Professional Documents
Culture Documents
إيكادولي
رواية
حنان الشني
إهـــــداء
إلى
المحــــــاربين
مقدّمة
ميتةّ ،
مكفنة في أوراق "قد تكون الكلمات وكل الكتابات ّ
دفاترنا البيضاء ،معانيها مدفونة بين السطور،
على الرفوف وفي أدراج املكاتب ،ال تحيا إال عندما ُتقرأ
فتجري الدماء في أوصالها بخيال القارئ ،وعندما ّ
يصدقها
ّ
تضج بالحياة!"
()1
"أبـــادول"
بعيد ّثمة نهر رّيان مطر خفيف كالبكاء يرشق الرمال الناعمة بعذوبة ،من ٍ
يتدفق ماؤه العذب بهدوء .ضوء الشمس الذهبي يميل بدالل فيداعب تلك
الغدران الصغيرة التي تكونت هنا وهناك لتنعكس ألوان الطيف وتتعانق في
وكأنه سحاب أخضر .صيحة الهواء .سعف النخيل يظلل األفق من بعيد ّ
ُ
صمت أذنيه ث ّم شعر فجأة بمخالب تقبض على كتفيه ،فرفع بصره غريبة ّ
ً ً ورأى ً
طائرا عمالقا يبسط جناحيه مظلال فوق رأسه ،تسارعت أنفاسه وهو
مردي اللون! واد عميق يقطعه نهر ماؤه رقراق ز ّ تفاع شاهق فوق ٍ يطير على ار ٍ
لكنها متقاربة مصفوفة بانتظام في مجاميع ٌ
أكواخ صغيرة ّ الحت من بعيد
ممرات أرضها مغطاة بزهور صغيرة صفراء .تناهى إلى سمعه يفصل بينها ّ
صوت أنثوي ناعم ،كان يناديه ويكرر كلمة غريبة لم يدرك كنهها! استعذب
لكن خفقات قلبه التي بدأت تؤمله في صدره أنسته حالوة الصوت للحظات ّ
مصب ذاك النهر ّ الصوت ،وفجأة! انفلت من بين مخالب الطائر ليهوي تجاه
ّ ّ
الفياض بسرعة شديدة ،كان لون املاء يزداد قتامة كلما اقترب منه ،أراد أن
يرفع عينيه ليرى هيئة الطائر الذي كان يحمله ،لكن ِظ ّل جناحيه الكبيرين
كل ش يء ،فتح ذراعيه وباعد بين ساقيه املهيبين كان قد حجب عن عينيه ّ
ّ ّ
وجيزة ،للحظات شعر ّأنه أخف من الريشة ،وكأنه يحلق بروحه ال
ّ ّ
ٍ فحلق لفترة
حدق فيه وهو يقترب، بجسده ،على صفحة املاء الح له رمز غريب الشكلّ ،
ً
ويقترب ،ويقترب ،وفجأة..التقمه الظالم ،وظل رنين حاد يتصاعد مخترقا
أذنيه.
ّ ّ
أيقظه رنين هاتفه النقال ،وكان قد وقته على السادسة والنصفّ ،
مد
بأنه مشلول البدن ليوقف صوت ذ اعه بصعوبة بعد أن قاوم ذاك الشعور ّ
ر
ق ّ
الرنين املزعج .مسح جبينه الذي كانت تتألأل عليه حبات العر وجلس على
9
طرف الفراش يلتقط أنفاسه .نفس الكابوس الذي يتكرر ،نفس املخالب،
نفس الطائر الذي ال يدرك كنهه! ونفس النهر ذي املاء األخضر ّ
الزمردي ،وذاك
ّ
الرمز الغريب .سار بخطوات بطيئة نحو املرآة وطالع وجهه وكأنه يطالع
غريبا عنه ،عينان بندقيتان وحاجبان كثيفان على وشك االلتحام، شخصا ً
ً
مستديرا ظللته لحية خفيفة .أحياناً
ً وأنف ذو انحناءة لطيفة ّ
يتوسط ً
وجها
يشعر ّأنه غريب عن نفسه وخاصة في تلك الحظات التي تعقب استيقاظه من
ّ
ومر برواق البيت فلمح والديه ّ
فحياهما ذاك الكابوس املتكرر .غادر غرفته ّ
يصب املاء البارد على رأسه ّ
لعل األفكار التي تنهش عقله تهدأ، ّ ً
سريعا وأسرع
ّثم لحق بهما في املطبخ الذي كان يعبق برائحة القهوة ،جلس وقد بدت على
وجهه عالمات اإلرهاق ،أزاح والد ه الجريدة التي كانت تحجب وجهه عنه
بتمعن وقال َبنبرة هادئة:
وطالعه من فوق عويناته ّ
-هل رأيت نفس الكابوس؟
-نعم.
-هل سقطت في املاء؟
-ال...كالعادة استيقظت قبل أن يلمس جسدي املاء.
-هل رأيت رأس الطائر؟
-ال...ال يا أبي.
رفع األب سبابته وحرك عويناته على أرنبة أنفه وعاد للقراءة ،كانت تلك
مرة يستيقظ فيها "أنس" وعلى وجهه عالمات األسئلة الثالثة تتكرر في ّ
كل ّ
ّ
وكأن أباه يقرأ صفحة وجهه فيدرك أنه رأى نفس الكابوس! شرد اإلرهاقّ ،
"أنس" للحظات قبل أن يقول بخفوت:
-لكنني سمعت ً
صوتا لم أسمعه من قبل!
انتفض والده وكأن هناك من وخزه ب إبرة وألقى الصحيفة وسأله وقد
اتسعت حدقتا عينيه:
-صف لي الصوت وأخبرني ماذا قال لك.
10
وأحس بهّ ،ثم قال بصوت ّ
متهدج: ّ ّ
ليجتر ما رآه أغمض "أنس" عينيه
ٍ
ً
فيقا وجميال ،لم أسمع مثله من قبل ،غناء رّبما أو ّ
كأن ًّ ً
-كان صوتا أنثويا ر ُ
هناك فتاة ما تهمس في أذني.
يحدق في وجهه وسأله ّ
بتوتر: خلع األب عويناته وعاد ّ
12
التي تحسن التوقيع على شغاف قلبه حتى اآلن.
ً
طريقته في تناول األمور كانت تزعج زمالءه أحيانا ،فهو حاد في حكمه
واحدا ويبتعد عنه حتى وإن كانت ً كل من يخطيء خطأ يستبعد من طريقه ّ
فيه ميزات أخرى تشفع له! خطأ واحد من صديق كان يكفي لكي ينحيه جانباً
وده ويتقربون إليه فهو شاب جميعا يطلبون ّ ً ّ
وكأنما ُو ِص َم به لألبد! كانوا
ً
أحيانا ً
مندفعا جذاب مثقف ذو خلق ورياض ي ،كما ّأنه ذكي ً
جدا ،لكنه كان
يركض خلف حدسه ،في الحقيقة ..لم يفسح املجال إال لصديقين فقط من
جملة من التفوا حوله.
ً ً
سريعا ملحطة القطار والتي كانت –كعادتها -مزدحمة بالركاب ،كان وصال
األب يسرع في خطواته ليجاري خطوات "أنس" الواسعة ،انتبه "أنس" َف َرقَّ
جداً .الجو بار ًدا ً
قليال حتى ال ُيرهقه .كان ّ ً ألبيه ّ
اقتربا فهدأ من سرعة خطواته
ّ
من أحد املقاعد وجلسا يراقبان األبخرة الهاربة من أفواه ر ّواد املحطة ،كانت
هناك مسحة من الضباب تشوب األجواء .أما السماء فكانت ندف السحاب
تنتشر فيها بشكل واسع ،بدت وكأنها على وشك ا لبكاء .التفت "أنس" لوالده
وقال وهو يفرك َّ
كف ْيه:
-لقد وصلنا ً
مبكرا.
عميقا وقال َبنبرة حازمة بعد أن رمق ساعة يده بسرعة: ً سحب األب ً
نفسا
-هذا أفضل ....أن تصل ً
مبكرا وتنتظر خير لك من أن تصل بعد فوات
األوان.
-اشتقت ّ
لجدي.
بشغف يا "أنس". أيضا ينتظر وصولك -وهو ً
ٍ
-ال أدري ملاذا يرفض االنتقال إلى االسكندرية ليقيم معنا!
جدك مرتبط ببيته وله فيه ذكريات طويلة. ّ -
-وأسرار.
رفع األب حاجبيه الكثيفين وقال وهو يطالعه من فوق عويناته:
13
ّ -
أي أسرار؟
ّ
الحت ابتسامة ساخرة على شفتي "أنس" عندما تذكر تلك الغرفة القابعة
في الطابق العلوي والتي ال يجرؤ أحد على اقتحامها وكيف كان يركض مع أبناء
ٌ
صغار ويلصقون آذانهم ببابها ّ
عمه عندما كانوا يقتربون من بابها املهجور وهم
ً
وينصتون فيسمعون أصواتا تهمهم وهسهسات غريبة فيفزعون ويركضون
هاربين .قال ألبيه بحماس:
-غرفة األشباح.
وتلفت ً
يمينا ويسا ًرا قبل أن يقول له انزعج األب من ارتفاع صوت "أنس" ّ
ً
الئما:
-تعلم ّأنها غرفة خالية ،ولقد رأيتها بنفسك ،فال تزعج ّ
جدك باقتحامها
والسؤال عن سبب إغالقها..أرجوك.
يهمني األمر ،فقط هو فضول! وددت -ال تقلق يا أبي ،ما عدت أخافها ،وال ّ
شبحا أو رأيته ،يشغلني أمر ّ
الجن وهيأ تهم ،كما أنني..... لو أنني حاورت ً
ً
قاطعه أبوه قائال:
-بعض الفضول قد يفيد ،وبعضه قد يؤذيك ،فاحذر يا ّ
بني.
ران عليهما الصمت للحظات ،فلم يكن ذاك فقط هو ما يشغل بال "أنس"
جده ممتلئ باألسرار ،ولديه الكثير من األسئلة عنه ،ور ّبما حانت فبيت ّ
سر ّ
كل ركن فيه. ّ
الفرصة لينفرد بجده ويسأله عن ّ
معلنا عن وصوله ،همهم األب في أذن عال صفير القطار وهو يشق الضباب ً
ويلوح ألبيه وعلى وجهه "أنس" بالدعاء وهو يعانقه وصعد األخير ليقف ّ
ابتسامة حنون ،انطلق القطار وجلس "أنس" يراقب الحقول الخضراء التي
ّ
انبسطت أمام عينيه .لوحة رّبانية تموج بالكثير من املعاني التي ال يترجمها إال
عاشق للطبيعة الخرساء!
أحب صوت قطرات املطر الذي استحال ّ مزق البرق صفحة السماء، ّ
سماعه بعد لحظات وهي ترشق زجاج النافذة بجواره فشرد مسحو ًرا بالصور
املتتابعة مصحوبة بتلك األلحان التي تعزفها قطرات املطر.
14
ً ّ
سريعا ما التفت يراقب ركاب القطار ،ذاك رجل في العقد الرابع من عمره
أغمض عينيه ليسحب حبل النوم الذي قطعه منذ ساعة ويتعلق به ّ
مرة
لعله ينعم ّى ّ
ببقية حلم .وتلك فتاة صغيرة تراقب مرور األشجار أمام أخر
تضحك ّ
ّ هي التي ً تركض وليس القطار ،كانت ّ ُ ً
عينيها بسرعة خاطفة وكأنها
ببراءة وتحرك وجهها ً
ر
يمينا ويسارا تزامنا مع حركة الصو الخاطفة ،أما أمها
فاخرة المرأة أخرى تجلس قبالتها بإعجاب ،والتي ٍ فكانت تطالع حقيبة ٍيد
ً ً
كانت تلقي على كتفيها معطفا أنيقا من القطيفة السوداء .من بعيد تناهى
لسمعه حوار بين رجلين يبدو أن كالهما يعمل في هيئة ما تختص بصناعة
كثيرا عن الفوسفاتّ .أما ذاك الشاب األنيق الذي تحدثا ً األس مدة الزراعيةّ ،
ً
معاتبا صديقه على إلغاء كان يرتدي سترة جلدية سوداء فكان يصيح في هاتفه
املوعد الذي كان بينهما ليلة أمس .في مقعد آخر كانت هناك فتاة ساكنة
مر الوقت وكأنها حجر ّ
أصمّ ، كتابا وتقرأ سطوره بهدوء شديد ّ كالصنم ،تطالع ً
سريعا وما زال "أنس" يحتفظ بهدوئه وحضوره اللطيف. ً
ً
محملقا في في تلك اللحظة كان أبوه ال يزال يقف خارج محطة القطار
زجاج نافذة سيارته التي كان "أنس" يجلس بجوارها منذ ربع ساعة بينما كان
ً هو يقود ّ
السيارة منشغال بالزحام على الطريق وهو يقله ملحطة القطار ،لقد
رأى الرمز الذي رسمه ابنه على الزجاج بإصبعه عندما تكاثف البخار ،أخرج
الهرم على الطرف
هاتفه الجوال وقام باالتصال بالجد ليخبره ،جاء صوته ِ
اآلخر من الهاتف:
-مرحبا يا "كمال".
-أبي....لقد رآه يا أبي ،لقد رأى"أنس" الرمز.
-ماذا؟!!
-رسمه منذ قليل على زجاج النافذة الذي تكاثف عليه البخار بإصبعه ،وما
ً
مرسوما أمامي. زال
-امسحه بسرعة.
ُ ُ
سيارته ث ّم مسح الزجاج من الداخل بمنديل ورقي ث ّم ّ فتح األب باب ّ
تلفت
ُ ّ
حوله ليتأكد أن ليس هناك من يراقبه ،ث ّم عاد يقول ألبيه:
15
-محوته يا أبي.
-يا إلهي..ال ّبد أن نستعد.
ّ
-وماذا سنفعل؟ هل سنخبره أم سننتظر حتى يحين الوقت؟
-يبدو ّأنه قد حان الوقت بالفعل!
-نعم ..فالكابوس يتكرر ،كما ّأنه...
-ماذا؟
ً
-سمع صوتا ًّ
أنثويا الليلة.
-وماذا قال له؟
ُ
-ال يذكر...أخبرني ّأنه نس ي ما همس به ذاك الصوت في أذنه ،أنا قلق عليه،
أظنه سيستوعب األمر بسهولة! ال ّ
-ال تقلق عليه.
ّ
سيمر به من قبل! -وكيف ال أقلق وقد مرر ُت بما
ّ -
لكنك بخير يا ولدي..أليس كذلك؟
-نعم أنا بخير ال تقلق يا أبي ،وماذا عنك؟
-ال تقلق...سأكون بخير "،كمال" ال ّبد أن تأتي اآلن في القطار التالي
حسنا يا أبي سأفعل إن شاء هللاً -
قوية فأصابته هبت ريح ّ ّ
يستبد بـ"كمال"ّ ، انتهت املكاملة وقد بدأ القلق
ّ ً
سيارته ،تقوقع أمام املقود وأطرق مفكرا يجتر ما قشعريرة فأسرع إلى داخل ّ
ً
سيمر به ابنه "أنس" .كان يجلس صامتا وعيناه ّ ً
متفكرا فيما ّ
مر به في املاض ي،
تجوسان في حزن بين أمواج البشر ،تذكر الخوف ،الرهبة ،أن يختاره أحد ما
ويثق به وينتظر منه أن يقدم له الكثير! وتذكر الشعور املقيت بالوحدة هناك،
ّ
يستقل القطار التالي ليلحق بابنه سيارته وأسرع انتبه للوقت فوثب خار ًجا من ّ
"أنس".
❐❐❐
16
خفف القطار من سرعته وأطلق صفيرا ّ
اهتز له زجاج النوافذ ،وثب الركاب
ّ ً
واحدا تلو اآلخر عندما الحت لهم الفتة املحطة ،تزاحموا في املمر من أماكنهم
املؤدي لباب القطار فسق طت بعض الحقائب من أعلى الرفوف ،ترجل "أنس"
جده ،أخيرا التقطتهمن القطار ُث ّم وقف يفتش بين وجوه املا ّرة عن وجه ّ
عيناه من وسط الحشود فقامته املديدة وعليها املعطف األزرق الطويل،
ولحيته الرمادية اللطيفة التي برزت من الوشاح الخوخي اللون الذي كان يلف
به عنقه ،عوي ناته املستديرة ،ونظرته الواثقة من خلفها ،وتلك االبتسامة
الواسعة التي كانت تض يء وجهه ،كل تلك اللفتات البسيطة التي ّ
يحبها "أنس"
عمن حوله فأسرع يحتويه في حضنه .طال العناق قبل أن يقول ّميزت ّ
جده ّ
الجد وهو يمسح وجه حفيده ّ
بكفه الدافئة: ّ
ً
-ازددت طوال يا أنس ،وتباعد منكباك.
جدي وليس العكس. -أرأيت ،اآلن أنا الذي يحتويك في حضنه يا ّ
-أوحشتني يا "أنس".
-وأنت يا جدي..أوحشتني ً
كثيرا.
الجد حيث كانت هناك معا إلى بيت ّ أسرعا بالخروج من الزحام واتجها ً
الكثير من األحجيات التي ال يعرفها "أنس" .من بعيد كان هناك من يراقبه
بإمعان شديد. جده .كان ّ
يتفحصه ويرصد حركاته وهو يبتعد مع ّ
ٍ
الجد الحديدية ،والتي كانت تتوسطوقفت سيارة األجرة أمام بوابة بيت ّ
ّ ً السور الحجري الذي يحيط بالبيت ،كان ارتفاع السور
شاهقا وقد تدلت من
ّ ً فوقه أغصان األشجار ّ
وكأنها تراقب الطريق .بعض الفروع بدت مخيفة وكأنها
ّ
تهدد من ينظر إليها .كان السائق يحدق في التواءات حديد ّ
البوابة باندهاش،
الجد الذي رمقه بصرامة وهو ينصت رفع حاجبيه وهو يلتقط النقود من يد ّ
إليه وهو يقول:
ٌ
-بوابة رائعة وبيت أنيق.
الجدّ ،
وكأن السائق قد تبرم من ّ ً
ومتبوعا بنظرة ّ ً
مبتعدا انطلق السائق
للتو إحدى نسائه املختبئة في خدرها! حمل "أنس" حقيبته الجلدية على طالع ّ
جده من البوابة وسارا معاًظهره ،ورفع األخرى بيده عن األرض ُث ّم دلف مع ّ
17
صفين من األشجار القصيرة على فوق ممر ضيق مرصوف بالحجارة بين ّ
الزان العتيق ،أخرج أخيرا أمام باب البيت املصنوع من خشب ّ الجانبين .وقفا ً
الجد مفتاح الباب من جيبه ليفتح الباب بينما كان "أنس" يتفحص النقوش ّ
ّ
دقيقة من النحاس .انعكس ّ
واملطعمة بقطع الغريبة التي كانت تتوسط الباب
ٍ
ّ
الضوء عليها فتالعب بريقها الذهبي بعيني "أنس" الذي قال باندهاش:
حقا ،ال أدري ملاذا لم أنتبه لها من قبل! -تلك النقوش بديعة ً
ّ ُ رمقه ّ
خفي ولم يعلق ،ث ّم دفع بـاب البيت بحـ ـ ـ ـ ـرص فأصـ ـ ـ ـ ـ ـدر
الجد بطرف ّ
غريبا عن"أنس" بل ربما يشتاق إليه ،أسرع "أنس" بخطى ً
مزعجا ليس ً أز ًيزا
واثبة وألقى بحقيبته بجوار الحائط ووقف في وسط ردهة االستقبال وفتح
ُ ذ اعيه ودار حول نفسه ّ
وكأنه يحتضن أجواء البيت ث ّم قال بمرح: ر
حبه ً ُ
حب هذا البيت ....أ ّ ُ
-كم أ ّ
كثيرا.
الجد وقال ّ
بود: ابتسم ّ
ً
جميعا. -هو بيتك يا حبيبي ،وبيتكم
فاجأهما صوت ارتطام قوي ،سقط ش يء ما على األرض .أسرع الجد إلى
غرفة املعيشة وتبعه "أنس" ،كان هناك كتاب على األرض وحوله تبعثر حطام
جزء من تمثال رائع من خشب األبنوس األسود لشجرة عجيبة ،انحنى ّ
الجد
فرعا من فروع الشجرة ،بدت على وجهه عالمات وأمسك بالجزء املحطم ،كان ً
ّ
القلق وجال بعينيه في الغرفة وكأنه يبحث عن ش يء ما ،انحنى "أنس" والتقط
تأمل غالفه الجلدي الباهت بتعجب ،كان لونه يشبه لون التراب الكتابّ ،
املبتل بماء املطر ،شابته لفحات من لون يشبه لون قشر البرتقال الجافّ ،أما
األوراق فقد بدت صفراء عتيقة.
وقرأ عنوانه بصوت مسموع:
" -أبادول"...ماذا تعني تلك الكلمة يا جدي؟
كاد "أنس" يفتح الكتاب ليقرأ اسم مؤلفه ،لكـ ّن جـ ـ ـده خطفه م ـ ـ ـ ـن بين
18
ُ
يديه بطريقة لم يعهدها منه من قبل! وأعاده إلى الرف ث ّم أسرع نحو النافذة
غير مكترث برد فعل أنس وأزاح الستار ونظر إلى الحديقة نظرة فاحصة ّثم
ً
التفت وعقد حاجبيه قائال:
" -أبادول" كلمة نوبية ،تعني ّ
الجد (أبا) بمعنى ( أبى) و( دوول) بمعنى (كبير).
ً ابتسم "أنس" ومازح ّ
جده قائال:
ً
حسنا يا أبادول...من كسر الشجرة ،وملاذا ألقى الكتاب على األرض؟ -
-رّبما "صفية"
-ولكن أين هي "صفية"!
-أو زوجها..ربما!
قطة يا ّّ -ال أرى ّ
جدي؟ العم "راغب" هنا كذلك! هل لديك
وكأنه وجد ضالته وقال:الجد حاجبيه ّ رفع ّ
ُ ً
أحيانا تقفز القطط من نافذة الحديقة ،سأخبر "راغب" ليبحث عنها. -ربما،
-جدي..هل أنت بخير؟ يدك ترتجف!
ً
سريعا على وجهه ابتسامة الجد أن "أنس" قد الحظ ارتباكه فرسم أدرك ّ
واسعة وأمسك بذراع حفيده وسار معه وهو يقول:
السكر قد انخفض في دمي. معدل ّ -لم أفطر حتى اآلن ،يبدو أن ّ
ُث ّم قال وهو ّ
يحثه على السير:
ّ
"صفية" معا ،فقد أعدته هياّ ،بدل مالبسك لنتناول الفطير الشهي ً هيا ّّ -
ّ
خصيصا لك ،فهي تستعد منذ أيام لوصولك. ً
-اشتقت للحديث معها ،ولقصصها عن ّ
جدتي.
جدا. جدتك ُت ّ
حبها ً -نعم ،كانت ّ
ً
حريصا على إخفاء الكتاب عن عين حفيده سار "أنس" مع ّ
جده الذي كان
19
اللحظات كانت تتعالى الهمسات في
ُ قبل أن يخرج من غرفة املعيشة ،في تلك
غرفة األشباح بالطابق العلوي ،هناك صوت أنثوي رفيق يصدر من تلك
الغرفة الغريبة و ينادي على "أنس"...بينما هو يمضغ قطعة من الفطير
ّ
"صفية" عن جدته التي توفيت قبل أن جده وينصت لحكايات الساخن بجوار ّ
يولد.
وقف "أنس" ليراقب اهتزاز األغصان من نافذة املطبخ ،لم يغادره مذ أنهى
ّ وجده ،كان املطبخ ًطعامه هو ّ
دافئا وكانت أحاديث "صفية" و زوجها -واللذان
يعمالن في هذا البيت منذ عمر طويل -عن املاض ي لطيفة وحميمية ،وضع
"أنس" كوب الشاي على طرف املائدة برفق وهمس لجده وهو ي ّ
مد يده:
جدي. -أعطني مفتاح املكتبة يا ّ
ً
متوترا قال: التفت الجد
-دعك من القراءة اآلن واجلس معي فاإلجازة طويلة.
-إذن فلنذهب ً
معا.
ً ُ ّ
الجد للحظات ،وأطرق قليال ث ّم أخرج املفتاح من جيبه وأعطاه تردد
لحفيده وقال له:
املرة ال ّبد أن تذهب وحدك.
-هذه ّ
جده ،فهو يعلم حرصه الشديد على تعجب من كالم ّ ابتسم "أنس" فقد ّ
أبدا يذهب إلى املكتبة وحده! أسرع بالتقاط املفتاح من يدكتبه ولم يتركه ً
جده وهرول إلى املكتبة ،بينما وقف الثالثة -الجد وصفية و زوجها راغب - ّ
يراقبونه من خلف زجاج نافذة املطبخ املطلة على الحديقة ،لو التفت إليهم
ألفزعته عيونهم الشاخصة تجاهه! ّ
لكنه لم يلتفت.
دلف "أنس" إلى الغرفة بعد أن فتح بابها بصعوبة ،يبدو أن املفتاح القديم
قد صدئ.
ّ كانت الغرفة باردة ً
جدا على عكس أجواء الحديقة التي دفأتها أشعة
الشمس ،وكانت تعبق برائحة الورق العتيق املمتزج برائحة الرطوبة ،التفت
كل ّ
مرة يقرر أن يقرأ بتمعن .في ّ
بعد أ ن قام بإضاءة املصابيح وراقب الرفوف ّ
20
لكنه في النهاية يستقر على كتاب واحد .ويرفض ّ
الجد أن العديد من الكتب ّ
وكأنها قطع من ماضيه وذكرياته أبدا ،فتلك الكتب غالية عليه ّ يعيره ًّأيا منها ً
حزينا ويظ ّل على شوقه حتى يعود في تستقر على الرفوف .كان "أنس" يعود ً
إجازة أخرى ليقرأها.
ُّ ً ُّ
من عادته أن يقرأ اسم الكتاب أوال ،ثم يطالع شكل الغالف ،ثم يقرأ اسم
وأخيرا يطالع الفهرس بسرعة .ملح على أحد الرفوف العلوية مجموعة ً املؤلف،
من الكتب تشبه ذاك الكتاب الذي رآه اليوم في غرفة املعيشة حيث كان
ملقى على أرض الغرفة .نفس الغالف الجلدي الباهت ،نفس اللون القريب
املبتل بماء املطر ،وقد شابته لفحات من لون آخر يشبه لون ّ من لون التراب
ّ
قشر البرتقال الجاف ،ونفس األوراق الصفراء العتيقة .استدار ليحمل السلم
كتابا من تلكالرفّ ،ثم تسلقه بحذر ليسحب ً وقربه من ّ املسنود على الجدار ّ
ً ٍ ّ
املجموعة ،اهتز السلم الخشبي فأسرع يهبط خوفا من السقوط.
وكأنه صوت صرصور يعبث بالورق. تناهى إلى سمعه صوت غريبّ ،
ّ تجاهل الصوت وكاد يسحب ً
كتابا من رف آخر ليفاجأ بالكتب العتيقة
ّ ّ
التي كانت تستقر على الرف العلوي تطير في الهواء .حلقت فوقه وكأن هناك
ّ خفية ّ ًيدا ّ
تحركها ،كانت صفحاتها تتقلب بسرعة رهيبة ،تصاعد صوت أنين
َّ ّ
شخصا ُيعذب ،تاله صراخ رهيب أفزع "أنس" ،حاول أن يهرب ً وكأن هناك
يحدق في الكتب وهي تدور حوله في لكن ساقيه تسمرتا بأرض الغرفة ،كان ّ ّ
ّ ّ ّ
دوامة ،توقفت الكتب فجأة وظلت معلقة في الهواء للح ظات ثم هوت على
بقوة انخلع لها قلبه، ودوى صوتها ّ أرض الغرفة بانتظام في حلقة حوله َّ
ّ ً
متراكما على أرض الغرفة فشكل هالة من الدخان تصاعد الغبار الذي كان
ّ
الخفيف حوله ،عادت صفحات الكتب تتقلب بسرعة كطواحين الهواء،
انتشرت رائحة غريبة تشبه رائحة الصدأّ ،ثم انغلقت األغلفة فجأة ّإال ً
كتابا
مفتوحا أمام "أنس" الذي كان يشعر بنبضات قلبه في عنقه ،كانت ً ً
واحدا ّ
ظل
األوردة نافرة توشك على االنفجار ،شفتاه وعضالت وجهه ترتجف في فزع،
وقد احتقن وجهه ،رفع يده التي كانت ترتجف ومسح وجههّ ،ثم بصعوبة
حرك قدميه تجاه الكتاب وانحنى ينظر إليه ،كانت صورة وجهه تظهر تدر ً
يجيا ّ
شبحا يرسمها بينما هو ينظر! ازدرد ريقه ً ّ
وكأن هناك على الصفحة األولى
بوجل وأغلق ّ ّ
مرة أخرى فيها وكأنه ال يصدق ،ثم مد يده وحدق ّ بصعوبة ّ
ٍ
21
الكتاب ليقرأ عنوانه ،كانت هناك كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح
"إيكادولي " ،قلب الكتاب باح ًثا عن اسم الكاتب فلم يجدهّ ،
لكنه فزع عندما
رأى العالمة التي رآها في الكابوس ليلة أمس على سطح ماء النهر الذي كاد
يسقط فيه قبل أن يستيقظ ،كانت العالمة مكتوبة باللون األحمر الكرزي
كل صفحات الكتاب كانت خالية من الكالم!على الغالف من الخلف ،بيد ّأن ّ
التقط "أنس" الكتاب وركض إلى داخل البيت.
❐❐❐
22
()2
كان الجد في غرفة املعيشة عندما اقتحم "أنس" الباب وركض نحوهّ ،ثم
جلس بجواره وبين يديه الكتاب ،أنفاسه املتسارعة والتي كان يلتقطها من فمه
تسببت في جفاف حلقه ولسانه ،صاح بفزع :
-الجن..تلك الغرفة مسكونة ال ريب ...األرواح ...األشباح.
-اهدأ يا "أنس".
-الكتب تطير ...و ..و ..األوراق تتحرك بسرعة ..هناك صوت يصدر من بين
الكتب.
الجد بنظرة ثاقبة وقال ّ
بجدية: حدجه ّ
-هل رأيت الرمز؟
انقطعت أنفاس "أنس" فجأة ،لم يتوقع هذا السؤال! ازدرد ريقه وقال
بخفوت:
ّ -
أي رمز!
الجد بعلبة السكر التي أحضرتها "صفية" قبل دخول "أنس"ّ أمسك
بلحظات مع كوب آخر من الشاي الساخن وسكبها على سطح الطاولة ثم
حرك إصبعه ورسم الرمز الذي رآه "أنس" في الكابوس وعلى ظهر الكتاب ،كان
الرمز يشبه حرف "تي" باللغة اإلنجليزية ..
ـــــ
T
23
قمة الحرف ،حملق في وجه ّ
جده ّثم سأله: وفوقه خط أفقي يوازي ّ
جدي أرجوك ،ماذا يعني هذا الرمز؟ -أخبرني يا ّ
-ا لرقم ثالثة باللغة النوبية ..تويكو .. toyckoلقد اختارك الكتاب يا
"أنس".
-ماذا؟
ّ ّ
الجد واتجه إلى رفوف خشبية معلقة على جدار الغرفة وسحب وقف
ّ
الكتاب الذي كان بالغرفة عندما وصال من محطة القطار ،ووجده كالهما
ملقى على األرض ،أمسكه ّ
الجد أمام صدره وقال ّ
بجدية:
-لقد اختارني من قبل كتاب "أبادول" ومعناها ّ
الجد كما أخبرتك ،وكان
رمزي الرقم واحد ويرا .. weraأما والدك فاختاره كتاب "أمباب تود"
ومعناه ابن أبيه وكان رمزه الرقم اثنان ..أويووو .. oywwoكال الكتابين
يحكي قصة ،صراع بين الخير والشر ،النهار والليل ،األبيض واألسود ،وكان
ال ّبد من التدخل!
صدق ،هذا هراء ،الكتاب جماد! ال ّبد أن هناك أرواح تعبث به أو ّ
جن -ال ُأ ّ
يسكنه!
الجد بذراع حفيده وسحبه ،سارا ً
معا تجاه غرفة "أنس" ،قال وهو أمسك ّ
يسير بخطوات سريعة:
حية يا ولديّ ،إنها تتنفس ،تعيش ،وتشعر بنا.
-تلك الكتب ّ
ّ
هز "أنس" رأسه باستنكار وقال:
-مستحيل!
-ما حدث معك حدث مع أبيك ومعي ً
أيضا.
-ماذا تعني؟
ّ
-ال أدري عن أي ش يء سيحكي كتابك ،فالكلمات لن تظهر إال لك.
24
-ال أفهم.
لجد باب غرفة "أنس" وأمسك حقيبة حفيده الجلدية وأخرج منها فتح ا ّ
ُ ّ
الحاسوب النقال ثم قلبها على الفراش ليفرغ ّ
كل ما بها ،ثم قال وهو يتجاهل
نظرات "أنس" الذي بدا عليه الضيق ألشيائه املبعثرة:
-بعد أن تبدأ رحلتك ستظهر الكلمات على السطور ،صفحة بعد صفحة.
-ملاذا أفرغت حقيبتي بتلك الطريقة يا ّ
جدي!
-لن تحتاج لتلك األشياء ،سأز ّودك ببعض األشياء ّ
األهم ،ال بد أن تستعد،
ولتحمد هللا أن هناك من يدلك فقد كنت أمض ي في رحلتي قبلك ّ
ألول ّ
مرة
ً
وحيدا بال دليل..هيا تعال معي.
-إلى أين؟
غرفتي...هيا بسرعة الوقت ّ
ضيق. ّ -
-ما زلت ال أفهم.
ً ً
خشبيا بديع الشكل عليه دلف الجد لغرفته وفتح خزانته وأخرج صندوقا
مطعمة باللون الذهبي ،له قفل نحاس ي المع وبراق نقوش أزهار عجيبة وبارزة ّ
ُ
ث ّم قال:
-يبدأ األمر عندما يختارك ُالكتاب ،لتدافع عنه ،رّبما عن تاريخ ،ور ّبما عن
قيمة عظمى ،سطرها أحد أمراء النوبة املعروفين ً
قديما وهو األمير "أواوا"
ً ً
نبيال ،وأميراً ّ
على أوراق البردي من خالل قصص ألفها بنفسه ،كان شابا
لكن امللك لم ُيحبه.
أحبه الشعبّ ،طيب الخلق ّ ّ
الجد قالدة عجيبة ألبسها ألنس فور أن سحبها من الصندوق ،و ّ أخرج
ٌ ي ر
زجاجة صغيرة ز قاء تحتو على سائل أسود لزج محفوظة في علبة مبطنة
بالقطيفة الحمراء ،وقال بجدية:
ّ ّ
لدي إال القليل فحافظ عليه. -ستحتاجه ،لم يتبق
-ما هذا؟
25
ً
عجيبا له مقبض ذهبي نقوشه بديعة ً
خنجرا لكنه سحب الجد ّ
لم ُيجبه ّ
ودسهما في الحقيبة الجلدية الخاصة بأنس ،قال "أنس" ّ
بتوتر: ّ
الشكلّ ،
ً
خنجرا! -خ ّ
نجر ولم سأحتاج
-ليس ّ
مجرد خنجر عادي يا "أنس" ....ستقطع به مسافات طويلة
-كيف! ..وإلى أين سأذهب!!
-سأخبرك بالتفصيل بعد أن ّ
أمدك بما أملكه ور ّبما سيفيدك.
ّ
"الجد" من الغرفة وهو يشير له ليتبعه. خرج
سأله "أنس" ّ
بتعجب وهو يتحسس القالدة ّ
ويتأمل النقوش التي عليها:
-هل كان ذاك امللك يكره ابنه "أواوا"؟
ً
ممتلئا بالحقد عمه ...امللك "كاشتا" الذي لم ُينجب ً
أبدا ،وكان قلبه -بل ّ
تجاه أخيه امللك "أالرا" ،كان يغار منه فقتله ليفوز بالعرش.
-واألمير؟ ماذا حدث له؟
الجد إلى صالة االستق بال حيث كانت تتدلى من السقف ثريا بديعة أسرع ّ
وكأنه يبحث عن ش ي ء ما ،وقال على مهل وعيناه بتمعن ّ ّ
يتفحصها ّ ووقف
ّ
معلقتين بالثريا التي تتدلى من السقف:
وحبس في سرداب تحت حراس امللك القبض على األمير النبيل"أواوا"ُ ، -ألقى ّ
األرض مع زوجته وأبنائه ،كانوا يطعمونهم كالكالب ،يلقون إليهم بالطعام
ضيقة ،حتى األطفال لم يرحموهم من هذا القهر ،حتى ر ّق إلى من فتحة ّ
حالهم أحد الجنود فكان يحمل إليهم املزيد من الطعام في الخفاء ،وطلب
بعضا من األوراق ليبدأ بالكتابة والتدوين ،وعكف على منه األمير"أواوا" ً
مرجعا ألبنائه ،ليتعلموا منها ..نفدت األوراق فانتقل ينحت ً كتابتها لتكون
على الجدران ،لم يتمكن من التوقف عن التدوين ،كان يكتب طوال
وظل يكررهابقيتها لزوجتهّ ،الوقتّ ،ثم امتألت الجدران فجلس يحكي ّ
عليها حتى ال تنساها ...ولكن...
26
-ما الذي حدث؟
ً
متوترا ومرتبكا بينما "أنس" يتبعه كظله وهو ّ
ً كان ّ
يتحرك بالبيت .ما الجد
لكنه كان ينصت ّ
لجده بتركيز شديد: يسمعه كان أكبر مما يستوعبه عقلهّ ،
28
ً
منحوتا على أجزاء من -عثر علماء اآلثار على اسم األمير "أواوا" املختفي
تمثال فخاري مهشم ألسير مقيد .يبدو أن عمه "كاشتا" قد طلب صنعه
عندما فشل في العثور عليه ،وهشموه عن قصد .كانوا يعتقدون أنه في
حالة صنع مجسد للعدو ،وكتابة اسمه عليه ،ومن ثم تهشيمه ،فإن ذلك
سيلحق به األذى أو يقتله عن طريق السحر .فقد رغبوا في إيذائه -عن
طريق السحر -طاملا أنهم كانوا عاجزين عن إلحاق األذى به ،هكذا كان
اعتقادهم .كما عثر علماء اآلثار أثناء الحفر على األوراق املزيفة بجوار
التمثال ،وكانت مهترئة تفوح منها رائحة الصدأ ،ولم يتمكن أحد من قراءة
نظرا لحالتها السيئة ،كانت تتمزق وتتفتت بين أصابعهم ،بقيت ما فيها ً
صفحات قليلة منها وتم إهمالها ورأى الباحثون ّأنها ليست ذات قيمة،
تركوها مهملة حتى يقرروا هل سيعرضونها في متحف على حالتها أم ماذا،
بحرص شديد في أغلفة مخصصة ،وعاد إلى ٍ سرقها أحدهم وجمعها
ظانا أنها من املمكن أن تباع ويحصل على ثروة إن الفيوم ،وحملها لبيته ً ّ
ّ
أفلح في تهريبها وبيعها ،وبات ليلته ُيفكر في الرموز ال قليلة التي بقيت على
األجزاء السليمة منها ،في اليوم التالي استيقظ على صوت عجيب ّ
وكأن
أحدهم يعبث في األوراق ،وفوجىء بها وقد تجددت ،والكلمات والرموز وقد
اتضحت ،فعكف يترجمها للغة العربية واحدة تلو األخرى ،رتب أموره
وقام بدفع رشوة إلى العمال الذين يقومون بالحفر في املكان األثري الذي
كانوا يبحثون فيه ،وزعم أنه قد عثر على كتابات جديدة في بقعة آخرى،
تضم ً
بعضا من ضجة كبيرة فقد كانت ّ أحدث اكتشافه هذا -كما زعم ّ -
الحكم والقصص النوبية القديمة ،وتم طباعتها بإشراف هذا الباحث بعد
كل الكلمات،ذلك .ومرت سنون ابتلعت فيها صفحات الكتب ال تي ُطبعت ّ
تشربت األحبار املطبوعة ،رفضت الكتب أن تعكس األكاذيب التي تسبب
ابن األمير أواوا في نشرها حين طمس ِحكم ومبادئ وقصص أبيه ،وحان
وقت استعادة الحقيقة ولك دور في هذا!
-وكيف عرفت ّ
كل هذا؟
-ألنني ذهبت إلى هناك بنفس ي.
-إلى أين؟
29
-مملكة غريبة.
ّ -
أي مملكة!
" -مملكة البالغة".
جدي...أليس كذلك! -أنت تمزح معي يا ّ
ُ ّ
بحنق ث ّم قال وهو يثقبه بنظراته:
زفر الجد ٍ
" -أنس" ،األمر أكبر مما تظنه ،هي بالفعل مملكة غريبة.
هرول "أنس خلف ّ
جده وسأله:
جدي غريب ويوترني ،هل سأسافر اآلن؟ -أريد أن أفهم ،ما تفعله يا ّ
-نعم
-إلى أين...النوبة؟
-ال..ال ...تلك ليست بالد النوبة! كما أخبرتك سترحل إلى "مملكة البالغة".
جده بعصبية لم متوترا وكاد يفقد عقله ،سأل ّ
ً ضحك "أنس" بتهكم ،كان
يفلح في إخفائها:
أي مملكة تلك! ّ -
دائما يشبه ذاك الذي نراه في نهار الشتاء، -أرض غريبة ،املناخ فيها ً
الشمس باهتة ،لن تكون ً
واثقا ّأنها أشرقت ،وفي ذات الوقت ال تستطيع
أن تنفي ّأنها هناك! ستشعر ً
دائما بالبرودة ،الطيور هناك يغطيها ر ٌ
يش
غريب الشكل واللون ،ستجدها أكبر ً
حجما مما هي عليه هنا ،املاء أخضر
كل ش يء ،األشخاص غريبوا األطوار والهيئة اللون ،الضباب يلف ّ
كل مجموعة منهم أتوا من حقبة زمنية مختلفة ،وبيئة واملالبسّ ،
وكأن ّ
وكأن هناك من جمعهم فجأة من أزمنتهم أو استدعاهم ملهمة ما،مختلفةّ ،
كما ستنتقل أنت إلى هناك.
ّثم التفت ّ
جده إليه وطالعه بنظرة جادة وقال:
30
-لقد تم استدعاؤك اليوم.
-ومن قال أنني سأذهب!
-بل ستذهب إن شاء هللا.
الجد َبنبرة واثقة وهو يركز في عيني "أنس" الذي رفع كتفيه باستنكار
قالها ّ
وقال:
-لن أذهب
-بل ستذهب!
بربك ما الدليل على وجود تلك اململكة؟ ال ّبد من دليل مادي قوي
-أخبرني ّ
ً قبل أن أصدق ً
كالما كهذا ،ما عدت ذاك الغالم الذي يحب القصص
جدي..أرجوك ت وقف عن معاملتي بتلك الطريقة أنت وأبي...لقدالخيالية يا ّ
كبرت.
-ألننا نخش ى عليك ،لن تفهمنا اآلن يا "أنس" ،رّبما عندما تعود من رحلتك
ستجد لنا العذر.
الجد إلى غرفة املعيشة ً
باحثا عن الكتاب الذي اختار حفيده والذي عاد ّ
كان عنوانه كلمة لم يسمع بها "أنس" من قبل" ...إيكادولي" وقام بوضعه في
ً الحقيبةُ ،ث ّم التقط هاتفه ّ
الجوال ،والتفت لحفيده قائال:
-هل تثق بي؟
ّ -
طبعا.
-أتظنني أكذب عليك؟
-ربما أنت تمزح معي يا ّ
جدي!
بني كيف ظهرت فجأة شجرة األبانوس تلك في بيتي وتيبست -أخبرني يا ّ
كالصنم بعد عودتي منذ سنوات؟
ً ُث ّم رفع رأسه ً
ناظرا لسقف الغرفة ّ
املزين بالنقوش وأردف قائال:
31
ّ
املطعمة بالنحاس املوجودة على أسقف -وكيف ظهرت النقوش الغريبة
ّ
البيت كله هنا فجأة بعد عودة أبيك من رحلته هناك؟
جدي؟تفسر هذا يا ّ -وبم ّ
ّ -إنها هدايا "الحراس" لنا على ما ّ
قدمناه.
-أي حراس؟
ّ -
حراس املكتبة
أي مكتبة؟ّ -
ُ ّ
الجد الهاتف على أذنه بعد أن قام باالتصال بابنه "كمال" وقال رفع
بصوت حاد:
-ال تتأخر يا "كمال"...لقد اختاره الكتاب ،ال ّبد ّأنهم على وصول!
..... -
ً
حسنا نحن في انتظارك يا ولدي. -
ّ
تسارعت دقات قلب "أنس" ،كان يشعر بها في أعلى عنقه ،وصوتها املتسارع
كان يطغى على مسامعه ،يبدو أن أباه في الطريق بالفعل ،قال بصوت
متحشرج:
-هل ً
حقا زار أبي ً
أيضا تلك اململكة!
-نعم.
-كيف سافر؟..أو انتقل كما تقول؟ وأنت ً
أيضا؟
-صقر كبير.
-ماذا؟
تذكر "أنس" الطائر الذي يراه في الكابوس ،ومخالبه الكبيرة وهي تقبض
ّ
على كتفيه ،فسرت قشعريرة في جسده كله كالنار ،قال وقد زاغت نظراته:
32
-يحملكم من أكتافكم ويلقي بكم هناك ..أليس كذلك؟
-ليس هذا ما يحدث بالضبط فاألمر صعب التفسير ولكن ..بلى سيحملك
الصقر إلى هناك.
-وأين هذا الصقر؟
-يظهر في الغرفة املوجودة بالطابق العلوي.
-غرفة األشباح!
رفع ّ
الجد يده ّ
وهز سبابته بعصبية وقال:
-أما زلت ً
مصرا على تسميتها بهذا االسم؟ ال توجد أشباح.
-بل توجد وها أنت تحكي عنها.
ّ
ستصدقها عندما تراها بنفسك. -هي حقائق...
-وملاذا ال يظهر هذا الصقر في الحديقة أو املكتبة!
الجد بنظرة توحي ّ
بأنه سيخبره بأمر مهم وقال: رمقه ّ
ً
تحديدا وفوق أرض -السبب هو البعد الجغرافي يا ولدي ...فوق تلك البقعة
غرفة األشباح -كما تسميها أنت -عكف عالم اآلثار الذي أخبرتك عنه
والذي كان يعيش هنا على ترجمة الرموز والحروف وإعادة كتابة تلك
القصص باللغة العربية واحدة تلو األخرى ،مشوهة كما زيفوها ً
قديما،
وكأن الروح قد ّدبت فيها،ّ فغضبت الكلمات ،واستيقظت الحروف،
واجتمعت الكتب وقررت أن تختار من يدافع عن القيم واملعاني السامية.
كل مكان لتبحث عن املحاربين ،الذين يؤمنون فأرسلت الصقور في ّ
باملبادئ السامية ،ليدافعوا عنها ويستردوا الحقيقة.
-إذن هناك صلة بين الحكام هناك والكتب؟
-بل بين حروف الكتابة ّ
وحراس املكتبة ...ستعرف عندما تصل إلى هناك.
ّ
-ولكن ما الذي يجبرني على تصديق هذا الكالم؟ وملاذا سأسلم نفس ي
لصقر! كل هذا يدفعني إلى الجنون يا ّ
جدي.
33
-ال ّبد أن ترحل.
-ملاذا؟
-ألن امتناعك عن إجابة نداء الكتب سيعرضك للخطر هنا ،فهناك من
يترصدونك ،كما ّأنك ستلتقي بأعداء هناك ولديهم عيون.
-ماذا تعني بالعيون؟
-الرمز كما يظهر لك يظهر ألحد أعدائك ،سيتربصون بك ويرسلون لك
صي ًادا تلو اآلخر ،ليأسرك أو يقتلك قبل أن تصل إلى الحقيقة هناك .كما ّ
أن هذا سيؤدي إلى محو القيمة السامية ال تي في كتاب "إيكادولي" إلى األبد
..ستقرأ األجيال القادمة ما سيكتب وسيصدقونه.
ُ صمت ّ
الجد هنيهة ث ّم سأله:
-واآلن ،ما هي الكلمة التي ترددت في النداء؟
ّ -
أي نداء!
-ذاك الصوت الذي سمعته يناديك في الحلم.
-وكيف عرفت أنني سمعت ً
نداء في الحلم؟
-أخبرني أبوك ،فقد هاتفني فور خروجه من محطة القطار ،رأى ما رسمته
على الزجاج...الرمز!
فغر "أنس" فاه ولم ينبس ببنت شفة ،اآلن فقط انتبه ،لقد كانت الكلمة
التي تتردد هي "إيكادولي ...إيكادولي" ،كانت الفتاة التي تقولها تطيل الحرف
وكأنها تصيح به ،صوت عذب جميل تشوبه مسحة ألم وأنين كنوح األخير ّ
سيارة أجرة ،لقد وصل للتو ،ترك "كمال" باب ّ
السيارة الحمام .ارتفع زامور ّ
ّ
مفتوحا وركض نحو البيت بعد نقد السائق األجرة ،اقترب "كمال" وطالع ولده ً
ّ بإشفاق ُثم ّ
مد يده وأظهر سلسلة كان يرتديها في عنقه يتدلى منها مفتاح قديم ٍ
نحاس ي اللون وأمسك بيد "أنس" ووضع املفتاح فيها وأطبقها على املفتاح
بقوة ّ
وكأنه يؤكد على أهميته ،سأله "أنس" وما زال القلق بحنان ُث ّم ضغط ّ
ً
قابعا في عينيه:
34
-ما هذا املفتاح؟
علقه مع القالدة ،منذ أن بدأ الكابوس يتكرر عليك ً ّ
يوميا وأنا -ستحتاجه،
أحمله لكي أعطيه لك في الوقت املناسب.
ُ
نظر "أنس" لوجه أبيه القلق وهو يربت على كتفه بحنان ،ث ّم قال:
-ال ّ
أود أن أرحل يا أبي...ملاذا أنا؟
مسح األب بحنان على ّ
خد ابنه وقال بإشفاق:
-أين الفضول؟ وأين ّ
حس املغامرة؟ ألم تخبرني أنك مللت من حياتك
الرتيبة ّ
وأنك تشتاق لتغيير ما في حياتك ،ظننتك ّ
تود أن تلتقي بشبح!
أليس كذلك؟
-وهل تلك أشباح؟
-ال يا ّ
بني ...األمر مختلف!
ّ
خاص يختاره .كتاب جدي معناه الجد األكبر ،وكتابك -إذن ّ
لكل منا كتاب
يا أبي معناه ابن أبيه و عنوان كتابي "إيكادولي" وهي تعني الحفيد إذن؟
-ال!!
-إذن ماذا تعني يا أبي؟
-أحبك
-وأنا أيضا يا أبي أحبك ...فأخبرني اآلن أرجوك ما معنى تلك الكلمة.
الجد إليهما وهما يتعانقان وقال َبنبرة ساخرة:
التفت ّ
-أيها الساذج!" ...إيكادولي" تعني ّ
"أحبك".
قوية ّ
اهتزت لها جدران البيت ،سقطت أوراق هبت ريح ّ في تلك اللحظة ّ
ُّ ّ
وكأن فصل الخريف ّ
حل فجأة ،طارت األوراق ثم بكثافة
ٍ أشجار الحديقة
35
رشقت النوافذ فصدر صوت مخيف مزعج ،أظلمت السماء ،وامتألت بالغربان
ً
موجها كأنها تحاول اختراقها ،صاح ّ
الجد السود ،تدافعت الطيور نحو النوافذ ّ
كالمه لحفيده والذي كان ً
فاغرا فاه وقد اتسعت عيناه:
" -أنس" أسرع إلى الغرفة ،فهي آمن مكان لك اآلن.
صاح "كمال" وهو يدفع ابنه أمامه على الدرج:
ّ ّ
-لن ترحل تلك الطيور إال بعد أن يحلق فوق البيت.
قال "أنس" وهو يصعد الدرج بخطوات متردده:
-من؟
-الرمادي"
-وما هو "الرمادي"؟
-الصقر الذي سيحملك إلى هناك.
-أهذا هو اسمه؟
-نعم...
-أنا خائف يا أبي.
قبل رأسه وقال بحنان: وضمه إلى صدره بقوةُ ،ث ّم ّ
عانق "كمال" ابنهّ ،
ّ وثابتا مهما كان ّ ً
صادقا ً
"الرمادي" فلن الثمن ،وال تخف من " -أنس" كن
يؤذيك.
شيئا لوالده وهو يساعده في رفع الحقيبة على ظهره ،لوال كاد "أنس" يقول ً
صوت تحطم الزجاج الذي دوى في بهو البيت ،لقد استطاعت الغربان أن
ّ
تحطم النوافذ ،كانت تتجه مباشرة نحو الطابق العلوي ،نحـ ـ ـ ـ ـو "أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس" ،إنها
36
تريده ...تستهدفه ...تطير تجاهه.
أدرك "كمال" ّأنها تقترب فدفع "أنس" إلى داخل الغرفة فأسقطه على
األرض وصاح بصوت يمزقه القلق:
-أستودعك هللا يا ولدي ...في حفظ هللا..
عم سكون مهيب على املكان... وأغلق الباب بسرعةُ ،ث ّم بعد لحظات ّ
ّ
الرمادي كل األصوات عدا صوت خفق جناحيه في الهواء ،لقد بدأ اختفت ّ
ّ
يحلق فوق البيت فأضاءت السماء فجأة!
❐❐❐
37
()3
مستلقيا على أرض الغرفة عندما انفتحت النافذة فجأة، ً كان "أنس"
أضاءت السماء بنور قوي ناصع ،حملق في تلك البقعة السوداء التي تظهر
اتساعا ،وتزيد ،وتزيد ،ظهر ً وسط الضوء أمامه ،كانت البقعة تكبر وتزداد
ّ ٌ
طائر يبسط جناحيه على الجانبين ويخفق بهما ،رأى ظله يتعملق أمامه حتى
ظل يحلق في سقف الغرفة املرتفع في دائرة فوق ّ ُ
اندفع فجأة من النافذة ث ّم ّ
ّ
رأس "أنس" الذي زحف بصعوبة تجاه باب الغرفة يحاول فتحه لكنه فشل.
كان الصقر ذا ظهر أزرق ضارب إلى الرمادي األردوازي ،والجسد أسود يخرج
ضيق مستدير عند نهايته ،ذو طرف أسود منه جناحان مبرقشان ،وذيل طويل ّ
وعالمة بيضاء على أقصاه .ويظهر أعلى رأسه على الجانبين لون أزرق بديع،
ّ ّ
جانبي العنق ويمتد على الوجنتين كخط كما الشارب يتباين بشكل حاد مع
متينا مهيب الطلعة. الباهتين .بدا الصقر ً
ضم جناحيه هبط الصقر فجأة وانزوى في ركن الغرف وطأطأ رأسه ُث ّم ّ
ّ ُ وألصقهما بجسدهّ ،
حدق في "أنس" بعينيه املخيفتين ،ث ّم غطس رأسه في
كل حواسه ،كان مرت لحظات طويلة على "أنس" استيقظت فيها ّ جسدهّ .
أي صوت يؤنسه ،بالتحديد كان يتمنى أن بشدة لعله يسمع ّ يرهف السمع ّ
ّ
مرة أخرى لكنه فشل، جده من خلف الباب ،حاول أن يفتحه ّ يناديه أبوه أو ّ
ً ّ كان ً
األصم وكأنه جزء من الجدار .سار ببطء محاوال االقتراب صلبا كالصخر
ّ ّ
النافذة ،غمغم الصقر وكأنه يحاول أن يمنعه من االقتراب منها فتسمرت من ّ
ًّ ُّ
بطرف خفي وهمس محدثا ٍ ساقا أنس والتصقتا باألرض ،ثم رمى الصقر
نفسه:
حجما أيها " ا..ل..ر..م..ا..د..ي" كصقور األساطير العمالقة. -ظننتك أكب ر ً
38
فتحرك الصقر موازًيا
ّ حرك قدمه ببطء شديد ليخطو خطوة أخرى ّ
ّ
لخطواته فتوقف "أنس" مرة أخرى وقال بسخرية:
ً
تترصدني إذا ّأيها الصغير!
ّ -
ً
صغيرا يا صديقي ....أنا شيخ كبير! -لست
شعر "أنس"وكأن ألف إبرة رشقت جسده ،تكورت جذوع الشعر على جلده
ّ
فاستحال جلد إوزة ،الصقر يتكلم! ابتلع ريقه بصعوبة وكأن كتلة من
ّ
األشواك تحتل حلقه ،بسمل وحوقل وبدأ يقرأ آية الكرس ي لعله يختفي من
ّ
الكابوس..لكنه لم يكن ً ّ
حلما أمامه ،أغمض عينيه لعله يستيقظ من ذاك
ّ مرة أخرى ،باغته الصقر ّ ً
أبدا! لم يتمكن من تحريك جسده ّ
وهب فجأة محلقا ُ ُّ
بضربة جناح واحدة ووقف على كتفه األيسر ،ثم همس في أذنه:
-ال تخف ّ
مني يا "أنس".
كانت قطرات العرق تنسال على ظهر "أنس" متتابعة ،وكاد يفقد الوعي،
ًّ ّ ّ
محدقا بطرف عينيه بتربص نحو موضع يخشب رقبته لكنه تماسك .كان
ظن ّأنه سينقره في رقبته أو الصقر وراءهّ ،
وكأنه يخش ى انقضاضه عليه فجأةّ ،
ً
وساكنا .مرت دقيقة وهما على ذاك الحال لكن الصقر كان ً
هادئا ً
جدا ُأذنه ّ
مرة أخرى وقال بلطف: وكأنهما تمثاالن من الشمعً .
أخيرا نطق الصقر ّ
-هل هدأت اآلن؟ ال ُأ ّ
حب أن نبدأ رحلتنا وأنت ترتجف هكذا.
حرك "أنس" عينيه تجاه كتفه وأدار رأسه ببطء وكذلك فعل الصقر ّ
كل منهما في اآلخر للحظات ،ازدرد "أنس" ريقه ّ
تماما وحدق ّ
فتقاربت عيناهما ً
بصعوبة وقال بصوت مرتعش:
-ال ُأ ّ
صدق ّأنك ستحملني؟
زفر الصقر فالمست أنفاسه بشرة "أنس" فانتصبت شعيرات ذقنه
ّ ُ
الخفيفة ،ث ّم قال له وهو يتسلق رأسه:
-ال تسير األمور بتلك الطريقة يا صديقي ،سأحملك حتما ولكن بطريقتي
الخاصة.
39
استوى الصقر على رأس "أنس" الذي رفع مقلتيه ألعلى بينما بسط الصقر
ُ
وبهدوء شديد ،حيثٍ جناحيه في الهواء ،ث ّم احتضن وجه أنس بهما ببطء
ّ
غطى وجهه كله بريش جناحيه ريشة فوق ر ٍ
يشة بانتظام ،جبهته وعينيه وأذنيه
وخديه ،لم يترك إال أنفه وفمه ليتمكن من التنفس والكالم .شعر "أنس"
خف جسده ّ
وكأنه فشيئا ّ
ً يخدر ،وسرى في نفسه شعور غريبً ،
شيئا بجسده ّ
يظن أن ريش جناح الصقر ما الصقر! حاول فتح عينيه..كان ّ
ريشة في جناح ّ
كل ش يء حوله، لكنه فوجئ بنفسه يطير وقد غمر الضباب ّ زال يغطيهماّ ،
لفحته الرياح الباردة ،وشعر برذاذ خفيف يبلل جبينه وكفيه ،رائحة املطر
الخفيف داعبت أنفه ،عطس فجأة فإذا بصوت الصقر يصدر من أعاله:
-يرحمك هللا يا صديقي.
رفع رأسه ففوجئ بالصقر وقد ازداد حجمه أضعاف حجمه الحقيقي الذي
ّ
رآه منذ قليل في الغرفة ،كانت مخالبه تقبض على كتفي "أنس" حيث يحلق به
ً
فوق "مملكة البالغة" ،ر ّد بعد أن اضطرب قليال وتأرجح بجسده من املفاجأة
ً
قائال:
-ياهلل! ...يا له من شعور غريب!
-ال تخف من السقوط
-ال أصدق!
-بل ّ
صدق واستعد ملا هو أكثر مفاجأة لك
-هل وصلنا؟
-اقتربنا ،حاول أن تستمتع بالطيران.
بدأ الشعور بالخوف يغادر ص ـ ـ ـدر "أنس" وحـ ـ ـ ـ ّل مكانـ ـ ـه تدر ً
يجيا الشعـ ـ ـ ـ ـور
حس املغامرة يدغدغ نفسه ،كانت حياته راكدة لفترة طويلة، بالفضول وبدأ ّ
مستأنسا بحواره معه:ً وها هي األمور تتغير فجأة! سأل "الرمادي"
-هل تعرف ّ
جدي؟
40
-بالتأكيد.
-أخبرني أبي ّأنك صديق.
-أتمنى أن أحوز لديك نفس املكانة التي حزتها عند أبيك.
-كيف ّ
تتحدث كالبشر؟
-ال تسأل.
-ال ّبد أن أسأل!
يمر ،حاول أن تتقبل بعض -إذن ستقض ي وقتك ّكله في األسئلة ،والوقت ّ
األشياء كما هي ،ال تسأل ّإال ّ
عما يفيدكّ ،أما ما ال يعنيك وال يفيدك فال
تضيع وقتك بالركض خلفه.
ً
متلعثما: قال "أنس"
ّ -إنه ...فضول أنيس.
ً
استعدادا للهبوط: قال الصقر وهو يخفف من سرعة طيرانه
-بعض الفضول قد يفيد ،وبعضه قد يؤذيك ،فاحذر يا صديقي.
ّ
سرت طمأنينة في نفس "أنس"عندما تذكر والده وهو ينصحه بنفس
النصيحة ،بنفس الكلمات عندما كان يجلس بجواره في محطة القطار
ّ
"الرمادي" يقترب ً
سريعا عندما بدأ باإلسكندرية ،لكن تلك الطمأنينة تالشت
ّ ّ
مصب النهر األخضر .تسارعت دقات قلبه أكثر فأكثر ،كاد يقفز من بين به من
ن
ضلوعه ،كان البرد يزداد كلما اقتربا من سطح املاء ،بينما كان لو املاء
الزمردي يزداد بهاء وو ً
ضوحا. األخضر ّ
هبت رياح خفيفة فمسحت وجه املاء مخلفة وراءها تموجات متوازية ّ
بديعة ،من بعيد وعلى شاطئ النهر كانت أوراق األشجار املتساقطة تدور مع
خفية تتالعب بها ،كادت ساقا "أنس" تلمس املاء،وكأن هناك أياد ّ الرياحّ ،
ّ
"الرمادي" وبعد أن حلق به برشاقة فوق سطح املاء تركه على ّ
ّ ّ
ضفة النهر لكن
ّ
وارتفع محلقا لدورة كاملة قبل أن يعود ليقف أمامه من جديد ويحني رأسه
41
ضم جناحيه وألصقهما بجسده فبدا ّ
وكأنه أمير وكأنه يحييه ،من جديد ّ ّ
َ ّ ّ
يتطوح ،للحظات قليلة كان قد فقد يتلحف برداء أنيق .كان "أنس" ما زال
اتزانهّ ،
لكنه تمالك نفسه وقال بعفوية:
سريع ً
جدا. -أنت ٌ
ران عليهما صمت خفيف قبل أن ّ
يحرك الصقر جناحيه ويقول:
-واآلن اسمح لي أن أنصرف ،انتهت مهمتي.
-ولكن! ماذا سأفعل أنا!
-سيستقبلك "املغاتير" ويصحبونك للقاء "الحوراء".
-ومن هم "املغاتير"؟
-قوم صالحون يخفون وجوههم فال تهبهم.
-ولم يخفون وجوههم!
-ال ينتظرون الشكر ،وال يبتغون األجر ،استغنوا عن الناس فأغناهم هللا
ً
ودائما هم في الطليعة .انتظرهم عن الناس وصار الجميع يحتاجون إليهم،
هنا على أطراف الغابة خارج حدودها وال تتحرك من مكانك فهم لن
يدخلوها ً
أبدا.
ً
رفع "أنس" حاجبيه وكاد يسأله ملاذا لوال ّأن "الرمادي" باغته قائال:
ّ
سأمر عليك في وقت الحق. -
ً ّ ُ
ً
ومتجه ـ ـ ـ ـا مبتعدا عـ ـ ـ ـ ـن "أنس" ث ّم بسط جناحيه وارتقى يحلق في الفض ـ ـاء
قمته هالة حمراء قاتمة ،برزت من وسطها تلك صوب جبل مهيب أحاطت ّ
القمة بشموخ وقد كساها الجليد األبيض ،شعر "أنس" بقشعريرة تجتاح ّ
جدا .صاح وهو يركض موازياً الجو بار ًدا ً
ّ جسده عندما رأى الجليد ،كان
لطيران الصقر على األرض:
ُ
-أرجوك ال تتركني اآلن ،أريد أن أسألك عن أشياء كثيرة.
42
أجابه "الرمادي" وهو يبتعد:
-ستجيبك عنها جاللة امللكة.
توقف "أنس" عن الركض حيث انتهى ُالطريق ووقف على حافة ٍ
واد كبير،
بيأس وهو يراقب
ٍ أوشك أن يسقط فيه لوال ّأنه انتبه ث ّم أرخى ذراعيه
"الرمادي" وقال:
ً
وداعا. -
َ
عاد "الرمادي" للتحليق فوقه وقال بنبرة حميمية:
-ال تقل ً
وداعا يا صديقي ،بل قل إلى اللقاء.
ً
حسنا..إلى اللقاء. -
يتلفت حوله ّ
يتأمل األشجار التي مخلفا وراءه "أنس" وهو ّ
ً اختفى "الرمادي"
ّ ل
وكأنها تطالعه بفضو ،سار بضع خطوات نحو ممر ضيق بينها ،أجفل بدت ّ
عندما تناهى إلى سمعه حفيف األشجار وشقشقة العصافير،
مرة أخرى، تحسس القالدة التي ألبسها له ّ
جده وطالع النقوش التي عليها ّ
فأحس باإلرهاق ،تفحص ساعة يده فإذا بعقاربها ال تتحرك! لقدّ طال سيره
ً
توقفت عند الواحدة ظهرا ،نفس التوقيت الذي غادر فيه بيت جده!
ّ ّ
تذكر شعوره وهو يحلق في الهواء ،مزيج من الخوف والحماس بدأ يعتمل
فزعا كما كان لحظة في صدره ،استعاد رباطة جأشه على نحو سريع! ما عاد ً
ً ٍ مرة ،بل ّ ظهور الصقر ّ
خف ذاك الشعور ،وما عاد خائفا كما كان ألول ّ
والكتب تدور حوله في غرفة املكتبة ،لكنه بالطبع قلق .استغرقته املشاهد
مر به خالل الساعات املاضية في شرود بينما ينتظر ظهور وهو ّ
يجتر ما ّ
( )1
"املغاتير" .
❐❐❐
- 1املغاتير لقب يطلق على نوع من اإلبل البيضاء النفيسة جميلة املظهر وغ زيرة الوبر ،يقول عنها أهل البادية :املغاتير نور
القلب.
43
ّ يمر ً ملح "أنس" ً
طيفا ّ
قريبا منه قد افترش ظله على األرض وقبل أن يلتفت
نحوه فوجئ بخبطة على كتفه فالتفت ّ
متأه ًبا وأمسك بذراع هذا الذي باغته
ً
واضعا ركبته فوق صدره فجأة من الخلف وسحبه ثم انقلب به على األرض
ّ
وقابضا بأصابعه العشرة على رقبته ،ابتسم الشاب بسخرية وقد فتح كفيه ً
مظهرا استسالمه الكامل لـ"أنس" وقال بصعوبة من أثر قوة قبضة "أنس" على ً
أنفاسه:
ُ ً
-مهال يا رجل ،وددت فقط أن أر ّحب بك.
خفف "أنس" من قبضته وتركه وتراجع إلى الخلف ،تحسس الشاب رقبته
وقال بنظرة ماكرة:
-يبدو ّأنك تمارس الرياضة ،أليس كذلك؟
-من أنت؟ وماذا تريد؟
تعلمت تلك املهارات؟ ّ ّ
هيا أخبرني؟ -أين
حدجه "أنس" بنظراته ،بدا وجه الشاب يحمل مسحة من الوسامة ّ
ّ
البني ،وبشرته الباهتة وفكه العريض ،وتلك النظرة الساخرة التي ُت ّ بشعره ّ
طل
من عينيه الضيقتين ،لكن تلك املالمح جعلت "أنس" يرتاب منه .كان ّ
يظن أنه
سيلتقي بأناس سمر البشرة وبمالمح نوبية ،كتلك التي قرأ عنها ورآها من قبل.
ً ً
سأله متجاهال سؤاله األخير قائال:
-ما اسمك؟
-أنا "شهاب" وأنت؟
" -أنس".
ً ويتأمله ّ
ّ
بتمعن ناقال عينيه من أخمص بدأ "شهاب" يدور حول "أنس"
ُ
قمة رأسه ،ث ّم قال باستخفاف:
قدميه وحتى ّ
-تبدو ً
غريبا عن املكان ،ألك صديق هنا؟
أجابه "أنس" ّ
بتحفز:
44
ّ -
الرمادي.
-ذاك الكهل األحمق.
ّ
شعر "أنس" باإلهانة وكأن ّ
السبة وجهت له ،فأخفى غضبه وسأله:
-وهل تعرفه؟
-أنا أعرف الجميع هنا...حتى ذاك الكهل البغيض.
ّ
بدأ كالهما يدور حول اآلخر ،سأله "أنس" بترقب:
-هل...أنت مثلي!
للحظات قبل أن يقترب
ٍ خرجت من "شهاب" قهقهات عالية ،استغرقته
ص فيه بسحنة ّ
متوعدة: حد مالمسته وقد َش َخ َمنه ّ
ُ
لست مثلك! -
ُّ
ثم تغيرت مالمحه الضاحكة فجأة وصارت صارمة ،وقال وهو يتراجع إلى
الخلف:
-أنا لست مثل أحد...أنا مختلف! أنا ّ
مميز.
التفت "أنس" تجـ ـاه الطريق املمتـ ـ ـد أمام ـ ـ ـ ـه بين األشج ـ ـ ـار ورم ـ ـ ـ ـاه بنظ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة
ُ
خاطفة ث ّم قال بهدوء محاكيا طريقة "شهاب" في الكالم: ٍ
-كيف تعالج األمور هنا؟
أي أمور؟ ّ -
ُ
كل اتجاه ث ّم قال: طاف "أنس" بنظراته في ّ
كل ش يء...أود أن أعرف ما دوري. ّ -
-ليس لديك دور هنا ،أنت مجرد شاهد.
-على ماذا؟
45
-على ما ستراه هنا من أحداث.
-ال ّ
أظن.
ّ
-ومن أنت حتى تظن أو حتى تفكر!
ً َ
تجاهل "أنس" نبرة االستخفاف التي شابت الكلمات ،وتخطاها قائال:
ّ -
لكل منا دور في حياته وحياة اآلخرين ،كل كلمة ننطق بها وكل فعل نفعله.
-لكن األمور هنا ستسير رغم أنفك على طريقة لن تحددها أنت.
ّ
-صحيح ،وهكذا الحياة كلها ،لكن ال تخبرني أننا هنا لنراقب في صمت
كالجمادات.
ّ
ران عليهما الصمت للحظة ،بدا فيها "شهاب" وكأنه ّ
يجتر بعض الذكريات
قبل أن يقول َبنبرة تشوبها املرارة:
-أتدري ،ربما أنت على صواب ..كلمة (مسئول) قد تقلب حياة شاب ،كلمة
(خبيثة) قد تفرق بين اثنين ،وإشاحة بنظرة قد تعني (أكرهك).
رمقه "أنس" وقرأ على وجهه اآللم فتحرك تجاهه وقال:
-والتفاتة قد تعني الحبّ ،
مجرد الحضور في موقف ما قد يعني الكثير
آلخرين دون أن ندرك هذا ،لكنهم يدركون ،حتى الصمت أحيانا إن كان في
موضعه الصحيح فله دور.
-حتى إساءتنا لآلخرين؟
ً
-نعم ..حتى إساءتنا لآلخرين وإساءتهم لنا ،أنت مثال قد تعزم على إزاحة
جبل لكي تثبت ملن آذاك وأساء إليك أنه على خطأ ،نحن نتعلم في مدرسة
الحياة وما زال أمامنا الكثير من الدروس.
ً
إعجابا: ابتسم "شهاب" وقال وهو ّ
يهز رأسه
-تبدو حكيما يا فتى ،بدأت أحبك.
فحص وجه "أنس" قبل أن يقول وهو ّ
يحك أنفه: ُث ّم عاد يت ّ
46
-كم عمرك؟
-ثالثة وعشرون ً
عاما ،وأنت؟
-خمسة وثالثون ً
عاما.
ثم سكت هنيهة وقال لـ"أنس":
ّ
هل..تحب أن تأتي معي؟ -
-إلى أين؟
-حيث أقيم.
ً
-لكنني ال ّبد أن ألتقي امللكة ّأوال.
-الحوراء؟
-نعم هي "الحوراء"
ما كادا ينهيان الكالم حتى تناهى إلى سمعهما صوت حوافر الخيـ ـ ـ ـول وهي
ُ
تضرب األرض ،أفزع صهيلها "شهاب" الذي تلفت في اضطراب ث ّم شهق وقد
سريعا وشق الطريق بين األشجار ّ
وكأن ً كست وجهه عالمات الرهبة وركض
املوت يطارده! تبعه "أنس" وهو يتساءل عن سبب فزعه ،أصابته عدوى الفزع
ملجرد رؤية نظرات "شهاب" الشاخصة ثم شهقته التي جعلت "أنس" يرتبك
بشدة ،كان "أنس" يركض وعينه على رأس شهاب. ّ
ُ
في تلك اللحظة ،ارتفع صهيل الخيول ث ّم علت أصوات حوافرها وأصدرت
شرارة وهي تقدح األرض التي انتقلت إليها للتو بعد أن غادرت البستان املجاور
للغابة ،كانت تلك األرض تبدو ك شريط عريض يفصل بين البستان والغابة
التي ركض فيها "أنس" خلف "شهاب" ،لم تتحرك الخيول خطوة واحدة،
واحدا على ذاك الشريط الحجري الفاصل بين الجهتين ،وهي ً وقفت ً
صفا
تنظر تجاه "أنس" ،صاح "الزاجل األزرق" بصوته الجهوري:
-يا إلهي ..تأخرنا!
47
ّثم قال بتوجس:
-بدأت رحلته دون أن يسمع ّ
منا!!
❐❐❐
قالت"الحوراء":
-وأنا وهللا أستلذ العفو حتى أخاف أال أؤجر عليه.
49
فرغ الرجال من باقي مراسيمهم ،وانتهى وقت الديوان وعادت "الحوراء"
ّ
يستعدون لالحتفال لقصرها واتجهت إلى صالة واسعة حيث كان الجميع
ّ ( )1
هامة . بمناسبة
❐❐❐
بعنفوان قبل أن يقفزٍ شد "الزاجل األزرق" سرج فرسه الذي صهل
فيعا يفصل املكان الذي كانوا نهرا ر ً
عابرا ً
صاحبه به في الهواء قفزة رشيقة ً
قصرا مهيب الطلعة ،كان القصر بارزاً واد فسيح بين جبلين يحتضن ً فيه عن ٍ
ّ ً
كل جزء منه كان رائعا في حد ذاته ،تحفة وكأنه ُنحت داخل بلورة عمالقةّ ،
وكأنها محار مفتوح تطل منه لؤلؤات فنية ال تشبه ما يجاورها ،شرفاته كانت ّ
ّ
بديعة ،بواباته عليها نقوش والتواءات تشبه فروع األشجار ،وكأن األزهار
أخيرا وكانت قوائم خيولهم املنحوته ّ
تضج بالحياة من روعتها .وقف "املغاتير" ً
مصطفة على التوازي بشكل أنيق أمام البوابات ،رفع "الزاجل األزرق" يده ّ
ولوح لحراس القصر ففتحت البوابات ،فدلف ومعه رفاقه للقاء امللكة.ّ
مرة مهيبة تجاه جناح امللكة ،توقفوا
بخطوات منتظمة سار "املغاتير" في ز ًٍ
ّ
جميعا فجأة عندما بدأت األرض ترتفع قليال في مستواها عما خلفهم ،تقدم ً
ّ
"الزاجل األزرق" حيث استقبله خدام القصر بوجوه باسمة ،وكأنهم كانوا
يترقبون وصوله!
يخيم على املكان ،أشعة الشمس الحانية كانت تتسلل من كان الصمت ّ
النوافذ لتلقي على األرض أمامه انعكاسات ذهبية خالبة ،كانت تتراقص أمام
ترحب به ،بدت النقوش والزخارف بديعة على الحوائط وهي خطواته ّ
وكأنها ّ
تصت أوعية من الفخار على الرفوف تطالع أهل القصر تحتضن وتتكاتف ،وار ّ
من أعلى بشموخ .دلف حيث كانت امللكة تجلس بوقار وعلى الجانبين عدد
صفين منتظمين وأمام ّ
كل منهم طاولة كبير من الرجال يجلسون على األرض في ّ
والكل مشغو ٌل بالتدوين ،كان للملكة وجه به بقايا جمال ّ صغيرة عليها كتاب
ّ
متعب ،بدت عجو ًزا تخطت السبعين لكنها كانت جميلة الروح ،تلك التجاعيد
ّ
- 1بعض العبارات في حوار ديوان امللكة مقتبسة من حوار الخليفة املأمون في ديوانه.
50
التي حول عينيها من الطرفين بدت ّ
وكأنها تحتضن نظراتها بحنان ،كان بؤبؤاها
شديدي السواد يسبحان في بياض عينيها الشاهق بحياء ،سقط حاجباها ّ
لكن
هشت فور أن رأت "الزاجل األزرق" ،أشارت له بعزةّ ،
شامخا ًّ جبينها كان
ليجلس مكانه ففعل بهدوء ،كانت تقف أمامها فتاة احتشمت برداء أرجواني
بشكل بديع ،أكمام ردائها اللون فضفاض واسع ،له قلنسوة ّ
مذهبة األطراف
ٍ
الواسعة كانت تصطف على حروفها فصوص من الياقوت األحمر دقيقة ً
جدا
ّ
كتاب بين يديها وبصوت تشوبه بقايا بكاء:
كانت الفتاة تقرأ بتأث ٍر من ٍ
كل ّ
الرجال أغلقت الفتاة الكتاب بين يديها ،وفي نفس اللحظة أغلق ّ
الكتب أمامهم في آن واحد وكأنهم قد اتفقوا على التوقيتّ ،
وتقدمت الفتاة
تسلمه لها ،وضج املكان بأصواتهم ّ ّ
وكأنهم بخطوات ثابتة نحو "الحوراء"
يحتفلون بحدث عظيم .كانوا يحتفلون بـ "هيال" وهو اسم ألميرة نبيلة وهو
ً
أيضا عنوان قصة يحكي عنها هذا الكتاب.
في تلك اللحظة استدارت الفتاة التي كانت تقف أمام "الحوراء" وتقرأ،
مكتوبا عليه بخط واضح "هيال" ،فهلل الجميع، ً ورفعت الكتاب الذي كان
كانت الفتاة مشرقة ولها وجه طفولي بريء ،لون عينيها كان يتأرجح بين اللون
الرمادي واألزرق الشاحب ،كانت تطالعهم وعلى وجهها ابتسامة فخر ،فور أن
رأت "الزاجل األزرق" الذي ال تعرف من مالمحه سوى عينيه الواسعتين فهو
دائما كعادة املغاتير ،شخصت بعينيها تجاهه وانتفضت فجأة ّ
وتغيرت يتلثم ً
51
مالمحها ،فهي تريد الرحيل فو ًرا والعودة إلى بيتها وعاملها فقد أدت مهمتها على
أكمل وجه ،وتخش ى أن يتحقق ما أخبرها به الحكيم "سامي كول"!!
❐❐❐
ّ
تقدم "الزاجل األزرق" ووجه ّ
تحيته للملكة وقال بعد أن الحظت عالمات
التوتر التي ّ
تطل من عينيه:
-موالتي ،لقد وصل املحارب ،وصل "أنس".
-وأين هو؟
-لألسف ركض في الغابة ولم نتمكن من الحديث معه.
-يا للمصيبة! كيف حدث هذا! أين الرمادي؟ وأين كنتم أنتم؟
-تأخرنا للحظات فقط ...مجرد لحظات.
كل كلمة َبنبرة صوتها املميزة:
رفعت صوتها وقالت وهي توقع ّ
-أن تصل ً
مبكرا وتنتظر خير لك من أن تصل بعد فوات األوان.
-أعلم موالتي ،وأعتذر ..لن تتكرر.
-واآلن كيف سنتواصل معه؟
من بعيد ،ومن خلف الستار ،كانت َ"مرام" تراقب الحوار وقد كتمت
أنفاسها عندما سمعت اسم "أنس" ،ذاك الشاب الذي يتحدثون عنه تعرفه،
فقد أخبرها "سامي كول" ،ذاك العجوز ذو اللحية ّأنها ستلتقي بهذا الشاب،
وربما تضطر للبقاء ،وهي تود الرجوع إلى أهلها في الحال.
ركضت خارجة من القصر في فزع والتف حولها العديد من الفتيات والجواري،
اتجهت إلى الوادي القريب من القصر تنتظر أنثى الصقر التي ستحملها لتعود
إلى بيتها ،كانت ترتجف ،غابت فرحتها فجأة ،أرادت أن تتخذ القرار ،تريد
العودة ّ
لكن ضميرها يؤنبها هل تخبر "الحوراء" بما قاله لها "سامي كول" أم ال؟
كانت خائفة.
52
اقتربت "الحوراء" في موكبها وحولها ّ
الحراس ،من خلفها كان يسير "الزاجل
ّ
األزرق" وهو يقلب ما حدث في رأسه ،ماذا لو وصل "أنس" إلى الجنوب؟
في تلك اللحظة قالت "الحوراء" موجهة كالمها لـ َ"مرام" التي بدت على
مالمحها عالمات االرتباك:
شكرا لك يا َ"مرام" ،حان وقت الرحيل.
ً -
ودعوها ووقف الجميع رافعين رءوسهم ينتظرون "قطرة الدمع" لتحملها َّ
ً وتعيدها إلى موطنهاّ ،
مناد قائال:
لكن "قطرة الدمع" ابتعدت فجأة عندما صاح ٍ
-موالي الحكيم "سامي كول"
التفت الجميع نحو باب القصر ،واقتربوا حيث كان يقف الكهل فكلهم
يعظمونه ويقدرونه ألنه ذو شأن عظيم في اململكة ،كان يشير وهو مغمض
تحلق في السماء والتي يطلقونّ
العينين! رفع ذراعه تجاه أنثى الصقر التي كانت
عليها "قطرة الدمع" لتبتعد ...كان الجميع يتساءلون:
ّ
(ملاذا جاء ذاك الحكيم الذي ال يغادر بيته إال للضرورة في هذا الوقت من
النهار؟)
رفعت َ"مرام" رأسها تجاه "قطرة الدمع" التي كانت تحلق فوق رءوسهم في
ُ
السماء ،تابعتها بنظراتها وهي تبتعد بدون أن تحملها معها كما كانت ترجو ،ث ّم
ترجرجت الدموع في مقلتيها ،بدت حائرة ويائسة وقالت بخفوت وهي تسير
بجوار امللكة:
-ملاذا يبعد الحكيم "سامي كول" "قطرة الدمع"! ألن تحملني لدياري؟ ألن
أرحل اآلن؟
ً
جديدا ،انظري لوجه أبي! -يبدو ّأن هناك ً
خبرا
تمتمت َ"مرام" قائلة وهي ترنو إليه:
-بالفعل...هناك ش يء ما!
-ما هو يا عزيزتي؟
53
زفرت بوهن وقالت:
-ذاك الشاب الذي كنتم تتحدثون عنه منذ قليل..
-ما به؟
بشكل واضح ،وأخبرني
ٍ -رأيت اسمه في منتصف كتاب "هيال" ،ظهر لي
مرة أخرى على صفحات كتابي، العظيم "سامي كول" أن أبلغه إن ظهر ّ
وأنه من األفضل أن أبقى لو وصل قبل رحيلي.
-وهل ظهر اسمه ّ
مرة أخرى؟
وكأن الكتاب يريد أن يخبرني عنه ً
شيئا ما. مرةّ ، -نعم ..أكثر من ّ
ٌ
بإخبار أبي؟
ِ مت
-وهل ق ِ
-بصراحة ...ال!
التفتت "الحوراء" ورمقت "الزاجل األزرق" بنظرة ذات معنى ،همهم
"الزاجل األزرق" وغضن حاجبيه قبل أن يقول وهو يقترب منها:
-هل كان هناك رمز؟
قالت َ"مرام" متلعثمة:
-ال أذكر..فكما تعلمون كنت مشوشة في الفترة األخيرة حتى أن إكمال
صعبا ً
جدا. مهمتي كان ً
جل قو ّي البنية بارز العضالت ،يرتديدلف الجميع إلى القصر يتقدمهم ر ٌ
ّ َّ ً ً ً ً
وقميصا أبيض ودراعة من الكتان ،وعلى رأسه قلنسوة فضفاضا سرواال
كل من بالقصر: بيضاءّ ،ثم صاح بصوت جهوري ليعلم ّ
-موالي الحكيم "سامي كول".
ارتبك كل من بالقصر ،وأسرعت الحوراء نحو الديوان ّ
تعدل من مكان
ُ
جلوس أبيها ،ث ّم أمسكت بزجاجة مرصعة باألحجار الكريمة ونثرت بعض
قطرات العطر منها على الكرس ي بجوارها ّ
وكأنها تهيؤه الستقباله.
54
جلس "سامي كول" تجلله الهيبة وابتسامته العذبة تضوي على ثغره،
جدا كشجرة بلوط قديمة، كانت لديه لحية بيضاء طويلة ناعمة ،بدا عجو ًزا ً
ً ً ً ً ّ
أيضا! صلبا متماسكا ،وأنيقا ولكنه بدا قامته ووهن عظمه َ انحنت
ّ ً َ
كان يرتدي قباء بنفسجية اللون مفتوحة عند الرقبة ،أكمامها محالة بخيوط
ً ّ ّ
طيلسانا ذهبية ،تغطي رأسه قلنسوة زاهية اللون ومطرزة ،وعلى كتفيه وضع
أخضرَ.
ً ّ
حياهم بحبور وشرد بفكره قليال ،كانت له عينان شفافتان كالبلور! بدت
اللب حاذقة
على وجهه عالمات القلق فأسرعت ابنته بسؤاله وكانت ذكية ِ
الفهم تقرأ حال أبيها على وجهه فقالت:
-هل أنت بخير يا أبي؟
قال بألم وهو يمسح وجهه بكفيه :
-مات صديقي الحبيب.
-رحمه هللا يا أبي ،ال تحزن.
قالت "الحوراء" الجملة األخيرة وهي تمسح على كتفه مخففة عنه ما ألم
به من حزن على فراق صديقه العزيز والحبيب.
ُّ شاخصا بعينيه ً
ً
حزينا وجلست "الحوراء" تواسيه ثم دمعت عيناه وجلس
قالت بعد أن هدأت نفسه:
لكنها رأت اسم "أنس" يتكرر في كتابها ،وتقول ّأنك
-أنهت َ"مرام" مهمتهاّ ،
أخبرتها أن من الضروري أن تخبرك إن تكرر ظهوره.
-وهل تكرر؟
-نعم
-وهل وصل "أنس"؟
-نعم وصل.
-وأين هو؟
55
-لألسف ،بدأت رحلته قبل أن يلتقي بنا وتوغل في الغابة وحده.
التفت العجوز فجأة تجاه َ"مرام"ُ ،ث ّم قال لها وهو ّ
يحرك سبابته في الهواء
ّ
محذ ًرا:
-ال ترحلي ،وأسرعي خلفه فأنت تستطيعين دخول الغابة أما نحن فال...
هيا.
اقترب"الزاجل األزرق" من الشيخ وسأله بإجالل:
ّ
-هال أخبرتنا ّأيها الحكيم عن سبب ظهور اسم "أنس" في كتاب "هيال"
الخاص ب َـ"مرام"؟
-كان ال ّبد من هذا ،ور ّبما ستظهر صورتها في كتابه!
-ملاذا؟
ّ ّ ّ ً ُ سحب "سامي كول" ً
نفسا عميقا ثم صمت حتى أنهم ظنوا أنه لن يتكلم،
ّثم قال ً
أخيرا:
-ستخبرنا َ"مرام" بنفسها ً
يوما ما.
كانت "الحوراء" تدرك شعور َ"مرام"وشوقها للعودة لبيتها ،سألت والدها
وهي ترنو إليها بحنان:
-هل عليها البقاء وقد ّأدت مهمتها؟ أظنها اشتاقت ألمها.
رفع الحكيم حاجبيه وقال:
ً -على األقل تحاول اللحاق به وتعيده ،لن يستغرق األمر منها ً
وقتا طويال،
رّبما ساعة أو ساعتين!
نهض "سامي كول" فجأة ،قرر العودة لداره ،يأبى البقاء في القصر،
ويرفض اإلقامة مع ابنته ،حتى واملطر يهطل بغزارة صمم على الرحيل!
ّ -
لكنك لم تخبرنا بأ ّي ش يء جديد! ما سبب ظهور اسمه في كتابي؟ ألست
حكيم اململكة يا سيدي؟
56
شيئا ما ،فهي تود العودة إلى وضح العجوز ً قالتها َ"مرام" بضيق ،ودت لو ّ
بيتها في الحال.
التفت الكهل بعينيه البلوريتين ثم قال موجها كالمه ل َـ"مرام":
يوما ما. لك ،وستكونين طوق نجاة له ً -سيكون طوق نجاة ِ
ُ
ث ّم سألها:
-هل تدركين معنى كالمي يا َ"مرام"؟
ابتلعت َ"مرام" ريقها بصعوبةُ ،ث ّم قالت بصوت ّ
مهتز:
-في الحقيقة...ال!
الح على شفتيه شبح ابتسامة ،استدار وتركها وعالمات الخوف ّ
تتمش ى في
وجهها.
التفتت "الحوراء" تجاه َ"مرام" التي كانت تطالعها باهتمام شديد ممزوج
بالتوتر ،كانت تعصر كفيها ّ
وتتنفس بصعوبة ،رمقتها امللكة بنظرة تش ي بالكثير
وقالت لها:
"َ -مرام" أعلم أن مهمتك قد انتهت ،لكننا في الحقيقة نحتاج لوجودك معنا
فأنت تعلمين أننا ال
ِ في اململكة لفترة وجيزة ملساعدتنا في هذا األمر،
ألنك محاربة.نستطيع دخول الغابةّ ،أما أنت فتستطيعين ّ
زفرت َ"مرام" بيأس وقالت وهي ّ
تهز رأسها: ٍ
ً
-وهل لي أن أقرر أو أختار؟ قد كان اليوم احتفاال بانتهاء مهمتي وكنت على
قيد أنملة من عودتي لداري!
رمشت امللكة بعينيها وقالت:
-لألسف...لن نستطيع السماح لك بالرحيل اآلن.
مرت َ"مرام" بلحظة عصيبة قبل أن تقول:
ّ
-لكن لي طلب واحد.
57
-وما هو؟
-عند انتهاء األمر ّبما أطلب منك ً
شيئا ما ،وأريد منك أن تعديني بأن ر
تحققيه لي.
-وما هو؟
-ليس اآلن...
-أعدك يا ابنتي طاملا األمر في استطاعتي.
ً
حسنا ،واآلن...ما املطلوب مني؟ -
اقترب منها "الزاجل األزرق" وقال َبنبرة جادة:
-األمر هام ،وصل "أنس" وها هي رحلته على أرض مملكتنا قد بدأت دون أن
يلتقي بنا ،أخش ى أن تختلط عليه األمور وال يميز بين النقيضين ،وقد
تخدعه املظاهر ويثق بأحدهم فيقع أسيره ويختل ميزان الحكم لديه
فيسلب منه حق استرداد كتابه ،ودورك أن تتبعيه في الغابة ،وكما تعلمين
فأنت في أمان فيها ّأما نحن فال ،وعندما تلتقين به عودي ّ
ألنك محاربة ِ
معه إلى هنا بسرعة.
ً
حسنا...ولكن! -
-ولكن ماذا؟
-كيف سأعرفه؟ هال وصفته لي.
-الحقيقة أنني....ال أعرف شكله...لقد رأيته من الخلف فقط ،كل ما
الحظته ّأنه طويل القامة وقوي البنية ،ذراعاه مفتوال العضالت ،كما أن
قصيرا ،ويحمل على ظهره حقيبة جلدية ،ويرتدي ً ًّ
فحميا ً
شعرا لديه
ن ي وً
سر اال سماو اللو ،لكنني لم أشاهد وجهه.
58
زفرت "الحوراء" بحنق وقالت:
-لحظة واحدة كانت فارقة.
ّ
نكس "الزاجل األزرق" رأسه وقال بخجل:
-أعتذر ّ
مرة أخرى يا موالتي.
أمسكت "الحوراء" بذراع َ"مرام" وقالت:
-هيا يا َ"مرام" إلى الغابة ،لن نضيع الوقت.
في الحال ،هرول "الزاجل األزرق" تجاه فرسه وامتطاه بقفزة واحدة ،صهل
الفرس ّ
بقو ٍة فأجابته الخيول بصهيل جماعي وكأنهم يستجيبون ألمره ،انطلق
املغاتير يصحبون َ"مرام" نحو الغابة ،حيث ستدخلها وحدها باحثة عن "أنس".
❐❐❐
59
()4
60
ليجمع بعض أوراق النباتات العطرية التي يستخدمها في صناعة األدوية
الخاص به ،أحبت "ناردين" جمع ّ والوصفات التي يبيعها في دكان العطارة
أوراق الريحان فقد كانت رائحته تعلق بمالبسها وكفيها الصغيرين ،كما كانت
نظرا ألهميته الشديدة بالنسبة ألبيها ،فقد أخبرها تفضل جمع إكليل الجبل ً
تنش ط القلب ،وشرابه الساخن يزيل الصداع ويعالج غازات ّأن أوراقه ّ
ّ
البطن ،كما أن زيته يفيد األطراف املرهقة لو دلكت به ،أحبت رائحته التي
ً
تغلف اللحم به أحيانا قبل أن تقوم ّ ّ
بشيه، تشبه رائحة الصنوبر ،كانت ّأمها
ّ
كثيرا ،حتى أنها دهنت بشرتهاتحبه ً كان يضفي نكهة لطيفة للحم وكانت هي ّ
بزيته..كم كانت ّأمها جميلة! ال تدري ملاذا ال تشبهها .كانت تجمع األوراق ألبيها
وتحتفظ باألغ صان فقد أوصتها أمها أن تجمع بعضها لتحرقها في أركان البيت
فلها رائحة عطرية جميلة ،وبينما كنت تضع األغصان في جراب من القماش
كانت تلفه فوق خصرها سمعت هذا األنين ،انتفضت حينها وصرخت ،ألقت
األغصان ووقفت تحملق فيها وهي تئن ،استمر أنينها فأدركت أن الصوت صادر
بحنان كطفل رضيع فسكنت، ٍ مرة أخرى ومسحت عليها منها بالتأكيد ،حملتها ّ
وكأن بينهما وشيجة ما تربطهما! تفهم همهماتها وتفهمها.
دستها في جرابها وسارت بين أشجار الغابة فإذا بفروع األشجار تنحني
وكأنها تحييها ثم تعود لهيأ تها ،وعندما وتقترب منها ،تالمس بشرتها بلطف ّ
لكنه لمشيئا لم يكن .أخبرت أباها ّ وكأن ً
يقترب أبوها أو أحد رفاقه تسكن ّ
يصدقها ،وأخبرت أمها فوصفتها باملجنونة ،تكرر األمر وكانت تخبرهم
فيسخرون منها فتوقفت عن إخبارهم بما تراه وتسمعه وتشعر به ،وأصبحت
تعشق السير في الغابة وحدها ،حتى أنها أحضرت نبتة صغيرة من تلك الغابة
مرت ووضعتها في أصيص بدارها وصارت تحدثها ً
كثيرا وتخبرها بأسرارهاّ ،
ً ُّ السنون ومات أبوها فجأة وبعده مرضت ّأمها ً
مرضا شديدا ثم لحقت به،
وتزوجت "ناردين" من شاب كان يعمل مع أبيها في دكان عطارته ،أخبرته بأمر
النباتات التي تحدثها فغضب وظنها مريضة وتهلوس بسب ب الحمل ،فبدأ
ً
خصيصا يسقيها منقوع الزعتر والزنجبيل وداواها بخلطة مميزة قام بصنعها
لها لكي تبرأ من الهلوسة فتوقفت عن الحديث معه عن أمر النباتات فعاد
وحبه لها ونس ي األمر ،أنجبت بعدها ولدها الوحيد وقتل زوجها في لحنانه ّ
شجار عنيف وكانت ال تزال ترضع وليدها ،انف طر فؤادها ولم تفلح في مداواة
61
بالحب والرضا ،حب ابنها ّ
وقرة عينها وشبيه ّ جرح قلبها بالعطارةّ ،
لكنها داوته
أبيه فصبرت عليه طويال طويال.
شيبا ،وانحنى ظهرها وكبر مرت السنون ووهن العظم منها واشتعل رأسها ً
ّ
ولدها وصار هو عكازها الذي تتوكأ عليه .ما زالت تذكر كل ش يء ،نظراتها إليها
َ
عندما أيقظتها صباح ذاك اليوم ،نبرة صوتها وهي تخبرها ببهجة مزيفة أن
تستعد ألنهم سيخرجون لنزهة في البساتين املحيطة بالقرية كعادتهم ً
معا
ويأكلون الحلوى التي تتقن صنعها بعد أن يتناولوا لحم الخراف املشوي ّ
املتبل
ّ
بإكليل الجبل كما تحبه ،ضحكاتها املصطنعة وهي تضع سلة التفاح في العربة
الخشبية ،حتى الحصانين املبرقشين كانا ّ
يحركان رأسيهما ويتلفتان إليها وهما
وكأنها اتفقت معهما على الخطة ،أخبرتها أن ولدها ينتظرها على على الطريق ّ
ّ
أطراف البستان فصدقتها ،وكيف تكذب زوجة ولدها عليها؟! وظلت طوال
الطريق تطا لع مجاميع األشجار الباسقة من نافذة العربة بتعجب ،أي بستان
ّ
والتفت بتلك الطريقة! ذاك الذي ارتفعت أشجاره
ّ
لم يلحق بهم ولدها وال أحفادها ،لم يكن إال هي وزوجة ابنها تلك وسائق
العربة السكير الذي كانت تفوح منه رائحة الخمر والقذارة ،ال ّبد أنه قبض
يتوسط السماء عندما وصلوا إلى ذاك ّ غاليا ،كان قرص الشمس الثمن ً
الكوخ ،كانت تسير ببطء وتتأبط ذراع زوجة ابنها بعدما ترجال من العربة بينما
كانت تهمس األخيرة في أذنها بصوت يشبه الفحيح:
-أسرعي فأنا على عجل أيتها العجوز الشمطاء!
تخشب لسانها في فمها فقد كانت تلك ّ
املرة األولى التي تخاطبها فيها بتلك ّ
بأحب األسماء أمام ولدها الحبيب!!ّ الطريقة ،حتى ّأنها كانت تدللها وتناديها
جلست على باب الكوخ تلتقط أنفاسها ،أدبرت زوجة ابنها وهي تهرول تجاه
ّ
العربة بعد أن ألقت السلة أمامها وألقى السائق بجوارها خرقة من القماش
جمعوا فيها ثيابها على ع جل عندما كانوا بالبيت ولم تنتبه لهم ،تركوها ورحلوا
وبدأت تصرخ حتى احترق حلقها ،سقطت الشمس والتقمها األفق وبدأت
ترتجف ،أوت إلى الكوخ وهي خائفة ،فانحنت األشجار واحتضنت جدران
كوخها وأظلتها بظاللها الوارفة والتفت الوشائج حوله من كل جانب ،هدأت
بعد أن أرهقها البكاء ،وربط هللا على قلبها بعد أن استعصمت به وصبرت.
62
يمهد إلشراقوليل ّصباح يشر ُق على ليل بهيمٌ ، ٌ ومرت األيام تتوالى عليها، ّ
ٍ
عظيم.
يمر الناس بعضهم يراها وبعضهم ّ
وكأنه ال ومنذ تلك الليلة وهي هناكّ ،
لكنه الشوق! اشتاقت لرائحة ولدها ،رائحة عنقه، يراها ،ما عادت تخافّ ،
رائحة عرقه ،اشتاقت ألحفادها.
ً
حاولت أن تعود وسارت طويال بين أشجار الغابة ،حاولت أن تتذكر
مر وقت طويل منذ صغرها ،كانت تنجح في الوصول ألطراف الغابة، الطريقّ ،
مرة تصل فيها إلى الخط الحجري الفاصل بين أرض الغابة كل ّ ولكن في ّ
واألرض خارجها كانت وشائج األشجار تتمدد وتطول وتلتف حول جسدها
وتتلقفها قبل أن تخطو بقدمها خارج حدود الغابة ،وكانت تحملها بلطف
مرة أخرى لذاك الكوخ ،ترفض رحيلها! تعبت من تكرار املحاولة وما وتعيدها ّ
عادت تقوى على املسير.
ّ هطلت أشجار الياسمين بزهراتها على رأسها ّ
وكأنها تهاتفها أال تحزني ،حتى
تحلق أمامها على مقربة ّ ّ
وكأنها تؤنسها برفيف أجنحتها حتى العصافير كانت
ّ
تعود .كانت تفرك يديها بأوراق الريحان من آن آلخر وتشمها فتتعطر روحها،
حمدا هلل على تلك الروائح الزكية التي تخفف عنها.. ً
حسنا...لن أرحل يا أحبائي لكنني ما زلت أشتاق ،وما أقوى هذا ً ً
حسنا "
الشوق ،أشتاق لرائحة ولدي األزكى من رائحة الريحان"
همست بصوتها الحنون ووقفت تتأمل ،مض ى نصف اليوم حيث كنت
قريبا من الكوخ تراقب انعكاس صورة وجهها على صفحة جدول املاء تقف ً
القريب ،أصبحت صلعاء! صلعاء منذ فترة طويلة ،رأسها ال يحمل شعرة
ظنت أنها تخيف الناس واحدة ،حتى حاجبيها تالشيا ،تساقطت رموشها! ّ
بهيأ تها تلك ،كانت ال تعلم أنها جميلة حتى وإن أرهقتها السنون ،عادت تهمس
محدثة نفسها: ّ
"حمدا هلل أنني هنا فاألشجار ترعاني وتحبني وهذا يكفيني ،أسمع أنينها ً
ّ
وتسمع أنيني ،أربت على جذوعها وتملس أوراقها على وجهي".
وكأنها شخص آخر ينصت إليها ويوافقها على كالمها ،قد يبدو هزت رأسها ّ ّ
63
لكن "ناردين" كانت تتسلى نوعا من الجنونّ ، حديث النفس بصوت مسموع ً
وتحدث األشجار ،وتنصت إلى الرياح وما ّ بهذا من آن آلخرّ ،
تحدث نفسها
تحمله من حكايا ...وربما تهمس لها ببعضها!!
مر بجواره ذاك الشاب املشاغب الذي يدعى اهتز سطح املاء فجأة فقد ّّ
"شهاب" كان يركض كعادته بسرعة كالبرق ،حيرها ذاك الفتى بحواراته من آن
ً
مشاكسا ً
وأحيانا ً
مجنونا ً
أحيانا تراه ً
معجبا بنفسه للغاية، آلخر معها ،يبدو
ّ ً و ً
وكثيرا ما يبدو مغر را بنفسه .لم تنتبه ملن كان يلحق به إال بعد أن صدمها
ّ ّ ْ
دون قصد منه فسقطت على األرض وندت منها صرخة مكتومة اهتزت لها
وشائج األشجار وكادت تفتك به لوال ّأنه توقف وانحنى يحملها وينفض الغبار
عن ثوبها البالي وقال بحنان كانت تشتاق إليه:
أنت بخير يا أمي؟
-هل ِ
-أمي!!
موقعا ً
بليغا ،لم تسمعها منذ ً خرجت الكلمة من فمه فوقعت من فؤادها
سنوات ،اشتاقت لكونها أم ،اشتاقت للهفة األبناء عليها ،اشتاقت لتلك اللذة
ّ
التي كانت تقع في نفسها كلما ناداها ولدها بها .رفعت رأسها تجاه وجهه
بتمعن ،كان من ذاك النوع الذي يأسرك فال أنت تملك أن تصرف ّ
وتفحصته ّ
ّ
نظرك عنه وال تملك أن تطيل الن ظر إليه ،ليس شديد الوسامة لكنه ساحر
ّ
وجذاب ،قالت وهي تحاول استعادة اتزانها إثر السقوط بينما تتكئ على
الغصن الغليظ الذي صار يالزمها:
-بخير يا ولدي.
-آسف ،كنت أحاول اللحاق بـ....
" -شهاب" ..اسمه "شهاب" ولن تستطيع يا ولدي اللحاق به فهو سريع ً
جدا.
-أتعرفينه يا أمي؟ أخبريني أين يسكن؟
كانت تستعذب منه كلمة "أمي" ،أجابته وهي تتفحص ثيابه وتستغربها:
يمر ّ
علي من آن آلخر ،لكنني ال أعرف أين يسكن ذاك املغرور. ّ -
64
-أستأذنك فربما لو أسرعت اآلن سأستطيع اللحاق به.
كاد ينصرف ّ
لكنه استدار عندما قالت له:
-سيعود إليك ً
حتما فأنت محارب.
غضن حاجبيه وقال بتعجب:
ُ
عني...محارب! قلت
-هل ِ
-نعم
-ولكنني لست محارًبا!
-بل أنت محارب بالفعل.
-ولم تقولين هذا؟
-مالبسك وحقيبتك وحذاؤك ،هكذا تكون هيأتكم عندما تصلون إلى هنا،
مر بعضكم ّ
علي من قبل ،أنت محارب يا فتى. ّ
اب عادي ،رّبما أجيدمجرد ش ٍأخبرك بهذا ،لكنني ..لست ّإال ّ
ِ -ال أدري من
بعض الفنون القتالية كالكاراتية ،لكنني لست محاربا!ً
ابتسمت له وسارت ببطء نحو درج حجري صغير غطاه العشب من
الجانبين كان يفصل بين األرض املجاورة لجدول املاء التي كانوا يقفون عليها
ُ ّ
والتلة البسيطة التي يعلوها الكوخ الذي تسكن فيه وجلست عليه ث ّم قالت
له:
ٌ
متواضع أنت يا فتى. -
ُ
ث ّم أومأت بيدها وأردفت:
-على العموم ،ستكتشف نفسك هنا ،على هذه األرض ستعرف ما ال تعرفه
شرطا أن تحارب بسيف أو سالح ،بعض املحاربين ًّ
قوتهم في عنها ،ليس
ّ
القوية. ثباتهم على ّ
الحق وليس في أجسادهم
-ماذا تعنين؟
65
ّ -
قوة الروح ،العزيمة يا بني ،أرأيت كيف يقوى الكهل على صيام الهواجر
ً
وال يقوى الشاب الفتي أحيانا! هكذا تكون ّ
قوة بعض املحاربين ،قوة
قوة النفس يا ّ
بني. اإليمانّ ،
قمة رأسه ألخمص قدميه ثم غاصت ُث ّم رمته بنظرة سريعة ّ
وتفحصته من ّ
في عينيه وقالت له:
قوة الجسدّ ،
وقوة الثبات على الحق إن شاء القوتينّ ،
أظنك تملك ّ -لكنني ّ
هللا.
ً ُ
أغمضت عينيها للحظة لتقتنص فكرة ث ّم أردفت قائلة:
-انتبه لكتابك ،ستظهر ّأول سطوره عندما تلتقي بأبطال ّ
قصتك.
-وما أدراك بأمر الكتاب؟
-هكذا أخبروني هؤالء الذين مروا من هنا.
ً
أوجاعا وأشارت لصدرها وتحسست ضلوعها بكفها الضعيف وكأنها تمسح
التصقت به.
اقترب الشاب منها وأنزل حقيبته عن ظهره وأخرج الكتاب وفتحه ً
باحثا
عن أي جملة رّبما تكون قد ظهرت على صفحاته الخالية ،أغلقه ورفعه على
صدره أمام عينيها فقرأت العجوز عنوان كتابه بصوت مسموع:
-إيكادولي !!..انتبه إذن وحافظ عليه وفور أن تلتقي بهما عليك أن تراقبهما،
فهما في حاجة ملساعدتك.
-هما!!...ومن هما؟
ّ ً
عنوانا لعبارة ال تقال إال بين فقصتك تحمل ّ -ال ّبد أنهما اثنان وال ريب،
اثنين" ،إيكادولي" ،وهي تعني أنا أحبك باللغة النوبية.
حب إذن!
-قصة ٍ
-بالتأكيد.
66
-وماذا بعد؟
-ستراقبهما.
-ملاذا؟
ّ -
ألنهما سيحتاجانك ،ادعمهما حتى ال يقعا في الخطأ ،فكل قصة وكل كتاب
تعتبر دعامة للخير أو الشر هنا ،ونجاحك نجاح لها يا ....أخبرني ما اسمك؟
" -أنس"
-يا له من اسم جميل ،وأنا "ناردين"
-وما معناه!
-هو اسم نبات طيب الرائحة ،بديع الشكل ،ال ينبت هنا بل ينبت في أرض
بعيدة ،هكذا أخبرني أبي فقد كان عطا ًرا بار ًعا وكان يسافر ً
كثيرا.
مرة أخرى:ابتسم بلطف ّثم قال بعد أن تصفح كتابه ّ
ُ -عفوا...هل سأقوم بكتابة ش يء ما على تلك الصفحات؟ في الحقيقة أنا ال
أجيد كتابة القصص والروايات!
ً
أسنانا تزين ابتسامتهاّ ،ثم وضعت يدها على فمها لتخفيه فما عادت تملك
ً ً
احتراما وإجالال لها ،وسار بجوارها فقالت له: قامت فقام "أنس"
لكن ما تراه بعينك وتعيشه سيظهر على السطور ،فالكتاب -لن تكتب أنتّ ،
ّ ر ّ
لتستقر على السطو إال عندما يشعر أنك تثق به، ّ لن ُيطلق سراح كلماته
ألنه يحتاجك، ثق في كتابك يا "أنس"" ،إيكادولي" يثق بك وقد اختا ك ّ
ر
شديدا فأعنه على ما يالقيه من صعاب ،ال تظهره ً ً
صراعا الكتاب يعاني
ّ ً
ألحد ،وال تخبر أي شخص باسم الكتاب ،كن حاذقا واعلم أنك ستعتمد
ادلهمت األمور ابحث ّ
عمن ً
أحيانا ،ولو ّ وقوة شخصيتك على حصافتك ّ
يعينك.
كل هذا؟ عرفت ّ
ِ -ومن أين
ّ
-مرت سنون يا ول دي تعلمت فيها الكثير والتقيت فيها بالعديد من البشـ ـ ـ ـ ـ ـر،
67
ّ
البد أن ّ
يمر املحاربون من هنا.
وأشارت لضلوعها ّ
مرة أخرى....
هز "أنس" رأسه ومسح جبهته وضغط ّ
بكفيه على عينيه ،وقال: ّ
-ما زلت ال أستوعب األمر ،األحداث تتسارع وتتوالى ّ
علي بسرعة ،ترى هل
من املمكن أن تدليني على قصر امللكة "الحوراء"؟
-ليتني أستطيع الخروج من الغابة!
-ولم ال؟
جاست بعينيها في املكان وقالت:
-الحقيقة أنا ال أعرف أين قصرها ،ولم أرها من قبل.
-هل ّ
يمر املغاتير من هنا؟
صمتت برهة ّثم ركزت عينيها في عينيه وقالت:
-أولم تلتق بأي شخص غير "شهاب" قبل أن تلتقي بي يا ّ
بني؟ ِ
ّ
ال...كنت أنت أول من رأيته بعد "شهاب"
ِ -
ُ
ث ّم سألها بقلق:
-بعد استعادة الكلمات في هذا الكتاب ،هل سأعود؟
-بالتأكيد.
شعرت بانقباضة في صدرها ،خافت عليه وكأنه قطعة منها فقالت تحذره:
-احذر "املجاهيم".
-ومن هم "املجاهيم"؟
قالت بعد أن أمسكت بذراعه:
-قوم وجوههم كالحة ،يسلبون الناس أنفسهم وأنفاسهم.
68
ُ
مرة أخرى ،ونظر إلى السماء ث ّم قال:
رفع "أنس" حقيبته على ظهره ّ
-ذاك الصقر "الرمادي" ..أين هو اآلن؟
كادت تجيب ه لكنها اكتفت بتأمل مالمحه ،عيناه مألوفتان! وكأنها تعرف
تلك املقلتين البندقيتين ورأتهما من قبل! .كان حديثها معه قد أضاء الكثير من
الدهاليز املظلمة ،سار شار ًدا بجوارها نحو كوخها ،قررت أن تمده بمالبس
ٌ
واحد يتسنى له التجوال في اململكة ّ
وكأنه أخرى غير تلك التي كان يرتديها حتى ّ
من أهلها.
ً
حذاء رآه هو ترك "أنس" حذاءه الغريب كما وصفته "ناردين" وارتدى
لكنه مجبر على ارتدائهَ ،وب َّد َل بنطاله السماوي وارتدى سرو ًاال وقميصاً
غريبا! ًّ
ً ً
من الكتان األزرق،كانت املالبس تناسبه تماما وكأنها قد خيطت خصيصا له، ّ
فلف خصره بحزام عريض من القماش وأخرج خنجره لم يجد أزرا ً ا لقميصه ّ
ر
ّ
ذا املقبض الذهبي ودس ه في حزام بنطاله من جهة الظهر وأسدل عليه
القميص حتى ال يالحظه أحد ،لم تشعر "ناردين" بالخوف منه عندما الحظت
ّ الخنجر ومقبضه ّ
املذهب! أعطته حقيبة من القماش كانت تعلقها بكتفها وهي
تجمع أوراق األشجار والنباتات العطرية ليحمل فيها متاعه ،ومنحته حفنة من
ممتنا وكأنها أعطته ً
كنزا ،ودت لو بقي بعضا من إكليل الجبل ،كان ً الريحان و ً
ً ً
"أنس" قليال لكنه كان متعجال .صاحت وهي تراقبه وهو ينساب بين أشجار
الغابة:
وتأمل كل ركن من اململكة ،وافتح كتابك من آن آلخر ،إن -تجول في القرية ّ
ّ
ظهرت ّأول الكلمات فاعلم أنك التقيت بأبطال القصة ،فاألحداث تتم هنا
بمشيئة هللا ،وما زلنا ال نعرف النهاية!
مودعا ،رفعت ً وحياها بابتسامة عذبة ثم لوح لها استدار وأومأ برأسه ّ
ُّ العجوز يدها وأغمضت عينيها ّ
وتنفست بعمق ثم طرقت األرض بالغصن الذي
تتكئ عليه فانتفضت األشجار ،وار ّتج السهل وما حوله ،وصدر من األرض دوي
فحلقت ً ر ّ
بعيدا عن األشجار. مكتوم أفزع الطيو
سار "أنس" على نحو بطيء وسط الغابة ،فهو لم يعتد انتعال حذاء
مصنوع بتلك الطريقة من قبل ،كان يشعر ّأن لألشجار ً
عيوناّ ،
وكأنها تراقبه!
69
كان يراقب السماء من آن آلخر يخش ى أن يهبط عليه الليل وهو وحيد في تلك
ً ّ
سريعا إلى أطراف الغابة ،بدأ يركض الغابة ،قرر أن يحاول الركض لعله يصل
تحولت إلى بساط وبدأت تدور وبينما تنطوي األرض تحت قدميه شعر ّ
وكأنها ّ
ّ ُ
وتتكور تحت ساقيه ث ّم انشقت فجأة فتعثر وسقط على ركبتيه ليظهر أمامه
ٌ
واحد منهم وعليه زمرة من الرجال طوال القامة ال مالمح لهم! كان يتقدمهم
برنس أسود تتدلى منه ثالث جماجم صغيرة ،تراجع "أنس" بينما كان ذاك
الشبح يتقدم تجاهه ،نعم ..كان يشبه األشباح ،هذا ما وقع في نفس "أنس"
وكأن الظالم ارتدى ً
برنسا ووقف تحتل وجههّ ،
ّ وهو يحملق في تلك الظلمة التي
أمامه!
يصعد في السماء، رفع الشبح يده إلى السماء فشعر "أنس" ّ
وكأن صدره ّ
خرجت أنفاسه واصطبغ وجهه بالزرقة وما عاد قاد ًرا على سحب شهيق
وكأن هناك من يحمله، يتشبث به في الحياة ،ارتفع جسده في الهواء وانثنى ّ
ً
كاد الشبح يقتله بعد أن أداره في الهواء وجعل وجهه مقابال لألرض لوال
ّ
القالدة التي تدلت من عنق "أنس" فجعلته يخفض يده فجأة ويسقط "أنس"
على األرض وهو يسعل ويشهق شهقات متتابعة ،دار ذاك الكائن حول "أنس"
وكأنه خرج من مقبرةوانتظر حتى هدأ سعاله ّثم خرج منه صوت غليظ نان ّ
ر
وسأله:
-أنت محارب؟
ر ّد "أنس" بصعوبة وقال:
-نعم ...أنا محارب.
-من أين لك بتلك القالدة؟
-أعطاها لي ّ
جدي
قال الشبح بصوت فيه إجالل:
" -أبادول"؟
عندما سمع البقية زعيمهم ينطق باسم "أبادول" وضعوا جم ً
يعا أيديهم
ً
جميعا احتراما له! يبدو ّأنهم
ً على صدورهم وأحنوا رءوسهم وهم واقفون
70
ّ
يعرفونه ،الحظ "أنس" ما حدث فتحامل وتجلد وقام يستند على جذع
الشجرة التي كانت بجواره ،وسأله وهو يتحسس القالدة على صدره:
-أوتعرف جدي؟
ّ
-كلنا نعرفه ،وله فضل كبير على استرداد مكانتنا بين باقي الشعوب.
ُ
ث ّم أشار إليه بإصبع وسأله:
-ما اسمك؟
" -أنس".
-ما اسم "كتابك"؟
ّ
تذكر "أنس" وصية العجوز "ناردين" له أال يخبر ً
أحدا باسم كتابه ،فرد
ً
محاوال أن يتجاوز السؤال:
-ملاذا ال أرى مالمحكم؟
يوما كما رآها ّ
جدك "أبادول". -ليس اآلن ،ستراها ً
عندما كرر الزعيم اسم "أبادول" كرر كل من معه ما فعلوه ّأول ّ
مرة
ّ
وضم يده إلى صدره وأحناها في هيبة بإجالل وتقدير ،وفعل هو كما فعلوا
الجد يقف أمامه ،قال بعد أن رفع رأسه تجاه "أنس" الذي كان يحملقوكأن ّ
في تلك الظلمة التي تتحدث إليه وال يعرف كنهها:
-امض يا "أنس" فأنت في أمان حتى تخرج من الغابة ،واحتفظ بالقالدة،
ّ
وكلما مررت من هنا أظهرها وأنت تسير حتى يعرفك "املجاهيم"( .)1
ّ
برهبة وقد كانت دقات قلبه تتواثب في أسفل عنقه:
ٍ همس "أنس"
-املجاهيم! ومن أنتم أيها املجاهيم؟
❐❐❐
72
()5
75
-أنا وحدي هنا ،أحاول الوصول إلى صديق التقيت به أمس ،فهال ساعدتني
في البحث عنه؟
ُّ ّ ّ استدار "كلودة" وسار ّ
عدة خطوات بتؤدة وقد أحنى رأسه وكأنه يفكر ،ثم
التفت ألنس وأشار إليه فلحق به وسارا ً
معا لفترة وجيزة قبل أن ينحني بهما
يتوسطها مجموعة من التجار وقفوا يعرضون ّ الطريق إلى ساحة واسعة،
ثوبا من القطيفة الحمراءستعراضا أمام الجميع ،بسط أحدهم ً ً بضاعتهم ا
ّ
على ذراعه وكتفه ووقف ينادي واحتشدت حوله النساء كل منهن تتحسس
بكفها وتحملق فيه ّثم تسأل عن الثمن ،لم ّ
يمل من تكرار الرد، طرف الرداء ّ
كل منهن تشتهي أن يكون الرداء لها وزاغت أعينهن بدت النساء مسحورات ّ
ّ
وهن يتخيلن أنفسهن أميرات يرتدينه .وجلس آخر على األرض وقد صف أمامه
أباريق من الزجاج امللون بديعة الشكل انعكست عليها أشعة الشمس الحانية
ً
وجماال ،أما الثالث فكان يبيع العطور في زجاجات صغيرة ّ فزادتها ً
مزينة تألقا
وكأن هذا السوق لألثرياء فقط .أشار "كلودة" إلى الجهة األخرى بالنقوش ،بدا ّ
من امليدان الفسيح لينتقال إليها وقال ألنس:
-ما اسم صديقك؟
-في الحقيقة ..كنت أتبع ً
شابا يدعى"شهاب"
" -شهاب"! ..إذن أنت محارب.
-يبدو أن األمر مألوف لديكم.
-بالتأكيد.
ّ
هال ساعدتنيّ ،
أود أن أصل إلى قصر امللكة "الحوراء" -إذن،
-ال أعرف الطريق إليه!
-هل سمعت عن "املغاتير"؟
ألتق بهم من قبل!
-سمعت لكنني لم ِ
ً
"شهابا" أليس كذلك؟ ّ -
لكنك تعرف
76
-ومن منا ال يعرفه!
ُّ معا ًسارا ً
كتفا بكتف ،ثم قال "كلودة" بعد فترة وجيزة:
أوال على الطبيب ،سأشتري ً ّ ً
دواء فأنا مريض. -سنمر
-شفاك هللا.
ً
حرك "كلودة" رأسه ممتنا واخترقا معا ذاك الحشد الكبير وبخطى سريعة ّ
ّ
وصال إلى عدة بيوت متالصقة ذات أسقف منخفضة ،طرق "كلودة" باب بيت
ً
سريعا ما رحب بهما منهم ففتح له رجل أربعيني تكسو وجهه ابتسامة واسعة
ودعاهما للدخول ،على أريكة من الخشب جلسا يراقبان حركته البطيئة
بردائه الطويل والواسع األكمام وقد انتشرت حوله على الطاوالت والرفوف
زجاجات الدواء ،قال الطبيب بصوت متحشرج بسبب صمته الطويل قبل أن
يدخال إلى بيته املتواضع:
-أعددت لك الدواء منذ أسبوع ّ
لكنك تأخرت.
ّ
خاص. سيدي لم أتمكن من الحضور لسبب عفوا ّ
ً -
مرة أنك تحتاجه لتتحسن حالتك املزاجية والذهنية ،أما -أخبرتك أكثر من ّ
ً
مشتتا وترى تلك الكوابيس؟ زلت
كل ليلة ..ولكن ..سيدي ،ألن أشفى من مرض ي هذا؟ هل سأظل -نعم..أراها ّ
هكذا؟
كل من -لألسف يا "كلودة" لم أسمع عن حالة مماثلة عادت ملا كانت عليهّ ،
أعرفهم يستمرون على هذا الحال حتى...
واثبا وكأن هناك من وخزه بإبرة بعد أن ّنقد الطبيب قيمة
وقف "كلودة" ً
الدواء وخرج من باب البيت كطلقة املدفع ،تبعه "أنس" بخطوات واثبة ،بدا
ًّ
جليا أن "ك لودة" حزين وغاضب ،وكان هذا ما وقع في نفسه منذ اللحظة األولى
عما يسلي الفكرالتي رآه فيها ،روح متعبة لشاب بسيط تفتش بين الكتب ّ
ويجبر خاطر النفس املكسورة كحال الكثيرين ،يهرب بالقراءة من واقع مؤلم
فيعيش بين الكتب ويتنفس الكلمات ،تردد "أنس" بين أن يتركه لحاله ويعود
77
ً فهو في حالة ال تسمح له بمجاراته في أحاديثه الودية ،وبين أن ّ
يتحمله قليال
أخيرا أن يفارقه وسيسألويسير معه على األقل حتى بيته ليعرفه ،لكنه قرر ً
ُ غيره ،التفت ً
عائدا من حيث أتى ،فإذا بـ"كلودة" ينادي عليه ث ّم يقول:
ً -
عفوا سامحني ،سأسير معك ألخرجك من القرية.
-ملاذا؟
-ألم تسأل عن "شهاب"؟ هو يقيم بالغابة ،ال ّبد أن تعود ،ظننتك ال تعرف
هيا وسأسير معك.الطريق إلى الحدود املقابلة للغابةّ ،
عمه "أشريا" مهموما بجوار "أنس" ،كان "كلودة" يحب ابنة ّ ً سار "كلودة"
لكنه لم يملك سمات الشخصية التي تتمناها وتحلم بها ،كان يعشق جماّ ،حبا ّ
ً
اسمها ،ومالمحها ،ودارها ،والدار التي بجوار دارها ،والطريق إليها ،والجدران
التي تستند عليها ،والهواء الذي ّ
تتنفسه ،طلبها للزواج مرا ًرا وتكرا ًرا وكانت
ومرت األيام ّ
تشد مرة أخرى من أبيهاّ ، تأبى ،لم ييأس وكان يعود فيطلبها ّ
بعضها ً
بعضا ومات أبوها وما زال قلبه على العهد.
كان عندما يستبد به ألم جرح قلبه يخرج للبساتين القريبة من بيته
واملمتلئة بأشجار البلوط العمالقة ،فيجمع أوراق النباتات العطرية ويردد
تغيرتويتصبر بخلوته مع الطبيعة الخالقةّ ، ّ ً
وأحيانا يدندن باألشعار، األذكار
ّ ً ً
أخيرا وصارت تضع له الشروط واحدا تلو اآلخر ،لو بنيت بيتا كهذا ربما ً
ّ
أوافق ،لو توقفت عن فعل كذا ربما أوافق ،لو ..لو..
ّ
وكانت تمتنع عن الكالم معه وتكلف ّأمها بالرد عليه .كان ذاك الهوان
حبه لها يظهره ضعيف الشخصية أمامها ،وكانت هي الذي يصيبه بسبب ّ
تطمح إلى الزواج بشاب قوي الشكيم ة تعتمد عليه .لم يكن هناك من يوجهه
ّ ّ
ليتجمل ويتصنع ويتخلى عن تلك العفوية التي يعاملها وأمها بها أو ينصحه
فقد أساءت فهمه ،فهو وحيد بال أب أو أم ،وليس له شقيق يشد عضده،
بينما يسيران ويتبادالن أطراف الحديث سأله "كلودة" بفضول:
-هل عرفت الحب ً
يوما؟
ّ
الحب قلبي بعد ،لم ألتق بمن تخطف روحي حتى اآلن. -ال...لم يطرق
78
ّ
رد "كلودة" بتأثر:
ّ -أما أنا فلقيتها ..وليتها ما خطفت روحي!
ً
وصال ً
أخيرا إلى الحدود ،حيث كان هناك فاصل حجري يحيط بالغابة،
ً
تخطاه "أنس" والتفت تجاه "كلودة" متسائال عن سبب وقوفه ً ّ
واجما كما كان
يفعل:
-ما بك يا "كلودة؟
-لم أدخل الغابة من قبل! يقولون أن من يدخلها يختفي لألبد وال يعود.
استدار "أنس" وطالع مجاميع األشجار أمامه وقال:
ً
-أوتظن هذا فعال؟
ّ
معل ًقا في الهواء حتى التفت إليه "أنس" ّ
ومد يده ليصافحه، بقي السؤال
ّ ّ ّ ّ
فمال "كلودة" وكأنه يخش ى أن يتعثر فتمس قدمه الخط الفاصل ،اهتزت
األرض فجأة وتأرجح كالهما فوجد "أنس" نفسه يجذب ذراع "كلودة" دون
قصد منه فدخل األخير الغابة ،ابتسم "أنس" ّ
بتوتر وقال له:
-أرأيت ،ها أنت هنا ولم يحدث لك ش يء!.
شعر "كلودة" برهبة تجتاح جسده ،كان يترقب أن يحدث ش يء ما! ّ
لكن
األمر بدا ً
آمنا كما يبدو!! سار مع "أنس" وانطلق معه يتوغالن في الغابة،
ّ ُ ً
كفه ث ّم شرب فضوالّ .
مرا بجدول ماء فانحنى "كلودة" وغسل وعيناه تطفحان
منه...
"سبحانك سبحانك ،ما أعذب املاء .ماذا لو لم يكن هناك ماء! كيف كنا
سنرتوي ،كيف كنا سنبلل ألسنتنا لنسبحك! حمدا لك يا ودود".
هكذا همس "ك لودة" وهو يسير ،كاد يسأل "أنس" كيف أتى إلى هنا ليسمع
منه بالتفصيل ،لوال الضربة التي باغتته فجأة وهو يمش ي معه والتي
ً
متضرعا إلى هللا وهو يتوجع: صاح على إثرها
"سبحانك سبحانك ،اكفنا شرهم واجعل كيدهم في نحرهم"
79
بينما كان "أنس" يصارع جال ضخم ّ
الجثة له وجه قبيح ،الحقه اآلخر ر
مقبح ،استسلم "كلودة" حتى يتوقف عن بعصاة غليظة وصوت أجش ووجه ّ
لكنه لم يتوقف ،ضربة على كتفه ،واألخرى على ذراعه ،والكثير على ضربه ّ
قيده ذاك الفحل ّ
املقبح بالحبال ّ
ظهره حتى شعر أن جسده تخدر من األلمّ ،
بسرعة ،ما زال "أنس" يصارع القبيح ،كان يوجه ضرباته ألماكن متفرقة
وكأنه ال يخافه ،لم تند منه صرخة ألم ،لكنه كان مواجها القبيح بجسا ة ّ
ً
ر
يصيح ّ
بقوة ،تارة بيديه وتارة بقدميه ،ود "كلودة" لو كان مثله ،وصلت حفنة
من "البغضاء" وأمسكوا بـ "أنس" ،فالكثرة تغلب الشجاعة ،ضربوا "كلودة"
بشدة ففقد وعيه ،قيدوهما بعد أن سلبوهما متاعهما ،كان كل على رأسه ّ
منهما يملك ً
كتابا" ،أنس" بكتابه "إيكادولي" في حقيبته ،و"كلودة" بكتابه الذي
اشتراه من الحانوت قبل أن يدخال الغابة ،بصق القبيح على وجه "أنس" وكاد
املقبح الذي صاح وهو يمسك بكتاب "أنس" بعد أن أخرجه من يقتله لوال ّ
الحقيبة القماشية التي أعطتها له ّ
السيدة "ناردين":
-انظروا ،كتاب غريب ٍ
وخال من الكالم!
ّ
املقبح تمشت عالمات الرهبة على وجوههم الكالحة ،التفوا حول
وتصفحوا الكتاب وقرأوا عنوانه ،عادوا ينظرون لـ"أنس" بارتياب وقال أحدهم
ً
هامسا حتى ال يسمعه "أنس":
-يبدو ّأنه محارب جديد ،فلنأخذه لقصر امللك ِ"كمشاق"
رد آخر:
ّ
-نطلب املال أوال قبل تسليم املحارب والكتاب.
قال القبيح:
-فلنقتله ،ما حاجتنا إليه!
رد ّ
املقبح وهو يحك شعر رأسه:
-ربما كان له ثمن فنحن ال نعلم كيف تسير األمور ،سمعت أنهم يعلقونه
من قدميه ويثقبون قلبه وعندما تسيل الدماء يجمعونها في قوارير ويكتب
الكاهن القصة في الكتاب وتنتهي أحداثها وهو يلفظ أنفاسه األخيرة.
80
كان "أنس" يراقبهم ويبحث بين أياديهم عن كتاب "كلودة" ،أين اختفى!!
افعا صوته ّ
بتوعد ر ً اقترب أحدهم من "أنس" برأسه ونظر في عينه وقال
األجش:
-سنقتلك أيها املحارب.
رائحة أنفاسه الكريهة التي فاحت من بين أسنانه النخرة واملسوسة كادت
مرت فحملتها ً
بعيدا عن أنفه ،قال بصوت تخنق "أنس" لوال نسمة هواء باردة ّ
حاول أن تكون نبرته ّ
قوية:
-وما أدراكما ّأنني املحارب!
همهم البغضاء وقال أحدهم:
-هل رأيتم الرمز؟
-وما ذاك الرمز؟
-سمعتهم يقولون أن للمحاربين رمو ًزا! فلنبحث عن الرمز!
أطبق "أنس" فمه وجلس يراقبهم وهم يفتشون حقيبته ومالبسه ،زمجر
غضبا وأمسك بالخنجر ذى املقبض ّ
املذهب و كان قد أخرجه من ثيابه القبيح ً
ّ ُ
وكاد يذبح به رقبته ،حملق في وجهه بسحنة متوعدة ثم عاد خطوة للخلف،
ران عليهم صمت مهيب وتنقلوا بأعينهم بين الشابين ،خلصوا ً
نجيا وابتعدوا
همسا حتى ال يسمعهم ،كان "كلودة" ال يزال ً
فاقدا لوعيه، وبدأوا يتحدثون ً
ُّ
عادوا واقتربوا ّمنهما ثم لطمه ذو األنفاس الكريهة على وجهه وقال بعد أن
جذبه من شعر رأسه:
الثمن.معا بعد أن نقبض ّ -سنقتلكما ً
ومرت لحظات ثقيلة ،لم يسمع رحل بعضهم وبقي ثالثة يحرسونهماّ ،
"أنس" حديثهم عن امللك ِ"كمشاق" ،لم يدرك أنه يسير تجاهه دون أن يشعر.
❐❐❐
81
()6
أسدل الليل عباءته السوداء على اململكة فغرقت في ظالم حالك .كان
يتحرك ببطء كالشبح في السماء ،وكانت الغربان تقف على شرفات القمر ّ
ً ً
القصر املكون من عدة طوابق ،بدا البناء ضخما مهيبا يشبه الجبل ،أعاله
َ اسعا ً ً
عريضا وو ً ضيقّ ، ّ
جدا .وثبت األميرة "نبرة" من وأما الطابق السفلي فكان
ُّ
خاطفة ،كانت تتمتع
ٍ بنظرة
ٍ فراشها ودفعت النافذة بعنف ثم طالعت السماء
بخفة العصفور ،وكبرياء الطاووس ،لع ينيها الكحيلتين بريق عجيب يشبه بريق ّ
عيني القطط في الظالم! من يراها بجملة النظر من بعيد يصور له ّ
وكأن عينيها
لكنها كانت ً
دائما كالقدر الذي يغلي جوهرتان! كانت َ"نبرة" تدرك أنها جميلةّ ،
فيه املاء بجنون .التفتت صارخة في وجه خادمتها بحنق شديد لكي ّ
تجهز لها
ّ
مالبسها وتعينها في زينتها .قالت بتسلط:
ُ -هيا ،أمامك ٌ
عمل طويل ،أريد أن أخطف األنظار الليلة.
ُ
بمكر واقتربت منها ث ّم قالت:غمزت الوصيفة ٍ
أنت ال تحتاجين لزينة يا موالتي.
ِ -
َ
داء أحمر اللون ُي ظهر أكثر مما يستر ،فتحت "نبرة" ألبستها الوصيفة ر ً
ّ
صندوق زينتها وتخيرت ما يناسبها من جواهر ،ودهنت شفتيها بصبغ أحمر ٍ
قان
يناسب بشرتها السمراءّ ،ثم استرخت في مقعدها وأسلمت رأسها للوصيفة التي
بحرص شديد ،بعد لحظات كانت تهبط على الدرج تمشط شعرهابدأت ّ
ٍ ّ
وكأنها القمر ينحدر على سحب السماء.
وكأنها على وشك دخول حرب مع شخص بخطى سريعة كانت تدق األرض ّ
متكئا على أريكة وثيرة وبجواره صديقه ما ،اتجهت إلى غرفة أخيها الذي كان ً
82
مرت عيناها "حليم" الذي كان يرفل في ثياب فخمة تليق بمنصبه ،والذي ّ
تود قراءته ،هي ال ّ
تحبه ،لم يفلح في الدق على أوتار عليه ّ
وكأنه كتاب ممل ال ّ
ّ
قلبها رغم عشقه الشديد لهاّ ،أما هو فأقبل عليها بنظراته وكأنه ّ
يود التهامها
بعينيهّ ،
وجهت نظراتها نحو أخيها قائلة:
-رأيت الرمز مرة أخرى ،هناك محارب على أرض اململكة.
-أين هو بالتحديد.
-ال أعرف املكان لألسف.
ابتسم "حليم" وقال بلطف وهو يطلب ّ
ودها:
-سأرسل رجالنا ليبحثوا عنه فال تجهدي عقلك الجميل بالبحث عن مكانه،
أرى ّأنه من املتوقع أن يكون في مملكة الشمال اآلن.
فكزت على أسنانها واستدارت مقتربة على عكس مراده ..استفزتها كلماته ّ
ُ
تستمد منها الدفء ثم قالت ّّ
بتنمر: من املدفأة ورفعت كفيها نحوها
مجرد ضيف ثقيل! -أرى..أرى !!..ومن أنت حتى ترى! ،ما شأنك أنت؟ أنت ّ
اهتز القدح الذي كان بين يدي "حليم" ،سقط الشراب على مالبسه فوثب ّ
ً ُ
غاضبا نحو أخيها ِ"كمشاق" الذي من مكانه ث ّم وضعه على املائدة والتفت
رمقه بنظرة واثقة وقال له:
-دعك منها يا "حليم"ّ ،إنها مجنونة.
دائما غاضبة ،لديها لسان كحية قرمزية داعرة تنفث سمومها كانت َ"نبرة" ً
ُ
في وجوه الناس ،أدارت رأسها بعصبية ورمقته بمكر ث ّم قالت:
ُ -أشبهك ً
كثيرا يا أخي.
مشيرا للوصيفات ليخرجن من الغرفة ،واقترب منها وسألها بغلظة: ً كفهرفع ّ
ُ
-أين أختك "أونتي"؟
قالت بسماجة:
83
-الحمقاء ،نامت ً
مبكرا كعادتها.
اقترب "حليم" وقال:
ُ
-ال أدري ملاذا تختلف "أونتي" عنكما!
ثم أضاف:
تتبسط مع الجميع -حتى أنها ال تعرف أي ش يء عن األخطار التي تتهددنا!ّ ،
ّ ّ
وكأنها ليست أميرة! رّبما لقلة نضجها وعمرها فهي تصغرك بسنوات يا
َ
"نبرة"
َ ّ ُ
استفز األميرة "نبرة" التي ث ّم ارتبك "حليم " فقد شعر أنه بآخر كلماته قد
هزت كتفيها وقالت: ّ
ّ -
ألنها حمقاء ...مثلك.
متوترا ،وأراد ِ"كمشاق" أن يلطف من األجواء فقال ً أصبح جو الغرفة
بهدوء:
ً
-فلنهدأ قليال يا رفاق ،ليس هذا وقت املشاكسة.
كان "حليم" في الثامنة والعشرين من ُعمره ،كانت صداقته للملك ً
سببا في
ّ
تغيير مسار حياته ،فهو فارس مقدام شجاع وشاب ذكي وحاذق ،وملا رأى امللك
ً
منه هذا كشف األوراق أمامه وعقد معه صفقة ،فطرح "حليم" فيها شروطا
َ ّ
يتحصل عليها كاملة بعد مقابل والئه الكامل له ،لم تكن "نبرة" من ضمن لم
ّ ّ
الصفقة! لكنها صارت هدفه الذي يسعى وراءه فهو يتمنى رضاها ،يحبها ّ
بشغف وجنون ،يرغب بها ،وهي تتمنع وترفض .وكان ِ"كمشاق" يعلم عشقه
عونا له على الحكم وعلى ويستغل هذا ملصلحته ،فصار "حليم" ً
ّ الشديد لها
اصطياد املحاربين ومحاولة السيطرة عليهم لخدمة أفكاره السوداء ،كان
ٌ
ونساء ولهو ،غارق ِ"كمشاق" يعربد بال حساب ،أطلق العنان لشهواتهٌ ،
خمر
في الشهوات حتى أذنيهّ ،أما "حليم" فحبس نفسه عليها ،ولم تنجح أنثى في
َ
اختراق شغاف قلبه ،وبقيت "نبرة" الفاكهة املحرمة التي ال يجرؤ على مساسها
حتى اآلن.
ً َ
ساق وقالت بمرارة: جلست "نبرة" أمام أخيها ِ"كمشاق" ووضعت ساقا على ٍ
84
-ال ّبد أن نقض ي على هذا املحارب بسرعة.
اقترب منها "كمشاق" وقال ّ
بتوتر: ِ
أيت وجهه؟
-هل ر ِ
-ال...ليس يعد.
فقدت مهاراتك؟
ِ -هل
قالت بعصبية:
-ال...اختفت فقط بومتي العزيزة؟ لم أ ها الليلة! ّكلما حاولت أن أرى ً
شيئا ر
ال أرى إال الظالم!
كانت َ"نبرة" تفخر ً
دوما بتلك املوهبة التي حباها هللا بهاّ ،
لكنها لم تشكر هللا
كل ليلة ما تراه تلك البومة البيضاءأبدا! من آن آلخر كانت ترى بعينيها ّ عليها ً
ّ
التي يعرف الجميع ارتباطها بها منذ الصغر ،كانوا يخشون منها ألنها ستنقل
ً َ
شاهدا على الكثير من األشياء التي قلبت الخبر لألميرة "نبرة" ،كما ّأن ها كانت
ً
مفضوحا لديها ،في الحقيقة وهزت البعض حيث أصبح أمرهم املوازين ّ
موهبتها تلك جعلت حربتها قوية ،فال يجرؤ أحد أن يقف أمامها في اململكة
كلها.
ّ َ ّ
تتجرعه صفقت "نبرة" فأسرعت جارية بملء كأسها بالخمر وجلست
و"حليم" يراقبها.
❐❐❐
غربت الشمس وكان "كلودة" قد بدأ يستعيد وعيه بصعوبة ،فتح عينيه
على طقطقات النار التي أشعلها اللصوص في املكان الذي قاموا بالتخييم فيه،
وكان "أنس"و "كلودة" بال قميصيهما فقد خلعهما اللصوص ّ
عنهما وبحثوا في
أجسادهما عن عالمة ما تدل على كون من يحملها محارًبا ،األغبياء ال يعرفون
عن رمز املحارب الذي يظهر في الرؤى لبعضهم ،ظنوا عندما أخبرهم "أنس" أن
85
ً
مصابا الرمز يظهر كعالمة على الجسد .اعتدل "كلودة" في جلسته ،كان
بصداع قوي:
"سبحانك سبحانك ،نجنا من مكر املاكرين".
ً قالها وهو يئن من األلمّ ،
مر الوقت ثقيال ،لم يغمض لهما جفن ،أما
ّ الثالثة فكان شخيرهم يزعج ّ
كل ش يء حتى الطيور في أعشاشها ،إال تلك
البومة البيضاء التي اقتربت منهما قبل طلوع الفجر بساعة ،كانت تقف بكبرياء
على غصن شجرة البلوط الكبيرة التي كانا يستندان عليها ،جميلة وأنيقة
ّ
كملكة تقف وتتلحف بردائها املتألق ،وقف "أنس" واقترب منها ويداه ما زالتا
معقودتين خلف ظهره ،قفز بساقيه املقيدتين واقترب منها وطالعها بعينيه عن
ُ
قرب ث ّم قال بحنان:
هيا أسمعيني صوتك، أنت جميلة ،أنت فاتنة! ترى هل تتحدثين؟ ّ -كم ِ
ّ ّ
تحدثت إلى الصقور من قبل ،ال بد أنك تتحدثين كالرمادي.
عاد يتأملها عن قرب وكانت تطالعه بفضول بعينيها الواسعتين ،ابتسم
ً
عندما حملق قليال في عينيها وقال بعذوبة:
-أنت جميلة ،ما أروعك! ما أبدع لونك! تبارك هللا!
صاح "كلودة" من خلفه وكانت يداه تؤملانه ّ
بشدة:
"سبحانك سبحانك! يا خالق الجمال سبحانك!"
استيقظ أحد الرجال وصرخ في "أنس " بصوته األجش فطارت البومة
ّ
وحلقت فوقهما وبسطت جناحيها األبيضين وظل "أنس" يتابعها حتى اختفت
ً
بعيدا وعاد يجلس بجوار"كلودة":
ّ
"سبحانك سبحانك ،الكون كله يسبحك ،أفال نسبحك!"
يسبح ّ
لعل هللا يجعل لهما مخرجا. همس بها كلودة وهو يئن من األلم وبدأ ّ
َ
في مكان آخر وتحت سقف بديع وعلى فراش فاخر ،كانت "نبرة" تستعد
للنوم بعد أن سهرت لساعات طويلة مع رفيقاتها وجواريها عندما شخصت
فجأة بعينيها! لقد راودتها رؤى بعيني بومتها البيضاء ،لقد نظرت ّ
للتو في عيني
86
شاب مليح الوجه ،له عينان بندقيتان وحاجبان كثيفان على وشك االلتحام،
حركت ً
هامسا بصوت بديعّ ، وضاء مستدير تظلله لحية خفيفة ّ
يتحدث وو ٍجه ّ
يتحدث بتمعن ،كانت َ"نبرة" تحملق ّ
وكأنها أمامه ،وكان ّ بومتها مقلتيها وتأملته ّ
بعفوية إلى البومة ّ
وكأنها تفهمه.
َ ّ
حلقت البومة وأدرات رأسها فرأت "نبرة" القيد حول ساقي "أنس" ،تأكدت
تحدث لصقر! خيل إليها للحظات اآلن ّأنه املحارب ،فقد قال في كالمه ّأنه ّ
أنه يغازلها هي وليس بومتها البيضاء ،سقطت جذوة الفتنة فوق قلبها ولن
أبدا ،اآلن تعرف وجهه ،ولكن ..هل سترغب في قتله اآلن وقد... تنطفىء ً
أعجبها!
❐❐❐
87
()7
88
لها وتحتويها كما فعلت من قبل ،قالت بعد أن رشفت من القدح الذي
سكبت لها العجوز فيه ً
بعضا من الحساء الساخن:
-أحتاجه ّ
بشده فالبرد ينخر عظامي.
وضعت العجوز يدها على كتف َ"مرام" وسألتها بصوت خفيض:
-ملاذا لم تعودي للديار يا َ"مرام"؟ من الخطر أن تبقي هنا ،فقد انتهت
ً عما قبل ،ستكونين ًضعفا ّمهمتك وصرت اآلن أكثر ً
ّ
صيدا سهال يا ابنتي!
مهمة أخرى كلفتني بها "الحوراء". ّ
بيدي...إنها ّ -ليس
ّ -
مهمة أخرى! ...وما هي؟
-شاب جديد وصل اليوم ودلف إلى الغابة قبل أن يلتقي باملغاتير وكما
تعلمين ال يستطيع أحد من أهل مملكة الشمال الدخول إلى هنا ،طلبت
مني امللكة اللحاق به ألنبهه.
-أتقصدين "أنس"؟
-بلى ...هل ّ
مر بك اليوم؟
ً
-رحل منذ ساعة ،لقد كان مشغوال بأمر "شهاب" ،كان يركض خلفه.
ً
-ملاذا لم تنبهيه أنه ال ّبد أن يلتقي بامللكة واملغاتير أوال؟
ُ بعيدا عن وجه َ"مرام" ّأشاحت العجوز بنظرها ً
وتنهدت بعمق ث ّم أغمضت
عينيها وقالت بهدوء شديد:
-لقد ركض خلف حدسه ،هو ليس من ذاك النوع الذي ينتظر أن يملي
ع ليه أحدهم ما يفعله ،لن يستطيع التراجع وليس له أن يخطو خطوة
واحدة إلى الخلف!
ً
قليال ّ ُ
وكأنها تقتنص فكرة وأضافت: ث ّم صمتت
-ال تقلقي فقد أخبرته بالقليل ّ
عما سيفعله ،وسيكفيه ليؤدي مهمته.
زفرت َ"مرام" بأس ى وقالت:
89
-وددت أن أعود للديار ،أخش ى مما أخبرني به الحكيم "سامي كول"
-وبماذا أخبرك الحكيم؟
-سأحكي لك ّ
كل ش يء...
بدأت َ"مرام" تصف للعجوز "ناردين" كيف كان يتكرر ظهور اسم "أنس"
في كتاب "هيال" من آن آلخر ،طقطقت النار تحت القدر وتصاعد الدخان من
ً تلك الفتحة التي تعلوه فانبثقت من سقف الكوخ سحب ّ
الدخان مشكلة جبال
ّ
مقلوبا من تموجات في السماء ،مالت األشجار تنصت للحكاية ،وكأنها تهتم ً
ومتبعا لشخص ً ً َ
ألمر "مرام" وذاك املحارب الذي بدأ رحلته منقادا وراء حدسه
سريعا وكان ال ّبد من املض ي في الطريق حتى ال يداهمها ً مر الوقت ال يعرفهّ ،
ّ
الليل وهي وحيدة في الغابة ،ودعت العجوز في تلك اللحظة التي اقتربت منها
تحلق ً ّ
قريبا منها لتؤنسها ،كانت تلك هي أنثى الصقر التي "قطرة الدمع" وبدأت
حملتها إلى ذاك العالم الغريب هنا.
ألمها وانطلقت قاومت َ"مرام" شعورها بالحنين لبيتها واحتياجها الشديد ّ
ّ تتحسس جذوع األشجار وهي تسير ّ
وكأنها تسلم عليها واحدة تلو األخرى ،عبرت
ّ ً ً
صغيرا وهي شاردة ولم تنتبه لدخولها للجهة الغربية من الغابة ،ملا جسرا
ّ
أدركت عادت سريعا لتعدل مسارها ،تناهى إلى سمعها صوت صهيل ً
الجثة له وجه فاستدا ت تجاه الصوت ،على حين غفلة منها وثب جل ضخم ّ
ر ر
ّ ّ
مثقوب بعينين ضيقتين تحتهما أنف عريض مفلطح وفم متكور كفوهة بركان
غضبا ،كمم فمها بكفه الغليظ وأحاط جذعها بذراعه األيسر وحملها ً ينفث
ّ
وهي تقاوم وتصارع ،انقضت" قطرة الدمع" على الرجل وبدأت تنبش رأسه
بمخلبيها بينما تفلتت َ"مرام" من بين ذراعيه وهربت ،انزلقت وهي تركض
ً
فأسرها رجل آخر وعاملها بصلف وقسوة ،لطمها أوال ّثم ضربها على رأسها
ففقدت الوعي ،كان مقيتا له سحنة شخص خارج من قبره للتو ،عاد الرجل
ُ
الضخم ورأسه تقطر دما وركلها بقدمه في غيظ ث ّم حملها على حصانه
وانطلق االثنان خارجين من الغابة ومتجهين نحو القرية ،لقد وقعت َ"مرام" في
أسر تاجر للرقيق ،عادت "قطرة الدمع" لتخبر امللكة بما حدث ،وبقيت َ"مرام"
ملقاة على أرض في غرفة مكتظة بالفتيات .أفاقت بصعوبة وأمسكت برأسها،
تحسّ همهمت ببضع كلمات غير مفهومة وسرحت نظراتها للحظات وهي
90
وأخيرا استوعبت ما حدث لها ّ
فندت منها صرخة ً بانقباض ال تدري مصدره،
قصيرة جعلت كل من بالغرفة ينظر إليها.
❐❐❐
الكثير من القدور الكبيرة املمتلئة باملاء الساخن ،بعض املناشف ملقاة هنا
وهناك ،املكان يعبق برائحة عطور مختلطة ،وامرأة شقراء تجلس في ركن تزين
يعدون الفتيات قبل أن يعرضوهن في السوق للبيع، وجه فتاة باألصباغ .هنا ّ
أحيانا في بعض القرى ينتهي األمر بم وت من يسرقونهم من العبيد على حدود ً
قريتهم وبالتحديد عند الحاجز الحجري املحيط بها ،وهم ال يعرفون السبب!
هذا ما يتناقلونه من قديم الزمان ،ولهذا كان اللصوص يسرقون الفتيات من
الغابة والبساتين حول القرى ،ألنهن خرجن بأنفسهن وتخطين ذاك الحاجز
الحجري بأمان للتسكع أ و للقاء حبيب رّبما وسيعدن في وقت الحق ،وكانت
ً َ"مرام" ً
صيدا سهال في الغابة.
بوجه ممتلئ مستدير ،وبعينين مكحولتين بإتقان ،وشفتين أغرقهما الصبغ
وكأنها التهمت فريستها للتو وقفت امرأة ممتلئة القوام تتأرجح فياألحمر ّ
مشيتها أمام َ"مرام" تتفحصها ّ
وكأنها تتفحص طي ًرا قبل أن تشتريه من السوق،
ُ
لكزتها بقسوة ث ّم جذبتها من ذراعها وقالت بغيظ:
ّ -
هيا أيتها الحمقاء اخلعي مالبسك.
حدقت َ"مرام" فيها بعدم استيعاب وقالت بخوف: ّ
91
تلفتت َ"مرام" حولها وهي تضع كفيها فوق بعضهما على صدرها ،كانت
ترتجف ،في حركة عصبية سريعة أمسكت َمرام بإبريق نحاس ي قريب منها
وسكبت املاء على رأسها وبدأت تستحم بمالبسها ،رفعت املرأة حاجبيها وقالت
في تهكم تشوبه مرارة وهي ّ
تكز على أسنانها:
-يبدو ّأنك حمقاء ...حمقاء
ّ
تسبها ورفعت صوتها بينما استمرت َ"مرام" في مطت املرأة كلماتها وهي ّ
سكب املاء على رأسها بيد مرتعشة ،كانت في هلع وخوف من أن يلقوا بها في
تفكر أين املغاتير وأين الصقورّ
أحضان رجل حقير يفترسها ،أطرقت للحظة
وأين هؤالء الذين كانوا حولها خالل األيام املاضية ،وكيف ال يعرفها أحد هنا،
كادت تصرخ وتقول أنا محاربةّ ،
لكن...أي محاربة هي اآلن!!
علت ضحكات البعض وهم يراقبون َ"مرام" وهي تتحمم بمالبسها ،ألقت
باإلبريق عليهن ،وبدأت تصرخ عليهن ،تشابكت مع بعضهن باأليدي تارة،
وبساقيها كانت تركلهن تارة ،لكنها كانت تنال منهن ما ال تطيقه ،بعض
عضتها إحداهن في ذراعها ،وضربتها أخرى الصفعات والركالت والقرصاتّ ،
على ظهرها بقسوة بالغة ،جذبوا غطاء رأسها فانساب شعرها على كتفيها،
وقفت املرأة أمامها تغلي كالقدر ،كادت تلطمها لوال تلك املرأة طويلة القامة
وهزت رأسها بثقة وهيبمالبسها السافرة وشعرها األحمر التي اقتربت منهن ّ
تطالع عيني املرأة البدينة وقالت بصوت شابته رّنة دالل مصطنعة:
-اتركيها لي ،لن تفلح تلك الطريقة معها فلديها بعض الكبرياء ،سأجهزها
بنفس ي.
ّ
تبرم بعد أن نالت َ"مرام" حظها من
استدارت املرأة وغادرت املكان في ّ
ً
نظراتها البغيضة ،وقالت ولسانها يقطر حقدا:
-فلتكسري ذاك الكبرياء.
وتركتها بين يدي تلك املرأة التي أحاطتها بمنشفة كبيرة وهمست في أذنها
بحنان:
-تعالي يا صغيرتي ،تعالي معي.
❐❐❐
92
كانت الغرفة تسبح في هدوء غريب ،الكثير من املالبس املزركشة
وكأنه معرض كبير ،بخطوات واثقة ّ معلقة هنا وهناك ّ ّ
تحركت املرأة
ً
بقامتها الطويلة وسحبت رداء شفافا واقتربت من َ"مرام" وقالت بصوت
ّ
متهدج:
-خذي هذا الثوب وارتديه سيزيد جمالك ،فلونه يناسب لون بشرتك.
رفعت َ"مرام" عينيها في انزعاج وقالت:
-لن أرتدي هذا الثوب املهين ،سأظل بمالبس ي.
ضحكت املرأة بخالعة وقالت لها وهي تربت على طرف الفراش:
أنت؟ -اجلس ي يا فتاتي واخبريني ّ
بقصتك ،من أين ِ
جلست َمرام ّ
بتحفظ على طرف الفراش وقالت بثقة:
-أنا محاربة!
ران عليهما الصمت لوهلة قبل أن تنخرط املرأة في موجه ضحك هستيري
ظلت َ"مرام" على حالها تقبض على طرف املنشفة فوق ّ
بطريقة مبتذلة،
ّ
مالبسها املبتلة وتراقبها في توتر ،بعد حين خرجت املرأة وعادت بكوبين من
الفخار تتصاعد منهما األبخرةّ ،
مدت أحدهما ل َـ"مرام" وقالت بصوت أكثر ّ
هدوءا مما كانت تتحدث به ً
سابقا وبدت جادة ومنضبطة وهي تقول: ً
❐❐❐
94
()8
هس ..هسس ..همست بها فتاة صبيحة الوجه من خلف األشجار ،كان
"كلودة" يغفو فتسقط رأسه تارة ً
يمينا ،وتارة يسا ًرا ،ما زال القيد يؤمله .لم
تحركت وسارت على أطراف أصابعها وتقوقعت خلف ينتبه إليها إال عندما ّ
ظهره ثم بدأت تلكزه بيدها حتى ينتبه لوجودها ،قال متفاجئاً:
97
بقوة خارج حدود الغابة حيث كانت "أشريا" تقف بحبلها املجدول ودفعهما ّ
بأقدامها فوق الحاجز الحجري فسقطت على األرض وبدأت تسعل وشهقت
سريعا وتخطى الحاجز الحجري ووقف يلتقط أنفاسه وقلبه ً بينما قفز "أنس"
ّ ّ
يكاد يثب من بين أضلعه وظل يحدق في وجه أحد "املجاهيم" والذي كان يقف
بتوعد فقد خدعهم وأخرج "أشريا" والصغيرةمشيرا إليه ّ
ً داخل حدود الغابة
من الغابة بذكاء.
فهزتها "أشريا" بحنان وأخذت تحضنها وتغطيها بدأت الصغيرة في البكاء ّ
بخمارها ،استعاد "أنس" القالدة منها وارتداها وهو ّ
يتلفت ويراقب "املجاهيم"
يصطفون على أطراف الغابة من الداخل .اتجه الثالثة إلى القرية ً
ركضا ّ وهم
ّ
حيث التقوا بقافلة تجارية كبيرة ،تعرف أحد التجار على "كلودة" فحياه
آخرا لـ"أنس"، ً
قميصا ً قميصا يرتديه ،فطلب "كلودة" على استحياء ً وأعاره
وساروا في حمايتهم حتى دلفوا القرية بأمان ،وجلسوا ليلتقطوا أنفاسهم.
ران عليهم صمت خفيف قطعه ظهور وجه قبيح لرجل أشعث امتأل وجهه
بندبات جروح عميقة وله نظرة تخلع القلب ،فور أن ملحه "كلودة" وثب في
مكانه وركض مع "أشريا" وهي تحتضن الصغيرة ،وخلفهما "أنس" تجاه سوق
ظل يطاردهم حتى أحاطتهم أمواج البشر القرية ،كان أحد اللصوص الذي ّ
املزدحمين حول البائعين ،غابوا عن عينيه فتراجع وهو ّ
يسب ويلعن.
أخيرا إلى دار ّأم "أشريا" ،فتحت "أشريا" الباب بهدوء ،كانت ً وصلوا
ّ
الصغيرة قد سكنت في حضنها ،واستسلمت للنوم بينما كانت"أشريا" تشمها
وتلثمها على جبينها فاستيقظت الصغيرة وبدأت تصرخ ،قالت في نفسها طاملا
تحبه ،أحضرت أشريا" العسل وغمست إصبعها تفوح منها رائحة العسل فهي ّ
ّ ُ فيه ،وأطعمتها ً
بعضا منه فشبعت وهدأت وابتسمت ،ثم هرولت بها نحو أمها
العجوز وفتحت باب غرفتها فأجفلت! كانت العجوز تبكي بنشيج مسموع
وعيناها محتقنتان من كثرة البكاء ،وضعت "أشريا" الصغيرة في حجرها
شديد وطلبت
ٍ وقصت عليها ما حدث ،صرخت العجوز في وجهها بفزع بهدوءّ ،
من "كلودة" أن يخرج بالصغيرة من الدار!!
وقفت "أشريا" تتعجب من ر ّد فعل ّأمها التي عادت للبكاء الذي أدمى
عينيها فصارت ال ترى وجه ابنتها "أشريا" وهي تقف أمامها.
98
ً
مهموما وسار في الطرقات يحملها ،ربطها حول صدره وك ـ ـ ـانت خرج" كلودة"
تهش له وتبتسم ،وقف وسط السوق ّكلما التقت عيناه بعينيها الصغيرتين ّ
وصاح:
-عثرت على تلك الصغيرة بالغابة ،وأنا سأربيها وأحتاج العون.
نال من الهمز واللمز ما لم ينله من قبل ،واتهموه بالسوء ،لكن هللا ألقى
الرحمة في قلوب البعض.
َ
احتضنها "كلودة" وك ّور جذعه عليها ليحميها من الح جارة التي قذفه بها
ً
متعجبا من فعلهم هذا! البعض ،كان "أنس" يدفعهم ويصيح عليهم
ُ بكي "كلودة" وانهار وكأنه قد فقد ّ
كل أهله فجأة ،ثم رفع نظره إلى
السماء وقال:
-سبحانك سبحانك ،يا رحيم يا ودود.
ُ
ث ّم أكمل بصوت تخنقه العبرات:
-وما ذنب الصغيرة ...وما ذنب الصغيرة!
خرج ت امرأة ثالثينية من بيتها وعليها ثياب ملطخة بالطحين األبيض،
وخلفها تهرول طفلتان صغيرتان ،سارت بخطوات ثابتة وهي توزع نظرات
ُ
تحمل الكثير من التحدي ملن تجمهروا حول "كلودة" ،ث ّم نظرت للرضيعة
وحملتها منه وبدأت الدموع تجري على خديها..
-سأرضعها ..ال تخف عليها.
ً
قالتها بصوت واثق وهي تحتضنها ،كانت تلك زوجة الخباز ،وكان رجال
ً
بسيطا قد أحسن إليه "كلودة" من قبل ،وكانت تحفظ وزوجها له الجميل،
ً
أخبرته أن يتركها في دارهم طوال النهار ،ويعود ليأخذها لتبيت معه ليال.
-سبحانك سبحانك ،تسخر من خلقك من تشاء ملن تشاء!
قالها وهو يتركها بين يديها ،كانت َنبرة صوت "كلودة" تقطر حنانا ً
وحبا
99
ً
وحزنا في نفس الوقتّ ،
تجول "أنس" في مالمحه التي تطفح بالحزن وقال وهو
يمسح على رأس الصغيرة بينما زوجة الخباز تحملها:
أحسنت إليها.
ِ إليك كما
صنعت ،أحسن هللا ِ
ِ -جميل ما
رفع "كلودة" صوته وسط السوق وقال وما زالت الدموع تسيل من عينيه:
ّ
الخفية لهلكت األنفاس. النقية ّ
واألنات -سبحانك سبحانك ،لوال العبرات ّ
ً
منكسرا! انصرفا وتركا الصغيرة مع زوجة الخباز ،بدا "كلودة" ً
حزينا
كان "أنس" يتساءل عن حال ذاك الشاب! وهل هو ناسك عابد؟ أم
يحب ابنة ّ
عمه بشغف! مريض؟ أم عاشق ولهان ّ
ً
صامتا حتى وصال إلى بيته ،قال "أنس" وهو سار خلفه ملسافة طويلة
يمسح على جبهته:
ً
-ليتني واجهت ذاك اللص الذي تبعنا للقرية بدال من الهرب منه ،ال ّبد أن
ّ
أسترد كتابي؟
التفت إليه "كلودة" وهو يفتح باب داره البسيطة:
-رّبما من األفضل أن تنتظر حتى تسأل شهاب.
-ال ...سأستعيده بنفس ي.
واملقبح در ًسا فهو لم يعتد
ّ ود أن ّ
يلقن القبيح قالها بعد أن ز ّم شفتيهّ ،
حقه طاملا هو قادر على استرداده ،كان عص ي عليه أن يشرح هذا على ترك ّ
ً
سريعا ،وكانا لـ"كلودة" ،لن يهدأ له بال حتى يسترد الكتاب بنفسهّ .
حل الليل
مرت من فوقهما تلك معا لبيت "كلودة" بعد أن ّقد أرهقا من السير ،دلفا ً
البومة العجيبة التي تمنح أميرتها رؤى ليلية تكشف عن املحاربين ،فرأتهما
األميرة َ"نبرة" بعيني بومتها ،هي تعلم اآلن أن "أنس" بصحبة شاب ماّ ،
لكنها ما
الشاب الذي يستضيفه! ألقى الت ال تعرف مكانه ،ولم تر بعد وجه هذا ّ
ز
محشوة بريش الطيور ،واستسلم للنوم ،كان متعباً
ّ "أنس" رأسه على وسادة
حد كبير. ً
ومرهقا إلى ٍ
❐❐❐
100
()9
"أُونيت"
ً ّ
-ستون كشتاال وإال فلتنصرف فليس لك بضاعة عندنا.
يتأمل وجه َ"مرام" والتي كانت تبدو ظاهرة عن الفتيات حولها
وقف الشاب ّ
ألنها كانت تبكي وتحاول جذب أي ليس بسبب لون بشرتها املختلف ،ولكن ّ
ّ
قطعة قماش لتغطي جسدها ،حتى ّأنها شقت وسادة حريرية واستخدمت
كسوتها كغطاء لكتفيها ّ
لكنهم جذبوه منها ونهروها أكثر من ّ
مرة.
ً
-سبعون كشتاال.
-بل خمسون كشتاال فقط.
مر "أنس" من أمامها ،كان هو و "كلودة" يهروالن خلف "أشريا" وجميعهم ّ
يتلفت باحثا عن اللصوص هنا وهناك ،ظهر وجه قبيح ألحدهم من بين ً ّ
الزحام ورفع رأسه يفتش بين الوجوه عن "أنس" دون أن يراه األخير ،فعلم
"أنس" للتو ّأنه مطلوب في القصر بالفعل ،فقد أخبر امللك رجاله أن من يأتيه
قيمة ،دلف " أنس" و"كلودة" وسط الحشود التي برأس "أنس" سينال جائزة ّ
كانت تلتف حول الفتيات يقلبن في وجوههن وأجسادهن بإهانة ليشتروهن،
كل يد تمتد إليها ،رأت "أنس" وحول عنقه القالدة التي كانت َ"مرام" تضرب ّ
ّ ّ
جده وكانت جدتها قد أعطتها قالدة تشبهها فأدركت أنه هو، أعطاها له ّ
جي ًدا وكان "كلودة" الذي صاح التفتت حين ناداه شاب آخر لم َتر وجهه ّ
ّ
باسم "أنس"وسط السوق فتأكدت ّأنه هو ،كان قد ابتعد فلم يسمع صوتها
صغيرا من على األرض تحت قدميها وقذفتهً الضعيف ،فانحنت وحملت ً
حجرا
ً
ومر عليها دون أن يتوقف أمام وجهها ،كان مشمئزا من جمع به ،التفت ّ
ً
حجما ً
حجرا أكبر مرة أخرى وحملت الفتيات بمالبسهن العارية ،انحنت ّ
101
ًّ
وقذفته فأصاب رأسه ،التفت نحوها متأملا فالتقت عيناهما ،وجد أمامه فتاة
سافرا من الحرير فأجفل ثم صرف نظره عنها ً جميلة وفاتنة وترتدي ً
ثوبا
وابتعد ،فقذفته بحجر آخر في رأسه فانحني وتناوله ونظر إليها بغضب
وتصميم ورماها به فأصابها في عينها فصرخت أملا ّثم حاولت أن تنادي عليه
وقالت بصوت ابتعلته ضوضاء الحشد حولها:
اشترني ..أرجوك ..ادفع ثمني ..ال تتركني.
ِ -
لم يسمعها فحاولت أن تترك مكانها وتلحق به فصدها ذراع غليظ ألحد
الحراس الذين كانوا يحيطون بهن ،عادت ملكانها وكانت عينها تؤملها ّ
بشدة،
اختفى "أنس" بين جموع البشر في السوق وعادت تقف كالقط الغاضب تغرز
كل ٍيد تمتد لتمسك بها ،كانت معركة شرسة تدور بينها وبين زبائن مخالبها في ّ
التاجر ،حتى عال صوت الخيول ،أفسح الناس فرجة بينهم فترجل أحدهم عن
ومر بين الصفوف حتى وصل إلى التاجر الذي انحنى ليحييه بإجالل، حصانه ّ
ّ
وقف شاب قوي البنية له حضور قوي عليه مالبس تليق باألمراء ،مر على
وجوه الفتيات بعينيه اليقظتين وتفحص نظراتهن بإمعان ،اختار ثالث فتيات
بارعات الجمال وجريئات ال يستحين من عرض أنفسهن ،وعلى عكس املتوقع
دوما حيث كان ال يختار املنكسرات مثلها ،جذبت َ"مرام" انتباهه حيث كانت ً
تمزق النمارق الحريرية التي كان من املفترض أن تجلس عليها وتستند كباقي
لكنها كانت تشقها وتغطي جسدها بقماشها ودموعها تسيل على الفتياتّ ،
ُّ
وجنتيها ،كانت ترتجف عندما اقترب منها ثم أشار عليها وعلى الفتيات الثالثة،
ُ
ث ّم ألقى بكيس ممتلئ بالنقود للتاجر الذي تغيرت مالمحه عندما أمسك املال
وطرب لصوت خشخشته داخل الكيس ،دفع الفتيات بقسوة خلف الشاب
الذي التفت عندما صرخت َ"مرام" عندما جذبوا الخرق الحريرية املمزقة التي
وشاحا كان يرتديه فوق قميصه ولفها به فستر ً كانت تغطي بها جسدها وخلع
ّ
جسدها الضئيل كله فرفعته بحياء على رأسها ،كان لديه بقايا خير وإن كانت
ً
وأخيرا وجدت من يسترها! قليلة،
سارت خلفه مع الفتيات حتى خرجوا من السوق ،عاد لحصانه وأشار
تجرها الخيول إلى هناك ....حيث ألحد رجاله الذي حملهن في عربة مغطاة ّ
َ
قصر امللك ِ"كمشاق" واألميرة "نبرة" ،كان "حليم" يزور السوق من آن آلخر
ليشتري اإلماء من النساء ويهدي لـ ِ"كمشاق" أجملهن حتى يرضيه ويكسب
102
وده ،ويدفع بعضهن للخدمة في مطبخ القصر حيث ينعمن بخيرات امللك ّ
ً
وامللكة إشفاقا عليهن ،كان لديه مزيج من الخير والشر يموج في نفسه
ّ َ
املضطربة بحب "نبرة" الذي يطغى عليه ويفطر فؤاده ،كان "حليم" يتفادى
شراء الفتيات على شاكلة َ"مرام"ّ ،
لكنها على ضعف بنيتها كانت جميلة الوجه،
ّ
فحازت على انتباهه بما كانت تفعله فرق لحالها وتعجب ألمرها.
❐❐❐
103
عجل وانسلت بين أشجار البستان املحيط بالقصر ،كفكفت َ"مرام" دموعها
ّ
وتك ّورت وسكنت تنتظر وتترقب وتفكر في حالها وما آلت إليه.
❐❐❐
104
اللصوص ومعه رفاقه ،كانت رائحة القذارة تفوح منهم ،انحنوا في إذالل أمامه
وقال كبيرهم:
-موالي امللك ،جئناك ّ
بهدية.
-إن كانت كما تزعم فلك جائزة كبيرة
ابتسم فأسقطت ابتسامته اللثام عن أسنان صفراء ّ
حفتها القذارة من
أعالها وأسفلها وقال بصوت أجش متحشرج:
-هذا كتاب ألحد املحاربين عثرنا عليه في الغابة وهو في طريقه إليكم.
وقلب صفحاته الخالية ،راوده شعور ّ
تناول ِ"كمشاق" الكتاب منه
ّ
باالطمئنان عندما تأكد أن الكتاب لم يطلق سراح كلمة واحدة ،ما زال أمامه
فرصة كبيرة ،رفع رأسه ونظر لكبير اللصوص بازدراء وسأله:
-وأين هو املحارب؟
-ممم ..سنحضره يا موالي ولكن..
-ولكن ماذا؟
-نطمع في سخائك وكرمك ،وال أظنك ستبخل علينا ،أليس كذلك؟
ُّ
قهقه امللك وانتفض وانتفش ورشقه بنظرة أوقعت الرعب في نفسه ،ثم
قال:
ً
-أحضره ّأوال ثم أرني وجهك هذا ّ
مرة أخرى.
ُ
ث ّم أردف وهو يثقبه بنظرة أخرى وقعت حيث وقعت األولى فتراجع كبير
ً
اللصوص مرتبكا إثرها:
-وسيبقى الكتاب هنا حتى تعودوا به.
بخطى مترددة ونفس غاضبة ،ودماء تغلي ،ونظرات متقدة ،انصرف
اللصوص عائدين إلى حيث تركوا "أنس" و "كلودة" في صحبة ثالثة منهم ،ال ّبد
أن يعودوا بهم للملك ِ"كمشاق" ،والذي كان ّ
يتأمل غالف الكتاب ويقرأ عنوانه
في فضول:
105
" -إيكادولي"! ال ّبد أن يكون هذا الحب لي وحدي ،فليحبني الجميع.
❐❐❐
-تعاليّ ،
هيا أيتها الكسولة.
-ماذا تريدين؟
ُ
-طلبتك األميرة "أونتي" لتكوني خادمتها الشخصية ،أنت محظوظة يا فتاة!
لوال عينك املتو ّرمة تلك ِ
لكنت اآلن بين يدي امللك ِ"كمشاق" ،لقد أنقذتك
األميرة.
ّ
وقعت كلماتها بضحكة خبيثة ،كانت َ"مرام" تضغط على ذراعها حيث
قرصتها ُاملسئولة وهي تجذبها من ذراعها ،سارت وراءها بهدوء تجاه جناح
األميرة "أونتي" وهي تحبس دموعها ،أصابها الكثير من الضرب والقرص منذ
خرجت من بيت العجوز "ناردين" في الغابة ،لم تعتد على تلك العدوانية ولم
تتعرض لها خالل حلتها مع كتابها "هيال" ،كان األمر ً
هادئا رغم مرور أبطال ر
قصتها ببعض املصاعب .منذ ظهور أنس هذا انقلبت األمور كلها شقاء، ّ
أطرقت في حزن لكنها حين تذكرت ّأن ورم عينها أنقذها من أشنع البالء
اطمأنت وعلمت أن لطف هللا الخفي ال تجزع معه القلوب .وصلت ً
أخيرا حيث
كانت األميرة تقف في شرفتها وتتأمل القمر في السماء ،التفتت حين دخال عليها
وابتسمت بلطف ،وفور أن انصرفت املسئولة أسرعت تجاه َ"مرام" ووضعت
يدها بحنان على كتفها وقالت:
-هل أنت بخير؟
-بخير يا موالتي
ُ
التفتت إليها "أونتي" وقالت بإشفاق:
ً
مناسبا لك من املالبس التي فيه. -افتحي هذا الصندوق وتخيري ما ترينه
أسرعت َ"مرام" التي كانت ال تزال تتلحف بوشاح "حليم" الذي لفها به
تعجبت َ"مرام" فالثياب في الصندوق ال تناسب عندما اشتراها في السوقّ ،
106
األميرة وال تشبه الرداء الذي ترتديه ،آثرت الصمت وسحبت ر ً
داء طويل
األكمام وسرواال ً
واسعا وارتدتهما في الحال وخلعت املالبس الخليعة التي كانت
ّ
عليها ،تذكرت نظرة "أنس" لها في السوق فأصابها الحزن ،ذاك الشاب ظنها
فتاة سيئة ،أمسكت بطرف ُ الوشاح الذي كان عليها وبدأت تمسح األصباغ
على وجهها فالتفتت األميرة "أونتي" وضحكت وهي تراقبها وقالت:
-أليس هذا وشاح "حليم"؟
-نعم هو ،سترني به وأنا في السوق.
الحت على وجه األميرة ابتسامة وهي تقول:
ّ
-كم هو شهم! ال بد ّأنه ر ّق لحالك ،عجيب أمر "حليم" هذا! يتقلب بين
حالتين وكأن النهار والليل يتعاقبان فيه!
-ماذا تعنين؟
ً ً ً ً
أحيانا يكون ً
وحنونا ،وأحيانا يكون غليظا فظا!! ،أتعلمين ،لو رآك طيبا -
تمسحين األصباغ به لعاقبك في الحال.
تنهدت َ"مرام" وقالت:
ّ
-ما أنا فيه هو عقاب بالفعل ،ليتني لم أكن ً
يوما أنثى!
-لم تقولين هذا؟
-أجبروني على ما ال طاقة لي به ،خلعوا حجابي ،مزقوا حيائي ،هتكوا
ً
ستري ...ليتني كنت رجال.
ّ ُ
وانخرطت تبكي بنشيج مسموع فرقت "أونتي" لحالها وجلست بجوارها
ّ تهدئ من روعهاُ ،ث ّم سألتها عن ّ
قصتها فصمتت َ"مرام" هنيهة وفكرت هل من
الصواب أن تعرف األميرة ّ
بقصتها أم ال ،فضلت أن تكتم أمر كونها محاربة،
ّ واستأنفت البكاء ّ
وكأنها ال تقدر ُعلى الكالم حتى ملت األميرة وعادت لشرفتها
ً ّ
تتأمل القمر في السماء ،كانت "أونتي" ساهمة تفكر في حبيبها ،تطرق طويال
وتغرق في أحالم يقظتها حتى ّأنها ال تشعر بمن حولها ،أدركت َ"مرام" أن وراء
ّ ّ تلك األميرة ًّ
وتتصبر لعلها تعينها على الهروب من ذاك سرا ما ،قررت أن تتجلد
107
ّ ً القصر ،كانت عينها تؤملها ّ
بشدة ،بدأ جفنها يزرق وبرز قليال ،تذكرت كيف
كان "أنس" ينظر إليها وهو يصوب الحجر تجاهها فاعتصر الحزن قلبها وغضبت
منه ،همست لنفسها وهي ّ
تعدل وسادتها لتنام:
أيظنني ًّ
بغيا تناديه! يوما ما سأنتقم من هذا املحارب األحمق ...واملغرور!
❐❐❐
"َ -مرام"...استيقظي.
ُ
همست األميرة "أونتي" في أذنها فانتصبت جالسة وبدأت تفرك عينيها،
اعتادت على االستيقاظ في مكان يختلف عن بيتها الذي ولدت فيه ،اشتاقت
ّ
الخاصة ،التفتت فرأت األميرة ُلغرفتها وأمها ،كادت تنس ى سريرها وأشياءها
مالبسا بسيطة ال ت ليق بها كأميرة ،سحبتها من يدها ً "أونتي" وقد ارتدت
ّ
وهمست قبل أن يخرجا من جناح األميرة الخاص بها:
ّ
"َ -مرام"..اخترتك ألني أدركت من اللحظة األولى أنك لست من ذاك النوع
من الفتيات الذي يبحث عنه أخي ِ"كمشاق" وغيره ،وأشعر ّأنك لست من
هذا املكان.
ُ
سريعا ،كانت طريقة َ"مرام" فيً ث ّم صمتت برهة وعبرت على مالمح َ"مرام"
مرة ،وهلعها عندما ذكرت املسئولة أمر الجواري وما الكالم عندما رأتها ّأول ّ
ّ
يفعلنه إلرضاء امللك ،ودموعها التي كانت تنساب على وجنتيها ،توحي بأنها على
استعداد أن تفعل أي ش يء مقابل أن ينقذها أحدهم من هذا املأزق ،رمقتها
بثقة وقالت:
سري -بقاؤك هنا في جناحي مرهون بإخالصك لي ،فأنا أحتاج ملن تكتم ّ
سري ،وطاملاوتعينني ،فقد سلبوني أفضل الجواري عندي ومن كانت تكتم ّ
كل رجال القصر. أثبت والءك لي يا َ"مرام" سأحميك من ّ ّ
ِ
ّ َ
سألتها "مرام" بتعجب:
سلبوك جاريتك املخلصة؟
ِ -وملاذا
-سأخبرك ً
الحقاّ ،أما اآلن فغطي وجهك وسيري خلفي.
108
-إلى أين؟
ُ
انطلقت "أونتي" وخلفها َ"مرام" تتساءل في نفسها كيف ستستطيع تلك
التي ُسلبت أقرب جواريها أن تحميها! بدأ القلق يستبد بها وأكملت سيرها
والوساوس تنهشها .كانت السماء ما زالت شاحبة ،ال يتبين الخيط األبيض من
الخيط األسود من الفجر ،انسابت بين أشجار البستان وخلفها َ"مرام" التي ال
تدري أين تذهب بها األميرة ،بعد حين من الوقت وحيث غمر النور املكان
وسريعا ما ظهر شاب طويل القامة ً تنتظران،
ً بالتد ّريج وقفتا تحت شجرة ُ
وقوي البنية ،أسرعت تجاهه "أونتي" ،كانت متلهفة لرؤيته للغاية ،بدأت
تتحدث معه وتتبعه هنا وهناك ،بدا ل َـ"مرام" أن األميرة تحاول جاهدة أن ّ
تغريه وتراوده عن نفسه.
سر هذا وما تلك أي ّفاستدارت َ"مرام" بانزعاج وكانت في حالة يرثى لهاّ ،
املصيبة التي أشركتها فيها تلك األميرة ،وقفت تعتصر يديها بقلق ،جاست
بعينيها في السماء تسأل هللا أال يؤاخذها بما يحدث خلف ظهرها.
❐❐❐
استيقظ "أنس" وكبح تثاؤبا وهو يبحث عن "كلودة" في الغرفة ،يبدو ّأنه
سريعا ،كان في حالة من النشاط ً خرج من البيت! لم يدم انتظاره له فقد عاد
ّ
وكأنه لم يكن بنفس الروح التي كانت تبكي بالسوق أمس وهي منكسرة! وكأنه ّ
قد غسل وجهه من ال حزن وعاد بسحنة جديدة!
سريعا وغادرا البيت حيث انصرف "كلودة" إلى دكانه مرت ساعة اإلفطار ً ّ
ّ
بينما فارقه "أنس" ،فقد قرر العودة إلى الغابة ربما يلتقي بالرمادي هناك
ويسأله ما مصير كتابه! أو رّبما يعثر على "شهاب" .كان "أنس" يسير وعيناه على
قوية، قمة الجبل يراقب الحلقة الحمراء التي تحيطه ،كان الجو بار ًدا والرياح ّ ّ
كل ما ّ ّ
ويتنصت ويراقب الطريق بحذر ،بدأ يقلب ّ ّ
مر به من آن آلخر كان يقف
في رأسه ،ال يدري بالتحديد كيف ستكون خطوته القادمة ،فالعجوز "ناردين"
أخبرته أن يحرص على كتابه ويراقبه من آن آلخر ،ولكن أين الكتاب اآلن!!
سكنت الرياح ،وغمرته موجة من الدفء وهو يسير ،لـ ـ ـ ـم يتخيل ً
يوما أنـ ـ ـ ـه
109
ً
وحيدا في سيبتعد عن أسرته بتلك الطريقة ،ولم يخطر بباله أنه سيكون ً
يوما
عالم ال يعرف عنه أي ش يء.
حياه بحبور ودعاه لبيته ،لم ظهر "شهاب" أمامه فجأة كما لو كان ً
شبحاّ ،
يتوقف "أنس " عن األسئلة منذ أن رأته عيناه ،أخبره أن الكتاب قد ُسرق
ُ
منه ،أخبره بأمر "كلودة" و "أشريا" والصغيرة ،أنصت إليه "شهاب" ث ّم طمأنه،
املرة األولى ،سارا معا على طريق وأخبره أن الكتاب سيجده كما وجده في ّ
أطل بيت "شهاب" في نهايته فتهلل وجه "أنس" ،فالبيت معشوشبة طويلةّ ،
مختلفا عن كل ما شاهده منذ وصوله ،فهو أقرب لعامله الذي نشأ فيه، ً يبدو
ً
سعيدا ومرحاً وأبعد عن تلك األعاجيب التي يراها ويعيشها اآلن .بدا "شهاب"
ٌ
مع بناته الثالثة ،حتى زوجته بدت في حالة رائعة ،وجه مشرق عليه مسحة
مطمئنة ،كانت البنات ملتصقات بأبيهن ،واحدة ّ نفس
طي ٍبة وقسمات تنم عن ٍ
تحتضن ساقه اليسرى وكانت أقصرهن قامة ،واألخر تحتضن جذعه وكانت
ى
تبدو كأنها تكبر شقيقتها بعامين ،والثالثة كانت تمسك بيده وتلك أكبرهن
البني الحريري املجدول في ضفيرتين، وأطولهن قامة ،نفس املالمح ،والشعر ّ
مرات فيحتى ألوان ثيابهن كانت متطابقة ،وكأنهن نسخة تكررت وولدت ثالث ّ
متفرقة ،قال "شهاب" بترحاب شديد:ثالث أعوام ّ
طعاما ً
شهيا ،انضم إلينا. أعدت زوجتي ً هيا يا "أنس"ّ ،
ّ -
فتح "شهاب" باب البيت واجتاز البهو ومن خلفه بناته يقفزن حوله
ّ
ووراءهن "أنس" ،كانت النوافذ كلها مفتوحة ،والغرفة تسبح في نور لطيف،
لتضيف "أنس" وكانت قد ّ
أعدت ّ وتفوح برائحة الطعام .اقتربت زوجة "شهاب"
ّ
حساء الخضراوات اللذيذ والكثير من الفطائر الشهية ،جلس "أنس" بين بنات
"شهاب" الثالثة وقد أصابته عدوى السعادة ،كانت لديهن كفوف صغيرة
وأنامل دقيقة ،ووجوه جميلة .أصواتهن الرقيقة وضحكات هن الجزلة جعلت
االبتسامة ال تفارق وجهه ،التفتت إليه أكبرهن وسألته:
-ما اسمك؟
" -أنس" وأنت؟
" -جمانة"
110
-اسمك جميل.
ُ
ث ّم التفتت لشقيقتيها وقالت بحماس شديد وهي تشير إليهما بسبابتها:
-هذه أختي "جميلة" وتلك أختي "جويرية" ،نحن الشقيقات الثالثة "ج "
هل أنت صديق ألبي؟
ضحك "أنس" وقد أعجبته طريقتها في تقديم نفسها وشقيقتيها له وقال:
ّ -
أظن ذلك.
ابتسم "شهاب" وقال ّ
بود:
-هو صديقي ً
طبعا يا "جمانة".
جذبته ابنته الصغرى من قميصه وقالت بكسل:
املرة ،طال غيابك ً
كثيرا ....أنا -أبي ،ال تغب عن البيت كما فعلت هذه ّ
حبك يا أبي. ُأ ّ
ضم "شهاب" ابنته إليه وغمره شعور ال نهائي بالعرفان ،طالعته بعذوبة، ّ
ً ُ
ث ّم كبحت تثاؤبا ووضعت رأسها على كتفه واستسلمت للنعاس.
بدأ "أنس" يتناول طعامه والسؤال يدور في رأسه ،ملاذا كان "شهاب" ً
غائبا
ّ
عن بيته في الفترة املاضية؟ ،توقع "شهاب" ما يدور في رأسه فقال باهتمام:
ُ
-خالل الفترة املاضية كنت أراقب "محاربة" لحمايتها.
-وملاذا كنت تحميها؟
ً
جديدا كان يولد على يديها ،خشيت أن تتعرض للخطر، -ألن هناك ً
كتابا
ّ
الخاصة.. كنت أتدخل بطريقتي
تبادل "شهاب" وزوجته النظرات عندما سألهما "أنس" بهدوء:
-ملاذا ال تشبهون أهل النوبة؟ أنت وزوجتك وبناتك تختلفون في املالمح ولون
البشرة!
الح شبح ابتسامة على شفتي "شهاب" وهو يقول:
111
أيضا؟ -وماذا الحظت ً
-املالبس ...تختلفون عن بعضكم البعض ،رغم ّأنكم في مملكة واحدة
كل قريةتباينا من نوع ماّ ،جليا إال ّأن هناك ً ويبدو لي التناغم بينكم ً
تختلف عن األخرى!
ّ
تبادل "شهاب" وزوجته نظرات أخرى تش ي بالكثير ،ولم يعلقا على
مالحظات "أنس" الذي أنهى تناول الحساء وشعر بالنعاس يداهمهّ ،
تخدر
منو ًما ،طلب من "شهاب" أن يسمح له بالنوم ّ
ألنه وكأنه قد تناول للتو ّ جسده ّ
يشعر باإلرهاق الشديد فقاده فو ًرا إلى غرفة أخرى ،فقيلولة بسيطة قد
تفيده اآلن.
متعبا ّ ُ
هز "أنس" رأسه ث ّم استلقى على الفراش ً ّ
وظل يحملق في سقف
ّ
الغرفة ويده على الحقيبة بجواره ،وكأنه يخش ى أن يفقدها ،ومضت ساعات
ظل شجرة وضوء عميقاُ ،ث ّم استيقظ ليجد نفسه تحت ّ ً نام فيها ً
نوما
الشمس الضعيف يتالعب أمامه ،وثب مذعو ًرا ،أين "شهاب" وزوجته وبناته!
وأين البيت!!
حائرا ،هل يكمل الطريق إلى الجبل أم يعود للقرية! ً هز رأسه ووقف ّ
الشجرة من أصعب اللحظات وحيدا تحت ّ ً كانت تلك اللحظات التي قضاها
ّ ّ
التي قضاها منذ وصوله ،كان يشعر أن رأسه يضج بالتساؤالت ،وكان أكثر
ّ
سيسترد كتابه؟ ترددا في رأسه ،كيف األسئلة ً
ومر على "كلودة" في دكانه والذي أخبره أن قرر أنس" أن يعود إلى القرية ّ
عمه أرسلت إليهما ابنتها "أشريا" لتوصيهما أن ّ
يمرا عليهم في الدار لتناول زوجة ّ
طعام الغداء.
❐❐❐
112
()10
ّ
الشهي كانت "أشريا" خلف النافذة وحيث كان البيت يعبق برائحة الطعام
تأخر "كلودة"! كانت تنتظر وصوله بشغف هذه تراقب الطريق وتتساءل ،ملاذا ّ
ّ
مقي ًدا بال قميص في هذا البرد،
تذكرت كيف كان ّ ّ
املرة ،أشفقت عليه عندما
ّ ّ ّ
كانت تعلم أنه يحبها ،في كل مرة كان يطلبها للزواج كانت ترفضه ،تتمنع حتى
ُيصلح من حاله وتبقى على أمل أن يعود ّ
مرة أخرى ،حيرت أباها من قبل واآلن
تتأمل تمايلها خلف النافذة ً
يمينا ويسا ًرا ازدادت حيرة ّأمها التي نادتها وهي ّ
ّ
وتشب على قدميها: وتتأرجح
-ملاذا ترفضين الزواج منه وهذا حالك!
جوك عن ترديد هذا السؤال..
-أمي ..كفي أر ِ
-ما با ل هذا الشاب الذي أحضره معه؟
-ما باله؟
-هل سيقيم ببيت "كلودة"؟
-يبدو هذا يا أمي.
ملحتهما "أشريا" من بعيد يقتربان ،وبينما كان "كلودة" يمسح على صدره
وكأنه يسكت قلبه الذي يكاد يقفز من بين ضلوعه ،فهو سيكون بالقرب منهاّ
ّ اآلنّ ،
يتنفس نفس الهواء الذي تتنفسه ،همس وعلى وجهه أطلت عالمات
القلق:
-سبحانك سبحانك ،يا عالم ّ
السر والنجوى!
113
ّ
التحية بجوار أم "أشريا" ،بينما كانت دلفا على استحياء وجلسا بعد
ّ
وكأنها غير موجودة ،حيث كان كل منهما "أشريا" تجلس بجوارها منكفئة ّ
ً
يتوارى خجال من اآلخر بينما كان "أنس" يتبادل الحوار مع أم "أشريا" التي
سألته:
-أنت محارب إذن يا "أنس"
-يقولون هذا يا خالة ،فما رأيك؟
بفم ممتلئ بالطعام:
قالت ٍ
قيدك اللصوص بالحبال! -لو كنت محارًبا ما ّ
ً
موافقا وعلى وجهه ابتسامة وقال لها: ّ
هز رأسه
صدقت وهللا!
ِ -
قالت "أشريا" التي كانت تلوك الطعام ببطء:
-أتساءل حتى متى سيظل املحاربون يفدون إلى قريتنا؟
أجابتها ّأمها وهي ّ
تنقل نظراتها بين وجوههم:
ّ
وتصب -لن ينقطع املحاربون ّ
عنا طاملا الدنيا تهمس بالحكايا في الغابات،
الرياح همسها في آذان البشر ،وطاملا هناك حيوات ّ
تدون بين دفتي كتاب!
جميعا إليها في سكون ،كان لكالمها سحر غريب ،انتهوا من تناولً التفتوا
طعامهم واستأذن"كلودة" وخرج من البيت ومعه "أنس" ،همس "كلودة" وهو
يغلق الباب خلفه برفق وشرود:
-سبحانك سبحانك ،اجبر ً
فؤادا ً
متعبا ليس له إال بابك.
باغته "أنس" يسأله:
-أخبرتني أنك تريد الزواج من "أشريا" ،ملاذا لم تتزوجها؟
عقد "كلودة" يديه خلف ظهره وقال وهو ّ
يحدق في الطريق أمامه:
ّ -كلما طلبتها للزواج امتنعتّ ،
وكأن هناك ما يحجبها عني ويحجبني عنها.
114
-رّبما لهوانك هذا عندما تراها!
أي هوان؟ّ -
حدثتك ترتج كالجرس ،العرق يغطي جبهتك منكسرا في حضورها ،إن ّ
ً -أراك
ّ
وتتعثر في الكلمات.
ً
أوحقا هذا! أتعلم أنني لم أكن كذلك! كانوا يصفونني بالجريء و... -
-معقول! ..أنت!
أطرق "كلودة" وسار ً
صامتا لدقيقتين ثم قال:
-أتدري يا "أنس" ،وكأنك بقولك هذا رفعت النقاب عن الكثير من الكالم
تحدثني به ،الكثير من الهمزات واللمزات ّ الذي كانت زوجة عمي
ً ّ
واإلشارات ،لم أفطن إليها إال اآلن وكأن عقلي كان محجوبا بحجاب!
-غير من طريقتك إذن ّ ..
تجمل يا فتى.
-كيف؟
ّ -
كف عن اللجلجة والتلعثم وأنت تتحدث إليها.
-أنا أتلعثم!!
تنفس بعمق وادخل مرفوع الرأس وال ْ
تح ِنها كما تفعل، -نعم أنت تتلعثم! ّ
ّ ً
وتحدث على مهل ،ليس من افتح صدرك واجلس معتدال ،قلل كالمك
كل يوم ،وحتى إن أردت السؤال عنهم فخفف الضروري أن تذهب ّ
ّ وانصرف وكن ً
عزيزا وال تأكل إال لو دعوك للطعام بأنفسهم ،وال تحط من
نفسك عندما تحكي عن مشاكلك في الدكان ،واألفضل أال تحكيها ،وال
وتطيب فالطيب رسول يقدم لك ويعطر حضورك. تذهب بمالبس العملّ ،
ً
حكيما يا "أنس" ،من أين لك بهذا؟! -هللا! هللا! أراك
-من ّ
جدي الحبيب ،كم أشتاق إليه!
ُ
ث ّم التفت "أنس" وسأله:
115
-واآلن..ماذا سأفعل يا "كلودة"؟ دبرني يا صديقي ،كيف سأصل لكتابي؟
رفع "كلودة" يده وأشار إليه ليستدير معه وقال بحماس:
-سنرتاح الليلة ُث ّم نفكر ً
غدا.
بخطى سريعة مض ى كالهما تجاه بيت "كلودة" ،كانت املسافة كبيرة بين بيت
مرا خالل الطريق على سهول واسعة تتدرج في االرتفاع"أشريا" وبيت "كلودة"ّ ،
وكأنها درج يرتقي نحو السماء ،يعلوها من بعيد قصر امللك ِ"كمشاق" كان
تحلق فوق ّّ
قمته الغربان ،بينما تحيطه البساتين القصر يبدو كالجبل
الخضراء الزاهية من كل الجهات.
"سبحانك سبحانك يا بديع األكوان"
ّ
همس بها "كلودة" وهو يتأمل السهول وألوانها الرائعة ،تمش ى "أنس" بعينيه في
السماء وسأله بفضول:
وكأنها على وشك أن تمطر؟ وكأننا ً
دوما في نهار -ملاذا يبدو الطقس هنا دوما ّ
الشتاء ،الشمس باهتة ،لست ً
واثقا ّأنها أشرقت ،وال تستطيع أن تنفي ّأنها
هناك!
لم يجبه "كلودة" ،فهو ال يعلم!
ضا واسعة وكأن الناس قد هجروا تلك يتوسط أر ً
من بعيد الح بيت صغير ّ
ّ
املنطقة النائية ،دلفوا حيث بدأت الهررة الصغيرة تحلق حولهما وكان "كلودة"
بود صادق ،انصرفت القطط وجلس "كلودة" مع "أنس" ،وقال فور يداعبهم ّ
أن استقر على املقعد أمامه:
حراس املكتبةّ ،بما يعلمون ً
شيئا عن كتابك. ّ -
ر
-سمعت عنهم من جدي ،هل التقيت بهم من قبل يا "كلودة"؟
لكنهم يرسلون ّ
إلي من آن آلخر يطلبون -نحن ال نجرؤ على االقتراب منهمّ ،
علي رسولهم ،فإن شئت أن تسأله عنسيمر ّ
ّ ً
صباحا الحبر بألوانهً ،
وغدا
الطريقة الصحيحة السترداد الكتاب فلك هذا.
❐❐❐
116
َ
وضعت "نبرة" الكأس على الطاولة وتناولت من أخيها امللك ِ"كمشاق"
ّ ً
حرفاّ ، ً كتاب "إيكادولي" ّ
تنهدت عندما تذكرت ومرت بأناملها على الكلمة حرفا
ً
موجها كالمه لـ "حليم" بلهجة صورة "أنس" ،أزعجها صوت أخيها عندما قال
ال تقبل النقاش:
-فور أن يأتوني باملحارب سنستدعي الكهنة وننهي األمر في الحال.
قالت بتلعثم جعلهما يلتفتان إليها فليس من عادتها التلعثم:
-فلنسمع منه ّأوال ،ال داعي لقتله بتلك الطريقة التي اعتاد الكهنة فعلها
باملحاربين.
َ
كانت "نبرة" تتلذذ بمراقبتهم وهم يثقبون قلب املحارب ويكتبون بدمه
املراق ما يوافق أفكارهم حتى يلفظ أنفاسه األخيرة ،وألن "حليم" يعرف عنها
تعجب في نفسه وسألها بفضول شديد : هذا ّ
-وملاذا؟
ً
قالت وهي تعبث بخصالت شعرها األبنوس ي وتؤرجح ساقا فوق األخرى:
ً
-يبدو الشاب مساملا حتى اآلن.
أيته ّ
مرة أخرى؟ -هل ر ِ
-نعم ،هو اآلن بصحبة شاب آخر من إحدى القرى حولنا ،لكنني ال أعرف
املكان ،لم أر عالمة مميزة تكشف لي عن موقع البيت ....كما أن
عنوان الكتاب مختلف ،وأعجبني.
ُ
ث ّم قالت وهي تطالعه بعينيها الكحيلتين:
" -إيكادولي"
ظنها النت له، لكنها لم تعد النظر إليهّ ،
اجيا ّ
ظل ينظر لها ر ً
ارتبك"حليم"ّ ،
لكنها نهضت فجأة وهي تحتضن الكتاب ،وأخبرت شقيقها امللك ّأنها ستحتفظ ّ
به في غرفتها حتى يأتيه اللص وص باملحارب ،كان هناك شموع تبعث الظالل
ّ ّ َ
فتكسرت الظالل للحظة وانكس ـ ـ ـ ـ ـر معه ـ ـ ـ ـا مرت "نبرة" على عجل على الجدران،
117
ً
سريعا رباطة جأشه. قلب "حليم"ّ ،
لكنه استعاد
❐❐❐
قلقا على زوجته "قطرةواصل الرمادي التحليق فوق قصر "الحوراء" ،كان ً
الدمع" ،منذ عودتها بعد أن انقضت على اللص وهو يحاول اختطاف َ"مرام"
في الغابة وهي في قصر امللكة "الحوراء" يطببون جرحها فقد طعنها اللص
بخنجر وكاد يكسر جناحها ،على الشرفة وقف "الزاجل األزرق" يراقبها وهي
تستعد للتحليق مع زوجها ،رفرفت بجناحيها ثم انطلقت تتحامل على آالمها
حتى تنضم لشريك حياتها الحبيب ،كانت "الحوراء" ترقبهما من خلف كتف
"الزاجل األزرق" الذي التفت بعد أن ابتعدا وقال بإجالل:
-موالتي ،ماذا سنفعل اآلن؟ َ"مرام" في خطر ،وال ندري أين "أنس" اآلن،
كيف سنساعدهما ونحن ال نستطيع دخول الغابة ،كما ّأن الصقور لن
تستطيع الوصول إلى قرى الجنوب إن كانا قد وصال إليها.
ُ
صمتت "الحوراء" هنيهة ث ّم قالت:
-ال ّبد أن تذهب ومعك "املغاتير" إلى املكتبة.
-ماذا! وكيف هذا! ومن يجرؤ؟
-لن تدخلوها ّ
ولكنكم ستنتظرون هناك.
-ننتظر ماذا؟
-وصول "أنس"!
-وما أدراك يا موالتي أنه سيذهب إلى هناك؟
-رّبما يذهب
-هل سمعت بالخبر؟
ّ
هزت امللكة رأسها موافقة ،فقد كان هذا ّ
سرها الذي ال يعلمه إال الحكيم
118
"سامي كول" و "الزاجل األزرق" ،فالرياح تحمل أخبار املحاربين إلى الحوراء
ً
أحيانا وتهمس بها في أذنيها طوال الوقت ،كانت تسمع أصواتهم ،تختلط
تلتقها أو ترها من قبلّ ،
لكنها تسمعها بصوت امرأة عجوز تدعى "ناردين" لم ِ
ودت لو رأتها يوما ما ،لكن دخولها الغابة مستحيل! وهي تهمس وسط الغابةّ ،
ليت الرياح تنقل كالمها إليهم ،وإلى املحاربينّ ،
لكنها كانت تحمل إليها أصواتهم
هم فقط دون أن تحمل صوتها هي إليهم ،كانت "الحوراء" تعاني من ذاك األمر
فهي تعيش صراعات طوال الوقتّ ،
لكن الرياح تراها أهال لحمل تلك األمانة،
غضنت "الحوراء" حاجبيها وقالت بقلق: ّ
أظنها فقدت بعض امتيازاتها -توقفت الرياح عن حمل أخبار َ"مرام" ليّ ،
املرة األولى التي ّ
يظل فيها محارب هنا كمحاربة ،ال أدري ملاذا وكيف! ولكنها ّ
ّ
بعد انتهاء مهمته في استرداد كتابه وقد استعادت كتابها بالفعل ،أو ربما
ألنهما محاربان على أرضنا في آن واحد!
-إذن هي اآلن أضعف؟
-نعم ،وأصبحت أخبارها بعيدة عني ،لم يبق لها سوى أن تحملها "قطرة
الدمع" إلى موطنها.
ّ
-وهل فقدت جميع مميزاتها؟ كلها!!
-هللا أعلم! رّبما هناك ش يء ما ما زالت تحتفظ به!
-يا إلهي! كيف سنساعدها؟
-ال أدري ،املهم اآلن أن تنتظروا "أنس" خارج أسوار املكتبة ،اسلكوا الطريق
الشرقية ،أعلم ّأنها ّ
مشقة عليكم، ّ الطويل ودوروا حول الغابة من الجهة
ولكن ال ّبد من الوصول إليه ليعلم أن َ"مرام" دخلت الغابة من أجله
فتعرضت للخطر ،ال ّبد أن يساعدها بينما يسترد كتابه.
-ماذا!! هل فقد الكتاب؟
-نعم ،سرقه اللصوص منه ،وهو اآلن مع شاب يدعى" كلودة"
❐❐❐
119
ُ
كانت َ"مرام" تقف خلف األميرة "أونتي" والتي جلست مسترخية وأغمضت
تمشط لها شعرها بلطف عينيها وغرقت في أحالم يقظتها بينما كانت َ"مرام" ّ
وهدوء ،ما زالت عينها تؤملها ،ربطتها بقماشة بعد أن دهنتها بدهان ّ
أمدتها به
طبيبة القصر ،كان الضوء يؤذيها في عينها ففضلت أن تغطيها حتى تبرأ
وتختفي الظالل الزرقاء التي أحاطت بها ،ترددت قبل أن تسأل األميرة :
-ملاذ ال تتزوجيه؟
انتفضت األميرة وفتحت عينيها ّثم التفتت إليها وقالت بحزم:
-اخفض ي صوتك يا َ"مرام" ،سيقتلنا أخي لو علم بأمرنا ،كما ّأنه لن يوافق
على زواجي منه.
ّ ّ ُ
ث ّم عادت لحالتها وسلمتها رأسها بينما سلمت ما بداخل رأسها لعالم الخيال
وقالت ّ
بتهدج:
-املهم أنه يحبني وأنا ّ
أحبه.
-ولكن هذا ال يليق بأميرة ،كما أنه...
-كل ش يء مباح بأمر الحب
-حتى الخطيئة!
ُ ّ
تمعضت "أونتي" وقالت بضيق تنهرها:
-ال شأن لك بهذا..ال تحشري أنفك فيما ال يعنيك!
ُ
ران عليهما صمت ثقيل ،كانت "أونتي" تترقب ر ّد فعل َ"مرام" على زجرها
ّ ً
سريعا ما رقت لها فهي رغم أخطائها طيبة القلب تحن للبسطاء ،وكانت لها،
ّ َ
تشفق على "مرام" ،قالت بعذوبة وكأنها لم تنهرها منذ لحظات:
الحب ليس خطيئة ،الحب ش يء جميل عذب قو ّي كالسحر يا َ"مرام" ّ -
-وهل هذا ّ
حب!
ُ
استدارت "أونتي" وأمسكت بذراع َ"مرام" لتجلسها أمامها وسألتها باهتمام:
120
أحببت من قبل؟
ِ -وماذا تعرفين عن الحب؟ هل
-ال..ال
ّ
-ال يعرف الحب إال من يعانيه ،ال تتحدثي عن ش يء ال تعرفي كنهه.
ُ
أشاحت َ"مرام" بنظراتها عن وجه "أونتي" وقالت:
أحبك ً
حقا ما استباحك إال بالحالل! -تلك شهوة! لو ّ
ُ
على نحو سريع انزوت نظرة ساخطة في عيني "أونتي" وقالت بحزن:
-من املستحيل أن يقبل أخي أن يزوجني له ،فهو ّ
شاب بسيط يكاد ال يملك
قوت يومه.
-وكيف التقيتما؟
-كنت أهرب مع جاريتي وأرتدي مالبسها ّ
وأتنزه في البساتين حول القصر،
مرات ّ
ومرات ،وكان ألعيننا حديث فأخي كان يمنعني من الخروج ،ورأيته ّ
ّ
ولنظراتنا اشتباكات ،أعجبتني مالمحه وفتن روحي ،كان يخش ى أن يحدثني
فذهبت إليه...وآه يا َ"مرام" من حديثهّ ،إنه بليغ يجيد الكالم.
-طاملا يحدث بينكما ما يحدث فاألولى أن تتزوجيه!
ُ
ردت "أونتي" بمرارة:
-مستحيل! هو يعلم أنني أميرة فقد أخبرته ،واآلن ليس أمامنا إال هذا!
ثم أردفت ساهمة وهي تقول:
إليَ ،ونبرة صوته وهو يخبرني أنه ّ
يحبني، -أنا أعشقه ،عينيه ونظراته ّ
همساته لي باألشعار...
ّ رفعت َ"مرام" ّ
كفها وغطت أذنيها وقالت بصوت خفيض:
جوك ،ذاك ليس ً
حبا...ما تصفيه مجرد شهوة!! ليس من ُ
-ال تكملي أر ِ
الضروري أن تدنسا الحب بأفعالكما ،من املمكن أن ّ
يحبك دون أن
يطفيء شمسك ،دون أن ّ
يجرك في الوحل.
121
ّ ُ
هزت "أونتي" كتفيها وقالت:
-تلك فطرة خلقها هللا فينا ،ال تزعمي ّأنك ال تشتهين الحب بتلك الطريقة،
أنت لو قلت غير هذا!! ً
لن أصدقك أبدا ..كاذبة ِ
ثم رشقتها بنظرة ماكرة وقالت:
حد الصبابة ،وسأسمع الحب ،وستغرمين ّ ّ يوما ما ستقعين في -أتعلمينً ،
الحب شغاف قلبك.ّ منك وقتها ..اصبري يا فتاة حتى يصيب سهم
ُ ُ
ث ّم رفعت "أونتي" حاجبيها وهي تطالع عينيها ،تنتظر أثر كلماتها عليها ،صمتت
ُ
َ"مرام" هنيهة ث ّم قالت:
يوما سأتحصن قوية ،فإن وقعت في الحب ً -الفضيلة تتطلب إرادة ّ
وأستعفف حتى يأذن هللا ،ولن أخطئ ولو كان السيف على رقبتي.
وهزت كتفيها وهي تبتعد عنها ،كانت َ"مرام" مرتبكة، أعرضت عنها ُ"أونتي" ّ
ّ
الحب أحقا ستضعف لو وقعت في أخافتها الكلمات ،داهمتها وساوس نفسهاً ،
يوما ُما؟ هل سيجرها الحب ملا ال يرض ي هللا رغم أنفها؟ ً
ّ
تركتها "أونتي" وألقت برأسها على وسادتها وظلت تحملق في سقف الغرفة،
وكأنها في عالم آخر ً
بعيدا عن َ"مرام" التي كان ألم عينها يزداد حتى أنها بدأت ّ
تشعر بصداع شديد.
ُ
تفتش "أونتي" بين ّ ّ
حليها فوجئت باختفاء عقد ثمين بعد نحو ساعة وبينما
وعزيز عليها ،خرجت من غرفتها كقنبلة على وشك االنفجار ،واتجهت نحو
َ
جناح أختها "نبرة" في الجهة األخرى من القصر...
-أين عقد أمي؟
َ ُ
بغضب وهي تدفع ُباب جناح شقيقتها "نبرة" والتي كانت
صاحت "أونتي" ّ ٍ
ً
دوما قاسية عليها ،كلما رأت املسكينة "أونتي" تستمتع بش يء ما كانت تسلبها
ّإياه ،حتى الحلوى وهما صغيرتان كانت تجذبها من كفها الصغير ،عندما ماتت
ظن الجميع ّأن َ"نبرة" ستحنو على شقيقت ها التي تصغرهاّ ،
لكنها باتت أمهما ّ
ّ ُ ّ
تتحكم فيها وكأنها دمية صغيرة ورثتها ،ظلت "أونتي" خاضعة لها حتى بدأت
تمردت عليها وانفصلت عنهاتكبر ،وعندما بلغت السابعة عشرة من عمرها ّ
122
ً
مستمرا لوال تدخل شقيقهما ُ ِ"كمشاق" الذي فصل بينهما في وأصبح شجارهما
ّ ّ
جناحين مستقلين حتى يهد أ القصر ،تركت "أونتي" كل ش يء ألختها ،كانت ال
تظهر في تلك الحفالت الصاخبة ،تقوقعت على نفسها ومألت الفراغات
َ بعالقاتها مع البسطاء ،كانت لها جارية ّ
تحبها وتطمئن إليها ،سلبتها "نبرة" تلك
ُالجارية منذ أيام ،وها هي قد أرسلتها اليوم لتحضر ُلها عقد أمهما من خزانة
"أونتي" ،كان ذلك هو الش يء الوحيد الذي تعتز به"أونتي" فقد ألبستها أمها
َ
ذلك العقد وطلبت منها أن تحتفظ به لتتذكرها ،قالت "نبرة" ساخرة منها:
-يقولون أن لديك جارية جديدة حمقاء تربط عينها بخرقة بالية ،أصحيح
ذلك الخبر؟ أريد أن أراها!
-أين عقد أمي؟
َ
ر ّدت "نبرة" وهي تتحسس العقد على رقبتها:
ُ
-ها هو ...عقدك يا "أونتي"
ً ُ
غضبا وهرولت تجاهها وحاولت أن تنتزعه منها ،لكن استشاطت "أونتي"
َ
"نبرة" غرزت أظافرها في ذراعها وأبعدتها بعنف قائلة لها:
-العقد ال يليق بك ،اتركيه.
ّ ُ
وأحبتها ،ورمتها بنظرة التفتت "أونتي" تجاه جاريتها التي طاملا وثقت فيها
تترجح في مقلتيها. ّ والدموع وعتابا ،وخرجت من الغرفة ً تقطر ً
لوما
ُ
بعد ساعات من تلك العاصفة بينهما وحيث كانت "أونتي" غارقة في أحالم
يقظتها أمام شرفتها كعادتها ،دلفت الجارية على عجل وهمست معتذرة إلى
ً
باديا عليهاُ وهي تعتذر منها ،احتضنتها طويال وكانت َ"مرام" أميرتها ،كان الندم ً
َ
تراقبهما في صمت .وقفت "أونتي" وهي تسترجع ما فعلته به أختها "نبرة"،
خرجت غاضبة لتسترد العقد من جناح أختها ،دلفت فإذا الغرفة خالية فقد
حفل كبير مرتفعا فهناك ٌ
ً ذهب الجميع إلى ساحة القصر حيث كان الضجيج
سيمتد حتى تظهر الخيوط األولى ألشعة شمس الصباح ،فتشت عن العقد
فلم تجده فأدركت أن أختها ما زالت ترتديه .كادت تنصرف لوال أن عينيها
مدت يدها وأمسكته علقتا بغالف كتاب يستقر على أحد رفوف خزانة أختهاّ ،
ّ دقات قلبها عندما قرأت عنوانه" ،إيكادولي"ّ ... ّ
أحبك ،تصفحته وتسارعت
123
خاصاً لكنها ظنته ً
شيئا تعجبت لخلوه من الكالمّ ، فوجدت صفحاته خاليةّ ،
بأختها ،وطاملا أخفته في خزاتها فهو عزيز عليها ،وتلك فرصة لكي تقهرها،
أعجبها أن يكون هدية منها لحبيبها ،هو بارع في الكتابة ويستطيع أن يكتب
قصة حبهما هنا ،أخفته تحت ثيابها وعادت لغرفتها وشرعت تصنع منه ً
شيئا ّ
ُ ً
قصت أطراف ضفيرتها ووضعتها في داخله ث ّم أغلقته ووضعته وخاصاّ ،ًّ مميزا
َ ّ ُ
تحت وسادتها ،ثم ذهبت لتهمس في أذن "مرام" التي كانت متكورة على األرض
حيث كانت تنام بجوار فراش األميرة ُ في ركن الغرفة ووجهها مواجه للحائط
تماما كالليلة املاضية ،أخب رتها "أونتي" أن تستعد فهي ستوقظها وتحت قدميها ً
ّ بعد طلوع الفجر لتصحبها ّ
للمرة الثانية للقاء حبيبها ،ثم سلمت رأسها
ً
سريعا في مرة أخرى في سقف الغرفة ،وغرقت للوسادة حيث بدأ التحديق ّ
أحالم يقظتها ،بينما كانت َ"مرام" تبكي وتخفي عبراتها وتدفنها في وسادتها ،لوال
خفية النقطعت األنفاس. عبرات ّ
في مكان آخر وفي طرقات القرية ،كان "أنس" يسير بجوار "كلودة" حيث ّ
مرا
هدأ "كلودة" من خطواته ،والتفت تجاه"أنس" ،كاد يخبره أمام بيت "أشريا"ّ ،
ّ
عمه ليطمئن على "أشريا" ،ود أن يكون ولو للحظة ّ سيمران على بيت ّ ّ ّأنهما
جائعا كما تظن ً عمه الغالية والتي ملكت فؤاده ،لم يكن بالقرب من ابنة ّ
جده لكي يكون مرغوباً تذكر ما أخبره به "أنس" من نصائح ّ ّ عمه ً زوجة ّ
أحيانا!
عزيزا ،أسرع بخطواته ورفع من الناس ،قرر أن يخفف من زياراته ،وأن يكون ً
رأسه وفتح صدره ،ابتسم "أنس" وهو يتابع مشيته ،همس "كلودة" بعد أن
بانكسار:
ٍ ابتعدا عن البيت وقد عاد يسير متكو ًرا على نفسه
-سبحانك سبحانك ،يا من وسع ملكه ارحم من ضاق صدره!
وتشب علىّ كانت "أشريا" تقف خلف النافذة حيث كانت تراقب الطريق
ّ
قدميها لتتابعهما ،تأرجحت بقامتها القصيرة على نحو خفيف ،لم يمر "كلودة"
تغير ّ
فغيره عليها! كعادته! ما الذي ّ
❐❐❐
124
()11
هدية احلبيب
بزغ الفجر كقبلة في ثغر الصباح الباسم فكشف اللثام عن سحب بيضاء
السماء ،كانت َ"مرام" تهرول خلف األميرة
ُ يزينمرتصة كعقد من اللؤلؤ ّ ّ
ُ
"أونتي" تتسلالن خارج القصر ،وكانت "أونتي" تحتضن كتاب "إيكادولي" والذي
ّ قررت أن تهديه لحبيبها بعد أن ّلفته بثوب من حرير ّ
يخصها كانت قد عطرته
ّ
املفضل ،انسابت الفتاتان بين األشجار ووقفتا في البستان تنتظران بعطرها
ّ ً َ
ظهور حبيب األميرة ،باغتتها "مرام" سائلة إياها بعد أن كبحت تثاؤبا وعدلت
ربطة عينها التي ما زالت تؤملها:
-ما هذا؟
ّ -
هدية لحبيبي.
-ملاذا تلتقيان ً
مبكرا في ذاك الوقت؟
ّ
-ال أستطيع أن أقابله تحت ستار الليل ،البومة البيضاء تحلق طوال الليل
في البستان.
-أتخافين البوم؟
َ
-بل أخاف أختي "نبرة"!
-ماذا تعنين؟
َ
-أختي "نبرة" منذ والدتها مسحورة!
-كيف؟
125
تجولت البومةمتفرقة في ظالم الليلّ ،كلما ّ
-لديها بومة ترى بعينيها رؤى ّ
ّ
تحت جنح الليل ونظرت هنا وهناك ترى أختي ما تراه ،يقولون إنها موهبة
وهبت إياها ،لكنني أراها ال تستحق موهبة ،فلديها قلب أسود ّ ....
أظنها
مسحورة!
همهمت َ"مرام" بضيق:
تراك بومة أختك وال تخافين هللا!
-تخافين أن ِ
تجاهلتها ُ"أونتي"ّ ،
وكأنها لم تسمعها ،كانت الكلمات ال تقع في مرماها ،لم
ّ
تتأثر ولم يرف لها جفن ،ورغم هذا ..كانت العالقة بينهما ُتتنامى كصديقتين ال
كأميرة وجاريتها ،فالفارق بينهما عام واحد ،كما أن "أونتي" كانت تحتاج
لصديقة.
وأطل الشاب من بينها وهو ّ
يتلفت يمنة تحركت أغصان األشجار ّ من بعيد ّ
ُ
ويسرة ،هرولت "أونتي" تجاهه وعانقته فاستدارت َ"مرام" على الفور قبل أن
ّ
ُي ْخدش حياؤها وجلست تراقب الطريق ،كانت تفكر في طريقة تهرب بها من
ً ذاك القصر ،وتلك الصحبة التي ُأجبرت عليها وهي تكرههاّ ،
مر الوقت ثقيال
هديته وانصرف وهو يحتضن عليها ،انتهى اللقاء وحمل الحبيب العاشق ّ
ويشم العطر الذي أغرقته األميرة به ،اختفى ومعه الكتاب،ّ الثوب الحريري
وعادت الفتاتان إلى القصر.
❐❐❐
على باب الدار وهو ينتعل حذاءه وقف "كلودة" وقد بدا اإلرهاق على
ّ
محياه وسأل "أنس":
-أتراها غضبت ألنني لم أمر عليها أمس.
-وملاذا ستغضب "أشريا" منك يا "كلودة" ،هل كنت على موعد معها أو
وعدتها بذلك؟
-ال ،لكنني أخش ى أن تكون قد غضبت.
126
تمر علينا أخبرها ّأنك لم ترغب في إزعاجها.
-ال تقلق ،لو سألتك ملاذا لم ّ
ً ُ ّ
موافقا ث ّم قال بخفوت: هز "كلودة" رأسه
ً أفكر في كالمك ،لقد عشت ً ّ
أياما ثقاال ولقد -لم أذق طعم النوم ،كنت
رأتني "أشريا" في حال ال تسرّ.
-كيف هذا؟
-عندما مات أبي ،كنت ً
فقيرا مشقوق الثياب ،حافي األقدام أبلى أديم
األرض كعوبي وأصابعي ،لم أنتبه ملظهري هذا ،ولم أحاول تعديله ،ألنني
معرة لصقت بي ،كنت أراني أرفل بالنعم ،وكنت يوما ّأن الفقر ّ
لم أظن ً
ّ
أتردد عليهم في تلك الحالة ،أتعلل بأي ش يء ألراها ،أجلس حتى يملوا مني
فأنصرف ،أتراها كرهتني لهذا؟
-ال تغتل نفسك بتلك الطريقة! إن خاطبت نفسك بضعف فستبقى
بقوة فستكون ً
قويا ،الناس لها الحاضر ،وهم يرونك ً
ضعيفا ،وإن خاطبتها ّ
ّ ّ ّ
خاص بك ،اهتم كما تعامل نفسك ،أنت اآلن عطار ماهر ولك دكان
بنفسك وثق في ذاتك.
ً
حسنا سأفعل يا "أنس" -
ّثم سكت هنيهة وأضاف:
-أتدري يا "أنس" ،أنا ال أستحقها" ،أشريا" ّ
نقية...أما أنا...
-توقف عن ازدراء نفسك
-أنت ال تعرفني يا "أنس"...أنا ال ش يء لوال ستر ربي
-كلنا كذلك
مر الوقت وانشغل كالهما عن اآلخر ،كان "أنس" قد بدأ يألف املكان ّ
ً ّ
ويتعرف على تلك التفاصيل الصغيرة في القرية ،غادر بيت "كلودة" وسار قليال
ُّ يتأمل السوق ّ
وكل ما فيهّ ، ّ
مر على حانوت الكتب في الطريق ،ثم عاد إلى بيت
ٌ ّ
"كلودة" حيث استقبلته الهررة وهي تتمسح بقدميه ،كان قدر كبير يغلي بينما
127
ً
متعجبا: كان كلودة" يضع فيه ً
شيئا ما ،عندما اقترب "أنس" ّ
وحياه قال
-ديدان!! أتطبخ الديدان؟
ّ
قهقه "كلودة" وقال وهو يقلب الديدان التي أضافها إلى القدر وهو يغلي:
-هكذا أعد اللون األحمر ،أستخدمه في الصباغة ،ويطلبه التجار مني ،كما
أنني أصنع الحبر األحمر وأركزه بنفس الطريقة.
قل "أنس" باشمئزاز:
-من الدود!!
خاصة ،أجمعها من فوق أشجار ّ -نعم ،فتلك الديدان تفرز عصارات
ّ ّ
العفص والبلوط ،أضيف عليها لحاء شجرة البلوط نفسه مع بعض
األمالح الحامضة.
ً
مشمئزا للغاية وهو يراقب شعر "أنس" برعشة تجتاح جسده ،كان
ّ
الديدان املجففة وهي تغلي ،كان كلما غلى السائل في القدر ازداد اللون األحمر
ً
قتامة ،الحظ"كلودة" انزعاجه فابتسم قائال:
-ال تحزن هكذا يا صديقي ،أحيانا أستخدم الرمان.
سارا ً
معا تجاه قدر آخر ،كانت رائحة الكركم تفوح منهّ ،
تعرف "أنس" على
رائحته في الحال ،قال وهو يحاول تقليب منقوع زهور الكركم في القدر:
-اللون األصفر الذهبي ،ما أروعه.
يتلفت يمنة ويسرة ويراقب القدور وهي تغلي ،واألوعية وما بدأ "أنس" ّ
تحويها من مساحيق األلوان الزاهية ،والزجاجات املمتلئة باألصباغ واألحبار
مر بعينيه حيث كان مسحوق حجر الالزورد األزرق يمأل السائلة هنا وهناكّ ،
وعاء ،بينما امتأل آخر بمسحوق أسود ،وبجوارهما األصفر واألحمر ،وجد
يتحدث بطريقة "كلودة" التي كان ّ
يتحدث بها عندمـ ـ ـ ـا التقـ ـ ـى ب ـ ـ ـ ـه نفسه ّ
مرة فقال بصوت مسموع: ّأول ّ
-سبحانك سبحانك ما أجمل األلوان!
128
ُ
التفت يراقب األفق ث ّم سأل "كلودة" باهتمام:
-متى سيأتي ذاك املسئول الذي أخبرتني ّأنه سيشتري منك األحبار؟
غدا ،إن لم يأت اليوم فلك أن تبيت معي. -رّبما اليوم ور ّبما ً
ّثم سأله "أنس" عن الكتاب الذي اشتراه أمس من الحانوت حيث التقى
به هناك ،تهلل وجه "كلودة" ،فهو عاشق للكتب ،أشار إليه ليتبعه وسارا نحو
يحدثه عن ّ ممتلئا بالكتب ،جلس ًّ ً
كل كتاب ،كان غرفته ،أخرج له صندوقا
وأديبا ،حتى ّأنه
ً ً
ومثقفا الشاب يقرأ في مجاالت مختلفة ،بدا واسع االطالع
ّ
ألقى على سمع "أنس" البعض من أشعاره ،قلب "أنس" في الكتب وكان
ً ً
متعجبا من روعة الخطوط فيها ،أن يكون الكتاب مخطوطا بيد كاتب يختلف
مر الوقت وهما يتحدثان عن ذاك مجرد صورة مطبوعة بآلة! ّ عن أن يكون ّ
الكتاب ،وذاك ،وذاك ،أعجب "أنس" بشخصية "كلودة" ،فهو شاب ذكي واسع
لكنه قليلاالطالع ،يصبر على الحياة ،جاد ومجتهد يعتمد على نفسهّ .
ّ
خيم الظالم عليهما ولم يظهر ذاك الرجل الذي زعم "كلودة" أنه األصدقاءّ ،
سيشتري األحبار ّ
لكتاب املكتبة العظيمة.
شيئا ما ،فخرج "أنس" من الغرفة إلى الساحة تركه "كلودة" ليحضر ً
الواسعة أمام البيت وجلس يتأمل حفنة من النجوم كانت ّ
تزين السماء ،بينما
ومد يده تحت ال وسادة ،وأخرج الهدية التي مرة أخرى ّ عاد "كلودة" إلى غرفته ّ
َ ُ
أهدتها له "أونتي" بحرص ،أخرج الكتاب وقد كان قد بدأ يكتب فيه بنفسه
وكتبه بخط جلي واضح وبإتقان شديد ،ثم أعاد كتاب ً
سطرا شيئا ما ،أضاف ً
ُ
"إيكادولي" الذي أهدته له "أونتي" حيث كان يخفيه ،بعد أن ّلفه بثوبها ّ
مرة
أخرى!
كيف يتأرجح القلب بين فتاتين؟ وكيف تشتاق روح واحدة إليهما في آن
ّ واحد! وكيف يكثر "كلودة" من التسبيح أمام ّ
الناس ويقع في تلك الذلة بين
أشجار البستان حيث يلتقي باألميرة؟ لو انكشف املستور وعلم "أنس" بذلك
السر النصرف عنه وهجره في الحال! ّ
من بعيد وبينما كان "أنس" يراقب السماء الح شبح يقترب ،كانت الجميلة
"أشريا" ،تهرول على الطريق ويهرول أمامها قلبها ،تتلحف بثوبها الفضفاض
129
وتمش ي على استحياء ،فقد الحظت ّأن "كلودة" لم يمر على دارهم وقت الغذاء
مرة ،في كلمات مقتضبة وهذا ليس من عادته! حملت الطعام له ألول ّ
سلمت من بعيد وأعطته الطعام وعادت ّ ّ
تجر خلفها قلبها وهو ومعدودة
ّ ّ
يتلفت ،كانت تتعذب في صمت.
ّ
الندي حيث كانت الليلة دافئة، أقبل املساء ،وبات الشابان على العشب
وبعد أن تناوال الطعام الشهي كانا يعقدان كفوفهما خلف رأسيهما ويتأمالن
وكل منهما َ
يسبح في عامله الخاص. صفحة السماء ّ
❐❐❐
-نعم ،أخرجي فو ًرا وهو سيدلك على الطريق إلى القرى القريبة ،اهربي يا
َ"مرام".
ّ
الضجة بالقصر؟ ومن التي تصرخ؟ -ولكن ملاذا فجأة! وما تلك
ً َ ّ
جوك يا َ"مرام" اخرجي حاال واهربي.
-إنها أختي "نبرة" ،أر ِ
ُث ّم التفتت ُ"أونتي" وأخرجت ً
كيسا ممت ًلئا بالنقود وأعطته لها وقالت
ّ
بجدية:
ّ ّ
-حذري "كلودة" أخبريه أال يأتي إال بعد أسبوع من اليوم.
-وكيف سأعرف الطريق لبيته؟
ّ -أخبرني أكثر من ّ
مرة أنني لو سرت في خط مستقيم تجاه الشرق وهبطت
مع السهول تدريجيا دون أن أحيد عن استقامة خطاي ،سأجد بيته
وحيدا وسط ساحة واسعة ،لكنني لم أذهب ً
يوما إليه ،كان هو من يأتيني ً
فقد التقيت به بين أشجار البلوط املنتشرة على مقربة مناّ.
بقوة وأدارتها بعنف من كتفيها وسارت خلفها تدفعها في ظهرها ُث ّم عانقتها ّ
ّ
لتتحرك وقالت:
َ
-لو رأتك "نبرة" ستأخذك مني ،ور ّبما تبيتين الليلة حيث ال ترغبين ،وفي
حضن من تكرهين ،وعلى حال ال ترضينها.
ّ ر ّ َ
كحمامة ضالة أدركت "مرام" أنها في خطر و كضت وهي تخفي وجهها ُ
تاهت بين األشجار ،وانطلقت تجاه ذاك املكان حيث كانت "أونتي" تلتقي
ّ ّ
الهدية ،وتسير معه هاربة من القصر بحبيبها "كلودة" لتحذره ليتخلص من
131
ً ُ
استعدادا للمواجهة مع ومن فيه .بينما كانت "أونتي" ترتب الكلمات في رأسها
َ
أختها "نبرة".
❐❐❐
كان "أنس" يراقب "كلودة" وهو يذيب مسحوق حجر الالزورد ليعد اللون
ّ
ويصبه في زجاجات رفيعة ،قال وما األزرق ثم يذيبه في سائل ما ّ
ليعد الحبر
زالت عيناه مثبتتين على يدي صديقه:
-لم يأت من يشتري الحبر يا "كلودة".
جدا ،انتظر ً ّ
مبكر ً ّ
غدا. وأظنه لن يأتي اليوم ،فهو ال يظهر إال في وقت -
ث ّم أردف "كلودة":
ّ
الدكانّ ،
هيا تعال معي. -ال ّبد أن أذهب إلى
ّ
جليا على "كلودة" ّأنه بدأ يتعلق بـ"أنس" ،فهو يأنس به ويميل إليه،
كان ّ
ّ ً
ّأما "أنس" فقد كان شاردا يفكر ،وبعد لحظات كان قد اتخذ قرا ًرا حيث قال:
-سأذهب إلى املكتبة.
-ماذا!!
-أنت هالك ال محالة ،هذا خطر عظيم.
-ملاذا؟
ُ
-لم نسمع أن أحدهم قد ذهب إلى هناك ث ّم عاد.
-سأعود إن شاء هللا.
مبال بتحذيراته انطلق يسير تجاه املكتبة
"أنس" وبعد أن ودعه ّغير ٍ وثب
ً
العظمى ،باحثا عن أي عالمة تدله على سبيل السترداد كتابه وإكمال مهمته
ليعود لبيته وأسرته ،لم يكن على علم أن كتابه ملفوف بعناية بثوب من حرير
تفوح منه رائحة العطر تحت وسادة "كلودة" ،وفور أن انسل بقامته بين
132
األشجار ،وبينما يستعد "كلودة" للرحيل ،ظهرت َ"مرام" وهي تركض تجاه بيته
ّ ّ
تعثرت فتدحرجت على تلة يغطيها العشب األخضر حتى استقر جسدها
أسفلها ،قامت تعرج في مشيتها ،وكانت ما زالت تربط عينهاّ ،
مر يومان منذ
جرحها "أنس" وما زالت تؤملها ،فقد تسبب الدهان الذي طببتها به طبيبة
ّ
تتحسن حالتها. القصر في التهابها ولم
"كلودة" الذي عرفها من مالبسها ومن رباط وصلت ً
أخيرا ووقفت أمام
ً ُ
عينها فقد كان يراها بصحبة األميرة "أونتي" ،قال مرتابا في أمرها:
-أنت َ"مرام"؟
-أوتعرف اسمي؟
ُ
-نعم ..أخبرتني "أونتي" ،ما الذي أتى بك إلى هنا؟
-األميرة ُ"أونتي" طلبت ّ
مني أن أحذرك.
-مم؟
-ال ّبد أن تتخلص من هديتها لك في الحال.
-ملاذا؟
-ال أعرف ،كما أنها تطلب منك ّأال تذهب للقائها ّ
مرة أخرى.
-عودي فأخبريها أال تقلق ،فقد انتهى أمر الهدية ،وأخبريها ً
أيضا أنني ال
أريد....
-لن أعود!
-كيف؟
-لقد منحتني األميرة حريتي ،وأخبرتني ّأنك ستدلني على القرية ،أرجوك
ساعدني ،لو رآني الحراس سيعيدونني إلى هناك.
جلست َ"مرام" أمام الدار ترتجف ،عاد "كلودة" إلى غرفته وسحب الهدية
وهي ملفوفة بالثوب الحريري وقام بدفن الكتاب تحت شجرة خلف بيته في
133
ُ
صندوق مع العديد من الكتب القيمة التي كان يحتفظ بها ،وغطاه بالتراب ث ّم
بأغصان األشجار ،وعاد فألقى بالثوب في النار التي كان يستخدمها بعد أن
بزيت ما فالتهمه اللهب في الحال ،كان يمسك في يده تلك الضفيرة التي بلله ُ
ّ ّ
قصتها "أونتي" من شعرها ووضعتها له بين دفتي الكتاب ،ألقاها في النار ووقف
أحب إليه من عطرها! يراقبها وهي تحترق ،في تلك اللحظة كانت رائحة الحريق ّ
قرر أن يصحب َ"مرام" للقرية ويتركها ً
سريعا ،فلو التقت بـ"أشريا" وأخبرتها
ً ُ
غاضبا ،ماذا سيقول بأمر األميرة "أونتي" ستفسد عليه حياته ،سار "كلودة"
عائدا ومعه فتاة! ال ّبد أنها ستغضب.
لـ"أشريا" لو رأته ً
تعرفت ُ اآلن عليه ،فمالمحه لم كانت َ"مرام" تسير خلفه في صمت وقد ّ
بعيدا عنه وعن "أونتي" ،اآلن اتضحت لها تكن ظاهرة لها عندما كانت تقف ً
عندما اقتربت منهّ ،إنه ذاك الشاب الذي رأته في السوق يركض مع فتاة
ً
غاضبا وينادي على "أنس" ،لم يترك لها الفرصة لتتحدث إليه ،كان يسير
بسرعة بينما كانت هي منهكة من طول ركضها بين السهول هاربة من القصر،
طالت املسافة بينهما وكانت تسير خلفه وتراه من بعيد وهو يلتفت من آن آلخر
ّ
ليتأكد أنها تتبعه ،كانت تناديه وهو يتجاهلها ،أرادت أن تسأله عن "أنس"،
ً
سريعا حتى ال ينكشف أمره. وأراد هو أن يتخلص من صحبتها
❐❐❐
134
()12
اخلنجر!
تقدم "أنس" في طريقه إلى املكتبة ،حيث أخبره كان الجو يزداد برودة ّكلما ّ
"كلودة" ّأنها تقع خارج حدود القرية في منطقة نائية وحدها ،تفصلها عن
ً
مستمتعا بمرور فضل أن يركض بين ّ
كل بستان وآخر عدة بساتينّ ، القرى ّ
مجرد شعوره بالبرد أو األلم يجعله على يقين ّأنه ماالهواء البارد على وجههّ ،
زال على قيد الحياة!
حس املغامرة يموج في صدره. كانت تنتابه اللهفة إلى مغازلة الخطر ،بدأ ّ
ّ
يتوغل ويغامر بشكل أكبر ،ال بد أن يحتك بالناس بشكل أعمق وربما قرر أن ّ
ّ ً ّ
يحس معها يستفزهم قليال ،كانت تلك إحدى طرقه التي قرر أن يسلكها لكي
حلما يعيش في أوهامه .كان شوقه لبيته بأنه على قيد الحياة وأن ذاك ليس ً ّ
وجده قد بلغ أقصاه .ساعده سيره على صفاء ذهنه ،وما وأبيه وأمه ،وأختهّ ،
عدة بساتين ،ولم مر وقت طويل وهو ّ
يتمش ى في ّ أحوجه اآلن لصفاء الذهنّ .
تظهر املكتبة بعد!
ّ ً كاد ييأس ويعود من حيث جاءّ ،
لكنه قرر أن يجلس قليال ويفكر بهدوء.
أمده به "كلودة" قبل أن يترك بيته ،وبدأ يأكل التمر أخرج ما بحقيبته من تمر ّ
كفه ،برز أمامه من حقيبته الخنجر الذي أعطاه له بالنويات في ّ
ّ وكان يحتفظ
ً ّ
جده ،أمسكه وتفحصه بإمعان ،ثم وثب واقفا يحركه ويولجه في طبقات ّ
أحياناّ ،
ظل ً شيئا ما ،ال بأس ببعض اللعبالهواء هنا وهناك وكأنه يقاتل ً
يحركهيمينا ويسا ًرا وفي خطين متقاطعين ،ثم قال بصوت مسموع وهو ّ يحركه ً
ّ
وهو يتذكر مواجهته للصوص وللمجاهيم:
-ليتني أعود إلى الغابة اآلن بخنجري هذا!
135
وفجأة انبثق أمامه من حيث كان خنجره ّ
يمر في الهواء راسما خطين
ُ
متقاطعين ش يء يشبه االنفجار الصغير ،ث ّم ظهرت فجوة تدور فيها ألوان
ممزوجة تموج في بعضها البعض ،انثنت والتوت حروفها كما تلتوي أحرف
األوراق وصدر دوي غريب ،وتبعه صوت رياح ساحبةّ ،
وكأن تلك الفجوة ٌ
بئر
ً ّ
متخشبا في مكانه يحبس أنفاسه عندما حدث معلقة في الهواء ،كان "أنس"
جده عن الخنجرّ ، ّ
تذكر ما قاله ّ
وأنه سيقطع به مسافات طويلة! هذا أمامه،
ّ
انحنى والتقط النويات التي كان قد جمعها بعد أن تناول التمر وألقاها واحدة
تلو األخرى داخل الفجوة وكانت تلتقمها بسرعة خاطفة ،حمل حقيبته وتراجع
للخلف فسارت الفجوة معه واقتربت منه ،شعر بها تسحبه إلى داخلها،
وابتلعته في لحظة فاختفى.
❐❐❐
ّ
سقط "أنس" على األرض حيث التقى باملجاهيم من قبل ،تذكر ما قاله
قبل أن تظهر الفجوة ،أدرك أن الخنجر يفتح له فجوات لينتقل من مكان إلى
مكان آخر ،اآلن عاد إلى الغابة ،وثب ً
قائما وركض بأقص ى سرعة تجاه أشجار
الياسمين التي ّ
مر بها بعد أن غادر بيت العجوز "ناردين" ،وجدها أمامه فأسرع
تجاهها ّ
وخر على ركبتيه أمامها يلتقط أنفاسه ،بينما صاحت في وجهه:
" -أنس"! ما الذي جاء بك إلى هنا؟
-فقدت كتابي.
اقتربت منه وأمسكته من ذراعه ،فقام معها وسارا نحو كوخها ،وجلسا
حيث كانت تجلس مع َ"مرام" من قبل ،وبدأ يحكي لها ما ّ
مر به بعد أن تركها،
ُّ ُ ُ
عندما التقى باملجاهيم ث ّم "كلودة" الذي عاد به للغابة ،ثم اللصوص ثم
صفقت العجوز عندما سمعت منه "أشريا" والطفلة الصغيرة ،بشكل فجائي ّ
جليا أنها سعيدة ً
جدا لنجاتهما ،بعد ّأنه أخرج أشريا والطفلة من الغابة ،بدا ًّ
أن أخبرها ّأنه كان في طريقه للمكتبة قالت بحزم:
تلتق ب َـ"مرام" ،فاألفضل أن تستخدم خنجرك -طاملا فقدت كتابك ،ولم ِ
ّ
وتنتقل إلى قصر "الحوراء" ،البد أن تلتقي بها.
136
أسرع "أنس" يسألها بفضول:
-ومن هي َ"مرام"؟
ً
خصيصا من -محاربة كادت ترحل بعد انتهاء مهمتها لكنها دخلت الغابة
لتحذ ك ،فقد َ ّ
بدأت رحلتك قبل أن تلتقي بـ"الحوراء" و "املغاتير". ر أجلك
-وأين ذهبت َ"مرام" اآلن؟
-ال أدري ...املهم ،ال ّبد أن تذهب إلى قصر "الحوراء"ّ ،
هيا ،قم يا فتى،
الوقت ّ
يمر.
قامت تدفعه أمامها وتتعجله ،ووقفت تراقبه وهو ّ
يحرك خنجره في الهواء
ويقول كما قال من قبل:
" -قصر "الحوراء"
ّ
تحرك الهواء أمامه ،وكأن هناك بقعة شفافة تشبه املاء تغلي وتبقبق ثم
انفرجت كاشفة عن فجوة عمالقة دلفها "أنس" هذه ّ
املرة بنفسه دون أن
ً
يتراجع ،كان أكثر ثقة من ذي قبل ،وكان وصوله لقصر الحوراء أسرع.
❐❐❐
137
-بخير يا ّ
سيدتي.
ُ
تمعنت في عينيه ث ّم قالت:
ّ
-ال ّبد ّأنك قلق يا ّ
بني؟
-ال تلوميني...أشعر وكأنني في حلم! ال أصدق ما يحدث!
ُ
ابتسمت بعذوبة ث ّم قالت بهدوء:
بعض الحقائق من فرط صدقها تبدو كحلم جميل ،وبعضها من فرط ُ -
ككابوس مزعج.
ٍ تبدو قسوتها
ً
أردف "أنس" مكمال كالمها:
ً
وأحيانا نحن نخلق الوهم في عقولنا ونعيشه ،ال بد أن ما أعيشه اآلن وهم -
وخيال في عقلي.
-الوهم يختلف عن الحقائق ،كل ما حولك هنا ليس ً
وهما يا ّ
بني!
-رّبما أنا أحلم ،أين نحن اآلن!! وما الذي يحدث؟ ما فائدة قصص قديمة
كتبها أحد ما! ملاذا ننبش املاض ي بال هدف.
رفعت حاجبيها وقالت:
-قد نفتش عن املاض ي لبشاعة حاضرنا ..وما أبشع ما نعيشه اآلن!
ُ
بأدب موافقا لكالمها ،ث ّم سألها:
أومأ برأسه ٍ
ُ
-أريد أن أعرف ما دوري هنا بالتحديد؟ ومتى سأعود؟ فمنذ وصولي وأنا
ألتقي بأشخاص وال جديد حتى اآلن!
صمت قصير:
ٍ قالت بعد
أصيلة ًأبا عن جد ،حتى اإلناث في عائلتك
ٍ عائلة
ٍ -في الحقيقة؛ أنت من
ً
مثال! مميزة ً لهن ٌسيكون ّ
جدا. شأن عظيم إن شاء هللا ،شقيقتك "حبيبة"
تعجب "أنس" من ذكرها لشقيقته ،كاد يسألها كيف هي مميزة! لوال ّأنها ّ
ً
أردفت قائلة:
138
ّ
-لست وحدك هنا ،غيرك الكثيرون ،الصقور تنقلكم إلى هنا كل ٍ
عام،
مع"...كمشاق".
ِ هناك من ينجح ،وهناك من يفشل ،وهناك من يتحالف
-امللك؟
انتفضت بغضب وقالت ّ
بحدة:
-ملك على نفسه"ِ ،كمشاق" ملك مملكة الجنوب فقط.
ً
سريعا ما تمالكت نفسها وأردفت بهدوء: ثم
ً
مظلما في مملكة الجنوب ،وجانبنا الذي نرجو أن بني ستجد ً
جانبا -هنا يا ّ
ً
غامضا ما ً
وجانبا ً
جميعا اآلن، يكون هو املض يء في الشمال حيث نقف
ً
زلنا نكتشف أسراره خلف أستار الغابة هنا وهناك ،وجانبا لم تطأه قدم
قط وذاك ربما ستكتشفه بنفسك"ِ .كمشاق" ومن حوله يحاولون
السيطرة على اململكة كلها .ما زالوا يحاولون إغواء كل محارب يأتي،
يطاردونه ،يقطعون عليه الطريقُ ،يفشلون خططه إلظهار الحق ويدلسون
لخدمة أفكارهم السوداء.
-ولكن! ليس كل من بمملكة الجنوب سيئين ،هناك الخير يكمن هنا
أيضاّ ،
لكنكم الشر ً
وهناك ،أهل القرية طيبون ،وربما هنا باململكة بعض ّ
ال تعلمون عنه.
حسنا ،طاملا ّأنك تدرك هذا ً
جيدا فأنت تعرف دورك ،أنت ستخبرنا أين ً -
الخير وتدلنا عليه.
-وهل سأستطيع؟
-نعم ،أنت الوحيد القادر على هذا بإذن هللا.
-ملاذا؟ ...أال تقدرون أنتم؟
-ليتنا نستطيع! حاولنا من قبل ولم نتمكن ،جربنا ولم ننجح.
ّ
هز "أنس" رأسه بحيرة وقال:
-ملاذا اململكة هنا مختلفة! وأين موقعنا اآلن.
139
-ستتعب يا "أنس"
-من ماذا؟
أيضا حيرتني تلك القصص التي كان ّ
جدك -من تكرار هذا السؤال ،فأنا ً
يخبرني عنها عن عاملكم ،وددت أن أكون هناك ،أن أرى ما يصفه عن
عاملكم ،بيوتكم ،هواتفكم ،الطائرات ،السيارات ،لكنني ..
لكنك ماذا؟
ِ -
ً ً
أشاحت بنظراتها بعيدا ّثم أردفت قائلة:
-أتعلم يا "أنس"؛ حاولنا ً
كثيرا إرسال بعض املغاتير لعاملكم ،حملتهم
الصقور لكن كل محاوالتنا باءت بالفشل ،إنهم يرفضون أن نتولى نحن
املهمة.
-ومن هم؟
-الكتب.
جدي أن تلك األوراق ّتدب فيها الحياة!
أيضا تزعمين مثل ّ
-أنت ً
ّ
هزت رأسها موافقة فقال بانفعال:
-ما زلت ال أصدق أن الكتب ّ
حية ولها إرادة!
-ألم تطر الكتب في الهواء وتلف حولك؟!
عرفت؟
ِ -وكيف
-هكذا تتعرف الكتب على املحاربين ،هكذا اختارت ّ
جدك من سنين طويلة،
ألول ّ
مرة هنا. وهكذا التقيت به ّ
ّ
هز "أنس" رأسه بحيرة وقال:
-ملاذا أنا؟!
ألن الكتب أدركت وهي تدور حولك ّأنك تؤمن بش يء ما ّ
يتحدث عنه كتاب ّ -
إيكادولي.
140
-ربما...
قاطعته "الحوراء" وأردفت قائلة:
أحست بقلبكّ ،
شمت الرائحة في دمائك ،هي ألن صفحاته ّ -اختارك الكتاب ّ
شيئا احتضنته تلك الصفحات بين صدقت في نفسك ً ألنك ّ تعرفك ّ
ْ
وأدركت أنت قيمة ذاك الش يء ومعناه. سطورها
-وما هو هذا الش يء؟
مهمتك أن تكتشف القيمة التي يتحدث -أنت هنا لهذا السبب يا "أنس"ّ ،
ّ ّ
ونتمسك بها ،األمر ليس عنها الكتاب وتدلنا عليها لنعلمها ألنفسنا وأبنائنا
ظاهرا ً
جليا بالنسبة لنا لألسف. ً
ّ
تذكر "أنس" كيف كانت الكتب تدور حوله في غرفة املكتبة ،وكيف كانت
صفحاتها تقلب بسرعة شديدة ،وكيف كان شعوره عندما رأى صورته ُترسم
في ّأول صفحة .قال وهو يرجو إجابة تريحه:
-فقدت كتابي ،سرقه اللصوص ،فهل من طريقة السترده؟
حيتهعلى حين غفلة منهما دلف الحكيم "سامي كول" إلى ديوان ابنتهّ ،
ً
وسيما تأملته بإمعان ،وكان "أنس" ً
شابا بإجالل ُث ّم التفتت تجاه "أنس" و ّ
تقر بالنظر إليه العيون ،قالت بعد أن استقرت عيناها على مليحا ً
فاتنا ّ ً
القالدة التي كان يرتديها:
-ها هو "أنس" يا أبي ،نفس العينين ،نفس النظرة الواثقة ،يشبه أباه ّ
وجده
ً
كثيرا.
قال سامي كول بعد أن أغمض عينيه:
-هذا الشبل من ذاك األسد!
تنحنح"أنس" في ارتباك وقال ّ
بتحفز:
-التماثل في الشكل ال يعنى التشابه في املستقبل والنهايات ..أخش ى أنكم
يوما محارًبا.
تظنون بي ما لست أنا بأهل له ،لم أكن ً
ٍ
141
مرحب بما يعيشه اآلنّ ،
وأنه قلق مما أدرك "سامي كول" أن "أنس" غير ّ
ً
موافقا: يتعرض له ،قال وهو ّ
يهز رأسه ّ
-صدقت ،وربما أنت مختلف عنهما!
ُ
ثم أردف باهتمام:
-كنت تسأل عن طريقة تسترد بها كتابك ،أليس كذلك؟
-بلى
-رّبما يساعدك حراس املكتبة العظمى ،عليك أن تنتقل إلى هناك ،وطاملا
عرفت كيف تصل إلينا ،ال تتردد في القدوم هنا في أي وقت ،أو عندما
تتعرض للخطر.
اقتربت "الحوراء" وأضافت على كالم أبيها قائلة:
-وال تنس أن تبحث عن َ"مرام" ،فقد خرجت في إثرك ،وقد ّ
تعرضت للخطر
حيث اختطفها اللصوص في الغابة ،عليك إنقاذها يا "أنس"
-ماذا! ولكن كيف وأنا ال أعرفها! وال أعرف شكلها!
-وهي لم تكن تعلم كيف هي مالمحك عندما دخلت لتبحث عنك ،وكان من
املفترض أن ترحل وتعود لديارها.
-وما الذي أجبرها على الدخول!
ّ
-كان اسمك يظهر لها في كتابها من آن آلخر ،فحذرها أبي من أن ترحل طاملا
ّأنك وصلت ألرض اململكة قبل رحيلها.
ّ
-ومن أي ش يء حذرها؟
كان "سامي كول" ينصت إليهما بهدوء ،وكان دوره أن ّ
يوضح األمر ألنس،
ّ
لكنه بدال من هذا أخرج من أكمامه الواسعة ورقة ملفوفة ومدها نحو
"أنس" ،فتح "أنس" الورقة وكانت خريطة فبدأ ّ
يتفحصها ّ
بتمعن في ما رسم
ً
فيها وهو حائر ،اقتربت امللكة وأشارت له على الخطوط فيها وتتبعت خطا
أحمر وقالت:
142
ً
-كان من املفترض أن تبدأ رحلتك من هنا ،القصر أوال لنشرف بلقائك
ُ
وتأخذ هذه الخريطة ،ثم تسير في الغابة من هنا.
ً
وتتبعت خطا أخضر موازًيا للنهر األخضر ،وقالت وهي تنقر على الجهة
األخرى:
-هنا اللصوص واملجاهيم ،ويبدو أنك مررت من تلك الجهة الخاطئة.
رفع "أنس" حاجبيه وقال:
-يبدو أنني أجبرت نفس ي على االنخراط في اللعبة بطريقة خاطئة.
ّ
غضنت "الحوراء" جبينها وقالت وهي توقع كلماتها:
-هي ليست لعبة!
ُ
ث ّم أضافت:
-كان األصح أن تسير من الجهة الشرقية حتى تصل إلى القرية ،حيث تظهر
ّأول جملة في كتابك وسط السوق ،عندما تلتقي بأبطال القصة التي يحكي
عنها "إيكادولي" ،ولكنك أضعت الكتاب ،ونحن اآلن ال نعرف من هم أبطال
ّ
تسترد ً
تحديدا ألننا ال نعرف متى ستظهر أول كلماته ،ولهذا عندما ّ
القصة
الكتاب عد وابدأ رحلتك من البداية واستخدم الخريطة حتى تبدأ الكلمات
ُتنقش في الكتاب ،وأما إن عثرت عليه وقد ظهرت بالفعل الكلمات ...
-ماذا؟
-ستكون مهمتك أصعب ألنك بالفعل قد التقيت بأكثر من شخصية قبل
أن نراك هنا.
-أظن ّأن مهمتي صعبة بالفعل منذ بدايتها.
الحظ "أنس" وجود أرقام مختلفة وعشوائية مكتوبة بال ترتيب على ّ
عدة
أماكن في الخريطة ،سأل "الحوراء" وهو يشير إليها:
-ولكن ما هذه األرقام ّ
املدونة هنا وهناك ؟
143
غضنت حاجبيها وقالت:
خاصة بين الكتاب واملحارب املسئول عنه ،لن يفهمها غيره ال ّ -هي شفرة
ّ ّ
أنا وال أبي وال ح تى حراس املكتبة ...أتظن أنك تدرك معناها؟
قال وهو ينقل عينيه بينها:
-الش يء الذي ليس له معنى اآلن قد يكون له معنى ً
الحقا!
صمتت "الحوراء" هنيهة وقالت:
-واآلنّ ،
هيا إلى املكتبة ،فأنت تحتاج الوقت.
حمل "أنس" خنجره وعاد يحركه في الهواء في خطوط متقاطعة ،انبثقت
الفجوة من جديد ،وألقى بنفسه فيها بعد أن أخفى الخريطة في حقيبته.
❐❐❐
144
()13
خرج "أنس" من الفجوة والخنجر ال يزال في يده ،فوجد نفسه أمام بناء
كل الجهات ،وحول تلك األشجار وعلى عظيم مهيب تحوطه األشجار من ّ
ّ
امتداد البصر كانت الصحراء تبسط رمالها الذهبية إلى ما ال نهاية .تقدم
ّ
ستفتح له وسيكون خطوة واحدة وكان ً
واثقا من خطاه يظن أن أبواب املكتبة
ً
األمر سهال كما دلف إلى الغابة من قبل ،وإلى قصر "الحوراء" منذ دقائق
اشتدت الرياح فجأة ّ
وكأنها ّ ماضية ،لكن األمر لم يكن كما يخاله ،فقد
ّ ّ
تمنعه ،وبد أت الرمال تتحرك وتبتلع جسده وكأنها تعوقه لكي ال يتقدم ،حتى
ً اختفى نصفه األسفل تحتها ،رفع ذراعه ّ
وحرك الخنجر في الهواء وصرخ قائال:
-بيت "كلودة"
انبثقت الفجوة والرياح تخفق بأطرافها املنثنية أمامه ،ودوي الرياح يصدر
مزعجا ،لم يتمكن "أنس" من القفز في داخلها فساقيه تحت الرمال، ً ً
صفيرا
فاقتربت الفجوة منه وارتفعت كسحابة فوق رأسه وسحبته إلى داخلها بقوة
فانتقل إلى بيت "كلودة" وكانت الرمال تتساقط من مالبسه على األرض! جلس
ً
طويال يستجمع قواه ،فقد ّ ً
هزه األمر وشعر أنه هالك ال محالة ،أراد أن وقتا
يقوم ليبحث عن شربة ماء فقد جف حلقه وفتح باب البيت حيث كان هناك
متحفزا وفي يده عصاة غليظة ،فور أن رأى "أنس" ضربه ً شاب طويل يقف
على رأسه ففقد "أنس" وعيه في الحال.
❐❐❐
145
مقيد الساقين واليدين ّ
مرة ً
ممددا على األرضّ ، أفاق "أنس" فوجد نفسه
أخرى! وقف أمامه الشاب واضعا راحتي كفيه على خصره ،كانت له عينان
نابهتان وشعر مجعد ،خصالته داكنة ،كان بريق نظراته يش ي بذكاء متقد
ً
ساخرا: وكأن الحياة عركته ً
سلفا ،قال ومتحفز ،بدا بهيئته وإيماءاته ونظراته ّ
148
-وكيف سأعود وليس معي كتابي.
-كيف!
ُ -سرق مني في الغابة وأنا أبحث عنه.
ُ
ً
سريعا. أي حال ،ال ّبد أن تعيدني
-فلنعد للقصر على ّ
-لن أرحل بدون كتابي!
ّ
رفعت سبابتها نحوه وقالت بتحفز:
مرة أخرى ،أنت -وأنا أريد أن أعود لدياري ،ولن أسير في الغابة وحدي ّ
كل ما حدث لي ،وعودتي إلى القصر هي مسئوليتك!السبب في ّ
ولم يكن من السهل عليه أن يثق بها من أول لقاء ،فلم يخبرها عن أمر
ُ
الخنجر وانتقاله عبر الفجوات ،وبينما يتحدثان اعترضهما "كومبو" ووقف
بينهما بقامته الطويلة وقال:
-أي ملكة تتحدثان عنها؟ أريد أن أعرف قصتكما من البداية.
كوبا من املاء بعد أن الحظ توترها وجفافقال "كلودة" وهو يناول َ"مرام" ً
شفتيها وهي تتحدث إلى "أنس" بغضب:
-استريحي واهدئي ،يبدو ّأنك مررت بالكثير.
ُ ُ
ث ّم قال لـ "كومبو":
ُ
-كم أنت فضولي يا "كومبو"!
سألته َ"مرام" وهي تعيد ربط عينها في ارتباك:
ُ
-ملاذا اسمك "كومبو" ...أليست تلك الكلمة تعنى السمين!!
قهقه ثم أجابها:
ً
سمينا طوال ً
سمينا ،فاختار لي أبي ذاك االسم ،وبقيت -عندما ولدت كنت
حياتي ،وها قد فقدت سمنتي منذ عامين وما ال ذاك االسم ً
عالقا بي. ز
149
ُ دلف الجميع إلى الدكان ،وباختصار ّ
قص "أنس" على "كومبو" ما أراد أن
يكشفه له ،وأخفى عنه ما أراد أن يخفيه ،واستعاد خنجره ،وبقي "كلودة"
ّ ً ً
وخائفا من أن ينكشف أمر عالقته باألميرة ،كان يفكر في طريقة يتخلص قلقا
بها من َ"مرام" بسرعة.
وكانت َ"مرام" تتمنى أن تغمض عي نيها وتفتحهما فتجد نفسها في بيتها ،متى
ستعود!
❐❐❐
في الطريق وحيث اتفقوا على أن تبيت َ"مرام" ليلتها في بيت "أشريا" بينما
يذهبون لبيت "كلودة" ،كانت َ"مرام" تسير خلفهم وهي غاضبة ،تريد أن ترحل
اآلن ،رفعت رأسها تبحث عن "قطرة الدمع" هنا وهناك ،لم تعد تظهر لها في
نفس اللحظة التي تفكر بها في الحال ،كما كان يحدث ،تلك كانت ميزة تبعث
في نفسها االطمئنان ،لكن يبدو ّأنها فقدت تلك امليزة! ّ
تمهل"كلودة" في سيره
ً
قليال واقترب منها وأعطاها زجاجتين صغيرتين وقال:
ُ
-خذي ،ضعي قطرة من هذا السائل في عينك قبل النوم ،ث ّم ضعي هذا
الدهان على الجفن وما حوله ،سيخفف من تو ّرم عينك إن شاء هللا.
انكمشت َ"مرام" وهي تقول:
-ال ...لقد قمت بدهنها من قبل في القصر بذاك الدواء الذي أعطته لي
الطبيبة هناك ،فانتفخت عيني وأصبحت الدموع تسيل منها على الدوام.
-ال تخافي ،جربيه.
ُ
بعد تردد أخذتهما ث ّم قالت له:
شكرا لك. ً
حسناً ، -
ُ
-أرجو منك أال تخبري أي أحد بما بيني وبين األميرة "أونتي" ،حتى زوجة عمي
وابنتها "أشريا" التي ستبيتين في بيتهما الليلة.
150
-اطمئن ،سأستركما ،رغم أنكما ال تستحقان!
-أهكذا تردين الجميل ألميرتك التي أطلقت سراحك؟
-قلت سأستركما! ولكنني أكره فعلكما!
التفتت مبتعدة عنه ،كانت تتمنى أن تنشق األرض وتبتلعها وتلفظها في
ً
سريعا إلى بيت "أشريا" ،التي انزعجت في البداية عندما بيتها في الحال ،وصال
ّ ُ
رأت َ"مرام" ،ث ّم سريعا ما انفرجت أساريرها عندما علمت أنها محاربة ،على
ً
نحو سريع تآلفتا ،وباتتا ليلتهما تتحدثان عن األميرة "هيال" ،كانت "أشريا" قد
ٍ
سمعت عنها ،لكنها لم تكن تعلم قصتها بالتفصيل ،خفف هذا عن َ"مرام"
التي كانت تغلي ،كم هو مهين أن يظن بها أحدهم أنها فتاة لعوب ،وكم هو
مرت به من ذل وهوان ،وكم تؤملها عينها اآلن. قاهر ما ّ
❐❐❐
151
()14
مرت الليلة هادئة حيث استسلمت َ"مرام" للنوم العميق حتى الظهيرة، ّ
ُ
بينما كان "أنس" في صحبة "كلودة" و "كومبو" في دكانهما منذ الصباح الباكر،
كان قد اتخذ قرا ًرا قبل أن يغمض عينيه الليلة املاضية ،وهو ّأنه سينقل
َ"مرام" إلى قصر "الحوراء" قبل أن يعود للمكتبة العظمى ،لقد القت الكثير
بسببه ،وكان يشعر بالذنب واملسئولية تجاهها ،كما أنه كان يشعر بالضيق
ّكلما تذكر اللحظة التي قذفها فيها بالحجارة في عينها ،أساء بها الظن ّ
وظنها
لعوبا وكانت املسكينة تستغيث به لينقذها ،كان يسترجع ما روته له عن فتاة ً
ذاك الشاب الذي غطاها بوشاحه وحملها إلى القصر ،وكيف نجاها هللا مما
كانت تخشاه بأن اختارتها أميرة هناك لتكون وصيفة لها ،جلس ينتظر انتهاء
"كلودة" من عمله ليذهبا ً
معا لبيت "أشريا".
مر معظم النهار ولم يبق إال القليل منه .على الباب ،وبينما يتعالى صوت ّ
زوجة عمه وهي تقترب لتفتحه ،كان "كلودة" يقف ومعه "أنس" ينتظران، ّ
ّ
أطلت برأسها من فرجة الباب ،أخبرتهما أن "أشريا" حملت إليهم الطعام إلى
بيته مع َ"مرام" ،فقد ظنت أنه لن يأتي كاملرة السابقة ،انصرف مع "أنس"
متوجها لبيته ،راوده شعور باالرتياح ،فما دامت تحمل له الطعام فهي ال ً
ً
تعرف شيئا ،كانت َ"مرام" صادقة ،ستسترهما وإن لم يعجبها فعلهما.
كان بيت "كلود ة" رغم بساطته يوحي بالدفء ،غرفتان فسيحتان يفصل
بينهما جدار حجري ال يصل إلى السقف ،ال أثاث يذكر سوى فراش من الليف
ّ
مغطى بقماش من الكتان املصبوغ ،الكثير من الحقائب القماشية املعلقة على
الجدران ،يبدو أنها تحتوي على املالبس وأشياء أخرى ،في أركان البيت تناثرت
ّ
محشوة بريش الطيور صنعتها "أشريا" كمـا قال له ـم وهو يتنق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل عدة وسائد
152
بسرعة بين الغرفتين.
واسعة تطل على فناء الدار ،بينما انصرف "كلودة" ٍ جلسوا في ُشرفة
ّ
ويسخن القدر املمتلئ بالطعام فقد برد ليحضر بعض الحطب ليشعل النار
ً سريعا حتى أن الدهن بدأ ًّ
يكون طبقة جامدة على سطحه ،وضعت "أشريا"
ّ
خزفيا مكسور الحافة به بعض ّ ً
حبات الفاكهة الشهية حتى أمامهما وعاء
َ ّ
تقوم بتسخين الطعام ،لم تمد "مرام" يدها ،وكذلك لم يفعل "أنس" ،فقد
شهيته ،كان الشعور بالغربة يقبع على صدرهّ ،أما هي فكانت فقد َكالهما ّ
ً ّ
خائفة.كانت "أشريا" تنقل عينيها بينهما وأطرقت تفكر طويال.
مد "أنس" يده في جيب سرواله وأخرج ساعته ،لو انتبه إليها اللصوص في ّ
الغابة في أول يوم وصل فيه لسرقوها منه ،عاد يحاول إصالحها ،ما زالت
وكأنه خارج الزمان واملكان ،نادى "كلودة" على "أشريا"عقا بها مكانها متوقفة ّ
ر
لتس اعده والتي كانت تراقبهما بفضول شديد .كانت َ"مرام" مرتبكة ،بدأت
بتوتر ،الحظ "أنس" الكثير من عالمات الجروح على ظهر كفيها، تفرك يديها ّ
قط شرس ،بدأ "أنس" ّ ّ
يتفحص ساعة ووجنتيها ،وكأنها خرجت من معركة مع ٍ
فظنت َ"مرام" ّأنه يسخر منها ويسترجع في ذاكرتهيده بإمعان ،ضحك بسخرية ّ
ما حدث في السوق يوم قذفها بالحجارة فأصاب عينها ،باغتته سائلة بضيق:
-ما يضحكك!
ً
ساخرا: قال
ٌ
الوقت هنا ضائع. -لن تعود الساعة للعمل ،يبدو أننا نعيش بين ثانيتين،
قالت ّ
بحدة:
كل حياتنا السابقة هى التي كانت ضائعا ً
أبدا ،بل ّ ً أظن وقتنا هنا -ال ّ
ضائعة.
مرت ً
بحياء بعيدا عن وجههّ ، التفت إليها فتالقت عيناهما ،انزوت نظرتها
ٍ
بصوت خافت:
ٍ دقيقة من الصمت اللطيف قبل أن يسألها "أنس"
بأن ّ
كل حياتنا املاضية كانت ضائعة؟ -ماذا تقصدين ّ
ُ
-عندما يصل املحاربون يكونون بال هدف ،ولعلك كنت بال هدف قبل
مجيئك إلى هنا.
153
اك؟ -وما أدر ِ
ّ -
مجرد ظن!
شعر "أنس" أنها تتحدث إليه ّ
بتحفز ،رّبما ملا فعله عندما رآها ّأول ّ
مرة،
سريعا فرأى عينها املتو ّرمة فأشفق عليها وسألها:
ً وما ّ
ظنه بها ،رنا إليها
-كيف هي عينك اآلن؟
تحسستها بأناملها بحرص وقالت دون أن تنظر إليه:
-هي أفضل.
-أعتذر ّ
مرة أخرى ..سامحيني.
-ال عليك.
طارت فيها نظرة من نظراته فالحظ جمالها على استحياء وسألها:
ُ
-كنت تقولين إن املحاربين يكونون بال هدف عندما يصلون ،ث ّم يتغير
أنت اآلن؟ أخبريني؟
حالهم..فما هدفك ِ
ّ
غاصت في نفسها مفكرة وقالت:
أود أن أختبئ وإن أخطأت ،وإن -أن أعيش حياتي ّكلها في الضوء ،ال ّ
ُ
فشلت ،وإن كان بي خطب ما! ث ّم أموت على ما أؤمن به.
-ومن منا ال يطلب هذا!
ّثم سألها بفضول:
-كم عمرك؟
-ثمانية عشر ً
عاما.
-ماذا تدرسين؟
-اآلداب
154
-وأنت؟ كم عمرك؟ وهل تد س ً
شيئا ما؟ ر
الح شبح ابتسامة على وجهه وقال بسخرية:
قريبا ،كما أنني د ست بالفعل ً ُ
سأتم الثالثة والعشرين ً
شيئا ما. ر -
التفتت إليه تنتظر أن يكمل كالمه فأردف ً
مجيبا:
-درست الهندسة.
كانت َ"مرام" تستغرب ً
تغيرا بدأ يحدث في مشاعرها ،فرغم غضبها الشديد
ّ
منه ،ورغبتها في ضربه على عينه حتى يتألم كما فعل بها ،فقد بدأت تشعر
لطيفا عندما يعتذر لها! بانجذاب نحوه! يبدو ً
ُ
أطرق "أنس" للحظات ث ّم عاد يسألها:
-كيف بدأ األمر معك؟
ارتبكت َ"مرام" وشعرت بالدماء تصعد لوجنتيها ،وكأنه قرأ أفكارها ويسألها
ً
موضحا: كيف بدأ أمر إعجابها به!! تمتمت تستوضح السؤال ،قال
-أقصد مجيئك إلى هنا ...كتابك؟ صقر حملك مثال!!
فمدت يدها وأمسكت ّ
بحبة تفاح حاولت َ"مرام" أن تبدو متماسكة ّ
وجلست تحملق فيها وهي تروي ما حدث لها:
جدتي مغرمة بالكتب ،تعشق القراءة ،لديها مكتبة عظيمة ،الكثير من ّ -
ً
قصصا نوبية قديمة. املجلدات القديمة ،منها البعض يحوي
تخص ً
أيضا األمير "أواوا" ؟ ّ -هل تلك الكتب
ّ
تخص "دهل كول". -الّ ،إنها
نوبي ً
أيضا!! -ومن هو "دهل كول" هذا؟ ٌ
أمير ٌ
-ال ....تلك الكلمة لقب نوبي وتعني...املجنون!
-وهل يكتب املجنون الكتب!!
155
لكن من حوله لقبوه بهذا االسم فقد ً
مجنوناّ ، -في الحقيقة هو لم يكن ً
يوما
تظنه مجنوناً.
صادقا ذاك الحد الذي يجعلك ّ ً
كان
ً
مستغربا وقال: هز "أنس" كتفيه ّ
ّ
-األسماء كلها غريبة! "أبادول"" ،سامي كول"" ،دهل كول"" ،إيكادولي".
التفتت َ"مرام" تجاهه ّ
وكأن الكلمة األخيرة قد استفزت حواسها وقالت:
ّ -كلها ألقاب نوبية ما عدا "إيكادولي" ليست ً
لقبا بل هي كلمة تعني...
ً
قاطعها "أنس" بتلقائ ٍية وهو ينظر إليها قائال:
ُ -أ ّ
حبك!
بخجل ،واصطبغ وجه َ"مرام" بحمرة خفيفة ،ألقت بالتفاحة ٍ أطرق كالهما
تمسها في الطبق الخزفي وكادت تنصرف لوال سؤاله لها بعد أن التي لم ّ
استدارت:
-ملاذا لم ترحلي طاملا تم استرداد كتابك كما تقولين؟ كان الخيار لك!
حرج وقالت:
التفتت تجاهه في ٍ
ّ ّ
مضطرة ،ال أحد يستطيع دخول الغابة إال املحاربين. -كنت
-ملاذا؟
صفق صوت الرعد الذي ارتج له بدنها الهزيل ،فقد بدأ املطر يهطل بغزار ٍة
فأسرع كالهما إلى الداخل حيث جلسا بهدوء في بيت "كلودة" الذي كان يعد
ّ الطعام مع "أشريا" ،جلس ّ
كل منهما في غرفة ،كان "أنس" يفكر في حال
ّ
الرقة! إنها تشبه قطعة البسكويت الناعمة، َ"مرام" ،كيف كانت ّ
تتحدث بتلك ّ
لو أغرقها املطر ستذوب!
تمدد "أنس" على الفراش وعقد كفيه خلف رأسه وحملق في سقف الدار
جده ،فهذا ليس وقت الفتيات ،طاملا مر به منذ وصوله لبيت ّ وهو ّ
يجتر ما ّ
أزعجته الفتيات ،همس لنفسه:
-ليس هذا وقت الفتيات! ليس وقتك يا َ"مرام".
156
ناداهما "كلودة" فخرج كل منهما من غرفته لتناول الطعام ،تنحنح "أنس"
ً ُ
ث ّم قال لها بصوت جاهد ليخرجه منضبطا:
"َ -مرام" ،ال ّبد أن أعيدك إلى القصر ،حان وقت عودتك ألهلك ،ال ّبد أن
أطمئن عليك قبل أن أعود ألبحث عن كتابي.
-أرجو ذلك وبسرعة
-لكننا سننتظر حتى يتوقف املطر ،واألفضل أن نؤجل رحيلنا للغد حتى
ندخل الغابة في ّأول النهار
هزت رأسها موافقة ،ويبدو أن هذا قد أراح نفسه بطريقة ما ،التفت ّ
يطالع السماء وقد راق له أنها ستبقى ليلة أخرى .كان هناك ش يء ما يتلجلج
في صدره ،إحساس لم يعهده من قبل ،وخزة في قلبه موجعة على نحو ما ّ
لكنها
لطيفة ،وكأن شرارة تتذبذب بين ضلوعه ،وقف بجوار َ"مرام" بعد تناول
كقبة تحمي مدخل الدار كان "كلودة" الطعام أمام باب الدار تحت مظلة بدت ّ
قد صنعها من جريد النخل ،كان كالهما يراقب املطر في صمت ،هدأت ثورة
أخيرا ،ستعود إلى البيت ،كانا ساكنين وكأنهما حرفان متجاوران على غضبها ً
سطر في رواية ،حاء وباء ...و ربما سيكون بينهما الكثير....
❐❐❐
157
()15
النهر األخضر
ّ ٌ ٌ
فجر وردي شاحب يبزغ على ال ّقرية مبش ًرا ٍ
بنهار مشرق ،فتح "أنس" عينيه ٌ
ولثوان راح يتساءل
ٍ ديك يؤذن ،اعتدل في فراشه عندما تناهى لسمعه صوت ٍ
وعما حدث له ،عاد وعيه إليه ببطء ،نهض بوثبة عن املكان الذي يوجد فيه ّ
واحدة واقترب من النافذة ،توضأ من كوب املاء الفخاري الذي كان على
ّ
الطاولة بجواره وصلى الفجر ،كان يحتاج لتلك السكينة ،تلك السجدة التي
تحتويه فتعيد إليه صوابه.
بع د لحظات سمع طرقات خفيفة على النافذة من الخارج ،أسرع يقترب
منها فإذا به "كلودة" الذي أشار إليه بهدوء ليتبعه ،كانت َ"مرام" قد خرجت
الليلة املاضية بعد انتهاء املطر مع "أشريا" لتبيت معها ببيتها ،حمل "أنس"
ُ ً
خرجا ً
معا حيث كان "كومبو" ينتظرهما ،حوارات حقيبته وتبع "كلودة"،
معا عرف منها بعض املعلومات عن الحياة في أرجاء القرية. لطيفة تبادلوها ً
ُ سريعا وتناول ً
أفطر ً
قدحا من مشروب ساخن لطيف مع "كومبو" الذي أسرع
ً
عشبا ما! نحو دكان العطارة ،بينما انسل "كلودة" وصعد السهول ليجمع
هكذا أخبرهما قبل أن ينصرف .جلس "أنس" أمام ال دار واألفكار تتناطح في
مرة أخرى لتلك الغابة ،ال ّبد من استرداد رأسه ،كان قد أخبرهما أنه سيعود ّ
كتابه ،ما زال يخفي اسمه عن الجميع كما نصحته العجوز "ناردين".
مشط "أنس" املكان بعينيه وجلس يتساءل كان البيت على أطراف القريةّ ،
لتقدم هناك ،ال أجهزة ،ال سيارات ،ال أي مظهر من مظاهر ا ّفي نفسه ،ال يرى ّ
تلفاز! الصقور تنتقل إلى مدينته وعامله الذي يعيش فيه ،وها هو هنا ،فهل
انتقل أحد من أهل اململكة ً
أيضا إلى نفس املكان؟
158
وأين تقع تلك اململكة؟
ّ لعله ّ
حلم ،رفرف هذا االحتمال في أعماقه لكنه لم يرح نفسه ،بل زاد من
ّ
توتره.
وصل إلى مكان حيث تأكد أال أحد يراه وأخرج خنجره وحركه في الهواء
وقال وعلى وجهه استقرت نظرة تصميم:
-الغابة
انبثقت الفجوة تتالعب في الهواء بألوانها املائجة في بعضها فوثب فيها
وانتقل للغابة في الحال ،اقترب من شاطئ النهر الذي ينحدر مصبه جوار
الجبال البعيدة خارج الغابة ثم يقتحمها ويشقها حتى نهايتها ،وبدأ يسير موازًيا
له ،كان لون املاء األخضر يسرق نظراته ،راقب انعكاس صورته في املاء ،كانت
عدل من قميصه بينما كان يسير ،فور املالبس الجديدة رغم غرابتها تليق بهّ ،
يشقها من بدايتها لنهايتها تغير أن خطت قدماه أ ض الغابة والتي كان النهر ّ
ر
تسمرت قدماه باألرض! انقطعت أنفاسه عندما انعكاس صورته في املاء فجأة! ّ
رأى انعكاس صورته في املاء ،كانت الصورة لصقر أبيض! كان الصقر يسير
موازًيا لخطوات "أنس" ،تراجع "أنس" للخلف فتراجع الصقر معه ،عادت
صورته العادية عندما المست قدماه األرض خارج الغابة! وكان هناك تحت
قدميه خط واضح يميز أرض الغابة عن األرض خارجها.
يتقدم موازيا له! مرة أخرىّ ،
وكأنه ّ عاد وخطا لألمام فظهرت صورة الصقر ّ
ّ
الصقر الجناح املقابل لها ،لوح بذراعه اليسرى فرفرف رفع ذراعه اليمني فرفع ّ
ُ
الصقر بجناحه املقابل ،تراجع للخلف حتى اختفت الصورة ،ث ّم عاد ّ
وتقدم
قرب رأسه فبدأ انعكاس صورة وجه مرة أخرىّ ، لألمام فظهر االنعكاس ّ
ّ
الصقر يزيد كلما اقترب "أنس" بوجهه من صفحة املاء ...همس لنفسه بفزع:
ٌ
صقر أبيض! -أنا صقر!...
ًّ ُ
محدثا نفسه: ث ّم تمتم
ً
محبوسا تحت املاء! -ال ُيعقل أن يكون الصقر
ً
وخفيفا ،ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـالعبـ ـت وحركها ،كان املاء بار ًدا
مد يده في املاء وغمسها فيه ّ ّ
159
يحدق فيتتغير ،انحنى وهو ّ
لكنها لم ّصورة الصقر على صفحة املاء واهتزت ّ
كفه املمتلئة باملاء وشرب منه،عيني ذاك الصقر األبيض الذي يطالعه ورفع ّ
كان مذاق املاء شديد العذوبة ،ما زالت صورة الصقر األبيض تنعكس على
املاء ،يشرب كما يشرب ،يتحرك كما ّ
يتحرك.
طويل فأمسكه غصن تلفت حوله وبحث عن غصن شجرة ،عثر على ّ
ٍ ٍ ّ
وعاد لشاطئ النهر ،كانت املياه تتدفق نحو الشمال ،غرسه في املاء ليقيس
غصن تعجب وعاد ً
باحثا عن عمقه فابتلع النهر الغصن وسحبه بقوة من يدهّ ،
ٍ
املرة الثالثة وبينما يضع الغصن بحرص في مكان آخر آخر وتكرر األمر ،في ّ
بقوة إلى
شديدة فسقط في النهر ،سحبته تيارات املاء ٍ جذبه ش يء ما ّ
بقوة
ٍّ
أسفل وكان يقاوم بينما تشكلت حوله دوامة جعلته يغوص في األعماق ،كأن
ضوءا ينير قاع النهر ،ابقى عينيه مفتوحتين كعادته عند السباحة، ً هناك
ّ
وألنه اعتاد على كتم أنفاسه لدقائق طويلة لم يشعر بضيق في التنفس ،تلفت ّ
يحرك جسمه نحو الضوء، عما جذبه فلم يظهر له ش يء ،بدأ ّ حوله ً
باحثا ّ
تحفها الطحالب فشيئا بدأ يقترب من مصدره ،كانت هناك فتحة دائرية ّ ً شيئاً
كل جانب ،أدخل رأسه فيها فأذهله املنظر الرائع فدخل في الحال الخضراء من ّ
وبدأ يسبح لألعلى فاألعلى حتى رفع رأسه فإذا هو في مغارة غطت جدرانها
الطحالب الخضراء املضيئة ،صعد على األحجار واقترب يتحسسها بيده ،أراد
واستل الخنجر الذي كان يخفيه في حزام ّ فمد يده جزءا منها ّ
أن يقتطع ً
تباعا ّ
وكأنها متصلة بنطاله ،بدأ ي قطع الطحالب فإذا بها تسقط بين يديه ً
برباط واحد! ليظهر خلفها كتابات غريبة على الجدران ،بدأ يزيل بقاياها
واحدة تلو األخرى وانهمك في األمر حتى خال الجدار من الطحالب ،تراجع
للخلف فإذا هي عبارات مكتوبة بلغة غريبة ،كان بينها رموز مرسومة لم يدرك
ّ كنهها ،تمنى لو ّأنه يستطيع قراءتهاّ ،
لكنه لم يتمكن.
ممر طويل ،استند إلى الجدار ورفع رأسه ونظر ّ ٍ
بتأن على يمينه كان هناك ّ
وكأنه يدرس طوبوغرافية املكان ،تناهى إلى سمعه أصوات عجيبة ،وكأنها ّ
قصيرة وكانت
ٍ ملسافة
ٍ أحاديث مبهمة يتردد صداها في جوف املمر! سار فيه
الطحالب الخضراء على الجدران تنير الطريق ،توقف حيث بدأت العتمة
بضوء يشع من حقيبته ،أخرج الكيس الجلدي الذي وضعه ٍ تغش ى املمر ،وإذا
الجد من حقيبتهّ ،إنها قطع الكريستال! والتي كانت قد تحولت لقطع من ّ
160
الفحم عندما داهمه اللصوص في الغابة ،وها هي قد عادت لحالتها األولى تبرق
من جديد!
أمسك واحدة منها فازداد توهجها وأنارت املمر ،سار حتى بدأ وهجها
يخفت بالتدريج فاستبدلها بأخرى ،شعر أن ذاك املمر ال نهاية له ،كانت هناك
فتحة علوية يتسلل منها ضوء الشمس ،على الجدار كانت هناك بروزات
وكأنها َدرج ُي ستخدم للصعود تجاه تلك الفتحة،
حجرية على مسافات منتظمة ّ
ّ
تسلقها في الحال واقترب من الفتحة ،كان غطاء الفتحة مصنوع من خشب
جدا غليظ وقو ّي ،صنع بإتقان بحيث يعلو فوق سطح األرض بمساحة ضئيلة ً
ال تظهره بينما على جانبيه كانت هناك فتحة مستطيلة ورفيعة تتيح للناظر
مراقبة الطريق ورؤية من يقف ف وق رأسه بوضوح ،رأى "أنس" فتاة جميلة
شخص يمينا ويسا ًرا ّ
وكأنها تنتظر وصول تتلفت ً
وتغني بصوت خفيضّ ، تجلس ّ
ٍّ
فظن "أنس" ّأنها انتبهت لوجوده تحت قدميها ،لكن
ما! وثبت من مكانها فجأة ّ
الشاب الذي اقترب من مكانها كان هو سبب وثوبها ً
فرحا بقدومه ،قالت
ً
وشغفا: وعيناها تقطران ً
حبا
-كنت أعلم ّأنك لن تصبر وستأتي في نفس املوعد؟ هل تخلصت من
الهدية؟ وهل أنت بخير؟
ُ ُّ ّ
كفرس
ٍ أومأ برأسه ففهمت أنه قد تخلص منها ،ثم تراجع وجلس يلهث
جريح وقال:
-أنا بخير ،وددت فقط أن أخبرك بش يء هام.
ابتسمت ّبرقة وقالت بصوت ّ
متهدج:
-خشيت ّأال أراك ّ
مرة أخرى.
ً
مبتعدا وقال بصوت يشوبه القلق: سار
-قد ال ترينني ّ
مرة أخرى بالفعل.
أغلقت فمه بيديها على الفور ،ثم قالت :
-ال تقل هذا ....أرجوك.
161
عانقته بينما كان يقاومها ويبعد يديها عنه وفجأة! قطع حوارهما ٌ
نداء من
فتاة أخرى تغطي وجهها بطرف خمارها وتصيح في فزع:
-موالتي ..موالتي.
تتلفت في خوف ،نظر "أنس" أسرع الشاب بالهروب وبقيت الفتاة مكانها ّ
وتمعن في وجههّ ،إنه"....كلودة"!! والذي كان قد تجاه الشاب قبل أن ينصرف ّ
بدأ يظن أنه مالك يسير على األرض!
معينا من املاء الساخن فوق كان "أنس" يشعر وكأن هناك من سكب ً
رأسه ،كانت دماؤه تفور وتغلي ،أراد أن يصرخ ويقفز فوق األرض فيحطم رأس
"كلودة" ،اقتربت جارية من تلك الفتاة وأخبرتها أن تسرع إلى القصر ،فاألميرة
َ
"نبرة" تطلبها في الحال! .بعد انصرافهما حاول أنس أن يزيل الغطاء ليصعد
لكنه لم يتمكن من رفعه ،عاد لسيره داخل ه ذا املمر العجيب. من الفتحة ّ
سدها بالحجارة ،بدأ يزيلها وجد "أنس" فتحة ضيقة يبدو أن هناك من ّ
واحدة تلو اآلخرى بحرص شديد ،عندما أزاح بعضها وأصبح من السهل أن
يدخل رأسه ليرى ما وراءها ألقى واحدة من قطع الكريستال فسقطت على
وتوهجت بقوة فأضاءت املكان ،تملكته الدهشة عندما وجد غرفة ّ األرض
مستديرة تبدو كأنها نحتت في جوف صخرة عمالقة ،أزال باقي األحجار ُ
تابوتا في صدر تلك الغرفة، الصغيرة ودلف الغرفة وقد تملكته الرهبة ،وجد ً
وآخر عن يمينه ،كان غطاء كل منهما يبدو كتحفة فنية رائعة ،حيث وزعت
وطعمت بألوان زاهية ،شذرات النقوش العجيبة عليهما بشكل هندس ي بديع ّ
حطم شيئاً ّ ّ
ذهبية كثيرة كانت منتشرة على األرض هنا وهناك ،وكأن هناك من
ً
ما! فتح "أنس" التابوت يتوقع أن يجد مومياء ،فأجفل عندم ـ ـ ـ ـ ـ ـا رأى هيك ـ ـ ـ ـ ـال
عظميا على صدره قالدة تشبه التي يرتديها! والتي جعلت "املجاهيم" يتركونه ً
ّ ّ
يمر بسالم ،على وجه الهيكل العظمي كانت هناك بقايا قناع ذهبي محطم،
ّ
أدرك أن هناك من حاول نزع القناع أو ربما نزعه وأعاده إلى مكانه فتسبب في ّ
حجمافضل أال يلمسه واتجه إلى التابوت اآلخر ،وكان أصغر ً تلك الفوض ىّ ،
ّ ً
عظميا ً ً ً ّ
آخرا بال قناع وبال قالدة! تلفت وكأن صاحبه أقصر طوال ،فوجد هيكال
يمينا ويسا ًرا فلم يجد ما يلفت نظره ،كانت الغرفة خالية وباردة ومهيبة، ً
لألول فأغلقه ،وقبل أن يخرج من تشبه القبر! أغلق التابوت الثاني ،وعاد ّ
162
وكأنه يسقط في بئر الغرفة انطفأ بريق قطعة الكريستال فجأة ،وشعر "أنس" ّ
سحيق ،ابتلعه الظالم ،ودارت رأسه فغاب عن الوعي لفترة ال يعلم قدرها!
فتح عينيه فوجد نفسه في نفس الغرفة وقد غمرها النور ،وأمامه يجلس رجل
مهيب الطلعة له سحنة مريحة ونظرة هادئة وابتسامة وديعة ،وعلى يساره
ً قصير لم يرفع عينيه ّ
ٌ يجلس ر ٌ
عما أمامه ،فقد كان مشغوال بالكتابة على جل
ّ
أوراق البردي باهتمام شديد ،اعتدل "أنس" وحاول أن يتحدث لكن صوته لم
يخرج من حلقه ،فع يده يتحسس عنقه ُث ّم فمه فالحظه الرجل وقال ً
شيئا ر
ّ ّ ُ
ما بلغة لم يفهمها "أنس" ،كان يرفع كفه وهو يحدثه ،بدت تعبيرات وجهه
شيئا من كالمه ،اعتدل الرجل في مساملة ومطمئنة ،لكن "أنس" لم يفهم ً
ُ
جلسته وأقام ظهره ،ث ّم نصب عنقه وأغمض عينيه ووضع كلتا يديه على
ساقيه ،ثم ركز في عيني "أنس" وقال الكثير من الجمل ،واحدة تلو األخرى،
ً ً ّ
أحيانا ثالثا ،وبعضها كان يقولها وهو يشرحها بيديه ،جملة منها قالها كررها
وأخيرا قال تلك الكمة التي قلبت حياة ً وهو ُيمسك بالقالدة على صدره،
أسا على عقب" ...إيكادولي""...إيكادولي""أنس" ر ً
كل ش يء ،وأفاق "أنس" من تلك اإلغماءة التي كثيرا ُث ّم اختفى ّ
كررها ً
أصابته ،فوجد التابوتين على حالهما ،فخرج من الغرفة وقد حفظ الكلمات،
وكأنه طبع الكلمات بتلك اللغة الغريبة كان يكرر ما قاله الرجل بالتفصيل! ّ
ولقنها له! شعر بإرهاق ذهني كبير ،فأخرج خنجره ّ
وحركه في على ذاكرته ّ
طبقات الهواء ،قرر أن يعود من حيث أتى وبطريقة سريعة فسلك فجوة
فتحها بخنجره كما فعل من قبل وانتقل إلى سطح ماء النهر ،جلس منهك
ً
مخلفا وراءه القوى ،كان املاء ال يزال يقطر من جسده ،سار ملسافة قصيرة
غدر ًانا صغيرة من املاء على األرض ،وصل أخي ًرا إلى جذع شجرة مقطوعة
فجلس عليه يلتقط أنفاسه.
ال ّبد أن يعود لـ"كلودة" ويسأله عن تلك الفتاة! وملاذا يفعل هذا! كانت
تتحطمّ ،ّ
ظنه تلك الصورة املثالية التي رسمها لـ"كلودة" في ذهنه قد بدأت
كل ش يء ،ولكن يبدو ّأنه خبيث يظهر غير ما يبطن ويخدع ائعا في ّ ً
شابا ر ً
الناس.
ّ
انتشل نفسه من هذه األفكار،وبدأ يفكر في العبارات التي حفظها ويكررها
163
وهو ال يفهم كنهها ،والكتابات األخرى التي رآها على الجدران في املغارة ،خلع
قميصه ليعصره فأزال القالدة عن عنقه دون قصد منه فلمح ً
طيفا فأسرع
مرة أخرى ،كان زعيم "املجاهيم" الذ ي انشقت عنه األرض و اقترب يرتديها ّ
ً
منه قائال:
ألنكغاضبا منك ّ
ً -انتبه لقالدتك لتحمي نفسك ،ما زال أحد رجالنا
أخرجت الفتاة وا لرضيعة من الغابة وألبستهما القالدة ،وحافظ عليها
إكراما ّ
لجدك "أبادول" ً
الجد بإجالل وهو يضع يده على صدره ،استدار ردد زعيم "املجاهيم" لقب ّ
لينصرف ...فأسرع "أنس" ينادي عليه ويستمهله ،سأله عن تلك الغرفة التي
عثر عليها أسفل النهر ،والقالدة التي رآها على صدر الهيكل العظمي داخل
التابوت ،وذاك الرجل الذي رآه فيما يشبه الغفوة السريعة ،قال زعيم
"املجاهيم" بعد أن أنهى "أنس" كالمه:
عمه -إنه تابوت األمير "أواوا" ،كان هنا منذ وقت طويل ً
جدا ،هارًبا من ّ
ومعه خادمه املخلص "سربل" ،دلفا إليه من خالل فتحة في أرض حديقة
عمه ،ما زالت الفتحة موجودة ،وما زال القصر ً
قائما حتى اآلن ،وما قصر ّ
زال الظلم يسكنه ،تتجدد جدرانه ويتجدد معها الحاكم الظالم في مملكة
الجنوب ،كن ت أجلس دون أن يراني األمير "أواوا" وأستمع إلى ما يمليه على
خادمه من حكم وقصص ،ورأيته يكتب على جدران ذاك املمر تحت النهر
عبارات كثيرة.
ً
متعجبا: قاطعه "أنس"
-وهل كنت تفهم لغته؟
ّ
وتحدثت معه ،كان هذا قبل أن -بالتأكيد! وقد أظهرت نفس ي له ولخادمه،
ّ
وأخبرته عن قصة قومي وكان نسكن األرض هنا ،نشأت بيننا صداقة
ً مرة من ّينصت لي ،عدت في ّ
املرات ووجدته مقتوال هو وخادمة ،فأحضرت ً
تابوتا له وآخر لخادمه ،ودفنتهما كما كان يفعل قومهما ،وألبسته قالدة
تخصني ً
إكراما له. ّ
حسنا ،سأخبرك ببعض العبارات التي سمعتها من شخص ما أظنه األمير ً -
"أواوا" ،رأيته فيما يشبه الرؤى عندما فقدت ال وعي داخل تلك الغرفة
أسفل النهر.
164
وبدأ "أنس" ُيكرر ما سمعه بتلك اللغة التي ال يعرفها! وكان زعيم
"املجاهيم" ينصت إليه باهتمام ويترجم له ،أخبره ّأن تلك هي لغة األمير
"أواوا" ،اللغة النوبية األصيلة ،كان األمير يطلب منه أن ينتبه ملا هو قادم،
الفخ .وطلب منه أن يهتم فهناك من يطلبه ويطارده ،وأن عليه أال يقع في ّ
باألرقام ،ويسأل عنها ويتتبعها ،فهي املفتاح لكي يصل إلى الحقيقة.
ّ
تذكر آخر كلمات األمير "أواوا" ،كرر األمير عشر ّ ّ
مرات لم يتمكن "أنس" من
لكن "أنس" لمشيئا ما! ّ وكأنه يشرح ً كلمة "إيكادولي" وتبعها بعبا ات كثيرة ّ
ر
يتمكن من إعادة إلقائها على مسامع زعيم "املجاهيم" ،انتهى اللقاء واختفى
الزعيم بعد أن جدد تنبيهه لـ"أنس" بأال يخلع القالدة وهو يسير في الغابة ،وعاد
"أنس" لسيره بجوار النهر ،ما عادت صورة الصقر األبيض املنعكسة على
كل ش يء غريب حولهّ ،
وكأنه يعيش على صفحة املاء تشغله ،ألفها كما ألف ّ
أرض تلك اململكة منذ أمد بعيد.
يربت ّ ّ
هبت رياح دافئة فبدأت مالبسه تجف ،وكأن الهواء ّ على غير العادة ّ
على كتفيه ليشجعه على البقاء ،والصمود.
وفجأة......
❐❐❐
165
()16
الغابة
مر من أمامه سهم كاد يخترق صدغهّ ،
تخشبت أطرافه ،بينما خرجت منها ّ
صرخة عالية! وقفت أمامه مرتبكة وهي تضع يدها على فمها ،هرولت نحوه
وقالت بصوت يحمل قد ًرا من االنفعال والدهشة:
-آسفه ،لم أنتبه ملرورك.
"َ -مرام"! ماذا تفعلين هنا؟
-أتد ّرب على الرمي بالقوس.
رفعت قوسها واستدارت وأشارت بيدها ملا تحمله على ظهرها ،فرأى كنانة
ّ
السهام وقد علقتها على ظهرها.
وكأنها قد تدحرجت ّ
للتو في اقترب "أنس" منها والحظ مالبسها املتسخة ّ
وكأنما أشفقت أن ينظرإليها وهي بتلك الهيئة املزرية، الوحل! كسرت طرفها ّ
فسكتت ولم تنبس ببنت شفة ،كانت لديها نظرة شفافة كالبلور ،تبدو تلك
يتحدث ليزيل عنها الحرج فثقل عليه ذلك،الفتاة على فطرتها نقية ،حاول أن ّ
ّ ً ّ
يحس أن لديهما شيئا ما يربطهما ،وكأنهماّ من دون أن يعرفها من قبل ..بدأ
ق ًّ ُ
يقتسمان الوجع نفسه ،أطر مفكرا ثم قال:
أتيت بهذا القوس؟
-من أين ِ
ّ
مدته نحوه بلطف فأمسكه وبدأ ّ
يتفحصه أمامها وهي تقول:
-من شاب يمتهن صناعة األقواس والسهام وأشياء أخرى ،دكانه يقع ً
قريبا
من بيت ""أشريا".
166
ً
سريعا فالحظ آثار الوحل على وجنتها ،الحت ابتسامة على شفتيه، رمقها
يبدو ّأنها ال تعلم أن وجهها ملطخ بتلك الطريقة ،أخفى ابتسامته وسألها
ّ
مت ّ
صن ًعا االهتمام وهو يعيده إليها:
علمك الرمي ّ ّ
بالسهام؟ -ومن
" -الصهباء".
-ومن هي "الصهباء"؟
-امرأة جلدة ّ
وقوية البنية ،التقيت بها بعد أن وصلت إلى اململكة ،تد ّرب
معظم فتيات مملكة الشمال على الرماية.
سألها باهتمام:
-كم ثمن القوس؟
-يختلف حسب حجمه.
-ما اسم العملة التي يستخدمونها هنا؟
من الجلد يحتوي على بعض العمالت الفضية، ً
أخرجت من جيبها كيسا ُ
والذي كانت قد أعطته لها "أونتي" قبل أن تعتقها وأعطته له وهي تقول
بلطف:
التقيت باملغاتير ّأوًال َ
ألم ّد َك "الزاجل األزرق" باملال ،فالحوراء ال تترك َ -لو
محارًبا يمض ي دون مال ً
أبدا.
-أعطاني "كلودة" بعض املال بالفعل ،وددت فقط أن أتأكد من اسمها،
علي االسم ،احتفظي باملال ،فأنا ال أحتاجه اآلنً ،
شكرا لك يا فقد اختلط ّ
َ"مرام".
َ"مرام"! لقد نطق باسمها! ..وقعت تلك الكلمة منه موقعا ً
بليغا في نفسها،
سرت بكلمة قيلت لها من كلمات اإلطراء سرورها بنطقه فلم تذكر ّأنها ّ
اسمها"..مرام"! ّ
وكأنها لم تعرف اسمها من قبل. َ لحروف
أخرجت عملة من الكيس وقالت:
167
ِ -كشتان.
ُ
ث ّم رفعت العملة أمام عينيها وقالت وهي ُتحملق في الصورة املنقوشة عليها:
-وتلك صورة ّأول محارب على أرض اململكة.
يركز على العملة ،لوال ّأنها
وحدق في الصورة ،كان كالهما ّ انحنى "أنس" ّ
حركت يدها فجأة فغرس شعاع عينيه دون قصد في عينيها فتالقت نظراتهما
مجددا كيوم أمس على غير موعد ،عيناه الواثقتان وفوقهما حاجباه اللذان لو ً
ً
زحفا قليال القترنا أصاباها باالرتباك ،كانت تلك امل ّرة كافية لكي يالحظ فيها
خف وتغير لون لون عينيها الرائعتين ،كما الحظ أن تورم عينها املصابة قد ّ
مرت بذاكرته صورتها وهي الهالة الزرقاء حولها للون آخر ،أشاح بنظره عنهاّ ،
بزينتها في السوق عندما رآها ّأول مرة ،تعجب كيف كان متضر ًرا عندما رآها
ً
استحسانا لها وهو يسترجع صورتها في مرة ،وكيف اآلن يجد في نفسه ّأول ّ
مخيلته! استبعد الخواطر التي هجمت على رأسه متكالبة ّ
تزينها له! فالتفت
ملجرد قربها منه ،هو غريب عنها فكيف وكأنه ينفض رأسه ،بات يشعر بالخطر ّ ّ
يسير هكذا معها! ال ّبد أن يحفظها من نفسه.
ضيق وفيه ش ٌٌ ٌ ٌ غمره شعو ٌر
ىء من الفرح! رمقها غريب فيه رهبة وفيه
ّ ُ
خفي ث ّم قال: بطرف
واجهت متاعب في معامالتك مع الناس هنا؟
ِ -هل
-بالتأكيد
-هل لديهم بعض املعتقدات الغريبة؟
-مثل؟
170
حرك خنجره في الهواء وقال تحدق في وجهه باستغرابّ ، كانت َ"مرام" ّ
"قصر الحوراء" ف انبثقت الفجوة املتلونة أمامهما ،كانت األلوان تموج في
بعضها البعض ،وقفت َ"مرام" مرتبكة أمامها ،سألها "أنس":
-سأدخل قبلك
-ال تتركني وحدي هنا!
-ادخلي إذن قبلي.
-ال...ال
-ال ّبد أن يدخل أحدنا قبل اآلخرّ ،
هيا يا َ"مرام"
-ال أستطيع دخول هذا الش يء! رّبما هو ش يء خاص بك ،وأنا أخاف!
ً
هيا يا َ"مرام" سيختصر هذا الكثير من الوقت ،بدال من أن نسير تلك ّ -
املسافة الكبيرة
-األفضل أن نسير..لن أدخل هذا الش يء..مستحيل!
قالت جملتها األخيرة صارخة ،كانت تبدو مرتبكة وخائفة للغاية ،اختفت
ٌ
صمت ثقيل ،كالهما وكأنها كانت تنصت لحديثهما! ،ران عليهما الفجوة فجأة ّ
لكنهما يأنسان ببعضهما ،أراد "أنس" أن ُيخفف يتحرج من تواجده مع اآلخرّ ،
يجرب القوس ،تناوله منها وقال ماز ًحا:
عنها ،طلب أن ّ
-قوسك خفيف ً
جدا ،يبدو كاللعبة!
ّ
مدت يدها إلى كنانة السهام وسحبت ً
سهما وناولته له قائلة:
جرب بنفسك.ّ -
خطوات ً
تقريبا. ٍ مرماك ،الشجرة تبعد عنك عشر
ِ -أراك تقفين ً
قريبا من
-ال أحسن الرمي إن ابتعدت أكثر من تلك املسافة.
رفع "أنس" أحد السهام أمام عينيه وقال:
171
َ ُ
-اخبريني يا َ"مرام" ما معنى تلك األسماء؟"..كلودة"" ،أونتي"" ،أشريا"" ،نبرة"!
ارتبكت َ"مرام" عند سماع االسم األخير وسألته بارتياب:
َ
" -نبرة"! أين سمعت هذا االسم؟
ً
مدعيا فضل أال يخبرها عن النهر وما حدث فيه وقال هز "أنس" كتفيهّ ، ّ
الال مباالة:
-سمعت أحدهم يذكر االسم أمامي.
دارت بعينيها في املكان وقالت وما زالت عالمات القلق مرسومة على وجهها:
"كلودة" أي املولود بعد الشهر السابع وهو من أسماء الذكور الشائعة هنا، ُ -
و"أونتي" تعني القمر ليلة البدر" ،أشريا" تعني الفتاة السمحة والحلوةّ ،أما
ّ َ
"نبرة" فتعني ...املرأة الجميلة ،وكلها أسماء نوبية قديمة.
حرك"أنس" كتفيه وقال: ّ
-األشخاص هنا غرباء! ،أشعر أنهم من بالد مختلفة ،يختلفون في املالمح
واملالبس! حتى البيوت تختلف!
-كل قرية هنا تختلف ً
تماما عن األخرى.
-وكذلك األشخاص ...أليس كذلك يا "مرام"؟
رفعت "مرام" حاجبيها وقالت:
ومرت سنون طويلة ،ورحلوا من مكان ملكان.. -ربما اختلطت األنسابّ ،
نحن نعيش اآلن في مكان عجيب ،هناك العديد من القرى حولنا ،الغابة
ً تعتبر ً
شيئا منفصال يهابون االقتراب منها ،لكن ما يحيرني هو تلك القرى.
-ما بها!
قالت َ"مرام":
-كل قرية تختلف عن األخرى ،لو دخلتها وتعاملت من سكانها ستشعر
ّ
وكأنك قد انفصلت عن القرى األخرى وما فيها ،حاول ّ
وجرب بنفسك.
172
أنت من قبل؟ -هل ّ
جربت ِ
-بالتأكيد.
أيت؟
-وماذا ر ِ
لك ّ
...لكنها تجربة تستحق ،وتبقى مملكة الشمال -ال أدري كيف أصف َ
حيث قصر "الحوراء" أحبهم إلى قلبي.
-وملاذا؟
-ألنني هناك ..أشعر باألمان يا "أنس".
-باملناسبة ،هل تعلمين يا َ"مرام" أين نحن اآلن؟ ،أين موقع تلك اململكة
على الخريطة؟
جر ُونكسر
-ال ...ال أعرف يا "أنس" ...أشعر أحيانا أننا بين السطورُ ،نرفع ُون ّ
من أجل املعاني.
ُ
ابتسم بسخرية ث ّم قال:
مملكة ال ّ
محل لها من اإلعراب. ٍ -إذن نحن في
وضع "أنس" السهم في كبد القوس ورفع ذراعه ٍ
بثبات،باعد بين ساقيه
بقوة ثم كتموأغلق إحدى عينيه ور ّكز األخرى على الهدف ،جذب السهم ّ
أنفاسه وتركه فجأة ليستقر في وسط بقعة سوداء كانت على جذع شجرة
بلوط اتخذتها َ"مرام" مرمى لسهامها ،ابتسمت عندما رأت السهم وقد رشق
فيها وقالت بإعجاب:
جدا يا "أنس". -يبدو ّأنك ٌ
ماهر ً
-املسافة قصيرة ،ال ّبد أن أتد ّرب على الرمي من مسافات أطول ،ولكنني ال
أظن أنني سأحتاج للقوس والسهام هنا! أليس كذلك؟ ّ
-ربما تحتاجها ،حاول أن تتعلم ّ
كل ش ىء في تلك اململكة.
ّ
ثم تفحصت مالبسه بنظرة سريعة ،كانت أطراف سرواله ما زالت مبتلة،
سألته بفضول:
173
-هل سقطت في املاء؟
-نعم.
-أين؟
-النهر األخضر.
-ماذا قلت؟
-النهر األخضر ...ذاك النهر الذي يقطع الغابة ،تعرفينه بالتأكيد!
-اتبعني أرجوك.
ّ
متحفزة وزاولتها حالة سارت َ"مرام" بخطوات سريعة نحو النهر ،بدت
ّ
نشاط فجائي ،تخطت األشجار الكثيفة التي تفصل املكان الذي كانا يقفان
ّ
فيه عن شاطئ النهر ووقفت على حافته دون أن تلتفت لـ"أنس" الذي تبعها
حتى وقف بجانبها ونظر كالهما النعكاس صورته في املاء ،قالت بصوت خافت:
-أرأيت!
حملق في صفحة ماء النهر وقال بهدوء:
-نعم رأيت ،صقور بيضاء.
-هكذا تظهر صورنا في املاء ،صقور بيضاء ،نحن املحاربون فقط من تظهر
صورهم على س طح ماء هذا النهر بتلك الطريقة.
-ملاذا يا َ"مرام"؟
-ال أدري! أخبرتني "الحوراء" ً
أيضا أننا نستطيع التحليق والطيران داخل
نطاق الغابة وحول الجبل األحمر ،وإن حاولنا وتدربنا سنتقن األمر،
مرة على درج القصر لكنني لم أجرؤ ً
يوما على تلك الفعلة ،حاولت القفز ّ
وحلقت لل حظات فراودني شعور بالخوف الرهيب ،حاول أن ّ ّ
تجرب يا
"أنس"
-ال أظنني سأفعلها! ولن أجربها!
174
ُ
فقدت الكثير تجرب كل ميزة تعرفها عن نفسك كمحارب ،فلقد -حاول أن ّ
من مميزاتي التي اكتشفت بعضها وال أدري السبب!
عاد "أنس" يحملق في صورة الصقر املنعكسة على سطح ماء النهر وسألها:
-وماذا عن "الحوراء" و "الزاجل األزرق" هل تظهر صورهما ً
أيضا هكذا؟
-أتمزح! "الحوراء" وعشيرتها!! ال يجرؤ أحد منهم على دخول الغابة يا
"أنس".
-ملاذا؟
ّ
-يفقدون أبصارهم ،ال يرون إال الظالم ،ور ّبما يفقدون حياتهم ،تلك الغابة
قد تبتلع كل أهل اململكة في لحظة .
أنت هنا إذن! أال تخافين؟
-ولم ِ
ّ
-كنت أخاف ،وأرتجف ،لم أجرؤ على دخول الغابة إال بعد أن شجعتني
"قطرة الدمع".
-ومن هي؟
-أنثى الصقر التي أحضرتني إلى هنا ،ألم ترها؟ ّإنها زوجة "الرمادي".
واد على أطراف الغابة بالقرب من الجبل األحمر جهة أشارت َ"مرام" إلى ٍ
كوة بالجبل، الشرق ،أخبرته أ ّن "الرمادي" و "قطرة الدمع" يعيشان هناك في ّ
ً
كانت املسافة طويلة ،ترددا قليال قبل أن يقررا السير إلى هناك ،فقد رفضت
َ"مرام" استخدام الخنجر لالنتقال إلى هناك ،ما زالت تخاف ،كانت تأمل أن
تحملها "قطرة الدمع" وتعيدها في الحال إلى ديارها .بعد نحو ساعة من السير
ّ
وصال إلى هناك .حلق "الرمادي" فوقهما وشاركته "قطرة الدمع" واقترب
ّ
التحية ،قال "الرمادي": كالهما من َ"مرام" و "أنس" ووقفا أمامهما يؤديان
حمدا هلل ّأنك عثرت على َ"مرام".
-مرحبا "أنس" ،أتيت في الوقت املناسبً ،
-مرحبا يا صديقي.
قالت َ"مرام" ّ
بتلهف:
175
أنت؟ وكيف هو جرحك؟
" -قطرة الدمع" كيف ِ
أجابتها "قطرة الدمع" وهي ّ
تحرك جناحها:
-بخير كما ترين
-هل ستعيدينني اآلن إلى بيتي؟
ّ
نكست "قطرة الدمع" رأسها وقالت:
-ليس قبل أن يصدر "سامي كول" األمر املباشر لي يا َ"مرام" ،تعلمين أن
األمر ليس بيدي.
-إذن احمليني إلى القصر
-لن أستطيع
-حتى القصر! ...ملاذا!
ّ
-هذا أمر من الحكيم "سامي كول" ،لن أحملك إال بتوجيه مباشر منه
بدا اإلحباط الشديد على َ"مرام" ،والحظ "أنس" ما أصابها ،كان يرزح
تحت موجة عنيفة من الشعور بالذنب تجاهها ،أراد "الرمادي" أن يخفف
عنهما فقال موجها كالمه لـ"أنس":
-شاركانا احتفالنا بالزواج.
ّ
لم يترك له "الرمادي" فرصة سؤاله! بل حلق في الحال ،التفت "أنس" نحو
َ"مرام" وسألها ّ
بتعجب:
-ألم تخبريني أن "قطرة الدمع" زوجته؟
-بلى أخبرتك ،وهي كذلك بالفعل ،ولكننا نشهد احتفاال بطريقة ما ،يعود
الزوجان إلى نفس املوقع الذي عششا فيه كل عام ،حيث يؤديان عرضا
ملراسم الزواج ُليجددا الروابط فيما بينهما ،وعندما يتودد الذكر إلى أنثاه
يقوم بتقديم طريدة لها ،ويتضمن هذا العرض عددا من الحركات
جوية حادة ،وكي تستطيع البهلوانية واللولبية في الجو ،باإلضافة لغطسات ّ
176
األنثى أن تتلقى الطريدة فإنها تطير بطريقة عكسية وتلتقطها بمخالبها من
قوائم الذكر.
وقف "أنس" يراقب الحركات البهلوانية التي يقوم بها "الرمادي" حتى ينال
رضاء زوجته ،وتابعها وهي تشاركه التحليق برشاقة ،علت وجهه ابتسامة
واسعة ،سأل َ"مرام" عن سبب تسميتها بـ "قطرة الدمع" فقالت له:
-ألنها من أسرع الطيور على أرض اململكة ،تبدو في هيئتها كقطرة دمع وهي
جوية ّ
حادة لعلو شاهق ومن ثم تقوم بغطسة ّ تهبط على فريستها ،تطير ّ
وسريعة لتضرب بعدها أحد جناحي طريدتها كي ال تؤذي نفسها عند
االصطدام.
ّ
يتجوالن في الغابة ،بدأت بطن "أنس" تقرقر من الجوع مر الوقت وهماّ
ّ َ
وكذلك كانت "مرام" ،مالت الشمس للغروب واكتست الدنيا حلة ذهبية
بديعةّ .
ودعا "الرمادي" و"قطرة الدمع" وبدأت رحلة عودتهما ،سألته َ"مرام"
باهتمام:
-ما خطوتنا التالية؟ هل سنكمل الطريق إلى القصر الحوراء؟
-نستطيع أن ننتقل إلى هناك في لحظة! فلنستخدم الخنجر وننتقل من
خالل فجوة
-ال...ال
سريعا يا َ"مرام" ال تخافي
ً -سأعيدك
-ماذا لو خرجت منها إلى عالم ثالث ال أعرف كنهه ولم أجدك هناك! يكفي
ما مررت به ..يكفي ،سنسير على األقدام
بدا عليه الضيق ،فهي ّ
تصعب األمور:
حسنا ،فلنعد ألننا أقرب اآلن إلى القرية منها للقصر ،ونعود ً
غدا ومعنا ً -
ً ّ ّ ر
بعض الطعام ،و بما نستعين بحصانين ،أود أن أعيدك سريعا حتى أعود
للبحث عن الكتاب ،ال ّبد أن أحصل عليه بأسرع وقت ،حاولت الوصول
إلى املكتبة العظمي كما أخبرتك ،لكنني لم أصل إليها ،ولست على يقين من
177
وقوعه في يد امللك ِ"كمشاق" ،رّبما ما زال مع اللصوص ،ألم تسمعي عن
وأنت هناك؟
ذاك األمر ِ
-إن أردت أن تسأل فاسأل "كلودة" ،فله أصدقاء هناك بالقصر.
-ماذا!! "كلودة"!!
أدرك "أنس" أن املكان الذي رأى فيه كلودة مع فتاة من خالل تلك
الفتحة في املمر قرب النهر األخضر تقع في بالط القصر وما حوله ،كان ّ
يحدق
في الفراغ بينما أكملت َ"مرام" قائلة:
-اطلب منه أن يسأل أصدقاءه هناك عن الكتاب ،باملناسبة ،الحظت أنك
تتجنب الحديث عن اسم الكتاب أمامهّ ،
وكأنك تخش ى أن يعرف عنوانه.
حذرتني السيدة "ناردين" من أن أخبر ً ّ
أحدا بعنوان -بالفعل هذا ما أفعله،
الكتاب ،إال من أثق به.
ُ
ث ّم أومأ إليها فشابت نفسها السعادة أنه يثق بها ،وقد أخبرها باسم كتابه
ً ّ
في بيت "كلودة" من قبل ،أردف قائال بتأثر:
-هل أخبرتك "أشريا" عن الرضيعة التي عثرنا عليها في الغابة؟
-ال
-هال سألتها عنها وعن حالها ،وكيف ترعاها زوجة الخباز؟ يبدو أنها و أمها
يتوليان رعايتها ،فلم أر "كلودة" يحضرها إلى البيت ،وكنت قد سمعته يخبر
زوجة الخباز التي ترضعها ّأنه سيعود كل ليلة ليحضرها لتبيت معهّ ،
لكنه
لم يفعل!
ً
حسنا سأفعل ،لكنني لم أالحظ وجود رضيعة بالبيت! -يا مسكينة!...
-سمعت أ ّن "أشريا" ترفض الزواج من "كلودة" وهذا ُيحزنه.
رفعت َ"مرام" حاجبيها في استغراب وقالت:
ً ُ ّ
وقريبا ستزف إليه! -كيف هذا! لقد طلبها أمس للزواج بالفعل ووافقت،
178
ً
غضبا ،يبدو أن "كلودة" يتالعب بتلك الفتاة الرقيقة، استشاط "أنس"
يخدعها ويطلبها للزواج ويتصنع الهوان والضعف ويخونها مع غيرها! وفوق
هذا يظهر ّ
التنسك ويكثر التسبيح وهو!!....
أكمال سيرهما صامتين ،سيسأله بالفعل عن الكتاب ،وإن كان قد وصل
للقصر أم ال ،وسيسأله عن أشياء أخرى.
عادت َ"مرام" لدار "أشريا" وسألتها فور أن وصلت عن الطفلة الرضيعة
شيئا! ،وأنكرت أمرهالكنها أخبرتها أنها ال تعرف عنها ً
كما أوصاها "أنس"ّ ،
ً
تماما!
ّ
ظلت َ"مرام" تثرثر معها وكأنها طفلة صغيرة وقد رجعت للتو من يومها ّ ّ
األول في
املدرسة ،كانت "أشريا" تراقبها ُوتنصت لحديثها بفضو ٍل ،أدركت ّأن َ"مرام"
الحب واإلعجاب لـ "أنس" ،عرفت ذلك من نظرات عينيها املنكسرة، ّ ُتضمر
وفلتات حديثها ونشاطها عند كالمهما عنه.
عندما أرخى الليل عباءته املرصعة بالنجوم على سماء القرية كانت َ"مرام"
تجلس ساهمة في غرفة "أشريا" تلوم نفسها على تلك املشاعر التي بدأت تحاك
ألمها أنفي نفسها تجاه "أنس" ،كيف تعجب به! وذاك يتعارض مع وعدها ّ
تحافظ على قلبها ،أدركت اليوم فقط أن ال سلطان لها على قلبها ،لكنها بال
غدا ستحاول أن تصلح ما شك تملك أفعالها الظاهرة .عندما تسير معه ً ّ
بنفسها من أمره ،وذاك ما عجزت عن إصالحه طوال اليوم وهي معه،
ربما..لن تتكلم معه طوال الطريق! ولن تنظر إلى وجهه! أو ربما تطلب منه أن
يستخدم الخنجر وتنتقل فو ًرا إلى القصر ّثم إلى بيتها ،لكنها تخاف هذه
تحرك في الهواء! كانت تشعر ّأن قلبها يقفز من بين ضلوعها الفجوات التي ّ
ّ
عندما تفكر في "أنس" ،جلست تتآكل في صمت.
❐❐❐
-ملاذا لم ّ
تمر علي في الدكان؟
سأله "كلودة" عندما رآه يجلس أمام البيت وعلى وجهه تتمش ى عالم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات
179
الضيق والغضب ،لم يجبه "أنس" ّ
فظن "كلودة" أنه متعب أو محبط ألنه لم
يعثر على كتابه بعد ،قال يخفف عنه:
-ال تحزن يا صديقي.
رشقه "أنس" بنظرة جعلته يرتبك ،تراجع خطوة وسأله باستنكار:
-ما بك؟ وملاذا تنظر ّ
إلي هكذا!
-ما ذنب "أشريا"؟ أتخدعها وتزعم ّأنك تريد الزواج منها وأنت تعشق
غيرها؟
-إذن أخبرتك َ"مرام"! كنت أعلم ّأنها لن تسترنا.
-تستركما!!!
-أخطأت عندما طلبت الستر من بشر! واآلن أنا أطلبه من هللا.
عجبا للناس يطلبون الستر وهم عاكفون على املعصية! أنت تخش ى الناس ً -
وال تخش ى هللا!
-وهللا أخشاه ..وهللا أخشاه ...لكنني ضعفت! واآلن تبت.
-كاذب!! لم تخبرني َ"مرام" أي ش يء ،رأيتك بعيني وأنت معها اليوم ،رأيت
سكا ً ً
عابدا! بنفس ي ولم يخبرني أحد ،أين ذكرك وتسبيحك؟ ظننتك نا
-ما رأيته اليوم كان آخر لقاء لنا!
ّ
-أنت كذاب! كنت تراودها عن نفسها وتراودك عن نفسك
حقا ورأيت ،ألم تلحظ شيئا ،إن كنت هناك ً
" -أنس"..أ جوك! أنت ال تفهم ً
ر
ّأنها هي التي كانت تلقي بنفسها علي اليوم وكنت أدفعها! لقد أخبرتها أنها
ّ ّ
لن تراني ّ
مرة أخرى.
ثم أردف وقد تظللت عيناه بالدموع:
ُ " -أنس"ً ...
فقا بي ،رفقا بمن وقع في املعصية ث ّم عاد ،أنا اآلن أعرف قيمةر
ّ ُ
التوبة أكثر منك ،ألنني وقعت في املعصية بعد أن استقام حالي ثم ندمت
180
وعدت ،فتلك السقطة جعلتني على يقين أن ال طريق الحق هو طريق
التوبة.
ُ ُ
ث ّم أجهش بالبكاء ،فلزم "أنس" الصمت ،ثم قال بعد أن هدأ بكاء "كلودة":
-الفضيلة التي فيك ال ّبد أن تنضح على أفعالك ،يراها الناس كما يرون
ظاهر ثوبك ،كنت تظهر الصالح وأنت تخفي املعصية.
-ألنني غفلت ،طلبت الستر فيها ونسيت أن أطلب من هللا الستر عنها ..أن
ُتحجب عني املعصية وأن يحول هللا بيني وبينها ،وهللا لقد تبت وندمت،
ساعدني أرجوك.
ساكنا ّ
وكأن على رأسه الطير، ً ً
صامتا وعاد لبكائه ،وجلس "أنس" بجواره
ّ ّ ُ
يتنصت على حديثهما منذ أطل "كومبو" من خلف الباب على استحياء ،كان
ّ
البداية ،سار وهو منكس الرأس تجاه صديق طفولته "كلودة" وجلس بعد أن
أحاط كتفه بذراعه ،ثم رفع عيناه تجاه "أنس" وقال بخفوت:
القصة منذ بدايتهاً ..
فقا به و ال تعن ّ جي ًدا وأعرف
-لقد تاب ..أنا أعرفه ّ
ر
الشيطان عليه!
ً
مصفرا وحول عينيه تفحص "أنس" وجه "كلوده" ،كان وجهه املتعب ّ
جليا ّأنه يعاني ،بعد ردح من الزمن قال محفور بهالتين من السواد ،بدا ًّ
بهدوء:
ّ
وتتمزق هيبتك. ستهدر كرامتك على األرض -لو علمت "أشريا" ُ
انسحقت روح "كلودة" وقال بخفوت:
-لن يخذلني ربي ...حاشاه أن يرد ً
قلبا باليقين ناجاه.
ُ
كانت ليلة عصيبة على "كلودة" ،انصرف "كومبو" وهو يطارد بومة بيضاء
كانت تطوف بالبيت وتحلق فوق شجرة قريبة ،قذفها بالحجارة فابتعدت في
ظل "كلودة" يبكي طوال الليل حتى أن "أنس" أشفق عليه ور ّق لحاله.الحالّ ،
❐❐❐
181
ّ
تستعد للنوم ،التفتت كانت َ"مرام" ّ
تمشط شعرها بينما كانت "أشريا"
َ"مرام" إليها وسألتها بفضول:
-ملاذا ترفضين الزواج من "كلودة"؟
قليال ُث ّم اقتربت من َ"مرام" وجلست بجوارها ث ّم ّ
تأبطت ذراعها
ُ ً
شردت "أشريا"
بلطف وهمست:
حبه لكنني أخاف! -أنا ُأ ّ
-من ماذا؟
ُ
-كما ترين ،لست ببارعة الجمال كما أنني ال أحسن ما تفعله الفتيات في
ُأنفسهن ،حتى أنني ال أجيد الحديث مثلهن ،ال أظنني سأعجبه ،أخش ى أال
أرضيه إن تزوجتهّ ،
فربما يراني كالطعام الخالي من امللح والتوابل.
ُ
صمتت َ"مرام" ،كانت صورة "أونتي" وهي تتحدث عن "كلودة" ال تفارق
شيئا ،فها هي اآلن تجلس بجوار فتاة ودت لو لم تعرف عن عالقتهما ً ذهنهاّ ،
ُت ّ
حبه لكنها ال تعرف أنه خائن ،فاجأتها "أشريا" وهي تهمس:
حب فتاة بالفعل ،سمعت الفتيات يهمسن بهذا. -رّبما يكون قد وقع في ّ
-معقول!
تظاهرت َ"مرام" بالتعجب ،فأردفت "أشريا":
-ما يحيرني هو تكرار طلبه للزواج ّ
مني ،ال أدري ملاذا ال يتزوجها!
أطبقت َ"مرام" شفتيها ،واستمرت "أشريا"في بوحها لها:
-يظن بعض الشباب أن كل الفتيات مباحات ،يستطيع أن ينظرّ ،
ويتأمل،
ّ
ويتفحص ،ويمزح مع تلك ،ويحب تلك ،ويحلم بتلك ،وعندما يريد الزواج
يبحث عن فتاة بعيدة املنال!
زفرت َ"مرام" بحنق وقالت:
-عندك ّ
حق.
182
قامت "أشريا" وبدأت تروح وتجيء في الغرفة وقالت:
-لكن سلوكه قد تغير منذ فترة ،أتعلمين تلك النظرة التي تقرئين فيها
انكسار من أمامك ،ذاك الشحوب الذي يكسو وجه من يتوقفون عن فعل
الخطأ فيبدون وكأنهم يتعافون من مرض ،الضعف الذي يصابون به،
ً
فشيئا في يحل ً
شيئا الهوان الحلو بعد التوبة ،ذاك الضوء الشاحب الذي ّ
وجه من يعود للصواب...لقد تغير "كلودة" صار ال يرفع حتى عينيه في وجوه
النساء وهو يسير.
-أتراقبينه؟
على استحياء أجابتها:
سري وستري وهي تعرف -من بعيد ،أمي تسأل عنه أم ُ"كومبو" ،فأمي ّ
خبيئتي ،أما أنا ُ
فأدعو له..وأراقبه من بعيد.
تنهدت وقالت بصوت تشوبه رّنة ألم: ُث ّم ّ
تقر عينه بي يا َ"مرام"إن تزوجته؟ هل سأعجبه؟ -ترى هل من املمكن أن ّ
ً
مخلصا لي؟ هل سيكون
ّ
بقي السؤال معل ًقا في الهواء ،ف َـ"مرام" تخش ى أن تخبرها بما تعرفه ،قالت
وكأنها تجيب نفسها بنفسها: "أشريا" بثقة ّ
تجب ما قبلها! سيشفى وهللا قلبه ،أليس كذلك يا -ولم ال! أوليست التوبة ّ
َ"مرام"؟ سيرضيه هللا بي ،وسيستجيب لدعائي ...أليس كذلك؟
أجابتها َ"مرام" وهي تراقب تعابير وجهها البريء الصادق قائلة:
-نعم حبيبتي ....سيستجيب.
بعد قليل نامت "أشريا"ّ ،أما َ"مرام" فلم يغمض لها جفن حتى طلع
ّ
الفجر ،ظلت األفكار تدور في رأسها ،صار معرفة بداية تلك األفكار مستحيل،
ّ استسلمت ً
أخيرا للنوم فمهما فكرت وحللت وخططت فهي لن تخبىء النجوم
ولن تطفىء وجه القمر.
❐❐❐
183
كل الغرف ،وكانت يومان والحراس يدورون في القصر كالنحل ،يفتشون ّ
أسا على عقب ،فقد أشرفت البداية من غرفة ُ"أونتي" التي قلبتها الجواري ر ً
ُ َ
"نبرة" بنفسها على تفتيشها بينما كانت "أونتي" وقتها في حديقة القصر،
َ
خرجت "نبرة" من غرفتها كاإلعصار تزوم وتزمجر ،فهي لم تعث ر على الكتاب،
استبعدت أن تكون قد وصلت إليه فاتجهت وأخيها إلى تفتيش غرف الوزراء
أحدا منهم قد طمح وطمع لالستيالء على الكتاب. وكبار الحراس ظانين أن ً
ُ
في اليوم األول وعقب مغادرة َ"مرام" للقصر ،أغلقت "أونتي" غرفتها عليها
مرة في حياتها ،لم تطلب كل ش يء ملكانه بنفسها ّ
وألول ّ في سكون رهيب ،أعادت ّ
عونا من أحد حتى ال ينتبه أحدهم لغياب َ"م ُرام" ،لم يدخل عليها إال جاريتها ً
القديمة التي الحظت غياب َ"مرام" ،أخبرتها "أونتي" بالحقيقة ،ونفحتها ً
كيسا
ً ً
ممتلئا باملال لقاء صمتها وإخفائها لألمر. ثقيال
أرض ى ذلك غرور الجارية وانصرفت على وعد بأنها سترسل إليها جارية
َ
جديدة أمينة تحفظ السر مثلها ،هرولت خارجة من غرفتها فاألميرة "نبرة"
غاضبة واألولوية إلرضائها.
❐❐❐
184
()17
رائحة احلب
تحت شجرة البلوط ،وحيث كانت تتلهف َ"مرام" للعودة إلى منزلها ،وقفت
تنصت إلى "أنس" وهو يقول:
حسنا يا َ"مرام" سألقي بنفس ي داخل الفجوة اآلن وأعود من خاللها،ً -
راقبيني.
ً ً
دلف "أنس" والذي قض ى وقتا طويال يحاول فيه إقناع َ"مرام" بأن
انتقالهما من خالل الفجوة سيكون أسرع لها وأيسر له حتى يستطيع إكمال
وحركه كما يفعل وذكر اسماستل الخنجر وأولجه في طبقات الهواء ّ ّ رحلته،
َ
قصر الحوراء ،دلف إلى الفجوة فابتلعته واختفى من أمام "مرام"! وقفت
وحيدة تحت شجرة البلوط التي كانا يقفان تحت ظاللها ،شعرت بوحشة
رهيبة وخوف شديد ،سكن كل ش يءحولها فجأة ،اختفى الشخص الوحيد
ُ
ظنت ّأنه سيوصلها إلى القصر ث ّم تحملها "قطرةالذي اطمأنت ألنه من عاملهاّ ،
مرت به ،فهل هناك مزيد من املفاجآت في الدمع" إلى بيتها! كان يكفيها ما ّ
ّ
انتظارها! تذكرت تجار العبيد ،والسوق ونظرات الرجال لجسدها ،وضرب
الجواري لها في القصر ،وتلك اللحظة التي قذفها فيها "أنس" بالحجارة في
عينها ،تحسستها بأنامل مرتعشة حيث كانت تؤملها ،تلفتت حولها ونادت بهمس
وتأهبتعلى "أنس" وملا لم يأتها الرد انحنت وسحبت غصن شجرة غليظ ّ
للدفاع عن نفسها ،لقد رحل إذن وتركها وحدها ،قررت أن تعود من حيث
ّ
أتيا إلى بيت "أشريا" ،لعلها تساعدها ،اعتصر قلبها الذي أصبحت دقاته
كطبول الحرب وكادت تركض لوال أن الفجوة انبثقت من الال ش يء أمامها
ً
موحيا إليها مرة أخرى ،وقف يبتسم ّ
وحرك كتفيه ّ
وأطل "أنس" منها ّ فأجفلت
ّأن األمر بسيط ،وقال بهدوء:
185
ً
سريعا -أرأيت! ها أنا قد عدت
بوجه شاحب وشفتين هربت منهما الدماء ويدين تقبضان على غصن
متأهبة في الهواء ّ
وكأنه سيف تقاتل به كانت َ"مرام" ّ
مجمدة الشجرة وترفعه ّ
ً
كتمثال من الشمع ،فوجيء بها تنهال على كتفه ضربا بغصن الشجرة وهي
تصيح بهستيرية:
-ال..ال...ال
كانت في حالة هياج وغضب شديد ،أمسك "أنس" الغصن وجذبه منها
ّ
بعنف فجرح يدها ،فقدت تماسكها وتهانفت وتكورت على األرض وغطت
بكفيها وانفجرت باكية تنشج في حرار ٍة فوقف أمامها ً
حائرا ،كان ال وجهها ّ
ً
متعجبا: يحسن التعامل مع الفتيات! سألها
-ملاذا تبكين؟
قالت بصوت يخنقه البكاء:
-كنت خائفة.
ّ
تذكر كيف كان يفعل والده مع أخته "حبيبة" عندما كانت تجهش بالبكاء
ويربت على كتفها بحنان ويحتضنها في فجأة ،كان يتوقف عن الكالم معها ّ
كل ش يء ،لكنه ليس والدها! وال يستطيع فعل ّ
أي صمت ،وكانت تهدأ وينتهي ّ
ّ من هذا ،فماذا يفعل! سالت الدماء من ّ
كفها فتلطخ وجهها بمزيج من الدموع
ّ ّ
والدماء ،كانت ترتجف ،بدت له ضعيفة كالقشة ،ال بد أن يعيدها إلى القصر
ً ّ
مناسبا ملرافقة اآلن ،فهو لن يتحمل تقلبات شخصيتها تلك ،وليس الوقت
ّ ّ
ولعل "سامي كول" يأمر بإعادتها لبيتها في الحال ،فليتخلص من تلك الفتيات!
الورطة ،قطع "أنس" جزء ً
يسيرا من طرف قميصه وبلله بماء النهر حيث كانا
ً يسيران بموازاته ّ
ومده إليها بلطف قائال:
-امسحي وجهك فقد تلطخ بالدماء ،ودعيني أربط لك جرح يدك.
سحبت منه القماشة بعصبية ومسحت وجهها ُث ّم ّ
كفها املجروح ،كانت
هناك شذرات من الغصن قد علقت بجرحها ،بدأت تسحبها بحرص وعالمات
ُ
األلم تلوح على صفحة وجهها ث ّم قالت بصوت ممزق حزين:
186
-كرهت تلك اململكة وتلك الغابة وهذا العالم.
وعادت للبكاء ،سألها وقد ر ّق لحالها:
حسنا يا َ"مرام" ،إن كنت ترفضين استخدام الفجوات وتخافينها سأسير ً -
ّ ل ّ ّ
معك ،ال تخافي وال تحزني ،هيا فنحن في أو النهار ،وخذي هذا لتضمدي
جرح يدك.
بحرص لتضمد جرحها ّ وقام باقتطاع جزء آخر من قميصه ،وساعدها
ٍ ّ
املرة األولى التي يقترب فيها ذاك الحد من فتاة، معا ،كانت تلك ّ شديد ،وسارا ً
وكان يراها فتاة لطيفة رغم بعض العصبية والكثير من البكاء ،ور ّبما ألنه آملها
أبدا أن يؤملها ،أرادلكنه لم يقصد ً مرتين فهي تعامله أحيانا بعنفّ ، وجرحها ّ
أن يخبرها بهذا!
ّ
رنا إليها فبدت له كندفة هشة من غزل البنات لو أمطرت السماء عليها
ّ ّ
لذابت من فرط رقتها ،تتبعه كقطة صغيرة تطلب األمان ،كانت خطوة منه
فهدأ من سيره حتى ال يرهقها ،راوده شعور جميل ّأنه تعادل خطوات منهاّ ،
مسئول عنها ،وراق له بشكل ما ّأنها تخاف عندما يختفي ،أو عندما تفصل
بينهما أثناء سيرهما شجرة ضخمة ،كانت تهرول وتبحث عنه خلفها تخش ى أن
سببا في بكائها ،مزيج من املشاعر مرة أخرى .أصابه الضيق ألنه كان ً يختفي ّ
كان يختلج في صدره.
ً
توقف عن السير والتفت إليها وأخبرها أنهما سيجلسان للراحة قليال،
وكأنها كانت تنتظر تلك اللحظة لكنها كانت تخجل أن جلست فو ًرا في صمت ّ
تطلبها منه ،فقد أرهقها السير ،أخرجت من حقيبتها تفاحتين كانت "أشريا"
ومدت يدها إليه بإحداهما ،تناولها منها وجلس يلقيها في الهواء قد أعطتهما لها ّ
ُ
ويتلقفها بيده ويراقب وجهها ب طرف خفي ،ث ّم سألها بفضول:
-كيف قضيت الفترة املاضية وحدك؟ حدثيني يا َ"مرام" عن رحلتك
ً كنت ً
دائما خائفة وتبكين هكذا؟ وكتابك ،هل ِ
ّ ً
أطرقت قليال وكأن مالحظته جعلتها تتأمل حالها وما آلت إليه ،قالت وهي
تحملق في األرض أمامها:
187
قوية ،لم أكن أشعر -لم أكن بتلك الهشاشة ،كان لدي شعور بأنني ّ
بالخوف كما أشعر به اآلن ،وكان للقائي باملغاتير فور وصولي أثر كبير في
نفس ي ،كانت "الحوراء" معهم ،احتضنتني فور أن تركتني "قطرة الدمع"
شيئا ما أحاطني فغمرني الشعور باألمان ،في الحقيقة وكأن ً
ّ فشعرت
ّ ّ
راودني شعور جديد ...ربما روح امل ِ
قاتلة التي وصلت للتو ألرض املغامرات!
ّ شعور يشبه ما قرأت عنه ً
دوما في الروايات ،سلمتني "الحوراء" خريطة
سريعا ما ظهرت كلمات كتابي عندما التقيت باألميرة ً وبدأت رحلتي،
"هيال" ،كانت فتاة رقيقة وواثقة بنفسها تكبرني بخمس سنوات ،الزمتها
طوال الوقت ،فقد استضافتني في قصرها وعاملتني كشقيقة لها" ،هيال"
لدي خنجر مثلك، تعيش في منطقة تقع خلف مملكة الشمال ،لم يكن ّ
لكنني كنت أستطيع سماع أفكار الناس.
-ماذا! تقرئين األفكار!
-ال ...أسمع صوتها كما أسمع صوتك اآلن ،تلك كانت من مميزاتي ويبدو أنني
فقدتها منذ انتهاء مهمتي ،كنت أنصت إلى صوت أفكار من أمامي ،فكنت
ً
صراعا جدا ،كنت أعاني ً
مرهقا ً أعرف الصادقين والكاذبين ،وكان ذاك
نفسيا عندما أرى على وجوه الناس وألسنتهم عكس ما يفكرون به ،وفي ً
تأملت فأدركت أن هللا ستر خواطرنا رحمة النهاية وبعد أن انتهت مهمتي ّ
ّ
بكل ما نفكر به كما هو ما طاب لنا العيش ً بنا ،ولو بحنا ملن حولنا ّ
معا،
الحمد هلل أنني فقدت تلك امليزة و أنا اآلن ال أسمع إال نفس ي.
يدر ِل َم! وهرب من إجابة
ارتاح "أنس" حين تأكد أنها فقدت تلك امليزة ..ال ِ
نفسه..أشار إليها لتقوم ليكمال حديثهما وهما يسيران لعلهما يقطعان الغابة
وكلما حاول أن ّ ّ
يقدمها أمامه ليطمئن قبل حلول الظالم ،كانت تسير خلفه،
أخيرا أن تسير بجواره ففعلت،عليها تتأخر خلفه لبطء خطواتها ،فطلب منها ً
سألته على استحياء:
-كم عمر أختك"حبيبة"
-تصغرك بعام؟
ً ُ
سريعا: ث ّم أردف بعد أن رنا إليها
188
-وتشبهك ً
كثيرا.
بقوة ّ ّ
فتعلقت بحقيبتها وقبضت عليها ّ
وكأنها أخجلتها مالحظته وارتبكت
تستمد منها األمان وقالت:
شك ّأنك تفتقدها -ال ّ
189
قالت وهي تحمل بين كفيها حفنة من زهور الياسمين التي تراكمت على
األرض ّ
وتقربها من أنفها:
-وأنا ،ليتني أستطيع الحديث مع زهراته كما تفعل السيدة "ناردين" فهي
تسمع أنين النباتات وتسبيحها وتنصت لحكاياها العجيبة.
-معقول!
-أال تعرف ّ
قصة السيدة "ناردين" مع الغابة هنا؟
-ال
ً
-حسنا ...سأخبرك بها
تقص عليه ما حدث مع السيدة "ناردين" ،أشفق على ّ بدأت َ"مرام"
وتعجب عندما علم بحديثهاّ العجوز عندما علم بما فعلته معها زوجة ابنها،
َ
إلى النباتات وكيف تنصت إلى أنينها وتحاورها ،بينما كانت"مرام" تحكي له عنها
ضجة أحدثتها َ"مرام" في عقله ووجدانه ،طريقتها في الكالم راقت كان يقاوم ّ
ّ
له ،ذاك الهدوء وتلك السكينة التي حلت عليها بعد أن انتهت تلك العاصفة
التي أصابتها عندما اختفى من أمامها فجأة يعجبه ،وهذا الضعف األنثوي
الرفيق الذي فيها ّأثر في نفسه ،وقارها واحتشامها َ
أس َرا فؤاده ،أما دموعها
صوبت تجاه قلبه الضربة القاضية! سألها وقد اقتربا من بيت "ناردين": فقد ّ
-أتساءل هل ظهرت العبارات في كتابي أم ليس بعد!
-ال أدري هل سيطلق كتاب "إيكادولي"سراح الكلمات وهو بعيد عن يديك يا
"أنس" أم ال!
-كيف كانت العبارات تظهر في كتابك؟
يتحرك في مكانه فكنت أنتبه ،وكانت تنبثق الحروف ً
تباعا ً
وأحيانا ّ -كان ّ
يهتز
ً ً ً
نقش بريشة ومحبرة حرفا حرفا على ّ وكأنها ُت ُ
ّ
أحيانا كنت أشعر أن السطر،
يتنفس وله قلب ينبض وهو يظهر الكلمات ،تلك الكتب ّ
حية يا الكتاب ّ
"أنس"!
ّ
أفكر أنه ربما يكون "كلودة" و"أشريا" هما بطال ّ
قصتي ،أليس كذلك؟ -كنت
190
ُ
تمتمت بضيق ث ّم قالت:
ن ً
بطال ألي قصة ّ
حب! -أرى "كلودة" ال يستحق أن يكو
-ملاذا؟
ُّ
تجهالت سؤاله حتى ال تضطر لفضح "كلودة" ....ثم قالت:
ُ -رّبما بطل ّ
قصة كتابك هو "كومبو" وفتاة أخرى! ولم ال؟
ً ّ
هز كتفيه قائال:
ُ
-أو رّبما "أونتي" وأي شخص آخر!
ُ ّ
-ال تذكرني بـ"أونتي" أرجوك...
-ملاذا؟
هزت رأسها في ضيق وقالت: ّ
❐❐❐
كل همسة تخرج كانت "الحوراء" تعلم بأخبار "أنس" ،فالرياح تحمل إليها ّ
من بين شفتيه ،وقفت تنتظر وصوله وهي تطرق بأصابعها على الطاولة في
أخيرا فقامت فور أن رأته وسارت نحوه بخطوات سريعة ،كان قلق ،ظهر ً
القلق ً
باديا على محياها:
-كيف هي َ"مرام" اآلن؟ وما الذي أصابها؟
-ال أدري! فور أن خرجنا من الغابة سقطت على األرض ،تركتها في كوخ
العجوز"ناردين"
-كان ُم ً
توقعا أن يحدث هذا
-ملاذا؟
ّ
-أخبرني أبي أنها لن تستطيع الرحيل إال بعد استعادة كتابك ،كالكما
شريكان في كتاب "إيكادولي" بطريقة ما ،حتى لو وافقت أن تنتقل معك من
خالل الفجوات كنا سنعيدكما إلى القرية ،وددت أن أخبرها هذا بنفس ي
ألخفف عنها فهي تثق بي وأنا أعلم كيف تشتاق اآلن للعودة لديارها
193
جدا بعد أن فقدت مميزاتها ألمها ،لكن يبدو ّأنها صارت ضعيفة ً و ّ
ً
كمحاربة ،أرجوك يا "أنس" عد إليها سريعا ،واعتن بها ..أرجوك.
-سأفعل ولكن هل من املمكن أن أطلب من الحكيم "سامي كول" أن يسمح
لها بالعودة إلى بيتها ،وسأتحمل وحدي مسئولية استرداد كتاب "إيكادولي"؟
-لألسف يا "أنس" ،ال تسير األمور بتلك الطريقة ،ليس أبي من يحدد
-لقد تعبت َ"مرام" ّ
وتعرضت للكثير من األمور ،وهي فتاة رقيقة وضعيفة،
أخش ى عليها
-إذن فلتحمها َ
وترعها حتى تسترد كتابك ِ
-موالتي..
أغمضت "الحوراء" عينيها وكسا وجهها تعبير أدرك منه "أنس" أنه ال مجال
للنقاش في أمر رحيل َ"مرام" ،كاد ينصرف ّ
لكنه استدار وسألها:
-هل من دواء لها أستطيع حمله معي على األقل!
ابتسمت "الحوراء" وقالت بثقة:
-أنت في بيت طبيبة بارعة" ،ناردين" ستعتني بأمر الدواء ،ال تقلق يا "أنس"،
عد اآلن لتكون بجوار َ"مرام" ...أرجوك.
توقف ّ ّ استدار "أنس" بعد أن ّ
وتأمله حياها ،وأخرج خنجره بعد أن
ّ ّ ّ
تذكر فيها وجه ّ
جده وهو يسلمه إليه ويخبره أنه سيقطع به مسافات للحظات
ّ ّ
كبيرة! لم يفطن وقتها لهذا املعنى ،لكنه يدركه اآلن ،حركه في الهواء وعاد إلى
بخفة ففتحته "ناردين"الكوخ ،حيث كانت َ"مرام" ترتجف ،طرق على الباب ّ
محتميا من األمطار الغزيرة التي سقطت فجأة ،هذا املكان عجيب! ً ودلف
اشتد البرد واشتدت قوة الرياح ،البروق تنقدح في السماء ،ستار سميك ّ
من املطر حجب الرؤية ،انحنت األشجار وتعانقت فوق سطح الكوخ تظلله
وتبعد سيول األمطار عنه ،والتفت وشائج األشجار وأحاطت بأركان البيت
تمنع ّ
تسرب الرياح من فتحات الكوخ ،كانت النباتات تعتني بـ"ناردين" لسنوات
َ
طويلة ،وها هي تعتني بها وبضيفيها ،كانت "مرام" تنتفض من آن آلخر فما زالت
194
حرارتها مرتفعة ،وكانت العجوز تغفو بجوارها وهي جالسة فتسقط رأسها
مرة أخرى ،بينما جلس "أنس" في ركن الكوخ فتنتبه وترفعه ُث ّم تعود فتغفو ّ
يحدث نفسه..مستندا بظهره على الجدار .وبدأ ّ
ً
عاما! ما زالت َ"مرام" في بداية مرحلتها الجامعية ،ال عمرها ثمانية عشر ً
تصده وتعامله بنوع من ّ شك أن خبرتها قليلة في معاملة الشباب ،لهذا
أحيانا ،رّبما هي ترى أنها هكذا تحمي نفسها كما تظن الكثير من ً العدوانية
ً ً
الفتيات! تحتاج وقتا لتنضج وتصبح أكثر انضباطا في ردود أفعالها حتى ال
ّ
تحرج من يتعامل معها ،ولكنها تبدو فتاة خلوقة ومهذبة و ...جميلة ،نعم هي
حبا كما كل حال ذلك ليس ًّ جميلة ،هكذا يراها ،فهي تعجبه وتروق له ،وعلى ّ
ّ
يحبها بتلك السرعة! ملاذا يفكر فيها ً يقولون ،فليس من املعقول أن ّ
كثيرا!
فليحاول اآلن التفكي ر في طريقة يصل بها إلى كتابه ،أما هي وبأي حال من
األحوال سترافقه طوال رحلته مع كتابه ،ولكن...كيف سيتعامل معها؟
كانت األفكار تتناطح في رأسه وهو يراقب انعكاسات أضواء الشموع وهي
وتوسد ذراعه واستسلم ّ تتراقص وتتشابك على الجدرانّ ،
تكور على األرض
أخيرا أن حرارة َ"مرام" قد انخفضت ،وأنها ً للنوم ،فقد أخبرته العجوز
ّ ز ّ تستبشر بكثرة ّ
تعرقها ألن تلك عالمة خير .دثرته العجو بغطاء من الصوف،
َ
وعادت حيث كانت "مرام" ترنو إلى "أنس" بعينيها الكليلتين.
❐❐❐
195
لكل كتاب محارب واحد يتدخل بطريقة ما حتى يمنع من يريدون -عادة ّ
ّ
تغيير محتوى الكتاب ليخدم أفكارهم الشاذة
-ترى ...من يريد تغيير قصة كتاب "إيكادولي"؟
الحب ،هناك حبيبين ،رّبما هناك من يقهرهما ويفعل األفاعيل
ّ -الكتاب عن
ليمنع اجتماعهما.
وضع "أنس" كوبه برفق وقال:
-أو قد يخطئان عندما تغلب الشهوة فوق الفضيلة ،وتسقط الروح فيغلب
الجسد!
قالت العجوز وهي تتلذذ باملشروب:
ّ
الحب فضيلة؛ جزء منها نولد به ،فهي مغروسة في أنفسنا ،وجزء آخر من -
تلك الفضيلة نجاهد لنصل إليه.
قال "أنس":
ّ ّ
-من يحب الطعام سيشتهيه وسيجد لذته في تناوله بأي طريقة ،ولو تخلى
ّ يحب ويعشق ً عن الفضيلة سيسرق الطعام! وكذلك من ّ
أيضا سيجد لذته
ّ في النظر إلى حبيبه ّ
بأي طريقة ،ولو تخلى عن الفضيلة سيسقط في
الحرام".
قالت "ناردين" وقد أعجبتها كلماته:
-نحن ال نعرف ما تحمله لنا األيام القادمة!
ّ
هز "أنس" كتفيه وقال:
الحب مقصو ًرا بين حبيبين فقط! قد يكون الحب من نوع آخرّ ،
حب ّ -ليس
ّ ّ ّ
هللا ،األمومة واألبوة ،حب الصديق ،وحب الخير كما يفعل املغاتير.
كان الهواء ً
عذبا وكانت تنظر إليه ّ
بحنو ،ابتسمت وقالت:
شاب ّ
طيب القلب يا "أنس" -أنت ٌ
طالعها بإشفاق وقال لها:
196
وأنت ٌأم رائعة وحنونة.
ِ -
وقبل رأسها وأحاط كتفيها بذراعه ،كادت العجوز تبكي ،كانت دنا منها ّ
تشتاق إلى ابنها الحبيب ،أرادت أن تبوح لـ"أنس" ببعض مما حملته بين
ّ
لكن عطسة َ"مرام" وهي تقف متدثرة بشال "ناردين" ضلوعها لسنين طويلةّ ،
ّ
حافة باب الكوخ انتشلتهما من حديثهماّ ،
هش "أنس" وهي تستند برأسها على
فور أن رآها أمام عينيه ،قال برفق وهو يبتسم:
-يرحمك هللا!
كان على وجهها ابتسامة متعبة ،اقترب منها مع العجوز "ناردين" ،والتي
تمعنت في عينيها:قالت بعد أن ّ
سأعد لكما حساء ً
شهيا في الحال. ّ -أنت اليوم أفضل،
ّ
أسرعت تجمع بعض األعشاب والثمار ّ
لتعده بينما كان "أنس" يحاول
ّ
ترتيب الكلمات ،ال ّبد أن َ"مرام" ستحزن عندما تعرف أنها لن ترحل إال بعد
ً
متلعثما: استرداد كتابه ،قال
-لقد ذهبت إلى قصر الحوراء
ّ ّ ً ُ
الحب، سريعا ،كان جفناها يرفان من رفعت عينيها إليه ث ّم كسرت نظرتها
قالت تلومه:
-تركتني إذن!
ّ ً
كنت مع السيدة "ناردين" ،وأنا أثق
-لم أغب طويال كما تعلمين ،كما أنك ِ
بها
ثبتت نظراتها على األرض أمامها وقالت:
-وأنا ً
أيضا أثق بها
-املهم ،أخبرتني "الحوراء" ّأن "قطرة الدمع" لن تتمكن من إعادتك إلى بيتك
اآلن يا َ"مرام"
-ملاذا؟
197
-ألن لك دو ًرا في كتابي ،ولهذا كانت صورتي تظهر لك في كتاب "هيال" ،ال ّبد
ّ
أسترده أن تبقي معي حتى
ُ شدت َ"مرام" الشال على كتفيها ّ ّ
وهزت رأسها برفق ولم تثر كما فعلت من
ّ
قبل ،كان ينتظر منها الهستيريا والصراخ في تلك اللحظة! ،لكنه رآها ساكنة
راضية بما سمعته منه ،حتى ّأنها لم تسأله عن التفاصيل ،ولم تسأله عن
خطوتهما التالية ،سألها باهتمام:
-كيف هي يدك؟
-ما زالت تؤملني
-آسف ..أنا السبب!
-ال عليك ،بدأت أعتاد األلم
انسحب بلطف وتركها وانضم يساعد "ناردين" التي كانت تحاول إشعال
النار تحت القدر ،ووقفت َ"مرام" تراقبهما في هدوء شديد .كانت كل عظام
لكنها كانت تستمتعجسدها تؤملها ،أرادت أن تعود للفراش لترقد وترتاحّ ،
بمراقبتهما من بعيد ،كانت العجوز سعيدة ،فابتسامتها ومزاجها الرائق يمتعان
الناظر إليها ،وكان "أنس" يرفق بها ويكثر املزاح معها ،يبدو ّأنه أشفق عليها
ويقص عليها الطرائف مما أدخل ّ بقصتها ،فصار ّ
يهون عليها ّ عندما علم
ّ ّ
السرور على قلبها ،واهتزت لتلك األحاديث الندية أشجار الياسمين وبعثرت
عبيرها فاختلط برائحة الحب.
❐❐❐
ً
مر يومان ،كانت َ"مرام" أفضل حاال ،قررا أن يعودا إلى القرية ،وجلسا
ليخبرا "ناردين" التي أصابها الضيق عندما أدركت أن تلك اللحظات السعيدة
ّ
مرت وانتهت ،كانت قد بدأت تأنس بهما ،فهي تفتقد الشعور بهذا الجو األسري
الدافئ ،مارست أمومتها خالل يومين بشكل عميق ،كانت تستمتع بهذا وكانا
كثيرا وهما يتحاوران بهدوء ،قبل بكل لحظة معها ،راقبتهما ً يستمتعان ّ
ّ
انصرافهما وقفت أمامهما وقالت وهي تستند إلى عكازها:
198
-هو الوداع األخير إذن هذه املرة...
لم يتمكنا من التعقيب سوى بنظرات عاجزة مرتبكة ملؤها األس ى..
قالت سريعا لتتخطى لحظات الحزن املؤملة تلك:
-ليس من الضروري أن تقطعا املسافة ً
سيرا على األقدام
ابتسم "أنس" وقال:
-ال تحاولي"َ ،مرام" تصاب بالهلع عندما ترى الفجوات.
-لم أقصد الفجوات التي تصنعها بخنجرك!
-إذن ماذا تقصدين؟
رفعت حاجبيها وقالت في كياسة:
-النهر!
ّ
سارت العجوز "ناردين" وسارا خلفها حتى اقتربا من ضفة النهر األخضر،
وقفت تراقب املاء ووقفا خلف كتفيها وطالعت إنعكاس صوريتهما وتأملت
الصقر الكبير على يمينها ،وذاك الصقر اللطيف على يسارها وضحكت قائلة:
-صقر قصير مصاب في جناحه ،كم أنت قصيرة يا َ"مرام"!
ابتسمت َ"مرام" وعادت تسألها:
-كيف سنعود من خالل النهر؟
ر ُّ ّ
ضربت العجوز األرض بعكازها فبدأت الرياح تدو ثم دفعت سطح ماء
ّ
النهر ل يتدفق بسرعة شديدة تجاه الطريق الذي جاء منه "أنس" و َ"مرام" منذ
يومين ،كانت املياه تسير بسرعة شديدة محدثة تموجات تشكل أنصاف دوائر
مرة أخرى فتساقطت أوراق متوازية في اتجاه واحد ،ضربت العجوز األرض ّ
ّ
أياد تتالعب بها وارتصت فوق بعضها ّ ّ
وتحر ًكت وكأن هناك ٍ الشجر بكثافة
البعض وشكلت بساطا أخضر فوق سطح املاء ،أشارت إليهما وقالت بهدوء:
-اصعدا فوق املاء وستنقلكما أوراق األشجار إلى نهاية الغابة.
199
قالت َ"مرام" باندهاش شديد:
-أتمزحين يا خالة!
مدت العجوز ساقها وخطت فوق البساط الذي شكلته أوراق األشجار، ّ
وكأنها تقف فوق أرض صلبة! وقفت تطالعهما وعلى وجهها استقرت عليه ّ ّ
ابتسامة واسعة ،قالت تشجعهما:
هيا سأسير معكما حتى نهاية الغابة -تعالياّ ،
صعد "أنس" فوق البساطّ ،
ومدت العجوز يدها لـ َ"مرام" التي كانت
ترتجف وهي تنقل ساقيها ،صرخت عندما بدأ البساط يسير بسرعة فوق املاء
وتمسكت بذراع "ناردين" كان الهواء البارد يصافح وجوههم ويموج بثيابهم، ّ
ّ
وثالثتهم يضحكون وكأنهم في مدينة املالهي ،منظر فردوس ي بدا على األفق
سريعا إلى الجهة األخرى من الغابة ،قفز "أنس" وخلفه َ"مرام"،
أمامهم ،وصلوا ً
والتفتا نحو "ناردين" التي ّلوحت لهما وودعتهما ّثم انطلق بساط األوراق
عائدا بها إلى حيث كوخها في أقص ى الغابة ،فهي ال تستطيع تخطي األخضر ً
الحاجز الحجري الذي يحيط بها ً
أبدا.
❐❐❐
201
()18
خوف!
عاد "أنس" إلى دكان "كلودة" بعد أن ترك َ"مرام" أمام بيت "أشريا"
ُ
واطمأن ّأنها دلفت إلى الدار بأمان ،استقبله "كومبو" بالعناق وكان في غاية
ّ
وكأن هناك ما يشغل فكره ،حتى ساهما ّ
ً السعادة بعودتهّ ،أما "كلودة" فبدا
ُ ّأنه لم يسأل "أنس" ّ
عما فعله في الغابة ،واكتفى بمتابعة حواره مع "كومبو"،
قرر "أنس" أن يبدأ رحلة بحثه عن كتابه ،أخرج الخريطة التي أعطتها له
ّ
يتفكر في األرقام ّ "الحوراء" وعاد ّ
املدونة عليها ،ترى ما يتفحصها بإمعان ،كان
اجتر ّ
كل املعادالت الذي تعنيه! حاول أن يجري بعض الحسابات ليربط بينهاّ ،
يفك تلك الشفرةّ ، لعله ّّ
لكنه لم يصل إلى ش يء واضح التي درسها بالجامعة،
ومحدد! يبدو ّأنه سيعود إلى املكتبة العظمى ،ال مجال لتأجيل زيارتها ليسألهم
عن مصير الكتاب ،بينما هو غارق في أفكاره فوجيء بها تقف أمامه! قال
ً
متعجبا:
"َ -مرام"! ما الذي أتي بك إلى هنا؟ أ لم نتفق على أن تبقي في دار "أشريا" وال
ّ
تخرجي إال للضرورة؟
-أصابني الخوف
-من ماذا؟
قالت بصوت تخنقه العبرات:
ّ
وسأظل هنا لألبد -ال أدري ،أشعر أنني لن أعود إلى بيتي ،لقد انتهى أمري
-بل ستعودين إن شاء هللا ..ثقي باهلل!
202
ً
حسنا ..ماذا سنفعل؟ ما خطوتنا التالية؟ -ونعم باهلل.
-كما اتفقنا ،سأحاول البحث عن الكتاب
-إذن سأذهب معك.
-لكنني سأذهب إلى املكتبة العظمى ،وسأنتقل من خالل فجوة
-ولم الفجوات! هل من املمكن أن نسير ً
معا؟
جدا يا َ"مرام" ،لقد حاولت من قبل ،كما ّأن املكان هناك
-املسافة طويلة ً
أنت بأمان ،وكونك في مهيب ويكاد يكون ً
خاليا من البشر! هنا في القرية ِ
مطمئنا عليك عندما أغيب عن القرية ،أرجوك ً دار "أشريا" سيجعلني
عودي إلى هناك.
ّ
بتضجر: قالت
-يبدو ّأنك نسيت أنني كنت أعيش هنا وحدي قبل مجيئك ،ووصولك ال
يعني أنك وص ّي ّ
علي! لقد علقت معك رغم أنفي!
ُ
ث ّم استدارت وسارت بعصبية فالحقها وسار بجوارها وقال يلومها:
-ظننتك توقفت عن هذا!
استدارت بعصبية وسألته:
-ظننتني توقفت عن ماذا؟
ً ُ
نت أكثر
-عن الغضب فجأة وبال سبب ..كما تفعل أختي"حبيبة" أحيانا! ك ِ
ً
هدوئا عندما ّ
كنا مع "ناردين" في الغابة
شعرت بالحرج منه ،قالت بتلعثم:
-لست غاضبة ،أنا فقط..
ً
قاطعها قائال:
203
وأن فقدك ملميزاتك كمحاربة جعلك أكثر -أعلم ّأنك قلقة وخائفةّ ،
حساسية عن ذي قبل ،ولكنك اآلن مجبرة على التعامل مع األمور كما هي،
ً
مطمئنا فهوني على نفسك ،ودعيني أقوم بمهمتي وساعديني بأن تجعليني
عليك وأنا أؤديها.
راقت لها كلماته البسيطة ،وسارت بجواره تغمرها حالة من السكون
الجميل ،تحتاج من آن آلخر لبعض الطمأنة ال أكثر ،فالوضع مربك وهي ترزح
ودعها بعد أن وعدته تحت ضغوط نفسية متشابكة .أعادها إلى بيت "أشريا"ّ ،
مرة أخرى حتى يعود إليهاُ .ث ّم أسرع إلى أحد البساتين بعيداً
ّأال تغادر البيت ّ
وحركه في الهواء ،انتقل إلى املكتبة العظمى، عن أعين الناس ،أخرج خنجره ّ
ّ
املتحركة ،كادت الرمال تبتلعه لوال تكر ّر األمر! وتكرر ما حدث له مع الرمال
ّ ّأنه فعل كما فعل في ّ
املرة السابقة ليخلص نفسه منها ،سحبته الفجوة وعاد
إلى بيت "كلودة" ،يبدو أن االنتقال إلى املكتبة العظمي أصعب من االنتقال إلى
ً ً كل األماكن في تلك اململكة ،كان ًّ
ومرهقا ففضل أن يرتاح قليال ،مكث متعبا
ً
هناك حتى عاد "كلودة" ليال ،وكان لهما حديث طويل ،استسلما بعده لنوم
عميق.
❐❐❐
ً
ما زالت السماء مظلمة ،لم يبسط الفجر رداءه كامال بعد! أفاق "أنس"
على صوت الباب وهو ُيغلق ،وثب وتبع "كلودة" حيث خرج قبل أن تشرق
ُ ً ّ
متوجها للقصر للقاء "أونتي" ،لحقه الشمس بدقائق ،كان يسير نحو السهول
ً
غاضبا، "أنس" دون أن يشعر به وضربه على كتفه ،أجفل "كلودة" واستدار
سأله "أنس" وعيناه تتهمانه:
-هل عدت للقائها؟
-أنا فقط أريد أن...
هربت منه الكلمات ،لم يجد ما يقوله! ،سأله "أنس":
-ألم تخبرني ّأنك ندمت وتبت يا "كلودة"؟
204
-كنت فقط ّ
أود أن أتحدث إليها ألخبرها أنني لم أقصد أن أجرحها أو أس يء
إليها.
-تشفق عليها ..أليس كذلك؟
ّ
بالذنب الشديد ،كان الصواب أن ّ
أصدها من البداية. -وأشعر
ّ -
لكنك إن التقيت بها ستضعف وتعود.
-لن أعود لذلك يا "أنس" ،صدقني ،أنا فقط..
-انظر لنفسك! تستدرجك شهوتك لتنزلق ّ
مرة أخرى.
-ال..أنا ذاهب فقط لكي يرتاح ضميري ولست ً
ذاهبا إلرضاء شهوتي ،اتركني
يا "أنس" أرجوك.
واستدار وترك "أنس" وأكمل طريقه تجاه القصر ،الحقه "أنس" وسبقه
ووقف يعترض طريقه وقال وهو يمسك بكتفيه:
ّ -عد معي ،وأغلق تلك الصفحة ً
تماما ،ولتنس أمرها وتسلمه هلل ،هو
يكفيها ،وادع لها في صالتك هي وكل من يخطئ ،توبتك تحتاج منك أن
مجرد عودتك إلى نفس املكان ستنبش تقطع صلتك باملاض ي إلى األبدّ ،
الذكريات ،ستضغط على بقايا علقت بنفسك ولم تزل بعد أدرانها ،ما
بعيدا واضرب خيمتك في فالة واربأ بنفسكفشدها ً زالت روحك تتأرجحّ ،
وعض على بنانك إن استبدت بك الشهوة ّ عن هذا واستغفر واستعصم،
وأصابك الحنين إلى العودة إلى هنا.
ً
وأحيانا أخرى أنني قبيح وقذر ونفس ي متسخة... ً
أحيانا أنني قوي، -أشعر
ً
ولن أتغير أبدا ،وسأظل كما أنا ،لن يغفر لي الناس ،ستظل بقايا املاض ي
عالقة بي ،وستطاردني.
-املهم أن يغفر لك ر ّب الناس
-أخش ى أن...
خيرا! ،سيغفر لك ،وسيستجيب ،أتظن أن ّ
كل من -ال تكملها ...ظن به ً
حولك مالئكة! كلهم يخطئون ويذنبون يا "كلودة".
205
ذنوبا خفيفةّ ،أما أنا فخطئي أكبر! ابتليت في شهوتي يا -لعلهم يذنبون ً
"أنس"
ّ
-كل الذنوب شهوات ،شهوة جسد ،لذة جوارح مادية ،تذوقها أعضاؤك
جرب أن تتلذذ وأشبع روحك بذكر فقط ،أما روحك...فلها ملكوت آخرّ ،
هللا ،سيغادرك هذا اإلحساس بالدونية ،وستكون أقوىّ ...
جرب.
ً ً -وددت أن أكون
إنسانا فاضال يا "أنس" ...ولكن فات األوان!
َ ً ً
ونقيا ،أ ِم َن
طي ًبا ً
إنسانا ّ -من قال هذا؟ أن تكون فاضال تعني أن تكون
اآلخرون أذاه.
-ويحب مكارم األخالق وتتمثل فيه ،أنا أخطأت ..كيف سأعود ًّ
نقيا؟
كل سيئة ستقلب برحمة هللا إلى حسنة ،وكل ظلمة -لكنك ندمت! ّ
ً
معصوما ،أنت ستبيض ،أنت بشر ولست ً
نبيا ّ ستض يء ،وكل نكتة سوداء
ّ
تخطئ لكنك تداركت األخطاء ،قد تذنب ،لكنك تريد التوبة ،يكفي أن
ً
يكون معظمك فاضال يا "كلودة" ،لسنا مالئكة يا صديقي
تنته ،نفرتظللتهما السكينة ووقفا للحظات ،انتهى الكالم لكن معانيه لم ِ
يتأبط ذراعهبكفه واحتضنه ُث ّم سار ّ
دمعة من عين "كلودة" فاستقبلها "أنس" ّ
ن حو البيت ،عاد كالهما لفراشه لينعم بساعة يغفو فيها قبل أن ينطلقا
للعمل.
ً
طرقات خفيفة على باب الدار أيقظته من غفوته ،كان "كلودة" غارقا في
النوم عندما أفاق "أنس" وسار نحو الباب ،فتحه فأصدر الباب أز ًيزا ً
غريبا
وامتألت الدار بضوء ذهبي قو ّي رفع "أنس" كفيه ليحجبه عن عينيه ،خرج
ً
مصباحا أو ماذا! اختفى الضوء فجأة وظهر أمامه من باب الدار ليرى إن كان
األمير "أواوا" الذي كان قد رآه من قبل في النفق تحت املاء ،كانت عليه ثياب
كتانية مصبوغة بلون برتقالي فاقع ومحفورة بخيوط ذهبية على أطرافها ،على ّ
عاكسا ألوان فصوص الياقوت ً رأسه كان التاج يومض تحت ضوء الشمس
تطعم التاج ،فغر "أنس" فاه وهو يتأمل هيئة األمير الساحرة بقامته التي ّ
املديدة ومالمحه املستضيئة ،أجفل عندما رآه ينزع التاج عن رأسه ويركض
ُ وكأن هناك من يطاردهّ ،ّ
تلفت "أنس" ث ّم تبعه حيث دار خلف البيت وأسرع
206
يختبي خلف جذع شجرة ،رأى األمير "أواوا" ينحني حيث كانت هناك كومة
تغبرت رموشهمن األغصان وبدأ يزيلها ُث ّم بدأ يحفر األرض بأصابعه حتى ّ
ً ً
خشبيا وجلس بجواره وأخرج وحاجباه و مالبسه ،نفض يديه وأخرج صندوقا
ّ منه ً
كتابا ما ،فتحه فدار وتقلب في الهواء وانفصلت ورقاته وطارت في الهواء
ّ
وح لقت حول األمير "أواوا" ،عاد األمير يكرر العبارات التي رددها على مسامع
"أنس" في املمر تحت املاء بينما تدور الصفحات حوله ،وبعد أن انتهى عادت
دفتي الكتاب ،أغلقه بحرص شديد وحمله ّ ّ
وكأنه يحمل تستقر بانتظام بين
وتأمله بامتنان ومد يديه بالكتاب لـ"أنس" ،تالقت عيناهما فشعر ضيعا ّ
ر ً
"أنس" وكأن روحه تنسحب من بين جنبيه ،استيقظ على صوت "كلودة" وهو ّ
بقوة ويقول له: ّ
يهزه ّ
ّ
عريض مثقوب تتخلله حلقة ذهبية رفيعة ،وأذنين يتدلى منهما ٍ بأنف
ّ
فصان من الياقوت األحمر ،وبوجه ضامر مغبر تثقبه عينان ضيقتان ،وعليه ّ
قبعةثياب سوداء مشبوحة باللون األصفر دلف الساحر "قرجة" وعلى رأسه ّ
غريبة تنفر منها ضفائره املجدولة بحبال تتدلى منها أجراس صغيرة ،جلس
ّ َ
أجش: أمام األميرة "نبرة" وقال بصوت
َ
-موالتي األميرة "نبرة"
َ
كانت "نبرة" تخافه لكنها تأبى أن تظهر هذا ،لم تجرؤ على إطالة النظر إلى
عينيه أكثر من ثانيتين ،كا نت تركز على أصابع يده الستة وهي تتحدث إليه
قائلة:
-أيها الساحر العظيم ،أرسلت إليك لتساعدني.
نظر إليها بعينيه املتلصصتين تحت حواجبه املرتعشة على نحو شائن وقال:
209
-طوع أمرك موالتي.
يخصني ُسرق من غرفتي ،وأنا أبحث عمن سرقه.
ّ -هناك كتاب ثمين
َ
مد "قرجة" يده فجأة وأمسك بيدها فانتفضت وركز عينيه في عينيها
فارتجفت وراعتها نظراته ،ترك يدها فتراجعت وقبضتها نحو صدرها وقالت له:
-سأعطيك ما تطلبه ،ودلني على السارق.
صب في أحدهما صفق "قرجة" فاقترب مساعده ،ووضع إنائين أمام نبرهّ ، ّ
طينا أسود ،وبدأ يتمتم بكلمات لم تفهمها َ"نبرة"ّ ،
ظل املاء ،ووضع في اآلخر ً
يرددها وكانت تشعر بالجو حولها يزداد حرارة ،طلب منها أن تختار إناء
َ
وتحمله ،حملت "نبرة" إناء املاء فانسكب عليها ،غضن الساحر حاجبيه ثم
وأحست هيّ أغمض عينيه في غضب ،صرخ صرخة ار ّ
تجت لها أركان الغرفة،
بأن هناك ألف إبرة رشقت في ذراعها ،طلب منها أن تحمل اإلناء اآلخر املمتلئ ّ
يحدق فيه، بالطين األسود ،حملته بين يديها بحرص شديد ،بدأ الساحر ّ
مرة أخرى ورأى فتاة تفتش في خزانة حية ّ وبدأت الصور ّ
تتمثل أمام عينيه ّ
َ َ
"نبرة" وتسرق الكتاب ،كان ينتظر أن تستدير ليرى وجهها ،وكانت "نبرة" تتابع
تعابير وجهه بتركيز شديد وتنصت إليه وهو يصف ما يراه من مشاهد أمام
ّ ُ ّ
ولكن الطين األسود ماج في بعضه ث ّم تصلب عينيه لتعرف مصير الكتاب،
َ ّ
وتحول إلى حجر صلد ،فشهق الساحر وأغمض عينيه ،صاحت "نبرة" فجأة
بعصبية:
-ما الذي حدث؟ من هي الفتاة؟
أمسك الساحر باإلناء وسحب منه الحجر األسود الذي تكون وقال لها:
-أغلق الطين عينه!
-ما هذا الهراء! أعد ما قلته ولتحضر املزيد من الطين وأخبرني إلى أين ذهب
الكتاب؟
-هذا الكتاب ليس لك.
-وما أدراك؟
210
-الكتاب مسروق من صاحبه.
وقفت وسارت خطوتين ّثم التفتت إليه وخلعت خواتمها ّ
وكل ما ترتديه
من جواهر وألقتها أمام الساحر وقالت:
ّ
-ولك املزيد ،فقط دلني على مكانه.
-لن أستطيع
-ملاذا؟
-منعنى "املجاهيم" من تتبع مكان الكتاب
-ومن هؤالء
-قبيلة من قبائل الجان ،يبدو أن الكتاب يهمهم ،ملاذا تريدين هذا الكتاب؟
-أريده ألتمكن من السيطرة على املحارب ،أريده ...أتفهم؟
رفع حاجبيه وقال وهو يرشقها بنظرة خبيثة:
-يبدو ّأنك تريدين املحارب ال الكتاب يا موالتي!
َ ّ
عضت األميرة "نبرة" على شفتيها بغيظ ،كادت تنصرف لوال أن "قرجة"
قال لها بصوت يشبه الفحيح:
-قد أساعدك في السيطرة على املحارب نفسه.
-كيف؟
ّ
يخصه ،واتركي األمر لي. -أحضري لي ً
شيئا
❐❐❐
أشرقت الشمس تكنس بقايا الليل ،تنزع أدر ًانا علقت بثوب ُ
الصبح،
كل ش يء بنور هللا ،صفحة من ليل بهيم ّولت تطوي منيبا ،وأنار ّ
تائبا ً ّ
فتنفس ً
شكرا هلل على سترهً ذنوبا غسلتها دموع التائبين ،نسمات الهواء تهمس ً
للخاطئين ،فهو لم يفضحهم ولم ينزع الغطاء عنهم ألنه أراد أن يمهلهم ليتوبوا.
211
يتفحص كتابه باطمئنان وهو يجلس في ركن هادئ بدكان ّ كان أنس
ّ
"كلودة" ،كان يتفكر كيف ستظهر الكلمات ،وكيف ستكون؟ هل هي قصة؟ أم
مجموعة من النصائح والحكم في شكل قصص ي؟ أم ماذا!! هو ال يحتاج اآلن
إلى الذهاب إلى املكتبة العظمى ليسألهم عن الكتاب ،بل يحتاج ملخالطة
ّ الناس حتى يظهر أبطال ّ
قصة كتابه ،ألقى عصا التسيار في القرية التي امتألت
ّ
طرقاتها بالغائدين والرائحين ،مر الوقت فعاد وكان قد قرر أن يعاون "كلودة"
ّ ً ُ
و"كومبو" في عملهما بدال من الجلوس معهما في الدكان بال فائدة ،بعد يوم
طويل مر الثالثة ببيت أشريا" ،دعتهم األم الكريمة كعادتها لتناول الطعام،
كانت تلك املرأة النوبية تجد متعة في الحياة االجتماعية ،مهما ازدادت
أعدت لهم "الكابد" حيث كانت ّ
تعده مسئولياته ال تتأخر عن إطعام الطعامّ ،
أحيانا بعد أن يختمر ليتناولوه في اإلفطار مع العسل واللبن ،كانت تجيد ً
صنعه من دقيق الذرة والشعير ،كما كانت تطعمهم "الدوركد"،
و"الشط يطة" ،و "املرجيجة" ،و"الشيلد" ،والعديد من أصناف األكالت النوبية
ّ
الشهية.
اقترب "أنس" من َ"مرام" وأخرج الكتاب لتراه ،قالت وهي ّ
تمر بيدها على
غالفه:
مني طوال الوقت وأنا في القصر! قريبا ّ
-يا إلهي! كان الكتاب ً
ّ
وكنت تطلبين من "كلودة" أن يتخلص منه! ماذا لو ِ -نعم وفي نفس الغرفة،
ً
حرقه "كلودة" مثال! ..تخيلي!
-تلك الكتب تدافع عن نفسها يا "أنس" ال تقلق
ُ
ث ّم أضافت مقطبة جبينها:
-إنها تشعر ّ
بكل ش ىء!
ُ
-باملناسبة ،ال تخبري "أشريا" بأمر األميرة "أونتي" وعالقتها السابقة بـ "كلودة"
-لن أخبرها...
-أعلم ّأنك ساخطة عليه ،لكنني أشعر ّأنه و "أشريا" أبطال ّ
قصة كتابي.
212
-هو ال يستحق "أشريا"!
-يا َ"مرام"" ،كلودة" كان قد اتخذ قرا ًرا بالتوقف عن رؤيتها من قبل أن
ً
شخصيا لها لتخبريها بهذا. تصلي إليه برسالتها ،كما أنه كان سيرسلك
هزت كتفيها وهي تجلس وقالت: ّ
-أوقال لك هذا!
ّ
أخبرته أنك ّ
حرة ولن تعودي للقصر ّ
-نعم ،ولكنك ِ
أشاحت بوجهها وقالت:
-أشك في صدقه
مرة أخرى. -لقد ذهب بالفعل وأخبرها أنه لن يذهب إليها ّ
ُ
كانت َ"مرام" غاضبة وهي تنصت إليه ،فقد رأت "كلودة" بعينها مع "أونتي"
وكانت تكره فعلهما حيث كانت مجبرة على الذهاب معها ،لم تكن قد شهدت
ُ
بكاء "كلودة" ولم تسمع كالمه الذي أثر في "أنس" و"كومبو" ،وعدته أن تكتم
السر ،بعد لحظات وبشكل فجائي انطلقت أم "أشريا" تزغرد في فرح فقد
طلب "كلودة" الزواج من أشريا" مرة أخرى ووافقت ً
أخيرا الفتاة على الزواج!
ّ
تذكرت َ"مرام" حديثها معها في غرفتها وأدركت ّأنها قررت أن تقف بجوار
تحبه ،كانت َ"مرام" ترى تلك مجازفة وتثبته وتتقبله بعيوبه ّ
ألنها ّ "كلودة" ّ
َ
وحماقة! ما زالت "مرام" ال تثق في "كلودة" ،لكنها ال تستطيع أن تفتح فمها!
اقتربت منها وهنأتها ،وكذلك فعل "أنس" مع "كلودة" ،وعادا إلى أماكنهما
يتحدثان ،همست َ"مرام" لـ"أنس":
-ملاذا يفعلون هذا!
-من هم؟
-الرجال!
-ما بهم؟
ُ
-أترى "كلودة"! يعربد مع فتاة ويتزوج بأخرى عفيفة! أشفق على "أشريا"
لكنني ال أستطيع البوح لها بش يء.
213
-شش ...كفي عن هذا! ال تفضحيه!
-ال أدري كيف تدافع عنه!
-لقد تاب ،وهو نادم على ما فعله ّ
بشدة.
غمغمت قائلة:
-وما أدراك؟
مرت أيام قليلة ّ
لكن ما شهدته فيها يكفي. -أعرف ،فأنا شاب مثلهّ ،
-ال يوجد شاب بكر العواطف على وجه األرض...ملاذا ال تكون الزوجة أول
حب لزوجها؟
-وما أدراك أن كل األزواج هكذا؟
مجرد ّ
ظن. -ال أدريّ ...
-أتحسبين أن أي خاطرة ترد على فكر رجل أو شاب تعتبر ً
حبا؟ األمر ليس
بتلك السهولة ،رّبما هناك إعجاب ،ور ّبما يفكر الشاب في فتاة ويتراجع كما
أيضا ،حتى الفتاة العفيفة تعرض على عقلها صورة الخاطب تفعل هي ً
كل منهما لحاله تستخلص نفسها لها ،وتمر بخاطرها ،لكنها وإن انصرف ّ
حبا ..أليس كذلك؟من حالة الفكر تلك ،وال يحسب هذا عليها ًّ
ّ
-لو فتشت في قلب أي شاب ستجده مغارة علي بابا ،ممتلئة بآالف قصص
الحب لكل الفتيات الالتي التقى ّ
بهن في حياته.
كل الفتيات تملك ً
قلبا كمدينة املالهي -ال تقعي في ّ
فخ التعميم ،فليست ّ
التي يستطيع أي شاب تلتقي به أن ّ
يتنزه فيها.
أطبقت فمها ،وعادت تتحفز له ،كانت تشعر بالغضب تجاه "كلودة"،
وكأنه مسئول عن أخطاء غيره! الحظ تصب غضبها على "أنس"ّ ، ّ وكانت
توترها ،أراد أن يخفف عنها فقال بهدوء:
-لم يكن قلبي ً
يوما كمغارة علي بابا ،كنت أتعامل مع زميالتي في الجامعة
ً ً
بتحفظ حتى أن البعض كان يظنني شخصا باردا ال يجيد فنون التعامل
214
معهن بلي اقة ولطف ،لكنني كنت ً
دوما أرى أنه في يوم ما سألتقي بفتاة
مميزة ،وكما أنني حفظت قلبي من أجلها سيحفظها هللا من أجلي.
-ولكن! انظر ها هي "أشريا" حفظت قلبها! وها هي ستتزوج من شاب....
-رّبما لصدقه حفظها هللا له ،ور ّبما لنقائها أصلحه هللا لها! ،ال يوجد
شخص مثالي يا َ"مرام" ،كلنا نخطئ ،وأخطاؤنا متفاوتة.
ابتلعه صمت خفيف بعد أن أنصت لنفسه! كان يسترجع فيه ما كان
سابقا ،كيف كا ن يلغي صداقته بمن يخطئ خطأ واحدا راودهيفعله مع فاقه ً
ر
ّ
شعور بالذنب تجاه كل من أقصاهم من حياته ،ملاذا لم يتراجع ويعطيهم
فرصة! أو حتى يسأل عنهم ويكون هناك عندما يحتاجونه ،فربما يثبتهم وال
يعودون للخطأ ،انتشلته من فقاعة الصمت التي الذ بها وهي تقول:
-نعم ...ربما أصلحه هللا من أجلها يا "أنس" ...أرجو هذا.
ازدحم البيت في الحال ،أقبل الجيران يفدون إلى الدار يهنئونهم ،وكان
يسلم على الناس ّ ّ ُ"كومبو" يهلل ً
وكأنه هو صاحب فرحا ويقفز هنا وهناك
و"مرام" في حالة سكون لطيف يسترقان النظر العرس ،بينما وقف "أنس" َ
خلسة لبعضهما ،ويراقبان ميالد حب جديد ،كانت الفرحة تطل من عيني
"أشريا" ،وكان "كلودة" يشعر بفرحة ممزوجة بالخوف والوجل.
في لحظة ما تالقت عيناها بعيني "أنس" فأسرعت تصرفهما ،شعرت
ّ
بدقات قلبها تتواثب ،هو الحب ال ريب ،هكذا كانت تطقطق الكلمات في ذهنه
هو اآلخر ،وكالهما يشيح بنظره عن اآلخر بينما القلبان يتبادالن النظرات،
ّ
اهتز كتاب "إيكادولي" في حقيبة "أنس" ،فأخرجه وفتحه واقتربت َ"مرام" عندما
الحظت ارتباكه والكتاب بين يديه ،لقد ظهرت ّأول عبارات الكتاب ،وقف
كالهما يقرؤها بفضو ٍل شديد:
215
تبادل "أنس" مع َ"مرام" نظرة خاطفة على استحياء ،وعادا يتابعان ما
يدور أمامهما في صمت وسكون جميل.
❐❐❐
216
()19
فرحة!
أسا على عقب ،الزواج اليوم! كانت تلك مفاجأة لـ"أنس"، انقلب البيت ر ً
كما كانت مفاجأة ل َ"مرام" ،فهما من عالم يستغرق الزواج فيه شهوراً
عاما أو عامين حتى يتم! كان اإلسراع في الزواج وتسهيله من طويلة ،وربما ً
ّ
وخاصة إن كانا أبناء عم أو خال ،كانوا يعاونون بعضهم عادات أهل القرية،
ً ً البعض ّ
وكأنهم أهل بيت واحد ،حمل بعض األهالي أثاثا بسيطا لبيت "كلودة"
كل منهم ينفحه هدية ،كما أسرعت النساء بإعداد الطعام كل منهن تعد
شهيا ،أما الفتيات فتجمعن في بيت "أشريا" التي كانت مشغولة بش يء صنفا ً ً
ّ
تتفحصه بينما كانت صديقاتها يمشطن لها شعرها ،سألتها َ"مرام" عنه ّ ما
ّ
فأخبرتها أنه "متكأ الحبيب" ،وهو نوع من البروش مصنوع من سيقان القمح
ّ
ومشغول بقماش بديع األلوان شغلته "أشريا" ليعلق خلف العريس "كلودة"،
كل عروس بالقرية ،ابتسمت َ"مرام" بينما كانت تتابع ضحكات وكذلك تفعل ّ
الفتيات ،وأحاديثهن الخج ولة ،وتلك الهمسات واللكمات الخفيفة على الظهور
في جو من الفضول والخجل ،ستتزوج "أشريا" ً
أخيرا من حبيبها الذي تعففت
حتى طلبها.
ً ّ
مر اليوم جميال ،وبسطت الفرحة رداءها على الجميع ،انتقل "أنس" لبيت
ُ
"كومبو" وبات ليلته عنده ،بينما عادت َ"مرام" مع أم "أشريا" تكفكف لها
كل منهما في مساحة أخرى، قرة عينها لبيتها الجديد ،كان ّ
دموعها فقد غادرت ّ
ّ يحلقان ً ّ ّ
الحب ،همس "أنس" لنفسه والكرى يعقد معا في سماء لكنهما كانا
بمعاقل جفنيه وقال:
-سأتزوجها...ولم ال؟
217
بينما كانت َ"مرام" ساهمة وهي ّ
تحدق في الفراغ وتقول:
" -إيكادولي"
❐❐❐
لكن السكينة والهدوء ال يزوران القصر حتى يطلع الفجر، انتصف الليلّ ،
ً
كالعادة يحتفل امللك ِ"كمشاق" ورفاقه بأي ش يء ،ليس ضروريا أن يكون
َ
هناك سبب محدد ،ولكنهم يحتفلون! ّأما"نبرة" فما زالت غاضبة ،لكن غضبها
لم يمنعها من الجلوس وسط االحتفال لتستمتع وتتلذذ بمراقبة العيون
لقوامها وجمالها.
ُ
في غرفتها كانت "أونتي" تفرك يديها في غضب وهي تسترجع آخر حوار لها مع
لكن هذا لم يكن مرة أخرى)ّ ،
"كلودة" ،تذكرت عندما قال لها (ربما ال ترينني ّ
يقض مضجعها بل تلك املقاومة التي القتها وهي تحاول أن تقترب منه كاملرة ّ ما
ّ
السابقة! كان يم سك بذراعيها بقسوة! ويدفعها وهي ترغب فيه وتحبه! حتى أنه
عاد وظهر من بين األشجار بعد أن انصرفت الجارية وأخبرها بوضوح وبكلمات
مقتضبة أنه سيتوقف عن لقائها ،وأنه نادم على كل لحظة رآها فيها ،وأنه
يخش ى هللا ويرجو مغفرته! شعرت بطعنة وكأنه وجه إليها إهانة شديدة ..لم
يترك لها الفرصة وأسرع هارًبا منها ّ
وكأنها املوت يالحقه.
-فليذهب للجحيم ذاك الحقير!
قالتها بمرارة وكل خلية في جسدها تنفر غاضبة ،فتحت خزانتها وأخرجت
أحسن أثوابها وأكثرها إظها ًرا ملفاتنها وارتدته ونزلت في كامل زينتها للحفل،
أرادت أن ترض ي غرورها بشكل ما ،ش يء ما يعيد إليها كرامتها التي أهدرها
"كلودة" بنفوره بتلك الطريقة ،فور دخولها ران صمت مفاجئ على الحضور،
لو ألقى أحدهم إبرة الستمع الجميع لرنينها ،كان جمالها في تلك اللحظة يفوق
ً َ
بوجود من
ُ تقبل ال فهي أتها،ر عندما ا غضب استشاطت التي برة""ن جمال
ينازعها عرش الجما ل في ذلك القصر ،حتى أختها الشقيقة ،انضمت "أونتي"
للحضور ،وعاد الصخب للقاعة.
❐❐❐
218
ّ
ائعا في عيني َ"مرام" وهي تسير بتؤده نحو الدكان ،كانت
كان كل ش يء يبدو ر ً
تراودها أحالم يقظة خاطفة وهي تسير ،وكانت تبتسم وهي شاردة كطفلة
ّ
وتزف إليهّ ، ً ً
تخيلت واسعا فستانا أبيض تخيلت نفسها عرو ًسا ترتديصغيرةّ ،
كل ش يء حتى لون ربطة عنقه ،كل تلك التفاصيل الصغيرة التي لم تكن تعلم ّ
أنها ستدقق فيها حتى وهي تحلم به وتتخيله ،حمدت هللا أنه ال أحد يرى ما
ّ
يدور برأسها .اقتربت منهما بانضباط وحيتهما بوقار ّثم وضعت سلة ممتلئة
ُ
بالطعام أعد تها أم "أشريا" للعروسين أمام "كومبو" و"أنس" وسألتهما:
-من منكما سيحمل الطعام للعروسين؟
ً ُ
قهقه "كومبو" قائال:
-ما زلت ال أصدق أن "كلودة" تزوج!
كان "أنس" على غير عادته ،لقد بدأ يرتبك في حضور َ"مرام"! كان يشعر أن
نفسه التي بين جنبيه ترتج كالجرس ،هربت الكلمات منه ،شعر أنه ال يستطيع
تذكر كيف كان يرى "كلودة" وهو ّ ّ
يتحدث إلى الكالم ،وكأن الوهن أصابه!
َ
"أشريا" ،وكيف كان يتهمه بالهوان والضعف ،اخترقت "مرام" فقاعة الصمت
ً
التي كان الئذا بها وسألته:
-هل ستحمل أنت الطعام يا "أنس"؟
-يبدو هذا ألن ُ"كومبو" لن يستطيع ترك الدكان ،هل من املمكن أن تسيري
معي؟
فاجأته بردها الذي نزل عليه كالصاعقة عندما قالت:
-ال!
رد ّ
بتحرج:
-يبدو أنني أزعجتك.
قالت بارتباك:
-ال..ال..لم تزعجني ولكنني ،أفضل أن أعود ألم "أشريا" فهي حزينة لفراق
ابنتها كما تعلم.
219
ً
حسنا سأذهب اآلن. -
-ال تنس أن تنقل سالمي إليهما.
َ
استدار كالهما وافترقا ،كانت "مرام" قد قررت أال تسير معه وحدها ّ
مرة
أخرى ،ال تدري كيف في تلك الظروف العجيبة! وفي تلك اململكة الغريبة! لكنها
أرادت أن تحتفظ بتلك املنطقة املحظورة التي تربت على أن تحيط نفسها
وقلبها بها ،فال تسمح لغريب بأن يقتحمها ،حتى لوكانت .....تحبه!ّ ،
اجترت ذلك ُ
الحوار الذي دار بينها وبين "أونتي" التي أخبرتها أنها لن تستطيع السيطرة على
وأنها ستخطئ ،وكان ردها أنها الحبّ ،
ّ مشاعرها ونفسها إن وقعت في
ستستعصم.
سار "أنس" نحو بيت "كلودة" ،شار ًدا يفكر كيف أصابه سهم الحب فجعله
هشا بتلك الطريقة! في تلك اللحظة شعر باهتزاز في حقيبته فأدرك أن هناك ً
عبارة جديدة ظهرت في الكتاب....
ّ
أكمل "أنس" طريقه يتفكر في الكلمات ،وبعد أن وصل لبيت "كلودة"
ً ُ
والتقى به وعانقه طويال ،ث ّم أعطاه الطعام طلب منه الدعاء ،شعر "كلودة"
لكنه أسرع يغادر على استحياء وعاد منمرة أن "أنس" أصابه ش يء ما! ّ ألول ّ
حيث أتى.
يتعرف عليها ّ
ألول ّ
مرة! هناك ّ
أغمض "أنس" عينيه ،وجال في نفسه ،وكأنه ّ
لحظات عديدة في أيام مضت،
ّ مرت به رّبما فياشتياق لحالة من الشفافية ّ
ً
ً
وكثيرا لحظة إفطاره بعد صيام رق فيه قلبه ،وربما عندما أحيانا وهو ساجد،
ّ
كان يقرأ القرآن ،تنفس بعمق ّثم فتح عينيه ،وسار وهو يطالع كل ش يء حوله
بعين أخرى ،ومن منظور مختلف.
ُ
عاد إلى الدكان حيث كان "كومبو" يوزع االبتسامات ،ذاك الشاب لديه
روح تضج بالسعادة ،يفرقها على اآلخرين ،وكأنه ال يخش ى الحزن ً
أبدا.
❐❐❐
220
مر أسبوع عاش فيه "كلودة" أسعد لحظات حياته مع حبيبة قلبه ّ
"أشريا" ،كانت كل لحظة تمر بهما تزيدهما قربا ،وكانت هادئة كقطة وديعة
شديدا ّ
وكأن ً وسيدها فسكنت له .ما زال البردأخيرا لجوار صاحبها ّ
اطمأنت ً
تلك اململكة فصولها األربعة شتاء! كانت "أشريا" ترتجف عندما أخبرها
أحبت أن تسير"كلودة" وهو يحتضن كفيها بين كفيه أنه سيعود للعمل ،وإن ّ
هبت واثبة ووضعت على رأسها خماراً معه لبيت أمها فلتستعد في الحالّ ،
بكفه وساراكفها ّ
فضفاضا وسارت ترفل فيه خلف زوجها ،استدار يحتضن ّ
معا نحو بيت أمها التي أغرقت دموع فرحتها وجهها فور أن رأتها ،توجه إلى ً
استقر في نفس "أنس"ّ الدكان حيث كان "أنس" يقرأ في كتابه ّ
بتمعن ،كان قد
أن "كلودة" و "أشريا" هما بطال قصة الكتاب بالفعل ،أخفى عنه ما كان يقرؤه
ً سلم عليه انخرط كالهما في العملّ ،ّ
لطيفا على الجميع، مر اليوم وبعد أن
َ
واجتمعوا على الطعام كالعادة ،وقف "أنس" بجوار "مرام" غير ناظر إليها وقال
ّ
التحرج: وقد بدا عليه
أنت بخير؟
-هل ِ
-نعم أنا بخير.
-كيف هي عينك ويدك؟
ّ
يتحسن والحمد هلل. -عيني أفضل ،وبدأ الجرح في ّ
كفي
كانت وكلما تنظف جرح يدها تعيد تضميده بتلك القماشة التي ّ
مزقها من
قميصهّ ،
ودت أن تخبره بالكثير من األشياء ،عن خوفها فما زالت خائفة ،لكنها
أصبحت تخجل من أن تخبره أنها تخاف أن يختفي فجأة ،أو أن يحدث له
خطب ما ،مض ى "أنس" بخياله يطوي األيام وقال فجأة:
-عندما نعود لديارنا ...ما رأيك أن ّ
تتعرفي بأختي "حبيبة".
بدا على وجهها االستبشار وقالت:
-أود ذلك بالفعل.
ّ
افترت شفتاه عن ابتسامة وقال:
221
-ستسعد بهذا ،فهي قليلة األصدقاء ،كما ّأنها تشبهك ً
كثيرا.
-أخبرتني بهذا من قبل.
عال عن ّ
نس ى وجودهما في بيت أشريا ووسط الجميع وبدأ يحدثها
بصوت ٍ
ٍ
نفسه أمام الجميعّ ،
حدثها عن أيام الجامعة ،ورفاقه ،وطبيعة دراسته ،حتى
ّأنه أخبرها عن طفولته ،كانت تنصت إليه مستمتعة بحديثه ،قالت مبتهجة:
بحب وشغف. -يبدو ّأن دراسة الهندسة ممتعة ،أظنك درستها ّ
وكأنه اليوم ال يريدها أن تتحدث ،بل أن موافقا وأكمل حديثهّ ، ً أومأ
ّ ّ
تنصت إليه وحسب ،فهو يود أن يخبرها بكل شاردة وواردة عن حياته،
كانت حريصة على أن تبدو هادئة منضبطة في تصرفاتها وأقوالها لتداري بهذا
ٌ
جميل املظهر ما يضطرب في نفسها من نوازع .وكان ّ
يحدثها وفي عينيه وهج
تطل منه إشراقة مسحورة .كان يراها قريبة منه جدا وبعيدة عنه جدا ،فهو
يتعجل الخروج من تلك اململكة ليطمئن أنها موجودة بالفعل ،وأنها واقع في ّ
حلماجزءا منه ،أصبح يخش ى أن تكون َ"مرام" ًحياته يستطيع أن يجعلها ً
يراوده!
حبا لكنها كانت تخفض الطرف ،وكان هو لو تنبهت لعينيه لرأتهما تقطران ً
ً ّ
يتحدث إليها طويال ّثم يختلس نظرة ويعود فيخفض الطرف عنها ،كانت هناك
معركة تدور في صدره ،كان يستجيب فيصمت ويسكنّ ،ثم يجد نفسه وقد
محبوسا لسنوات وأطلق سراحه للتو ،وكانت ً يحدثها وكأن لسانه كانعاد ّ
ُ ّ
كلها آذان صاغية ،بينما كان "كومبو" يراقبما في سكينة وهدوء شديد .جاء
ً
وقت الفراق ،وكان ثقيال على قلبه كما لم يكن من قبل ،ودعها وانصرف مع
وأمه إلى بيتهما ترف كل جوارحه هوى إليهاّ .
اهتز الكتاب في حقيبته، ُ"كومبو" ّ
فأخرجه وقرأ ما كتب فيه:
ُ
وتأمل "كلودة" و"أشريا" وهما يسيران أمامه نحو بيتهما ،ث ّم
رفع رأسه ّ
ُ
أغلقه وأعاده إلى حقيبته ومض ى مع صديقه "كومبو".
222
ّأما َ"مرام" فجلست هادئة القلب راضية النفس نشوانة الخيالّ ،
لكنها
شعرت بضيق فجأة ،كانت تعلم أنه ال ّبد من صراع قبل أن ُيسترد الكتاب،
وال ّبد أن وقته اقترب.
❐❐❐
ُ
في الصباح التالي وفي غرفتها وحيث كانت "أونتي" تتلوى من الغيظ دلفت
َ
عليها شقيقتها "نبرة" وجلست بعد أن أشارت للجواري ليتركنهما وحدهما،
قالت بلهجة آمرة:
ُ
أنت لست "أونتي" التي أعرفها ،أخبريني ما الذي يحدث؟
-هناك ش يء ما! ِ
-ال ش يء!! لم تقولين هذا الكالم
ً ُ
قامت وسارت نحوها وامسكت باملقعد حيث غطست "أونتي" فيه خوفا
عبا منها ،وألصقت جبهتها بجبهة أختها وقالت:ور ً
ّ
الخاصة. -إن لم تنطقي فسأستخرج منك الكالم بطريقتي
ُ
تمتمت "أونتي" بخوف وقالت بصوت مخنوق:
-ماذا تريدين؟
سرقته أليس كذلك؟
ِ أنت
-الكتابِ ..
ّ ُ
شعرت "أونتي" بقشعريرة تجتاح جسدها كله وبعد أن ابتعدت عنها أختها
وقفت ترتجف كورقة شجرة تتالعب بها الرياح وقالت بصوت مرتعش:
-بل سرقته تلك الجارية.
-من؟
"َ -مرام"
-تلك املريضة؟
223
-لم تكن مريضة ،كانت مصابة في عينها فقط ،أحضرها "حليم"..اسأليه
ّ
عنها ،فقد دثرها بوشاحه عندما أحضرها ،وكانت سعيدة بهذا! هي
سرقت الكتاب من غرفتك ّ
وفرت بعد أن سرقت املال من خزانتي.
كطلقة مدفع خرجت َ"نبرة" من غرفة أختها وهي تهمهم بعبارات ّ
توعد
وتهديد لها ألنها لم تخبرها في الحال ،كما بدأت تسب وتلعن في "حليم"،
انحدرت ككرة من النار على الدرج واقتحمت ديوان أخيها ِ"كمشاق" وقذفت
بكلماتها في وجه "حليم" الذي كان يقف بجواره:
-أنت السبب ،تلك الجارية التي أحضرتها هي ُالتي سرقت الكتاب من غرفتي
وهربت من القصر بعد أن سرقت املال من "أونتي"
-أي جارية؟
"َ -مرام"
-أيهم؟ أنا ال أذكرها!
-تلك التي غطيتها بوشاحك أيها الـ...
تسبه ،فهو يكره أن يغضبه ّ
ألنه صاح ِ"كمشاق" يستوقفها قبل أن ّ
ساعده األيمن ،وألقت بجسدها على الكرس ي وكأن صاعقة أصابتها ،قال
"حليم" ّ
بجدية:
-ليس هذا بوجه سارقة.
-يبدو أنك عاشق أيها الحليم.
قالتها باستهزاء ،فتجاهل مالحظتها وقال:
ُ
الفتاة ليست سارقة ،وهي فتاة
ُ تلك خدع! أ -لست بسفيه أو أحمق حتى
يمسها رجل من قبل ،عودي ألختك "أونتي" فهناك ش يء ما وراء شريفة لم ّ
سر وراء اختفاء الكتاب.اختفاء تلك الجارية ،وهناك ّ
ُ َ
عادت "نبرة" إلى غرفة أختها "أونتي" ودار بينهما حوار أدارته بطريقتها
الخاصة حتى استخلصت منها القصة بحذافيرها من البداية وحتى تلك ّ
224
اللحظة التي ماتت فيها روحها عندما لفظها "كلودة" ورفض غرامها ،انكشف
األمر ل َـ"نبرة"ّ ،
لكنها لم تخبر أخاها ولم تخبر "حليم" بما عرفته ،فهي تود رؤية
ً
"أنس" أوال!
ّ
الخاصين بها بعد طلوع الفجر يبحثون عن "كلودة" انطلق بعض الحراس
سريعا فالوصول إلى بيته سهل عليهم ،وانتزعوه من حضن بيتهً وعثروا عليه
ً
وأمنه وزوجته "أشريا" التي مادت األرض تحت قدميها وسقطت مغشيا عليها في
الحال.
❐❐❐
عادت "أشريا" إلى بيت "أمها" وأخبرتها و َ"مرام" بما حدث بعبارات قليلة
يتخللها بكاء شديد بنشيج مسموع ،كانت ال تعرف ملاذا أخذوه! سألت َ"مرام"
التي كانت في ذاك القصر ،وكانت َ"مرام" في حيرة ً ً
مرارا وتكرارا فهي الوحيدة ُ
ّ
من أمرها أتخبرها بأمر األميرة "أونتي" وقصتها مع "كلودة" أم ال .آثرت الصمت،
ّ ُ
وخرجت لتخبر "كومبو" و "أنس" اللذين أغلقا الدكان وتوجها فو ًرا لبيت
هدأها "أنس" ،وأخبرها أن "كلودة" يعشق الكتب كما تعرف هيّ ،
وأن "أشريا"ّ ،
كتابه كان عنده ،وحراس امللك يطاردون ا ملحاربين ،ويطلبون كتبهم ،وألن الخبر
وتعلقت ّّ
بكمه وتوسلت إليه أن وصلهم بأن الكتاب عنده اعتقلوه ،بكت
ً
يعطيهم الكتاب ويعيد إليها زوجها "كلودة" ،وعدها أن يعيده وخرج حائرا ،ال
يدري ماذا يفعل!
❐❐❐
كانت ضربات السياط على ظهر "كلودة" متواليه حتى أنه فقد وعيه ،كان
ّ ً
خائرا مضعضع القوى حيث علقوه من قدميه فشعر بأن رأسه سينفجر،
كرروا عليه السؤال:
-أين الكتاب؟
وكانت إجابته واحدة ال تتغير:
225
-الكتاب مع "أنس".
َ
لكنهم كانوا يتلذذون بتعذيبه ،كانت "نبرة" تراقبهم وهم يضربونه ،وجلست
ّ
تفكر فقد أخبروها أنه تزوج منذ أسبوع ،فهل هو بطل قصة الكتاب؟ ،وهل
إن حصلوا على الكتاب اآلن وثقبوا قلبه سيستطيعون كتابة ما يريدون بدمه
يثبتوه في عقوليحبون ،ويثبتون ما يريدون أن ّ حسب هواهم! يغيرون ما ّ
كفها فتوقفوا عن جلده ،واقتربت منه ووقفت أمام وجهه الناس! رفعت ّ
املقلوب حيث كان ال يزال ً
معلقا في الهواء ،كانت عالمات األلم بادية في عينيه
الذابلتين وسحنته الشاحبة ،سألته مهدده له:
-إن لم تخبرنا أين "أنس" اآلن سأجعلهم يخلعون ً
عينا من عينيك.
أخبرها عن مكانه ،كان منها ًرا ال يحتمل نفخة هواء أخرى تمر على صفحة
وجهه ،فوصف لها العنوان بالتفصيل ،أشارت لرجالها ليحضروا ً
قلما
ً
وقرطاسا ،وكتبت لـ"أنس" تستدعيه لتراه بطريقة أدبية راقية ،وأرسلتهم إليه،
ّ
الخاصة. أرادت أن تلتقي به لتحاربه بطريقتها
❐❐❐
226
ّ -إنها تدعوني للقائها.
اقتربت َ"مرام" في قلق وقالت:
-ال تذهب.
لحظ "أنس" أن يدها ترتعش ونظر فإذا دمعة تند من عينيها ،قال بهدوء:
-ملاذا؟
غامت على وجهها سحابة من األس ى وقالت:
َ
-أرجوك ال تذهبّ ،إنها "نبرة"!
قال يطمئنها:
-هي تطلب اللقاء في مكان بعيد عن القصر ،وليست الرسالة من امللك
وبأي حال ال ّبد أن أساعد "كلودة" ،سأساومها على
ِ"كمشاق" نفسهّ ،
الكتاب.
وضع "أنس" في حقيبته ً
كتابا ً
آخرا ليوهمهم أنه يحمل كتابه في حقيبته،
ً ّ
سريعا ليجبرهم على عدم قتله .قالت ذاك ما تبادر إلى ذهنه بعد أن فكر
َ"مرام" وهي تحبس دموعها:
-وماذا إن لم تعد؟
أجابها بثقة:
-سأعود إن شاء هللا
شعرت بشوكة حادة تنغرز في فؤادها ،قالت بخفوت:
مرة أخرى هنا على أرض تلك اململكة؟ -وماذا لو ...لم نلتق ّ
ِ
اضطربت في دمه الكلمات ّثم قال:
227
-دعينا نتعاهد على ش يء ،إن لم ُيكتب لنا اللقاء هنا ،وعاد ّ
كل منا ألهله،
فلنلتق في اإلسكندرية ،في مكان محدد.
ِ
-فليكن
واتفقا على املكان ،وودعها "أنس" وهو يقرأ األلم على وجهها وفي عينيها،
وشد علىكان ال ّبد من إطالع ُ"كومبو" على بعض األمور ،استأمنه على َ"مرام" ّ
مشيرا إلى َ"مرام"
يتلفت من آن آلخر ًيديه وهو يصافحه ،وابتعد مع الحراس ّ
التي انخلع قلبها لرحيله.
❐❐❐
228
()20
خطر!
َ
على حصان كستنائي اللون وتحت ستار الليل ،كانت األميرة "نبرة" متجهة
وبعيدا عن عين أخيها امللك ِ"كمشاق" ،ترجلتً صوب مكان بعيد عن القصر
فتان وأقبلت ترفل في زينتها حيث كان "أنس" ،عندما رأت وجه "أنس" بثوب ّ
لكنها نجحت في السيطرة على مشاعرها ،كان يقف أحست بقلبها ينسحق ّ ّ
ُ
بكبرياء ،تأملت فتوته بإعجاب ،قطرات العرق كانت تتألأل على جبينه رغم
برودة الجو! فأدركت أنه كالبركان داخله يغلي رغم القوة والثبات الذي يحاول
ً
الظهور بهما ،كان قد أغمض عينيه وأرخى ذراعيه يبدو منهمكا في التفكير
ُ
بعمق ،وقفت لدقيقة تتأمله وتراقبه ،فتنت به فنسيت من هي وأين هي ولم
وكل حركة يقوم بها بإعجاب ،كانت كل لفتة منه ّ
جاءت ،بينما كانت تراقب ّ
تقترب بخطوات هادئة ،أشارت للحراس الذين حيوها بإجالل ،انتبه "أنس"
ورفع عينيه ورنا نحوها بنظرة خاطفة وقال وهو يطوف في األرجاء بعينيه:
-أين "كلودة"؟
اقتربت ووقفت قبالته حتى اخترق عطرها القو ّي أنفه وقالت وهي ترمقه
بجرأة:
-أنت قو ّي ،وجريء! كيف لبيت دعوتي بتلك السهولة! أال تخش ى أن
أقتلك؟
بغيضا ّ
بأنها تتحدث إلى الفراغ .كادت ً مثيرا لديها شعو ًرا
لم يرد عليها ً
لكنها وقفت ّ
ويحدثهاّ ، تصرخ في وجهه كما اعتادت ،تنهره ،تصفعه ليرفع عينيه
أمامه كالقط الصغير ،قالت َبنبرة مرهفة:
َ
-اسمي"...نبرة".
229
ً ً
مبتعدا عنها بينما وقفت تتابع خطواته، الئذا بفقاعة من الصمت انصرف
َ ُ يتسن لها التنفسّ ، ّ
وكأن نبض قلبها يتردد في صدغيها ،لقد فتنت "نبرة" لم
ً ّ
وألول مرة في حياتها! فتنت باملحارب الذي جاء خصيصا ليسترد نهاية كتاب ّ
ستنازعه عليه!
ً قربه إليها أحد ّ
جلست على مقعد ّ
حراسها ووضعت ساقا على ساق وقالت
بخضوع:
" -إيكادولي" ..هل تعرف معناها؟
لم يلتفت "أنس" ،قالت هامسة:
-أحبك
لم يرف له جفن ،كان ً
ثابتا كالطود فشعرت بانزعاج وأردفت:
-أين الكتاب؟
-ليس معي
-وأين هو؟
-في أمان.
قالت بهدوء:
-ملاذا لم تحضره معك ،أال تثق بي؟
-وما الذي يدعوني للثقة بك! لقد خطفتم صديقي!
ّ كانت تحاول أن ّ
تمد حبائلها حوله ببطء ،قالت وهي توقع كلماتها:
-وما الذي جعلك تثق بـ"الحوراء"؟ أليس من الغريب أن تمنح ثقتك لغرباء
دون آخرين ،أتيت إلى مملكتنا ً
غريبا عنا ،ال تعرف عن ماضينا فما لك
تحكم على الناس دون أن تسمع منهم؟
-كان جدي هنا من قبل وكذلك أبي ،وأنا أثق بهما وبمن وثقا به من قبل.
ابتسمت وقالت:
230
-وهل ال ّبد أن نفعل كل ما فعله أباؤنا وأجدادنا دون تفكير!
ّ
تستفزه ،قال بعصبية: بدأت كلماتها
-ال ..ولكنني أثق في حكمهما على األشخاص ،ولكل منهما تاريخه وتجربته
هنا.
ّ
تحولت ابتسامتها إلى تقلص مريع على جانبي فمها وقالت:
ّ
-أين عقلك ،أليس لك عقل تفكر به وتحكم على الصواب والخطأ ،وتختار
بإرادتك؟ أم أنت تساق كاألعمى!
بدأ الوريد في جبهته ينبض ،ر ّد ّ
بحدة:
-اخترت بإرادتي وعقلي أن أثق بأبي وجدي.
ً
سريعا كالحرباء ونظرت إليه نظرة فيها كل معاني االستسالم والغزل تلونت
وقالت:
-ملاذا أنت غاضب؟ هل ضايقناك في ش يء؟ أنت تعلم أنني كنت أستطيع أن
أطلب منهم إحضارك بنفس الطريقة التي أحضروا بها ُ "كلودة" ،لكنني
أعلم أنك مختلف عنه ،أنت شريف ...لكنه خائن غدر بـ"أونتي" املسكينة،
وكانت ّ
تحبه.
-هو ليس بخائن!
ً
سريعا حيث رمشت عندما التقطت مقلتيه قالها وهو ّ
يمر على وجهها
ً
مدافعا عن "كلودة": فأردف
-كانت تطارده ،لم يكن ليفكر في أميرة وهو شاب بسيط وفقير ،هي التي
فتحت له األبواب ،وكانت تستدرجه وتغويه ،وقد ندم وتراجع وأنهى
عالقته بها وأخبرها بنفسه.
لم يكن أمر ُ"أونتي" يشكل أهمية لدى َ"نبرة" ،كان ّ
جل تركيزها على "أنس"،
ّ
شعرت للحظات أنها فهمته ،هو من ذاك النوع من الشباب املهذب الذي
يسهل الطريق إلى قلبه عن طريق معاملته بذوق وأدب ،ال بأس من إظهار
231
بعض الضعف حتى تستميله ،وربما تشهر أسلحة أنوثتها ً
الحقا ،قالت بعد
صمت خفيف:
-أنت على صواب ،أهلكتني أختي ُ"أونتي" ،كنت أنصحها ً
كثيرا لكنها كانت
تس يء إلى أسرتنا بأفعالها ،ال أدري كيف أتصرف معها.
ُ
ث ّم سألته:
-هل هما أبطال ّ
قصة كتابك؟ هل ظهرت العبارات بعد أن التقيت بهما؟
-رّبما ...ربما "كلودة"و زوجته.
ُ
-أو "كلودة" و "أونتي"!
-ال أظن.
-الكتب هنا تفاجئنا ،تكون عكس كل التوقعات! ربما أنا وأنت أبطال هذه
ّ
القصة.
ارتبك "أنس" عندما قالت هذا ورنا إليها حيث اقتنصت نظرة منه،
ُ
ابتعدت عنه خطوات ث ّم استدارت فجأة قائلة:
-هل أحببت من قبل؟
-ولم تسألين؟
ّ
هزت كتفيها وقالت:
-طاملا قلت هذا فأنت عاشق ،من ال يحب يجيب ً
نافيا بثقة في الحال ،ترى
من هي؟
ً
أشاح "أنس" بوجهه بعيدا عنها وقال:
ّ
ألتحدث عن "كلودة" ،أين هو اآلن؟ -أتيت
-ال بأس بحديث جانبي ،وسنعرج للحديث عنه فال تقلق.
-ال ...ال مجال لحديث آخر.
232
قام يسير بغضب فعلق قميصه بمسمار بارز من خشب الجدار ،نزعه منه
فتمزقت منه قطعة وعلقت باملسمار فابتعد وهو يفرك ذراعه حيث بعصبية ّ
َ
أصابه املسمار بجرح ،بينما اتجهت"نبرة" والتقطت قطعة القماش التي ت ّ
مزقت
كفها ،أومأت لكبير الحراس فقد اتفقت معه أن ينزع من قميصه وكورتها في ّ
عن "أنس" قميصه قبل رحليه لتعطيه للساحر "قرجة" ،لكنها اآلن ستكتفي
بهذا الجزء املمزق ،فهمها الحارس في الحال.
كرر "أنس" كالمه باستياء شديد:
ً
-أريد أن أرى "كلودة" حاال.
كان ّ
يتحدث بثقة ،فهو ال يهابها وال يخشاها ،حتى أنه لم ينظر إليها! شعرت
َ
"نبرة" أن هناك من رشق كومة من اإلبر في جسدها ،انتفضت وسارت نحو
ُّ
حصانها حيث ساعدها أحد الحراس في ركوبه ،ثم التفتت نحو "أنس" وقالت
بعنجهية:
-أحضر كتاب "إيكادولي" واستبدله بصديقك ،وأسرع قبل أن يقتله امللك.
َ
انصرفت "نبرة" والغيرة تتأجج في صدرها ،ذاك الشاب عاشق ال محالة،
لم يرف له جفن وهي من هي تتألق في زينتها أمامه ،وكأنه قد عمي وهي بقربه!
❐❐❐
233
ّ
استيقظ على أثر ضرب السياط وقد كان معل ًقا من ساقيه ،كان يشعر أن
ّ ّ دماءه التي ّ
تجمعت في رأسه املتدلي تكاد تخرج من عينيه ،كان الجالد ينهال
ّ
على جذعه بالسياط ،بينما كان "حليم" يتمش ى أمامه ،أش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار للجالد ليتوقف
فيعا واقترب من قلبه ليثقبه ،وقال يهدده: خنجرا ر ً
ً عن ضربه ،أخرج
-أتعلم أنني أستطيع اآلن أن أثقب قلبك؟
-وماذا بعد؟
-ستموت.
-وهل أنا على قيد الحياة اآلن!
قالها "أنس" وكان يعنيها ،فقد بدأت األمور تختلط عليهّ ،
مل من تلك
اململكة ،وبدأ يكره ّ
كل ركن فيها .كاد "حليم" يشير للجالد ليعود لجلده ،لكن
ً
"أنس" باغته سائال:
-في أي عام نحن اآلن؟
-ماذا!
-وددت أن أعرف ...في أي عام نحن؟
-مائه وثالثة وأربعون.
-ماذا!
-كما قلت لك مائة وثالثة وأربعون ،ملاذا تتعجب؟
-معقول!
ّ ً
كاد "أنس" يقول شيئا ما ،فقد تذكر نصيحة األمير "أواوا" التي أخب ره بها
َ
في املمر تحت املاء في تلك الرؤيا ،أن ينتبه لألرقام! لوال دخول"نبرة" التي
صرخت فالتفت "حليم" تجاهها وقال:
َ
" -نبرة"! صحيح ،نسيت أن أدعوك لتشهدي تلك اللحظة ،ها هو املحارب
وسنثقب قلبه اآلن.
234
اقتربت وهمست وهي ترشقه بنظراتها:
-وكيف ستثقب قلبه والكتاب ليس معنا أيها األحمق!
غاضبا حيث استفزته كلماتها وقال بصوت جهوري ليسمعه ويخيفه:ً زمجر
-سنجمع دماءه في وعاء لوقت الحق وعندما نعثر على الكتاب سنكتب ما
يليق بملكنا العظيم ِ"كمشاق".
-وما أدراك أن هذا صواب؟ لم يحدث هذا من قبل.
التفتت َ"نبرة" نحو وجه "أنس" فسحبت "حليم" من ذراعه ً
بعيدا حتى ال
يسمعهما وأردفت قائلة:
حيا حتى نحصل على الكتاب ،لقد كنت ً
سببا في ضياعه -أرى أن نستبقيه ًّ
يا "حليم" ،ألم تعثر على تلك الجارية التي اشتريتها من السوق...التي سرقت
الكتاب؟
-ليس بعد ،لكنني سأعثر عليها.
ّ انصرفا ً
معا وتركا "أنس" بعد أن أمر "حليم" الجالد أن ينزله ويقيد ساقيه
بالسالسل.
َ
وبعد نحو ساعتين ،وتحت جنح الليل تسللت "نب رة" إلى زنزانته وهي تخفي
وجهها .كان ثمن صمت الحراس ً
غاليا ،لكنها وألنها تعرف عن زعيمهم الكثير
من األسرار بسبب عيني بومتها كان التهديد وسيلة لتصل إلى ما أرادته،
استطاعت أن تحرر "أنس" ،وقفت تلتقط أنفاسها وقالت هامسة:
-سنذهب اآلن إلى غرفتي ،سأخفيك حتى أرتب أمر هروبك مع الحراس.
-ال
-ملاذا؟
-وملاذا أذهب معك وأنا استطيع الفرار اآلن!
235
سببا لكي يهرب ،ما زال ال يفهمها! رّبما
كان "أنس" ال يثق بها ،لكنها كانت ً
فيها بعض الضعف الذي يراه في عينيها ،أو ربما هي فعال ذات قلب طيب ،لكن
ّ
جرأتها وسفورها عظما في قلبه االمتعاض والحذر منها ،كان محتا ًرا في أمرها،
ً
وهو بالـتأكيد لن يبيت في غرفة امرأة! ال سيما التي ال حياء لها! قال محاوال أن
يستشف ما وراء أفعالها:
استطعت دخول زنزانتي؟
ِ -كيف
قالت في دالل وقد تملكها الزهو:
-لي عيون ورجال ،ال تستهن بي!
ّ
ران عليهما الصمت للحظات كانت تفكر في مخرج ما ،يبدو أنه صعب
مرة أخرى وقتما املراس ،رأت أن تتركه يرحل لتكتسب ثقته مؤقتا ،وتستدعيه ّ
ّ شاءت ،سمعت ً
صوتا أربكها ،فأسرعت تجاه أحد رجالها ،وكلفته أن يدله
على الطريق لكي يخرج من القصر بسالم.
ّ
ركضا وكأنه يهرب من مهتديا بضوء القمر ،قطع املسافة ً
ً هرب في الظالم
ّ ً ً
املوت ،كان غضبه هادرا وشديدا ،هدأ من ركضه عندما اقترب من بيت
"أشريا" ،في تلك الساعة كانت القرية قد خلت إال من أواخر الناس وطوارق
وبقية من األنفاس تحبو في الطرقات ذاهبة إلى مضاجعها ،وضعت الليل ّ
وتنهدت باطمئنان عندما رأته يقترب ،حيث كانت َ"مرام" يدها على صدرها ّ
تتنقل بين "أشريا" وهي تنتفض بين يدي أمها ،وبين النافذة تراقب الطريق
ً ُ
وتنتظر عودته ،أسرع "كومبو" مهروال نحوه فور أن رآه ليسأله عن "كلوده"،
إليهما"مرام" ،فهو ال ّ
يود إزعاج "أشريا" ألنه ال َ طلب منه أن ينتظر حتى تنضم
قص عليهما ما حدث جديدا عن زوجها ،وبعد أن خرجت َ"مرام" ّ ً يحمل ً
خبرا
كل الكالم قد تالش ى الصمت ّ
كأن ّ بالتفصيل ،وفور أن انتهى أطبق عليه ّ
متعبا تؤمله آثار السياط على جذعه ،فارقه نشاطه وتبخر على شفتيه.كان ً ّ
وخفته وبدأ يجثم على صدره نوع من الكآبة ،قالت َ"مرام" وهي تسقيه املاء:
شيئا ما؟عنا ً
" -أنس" ما بك؟ هل تخفي ّ
كانت تلك ّ
املرة األولى في حياته التي يجلد ويضرب فيها بتلك الطريقة ،وكان
يشعر باإلهانة ،أمسك الكوب وفي يده بقية من اضطراب وقال:
236
-ال ...ولكنني أشعر أن األمور قد بدأت ّ
تتعقد.
ُ اختلس نظرة واقتبس ً
شيئا من عينيها ليسترد شيئا من إرادته ث ّم خفض
طرفه وقال:
ستمر إن شاء هللا ،وسنعود إلى ديارنا يا َ"مرام".
ّ ّ -
لكن تلك األزمة
لتشجعه وتخفف عنهّ ،
لكنها ملحت في ّ حاولت أن تمنحه ابتسامة مغتصبة
ُ ً
وجوما أخافها .انصرف مع "كومبو" ليطبب له جراح وجهه مرارة وفي قسماته
ظهره في بيته ،وعادت َ"مرام" وسهرت ليلتها بجوار "أشريا".
❐❐❐
يقولون ّإن تحت البحر نار ،وإن جوف األرض يتلجلج بجحيم يتلظى،
وهناك تحت هذا الرماد شظيات تختبئ ،وهنا تحت بشرة تلك األميرة التي
َ
تبدو للناظرين باردة دماء تغلي وقلب يحترق ...كانت "نبرة" تتساءل في نفسها،
كيف تجاهلها "أنس"؟ ،كيف لم ُيفتن بجمالها؟ ،كان يشبه تلك التماثيل
شيئا ،ينظر إليها ّ
وكأنه ال الخالية من النقوش ،يتحدث معها وك ّأنه ال يقول ً
مر يومان على رحيله من مرة أخرى ،وكان قد ّ يراها! قررت أن ترسل إليه ّ
الحراس كلفتها الكثير من املال ،واضطرت ضجة بين ّ القصر ،والذي أحدث ّ
لقتل أحد رجال "حليم" حيث ذبحه رجالها ألنه كاد يش ي بأمر تهريبها لـ "أنس"،
ّ لم يكن "حليم " يعلم ّ
بأنها تعرف عنوان "أنس" ،وظلت تخطط لكي ال ينكشف
أمره ألخيها ولـ "حليم" ففي نفسها ش يء تجاهه ،ترى أنه يصلح أن يكون ً
حبيبا
اململكة! تلك في كثيرة أمو ًرا تغير وربما لها،
كانت تتعجل رؤيته ،أرسلت إليه رسالة تطلب منه أن يلتقي بها ألمر هام
وضروري ،أرسلتها في الخفاء مع أحد رجالها.
ّ
وسط النهار ،وبينما يفكر في طريقة ما يعرف بها أخبار "كلودة" ،حيث
مرة أن ينتقل بالخنجر لبالط القصر ليبحث عنه ،كان يدلف حاول أكثر من ّ
إلى الفج وة ويعود لنفس املكان! هناك ش يء غريب! ال ينجح األمر مع قصر
امللك ِ"كمشاق" كما نجح مع غيره! وأصابه إرهاق شديد.
معطرة بعطرها وملفوفة بشكل أنيق وكأنها رسالة ّ ّ
حب مما جاءته الرسالة
237
َ ّ
يتعجب! أرادت "نبرة" أن تلتقي به بالقرب من بيت "كلودة"! تعجب جعله
ُ
مرة أخرىو"كومبو" وأسرع إلى هناكّ ، للمكان الذي اختارته ،أخبر َ"مرام"
ومرة أخرى تركه والخنجر مع َ"مرام" التي ماتت على ذهب للقائها دون الكتابّ ،
َ
لسانها الكلمات ،فهي تشعر أن األميرة "نبرة" ّ
تدبر لش يء ما ،وكانت تخش ى على
"أنس".
فور أن وصل إلى البيت انطلق يفتش بعينيه هنا وهناك ،ال حراس وال
خيول! فأين هي؟ خلف البيت ،وفي بستان كثيف األشجار فوجئ بصقر مهيب
َ
الطلعة ينتظره مع "نبرة" التي ر ّحبت به في ش ىء من الحرارة ،وقفت أمامه
بزينتها وكأنها قطعة من الفتنة املتحركة.
قدمته له بإجالل ،كانت تلك هي ّ
املرة األولى التي يرى فيها "القرناس"! ذاك ّ
الصقر الذي سمع عنه الكثير ،كان يختلف في هيئته عن "الرمادي" ،كان
"القرناس" ذا ظهر أسود ،والجسد أبيض يخرج منه جناحين مبرقشين ،وذيل
طويل ،وعريض ،ومدبب عند نهايته ،ذو طرف أزرق وعالمة بيضاء على
أقصاه .يظهر أعلى رأسه السوداء كما الشارب الذي يمتد على الوجنتين بلون
جانبي العنق الداكنين والحلق األبيضّ .
اهتز فور ّ أردوازي يتباين بشكل حاد مع
أن رأى "أنس" وقال بصوت أجشّ:
ً
مرحبا أيها املحارب! -
-مرحبا أيها "القرناس".
-أين كتابك؟
-ليس معي.
-من الخطأ أن تسير بال كتابك.
جي ًدا ،واآلن ..ماذا تريدان مني؟
-أعرف هذا ّ
َ ّ
شغف و إعجاب وقالت:
تقدمت "نبرة" تجاهه وطالعته ب ٍ
-صفقة!
-أي صفقة؟
238
أشارت بارتباك للقرناس الذي قال بثقة:
-أنت تعلم أننا نحن الصقور نعرف عن التاريخ والكتب ما ال تعرفونه،
فدعني أطلعك على السر.
-أي سر؟
حب أميرة ومحارب، قصة ّ يتحدث عن الحب" ،إيكادولي" يحكي ّ ّ -كتابك
ّ
األميرة وقعت في حبه منذ النظرة األولى ،أنت محارب وها هي األميرة.
ً َ ً ُ
مشيرا إلى "نبرة" وأردف قائال: ث ّم بسط جناحه
ّ
القصة كانت تنتهي بموت املحارب ،حيث سيقتله أحد األمراء غيرة عليها، -
َ
وألن األميرة "نبرة" تكره هذا وتخشاه ،والصفقة هنا أعرضها عليك بنفس ي،
ّ َ
فأنا لي مكانتي بين باقي الصقور .األميرة "نبرة" تعرض عليك أن تسلمها
معا قصتك ما على صفحاته بدماء جرح بسيط الكتاب بنفسك ،وتكتبا ً
ّ
على كفيكما ،وتسلمك نفسها وتسلمها نفسك ،ليخلد حبكما إلى األبد.
ً
ساخرا: ّ
حرك "أنس" رأسه وقال
-أتعني أن أتزوجها!
تطلعت إليه بنظرة كلها نداء وقالت:
ّ
الحب -وملاذا نتزوج! أنت تعلم أن زواجنا مستحيل ّ
ألنك محارب ،يكفينا
قال باشمئزاز:
حب هذا!! -أي ّ
قالت ّ
بتهدج:
-الحب ال يحتاج إلى زواج!
ً
غاضبا: قال
-ما هذا الهراء! أنت تخرفين..
239
َ
ثارت "نبرة" ومادت األرض تحت قدميها ،وبدال من أن تصرخ في وجهه
ً ّ
مبتعدا، غطت وجهها بكفيها وبدأت تبكي ،رفرف "القرناس" بجناحيه وحلق
َ
كان الصقر يفهم ما تقدم على فعله األميرة "نبرة" ،فانصرف وترك لها الساحة
لتكمل دورها ،بينما هرولت هي نحو "أنس" وقالت بخفوت:
صدق أليس كذلك؟ -أنت ال ت ّ
-أصدق ماذا؟
-أنني أحبك! ..أرجوك ...أنا أحبك!
ً
مستعجبا وهو يراقب عينيها شعر "أنس" بكارثة تظلله ،تراجع للخلف
املغرورقتين بالدموع وقال:
ّ
بالتوسل والرجاء ّ
الحب ال يأتي -
-لكنه يقع على اإلنسان بغير اختياره ،ال أريد منك سوى القرب ،دعني
أسكب روحي بروحك ،اسمح لي أن أحبك.
أنهت كلماتها وعادت تبكي ،كانت ماهرة في استجالب دموعها ،وبارعة في
توظيف إيماءاتها ونظراتها .أقبلت عليه فقال في صوت غائر كأنما ينبعث من
أعماق هاوية:
-اتركيني ..ابتعدي ّ
عني.
شعر "أنس" بالخطر عندما بدأ يتعاطف معها! وعندما بدأت كلماتها تؤثر
ً
فيه ،أسرع مهروال خارج البستان ،وعاد واألفكار تتناطح في رأسه .وكأن
عاصفة تجتاح نفسه فتحطمها وتوشك أن تحطم حياته كلها.
❐❐❐
ً
مختنقا ،في ضوء واهن لشمعة أوشكت أن تنطفئ ّ
وأطل القمر ّ
حل الليل
ويحترق فتيلها ،وكانت هناك ظالل صغيرة قد ظهرت وانعكست على األرض
يراقب أصحابها وجه "أشريا" .في ركن يلفه الظالم إال من بصيص مصباح
هوان وبجوارها ّأمها تمسح ً
صغير ،كان جبينها مغمورا بالعرق وهي تجلس في ٍ
240
شدت الغطاء الصوفي على جسد ابنتها رأسها باملاء من آن آلخر وهي ترتجفّ .
ٍ
املتكورة بجوارها قبل تسقيها الدواء..
خرج "أنس" ومعه ُ"كومبو" و َ"مرام" يتحاورون ،كان "أنس" قد ّ
قص
متعبا وكأنه خرج للتو من حرب،عليهما ما حدث مع األميرة َ"نبرة ،كان "أنس" ً
َ
مرت البومة البيضاء من فوقهم فصرخت َ"مرام" ،أخبرت "أنس" أن "نبرة" ّ
َ
تراقبهم وأخبرته عن تلك البومة وكيف تمنح "نبرة" رؤى ليلية وها هي ستنقل
ُ
إليها أنهم التقوا هنا ومعهم الكتاب ،الحق "كومبو" البومة وطاردها بالقاء
األحجار عليها حتى ابتعدت ،قرروا االنتقال مع "أشريا " وأمها إلى مكان أمين،
َ ً ُ
بعيدا عن أعين الناس ،وعن عيني "نبرة" حتى أم "كومبو" ذهبت معهم،
وبومتها قضوا ليلتهم غير مطم ئنين ،فالقلق يستبد بهم على "كلودة" املسكين،
أمرا لم تستحسنه أمها لهذا قاومتهم ً
كثيرا وكان االنتقال بـ"أشريا" وهي مريضة ً
َ ً
لكنهم في النهاية اضطروا إلى هذا ،خوفا من حراس "نبرة" .وكانت "أشريا" ال
الحمى ،لم يخرج أحد منهم ،وكانوا الثالثة "أنس" و َ"مرام" و تزال تعاني من ّ
ُ
"كومبو" يفكرون في طريقة للوصول إلى "كلودة" ،قرروا أن يحاولوا الذهاب
سيرا على األقدام في اليوم التالي ،ف َـ"مرام" تعرف الطريق إلى القصر ،ور ّبما ً
تسطيع مساعدتهم للتسلل من أحد األبواب .أرخى الظالم ستره ،وسكنوا حيث
َ
هم ،وبعد أن عانت "نبرة" طوال الن هار من نفسها التي تتقلب بين جنبيها
حبا وباتت مغرمة به ،وقد بدأ ذاك وعاودت البكاء ،فقد شغفها "أنس" ً
الشغف منذ رأته بعيني بومتها في الغابة.
تمزقت من قميصه ،كانت تشمها ّ
وتقبلها. خرجت ومعها تلك القطعة التي ّ
وصلت في مكان ما حيث اجتمعت زمرة من النساء غليظات املالمح ،لديهن
أجساد ضخمة ،ووجوه كستها صفرة كالحة .ساهمات الخدود ،ك ّأنما تدلين ُ
حلقة حول ً على األرض من مشنقة .جلست ّ
كل منهن بجوار األخرى وشكلوا
َ
األميرة "نبرة" ،وعليهن ثياب سوداء طويلة مطبوع عليها رموز خضراء وصفراء
فاقعة ،كتابات غريبة ترمز لش ىء ما!
َ
ذهبت إليهن "نبرة" حيث أخبرتها الوصيفة أنهن سيساعدنها على استجالب
وأنه سيغرم بها إن نادت عليه الليلة وهن يرتلن ترانيما الحب لقلب "أنس"ّ ،
معينة بينما تعقد كبيرتهن عقدة على قطعة من قميص "أنس" الذي يحمل ّ
241
َ
عرقه .وكانت "نبرة" تؤمن ّأن السحر هو الحل! فقد فشلت في إغوائه بجمالها،
مرة أمام رجل! وهي التي ال يصمد أمام جمالها الرجال! فشلت ّ
ألول ّ
ّ
من خلفهن كان هناك بعض الغلمان يعلقون الطبول على رقابهمّ ،أما
مجوفة تصدر ًّ استقرت بين أيديهن أوعية من ّ
ّ
دويا الفخار النساء الغالظ فقد
مكتوما عندما يطرقونها بكفوفهن .رفع زعيمهم عصاه فبدأ القرع على الطبول ً
بانتظام ،امتزج صوت قرع الطبول بأصواتهم الغليظة ،همهم الرجال وهم
ُ
أجراسا نحاسية في أيديهم ،ث ّم بدأت النساء بترديد ترانيم حزينة،
ً يقرعون
َ
كان للصوت وقع مهيب ومخيف ،بدأت الترانيم تتغير لنبرة غاضبة ،وتسارع
ّ إيقاع القرع على الطبول واألجراس ،بدأت َ"نبرة" تنفعلّ ،
اهتز جسدها كله
التفت حولهاوكأنها ُأصيبت بصاعقة من السماء ،وبكت بنشيج مسموعّ ، ّ
ٍ
حركن رءوسهن وأكتفاهن بطريقة بعض النساء وقمن بحركات منتظمةّ ،
ّ َ غريبةّ ،إنها رقصة ّ
النار ،شهقت "نبرة" ثم قالت بصوت مخنوق وكأنه يصدر
بئر عميق ،وقد نبع من س ويداء قلبها: من ٍ
" -إيكادولي"
تعالت أصوات النساء يردون عليها بنفس الكلمة ،مصحوبة بنغمة حزينة:
" -إيكادولي ......إيكادولي"
حن معها ويستجلبن البكاء، كانوا يطيلون الصوت بالحرف األخير وكأنهن َي ُن َ
مرات ّ
ومرات ،دموعها فشيئا ،بدأت تصرخ كاملذبوحةّ ، ً عال صوت َ"نبرة" ً
شيئا
ضمت يديها لصدرها ،كانت رغبتها الجامحة إليه تستنفض أغرقت وجنتيهاّ ،
ّ
على وجهها ،وتسوقها في عنان الغيظ ،دارت حول نفسها وكأنها غابت عنهم،
ً
متقوقعة ّ
وكأنها تتلقى طعنة في فؤادها، حتى انهارت وغرقت في يأسها وانحنت
تلوت من األلم ،سقطت على األرض وهي تكررها "إيكادولي....إيكادولي" ،بينما ّ
ُ ً
كان "أنس" في مكان آخر مشغوال بحديثه مع "كومبو" شعر ّ
وكأن أحدهم غرز
يتقدم ببطء كما لو كان بصدد في قلبه شوكة .حاول الوقوف على قدميه ،بدأ ّ
ُ
غطسة انقطع نفسه لها ث ّم غاب عن الوعي فجأة.
❐❐ ❐
242
()21
سحر!
ّ
الحس تجيء به الخواطر لم ينم "أنس" تلك الليلة ،كان شارد اللب ذاهل
وكأنهم أخيلة تتراقص ،وأشباح تضطرب ،كان وتذهب ،يرى الناس حوله ّ
ُ ّ
وال يعرف فيها
ّ فينكرها وأمها و"أشريا" ه، و"كومبو" ّ
وأم يتصفح وجوه َ"مرام"
ّ ر َ
وجها! كانت صو ة "نبرة" تتمثل أمامه بزينتها ،صوتها كان يهمس في أذنيه نفس
الكلمة التي كانت تصرخ بها وسط النساء وهي تتلوى" ...إيكادولي" ،حتى عندما
أغمض عينيه رأى عينيها أمامه ،رائحة عطرها التي عرفها يوم رآها كانت
تخترق أنفه! انفصل عن الواقع وبدا ّ
وكأنه قد ُسلب عقله!
ُ
سأله "كومبو" باهتمام:
-ما بك يا "أنس"؟
ابتسم ابتسامة ممزقة ُيخالطها األس ى ،وقال:
ّ
-أشعر وكأني لست أنا!
-رّبما أصابتك ّ
الحمى.
ُ تحسس رأسه فانتفض "أنس" وأبعد ّ
كفه بانزعاج ،تراجع "كومبو" ورمقه
ُ
بنظرة فاحصة ث ّم قال:
تود أن ُتخبرني به؟
-هل هناك ش ىء ما ّ
ُ
باضطراب ووجل طاف "أنس" بنظراته في املكان ث ّم قال:
-ال...ال...ال يوجد ش ىء.
243
ً ُ
متمتما بصوت متقطع: ث ّم أردف
َ ُ َ
" -نبرة" ....أريد "نبرة".
ُ
فغر "كومبو" فاه وقال باندهاش:
َ
-نبرة!
ُ
-نعم ...أريدها!
ُ
أغمض "كومبو" عينيه وحاول أن ُيعيد أفكاره إلى نصابها ..اقتربت أم
ُ
"كومبو" وكانت تراقبهما ،قالت وهي تشير إليه بأصابع ترتجف:
ّ -إنه مسحور...
ُ
قال "كومبو":
-كيف؟ كيف يا أمي؟
-أال ترى عينيه! ..وكيف يردد اسمها!
قال ُ"كومبو" ّ
بتوتر شديد:
ًّ
ممزقا يا أمي ،وعندما سألته عنه و طلبت منه -قميصه! نعم..قميصه كان
املمزق ألرقعه له أخبرني بما حدث وقال إنه ترك الجزء املقطوع الجزء ّ
ً َ ّ
سحرا. وراءه هناك ،ال بد أن الخبيثة "نبرة" أخذته وعقدت عليه
خرج "أنس" من البيت القديم الذي كانوا يختفون فيه ً
هائما على وجهه،
يتحدث إلى َ"مرام" ،ركض وهو يترنح نحو السهول حول بيت ّ حتى ّأنه لم
ُ
"كلودة" ،والحقه "كومبو" الذي صاح فور أن رآه يتجه إلى هناك:
-كنت فريسة سهلة ،انشغلت بخنجرك وانتقالك عبر الفجوات ،وكتابك
كل هذا هباء إن لم العجيب ،وأصابك العجب بنفسك ،نسيت ّأن ّ
تستعصم باهلل!
ً
قال له هذا محاوال أن يكبح جماح تلك الوساوس والخواطر التي تجتاح
ّ
منكسرا بحلق جاف ووجه ملتهب وهو ُيردد:
ً صديقه الذي كان يقف أمامه
244
-وماذا سأفعل اآلن ...ساعدني.
-ماذا تريد؟
َ
-أن أذهب إلى "نبرة"
-لن تذهب! ولن أتركك.
ُ دفعه "أنس" بعنف ،وصارعه للحظات ،كان أكثر منه ّ
قوة فتراجع "كومبو"
ّ ّ ً
قليال ثم ّ
ويحدثه ،قال يذكره: ظل يالحقه
-أترى؟ أنت اآلن تفعل ما كان يفعله "كلودة".
-ال
-أنت تسعى إلى الرذيلة.
-ال ...أنا سألتقي بها فقط ،سأتحدث إليها.
-عد يا "أنس" أرجوك ،أفق قبل أن ّ
تتمزق هيبتك
طالعة "أنس" بعينين محتقنتين وقال صار ًخا:
-اغرب عن وجهي.
ّ
اعترضه "كومبو" بصدره وثبت ساقيه باألرض وقال له:
ً
-إذن ...تخطني أوال إن أردت صعود ذلك السهل.
ُ ووقف ُ"كومبو" مكانه ولم يتزحزح قيد أنملة ّ
وظل يدفعه ويمنعه ،ث ّم
ُ
أرهق كالهما من دفع اآلخر له ،هرب "أنس" من "كومبو" الذي كان يالحقه
ً َ
سريعا ويمنعه من الذهاب لـ "نبرة" ،حاول أن يستخدم الخنجر ليصل إليها
وجرب أن يردد اسم القصر، وحركه في الهواء ،ظهرت الفجوة فوقف أمامها ّ ّ
َ
وجرب أن يردد اسمها" ...نبرة"ّ ، ّ
لكن الخنجر لم ينقله إليها!
ُ ُ وملّا ّ
مل من مالحقة "كومبو" له انتقل إلى الغابة ،فأسرع "كومبو" وأخبر
َ"مرام" بما حدث ،فهي وحدها تستطيع الدخول إلى الغابة .كانت َ"مرام"
متعرجة وبال هدف تركض خلفه محاولة اللحاق به ،بينما كان يسير بخطوات ّ
245
وكأن هناك من يسوقه بحبل ،وصلت ً
أخيرا حيث استطاعت وسط الغابةّ ،
أن تنادي عليه فسمعها والتفت ورمقها بعينين ذابلتين وسألها في حنق:
-ماذا تريدين.
ّ
كانت أنفاسها املتالحقة تمنعها من الكالم ،دقات قلبها كانت تتواثب بسبب
ركضها املتواصل من بيت "أشريا" وحتى مكان "أنس" ،بصعوبة قالت:
-ال تذهب إليها يا "أنس" ..أرجوك.
-ال أستطيع ،ال ّبد أن أراها.
-ال...ال
بغضب هادر: ً
غاضبا كما لم يفعل من قبل وقال صرخت فالتفت إليها
ٍ
مرة أخرى تصرخين؟ ...هيا انتحبي بالبكاء واضربيني بغصن شجرة ّ -
كاألطفال..
كانت َ"مرام" تدرك أنه ليس "أنس" الذي تعرفه ،حاولت أن تتماسك
وقالت بهدوء:
-أنت لست بوعيك يا "أنس" ،أرجوك عد معي وسنحاول الخروج من تلك
األزمة ً
معا.
-عودي أنت واتركيني ،أو سيري في الغابة وحدك..
-أرجوك يا "أنس".
-ابتعدي عني.
مبال بنداءاتها
دفعها فسقطت على األرض بينما أكمل طريقه غير ٍ
املتتالية ،صاحت قائلة:
"َ -نبرة" ال تحبك ..ذاك ليس ًّ
حبا يا "أنس" ،وأنت ال ّ
تحبها
-ومن أخبرك أنني ال ّ
أحبها؟
246
انسحقت روحها وقالت بخفوت:
-أنا أعرف.
قرأت أفكاري؟
اك؟ هل ِ -وما أدر ِ
ً
ساخرا وقال: ّثم ضحك
-هل عادت لك تلك املوهبة؟
وقفت وسارت نحوه بهدوء وقالت وهي ّ
تحدق في وجهه بعين منطفئة:
-لم أقرأ أفكارك ...لكنني شعرت بك!
حرك عيناه كاملجنون وقال:ّ
-أنت ال تعلمين ً
شيئا يا َ"مرام" ،عودي إلى الغابة ،إلى "ناردين" واتركيني
لحالي.
رفعت صوتها قائلة:
َ
" -نبرة" تريد الكتاب" ..إيكادولي" وفور أن تحصل عليه ستقتلك.
مخيفا ،بحركة فجائية عنيفة أخرج "أنس" ً صارت عيناه تقدحان شر ًرا
ً
الكتاب والتفت نحو َ"مرام" وألقاه في وجهها فأحدث الكتاب خدشا بطول
خدها األيمن وسقط أمامها على األرض ،تحسست وجهها وكان الخدش ّ
يحرقها ،كادت تبكي لكنها تماسكت ،قال دون أن ينظر إليها:
َ
-أنا ذاهب ألجلها ...ألجل "نبرة" ،خذي الكتاب واتركيني لحالي.
لكنه كان في حالة من الهوان فع خنجره في الهواء ،أ اد أن يقول ً
شيئا ّ ر ر
ً ّ
والضعف حتى أنه لم يتمكن من نطق حرف واحد ،كان غارقا في غياهب فكره
ّ
وتحلت بالشجاعة واستجمعت ّ
كل وكأنه قد ُش ّل فجأة ،اقتربت َ"مرام" بسرعة
وحدقت في الفجوة وهي تتالعب أمامهما في الهواء ما لديها من قوة وعزيمة ّ
وقالت:
ُ
-البيت القديم مع "كومبو".
247
ُث ّم دفعته بأقص ى ّ
قوة أمامها فالتقمته الفجوة ،وقفزت خلفه ّ
ألول م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّرة
ُ
تبتلع خوفها من أجل إنقاذه ،وفور أن وصال ورآه "كومبو" حيث كان
ّ
وصب ينتظرهما وهو في غاية القلق أمسك بـ"أنس" وأسنده حيث كان ّ
يترنح
على رأسه املاء ،فهدأ "أنس" وقال له بخفوت:
-ساعدني أرجوك.
ً
جاهدا أن يظهر رباطة جأشه ليثبته وقال له: ً
مبتسما وحاول رمقه
عبد ضعيف الحيلة إن لم َ
تقو أنت على األمر بنفسك. -ما أنا ّإال ٌ
-أرجوك....
-ولم ُ
ترجون ي يا "أنس"! وما أملك لك أنا! اطلبها من هللا!
ً
مسحوقا مكسو ًراّ ، ّ
مرت الدقائق ثقيلة عليه ،كان خر "أنس" على ركبتيه
ّ
يقاوم رغبة تنازعه وتدفعه للركوض إليها ،وكان جسده يؤمله وكأن هناك من
كل جزء فيه بمطرقة من حديد ،وقفت َ"مرام" تبكي وهي تراه في تلك ّيدق ّ
الحالة ،غربت الشمس فاضطرت لتركهما ،قبل انصرافها قالت له:
" -أنس" سأرحل اآلن ،أرجوك تماسك.
-ساعديني.
-ليتني أستطيع.
نخر الحزن قلبها بال هوادة ،أرادت أن تخبره ّأنها ّ
تحبه ،كانت تغربل ذهنها
ضلت الطريق إلى ّ ّ باحثة عن كلمة ّ
تبث فيها ما تشعر بهّ ،
كل املعاني لكنها
والكلمات! وأرادت أن تطلب منه أن يحفظ نفسه لها فكل راجفة من رواجف
قلبها تهتف باسمه ..لكنها ال تستطيع أن تخبره ّ
بكل هذا!
ّ ّ
وتكلم ّ ً
كل ش يء فيهما دون أن يتكلما، ضجيجا في نفسه، أحدث صمتها
ّ
وانصرفت تمش ي على استحياء تجر قلبها املمزق خلفها ،وعادت حيث "أشريا".
الزمه ُ"كومبو" ولم يفارقه ،تعاهدا على اجتياز تلك الضربة القاسية ً
معا ،قرر
ّ ُ ّ
أال يتركه ،وقف "كومبو" يقلب األفكار في رأسه ،األحداث تتسارع ،ال ّبد أن
248
يزول أثر السحر ،بينما هو غارق في االحتماالت ّكلها زفر "أنس" ّ
وكأن روحة
تتفلت من بين جنبيه وقال بعد جهد شديد:
قيدني يا أخي. ّ -
قيدك يا "أنس"؟ -ماذا! ..لم ُأ ّ
ّ
ثالثة أيام بلياليها مضت تملس على بعضها البعض ،بنهارها العكر وليلها
ُ ً
وأخيرا جلس "كومبو" أمامه بابتسامة متعبة حزينة ،عندما شعر أن البهيم،
مرة التقى به فيها ،كان "أنس" ثابتاً
"أنس" قد استرد نفسه التي رآه بها ّأول ّ
ً
ساكنا بعد أن داس على الشهوة التي كانت تتأرجح في صدره مخافة ربه.
أراد "كومبو" أن يخبره بما دار خالل األيام الثالثة املاضية ،حيث كانت
تحمل الكثير من األلم ،فقد داهم الحراس ذاك البيت القديم الذي كانوا
يختبئون فيه ،سرقوا الكتاب "إيكادولي" من َ"مرام" ،وأسروا َ"مرام" عندما
تعرف عليها أحد الحراس حيث كان بصحبة "حليم" عندما اشترى الجواري ّ
ُ
وكانت من ضمنهم ،عادت "أشريا" مع أمها لدارهما ،ما زالت أم "كومبو"
ُ
تالزمهما .أنهى "كومبو" سرد التفاصيل على "أنس" ،ووضع أمامه خنجره وذاك
مرةتحولت إلى قطع فحم ّالكيس الذي يحتوي على قطع الكريستال التي ّ
ّ ُ
أخرى ،وبجوارهما بسط الخريطة التي أعطتها "الحوراء" ألنس ،ثم خلع قالدة
"أنس" وأعادها له فقد كان يرتديها ألن "أنس" كان قد ألقاها على األرض في
املرات ،وأخرج من جيبة الزجاجة الزرقاء الصغيرة وقال وهو يطرق إحدى ّ
عليها بأطراف أصابعه:
أسود املعتق ،نوع نادر مصنوع من مسحوق حجر -ذاك نوع من الحبر ّ
ٍ
نفيس ما عاد يصنع اآلن ،أظنه معك لسبب وجيه.
-ظننته دواء!!
همس " أنس" بكلماته األخيرة وهو في حالة انهزام نفس ي وهوان شديد،
أشفق عليه ُ"كومبو" فانطلق ّ
يحثه ويشجعه:
-هيا يا "أنس" ،قم أيها املحارب ،ال بد أن تستعيد كل ش يء.
250
-وكيف هذا؟
ّ
-فكر ،فما كان "إيكادولي" ليختارك إن لم تكن أهال السترداده ،أشعر أنك
اقتربت من النهاية ،ستسترد الكتاب ،وتحرر "كلودة" ليعود لعروسه،
وتنقذ َ"مرام" من أيديهم.
ُ
ران عليهما صمت ثقيل ،قطعه صوت "كومبو" الذي حاول أن يخرجه من
شروده عندما أشار إلى الخريطة وهو يسأله:
-ماذا تعني تلك األرقام التي على الخريطة؟
ً
كل بقعة في الخريطة ،كان يحكي موقفا ّ
مر بهم بدأ يقرؤها وهو يشير إلى ّ
معا هنا وهناك ،وهناك .وبينما يتحدث بعفوية كان "أنس" ينظر في الخريطة،
وثب فجأة وقد بدأ يتضح له ش يء ما! تلك األرقام تعني الكثير ،وهي املفتاح،
وقف وقد بدت في عينيه نظرة واثقة والح على شفتيه شبح ابتسامة ،فسأله
ُ
"كومبو"بفضول:
شيئا ما؟ أليس كذلك؟ -أشعر أنك اكتشفت للتو ً
ُ
-بلى ،أنت رائع يا "كومبو".
يحرك خنجره في الهواء ،تارة يقولقالها وطلب منه أال يغادر مكانه ،وبدأ ّ
قصر "الحوراء" ،وتارة يقول الغابة ،وتارة يقول بيت كلودة ،كان يختفي
ً ً ُ ُ
ومخيفا لدقائق ث ّم يعود وينبثق من الهواء ،وكان األمر يبدو لـ"كومبو" مضحكا
في الوقت نفسه.
ويتحدث مع "الحوراء" و"سامي كول" و"املغاتير" ّ وبينما يتنقل "أنس"
والعجوز "ناردين" و"املجاهيم" ،وخالل فجوة منهم ظهر له فجأة "شهاب"
وجذبه من قميصه بعنف إلى بيته الذي زاره فيه بالغابة والذي لم يعثر عليه
غاضبا للغاية ،ألصقه بالجدار وغرس عينيه في عيني "أنس" ً ّ
مرة أخرى ،كان
وصرخ في وجهه قائال:
شيئا ّأيها األحمق؟ أنت مجرد حرف ال قيمة له..أنت ستغير ً ّ -أتظن ّأنك
مجرد عالمة ،رمز ال يلتفت إليه من يعيش هنا ،وجودك غير هام ّ
باملرة، ّ
أنت ال ش يء ...ولن تغير شيئاً.
251
-ما كنت ّ
ألغير املاض ي ،أنا فقط سأجاهد لكي أستعيد الحقيقة كما كتبها
صاحبها ّأول ّ
مرة.
-أنت أضعف من أن تعيد الحروف ،وعقلك أضيق من أن يستوعب تلك
الكلمات ،أنت بال فائدة.
يقرب بين معنيين، ً
وضوحا ،حرف عطف ّ -سأكون عالمة ترقيم تزيد املعنى
وفاصلة تفصل بين كذبتين ،ونقطة تنهي بعض الجمل املؤملة ،وعالمة
استفهام بعد سؤال بليغ ،ور ّبما قوسين ّ
يضمان الحقيقة التي أؤمن بها ،أو ٍ
ً
قوسا يغلق جملة ما فينهي حقبة بأكملها!
-لن تفعل يا "أنس".
-بل سأفعل إن شاء هللا يا "شهاب".
-مستحيل.
كل ش يء ممكن طاملا ّأنك تسعى وراءه وتطلبه.
ّ -
-لن تستطيع.
-راقبني إذن.
-سأراقبك ...ولن أسمح لك بإفساد ّ
كل ش يء.
ُ ُ
أفلت منه "أنس" وغاص في الفجوة ،ث ّم عاد إلى حيث كان "كومبو"
ً
مستلقيا على األرض ينتظره ،سأله بملل وهو يتثاءب:
-ملاذا ّ
تأخرت هذا ّ
املرة يا "أنس"؟
بصوت واثق ونظرة ثاقبة سحبه من ذراعه وقال له:
ً ُ
جميعا إلنقاذ -اآلن يا "كومبو" ستنتقل معي خالل الفجوات ،وسنذهب
"كلودة" َ
و"مرام" ،هل أنت مستعد؟
252
ُ
ازدرد "كومبو" ريقه بصعوبة ،وهمس بخفوت:
-أنا مستعد.
ّ ّ
وأطل منهما بريق روح املحارب التي تسكنه: قال "أنس" وقد تألقت عيناه
-اآلن نعالج األمور على طريقة عاملكم العجيب بإذن هللاّ ،
هيا بنا.
حرك "أنس" خنجره في الهواء ،فانبثقت فجوة تتالعب وتموج ألوانها في ّ
ُ ً ُ
ساحبا معه صديقه "كومبو". بعضها البعض ،ث ّم دلف فيها
❐❐❐
253
()22
روح احملارب
كانت العجوز "ناردين" جالسة أمام كوخها عندما ظهر "أنس" وبصحبته
ومد يده فأعطته عكازها الذي حياها بإجالل ّ ُ"كومبو" من خالل فجوة أمامهاّ ،
ً ّ ً وكأنها تسلمه ًتتكئ عليهّ ،
وساما! كان عكازها يعني لها عظيما أو تقلده شيئا
الكثير ،غصن شجرة غل يظ ومتين سحبته يوم ألقت بها زوجة ابنها في الغابة،
كانت تنصت ألنينه ،وينصت لهمساتها ،يؤنسها الغصن وتستأنس به ،ومنحها
بحة لطيفة:عظيما .قالت بصوت مرتعش تصاحبه ّ ً ً
سرا
ُ
-ال تنس يا "أنس" ،ثالث طرقات ثم انتظر ،وأتبعهم بطرقة وسيكونون طوع
أمرك.
يحرك خنجره في الهواء ،انتقال إلى قصر "الحوراء"، حياها بحبو ٍر ،وعاد ّ
ُ
كان "كومبو" يرتعد ،تلك كانت أول مرة يرى فيها "املغاتير" ،كانوا يقفون في
صفوف منتظمة وهم يمتطون خيولهم بكبرياء وعلى رء وسهم قلنسوات زرقاء
تلثموا بمناديل بيضاء تخفي مالمحهم عن الناظرين ،توقفوا أمامه وترجل وقد ّ
ً أحدهم ً
مقتربا من "أنس" ّ
وحياه بوقار قائال:
-طوع أمرك أيها املحارب.
كان ذاك الزاجل األزرق" ،والذي كان لحضوره أثر عميق في نفس "أنس"،
مرة سابقة من تلك ّ
املرات التي كان تحدث معه في ّفقد شعر بالطمأنينة بعدما ّ
ً
يلج فيها خالل الفجوات منتقال إلى القصر .رفعت "الحوراء" يدها وأصدرت
حرك "أنس" خنجره في طبقات الهواء وردد اسم قصر لهم األمر ،وفور أن ّ
ً
امللك " ِكمشاق" ..انبثقت الفجوة ،وبدأ املغاتير يقفزون فيها واحدا تلو اآلخر
ُ
بخيولهم ،تبعهم "أنس" ومعه "كومبو" وعندما اطمأن أنهم يقفون على
254
قريبا من القصر ترك ُ"كومبو" معهم وانتقل من خالل فجوة أخرى السهول ً
حيث "املجاهيم" ،وطلب منهم األمان ،وتعاهد معهم أن ينقلهم من خالل
فجوات خنجره إلى حيث يستطيعون السيطرة على ما تحت أرض قصر امللك
ِ"كمشاق" ،لتتوسع مملكتهم ،فتلك هي الطريقة الوحيدة لكي يتمكنوا من
عبور الفاصل الحجري الذي يحبسهم في الغابة وبسببه ال يخرجون منها،
مقابل أن يعينوه على اقتحام القصر وتحرير صديقه "كلودة"َ ،
و"مرام" التي
ً كان ّ
يتحرق شوقا لالطمئنان عليها ،وافق زعيم "املجاهيم" ،وأعطاه األمان له
ولرفاقه وللمغاتير ،فسمح لهم "أنس" باالنتقال عبر الفجوة ،لم يرهم "املغاتير"
ُ
وال "كومب و" ،لكنهم سمعوا أصواتهم فقط بجوارهم فأصابهم الرعب الشديد
كل مكان ،لكن "أنس" وحده كان يستطيع رؤيتهم ،في وقد كانوا حولهم في ّ
الجهة املقابلة غير بعيد ظهرت كوكبة من الفرسان يتقدمها أحدهم يبدو كأنّ
عظيما بينهم ،رّبما فارس عال املرتبة ،كان وشاحه من قماش فخم ً له ً
شأنا
محفور بفراء ثمين مختلف ومميز عن بقية الفرسان ،كان ذاك "حليم" يستعد
للدفاع عن قصر امللك الذي يفديه بحياته ،والذي يثق به ثقة عمياء ،فقد
أربكهم ذاك الحشد وهو يقترب.
كان فارع الطول ،له وجه يشع مهابة ،ينفث الرعب في قلب أي غريب.
ُ ً
وحيدا بجواده ث ّم توقف ،استعار "أنس" جواد "الزاجل األزرق" وامتطاه تقدم
ً
بقفزة واحدة ،وسار وحيدا حتى وقف في مواجهة "حليم" الذي أومأ يحييه
وقال:
املرة السابقة ،ليتني ثقبت قلبك ولم أستمع لنصيحة األميرة -هربت مني ّ
َ
"نبرة".
-كان من حسن حظي أن حررتني بنفسها من أسرك لتنكشف لي نواياها.
-ماذا! أنت كاذب!
حراسها الذين يالزمونها ،واسألها ً
أيضا عن -لست بكاذب ،ولك أن تسأل ّ
كتاب "إيكادولي" فهو معها اآلن.
-أنت كاذب!
255
-أنا ال أكذب ،وأستطيع أن أكشف لك الحقيقة كلها ،وما ال تعرفه ً
أيضا!
ولتعلم أن اقتحامنا للقصر سيتم ال ريب! وسأكون بعد قليل في ديوان
امللك ،وسأضرب عنقه.
شهر "حليم" سيفه وقال وهو يشير إليه به:
-لن ّ
تمر ...سأقتلك قبل أن تفكر في األمر.
ُ ّ
تفحص "أنس" بهدوء مالمح "حليم" ،ث ّم قال له:
-أتذكر عندما سألتك عندما وقعت في أسرك عن أي عام نحن فيه؟
-نعم ..أذكر.
ً
حسنا ...إلى أي حد أنت مغامر؟ -
-ماذا تعني؟
ّ
-لو رأيتني أقفز في الهواء بجوادي هذا خالل فجوة معلقة في الهواء ،هل
ستقبل أن تقفز إليها بجوادك خلفي؟
ّ ً ُ
متحف ًزا: تردد قليال ث ّم شدد قبضته على سيفه وقال
-ولو قفزت للجحيم سأقفز خلفك.
ابتسم "أنس" بعد أن سمع جملته األخيرة ،وتراجع بجواده إلى الخلف
حرك خنجره في الهواء وقال "مملكة الجنوب" ...ثالثة وعشرون... خطوتين ُث ّم ّ
ّ
انبثقت الفجوة وتعلقت في الهواء ،التفت نحو "حليم" ودعاه ليتبعه ،وقفز
ُ ً
مترددا للحظات ،ث ّم قفز واختفى كالهما خاللها قبله ،وخلفه وقف"حليم"
ُ لوقت تعدى النصف ساعةّ .
ظن املغاتير أن "أنس" لن يعود ،ووقف "كومبو"
وأخيرا عاد وكأنه يقفز من رحم الهواء وتبعه "حليم" ،دارً يقرض أظافره،
ّ ُ
وجيز كان
ٍ كالهما حول اآلخر بفرسه ،ثم توقف "حليم" ونكس رأسه لوقت
كافيا التخاذ أهم قرار في حياته ،قالها بثقة وهو ّ
يحدق في رأس جواده: ً
-كما اتفقنا ...اتركه لي يا "أنس" ،واهتم أنت بصديقك.
256
قال "أنس":
َ -
و"مرام"؟
-عندما تنقذ صديقك ،وعندما أفعل ما ّ
علي أن أفعله ،سأقلب القصر
ً
بحثا عنها ،وسأنقذها بنفس ي.
-كلمة شرف؟
-نعم أيها املحارب ..كلمة شرف!
دهشة
ٍ حدث ّ
كل ذلك و"املغاتير" و"كومبو" وحتى "ا ملجاهيم" كانوا في
شديدة .تراجع "حليم" وأمر الجنود بالبقاء في أماكنهم على بوابات القصر
وفوق سطحه ،ودلف إلى داخل ديوان امللك ِ"كمشاق ،وعلى عينيه تستقر
ّ
نظرة غريبة .كان "أنس" يلملم شتات فكره ،ويحاول التركيز على إنجاح خطته،
يحرك خنجره في الهواء ،كانوا يفدون بقي أن يستدعي الصقور ،وقبل أن ّ
ّ
أفواجا ف وقهم حتى أظلمت السماء ،تحرك "املغاتير " وتبعهم "املجاهيم" ً
وأحاطوا القصر من جهاته األربعة ،وارتفعت الصقور فوقه فحجبت ضوء
الشمس عنه فارتج امللك ِ"كمشاق" وحاشيته ،وخرج الجميع بأسلحتهم،
ّ
فاسودت نوافذه من الخارج ،وارتص الحراس بالنبال وغطت الغربان القصر
الرماة أوضاع التصويب نحو "املغاتير" ،ووقف جند القصر واتخذ عدد من ّ
شاهرين سيوفهم وحرابهم أمام البوابات ،وبدأ صدام عنيف.
❐❐❐
كان "أنس" يقف أمام القصر بثقة حيث رفع صوته وصرخ بأقص ى ما أوتي
ً
مناديا على امللك ِ"كمشاق" ،لم يخرج إليه أحد ،كان يمسك بعصاة من ّ
قوة
ُّ
العجوز "ناردين" التي سلمتها له ،رفعها في الهواء ثم ضرب األرض ثالث ضربات
ً متتاليات فأحدث ً
دويا خلع قلوب ّ
كل من بالقصر ،وانتظر قليال ثم قال :
-اخرجي بأمر هللا.
257
قوية فانغرست العصاة في األرض التي بدأت تنش ـ ـ ـ ـ ـق ُث ّم ضرب ضربة ّ
ّ
وتتفتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح جنباتها بسرعة ،وبرزت وشائج أشجار متشابكة ظلت ترتفع
ّ
وتتشابك وتسير كما تسير األفاعي هنا وهناك ،شلت أركان القصر ،وسحبت
ً ُ
جميعا الجنود والتفت على سيقانهم ث ّم سحبتهم لباطن األرض فابتلعتهم
محلقة ً ّ
بعيدا وسقط فارتبكت الغربان وانتفضت تتخبط في بعضها البعض
منها ما سقط .التفت تجاه "الزاجل األزرق" وتبادل معه نظرة ذات معنى
ُ
فاقترب منه ،ثم استدار نحو زعيم "املجاهيم" الذي دنا منه في الحال ،ثم أشار
ُ
للرمادي فاقترب ،كاد "كومبو" أن ينضم إليهم ،فقال له "أنس":
ُ
" -كومبو" انتظر أنت ،من أجل أمك و"أشريا" وأمها ،ولو لم أعد وكتب هللا
ل َـ"مرام" النجاة ،عاهدني أن تساعدها على العودة لقصر "الحوراء" إن لم
ُ
ينج أحد من "املغاتير" ليعود بها.
متأثرا حتى أن عينيه كفه ً أومأ ُ"كومبو" برأسه في صمت ووجومّ ،
شد على ّ
الضاحكتين امتألتا بالدموع ،خش ي أن يكون هذا الوداع! ووقف في رهبة
ً يراقب "أنس" الذي ّ
حرك خنجره في طبقات الهواء قائال:
-ديوان امللك ِ"كمشاق"
انبثقت الفجوة فدلف منها "أنس" مع "الزاجل األزرق" و زعيم " املجاهيم"
الذي ال يراه إال "أنس" ومعهم الرمادي ،فوجيء امللك ِ"كمشاق" ومن حوله
بظهورهم أمامهم ،كان أول ما روع "أنس" هو رؤيته لـ"كلودة" وهو معلق من
قدميه ،كان الساحر "قرجة" يجلس تحت رأسه ،وبين يديه كتاب "إيكادولي"،
يستعد لكتابة أول عبارات فيه على طريقتهم بدماء كلودة بعد أن يثقبوا قلبه،
اهتزت يدها عندما رأت "أنس" ،لكنهاوكانت َ"نبرة" تمسك بسهم وتستعدّ ،
عادت تطالعه كذئبة جريحة ما زال بها بعض خبث ودهاء ،كان الغل
والغضب يطغى على مشاعرها ،إن لم يكن هو لها ،فالكتاب سيكون!
ُ
وإن كتب على صفحاته باسمها واسم أخيها وعلى شريعتهما التي تكفر بكل
ش يء إال ملكهما ،فذاك سيجعل "أنس" ً
أسيرا لديها ألنه فشل في استرداد
كتابه ،ستسيطر على كل ش يء ،هكذا كا نت تظن ،أسرعت نحو "كلودة"
ورشقت السهم في قلبه ،فصرخ صرخة مدوية وبدأت الدماء تسيل منه ،وبدأ
الساحر يجمعها في إناء صغير و يكتب بها في صفحة من الكتاب ،بينما وقف
258
ويحركه ً
مهددا في الهواء أي شخص يفكر سيفا ّ الجثة يحمل ًأمامه جل ضخم ّ
ر
مطلقا إشارة الهجوم فانقض ً في االقتراب من الساحر ،صرخ "أنس"
واحدا تلو اآلخر وفور أن رأى املغاتير سقوط ً "املجاهيم" على بقية الجنود
الجنود أمامهم ،انطلقوا وبدأوا يقتحمون القصر بالتدريج ،بينما انقض
"الزاجل األزرق" على الفارس الذي كان يحمي الساحر وهو يكتب وبارزه حتى
جندله بسيفه وصرعه فأحاط به آخرون ،استمر يضرب ويجندل ،وحوله
زعيم " املجاهيم" يصرع بعضهم هنا وبعضهم هناك يخنقهم ويحبس أنفاسهم
مقتربا من الساحر وضربه ضربة ً ،من بينهما وهما يساعدانه تسلل "أنس"
ّ ُ
بالسيف فقطع ذراعه التي كان يكتب بها ،ثم قطع الحبال التي كان "كلودة"
يتألم وبدا ّّ ً
وكأنه يلفظ أنفاسه األخيرة ،نظر معلقا بها من قدميه ،كان "كلودة"
إليه "أنس" فألفاه ساكن األطراف ،شاخص البصر ،وصدره يرتفع وينخفض
واستل خنجره وحركه في الهواء لينتقل به إلى ّ وشفتيه تختلجان ،فالتفت
الغابة حيث العجوز "ناردين" ،وسحبه معه خالل الفجوة ،هرولت العجوز
تجاههما وفور أن رأت "كلودة" شهقت وانحنت تتحسس السهم املرشوق في
قلبه ،رفعت عينيها تجاه "أنس" وقالت له:
-هل أحضرت الزجاجة التي سألتك عنها؟
ُ -نعم ..ها هي ،ولكن هل أنت على يقين مما أخبرتني به؟ لقد أخبرني
"كومبو" ّأنها حبر ّ
معتق!
ُ ابتسمت العجوزّ ،
وهزت رأسها بثقة ،ثم سحبت زجاجة الحبر الزرقاء من
ُّ ً
قربتها ألنفها ّأوال ّ
يدي "أنس" ،وفتحتها بحرصّ ،
وشمتها ثم قالت بصوت واثق:
-اآلن يا "أنس"
َ
قبض "أنس" على السهم الذي رشقته "نبرة" في قلب "كلودة" ،وانتزعه
بقوة ،فانفجرت الدماء من ال جرح ،كانت الدماء حالكة السواد! ار ّتج قلبّ
ّ ً
"أنس" فزعا وهو يراها تسيل ،وضعت العجوز كفها عليها وهمست:
-يكفي ..يكفي.
فتوقفت الدماء عن السيالن وبدأت تقطر من الزجاجة داخل الجرح
نقطة نقطة ،ورفعت رأسها تجاه "أنس" قائلة:
259
وعد لتنقذ َ"مرام" ،فلن أستطيع عالج جراحها
-اتركه اآلن وال تقلق عليهُ ،
هنا!
حرك خنجره في الهواء وعادانتفض "أنس" وشعر بالخوف يعتصر قلبهّ ،
َ
لقصر ِ"كمشاق" ،كانت املعركة ما زالت مستمرة ،وكانت "نبرة" والتي كانت
سوادا على األرض وتكتب بنفسها فيً تكفكف دماء "كلودة" التي استحالت
كتاب "إيكادولي" ،فور أن رأته يقترب احتضنت الكتاب وفرت به .بينما كان
"حليم" يغرس سيفه في قلب أخيها ِ"كمشاق"!! ويراقبه وهو يلفظ أنفاسه
فهز أركان ً
ممجدا ذكرى أبيه ّ األخيرةّ ،ثم سحب سيفه ورفعه وهتف بصوته
القصر ،هنا يعلو سلطان امللك على سلطان الصداقة ،كانت نظراته كالبرق
املتطاير من عين جواد مفترس ،توقف الجند عن القتال والتفوا حوله
يأتمرون بأمره بعدما صارت الغلبة والسلطة له منذ تلك اللحظة ،بينما
انسحب "املغاتير" بأمر "الزاجل األزرق" وعادوا أدراجهم على السهول حول
ّ
القصر ،وعادت الصقور تحلق بعد أن فتكت بمجاميع الغربان التي كانت قد
تبقت حول القصر ،كان " القرناس" قد حمل َ"مرام" وطار بها ً
بعيدا دون أن ّ
َ
يلتفتوا إليه ،وانطلقت "نبرة" على جوادها وهي تحتضن كتاب "إيكادولي"
يحميها رجالها بالنبال ويرشقون كل من يتبعها ،كانت تتجه نحو الجبل األحمر.
❐❐❐
بكلمات مقتضبة تحدث "حليم" حيث كانت دماء ِ"كمشاق" ال تزال على
سيفه ،لم يجرؤ أحد أن يناقشه ،فقد كان قوي الشكيمة ،حتى نقطة ضعفه
ّ َ
حبه لـ"نبرة" -تالشت عندما تبعثر تلك الليلة التي اقتحمت فيها ُالوحيدة -وهي
ّ
"أونتي" الحفل وتحدثت معه بكل أريحية وصراحة ،وأخبرته بقصتها مع
"كلودة" وكيف كانت تحبه لكنها اآلن تشعر وكأنه شبح عديم املالمح ّ
مر بها،
كانت تدرك أنها ركضت خلف شهوة ،نعم ،لقد أطلقت العنان لجسدها
ليمتطي روحها وكانت تتصرف كالحيوانات ،وها هي نادمة ،فالحب ال يأتي
َ بالتوسل .أنصت إليها ّ
وتأمل حال نفسه وما يراه من "نبرة" من إهانات
متوالية ُ ،وهي تنفر منه وتهينه وتقاومه ،قرر أن يخرجها من قلبه ،وكان
لكلمات "أونتي" وقع عظيم في نفسه.
260
ّ
تقدم "أنس" ووجه الكالم إليه بإجالل أمام الجميع ّ
ليثبت أركان ملكه
ً
مسبقا: الجديد ،وطلب منه ما وعده به
-جاللة امللك "حليم".
هز "حليم" رأسه وفي عينيه نظرة امتنان على تلك اللمحة التي تركت ً
أثرا ّ
على حاشية امللك البائد "كمشاق" ،وأصدر األمر لجنوده ليفتشوا القصر بحثاً
ِ ُ
عن َ"مرام" ،كانت "أ ونتي" تنتحب في غرفتها وتبكي شقيقها ِ"كمشاق" ،وكانت
َ
تخش ى ما هو قادم .أخبرتهم أن املسكينة َ"مرام" اآلن بين يدي أختها "نبرة" وهي
في طريقها لتلقي بها من فوق الجبل األحمر.
كان "حليم" يقف بإجالل أمامها ،أراد أن يشرح لها سبب قتله له ،والذي
صحبه "أنس" خالل فجوة ليكشفه له ،ففوجئ بها تعرف السبب! فقد ّ
أسرت
لها ّأمها به قبل أن تموت ،ران عليهما صمت طويل وحولهما بعض ّ
املقربين،
توقفت عن البكاء ،وأخبرته أنها سترحل وتترك القصر فرفض ّ
بشدة ،وخيرها
ً ً ّ ّ
بين أن تظل في القصر معززة مكرمة ،أو أن تختار مكانا قريبا ليأمر ببناء ٍ
قصر
جديد يليق بها وتكون تحت رعايته ،كانت حائرة ومكلومة فلم تجبه ،فتركها
لتهدأ ،وأمر حراسه بأال يتركوها تغادر القصر ،وانصرف وقد بدأ يحمل لها في
قلبه من املشاعر ما قد يغير مصيرهما ً
يوما ما!
❐❐❐
حرك "أنس" خنجره في الهواء وشعر وكأنه يشق به صدره وردد بصوت ّ
مرتعش:
قمة الجبل األحمر.ّ -
ّ
انبثقت الفجوة وكان يتعجل ظهورها ودقات قلبه تتواثب ،كان يخش ى أن
يصل فيراها صريعة وقد فارقت الحياة ،كان قلبه ينتفض بين ضلوعه وهو
َ
يقفز في الفجوة ليصل إلى هناك ،حيث كانت "نبرة" تقف وقد انحنت تكتب
نهاية قصتين ،أنهت أولهما بموت املحب "كلودة" الذي كان يعشق "أشريا"
لكنه أخطأ وفطر قلب أختها ،وكادت تنهي األخرى بموت َ"مرام" ،كانت َ"مرام" ّ
ّ َ ّ
مقيدة من يديها بحبل طويل ،أوقفها رجال "نبرة" على حافة الجبل الذي
261
ّ غطى الجليد ّ
قمته ،وتحلقت فوقه سحب حمراء ،قيل إنها من دماء املحاربين
َ الذين ُقتلوا ً
ظلما من قبل ،على مر السنين ،ولم يسمع بهم أحد ،كانت "مرام"
صبرا وثباتاً
تحدق في السحب وعليها سكينة عجيبة! وكأن روحها قد سقيت ً ّ
حتى رضيت واطمأنت.
أما "أنس" فكان يقترب في وجل وحرص شديدين وهو يراقبها ويتلفت
َ
ويراقب "نبرة" وهي تكتب ،كان الحراس على مسافة بعيدة منها ،يحمون ظهرها
أي هجوم جديد ،حاول و يراقبون الطريق ،ووقفوا في حالة استعداد ّ
لصد ّ
َ
"أنس" أن يتخطى "نبرة" ليقترب من َ"مرام" وينقذها ،لكنها انتفضت وشعرت
قمة الجبل وهي به ،فأسرعت وركلت َ"مرام" من ظهرها فسقطت من فوق ّ
ّ حافة ّّ
القمة وأغمض عينيه وقفز فحلق كما تصرخ ،انطلق "أنس" يركض نحو
أخبرته َ"مرام" من قبلّ ..أن املحاربين وحدهم يستطيعون التحليق كالصقور
يوما على فعلها ،وألنها فقدتحول الجبل وفي نطاق الغابة ،لكنها لم تجرؤ ً
مميزاتها كمحاربة منذ عادت ودخلت الغابة لتتبع "أنس" لم تتمكن من
ّ
التحليق مثله ،كانت تهوي بسرعة شديدة نحو القاع ،تذكر "أنس" ما أخبرته
فضم يديه إلى جنبيه وألصق ساقيه ببعضهما وانطلق ّ به عن "قطرة الدمع"،
ّ ز
بسرعة شديدة وسبقها لثقل و نه عنها ثم بحركة خاطفة التقطها من الحبل
الذي قيدتها به "نبرة" ،شقهت عندما شعرت أن هناك من يجذبها وكانت قد
أغمضت عينيها بعد أن نطقت بالشهادتين تنتظر ا ملوت والفناء ،فتحت عينيها
ّ
فوجدت نفسها معلقة في الهواء ،رفعت رأسها فرأت "أنس" وهو يمسك
ً وكأنه صقر يطير بجناحين ،صعد بها ً
ويحلق ّ ّ
فشيئا شيئا بالحبل ويرتفع ويرتقي
ى
وكان يتعجب من قدرته على االنتقال من طبقة ألخر في الهواء ،حتى شعر أنه
ّ
يثبت نفسه معل ًقا كما تفعل الطيور في الهواء ،فعلها للحظات يستطيع أن ّ
َ
وث ُب َت ونظر إلى معصمها فإذا بالحبل ينغرس في لحمها يكاد يذبح يديها ،وكذا
كان أثره مؤملا في يده ،بدأ يسحب الحبل ليمسك يديها فتأرجحت وكاد الحبل
ينفلت من يده فشخصت نحوه وصرخت صرخة انخلع لها قلبه ،شدد
قمة قبضته على الحبل وأسرع يرفعها حتى وصال لبروز حجري عريض ُقرب ّ
الجبل تعلوه ندف السحاب األحمر التي تشكل تلك الحلقة الحمراء ،رنا إليها
بإشفاق وهو يتحسس يده وذراعه حيث كان يلف عليها الحبل ،كانت تحرقه ّ ٍ
بشدة وتوجعه ،وكذلك يداها ،أجهشت َ"مرام" بالبكاء ،قال "أنس" وصوته
يقطر ً
حنانا ً
وحبا:
262
كل ش يء أن أخبرك بش يء ما ،ش يء يهمنا ً
معا... -ذكريني بعد أن ينتهي ّ
ذكريني يا َ"مرام".
بال كالم ،وفي مساحة من الزمن لم ُتحسب ،وفي عالم عجيب لم يعرفا
قصيا ،كان قلبه وقلبها متناغمين في ًّ موقعه لكنه احتل من قلبيهما ً
مكانا
ّ
الدقات ،فكل دقة في صدرها ص داها قو ٌّي في صدره ،كانت روحه وروحها
نفس..وأخرى تريد أن تسكن إليها ،لكنهما يتعففان رغم منسجمتين بال عناقٌ ،
كونهما على حافة جبل حيث ال تراهما عيون الناس ،لكنهما على يقين أن ر ّب
الناس يراهما.
وحركه في الهواء وانتقلت قبله َ"مرام" إلى الغابة وتبعها أخرج خنجره ّ
خوفا عليها ،لم يحب أن يتركها وحيدة ّ ً
مرة أخرى ،في تلك اللحظة الخفيفة
فور اختفائها داخل الفجوة أمامه بدت وكأنها فجوة تفصل شطري حياته،
مالئكيا ،وأمام كوخ العجوز "ناردين"كان "كلودة" قد برأ ً حبا ًّ
نقيا يحبها ً
كان ّ
ُ
وكأنه لم ُيصب بسهم من قبل ،أعاده "أنس" لعروسه وداره ،وأعاد "كومبو"
إلى أمه ،ونقل "املغاتير" إلى قصر "الحوراء" مع َ"مرام"ُ ،ث ّم عاد للغابة ّ
ليرد
للعجوز "ناردين" عكازها الذي تتكئ عليه ،كان الغصن يحن إليها كما كانت هي
حياها وشكرها: تحن إليه! وقف "أنس" أمامها وقال بعد أن ّ
ّ
-ها هو عكازك يا أمي.
غائبا و ُر ّد إليهاّ ،
عزيزا كان ً وكأن ً عكازها ّز ّ
قربته من احتضنت العجو
ُّ أذنها وبدت ّ
وكأنها تنصت لش يء ما ،ثم رفعت عينيها تجاه وجه "أنس"
وقالت:
ظني بك ،منذ اللحظة األولى سيحبك يا "أنس" ،لم يخب ّ ّ -كنت أعلم ّأنه
وأنا أشعر ّأنك شاب ّ
نقي.
ابتسم "أنس" ووضع يده على كتفها وقال بحنان بليغ:
-واآلن يا أمي ،هل ستقبلين هديتي؟
أي هدية!ّ -
-رحلة .
263
-إلى أين؟!
-مفاجأة!
-أخبرني أرجوك ،فأشجار الغابة لن تسمح لي بالرحيل ً
أبدا.
-حتى من الفجوات التي أحدثها بخنجري؟
-سيسحبونني منها يا ولدي ....سيرفضون.
يود أن تسمعه ّ
كل أشجار الغابة وقال: فع "أنس" صوته ّ
وكأنه ّ ر
-سأنقلك إلى بيتك ..إلى ولدك يا أمي ..فأنت تشتاقين لرؤيته وقلبك ّ
يتوجع.
ّ
اهتزت أشجار الغابة وعال همسها وضجيجها حتى أن "ناردين" رفعت يديها
على أذنيها وهي تسأله:
-وكيف عرفت عنوانه!
ً
وأخيرا وصلنا إلى ولدك الحبيب ولقد رأيته يقف أمام -سألت أنا و "كومبو"
داره ويالعب أبناءه ،كم هم رائعون!
شعرت العجوز بارتباك شديد ،كانت مشاعرها تتأرجح بين شوقها لرؤية
أقر ما فعلته زوجته ،كانت تخش ى أن ابنها وبين خوفها من أن يكون قد ّ
ّ
أي خبر عن أنه جاء ليبحث عنها، تكشف النقاب عن الحقيقة ،فهي لم تسمع ّ
حتى عندما تخبرها أشجار ونباتات الغابة عن دخول أحدهم أو حتى وفاته
ّ
كانت تذهب لتتحرى األمر وتتصفح الوجوه لعلها ترى وجه ابنها بينهم ،لكنها
كانت تصاب ً
دوما بخيبة األمل ،وتعود مكسورة القلب إلى كوخها.
قالت وقد دمعت عيناها:
-ال يا "أنس" ..اتركني هنا كما أنا بين أشجاري.
حل السكون وعاد الجميع لينصت لحديثهما، طربت األشجار ملا سمعتهّ ،
حاول "أنس" أن يشجعها ويبث في قلبها الطمأنينة فقال وهو يبتسم:
-أحد أحفادك ُيدعى "بدر" وله وجه كالبدر يا أميً ،
حقا إنه خفيف الدم.
264
أثر ٌض وكان البتسامتها البريئة ٌ
بليغ في قلب ابتسمت العجوز ً ٍ
بفم مفضو ٍ
"أنس" الذي أردف قائال:
-وشقيقته الصغرى تدعى "شموس"! يبدو أن ابنك يكثر من مراقبة السماء!
ً ً
جديدا أن يسميه "رعد" أو "برق"! أخش ى إن أنجب طفال
ضحكت "ناردين" وأمسكت بذراع "أنس" وقالت بفضول:
-متى ذهبت.
أجلت علي أعراض السحر ،وانشغلت بما عرفته ّ
عني ف َّ -قبل أن تظهر ّ
ِ
إخبارك حتى اللحظة.
قالت وقد بدت عالمات الخوف على وجهها ّ
الطيب:
-وهل ...رأيت زوجته؟
-ال ،كان هو فقط من يداعب الصغيرين أمام داره ،وكان أشقاؤهما األكبر
هيا بنا ،الوقت ّ
يمر.. عمرا يجلسون في هدوء وسكينةّ ،
ً
-لحظة يا "أنس" ،سأرتدي ً
ثوبا آخر وأغسل وجهي.
دب النشاط في أوصالها وهرولت تجاه الكوخ وبعد أسرعت "ناردين" وقد ّ
حرك "أنس" دقائق كانت تقف أمامه بابتسامة رائعة كانت هي أبلغ زينتهاّ ،
خنجره في الهواء فظهرت الفجوة ،امتدت وشائج األشجار واقتربت من ساقي
"ناردين" وكادت تلتف حولها ،لكنها لم تجرؤ! توقفت عن الزحف وعادت إلى
أماكنها بينما كانت "ناردين" تراقبها بعينين مغرورقتين بالدموع ،دلف "أنس"
إلى الفجوة بعد أن أمسك بذراع "نادرين" تاركين خلفهما أشجار الغابة ّ
تهز
أغصانها وتئن وتبكي في نشيج عجيب ،يخشون أن ترحل لألبد! علت أصوات
وتهتز ،فهناك خطب جلل قد حدث في تلك األغصان وهي تتشابك وتتخبط ّ
الغابة!
لكل من الحب للجميع ،و ّ
ّ رحلت الحبيبة "ناردين" ،رحلت تلك التي تمنح
يمر من بين ضلوعها! ّ
كان ال ّبد أن ين قلها "أنس" إلى بيت ابنها فما كانت لتخرج من حدود الغابـ ـة
265
وتتخطى ذاك الحاجز الحجري إال بواسطة الفجوة التي يفتحها بخنجره ،بعد
لحظات خرج "أنس" من الفجوة ويده في يد العجوز التي شهقت فور أن رأت
أمامها ابنها يقف بقامته املتوسطة الطول ووجهه املستدير ،كان يحمل فتاة
صغيرة رائعة الجمال ،اقترب "أنس" منه وكانت "ناردين" ّ
تتأبط ذراعه بيدها
حبات مناليسرى بينما تتكئ بيدها اليمنى على عكازها ،كان يطعم ابنته ّ
التوت بحنان ولطف ،فور أن وقعت عيناه على وجه أمه انتفض ووضع
ُ
الصغيرة على األرض ث ّم وثب وصرخ كطفل صغير مذهول:
-أمي ...إنها أمي!!!
صاحت "ناردين" وقد انهمرت دموعها في الحال:
" -ربيع"!
هرول "ربيع" تجاه ّأمه وانكب عليها يقبل يديها تارة ويقبل رأسها تارة أخرى
وقد اختلطت دموعه بدموعها ،كان يبكي وهو عاجز عن الكالم ،لم يجد كلمة
بكفيها وقالت بصوتعما يعتمل في صدره ،مسحت "ناردين" وجهه ّ ّ
تعبر ّ
تقطعه الدموع:
أشمك يا "ربيع" ،أشتاق رائحتك. -اشتقت إليك يا حبيبي ،دعني ّ
وظلت ّ ّ
تشم عنقه وهو يبكي في حضنها ،قال أجهش "ربيع" بالبكاء ،وعانقها
بعد أن تحامل على نفسه:
ُ كثيرا في ّ
-بحثت عنك ً
كل مكان ،ظننت أنك هربت من الدار ،كنت أعلم أن
زوجتي ال ّ
تحبك.
وضعت العجوز يدها على فم ابنها لتسكته وقالت:
-هسس ...ال ترفع صوتك يا "ربيع" حتى ال تسمعك.
ّ ُ
-ال تخافي يا أ ّمي ،لقد طلقتها.
-ماذا!
266
ّ ْ
وتركت الصغار ّ ّ ً
بكل قسوة وتخلت عن جحيما فطلقتها -قلبت حياتي
أمومتها.
قالت العجوز بألم:
-وحرمتني من أمومتي ومنك.
احتواها "ربيع" في حضنه وقال بحنان:
-ال يا أمي ،لن يحرمك أحد مني ً
أبدا بعد اآلن.
ُث ّم حمل صغيرته ّ
وقربها من وجهها وقال لها:
-لقد تزوجت "سندس" أتذكرينها ،وأنجبنا "بدر" و"شموس" ،انظري يا
هيا ّ
هيا احمليها. ّأميّ ..
ورفع صوته ينادي زوجته التي كانت تخبز فوق سطح الدار ،أجابت زوجته
ّ
النداء وهبطت الدرج على عجل وأسرعت تجاهه بوجهها الطيب ،تذكرتها في
أعز صديقة لـ الحال فقد كانت تقطن في البناية املجاورة مع أمها التي كانت ّ
ً ً
حنينا "ناردين" ،عانقتها طويال وجلس الجميع داخل الدار ،إن للماض ي
يتغلغل في القلوب ويتمكن منها ،عادت "ناردين" بذاكرتها إلى سنين مضت،
ّ
كانت تقلب عينيها بين أحفادها بفرحة وحبور ،مضت ساعة وهم على تلك
تطل من أعينهم، جدتهم والفرحة ّ الحال ،وحولهم الصغار يلعبون ويراقبون ّ
ّ ودعهم كاد ّ وقف "أنس" ليستعد للرحيل ،وبعد أن ّ
يحرك خنجره لوال تعلق
"ناردين" فجأة بذراعه! كانت في هلع وكأنها طفل يتيم سيرحل من يرعاه
ويتركه في بيت غريب!
ّ ّ
تعجب عندما توسلت إليه ليعي دها إلى كوخها في الغابة ،قالت بتوتر:
-أرجوك يا "أنس" أعدني إلى الغابة.
ً
متعجبا وقد سمعها: صاح "ربيع"
-كيف يا أمي! كيف!!
-أرجوك يا "ربيع" ،لن أستطيع البقاء هنا ..سأموت.
267
-غير معقول يا أمي! أتفضلين وحدتك في غابة موحشة على البقاء معي أنا
وأبنائي!
-عشت لسنوات هناك فال تقلق.
-أنت تعلمين أنني لن أستطيع دخول تلك الغابة ً
أبدا ولن أتمكن من عبور
ذاك الحاجز الحجري! أنا حتى ال أعلم كيف تعيشين في تلك الغابة
املخيفة وحدك!
-اتركني يا ولدي ألعود ..أرجوك؟
ً
قال "أنس" محاوال إقناعها بالبقاء مع ابنها "ربيع":
-أنت تحتاجين للسيد "ربيع" وهو لن يستغني عنك يا ّأمي ،أرجوك ابقي هنا
معهم.
قالت بعد صمت ثقيل:
ّ
-أصبح الكوخ بيتي ،وأنا ال أرتاح إال في بيتي.
ُ
ث ّم ج ذبت "أنس" بلطف من ذراعه فانحني لتهمس في أذنه:
-دعني أرحل حتى ال تتغير نظرة الحب التي رأيتها في عيني "سندس" اليوم،
ً
فإن بقيت ستتغير ،اإلنسان ثقيل يا ولدي ،وأنا أكره أن أكون حمال
يستثقله اآلخرون.
أصرت وأخبرتهم أنها ستسير إلى هناك إن لم لم يفلح أحد في إقناعهاّ ،
ينقلها "أنس" ،لم يطب لها البقاء بين أحفادها ،حتى دموع ابنها لم تشفع
كل أسبوع على أطراف الغابة! ،أخبرت "ربيع" أن لديها ،ستكتفي برؤيته ّ
األشجار ستتركها تتخطى الحاجز الحجري بأمان ولن تعيدها كالعادة طاملا ّأنها
ستراها اليوم وقد عادت لتقيم هناك لألبد ،هكذا همس لها عكازها .خضع
مضض وودعها بالدموع .استجاب "أنس" لرغبتها وأعادها إلى ٍ "ربيع" على
الغابة حيث كوخها فهاجت األشجار وماجت وعال الضجيج ،وأقيم عرس
بالغابة ،عادت الحبيبة "ناردين" ...عادت الحبيبة "ناردين".
❐❐❐
268
أخيرا على ما تحت أرض قصر في بقعة أخرى ،بسط "املجاهيم" نفوذهم ً
يطل قصر امللك "حليم" فوق تلك املساحات الواسعة مملكة الجنوب حيث ّ
كل جانب ،فتوسعت مملكتهم كوتد ضخم تحيطه السهول الخضراء من ّ ٍ
وانتقل بعضهم إليها لألبد ،أصاب "أنس" إرهاق شديد ،فكثرة التنقل جعلته
كل ش يء باألرقام ،وباتت لديه خريطة منحوتة يشعر بدوار شديد ،أصبح يرى ّ
كل بقعة فيها رقم منقوش له داللة بات يعرفها ،أراد أن يرتاح في ذهنه ،على ّ
ولو للحظة لكنه ال يستطيع ،ما زال أمامه األهم وهو أن يسترد كتاب
"إيكادولي" من بين مخالب وأنياب الذئاب.
قمة الجبل األحمر بعد أن أنهت كان "القرناس" قد حمل الكتاب من فوق ّ
ّ َ
"نبرة"آخر جملة فيه إلى املكتبةالعظمى ،تسلمه منه الحراس باملكتبة
واجتمعوا ليطلعوا على ما فيه ،كانت تلك العبارات التي ظهرت بينما كان
الكتاب مع "أنس" قد اختفت جميعها ،وامتأل الكتاب بعبارات صاغها الساحر
َ
"قرجة" قبل أن يقطع "أنس" يده ،وأكملتها األميرة "نبرة" بدماء "كلودة" التي
كانت على األرض ،فور أن ُيختم الكتاب ويضاف إلى رفوف املكتبة سيكون
حراس الكتب باملكتبة العظمى يتصفحون الكتاب ل َـ"نبرة" شأن عظيم ،كان ّ
بينما حدث ش يء عجيب لم يحدث منذ فترة بعيدة!.
❐❐❐
269
لعله ينجح في استرداده ،كان "أنس" يرى ّّ
كل هذا من خلف اللحظات الفارقة
صوتا ّ
لعل بوابة ضخمة من الحديد مشغولة بطريقة عجيبة ،حاول أن يصدر ً
يهزها بيديه لكنها كانت متينة وثقيلة ،من بعيد هناك من يجيبه ،حاول أن ّ
أسرع بعض الرجال األقوياء نحو البوابة يتعجبون من ذاك الذي وصل إليها
ووقف يراقب البناء العظيم ،كانوا يتبادلون النظرات التي تش ي بتعجبهم ،من
يجرؤ على االقتراب من حدود املكتبة العظيمة! قبل أن يصلوا إلى البوابة،
وحيث انتهت صفوف الحجارة البيضاء ،وقفوا بجوار بعضهم البعض عاقدين
أذرعتهم أمام صدورهم ،تقدم أحدهم وكان يثقب "أنس" بنظراته ،بينما كان
ُ
يمسك بالبوابة الحديدية ينتظر أن يدنو منه ليسأله ،وقبل أن يقترب فتحت
نوافذ البناء من خلفهم فجأة وصرخ أحد ما:
-ال ّ
تتحرك من مكانك نحن في خطر داهم وأنت امللوم!
ومرة أخرى صرخ ً
مناديا كما صرخ منذ قليل: ُث ّم فجأة ّ
ً َ
-أدخلوه حاال ...أدخلوه ..فلقد حدث ما لم يحدث من قبل!
أسرع الرجال يفتحون البوابة الحديدية وأفسحوا الطريق لـ "أنس"
يمينا ويسا ًرا ،فهو يشعر ّأن هناك من يالزمه يتلفت ً ليدخل ،كان يسير وهو ّ
كتفا بكتف ويسير معه ،يكاد يسمع أنفاسه املتتابعة! بل يشعر بدفئها! ّ
لكنه ً
ٍ
اليراه!
دلف إلى البناء فأحاط به شعور بالسكينة رغم ارتباك الجميع وازدحام
وكأن كل من بالبناء تخطوا الستين من املكان بوجوه تطالعه باهتمام ،بدا ّ
مزينة بنقوش ذهبية بديعةّ ،
مطعمة بألوان زاهية، أعمارهم ،كانت السقوف ّ
تذكر اآلن كيف تشبه بوابة بيت ّ ّ تشبه تلك التي رآها في بيت ّ
جده تلك جده،
مر بشجرة من خشب األبنوس تشبه حجماّ ، ً البوابة الخارجية لكنها تصغرها
ّ ّ ّ
تلك التي سقط فرع منها في غرفة جده عندما رأى كتاب "أبادول" ألول مرة،
يتجول ّ يتجول في متحف عريق ممتلئ بالتحف الثمينة كان "أنس" ّ ّ
وكأنه
كثةمتوسط القامة له لحية ّّ مستمتعا بما يراه ،صعد الدرج خلف كهل ً
وأخيرا وصل إلى قاعة تتوسطها طاولة ً طويلة بيضاء بعد أن ر ّح ب به،
ّ
مستديرة يحلق حولها رجال يتشابهون في الخلقة لهم سحنة طيبة مريحة،
على رأس الطاولة كان أكبرهم يجلس بوقار تحتل وجهه ابتسامة مشرقة ،تلوح
270
على جبهته الواسعة سجدة رمادية خفيفة ال يشك الناظر إليها أنها جبهة عابد،
حافة الطاولة ووقف ّ ّ
يرحب بـ"أنس" وأشار إلى بهو كبير استند الكه ل على
ّ ً ً
تتفرع منه ممرات طويلة ممتلئة بالرفوف يمينا ويسارا حيث تستقر عليها ّ
ُّ الكتب ،سارا ً
معا من بينها حيث كان الكهل يمسك بذراع "أنس" ويشير إليها ثم
قال:
تحركت اليوم ،لقد أصابنا الرعب، تتحرك الكتب منذ ثالثين ً
عاما كما ّ -لم ّ
ر ُّ ظننا أن البناء سينهار ،كانت ّأول ّ
مرة تخرج من أماكنها وتدو ثم تعود يوم
جدك يا "أنس" ،ومن بعدها حين جاء أبوك وها هو األمر يتكرر وصول ّ
ً
مبتهجا: اليومّ ،ثم أكمل
-اآلن يا "أنس" ..حان الوقت.
-اآلن ماذا؟
ً
-سأتركك هنا لتخلو بصديقك قليال.
-صديقي!!
ّ " -إيكادولي" ...الكتاب! وسأنتظرك مع ّ
حراس الكتب ،لنتسلمه منك.
-وأين هو الكتاب؟
-في تلك الغرفة ،أرسلناه مع كوكبة من الصقور وغسلوه في ماء النهر
األخضر ،فالكتابة بالدماء ال تزول إال بغسله هناك ،أتدري يا "أنس"؟ لو
قتلوك لبقيت الكلمات في "إيكادولي" لألبد ،وما كان ماء النهر ليمحوها،
وكنا سنضطر لقبول الكتاب ّ
وضمه للرفوف.
-وهل حدث هذا من قبل؟
-نعم ،لكن ال تقلق ،الكتب ال تهدأ وستظل تدافع عن نفسها ّ ،
وكل كتاب
يصدق شخص ما ّ ُسرق سيبحث عن محارب جديد ليسترده ،عندما
بالقيم التي فيها تسترد عزيمتها وروحها فتبتلع الكلمات ،وحتى إن كانت
ً
صراعا حتى بالدماء ،فوجود ذاك املحارب يمنحها القوة لتعافر وتعاني
يأتي ويساعدها.
271
ّ ُ
استقرت عيناه على عيني "أنس" وقال: ثم
ّ -
أظنك تحمل مفتاح الغرفة ،أليس كذلك؟
أخرج "أنس" ذاك املفتاح الذي أعطاه له والده ،ورفعه ليراه الكهل الذي
ُ
هش حين رآه ،ث ّم أشار تجاه غرفة في صدر ممر يقع على يمينهما وطلب من ّ
"أنس" أن يتجه إليها ،سار "أنس"تجاه الغرفة وعاوده الشعور بأن هناك من
دس املفتاح في الباب وفتحه ،ودلف كتفا بكتفّ ،قربا منه ً يالزمه ويسير ً
بهدوء.
في غرفة مضيئة جدرانها بيضاء وخالية من النقوش كان كتاب "إيكادولي"
تقر على طاولة بيضاء مستديرة تحتل بقعة صغير وسط الغرفة ،اقترب يس ّ
"أنس" والمس الكتاب بأطراف أنامله ،فور أن فتح الكتاب شعر بقشعريرة
ّ
تجتاح جسده ،ثم انطلقت صفحات الكتاب هاربة من بين دفتيه واحدة تلو
تتعلق في الهواء ،أحاطت الصفحات الخالية بـ"أنس" ودارت ّ ى ّ
عدة مرات األخر
ُ
ث ّم توقفت عن الدو ان ،ابتعدت عنه وارتفعت وبطريقة فجائية اقترب أولها
ر
وانبسط أمام عينيه ،ظهرت عليها ً
تباعا العبارات التي رآها "أنس" في املغارة
فكتحت النهر األخضر ،رآها أوال بنفس اللغة الغريبة التي لم يتمكن من ّ
لتستقر معانيها باللغة العربية أمام عينيه ،كانت ّ
كل ّ طالسمها ،ثم تالشت
ورقة تحمل عبارة واحدة ،كانت العبارة تظهر وفي نفس الوقت يتردد معها
صوت األمير "أواوا" وهو يقولها باللغة النوبية عندما رآه "أنس" في املمر تحت
ً
ومتناغما مع الكتابة: ً
متزامنا النهر األخضر ،كان صوته
272
273
ُ
دارت تلك الصفحات وكانت العبارات العشر قد كتبت عليها أمام عيني
ّ ُ
"أنس" ،ث ّم انطوت من جديد بين دفتي الكتاب املفتوح على الطاولة ،وبدأت
مر به بالتفصيلّ ،
كل ّ
مرقمة تتوالى أمام عينيه ،تحكي ما ّ صفحات أخرى
َ
كل همسة ،كل شخص التقى به ،حتى "مرام" ،حتى الغابة وما فيها،خطوةّ ،
ُ
والقصرين ،وبقيت الصفحة األخيرة ،كان يكتب فيها ما يحدث له في تلك
ُ ُ
الغرفة بالتحديد ،تركت مساحة فارغة ! ...ث ّم كتب أمام عينيه على السطر
األخير:
274
ُ ُ
واستقرت داخل الغالف ،وأغلقّ ث ّم ُسحبت الورقة األخيرة فجأة من الهواء
دويا أجفل منه "أنس" ،في تلك اللحظة فتح الكهل ذو بقوة فأصدر ً الكتاب ّ
يربت على كتفه، اللحية البيضاء الباب خلفه ،وحمل الكتاب ،وسار معه ّ
ويهنئه باسترداد كتاب "إيكادولي" .وبعد أن أنهى "أنس" زيارته إلى املكتبة،
وحركه في الهواء وانتقل إلى قصر "الحوراء" ،حيث كان الجميع أخرج خنجره ّ
ينتظرونه ،حمله "املغاتير" على األعناق ،كانوا يحتفلون بنجاحه ،سقطت
ّ
حقيبته فالتقطتها َ"مرام" وعلقتها بكتفها كما يفعل "أنس" ،ووقفت تراقبه،
ّ
تخلص بلطف منهم واقترب على استحياء ليبوح لها بمكنون صدره ،كانت
دقات قلبه تتواثب وكذلك كانت هي ،كاد يقول ً ّ
شيئا لوال "الرمادي" الذي
ظهر فجأة وانطلق تجاه "أنس" كقذيفة مدفع ،وفجأة! انقض عليه بمخلبيه
محل ًقا فوق مملكة البالغة وسط صياح الجميعّ ، ّ
ظل الصقر العجيب وطار به
ّ
يخفق بجناحيه ويبتعد ...ويبتعد ...ثم ابتلعتهما سحب السماء .شعر "أنس"
وكأن ملزمة تضغط على صدره ،دوائر بدوار شديد ،وغرق في الظالم وشعر ّ
يغوص فيها وتتسع ..وتتسع ..وتتسع ،صرخ ً
مناديا باسمها:
" -مرام""...مرام"
❐❐❐
275
()23
عودة!
ً
ممددا على أرض وأخيرا فتح عينيه ليجد نفسه في بيت ّ
جده بالفيوم، ً
مرة ،حاول أن يرفع رأسه فإذا ببابألول ّالغرفة التي التقى فيها بالرمادي ّ
ّ
الغرفة يفتح ليهرول تجاهه والده وجده ،لم يتمكن من فتح فمه ،أراد أن
لكن والده رّبت على يده بحنان وطالعة بنظرات تعني أن يقول ً
شيئا ما! ّ
ُّ
الوقت قد حان لكي ترتاح ،ارتخى جفناه واستسلم للنوم لفترة ،ثم أفاق فجأة
جده الذيوكأنه يبحث عن ش يء ما ،قال ّوانتفض وقفز يتلفت يمنة ويسرة ّ
دلف للغرفة وهو يحمل في يده الجريدة:
-ما بك يا "أنس"؟ عن أي ش يء تبحث؟
-الكتاب" ...إيكادولي" ..أين هو؟
-اهدأ يا "أنس".
"َ -مرام"!
-من َ"مرام"؟
-فتاة التقيت بها هناك.
-سيبقى هؤالء هناك ،ال ّبد أن تعلم ّأنك اآلن انفصلت عن عاملهم.
-ولكن.
َ ّ
طالعه أبوه الذي كان يراقب حوارهما بتأثر وقال بصوت غلبته نبرة حانية:
276
تعلقت بهم ،أحببتهمّ ، ّ
وكأن هناك -أعلم وأقدر شعورك اآلن ،أنت تتوجع،
من اقتلعهم فجأة من قلبك.
-اسمعني يا أبي"َ ،مرام" كانت مثلي ،م..م ...محاربة ،ال ّبد أنها قد عادت هي
األخرى إلى هنا ،إلى عاملنا! كيف سأصل إليها؟
فكل ما عشته سيظل... " -أنس"...تمالك نفسكّ ،
-سيظل ماذا؟
-في الحقيقة ...أنت..
-أنا ماذا!!
-كنت ّ
مجرد ...شخصية في رواية!
بدأ الغضب يأخذ طريقه إلى رأسه ،صاح بعصبية:
-ماذا!! ما الذي تقوله!
-كما سمعتّ ..
مجرد شخصية في رواية!
-وتلك املالبس التي ما زلت أرتديها!! ال تحدثني بتلك الطريقة أرجوك!
أياما وسينتهي ّ
كل فقا بنفسك يا بني ،مررت بما تمر به من قبل ،اصبر ً ً -
ر
ش يء.
-كيف ...كيف!! هذا لم يكن ً
حلما!
ّ
-تحلم لفترة تخ طت األسبوع!! وتختفي عن الوجود يا "أنس"!
-أرأيت ..تعترف إذن أن ما مررت به حقيقي ،لقد اختفيت من هنا ،لم
نائما ولم أغرق في غيبوبة ،كنت أعلم أن الشمس أفقد الوعي ولم أكن ً
التي تشرق على تلك اململكة هي نفس الشمس التي تشرق علينا هنا فكيف
تقول أنني غصت في رواية! أنا بشر ،أنا روح ،أنا إنسان!
-يا ّ
بني ،انتهى األمر...
277
تحسس "أنس" يده وقال بحماس:
-انظر ..أثر هذه الحبال املجدولة على يدي ،ما زال يحرقني!
يأس وقال:
أغمض األب عينيه في ِ
-لن يصدقك أحد ،ولن تستطيع العودة إلى هناك ،حاولنا قبلك وفشلنا..
أنسيت؟
ّ
هز "أنس" رأسه وقام يجول في الغرفة كاملجنون وقال:
-وكيف أنس ى نفس ي التي وجدتها هناك؟
جده بذراعه وأعطاه الجريدة وقال بهدوء:أمسك ّ
279
كل ش يء وتعود لنقطة البداية ،وكأن ذاكرتك قد محيت -ألنك ستنس ى ّ
ً
تماما ،انتهى األمر يا بني ...تماسك أرجوك.
ألن "أنس"ارتفع رنين هاتف والده ،كانت والدته ،يبدو ّأنها كانت غاضبة ّ
لم يرد على مكاملاتها طوال أسبوع كامل! ،كان األب يحاول شرح موقف "أنس"
وأنه كان مع رفاقه ،أصرت على سماع صوته مفقودا ّ
ً وأخبرها أن هاتفه كان
شيئا ما قد حدث له ،فليس من عادته أال يهاتفها فقد كانت تشعر ّأن هناك ً
ً
ليطمئنها عليه بنفسه ،اقترب األب من "أنس" وهمس في أذنه قائال:
شيئا ،فأنا أخبرتها ّأنك كنت مع رفاقك ،وهذا ما
-ال تخبر ّأمك فهي ال تعلم ً
حدث بالفعل.
ً ضم ُّ
األب الهاتف لصدره ليكتم الصوت ورمقه بحزم وأردف قائال :
وجدك ...لن تصدقك وسيظنك الجميع -ال تخبرها وال أي أحد آخر غيري ّ
ً
مجنونا.
أمسك "أنس" الهاتف وتحدث مع أمه بصعوبة ،كان يعتذر وحسب ،ويكرر
ّ مرات ّ اعتذاره ّ
ومرات ،ظلت تصيح عليه في الهاتف وتلومه فقد كانت في غاية
القلق عليه وظنت أنه أصيب في حادث أو ش يء ما ،أنهت صياحها ببكاء شديد
ً ُ
فأخذ يهدئ من روعها ثم قال بصوت يقطر أملا:
-كنت مع رفاقي...
قالها "أنس" وهو يتألم ،كان يفتقد رفاق رحلته العجيبة ،فقد احتل ّ
كل
ّ منهم ً
جزءا من كيانه ،تذكر قول العجوز "ناردين" عن كل من تلتقي بهم
وتحبهم ،وكيف كانت تشير إلى صدرها وتقول ّأنهم مروا من هنا ..كان "أنس" فيّ
غاية الحزن.
أغلق الهاتف وأمسك برأسه فجأة ،كان يشعر بخفقان يضغط على صدره
مغشيا عليه فحمله أبوه وجده وأعاداه إلى ً والحرقة تنخر معدته فسقط
فراشه وجلسا طوال الليل بجواره يتأملان ألمله ويسأالن هللا له الثبات.
❐❐❐
280
أطلت الشمس من خلف السحبّ ، ّ
وكأنها تتخفى من "أنس" ،كان بالفعل
كل لحظة ّ مستيقظا منذ وقت طويل ،يحملق في سقف الغرفة ويسترجع ّ ً
مرت
به ،وثب وارتدى مالبسه على عجل وخرج دون أن يشعر به أبوه ّ
وجده ،قرر
أن يذهب للقاء "شهاب" بالقاهرة ،بعد ساعات كان يهرول خار ًجا من محطة
سيارة أجرة ،ولكي يحصل على عنوان بيته اتجه القطار فور وصوله ً
باحثا عن ّ
ً
أوال لدار "مملكة البالغة" للنشر والتوزيع ،بناء أنيق من القرميد األحمر تحيط
به حديقة رائعة من كل الجهات ،أخرج بطاقته الشخصية للحارس النحيف
الجوال ،لم يطالع الحارس ّ الذي كان يعبث بشاربه وهو ّ
يتفحص هاتفه
تأخر املصعد وكان "أنس" في ّ
قمة التوتر حتى البطاقة ولم ينظر حتى لوجههّ ،
وثبا متوجها ملكتب مديرةّأنه بدأ يقرض شفتيه ،هرول نحو الدرج وصعده ً
الدار في الطابق الخامس من تلك البناية ،وبعد أن أشارت إليه موظفة
االستقبال بلطف ليتفضل بالدخول طرق الباب وفتحه وهم بالدخول وكانت
املفاجأة.
الحوراء تجلس أمامه بشحمها ولحمها ،تجلس بوقار خلف املكتب على
كرس ي من الجلد الفاخر وعلى أنفها عوينات صغيرة تطل من خلفها عيناها
الواسعتان والسوداوان حيث كانت تطالع شاشة الحاسوب باهتمام شديد،
ُ
التفتت إليه وخلعت عويناتها وابتسمت له ،ث ّم قالت مرحبة به:
ً ً
-أهال وسهال ،تفضل بالجلوس.
ُ
ث ّم أمسكت ببطاقة ورقية صغيرة وقرأت ما دون عليها وقالت:
-املهندس "أنس كمال".
-نعم أنا.
-مرحبا بك ،كيف أستطيع أن أساعدك؟
سيدتي ،هل التقينا من قبل؟ عفوا ّ
ً -
ً
-ال أظن! تبدو مألوفا لكنني لم أرك من قبل يا ولدي!
حسنا ،وددت أن أسأل عن رقم هاتف السيد "شهاب السيوفي" ً -
281
-هل أستطيع أن أعرف السبب؟
-أمر خاص بروايته الجديدة.
-وما بها؟
ً
شخصيا. -أفضل أن أخبره
اعتدلت املديرة في جلستها وتأرجحت على مقعدها على نحو خفيف وقالت
باهتمام:
ّ ّ
يخصنا. -كل ما يخص تلك الرواية بالذات
-وددت فقط أن أسأله عن نهايتها ومصير أحد األبطال في الرواية.
-انتظر إذن حتى ُتطبع وتقرأها.
-ال أستطيع االنتظار فهناك أحداث ال ّبد أن ُت ّ
عدل بشكل سريع.
-وهل تعرف أحداثها؟
-نعم
-أقرأتها؟ ..معقول!! من ّ
سربها ...أخبرني؟
-لم أقرأها ور ً
قيا ولكن...
ً
-مهال ...أنت ال تعرف رقم هاتف السيد شهاب وال عنوانه ،ولم تلتق به!
فكيف تعرف أحداث الرواية!
ً
شخصيا. -علمت أن اسمي مدرج بها ،وبعض ما يخصني
-كيف هذا! الرواية تتحدث عن قصة نوبية قديمة! واألسماء فيها ال
تتضمن اسمك!
-رّبما...
ً
واضحا معي! -أرجوك كن
282
ّ -
أود أن ألتقي به .ولتعتبري ما أعرفه عن الرواية مجرد تخمين ،أو ش يء
يشبه الرؤى.
لدي وقت لهذه الحوارات ،ولن أستطيع إمدادك بعنوان -من فضلك ليس ّ
السيد "شهاب" ،فكالمك يقلقني ،ربما ّ
تود أن تلتقي به إلعجابك به يا
بني ،ولكن ليس بتلك الطريقة! للكتاب حياتهم الخاصة ،انتظر حتى تلتقيّ
به في حفل التوقيع.
-ولكن..
-من فضلك!!
رفعت يدها لتستوقفه فأدرك ّأن ال مجال للنقاش .خرج من الغرفة
غاضبا ،يبدو أن األمر أعقد مما تخيله ،وقف شار ًدا أمام املصعد ينتظر ً
وصوله ،كان يغمض عينيه ويتأفف بينما اقترب شاب أنيق يرتدي بذلة
سوداء فاخرة حسنة التقاطيع أظهرت تناسق جسده ،عطره النفاذ أرغم
"أنس" على فتح عينيه ،كاد يصرخ عندما رأى مالمحهّ ،إنه "الزاجل األزرق"!!
دلف معه املصعد وهو يطالعه بفضول شديد ،كان الشاب يمسك هاتفه
ويقلب فيه باهتمام ،رفع عينيه على نحو سريع ّ ّ
وحياه بابتسامة النقال
مرة أخرى عندما الحظ اندهاشه فقال له: مقتضبة ّثم عاد ينظر إليه ّ
-هل أنت جديد هنا؟
ّ
قال "أنس" وما زالت عيناه معلقتين على وجه الشاب:
-ال ..أنا مجرد زائر.
-أنت كاتب إذن!
ً
تقريبا. -
-هل قمت بتقديم عملك اليوم؟
-ليس بعد.
283
-أسرع إذن فالسيدة "ناردين" ستنتهي من مراجعة رواية األديب "شهاب
السيوفي" الليلة ،حتى تضم عملك في جدولها قبل أن ُتنشر الرواية،
فبعدها ستنهال علينا األعمال من الكتاب واألدباء كالعادة ،وربما يتأخر
دورك.
-هل تعمل هنا؟
-أنا " أحمد" وبالفعل أعمل هنا.
ً
مرحبا بك. -
شابا ً
لطيفا ،ال بد أن كتاباتك رائعة. -تبدو ً
ً -هل من املمكن أن أطلب منك ً
شيئا بسيطا؟
-وما هو؟
ً -رقم هاتف السيد "شهاب السيوفي"ّ ،
أود أن ألتقي به وأعرض عليه عمال
ما.
ً
حسنا ،ها هو رقمه ،دونه اآلن ،وال تنس أن تضيفني على "الفيسبوك" -
-وما اسمك هناك؟
" -الزاجل األزرق"
ً
متعجبا ،األمر مضحك وموجع في آن واحد ،ما فغر "أنس" فاه ُث ّم ّ
هز رأسه
الذي يحدث اآلن بالتحديد!!
يدب في نفسه فربما يلتقي بـ"مرام" ً
أيضا! كان يرزح تحت موجة بدأ األمل ّ
من الحنين إليها ،يشتاق لوجودها بجواره ،تتنفس نفس الهواء ،تسير وتتحرك
وتروح وتجيء وإن كانت بعيدة عنه ولكن في نفس املكان ،نفس العالم!
خرج من املصعد وسار بخطوات بطيئة خلف "أحمد" ،نفس طريقة
الخاصةّ ،إنه هو "الزاجل األزرق"!
ّ السير ،نفس الصوت ،نفس اإليماءات
ّ
بأصابع مرتعشة ضغط "أنس" على أزرار هاتفه ليحدث السيد "شهاب" ،كان
صوته على الهاتف أكثر ً
اتزانا من صوته في مملكة البالغة ،حتى طريقته في
284
ً ً
وهدوءا ،عرفه بنفسه وطلب منه أن يلتقي به ،وأخبره الكالم بدت أكثر تعقال
أن السيد "أحمد" هو الذي نصحه بلقائه قبل أن يعرض أي عمل على
السيدة "ناردين" ،بعد مماطلة من "شهاب" وافق ً
أخيرا على لقاء "أنس"
ّ ً ّ وأعطاه عنوانه ،أسرع يوقف ّ
سريعا إلى هناك ،كانت دقات سيارة أجرة لتقله
ّ
قلبه تتواثب وتتسابق على نحو سريع ،شعر بها وكأ نها طبول تدق في أذنيه،
السيارة األجرة أمام بناء عتيق مكون من طابقين ،كانت البوابة ّ وقفت
الحديدية تحمل الفتة مكتوب عليها بخط واضح "فيال شهاب السيوفي" ،ترجل
السيارة بعد أن ّنقد السائق األجرة ووقف شار ًدا ّ
يتأمل البناية ،كانت ّ من
ّ
باق ربع ساعة على موعده معه ،تنهد بعمق وأغمض
ّ الربعٍ ،
ً
الثانية عشرة إال
عينيه ،ما زال موجوعا ،مسح على صدره بيده وكأنه يتحسس األلم ،لم ينتظر
تمر الربع ساعة ،بل أسرع يدق جرس الباب.حتى ّ
❐❐❐
285
()24
شهاب
السيد "شهاب" له تناهى إلى سمعه صوت خطوات تقترب من الباب ،فتح ّ
الباب بنفسه ،كانت مالمحه كما هي عندما رآه هناك ،وجه يحمل مسحة من
ّ
وفكه العريضّ ، ّ
وأما تلك النظرة البني ،وبشرته الباهته الوسامة بشعره
ّ ّ ُ
الساخرة التي كانت تطل من عينيه الضيقتين تبدلت بنظرة عميقة منكسرة،
ً
لطيفا. وكانت عيناه خلف عوينات أضفت على مظهره وقا ًرا
كانت دقات قلب "أنس" متسارعة ،حتى أن "شهاب" شعر بتوتره وهو يصافحه
حيث قال وهو ّ
يهز يده بحرارة:
جد ّ
اوكأنها قطعة من الثلج. جدا ،يدك باردة ً مرحبا بك ،يبدو ّأنك متوتر ً
ً -
ً يتأمل وجه "شهاب" ،بدا أكثر ً تنحنح "أنس" في ارتباك وهو ّ
اتزانا وتعقال
عمرا ّبما! ّ مما كان عليهً ،
وكأنه أربعيني! أكبرا ً ر
كما ّأنه تخلى عن نزعة الغرور التي كانت تطفح من عينيه ،أغلق "أنس"
مر برواق البيت حيث كان كل ش يء يسبح في هدوء شديد، الباب وسار خلفهّ ،
سريعا إلى غرفة كبيرة جدرانها تحتضن الكثير من الرفوف املكتظة ً وصال
بالكتب ،كانت رائحة الصندل تفوح من ا ملكان ،ذكرته الرائحة بالغابة
والعجوز "ناردين".قال "شهاب":
-أخبرتني على الهاتف أنك حصلت على رقمي من "أحمد".
-نعم ...الزاجل األزرق.
قهقه "شهاب" وهو يتأرجح بالكرس ي الجلدي الفاخر الذي غاص فيه خلف
ً ُ
ساخرا: مكتبه ثم خلع عويناته وقال
286
أيضا ،كم هو لطيف ذاك الفتى ،أحبه -أنت صديق له على الفيسبوك ً
ً
حسنا أخبرني عن روايتك أو كتابك ،أم ...هل أنت شاعر؟ ً
كثيرا،
-في الحقيقة لست بكاتب ولكنني جئتك في أمر آخر هام ً
جدا بالنسبة لي.
اعتدل "شهاب" في جلسته أعاد ارتداء عويناته ونظر إليه بجدية وسأله:
-وما هو؟
-أنت تعرفه ..ال تزعم ّأنك لم ترني من قبل!
-أنا بالفعل ال أعرفك!
لم يتمالك "أنس" نفسه وثار فجأة ووقف ّ
يتحدث بعصبية شديدة:
-أين َ"مرام"؟
-ومن هي َ"مرام"!
-ملاذا أخرجتني من هناك قبل أن ألتقي بها؟
-أخرجتك من أين!!
طرق "أنس" بقوة على سطح املكتب وقال:
ً
واضحا في بدايته ،لكنني أدركت الحقيقة عندما ربطت بين -لم يكن األمر
ّ
األرقام التي كانت على الخريطة والفجوات ،وما مر من أحداث محدده في
أماكن محدده برقم خاص.
شعر "شهاب" بالقلق وبدأ ّ
يتحرك من مكانه نحو باب الغرفة وهو يقول:
وأي فجوات؟ هل أنت مجنون!أي أرقام! ّ
ّ -
رفع "أنس" سبابته ّ
وحركها بعصبية في الهواء وقال:
-لم تنجح خدعتك ،ال تحاول العبث بعقل من درس الهندسة ،فأنا ّ
لدي
سهلت ّ
علي كشف الحقيقة! خيال واسع وسرعة بديهة ّ
ثار "شهاب" ودفع "أنس" تجاه باب الغرفة وقال:
287
-اخرج من بيتي!
كاد "أنس" يسقط ،لكنه عاد ووقف بثبات ّ
وقرب وجهه من وجه "شهاب"
وقال:
-األرقام كانت أرقام صفحات رواياتك ،وكنت أنتقل بالفجوات من رواية
ألخرى ،حتى أنني عدت بـ"حليم" لصفحات سابقة ليرى كيف قتل
"كمشاق" والده وذبحه واستولى على عرشه ،وكان ذاك ً
عونا لي ليكون في ِ
صفي عندما اقتحمت القصر ألخرج "كلودة".
" -حليم" و ِ"كمشاق" و "كلودة" شخصيات في رواية لي بالفعل ،لكنني ال
أفهمك!!
ّ
بدأ "شهاب" يرتجف ،كانت يداه تهتزان كما لو كان يعاني من اضطراب أو
مرض ما ،ارتبك "أنس" وعاونه على الجلوس على أقرب مقعد ،هدأ كالهما
للحظات كانت كافية لخلط األفكار في رأس "أنس" ،رّبما "شهاب" ال يعرف
أي ً
مجنونا كما سيظنه ّ عما رآه وعاشه ،وكما قال والد ه ّ
وجده سيظنه ً
شيئا ّ
ُ
شخص آخر لم يخض تلك التجربة بنفسه ،قرر أن يشرح له األمر بطريقة
ُ لعله يصل إلى أي معلومة عن َ"مرام" ،قال بعد أن ّ ى ّ
تنفس بعمق ث ّم أخر ،
مسح وجهه ّ
بكفيه:
حسنا يا سيدي ...اسمع ،أنا مررت بتجربة غريبة وحدث لي ش يء ال ً -
ّ
يصدق. ُ
ً ّ
هز "شهاب" رأسه ليشجعه على إكمال كالمه فأردف "أنس" مكمال حديثه:
-بطريقة ما انتقلت إلى مملكة البالغة وعشت هناك لفترة.
-أتقصد دار النشر؟
-ال ...مملكة البالغة هي بالد غريبة ،حتى أنني التقيت هناك ّ
بعدة أشخاص
قد تكون أنت كتبت عنهم في روايتك.
-ماذا!!..
ّ
حملق "شهاب" في وجهه وأطرق للحظات يفكرّ ،
ظنه يعاني من اضطـ ـ ـ ـ ـراب
288
ً
اهتماما بكالمه: ً
مظهرا نفس ي فقرر أن يجاريه ،سأله
-وأين تلك البالد؟
-ال أدري مكانها بالتحديد.
-كيف سافرت إلى هناك؟
-حملني صقر.
بتعجب وقال بنغمة تخالطها رّنة ارتياب:
رمقه "شهاب" ّ
-من فضلك ...إن كنت تريد إخباري بفكرة رواية ألكتب عنها فال تتبع تلك
منطقيا وتحدث بشكل طبيعي وسأتجاوب معك. ً الطريقة معي ...كن
-أليس هذا ما كتبته في روايتك؟.ألم تكتب اسمي فيها؟
-في الحقيقة....
قاطعه "أنس" بعصبية وقال:
-املغاتير ،املجاهيم ،األمير "أواوا" ،املحاربون!
ُ
رفع "شهاب" حاجبيه ث ّم قال:
-هل اطلعت على النسخة التي قدمتها للسيدة "ناردين؟
مبال بسؤاله:
أكمل "أنس" غير ٍ
-قصر امللك ،والقرية ،والغابة...
ً
غاضبا وقال: غضن "شهاب" حاجبيه
-كيف سمحوا لك بقراءتها!! ال بد أن أتحدث معهم اآلن ،هذا غير الئق!
فمد "أنس" يده ووضعها فوق يده يستوقفه وقال أمسك "شهاب" بهاتفه ّ
برجاء:
-سيدي من فضلك ....أرجوك صدقني ،الكتاب اختارني بنفسه.
289
ّ َ
احتدت نبرة صوت "شهاب" وهو يسأله:
-أي كتاب؟
-كتاب قديم صفحاته خالية كان بمكتبة جدي.
-أنت شخص غريب!
شيئا؟ " -أبادول" ..هل تعني لك ً
ُ
حرك "شهاب" عينيه في املكان ث ّم قال:
ّ
-تلك رواية كتبها روائي عظيم من أساتذتي منذ سنوات ،وأصدرتها نفس
دار النشر ..ملاذا تذكرها؟
-هذا جدي ..أبادول هو ّ
جدي.
ران عليهما صمت ثقيل للحظات ،حاول "شهاب" أن يستعيد رباطة
وتفرس في مالمحه ُث ّم قال ّ
بجدية: تأمل وجه "أنس" ّ جأشهّ ،
-يبدو ّأنك واسع الخيال يا فتى ،ربما األفضل لك أن تتجه للكتابة ،تلك
كاتبا مشهو ًرا ً
يوما ما، األفكار ستساعدك وربما ينجح األمر معك وتصبح ً
أرجوك انتهت الزيارة.
وقف "شهاب" فوقف "أنس" ّ
متأه ًبا وقال:
-إيكادولي ...هل تعني لك ً
شيئا؟
رفع "شهاب" كتفيه في استغراب شديد وقال:
-كيف عرفت اسم روايتي!! لم أخبر أي مخلوق أنني اخترت هذا االسم بعد
لروايتي! حتى دار النشر نفسها ال تعلمه! حتى ّ
السيدة "ناردين" فقد أرسلتها
بعدة اقتراحات لالسم ليس هذا من بينها فقد فكرت فيه إليها معنونة ّ
أمس! ،حتى زوجتي وتوأم روحي التي تشاركني في كل ش يء ال تعرفه!
قال "أنس" في ثقة:
-ألم أخبرك أنني كنت هناك؟ اآلن ستصدقني ..أليس كذلك؟
290
ً
منطقيا أرجوك.. -ماذا تقول؟ ..كن
ً
محتجا: قاطعه "أنس" وقال
-ما حدث لي خارج نطاق املنطق ،ال تخبرني بأن الغابة واململكة والقرى
َّ
حولها غير موجوده ،انظر إلى يدي ،ذاك أثر الحبال ملا حملت َ"مرام"
عندما سقطت من فوق الجبل.
مد "أنس" يده أمام "شهاب" الذي اتسعت حدقتا عينيه عندما رأى أثر ّ
ّ
الحبال املجدولة على يد أنس وذراعه ،تذكر ما كتبه في روايته ،شعر
دقات قلبه من ّ ّ
شدة االنفعال وتراجع بقشعريرة تجتاح جسده ،تسارعت
ّ
خطوة للخلف ،حملق في وجه "أنس" مرة أخرى!! قال بصوت مرتعش:
ّ
-الحبل الذي تعلقت الفتاة به!!
ً ّ
خر "شهاب" على الكرس ي خلفه بعد أن ترنح قليال وقال بخفوت:
-يا إلهي!! ال ّ
أصدق..
-هل ستساعدني إذن؟
-في أي ش يء؟
ّ -
عدل نهاية روايتك ...أرجوك.
ً كان "شهاب" ّ
يحدق في وجه "أنس" الذي انطلق متحدثا بسرعة:
-كنت أعيش في روايتك ،ال أدري كيف ،لكنها الحقيقة ،حتى أنني التقيت
بمحاربة أخرى هناك اسمها َ"مرام" كانت تعيش أحداث رواية أخرى تسمى
"هيال".
ً
" -هيال" رواية أخرى لي بالفعل ...ولكن مهال ..أنت تقول أنك التقيت بتلك
الفتاة هناك؟
َ
نعم"...مرام" -
-بالفعل روايتي الجديدة "إيكادولي" والتي ال يعلم مخلوق أنني اخترت لها
هذا االسم تحتوي على أحداث متشابكة وبها شخصية محارب و محاربة!
291
-أتقصد أنا و َ"مرام"؟
ً
حسنا كما تحب ...أنتما... -
ّ َ
التوسل والرجاء: قال "أنس" بصوت غلبت عليه نبرة
سيدي تحدث عن األمر بت لك الطريقة فهذا سيعني لي الكثير -أرجوك يا ّ
ألنني عشته بالفعل ...قل أنت و َ"مرام"
ّ
تنهد "شهاب" بعمق وقال بهدوء:
ّ حسنا يا "أنس" ،اجلس وأخبرني ّ ً
بكل ما مررت به بالتفصيل ،وكلي آذان -
صاغية.
كفيه بتوتر شديد وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة ويفرك ّ كان "شهاب" ّ
ينصت إلى"أنس" الذي بدأ يحكي له بالتفصيل كل شاردة وواردة ّ
مر بها ،كان
ما يرويه الشاب عص ي على الفهم ،عص ي على الشرح ،عص ي على التصديق!
في النهاية ،وبعد أن أفرغ "أنس" ما بجعبته ،قال "شهاب" بعد أن خلع عويناته
وكأنه يرتب أفكاره: ومسح وجهه وصمت لوهلة ّ
292
متعب ،ر ّحبت بـ "أنس" ووضعت أمامهما كوبين من عصير البرتقال وانصرفت
بهدوء.
التفت "أنس" تجاه "شهاب" وسأله:
-لديك ثالث بنات" ،جميلة" ،و"جمانة" ،و"جويرية" ..أليس كذلك؟
ً ُ
شخص "شهاب" للحظات ،ثم قال مذهوال:
-يبدو أنك اخترقت رأس ي ...وقرأت أفكاري.
-ماذا تعني؟
اقترب "شهاب" من باب الغرفة وأغلقه بحرص وعاد ملكانه وقال بصوت
خفيض:
-هذا ما كنت أحلم به قبل زواجي ،أن ننجب أنا زوجتي ثالث فتيات
متشابهات وكأنهن توائم ولدن في سنوات متفرقة ،نسخة متطابقة
ّ
ومتكررة ،يركضن حولي ويتعلقن بساقي عندما أدلف إلى البيت ،يغرقوني
بالحب" ،جميلة" و"جمانة" و "جويرية" ،هكذا تمنيت ،لكن هللا برحمته
كتب على زوجتي أن تتعثر على درج األمومة ،فهي ال تتخطى الشهر الثاني في
ً
وسريعا ما يسقط الجنين ،وما زلت أحلم ...وما زلنا ننتظر الفرج من حملها
أبدا بذاك الحلم وتلك األمنية ،ولم أحدث به هللا ،لكنني ال أحدثها ً
مخلوق!
-لقد رأيتهن هناك.
ابتسم "شهاب" ور ّبت على ساق "أنس" وقال له:
-بل رأيتهن في رأس ي ،يبدو ّأنك كنت هنا.
وأشار لرأسه وهو يبتسم بلطف ،الحظ "أنس" في تلك اللحظة عالمات
ً
متعبة ذاك ّ ّ
الحد الذي الهم التي ارتسمت على وجه "شهاب" ،كانت روحه
جعله ال يقوى على إكمال حديثه مع "أنس".
293
أطبق عليهما الصمت حيث ندم "أنس" على ما قاله ،بينما جعل هذا
"شهاب" يزداد ثقة به ،فها هو يتحدث عن أحالمه وأمنياته التي يخبئها في
ً
رأسه ،قال "أنس" محاوال أن يخفف عن "شهاب":
-آسف
ّ
هز "شهاب" رأسه وقال بثقة:
-ال عليك ،أعلم ّأنك من النوع الذي يراعي مشاعر اآلخرين ،أنسيت؟ أنا
كل ش يء عنك ،كتبت عنك طوال ّ
األيام املاضية .فسمات أعرف ّ
شخصيتك مطابقة لسمات شخصية املحارب في الرواية.
قام "شهاب" وتوجه نحو أحد الرفوف وأحضر مجموعة من الروايات
وبسطها على مكتبه أمام "أنس" وبدأ يقرأ العناوين:
-هذه رواياتي الخمس ،كل منها رواية منفصلة عن األخريات ،ويا للعجب!
سببا في انتقال الشخصيات من رواية يبدو ّأنك بالفعل عشتها بل وكنت ً
ألخرى بطريقة ما! ..رواية "الغابة املسحورة" حيث العجوز "ناردين ،ورواية
"املجاهيم" وعاملهم تحت األرض ،ورواية "مملكة الشمال" حيث امللكة
ً
متخفيا مع العادلة "الحوراء" وابنها الذي يفعل الخير ويساعد الناس
رفاقه ،ورواية "مملكة الجنوب" حيث كان ملك ظالم وشقيقته األميرة
أحبها شاب حليم الطباع ّ
لكنها كانت أنانية وال شديدة الجمال التي ّ
ّ
تستحقه ،وفي تلك اململكة عدة قرى متجاورة تعكس روعة أهل النوبة ّ
سرها الغامض ،واحدة منها كان لكل قرية ّ وأخالقهم وعاداتهم الجميلةّ ،
ً
وأخيرا هذه فيها كهل يسمى "الرمادي" ّ
يتجول فيها والقى الكثير مع زوجته.
رواية "هيال" التي يبدو ّأنك لم تخترق صفحاتها ،ولو اخترقتها وعشتها
لعشقت أهل النوبة بحق!
ً ُ
ث ّم سكت هنيهة وأردف قائال:
ّ -أما أمر الكتب واملكتبة فهو عظيم لكنني لم أكتب عنه وال عن الصقور!،
وددت لو ذهبت إلى هناك يا "أنس" ..ال شك ّأنه شعور رائع ،وصفك
ّ
والحراس وهيبتهم فتن للمكان والرفوف ولقاؤك بالكتاب في تلك الغرفة
عقلي وأسر روحي.
294
قال "أنس" وهو ينقل عينيه بين أغلفة الروايات:
-ولهذا كان هناك فاصل حجري يفصل بين ّ
كل مكان واآلخر ال يتعداه أحد،
ّ
فكل رواية منفصلة عن األخريات.
-وتلك الفجوات التي كنت تصنعها بالخنجر وتنتقل بها من مكان آلخر كانت
ذكية تنتقل بها من صفحة ألخرى ،وخاصة استخدامك ألرقام طريقة ّ
الصفحات ،حتى ّأنك نجحت في تغيير بعض األحداث! ونقلت بعض
الشخصيات من رواية ألخرى يا "أنس".
-أدركت هذا وأنا هناك.
-لكن ما لم تدركه ّأنك دخلت رواية منهم بطريقة معكوسة ،لقد بدأت
رحلتك من صفحاتها األخيرة يا "أنس"
-ماذا!
عمه في صمت، تحبه ابنة ّ
-القصة تبدأ بشاب س يء الخلق يسمى "كلودة"ّ ،
ُ تتمناه زو ًجا بينما يعيش ّ
قصة حب مع أميرة تدعى "أونتي" كانت أنانية
ّ
وشهوانية ،ال تفكر في مشاعر اآلخرين ،تطارده فيقع في غرامها ،كان الناس
يعرفون بقصتهما ،وكانوا ينفرون منه.
-ألهذا كانت "أشريا" ترفض الزواج منه؟
-نعم ،كانت تعلم خبيئته وتتألم ،وعندما أفاق من غفلته وندم وتوقف عن
عمه ثارت األميرة وغضبت ،وظلت تهدده ليعود إليها،لقائها وتزوج من ابنة ّ
فعاني ً
كثيرا ومرض بسبب فراق زوجته التي جرحها األمر.
تذكر "أنس" عندما ذهب معه للطبيب ّأول ّّ
مرة التقي به فيها وقال:
يعدها طبيب له ،عاني من الهلوسات خاصة ّّ -كان يتناول ً
عالجا من خلطة
وكان ً
حزينا..
ّ -
لكنه ظل على ثباته فأمرت األميرة بقتل ابنتهما ،فهربا للغابة ،فتبعهما
حراس األميرة وقتلت "أشريا" وخطفت ابنتها الرضيعة ،فانطلق "كلودة
ً
هائما على وجهه يبحث عنها حتى وجدها ،وعاد للقرية وأعطاها لزوجة
295
باكيا منكسرا ً
حزينا و ً ً وتنسك وظل على حاله الخباز لترضعها وترعاهاّ ،
ّ ّ ً
يسبح ليال ونها ًرا ويذكر هللا في كل حين. على زوجته،
ُ
سكت "شهاب" للحظات ث ّم أردف:
لكنك بإلباسك القالدة -كان ّأول لقائك ب"كلودة" في الصفحة األخيرةّ ،
لـ"أشريا" وابنتها أنقذتهما من الهالك واملوت على يد "املجاهيم"ّ ،
تغيرت
ُ
بعض املواقف بالطبع ،ث ّم عدت إلى البداية حيث بيت "كلودة" عندما بدأ
صباح أول يوم لك معه ،ولهذا أخبرتني ّأنك شعرت ّأنه بروح جديدة وكأنه
أيضا عندما سألت عن لم يبك في الليلة املاضية كما أخبرتني! ولهذا ً
ً
فاسدا ثم تاب الرضيعة لم تحصل على إجابة شافية ،لقد بدأ "كلودة"
ّ
وتنسك بعد ذلك ولم ينتكس ويضل كما ّ وتزوج من حبيبته "أشريا"،
ّ
ومرت األحداث تتوالى ،وانطلقت تعدل في الرواية أيها ظنن ت أنتّ ،
املحارب! ،بل وسحبت شخصيتين من رواية "إيكادولي" وأدخلتهم رواية
"الغابة املسحورة"! في الحقيقة أنا مذهول! حتى الحبر الذي سكبته
العجوز "ناردين" في جرح "كلودة" أنقذه ألنه شخصية مكتوبة في رواية!..
دماؤه سوداء ّ
ألنها مجرد حبر!
كنت تظن أن "كلودة" و"أشريا" هما أبطال روا ية "إيكادولي" ،والصحيح أن
املحارب واملحاربة هما البطالن! أنتما! أنت و َ"مرام"! كان الجميع هناك
يراكما في صورة املحاربين! كنتما مكانهما!
ّ
شعر "أنس" وكأن هناك من ألقى بجبل من الحجارة على رأسه ،تخشب
لسانه للحظات قبل أن يسأل بصوت متقطع:
-وأي ش يء كنت أحاربه ؟
أود أن أوضحها لك يا "أنس" ،املحارب ال يحارب تحديدا ّ
ً -هذه النقطة
ّ
بخنجر وال بسيف وليست معركته بالنبال والسهام ،حياتنا كلها معارك،
ّ ً ّ
أحيانا أفكارنا الشاذة ،ونحارب أنفسنا عندما وكلنا محاربون ،نحارب
نضل ،ونحارب شهواتنا عندما نتوب ونعود لخالقنا ،ونصارع األنانية فينا،
نحارب الحقد وتلك النفس املتقلبة التي تجرنا أحيانا إلى الشر وتسقطنا في
ّ
الحب ...كلنا الفتنة ،نحارب حتى ننطق بالحق والصدق ،ونحارب من أجل
محاربون.
296
-ملاذا اختارني كتاب "إيكادولي"؟
ً
وجليا وأنت تحكي لي ً
واضحا -ألنك تؤمن بالفضيلة يا "أنس" ،كان
بالتف صيل ّأنك كنت ً
ثابتا عليها حتى وأنت تعاني من السحر ،وحتى عندما
دق الحب على أوتار قلبك ،أنتما أو املحاربان ،كنتما من وجهة نظري
كمؤلف تحاربان نفسيكما ألنكما وقعتما في الحب رغم أنفيكما ،وهذا ما
وصفته في رواية "إيكادولي" ،املحاربان شخصيتان رئيسيتان ،أنت َ
و"مرام"!
كالكما كان يجاهد نفسه ،تمسكتما بالفضيلة آلخر لحظة ،دار صراع
عظيم وأحداث عدة ،وتفرقتما ّ
عدة ّ
مرات.
-وماذا حدث في نهاية الرواية؟ أخبرني كيف كتبتها؟
-تركت النهاية مفتوحة.
-ملاذا؟
-وددت أن أترك للقارئ مساحة ليفكر بنفسه ،ليحدد ما يراه من منظوره
ً
مناسبا.
-وملاذا ..ملاذا تفعل هذا! إما نهاية سعيدة أو مؤملة....اقتلني إذن لكن ال
تتركني هكذا بدونها.
-رضاء القراء غاية ال تدرك ،إن كتبت نهاية سعيدة سيقولون هذا هراء
ّ
القصة ويشبهونها باألفالم التافهة واملسلسالت الفاشلة ،وسيتهمون
بالضعف كالعادة ،وإن كتبت نهاية حزينة سيسبونني ويقولون إن الر اية
و
كئيبة ،النهاية املفتوحة ترمي الكرة في ملعبهم ،فلينهها ّ
كل منهم في خاطره
كما يحب ،أوتدري! حتى النهاية املفتوحة ُتحزن البعض مثلك فهي تتركهم
في تخبط مؤلم كمن سقط منه ش يء ثمين وحزن عليه.
-وأنا؟ َ
و"مرام"؟
الح شبح ابتسامة على وجه "شهاب" وهو يقول:
-أتعلم أنها فكرة مجنونة!
297
-أي فكرة؟
-أن ألتقي بشخصية في رواية كتبتها!!
-لكنني التقيت بك هناك! كنت تهددني ،وأخبرتني أنني لن أستطيع تغيير
ش يء!
-لم أكن أنا! وكانت تلك نفسك تيهئ لك هذا! ...ال تستهن بالصراع الداخلي
الذي كنت تخوضه مع نفسك ،ليتني كنت هناك مع بناتي الالتي وصفتهن
لي!
ّ
همهم "أنس" بكالم غير مفهوم ،بدأ ينهار وتخلى عن تماسكه ،أمسك
"شهاب" بيده بعد أن أشفق عليه وسارا نحو أريكة وثيرة ّ
تتوسط غرفة املكتب
وجلس بجواره يحدثه بهدوء حيث قال:
بأنك شاب طيب وصادق ألنهيت -لوال إحساس ي الذي ال أستطيع تكذيبه ّ
ّ
أنصت إليك هذا اللقاء فو ًراّ .
وألنك أخبرتني بأشياء مخبوءة في رأس ي فقد
وأنا اآلن أصدقك ...لكن أتظنني أستطيع تغيير ش يء؟
-ال أدري!
ّ
منطقي. -بل تدريّ ،
فكل ش يء يحدث لنا في حياتنا له تفسير
-وبعد؟
-ال أدري؟ وددت لو أستطيع أن أساعدك ،لكنني عاجز ،ليس بيدي ش يء!
قال"أنس" وهو يتحسس ضلعه:
-وماذا سأفعل أنا!.
كفه على صدر "أنس" وقال: وضع "شهاب" ّ
ً
أحيانا وأنا أكتب تراودني مشاعر -ألم الفراق ،أعلم ما شعرت به هناك،
مشابهة وكأنني رحلت إلى تلك األماكن التي أكتب عنها ،أشعر بك..
قال "أنس" وكأنه يقطتع الكلمات من قلبه:
298
-و ما أحمله اآلن من ألم؟
ّ
ترقرقت دمعة في عينيه فتأثر "شهاب" وقال وهو يضع يده على صدر
"أنس":
ً
مفتوحا أمامي ّأيها الشاب -حتى ما تحمله اآلن من ألم ...فقد صرت ً
كتابا
الطيب ،قد تظن أن حياتك قد انتهت ،وأن كل لحظة تعيشها ستزيد ّ
لكنك ستسعد عندما وأنه ال يوجد بصيص نور في هذا الظالمّ ، همكّ ، ّ
تبتسم في وجه عجوز ،أو تنظر برحمة لصديق ،أو تقف بجواره في محنة،
جائعا ،أو تسعد أحدهم بكلمة ،نفحات السعادة التي ً أو تطعم ً
فما
ّ
ستمنحها لآلخرين سترتد إليك بعد حين ،قد يكون الحصول على السعادة
لكن منحها ملن حولنا أيسر بكثير. أمر صعبّ ،
ُ
ثم قال بحنان:
يدي أنا مخلوق ضعيف مثلك ،ما مررت به تظن أن قدرك بين ّ " -أنس" ،ال ّ
ً
جميعا لكن األقدار بيد هللا وحده ،هو الذي يكتب علينا غريب وعجيبّ ،
ً ّ
ما سيحدث لنا ،ما أنا إال شخص ضعيف يحاول أن يكتب شيئا يبني ً
قيما
ً
هنا ،ويزرع أمال يزهر هناك ،لكنني في النهاية ضعيف ليس بيدي ش يء
ّ ّ
أقدمه لك ،وإال كنت قد قدمته لنفس ي قبلك! فال تلجأ إال هلل
وحده...اطلبها منه!
ٌ
تند منه َّأنة
وأقر ما سمعه وعيناه ساهمتان ،كادت ّ رمش "أنس" بعينيهّ ،
ٌ
موجعة ّ
لكنه تماسك ،تمتم بالدعاء بصوت خفيض "اللهم اجبر كسر قلبي"،
ودع "شهاب" وشكره على إنصاته له وكاد ينصرف ساكنا للحظاتُ .ث ّم ّ ً وجلس
لوال ّأن "شهاب" استوقفه وقال له:
-األمر يشبه ما حكيته عن العجوز "ناردين" ،اهمس بالدعاء ..فالهمس
طيات سهام الليل يسبق ما بالدعاء وبحكايانا التي توجعنا ونخبئها بين ّ
نعيشه وما نكتبه! أما تعلم أن الدعاء يتصارع مع القدر ويغلبه أحياناً
ويسبقه!
ً ُ
ثم ابتسم "شهاب" وعانقه طويال ،انصرف "أنس" وقد ازداد شعوره
هائل من الحزن .كانت زوجة "شهاب"برصيد ٍ
ٍ بالغربة والوحشة ،وغادر املكان
299
تراقبه من خلف زجاج النافذة ،اقترب منها "شهاب" وأحاط كتفها بذراعه ،كاد
ّ يخبرها عن "أنس" ّ
لكنه خش ي أال تصدقه! ظال يراقبانه وهو يبتعد .قالت
بهدوء:
ّ
-أليس هذا هو الشاب اللطيف الذي كان يداعب األطفال الصغار في محطة
القطار والذي رأي ناه منذ أسبوع أو أكثر ونحن عائدان من الفيوم؟
-يا إلهي ...يبدو ّأنه هو!
ً
مفكرا ،هل من املمكن أن ينقله صقر إلى مملكة ابتسم "شهاب" وأطرق
البالغة في يوم ما!
❐❐❐
300
()25
النهاية
304
-كان "أنس" طوق النجاة ل َـ"مرام" عندما أنقذها من املوت ،وستكون طوق
النجاة لقلبه.
مضت "الحوراء" في الغابة تسحبها َ"مرام" وهي تبكي ،كانت ّ
تظن أن امللكة
ستستدعي الصقور ربما أو ترسلها إلى مكان ما ،لكنها لم تتخيل أنها ستدخل
معها الغابة بنفسها!
لم تتمن َ"مرام" أن يحدث هذا ،لكنه القدر!
❐❐❐
أيضا يسير وحده بدون مساعدة ،فهو يحفظ -هكذا يظن الكثيرون ،ألنه ً
كل شبر باململكة.
ّ -إنه رجل عظيم.
عظيما ً
ً ً
أيضا ،إن كان -نعم يا ابنتي ،هو رجل عظيم وأب رائع ،وكان ملكا
فقد بصره فهو لم يفقد بصيرته.
هبت رياح قوية أطارت أوراق األشجار املتساقطة على األرض وأطاحت ّ
باألغصان الصغيرة فوق سطح مياة النهر األخضر حيث كانت "الحوراء" تسير
مع َ"مرام" ،ظهرت "ناردين" فجأة ووقفت وهي تستند على عكازها ،همست
بكلمات لم تفهمها َ"مرام" فإذا بالحوراء تبتسم وتضغط على يدها وتقول
بحماس:
" -ناردين"؟ أهذا أنت؟
طالعتها العجوز وقالت بإجالل:
-نعم يا موالتي ،هي أنا ...العجوز الوحيدة في الغابة.
-كم كنت أتمنى أن ألقاك.
-وها نحن ذا ..نلتقي ً
أخيرا.
أحنت امللكة رأسها وقالت بخفوت:
-ليتني أرى وجهك.
-لقد فات األوان يا موالتي.
306
-نعم ...لقد فات األوان.
دخلت الغابة؟ِ -ملاذا
-من أجل َ"مرام" ...طلبت حق التدوين ،تريد أن تكتب ّ
قصة حبها.
التفتت "ناردين" إلى َ"مرام" وقالت:
-ولكن نهايتها مؤملة يا َ"مرام"!
ّ
زفرت َ"مرام" بقهر ولم تتكلم ،استدارت "ناردين" وضربت األرض بعكازها
واهتزت أشجارها وأسقط املزيد من أوراقها على األرض ،من ّ تجت الغابةفار ّ
بعيد ومن خلف الجبل األحمر أطلت كوكبة من الصقور يحلقون في نظام
بديع ،كان هناك صقر كبير يتقدمهم بينما يصطف خلفه الصقور على
وعددا ّ
ً ً
وكأنهم جيش كبير ،اقتربوا تجللهم التوازي في خطوط تزداد طوال
الهيبة وحلقوا للحظات قبل أن يهبطوا على األرض الفسيحة أمام "ناردين"،
ضموا أجنحتهم إلى أجسادهم ووقفواوقفوا بنظام كما كانوا يطيرون بنظامّ ،
برءوس شامخة ينظرون تجاه امللكة "الحوراء" ،ارتجفت َ"مرام" وجاست
ّ
استقرت خالل الصفوف تبحث عن قطرة الدمع ،اطمأنت ً
أخيرا عندما
عيناها عليها وقد عرفتها من لون ريش رأسها املميز ،استدارت "ناردين"
ووجهت حديثها إلى امللكة وقالت:
-تفضلي يا موالتي.
ّ
التحية على خطت "الحوراء" خطوة لألمام ،وبدأت تتحدث بإيجاز ،ألقت
الصقور ،ذكرت أسماء بعضهم ممن قضوا نحبهم خالل سنوات مضت،
ّ
ذكرتهم بأحداث جليلةّ ،
تحدثت عن أبيها ،وعن الكتب التي تتحدث عن النور،
والخير ،والحب ،والصدق ،والفضيلة .عن الحروف والكلمات ،وعن قيمة ما
ُيكتب ُويقرأ ،كانت الصقور تنصت إليها في صمت بليغ ،لم ّ
يتحرك أحد منهم،
ّ
ولم ّيرف لهم جناح ،إال عندما ذكرت "القرناس" ،وكيف كان سيقض ي على
"أنس" لوال "الرمادي" الذي أنقذ حياته فحينها أصدروا غمغمات تش ي
بغضبهم منه ،سألت عن "الرمادي" فأسرعت "ناردين" تنفي وجوده ،لم يعد
تذكرت كيف رحل "أنس" دون ّ بعد!ّ ،نكست "الحوراء" أسها ً
حزنا عندما ر
307
أخيرا من الصقور أن يساعدوا َ"مرام" لتقوم بكتابة وداع يليق به ،طلبت ً
مرت لحظة صمت مهيبة قبل أن يبسط أكبر الصقـ ـ ـ ـور حبها على الورقّ ، قصة ّّ
ُ
جناحيه ثم يقترب من امللكة التي انحنت على َ"مرام" وقالت لها:
-اآلن يا َ"مرام"
-اآلن ماذا؟
-سيحملك هذا الصقر إلى املكتبة العظمى حيث ستكتبين ما يريح قلبك
-ولكن...
شعرت َ"مرام" بالخوف ،كادت تتراجع لوال "القرناس" الذي ظهر فجأة ونقر
كبير الصقور بين عينيه ،تراجعت الصقور وأفسحوا املجال لزعيمهم ليقاتل
ّ ّ
انقض كالهما على اآلخر في معركة شرسة ،شكلت الصقور دائرة "القرناس"،
َ
حولهم فغاب املشهد عن "مرام" التي كانت تمسك بيد امللكة ومعهما
العجوز"ناردين" ،ابتعد الثالثة وساروا نحو الكوخ ،ال ّبد من االحتماء به حتى
تنتهي املعركة ،من الخلف ظهرت َ"نبرة" وفي يدها خنجر غريب يبرق ّ
حده
ّ
انقضت كاللجين ،كان "القرناس" قد حملها إلى الغابة وتركها خلف األشجار،
ضا وكادت تغرز الخنجر في قلبها وهي تقول:على َ"مرام" وأسقطتها أر ً
يوما لي ،فلن يكون ً
يوما لك. -إن لم يكن "أنس" ً
ّثم أطلقت صرخة غضب عالية وهي ترفع يدها لألعلى لكي تهوي بالخنجر
ّ
انقضت بومتها عليها وغرزت مخالبها في وتثقب قلب َ"مرام" ،في تلك اللحظة
عينيها فسقط الخنجر من يدها واستمر صراخها وهي تركض في الغابة حتى
ً ُ
سوادا ،ث ّم عاد لونه الزمردي بعد أن سقطت في النهر األخضر الذي استحال
ّ أحدث فور ًانا وكأنه يبتلع ً
شيئا ما ،حلقت البومة البيضاء التي طاملا كانت
َ ّ َ
"نبرة" ترى بعينيها فوق النهر حتى تأكدت أن "نبرة" غرقت فيه ،لم تنس تلك
ّ العش ّ
ّ َ البومة ً
ألنها انشغلت بهم ولم تحلق أبدا عندما خنقت "نبرة" صغارها في
ً
ليال أليام جعلتها ال تتمكن من متابعة تحركات "أنس" ،كرهت تلك اللحظة
أبدا ،عادت حيث كانت َ"مرام"التي قهرتها فيها "نبرة" على صغارها ولم تنسها ً
ُ
ورمقتها بنظرة تعني الكثير ،ث ّم حطت على رأس "الحوراء" التي صاحت:
308
-ما هذا! ما الذي يحدث! اتركوني اتركوني.
أسرعت َ"مرام" تجاه "الحوراء" محاولة إزاحة البومة عن رأسها ،لكن
"ناردين" منعتها بعكازها الذي مدته أمام صدر َ"مرام" وهي تتقدم وقالت لها:
-ال...اتركيها!
ُّ ّ ّ
اهتزت البومة وبسطت جناحيها األبيضين وغطت عيني "الحوراء" بهما ثم
لتستقر على كتف "الحوراء" التيّ أغمضت عينيها هي األخرى للحظات ونزلت
كانت في غاية االرتباك بينما وبشكل سريع انتشرت على أطراف جناحيها
ّ
قوة وزادتها تأل ًقا تموجات رفيعة باللون الالزوردي ّ
الفتان أظهرت بياض لونها ب ّ
ً
وجماال ،وفجأة! صرخت "الحوراء":
-ما هذا! أنا أرى!! عاد بصري!! ..عاد بصري!!
ُ
تهلل وجه "ناردين" واقتربت منها ثم قالت:
-بل منحتك البومة هدية ،أنت ترين اآلن بعينيها كما كان يحدث مع "نبرة"
الهالكة ،ستصحبك البومة وستكون دليلك يا موالتي.
وتأملت لونها الرائع وابتسمت ،كان بياضها التفتت "الحوراء" تجاه البومة ّ
ّ
يحاكي روح "الحوراء" النقية ،قالت "الحوراء" وقد بدا التأثر عليها:
-سأسميها "الشهباء" ،كم هي جميلة!
هبت عليهم انتفض الثالثة عندما قعقع الرعد في السماء ،رياح ّ
قوية ّ
وتناهى إلى سمعهم غقغقة أحد الصقور ...كان "القرناس" يلفظ أنفاسه
مرة أخرى خلف زعيمهم الذي اقترب ّ
يستعد الجميع للتحليق ّ األخيرة ،بينما
من َ"مرام" وما زالت الدماء تقطر من منقاره ،ودون أن يسأل الحوراء حمل
َ"مرام" من كتفيها وانطلق بها وخلفه الصقور في صفوف ،اشتدت الرياح،
كل صوب ،كانت "ناردين" تصيح وتلوح لها:ندف شلجية صغيرة تتطاير في ّ
310
وبينما تبكي ...شعرت بأنفاس دافئة قريبة من وجهها فأجفلت فهي وحدها
ٌ
همس بصوت عذب تردد في أذنيها! في تلك الغرفة!
إنه كتاب "إيكادولي" الذي كان يخبرها بش يء ما!!
❐❐❐
في الغابة ،التفتت "ناردين" تجاه امللكة التي كانت تراها بعيني بومتها
ً
وأخيرا رأت وجهها ومالمحها ،عانقتها "الشهباء" ،ابتسمت لها "الحوراء"،
ّ
بحرارة وسارت معها ،صعدت العجوز التلة وجلست على الدرج الحجري
ُ
فجلست امللكة "الحوراء" بجوارها ث ّم قالت وعلى وجهها ابتسامة مشرقة:
أظن ّأن َ"مرام" ستحسن كتابة نهاية سعيدة.ّ -
-املسكينة ،تظن أنها تستطيع كتابة النهاية بنفسها ،لكنها ستفيق بعد مرور
الصدمة ،ولست قلقة عليها ،فهي فتاة عاقلة ومؤمنة تعلم أن أمرهما بيد
هللا وحده.
قالت "ناردين" ّ
بتعجب:
-ألن تكتب هي النهاية؟
-ال!
-إذن فلم طلبت ّ
حق التدوين؟
كل هذا مكتوب في رواية!! كان ال ّبد أن تطلب أنسيت يا "ناردين" أن ّ
ِ -
أنت. َ
"مرام" حق التدوين لتذهب إلى هناك لسبب ما ربما ال أعرفه أنا وال ِ
ً
عموما ،ال تزال لقصتهما بقية ...فالستار لم يسدل بعد. -صحيح ..نسيت..
لكزتها "الحوراء" في ذراعها وقالت:
-نحن النساء نفضل النهايات السعيدة ،أليس كذلك؟
311
-نعم ،فأنا ال أفضل النهايات املفتوحة ،أرأيت كيف أصبحت نهاية ّ
قصة
"كلودة" و "أشريا"؟
صفقت "الحوراء" وقالت مبتهجة: ّ
-نعم ..لم تمت "أشريا" بل خرجت من الغابة ،واآلن يعيش الزوجان في
سعادة.
ُّ ّ
رفعت "ناردين" عينيها وكأنها تقتنص فكرة ثم قالت:
ً ُ
-لكنني ...وددت أن يتزوج "كومبو" من فتاة جميلة ،ويسمن قليال حتى
يناسبه اسمه! رّبما في ّ
مرة قادمة ،أليس كذلك؟
-ولم ال!!
ُ
-واآلن ...تعالي لنهمس بقصة "أنس" و َ"مرام" حتى نسمع الجميع.
ّ -
هيا ....فلنبدأ.
بدأت العجوز "ناردين" تهمس و خلفها "الحوراء" تردد الكلمات ...سمعتهما
حب عفيفقصة ّ الرياح وحملت أصواتهما هنا وهناك ،وتناقلت أجواء الكون ّ
طاهر...،
❐❐❐
في اليوم التالي ليوم لقائه بـ "شهاب" في القاهرة ،وبعد ليلة لم ينم فيها
ووصل سهده بتهجده وهمس بالدعاء ،وعلى شاطئ البحر في اإلسكندرية ،بعد
ّ
أن تذكر وسط يأسه وحزنه أنه كان قد اتفق مع "مرام" على مكان للقاء،
وظل يفسح له حتى مأل الضياء جوانب نفسه فلمع في نفسه بصيص أمل ّ
ً
فأسرع مهروال تجاه املكان الذي اتفقا عليه منذ طلوع فجر ذلك اليوم ،كان
ساهما يراقب الساعة من آن آلخر ،وكلما مرت دقيقة كان يشعر ً يقف
312
باالختناق ّ
وكأنه على وشك الغرق ،كان ينتظر طوق النجاة لقلبه ،يرجو أن
ً أنثويا ً ً
ولطيفا خلف أذنه فيقامرة أخرى ،ارتج كيانه وهو يسمع صوتا ًّ ر
يراها ّ
يناديه:
" -أنس"؟ أهو أنت؟!
ً
شعر بوجيب في قلبه عندما سمع صوتها ،التفت مرتبكا فإذا ب ـ ـهـ ـ ـ ـا خلف ـ ـ ـ ـ ـ ـه
بقامتها القصيرة وجسدها الرقيق ومالمحها البريئة ،وعينيها الرائعتين ،مخبوءة
في شعاع نوراني من حيائها الجميلّ ...إنها َ"مرام"!!
صاح بحماس غير مبال بالتفات املا ّرة إليه:
"َ -مرام" ...يا إلهي!
بث فيها كل ما بقلبه من أشواق ،رفعت كفها في الهواء طالعها بنظرة ّ
فظهرت آثار الحبال املجدولة عليه ،ما زال الجرح يحرقها ،رفع "أنس" هو اآلخر
وكأن كالهما يريد أن يثبت لآلخر ّأنه
كفه وذراعهّ ، يده ليريها آثار الحبال على ّ
هو .بدا عليهما االرتباك املمزوج بالسعادة ،ملعت دمعة طاهرة في عينها كنجمة
خدها برفق ،رفعت عينيها الشهالوين قطب ّثم نفرت من جفنها وسالت على ّ
وعليهما آثار التعب وقالت:
-ظننتك ّ
مجرد شخصية في رواية ،هكذا أخبرتني أمي...
ّ
مرت لحظة صمت لطيف قال بعدها:
-كيف عدت إلى هنا؟
-أمر امللك الجديد "قطرة الدمع" بإعادتي.
-ملك جديد!
-تخلت "الحوراء" عن عرشها البنها.
313
" -الزاجل األزرق"!
-وهل كنت تعرف ّأنه ابنها؟
-بل عرفت عندما أتيت إلى هنا ،سأخبرك ً
الحقا ،يبدو ّأن كالنا لديه ما
يحكيه لآلخر ،املهم أننا التقينا ،وهذا من فضل هللا ،كنت على يقين ّأنني
سأجدك هنا ...وثقت بربي.
قالت وهي تشعر أن كيانها يختلج:
ّ
-أتدري ،همس لي "إيكادولي" يذكرني باملكان واملوعد الذي اتفقنا أن نلتقي
فيه ً
يوما إن افترقنا..أرجوك ال تختفي ّ
مرة أخرى...
أجدك ،كوني على ثقة من هذا. -وإن حدث ...سأبحث ّ
عنك حتى
ِ
انزوت على ثغرها ابتسامة وقالت وهي تشيح بعينيها ً
بعيدا عنه:
-أثق بهذا.
ّثم قالت باهتمام شديد:
قمة الجبل أخبرتني أن أذكرك بش يء ما ّ
تود أن كنا فوق ّ" -أنس" ،عندما ّ
تخبرني به ،فهل ما زلت تذكر هذا األمر الهام؟
-بالطبع أذكره ،وكيف أنساه!
-وما هو؟
أومضت حفنة من النجوم في عينيه البندقيتين وقال:
-هل تقبلين الزواج ّ
مني؟
لم تنطق َ"مرام" بكلمة ،كانت الدموع تنهمر على وجنتيها مختلطة بماء
ُ ّ
املطر الذي بدأ يهطل برقة وعذوبة ،غمرتها حمرة الخجل ،ث ّم همهمت موافقة
314
بصوت خفيض ،شعر "أنس" بالفرحة تموج في صدره ،كست وجهه ابتسامة ٍ
واسعة فأشرقت عيناه ،كان يتأرجح في مكانه وكأن صاعقة أصابته فجأة..
اختبأ قرص الشمس خلف سحابة هشة وبدأ املطر الهتون يسقط عليهما،
دس "أنس" يديه في جيبي سترته وسألها عن الساعة وهي التي كانت خارجّ
ُ
نطاق الزمان واملكان ،ثم قال بحماس:
-فلنذهب اآلن للقاء والدتك..
ردت مشرقة:
ً
حسنا أيها املحارب. -
ُ
قهقه "أنس" وفتح ذراعيه ث ّم رفع رأسه يستقبل ز ّخات املطر على وجهه
الحب ،بدأ يغني بصوت تنضج منه البهجة و في لحن جميل كان ّ الذي أضاءه
يردد أغنية طاملا رددها "كلودة" و "كومبو" ،كانت بدايتها كلمة واحدة محببة
لقلبه" ...إيكادولي ....إيكادولي"
غضنت َ"مرام" حاجبيها وقالت بغضب ممزوج بالخجل:
ً ً
-مهال مهال ...ليس اآلن!
ّ ُ
ث ّم هرولت أمامه في خجل ورفعت يدها لتستوقف سيارة أجرة تقلهما
للقاء ّأمها بينما كان يالحقها معتذ ًرا وهو يقول:
-كنت أغنيها فقط...لم أقصد أن ...يا َ"مرام" لقد فهمتني خطأ ..أأقصد ..
هذا بالفعل ما أشعر به ..سامحيني.
" -ليس اآلن ...ليس اآلن"
قالتها وهي تهرب بعينيها منه...
315
بعد سنوات ،وحيث حملت األيام ثالث بشريات لـ"شهاب" وزوجته ،ونثرت
الكثير من السعادة على َ"مرام" و"أنس" ،وفي بيت ّ
الجد ،وبينما في بقعة أخرى
من مكان آخر كان هناك شاب لطيف وواسع الخيال يجلس في غرفته ويقرض
أظافر يده اليسرى ويتمتم وهو يكتب آخر جملة في روايته الجديدة ..كانت
بالفيوم حول "حبيبة" شقيقة "أنس" ،والتي كادتّ الكتب تدور في مكتبة ّ
الجد
تفقد الوعي عندما سقطت الكتب فجأة على أرض الغرفة مخلفة حولها
دويا ً
مهيبا ،كان هناك كتاب واحد سحابة من الغبار حيث أصدر سقوطها ًّ
ً
مفتوحا أمامها ،كانت ترتجف وهي تحملق في الصفحات وهي تتقلب فقط بقي
شبحا يعبث فيها ،اقتربت بحذر من الكتاب،وحدها أمام عينيها وكأن هناك ً
غريبا ُيكتب
مزا ً رأت صورتها ُترسم على الصفحةُ ،ث ّم بلون أحمر كرزي رأت ر ً
بوضوح!
..متت ..
316