Professional Documents
Culture Documents
محمد علي
Email publish@tashkeel- publishing.com
Website www.tashkee-publishing.com
Mobile 201006250473 FB/Tashkeeel
I.S.B.N : 978-977-6555-44-0
رقــم اإليــــداع2017/3857 :
الـطبـعـة األوىل 2017 :
تصميم الغـالف :أحمد فرج
التدقيق اللغوي :أحمد املنزالوي
اإلخراج الداخيل :ضياء فريد
املـديـــر العــام :سيد شعبان
-3-
وحيدث أن هيبك اهلل هب ًة ت ُ
ُنبت أرضك التي بارت ىف سنينك العجاف..
-5-
مقدمة..
األسود
َ إىل
ربام كنت أتغاىض دو ًما عن ِذكر دورك يف حيايت ولكني ال أجد برهانًا
لذلك غري أن أنجب ولدً ا ألحتدث عنك فقط ! ،لك كتايب هذا فتلقفه بيمينك
واتلوه يف خشوع فغري مسموح بقراءته فقط.
سـيظن البعـض أين قـد مسـني الشـيطان ومتكـن اجلنـون منـي كـي
أخاطـب لونًـا ! ربما يكونـوا صادقين ولكـن أعلـم مـاذا أفعل وسـأفعل ما
أقولـه دائما «دعهـم يقولـون إنك قد صبئـت فلربام لـن يدخل اجلنة سـواك».
لسـت لونًـا يـا صديقـي ،فأنـت أعظـم مـن ذلـك ،فـإين أرى الظلام
أسـود ،وأرى احلـزن أسـود ،فكيـف بمـن وصفـوه بركنـي دنيـاي أن يكـون
لونًـا فقـط ! ،تنزهـت يـا صديقـي عـن ذلك.
رغم عنه:
صديقك الدائم ً
حممد عيل
-7-
1994
«عـادة ما يكون السـكون التام داللـ ًة عىل أن العاصفـة تتأهب للمجيء
يف أي حلظة»..
بخطـوات ثقيلـة ،نـزل مـن على املنبر الشـيخ «ياسين» إمام املسـجد
بعضا ووقفـوا ثابتني
ويبـدو أنـه يتمتم بـأذكار حتى حـاذى اجلميـع بعضهـم ً
هادئين كأنما على رؤوسـهم الطير ينتظـرون أن يعلـن إمامهـم بدايـة فعلـه
لشيء لينطلقـوا يتبعونـه يف طواعيـة شـديدة.
-8-
حـركات دراماتيكيـة مقرتنة بأقـوال خمصوصـة تصحبها راحة نفسـية،
هكـذا يطلقـون على اليشء الـذي ختتلف األديـان أمجعهـا يف هيئتهـا ولكنهم
أيضـا يف مسماها ،إهنـا «ال خيتلفـون يف وجودهـا أم عدمهـا ،وال خيتلفـون ً
الصالة « ،سـبيل الذيـن يعتقدون بوجود يشء يسـتحق العنـاء ألجله يف حياة
أيضا ملن ضـاق ذر ًعـا من حياتـه فلجأ هلـا طم ًعا
آخـرة بعـد املـوت ،ومـأوى ً
يسر بعـد عسر ،وعادة قـد اعتاد عليهـا البعـض كروتني يومـي ال بد منه.يف ٍ
السـلم الوحيـد الـذى تعـد هنايته ولكـن اجلميـع يتفـق على أن الصلاة هـي ُ
يف مجيـع درجاتـه ،فأينما وكيفما ووقتام صعـدت جتده ،سـتجد مـن تصيل له.
فعلى الرغـم مـن اختلاف صالهتـم فإهنـم يتفقـون على شـىء واحـد ،عني
ثاقبـة تراقـب مـا حيـدث يف هدوء تـام ،ذلـك الـذي نصيل لـه وألجله.
-ظننـت أنـك اشـتقت إ َّيل فجئـت إليـك مرس ًعـا ..نفتقـدك ونفتقـد
أيامنـا سـو ًيا..اعتقد أنـك لـن تنسـاها أبـدً ا.
-9-
-مل تتغري مطل ًقا شيخ ياسني.
ضحـك حسـن بصـوت عـال مما جعـل مجيـع مـن يف املسـجد ينظرون
ناظـرا إليهـم يف ضجر وغضب ثـم أعاد نظـره ثانية
ً نحـوه فالتفـت يف رسعـة
إىل ياسين الـذي مل حيـرك سـاكنًا ،ثم مهـس يف اذنه:
-عندمـا يأتـون بـك إ َّيل ال أريـد أن أرى تلـك املسـبحة جمـد ًدا ..أظـن
أنـك سـمعتني جيدً ا.
*****
- 10 -
قليوب1994 -
الليـل رسمـدي ،اهلدوء رسمدي ،ال يشء هنا يسـتطيع أن خيتلق لنفسـه
مغايرا فال تصفـه بالرسمدي.
ً مسـارا
ً
قليـوب ،معقـل بيربس احلاكـم األول هلا ،هنا مسـجده العتيق وبجواره
تشـتم رائحـة قبـور جنـوده تزيـن آثـار تلـك البلـدة .على الضفـة األخرى،
مـرت مريـم العـذراء على إحـدى البقـاع فقـدس أهـل قليـوب تلـك البقعة
ديرا وسـموه باسـمها.
املباركـة وبنـوا ً
الـكل هنـا ،قليـوب؛ معشـوقة «ياسين» ،حيـث سـقطت رأسـه هنـا
وتتابعـت بعدهـا رؤوس مجيـع مـن أحـب.
فـرغ «ياسين» مـن يومـه املرهق كعـادة أيـام اجلمعـة وخاصـة إذا كان
أيضـا مـن ٍ
بمسـجد ال خيلـو مـن املصلين يف اخلمـس صلـوات ،وال خيلـو ً
صـورا تذكاريـة ضاربني بحرمـة أوقات
ً السـائحني؛ هـؤالء الذين يسترقون
الصلاة أسـفل احلائـط .تلك هي عـادة مجيع مسـاجد مرص القديمـة وخاصة
هـذا املسـجد ،مسـجد األقمـر القاطـن بمنتصـف شـارع املعـز لديـن اهلل
الفاطمـي.
- 11 -
أخـذت األعمـدة تتالعب بظل الشـيخ حتى ظهـر أمامـه ثالثة ظالل،
نعم فللشـيخ ثالثـة أرجل.
يميش «ياسني» وبيده رمحة هيش هبا عىل األحجار التي يمكن أن ُت َع ِّثر
طريقه ،حيادثها وكأهنا تسمعه؛ فمنذ أن أخربه الطبيب أنه البد للعصا أن تقرتن
به طيلة حياته وأصبحت من حينها قرينته ح ًقا ،فمنذ أن ضعف برصه قوت
عالقتهام ،وكلام يزيد الضعف تزيد القوة ،تلك هي عصاه ،تلك هي رمحة.
البيـــت قديـــم نو ًعـــا مـــا ،فقـــد يرجـــع بنـــاؤه إىل والـــد «ياســـن»
ناظـــرا لعائلـــة «الربمـــاوي» ،تلـــك العائلـــة التـــي
ً الـــذي كان يعمـــل
كان ــت متل ــك معظ ــم أرايض قلي ــوب يف ظ ــل اإلقطاعي ــة قب ــل قي ــام ث ــورة
23يوليـــو وبدايـــة احلكـــم العســـكري ملـــر حتـــى اآلن.
- 12 -
هبـدوء تـام ،يصعـد ياسين السـلم حتـى وصـل إىل بـاب شـقته وفور
حماذاتـه للبـاب وجـد البـاب يفتـح وحـده وخيـرج مـن ورائـه صـوت أشـبه
بلحـن قـد رشد مـن «مـوزارت» وسـكن يف تلـك الشـقة :
-محدً ا هلل عىل سالمتك يا ياسني ..ال أسوأ من يوم ال أراك فيه.
-تعلمين أن يـوم اجلمعـة يكـون مره ًقـا نو ًعـا مـا ..وأهـل املسـجد
يـودون جمالسـتي طـوال اليـوم ..احلمـد هلل على حمبـة النـاس.
أخـذت بيـده وصارت بـه إىل املائدة ليجلـس فتأيت بالطعـام وهي تقول
بثقة بالغة:
صم ــت « ياس ــن» للحظ ــات ث ــم نظ ــر هل ــا وق ــد ب ــدا ع ــى مالحم ــه
اجلدي ــة:
-أتعلمين يـا رمحـة ! ربما قـد ابتلاين اهلل بضعف نظـري الـذي يزداد
مـن حين آلخـر لكنـي ال امتلـك حـق االعتراض أو حتـى املطالبـة باجلزاء
على صبري ! فمـن كافـأه اهلل بك كيـف جيرؤ على املطالبـة بيشء آخـر ! أي
يشء ذلـك الـذي يعـادل ُحسـنك ورمحتـك يـا رمحة.
- 13 -
-وكالعـادة تفـوز يف النهايـة ..ال اسـتطيع الـرد عىل ما تقـول فأصمت
ولكنـي تلـك املرة لـن أصمت ..هنـاك شـي ًئا اعتقد بأنه سـيغري أشـياء كثرية.
رفـع رأسـه إىل السماء وكأنه حيدث ربه بأشـياء ال يسـمعه سـوامها ،ثم
ذهـب بعيـدً ا بذاكرتـه إىل أربعين سـنة ماضيـة وحتديـدً ا يف الرابـع والعرشين
مـن نوفمبر حني أطلـق رصختـه و بـدأت رحلته مـن حينها.
- 14 -
و..
- 15 -
نوفمرب 1954
أنا ياسني ..الناجي األول.
- 16 -
الرابـع والعشرون مـن نوفمبر عـام ،1954كان ذلك الوقت مناسـ ًبا
إلطلاق رصختي فيسـمعها مجيع مـن يف البيـت .تباينـت ردود األفعال حني
أيضـا ،بينام بـدا أيب غري
ذلـك ،فتوقـع النسـاء الاليت نعتـن أمي بالشـؤم مويت ً
ٍ
مكترث بما حيـدث وأعتقـد أنـه توقع مـويت هـو اآلخر .كفـر اجلميـع ببقائي
إال أمـي ،آمنـت وحدهـا يب فام كان مـن القـدر إال أن يؤمن هـو اآلخر.
ولدت هنا ..قليوب ،يف بيت يرجع أصله إىل جدي الذي أمر بمكوث
مجيع أبنائه وأحفاده يف هذا البيت .البيت ضيق جدً ا عىل الرغم من مساحته
الواسعة ،الكل مقيد هنا ،أقفال عىل العقول والقلوب وال يملك مفتاحها إال
رجل واحد ،ناظر مجيع أرايض عائلة «الربماوي» وهذا ما يعني أن ذلك الرجل
يمتلك بيده األمر والنهي يف معظم أرايض قليوب ،إنه جدي.
صــارم ،قليــل الــكالم ،يفطــن الطريــق جيــدً ا إىل التفريــق بــن أبنائــه
أيضــا.
يف املعاملــة والعطــاء ،حتــى يف اإلرث ً
كان أيب أكبر أعاممـي سـنًا ولكنـه أبعدهم عـن جدي ،ال أعلم السـبب
لذلـك وال أريد.
تربيـت هنا ،يف ذلك البيت الواسـع ذي األسـقف الشـاهقة ،وسـط كم
هائـل من أبنـاء وبنـات أعاممي حتـى توالت النجـاة بعد ذلك .كنـت الناجي
األول الـذي فتـح با ًبـا للنجاة وتركـه خلفه غير موصد .أنجبـت أمي إخويت
تبا ًعـا حتـى أصبحنا ولدين وبنتين ،أنا أكربهم سـنًا ولكن أضعفهم جسـدً ا،
أثـرا لن يمحـى طيلـة حيايت ،مل
مل تـدرك أمـي أن حزهنـا ووجعهـا سـيرتك ّيف ً
تـدرك أن دموعهـا التـي حبسـتها بداخلها ستسـتقر يف عيني أنـا ،مل تدرك أمي
أيضا.
أن سـأعاقب عىل ذنـب مل اقرتفه أنـا ً
- 17 -
ولـدت ضعيـف النظر ،ومل يكن غري ًبـا عىل طفل مل جياوز السادسـة بعد
أن يتأهـب لعمليـة جراحيـة يف عينيـه ليتعين له اللعب مـع أصدقائـه مثلهم،
عـذرا ال ألكـون مثلهـم بـل يكفـي أن أراهـم جيدا واسـتطيع السير وحدي
ً
دون أن يضايقـوين بكلمات مل تذهـب من عقيل حتـى اآلن..
أتذكـر يومهـا جيـدً ا ،جاءتني أمي وأنـا بغرفتي أمسـك النظـارة وكأين
أحادثهـا فجلسـت بجـواري وقالت وهـي تشير إىل النظارة:
-عليـك يا بنـي أن تعدها جـز ًءا منـك وأن حتبها ،فاحلب يا بني يسـهل
الطريـق إىل كل يشء ،أأخبرك شـي ًئا؟ يمكـن لك أن تسـميها باسـم يشء حتبه
وهذا سـيجعلك تدرجي ًيـا حتبها.
- 18 -
األشـياء مـن حـويل تتغير تدرجي ًيـا ،بـدأت أرى األشـياء أمامـي عبر
صنـدوق زجاجـي رغم أهنـم يف مـكان آخر،أصبح كل يشء يـدور إىل التطور
كل ينطفيء حتـى عينـي ،فكلما يـزداد النور يف عقـول العـامل يقـل يف عينـيٌ .
بالتدريـج ،حتـى هوايتـي الوحيـدة يف قـراءة الصحـف أصبحت مـن أدوات
التعذيـب .ولكنـي ال أنكـر أبـدً ا أن مـا نقـص مـن عينـي زاد يف أشـياء ُأخر،
فمنـذ صغـري وأنـا أكثـر األطفـال يف ال ُكتَّـاب حف ًظـا للقـران وأرسعهـم
تذكـرا .مل يقتصر حفظـي عىل القـران فقـط ،فلقد كنـت أحفظ األشـياء التي ً
أريدهـا بمجرد سماعها ،وكانـت تلك هي وسـيلتى الوحيدة ألهني دراسـتي
كطالـب يف كليـة الرشيعـة والقانـون .االختلاف جيـد نو ًعـا مـا ،فلـم أكـن
كسـائر الطلاب ُاذاكـر الكتـب بقرائتهـا! فقـد كانـت يل أسـاليبي اخلاصـة؛
الكاسـيت وأصـوات أصدقائـي املنبعثة من الرشائـط الكامنـة بداخله يكفيان
ً
سـهل أبدً ا، متا ًمـا ألمـر مـرور الكـرام من سـنوات الدراسـة .مل يكـن الطريق
ربما عليـك أن جتتـاز بعـض الصعوبات قبـل أن تصل ولكنـي مل أواجه بعض
الصعوبـات مثلكـم بـل واجهتهـا مجي ًعا.
املسافة بني قليوب ومرص القديمة وركوب املواصالت يوم ًيا يف ظل
ذلك الضوء اخلافت الذي أرى به؛ أسباب كافية للمعاناة ،ولكني مل أكن
خيارا آخر ،فبعدما مات جدي توارث أبناؤه كل يشء ومل يكن مفاج ًئا
أمتلك ً
أن ينال والدي احلظ األقل من اإلرث ،قسموا البيت إىل بيوت أخرى وبنوا
أيضا. جدارا ً
عازل بني كل يشء ،ال يف املكان فقط بل يف القلوب ً ً
- 19 -
حتى أتت رمحة..
ٍ
مشـمس ال ينتهي .ربما تكون هي كانـت كاملظلـة التي وقتنـي رش هنار
الوحيـدة التـى ال احتـاج لعينني ألراهـا ،أعتقـد أين أمتلك بداخيل مستشـ َع ًرا
خاصـا هبـا ،أراهـا دون أن أرى ،أشـعر هبـا إذا تعثـرت بحجر يف املشرق وأنا ً
نائم هنـا باملغرب.
كان زواجنـا تقليد ًيا كام يسـميه البعـض ولكني ال أعلـم طريقة للزواج
أيضـا .كان البصيص املتبقي بعينـي كاف ًيا ألدون بداخيل
غيره وال أؤمن بغريه ً
تفاصيـل وجههـا التـي مل تغـدوا مـن قلبـي وعقلي ووجـداين مـن حينهـا.
أسـهمت صداقـة ُأ َم ْينَـا بشـكل كبير يف إمتـام الزجيـة غير أين مل أكترث أهنـا
تكبر أخواهتـا سـنًا والوحيـدة التي مل تتـزوج بعد ،ربما كنت ضعيـف البرص ُ
وقتهـا ولكـن مـاذا فعـل املبصرون؟ تركـوا رمحـة حتـى جـاوزت السادسـة
بعـد العرشيـن لتوافـق عىل «شـبه كفيـف» مثيل ،بصري ضعيف نعـم ولكن
بصيريت كانـت قويـة بالقدر الـكايف ألرى فيها مـا مل يراه اآلخـرون ،واختذت
مسـارا خمتل ًفـا منذ ذلـك الوقت.. ً حيـايت
- 20 -
أصبـح الظالم يقـل يف اسـتيطانه لرؤيتـي ،زادت رغبتي يف الغـد ،أريد
أن أعيـش كأين مل أولـد مـن قبـل ،ال هيـم أن أرى شـي ًئا فهي ترى.
تغير كل يشء واجتـه يف املسـار الذي مل أألفه مـن قبل عدا شـي ًئا واحدً ا؛
جماهبتـي للظلـم مـن عىل منربي ،ال أخشـى أحـدً ا .وعلى الرغم مـن أن تلك
الفترة املظلمـة مـن حكـم مصر كانـت تتميـز بتكميـم األفـواه؛ فـإن صويت
يصـدح عال ًيـا يف األرجاء هنـا وهناك.
نظـرا ملحبة
مل جيـرؤ أحـد مـن ذلك النظـام العفن عىل عزيل من املسـجد ً
أهـل املسـجد يل وكانـت لتقوم ثورة ألجلي لن يفلحـوا يف إمخادها أبدً ا.
الديـن سياسـة ،والسياسـة درب مـن دروب الدين .وهذا املنرب سـبيل
وجبان ذلـك الذي بيديه سـيف ويملك ٌ مهـم إلنـارة العقـول والقلوب م ًعـا،
بسـاتني مـن التفاح وال يطعم املسـاكني منـه ،املغلوبني عىل أمرهـم ،الضعفاء.
ول ْالَ ْم ِ
ـول َو ُأ ِ ِ ِ
ـر هـؤالء الذيـن أخـذوا بظاهـر « َأطي ُعـوا اللََّ َو َأطي ُعـوا َّ
الر ُس َ
ُـم» ومل ينتبهـوا إىل املعنـى الكامـن بداخلهـا فقـد جـاء ذكرهـم بعـد اهلل ِ
منْك ْ
ورسـوله لبيـان أهنـم يتبعوهنم وحاشـا لوالة أمورنـا أن يفعلوا ذلـك .لذلك،
أنـا هلـم باملرصاد ،وأهل املسـجد خلفي ،أنـا إمامهم الذي يـرى صغريهم أين
دائما آن ينجبـه .كنت أخبـئ عليهم أبـوه ويـرى الكبير أين َولـده الـذي متنى ً
زيـارايت الدائمـة ملراكـز املخابـرات وأمـن الدولـة كـي ال يثـار قلقهـم ويبدو
أننـي قـد تعـودت أيضا على ذلـك .آالف التهديدات التـي رمتهـا إىل أعينهم
- 21 -
وأسـلحة الـردع التـي طاملـا رأيتهـا منصوبـة يف كالمهـم وحتذيراهتـم ولكني
ليلا ،أمـا بالصبـاح أصـدحكنـت أبـدو إمامهـم كديـك الصبـاح ،هـادئ ً
بالصيـاح يف كل مـكان ،وصباحـي هنـا ،على هـذا املنبر.
ربام كانت مجيع الزيارات تشبه بعضها إال واحدة ،أتذكرها جيدً ا..
فـور مـا وصلنـا إىل املـكان الـذي ربام أذهـب إليـه أكثر مـن املرحاض،
سـمعت صوتًـا قاد ًمـا مـن آخـر الغرفـة ،صوتًـا يبـدو أننـي أسـمعه للمـرة
األوىل ،هـذا ليـس بصـوت العقيـد «ثـروت السمان» وال بصـوت النقيـب
أجشـا مـر يف أذن تلكما الشـابان ً
قائلا: «مدحـت الوايلي» ،كان الصـوت ً
-اتركوه.
- 22 -
ظهر أمامي صاحب ذلك الصوت ،بدا ً
رجل عريض املنكبني ،شاهق
كرا ٍم يرتقب طريان الفريسة يف أي
الطول ،مرتهل األطراف ،ذا عينني ثاقبتني َ
حلظة.
مل جيلـس أمامـي كام فعل أصدقاؤه السـابقون ،سـحب كرسـ ًيا ووضعه
دائما أطـوف بأصابعي
بجـواري وجلـس وهو يشير إىل املسـبحة التـي أظل ً
نحوهـا وقال:
-أعلم.
قـام مـن جملسـه ومـد يـده إىل اهلاتف القابـع عىل مكتبـه يف آخـر الغرفة
وأشـار يل بعد مـا رفع السماعة على أذنيه:
ً
مدهشا مثل رده بعدها ،فكأنه مل يسمع شي ًئا وطلب قهوته مل يكن ردي
املعتادة وعاد ثانية إىل جواري ولكن تلك املرة كان حيمل بيده أشياء مل تكن
واضحة يل جيدً ا ولكنها تشبه األسهم .تأكدت من ذلك حينام وجدته يمسك
بتلك األشياء ويقذفها بعنف جتاه الباب ولكن صوته كان رصينًا:
- 23 -
-شـــيخ ياســـن ..البـــد لتلـــك املهزلـــة أن تقـــف اآلن ..إن كان
زمالئـــي طيبـــن فاعلـــم أننـــي ال أملـــك قل ًبـــا يقـــف يف طريـــق يشء يف
صالـــح هـــذا البلـــد.
ٍ
هـــراء وضحكـــت بســـخرية مل امتالـــك نفـــي ممـــا ســـمعته مـــن
ونظـــرت لـــه:
-صالــح هــذا البلــد! ح ًقــا! أنتــم تريــدون صــاح هــذا البلــد! ربــا
أيضــا أين ســبب خراهبــا!! اآلن علمــت ملــاذا أخــذ اهلل عينــي ،فــاذا
تقصــد ً
فعــل مــن يملــك عينــن؟! احلمــد هلل أين ال أحتــاج عينــان ألرى احلــق هبــا،
وآه نســيت أن أخــرك؛ لقــد ســمعت مــا قلتــه أنــت مرتــن مــن قبــل ،وهــا
أنــا أمامــك اآلن يبــدو أننــي سأســمعها للمــرة الرابعــة.
ثــار غضبــه وصــاح بأعــى صوتــه ليــأيت الشــابان مــرة أخــرى ولكــن
أيضــا .أمرهــم بزجــي يف بيتــي
هــذه املــرة يبــدو أهنــم أتــوا بصحبــة أبوهيــم ً
ـرا؛ احلبــس االنفــرادي.
الثــاين الــذي أشــتاق إليــه كثـ ً
ربما خيـاف اجلميـع مـن الظلام هنـا أمـا أنـا فلا ّ
أمـل مـن أنيسي
وصديقـي الدائـم ..األسـود .ذلـك اللـون الـذي اسـتوطن داخـل األلـوان
مجيعهـا فأصبحـت أرى األلـوان مجيعهـا تـؤدي إليه .هذا السـجن الـذي أراه
رغـم ضيقـه فهـو واسـع إىل مـد بصري الـذي ال أملكـه ،أرى اجلنـة خلال
ثقـب البـاب الـذي يقـف وراءه جند أبليـس ،هؤالء الذيـن مل يمتلكـوا ً
عقل
يو ًمـا يميـزون بـه أن إبليـس لـن يدخـل اجلنـة فكيـف بجنـوده.
- 24 -
طالـت تلـك الفترة التـى قضيتهـا هنـا عـن أخواهتـا السـابقني حتـى
شـعرت بـأن القلـق قـد أكل مـا تبقـى مـن «رمحـة» مـن صبر وأهل املسـجد
أيضا لذا وجـدت بـاب الزنزانـة ُيفتح وإذ
كذلـك ،وربما شـعروا بذلـك هنـا ً
بذلـك الرجـل يدخـل بعدمـا نـادى عليـه جنـده األمني:
مبتسما كأن شـي ًئا مل حيـدث ،مل يقـل سـوى كلمات قليلـة
ً دخـل علي
وانصرف دون أن ينتظـر منـي تعقي ًبـا عليهـا وأشـار جلنـده أن خيرجـوين.
مبتسم:
ً أتذكَّر ما قاله جيدً ا وهو هيمس يف أذين
مل جيرؤ الباقي عىل حتذيري كهذا من قبل ،ولكنه يبدو خمتل ًفا عنهم.
- 25 -
أوصلنـــي ذلـــك الشـــابان إىل املســـجد مـــرة أخـــرى وكانـــت
الش ــمس ق ــد تعام ــدت بمنتص ــف الس ــاء لتعل ــن دخ ــول وق ــت ص ــاة
الظه ــر .دخل ــت املس ــجد فوج ــدت اجلمي ــع يقدم ــون نح ــوي مرسع ــن
قـــادرا
ً مريضـــا ومل أكـــن
فابتســـمت هلـــم مجي ًعـــا وأخربهتـــم بـــأين كنـــت ً
عـــى املجـــيء ،ربـــا صدقـــوين مجيعهـــم عـــدا «جابـــر» مـــؤذن املســـجد
أو كـــا أســـميه «باللنـــا» ،يبـــدو أنـــه ذهـــب إىل بيتـــي ليطمئـــن عـــي ومل
كثـــرا.
ً نظـــرا ألنـــه الوحيـــد الـــذي أوصلنـــي للبيـــت
ً جيـــدين
دافـــع
ٌ فرغنـــا مـــن الصـــاة وعـــدت إىل البيـــت مرس ًعـــا وبداخـــي
ٌ
قاتـــل بـــأن ارمتـــي بـــن ذراعـــي «رمحـــة» فقـــد مللـــت مـــن تظاهـــري
قو ًيـــا .وهـــذا مـــا حـــدث.
- 26 -
مل يـــأت أحـــد مـــن هـــؤالء العاملـــن باملرحـــاض طيلـــة شـــهرين
رغـــم أين مل أغـــر حديثـــي ومل يثنينـــي ترهيبـــه عـــن مـــا أفعـــل ،مـــا زال
ـال باحل ــق ،حت ــى أول مجع ــة بع ــد الش ــهرين م ــن زي ــاريت املن ــر صوت ــه ع ـ ٍ
اآلخ ــرة هل ــم ،أتذ َّك ــر تفاصي ــل ذل ــك الي ــوم جيدً ا؛ألن ــه يع ــد يو ًم ــا مه ـ ًـا
ب ــن أيام ــي مجيعه ــا.
كان ــت إيامءات ــه تش ــر إىل أنن ــي س ــأزوره قري ًب ــا فل ــم أهت ــم كالع ــادة
ـا كع ــادة أي ــام اجلمع ــة املرهق ــة ألج ــد رمح ــة تنتظ ــرينوع ــدت للبي ــت لي ـ ً
ـر ق ــد جعلن ــي أغف ــل للحظ ــات أتذ َّك ــر فيه ــا كل م ــا م ــررت ب ــه يف بخ ـ ٍ
حي ــايت ويم ــر أم ــام عين ــي كأن ــه حي ــدث اآلن ،أرى اآلن كل يشء بوض ــوح
ت ــام.
- 27 -
زكريـا أنـا ،سـنوات كثيرة أنتظـر ذلـك الطفـل ،ال أريـد أن تنتهـي
عالقتـي بــ «رمحـة» يف الدنيـا باملوت ،ففـي اآلخرة أعلـم أنني لـن أقوى عىل
طلـب غريهـا زوجـة يل ،لذلـك أردت ولـدً ا منها يشـد مـن أزري وعضدي،
رب زكريا
كثريا كام دعـا زكريـا فاسـتجاب يل ُ
وقـد حـدث .لقـد ناجيـت ريب ً
كما اسـتجاب له.
شـعرت باخلـوف ،أعتقـد أهنـا املـرة األوىل التـي أشـعر فيهـا بذلـك
الشـعور ،بـدأت اهلواجـس تتنـاوب على عقلي حتـى أهلكتنـي ،أصبحـت
أفكـر فيام سـأقوله قبـل أن أعتيل املنبر ،هم طغاة لـن هيتموا بأن ولـدي الذي
حتم أشـعر بـه من اآلن ،هـم طغاة ال يرون شـي ًئا
أنتظـره ربما لـن أراه ولكني ً
إال ..ال ليـس هنـاك مـا يرونـه فهـم يسـمعون فقط.
-إن «حسن بيه» يدعوك لتناول الغداء معه بعد الصالة ..ننتظرك.
تركـت «رمحـة» يومهـا تعاين مـن آالم كثيرة فهذا
ُ فـت حينهـا ،فقـدِخ ُ
شـهرها اآلخير وكـدت لـن آيت للمسـجد اليـوم ولكنهـا طمأتنـي كعادهتـا
واتصلـت بأختهـا لتجلـس معهـا حتـى أعـود ،ولكنـي أعرفهـا جيـدً ا ،لـن
تطمئـن إال وأنـا هنـا إىل جوارهـا.
أهنيت اخلطبة مرس ًعا تلك املرة ليأيت الشابان إ ّيل ويأخذان بيدي حتى
رصنا عند الباب ألجد رجال من أقىص الشارع يسعى ،مل أملحه جيدً ا ولكني
أفطن إىل هيئته ،إنه «إبراهيم» ابن أخت رمحة التي تركتها معها يف البيت.
- 29 -
هو..
- 31 -
وكأنني ُخلقت معا ًذا من خطاياكم ..أنا معاذ ..الناجي األول بعد األول.
ُولـدت ألبوين كالشـمس والقمـر جعال مني يوسـف ،ياسين ورمحة،
األول علمنـي كيـف أحـب اهلل واألخـرى علمتني كيـف أحب نفيس.
تربيـت يف بيـت ال تنقطـع منـه أعـواد البخـور وال أصـوات اهلمهمـة
صباحـا ومسـا ًء.
ً بـاألذكار
اهلـدوء والراحة سـمتان متيـزان طفولتي يف ذلـك البيـت ،يف بلدة تعترب
مـن أهم بقـاع األرض يف نظـري ،قليوب.
والــدي ،القــدوة واملثــل األعــى الــذي ال دونــه أحــد وال جيــوز ذلــك
ألحــد ،إمــام مســجد كبــر بمــر القديمــة ،شــيخي وأســتاذي األول
وبطــي الدائــم عــى اإلطــاق.
ـرا تتلــون يف
ربــا تعــد مالمــح طفولتــي التــي أثــرت يف شــخصيتي كثـ ً
لوحــة رســمها أحــد أصدقــاء والــدي مــن أهــل املســجد الــذي يعمــل فيــه
عندمــا أهــداين كتا ًبــا وأنــا مل أكــن قــد مترســت القــراءة كعــادة طفــل مل جياوز
صغــرا ألعــداد مــن قصــص كانــت ً مخســته بعــد ،أتذكــر أنــه كان كتي ًبــا
تَصــدر يف ذلــك الوقــت حتمــل اســم» فــاش» .تعلمــت القــراءة عــى يــدي
أيضــا
تلــك القصــص التــي لطاملــا رأيــت نفــي بطلهــا األوحــد .وأتذكــر ً
أن والــدي قــد أعطــاين مصح ًفــا وأخــرين بــأن القصــص التــي ســأقرأها
هنــا لــن أنســاها أبــدً ا فتعلــق قلبــي بالقــرآن ومل يعــرف الطريــق مــن حينهــا
إىل اإلفــات منــه.
- 32 -
والـديت ،أو كما أنادهيـا مثلما رأيـت أيب يفعـل منذ ولـدت « ُأمتـي» .مل
علي فهم تلـك الكلمـة وأنا صغير ولكنـى أيقنت متا ًمـا كم بأيب
أكـن ليتعين ّ
مـن حب هلـا قـد غمـرين دون أن يقصد.
هـي السـند الذي مـا جاز له االنكسـار أبـدً ا حتى وإن وهنـت عكائزه،
هـي التـي تعـرف أن يل يـدً ا ثالثـة مل يرهـا غريهـا كي تشـدين منهـا أن كُرست
يـداي االثنين ومل أعـد أقوى على التحمل. َّ
كل ذل ــك ،ق ــد جع ــل من ــي ذا قضي ــة من ــذ صغ ــري ،األول واجلمي ــع
رئيســـا
ورائـــي؛ يف الدراســـة األول عـــى الصفـــوف مجيعهـــا ،يف الكليـــة ً
الحت ــاد الطلبـــة ويـــراين اجلمي ــع قـــدوة هل ــم ،يف الكتاب ــة ش ــاعر اجلامع ــة
و ُأنظـــم الكثـــر مـــن الصالونـــات األدبيـــة باجلامعـــة وخارجهـــا ،هـــذا
وقـــد كنـــت طال ًبـــا بكليـــة اهلندســـة بجامعـــة القاهـــرة.
ال أعلـم مـا كنـت ألفعـل دون « فريـدة» ،صديقتـي املقربـة التـي مـن
دوهنـا مـا كنـت ألعرب مـن سـنة واحدة هبـذه الكليـة ،لـن أحتدث عنهـا اآلن
فسـيأيت دورهـا فيما بعد.
- 33 -
ٍ
كقائـد لـه مكانتـه املرموقـة بين اجلميـع؛ مل أخلو من وسوسـات نسـل
حـواء ولكنـي مل يكـن لدي متسـع مـن الوقت كـي أعريهـم اهتاممـي فكنت
اكتفـي باالسـتعاذة بـاهلل من وسوسـاهتم.
حبيبـة ،صفتهـا واسـمها ،ولـدت لتكون تلك هـي مهامها الرئيسـية يف
احليـاة؛ حبيبة..
رأيـت حبيبـة للمـرة األوىل يف إحـدى نـدوايت الشـعرية ،ظننـت أهنا يف
البدايـة أتـت لتحضر النـدوة بكامل إرادهتـا ولكني اكتشـفت بعـد ذلك أهنا
كانـت تنتظـر صديقتهـا التـي آبـت أن تغـادر حتـى هنايـة النـدوة فاضطـرت
حبيبـة أن جتلس وتسـتمع.
- 34 -
دائــا أن أمشــط بعينــي احلارضيــن أمامــي بابتســامة
وكــا اعتــدت ً
هادئــة ومل أدرك حينهــا أين ظللــت لدقائــق أقــف بنظــري عنــد حبيبــة ومل
أحــرك ســاكنًا ،ال أعلــم مــاذا حــدث حينهــا ،كانــت كالــوردة التــي نبتــت
يف صحــراء جــرداء ال تؤمــن ســوى بشــوك الصبــار ،رقيقــة هــي كنســيم
الفجــر ،مجيلــة هــي كال يشء غريهــا.
أنس أن أضع منو ًما لعقيل كي ال يمد رجليه ويعركلني ذهبت إليها ومل َ
فأندم طيلة حيايت أين مل أذهب إليها ،ربام لن أرها ثانية وربام تكون غري حقيقية
أيضا قد قد راودتني أعراض الفصام مرة أخرى وقد ُخيل إىل أهنا إنسية ،ولربام ً
فأصبحت أرى ما اليراه اآلخرون؛ ماهو ليس موجو ًدا من األساس.
وبرغـم أين شـاب قـد متـرس على احلديـث أمـام آالف األشـخاص
أصبحـت أمللـم بعـض الكلمات ألصيـغ عبارة تـدل عىل مـا جيـري بداخيل،
إهنـا ثـورة جتتـاح باليابس واألخرض م ًعـا ،أقف أمامهـا صامتًا أنظـر يف عينيها
«الرماديتين» وقـد رأيـت فيهما مـا مل يـره عـامل فلـك قـد جـاوز عقديـن من
ا لعمر .
- 35 -
-ال ..ال أظن ذلك.
ٍ
دهشـة عىل الرغـم من حبيبة أتـت صديقتهـا يف ذلـك الوقت تنظر يل يف
التـي مل تكـن تنظـر يل مـن األصـل ،وقبـل أن تلقي على صديقتها السلام إذ
بحبيبـة تأخذهـا مـن يدهيا لرتحلا ،تركتنـي واق ًفا يف مـكاين ما زلـت أنظر يف
عينيهـا رغـم أهنـا قد رحلـت! ،مـن وقتها وقـد شـعرت أن الزمام قـد تفلت
قـادرا على الرباط على قلبي كما تعودت. ً مـن يـدي ومل أعد
شــهران مــن البحــث غــر ا ُملجــدي يف اجلامعــة كلهــا ،مل أتــرك موض ًعا
إال وبحثــت عنهــا فيــه؛ يف أماكــن املحــارضات ،يف النــدوات ،يف املطاعــم،
ـي ســوى االنتظار حتــى مكتبــات تصويــر املســتندات مل أبرحهــا! ،مل يكــن عـ ّ
ومل يكــن عــى صديقتهــا ســوى أن أرهــا صدفــة ،تلــك الصدفــة التــي طاملــا
ســميتها در ًبــا مــن دروب القــدر..
ختليــت حينهــا عــن ثــوب الرزانــة والوقــار وهرولــت إليهــا مرس ًعــا
لتقــف أمامــي صديقتهــا مبتســمة يعلــو مالحمهــا شــي ًئا مــن األمــل غــر
املجــدي فقلــت دون تفكــر:
-أين هي؟!
- 36 -
-أعلـم ذلـك فقد بحثـت عنهـا يف كل مكان طيلـة الشـهرين املاضيني
ومل أجدها!
اندهشت قائلة:
-يعني ذلك أنك تعرفني مكاهنا ليس كام ادعيتي منذ قليل!
- 37 -
تلعثمـت ،ومهـت باملغـادرة ولكنـي مل أحتـرك مـن مـكاين ومل أمسـك
هبـا ،فلا زلت أنـا ،مل ينزلق عنـي رداء الوقـار كله بعـد ،لتعود إىل تقـدم قد ًما
ٍ
نجدة: وتأخـر أخـرى لتقـول كمن يبحـث عـن
-حبيبـة تعلـم أنـك تبحـث عنها لذلـك مل تـأيت ..ال أعرف مـاذا أقول
لـك ولكنـي واجب علي أن أحـذرك ..ال حتـاول االقتراب منها فلـن تكون
العواقـب جيـدة أبـدً ا ..رغم أين أرجـو ذلك.
قالـت يل ذلـك ورحلـت ،مل أفهـم حتديـدً ا مـاذا تقصـد ولكـن بطبعـي
العنيـد مـا زادتنـي حتذيراهتـا إال إرادة ،مل أعتد عىل االنسـحاب من حرب قبل
أن ُأهـدى بجـرح حتـى وإن فـزت قبـل أن أخـوض احلرب.
يف ذلـك اليـوم قبـل أن أغادر تتبعت املـكان الذي ذهبت إليـه صديقتها
ألصـل يف النهايـة إىل قسـم»العامرة» بكليتنـا! شـهرين من البحـث يف جامعة
كبيرة مثـل جامعـة القاهـرة ومل أتـرك فيهـا مكانًـا إال وبحثـت عنهـا فيه ويف
دائما ال ألتفـت إىل الباب األخير تكـون هي بقسـم آخـر يف كليتـي ،ولكنـي ً
الـذي حيجـب النـور وأذهـب إىل ثقـب املفتـاح أرى مـن خالله كل مـا أريد،
علي نصف املهمة تقري ًبا ،فبكـوين حمبو ًبا من
فوجـود حبيبة يف كليتي قد سـهل ّ
أيضا من قلوب املوظفني بشـئون اجلامعـة كلهـا بحمـد اهلل مل ختلو تلك املحبـة ً
متظاهـرا أين أبحـث عـن طالبة تدرس بقسـم ً الطلبـة بكليتنـا .ذهبـت إليهـم
«العمارة» قـد فـازت بجائـزة يف مسـابقة أقامهـا احتـاد الطلبـة باجلامعـة ،وبام
علي كرئيس احتـاد الطلبة أهنـا قـد تغيبـت عـن احلضور لشـهرين فقد وجـب ّ
- 38 -
أن أبحـث عـن عنواهنـا بنفيس لنرسـل هلـا جائزهتا حتـى البيت ،كذبـت وأنا
أعلـم ذلـك ،ربما تلك هي اخلطيئـة األوىل التي كانـت لتنبهنـي أين يف الطريق
الصحيـح للسـقوط يف اهلاويـة ولكنـي مل أنتبـه لذلـك ،أو بوضـوح شـديد
جتاهلـت أن أنتبـه لـكل يشء قـد يعركلني عما أنوي.
ً
مستقبل إياي برتحيب شديد: ذهبت إىل مكتبه وقد أذن يل بالدخول
-معاذ ..تفضل.
سـلمت عليـه ورأيس تـدور بأفكار كثرية تـؤدي يب يف النهايـة إىل طريق
أعـرف منه مـا أريـد دون أن يرمقني بنظرة ٍ
شـك واحدة:
- 39 -
ابتسم ً
قائل:
-ال تقل ذلك فأنتم مجي ًعا أوالدي ..بلغ سالمي لشيخنا احلبيب.
-كنـا قـد نظمنـا مسـابقة للطلبـة على مسـتوى اجلامعـة كلهـا ونجح
فيهـا بعـض الطلاب من كليتنـا وأعطيناهـم جائزة عـدا واحـدة مل حترض منذ
شـهرين وال نعلـم كيـف نصـل إليها.
-من هي؟
-صفها يل.
- 40 -
وقبل أن ينطق لساين باإلجابة عىل سؤاله انتبهت جيدً ا ألين أن تركت
العنان للساين باحلديث سيعم اخلراب بكل يشء ،فإذا حتدث خرس اجلميع بام
فيهم عقيل املسكني الذي مل تعد له القدرة عىل إيقايف كاملعتاد.
تنفست الصعداء وأنا أقول بعدم اكرتاث واضح:
-ال أتذكر جيدً ا ولكنها بيضاء وطويلة ونحيفة بعض اليشء.
بادر االستاذ مرس ًعا:
-تقول إهنا تغيبت منذ شهرين؟
-نعم.
أسند ظهره إىل الكريس الذي كان جيلس عليه وقال بثقة شديدة:
-إهنا هي.
فرحا شـديدً ا والحـظ هو ذلك ،فـإن متالكت نفيس سيسـاوره
فرحـت ً
الشـك لذا أكملت فرحـي ً
قائل:
-احلمـد هلل أننـا وجدناها ..فـإن األمانة البد وأن تذهـب إىل صاحبها
من يـدري من سـيعيش أبدً ا؟.
ـم معلنًــا انتهــاء مغامــريت تلــك بالفــوز الســاحق وتنــاول ورقــةابتسـ َ
ـرا
وكتــب بداخلهــا شــي ًئا وأعطاهــا يل وقبــل أن أرى مــا فيهــا شــكرته كثـ ً
وخرجــت مــن مكتبــه وأنــا أقــرأ مــا يف الورقــة رغــم أن مــا فيهــا تكفــي
ثانيتــان فقــط لقراءتــه « ..حبيبــة ُمنــذر».
- 41 -
ذهبـت إىل مكتـب شـئون الطلبـة مـر ًة أخـرى وأنا أمحـل معـي الورقة
التـي بداخلهـا االسـم ليعيدوهـا إىل مـزود ًة بالعنـوان وهنـا بـدأت يف مهمـة
غامضـا عيني عن
ً أخـرى ،بـدأت يف البحـث عـن طريقة أذهب هبـا إىل بيتهـا
ُسـباب عقلي الـذي كـره تكبيلـه يف سـجن مل يألفه مـن قبل.
ودون تـردد ذهبـت إىل العنـوان املوجود بالورقة ،بداخلي يشء يدفعني
نحـو مـا نويت فعلـه ،وبداخيل أشـياء كثيرة حتـاول أن تثنيني عن تلـك النية
التـي مل أكـن أدرى أن عواقبهـا سـتكون وخيم ًة هلذا احلـد أبدً ا..
*****
« عابدين»
تلـــك هـــي املنطقـــة التـــي كان يشـــر إليهـــا العنـــوان املوجـــود
نظـــرا
ً كثـــرا
ً بالورقـــة ،ومـــن حســـن احلـــظ أين أحـــب تلـــك املنطقـــة
ملكاهنـــا القريـــب مـــن «ميـــدان التحريـــر» ،هنـــا اختبأنـــا مـــن هجـــوم
الدباب ــر علين ــا ،وهن ــا وجدن ــا البي ــوت املفتوح ــة لن ــا بإي ــان راس ـ ٍ
ـخ ب ــا
نفعـــل ،هنـــا حيـــث رائحـــة وســـط البلـــد القديمـــة تفـــوح مـــن املبـــاين
خصوصـــا يف ذلـــك الوقـــت ..ديســـمرب. ً واملقاهـــي
- 42 -
الوقـــت مناســـب جـــدً ا ليصعـــد « يـــاين» عـــى حافـــة أذين ويشـــر
جلن ــوده املخلص ــن أن يمس ــكوا أس ــلحتهم احلاني ــة لتنطل ــق الث ــورة إذن،
ثـــورة ســـاها « يـــاين « بالعاصفـــة ،وهـــي كالعاصفـــة ح ًقـــا ،كان املشـــهد
الس ــريايل خيي ــم متا ًم ــا ع ــى األج ــواء؛ ش ــاب يق ــف يف منتص ــف ش ــارع
« حممـــد حممـــود « أطـــوف بعينـــي بـــن األلـــواح واألرقـــام املعلقـــة عـــى
أب ــواب الع ــارات حت ــى اهتدي ــت إىل العن ــوان املوج ــود بالورق ــة ألج ــد
ع ــى ب ــاب تل ــك الع ــارة حارس ــها ،س ــألته ع ــن الطاب ــق ال ــذي يس ــكن
في ــه األس ــتاذ « من ــذر « فدلن ــي ع ــى الطاب ــق اخلام ــس ،صع ــدت ومل تك ــن
بداخـــي أي خطـــط أو تدابـــر ملـــا ســـأفعل..
- 43 -
و..
- 45 -
مل تكـن زيـاريت حلقـل الدبابير تلـك املـرة كاملـرات السـابقة ،فعندمـا
شـعور وقتها بأن
ٌ أخبرين « إبراهيـم» بـأن رمحـة قـد وضعـت معـا ًذا وراودين
ً
طويل.. النـور الـذي اقتحـم ُظلمتـي وقتهـا لـن يـدوم
ً
طويلا هـذه املـرة ،أشـعر ببـطء كل يشء حـويل ،الـكل الطريـق كان
يـدور يف سـبات تـام؛ إال رأيس ،تـدور بأفـكار حالـت بينـي وبين الفـرح
بمعـاذ ،صديقـي ورفيقـي الـذي قتلنـي انتظـاره ،وعندمـا حـان وقـت لقائنا
حالـت الدبابير بيننـا ،أال لعنـة اهلل على من اختـذوا الوطـن سترة خليانتهم..
مل يكـن املـكان الـذي أوصالين إليـه منكر ونكير هو املكان الـذي طاملا
أتيتـه! ثمـة يشء ما حيدث ال أفقه تفسيره.
أدخالنـى غرفـ ًة أشـبه بغرفـة الفئـران التـي كان ُييفنـا هبـا جـدي ،ال
أعلـم مـاذا حيدث ولكني أوقـن متا ًما أن الطاولـة قد مالت بأكملهـا يف االجتاه
الـذي يلتـف حوله مجيـع أعدائـي ،تركـوين ورحلوا ،الظلام هنا خيبرين بأن
النهـار قـد ضـل طريقه وفـرض الليـل سـلطته كامل ًة.
- 46 -
ربما أديـن بحيـايت كلها لذلـك الطبيـب الذي ربما لواله لـكان الظالم
قـد بـاء بالفـوز يف كل املعـارك التـي خضناهـا سـو ًيا ومل يرتك يل حتـى فرصة
كـي أنـوي احلـرب .كان شـا ًبا أعتقـد أنـه مل جيـاوز عقـده الثالث بعـد ،دخل
ٍ
زجـاج أهلكه املطـر يف ليلة مبتسما وأنـا أكاد أراه كمـن يـرى مـن خلف
ً علي
ّ
مبتسما:
ً شـتوية .قـال يل وهو يتفحـص عيني
صحيحا
ً -يـا طبيـب ..أعلـم أن أيام بصري معـدودة ..لو كان ذلـك
خريا يـا بني عىل
أرجـوك أخبرين ..فـإن يل ولـدً ا مل أره منـذ ُولد ..جـزاك اهلل ً
رجـل مثيل قـد توقفت آمـال حياتـه عليك.ٍ
مل تتبـدل ابتسـامته بـل زادت ليدنـو منـي ويربـت على يـدي ثـم أمـاء
برا إيـاي بأنـه سـينفذ مـا رجـوت منه..
برأسـه خم ً
سـهل خالل تلك احلراسـة املشـددة عىل غرفتي ،شـعرت ً مل يكن األمر
حينهـا كأين قـد تركـت وطنًـا يقـع مـن الـدور السـابع والسـتني لتتلقفـه يـد
منكسـا
ً الصهاينـة ،أو كأننـي استرددت ما وقع مـن األول هذا ألذهب إليهم
رأيس مسـا ًملا ،أو جيـوز أهنـم قـد أعتبروين كمـن رأى مـا فعله هـذان االثنان
ٍ
«فاترينة» جاذبـة لألنظار كي ال يتعـب الباغيني يف معروضـا يف
ً فترك الوطـن
رشائه مـن النظـر إىل أعىل.
- 47 -
ال تزيغ عيني عن الباب منذ أن وعدين ذلك الشاب أن ينفذ يل ما طلبته
منه فور ما تسنح الفرصة له بذلك .وىف يو ٍم ما ،أظنه كان كمثلث برمودة الذي
جعل يل حياتني ال حيا ًة واحدة ،كان كالربزخ الذي فصل بني حريب الطويل مع
الظالم وجماهبتي لظلمه وردعه عن رغبته يف استيطاين ،وبني فوزه.
ِ
بالغرفـة وحـدي ,ال مل أكـن وحـدي ,كان معـي أعـز أصدقائـي كنـت
وأقرهبـم ,أحـاوره وحيـاورين ..إنـه األمل.
ٍ
بشـكل خمتلـف ،حينما تـدرك أن للكـون األمل ,حينما تـرى األشـياء
حركـة بطيئـة ال يشـعر هبـا اآلخـرون ،فلتتأكـد حينهـا أن األمل قـد صنع منك
ً
وعويلا مل تعتـده مـن قبـل ،وبرغـم كونك صل ًبـا هيابك ً
رصاخـا آلـ ًة تصـدر
الوجـع ,فلقـد صنع منـك األمل آلـة ،وبكونك خمتلـف كالعـادة ،فأنت ترصخ
ٍ
صمـت تام.. يف
أشـعر بـاألمل يزداد كلما أتنفس ،كلما يتأكـد أين أقاوم يزيد من قسـوته،
حـرب تليق بـه ,أصبحت ٍ حمـارب قـد مىض طيلـة حياتة يبحـث عن
ٌ ولكـوين
أتقـن مجيـع فنـون القتـال ،أدرس خصمـي قبـل مواجهتنـا املبـارشة ،أنتظـر
اللحظـة التـي أقـول فيهـا إن احلـرب ُخدعة وهـا قـد جـاء دوري يف الفوز. .
بـدت يل رمحـة حينها كالعـذراء مريـم حينام أتـت لقومها حتمـل ولدها
على يدهيـا ،يف قلبهـا نـور اهلل يطمئن اخلوف الـذي قد أكل كل مـا بداخلها يف
عـم بالغرفـة فطردنـورا قد ّ
فترة غيـايب عنهما ،كان غطـاء معاذ أبيـض رأيته ً
عيل مبتسـم ًة
أنيسـا منذ أن أحضروين هنـا ،أقبلت ّ احلـزن الـذي مكث معـي ً
كأهنـا قـد أنجبت معاذ خـارج الغرفة وأتت بـه إىل لنفرح سـو ًيا فإننا ال نعرف
واحـد بمفرده ،وضعت شـفتيها عىل رأيس ٍ كيـف يكون الفـرح إذا ما كان كل
فهـدأ معهما كل يشء ،احلـرب ومناجـاة الوطن ،السـجن والظلام ،هدأ كل
يشء وكأننـي تناولـت حبـات القرنفل فأختذت مسـارها عرب دمـي إىل مواطن
جاهـزا للمحاربـة جمـد ًدا ومعي
ً اجلـروح فسـكنتها وسـكَّنتها ،لقـد بـت اآلن
سلاحي األول واألخير ..هي.
- 49 -
ٍ
بمعاذ فرأيته كشـمس يف هنار أغسـطس، جلسـت بجواري وأمالت إىل
علي قوله اآلن:
واضحـا متا ًمـا كأنما أراد اهلل أن أقول ما ينبغي ّ
ً
-لقد وجدنا ما وعدنا ربنا ح ًقا ..احلمد هلل.
أخذت أحفظ تفاصيل وجه معاذ كأين لن أراه ثاني ًة ،من يعلم الغيب إال
كثريا حتى قاطعتني رمحة مازحة: من يملك بيديه أمر برصي كله ،ظللت هكذا ً
ٍ
ملعـاذ فقـط! أتريـد أن أمشي -مـن يـراك اآلن يقـول بأنـك اشـتقت
وأترككـم سـو ًيا ؟.
- 50 -
مل يتسـنى يل الـرد عليهـا ،فـإذ بالطبيـب ُيقبـل علينـا فز ًعـا كأن قطـاره
متاسـكت كأنه
ُ أيضـا سـينطلق منذ سـاعتني ،أخربنا بضرورة رحيلهما اآلن، ً
مل خيربين أن عيل أن أمسـك السـيف بـذرا ٍع قـد أهلكتها الطعنات ،فابتسـمت
بيـدي كأهنـا تـرى الطعنـات واضح ًة
ّ وأرشت هلما بالرحيـل فأمسـكت هـي
بعينيهـا التـي تـرى مـا ال يـراه اآلخـرون يب حتى أنـا وقالت:
خرجـا وتتبعتهما بعينـي التـي قد عـادت إىل حاهلـا البائس التـي كانت
ٍ
شـكر تكفي ألقوهلـا إىل ذلك عليـه قبـل أن يأتيـا ،مل يكـن هنـاك أي عبـارات
الطبيـب ،فلقـد سـمح يل برؤيـة أسـبايب يف احليـاة قبـل أن أدخـل يف رصاعي
ٍ
شـيخ أهلكته حليته معهـا يف الغـد الباكـر ،وإن كنت سـأدخل العملية بصمود
ٍ
حماربـة تفطـن الطريـق جيـدً ا إىل الفـوز ،ومـن فأنـا اآلن سـأدخلها بصمـود
حسـن احلـظ أهنا قـد أتـت معهـا للمـرة األوىل بولدها الـذي يبدو أنـه ورث
وجاهـز اآلن لقيـادة اجليـوش معها.
ٌ فنـون احلـرب من ِ
أمـه
أتـى النـوم بطي ًئـا كأنـه يعلـم أين أنتظـره ،الغـد خميـف جـدً ا ولكني ال
أعـرف الطريـق إىل العـودة ،وإذا عرفـت الطريق فلـن يتغير يشء ،ما املايض
ً
ومسـتقبل يف يـوم من األيـام ،أصبحـت أرى هناية كل ما حـارضا
ً إال أنـه كان
مهدتـه احليـاة يل منـذ ولـدت ،أرى ذلـك الرجل يقـف يف هناية الطريـق فا ًحتا
ٍ
هـدوء تام حتـى نمت. ذراعيـه يل وأرانـى أسير نحـوه يف
- 51 -
أتـى الغـد يؤكـد صحـة مـا رأتـه بصيريت القويـة ،أسـمع كل يشء
بوضوح شـديد ،أسـمع صـوت الطبيب يف آخـر الغرفة يرجو ويقـول أتركوه
رضرا بعـد اآلن فوافقـوا.
فلـن يسـبب لكـم ً
لطاملـا أحببـت اللـون األسـود منـذ أن بـدأت يف متييـز األلـوان عـن
بعضهـا ،لطاملـا رأيتـه يرتبع عىل عرشـهم مجي ًعـا ،هادئًا بسـي ًطا كأنـه البحر يف
صفـوه ،كأنـه السماء يف احتضاهنـا لنجومهـا ،كأنه الليـل ،هو الليـل ح ًقا ،ومل
ٍ
بنظارة مـن أوالده أيضـا فيـأيت
أكـن أعلـم أن حبـي لألسـود سـيجعله حيبني ً
لرتافـق عصـاي طيلـة حيـايت املتبقيـة ،مل أكـن ُأدرك وال حلظـة واحـدة الشـبه
الواضـح بين األسـود والظلام واحلـزن ،كنـت أميـزه عنهما وأحبـه ولكني
حمارب حارب بـكل ما أويت ٍ اكتشـفت اآلن أهنـم أبنـاؤه الكبار ،ال خـزي عىل
ٍ
مـن قـوة وخسر يف النهايـة ،حاربت املـرض يف معـارك كثيرة ،هزمنـى تار ًة
وهزمتـه تـارات ،نـال منـي ونلـت منـه ،علمنـي وعلمتـه ،ولكن اجلسـد إذا
وهـن بفعـل السـنني فلا عيـب على االستسلام ولكنـي مل أتطـرق لـه يو ًما،
قدمـي االثنني اللتني
َّ أهنيـت حـريب وأنـا واقف يف امليـدان ال يشء معي سـوى
علي الرجـوع اآلن فمـن تُبقيـاين واق ًفـا إىل اآلن ،رمحـة ومعـاذ ،ولكـن حيتـم ّ
يعلـم! جيـوز أن أدخـل حر ًبـا أخـرى مـع يشء آخر فيجـب أن أكون مسـتعد
علي أن أعلن فـوزه ،لقد فـاز الظالم مـن اآلن ،ولكـن قبـل أن أغـادر امليدان ّ
يف النهاية..
- 52 -
هو..
- 53 -
تطـرق اخلـوف إىل قلبـي ولكـن قدمـي واصلـت الصعود ،دنـوت من
الطابـق اخلامـس على الرغـم مـن أن عقلي قـد تركنـي باألسـفل ومل يصعد،
تركـت الزمـام لقلبـي طم ًعـا يف نيـل احلريـة ،ظننت حينهـا أن السـجن الذي
قـد وضعنـي عقيل بـه قد أوشـك أن يتحـول إىل بسـتان زهـور وورد ،وقفت
بمحـاذاة البـاب ووضعـت يدي على اجلرس وضغطـت ومل يكن بـرأيس أي
يشء ألقولـه عندمـا يفتـح الباب..
- 54 -
رددت بحدة مماثلة:
تضاعفت حدهتا:
-إذا خرج أيب فلن يكون األمر جيدً ا يل ولك ..ارحل أرجوك.
أيضـا أن ال أراهـا
دفعنـي رجاؤهـا وخوفهـا ملوافقتـي ولكنـي خفـت ً
ثانيـة فاندفعـت ً
قائل:
- 55 -
وأغلقـت البـاب ،كنـت يف الطابـق اخلامـس ْ أمـاءت برأسـها موافقـ ًة
وأسـمع سـباب عقيل من الـدور األريض ،مل أكن أسـمعه جيـدً ا ولكني أعتقد
أين قـد سـمعت اسـم «ياسين» أكثر مـن مـرة! ال أعلـم إىل اآلن ملـاذا مل أخرب
والـدي وصديقـي األوحـد عن حبيبـة ولكن ثمة شـعور بداخلي يمنعني من
ذلـك وال أعلـم لـه سـبب ،لـذا قـررت أن أحتـدث معـه قري ًبا ولكنـي أجلت
ذلـك حينما تـأيت هـي للجامعـة ويتضـح يل كل يشء ،فأنـا ال أفهـم ما حيدث
علي االنتظـار ألفهـم كل يشء بوضـوح تام. لـذا وجب ّ
ً
قليــا يف مكاننــا املفضــل.. التقطــت عقــي مــن الشــارع لنتســكع
وســط القاهــرة .هنــا حيــث أنتمــي ،أنتمــي للشــوارع واألرصفــة ،للمقاهي
والســقيع ،للراديــو وصــوت أم كلثــوم ،لــكل يشء يمتــد آخــره يل ،فهنــا
أكتــب مجيــع مقــااليت وقصائــدي ،هنــا جيــد كل مبــد ٍع الطريــق الــذي يرنــو
إليــه خيالــه ،وإذا كانــت مــر كلهــا صندو ًقــا فهــذا هــو حرف ًيــا «خــارج
الصنــدوق»..
غــادرت حبيبــة شــقتها وأتــت إىل خيــايل تســكن فيــه ،كانــت متــي
بيــدي ،شــعرت حينهــا أن «حممــود درويــش» قــد تــدىل ّ معــي ومتســك
مــن بلكونتــه املطلــة عــى ميــدان «طلعــت حــرب» ،حيتــي فنجانــه املعتــاد
مــن البــن الربازيــي األصيــل ،يرتــدي قبعتــه اليونانيــة القديمــة ثــم وقــف
حيــادث مجاهــره العريضــة الذيــن يتمثلــون ّيف ،ويف نفــس اللحظــة التــي
ٍ
عــود جعلتنــى أتســمر يف صــدرت مــن غرفــة «زيــاد ســحاب» أحلــان
مــكاين ،صــدح درويــش:
- 56 -
ـو ٍة ِ
بـذوق األمري الرفيـع البديع ،انتظرها،بسـب ِع وسـائد ُ
حمش َّ انتظرهـا،
ِ
املـكان ،انتظرها، النسـائي مـل َء ِ
اخلفيـف ،انتظرهـا ،بنـار البخور ِ
بالسـحاب
ِّ
أقبلـت قبل موعدها،
ْ ـت بعد موعدهـا ،فانتظرها ،وإن تتعجـل ،فـإن أقب َل ْ
وال َ
فانتظرها..
*****
ً
متجاهل جالسـا طيلـة اليوم أمام بـاب الكليـة
ً يف اليـوم التـايل ،ظللت
كل يشء ،حمـارضايت واجتماع احتاد الطلبـة ومهاتفتهـم يل ،جتاهلت كل يشء،
أنتظرهـا فقط..
حتـى أتـت ,وأتـى معهـا الربيـع بأزهـاره وورده ,كانـت كالفراشـة ,مل
حقلا إال واستنشـقت عبريه ,كنـت حمظو ًظا ح ًقـا وأنـا ُأرى كيف ُيول ً تترك
مخـرا ,رشبتها فسـكَّرتني وسـكَّرتني ,هزمتني الرحيـق إىل عسـل ,ال بـل كانت ً
بـال بذلـك! ,وألول مـرة يكون املهزوم سـعيدً ا ,مل أكن سـعيدً ادون أن تُلقـي ً
فحسـب ,بل كنـت السـعيد الوحيـد ىف الدنيا..
- 57 -
اقرتبت مني وهي تبتسم ,مل تقل شي ًئا فبادرت أنا:
ضحكـت ,ومن املـرات القليلة التـى أضحك فيها حتى بـدت نواجزي
ُ
ويعلو صـويت هكذا.
فاض الكيل يب ومل يعد لدي ما أفعله ,هناك يشء ال أفهمه ,وليس هناك
أسوأ من أن جيهل الرجل إن كانت حتبه امرأته أم ال فيسأهلا ,فال جتيب..
- 58 -
جلـأت لصديقتهـا تلـك ,ربما لتجيب عـن تلـك األسـئلة التى ال
ُ لـذا؛
أعلـم هلـا إجابة,
ٍ
طريق أجد حبيبة فيه ىف النهاية ,ولكن مل حيدث ذلك ,مل وربام لرتشدين إىل
بشكل أقوىٍ ملحت حتذيراهتا السابقة
ُ أفهم منها شي ًئا ومل تعطني إجاب ًة رصحية,
أيضا حثها القوى يل عىل االستمرار يف حماولة الوصول هذه املرة ,ولكني رأيت ً
هاتفت حبيبة ,رصحت هلا بحبي وبكل ُ إليها ,مل أفهم شي ًئا منها ,يف ذلك اليوم؛
يشء ,كانت عالقتنا حتت مسمى الصداق ُة إىل أن نسميها باسم آخر ,ولكني
واضحا يف عيني وال ختطئ األنثى ىف قراءة ذلك أبدً ا, ً كنت أعلم بأن احلب
أيضا وملتعمدت أن تتظاهر بصدمتها ومل ُتب ,فسألتها عن شعورها ً ْ ولكنها
ُتب ,كم هو بائس أن تنتظر األبكم أن يتحدث..
*****
جلسـت يف نفـس املـكان الـذي أنتظرهتـا فيـه َ
أول ُ يف ِ
غـد ذلـك اليـوم,
مـرة ,ولكنهـا مل تكـن كأول ٍ
مـرة أبـدً ا..
مل تــأيت بمفردهــا هــذه املــرة ,بــل أتــت بصحبــة صديقتهــا تلــك,
ِ
تأتيــان مــن بعيــد ،هــي وصديقتهــا ،تتحــاوران ومهــا تنظــران رأيتهــا
إ َّيل ومالمــح حبيبــة التنبــؤ بخــر عكــس صديقتهــا التــي كانــت تبتســم
ـي صديقتهــا ثــم ذهبــتفــور مــا تالقــت أعيننــا ،دنتــا منــي وســلمت عـ ّ
وهــي تنظــر إىل حبيبــة كأهنــا تريــد أن تؤكــد عــى مــا اتفقتــا عليــه،
أقرتبــت منــي حبيبــة وهــي تنظــر يف مجيــع الزوايــا عــدا زاويتــي!،
- 59 -
قابلـت أنماط النسـاء مجيعهـن ولكـن نمطهـا مل أألفـه مـن قبـل ،ويبـدو أن
ُ
ذلـك هو حبلهـا الذي رأيتـه ثعبانًا فسـحر عينـي وأصبحت ال أرى سـواها،
أبكم ،مل يكـن هناك ما
وتغيبـت لباقتـي املعهـودة عني يف ذلـك اليوم فصرت َ
أقولـه فعينـي تفضحـاين وعينها جريـد ُة تـروج اإلشـاعات جيدً ا..
مل يلبــث الصمــت طويـ ً
ـا حتــى قالــت وهــي تشــر إىل بنتــن كانتــا
تنظــران إلينــا:
-هؤالء البنات ينظرن إليك ..يبدو أهنن يعرفنك.
مل أنظر إليهن وأومئت هلا أن تتجاهلهن لرتدف هي:
-أريد أن أحتدث معك.
رددت بتلقائية:
-وأنا أريد أن أسمع.
مشـينا سـو ًيا متجهني إىل «كافيه الكليـة» وكأننا حتولنا فجـأ ًة إىل نجمني
كرهـت األضواء
ُ هوليووديين وحتولـت أعين اجلميـع إىل كاميرات ،لطاملـا
ـت عنـي ،ولكن اليـوم ال أكرتث بذلـك ،فأنـا ال أرى غريها مهام ولطاملـا بح َث ْ
اشـتد الزحـام وكثـرت الطرق،جلسـنا وطـال الصمـت ً
قليلا هـذه املـرة ثم
ٍ
بأشـياء مل أكن ـت لتثـور الرباكين التي مخلت لسـنوات طويلـة ،أخربتني حتد َث ْ
يو ًمـا أرجو سماعها وال بمحـض الصدفة ،بانـت يل حتذيـرات صديقتها اآلن
جليـ ًة كالشـمس يف وضح النهـار ،أتذكر مـا قالته كأنـه «جرامافـون» ال يمل
مـن التكرار حتـى اآلن..
- 60 -
كانت هادئة جدً ا وقالت:
-معـاذ ..لسـت أنـا تلك التـي تبحث عنهـا ..ال أفهم رس الـذي تفعله
ولكنـى ال أريـد أن أعـرف ..هناك أشـياء ال ينبغي لنـا أن نعلمها..
صمتت برهة وأردفت:
-معاذ ..لست صاحلة للحب مرة أخرى.
ُصدمت مما قالت ولكنها أكملت باكي ًة:
-أنـا أحبـه هـو ..ال أملك مكان ألحـد غيره ..وبرغم خيانتـه وكذبه
فأنـا أحبـه ..وبرغم أنـه تركني ما زلت أحبـه ..أحب آرس ..ليـس بيدي يشء
سـوى أن أحبه ..واهلل ليـس بيدي يشء.
دهرا ،بكاؤهـا ونظرات النـاس وحزين ٍ
توقـف الزمـن للحظات مـرت ً
وحدهـم مـن واصلوا السير ،وجـدت نفيس بتلقائيـة بالغة أبتسـم وأمد يدي
ٍ
ورقية فأخذهتـا وهي ال تنظـر إ َّيل وأردفت: هلـا بمناديـل
-ليـس لـك ذنـب يف يشء ..وأعـرف أن البنـات كلهـن معجبات بك
وهلـن حـق ..وأنا لـن أجـد يل صدي ًقـا مثلك مهما بحثـت ..أتوافق؟
هنـا ،أتذكـر أننـى اعتدلـت يف جلسـتي ليعـود معـاذ إىل أدراجـه مـرة
أخـرى ،بدأت يف اسـتيعاب كل يشء كأين قد مسـني الشـيطان منـذ أن رأيتها
وهـا قـد اغتسـلت بماء مقـروء عليـه ،مـددت يـدي لعقلي والتقطتـه ليعـود
مكانـه وتعـود معـه األمـور إىل نصاهبـا ،رن هاتفي يف تلـك اللحظـة فتناولته
مبتسما ورددت:
ً
- 61 -
-يف الطريق إليكم.
كانـت تنتظـر إجابتي على طلبها ،ال أعلـم منطقية طلبها هـذا ومن أين
جـزارة تلـك التـي متسـك السـكني لضحيتها أتـت بقدرهتـا على طلبـه! ،أي َّ
ظاهـرة إيـاه مبتسـم ًة! ،وبرغم كل ذلـك وجدتني أزيـد من بسـمتي وأقول:
-موافق.
- 62 -
ٍ
بسامت لطيفة لريد أحدهم: تبدل ضجرهم وانزعاجهم مني إىل
ً
أعامل كثرية مؤجلة وننتظر رأيك -ونحن اشتقنا إليك يا قائد ..لدينا
فيها.
وقالت أخرى:
-عدد املجلة األسبوعية سيصدر غدً ا يا قائد ومل تسلمني مقالتك بعد!.
رددت وأنا أخرج ورق ًة من حقيبتي:
-هـذا صحيـح ..أعتـذر لذلـك ولكـن املقـال هـذه املـرة كان حيتـاج
ٍ
لوقـت طويـل ..سـينال إعجابكـم بـإذن اهلل.
قالت إحداهن التي كانت جتلس حامل ًة عىل فخذهيا «حاس ًبا آل ًيا»:
-عن ماذا يا معاذ.
ال جيـرؤ أحـد على منـادايت باسـمي هنـا ولكنهـا الوحيـدة التـي تفعل
ذلـك دون أن ينظـر هلـا أحـد حتـى أنـا ،وقبـل أن أرد عليهـا أردفـت هـي:
-أظنها حبيبتك.
اندهش اجلميع منها ونظروا هلا لتكمل ضاحك ًة:
-ال تندهشـوا ..فلـو كانت فلسـطني أنثـى لتزوجها معـاذ ..إهنا حبيبته
التـي يكتـب هلا دون أن ينتظـر منها رد.
- 63 -
ضحكـوا هـم اآلخـرون ولكنـي مل أضحـك ،أوقـن متا ًمـا مـا تعنيـه يف
كالمهـا ،ونظراهتـا تتفحصنـي من رأيس حتـى أمخص قدمي ،ولكـي تؤكد يل
ذلـك أكملـت وهي تبتسـم:
-نريد أن نسمعه بصوتك ..نحب ذلك.
أيدهـا اجلميـع يف ذلـك وأنـا مـا زلـت أنظـر هلـا يف صمـت تـام ،تدور
ففتحت
ُ بين أعيننـا أحاديـث كثرية ال يسـمعوهنا ،رف َعـت حاجبيهـا لتنبهنـي
الورقـة وبـدأت يف القراءة:
«باألمـس روادين حلـم متنيـت لو أنه حقيقـة ،فلقـد أرسى يب إىل أرض
املعـاد ،أرض الرب.
هنـا ،وعـد اهلل إبراهيـم وعاهـده على أن تكـون هـذه األرض لنسـله،
فهـي أرض املعـاد التـي سـيعودون حتــت قيادة املاش َّيح «املسـيح املخلص»،
أي أهنـا األرض التـي ســتشهد هنايـة التاريـخ ،هكـذا قـال اليهود.
ولكنــى مل أرى منهــم أحــدً ا! ،فلقــد طفــت فلســطني كلهــا ومل أرهــم،
أيضــا ،أين شــعب اهلل املختــار؟! ال
بحثــت عنهــم حتــت الــراب ومل أجدهــم ً
أرى ســوى شــجر الزيتــون واألطفــال حتتــه يعــرون ويأكلــون كمواطنــن
اجلنــة ،تتبعــت أرساب الطيــور حتــى وصلــت إىل ســاحة القــدس ،اجلميــع
ـر األقــى ـب حلــدث عظيــم ،حتــى ظهــر أمامنــا رجــان كـ ّ جالــس ومتأهـ ُ
حتيـ ًة هلــم..
- 64 -
بدأ أصغرمها سنًا باحلديث ً
قائل:
وسـورها،
ُ ِ
الـدار قانـون األعادي دار احلبيـب َفر َّدنـاِ ..
عن مررنـا على ِ
َ
ِ ِ ِ َف ُق ْل ُ
ورها؟
حين ت َُز ُ
َ القـدس ـي ن ْع َمـ ٌة ..فامذا ت َ
َـرى يف ـت لنفسي ُربما ه َ
رد عليه أكربمها سنًا وقال:
ـرَ ..أص ـ ُ
ـر َغ ـ ْـري يف التجــيِّ .ال م ـ َ
ـكان و ال زم ــان ال أم ــيَ ..أط ـ ُ
فم ــن َأن ــا؟
َأنا ال أنا يف حرضة املعراج.
- 65 -
قام الصغري وأمسك بيديه علم فلسطني وقال بأعىل صوته:
والكتـاب ِ
املدينـة ِ
تاريـخ سـطور القبـور ،كأهنـ َّن تنتظـم «يف القـدس
ُ ُ ُ ُ
كافـرا أو مؤمنًا..
ً فالقـدس ُ
تقبـل مـن أتاهـا ُ مـروا مـن ُهنـا..ترابـا ..الـكل ُُّ
واإلفرنج الزنـج ِ
األرض ..فيها لغـات ِ
أهـل ِ ُأمـرر هبـا وأقرأ شـواهدَ ها ِّ
بـكل
ُ ُ
ُ
واألتـراكُ ، لاب وال ُب ْشـن ُ ِ
أهـل اهلل واهللاك، والتاتـار
ُ َاق والص ْق ُِّ والق ْف َج ُ
ـاق
وطـئ ال َّثـرى.
َ كل مـن ُ
والنسـاك ..فيهـا ُّ والفجـار
ُ والفقـرا ُء وامللاك،
ثـار اجلميـع لثورته وثـارت معهم دموعـي ألجد ذلـك الصغري يقرتب
منـي ويقول وهو يشير إ ّيل:
ِ املنسي من ِ ال ِ
الكتـاب ..ال تبك عين َُك أهيـا ال َع َر ِ ُّ
ب ْ متن ُّ تبـك عين َ
ُـك أهيا
القدس إال َأن ْ
ْت. ِ القدس لكـ ْن ..ال َأ َرى يف
ِ ِ
القدس من يف واعلـم أنَّـ ُه ..يف
ْ
طائـرا ح ًقـا ،شـاهدت
ً ال يمكننـي وصـف شـعوري وقتهـا ،كنـت
شـعرا يف فلسـطني أمامي! وال
ً «حممـود درويـش» و»متيم الربغوثـي» يقوالن
أثـر ليهـودي وال المـرأة تبكـي ،ال أثـر سـوى لنـا ،نحـن امللاك الرشعيـون
حلما رائ ًعـا جـدً ا وكنت
للأرض ،ندافـع عنهـا حتـى تدافـع هـي عنـا ،كان ً
يف غايـة النشـوة والسـعادة حتى نسـيت أنـى أحلـم ،ولكن بائـع اخلرضوات
ينس ذلـك ،وصوت أيب الـذي مـر يف الصبـاح الباكـر حتت بيتـي وأيقظنـي مل َ
أيضا..
ينس ذلـك ً وهـو يسـمع يف التلفاز عن احلصـار وزحف االسـتيطان مل َ
فلسطني ..ستعودي إلينا يا عزيزيت عام قريب.
- 66 -
رغما عنها ،فهي
صفـق اجلميع بينما أنا أخذتنـي دموعها التي سـقطت ً
حتـب فلسـطني كما أحبهـا ،وددت أن أذهـب هلـا وأحتـدث معهـا يف الاليشء
كعادتنـا ولكننـي خفـت أن تـدرك حـزين عىل مـا حدث منـذ قليـل ،ومل يرتك
يل هاتفـي فرصـة االختيـار هو األخـر فلقد رن جرسـه يف هذا الوقـت ليظهر
اسـم والـدي فلملمـت حقيبتـي وأخربهتم أين سـآيت غـدً ا وأمسـكت اهلاتف
ودار حديثنـا كالتايل:
-لقـد خرجـت مـن اجلامعـة اآلن ويف الطريـق إىل البيـت ..أتريـدون
منـي شـي ًئا أحضره لكم؟
-ال يا بني ..ت َ
َعال بخري فحسب.
*****
- 67 -
قليوب
أيضـا مجيع من َأحب ،أنـا و ُأمته،
مسـقط رأس والـدي ،ومسـقط رأيس ً
كما حيب أن يقـول عن والـديت يف غياهبا ،أمـا يف حضورها فهي رمحـةُ ،أنادهيا
رمحـة يف معظـم األوقـات ،ولكن أحيانًـا ما حيتـم املوقف أن أنادهيـا بـ»أمي»،
ٍ
وعـي وأقول: برفق ألسـتيقظ ،فأجدين أبتسـم دونعندمـا هتـزين بيدهيا ٍ
- 68 -
كان جيلـس على األريكـة أمـام التلفـاز يسـمع األخبـار كعادتـه ،انتبـه
لصـوت البـاب وأنـا أفتحـه فذهبـت إليـه وقبلـت يـده وجلسـت بجـواره
ليقـول:
سكت ً
قليل وأردفت: ُ
فأجاب:
- 69 -
ظهرت مالمح القلق عليه ليسألني:
تنهدت ً
قليل ليدور بيننا احلديث كالتايل: ُ
-ال أعل ــم ..وال أدري أأن ــا ع ــى ص ـ ٍ
ـواب أم خط ــأ ..ولك ــن يب ــدو
ي ــا أيب أنن ــي أحبب ــت.
-هـذه املـرة األوىل يـا أيب التـي أتـرك فيهـا الزمـام لقلبـي وال أسـمع
ٍ
بقيود مـن الفـل والياسـمني ..مل تكن لدي القـدرة عىل لعقلي ..كنـت مقيـدً ا
رأسـا على
السـيطرة على كل مـا أشـعر بـه ..أيقلـب كيـاين وتتغير مبادئـى ً
ٍ
امـرأة يـا أيب؟!. ٍ
عقـب ألجل
-وهل أخربهتا؟
أعلـم أنه لـن يرى ابتسـامتي املنكسرة تلك التي ابتسـمتها بعد سـؤاله
هـذا ولكنـي موقـن متا ًما أنه قد شـعر هبـا ،فأجبتـه ً
قائل:
ٍ
بسـفاهة دائما مـا كنـت أنظـر
-أجـل ..ولكـن ..تعلـم يـا أيب!ً ..
ألصدقائـي هـؤالء الذيـن يبكـون بالليـل وينحبـون عىل فـراق مـن حيبون..
كنـت خمط ًئـا ..األمـر ليـس هبـذه السـهولة يـا أيب عىل اإلطلاق ..أشـعر بأن
ٍ
بحـزن ال آخـر لـه يـا أيب. هنـاك سـكينًا بصـدري يقطـع قلبـي إر ًبـا ..أشـعر
- 70 -
ضمنـي إليـه كعادتـه ،وبرغـم أن احتضـان األب البنـه غير مألوف يف
دائم
عهدنـا الرشقـي ،ولكنـه عـودين عىل ذلـك منذ صغـري ،فـكان صـدره ً
هـو ملاذي ومـأواي الوحيد ،أحتـدث معـه يف كل يشء وال أخجل منـه أبدً ا،
فكنـت قدميـه التـي يميش هبما ويذهـب إىل املسـجد ،وعينيـه التـي تدله عىل
دليلا وكان يلالطريـق ،ويديـه التـي تُبعد عنه العثـرات واألحجـار ،كنت له ً
نب ًيـا ،كنت لـه طري ًقـا وكان يل النهاية..
-يــا ُبنــي ..احلــب ليــس حرا ًمــا وال ذن ًبــا ..ولكنــه إن كان ســب ًبا يف
اهلــاك فيجــب علينــا اجتنابــه ..منــذ طفولتــك وأنــا أنتظــر ذلــك اليــوم
الــذي تــأيت فيــه وختــرين أنــك حتــب إحداهــن ..ونحــن أصدقــاء كــا
ـي أن أعلمــك بــأن هنــاك خطــأ وجيــب عليــك تعودنــا ..والصداقــة حتتــم عـ ّ
تداركــه ..وال تبتــأس مــن حالــك يــا صديقــي فنحــن رجــال ال يفطــر قلوبنا
شــي ًئا مهــا عظمــت قوتــه ..أليــس كذلــك؟!.
ابتســمت لــه مــدركًا مــا يعنيــه ،قبلــت يديــه ثــم أويــت إىل الفــراش،
أمســكت باهلاتــف ألرى رســائل نصيــة مــن االحتــاد يذكروننــي بســفرنا
املؤجــل إىل أســوان ،أرســلت هلــم رســائل تفيدهــم بتحديــد ميعــاد الســفر
يف هنايــة األســبوع ،خلــدت للنــوم بعــد فـ ٍ
ـرة طويلــة مــن التفكــر والوجــع
قــوي جــدً ا وكالم والــدي لــه مفعــول
ٌ الــذي أجهــل مصــدره ،نعــم أنــا
أيضــا
الســحر يف قــرارايت ،فلقــد اســتوعبته جيــدً ا وفهمتــه وفهمــه عقــي ً
ولكــن قلبــي يأبــى إال أن يســتمع لصوتــه فقــط ،وبعــد التفكــر الطويــل يف
كيــف سأنســاها وجدتنــي أنتظــر الغــد ألراهــا حتــى بمحــض الصداقــة
التــي وضعــت حبــي هبــا حتــت اإلقامــة اجلربيــة..
- 71 -
ـت
أتــى الغــد ومــا زالــت يب عوالــق مــن األمــس مل تذهــب معــه ،ذهبـ ُ
ـدف واحــد ،البــد أن أحمــو الشــهرين املاضيــن مــن للجامعــة وبــرأيس هـ ُ
ذاكــريت ،لقــد اقرتبــت امتحانــات هنايــة العــام الــدرايس وال بــد يل أن أصــب
تركيــزي كلــه جتــاه الدراســة فلــم يتبــق إال القليــل..
مهم سـوى حبيبـة ،لذا أمسـك عقيل ليـس بينـي وبينهـا أمـر قد يكـون ً
ٌ
متعجل ولـدي موعـدٌ مهم باحتـاد الطلبة بلجامـي وأمـرين بـأن أخربهـا بـأين
ولكنهـا أرصت قائل ًة:
- 72 -
-حذرتـك مـن قبـل ولكنـك مل تسـمعني ..كنـت أعلـم أن ذلـك
سـيحد ث .
قالت:
-ال ..مل تفشـل ..مل تكـن لـك فرصـة املحاولـة مـن األصـل ..هـي ال
حتبـه ..هـي مريضـ ٌة بـه ..يف الشـهرين املاضيين الذيـن مل تـأيت فيهما قضـت
أغلبهما يف املشـفى ..تسـوء حالتهـا الصحيـة والنفسـية ولـن تتحسـن إال بـه
وهـو يعلـم ذلـك ويتمتـع بذهلـا ..ال أعلـم كيـف أسـاعدها وجئـت إليـك
لعلـك تسـاعدين ..فلقـد فعلـت كل مـا بوسـعي مـن دون فائـدة.
- 73 -
مل أمتالك نفيس حينها وثرت ً
قائل:
-ومـا ذنبي أنـا!! ..وملـاذا أصلح خ ًطـا مل أرتكبه ..ومل َ أسـاعدها وهي
ال تريـد أن تسـاعد نفسـها! ..هـي حر ٌة تفعـل ما تريـد ..وكل ما بوسـعي أن
أفعلـه ألجلها ..أن أنسـاها.
-لن تنساها..
زادت ثوريت:
-سأنسـاها ..وإن كنـت قـد أحببتهـا فـور مـا رأيتهـا فأنـا قـادر على
كرههـا فـور مـا أقـرر.
-لن تنساها..
قـادرا على
ً هـدأت هلدوئهـا وثقتهـا ،جتـزم بـأين لـن أنسـى ولسـت
ُ
تكذيبهـا ،مل يكـن أمامـي سـوى أن أقـول هلـا كل مـا بداخلي بوضـوح تـام:
-أتعي ما تقول؟!.
- 74 -
ابتسمت وأنا أقوم مستعدً ا للمغادرة ،وقلت بكل ٍ
ثقة وهدوء: ُ
اجتماع االحتـاد هذه املـرة كان خمتل ًفا ،ففـور ما دخلـت عليهم وجدهتم
يصفقـون ويصفـرون ،مل أفهم شـي ًئا حتى وجـدت أحدهم يقول:
طارحـــا موضو ًعـــا آخـــر يف رسعـــة ،ال أنكـــر أينً شـــكرهتم مجي ًعـــا
ايضـــا مثـــل تلـــك اللحظـــات ،ال أحـــب املـــدح اكـــره االضـــواء واكـــره ً
وخاصـــة عـــى مـــا أكتبـــه ،لـــذا؛ رأيتهـــا تبتســـم مـــن نفـــس مكاهنـــا،
فه ــي تفه ــم ذل ــك ،كان ــت جتل ــس يف نف ــس امل ــكان الت ــي كان ــت علي ــه
باألم ــس ناظ ــر ًة إىل «حاس ــبها اآليل» مش ــغولة يف أم ــر م ــا علي ــه ،فقل ــت
وأنـــا أقـــف يف منتصفهـــم مجي ًعـــا:
شــكرا لكــم مجي ًعــا ..هــذا ليــس بمجهــودي وحــدي ولكنكــم ً -
رشكاء يف هــذا ..ولكــن دعونــا ننظــر إىل يشء أهــم اآلن ..سنســافر أســوان
يف هنايــة األســبوع ..فلقــد تأخــر ســفرنا هــذا العــام والنــاس تنتظرنــا نفعــل
مــا نفعلــه كل عــام.
- 75 -
قال أحدهم:
-لقـد اعتـذرت عـن السـفر يـا معـاذ ..صحة والـدي ليسـت مطمئنة
ألتركـه وحـده وأذهب.
*****
- 76 -
عـدت بعقلي فقـط ،تركنـي قلبـي ُ عـدت للبيـت ،ولكـن هـذه املـرةُ
عـم ِ
معهـا ومل يـأت معـي ،سـيطر الشـتاء على مجيـع الفصـول مـر ًة أخـرىَّ ،
وجـع
ٌ أصبحـت ال أرى غيره ،هنـاك
ُ السـواد على كل األلـوان التـي أراهـا،
ً
منعزل، يعتصرين مـن الداخل وال أقـوى على مواجهته ،أصبحـت صامتًـا،
مكترث بمن يتصـل ،حتى والـدي ورمحة، ٍ ٍ
ببالهة شـديدة غري أنظـر هلاتفـي
مل يعرفـا شـي ًئا عـن ما حيـدث بداخلي ،وصديقتـي املقربـة التـي مل أخربها أي
يشء عـن حبيبـة من األصـل ،وكان مبرري الوحيـد هو ضغـط االمتحانات
وقلقهـا ،مل يصدقـوين ولكنهـم جـاوزوا ذلك عندما وجدوين أسـتعد للسـفر
كثيرا ولكني مل ُأشـعرهم بذلـك ،كان احلزن قد ً إىل أسـوان ،كنـت أحتاج هلم
ألحـد يف مشـاركتي لـه ،فوحدنـا نعلـم مـاذا يفعل يب، ٍ أقنعنـي بأنـه ال ذنـب
قـاس جـدً ا إىل درجـة أنـه ال يفارقني حتـى يف نومـي ،أصبحنـا أصدقاء ٍ فهـو
رغـم تنافـر قلوبنـا إن كان لـه قلب..
سـافرت ألسـوان ،وأنـا أحـاول بأقصى مـا عنـدي أن ال يـرون مـا يب
ٍ
بحرفيـة بالغـة بني طيـات ابتسـامتي، مـن وجـ ٍع وحـزن ،كنـت أخبئ ذلـك
ولكنـي ال أنكـر أبـدً ا بـأن تلك الرحلـة قد أخـذت من حـزين الكثير ،مل ِ
ينته
ٍ
ملـكان حتبه فسـوف يتبـدل حزنك أعلـم ذلـك ولكـن إذا ما شـاركت حزنك
إىل اسـتمتا ٍع باحلـزن ،فهـي أسـوان ،القطعـة املباركـة مـن نامـوس الراحـة
النفسية..
- 77 -
فهي زهرة اجلنوب ،املتجر الفريد من نوعه ،بد ًءا من األثواب النوبية
كثريا عن
وناسها اللذان ال خيتلفان ً
اجلميلة ،انتها ًء بقطع اآلثار املقلدة ،وبيوهتا ُ
تلك اآلثار ،ولكنها آثار حية ،ليست مقلدة ،فهي حقيقية ،وحقيقية جدً ا..
طقسـها ومجـال الطبيعـة هبـا لن جتد مثلهما أبـدً ا حتى وإن طفـت العامل
مرتين أو ثالثـة ،أما عن آثار قدمائنـا العباقرة ،فاآلثار هنـا هلا مالمح خاصة،
ٍ
تقـارب يلتقـط صـور ًة امتزاجـا تا ًمـا مـع مالمـح مواطنيهـا يف
ً فهـي متتـزج
طبيعيـ َة للحياة .ستشـعر وأنت تـزور آثار قدمائنـا املوجودة هنـاك ،أنك ترى
بعينـك لوحـ ًة يتداخل فيها اإلنسـان واملكان ليكونوها هبذا الشـكل املتناسـق
بأرحييـة تامـة ،ومـن بني تلـك املعابـد معبد «كـوم أمبـو» ،الذي يعـود تارخيه
إىل عـام 180قبـل امليلاد لعبـادة اآلهلة «سـبك وحـورس» ،وهـو يوجد عىل
ربـوة عاليـة تطل على هنـر النيل ،ويمتـاز بنقـوش جدرانـه البـارزة .،وهناكٍ
أحـب املعابـد لقلبـي؛ معبـد «إدفـو» الـذي يعد مـن أمجلهـم وأزهاهمُ أيضـاً
على اإلطالق ،فهـو جيمع بني الطـراز الفرعـوين واليوناين ،وقد أنشـئ لعبادة
اإللـه «حـورس» و ُيـروى على جدرانه قصـة احلرب الشـهرية بينـه وبني عمه
ٍ
قصـاص فـاز هبـا «حـورس» يف النهايـة ،وهنـاك «سـت» إلـه الشر ،حـرب
أيضـا معبـد «فيلـه» ،وهـو معبـد اآلهلة «إيزيـس» ،رمـز احلب والوفـاء ،تلك ً
التـي طافـت مصر كلهـا لتجمـع أشلاء جسـد زوجهـا «أوزوريـس» الذي
منتقما لوالـده ،وهنـاك
ً قتلـه أخـوه «سـت» ،وجعلـت مـن ابنهـا «حـورس»
أيضـا من املعابـد الصغرية ،مثل معبـد «أمنحوتب الثالـث» ،و»هيكل العديـد ً
حتـوت»« ،املعبد البطلمـي» .والكثري والكثير من اآلثار التـي تقطن بوجداين
وأحفـظ تفاصيلهـا كام أننـي قد ولـدت هنا..
- 78 -
تلـك هـي املدينـة التـي أهواهـا وأهـوى مجيـع مـن هيواهـاُ ،سـكاهنا
اجلُ َملاء ،املعنـى احلقيقـي للطيبـة واإلنسـانية واجلـود ،أعشـق سمارهم،
ٍ
تـراب فيهـا.. وموسـيقاهم ،أعشـق النوبـة بـكل ذرة
ولكـن سـفرنا املفاجئ إىل هنـاك مل يكن للتنزه أو ما شـابه ذلـك ،فلدينا
مهمـة جيب علينـا فعلها.
ٍ
مؤسسة فاحتاد طالبنا ينتمي إىل مجيع املؤسسات اخلريية احلقيقية ،ال
بعينها ،فنحن ننتمي للفقراء ،للكادحني ،لليتامى واملساكني ،ننتمي لكل من
سمعت اهلل يقول يف مجيع كتبه الساموية..
ُ يمد يده للمساعدة ومن مل يمد ،هكذا
وسـفرنا ألسـوان بالتحديد ،هـو ألنه قـد حدثت هزة أرضيـة أطاحت
بمعظـم بيـوت أهـل قرية»كوم أمبـو» ،وبيوهتـم ليسـت معقـد ُة كبيوتنا نحن
القاطنين بالقاهـرة وأشـباهها ،فبيوهتـم بسـيط ُة كقلوهبـم ،يعتربون الشـمس
هي سـاعتهم ،يسـتيقظون هبا وينامـون عندما تأ ُفـل ،لذا فلقد قررنـا الذهاب
ومعنـا بعـض املتطوعني مـن اجلامعـة وأصدقائنا..
وبرغ ــم أن ه ــؤالء املترضري ــن ق ــد ال جي ــدون طع ــام الغ ــد ،يقدم ــون
بنفـــس راضيـــة ،يؤثـــرون عـــى أنفســـهم حتـــى وإن ٍ لـــك طعـــام اليـــوم
صعـــب إىل
ٌ اشـــتدت حاجتهـــم هلـــذا ،كان العمـــل وإعـــادة بنـــاء بيوهتـــم
ـد كب ــر ،ولك ــن تكف ــي ابتس ــامة األطف ــال هن ــاك ،تش ــعر بأن ــك تعم ــل حـ ٍ
عم ـ ً
ـا عظي ـ ًـا ومقابل ــه أعظ ــم ،حت ــى أت ــى آخ ــر ي ــو ٍم لن ــا هن ــاك ،أتذك ــر
تفاصيل ــه كاملــ ًة كأن ــه ق ــد ح ــدث باألم ــس..
- 79 -
كنـا قـد انتهينـا مـن العمـل يف بيت أحدهـم حتـى أتانا صاحـب البيت
ٍ
بمعروف أكرم ،اندهشـنا مـن قوله فقال بـرد معروفنـا
يشـكرنا واقترح علينا َ
ٍ
بلكنـة عفوية:
مل ُيثار فضويل كبقية من معي الذين أرسعوا معه إليها ،دخلوا مجيعهم
وطلبوا منها ما يتمنون حدوثه إال أنا ،مال عىل أذين ذلك الرجل ً
قائل:
- 80 -
اندهشت تلك املرأة من قويل فقالت:
«دع اهلل خيتار لك ..فمن صنع طري ًقا أوىل بإنارته»..
انتهت الرحلة ،عدنا إىل القاهرة آمنني مطمئنني ،ال تزيغ عن قلوبنا
ابتسامة تلك الوجوه السمراء النقية فرحني بام فعلنا هلم ،وتلك العرافة مل تذهب
كثريا وأستيقظ ال أتذكر شي ًئا مما رأيت..
أيضا ،تأتيني يف منامي ً
من رأيس ً
- 81 -
ويـدي جناحان ُأحلـق هبام وأنا
َّ قدمي ليسـت على األرضَّ شـعرت أن
ُ
على مقعـدي يف املقهى ،ال أشـعر بشيء ُيزعجني ،فقـط أطري..
- 82 -
أكتــب ِ
لــك بعــد مــا ظننــت أين ســأذهب بعيــدً ا ،بعــد مــا قــررت
أن أتوقــف عــن ممارســة كل مــا ُيشــعرين بــأين مــا زلــت ح ًيــا ،ســأعتزل
ديــرا لــن يدخلــه ســواي ..هــا أنــا ألــوح
النــاس إذن ،وأبنــي هاهنــا ً
ٍ
لشــخص آخــر، أراك هنــاك تلوحــن بالــوداعلــك مــن عــى شــاطئيِ ،ِ
أقــرؤك الســام يــا مــن جعلتنــي أؤمــن بنفــي ثــم هديتنــي إىل طريــق
ٍ
رجــل الكفــر األبــدي ،ســا ًما يليــق بوجعــي بعــدك ،ســا ًما مــن
قــد ظــن أن القلــم واخليــال ســاحه وقوتــه فقــرر أن يتجــرد منهــا ..
- 83 -
ال أمتلك خيار االنسـحاب ،أردت شي ًئا جيعلني أؤمن بنفيس جمد ًدا ووجدته ..
سأكتب ..سأظل أكتب فإهنا ليست النهاية..
ُ
فـإين أراهـا تأتينـي كل يـوم تأتينـي يف منامي متسـك ِ
بيـد تلـك العرافة
ولكنـي ال أحـدد مالحمهـا ،ولكني أعرفهـا جيدً ا ،فهي ال تشـبه أحـدً ا ..فهي
فريدة.
- 84 -
هي..
- 85 -
أنا ال أشبه أحدً ا فأنا فريدة ،هكذا قال يل معاذ..
ببيت يملؤه الذكور ،علمتني أمي كيف أحتمل مسؤولية الفتاة الوحيدة ٍ
ٍ
بيت بأكمله وأنا مل أجتاوز العارشة بعد ،وكأهنا كانت تعلم بأهنا سرتحل تارك ًة
زوجا وثالثة أبناء ،أنا أصغرهم سنًا ولكن أكربهم ً
عقل.. ورائها ً
ٍ
دائم أن تعلمـت كيـف تكـون األنثـى ُأ ًمـا ألوالد مل تنجبهـم ،وأن ّ
علي ً ُ
أعطـي كل مـا عنـدي دون أن أنتظـر أن آخذ شـي ًئا ،تعلمت كل ذلـك دون أن
أعلـم عني شـي ًئا..
دائم
مهندسـا بـ»مصر للطيران» ،وبرغـم أننـي كنـت ً ً يعمـل والـدي
أهـوى أن أذهـب معـه إىل عملـه وأرى الطائـرات حتلـق يف السماء ،مل أجـرؤ
ً
خيـال.. على الطيران أبـدً ا ،حقيقـ ًة أو
كنـت متفوقـة يف الدراسـة يف مجيـع املراحـل ،حتى انتهـى يب املطاف إىل
ُ
مثـل مـا انتهـى املطاف بـأيب ،كلية اهلندسـة جامعـة القاهرة..
ولكـن عندمـا حان وقـت اختيار قسـم الدراسـة بالكلية ،مل اخرت قسـم
«امليكانيـكا» كوالـدي ،فلطاملا ما كنت أتسـاءل كيف لإلنسـان اآليل أن يكون
لـه ماهيـ ٌة نعترف هبـا نحـن البشر احلقيقيـون ،فوجـدت أن هـذه اإلجابـة
يمكـن أن أجدهـا يف قسـ ٍم واحـد ،قسـم» امليكاترونكس»..
ويبـدو أن كـوين البنـت الوحيـدة مل يتوقـف على البيـت فقـط ،فقـد
أيضـا ،ومل يدفعنـي ذلـك إىل الرجوع عام
كنـت البنـت الوحيـدة هبـذا القسـم ًُ
أعرف ما أريـد ،يل قدمني ورجلين ورأس مثلام
ُ اخترت ،فأنـا امرأ ٌة مسـتقلة،
يمتلـك أبنـاء آدم ،ال فـرق بيننـا يف يشء سـوى أهنـم ال يؤمنـون هبذا..
- 86 -
ِ
لتعيش دائما أن القراءة هي السـبيل الوحيـدُ
أعشـق القراءة ،فـإين أرى ً
متفهما واجباتـه وحقوقـه ،فأنـا أهـوى القـراءة يف خمتلـف املجاالت
ً إنسـانًا،
مكان خـاص بقلبي ،وخاصـ ًة روايات «رضوى ٌ والفـروع ،ولكن للروايـات
ذهبـت معهـا إىل ِغرناطة ،وحفظـت تفاصيـل األندلس عن ُ عاشـور» ،فلقـد
وهت بعشـقهام لفلسـطني ،ولكن سـيبقى ظهـر قلب ،وعشـقت حبها ُملريدِ ،
ُ
كاتبـي األهـم بينهم هـو صديقـي املقرب ،معاذ ياسين..
ٍ
خواطـر ويعطيهـا يل ألقراها، فلقـد احتفظـت بكل مـا كان يكتب مـن
دائما مـا أهليه عنهـا فال يتذكـر أين احتفظـت هبا..
كنـت ً
ومـن هـذه األوراق مـا عشـقتها وحفظتهـا كأهنـا قـد كُتبـت يل ..فأنـا
دائما قبل أن أنـام ،وهو ال يعلم ذلـك ،وعندما يتحـدث عنهم أتظاهر أقرأهـا ً
بـأين قـد نسـيتهم فـور مـا قرأهتـم ،مل يكن ينبغـي لـه أن يعلم غير ذلك..
- 87 -
فــور مــا تقرأينهــا ســتبدو نواجــزك يف الظهــور معلن ـ ًة عــن ابتســامة تــرق
ـكشمســا يف منتصــف الليــل ،هــذا الوشــاح الــذي تركتيــه يل حيمــل رائحتـ ِ
ً
ِ
التــي ال تضــل الطريــق إىل أنفــي أبــدً ا ،هــذا الدعــاء الــذي ســمعتك تدعينــه
يل خلسـ ًة دون أن تعلمــي ،هــذا الليــل الــذي قــد تركنــا يف ســاعاته ودقائقــه
الكثــر مــن ِضحكنــا وحديثنــا الــذي ال ينتهــي إال عندمــا يعلــن الفجــر
ـث أجلنــاه لليلـ ِ
ـة املقبلــة ،ويــأيت وقــت جميئــه فنتوضــأ بــا تبقــى مــن حديـ ٍ
ـدر ذلــك الــذي نتناولــه فيجعلنــا ندعــوا لبعضنــاالصــاة فــا نــدري أي خمـ ٍ
ـا حتــى نلتقــي يف عاملنــا اآلخــر ..عــامل ال يكــونوننســانا! وال نلبــث طويـ ً
فيهــا ســوانا.
- 88 -
رجلهـا يف أخـرى ،حتـى وإن كانت ال أسـوأ مـن شـعور أنثـى يتغـزل ُ
األخـرى تلـك مـن درب اخليال فقـط ،ولكنهـا يف النهايـة أنثـى ،واألنثى إذا
أحبـت فلا مـكان لتـاء التأنيـث يف حياة مـن ُتـب سـواها ،فأنا أحبـه ،أحبه
جـدً ا ولكنـه مل يعلـم ذلك..
كنـت له كما كان يقول عني أننـي صديقتـه املقربة ،املـرأة الوحيدة التي
تفهمـه دون أن يتحـدث ،ذلـك الشـخص الـذي ختـاف أن يربط بينهما رابط
دائما أنـه خيشـى خسـاريت كام خيشـى خسـارة احلـب فتخسره ،كان يقـول يل ً
دائما ما ٍ
والديـهُ ،يبنـي مـن زاويتـه اخلاصـة ،دون عهـود أو روابـط ،وكنـت ً
أوافقـه على ذلـك ،وإذا قـال ذلـك أحـد أصدقائنـا مـن بـاب الدعابـة فإنني
أتظاهـر بسـخافة املوضـوع كما يفعل هـو اآلخـر ،مل يفهـم الغبي حينهـا أنني
أحبـه حتى اشـتكى قلبـي منـه ومني..
كنـت أذنًـا صاغيـ ًة لـه ،أسـمع الكثير عـن معجباتـه وأضحـك كأن
الغيرة ال تقتلنـي ،و ُيكمـل هـو بسـخافته املعتـادة دون أن ِ
يـدر ذلـك ،حتـى
كثيرا..
ً يفيـض يب الكيـل أحيانًـا وال أضحـك ،بـل أضحـك
صلب
ٌ كنـت عضو ًة معـه يف احتاد الطلبـة الذي يرأسـه ،فهو قائـد ح ًقا،
ٍ
بوجه هيابونه ،فكان اجلميـع ينادونه بالقائد ،إال أنا، دائم
وذكـي ،يظهـر للناس ً
كبريا ،ينزوي ً
طفلا ً فأنـا الوحيدة التـي أرى ما ال يراه اآلخـرون ،ال يرون أنه
بركـن غرفتـه إذا مـا أغضبـه أحدهـمُ ،يب ويكـره بطفوليـة تامـة ،ال يعرف
اخلُبـث ،يبكـي بمفـرده ،أو أمامـي ،حيـب اجللـوس وحيـدً ا ،أو معـي ،فمهام
- 89 -
كانـت شـدته وبأسـه فهـو يعلـم أين أراه مـن دون حجـاب ،أسـمعه دون أن
خيبرين ،أشـعر بـه دون أن يكـون أمامـي..
ٍ
امرأة أخرى ،مل أخبره بذلك وانتظرت كنـت أعلـم أنه قد وقع يف حـب
منـه أن يفعـل ذلك ولكنه مل يفعـل ،ال أعلم مما خاف ولكنـي انتظرته ،انتظرته
وأنـا أعلـم أنـه سـيعود إ َّيل يف النهاية ،هكـذا سـمعت «جاهدة وهبـة» تقول،
قالـت يل ذلـك وأنـا ممسـك ًة بإحدى أوراقه أشـم رحيـه فيها ،كانـت تقف عىل
َ
«وهتجرك النسـاء بمقربـة مـن قلبـي وغنَّت منكسرة: ٍ حافـة سماعات األذن
منكسرا إ ّيل» ،فصدقتها ،وانتظرت ،مل أسـافر معه إىل أسـوان ً مجيعهـم وتعـود
أيضا كنـت بأمس احلاجـة إليه، ِ
رغـم إحسـايس ا ُمللـح بأنـه بحاجـة إ َّيل ،وأنـا ً
ولكـن سـوء حالـة والـدي الصحيـة منعتنـي مـن السـفر معهـم ،وكلما كان
ٍ
لبعض يـزداد اشـتياقي لـه كنت أد ُعو لـه بأن هيديـه اهلل إ ّيل ،وإن كنـا ال نصلح
فلريمـي اهلل يف قلوبنـا اهلدايـة والصلاح ،فأنـا ال أريـد سـواه ،هـو آدم ببنيـه
بـكل نسـله ،هـو الوحيد الـذي لـه الوالية عىل قلبـي وال أريـد غريه..
كثيرا وال أخبره ،أعانقـه عندما أحتـاج لعناقهً كان يأتينـي يف أحالمـي
نمـت كعـاديت وأنـا أحتضـن ورقـ ًة قـد كتبهـا
ُ دون أن يشـعر ،يف ٍ
مـرة منهـم،
ونسـيها معـي ،أعتقـد أن تلـك املـرة كانـت يف سـفريته تلـك ،كنـت افتقدته
بشـدة فأتـاين يف رؤيـاي ،أتذكـر ذلـك احللـم جيـدً ا ،كنـت نائمـ ًة على كتفـه
ٍ
هـدوء يسـحرين.. وكان يمسـك نفـس الورقـة ويتلوهـا يف
- 90 -
لك هذا اخلطاب ع ّلني أجد رحيك ،ع ّل ِك ختضعني ملا « ُأرسل ِ
قوة لتقفني هنا!قلبك وهترعي إيل بكل ما أوتيتي من ٍ ِ عليكِ يمليه
ّ
وتعانقيني ..تعانقيني حتى يذوب ما بداخلك من خوف ..هنا حيث
ملجأك وأمانك ،هنا حيث صدري وأعلم أنك جتيدين التنفس هنا ..
كثريا ،ولكني مل َأر ُأ ًما تسئم من ولدها أبدً ا إذا
ً ربام أخطئ يف حقك
أكرتث بمن يقول كيف ُ فعل مل تفعله! ،وال ٍ محلها نتيج ُة غضب و َّ
ِ
تكوين ُأ ًما لطفل يكربك سنًا ،إن األمومة ال تُقاس بالعمر أبدً ا! فلو
ِ
النقيض فليس هناك ُأ ًما سواك. . فلست ُأ ًما ،وإن كانِ كانت بالعمر
تشبهك ،وأذكري حينها ِ
أنك قد ِ ِ
أهديتك باقة الورد التي فلتذكرين يوم ما
ِ
ذراعيك يل وتعانقيني، يديك أن تسكن مكاهنا خشية أن تفتحني ِ أجربيت
ِ
شعرت بذلك وابتسمت ،ربام مثل االبتسامة التي تُرسم عىل شفتيك اآلن ..
وبعض من ٌ آت ومعي باقة أخرى من الزهور، عينيك إذن ،فإين ٍ ِ ِ
فلتغمض
ِ
فلتغمض عينيك يا صغرييت فإين آت ».. الشيكوالتة التي هتوينها أكثر مني،
وكلام أقرأ ذلك ،أمتثل ألمره وأغمض عيني كام أفعل اآلن..
- 91 -
أتذكـر أنـه كان يف أواخـر ديسـمرب ،حتديـدً ا يف الثالـث والعرشيـن منه،
كان الوضـع قـد بقـي عىل مـا كان عليه بعد عودتـه من السـفر ،ومل يكن بيدي
غجـري ومالحمها
ٌ شـي ًئا ألفعلـه ،وكان يل فترة قبلهـا أرى يوم ًيا امرأة شـكلها
غير واضحـة ،تأتينـي ومتسـك بيـد أحـد وتشير إ ّيل ،كان يتكرر ذلـك احللم
كثيرا ،ولكنـي مل أكن أبايل بذلك ،شـأنه شـأن األحلام التي نراها ونسـتيقظ ً
غير متذكريـن أ ًيا منهـم إال إذا رأينـا شـي ًئا يذكرنا هبم.
ولكـن يف ذلـك اليـوم كان احللـم خمتل ًفـا ،ال بل كانـت الرؤيـة خمتلفة،
فلقـد رأيـت تلـك املـرأة تـأيت إ ّيل مبتسـمة ،خيلـو فمهـا مـن األسـنان فتبـدو
أيضـا تلـك املـرة،
ضحكتهـا نقيـة وسـحرية ،وكانـت مالحمهـا واضحـة ً
ِ
حمبوبـك الـذي تنتظرينه، أيضـا ،تقـول يل هذا هـوومالمـح مـن متسـك بيده ً
مجيلا كما اعتـادت عيني عىل رؤيتـه ،يرتدي ذلـك القميص ً كان معـا ًذا ،كان
مبتسما ،هادئًا ،تفوح منـه رحيه التي
ً الـذي أهديتـه له يف عيـد ميالده السـابق،
متيزهـا أنفـي مـن بين آالف الرجال..
اسـتيقظت ذلـك اليـوم ِ
فزعـة ،ال أفهـم شـي ًئا ،ثمـة يشء مـا حيـدث ال
أعـرف ماهيتـه ،أخـذت األفـكار واهلواجـس تلتهـم عقلي ومل يكـن لـدي
ً
طويلا ،تكفـل آذان الفجر فرصـة السـتيعاب يشء ،ولكنـي مل ألبـث كذلـك
بإمخـاد كل ذلـك ،ومـا كان لتلك احلرائق التي نشـبت برأسـى أن يطفئها يشء
سـوى الوضـوء ،توضـأت وقمت للصالة وبداخلي طمأنينة مل أكـن أعلم من
أيـن أتـت ولكنـي اآلن أعلم..
- 92 -
خلـدت للنـوم ثاني ًة ،ولكني اسـتيقظت هـذه املرة عىل صـوت هاتفي،ُ
كان معـاذ هـو املتصـل ،مل ُأجيـب من املـرة األوىل فلقـد ُ
كنت فاحتـ ًة عيني عىل
أخرهـا ،فلـم يتصل يب منذ شـهور ،وال يـأيت اجلامعة إال قليـل ،ولكني أجبت
من املـرة الثانية ،ودار حديثنـا كالتايل..
-صباح اخلري.
-صباح النور يامعاذ ..كيف حالك؟.
ِ
وأنت؟ -بخري احلمد هلل..
قليل قائل ًة:
تنهدت ً
ٍ -
بخري احلمد هلل.
صمت ً
قليل ثم قال:
حال من األحوال ..البد أن ِ
أراك اليوم. -أريدُ أن ِ
أراك اليوم ..بأى ٍ
- 93 -
أغلقـت اهلاتـف ووجدتنـي بتلقائيـة شـديدة أذهـب إىل «دوالب» ُ
كنـت أردتيـه يف ذلك احللـم ،ومل أكن
ُ مالبسي وأنتقـي نفس الفسـتان الـذي
أيضـا ،مل
أفهـم ملـاذا فعلـت ذلـك حتـى رأيتـه ،كان يرتـدي نفـس القميـص ً
ُأخفـي صدمتـي مـن رؤيتـه كذلـك ،وعىل الرغـم من أن آخـر مرة رأيتـه فيها
هنـا كانـت حليتـه كثيفـة وتـدل عىل عـدم اهتاممـه بنفسـه ،فإنـه هذه املـرة قد
دائما أن أراهـا ،وعىل عكـس عادته ،فـور ما رآينأتـى مهذ ًبـا إياهـا كام أحب ً
الكـريس الذي مـن املفرتض أن
ّ وجدتـه يقـوم مـن جملسـه ليسـتقبلني! ،أزاح
أجلـس عليـه ألجلـس ووجهي ترتسـم عليـه عالمـات الدهشـة ،أعرفه من
سـنوات ولكنـي مل أره هكـذا من قبـل ،وجهه ُمرشق ،ابتسـامته مضيئـة ،ماذا
حـدث لـه ليصبـح هكـذا؟! ،وما الـذي قد سـوء نفسـيته إىل هذا احلـد الذي
صامت ينظـر إ َّيل يف هدوء
ٌ كانـت عليه؟! ،آالف األسـئلة تـدور يف رأيس وهو
قطعت ذلـك اهلدوء وسـألته:
ُ تـام،
-ماذا حدث؟
ِ
عنـك ..وال أعلـم ملـاذا مل ِ
أخبرك بشـأن يشء خبأتـه ً -
أول جيـب أن
ِ
أخبرك ولكنـي مل تكـن لـدي الرغبـة يف ذلـك..
- 94 -
ٍ
لوهلة ثم أكمل: صمت
جاهدت بأقىص ما عندي ألخبئ ذلك االنكسار الذي اعرتى وجهى ُ
ونجحت يف ذلك ،ما كان لقلب األنثى أن خيطئ يف ذلك أبدً ا ،أردف
ُ فجأة
ً
قائل:
-ولكنـه مل يكـن ح ًبـا ..كان خطـأ مـن بدايتـه لنهايته ..ولكني شـفيت
لك.منه متامـا ..والفضـل ِ
ً
أرشت بإصبعي إ َّيل مندهش ًة:
ُ
-يل أنا؟!!.
رد ٍ
بثقة بالغة:
ِ
عنـك طوال عرفتـك وأن أخـاف من خسـارتك ..وابتعدت ِ -منـذ أن
ِ
أخرسك. هـذه الفترة ألين مل أكـن واع ًيا متا ًمـا بام أفعـل ..فخفت ..خفـت أن
صعقني ً
قائل:
- 95 -
-املهـم ..الشيء الغريـب الـذي حـدث ..كنت قد سـافرت ألسـوان
كما تعلمين ..وهنـاك ..رأيـت عرافـة أو كما يطلقـون عليهـا درويشـة..
وطلبـت منهـا أن تدعـو يل بـأن أجد ما أبحـث عنـه ..ومل أكن أعلم مـا الذي
ُ
دائما ..تأيت وهى
أبحـث عنـه من األسـاس ..ومـن وقتها وأنـا أراها يف املنـام ً
ُتسـك بيدهـا أحـدٌ ولكن مالحمـه مل تكـن واضحة.
طويلا تلك املـرة وعيني جاحظ ًة على آخرها ،ال أسـتوعب ما
ً صمـت
ِ ٌ
معقول ذلـك الذي حيـدث!! ،ولكنه مل يكتـف بذلك وقال: يقـول بتاتًا ،غير
-ولكـن اليـوم رأيت مالمـح تلـك الفتاة التي متسـك بيدهيـا ..فهي مل
تشـبه أحـدً ا أبدً ا ..فهـي ِ
أنت يـا فريدة.
توقـف الزمـن للحظـات ،ال أرى شـي ًئا أمامـي غيره ،يبتسـم هبـدوء
أردت أن أخربه بـأين رأيت مـا رآه بالتفاصيل
ُ كأنـه مل يفجـر قنبل ًة منـذ ثـوان،
نفسـها ،وإن كان هـو قـد رأى تلـك الدرويشـة يف احلقيقة فكيـف يل أن أراها
حللـم ،أردت إخبـاره بـكل يشء ،عـن األوراق واألحلام وكل يشء، أنـا يف ا ُ
ولكننـى وجـدت نفسي أجتاهـل كل هـذا وأطلـق ثـوريت للمـرة األوىل يف
حيا تى :
- 96 -
هو..
- 97 -
مل تكـن النهايـة ..بـل كانـت بدايتي نحـو عاملـي احلقيقى الـذي مل أظن
يو ًمـا أنـه موجـو ٌد إال يف خيايل احلـامل فقط..
- 98 -
وعندمــا ســاءت حالتــي النفســية؛ وجــدت نفــي مــن دون تفكــر
ـبارا ٍ أهــرع إليهــا ،وقبــل أن أدنــو منهــا بشـ ٍ
ـر واحــد وجدتنــي أتراجــع أشـ ً
ـاين أنــا عندمــا ال أجلــأ
ـبارا ،مــا ذنــب تلــك لتدفــع ثمــن تلــك ،كــم أنـ ٌ وأشـ ً
إليهــا إال يف أوقــات ضيقــي فقــط ،فلقــد أمهلتهــا يف الفــرة القصــرة التــي
ـف بإمهاهلــا فقــط! ،بــل مل أخربهــا عــن ســبب قضيتهــا مــع حبيبــة ،ومل أكتـ ِ
ـوغ وأن قلبــي متعلــق بواحــدة ال ترقــى باملقابلــة إمهــايل و ُبعــدي غــر ا ُمل َسـ َّ
شــعرت بــأين أحتــاج
ْ هبــا ،وبرغــم كل ذلــك! ،مــدت يدهيــا إ ّيل عندمــا
ـت يدهيــا ،كنــت غب ًيــا ،غب ًيــا جــدً ا.. إليهــا ،فرفضـ ُ
- 99 -
اتصلــت هبــا يف صبــاح ذلــك اليــوم وقــد نويــت الذهــاب إىل اجلامعــة
ـرا مــن رؤيتــي هكــذا،ـداي كثـ ً
ـا ،فــرح والـ َّ بعــد فــرة انقطــاع دامــت طويـ ً
ـي اخلنــاق ،كنــت متأكــدً ا مــن ِ
وبرغــم أين مل أحــك هلــم شــي ًئا فلــم ُيضيقــا عـ ّ
أن والــدي شــعر أن حبيبــة وراء ذلــك وأخــر رمحــة بذلــك لكــي ال تقتحــم
ـوظ ذلــك الــذي يملــك أ ًبــا مثــل أيب برغــم أنــه ليــس هنــاك ُعزلتــي ،حمظـ ٌ
ورسا ،محــدً ا موصـ ً
ـا إىل رسا وجهـ ًـرا ،عالنيــة ً مثلــه أبــدً ا ،فاحلمــد هلل عليــه ً
أن ينتهــي احلمــد..
مالـت كفـة احليـاة إىل ناحيتـي ،كانـت صديقتـي ح ًقـا ولكـن األمـر
شـخص يشـاركك أحالمـك ُ خمتلـف ،احلديـث خمتلـف ،الرابـط خمتلـف،
ومهومـك حتـى تفاصيلـك التافهـة ،يشـاركك يف كل يشء ،يتحكـم قـي
ِمزاجـك وحيولـه متـى أراد ،يعـرف خبايـاك التـي جتهلهـا أنـت عن نفسـك،
تصاحلـت بـه مـع العـامل مـن جديـد..
ُ فكانـت فريـدة هـى الشيء الـذي
*****
قال:
-نعلـم عنـك كل يشء ..وليس عنـك فقط ..بل نعلم عـن اجلميع كل
خـاص به ..من يـوم ميلاده إىل أن يموت.. ٍ
واحـد منكـم ملف يشء ..لـكل
ٌ
وهـذه عين ٌة من تلـك امللف.
ـر ي ــا مع ــاذ ..إن مل تك ــن احلري ــة بقي ــود فس ــوف
-خط ــأ ..خط ــأ كب ـ ٌ
تتحـــول الدنيـــا إىل فـــوىض عارمـــة ..فـــاألرض حـــر ٌة أليـــس كذلـــك؟!
فل ــاذا ُخلق ــت اجلاذبي ــة إذن؟! ..والش ــمس ح ــر ٌة ألي ــس كذل ــك؟! فل ــاذا
ال ت ــأيت لي ـ ً
ـا حت ــى وإن كان ــت ق ــادر ًة ع ــى العم ــل وح ــرة؟! ..احل ــر ح ــر
ـس أب ــدً ا أن للحري ــة قي ــو ُد الب ــد م ــن
ي ــا مع ــاذ ه ــذا حقيق ــي ولك ــن ال تن ـ َ
االلت ــزام هب ــا وع ــدم احلي ــاد عنه ــا.
ب ــدا أس ــلوبه وهدوئ ــه مرحي ــن بالنس ــبة يل ،وبرغ ــم ع ــدم اقتناع ــي
عـــي رأيـــه ووجهـــة نظـــره ،كان يعرضهـــاّ البتـــة بـــا يقـــول؛ مل ُيفـــرض
بأســـلوب حضـــاري كاد يشـــككني أن مـــن أحـــروين إىل هنـــا أخطـــأوا
ِعـــش الدبابـــر وأتـــوا يب إىل املقهـــى اخلـــاص يب يف وســـط القاهـــرة،
ً
قليـــا ثـــم رددت واض ًعـــا الكـــرة يف ملعبـــه: فكـــرت
ُ
-كالم ــك صحي ــح ..ولك ــن! ختتل ــف القي ــود باخت ــاف العق ــول..
فجميـــع األمثلـــة التـــي طرحتهـــا أنـــت متثـــل حريـــ ًة وقيـــو ًدا عقالنيـــة
أيضــا ..أمــا قيودكــم التــي تضعوهنــا حلريتنــا مــا هلــا ومنطقي ـ ٌة وذا غـ ٍ
ـرض ً
بالعقــل مــن يشء ،تريدوننــا أن نحبــس أنفاســنا ونتنفــس عــر خوفنــا فقــط،
سكت ً
قليل وأردف:
*****
ربما يكـون الوضـع مأسـاو ًيا فقـط عندمـا متتـد أوردة قلبـك خـارج
السـجن ,فهنـاك ُأ ٌ
ناس مهامهم الرئيسـية يف احليـاة أن يمدونك بالـدم واهلواء,
فربما تلتـوي أنابيـب التنفـس تلـك عبر تلـك اجلـدران والقضبـان ,ولكنـى
أشـعر هبم جيدً ا ,أسـمع دعاء رمحة ,وتشـجيع ياسين ,وأرى فريـدة ,هي معي
عيل فعلـه جتاهها,
حيثما أذهـب ,وفـور ما أخـرج من هنا فأنـا أعلم مـاذا جيب ّ
كثيرا هنـا ,وكلما يزيـد الوقـت تزيـد قـويت وإرصاري ,حتى
ً ولكنـي ظللـت
علي توخـي احلـذرأخرجـوين قائلين يل بـأين سـأبقى حتـت أعينهـم فينبغـي ّ
فاملـرة القادمـة لـن أخـرج كما دخلـت ,مل خييفنـي عواؤهـم ذلـك ,فسـيبقى
كالب..
ُ الراعـي را ٍع والـكالب
ـا م ــأه األحب ــاب وأق ــارب األق ــارب ,مل رس ــا مجي ـ ً
تزوجن ــا ,كان ُع ً
ـي فري ــدة
ـت ع ـ َّ
ـا صاخ ًب ــا ال نع ــرف في ــه أح ــدً ا ,فلق ــد اقرتح ـ ْ يك ــن حف ـ ً
أن نوف ــر تل ــك املبال ــغ الطائل ــة ونب ــدأ حياتن ــا بمهمتن ــا األساس ــية الت ــى
ُخلقنـــا هلـــا وألجلهـــا ,نعبـــدُ اهلل ونقدســـه ونحبـــه ونحـــب مـــن حيبـــه,
ـت ع ــى الف ــور دون تفك ــر ,نِع ــم ـت بزي ــارة بي ــت اهلل ِ
وقبلتن ــا فوافق ـ ُ اقرتح ـ ْ
ِ ِ
الزوجـــة الصاحلـــة هـــي ,نعـــم املـــرأة زوجتـــي ,نعـــم األنثـــى فريـــدة..
ـت ق ــد ذهب ــت إىل هن ــاك قب ــل ذل ــك م ــع ياس ــن ورمح ــة ولك ــن كن ـ ُ
ه ــذه امل ــرة خمتلف ــة متا ًم ــا ,وجدتن ــي أق ــف أم ــام بي ــت اهلل وأق ــول «ه ــا ق ــد
أتيت ــك هب ــا ..الش ــكر ل ــك ي ــا ريب عليه ــا» ,س ــمعتني وابتس ــمت ودع ــت
يف رسه ــا دع ــا ًء مل أس ــمعه ,فه ــي دائ ـ ًـا م ــا تدع ــو يل دون أن أعل ــم ب ــاذا
تدع ــو ,وال خت ــرين حت ــى وإن س ــألتها ,تق ــول ب ــأن ذل ــك بينه ــا وب ــن اهلل
رجعنـا وقـد بـدأت أشـعر بضعـف عينـي غير املسـوغ! ,جتاهلتـه ظنًا
منـي أنـه مـن قلة النـوم وكثـرة الكافيني ,ولكنـه بـدأ ىف التزايد وبـدأت فريدة
أيضـا بالشـعور بذلـك وتشـاجرت معـي بسـبب إمهـايل ورضورة ذهـايب إىل ً
تلـق مني
طبيـب ولكنـي كنـت أرى أن األمـر ال يوجـب كل ذلـك القلـق ,مل َ
وأخربت ياسين
ْ فائـدة كالعـادة فانتظـرت حتـى ذهبنا سـو ًيا إىل بيتنـا القديم
ورمحـة بذلـك ,أتذكـر صدمتهما جيـدً ا ولكنهما مل ينطقـا بشيء ,وألول مـرة
جيبرين والـدي عىل يشء ,أجبرين أن أذهـب للطبيب وأن فريدة حمقـة ,مل أعلم
سـبب قلق ياسين ورمحة هبذا الشـكل حينها حتى أن فريدة نفسـها اندهشـت
مـن ذلـك ,ولكنـى اآلن أعلم..
*****
كثريا عن
-يمكـن لنـا أن نـدرك األمر مـن بدايته ..فلقـد تقدم الطـب ً
زمـن أبيـك ..هنـاك عملي ُة جراحيـة يمكن لنا خالهلـا أن نعالج امليـاة البيضاء
قبـل أن تكثر وتنفصل الشـبكية عـن بعضها.
وأنكـر كل احلقائـق التـي أديـ ُن هبـا منـذ ُولـدت؛ فلقـد قـال يل بـأن
َ
ينج من املـوت وقتله الطوفـان قـد طال سـفينة نـوح فأغرقهـا ,وأن يوسـف مل ُ
إخوتـه ,وأن كبـش إسماعيل مـازال على قيـد احليـاة ,وأن موسـى قـد تناول
الذهـب ً
بـدل مـن اجلمـر ,ونـار إبراهيـم مل تنطفـئ ,ودآبـة سـليامن مل تـأكل
ِمن َْس َـأ َت ُه فلـم تقـع عصـاه ,وأن يونـس بقي وحـده ىف السـفينة وال يعلم شـي ًئا
عـن حوتـه ,وأن عيسـى قد ُصلب ومل ُيرفع إىل السماء ,أخبرين الطبيب أن آدم
ٍ
بحساسـية مـن التفاح فلا يأكلـه ,أخبرين أننا سـنولد قري ًبـا ىف اجلنة ُيصـاب
فلننتظر»..
*****
- 110 -
حد ما ,رائحة اخلوف تتناثر ىف األرجاء ,أصواتاألجواء مضطربة إىل ٍ
يتبق
خفقات ياسني ورمحة تستقر ىف أذين ,ويدا فريدة تعزلني عن كل ذلك ,مل َ
ُ
وأدخل غرفة العمليات لتُجرى تلك العملية اجلراحية الدقيقة, سوى دقائق
رأيت حويل
ُ فابتسمت,
ُ ووجدت نفيس ىف غرفة العمليات «ب»
ُ مروا رسي ًعا
ّ
هائل من األطباء واملستشارين ,وآخر يستعد للتصوير بكامريا «فيديو»!, لفيف ٌٌ
علمت حينها أن العملية نادرة وخطرية جدً ا فابتسمت أكثر..
ُ
بـدأت ىف العـدِّ ومـا إن وصلـت إىل أربعـة حتـى فقـدت الشـعور بكل
ُ
خرجـت بعدهـا بثالث سـاعات..
ُ يشء ,وال أتذكـر مـاذا حـدث حتـى
مل ُأعقـب على ما قـال ليبدأوا ىف نـزع الغاممة مـن عىل عيني ثـم انتظروا
أنتظر ٍ
ردة فعلي ,ثـوان مرت وهم ينتظرون شـي ًئا حيـدث مني وال يعلمـون أين ُ
عـاد األسـود هييمـن ثانيـ ًة على كل يشء ,ولكـن تلـك املـرة كانـت
أصبحت كفي ًفـا ,نفذت قويت
ُ سـيطرته حقيقيـة ال متخفيـ ًة يف احلزن والظلام,
سـقطت وقدمـاي تنهرين من
ُ وحيلتـي ,مل أقوى عىل حتمل كل ذلك فسـقطت,
ً
طويل.. شـدة الوقـوف
مل أسـمع ردهـا ,ومل يتسـ َّن يل رؤيتهـا فلم أعلـم مـاذا كان رد فعلها بعد
كثريا ثـم قالـت وهي تبكـي بكا ًء شـديدً ا:
مـا سـمعت ذلـك ,صمتـت ً
قلـت مـا تريـد قولـه؟! ..إذن دعنـي أحتـدث َ -انتهيـت؟..
وال تتكلـم أبـدً ا ..أبـدً ا يـا معـاذ ..أتريـد منـي أن أتـركك؟! ..بـكل
بيـت
ٌ هـذه السـهولة؟! ..أنـت ال تعلـم شـي ًئا أبـدً ا ..فأنـا ليـس يل
سـوى هنـا ..ال أنـام إال بين ذراعيـك ..ال أرى مسـتقبال إال بـك
مهما كان ذلـك املسـتقبل ..كيـف لـك أن تقـول يل ذلـك أخبرين!!!..
لـن أتـركك يا معـاذ مهما حـدث ..وإن أردت أنـت ذلك فلن أسـمح
لـك برتكـي أبـدً ا ..لقـد تعاهدنـا على العيـش سـو ًيا ..يف الرساء والضراء..
ىف اخلير والشر ..وإن كنـا رشكاء ىف الفـرح فسـوف نتشـارك ىف احلـزن
أيضـا ..أليـس هذا عهدنـا وميثاقنا يا معـاذ؟! ..أنسـيت؟!! ..إن هـذا البيت ً
رجلي وقـويت وكل يشء ..أل أقـوى على العيـش مـن دونـك بيتـي ..وأنـت ُ
وال حلظـة واحـدةُ ..أقسـم لـك أين ال أقـوى على العيـش مـن دونك أبـدً ا..
لـــك يـــا صغـــريت ،متيلـــن عـــى كتفـــي وتطلبـــن منـــي أن عجبـــا ِ
ً
دائـــا
ً أروي لـــك ذلـــك رغـــم أنـــك تعلمينـــه جيـــدً ا ،ولكنـــي مســـتعدٌ
ـك ألروي ــه طيل ــة حي ــايت م ــا دمت ــي هن ــا ..يف مكان ــك ال ــذي حفظت ــه ل ـ ِ
ـك, ـك فأحب ـ ِحت ــى ظنن ــت أين راه ــب ..راه ــب ق ــد رأى حمب ــة اهلل يف عيني ـ ِ
ٌ
وم ــا س ــبيل راه ــب مث ــي إذا أح ــب اهلل ش ــي ًئا إال أن حيب ــه.
أمتنى ذلك.
*معاذ -فريدة*
******
صمتت..
*حبيبة -آرس*
*ياسني -رمحة*
وأكملت:
ْ رغم عني فمسحتها
سقطت دموعي ً
-وعلمـت أين حامـل يـوم العمليـة ..كنـت سـأخربك ولكنـك تعلـم
كنـت قـد قصرت ُ أن حـزين عليـك قـد كان ليقتلنـي يـا معـاذ ..وأعتـذر إن
ىف حقـك حتـى جعلتـك تقـول ما قولته منـذ قليل ولكني أقسـم لـك أن آالم
كثريا ويكـون رضور ًيا أن أذهب للطبيب وال أذهب فيشـتد عيل ً احلمل تشـتد ّ
علي ..وأخـاف عندمـا أسـمع أن احلـزن يؤثـر على اجلنين فأحـاول التعـب ّ
الصمـود مـن دونـك وأعود إليـك قوي ًة أقـف يف ظهرك كما العـادة ..ولكني
لسـت
َ ٍ
مكان لسـت قويـ ًة أن أشـعر لذلـك احلـد الذي أشـعر فيـه بالراحـة ىف
يشء دونـك ..فأنـت قـويت و ُقـويت وكل شـىء.. فيـه ..وال أقـوى على فعـل ٍ
فلقـد زرع اهلل حبـك بقلبـي وثبـت جـذوره فنمـى كيفما شـاء ..فال حتـزن يا
حبيبـي إن اهلل معنا..
ُفتـح السـتار فصفـق اجلميـع ملـن يعتلـون املسرح ،مل ُأصفـق معهـم،
فـدوري أهـم ،مل ِ
يـأت دوري بعـد..
أشـفقوا على البطلـة التـى أحبـت البطـل ومتنـوا لـو أوقفـوا العـرض
ٍ
لثـوان وأخبروه بأهنـا حتبـه..
صعـدت على املسرحُ ،صوبـت األضـواء جتاهـي ،مل أفـرح ،وال أعلم
ُ
ملـاذا ،ربما بسـبب ضعف عينـي الذي جعلنـي أرى األضـواء نجو ًمـا والبرش
كواك ًبـا ،ال أعلـم ح ًقا ،ولكنـي يف مكاين الـذي حاربت للوصـول اليه ..هذه
هـي النهايـة التـى قلـت يو ًمـا أين سـأصل إليها وحـدي ..وهذا هـو الاليشء
األخري..
قبـل مـا أكتـب اإلهـداء ده فكـرت إين أهـدي الرواية دي لـكل الناس
اللي وقفـوا جنبـي حلـد مـا الروايـة ظهـرت للنـور ..لقيـت إهنـم كتير وانـا
عـارف إهنـم هيعرفوا نفسـهم ومها بيقـروا الـكالم ده دلوقتـي ..لكن مكنش
ينفـع اإلهـداء ده يبقـى حلد غيرك ..جايز مها سـاعدوين يف حلمـي لكن أنت
سـاعدتني أكـون أنـا ..حطيـت رجلي على أول الطريـق وأنا بكمـل أهو ..
https://www.facebook.com/aboali100