقت‬
‫الصقور‪ ،‬ذكرت أسماء بعضهم ممن قضوا نحبهم خالل سنوات مضت‪،‬‬
‫ّ‬
‫ذكرتهم بأحداث جليلة‪ّ ،‬‬
‫تحدثت عن أبيها‪ ،‬وعن الكتب التي تتحدث عن النور‪،‬‬
‫والخير‪ ،‬والحب‪ ،‬والصدق‪ ،‬والفضيلة‪ .‬عن الحروف والكلمات‪ ،‬وعن قيمة ما‬
‫ُيكتب ُويقرأ‪ ،‬كانت الصقور تنصت إليها في صمت بليغ‪ ،‬لم ّ‬
‫يتحرك أحد منهم‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولم ّيرف لهم جناح‪ ،‬إال عندما ذكرت "القرناس"‪ ،‬وكيف كان سيقض ي على‬
‫"أنس" لوال "الرمادي" الذي أنقذ حياته فحينها أصدروا غمغمات تش ي‬
‫بغضبهم منه‪ ،‬سألت عن "الرمادي" فأسرعت "ناردين" تنفي وجوده‪ ،‬لم يعد‬
‫تذكرت كيف رحل "أنس" دون‬ ‫ّ‬ ‫بعد!‪ّ ،‬نكست "الحوراء" أسها ً‬
‫حزنا عندما‬ ‫ر‬

‫‪307‬‬
‫أخيرا من الصقور أن يساعدوا َ"مرام" لتقوم بكتابة‬ ‫وداع يليق به‪ ،‬طلبت ً‬
‫مرت لحظة صمت مهيبة قبل أن يبسط أكبر الصقـ ـ ـ ـور‬ ‫حبها على الورق‪ّ ،‬‬ ‫قصة ّ‬‫ّ‬
‫ُ‬
‫جناحيه ثم يقترب من امللكة التي انحنت على َ"مرام" وقالت لها‪:‬‬
‫‪ -‬اآلن يا َ"مرام"‬
‫‪ -‬اآلن ماذا؟‬
‫‪ -‬سيحملك هذا الصقر إلى املكتبة العظمى حيث ستكتبين ما يريح قلبك‬
‫‪ -‬ولكن‪...‬‬
‫شعرت َ"مرام" بالخوف‪ ،‬كادت تتراجع لوال "القرناس" الذي ظهر فجأة ونقر‬
‫كبير الصقور بين عينيه‪ ،‬تراجعت الصقور وأفسحوا املجال لزعيمهم ليقاتل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫انقض كالهما على اآلخر في معركة شرسة‪ ،‬شكلت الصقور دائرة‬ ‫"القرناس"‪،‬‬
‫َ‬
‫حولهم فغاب املشهد عن "مرام" التي كانت تمسك بيد امللكة ومعهما‬
‫العجوز"ناردين"‪ ،‬ابتعد الثالثة وساروا نحو الكوخ‪ ،‬ال ّبد من االحتماء به حتى‬
‫تنتهي املعركة‪ ،‬من الخلف ظهرت َ"نبرة" وفي يدها خنجر غريب يبرق ّ‬
‫حده‬
‫ّ‬
‫انقضت‬ ‫كاللجين‪ ،‬كان "القرناس" قد حملها إلى الغابة وتركها خلف األشجار‪،‬‬
‫ضا وكادت تغرز الخنجر في قلبها وهي تقول‪:‬‬‫على َ"مرام" وأسقطتها أر ً‬
‫يوما لي‪ ،‬فلن يكون ً‬
‫يوما لك‪.‬‬ ‫‪ -‬إن لم يكن "أنس" ً‬
‫ّثم أطلقت صرخة غضب عالية وهي ترفع يدها لألعلى لكي تهوي بالخنجر‬
‫ّ‬
‫انقضت بومتها عليها وغرزت مخالبها في‬ ‫وتثقب قلب َ"مرام"‪ ،‬في تلك اللحظة‬
‫عينيها فسقط الخنجر من يدها واستمر صراخها وهي تركض في الغابة حتى‬
‫ً ُ‬
‫سوادا‪ ،‬ث ّم عاد لونه الزمردي بعد أن‬ ‫سقطت في النهر األخضر الذي استحال‬
‫ّ‬ ‫أحدث فور ًانا وكأنه يبتلع ً‬
‫شيئا ما‪ ،‬حلقت البومة البيضاء التي طاملا كانت‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫"نبرة" ترى بعينيها فوق النهر حتى تأكدت أن "نبرة" غرقت فيه‪ ،‬لم تنس تلك‬
‫ّ‬ ‫العش ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫البومة ً‬
‫ألنها انشغلت بهم ولم تحلق‬ ‫أبدا عندما خنقت "نبرة" صغارها في‬
‫ً‬
‫ليال أليام جعلتها ال تتمكن من متابعة تحركات "أنس"‪ ،‬كرهت تلك اللحظة‬
‫أبدا‪ ،‬عادت حيث كانت َ"مرام"‬‫التي قهرتها فيها "نبرة" على صغارها ولم تنسها ً‬
‫ُ‬
‫ورمقتها بنظرة تعني الكثير‪ ،‬ث ّم حطت على رأس "الحوراء" التي صاحت‪:‬‬
‫‪308‬‬
‫‪ -‬ما هذا! ما الذي يحدث! اتركوني اتركوني‪.‬‬
‫أسرعت َ"مرام" تجاه "الحوراء" محاولة إزاحة البومة عن رأسها‪ ،‬لكن‬
‫"ناردين" منعتها بعكازها الذي مدته أمام صدر َ"مرام" وهي تتقدم وقالت لها‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪...‬اتركيها!‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اهتزت البومة وبسطت جناحيها األبيضين وغطت عيني "الحوراء" بهما ثم‬
‫لتستقر على كتف "الحوراء" التي‬‫ّ‬ ‫أغمضت عينيها هي األخرى للحظات ونزلت‬
‫كانت في غاية االرتباك بينما وبشكل سريع انتشرت على أطراف جناحيها‬
‫ّ‬
‫قوة وزادتها تأل ًقا‬ ‫تموجات رفيعة باللون الالزوردي ّ‬
‫الفتان أظهرت بياض لونها ب ّ‬
‫ً‬
‫وجماال‪ ،‬وفجأة! صرخت "الحوراء"‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا! أنا أرى!! عاد بصري!!‪ ..‬عاد بصري!!‬
‫ُ‬
‫تهلل وجه "ناردين" واقتربت منها ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬بل منحتك البومة هدية‪ ،‬أنت ترين اآلن بعينيها كما كان يحدث مع "نبرة"‬
‫الهالكة‪ ،‬ستصحبك البومة وستكون دليلك يا موالتي‪.‬‬
‫وتأملت لونها الرائع وابتسمت‪ ،‬كان بياضها‬ ‫التفتت "الحوراء" تجاه البومة ّ‬
‫ّ‬
‫يحاكي روح "الحوراء" النقية‪ ،‬قالت "الحوراء" وقد بدا التأثر عليها‪:‬‬
‫‪ -‬سأسميها "الشهباء"‪ ،‬كم هي جميلة!‬
‫هبت عليهم‬ ‫انتفض الثالثة عندما قعقع الرعد في السماء‪ ،‬رياح ّ‬
‫قوية ّ‬
‫وتناهى إلى سمعهم غقغقة أحد الصقور‪ ...‬كان "القرناس" يلفظ أنفاسه‬
‫مرة أخرى خلف زعيمهم الذي اقترب‬ ‫ّ‬
‫يستعد الجميع للتحليق ّ‬ ‫األخيرة‪ ،‬بينما‬
‫من َ"مرام" وما زالت الدماء تقطر من منقاره‪ ،‬ودون أن يسأل الحوراء حمل‬
‫َ"مرام" من كتفيها وانطلق بها وخلفه الصقور في صفوف‪ ،‬اشتدت الرياح‪،‬‬
‫كل صوب‪ ،‬كانت "ناردين" تصيح وتلوح لها‪:‬‬‫ندف شلجية صغيرة تتطاير في ّ‬

‫‪ -‬ال تخافي يا َ"مرام" ِ‬


‫أنت في أمان‪.‬‬
‫كانت تحمل حقيبة "أنس" حيث أخفت خنجره‪ ،‬وما تبقى من الحبر في‬
‫الزجاجة الزرقاء التي استخدمتها "ناردين" في عالج جرح "كلودة"‪ ،‬وصلت ً‬
‫أخيرا‬
‫‪309‬‬
‫ُ‬
‫وفتحت لها األب واب‪ ،‬وانتقلت مع كبير حراس الكتب إلى ديوان الكتابة حيث‬
‫تستطيع كتابة ّ‬
‫قصتها مع "أنس" بنهاية ترضيها‪ ،‬بينما يسيران تجاه ديوان‬
‫الكتابة‪ ،‬وفي أحد املمرات التي دخلها "أنس" من قبل‪ ،‬توقف كبير الحراس‬
‫وكان يشعر بمعاناتها وقال ً‬
‫متأثرا‪:‬‬
‫ّ‬
‫الخاصة بكتاب "إيكادولي"‪.‬‬ ‫‪ -‬ذاك باب الغرفة‬
‫توقفت َ"مرام" أمامه‪ ،‬أرادت أن تدخل وترى الكتاب‪ ،‬حاولت أن تفتح‬
‫الباب فلم تتمكن‪.‬‬
‫اقترب منها كبير الحراس وقال بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الباب ال ُيفتح إال بمفتاح خاص‪ ،‬وذاك املفتاح كان مع "أنس"‪ ،‬وقبله‬
‫جده‪ ،‬فهل املفتاح معك؟‬ ‫والده‪ ،‬وقبلهما ّ‬
‫فتشت َ"مرام" في الحقيبة فلم تجد املفتاح وأسقط في يدها وشعرت وكأن‬
‫األرض تميد تحت قدميها‪ ،‬سالت دموعها‪ ،‬ما عادت تقوى على الكالم‪ٌّ ،‬‬
‫طن‬
‫من املشاعر الجريحة يقبع بين ضلوعها الضعيفة‪ ....‬وفجأة!‪ ،‬صدر دوي‬
‫ُ‬
‫مكتوم‪ ،‬ثم فتح لها باب الغرفة على مصراعيه! بال مفتاح! كست وجه كبير‬
‫وهز رأسه يشجعها على الدخول‪ ،‬دخلت تهرول‬ ‫الحراس ابتسامة واسعة‪ّ ،‬‬
‫مرت والتقت فيها بـ"أنس"‬‫يسبقها قلبها مهرو ًال على درج الذكريات‪ ،‬كل لحظة ّ‬
‫ّ‬
‫أو تحدثت إليه فيها تتجدد اآلن! شعور بالحنين يغمرها‪ ،‬أجفلت عندما نشر‬
‫كل ش يء‪ ،‬كل تلك‬ ‫كتاب "إيكادولي" صفحاته أمام عينيها ُث ّم بدأت تقرأ ّ‬
‫مرت بهما‪ ،‬دارت الصفحات حولها وغمرها شعور‬ ‫التفاصيل الصغيرة التي ّ‬
‫بالسكينة ‪ ،‬قرأتها وهي تبكي‪ ،‬سقطت الصفحة األخيرة أمامها على الطاولة‪،‬‬
‫أسرعت نحوها وأخرجت زجاجة الحبر من حقيبة "أنس" بيد ترتجف‪ ،‬تلفتت‬
‫حولها ِبحيرة‪ ،‬كانت تبحث عن ش يء ما تغمسه في تلك الزجاجة وتكتب به‪،‬‬
‫هاما على تلك الورقة‪ ،‬ربما لقاء أخير لهما وإن لم يكن‪،‬‬ ‫أ ادت أن تنقش ً‬
‫شيئا ً‬ ‫ر‬
‫ُ‬
‫أو ربما نهاية سعيدة كانت تتمناها‪ ،‬وأخيرا رفعت الصفحة األخيرة أمام عينيها‬ ‫ّ‬
‫ومدت يدها محاولة أن تجذبها‬ ‫بعيدا عنها فانخلع قلبها ّ‬ ‫وارتفعت في الهواء ً‬
‫تظن أنها ستكتب نهاية لتلك القصة التي عاشتها‪ّ ،‬‬
‫لكنها‬ ‫لكنها لم تتمكن‪ ،‬كانت ّ‬‫ّ‬
‫لم تقدر‪ ،‬فلن نكتب ً‬
‫أبدا أقدارنا!!‬

‫‪310‬‬
‫وبينما تبكي‪ ...‬شعرت بأنفاس دافئة قريبة من وجهها فأجفلت فهي وحدها‬
‫ٌ‬
‫همس بصوت عذب تردد في أذنيها!‬ ‫في تلك الغرفة!‬
‫إنه كتاب "إيكادولي" الذي كان يخبرها بش يء ما!!‬
‫❐❐❐‬

‫في الغابة‪ ،‬التفتت "ناردين" تجاه امللكة التي كانت تراها بعيني بومتها‬
‫ً‬
‫وأخيرا رأت وجهها ومالمحها‪ ،‬عانقتها‬ ‫"الشهباء"‪ ،‬ابتسمت لها "الحوراء"‪،‬‬
‫ّ‬
‫بحرارة وسارت معها‪ ،‬صعدت العجوز التلة وجلست على الدرج الحجري‬
‫ُ‬
‫فجلست امللكة "الحوراء" بجوارها ث ّم قالت وعلى وجهها ابتسامة مشرقة‪:‬‬
‫أظن ّأن َ"مرام" ستحسن كتابة نهاية سعيدة‪.‬‬‫‪ّ -‬‬

‫‪ -‬املسكينة‪ ،‬تظن أنها تستطيع كتابة النهاية بنفسها‪ ،‬لكنها ستفيق بعد مرور‬
‫الصدمة ‪ ،‬ولست قلقة عليها‪ ،‬فهي فتاة عاقلة ومؤمنة تعلم أن أمرهما بيد‬
‫هللا وحده‪.‬‬
‫قالت "ناردين" ّ‬
‫بتعجب‪:‬‬
‫‪ -‬ألن تكتب هي النهاية؟‬
‫‪ -‬ال!‬
‫‪ -‬إذن فلم طلبت ّ‬
‫حق التدوين؟‬
‫كل هذا مكتوب في رواية!! كان ال ّبد أن تطلب‬ ‫أنسيت يا "ناردين" أن ّ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫أنت‪.‬‬ ‫َ‬
‫"مرام" حق التدوين لتذهب إلى هناك لسبب ما ربما ال أعرفه أنا وال ِ‬
‫ً‬
‫عموما‪ ،‬ال تزال لقصتهما بقية‪ ...‬فالستار لم يسدل بعد‪.‬‬ ‫‪ -‬صحيح‪ ..‬نسيت‪..‬‬
‫لكزتها "الحوراء" في ذراعها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬نحن النساء نفضل النهايات السعيدة‪ ،‬أليس كذلك؟‬

‫‪311‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬فأنا ال أفضل النهايات املفتوحة‪ ،‬أرأيت كيف أصبحت نهاية ّ‬
‫قصة‬
‫"كلودة" و "أشريا"؟‬
‫صفقت "الحوراء" وقالت مبتهجة‪:‬‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬نعم‪ ..‬لم تمت "أشريا" بل خرجت من الغابة‪ ،‬واآلن يعيش الزوجان في‬
‫سعادة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫رفعت "ناردين" عينيها وكأنها تقتنص فكرة ثم قالت‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬لكنني‪ ...‬وددت أن يتزوج "كومبو" من فتاة جميلة‪ ،‬ويسمن قليال حتى‬
‫يناسبه اسمه! رّبما في ّ‬
‫مرة قادمة‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬ولم ال!!‬
‫ُ‬
‫‪ -‬واآلن‪ ...‬تعالي لنهمس بقصة "أنس" و َ"مرام" حتى نسمع الجميع‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫هيا‪ ....‬فلنبدأ‪.‬‬
‫بدأت العجوز "ناردين" تهمس و خلفها "الحوراء" تردد الكلمات‪ ...‬سمعتهما‬
‫حب عفيف‬‫قصة ّ‬ ‫الرياح وحملت أصواتهما هنا وهناك‪ ،‬وتناقلت أجواء الكون ّ‬
‫طاهر‪...،‬‬

‫❐❐❐‬

‫في اليوم التالي ليوم لقائه بـ "شهاب" في القاهرة‪ ،‬وبعد ليلة لم ينم فيها‬
‫ووصل سهده بتهجده وهمس بالدعاء‪ ،‬وعلى شاطئ البحر في اإلسكندرية‪ ،‬بعد‬
‫ّ‬
‫أن تذكر وسط يأسه وحزنه أنه كان قد اتفق مع "مرام" على مكان للقاء‪،‬‬
‫وظل يفسح له حتى مأل الضياء جوانب نفسه‬ ‫فلمع في نفسه بصيص أمل ّ‬
‫ً‬
‫فأسرع مهروال تجاه املكان الذي اتفقا عليه منذ طلوع فجر ذلك اليوم‪ ،‬كان‬
‫ساهما يراقب الساعة من آن آلخر‪ ،‬وكلما مرت دقيقة كان يشعر‬ ‫ً‬ ‫يقف‬
‫‪312‬‬
‫باالختناق ّ‬
‫وكأنه على وشك الغرق‪ ،‬كان ينتظر طوق النجاة لقلبه‪ ،‬يرجو أن‬
‫ً‬ ‫أنثويا ً‬ ‫ً‬
‫ولطيفا خلف أذنه‬ ‫فيقا‬‫مرة أخرى‪ ،‬ارتج كيانه وهو يسمع صوتا ًّ ر‬
‫يراها ّ‬
‫يناديه‪:‬‬
‫‪" -‬أنس"؟ أهو أنت؟!‬
‫ً‬
‫شعر بوجيب في قلبه عندما سمع صوتها‪ ،‬التفت مرتبكا فإذا ب ـ ـهـ ـ ـ ـا خلف ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫بقامتها القصيرة وجسدها الرقيق ومالمحها البريئة‪ ،‬وعينيها الرائعتين‪ ،‬مخبوءة‬
‫في شعاع نوراني من حيائها الجميل‪ّ ...‬إنها َ"مرام"!!‬
‫صاح بحماس غير مبال بالتفات املا ّرة إليه‪:‬‬
‫‪"َ -‬مرام"‪ ...‬يا إلهي!‬
‫بث فيها كل ما بقلبه من أشواق‪ ،‬رفعت كفها في الهواء‬ ‫طالعها بنظرة ّ‬
‫فظهرت آثار الحبال املجدولة عليه‪ ،‬ما زال الجرح يحرقها‪ ،‬رفع "أنس" هو اآلخر‬
‫وكأن كالهما يريد أن يثبت لآلخر ّأنه‬
‫كفه وذراعه‪ّ ،‬‬ ‫يده ليريها آثار الحبال على ّ‬
‫هو‪ .‬بدا عليهما االرتباك املمزوج بالسعادة‪ ،‬ملعت دمعة طاهرة في عينها كنجمة‬
‫خدها برفق‪ ،‬رفعت عينيها الشهالوين‬ ‫قطب ّثم نفرت من جفنها وسالت على ّ‬
‫وعليهما آثار التعب وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ظننتك ّ‬
‫مجرد شخصية في رواية‪ ،‬هكذا أخبرتني أمي‪...‬‬
‫ّ‬
‫مرت لحظة صمت لطيف قال بعدها‪:‬‬
‫‪ -‬كيف عدت إلى هنا؟‬
‫‪ -‬أمر امللك الجديد "قطرة الدمع" بإعادتي‪.‬‬
‫‪ -‬ملك جديد!‬
‫‪ -‬تخلت "الحوراء" عن عرشها البنها‪.‬‬
‫‪313‬‬
‫‪" -‬الزاجل األزرق"!‬
‫‪ -‬وهل كنت تعرف ّأنه ابنها؟‬
‫‪ -‬بل عرفت عندما أتيت إلى هنا‪ ،‬سأخبرك ً‬
‫الحقا‪ ،‬يبدو ّأن كالنا لديه ما‬
‫يحكيه لآلخر‪ ،‬املهم أننا التقينا‪ ،‬وهذا من فضل هللا‪ ،‬كنت على يقين ّأنني‬
‫سأجدك هنا‪ ...‬وثقت بربي‪.‬‬
‫قالت وهي تشعر أن كيانها يختلج‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أتدري‪ ،‬همس لي "إيكادولي" يذكرني باملكان واملوعد الذي اتفقنا أن نلتقي‬
‫فيه ً‬
‫يوما إن افترقنا‪..‬أرجوك ال تختفي ّ‬
‫مرة أخرى‪...‬‬
‫أجدك‪ ،‬كوني على ثقة من هذا‪.‬‬ ‫‪ -‬وإن حدث‪ ...‬سأبحث ّ‬
‫عنك حتى‬
‫ِ‬
‫انزوت على ثغرها ابتسامة وقالت وهي تشيح بعينيها ً‬
‫بعيدا عنه‪:‬‬
‫‪ -‬أثق بهذا‪.‬‬
‫ّثم قالت باهتمام شديد‪:‬‬
‫قمة الجبل أخبرتني أن أذكرك بش يء ما ّ‬
‫تود أن‬ ‫كنا فوق ّ‬‫‪" -‬أنس"‪ ،‬عندما ّ‬
‫تخبرني به‪ ،‬فهل ما زلت تذكر هذا األمر الهام؟‬
‫‪ -‬بالطبع أذكره‪ ،‬وكيف أنساه!‬
‫‪ -‬وما هو؟‬
‫أومضت حفنة من النجوم في عينيه البندقيتين وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هل تقبلين الزواج ّ‬
‫مني؟‬
‫لم تنطق َ"مرام" بكلمة‪ ،‬كانت الدموع تنهمر على وجنتيها مختلطة بماء‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫املطر الذي بدأ يهطل برقة وعذوبة‪ ،‬غمرتها حمرة الخجل‪ ،‬ث ّم همهمت موافقة‬
‫‪314‬‬
‫بصوت خفيض‪ ،‬شعر "أنس" بالفرحة تموج في صدره‪ ،‬كست وجهه ابتسامة‬ ‫ٍ‬
‫واسعة فأشرقت عيناه‪ ،‬كان يتأرجح في مكانه وكأن صاعقة أصابته فجأة‪..‬‬
‫اختبأ قرص الشمس خلف سحابة هشة وبدأ املطر الهتون يسقط عليهما‪،‬‬
‫دس "أنس" يديه في جيبي سترته وسألها عن الساعة وهي التي كانت خارج‬‫ّ‬
‫ُ‬
‫نطاق الزمان واملكان‪ ،‬ثم قال بحماس‪:‬‬
‫‪ -‬فلنذهب اآلن للقاء والدتك‪..‬‬
‫ردت مشرقة‪:‬‬
‫ً‬
‫حسنا أيها املحارب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ُ‬
‫قهقه "أنس" وفتح ذراعيه ث ّم رفع رأسه يستقبل ز ّخات املطر على وجهه‬
‫الحب‪ ،‬بدأ يغني بصوت تنضج منه البهجة و في لحن جميل كان‬ ‫ّ‬ ‫الذي أضاءه‬
‫يردد أغنية طاملا رددها "كلودة" و "كومبو"‪ ،‬كانت بدايتها كلمة واحدة محببة‬
‫لقلبه‪" ...‬إيكادولي‪ ....‬إيكادولي"‬
‫غضنت َ"مرام" حاجبيها وقالت بغضب ممزوج بالخجل‪:‬‬
‫ً ً‬
‫‪ -‬مهال مهال‪ ...‬ليس اآلن!‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ث ّم هرولت أمامه في خجل ورفعت يدها لتستوقف سيارة أجرة تقلهما‬
‫للقاء ّأمها بينما كان يالحقها معتذ ًرا وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أغنيها فقط‪...‬لم أقصد أن‪ ...‬يا َ"مرام" لقد فهمتني خطأ‪ ..‬أأقصد ‪..‬‬
‫هذا بالفعل ما أشعر به‪ ..‬سامحيني‪.‬‬
‫‪" -‬ليس اآلن‪ ...‬ليس اآلن"‬
‫قالتها وهي تهرب بعينيها منه‪...‬‬
‫‪315‬‬
‫بعد سنوات‪ ،‬وحيث حملت األيام ثالث بشريات لـ"شهاب" وزوجته‪ ،‬ونثرت‬
‫الكثير من السعادة على َ"مرام" و"أنس"‪ ،‬وفي بيت ّ‬
‫الجد‪ ،‬وبينما في بقعة أخرى‬
‫من مكان آخر كان هناك شاب لطيف وواسع الخيال يجلس في غرفته ويقرض‬
‫أظافر يده اليسرى ويتمتم وهو يكتب آخر جملة في روايته الجديدة‪ ..‬كانت‬
‫بالفيوم حول "حبيبة" شقيقة "أنس"‪ ،‬والتي كادت‬‫ّ‬ ‫الكتب تدور في مكتبة ّ‬
‫الجد‬
‫تفقد الوعي عندما سقطت الكتب فجأة على أرض الغرفة مخلفة حولها‬
‫دويا ً‬
‫مهيبا‪ ،‬كان هناك كتاب واحد‬ ‫سحابة من الغبار حيث أصدر سقوطها ًّ‬
‫ً‬
‫مفتوحا أمامها‪ ،‬كانت ترتجف وهي تحملق في الصفحات وهي تتقلب‬ ‫فقط بقي‬
‫شبحا يعبث فيها‪ ،‬اقتربت بحذر من الكتاب‪،‬‬‫وحدها أمام عينيها وكأن هناك ً‬
‫غريبا ُيكتب‬
‫مزا ً‬ ‫رأت صورتها ُترسم على الصفحة‪ُ ،‬ث ّم بلون أحمر كرزي رأت ر ً‬
‫بوضوح!‬

‫‪ ..‬متت ‪..‬‬

‫‪316‬‬

You might also like