You are on page 1of 135

‫كما أخبرتني العرافة‬

‫«هي ال تُشبه أح ًدا‪ ..‬فهي فريدة»‬

‫محمد علي‬
‫‪Email publish@tashkeel- publishing.com‬‬
‫‪Website‬‬ ‫‪www.tashkee-publishing.com‬‬
‫‪Mobile 201006250473‬‬ ‫‪FB/Tashkeeel‬‬

‫‪I.S.B.N : 978-977-6555-44-0‬‬
‫رقــم اإليــــداع‪2017/3857 :‬‬
‫الـطبـعـة األوىل ‪2017 :‬‬
‫تصميم الغـالف ‪ :‬أحمد فرج‬
‫التدقيق اللغوي ‪ :‬أحمد املنزالوي‬
‫اإلخراج الداخيل ‪ :‬ضياء فريد‬
‫املـديـــر العــام ‪ :‬سيد شعبان‬

‫جميع الحقوق محفوظة للنارش‬


‫وأي اقتباس أو تقليد‪ ،‬أو إعادة طبع أو نرش دون موافقة كتابية‬
‫يعرض صاحــبه للمساءلة القانونية‪ ،‬واآلراء والـامدة الواردة‬
‫وحقوق امللكية الفكرية بالكتاب خاصة بالكاتب فقط ال غري‪.‬‬
‫و‪..‬‬
‫هو‪..‬‬
‫هي‪..‬‬
‫أنا‪.‬‬

‫‪-3-‬‬
‫وحيدث أن هيبك اهلل هب ًة ت ُ‬
‫ُنبت أرضك التي بارت ىف سنينك العجاف‪..‬‬

‫لك وألجلك كُتبت الرواية‪.‬‬

‫‪-5-‬‬
‫مقدمة‪..‬‬
‫األسود‬
‫َ‬ ‫إىل‬

‫عزيزي األسود‪ ..‬حتية طيبة وبعد‪.‬‬

‫ربام كنت أتغاىض دو ًما عن ِذكر دورك يف حيايت ولكني ال أجد برهانًا‬
‫لذلك غري أن أنجب ولدً ا ألحتدث عنك فقط ! ‪ ،‬لك كتايب هذا فتلقفه بيمينك‬
‫واتلوه يف خشوع فغري مسموح بقراءته فقط‪.‬‬

‫سـيظن البعـض أين قـد مسـني الشـيطان ومتكـن اجلنـون منـي كـي‬
‫أخاطـب لونًـا ! ربما يكونـوا صادقين ولكـن أعلـم مـاذا أفعل وسـأفعل ما‬
‫أقولـه دائما «دعهـم يقولـون إنك قد صبئـت فلربام لـن يدخل اجلنة سـواك»‪.‬‬

‫لسـت لونًـا يـا صديقـي‪ ،‬فأنـت أعظـم مـن ذلـك ‪ ،‬فـإين أرى الظلام‬
‫أسـود‪ ،‬وأرى احلـزن أسـود‪ ،‬فكيـف بمـن وصفـوه بركنـي دنيـاي أن يكـون‬
‫لونًـا فقـط ! ‪ ،‬تنزهـت يـا صديقـي عـن ذلك‪.‬‬

‫رغم عنه‪:‬‬
‫صديقك الدائم ً‬
‫حممد عيل‬ ‫ ‬

‫‪-7-‬‬
‫‪1994‬‬
‫«عـادة ما يكون السـكون التام داللـ ًة عىل أن العاصفـة تتأهب للمجيء‬
‫يف أي حلظة»‪..‬‬

‫مسـح احلضـور اجلالسين أمامـه بنظـرة متفحصة ثم اسـتقر على وجه‬


‫يبـدو أنـه يألفـه نو ًعا ما‪ ،‬فابتسـم يف ثقـة وقال بصـوت جهور فاجـأ اجلميع ‪:‬‬

‫‪ -‬إين دا ٍع فأمنـوا‪ ،‬اللهـم ارضب الظاملين بالظاملين‪ ..‬واخرجنـا منهـم‬


‫سـاملني‪ ..‬اللهـم أصلـح والة أمورنـا‪ ..‬اللهـم أصلـح والة أمورنا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لربهـة ثـم عاد ينظـر إىل نفـس الوجه مـرة أخرى وقـد ازدادت‬ ‫سـكت‬
‫مكررا‪:‬‬
‫ً‬ ‫نبرات التحدي على صوتـه وأردف‬

‫‪ -‬اللهم أصلح والة أمورنا‪.‬‬

‫بخطـوات ثقيلـة‪ ،‬نـزل مـن على املنبر الشـيخ «ياسين» إمام املسـجد‬
‫بعضا ووقفـوا ثابتني‬
‫ويبـدو أنـه يتمتم بـأذكار حتى حـاذى اجلميـع بعضهـم ً‬
‫هادئين كأنما على رؤوسـهم الطير ينتظـرون أن يعلـن إمامهـم بدايـة فعلـه‬
‫لشيء لينطلقـوا يتبعونـه يف طواعيـة شـديدة‪.‬‬

‫‪-8-‬‬
‫حـركات دراماتيكيـة مقرتنة بأقـوال خمصوصـة تصحبها راحة نفسـية‪،‬‬
‫هكـذا يطلقـون على اليشء الـذي ختتلف األديـان أمجعهـا يف هيئتهـا ولكنهم‬
‫أيضـا يف مسماها‪ ،‬إهنـا «‬‫ال خيتلفـون يف وجودهـا أم عدمهـا‪ ،‬وال خيتلفـون ً‬
‫الصالة «‪ ،‬سـبيل الذيـن يعتقدون بوجود يشء يسـتحق العنـاء ألجله يف حياة‬
‫أيضا ملن ضـاق ذر ًعـا من حياتـه فلجأ هلـا طم ًعا‬
‫آخـرة بعـد املـوت‪ ،‬ومـأوى ً‬
‫يسر بعـد عسر‪ ،‬وعادة قـد اعتاد عليهـا البعـض كروتني يومـي ال بد منه‪.‬‬‫يف ٍ‬
‫السـلم الوحيـد الـذى تعـد هنايته‬ ‫ولكـن اجلميـع يتفـق على أن الصلاة هـي ُ‬
‫يف مجيـع درجاتـه‪ ،‬فأينما وكيفما ووقتام صعـدت جتده‪ ،‬سـتجد مـن تصيل له‪.‬‬
‫فعلى الرغـم مـن اختلاف صالهتـم فإهنـم يتفقـون على شـىء واحـد‪ ،‬عني‬
‫ثاقبـة تراقـب مـا حيـدث يف هدوء تـام‪ ،‬ذلـك الـذي نصيل لـه وألجله‪.‬‬

‫‪ -‬كيف حالك شيخ ياسني ؟‬

‫مل يقطـع ذلـك السـؤال اهنامكـه يف التسـبيح بمسـبحة يـد ال تفـارق‬


‫معصمـه‪ .‬ابتسـم دون أن يرفـع رأسـه وأكمـل مـا يفعل يف خشـوع تـام حتى‬
‫قـال ذلـك الرجـل جمـد ًدا‪:‬‬

‫‪ -‬ظننـت أنـك اشـتقت إ َّيل فجئـت إليـك مرس ًعـا‪ ..‬نفتقـدك ونفتقـد‬
‫أيامنـا سـو ًيا‪..‬اعتقد أنـك لـن تنسـاها أبـدً ا‪.‬‬

‫رفع رأسه ياسني وال تزال االبتسامة تعلو وجهه ليقول‪:‬‬

‫دائما أن يرزقنـي اهلل براحـة البال‬


‫‪ -‬ال أعتقـد أين أتذكـرك فـإين ادعـوا ً‬
‫وأظـن أنكما ال يمكـن أن جتتمعا سـو ًيا‪.‬‬

‫‪-9-‬‬
‫‪ -‬مل تتغري مطل ًقا شيخ ياسني‪.‬‬

‫‪ -‬ولكنك تغريت يا حسن بيه ! رصت أقبح من ذي قبل ؟!‬

‫ضحـك حسـن بصـوت عـال مما جعـل مجيـع مـن يف املسـجد ينظرون‬
‫ناظـرا إليهـم يف ضجر وغضب ثـم أعاد نظـره ثانية‬
‫ً‬ ‫نحـوه فالتفـت يف رسعـة‬
‫إىل ياسين الـذي مل حيـرك سـاكنًا‪ ،‬ثم مهـس يف اذنه‪:‬‬

‫‪ -‬عندمـا يأتـون بـك إ َّيل ال أريـد أن أرى تلـك املسـبحة جمـد ًدا‪ ..‬أظـن‬
‫أنـك سـمعتني جيدً ا‪.‬‬

‫قـام وسـار يف وسـط اجلمـوع وكأهنـم يفسـحون لـه الطريـق ! ف ُطـول‬


‫قامتـه وجسـده املرتهـل ينبئوهنم جيـدً ا بامهيته املخيفـة‪ ،‬ظلـوا يتبعونه بخوف‬
‫على عكـس إمامهـم الـذي ظـل يتتبعـه بنظـرات حتـد وثقـة حتى غـاب عن‬
‫األنظـار متا ًما‪.‬‬

‫*****‬

‫‪- 10 -‬‬
‫قليوب‪1994 -‬‬
‫الليـل رسمـدي‪ ،‬اهلدوء رسمدي‪ ،‬ال يشء هنا يسـتطيع أن خيتلق لنفسـه‬
‫مغايرا فال تصفـه بالرسمدي‪.‬‬
‫ً‬ ‫مسـارا‬
‫ً‬
‫قليـوب‪ ،‬معقـل بيربس احلاكـم األول هلا‪ ،‬هنا مسـجده العتيق وبجواره‬
‫تشـتم رائحـة قبـور جنـوده تزيـن آثـار تلـك البلـدة‪ .‬على الضفـة األخرى‪،‬‬
‫مـرت مريـم العـذراء على إحـدى البقـاع فقـدس أهـل قليـوب تلـك البقعة‬
‫ديرا وسـموه باسـمها‪.‬‬
‫املباركـة وبنـوا ً‬
‫الـكل هنـا‪ ،‬قليـوب؛ معشـوقة «ياسين»‪ ،‬حيـث سـقطت رأسـه هنـا‬
‫وتتابعـت بعدهـا رؤوس مجيـع مـن أحـب‪.‬‬

‫فـرغ «ياسين» مـن يومـه املرهق كعـادة أيـام اجلمعـة وخاصـة إذا كان‬
‫أيضـا مـن‬ ‫ٍ‬
‫بمسـجد ال خيلـو مـن املصلين يف اخلمـس صلـوات‪ ،‬وال خيلـو ً‬
‫صـورا تذكاريـة ضاربني بحرمـة أوقات‬
‫ً‬ ‫السـائحني؛ هـؤالء الذين يسترقون‬
‫الصلاة أسـفل احلائـط‪ .‬تلك هي عـادة مجيع مسـاجد مرص القديمـة وخاصة‬
‫هـذا املسـجد‪ ،‬مسـجد األقمـر القاطـن بمنتصـف شـارع املعـز لديـن اهلل‬
‫الفاطمـي‪.‬‬

‫دائما أن تداعب الشـيخ وتؤنسـه يف كل‬


‫أعمـدة اإلنـارة القليلـة تتعمـد ً‬
‫مـرة يعـود يف هـذا الوقت مـن الليل‪.‬‬

‫‪- 11 -‬‬
‫أخـذت األعمـدة تتالعب بظل الشـيخ حتى ظهـر أمامـه ثالثة ظالل‪،‬‬
‫نعم فللشـيخ ثالثـة أرجل‪.‬‬

‫عصـا ولكنـه يـزدري كل من‬‫القـدم الثالثـة‪ ،‬تلـك التـي يراهـا العامـة ً‬


‫يقـول ذلـك‪ ،‬فهـي خليلته وصديقتـه الوفية‪ ،‬ال تـكل وال متل من السير معه‪،‬‬
‫يتعـب وال تتعـب‪ ،‬يقدسـها كما يقـدس «رمحـة» زوجته‪ ،‬لذلـك ليـس غري ًبا‬
‫عليـه أن ينـادي عىل اجلميع وهو يبتسـم «ناولنـي رمحة فقد نويـت الذهاب»‪،‬‬
‫ال عجـب ممـن يسـمون األشـياء بأسماء مـن حيبـون‪ ،‬فاحلـب ينبـع مـن قلب‬
‫وعين وتلكما االثنين ال يمتلكان ً‬
‫عقلا يميز بني البشر واجلامد‪ ،‬بين الناطق‬
‫وغيره‪ ،‬احلـب كذلك ال يعـرف أسـبا ًبا أو يؤمـن باألعذار‪.‬‬

‫يميش «ياسني» وبيده رمحة هيش هبا عىل األحجار التي يمكن أن ُت َع ِّثر‬
‫طريقه‪ ،‬حيادثها وكأهنا تسمعه؛ فمنذ أن أخربه الطبيب أنه البد للعصا أن تقرتن‬
‫به طيلة حياته وأصبحت من حينها قرينته ح ًقا‪ ،‬فمنذ أن ضعف برصه قوت‬
‫عالقتهام‪ ،‬وكلام يزيد الضعف تزيد القوة‪ ،‬تلك هي عصاه‪ ،‬تلك هي رمحة‪.‬‬

‫البيـــت قديـــم نو ًعـــا مـــا‪ ،‬فقـــد يرجـــع بنـــاؤه إىل والـــد «ياســـن»‬
‫ناظـــرا لعائلـــة «الربمـــاوي»‪ ،‬تلـــك العائلـــة التـــي‬
‫ً‬ ‫الـــذي كان يعمـــل‬
‫كان ــت متل ــك معظ ــم أرايض قلي ــوب يف ظ ــل اإلقطاعي ــة قب ــل قي ــام ث ــورة‬
‫‪ 23‬يوليـــو وبدايـــة احلكـــم العســـكري ملـــر حتـــى اآلن‪.‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫هبـدوء تـام‪ ،‬يصعـد ياسين السـلم حتـى وصـل إىل بـاب شـقته وفور‬
‫حماذاتـه للبـاب وجـد البـاب يفتـح وحـده وخيـرج مـن ورائـه صـوت أشـبه‬
‫بلحـن قـد رشد مـن «مـوزارت» وسـكن يف تلـك الشـقة ‪:‬‬

‫‪ -‬محدً ا هلل عىل سالمتك يا ياسني‪ ..‬ال أسوأ من يوم ال أراك فيه‪.‬‬

‫بابتسامة هادئة وضع قبلة حانية عىل جبينها وأغلق الباب‪:‬‬

‫‪ -‬تعلمين أن يـوم اجلمعـة يكـون مره ًقـا نو ًعـا مـا‪ ..‬وأهـل املسـجد‬
‫يـودون جمالسـتي طـوال اليـوم‪ ..‬احلمـد هلل على حمبـة النـاس‪.‬‬

‫أخـذت بيـده وصارت بـه إىل املائدة ليجلـس فتأيت بالطعـام وهي تقول‬
‫بثقة بالغة‪:‬‬

‫‪ -‬ومن هذا الذي يراك وال حيبك يا ياسني‪.‬‬

‫صم ــت « ياس ــن» للحظ ــات ث ــم نظ ــر هل ــا وق ــد ب ــدا ع ــى مالحم ــه‬
‫اجلدي ــة‪:‬‬

‫‪ -‬أتعلمين يـا رمحـة ! ربما قـد ابتلاين اهلل بضعف نظـري الـذي يزداد‬
‫مـن حين آلخـر لكنـي ال امتلـك حـق االعتراض أو حتـى املطالبـة باجلزاء‬
‫على صبري ! فمـن كافـأه اهلل بك كيـف جيرؤ على املطالبـة بيشء آخـر ! أي‬
‫يشء ذلـك الـذي يعـادل ُحسـنك ورمحتـك يـا رمحة‪.‬‬

‫ربتت عىل يديه وهي تبتسم ابتسامتها املعهودة‪:‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫‪ -‬وكالعـادة تفـوز يف النهايـة‪ ..‬ال اسـتطيع الـرد عىل ما تقـول فأصمت‬
‫ولكنـي تلـك املرة لـن أصمت‪ ..‬هنـاك شـي ًئا اعتقد بأنه سـيغري أشـياء كثرية‪.‬‬

‫انتبــه «ياســن» وتــرك الطعــام ليجدهــا تطعمــه بيدهــا وهــي تقــول‬


‫ٍ‬
‫بحنــان بالــغ‪:‬‬

‫ي َي ــى َل ْ ن َْج َع ــل َّلــ ُه ِم ــن‬


‫ـم ُه َ ْ‬ ‫ـر َك بِ ُغ ــا ٍم ْ‬
‫اس ـ ُ‬ ‫ِ‬
‫‪َ « -‬ي ــا َزكَر َّي ــا أن ــا ُن َب ـ ِّ ُ‬
‫ـــل س ِ‬
‫ـــم ًّيا»‪.‬‬ ‫َق ْب ُ َ‬
‫مل يفهـم «ياسين» مـاذا تقصـد يف البدايـة‪ ،‬ولكـن رسعان ما فتـح عينيه‬
‫على آخرهـا وأخـذت الكلامت تتصـارع لقول يشء مـا ولكنها مل تفلـح مجي ًعا‬
‫يف االصطفـاف وتكويـن كال ٍم ُيفهـم! فصمـت‪ ،‬ولكـن دموعـه ال تعـرف‬
‫طري ًقـا إىل الصمـت أبدً ا‪.‬‬

‫رفـع رأسـه إىل السماء وكأنه حيدث ربه بأشـياء ال يسـمعه سـوامها‪ ،‬ثم‬
‫ذهـب بعيـدً ا بذاكرتـه إىل أربعين سـنة ماضيـة وحتديـدً ا يف الرابـع والعرشين‬
‫مـن نوفمبر حني أطلـق رصختـه و بـدأت رحلته مـن حينها‪.‬‬

‫ياسني‪ ..‬الناجي األول‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫و‪..‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫نوفمرب ‪1954‬‬
‫أنا ياسني‪ ..‬الناجي األول‪.‬‬

‫مل تكـــن طفولتـــي تؤمـــن بكوهنـــا طفولـــة‪ ،‬هلـــذا نعتتنـــي أمـــي‬


‫بالناجـــي األول‪.‬‬

‫أمـي‪ ،‬سـيدة أهـل األرض مجيعهـم يف نظـري‪ .‬أنـا ولدهـا السـادس‬


‫وبرغـم ذلـك كنت أكرب إخويت سـنًا‪ .‬مـات أبناؤها اخلمسـة قبـل أن آيت تِبا ًعا‬
‫دائم فيام‬
‫حتـى لقبها نسـاء البيـت فيام بينهـم بـ»النحـس»‪ .‬تتغامزن وتتالمـزن ً‬
‫بينهـن حتـى إذا طلعـت عليهـن يصمتون ويتظاهـرون بخوضهـن يف حديث‬
‫آخـر‪ .‬تلـك هي عـادة بنـات حـواء‪ ،‬يتحدثـن يف كل يشء دون أن تفهم شـي ًئا‬
‫! إال إذا أرادن لـك أن تفهـم ويـؤذن لـك بفـك شـفرات أشـبه بمخطوطات‬
‫قديمـة مل ُيعثـر على كاتبهـا بعد‪ .‬حتملـت أمي كل ذلـك دون أن تتفـوه بكلمة‬
‫بـال بـأن كتمان ذلـك احلـزن بداخلها سـيقيض عىل‬ ‫واحـدة‪ ،‬ولكنهـا مل تلـق ً‬
‫األخضر واليابس ومل يكن هناك شـيئا بداخلها سـواي‪ .‬تسـع أشـهر من أآلم‬
‫احلمـل تـراود أمـي عـن يمين وال خيلـو شماهلا مـن أآلم حديثهم عـن موت‬
‫إخـويت الـذي ال يلام عليـه أحـد‪ ،‬يلام صاحـب الذنـب على ذنبـه فقط فام‬
‫ذنـب أمـي يف ذلـك! وصاحـب الذنب جل عـن وصفـه باملذنب وحاشـا أن‬
‫يسـمى فعلـه ذن ًبا‪ ،‬له الـكل والكل لـه‪ ،‬حيي ويميت مـن أراد‪ ،‬وإذا أراد شـي ًئا‬
‫فما كان هنـاك متسـ ًعا من احلريـة لذلك اليشء‪ ،‬فـإذا ما نفـذت إرادته فاملصري‬
‫يتجـه إذن إىل كلمتين ال ثالـت هلام‪ ..‬كـن فيكون‪.‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫الرابـع والعشرون مـن نوفمبر عـام ‪ ،1954‬كان ذلك الوقت مناسـ ًبا‬
‫إلطلاق رصختي فيسـمعها مجيع مـن يف البيـت‪ .‬تباينـت ردود األفعال حني‬
‫أيضـا‪ ،‬بينام بـدا أيب غري‬
‫ذلـك‪ ،‬فتوقـع النسـاء الاليت نعتـن أمي بالشـؤم مويت ً‬
‫ٍ‬
‫مكترث بما حيـدث وأعتقـد أنـه توقع مـويت هـو اآلخر‪ .‬كفـر اجلميـع ببقائي‬
‫إال أمـي‪ ،‬آمنـت وحدهـا يب فام كان مـن القـدر إال أن يؤمن هـو اآلخر‪.‬‬
‫ولدت هنا‪ ..‬قليوب‪ ،‬يف بيت يرجع أصله إىل جدي الذي أمر بمكوث‬
‫مجيع أبنائه وأحفاده يف هذا البيت‪ .‬البيت ضيق جدً ا عىل الرغم من مساحته‬
‫الواسعة‪ ،‬الكل مقيد هنا‪ ،‬أقفال عىل العقول والقلوب وال يملك مفتاحها إال‬
‫رجل واحد‪ ،‬ناظر مجيع أرايض عائلة «الربماوي» وهذا ما يعني أن ذلك الرجل‬
‫يمتلك بيده األمر والنهي يف معظم أرايض قليوب‪ ،‬إنه جدي‪.‬‬
‫صــارم‪ ،‬قليــل الــكالم‪ ،‬يفطــن الطريــق جيــدً ا إىل التفريــق بــن أبنائــه‬
‫أيضــا‪.‬‬
‫يف املعاملــة والعطــاء‪ ،‬حتــى يف اإلرث ً‬
‫كان أيب أكبر أعاممـي سـنًا ولكنـه أبعدهم عـن جدي‪ ،‬ال أعلم السـبب‬
‫لذلـك وال أريد‪.‬‬
‫تربيـت هنا‪ ،‬يف ذلك البيت الواسـع ذي األسـقف الشـاهقة‪ ،‬وسـط كم‬
‫هائـل من أبنـاء وبنـات أعاممي حتـى توالت النجـاة بعد ذلك‪ .‬كنـت الناجي‬
‫األول الـذي فتـح با ًبـا للنجاة وتركـه خلفه غير موصد‪ .‬أنجبـت أمي إخويت‬
‫تبا ًعـا حتـى أصبحنا ولدين وبنتين‪ ،‬أنا أكربهم سـنًا ولكن أضعفهم جسـدً ا‪،‬‬
‫أثـرا لن يمحـى طيلـة حيايت‪ ،‬مل‬
‫مل تـدرك أمـي أن حزهنـا ووجعهـا سـيرتك ّيف ً‬
‫تـدرك أن دموعهـا التـي حبسـتها بداخلها ستسـتقر يف عيني أنـا‪ ،‬مل تدرك أمي‬
‫أيضا‪.‬‬
‫أن سـأعاقب عىل ذنـب مل اقرتفه أنـا ً‬

‫‪- 17 -‬‬
‫ولـدت ضعيـف النظر‪ ،‬ومل يكن غري ًبـا عىل طفل مل جياوز السادسـة بعد‬
‫أن يتأهـب لعمليـة جراحيـة يف عينيـه ليتعين له اللعب مـع أصدقائـه مثلهم‪،‬‬
‫عـذرا ال ألكـون مثلهـم بـل يكفـي أن أراهـم جيدا واسـتطيع السير وحدي‬
‫ً‬
‫دون أن يضايقـوين بكلمات مل تذهـب من عقيل حتـى اآلن‪..‬‬

‫أسـهمت العمليـة بشـكل كبري يف إمـدادي بسـنوات أخرى مـن النور‪،‬‬


‫أخبرين الطبيـب بعدهـا أن النظـارة سـتالزمني طيلة حيـايت ومـن وقتها وقد‬
‫شـعرت بـأن ال سـبيل يل سـوى ذلك فالبـد من التعايـش إذن‪.‬‬

‫أتذكـر يومهـا جيـدً ا‪ ،‬جاءتني أمي وأنـا بغرفتي أمسـك النظـارة وكأين‬
‫أحادثهـا فجلسـت بجـواري وقالت وهـي تشير إىل النظارة‪:‬‬

‫‪-‬عليـك يا بنـي أن تعدها جـز ًءا منـك وأن حتبها‪ ،‬فاحلب يا بني يسـهل‬
‫الطريـق إىل كل يشء‪ ،‬أأخبرك شـي ًئا؟ يمكـن لك أن تسـميها باسـم يشء حتبه‬
‫وهذا سـيجعلك تدرجي ًيـا حتبها‪.‬‬

‫مبتسم‪:‬‬ ‫بتلقائية طفل مل يتم ٍ‬


‫ست بعد‪ ،‬قلت‬
‫ً‬
‫‪ -‬سأسميها نعمة‪.‬‬

‫ابتسـمت أمـي يف حنان شـديد وضمتنـي إىل صدرهـا فأغمضت عيني‬


‫التـي كانـت مغمضـة بالفعـل‪ ،‬أخـذت تتمتـم بأشـياء مل أسـمعها ولكنـي‬
‫شـعرت هبـا‪ ،‬ومـن حينهـا أصبحـت أنـا ونعمـة صديقني لـن يفرتقـا إال عند‬
‫وأصغـر قـد راودين وأنـا يف حضنها‬
‫ُ‬ ‫املوتتين‪ ،‬مـوت أكبر مل حيين وقته بعـد‪،‬‬
‫فخضعـت لـه‪ِ ،‬م ُ‬
‫ـت موتًـا أصغـر تسـمونه النوم‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫األشـياء مـن حـويل تتغير تدرجي ًيـا‪ ،‬بـدأت أرى األشـياء أمامـي عبر‬
‫صنـدوق زجاجـي رغم أهنـم يف مـكان آخر‪،‬أصبح كل يشء يـدور إىل التطور‬
‫كل ينطفيء‬ ‫حتـى عينـي‪ ،‬فكلما يـزداد النور يف عقـول العـامل يقـل يف عينـي‪ٌ .‬‬
‫بالتدريـج‪ ،‬حتـى هوايتـي الوحيـدة يف قـراءة الصحـف أصبحت مـن أدوات‬
‫التعذيـب‪ .‬ولكنـي ال أنكـر أبـدً ا أن مـا نقـص مـن عينـي زاد يف أشـياء ُأخر‪،‬‬
‫فمنـذ صغـري وأنـا أكثـر األطفـال يف ال ُكتَّـاب حف ًظـا للقـران وأرسعهـم‬
‫تذكـرا‪ .‬مل يقتصر حفظـي عىل القـران فقـط‪ ،‬فلقد كنـت أحفظ األشـياء التي‬ ‫ً‬
‫أريدهـا بمجرد سماعها‪ ،‬وكانـت تلك هي وسـيلتى الوحيدة ألهني دراسـتي‬
‫كطالـب يف كليـة الرشيعـة والقانـون‪ .‬االختلاف جيـد نو ًعـا مـا‪ ،‬فلـم أكـن‬
‫كسـائر الطلاب ُاذاكـر الكتـب بقرائتهـا! فقـد كانـت يل أسـاليبي اخلاصـة؛‬
‫الكاسـيت وأصـوات أصدقائـي املنبعثة من الرشائـط الكامنـة بداخله يكفيان‬
‫ً‬
‫سـهل أبدً ا‪،‬‬ ‫متا ًمـا ألمـر مـرور الكـرام من سـنوات الدراسـة‪ .‬مل يكـن الطريق‬
‫ربما عليـك أن جتتـاز بعـض الصعوبات قبـل أن تصل ولكنـي مل أواجه بعض‬
‫الصعوبـات مثلكـم بـل واجهتهـا مجي ًعا‪.‬‬

‫أخـذ الروتين والرتابـة يسـتمتعان بالقضـاء على شـغفي جتـاه احليـاة‪،‬‬


‫كبير وآثـري بشـارع يمتاز بنفـس صفات‬ ‫ٍ‬ ‫حتـى بعدمـا ُعينـت إما ًما ملسـجد‬
‫املسـجد‪ ،‬مسـجد اآلقمـر بشـارع املعـز لديـن اهلل الفاطمي‪.‬‬

‫املسافة بني قليوب ومرص القديمة وركوب املواصالت يوم ًيا يف ظل‬
‫ذلك الضوء اخلافت الذي أرى به؛ أسباب كافية للمعاناة‪ ،‬ولكني مل أكن‬
‫خيارا آخر‪ ،‬فبعدما مات جدي توارث أبناؤه كل يشء ومل يكن مفاج ًئا‬
‫أمتلك ً‬
‫أن ينال والدي احلظ األقل من اإلرث‪ ،‬قسموا البيت إىل بيوت أخرى وبنوا‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫جدارا ً‬
‫عازل بني كل يشء‪ ،‬ال يف املكان فقط بل يف القلوب ً‬ ‫ً‬

‫‪- 19 -‬‬
‫حتى أتت رمحة‪..‬‬
‫ٍ‬
‫مشـمس ال ينتهي‪ .‬ربما تكون هي‬ ‫كانـت كاملظلـة التي وقتنـي رش هنار‬
‫الوحيـدة التـى ال احتـاج لعينني ألراهـا‪ ،‬أعتقـد أين أمتلك بداخيل مستشـ َع ًرا‬
‫خاصـا هبـا‪ ،‬أراهـا دون أن أرى‪ ،‬أشـعر هبـا إذا تعثـرت بحجر يف املشرق وأنا‬ ‫ً‬
‫نائم هنـا باملغرب‪.‬‬

‫كان زواجنـا تقليد ًيا كام يسـميه البعـض ولكني ال أعلـم طريقة للزواج‬
‫أيضـا‪ .‬كان البصيص املتبقي بعينـي كاف ًيا ألدون بداخيل‬
‫غيره وال أؤمن بغريه ً‬
‫تفاصيـل وجههـا التـي مل تغـدوا مـن قلبـي وعقلي ووجـداين مـن حينهـا‪.‬‬
‫أسـهمت صداقـة ُأ َم ْينَـا بشـكل كبير يف إمتـام الزجيـة غير أين مل أكترث أهنـا‬
‫تكبر أخواهتـا سـنًا والوحيـدة التي مل تتـزوج بعد‪ ،‬ربما كنت ضعيـف البرص‬ ‫ُ‬
‫وقتهـا ولكـن مـاذا فعـل املبصرون؟ تركـوا رمحـة حتـى جـاوزت السادسـة‬
‫بعـد العرشيـن لتوافـق عىل «شـبه كفيـف» مثيل‪ ،‬بصري ضعيف نعـم ولكن‬
‫بصيريت كانـت قويـة بالقدر الـكايف ألرى فيها مـا مل يراه اآلخـرون‪ ،‬واختذت‬
‫مسـارا خمتل ًفـا منذ ذلـك الوقت‪..‬‬ ‫ً‬ ‫حيـايت‬

‫‪ 24‬نوفمبر ‪ ،1984‬يـوم ميلادي احلقيقـي‪ ،‬فـإن الثالثين عا ًمـا‬


‫املنرصمين مل آيت للحيـاة فيهـم مـن قبـل‪ ،‬أظـن أنني كنـت يف غـار اختبئ فيه‬
‫ٍ‬
‫مـاض متجبر‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬
‫كهـف هر ًبـا مـن بطـش‬ ‫مـن كفـار اإلنسـانية‪ ،‬أو نمـت يف‬
‫أعلـم حتديـدً ا أيـن كنـت ولكنـي أوقـن متا ًمـا أين ولدت يـوم أصبحـت رمحة‬
‫تتكفـل ببنـاء خيمـة على كتفيهـا لتستريح عليهـا رأيس املتعبـة‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫أصبـح الظالم يقـل يف اسـتيطانه لرؤيتـي‪ ،‬زادت رغبتي يف الغـد‪ ،‬أريد‬
‫أن أعيـش كأين مل أولـد مـن قبـل‪ ،‬ال هيـم أن أرى شـي ًئا فهي ترى‪.‬‬

‫تغير كل يشء واجتـه يف املسـار الذي مل أألفه مـن قبل عدا شـي ًئا واحدً ا؛‬
‫جماهبتـي للظلـم مـن عىل منربي‪ ،‬ال أخشـى أحـدً ا‪ .‬وعلى الرغم مـن أن تلك‬
‫الفترة املظلمـة مـن حكـم مصر كانـت تتميـز بتكميـم األفـواه؛ فـإن صويت‬
‫يصـدح عال ًيـا يف األرجاء هنـا وهناك‪.‬‬

‫كان املسـجد مال ًذا ً‬


‫دائم لعشـاق الدبابير املعلقة عىل األكتـاف‪ .‬ينتابني‬
‫القلـق عندمـا ال أنعـم بزيارهتـم الكريمـة كل يومين ليأخـذوين إىل هنـاك‬
‫ألخربهـم برأيـي يف ألـوان احلوائـط اجلديدة‪.‬‬

‫نظـرا ملحبة‬
‫مل جيـرؤ أحـد مـن ذلك النظـام العفن عىل عزيل من املسـجد ً‬
‫أهـل املسـجد يل وكانـت لتقوم ثورة ألجلي لن يفلحـوا يف إمخادها أبدً ا‪.‬‬

‫الديـن سياسـة‪ ،‬والسياسـة درب مـن دروب الدين‪ .‬وهذا املنرب سـبيل‬
‫وجبان ذلـك الذي بيديه سـيف ويملك‬ ‫ٌ‬ ‫مهـم إلنـارة العقـول والقلوب م ًعـا‪،‬‬
‫بسـاتني مـن التفاح وال يطعم املسـاكني منـه‪ ،‬املغلوبني عىل أمرهـم‪ ،‬الضعفاء‪.‬‬
‫ول ْالَ ْم ِ‬
‫ـول َو ُأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـر‬ ‫هـؤالء الذيـن أخـذوا بظاهـر « َأطي ُعـوا اللََّ َو َأطي ُعـوا َّ‬
‫الر ُس َ‬
‫ُـم» ومل ينتبهـوا إىل املعنـى الكامـن بداخلهـا فقـد جـاء ذكرهـم بعـد اهلل‬ ‫ِ‬
‫منْك ْ‬
‫ورسـوله لبيـان أهنـم يتبعوهنم وحاشـا لوالة أمورنـا أن يفعلوا ذلـك‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫أنـا هلـم باملرصاد‪ ،‬وأهل املسـجد خلفي‪ ،‬أنـا إمامهم الذي يـرى صغريهم أين‬
‫دائما آن ينجبـه‪ .‬كنت أخبـئ عليهم‬ ‫أبـوه ويـرى الكبير أين َولـده الـذي متنى ً‬
‫زيـارايت الدائمـة ملراكـز املخابـرات وأمـن الدولـة كـي ال يثـار قلقهـم ويبدو‬
‫أننـي قـد تعـودت أيضا على ذلـك‪ .‬آالف التهديدات التـي رمتهـا إىل أعينهم‬

‫‪- 21 -‬‬
‫وأسـلحة الـردع التـي طاملـا رأيتهـا منصوبـة يف كالمهـم وحتذيراهتـم ولكني‬
‫ليلا‪ ،‬أمـا بالصبـاح أصـدح‬‫كنـت أبـدو إمامهـم كديـك الصبـاح‪ ،‬هـادئ ً‬
‫بالصيـاح يف كل مـكان‪ ،‬وصباحـي هنـا‪ ،‬على هـذا املنبر‪.‬‬

‫ربام كانت مجيع الزيارات تشبه بعضها إال واحدة‪ ،‬أتذكرها جيدً ا‪..‬‬

‫كنت باملسـجد اسـتعد للمغـادرة وإذ بشـابني يافعني ينتظـراين باخلارج‬


‫وفـور مـا رأوين أرسعـا إ َّيل ومـد أحدمها يـده ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪ -‬دعنا نوصلك الليلة يا شيخنا‪.‬‬

‫ويسـارا‪ ،‬مل أتـردد‬


‫ً‬ ‫ابتسـمت هلـم‪ ،‬علمـت ماهيتهـم مـن تلفتهـم يمينًـا‬
‫لربهـة واحـدة وذهبـت معهـم‪ .‬مل يغلقـوا عيني طـول الطريق ألهنـم يعلمون‬
‫أهنـا تـكاد أن تكـون مغلقـة بالفعل‪.‬‬

‫فـور مـا وصلنـا إىل املـكان الـذي ربام أذهـب إليـه أكثر مـن املرحاض‪،‬‬
‫سـمعت صوتًـا قاد ًمـا مـن آخـر الغرفـة‪ ،‬صوتًـا يبـدو أننـي أسـمعه للمـرة‬
‫األوىل‪ ،‬هـذا ليـس بصـوت العقيـد «ثـروت السمان» وال بصـوت النقيـب‬
‫أجشـا مـر يف أذن تلكما الشـابان ً‬
‫قائلا‪:‬‬ ‫«مدحـت الوايلي»‪ ،‬كان الصـوت ً‬

‫‪ -‬اتركوه‪.‬‬

‫تـركاين وخرجـا كأن القطـار يقـف بخـارج الغرفـة وسـيتحرك منـذ‬


‫سـاعتني‪.‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫ظهر أمامي صاحب ذلك الصوت‪ ،‬بدا ً‬
‫رجل عريض املنكبني‪ ،‬شاهق‬
‫كرا ٍم يرتقب طريان الفريسة يف أي‬
‫الطول‪ ،‬مرتهل األطراف‪ ،‬ذا عينني ثاقبتني َ‬
‫حلظة‪.‬‬

‫مل جيلـس أمامـي كام فعل أصدقاؤه السـابقون‪ ،‬سـحب كرسـ ًيا ووضعه‬
‫دائما أطـوف بأصابعي‬
‫بجـواري وجلـس وهو يشير إىل املسـبحة التـي أظل ً‬
‫نحوهـا وقال‪:‬‬

‫‪ -‬مجيلة تلك املسبحة يا موالنا‪.‬‬

‫مبتسم كأنني أملك عينني أراه هبام جيدً ا‪:‬‬


‫ً‬ ‫نظرت إليه‬

‫‪ -‬أعلم‪.‬‬

‫قـام مـن جملسـه ومـد يـده إىل اهلاتف القابـع عىل مكتبـه يف آخـر الغرفة‬
‫وأشـار يل بعد مـا رفع السماعة على أذنيه‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا سترشب يا موالنا ؟‬

‫مل أتردد لثانية واحدة وقلت هبدوء‪:‬‬

‫‪ -‬علمتني أمي أن ال آكل وال أرشب يف املرحاض‪.‬‬

‫ً‬
‫مدهشا مثل رده بعدها‪ ،‬فكأنه مل يسمع شي ًئا وطلب قهوته‬ ‫مل يكن ردي‬
‫املعتادة وعاد ثانية إىل جواري ولكن تلك املرة كان حيمل بيده أشياء مل تكن‬
‫واضحة يل جيدً ا ولكنها تشبه األسهم‪ .‬تأكدت من ذلك حينام وجدته يمسك‬
‫بتلك األشياء ويقذفها بعنف جتاه الباب ولكن صوته كان رصينًا‪:‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫‪ -‬شـــيخ ياســـن‪ ..‬البـــد لتلـــك املهزلـــة أن تقـــف اآلن‪ ..‬إن كان‬
‫زمالئـــي طيبـــن فاعلـــم أننـــي ال أملـــك قل ًبـــا يقـــف يف طريـــق يشء يف‬
‫صالـــح هـــذا البلـــد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫هـــراء وضحكـــت بســـخرية‬ ‫مل امتالـــك نفـــي ممـــا ســـمعته مـــن‬
‫ونظـــرت لـــه‪:‬‬

‫‪ -‬صالــح هــذا البلــد! ح ًقــا! أنتــم تريــدون صــاح هــذا البلــد! ربــا‬
‫أيضــا أين ســبب خراهبــا!! اآلن علمــت ملــاذا أخــذ اهلل عينــي‪ ،‬فــاذا‬
‫تقصــد ً‬
‫فعــل مــن يملــك عينــن؟! احلمــد هلل أين ال أحتــاج عينــان ألرى احلــق هبــا‪،‬‬
‫وآه نســيت أن أخــرك؛ لقــد ســمعت مــا قلتــه أنــت مرتــن مــن قبــل‪ ،‬وهــا‬
‫أنــا أمامــك اآلن يبــدو أننــي سأســمعها للمــرة الرابعــة‪.‬‬

‫ثــار غضبــه وصــاح بأعــى صوتــه ليــأيت الشــابان مــرة أخــرى ولكــن‬
‫أيضــا‪ .‬أمرهــم بزجــي يف بيتــي‬
‫هــذه املــرة يبــدو أهنــم أتــوا بصحبــة أبوهيــم ً‬
‫ـرا؛ احلبــس االنفــرادي‪.‬‬
‫الثــاين الــذي أشــتاق إليــه كثـ ً‬
‫ربما خيـاف اجلميـع مـن الظلام هنـا أمـا أنـا فلا ّ‬
‫أمـل مـن أنيسي‬
‫وصديقـي الدائـم‪ ..‬األسـود‪ .‬ذلـك اللـون الـذي اسـتوطن داخـل األلـوان‬
‫مجيعهـا فأصبحـت أرى األلـوان مجيعهـا تـؤدي إليه‪ .‬هذا السـجن الـذي أراه‬
‫رغـم ضيقـه فهـو واسـع إىل مـد بصري الـذي ال أملكـه‪ ،‬أرى اجلنـة خلال‬
‫ثقـب البـاب الـذي يقـف وراءه جند أبليـس‪ ،‬هؤالء الذيـن مل يمتلكـوا ً‬
‫عقل‬
‫يو ًمـا يميـزون بـه أن إبليـس لـن يدخـل اجلنـة فكيـف بجنـوده‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫طالـت تلـك الفترة التـى قضيتهـا هنـا عـن أخواهتـا السـابقني حتـى‬
‫شـعرت بـأن القلـق قـد أكل مـا تبقـى مـن «رمحـة» مـن صبر وأهل املسـجد‬
‫أيضا لذا وجـدت بـاب الزنزانـة ُيفتح وإذ‬
‫كذلـك‪ ،‬وربما شـعروا بذلـك هنـا ً‬
‫بذلـك الرجـل يدخـل بعدمـا نـادى عليـه جنـده األمني‪:‬‬

‫‪ -‬تفضل يا حسن بيه‪.‬‬

‫مبتسما كأن شـي ًئا مل حيـدث‪ ،‬مل يقـل سـوى كلمات قليلـة‬
‫ً‬ ‫دخـل علي‬
‫وانصرف دون أن ينتظـر منـي تعقي ًبـا عليهـا وأشـار جلنـده أن خيرجـوين‪.‬‬

‫مبتسم‪:‬‬
‫ً‬ ‫أتذكَّر ما قاله جيدً ا وهو هيمس يف أذين‬

‫‪ -‬لو أنك ال ختاف عىل نفسك فخف عىل بيتك‪.‬‬

‫مل جيرؤ الباقي عىل حتذيري كهذا من قبل‪ ،‬ولكنه يبدو خمتل ًفا عنهم‪.‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫أوصلنـــي ذلـــك الشـــابان إىل املســـجد مـــرة أخـــرى وكانـــت‬
‫الش ــمس ق ــد تعام ــدت بمنتص ــف الس ــاء لتعل ــن دخ ــول وق ــت ص ــاة‬
‫الظه ــر‪ .‬دخل ــت املس ــجد فوج ــدت اجلمي ــع يقدم ــون نح ــوي مرسع ــن‬
‫قـــادرا‬
‫ً‬ ‫مريضـــا ومل أكـــن‬
‫فابتســـمت هلـــم مجي ًعـــا وأخربهتـــم بـــأين كنـــت ً‬
‫عـــى املجـــيء‪ ،‬ربـــا صدقـــوين مجيعهـــم عـــدا «جابـــر» مـــؤذن املســـجد‬
‫أو كـــا أســـميه «باللنـــا»‪ ،‬يبـــدو أنـــه ذهـــب إىل بيتـــي ليطمئـــن عـــي ومل‬
‫كثـــرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫نظـــرا ألنـــه الوحيـــد الـــذي أوصلنـــي للبيـــت‬
‫ً‬ ‫جيـــدين‬

‫دافـــع‬
‫ٌ‬ ‫فرغنـــا مـــن الصـــاة وعـــدت إىل البيـــت مرس ًعـــا وبداخـــي‬
‫ٌ‬
‫قاتـــل بـــأن ارمتـــي بـــن ذراعـــي «رمحـــة» فقـــد مللـــت مـــن تظاهـــري‬
‫قو ًيـــا‪ .‬وهـــذا مـــا حـــدث‪.‬‬

‫أتذكَّـــر أننـــي مل أقـــرع عـــى البـــاب ســـوى مـــرة واحـــدة حتـــى‬


‫فتح ــت كأهن ــا كان ــت جتل ــس بج ــواره‪ ،‬وم ــا أن فتح ــت حت ــى وج ــدت‬
‫مـــا توقعتـــه‪ ،‬نـــال القلـــق منهـــا وأخـــذ النـــوم مـــن جفوهنـــا فلـــم تنـــم‪،‬‬
‫رأي ــت ذل ــك ع ــر البصي ــص الصغ ــر املنبع ــث م ــن عين ــي‪ .‬وبرغ ــم كل‬
‫م ــا هب ــا؛ فتح ــت ذراعيه ــا يل وابتس ــمت فهرع ــت إليه ــا ت ــاركًا كل يشء‪،‬‬
‫فهنـــا موطنـــي وال أعلـــم يل موطنًـــا آخـــر‪ ،‬هنـــا ولـــدت وهنـــا أمـــوت‬
‫وهن ــا أبع ــث ح ًي ــا‪ ،‬فكأهن ــا خلق ــت لتك ــون يل كأخ يوس ــف ال ــذي ح ــال‬
‫بين ــه وب ــن امل ــوت واق ــرح برمي ــه يف غياب ــات اجل ــب‪ ،‬أو كأهن ــا ككب ــش‬
‫إس ــاعيل يل‪ ،‬أو أهن ــا كأم ــر اهلل للن ــار أال حت ــرق إبراهي ــم‪ ،‬فكأهن ــا ُخلق ــت‬
‫لتكـــون ُأ ًمـــا وســـندً ا ووطنـــا‪..‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫مل يـــأت أحـــد مـــن هـــؤالء العاملـــن باملرحـــاض طيلـــة شـــهرين‬
‫رغـــم أين مل أغـــر حديثـــي ومل يثنينـــي ترهيبـــه عـــن مـــا أفعـــل‪ ،‬مـــا زال‬
‫ـال باحل ــق‪ ،‬حت ــى أول مجع ــة بع ــد الش ــهرين م ــن زي ــاريت‬ ‫املن ــر صوت ــه ع ـ ٍ‬
‫اآلخ ــرة هل ــم‪ ،‬أتذ َّك ــر تفاصي ــل ذل ــك الي ــوم جيدً ا؛ألن ــه يع ــد يو ًم ــا مه ـ ًـا‬
‫ب ــن أيام ــي مجيعه ــا‪.‬‬

‫مبتســـا كـــا عهدتـــه وال‬


‫ً‬ ‫وجدتـــه يومهـــا بـــن صفـــوف املصلـــن‬
‫ختلـــو نواجـــزه مـــن الغيـــظ املخبـــأ بأحـــكام خلـــف تلـــك االبتســـامة‬
‫الصف ــراء‪ ،‬أخ ــرين يومه ــا أن ــه يفتق ــدين ويفتق ــد زي ــاريت املعه ــودة دائ ـ ًـا‬
‫الت ــى تأخ ــرت يف الف ــرة األخ ــرة! يب ــدو أهن ــم مل يطل ــوا حوائ ــط ج ــدد‬
‫فلـــم يطلبـــوين ليأخـــذوا رأيـــي فيهـــا‪.‬‬

‫كان ــت إيامءات ــه تش ــر إىل أنن ــي س ــأزوره قري ًب ــا فل ــم أهت ــم كالع ــادة‬
‫ـا كع ــادة أي ــام اجلمع ــة املرهق ــة ألج ــد رمح ــة تنتظ ــرين‬‫وع ــدت للبي ــت لي ـ ً‬
‫ـر ق ــد جعلن ــي أغف ــل للحظ ــات أتذ َّك ــر فيه ــا كل م ــا م ــررت ب ــه يف‬ ‫بخ ـ ٍ‬
‫حي ــايت ويم ــر أم ــام عين ــي كأن ــه حي ــدث اآلن‪ ،‬أرى اآلن كل يشء بوض ــوح‬
‫ت ــام‪.‬‬

‫تـــأأل يف أذين اليمنـــى صـــوت رمحـــة الدافـــئ وهـــي تقـــول «يـــا‬


‫زكري ــا أن ــا نب ــرك بغ ــا ٍم اس ــمه حيي ــى مل نجع ــل ل ــه م ــن قب ــل س ــميا»‪،‬‬
‫ويس ــطع ص ــوت «باللن ــا» يف أذين الي ــرى «ه ــذا م ــا وعدن ــا ربن ــا حق ــا»‪.‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫زكريـا أنـا‪ ،‬سـنوات كثيرة أنتظـر ذلـك الطفـل‪ ،‬ال أريـد أن تنتهـي‬
‫عالقتـي بــ «رمحـة» يف الدنيـا باملوت‪ ،‬ففـي اآلخرة أعلـم أنني لـن أقوى عىل‬
‫طلـب غريهـا زوجـة يل‪ ،‬لذلـك أردت ولـدً ا منها يشـد مـن أزري وعضدي‪،‬‬
‫رب زكريا‬
‫كثريا كام دعـا زكريـا فاسـتجاب يل ُ‬
‫وقـد حـدث‪ .‬لقـد ناجيـت ريب ً‬
‫كما اسـتجاب له‪.‬‬

‫شـعرت باخلـوف‪ ،‬أعتقـد أهنـا املـرة األوىل التـي أشـعر فيهـا بذلـك‬
‫الشـعور‪ ،‬بـدأت اهلواجـس تتنـاوب على عقلي حتـى أهلكتنـي‪ ،‬أصبحـت‬
‫أفكـر فيام سـأقوله قبـل أن أعتيل املنبر‪ ،‬هم طغاة لـن هيتموا بأن ولـدي الذي‬
‫حتم أشـعر بـه من اآلن‪ ،‬هـم طغاة ال يرون شـي ًئا‬
‫أنتظـره ربما لـن أراه ولكني ً‬
‫إال‪ ..‬ال ليـس هنـاك مـا يرونـه فهـم يسـمعون فقط‪.‬‬

‫أيضـا‪ ،‬فلقد تقـدم العمـر بـ»رمحة»‬


‫تسـعة أشـهر مـن االنتظـار والتعب ً‬
‫ومل يكـن احلمـل هينًا عليهـا أبدً ا‪.‬‬

‫فبعدمـا مىض النصف األول من ديسـمرب يف تلك السـنة «‪ »1994‬وبدأ‬


‫النصـف الثـاين بتعريـف نفسـه كبدايـة عهـد جديـد‪ .‬يـوم اجلمعة‪ ،‬السـادس‬
‫عشر مـن ديسـمرب‪ ،‬اجلميـع بانتظـاري هنـا ألخـرج عليهـم ليـؤذن جابـر‬
‫بـاألذان الثـاين وأن أعتلي املنبر وأخاطبهـم كما أفعـل دو ًما‪.‬‬

‫مهمـت باخلـروج من الغرفـة املخصصة يل باملسـجد ألجد الشـابني مرة‬


‫أخرى يمسـكان بيـدي وهيمس أحدهـم يف أذين ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪ -‬إن «حسن بيه» يدعوك لتناول الغداء معه بعد الصالة‪ ..‬ننتظرك‪.‬‬
‫تركـت «رمحـة» يومهـا تعاين مـن آالم كثيرة فهذا‬
‫ُ‬ ‫فـت حينهـا‪ ،‬فقـد‬‫ِخ ُ‬
‫شـهرها اآلخير وكـدت لـن آيت للمسـجد اليـوم ولكنهـا طمأتنـي كعادهتـا‬
‫واتصلـت بأختهـا لتجلـس معهـا حتـى أعـود‪ ،‬ولكنـي أعرفهـا جيـدً ا‪ ،‬لـن‬
‫تطمئـن إال وأنـا هنـا إىل جوارهـا‪.‬‬

‫أهنيت اخلطبة مرس ًعا تلك املرة ليأيت الشابان إ ّيل ويأخذان بيدي حتى‬
‫رصنا عند الباب ألجد رجال من أقىص الشارع يسعى‪ ،‬مل أملحه جيدً ا ولكني‬
‫أفطن إىل هيئته‪ ،‬إنه «إبراهيم» ابن أخت رمحة التي تركتها معها يف البيت‪.‬‬

‫علمـت رس تلـك اهلرولـة التـي أقـدم هبـا نحـوي فاملستشـعر الـذي‬


‫بداخلي قـد أخربين بام سـيقوله «أدهـم»‪ ،‬وصدق حـديس وما كان لشـعوري‬
‫برمحـة أن خيطـئ أبدً ا‪:‬‬
‫‪ -‬شيخ ياسني‪ ..‬لقد أنجبت خالتي معا ًذا‪.‬‬

‫إنه ابني‪ ..‬وكأنه خلق معا ًذا من خطايانا‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫هو‪..‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫وكأنني ُخلقت معا ًذا من خطاياكم‪ ..‬أنا معاذ‪ ..‬الناجي األول بعد األول‪.‬‬
‫ُولـدت ألبوين كالشـمس والقمـر جعال مني يوسـف‪ ،‬ياسين ورمحة‪،‬‬
‫األول علمنـي كيـف أحـب اهلل واألخـرى علمتني كيـف أحب نفيس‪.‬‬
‫تربيـت يف بيـت ال تنقطـع منـه أعـواد البخـور وال أصـوات اهلمهمـة‬
‫صباحـا ومسـا ًء‪.‬‬
‫ً‬ ‫بـاألذكار‬
‫اهلـدوء والراحة سـمتان متيـزان طفولتي يف ذلـك البيـت‪ ،‬يف بلدة تعترب‬
‫مـن أهم بقـاع األرض يف نظـري‪ ،‬قليوب‪.‬‬
‫والــدي‪ ،‬القــدوة واملثــل األعــى الــذي ال دونــه أحــد وال جيــوز ذلــك‬
‫ألحــد‪ ،‬إمــام مســجد كبــر بمــر القديمــة‪ ،‬شــيخي وأســتاذي األول‬
‫وبطــي الدائــم عــى اإلطــاق‪.‬‬
‫ـرا تتلــون يف‬
‫ربــا تعــد مالمــح طفولتــي التــي أثــرت يف شــخصيتي كثـ ً‬
‫لوحــة رســمها أحــد أصدقــاء والــدي مــن أهــل املســجد الــذي يعمــل فيــه‬
‫عندمــا أهــداين كتا ًبــا وأنــا مل أكــن قــد مترســت القــراءة كعــادة طفــل مل جياوز‬
‫صغــرا ألعــداد مــن قصــص كانــت‬ ‫ً‬ ‫مخســته بعــد‪ ،‬أتذكــر أنــه كان كتي ًبــا‬
‫تَصــدر يف ذلــك الوقــت حتمــل اســم» فــاش»‪ .‬تعلمــت القــراءة عــى يــدي‬
‫أيضــا‬
‫تلــك القصــص التــي لطاملــا رأيــت نفــي بطلهــا األوحــد‪ .‬وأتذكــر ً‬
‫أن والــدي قــد أعطــاين مصح ًفــا وأخــرين بــأن القصــص التــي ســأقرأها‬
‫هنــا لــن أنســاها أبــدً ا فتعلــق قلبــي بالقــرآن ومل يعــرف الطريــق مــن حينهــا‬
‫إىل اإلفــات منــه‪.‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫والـديت‪ ،‬أو كما أنادهيـا مثلما رأيـت أيب يفعـل منذ ولـدت « ُأمتـي»‪ .‬مل‬
‫علي فهم تلـك الكلمـة وأنا صغير ولكنـى أيقنت متا ًمـا كم بأيب‬
‫أكـن ليتعين ّ‬
‫مـن حب هلـا قـد غمـرين دون أن يقصد‪.‬‬
‫هـي السـند الذي مـا جاز له االنكسـار أبـدً ا حتى وإن وهنـت عكائزه‪،‬‬
‫هـي التـي تعـرف أن يل يـدً ا ثالثـة مل يرهـا غريهـا كي تشـدين منهـا أن كُرست‬
‫يـداي االثنين ومل أعـد أقوى على التحمل‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كل ذل ــك‪ ،‬ق ــد جع ــل من ــي ذا قضي ــة من ــذ صغ ــري‪ ،‬األول واجلمي ــع‬
‫رئيســـا‬
‫ورائـــي؛ يف الدراســـة األول عـــى الصفـــوف مجيعهـــا‪ ،‬يف الكليـــة ً‬
‫الحت ــاد الطلبـــة ويـــراين اجلمي ــع قـــدوة هل ــم‪ ،‬يف الكتاب ــة ش ــاعر اجلامع ــة‬
‫و ُأنظـــم الكثـــر مـــن الصالونـــات األدبيـــة باجلامعـــة وخارجهـــا‪ ،‬هـــذا‬
‫وقـــد كنـــت طال ًبـــا بكليـــة اهلندســـة بجامعـــة القاهـــرة‪.‬‬

‫كانـت القضية الفلسـطينية تشـغل كل ما يب من أفـكار وأوراق قد أدت‬


‫كثيرا إىل زيـاريت املحببـة ألمـن الدولـة‪ .‬مل أتنـازل يو ًما عن وصفنـا برجال‬
‫ً‬ ‫يب‬
‫نترك بنتنـا تُغتصـب متظاهريـن بأننا ال نرى شـي ًئا وأهنـم شـعب اهلل املختار‪.‬‬
‫أيضـا‪ ،‬وكلام‬
‫لسـت أنـا مـن يقبل ذلـك‪ ،‬ومجيع مـن يراين قـدوة له يـرى ذلك ً‬
‫تزيـد حمبـة الطلبـة يل تزيد زيـارايت للدبابري كما يلقبهم أيب‪.‬‬

‫ال أعلـم مـا كنـت ألفعـل دون « فريـدة»‪ ،‬صديقتـي املقربـة التـي مـن‬
‫دوهنـا مـا كنـت ألعرب مـن سـنة واحدة هبـذه الكليـة‪ ،‬لـن أحتدث عنهـا اآلن‬
‫فسـيأيت دورهـا فيما بعد‪.‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫ٍ‬
‫كقائـد لـه مكانتـه املرموقـة بين اجلميـع؛ مل أخلو من وسوسـات نسـل‬
‫حـواء ولكنـي مل يكـن لدي متسـع مـن الوقت كـي أعريهـم اهتاممـي فكنت‬
‫اكتفـي باالسـتعاذة بـاهلل من وسوسـاهتم‪.‬‬

‫كثيرا‪ ،‬هناك حلظـة متر هبا بين حني وآخر‬


‫ً‬ ‫ولكنـي مل أفلـح يف صمـودي‬
‫أن مل تربـط عىل قلبك سـتفلت زمـام كل يشء‪ ،‬وحدث‪..‬‬

‫حبيبـة‪ ،‬صفتهـا واسـمها‪ ،‬ولـدت لتكون تلك هـي مهامها الرئيسـية يف‬
‫احليـاة؛ حبيبة‪..‬‬

‫أيضـا ولكـن يف قسـم « العامرة» أمـا أنا فقـد نويت أن‬


‫تـدرس اهلندسـة ً‬
‫قدماي هـذه الكلية‪ ،‬واخرتت‬
‫َّ‬ ‫أدرس بقسـم « امليكاترونكس» منـذ أن وطأت‬
‫ذلـك القسـم؛ ألنـه حقل هنديس واسـع ومتشـعب جـدً ا‪ ،‬وهـذا احلقـل‬
‫اهلنديس جيمـع بين اهلندسـة امليكانيكية‪ ،‬واهلندسـة الكهربائيـة‪ ،‬وهندسـة‬
‫احلاسـوب وااللكرتونيـات‪ ،‬ويتضمـن تصميـم أي منتـج يعتمـد عملـه عىل‬
‫دمـج أنظمـة ميكانيكيـة وإلكرتونيـة‪ ،‬إذ يقوم بدور املنسـق فيما بينهام ووضع‬
‫منظومـة حتكمهـا‪ ،‬يعنـي ذلـك أننـي وددت أن أرى الطريـق الذي يـؤدي إىل‬
‫صنـع إنسـان إىل ببسـاطة ووضوح‪.‬‬

‫رأيـت حبيبـة للمـرة األوىل يف إحـدى نـدوايت الشـعرية‪ ،‬ظننـت أهنا يف‬
‫البدايـة أتـت لتحضر النـدوة بكامل إرادهتـا ولكني اكتشـفت بعـد ذلك أهنا‬
‫كانـت تنتظـر صديقتهـا التـي آبـت أن تغـادر حتـى هنايـة النـدوة فاضطـرت‬
‫حبيبـة أن جتلس وتسـتمع‪.‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫دائــا أن أمشــط بعينــي احلارضيــن أمامــي بابتســامة‬
‫وكــا اعتــدت ً‬
‫هادئــة ومل أدرك حينهــا أين ظللــت لدقائــق أقــف بنظــري عنــد حبيبــة ومل‬
‫أحــرك ســاكنًا‪ ،‬ال أعلــم مــاذا حــدث حينهــا‪ ،‬كانــت كالــوردة التــي نبتــت‬
‫يف صحــراء جــرداء ال تؤمــن ســوى بشــوك الصبــار‪ ،‬رقيقــة هــي كنســيم‬
‫الفجــر‪ ،‬مجيلــة هــي كال يشء غريهــا‪.‬‬

‫أنس أن أضع منو ًما لعقيل كي ال يمد رجليه ويعركلني‬ ‫ذهبت إليها ومل َ‬
‫فأندم طيلة حيايت أين مل أذهب إليها‪ ،‬ربام لن أرها ثانية وربام تكون غري حقيقية‬
‫أيضا قد قد راودتني أعراض الفصام مرة أخرى‬ ‫وقد ُخيل إىل أهنا إنسية‪ ،‬ولربام ً‬
‫فأصبحت أرى ما اليراه اآلخرون؛ ماهو ليس موجو ًدا من األساس‪.‬‬

‫وبرغـم أين شـاب قـد متـرس على احلديـث أمـام آالف األشـخاص‬
‫أصبحـت أمللـم بعـض الكلمات ألصيـغ عبارة تـدل عىل مـا جيـري بداخيل‪،‬‬
‫إهنـا ثـورة جتتـاح باليابس واألخرض م ًعـا‪ ،‬أقف أمامهـا صامتًا أنظـر يف عينيها‬
‫«الرماديتين» وقـد رأيـت فيهما مـا مل يـره عـامل فلـك قـد جـاوز عقديـن من‬
‫ا لعمر ‪.‬‬

‫‪ -‬أظن أين رأيتك من قبل! صحيح؟‬

‫اندهشـت من ذلك؛ فإهنا ليسـت عـادة مجيع‬


‫ُ‬ ‫بـدت مسـتاءة يف البدايـة‪،‬‬
‫النسـاء الاليت أحتدث معهـن ألول مرة‪ ،‬فالطبيعي أنني أنظر يف حمل سـجودي‬
‫أمـا هـن فال ترتكن يف وجهـي تفصيلـة إال وحفظنها‪ ،‬ومل تفعل هـي ذلك‪ ،‬بل‬
‫وتظاهـرت كأهنـا تنظـر إىل صديقتها التي ربما ذهبت لتفعل شـي ًئا وقالت‪:‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫‪ -‬ال ‪ ..‬ال أظن ذلك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫دهشـة عىل الرغـم من حبيبة‬ ‫أتـت صديقتهـا يف ذلـك الوقت تنظر يل يف‬
‫التـي مل تكـن تنظـر يل مـن األصـل‪ ،‬وقبـل أن تلقي على صديقتها السلام إذ‬
‫بحبيبـة تأخذهـا مـن يدهيا لرتحلا‪ ،‬تركتنـي واق ًفا يف مـكاين ما زلـت أنظر يف‬
‫عينيهـا رغـم أهنـا قد رحلـت!‪ ،‬مـن وقتها وقـد شـعرت أن الزمام قـد تفلت‬
‫قـادرا على الرباط على قلبي كما تعودت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مـن يـدي ومل أعد‬

‫شــهران مــن البحــث غــر ا ُملجــدي يف اجلامعــة كلهــا‪ ،‬مل أتــرك موض ًعا‬
‫إال وبحثــت عنهــا فيــه؛ يف أماكــن املحــارضات‪ ،‬يف النــدوات‪ ،‬يف املطاعــم‪،‬‬
‫ـي ســوى االنتظار‬ ‫حتــى مكتبــات تصويــر املســتندات مل أبرحهــا!‪ ،‬مل يكــن عـ ّ‬
‫ومل يكــن عــى صديقتهــا ســوى أن أرهــا صدفــة‪ ،‬تلــك الصدفــة التــي طاملــا‬
‫ســميتها در ًبــا مــن دروب القــدر‪..‬‬

‫ختليــت حينهــا عــن ثــوب الرزانــة والوقــار وهرولــت إليهــا مرس ًعــا‬
‫لتقــف أمامــي صديقتهــا مبتســمة يعلــو مالحمهــا شــي ًئا مــن األمــل غــر‬
‫املجــدي فقلــت دون تفكــر‪:‬‬

‫‪ -‬أين هي؟!‬

‫لرتد هي هبدوء قد مر يب مرور الرياح الباردة‪:‬‬

‫‪-‬ال أعلم‪ ..‬مل تأيت اجلامعة منذ شهرين‪.‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫‪ -‬أعلـم ذلـك فقد بحثـت عنهـا يف كل مكان طيلـة الشـهرين املاضيني‬
‫ومل أجدها!‬

‫اندهشت قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬وملاذا تبحث عنها؟ أتريد منها شي ًئا أبلغه هلا ؟‬

‫رددت بحدة بالغة‪:‬‬

‫‪ -‬يعني ذلك أنك تعرفني مكاهنا ليس كام ادعيتي منذ قليل!‬

‫‪- 37 -‬‬
‫تلعثمـت‪ ،‬ومهـت باملغـادرة ولكنـي مل أحتـرك مـن مـكاين ومل أمسـك‬
‫هبـا‪ ،‬فلا زلت أنـا‪ ،‬مل ينزلق عنـي رداء الوقـار كله بعـد‪ ،‬لتعود إىل تقـدم قد ًما‬
‫ٍ‬
‫نجدة‪:‬‬ ‫وتأخـر أخـرى لتقـول كمن يبحـث عـن‬

‫‪ -‬حبيبـة تعلـم أنـك تبحـث عنها لذلـك مل تـأيت‪ ..‬ال أعرف مـاذا أقول‬
‫لـك ولكنـي واجب علي أن أحـذرك‪ ..‬ال حتـاول االقتراب منها فلـن تكون‬
‫العواقـب جيـدة أبـدً ا‪ ..‬رغم أين أرجـو ذلك‪.‬‬

‫قالـت يل ذلـك ورحلـت‪ ،‬مل أفهـم حتديـدً ا مـاذا تقصـد ولكـن بطبعـي‬
‫العنيـد مـا زادتنـي حتذيراهتـا إال إرادة‪ ،‬مل أعتد عىل االنسـحاب من حرب قبل‬
‫أن ُأهـدى بجـرح حتـى وإن فـزت قبـل أن أخـوض احلرب‪.‬‬

‫يف ذلـك اليـوم قبـل أن أغادر تتبعت املـكان الذي ذهبت إليـه صديقتها‬
‫ألصـل يف النهايـة إىل قسـم»العامرة» بكليتنـا! شـهرين من البحـث يف جامعة‬
‫كبيرة مثـل جامعـة القاهـرة ومل أتـرك فيهـا مكانًـا إال وبحثـت عنهـا فيه ويف‬
‫دائما ال ألتفـت إىل الباب‬ ‫األخير تكـون هي بقسـم آخـر يف كليتـي‪ ،‬ولكنـي ً‬
‫الـذي حيجـب النـور وأذهـب إىل ثقـب املفتـاح أرى مـن خالله كل مـا أريد‪،‬‬
‫علي نصف املهمة تقري ًبا‪ ،‬فبكـوين حمبو ًبا من‬
‫فوجـود حبيبة يف كليتي قد سـهل ّ‬
‫أيضا من قلوب املوظفني بشـئون‬ ‫اجلامعـة كلهـا بحمـد اهلل مل ختلو تلك املحبـة ً‬
‫متظاهـرا أين أبحـث عـن طالبة تدرس بقسـم‬ ‫ً‬ ‫الطلبـة بكليتنـا‪ .‬ذهبـت إليهـم‬
‫«العمارة» قـد فـازت بجائـزة يف مسـابقة أقامهـا احتـاد الطلبـة باجلامعـة‪ ،‬وبام‬
‫علي كرئيس احتـاد الطلبة‬ ‫أهنـا قـد تغيبـت عـن احلضور لشـهرين فقد وجـب ّ‬

‫‪- 38 -‬‬
‫أن أبحـث عـن عنواهنـا بنفيس لنرسـل هلـا جائزهتا حتـى البيت‪ ،‬كذبـت وأنا‬
‫أعلـم ذلـك‪ ،‬ربما تلك هي اخلطيئـة األوىل التي كانـت لتنبهنـي أين يف الطريق‬
‫الصحيـح للسـقوط يف اهلاويـة ولكنـي مل أنتبـه لذلـك‪ ،‬أو بوضـوح شـديد‬
‫جتاهلـت أن أنتبـه لـكل يشء قـد يعركلني عما أنوي‪.‬‬

‫وجـدت عشرات الطالبـات التـي حتمل اسـم «حبيبة» يف قسـم العامرة‬


‫سـهل‪ ،‬ومل تكـن إراديت‬‫ً‬ ‫يف مجيـع السـنوات الدراسـية بالكليـة‪ .‬مل يكـن األمـر‬
‫ضعيفـة ألتراجـع عما أريـد‪ ،‬خطـر بذهني أفـكار كثيرة ولكنـي اهتديت إىل‬
‫أصعبهـا‪ ،‬أن أذهـب ألسـتاذ مـادة « الرياضيـات» أسـتاذي املفضـل والـذي‬
‫أيضـا‪ ،‬واخرتته‬ ‫طاملـا اعتربتـه كوالدي وأعلـم أين أمتلك ح ًظا طي ًبـا من حمبته ً‬
‫بعينـه؛ ألنـه هـو األسـتاذ الوحيـد الـذي يـدرس جلميع األقسـام وقـد توقع‬
‫حـديس أنـه درس هلـا ويعرفهـا ومل يكـن ليخيـب ظني فيما أتوقـع ابدً ا‪.‬‬

‫ً‬
‫مستقبل إياي برتحيب شديد‪:‬‬ ‫ذهبت إىل مكتبه وقد أذن يل بالدخول‬

‫‪ -‬معاذ‪ ..‬تفضل‪.‬‬

‫سـلمت عليـه ورأيس تـدور بأفكار كثرية تـؤدي يب يف النهايـة إىل طريق‬
‫أعـرف منه مـا أريـد دون أن يرمقني بنظرة ٍ‬
‫شـك واحدة‪:‬‬

‫كثيرا‪ ،‬ولكنـي أعلـم‬


‫ً‬ ‫‪ -‬أسـتاذي العزيـز‪ ..‬أعلـم أين مقصر يف حقـك‬
‫عـذرا ليـس يل احلـق فيه‪.‬‬
‫ً‬ ‫أنـك سـتلتمس يل‬

‫‪- 39 -‬‬
‫ابتسم ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪ -‬ال تقل ذلك فأنتم مجي ًعا أوالدي‪ ..‬بلغ سالمي لشيخنا احلبيب‪.‬‬

‫هززت رأيس مواف ًقا وقلت‪:‬‬

‫‪ -‬سـأبلغه أن شـاء اهلل‪ ..‬وأعتذر إليك يا أسـتاذي يل عنـدك طلب وكيل‬


‫أمل أنك ستسـاعدين‪.‬‬

‫انتبه وأماء برأسه أي تفضل‪ ،‬فأردفت‪:‬‬

‫‪ -‬كنـا قـد نظمنـا مسـابقة للطلبـة على مسـتوى اجلامعـة كلهـا ونجح‬
‫فيهـا بعـض الطلاب من كليتنـا وأعطيناهـم جائزة عـدا واحـدة مل حترض منذ‬
‫شـهرين وال نعلـم كيـف نصـل إليها‪.‬‬

‫ساوره الشك بعض اليشء وسألني‪:‬‬

‫‪ -‬من هي؟‬

‫مظهرا ابتسامتي اهلادئة‪:‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫حماول ‪-‬بجميع قواي‪ -‬أن أمتاسك‬ ‫فقلت‬

‫‪ -‬طالبـة اسـمها حبيبـة بقسـم العمارة‪ ..‬ال أعلـم يف أي صـف تـدرس‬


‫ولكنـي أعرف شـكلها‪.‬‬

‫انتبه أكثر وقال‪:‬‬

‫‪ -‬صفها يل‪.‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫وقبل أن ينطق لساين باإلجابة عىل سؤاله انتبهت جيدً ا ألين أن تركت‬
‫العنان للساين باحلديث سيعم اخلراب بكل يشء‪ ،‬فإذا حتدث خرس اجلميع بام‬
‫فيهم عقيل املسكني الذي مل تعد له القدرة عىل إيقايف كاملعتاد‪.‬‬
‫تنفست الصعداء وأنا أقول بعدم اكرتاث واضح‪:‬‬
‫‪ -‬ال أتذكر جيدً ا ولكنها بيضاء وطويلة ونحيفة بعض اليشء‪.‬‬
‫بادر االستاذ مرس ًعا‪:‬‬
‫‪ -‬تقول إهنا تغيبت منذ شهرين؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫أسند ظهره إىل الكريس الذي كان جيلس عليه وقال بثقة شديدة‪:‬‬
‫‪ -‬إهنا هي‪.‬‬
‫فرحا شـديدً ا والحـظ هو ذلك‪ ،‬فـإن متالكت نفيس سيسـاوره‬
‫فرحـت ً‬
‫الشـك لذا أكملت فرحـي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬احلمـد هلل أننـا وجدناها ‪ ..‬فـإن األمانة البد وأن تذهـب إىل صاحبها‬
‫من يـدري من سـيعيش أبدً ا؟‪.‬‬
‫ـم معلنًــا انتهــاء مغامــريت تلــك بالفــوز الســاحق وتنــاول ورقــة‬‫ابتسـ َ‬
‫ـرا‬
‫وكتــب بداخلهــا شــي ًئا وأعطاهــا يل وقبــل أن أرى مــا فيهــا شــكرته كثـ ً‬
‫وخرجــت مــن مكتبــه وأنــا أقــرأ مــا يف الورقــة رغــم أن مــا فيهــا تكفــي‬
‫ثانيتــان فقــط لقراءتــه ‪« ..‬حبيبــة ُمنــذر»‪.‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫ذهبـت إىل مكتـب شـئون الطلبـة مـر ًة أخـرى وأنا أمحـل معـي الورقة‬
‫التـي بداخلهـا االسـم ليعيدوهـا إىل مـزود ًة بالعنـوان وهنـا بـدأت يف مهمـة‬
‫غامضـا عيني عن‬
‫ً‬ ‫أخـرى‪ ،‬بـدأت يف البحـث عـن طريقة أذهب هبـا إىل بيتهـا‬
‫ُسـباب عقلي الـذي كـره تكبيلـه يف سـجن مل يألفه مـن قبل‪.‬‬

‫ودون تـردد ذهبـت إىل العنـوان املوجود بالورقة‪ ،‬بداخلي يشء يدفعني‬
‫نحـو مـا نويت فعلـه‪ ،‬وبداخيل أشـياء كثيرة حتـاول أن تثنيني عن تلـك النية‬
‫التـي مل أكـن أدرى أن عواقبهـا سـتكون وخيم ًة هلذا احلـد أبدً ا‪..‬‬

‫*****‬

‫« عابدين»‬
‫تلـــك هـــي املنطقـــة التـــي كان يشـــر إليهـــا العنـــوان املوجـــود‬
‫نظـــرا‬
‫ً‬ ‫كثـــرا‬
‫ً‬ ‫بالورقـــة‪ ،‬ومـــن حســـن احلـــظ أين أحـــب تلـــك املنطقـــة‬
‫ملكاهنـــا القريـــب مـــن «ميـــدان التحريـــر»‪ ،‬هنـــا اختبأنـــا مـــن هجـــوم‬
‫الدباب ــر علين ــا‪ ،‬وهن ــا وجدن ــا البي ــوت املفتوح ــة لن ــا بإي ــان راس ـ ٍ‬
‫ـخ ب ــا‬
‫نفعـــل‪ ،‬هنـــا حيـــث رائحـــة وســـط البلـــد القديمـــة تفـــوح مـــن املبـــاين‬
‫خصوصـــا يف ذلـــك الوقـــت‪ ..‬ديســـمرب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واملقاهـــي‬

‫‪- 42 -‬‬
‫الوقـــت مناســـب جـــدً ا ليصعـــد « يـــاين» عـــى حافـــة أذين ويشـــر‬
‫جلن ــوده املخلص ــن أن يمس ــكوا أس ــلحتهم احلاني ــة لتنطل ــق الث ــورة إذن‪،‬‬
‫ثـــورة ســـاها « يـــاين « بالعاصفـــة‪ ،‬وهـــي كالعاصفـــة ح ًقـــا‪ ،‬كان املشـــهد‬
‫الس ــريايل خيي ــم متا ًم ــا ع ــى األج ــواء؛ ش ــاب يق ــف يف منتص ــف ش ــارع‬
‫« حممـــد حممـــود « أطـــوف بعينـــي بـــن األلـــواح واألرقـــام املعلقـــة عـــى‬
‫أب ــواب الع ــارات حت ــى اهتدي ــت إىل العن ــوان املوج ــود بالورق ــة ألج ــد‬
‫ع ــى ب ــاب تل ــك الع ــارة حارس ــها‪ ،‬س ــألته ع ــن الطاب ــق ال ــذي يس ــكن‬
‫في ــه األس ــتاذ « من ــذر « فدلن ــي ع ــى الطاب ــق اخلام ــس‪ ،‬صع ــدت ومل تك ــن‬
‫بداخـــي أي خطـــط أو تدابـــر ملـــا ســـأفعل‪..‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫و‪..‬‬

‫‪- 45 -‬‬
‫مل تكـن زيـاريت حلقـل الدبابير تلـك املـرة كاملـرات السـابقة‪ ،‬فعندمـا‬
‫شـعور وقتها بأن‬
‫ٌ‬ ‫أخبرين « إبراهيـم» بـأن رمحـة قـد وضعـت معـا ًذا وراودين‬
‫ً‬
‫طويل‪..‬‬ ‫النـور الـذي اقتحـم ُظلمتـي وقتهـا لـن يـدوم‬

‫ً‬
‫طويلا هـذه املـرة‪ ،‬أشـعر ببـطء كل يشء حـويل‪ ،‬الـكل‬ ‫الطريـق كان‬
‫يـدور يف سـبات تـام؛ إال رأيس‪ ،‬تـدور بأفـكار حالـت بينـي وبين الفـرح‬
‫بمعـاذ‪ ،‬صديقـي ورفيقـي الـذي قتلنـي انتظـاره‪ ،‬وعندمـا حـان وقـت لقائنا‬
‫حالـت الدبابير بيننـا‪ ،‬أال لعنـة اهلل على من اختـذوا الوطـن سترة خليانتهم‪..‬‬

‫مل يكـن املـكان الـذي أوصالين إليـه منكر ونكير هو املكان الـذي طاملا‬
‫أتيتـه! ثمـة يشء ما حيدث ال أفقه تفسيره‪.‬‬

‫أدخالنـى غرفـ ًة أشـبه بغرفـة الفئـران التـي كان ُييفنـا هبـا جـدي‪ ،‬ال‬
‫أعلـم مـاذا حيدث ولكني أوقـن متا ًما أن الطاولـة قد مالت بأكملهـا يف االجتاه‬
‫الـذي يلتـف حوله مجيـع أعدائـي‪ ،‬تركـوين ورحلوا‪ ،‬الظلام هنا خيبرين بأن‬
‫النهـار قـد ضـل طريقه وفـرض الليـل سـلطته كامل ًة‪.‬‬

‫شـهر‪ ،‬وأنـا هنا يف تلـك الغرفـة أبحث عـن ثقب خلف‬


‫ٌ‬ ‫يـو ٌم‪ ،‬يومـان‪،‬‬
‫الباب أرى به معاذ‪ ،‬أشـعر بأنفاسـه كأنـه جالس بجوار جنـد إبليس يدعوهم‬
‫إىل رؤيـة الوطـن مـن أعني حمبيه ال مـن أعني إبليـس األكرب‪.‬‬

‫مريضا ترافقنـي أدويتي‬


‫تدهـورت حالتـي الصحيـة‪ ،‬مل يكرتثوا لكـوين ً‬
‫حيثما أذهـب‪ ،‬وبسـبب طول املدة التـي مل أتنـاول فيها الدواء؛ سـاءت حالتي‬
‫الصحيـة ممـا دعاهم أن يقلوين إىل املشـفى‪..‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫ربما أديـن بحيـايت كلها لذلـك الطبيـب الذي ربما لواله لـكان الظالم‬
‫قـد بـاء بالفـوز يف كل املعـارك التـي خضناهـا سـو ًيا ومل يرتك يل حتـى فرصة‬
‫كـي أنـوي احلـرب‪ .‬كان شـا ًبا أعتقـد أنـه مل جيـاوز عقـده الثالث بعـد‪ ،‬دخل‬
‫ٍ‬
‫زجـاج أهلكه املطـر يف ليلة‬ ‫مبتسما وأنـا أكاد أراه كمـن يـرى مـن خلف‬
‫ً‬ ‫علي‬
‫ّ‬
‫مبتسما‪:‬‬
‫ً‬ ‫شـتوية‪ .‬قـال يل وهو يتفحـص عيني‬

‫‪ -‬محدً ا هلل عىل سالمتك يا شيخ ياسني‪.‬‬

‫كثيرا يف إنجـاح حماولتي البائسـة يف مبادلته‬


‫ً‬ ‫وجهه البشـوش قد سـاهم‬
‫االبتسـام‪ ،‬كنـت أعلـم جيـدً ا أيـن سـيذهب يب احلـال وإىل أيـن سـينتهي يب‬
‫الطريـق يف تلـك املشـفى‪ ،‬وذلـك مـا قـد دعاين ألطلـب منـه طل ًبـا أعتقد أين‬
‫كثيرا إذا مـا طلبته‪:‬‬
‫ً‬ ‫كنـت ألنـدم‬

‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫‪ -‬يـا طبيـب ‪ ..‬أعلـم أن أيام بصري معـدودة‪ ..‬لو كان ذلـك‬
‫خريا يـا بني عىل‬
‫أرجـوك أخبرين‪ ..‬فـإن يل ولـدً ا مل أره منـذ ُولد‪ ..‬جـزاك اهلل ً‬
‫رجـل مثيل قـد توقفت آمـال حياتـه عليك‪.‬‬‫ٍ‬

‫مل تتبـدل ابتسـامته بـل زادت ليدنـو منـي ويربـت على يـدي ثـم أمـاء‬
‫برا إيـاي بأنـه سـينفذ مـا رجـوت منه‪..‬‬
‫برأسـه خم ً‬
‫سـهل خالل تلك احلراسـة املشـددة عىل غرفتي‪ ،‬شـعرت‬ ‫ً‬ ‫مل يكن األمر‬
‫حينهـا كأين قـد تركـت وطنًـا يقـع مـن الـدور السـابع والسـتني لتتلقفـه يـد‬
‫منكسـا‬
‫ً‬ ‫الصهاينـة‪ ،‬أو كأننـي استرددت ما وقع مـن األول هذا ألذهب إليهم‬
‫رأيس مسـا ًملا‪ ،‬أو جيـوز أهنـم قـد أعتبروين كمـن رأى مـا فعله هـذان االثنان‬
‫ٍ‬
‫«فاترينة» جاذبـة لألنظار كي ال يتعـب الباغيني يف‬ ‫معروضـا يف‬
‫ً‬ ‫فترك الوطـن‬
‫رشائه مـن النظـر إىل أعىل‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫ال تزيغ عيني عن الباب منذ أن وعدين ذلك الشاب أن ينفذ يل ما طلبته‬
‫منه فور ما تسنح الفرصة له بذلك‪ .‬وىف يو ٍم ما‪ ،‬أظنه كان كمثلث برمودة الذي‬
‫جعل يل حياتني ال حيا ًة واحدة‪ ،‬كان كالربزخ الذي فصل بني حريب الطويل مع‬
‫الظالم وجماهبتي لظلمه وردعه عن رغبته يف استيطاين‪ ،‬وبني فوزه‪.‬‬
‫ِ‬
‫بالغرفـة وحـدي‪ ,‬ال مل أكـن وحـدي‪ ,‬كان معـي أعـز أصدقائـي‬ ‫كنـت‬
‫وأقرهبـم‪ ,‬أحـاوره وحيـاورين‪ ..‬إنـه األمل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشـكل خمتلـف‪ ،‬حينما تـدرك أن للكـون‬ ‫األمل‪ ,‬حينما تـرى األشـياء‬
‫حركـة بطيئـة ال يشـعر هبـا اآلخـرون‪ ،‬فلتتأكـد حينهـا أن األمل قـد صنع منك‬
‫ً‬
‫وعويلا مل تعتـده مـن قبـل‪ ،‬وبرغـم كونك صل ًبـا هيابك‬ ‫ً‬
‫رصاخـا‬ ‫آلـ ًة تصـدر‬
‫الوجـع‪ ,‬فلقـد صنع منـك األمل آلـة‪ ،‬وبكونك خمتلـف كالعـادة‪ ،‬فأنت ترصخ‬
‫ٍ‬
‫صمـت تام‪..‬‬ ‫يف‬

‫أشـعر بـاألمل يزداد كلما أتنفس‪ ،‬كلما يتأكـد أين أقاوم يزيد من قسـوته‪،‬‬
‫حـرب تليق بـه‪ ,‬أصبحت‬ ‫ٍ‬ ‫حمـارب قـد مىض طيلـة حياتة يبحـث عن‬
‫ٌ‬ ‫ولكـوين‬
‫أتقـن مجيـع فنـون القتـال‪ ،‬أدرس خصمـي قبـل مواجهتنـا املبـارشة‪ ،‬أنتظـر‬
‫اللحظـة التـي أقـول فيهـا إن احلـرب ُخدعة وهـا قـد جـاء دوري يف الفوز‪. .‬‬

‫مبـارزا‪ ،‬لـك أسـلحتي فحـدق النظـر هبـا‬


‫ً‬ ‫هـا أنـا اآلن‪ ،‬أقـف أمامـك‬
‫جيـدً ا‪ ،‬فربما تكـون هـي آخـر ما تـرى ‪..‬‬

‫عانيـت مـن أملٍ ووجعٍ‪,‬‬


‫ُ‬ ‫أمحـل يف يـدي شـقو ًقا قـد هرمت مـن عظم مـا‬
‫أعتقـد أنـك تتلمـذت عىل أيدهيـم‪ ،‬وأمحل على وجهي تلـك االبتسـامة التي‬
‫ٍ‬
‫حـرب أثـق أهنـا يل يف النهاية‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫انتصار من‬ ‫متنـع عنـك أي لـذة‬
‫‪- 48 -‬‬
‫صديقـي األمل‪ ،‬لك حتيايت املبتسـمة‪ ،‬أسـعد بمجاورتـك يل‪ ,‬ال تظنني ال‬
‫أمـرا قد قضـاه‪ ،‬فلتهنـأ يف فرتة بقائـك معي فإنك‬
‫أريـدك!‪ ,‬حاشـا هلل أن أمنـع ً‬
‫لـن تصـادف مثلي جمد ًدا‪ ،‬أسـتقبلك بالـورد رغم دموعـي‪ ،‬فلتهنأ يـا صديقي‬
‫ً‬
‫طويل ‪..‬‬ ‫فإنـك لـن تبقى معـي‬

‫أخبرين الطبيـب يومهـا يف الصبـاح أن الطـرق كلهـا تـؤول إىل عمليـة‬


‫جراحيـة خطيرة يف عينـي‪ ،‬ليـس هنـاك أي بدائـل متاحـة‪ ،‬ومـن الغريـب‬
‫أيضـا أنـه أخبرين أن نسـبة نجـاح تلـك العمليـة ال تسـمح لقلبـي أن يتعلق‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫برؤيـة بعدهـا‪ .‬لذلـك‪ ،‬مل يكن أمامنا سـوى املخاطـرة‪ ،‬عىل الطبيـب أن يغامر‬
‫وعلي أن أدعـو بـأن جيعـل اهلل بين أيدهيم سـدً ا ومن خلفهم سـدً ا‬
‫ّ‬ ‫بوظيفتـه‪،‬‬
‫و ُيغشـيهم فلا يبصرون‪ ،‬وحدث‪.‬‬

‫بـدت يل رمحـة حينها كالعـذراء مريـم حينام أتـت لقومها حتمـل ولدها‬
‫على يدهيـا‪ ،‬يف قلبهـا نـور اهلل يطمئن اخلوف الـذي قد أكل كل مـا بداخلها يف‬
‫عـم بالغرفـة فطرد‬‫نـورا قد ّ‬
‫فترة غيـايب عنهما‪ ،‬كان غطـاء معاذ أبيـض رأيته ً‬
‫عيل مبتسـم ًة‬
‫أنيسـا منذ أن أحضروين هنـا‪ ،‬أقبلت ّ‬ ‫احلـزن الـذي مكث معـي ً‬
‫كأهنـا قـد أنجبت معاذ خـارج الغرفة وأتت بـه إىل لنفرح سـو ًيا فإننا ال نعرف‬
‫واحـد بمفرده‪ ،‬وضعت شـفتيها عىل رأيس‬ ‫ٍ‬ ‫كيـف يكون الفـرح إذا ما كان كل‬
‫فهـدأ معهما كل يشء‪ ،‬احلـرب ومناجـاة الوطن‪ ،‬السـجن والظلام‪ ،‬هدأ كل‬
‫يشء وكأننـي تناولـت حبـات القرنفل فأختذت مسـارها عرب دمـي إىل مواطن‬
‫جاهـزا للمحاربـة جمـد ًدا ومعي‬
‫ً‬ ‫اجلـروح فسـكنتها وسـكَّنتها‪ ،‬لقـد بـت اآلن‬
‫سلاحي األول واألخير‪ ..‬هي‪.‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫ٍ‬
‫بمعاذ فرأيته كشـمس يف هنار أغسـطس‪،‬‬ ‫جلسـت بجواري وأمالت إىل‬
‫علي قوله اآلن‪:‬‬
‫واضحـا متا ًمـا كأنما أراد اهلل أن أقول ما ينبغي ّ‬
‫ً‬
‫‪ -‬لقد وجدنا ما وعدنا ربنا ح ًقا‪ ..‬احلمد هلل‪.‬‬

‫أخذت أحفظ تفاصيل وجه معاذ كأين لن أراه ثاني ًة‪ ،‬من يعلم الغيب إال‬
‫كثريا حتى قاطعتني رمحة مازحة‪:‬‬ ‫من يملك بيديه أمر برصي كله‪ ،‬ظللت هكذا ً‬
‫ٍ‬
‫ملعـاذ فقـط! أتريـد أن أمشي‬ ‫‪ -‬مـن يـراك اآلن يقـول بأنـك اشـتقت‬
‫وأترككـم سـو ًيا ؟‪.‬‬

‫ضحكـت كأهنـا قـد أخربتنـي ذلـك ونحـن ببيتنـا نتسـامر ً‬


‫ليلا‪ ،‬فلـم‬ ‫ُ‬
‫يسـعني حينهـا املـزاح وحتدثـت بجديـة‪:‬‬

‫‪ -‬قبـل أن تأتـوا اآلن كان اجلميـع يتعجـب من صربي وصمـودي أمام‬


‫جـدارا بداخلي بينـي وبين‬ ‫كل هـذا‪ ..‬ال يعلمـون يـا رمحـة ِ‬
‫أنـك قـد بنيتـي‬
‫ً‬
‫قـادرا على أن حيملني‬ ‫ِ‬
‫وحـدك فقط مـن متتطين حصانًا‬ ‫الضعـف والوهـن‪..‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫كتفيـك ثم‬ ‫على ظهـره لنمـر م ًعـا إىل هنـاك فأفـرغ مـا أمحلـه مـن دموع على‬
‫تعوديـن إ ّىل هنـا مـرة أخرى‪ ..‬حيـث القـوة والصمـود ‪ ..‬حيث أننى أشـتاق‬
‫ِ‬
‫ظهـرك وترحلني‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إليـك فور مـا تعطينـي‬

‫ردت بتلقائية شديدة‪:‬‬


‫يعلمـك ِ‬
‫برتكي إيـاك‪ ..‬فأنا ال حيـق يل أن أتركك‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬مـا جـاز لظهـري أن‬
‫أنت والـدي وولدي وكل يشء يا ياسين‪.‬‬
‫أينما ذهبـت‪َ ..‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫مل يتسـنى يل الـرد عليهـا‪ ،‬فـإذ بالطبيـب ُيقبـل علينـا فز ًعـا كأن قطـاره‬
‫متاسـكت كأنه‬
‫ُ‬ ‫أيضـا سـينطلق منذ سـاعتني‪ ،‬أخربنا بضرورة رحيلهما اآلن‪،‬‬ ‫ً‬
‫مل خيربين أن عيل أن أمسـك السـيف بـذرا ٍع قـد أهلكتها الطعنات‪ ،‬فابتسـمت‬
‫بيـدي كأهنـا تـرى الطعنـات واضح ًة‬
‫ّ‬ ‫وأرشت هلما بالرحيـل فأمسـكت هـي‬
‫بعينيهـا التـي تـرى مـا ال يـراه اآلخـرون يب حتى أنـا وقالت‪:‬‬

‫‪ -‬ستعود إلينا قري ًبا يا عزيزي‪ ..‬أخربين ريب بذلك‪.‬‬

‫خرجـا وتتبعتهما بعينـي التـي قد عـادت إىل حاهلـا البائس التـي كانت‬
‫ٍ‬
‫شـكر تكفي ألقوهلـا إىل ذلك‬ ‫عليـه قبـل أن يأتيـا‪ ،‬مل يكـن هنـاك أي عبـارات‬
‫الطبيـب‪ ،‬فلقـد سـمح يل برؤيـة أسـبايب يف احليـاة قبـل أن أدخـل يف رصاعي‬
‫ٍ‬
‫شـيخ أهلكته حليته‬ ‫معهـا يف الغـد الباكـر‪ ،‬وإن كنت سـأدخل العملية بصمود‬
‫ٍ‬
‫حماربـة تفطـن الطريـق جيـدً ا إىل الفـوز‪ ،‬ومـن‬ ‫فأنـا اآلن سـأدخلها بصمـود‬
‫حسـن احلـظ أهنا قـد أتـت معهـا للمـرة األوىل بولدها الـذي يبدو أنـه ورث‬
‫وجاهـز اآلن لقيـادة اجليـوش معها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فنـون احلـرب من ِ‬
‫أمـه‬

‫أتـى النـوم بطي ًئـا كأنـه يعلـم أين أنتظـره‪ ،‬الغـد خميـف جـدً ا ولكني ال‬
‫أعـرف الطريـق إىل العـودة‪ ،‬وإذا عرفـت الطريق فلـن يتغير يشء‪ ،‬ما املايض‬
‫ً‬
‫ومسـتقبل يف يـوم من األيـام‪ ،‬أصبحـت أرى هناية كل ما‬ ‫حـارضا‬
‫ً‬ ‫إال أنـه كان‬
‫مهدتـه احليـاة يل منـذ ولـدت‪ ،‬أرى ذلـك الرجل يقـف يف هناية الطريـق فا ًحتا‬
‫ٍ‬
‫هـدوء تام حتـى نمت‪.‬‬ ‫ذراعيـه يل وأرانـى أسير نحـوه يف‬

‫‪- 51 -‬‬
‫أتـى الغـد يؤكـد صحـة مـا رأتـه بصيريت القويـة‪ ،‬أسـمع كل يشء‬
‫بوضوح شـديد‪ ،‬أسـمع صـوت الطبيب يف آخـر الغرفة يرجو ويقـول أتركوه‬
‫رضرا بعـد اآلن فوافقـوا‪.‬‬
‫فلـن يسـبب لكـم ً‬
‫لطاملـا أحببـت اللـون األسـود منـذ أن بـدأت يف متييـز األلـوان عـن‬
‫بعضهـا‪ ،‬لطاملـا رأيتـه يرتبع عىل عرشـهم مجي ًعـا‪ ،‬هادئًا بسـي ًطا كأنـه البحر يف‬
‫صفـوه‪ ،‬كأنـه السماء يف احتضاهنـا لنجومهـا‪ ،‬كأنه الليـل‪ ،‬هو الليـل ح ًقا‪ ،‬ومل‬
‫ٍ‬
‫بنظارة مـن أوالده‬ ‫أيضـا فيـأيت‬
‫أكـن أعلـم أن حبـي لألسـود سـيجعله حيبني ً‬
‫لرتافـق عصـاي طيلـة حيـايت املتبقيـة‪ ،‬مل أكـن ُأدرك وال حلظـة واحـدة الشـبه‬
‫الواضـح بين األسـود والظلام واحلـزن‪ ،‬كنـت أميـزه عنهما وأحبـه ولكني‬
‫حمارب حارب بـكل ما أويت‬ ‫ٍ‬ ‫اكتشـفت اآلن أهنـم أبنـاؤه الكبار‪ ،‬ال خـزي عىل‬
‫ٍ‬
‫مـن قـوة وخسر يف النهايـة‪ ،‬حاربت املـرض يف معـارك كثيرة‪ ،‬هزمنـى تار ًة‬
‫وهزمتـه تـارات‪ ،‬نـال منـي ونلـت منـه‪ ،‬علمنـي وعلمتـه‪ ،‬ولكن اجلسـد إذا‬
‫وهـن بفعـل السـنني فلا عيـب على االستسلام ولكنـي مل أتطـرق لـه يو ًما‪،‬‬
‫قدمـي االثنني اللتني‬
‫َّ‬ ‫أهنيـت حـريب وأنـا واقف يف امليـدان ال يشء معي سـوى‬
‫علي الرجـوع اآلن فمـن‬ ‫تُبقيـاين واق ًفـا إىل اآلن‪ ،‬رمحـة ومعـاذ‪ ،‬ولكـن حيتـم ّ‬
‫يعلـم! جيـوز أن أدخـل حر ًبـا أخـرى مـع يشء آخر فيجـب أن أكون مسـتعد‬
‫علي أن أعلن فـوزه‪ ،‬لقد فـاز الظالم‬ ‫مـن اآلن‪ ،‬ولكـن قبـل أن أغـادر امليدان ّ‬
‫يف النهاية‪..‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫هو‪..‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫تطـرق اخلـوف إىل قلبـي ولكـن قدمـي واصلـت الصعود‪ ،‬دنـوت من‬
‫الطابـق اخلامـس على الرغـم مـن أن عقلي قـد تركنـي باألسـفل ومل يصعد‪،‬‬
‫تركـت الزمـام لقلبـي طم ًعـا يف نيـل احلريـة‪ ،‬ظننت حينهـا أن السـجن الذي‬
‫قـد وضعنـي عقيل بـه قد أوشـك أن يتحـول إىل بسـتان زهـور وورد‪ ،‬وقفت‬
‫بمحـاذاة البـاب ووضعـت يدي على اجلرس وضغطـت ومل يكن بـرأيس أي‬
‫يشء ألقولـه عندمـا يفتـح الباب‪..‬‬

‫وبرغـم أن كل االحتماالت التـي قد بنيتهـا بمخيلتي مل يصيـب أحدها‬


‫الصـواب! مل أكـن أختيـل أبـدً ا أن فاحتة البـاب سـتكون حبيبة‪ ،‬كانـت كالبدر‬
‫دائما فلم يعـرف للقمر‬ ‫ٍ‬
‫كمهاجـر يسـافر يف منتصـف الشـهر ً‬ ‫وكنـت‬
‫ُ‬ ‫يف متامـه‬
‫شـكل سـوى اهللال‪ ،‬دقيقـة صمت ختللتنـا وهي تنظـر إ َّيل يف دهشـة وبعض‬ ‫ً‬
‫مالمـح الغضـب الـذي ذكـرين بـكالم صديقتهـا‪ ،‬وقـف الزمان عنـدي ح ًقا‬
‫أيضـا‪ ،‬تيقنت حينهـا أين أحبها‪،‬‬
‫فلـم أكن أشـعر بيشء وال أهتم بام سـيحدث ً‬
‫فأنـا مل أكـن أعلـم عـن احلـب شـي ًئا ولكنـه ال حيتـاج لتعليـم أو دراسـة‪ ،‬فهو‬
‫هكـذا يؤمـن بالالمنطقيـة وكل مـا نفـره العقـل واستأنسـه القلـب‪ ،‬فعندمـا‬
‫يتطـرق احلـب إىل قلبـك ستشـعر بـأن الزمـن والوقـت ليـس هلما أي أمهيـة‪،‬‬
‫فقـد يصبحـان ناجتين لعمليـة حسـابية أحـد طرفيهـا صفـر‪ ،‬النتيجـة واحدة‬
‫إذن فلا داعـي للمكابـرة‪ ،‬عليـك باالعتراف فقـد خـاب مـن كتـم ح ًبـا يف‬
‫صـدره ومل يبديه‪..‬‬

‫قاطعت رشودي املبهم بحدة‪:‬‬


‫ْ‬

‫‪ -‬ماذا أتى بك إىل هنا؟! أجننت!‬

‫‪- 54 -‬‬
‫رددت بحدة مماثلة‪:‬‬

‫‪ -‬ومـاذا قـد عسـاين أن أفعـل؟! مل تـأيت اجلامعـة منـذ شـهرين؟ وقـد‬


‫ِ‬
‫عنـك يف كل مـكان ومل أجـدك!‬ ‫بحثـت‬

‫تضاعفت حدهتا‪:‬‬

‫‪ -‬وملاذا كل هذا من األصل؟ ملاذا تبحث عني؟‬

‫راق يل اهلدوء حينها فقلت‪:‬‬

‫‪ -‬ستعلمني كل يشء يف الوقت املناسب‪.‬‬

‫هدأت هي األخرى وبدا صوهتا يميل إىل الرجاء وقالت‪:‬‬

‫‪ -‬ال أريد أن أعلم أي يشء‪ ..‬أرجوك ال تفعل‪ ..‬أرجوك‪.‬‬


‫ً‬
‫حماول‬ ‫فصمـت‬
‫ُ‬ ‫مل أفهـم شـي ًئا مـن حديثهـا‪ ،‬ومما ختـاف‪ ،‬وماذا ترجـو‪،‬‬
‫فأردفـت وهي تلتفـت إىل داخل الشـقة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫إدراك مـا تريـد أن توصلنـي إيـاه‬

‫‪ -‬إذا خرج أيب فلن يكون األمر جيدً ا يل ولك‪ ..‬ارحل أرجوك‪.‬‬

‫أيضـا أن ال أراهـا‬
‫دفعنـي رجاؤهـا وخوفهـا ملوافقتـي ولكنـي خفـت ً‬
‫ثانيـة فاندفعـت ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪ -‬سأرحل‪ ..‬ولكن عديني أن تأيت غدً ا للجامعة‪.‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫وأغلقـت البـاب‪ ،‬كنـت يف الطابـق اخلامـس‬ ‫ْ‬ ‫أمـاءت برأسـها موافقـ ًة‬
‫وأسـمع سـباب عقيل من الـدور األريض‪ ،‬مل أكن أسـمعه جيـدً ا ولكني أعتقد‬
‫أين قـد سـمعت اسـم «ياسين» أكثر مـن مـرة! ال أعلـم إىل اآلن ملـاذا مل أخرب‬
‫والـدي وصديقـي األوحـد عن حبيبـة ولكن ثمة شـعور بداخلي يمنعني من‬
‫ذلـك وال أعلـم لـه سـبب‪ ،‬لـذا قـررت أن أحتـدث معـه قري ًبا ولكنـي أجلت‬
‫ذلـك حينما تـأيت هـي للجامعـة ويتضـح يل كل يشء‪ ،‬فأنـا ال أفهـم ما حيدث‬
‫علي االنتظـار ألفهـم كل يشء بوضـوح تام‪.‬‬ ‫لـذا وجب ّ‬
‫ً‬
‫قليــا يف مكاننــا املفضــل‪..‬‬ ‫التقطــت عقــي مــن الشــارع لنتســكع‬
‫وســط القاهــرة‪ .‬هنــا حيــث أنتمــي‪ ،‬أنتمــي للشــوارع واألرصفــة‪ ،‬للمقاهي‬
‫والســقيع‪ ،‬للراديــو وصــوت أم كلثــوم‪ ،‬لــكل يشء يمتــد آخــره يل‪ ،‬فهنــا‬
‫أكتــب مجيــع مقــااليت وقصائــدي‪ ،‬هنــا جيــد كل مبــد ٍع الطريــق الــذي يرنــو‬
‫إليــه خيالــه‪ ،‬وإذا كانــت مــر كلهــا صندو ًقــا فهــذا هــو حرف ًيــا «خــارج‬
‫الصنــدوق»‪..‬‬

‫غــادرت حبيبــة شــقتها وأتــت إىل خيــايل تســكن فيــه‪ ،‬كانــت متــي‬
‫بيــدي‪ ،‬شــعرت حينهــا أن «حممــود درويــش» قــد تــدىل‬ ‫ّ‬ ‫معــي ومتســك‬
‫مــن بلكونتــه املطلــة عــى ميــدان «طلعــت حــرب»‪ ،‬حيتــي فنجانــه املعتــاد‬
‫مــن البــن الربازيــي األصيــل‪ ،‬يرتــدي قبعتــه اليونانيــة القديمــة ثــم وقــف‬
‫حيــادث مجاهــره العريضــة الذيــن يتمثلــون ّيف‪ ،‬ويف نفــس اللحظــة التــي‬
‫ٍ‬
‫عــود جعلتنــى أتســمر يف‬ ‫صــدرت مــن غرفــة «زيــاد ســحاب» أحلــان‬
‫مــكاين‪ ،‬صــدح درويــش‪:‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫ـو ٍة‬ ‫ِ‬
‫بـذوق األمري الرفيـع البديع‪ ،‬انتظرها‪،‬بسـب ِع وسـائد ُ‬
‫حمش َّ‬ ‫انتظرهـا‪،‬‬
‫ِ‬
‫املـكان‪ ،‬انتظرها‪،‬‬ ‫النسـائي مـل َء‬ ‫ِ‬
‫اخلفيـف‪ ،‬انتظرهـا‪ ،‬بنـار البخور‬ ‫ِ‬
‫بالسـحاب‬
‫ِّ‬
‫أقبلـت قبل موعدها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ـت بعد موعدهـا‪ ،‬فانتظرها‪ ،‬وإن‬ ‫تتعجـل‪ ،‬فـإن أقب َل ْ‬
‫وال َ‬
‫فانتظرها‪..‬‬

‫أيقنـت رسـالته وآمنـت هبـا‪ ،‬فهمـت فحـوى رسـالته املختبئـة يف تلك‬


‫اللوحـة الرسياليـة العظيمـة‪ ،‬فغـادرت وعقلي قد أخذ ُمسـكنًا ليسـكت عني‬
‫بعـض الوقـت فإنه يعشـق درويش هـو اآلخر‪ ،‬ولكننـا مل ن ِع وقتها أن لرسـالة‬
‫درويـش بقيـة مل يقوهلـا‪ ،‬جيـوز أين لـو كنـت سـمعتها لتغير كل يشء ولكنـه‬
‫القـدر‪ ،‬القـدر الـذي أخرتنـاه بإرادتنـا دون أن نعلم‪..‬‬

‫*****‬
‫ً‬
‫متجاهل‬ ‫جالسـا طيلـة اليوم أمام بـاب الكليـة‬
‫ً‬ ‫يف اليـوم التـايل‪ ،‬ظللت‬
‫كل يشء‪ ،‬حمـارضايت واجتماع احتاد الطلبـة ومهاتفتهـم يل‪ ،‬جتاهلت كل يشء‪،‬‬
‫أنتظرهـا فقط‪..‬‬

‫حتـى أتـت‪ ,‬وأتـى معهـا الربيـع بأزهـاره وورده‪ ,‬كانـت كالفراشـة‪ ,‬مل‬
‫حقلا إال واستنشـقت عبريه‪ ,‬كنـت حمظو ًظا ح ًقـا وأنـا ُأرى كيف ُيول‬ ‫ً‬ ‫تترك‬
‫مخـرا‪ ,‬رشبتها فسـكَّرتني وسـكَّرتني‪ ,‬هزمتني‬ ‫الرحيـق إىل عسـل‪ ,‬ال بـل كانت ً‬
‫بـال بذلـك!‪ ,‬وألول مـرة يكون املهزوم سـعيدً ا‪ ,‬مل أكن سـعيدً ا‬‫دون أن تُلقـي ً‬
‫فحسـب‪ ,‬بل كنـت السـعيد الوحيـد ىف الدنيا‪..‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫اقرتبت مني وهي تبتسم‪ ,‬مل تقل شي ًئا فبادرت أنا‪:‬‬

‫كنت سآيت أنا إىل بيتكم ثاني ًة‪.‬‬ ‫أنك ِ‬


‫أتيت‪ ..‬وإال ُ‬ ‫‪ -‬جيدٌ ِ‬

‫تزيح‬ ‫حتولـت بسـمتها إىل ضحكـة فـزاد مجاهلـا ً‬


‫مجـال!‪ ,‬وقالـت وهـي ُ‬
‫شـعرها الـذي تـدىل ِسقـ ًة إىل عينيها‪:‬‬

‫‪ -‬املـر ُة الثانيـة سـيفتح َ‬


‫لـك أيب‪ ..‬وبعدهـا أعتقـد أنـك لن تـرى جمد ًدا‬
‫بعينـك تلك‪.‬‬

‫ضحكـت‪ ,‬ومن املـرات القليلة التـى أضحك فيها حتى بـدت نواجزي‬
‫ُ‬
‫ويعلو صـويت هكذا‪.‬‬

‫ِمـن يومها‪ ,‬وقد أختلـف كل يشء‪ ,‬وبرغم اختالفنـا ىف الطِباع والتفكري‪,‬‬


‫دائما إىل مشـاركتها فيام حتب فعلـه‪ ,‬ذهبـت إىل عاملها الذي‬‫كنت أسـعى ً‬ ‫فلقـد ُ‬
‫أراه سـطح ًيا‪ ,‬ال يشـبهني وال ُأشـبهه‪ ,‬ولكني أحببتها‪ ,‬أحببتهـا ح ًقا‪ ,‬رغم اين مل‬
‫َأر منهـا ذلـك‪ ,‬فكانـت تبتعد كلام أقرتبـت‪ ,‬ال حتب عاملـي وال تفكر حتى جمرد‬
‫تشـعر ً‬
‫أصل‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫تشـعر ً‬
‫قليل‪ ,‬ال!ال‬ ‫ُ‬ ‫التفكير ىف الذهاب‪ ,‬ال تقرأ‪,‬‬

‫أسـمعتها لـ»جاهـدة» ومل ُتبهـا‪ ,‬أعطيتها كت ًبـا لـ»رضوى عاشـور» ومل‬


‫فعلـت كل ما بوسـعي‬
‫ُ‬ ‫يمي فلـم ترشب ومـت عطشـانًا‪,‬‬ ‫تقرأهـا‪ ,‬تركـت هلـا َّ‬
‫قليلا‪ ,‬ال!مل تشـعر ً‬
‫أصل‪..‬‬ ‫وشـعرت ً‬
‫ْ‬ ‫لتشـعر‪,‬‬

‫فاض الكيل يب ومل يعد لدي ما أفعله‪ ,‬هناك يشء ال أفهمه‪ ,‬وليس هناك‬
‫أسوأ من أن جيهل الرجل إن كانت حتبه امرأته أم ال فيسأهلا‪ ,‬فال جتيب‪..‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫جلـأت لصديقتهـا تلـك‪ ,‬ربما لتجيب عـن تلـك األسـئلة التى ال‬
‫ُ‬ ‫لـذا؛‬
‫أعلـم هلـا إجابة‪,‬‬
‫ٍ‬
‫طريق أجد حبيبة فيه ىف النهاية‪ ,‬ولكن مل حيدث ذلك‪ ,‬مل‬ ‫وربام لرتشدين إىل‬
‫بشكل أقوى‬‫ٍ‬ ‫ملحت حتذيراهتا السابقة‬
‫ُ‬ ‫أفهم منها شي ًئا ومل تعطني إجاب ًة رصحية‪,‬‬
‫أيضا حثها القوى يل عىل االستمرار يف حماولة الوصول‬ ‫هذه املرة‪ ,‬ولكني رأيت ً‬
‫هاتفت حبيبة‪ ,‬رصحت هلا بحبي وبكل‬ ‫ُ‬ ‫إليها‪ ,‬مل أفهم شي ًئا منها‪ ,‬يف ذلك اليوم؛‬
‫يشء‪ ,‬كانت عالقتنا حتت مسمى الصداق ُة إىل أن نسميها باسم آخر‪ ,‬ولكني‬
‫واضحا يف عيني وال ختطئ األنثى ىف قراءة ذلك أبدً ا‪,‬‬ ‫ً‬ ‫كنت أعلم بأن احلب‬
‫أيضا ومل‬‫تعمدت أن تتظاهر بصدمتها ومل ُتب‪ ,‬فسألتها عن شعورها ً‬ ‫ْ‬ ‫ولكنها‬
‫ُتب‪ ,‬كم هو بائس أن تنتظر األبكم أن يتحدث‪..‬‬

‫*****‬
‫جلسـت يف نفـس املـكان الـذي أنتظرهتـا فيـه َ‬
‫أول‬ ‫ُ‬ ‫يف ِ‬
‫غـد ذلـك اليـوم‪,‬‬
‫مـرة‪ ,‬ولكنهـا مل تكـن كأول ٍ‬
‫مـرة أبـدً ا‪..‬‬

‫مل تــأيت بمفردهــا هــذه املــرة‪ ,‬بــل أتــت بصحبــة صديقتهــا تلــك‪,‬‬
‫ِ‬
‫تأتيــان مــن بعيــد‪ ،‬هــي وصديقتهــا‪ ،‬تتحــاوران ومهــا تنظــران‬ ‫رأيتهــا‬
‫إ َّيل ومالمــح حبيبــة التنبــؤ بخــر عكــس صديقتهــا التــي كانــت تبتســم‬
‫ـي صديقتهــا ثــم ذهبــت‬‫فــور مــا تالقــت أعيننــا‪ ،‬دنتــا منــي وســلمت عـ ّ‬
‫وهــي تنظــر إىل حبيبــة كأهنــا تريــد أن تؤكــد عــى مــا اتفقتــا عليــه‪،‬‬
‫أقرتبــت منــي حبيبــة وهــي تنظــر يف مجيــع الزوايــا عــدا زاويتــي!‪،‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫قابلـت أنماط النسـاء مجيعهـن ولكـن نمطهـا مل أألفـه مـن قبـل‪ ،‬ويبـدو أن‬
‫ُ‬
‫ذلـك هو حبلهـا الذي رأيتـه ثعبانًا فسـحر عينـي وأصبحت ال أرى سـواها‪،‬‬
‫أبكم‪ ،‬مل يكـن هناك ما‬
‫وتغيبـت لباقتـي املعهـودة عني يف ذلـك اليوم فصرت َ‬
‫أقولـه فعينـي تفضحـاين وعينها جريـد ُة تـروج اإلشـاعات جيدً ا‪..‬‬
‫مل يلبــث الصمــت طويـ ً‬
‫ـا حتــى قالــت وهــي تشــر إىل بنتــن كانتــا‬
‫تنظــران إلينــا‪:‬‬
‫‪ -‬هؤالء البنات ينظرن إليك‪ ..‬يبدو أهنن يعرفنك‪.‬‬
‫مل أنظر إليهن وأومئت هلا أن تتجاهلهن لرتدف هي‪:‬‬
‫‪ -‬أريد أن أحتدث معك‪.‬‬
‫رددت بتلقائية‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا أريد أن أسمع‪.‬‬
‫مشـينا سـو ًيا متجهني إىل «كافيه الكليـة» وكأننا حتولنا فجـأ ًة إىل نجمني‬
‫كرهـت األضواء‬
‫ُ‬ ‫هوليووديين وحتولـت أعين اجلميـع إىل كاميرات‪ ،‬لطاملـا‬
‫ـت عنـي‪ ،‬ولكن اليـوم ال أكرتث بذلـك‪ ،‬فأنـا ال أرى غريها مهام‬ ‫ولطاملـا بح َث ْ‬
‫اشـتد الزحـام وكثـرت الطرق‪،‬جلسـنا وطـال الصمـت ً‬
‫قليلا هـذه املـرة ثم‬
‫ٍ‬
‫بأشـياء مل أكن‬ ‫ـت لتثـور الرباكين التي مخلت لسـنوات طويلـة‪ ،‬أخربتني‬ ‫حتد َث ْ‬
‫يو ًمـا أرجو سماعها وال بمحـض الصدفة‪ ،‬بانـت يل حتذيـرات صديقتها اآلن‬
‫جليـ ًة كالشـمس يف وضح النهـار‪ ،‬أتذكر مـا قالته كأنـه «جرامافـون» ال يمل‬
‫مـن التكرار حتـى اآلن‪..‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫كانت هادئة جدً ا وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬معـاذ‪ ..‬لسـت أنـا تلك التـي تبحث عنهـا‪ ..‬ال أفهم رس الـذي تفعله‬
‫ولكنـى ال أريـد أن أعـرف‪ ..‬هناك أشـياء ال ينبغي لنـا أن نعلمها‪..‬‬
‫صمتت برهة وأردفت‪:‬‬
‫‪ -‬معاذ‪ ..‬لست صاحلة للحب مرة أخرى‪.‬‬
‫ُصدمت مما قالت ولكنها أكملت باكي ًة‪:‬‬
‫‪ -‬أنـا أحبـه هـو‪ ..‬ال أملك مكان ألحـد غيره‪ ..‬وبرغم خيانتـه وكذبه‬
‫فأنـا أحبـه‪ ..‬وبرغم أنـه تركني ما زلت أحبـه‪ ..‬أحب آرس‪ ..‬ليـس بيدي يشء‬
‫سـوى أن أحبه‪ ..‬واهلل ليـس بيدي يشء‪.‬‬
‫دهرا‪ ،‬بكاؤهـا ونظرات النـاس وحزين‬ ‫ٍ‬
‫توقـف الزمـن للحظات مـرت ً‬
‫وحدهـم مـن واصلوا السير‪ ،‬وجـدت نفيس بتلقائيـة بالغة أبتسـم وأمد يدي‬
‫ٍ‬
‫ورقية فأخذهتـا وهي ال تنظـر إ َّيل وأردفت‪:‬‬ ‫هلـا بمناديـل‬
‫‪ -‬ليـس لـك ذنـب يف يشء‪ ..‬وأعـرف أن البنـات كلهـن معجبات بك‬
‫وهلـن حـق‪ ..‬وأنا لـن أجـد يل صدي ًقـا مثلك مهما بحثـت‪ ..‬أتوافق؟‬
‫هنـا‪ ،‬أتذكـر أننـى اعتدلـت يف جلسـتي ليعـود معـاذ إىل أدراجـه مـرة‬
‫أخـرى‪ ،‬بدأت يف اسـتيعاب كل يشء كأين قد مسـني الشـيطان منـذ أن رأيتها‬
‫وهـا قـد اغتسـلت بماء مقـروء عليـه‪ ،‬مـددت يـدي لعقلي والتقطتـه ليعـود‬
‫مكانـه وتعـود معـه األمـور إىل نصاهبـا‪ ،‬رن هاتفي يف تلـك اللحظـة فتناولته‬
‫مبتسما ورددت‪:‬‬
‫ً‬

‫‪- 61 -‬‬
‫‪ -‬يف الطريق إليكم‪.‬‬

‫كانـت تنتظـر إجابتي على طلبها‪ ،‬ال أعلـم منطقية طلبها هـذا ومن أين‬
‫جـزارة تلـك التـي متسـك السـكني لضحيتها‬ ‫أتـت بقدرهتـا على طلبـه!‪ ،‬أي َّ‬
‫ظاهـرة إيـاه مبتسـم ًة!‪ ،‬وبرغم كل ذلـك وجدتني أزيـد من بسـمتي وأقول‪:‬‬

‫‪ -‬موافق‪.‬‬

‫تركتهـا واختـذت طريقي جتاه مـكان اجتامعهـم‪ ،‬السير بجانبها خيتلف‬


‫متا ًمـا عـن السير وحـدي‪ ،‬األضـواء التي اشـتهتني منـذ دقائق نفرتنـي اآلن‪،‬‬
‫عيل‬‫وكلما أدنـو من الوصـول اقرتب مـن املكان الـذي تركتهـا فيـه‪ ،‬ال عيب ّ‬
‫أن أقـول ذلـك‪ ،‬فلقـد تركْتني هنـاك أنتظر «سـيناريو» آخر ملا حـدث‪ ،‬وبرغم‬
‫طفلا يمقـت مـن تريـد فطامـه‬ ‫ً‬ ‫قـويت وصمـودي اآلن فأنـا مـا زلـت هنـاك‬
‫غص ًبـا‪ ،‬مـا زلـت هنـاك أنتظـر قوهلـا بأننـي مـن انتظرتـه هـي طـوال حياهتـا‬
‫وعيل‬
‫ّ‬ ‫رسا أننـي جالـس أمامهـا اآلن‪ ،‬هنـاك خطـأ مـا قـد حـدث‬ ‫وحتمـد اهلل ً‬
‫ُ‬
‫ميثـاق عائلتنا املباركـة‪ ،‬املعاقبـة عىل ذنب‬ ‫وحـدي حتملـه‪ ،‬يبـدو أن ذلك هـو‬
‫مل تقرتفـه‪ ،‬ولكـن مـا أن وصلـت إىل أعتـاب مكان اجتماع احتـاد الطلبة الذي‬
‫أرأسـه‪ ،‬حتـى بـدأت يف التقـاط أنفـايس والبحث عن‬

‫هوية القائد املثقف اللبق الذي دهسته برجلها دون أن تدري‪..‬‬


‫‪ -‬السلام عليكـم يا رفـاق‪ ..‬أعتذر عن تأخيري ً‬
‫أول‪ ..‬وثان ًيا اشـتقت‬
‫إليكـم مجي ًعا‪.‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫ٍ‬
‫بسامت لطيفة لريد أحدهم‪:‬‬ ‫تبدل ضجرهم وانزعاجهم مني إىل‬
‫ً‬
‫أعامل كثرية مؤجلة وننتظر رأيك‬ ‫‪ -‬ونحن اشتقنا إليك يا قائد‪ ..‬لدينا‬
‫فيها‪.‬‬
‫وقالت أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬عدد املجلة األسبوعية سيصدر غدً ا يا قائد ومل تسلمني مقالتك بعد!‪.‬‬
‫رددت وأنا أخرج ورق ًة من حقيبتي‪:‬‬
‫‪ -‬هـذا صحيـح‪ ..‬أعتـذر لذلـك ولكـن املقـال هـذه املـرة كان حيتـاج‬
‫ٍ‬
‫لوقـت طويـل‪ ..‬سـينال إعجابكـم بـإذن اهلل‪.‬‬
‫قالت إحداهن التي كانت جتلس حامل ًة عىل فخذهيا «حاس ًبا آل ًيا»‪:‬‬
‫‪ -‬عن ماذا يا معاذ‪.‬‬
‫ال جيـرؤ أحـد على منـادايت باسـمي هنـا ولكنهـا الوحيـدة التـي تفعل‬
‫ذلـك دون أن ينظـر هلـا أحـد حتـى أنـا‪ ،‬وقبـل أن أرد عليهـا أردفـت هـي‪:‬‬
‫‪ -‬أظنها حبيبتك‪.‬‬
‫اندهش اجلميع منها ونظروا هلا لتكمل ضاحك ًة‪:‬‬
‫‪ -‬ال تندهشـوا‪ ..‬فلـو كانت فلسـطني أنثـى لتزوجها معـاذ‪ ..‬إهنا حبيبته‬
‫التـي يكتـب هلا دون أن ينتظـر منها رد‪.‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫ضحكـوا هـم اآلخـرون ولكنـي مل أضحـك‪ ،‬أوقـن متا ًمـا مـا تعنيـه يف‬
‫كالمهـا‪ ،‬ونظراهتـا تتفحصنـي من رأيس حتـى أمخص قدمي‪ ،‬ولكـي تؤكد يل‬
‫ذلـك أكملـت وهي تبتسـم‪:‬‬
‫‪ -‬نريد أن نسمعه بصوتك‪ ..‬نحب ذلك‪.‬‬

‫أيدهـا اجلميـع يف ذلـك وأنـا مـا زلـت أنظـر هلـا يف صمـت تـام‪ ،‬تدور‬
‫ففتحت‬
‫ُ‬ ‫بين أعيننـا أحاديـث كثرية ال يسـمعوهنا‪ ،‬رف َعـت حاجبيهـا لتنبهنـي‬
‫الورقـة وبـدأت يف القراءة‪:‬‬

‫«باألمـس روادين حلـم متنيـت لو أنه حقيقـة‪ ،‬فلقـد أرسى يب إىل أرض‬
‫املعـاد‪ ،‬أرض الرب‪.‬‬

‫هنـا‪ ،‬وعـد اهلل إبراهيـم وعاهـده على أن تكـون هـذه األرض لنسـله‪،‬‬
‫فهـي أرض املعـاد التـي سـيعودون حتــت قيادة املاش َّيح «املسـيح املخلص»‪،‬‬
‫أي أهنـا األرض التـي ســتشهد هنايـة التاريـخ‪ ،‬هكـذا قـال اليهود‪.‬‬

‫ولكنــى مل أرى منهــم أحــدً ا!‪ ،‬فلقــد طفــت فلســطني كلهــا ومل أرهــم‪،‬‬
‫أيضــا‪ ،‬أين شــعب اهلل املختــار؟! ال‬
‫بحثــت عنهــم حتــت الــراب ومل أجدهــم ً‬
‫أرى ســوى شــجر الزيتــون واألطفــال حتتــه يعــرون ويأكلــون كمواطنــن‬
‫اجلنــة‪ ،‬تتبعــت أرساب الطيــور حتــى وصلــت إىل ســاحة القــدس‪ ،‬اجلميــع‬
‫ـر األقــى‬ ‫ـب حلــدث عظيــم‪ ،‬حتــى ظهــر أمامنــا رجــان كـ ّ‬ ‫جالــس ومتأهـ ُ‬
‫حتيـ ًة هلــم‪..‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫بدأ أصغرمها سنًا باحلديث ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫وسـورها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الـدار قانـون األعادي‬ ‫دار احلبيـب َفر َّدنـا‪ِ ..‬‬
‫عن‬ ‫مررنـا على ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َف ُق ْل ُ‬
‫ورها؟‬
‫حين ت َُز ُ‬
‫َ‬ ‫القـدس‬ ‫ـي ن ْع َمـ ٌة‪ ..‬فامذا ت َ‬
‫َـرى يف‬ ‫ـت لنفسي ُربما ه َ‬
‫رد عليه أكربمها سنًا وقال‪:‬‬

‫سري من َز َم ٍن إىل َز َم ٍن بال ذكرى‬


‫السور القدي ِم‪َ ..‬أ ُ‬ ‫يف القدس‪َ ،‬أعني َ‬
‫داخل ُّ‬
‫تاريخ املقدَّ س‪ ..‬يصعدون إىل السامء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُصو ُبني‪ ،‬فإن األنبيا َء هناك يقتسمون‬
‫ت ِّ‬
‫ثار الصغري ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫رش ٌ‬
‫ـاش‬ ‫ِ‬
‫السـوق‪َّ ،‬‬ ‫ـار ًعا يف‬ ‫األحبـاش ُي ْغ ِل ُ‬
‫ـق َش ِ‬ ‫ِ‬ ‫رشطـي مـن‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫القـدس‬ ‫يف‬
‫ٍ‬
‫مسـتوطن مل يبلـ ِغ العرشيـ َن‪.‬‬ ‫على‬
‫أيضا وقال‪:‬‬
‫ثار الكبري ً‬
‫وج ْرحـــي َو ْر َدةٌ‪ ..‬بيضـــا ُء إنجيل َّيـــ ٌة‪،‬‬
‫غـــري‪ُ ..‬‬
‫ْ‬ ‫َأمـــي كأنِّ واحـــدٌ‬
‫ويـــداي مثـــل محامت ْ ِ‬
‫َـــن‬ ‫َ‬
‫األرض‪.‬‬
‫َ‬ ‫عىل الصليب ُت ِّلقان وحتمالن‬
‫صمت الصغري بره ًة ليكمل الكبري‪:‬‬

‫ـر‪َ ..‬أص ـ ُ‬
‫ـر َغ ـ ْـري يف التجــيِّ ‪ .‬ال م ـ َ‬
‫ـكان و ال زم ــان‬ ‫ال أم ــي‪َ ..‬أط ـ ُ‬
‫فم ــن َأن ــا؟‬
‫َأنا ال أنا يف حرضة املعراج‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫قام الصغري وأمسك بيديه علم فلسطني وقال بأعىل صوته‪:‬‬
‫والكتـاب‬ ‫ِ‬
‫املدينـة‬ ‫ِ‬
‫تاريـخ‬ ‫سـطور‬ ‫القبـور‪ ،‬كأهنـ َّن‬ ‫تنتظـم‬ ‫«يف القـدس‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كافـرا أو مؤمنًا‪..‬‬
‫ً‬ ‫فالقـدس ُ‬
‫تقبـل مـن أتاهـا‬ ‫ُ‬ ‫مـروا مـن ُهنـا‪..‬‬‫ترابـا‪ ..‬الـكل ُّ‬‫ُ‬
‫واإلفرنج‬ ‫الزنـج‬ ‫ِ‬
‫األرض‪ ..‬فيها‬ ‫لغـات ِ‬
‫أهـل‬ ‫ِ‬ ‫ُأمـرر هبـا وأقرأ شـواهدَ ها ِّ‬
‫بـكل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫واألتـراك‪ُ ،‬‬ ‫لاب وال ُب ْشـن ُ‬ ‫ِ‬
‫أهـل اهلل واهللاك‪،‬‬ ‫والتاتـار‬
‫ُ‬ ‫َاق‬ ‫والص ْق ُ‬‫ِّ‬ ‫والق ْف َج ُ‬
‫ـاق‬
‫وطـئ ال َّثـرى‪.‬‬
‫َ‬ ‫كل مـن‬ ‫ُ‬
‫والنسـاك‪ ..‬فيهـا ُّ‬ ‫والفجـار‬
‫ُ‬ ‫والفقـرا ُء وامللاك‪،‬‬
‫ثـار اجلميـع لثورته وثـارت معهم دموعـي ألجد ذلـك الصغري يقرتب‬
‫منـي ويقول وهو يشير إ ّيل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫املنسي من ِ‬ ‫ال ِ‬
‫الكتـاب‪ ..‬ال تبك عين َُك أهيـا ال َع َر ِ ُّ‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫متن‬ ‫ُّ‬ ‫تبـك عين َ‬
‫ُـك أهيا‬
‫القدس إال َأن ْ‬
‫ْت‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫القدس لكـ ْن‪ ..‬ال َأ َرى يف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القدس من يف‬ ‫واعلـم أنَّـ ُه‪ ..‬يف‬
‫ْ‬
‫طائـرا ح ًقـا‪ ،‬شـاهدت‬
‫ً‬ ‫ال يمكننـي وصـف شـعوري وقتهـا‪ ،‬كنـت‬
‫شـعرا يف فلسـطني أمامي! وال‬
‫ً‬ ‫«حممـود درويـش» و»متيم الربغوثـي» يقوالن‬
‫أثـر ليهـودي وال المـرأة تبكـي‪ ،‬ال أثـر سـوى لنـا‪ ،‬نحـن امللاك الرشعيـون‬
‫حلما رائ ًعـا جـدً ا وكنت‬
‫للأرض‪ ،‬ندافـع عنهـا حتـى تدافـع هـي عنـا‪ ،‬كان ً‬
‫يف غايـة النشـوة والسـعادة حتى نسـيت أنـى أحلـم‪ ،‬ولكن بائـع اخلرضوات‬
‫ينس ذلـك‪ ،‬وصوت أيب‬ ‫الـذي مـر يف الصبـاح الباكـر حتت بيتـي وأيقظنـي مل َ‬
‫أيضا‪..‬‬
‫ينس ذلـك ً‬ ‫وهـو يسـمع يف التلفاز عن احلصـار وزحف االسـتيطان مل َ‬
‫فلسطني‪ ..‬ستعودي إلينا يا عزيزيت عام قريب‪.‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫رغما عنها‪ ،‬فهي‬
‫صفـق اجلميع بينما أنا أخذتنـي دموعها التي سـقطت ً‬
‫حتـب فلسـطني كما أحبهـا‪ ،‬وددت أن أذهـب هلـا وأحتـدث معهـا يف الاليشء‬
‫كعادتنـا ولكننـي خفـت أن تـدرك حـزين عىل مـا حدث منـذ قليـل‪ ،‬ومل يرتك‬
‫يل هاتفـي فرصـة االختيـار هو األخـر فلقد رن جرسـه يف هذا الوقـت ليظهر‬
‫اسـم والـدي فلملمـت حقيبتـي وأخربهتم أين سـآيت غـدً ا وأمسـكت اهلاتف‬
‫ودار حديثنـا كالتايل‪:‬‬

‫‪ -‬السالم عليك يا شيخ ياسني‬

‫‪ -‬وعليك السالم يا بني‪ ..‬متى ستأيت؟‬

‫‪ -‬لقـد خرجـت مـن اجلامعـة اآلن ويف الطريـق إىل البيـت‪ ..‬أتريـدون‬
‫منـي شـي ًئا أحضره لكم؟‬
‫‪ -‬ال يا بني‪ ..‬ت َ‬
‫َعال بخري فحسب‪.‬‬

‫‪ -‬حسنًا‪ ..‬مع السالمة‪.‬‬

‫*****‬

‫‪- 67 -‬‬
‫قليوب‬
‫أيضـا مجيع من َأحب‪ ،‬أنـا و ُأمته‪،‬‬
‫مسـقط رأس والـدي‪ ،‬ومسـقط رأيس ً‬
‫كما حيب أن يقـول عن والـديت يف غياهبا‪ ،‬أمـا يف حضورها فهي رمحـة‪ُ ،‬أنادهيا‬
‫رمحـة يف معظـم األوقـات‪ ،‬ولكن أحيانًـا ما حيتـم املوقف أن أنادهيـا بـ»أمي»‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وعـي وأقول‪:‬‬ ‫برفق ألسـتيقظ‪ ،‬فأجدين أبتسـم دون‬‫عندمـا هتـزين بيدهيا ٍ‬

‫«صباح اخلري يا أمي»‬


‫وكذلـك عندمـا يشـبه علي بعـض أفـراد عائلتنـا التـي رأيتهـم ٍ‬
‫ملـرة‬ ‫ّ‬
‫نظـرا للشـبه الكبير بيننا‪،‬‬
‫أو مرتين يف حيـايت‪ ،‬يقولـون «أأنـت ابـن رمحـة؟» ً‬
‫فـأرد مؤكـدً ا هلـم» نعم إهنـا أمـي»‪ ،‬ولكـن إذا حتدثت عنهـا فلن أكـن منص ًفا‬
‫أبـدً ا‪ ،‬هـي املوطـن والسـند وكل يشء‪ ،‬يتعجـب البعـض من حـب أيب ألمي‬
‫دائم مـا تقنعنا بأهنـا تكفي‪ ،‬فهـي احلبيبة‬
‫ولكنـي ال أتعجـب من ذلـك‪ ،‬فهـي ً‬
‫والصديقـة واألم واألخـت والبنـت وكل مـا جاز حلـواء أن تكـون‪ ،‬هي رمح ُة‬
‫وليـس هنـاك رمح ٌة سـواها‪..‬‬

‫أمـا عـن ياسين فهـو صديقـي األول والدائـم‪ ،‬مستشـاري الناصـح‬


‫احلكيـم‪ ،‬منبـع ثقافتـي ِ‬
‫وقبلـ ُة طريقـي‪ ،‬هو الـذي مـا أن رآين أخطـئ يقومني‬
‫بطريقـة ال أخطـئ مثلهـا ثاني ًة‪ ،‬فلقـد تعلمت منـه كيف يكـون األب صديق‪،‬‬
‫والصديـق أب‪ ،‬تعلمـت منـه أشـياء كثيرة‪ ،‬أمهها هو أنـه جيوز أنـك قد تفعل‬
‫أشـياء عظيمـة‪ ،‬ولكـن ال أعظـم مـن أن تكـون إنسـانًا ح ًقـا‪ ،‬فوالـدي هـو‬
‫اإلنسـان األول الـذي عرفـت منـه كيف تكـون اإلنسـانية‪..‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫كان جيلـس على األريكـة أمـام التلفـاز يسـمع األخبـار كعادتـه‪ ،‬انتبـه‬
‫لصـوت البـاب وأنـا أفتحـه فذهبـت إليـه وقبلـت يـده وجلسـت بجـواره‬
‫ليقـول‪:‬‬

‫‪ -‬كيف األمور معك يا ُبني؟ هل كل يشء بخري؟‬

‫ربت عىل يده وأجبته‪:‬‬


‫ُ‬

‫‪ -‬احلمد هلل يا أيب كل يشء بخري‪.‬‬

‫سكت ً‬
‫قليل وأردفت‪:‬‬ ‫ُ‬

‫‪ -‬أريد أن أخربك بيشء‪.‬‬

‫انتبه يل وحتسس «الريموت» وأغلق التلفاز ً‬


‫قائل‪:‬‬

‫‪ -‬قل يا ولدي أنا أسمعك‪.‬‬

‫طفت بعيني مجيع أرجاء البيت وقلت‪:‬‬

‫‪ -‬أين أمي يا أيب ال أراها تستقبلني كالعادة؟!‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫‪ -‬نائمة‪ ..‬ولكنها أخربتني أن أوقظها عندما تأيت لتجهز لك الطعام‪.‬‬

‫‪ -‬اتركها نائمة فلست جائ ًعا‪.‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫ظهرت مالمح القلق عليه ليسألني‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا بك يا ُبني أخربين‪.‬‬

‫تنهدت ً‬
‫قليل ليدور بيننا احلديث كالتايل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬ال أعل ــم‪ ..‬وال أدري أأن ــا ع ــى ص ـ ٍ‬
‫ـواب أم خط ــأ‪ ..‬ولك ــن يب ــدو‬
‫ي ــا أيب أنن ــي أحبب ــت‪.‬‬

‫ابتسم ومل يعقب‪ ،‬فأردفت‪:‬‬

‫‪ -‬هـذه املـرة األوىل يـا أيب التـي أتـرك فيهـا الزمـام لقلبـي وال أسـمع‬
‫ٍ‬
‫بقيود مـن الفـل والياسـمني‪ ..‬مل تكن لدي القـدرة عىل‬ ‫لعقلي‪ ..‬كنـت مقيـدً ا‬
‫رأسـا على‬
‫السـيطرة على كل مـا أشـعر بـه‪ ..‬أيقلـب كيـاين وتتغير مبادئـى ً‬
‫ٍ‬
‫امـرأة يـا أيب؟!‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫عقـب ألجل‬

‫صمت ليقول هو‪:‬‬


‫ُ‬

‫‪ -‬وهل أخربهتا؟‬

‫أعلـم أنه لـن يرى ابتسـامتي املنكسرة تلك التي ابتسـمتها بعد سـؤاله‬
‫هـذا ولكنـي موقـن متا ًما أنه قد شـعر هبـا‪ ،‬فأجبتـه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بسـفاهة‬ ‫دائما مـا كنـت أنظـر‬
‫‪ -‬أجـل‪ ..‬ولكـن‪ ..‬تعلـم يـا أيب!‪ً ..‬‬
‫ألصدقائـي هـؤالء الذيـن يبكـون بالليـل وينحبـون عىل فـراق مـن حيبون‪..‬‬
‫كنـت خمط ًئـا‪ ..‬األمـر ليـس هبـذه السـهولة يـا أيب عىل اإلطلاق‪ ..‬أشـعر بأن‬
‫ٍ‬
‫بحـزن ال آخـر لـه يـا أيب‪.‬‬ ‫هنـاك سـكينًا بصـدري يقطـع قلبـي إر ًبـا‪ ..‬أشـعر‬

‫‪- 70 -‬‬
‫ضمنـي إليـه كعادتـه‪ ،‬وبرغـم أن احتضـان األب البنـه غير مألوف يف‬
‫دائم‬
‫عهدنـا الرشقـي‪ ،‬ولكنـه عـودين عىل ذلـك منذ صغـري‪ ،‬فـكان صـدره ً‬
‫هـو ملاذي ومـأواي الوحيد‪ ،‬أحتـدث معـه يف كل يشء وال أخجل منـه أبدً ا‪،‬‬
‫فكنـت قدميـه التـي يميش هبما ويذهـب إىل املسـجد‪ ،‬وعينيـه التـي تدله عىل‬
‫دليلا وكان يل‬‫الطريـق‪ ،‬ويديـه التـي تُبعد عنه العثـرات واألحجـار‪ ،‬كنت له ً‬
‫نب ًيـا‪ ،‬كنت لـه طري ًقـا وكان يل النهاية‪..‬‬

‫‪ -‬يــا ُبنــي‪ ..‬احلــب ليــس حرا ًمــا وال ذن ًبــا‪ ..‬ولكنــه إن كان ســب ًبا يف‬
‫اهلــاك فيجــب علينــا اجتنابــه‪ ..‬منــذ طفولتــك وأنــا أنتظــر ذلــك اليــوم‬
‫الــذي تــأيت فيــه وختــرين أنــك حتــب إحداهــن‪ ..‬ونحــن أصدقــاء كــا‬
‫ـي أن أعلمــك بــأن هنــاك خطــأ وجيــب عليــك‬ ‫تعودنــا‪ ..‬والصداقــة حتتــم عـ ّ‬
‫تداركــه‪ ..‬وال تبتــأس مــن حالــك يــا صديقــي فنحــن رجــال ال يفطــر قلوبنا‬
‫شــي ًئا مهــا عظمــت قوتــه‪ ..‬أليــس كذلــك؟!‪.‬‬

‫ابتســمت لــه مــدركًا مــا يعنيــه‪ ،‬قبلــت يديــه ثــم أويــت إىل الفــراش‪،‬‬
‫أمســكت باهلاتــف ألرى رســائل نصيــة مــن االحتــاد يذكروننــي بســفرنا‬
‫املؤجــل إىل أســوان‪ ،‬أرســلت هلــم رســائل تفيدهــم بتحديــد ميعــاد الســفر‬
‫يف هنايــة األســبوع‪ ،‬خلــدت للنــوم بعــد فـ ٍ‬
‫ـرة طويلــة مــن التفكــر والوجــع‬
‫قــوي جــدً ا وكالم والــدي لــه مفعــول‬
‫ٌ‬ ‫الــذي أجهــل مصــدره‪ ،‬نعــم أنــا‬
‫أيضــا‬
‫الســحر يف قــرارايت‪ ،‬فلقــد اســتوعبته جيــدً ا وفهمتــه وفهمــه عقــي ً‬
‫ولكــن قلبــي يأبــى إال أن يســتمع لصوتــه فقــط‪ ،‬وبعــد التفكــر الطويــل يف‬
‫كيــف سأنســاها وجدتنــي أنتظــر الغــد ألراهــا حتــى بمحــض الصداقــة‬
‫التــي وضعــت حبــي هبــا حتــت اإلقامــة اجلربيــة‪..‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫ـت‬
‫أتــى الغــد ومــا زالــت يب عوالــق مــن األمــس مل تذهــب معــه‪ ،‬ذهبـ ُ‬
‫ـدف واحــد‪ ،‬البــد أن أحمــو الشــهرين املاضيــن مــن‬ ‫للجامعــة وبــرأيس هـ ُ‬
‫ذاكــريت‪ ،‬لقــد اقرتبــت امتحانــات هنايــة العــام الــدرايس وال بــد يل أن أصــب‬
‫تركيــزي كلــه جتــاه الدراســة فلــم يتبــق إال القليــل‪..‬‬

‫وبعـد أن انتهيـت مـن املحـارضات مجيعها ونويـت الذهـاب إىل املكان‬


‫الـذي نجتمـع فيـه‪ ،‬وجدت صديقـة حبيبة تلك؛ تقـف يف نفس املـكان الذي‬
‫كنـت انتظرمهـا فيـه‪ ،‬يبـدو أهنا كانـت تنتظر أحـدً ا‪ ،‬توقعـت أهنا تنتظـر حبيبة‬
‫ولكـن خاب توقعـي‪ ،‬فلقـد كانت تنتظـرين أنا‪..‬‬

‫مررت بجانبها فأوقفتني قائل ًة‪:‬‬

‫‪ -‬أريد أن أحتدث معك بشأن أمر مهم‪.‬‬

‫مهم سـوى حبيبـة‪ ،‬لذا أمسـك عقيل‬ ‫ليـس بينـي وبينهـا أمـر قد يكـون ً‬
‫ٌ‬
‫متعجل ولـدي موعـدٌ مهم باحتـاد الطلبة‬ ‫بلجامـي وأمـرين بـأن أخربهـا بـأين‬
‫ولكنهـا أرصت قائل ًة‪:‬‬

‫أمر مهم جدً ا‪.‬‬


‫‪ -‬لن آخذ من وقتك الكثري‪ ..‬فهو ٌ‬
‫ٍ‬
‫لثـوان‪ ،‬وجـدت أنه ليس مـن اللياقـة أن ترتجاين هبـذه الطريقة‬ ‫فكـرت‬
‫وال أسـمعها‪ ،‬ذهبـت معهـا وجلسـنا بمقربـة مـن املـكان الـذي جيتمـع فيـه‬
‫االحتـاد لكـي ال أتأخر عليهـم‪ ،‬ومـن دون أن تفكر قالت هي فور ما جلسـنا‪:‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫‪ -‬حذرتـك مـن قبـل ولكنـك مل تسـمعني‪ ..‬كنـت أعلـم أن ذلـك‬
‫سـيحد ث ‪.‬‬

‫حافظت عىل هدوئي رغم ضيقي مما تقول وقلت‪:‬‬


‫ُ‬

‫‪ -‬وبام أنك تعلمني أهنا حتب أحدً ا آخر ملاذا مل ختربيني؟!!‪.‬‬

‫قالت‪:‬‬

‫فعلت هلـا كل ما ينسـيها إيـاه ومل أفلح‪..‬‬


‫ُ‬ ‫‪ -‬هـي حتبـه ولكنـه ال حيبهـا‪..‬‬
‫هـي صديقتـي وأختـي وكل يشء بالنسـبة يل‪ ..‬كنت قد يئسـت من أن تنسـاه‬
‫حتـى وجدتـك تفتـح يل با ًبـا آخـر مـن النـور فواربتـه ومل أغلقـه‪ ..‬وأعطـاين‬
‫محاسـك ورفضـك لتحذيـرايت ً‬
‫أملا قو ًيـا يف نجاحـك ‪ ..‬ولكن‪..‬‬
‫صمتت ً‬
‫قليل فقلت أنا‪:‬‬

‫‪ -‬أكميل‪ ..‬ال انتظري سأكمل أنا!‪ ..‬فشلت‪ ..‬أتريدين قول ذلك؟‬

‫هزت رأسها نافي ًة‪:‬‬

‫‪ -‬ال‪ ..‬مل تفشـل‪ ..‬مل تكـن لـك فرصـة املحاولـة مـن األصـل‪ ..‬هـي ال‬
‫حتبـه‪ ..‬هـي مريضـ ٌة بـه‪ ..‬يف الشـهرين املاضيين الذيـن مل تـأيت فيهما قضـت‬
‫أغلبهما يف املشـفى‪ ..‬تسـوء حالتهـا الصحيـة والنفسـية ولـن تتحسـن إال بـه‬
‫وهـو يعلـم ذلـك ويتمتـع بذهلـا‪ ..‬ال أعلـم كيـف أسـاعدها وجئـت إليـك‬
‫لعلـك تسـاعدين‪ ..‬فلقـد فعلـت كل مـا بوسـعي مـن دون فائـدة‪.‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫مل أمتالك نفيس حينها وثرت ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪ -‬ومـا ذنبي أنـا!!‪ ..‬وملـاذا أصلح خ ًطـا مل أرتكبه‪ ..‬ومل َ أسـاعدها وهي‬
‫ال تريـد أن تسـاعد نفسـها!‪ ..‬هـي حر ٌة تفعـل ما تريـد‪ ..‬وكل ما بوسـعي أن‬
‫أفعلـه ألجلها‪ ..‬أن أنسـاها‪.‬‬

‫هزت رأسها نافي ًة بكل ثقة وقالت‪:‬‬

‫‪ -‬لن تنساها‪..‬‬

‫زادت ثوريت‪:‬‬

‫‪ -‬سأنسـاها‪ ..‬وإن كنـت قـد أحببتهـا فـور مـا رأيتهـا فأنـا قـادر على‬
‫كرههـا فـور مـا أقـرر‪.‬‬

‫‪ -‬لن تنساها‪..‬‬

‫قـادرا على‬
‫ً‬ ‫هـدأت هلدوئهـا وثقتهـا‪ ،‬جتـزم بـأين لـن أنسـى ولسـت‬
‫ُ‬
‫تكذيبهـا‪ ،‬مل يكـن أمامـي سـوى أن أقـول هلـا كل مـا بداخلي بوضـوح تـام‪:‬‬

‫أنس سـأكتفي بحبهـا وحدي‪ ..‬لن أنتظـر منها أن‬


‫‪ -‬سـأحاول‪ ..‬وإن مل َ‬
‫حتبني يكفـي أنا‪.‬‬

‫اندهشت قائل ًة‪:‬‬


‫ْ‬

‫‪ -‬أتعي ما تقول؟!‪.‬‬

‫‪- 74 -‬‬
‫ابتسمت وأنا أقوم مستعدً ا للمغادرة‪ ،‬وقلت بكل ٍ‬
‫ثقة وهدوء‪:‬‬ ‫ُ‬

‫حــب لــن يشــاركني فيــه‬


‫ٌ‬ ‫‪ -‬نعــم‪ ..‬ســأحبها وأنــا بمنتهــى القــوة‪..‬‬
‫أحــد‪ ..‬حتــى هــي‪.‬‬

‫غـادرت وأنا أجيب عىل سـؤاهلا بصـدق تا ٍم بصوت‬


‫ُ‬ ‫تركتهـا وغادرت‪،‬‬
‫وكذبـت أنا‪ ،‬فلـم أكن أعي ً‬
‫فعل مـا أقول‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ال تسـمعه‪ ،‬فلقـد صدقت هي‬

‫اجتماع االحتـاد هذه املـرة كان خمتل ًفا‪ ،‬ففـور ما دخلـت عليهم وجدهتم‬
‫يصفقـون ويصفـرون‪ ،‬مل أفهم شـي ًئا حتى وجـدت أحدهم يقول‪:‬‬

‫‪ -‬فاقت ردود أفعال مقالك ما توقعنا‪ ..‬سلمت يداك يا قائد‪.‬‬

‫طارحـــا موضو ًعـــا آخـــر يف رسعـــة‪ ،‬ال أنكـــر أين‬‫ً‬ ‫شـــكرهتم مجي ًعـــا‬
‫ايضـــا مثـــل تلـــك اللحظـــات‪ ،‬ال أحـــب املـــدح‬ ‫اكـــره االضـــواء واكـــره ً‬
‫وخاصـــة عـــى مـــا أكتبـــه‪ ،‬لـــذا؛ رأيتهـــا تبتســـم مـــن نفـــس مكاهنـــا‪،‬‬
‫فه ــي تفه ــم ذل ــك‪ ،‬كان ــت جتل ــس يف نف ــس امل ــكان الت ــي كان ــت علي ــه‬
‫باألم ــس ناظ ــر ًة إىل «حاس ــبها اآليل» مش ــغولة يف أم ــر م ــا علي ــه‪ ،‬فقل ــت‬
‫وأنـــا أقـــف يف منتصفهـــم مجي ًعـــا‪:‬‬

‫شــكرا لكــم مجي ًعــا‪ ..‬هــذا ليــس بمجهــودي وحــدي ولكنكــم‬ ‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫رشكاء يف هــذا‪ ..‬ولكــن دعونــا ننظــر إىل يشء أهــم اآلن‪ ..‬سنســافر أســوان‬
‫يف هنايــة األســبوع‪ ..‬فلقــد تأخــر ســفرنا هــذا العــام والنــاس تنتظرنــا نفعــل‬
‫مــا نفعلــه كل عــام‪.‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫قال أحدهم‪:‬‬

‫‪ -‬لقـد جهزنـا كل يشء وسنسـافر أن شـاء اهلل فجـر اجلمعـة‪ ..‬ومجيعنا‬


‫أيضا‪.‬‬
‫جاهـزون ً‬

‫وافقوه مجيعهم وأومأوا برءوسهم عداها هي لرتفع رأسها قائل ًة‪:‬‬

‫‪ -‬لقـد اعتـذرت عـن السـفر يـا معـاذ‪ ..‬صحة والـدي ليسـت مطمئنة‬
‫ألتركـه وحـده وأذهب‪.‬‬

‫كنـت متامسـكًا إىل أقىص درجـة وكأنني‬ ‫ُ‬ ‫ً‬


‫متقبلا عذرها‪،‬‬ ‫هـززت رأيس‬
‫مل ُأقتـل منـذ حلظـات‪ ،‬اتفقنا مجي ًعا عىل كل يشء وغادرنا لنسـتعد للسـفر فلقد‬
‫كنـا بالثالثـاء ومل يتبقـى سـوى يومين‪ ،‬بـاءت يل تلـك الفرصـة مناسـب ًة جدً ا‬
‫ٍ‬
‫مكان لـه معز ٌة‬ ‫ألطـوي مجيـع ما حـدث وأذهب‪ ،‬وخاصـ ًة إذا كان السـفر إىل‬
‫خاصـة بقلبـي‪ ،‬زهرة اجلنوب‪ ،‬أسـوان‪.‬‬

‫*****‬

‫‪- 76 -‬‬
‫عـدت بعقلي فقـط‪ ،‬تركنـي قلبـي‬ ‫ُ‬ ‫عـدت للبيـت‪ ،‬ولكـن هـذه املـرة‬‫ُ‬
‫عـم‬ ‫ِ‬
‫معهـا ومل يـأت معـي‪ ،‬سـيطر الشـتاء على مجيـع الفصـول مـر ًة أخـرى‪َّ ،‬‬
‫وجـع‬
‫ٌ‬ ‫أصبحـت ال أرى غيره‪ ،‬هنـاك‬
‫ُ‬ ‫السـواد على كل األلـوان التـي أراهـا‪،‬‬
‫ً‬
‫منعزل‪،‬‬ ‫يعتصرين مـن الداخل وال أقـوى على مواجهته‪ ،‬أصبحـت صامتًـا‪،‬‬
‫مكترث بمن يتصـل‪ ،‬حتى والـدي ورمحة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ببالهة شـديدة غري‬ ‫أنظـر هلاتفـي‬
‫مل يعرفـا شـي ًئا عـن ما حيـدث بداخلي‪ ،‬وصديقتـي املقربـة التـي مل أخربها أي‬
‫يشء عـن حبيبـة من األصـل‪ ،‬وكان مبرري الوحيـد هو ضغـط االمتحانات‬
‫وقلقهـا‪ ،‬مل يصدقـوين ولكنهـم جـاوزوا ذلك عندما وجدوين أسـتعد للسـفر‬
‫كثيرا ولكني مل ُأشـعرهم بذلـك‪ ،‬كان احلزن قد‬ ‫ً‬ ‫إىل أسـوان‪ ،‬كنـت أحتاج هلم‬
‫ألحـد يف مشـاركتي لـه‪ ،‬فوحدنـا نعلـم مـاذا يفعل يب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أقنعنـي بأنـه ال ذنـب‬
‫قـاس جـدً ا إىل درجـة أنـه ال يفارقني حتـى يف نومـي‪ ،‬أصبحنـا أصدقاء‬ ‫ٍ‬ ‫فهـو‬
‫رغـم تنافـر قلوبنـا إن كان لـه قلب‪..‬‬

‫سـافرت ألسـوان‪ ،‬وأنـا أحـاول بأقصى مـا عنـدي أن ال يـرون مـا يب‬
‫ٍ‬
‫بحرفيـة بالغـة بني طيـات ابتسـامتي‪،‬‬ ‫مـن وجـ ٍع وحـزن‪ ،‬كنـت أخبئ ذلـك‬
‫ولكنـي ال أنكـر أبـدً ا بـأن تلك الرحلـة قد أخـذت من حـزين الكثير‪ ،‬مل ِ‬
‫ينته‬
‫ٍ‬
‫ملـكان حتبه فسـوف يتبـدل حزنك‬ ‫أعلـم ذلـك ولكـن إذا ما شـاركت حزنك‬
‫إىل اسـتمتا ٍع باحلـزن‪ ،‬فهـي أسـوان‪ ،‬القطعـة املباركـة مـن نامـوس الراحـة‬
‫النفسية‪..‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫فهي زهرة اجلنوب‪ ،‬املتجر الفريد من نوعه‪ ،‬بد ًءا من األثواب النوبية‬
‫كثريا عن‬
‫وناسها اللذان ال خيتلفان ً‬
‫اجلميلة‪ ،‬انتها ًء بقطع اآلثار املقلدة‪ ،‬وبيوهتا ُ‬
‫تلك اآلثار‪ ،‬ولكنها آثار حية‪ ،‬ليست مقلدة‪ ،‬فهي حقيقية‪ ،‬وحقيقية جدً ا‪..‬‬

‫طقسـها ومجـال الطبيعـة هبـا لن جتد مثلهما أبـدً ا حتى وإن طفـت العامل‬
‫مرتين أو ثالثـة‪ ،‬أما عن آثار قدمائنـا العباقرة‪ ،‬فاآلثار هنـا هلا مالمح خاصة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫تقـارب يلتقـط صـور ًة‬ ‫امتزاجـا تا ًمـا مـع مالمـح مواطنيهـا يف‬
‫ً‬ ‫فهـي متتـزج‬
‫طبيعيـ َة للحياة‪ .‬ستشـعر وأنت تـزور آثار قدمائنـا املوجودة هنـاك‪ ،‬أنك ترى‬
‫بعينـك لوحـ ًة يتداخل فيها اإلنسـان واملكان ليكونوها هبذا الشـكل املتناسـق‬
‫بأرحييـة تامـة‪ ،‬ومـن بني تلـك املعابـد معبد «كـوم أمبـو»‪ ،‬الذي يعـود تارخيه‬
‫إىل عـام ‪ 180‬قبـل امليلاد لعبـادة اآلهلة «سـبك وحـورس»‪ ،‬وهـو يوجد عىل‬
‫ربـوة عاليـة تطل على هنـر النيل‪ ،‬ويمتـاز بنقـوش جدرانـه البـارزة‪ .،‬وهناك‬‫ٍ‬
‫أحـب املعابـد لقلبـي؛ معبـد «إدفـو» الـذي يعد مـن أمجلهـم وأزهاهم‬‫ُ‬ ‫أيضـا‬‫ً‬
‫على اإلطالق‪ ،‬فهـو جيمع بني الطـراز الفرعـوين واليوناين‪ ،‬وقد أنشـئ لعبادة‬
‫اإللـه «حـورس» و ُيـروى على جدرانه قصـة احلرب الشـهرية بينـه وبني عمه‬
‫ٍ‬
‫قصـاص فـاز هبـا «حـورس» يف النهايـة‪ ،‬وهنـاك‬ ‫«سـت» إلـه الشر‪ ،‬حـرب‬
‫أيضـا معبـد «فيلـه»‪ ،‬وهـو معبـد اآلهلة «إيزيـس»‪ ،‬رمـز احلب والوفـاء‪ ،‬تلك‬ ‫ً‬
‫التـي طافـت مصر كلهـا لتجمـع أشلاء جسـد زوجهـا «أوزوريـس» الذي‬
‫منتقما لوالـده‪ ،‬وهنـاك‬
‫ً‬ ‫قتلـه أخـوه «سـت»‪ ،‬وجعلـت مـن ابنهـا «حـورس»‬
‫أيضـا من املعابـد الصغرية‪ ،‬مثل معبـد «أمنحوتب الثالـث»‪ ،‬و»هيكل‬ ‫العديـد ً‬
‫حتـوت»‪« ،‬املعبد البطلمـي»‪ .‬والكثري والكثير من اآلثار التـي تقطن بوجداين‬
‫وأحفـظ تفاصيلهـا كام أننـي قد ولـدت هنا‪..‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫تلـك هـي املدينـة التـي أهواهـا وأهـوى مجيـع مـن هيواهـا‪ُ ،‬سـكاهنا‬
‫اجلُ َملاء‪ ،‬املعنـى احلقيقـي للطيبـة واإلنسـانية واجلـود‪ ،‬أعشـق سمارهم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫تـراب فيهـا‪..‬‬ ‫وموسـيقاهم‪ ،‬أعشـق النوبـة بـكل ذرة‬

‫ولكـن سـفرنا املفاجئ إىل هنـاك مل يكن للتنزه أو ما شـابه ذلـك‪ ،‬فلدينا‬
‫مهمـة جيب علينـا فعلها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مؤسسة‬ ‫فاحتاد طالبنا ينتمي إىل مجيع املؤسسات اخلريية احلقيقية‪ ،‬ال‬
‫بعينها‪ ،‬فنحن ننتمي للفقراء‪ ،‬للكادحني‪ ،‬لليتامى واملساكني‪ ،‬ننتمي لكل من‬
‫سمعت اهلل يقول يف مجيع كتبه الساموية‪..‬‬
‫ُ‬ ‫يمد يده للمساعدة ومن مل يمد‪ ،‬هكذا‬

‫وسـفرنا ألسـوان بالتحديد‪ ،‬هـو ألنه قـد حدثت هزة أرضيـة أطاحت‬
‫بمعظـم بيـوت أهـل قرية»كوم أمبـو»‪ ،‬وبيوهتـم ليسـت معقـد ُة كبيوتنا نحن‬
‫القاطنين بالقاهـرة وأشـباهها‪ ،‬فبيوهتـم بسـيط ُة كقلوهبـم‪ ،‬يعتربون الشـمس‬
‫هي سـاعتهم‪ ،‬يسـتيقظون هبا وينامـون عندما تأ ُفـل‪ ،‬لذا فلقد قررنـا الذهاب‬
‫ومعنـا بعـض املتطوعني مـن اجلامعـة وأصدقائنا‪..‬‬

‫وبرغ ــم أن ه ــؤالء املترضري ــن ق ــد ال جي ــدون طع ــام الغ ــد‪ ،‬يقدم ــون‬
‫بنفـــس راضيـــة‪ ،‬يؤثـــرون عـــى أنفســـهم حتـــى وإن‬ ‫ٍ‬ ‫لـــك طعـــام اليـــوم‬
‫صعـــب إىل‬
‫ٌ‬ ‫اشـــتدت حاجتهـــم هلـــذا‪ ،‬كان العمـــل وإعـــادة بنـــاء بيوهتـــم‬
‫ـد كب ــر‪ ،‬ولك ــن تكف ــي ابتس ــامة األطف ــال هن ــاك‪ ،‬تش ــعر بأن ــك تعم ــل‬ ‫حـ ٍ‬
‫عم ـ ً‬
‫ـا عظي ـ ًـا ومقابل ــه أعظ ــم‪ ،‬حت ــى أت ــى آخ ــر ي ــو ٍم لن ــا هن ــاك‪ ،‬أتذك ــر‬
‫تفاصيل ــه كاملــ ًة كأن ــه ق ــد ح ــدث باألم ــس‪..‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫كنـا قـد انتهينـا مـن العمـل يف بيت أحدهـم حتـى أتانا صاحـب البيت‬
‫ٍ‬
‫بمعروف أكرم‪ ،‬اندهشـنا مـن قوله فقال‬ ‫بـرد معروفنـا‬
‫يشـكرنا واقترح علينا َ‬
‫ٍ‬
‫بلكنـة عفوية‪:‬‬

‫‪ -‬سـنذهب بكـم إىل الدرويشـة‪ ،‬فـإن دعاءها مسـتجاب وقلبهـا بباب‬


‫واقـف فاغتنمـوا الفرصة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫السماء‬

‫مل ُيثار فضويل كبقية من معي الذين أرسعوا معه إليها‪ ،‬دخلوا مجيعهم‬
‫وطلبوا منها ما يتمنون حدوثه إال أنا‪ ،‬مال عىل أذين ذلك الرجل ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪ -‬ال تضيع الفرصة‪ ،‬فإهنا درويش ٌة ال تُرد دعوهتا‪.‬‬

‫فدخلـت ومل أكـن مقتن ًعـا بما يقولـون متـام‬


‫ُ‬ ‫مل يكـن هنـاك مـا أخسره‪،‬‬
‫االقتنـاع‪ ،‬وجـدت امرأ ًة أعتقد أهنـا جاوزت السـبعني ربي ًعـا وبجوارها امرأ ًة‬
‫تصغرهـا بأعـوا ٍم ال تُذكـر‪ ،‬قالـت تلـك املـرأة التي جتلـس بجوارها‪:‬‬

‫ادع يا ولدي فهي تسمعك‪.‬‬


‫‪ُ -‬‬
‫أخذت تدور األفكار والدعوات بداخيل‪ ،‬ال أعرف ما أريد!‪ ،‬األفكار‬
‫قليل وأغمض عيني‬ ‫كثرية برأيس وال ينطق لساين بيشء‪ ،‬حتى وجدتني أهدأ ً‬
‫وأقول‪:‬‬

‫‪ -‬قويل هلا أن تدعو يل بأن أجد ما أبحث عنه‪.‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫اندهشت تلك املرأة من قويل فقالت‪:‬‬

‫سم حاجتك يا ولدي!‪.‬‬


‫‪ِّ -‬‬
‫متجها إىل اخلارج وقلت هبدوء‪:‬‬
‫ً‬ ‫ابتسمت وأنا أقوم‬

‫‪ -‬اهلل أعلم مني بام أريد‪.‬‬

‫خرجت ويف ُأذين عبارة أيب تتكرر يف أذين بال انتهاء‬

‫«دع اهلل خيتار لك‪ ..‬فمن صنع طري ًقا أوىل بإنارته»‪..‬‬

‫انتهت الرحلة‪ ،‬عدنا إىل القاهرة آمنني مطمئنني‪ ،‬ال تزيغ عن قلوبنا‬
‫ابتسامة تلك الوجوه السمراء النقية فرحني بام فعلنا هلم‪ ،‬وتلك العرافة مل تذهب‬
‫كثريا وأستيقظ ال أتذكر شي ًئا مما رأيت‪..‬‬
‫أيضا‪ ،‬تأتيني يف منامي ً‬
‫من رأيس ً‬

‫ويف يو ٍم ما‪ ،‬أتذكر أن صدي ًقا يل قد وسوس له الشيطان يف أذنيه فبال‬


‫هو يف أذين‪ ،‬غوى يل أن هناك مرشو ًبا غاز ًيا يساعد عىل تنشيط الذاكرة وليس‬
‫به كحول‪ ،‬واستدل عىل أن الكحول ُيذهب العقل فكيف ينصحني به ألنشط‬
‫مخرا للمرة األوىل واألخرية يف حيايت‪ ،‬واحتج بأنه فعل ذلك‬
‫ذاكريت!‪ ،‬فسقاين ً‬
‫تقربت‬
‫ُ‬ ‫كثريا‪،‬‬
‫تغريت يف الفرتة األخرية‪ ،‬ساءت حالتي النفسية ً‬‫ُ‬ ‫ألنه رآين قد‬
‫أصبحت قصيدة «وحدك» التي قاهلا «درويش» هي‬ ‫ْ‬ ‫فتقربت مني‪،‬‬
‫ْ‬ ‫من العزلة‬
‫املحرك الرئييس ليومي‪ ،‬لذا فعل ذلك ليساعدين فلم يعد بيننا وبني امتحانات‬
‫هناية العام سوى أيام‪ ،‬وإن كانت نيته صاحلة‪ ،‬ففعله طالح‪ ،‬وانتهت صداقتنا‬
‫من ذلك اليوم‪ ،‬ولكن تأثري اخلمر مل ِ‬
‫ينته يف ذلك اليوم‪ ،‬فأنا أتذكر ما حدث‬
‫يومها و ُيعاد يف ذهني حتى وأنا أكتب اآلن‪..‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫ويـدي جناحان ُأحلـق هبام وأنا‬
‫َّ‬ ‫قدمي ليسـت على األرض‬‫َّ‬ ‫شـعرت أن‬
‫ُ‬
‫على مقعـدي يف املقهى‪ ،‬ال أشـعر بشيء ُيزعجني‪ ،‬فقـط أطري‪..‬‬

‫وظللـــت هكـــذا حتـــى أقلنـــي صديقـــي هـــذا إىل البيـــت‪ ،‬ومـــن‬


‫أبـــواي كانـــا نائمـــن فقـــد كانـــت لتهـــدم بيننـــا أشـــيا ٌء‬
‫َّ‬ ‫ُحســـن احلـــظ أن‬
‫دخلـــت ُغرفتـــي ووجدتنـــي أجلـــس عـــى مكتبـــي‬ ‫ُ‬ ‫لـــن تبنـــى جمـــد ًدا‪،‬‬
‫وكثـــرا حتـــى ب ّلـــت‬
‫ً‬ ‫كثـــرا‬
‫ً‬ ‫وأنظـــر إىل الـــايشء‪ ،‬أخـــذت أضحـــك‬
‫دموع ــي األوراق‪ ،‬تل ــك األوراق الت ــي كان ــت املؤن ــس الوحي ــد لوح ــديت‪،‬‬
‫برشاهـــة يف تلـــك الفـــرة‪ ،‬وحينهـــا َتَّلكنـــي هاجـــس‬ ‫ٍ‬ ‫فكنـــت أكتـــب‬
‫كتبـــت وحتـــوم حـــويل خيـــاالت كل يشء‪ ،‬ياســـن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الكتابـــة فكتبـــت‪،‬‬
‫رمحـــة‪ ،‬صديقتـــي تلـــك‪ ،‬وحبيبـــة‪ ،‬أرى حبيبـــة تقـــف بعيـــد ًة تنظـــر يل‬
‫وتضحـــك‪ ،‬عج ًبـــا للضاحكـــن املمســـكني بأيدهيـــم ســـكاكني تنحرنـــا‪،‬‬
‫ال ختطـــيء عيناهـــا هدفهـــا‪ ،‬تصـــوب أســـلحتها ناحيتـــي بدقـــة مذهلـــة‪،‬‬
‫را‪ ،‬ولك ــن هن ــاك‬ ‫كل ــا حاول ــت الوق ــوف ترمين ــي بس ــه ٍم يب ــر قدم ــي بــ ً‬
‫حلظــ ُة تتج ــى فيه ــا الق ــوة للم ــرىض واملس ــاكني‪ ،‬منه ــم م ــن هي ــرع إليه ــا‪،‬‬
‫والكثـــر ال يملـــك شـــجاع ًة تُبعـــده عـــن مرضـــه‪ ،‬هنـــاك مـــن يتـــداوون‬
‫بالـــداء‪ ،‬ولكـــن شـــاء اهلل حينهـــا أن أخطـــوا خطـــو ًة للنســـيان والشـــفاء‪،‬‬
‫فوجدتنـــي أكتـــب بيـــدي حينهـــا املشـــهد األخـــر‪..‬‬

‫« ليست النهاية ‪..‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫أكتــب ِ‬
‫لــك بعــد مــا ظننــت أين ســأذهب بعيــدً ا‪ ،‬بعــد مــا قــررت‬
‫أن أتوقــف عــن ممارســة كل مــا ُيشــعرين بــأين مــا زلــت ح ًيــا‪ ،‬ســأعتزل‬
‫ديــرا لــن يدخلــه ســواي ‪ ..‬هــا أنــا ألــوح‬
‫النــاس إذن‪ ،‬وأبنــي هاهنــا ً‬
‫ٍ‬
‫لشــخص آخــر‪،‬‬ ‫أراك هنــاك تلوحــن بالــوداع‬‫لــك مــن عــى شــاطئي‪ِ ،‬‬‫ِ‬
‫أقــرؤك الســام يــا مــن جعلتنــي أؤمــن بنفــي ثــم هديتنــي إىل طريــق‬
‫ٍ‬
‫رجــل‬ ‫الكفــر األبــدي‪ ،‬ســا ًما يليــق بوجعــي بعــدك‪ ،‬ســا ًما مــن‬
‫قــد ظــن أن القلــم واخليــال ســاحه وقوتــه فقــرر أن يتجــرد منهــا ‪..‬‬

‫لــن تنســيني‪ ،‬فلــم ُأخلــق ألُنســى‪ ،‬أنــا عــى يقــن بأنــك‬


‫مازلــت تســتمعني لـــ جاهــدة‪ ،‬وجتلســن بمفــردك بــن أيــادي‬ ‫ِ‬
‫أظنــك أقلعتــي عــن قهــوة ترشبينهــا بمفــردك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عودتــك‪،‬‬ ‫الظــام كــا‬
‫أيضــا تشــتاقني يل ولكنــي أثــق ‪-‬آســ ًفا‪ -‬بــأن ذلــك‬ ‫وأظنــك ً‬
‫لــك أبــدً ا‪ ،‬أقســم ِ‬
‫لــك هبــذا ‪..‬‬ ‫القلــب الــذي هزمنــي لــن ينتــر ِ‬
‫هــا أنــا ذا‪ ،‬ذلــك الرجــل املســموع قلمــه‪ ،‬الــذي تذهــب األضــواء معــه‬
‫حيــث ذهــب‪ ،‬أبكــي بصــوت ال يســمعونه‪ ،‬ومــن هنــا غــري حتــى‬
‫ديــرا كــا ظننــت!‪ ،‬ويبــدو‬
‫يســمع!‪ ،‬يبــدو أن غرفتــي قــد أصبحــت ً‬
‫أننــي مل أفلــح يف انعــزايل عــن كل يشء‪ ،‬أكتــب اآلن وأنــا أحبــس كلــايت‬
‫عــي إراديت اآلن‪ ،‬مــا زلــت‬
‫ّ‬ ‫أن تقــول مــا ال أريــد قولــه‪ ،‬أقــول مــا متليــه‬
‫ح ًيــا‪ ،‬ســأظل أكتــب‪ ،‬ســأظل أحيــا رغــم أنفــك‪ ،‬لســت قو ًيــا كــا‬
‫تعلمــن ولكنــي لســت هبــذا الضعــف أبــدً ا‪ ،‬كنــت أحتــاج فقــط لفرصــة‬
‫ً‬
‫ســبيل بعيــدً ا عــن ســبلك الواهيــة أللقــاين‪ ،‬كنــت أفتقــر إىل‬ ‫كــي أجــد‬
‫دليــل قاطــع بــأين نبــي ولــدي ذو رســالة فــا وقــت لــدي لالستســام‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫‪- 83 -‬‬
‫ال أمتلك خيار االنسـحاب‪ ،‬أردت شي ًئا جيعلني أؤمن بنفيس جمد ًدا ووجدته ‪..‬‬
‫سأكتب‪ ..‬سأظل أكتب فإهنا ليست النهاية‪..‬‬
‫ُ‬
‫فـإين أراهـا تأتينـي كل يـوم تأتينـي يف منامي متسـك ِ‬
‫بيـد تلـك العرافة‬
‫ولكنـي ال أحـدد مالحمهـا‪ ،‬ولكني أعرفهـا جيدً ا‪ ،‬فهي ال تشـبه أحـدً ا‪ ..‬فهي‬
‫فريدة‪.‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫هي‪..‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫أنا ال أشبه أحدً ا فأنا فريدة‪ ،‬هكذا قال يل معاذ‪..‬‬
‫ببيت يملؤه الذكور‪ ،‬علمتني أمي كيف أحتمل مسؤولية‬ ‫الفتاة الوحيدة ٍ‬
‫ٍ‬
‫بيت بأكمله وأنا مل أجتاوز العارشة بعد‪ ،‬وكأهنا كانت تعلم بأهنا سرتحل تارك ًة‬
‫زوجا وثالثة أبناء‪ ،‬أنا أصغرهم سنًا ولكن أكربهم ً‬
‫عقل‪..‬‬ ‫ورائها ً‬
‫ٍ‬
‫دائم أن‬ ‫تعلمـت كيـف تكـون األنثـى ُأ ًمـا ألوالد مل تنجبهـم‪ ،‬وأن ّ‬
‫علي ً‬ ‫ُ‬
‫أعطـي كل مـا عنـدي دون أن أنتظـر أن آخذ شـي ًئا‪ ،‬تعلمت كل ذلـك دون أن‬
‫أعلـم عني شـي ًئا‪..‬‬
‫دائم‬
‫مهندسـا بـ»مصر للطيران»‪ ،‬وبرغـم أننـي كنـت ً‬ ‫ً‬ ‫يعمـل والـدي‬
‫أهـوى أن أذهـب معـه إىل عملـه وأرى الطائـرات حتلـق يف السماء‪ ،‬مل أجـرؤ‬
‫ً‬
‫خيـال‪..‬‬ ‫على الطيران أبـدً ا‪ ،‬حقيقـ ًة أو‬
‫كنـت متفوقـة يف الدراسـة يف مجيـع املراحـل‪ ،‬حتى انتهـى يب املطاف إىل‬
‫ُ‬
‫مثـل مـا انتهـى املطاف بـأيب‪ ،‬كلية اهلندسـة جامعـة القاهرة‪..‬‬
‫ولكـن عندمـا حان وقـت اختيار قسـم الدراسـة بالكلية‪ ،‬مل اخرت قسـم‬
‫«امليكانيـكا» كوالـدي‪ ،‬فلطاملا ما كنت أتسـاءل كيف لإلنسـان اآليل أن يكون‬
‫لـه ماهيـ ٌة نعترف هبـا نحـن البشر احلقيقيـون‪ ،‬فوجـدت أن هـذه اإلجابـة‬
‫يمكـن أن أجدهـا يف قسـ ٍم واحـد‪ ،‬قسـم» امليكاترونكس»‪..‬‬
‫ويبـدو أن كـوين البنـت الوحيـدة مل يتوقـف على البيـت فقـط‪ ،‬فقـد‬
‫أيضـا‪ ،‬ومل يدفعنـي ذلـك إىل الرجوع عام‬
‫كنـت البنـت الوحيـدة هبـذا القسـم ً‬‫ُ‬
‫أعرف ما أريـد‪ ،‬يل قدمني ورجلين ورأس مثلام‬
‫ُ‬ ‫اخترت‪ ،‬فأنـا امرأ ٌة مسـتقلة‪،‬‬
‫يمتلـك أبنـاء آدم‪ ،‬ال فـرق بيننـا يف يشء سـوى أهنـم ال يؤمنـون هبذا‪..‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫ِ‬
‫لتعيش‬ ‫دائما أن القراءة هي السـبيل الوحيـدُ‬
‫أعشـق القراءة‪ ،‬فـإين أرى ً‬
‫متفهما واجباتـه وحقوقـه‪ ،‬فأنـا أهـوى القـراءة يف خمتلـف املجاالت‬
‫ً‬ ‫إنسـانًا‪،‬‬
‫مكان خـاص بقلبي‪ ،‬وخاصـ ًة روايات «رضوى‬ ‫ٌ‬ ‫والفـروع‪ ،‬ولكن للروايـات‬
‫ذهبـت معهـا إىل ِغرناطة‪ ،‬وحفظـت تفاصيـل األندلس عن‬ ‫ُ‬ ‫عاشـور»‪ ،‬فلقـد‬
‫وهت بعشـقهام لفلسـطني‪ ،‬ولكن سـيبقى‬ ‫ظهـر قلب‪ ،‬وعشـقت حبها ُملريد‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫كاتبـي األهـم بينهم هـو صديقـي املقرب‪ ،‬معاذ ياسين‪..‬‬
‫ٍ‬
‫خواطـر ويعطيهـا يل ألقراها‪،‬‬ ‫فلقـد احتفظـت بكل مـا كان يكتب مـن‬
‫دائما مـا أهليه عنهـا فال يتذكـر أين احتفظـت هبا‪..‬‬
‫كنـت ً‬
‫ومـن هـذه األوراق مـا عشـقتها وحفظتهـا كأهنـا قـد كُتبـت يل‪ ..‬فأنـا‬
‫دائما قبل أن أنـام‪ ،‬وهو ال يعلم ذلـك‪ ،‬وعندما يتحـدث عنهم أتظاهر‬ ‫أقرأهـا ً‬
‫بـأين قـد نسـيتهم فـور مـا قرأهتـم‪ ،‬مل يكن ينبغـي لـه أن يعلم غير ذلك‪..‬‬

‫وهذا بعض مما كتب معاذ‪:‬‬

‫بعضـا مـن مجالـه‬ ‫ِ‬


‫عليـك ً‬ ‫«وكأن اهلل مل خيلـق غيرك‪ ،‬كأنـه قـد أفضى‬
‫لتصبحين بـه على رأس نسـاء أهـل الدنيـا‪.‬‬
‫ربما تكـون هـذه هـي رسـالتي األوىل ِ‬
‫لـك ولكنـي أؤمـن متا ًمـا أهنـم‬
‫رجلا قـد سـخر‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬
‫سـنوات طويلـة يف إثبـات أن هنـاك‬ ‫سيسـتخدموهنا بعـد‬
‫اهلل لـه مجيـع مقاليـد ومفاتِـح الكتابـة ليكتـب إىل امـرأة ليسـت مـن البشر!‪،‬‬
‫مـن البشر مـن هـم ليسـوا بشرا! نعـم‪ ..‬فأنتـي ال تنتمين سـوى ِ‬
‫لـك‪.‬‬ ‫ً‬
‫مدرجـا معـه بعـض تفاصيلنـا التـي أعـي أنـك‬ ‫لـك خطـايب هـذا‬‫ُأرسـل ِ‬
‫ً‬

‫‪- 87 -‬‬
‫فــور مــا تقرأينهــا ســتبدو نواجــزك يف الظهــور معلن ـ ًة عــن ابتســامة تــرق‬
‫ـك‬‫شمســا يف منتصــف الليــل‪ ،‬هــذا الوشــاح الــذي تركتيــه يل حيمــل رائحتـ ِ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫التــي ال تضــل الطريــق إىل أنفــي أبــدً ا‪ ،‬هــذا الدعــاء الــذي ســمعتك تدعينــه‬
‫يل خلسـ ًة دون أن تعلمــي‪ ،‬هــذا الليــل الــذي قــد تركنــا يف ســاعاته ودقائقــه‬
‫الكثــر مــن ِضحكنــا وحديثنــا الــذي ال ينتهــي إال عندمــا يعلــن الفجــر‬
‫ـث أجلنــاه لليلـ ِ‬
‫ـة املقبلــة‪ ،‬ويــأيت وقــت‬ ‫جميئــه فنتوضــأ بــا تبقــى مــن حديـ ٍ‬
‫ـدر ذلــك الــذي نتناولــه فيجعلنــا ندعــوا لبعضنــا‬‫الصــاة فــا نــدري أي خمـ ٍ‬
‫ـا حتــى نلتقــي يف عاملنــا اآلخــر‪ ..‬عــامل ال يكــون‬‫وننســانا! وال نلبــث طويـ ً‬
‫فيهــا ســوانا‪.‬‬

‫ـك ع ــى وج ــوه مجي ــع‬ ‫ـت يل كث ــرا م ــن مالحم ـ ِ‬


‫أعل ــم أن ــك ق ــد ترك ـ ِ‬
‫ً‬
‫ـكرا ح ًق ــا أم‬
‫م ــن تراه ــم عين ــي ولكن ــى ال أدري أه ــذا تس ــتحقني علي ــه ش ـ ً‬
‫أردت معاقبت ــي! فك ــم ه ــو بائ ــس أن أن ــادي مجيعه ــم باس ـ ِ‬
‫ـمك‬ ‫ِ‬ ‫أن ـ ِ‬
‫ـك ق ــد‬
‫ٌ‬
‫ـك وأن ِ‬
‫أراك يف مجيــع مــا أرى! ال أعلــم ح ًقــا ‪.‬‬ ‫وأن أســمع أصواهتــم كصوتـ ِ‬
‫ه ــذه رس ــالتي األوىل‪ ،‬فلتب ــدأي يف حفظه ــم ورميه ــم ي ــا عزي ــزيت فلرب ــا‬
‫ـك بس ــه ٍم ال تش ــفني‬ ‫ق ــد تق ــع تل ــك الرس ــالة يف أي ــدي إحداه ــن فرتمي ـ ِ‬
‫من ــه أب ــدً ا‪ ،‬ال أنث ــر العط ــر ف ــوق م ــا أقول ــه ولكن ــي ع ــى يق ــن أن نس ــل‬
‫ـا مث ــي ق ــد قصم ــه قلب ــه‬‫ح ــواء ب ــأرسه يتمن ــى أن يكت ــب إلحداه ــن رج ـ ً‬
‫فأصبـــح قو ًيـــا هلـــا وهبـــا وألجلهـــا‪ ،‬وأن ليـــس هنـــاك رجـــل ســـيكتب‬
‫ـك‪ ،‬فإهن ــم ال يمتلك ــون عينً ــا‬ ‫ـرأة أي ــا م ــا كان ــت مث ــل م ــا أكت ــب ل ـ ِ‬
‫الم ـ ٍ‬
‫ً‬
‫ـك هب ــا مث ــل م ــا ِ‬
‫أراك‪ ..‬دمت ــي ُحل ــوة‪».‬‬ ‫يرون ـ ِ‬

‫‪- 88 -‬‬
‫رجلهـا يف أخـرى‪ ،‬حتـى وإن كانت‬ ‫ال أسـوأ مـن شـعور أنثـى يتغـزل ُ‬
‫األخـرى تلـك مـن درب اخليال فقـط‪ ،‬ولكنهـا يف النهايـة أنثـى‪ ،‬واألنثى إذا‬
‫أحبـت فلا مـكان لتـاء التأنيـث يف حياة مـن ُتـب سـواها‪ ،‬فأنا أحبـه‪ ،‬أحبه‬
‫جـدً ا ولكنـه مل يعلـم ذلك‪..‬‬

‫كنـت له كما كان يقول عني أننـي صديقتـه املقربة‪ ،‬املـرأة الوحيدة التي‬
‫تفهمـه دون أن يتحـدث‪ ،‬ذلـك الشـخص الـذي ختـاف أن يربط بينهما رابط‬
‫دائما أنـه خيشـى خسـاريت كام خيشـى خسـارة‬ ‫احلـب فتخسره‪ ،‬كان يقـول يل ً‬
‫دائما ما‬ ‫ٍ‬
‫والديـه‪ُ ،‬يبنـي مـن زاويتـه اخلاصـة‪ ،‬دون عهـود أو روابـط‪ ،‬وكنـت ً‬
‫أوافقـه على ذلـك‪ ،‬وإذا قـال ذلـك أحـد أصدقائنـا مـن بـاب الدعابـة فإنني‬
‫أتظاهـر بسـخافة املوضـوع كما يفعل هـو اآلخـر‪ ،‬مل يفهـم الغبي حينهـا أنني‬
‫أحبـه حتى اشـتكى قلبـي منـه ومني‪..‬‬

‫كنـت أذنًـا صاغيـ ًة لـه‪ ،‬أسـمع الكثير عـن معجباتـه وأضحـك كأن‬
‫الغيرة ال تقتلنـي‪ ،‬و ُيكمـل هـو بسـخافته املعتـادة دون أن ِ‬
‫يـدر ذلـك‪ ،‬حتـى‬
‫كثيرا‪..‬‬
‫ً‬ ‫يفيـض يب الكيـل أحيانًـا وال أضحـك‪ ،‬بـل أضحـك‬

‫صلب‬
‫ٌ‬ ‫كنـت عضو ًة معـه يف احتاد الطلبـة الذي يرأسـه‪ ،‬فهو قائـد ح ًقا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بوجه هيابونه‪ ،‬فكان اجلميـع ينادونه بالقائد‪ ،‬إال أنا‪،‬‬ ‫دائم‬
‫وذكـي‪ ،‬يظهـر للناس ً‬
‫كبريا‪ ،‬ينزوي‬ ‫ً‬
‫طفلا ً‬ ‫فأنـا الوحيدة التـي أرى ما ال يراه اآلخـرون‪ ،‬ال يرون أنه‬
‫بركـن غرفتـه إذا مـا أغضبـه أحدهـم‪ُ ،‬يب ويكـره بطفوليـة تامـة‪ ،‬ال يعرف‬
‫اخلُبـث‪ ،‬يبكـي بمفـرده‪ ،‬أو أمامـي‪ ،‬حيـب اجللـوس وحيـدً ا‪ ،‬أو معـي‪ ،‬فمهام‬

‫‪- 89 -‬‬
‫كانـت شـدته وبأسـه فهـو يعلـم أين أراه مـن دون حجـاب‪ ،‬أسـمعه دون أن‬
‫خيبرين‪ ،‬أشـعر بـه دون أن يكـون أمامـي‪..‬‬
‫ٍ‬
‫امرأة أخرى‪ ،‬مل أخبره بذلك وانتظرت‬ ‫كنـت أعلـم أنه قد وقع يف حـب‬
‫منـه أن يفعـل ذلك ولكنه مل يفعـل‪ ،‬ال أعلم مما خاف ولكنـي انتظرته‪ ،‬انتظرته‬
‫وأنـا أعلـم أنـه سـيعود إ َّيل يف النهاية‪ ،‬هكـذا سـمعت «جاهدة وهبـة» تقول‪،‬‬
‫قالـت يل ذلـك وأنـا ممسـك ًة بإحدى أوراقه أشـم رحيـه فيها‪ ،‬كانـت تقف عىل‬
‫َ‬
‫«وهتجرك النسـاء‬ ‫بمقربـة مـن قلبـي وغنَّت منكسرة‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫حافـة سماعات األذن‬
‫منكسرا إ ّيل»‪ ،‬فصدقتها‪ ،‬وانتظرت‪ ،‬مل أسـافر معه إىل أسـوان‬ ‫ً‬ ‫مجيعهـم وتعـود‬
‫أيضا كنـت بأمس احلاجـة إليه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫رغـم إحسـايس ا ُمللـح بأنـه بحاجـة إ َّيل‪ ،‬وأنـا ً‬
‫ولكـن سـوء حالـة والـدي الصحيـة منعتنـي مـن السـفر معهـم‪ ،‬وكلما كان‬
‫ٍ‬
‫لبعض‬ ‫يـزداد اشـتياقي لـه كنت أد ُعو لـه بأن هيديـه اهلل إ ّيل‪ ،‬وإن كنـا ال نصلح‬
‫فلريمـي اهلل يف قلوبنـا اهلدايـة والصلاح‪ ،‬فأنـا ال أريـد سـواه‪ ،‬هـو آدم ببنيـه‬
‫بـكل نسـله‪ ،‬هـو الوحيد الـذي لـه الوالية عىل قلبـي وال أريـد غريه‪..‬‬

‫كثيرا وال أخبره‪ ،‬أعانقـه عندما أحتـاج لعناقه‬‫ً‬ ‫كان يأتينـي يف أحالمـي‬
‫نمـت كعـاديت وأنـا أحتضـن ورقـ ًة قـد كتبهـا‬
‫ُ‬ ‫دون أن يشـعر‪ ،‬يف ٍ‬
‫مـرة منهـم‪،‬‬
‫ونسـيها معـي‪ ،‬أعتقـد أن تلـك املـرة كانـت يف سـفريته تلـك‪ ،‬كنـت افتقدته‬
‫بشـدة فأتـاين يف رؤيـاي‪ ،‬أتذكـر ذلـك احللـم جيـدً ا‪ ،‬كنـت نائمـ ًة على كتفـه‬
‫ٍ‬
‫هـدوء يسـحرين‪..‬‬ ‫وكان يمسـك نفـس الورقـة ويتلوهـا يف‬

‫‪- 90 -‬‬
‫لك هذا اخلطاب ع ّلني أجد رحيك‪ ،‬ع ّل ِك ختضعني ملا‬ ‫« ُأرسل ِ‬
‫قوة لتقفني هنا!‬‫قلبك وهترعي إيل بكل ما أوتيتي من ٍ‬ ‫ِ‬ ‫عليك‬‫ِ‬ ‫يمليه‬
‫ّ‬
‫وتعانقيني‪ ..‬تعانقيني حتى يذوب ما بداخلك من خوف‪ ..‬هنا حيث‬
‫ملجأك وأمانك‪ ،‬هنا حيث صدري وأعلم أنك جتيدين التنفس هنا ‪..‬‬
‫كثريا‪ ،‬ولكني مل َأر ُأ ًما تسئم من ولدها أبدً ا إذا‬
‫ً‬ ‫ربام أخطئ يف حقك‬
‫أكرتث بمن يقول كيف‬ ‫ُ‬ ‫فعل مل تفعله!‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫محلها نتيج ُة‬ ‫غضب و َّ‬
‫ِ‬
‫تكوين ُأ ًما لطفل يكربك سنًا‪ ،‬إن األمومة ال تُقاس بالعمر أبدً ا! فلو‬
‫ِ‬
‫النقيض فليس هناك ُأ ًما سواك‪. .‬‬ ‫فلست ُأ ًما‪ ،‬وإن كان‬‫ِ‬ ‫كانت بالعمر‬
‫تشبهك‪ ،‬وأذكري حينها ِ‬
‫أنك قد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أهديتك باقة الورد التي‬ ‫فلتذكرين يوم ما‬
‫ِ‬
‫ذراعيك يل وتعانقيني‪،‬‬ ‫يديك أن تسكن مكاهنا خشية أن تفتحني‬ ‫ِ‬ ‫أجربيت‬
‫ِ‬
‫شعرت بذلك وابتسمت‪ ،‬ربام مثل االبتسامة التي تُرسم عىل شفتيك اآلن ‪..‬‬
‫وبعض من‬ ‫ٌ‬ ‫آت ومعي باقة أخرى من الزهور‪،‬‬ ‫عينيك إذن‪ ،‬فإين ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فلتغمض‬
‫ِ‬
‫فلتغمض عينيك يا صغرييت فإين آت ‪»..‬‬ ‫الشيكوالتة التي هتوينها أكثر مني‪،‬‬

‫وكلام أقرأ ذلك‪ ،‬أمتثل ألمره وأغمض عيني كام أفعل اآلن‪..‬‬

‫شـخصا غري ًبـا ال أعرفه‪ ،‬استسـلم‬


‫ً‬ ‫حتـى عـاد من سـفره‪ ،‬ولكنـه عـاد‬
‫للعزلـة ولكونـه وحيـدً ا‪ ،‬مل يعطني فرصـ ًة ألسـاعده رغم علمه بأين أسـتطيع‬
‫فصمـت‪ ،‬وبداخلي سـكاكني ال تبرح موض ًعـا إال وأهنكتـه‬ ‫ُ‬ ‫فعـل ذلـك‪،‬‬
‫وأهلكتـه‪ ،‬وظللنـا هكذا‪ ،‬نتحـادث كاألغـراب‪ ،‬يبعد كلام حاولت اإلمسـاك‬
‫بـه‪ ،‬حتـى أتـى اليـوم الـذي كان كالبرزخ فقسـم حيـايت جزأيـن متناقضني‪،‬‬
‫أتذكـر مـا حـدث يف ذلـك اليـوم كأنـه قـد حـدث باألمس‪..‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫أتذكـر أنـه كان يف أواخـر ديسـمرب‪ ،‬حتديـدً ا يف الثالـث والعرشيـن منه‪،‬‬
‫كان الوضـع قـد بقـي عىل مـا كان عليه بعد عودتـه من السـفر‪ ،‬ومل يكن بيدي‬
‫غجـري ومالحمها‬
‫ٌ‬ ‫شـي ًئا ألفعلـه‪ ،‬وكان يل فترة قبلهـا أرى يوم ًيا امرأة شـكلها‬
‫غير واضحـة‪ ،‬تأتينـي ومتسـك بيـد أحـد وتشير إ ّيل‪ ،‬كان يتكرر ذلـك احللم‬
‫كثيرا‪ ،‬ولكنـي مل أكن أبايل بذلك‪ ،‬شـأنه شـأن األحلام التي نراها ونسـتيقظ‬ ‫ً‬
‫غير متذكريـن أ ًيا منهـم إال إذا رأينـا شـي ًئا يذكرنا هبم‪.‬‬

‫ولكـن يف ذلـك اليـوم كان احللـم خمتل ًفـا‪ ،‬ال بل كانـت الرؤيـة خمتلفة‪،‬‬
‫فلقـد رأيـت تلـك املـرأة تـأيت إ ّيل مبتسـمة‪ ،‬خيلـو فمهـا مـن األسـنان فتبـدو‬
‫أيضـا تلـك املـرة‪،‬‬
‫ضحكتهـا نقيـة وسـحرية‪ ،‬وكانـت مالحمهـا واضحـة ً‬
‫ِ‬
‫حمبوبـك الـذي تنتظرينه‪،‬‬ ‫أيضـا‪ ،‬تقـول يل هذا هـو‬‫ومالمـح مـن متسـك بيده ً‬
‫مجيلا كما اعتـادت عيني عىل رؤيتـه‪ ،‬يرتدي ذلـك القميص‬ ‫ً‬ ‫كان معـا ًذا‪ ،‬كان‬
‫مبتسما‪ ،‬هادئًا‪ ،‬تفوح منـه رحيه التي‬
‫ً‬ ‫الـذي أهديتـه له يف عيـد ميالده السـابق‪،‬‬
‫متيزهـا أنفـي مـن بين آالف الرجال‪..‬‬
‫اسـتيقظت ذلـك اليـوم ِ‬
‫فزعـة‪ ،‬ال أفهـم شـي ًئا‪ ،‬ثمـة يشء مـا حيـدث ال‬
‫أعـرف ماهيتـه‪ ،‬أخـذت األفـكار واهلواجـس تلتهـم عقلي ومل يكـن لـدي‬
‫ً‬
‫طويلا‪ ،‬تكفـل آذان الفجر‬ ‫فرصـة السـتيعاب يشء‪ ،‬ولكنـي مل ألبـث كذلـك‬
‫بإمخـاد كل ذلـك‪ ،‬ومـا كان لتلك احلرائق التي نشـبت برأسـى أن يطفئها يشء‬
‫سـوى الوضـوء‪ ،‬توضـأت وقمت للصالة وبداخلي طمأنينة مل أكـن أعلم من‬
‫أيـن أتـت ولكنـي اآلن أعلم‪..‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫خلـدت للنـوم ثاني ًة‪ ،‬ولكني اسـتيقظت هـذه املرة عىل صـوت هاتفي‪،‬‬‫ُ‬
‫كان معـاذ هـو املتصـل‪ ،‬مل ُأجيـب من املـرة األوىل فلقـد ُ‬
‫كنت فاحتـ ًة عيني عىل‬
‫أخرهـا‪ ،‬فلـم يتصل يب منذ شـهور‪ ،‬وال يـأيت اجلامعة إال قليـل‪ ،‬ولكني أجبت‬
‫من املـرة الثانية‪ ،‬ودار حديثنـا كالتايل‪..‬‬
‫‪ -‬صباح اخلري‪.‬‬
‫‪ -‬صباح النور يامعاذ‪ ..‬كيف حالك؟‪.‬‬
‫ِ‬
‫وأنت؟‬ ‫‪ -‬بخري احلمد هلل‪..‬‬
‫قليل قائل ًة‪:‬‬
‫تنهدت ً‬
‫‪ٍ -‬‬
‫بخري احلمد هلل‪.‬‬
‫صمت ً‬
‫قليل ثم قال‪:‬‬
‫حال من األحوال‪ ..‬البد أن ِ‬
‫أراك اليوم‪.‬‬ ‫‪ -‬أريدُ أن ِ‬
‫أراك اليوم‪ ..‬بأى ٍ‬

‫ُدهشت من إرصاره غري املعتاد فأجبت‪:‬‬


‫‪ -‬خري يا معاذ‪ ..‬أحدث يشء؟‬
‫أعاد ما قاله كأنه مل يسمعني‪:‬‬
‫‪ -‬أريدُ أن ِ‬
‫أراك اليوم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لثوان‪ ،‬ثم قلت له‪:‬‬ ‫فكرت‬
‫ُ‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ..‬سأراك يف اجلامعة‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ..‬مع السالمة‪.‬‬

‫‪- 93 -‬‬
‫أغلقـت اهلاتـف ووجدتنـي بتلقائيـة شـديدة أذهـب إىل «دوالب»‬ ‫ُ‬
‫كنـت أردتيـه يف ذلك احللـم‪ ،‬ومل أكن‬
‫ُ‬ ‫مالبسي وأنتقـي نفس الفسـتان الـذي‬
‫أيضـا‪ ،‬مل‬
‫أفهـم ملـاذا فعلـت ذلـك حتـى رأيتـه‪ ،‬كان يرتـدي نفـس القميـص ً‬
‫ُأخفـي صدمتـي مـن رؤيتـه كذلـك‪ ،‬وعىل الرغـم من أن آخـر مرة رأيتـه فيها‬
‫هنـا كانـت حليتـه كثيفـة وتـدل عىل عـدم اهتاممـه بنفسـه‪ ،‬فإنـه هذه املـرة قد‬
‫دائما أن أراهـا‪ ،‬وعىل عكـس عادته‪ ،‬فـور ما رآين‬‫أتـى مهذ ًبـا إياهـا كام أحب ً‬
‫الكـريس الذي مـن املفرتض أن‬
‫ّ‬ ‫وجدتـه يقـوم مـن جملسـه ليسـتقبلني!‪ ،‬أزاح‬
‫أجلـس عليـه ألجلـس ووجهي ترتسـم عليـه عالمـات الدهشـة‪ ،‬أعرفه من‬
‫سـنوات ولكنـي مل أره هكـذا من قبـل‪ ،‬وجهه ُمرشق‪ ،‬ابتسـامته مضيئـة‪ ،‬ماذا‬
‫حـدث لـه ليصبـح هكـذا؟!‪ ،‬وما الـذي قد سـوء نفسـيته إىل هذا احلـد الذي‬
‫صامت ينظـر إ َّيل يف هدوء‬
‫ٌ‬ ‫كانـت عليه؟!‪ ،‬آالف األسـئلة تـدور يف رأيس وهو‬
‫قطعت ذلـك اهلدوء وسـألته‪:‬‬
‫ُ‬ ‫تـام‪،‬‬

‫‪ -‬أخافتني يا معاذ! ماذا حدث؟‬


‫ابتسم ً‬
‫قليل وقال‪:‬‬
‫ِ‬
‫أخربك إياه‪.‬‬ ‫‪ -‬ال يشء‪ ..‬ولكن حدث معي يشء غريب البد أن‬

‫‪ -‬ماذا حدث؟‬
‫ِ‬
‫عنـك‪ ..‬وال أعلـم ملـاذا مل‬ ‫ِ‬
‫أخبرك بشـأن يشء خبأتـه‬ ‫‪ً -‬‬
‫أول جيـب أن‬
‫ِ‬
‫أخبرك ولكنـي مل تكـن لـدي الرغبـة يف ذلـك‪..‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫ٍ‬
‫لوهلة ثم أكمل‪:‬‬ ‫صمت‬

‫‪ -‬سبب كل ما حدث هو أنني أحببت‪.‬‬

‫جاهدت بأقىص ما عندي ألخبئ ذلك االنكسار الذي اعرتى وجهى‬ ‫ُ‬
‫ونجحت يف ذلك‪ ،‬ما كان لقلب األنثى أن خيطئ يف ذلك أبدً ا‪ ،‬أردف‬
‫ُ‬ ‫فجأة‬
‫ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪ -‬ولكنـه مل يكـن ح ًبـا‪ ..‬كان خطـأ مـن بدايتـه لنهايته‪ ..‬ولكني شـفيت‬
‫لك‪.‬‬‫منه متامـا‪ ..‬والفضـل ِ‬
‫ً‬
‫أرشت بإصبعي إ َّيل مندهش ًة‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪ -‬يل أنا؟!!‪.‬‬
‫رد ٍ‬
‫بثقة بالغة‪:‬‬
‫ِ‬
‫عنـك طوال‬ ‫عرفتـك وأن أخـاف من خسـارتك‪ ..‬وابتعدت‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬منـذ أن‬
‫ِ‬
‫أخرسك‪.‬‬ ‫هـذه الفترة ألين مل أكـن واع ًيا متا ًمـا بام أفعـل‪ ..‬فخفت‪ ..‬خفـت أن‬

‫فقلـت مـن غير‬


‫ُ‬ ‫شـعرت حينهـا أنـه قـد حـان وقـت قـول كل يشء‪،‬‬
‫ُ‬
‫تفكير‪:‬‬

‫علي أن أقـف بجانبـك يف هـذه‬


‫‪ -‬لـن أخسرك مهما حـدث‪ ..‬كان ّ‬
‫الفترة‪ ..‬مـا كان لـك أن تفعـل ذلـك أبـدً ا يـا معـاذ‪.‬‬

‫صعقني ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫‪ -‬املهـم‪ ..‬الشيء الغريـب الـذي حـدث‪ ..‬كنت قد سـافرت ألسـوان‬
‫كما تعلمين‪ ..‬وهنـاك‪ ..‬رأيـت عرافـة أو كما يطلقـون عليهـا درويشـة‪..‬‬
‫وطلبـت منهـا أن تدعـو يل بـأن أجد ما أبحـث عنـه‪ ..‬ومل أكن أعلم مـا الذي‬
‫ُ‬
‫دائما‪ ..‬تأيت وهى‬
‫أبحـث عنـه من األسـاس‪ ..‬ومـن وقتها وأنـا أراها يف املنـام ً‬
‫ُتسـك بيدهـا أحـدٌ ولكن مالحمـه مل تكـن واضحة‪.‬‬

‫طويلا تلك املـرة وعيني جاحظ ًة على آخرها‪ ،‬ال أسـتوعب ما‬
‫ً‬ ‫صمـت‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫معقول ذلـك الذي حيـدث!!‪ ،‬ولكنه مل يكتـف بذلك وقال‪:‬‬ ‫يقـول بتاتًا‪ ،‬غير‬

‫‪ -‬ولكـن اليـوم رأيت مالمـح تلـك الفتاة التي متسـك بيدهيـا‪ ..‬فهي مل‬
‫تشـبه أحـدً ا أبدً ا‪ ..‬فهـي ِ‬
‫أنت يـا فريدة‪.‬‬

‫توقـف الزمـن للحظـات‪ ،‬ال أرى شـي ًئا أمامـي غيره‪ ،‬يبتسـم هبـدوء‬
‫أردت أن أخربه بـأين رأيت مـا رآه بالتفاصيل‬
‫ُ‬ ‫كأنـه مل يفجـر قنبل ًة منـذ ثـوان‪،‬‬
‫نفسـها‪ ،‬وإن كان هـو قـد رأى تلـك الدرويشـة يف احلقيقة فكيـف يل أن أراها‬
‫حللـم‪ ،‬أردت إخبـاره بـكل يشء‪ ،‬عـن األوراق واألحلام وكل يشء‪،‬‬ ‫أنـا يف ا ُ‬
‫ولكننـى وجـدت نفسي أجتاهـل كل هـذا وأطلـق ثـوريت للمـرة األوىل يف‬
‫حيا تى ‪:‬‬

‫‪ -‬معاذ‪ ..‬أنا ُأحبك‪..‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫هو‪..‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫مل تكـن النهايـة‪ ..‬بـل كانـت بدايتي نحـو عاملـي احلقيقى الـذي مل أظن‬
‫يو ًمـا أنـه موجـو ٌد إال يف خيايل احلـامل فقط‪..‬‬

‫أيقنـــت أن حبـــي حلبيبـــة مل يكـــن ســـوى ُســـل ٍم أصعـــد بـــه‬


‫ُ‬ ‫فلقـــد‬
‫إىل أس ــمى درج ــات الف ــوز ب ــكل يشء‪ ،‬فم ــن ذاك ال ــذي يمكن ــه صع ــود‬
‫الس ــفىل‪ ،‬فل ــم يش ــعر آدم باجلن ــة‬
‫الطاب ــق اآلخ ــر دون أن يم ــر بالطواب ــق ُ‬
‫ح ًقـــا إال عندمـــا وطـــأت قدمـــاه األرض‪..‬‬

‫كانـت صديقتـي املقربـة‪ ،‬نتشـارك االهتاممـات والتفاصيـل الصغيرة‪،‬‬


‫وأحيانًـا مـا نتحـدث (بنفـس احلديـث) يف الوقـت ذاتـه‪ ،‬أجلـأ إليهـا يف كل‬
‫يشء‪ ،‬فهـي تعرفنـي أكثـر منـي‪ ،‬ولكنـي سـاعدهتا يف ذلـك‪ ،‬فلقـد تركـت هلا‬
‫أبـوايب مجيعهـا مفتوحـ ًة تدخـل مـن أي األبـواب شـاءت؛ فدخلتهـم مجي ًعا‪،‬‬
‫كثيرا أن تكـون هـي الفتـاة املناسـبة يل‪ ،‬فلـن أجد مـن جييـد التعامل‬ ‫ً‬ ‫فكـرت‬
‫ُ‬
‫معـي مثلهـا‪ ،‬فهـي ذكية‪ ،‬ذكي ٌة جـدً ا وأنا ُأحـب املـرأة الذكية‪ ،‬القويـة‪ ،‬القارئة‬
‫النهمـة‪ ،‬فلقـد ُجعـت فيهـا الصفـات احلسـنة كلهـا‪ ،‬اخللقيـة منهـا ِ‬
‫واخللقية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فهـي املـرأة املثاليـة يف نظري‪..‬‬

‫وبرغـم إيماين بـكل ذلـك؛ مل ُأحبهـا‪ ،‬كنـت أتفنـن يف ممارسـة الغبـاء‬


‫دائما مـا يعانـون من احلب‬
‫فكنـت أرى أصدقائـي ً‬ ‫ُ‬ ‫وأحتجـج بحجـج واهيـة؛‬
‫فكنت أقـول يف قـرارة نفيس لن أقوى على خرساهنا‬ ‫ُ‬ ‫وينتهـي األمـر بالفـراق‪،‬‬
‫كنت‬
‫غم عن إراديت فسـوف يكـون األمر هينًا ولـو قليال‪ُ ،‬‬ ‫وإن حـدث ذلـك ُر ً‬
‫غب ًيـا‪ ،‬غب ًيـا جدً ا‪..‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫وعندمــا ســاءت حالتــي النفســية؛ وجــدت نفــي مــن دون تفكــر‬
‫ـبارا‬ ‫ٍ‬ ‫أهــرع إليهــا‪ ،‬وقبــل أن أدنــو منهــا بشـ ٍ‬
‫ـر واحــد وجدتنــي أتراجــع أشـ ً‬
‫ـاين أنــا عندمــا ال أجلــأ‬
‫ـبارا‪ ،‬مــا ذنــب تلــك لتدفــع ثمــن تلــك‪ ،‬كــم أنـ ٌ‬ ‫وأشـ ً‬
‫إليهــا إال يف أوقــات ضيقــي فقــط‪ ،‬فلقــد أمهلتهــا يف الفــرة القصــرة التــي‬
‫ـف بإمهاهلــا فقــط!‪ ،‬بــل مل أخربهــا عــن ســبب‬ ‫قضيتهــا مــع حبيبــة‪ ،‬ومل أكتـ ِ‬
‫ـوغ وأن قلبــي متعلــق بواحــدة ال ترقــى باملقابلــة‬ ‫إمهــايل و ُبعــدي غــر ا ُمل َسـ َّ‬
‫شــعرت بــأين أحتــاج‬
‫ْ‬ ‫هبــا‪ ،‬وبرغــم كل ذلــك!‪ ،‬مــدت يدهيــا إ ّيل عندمــا‬
‫ـت يدهيــا‪ ،‬كنــت غب ًيــا‪ ،‬غب ًيــا جــدً ا‪..‬‬ ‫إليهــا‪ ،‬فرفضـ ُ‬

‫ـرا‪ ،‬حتــى أتــى الفــرج مــن اهلل‪ ،‬كانــت‬


‫عوقبــت عــى غبائــي هــذا كثـ ً‬
‫تلــك العرافــة تأتينــي يف منامــي متســك بيــد أحــد مــا ولكــن تفاصيــل وجــه‬
‫ذلــك الشــخص مل تكــن واضحــة‪ ،‬وبســبب أين كنــت يف مرحلــة االستشــفاء‬
‫واضحــا‬
‫ً‬ ‫مــن حبيبــة مل أهتــم بتلــك األحــام‪ ،‬حتــى ظهــر ذلــك الشــخص‬
‫أيضــا أرى تلــك العرافــة تبتســم‪ ،‬وذلــك‬ ‫أمــام عينــي‪ ،‬وللمــرة األوىل ً‬
‫الشــخص أعرفــه متــام املعرفــة‪ ،‬إهنــا فريــدة‪ ،‬تبتســم كعادهتــا‪ ،‬ترتــدي نفــس‬
‫الفســتان الــذي أهديتــه هلــا يف عيــد ميالدهــا الســابق‪ ،‬وكانــت تلــك العرافــة‬
‫تشــر إ ّيل وهتمــس هلــا يف أذهنــا ثــم تبتســا ســو ًيا‪ ،‬حينهــا؛ أيقظنــي صــوت‬
‫آذان الفجــر فقمــت هادئًــا مطمنًــا‪ ،‬ومــن الغريــب أين مل أندهــش مــن أن‬
‫تكــون فريــدة هــي الدعــوة املســتجابة‪ ،‬فلقــد أكــدت يل فــرة انعــزايل ذلــك‬
‫ـف مثــي إال أن تكــون حبيبتــه فريــدة‪..‬‬ ‫األمــر‪ ،‬فــا جيــوز ملختلـ ٍ‬

‫‪- 99 -‬‬
‫اتصلــت هبــا يف صبــاح ذلــك اليــوم وقــد نويــت الذهــاب إىل اجلامعــة‬
‫ـرا مــن رؤيتــي هكــذا‪،‬‬‫ـداي كثـ ً‬
‫ـا‪ ،‬فــرح والـ َّ‬ ‫بعــد فــرة انقطــاع دامــت طويـ ً‬
‫ـي اخلنــاق‪ ،‬كنــت متأكــدً ا مــن‬ ‫ِ‬
‫وبرغــم أين مل أحــك هلــم شــي ًئا فلــم ُيضيقــا عـ ّ‬
‫أن والــدي شــعر أن حبيبــة وراء ذلــك وأخــر رمحــة بذلــك لكــي ال تقتحــم‬
‫ـوظ ذلــك الــذي يملــك أ ًبــا مثــل أيب برغــم أنــه ليــس هنــاك‬ ‫ُعزلتــي‪ ،‬حمظـ ٌ‬
‫ورسا‪ ،‬محــدً ا موصـ ً‬
‫ـا إىل‬ ‫رسا وجهـ ًـرا‪ ،‬عالنيــة ً‬ ‫مثلــه أبــدً ا‪ ،‬فاحلمــد هلل عليــه ً‬
‫أن ينتهــي احلمــد‪..‬‬

‫ذهبــت إىل اجلامعــة وانتظرهتــا‪ ،‬وفجــأة؛ وجدت»درويــش» يكمــل مــا‬


‫مل يكملــه يف املــرة األوىل‪ ،‬ليتنــي انتظــرت وقتهــا وســمعت حتذيراتــه‪ ،‬فلقــد‬
‫قــال عــر ذلــك «الراديــو» املوجــود بذلــك املــكان الــذي كنــت فيــه مــع‬
‫حبيبــة يف اليــوم املشــؤوم‪ ،‬قــال خماط ًبــا إيــاي‪:‬‬

‫يبــق غريكــا يف الوجــود‪..‬‬


‫« وانتظرهــا‪..‬إىل أن يقــول لــك الليــل مل َ‬
‫فخذهــا إىل موتــك املشــتهى‪ ..‬وانتظرهــا»‬

‫إرصارا‪ ،‬ولكـن تلـك املـرة أشـعر بـأين‬


‫ً‬ ‫اآلن فهمـت‪ ،‬زادين اإلرصار‬
‫أسير يف الطريـق الصحيح‪ ،‬لسـت قل ًقـا وال خائ ًفـا من يشء‪ ،‬فقـط أنتظرها‪..‬‬
‫حت ــى أت ــت‪ ،‬كن ــت ق ــد رأيته ــا م ـ ٍ‬
‫ـرات كث ــرة‪ ،‬ولك ــن ه ــذه امل ــرة‬
‫ب ــدت خمتلف ــة ع ــن كل امل ــرات الس ــابقة‪ ،‬كان ــت ككل يشء ومل يك ــن يشء‬
‫مثلهـــا‪ ،‬كانـــت املـــرة التـــي أدرك فيهـــا حقيقـــة اســـمها‪ ،‬فهـــي ال تُشـــبه‬
‫أح ــدً ا‪ ،‬فه ــي فري ــدة‪..‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫ٍ‬
‫دهشـة‬ ‫أخربهتـا عـن نبأ رؤياي‪ ،‬توقعت مجيع ردود األفعال يف الدنيا من‬
‫فصدمـت!‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وصدمـة وتعجـب ومل حيـدث يشء منهـم!‪ ،‬صارحتنـي بحبهـا ُ‬
‫والصدمـة الكبرى كانـت عندمـا أخربتنـي بأهنا رأت مثـل ما رأيـت يف اليوم‬
‫والوقـت ذاهتما‪ ،‬مل يكـن ذلـك الشـعور الـذي يمألين جتاههـا حينهـا ح ًبا فلم‬
‫أصارحهـا بذلـك‪ ،‬قد شـغفتها ح ًبـا وقد شـغفني شـغفها فأحببتها‪..‬‬

‫مالـت كفـة احليـاة إىل ناحيتـي‪ ،‬كانـت صديقتـي ح ًقـا ولكـن األمـر‬
‫شـخص يشـاركك أحالمـك‬ ‫ُ‬ ‫خمتلـف‪ ،‬احلديـث خمتلـف‪ ،‬الرابـط خمتلـف‪،‬‬
‫ومهومـك حتـى تفاصيلـك التافهـة‪ ،‬يشـاركك يف كل يشء‪ ،‬يتحكـم قـي‬
‫ِمزاجـك وحيولـه متـى أراد‪ ،‬يعـرف خبايـاك التـي جتهلهـا أنـت عن نفسـك‪،‬‬
‫تصاحلـت بـه مـع العـامل مـن جديـد‪..‬‬
‫ُ‬ ‫فكانـت فريـدة هـى الشيء الـذي‬

‫*****‬

‫متـدارج بني ُعرفنـا وطبعانا الرشقية‪،‬‬


‫ُ‬ ‫أمر‬
‫الصمـت عالمة القبـول‪ ،‬هذا ٌ‬
‫أمـا الرفـض فليس لـه عالمـات‪ ،‬والتمرد يبغـض اجلبنـاء‪ ،‬وأنا مثـل والدي‪،‬‬
‫علي يو ًمـا أن ُأسـاق بجبنهـم املختبـئ يف بنادقهـم اهلشـة‪ ،‬فـإن كان‬
‫ال ينبغـي ّ‬
‫بأسـا‪..‬‬
‫والـدي من أكثـر الذيـن جاهبوا الظلم فأنا أرشسـهم وأشـدهم ً‬

‫‪- 101 -‬‬


‫وأصبحت أرى األشـياء كام جيوز هلـا أن تبدو‪،‬‬‫ُ‬ ‫حتسـنت حالتي النفسـية‬
‫عدت أنشـط مـن ذي قبل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والتفـت ثانيـ ًة إىل مـا كنـت عليـه‪ ،‬بل‬
‫ُ‬ ‫واسـتفقت‬
‫ُ‬
‫آمنـت فريـدة بمبادئـي وقضايـا الوطـن مثلي‪ ،‬مل تكـن من تلـك النسـوة التي‬ ‫ْ‬
‫وازددت‬
‫ُ‬ ‫ختـاف من احلشرات والضوء اخلافت‪ ،‬كانت امرأة قويـة فقويت هبا‪،‬‬
‫وانتشـارا يف كل بقعـة مـن بقـاع هـذا الوطـن ا ُملغتصـب‪ُ ،‬أعلن رفيض‬ ‫ً‬ ‫محاسـ ًة‬
‫وكتبت فيـه «الغضب‬‫ُ‬ ‫ومتـردي عىل سياسـاهتم النجسـة‪ ،‬ال أبـرح موض ًعـا إال‬
‫آت» بينما فريـدة تطيـب اجلـدران بـ»لـن يقفـل بـاب مدينتنـا فأنـا‬ ‫السـاطع ٍ‬
‫ذاهبـ ُة ألصلي»‪ ،‬زرعنـا مبادئنا يف حقـول العامـة واخلاصة وانتظرنـا احلصاد‪،‬‬
‫وعندمـا بانـت أطراف أصابع ثـورة اجليـاع التهمتني الدبابير‪ ،‬مل يفكروا جمرد‬
‫التفكير يف اصطيـاد فريـدة فوالـذي نفيس بيـده لكانـت لتقوم قيامـ ُة صغرى‬
‫كنـت ناشـ ًطا يف اجلامعة مل يتسـ َّن يل زيارهتم‬
‫ُ‬ ‫التـذر منهـم أحدً ا‪ ،‬وبرغـم أننى‬
‫أيضا‪،‬‬
‫مـن قبل‪ ،‬ربما ألنني كنت حمـد ًدا لنطاق حديثـي ومواضيعي‪ ،‬واملـكان ً‬
‫ينصـب جتـاه القضيـة الفلسـطينة‪ ،‬أمـا اآلن فقـد قوت‬ ‫ُّ‬ ‫فاهتاممـي األكبر كان‬
‫شـوكتي واشـتد عـودي‪ ،‬وكانـت زيـاريت األوىل لعـش الدبابير مميـزة عـن‬
‫الحقيهـا‪ ،‬فأنـا أتذكر ماحـدث فيهـا بالتفصيل‪..‬‬

‫صمـت قاتـم‪ ،‬أصـوات أقدا ٍم تـأيت من اخلـارج وال‬


‫ُ‬ ‫طاولـ ُة مسـتطيلة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حلظـة مفاجئة‬ ‫كنـت حماف ًظـا على هدوئـي وثبـايت االنفعـا ّيل‪ ،‬ويف‬
‫ُ‬ ‫يـأيت أحـد‪،‬‬
‫ُفتـح البـاب لتدخـل تلـك القدمـان صاحبـة الصـوت‪ ،‬كانتـا لشـاب يكربين‬
‫بعامين أو ثالثـة على األرجـح‪ ،‬وجهـه بشـوش‪ ،‬ليـس بضخـم اجلثـة كما‬
‫معتـدل يف الطـول والـوزن‪ ،‬دخـل وأغلـق البـاب خلفه‬ ‫ً‬ ‫توقعـت ولكـن كان‬
‫وجلـس أمامـي ليـدور بينـا احلـوار كاآليت‪..‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫‪ً -‬‬
‫أهل بك يا معاذ‪ ..‬ماذا تريد أن ترشب‪.‬‬

‫‪ -‬ال أريد شي ًئا‪.‬‬


‫ٍ‬
‫صـور معينة وأراين‬ ‫قليل ثـم أخرج هاتفـه الذي كان ثابتًـا عىل‬ ‫صمـت ً‬
‫إياهـا‪ ،‬كانـت تلـك الصـور يل‪ ،‬ومجعت بين لقائـايت يف األحـزاب والندوات‬
‫صـورا لفريدة‪ ،‬وأخرى لياسين ورمحـة‪ ،‬وال أعلم‬ ‫ً‬ ‫أيضـا‪ ،‬ثـم أراين‬
‫واجلامعـة ً‬
‫متـى التقطـت كل هذه الصور وكيف أتـوا هبا‪ ،‬فلقد تبقى فقـط أن يريني تلك‬
‫ً‬
‫طفلا ذا عامني أسـتحم يف اإلنـاء األخرض‬ ‫الصـور التـي أخذهتـا يل أمـي وأنا‬
‫املقـدس عندهـا‪ ،‬أراين كل ذلك ثم وضـع هاتفه عىل الطاولة وابتسـم‪ ،‬مل تكن‬
‫توسـمت فيـه شـي ًئا طي ًبا فقـررت حينها‬
‫ُ‬ ‫ابتسـامة صفـراء فأنـا أميزهـا جيـدً ا‪،‬‬
‫معاملتـه كإنسـان ناسـ ًيا كونه واحـدً ا من الدبابير التابعة للغـراب األكرب‪..‬‬

‫قال‪:‬‬

‫‪ -‬نعلـم عنـك كل يشء‪ ..‬وليس عنـك فقط‪ ..‬بل نعلم عـن اجلميع كل‬
‫خـاص به‪ ..‬من يـوم ميلاده إىل أن يموت‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫واحـد منكـم ملف‬ ‫يشء‪ ..‬لـكل‬
‫ٌ‬
‫وهـذه عين ٌة من تلـك امللف‪.‬‬

‫مل ُأعقب فأكمل وهو يميش يف الغرفة‪:‬‬

‫أيضـا يفصـل بين احلـق‬


‫دسـتور حيكمنـا‪ ..‬وهنـاك قانـون ً‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬هنـاك‬
‫والباطـل‪ ..‬ولـك احلريـة يف التعبير عـن رأيـك يـا معـاذ‪ ..‬ولكـن يف حـدود‬
‫احلـدود‪.‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫ٍ‬
‫بسخرية واضحة‪:‬‬ ‫أجبته‬

‫‪ -‬حريـة و حـدود!‪ ..‬كيـف للنواقـض أن جتتمع؟!‪ ..‬فاحلر حـر والعبد‬


‫عبـد‪ ..‬واحلـق حـق والباطل باطـل‪ ..‬كذلك احلريـة ال متت للحـدود بِصلة‪.‬‬

‫ابتسم ابتسام ًة واثقة وقال‪:‬‬

‫ـر ي ــا مع ــاذ‪ ..‬إن مل تك ــن احلري ــة بقي ــود فس ــوف‬
‫‪ -‬خط ــأ‪ ..‬خط ــأ كب ـ ٌ‬
‫تتحـــول الدنيـــا إىل فـــوىض عارمـــة‪ ..‬فـــاألرض حـــر ٌة أليـــس كذلـــك؟!‬
‫فل ــاذا ُخلق ــت اجلاذبي ــة إذن؟!‪ ..‬والش ــمس ح ــر ٌة ألي ــس كذل ــك؟! فل ــاذا‬
‫ال ت ــأيت لي ـ ً‬
‫ـا حت ــى وإن كان ــت ق ــادر ًة ع ــى العم ــل وح ــرة؟!‪ ..‬احل ــر ح ــر‬
‫ـس أب ــدً ا أن للحري ــة قي ــو ُد الب ــد م ــن‬
‫ي ــا مع ــاذ ه ــذا حقيق ــي ولك ــن ال تن ـ َ‬
‫االلت ــزام هب ــا وع ــدم احلي ــاد عنه ــا‪.‬‬

‫ب ــدا أس ــلوبه وهدوئ ــه مرحي ــن بالنس ــبة يل‪ ،‬وبرغ ــم ع ــدم اقتناع ــي‬
‫عـــي رأيـــه ووجهـــة نظـــره‪ ،‬كان يعرضهـــا‬‫ّ‬ ‫البتـــة بـــا يقـــول؛ مل ُيفـــرض‬
‫بأســـلوب حضـــاري كاد يشـــككني أن مـــن أحـــروين إىل هنـــا أخطـــأوا‬
‫ِعـــش الدبابـــر وأتـــوا يب إىل املقهـــى اخلـــاص يب يف وســـط القاهـــرة‪،‬‬
‫ً‬
‫قليـــا ثـــم رددت واض ًعـــا الكـــرة يف ملعبـــه‪:‬‬ ‫فكـــرت‬
‫ُ‬

‫‪ -‬كالم ــك صحي ــح‪ ..‬ولك ــن! ختتل ــف القي ــود باخت ــاف العق ــول‪..‬‬
‫فجميـــع األمثلـــة التـــي طرحتهـــا أنـــت متثـــل حريـــ ًة وقيـــو ًدا عقالنيـــة‬
‫أيضــا‪ ..‬أمــا قيودكــم التــي تضعوهنــا حلريتنــا مــا هلــا‬ ‫ومنطقي ـ ٌة وذا غـ ٍ‬
‫ـرض ً‬
‫بالعقــل مــن يشء‪ ،‬تريدوننــا أن نحبــس أنفاســنا ونتنفــس عــر خوفنــا فقــط‪،‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫نـرى مـن خلـف الضبـاب الـذي تنثرونـه يف كل مـكان‪ ..‬نصحـو مـن النوم‬
‫ٍ‬
‫بسـاقية ال تكـف عن الـدوران إال عندما تـرى ظهرك قـد وهن فتقف‬ ‫لنُربـط‬
‫ٍ‬
‫لثانيـة تودعـك وترحـب ٍ‬
‫بثور آخـر‪ ..‬أهذه هـى احلريـة! أهذه هـي القيود!‪..‬‬
‫أهـذي هي مصر التـي يف خاطري ويف فمـي ويف «املشـمش»!!‪.‬‬

‫قليل وحيد من نربة صوته ً‬


‫قائل‪:‬‬ ‫بدأت ابتسامته يف الذهاب ً‬

‫‪ -‬اهدأ يا معاذ فإن أكملت احلديث هكذا لن خترج من هنا‪.‬‬

‫سكت ً‬
‫قليل وأردف‪:‬‬

‫‪ -‬أنا ال أريدك أن تبقى هنا‪ ..‬أريد مساعدتك فساعدين‪.‬‬

‫مل أتردد للحظة ووجدتني أقول له‪:‬‬

‫نفسـك فأنت منهـم يف النهاية‪..‬‬


‫‪ -‬ال أريد مسـاعدتك‪ ..‬فمهام صلحت ُ‬
‫لن ُيغري إعجايب بشـخصك مـن األمر يشء‪.‬‬

‫مشيرا أنـه ال فائـدة من ذلـك‪ ،‬اجتـه ناحية‬


‫ً‬ ‫ويسـارا‬
‫ً‬ ‫حـرك رقبتـه يمينًـا‬
‫ٍ‬
‫سـجن انفـرادي‪ ،‬وتلـك؛‬ ‫البـاب ونـادى على رجلين ليأتيـان ويأخـذاين إىل‬
‫كانـت املـرة األوىل التـي أرى فيهـا القضبـان حقيقـ ًة غير متخفيـة‪..‬‬

‫*****‬

‫‪- 105 -‬‬


‫السـجن‪ ..‬القضبـان الورديـة‪ ,‬الظلام ا ُملنير‪ ,‬معقـل الالمنتميـون‬
‫احلقيقيـون وأصحـاب القضايـا واهلمـوم‪ ,‬مأوى مـن حيمل على عاتقيه حزن‬
‫ٍ‬
‫عوائق أو مسـافات‪ ,‬هنا‬ ‫ٍ‬
‫شـعب بأكملـه‪ ,‬هنا حيـث نختيل بأرواحنـا مـن دون‬
‫حيـث نجد أنفسـنا‪.‬‬

‫لـن تروا سـجنًا يف السـينامت وما تصـوره الكاميرات ويقـرره املخرج‬


‫احلقيقي يكمـن يف الكواليـس‪ ,‬وراء الكاميرا واألضواء‪,‬‬
‫ّ‬ ‫واملؤلـف‪ ,‬فالسـجن‬
‫فلا تنخدعوا بتلك الصورة التى رسـموها عن السـجن بأنـه عقاب‪ ,‬فالعقاب‬
‫ُ‬
‫تـأكل لتعيـش‬ ‫احلقيقـي أن تنسـى ماهيتـك وإنسـانيتك‪ ,‬سـيحولوك إىل آلـة‪,‬‬
‫ّ‬
‫وتعيـش لتأكل‪ ,‬سترى عبر ثقب الرؤيـة ببندقيتهـم فقط‪ ,‬سـيجعلونك هتمل‬
‫النـور فلا تصدقهـم‪ ,‬فلا تسـتمع إليهـم‪ ,‬فلـك حيـا ٌة واحـدة‪ ,‬إمـا أن حتياها‬
‫راف ًعا رأسـك وإمـا أن تسـجد ألحذيتهـم وتُقبلها‪..‬‬

‫ربما يكـون الوضـع مأسـاو ًيا فقـط عندمـا متتـد أوردة قلبـك خـارج‬
‫السـجن‪ ,‬فهنـاك ُأ ٌ‬
‫ناس مهامهم الرئيسـية يف احليـاة أن يمدونك بالـدم واهلواء‪,‬‬
‫فربما تلتـوي أنابيـب التنفـس تلـك عبر تلـك اجلـدران والقضبـان‪ ,‬ولكنـى‬
‫أشـعر هبم جيدً ا‪ ,‬أسـمع دعاء رمحة‪ ,‬وتشـجيع ياسين‪ ,‬وأرى فريـدة‪ ,‬هي معي‬
‫عيل فعلـه جتاهها‪,‬‬
‫حيثما أذهـب‪ ,‬وفـور ما أخـرج من هنا فأنـا أعلم مـاذا جيب ّ‬
‫كثيرا هنـا‪ ,‬وكلما يزيـد الوقـت تزيـد قـويت وإرصاري‪ ,‬حتى‬
‫ً‬ ‫ولكنـي ظللـت‬
‫علي توخـي احلـذر‬‫أخرجـوين قائلين يل بـأين سـأبقى حتـت أعينهـم فينبغـي ّ‬
‫فاملـرة القادمـة لـن أخـرج كما دخلـت‪ ,‬مل خييفنـي عواؤهـم ذلـك‪ ,‬فسـيبقى‬
‫كالب‪..‬‬
‫ُ‬ ‫الراعـي را ٍع والـكالب‬

‫‪- 106 -‬‬


‫حممـــل بوصايـــا كانـــت مكتوبـــة عـــى جـــدران‬ ‫ٌ‬ ‫خرجـــت وأنـــا‬
‫ُ‬
‫ـررت أن تص ــر‬ ‫الس ــجن‪ ,‬مفع ــم باش ـ ٍ‬
‫ـتياق كب ــر أله ــى ولفري ــدة‪ ,‬ل ــذا؛ ق ـ ُ‬ ‫ٌ‬
‫تل ــك الكلمت ــن كلم ــة واح ــد ٌة وين ــدرج اخل ــاص حت ــت الع ــام‪ ,‬ق ــررت‬
‫ٍ‬
‫عمـــر‬ ‫أن أتـــزوج فريـــدة‪ ,‬فالـــزواج هـــو البدايـــة وليـــس النهايـــة‪ ,‬بدايـــة‬
‫جديـــد مـــع مـــن اخرتتـــه رشيـــكًا لـــك يف كل يشء‪ ,‬وإن كان رشيـــكًا‬
‫مغايـــرا متا ًمـــا بعـــد الـــزواج‪ ,‬فهـــي‬
‫ً‬ ‫لـــك قبـــل الـــزواج فاألمـــر ســـيكون‬
‫حاللـــك إذن‪ ,‬حتتضنهـــا متـــى شـــئت‪ ,‬يراكـــا املجتمـــع فـــر ًدا واحـــدً ا‬
‫ٍ‬
‫لبنـــة ُيبنـــى بعدهـــا البيـــت‬ ‫إذا ذكـــر أحدمهـــا دل عـــى األخـــر‪ ,‬فالـــزواج‬
‫كلـــه‪ ,‬وهـــذا البيـــت هـــو الوطـــن الـــذي يصـــر كوك ًبـــا بعـــد ذلـــك‪..‬‬

‫ـا م ــأه األحب ــاب وأق ــارب األق ــارب‪ ,‬مل‬ ‫رس ــا مجي ـ ً‬
‫تزوجن ــا‪ ,‬كان ُع ً‬
‫ـي فري ــدة‬
‫ـت ع ـ َّ‬
‫ـا صاخ ًب ــا ال نع ــرف في ــه أح ــدً ا‪ ,‬فلق ــد اقرتح ـ ْ‬ ‫يك ــن حف ـ ً‬
‫أن نوف ــر تل ــك املبال ــغ الطائل ــة ونب ــدأ حياتن ــا بمهمتن ــا األساس ــية الت ــى‬
‫ُخلقنـــا هلـــا وألجلهـــا‪ ,‬نعبـــدُ اهلل ونقدســـه ونحبـــه ونحـــب مـــن حيبـــه‪,‬‬
‫ـت ع ــى الف ــور دون تفك ــر‪ ,‬نِع ــم‬ ‫ـت بزي ــارة بي ــت اهلل ِ‬
‫وقبلتن ــا فوافق ـ ُ‬ ‫اقرتح ـ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الزوجـــة الصاحلـــة هـــي‪ ,‬نعـــم املـــرأة زوجتـــي‪ ,‬نعـــم األنثـــى فريـــدة‪..‬‬

‫ـت ق ــد ذهب ــت إىل هن ــاك قب ــل ذل ــك م ــع ياس ــن ورمح ــة ولك ــن‬ ‫كن ـ ُ‬
‫ه ــذه امل ــرة خمتلف ــة متا ًم ــا‪ ,‬وجدتن ــي أق ــف أم ــام بي ــت اهلل وأق ــول «ه ــا ق ــد‬
‫أتيت ــك هب ــا‪ ..‬الش ــكر ل ــك ي ــا ريب عليه ــا»‪ ,‬س ــمعتني وابتس ــمت ودع ــت‬
‫يف رسه ــا دع ــا ًء مل أس ــمعه‪ ,‬فه ــي دائ ـ ًـا م ــا تدع ــو يل دون أن أعل ــم ب ــاذا‬
‫تدع ــو‪ ,‬وال خت ــرين حت ــى وإن س ــألتها‪ ,‬تق ــول ب ــأن ذل ــك بينه ــا وب ــن اهلل‬

‫‪- 107 -‬‬


‫خملـوق آخـر وخالقـه‪ ,‬فكـم هـو ُ‬
‫مجيـل‬ ‫ٍ‬ ‫وال ينبغـي ملخلـوق أن يتدخـل بين‬
‫ُ‬
‫غائـط ىف النـوم ال تـدري‪ ,‬فال‬ ‫بشرا يدعـون لـك وأنـت‬
‫أن تعلـم بـأن هنـاك ً‬
‫دعـوات واسـتجيبت‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫تندهـش بحظـك الطيـب الوفير فجميعهـا‬

‫رجعنـا وقـد بـدأت أشـعر بضعـف عينـي غير املسـوغ!‪ ,‬جتاهلتـه ظنًا‬
‫منـي أنـه مـن قلة النـوم وكثـرة الكافيني‪ ,‬ولكنـه بـدأ ىف التزايد وبـدأت فريدة‬
‫أيضـا بالشـعور بذلـك وتشـاجرت معـي بسـبب إمهـايل ورضورة ذهـايب إىل‬ ‫ً‬
‫تلـق مني‬
‫طبيـب ولكنـي كنـت أرى أن األمـر ال يوجـب كل ذلـك القلـق‪ ,‬مل َ‬
‫وأخربت ياسين‬
‫ْ‬ ‫فائـدة كالعـادة فانتظـرت حتـى ذهبنا سـو ًيا إىل بيتنـا القديم‬
‫ورمحـة بذلـك‪ ,‬أتذكـر صدمتهما جيـدً ا ولكنهما مل ينطقـا بشيء‪ ,‬وألول مـرة‬
‫جيبرين والـدي عىل يشء‪ ,‬أجبرين أن أذهـب للطبيب وأن فريدة حمقـة‪ ,‬مل أعلم‬
‫سـبب قلق ياسين ورمحة هبذا الشـكل حينها حتى أن فريدة نفسـها اندهشـت‬
‫مـن ذلـك‪ ,‬ولكنـى اآلن أعلم‪..‬‬

‫*****‬

‫‪- 108 -‬‬


‫علي أن أحـب أيب لـكل هـذه الدرجـة‪ ,‬مل‬ ‫أخبرين الطبيـب أين مل يكـن ّ‬
‫علي تقليـده ىف كل ما يفعـل‪ ,‬ىف مشـيته وحركاتـه وكلامتـه وثقافته وكل‬ ‫يكـن ّ‬
‫يشء‪ ,‬فأنـا جـز ٌء منـه ولكنـي مل أكـن أعلـم بأنـه هو اآلخـر جـز ٌء مني‪..‬‬

‫خطريا تسـبب ىف فقـدان أبيه حلبيبتيـه‪ ,‬ماذا‬


‫ً‬ ‫مرضـا وراث ًيـا‬
‫شـاب حيمـل ً‬‫ٌ‬
‫عسـاه أن يفعـل؟!‪ ,‬عليـه أن يبكـي ويبكـي وعندمـا ينتهـي من البـكاء يبتدئ‬
‫بـكا ًءا آخـر‪ ,‬ولكنـي مل أفعـل ذلك‪ ,‬ففـور ما أخبرين الطبيب بذلك ابتسـمت‪,‬‬
‫بصـدر رحب‪ ,‬ولكن فريـدة كان تبكي وبشـدة‪ ,‬مل أهناها‬ ‫ٍ‬ ‫قابلـت الوجـع واألمل‬
‫دائما‪ ,‬تركتهـا تُنهـي حزهنـا عىل ما سـمعت حتـى تقف‬ ‫ُ‬
‫أفعـل ً‬ ‫عـن ذلـك كما‬
‫حـرب وهي‬‫ٍ‬ ‫ىف ظهـري صلبـ ًة كما اعتدت عليهـا‪ ,‬فأنـا أعلم أنى على أبواب‬
‫جييش وجنـودي وأسـلحتي وكل يشء‪..‬‬

‫أمل خائ ًبا‪:‬‬ ‫ٍ‬


‫بابتسامة مصطنعه حتمل ً‬ ‫قال الطبيب وهو يوحي‬

‫كثريا عن‬
‫‪ -‬يمكـن لنـا أن نـدرك األمر مـن بدايته‪ ..‬فلقـد تقدم الطـب ً‬
‫زمـن أبيـك‪ ..‬هنـاك عملي ُة جراحيـة يمكن لنا خالهلـا أن نعالج امليـاة البيضاء‬
‫قبـل أن تكثر وتنفصل الشـبكية عـن بعضها‪.‬‬

‫شـعرت بخوفهـا وبقلقها‬


‫ُ‬ ‫أمسـكت فريـدة بيـدي وربتت عليها بشـدة‪,‬‬
‫ْ‬
‫وضعـت يـدي على يدهيـا وأمـأت بـرأيس مواف ًقا‬
‫ُ‬ ‫فابتسـمت أكثـر لتطمئـن‪,‬‬
‫ُ‬
‫نظـرت للطبيـب ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫فهـدأت‪,‬‬
‫ْ‬
‫‪ -‬موافـــق‪ ..‬فـــاهلل معنـــا ولـــن يرتكنـــا أبـــدً ا‪ ..‬وإن كان اخلـــر يف‬
‫ً‬
‫فأهـــا باخلـــر وأهلـــه‪.‬‬ ‫فقداهنـــا‬

‫‪- 109 -‬‬


‫أتذكـــر نظـــرة فريـــدة يل حينهـــا‪ ,‬ق َّبلـــت يـــدي ورأيس ثـــم قالـــت‬
‫وصوهتـــا مـــا زال بـــه ُأثـــر البـــكاء‪:‬‬

‫‪ -‬لن يضيعنا اهلل يا حبيبي‪ ..‬لن يضيعنا اهلل أبدً ا‪.‬‬


‫ٍ‬
‫بشـكل غريـب‪ ,‬ولكن‬ ‫قبـل العمليـة بيومين‪ ,‬متلكنـي هاجـس الكتابـة‬
‫عينـي مل تكـن لتسـاعدين عىل ذلـك فناديت على فريـدة لتكتب يل ما سـيمليه‬
‫وجلسـت بجواري‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫بحنـان بالغ‬ ‫ُ‬
‫ملـك الوحي اخلـاص يب‪ ,‬تقبلـت طلبي‬ ‫علي‬
‫تكتـب مـا أقول‪..‬‬
‫ٍ‬
‫طريق‬ ‫عالق بني النـور والظالم‪ٌ ,‬أقـف ىف منتصف‬‫«أخبرين الطبيـب أين ٌ‬
‫وعيل حماربة السـموم بعبريهـا‪ ,‬أخربين عن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مسـك بيـدي ورد ًة‬ ‫ال أرى آخـره‪ُ ,‬أ‬
‫ٍ‬
‫أشـياء بـدت يل حقيقيـ ٌة كخيالكم الذي أحتكـم فيه اآلن‪..‬‬

‫وأنكـر كل احلقائـق التـي أديـ ُن هبـا منـذ ُولـدت؛ فلقـد قـال يل بـأن‬
‫َ‬
‫ينج من املـوت وقتله‬ ‫الطوفـان قـد طال سـفينة نـوح فأغرقهـا‪ ,‬وأن يوسـف مل ُ‬
‫إخوتـه‪ ,‬وأن كبـش إسماعيل مـازال على قيـد احليـاة‪ ,‬وأن موسـى قـد تناول‬
‫الذهـب ً‬
‫بـدل مـن اجلمـر‪ ,‬ونـار إبراهيـم مل تنطفـئ‪ ,‬ودآبـة سـليامن مل تـأكل‬
‫ِمن َْس َـأ َت ُه فلـم تقـع عصـاه‪ ,‬وأن يونـس بقي وحـده ىف السـفينة وال يعلم شـي ًئا‬
‫عـن حوتـه‪ ,‬وأن عيسـى قد ُصلب ومل ُيرفع إىل السماء‪ ,‬أخبرين الطبيب أن آدم‬
‫ٍ‬
‫بحساسـية مـن التفاح فلا يأكلـه‪ ,‬أخبرين أننا سـنولد قري ًبـا ىف اجلنة‬ ‫ُيصـاب‬
‫فلننتظر‪»..‬‬
‫*****‬
‫‪- 110 -‬‬
‫حد ما‪ ,‬رائحة اخلوف تتناثر ىف األرجاء‪ ,‬أصوات‬‫األجواء مضطربة إىل ٍ‬
‫يتبق‬
‫خفقات ياسني ورمحة تستقر ىف أذين‪ ,‬ويدا فريدة تعزلني عن كل ذلك‪ ,‬مل َ‬
‫ُ‬
‫وأدخل غرفة العمليات لتُجرى تلك العملية اجلراحية الدقيقة‪,‬‬ ‫سوى دقائق‬
‫رأيت حويل‬
‫ُ‬ ‫فابتسمت‪,‬‬
‫ُ‬ ‫ووجدت نفيس ىف غرفة العمليات «ب»‬
‫ُ‬ ‫مروا رسي ًعا‬
‫ّ‬
‫هائل من األطباء واملستشارين‪ ,‬وآخر يستعد للتصوير بكامريا «فيديو»!‪,‬‬ ‫لفيف ٌ‬‫ٌ‬
‫علمت حينها أن العملية نادرة وخطرية جدً ا فابتسمت أكثر‪..‬‬
‫ُ‬

‫قال يل طبيب «البنج» عندما رآين ابتسم‪:‬‬

‫‪ -‬ظِل كام أنت‪ ..‬وأعدد من واحد إىل عرشة‪.‬‬

‫بـدأت ىف العـدِّ ومـا إن وصلـت إىل أربعـة حتـى فقـدت الشـعور بكل‬
‫ُ‬
‫خرجـت بعدهـا بثالث سـاعات‪..‬‬
‫ُ‬ ‫يشء‪ ,‬وال أتذكـر مـاذا حـدث حتـى‬

‫األجــواء مضطربـ ًة أكثــر‪ ,‬اخلــوف رائحتــه أقوى‪ ,‬وأنــا ال أشــعر بيشء‪,‬‬


‫ـا أم خائ ًفــا‪ ,‬كان‬ ‫حتــى دخــل الطبيــب وقــال بصـ ٍ‬
‫ـوت ال أعــرف أكان متفائـ ً‬
‫جيــا مــن االثنــن‪:‬‬
‫مز ً‬
‫‪ -‬معـاذ‪ ..‬جيـب أن تعلـم بـأن القـدر قـدر والبـد أن نـرىض بـه‪ ..‬لقـد‬
‫فعلنـا مـا يف وسـعنا واألمـر كلـه هلل‪ ..‬سـنزيل الغاممـة مـن علي عينيـك اآلن‬
‫والبـد لـك أن تـرىض بـكل مـا يقسـمه اهلل لك‪.‬‬

‫مل ُأعقـب على ما قـال ليبدأوا ىف نـزع الغاممة مـن عىل عيني ثـم انتظروا‬
‫أنتظر‬ ‫ٍ‬
‫ردة فعلي‪ ,‬ثـوان مرت وهم ينتظرون شـي ًئا حيـدث مني وال يعلمـون أين ُ‬

‫‪- 111 -‬‬


‫فابتسـمت‪ ,‬مل يفهموا شـي ًئا من تلك االبتسـامة‬
‫ُ‬ ‫معهـم‪ ,‬ولكـن؛ مل حيدث يشء‪,‬‬
‫سـمعت صوت بكائهـا ُيعلمهـم بام مل أقولـه‪ ,‬ليعلوا صـوت أمي‬
‫ُ‬ ‫عـدا فريـدة‪,‬‬
‫أيضـا يبـدو أن الطبيـب قـد خـرج‪,‬‬ ‫أيضـا‪ ,‬وصـوت إغلاق البـاب ً‬ ‫بالبـكاء ً‬
‫وصـوت ياسين كان بمثابة الرياح الباردة ىف شـدة احلر‪ ,‬سـمعته يقول «اللهم‬
‫لـك مـا اخـذت‪ ..‬ولك مـا أعطيـت‪ ..‬لـك الـكل والكل منـك‪ ..‬لـك الكل‬
‫والـكل منك»‪..‬‬

‫عـاد األسـود هييمـن ثانيـ ًة على كل يشء‪ ,‬ولكـن تلـك املـرة كانـت‬
‫أصبحت كفي ًفـا‪ ,‬نفذت قويت‬
‫ُ‬ ‫سـيطرته حقيقيـة ال متخفيـ ًة يف احلزن والظلام‪,‬‬
‫سـقطت وقدمـاي تنهرين من‬
‫ُ‬ ‫وحيلتـي‪ ,‬مل أقوى عىل حتمل كل ذلك فسـقطت‪,‬‬
‫ً‬
‫طويل‪..‬‬ ‫شـدة الوقـوف‬

‫دائما مـا ينفـرد احلـزن بنـا فيضعفنـا ويكرسنـا‪ ,‬كانـت‬


‫حلظـات ً‬
‫ٌ‬ ‫هنـاك‬
‫كثيرا‪ ,‬مل أكـن أحتدث‬
‫ً‬ ‫تلـك هـي أصعـب الفترات ىف حيـايت‪ ,‬مل أكـن أحتـدث‬
‫مللـت مـن نصحهـم يل بالصبر‪ ,‬ال أحد يشـعر بذلك أبـدً ا‪ ,‬ال‬
‫ُ‬ ‫مـن األسـاس‪,‬‬
‫يعلمـون شـي ًئا وال يشـعرون بشيء‪ ,‬ال يدركـون معانـايت ووجعي أبـدً ا‪ ,‬حتى‬
‫عيل قـد أبعدها عنـي من دون‬ ‫فريـدة‪ ,‬مل تكـن قـادرة على فعـل يشء يل‪ُ ,‬حزهنا ّ‬
‫شـعرت بـأن أملـي قـد وصل حـد احللـق وحان وقـت زهق‬ ‫ُ‬ ‫أن تقصـد‪ ,‬حتـى‬
‫الـروح مل يعـد هنـاك ً‬
‫كيلا ليفيض‪ ,‬ويف تلـك الفرتة غال ًبـا ما تكـون القرارات‬
‫دائما ما تكـون القـرارات التى تُتخـذ ىف ذلك‬
‫خاطئـة وبطبيعـة شـخص مثيل ً‬
‫الوقـت ظاملـة‪ ,‬وأول املظلومين هـو أنا‪..‬‬

‫‪- 112 -‬‬


‫‪ -‬أعلـم ِ‬
‫أنك ال زلتـي صغرية ومجيلة‪ ..‬والعمر كلـه أمامك‪ ..‬ومل تقرتيف‬
‫ذن ًبـا حتـى تعاقبين عليه بالبقـاء طـوال حياتك مع رجـل كفيـف‪ ..‬أتعلمني!‬
‫أيضـا ذن ًبا ألكـون ذلك‪ ..‬ولكـن ال هيم‪ ..‬لذلـك فأنا ُأحلك‬
‫‪ ..‬ربما مل أقترف ً‬
‫مـن مجيـع الروابـط التـى بيننـا‪ ..‬إن شـئتي الذهـاب فاذهبـي لـن أمنعك من‬
‫ذلك‪.‬‬

‫مل أسـمع ردهـا‪ ,‬ومل يتسـ َّن يل رؤيتهـا فلم أعلـم مـاذا كان رد فعلها بعد‬
‫كثريا ثـم قالـت وهي تبكـي بكا ًء شـديدً ا‪:‬‬
‫مـا سـمعت ذلـك‪ ,‬صمتـت ً‬
‫قلـت مـا تريـد قولـه؟!‪ ..‬إذن دعنـي أحتـدث‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬انتهيـت؟‪..‬‬
‫وال تتكلـم أبـدً ا‪ ..‬أبـدً ا يـا معـاذ‪ ..‬أتريـد منـي أن أتـركك؟!‪ ..‬بـكل‬
‫بيـت‬
‫ٌ‬ ‫هـذه السـهولة؟!‪ ..‬أنـت ال تعلـم شـي ًئا أبـدً ا‪ ..‬فأنـا ليـس يل‬
‫سـوى هنـا‪ ..‬ال أنـام إال بين ذراعيـك‪ ..‬ال أرى مسـتقبال إال بـك‬
‫مهما كان ذلـك املسـتقبل‪ ..‬كيـف لـك أن تقـول يل ذلـك أخبرين!!!‪..‬‬

‫لـن أتـركك يا معـاذ مهما حـدث‪ ..‬وإن أردت أنـت ذلك فلن أسـمح‬
‫لـك برتكـي أبـدً ا‪ ..‬لقـد تعاهدنـا على العيـش سـو ًيا‪ ..‬يف الرساء والضراء‪..‬‬
‫ىف اخلير والشر‪ ..‬وإن كنـا رشكاء ىف الفـرح فسـوف نتشـارك ىف احلـزن‬
‫أيضـا‪ ..‬أليـس هذا عهدنـا وميثاقنا يا معـاذ؟!‪ ..‬أنسـيت؟!!‪ ..‬إن هـذا البيت‬ ‫ً‬
‫رجلي وقـويت وكل يشء‪ ..‬أل أقـوى على العيـش مـن دونـك‬ ‫بيتـي‪ ..‬وأنـت ُ‬
‫وال حلظـة واحـدة‪ُ ..‬أقسـم لـك أين ال أقـوى على العيـش مـن دونك أبـدً ا‪..‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫ـا بعدهــا ثــم ارمتــت بــن ذراعــي فاحتضنتهــا بــكل مــا‬ ‫صمتــت قليـ ً‬
‫ـت إىل موطنــي احلقيقــي‪ ,‬ومنــذ تلــك اللحظــة وأنــا‬‫ـت مــن ضلــوع‪ ,‬أويـ ُ‬ ‫أوتيـ ُ‬
‫ٍ‬
‫ـلم متا ًمــا للقــدر‪ ,‬كانــت حلظــات ضعــف وذهبــت لتأتينــي قــو ًة بـ ً‬
‫ـدل‬ ‫ُم َسـ ٌ‬
‫منهــا‪ ,‬أخربتنــي حينهــا أننــا البــد أن نواجــه كل ذلك أقويــاء كام عودهتــا‪ ,‬وإذا‬
‫كانــت يدانــا متصل ـ ٌة ببعضهــا فــاذا يكــون للســحر األســود بعــد ذلــك؟!‪,‬‬
‫فالظــام ال يمكنــه طــرد الظــام‪ ,‬النــور فقــط يمكنــه فعــل ذلــك‪ ،‬والكراهية‬
‫ال يمكنهــا طــرد الكراهيــة‪ ,‬احلــب فقــط يمكنــه فعــل ذلك ‪.‬‬

‫وافقتهــا وتركــت هلــا يــدي تســر يب ىف الطرقــات التــى تشــاءها‪ ,‬أمــا‬


‫عــن العمــل فنحــن نعمــل بمجــال اهلندســة ســو ًيا‪ ,‬وبعــد مــا أصبحــت‬
‫كفي ًفــا أصبحــت الكتابــة هــي شــغيل وعمــي ومصــدر رزقــي‪ ,‬فهــي الوظيفة‬
‫طيــب أن تعمــل مــا حتــب دون أن تصبــح‬ ‫ٌ‬ ‫التــى طاملــا متنيتهــا‪ ,‬فكــم هــو‬
‫مــا حتــب‪ ,‬ولكنــي مل أكــن أكتــب بيــدي‪ ,‬بــل كانــت فريــدة جتلــس بــرأيس‬
‫تتلقــى الوحــي وتكتــب هــي‪ ,‬فكانــت هــي مجهــوري الــذي ينتظــر مــا أكتبــه‬
‫دائــا‪ ,‬وتنتظــر حتــى أهنــي مــا أمليــه عليهــا وتكتبــه وبعــد ذلــك ختــرين‬ ‫ً‬
‫ـت أكتــب هلــا‪ ,‬وكانــت تعلــم‬ ‫عــن رأهيــا‪ ,‬ال تقاطعنــي أبــدً ا حتــى وان كنـ ُ‬
‫أهنــا هــي الوحيــدة التــى جــاز هلــا أهنــا تــراين وانــا أكتــب‪ ,‬فللكتابــة حرمـ ٌة‬
‫شــأهنا شــأن مجيــع األعــال الروحانيــة‪ ,‬ورأهيــا عنــدي كفــرض الكفايــة؛ إذا‬
‫فعلــه البعــض ســقط عــن الــكل‪ ,‬فــإن نــال مــا كتبتــه استحســاهنا فــا رأي‬
‫ـم بعدهــا إذن‪ ,‬فكانــت فريــدة هــي كل يشء‪ ,‬فلقــد تعلمــت كيــف أرى‬ ‫مهـ ٌ‬
‫اهلل منهــا؛ يف يدهيــا التــي أتــوكأ هبــا عــى عصــاي‪ ،‬يف عينيهــا التــي تتجــى‬

‫‪- 114 -‬‬


‫بعظمـة اهلل ومهابتـه فـأرى كل يشء كما يريـدين أن أرى‪ ،‬لقـد رأيـت اهلل فيها‬
‫مجيل حيب اجلمال وما للجامل‬‫رحيـم‪ ,‬اهلل رمحـ ٌن‪ ,‬اهلل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫كما يريـدين أن أراه‪ ,‬فـاهلل‬
‫رسـول ٌة سـواها‪ ,‬فهي ال تشـبه أحدً ا‪ ..‬فهـي فريدة‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫أنا‪..‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫براهـــب كـــا زعمـــت‪ ،‬وأن هنـــاك‬ ‫ٍ‬ ‫أخربتنـــي العرافـــة أين لســـت‬
‫راهبـــة يف الضفـــة الغربيـــة مـــن ِقبلتـــي ختطـــئ ً‬
‫أيضـــا يف اعتقادهـــا أهنـــا‬
‫ـدى يقطــن يف قلوبنــا فنحبنــا دون‬ ‫راهبــة‪ ،‬أحببنــا اهلل فجعــل املحبــة فينــا هـ ً‬
‫أن ي ــرى أح ــد منن ــا اآلخ ــر‪ .‬مل أصدقه ــا! ثم ــة درويش ــة ق ــد بلغ ــت م ــن‬
‫العم ــر أرذل ــه خت ــرين أن تل ــك األقف ــال الت ــي برع ــت يف إحكامه ــا ع ــى‬
‫قلب ــي هن ــاك م ــن يمل ــك مفاحته ــا‪ ،‬تل ــك األس ــوار الت ــي ال أخ ــر هل ــا وال‬
‫أول هن ــاك م ــن خيتل ــق با ًب ــا ويع ــر خالهل ــا ب ــكل س ــهولة!‪ ،‬كي ــف بتل ــك‬
‫اخلرف ــة أن خت ــرين أنن ــي أمتل ــك جناح ــن ويمكنن ــي الط ــران! كي ــف هل ــا‬ ‫ِ‬
‫أن خت ــرين بأنن ــي مل َار الدني ــا بع ــد وأن هنال ــك حي ــاة مل أك ــن أس ــمع عنه ــا‬
‫مطل ًقـــا! إىل اآلن‪ ..‬ال أعلـــم كـــم كأس مـــن اخلمـــر قـــد تناولتـــه قبـــل‬
‫ـدك وتش ــر‬ ‫نوم ــي ألرى تل ــك العراف ــة ت ــأيت م ــن بعي ــد وه ــي متس ــك بي ـ ِ‬
‫إ ّيل‪ ،‬وإن كن ــت فاس ــدً ا اجت ــرع اخلم ــر فكي ــف بح ـ ٍ‬
‫ـور مثل ــك ال متي ــز ب ــن‬
‫اخلمـــر والعســـل أن تـــرى مـــا رأيتـــه يف اليـــوم ذاتـــه‪ ،‬يف الوقـــت ذاتـــه‪،‬‬
‫ـا يش ــمر ع ــن س ــاقيه للوض ــوء‪..‬‬ ‫وق ــد كان الفج ــر رج ـ ً‬

‫لـــك يـــا صغـــريت‪ ،‬متيلـــن عـــى كتفـــي وتطلبـــن منـــي أن‬ ‫عجبـــا ِ‬
‫ً‬
‫دائـــا‬
‫ً‬ ‫أروي لـــك ذلـــك رغـــم أنـــك تعلمينـــه جيـــدً ا‪ ،‬ولكنـــي مســـتعدٌ‬
‫ـك‬ ‫ألروي ــه طيل ــة حي ــايت م ــا دمت ــي هن ــا‪ ..‬يف مكان ــك ال ــذي حفظت ــه ل ـ ِ‬
‫ـك‪,‬‬ ‫ـك فأحب ـ ِ‬‫حت ــى ظنن ــت أين راه ــب‪ ..‬راه ــب ق ــد رأى حمب ــة اهلل يف عيني ـ ِ‬
‫ٌ‬
‫وم ــا س ــبيل راه ــب مث ــي إذا أح ــب اهلل ش ــي ًئا إال أن حيب ــه‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫وربــا نحــن يف زمـ ٍ‬
‫ـن قــد أصابــه العقــم فلــم يعــد يؤمــن باملعجــزات‪,‬‬
‫وأصبــح يؤمــن بالقوانــن واالســتنتاجات فقــط‪ ..‬ولكــن! إذا مــا علــم‬
‫ـت مــن أرساب احلــور التــي تنتمــن هلــن واختبــأيت يف‬ ‫ـك قــد هربـ ِ‬
‫يومــا أنـ ِ‬
‫ً‬
‫ـك معجــزة هــي‬ ‫ثــوب حــواء! هــل ســيعلن حينهــا بطــان قوانينــه ويفرضـ ِ‬
‫«الفريدة»مــن نوعهــا‪..‬‬

‫أمتنى ذلك‪.‬‬

‫*معاذ ‪ -‬فريدة*‬

‫******‬
‫صمتت‪..‬‬

‫نظــرت إىل عينيــه التائهتــن يف ذلــك الفــراغ املزعج‪..‬تركــت‬


‫أناملهــا الدافئتــن تقبــض عــى يديــه الباردتــن لتطمئنــه‪ ..‬ولكــن ال‬
‫يشء يتغــر‪ ..‬مــا زال ال يراهــا رغــم أن أنفاســها تــكاد ختــرج مــن رئتيــه‬
‫لشــدة دنوهــا مــن رأســه‪ ..‬مــا زالــت تســتند إىل كتفــه وحتلــم بأحــا ٍم‬
‫كثــرة تعلــم أنــه ال يشــاركها إياهــا‪ ..‬ولكنهــا تكتفــي فقــط بــأن حتلــم ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شــخص‬ ‫قــاس أن يقتــر حلمــك يف بيــت صغــر مــع‬ ‫ٍ‬ ‫كــم هــو‬
‫تقتــر عليــه كل مــا هــو دا ٍع للحيــاة‪ ,‬ولكــن ذلــك الشــخص‬
‫قــد اســتئصل مــن خيالــه أن يبقــى بجانــب أحــد‪ ..‬أصبــح ال‬
‫حيلــم‪ ..‬وإذا حلــم! فســتكون كل الســبل تــؤدى إىل العزلــة‪..‬‬
‫تعلــم بأنــه تائــه‪ ..‬ولكنهــا مل تســأل يو ًمــا ألهنــا تعلــم أهنــا لــن جتــد إجابــة‬
‫تطفــئ نــران قلقها‪ ..‬تتذكــر ذلــك اليــوم الــذى رأتــه فيــه يف ذلــك املــكان‬
‫أيضــا ينفــخ بدخــان ســيجارته ليصنــع هالـ ًة مــن‬ ‫وبتلــك العينــن التائهتــن ً‬
‫كثــرا مــن نســل حــواء‪ ..‬تتذكــر جيــدً ا كــم كان‬ ‫ً‬ ‫الغمــوض جتــذب إليــه‬
‫ممت ًعــا أن تقــي ســاعات تنظــر إليــه وهــو ال يلقــي هلــا بـ ً‬
‫ـال‪ ..‬كــم كان ممت ًعــا‬
‫ذلــك! وكــم هــو قـ ٍ‬
‫ـاس اآلن ‪..‬‬

‫*حبيبة ‪ -‬آرس*‬

‫‪- 120 -‬‬


‫شـعرت أن ثمة يشء ما حيدث مل اسـتطع به خربا! ماذا حيدث !! أيا تُرى‬ ‫ُ‬
‫قـد أسـلم اليهـود ؟! أم أن العرب قد أرسـلوا قنبلـة نووية فتهتكـت هبا أمعاء‬
‫أمريـكا!! مـا هذا احلـدث اجللل الـذي يفعل يب هكـذا! أخذت شـهي ًقا هادئًا‬
‫عندمـا وجدت السـاعة تـدق بالثانيـة عرش وتعلن أننـا أصبحنا يف يـو ٍم أعتقد‬
‫أنـه األهـم بني إخوتـه‪ ،‬إنه احلـادي عرش مـن يوليو فلا داعي للرهبـة إذن ‪..‬‬
‫أضفـت لقوائـم الذيـن ختطـوا‬ ‫ِ‬ ‫هـا انتـي اآلن‪ ،‬يف مقتبـل عقـد جديـد‪ ،‬وقـد‬
‫بعضا من سـحرك اهلادئ‪ ،‬هـا نحن اآلن‪ ،‬نعـد أدراج رحيلك‬ ‫حاجـز السـتني ً‬
‫ٍ‬
‫مـكان‬ ‫بكـ ٍم هائـل مـن الذكريـات وكل مـا اقرتفتيـه يف أعوامـك السـابقة إىل‬
‫فأهلا ِ‬
‫بك يـا عزيـزيت يف عامل السـتني ‪..‬‬ ‫ً‬ ‫كثيرا‪،‬‬ ‫آخـر يرحـب ِ‬
‫بـك‬
‫ً‬
‫أيضا أنـك ترين‬‫أنـت بداخيل‪ ،‬وأعلـم ً‬ ‫أعتقـد أنـك تعلمين جيدً ا أيـن ِ‬
‫أنـك تشـبهيني أكثـر منـي‪ ،‬ولكـن مـا أعتقـد أنـك جتهلينـه أن اهلل جعلـك‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫كاسـمك‪ ،‬لوحـ ًة مأخـوذ ًة بيـد فنـان حمرتف قـد تاب بعدهـا واعترف بأنه ما‬
‫كان لريسـمك إال إذا خضـع للجـن ليسـاعدونه يف فعل ذلك العمل الشـاق‪،‬‬
‫ِ‬
‫يـراك ويصبأ عن ملته ليتبع مـا تتبعني يا عزيزيت ‪..‬‬ ‫أعـذره متا ًمـا وأعذر كل من‬
‫أنـت‪ ..‬تلك الرمحـة التي وهبهـا اهلل لنا حني اسـتحكمت‬‫وأنـت كما ِ‬
‫ِ‬ ‫كل عـام‬
‫حلقـات الدنيا‪..‬‬
‫رمحة‪ ..‬هكذا اسمك‪ ،‬هكذا ِ‬
‫أنت ‪.‬‬

‫*ياسني ‪ -‬رمحة*‬

‫‪- 121 -‬‬


‫هو‪..‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫مل أسـمع ردهـا‪ ,‬ومل يتسـ َّن يل رؤيتهـا فلم أعلـم مـاذا كان رد فعلها بعد‬
‫كثريا ثـم قالـت وهي تبكـي بكا ًء شـديدً ا‪:‬‬
‫مـا سـمعت ذلـك‪ ,‬صمتـت ً‬
‫قلـت مـا تريـد قولـه؟!‪ ..‬إذن دعنـي أحتـدث وال تتكلم‬ ‫‪ -‬انتهيـت؟‪َ ..‬‬
‫أبـدً ا‪ ..‬أبـدً ا يا معـاذ‪ ..‬أتريد مني أن أتـركك؟!‪ ..‬بكل هذه السـهولة؟!‪ ..‬أنت‬
‫بيت سـوى هنـا‪ ..‬ال أنام إال بين ذراعيك‪..‬‬
‫ال تعلـم شـي ًئا أبـدً ا‪ ..‬فأنا ليس يل ٌ‬
‫ال أرى مسـتقبال إال بـك مهما كان ذلـك املسـتقبل‪ ..‬كيـف لـك أن تقـول يل‬
‫ذلـك أخبرين!!!‪ ..‬لـن أتـركك يا معـاذ مهما حـدث‪ ..‬وإن أردت أنت ذلك‬
‫فلـن أسـمح لك برتكـي أبـدً ا‪ ..‬لقـد تعاهدنا على العيـش سـو ًيا‪ ..‬يف الرساء‬
‫والضراء‪ ..‬ىف اخلير والشر‪ ..‬وإن كنـا رشكاء ىف الفـرح فسـوف نتشـارك ىف‬
‫أيضـا‪ ..‬أليس هـذا عهدنا وميثاقنـا يا معـاذ؟!‪ ..‬أنسـيت؟!!‪ ..‬إن هذا‬ ‫احلـزن ً‬
‫رجلي وقـويت وكل يشء‪ ..‬أل أقـوى على العيـش مـن‬ ‫البيـت بيتـي‪ ..‬وأنـت ُ‬
‫دونـك وال حلظـة واحـدة‪ُ ..‬أقسـم لـك أين ال أقـوى على العيش مـن دونك‬
‫أبدً ا‪..‬‬
‫ً‬
‫قليلا بعدهـا ثـم ارمتـت بين ذراعـي فاحتضنتهـا بـكل مـا‬ ‫صمتـت‬
‫أويـت إىل موطنـي احلقيقـي‪ ,‬ومنـذ تلـك اللحظـة وأنـا‬
‫ُ‬ ‫أوتيـت مـن ضلـوع‪,‬‬
‫ُ‬
‫بـدل منها‪,‬‬ ‫ٍ‬
‫ضعـف وذهبـت لتأتيني قـو ًة ً‬ ‫ـلم متا ًمـا للقـدر‪ ,‬كانـت حلظات‬
‫ُم َس ٌ‬
‫أخربتنـي حينهـا أننـا البـد أن نواجـه كل ذلـك أقويـاء كما عودهتـا‪ ,‬وإذا‬
‫كانـت يدانـا متصلـ ٌة ببعضهـا فماذا يكـون للسـحر األسـود بعـد ذلـك؟!‪,‬‬
‫فالظلام ال يمكنـه طـرد الظالم‪ ,‬النـور فقط يمكنـه فعل ذلـك‪ ،‬والكراهية ال‬
‫يمكنهـا طـرد الكراهية‪ ,‬احلـب فقط يمكنـه فعل ذلك‬

‫‪- 124 -‬‬


‫ٍ‬
‫بدالل يسحرين‪:‬‬ ‫أمسكت بيدي ووضعتها عىل بطنها وهي تقول‬

‫أيضا ال يمكنه تركك‪..‬‬


‫‪ -‬وحتى هذا ً‬

‫فأردفـت وصـوت بكائهـا يتحـول إىل زقزقـات‬


‫ْ‬ ‫مل أفهـم مـا تعنيـه‪،‬‬
‫الكناريـا وقـت الغـروب‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بطفل منـك‪ ..‬وبعدها لن أطلب‬ ‫‪ -‬ونحـن ببيـت اهلل دعوته أن يرزقنـي‬
‫شـي ًئا أبـدً ا‪ ..‬يكفي ذلـك‪ ..‬واهلل يكفي ذلك‪..‬‬

‫وأكملت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫رغم عني فمسحتها‬
‫سقطت دموعي ً‬
‫‪ -‬وعلمـت أين حامـل يـوم العمليـة‪ ..‬كنـت سـأخربك ولكنـك تعلـم‬
‫كنـت قـد قصرت‬ ‫ُ‬ ‫أن حـزين عليـك قـد كان ليقتلنـي يـا معـاذ‪ ..‬وأعتـذر إن‬
‫ىف حقـك حتـى جعلتـك تقـول ما قولته منـذ قليل ولكني أقسـم لـك أن آالم‬
‫كثريا ويكـون رضور ًيا أن أذهب للطبيب وال أذهب فيشـتد‬ ‫عيل ً‬ ‫احلمل تشـتد ّ‬
‫علي‪ ..‬وأخـاف عندمـا أسـمع أن احلـزن يؤثـر على اجلنين فأحـاول‬ ‫التعـب ّ‬
‫الصمـود مـن دونـك وأعود إليـك قوي ًة أقـف يف ظهرك كما العـادة‪ ..‬ولكني‬
‫لسـت‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫مكان‬ ‫لسـت قويـ ًة أن أشـعر لذلـك احلـد الذي أشـعر فيـه بالراحـة ىف‬
‫يشء دونـك‪ ..‬فأنـت قـويت و ُقـويت وكل شـىء‪..‬‬ ‫فيـه‪ ..‬وال أقـوى على فعـل ٍ‬
‫فلقـد زرع اهلل حبـك بقلبـي وثبـت جـذوره فنمـى كيفما شـاء‪ ..‬فال حتـزن يا‬
‫حبيبـي إن اهلل معنا‪..‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫أنا‪..‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫تعـج باملشـاهدين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اقرتبـت دقيقتـان على بدايـة العـرض‪ ،‬القاعـة‬
‫واملمثلـون احلقيقيـون يسـترتون بين الصفـوف فلـن متيزهـم‪ ،‬الكاميرات‬
‫مسير ملـا كتبتـه لـه‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫متأهبـ ٌة كاملدافـع‪ٌ ،‬‬
‫كل‬

‫ُفتـح السـتار فصفـق اجلميـع ملـن يعتلـون املسرح‪ ،‬مل ُأصفـق معهـم‪،‬‬
‫فـدوري أهـم‪ ،‬مل ِ‬
‫يـأت دوري بعـد‪..‬‬

‫تعاطـف اجلمهـور مع الشـيخ الكفيف وأحبـوه‪ ،‬وأحبوا حبـه لزوجته‪،‬‬


‫رأيـت ذلـك ىف أعين اثنين جيلسـان ىف الصـف األخير‪ ،‬يمسـكان بيـدي‬
‫بعضهما التـي أهلكتهما التجاعيـد‪ُ ،‬يقبل رأسـها‪ ،‬وتبتسـم‪..‬‬
‫ٍ‬
‫بكومبـارس مل‬ ‫وآمنـت‬
‫ْ‬ ‫كرهـوا تلـك اجلميلـة التـى أنكـرت يـد البطـل‬
‫يصعـد املسرح ٍ‬
‫ملـرة واحدة‪..‬‬
‫أحبـوا العرافـة لتمثيلهـا الصـادق‪ ،‬ال يعلمـون أهنـا عرافـ ٌة ً‬
‫فعلا وكل‬
‫حقيقـي جـدً ا‪..‬‬
‫ٌّ‬ ‫حقيقـي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يشء حيـدث على خشـبة املسرح‬

‫أشـفقوا على البطلـة التـى أحبـت البطـل ومتنـوا لـو أوقفـوا العـرض‬
‫ٍ‬
‫لثـوان وأخبروه بأهنـا حتبـه‪..‬‬

‫بكــوا لبكائهــم‪ ،‬فرحــوا لفرحهــم‪ ،‬غنــوا معهــم‪ ،‬تعاطفــوا معهــم‪،‬‬


‫اجتمعــوا عــى كل يشء ســو ًيا اال عندمــا تــأيت ســرة الغــراب األكــر‬
‫وجنــوده‪ ،‬حينهــا ينقســمون‪..‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫ـي لــكل‬ ‫ـب لــرى املحــرك الرئيـ ّ‬ ‫انتهــى العــرض‪ ،‬واجلمهــور متأهـ ٌ‬
‫ـرا ومل أظهــر‪ ،‬هــا هــو‬
‫ـرا وكثـ ً‬
‫يشء حيــدث عــى خشــبة املــرح‪ ،‬انتظــروا كثـ ً‬
‫دوري الــذي انتظرتــه طيلــة حيــايت‪ ،‬أتأمــل التصفيــق احلــار وأغمــض عينــي‬
‫ـوي‬
‫ـم كأننــي قو ًيــا‪ ،‬ولكنــي قـ ٌ‬‫متذكـ ًـرا مجيــع مــا مــررت بــه وأبتســم‪ ،‬أبتسـ ُ‬
‫ـا‪ ،‬وســأثبت ذلــك حـ ً‬
‫ـال‪..‬‬ ‫فعـ ً‬

‫صعـدت على املسرح‪ُ ،‬صوبـت األضـواء جتاهـي‪ ،‬مل أفـرح‪ ،‬وال أعلم‬
‫ُ‬
‫ملـاذا‪ ،‬ربما بسـبب ضعف عينـي الذي جعلنـي أرى األضـواء نجو ًمـا والبرش‬
‫كواك ًبـا‪ ،‬ال أعلـم ح ًقا‪ ،‬ولكنـي يف مكاين الـذي حاربت للوصـول اليه‪ ..‬هذه‬
‫هـي النهايـة التـى قلـت يو ًمـا أين سـأصل إليها وحـدي‪ ..‬وهذا هـو الاليشء‬
‫األخري‪..‬‬

‫وهذا هو أنا‪ ..‬ياسني معاذ ياسني‪.‬‬

‫متت حبمد اهلل‬

‫‪- 129 -‬‬


‫إهداء‬

‫قبـل مـا أكتـب اإلهـداء ده فكـرت إين أهـدي الرواية دي لـكل الناس‬
‫اللي وقفـوا جنبـي حلـد مـا الروايـة ظهـرت للنـور‪ ..‬لقيـت إهنـم كتير وانـا‬
‫عـارف إهنـم هيعرفوا نفسـهم ومها بيقـروا الـكالم ده دلوقتـي‪ ..‬لكن مكنش‬
‫ينفـع اإلهـداء ده يبقـى حلد غيرك‪ ..‬جايز مها سـاعدوين يف حلمـي لكن أنت‬
‫سـاعدتني أكـون أنـا‪ ..‬حطيـت رجلي على أول الطريـق وأنا بكمـل أهو ‪..‬‬

‫ربنا يكافئك عىل أد تعبك عشاننا طول السنني دي‪..‬‬

‫♥‬ ‫شكرا ياعمو‬


‫ً‬
‫أ‪ /‬مصطفى عبد العال‬

‫‪- 131 -‬‬


‫شكر خاص‬

‫الكوتش‪ /‬سيد شعبان‬

‫الشيخ‪ /‬مجال عبدالصمد‬

‫الكاتب‪ /‬أمحد املنزالوي‬

‫املصور‪ /‬حسام مجال‬

‫الرواية دي منكوا وليكوا ‪ ..‬شك ًرا‪.‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫للتواصل مع الكاتب‬
‫وإبداء األراء عن الرواية‬

‫‪https://www.facebook.com/aboali100‬‬

‫‪- 134 -‬‬

You might also like