You are on page 1of 281

‫اﻟﻘﺎﺋﻣﺔ اﻟطوﯾﻠﺔ ﻟﻠﺑوﻛر اﻟﻌرﺑﯾﺔ ‪2020‬‬

é3VJJP
‫الكاتب‪ :‬مح ّمد عيىس املؤدّب‬
‫حمم الذهب‬ ‫عنوان الكتاب‪ :‬اّ‬

‫خط الغالف‪ :‬الف ّنان سمري قويعة‬


‫تنضيد داخيل‪ :‬سعيد البقاعي‬
‫تصميم الغالف‪ :‬الشاعر مح ّمد النبهان‬

‫ر‪.‬د‪.‬م‪.‬ك‪978-9938-24-081-8 :‬‬
‫الطبعة األوىل‪2019 :‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة للنارش©‬

‫‪Ottawa, ON. Canada‬‬


‫‪info@masaapublishing.com‬‬
‫‪www.masaapublishing.com‬‬

‫مسكيلياىن للنرش والتوزيع‬


‫‪ 15‬نهج أنقلرتا تونس‪ -‬تونس العاصمة‬
‫الهاتف‪ )+216(21512226 :‬أو ‪)+216(93794788‬‬
‫اإلمييل‪masciliana_editions@yahoo.com :‬‬
‫اإلهداء‬

‫إىل أبي ‪ ،‬إىل روحه اليت ترافقين‪.‬‬


‫إىل ا ّلذاكرة الوطنيّة‪.‬‬
‫شكر ّ‬
‫خاص‬

‫إىل مو ّظفي دار بن عاشور (مكتبة مدينة تونس)‪.‬‬


‫املؤرخ والباحث عبد الستّار عاممو‪.‬‬
‫إىل ّ‬
‫إىل الس ّيدة مونيك ح ّيون التي أطلعتني عىل أجواء‬
‫احلياة اليوم ّية عند األقل ّية اليهود ّية يف تونس‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫شارع احلبيب بورقيبة‬
‫‪ 1‬ديسمرب ‪2010‬‬

‫ّجها كالعادة‬
‫ورست يف هنج روما مت ً‬ ‫ُ‬ ‫غادرت ص ّباط الدّ زيري‬
‫ُ‬
‫أدركت نصب ابن خلدون وقف أمامي‬ ‫ُ‬ ‫إىل مقهى باريس‪ ،‬وعندما‬
‫حيين وقوفه املباغت‪ ،‬وال أعتقد ّ‬
‫أن األمر‬ ‫جوهر‪ ،‬ماسح األحذية‪ .‬رّ‬
‫متعرق وأنفاسه خم ّبلة‪ .‬حصل يل هذا االنطباع‬ ‫جمرد صدفة‪ ،‬وجهه ّ‬ ‫كان ّ‬
‫التكيز متا ًما‪ .‬حدّ ق‬
‫حينام اقتحمني‪ ،‬وأنا أكره االقتحام ألنّه يفقدين رّ‬
‫ثم مهس وهو يس ّلمني مغ ّل ًفا‪:‬‬ ‫عيني عمي ًقا ّ‬
‫يف ّ‬
‫مهمة يا سعد‪ ..‬وهيلني ستتّصل‬
‫الرسالة ّ‬
‫‪ -‬هذه رسالة من هيلني‪ّ ،‬‬
‫بك ال ّليلة‪ ..‬ال َ‬
‫تنس يا سعد‪ ،‬أرجوك‪ ،‬كن يف انتظارها‪.‬‬
‫الرجل‬ ‫ال أحد يثري دهشتي غري جوهر ماسح األحذية‪ ،‬جوهر ّ‬
‫اليهودي يف شارع احلر ّية‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫صباحا أمام الكنيس‬
‫ً‬ ‫ال ّلغز‪ ،‬يصادفني‬
‫املكان نفسه تقري ًبا يعرتضني منذ سبع سنوات بابتسامته التي ال‬
‫تتغي‪ ،‬مشحونة بالغرابة والثقة يف النفس‪.‬‬
‫تفارقه‪ ،‬ابتسامته تلك ال رّ‬
‫اسرتجعت يف ذهني مالحمه وحركاته‪ ،‬سبع سنوات وأنا أرى ماسح‬
‫ُ‬
‫األحذية‪ ،‬ذاك‪ ،‬بنفس النّظرات املنص ّبة عىل األحذية وبنفس ذلك‬
‫كنت أخت ّيل‬
‫االبتهاج باألحذية عىل خمتلف أنواعها وأصنافها‪ ،‬هكذا ُ‬

‫‪7‬‬
‫رأسه وهو يشتغل ويتحينّ الفرص‪ .‬جوهر اقتنصني اليوم يف شارع‬
‫احلبيب بورقيبة وال أدري ملاذا أحسست أنّه كان يتع ّقب خطوايت يف‬
‫الزحام‪ .‬مل يسبق أن حتادثنا‪ ،‬ولك ّن هيلني تعرفه معرفة ج ّيدة‪ .‬مل‬
‫غمرة ّ‬
‫أستطع تدقيق حقيقة هذه املعرفة‪ ،‬وعجزت عن الفهم‪ ،‬قد ال يتجاوز‬
‫يب رأسه‪ .‬اسمه جوهر‪،‬‬ ‫جمرد العطف عىل رجل غزا ّ‬
‫الش ُ‬ ‫األمر ّ‬
‫الشائع عند النّاس‪« ،‬هو رجل ط ّيب وخدوم»‪،‬‬ ‫وجوهر هو االسم ّ‬
‫الزرقاوين إىل الفراغ‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬مل‬
‫توجه عينيها ّ‬‫ثم ّ‬‫تقول يل هيلني ّ‬
‫يتو ّقف دماغي عن التّفكري‪ ،‬طرحت أسئلة كثرية يف شأنه‪ ،‬أسئلة‬
‫الرجل الذي خيتفي وراء مالمح‬ ‫مهمة‪ .‬ما حقيقة هذا ّ‬
‫تافهة وأخرى ّ‬
‫ماسح أحذية؟ هل هو من رجال البوليس الرس ّيني؟ كنت أطرح‬
‫رسي‪ ،‬فال أحد‬ ‫ّ‬ ‫ثم أمهلها‪ .‬أغلب الظ ّن أنّه كذلك‪ ،‬بوليس‬ ‫األسئلة ّ‬
‫يومي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫صباحا وبشكل‬
‫ً‬ ‫اليهودي‬
‫ّ‬ ‫يعرتض عىل وجوده أمام الكنيس‬
‫اليهودي‪ ،‬حاولت هيلني ذلك‬
‫ّ‬ ‫مل يسبق يل أن دخلت الكنيس‬
‫مرارا وكنت أعتذر دو ًما بابتسامة لطيفة رسعان ما يلتقطها جوهر‪.‬‬ ‫ً‬
‫تتفرس وجهي بصفاقة‪ ،‬كنت أمهله وأشعل‬ ‫تزعجني نظراته التي ّ‬
‫وأتعمد الدّ خول يف غيبوبة حتّى تنهي هيلني صالهتا ّ‬
‫وكل‬ ‫ّ‬ ‫سيجارة‬
‫رس عطفها عىل جوهر بشكل‬ ‫طقوس تع ّبدها‪ .‬مل أسأل هيلني يو ًما عن ّ‬
‫خرجية اجلامعة‬
‫يثري االنتباه‪ ،‬ما الذي يمكن أن جيمع شا ّبة هيود ّية ّ‬
‫السبعني سنة‪ ،‬كام قدّ رت‪ ،‬صاحب املعطف األسود‬ ‫برجل قارب ّ‬
‫رسي‪ .‬ال يمكن أن يكون‬ ‫صي ًفا وشتا ًء‪ ،‬ابن الكلب؟ كنت أسأل يف ّ‬
‫ماسح أحذية يف مكان يفرتض ألاّ يسمح فيه بالوقوف أو االنتصاب‬
‫اليهودي مكان يف غاية احلساس ّية‪ ،‬حيرسه البوليس‬
‫ّ‬ ‫اخلاص‪ .‬الكنيس‬‫ّ‬

‫‪8‬‬
‫وال يسمح ألحد بالتو ّقف أمامه‪ ،‬وإن حدث ذلك سيكون األمر ّ‬
‫حمل‬
‫شبهة‪ .‬منذ حادثة الغريبة أصبح كابوس االنفجارات منت َظ ًرا يف ّ‬
‫أي‬
‫واملارة عىل حدّ سواء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل يشء‪ ،‬البوليس‬ ‫وقت‪ ،‬واجلميع يف ريبة من ّ‬
‫ٍ‬
‫إمهال أو سهو‪،‬‬ ‫ِ‬
‫حلظة‬ ‫ٍ‬
‫بشكل ُمباغت‪ ،‬يف‬ ‫اإلرهاب ّيون قد يظهرون‬
‫ويفجرون أحزمتهم‬
‫ّ‬ ‫بلحى أو حليقي الوجوه‪ ،‬دقائق فقط‬ ‫يظهرون ً‬
‫اخللفي للكنيس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النّاسفة أو يطعنون رجلاً هيود ًّيا ً‬
‫عابرا إىل الباب‬
‫أن األقدام تسري عىل عجل‬‫ال أحد يتلكّأ‪ ،‬ما حيدث فحسب هو ّ‬
‫يف جّ‬
‫االتاهني‪ ،‬عىل عجل متيض يف حال سبيلها‪ ،‬قد تتو ّقف لبعض‬
‫ثم‬
‫الدّ قائق القتناء حاجيات بسيطة من الكشك املقابل للكنيس ّ‬
‫الزحام‪.‬‬
‫رسعان ما تذوب يف ّ‬
‫السنوات األخرية‪ ،‬عندما تزورين هيلني‪ ،‬ال تنقطع عن زيارة‬
‫يف ّ‬
‫السبت‪« ،‬هو املعبد الذي بقي لنا من رائحة املايض»‪،‬‬
‫الكنيس صباح ّ‬
‫صممه‬
‫ثم تضيف‪« :‬الكنيس ّ‬
‫تر ّدد عىل مسمعي بكثري من االفتخار ّ‬
‫تعويضا عن البيعة القديمة بحارة‬
‫ً‬ ‫املعامري فيكتور فالنري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املهندس‬
‫كنت عىل علم بذلك‪ ،‬يف‬
‫احلفص ّية‪ ،‬حارتنا يا سعد‪ .‬ال أدري ما إذا َ‬
‫بداية حرب الستّة أ ّيام أرضم فيه املتظاهرون النّار ومل يفقد معامله‪.‬‬
‫إنّه‪ ،‬كام ترى‪ ،‬آخر معقل لنا يف مدينة تونس‪ ،‬وهو شبيه بقطعة من‬
‫الفردوس»‪.‬‬
‫منذ رحيل هيلني إىل مارسيليا مل أعد أرى جوهر بانتظام‪ ،‬يف‬
‫السري يف شارع احلر ّية حتّى ال أصادف ابن‬
‫أحيان كثرية كنت أجتنّب ّ‬
‫الرجل الغامض ذاك‪ .‬سبب جتنّبي له هو تزايد شكوكي‬
‫الكلب‪ّ ،‬‬

‫‪9‬‬
‫يشك يف ذلك‪،‬‬‫يف كونه خيدع اجلميع‪ .‬ماسح أحذية بارع‪ ،‬ال أحد ّ‬
‫ويلمعها‪ .‬يف‬
‫ّ‬ ‫ال يرفع رأسه عندما يشتغل‪ ،‬بعناية ين ّظف األحذية‬
‫احلقيقة‪ ،‬حاولت أن أتناسى كابوس جوهر حلساس ّية املوقف‪ ،‬فلم‬
‫يكن من املفيد أن أطرح أسئلة إضاف ّية حول شخص ّية غامضة من‬
‫تتعمد هيلني عدم احلديث‬ ‫معارف هيلني‪ ،‬ويف الوقت نفسه ساءين أن ّ‬
‫هيمني ما إذا كان‬
‫عنه أمامي‪ .‬كان من املفيد أن تبوح يل بأرساره‪ ،‬ال ّ‬
‫أيضا بحراسة الكنيس‪ ،‬وما إذا كانت هلني‬ ‫بوليسا رس ًّيا مك ّل ًفا هو ً‬
‫مهمته يف هناية‬
‫تعرفه من خالل هذا الواجب الذي يقوم به‪ .‬هي ّ‬
‫األمر‪ ،‬وقد يكون مك ّل ًفا ً‬
‫أيضا بحامية اجلالية اليهود ّية بعد تزايد‬
‫التّهديدات ضدّ ها‪ ،‬وهيلني واحدة من تلك اجلالية‪.‬‬
‫ما حدث اليوم هو أنيّ مل أجتنّب رؤية جوهر‪ ،‬رؤيته التي تصيبني‬
‫عيل وس ّلمني املغ ّلف‪ ،‬ال أدري‬ ‫انقض ّ‬‫كنت يف حلظة سهو‪ّ ،‬‬‫بالقرف‪ُ .‬‬
‫قفزت من أمامه وهربت من رائحته الشبيهة برائحة خنزير‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كيف‬
‫انكمشت يف داخيل وأرسعت اخلطى كأنيّ تس ّلمت مناشري رس ّية‪.‬‬
‫الزحام‪ ،‬وقد كان الوقت يف صاحلي إذ‬ ‫ال أحد سينتبه إ ّيل وسط ّ‬
‫تزامن وجودي بشارع احلبيب بورقيبة مع خروج املو ّظفني‪ ،‬إضافة‬
‫الشارع‪ .‬مل أكن ُمته ِّي ًئا ّ‬
‫بالشكل الكايف ملثل‬ ‫إىل فوىض الس ّيارات يف ّ‬
‫الصفوف‪،‬‬ ‫وأشق ّ‬
‫ّ‬ ‫تلك الوضع ّيات‪ ،‬مثل دودة صغرية كنت أنكمش‬
‫ظل يقتنص بعض اإلشارات أو‬ ‫ال أنظر إىل الوجوه‪ .‬ذهني وحده ّ‬
‫متسول يف األثناء‪ ،‬انتصب أمامي كعمود‬ ‫ّ‬ ‫الكلامت الدّ اعرة‪ .‬دامهني‬
‫كهرباء‪ ،‬مل أتو ّقف‪ ،‬سمعت لعنة يف قفاي ومل أكرتث‪ .‬عندما تس ّل ُ‬
‫مت‬
‫الضيق‬ ‫املغ ّلف مل خيطر ببايل أن أسأل جوهر عن هيلني‪ ،‬فقد كان ّ‬

‫‪10‬‬
‫وكنت أعرف أنهّ ا غاضبة منّي‪ .‬ر ّبام‬
‫ُ‬ ‫حيارصين بسبب سفرها املفاجئ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بجهد‬ ‫حاولت‬
‫ُ‬ ‫تفاج َأ ْت برصاخي يف وجهها يوم احتدّ النّقاش بيننا‪.‬‬
‫َ‬
‫بشكل باهت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كبري يف تلك ال ّلحظات أن أكون هادئًا‪ ،‬أن أبتسم‪ ،‬ولو‬
‫كنت غاض ًبا لألسف‪ ،‬غاض ًبا بشدّ ة‪.‬‬
‫ولكنّني ُ‬
‫وواصلت َس رْيي‬
‫ُ‬ ‫قبضت عىل املغ ّلف وأنا ّ‬
‫أمتص السيجارة بتوتّر‬ ‫ُ‬
‫ن َْح َو مقهى باريس‪ .‬الربد ينقر وجهي كرؤوس اإلبر‪ ،‬والبدّ أن أرسع‬
‫مثل أغلب اخللق‪ .‬املرأة التي كانت تسري أمامي أشاعت ابتسامتها‬
‫وهي تلتفت إ ّيل ب َغنَج‪ ،‬كانت نحيفة وطويلة‪ ،‬تتباطأ يف مشيتها‪ ،‬وكأنهّ ا‬
‫واكتفيت‬
‫ُ‬ ‫أتورط يف مبادلتها االبتسامة نفسها‪،‬‬
‫تتعمد إثاريت‪ .‬مل أشأ أن ّ‬ ‫ّ‬
‫ابتسمت هلا‬
‫ُ‬ ‫ومستفز‪ .‬لو‬
‫ّ‬ ‫حتركها بشكل مثري‬
‫مؤخرهتا‪ ،‬كانت ّ‬ ‫بمتابعة ّ‬
‫سأتورط يف دعوهتا إىل رشب قهوة‪ .‬أعرف بطبيعة احلال أنهّ ا‬ ‫ّ‬ ‫فإنيّ‬
‫الذهاب إىل ٍ‬
‫بار الئق‪ ،‬بعينيها‬ ‫عيل ّ‬ ‫ستنشب أ ْظ َ‬
‫فارها يف حلمي وتقرتح ّ‬
‫الزوايا وترشب عىل نخب بالهتي‪،‬‬ ‫ستجرين إىل إحدى ّ‬‫ّ‬ ‫اللاّ هبتني‬
‫مؤخرهتا‪.‬‬‫ثم يلتقط ّ‬ ‫ترشب إىل حني يأيت عشيقها ليبصق عىل وجهي ّ‬
‫ال يروق يل يف العادة رشب البرية يف مقهى باريس‪ ،‬أكتفي برشب‬
‫ثم أميض‪ .‬املقهى كام خربته منذ سنوات عامل خم ّبل‬ ‫قهوة عىل عجل ّ‬
‫الصفقات والعمل ّيات السرّ يعة‪ ،‬أستثني طب ًعا املتعبني‪،‬‬
‫ومعتوه‪ ،‬عامل ّ‬
‫مرت‬ ‫الرجل الذي ّ‬ ‫يرتادون املقهى لرشب البرية وجتديد األنفاس‪ .‬أنا ّ‬
‫كل مساء يف هذا املقهى الذي‬ ‫حيايت يف الوحل ُأدرك ج ّيدً ا ما يقع ّ‬
‫تعرضت بالفعل إىل عمل ّيات‬ ‫وفج‪ّ ،‬‬ ‫صوب ّ‬ ‫ٍ‬ ‫جيمع خلق اهلل من ّ‬
‫كل‬
‫حت ّيل ولك ّن خسائري مل تكن فادحة‪ .‬شعوري بالغباء جيعلني ًّ‬
‫هشا‬
‫الشيطان يف دماغي‪ ،‬ال بدّ أن يستفيق‪.‬‬ ‫فأمتلمل ويف األخري يستفيق ّ‬

‫‪11‬‬
‫أن الوجوه كانت يف ِ‬
‫حالة وجو ٍم وبؤس‪ّ .‬‬
‫الشفاه‬ ‫ما لفت انتباهي هو ّ‬
‫الضجيج‬‫ثم ترشب البرية‪ ،‬ترشب يف ّ‬
‫تنفث الدّ خان بال اكرتاث ّ‬
‫اهليستريي وال تكرتث بيشء‪.‬‬
‫ّ‬
‫عثرت عىل طاولة شاغرة‪ ،‬التقط ٌ‬
‫رجل‬ ‫ُ‬ ‫غادرت النضدَ عندما‬
‫ُ‬
‫ثم‬ ‫سوى ن ّظارته ّ‬
‫السوداء ّ‬ ‫الكريس املقابل يل وجلس‪ّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫قصري القامة‬
‫ُ‬
‫رشع يمسح لفافة بلسانه‪ ،‬أشعلها بعد ذلك وأخذ يرشقني بنظرة‬
‫ثم هتف‪:‬‬ ‫ماكرة ّ‬
‫بالرفيق املث ّقف‪ .‬أراهن أنّك مث ّقف ال ّ‬
‫يشق له غبار‪..‬‬ ‫ال ّ‬ ‫‪ -‬أه ً‬
‫قبضت عليه بحركة‬‫ُ‬ ‫انتبهت إىل أنيّ أمهلت املغ ّلف عىل ال ّطاولة‪،‬‬
‫ُ‬
‫منفعلة خمافة أن ينتشله منّي صاحب الوجه املستدير الذي يواجهني‬
‫برشايش ن ّظارته‪ .‬يف الواقع‪ ،‬مل أفكّر يف ما يمكن أن حيتويه املغ ّلف‪،‬‬‫ّ‬
‫أحتمس لفتحه داخل املقهى‪ ،‬فال يشء يوحي بأنّه ثمني وعىل‬ ‫ومل ّ‬
‫درجة كبرية من األمه ّية‪ ،‬ماذا يمكن أن ترسل يل هيلني بعد سنتني‬
‫من غياهبا؟ يوم ّياهتا يف مارسيليا؟ أم ذكرياتنا احلميمة وهي تُصارع‬
‫النسيان؟ رحلت يف ظروف غامضة ورفضت أن تتواصل معي عرب‬
‫وجهتُها إليها وهو ما أثار‬
‫اإليميل‪ ،‬مل تر ّد عىل رسائيل الكثرية التي ّ‬
‫َحنَقي‪ .‬اإلمهال يقابله اإلمهال‪ ،‬وأنا سأمهل هذا املغ ّلف ألنّه يف‬
‫اعتقادي ال خيتلف عن ابتسامة تلك املرأة التي كانت تسري أمامي‪.‬‬
‫لو أفتحه‪ ،‬قلت يف نفيس‪ ،‬سينهمر عىل رأيس احلنني املوجع وسيفسد‬
‫أحب أن أتعكّر أكثر بعد أن شنّجني ابن الكلب ذاك‪.‬‬ ‫مزاجي وأنا ال ّ‬
‫كل يشء‪ .‬لن‬ ‫األهم‪ ،‬سرتسل يل هيلني رسالة وأفهم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم‪ ،‬وهذا هو‬‫ّ‬
‫ثم أجيبها‪ .‬ال بدّ‬‫أجيبها طب ًعا بشكل رسيع‪ ،‬سأمهلها يو ًما أو يومني ّ‬

‫‪12‬‬
‫للحب‪ ،‬أنا لن أمهلها‬
‫ّ‬ ‫عدو‬
‫أن اإلمهال هو أكرب ّ‬‫مرة أخرى ّ‬
‫أن تدرك ّ‬
‫ثم‬
‫كام فعلت هي‪ ،‬سأجتاهلها بعض الوقت‪ ،‬كام فعلت هي‪ ،‬سأتثاقل‪ّ ،‬‬
‫أكتب هلا‪ ،‬أكتب بملء شوقي إليها‪ ،‬تلك املجنونة‪.‬‬
‫الرجل القصري جّ‬
‫باتاهي‪:‬‬ ‫هتف ّ‬
‫‪ -‬مث ّقف آخر زمان‪..‬‬
‫ثم مسكته من كتفه ورصخت‪:‬‬
‫أشعلت سيجار ًة ّ‬
‫ُ‬
‫ أوالً أنت لست رفيقي‪ ،‬ثان ًيا احرتم آداب اجللوس من فضلك‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫الغم‪..‬‬
‫‪ -‬اهدأ يا رفيقي‪ ،‬ظننت أنّك حتتاج إىل لفافة تزيح عنك ّ‬
‫ونحن شعب مغموم كام ترى‪.‬‬
‫الرجال منهم كثريو‬‫أخطر خملوقات اهلل هم قصار القامة‪ّ ،‬‬
‫والرغبة يف اجلنس‪ ،‬ال يشبعن‬
‫املكائد‪ ،‬أ ّما النّساء فه ّن كثريات الغنج ّ‬
‫دائري‬
‫ّ‬ ‫وال يتعبن‪ .‬وهذا القصري قد يقودين إىل كرس عظامه‪ ،‬وجهه‬
‫موزعي‬
‫شك من ّ‬ ‫ومتنمرتان‪ ،‬هو بال ّ‬
‫ّ‬ ‫ولباسه أنيق‪ ،‬عيناه ض ّيقتان‬
‫لفافات احلشيش يف مقهى باريس‪ ،‬خربت طويلاً مثل هذه األشكال‪،‬‬
‫ال ّلفافة بعرشة دنانري أو بعرشين حسب اجلودة‪ .‬مل ييأس القصري منّي‪،‬‬
‫متوسلاً ‪ ،‬جرجرين البائس نحو نقطة ضعفي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتفرس وجهي‬ ‫ظل ّ‬ ‫ّ‬
‫طيبتي هي سبب املصائب ك ّلها‪ ،‬انفلتت منّي ضحكة فاستجبت‬
‫دينارا‪.‬‬
‫وناولته ورقة نقد ّية بعرشين ً‬
‫كنت‬
‫يف بار «إيطاليا اجلميلة» مل أقاوم رغبتي يف رشب النّبيذ‪ُ ،‬‬
‫التكيز‪ .‬حرب التّخمينات كانت ضارية يف دماغي‪ ،‬ما‬ ‫أحتاج إىل رّ‬
‫الذي يمكن أن حيتويه هذا املغ ّلف؟ ما ا ّلذي حدث هليلني؟ وماذا‬

‫‪13‬‬
‫استجدّ معها؟ األسئلة ال تغادرين‪ .‬وصالح نادل البار احتار يف أمري‪،‬‬
‫ثم يفتح أمامي قارور ًة‬ ‫«هل لبسك عفريت؟»‪ ،‬كان يسألني ضاحكًا ّ‬
‫ثانية‪ .‬رشبت بنهم واستبدّ ت يب عيناها‪ ،‬عيناها كانتا تتّقدان أمامي‬
‫بشهوة أكرب‪ ،‬تلهب اجلمرة التي كانت خامدة‪ .‬وجه هيلني ينهشني‬ ‫ٍ‬
‫كل األمكنة‪ ،‬حاولت أن أنساها‪ .‬هكذا هي احلياة‪،‬‬ ‫بنهم دو ًما ويف ّ‬
‫بقصة أخرى‪ ،‬حتّى لو‬ ‫حب ال بدّ أن ننشغل عنها ّ‬ ‫قصة ّ‬ ‫عندما تنتهي ّ‬
‫حب‪ .‬كان يكفي أن ترافقني امرأة يف ليايل ديسمرب‬ ‫قصة بال ّ‬ ‫كانت ّ‬
‫قرأت يف أحد الكتب‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫احلب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثم يأيت‬ ‫ّ‬
‫األقل ّ‬ ‫الباردة‪ ،‬بجسدها عىل‬
‫حب عظيمة»‪ ،‬ولكن‪ ،‬لألسف تلك‬ ‫«اجلنس يمكن أن ينجب حكاية ّ‬
‫الصغر بال ُع َقد‪،‬‬ ‫الشعوب األخرى التي تر ّبت منذ ّ‬ ‫هتم ّ‬‫احلكايات ّ‬
‫عنف وال كوابيس‪ .‬نحن تر ّبينا عىل حكايات الغول و«ال ُع ّبيثة»‬ ‫بال ٍ‬
‫والركل وال ّلطم واحلدود الفاصلة بني احلالل واحلرام‪ .‬وأنا‬ ‫والصفع ّ‬ ‫ّ‬
‫احلب الغامض كام كانت‬ ‫ّ‬ ‫رب‬
‫باإلضافة إىل ذلك مل أعد إيروس‪ّ ،‬‬
‫بشكل الفت‬ ‫ٍ‬ ‫انكمشت‬
‫ُ‬ ‫تسميني‪ .‬مخدت أشياء كثرية يف باطني‪،‬‬ ‫هيلني ّ‬
‫متحم ًسا ملغامرة جديدة مع امرأة‪ ،‬مغامرة تكون عاصفة‬ ‫ّ‬ ‫ومل أعد‬
‫ثم تُشعل يف باطني النّار من حيث ال‬ ‫وحارقة‪ ،‬تذيبني مثل ال ّثلج ّ‬
‫أدري‪ .‬طب ًعا أستثني هاجر‪ ،‬فعالقتي هبا حكاي ٌة أخرى‪ .‬ينبغي أن‬
‫احلب من جديد‪ .‬ال يمكنني‬ ‫ّ‬ ‫بكل هذا حتّى ال أصاب بلوثة‬ ‫أعرتف ّ‬
‫بحر ٍ‬
‫هائج‬ ‫أن أنسى هيلني‪ ،‬إنهّ ا الوجع الذي ال يرحم‪ ،‬يغمرين مثل ٍ‬
‫احلب معها مسألة خمتلفة‪،‬‬ ‫ثم يلعقني بشفتيه‪ .‬هي أصل احلكاية‪ّ ،‬‬ ‫متا ًما ّ‬
‫طاحونة خراف ّية ال تتع ّطب أو تتو ّقف‪ ،‬حكاية ال تُقرأ يف الكتب وال‬
‫حررين من ّ‬
‫كل ال ُع َقد‪.‬‬ ‫احلب مع هيلني ّ‬‫ُدرس يف اجلامعات‪ّ ،‬‬ ‫ت ّ‬

‫‪14‬‬
‫مخنت‬
‫أيضا أو جتاهلتني‪ ،‬ال أدري‪ّ ،‬‬
‫الرا‪ ،‬ابنة هيلني نسيتني هي ً‬
‫تتحمل‬
‫ّ‬ ‫أنهّ ا متضايقة بسبب خصامنا األخري‪ ،‬أنا وهيلني‪ .‬هي ال‬
‫أن نتخاصم أو نفرتق‪ ،‬يف الغالب كانت تنترص ملواقفي وتقف‬
‫يف ص ّفي‪« .‬أنا أشاطر آراء سعد‪ ،‬إنّه ال خيطئ يا ماما‪ ،‬أجل‪ ،‬أجل‬
‫يا هيلني مواقفك يف غاية التّعقيد»‪ ،‬كانت تقول وهي متسك يدي‬
‫أيضا أو تشتاق‬ ‫بشدّ ة وتُرسل زفر ًة طويلة‪ .‬الرا مل تعد تزورين هي ً‬
‫عش َش ْت‬‫وعمق حالة الفراغ التي ّ‬
‫كثريا ّ‬
‫إىل حكايايت‪ ،‬أزعجني ذلك ً‬
‫للتجول بلهفة يف أز ّقة‬
‫ّ‬ ‫أيضا‬
‫متحمسة ً‬
‫ّ‬ ‫يف دماغي‪ .‬مل تعد عىل ما يبدو‬
‫املدينة العتيقة‪.‬‬
‫الصغري الدّ افِئ‬
‫وأحسست برأس هيلني ّ‬
‫ُ‬ ‫ذت برشب النّبيذ‬ ‫ّ‬
‫تلذ ُ‬
‫عىل كتفي يهُ دّ ئ من روعي وينتشلني من سفالة هذا العامل‪ .‬رقصت‬
‫الصدر‪،‬‬
‫هيلني أمامي بفستاهنا األسود القصري املثري املفتوح عند ّ‬
‫واندست بقريب يف السرّ ير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شفتي بنهم‬
‫ّ‬ ‫التهم ْت‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫رقص ْت ّ‬
‫َ‬
‫تتوزع عىل طاولتني‬‫انتبهت إىل الوجوه القليلة التي كانت ّ‬ ‫ُ‬
‫الصغرية املوجودة يف األعىل ال ينعم هبدوئها‬‫بجواري‪ ،‬هذه القاعة ّ‬
‫إلاّ الق ّلة‪ ،‬إ ّما أن يكونوا من ّ‬
‫الصحف ّيني أو النقاب ّيني املعروفني‪ ،‬وأنا‬
‫بالصعود‪ .‬وصلتني‬
‫لست صحف ًّيا وال نقاب ًّيا‪ ،‬صالح هو من يسمح يل ّ‬
‫أيضا بعض احلوارات واقتحمت عزلتي‪ ،‬كانت يف السياسة كام يقول‬ ‫ً‬
‫صالح‪ ،‬يلتقطها من يكتبون التّقارير‪ ،‬ك ّلهم يكتبون‪ ،‬هكذا يوشوش‬
‫صالح يف أذين‪.‬‬
‫‪ -‬ارشب عىل نخب ماركس يا جبان‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪ -‬دعك من ماركس أيهّ ا احليوان‪ ،‬النّظام هو اجلبان‪.‬‬
‫السعال‪ ،‬مالحمه‬
‫يكف عن ّ‬
‫ّ‬ ‫الرجل النّحيف الذي ال‬‫انزعج ّ‬
‫ثم رصخ يف‬‫حرك كأسه ّ‬
‫لتوه من أقبية التّحقيق‪ّ ،‬‬
‫تكشف أنّه خرج ّ‬
‫اجلميع‪:‬‬
‫‪ -‬حيوانات‪ ،‬ك ّلكم حيوانات‪ ..‬وال يمكن أن حتلموا باحلر ّية‪.‬‬
‫ماذا كان العامل سيفعل لو مل يكتشف النّبيذ؟ الفلاّ حون الفرس‬
‫مخروا عصري العنب‪ .‬قادهم امللل إىل التّجربة فنجحوا‬ ‫هم ّأول من ّ‬
‫الشعوب العظيمة‬ ‫احلب‪ّ .‬‬‫ّ‬ ‫واكتشفوا هبج ًة أخرى تضاف إىل هبجة‬
‫السعادة واجلنون‪ .‬أ ّما نحن فشعوب النّكد‪.‬‬ ‫هي التي تكتشف أسباب ّ‬
‫الشعوب‬ ‫دراستي للتاريخ يف كل ّية اآلداب بمنّوبة دفعتني إىل احتقار ّ‬
‫إنساين‪ ،‬وكانت فاشلة‬
‫ّ‬ ‫حضاري أو‬
‫ّ‬ ‫أي مرشوع‬‫العرب ّية‪ ،‬مل تنجح يف ّ‬
‫السنة األوىل‪ .‬كنت‬ ‫عيل ومل ّ‬
‫أختط ّ‬ ‫كل يشء‪.‬تارخيهم قىض ّ‬ ‫بامتياز يف ّ‬
‫أتبول يف البحر امل ّيت‪ ،‬ال أستوعب شي ًئا حتّى استنفدت‬‫السنة ّ‬
‫طوال ّ‬
‫كامل خراطييش‪ .‬دراسة التّاريخ يف اجلامعة أشبه بعمل ّية انتحار شنيع‬
‫السوس‪ ،‬وكدت أنتحر فعلاً لو مل تصادفني هيلني‪،‬‬ ‫عىل عمود أكله ّ‬
‫حي‬
‫فاشل مثيل ّفر من ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ُونيس‬ ‫ٍ‬
‫لرجل ت ٍّ‬ ‫وهي أمجل ما يمكن أن ُيمنح‬
‫ليستقر يف وكالة شعب ّية وسط العاصمة‪.‬‬‫ّ‬ ‫الزهور بالقرصين‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬انتبه يا سعد‪ ،‬لقد بالغت يف الشرّ ب‪ ،‬وترغب يف ال ّثالثة؟‬
‫ثم جاءين برشحية حلم ساخنة وقطع جبنة وح ّبات‬ ‫هتف صالح‪ّ ،‬‬
‫حي‬
‫كهل مثيل من ّ‬ ‫زيتون‪ .‬صالح هو من هيبني رائحة القرصين‪ٌ ،‬‬
‫يستقر هبا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النّور حرقته األ ّيام يف العاصمة واستطاع يف األخري أن‬
‫وتزوج امرأ ًة صاحلة كام قال يل‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬هو‬
‫اكرتى بيتًا يف املنيهلة ّ‬

‫‪16‬‬
‫من يساعدين عىل جتميع تالميذ االبتدائي إلعطائهم دروس تدارك‬
‫السكارى و ُيبالغ يف متجيدي كرجل‬ ‫يف منازهلم‪ ،‬يتّكئ عىل آبائهم ّ‬
‫تربية ال يناقش أحد يف قيمته وأمانته‪ .‬صالح يقسم بأغلظ اإليامن‬
‫أن فرص‬ ‫ألاّ يتس ّلم منّي ولو م ّليام واحدً ا نظري خدماته‪ ،‬كان يدرك ّ‬
‫كل أبواب جهنّم‪ .‬ولألمانة‪،‬‬ ‫العمل نادرة وهو ما يفتح أمام خلقتي ّ‬
‫عندما تصادفني فرص عمل أحرص عىل تسديد مبالغ إضاف ّية‪،‬‬
‫أضعها عىل ال ّطاولة يف غفلة من صالح‪ ،‬وضع ّيته هو ً‬
‫أيضا بائسة وال‬
‫تقوس ظهره‪ .‬مسألة الدّ روس‬ ‫باملرة أن أثقل كاهله بمصاريف ّ‬
‫أحب ّ‬ ‫ّ‬
‫أعول عليها‪ .‬يف فرتة االمتحانات‬ ‫مل تكن منتظمة‪ ،‬وكان من احلمق أن ّ‬
‫ُأصبح املع ّلم املنقذ لعرشات التالميذ املستهرتين‪ .‬كنت أعرف كيف‬
‫أوجههم إىل امتحانات بعينها وحديس كان يصدق يف حاالت كثرية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أ ّما مغامرات احلفر عن الكنوز فلم تكن ُمتاح ًة دو ًما‪ ،‬وباإلضافة إىل‬
‫دورا‬
‫الصدف ً‬ ‫ذلك هي ليست مضمونة‪ ،‬ال ختضع ملنطق‪ ،‬وتلعب ّ‬
‫كبريا يف العثور عىل كنز يشفي الغليل‪.‬‬
‫ً‬
‫عيل أن‬‫احلديدي الض ّيق بصعوبة‪ ،‬كان ّ‬
‫ّ‬ ‫تدحرجت من الدّ رج‬
‫ُ‬
‫كدت أسقط فعلاً لو‬‫ُ‬ ‫باتاه ش ّقتي يف ص ّباط الدّ زيري‪،‬‬ ‫أغادر البار جّ‬
‫أحسست ّ‬
‫بأن شي ًئا ما‬ ‫ُ‬ ‫مقبضا حديد ًّيا كان يف متناول يدي‪.‬‬ ‫مل أمسك ً‬
‫أحتمس للبحث عنه‪ .‬صالح كان يتابعني من اخللف‬ ‫سقط منّي ومل ّ‬
‫وخيشى أن أسقط بسبب مبالغتي يف الشرّ ب‪ ،‬يف أقىص احلاالت كنت‬
‫أرشب قارورة ونص ًفا‪ ،‬ويف هذه ال ّليلة ابتلع جويف ثالث قوارير‪.‬‬
‫الشارع فاجأين وجه تلك‬‫عندما تس ّللت من باب البار نحو ّ‬
‫دوختني يف ّأول املساء‪ .‬لفحات الربد‬ ‫ّ‬
‫املؤخرة التي ّ‬ ‫املرأة‪ ،‬صاحبة‬

‫‪17‬‬
‫صفعت وجهي وأحسست هبا تنغل يف مسام جسدي‪ ،‬مل ينجح النّبيذ‬
‫تعمدت أن حيصل ذلك‪،‬‬ ‫األمحر يف إشعايل‪ .‬المس شعرها وجهي‪ّ ،‬‬
‫تطاير شعرها األسود أمامي وخدّ رين العطر‪ .‬أرشق وجهها‪ ،‬مل تفرط‬
‫يف وضع املكياج كنساء ال ّليل‪ ،‬الحت يل فاتنة ومشتعلة‪ ،‬عرفتها‬
‫تسمرت‬ ‫برسوال اجلينز ون ّظارهتا‪ ،‬مل يتس ّن يل أن أتط ّلع إىل قفاها‪ّ .‬‬
‫السوداء وقالت‪:‬‬
‫ثم نزعت نظارهتا ّ‬ ‫كنزا ّ‬
‫أمامي كأنهّ ا اكتشفت ً‬
‫مرة أخرى؟‪..‬‬
‫‪ -‬مستحيل!‪ ..‬أنت ّ‬
‫مرة ثانية‪ .‬التمعت‬ ‫الكارثة‪ ،‬مل تنس مالحمي‪ ،‬والقدر قادها إ ّيل ّ‬
‫فرحا وأنا أسحبها من يدها‪ .‬يدها ساخنة يف الربد‪ ،‬أثارتني‬ ‫عيناها ً‬
‫أهم بؤر الفتنة عند املرأة‪ .‬عيناها‬
‫تلك النّعومة‪ ،‬واليد النّاعمة هي من ّ‬
‫أن النّبيذ هو الذي ساهم يف‬ ‫أيضا كانتا تومضان بشبق وال أعتقد ّ‬ ‫ً‬
‫لوثة انبهاري وسقوطي‪ .‬املسألة مسألة توقيت‪ّ ،‬أول املساء خيتلف‬
‫الشك حتتاج يف هذا الوقت‬ ‫ّ‬ ‫عن آخر ال ّليل املشحون العاصف‪ .‬هي‬
‫الضائع إىل رجل‪ ،‬وأنا تناسبني امرأة مثلها بعد أن صدّ عني ذاك‬ ‫ّ‬
‫البائس جوهر‪ .‬يف العادة أخشى نساء آخر ال ّليل‪ ،‬لكن‪ ،‬ال بأس‪ ،‬مل‬
‫مخنت‪ ،‬هي حتتاج إىل مأوى مثل عرشات‬ ‫تكن يف إبطها رائحة قذرة‪ّ ،‬‬
‫احلاالت التي صادفتني من قبل‪.‬‬
‫‪ -‬اسمع يا‪..‬‬
‫‪ -‬سعد‪.‬‬
‫‪ -‬أنا لست مومسا كام تظ ّن‪.‬‬
‫‪ -‬عندما أكون يف حرضة ابن خلدون ال ترافقني إلاّ املالئكة‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫السارح»‪ ،‬هكذا كانت أ ّمي تقول‪،‬‬ ‫«ما يفهم ترهدين النّعجة كان ّ‬
‫تقريرا‬
‫ً‬ ‫ثم يكتب رأسها‬ ‫تتفرس يف مشيته ّن ّ‬‫فهي خبرية بالنّساء‪ّ ،‬‬
‫مفصلاً ‪ .‬يف الغالب ال حتتاج إىل ثرثرهت ّن لتم ّيز الواحدة من األخرى‪،‬‬
‫ّ‬
‫الرس‪ ،‬تؤكّد أ ّمي‪ ،‬أ ّما إذا طأطأت رأسها وهي متيش‬‫مشية املرأة هي ّ‬
‫فهي امرأة فاسدة ولعوب‪ .‬وأنا عرفت هذه املرأة من مشيتها أمامي‪،‬‬
‫عيل أن أكون َلبِ ًقا‪ ،‬هذه مقتضيات‬
‫عيني‪ .‬كان ّ‬‫ومؤخرهتا كادت تبتلع ّ‬ ‫ّ‬
‫املراودة الليل ّية‪« ،‬ضع شيئا يف رسوال املرأة التي تراودها حتّى تسمح‬
‫الشيطان يف رأيس‪ .‬وأنا وضعت كال ًما معسولاً‬ ‫لك بنزعه»‪ ،‬يلهث ّ‬
‫وتوسع خطواهتا مثلام أفعل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هتتز بجانبي‬
‫وساحرا جعلها ّ‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫وكالة ُأنشئت‬ ‫ش ّقتي يف ص ّباط الدّ زيري‪ ،‬تقع يف ال ّطابق ّ‬
‫األول من‬
‫منذ عهد االستعامر‪ ،‬منذ سنة نجت من اهلدم ووقع ترميمها بمجهود‬
‫بالقوة العا ّمة‪ .‬معلوم‬
‫خاص من العائالت التي كانت ختشى اإلجالء ّ‬ ‫ّ‬
‫رمزي‪ ،‬وهو يناسبني كام يناسب العائالت‬ ‫ّ‬ ‫ظل كام هو‪ ،‬معلوم‬ ‫الكراء ّ‬
‫تعمدت االتّكاء‬ ‫السكن يف هذه الوكالة‪ .‬املرأة ّ‬‫الفقرية التي تشاركني ّ‬
‫قدمي بمش ّقة‪ .‬كانت ختشى‪ ،‬كام‬ ‫ّ‬ ‫أجر‬
‫عيل بكامل ثقلها‪ ،‬لذلك كنت ّ‬ ‫ّ‬
‫تنط بني األكياس املرتاكمة يف زقاقنا الذي‬ ‫القطط التي ّ‬
‫َ‬ ‫مهست يل‪،‬‬
‫الشقق كانت مغلقة‬ ‫كل هذه األكوام العفنة‪ .‬نوافذ ّ‬ ‫مل يعد حيتمل ّ‬
‫ومطفأة‪ ،‬هذا أحسن‪ ،‬قلت يف نفيس‪ ،‬لو تتف ّطن هاجر حلامقتي ف َل ْن‬
‫بكل انفعاهلا‪:‬‬‫تغفر يل‪ ،‬ستبحلق يف وجهي ثم تقول ّ‬
‫‪ -‬اهلل اهلل‪ ..‬أنت كلب‪ ،‬إىل هذا احلدّ ال تشبع؟‬
‫هاجر ذات صوت رخيم يصبح يف هذه الوضع ّية مثل صافرة‬
‫محام األنف»‪ ،‬تقابلني مق ّطبة اجلبني وختاصمني‪ .‬وبعد ذلك ال‬
‫قطار « ّ‬

‫‪19‬‬
‫يمكن أن تقاطعني أكثر من ثالثة أ ّيام‪ ،‬ال يمكن طب ًعا أن تغامر هاجر‬
‫بفعل ذلك‪« ،‬شاهيتّك يا سعد يا بليد يا ركيك»‪ ،‬هتمس يف أذين بعد‬
‫تندس معي يف السرّ ير‪ .‬الوحيدة التي ال‬
‫ّ‬ ‫ثم‬
‫الرغبة‪ّ ،‬‬
‫أن تعصف هبا ّ‬
‫قصتنا‬‫تناقش أمرها هي هيلني‪ ،‬ال تفتح هذا الدّ رج أبدً ا‪ ،‬هي تعرف ّ‬
‫أن وجود هيلني يف الش ّقة‬
‫لذلك تتفادي اخلوض فيها‪ .‬كنت أعرف ّ‬
‫تنقض عليها األوجاع وال ترمحها‪ .‬ذات‬ ‫يصيبها ُبرعب ّ‬
‫«الشقيقة»‪ّ ،‬‬
‫ليلة طرقت باب ش ّقتي وهي تبكي‪ ،‬وهيلني هي التي خ ّففت آالمها‬
‫لصداع ّ‬
‫«الشقيقة»‪.‬‬ ‫بح ّبات صفراء صغرية‪ ،‬قالت إنّه دواء ناجع ُ‬
‫النّوافذ يف النّهار ّ‬
‫تظل مفتوحة كامل اليوم‪ ،‬تزدحم باملفروشات‬
‫ويدب يف الوكالة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هيب‬
‫كل من ّ‬ ‫املتلصصة عىل ّ‬
‫ّ‬ ‫والرؤوس‬ ‫والغسيل ّ‬
‫األغاين يف العادة تصدر عن أرشطة بذيئة‪ ،‬رصاخ وهتييج‪ ،‬هذا ما‬
‫وكثريا ما يتّضح يل ّ‬
‫أن بعض شقق الوكالة‬ ‫ً‬ ‫حيصل يف أغلب األوقات‪.‬‬
‫الرسي‪ ،‬كلمة السرّ فيه تلك‬
‫كانت معدّ ة للمتعة‪ ،‬مثل سوق املتعة ّ‬
‫أهتم‪ ،‬وال أسمح هلاجر بأن ترسد يل‬
‫األغاين اهلابطة‪ .‬الغريب أنيّ ال ّ‬
‫التّفاصيل‪ .‬ال داعي لثرثرتك‪ ،‬أقول هلا حاسماً وأنا أفرك هندهيا‪.‬‬
‫تتحسس معي‬
‫ّ‬ ‫خوف املرأة‪ ،‬كام أحسست‪ ،‬مل يتالش وهي‬
‫ندمت‬
‫ْ‬ ‫مدخل الوكالة ثم ترتقي برفقتي الدّ رج نحو ال ّطابق ّ‬
‫األول‪،‬‬
‫بال ريب عىل محاقتها التي ارتكبتها يف آخر ال ّليل‪ ،‬كان يمكن أن تنام‬
‫عش الدّ بابري‪« .‬من نفقتو باين عشاه»‪،‬‬ ‫الشارع وال ترافقني إىل ّ‬
‫يف ّ‬
‫ستو ّبخ نفسها‪ ،‬لكنّها ال تستطيع أن تفكّر يف اهلروب‪.‬‬
‫مررت‬ ‫داخل الش ّقة رّ‬
‫تغي الوضع متا ًما‪ ،‬تالشى خوف رفيقتي‪ّ ،‬‬

‫‪20‬‬
‫لساهنا عىل شفتيها وهي تسألني عن غرفة االستحامم‪ .‬بحركة رسيعة‬
‫ثم أدارت يل ظهرها وتناولت سيجارة من‬ ‫نزعت مالبسها أمامي ّ‬
‫الصغرية‪ .‬أدارت يل ظهرها عمدً ا كام قدّ رت‪ ،‬انحنت‬ ‫حقيبتها اليدو ّية ّ‬
‫مؤخرهتا‬‫حركت يف األثناء ّ‬ ‫أيضا بذاك البطء املزلزل لتلتقط حقيبتها‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫الكشاف‬ ‫أصوب ضوئي‬ ‫اشتعلت وأنا ّ‬
‫ُ‬ ‫بشكل لدغني يف األعامق‪.‬‬
‫الرغبة أحيانًا مثل ال ّظواهر اخلارقة التي‬ ‫الردفني املمتلئني‪ّ .‬‬ ‫نحو ّ‬
‫تسحب منّا انتامءنا إىل اإلنسان ّية وترمينا إىل عامل احليوان ّية املجهول‪،‬‬
‫متحركة‪ ،‬تبتلعنا من األعىل إىل األسفل‪ ،‬واألسفل‬ ‫ّ‬ ‫عامل شبيه برمال‬
‫هو الذي يشقى أكثر يف تلك ال ّلحظات التي تسبق إلقاء احلمم‬
‫ال عجينة اجل ّن هذه التي‬ ‫الربكان ّية‪ .‬الغواية أنثى‪ ،‬وقد أغوتني فع ً‬
‫خرجت يل يف آخر ال ّليل‪ .‬املدهش أنيّ مل أفكّر طويلاً يف حكايتها‪،‬‬
‫هكذا تكون املغامرات‪ ،‬جمنونة وحماطة بالكثري من الغموض أو ال‬
‫مؤخرهتا واختزلت العامل أمامي‪ّ ،‬‬
‫كل العامل‪.‬‬ ‫تكون‪ .‬ومع ذلك شغلتني ّ‬
‫ما استغربته ح ًّقا هو أنيّ مل أملس إلاّ يدها اليرسى‪ ،‬مل تكن يل رغبة‬
‫أيضا يف احتضاهنا بحركة‬ ‫للمس شعرها أو خدّ هيا أو شفتيها‪ ،‬مل أفكّر ً‬
‫رسيعة تعبرّ عن حالة إعجاب‪ .‬كان يكفي أن أحضنها بشكل رسيع‪،‬‬
‫كأسا من نبيذ‬
‫وأترك مسألة هندهيا إىل مرحلة أخرى‪ .‬بعد أن أحتيس ً‬
‫اجل ّن سألتقطهام كام أفعل مع هاجر‪ ،‬تلك النّار التي ال ختمد‪ ،‬تولول‬
‫يدي لرتقص مثل الغجر ّيات‪،‬‬ ‫ثم تقفز من بني ّ‬ ‫عندما ألتقط هندهيا ّ‬
‫ّ‬
‫لتدك أوصايل‪ .‬املرأة تريد أن‬ ‫وترتك ذاك الوشاح األمحر يف خرصها‬
‫ثم تأيت التّفاصيل‬‫الرجل الذي يرافقها ملدوغ هبا‪ّ ،‬‬ ‫تتأكّد ّأولاً من ّ‬
‫أن ّ‬
‫ترصح بذلك‪ ،‬وإن‬ ‫الح ًقا‪ .‬وأظ ّن أنهّ ا الحظت هذا الربود ومل تشأ أن ّ‬

‫‪21‬‬
‫بقي األمر عىل ما هو عليه بعد خروجها من غرفة االستحامم فإنهّ ا‬
‫ستصفعني‪ ،‬هذا أكيد‪.‬‬
‫رس‬
‫تتحرج عندما تسألني عن ّ‬ ‫منج ّية‪ ،‬أ ّمي القرصين ّية ّ‬
‫الشاخمة ال ّ‬
‫تلمح إىل هذا األمر الذي يزعجها‪ ،‬وعندما أتظاهر‬ ‫برودي مع النّساء‪ّ ،‬‬
‫بالغباء تسقط عنّي ورقة التّوت‪ .‬هي مل تُسقطني من جوفها ألنكمش‬
‫السيناريو سيقع معي يو ًما لأَ َ ْم َسكتني‬
‫أن هذا ّ‬ ‫كدودة‪ ،‬لو خت ّيلت ّ‬
‫لتعوضني بأنثى‪ ،‬األنثى أمرها‬
‫من رأيس وحرشتني يف جوفها ثانية ّ‬
‫كل احلاالت لن تصاب بخيبة أمل‪« .‬ال بدّ أن تبحلق‬‫واضح‪ ،‬ويف ّ‬
‫يف وجوهه ّن يا فرخ احلرام حتّى ختتار واحدة‪ ،‬أسمعت؟ ال تنظر إ ّيل‬
‫هكذا كاألبله»‪ ،‬تقول مق ّطبة جبينها‪ .‬ويف أحيان كثرية كانت ّ‬
‫تتعمد‬
‫يتحمس لقبلة أو‬
‫ّ‬ ‫تركي منفر ًدا يف غرفتي مع إحدى الفتيات‪« ،‬قد‬
‫يرسع قرار زواجه من واحدة»‪ ،‬يشتغل‬
‫الطري وهو ما ّ‬
‫ّ‬ ‫ملسة من النّهد‬
‫رأس أ ّمي‪ .‬وما إن خترج إحدى الفتيات من غرفتي حتّى تقتحمها‬
‫ومتحمسة إىل شتمي وأكيل بأسناهنا‪ .‬عيون الفتيات‬ ‫ّ‬ ‫وهي غاضبة‬
‫املنكرسة كانت تقول أل ّمي‪ :‬فرخك هو ال ّثلج شخص ًّيا يا خالة منج ّية‪.‬‬
‫‪ -‬اسمي نادية‪.‬‬
‫تستحم‪ ،‬بحثت عن ال ّلفافة‬
‫ّ‬ ‫هتفت املرأة من خلف الباب وهي‬
‫التي اقتنيتها من مقهى باريس وفكّرت يف تدخينها مع نادية‪ .‬ال بدّ‬
‫أن تسكر معي باحلشيش حتّى ال حتدّ ق يف خلقتي بفضول ومتطرين‬
‫مرة‪ ،‬ملاذا‬ ‫بأسئلتها التّافهة‪ .‬أمقت األسئلة فعلاً مع امرأة ألتقيها ّ‬
‫ألول ّ‬
‫الروتني إطال ًقا‪،‬‬
‫أحب هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫قصتها‪ ،‬ال‬
‫وكيف ومتى؟ لن أسأهلا عن ّ‬

‫‪22‬‬
‫السبب‬‫وتوسع مراوغاهتا‪ ،‬وهلذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل األحوال ستكذب‬‫وهي يف ّ‬
‫الرائق‪ .‬املغامرة يف‬
‫أيضا‪ ،‬فكّر رأيس‪ ،‬سأكتفي بحميم ّيتها ومزاجها ّ‬
‫ثم نتخدّ ر ّ‬
‫بلذة املالمسة‬ ‫نظري هي أن نرمتي يف املجهول بال اكرتاث ّ‬
‫شجعتني عىل هذه املغامرة‬ ‫أهم األسباب التي ّ‬ ‫واالكتشاف‪ .‬ومن ّ‬
‫الربقي الذي كانت نادية تتك ّلم به‪ ،‬ال تثرثر‪ ،‬توجز وتسدّ د‬
‫ّ‬ ‫األسلوب‬
‫يف املرمى مبارشة‪ .‬هي بال ريب‪ ،‬كام فكّرت‪ ،‬ستُميض معي ليلة‬
‫الصباح ستنهض‬ ‫تعودت مع رجال آخر ال ّليل‪ ،‬ويف ّ‬ ‫ساخنة مثلام ّ‬
‫ثم تفتح ك ّفها وهتتف يب‪:‬‬
‫باكرا وتنتصب أمامي مثل قابض املال ّية ّ‬
‫ً‬
‫‪« -‬ب ّيض ك ّفي يا ّ‬
‫عمي يا باهي‪»..‬‬
‫أرس َل ْت ُه‬
‫ّرت مسألة املغ ّلف الذي َ‬
‫أشعلت ال ّلفافة تذك ُ‬
‫ُ‬ ‫عندما‬
‫انتبهت إىل أنيّ مل أضعه يف أحد‬
‫ُ‬ ‫ثم‬‫ّشت يف جيوب املعطف ّ‬ ‫هيلني‪ ،‬فت ُ‬
‫اجليوب ألنّه كبري احلجم‪ .‬إنّه ألمر غريب أن يضيع منّي‪ ،‬حدست أنّه‬
‫السري‪ ،‬مل يسقط يف البار أثناء نزويل من الدّ رج‪ ،‬صالح كان‬ ‫سقط أثناء ّ‬
‫ثم يلتقط املغ ّلف ويس ّلمني إ ّياه‪ .‬ضاع‬ ‫سين ّبهني إىل األمر ّ‬
‫بكل تأكيد ّ‬
‫شك يف املسافة الفاصلة بني البار والش ّقة‪ .‬يف تلك اآلونة‬ ‫املغ ّلف ال ّ‬
‫انزعجت ح ًّقا ألنيّ أضعت املغ ّلف وما أزعجني أكثر هو أن يتعكّر‬
‫أمتص ال ّلفافة‪.‬‬
‫مزاجي وأنا ّ‬

‫‪23‬‬
‫(‪)2‬‬
‫هيلني‬

‫الرياح‪ ،‬لك ّن ّ‬
‫الذكريات يف ذهني‬ ‫مرت األ ّيام برسعة كمرور ّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫عيل‪ ،‬خ ْل ُت ّ‬
‫أن النّسيان ل ّفها ورحلت‪،‬‬ ‫متعن يف التد ّفق‪ ،‬وتتناوب ّ‬
‫ُلح يف العودة‪ .‬أحيانًا أحاول اهلروب فأغلق غرفتي وأش ّغل‬ ‫غري أنهّ ا ت ّ‬
‫ثم أمتدّ د عىل السرّ ير عاري ًة متا ًما‪.‬‬ ‫جهاز التّدفئة وأخت ّلص من ّ‬
‫كل ثيايب‪ّ ،‬‬
‫الصمت‪.‬‬
‫ومتزق ّ‬
‫متمردة من احلاسوب ّ‬
‫تنبعث املوسيقى مثل شحنة ّ‬
‫ّ‬
‫كل يشء متو ّفر يف غرفتي‪ ،‬النّبيذ والفواكه والكتب‪ ،‬أعشق كتب‬
‫التّاريخ منذ صغري‪ ،‬اقتنيتها من مارسيليا وباريس‪ ،‬وأكثرها جلبته‬
‫من تونس‪ ،‬من هنج الد ّباغني‪.‬‬
‫يف العادة‪ ،‬شريا ال تقلق من اعتكايف يف غرفتي‪ ،‬تعرف أنيّ عندما‬
‫مزاج س ِّي ٍئ فتتجنّبني‪ .‬هكذا هي أ ّمي‪ ،‬عىل غاية‬
‫أغلق باهبا أكون يف ٍ‬
‫حرة‪ ،‬مستق ّلة‬
‫والذكاء‪ .‬ع ّلمتني منذ صغري أن أكون ّ‬ ‫احلس ّ‬
‫من رهافة ّ‬
‫يف قرارايت‪ ،‬وهي تعرف أنيّ جمنونة‪ ،‬مثلها متا ًما عندما كانت صغرية‪.‬‬
‫احلب‬
‫ّ‬ ‫إليف كذلك كان أ ًبا عطو ًفا‪ ،‬شجر ًة وارف َة ال ّظالل‪ ،‬مل أكتشف‬
‫يف الكتب وال يف األفالم‪ ،‬واكتشفته يف عيني أيب اهلادئتني‪ ،‬أمجل القبل‬
‫كانت من إليف وأغىل قبلة كانت قبلته وهو يموت بني يدي أ ّمي‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫يروق يل أن أرشب النّبيذ يف غرفتي‪ ،‬أشعل شمعتني وأعتكف‬
‫خاص عندما أستلقي عىل السرّ ير‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف رسيري‪ .‬كأس النّبيذ له طعم‬
‫متأهبة‪ .‬يلوح يل‬
‫يفتح شه ّيتي للقراءة والبحث‪ ،‬وجيعل مشاعري ّ‬
‫ٍ‬
‫ثم حيضنني بلهفة وجنون‪.‬‬ ‫وجه سعد‪ ،‬وحيدجني بنظراته املتسائلة ّ‬
‫الكأس املقدّ سة رشبتها مع سعد يف لقاءاتنا احلميمة األوىل‪ .‬كان ذلك‬
‫يوم مجعة‪ ،‬سهرنا حينها يف فندق «رويال فيكتوريا» بـ«باب بحر»‪،‬‬
‫وأقمنا مائدتنا امللك ّية عىل ضوء شمعتني‪ .‬مل يصدّ ق سعد أن تكون‬
‫سهرتنا األوىل بال موسيقى وال ضجيج‪ .‬التحامنا كان هو املوسيقى‬
‫املذهلة التي ال تتالشى‪ ،‬ومع مرور األ ّيام ازدادت تعتّقا مثل النّبيذ‪.‬‬
‫يف غرفتي أحتفظ بالنّبيذ اجل ّيد‪ ،‬بعض القوارير جلبتها من تونس‪،‬‬
‫الساحر كام يقول‪ ،‬ومع‬ ‫يرص عىل أن أرشب النّبيذ التونيس ّ‬ ‫كان سعد ّ‬
‫منعشا ح ًّقا‪ .‬أرشب عندما أح ّن إىل سعد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫األكل والغالل يكون‬
‫ثم يقف جامدً ا يف قلبي‪ ،‬ويصغي إىل رصخاته‬ ‫يركض يف داخيل‪ّ ،‬‬
‫املكتومة‪.‬‬
‫يف زياريت األخرية إىل تونس مل أكن غاضبة من سعد مثلام‬
‫مرت سنتان عىل‬ ‫كنت منكرس ًة ويائسة ومرهقة جدًّ ا‪ّ .‬‬
‫فهم‪ ،‬وإنّام ُ‬
‫الزيارة‪ ،‬وسعد طفيل املجنون‪ ،‬ال يصدّ ق أنيّ مل أكن مستاءة ممّا‬
‫تلك ّ‬
‫جرنا النّقاش‬
‫عرصا عندما ختاصمنا‪ ،‬مل يسبق أن ّ‬ ‫جرى‪ .‬كان الوقت ً‬
‫إىل مثل ذلك االنفعال‪ ،‬ومل يكن بوسعي آنذاك أن أبقى وسط ذلك‬
‫الصمت القاتل‪ .‬ال أدري ملاذا كنت خائفة من فقدان سعد إىل األبد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أن غيابه يعني مويت ح ًّقا‪ .‬أحسست ّ‬
‫بالضياع وأنا أغادر‬ ‫كان يدرك ّ‬
‫الش ّقة وأهرب منه‪ ،‬ويف تلك ال ّلحظات مل أسمع إلاّ نعيق الغربان‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫انزلقت دموعي ساخنة وحارقة‪ ،‬خشيت أن أضعف أمامه وأرتكب‬
‫الزواج‪ ،‬أدركنا‬ ‫احلامقة الكربى‪ ،‬فأوافق عىل زواجنا‪ .‬كنّا ممنوعني من ّ‬
‫الرباط املقدّ س حرمنا منه‪ ،‬مع ّ‬
‫كل‬ ‫ذلك منذ اعرتافاتنا األوىل‪ ،‬ذلك ّ‬
‫حب وقبلة‪ ،‬وبعد ليلتنا الكربى كنت أخشى أن يطلبني‬ ‫ملسة وكلمة ّ‬
‫الزواج‪ ،‬فهي تبدو مرعب ًة‪ ،‬قاتلة‬
‫زوجة‪ .‬كنت أخاف من هذه الكلمة‪ّ ،‬‬
‫يف وضع ّيتنا‪ .‬وعندما نطق هبا سعد‪ ،‬ضاقت يب الدنيا فهربت منه‪،‬‬
‫تالشيت من أمامه ألنجو من العذاب‪.‬‬
‫غادرت الش ّقة وأنا أبكي وأرتعش‪ ،‬كان ذلك يوم أربعاء‪ُ ،‬‬
‫كنت‬
‫فحاولت أن أطارد اهلواء‪ .‬فكّرت يف أن ألوذ بزاوية‬‫ُ‬ ‫خمتنق ًة جدًّ ا‪،‬‬
‫سيدي حمرز‪ ،‬شريا كانت توصيني هبا‪« :‬إذا انسدّ ت أمامك األبواب‬
‫يا هيلني اذهبي إىل زاوية سيدي حمرز‪ ،‬سيدي حمرز يا ابنتي منع عنّا‬
‫ال ّظلم والقهر‪ ،‬وكنّا يف محاه حتّى رحلنا إىل مارسيليا»‪.‬‬
‫وتوجهت إىل مقهى‬ ‫ّ‬ ‫ملت ّأوالً إىل شارع احلبيب بورقيبة‬ ‫ُ‬
‫أن سعد ال حي ّبذ اجللوس هناك‪ ،‬فمقهى باريس‬ ‫التياترو‪ ،‬كنت أعرف ّ‬
‫هو معبوده‪ ،‬وقد ينساين أحيانًا وهو منشغل بقهوته‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬كنت‬
‫كثرية الرت ّدد عىل هذا املقهى منذ دراستي اجلامع ّية‪ ،‬شاء ح ّظي أن‬
‫بالسفارة كان‬‫السفارة الفرنس ّية‪ ،‬أحد املو ّظفني ّ‬ ‫أشتغل مرتمجة يف ّ‬
‫صديق أيب وهو من مكّنني من تلك الوظيفة املؤ ّقتة‪ .‬يف تلك الفرتة مل‬
‫أكن أحتاج إىل املال بقدر حاجتي إىل عالقات وخربة يف احلياة‪ ،‬كنت‬
‫أرصت‬ ‫أتقن ال ّلغتني‪ ،‬العرب ّية والفرنس ّية‪ ،‬مثل شريا متا ًما‪ .‬هي التي ّ‬
‫عىل ذلك منذ صغري‪« ،‬تع ّلمي ال ّلغة العرب ّية يا صغرييت مثلام تع ّلمتها‬
‫أيضا كانوا يتك ّلمون هبا»‪ ،‬كانت تقول يل وهي‬ ‫أنا يف تونس‪ ،‬أجدادك ً‬

‫‪27‬‬
‫أيضا ّ‬
‫أن حيازيت جلنس ّيتني‪ ،‬تونس ّية وفرنس ّية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫متشط شعري‪ .‬وال أنسى ً‬
‫بالسفارة‪.‬‬
‫ساعدتني عىل االستمرار لسنوات يف تلك الوظيفة ّ‬
‫الركن الذي يمكّنني من مراقبة مقهى باريس‪ ،‬كنت‬ ‫جلست يف ّ‬
‫متش ّوقة إىل رؤية سعد من بعيد‪ ،‬حمتاجة أكثر إىل وجهه األسمر‬ ‫ّ‬
‫طلبت قهوة وقارورة ماء صغرية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الرماد ّيتني الصغريتني‪.‬‬
‫وعينيه ّ‬
‫املجهز‬
‫ّ‬ ‫وأول يشء فعلته هو غلق اهلاتف‪ .‬فتحت بعد ذلك حاسويب‬ ‫ّ‬
‫ثم أرسلت رسالة قصرية إىل‬ ‫اإللكرتوين ّ‬
‫ّ‬ ‫باألنرتنيت‪ ،‬تف ّقدت بريدي‬
‫أ ّمي‪ ،‬اكتفيت بطمأنتها عىل حالتي‪ ،‬هي طب ًعا ال تشبع من رسائيل‪.‬‬
‫الرا مل تكتب يل كعادهتا‪ ،‬شغلتها الدّ راسة عىل ما أظ ّن‪ ،‬أعرف أنهّ ا‬
‫كل تفاصيل دراستها‪ ،‬وشريا تقرأ ّ‬
‫كل كلامهتا‪،‬‬ ‫تكتب لشريا باستمرار ّ‬
‫بل إنهّ ا ال تنام إالّ بعد أن تقرأ رسائل الرا‪.‬‬
‫الضحك ورائي‪ ،‬حانت منّي التفاتة خاطفة‪،‬‬ ‫سمعت موجة من ّ‬
‫السعادة وحبيبها يضع راحة‬ ‫التقت عيناي بعينَي فتاة‪ ،‬كانت يف غاية ّ‬
‫أيضا ومها يف بداية احللم‪،‬‬ ‫يده عىل خدّ ها األيمن‪ .‬وصلتني كلامتهُ ام ً‬
‫احلب له بدايات رهيبة‪ ،‬عذبة‪ ،‬نوران ّية‪ ،‬األكيد‬
‫ّ‬ ‫هكذا كان إحسايس‪،‬‬
‫بدرا‪ .‬عاينت يف‬ ‫أن اهلالل الوليد حيتاج إىل وقت ليتشكّل ويصري ً‬ ‫ّ‬
‫العشاق‪ ،‬ذلك‬ ‫الساحر الذي يومض عادة من عيني ّ‬ ‫ٍ‬
‫حلظة ذلك الربيق ّ‬
‫جربت ّ‬
‫لذ َة‬ ‫عيني وأنا أغرم بسعد‪ .‬مل أكن قد ّ‬ ‫شع من ّ‬ ‫الوميض نفسه ّ‬
‫ملس اليد من قبل‪ ،‬ويف ّأول أ ّيامنا عندما ملس سعد يدي شعرت بدوار‬
‫خفيف يف رأيس‪ ،‬وتشكّل بدرنا برسعة جنون ّية رغم أنيّ مل أكن أنتظر‬
‫احلب هذه‪ .‬سعد كان جي ّن عندما أغنّي له إحدى أغاين حبيبة‬ ‫ّ‬ ‫حكاية‬
‫أحب جنونه‪ ،‬ينتيش بصويت وهو يضع رأسه عىل صدري‪:‬‬ ‫مسيكة‪ ،‬وأنا ّ‬

‫‪28‬‬
‫نقطـع التّنهيـدَ ه من وسط قلبـي آه يـا داي‬
‫نقطع التّنهيدَ ه داري جذا دارو ‪  ‬قلت بعيدَ ه‬
‫من وسط قلبي آه يا داي‬
‫***‬
‫ع ّلتي و هبايل سبب دايا مريض وعلتي وهبايل‬
‫سبب داي آه يا داي‬
‫ع ّلـتـي و هبـايل من شبح عيـني قد مـا جيرايل‬
‫(((‬
‫سبب دايا مريض آه آه يا داي‬

‫ثم ُيشعل سيجارة ويقول‪:‬‬


‫مبتهجا بصويت ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يظل سعد‬
‫السهران وتسكره بال نبيذ‪.‬‬
‫‪ -‬حبيبة مسيكة‪ ،‬فنّانة جمنونة‪ ،‬هت ّيج ّ‬
‫القصة احلزينة التي روهتا يل شريا يل ّفني‬
‫يف احلقيقة‪ ،‬حني أتذكّر ّ‬
‫حي‬
‫حزن عميق‪ .‬مارغريت مسيكة‪ ،‬هكذا كان اسمها‪ُ ،‬ولدت يف ّ‬
‫يسميها البعض‪ .‬كانت عائلتها الفقرية‬ ‫احلارة‪ ،‬أو حارة اليهود كام ّ‬
‫تسكن بيتًا قري ًبا من بيت أدريان والد إليف‪ .‬مثل أغلب البنات‬
‫اليهود ّيات‪ ،‬مل تواصل دراستها يف مدرسة اليهود بسبب الفقر‪،‬‬
‫ثم ذاع صيتها‪ .‬وعىل أ ّية حال‬ ‫انطلقت يف الغناء مبكّرا يف احلانات ّ‬
‫حي احلارة الفقراء‪،‬‬ ‫مل تنس مارغريت عائلتها الفقرية وال أطفال ّ‬
‫وتشجع البنات عىل مواصلة‬‫ّ‬ ‫كانت هتدهيم املالبس وأدوات التع ّلم‬
‫الدّ راسة‪.‬‬

‫((( مقطع من أغنية «نقطع التنهيده» للفنانة حبيبة مسيكة وهي فنّانة هيود ّية األصل‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫فيضمني إىل صدره‬
‫ّ‬ ‫عيني‬
‫يف األثناء يالحظ سعد حالة الوجوم يف ّ‬
‫ويسألني‪:‬‬
‫‪ -‬عزيزيت‪ ،‬هل ح ًّقا حرقها عشيقها؟‬
‫‪ -‬حبيبة مسيكة حرقها عشيقها إلياهو ميموين‪ ،‬عشقها ِع ْش َق‬
‫جمنون وحرقها النّذل‪ .‬الغرية أعمته بعد إفالسه‪ ،‬جاء من‬‫ٍ‬
‫يصا لكي يحُ رق املسكينة‪« ،‬حبيبة ماتت‪ ،‬ليه قتلها‬
‫خص ً‬
‫تستور ّ‬
‫ميموين حرام عليه»‪ ،‬هذا ما كان ير ّدده أحد الفنّانني من‬
‫أصدقائها وهو يبكي يوم قتلها ميموين‪.‬‬
‫خي البار‪ ،‬قلت يف‬‫أطفأت سيجاريت ال ّثالثة ومل يظهر سعد‪ ،‬ر ّبام رّ‬
‫نفيس‪ ،‬كنت أخشى أن يذهب إىل بار «إيطاليا اجلميلة» وهو يف حالة‬
‫كثريا عندما يتوتّر وهيتاج‪ .‬بحثت يف‬‫غضب‪ ،‬أوصيه دو ًما بألاّ يرشب ً‬
‫ثم أغلقت عينينْ‬
‫لقت بيأس ّ‬ ‫العابرين عن قامته ووجهه األسمر‪َ ،‬ب ْح ُ‬
‫ّ‬
‫بالذكريات‪.‬‬ ‫ُمثقلتينْ‬
‫عرفت سعد يف شهر فيفري من سنة ‪ 1990‬يف كل ّية اآلداب‬ ‫ُ‬
‫بمنّوبة‪ .‬ال أصدّ ق ما حدث معي يف ذلك اليوم‪ ،‬شتمتني إحدى‬
‫ال ّطالبات وهامجتني بأبشع النّعوت‪ ،‬كانت ترتدي حجا ًبا عىل ما‬
‫رس احلملة التي‬
‫رشرا‪ ،‬أعامها احلقد ومل أفهم ّ‬
‫أذكر‪ ،‬عيناها تتطايران ً‬
‫عيل إلاّ بعد أن رصخت يف وجهي‪:‬‬
‫كانت تشنّها ّ‬
‫‪ -‬أنت جاسوسة إرسائيل ّية‪.‬‬
‫أن تلك ال ّطالبة‪ ،‬وهي زميلتي بقسم‬
‫متأخر إىل ّ‬
‫تف ّطنت بشكل ّ‬
‫التّاريخ‪ ،‬كانت تقوم ضدّ ي بحملة شعواء‪ ،‬إحساس قاتل أن‬

‫‪30‬‬
‫وعدوة‪ .‬كنت أستغرب‬ ‫ّ‬ ‫أعيش يف وطني وأنعت بكوين جاسوسة‬
‫جيا من‬‫نظرات الطلبة املرتابة واحلاقدة أحيانًا‪ ،‬نظرات ختتزن مز ً‬
‫التخرج ومل أسئ‬
‫ّ‬ ‫الرابعة‪ ،‬عىل أهبة‬
‫احلقد والكراه ّية‪ .‬كنت يف سنتي ّ‬
‫إىل أحد طيلة أربع سنوات‪ .‬أكتفي‪ ،‬يف العادة‪ ،‬بحضور الدّ روس‬
‫املهمة‪ ،‬أفعل ذلك‬
‫وزيارة املكتبة الستعارة بعض املصادر واملراجع ّ‬
‫باملرة‪،‬‬
‫السفارة‪ .‬املرشب مل يستهوين ّ‬ ‫عىل عجل وأغادر الكل ّية نحو ّ‬
‫كل الدعوات لرشب قهوة‪ .‬أخرسني املوقف وكان‬ ‫وكنت أتفادى ّ‬
‫من الغريب أن حيدث معي ذلك‪ ،‬هل أنا خائنة وعميلة؟ كنت أطرح‬
‫السؤال عىل نفيس وأخت ّيل صفعات ال ّطلبة عىل وجهي‪ .‬ما ذنبي إن‬ ‫ّ‬
‫متسكت بوطني وديانتي؟ أجل أنا تونس ّية وهيود ّية‪ ،‬كنت‬ ‫كنت قد ّ‬
‫بكل طاقتي إىل أن سقطت‪.‬‬ ‫أرصخ يف وجه تلك ال ّطالبة‪ ،‬ويف اجلميع ّ‬
‫عندما استفقت داخل غرفة التّمريض رأيت شا ًّبا بمالمح‬
‫ثم أشحت عنه‬ ‫سمراء وابتسامة هادئة‪ .‬تط ّل ُ‬
‫عت إليه يف شبه رشود ّ‬
‫وظل هو يتأ ّملني وال يتك ّلم‪ ،‬يكتفي بابتسامة خفيفة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بوجهي‪.‬‬
‫ابتسامة تعاطف كام أحسست‪ .‬فكّرت يف تلك ال ّلحظات أن أرحل‬
‫هنائ ًّيا عن تونس وأعود إىل أهيل يف مارسيليا‪ .‬وسأنظر يف مسألة إهناء‬
‫السهل أن أشفى‪،‬‬ ‫الصدمة‪ .‬ومل يكن من ّ‬‫دراستي عندما أشفى من ّ‬
‫فقد كانت ال ّطعنة موجعة من زميلتي‪ .‬كان من املفرتض أن تعرفني‪،‬‬
‫كام أنا‪ ،‬عىل حقيقتي‪ ،‬وأن حترتم ديانتي‪ ،‬كام أحرتمها وأحرتم اجلميع‪.‬‬
‫غزة‬
‫عىل ما أعتقد‪ ،‬وهذه قض ّية أخرى‪ ،‬كانت حزينة عىل أطفال ّ‬
‫اإلرسائييل‪ .‬أنا عىل وعي بذلك وأدينه بشدّ ة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالرصاص‬ ‫الذين قتلوا ّ‬
‫ربر اتهّ امها يل‪ ،‬ومن الغريب أن تنعتني بـ«اجلاسوسة‬ ‫لك ّن هذا ال ي ّ‬

‫‪31‬‬
‫اإلرسائيل ّية»‪ .‬بذلت جهدً ا ج ّب ًارا ألفهم املوقف وأستوعبه‪ ،‬ويف تلك‬
‫الربهة العاصفة حدّ ثتني نفيس أنيّ مستهدفة وال بدّ من مغادرة الكل ّية‪.‬‬
‫اقرتب منّي الشاب األسمر وقال‪:‬‬
‫مستقر كام أعلمني‬
‫ّ‬ ‫الصحي‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬اطمئنّي يا زميلة‪ ،‬وضعك‬
‫ال ّطبيب‪ ،‬ومل يكن من الضرّ وري أن حتملك س ّيارة اإلسعاف‬
‫إىل املستشفى‪.‬‬
‫ثم قال بأسف‪:‬‬ ‫تراجع قلي ً‬
‫ال ّ‬
‫وجهته إليك‬
‫ربأ من االتهّ ام الذي ّ‬
‫‪ -‬نحن طلبة قسم التّاريخ نت ّ‬
‫نحب هذه السخافة وهذا االفرتاء‪ .‬وليس‬ ‫ّ‬ ‫منرية الز ّياين‪ ،‬ال‬
‫هذا فحسب‪ ،‬لقد و ّبخها اجلميع عىل محاقتها‪.‬‬
‫لدي انطباع أنّه‬
‫ال أخفي أنيّ أحسست بارتياح لكالمه‪ ،‬وحصل ّ‬
‫صادق يف ّ‬
‫كل ما قال‪ ،‬فال يشء يدفعه إىل الكذب أو املغالطة‪.‬‬
‫‪ -‬اسمي سعد‪ ،‬سعد اخللفاوي‪ ،‬زميلك يف قسم التّاريخ‪.‬‬
‫تأسفت‬
‫قال سعد وهو يغادر غرفة التّمريض‪ .‬ال أدري ملاذا ّ‬
‫ثمة رشود‬
‫خلروجه‪ ،‬أحببت أن يبقى بجانبي‪ ،‬يف عينية الرماد ّيتني كان ّ‬
‫مرة أنّني يمكن‬
‫ألول ّ‬
‫معذب‪ ،‬وأحسست ّ‬ ‫غريب‪ ،‬مثل رشود طفل ّ‬
‫أن أثق يف أحد ال ّطلبة‪.‬‬
‫يف الغد‪ ،‬اعرتضني سعد يف باب الكل ّية‪ ،‬ال أخفي ما شعرت به‬
‫يف تلك اللحظة‪ ،‬ابتهج قلبي عندما رأيته‪ ،‬أحسست أنّه خمتلف وكان‬
‫إحسايس غري ًبا‪ .‬عيناه كانتا ممتلئتني ورصحيتني‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬وأنا أفهم‬

‫‪32‬‬
‫ذلك‪ ،‬ليس فيهام ذاك الفراغ الذي ييش بال ّلؤم‪ .‬ابتسم وهو يصافحني‬
‫ثم دعاين إىل رشب قهوة‪ .‬من الواضح أنّه خت ّلص من خجله الذي‬ ‫ّ‬
‫سيطر عليه عندما التقينا يف غرفة التّمريض‪ .‬اآلن‪ ،‬قلت يف نفيس‪،‬‬
‫اجلامعي‬
‫ّ‬ ‫اكتشفت املرشب‬
‫ُ‬ ‫امتلك هذا الشاب جرأة مثرية‪ .‬وهكذا‬
‫خي يومها‬ ‫وترشفت ّأول «كابوسان» يف الكل ّية‪ ،‬أ ّما سعد فقد رّ‬ ‫ّ‬
‫التاجع عن قرار‬ ‫أن لقائي به دفعني إىل رّ‬ ‫«اإلكسرباس»‪ .‬ال أنكر ح ًّقا ّ‬
‫الرضوري‬
‫ّ‬ ‫مترسع‪ .‬وكان من‬ ‫الرحيل‪ .‬كنت أعرف بالفعل أنّه قرار ّ‬ ‫ّ‬
‫أن أثبت براءيت بشكل حاسم‪ ،‬أنا ال أهتاون يف الدّ فاع عن كرامتي‪،‬‬
‫أن هرويب سيثبت‬ ‫أصبح مقاتلة رشسة‪ .‬ويف مقابل ذلك من املؤكّد ّ‬
‫لتلك احلاقدة أنيّ جاسوسة فعلاً ‪ ،‬ستولول يف ساحات الكل ّية‪ :‬أمل أقل‬
‫لكم؟ إنهّ ا جاسوسة فعلاً يا زمالء‪ ..‬إنهّ ا خائنة‪.‬‬
‫قال سعد بكثري من املرح‪:‬‬
‫‪ -‬ما رأيك أن ترافقيني ال ّليلة إىل سهرة مجيلة يف جهة املنزه؟‬
‫الفلسطيني‪ ،‬طالب األنجليز ّية‪ ،‬وال أعتقد‬
‫ّ‬ ‫لقد دعاين سميح‬
‫أيضا‪ ،‬وقال إنهّ ا ستكون‬
‫أنّك تعرفينه‪ .‬دعا جمموعة من الطلبة ً‬
‫سهرة رائعة‪.‬‬
‫أجبته بابتهاج‪:‬‬
‫‪ -‬طب ًعا سأرافقك يا سعد‪ ،‬ويسعدين ذلك‪.‬‬
‫متحمسة‬
‫ّ‬ ‫يف احلقيقة مل أتر ّدد يف االستجابة لطلب سعد‪ ،‬كنت‬
‫أيضا عىل أن أثبت لسعد وجلميع ال ّطلبة أنيّ لست‬ ‫ومرصة ً‬
‫ّ‬ ‫ملعرفته‬
‫جاسوسة وال خائنة‪ .‬أنا هيود ّية‪ ،‬ولدت هيود ّية وسأبقى هيود ّية ما‬

‫‪33‬‬
‫السهر‪ ،‬وال أجد فيه فائدة‪ُ ،‬أ رّ‬
‫خي غال ًبا‬ ‫حييت‪ .‬مل يكن يعنيني أمر ّ‬
‫تعودت عليه منذ جئت‬ ‫القراءة يف ش ّقتي بشارع مارسيليا‪ ،‬فذلك ما ّ‬
‫إىل تونس لدراسة التّاريخ‪.‬‬
‫الفلسطيني البائس‪ ،‬كان حزين‬
‫ّ‬ ‫مل أستسغ ليلتها ذلك ال ّطالب‬
‫عمي ًقا وأنا أض ّيع وقتًا ثمينا مع كائن مستهرت‪ ،‬معتوه‪ ،‬ال ّ‬
‫يترشف به‬
‫فلسطيني‪ .‬ففي الوقت الذي كان األطفال الفلسطين ّيون يموتون‬
‫ّ‬ ‫أي‬
‫ّ‬
‫الصاخبة‬
‫السهرات ّ‬
‫الصعلوك ُيقيم ّ‬
‫فيه من أجل قض ّيتهم‪ ،‬كان هذا ّ‬
‫واملاجنة‪ .‬مل أسمع له حديثا عن فلسطني وال عن أ ّية قض ّية‪ ،‬أعتقد‬
‫أن السلطة الفلسطين ّية‬‫جيرب اجلوع وال التّعذيب‪ .‬أعتقد ّ‬‫أنّه مل ّ‬
‫متّعته بمنحة استثنائ ّية ليدرس يف تونس‪ ،‬وها هو يبدّ دها يف رشب‬
‫ورصخت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أحسست بالغثيان‬
‫ُ‬ ‫الويسكي والقامر ومعاكسة ال ّطالبات‪.‬‬
‫دون وعي‪ ،‬يف وجه ذلك احلقري‪:‬‬
‫استهتارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ما هذا؟ كفى‬
‫ملوثة بالرباز تتقاذفها‬ ‫ِ‬
‫صورها أحد الفنّانني خرقة ّ‬
‫الوقاحة كام ّ‬
‫الرياح‪ ،‬وقد الح يل وجه سميح مثل تلك اخلرقة‪ .‬بقيت طوال‬ ‫ّ‬
‫أعض عىل أسناين وأتفادى التط ّلع إىل مالحمه وحركاته‪،‬‬
‫الوقت ّ‬
‫السهرة من أجل سعد‪ّ .‬‬
‫كل العيون‬ ‫وبالفعل بذلت طاق ًة ألواصل ّ‬
‫أيضا‪ ،‬كان مصعو ًقا‬ ‫للشفقة‪ .‬سعد ً‬‫كانت شهوان ّية والهثة ومثرية ّ‬
‫ممّا حصل أمامه‪ .‬مل أخت ّيل أن أصادف رجلاً فلسطين ًّيا يفكّر مثلام كان‬
‫سميح يفكّر‪ .‬وأعتقد‪ ،‬وفق سلوكه وكالمه أنّه متواطئ مع االحتالل‬
‫اإلرسائييل‪ ،‬بل أنا متأكّدة من ذلك‪ .‬قال البائس ّ‬
‫إن حترير األرايض‬ ‫ّ‬

‫‪34‬‬
‫أي‬
‫الشعب الفقري‪ ،‬ولن تستطيع ّ‬ ‫الفلسطين ّية سيكون عب ًئا عىل ّ‬
‫سلطة فلسطين ّية أن تو ّفر اجلرايات وال املنح ملئات ال ّطلبة يف املرشق‬
‫السهرة حركة مساندة‬ ‫أن ّ‬‫واملغرب‪ ،‬إنّه مقرف وجبان‪ .‬كنت أعتقد ّ‬
‫فلسطيني مغرتب عن أهله ووطنه بسبب االحتالل‪ .‬سعد‬ ‫ّ‬ ‫لطالب‬
‫بحق‪ ،‬وال ختتلف يف يشء‬ ‫أيضا كان يعتقد ذلك‪ .‬كانت سهرة مؤسفة ّ‬ ‫ً‬
‫عن سهرات الدّ عارة‪.‬‬
‫منذ تلك ال ّليلة مل نفرتق أنا وسعد‪ ،‬كام تو ّقعت‪ .‬كان صاد ًقا‬
‫وواضحا‪ ،‬ورسعان ما اكتشفنا ‪-‬وهذا مثري‪ -‬أنّنا ننظر م ًعا إىل جّ‬
‫االتاه‬
‫نفسه‪ ،‬وكان ذلك صع ًبا يف احلقيقة بني ديانتني خمتلفتني‪ .‬مل ينظر‬
‫جمرد جسد‪ .‬ومعه استنشقت هوا ًء نظي ًفا‬ ‫إ ّيل سعد ُمط َل ًقا بوصفي ّ‬
‫وخمتل ًفا‪ .‬كان يشاكسني باستمرار ويوشوش يف أذين‪ :‬لقد فزت ً‬
‫أخريا‬
‫ثم أخت ّبط عىل‬‫بقلب أحىل جاسوسة إرسائيل ّية‪ ،‬وكنت أقرصه من أذنه ّ‬
‫صدره ونحن نضحك بشكل جمنون‪.‬‬
‫السعيدة تبا ًعا‪ ،‬بعد اليأس فاجأتني‬‫إثر ذلك تواردت األحداث ّ‬
‫بوادر االنفراج‪ .‬فقد اعرتضتني تلك ال ّطالبة التي هامجتني وشنّت‬
‫الصفح‪،‬‬ ‫ضدّ ي محلة شعواء ذات صباح يف قسم التّاريخ وطلبت منّي ّ‬
‫اعتذرت منّي بشدّ ة وهي تر ّبت عىل كتفي‪ .‬مل أشأ أن أكون ف ّظة معها‪،‬‬
‫ملحا أمام ال ّطلبة‪:‬‬
‫ًّ‬ ‫وهذا ح ّقي طب ًعا‪ ،‬فاكفيت بأن طرحت عليها سؤالاً‬
‫‪ -‬ملاذا اتهّ متني باجلوسسة؟ أرجو أن جتيبي بشكل رصيح‬
‫وتلقائي أمام اجلميع‪.‬‬
‫ارشأ ّبت األعناق يومها نحو منرية الز ّياين‪ ،‬وما لبثت أن قالت‬
‫بصوت متق ّطع ومبحوح‪:‬‬

‫‪35‬‬
‫‪ -‬احلكاية يا زميلتي‪ ،‬وأرجو ألاّ تغضبي منّي‪ ،‬مرتبطة بديانتك‬
‫اليهود ّية‪ .‬اجلميع كانوا يشريون إليك باألصابع‪ ،‬ويتّهمونك‬
‫خفية بأنّك جاسوسة إرسائيل ّية‪ .‬أعرتف ّ‬
‫أن األحداث األخرية‬
‫سود‬
‫أيضا ّ‬
‫يف فلسطني سامهت يف هذا االحتقان‪ ،‬البوليس ً‬
‫السامة‪ .‬نحن كام ترين يف حالة من‬‫أ ّيامنا باملاتراك وبغازاته ّ‬
‫االختناق واهلشاشة‪.‬‬
‫صاح أحد ال ّطلبة من اخللف‪:‬‬
‫‪ -‬ليس بالضرّ ورة أن يكون اليهود جواسيس وقتلة‪ ،‬البدّ من‬
‫التمييز بني اليهود ّية وهي ديانة وبني الصهيونية وهي كيان‬
‫ثمة‬
‫غاصب‪ ...‬ويف املقابل‪ ،‬أال تتابعون ما جيري يف فلسطني؟ ّ‬
‫كثري من اجلواسيس واخلونة من العرب‪ ،‬ومن الفلسطين ّيني‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫استأنفت منرية الز ّياين‪:‬‬
‫مترسع‪ .‬فعلاً ‪ ،‬ال بدّ من أن‬
‫ّ‬ ‫جمرد اتهّ ام‬
‫‪ -‬كان األمر بالتّأكيد ّ‬
‫نراجع الكثري من القناعات اجلاهزة واخلاطئة‪ ،‬ال س ّيام يف‬
‫مسألة نظرتنا إىل األديان‪ .‬أعرتف أنيّ أخطأت‪ ،‬وخطئي كان‬
‫حق زميلتي ال ّطالبة بقسم التاريخ هيلني ساسون‪.‬‬ ‫فادحا يف ّ‬
‫ً‬
‫مل يطل يب املكوث يف مقهى التياترو‪ ،‬أغلقت احلاسوب وناديت‬
‫السعيدة يف الوقت نفسه‪ ،‬وأنا‬
‫أومأت إ ّيل الفتاة ّ‬
‫ْ‬ ‫النّادل بإشارة من يدي‪،‬‬
‫من جهتي رسمت هلا ابتسامة مو ّدة‪ .‬ما أمجل ما تعيشه من إحساس‬
‫بدرا‪ ،‬أرسرت يف داخيل‪ ،‬وال أظ ّن‬
‫شك‪ ،‬قري ًبا سيصري ً‬ ‫رائع! بال ّ‬

‫‪36‬‬
‫بدرمها باحلجر‪ ،‬مثلام حدث معنا‪ ،‬أنا وسعد‪.‬‬‫أن هناك من سيقذف َ‬ ‫ّ‬
‫ملحت‬
‫ُ‬ ‫بالسفارة الفرنس ّية‪ ،‬وتط ّلعت عيناي نحو األعىل‪،‬‬
‫مررت ّ‬
‫واستعدت لربهة مرحي يف ذلك املكان‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ابتسمت له‬
‫ُ‬ ‫مكتبي القديم‪،‬‬
‫الصور العظيمة ال تتحنّط‪ ،‬إنهّ ا‬
‫السري‪ّ ،‬‬
‫حت بيدي وأنا أستأنف ّ‬ ‫فلو ُ‬‫ّ‬
‫تلهب اخليال باستمرار‪ .‬انتبه البوليس الواقف إىل إشاريت‪ ،‬متلمل وهو‬
‫يتفحص وجهي‪ ،‬ح ّييته بلباقة ثم أرسعت اخلطى نحو «باب بحر»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أهتم ّ‬
‫بكل ما‬ ‫ّ‬ ‫الزيتونة‪ ،‬ال‬
‫مرة‪ ،‬وأنا أعرب هنج جامع ّ‬ ‫ألول ّ‬
‫ّ‬
‫يعرتضني‪ ،‬مل َأر الدكاكني وال األشكال واأللوان ومل أسمع أصوات‬
‫املارة‪ .‬كنت أخت ّطى احلشود‬
‫النحاسني وال أصوات الباعة وضجيج ّ‬ ‫ّ‬
‫يشتم أ ّية رائحة‪ّ .‬ملا وصلت‬
‫أمامي بقلب حزين ال يرى وال يسمع وال ّ‬
‫ثم ِملت إىل هنج سيدي‬ ‫إىل ساحة رمضان باي تس ّللت إىل هنج الباشا ّ‬
‫حيب‬
‫ثم هنج القرمطو إىل أن أدركت سوق القرانة كام ّ‬ ‫الرياحي ّ‬
‫إبراهيم ّ‬
‫تعودت‪ ،‬اخرتت األهنج‬ ‫يسموه‪ .‬مل جّأته إىل باب سويقة مثلام ّ‬
‫أهيل أن ّ‬
‫فضلت تش ّعبات‬‫مهشمة من الدّ اخل‪ّ ،‬‬ ‫امللتوية كأفعى‪ ،‬ر ّبام ألنيّ كنت ّ‬
‫األز ّقة والتواءاهتا‪ ،‬كنت أميش هائم ًة‪ ،‬شاحبة الوجه ومتعكّرة‪.‬‬
‫ّملا دخلت إىل مقام سيدي حمرز أحسست بارتياح‪ ،‬مل تعد تصلني‬
‫محى األصوات املبحوحة التي كانت تالحقني‪ .‬مل أنس بطبيعة احلال‬ ‫ّ‬
‫مطولاً عن آداب‬
‫أن أقتني شالاً أبيض أغ ّطي به رأيس‪ .‬شريا حدّ ثتني ّ‬
‫زيارة مقام سيدي حمرز‪ .‬غمرتني رائحة البخور العجيبة وأنا أسري‬
‫الصحن ألدرك املقام‪ .‬وقفت أمام‬ ‫ثم تقدّ مت جّ‬
‫باتاه ّ‬ ‫السقيفة‪ّ ،‬‬
‫باتاه ّ‬‫جّ‬
‫اخلشبي األخرض واألصفر‪ ،‬التّابوت مز ّين بمختلف األلوان‬
‫ّ‬ ‫احلاجز‬
‫أحتسس احلاجز‬
‫السناجق‪ .‬كنت يف حالة خشوع تا ّم وأنا ّ‬ ‫وحتيط به ّ‬

‫‪37‬‬
‫ثم أرمي شمعتني وقرطاس بخور عىل الزرب ّية‪ .‬مل أستنشق‬ ‫املزركش ّ‬
‫رائحة عجيبة من قبل مثلام استنشقتها وأنا يف حرضة مقام سيدي‬
‫ساحرا من البخور واملسك والعنرب‪ ،‬تفوح يف كا ّفة‬
‫ً‬ ‫جيا‬
‫حمرز‪ ،‬كانت مز ً‬
‫أيضا من اجلهة اليمنى حيث يوجد رضيح للاّ‬ ‫األرجاء‪ ،‬وتنبعث ً‬
‫خدجية بنت سيدي حمرز‪.‬‬
‫تراجعت قلي ً‬
‫ال قابلتني امرأة مرشقة الوجه‪ ،‬ناولتني رشبة‬ ‫ُ‬ ‫عندما‬
‫الزير وهي تقول‪« :‬ارشيب يا بنتي ماء سلطان املدينة‪ ،‬ارشيب‬
‫ماء من ّ‬
‫حممد‬
‫النبي ّ‬
‫يا بنتي املاء املبارك‪ ،‬ماء يشفي املريض وهينّي الواليا بجاه ّ‬
‫موالنا»‪.‬‬
‫بقيت ثالثة أ ّيام بلياليها يف زاوية سيدي حمرز‪ ،‬سلطان املدينة‪،‬‬
‫ومتشوقة‬
‫ّ‬ ‫الرجل‬‫والرمحة‪ .‬كنت حمتاجة إىل كرامات ذلك ّ‬ ‫رمز العطف ّ‬
‫احلاجة لطيفة‬
‫ّ‬ ‫كل حلظة إىل رشبة ماء باردة متد ّفقة من العني‪ .‬كانت‬ ‫يف ّ‬
‫الزاوية ملدّ ة أطول من زيارة عابرة‪ ،‬ال‬ ‫مرصة عىل أن أبقى ضيفة ّ‬ ‫ّ‬
‫تشممت عطري وعرفت أنيّ خمتلفة عن بق ّية النّساء‪ .‬طب ًعا‬ ‫أدري‪ ،‬ر ّبام ّ‬
‫السوق باإلضافة إىل علبة شمع‪ .‬يف‬ ‫أهديتها زرب ّية صغرية اقتنيتها من ّ‬
‫احلقيقة‪ ،‬كنت حمتاجة إىل البقاء أطول وقت ممكن يف هذا املقام الذي‬
‫حي احلارة حيث سكن أهيل‪ .‬كانت أ ّمي حتدّ ثني منذ كنت‬ ‫حياذي ّ‬
‫طفلة عن ح ّينا القديم‪ ،‬حتدّ ثني وهي تبكي‪.‬‬
‫تقول أ ّمي‪« :‬أجدادنا طردوا من إسبانيا‪ ،‬لقد عانوا من القهر‬
‫والتّصفية اجلسد ّية يف أ ّيامهم‪ .‬هاجروا ّأولاً إىل مدينة قرنة ليفورنو‬
‫يف إيطاليا وكان الدّ وق الكبري فرديناند ال ّثاين رحيماً معهم‪ ،‬إذ أتاح‬
‫بمجرد‬
‫ّ‬ ‫الذهب‪ .‬ولكن‬ ‫هلم فرص األعامل التجار ّية ومنها جتارة ّ‬

‫‪38‬‬
‫ّ‬
‫وكأن ذلك‬ ‫بالضيق واملهانة‪،‬‬
‫وفاة الدوق سنة ‪1637‬عاد إحساسهم ّ‬
‫بحي احلارة‪.‬‬ ‫واستقروا ّ‬‫ّ‬ ‫فاضطروا إىل اهلجرة نحو تونس‬
‫ّ‬ ‫قدرهم‪.‬‬
‫أجدادنا مل يكونوا عالة عىل أحد‪ ،‬صحيح أنهّ م مل يكونوا أثرياء لك ّن‬
‫الكثريين استطاعوا بعد ُمدّ ٍة رشاء البيوت والدّ كاكني‪ .‬مل تكن تلك‬
‫املحلاّ ت عىل وضع ج ّيد غري أنهّ م أصبحوا ملاّ كة‪ ،‬مثل بق ّية األجوار‪،‬‬
‫الذهب واألقمشة وبرع فيها‪ .‬أدريان والد‬ ‫ومنهم من تناقل جتارة ّ‬
‫إليف كان تاجر ذهب‪ ،‬ودكّانه يف وسط سوق القرانة حماذ ًيا ملقام‬
‫سيدي حمرز‪ .‬وإليف كان طفلاً وسيماً ‪ ،‬هادئ ال ّطباع‪ .‬كنت أملحه يف‬
‫يمر من أمام بيتنا‬‫احلي‪ ،‬وهو ّ‬
‫الصباح الباكر‪ ،‬مثلام تلمحه بق ّية فتيات ّ‬ ‫ّ‬
‫صفريا خافتًا‪ ،‬لكنّه ال‬
‫ً‬ ‫رفقة والده‪ .‬أشاغبه خلسة‪ ،‬أبتسم له‪ ،‬أرسل‬
‫بأي يشء‪ .‬كنت حزينة ّ‬
‫ألن بق ّية الفتيات يفعلن ما أفعل‪،‬‬ ‫ينتبه وال يأبه ّ‬
‫حيمر‪،‬‬
‫جهرا بكلامت عشق‪ ،‬وكان وجه املسكني ّ‬ ‫بل إنهّ ّن يشاكسنه ً‬
‫الزقاق‪.‬‬‫فيضطرب يف مشيته إىل أن يغيب يف منعرجات ّ‬
‫السنة‪ .‬اشتهر‬ ‫مر ّ‬
‫مركزا جتار ًّيا ح ًّيا عىل ّ‬
‫ً‬ ‫سوق القرانة كان‬
‫الذهب‪.‬‬ ‫والشاش ّية وجتارة ّ‬
‫ّ‬ ‫الصوف ّية‬
‫بحرك ّيته يف صناعة األغطية ّ‬
‫ح ّينا كان مالص ًقا له‪ ،‬تصلنا جلبة فتح الدكاكني وعرض البضائع‬
‫السوق‪،‬‬‫تتأخر وهم يعربون ّ‬ ‫املارة أيضا ال ّ‬ ‫بعد أذان الفجر‪ .‬جلبة ّ‬
‫األطفال يسريون متثائبني نحو الكتاتيب القريبة ويميض الكبار إىل‬
‫الزيتونة واملدرسة الصادق ّية ومدرسة اليهود ولييس كارنو‪.‬‬ ‫جامع ّ‬
‫يدرسون أبناءهم يف لييس كارنو ويف مدرسة اليهود‬ ‫أغلب أهل ح ّينا ّ‬
‫أن بعض‬ ‫ُسمى بـ«املدرسة اإلرسائيل ّية» ‪ ،‬واملدهش ح ًّقا ّ‬
‫التي كانت ت ّ‬
‫األ ّمهات من ح ّينا ك ّن يرسلن أبناءه ّن إىل الكتاتيب حلفظ القرآن‬

‫‪39‬‬
‫وترتيله‪ .‬كنّا نرى أمره ّن غري ًبا يف بادئ األمر‪ ،‬لكنّنا فهمنا بعد ذلك‬
‫أنهّ ّن ك ّن حريصات عىل متتني العالقات بعائالت املسلمني»‪.‬‬
‫يذكر إليف‪ ،‬هكذا تقول أ ّمي‪ّ ،‬‬
‫أن سنة ‪ 1942‬شهدت حمرقة‬
‫كربى ألهلنا اليهود من قبل األملان والفرنس ّيني عىل حدّ سواء‪ .‬تدمع‬
‫عينا إليف وهو يروي احلكاية‪« :‬كنت يف دكّان والدي عندما اقتحم‬
‫احتج‬
‫ّ‬ ‫كل الذهب الذي فيه‪ ،‬وحني‬ ‫جند ّيان أملان ّيان دكّان أيب وهنبا ّ‬
‫رضبه أحدُ اجلند ّيني عىل رأسه بقطعة حديد ّية فسقط أمامي بال حراك‪،‬‬
‫صغريا‪ ،‬أبكي وأرتعش ومل أصدّ ق‬
‫ً‬ ‫تكسوه الدّ ماء‪ .‬كنت آنذاك طفلاً‬
‫وتشممت رائحته‪ .‬منذ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن أيب مات‪ .‬اقرتبت منه‪ ،‬انحنيت عىل وجهه‬
‫املرضجة بالدم‪ ،‬كانت يده‬
‫ّ‬ ‫ثم يده‬
‫برهة كان حيتضنني‪ ،‬ق ّبلت رأسه ّ‬
‫السوق وأنا أرصخ وأبكي‬
‫باردة‪ .‬ال أدري بعد ذلك كيف جريت يف ّ‬
‫انتفضت بني يدهيا‬
‫ُ‬ ‫مرا إىل أن أدركت بيتنا‪ .‬وحاملا قابلت أ ّمي‬
‫بكا ًء ًّ‬
‫كعصفور مب ّلل ورصخت‪« :‬قتلوا أيب يا أ ّمي‪ ،‬لقد قتلوا أدريان»‪.‬‬
‫عاش إليف يتيماً وحزينًا‪ ،‬مل يستطع أن ينسى َق ُّط مشهد قتل أبيه‬
‫أرص عىل إحياء جتارة ّ‬
‫الذهب يف الدّ كان نفسه الذي‬ ‫أمامه‪ ،‬وعندما كرب ّ‬
‫شهد مقتل والده أدريان‪ .‬كان يشتغل َ‬
‫ليل هنار بقلب من حديد‪ .‬ويف‬
‫الكثري من الليايل‪ ،‬حسب رواية أهل ح ّينا‪ ،‬كان إليف ينام يف دكّانه‬
‫الذي عرف فيه صدمة موت والده‪.‬‬
‫إنّه تارخينا املؤمل واحلزين الذي ال أنساه‪ ،‬ومل ينته بنا األمر إىل‬
‫حممرتان من فرط‬
‫ذلك احلدّ ‪ ،‬تسرتسل أ ّمي يف رسد احلكاية وعيناها ّ‬
‫البكاء‪:‬‬

‫‪40‬‬
‫«تعرض ح ّينا إىل شتّى أشكال االحتقار والكراه ّية‪ ،‬مل تكن لنا‬ ‫ّ‬
‫قط مشاحنات أو‬ ‫عداوات مع جرياننا من املسلمني‪ ،‬مل حتصل بيننا ُّ‬
‫أن إليف‬‫الزيارات يف املآتم واألفراح‪ .‬أذكر ّ‬ ‫خصومات‪ ،‬وكنّا نتبادل ّ‬
‫خيصص مبالغ مال ّية لبعض العائالت الفقرية التي تسكن بجوار‬ ‫كان ّ‬
‫ح ّينا‪ .‬وكان يش ّغل شا َّبينْ معه يف الدكّان خالل الفرتة املسائ ّية من ّ‬
‫كل‬
‫الزيتونة ثم يغادرانه إىل‬ ‫الصباح يرت ّدد الشا ّبان عىل جامع ّ‬ ‫يوم‪ .‬يف ّ‬
‫الذهب‪ .‬ما حصل يف الكثري من ال ّليايل كان رع ًبا حقيق ًّيا‪ .‬كانوا‬ ‫دكّان ّ‬
‫غرباء ومل ّثمني‪ ،‬هيجمون عىل بيوتنا ويرسقون أموالنا وذهبنا‪ .‬دكّان‬
‫أيضا مل يسلم من النّهب وحماولة احلرق‪ ،‬مل يكونوا من جرياننا‪،‬‬ ‫إليف ً‬
‫ّ‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬كانوا غرباء ومل ّثمني‪.‬‬
‫بالرعب‪ ،‬وال أدري ملاذا كان‬ ‫لن أنسى تلك الليلة املثقلة ّ‬
‫إحسايس حينها مثخنًا باخلوف‪ ،‬اهلواجس كانت حتبس أنفايس‬
‫متكومة يف رسيري‪ ،‬والشمعة املشتعلة بجواري تضطرب‬ ‫ّ‬ ‫وجتعلني‬
‫وكأنهّ ا تصارع وحيد ًة يف الظالم‪ .‬وفجأةً‪ ،‬ال أدري كيف حصل‬
‫ذلك؟! دامهني رجل طويل القامة عريض املنكبني‪ ،‬قفز كشبح‪،‬‬
‫عاينت وجهه املل ّثم‪ ،‬فأطلقت رصخة مدو ّية فزع هلا ّ‬
‫كل سكّان ح ّينا‪.‬‬
‫الرجل‪:‬‬
‫رصخ ّ‬
‫‪ -‬اخريس يا كافرة‪ ،‬لعنك اهلل‪.‬‬
‫ثم رشع ّ‬
‫يفك أزرار‬ ‫وكمم فمي بيده الغليظة ّ‬
‫عيل البائس ّ‬
‫انقض ّ‬
‫ّ‬
‫قوة وتصدّ يت ليده التي اهنالت‬ ‫رسواله‪ .‬قاومته ّ‬
‫بكل ما أوتيت من ّ‬
‫ثم أسفل بطني‪ .‬كان يشخر مثل حيوان‪ ،‬وعندما يئس‬ ‫عىل صدري ّ‬

‫‪41‬‬
‫منّي أحاطت يداه بعنقي وحاول خنقي‪ .‬كنت عىل وشك املوت وال‬
‫أدري كيف أنقذين اجلريان من براثنه‪ ،‬جروا وكان إليف يتقدّ مهم‪،‬‬
‫اهنالوا عليه رض ًبا ولطماً إىل أن تس ّلل ذليال‪ .‬أنا وإليف كنّا طفلني‪،‬‬
‫لكنّنا بدأنا نكرب ونفهم الدّ نيا وتلك احلادثة عىل قساوهتا م ّثلت‬
‫لقصة ح ّبنا العظيمة‪.‬‬
‫نؤرخ هبا ّ‬
‫منعرجا يف حياتنا‪ ،‬وكنّا ّ‬
‫ً‬
‫ما حدث يف جوان من سنة ‪ ،1967‬عىل ما أذكر‪ ،‬أفاض‬
‫حي احلارة‪ .‬هزيمة العرب‬
‫ثمة جمال للبقاء يف ّ‬
‫الكأس متا ًما‪ ،‬ومل يعد ّ‬
‫هي الشرّ ارة التي أوشكت عىل إحراقنا بالكامل‪ ،‬ولوال جرياننا من‬
‫ّ‬
‫املسلمني هللكت عائالت ح ّينا‪ .‬كانوا حيموننا من هجامت املل ّثمني‬
‫َ‬
‫ليل هنار‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬تسارعت األحداث وكثر العنف والتش ّفي‪ ،‬ومل‬
‫يعد أحد يقوى عىل التصدّ ي للمل ّثمني والغاضبني‪ ،‬ويئس اجلميع‬
‫من محايتنا‪ .‬كن ّا نتابع األحداث بكثري من اخلوف ونسمع األصوات‬
‫احلا ّدة من خلف نوافذنا املغلقة‪ :‬اليهود عىل ّبره‪ ،‬الك ّفار عىل ّبره‪.‬‬
‫يف تلك األ ّيام هاجرت الكثري من عائالت ح ّينا إىل فرنسا‪،‬‬
‫واضطررنا إىل بيع أغلب ما نملك بأبخس األثامن‪ ،‬كنّا نبيع جلرياننا‬
‫من املسلمني الط ّيبني‪ ،‬بعنا بيوتنا ودكاكيننا ومالبسنا وأغطيتنا‪ .‬كنّا‬
‫كل ممتلكاتنا ونرسع إلمتام إجراءات‬ ‫نفرط يف ّ‬ ‫الزمن‪ّ ،‬‬ ‫يف سباق مع ّ‬
‫احلظ ّ‬
‫أن عائلتي رافقت عائلة إليف إىل مارسيليا‪،‬‬ ‫السفر‪ .‬ومن حسن ّ‬
‫ّ‬
‫تزوجنا‪ ،‬أنا وإليف»‪.‬‬
‫وبعد ثالث سنوات من سفرنا ّ‬
‫تصمت أ ّمي يف تلك ال ّلحظات‪ ،‬أغلب حكاياهتا تنتهي بحدث‬
‫رس تكرار روايتها هلذا احلدث‪ ،‬وبعد ذلك‪،‬‬
‫الزواج‪ .‬يف البداية مل أفهم ّ‬
‫ّ‬

‫‪42‬‬
‫تتزوج هيود ًّيا‪ ،‬وشريا ال متزح‬ ‫فهمت منها ّ‬
‫أن الفتاة اليهود ّية عليها أن ّ‬ ‫ُ‬
‫هيودي ّ‬
‫فإن ذلك نذير‬ ‫ّ‬ ‫تزوجت الفتاة بغري‬‫يف هذا األمر‪ .‬قالت إن ّ‬
‫شؤم عىل العائلة‪ ،‬هكذا هي أحكام أهلها منذ كانت صغرية‪ ،‬وكانت‬
‫الضوء األمحر الذي يدعوين إىل التو ّقف بشكل‬ ‫تلك اإلشارات مثل ّ‬
‫كل حكاية ويتم ّلكني وجوم أخرس‪.‬‬ ‫قرسي‪ .‬فأومئ برأيس موافِق ًة مع ّ‬
‫ّ‬
‫ال أفهم سبب إرصار الناس عىل وضع احلدود فيام بينهم وقد‬
‫رس تباغضهم وتناحرهم باسم الدّ ين‪،‬‬ ‫خلقهم اهلل ليتحا ّبوا‪ ،‬وال ّ‬
‫واألديان ك ّلها تقود إىل طريق واحدة‪ ،‬ملاذا نتقاتل عىل الطريق‬
‫مازلت أذكر إىل اليوم‬
‫ُ‬ ‫وننسى املآل ا ّلذي تقود إليه تلك الطريق؟‬
‫در ْسنا تاريخ‬
‫بالتعرف إىل شيخ املسلمني األكرب عندما َ‬
‫ّ‬ ‫مدى فرحتي‬
‫التصوف اإلسالمي يف اجلامعة‪ ،‬وما تزال أبياته تتناهى إىل ذاكريت‬
‫ّ‬
‫ك ّلام ضاق يب احلال‪:‬‬

‫كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا مل يكن ديــني إىل ديـنه داين‬ ‫لقد ُ‬
‫ِ‬
‫هبـان‬ ‫وديـر ُلر‬ ‫ٍ‬
‫لغزالن‬ ‫فمرعى‬ ‫ال ك َُّل ص ٍ‬
‫ورة‬ ‫لقد صار قلـبي قابـ ً‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ومصحف قـرآن‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫توراة‬ ‫وألواح‬ ‫ٍ‬
‫طـائــف‬ ‫ٍ‬
‫ألوثــان وكعب ُة‬ ‫ِوبيت‬
‫ٌ‬
‫ُ‬
‫فاحلب ديـني وإيـماَ ين‬
‫ُّ‬ ‫هت ركـائب ُه ‪،‬‬ ‫توج ْ‬
‫ـب أنّى ّ‬ ‫ِ‬
‫بديـن احلُ ِّ‬ ‫أديـ ُن‬
‫لو كان ابن عريب ح ًّيا اليوم فامذا سيقول وهو يرى مسلماً مل ّثماً يريد‬
‫هش ًة‪ ،‬ال ليشء إالّ ألنهّ ا ال تشاركه الدين نفسه؟‬‫أن يغتصب امرأ ًة ّ‬
‫وماذا سيقول شقيقه يف املح ّبة والطريق سلطان املدينة س ّيدي حمرز‬
‫بن خلف وهو يرى أحفاد اليهود ا ّلذين آواهم وسمح هلم بالسكن‬
‫داخل سور املدينة‪ ،‬أحفادهم ا ّلذين مل يتو ّقفوا يو ًما عن زيارة مقامه‬

‫‪43‬‬
‫أسو ًة بجرياهنم املسلمني‪ ..‬ماذا سيقول إذا استيقظ من سباته بغت ًة‬
‫متطرف ًة من بني م ّلتهم ترتكب‬
‫ّ‬ ‫ألن ث ّلة‬
‫ورآهم ُيقتلون و ُيغتصبون ّ‬
‫ترضج بالدماء‬‫املجازر نفسها يف مكان آخر باسم اإلله نفسه ا ّلذي ّ‬
‫ٍ‬
‫جانب حتّى اختفى؟‬ ‫من ّ‬
‫كل‬
‫يف ليلتي األوىل داخل القاعة الفسيحة يف مقام سيدي حمرز مل‬
‫أستطع النّوم‪ ،‬مطل ًقا‪ ،‬مل أكن مرهقة أو قلقة‪ ،‬كنت يف غاية االمتالء‬
‫الروحي‪ ،‬ويف حالة خشوع‪ ،‬جتاوزت مرحلة التوتّر التي حصلت يل‬ ‫ّ‬
‫ارتياحا‪ .‬يف تلك اآلونة‬
‫ً‬ ‫الروائح املدهشة‬
‫مع سعد‪ ،‬وزادتني تلك ّ‬
‫أن سيدي‬ ‫السامهة وأنا سابحة يف امللكوت ُخ ّيل إ ّيل‪ ،‬بني نوم وصحو‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫حمرز يقف أمامي بج ّبته ال ّطويلة املخ ّططة باألسود واألمحر‪ .‬صوت يف‬
‫أن من يم ُثل أمامي بعاممته البيضاء وجبهته العريضة‬ ‫داخيل هتف يل ّ‬
‫هو سيدي حمرز‪ .‬أضاءت ابتسامته القاعة الفسيحة وطالعني بكامل‬
‫باتاهه‪« :‬يا سيدي وموالي‪،‬‬ ‫سحره ووقاره‪ .‬شبكت يدي وهتفت جّ‬
‫باحلب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أنقذين من العذاب‪ ،‬بركاتك يا سيدي‪ ،‬قلبي مسكون‬
‫حب حيايت‪ ،‬لكنّني هتت يا سيدي وغامت أمام‬ ‫الرب ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد وهبني‬
‫أقدامي الطريق‪ .‬لو أنسى أ ُم ْت ولو أتقدّ م يبتلعني العذاب‪ .‬أنت سيد‬
‫العارفني‪ ،‬زواجي بمسلم مرفوض من أهيل وديني‪ ،‬زواجي خطيئة‬
‫كبرية يا سيدي‪ ،‬أنقذين‪ ،‬إنيّ أستغيث بك‪ ،‬لقد هدّ ين التّفكري‪»..‬‬
‫ثم أحسست ّ‬
‫أن‬ ‫بالصمت حلظات‪ّ ،‬‬
‫الشبح املاثل أمامي ّ‬ ‫الذ ّ‬
‫الزمن استمعت إىل‬
‫نظراته جتول يف كامل وجهي‪ ،‬وبعد فرتة من ّ‬
‫هتافه‪« :‬لو كنّا يف زمان غري هذا الزمان لقلت لك ال تستمعي إالّ‬
‫لد ّقات قلبك‪ ،‬ولك ّن الطريق‪ ،‬يا ابنتي‪ّ ،‬‬
‫خمضبة بالدماء‪».‬‬

‫‪44‬‬
‫الرجفة‪،‬‬
‫أهتز من ّ‬
‫قفزت من فرايش ألحتمي بسيدي حمرز‪ ،‬كنت ّ‬
‫املعذبة‪ ،‬هل يالطفني سيدي حمرز مثل للاّ خدجية‬ ‫ّ‬ ‫أسأل نفيس‬
‫عيل مثلام يعطف عىل الفتيات املسلامت الزاحفات إىل‬ ‫ويعطف ّ‬
‫الشبح الذي كان يرتاءى‬‫مقامه؟ كنت أمدّ يدي نحوه‪ ،‬وفجأ ًة اختفى ّ‬
‫أمامي وذاب يف أضواء خافتة ومتكسرّ ة تتس ّلل من النّافذة‪.‬‬
‫الرب‬
‫شبيها بمعجزة‪ .‬قذف ّ‬‫ما حدث يف تلك األ ّيام الثالثة كان ً‬
‫حتررت‪ ،‬مل يعد باطني‬‫أحسست بالفعل أنيّ ّ‬
‫ُ‬ ‫إحساسا آخر‪،‬‬
‫ً‬ ‫يف داخيل‬
‫أن سيدي حمرز استجاب‬ ‫حيرتق وجتاوزت كابوس العذاب‪ .‬أيقنت ّ‬
‫السوق‪ ،‬أتابع حركة‬
‫فحررين‪ .‬كنت أستفيق مبكّرة وأميض إىل ّ‬ ‫يل ّ‬
‫ومتحمسة‪ ،‬أقتني حلوى‬
‫ّ‬ ‫الباعة وأتس ّلل بني صفوف ّ‬
‫املارة متّقدة‬
‫ثم أجري كام جيري األطفال‪.‬‬ ‫د ّبوس الغول ّ‬
‫وحتسست جدران دكاكينه ومنازله‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حي احلارة‬
‫مضيت إىل ّ‬
‫بالزخارف والنّقوش‪ ،‬تدفن تارخيًا ملي ًئا باألحداث‬
‫اجلدران مزدانة ّ‬
‫واألرسار‪ ،‬األبواب شاهقة ومنقوشة بعناية‪ ،‬احلفر والنّدوب كثرية‬
‫تغي‬
‫احلي رّ‬
‫ّ‬ ‫والتش ّققات متّسعة يف أعىل اجلدران‪ .‬كنت أعرف ّ‬
‫أن‬
‫الذهب‪،‬‬‫كثريا‪ ،‬واملباين احلديثة هتامجه وتكاد تبتلعه‪ .‬تس ّللت إىل هنج ّ‬
‫ً‬
‫دفعت با ًبا أمامي‪ ،‬وصلني أنني مفاصله‪ .‬ال أحد انتبه إ ّيل‪ ،‬كانوا‬
‫املشوشة واملتعبة متيش ومتيش وال تكرتث‬
‫يعربون عىل عجل‪ ،‬العيون ّ‬
‫ثم رصخت‪« :‬هذا‬ ‫يب‪ .‬رسم خيايل بيت أ ّمي‪ ،‬رست ثالث خطوات ّ‬
‫عيني يف ثقب‬‫بيت شريا القديم»‪ .‬تقدّ مت خطوات أخرى‪ ،‬وضعت ّ‬
‫تضوع عطره‪ ،‬أجل‪،‬‬ ‫ثم تراجعت‪ ،‬تناهت إ ّيل رائحة إليف‪ّ ،‬‬ ‫الباب ّ‬
‫السوق‪ ،‬د ّققت النّظر يف الدكاكني‪،‬‬ ‫أجل إنهّ ا رائحة أيب‪ .‬رست جّ‬
‫باتاه ّ‬

‫‪45‬‬
‫كل حمتوياهتا‪ ،‬مالبس وأقمشة وأغطية ومفروشات وبخور‬ ‫ق ّلبت ّ‬
‫مخنت أنّه دكّان‬ ‫أيضا عىل دكّان ّ‬
‫الذهب‪ّ ،‬‬ ‫عثرت ً‬‫ُ‬ ‫وعطور وهدايا‪.‬‬
‫إليف القديم‪ ،‬دخلت وتن ّفست بعمق‪ ،‬انفرجت شفتا ال ّطفل عن‬
‫ابتسامة عريضة وأنا أعاين األساور واخلواتم املعروضة‪ ،‬ال بأس‪،‬‬
‫قلت يف داخيل‪ ،‬سأصليّ ألدريان‪ .‬إثر ذلك غادرت الدكان وتبعتني‬
‫نظرات ال ّطفل بكثري من التحسرّ ‪ ،‬فرح بدخويل الدكّان وانتظر أن‬
‫أقتني شيئا من بضاعته‪ ،‬لكنّي خذلته عىل ما أعتقد‪ّ .‬لوحت له بيدي‬
‫وظل الطفل يرمقني مبتسماً إىل أن‬ ‫وفهم من إشاريت أنيّ سأعود‪ّ ،‬‬
‫املمر‬
‫غادرت‪ .‬هلثت قدماي بعد ذلك وأنا أصعد الدّ رجات وأعرب ّ‬
‫حي احلارة كان شاس ًعا‬‫ثم جّأته إىل احلفص ّية‪ّ .‬‬ ‫نحو باب سويقة ّ‬
‫ورح ًبا‪ .‬مشيت وسمعت أصوات املايض‪ ،‬أنفايس كانت منبهرة‪،‬‬
‫لكل املباين التي اعرتضتني‪ ،‬المستها وداعبتها‪،‬‬ ‫تفجر رشيان عشق ّ‬ ‫ّ‬
‫تناهت إىل مسمعي موسيقى أندلس ّية وأناشيد وتراتيل قرآن‪ .‬تبعني‬
‫متسول‪ ،‬وقفت ووضعت يف‬ ‫ّ‬ ‫مقوس ال ّظهر‪ ،‬انتبهت إىل أنّه‬ ‫رجل ّ‬
‫ك ّفه ورقة نقد ّية‪ .‬تابعتني امرأة عجوز‪ ،‬كانت شاحبة الوجه‪ّ ،‬لوحت‬
‫هلا بيدي‪ ،‬ابتسمت يل وهي تعرب ال ّطريق‪ .‬عاكسني أحد الش ّبان‪ ،‬مل‬
‫حب‪..‬‬‫تعمدت قراءة الشعارات أمامي‪ :‬هيثم ‪+‬نجالء= ّ‬ ‫أكرتث‪ّ ،‬‬
‫مخاجججج‪ ..‬يا عسل‪ .‬ومل أنتبه إىل آثار كتابات أخرى‬ ‫أرجع غدوة‪ّ ..‬‬
‫عىل اجلدار أزحيت بالدّ هن األمحر‪.‬‬
‫حينام ك ّلت قدماي عدت إىل مقام سيدي حمرز‪ ،‬التصقت‬
‫السقيفة‪ ،‬األجساد ساخنة والوجوه‬
‫بصفوف النّساء املزدمحات يف ّ‬
‫تتص ّبب عرقا‪ .‬تأ ّملتني إحدى الفتيات‪ ،‬عانس عىل ما أعتقد‪ ،‬نحن‬

‫‪46‬‬
‫كل يشء‪.‬‬‫ونعري ّ‬
‫ّ‬ ‫املتزوجة‪ ،‬نبحلق طويلاً‬
‫ّ‬ ‫النّساء نم ّيز العانس من‬
‫ابتسمت هلا وناولتها ما تب ّقى يف يدي من حلوى د ّبوس الغول‪ ،‬ز ّمت‬
‫شفتيها ومتنّعت بحركة من رأسها‪ ،‬عيناها مزدمحتان بحزن ثقيل‬
‫ويداها متشنّجتان‪.‬‬
‫قالت بعد أنت أجرت بح ًثا يف وجهي‪:‬‬
‫جليب»‪.‬‬
‫هجالة‪ ،‬عريس قريب ومكتويب يف ا ّ‬
‫‪« -‬نا الين بايرة الين ّ‬
‫أجبتها وأنا أحاول العبور‪:‬‬
‫‪« -‬وأنا ل ّ‬
‫ال زيتي يف الكوز وخبزي خمبوز»‪.‬‬
‫تورطني‪ ،‬أدارت يل الفتاة ظهرها‪،‬‬ ‫ندّ ت منّي ضحكة كادت ّ‬
‫شملني ارتياح وتع ّلق برصي باجلهة املقابلة‪ .‬أومأت يل امرأة برأسها‪،‬‬
‫الصحن‪ ،‬ك ّن يرقصن منتفشات‬ ‫الراقصات يف ّ‬ ‫انضممت إىل النساء ّ‬
‫الشعر ويلهجن بأدعية وكلامت مبهمة‪ .‬رقصت مثله ّن منتفشة‬ ‫ّ‬
‫أمتص حلوى د ّبوس الغول وأتابع‬ ‫ّ‬ ‫الشعر وبني فينة وأخرى كنت‬ ‫ّ‬
‫الشموع وقراطيس البخور وتضع‬ ‫احلاجة لطيفة وهي تتس ّلم ّ‬
‫ّ‬ ‫حركة‬
‫الصدر‪.‬‬
‫األوراق النقد ّية يف فتحة فستاهنا عند ّ‬
‫الرابع غادرت مقام سيدي حمرز جّ‬
‫واتهت إىل املطار‪.‬‬ ‫يف فجر اليوم ّ‬
‫يد حديد ّية كانت تقبض عىل قلبي وتدعوه إىل البقاء يف تونس‪ ،‬يف تلك‬
‫ال ّلحظات رسى يف أوصايل احلنني إىل سعد‪ ،‬باغتتني ضحكته ّأولاً ّ‬
‫ثم‬
‫عصف يب حضنه‪ .‬ويف حلظة قاسية‪ ،‬ارتعشت فيها يداي اتخّ ذت ً‬
‫قرارا‬
‫بالسفر‪ ،‬أجل‪ ،‬أمكن يل يف األخري أن أحسم قراري وأهرب‪.‬‬ ‫حاسام ّ‬

‫‪47‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ص ّباط ّ‬
‫الدزيري‬
‫‪ 2‬ديسمرب ‪2010‬‬

‫عىل خالف ما تو ّقعت‪ ،‬نادية مل تكن امرأة ليل‪..‬‬


‫استفقت مبك ًّرا‪ ،‬عىل غري عاديت‪ ،‬بمزاج فاسد‪ .‬أشعلت سيجارة‬
‫الصالون‪ ،‬يشء خميف أن‬ ‫ويف تلك ال ّلحظة تف ّطنت إىل أنيّ نمت يف ّ‬
‫شك أنهّ ا ما تزال نائمة يف غرفة النّوم‪ .‬جبيني‬‫أنسى‪ ،‬تذكّرت نادية‪ ،‬ال ّ‬
‫يرشح عر ًقا‪ ،‬يف ديسمرب أعرق‪ ،‬أمر غريب‪ ،‬التوتّر جيعلني متق ّل ًبا وحا ّد‬
‫أتعود أن يأتيني أيب يف النّوم‬ ‫كابوسا‪ ،‬مل ّ‬
‫ً‬ ‫أيضا كان‬
‫االكتئاب‪ .‬حلمي ً‬
‫ويف تلك املالمح الغاضبة‪« :‬اهنض‪ ،‬لقد ضاعت اخلرفان يف الوادي‬
‫ثم يدامهني أيب‬ ‫كل يشء‪ ،‬اهنض يا كلب‪ّ »..‬‬ ‫بسبب بالهتك‪ ،‬وضاع ّ‬
‫يف سقيفة بيتنا ويرضبني بسلسلة حديد‪ .‬ترصخ أ ّمي يف األثناء من‬
‫ظل أيب يرضب ويرضب‬ ‫غرفة نومها‪« :‬فرخ احلرام‪ ،‬وجه الفقر»‪ّ .‬‬
‫كنت يف حالة عطش‪ ،‬عندما أرشب النبيذ أعطش‪.‬‬ ‫حتّى استفقت‪ُ .‬‬
‫ثم حاولت العودة إىل النّوم‪ ،‬مل‬ ‫رشبت من قارورة ماء كانت بجانبي ّ‬
‫متلملت ون َب َت ُصداع ثخني يف رأيس‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جفني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫باملرة إغامض‬
‫أستطع ّ‬
‫حتّى أصبح رأيس امللدوغ يف حالة هيجان‪ .‬ال أستطيع أن أهنض‬
‫وأبحث عن ح ّبة دواء يف غرفة النّوم‪ ،‬ال يمكنني أن أتس ّلل إىل هناك‬

‫‪49‬‬
‫واملرأة نائمة‪ ،‬ماذا ستقول عنّي؟ «كنت أمامه‪ ،‬عارية‪ ،‬يف متناوله ومل‬
‫ِ‬
‫يتحرك‪ ،‬واآلن‪ ،‬ال شأن يل بِدُ و َدته التي ّ‬
‫تتحرك يف غري وقتها»‪ .‬بال ّطبع‪،‬‬ ‫ّ‬
‫خ ّيبت أملها‪ ،‬ستتأ ّملني بريبة وتقهقه بصوهتا الدّ اعر‪ .‬الغريب أنيّ مل‬
‫يوجهها‬‫أرصخ يف احللم وسلسلة احلديد تنهال عىل يدي‪ ،‬أيب كان ّ‬
‫نحو رأيس لكنّها تنهال عىل يدي‪ ،‬وصوت أ ّمي ال ينقطع يف أذين‪:‬‬
‫تلمست يدي اليمنى التي تل ّقت رضبات‬
‫«فرخ احلرام ‪ ،‬وجه الفقر»‪ّ .‬‬
‫أيب وفركت أصابعي‪ ،‬يدي ال تؤملني‪ ،‬ولك ّن األمل كان حا ًّدا يف رأيس‪،‬‬
‫أن أيب مل يرصخ يف وجهي يو ًما ومل يعنّفني‪ ،‬وحضوره‬ ‫أيضا ّ‬
‫والغريب ً‬
‫الشكل أرعبني ح ًّقا‪.‬‬
‫يف احللم بذاك ّ‬
‫مومسا بالفعل‪ ،‬املرأة مل تكذب‪ .‬البارحة‪ ،‬بعد أن‬
‫ً‬ ‫نادية مل تكن‬
‫خرج ْت من غرفة االستحامم ارتدت ت ّباهنا األسود أمامي بحركات‬
‫َ‬
‫الصالون‪ .‬لعليّ كنت يف رأسها‬
‫مرتاخية كأنيّ لست موجو ًدا معها يف ّ‬
‫حجرة أو خرقة‪ ،‬كانت ترتدي مالبسها بحركات بطيئة وتستثريين‬
‫رسي‪« :‬هذه املرأة ال يمكن أن تكون عاد ّية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بمؤخرهتا‪ ،‬فقلت يف ّ‬
‫ميزة عدم االكرتاث ال تتّصف هبا إلاّ امرأة تنتمي إىل عصابة‪ ،‬عصابة‬
‫حرج أو قلق‬
‫خطرية بالتّأكيد»‪ .‬كانت ترمقني بنظرة واثقة‪ ،‬ال يعرتهيا ٌ‬
‫ثم‬
‫جلس ْت بجواري عىل الكنبة ورفعت ساقيها عال ًيا ّ‬
‫أي يشء‪َ ،‬‬
‫من ّ‬
‫تتلوى كأفعى‪ ،‬استوت واقف ًة إثر ذلك‬
‫ارتدت رسوال اجلينز وهي ّ‬
‫نظرت إىل حركاهتا بصمت‪،‬‬‫ُ‬ ‫الرقبة‪.‬‬
‫قميصا صوف ًّيا واسع ّ‬
‫ً‬ ‫ولبست‬
‫ثم تناو َل ْت سيجار ًة من حمفظتها وقالت‪:‬‬
‫أيضا ظ ّلت صامتة‪ّ ،‬‬
‫وهي ً‬
‫‪ -‬أريد قهو ًة اآلن قبل أن نبدأ ّ‬
‫الشغل يا‪.....‬‬

‫‪50‬‬
‫‪ -‬سعد‪.‬‬
‫عدت‪ .‬أ ّما هي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫وأعددت فنجانيَ قهوة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫لت إىل املطبخ‬ ‫تس ّل ُ‬
‫جلس ْت قبالتي وظ ّلت تتأ ّمل‬
‫ثم َ‬‫هنض ْت من مكاهنا بال اكرتاث‪ّ ،‬‬ ‫فقد َ‬
‫مالحمي يف صمت‪ .‬عيناها زرقاوان‪ ،‬ض ّيقتان‪ ،‬أنفها صغري وشفتاها‬
‫ممتلئتان‪ ،‬بيضاء البرشة وشعرها فاحم‪ ،‬واملثري يف وجهها هو ذقنها‪،‬‬
‫الصمت‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬أحببت أن‬ ‫بدا ملتم ًعا وناعماً ‪ .‬مل تطل بنا حالة ّ‬
‫تطول ألمتكّن من فهم هذه املرأة الغريبة األطوار‪ ،‬ال هي من اإلنس‬
‫ثم أمسكتني من كتفي‬ ‫وال هي من اجلان‪ .‬ندّ ت عنها ضحكة ماكرة ّ‬
‫ومهست‪:‬‬
‫‪ -‬نحتاج إليك يف شغل يا سعد‪.‬‬
‫فوضعت فنجان القهوة جان ًبا وأشعلت‬ ‫ُ‬ ‫دوت كلامهتا يف أذين‪،‬‬
‫ّ‬
‫تفحصت‬‫السكر‪ّ .‬‬ ‫سيجارة‪ ،‬حاولت أن أحافظ عىل متاسكي رغم حالة ّ‬
‫مالمح وجهها بد ّقة أكرب‪ ،‬قلت يف نفيس‪« :‬مستحيل! هذه املرأة كانت‬
‫ثم بقيت تنتظرين أمام البار إىل أن خرجت وس ّلمتُها نفيس‪،‬‬ ‫تتع ّقبني ّ‬
‫أن األمر صدف ٌة محَ ْ ٌض‪ ،‬فإذا به مالحقة‬ ‫الغباء هو الغباء‪ ،‬كنت أظ ّن ّ‬
‫ومراقبة وشغل عصابات‪ .‬وعىل هذا النّحو ّ‬
‫فإن هذه املرأة ال يمكن‬
‫أن تكون بمفردها ومن املحتمل أن يكون أفراد العصابة أمام باب‬
‫الش ّقة ينتظرون فقط إشارة منها ملدامهتي»‪.‬‬
‫تابعت نادية‪:‬‬
‫يب‪،‬‬‫‪ -‬األمر بمنتهى البساطة متع ّلق بكنز‪ ،‬أرشدنا إليك شيخ مغر ّ‬
‫األمر‬
‫ُ‬ ‫قال لنا‪« :‬عليكم بسعد‪ ،‬إنّه ص ّياد الكنوز»‪ .‬وكم كان‬

‫‪51‬‬
‫احلق‪ ،‬مل‬ ‫ً‬
‫مدهشا حني اكتشفنا أنّك جارنا‪ ،‬هنا‪ ،‬يف هذه الوكالة‪ّ .‬‬
‫دت مالحقتك وال ّظهور أمامك‬ ‫تعم ُ‬
‫نكن نعرفك‪ ..‬ولعلمك ّ‬
‫يف مالمح مومس‪ ..‬كنت أستدرجك‪ ،‬لقد أرهقتني يا رجل‪.‬‬
‫فكّرنا طويلاً يف ذلك‪ ،‬هكذا هو شغلنا‪ ،‬حيتاج منّا إىل مغامرات‬
‫حق‪ ،‬لكن‬ ‫وتنازالت‪ ..‬طب ًعا‪ ،‬أعرف أنّك اشتهيتني‪ ،‬ومعك ّ‬
‫لألسف‪ ،‬أنا ال أصلح لالشتهاء‪ .‬ومل يكن من املمكن أن أطرق‬
‫ساذجا‬
‫ً‬ ‫باب ش ّقتك وأعلمك بحكاية الكنز‪ ،‬األمر سيكون‬
‫وسخي ًفا‪ ،‬وقد تطردين‪.‬‬
‫‪ -‬ط ّيب‪ ،‬فهمت ‪ ،‬لكن من أنتم؟‪ .‬أنت‪ ..‬ومن معك؟‪.‬‬
‫الشيخ مرزوق ّ‬
‫والشيخ إسامعيل‪.‬‬ ‫‪ -‬فقط معي شيخان مغرب ّيان‪ّ ،‬‬
‫أحتمل هؤالء ّ‬
‫الشيوخ‪ ،‬وال أصدّ ق أنّك تؤمنني‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬أنا ال‬
‫بشعوذهتم‪.‬‬
‫‪ -‬يف احلقيقة‪ ،‬مها صاحبا اخلريطة التي سرتشدنا إىل الكنز‪ ..‬هذا‬
‫ربا عىل التّعامل معهام‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬ولن تكون جم ً‬
‫‪ -‬وأين يوجد الكنز؟‬
‫‪ -‬هنا‪.‬‬
‫‪ -‬هنا أين؟ هل أنت بلهاء؟‬
‫‪ -‬أنا ال أمزح‪ ،‬هنا فعلاً ‪ ،‬يف الوكالة‪.‬‬
‫‪ -‬لكن‪ ،‬كيف؟ األمر غريب‪.‬‬
‫الشيخ مرزوق غدً ا عىل ّ‬
‫كل التّفاصيل‪.‬‬ ‫‪ -‬إن وافقت سيطلعك ّ‬

‫‪52‬‬
‫تذكّرت يف تلك ال ّلحظات ما كانت هاجر ترويه يل‪ ،‬كانت‬
‫السفىل مصيبة‪ ،‬هبا شيخان مغرب ّيان‪ ،‬وترت ّدد عليهام‬ ‫تقول‪« :‬الش ّقة ّ‬
‫الصباح الباكر عادةً‪ ،‬عيناها زرقاوان وأنفها صغري»‪ ،‬هكذا‬ ‫امرأة يف ّ‬
‫أيضا‬ ‫كانت تصفها يل‪ ،‬وهي بطبيعة احلال مالمح نادية‪ .‬من يطاردين ً‬
‫يف هذه البالد‪ ،‬جوهر ونادية والبق ّية‪ ،‬من؟ من؟ وما أثار دهشتي أنيّ‬
‫الشيوخ املغاربة‪ ،‬هؤالء األبالسة الذين يأكلون األخرض‬ ‫معروف عند ّ‬
‫مرة اتّصلت بالشيخ احلسني يف نزل قريب‬ ‫واليابس بأكاذيبهم‪ .‬ذات ّ‬
‫من باب بحر‪ ،‬كان أيب عىل معرفة قديمة به‪ .‬اقرتحت عليه أن يساعدنا‬
‫فك طالسم إحدى الدّ فائن يف سبيطلة‪ .‬فاجأين برشوط جمحفة‪،‬‬ ‫يف ّ‬
‫عيل رشوطه وهي أن أجلب له حفنة‬ ‫ثم أمىل ّ‬ ‫الزمن ّ‬ ‫ّ‬
‫ظل يفكّر وقتًا من ّ‬
‫من تراب األرض املعن ّية‪ ،‬وال بدّ أن تكون تلك احلفنة من أقرب‬
‫ثم طلب منّي إحضار فتاة ال يتجاوز عمرها مخس‬ ‫مكان من الدّ فينة‪ّ ،‬‬
‫سنوات‪ ،‬تكون عيناها زرقاوين‪ ،‬باإلضافة إىل مخسة عرش ألف دينار‬
‫يتكون من لوبان ذكر وفيجل وفاسوخ‬ ‫ثمن البخور الذي ينبغي أن ّ‬
‫أسود وجاوي وغريها من املواد التي ال أستحرضها‪ .‬طب ًعا‪ ،‬رصفت‬
‫درسا مهماّ حتّى ال أكون‬
‫الشيخ احلسني وكان ذلك ً‬ ‫النّظر عن هذيان ّ‬
‫الصفراء‪.‬‬
‫السحر واحلروز ّ‬ ‫أبله لشيوخ ّ‬
‫ازداد هيجاين يف تلك ال ّلحظة وأنا أطرح األسئلة‪ ،‬ص ّياد الكنوز؟‬
‫هذه الكنية التصقت يب يف القرصين‪ ،‬يف وادي الدّ رب حتديدً ا‪ ،‬كيف؟‬
‫كيف عرفوا هذه الكنية هنا‪ ،‬يف تونس العاصمة؟ طرحت أكثر األسئلة‬
‫حول هذه اجلن ّية التي ال تكرتث بيشء‪ ،‬كيف يكون شعورها وهي‬
‫بالتعري أمامي بال اكرتاث؟‬
‫ّ‬ ‫الشقة؟ وكيف تسمح لنفسها‬ ‫معي يف ّ‬

‫‪53‬‬
‫فاضحا‪ ،‬ولو حدث األمر مع رجل‬ ‫ً‬ ‫حتر ًشا‬
‫سمى يف القانون ّ‬‫فهذا ُي ّ‬
‫أيضا مل أكرتث‪ ،‬لست حيوانًا ألضاجع امرأة بال‬ ‫غريي الغتصبها‪ .‬أنا ً‬
‫كنت‬
‫إحساس‪ ،‬صحيح أنّني دعوهتا إىل بيتي بمحض إراديت‪ ،‬لكنّني ُ‬
‫ٍ‬
‫تتم العمل ّية بإحساس وتناغم‬
‫ثم ّ‬ ‫أحتاج إىل اشتعال حيدث بيننا بغت ًة ّ‬
‫ألي‬
‫أحب‪« .‬ال أصلح لالشتهاء»‪ ،‬قالت‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتبادل للخربات‪ ،‬هكذا‬
‫يشء تصلح هذه املصيبة إذن؟‬
‫أمسكتني من يدي وسألتني‪:‬‬
‫‪ -‬إيه ‪ ،‬أنت ‪ ،‬يا سعد‪ ،‬هل فكّرت يف األمر؟ هل أنت موافق؟‬
‫ليقيني أنّه ينبغي أن أحسم األمر سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنتم عىل يقني من وجود الكنز؟‬
‫جتاهلت سؤايل ّ‬
‫كأن األمر ال يعنيها‪.‬‬
‫‪ -‬أوافق‪ ،‬برشط أن أحصل عىل ربع الدّ فينة‪.‬‬
‫الشيخ إسامعيل‪ ،‬ال أكثر وال ّ‬
‫أقل‪.‬‬ ‫‪ -‬ألف دينار‪ ،‬ذاك ما اقرتحه ّ‬
‫ الربع‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬ثالثة آالف دينار‪.‬‬
‫ الربع‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬أربعة آالف دينار تونيس‪.‬‬
‫‪ -‬قويل لشيخيك ال ّثلث‪ ،‬وهذا آخر كالمي‪ .‬غدً ا أعاين الش ّقة‬
‫ونرتّب العمل ّية‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫أن نادية هي فرد من رشكة ومه ّية‪ ،‬أفرا ُدها ‪-‬أغلب‬ ‫ما فهمته ّ‬
‫غامرة‪ ،‬وشيخ روحاين‪ ،‬ومراقب ِ‬
‫ملتقط لألخبار‬ ‫الظن‪ -‬فتا ٌة مجيل ٌة م ِ‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تم عىل أساس معلومات‬ ‫السفىل ّ‬ ‫أن كراءهم ّ‬
‫للشقة ّ‬ ‫عن بعد‪ .‬واألكيد ّ‬
‫موجهة إىل‬‫باملرة يف امتالكهم خريط ًة ّ‬
‫أشك ّ‬‫دقيقة بوجود كنز‪ ،‬وال ّ‬
‫مكانه بكامل الد ّقة‪ .‬مل أشأ أن أسأهلا بطبيعة احلال‪ ،‬أعرف أنهّ ا لن‬
‫الصفر‪ ،‬ساعة احلفر‬ ‫رسا إىل أن حتني الساعة ّ‬ ‫جتيبني‪ ،‬األمر يبقى ًّ‬
‫أعني‪ ،‬وأعتقد أنهّ ا كانت جمربة عىل املوافقة عندما حسمت األمر‪.‬‬
‫ثلث الكنز ليس باألمر اهلينّ ‪ ،‬مل يكن أمامها خيار آخر‪ ،‬فقد خرج‬
‫أن نادية هي‬‫السرّ اآلن‪ ،‬وملن؟ لص ّياد الكنوز‪ .‬األمر اآلخر‪ ،‬هو ّ‬
‫مهمتهام‪.‬‬
‫الشيخان فأعرف ّ‬ ‫صاحبة القرار‪ ،‬أنا متأكّد‪ ،‬أ ّما ّ‬
‫ألتلصص عىل نادية وهي نائمة‪ ،‬مهس‬ ‫ّ‬ ‫توجهت نحو غرفة النّوم‬
‫ّ‬
‫مؤخرهتا فأبحلق فيها من جديد»‪،‬‬ ‫رأيس‪« :‬قد يسقط الغطاء عن ّ‬
‫السبب يف‬
‫السكر ليست هي ّ‬ ‫أن حالة ّ‬ ‫وكان ال بدّ أن أكون عىل يقني ّ‬
‫ما أصابني من لوثة االفتتان بتلك ّ‬
‫املؤخرة‪ .‬لو تشاهد أ ّمي ما حيصل‬
‫احلي‪« :‬هالفرخ احلرام كرب ولاّ يل نمس‬ ‫يف ش ّقتي ستولول يف كامل ّ‬
‫وعليه الكالم»‪ .‬فتحت الباب برفق خمافة أن تنهض نادية فترصخ يف‬
‫وجهي‪« :‬يا حيوان»‪ .‬تف ّطنت إىل ّ‬
‫أن السرّ ير شاغر ومرتّب بعناية‪،‬‬
‫شك أنهّ ا التحقت ّ‬
‫بالشيخني لتعلمهام‬ ‫غادرت غريبة ال ّطباع إذن‪ .‬ال ّ‬
‫بموافقتي‪ .‬اقرتبت من السرّ ير فعثرت عىل ورقة صغرية بحجم علبة‬
‫دخان‪ ،‬مل تكن مطو ّية‪ ،‬التقطتها وقرأت‪ :‬نحن يف انتظارك يا سعد‬
‫السفىل‪ُ ،‬يمكنك أن تأيت ُظ ْه ًرا‪.‬‬
‫بالش ّقة ّ‬
‫ست عمي ًقا‬
‫الشقة‪ ،‬تن ّف ُ‬
‫استمعت إىل نقرات خفيفة عىل باب ّ‬
‫ُ‬

‫‪55‬‬
‫وجريت نحو الباب‪ ،‬قلت يف نفيس‪« :‬لقد عادت‪ ،‬وهذا مدهش‪ ،‬ولن‬
‫أحب املباغتة»‪ ..‬خشيت‬‫املرة‪ ..‬باغتتني وأنا ّ‬ ‫تضيع منّي ّ‬
‫مؤخرهتا هذه ّ‬
‫السطل يف‬‫يف تلك ال ّلحظة أن تتف ّطن هاجر فينقطع احلبل ويسقط ّ‬
‫البئر‪ .‬بحركة رسيعة ومهتاجة فتحت الباب‪ ،‬انتصب أمامي جوهر‬
‫بمعطفه األسود‪ ،‬ارجتفت ركبتاي وخفق قلبي‪ّ .‬أول يشء خطر ببايل‬
‫باملرة‪ ،‬إ ّما أنيّ فقدت عقيل‬
‫كابوسا يطاردين‪ ،‬األمر ليس طبيع ّيا ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫أن‬
‫رسبوا يف النّبيذ الذي رشبته ما ّد ًة متلفة لألعصاب‪ .‬رمقني‬
‫أو أنهّ م ّ‬
‫الصالون‪ ،‬مل يتك ّلم ومل يسترشين يف‬‫جوهر بطرف عينه وعرب إىل ّ‬
‫قط أن دخل ش ّقتي أو حتدّ ثنا عىل ّ‬
‫األقل‪ ،‬وأنا ال‬ ‫الدّ خول‪ ،‬مل يسبق له ُّ‬
‫أكاد أعرف صوته‪.‬‬
‫أخرج جوهر من ثنايا معطفه مغ ّل ًفا‪ ،‬هو املغ ّلف نفسه الذي ضاع‬
‫وسع عينيه وقال‪:‬‬ ‫منّي البارحة‪ ،‬ث ّبت س ّبابة يده اليمني عىل املغ ّلف ّ‬
‫ثم ّ‬
‫‪ -‬أظ ّن أنّك بالغت يف الشرّ ب البارحة إىل حدٍّ ج َعلك تُضيع‬
‫مغ ّل ًفا مهماًّ ‪ ..‬املسألة متع ّلقة هبيلني‪ ،‬أال تدرك ذلك؟‬
‫قلت حماوالً استيعاب ما حيدث‪:‬‬
‫ُ‬
‫ كنت تتع ّقب خطوايت إذن‪ ،‬من سمح لك بذلك؟‬
‫‪َ -‬‬
‫يف تلك ال ّلحظة كان جوهر يتأ ّمل لوحة تشكيل ّية مقابلة له متا ًما‬
‫يف أعىل اجلدار‪ ،‬مشهد خيول يف حالة اندفاع وغضب‪ ،‬كان يتأ ّمل‬
‫متعمدا إمهال أسئلتي‪ .‬مت ّلكتني حرية حيال ما يقع يل منذ‬ ‫ّ‬ ‫باطمئنان‬
‫رسي‪.‬‬ ‫أغي نربة صويت‪ ،‬قلت يف ّ‬ ‫عيل أن رّ‬‫البارحة بشكل ال ينبئ بخري‪ّ .‬‬
‫حاولت قدر اإلمكان أن أكون هادئًا‪ ،‬هكذا أستطيع أن أفهم هذا‬
‫الرجل ال ّلغز‪ ،‬قلت وأنا أنفث الدّ خان بعيدً ا عن وجهه‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪56‬‬
‫‪ -‬يف احلقيقة أنا يف غاية األسف‪ ..‬ال أدري كيف سقط منّي‬
‫املغ ّلف‪..‬‬
‫مقهقها‪:‬‬
‫ً‬ ‫قاطعني‬
‫التكيز‪ ،‬بال ّ‬
‫شك‪.‬‬ ‫الزرقاوين أفقدتك رّ‬
‫‪ -‬املرأة ذات العينني ّ‬
‫ثم تابع‪:‬‬
‫نحنح ّ‬
‫‪ -‬اطمئ ّن‪ ،‬مل أخرب هيلني بأمر هذه املرأة‪ ،‬فأنا أعرف أنهّ ا ستغضب‬
‫جدًّ ا لو سم َع ْت هبا‪.‬‬
‫ّلوحت بيدي يف جّاتاهه‪:‬‬
‫‪ -‬أمر املرأة ال يعنيك‪ ..‬قل يل‪ ،‬اآلن‪ ،‬أين عثرت عىل املغ ّلف؟‬
‫‪ -‬الواقع‪ ،‬كنت أراقبك منذ س ّلمتك املغ ّلف‪ ،‬كنت أعرف أنّك‬
‫ستسكر لذلك تع ّقبت خطواتك‪ .‬عندما سقط منك بالقرب‬
‫من نصب ابن خلدون انتظرت حتّى ختتفي أنت واملرأة‬
‫وسارعت بالتقاطه‪ .‬ساعتها هاتفت هيلني‪ ،‬طب ًعا‪ ،‬مل أخربها‬
‫كل يشء‪ ..‬آه‬‫بكل هذه التّفاصيل‪ ،‬سألتها عن عنوانك‪ ،‬هذا ّ‬
‫ّ‬
‫أيضا ال تفتح‬
‫نسيت‪ ،‬ملاذا أغلقت هاتفك منذ يومني؟‪ ..‬أنت ً‬
‫كثريا‪ .‬أرسلت‬
‫اإللكرتوين‪ ،‬وهيلني منزعجة من ذلك ً‬
‫ّ‬ ‫بريدك‬
‫إليك رسالة البارحة‪ ،‬طب ًعا‪ ،‬أفهم يا سعد‪ ،‬أنت مل جتد الوقت‬
‫إلجابتها‪ ،‬وعليك أن تفعل ذلك اليوم‪.‬‬
‫كل التّفاصيل ويعرف رقم‬ ‫ابن الكلب‪ ،‬قلت يف نفيس‪ ،‬يعرف ّ‬
‫أيضا‪ .‬هيلني حدّ ثتني عن أهلها وأصدقائها‪ ،‬حدّ ثتني‬ ‫هاتف هيلني ً‬
‫مرات‬‫عنهم بإطناب ومل حتدّ ثني َق ُّط عن جوهر‪ .‬بل أذكر أنيّ سألتها ّ‬

‫‪57‬‬
‫مرة هتمل أسئلتي‪ ،‬تتجاهل ذلك عمدً ا‪،‬‬ ‫كل ّ‬‫عديدة وكانت يف ّ‬
‫مهم‬
‫أن جوهر هو شخص ّ‬ ‫للشك يف ّ‬
‫ّ‬ ‫كنت أعرف‪ ،‬واآلن ال جمال‬
‫يف حياة هيلني‪ ،‬وال أستطيع أن أقدّ ر هذه األمه ّية‪ .‬مل يعد يشغلني‬
‫ضج دماغي‪ ،‬وصارت تشغلني هذه‬ ‫قلقي بسبب سفر هيلني‪ .‬اآلن‪ّ ،‬‬
‫العالقة املسرتابة بينها وبني ابن الكلب هذا‪ .‬لن أسأله بفضول‪ ،‬أكيد‬
‫بالشكل الذي يرحيني‪ .‬د ّققت يف‬‫ويتهرب من إجابتي ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنّه سيكذب‬
‫الشيب يغزو كامل شعره‪ ،‬عيناه سوداوان ووجهه نحيف‪ ،‬له‬ ‫مالحمه‪ّ ،‬‬
‫متفحصة وعميقة‬‫ّ‬ ‫ندبة صغرية يف أسفل ذقنه‪ ،‬نظراته‪ ،‬كام أحسست‬
‫بمعنى أنهّ ا ُمو َلعة بالتّفاصيل‪ ،‬وعمو ًما‪ ،‬وجهه ال ييش ّ‬
‫بالريبة‪.‬‬
‫ال أدري ملاذا ث ّبت جوهر عينيه يف ال ّلوحة املقابلة له‪ .‬أعتقد‬
‫الزنازين‬‫أنّه كان نصف نائم وهو جيول ببرصه بني اخليول التي هتدّ ّ‬
‫باتاه البحر‪ .‬يداه ترتعشان‪ ،‬ودموعه تسيح عىل خدّ يه وهو‬ ‫وتركض جّ‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬وهذا ما أفهمه‪ ،‬رأسه ينوء بوجع‬ ‫ينشج بشكل صامت‪ّ .‬‬
‫أو هي ذكرى مؤملة‪ .‬فباإلضافة إىل مجال ّية األلوان كانت ال ّلوحة‪ ،‬يف‬
‫الواقع‪ ،‬حافلة بأبعاد إنسان ّية مؤ ّثرة‪ ،‬تلك املشاعر اجل ّياشة التي يمكن‬
‫ويتلهف إىل احلر ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أن يمتلكها اإلنسان وهو يتخ ّلص من ّ‬
‫الزنازين‬
‫إنهّ ا حلظة دقيقة وفارقة‪ ،‬حلظة مربكة قد تعيد اإلنسان جمدّ ًدا إىل سجنه‬
‫حترره هنائ ًّيا من القبو املظلم إذا اقتنص‬
‫بسبب هتاونه أو تراخيه وقد ّ‬
‫عمق ال ّلحظة‪ ،‬ووحدها تلك ال ّلحظة العجيبة جتعله يدرك احلر ّية‪.‬‬
‫عيناه غاصتا متا ًما يف ال ّلوحة‪ ،‬مت ّلكتني حرية أخرى وأنا أتأ ّمله‪ ،‬هذا‬
‫الرجل لغز‪ ،‬لغز غريب وغامض‪ .‬ال يمكن إطال ًقا أن يكون جوهر‬ ‫ّ‬
‫اليهودي‪ .‬فرض ّية‬ ‫كل صباح أمام الكنيس‬ ‫ٍ‬
‫ماسح أحذية كام يصادفني ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬

‫‪58‬‬
‫أيضا بعد أن تأ ّملت وجهه‪ .‬األرجح‬ ‫بوليسا رس ًّيا استبعدهتا ً‬
‫ً‬ ‫أن يكون‬
‫واملهمة‬
‫ّ‬ ‫خاصة وهي محاية اجلالية اليهود ّية‪،‬‬‫بمهمة ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن يكون مك ّل ًفا‬
‫الرهبان‬
‫أمني‪ ،‬يكفي أن حيظى بثقة أحد ّ‬ ‫اخلاصة ال يشغلها بالرضورة ّ‬ ‫ّ‬
‫مهمة دقيقة كان عليه أن يتنكّر يف هيئة‬ ‫اليهود ليضطلع هبا‪ .‬وألنهّ ا ّ‬
‫سيشك يف أمره‪ .‬ويف مقابل ذلك‪ ،‬اختار‬ ‫ّ‬ ‫ماسح أحذية‪ ،‬وال أحد‬
‫الزاوية املناسبة التي متكّنه من مراقبة مجيع زوايا الكنيس باإلضافة إىل‬ ‫ّ‬
‫أي حدث‪ .‬ومن‬ ‫املتفحصة ال يمكن أن هتمل ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل العابرين‪ ،‬نظراته‬ ‫ّ‬
‫اخلشبي‬
‫ّ‬ ‫الصندوق‬ ‫املؤكّد أنّه كان خيفي مسدّ ًسا يف متناول يده‪ ،‬داخل ّ‬
‫الصغري‪ ،‬عىل سبيل االحتياط‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ثم هنض بحيو ّية وهو يمسح عينيه‬ ‫متلمل جوهر بجانبي‪ّ ،‬‬
‫قوة‬ ‫بمنديل أبيض‪ ،‬وعندما اقرتب من الباب التحقت به‪ ،‬دفعتني ّ‬
‫ّ‬
‫أستغل‬ ‫غامضة الستبقائه لبعض الوقت‪ ،‬قلت يف نفيس‪ :‬ال بدّ أن‬
‫كل‬ ‫هشاشته وأعرف جان ًبا من أرساره‪ُ .‬أدرك أنيّ لن أميط ال ّلثام عن ّ‬
‫هيم هيلني أكثر‬ ‫يشء‪ ،‬ما يعنيني هو هيلني‪ ،‬وأمر الكنيس شأن آخر ّ‬
‫منّي‪ .‬استجاب لدعويت‪ ،‬وأحدث ذلك هدو ًءا يف باطني‪ ،‬فقد كان‬
‫مهماًّ أن أكسب ثقته‪ .‬أرسعت إىل املطبخ وأعددت قهوتني‪ .‬جوهر ال‬
‫يدخن‪ ،‬حاولت قدر اإلمكان أن أنفث الدّ خان بعيدً ا عنه‪ ،‬وصلتني‬ ‫ّ‬
‫يف األثناء أصوات األغاين الصباح ّية املزعجة‪ ،‬تتصاعد من النّوافذ‬
‫يف التّوقيت نفسه‪ ،‬بشكل مقرف تتعايل وتعلن بداية صيد ال ّلذة يف‬
‫أيضا صوت هاجر‪ ،‬كانت تتحدّ ث عن صالح وعن‬ ‫الوكالة‪ .‬وصلني ً‬
‫الصباحي مبحوح‪ ،‬يف املساء‬
‫ّ‬ ‫الروائح التي تفوح يف املكان‪ .‬صوهتا‬
‫أمر ّ‬
‫يستعيد طراوته ور ّقته كام تستعيد هي بالكامل فوراهنا وارجتافها‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫بعد صمت وتفكري سألت جوهر‪:‬‬
‫لغز‪،‬‬
‫‪ -‬قل يل بر ّبك من أنت؟ ال أخفي عنك‪ ،‬أنت يف نظري ٌ‬
‫لغز كبري يا سيد جوهر‪ .‬وأنا ال أحتمل أن أتعامل مع رجل‬
‫ٌ‬
‫غريب‪..‬‬
‫صدرت عن جوهر تنهيدة متق ّطعة‪ ،‬خرجت متعبة من جسده‬
‫سمر عينيه يف ال ّلوحة من جديد‪ ،‬انشغلت‬
‫امحر وجهه وهو ُي ّ‬
‫النّحيل‪ّ ،‬‬
‫أنا ّ‬
‫بالذبابة التي وقعت يف فنجان القهوة ونكّلت برتكيزي‪ ،‬يف ما‬
‫ّ‬
‫وأترشف القهوة‪..‬‬ ‫مىض كنت أزحيها‬
‫هتف جوهر بإجهاد‪:‬‬
‫‪ -‬يف عظامي هلع ال خيمد يا سعد‪ ،‬وال ّلوحة‪ ،‬كام ترى أهاجت‬
‫الرب‪ ..‬لكن‪،‬‬ ‫ذكريات قديمة‪ ،‬حزينة ومؤملة‪ ،‬ال يعلم هبا إلاّ ّ‬
‫ثق يا سعد‪ ،‬ثق متا ًما أنيّ أسعى من أجل اخلري واملح ّبة‪ ،‬وال‬
‫أحرص إلاّ عىل ذلك‪ .‬مسألة أخرى‪ ،‬ال بدّ أن تعرفها‪ ،‬مسألة‬
‫متع ّلقة هبيلني‪ ،‬هل تثق يب يا سعد؟ هيلني هي النّور‪ ،‬لو تفهم‬
‫أي‬
‫ذلك‪ ..‬وذاك النّور أبرص به‪ ،‬هيلني هي املالك الذي حيلم ّ‬
‫رجل أن يمتلكه‪.‬‬
‫ثم جرى متدافع األنفاس‬
‫قال جوهر تلك الكلامت بنربة حزينة ّ‬
‫وغادر الش ّقة‪.‬‬

‫عند الظهر‪ ،‬غادرت الش ّقة أللتحق باجلامعة يف الش ّقة ّ‬


‫السفىل‪،‬‬
‫نسميها يف الوكالة‪ ،‬هي الش ّقة األرض ّية الوحيدة‪ ،‬شبيهة‬ ‫هكذا ّ‬
‫ممر ُمظل ٍم َ‬
‫ليل هنار‪ ،‬ويف اجلانب األيمن يوجد‬ ‫بكهف‪ ،‬باهبا يفتح عىل ٍّ‬

‫‪60‬‬
‫مرة‬‫يسمونه‪ ،‬مل حيدث أن فتح ولو ّ‬‫مستودع الوكالة املجهول‪ ،‬هكذا ّ‬
‫واحدة‪ ،‬ملاذا هو مغلق دو ًما؟ هل هو خمزن عيل بابا؟ يسأل صالح‬
‫عشيقته نعيمة وهي تغريه بكراء املستودع ليكون بجانبها وتطمئ ّن‪.‬‬
‫اليومي‬
‫ّ‬ ‫حتب أن يرتاح باهلا‪ ،‬ويرتاح عشيقها بذلك من التن ّقل‬
‫نعيمة ّ‬
‫بني امللاّ سني وص ّباط الدّ زيري‪ .‬صالح يف العادة يرفع األوساخ‬
‫السفىل‪ ،‬وأعتقد أنّه اختفى منذ‬‫املمر املوصل إىل الش ّقة ّ‬
‫املرتاكمة يف ّ‬
‫خصامه ال ّلعني مع عشيقته‪ .‬نعيمة امرأة رصحية وسليطة ال ّلسان‪،‬‬
‫حتب صالح وال ترىض أن جيري املاء حتت قدميها‪ ،‬تريده هلا دون‬ ‫ّ‬
‫سواها‪ ،‬أ ّما أن تزوغ عيناه نحو جاراهتا فهذا ما تكفر به‪« ،‬األعمى‬
‫مشاتو»‪ ،‬رصخت نعيمة يف وجه‬ ‫يلوح العصا إليّ ّ‬
‫كي يرجع يشوف‪ّ ،‬‬
‫صالح وهي تطرده من الوكالة بعد أن ضبطته خيوهنا يف إحدى‬
‫ّ‬
‫الشقق‪.‬‬
‫خنقتني الروائح العطنة وأنا أخت ّطى أكياس القاممة ِ‬
‫ألصل إىل‬
‫باب الش ّقة‪ .‬كنت كأنيّ أنزل إىل رسداب‪ ،‬تفاديت القطط املتن ّطعة‪،‬‬
‫الرطوبة‬ ‫الصمت‪ّ .‬‬ ‫وخشيت أن أدوس عىل رأس واحدة فيتعكّر ّ‬
‫أن هاجر‬ ‫احلظ ّ‬
‫الروائح‪ .‬ومن حسن ّ‬ ‫كل ّ‬‫متوهج‪ ،‬يلتقط ّ‬
‫خانقة وأنفي ّ‬
‫املمر‪ ،‬أنا من حيمل أكياس قاممتها‪ ،‬تق ّبلني بشكل‬
‫ال تصل إىل هذا ّ‬
‫مرح وتس ّلمني أكياسها مثلام تس ّلمني صدرها متا ًما‪ .‬لعنت نادية‬
‫ورطتني البائسة‪ ،‬كان يمكن أن يأيت‬ ‫وبصقت عىل وجهها يف خيايل‪ّ ،‬‬
‫وجدت باب‬ ‫ُ‬ ‫الشيخان إىل ش ّقتي‪ ،‬كنّا سنتحدّ ث ونتفاوض ونتّفق‪.‬‬
‫ّ‬
‫تعمدوا ذلك حتى ال أطرق الباب‬ ‫أشك يف كوهنم ّ‬ ‫الشقة موار ًبا‪ ،‬مل ّ‬
‫ّ‬
‫الشديد‪،‬‬‫بشكل مثري لالنتباه‪ ،‬مع جرابيع هذه الوكالة ال بدّ من احلذر ّ‬

‫‪61‬‬
‫كل النّوافذ وكاالت أنباء واستخبارات‪ .‬دفعت الباب قليلاً ومددت‬ ‫ّ‬
‫رأيس مستطل ًعا‪ ،‬وصلتني جلبة منبعثة من الدّ اخل‪ ،‬دفعت الباب‬
‫حتسست خدّ ي األيمن وقد دامهته احلرشات‬ ‫ومتكّنت من رؤيتهم‪ّ .‬‬
‫رفعت رأيس‪ ،‬كانت نادية ّأو َل من رأيت‪ ،‬مل أصدّ ق ما شاهدَ ْت ُه‬
‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫ّ‬
‫عيناي‪ ،‬غمرين عرق بارد‪ ،‬كانت شبه عارية‪ ،‬بت ّباهنا األسود نفسه‬
‫الشمع املشتعل‪،‬‬ ‫محالة هندهيا احلمراء‪ ،‬ترقص بجنون وسط دائرة من ّ‬ ‫و ّ‬
‫غيت تصفيفة شعرها‬ ‫أيضا حول حفرة صغرية وسط الدّ ائرة‪ .‬رّ‬‫تطوف ً‬
‫ال ّطويل الفاحم‪ ،‬البارحة عقصته وهي خترج من غرفة االستحامم يف‬
‫متناثرا عىل كتفيها وكامل ظهرها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شكل كعكة‪ .‬وهي ترقص جعلته‬
‫ظ ّللت عينيها بلون أزرق‪ ،‬ووضعت عىل شفتيها مسحة بارزة من‬
‫بريق‬
‫الشفاه‪ .‬كانت ترقص مثل غجر ّية‪ ،‬ويف عينيها يلمع ٌ‬ ‫أمحر ّ‬
‫أيضا‪ ،‬تو ّقفت عند ال ّلحمتني الطر ّيتني‪.‬‬‫شهواين حا ّد‪ .‬رأيت إبطيها ً‬
‫ٌّ‬
‫إبطان بيضاوان بال شعر‪ .‬وبعد تشنّج‪ ،‬انتهى جسدُ ها إىل حالة من‬
‫ثم سكن َْت قليالً‪ ،‬لكنّها مل تتو ّقف عن‬ ‫الرعدة ّ‬
‫االسرتخاء‪ ،‬أخذهتا ّ‬
‫الرقص‪ .‬رئتاي حترتقان وأنا أمدّ عنقي وأتابع هيسترييا العميان‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬
‫أحد منهم يرى ويسمع يف تلك احلالة من اخلدر‪ .‬ث ّب ُّت برصي عىل‬
‫الشيخ النّحيف‪ ،‬وجهه مر ّبع وأنفه خشن‪ .‬يطوف خلف نادية مثل‬ ‫ّ‬
‫درويش‪ ،‬يضع يديه عىل رأسه ويطوف‪ ،‬يبكي ويضحك وينحني‬
‫ويقرفص ويزفر ويشهق ويقهقه ويقف ويرفع برصه إىل األعىل‪.‬‬
‫ال تزال رائحة النّبيذ عالقة بأنفايس‪ ،‬اختلطت يف تلك ال ّلحظات‬
‫والرطوبة املنبعثة من الدّ اخل‪ ،‬رائحة ثخينة‬ ‫بروائح العرق والبخور ّ‬
‫ومقرفة‪ ،‬هم ال يفتحون نافذتيَ الش ّقة مطل ًقا‪ ،‬إنهّ م يف حالة عداء مع‬

‫‪62‬‬
‫الشيخ ال ّثاين‪ ،‬طويل القامة ووجهه نحيف‪ّ ،‬‬
‫يشع‬ ‫الشمس واهلواء‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫خشبي كبري‪ .‬بني‬ ‫ٌّ‬ ‫مفتاح‬
‫ٌ‬ ‫محاسا‪ ،‬حليته منساب ٌة‪ ،‬وعىل صدره يتدلىّ‬ ‫ً‬
‫فينة وأخرى يرفع حاجبيه ويص ّفر بأسنانه‪ .‬تناول رشيط كاسيت‬
‫ودسه يف آلة تسجيل فانبعثت عاصفة من التّعاويذ‪ .‬خنقتني‬ ‫ّ‬
‫أشعلت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫بصقت ّ‬ ‫ُ‬ ‫الروائح وأحسست بحرشة تتس ّلل إىل جويف‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتابعت باندهاش‪ ،‬كنت مكشو ًفا أمامهم‪ ،‬تركت الباب‬ ‫ُ‬ ‫سيجار ًة‬
‫موار ًبا خلفي وتقدّ مت نحوهم‪ ،‬ال أحد انتبه إ ّيل‪ ،‬كأنهّ م يف حالة‬
‫الشيخ ال ّطويل نحوها‬ ‫غيبوبة‪ .‬عندما هتاوت نادية عىل احلفرة جرى ّ‬
‫الصالة‬ ‫ّ‬ ‫وأدخل مقدّ مة املفتاح يف قبضة يدها اليمنى وطفق يصليّ‬
‫تتكرر يف مغامرات‬ ‫ّ‬ ‫اإلبراهيم ّية‪ .‬أعرف ذلك‪ ،‬التعاويذ نفسها‬
‫حممد‪ ،‬كام ص ّليت‬ ‫حممد وعىل آل ّ‬ ‫صل عىل ّ‬‫هم ّ‬ ‫احلفر والنّبش‪« :‬ال ّل ّ‬
‫هم بارك عىل‬ ‫عىل إبراهيم وعىل آل إبراهيم‪ ،‬إنّك محيد جميد‪ ،‬ال ّل ّ‬
‫حممد‪ ،‬كام باركت عىل إبراهيم وعىل آل إبراهيم‬ ‫حممد وعىل آل ّ‬ ‫ّ‬
‫الكريس‪ .‬مل‬ ‫ّ‬ ‫ثم تال آية‬‫مرات ّ‬ ‫كرر ذلك سبع ّ‬ ‫إنّك محيد جميد»‪ّ ،‬‬
‫كيز اللاّ زم‪ ،‬شملني اخلدَ ر مثلهم‪ ،‬كأنيّ‬ ‫الت َ‬
‫أمتلك يف ذلك الوقت رّ‬
‫أتم الشيخ تعويذته حتّى هنضت نادية‬ ‫أمحل غابة يف رأيس‪ .‬وما إن ّ‬
‫ومرره بخ ّفة عىل هندهيا وأسفل بطنها‬ ‫فسارع اآلخر بمنديل أبيض ّ‬
‫رش قارورة ماء يف احلفرة وأخذ حفنة صغرية من‬ ‫ثم ّ‬
‫وفخذهيا ّ‬
‫التاب وهتف‪« :‬بأمر من اهلل ّأولاً ومن شيخكم إن كانت يف هذا‬ ‫رّ‬
‫القدم أقلب ك ّفي ناحية اليمني وأفرغ ما فيها‪».‬‬ ‫املوقع دفينة من آثار ِ‬

‫مبتهجا‪ :‬سبحان اهلل‪ ،‬سبحان اهلل‪ ،‬اجل ّن حارس‬‫ً‬ ‫وصاح اآلخر‬


‫الدّ فينة سريفع يديه قري ًبا عن الكنز‪ ..‬اهلل أكرب‪ ،‬اهلل أكرب‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫تابع ال ّثاين‪ :‬بقيت أ ّيا ٌم حتّى يرحل اجل ّن‪ ..‬مل َ‬
‫يبق الكثري‬
‫السميع العليم‪.‬‬
‫وسنستخرج الكنز بإذن ّ‬
‫ثم نحنح‪،‬‬ ‫يف تلك ال ّلحظات انتبه إ ّيل اجلميع‪ ،‬مههم النّحيف ّ‬
‫مؤخرهتا تلمع وترتاقص‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬مل‬ ‫نادية بقيت غري مبالية‪ّ ،‬‬
‫السحر الدّ اعر الذي خ ّبل‬‫الشيخني وأنا أتأ ّمل ذاك ّ‬ ‫أخجل من ّ‬
‫الصالة اإلبراهيم ّية حتّى أنال‬
‫ّ‬ ‫رسي‪« :‬سأصليّ‬ ‫أنفايس‪ ،‬وقلت يف ّ‬
‫الشهد‪ ،‬وبعدها فليكن ما يكون»‪ .‬أحسست بالغبن‪ ،‬ألنيّ‬ ‫من ذاك ّ‬
‫ّفرطت يف فرصتي‪ ،‬رفعت رأيس بعد ذلك إىل اجلدار الذي يقابلني‪.‬‬
‫اندهشت وأنا أتأ ّمل ريش الطيور ومجاجم اخلفافيش مع ّلقة بفوىض‬
‫قط أسود وهياكل سمك‬ ‫وإمهال‪ .‬التقطت عيناي يف األعىل هيكل ّ‬
‫كل لوازم‬ ‫أن اجلامعة ال يمزحون يف شغلهم‪ّ ،‬‬ ‫بأشكال خمتلفة‪ .‬أدركت ّ‬
‫األهم الذي لفت انتباهي وأنا أد ّقق يف‬
‫ّ‬ ‫التعاويذ موجودة‪ .‬الشيّ ء‬
‫عيني نادية وجود نقطة سوداء يف بياض عينها اليرسى‪ ،‬والشيوخ‬
‫السوداء‬ ‫يعولون عىل أصحاب تلك النّقطة ّ‬ ‫الروحان ّيون‪ ،‬يف الغالب ّ‬‫ّ‬
‫يتم التخ ّلص من‬ ‫ألنهّ ا بمثابة خريطة استكشاف للكنوز‪ .‬وعادة ما ّ‬
‫هؤالء بعد استخراج الكنوز‪ ،‬تقع تصفيتهم بسيناريوهات خمتلفة‪،‬‬
‫ثم‬
‫إ ّما برميهم يف بئر مهجورة‪ ،‬أو خنقهم بقطعة قامش أو ختديرهم ّ‬
‫التاب أحياء‪.‬‬ ‫ردمهم حتت رّ‬
‫يف هناية األمر‪ ،‬قلت يف نفيس‪ ،‬سأميض يف هذه املغامرة‪ ،‬أعرف ّ‬
‫أن‬
‫والرعب‪ ،‬خربت هذه العوامل وعرفت‬
‫بالريبة ّ‬‫طريقي آهل يف الغالب ّ‬
‫طينة هؤالء الشيوخ‪ .‬هم يف الغالب جبناء وخمادعون‪ ،‬واألفضل‬
‫ثم إنيّ سألغي مسألة ّ‬
‫مؤخرة نادية من‬ ‫ألاّ أكشف هلم وجهي متا ًما‪ّ ،‬‬

‫‪64‬‬
‫الشهوان ّية يف ّ‬
‫الشغل‪.‬‬ ‫أحب الشطحات ّ‬
‫حسابايت‪ ،‬أنا ال ّ‬
‫قال ّ‬
‫الشيخ إسامعيل‪« :‬كام عرفت اسمه من نادية»‪.‬‬
‫‪ -‬لقد مضت ثالثة أسابيع يا أخانا سعد‪ ،‬نحن ال نقصرّ يف‬
‫تعاويذنا لنعثر عىل الكنز‪ ..‬ووجود الكنز ثابت يا أخانا‬
‫استداللاً هبذه اخلريطة‪.‬‬
‫الزمن‪،‬‬
‫اقرتب منّي وفتح خريطة كربى‪ ،‬اهرتأت وتآكلت بمرور ّ‬
‫ثم تابع‪:‬‬ ‫ٍ ِ‬
‫أشار بيده إىل نقطة ُرسم فيها وجه حصان ّ‬
‫‪ -‬يف احلقيقة‪ ،‬ك ّلفتني هذه اخلريطة مبل ًغا ً‬
‫كبريا‪ ،‬اقتنيتها من تاجر‬
‫هيودي يف أغادير‪ ،‬ونحن كام ترى نامرس تعاويذنا بعناية‬
‫ّ‬ ‫ب‬‫ذه ٍ‬
‫َ‬
‫حتّى حيني األجل‪ .‬وبعد أ ّيام قليلة‪ ،‬سيخيل اجل ّن سبيل الكنز‪.‬‬
‫قالت نادية‪:‬‬
‫‪ -‬طب ًعا‪ ،‬ال نذكّرك يا سعد بقوانني شغلك‪ .‬الوضع‪ ،‬كام ترى‪ ،‬يف‬
‫غاية التّعقيد هنا يف الوكالة‪ ..‬وال بدّ من احليطة واحلذر‪.‬‬
‫الطري؟‬
‫ّ‬ ‫رسهتا‪ ،‬كيف مل أنتبه إىل ذاك اخلبل‬
‫تسمرت عيناي يف ّ‬‫ّ‬
‫جمرد ملسها واستثارهتا هو‬ ‫رسهتا ناعسة وناعمة مثل فم ٍ‬
‫حبيش‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫قنفذ‬ ‫ّ‬
‫وزع علينا ثالثة حروز‬‫ثم ّ‬ ‫الشيخ مرزوق ّ‬ ‫احلقيقي‪ .‬مححم ّ‬
‫ّ‬ ‫العذاب‬
‫الرابع داخل عباءته وهو يتمتم ببعض الكلامت املبهمة‪ .‬هنض‬ ‫ودس ّ‬‫ّ‬
‫رن هاتف‬‫الشيخ إسامعيل‪ّ .‬‬ ‫واته نحو إحدى الغرف وتبعه ّ‬‫إثر ذلك جّ‬
‫الزر‪« :‬آلو‪ ،‬آلو‪ ،‬نعم‬
‫نادية‪ ،‬التقطته بحركة رسيعة وضغطت عىل ّ‬
‫الزمن وأكون يف املكتب‪ ..‬حارض‬ ‫سيدي‪ ،‬نعم سيدي‪ ..‬ساعة من ّ‬
‫سيدي»‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫خرجت من الش ّقة حتّى وصلتني اجللبة املسائ ّية يف الوكالة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ما إن‬
‫ّأول يشء فعلته هو أنيّ رميت احلرز وسط األكياس املرتاكمة‪ ،‬قلت‬
‫يف قرارة نفيس‪« :‬هذا احلرز سيكدّ رين وأنا بطبعي أكره احلروز منذ‬
‫ثم أجري صارخا‬ ‫كنت صغريا»‪ .‬أذكر أنيّ كنت أهنض فز ًعا يف ال ّليل ّ‬
‫يف حوش دارنا‪« :‬ربيّ جاين‪ ،‬ربيّ جاين»‪ ..‬كنت أخاف اهلل فعلاً ‪ ،‬أ ّمي‬
‫السامء يف ثوب أبيض‪« ،‬سيع ّلق‬ ‫ٍ‬
‫تصوره يل مثل يشء عظي ٍم ينزل من ّ‬ ‫ّ‬
‫السامء‪ ،‬سيشنقك من هناك إن مل تسمع كالمي»‪،‬‬ ‫الصغرية يف ّ‬ ‫دودتك ّ‬
‫وأحس باخلوف‬ ‫ّ‬ ‫السامء‪،‬‬
‫أن اهلل يف ّ‬ ‫هتدّ دين أ ّمي‪ ،‬وكنت أعتقد فعلاً ّ‬
‫الشمس‬ ‫السامء عن اهلل‪ ،‬أفتّش عنه يف ّ‬ ‫الشديد بعد كلامهتا‪ ،‬أفتّش يف ّ‬
‫والسحب‪ ،‬وعندما أنام‪ ،‬ال أدري ماذا حيدث يل‪ ،‬أرى ما‬ ‫والقمر ّ‬
‫يشبه الشيّ ء العظيم‪ ،‬يدامهني بلباسه األبيض‪ ،‬يفتح ذراعني كبريين‬
‫بيدي‬
‫ّ‬ ‫الصغرية‬‫ويقرتب منّي‪ ،‬أنكمش أنا يف األثناء وأمسك دوديت ّ‬
‫استمر‬
‫ّ‬ ‫ثم أرصخ وأبكي فيختفي ذاك الشيّ ء العظيم‪.‬‬ ‫املرتعشتني ّ‬
‫حرزا حتت املخدّ ة‪،‬‬ ‫األمر أ ّيا ًما وتعكّرت حالتي‪ ،‬فوضعت يل أ ّمي ً‬ ‫ُ‬
‫احلي‪ .‬احلقيقة‪ ،‬بعد جلب احلرز مل‬ ‫عزام ّ‬ ‫الشيخ املربوكي ّ‬ ‫جلبته من ّ‬
‫تبولت‬‫ومذعورا ولكنّي عندما اكتشفته حتت املخدّ ة ّ‬ ‫ً‬ ‫أعد أهنض فز ًعا‬
‫عليه وقذفته من ش ّباك الغرفة‪.‬‬
‫يف العادة أجتنّب ال ّظهور بالوكالة يف هذا التّوقيت ّ‬
‫ألن أغلب‬
‫الشقق‪ ،‬باإلضافة إىل ذلك حتدث حالة فوىض‬ ‫النّساء ينترشن خارج ّ‬
‫ٍ‬
‫أغان ركيكة‪،‬‬ ‫وشغب كأنّنا يف سوق شعبي‪ ،‬رصاخ‪ ،‬ثرثرة‪ ،‬ذباب‪،‬‬
‫ورا‪ ،‬ضحكات‪ ،‬غمزات‪ ،‬شتائم حتت‬ ‫هتشم ب ّل ً‬
‫رصاخ أطفال‪ ،‬كرة ّ‬
‫احلزام‪ ،‬صفري‪ ،‬رنني هواتف‪ ،‬هلاث خلف األبواب‪ ،‬زفرات‪ ،‬حبال‬

‫‪66‬‬
‫نرش الغسيل‪ ،‬أكياس سوداء مهملة‪ ،‬دخان يتعايل‪ ،‬ثرثرة ال تنتهي‪.‬‬
‫صاحت نعيمة وهي تلمحني أصعد الدّ رج‪:‬‬
‫‪ -‬ال بدّ من ّ‬
‫حل هلذه املزابل‪ ،‬وصالح التّعيس هرب ومل يعد‪.‬‬
‫ضحكت هاجر ووضعت يدها عىل فمها‪ .‬هتفت نسيمة وهي‬
‫تنفث الدّ خان يف وجه نعيمة‪:‬‬
‫‪ -‬أنت طردته يا مهبولة‪ ،‬ال فرحت أنت وال تركتنا نفرح‪.‬‬
‫جراء تلك العطانة‬ ‫تس ّللت بني أفخاذه ّن‪ ،‬رأيس كان يرتنّح من ّ‬
‫يتحملون ذاك اجلحيم؟ تساءلت مندهشا‪ ،‬ونادية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف األسفل‪ ،‬كيف‬
‫كيف تقدر عىل ذلك؟ انتبهت إىل هاجر وهي تغمزين بعينها اليرسى‪،‬‬
‫الرس ّية التي ختربين بأنهّ ا ستأتيني ال ّليلة بكامل زينتها‬
‫تلك إشارهتا ّ‬
‫ثم تتس ّلل إىل ش ّقتي‪ .‬ش ّقتها تقابل ش ّقتي‬
‫باكرا ّ‬
‫وشبقها‪ ،‬ستنيم ابنتها ً‬
‫متا ًما‪ .‬يف احلقيقة هاجر كنز‪ ،‬ال يمكن أن أنكر هذا‪ ،‬مات زوجها منذ‬
‫سنتني يف حادث س ّيارة بنهج روما‪ .‬ترك هلا بلقيس‪ ،‬عمرها ثالث‬
‫وخدُ و ٌم‪ ،‬أعترب وجودها رضور ًّيا يف حيايت‪،‬‬‫سنوات‪ ،‬هي امرأ ٌة متّقد ٌة َ‬
‫ليس كأنثى فحسب وإنّام كامرأة ترعى شؤوين‪ .‬وأنا‪ ،‬طب ًعا ال أبخل‬
‫شك أنثى مذهلة يف الفراش‪ ،‬مشكلتها أنهّ ا‬ ‫عليها بيشء‪ .‬هي بال أدين ّ‬
‫ثرثارة بشكل مزعج‪ ،‬ك َْم قلت هلا يا عزيزيت‪ ،‬ال ّثرثرة تق ّلل من ّ‬
‫رس‬
‫احلق أنهّ ا تقلع عن ال ّثرثرة يو ًما أو‬
‫و«كموهنا» وجتعلها تافهة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫املرأة‬
‫حتب هيلني‪ ،‬وهي عىل‬ ‫ثم تعود إىل ال ّطبع نفسه‪ .‬هاجر ً‬
‫أيضا ّ‬ ‫يومني ّ‬
‫الزواج‪ ،‬أنت‬ ‫عيل مسألة ّ‬ ‫احلب بيني وبينها‪ ،‬لذلك مل تطرح ّ‬ ‫بقصة ّ‬ ‫علم ّ‬
‫هليلني‪ ،‬تقول يل وهي حتضنني يف الفراش برشاسة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ما إن دخلت إىل الش ّقة حتّى رحت أبحث كاملجنون عن قارورة‬
‫نبيذ أمحر‪ .‬فتحتها ووضعت أمامي قطع جبن وهريسة وح ّبات‬
‫«بصحتك‬
‫ّ‬ ‫زيتون‪ .‬نظرت إىل املغ ّلف بجانبي‪ ،‬رفعت الكأس وقلت‪:‬‬
‫ثم فتحت احلاسوب‪ ،‬فكّرت يف رضورة متابعة بريدي‬ ‫يا هيلني»‪ّ .‬‬
‫ست رسائل‬‫اإللكرتوين‪ ،‬وبعد ذلك سيأيت دور املغ ّلف‪ .‬عثرت عىل ّ‬
‫ّ‬
‫جديدة‪ ،‬رسالتني من هيلني‪ ،‬رسالة من الرا وثالث رسائل إعالنات‪،‬‬
‫ويف العادة ال أفتحها‪.‬‬
‫فتحت ّأوالً رسالة الرا وقرأت‪:‬‬
‫«مساء اخلري أو صباح اخلري يا سعد العزيز‪ ،‬يف احلقيقة أنا أفتقدك‬
‫كثريا‪ ،‬كأنيّ مل أرك منذ ولدت‪ .‬أتصدّ ق؟ ال‬ ‫هذه األ ّيام‪ ،‬أفتقدك ً‬
‫تضحك منّي أرجوك‪ ،‬وال تقل إنيّ طفلة مشاغبة‪ ..‬أنت تعرف أنيّ‬
‫السنة‬ ‫سأحتفل بعد ّ‬
‫أقل من أسبوعني تقري ًبا بعيد ميالدي‪ ،‬وأريد هذه ّ‬
‫أحب هد ّية‬‫ّ‬ ‫أن أراك‪ ،‬مل أطلب ذلك من قبل‪ ،‬طيلة سبع عرشة سنة‪.‬‬
‫رس هذا الربود‬ ‫أيضا‪ .‬بامذا ستفاجئني؟‪ ..‬قل يل قبل ذلك‪ ،‬ما ّ‬ ‫منك ً‬
‫بينكام‪ ،‬أنت وهيلني؟ منذ سنتني وأنا أحلظ هذا الشرّ خ‪ ..‬اكتب يل يا‬
‫حتب أن تصارحني بيشء‪ ،‬وهترب‬ ‫عزيزي‪ ،‬أريد أن أفهم‪ ،‬هيلني ال ّ‬
‫ثمة خرب آخر‬ ‫من اإلجابة‪ ،‬فعلاً أنا يف غاية القلق‪ ..‬قبل أن أنسى ّ‬
‫سأخربك به‪ ،‬ليس اآلن طب ًعا‪ ،‬بعد أن تس ّلمني اهلد ّية سأخربك‪.‬‬
‫قباليت‪».‬‬
‫الرسالة بكثري من االهتامم‪ ،‬واالنفعال أيضا‪ ،‬الرا ليست‬ ‫قرأت ّ‬
‫جمرد ابنة هليلني‪ ،‬هي مثل ابنة يل‪ ،‬وفعلاً أحتاج إليها دو ًما لتشاغبني‪،‬‬
‫ّ‬
‫كثريا ما تقول يل‪« :‬فم الرا مثل فمك‬ ‫أحب شغبها‪ .‬هيلني ً‬ ‫ّ‬ ‫وأنا‬

‫‪68‬‬
‫متا ًما»‪ .‬وحني تتو ّقف الرا عن الكتابة ّ‬
‫أحس بحالة اختناق وأعود‬
‫إىل رسائلها القديمة‪.‬‬
‫دون تفكري كتبت لالرا‪:‬‬
‫«عزيزيت اجلميلة‪ ،‬أنا أفتقدك أ ّيتها الق ّطة‪ ،‬ملاذا انقطعت‬
‫الرجل البائس‬
‫رسائلك؟‪ ..‬هل انشغلت بالدّ راسة وأمهلت هذا ّ‬
‫الذي حي ّبك؟‪..‬‬
‫مرة‬
‫أنا يف احلقيقة متعكّر بسبب تدهور عالقتنا‪ ،‬أنا وهيلني‪ .‬آخر ّ‬
‫السبب‪ ،‬هل أنا خمطئ؟ أنت تعرفني كام‬ ‫ختاصمنا‪ ،‬ولع ّلك تعرفني ّ‬
‫أتزوج مطل ًقا إلاّ هبيلني‪.‬‬
‫تعرف هيلني وشريا أنيّ ‪ ،‬وهذا قدري‪ ،‬لن ّ‬
‫أحب بؤس اخلذالن‪ .‬األمر حمسوم عندي‪ ،‬لك ّن هيلني ترفض‪،‬‬ ‫أنا ال ّ‬
‫زوجا‪ ..‬أرشفت اآلن‬
‫مهام تكن األسباب‪ ،‬ال يمكنها أن ترفضني ً‬
‫هيم‪ ،‬هنا يف تونس أو هناك‬
‫عىل األربعني وأحتاج إىل هيلني معي‪ .‬ال ّ‬
‫يف مارسيليا‪ ..‬وليس هذا فحسب‪ ،‬هيلني قاطعتني بعد خصامنا‪،‬‬
‫وأعتقد أنهّ ا أغلقت األبواب‪ ،‬ح ًّقا أنا يف وض ٍع َس ِّي ٍئ‪.‬‬
‫رسك‬
‫رسا مثل ّ‬
‫طب ًعا لن أحدّ ثك عن هد ّيتي لك‪ ،‬سيكون األمر ًّ‬
‫أنت‪ ،‬أنتظر لقاءك ّ‬
‫بكل هلفة‪ .‬قبلتي حلبيبتي ولأل ّم شريا‪».‬‬
‫فتحت بعد ذلك رسالة هيلني وقرأت‪:‬‬
‫تتعمد إغالق‬
‫ّ‬ ‫«أين أنت يا سعد؟ أمرك غريب واهلل‪ ،‬ملاذا‬
‫تتعود عىل ذلك‪ .‬أنتظرك‪».‬‬
‫هاتفك؟ أجبني‪ ،‬ما األمر؟ أنت مل ّ‬
‫الرسالة يف حالة غضب بسبب عدم ر ّدي عىل‬
‫فهمت أنهّ ا كتبت ّ‬

‫‪69‬‬
‫رسالتها األوىل‪ ،‬أرسعت بفتحها وقرأت‪:‬‬
‫«حبيبي‪ ،‬ال تعتقد أنّك هناك وحدك يف تونس‪ ،‬ال تعتقد ذلك‬
‫مطل ًقا يا عزيزي‪ ،‬أنت يف قلبي‪ ،‬تسكنني بشكل مذهل‪ ،‬كأنيّ أكتشف‬
‫اهلر؟‪ ..‬من أنت؟ ح ًّقا أجبني‪ ،‬أنت‬ ‫احلب من جديد‪ ،‬من أنت أيهّ ا ّ‬‫ّ‬
‫بالذنب‪ ،‬ذقت فعلاً ذاك العذاب‬ ‫أحس ّ‬ ‫تتجدّ د يف أوصايل‪ .‬أعرتف‪ ،‬أنا ّ‬
‫السليط‪ .‬ولع ّلنا سنتجاوز هذا األمر قري ًبا‪ ،‬قري ًبا جدًّ ا ياعزيزي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثمة أمر ها ّم ومستعجل‪ ،‬حتدّ ثنا فيه‬
‫لنرتك هذا األمر اآلن‪ّ ،‬‬
‫باقتضاب ساب ًقا‪ ،‬ولع ّلك نسيت‪ .‬جوهر سيمدّ ك بمغ ّلف ّ‬
‫مهم‪،‬‬
‫اقرأ ما حيتويه‪ ،‬وعىل وجه السرّ عة افعل ذلك‪ ..‬وبالتّأكيد يا عزيزي‬
‫سنحتاج إىل مزيد البحث يف األمر‪ .‬قباليت‪».‬‬
‫انقضضت عىل املغ ّلف بجانبي‪ ،‬فضضته بحركة مستعجلة‪،‬‬
‫وخشيت يف تلك ال ّلحظات أن تتس ّلل هاجر من الباب املوارب وأنا‬
‫مل أفرغ من قراءة ما بداخل املغ ّلف من أوراق‪ ،‬رشبت ً‬
‫كأسا أخرى‪،‬‬
‫الصفراء‪.‬‬
‫ثم رشعت يف قراءة األوراق ّ‬ ‫أشعلت سيجارة ّ‬

‫‪70‬‬
‫(‪)4‬‬
‫الذهب‪ ..‬اّبلع ّ‬
‫الصبايا‪.‬‬ ‫محام ّ‬
‫ّ‬

‫ذات صباح‪ ،‬غادرت حبيبة البيت قبل انرصاف أ ّمها إىل احلماّ م‪،‬‬
‫أحست‬ ‫قادت عربتها املألى بقوارير العطور بإعياء وتثاقل‪ .‬وبغت ًة‪ّ ،‬‬
‫بخطوات تتبعها‪ ،‬وقفت وأسندَ ْت ظهرها إىل أحد اجلدران‪ ،‬عرفت‬
‫صاحب اخلطوات الذي يتبعها‪ ،‬مل يكن غري ًبا عنها‪ .‬تظاهر هو بمعاينة‬
‫األقمشة يف أحد الدكاكني‪ ،‬ارتعشت يداه وهو يق ّلب األقمشة من‬
‫شتّى األلوان‪ ،‬وعيناه زائغتان بال تركيز‪ .‬خفق قلبها خفقانًا قو ًّيا‬
‫كل صباح؟»‬ ‫الشاب ّ‬ ‫حواسها سؤال‪« :‬ملاذا يتبعني هذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫واستنفر‬
‫والغريب أنّه مل يبادر يو ًما بمخاطبتها‪ ،‬يكتفي بمتابعتها يف الطريق‬
‫الزيتونة‪ ،‬يفرك يديه خجلاً وال ينطق بكلمة‪ .‬أح ّبت‬ ‫بني بيتها وجامع ّ‬
‫هزهتا من الدّ اخل ومل جتد هلا‬ ‫أن يتك ّلم‪ ،‬يف عينيه ابتسامة أسرَ َ هتا‪ّ ،‬‬
‫رسها وهي تستأنف سريها نحو‬ ‫تفسريا‪ ،‬ماذا حيدث يل؟ سألت يف ّ‬ ‫ً‬
‫الزيتونة‪ .‬عيناه ض ّيقتان وغامضتان‪ ،‬وجهه ذو البرشة البيضاء‬ ‫جامع ّ‬
‫ال يتخلىّ عن ابتسامته العريضة‪ ،‬تلك االبتسامة التي كانت جتنّح هبا‬
‫وتظل كامل اليوم تسرتجعها يف شبه َخدَ ٍر ٍ‬
‫لذيذ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف األحالم‪،‬‬
‫وحدث ذات يوم ما انتظرته طويلاً ‪ ،‬كانت أمام جامع ّ‬
‫الزيتونة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهشم‬ ‫كعادهتا‪ ،‬جالسة وراء عربتها‪ ،‬عندما هامجها أحد الباعة‬

‫‪71‬‬
‫الرجل‬ ‫قوارير العطور‪ ،‬صاحت بفزع ومل تصدّ ق ما حصل‪ .‬طفق ّ‬
‫هيشم عربتها وهي حتاول عب ًثا أن تتصدّ ى له‪ .‬باغتتها صفع ٌة قو ّية‪،‬‬‫ّ‬
‫وحتسست أصاب ُعها أن َفها النّازف‪ .‬كانت تعرف‬ ‫فرتاجعت إىل اخللف ّ‬
‫أن الباعة يف سوق الع ّطارين حيقدون عليها‪ ،‬ومل تنتظر البتّة أن هيامجها‬
‫ّ‬
‫أحدُ هم هبذا ّ‬
‫الشكل الوحيش‪.‬‬
‫الشاب بقامته الطويلة وبساعديه‬ ‫يف تلك اآلونة‪ ،‬قفز ذاك ّ‬
‫وانقض عىل البائع صف ًعا ولكماً وركلاً ‪ ،‬والنّاس يصيحون‪:‬‬
‫ّ‬ ‫املفتولني‪،‬‬
‫الرجل سيموت‪.‬‬
‫إن ّ‬‫‪ -‬اتركه‪ ..‬اتركه ّ‬
‫فرحا‬
‫حدث يومها ما أبكاها حزنًا عىل بضاعتها‪ ،‬لك ّن ما أبكاها ً‬
‫الشاب وهو حيميها ويقاتل‬ ‫كان أقوى‪ .‬أذهلها ما رأت من أمر ذاك ّ‬
‫ٍ‬
‫بمنديل‬ ‫من أجلها‪ .‬زفرت وهي تتأ ّمل مالحمه‪ ،‬اقرتب منها ومسح‬
‫ّازف من أنفها خمتل ًطا بالفزع والدموع‪ّ ،‬‬
‫ثم قال هلا‪:‬‬ ‫أبيض الد َم الن َ‬
‫يعوضك عن ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬ال ختايف‪ ،‬وأرجو‬ ‫‪ -‬سأجعل هذا احلاقد ّ‬
‫أن تسمحي يل اآلن بمرافقك إىل بيتك‪.‬‬
‫يف ال ّطريق مل ينبس أحدٌ منهام ببنت شفة‪ .‬قاد الفتى العربة‬
‫ينز من جبينه‪ ،‬أ ّما حبيبة فكانت تتبعه وهي تتأ ّمل مالحمه‬
‫والعرق ّ‬
‫متكورة يف‬
‫ّ‬ ‫بإعجاب واندهاش‪ .‬وحني دخلت إىل غرفتها ظ ّلت‬
‫الشاب‪ ،‬وتستعيد وقائع احلادثة‪ .‬مل‬ ‫فراشها تستحرض مالمح ذلك ّ‬
‫رجتْها‪ ،‬فحسب‪،‬‬ ‫تتذكّر مالمح بائع العطور البائس وال صفعتَه التي َّ‬
‫بل ظ ّلت تتذكّر تلك األصابع املرتعشة وهي تزيل الدم من أنفها‬
‫اب حارق ًة وهو أمامها‪ ،‬ال يرفع‬ ‫بمنديل أبيض‪ .‬كانت أنفاس ّ‬
‫الش ّ‬

‫‪72‬‬
‫عينيه يف وجهها‪ ،‬وكأنّه يراها بقلبه فحسب‪ .‬ويف تلك الدّ قائق التي‬
‫حب غريبة‪..‬‬ ‫أحست ّ‬ ‫ٍ‬
‫بأن يف قلبه مجرة ّ‬ ‫مرت برسعة جمنونة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫يف املساء عقدت العزم عىل االلتحاق بأ ّمها يف احلماّ م‪ ،‬فمنذ مدّ ة‬
‫طويلة مل تطأ قدماها احلماّ م بسبب انشغاهلا بعربتها‪ ،‬ويف ذلك اليوم‬ ‫ٍ‬
‫تستحم وتتخ ّلص من حالة اإلرهاق التي‬ ‫ّ‬ ‫كانت رغبتها شديدة يف أن‬
‫يعج بالنّساء والفتيات‪،‬‬ ‫هدّ ت أوصاهلا‪ .‬كان ذلك يوم مخيس‪ ،‬احلماّ م ّ‬
‫نزعت ثياهبا عن جسدها الفارع وتركت شعرها األسود ال ّطويل‬
‫ثم التحفت بلحاف ودلفت إىل الدّ اخل‪.‬‬ ‫متناثرا عىل كتفيها وظهرها‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫تابعت حركة أ ّمها وهي تن ّظف زوايا حجرة االستقبال وتساعد للاّ‬
‫ثم دلفت إىل‬ ‫ب ّية حارزة احلماّ م عىل تلبية طلبات النّساء التي ال تتو ّقف ّ‬
‫السخون» دون أن تثري انتباهها‪.‬‬ ‫«بيت ّ‬
‫السخون» كان البخار يتاموج ويلهب وجنتيها بحرارة‬ ‫يف «بيت ّ‬
‫الساخن ورشدت بذهنها‪.‬‬ ‫املائي ّ‬
‫ّ‬ ‫منعشة‪ ،‬جلست بجوار احلوض‬
‫ٍ‬
‫حلظة خاطفة‪ ،‬ال تدري أكان ذلك واق ًعا أم خيالاً تراءت هلا عينا‬ ‫ويف‬
‫السقف‪ .‬شهقت وتوتّرت‬ ‫الشاب تراقباهنا من فتحة صغرية يف ّ‬ ‫ذاك ّ‬
‫تلف جسدها بال ّلحاف ورسعان ما اختفت تانك العينان‬ ‫يداها وهي ّ‬
‫الض ّيقتان‪.‬‬
‫***‬
‫بالرهبة واخلوف عندما التقت نظراته بنظرات حبيبة‬ ‫أحس أتون ّ‬
‫ّ‬
‫امحر وجهه خجلاً ‪ ،‬ماذا ستقول عنّي‬ ‫الصغرية‪ ،‬بل ّ‬ ‫يف تلك الفتحة ّ‬
‫ّ‬
‫وتتهشم‬ ‫حبيبة؟ رصخ يف داخله ومتنّى أن يسقط من سطح احلماّ م‬
‫عظامه‪ .‬لقد ارتكب محاق ًة ال تُغتفر‪ ،‬وحبيبة لن تغفر له هذه الز ّلة‪ ،‬ماذا‬

‫‪73‬‬
‫ستقول عنه؟ طب ًعا‪ ،‬هو اآلن يف نظرها ليس إلاّ شا ّبا ّ‬
‫متهو ًرا وعديم‬
‫ّ‬
‫ويتلذذ بتأ ّمل أجساده ّن‪.‬‬ ‫يتلصص عىل النّساء من الفتحة‬
‫األخالق‪ّ ،‬‬
‫السوق ليس إالّ‬‫تلك وقاحة ما بعدها وقاحة‪ ،‬وما فعله مع حبيبة يف ّ‬
‫شكلاً من أشكال استعراض العضالت يف انتظار االنقضاض عىل‬
‫إن حبيبة كشفت أالعيبه‪.‬‬‫الفريسة‪ ،‬لكن هيهات‪ ،‬ها ّ‬

‫خت ّطى درجات الس ّلم برسعة جنون ّية وهو ينزل من ّ‬
‫السطح‪،‬‬
‫عاد إىل الفرن ومدّ رأسه يف الرسداب الذي تتعاىل فيه ألسنة ال ّلهب‪.‬‬
‫لفحت النّار وجهه فرتاجع قليلاً وزفر يف قلق‪ ،‬ال حاجة إىل وضع‬
‫مزيد من احلطب‪ ،‬ال ّلهيب يتعايل يف السرّ داب ويف قلبه‪ .‬مل يصدّ ق‬
‫باملرة أن رآها هناك‪،‬‬
‫أن حبيبة يمكن أن تذهب إىل احلماّ م‪ ،‬مل يسبق ّ‬‫ّ‬
‫بل استبعد أن تذهب يف ذلك اليوم إىل احلماّ م وتصفعه بنظرات‬
‫أحس ّ‬
‫كأن‬ ‫ساخطة‪ .‬يا للقدر! كيف التقت نظراهتام يف حلظة مدو ّية؟ ّ‬
‫نصل سكّني خيرتق قلبه ويش ّقه نصفني‪ .‬يف ال ّلحظة التي أبعدت فيها‬
‫فتجمد‬
‫ّ‬ ‫خصالت شعرها عن عينيها بحركة من يدها التقت العيون‪،‬‬
‫يف مكانه وكاد يفقد عقله‪ .‬هو ال يستحرض شي ًئا من جسدها‪ ،‬ال يشء‬
‫عىل اإلطالق غري عينيها املندهشتني واملصعوقتني‪.‬‬
‫أسند ظهره إىل اجلدار وجلس‪ ،‬رشب جرعات نبيذ من قنّينة‬
‫السوداوان والواسعتان‪ ،‬آه من عينيها!‬ ‫بجانبه وزفر بعمق‪ .‬عيناها ّ‬
‫صباحا وهو يمسح الدم من أنفها‪ ،‬مل‬
‫ً‬ ‫السحر‬‫سحرا مثل ذاك ّ‬
‫ً‬ ‫مل ير‬
‫يصدّ ق ما حدث‪ ،‬مل يصدّ ق أنّه حرض يف ال ّلحظات املناسبة وأنقذها‬
‫مرر ك ّفه عىل جبينه ومسح العرق املتص ّبب‪،‬‬
‫من قبضة البائع األرعن‪ّ .‬‬
‫اسو ّدت ك ّفه بذاك الفحم الذي يغ ّطي كامل وجهه وعنقه‪ .‬بقع‬

‫‪74‬‬
‫أيضا عىل سرتته وبنطلونه‪ ،‬ارختت عيناه وهو يرشب‬
‫السواد تنترش ً‬
‫ّ‬
‫الصور يف خم ّيلته‪.‬‬
‫ويرشب وتداخلت ّ‬
‫الشتاء‪ .‬كانت‬ ‫مل يستطع البتّة أن ينسى تلك ال ّليلة املمطرة من ليايل ّ‬
‫الرياح كامل‬ ‫حي احلارة‪ ،‬فقد فقدت ّ‬ ‫ليلة عاصفة مل يسبق أن عرفها ّ‬
‫وهشمت األشجار واقتلعت النّوافذ واألبواب‪ .‬مل متض عىل‬ ‫ُرشدها‪ّ ،‬‬
‫الرحلة البحر ّية ال ّطويلة‬ ‫وجود عائلته باحلارة إلاّ أ ّيام قليلة‪ ،‬قادهتم ّ‬
‫ثم مشى خلف أبويه كام مشى العرشات نحو‬ ‫إىل ميناء حلق الوادي‪ّ ،‬‬
‫حي احلارة وسكنوا منازل قديمة ومهجورة‪ .‬كان ال يفهم اجلوع‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫والفقر‪ ،‬وال يرى دموع أ ّمه وهي تشقى من أجل رغيف يسدّ رمق‬
‫استقرت ّ‬
‫مؤخ ًرا يف‬ ‫ّ‬ ‫األفواه اجلائعة‪ ،‬كذلك كان حال العائالت التي‬
‫حي احلارة‪ .‬وجوه منكرسة‪ ،‬متيش يف بالط األهنج الض ّيقة وتبحث‬ ‫ّ‬
‫الشغل أ ّيامها‬ ‫التاب لتحيا‪ ،‬ومل يكن ّ‬ ‫الشغل‪ ،‬تنغل بأ ْظفارها يف رّ‬
‫عن ّ‬
‫متاحا لألغراب‪ ،‬وال أمل غري بعض املهن الشا ّقة كالبناء ونقل‬ ‫ً‬
‫كل ذلك من أجل أرغفة خبز‪ .‬ليلتها‪ ،‬كان طفلاً ‪،‬‬ ‫البضائع وترصيفها‪ّ ،‬‬
‫الصباح استفاق عىل‬ ‫الصغرية‪ ،‬ومل يفطن بيشء‪ ،‬ويف ّ‬ ‫ينام يف حجرته ّ‬
‫الركام‬‫وأحس بأيد غليظة تسحبه من حتت ّ‬ ‫ّ‬ ‫صدى رصاخٍ وضجيج‪،‬‬
‫أن أ ّمه وأباه‬ ‫فوهة املوت‪ .‬يومها‪ ،‬عرف ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫برفق وعناية وخترجه من ّ‬
‫ماتا حتت األنقاض‪ ،‬هتاوى بيتهم كام هتاوت العرشات من البيوت‪.‬‬
‫بأن أ ّمه وأباه ماتا‪ ،‬ومل يكن يعرف حينها ما معنى أن‬ ‫اكتفوا بإعالمه ّ‬
‫يموت أبوه وأ ّمه‪ ،‬ولكنّه حدس أنّه لن يرامها بعد ذلك اليوم‪.‬‬
‫أن أحد الشيوخ مسكه من يده‬‫كل ما َظ ّل يذكره بعدها‪ ،‬هو ّ‬
‫ّ‬
‫وسار به إىل ٍ‬
‫بيت يف أحد األهنج القريبة من مقام سيدي حمرز‪ ،‬ورأى‬

‫‪75‬‬
‫بقي صامتًا ألشهر طويلة‪ ،‬مثل قطعة‬
‫وجوها غريبة تبتسم له وترعاه‪َ .‬‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫ويظل‬ ‫خشب صغرية منس ّية داخل غابة‪ ،‬يستحرض وجهي أ ّمه وأبيه‬
‫ينشج طوال ال ّليل‪.‬‬
‫الشيخ عبد القادر بني تع ّلم حرفة أو االشتغال‬ ‫خيه ّ‬ ‫عندما كرب‪ ،‬رّ‬
‫ـم ّ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫حل‬ ‫املحل ا ُملقابل ل َ‬ ‫الشغل يف ذاك‬‫فخي ّ‬ ‫معه يف دكّان القامش‪ ،‬رّ‬
‫السهولة‪.‬‬ ‫بيع املفروشات‪ .‬مل يكن ينتظر مطل ًقا أن يعرف إيزا بتلك ّ‬
‫تلك الفتاة املالط ّية أغرمت منذ نظراهتا األوىل بأتون وظ ّلت تتحينّ‬
‫أحس بعاصفة يف قلبه‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‬
‫الفرص لرؤيته ومشاغبته‪ .‬أتون ً‬
‫تدفعه إىل إيزا‪ ،‬شعرها األصفر ينسدل عىل كتفيها كأمرية وعيناها‬
‫اخلرضاوان مل يسبق أن رأى بري ًقا مثل بريقهام‪ .‬وظ ّلت تلك ّ‬
‫القصة‬
‫اب‬
‫الش ّ‬ ‫الصامتة تكرب بني أتون وإيزا إىل أن حدث ما عصف بقلب ّ‬ ‫ّ‬
‫الطري‪ .‬ذات صباح وهو يفتح الدكّان حانت منه التفاتة إىل‬ ‫ّ‬ ‫اليهودي‬
‫ّ‬
‫دكّان املفروشات فصعق لذاك املشهد الذي كاد يسقطه مغش ّيا عليه‪.‬‬
‫وسع عينيه وهو يتابع تلك‬ ‫هيودي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫شاب‬
‫كانت حبيبته إيزا يف حضن ٍّ‬
‫ثم جرى‬ ‫تسمر طويلاً أمام ذلك املشهد ّ‬ ‫القبالت املحمومة بينهام‪ّ .‬‬
‫اليهودي وصفعها بعنف‪ ،‬وبعد‬ ‫ّ‬ ‫الشاب‬‫نحو إيزا وجذهبا من حضن ّ‬
‫دس عنقه بني كتفيه وهو‬ ‫ذلك جرى واختفى يف األهنج الض ّيقة‪ّ ،‬‬
‫ويوسع اخلطى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هيرب وهيرب‬
‫احلظ وك ّلفه صاحب احلماّ م املحاذي لسيدي‬
‫بعد أ ّيام‪ ،‬ابتسم له ّ‬
‫أن من يضطلع‬ ‫بمهمة «الفرانقي»‪ ،‬عرف منذ أ ّيامه األوىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫حمرز‬
‫بمهمة «الفرانقي» رسعان ما هيرب ويرتك البالء يف البالء وهو ما‬ ‫ّ‬
‫أن يس خلدون صاحب‬ ‫تس ّبب يف إغالق احلماّ م أل ّيام كثرية‪ .‬واحلقيقة ّ‬

‫‪76‬‬
‫احل م وسع العطاء ألتون ومكنّه من ُغ ٍ‬
‫رفة ُيقيم فيها بجانب الفرن‬ ‫ّ‬ ‫ماّ‬
‫ٍ‬
‫حفنة من الدّ راهم مل يكن أتون ليحلم هبا‪.‬‬ ‫باإلضافة إىل‬
‫أصوات النساء من بعيد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫منذ أ ّيامه األوىل يف الفرن كانت تصله‬
‫بالصدمة التي تل ّقاها‬
‫ّ‬ ‫مل ُيعر ذلك اهتام ًما يف بادىء األمر‪ ،‬كان منشغلاً‬
‫من حبيبته اخلائنة‪ ،‬فمنذ رأى تلك القبالت املحمومة مل ُيغمض له‬
‫كل النّساء‪ .‬النّساء يف ذاكرته تخُ تزلن مجي ًعا يف أ ّمه ال غري‪،‬‬
‫جفن وكره ّ‬
‫أ ّمه التي ماتت حتت األنقاض‪ ،‬أ ّما البقية فلسن سوى عاهرات‪ .‬كان‬
‫ستضمه إىل صدرها كام كانت أ ّمه تفعل‪ ،‬لكنّها غدرت‬
‫ّ‬ ‫يعتقد ّ‬
‫أن إيزا‬
‫به‪« .‬أح ّبك»‪ ،‬كانت اخلائنة هتمس له يف أذنه ومتسح عىل شعره‬
‫الرطب ثم ينزلق ك ّفها عىل خدّ ه‪ ،‬وهو كان يصدّ قها‪ ،‬وهيفو إىل عينيها‬
‫ّ‬
‫مثل شمعة مرتاقصة ال تنطفئ‪.‬‬
‫قاده الفضول ذات مساء وهو يف حالة ُس ٍ‬
‫كر إىل اكتشاف تلك‬
‫اجللبة املنبعثة من داخل احلماّ م‪ ،‬و ّملا صعد إىل ّ‬
‫السطح اكتشف فتح ًة‬
‫السخون»‪ ،‬فرك عين ْيه َّ‬
‫وظل يسرتق النّظر‬ ‫صغرية ت ّ‬
‫ُطل عىل «بيت ّ‬
‫الصدور العارية‪.‬‬
‫ثم إىل تلك ّ‬ ‫كل األلوان ّ‬‫الشعر من ّ‬
‫إىل خصالت ّ‬
‫الصغرية واملرتاخية‪.‬‬
‫لبث يلهث وهو يبحلق حممو ًما يف تلك النّهود ّ‬
‫متسم ًرا طوال الفرتات املسائ ّية‪ ،‬ويف الكثري من‬
‫ّ‬ ‫وهكذا ّ‬
‫يظل برصه‬
‫املرات كان يرى األجساد عاري ًة متا ًما‪ ،‬فيح ّلق عال ًيا من ُّ‬
‫السكر‪ .‬حيدث‬ ‫ّ‬
‫طقوسا تُبهج‬
‫ً‬ ‫ذلك عندما تأيت عروس مع صوحيباهتا إىل احلماّ م و ُيقمن‬
‫حيس بذاك اخلدر الذي يرسي يف باطنه‪ّ ،‬‬
‫فيظل يحُ دّ ق‬ ‫أتون‪ ،‬وجتعله ّ‬
‫بنه ٍم وجنون وهو يرشب من تلك القنّينة التي ال تفارقه‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫بقي أتون أل ّيام طويلة يف رحلة خم ّبلة بني إيقاد الفرن باحلطب‬
‫اليابس وإيقاد شهواته باألجساد النّاعمة التي ترت ّدد عىل «بيت‬
‫السخون»‪ .‬النّار يف الفرن ال تنطفئ والنّار يف أوصاله تزداد هلي ًبا‪.‬‬
‫ّ‬
‫كان مثل املجنون يفتتن بمشهد النّار ويلتهب خياله بام يراه‪ .‬ورسعان‬
‫ما جتاوز عقدة إيزا‪ ،‬كانت النّار ترقص أمامه وتنسيه حبيبته السابقة‬
‫مثلام ترقص أمامه األجساد العارية وتسكره بتلك النّشوة العارمة‬
‫تدب يف رشايينه وتدغدغه‪.‬‬
‫التي ّ‬
‫وحدث ذات صباح أن رأى حبيبة‪ ،‬ومن الغريب أن حيدث‬
‫ذلك‪ ،‬فتح عينيه يف دهشة وهو يراها‪ ،‬أرسلته للاّ ب ّية الستدعاء أ ّمها‬
‫السحر الذي جعله‬ ‫أن هلا بنتًا بذاك ّ‬ ‫شلب ّية ٍ‬
‫ألمر عاجل‪ ،‬ومل يكن يعرف ّ‬
‫احلب سكن قلبه من جديد‪ ،‬فقد‬
‫أن ّ‬ ‫يشهق‪ .‬ويف تلك ال ّلحظات أيقن ّ‬
‫دامهه ذاك اإلحساس الغريب واملفاجئ الذي يداهم املرء من ّأول‬
‫ٍ‬
‫نظرة ويسجنه يف جدرانه العالية فال يستطيع اهلروب‪.‬‬
‫***‬
‫خرجت حبيبة من احلماّ م متثاقلة اخلطى ومل تسمع أ ّمها وهي‬
‫تنادهيا‪ ،‬فك َّر ْت طوال ال ّطريق نحو البيت يف ما وقع والدّ موع تنهمر‬
‫من عينيها‪ .‬مل تستطع أن تنسى تلك ال ّلحظة اخلاطفة التي رأت فيها‬
‫اب‪ .‬حلظة ُمزلزلة جعلتْها تشعر بالدوار فنهضت مذعور ًة‬ ‫عيني ّ‬
‫الش ّ‬
‫وحتس باختناق ّ‬
‫كأن يدً ا تُطبق عىل‬ ‫ّ‬ ‫ومل تكمل استحاممها‪ .‬كانت متيش‬
‫مر هبا األطفال يف مساء ذاك اليوم القائض حفا ًة ومهلهيل‬
‫أنفاسها‪ّ .‬‬
‫الث ّياب‪ ،‬وجوههم شاحبة بسبب اجلوع الذي نخر عظامهم‪ ،‬وتشتّتوا‬

‫‪78‬‬
‫بني الباعة طامعني يف من يمكّنهم من فرص نقل البضائع وترصيفها‬
‫يف املخازن والدّ كاكني حتّى يعودوا إىل بيوهتم بأرغفة خبز‪ .‬تابعت‬
‫الرحيمة وتذكّرت أباها حني‬ ‫انكسارهم وهم ينتظرون العيون ّ‬
‫وغص حلقها‪ .‬متنّت ساعتَها أن‬
‫ّ‬ ‫أدركت جامع سيدي حمرز‪ ،‬شهقت‬
‫تشم رائحته ومتأل رئتيها‬
‫حتضنه وتريح رأسها عىل كتفيه‪ ،‬متنّت أن ّ‬
‫تشممت‬‫املتضوعة من مالبسه‪ .‬التفتت إىل اليسار‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫برائحة املسك‬
‫رائحة البخور‪ ،‬استسلمت لتلك الرائحة ودلفت إىل زاوية سيدي‬
‫حمرز‪ .‬فعلت ذلك دون تفكري‪ ،‬سيدي حمرز‪ ،‬عىل بركة عظيمة‪ ،‬قالت‬
‫رسها‪ .‬أسدلت شالاً أخرض عىل رأسها ووقفت أمام الضرّ يح‬ ‫يف ّ‬
‫لقراءة الفاحتة‪ .‬مل تستفق من سهوها وهي واقفة أمام الضرّ يح بخشوع‬
‫إلاّ بعد أن ر ّبتت يدٌ عىل كتفها ّ‬
‫ثم جاءها صوت امرأة‪:‬‬
‫‪« -‬سيدي حمرز عىل بركة عظيمة يا بنتي‪».‬‬
‫ثم أضافت‪:‬‬
‫ّ‬
‫النبي‬
‫ّ‬ ‫‪« -‬يا سيدي حمرز يا موالنا ‪ّ ،‬فرج كرب ّ‬
‫كل ول ّية بجاه‬
‫موالنا»‪.‬‬
‫الزاوية وضعت قرطاس بخور قرب‬ ‫قبل أن خترج حبيبة من ّ‬
‫ثم‬
‫قرطاسا آخر للمرأة التي وقفت بجوارها‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫الضرّ يح وس ّلمت‬
‫تابعت سريها نحو البيت وهي تلحظ حركة غري عاد ّية يف الدكاكني‪،‬‬
‫التجار أن يعودوا إىل بيوهتم‬
‫أغلبها أغلق مبك ًّرا‪ ،‬وليس من عادة ّ‬
‫وق حال ُة كساد مل يسبق هلا مثيل‪ ،‬واألخطر‬‫الس َ‬
‫مبكّرين‪ .‬لقد سادت ّ‬
‫تتكرر‬
‫أن حوادث السرّ قة وخلع الدّ كاكني واملخازن صارت ّ‬ ‫من ذلك ّ‬
‫الساعات األوىل من‬ ‫ّ‬
‫كل ليلة‪ .‬ومل يعد من الغريب أن يعثر النّاس يف ّ‬

‫‪79‬‬
‫مكممي األفواه ومرم ّيني يف‬
‫السوق ّ‬‫الفجر عىل «الصباحي ّية» وعسس ّ‬
‫األصوات غاضب ًة‪ّ ،‬‬
‫حتتج‬ ‫ُ‬ ‫زوايا مهجورة‪ .‬سم َع ْت لغ ًطا ً‬
‫كبريا‪ ،‬كانت‬
‫رسا وعلنًا‪ ،‬ومل يعد النّاس خيشون «صباحي ّية» رمضان باي املنترشين‬
‫ًّ‬
‫السوق‪.‬‬‫يف ّ‬
‫مقوس ال ّظهر‪:‬‬
‫هتف شيخ ّ‬
‫‪ -‬رمضان باي هدّ نا باملكوس ومل نعد نحتمل‪ ..‬ارتفعت األسعار‬
‫واجلوع كافر يا ناس‪.‬‬
‫قال رجل قريب منه‪:‬‬
‫‪ -‬رحم اهلل حممد باي املرادي‪.‬‬
‫صاح رجل آخر وهو يقود عربته‪:‬‬
‫‪ -‬هم يتناحرون عىل احلكم ونحن نموت‪.‬‬
‫عندما دل َف ْت إىل غرفتها‪ ،‬مل تُشعل القنديل كعادهتا‪ّ ،‬‬
‫تكورت يف‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫تفسريا‬
‫ً‬ ‫اخلشبي والدّ موع تسيح عىل وجنتيها‪ .‬مل جتد‬
‫ّ‬ ‫رسيرها‬
‫أيضا‪ ،‬أيكون الفتي الذي أنقذها عىل‬‫ملا حدث يف احلماّ م‪ ،‬ومل تصدّ ق ً‬
‫الرجال‬
‫السفالة والنّذالة؟ هو ال خيتلف عن بق ّية ّ‬
‫تلك الدّ رجة من ّ‬
‫هتمه إلاّ املتعة يف سوق النّساء‪ .‬من أكون يف اعتقاده؟ جارية‬
‫إذن‪ ،‬وال ّ‬
‫رسها وهي تتململ عىل‬ ‫أو امرأة ساقطة؟ من أكون؟ سألت يف ّ‬
‫السرّ ير‪.‬‬
‫أن ابنتها‬‫تس ّللت أ ّمها إىل غرفتها‪ ،‬عرفت بإحساسها املتي ّقظ ّ‬
‫صفوها‪ .‬كم أح ّبت أن تصارحها يف احلماّ م‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ب عكّر‬ ‫تشكو من َخ ْط ٍ‬
‫أن ش ّبان السوق‬ ‫شك ّ‬ ‫أن حتكي هلا‪ .‬حبيبة بلغت َس ْب َع عَشرْ َ ة سنة وال ّ‬

‫‪80‬‬
‫ضايقوها‪ ،‬أكيد‪ ،‬لن يهُ ملوا مجال حبيبة‪ ،‬هي تعرف ابنتها‪ ،‬ال تسمح‬
‫ومتنمرة منذ‬
‫ّ‬ ‫يمس شعر ًة من رأسها‪ .‬حبيبة صعبة املراس‬‫ألحد بأن ّ‬
‫رسها وهي‬ ‫صغرها‪َ ،‬م ْن ضايقها وأفسد مزاجها؟ تساءلت شلب ّية يف ّ‬
‫الشاحب‬‫تُشعل القنديل وتقرتب من حبيبة‪ ،‬تط ّلعت إىل وجه ابنتها ّ‬
‫ثم سألت‪:‬‬‫ّ‬
‫متفحم‪ ،‬ماذا حدث؟‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬مابك اليوم يا حبيبة‪ ،‬وجهك‬
‫دست حبيبة رأسها يف حضن أ ّمها وقالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وهشموا قوارير العطر‪..‬‬ ‫السوق‬
‫‪ -‬رضبوين يا أ ّمي اليوم يف ّ‬
‫السوق يا شلب ّية وكرهت ّ‬
‫كل النّاس‪.‬‬ ‫كرهت ّ‬
‫ثم تابعت‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫أرسلت آهات ّ‬
‫‪ -‬لوال ذاك ّ‬
‫الشاب الذي أنقذين منهم لقتلني ذاك احلقري‪ ،‬إنّه‬
‫وحش‪.‬‬
‫تتعرض له حبيبة‬
‫ُصعقت األ ّم ملا حدث البنتها‪ ،‬كانت تعرف ما ّ‬
‫وحترش‪ ،‬لكن‪ ،‬أن يصل األمر إىل الضرّ ب فهذا ما لن‬ ‫ٍ‬
‫من مضايقات ّ‬
‫تسمح به‪.‬‬
‫قالت شلب ّية حاسمة‪:‬‬
‫السوق‪ ،‬ابقي يف‬ ‫‪ -‬اسمعي يا حبيبة‪ ،‬لن خترجي بعد اليوم إىل ّ‬
‫البيت‪ ،‬وسأقرتح عىل للاّ ب ّية أن تساعديني يف احلماّ م‪ ،‬هذا‬
‫أفضل من مضايقات أوالد احلرام‪.‬‬
‫جترعت رشبة ماء من «رشب ّية» أمامها واستأنفت‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪81‬‬
‫‪ -‬قويل يل يا حبيبة‪ ،‬من هو ذلك ّ‬
‫الشاب الذي أنقذك من أيدهيم؟‬
‫ثم قالت‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫مههمت حبيبة يف ارتباك ّ‬
‫‪ -‬مل يتس ّن يل أن أعرف اسمه يا شلب ّية‪ّ ،‬‬
‫كل ما تب ّينته ّ‬
‫أن مالحمه‬
‫السوق‪ ،‬شعره أسود ورطب وبرشته بيضاء‪.‬‬ ‫خمتلفة عن ش ّبان ّ‬
‫هو أيضا مفتول العضالت‪ ،‬عندما صفع ذلك البائع طرحه‬
‫أرضا أمام دهشة النّاس‪ .‬آه‪ ..‬نسيت يا أ ّمي‪ ،‬اآلن تذكّرت‪،‬‬ ‫ً‬
‫ذات يوم طرق بابنا وسأل عنك‪ .‬ال أدري كيف نسيت أن‬
‫أخربك هبذا!‬
‫صاحت األ ّم‪:‬‬
‫‪ -‬إنّه أتون يا حبيبة‪ ،‬أتون «فرانقي» احلماّ م‪.‬‬
‫متلهفة‪:‬‬
‫سألت حبيبة يف نربة ّ‬
‫‪ -‬أتعرفينه يا شلب ّية‪ ،‬قويل يل‪ ،‬من يكون ذلك ّ‬
‫الشاب؟‬
‫ضحكت األ ّم وهي حتدّ ق يف عيني ابنتها‪:‬‬
‫شاب هيودي يتيم يا حبيبة‪ ،‬مسكني‪ ،‬ال أحد عاش حمنته‪،‬‬ ‫‪ -‬أتون ّ‬
‫عرف ال ُيتم منذ صغره‪ ،‬وقد نجا بأعجوبة عندما هتاوى منزهلم‬
‫أن يس خلدون رأف‬ ‫حي احلارة ومات والداه‪ ..‬احلمد هلل ّ‬ ‫يف ّ‬
‫بحاله وش ّغله يف احلماّ م‪ ..‬هو ّ‬
‫شاب ط ّيب وهادئ يا حبيبة ومل‬
‫نحب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يسبق أن سمعنا عنه إلاّ ما‬
‫ّ‬
‫ظل أتون يف تلك األ ّيام ُمطر ًقا‪ ،‬يفكّر يف تلك احلامقة التي ارتكبها‬
‫غم شديد‪ .‬مل يعد‬
‫السهاد وانتابه ٌّ‬
‫حق حبيبة‪ ،‬أضناه ّ‬ ‫حق نفسه ويف ّ‬ ‫يف ّ‬

‫‪82‬‬
‫ّ‬
‫ويتلذذ بتلك‬ ‫الفوهة املظلمة‬ ‫ظل يرمي احلطب يف ّ‬ ‫يبارح الفرن َق ُّط‪ّ ،‬‬
‫يتلذذ بذلك كأنّه ينتقم من نفسه بعد‬‫النّار احلامية التي تتعايل ألسنتها‪ّ ،‬‬
‫أن أدرك أنّه خرس ثقة حبيبة إىل األبد ولن حي َظى أبدً ا بابتسامتها‪ .‬كره‬
‫أيضا أن يتمدّ د يف سطح احلماّ م ويتط ّلع من تلك الفتحة إىل أجساد‬ ‫ً‬
‫أحس باجلبن والنّذالة وهو يتذكّر ما كان يفعله‪.‬‬ ‫النّساء‪ّ ،‬‬
‫للذهاب إىل األسواق‬ ‫مرت أ ّيام أتون حزينة‪ ،‬وفقد محاسه ّ‬‫ّ‬
‫ٍ‬
‫أحس بخوف شديد من النّظرة األوىل التي‬
‫وحتينّ فرص رؤية حبيبة‪ّ ،‬‬
‫شك‪ ،‬ستنظر إليه‬‫ستقابله هبا‪ ،‬ستكون نظرة استهزاء وسخرية‪ ،‬دون ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ومتر‪ ،‬وذاك مصري‬‫ثم تهُ مله كخرقة وقد تبصق عىل خ ْلقته ّ‬
‫باحتقار ّ‬
‫كل خائن‪ ،‬أليس هو خائنًا؟‬‫ّ‬
‫ذات صباح استجمع شجاعته ومشى يف سوق القرانة‪ ،‬وجهه‬
‫أحس وهو‬
‫شاحب وخطواته منكرسة‪ ،‬هي مشية رجل ذليل‪ ،‬هكذا ّ‬ ‫ٌ‬
‫الزيتونة‪ ،‬يف األثناء تناهت إىل مسمعه أصداء اجلريمة‬
‫يتّجه نحو جامع ّ‬
‫التي وقعت يف إحدى البيوت القريبة من سوق القامش‪ ،‬جريمة بشعة‬
‫مل يسمع هبا النّاس من قبل‪.‬‬
‫الشيوخ العابرين عماّ حدث‪ ،‬فرضب ك ًّفا ّ‬
‫بكف‬ ‫سأل أتون أحد ّ‬
‫وقال‪:‬‬
‫ اللهم اهدنا واغفر لنا‪ ..‬أستغفر اهلل يا ُبنَي‪ ،‬وتلك عاقبة احلرام‪..‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫تعمد ابن ّ‬
‫الشيخ التّهامي النّيفر‬ ‫ما حدث ال يصدّ قه عقل‪ ،‬لقد ّ‬
‫أن يحُ رق شا ّب ًة مالط ّية‪ ،‬اسمها إيزا عىل ما أظ ّن‪ ..‬قيل واهلل أعلم‬
‫اللهم اغفر له‬
‫ّ‬ ‫شاب هيودي فأحرقها‪..‬‬ ‫إنّه علم بخيانتها له مع ٍّ‬

‫‪83‬‬
‫رش املارقني يا أرحم‬
‫وكف عنّا ّ‬
‫ّ‬ ‫واح ِم نساءنا وبناتنا وأبناءنا‬
‫الرامحني‪.‬‬
‫ّ‬
‫السامء وهو يزفر‪ ،‬دامهته‬
‫صعق أتون بام سمع‪ ،‬طافت عيناه يف ّ‬
‫غص ٌة يف حلقه ووجه إيزا يمتثل يف خم ّيلته ويصله صدى ضحكتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫وحث اخلطى محُ اوالً أن ينسى وجه إيزا ما استطاع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تعرق جبينه‬ ‫ّ‬
‫ظل ينتظر طوال ذلك اليوم أن يلتقي بحبيبة‪ ،‬مشى يف تلك األهنج‬ ‫ّ‬
‫الزيتونة‪ ،‬مل‬
‫متر هبا‪ ،‬يف املسافة بني بيتها وجامع ّ‬
‫الضيقة التي كانت ّ‬
‫ّ‬
‫الركن الذي كانت جتلس به‪ ،‬رأى عربة أخرى‬ ‫أيضا يف ذاك ّ‬
‫يصادفها ً‬
‫ٍ‬
‫بخيبة‬ ‫وتط ّلع إىل مالمح الفتى األسود الذي يقف وراءها‪ّ .‬‬
‫أحس‬
‫مخن أنّه لن يصادف حبيبة مستقبلاً ‪.‬‬
‫ويأس و ّ‬
‫أ ّما حبيبة فقد نسيت أمر عربتها و أصبحت ترافق أ ّمها إىل احلماّ م‪،‬‬
‫وفرحت هبا للاّ ب ّية أ ّيام فرح َلمِا تتم ّيز به من خ ّفة ونشاط وحرص‬
‫عىل النّظافة‪ ،‬باإلضافة إىل لباقتها ووجهها اجلميل املرشق‪ .‬وأصبح‬
‫حضورها يف احلماّ م مصدر راحة للاّ ب ّية‪ ،‬فقد تضاعف عدد النّساء‬
‫وكل من تطأ قدماها احلماّ م‪ ،‬تسأل ّأولاً عن حبيبة‪ ،‬فإن‬ ‫املستحماّ ت‪ّ ،‬‬
‫السخون»‬ ‫ثم تتس ّلل إىل «بيت ّ‬ ‫كانت موجودة ترسع بنزع مالبسها ّ‬
‫وإن كانت غائبة تعود عىل أعقاهبا مق ّطبة‪.‬‬
‫وال تدري حبيبة كيف فكّرت ذات مساء يف أن تتس ّلل إىل الفرن‬
‫تفسريا‬
‫ً‬ ‫أحست يومها برغبة حممومة يف رؤيته‪ ،‬ومل جتد‬
‫لرتى أتون‪ّ ،‬‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫بحذر وتفادت ّ‬ ‫حواسها‪ .‬مشت‬
‫ّ‬ ‫لتلك ال ّلهفة التي سيطرت عىل‬
‫العيون إىل أن أدركت الفرن واختبأت خلف شجرة التّني الكبرية‪.‬‬
‫مر كزمن طويل خرج أتون من غرفته وسار جّ‬
‫باتاه الفرن‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وبعد وقت ّ‬

‫‪84‬‬
‫وبدأ يقذف بجذوع احلطب اليابس يف الفوهة املظلمة‪ ،‬وبني ٍ‬
‫فينة‬ ‫ّ‬
‫يتجرع من قنّينة وضعها بجانب كوم اخلشب‪ ،‬كان يرشب‬
‫وأخرى ّ‬
‫الهث األنفاس ويقذف احلطب‪ .‬وحبيبة من خلف شجرة التّني‬
‫واملسود بالفحم‪ .‬هاهلا ّ‬
‫الشحوب الذي‬ ‫ّ‬ ‫املتعرق‬
‫ّ‬ ‫تتأ ّمل ذاك الوجه‬
‫سكن وجه أتون‪ ،‬مل يكن الوجه شاح ًبا هبذا ّ‬
‫الشكل املخيف عندما‬
‫الزيتونة‪ .‬ظ ّلت مكتومة األنفاس‪،‬‬
‫الصباح قرب جامع ّ‬‫التقته يف ذاك ّ‬
‫رسها‪ ،‬ويميض‬
‫تتابع ما سيفعله‪ ،‬هل سيعتيل سطح احلماّ م؟ سألت يف ّ‬
‫ليتلصص عىل النّساء‪ ،‬ماذا سيكون من أمرها يف تلك‬
‫ّ‬ ‫إىل تلك الفتحة‬
‫األثناء‪ ،‬هل ستظهر من خلف شجرة التّني مق ّطبة اجلبني وغاضبة‬
‫كف عن محاقاتك‪ ،‬لقد‬‫ثم ترصخ يف وجهه‪« :‬إيه‪ ،‬أنت أيهّ ا احلقري‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫كف عماّ تفعل‪ ،‬فلست إلاّ حيوانًا‬
‫كف‪ّ ،‬‬ ‫كشفتك أيهّ ا الوضيع‪ّ ..‬‬
‫ثم تبصق عىل وجهه ومتيض وتنسى إىل األبد حكاية ّ‬
‫الشاب‬ ‫أجرب»‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫الشهم الذي أنقذها ذات يوم من براثن املوت‪.‬‬
‫كيف حدث ذلك؟ ال تدري حبيبة متى شملتها تلك الغفوة‪،‬‬
‫تطوقاهنا‪ ،‬مل تصدّ ق ما حدث‪ ،‬كان‬
‫أحس ْت فجأ ًة بذراعي أتون ومها ّ‬
‫ّ‬
‫أتون يلهث ويبكي وهو حيضنها‪ ،‬مل ترصخ ومل حتاول االنفالت من‬
‫وأحست بسكينة غريبة مل تعرفها‬
‫ّ‬ ‫حضنه‪ .‬وضعت رأسها عىل كتفه‬
‫من قبل‪.‬‬
‫منذ ذلك اليوم‪ ،‬أرشقت أسارير حبيبة وعرفت طعم اإلحساس‬
‫باحلب‪ ،‬ذلك اإلحساس النّاعم الذي خيدّ رها ويصعد هبا نحو‬
‫ّ‬
‫النّجوم‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫***‬
‫متناثرا عىل‬
‫ً‬ ‫استقرت حبيبة يف فراشها وتركت شعرها ال ّطويل‬ ‫ّ‬
‫الشمعة التي تصاعد لسانهُ ا‪ ،‬تلك‬ ‫كتفيها‪ ،‬وركّزت نظراهتا عىل ّ‬
‫الشمعة أصبحت رفيقتها يف ال ّليل قبل أن تنام‪ ،‬وهي رفيقة أتون‬ ‫ّ‬
‫«الشموع يا حبيبة هي أزهارنا التي ال تذبل‪ ،‬وهي‬ ‫أيضا يف غرفته‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫توحد نظرتنا إىل املستقبل»‪ ،‬كذلك كان هيمس هلا أتون ويستبقي‬ ‫التي ّ‬
‫جراء التّعب‪،‬‬
‫يدها يف يده‪ .‬يف العادة كانت ختلد إىل النّوم رسي ًعا من ّ‬
‫الساحر‬‫تنام يف ال ّظالم بال شموع وبال مهسات‪ ،‬ومنذ ذلك العناق ّ‬
‫كل يشء‪ .‬اعرتف هلا يومها بح ّبه وصار قلبها يصخب‪،‬‬ ‫تغي ّ‬‫مع أتون رّ‬
‫وحتس بذاك الدّ بيب الذي ينعش رشايينها‪ .‬مل‬‫ّ‬ ‫تتعاىل أمواجه العاتية‬
‫فرحها عار ًما‪.‬‬
‫يعد قلبها مثل فطرية يابسة‪ ،‬أصبح ُ‬
‫تتوجس خيفة من األ ّيام القادمة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وال تدري حبيبة ملاذا كانت‬
‫حالة ُسهاد وهي تفكّر وتفرك ذقنها والدّ ماء تتصاعد إىل‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫تظل يف‬
‫وجهها‪ .‬ويف إحدى ال ّليايل دامهها كابوس مزعج ضاعف من قلقها‪،‬‬
‫كانت جتري حافي ًة يف األز ّقة الض ّيقة وامللتوية‪ ،‬وحينام التفتت إىل‬
‫اخللف رأت املشاعل تطاردها وتقرتب منها‪ .‬الوجوه مل ّثم ٌة غائمة‪،‬‬
‫يتحرك‪ .‬تفادت‬ ‫ّ‬ ‫واملشاعل نرياهنا حامية‪ ،‬والبالط من حتت ساقيها‬
‫السقوط يف احلفر املرتاقصة أمامها‪ ،‬جرت وهي تتل ّقى لسعات بخار‬ ‫ّ‬
‫ساخن كان خيرج من شقوق األبواب والنوافذ وهيامجها كخاليا‬
‫نحل‪ .‬وفجأةً‪ ،‬انفتحت األرض حتتها وابتلعتها‪ ،‬رصخت وهي‬
‫تتهاوى واألرض تنغلق عليها‪ ،‬ومل تبق عىل البالط إلاّ خصالت‬
‫قليلة من شعرها‪ ،‬رسعان ما طفقت تنمو وتتشكّل يف هيئة أغصان‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫أن عينيها نبتتا يف شعرها‪ ،‬رصخت واملشاعل حتتدم أمامها‬ ‫هت ّيأ هلا ّ‬
‫وتتلوى وهي تتس ّلق‬
‫ّ‬ ‫وخصالت شعرها ال حترتق‪ ،‬بل كانت تتعاىل‬
‫اجلدران وتتس ّلل عرب النّوافذ واألبواب‪.‬‬
‫انتبهت إىل دخول أ ّمها‪ ،‬فشلب ّية ال تنام يف العادة إلاّ بعد أن تتف ّقد‬
‫ويف‬
‫الص ّ‬‫كوب ماء وتنحني لتلتقط الغطاء ّ‬ ‫َ‬ ‫حبيبة‪ ،‬تضع بجوارها‬
‫ثم تغلق الغرفة‪.‬‬ ‫تلف به كامل جسد حبيبة بعناية ّ‬ ‫الذي سقط عنها‪ّ ،‬‬
‫الشموع‪،‬‬ ‫ويف الليايل األخرية اكتشفت شلب ّية عادة جديدة‪ ،‬عادة إيقاد ّ‬
‫أخريا‪،‬‬
‫احلب ً‬ ‫ّ‬ ‫أن ابنتها عرفت‬ ‫مخنت ّ‬ ‫كانت تضحك يف قرارة نفسها‪ّ ،‬‬
‫أن لدهيا‬‫وهي تنتظر أن تكشف هلا عن فارس أحالمها‪ ،‬صحيح ّ‬
‫حتب أن تتأكّد منها‪.‬‬ ‫شكوكًا‪ ،‬غري أنهّ ا ّ‬
‫‪ -‬ال تطفئي ّ‬
‫الشمعة يا شلب ّية‪.‬‬
‫ثم تابعت‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫قالت حبيبة بنربة متناعسة ّ‬
‫‪ -‬اجليس يا أ ّمي‪ ،‬اجليس بجانبي‪ ،‬نحن مل نتحدّ ث منذ أ ّيام يا‬
‫عزيزيت‪.‬‬
‫مسكت يد أ ّمها وأضافت‪:‬‬
‫‪ -‬أتون يا شلب ّية‪ ،‬أتون‪.‬‬
‫مل تندهش شلب ّية ملا قالته ابنتها وانتظرت املزيد‪.‬‬
‫احلب يا أ ّمي‪ ،‬لكنّي خائفة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ما حيدث مع أتون ال يصدّ ق‪ ،‬إنّه‬
‫خائفة جدًّ ا‪ ..‬ليس بسبب أتون‪ ،‬أنا متأكّدة‪ ،‬قلبه نبيل‪،‬‬
‫وإحسايس ال يكذب‪ ..‬األمر متع ّلق بديانته‪ ،‬ماذا سيقول‬
‫النّاس؟‪ ..‬ابنة النّوري أح ّبت شا ًّبا هيود ًّيا؟‬

‫‪87‬‬
‫قالت شلب ّية وهي تفرك شعر ابنتها بأصابعها‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعي يا حبيبة‪ ،‬اسمعيني ج ّيدً ا‪ّ ،‬أولاً مسألة الدّ يانة ليست‬
‫تزوجت الكثريات‬ ‫للزواج‪ ..‬ويف حومتنا ّ‬ ‫للحب وال ّ‬
‫ّ‬ ‫عائ ًقا‬
‫ٍ‬
‫من رجال هيود‪ ،‬األمر أصبح مألو ًفا يف كامل أرجاء ّ‬
‫احلي‪..‬‬
‫النّوري‪ ،‬رمحه اهلل مل يكن ليامنع هذه العالقة‪ .‬فقط يا حبيبة‪،‬‬
‫والسرت‪.‬‬
‫أنت تعرفني‪ ،‬ال يشء أحسن من احلالل ّ‬
‫‪ -‬تأكّدي يا شلب ّية ّ‬
‫أن ابنتك هلا عقل بميزان ذهب الدّ نيا‪ .‬وأتون‪،‬‬
‫أرس يل يريدين يف احلالل‪ .‬احلقيقة يا أ ّمي حدّ ثني يف أمر‬‫كام ّ‬
‫الزواج‪ ،‬وكنت مرت ّددة يف مفاحتتك بشأن هذا املوضوع‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فرحا وهي ترى ابنتها تكرب أمامها‬
‫دمعت عينا شلب ّية‪ ،‬بكت ً‬
‫عروسا‪ ،‬بل هي أمجل عروس يف احلومة‪ ،‬لك ّن العني بصرية‬ ‫ً‬ ‫وتصبح‬
‫جتهزها وتسعدها مثل بنات احلومة؟‬‫واليد قصرية‪ ..‬من أين هلا أن ّ‬
‫لو كان النّوري ح ًّيا خل ّفف عنها هذا احلمل‪ .‬مل تشأ يف تلك اآلونة‬
‫رسمت ابتسامة مرحة‬
‫ْ‬ ‫أن تن ّغص فرحة ابنتها‪ ،‬فر ّبت َْت عىل ظهرها ّ‬
‫ثم‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬إن شاء اهلل خري يا حبيبة‪ ،‬ستفرحني أنت وأتون وسيعرف‬
‫ليلة عرس‪ ..‬فقط نامي اآلن‪ ،‬وال تنيس ما‬ ‫«الرب ْط» أحىل ِ‬
‫َّ‬
‫صباحا‪ ،‬غدً ا زواج بنت للاّ رشيدة وينبغي أن‬
‫ً‬ ‫ينتظرنا يف الغد‬
‫الضخم‪.‬‬
‫باكرا‪ ،‬سنعدّ احلماّ م هلذا العرس ّ‬
‫ننهض ً‬
‫شدّ ت حبيبة عىل يد أ ّمها بحرارة وق ّبلتها‪ ،‬كان قلبها يف تلك‬
‫ال ّلحظات ّ‬
‫يدق د ًّقا عني ًفا وهي تتخ ّيل ليلة زواجها‪ ،‬وصبيحة «يوم‬

‫‪88‬‬
‫احلي‪ .‬ستزغرد‬
‫الدخلة» وهي ترقص يف احلماّ م وسط حلقة فتيات ّ‬
‫أ ّمها بكامل هبجتها عال ًيا ُمفتخر ًة بابنتها وسط النّساء‪ ،‬ستذرف‬
‫دمو ًعا ساخنة وتتذكّر النّوري‪ ،‬ستضحك وتنتيش وحتلم‪ .‬مل هيدأ‬
‫تفكري حبيبة تلك ال ّليلة‪ ،‬وأضاءت ّ‬
‫الشمع ُة قل َبها كام أضاءت الغرفة‪،‬‬
‫يكحل النّوم جفنيها‪.‬‬
‫ومل ّ‬
‫الصباح الباكر‪ ،‬وكان ذلك يوم مخيس‪ ،‬تناهى إىل مسمع حبيبة‬
‫يف ّ‬
‫«الر َب ْط»‪ ،‬يا أهل ّ‬
‫السعد‬ ‫صوت املنادي وهو ينقر عىل طبلته‪ :‬يا أهل ّ‬
‫واخلري‪ ..‬اليوم زواج الفايزة بنت للاّ رشيدة‪ ،‬احلارض يعلم الغايب‪،‬‬
‫السعد واخلري‪.‬‬
‫زورونا للربكة يا أهل ّ‬
‫ثم ما فتئ يعلو منبع ًثا من أرجاء سوق‬ ‫بدا صوت املنادي خافتًا ّ‬
‫القرانة‪ .‬قفزت حبيبة من فراشها وهي تفرك عينيها‪ ،‬ارتدت مالء ًة‬
‫ثم وضعت شالاً عىل رأسها وح ّثت خطاها لتلتحق بأ ّمها‬ ‫خرضاء ّ‬
‫ضاجا‪ ،‬ال ّ‬
‫ككل األ ّيام‪ .‬للاّ‬ ‫ًّ‬ ‫سيمر‬
‫ّ‬ ‫أن يومها‬ ‫يف احلماّ م‪ .‬كانت تعرف ّ‬
‫خاصة رمضان باي‪َ .‬لشدَّ ما‬ ‫رشيدة كام حدّ ثتها أ ّمها من األعيان ومن ّ‬
‫وخاصة حلقة رقص الفتيات‬ ‫ّ‬ ‫أهبجتها مراسم احتفال النّساء يف احلماّ م‪،‬‬
‫والدف‪ ،‬واحلماّ م يف األثناء يعبق بروائح البخور‬ ‫ّ‬ ‫عىل إيقاع الدّ ربوكة‬
‫تظل العروس يف حالة خشوع وهي ملفوفة يف ق ّفاز احلنّاء‬ ‫والعطور‪ّ .‬‬
‫شك‬ ‫والفتيات يشاغبنها ويضاحكنها‪ .‬والوضع سيكون خمتل ًفا بال ّ‬
‫مع ابنة للاّ رشيدة‪ ،‬سيزدحم احلماّ م بالنّساء والفتيات وستنتصب‬
‫ال ّطاوالت بشتّى أنواع املأكوالت واملرشوبات‪.‬‬
‫مل تقابل حبيبة كعادهتا للاّ ب ّية وهي تعتيل كُرس ًّيا خشب ًّيا عتي ًقا عىل‬
‫يسار باب الدّ خول‪ ،‬أكيد أنهّ ا التحقت بمنزل للاّ رشيدة‪ ،‬سترشف‬

‫‪89‬‬
‫مرتاص من‬ ‫ٍ‬
‫حشد‬ ‫طب ًعا عىل موكب العروس وهو يتهادى وسط‬
‫ّ‬
‫القصبة إىل احلماّ م‪ .‬تط ّلعت إىل أ ّمها‪ ،‬كانت تفرش ّ‬
‫الزرايب يف قاعة‬
‫االستقبال‪ ،‬عقدت فوطة عىل خرصها وجرت ملساعدهتا‪ .‬إثر ذلك‬
‫وضعت البخور واجلاوي يف املبخرة النحاس ّية وطفقت تطوف هبا يف‬
‫السخون»‬ ‫ثم «بيت ّ‬
‫أرجاء احلماّ م‪ ،‬يف البهو املؤ ّدي إىل «البيت الباردة» ّ‬
‫ثم «املطاهر»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وصلها صوت أ ّمها من بعيد‪:‬‬
‫ «سمي باسم اهلل يا حبيبة‪ ،‬وأوقدي ّ‬
‫الشموع‪ ..‬النّهار راح يا‬ ‫‪ّ -‬‬
‫بنتي‪.»..‬‬
‫الضوء خافتًا‪ ،‬ينبعث من فتحات صغرية يف‬ ‫يف احلماّ م‪ ،‬كان ّ‬
‫الصباح‪.‬‬ ‫الضوء هبرة‪ ،‬ومع ذلك ّ‬
‫يظل ضعي ًفا يف ّ‬ ‫السقف‪ ،‬الب ّلور يزيد ّ‬
‫ّ‬
‫بالشموع‪ ،‬تفادت أن تضع شمعة أو شمعتني‬ ‫مألت حبيبة زوايا احلماّ م ّ‬
‫السخون»‪ ،‬تعرف ّ‬
‫أن البخار سيطفئ ألسنة النّار‪ .‬يف العادة‪،‬‬ ‫يف «بيت ّ‬
‫جان وعفاريت‬ ‫ٍ‬ ‫الرشيرة من‬ ‫تقول أ ّمها‪ّ :‬‬
‫«الشموع تطرد األرواح ّ‬
‫كل من له مرض أو حسد يف قلبه»‪ .‬ويف احلماّ م يكثر‬ ‫باإلضافة إىل ّ‬
‫احلسد والقيل والقال ومل يكن خيفى عىل أحد ما تفعله بعض النّسوة‬
‫الرجال إىل‬ ‫ٍ‬
‫من سحر وشعوذة من أجل إفساد زجيات وحتويل وجهة ّ‬
‫صبايا طالت عنوسته ّن‪ ،‬مل يعد ّ‬
‫كل ذلك خاف ًيا عىل شلب ّية وال عىل‬
‫حبيبة التي تتجنّب االقرتاب من بعض وجوه النّحس كام تقول أ ّمها‪.‬‬
‫يف اخلارج‪ ،‬تصاعدت ألسنة ال ّلهب يف الفرن‪ ،‬استفاق أتون‬
‫تأججت النّار‪ ،‬كان‬
‫أيضا وأوقد الفرن وقذف فيه احلطب حتّى ّ‬
‫باكرا ً‬
‫ً‬

‫‪90‬‬
‫يظل يتالعب بالنّار‬ ‫يفعل ذلك بخ ّفة ونشاط وقنّينة النّبيذ ال تفارقه‪ّ .‬‬
‫الساحر بح ّي ٍة رقطاء‪ُ ،‬يثريها بحركاته البهلوان ّية فتقفز‬
‫مثلام يتالعب ّ‬
‫ثم تتكسرّ بخ ّفة لتندلع من جديد حمتدم ًة وحامية‪.‬‬ ‫تتلوى ّ‬
‫إىل األعىل‪ّ ،‬‬
‫تظل حركاته هادئة‬ ‫وجه أتون متح ّفز ومرشق وهو يقذف باحلطب‪ّ ،‬‬
‫مسه ج ّن‪ ،‬يرقص كام ترقص النّار‬ ‫كمن ّ‬ ‫وعاشقة‪ ،‬وفجأ ًة يرقص َ‬
‫ويمدّ ذراعيه يف خياله إىل حبيبة فريقصان ويرقصان‪.‬‬
‫كانت حبيبة يف ما يشبه الغفوة عندما وصلتها صيحات أ ّمها من‬
‫السخون»‪:‬‬‫«بيت ّ‬
‫‪« -‬حبيبة‪ ،‬يا حبيبة‪ ،‬اجري يا بنتي اجري»‪.‬‬
‫شهقت حبيبة وتصدّ عت أنفاسها‪ ،‬سارت بقبقاهبا الهث ًة وهي‬
‫السقوط‪ ،‬وصيحات أ ّمها ال تتو ّقف‪« :‬اجري يا بنتي اجري‪».‬‬
‫تتفادى ّ‬
‫مل تصدّ ق شلب ّية ما رأته‪ ،‬حدّ قت مندهش ًة يف الفتحة األرض ّية‬
‫داخل احلوض‪ ،‬أخذت الفتحة تتّسع وتتّسع وانكشفت هلا يف اجلوف‬
‫الذهب وهي تلمع‪ ،‬اتّسعت هبر ُة ال ّلمعان وأيقنت شلب ّية ّ‬
‫أن‬ ‫سبائك ّ‬
‫وأن اهلل استجاب لدعائها فوهبها من‬ ‫ما تراه ليس أضغاث أحالم ّ‬
‫نعيمه وخرياته‪.‬‬
‫‪« -‬انزعي القبقاب يا حبيبة وانزيل‪ ..‬انزيل يا بنتي وما ختافيش»‪.‬‬
‫اندهشت حبيبة ملا رأته‪ ،‬أط ّلت عىل الفتحة وأذهلتها هبرة‬
‫الذهب‪ ،‬نزعت القبقاب بخ ّفة‬‫الضوء‪ ،‬شهقت وهي تتأ ّمل سبائك ّ‬ ‫ّ‬
‫السبائك وتس ّلمها‬
‫ونزلت وسط تلك البهرة اللاّ معة ورشعت تلتقط ّ‬
‫مرت ال ّلحظات حممومة‪ ،‬حبيبة تلتقط ّ‬
‫السبائك املستطيلة‬ ‫إىل أ ّمها‪ّ .‬‬

‫‪91‬‬
‫اللاّ معة وشعرها متناثر عىل وجهها وكتفيها وأ ّمها حت ّثها عىل مزيد‬
‫أحست حبيبة بارختاء يف‬
‫االنحناء والتقاط سبائك أخرى‪ .‬وفجأ ًة ّ‬
‫ذراعيها‪ ،‬مسكتها يدان غليظتان من شعرها‪ ،‬وقبضتا عليها بعنف‪،‬‬
‫فأطلقت رصخات فزع وهي حتاول أن خت ّلص شعرها من يدي اجلان‪.‬‬
‫كان جسده طويلاً وأسود‪ .‬وجهه خشن وفكّه مد ّبب‪ ،‬يف رأسه ريش‬
‫السواد‪.‬‬
‫أمحر يشبه التّاج‪ ،‬عيناه واسعتان ومظلمتان‪ ،‬كأنهّ ام تنفثان ّ‬
‫مرت ال ّلحظات قاسية وهي خت ّلص شعرها من اجلان األمحر وحتاول‬ ‫ّ‬
‫الصعود واخلروج من الفتحة‪ .‬وظ ّلت أ ّمها ترصخ من األعىل‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫«الذهب يا حبيبة‪ ،‬مازال اخلري الكثري يا كبدي‪ ،‬هات يا بنتي‬
‫هات‪»..‬‬
‫أحست حبيبة ّ‬
‫أن قواها خارت‪ ،‬وأنهّ ا تتهاوى‪ ،‬لقد أطبقت اليد‬ ‫ّ‬
‫أحست كأنهّ ا تغرق وتغرق وتغرق فرصخت‬
‫الغليظة عىل أنفاسها‪ّ .‬‬
‫بإجهاد‪:‬‬
‫‪« -‬يا ّمي ط ّلعني‪ ،‬ط ّلعني يا ّمي راين تعبت‪ ..‬راين تعبت يا ّمي»‪.‬‬
‫ «الذهب يا حبيبة‪ّ ..‬‬
‫الذهب‪».‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫‪« -‬اجل ّن األمحر باش هيرب ب ّيا يا ّمي‪ ..‬ط ّلعني يا ّمي‪»..‬‬
‫ «الذهب يا بنيتي‪ّ ..‬‬
‫الذهب‪».‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫‪« -‬يا‪ّ ..‬مي‪...‬را‪.....‬تع‪».............‬‬
‫الصغرية‬
‫تسمرت عينا حبيبة داخل الفتحة ّ‬
‫يف تلك اآلونة املرعبة ّ‬
‫السقف‪ ،‬متنّت ساعتها أن ترى عيني أتون‪ ،‬متنّت أن يصغي إىل‬
‫يف ّ‬

‫‪92‬‬
‫جتمدت متا ًما ومل‬ ‫ٍ‬
‫تلف عينيها‪ّ ،‬‬‫بغشاوة ّ‬ ‫أحست‬
‫رصخاهتا املكتومة‪ّ .‬‬
‫بالرهبة‬
‫تعد قادرة عىل املقاومة والصرّ اخ‪ .‬ويف حلظات مسكونة ّ‬
‫الشموع يف زوايا احلماّ م‪ ،‬وظ ّلت شلب ّية يف تلك اآلونة‬
‫كل ّ‬‫انطفأت ّ‬
‫مشلولة احلركة وال ّلسان‪ ،‬أ ّما الفتحة فقد طفقت تضيق وتضيق‬
‫وتظلم وتظلم حتّى انغلقت متا ًما‪ ،‬ومل تبق غري خصالت من شعر‬
‫حبيبة عالق ًة يف ُقطر تلك الفتحة عىل أديم احلوض‪.‬‬
‫***‬
‫السنة التي شهدت وفاة الباي‬
‫حدث ذلك سنة ‪ 1696‬وهي ّ‬
‫حممد باي املرادي وتوليّ أخيه رمضان باي احلكم‪ ،‬هكذا حدّ ثني‬ ‫ّ‬
‫الزيتونة‪ ،‬رسد يل احلكاية‬
‫الشيخ عبد القادر النّفزي‪ ،‬وهو من شيوخ ّ‬ ‫ّ‬
‫يف حم ّله لبيع العطور بسوق الع ّطارين‪.‬‬
‫الشيخ‪ :‬وماذا كان من أمر أتون يا س ّيدنا ّ‬
‫الشيخ؟‬ ‫سألت ّ‬
‫نفسا عمي ًقا‪:‬‬ ‫الشيخ وهو يضع الن ّفة يف منخريه ّ‬
‫ثم يسحب ً‬ ‫قال ّ‬
‫الروايات يف شأنه‪ ،‬وأغلب الظ ّن أنّه وجد م ّيتًا‬ ‫احلقيقة‪ ،‬اختلفت ّ‬
‫يف غرفته املقابلة للفرن بعد ثالثة أ ّيام من وقوع احلادثة‪ ،‬قالوا إنّه مات‬
‫كل يوم مخيس‬ ‫ظل ينبت ّ‬‫أن شعر حبيبة ّ‬ ‫كمدً ا عىل حبيبته‪ ..‬والغريب ّ‬
‫ثم هييج عىل زوايا‬ ‫الشعر من عيون صغرية ّ‬ ‫يف ُقطر تلك الفتحة‪ ،‬يظهر ّ‬
‫قص تلك اخلصالت‬ ‫احلوض‪ .‬وكان أصحاب احلماّ م يرسعون إىل ّ‬
‫أيضا ّ‬
‫أن احلماّ م‬ ‫السوداء خو ًفا من أن ينفر النّاس من احلماّ م‪ ..‬وال ّثابت ً‬
‫ّ‬
‫الذهب‪ ..‬بلاّ ع الصبايا‪ .‬ومنذ يوم‬ ‫قد ُس ّمي منذ تلك احلادثة بحماّ م ّ‬
‫الذهاب إىل ذلك احلماّ م‪.‬‬‫اختفاء حبيبة امتنعت أغلب النّساء عن ّ‬

‫‪93‬‬
‫(‪)5‬‬
‫هيلني‬

‫نباحها ال يتو ّقف يف‬


‫كلبة جارنا سيمون تنبح أسفل نافذيت‪ُ ،‬‬
‫الصباح الباكر وهو ما جيعلني أمتلمل بعصب ّية‪ .‬لو مل تكن الش ّقة‬
‫ّ‬
‫لكنت طرقت الباب وانفجرت كفقاعة صابون يف وجه‬ ‫ُ‬ ‫لسيمون‬
‫فإن سيمون كان رفيق إليف منذ‬ ‫صاحبها‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك ّ‬
‫وصول عائالتنا إىل مارسيليا‪ .‬إنّه شيخ هادئ ال ّطباع‪ ،‬ابتسامته ال ترتك‬
‫يل جمالاً للغضب‪« .‬ماذا نفعل لرجيينا أ ّيتها اجلميلة‪ ،‬إنهّ ا امللكة التي‬
‫يمرون يف األسفل وحيدثون‬ ‫وحتتج عىل احلمقى الذين ّ‬ ‫ّ‬ ‫باكرا‬
‫تنهض ً‬
‫ضجيجا ُمقر ًفا»‪ ،‬يقول يل حينام يصادفني عىل درجات الس ّلم‪ .‬ماتت‬ ‫ً‬
‫ملينا زوجة سيمون منذ سنوات ومل يبق له من أنيس غري كلبته رجيينا‪.‬‬
‫أ ّما إيزاك ابنه الوحيد فإنّه ال يزوره إالّ يف هناية األسبوع‪ُ ،‬يميض معه‬
‫ثم يعود إىل باريس‪ .‬وسيمون ينزعج من زيارة إيزاك‪ ،‬بل هو‬ ‫يومني ّ‬
‫فوضوي‪ ،‬بال طموح‪« ،‬املخدّ رات ستقتل‬ ‫ّ‬ ‫شاب‬
‫يتفادى رؤيته‪ ،‬فهو ٌّ‬
‫متهور وال يسمعني‪ ،‬يرسق أموايل ويميض‪ ،‬وملاذا‬ ‫هذا املتع ّفن‪ ،‬إنّه ّ‬
‫يعود إذن؟»‪ ،‬يسأل سيمون بمرارة‪.‬‬
‫الصغرية ممتنّة لسيمون‪ ،‬ال أحد منّا يستطيع أن‬ ‫احلقيقة ّ‬
‫أن أرستنا ّ‬
‫السنوات العصيبة‪ ،‬سنوات اهلجرة‬ ‫ينسى ما فعله مع إليف‪ ،‬يف تلك ّ‬

‫‪95‬‬
‫القرس ّية من تونس إىل مارسيليا‪ .‬كان إليف ينزف وهو حيدّ ثني‬
‫والضياع منذ صافرة الباخرة التي أعلنت وصول‬ ‫ّ‬ ‫عن أ ّيام اجلوع‬
‫كل الوجوه‬ ‫العائالت اليهود ّية إىل ميناء فيوكس‪ .‬يومها‪ ،‬كانت ّ‬
‫ضاجة وغريبة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حزين ًة خاوية ونحن نلملم حقائبنا ونسري يف شوارع‬
‫يف األثناء كان إليف يمسك بيد شريا‪ ،‬كأنّه خياف أن يفرتقا‪ .‬ابتسامة‬
‫شريا‪ ،‬يقول إليف‪ ،‬هي التي جعلتني أشفى من حادثة قتل أدريان يف‬
‫الذهب‪.‬‬‫دكّان ّ‬
‫وجها لوجه مع سيمون‪ ،‬عىل‬ ‫وقد شاءت األقدار أن تضع إليف ً‬
‫يتنزه‬
‫الربيعي كان سيمون ّ‬ ‫ٍ‬
‫رصيف قريب من امليناء‪ .‬يف ذلك املساء‬
‫ّ‬
‫مع ملينا عندما وقعت نظراته عىل الوجوه املتعبة أمامه‪ ،‬وكان يعلم‬
‫ترشدت يف األحياء الفقرية‪ ،‬ف َع َرف‬
‫حكاية العائالت اليهود ّية التي ّ‬
‫أن تلك األكوام من ال ّلحم حتتاج إىل مساعدة‪ .‬وكان ذلك‬ ‫بحدسه ّ‬
‫بحي لو بانري القريب من‬ ‫احلظ‪ ،‬سب ًبا يف استقرارنا ّ‬‫ّ‬ ‫ال ّلقاء‪ ،‬حلسن‬
‫ومتزقت‬‫امليناء‪ .‬سكنت عائلتا إليف وشريا يف ش ّقتني متجاورتني‪ّ ،‬‬
‫العتمة فعلاً يف تلك األ ّيام‪ .‬وما ال ينساه إليف‪ ،‬الكلامت األوىل التي‬
‫قاهلا سيمون‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّما أنت يا إليف فستساعدين يف متجري‪ ،‬إالّ إذا كان لك رأي‬
‫آخر‪.‬‬
‫استطاعت عائلتا إليف وشريا االنسجام مع أجواء العيش يف‬
‫حي لو بانري‪ ،‬ومل تكن احلياة مع ّقدة هناك‪ ،‬بل هي شبيه ٌة إىل حدٍّ كبري‬
‫ّ‬
‫بأجواء احلياة يف املدينة العتيقة بتونس‪ ،‬كام تقول شريا‪ ،‬فقد كانت‬
‫واستقرت‬
‫ّ‬ ‫هناك عائالت هيود ّية كثرية هاجرت من شامل إفريقيا‬

‫‪96‬‬
‫واملمرات الض ّيقة وامللتوية وتكاثر‬
‫ّ‬ ‫احلي‪ ،‬باإلضافة إىل األهنج‬
‫يف ّ‬
‫املباين الباستيل الغريبة واملنازل القديمة‪ .‬إنهّ ا فسيفساء من األلوان‬
‫والروائح‪ ،‬تشبه قطع ًة أثر ّية إىل حدٍّ كبري‪ .‬وحي لو بانري هو ّ‬
‫حي‬ ‫ّ‬
‫الصباح الباكر ينهض‬ ‫ال ّطبقة العاملة‪ ،‬هتدأ احلركة يف ال ّليل ويف ّ‬
‫الصباحي‪،‬‬
‫الصخب ّ‬ ‫تأهب واستنفار‪ .‬يروق يل ذلك ّ‬ ‫اجلميع يف حالة ّ‬
‫ويضجون ويغنّون يف ال ّطرقات الض ّيقة والواسعة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هيمهمون‬
‫حي لو بانري‪ ،‬تلك‬ ‫ال ّ‬
‫متل شريا من حمادثتي عن أ ّيامها األوىل يف ّ‬
‫األ ّيام كانت الفتة بالفعل وال متحى من ذاكرهتا‪ ،‬فلم يكن من اليسري‬
‫ٍ‬
‫جديد وجمهول‪ .‬ويف احلقيقة‪،‬‬ ‫حي‬
‫أن تتأقلم العائلتان الغريبتان مع ّ‬
‫الرب كان رؤو ًفا بالعائلتني‪ ،‬صحيح ّ‬
‫أن العامرة التي توجد‬ ‫ّ‬
‫فإن ّ‬
‫داخلها الشقتان مل تكن حديثة‪ ،‬لكنّها يف املقابل ليست متداعية مثل‬
‫واألهم أنهّ ا ختلو من ضجيج األطفال‪ .‬ش ّقة‬
‫ّ‬ ‫احلي‪،‬‬
‫الكثري من عامرات ّ‬
‫إليف ال ختتلف يف تصميمها عن ش ّقتهم‪ ،‬االختالف األبرز كان يف‬
‫الصالون‪.‬‬
‫منفتحا عىل ّ‬
‫ً‬ ‫أرصت أ ّمها عىل أن يكون‬ ‫املطبخ فقد ّ‬
‫ٍ‬
‫بسعادة‬ ‫جمرد التّشابه بني الش ّقتني ُيشعرين‬
‫تقول شريا‪« :‬كان ّ‬
‫غامرة‪ ،‬فأنا أخت ّيل إليف وهو جالس عىل األريكة يف الصالون‪ ،‬أخت ّيله‬
‫وهو جيالس األ ّم أمايا يف الشرّ فة‪ ،‬أو حني خيتيل بنفسه يف غرفة النّوم‪.‬‬
‫حيس‬‫عيل األسئلة‪« :‬هل يراين إليف بقلبه كام أراه‪ ،‬هل ّ‬ ‫تلح ّ‬ ‫وكثريا ما ّ‬
‫ً‬
‫مشوشة‬ ‫أحس به من رغبة حممومة يف احتضانه؟»‪ .‬كانت نظرايت ّ‬ ‫بام ّ‬
‫السقف واجلدران‪ ،‬بل تكاد خترتق اجلدران لتالمس يدي‬ ‫بني ّ‬
‫كل يوم عىل االستيقاظ مبكّرة ألتابع خروجه من‬ ‫إليف‪ .‬أحرص ّ‬
‫ثم ينزل أدراج الس ّلم‬‫الشقة برفق ّ‬‫الشغف‪ُ ،‬يطبق باب ّ‬ ‫الش ّقة بكامل ّ‬

‫‪97‬‬
‫ويتّجه إىل متجر سيمون‪ .‬يف تلك األثناء يقودين قلبي إىل األ ّم أمايا‪،‬‬
‫أسميها األ ّم أمايا ألنهّ ا‬
‫إىل حضنها‪ ،‬إىل حضن إليف يف الواقع‪ .‬وأنا ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬يف ابتسامتها‪ ،‬يف قبالهتا‪ ،‬يف حرارهتا‪.‬‬ ‫كانت تشبه أ ّمي يف ّ‬
‫ما إن تفتح الباب حتّى تأخذين بني ذراعيها ثم جتلسني بجوارها‬
‫لنحتيس قهوتنا الصباح ّية‪ .‬األ ّم أمايا ورثت عن أ ّمها‪ ،‬هكذا حدّ ثتني‪،‬‬
‫حي‬
‫راسخا بذاكرهتا يف ّ‬ ‫ً‬ ‫الرصاص ما بقي‬‫الرسم‪ ،‬ترسم بقلم ّ‬ ‫موهبة ّ‬
‫احلارة‪ ،‬وترسم مدينة تونس العتيقة كام عرفتها وكام أح ّبتها‪ .‬وأكثر‬
‫الصالون وغرفتي النّوم واملطبخ‬ ‫ختص هبا زوجها أدريان‪ ،‬يف ّ‬‫صورها ّ‬
‫تطالعني صورة أدريان وهو يبتسم‪ ،‬وهو يتط ّلع إىل األعىل أو ر ّبام إىل‬
‫املجهول‪ .‬كانت حتدّ ثني عن إليف ووجهها املستدير منرشح دو ًما‪،‬‬
‫يتذكر أ ّيام‬‫حتدّ ثني عن طباعه‪ ،‬عن مزاجه‪ ،‬عن إطراقه أحيانًا وهو ّ‬
‫مترر يل وصاياها‬ ‫املرات كنت أحدس أنهّ ا ّ‬‫حي احلارة‪ .‬ويف كثري من ّ‬‫ّ‬
‫حب مل تعد‬ ‫قصة ّ‬ ‫كي أسعد إليف بعد زواجنا‪ ،‬هي تعرف أنّنا نعيش ّ‬
‫«احلب هو طريقنا األرسع‬ ‫ّ‬ ‫احلب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خافي ًة عىل أحد‪ ،‬وهي تبارك هذا‬
‫الرب»‪ ،‬تقول يل‪ ،‬ثم تستأنف ضاحكة‪« :‬ال تنيس يا شريا‬ ‫ّ‬ ‫لطاعة‬
‫حيب تلك املالعق يا شق ّية»‪.‬‬ ‫املالعق الفض ّية يف جهازك‪ ،‬إليف ّ‬
‫كنت أكتفي بمرافقة األ ّم أمايا يف الفرتة الصباح ّية‪ ،‬أعرف ّ‬
‫أن‬
‫أحب طب ًعا أن يصادفني هناك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إليف سيعود مسا ًء إىل الش ّقة‪ ،‬وال‬
‫نلتقي عمدً ا يف الس ّلم لتالمس يدي يده أو نلتقي يف عشاء ليلة‬
‫املرات‬
‫السبت‪ ،‬كنّا نحرص عىل تنظيم عشاء مجاعي ويف الكثري من ّ‬ ‫ّ‬
‫يشاركنا العزيز سيمون عشاءنا البهيج‪ .‬وأثناء العشاء كانت عيوننا‪،‬‬
‫احلب العظيم»‪.‬‬
‫الرب حتتفل بعرس ّ‬ ‫أنا وإليف‪ ،‬وبمباركة ّ‬

‫‪98‬‬
‫ثم ّ‬
‫تطل شريا‬ ‫أستمع إىل نقرات خفيفة عىل باب غرفتي‪ّ ،‬‬
‫الصباحية‪:‬‬
‫بابتسامتها ّ‬
‫‪ -‬صباح اخلري يا ق ّطتي‪.‬‬
‫ثم تُرسع إىل فتح النّافذة‪ ،‬تصادف‬ ‫حترض شريا فنجان قهوة ّ‬
‫سيمون وهو جيلس عىل كرس ّيه متأ ّملاً اجللبة يف ّ‬
‫احلي‪.‬‬
‫‪ -‬كيف احلال سيمون؟ أراك اليوم أفضل‪.‬‬
‫تصلني ضحكة سيمون‪:‬‬
‫‪ -‬كام ترين يا شريا‪ ،‬تشاغبني رجيينا من أجل أن نخرج يف جولتنا‬
‫الصباح ّية ‪.‬‬
‫الصغرية‪ ،‬تعيد الكتب إىل‬
‫تغادر شريا النّافذة وتلتفت إىل مكتبتي ّ‬
‫ثم متيض‪ .‬شريا حتافظ‬
‫أماكنها وتلتقط الكؤوس والفناجني املبعثرة ّ‬
‫واحلق أنهّ ا ال هتمل مظهرها‪ ،‬ينبغي أن يكون‬
‫ّ‬ ‫عىل رشاقتها وأناقتها‪،‬‬
‫املظهر الئ ًقا دو ًما‪ ،‬تنصحني باستمرار‪ ،‬لذلك فهي ال تتو ّقف عن‬
‫ّ‬
‫وككل صباح تصليّ أمام‬ ‫االعتناء ببرشهتا البيضاء وشعرها األسود‪.‬‬
‫ثم ترسم‬ ‫اإلطار الكبري الذي ع ّلقت فيه صورة إليف‪ ،‬تدمع عيناها‪ّ ،‬‬
‫ابتسامة مرشقة حلبيبها الذي رحل‪ ،‬لكنّه ال يرحل من قلبها أبدً ا‪.‬‬
‫بحي لو بانري كان مؤس ًفا‪ ،‬بل‬
‫ما حدث مع شريا يف سنتها الثانية ّ‬
‫كارثة‪ ،‬فقد مات أبوها وأ ّمها م ًعا وهي مل تبلغ بعد س ّن ال ّثامنة عرشة‬
‫مروع قرب امليناء‪ ،‬بعد أن صدمهام‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بعد‪ ،‬ماتا نتيجة حادث س ّيارة ّ‬
‫صيفي حزين‪ .‬نشجت شريا يومها وأحنت‬ ‫ّ‬ ‫شاب خممور يف مساء‬
‫ّ‬

‫‪99‬‬
‫السهل أن تفقد أباها وأ ّمها يف رمشة عني‪.‬‬
‫رأسها كمدً ا‪ ،‬فلم يكن من ّ‬
‫ٍ‬
‫بحرقة‬ ‫ويف ذلك اليوم احلزين‪ ،‬ل ّفها إليف بذراعيه وهو يبكي معها‬
‫وشملتهام م ًعا مالمح اجلحيم‪ .‬ال أحد يف تلك ال ّظروف كان واث ًقا‬
‫أن شريا ستنهض من حالة الغيبوبة‪ .‬مضت ثالثة أ ّيام عىل ذلك‬ ‫من ّ‬
‫ليل هنار‪ .‬ويف صبيحة اليوم‬ ‫الوضع يف املستشفى‪ ،‬وإليف بجوارها َ‬
‫الرب أعاد إليه قلبه‪ ،‬وعندما‬
‫أن ّ‬ ‫الرابع استفاقت شريا وعرف إليف ّ‬ ‫ّ‬
‫أرصت شريا عىل أن تكون املراسم‬ ‫تزوجا بعد أشهر من تلك احلادثة ّ‬ ‫ّ‬
‫الشموع‪ ،‬وقد‬ ‫عاد ّية‪ .‬اكتفت العائلة بعشاء مساء اجلمعة عىل ضوء ّ‬
‫أهداها سيمون حينها قالد ًة ذهب ّية نُقش عليها اسمها‪ .‬يف احلقيقة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫رجل‬ ‫قلب‬
‫بأن لسيمون َ‬‫تلك اهلد ّية فاجأت اجلميع‪ ،‬وأعطت انطبا ًعا ّ‬
‫شك‪ ،‬رمز التّضامن بني اليهود‪،‬‬ ‫استثنائي‪ ،‬فهو منقذ العائلة وهو‪ ،‬بال ّ‬
‫ّ‬
‫والترشد‪ .‬تارخينا‬
‫ّ‬ ‫هذا التّضامن الذي أنقذ آالف العائالت من اجلوع‬
‫كان حزينًا ومؤ ًملا‪ ،‬لكنّه‪ ،‬كام قال إليف‪ ،‬ع ّلمنا كيف نصرب ونتضامن‬
‫فاحلب هو الكلمة السحر ّية التي رست يف عروقنا‪ ،‬بل هو‬ ‫ّ‬ ‫ونحب‪.‬‬
‫ّ‬
‫نتحمل أوجاعنا ونقاوم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرس العظيم الذي جعلنا‬ ‫ّ‬
‫متعرق‪،‬‬ ‫ال تذهبي إىل ميناء فيوكس‪ ،‬تقول يل شريا ووجهها ّ‬
‫كربت‬
‫ُ‬ ‫الرصيف‪ .‬وعندما‬‫إن دمنا ال يزال عىل ّ‬ ‫ال تذهبي إىل هناك‪ّ ،‬‬
‫بالتنزه‬
‫ّ‬ ‫رصت بالفعل أتفادى ّ‬
‫الذهاب إىل امليناء‪ .‬كان إيزاك يغريني‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫ويظل‬ ‫الساحرة وتناول حساء غالل البحر‪،‬‬ ‫يف تلك الواجهة البحر ّية ّ‬
‫يطاردين وحيارصين بنظراته‪ ،‬وكنت أهرب من قبضته‪ .‬طباعه غريبة‬
‫أحتمله إالّ من أجل العزيز سيمون‪ .‬ويف أعامقي كنت‬ ‫وحا ّدة ومل أكن ّ‬
‫راهق مرتبك‪.‬‬ ‫وهتوره وهو حياول تقبييل مثل ُم ٍ‬ ‫أضحك من غبائه ّ‬

‫‪100‬‬
‫كل إحساس‪،‬‬ ‫ومقززة خالية من ّ‬
‫ّ‬ ‫كان يكتب يل رسائل بلهاء مقرفة‬
‫واألدهى من ذلك أنّه كان يرفقها بصور خليعة وفاضحة‪ُ ،‬معتقدً ا‬
‫الصور‪ .‬البائس!‬ ‫بمجرد أن أتط ّلع إىل تلك ّ‬
‫ّ‬ ‫أنيّ سأسقط يف حضنه‬
‫عيل‪ .‬ويف الواقع‪،‬‬ ‫كان كذئب ينتظر ال ّلحظة احلاسمة لالنقضاض ّ‬
‫خممورا يف أهنج‬
‫ً‬ ‫كنت أعيش حلظات رعب حقيق ّية وهو يعرتضني‬ ‫ُ‬
‫مر ٍة أنجو من جحيمه‪ ،‬أركض وأحتمي بمنازل‬ ‫احلي الض ّيقة ويف ّ‬
‫كل ّ‬ ‫ّ‬
‫الغرباء‪ ،‬ومل أكن أشكو أمره ألحد‪ ،‬كنت أنزف يف صمت حتّى ال‬
‫تتعكّر عالقة إليف بسيمون‪.‬‬
‫أصبحت مدمن ًة عىل تناول حبوب النّوم‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫يف أ ّيامي األخرية‬
‫عيل أن أخلد إىل نوم طبيعي مثل البرش‪،‬‬ ‫أنام إلاّ خمدّ رة‪ ،‬يستعيص ّ‬
‫الذكريات إىل أ ّيامي البعيدة‪ ،‬إىل طفولتي‪ ،‬إىل حضن أيب‪،‬‬ ‫تسحبني ّ‬
‫للمرة‬
‫إىل ضحكته‪ ،‬إىل ارتعاشة يديه قبل أن تسقطا أمامي وتنطفآ ّ‬
‫األخرية‪ .‬مل أكن أعرف املوت‪ ،‬كنت أجهل ذلك املارد‪ ،‬و ّملا مات‬
‫جرحا‬
‫ً‬ ‫تغيت نظريت إىل العامل‪ ،‬مل يعد العامل زهر ًة مجيلة‪ ،‬أصبح‬‫إليف رّ‬
‫مرو ًعا مثل تارخينا املرعب‪.‬‬ ‫ناز ًفا‪ً ،‬‬
‫جرحا ّ‬
‫املروعة التي مات فيها إليف‪ .‬كان يف تلك‬ ‫السنة ّ‬‫أذكر تلك ّ‬
‫حيس به من‬ ‫نحس بام كان ّ‬ ‫الفرتة يشكو من أوجاع يف القلب‪ ،‬ومل نكن ّ‬
‫كثريا موت األ ّم أمايا‪ .‬كنت أسمع رصخاته يف بعض‬ ‫أمل‪ ،‬وقد أرهقه ً‬
‫املر‪ ،‬كان يبكي عىل صدر شريا ويرتعش‪:‬‬ ‫ال ّليايل وحيزنني نشيجه ّ‬
‫ثم يشهق باك ًيا‪ .‬كان أيب مقاتلاً‬ ‫«أدريان‪ ..‬أمايا‪ ..‬أدريان»‪ ،‬يتمتم‪ّ ،‬‬
‫صغريا لبيع‬
‫ً‬ ‫خي أن يفتح حملاًّ‬
‫بحق‪ .‬بعد أن اشتغل يف متجر سيمون رّ‬ ‫ّ‬
‫أن سيمون ساعده لكي حي ّقق حلمه‪ ،‬وهو يعرف ّ‬
‫أن‬ ‫واحلق ّ‬
‫ّ‬ ‫الذهب‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪101‬‬
‫املسألة عىل غاية من األمه ّية عند إليف‪ .‬وكان إليف يرغب يف إحياء‬
‫فالزمن‬
‫الذهب يف سوق القرانة‪ّ ،‬‬ ‫ذكرى مجيلة‪ ،‬ذكرى أدريان‪ ،‬تاجر ّ‬
‫مل ينسه تلك األ ّيام‪ ،‬وال غابت صورة أبيه عن ذاكرته يو ًما‪ .‬ويف فرتة‬
‫وجيزة متكّن من حتقيق أرباح ج ّيدة وأصبحت مصاغته مشهورة يف‬
‫كثريا ما ير ّدد‬
‫شارع سانت فرييول‪« .‬املصاغة هي هد ّيتي لشريا»‪ً ،‬‬
‫كل عثرايت ومل‬ ‫إليف‪« ،‬وهي عربون وفاء للمرأة التي ساندتني يف ّ‬
‫تيأس»‪ .‬واملصاغة مل تنجح كذلك إلاّ بجهود شريا‪ ،‬فقد امتلكت‬
‫مهارة التّجارة بالفطرة‪ ،‬وكانت حتمل معها نامذج ممّا يبدعه إليف من‬
‫خواتم وأساور وقالئد وتبيعها يف األحياء القريبة‪ ،‬تنتقي زبائنها بد ّقة‬
‫أن إليف كان‬ ‫واحلق ّ‬
‫ّ‬ ‫وتنجح يف إقناع النّساء بجودة ما يصنعه حبيبها‪.‬‬
‫بار ًعا كام تقول شريا‪ .‬مل تكن له موهبة فحسب‪ ،‬بل كانت له إرادة‬
‫الذهب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أشكال مبهرة من ّ‬ ‫خارقة يف صنع‬
‫كنت أميض وقتًا طويلاً مع إليف عندما تنشغل شريا باملصاغة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫بأن جرحه ال يتو ّقف‬
‫الشديد‪ ،‬ولطاملا انتابني اإلحساس ّ‬ ‫أحلظ إرهاقه ّ‬
‫حيك ذقنه بأطراف أصابعه‪ ،‬أعرف يف تلك‬ ‫عن النّزيف‪ .‬وعندما ّ‬
‫وكثريا ما كان يأخذ ك ّفي بني يديه‬
‫ً‬ ‫ال ّلحظات ّ‬
‫أن أيب يفكّر ويتذكّر‪.‬‬
‫وتشع عيناه بفرح غامر وهو يتالعب بأصابعي‪ .‬يحُ دّ ثني طوي ً‬
‫ال عن‬ ‫ّ‬
‫ذكرياته يف سوق القرانة وعماّ عاشه اليهود من أ ّيام بائسة‪ .‬فيوقظ يف‬
‫داخيل أسئل ًة مربكة‪ :‬ملاذا كان األمر كذلك مع اليهود؟ وملاذا عرفوا‬
‫تلك املحارق؟ هل كانوا حيملون ذلك اإلثم الذي يستح ّقون بسببه‬
‫والعقاب؟ مل يكن األمر متع ّل ًقا بمحرقة اهلولوكوست‬
‫َ‬ ‫الت َ‬
‫ّنكيل‬
‫الشنيعة فحسب‪ ،‬بل بمجزرة أوديسا وجمزرة بايب يار‪ ،‬وغريها‬ ‫ّ‬

‫‪102‬‬
‫وغريها من املجازر‪ ،‬إنهّ ا العتمة التي تالحقنا يا ابنتي وحتارصنا يف‬
‫ّ‬
‫كل مكان‪.‬‬
‫ذات يوم‪ ،‬وال أنسى ما قاله إليف‪ ،‬كان ُيثري شعري وهو حيدّ ثني‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعتقد ّ‬
‫أن أجدادنا كانوا خمطئني‪ ،‬قد يخُ طئ واحد أو اثنان‪،‬‬
‫السنوات التي‬
‫لكن‪ ،‬أن خيطئوا مجي ًعا فهذا مستحيل‪ .‬يف تلك ّ‬
‫هاجروا فيها من مدينة قرنة ليفورنو نحو تونس كانوا يعيشون‬
‫أحلك أ ّيامهم‪ ،‬أ ّيام اخلوف واملهانة والفقر‪ .‬ويؤكّد األجداد‬
‫الذهب يف األرض التي‬‫أن بعض العائالت دفنت الكثري من ّ‬ ‫ّ‬
‫الذهب‪ ،‬فعلوا ذلك نتيجة تلك ال ّظروف‬ ‫تعرف اليوم بحماّ م ّ‬
‫القاسية‪ .‬أرض احلماّ م كانت بستانًا مهملاً ‪ ،‬تُلقى فيه الفضالت‬
‫واألشياء القديمة‪ ،‬وكانوا يتس ّللون ليلاً إىل ذلك البستان‬
‫خاصة‬ ‫ٍ‬
‫ويخُ فون جموهراهتم يف شكل مدافن ويضعون إشارات ّ‬
‫هبا‪ .‬والغالب عىل الظ ّن أنهّ م كانوا يفعلون ذلك يف ال ّليايل‬
‫العاصفة واملمطرة‪ ،‬كام حدّ ثني أدريان‪.‬‬
‫كثريا ما حتدّ ثني عن أمر تلك‬
‫أيضا كانت ً‬
‫أن شريا ً‬ ‫ما لفت انتباهي ّ‬
‫الدّ فائن‪ .‬النّساء اليهود ّيات ك ّن خيفني جموهراهت ّن ّ‬
‫وكل ما يملكن من‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‪ ،‬ك ّن خيشني عىل ذهبه ّن‬ ‫ذهب يف األرض التي بني عليها ّ‬
‫من رسقة األوغاد وال ّلصوص ويرسمن يف زوايا تلك املدافن شكل‬
‫سمكة من ب ّلور‪ ،‬أعتقد ذلك‪ .‬وعندما أمر الباي ّ‬
‫حممد باي املرادي‬
‫محام يف تلك األرض مل تقدر النّساء عىل سحب ذهبه ّن وبقي‬ ‫ببناء ّ‬
‫عال ًقا هناك‪ .‬وبالفعل‪ ،‬مل يكن اليهود الذين ح ّلوا بتونس يف القرن‬

‫‪103‬‬
‫السابع عرش ك ّلهم فقراء‪ ،‬تؤكّد شريا وتثري انتباهي‪ .‬لذلك عرفت‬ ‫ّ‬
‫أن احلكاية التي تقول ّ‬
‫إن فتاة أنزلتها أ ّمها يف فتحة باحلماّ م إلخراج‬ ‫ّ‬
‫ثم انغلقت عليها تلك الفتحة األرض ّية وابتلعتها حكاي ٌة‬ ‫الذهب ّ‬ ‫ّ‬
‫صحيحة‪ ،‬وال أعتقد ُمطل ًقا أنهّ ا أسطورة أو خرافة كام يعتقد النّاس‬
‫يف تونس‪.‬‬
‫الذهب‪ ،‬وألجل‬ ‫تلك احلكايات جعلتني ح ًّقا منشغلة بحماّ م ّ‬
‫ووسعت‬ ‫عدت إىل كُتب التّاريخ للبحث عن تارخينا يف تونس‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذلك‬
‫البحث مع بعض معارفنا من أصدقاء إليف‪ .‬يف احلقيقة مل أصل إىل‬
‫عيل أن أحسم قراري وأسافر إىل تونس‬ ‫نتيجة حاسمة ومرحية‪ ،‬وكان ّ‬
‫هاجسا‬
‫ً‬ ‫الذهب الذي ّ‬
‫ظل‬ ‫محام ّ‬ ‫لدراسة التّاريخ وتوسيع أبحاثي حول ّ‬
‫املنيس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يوم ًّيا‪ ،‬واألمر ال يتع ّلق بالكنوز فحسب‪ ،‬وإنّام يتع ّلق بتارخينا‬
‫بعد ثالثة أ ّيام من رحيل إليف عاد إيزاك إىل مطارديت برضاوة‬
‫أشدّ وعنف أكرب‪ ،‬كنت فريسة صاغرة يف نظره‪ ،‬ولن أقوى عىل‬
‫يرتصدين‬
‫املقاومة بعد أن رحل أيب‪ .‬هكذا كان يعتقد البائس‪ .‬فكان ّ‬
‫يف تلك ال ّظروف املشحونة بالفراغ واحلزن‪ ،‬نظراته خترتقني ّ‬
‫وتعريني‪،‬‬
‫وكنت أعرف ما يريد‪ .‬اخلسيس‪ ،‬يشتهي أن يسحقني بوجهه القبيح‬
‫وبرائحته النّتنة‪ .‬لن أنسى ذلك اليوم الذي صادفني فيه عند الدّ رج‪،‬‬
‫رمقني بعينني ثاقبيتني‪ ،‬نار ّيتني‪ ،‬مل َأر من قبل مثل ذاك احلقد الذي‬
‫وطوقني باليد األخرى‬ ‫ّ‬ ‫عشش فيهام‪ ،‬وضع يده عىل فمي ّأوالً‬ ‫ّ‬
‫ثم حت ّينت الفرصة‬
‫متاوت أمامه ّ‬
‫ُّ‬ ‫بشدّ ة‪ .‬وعندما عجزت عن مقاومته‪،‬‬
‫وحتررت منه ونزلت األدراج برسعة‪ .‬ويف تلك ال ّلحظات القاسية‬ ‫ّ‬
‫ارتعشت وبكيت يف حضنها مصعوقة‪ .‬مل أكن واثقة‬ ‫ُ‬ ‫أنقذتني شريا‪،‬‬

‫‪104‬‬
‫مررت أمامه‬
‫ُ‬ ‫أ ّيامها أنيّ سأنجو‪ ،‬كان متع ّفنًا إىل درجة ال تطاق‪ ،‬وك ّلام‬
‫أطلق ضحكة داعرة وهتف‪:‬‬
‫اهلرة‪ ،‬أعرف أنّك لن تقاومي طويلاً ‪.‬‬
‫‪ -‬ستسقطني قري ًبا أ ّيتها ّ‬
‫تعرضت إىل مضايقات‬ ‫الشقراء اجلميلة ّ‬ ‫صديقتي ماريا‪ ،‬تلك ّ‬
‫إيزاك‪ ،‬وهي تعيش ما أعيش من توتّر حتّى إنهّ ا ال تستطيع النوم‬
‫إلاّ بعد تناول احلبوب املهدّ ئة‪ .‬إنّه حيوان‪ ،‬تقول يل ماريا بكثري من‬
‫احلنق واالنزعاج‪ .‬والغريب أنّه ال يملك إحساس برش‪ُ ،‬يميض كامل‬
‫اليوم نائماً ويستفيق يف املساء ليشنّع يب وبامريا‪ ،‬حتّى شريا انتبهت إىل‬
‫ٍ‬
‫للحظة يف أن‬ ‫ذلك املعتوه والذت بالصمت‪ ،‬بل ال أدري ملاذا فك َّر ْت‬
‫الزواج منه؟ «سيمون ّملح يل»‪ ،‬كانت تقول يل ضاحك ًة ّ‬
‫ثم‬ ‫أوافق عىل ّ‬
‫تضيف‪:‬‬
‫يشك يف هذا‪ ..‬ويف مقابل ذلك‬ ‫متهور‪ ،‬ال أحد ّ‬‫شاب ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬إيزاك‬
‫ثم نحن ال ننسى ما فعله معنا‪ ،‬إنّه رجل كريم‬
‫سيمون ط ّيب‪ّ ،‬‬
‫أيضا مل يكن ليامنع هذه‬‫واستثنائي‪ ..‬إليف‪ ،‬العزيز إليف ً‬
‫ّ‬
‫الرجل بشكل الفت‪.‬‬ ‫يغي سلوك ّ‬‫والزواج يا هيلني رّ‬
‫الزجية‪ّ ..‬‬‫ّ‬
‫ثم تستأنف مازحة‪:‬‬
‫عيل بصدرها ّ‬
‫متيل ّ‬
‫‪ -‬يا ق ّطتي اجلميلة‪ ،‬أنت ستعيدين تربية إيزاك عىل النّحو‬
‫األمثل‪ ..‬فامذا نفعل هلذا ّ‬
‫الشباب املندفع؟‬
‫ال أدري ملاذا كنت أربط بني صورة إيزاك وتارخينا ّ‬
‫املعذب؟‬
‫الراقية‬
‫هيودي‪ ،‬لكنّه مل حيمل من اليهود ّية تلك القيم ّ‬
‫ّ‬ ‫صحيح أنّه‬
‫ّ‬
‫العاق‪ ،‬امللدوغ باحلمق‪ ،‬كانت‬ ‫ّ‬
‫األقل‪ .‬االبن‬ ‫التي مت ّيز سيمون عىل‬

‫‪105‬‬
‫هي صورة إيزاك من وجهة نظر سيمون‪ .‬وأنا كنت أعرف ّ‬
‫أن إيزاك‬
‫مل يكن قدَ ري‪ ،‬ال أدري ملاذا كان يف باطني إحساس جمنون يقودين‬
‫إىل بلد األجداد‪ ،‬ومل أكن أنتظر البتّة أن أصادف سعدً ا يف يوم حزين‬
‫مثقل باخليبة‪.‬‬
‫أنتبه إىل رنني اهلاتف‪ ،‬أقفز جّ‬
‫باتاهه وهو بني كتابني‪ ،‬أقرأ عىل‬
‫ثم أفتح ّ‬
‫اخلط‪:‬‬ ‫الشاشة اسم الرا ّ‬‫ّ‬
‫كثريا‪ ..‬كيف حالك يا ق ّطتنا اجلميلة؟‬
‫‪ -‬ماما‪ ،‬اشتقت إليك ً‬
‫‪ -‬بخري حبيبتي‪ ،‬فقط بعض اإلرهاق‪ ،‬وأنت تعرفني‪...‬‬
‫‪ -‬األمر متع ّلق بسعد؟‬
‫‪ -‬ال أدري ماذا حيصل معه هذه األيام‪ ،‬هاتفه مغلق‪ ،‬وهو ال ير ّد‬
‫أيضا‪.‬‬
‫عىل رسائيل ً‬
‫أيضا؟‬
‫‪ -‬وماذا ً‬
‫‪ -‬أنت تعرفني يا الرا‪ ،‬تعرفني ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬
‫‪ -‬ط ّيب‪ ،‬يف هناية األسبوع سأزورك يا ق ّطتي وانتظري مفاجأة‬
‫منّي‪ .‬ال تسأليني اآلن أرجوك وال تفكّري يف األمر طويلاً ‪.‬‬
‫األهم من ذلك فكّري يف العزيز سعد‪ ،‬إنّه حيتاج اآلن إىل‬ ‫ّ‬
‫الكثري من االهتامم‪ ..‬إنّك تنشغلني طويلاً بالتّاريخ وباملصاغة‬
‫وهتملني قلبك‪ِ ..‬عديني ماما‪ِ ،‬عديني أن تفكّري أكثر يف‬
‫سعد‪ ..‬باي ماما‪ ..‬قباليت‪..‬‬
‫ثم هترب‪،‬‬
‫تغلق الرا اهلاتف ضاحكة‪ ،‬كدأهبا دو ًما‪ ،‬تشاغبني ّ‬
‫أجلت فتحه لسنوات وسنوات‪ ،‬ما‬ ‫بل هي تنفض الغبار عن مغ ّلف ّ‬

‫‪106‬‬
‫الذي كان خييفني؟ كنت أسأل نفيس‪ ،‬ما الذي كان يربكني؟ وهل‬
‫الشكل؟ ال أعتقد أنيّ عىل‬ ‫عيل أن أنقاد إىل توصيات شريا بذلك ّ‬
‫كان ّ‬
‫درجة كبرية من اجلبن‪ ،‬دموع شريا سحقتني متا ًما‪ ،‬وكنت أنقاد إليها‬
‫كهرة صغرية‪.‬‬
‫ّ‬
‫منعرجا يف حيايت‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫يوم ‪ 13‬مارس من سنة ‪ 1992‬م ّثل‬
‫اليوم الذي يوافق عيد ميالدي‪ .‬بعد سنتني تقري ًبا من ارتباطي بسعد‪،‬‬
‫كل التفاصيل‪ ،‬إىل‬‫مل أكن أخفي شي ًئا عن شريا‪ ،‬بل كنت أمكّنها من ّ‬
‫الرجل الذي انتشلني من هشاشتي وقادين‬ ‫حدّ ال ّثرثرة‪ .‬أحكي هلا عن ّ‬
‫حب يف هذا‬
‫إىل تلك األحاسيس املبهرة التي تقول يل‪ :‬أجل‪ ،‬يوجد ّ‬
‫رس ّية‪ ،‬ال نراها بعيوننا‪ ،‬فقط‬
‫ثمة سنابل ّ‬‫العامل‪ .‬بجانب طاحونة املوت ّ‬
‫ّ‬
‫وتظل تقاوم يف‬ ‫نبرصها بقلوبنا‪ ،‬سنابل سامقة‪ ،‬ال تذبل وال تنحني‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مواجهة ضارية مع طاحونة املوت تلك‪.‬‬
‫مرة يف ش ّقتنا‪ ،‬بعد ثالث سنوات‬ ‫ألول ّ‬
‫يف ذلك اليوم زارنا سعد ّ‬
‫الزيارة وحتدّ ثت طويلاً مع‬ ‫دت لتلك ّ‬ ‫مه ُ‬‫من موت إليف‪ .‬يف احلقيقة‪ّ ،‬‬
‫السوداو ّية املحبطة وتدرس‬ ‫شريا‪ ،‬وكان عليها أن تتخلىّ عن أفكارها ّ‬
‫اختياري بحكمة‪ .‬كنت أعرف انطباعاهتا عن سعد‪ ،‬األمر يتع ّلق‬
‫احلب؟ تق ّطب‬
‫بكونه مسلماً ‪ ،‬وهو ما يثري انزعاجها وخماوفها‪ .‬ماذا بعد ّ‬
‫الزواج فكان مستحيلاً وال يقبل النّقاش‪.‬‬ ‫جبينها وتسألني‪ ،‬أ ّما أمر ّ‬
‫مسجل إيزاك‪ ،‬حتاول ّ‬
‫بكل‬ ‫ّ‬ ‫ويف األثناء كانت شريا تعيد عىل مسمعي‬
‫الزجية‪ .‬وسيمون مل يبق صامتًا‪ ،‬فاتح شريا يف‬ ‫احلجج أن تقنعني هبذه ّ‬
‫أيضا بتغيري‬
‫املوضوع‪ ،‬قال إنّه يطلب ذلك وفا ًء لروح إليف‪ ،‬ووعد ً‬
‫طباع ابنه املزعجة‪« ،‬إيزاك ال بدّ أن يزور طبي ًبا نفس ًّيا»‪ ،‬يؤكّد سيمون‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫كانت شريا حتدّ ثني وعيناي مغمضتان‪ .‬كنت أركض مندفعة نحو‬
‫الريح التي كانت تدفعني إليه مل تكن مسمومة‪.‬‬
‫أن ّ‬‫سعد‪ ،‬وأعتقد ّ‬
‫احلق ّ‬
‫أن شريا استقبلت َسعدً ا بابتسامة مرشقة ال تتخلىّ عنها يف‬ ‫ّ‬
‫السوق‬
‫العادة مساء اجلمعة‪ .‬وقبل ذلك كانت مبتهجة وهي تعود من ّ‬
‫حمملة بام يلزم إلعداد عشاء الئق بضيفنا‪ .‬وقد جلب سعد من جهته‬
‫ّ‬
‫وأكياسا صغرية من التّوابل والبهارت‬
‫ً‬ ‫كرتونة من النّبيذ األمحر‬
‫واهلريسة التونس ّية التي حت ّبها شريا‪ .‬أوصيت سعد بأن جيلب ّ‬
‫كل ذلك‬
‫معه‪ ،‬وأعرتف أنيّ كنت أعدّ خم ّط ًطا يف رأيس لتكون انطباعات شريا‬
‫مشجعة‪ .‬بدا سعد عىل غري عادته خجولاً ومقلاًّ يف الكالم‬‫ّ‬ ‫األوىل‬
‫املرة األوىل التي أالحظ فيها ذلك‪ ،‬وبني فينة وأخرى‬
‫معي‪ ،‬وهي ّ‬
‫ثم ينشغل بتأ ّمل صورة إليف يف أعىل اجلدار‬
‫يغمزين بعينه اليرسى ّ‬
‫املواجه له‪.‬‬
‫أعدّ ت شريا مائدة تفوح منها رائحة تونس كام هتف سعد‪،‬‬
‫كسكس باللحم واخلضار ورشائح من ال ّلحم املطبوخ وتشكيلة‬
‫الصالون‬ ‫من السلطات والفواكه‪ .‬أ ّما أنا فأشعلت ّ‬
‫الشموع يف زوايا ّ‬
‫وأحرضت قارور ًة من النّبيذ األمحر‪ .‬شموع شباط تيضء قلبي‬
‫السكينة التي أحتاج إليها يف هناية األسبوع‪ .‬يف‬
‫وتسكرين بتلك ّ‬
‫ثم ابتسم يل وهو يرفع كأسه‪ .‬ويف‬ ‫صحتك‪ ،‬هتف سعد جّ‬
‫باتاه شريا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫األثناء استغرقت شريا لبعض ال ّلحظات يف الدّ عاء وترديد صالهتا يف‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫صمت ّ‬
‫‪ -‬رائع هذا النّبيذ يا سعد‪ ،‬وأظ ّن أنّنا سندمن عليه‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬ال ّطبخ هو جمال شريا‪ ،‬تعتربه من مها ّمها النّبيلة داخل‬
‫البيت‪ .‬منذ العارشة من عمرها وهي مغرمة بال ّطبخ الذي تراه فنًّا من‬
‫الفنون العظيمة‪ ،‬وهو عندها مزيج من الثقافات‪ ،‬إسبان ّية وإيطال ّية‬
‫تلف رأسها‬ ‫وفرنس ّية وتونس ّية باخلصوص‪ .‬عندما تدخل املطبخ ّ‬
‫حي احلارة‬‫بمنديل وتغيب‪ ،‬كأنهّ ا تقوم بواجب مقدّ س‪ .‬تر َّب ْت شريا يف ّ‬
‫بت‬ ‫تدر ْ‬
‫حيث تتعاىل صيحات ّجتار التّوابل واخلرضاوات‪ ،‬وهناك ّ‬
‫عىل روائح املأكوالت‪ .‬ال أحد ينافس شريا يف األطباق ال ّلذيذة‪ ،‬أ ّما‬
‫الس َلطات‪ ،‬ويف أحسن‬ ‫أنا الكسولة فأكتفي بتقشري البطاطا وإعداد ّ‬
‫حار ًة كام حي ّبها سعد بطبيعة احلال‪.‬‬
‫العجة‪ ،‬وال أجعلها ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلاالت أعدّ‬
‫ظل احلديث يق ًظا طوال الوجبة التي انبهر هبا سعد‪ ،‬الحظت‬ ‫ّ‬
‫األقل من اهنامكه يف األكل برشاهة‪ .‬يف العادة‪ ،‬سعد يرشب‬ ‫ذلك عىل ّ‬
‫أيضا‬
‫بالصحة يف ما أعتقد‪ ،‬هو ً‬ ‫ّ‬ ‫مرض‬
‫ّ‬ ‫النّبيذ أكثر ممّا يأكل‪ ،‬وهذا‬
‫يعتربها عادة س ّيئة كربت معه‪« .‬الفقر الكافر يا هيلني‪ ،‬جيعلنا ال نأكل‬
‫كثريا لنوهم املعدة بأنّنا أكلنا‬
‫كام جيب‪ ،‬ونحن الفقراء نأكل اخلبز ً‬
‫بالشكل اللاّ زم»‪ ،‬هكذا كان يقول ك ّلام و ّبختُه‪.‬‬
‫ّ‬
‫مهست يف أذن سعد‪:‬‬
‫‪ -‬من الواضح أنّك ستدمن عىل أكالت شريا‪.‬‬
‫قال ضاحكًا‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ملسات سحر ّي ًة‪.‬‬ ‫ احلق ّ‬
‫أن للس ّيدة شريا‬ ‫‪ّ -‬‬
‫كانت شريا تدرس بطرف عينها نظرات سعد وحركاته وطريقته‬
‫وتسجل مالحظاهتا يف رأسها‪« ..‬سعد منسجم‬
‫ّ‬ ‫يف األكل‪ ،‬تتابعه بد ّقة‬

‫‪109‬‬
‫أي يشء‪،‬‬
‫متام االنسجام مع مائدتنا امللك ّية‪ ،‬وهو ال يندهش من ّ‬
‫وبطبيعة احلال هيلني هي من ع ّلمته عاداتنا يف شباط‪ ،‬وال ينقصه إالّ‬
‫حيب هيلني ويرغب‬
‫أن يعلن هيود ّيته‪ ،‬وهو أمر غري مستبعد إذا كان ّ‬
‫املهم ّ‬
‫أن شريا كانت عىل غاية‬ ‫رسها‪ّ .‬‬
‫يف االقرتان هبا»‪ ،‬تقول شريا يف ّ‬
‫مرة‪ ،‬وذاك ما أعطاين انطبا ًعا‬
‫ألول ّ‬
‫من االرتياح وهي جتالس سعدً ا ّ‬
‫بأن شريا لن تصفني باحلمقاء ألنيّ عشقت صاحب الوجه‬ ‫ّأول ّ‬
‫األسمر املستدير‪.‬‬
‫فاجأتني شريا وهي تسأل سعد‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ال تلتزم بتعاليم اإلسالم يا سعد؟ أنت ترشب اخلمرة‬
‫ثم إنّك ال تصليّ ‪ ..‬أرجوك‪ ،‬ال‬
‫حمرمة يف رشيعتكم‪ّ ،‬‬
‫وهي ّ‬
‫تغضب منّي‪ ،‬فقط أريد أن أفهم‪.‬‬

‫عىل غري ما تو ّقعت‪ ،‬مل يرتبك سعد ومل ّ‬


‫حيمر وجهه يف مثل هذه‬
‫نفسا عمي ًقا من سيجارته‪:‬‬
‫املواقف املحرجة‪ ،‬قال وهو يسحب ً‬
‫مهم جدًّ ا‪ ،‬س ّيديت شريا‪ ..‬وال أخفي عنك‪ ،‬أنا طرحته‬
‫‪ -‬سؤالك ّ‬
‫عىل نفيس يف مناسبات كثرية‪ .‬ما معنى أن أكون مسلماً وال‬
‫أقوم بواجبايت الدّ ين ّية‪ ،‬ما معنى ذلك بالفعل؟ املسألة يف رأيي‬
‫مرتبطة بكوننا يف تونس نامرس حياتنا بحكم العادة‪ ،‬وبحكم‬
‫تنشئتنا وتربيتنا‪ ،‬وعندما نكرب نفعل ما كان يفعله الكبار‪ .‬أيب‬
‫يصل إلاّ يف سنواته األخرية‪ ،‬قبل أن يموت‪ ،‬وكذلك أ ّمي‪.‬‬‫مل ّ‬
‫عندما يكربون يعودون إىل اهلل‪ ،‬هكذا يعتقدون‪ ،‬ليس إيامنًا‬
‫وتله ًفا عىل اجلنّة‪..‬‬
‫خالصا‪ ،‬بالتّأكيد‪ ،‬إنّه اخلوف من العقاب ّ‬
‫ً‬

‫‪110‬‬
‫بالفعل‪ ،‬ظ ّلت عالقتنا بديننا عالقة سطح ّية وبراغمت ّية‪ ،‬طب ًعا‬
‫الصالة‬‫أنت تفهمني ما أعني بالرباغمت ّية‪ ،‬أحتدّ ث هنا عن ّ‬
‫كل ذلك بحكم‬ ‫والصوم وعن مناسباتنا الدين ّية‪ .‬أغلبنا يفعل ّ‬
‫ّ‬
‫كثريا منّا يف تونس يص ّلون‬ ‫إن ً‬ ‫أقل‪ ،‬بل ّ‬ ‫العادة‪ ،‬ال أكثر وال ّ‬
‫ويرشبون اخلمرة ويصومون ويرتكبون الفاحشة وخيرجون‬
‫الزكاة ويقهرون املساكني ويعطفون عىل الفقري يف تناسق‬ ‫ّ‬
‫غريب‪ ،‬إنهّ ا الفوىض‪ ،‬الفوىض اخللاّ قة يا س ّيدة شريا‪ .‬وعندما‬
‫كل هذا التناقض ال يستطيع بالفعل أن‬ ‫تسألني أحدهم ملاذا ّ‬
‫ثم يؤكّد لك أنّه مسلم‪،‬‬ ‫جييبك‪ .‬يبحلق يف وجهك ويضحك ّ‬
‫ثم‬
‫وهو غري مستعدّ ألن يرتك دينه إىل اليهود ّية أو املسيح ّية‪ّ ،‬‬
‫يسألك وهو منفعل‪ :‬هل تريدين أن أكون ملحدً ا؟‬
‫تشهق شريا وتقول‪:‬‬
‫‪ -‬ليس إىل هذا احلدّ يا سعد‪ ..‬أنت تبالغ وتتحدّ ث عن رشحية‬
‫ض ّيقة من املسلمني‪.‬‬
‫‪ -‬بل أؤكّد لك أنهّ ا الشرّ حية الواسعة‪ ،‬أعني بذلك عا ّمة النّاس‪.‬‬
‫كل املنابر‪ ،‬ويف‬‫النّظام ض ّيق اخلناق عىل العباد يف املساجد ويف ّ‬
‫والتطرف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هذه احلالة لن ننتظر غري اليأس والالمباالة‬
‫يرشب سعد كأس النّبيذ ويسرتسل‪:‬‬

‫‪ -‬لو نتحدّ ث مثلاً عن حادثة باب سويقة التي جرت يف ّ‬


‫السنة‬
‫املاضية‪ ،‬ليلة ‪ 17‬فيفري‪ ..‬حادثة القتل واحلرق كانت بغاية‬
‫انتقام اإلسالم ّيني وتش ّفيهم من النّظام بعد ّ‬
‫كل ما حدث إثر‬

‫‪111‬‬
‫االنتخابات التّرشيع ّية منذ ثالث سنوات‪ ..‬نحن نعرف ّ‬
‫كل‬
‫يشء‪ ،‬والقفز إىل األمام دون معاجلة اخللل ينتج العنف‪ ،‬ويف‬
‫األخري املواطنون األبرياء فقط يدفعون ال ّثمن‪.‬‬
‫كل احلاالت ال بدّ من عالقة‬ ‫‪ -‬أجل‪ ،‬أوافقك يا سعد‪ ،‬ويف ّ‬
‫واضحة بالدّ ين‪ ،‬ليس بحكم العادة وإنّام نتيجة اإليامن‪.‬‬
‫‪ -‬املسألة ال تتع ّلق باإلسالم فحسب‪ ،‬وإنّام تتع ّلق بالدّ يانة‬
‫أيضا‪ .‬أنت تعرفني أكثر منّي الصرّ اع بني املتد ّينني‬
‫اليهود ّية ً‬
‫وغري املتد ّينني‪ ..‬باإلضافة إىل املامرسات العنرص ّية بني اليهود‬
‫السفارديم)‪.‬‬ ‫الغرب ّيني ّ‬
‫الشقر (األشكيناز) واليهود الشرّ قيني ( ّ‬
‫حمق يف هذا‪ ،‬ونحن اخرتنا املنطقة‬ ‫‪ -‬أجل‪ ،‬أجل يا سعد‪ ،‬أنت ّ‬
‫الوسطى‪ ،‬احلقيقة نحن ال نط ّبق التوراة بشكل كامل مثل‬
‫مجاعة احلريديم الذين ُيغالون يف التد ّين‪ ..‬وأنت عىل ا ّطالع‪،‬‬
‫مرت بنا‪ ،‬وكان علينا أن نتأقلم‬ ‫ّ‬
‫الشك‪ ،‬باأل ّيام العاصفة التي ّ‬
‫مع األوضاع مع عدم التّنازل عن اليهود ّية ّ‬
‫بكل تأكيد‪.‬‬
‫‪ -‬كذلك نحن‪ ،‬بالدنا معجونة بتاريخ غريب‪ ،‬تاريخ الغزوات‬
‫واخليانات‪ ،‬االنتصارات واالنكسارات‪ ،‬لك ّن اهلزائم هي‬
‫أيضا عىل‬
‫تعرضنا له نحن ً‬ ‫تعرضتم له من مذابح ّ‬ ‫السائدة‪ ،‬ما ّ‬‫ّ‬
‫مر التّاريخ‪ ،‬وال أدري من يقود هذا العامل البائس؟‬‫ّ‬
‫لعل ما فاجأين أكثر‪ ،‬بل أذهلني‪ ،‬هو ما طلبته شريا من سعد‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بالضبط؟ هل أرادت اختبار سعد ّ‬
‫بالشكل الكايف؟‬ ‫ماذا أرادت شريا ّ‬
‫أم أرادت أن يكون لنا رجل نثق به يف حياتنا؟ ونحن بالفعل نحتاج‬
‫إىل رجل حقيقي يبدّ د خماوفنا ممّا سيأيت‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫قالت شريا وهي تنظر عمي ًقا يف عيني سعد‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا لو طلبت منك يا سعد أن تدير مصاغتنا يف شارع سانت‬
‫فرييول؟ سنكون‪ ،‬أنا وهيلني‪ ،‬سعداء ّ‬
‫بكل تأكيد‪.‬‬
‫ما قالته شريا شكّل مفاجأ ًة لسعد‪ ،‬العرض كان عىل غاية‬
‫من األمه ّية‪ ،‬سعد‪ ،‬يف املقابل ال يزال يتابع دراسته يف كل ّية اآلداب‬
‫مهم عند شريا‪،‬‬
‫بمنّوبة‪ ،‬كيف سيكون املوقف؟ واألمر كام الحظت‪ّ ،‬‬
‫مخنت‪ ،‬سرتتبط به ّ‬
‫كل القرارات التي سرتد الح ًقا‪.‬‬ ‫وكام ّ‬
‫ّ‬
‫ظل سعد ُمطر ًقا للحظات ّ‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬يف احلقيقة‪ ،‬أنا سعيد بثقتك س ّيديت شريا‪ ،‬أنت تعرفني مسألة‬
‫أيضا يف تونس والقرصين‪ ..‬ومع ذلك‪،‬‬ ‫الدّ راسة وانشغااليت ً‬
‫أيضا مع هيلني‪،‬‬
‫سنعود إىل هذا املوضوع‪ ..‬سأناقش االقرتاح ً‬
‫ال يمكن طب ًعا ألاّ أسعد قلبها اجلميل‪.‬‬
‫ماذا حدث بيني وبني سعد يف تلك ال ّليلة‪ ،‬ماذا حدث يف‬
‫ٍ‬
‫درجة جعلتنا نذوب متا ًما كام ذابت‬ ‫غرفتي؟ هل أرسفنا يف الشرّ ب إىل‬
‫الضيوف‬ ‫الشموع؟ ال أدري كيف حدث ذلك‪ .‬أعدّ ت شريا غرفة ّ‬ ‫ّ‬
‫لينام فيها سعد‪ ،‬وأنا مسكته من يده وأغلقت باب غرفتي‪ .‬يف تلك‬
‫أي يشء‪ ،‬غمرين بسمرته ورائحة‬ ‫ال ّلحظات‪ ،‬مل نفكّر أنا وسعد يف ّ‬
‫عطره‪ ،‬اخرتقتني ت ّيارات مثرية وعنيفة ال فكاك منها‪ .‬كنّا عىل عتبة‬
‫يمر‪ ،‬اشتدّ وغمر أعامقي‪.‬‬ ‫الرغبة ويف جوفها‪ ،‬واإلعصار مل يشأ أن ّ‬ ‫ّ‬
‫عيني كأنيّ يف‬
‫ّ‬ ‫تضوع عطره أكثر وأغمضت‬ ‫مت رائحة سعد‪ّ ،‬‬ ‫تشم ُ‬
‫ّ‬
‫تتحسس وجهه وشعره‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن أصابعي راحت ّ‬
‫بكل هنم‬ ‫حلم‪ .‬ما أذكره ّ‬

‫‪113‬‬
‫ٍ‬
‫ظلمة مقيتة كانت‬ ‫خرايف من‬ ‫طهرين سعد وهو يق ّبلني بجو ٍع‬
‫ٍّ‬ ‫وقد ّ‬
‫ترتديني‪ ،‬ظلمة ثخينة يف أعامقي رحلت دفع ًة واحدة‪ .‬كنت يف تلك‬
‫مرة‪ ،‬وعرفنا‬ ‫ال ّلحظات امللتبسة أكتشف ملمس جسد رجل ّ‬
‫ألول ّ‬
‫الصخب واهلدير صعدنا إىل‬ ‫السعادة ممكنة‪ ،‬ويف صميم ّ‬ ‫أن ّ‬‫ليلتها ّ‬
‫السامء ومل نعرف االكتفاء‪.‬‬
‫ّ‬
‫بعد تلك الل ّيلة غاب سعد ملدّ ة مخس سنوات‪ ،‬غاب بشكل‬
‫أخافني وأرعبني‪ .‬هل ح ّقق الغرض الذي عرفني من أجله؟ كنت‬
‫كل حلظة أن يظهر‪ ،‬أن خيرج‬ ‫بحثت عنه وانتظرت يف ّ‬
‫ُ‬ ‫أسأل وأهذي‪.‬‬
‫من املتاهة ويقول يل‪« :‬كيف تعتقدين أنيّ أهرب من حضنك الذي‬
‫احلب؟ كيف؟ كيف؟» ال أثر له يف الكل ّية‬
‫ّ‬ ‫غسلني وجعلني أعرف‬
‫وال يف شوارع تونس‪ ،‬وال أحد كان يعرف مكان سعد‪ ،‬أصدقاؤه‬
‫السنوات‬ ‫أيضا كانوا يف غاية القلق بسبب غيابه املفاجئ‪ .‬مضت تلك ّ‬
‫ً‬
‫السفارة‬
‫حزينة‪ ،‬خاوية‪ ،‬وكنت وحيدة‪ ،‬أدرس يف الكل ّية وأشتغل يف ّ‬
‫ثم أميض‪:‬‬ ‫الفرنس ّية وأنتظر أن يظهر سعد‪ ،‬كنت فقط أنتظره ألسأله ّ‬
‫ملاذا هربت منّي؟‬
‫عسريا الرتباطنا‪ ،‬أنا‬
‫ً‬ ‫السنوات اخلمس امتحانًا‬
‫وكانت تلك ّ‬
‫وسعد‪ .‬كانت سنوات ثقيلة‪ ،‬وأعتقد أنّنا نجحنا يف ذلك االمتحان‬
‫املضني واخلانق‪ .‬ففي سنوات اجلمر تلك عادت شريا لتقنعني‬
‫امللف الذي ال يرحل‪« .‬حاول‬ ‫ّ‬ ‫بإيزاك‪ ،‬بل ختاصمنا من أجل هذا‬
‫اغتصايب يا شريا‪ ،‬أتفهمني ما معنى ذلك؟» كنت أمتلمل يف حضنها‬
‫السجن‪ ،‬وال أحد علم بمسألة‬ ‫وأنشج بارتياع‪ .‬خرج سعد من ّ‬
‫أحب‬
‫ّ‬ ‫تعذب سعد يف سجن ‪ 9‬أفريل‪.‬‬ ‫تعذبت ّ‬‫السجن غريي‪ ،‬مثلام ّ‬
‫ّ‬

‫‪114‬‬
‫أن يتل ّقى الدّ رس القايس لوحده بعد تلك احلامقة التي ارتكبها يف‬
‫ال عن إخبارك بام‬‫احلكاية‪«:‬امتنعت فع ً‬
‫ُ‬ ‫حق نفسه‪ .‬قال يل وهو يرسد‬ ‫ّ‬
‫شبيها بكابوس‪ .‬أجل كنت أتاجر باآلثار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حصل‪ ،‬وما حصل كان‬
‫مل أكتف بوادي الدّ رب مثلام كان يفعل أيب‪ ،‬فقد دفعني البحث‬
‫عن اخلالص هنائ ًّيا من األوضاع البائسة إىل اقتحام عامل التّنقيب‬
‫عن اآلثار يف سبيطلة وحاجب العيون‪ ،‬ويف كهف قريب من مدينة‬
‫عثرت عىل رؤوس متاثيل وقناديل ولوحات وقطع‬ ‫ُ‬ ‫حاجب العيون‬
‫وهربته إىل تونس العاصمة‪ .‬طب ًعا‪ ،‬أنت‬
‫عثرت عىل كنز ّ‬ ‫ُ‬ ‫نقد ّية ثمينة‪،‬‬
‫ُسمى مسكيلياين‬‫ال تعرفني حاجب العيون‪ ،‬هذه املدينة التي كانت ت ّ‬
‫السنني‪.‬‬‫الروماين‪ ،‬وهي مدينة عائمة عىل حضارات آالف ّ‬ ‫يف العرص ّ‬
‫عيل وحدث‬ ‫أعوان الشرّ طة خطوايت وقبضوا ّ‬‫ُ‬ ‫ال أدري كيف تع ّقب‬
‫السافلة؟‬‫سأجترأ عىل إخبارك يف ظرويف ّ‬
‫ّ‬ ‫كنت‬
‫ما حدث معي‪ .‬كيف ُ‬
‫جمرد علم الس ّيدة شريا باحلادثة سيعصف بح ّبنا‬‫أن ّ‬ ‫حدست ّ‬
‫ُ‬ ‫كيف؟‬
‫السجن‪ ،‬فال يشء أقسى عىل‬ ‫أيضا أن تريني يف ّ‬ ‫ّبت ً‬‫إىل األبد‪ .‬جتن ُ‬
‫عيني حبيبته»‪.‬‬
‫املحب من تاليش صورته املرشقة يف ْ‬ ‫ّ‬
‫أنتبه إىل رنني اهلاتف‪ ،‬بحركة ساهية ينسكب رشيش القهوة عىل‬
‫ملحمد بن‬
‫كتاب بجانبي‪ ،‬تاريخ معامل التّوحيد يف القديم ويف اجلديد ّ‬
‫الرائعة تذكّرين بموعد احلماّ م يوم اجلمعة‪ .‬طب ًعا أنا ال‬
‫اخلوجة‪ .‬ماريا ّ‬
‫كل أسبوع برفقة ماريا التي ال تفارقني‪ ،‬لقد‬ ‫محام احلريم ّ‬
‫أنقطع عن ّ‬
‫الصاخب‪ .‬املرأة‬ ‫الرب يل لتكون صديقتي ورفيقتي يف ح ّينا ّ‬ ‫أرسلها ّ‬
‫هيودي‪ ،‬تسعد حلضورنا‬‫ّ‬ ‫املغرب ّية ساندرين مالكة احلماّ م‪ ،‬وهي من أصل‬
‫وتشاركنا االستحامم‪ .‬وبالفعل‪ ،‬نعيش أوقاتًا منعشة يف غرفة البخار‪،‬‬

‫‪115‬‬
‫ونتطهر‪ .‬وبعد االستحامم نخرج إىل‬
‫ّ‬ ‫نشتهي هناك أن نضحك ونثرثر‬
‫غرفة االسرتخاء املز ّينة بلوحات موزاييك ونتناول فطائر ساخنة‪،‬‬
‫تلح دو ًما عىل حضورنا‬
‫تلك عادتنا اجلميلة أنا وماريا‪ .‬وساندرين ّ‬
‫األسبوعي لتخ ّفف هي ً‬
‫أيضا من وطأة غربتها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اإللكرتوين‪ ،‬وأعثر عىل رسالة جديدة من سعد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أفتح بريدي‬
‫هذا املذهل بمفاجآته‪ .‬كام تو ّقعت‪ ،‬مل ّ‬
‫يتأخر يف الكتابة رغم أنيّ كنت‬
‫عيل أن أرتّب قرارايت بشكل‬
‫قاسية معه‪ ،‬ومل أر ّد عىل رسائله‪ .‬كان ّ‬
‫يرحيني‪ ،‬لذلك‪ ،‬ومنذ سنتني كنت عىل مسافة من اجلميع‪ ،‬من شريا‬
‫ومن سعد‪ .‬أ ّما الرا فاألمر معها خمتلف‪ ،‬كنت أحرص عىل االقرتاب‬
‫منها‪ ،‬أفعل ذلك حتّى أذيب اجلليد بيننا‪ .‬هي تعارضني يف مسألة‬
‫الزواج بسعد‪ ،‬بل أحسست بغضبها بسبب موقفي الغريب‪،‬‬
‫رفيض ّ‬
‫وهو موقف شريا يف هناية األمر‪ .‬وما عكّر الوضع هو تلك الفرتة‬
‫السجن‪ ،‬كادت جت ّن بسبب ذاك اهلروب‪،‬‬
‫قضاها سعد يف ّ‬ ‫ال ّلعينة التي ّ‬
‫واعتقدت جازمة أنّه داسني بقدميه وهرب‪« .‬إهيه قويل يل‪ ،‬ما هو‬
‫الشكل؟ وإيزاك هو األجدر‬‫الشيّ ء الذي جيعلك تتش ّبثني بسعد‪ ،‬هبذا ّ‬
‫باهتاممك»‪ ،‬كانت ترصخ يف وجهي‪.‬‬
‫أفتح رسالة سعد وأقرأ‪:‬‬
‫«حبيبتي‪،‬‬
‫ذبت فيه كشمعة‬
‫مضت سنتان خاويتان ومضجرتان إىل حدٍّ ُ‬
‫الضوء‪ ،‬يف ّ‬
‫كل يوم كان وجع الغياب‬ ‫حزينة مل تعد قادرة عىل توفري ّ‬
‫أخريا حالة اخلراب‬
‫يعوي يف داخيل ويقهرين‪ .‬ال أخفي عنك‪ ،‬جتاوزت ً‬

‫‪116‬‬
‫السجن بأنّك عشت‬ ‫التي دامهتني وأنت تُعلمينني بعد خروجي من ّ‬
‫إحساسا مري ًعا صاع ًقا‪ ،‬ومل‬
‫ً‬ ‫عشت‬
‫ُ‬ ‫جتربة زواج فاشلة انتهت بجنني‪.‬‬
‫السابقة‪ ،‬أجل‪ ،‬مل أستطع أن أصدّ ق ما رويته‬ ‫أحدّ ثك عنه يف لقاءاتنا ّ‬
‫الرجل الذي عشت معه أل ّيام‪،‬‬ ‫يل‪ ،‬والغريب أنّك مل حتدّ ثيني عن ذاك ّ‬
‫ثم تغرق‬ ‫أيضا هترب من إجابتي ّ‬‫كام قلت يل‪ .‬الرا‪ ،‬عزيزيت الرا‪ ،‬هي ً‬
‫يف صمتها وأعرف أنهّ ا تبكي وختفي عنّي دموعها‪ .‬أدركت يف األخري‬
‫تزوجت وحدث ما حدث‪ ..‬أعرتف‪ ،‬غيايب‬ ‫حق عندما ّ‬‫أنّك كنت عىل ّ‬
‫كان مري ًبا وكان ال بدّ أن تتواصل حياتك بشكل مريح‪ ،‬ال بأس‪ ،‬أنت‬
‫السجن‪ ،‬ومن األفضل ألاّ نعود اآلن إىل‬ ‫تزوجت عندما كنت أنا يف ّ‬ ‫ّ‬
‫املايض‪ ،‬علينا أن نر ّمم معنو ّياتنا ونستعيد أحاسيسنا اجلميلة‪ ،‬وأعتقد‬
‫أن تلك األحاسيس لن متوت‪ .‬يف األ ّيام األخرية فهمت‬ ‫يا هيلني ّ‬
‫حقيقة معنى االخرتاق‪ ،‬اخرتقتني يا هيلني وامتألت بك إىل حدّ‬
‫املرض واإلهناك‪ .‬أدركت أن ال أحد يغسلني غريك‪ ،‬بنظرة منك‪،‬‬
‫وكنت ممدّ ًدا يف ك ّفك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بلمسة‪ ،‬بقبلة خاطفة‪ ،‬وبحضنك العاصف‪.‬‬
‫ومتجمدً ا أنتظر كلامتك‪ .‬وها إنّك‪ ،‬اآلن‪ ،‬تسمحني للمطر بأن‬
‫ّ‬ ‫هاج ًعا‬
‫هيطل بعد طول انحباس‪ .‬أجل‪ ،‬اآلن بإمكاننا أن ننظر إىل األمام يف‬
‫جّاتاه واحد‪.‬‬
‫حبيبتي‪،‬‬
‫الذهب‪ ،‬وأذكر أنّك حدّ ثتني عنه‪ ،‬أذكر‬‫أدرك اهتاممك بحماّ م ّ‬
‫املنيس واملجهول‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منتبها إىل ذاك االهتامم بتارخيك‬
‫ً‬ ‫بالفعل‪ ،‬كنت‬
‫التكيز‪.‬‬
‫لذلك قرأت تلك األوراق التي أرسلتها مع جوهر بكثري من رّ‬
‫الرجل الغريب‪ ،‬فسنعود إليها الح ًقا‪ّ .‬‬
‫قصة‬ ‫أ ّما مسألة جوهر‪ ،‬هذا ّ‬

‫‪117‬‬
‫صحة تلك الوقائع‪ ،‬ال‬ ‫احلماّ م مؤ ّثرة ح ًّقا يا هيلني‪ ،‬وال أعلم مدى ّ‬
‫وخاص ًة ما يتع ّلق‬
‫ّ‬ ‫أيضا وأتأكّد من حقيقة ما جرى‪،‬‬
‫بدّ أن أبحث أنا ً‬
‫أن تلك الفتحة ختفي‬ ‫بتلك الفتحة يف احلماّ م‪ .‬أعتقد‪ ،‬حسب جتربتي‪ّ ،‬‬
‫كنزا ثمينًا‪ ،‬األمر مثري لالنتباه ح ًّقا‪ .‬ويف ظنّي ّ‬
‫أن أرسار احلماّ م كثرية‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫األقل اآلن أقول ذلك‪ ،‬وبعد البحث سنناقش‬ ‫وال مفاتيح هلا‪ ،‬عىل‬
‫املوضوع‪.‬‬
‫قبل أن أنسى يا هيلني‪ ،‬الرا كتبت يل رسالة رائعة‪ .‬وأخربتني أنهّ ا‬
‫تعدّ يل مفاجأة‪ ،‬وال أدري ما إذا كنت عىل علم بذلك‪.‬‬
‫قباليت‪».‬‬
‫الصاخب وأنا‬ ‫ُأغلق احلاسوب وأفتح النّافذة‪ُ ،‬أ ّ‬
‫طل عىل العامل ّ‬
‫أيضا عن مفاجأة الرا‪ .‬يف األسفل‬
‫أفكّر يف كلامت سعد وأتساءل أنا ً‬
‫احلي‪ ،‬أرفع‬
‫شجار بني رجلني‪ ،‬أحدمها جارنا واآلخر غريب عن ّ‬
‫رأيس قليلاً وأد ّقق يف مالمح جارنا‪ ،‬كان غاض ًبا‪ ،‬يداه تنتفضان‬
‫وحتكامن مسك حقيبة يدو ّية صغرية‪.‬‬
‫صاح جارنا‪:‬‬
‫‪ -‬ال داعي للنّقاش أكثر‪ ،‬لن أس ّلمك احلقيبة قبل تسليمي‬
‫األموال كاملة‪.‬‬
‫ع ّقب الثانيّ ‪:‬‬
‫السابقة‬
‫تعودنا يف معامالتنا ّ‬
‫‪ -‬وملاذا هذه الشرّ وط املجحفة؟‪ّ ..‬‬
‫عىل أن تتس ّلم نصف املبلغ الباقي بعد بيع البضاعة‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫تلح‪.‬‬
‫‪ -‬إنهّ ا أوامر يا جورنو‪ ،‬أوامر‪ ..‬وأرجوك‪ ،‬ال ّ‬
‫كنت أعرف ما حتتويه تلك احلقيبة اليدو ّية‪ .‬لقد أصبح ح ّينا‬
‫السنوات األخرية مرت ًعا لعصابات املخدّ رات‪ .‬وها إنيّ أتفاجأ‬‫يف ّ‬
‫بجارنا‪ ،‬مل أكن عىل علم بكونه فر ًدا من تلك العصابات‪ ،‬أصبح ح ّينا‬
‫عيني نحو آخر الشارع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خمي ًفا بسبب هذا االختالط املريب‪ .‬أرفع‬
‫أد ّقق يف الوجوه‪ ،‬أتفاجأ بمالمح إيزاك وهو يميش مرتن ًّحا بوجهه‬
‫النّحيف واملستطيل صوب عامرتنا‪ .‬توق ّعت أن يعكّر حضوره يوم‬
‫أيضا ال‬
‫سيمون‪ ،‬وجيعل ضحكته الصباح ّية تنقلب إىل قرف‪ .‬أنا ً‬
‫املقززة‪ ،‬أحبس أنفايس وأسارع بغلق‬
‫أحتمل أن أرى تلك املالمح ّ‬
‫النّافذة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫(‪)6‬‬
‫جوهر‬

‫يف ديسمرب أبدأ العمل عند العارشة أو بعد ذلك بقليل‪ ،‬ال‬
‫الصباح‬ ‫وجود ألمزجة رائقة تقدّ م أحذيتها للمسح والتّلميع يف ّ‬
‫الباكر‪ ،‬الوجوه ال تبتسم يف ذلك الوقت‪ .‬هكذا خربت الناس‪ ،‬تكون‬
‫تعودت‬ ‫هلم أمزجة س ّيئة‪ ،‬عىل نحو غريب يكثر الصرّ اخ واالنفعال‪ّ ،‬‬
‫متر يف‬
‫عىل هذا النّسق منذ سنوات وأنا أرى الوجوه الصباح ّية التي ّ‬
‫شارع احلر ّية‪ .‬وبطبيعة احلال عندما تغيب االبتسامة تنعدم فرص‬
‫ومتر األحذية أمامي مثقلة بأتربتها وغبارها‪ .‬أجلس عىل‬ ‫الشغل ّ‬ ‫ّ‬
‫اخلشبي وأمامي طاولتي‪ ،‬أحرص دو ًما عىل حسن تنظيفها‬ ‫ّ‬ ‫الكريس‬
‫ّ‬
‫خشبي صغري‪ ،‬علب ال ّلصاق‬ ‫ّ‬ ‫وتنظيمها‪ ،‬علب التّلميع يف صندوق‬
‫الصغري‬
‫الراديو ّ‬‫وخيوط األحذية وقطع القامش يف صندوق آخر‪ .‬أ ّما ّ‬
‫أعرضه للغبار أو‬‫أحب أن ّ‬ ‫فخصصت له صندو ًقا يناسب حجمه‪ ،‬ال ّ‬ ‫ّ‬
‫ويزودين بأخبار العامل‪ ،‬ليس بإمكاين‬
‫الراديو‪ ،‬يالزمني دو ًما ّ‬ ‫للمطر‪ّ .‬‬
‫طب ًعا أن أقرأ اجلرائد‪ ،‬ذاك عبث وسوء تقدير‪ ،‬وضع ّيتي تفرتض‬
‫متواترا‬
‫ً‬ ‫كل حلظة لتل ّقي حذاء‪ ،‬أعرف ّ‬
‫أن األمر ال يكون‬ ‫االستعداد يف ّ‬
‫أتم االستعداد يف ّ‬
‫كل‬ ‫عيل أن أكون عىل ّ‬
‫كل األحوال‪ّ ،‬‬ ‫ومنتظماً ‪ ،‬ويف ّ‬
‫وتنشط يف‬‫ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬تدغدغني رائحتها‬ ‫حلظة‪ .‬قهوة الفيلرت تنعشني ً‬

‫‪121‬‬
‫كل اخلاليا‪ ،‬ماذا أفعل هلذه العادة التي مل أنقطع عنها منذ فرتة‬‫داخيل ّ‬
‫كل يوم‪ ،‬حي ّييني رجال‬‫الشباب؟ رحل الشباب ومل ترحل عاداته‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫أيضا بحركة ممتنّة من يدي‬‫األمن املرابطان أمام الكنيس‪ ،‬فأح ّييهام أنا ً‬
‫ثم أحدّ ق عال ًيا يف مبنى الكنيس وأصليّ يف خشوع‪ .‬مهنتي ال حترجني‬ ‫ّ‬
‫يتحرج ماسحو األحذية يف شارع باريس أو شارع احلبيب ثامر‪،‬‬ ‫كام ّ‬
‫هم أصدقائي‪ ،‬أعيب عليهم امتعاضهم من مهنتهم‪ ،‬وأحيانًا أو ّبخهم‬
‫بحب وإ ّما أن ترتكوا كراسيكم ملن‬ ‫ّ‬ ‫وأقول هلم‪« :‬إ ّما أن تشتغلوا‬
‫ينتظرها»‪ .‬وبمرور األ ّيام استطعت أن أكسب صداقات ثمينة مع‬
‫السهل عىل شيخ مثيل أن‬ ‫العابرين يوم ًّيا يف شارع احلر ّية‪ ،‬وليس من ّ‬
‫حيظى بثقة النّاس‪.‬‬
‫األول‪ ،‬أذكر ذلك ج ّيدً ا‪ ،‬منذ عرش سنوات‪ ،‬أو ّ‬
‫أقل‪ ،‬ال‬ ‫يف يومي ّ‬
‫مبتهجا‬
‫ً‬ ‫أدري‪ ،‬جئت إىل هذا املكان مع طاولتي وأدوات العمل‪ ،‬كنت‬
‫عيل أعوان‬
‫الصباح بعميل اجلديد‪ ،‬ويف رسعة الربق هجم ّ‬ ‫يف ذاك ّ‬
‫األمن‪ ،‬وال أدري من أين خرجوا‪ .‬مل يك ّلفوا أنفسهم استفساري أو‬
‫ثم اقتادوين إىل‬
‫هشموا طاولتي وبعثروا علب التّلميع ّ‬ ‫طلب وثائقي‪ّ ،‬‬
‫قبو مظلم يف وزارة الدّ اخل ّية‪.‬‬
‫خاطبني املح ّقق بعصب ّية‪:‬‬
‫‪ -‬اعرتف أيهّ ا احلقري‪ ،‬من جنّدك للجلوس أمام الكنيس؟ نحن‬
‫ال يمكن أن نصدّ ق أنّك ماسح أحذية‪ ..‬وأنت تعرف أنّه يمنع‬
‫االنتصاب يف ذلك املكان‪.‬‬
‫هل كانت مالحمي قميئة إىل درجة معاملتي باحتقار وقسوة؟‬

‫‪122‬‬
‫ألول‬
‫غصة عميقة‪ّ .‬‬ ‫وجهت إ ّيل وابتلعت ّ‬ ‫دهشت لسيل التّهم التي ّ‬
‫أحس بالعجز ومت ّلكني شعور باملهانة‪ .‬مل أنتظر َق ُّط أن أوصف‬‫مرة ّ‬ ‫ّ‬
‫يب‪ .‬حاولت يف تلك ال ّلحظات أن‬ ‫باملشبوه ا ّلذي خي ّطط لعمل إرها ّ‬
‫مت هلم بطاقة التّعريف‪ ،‬وكان من الغريب‬ ‫أحافظ عىل هدوئي وقدّ ُ‬
‫ألاّ يطلبوها منّي‪.‬‬
‫قرأ املح ّقق‪:‬‬
‫‪ -‬االسم‪ :‬أوري‪.‬‬
‫ال ّلقب‪ :‬ساسون‬
‫اجلنس ّية‪ :‬تونس ّية‬
‫اسم األ ّم‪ :‬إليورا‬
‫املهنة‪ :‬عامل يومي‪.‬‬
‫العنوان‪ 29 :‬هنج ّ‬
‫الذهب تونس‪.‬‬
‫أيضا وثيقة تكليف من اجلالية اليهود ّية بتونس حلراسة‬‫قدّ مت ً‬
‫الكنيس يف الفرتة الصباح ّية من ّ‬
‫كل يوم‪.‬‬
‫صاح املح ّقق بعد أن قرأ التّكليف‪:‬‬
‫حق‪ ،‬فأنت ال يمكن أن تكون بطبيعة احلال ماسح‬‫‪ -‬لقد كنّا عىل ّ‬
‫أحذية‪ ،‬هكذا لوجه اهلل‪ ..‬األمن ال يمزح يف هذه األمور يا‬
‫س ّيد أوري‪.‬‬
‫ّ‬
‫ترشف من فنجان القهوة وتابع‪:‬‬
‫أيضا خمطئ‪ ،‬كان عليك أن تتّصل بنا وتكشف لنا هو ّيتك‪.‬‬
‫‪ -‬أنت ً‬

‫‪123‬‬
‫عمو ًما نحن نأسف ألنّنا تعاملنا معك بمنتهى القسوة‪ ..‬وأنت‬
‫تفهم طب ًعا ظروف عملنا‪.‬‬
‫اسمي أوري‪ ،‬وأ ّمي إليورا هي آخر من نطق هبذا االسم‪ .‬كانت‬
‫تحُ رشج به وهي تتل ّقى آخر الركالت من ثالثة جنود أملان‪ .‬يف ذاك‬
‫الصباح احلاقد‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫هشموا باب بيتنا أطلقوا النّار عىل أيب‪ ،‬أطلقوا‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫رصخ ْت أ ّمي‬ ‫عليه رصاصتني يف مستوى القلب‪ ،‬فتهاوى مثل جبل‪.‬‬
‫يف وجوههم مفزوعة وقذفتهم بفرديت حذائها وهي تزجمر غاضبة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫برود نحو غرفة النّوم‪ ،‬وعنّفها بشدّ ة‬ ‫سح َلها ّ‬
‫بكل‬ ‫ولك ّن أحد اجلنود َ‬
‫ثم اغتصبها‪ .‬العامل يف تلك ال ّلحظات كان رصاخ أ ّمي واستغاثة أ ّمي‪،‬‬
‫ّ‬
‫اغتصبها ال ّثاين ّ‬
‫ثم سدّ د هلا رضبات عىل رأسها ببندق ّيته‪ ،‬رأيت أ ّمي‬
‫تفر من رعب غرفة النّوم‪ ،‬ومل أعرف ساعتها ماذا‬
‫بعد ذلك وهي ّ‬
‫فعلوا هبا‪ ،‬كانت تزحف غارق ًة يف دمها وتحُ رشج‪:‬‬
‫‪ -‬أوري‪ ..‬أوري‪.‬‬
‫كنت هشيام وأنا أرمقها تنزف من‬
‫وماذا سيفعل أوري؟ لقد ُ‬
‫قادرا عىل‬
‫فمها وأنفها‪ ،‬وأشالؤها متناثرة أمامي‪ .‬ال أحد منّا كان ً‬
‫ثم اغتصبوا أ ّمي وهنشوا حلمها بأرجلهم‬ ‫احلراك‪ ،‬قتلوا أيب أمامي ّ‬
‫وبنادقهم‪ ،‬وظ ّلوا يرمقونني بحقد‪ .‬لع ّلهم فكّروا يف قتيل‪ ،‬أنا ّ‬
‫الشاهد‬
‫ولعل رصاخ جرياننا هو ما دفعهم‬ ‫ّ‬ ‫الوحيد عىل جريمتهم البشعة‪،‬‬
‫إىل االنسحاب‪ .‬ال أدري‪ ،‬كيف يمكن أن أنسى؟ يف تلك ال ّلحظات‬
‫كنت غري قادر عىل احتضان أ ّمي وتقبيلها من جبينها وخدّ هيا‪ ،‬كنت‬
‫سقطت كام سق َط ْت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مها‪ ،‬مصعو ًقا‪ ،‬إىل أن‬
‫سا ً‬

‫‪124‬‬
‫عندما استفقت جالت عيناي يف غرفة غريبة عنّي‪ ،‬كانت أكثر‬
‫اتّسا ًعا من غرفتي‪ ،‬وسمعت لغ ًطا يف اخلارج‪ .‬األصوات متداخلة‪،‬‬
‫تأتيني من قريب ومن بعيد‪ ،‬قراءة قرآن‪ ،‬أصوات أطفال ونساء‪،‬‬
‫أن هناك أطفالاً يلعبون ونساء يتحدّ ثن‬
‫مخنت ّ‬
‫ضحكات ونداءات‪ّ ،‬‬
‫السمع ألم ّيز األصوات بعضها من بعض‪ ،‬مل‬
‫ويقهقهن‪ .‬أصخت ّ‬
‫أسمع صوت أ ّمي‪ ،‬وال صوت أيب‪ ..‬كنت كأنيّ يف حلم‪ ،‬بل كنت‬
‫عيني‬
‫أيضا أن أرى بشكل واضح‪ ،‬فركت ّ‬ ‫سجني كابوس‪ ،‬مل أستطع ً‬
‫وأنا أتط ّلع يف وجه طفلة صغرية تتس ّلل إىل الغرفة‪ ،‬شهقت ال ّطفلة ّ‬
‫ثم‬
‫جرت وهي ترصخ‪:‬‬
‫أخريا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد استفاق‪ ،‬لقد استفاق ً‬
‫فزعت وجوه كثرية إىل الغرفة‪ ،‬وجوه نساء وأطفال‪ ،‬مل يسبق يل أن‬
‫مطولاً‬
‫وجها منها‪ ،‬الت ّفوا حويل بكثري من اإلشفاق‪ ،‬نظروا إ ّيل ّ‬
‫رأيت ً‬
‫وباندهاش‪ .‬كنت يف تلك الوضع ّية صامتًا‪ ،‬ويف حالة توتّر‪ ،‬وال ّطفلة‬
‫تقف قبالتي دامع ًة‪ ،‬صامت ًة‪ ،‬وزائغة‬
‫زينب ‪-‬عرفت اسمها فيام بعد‪ُ -‬‬
‫العينني مثيل متا ًما‪ .‬كانت تقاربني يف الس ّن‪ ،‬عمرها سبع سنوات أو‬
‫ّ‬
‫أقل بسنة‪ .‬أ ّما الوجوه األخرى فلم أستطع أن أم ّيز مالحمها‪ ،‬كانت‬
‫تعودت‪.‬‬
‫عيني من اإلبصار مثلام ّ‬
‫نظرايت غائمة‪ ،‬وقد منعتني غشاوة يف ّ‬
‫الصويف ومل أرصخ‪،‬‬
‫كدت أرصخ‪ ،‬ضغطت بيدي عىل الغطاء ّ‬
‫رقيق جبيني‪،‬‬
‫كف ٌ‬
‫وحتول صمتي إىل نشيج‪ .‬ملس ٌّ‬‫متلملت يف فرايش‪ّ ،‬‬
‫بكف أ ّمي‪ ،‬لكنّه ليس ك ّفها‪ ،‬ورسعان ما صاحت املرأة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫كف شبيه‬
‫ّ‬
‫‪ -‬حرارته مرتفعة جدًّ ا‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫قالت امرأة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬احلمد هلل أنّه استفاق بعد ثالثة أ ّيام من تلك النّكبة‪.‬‬
‫ع ّقبت أخرى بصوت منخفض‪ ،‬ر ّبام اعتقدت أنيّ لن أسمعها‪:‬‬
‫ثم شنّعوا بأ ّمه‪ ..‬إنهّ م وحوش‪.‬‬
‫‪ -‬املسكني‪ ،‬قتلوا أباه أمامه‪ّ ..‬‬
‫قالت املرأة التي وضعت ك ّفها عىل جبيني‪:‬‬
‫‪ -‬املالعني‪ ،‬أحرقوا املنازل واملحلاّ ت واغتصبوا النّساء‪ .‬ماذا‬
‫يريد األملان من جرياننا اليهود‪ ،‬يا ربيّ ‪ ،‬إنهّ م ط ّيبون‪ ،‬ملاذا ّ‬
‫كل‬
‫هذه العجرفة احلاقدة؟‬
‫دخل رجالن إىل الغرفة وظلاّ يتط ّلعان إ ّيل‪ ،‬انسحبت النّساء‬
‫تفحصني‬‫برسعة الربق‪ ،‬زينب ظ ّلت ثابتة أمامي‪ ،‬ال تكرتث ألحد‪ّ .‬‬
‫ثم كشف عن صدري‪ ،‬بعد‬ ‫حتسس جبيني وعنقي ّ‬ ‫الرجلني‪ّ ،‬‬
‫أحد ّ‬
‫مر‪ .‬طلب‬ ‫الصغرية وناولني جرعة من مرشوب ّ‬ ‫ذلك فتح حقيبته ّ‬
‫منّي أن أفتح فمي وأخرج لساين‪ ،‬حدّ ق يف فمي بانتباه وطلب أن‬
‫عيل مبتسماً لكي أتن ّفس بعمق‪.‬‬
‫ألح ّ‬ ‫أتن ّفس‪ّ ،‬‬
‫ثم ّ‬
‫موج ًها الكالم إىل‬
‫الرجل الذي فحصني‪ّ ،‬‬‫قبل أن خيرج قال ّ‬
‫الشيخ بلحسن‪ ،‬وهو حياول قدر اإلمكان أن خيفض‬ ‫الرجل ال ّثاين‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫صوته لِ َك ْي َ‬
‫ال أسمعه‪ ،‬لكنّي سمعت ما قاله‪:‬‬
‫الصدمة عنيفة‪ ..‬وجيب ّأولاً‬ ‫‪ -‬أعتقد ّ‬
‫أن فرتة عالجه ستطول‪ّ ،‬‬
‫أن يعود إىل رشده‪ .‬ع ّظم اهلل أجرك يا يس بلحسن‪ ،‬هذا ال ّطفل‬
‫حيتاج إىل عناية كبرية لكي يشفى‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫ر ّبام اعتقدوا يف تلك األ ّيام أنيّ فقدت عقيل‪ ،‬وأنا كنت أعتقد‬
‫ذلك فعلاً ‪ ،‬تشعرين اهلمسات التي ترسي يف الغرفة بالكثري من‬
‫بكل ما متلك من إحساس‪ .‬مل‬ ‫املرارة‪ ،‬ولك ّن زينب كانت تواسيني ّ‬
‫تكن نظراهتا مشفقة‪ ،‬بل نظرات أخرى‪ ،‬مل أستطع تفسريها‪ .‬كنت‬
‫أحب أن تبقى بجواري‪ ،‬ومل أعد أرى غريها‪ ،‬كأنّنا وحيدان يف البيت‪.‬‬‫ّ‬
‫حايف القدمني‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هيشموا باب بيتنا كنت يف حضن أ ّمي‬ ‫قبل أن ّ‬
‫وكانت تبكي‪ ،‬ال أدري ملاذا؟ وبني الفينة واألخرى متسح دموعها‬
‫أيضا‪ ،‬ال يضحك‬ ‫وحتاول أن تضحك يف وجهي‪ .‬وكان أيب قل ًقا هو ً‬
‫ظل جييس يتف ّقد الباب بعد أن أحكم إغالقه‬ ‫مثل عادته الصباح ّية‪ّ .‬‬
‫مرة‪.‬‬
‫كل ما سمعته من أيب‪ ،‬آخر ّ‬ ‫ويسأل أ ّمي هل أغلقت النّوافذ‪ ،‬هذا ّ‬
‫صباحا‪ ،‬لكنّه يف ذلك اليوم مل خيرج‪،‬‬
‫ً‬ ‫جييس يف العادة‪ ،‬خيرج للعمل‬
‫ظل ّ‬
‫يدخن بقلق ونظراته ال تراين‪ .‬مل أفهم يف ذاك‬ ‫ومل جيلس معنا‪ ،‬بل ّ‬
‫وكل ما أتذكّره أنيّ مل أسمع أصوات‬ ‫الصباح ما كان جيري يف اخلارج‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫السوق‪ ،‬ومل تسمح يل أ ّمي‬ ‫الباعة وال صوت املنادي وهو يتعاىل يف ّ‬
‫تضمني مرتعشة‪« :‬ستخرج‪ ،‬ستخرج غدا‬ ‫باخلروج‪ ،‬قالت يل وهي ّ‬
‫يا أوري وستلعب مع إليف وشريا»‪ .‬ومل أكن أفهم شي ًئا‪ ،‬فاقتنعت‬
‫ثمة‬
‫أن شيئا ما سيحدث‪ّ .‬‬ ‫بحركة من رأيس‪ ،‬وأحسست بالفعل ّ‬
‫ضجيجا حا ًّدا يف‬
‫ً‬ ‫طبيعي يف ح ّينا‪ ،‬وبعد دقائق سمعت‬‫ّ‬ ‫صمت غري‬
‫ٌ‬
‫الصخب يكرب ويكرب ويتناهى إ ّيل صدى‬ ‫احلي‪ ،‬وكان ّ‬ ‫كامل أرجاء ّ‬
‫رصخات واستغاثات‪.‬‬
‫كل ما جرى يف ذلك اليوم احلزين‪ ،‬بعد أن‬ ‫كربت عرفت ّ‬ ‫ُ‬ ‫عندما‬
‫قتلوا أيب وأ ّمي أشعلوا النّار يف بيتنا‪ ،‬وأنقذين اجلريان من ألسنة ال ّلهب‬

‫‪127‬‬
‫بمعجزة‪ ،‬أخرجوين بمش ّقة‪ ،‬لع ّلهم يئسوا من نجايت‪ ،‬واعتقدوا أنيّ‬
‫بلحاف أبيض وتركوين حتت أحد اجلدران وانشغلوا‬ ‫ٍ‬ ‫مت‪ .‬غ ّطوين‬
‫ّ‬
‫احلي‪ .‬وعندما استفقت ‪-‬وكم‬ ‫بإطفاء احلرائق يف بيتنا ويف بيوت ّ‬
‫الشيخ بلحسن إىل منزله يف هنج‬ ‫هربني ّ‬ ‫أحببت أن أموت يومها‪ّ -‬‬
‫حي احلارة خمافة أن يعود األملان لقتيل‪ ،‬إذ‬
‫الباشا‪ ،‬مل يشأ أن يرتكني يف ّ‬
‫مت‪ ،‬وشاء قدري أن أنجو من املحرقة‪.‬‬ ‫اعتقدوا أنيّ ُّ‬
‫حي احلارة أ ّيا ًما عصيبة ملدّ ة ستّة أشهر‪ ،‬كانت احلرب‬ ‫عاش ّ‬
‫دمو ّية بني احللفاء واألملان‪ ،‬بل كانت حرب شوارع يوم ّية‪ .‬املؤمل ّ‬
‫أن‬
‫األملان كانوا ينكّلون باليهود‪ ،‬مل يأتوا إىل تونس لقتال قوات التّحالف‬
‫حي احلارة‪ ،‬ويف كامل‬ ‫هيودي يف ّ‬‫ّ‬ ‫كل‬‫فحسب‪ ،‬بل جاؤوا الضطهاد ّ‬
‫جهات البالد كام سمعنا‪ .‬الشرّ طة الرس ّية األملان ّية عاثت فسا ًدا يف‬
‫احلي‪ ،‬مطاردات وقتل واغتصاب واختطاف رهائن ومصادرات‬ ‫ّ‬
‫خاصا‬
‫معسكرا ًّ‬
‫ً‬ ‫وتعذيب وترحيل نحو املعسكرات‪ .‬أنشؤوا عرشين‬
‫بالشباب اليهود‪ .‬كان األملان قلقني من احلرب ويائسني‪ ،‬فلم جيدوا‬ ‫ّ‬
‫ثم يقتلوهنم وقد حيرقوهنم‬ ‫يروعوهنم ّ‬ ‫متع ًة غري االنتقام من اليهود‪ّ ،‬‬
‫أحياء‪ .‬ولو مل هيزم احللفاء األملان يف شهر ماي سنة ‪ 1943‬ألمكن‬
‫كل اليهود بال استثناء‪.‬‬ ‫كل هيود تونس‪ّ ،‬‬‫للجنود األملان تصفية ّ‬
‫الرجل الكريم‬ ‫عشت مخس سنوات يف منزل يس بلحسن‪ّ ،‬‬
‫منكمشا‪ ،‬خائ ًفا من‬
‫ً‬ ‫عيل‪ .‬يف أ ّيامي األوىل كنت‬
‫الذي آواين وعطف ّ‬
‫أفضل البقاء وحيدً ا يف‬
‫الصغرية وكنت ّ‬ ‫كل يشء‪ .‬ال أغادر غرفتي ّ‬ ‫ّ‬
‫أن يس بلحسن دخل إىل‬ ‫الشفاء‪ّ ،‬‬
‫ال ّظالم‪ .‬أذكر‪ ،‬وقد قاربت عىل ّ‬
‫ثم قال يل‪:‬‬
‫كيسا من احللوى ّ‬
‫غرفتي مبتسماً ‪ ،‬وضع بجانبي ً‬

‫‪128‬‬
‫‪ -‬منذ اليوم سيكون اسمك جوهر‪ ،‬هذا أحسن يا ابني‪.‬‬
‫احلقيقي يف منزل يس بلحسن‪ ،‬وأوري‬ ‫ّ‬ ‫ال أحد عرف اسمي‬
‫أصبح من ذكريايت القديمة‪ .‬زينب هي ّأول من نطقت باسمي‬
‫اجلديد‪ ،‬جوهر‪ .‬كانت تدعوين إىل اخلروج إىل صحن الدار‪ ،‬ويف‬
‫عيل كي أرافقها القتناء بعض احلاجيات‪ .‬كنت‬ ‫تلح ّ‬‫مرات كثرية ّ‬ ‫ّ‬
‫أحب أ ّيامها أن‬ ‫ٍ‬
‫أخفض رأيس وأمتنع يف حالة من االرتباك‪ ،‬مل‬
‫ّ‬
‫أحب اخلروج من املنزل‪،‬‬ ‫كنت ح ًّقا يف حالة ذعر وال ّ‬‫أغضبها‪ ،‬لكنّي ُ‬
‫الشيخ بلحسن‬ ‫عيل ابن ّ‬ ‫كنت خائ ًفا بالفعل ّ‬
‫كأن األملان يرت ّبصون يب‪ّ .‬‬
‫كان أصغر من زينب‪ ،‬الحظت منذ األ ّيام األوىل أنّه ال يستسيغ‬
‫وجودي يف منزهلم‪ ،‬بل هو ال حيتمل النّظر يف وجهي‪ .‬للاّ منرية‬
‫زوجة يس بلحسن يداها رقيقتان مثل يدي أ ّمي‪ ،‬مل أشعر يو ًما أنهّ ا‬
‫متضايقة من وجودي‪ ،‬جتتهد ما أمكن لتسعدين‪ ،‬متا ًما كام تُسعد ابنها‪.‬‬
‫عيل‪ -‬وقد أحسست بذلك‪ -‬يف غاية الغضب واالنفعال‪ ،‬بل‬ ‫وكان ّ‬
‫كان يرصخ يف وجه للاّ منرية عندما تقتني يل ثيا ًبا جديدة من سوق‬
‫الزيتونة حلفظ‬ ‫كل ذلك مل يمنع مرافقتي له إىل « ُكتّاب» جامع ّ‬ ‫القرانة‪ّ .‬‬
‫حريصا عىل أن‬ ‫ً‬ ‫الشيخ بلحسن كان‬ ‫القرآن وتع ّلم القراءة والكتابة‪ّ .‬‬
‫ثم نسري‬ ‫كل صباح يشرتي لنا فطريتينْ ساخنتني ّ‬ ‫نتع ّلم هناك‪ ،‬ففي ّ‬
‫الزيتونة‪ .‬انتبه املؤ ّدب أ ّيامها إىل أنيّ رسيع احلفظ‬
‫باتاه جامع ّ‬ ‫خلفه جّ‬
‫أيضا ما ُيلقى أمامنا من دروس‪،‬‬ ‫ملا يتلوه علينا من آيات‪ ،‬كنت أفهم ً‬
‫مرة‬
‫يتعجب منها شيخنا‪ ،‬أذكر أنيّ سألته ذات ّ‬ ‫بل كنت أطرح أسئلة ّ‬
‫الشيخ؟»‪ ،‬فكشرّ يف وجهي ورصخ‪:‬‬ ‫عن اهلل‪« :‬أين يوجد اهلل‪ ،‬سيدنا ّ‬
‫«ال تسأل مثل هذه األسئلة‪ ،‬هل أنت جمنون؟» وقد يكون نقل ذلك‬

‫‪129‬‬
‫إىل يس بلحسن‪ ،‬ويس بلحسن مل ُي ِعر تلك ّ‬
‫الشكوى اهتام ًما‪ ،‬أمهلها‬
‫هيودي فإنّه سيطردين‬
‫ّ‬ ‫لعلمه بحقيقتي‪ .‬حدست ّ‬
‫أن املؤ ّدب لو علم أنيّ‬
‫رش طردة من «ال ُكتّاب»‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ وال حيفظ ما‬ ‫عيل كان خمتل ًفا متا ًما عنّي‪ ،‬ال ينتبه إىل ّ‬
‫ّ‬
‫يسمعه‪ ،‬وكثريا ما يغضب منه مؤ ّدبنا فريفع ساقيه عال ًيا ويرضهبام‬
‫بعصا غليظة‪ .‬فزاد «ال ُكتّاب» يف سوء معاملة ّ‬
‫عيل يل‪ ،‬كان حيتقرين‬ ‫ً‬
‫ويتحينّ فرص الوشايات الكاذبة‪ .‬وذات مساء‪ ،‬أذكر ذلك ج ّيدً ا‪،‬‬
‫كنّا نلعب بالكرة يف الن ّْهج‪ ،‬وكم كنّا نراه ملع ًبا واس ًعا رغم ضيقه‬
‫متر امرأة نوقف ال ّلعب‪ ،‬كنّا نعرف ّ‬
‫أن النّساء اللاّ يت‬ ‫اليوم‪ .‬وعندما ّ‬
‫السفساري يسك ّن هنج الباشا أو األهنج القريبة‪ ،‬أ ّما النّساء‬‫يرتدين ّ‬
‫لباسا أروب ّيا ‪-‬هكذا تقول للاّ منرية‪ُ -‬‬
‫فه ّن‬ ‫أو الفتيات اللاّ يت يرتدين ً‬
‫من األغراب‪ .‬كنّا نبحلق يف وجوهه ّن طويلاً باندهاش وبمالمح‬
‫عيل‬
‫أي سبب ودون أن أيسء معاملته‪ ،‬رصخ ّ‬
‫طفول ّية‪ .‬وفجأةً‪ ،‬ودون ّ‬
‫يف وجهي‪:‬‬
‫‪ -‬يا هيودي‪.‬‬
‫باتاهي‪ :‬يا هيودي‪ ..‬يا هيودي‪.‬‬ ‫وظل األطفال إثر ذاك هيتفون جّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫متخش ًبا والدّ موع ترتقرق يف‬ ‫أحسست باختناق وكدت أهنار‪ ،‬وقفت‬
‫ّرت أ ّمي يف تلك ال ّلحظات العاصفة‪ .‬كانت أمجل نساء‬ ‫عيني‪ .‬تذك ُ‬
‫ّ‬
‫حي احلارة‪ ،‬وكانت امرأ ًة صلبة‪ ،‬شاخمة كام يقول أيب‪ .‬ال أدري كيف‬
‫ّ‬
‫اتخّ ذت ذلك القرار املجنون‪ ،‬جريت يف النّهج ّ‬
‫بكل طاقتي‪ ،‬كنت‬
‫أركض وال أرى أحدً ا‪ .‬التح َق ْت يب زينب يف رأس هنج الباشا‪ ،‬كانت‬

‫‪130‬‬
‫متوسلة أن أعود‪ ،‬مل تتك ّلم‪ ،‬مل‬
‫مثيل الهثة ودامعة‪ ،‬تط ّلعت إىل وجهي ّ‬
‫أيضا‪ ،‬عيناها قالتا يل ّ‬
‫كل يشء‪ .‬أبقيت يدي يف يدها طويلاً‬ ‫أتك ّلم أنا ً‬
‫ٍ‬
‫ساحر يف ك ّفي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بخدر‬ ‫حتّى رصنا وحيدين يف هذا العامل‪ ،‬وأحسست‬
‫هربت من زينب ومن هنج‬
‫ُ‬ ‫فعلت ذلك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ويف األخري‪ ،‬ال أدري كيف‬
‫األول‪.‬‬
‫احلب ّ‬
‫محى ّ‬
‫وعرفت يومها ّ‬
‫ُ‬ ‫الباشا‬
‫إثر هرويب من هنج الباشا يف أ ّيام النّار تلك مل أعرف إىل أين جّأته‪،‬‬
‫عمي أدريان‪ .‬شعرت‬‫منهارا‪ ،‬وفكّرت يف أن أبحث عن بيت ّ‬ ‫ً‬ ‫كنت‬
‫الصور ُموحش ًة‬ ‫بانقباض وأنا أتذكّر بيتنا وأتذكّر ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬الحقتني ّ‬
‫وبت ليلتها جائ ًعا ومرتعشا يف إحدى زوايا سوق القرانة‪.‬‬
‫وممزقة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫وكنت‬
‫ُ‬ ‫صو َب وعاء القاممة‪،‬‬ ‫ثم ّ‬
‫تنط ْ‬ ‫كانت القطط تقفز بجواري ّ‬
‫الصباح‪.‬‬
‫أهذي وأنتظر جميء ّ‬
‫عمي أدريان‬
‫اكتشفت أنهّ م قتلوا ّ‬
‫ُ‬ ‫بعد عثوري عىل ح ّينا القديم‪،‬‬
‫بد ٍم بارد كام قتلوا الكثري من جرياننا‪ ،‬ولكنّهم مل يحُ رقوا بيت ّ‬
‫عمي‬
‫أيضا إىل ّ‬
‫أن بيتنا الذي احرتق اختفى متا ًما‪ ،‬وبني‬ ‫وانتبهت ً‬
‫ُ‬ ‫مثل بيتنا‪،‬‬
‫عىل أنقاضه مستودع وضعت فيه األقمشة‪ .‬أحد التّجار يف سوق‬
‫القرانة استوىل عىل بيتنا مثلام استوىل ّجتار آخرون عىل بيوت من قتلوا‬
‫عمي‪.‬‬
‫أو من رحلوا‪ ،‬هكذا قال يل إليف ابن ّ‬
‫واحلق‬
‫ّ‬ ‫حي احلارة‪،‬‬
‫كنت يف س ّن الثالثة عرشة عندما عدت إىل ّ‬
‫حيا يف غرفة‬ ‫وخصصت يل ً‬
‫فراشا مر ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن األ ّم أمايا استقبلتني ببهجة‬
‫احلي‪ُ ،‬ير ّبت عىل كتفي‬
‫أيضا كان سعيدً ا بعوديت إىل ّ‬
‫منفردة‪ .‬إليف ً‬
‫غبت عنّا طويلاً ‪،‬‬
‫السؤال نفسه‪« :‬أين كنت يا أوري؟ لقد َ‬
‫ويعيد ّ‬

‫‪131‬‬
‫تتفرسني بدهشة وهي‬ ‫أيضا راحت ّ‬ ‫ويئسنا من العثور عليك»‪ .‬شريا ً‬
‫تراين‪ ،‬ر ّبام كنت يف عداد األموات‪ ،‬وكان من الغريب بالنّسبة إليها‬
‫أن أعود بعد مخس سنوات‪ .‬بعد ثالثة أ ّيام من عوديت‪ -‬أذكر ذلك‬
‫صغريا‪ .‬كانت‬
‫ً‬ ‫ج ّيدً ا‪ -‬دخلت األ ّم أمايا إىل غرفتي وس ّلمتني صندو ًقا‬
‫شممت فيه‬
‫ُ‬ ‫الصندوق الذي‬ ‫حتاول إخفاء دموعها وهي تس ّلمني ّ‬
‫وأول ما وجدت صورة أ ّمي‪ ،‬ق ّبلتها وأنا‬ ‫رائحة أ ّمي‪ ،‬فتحتُه بلهفة ّ‬
‫أبكي بحرقة‪ ،‬أبكي وأنتفض‪ .‬مل أعثر عىل صورة أيب‪ ،‬عثرت عىل‬
‫الصغري هو كنزي‬ ‫الصندوق ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫ختصني‪ ،‬وعرفت يف ذاك اليوم ّ‬ ‫وثائق ّ‬
‫الذي سينري أ ّيامي القادمة‪.‬‬
‫كانت تلك الفرتة حاسم ًة يف حيايت‪ ،‬كنت يف حالة قلق وحرية‪،‬‬
‫كل يوم أطالب نفيس بأن أحسم أمر هو ّيتي‪ ،‬مل يكن بإمكاين أن‬ ‫ويف ّ‬
‫ثم لييس كارنو كام هو ّ‬
‫الشأن بالنّسبة‬ ‫أدرس يف املدرسة اإلرسائل ّية ّ‬
‫حب التع ّلم‪.‬‬
‫أعول عىل إراديت يف ّ‬‫عيل أن ّ‬
‫إىل إليف وشريا‪ .‬بل كان ّ‬
‫مفتوحا أمامي غري جامع الزيتونة‪ ،‬فكنت أتر ّدد عليه‬ ‫ً‬ ‫ومل أجد با ًبا‬
‫حلفظ املتون وتع ّلم قواعد اللغة‪ .‬وعندما اشتدّ عودي وزاد هنمي‬
‫لإلحاطة هبا‪ ،‬حرصت عىل قراءة القرآن واألحاديث النبو ّية مثل‬
‫ّ‬
‫وكأن‬ ‫والتعمق يف أسفار موسى اخلمسة‬
‫ّ‬ ‫حريص عىل قراءة التّوراة‬
‫مزدوجا‪ .‬ال‬
‫ً‬ ‫قدري أن أعيش هو ّية مزدوجة وذاكرة مزدوجة واسماً‬
‫وجلت فيه الكنيس‪ ،‬كنيس أور تورا باحلفص ّية‪ ،‬رفقة‬ ‫ُ‬ ‫أنسى ّأول يوم‬
‫الزيتونة‪ ،‬بالفعل‪،‬‬ ‫أحس به وأنا أدخل جامع ّ‬ ‫ّ‬ ‫إليف‪ .‬أحسست بام‬
‫والراحة‪ ،‬وبعد ذلك عرفت الكنيس‬ ‫إحساسا مفعماً بال ّطمأنينة ّ‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫اليهودي بشارع احلر ّية‪ .‬يف تلك الفرتة خامرتني أسئلة كثرية متع ّلقة‬‫ّ‬

‫‪132‬‬
‫باالختالف بني اإلسالم واليهود ّية‪ .‬كنت هنام يف القراءة والبحث‬
‫واقتنعت ّ‬
‫بأن النّقاط التي جتمع اليهود باملسلمني أكثر من النّقاط التي‬
‫تفرقهم‪.‬‬
‫تفرقهم‪ ،‬أو يمكن أن ّ‬
‫ّ‬
‫أن هو ّيتي تونس ّية‪،‬‬‫الرحلة احلائرة ّ‬
‫ما ثبت عندي يف تلك ّ‬
‫واستطعت أن أحسم األمر وأحافظ عىل ديانتي اليهود ّية التي ولدت‬
‫عليها‪ ،‬وهي ديانة أ ّمي وأيب وال يمكن أن أعتنق غريها‪ .‬ما وجدته‬
‫الصحيحة‪ ،‬الوجهة التي حتافظ عىل‬ ‫وجهني الوجهة ّ‬ ‫الصندوق ّ‬ ‫يف ّ‬
‫واحلق أنيّ مل أشأ أن أجاهر بذلك‪ ،‬مل أكن خائ ًفا وال‬
‫ّ‬ ‫وفائي أليب وأ ّمي‪.‬‬
‫مرت ّد ًدا مطل ًقا‪ ،‬كنت أفعل ذلك ألحرتم جرياننا املسلمني‪.‬‬
‫زينب مل تنسني‪ ،‬ومل تيأس من عوديت‪ ،‬ويبدو أنهّ ا أرسلت‬
‫خادمتهم املالط ّية أغاثا للبحث عنّي‪ ،‬فليس من الصدفة أن تقف‬
‫أغاثا أمامي ذات صباح وتس ّلمني رسالة قصرية من زينب‪ .‬رأيت‬
‫مرة واحدة يف منزل يس بلحسن‪ ،‬ومل أنس مالحمها‪ ،‬مل تنظر يف‬ ‫أغاثا ّ‬
‫السوق‪.‬‬
‫ثم أدارت يل ظهرها وغابت يف ّ‬ ‫الرسالة ّ‬ ‫وجهي‪ ،‬س ّلمتني ّ‬
‫ركضت يف تلك األثناء وتس ّللت إىل غرفتي ألقرأ كلامت زينب األوىل‪:‬‬
‫«ر ّبام تقول إنيّ جريئة‪ ،‬أو ر ّبام تندهش من رسالتي يا جوهر‪،‬‬
‫لكن‪ ،‬قل يل‪ ،‬ملاذا ال تفكّر يف العودة إىل منزلنا؟ إنّه منزلك وأنت‬
‫عيل‪ ،‬وقد عوقب كأشدّ ما يكون‬ ‫تعرف‪ .‬ما حدث كان محاقة من ّ‬
‫أيضا حزينة‪ ..‬حزينة ألنّك لست‬ ‫العقاب من قبل والدي‪ ،‬أ ّمي ً‬
‫أيضا لتفهم؟‪.»...‬‬
‫معنا‪ ..‬وماذا أقول لك ً‬
‫تعر َق ْت يدي وأنا أمسك هبا‪،‬‬
‫رجتني‪ّ ،‬‬
‫الرسالة ّ‬ ‫أعرتف ّ‬
‫بأن تلك ّ‬
‫كان هناك صوت يف باطني يدفعني إىل العودة‪ ،‬لكنّه صوت خاضع‬

‫‪133‬‬
‫ومرت ّدد‪ ،‬صندوق أ ّمي كان يمنعني‪ ،‬وال أعرف بالتّحديد كيف كان‬
‫كل‬‫ثم ّ‬‫كل شهر ّ‬ ‫يمنعني وملاذا؟ وظ ّلت أغاثا تأتيني برسائل زينب‪ّ ،‬‬
‫ثم تو ّقفت رسائل زينب‪ .‬كانت تكتب يل بأمل وحرية‬ ‫ثالثة أشهر‪ّ ،‬‬
‫األول‪،‬‬
‫احلب ّ‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪ .‬وكان قلبها مثل قلبي‪ ،‬يتق ّلب يف عاصفة‬
‫وغربة ً‬
‫عاصفة ال هتدأ وال ّ‬
‫تكل‪ ،‬كنّا ننبض عش ًقا‪ ،‬لكن‪ ،‬يف هناية املطاف كنّا‬
‫احلب سأكون‬ ‫حب ممنوع‪ .‬فكّرت يف األمر‪ ،‬أيقنت أنيّ هبذا ّ‬
‫نعرف أنّه ّ‬
‫باحلب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سب ًبا يف دموع إضاف ّية لزينب‪ ،‬وال أحد سيسمح لنا الح ًقا‬
‫أن األمر محاقة كربى‪ ،‬لذلك بقيت صامتًا‪،‬‬ ‫بالزواج‪ .‬أدركت ّ‬ ‫وال ّ‬
‫مهزو ًما‪ ،‬وبسبب ذلك ك ّله خذلت زينب‪ .‬وعندما تو ّقفت رسائلها‬
‫إحساسا مؤملا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تزوجت‪ ،‬هكذا كان إحسايس‪ ،‬وكان‬ ‫أيقنت أنهّ ا ّ‬
‫تواردت األ ّيام حتّى ح ّلت سنة ‪ ،1967‬ويف تلك السنة السوداء‬
‫مروعة‪ ،‬فاقتحم ذاكريت جمدّ ًدا مشهدُ قتل أيب‬ ‫عاش ح ّينا أحدا ًثا ّ‬
‫سيحل بنا‪ .‬يف ما مىض‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عيني‪ ،‬وانتظرت رع ًبا جمهولاً‬
‫ّ‬ ‫وأ ّمي أمام‬
‫كرهت النّاز ّية‪ ،‬ليس ألنهّ ا قتلت أ ّمي وأيب وأحرقت بيتنا فحسب‪،‬‬
‫سممت العامل‪ .‬غزت أملانيا ّأوالً ّ‬
‫ثم‬ ‫بل ألنهّ ا‪ -‬وهذا جرمها األكرب‪ّ -‬‬
‫العنرصي‬
‫ّ‬ ‫مدّ ت أيادهيا القذرة إىل العامل‪ .‬وبعد ذلك كرهت احلقد‬
‫وتلك الدّ سائس التي كانت حتاك ضدّ نا لطردنا من ح ّينا‪ .‬األمر ال‬
‫يتع ّلق باإلسالم واملسلمني‪ ،‬فقد كان جرياننا ط ّيبني معنا‪ ،‬بل يتع ّلق‬
‫كل ٍ‬
‫مرة هيامجنا مل ّثمون جمهولون ّ‬
‫ويروعوننا‬ ‫بعصابات من ّظمة‪ ،‬ففي ّ ّ‬
‫ويدفعون أغلبنا للهروب‪ .‬ال أنسى ما حدث لشريا يف ليلتها القاسية‪،‬‬
‫الرجل املل ّثم الذي حاول‬ ‫فقد نجت بأعجوبة من قبضة ذاك ّ‬
‫دوت رصخة شريا‪ ،‬مل‬ ‫اغتصاهبا‪ .‬كنّا يف البيت‪ ،‬أنا وإليف‪ ،‬عندما ّ‬

‫‪134‬‬
‫نفهم ما حدث‪ ،‬حبسنا أنفاسنا وجرينا إىل غرفتها كام جرى آخرون‬
‫الرجل الذي كان حيمل ندب ًة يف أعىل وجهه‪،‬‬‫وأنقذناها من قبضة ذاك ّ‬
‫كانت مالحمه ف ّظة وخميفة‪ ،‬ويف األخري هرب كفأر ملدوغ‪ .‬وظ ّلت‬
‫بقلب واجف‪ ،‬ليلتها عرفنا ّ‬
‫أن حياتنا ‪-‬هكذا‬ ‫ٍ‬ ‫شريا طوال ال ّليل تبكي‬
‫كُتب لنا‪ -‬أصبحت جحيماً ال ُيطاق‪.‬‬
‫ال يمكن أن أنسى صور ذاك اليوم احلزين‪ ،‬يوم رحلت الكثري‬
‫من عائالت ح ّينا إىل مارسيليا وباريس‪ ،‬ال أحد منهم كان يعرف‬
‫السفر معهم‬ ‫الرحيل‪ .‬األ ّم أمايا طلبت منّي ّ‬ ‫خيوا ّ‬ ‫الوجهة لكنّهم رّ‬
‫غري أنيّ امتنعت‪ ،‬دمعت عيناي وقلت هلا‪« :‬آسف يا أمايا‪ ،‬آسف ح ًّقا‪،‬‬
‫أحب االبتعاد عن رائحة أ ّمي وأيب‪ ،‬ال أستطيع فعل ذلك‪ ،‬أنا ال‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫مرة وق ّبلتها من‬ ‫ألول ّ‬
‫عيني يف وجهها ّ‬
‫أحتمل يا أمايا»‪ .‬يومها‪ ،‬رفعت ّ‬
‫بالسفر معهام‪،‬‬ ‫أيضا يئسا من إقناعي ّ‬ ‫جبينها وأنا أنشج‪ .‬إليف وشريا ً‬
‫متوج ًسا ممّا هو‬
‫ّ‬ ‫وال أدري ملاذا كنت متش ّبثا بالبقاء‪ ،‬كنت‪ ،‬يف احلقيقة‪،‬‬
‫عمي أدريان‪.‬‬ ‫أسوأ يف أ ّيامي القادمة‪ ،‬ولكنّي بقيت وحيدً ا يف بيت ّ‬
‫وككل يوم أقود عربتي نحو اجلهة اخللف ّية للكنيس‬ ‫ّ‬ ‫يف ال ّظهر‬
‫ٍ‬
‫ثم أميض إىل باب سويقة‪ ،‬وقبل‬ ‫و ُأودعها يف حجرة صغرية ّ‬
‫بالسقيفة‪ّ .‬‬
‫الذهب‪ ،‬ال بدّ أن أطرق باب جاريت خافا‬ ‫أن أصل إىل ش ّقتي يف هنج ّ‬
‫يسموهنا‬
‫احلقيقي غريي‪ ،‬اجلريان ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألسأل عنها‪ ،‬ال أحد يعرف اسمها‬
‫دليلة‪ ،‬وأحيانا ال تنتبه حينام ينادوهنا هبذا االسم‪ .‬خافا هربت من‬
‫حي احلارة‪ .‬عائلة‬
‫واستقروا يف ّ‬
‫ّ‬ ‫القريوان سنة ‪ 1967‬رفقة عائلتها‪،‬‬
‫ثم طردوهم كام فعلوا‬‫تاهريت‪ ،‬املشهورة بالتّجارة‪ ،‬صادروا أمواهلم ّ‬
‫تتزوج مثيل‪ ،‬وتلك‬ ‫ِ‬
‫مع املئات من العائالت‪ .‬خافا وحيد ُة عائلتها ومل ّ‬

‫‪135‬‬
‫قصة أخرى‪ .‬تفتح خافا باب ش ّقتها مبتسمة‪ ،‬ما تزال هذه املرأة مجيل ًة‬‫ّ‬
‫السنوات‪ .‬تطلب‬ ‫حمافظ ًة عىل نعومة برشهتا البيضاء رغم حمنها وثقل ّ‬
‫هيمني هو أن‬ ‫منّي أن أشاركها الغداء ويف العادة أعتذر‪ ،‬فام كان ّ‬
‫ثم أغلق باب ش ّقتي ألتناول غدائي الذي أقتنيه‬ ‫صحتها ّ‬
‫أطمئ ّن عىل ّ‬
‫أحب بعد ال ّظهر‪ ،‬أن أنفرد‬
‫من باب سويقة وأمتدّ د عىل رسيري‪ .‬هكذا ّ‬
‫تتجمد‬
‫ّ‬ ‫الروئح ال ترحل أبدً ا‪ ،‬وال‬
‫ألشتم روائح املايض‪ ،‬تلك ّ‬
‫ّ‬ ‫بنفيس‬
‫يف ذاكريت‪ ،‬تشحنني بانفعاالت متداخلة‪ ،‬إنّه احلزن واحلنني‪ ،‬ح ًّقا لقد‬
‫احلب ولن يعود‪.‬‬
‫مىض زمن ّ‬
‫يف املساء ال أغادر ش ّقتي إلاّ عندما خياطبني صديقي إيف ألداة‬
‫الصالة يف الكنيس‪ ،‬ما عدا ذلك‪ ،‬أفتح الشرّ فة وأجلس ساع ًة أو أكثر‬ ‫ّ‬
‫لتأ ّمل املباين املمتدّ ة‪ ،‬املباين العتيقة املتصدّ عة‪ ،‬حتارصها أخرى حديثة‬
‫الصوامع وقباب سيدي‬ ‫بال ذوق يف الغالب‪ ،‬ويف اجلهة األخرى تعلو ّ‬
‫احلي تكون عىل أشدّ ها‪ ،‬تُفتح النّوافذ والشرّ فات‪،‬‬ ‫حمرز‪ .‬احلركة يف ّ‬
‫الضجيج‪ ،‬رصخات أطفال يلعبون الكرة‪ ،‬صيحات الباعة‪،‬‬ ‫يتفاقم ّ‬
‫دراجات نار ّية‪ ،‬حلقات نسائ ّية ال تتو ّقف عن ال ّثرثرة‪ ،‬جارتنا‬ ‫ضجيج ّ‬
‫تظل ترصخ‪ ،‬بسبب أو دون سبب‪ .‬شجارها مع اجلارات‬ ‫الداود ّية ّ‬
‫عادهتا اليوم ّية‪ ،‬ال تفتح رشفتها إال لتشتم‪ ،‬وشتائمها مضحكة يف‬
‫الغالب‪ ،‬لذلك متعن جاراهتا يف إثارهتا واستفزازها‪ .‬والدّ اود ّية ال‬
‫الصاع صاعني وتفضح الكثري من أرساره ّن‪،‬‬ ‫تصمت‪ ،‬تكيل هل ّن ّ‬
‫كثريا‬
‫برتهل أجساده ّن وارختاء هنوده ّن‪ً .‬‬ ‫وعاد ًة ما يتع ّلق ذلك ّ‬
‫يتجمع األطفال يف األسفل‪ ،‬ويظ ّلون فاغري األفواه‪ ،‬يتابعون‬ ‫ّ‬ ‫ما‬
‫ال غري ًبا وجري ًئا ال تتو ّقف حلقاته‪.‬‬
‫مسلس ً‬

‫‪136‬‬
‫يمتدّ برصي إىل هنج الباشا‪ ،‬أتذكّر أروقته وأقواسه وأبوابه‬
‫أن زينب جتلس اآلن عىل‬ ‫شك يف ّ‬
‫الشاهقة وجدرانه املزخرفة‪ .‬ال ّ‬ ‫ّ‬
‫ترتشف قهوهتا «العريب» التي‬ ‫كل مساء‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫كنبة يف سقيفة بيتهم‪ ،‬كدأهبا ّ‬
‫يمر ِم َن النّهج‪ .‬بعد أن ُتوفيّ‬
‫حتب‪ ،‬وأحيانًا ترفع رأسها لرتى َم ْن ّ‬ ‫ّ‬
‫زوجها اهلادي‪ ،‬تاجر القامش وسافر ابنها سعيد إىل باريس بقيت‬
‫ركن ٍ‬
‫بعيد عنها‪ ،‬زينب ال‬ ‫متكوم ًة يف ٍ‬ ‫وحيدة‪ .‬خادمتها عائشة ّ‬
‫تظل‬
‫ّ‬
‫ترتشف قهوهتا عىل مهل ويف صمت‪.‬‬ ‫حتب ال ّثرثرة‪ ،‬إنّام ّ‬
‫حتب فقط أن ّ‬ ‫ّ‬
‫ذت قراري الذي انتظرته طويلاً ورست‬ ‫بعد سنوات طويلة‪ ،‬اتخّ ُ‬
‫متسارع اخلطى متّجها إىل منزل يس بلحسن‪ .‬رحل يس بلحسن بعد‬
‫عيل فقد هاجر إىل إيطاليا وانقطعت أخباره‪.‬‬ ‫سنوات من هرويب‪ ،‬أ ّما ّ‬
‫ماطرا‪ ،‬لكنّه‬
‫ً‬ ‫السقيفة‪ ،‬يومها كان الطقس‬ ‫جلست بجوار زينب يف ّ‬
‫دافئ‪ .‬عندما تالقت عيوننا‪ ،‬ال أدري كيف أفسرّ ذلك‪ ،‬أحسسنا‬
‫والسعادة يف عينيها‪،‬‬ ‫التقطت وميض الدّ هشة ّ‬ ‫ُ‬ ‫م ًعا بكثري من الدّ فء‪.‬‬
‫السعادة التي ُحرمنا منها‪ .‬بدت يل زينب شاحب ًة وحزينة‪ ،‬و ّملا‬ ‫تلك ّ‬
‫انتصبت أمامها شه َق ْت بكثري من االندهاش‪ ،‬ور ّبام بكينا م ًعا‪ ،‬ور ّبام‬ ‫ُ‬
‫ضحكنا‪ ،‬ور ّبام ارتبكنا‪ ،‬كنت أمحل رائحتها يف باطني‪ ،‬وكنت واث ًقا‬
‫فعلاً من أنّنا سنلتقي ذات يوم‪ .‬يف تلك ال ّلحظات‪ ،‬متنّينا م ًعا أن‬
‫ٍ‬
‫تتعرج وتتداخل ونركض‬ ‫نُفرغ ذاكرتينا ونقفز بخ ّفة بني األز ّقة التي ّ‬
‫بني األعمدة مثلام فعلنا يف ذلك اليوم البعيد املع ّلق يف سامء الهبة‪.‬‬
‫متعرقني‪ ،‬تتعاقب علينا األلوان واألضواء‪.‬‬ ‫نركض‪ ،‬ك ّفي يف ك ّفها‪ّ ،‬‬
‫ْك أكثر ممّا ينبغي»‪.‬‬ ‫ْك يا جوهر‪ ،‬انت َظ َرت َ‬
‫قالت يل عيناها‪« :‬زينب انت َظ َرت َ‬
‫بقيت زينب يف نظري كام هي‪ ،‬بشعرها ال ّطويل وعينيها اخلرضاوين‪،‬‬

‫‪137‬‬
‫يتغي يشء فيها سوى تلك التّجاعيد التي تفاديت أن أراها‪ .‬هل‬ ‫ومل رّ‬
‫احلب املحموم الذي عشناه أ ّيام شبابنا؟‬
‫ّ‬ ‫استعدنا يومها أحاسيس‬
‫بالضبط‪ ،‬ماذا حدث ونحن نعرتف‪ ،‬ونحن ننتفض‪،‬‬ ‫ماذا حدث لنا ّ‬
‫خت نفيس وزينب تبكي عىل كتفي‪ ،‬وارتعشت‬ ‫ونحن نبكي؟ و ّب ُ‬
‫انتظر ْت طويلاً‬
‫َ‬ ‫يدي وهي تالمس يدها‪ ،‬تالمسها بلهفة وشوق‪.‬‬
‫تساءلت أمام‬
‫ُ‬ ‫ذلك اليوم لتُشفى منّى‪ ،‬ور ّبام ُشفيت‪ ،‬ومل أشف أنا‪.‬‬
‫أت عىل فعل ذلك؟ ملاذا‪ ..‬ملاذا‬ ‫جتر ُ‬
‫هربت؟ وكيف ّ‬ ‫ُ‬ ‫دموعها‪« :‬ملاذا‬
‫طاهرا ونبيلاً أح ّبني؟»‬
‫ً‬ ‫كرست قل ًبا‬
‫ُ‬
‫صغريا يف مكتبي و ُأخرج رسائل زينب‪ ،‬يتو ّقف يف‬ ‫ً‬ ‫درجا‬
‫أفتح ً‬
‫ٍ‬
‫خمتلف قراءة‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫أذين ضجيج اخلارج‪ ،‬أجلس عىل الكنبة وأعيد‬
‫الكلامت التي غزاها األمل‪ .‬دموع زينب ‪-‬هكذا أحسست‪ -‬ال تزال‬
‫الصفراء‪ ،‬ال تزال تنوء بعاطفة ج ّياشة‪ ،‬بل هي‬ ‫ساخنة يف األوراق ّ‬
‫حب فحسب‪ ،‬كانت رسائل‬ ‫كل يشء‪ ،‬مل تكن رسائل ّ‬ ‫متمردة عىل ّ‬
‫ّ‬
‫انكسار وخيبة وخوف لكلينا‪ .‬فك َّر ْت زينب يف مجيع االحتامالت‬
‫ٍ‬
‫بشجاعة وجنون‪ ،‬إ ّما أن أعتنق أنا اإلسالم‪ ،‬وإ ّما أن نسافر وإ ّما أن‬
‫نكافح من أجل أن نقنع عائلتها بزواجنا‪ .‬يس بلحسن‪ ،‬كان يف األخري‬
‫ألي احتامل وخذلت زينب‪،‬‬ ‫الرعب الباردة ّ‬‫أحتمس يف أ ّيام ّ‬
‫سيقتنع‪ .‬مل ّ‬
‫خذلتها وما أشقى إحسايس بذاك اخلذالن!‬

‫يف تلك األ ّيام اخلاوية أح ّبتني خافا واعتربتني هب ًة من ّ‬


‫السامء‪،‬‬
‫ِ‬
‫بجرأة‬ ‫أيضا‬
‫للزواج ً‬
‫كانت ُمتاحة أمامي‪ ،‬بال قيود وال موانع‪ ،‬طلبتني ّ‬
‫مريضا هبا‪ .‬خافا‪،‬‬
‫ً‬ ‫كنت ممتل ًئا بزينب‪ ،‬وكنت‬
‫امرأة عاشقة‪ ،‬امتنعت‪ُ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫أحترر‬
‫العزيزة كانت تدرك ذلك وعرفت يف األخري أنيّ ال أستطيع أن ّ‬

‫‪138‬‬
‫وأحول الكذبة إىل‬
‫ّ‬ ‫احلب‪ ،‬ال أستطيع فعلاً أن أكذب‬
‫ّ‬ ‫من زنزانة‬
‫حقيقة‪ .‬وبقينا‪ ،‬أنا وخافا مغمومني ومنكرسين‪ ،‬وال أحد منّا استطاع‬
‫أن ُينقذ اآلخر‪.‬‬
‫ذات مساء‪ ،‬منذ سنتني تقري ًبا‪ ،‬كنت يف ش ّقتي‪ ،‬يف حرضة رسائل‬
‫زينب‪ ،‬عندما استمعت إىل َطر ٍ‬
‫قات عىل الباب‪ ،‬ظننتُها خافا‪ ،‬ففي‬ ‫ْ‬
‫العادة ال أحد يزورين أو يسأل عنّي غريها‪ .‬قد تحُ رض يل صحن‬
‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫كسكس ساخنًا‪ ،‬أو تدعوين ملشاركتها كأس نبيذ‪ .‬وعندما‬
‫الباب فاجأتني مالمح امرأة ثالثين ّية‪ ،‬زرقاء العينني ومرشقة الوجه‪،‬‬
‫ثم‬
‫تلك هي املالمح األوىل التي انتبهت إليها‪ .‬ألقت املرأة التح ّية ّ‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬أعتذر س ّيد جوهر عن إزعاجك‪ ..‬أنا هيلني ابنة إليف وشريا‪.‬‬
‫س ّلمتني هد ّية ّ‬
‫ثم تابعت ضاحكة‪:‬‬
‫واحلق‪ ،‬اهتديت إىل ش ّقتك بكثري من‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ال أحد هنا يعرف أوري‪،‬‬
‫ّ‬
‫احلظ‪.‬‬
‫كثري من مالمح شريا‪ ،‬يف شعرها األسود ال ّطويل وأنفها‬ ‫هليلني ٌ‬
‫أيضا ذكّرتني‬‫النّحيف‪ .‬ورثت عن إليف عينيه الزرقاوين‪ ،‬ضحكتها ً‬
‫بضحكة شريا ال ّطفول ّية‪ .‬بحضورها املباغت فتحت يل هيلني بابا‬
‫أحب أن ُيفتح منذ سنوات‪ .‬حزنت ملوت العزيز إليف‪،‬‬ ‫مضي ًئا‪ ،‬كنت ّ‬
‫عمي فقط‪ ،‬بل كان صديقي الذي‬ ‫وص ّليت لروحه‪ ،‬فهو مل يكن ابن ّ‬
‫خ ّفف عنّي حزن تلك األ ّيام‪ .‬كان يشاركني ّ‬
‫كل أشيائه ال ّثمينة‪« ،‬ال‬
‫كل ما يف غرفتي متاح لك»‪ ،‬هكذا‬ ‫الشكل‪ّ ،‬‬ ‫تنكمش يا أوري هبذا ّ‬
‫كان يقول يل ضاحكًا‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫هتفت نحو هيلني وأنا أشاركها رشب كأس نبيذ أمحر‪:‬‬
‫ُ‬
‫صحتك أ ّيتها العزيزة‪.‬‬
‫‪ -‬عىل ّ‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫رشبت هيلني كأسها ّ‬
‫أن هذه الش ّقة هي بيت العائلة القديم‪.‬‬
‫‪ -‬ال أعتقد ّ‬
‫ندّ ت منّي زفرات طويلة‪:‬‬
‫‪ -‬بالفعل يا هيلني‪ ،‬بعد سفر عائالتنا إىل فرنسا صادروا الكثري‬
‫بالقوة منازل أخرى ومنها‬
‫أيضا افتكّوا ّ‬
‫من املنازل‪ ،‬األغراب ً‬
‫منزل العائلة‪ .‬وبعد سنوات استطعت أن أقتني هذه الش ّقة‬
‫بمساعدة رجل ط ّيب مل يشأ أن أغادر هذا النّهج املمتدّ الذي‬
‫الذهب‪.‬‬‫ُس ّمي بنهج ّ‬
‫نظرت إ ّيل بانتباه وقالت‪:‬‬
‫أيضا بحماّ م ّ‬
‫الذهب يف رأس‬ ‫مررت ً‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬أجل‪ ،‬أجل هنج ّ‬
‫الذهب‪،‬‬
‫أسميك‬
‫أحب يا أوري‪ ،‬أو يا جوهر‪ ،‬ال أدري ماذا ّ‬
‫النّهج‪ .‬وكم ّ‬
‫يا عزيزي‪.‬‬
‫‪ -‬أوري‪.‬‬
‫متحم ًسا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قلت هلا‬
‫ُ‬
‫الذهب وأريد احلكاية‬‫محام ّ‬ ‫ أحب يا أوري أن أعرف حقيقة ّ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫احلقيق ّية هلذا احلماّ م‪ .‬إنّه حيمل تارخينا يا أوري‪ ،‬تارخينا الذي‬
‫حيق لنا أن هنمله‪ .‬الكتب التي ا ّطلعت عليها مل أعثر فيها‬ ‫ال ّ‬
‫مهمة‪ ،‬وال أدري ملاذا كتبوا التّاريخ بتلك السطح ّية‬
‫عىل أشياء ّ‬

‫‪140‬‬
‫والترسع؟ واألصدقاء مل يضيفوا شي ًئا إىل ما قرأت‪ .‬أنا‪ ،‬إن‬
‫ّ‬
‫سمحت‪ ،‬يا عزيزي أرغب يف أن أشقيك معي يف هذا البحث‪،‬‬
‫وسيكون األمر ُمهماًّ لنا مجي ًعا‪.‬‬
‫مل تنقطع عالقتي هبيلني منذ ذلك ال ّلقاء‪ ،‬وتأك ُ‬
‫ّدت أنهّ ا كانت محُ ّق ًة‬
‫الذهب‪ ،‬فهو يقرتن‪ ،‬بالنّسبة إلينا عىل‬ ‫محام ّ‬‫يف رحلة بحثها عن حقيقة ّ‬
‫ظل جمهولاً ‪ ،‬وال أحد ّ‬
‫جترأ عىل النّبش‬ ‫األقل‪ ،‬بتارخينا العاصف الذي ّ‬
‫ّ‬
‫مهمة ألجتاوز غربتي القاتلة‪ ،‬زيارهتا‬ ‫ٍ‬
‫يف أغواره‪ .‬هيلني قامت بخطوة ّ‬
‫كثريا من معنو ّيايت وهذا أسعدين جدًّ ا‪ .‬ما أحىل أن ترشق‬
‫رفعت ً‬
‫الشمس ألغت‬ ‫الشمس يف سامء مل ّبدة بغيوم سوداء وغري ماطرة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫بكل صوره‬ ‫السواد‪ ،‬وما أحىل أن يستفيق عبق املايض ّ‬
‫كل ذلك ّ‬ ‫ح ًّقا ّ‬
‫ذراعي وأنا أو ّدعها‪ ،‬وق ّبلتني هي من‬
‫ّ‬ ‫وروائحه وألوانه! ضممتها بني‬
‫جبيني‪ ،‬كانت قبلتها ساخنة‪ ،‬أتاحت يل أن أتذكّر للحظات قبالت‬
‫أ ّمي ورائحتها‪ .‬ومنذ ذلك اليوم‪ّ ،‬قررت أن أجنّد نفيس للبحث عن‬
‫رس ٍّي‪ ،‬أفعل‬ ‫ٍ‬
‫بشكل ّ‬ ‫خيت أن أبحث‬ ‫الذهب‪ .‬وللد ّقة أقول‪ ،‬رّ‬
‫محام ّ‬
‫ّ‬
‫ذلك حتّى ال يكون األمر مثار شبهة‪.‬‬
‫سألت خافا ّأولاً ‪ ،‬ور ّبام مل تنتظر سؤايل‪ ،‬أو هي مل تته ّيأ بالشكل‬
‫الكايف لإلجابة‪ ،‬فقالت يل بيشء من الرت ّدد‪:‬‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‪ ،‬وأكثر‬ ‫‪ -‬أووه يا أوري‪ ،‬احلكايات كثرية حول ّ‬
‫أن احلماّ م ُس ّمي ببلاّ ع ّ‬
‫الصبايا ألنّه شهد اختفاء‬ ‫الشائعات تر ّدد ّ‬
‫ّ‬
‫فتاة شا ّبة مجيلة يف ظروف غامضة وغريبة‪ ..‬ويقال ّ‬
‫إن األمر‬
‫متع ّلق ٍ‬
‫بكنز وبجان‪ ..‬هذا ّ‬
‫كل ما أعرفه يا عزيزي‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫أمرا سهلاً ‪،‬‬
‫أن البحث عن احلقيقة لن يكون ً‬ ‫أدركت ساعتها ّ‬
‫ُ‬
‫وليس من اليسري ح ًّقا أن تتو ّفر تفاصيل ّ‬
‫مهمة‪ ،‬باإلضافة إىل ذلك‪،‬‬
‫الذهب يل ّفه الكثري من التّعقيد‪.‬‬
‫محام ّ‬ ‫بدا يل ّ‬
‫أن ّ‬
‫الذهب بعد ذلك عىل زينب‪ .‬احلقيقة أنهّ ا‬ ‫محام ّ‬ ‫طرحت حكاية ّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫بنصف نظرة لتتأكّد بام ال يدع جمالاً‬ ‫أيضا ور ّبام تأ ّملتني‬
‫اندهشت هي ً‬
‫الذهب‪ ،‬و ّملا تأكّدت أنيّ جا ّد يف سؤايل‬
‫محام ّ‬ ‫ّ‬
‫للشك أنيّ سألتها عن ّ‬
‫املثري ضحكت وهي تقول‪:‬‬
‫الذهب‪ ،‬هي‬ ‫محام ّ‬‫ كل نساء هنج الباشا يعرفن حكايات ّ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫الصبايا حتّى حيافظن عىل‬ ‫حكايات كثرية ير ّددهنا عىل مسامع ّ‬
‫أيضا‬
‫حمرمة‪ ..‬وحتّى ال يفكّرن ً‬ ‫أي عالقة ّ‬
‫رشفه ّن وال ينزلقن يف ّ‬
‫الذهب أو حتّى يف املرور أمامه‪ .‬وال ّثابت يا‬
‫محام ّ‬
‫الذهاب إىل ّ‬‫يف ّ‬
‫قصة احلماّ م ُمزجت بالكثري من اخلرافات‪ ،‬وسأروي‬ ‫جوهر ّ‬
‫أن ّ‬
‫لك إحدى القصص ّ‬
‫الشائعة عند نساء هنج الباشا‪.‬‬
‫ثم تابعت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ترشفت من فنجان القهوة ّ‬
‫زمن بعيد‪ ،‬ال أحد يعرف بالتّحديد متى‬ ‫ «القصة تعود إىل ٍ‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫عمه ا ّلتي كانت فائقة‬ ‫حدث ذلك‪ .‬فقد ُأغرم ّ‬
‫شاب وسيم بابنة ّ‬
‫اب‬ ‫نظريا‪ّ .‬‬
‫الش ّ‬ ‫درة مكنونة مل تعرف املدينة هلا ً‬‫اجلامل‪ ،‬بل هي ّ‬
‫الوسيم‪ ،‬هادئ ال ّطباع‪ ،‬مل ينشغل عنها يو ًما وال غفل عن ّ‬
‫أدق‬
‫ليل هنار‪ .‬وقد كانت ابنة‬ ‫تفاصيل حياهتا‪ ،‬كانت تشغل تفكريه َ‬
‫حب وهيام مل يعرفه‬ ‫عمه تبادله األحاسيس نفسها‪ ،‬فنشأ بينهام ّ‬
‫ّ‬
‫ثم بيد عائلة‬ ‫النّاس يف زماهنام‪ .‬وأصبحت حياة ّ‬
‫الشاب بيد اهلل ّ‬
‫الزوج واحلبيب‬ ‫زوجوه من ابنتهم كان هلا نعم ّ‬ ‫الفتاة‪ ،‬فإن ّ‬

‫‪142‬‬
‫الشاب‪،‬‬‫وإن رفضوا ذلك كان مستعدًّ ا للموت‪ .‬وقد عرف ّ‬
‫أيضا فارس‬‫واحلمد هلل بدماثة أخالقه ونبله وشهامته وكان ً‬
‫العم حظي‬
‫أحالم فتيات املدينة‪ .‬فلماّ تقدّ مت عائلته خلطبة ابنة ّ‬
‫ثمة عداوة بني العائلتني‪.‬‬ ‫طلبه بالقبول‪ ،‬وحلسن ّ‬
‫احلظ مل تكن ّ‬
‫الرجال‬ ‫ّ‬
‫وحمط أنظار ّ‬ ‫وعائلة الفتاة كانت تعرف ّ‬
‫أن ابنتهم مجيلة‬
‫عمها‬
‫الصالح‪ ،‬وابن ّ‬ ‫الزواج ّ‬‫وال يشء يصون البنت الفاتنة غري ّ‬
‫رجل صالح‪.‬‬
‫تم االتّفاق بني العائلتني عىل يوم العرس‪ ،‬فدُ عي‬ ‫وبعد أ ّيام ّ‬
‫األهل واألحباب و ُقرعت ال ّطبول وحرض الفرسان وركب‬
‫استعراضا‬
‫ً‬ ‫العريس صهوة جواده مرتد ًيا أفخر املالبس وقدّ م‬
‫ثم قدّ م لعائلة العروس هدايا كثرية‬ ‫كل احلارضين ّ‬ ‫سحر ّ‬
‫الذهب اخلالص باإلضافة‬ ‫وحيل من ّ‬
‫ّ‬ ‫تتم ّثل يف أغطية وألبسة‬
‫إىل ناقتني وكيسيَ حبوب‪ .‬وأقيمت يف األثناء حفالت رقص‬
‫وغناء يف منزليَ العريس والعروس‪ .‬ويف العادة‪ ،‬حيتفل ّ‬
‫الرجال‬
‫يف احلوش أ ّما النّساء ف ُيقمن احتفاالهت ّن يف صحن الدّ ار أو‬
‫الزمان‪.‬‬ ‫داخل الغرف‪ ،‬فالع ّفة كانت ً‬
‫رمزا أساس ًّيا يف ذلك ّ‬
‫عمها مثل‬
‫ومل خيطر ببال العروس أن يطلب منها حبي ُبها واب ُن ّ‬
‫ذلك ال ّطلب الغريب‪ ،‬فقد دعاها إىل أن ترتدي بذلته يف طريق‬
‫ترتصدها‬
‫ّ‬ ‫الرجال وال‬ ‫يتحرش هبا ّ‬
‫ّ‬ ‫ذهاهبا إىل احلماّ م حتّى ال‬
‫ثم أدركت‬‫السوء‪ .‬اندهشت ّأول األمر لطلب حبيبها ّ‬ ‫أعني ّ‬
‫أن ح ّبه اجلارف هلا هو ما يدفعه إىل صيانتها من ّ‬
‫كل‬ ‫بعد تفكري ّ‬
‫سوء وحسد‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫عمها وأحرضت عُدّ ة‬ ‫وبالفعل ارتدت الفتا ُة مالبس ابن ّ‬
‫احلماّ م من طاس وصابون ومناشف استحامم ومالبس داخل ّية‬
‫وتوجهت صوب احلماّ م متنكّرة بح ّلة صبيان ّية‪ .‬وبعد دخوهلا‬ ‫ّ‬
‫صحبة جمموعة من الفتيات جّاتهت صوب املطهرة واختلت‬
‫ترسح شعرها األسود الفاتن ال ّطويل الذي كان‬ ‫بنفسها وهي ّ‬
‫تعجبت الفتيات‬ ‫الزمن‪ّ ،‬‬ ‫مثار حسد الفتيات‪ .‬وبعد فرتة من ّ‬
‫من طول اختالء العروس بنفسها داخل املطهرة‪ ،‬فطرقن‬
‫الباب ومل يسمعن جوا ًبا‪ .‬ويا للمفاجأة التي أجلمت األفواه!‬
‫لقد اختفت العروس من املطهرة‪ ،‬بحثت الفتيات عنها يف‬
‫كل من كان يف احلماّ م وال حياة‬ ‫مجيع احلجرات وبحث عنها ّ‬
‫أي أثر‪.‬‬
‫تبخرت ومل يبق منها ُّ‬‫ملن تنادي‪ ،‬كأنهّ ا ّ‬
‫جو من الصرّ اخ والعويل وال ّثرثرة والقيل والقال فزع‬
‫يف ّ‬
‫العريس إىل احلماّ م ومل يصدّ ق ما حدث‪ ،‬أخليت املطهرة ّ‬
‫وكل‬
‫ومشوش‬
‫ّ‬ ‫احلجرات من الفتيات ومل يبق غري العريس مصعو ًقا‬
‫األنفاس‪ .‬رشع يرصخ وينادي حبيبته بأعىل صوته‪ ،‬واألمر‬
‫أن حبيبته أجابته يف تلك ال ّلحظات دون أن يتمكّن‬
‫الغريب هو ّ‬
‫من رؤيتها‪ ،‬قالت بصوت مبحوح إنهّ ا مسجونة داخل اجلدار‬
‫واجل ّن حيكم قبضته عىل شعرها‪ .‬كانت تستغيث وتبكي وتئ ّن‬
‫واجلدار يطبق عليها ويبتلعها‪ .‬جرى حبيبها كاملجنون وراح‬
‫ظل حيفر وحيفر ّ‬
‫بكل ما‬ ‫السميك‪ّ ،‬‬‫يرضب بالفأس عىل احلائط ّ‬
‫قوة لكن دون جدوى‪ ،‬فحيطان احلماّ م كانت أقوى من‬ ‫أويت من ّ‬
‫رضبات الفأس‪ ،‬وك ّلام حفر كان صوت حبيبته يبتعد ويبتعد‬

‫‪144‬‬
‫املروعة أيقن العريس أنّه‬
‫إىل أن اختفى متا ًما‪ .‬ويف تلك اآلونة ّ‬
‫الصور أمامه وسط البخار‬ ‫فقد حبيبته إىل األبد‪ ،‬واختلطت ّ‬
‫الشعر وال ّثياب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لوقت طويل مصعو ًقا‪ ،‬مب ّلل ّ‬ ‫املتصاعد‪ .‬لبث‬
‫يمسك باجلدار وهيذي بكلامت مبهمة إىل أن سقط ‪ .‬وبعد‬
‫أ ّيام حتدّ ث النّاس يف املدينة عن ذلك العريس الذي فقد عقله‬
‫بسبب محاقته وغريته الكبرية‪ ،‬تلك الغرية التي تس ّببت يف‬
‫(((‬
‫ابتالع احلماّ م حلبيبته‪».‬‬
‫القصة وأنا مندهش ممّا جرى من أحداث‪ ،‬غري‬
‫أهنت زينب رسد ّ‬
‫عيني‬
‫ّ‬ ‫حركت زينب يدها أمام‬‫مصدّ ق ملا آل إليه مصري العروس‪ّ .‬‬
‫أيضا‬
‫السامهة‪ ،‬ضحكت أنا ً‬
‫ضاحكة ومازحة لتخرجني من حالتي ّ‬
‫ثم سألتها‪:‬‬‫ّ‬
‫‪ -‬لكن‪ ،‬يا زينب‪ ،‬كيف فسرّ النّاس ما وقع؟ وماذا حدث بعد‬
‫ذلك؟‬
‫‪ -‬ما سمعته من أ ّمي‪ ،‬وقد سمعته بطبيعة احلال من اجلدّ ات‪،‬‬
‫هو ّ‬
‫أن اجل ّن الذي كان يسكن احلماّ م خطف الفتاة لسببني ال‬
‫ثالث هلام‪ ،‬فإ ّما أن يكون ذلك بسبب شدّ ة مجاهلا وشعرها‬
‫ال ّطويل وإ ّما لتنكّرها بمالبس رجل‪ .‬والغريب ّ‬
‫أن اجلدار‬
‫الذي ابتلع الفتاة خرج منه شعر أسود بعد أ ّيام من احلادثة‪،‬‬
‫خرج بشكل كثيف ورسيع‪ ،‬وكان ذلك مثار رعب لصاحب‬
‫الشعر املتد ّفق بغزارة ويوقد به‬
‫يقص ّ‬ ‫احلماّ م‪ .‬ويف ّ‬
‫كل ليلة كان ّ‬

‫((( حكاية شعب ّية حول محام ّ‬


‫الذهب متداولة يف هنج الباشا‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫الزمن حتّى‬
‫استمر بذلك اجلهد لفرتة من ّ‬ ‫ّ‬ ‫النّار يف فرن احلماّ م‪.‬‬
‫اختفت تلك ال ّظاهرة الغريبة‪ ،‬ور ّبام تو ّقف تد ّفق ّ‬
‫الشعر‪ ،‬كام‬
‫السميك‪.‬‬‫روت احلكايات‪ ،‬بعد موت الفتاة داخل ذاك اجلدار ّ‬
‫أن النّساء امتنع َن منذ تلك احلادثة عن‬ ‫واألهم من ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫الذهاب إىل احلماّ م بسبب خوفه ّن من اجل ّن‪.‬‬ ‫ّ‬
‫قلت لزينب حماولاً تفسري احلكاية‪:‬‬
‫ثمة احتامالت‬ ‫صحيحا فعلاً ‪ ،‬لكن‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬يمكن أن يكون ما وقع‬
‫تظل مطروحة‪ .‬اختفاء الفتاة‪ ،‬هذا أمر حمسوم فيه‪،‬‬ ‫أخرى ّ‬
‫تعرضت للخطف أو القتل بسبب مجاهلا وفتنتها‪،‬‬ ‫وقد تكون ّ‬
‫الساحر‪ ،‬كام سمعت يف‬‫وعىل األرجح بسبب شعرها األسود ّ‬
‫القصة‪ ..‬ولع ّلها ً‬
‫أيضا هربت بإرادهتا‪ .‬من يدري!‬ ‫ّ‬
‫الذهب بعد ذلك‪ ،‬ومل أكن‬ ‫محام ّ‬
‫مل تتو ّقف رحلة البحث عن ّ‬
‫كنت سأصل إىل نتائج يمكن أن تسعد هيلني‪ .‬وبعد‬‫أعرف ما إذا ُ‬
‫مهمة يمكن أن تفيدين‪ ،‬هلذا فكّرت‬
‫حكاية زينب مل أعثر عىل حكاية ّ‬
‫يف تغيري مسار البحث نحو كتب التّاريخ‪.‬‬
‫تر ّددت أ ّيا ًما كثرية عىل سوق الد ّباغني وق ّلبت الكتب القديمة‬
‫محام‬‫الذهب أو ّ‬‫محام ّ‬
‫باح ًثا عن عنوان يمكن أن يفيدين‪ ،‬ويتحدّ ث عن ّ‬
‫محامات مدينة تونس‪ ،‬تص ّفحته‬ ‫الرميمي‪ .‬عثرت عىل خمطوط بعنوان‪ّ :‬‬ ‫ّ‬
‫ومل أعثر فيه عىل ما يمكن أن يفيدين‪ ،‬اقترص البحث عىل التّخطيط‬
‫املكونات املعامر ّية‬
‫ّ‬ ‫مؤسسة احلماّ م ودراسة‬
‫البنائي للحماّ م ووظائف ّ‬
‫ّ‬
‫محامات مدينة تونس وغريها من األبواب الفرع ّية‪ .‬اقتنيت يف‬ ‫لبعض ّ‬

‫‪146‬‬
‫األثناء كتاب تاريخ معامل التّوحيد يف القديم ويف اجلديد‪ ،‬قالت هيلني‬
‫إنهّ ا حتتاج إليه لال ّطالع عىل تاريخ جامع ّ‬
‫حممد باي املرادي‪ ،‬أو جامع‬
‫يسمى اآلن‪.‬‬ ‫سيدي حمرز كام ّ‬
‫كبريا يف تقليب الكتب وتص ّفحها‪ ،‬ويف‬ ‫تط ّلب األمر جهدً ا ً‬
‫املرات وأنا مستغرق يف البحث بني أكداس الكتب‪ ،‬انتبه إ ّيل‬
‫إحدى ّ‬
‫الصغري املزدحم‬ ‫ّ‬
‫الشيخ الذي كان يعرض كتبه القديمة أمام دكّانه ّ‬
‫تفحصني من وراء نظارته‬ ‫بالكتب واملجلاّ ت واألوراق ّ‬
‫الصفراء‪ّ ،‬‬
‫مستفرسا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ثم خاطبني‬
‫الطب ّية ّ‬
‫ٍ‬
‫كتاب معينّ ‪ ،‬يمكن طب ًعا أن أساعدك‪.‬‬ ‫‪ -‬أظ ّن أنّك تبحث عن‬
‫قلت له دون أن أنظر إليه‪:‬‬
‫الذهب‪ ،‬أنت تعرف‬ ‫ٍ‬
‫كتاب يتع ّلق بحماّ م ّ‬ ‫‪ -‬أجل‪ ،‬أنا أبحث عن‬
‫ذلك احلماّ م بال ّ‬
‫شك‪.‬‬
‫ثم قال‪:‬‬ ‫صمت ّ‬
‫الشيخ برهة وهو يفرك ذقنه ويفكّر ّ‬
‫الذهب‬ ‫محام ّ‬
‫‪ -‬كأنيّ مررت ذات يوم بأوراق تتحدّ ث عن احلماّ م‪ّ ،‬‬
‫أعني‪ .‬وإن شئت عد إ ّيل بعد ثالثة أ ّيام‪ ،‬أظ ّن ّ‬
‫أن هذه املدّ ة‬
‫مناسبة ألجد تلك األوراق‪.‬‬
‫الضيق واملزدحم يف سوق‬ ‫عدت بعد ثالثة أ ّيام إىل ذاك الدّ كان ّ‬
‫الشيخ بابتسامة عرفت من خالهلا أنّه مل ينسني‪،‬‬ ‫الد ّباغني‪ ،‬وطالعني ّ‬
‫وبطبيعة احلال مل ينس تلك األوراق التي أشار إليها‪.‬‬

‫الشيخ وهو يس ّلمني حزم ًة من األوراق ّ‬


‫الصفراء‪:‬‬ ‫قال ّ‬

‫‪147‬‬
‫‪ -‬لقد عثرت عىل هذه األوراق مطو ّية يف أحد الكتب القديمة‪،‬‬
‫وأمحد اهلل أنيّ مل أرمها يف حاوية القاممة‪ .‬وأعتقد ّ‬
‫أن صاحبها مل‬
‫يتف ّطن إليها وهو يبيع كتبه القديمة‪.‬‬
‫أمسكت باألوراق كأنيّ أمسك بكنز‪ ،‬وطب ًعا كان ال بدّ أن أدفع‬
‫ثمنها الذي ُقدّ ر بثالثة دنانري‪ .‬وقبل أن أسري حتت شمس حارقة‬
‫الصفراء وقرأت‬ ‫الذهب د ّق ُ‬
‫قت النّظر يف األوراق ّ‬ ‫جّ‬
‫باتاه ش ّقتي يف هنج ّ‬
‫الصبايا‪ .»..‬بحثت يف‬‫الذهب‪ ..‬بلاّ ع ّ‬
‫محام ّ‬‫الصفحة األوىل‪ّ « :‬‬
‫يف أعىل ّ‬
‫الصفحات‪ ،‬ومل‬ ‫كل ّ‬ ‫الصفحة األخرية عن اسم الكاتب‪ ،‬بحثت يف ّ‬ ‫ّ‬
‫أي اسم أو إشارة يمكن أن تساعدين عىل معرفة صاحب‬ ‫أعثر عىل ّ‬
‫القصة لكاتب جمهول‬
‫ستظل هذه ّ‬‫ّ‬ ‫رسي‪:‬‬
‫فقلت يف ّ‬
‫ُ‬ ‫الصفراء‪.‬‬
‫األوراق ّ‬
‫حقيقي أضاعه يف حلظة سهو‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫كنز‬
‫ّفرط يف كنز‪ .‬وهو بالتّأكيد ٌ‬

‫‪148‬‬
‫(‪)7‬‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‬ ‫ّ‬
‫‪ 3‬ديسمرب ‪2010‬‬

‫ظهرا‪ ،‬كان ال ّطقس بار ًدا ومل حيمني‬


‫الذهب ً‬ ‫وصلت إىل هنج ّ‬
‫ُ‬
‫املعطف من لفحاته‪ ،‬أحسست بأصابعي غارقة يف ال ّثلج‪ .‬وقفت‬
‫الذهب ذي املرصاعني‪ ،‬تؤ ّطر الباب عضادة يعلوها‬ ‫محام ّ‬
‫أمام باب ّ‬
‫طاق نصف دائري‪ ،‬أ ّما األلوان فهي فسيفساء من األمحر واألصفر‬
‫واألسود‪ .‬أبواب احلماّ مات‪ ،‬عىل وجه التّقريب متشاهبة يف أشكاهلا‬
‫يعوض ال ّلون األخرض بال ّلون‬‫وألواهنا‪ ،‬مع اختالف طفيف‪ ،‬فقد ّ‬
‫محامات‬ ‫فإن هذا التّشابه يعطي انطبا ًعا ّ‬
‫بأن ّ‬ ‫األزرق‪ ،‬وما عدا ذلك ّ‬
‫مدينة تونس عىل ّ‬
‫األقل ختضع لنموذج مشرتك‪.‬‬

‫ّملا مهمت بالولوج إىل ّ‬


‫السقيفة املوصلة إىل املحرس انتبهت إىل‬
‫صوت خياطبني‪:‬‬
‫‪ -‬إن كنت تبحث عن لوازم االستحامم فهي عندي‪.‬‬
‫التفت‪ ‬ورائي فطالعتني مالمح شيخ يضع غطا ًء صوف ًّيا عىل‬ ‫ُّ‬
‫ً‬
‫مرتعشا وهو جيلس عىل كرس ّيه ويتفادى‬ ‫ويوسع ابتسامته‪ .‬بدا‬
‫ّ‬ ‫رأسه‬
‫فوضوي‪ ،‬قرأت اللاّ فتة‬
‫ّ‬ ‫لسعات الربد‪ ،‬البضائع تتكدّ س أمامه بشكل‬

‫‪149‬‬
‫الصحبي»‪.‬‬‫البارزة يف األعىل‪« :‬بيع احلرقوس واحلنّة العال العال عند ّ‬
‫الصحبي‬‫طلبت منه علبة شامبو وقطعة صابون من النّوع اجل ّيد‪ ،‬تابع ّ‬
‫أيضا من بضائعه‪ ،‬وأغلبها‬ ‫النّظر إ ّيل يف وضع ّية تر ّقب ملا سأختاره ً‬
‫فابتسمت وقلت له ٍ‬
‫بنربة ال ختلو من مزاح‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بضائع نسائ ّية‪،‬‬
‫محام‬ ‫‪ -‬بضائعك نسائ ّية مع أنّك تعرف ّ‬
‫أن النساء ال يدخلن ّ‬
‫ّ‬
‫الذهب‪.‬‬
‫عال وقال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫الصحبي‬‫ضحك ّ‬
‫محام‬
‫نسميه ّ‬
‫‪ -‬أووه من حكايات هذا احلماّ م التي ال تنتهي‪ ..‬نحن ّ‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‪ .‬النّاس كذبوا‬ ‫الرميمي‪ ،‬والتّسمية الغالبة هي ّ‬‫ّ‬
‫وكل احلكايات شائعات يا ابني وال أحد‬ ‫ثم صدّ قوها ّ‬
‫كذبة ّ‬
‫يصدّ قها اليوم‪.‬‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‪.‬‬ ‫أي حال‪ ،‬النّساء خيفن من ّ‬
‫‪ -‬عىل ّ‬
‫صحيحا ما تقول يا ابني‪ ،‬صاحب احلماّ م اختار أن يكون‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ليس‬
‫الرجال‪ ..‬وتلك عادة بقيت سارية منذ سنوات‪.‬‬ ‫زبائنه من ّ‬
‫ٍ‬
‫بامرأة كانت تسأله‬ ‫والصابون وانشغل‬ ‫الصحبي ّ‬
‫الشامبو ّ‬ ‫ناولني ّ‬
‫تلح عليه لكي يعطيها حنّة قابس ّية ممتازة‪ ،‬وتوصيه‬
‫عن أنواع احلنّة‪ّ ،‬‬
‫الصحبي راين بنتك»‪ ،‬تقول‬ ‫عم ّ‬‫يغشها بحنّة تُتلف شعرها‪« ،‬يا ّ‬ ‫بأالّ ّ‬
‫ملحت جوهر وهو يسري بتثاقل‪ .‬يف احلقيقة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫له‪ .‬ويف تلك ال ّلحظة‬
‫اندهشت عندما رأيته‪ ،‬مل يتف ّطن إىل وجودي وإلاّ لكان ّ‬
‫تسمر أمامي‬ ‫ُ‬
‫مخنت أنّه مثيل يبحث عن حكاية من حكايات‬ ‫بوجهه اجلامد‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫ببحث‬ ‫الذهب‪ .‬إنهّ ا هيلني‪ ،‬ال ريب‪ ،‬أعرف جنوهنا‪ ،‬ال تقتنع‬ ‫محام ّ‬‫ّ‬

‫‪150‬‬
‫واحد‪ ،‬املسألة ليست مسألة ثقة بطبيعة احلال‪« ،‬ال بدّ أن أنظر إىل‬
‫كل احلقيقة»‪ ،‬تقول هيلني وهي تنجز‬ ‫الزوايا األربع ألعرف احلقيقة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ثم تخُ رج يل لساهنا بحركة مشاكسة‪ ،‬ولطاملا كانت تشاكسني‬ ‫بحوثها ّ‬
‫لتح ّثني عىل القراءة والبحث‪ .‬هي ال ترى التّاريخ‪ ،‬يف أغلب ما كتب‪،‬‬
‫تستغل ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫أمينًا وال حمايدً ا‪ ،‬بل كان خيضع لالبتزاز واألجندات التي‬
‫الذكر‪ ،‬مل ُيكتب بشكل دقيق‪ ،‬وسكت‬ ‫يشء‪ .‬تاريخ تونس‪ ،‬عىل سبيل ّ‬
‫الصادمة‪« ،‬املحرقة النّاز ّية ضدّ اليهود مثلاً »‪،‬‬
‫عن الكثري من الوقائع ّ‬
‫تقول هيلني‪ ،‬غري أنهّ ا تستحرضها دو ًما بكآبة وحقد‪ ،‬ويف مقابل ذلك‬
‫ضخموا وقائع تافهة‪ ،‬نفخوا فيها واحتفلوا بأبطال‬ ‫املؤرخني ّ‬
‫أن ّ‬‫تؤكّد ّ‬
‫ومه ّيني‪.‬‬
‫استغربت من جتاوز جوهر للحماّ م وسريه يف هنج ّ‬
‫الذهب‬
‫فرست وراءه بكثري‬
‫ُ‬ ‫دون التفات‪ ،‬وساورتني رغبة يف اقتفاء أثره‪.‬‬
‫تعمقت يف النّهج املس ّقف‪ .‬دخل جوهر من‬ ‫من الفضول حتّى ّ‬
‫سمعت وقع أقدامه عىل الدّ رج‪ ،‬وبعد ذلك‬‫ُ‬ ‫باب «وكالة» قديمة‪،‬‬
‫استمعت إىل َط ْرقات عىل أحد األبواب‪ ،‬سمعت جوهر يتحدّ ث مع‬
‫منخفضا‪ ،‬مل يطل احلديث ورسعان ما‬
‫ً‬ ‫نسائي‪ ،‬كان حوارمها‬
‫ّ‬ ‫صوت‬
‫الصمت‪.‬‬‫ثم ُفتح باب آخر وران ّ‬ ‫ُأغلق الباب ّ‬
‫تأكّد يل ّ‬
‫أن جوهر يقيم يف «الوكالة»‪ .‬مشيتُه املتثاقلة واهلادئة‬
‫رجحت يل هذا االحتامل‪ ،‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬مل أحلظ يف مالمح الوجوه‬ ‫ّ‬
‫يدل عىل كونه غري ًبا عن النّهج‪ ،‬وعىل العكس‪ ،‬ظ ّلت‬
‫مرت به ما ّ‬
‫التي ّ‬
‫امرأة مهتاجة النّظرات تبحلق يف وجهي وكأنيّ قاد ٌم من «الوقواق»‪.‬‬
‫بدت يل «الوكالة» خمتلفة عن وكالتنا يف ص ّباط الدّ زيري‪ ،‬ال حتفل‬

‫‪151‬‬
‫الشقق يف الواجهة األمام ّية حمافظة عىل‬ ‫الصخب املزعج‪ّ .‬‬ ‫بذاك ّ‬
‫جدراهنا املتينة‪ ،‬أغلب نوافذها مغلقة‪ ،‬وحتّى املفتوحة منها فإنهّ ا غري‬
‫حس وال احرتام ّ‬
‫للذوق‬ ‫مزدمحة بالغسيل واألغطية املتكدّ سة بال ّ‬
‫العا ّم‪ .‬يف نوافذ شققنا يمكن أن تعرض مالبس داخل ّية نسائ ّية‬
‫بحالة خجل أو ُيوقظ‬ ‫ِ‬ ‫يمر‬ ‫بمنتهى الوقاحة‪ ،‬وهو ما ُيشعر ّ‬
‫كل من ّ‬
‫مشاكسا‪ .‬هاجر‬ ‫ً‬ ‫صفريا‬
‫ً‬ ‫ُدودته النائمة بني فخذيه‪ ،‬فيشتم أو يرسل‬
‫ال تتوب عن ثرثرهتا وهي حتدّ ثني عن صدر ّيات نساء «الوكالة»‪،‬‬
‫كل لون وحجم‪..‬‬ ‫«الصدر ّيات هنا عىل ّ‬
‫ّ‬ ‫الشبقة‪:‬‬‫تقول يل بنربهتا ّ‬
‫محالة النّهدين‬ ‫بعناية وراحة بال من سوق احلفص ّية‪ّ .‬‬‫ٍ‬ ‫ونحن ننتقيها‬
‫هي مكمن الدّ اء‪ ،‬هي الفتنة واملتعة يا سعد‪ ،‬واملرأة يف ذروة االهتياج‬
‫حتب ذلك القرص املثري‪ .‬لذلك‪ ،‬وأنت ال تفهم النّساء يا سعد‪ ،‬حني‬ ‫ّ‬
‫محالة هندهيا يف النّافذة تعلن بمنتهى اجلرأة أنهّ ا حتتاج إىل‬
‫تضع املرأة ّ‬
‫من يقرصها»‪.‬‬
‫وق َف ْت أمامي امرأة ُمسنّة‪ ،‬بدت يل مرهقة وهي حتمل ق ّفة ممتلئة‬
‫ثم تط ّلعت‬ ‫السفساري الذي سقط عن كتفها ّ‬ ‫باخلرض‪ ،‬أعادت ترتيب ّ‬
‫إىل وجهي‪:‬‬
‫‪ -‬هل تنتظر أحدً ا هنا؟‬
‫قلت كاذ ًبا وقد أحسست بكثري من احلرج‪:‬‬
‫‪ -‬أبحث عن ش ّقة للكراء يف هذه الوكالة‪.‬‬
‫ر ّدت املرأة دون تفكري‪:‬‬
‫كل ّ‬
‫الشقق عىل ملك‬ ‫‪ -‬ال أظ ّن يا ابني أنّك ستجد ضا ّلتك هنا‪ّ ،‬‬

‫‪152‬‬
‫يفرطون يف شققهم‬ ‫اليهود‪ ،‬اليهود القدامى أقصد‪ ،‬وهم ال ّ‬
‫ألحد‪ ..‬يمكن أن تسأل عن ش ّق ٍة يف النّهج املقابل‪ ..‬هناك‪،‬‬
‫أعتقد ‪ ،‬ستجد من يساعدك عىل كراء ش ّقة مناسبة‪ ..‬أسمعت‬
‫يا ابني؟‪ ،‬ال فائدة من وقوفك هنا‪.‬‬
‫لت من باب الوكالة امرأ ٌة ذات برشة بيضاء‪ ،‬خت ّطتني‬ ‫تس ّل ْ‬
‫البارييس‪ ،‬فقد ذكّرين‬
‫ّ‬ ‫أشتم عطرها‬
‫ّ‬ ‫دون أن تنظر إ ّيل‪ ،‬أمكن يل أن‬
‫الرائحة متشاهبة فعلاً ‪ ،‬سارت املرأة عىل عجل‬‫بعطر الس ّيدة شريا‪ّ ،‬‬
‫السوق‪.‬‬ ‫الصغرية تتدلىّ من كتفها حتّى اختفت يف زمحة ّ‬ ‫وحقيبتها ّ‬
‫رسي‪ ،‬لكن‪ ،‬ملاذا أخ َف ْت‬
‫جوهر من اليهود القدامى إ َذن؟ تساءلت يف ّ‬
‫عنّي هيلني هذه احلقيقة؟‬
‫عم رزوقة ‪-‬هكذا سمعتهم‬ ‫عندما دخلت إىل املحرس استقبلني ّ‬
‫ينادونه‪ -‬بابتسامة خفيفة‪ ،‬تأ ّمل مالحمي من خلف ن ّظارته الطب ّية‪،‬‬
‫يتفحصني من األعىل إىل األسفل أنيّ أكتشف احلماّ م‬ ‫ّ‬ ‫وعرف وهو‬
‫مرة‪ .‬كنت مأخو ًذا بال ُق ّبة‪ ،‬زخارفها عىل غاية من التّناسق‪،‬‬ ‫ألول ّ‬
‫ّ‬
‫ترسو عىل حنايا قوامها عقود نصف دائر ّية وأربعة أقواس حممولة‬
‫أيضا عىل أربعة أعمدة تز ّينها تيجان ذات ألوان فاحتة‪ .‬وحوت‬ ‫هي ً‬
‫الشكل‪ ،‬وهي تيضء القاعة بشكل طبيعي‪.‬‬ ‫مقوسة ّ‬‫رقبة الق ّبة نوافذ ّ‬
‫رخامي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرخام األبيض‪ ،‬حييط هبا حوض‬
‫ويف أسفل الق ّبة نافورة من ّ‬
‫أن النّافورة مع ّطبة منذ سنوات طويلة‪ ،‬متا ًما مثل اجلدران‬ ‫حدست ّ‬
‫عم روزقة ووضع أمامي‬ ‫العالية التي تقشرّ طالؤها‪ .‬اقرتب منّي ّ‬
‫ظل ينظر إ ّيل وينتظر أن أطلب منه شي ًئا آخر‪ ،‬ابتسمت‬ ‫محام‪ّ ،‬‬‫ملحفتي ّ‬
‫الركن الذي ُص ِّف َف ْت فيه‬
‫شاكرا وأشار هو بحركة من يده إىل ّ‬
‫ً‬ ‫يف وجهه‬

‫‪153‬‬
‫أي‬
‫القباقيب وعاد إىل مكانه‪ .‬وعندما طلبت منه قارورة ماء مل ُيعرين ّ‬
‫الرجل الذي كان يروزين بعينيه ومدّ ين بواحدة‪:‬‬
‫انتباه‪ ،‬فجرى ّ‬
‫‪ -‬رزوقة سقيفته طويلة‪ ،‬ونحن هنا نتخاطب معه باإلشارات‬
‫الصياح‪.‬‬
‫حتّى نتجنّب ّ‬
‫يتفرس يف الوجوه‬
‫اخلمسيني‪ ،‬ط ّياب احلماّ م‪ ،‬يظل ّ‬
‫ّ‬ ‫الرجل‬ ‫رشاد‪ّ ،‬‬
‫نارشا ابتسام َة مو ّد ٍة ال تزول من وجهه‪ ،‬وبني فينة وأخرى‬
‫الوافدة‪ً ،‬‬
‫يتف ّقد ال ّلحاف املشدود إىل حزامه‪ ،‬كأنّه خيشى أن يسقط يف غفلة منه‪.‬‬
‫ومتحمستان للدّ لك‪ ،‬األجساد العارية‬
‫ّ‬ ‫جسمه ممتلئ وك ّفاه كبريتان‬
‫هي ثروته‪ ،‬يد ّقق يف تفاصيلها‪ ،‬وهو يفصل بني من يستنجد بخدماته‬
‫الصالة يف جامع سيدي‬
‫تعود عىل االستحامم برسعة إلدراك ّ‬
‫ومن ّ‬
‫حمرز‪ .‬ومن املفرتض أنّه عرف طويل ووزين‪« ،‬هذا رجل غريب عن‬
‫الر َب ْط‪ ،‬أوساخه تغ ّطي برشته ّ‬
‫السمراء‪ ،‬لكن‪ ،‬ال بأس‪ ،‬أعرف كيف‬ ‫ّ‬
‫رسه‪ .‬شخص ّية رشاد مثرية‬‫أجعله يدفع أكثر ممّا سأطلبه»‪ ،‬يقول يف ّ‬
‫لالنتباه‪ ،‬كنت أنزع مالبيس وأص ّففها يف اخلزانة اخلشب ّية ّ‬
‫الصغرية‬
‫وأتابع حركاته التي ال هتدأ‪.‬‬
‫عم رزوقة‪ -‬يراقبني وأنا جّأته‬
‫عم رزوقة ‪-‬اجلميع‪ ،‬ينادونه ّ‬ ‫ظل ّ‬ ‫ّ‬
‫الركن الذي ُص ّففت فيه القباقيب‪ ،‬القوالب اخلشب ّية التي اصط ّفت‬
‫إىل ّ‬
‫أمامي كانت عىل مقاسات خمتلفة‪ ،‬وهي مزدانة بقطع جلد ّية سوداء‬
‫أي القباقيب لبسته حبيبة؟‪..‬‬
‫رسي‪ّ :‬‬
‫مشدودة بمسامري‪ .‬تساءلت يف ّ‬
‫القباقيب قديمة جدًّ ا‪ ،‬وطب ًعا ال يمكن أن يعود قدمها إىل قرابة أربع‬
‫مائة سنة‪ .‬خيايل جنّح بعيدً ا وختي ّل ُت حبيبة وهي ترتدي أحد القباقيب‬

‫‪154‬‬
‫ثم متيش وهي تشدّ ال ّلحاف عىل خرصها وتتاميل عىل صدى د ّقات‬ ‫ّ‬
‫الشموع‪.‬‬‫املمر متّجهة إىل كامل أرجاء احلماّ م لتشعل ّ‬
‫ثم تعرب ّ‬
‫القبقاب ّ‬
‫وال أدري كيف وصلني صدى د ّقات حممومة وأنا أخت ّيل حبيبة متيش‬
‫السخون» بعد أن وصلتها صيحات أ ّمها‪.‬‬ ‫الهث ًة جّ‬
‫باتاه «بيت ّ‬
‫السخون»‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬ال خيتلف بشكل كبري عن الوصف‬ ‫«بيت ّ‬
‫قصته‪ ،‬يقع يف ّ‬
‫مؤخرة احلماّ م وحجمه‬ ‫الذي قدّ مه الكاتب املجهول يف ّ‬
‫الساخن‬‫صغري بام يسمح باملحافظة عىل احلرارة املرتفعة‪ .‬حوض املاء ّ‬
‫يوجد عىل اليمني وهو مزدان بقطع رخام ّية ذات ألوان فاحتة‪ .‬اجلديد‬
‫اإلسمنتي املس ّطح الذي أضيف حتت القبو الدّ ائري‬
‫ّ‬ ‫فعلاً هو القبو‬
‫الصغرية بفتحة مستطيلة‬ ‫عىل مسافة مرتين‪ ،‬وطب ًعا ألغيت الفتحات ّ‬
‫أن هذه القاعة‬ ‫وطبيعي ّ‬
‫ّ‬ ‫كبرية توجد يف أعىل املدخل املنخفض‪.‬‬
‫الصغرية مالصقة للحوض األعىل أو ما يعرف بالنّحاسة التي تفيض‬ ‫ّ‬
‫أيضا فقد استبدل التّسخني‬‫فرن أتون مل يعد موجو ًدا هو ً‬‫إىل الفرن‪ُ .‬‬
‫بيعي‪ ،‬وبال ّطبع مل يبق من أثر‬
‫التّقليدي يف احلماّ م بأنابيب الغاز ال ّط ّ‬
‫لغرفة أتون وال لشجرة التّني الكبرية‪ ،‬فقد بنيت يف تلك اجلهة ميضة‬
‫جامع سيدي حمرز‪.‬‬
‫الرجل امللتحي الذي جلس أمامي وغ ّطس رجليه إىل مستوى‬ ‫ّ‬
‫سمر نظراته يف خلقتي ومل يتو ّقف عن متابعتي‬ ‫الركبة يف احلوض ّ‬ ‫ّ‬
‫عت إليه بارتياب ومل أسمح له‬ ‫وأنا أد ّقق يف تفاصيل القاعة‪ .‬تط ّل ُ‬
‫التكيز وختزين املشاهدات يف‬ ‫بمشاركتي احلديث‪ .‬كنت أحتاج إىل رّ‬
‫صارخا عىل ّ‬
‫أن احلديث‬ ‫ً‬ ‫إن نظراته املسامر ّية كانت دليلاً‬
‫ثم ّ‬
‫دماغي‪ّ ،‬‬
‫مزعجا‪ .‬لذلك مل أفكّر بتاتًا يف استفساره‬ ‫ً‬ ‫معه غري مريح‪ ،‬بل سيكون‬

‫‪155‬‬
‫أي يشء حول احلماّ م‪ ،‬ماذا سيضيف يل هذا املقرف الذي ال ُينزل‬ ‫عن ّ‬
‫محا‪ ،‬وحسب‬ ‫عينيه من وجهي؟ يف ذلك الوقت مل يكن احلماّ م مزد ً‬
‫الصباح الباكر أو يف‬‫فإن احلماّ م ال يشهد ازدحا ًما إالّ يف ّ‬
‫كالم رشاد‪ّ ،‬‬
‫املساء‪ ،‬أ ّما يف ال ّظهر‪ ،‬فال يدخله عاد ًة إلاّ كبار الس ّن‪ ،‬وأنا طب ًعا كنت‬
‫الرجل القابع‬
‫رسي‪ :‬من املفروض أن يغادر ّ‬ ‫حالة استثنائ ّية‪ .‬قلت يف ّ‬
‫تعرقت حليته املرختية وطفقت‬ ‫أمامي نحو «البيت الباردة»‪ ،‬فقد ّ‬
‫ح ّبات العرق تسيل من صلعته نحو جمريني يف خدّ يه‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫تتجمع يف ال ّلحية املرختية لتتقاطر مثلام تتقاطر ح ّبات املاء ّ‬
‫الصفراء‬ ‫ّ‬
‫من جوف حنف ّية مع ّطبة‪.‬‬
‫أخريا وقد يئس من وجود ُمرافق ثرثار‪ ،‬ويف تلك‬ ‫الرجل ً‬ ‫غادر ّ‬
‫األثناء ارتفعت درجة احلرارة وتصاعد البخار عال ًيا حتّى أصبحت‬
‫وكتفي‬
‫ّ‬ ‫الرؤية أمامي غائمة‪ .‬غ ّطى العرق كامل جسدي‪ّ ،‬نز من جبيني‬ ‫ّ‬
‫ثم انزلق عىل رقبتي وظهري وصدري‪ .‬أحسست أنيّ أذوب وأتالشى‬ ‫ّ‬
‫بكل من حويل وران صمت‬ ‫فقدت اإلحساس ّ‬ ‫ُ‬ ‫وأطفو كال ُبخار متا ًما‪،‬‬
‫مطبق‪ .‬مل أعد أسمع األصوات يف القاعة املحاذية وال خرير املياه التي‬
‫قفزت إىل خم ّيلتي‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫للحظات بخرير املياه يف وادي الدّ رب‪،‬‬ ‫ذكّرتني‬
‫والذوبان‬‫بحالة من االسرتخاء ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أحسست‬ ‫ثم تالشت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الصورة ّ‬‫تلك ّ‬
‫وكنت أطري وأطري كام يطري البخار حتّى اختفت جدران احلماّ م متا ًما‪.‬‬
‫الرخام ّية‪،‬‬
‫السوداء التي كانت تتناثر عىل القطع ّ‬
‫نظرت إىل البقع ّ‬
‫أن َش ْع ًرا أسود كثي ًفا‬
‫تأ ّملتها وسط ذاك البخار الكثيف وتراءى يل ّ‬
‫طوقتني‬ ‫الشعر يتد ّفق ويطفو حتّى ّ‬ ‫السوداء‪ّ ،‬‬
‫وظل ّ‬ ‫ينز من تلك البقع ّ‬
‫ّ‬
‫تله َف ْت أصابعي‬ ‫السوداء وتعالت نحو القبو جّ‬
‫وباتاه الفتحة‪ّ .‬‬ ‫خصالته ّ‬

‫‪156‬‬
‫رت قبضتي ألُحكم‬ ‫كو ُ‬ ‫ٍ‬
‫للمس خصلة كانت متناثرة عىل كتفي‪ّ ،‬‬
‫برعشة ناعمة تُدغدغ‬ ‫ٍ‬ ‫أحسست‬
‫ُ‬ ‫اإلمساك هبا فلم ُأمسك بيشء‪.‬‬
‫كل مسام جسدي‪ ،‬وتراءت يل فتحة كبرية داخل احلوض‪ ،‬تالشى‬ ‫ّ‬
‫املاء متا ًما من احلوض وقفزت امرأة وهي تلتقط خصالت شعرها‬
‫املتاموجة يف أرجاء القاعة‪ .‬استطعت أن أرى عينيها السوداوين‬
‫الواسعتني‪ ،‬كانت تنشج ودموعها تسيل عىل وجنتيها مثل شلاّ لني‪.‬‬
‫َت عىل مدّ رقبتها خارج الفتحة تراجعت بشكل رسيع‬ ‫وعندما أوشك ْ‬
‫أحس باخلوف وحاولت أن أمسك‬ ‫قوة ما جتذهبا نحو القاع‪ .‬مل ّ‬ ‫ّ‬
‫كأن ّ‬
‫يدي بإرصار وعناد ومل أمسك بيشء‪،‬‬ ‫مددت ّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم بعنقها‪،‬‬ ‫برأس املرأة ّ‬
‫الصغري‪ ،‬كامل رأسها يف متناول يدي‪ ،‬ومل أملس شي ًئا‪ .‬مل‬ ‫كان رأسها ّ‬
‫أيضا ومل تالمس وجهي‪ ،‬وإنّام كانت تتعاىل وتتاموج‬ ‫تصلني دموعها ً‬
‫ثم رصاخها‪« :‬يا ّمي‬ ‫مثل البخار متا ًما‪ .‬بعد ذلك سمعت أنّات املرأة ّ‬
‫ط ّلعني‪ ،‬ط ّلعني يا ّمي راين تعبت‪ ..‬راين تعبت يا ّمي»‪ ..‬متاوجت من‬
‫الذهب‪ ،‬ختاتلت أمامي بمختلف ألواهنا‪ ،‬بيضاء‬ ‫الفتحة سبائك من ّ‬
‫وورد ّية وصفراء‪ ،‬حاولت أن أمسك بسبيكة بيضاء المعة‪ ،‬وبغتة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وبحركة رسيعة‬ ‫ٍ‬
‫بحرارة ال تحُ تمل‬ ‫أحسست‬
‫ُ‬ ‫غابت تلك الفتحة‪،‬‬
‫ووقفت‬
‫ُ‬ ‫حبست أنفايس‬
‫ُ‬ ‫الساخن‪.‬‬
‫سحبت يدي من حوض املاء ّ‬ ‫ُ‬
‫ذراعي وأنا أعيد التأ ّمل من بعيد يف تلك‬ ‫ّ‬ ‫شبكت‬
‫ُ‬ ‫بجانب الباب‪،‬‬
‫الرخام‪ ،‬ظ ّلت جامدة أمامي‪ ،‬ال حركة‬ ‫السوداء املتناثرة عىل ّ‬ ‫البقع ّ‬
‫باملرة‪ ،‬وال‬
‫فيها وال رصاخ وال ملعان خيلب األبصار‪ .‬مل أكن مرتبكًا ّ‬
‫عيل‪ ،‬وإن‬ ‫مرتع ًبا من اجلان‪ ،‬فحكاية اجلان هذه ال يمكن أن تنطيل ّ‬
‫عيل وخيطفني كام يعتقد النّاس‪.‬‬ ‫كانت صحيحة َف ْليواجهني‪َ ،‬و ْليقبض ّ‬

‫‪157‬‬
‫عيني نحو الفتحة التي تيضء القاعة‪ ،‬وال أدري كيف‬ ‫ّ‬ ‫رفعت‬
‫عيل اخلياالت‪ ،‬لبثت العينان مصعوقتينْ ‪ُ ،‬تطلاّ ن ّ‬
‫عيل يف‬ ‫تناوبت ّ‬
‫مرصتان عىل التّحديق‪،‬‬ ‫الذهول ّ‬ ‫حالة من ّ‬ ‫ٍ‬
‫والذعر‪ .‬العينان ض ّيقتان‪ّ ،‬‬
‫الرموش‪ ،‬كأنهّ ام حمنّطتان‪.‬‬
‫متسمرتان بمنتهى الوقاحة دون حتريك ّ‬ ‫ّ‬
‫وأتفرس ّ‬
‫بكل‬ ‫ّ‬ ‫عيني نحو تلك الفتحة‬
‫ّ‬ ‫أحسست بنعاس وأنا أرفع‬
‫عناد يف َت ْينك العينني الض ّيقتني‪.‬‬
‫كنت يف س ّن الثالثة عرشة‪ ،‬أو أكثر من ذلك بقليل‪ ،‬أصعد‬
‫ليلة إىل سطح منزلنا‪ ،‬ومنه أعرب إىل سطح جارتنا سعد ّية‪ .‬أ ّمي‬ ‫كل ٍ‬ ‫ّ‬
‫الرجال»‪،‬‬ ‫تكرهها‪ ،‬وتشتمها أمامي وأمام أيب‪« :‬قهرمانة‪ ،‬ص ّيادة ّ‬
‫وأيب خيفي ضحكته بحركة من يده وال يع ّلق عىل كالمها‪ .‬وبعد أن‬
‫ينتهي من تناول الغداء يميض إىل وادي الدّ رب حتّى ال يسمع شتائم‬
‫ثم ينعس حتت شجرة التّوت‪ ،‬الشجرة الوحيدة‬ ‫أ ّمي‪ ،‬يرعى أغنامه ّ‬
‫أحب‬
‫ّ‬ ‫التي سماّ ها النّاس بعد موت أيب بـ«توتة إبراهيم»‪ .‬أنا كنت‬
‫كل ليلة‪،‬‬‫وأظل أراقبها ّ‬
‫سعد ّية آنذاك‪ ،‬أنكمش قرب نافذة بيت نومها ّ‬
‫حذرا خمافة أن تتف ّطن إ ّيل وتشنّع يب أمام أ ّمي‪ .‬زوجها يعمل‬
‫كنت ً‬
‫متاحا يل أن أختلس النّظر يف ظروف ُمرحية‬ ‫حارسا ليل ًّيا‪ ،‬لذلك كان ً‬
‫ً‬
‫لدي أن أتابع سعد ّية‬
‫ومثرية يف الوقت نفسه‪ .‬كانت أسعد األوقات ّ‬
‫ثم قميصها‬ ‫وهي تتخ ّلص من فستاهنا أو تنّورهتا يف غالب األحيان ّ‬
‫كل‬ ‫ثم « َك ْل ُسوهنا»‪ ،‬حتّى إنيّ أصبحت أعرف ّ‬‫ثم صدر ّيتها ّ‬‫القصري ّ‬
‫َالسينها»‪ ،‬ويف الغالب‪ ،‬هي بيضاء أو ورد ّية‪ .‬كنت أقول‬ ‫ألوان «ك ِ‬
‫الصغرية من القامش ختفي شي ًئا عجيبا حتت‬ ‫رسي‪ :‬تلك القطعة ّ‬ ‫يف ّ‬
‫سرُ ّ هتا‪ ،‬وكان ذلك الشيّ ء غري ًبا عندي‪ ،‬مل يسبق يل أن رأيته إلاّ يف‬

‫‪158‬‬
‫صور املجلاّ ت التي كنّا نتخاطفها ّ‬
‫ثم نخفيها يف وسط ضلف التّني‬
‫الشوكي‪.‬‬‫ّ‬
‫كنت أملح يف حلظات خاطفة‬ ‫بال‪ُ ،‬‬ ‫يف ال ّليايل األوىل‪ ،‬مل أر شي ًئا ذا ٍ‬
‫ذلك الشيّ ء الذي يتلف أعصايب أو أملح ّ‬
‫مؤخرهتا املمتلئة الشديدة‬
‫البياض وال ّلمعان‪ ،‬أو هندهيا الصغريين‪ ،‬رغم أنيّ كنت أرامها كبريين‬
‫كل‬ ‫من خلف الفستان‪ .‬ويف ليلة من ال ّليايل‪ ،‬خت ّلصت سعد ّية من ّ‬
‫مالبسها وطفقت ترقص بجنون عىل أنغام موسيقى صاخبة‪ ،‬ترقص‬
‫ثم تتالعب‬‫وتتثنّي وترفع ساقها وتدور وتدور وترفع ساقها األخرى ّ‬
‫تظل‬ ‫االتاهات‪ّ ،‬‬‫كل جّ‬‫بشعرها يف حركات رشيقة‪ ،‬وتحُ ّرك خصالهتا يف ّ‬
‫ترقص وتلهث وتزفر طويلاً طويلاً إىل أن تسقط عىل رسيرها‪ُ .‬‬
‫لبثت‬
‫كدت أغيب عن وعيي‬ ‫مشدوها‪ ،‬فاغر الفم يف ذلك الوقت الوجيز‪ُ ،‬‬ ‫ً‬
‫بلذ ٍة خفيفة حتّى تب ّلل رسوايل‪ ،‬ومل‬
‫فأحسست ّ‬
‫ُ‬ ‫وانتفضت معي دوديت‬
‫أكن أرتدي ت ّبانًا آنذاك‪ .‬ويف حلظة االنسحاق تلك‪ ،‬اقتنصتني عينا‬
‫فشعرت بارجتاج يف‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫حلظة خاطفة‬ ‫سعد ّية‪ ،‬التقت عيناي بعينيها يف‬
‫عظامي وجريت بني األسطح مصعو ًقا‪.‬‬
‫الرس ومل تشنّع يب عند أ ّمي‪،‬‬
‫أن سعد ّية كتمت ّ‬ ‫أغرب ما يف األمر ّ‬
‫وذات مساء التقطتني أمام بيتها وأدخلتني إىل غرفة نومها‪« ،‬إجيا هلنا يا‬
‫الرماد» مهست يل‪ .‬أرخيت عنقي والتقطت أنفايس بصعوبة‬ ‫ق ّطوس ّ‬
‫مترر يدهيا عىل هندهيا‬ ‫ثم ّ‬
‫وأنا أرى سعد ّية تنزع مالبسها ببطء أمامي ّ‬
‫مرة أرى ضحكة امرأة مهتاجة وهي ترفع‬ ‫ألول ّ‬
‫بحركات أثارتني‪ّ .‬‬
‫هندهيا بيدهيا‪ ،‬عيناها متو ّقدتان والمتعتان ولعطرها رائحة عجيبة‪.‬‬
‫السعادة املجهول؟»‪ ،‬تساءلت وأنا أتابع‬ ‫«من أين تأيت سعد ّية بعطر ّ‬

‫‪159‬‬
‫تدس وجهها قري ًبا من وجهي‬ ‫رقصاهتا وجنوهنا عىل السرّ ير وهي ّ‬
‫ثم تسحقني بقبالهتا املحمومة وشهقاهتا وزفراهتا‪ .‬الشيّ ء األكيد‪ ،‬يف‬ ‫ّ‬
‫الرماد‪ ،‬عىل قدر كبري من‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬أنيّ كنت فعلاً مثل ق ّطوس ّ‬
‫التاخي‪ ،‬مل أستطع أن أخت ّلص من شعوري باخلوف‪ ،‬كان اخلوف‬ ‫رّ‬
‫قو ًّيا يف داخيل‪ ،‬وإضافة إىل ذلك كان إحسايس ُمقر ًفا وأنا أط ّبق أوامر‬
‫أحس بتلك ال ّلذة اخلفيفة التي أحسست هبا‬ ‫ّ‬
‫الذل حتت الغطاء‪ .‬مل ّ‬
‫حينام تابعت سعد ّية يف رقصتها املجنونة‪ ،‬من بعيد‪ ،‬من تلك النّافذة‬
‫الصغرية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫التلصص عىل سعد ّية من‬‫ّ‬ ‫بعد تلك ال ّليلة‪ ،‬مل تنقطع عاديت يف‬
‫أي ر ّد فعل‪،‬‬
‫عيني‪ ،‬وال يصدر منها ّ‬ ‫ّ‬ ‫النّافذة‪ ،‬وكانت هي تقتنص‬
‫مرة عوت يف رأيس عاصفة الغضب‪،‬‬ ‫بل هي ال تكرتث يب‪ .‬وذات ّ‬
‫السي أمام‬
‫وحدث ما جعلني أكره سعد ّية وأحقد عليها وأجتنّب رّ‬
‫باب بيتها‪ .‬كيف أنسى ذلك؟ كانت ر ّدة فعيل غريز ّية عندما كرست‬
‫زجاج النّافذة يف ال ّلحظة التي ملحت فيها أيب داخل غرفة نوم سعد ّية‪.‬‬
‫وبت ليلتي‬‫وركضت مكدّ ًرا ومغمو ًما ّ‬
‫ُ‬ ‫وال أدري بعدها كيف جريت‬
‫ٍ‬
‫كهف يف وادي الدّ رب‪.‬‬ ‫األوىل وسط‬
‫حرك رشاد يديه أمام عيني وهو يسألني‪:‬‬
‫ّ‬
‫تعرق بام يكفي‪ ،‬ه ّيا اتبعني‪.‬‬
‫‪ -‬هل نمت؟‪ ..‬جسدك ّ‬
‫أجلسني رشاد أمامه عىل الدكّة ورشع يدلك جسدي بيديه‪ ،‬بدأ‬
‫الصدر واجلنبني ّ‬
‫والذراعني‪ ،‬دلك‬ ‫ثم ضغط عىل ّ‬ ‫ثم ال ّظهر ّ‬
‫بالعنق ّ‬
‫ٍ‬
‫وبرتكيز شديد‬ ‫ٍ‬
‫بحركات منتظمة ومتتابعة‬ ‫جسدي عضل ًة عضل ًة‬
‫حتّى أحسست باالرختاء‪« .‬استلق عىل ظهرك‪ ،‬ناولني ظهرك‪ ،‬أغلق‬

‫‪160‬‬
‫جامد‪ ،‬و بعد ذلك ارتدى‬ ‫ٍ‬ ‫فمك‪ ،‬نم عىل وجهك»‪ ،‬كان يأمرين بوجه‬
‫ٍ‬
‫بضغط منتظم‪ ،‬مرك ًّزا ّأولاً‬ ‫اجللدي يف يده اليمنى ورشع يدلك‬ ‫الق ّفاز‬
‫ّ‬
‫عىل العمود الفقري‪.‬‬
‫سألني اله ًثا‪:‬‬
‫محام؟‬
‫‪ -‬منذ متى مل تذهب إىل ّ‬
‫محام احلريم‬
‫‪ -‬منذ سنوات طويلة‪ ،‬آه‪ ،‬منذ سنة ‪ ،1992‬حتديدً ا يف ّ‬
‫بامرسيليا‪.‬‬
‫رصخ رشاد وهو يضغط عىل رقبتي‪:‬‬
‫محام احلريم؟ هل كنت‬
‫محام احلريم؟‪ ..‬وماذا تفعل أنت يف ّ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫تشتغل ط ّيا ًبا لنساء فرنسا هناك؟‪ ..‬هاهاها‪..‬‬
‫شك ّ‬
‫بأن‬ ‫مل تتو ّقف قهقهته‪ ،‬احلكاية أثارت فضوله‪ ،‬وأشعرته بال ّ‬
‫كثريا من اإلثارة‪.‬‬
‫محام احلريم ً‬ ‫يف ّ‬
‫قلت ضاحكًا وأنا أس ّلمه ذراعي اليمنى‪:‬‬
‫‪ -‬ال يا رشاد‪ ،‬ال جتعل خيالك يذهب بعيدً ا‪ ،‬ذهبت إىل هناك‬
‫يف مناسبة واحدة‪ ،‬وكنت برفقة هيلني‪ ،‬حبيبتي هيلني‪ ..‬تأكّد‬
‫الذهب يف يشء‪ ،‬هو يصلح‬ ‫محام ّ‬
‫محام احلريم ال يشبه ّ‬ ‫ّ‬
‫أن ّ‬
‫لالسرتخاء أكثر من االستحامم‪ .‬وليطمئ ّن قلبك هاهاها‪ ..‬ال‬
‫محام احلريم‪.‬‬
‫يوجد ط ّياب يف ّ‬
‫مل يع ّقب رشاد عىل ما قلت‪ ،‬و يف تلك اآلونة سنحت يل الفرصة‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‪:‬‬ ‫بأن أسأله عن حكاية ّ‬

‫‪161‬‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‪.‬‬ ‫قصة ّ‬
‫‪ -‬قل يل يا رشاد‪ ،‬األكيد أنّك تعرف ّ‬
‫تن ّفس ٍ‬
‫بعمق وقال‪:‬‬
‫الر َب ْط؟‬ ‫محام ّ‬
‫الذهب يف ّبر ّ‬ ‫‪ -‬طب ًعا‪ ،‬ومن ال يعرف قصص ّ‬
‫واحلكايات كثرية يا صاحبي‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫ ارو يل واحدة‪ ،‬إن سمحت طب ًعا‪ّ ،‬‬
‫الشائعات التي سمعتُها‬
‫كثرية وأريد أن أعرف احلقيقة منك‪.‬‬
‫صمت رشاد‪ ،‬ور ّبام كان يفكّر يف األثناء‪ ،‬أو ينتقي إحدى‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫احلكايات‪ّ ..‬‬
‫«ه ّيا يا سيدي‪ ،‬بمخترص الكالم‪ ،‬احلكاية من احلكايات الشائعة‬
‫زوجها وترك هلا‬ ‫ُ‬ ‫أن امرأ ًة بسيط ًة ﻣﺎﺕ‬‫يف «ﺑﺎﺏ ﺳﻮﻳﻘﺔ»‪ .‬يروى ّ‬
‫الشباب‪ ،‬فتدهور وضعها بعد وفاته‪ ،‬ودفعتها حالتها‬ ‫فتا ًة يف رحيان ّ‬
‫االجتامع ّية املزرية إىل غزل ﺍﻟﺼﻮﻑ وبيعه ﻲﻓ ﺳﻮﻕ «ﺍﻤﻟﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﻌﺮﻲﺑ»‪،‬‬
‫التسول‪ .‬ويف‬‫ّ‬ ‫لكسب بضع لريات((( تقيها اجلوع وحتميها من‬
‫احلقيقة‪ ،‬مل تكن تلك اللريات تفي باحلاجة‪ .‬ولك ّن ﺍﻤﻟﺮﺣﻮﻡ زوجها‬
‫عندما ﻣﺎﺕ ترك هلا «دارا ﻛﺒﺮﻴﺓ» تأوهيا هي وابنتها‪ .‬ويف يوم من األ ّيام‬
‫زارهتا إحدى اجلارات وقالت هلا‪ « :‬ﻳﺎ للاّ منرية‪ ،‬ﺩﺍﺭﻙ ﺗﺒﺎﺭﻙ ﺍﻪﻠﻟ‪ ،‬ﻓﻴﻬﺎ‬
‫وختصصني‬ ‫ّ‬ ‫غرف كثرية وزائدة عن النّصاب‪ ،‬ملاذا ال تكتفني بغرفتني‬
‫البق ّية للكراء؟ وهكذا تضمنني مبالغ مال ّية حمرتمة‪ ،‬وأنت تعرفني‪،‬‬
‫الرزق احلالل ال عيب فيه»‪ُ .‬أعجبت املرأة باالقرتاح فعالً‪ ،‬ومل تفكّر‬ ‫ّ‬
‫يف أنهّ ا ستُدْ ِخل إىل بيتها أغرا ًبا‪ ،‬وهذا يتناىف مع ال ُع ْرف والتّقاليد‪،‬‬
‫((( الريال التونيس‪ :‬عملة تونسية قديمة‪ ،‬ع ُّوضت بالفرنك التونيس يف ‪ 1‬جويلية‬
‫‪ .1891‬‬

‫‪162‬‬
‫الربح الوفري الذي‬
‫بل فكّرت فقط يف الرياالت التي ستغنمها ويف ّ‬
‫س ُينسيها الفقر‪.‬‬
‫ه ّيا يا سيدي‪ ،‬بمخترص ﺍﻟﻜﻼﻡ‪ ،‬ذهبت املرأة إىل املنادي أو الدلاّ ل‬
‫الربط وأعلمته برغبتها يف كراء غرفتني من دارها‪.‬‬ ‫كام نقول يف ّبر ّ‬
‫ار أو عابري‬ ‫السوق بح ًثا عن ّجت ٍ‬‫ﻭﻣﻦ ذلك احلني بدأ املنادي جولته يف ّ‬
‫غرف لإلقامة ‪ .‬ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻱ بدأ األغراب يتوافدون‪،‬‬ ‫سبيل حيتاجون إىل ٍ‬
‫ﺍﻟﺮﺒ ﺍﻟﻔﻼﻲﻧ‪ ،‬أرغب‬ ‫السقيفة‪« :‬ﺃﻧﺎ ﻓﻼﻥ ﺍﻟﻔﻼﻲﻧ‪ ،‬ﻣﻦ ّ‬ ‫ويطرقون باب ّ‬
‫غريب آخر‪« :‬ﺃنا‬
‫ٌ‬ ‫يف كراء غرفة لليلة واحدة»‪ .‬ويف الغد يطرق الباب‬
‫أحب كراء غرفة أل ّيام»‪ .‬ﺍﻤﻟﻔﻴﺪ‪ ،‬يف أحد األ ّيام‪،‬‬
‫ﻓﻼﻥ‪ ،‬ﻤﺗّﺎﺭ من اجلريد ّ‬
‫رجل عرفت‬ ‫ُطرق ﺍﻟﺒﺎﺏ عند املغرب‪ ،‬فأرسعت املرأة لفتحه ‪ ،‬قابلها ٌ‬
‫من هلجته أنّه مغريب‪ ،‬قال هلا‪ « :‬أختي‪ ،‬أنا أرغب يف كراء غرفة لثالثة‬
‫الذهب‪ .‬ﻓﺮﺣﺖ املرأة هبذا الكنز وجرت‬ ‫ثم أعطاها لريتني ﻣﻦ ّ‬ ‫أ ّيام» ّ‬
‫السعد‪ .‬أ ّما ﺍﻤﻟﻐﺮﻲﺑ فقد ﺩﺧﻞ الغرفة وأحكم‬ ‫نحو ابنتها لتخربها بأ ّيام ّ‬
‫إغالق الباب‪ ،‬وبقي هناك ملدّ ة يومني‪ ،‬ال صوت يصدر منه وال باب‬
‫يفتح‪ .‬ويف اليوم ال ّثالث ﺧﺮﺝ ُمبك ًّرا ومل يعد إلاّ مع املغرب وبرفقته‬
‫رجالن‪ ،‬أحدمها كان أسود البرشة‪ .‬ﺩﺧﻠﻮا إىل الغرفة وأغلقوا الباب‬
‫دون أن تصدر منهم حركات أو أصوات كأنهّ م أخلدوا للنّوم‪.‬‬
‫ومع منتصف ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﻋﻰﻠ ﺿﻮﺀ القمر الذي أضاء احلوش ﺧﺮﺝ‬
‫الرجالن وساروا نحو نقطة ما يف احلوش‪ .‬املرأة‪ ،‬قلبها‬
‫ﺍﻤﻟﻐﺮﻲﺑ ومعه ّ‬
‫دليلها‪ ،‬مل تستطع النّوم‪ ،‬سمعت أصواتًا مكتومة وغريبة فلبثت تتابع‬
‫الرجل ﺍﻤﻟﻐﺮﻲﺑ وهو جيرح‬ ‫ما جيري يف احلوش من ش ّباك غرفتها‪ .‬رأت ّ‬
‫وينز وال يتو ّقف‪ .‬بعد‬
‫ينز ّ‬‫الرجل األسود يف مستوى يده اليمنى ﻭﺍﻟﺪﻡ ّ‬
‫ّ‬

‫‪163‬‬
‫ثم أشعلوا شمع ًة أرسلت‬ ‫متوسط احلجم بالدّ م‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ذلك ملؤوا صحنًا‬
‫الصحن ‪ .‬رشعوا بعد ذلك يف القيام‬ ‫لسانًا من النّار ووضعوها وسط ّ‬
‫بتعاويذ وطالسم وحركات غريبة كام صدرت عنهم أصوات غري‬
‫مفهومة‪ .‬وبعد حلظات‪ ،‬هكذا قدّ رت املرأة‪ ،‬تش ّققت أرض ّية احلوش‬
‫الرجل األسود إىل جوفه ﻭﺑﺪأ ﻲﻓ إخراج سبائك‬ ‫شق كبري‪ .‬نزل ّ‬ ‫وانفتح ّ‬
‫الذهب يف خ ّف ٍة‪ ،‬أ ّما ﺍﻤﻟﻐﺮﻲﺑ ﻭمرافقه فقد‬
‫ﺍﻟﺬﻫﺐ‪ ،‬اهنمك يف إخراج ّ‬
‫الذهب داخل أكياس صغرية‪ .‬ﻭحينام امتأل‬ ‫استغرقا يف مجع قطع ّ‬
‫بالذهب تس ّللوا بكنزهم وهربوا‪.‬‬
‫كيسان ّ‬
‫تأكّدت املرأة من ّ‬
‫أن املغريب قد ّفر بالذهب مع مرافقيه ولن‬
‫يعود‪ .‬وعندما تط ّلعت إىل الفتحة وجدهتا ماتزال مفتوحة‪ّ ،‬‬
‫والشمعة‬
‫الصحن اململوء بالد ّم ماتزال تيضء اجلوف‪ .‬تسارعت‬ ‫تتوسط ّ‬
‫التي ّ‬
‫توجهتا إىل تلك‬ ‫ثم ّ‬‫أنفاسها وخت ّبلت وهي جتري نحو ابنتها فأيقظتها ّ‬
‫الفتحة التي تنبعث منها هبرة ختلب األبصار‪ .‬اندهشت املرأة أكثر‬
‫الذهب يلمع‪ ،‬فقالت البنتها‪« :‬انزيل يا ابنتي برسعة‪ ،‬انزيل‬ ‫وهي ترى ّ‬
‫ﺍﻟﺼﺒﻴﺔ حافي ًة إىل جوف الفتحة وبدأت‬ ‫ّ‬ ‫الذهب»‪ .‬فنزلت‬ ‫و أخرجي ّ‬
‫الذهب ِقط ًعا‬ ‫كل األحجام‪ ،‬طفقت تخُ رج ّ‬ ‫الذهب من ّ‬ ‫تُس ّلم أ َّمها َ‬
‫قطع ّ‬
‫الشمعة تنطفئ‬ ‫ثم قطع ًة قطع ًة إىل أن بدأت ّ‬ ‫ِ‬
‫ثم قطعتني قطعتني ّ‬‫قط ًعا ّ‬
‫وبدأت الفتحة من حيث ال تدري األ ّم وال ابنتها تنغلق شي ًئا فشي ًئا‪.‬‬
‫عيل‪ ،‬هايت يدك‪،‬‬ ‫وفجأ ًة أخذت الصب ّية ترصخ «يا ّمي‪ ،‬الفتحة ستنغلق ّ‬
‫عيل ‪ ،‬ﻳﺎ ﻣﻴﻤﺘﻲ‬ ‫يا ّمي أخرجيني‪ ..‬أنقذيني ﻳﺎ ﻣﻴﻤﺘﻲ‪ ،‬يد غريبة تقبض ّ‬
‫ﺍﻷﻡ فظ ّلت تقول وكأنهّ ا أصيبت‬ ‫ﺍﻟﺸﻤﻌﺔ توشك عىل االنطفاء»‪ ..‬أ ّما ّ‬
‫ﺍﻟﺬﻫﺐ‪ ،‬اخرجي‬ ‫بلوثة جنون‪ ،‬وال تسمع وال ترى‪« :‬اخرجي ّ‬

‫‪164‬‬
‫ﺍﻟﺬﻫﺐ»‪ ..‬وعندما انطفأت ّ‬
‫الشمعة متا ًما انغلقت الفتحة عىل الصب ّية‬ ‫ّ‬
‫وتتلوى‪« :‬ﻳﺎ ّمي‪ ،‬ﻳﻌﻴﺸﻚ‪ ،‬ابني يل‬‫ّ‬ ‫ﻭآﺧﺮ ﻣﺎ قالته أل ّمها وهي تنشج‬
‫ﻤﺣﺎ ْم ﻫﻨﺎ»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ﺑﺎﻟﺬﻫﺐ َّ‬
‫هيا يا سيدي‪ ،‬بمخترص الكالم الفتحة انغلقت ومل يبق هلا من‬
‫األرض الصب ّية ومل يعد ُيسمع هلا نشيج وال رصاخ‪ .‬أ ّما‬
‫ُ‬ ‫أثر‪ ،‬وابتلعت‬
‫الذهب التي قضت‬ ‫أخريا من جنوهنا ومن لوثة ّ‬ ‫املرأة فقد استفاقت ً‬
‫ومتزق‬‫الر َبط» ورشعت تبكي وتصيح ّ‬ ‫عىل زهرة من زهرات « َب ّر ّ‬
‫(((‬
‫خصالت من شعرها وتلطم خدّ هيا حزنا عىل هالك ابنتها «‬
‫رست يف سوق سيدي حمرز‬ ‫ُ‬ ‫الذهب‬ ‫محام ّ‬
‫غادرت ّ‬
‫ُ‬ ‫بعد أن‬
‫قدر كبري من االنتعاش وزال إحسايس بالربد‪.‬‬ ‫اج‪ ،‬كنت عىل ٍ‬ ‫الض ّ‬
‫ّ‬
‫الشواشني‪ ،‬حيث اعتدت أن أجلس مع هيلني‪،‬‬ ‫هت إىل مقهى ّ‬ ‫توج ُ‬‫ّ‬
‫حبيبتي تضع رأسها عىل كتفي وهتمس‪« :‬يف هذا املقهى أجد رائحة‬
‫الرائعة‪ ،‬إنّه احلنني إىل‬
‫والزخارف ّ‬
‫عائلتي‪ ،‬أستنشقها يف اجلدران ّ‬
‫املايض يا سعد‪ ،‬احلنني اجلارف الذي يرسي يف عروقي»‪ .‬يأتيني‬
‫بعد ذلك صوت حبيبة من بعيد وأنا أميش‪ ،‬كأنّه يأتيني من نفق ‪:‬‬
‫خيفت‬
‫ُ‬ ‫«يا ّمي ط ّلعني‪ ،‬ط ّلعني يا ّمي راين تعبت‪ ..‬راين تعبت يا ّمي»‪..‬‬
‫صوت حبيبة ألسمع صوت صب ّية أخرى‪« :‬ﻳﺎ ّمي‪ ،‬ﻳﻌﻴﺸﻚ‪ ،‬ابني‬
‫الصوتني‪ ،‬أحاول أن أم ّيز احلقيقة من‬‫ﻤﺣﺎ ْم ﻫﻨﺎ»‪ ..‬ويف ّ‬‫ﺑﺎﻟﺬﻫﺐ َّ‬ ‫يل ّ‬
‫الواقعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األسطوري من‬
‫ّ‬ ‫اخليال‪،‬‬
‫أن ّ‬
‫كل احلكايات‬ ‫أمعنت يف حتليل وقائع احلكايتني‪ ،‬من املؤكّد ّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫رواية تُضاف إىل احلدث‬ ‫قد انطلقت من حدث اختفاء فتاة‪ ،‬ومع ّ‬
‫كل‬
‫الشعب ّية املرتبطة بأسطورة محـّام ّ‬
‫الذهب وهي متداولة يف باب سويقة‪.‬‬ ‫((( إحدى احلكايات ّ‬

‫‪165‬‬
‫األصيل هبارات كثرية وخرافات شتّى جعلت منه بعد فرتة من الزمن‬
‫ّ‬
‫الرواة يف حياكتها‪ ،‬واألسطورة عندما تتقادم‬ ‫كل ُّ‬‫أسطور ًة ساهم ّ‬
‫تصبح حقيقة‪ ،‬مثل التّاريخ متا ًما‪ .‬ما ُيكتب هو ما يعتربه النّاس‬
‫يدون فليس سوى‬ ‫تارخيًا‪ ،‬أ ّما ما وقع بالفعل وجرى بني الناس ومل ّ‬
‫متكررة يف‬
‫ّ‬ ‫الذهب مسألة‬‫از َم ّيت‪ ،‬وتلك مهزلة أخرى‪ .‬مسألة ّ‬ ‫مجَ ٍ‬
‫احلكايات تزيد يف روعتها وتشويقها وشهرهتا‪ ،‬ومن الواضح‪ ،‬بل‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‪.‬‬ ‫أن الكنوز موجودة يف أرض ّ‬ ‫من اليقني ّ‬
‫اجلو العابق بروائح‬
‫حيا يل دو ًما‪ ،‬يف ذلك ّ‬ ‫الشواشني مر ً‬ ‫يبقى مقهى ّ‬
‫إحساسا‬
‫ً‬ ‫والشاي األخرض‪ ،‬ال ّلوحات الفن ّية متنحني‬ ‫البخور والقهوة ّ‬
‫الزمن اجلميل‪ ،‬هبدوئه وعاداته احلميمة‪.‬‬ ‫غري ًبا بأنيّ أحيا يف عمق ذاك ّ‬
‫الصوت التي‬ ‫بحثت عن صاحبة ّ‬ ‫ُ‬ ‫مل يكن املقهى مكت ًّظا مثل العادة‪،‬‬
‫للشيخ العفريت‪ ،‬كانت عىل مقربة من الوجق((( ‪،‬‬ ‫تُر ّدد كلامت أغنية ّ‬
‫تغنّي وهي حماطة بمجموعة من أصدقائها‪:‬‬

‫يم ْه َغ ْريب ورشقي ما يدومش َ‬


‫ديم ْه‬ ‫رب َ‬
‫الريح يف ال ّ‬ ‫«األ ّيام ِك ْ‬
‫يف ّ‬
‫نا صابرة والنّار هلـبت جـايش‬ ‫صبرّ ت قلبي للصرب ما بـايش‬
‫الصـبـر كلمة والفرج قدّ ا َمـ ْه‬ ‫عزا َمـ ْه‬
‫يا عني كــوين صابرة ّ‬
‫رسه خيـر من تطلي َع ْه(((»‬
‫كميـان ّ‬ ‫الصـرب مـا كيـفه دواء لِ ِّلـيعه‬
‫ّ‬
‫مر يب النّادل وطلبت «قهوة عريب»‪ ،‬وتلك‬ ‫رفعت رأيس عندما ّ‬
‫ُ‬
‫انتبهت‬
‫ُ‬ ‫عاديت عندما أجلس مع هيلني يف املقهى‪ .‬ويف تلك ال ّلحظة‬
‫وللامرة‬
‫ّ‬ ‫السوق‬
‫((( موقد صغري جدّ ا كان يف القديم تغىل عليه القهوة التي تقدّ م للعاملني يف ّ‬
‫املتبضعني‪.‬‬
‫من ّ‬
‫للشيخ العفريت‪.‬‬‫الريح» ّ‬‫ّ‬ ‫كيف‬ ‫ام‬‫ي‬‫ّ‬ ‫«األ‬ ‫أغنية‬ ‫من‬ ‫((( مقطع‬

‫‪166‬‬
‫شك املرأة التي خرجت‬‫إىل املرأة التي جتلس قبالتي‪ ،‬هي دون أدنى ّ‬
‫كل مالحمها‪،‬‬ ‫توضحت أمامي ّ‬‫من وكالة جوهر‪ ،‬هكذا أسميتها‪ّ ،‬‬
‫الزرقاوين الواسعتني‪ ،‬وبرشهتا‬
‫بشعرها األبيض القصري‪ ،‬وبعينيها ّ‬
‫حدست أنهّ ا جتاوزت الستّني بكثري ولكنّها حتافظ عىل‬
‫ُ‬ ‫البيضاء‪.‬‬
‫أناقتها‪ ،‬وحسب خربيت يف قراءة الوجوه واحلركات تأكّدت أنهّ ا‬
‫الشاي‬ ‫ترتشف من فنجان ّ‬
‫هيود ّية‪ ،‬كانت تقرأ كتا ًبا وبني فينة وأخرى ّ‬
‫األخرض أمامها‪.‬‬
‫انتبهت إ ّيل املرأة‪ ،‬ابتسمت وح ّيتني بحركة من عينيها‪ ،‬حي ّيتها أنا‬
‫أيضا واستسمحتها يف مشاركتها طاولتها‪ .‬الشيّ ء الذي لفت انتباهي‬ ‫ً‬
‫ُقرب حمفظتها‬ ‫أنهّ ا دعتني إىل طاولتها دون تفكري‪ ،‬قالت يل وهي ت ّ‬
‫الصغرية منها وتفسح يل املجال للجلوس‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬أنا ال ّ‬
‫أمل من االستامع إىل أغاين ّ‬
‫الشيخ العفريت‪ ،‬إنّه مذهل‪.‬‬
‫أحرك فنجان القهوة‪:‬‬
‫قلت هلا وأنا ّ‬
‫القوي واملؤ ّثر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الصوت‬‫‪ -‬فعال يا س ّيديت‪ ،‬وقد ُعرف بذلك ّ‬
‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬له قدرة عجيبة عىل االرجتال‪.‬‬
‫‪ -‬والديت كانت تعرفه بشكل ج ّيد‪ ،‬كان يسكن بجوار بيتنا‬
‫القديم يف حارة الشرّ ف باحلفص ّية‪.‬‬
‫كبريا يف‬ ‫الشيخ العفريت وحبيبة مسيكة أ ّثرا ً‬
‫تأثريا ً‬ ‫أن ّ‬‫ احلق ّ‬
‫‪ّ -‬‬
‫واألهم أنهّ ام قدّ ما‪ ،‬بكثري من اجلرأة‪ ،‬نو ًعا‬
‫ّ‬ ‫األغنية التونس ّية‪،‬‬
‫جديدً ا من األغاين اخلفيفة املرتبطة بحياة التونس ّيني اليوم ّية‪.‬‬
‫أيضا روول جورنو‪.‬‬
‫تنس ً‬
‫‪ -‬وال َ‬

‫‪167‬‬
‫أغلقت املرأة صفحات رواية « ‪L’insoutenable légèreté‬‬
‫مررت خي ًطا أبيض‬
‫‪ »de l’être‬ووضعتها أمامها عىل ال ّطاولة بعد أن ّ‬
‫الصفحة التي كانت بصدد قراءهتا‪:‬‬‫عىل ّ‬
‫‪ -‬اسمي خافا‪.‬‬
‫‪ -‬سعد‪ ،‬طالب قديم وفاشل يف التّاريخ‪.‬‬
‫أن هيلني كثريا ما‬ ‫قلت مبتسماً وأنا أرمق الكتاب وأنتبه إىل ّ‬
‫حدّ ثتني عن ميالن كونديرا‪« ،‬هل قرأت روايته غرام ّيات َم ِرحة؟»‬
‫كانت تسألني بطرف عينها مازحة‪.‬‬
‫الصفة التي قدّ مت‬ ‫قالت خافا ضاحكة ‪-‬ور ّبام أضحكتها غرابة ّ‬
‫هبا نفيس‪ :‬طالب قديم وفاشل يف التّاريخ‪ ..‬والغريب أنهّ ا مل تستفرسين‬
‫عن األمر‪:-‬‬
‫أيضا بال ّلغة‬
‫‪ -‬أنا ال أقرأ لكونديرا بالفرنس ّية فقط‪ ،‬أقرأ له ولغريه ً‬
‫احلق أنيّ أجد صعوبة يف فهم كلامت كثرية‪ ،‬ال ّلهجة‬ ‫العرب ّية‪ّ ،‬‬
‫الدّ ارجة أتك ّلم هبا بطالقة‪ ،‬وعرب ّيتكم صعبة ومع ّقدة‪ ..‬أضف‬
‫التمجات رديئة وبال روح‪ ،‬كيف يرتمجون‬ ‫أن أغلب رّ‬ ‫إىل ذلك ّ‬
‫تلك األعامل العظيمة بال روح‪ ،‬وبمنتهى القرف؟‬
‫هزت كتفيها وتابعت‪:‬‬
‫ّ‬
‫تعرض له اليهود من اضطهاد‬‫وخاص ًة ما ّ‬
‫ّ‬ ‫أيضا تارخينا‪،‬‬
‫‪ -‬أقرأ ً‬
‫املؤرخني يف تونس‬
‫أن ّ‬ ‫قريب وبعيد‪ ..‬ما اسرتعى انتباهي ّ‬ ‫ٍ‬
‫حي احلارة‪ ..‬حسب‬
‫سكتوا عن املحرقة النّاز ّية ضدّ اليهود يف ّ‬
‫عفوا‪ ،‬يا سعد‪ ،‬ملاذا سكتوا عن ذلك؟‬
‫عفوا‪ً ،‬‬
‫اعتقادك يا سعيد‪ً ،‬‬

‫‪168‬‬
‫‪ -‬يف رأيي‪ ،‬املسألة ليست عنرص ّية باألساس‪ ،‬األمر يعود بشكل‬
‫املؤرخني‪،‬‬ ‫بارز إىل غياب األمانة التّارخي ّية‪ .‬وجرت العادة‪ّ ،‬‬
‫أن ّ‬
‫أو فلنقل أغلبهم‪ ،‬ال يكتبون التّاريخ إلاّ حتت ال ّطلب‪ ..‬بد ّقة‬
‫قوات اجليش‬ ‫حررت ّ‬ ‫أكرب أقول لك مثلاً ‪ ،‬يف سنة ‪ّ 1942‬‬
‫األملاين األرايض التّونس ّية مرفوقة بوحدة تابعة لإلس إس‪،‬‬
‫ّ‬
‫السياسة املناهضة‬ ‫أساسا تطبيق ّ‬
‫ً‬ ‫مهمتها‬
‫هذه الفرقة كانت ّ‬
‫تم ترحيلهم إىل‬ ‫لليهود يف تونس‪ ،‬وقد بلغ عدد اليهود الذين ّ‬
‫هيودي‪ .‬وال‬
‫ّ‬ ‫معسكرات االعتقال يف أوروبا نحو ‪ 13‬ألف‬
‫املؤرخني حتدّ ث عن ذلك‪ ،‬فقط هي كتابات جا ّفة‬ ‫أحد من ّ‬
‫ومترسعة‪ ،‬وهذا مؤسف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬تلك األرقام يا سعد غري دقيقة‪ ،‬فقط هي أرقام رسم ّية ال تستند‬
‫إىل حقيقة ما جرى‪ ..‬وجرائم القتل واالغتصاب واحلرق‪ ،‬من‬
‫تك ّلم عنها؟ من فضحها بر ّبك‪ ،‬من؟ أيب أحرقوه‪ ،‬ق ّيدوه ّ‬
‫ثم‬
‫أحرقوه أمامي بدم بارد‪ ،‬كيف يمكن يل أن أنسى ما فعله‬
‫النّازيون بنا‪ ،‬كيف؟‬
‫بحثت خافا عن منديل أبيض يف حمفظتها‪ ،‬مسحت دموعها‬
‫ثم تابعت‪:‬‬
‫وهي ترسل زفرات حارقة ّ‬
‫الروماين مل يسلم اليهود من القمع‪ ،‬حدث ذلك‬ ‫‪ -‬منذ العهد ّ‬
‫يف قرطاج وأوتيكا وهدروناتوم (سوسة) ونيابوليس (نابل)‬
‫وكلوبيا (قليبية)‪ .‬مل يبق شرب يف هذا البلد مل يضطهدونا فيه‪.‬‬
‫الرومان‪ ،‬مل يفعلوا مثله رغم‬
‫وما فعله النّاز ّيون بنا مل يفعله ّ‬
‫التوحش واحليوان ّية املفرتسة‪ ..‬أسمعت‬
‫ّ‬ ‫قمة‬
‫جربوهتم‪ ..‬إنهّ ا ّ‬

‫‪169‬‬
‫باحليوانات اجلائعة واملفرتسة؟ أسمعت يا سعد؟ إنهّ م‬
‫النّازيون‪ ،‬كالب التّاريخ املسعورة‪ ..‬كنّا يف حارة الشرّ ف‪ ،‬يف‬
‫محاية سيدي حمرز‪ ،‬حامي محى اليهود‪ ،‬كانت حياتنا بسيطة مع‬
‫الغميضة‬
‫كل يوم‪ ،‬نلعب ّ‬ ‫جرياننا املسلمني‪ ،‬ألعب مع البنات ّ‬
‫احلي‪ ،‬وتنهرنا األ ّمهات‪:‬‬
‫ونقفز عىل احلبل ونُحدث جلبة يف ّ‬
‫الغميضة وال تقفزن عىل احلبل»‪ .‬كانت حياتنا بسيطة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫«العبن ّ‬
‫نتبادل أكالتنا ومالبسنا‪ ،‬ونمرض ونشفى م ًعا‪ ،‬ونميش يف‬
‫ونمر‬
‫ّ‬ ‫سوق البالط وسوق الع ّطارين بمنتهى االنرشاح‪،‬‬
‫والصوف‬ ‫ّ‬ ‫ببائعي اخلبز وال ّلبن والتّمور والبخور والعطور‬
‫الشواء والتّوابل وروائح الكسكس‬ ‫ونشتم روائح ّ‬
‫ّ‬ ‫والقامش‬
‫ونحس باجلوع ّ‬
‫والشبع م ًعا‪ .‬وغري بعيد من هنا‪ ،‬كنّا‬ ‫ّ‬ ‫وامللوخ ّية‬
‫والسوق الكبري‪ ،‬ويتبعنا‬
‫الصغري ّ‬ ‫والسوق ّ‬
‫احلفيص ّ‬
‫ّ‬ ‫بالسوق‬‫نمر ّ‬
‫ّ‬
‫ثم يضحكون لنا‬ ‫فتية‪ ،‬ال نخاف منهم‪ ،‬يسرتقون إلينا النّظر ّ‬
‫ويمرون‪ .‬ونعود م ًعا إىل بيوتنا عندما يرتفع صوت األذان‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كنّا نسمعه بقلوبنا‪ ،‬ال بآذاننا‪ ،‬يف جامع سيدي حمرز ويف جامع‬
‫الزيتونة‪ .‬القتلة‪ ،‬غدروا بنا‪ ،‬بال رمحة وال شفقة‪ ،‬بدم بارد‬ ‫ّ‬
‫ورخيص أحرقوا أيب أمامي‪.‬‬
‫دموع خافا أحرقت وجهي‪ ،‬وأغرقتني يف كآبة غريبة‪ ،‬ال أدري‬
‫ما إذا كانت خافا قد انتبهت إىل أصابعي التي ترتعش وأنا أتذكّر أيب‪.‬‬
‫وسمعت لغط‬
‫ُ‬ ‫أيقظوين كام أيقظوا أختي نور وقالوا لنا ّ‬
‫إن أيب مات‪،‬‬
‫ثم سمعت نواح أ ّمي‪.‬‬‫النّساء يف حوش دارنا ّ‬
‫تاريخ أيب هو تاريخ رجل عظيم‪..‬‬

‫‪170‬‬
‫مل يصدّ ق أيب ذات مساء وهو يتأ ّمل صندو ًقا غري ًبا يف أحد كهوف‬
‫بالصدفة‪ .‬حينام كان يرعى أغنامه سمع صوتًا‬ ‫وادي الدّ رب‪ ،‬اكتشفه ّ‬
‫غري ًبا داخل كهف قريب منه‪ .‬اقرتب من الكهف ورفع برصه جّ‬
‫باتاه‬
‫األتربة ا ّلتي هتاوت واكتشف هيكل صندوق قديم‪ .‬حبس أنفاسه‬
‫الصندوق الغريب‪ .‬ولكنّه‬ ‫وهو ينبش بيديه حتّى استطاع إخراج ّ‬
‫مخن وهو يعاينه أنّه حيتوي عىل أسلحة قديمة‪،‬‬ ‫مل يتمكّن من فتحه‪ّ ،‬‬
‫فكّر يف بادئ األمر أن ُيعلم األمن‪ ،‬وتراجع عن ذلك يف آخر حلظة‪.‬‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬سيحارصونه باألسئلة ويدرجون اسمه‬ ‫رجال األمن‪ّ ،‬‬
‫الرأس‪.‬‬ ‫حيب وجع ّ‬ ‫أن أيب ال ّ‬‫يف سجلاّ ت املرا َقبني‪ ،‬أضف إىل ذلك ّ‬
‫الصندوق عىل متن عربة جارنا إىل منزلنا‪ ،‬أحكم إخفاءه‬ ‫محل ذلك ّ‬
‫الزهور‪ .‬أ ّمي كاد يغمى‬ ‫حي ّ‬‫القش وقاد احلامر نحو ّ‬ ‫حتت كوم من ّ‬
‫الصندوق‪ ،‬مل ُيصدّ ق أيب بدوره وهو يخُ رج‬ ‫عليها بعد أن فتح أيب ّ‬
‫ذهب صغريتني و ُمسدّ ًسا وخرائط من اجللد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قطعتي‬
‫ْ‬ ‫الصندوق‬
‫من ّ‬
‫نتحول إىل‬‫الزهور‪ ،‬طب ًعا مل ّ‬
‫حي ّ‬
‫غي جمرى حياتنا يف ّ‬ ‫الصندوق رّ‬
‫ذلك ّ‬
‫أثرياء‪ ،‬فال ّثرا ُء كام حصل مع ِق ّل ٍة من املحظوظني حيتاج إىل سبائك‬
‫ظل أيب‬ ‫الذهب‪ ،‬إىل كنز عيل بابا كام تقول أ ّمي‪ .‬ومنذ ذلك اليوم ّ‬ ‫من ّ‬
‫ينبش يف كهوف وادي الدّ رب‪ .‬وكنت أنا‪ ،‬مثل ق ّطوس ّ‬
‫الرماد‪ ،‬أنبش‬
‫مثلام ينبش أيب‪ ،‬وأحيانا يلتفت إ ّيل ُمن ّب ًها‪« :‬ال تستعمل الفأس إلاّ عند‬
‫الضرّ ورة يا سعد‪ ،‬انتبه وإالّ هلكنا داخل الكهف»‪.‬‬
‫أن تلك الكهوف املحفورة يف وادي‬ ‫كربت عرفت ّ‬ ‫ُ‬ ‫عندما‬
‫الدّ رب كانت مساكن قديمة حفرها اللاّ ِجئون اإلسبان الذين ّفروا‬
‫من احلرب األهل ّية اإلسبان ّية يف الفرتة املمتدّ ة من ‪ 1936‬إىل ‪،1939‬‬

‫‪171‬‬
‫واملتمردين‬
‫ّ‬ ‫تلك احلرب التي جرت بني حكومة اجلبهة ّ‬
‫الشعب ّية‬
‫العسكر ّيني وكان يقودهم اجلنرال فرانكو‪ ..‬اللاّ جؤون اإلسبان ّفروا‬
‫واضطروا‬
‫ّ‬ ‫من جحيم فرانكو وقصدوا شامل إفريقيا ومنها القرصين‪،‬‬
‫الفرنيس‬
‫ّ‬ ‫إىل اإلقامة يف تلك الكهوف بناء عىل رغبة من املقيم العام‬
‫استعامري‬
‫ّ‬ ‫إريك لبون يف استخدامهم ك َع َملة جمنّدين إلنشاء مركز‬
‫بجهة القرصين‪.‬‬
‫حي ّ‬
‫املعذبني‪« ،‬احلاكم» ربط أقدامنا بكرات‬ ‫حي الفقراء‪ّ ،‬‬
‫ح ّينا هو ّ‬
‫الصندوق الغريب‪ ،‬يف سنوات‬ ‫من الوهم لنموت فقراء‪ ،‬وذلك ّ‬
‫الرماد»‪ ،‬أسري‬‫اجلوع تلك مل يبقنا فقراء‪ .‬عشت طفولتي كـ«ق ّطوس ّ‬
‫خلف أيب‪ ،‬وأنبش كام ينبش أيب‪ ،‬ومل أكره أيب عندما رأيته يف غرفة نوم‬
‫احلي أنّه يتس ّلل إىل بيوت‬
‫جارتنا سعد ّية ومل أكرهه عندما سمعت يف ّ‬
‫جاراتنا يف بعض ال ّليايل‪ .‬كانت ت ّلفني حالة من االمتعاض من تلك‬
‫ثم رسي ًعا ما أنسى وأركض‬ ‫األلسن ال ّثرثارة وتشملني حالة غضب ّ‬
‫وأحب‬
‫ّ‬ ‫أحب ضحكة أيب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نحو وادي الدّ رب وال أبايل بيشء‪ .‬كنت‬
‫أحب استنشاق رائحة الدّ خان التي ينفثها يف‬ ‫ّ‬ ‫األكل معه‪ ،‬وكنت‬
‫وأول كأس‬ ‫دخنتها كانت من علبة سجائر أيب‪ّ ،‬‬ ‫اهلواء‪ّ .‬أول سيجارة ّ‬
‫كل يشء وال‬ ‫نبيذ رشبته كان من قارورة أيب‪ .‬وكان أيب يتف ّطن إىل ّ‬
‫ويضمني‬
‫ّ‬ ‫يق ّطب جبينه وال يرصخ يف وجهي‪ ،‬إنّام حييطني بذراعيه‬
‫أن العامل الذي ال أرى فيه وجهه هو عامل‬ ‫راسخا ّ‬
‫ً‬ ‫بقوة‪ .‬كان اعتقادي‬
‫ّ‬
‫ثم تنهش حلمي‪ .‬وعندما كنت‬ ‫خميف‪ ،‬عامل تعوي فيه ذئاب‪ ،‬حتارصين ّ‬
‫بأن ذلك حيصل‬ ‫لدي إحساس عميق ّ‬ ‫أهرب إىل نزوايت ومحاقايت كان ّ‬
‫أيضا أنيّ قلت‬
‫برعاية أيب‪ ،‬ومل أكن أملك اجلرأة الستفساره‪ ،‬وال أذكر ً‬

‫‪172‬‬
‫له كلمة «أح ّبك»‪ ،‬كنت أر ّدد الكلمة يف صمتي وال أدري ملاذا مل تكن‬
‫شفتي؟‬
‫ّ‬ ‫تلك الكلمة تصل إىل‬
‫مات أيب حتت شجرته‪ ،‬توتة إبراهيم‪ ،‬مات ضاحكًا وعندما محلوه‬
‫ظل‬ ‫إىل بيتنا مل أبك مثلام بكت أختي‪ ،‬ومل أرصخ مثلام رصخت أ ّمي‪ّ .‬‬
‫وظل جسمي خمدّ ًرا‬‫ظل ضاحكًا ّ‬‫أيب طوال تلك ال ّليلة ممدّ ًدا أمامي‪ّ ،‬‬
‫توسل لكي يل ّفني بذراعيه‬
‫أن أيب مات‪ ،‬كنت أنظر إليه يف ّ‬ ‫ال يصدّ ق ّ‬
‫بقوة‪ ،‬وهيمس يف أذين‪« :‬اتبعني يا سعد»‪..‬‬
‫يضمني ّ‬ ‫ثم ّ‬ ‫كام كان يفعل ّ‬
‫تنس الفأس يا ق ّطوس ّ‬
‫الرماد»‪..‬‬ ‫ثم يضحك وهو يامزحني‪« :‬ال َ‬ ‫ّ‬
‫ترص‬ ‫غادرت مقهى ّ‬
‫الشواشني كام غادرت خافا‪ ،‬قالت وهي ّ‬
‫عىل دفع ثمن القهوة‪:‬‬
‫‪ -‬أنا ُأميض أغلب مساءايت هنا يف القراءة والتمتّع بأجواء املالوف‬
‫تنس يا‬
‫والسبت‪ ..‬ال َ‬ ‫وعبق املايض‪ ،‬باستثناء يو َمي اجلمعة ّ‬
‫الشواشني‪ ،‬ال تنس‬ ‫سعد‪ ،‬إن فكّرت طب ًعا يف العودة إىل مقهى ّ‬
‫أن تأتيني بأحد الكتب التي تتحدّ ث عن املدينة العتيقة‪ ..‬وإن‬
‫عثرت عىل كتاب يرسد وقائع املحرقة النّاز ّية ضدّ اليهود ّ‬
‫فإن‬
‫تلك املفاجأة ستكون رائعة‪..‬‬
‫محام‬
‫مرارا وأنا يف ّ‬ ‫انتبهت يف أثناء ذلك إىل ّ‬
‫أن نادية هاتفتني ً‬
‫يئست من خماطبتي كتبت يل رسالة قصرية بال ّلغة‬
‫ْ‬ ‫الذهب‪ ،‬و ّملا‬
‫ّ‬
‫الفرنس ّية ‪:‬‬
‫‪Demain, le mort sera enterré, commençons à‬‬
‫(((‪creuser tôt‬‬
‫((( غدً ا ُيدفن الرجل امل ّيت‪ ..‬علينا باالنطالق يف احلفر ُمبك ًّرا‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫غادرت املقهى وصوت تلك الفتاة اجلالسة بجوار الوجق‬
‫يتناهى إىل مسمعي ويشحنني بانفعاالت غريبة‪..‬‬
‫ونروحو للمرسى‬
‫يدور الفلك ّ‬ ‫«يا فاطمة بعد النّكد وال ُغ َّص ْه‬
‫ونروحو للدّ شـرة‬
‫يدور الفلك ّ‬ ‫يا فاطمة بعد النّكد والكرشه‬
‫ونقابلو األحبـاب آه يا برشه باليل جرى نكافيك ليس ننسى(((»‬

‫((( مقطع من أغنية «يا فاطمة» ّ‬


‫للشيخ العفريت‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫(‪)8‬‬
‫هيلني‬

‫جارا‬
‫موت سيمون كان احلدث األبرز يف األ ّيام األخرية‪ ،‬فقدنا ً‬
‫كثريا منذ‬
‫تغيت ً‬ ‫عزيزا يف ظروف غامضة وخ ّيم علينا احلزن‪ .‬شريا رّ‬ ‫ً‬
‫الشاحب‪ ،‬مل‬ ‫الصمت واختفت وراء وجهها ّ‬ ‫حدث املوت‪ ،‬لزمت ّ‬
‫الذهاب إىل‬‫هتتم بنباتاهتا اخلرضاء يف الشرّ فة وانقطعت عن ّ‬ ‫تعد ّ‬
‫املصاغة‪ .‬وبطبيعة احلال مل تعد تفتح نافذة غرفتي املط ّلة عىل رشفة‬
‫الراحل‪ ،‬بقيت الشرّ فة حزين ًة ومغرتبة‪ ،‬ومن املؤسف أن‬ ‫ش ّقة جارنا ّ‬
‫كل زهورها‪ .‬أسمع نشيج شريا يف ال ّليل‪ ،‬ومل يكن يف وسعي‬ ‫متوت ّ‬
‫أن أخ ّفف عنها حالة االكتئاب‪ ،‬مل تعد تأكل مثل العادة‪ ،‬تنكمش يف‬
‫قوهتا‬
‫غرفة النّوم وتكتفي بكأس حليب أو بعض الغالل‪ .‬شريا‪ ،‬رغم ّ‬
‫هشة ويائسة عند حدث املوت‪ .‬يوم مات‬ ‫وصالبتها تنقلب إىل امرأة ّ‬
‫إليف ظننت أنهّ ا تالشت متا ًما‪ ،‬كانت تتن ّفس بعرس وتسعل بشكل‬
‫أيضا حالة هستري ّية وهي تو ّدع أيب‪ .‬بقيت طوال الليل‬‫خميف‪ ،‬دامهتها ً‬
‫ثم‬
‫املسجى يف غرفة النوم‪ ،‬هتمهم بكلامت مسحوقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫تعانق جسده‬
‫السقف يف حالة وجوم غريبة‪ .‬يوم مات أيب‪ ،‬مل أكن‬ ‫ترشق عينيها يف ّ‬
‫أن شريا ستنهض من فراش اليأس‪ .‬أنا فعلاً أشفق عليها‪،‬‬ ‫عىل يقني ّ‬
‫بقوة‪ .‬ذاكرهتا هي ذاكرة املوت‪،‬‬‫أقرب وجهي من وجهها وأحضنها ّ‬ ‫ّ‬

‫‪175‬‬
‫مشاهد احلرق واالغتصاب والقتل يف طفولتها‪ ،‬مقتل أبيها وأ ّمها يف‬
‫وأخريا موت العزيز سيمون‪.‬‬
‫ً‬ ‫مروع‪ ،‬وموت إليف‬
‫حادث ّ‬
‫كنت يف غرفتي عندما سمعت طرقات عنيفة عىل باب ش ّقتنا‪،‬‬
‫شريا هي من فتحت الباب وتل ّقت خرب موت سيمون‪ ،‬إيزاك ّ‬
‫ظل‬
‫ً‬
‫مرتعشا يف حضنها‪« :‬مات سيمون‪ ..‬مات أيب‪ ..‬وأنا من قتله‪،‬‬ ‫يرصخ‬
‫أنا قتلت سيمون»‪.‬‬
‫األسبوعي بني سيمون وإيزاك‪ّ ،‬‬
‫الشجار احلا ّد‬ ‫ّ‬ ‫بعد ّ‬
‫الشجار‬
‫مغمى عليه‪ ،‬ال ّطبيب‬ ‫ٍ‬
‫الذي كنّا نتابعه بحرية يف ش ّقتنا‪ ،‬سقط سيمون ً‬
‫املصحة بحضور شريا وإيزاك قال يائسا‪« :‬لقد‬ ‫ّ‬ ‫الذي فحصه يف‬
‫أصيب بجلطة دماغ ّية حا ّدة‪ ،‬ويف سنّه مل يكن من املمكن إنقاذه»‪.‬‬
‫املصحة‪ .‬قال األط ّباء‬
‫ّ‬ ‫بعد ذلك أصيب إيزاك بنوبة عصب ّية ونقلناه إىل‬
‫إن املخدّ رات أتلفت أعصابه‪ ،‬وحدث املوت زاد يف تعقيد املسألة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فإن إيزاك حيتاج إىل سنوات ليشفى‪.‬‬ ‫ولذلك ّ‬
‫مل يكن من املفيد أن نحقد عىل إيزاك أو نغضب منه‪ ،‬ال أدري‪،‬‬
‫ر ّبام هو ضح ّية املحيط املسعور الذي سقط يف جحيمه وبدّ د فيه ثروة‬
‫رصح لنا أنّه يوشك عىل اإلفالس‬ ‫والده‪ .‬سيمون يف أ ّيامه األخرية ّ‬
‫بسبب محاقات ابنه مع مافيا املخدّ رات والقامر‪ .‬حني زرت إيزاك يف‬
‫املصحة رفقة ماريا بدا يل كطفل‪ ،‬ور ّبام فقد مالمح ذلك الوحش‬ ‫ّ‬
‫مها حيدّ ق يف الفراغ‪ ،‬ومل تتي ّقظ عيناه عندما‬ ‫الذي جعله ف ًّظا‪ّ ،‬‬
‫ظل سا ً‬
‫أحسست يف تلك ال ّلحظات القصرية‬ ‫ُ‬ ‫ملحني وملح ماريا بجواري‪.‬‬
‫أن اإلنسان عندما ينتهي إىل اليأس املطبق يتخ ّلص بإرادته من قناعه‬ ‫ّ‬
‫املرعب ويعود إىل مالمح طفولته األوىل‪ ،‬يستغرق يف اسرتجاع‬

‫‪176‬‬
‫توحشه الذي تس ّبب يف موت‬
‫أن إيزاك فقد ّ‬ ‫املايض بحميم ّية‪ .‬وأعتقد ّ‬
‫سيمون‪ ،‬وهو يعيش حالة حنني تعيده إىل حضن والده وهو طفل‬
‫حيبو ويكتشف احلياة‪ .‬إيزاك‪ ،‬حيتاج إىل سنوات ليشفى‪ ،‬وحينام يشفى‬
‫كثريا يف ما أظ ّن‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وسيتعذب ً‬ ‫سيبكي أباه‬
‫أيضا باخلرب املؤسف وقاطعت دراستها‪ ،‬الرا ال تنسى‬‫علمت الرا ً‬
‫الرقيقة التي كان يدغدغ هبا‬
‫عطف سيمون عليها وال تلك الكلامت ّ‬
‫ثم أغلقت باب غرفتها يف حالة‬ ‫ٍ‬
‫بحرقة وهي تبكي ّ‬ ‫سمعها‪ .‬عانقتني ُ‬
‫حزن‪ .‬بعد ذلك انشغلت باملطبخ ّملا الحظت انكسارنا‪ ،‬أنا وشريا‪.‬‬
‫أن الرا ترغب يف احلديث‬ ‫أحس بشكل طا ٍغ ّ‬ ‫وال أعرف ملاذا كنت ّ‬
‫معي‪ ،‬تأيت إىل غرفتي ملو ّية العنق‪ ،‬يف حالة وجوم‪ ،‬وعندما تكتشف‬
‫ثم تعود إىل غرفتها‪.‬‬
‫حزين العميق تسبل عينيها ّ‬
‫يف مثل هذه ال ّظروف بطبيعة احلال مل أذهب مع ماريا إىل ّ‬
‫محام‬
‫احلريم وال إىل سوق الفاكهة واخلرض‪ .‬انشغلت بالقراءة والبحث‬
‫ومتابعة سري العمل يف املصاغة‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬لست متض ّلعة يف معرفة‬
‫الذهب‬ ‫الذهب سواء كان مستعملاً أو جديدً ا‪ ،‬وال أم ّيز أنواع ّ‬
‫سعر ّ‬
‫بعضها من بعض وال أعرف تفاصيل الغرام والعيار الذي حدّ ثني‬
‫تدرب عىل يد أيب‪ .‬حيدّ ثني أحيانًا بمالمح‬ ‫الصائغي الذي ّ‬
‫عنه ماثيو‪ّ ،‬‬
‫جا ّدة فأصغي بغري اكرتاث وبني فرتة وأخرى أستحسن األمر بحركة‬
‫من رأيس وأمتنع عن طرح أسئلة تقتضيها تفاصيل حكاياته‪ .‬أعرف‬
‫يف الواقع بعض املعلومات العا ّمة‪ ،‬مثال‪ ،‬عندما يرتفع سعر النّفط‬
‫الذهب‬ ‫الذهب ويف مقابل ذلك ينخفض سعر ّ‬ ‫يرتفع بالضرّ ورة سعر ّ‬
‫هتمني املعادالت واألرقام‪،‬‬ ‫ك ّلام ارتفع سعر الدّ والر‪ .‬بشكل آخر ال ّ‬

‫‪177‬‬
‫هيودي دقيق‬
‫ّ‬ ‫مطولاً مع ماثيو‪« .‬ماثيو رجل‬
‫شريا تفهمها وتتناقش فيها ّ‬
‫يف عمله»‪ ،‬كام تقول شريا‪ ،‬أتابعه من خلف مكتب أيب يف املصاغة‬
‫الصغرية‪.‬‬‫فأتذكّر تلك األيام التي كنت أرافق فيها إليف إىل مصاغته ّ‬
‫الساعات يف العمل وال ينتبه إ ّيل‪ ،‬وكنت أستغرق يف‬ ‫كان يميض ّ‬
‫القراءة إىل أن يغلبني النّعاس‪ .‬أيب كان يذوب يف عمله مثلام يذوب‬
‫أن إرصاره هو ما جعله ينجح‪ .‬حتّى‬ ‫الذهب متا ًما‪ ،‬وكنت أعرف ّ‬ ‫ّ‬
‫ظل يقاوم‬ ‫مسيحي بجواره ّ‬
‫ّ‬ ‫تعرض إىل مضايقات من تاجر‬ ‫عندما ّ‬
‫إىل أن حازت املصاغة عىل ثقة اجلميع يف مارسيليا‪ .‬ال أم ّيز هنا بني‬
‫تطرف أو‬
‫كل األحوال يعشقه اجلميع‪ ،‬بال ّ‬ ‫األديان‪ ،‬العمل املتقن‪ ،‬يف ّ‬
‫عنرص ّية أو حقد‪.‬‬
‫ظل كام هو‪ ،‬مل تشأ شريا أن تستبدله‬ ‫مكتب أيب يف املصاغة ّ‬
‫أيضا عىل ترتيبه ونظامه‪ ،‬متا ًما كام تركه إليف‪،‬‬
‫بمكتب جديد‪ ،‬أبقت ً‬
‫صغريا عىل اجلانب األيمن للمكتب فيه صورة‬ ‫ً‬ ‫إطارا‬
‫فقط أضافت ً‬
‫تتجمد يف ذاكريت ويصاحبها‬ ‫ّ‬ ‫أيب وهو يضحك‪ ،‬ضحكته رائعة ال‬
‫احلب‪ .‬كام حافظت شريا عىل عادة إليف‬ ‫ّ‬ ‫لدي‪ ،‬هو رنني‬‫رنني حم ّبب ّ‬
‫كل صباح‪ ،‬يا لروعتها! رفضت أن تستبدل‬ ‫الزهور ّ‬ ‫يف استبدال ّ‬
‫مذهبة‪ ،‬قالت بكثري من احلرسة‪:‬‬ ‫املزهر ّية البيضاء املزدانة بأشكال ّ‬
‫قضيناها أنا وإليف‪ ،‬وتلك‬ ‫«لقد اقتنيناها من اهلند‪ ،‬بعد رحلة ساحرة ّ‬
‫املزهر ّية من عطر أ ّيام ح ّبنا»‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬وبمنتهى الد ّقة‪ ،‬تتابع‬
‫شريا العائالت التي كان يرعاها إليف يف خمتلف املناسبات‪ ،‬وهي‬
‫هيمه أن ُيسعد من يطرق بابه‪،‬‬ ‫عائالت هيود ّية ومسلمة‪ .‬إليف كان ّ‬
‫وتتساوى عنده أعياد «الغفران» و«بوريم» و«الفصح» مع عيدي‬

‫‪178‬‬
‫يوزع األلبسة وكراتني هبا موا ّد‬‫الفطر واألضحى‪ .‬ويف عادته‪ ،‬كان ّ‬
‫رسي‪،‬‬ ‫كل ذلك بشكل ّ‬ ‫غذائ ّية باإلضافة إىل مبالغ مال ّية‪ ،‬يفعل إليف ّ‬
‫كل تلك احلقائق عنّا‪ .‬وبعد وفاته اكتشفنا تلك التّفاصيل يف‬ ‫وخيفي ّ‬
‫كنّش صغري بدرج املكتب‪ ،‬ال أنسى ذلك املساء حني وقفت أمامي‬
‫فتاة قمح ّية البرشة وسألت عن أيب‪ ،‬وحني أعلمتها أنّه توفيّ انخرطت‬
‫أحسست بأملها وهي تبكي وترتعش‪ .‬ليليا‪ ،‬فتاة جزائر ّية‬ ‫يف ٍ‬
‫بكاء ُم ّر‪،‬‬
‫ُ‬
‫خترجت مهندسة ديكور‪ ،‬قالت‬ ‫مسلمة عادت لتشكر إليف بعد أن ّ‬
‫الزهور بالقرب من صورة أيب‪:‬‬ ‫وهي تضع باقة ّ‬
‫‪ -‬الس ّيد إليف أنقذين‪ ،‬كام أنقذ عائلتي‪ ،‬مل تصدّ ق أ ّمي أن‬
‫يصادفها رجل يف مثل شهامة الس ّيد إليف‪ ،‬لقد أنقذنا بشهامة‬
‫وظل يسدّ د معلوم كراء ش ّقتنا يف ّ‬
‫حي لو بانري‪ ..‬كان يتابع‬ ‫ّ‬
‫أيضا دراستي ودراسة إخويت‪ ،‬وعندما التحق أخي بالعمل‪،‬‬ ‫ً‬
‫حاولت أ ّمي أن تعيد بعض املبالغ‪ .‬والدك امتنع بشدّ ة‪ ،‬أجل‪،‬‬
‫الس ّيد إليف كان رجلاً عظيماً ‪.‬‬
‫حني أفتح درج مكتب إليف تطالعني رائحته‪ ،‬ك ُّل وثائق أيب‬
‫اخلاصة يف هذا الدّ رج‪ ،‬أتأ ّمل صوريت ّأولاً وأنا طفلة‪ّ ،‬‬
‫الصورة ملتقطة‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫باستمرار‪.‬‬ ‫يف قرص لونغشامب‪ ،‬متحف الفنون اجلميلة الذي أزوره‬
‫ألتقط جمموعة صور أخرى‪ ،‬أتأ ّمل الصور احلميمة‪ ،‬صور شريا‬
‫وإليف يف كاتدرائ ّية نوتردام دي الغارد‪ ،‬ويف كاالنك اجلميلة التي‬
‫الساحل بني مارسيليا وكاسيس ويف أمكنة أخرى ال‬ ‫تقع عىل امتداد ّ‬
‫والرحالت‪.‬‬
‫للراحة ّ‬ ‫خيصص أيب كامل شهر أوت ّ‬ ‫أعرفها‪ .‬يف العادة ّ‬
‫السبت وأوت مقدّ سان‪ ،‬يقول إليف بكثري من املرح‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪179‬‬
‫قبل رحيل إليف بثالثة أ ّيام احتفلنا بشكل محيم بعيد «بوريم»‪،‬‬
‫شريا أعدّ ت لنا ليلتها مأدبة باذخة وكان إليف ‪-‬ومل أحلظ ذلك من‬
‫ونادرا ما كان يفعل‬
‫ً‬ ‫قبل‪ -‬يأكل ويرشب برشاهة‪ .‬كان سعيدً ا كطفل‪،‬‬
‫ذلك يف أعيادنا‪ .‬حدّ ثنا عن عالقته بوالده أدريان‪ ،‬تلك العالقة التي‬
‫أيضا يف الشرّ ب إىل‬
‫حيتفظ هبا يف ذاكرته وال متحوها األ ّيام‪ ،‬بالغ ً‬
‫السكر وبني حلظة وأخرى يرفع كأسه مرشق الوجه ويصيح‬ ‫درجة ّ‬
‫صحتك يا أدريان»‪.‬‬‫بحامس طفل‪« :‬عىل ّ‬
‫قصة االحتفال‬ ‫سألت شريا عن عيد «بوريم»‪ ،‬وكنت ال أعلم ّ‬ ‫ُ‬
‫ثم‬
‫َتت لبعض الوقت‪ ،‬ر ّبام لتتذكّر وترتّب أفكارها‪ّ ،‬‬ ‫هبذا العيد‪ ،‬فسك ْ‬
‫قالت‪« :‬عيد بوريم يا هيلني خي ّلد ذكرى ها ّمة من تاريخ اليهود‪ ،‬وهي‬
‫ذكرى نجاهتم من قرار هامان بإبادهتم‪ .‬فقد طلب هامان من امللك‬
‫السامح له بقتل هيود مملكته‪ ،‬وبالفعل سمح له امللك بذلك‬ ‫أسوريوس ّ‬
‫السابع من شهر آذار‪/‬مارس لقتلهم باعتبار هذا‬ ‫واختار هامان يوم ّ‬
‫أيضا‪ .‬فلماّ علم‬
‫اليوم هو يوم وفاة نب ّيهم دون أن يعلم أنّه يوم والدته ً‬
‫موردخاي اليهودي باخلرب استنجد بأستري زوجة امللك الذي مل يكن‬
‫أن زوجته هيود ّية‪ .‬وطلبت أستري بعد ذلك أن يصوم اليهود‬ ‫يعلم ّ‬
‫ثم فكّرت يف حيلة أطاحت بالوزير هامان إذ أمر امللك‬ ‫ثالثة أ ّيام‪ّ ،‬‬
‫بقتله وهكذا نجا اليهود‪ .‬ومنذ تلك احلادثة أصبح اليهود حيتفلون‬
‫الرابع عرش من شهر آذار ويصومون اليوم ال ّثالث‬ ‫بعيد «بوريم» يوم ّ‬
‫عرش منه تعظيماً للملكة أستري»‪.‬‬
‫يف هذه األ ّيام املشحونة باحلزن وصلتني رسالة سعد‪ .‬مل يساورين‬
‫الشك ُمطل ًقا‪ ،‬يف جد ّية سعد وصدقه‪ .‬كتب يل عن مغامرته يف ّ‬
‫محام‬ ‫ّ‬

‫‪180‬‬
‫كل‬ ‫الذهب وانتبهت إىل تلك التفاصيل املذهلة‪ .‬قدّ م يل سعد ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫للشك‬ ‫املعلومات التي أحتاج إليها‪ ،‬وتأكّد عندي بام ال يرتك جمالاً‬
‫السخون»‪ ،‬كام كتب سعد‪،‬‬ ‫الذهب‪ ،‬وحتديدً ا «بيت ّ‬‫محام ّ‬
‫أن أرض ّ‬ ‫ّ‬
‫حتتوي عىل كنز ثمني‪ ،‬وهو يتم ّثل‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬يف املجوهرات‬
‫أيضا‬‫الذهب التي خ ّبأها اليهود يف تلك األرض‪ .‬حدّ ثني ً‬ ‫وسبائك ّ‬
‫عن جلسته املثرية مع خافا‪ ،‬كم هو صغري هذا العامل! قلت يف نفيس‬
‫حب‬
‫قصة ّ‬ ‫أي قدر قاده إليها! خافا عاشت أغرب ّ‬ ‫وأنا أقرأ كلامته‪ّ ،‬‬
‫وهيودي يف ظروف ّ‬
‫أقل ما يقال عنها إنهّ ا‬ ‫ّ‬ ‫يمكن أن تعاش بني هيود ّية‬
‫مؤملة‪ .‬ال أعلم بالتّحديد ما الذي كان يشغل جوهر عندما صارحته‬
‫خافا بح ّبها يف أ ّيام اغرتاهبا وانكسارها‪ .‬وخافا رغم اإلغراءات‬
‫ظ ّلت إىل اليوم حمافظة عىل ح ّبها املجنون جلوهر‪ ،‬وذلك يعطيني‬
‫احلب مسألة مع ّقدة‪ ،‬ال يمكن حتليلها أو تفسريها‬
‫بأن ّ‬‫انطبا ًعا إضاف ّيا ّ‬
‫احلب حيافظ عىل طاقته يف‬ ‫ّ‬ ‫من زوايا علم ّية جا ّفة‪ ،‬وازددت يقينًا ّ‬
‫بأن‬
‫أشدّ عواصف اخليبة‪.‬‬
‫بالرجل‬
‫أيضا جمنونة ّ‬
‫زرت القرصين مع سعد كنت أنا ً‬ ‫ُ‬ ‫عندما‬
‫الذي وهبته قلبي‪ ،‬وكنت يف أ ّيامي األوىل أحتاج إىل معرفة سعد‪ ،‬إىل‬
‫اإلصغاء بد ّقة أكرب وانتباه أشدّ إىل د ّقات قلبه‪.‬‬
‫أسميها يف أ ّيام‬
‫ّ‬ ‫خالتي منج ّية‪ ،‬والدة سعد ‪-‬هكذا كنت‬
‫باتاه‬‫حركت عينيها جّ‬
‫زياريت‪ -‬استقبلتني باندهاش يف بادئ األمر‪ّ ،‬‬
‫يمهد لتلك‬ ‫وفهمت من تلك اإلشارات ّ‬
‫أن سعد مل ّ‬ ‫ُ‬ ‫سعد مستفرسة‪،‬‬
‫واحلق أنيّ استحسنت األمر‪ ،‬أحببت أن أعرف عائلته بشكل‬ ‫ّ‬ ‫الزيارة‪.‬‬
‫ّ‬
‫عفوي وبسيط‪ ،‬وهو ما حدث بالفعل‪ .‬ق ّبلتني اخلالة منج ّية كأنهّ ا‬
‫ّ‬

‫‪181‬‬
‫تق ّبل امرأة غريبة وظ ّلت حتدّ ق يف مالحمي التي أثارت انتباهها‪ .‬نور‪،‬‬
‫ثم قمييص األبيض‬ ‫شقيقة سعد أخذت تتأ ّمل ترسحية شعري ال ّطويل ّ‬
‫وأخريا حذائي األسود‪ .‬كانت‬‫ً‬ ‫الصدر ورسوال اجلينز‪،‬‬ ‫املفتوح عند ّ‬
‫نور هنمة بالفعل وهي تتابعني وال تسمع كلامت أ ّمها‪« :‬أغلقي باب‬
‫الدّ ار يا نور»‪ .‬وكان من ال ّطبيعي يف زياريت األوىل لعائلة سعد أن أقدّ م‬
‫هدايا‪ ،‬جلبت معي قالدة ذهب ّية من تصميم إليف للخالة منج ّية‪،‬‬
‫وهي من القالئد النّادرة التي نحتفظ هبا يف املصاغة‪ .‬أ ّما نور وبعد‬
‫جلبت‬
‫ُ‬ ‫قت يف مسألة مقاساهتا مع سعد قبل زياريت لبيتهم‪ ،‬فقد‬ ‫أن د ّق ُ‬
‫هلا مالبس كثرية‪.‬‬
‫ما حصل بعد ذلك أنيّ مل أغضب من ر ّدة فعل اخلالة منج ّية حينام‬
‫تونيس ومقيمة يف فرنسا‪ .‬سعد قال‬ ‫ّ‬ ‫أعلمها سعد أنيّ هيود ّية من أصل‬
‫أن منج ّية ال تعرف مارسيليا‪.‬‬ ‫فرنسا ومل يقل مارسيليا‪ ،‬وهو يعرف ّ‬
‫قالت اخلالة منج ّية منكمشة الوجه‪:‬‬
‫‪ -‬هيود ّية؟‪ ..‬هيود ّية يا فرخ احلرام؟‪ ..‬يعني كافرة؟‪..‬‬
‫انفجرنا‪ ،‬أنا وسعد ضاحكني‪ ،‬كلامت اخلالة مل تلهب وجهي ومل‬
‫عفوي‪ .‬بعد‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫تزعجني‪ ،‬ويف الواقع انتظرت أن حيصل ذلك‪،‬‬
‫حرك سعد أطرافه وسارع إىل التّوضيح‪:‬‬
‫ذلك‪ّ ،‬‬
‫ اليهودي مثلنا يا منج ّية‪ ،‬واليهود من أهل الكتاب وليسوا‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫ك ّف ًارا‪ ..‬وهم يص ّلون ويصومون‪ ،‬وهلم دينهم كام لنا ديننا‪.‬‬
‫مسح سعد العرق من جبينه وتابع‪:‬‬
‫والسالم حينام ذهب إىل املدينة ّأول ما‬
‫الصالة ّ‬
‫ الرسول عليه ّ‬
‫‪ّ -‬‬

‫‪182‬‬
‫فعل هو أنّه عقد اتّفا ًقا مع اليهود‪ ،‬وأبرم معهم معاهدة تكافل‬
‫السلم وتنارص يف احلرب‪.‬‬
‫وتنارص‪ ،‬تكافل يف ّ‬
‫أن اخلالة فهمت يف تلك اآلونة شي ًئا ممّا قاله سعد‪،‬‬‫ال أعتقد ّ‬
‫استحسنت‬
‫ْ‬ ‫وهي ال تفهم أصلاً التّكافل والتّنارص‪ .‬ويف مقابل ذلك‬
‫للرسول‪ ،‬أراحها قليلاً كام بدا من تقاسيم وجهها‪ .‬ومع‬ ‫ذكر سعد ّ‬
‫متوجسة وحذرة منّي‪ ،‬متلملت عىل الكنبة مق ّطبة‬
‫ّ‬ ‫ذلك ظ ّلت نظراهتا‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫جبينها ّ‬
‫الصهاينة‪ ،‬وأنت تعرف ذلك‪ ،‬ماذا‬
‫‪ -‬أبوك يا سعد كان يكره ّ‬
‫سيقول اجلريان عنّا عندما‪...‬؟‬
‫قاطعها سعد ضاحكا‪:‬‬
‫حق‪ ،‬أفكارنا ك ّلها خاطئة‪ ،‬هناك فرق بني‬ ‫‪ -‬يا منج ّية‪ ،‬معك ّ‬
‫الصهيون ّية‬ ‫كد ٍ‬ ‫اليهودية ِ‬
‫والصهيون ّية‪ّ ..‬‬
‫ين‪ ،‬وهي أقدم الديانات‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫متعصبة هدفها إقامة دولة هيود ّية يف فلسطني‪..‬‬
‫ّ‬ ‫حركة سياس ّية‬
‫وهيلني ليست بطبيعة احلال صهيون ّية‪ ..‬وعائلتها تر ّبت يف‬
‫تونس قبل أن هتاجر إىل فرنسا‪ ،‬هل فهمت يا منج ّية؟‪ ..‬لقد‬
‫يفرق بني‬‫جف ريقي‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬هل نسيت يا منج ّية؟ كان ّ‬ ‫ّ‬
‫والصهاينة‪.‬‬
‫اليهود ّ‬
‫رغم توضيحات سعد ظ ّلت اخلالة مندهشة‪ ،‬وال أظ ّن أنهّ ا فهمت‬
‫شي ًئا ممّا قال‪ ،‬إضافة إىل ذلك هي مل تنتظر بتاتًا ‪-‬هكذا اعتقدت‪ -‬أن‬
‫تصادفها امرأة هيود ّية‪ .‬أ ّما وقد دخلت تلك املرأة مع ابنها الوحيد إىل‬
‫بيتها فاألمر ُيصبح مقل ًقا ح ًّقا‪ ،‬بل هو يف غاية اإلرباك‪ .‬ويف الواقع‪،‬‬

‫‪183‬‬
‫كثريا يف الكل ّية وأثناء رحاليت عىل متن الباخرة‪.‬‬
‫حصل يل هذا املوقف ً‬
‫مرة‪ ،‬وأنا يف رحلة العودة إىل مارسيليا‪ ،‬هربت منّي امرأة كانت‬ ‫فذات ّ‬
‫حتاورين يف مسألة تربية األبناء‪ .‬يف ال ّلحظة التي عرفت فيها أنيّ هيود ّية‬
‫الذعر وذابت من أمامي‪ .‬أنا أفهم هذه الكراه ّية‬ ‫أصابتها حالة من ّ‬
‫كل األحوال ال‬ ‫يروج بسوء ن ّية‪ ،‬وهو يف ّ‬
‫بسبب الفهم اخلاطئ الذي ّ‬
‫ثم أنسى برسعة‪،‬‬ ‫يؤ ّثر عىل معنو ّيايت‪ .‬يف تلك املواقف كنت أبتسم ّ‬
‫عرفت وقرأت هو تاريخ ال ّظلم واملفاهيم اخلاطئة‪ ،‬وكان‬ ‫ُ‬ ‫فتارخينا كام‬
‫ونصحح املفاهيم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫علينا أن نصرب ونقاوم‬
‫عذبت اخلالة منج ّية يف‬ ‫استوعبت ّ‬
‫كل املخاوف واهلواجس التي ّ‬
‫تلك املقابلة األوىل‪« .‬فرخ احلرام»‪ ،‬هذا التّوصيف الذي استعملته‬
‫أحب هيود ّية‬
‫ّ‬ ‫وضح يل يف ذلك الوقت احتجاجها عىل ابنها الذي‬ ‫ّ‬
‫وترك بنات اجلريان املسلامت‪ ،‬اجلميالت ذوات العيون الواسعة‬
‫واألرداف الطر ّية‪ .‬وخالل النّصف الثاين من شهر مارس‪ ،‬سنة‬
‫كل مفاهيم‬ ‫أغي ّ‬
‫الصرب أن رّ‬ ‫استطعت بكثري من ّ‬
‫ُ‬ ‫‪ 1991‬بالتّحديد‬
‫اخلالة منج ّية‪.‬‬
‫ماذا اعتقدت اخلالة وماذا دار يف رأسها يف ال ّليلة األوىل؟ مل‬
‫وثمة بالفعل غرفة شاغرة‪ ،‬كذلك مل تسألني عن‬ ‫ختصص يل غرفة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أي يشء‪ ،‬ما انتبهت إليه هو أنهّ ا كانت منشغلة برتتيب غرفة سعد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫هكذا قالت نور‪« ،‬تلك غرفة سعد»‪ .‬كنت أتابعها وهي تن ّظف الغرفة‬
‫ثم تغلق الباب‪ .‬بعد ذلك حرصت‬ ‫الستائر ّ‬
‫وتغي املالحف وتسدل ّ‬ ‫رّ‬
‫عىل مساعدة اخلالة منج ّية يف املطبخ‪ ،‬هي أعدّ ت طبق روز بال ّلحم‪،‬‬
‫وأوصاها سعد بألاّ تكثر من وضع الفالفل‪ ،‬وأعددت أنا طب ًقا فيه‬

‫‪184‬‬
‫عجتي التي أعشقها‪ ،‬وهي ال تعجب سعد ألنهّ ا‬ ‫أنس ّ‬ ‫س َلطات ومل َ‬
‫حارة‪ .‬أثناء العشاء أحرض سعد قارورة نبيذ‪ ،‬ووضع عىل‬ ‫ليست ّ‬
‫ال ّطاولة كأسني‪ ،‬فعل ذلك وسط دهشة منج ّية وامحرار وجه نور‪.‬‬
‫أيضا بشكل‬ ‫سعد يف العادة ال يرشب النّبيذ أثناء األكل‪ ،‬وال يرشبه ً‬
‫علني يف البيت‪ .‬اخلالة تابعت جنون ابنها بكثري من التج ّلد ّ‬
‫والصرب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫السلطة‪ ،‬يرسل ضحكات نحو أ ّمه‬ ‫كان سعد‪ ،‬وهو يرشع يف أكل ّ‬
‫ويمرر يده عىل شعر نور ليخ ّفف عنها احلرج‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يصب النّبيذ يف الكأسني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قال بمرح وهو‬
‫أحب أن نرشب عىل نخب هيلني‪.‬‬
‫‪ -‬أين كأسك يا منج ّية؟‪ّ ..‬‬
‫‪« -‬هذا إليّ ناقصني‪».‬‬
‫ثم تابعت‪:‬‬
‫قالت اخلالة والعرق يتص ّبب من جبينها ّ‬
‫‪ -‬اخلمرة حرام‪.‬‬
‫ثم التفتت إ ّيل سائلة‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬ط ّيب‪ ،‬واخلمرة أليست حرا ًما يف دينكم؟‬
‫عيني يف عينيها‪:‬‬
‫قلت بكثري من التّبسيط وأنا ال أرفع ّ‬
‫والزيت‪ ،‬جزء من غذائنا اليومي‪..‬‬
‫‪ -‬اخلمرة عندنا‪ ،‬مثل القمح ّ‬
‫ثم هي عنرص هبجة وفرح يف حياتنا‪ ،‬ونحن نرشهبا باعتدال‬ ‫ّ‬
‫أثناء األكل‪ ،‬وقد نكتفي بكأس أو ثالثة عىل األكثر‪ .‬وبطبيعة‬
‫ثم إنّنا ال نرشب‬
‫احلال‪ ،‬ال نسكر يا خالتي عندما نرشب‪ّ ،‬‬
‫النّبيذ أثناء الدّ راسة والعمل‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫رسها‪« :‬من أين‬ ‫األكيد أنهّ ا تساءلت خالل تلك ال ّلحظة يف ّ‬
‫طلعت يل هذه اجلن ّية؟» ظ ّلت مق ّطبة أثناء األكل‪ ،‬وأحيانًا ترسم‬
‫الضحك خفية‪.‬‬ ‫باتاه نور التي مل تتو ّقف عن ّ‬ ‫ابتسامات خاطفة جّ‬
‫أيضا وأنا‬
‫ضحكت ً‬
‫ُ‬ ‫ضحكت من كالم سعد ومن حركاته اجلديدة‪.‬‬
‫أرفع كأيس نحو سعد‪ .‬كانت نظراهتا مندهشة وزاد اندهاشها عندما‬
‫ملت إليها ومهست يف أذهنا‪« :‬سأشاركك الفراش ملدّ ة نصف شهر‪،‬‬
‫فأطلقت ضحك ًة مفاجئة‬
‫ْ‬ ‫إن مل تطردين اخلالة منج ّية قبل ذلك»‪،‬‬
‫ثم مالت إ ّيل هامسة‪« :‬أ ّمي قلبها أبيض‪ ،‬وهي‬
‫أثارت دهشة اخلالة‪ّ ،‬‬
‫فقط يف حالة صدمة‪ ،‬وغدً ا‪ ،‬أؤكّد لك‪ ،‬ستستفيق وتعانقك بحرارة‪..‬‬
‫أنا أعرف منج ّية»‪.‬‬
‫تقرب منّي صحن‬ ‫كثريا‪ّ ،‬‬
‫مهتمة يب ً‬‫أن اخلالة منج ّية كانت ّ‬‫احلق ّ‬
‫ّ‬
‫ثم تغمز‬ ‫الساخن‪ ،‬وعندما تالحظ أنيّ آكل ببطء‪ ،‬تز ّم شفتيها ّ‬ ‫الروز ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصة من صحن روز‬ ‫ّ‬ ‫ابنها‪ .‬فيح ّثني سعد بحركة آل ّية عىل األكل‬
‫منج ّية الذي ال تنافسها امرأة فرشيش ّية يف طبخه‪ .‬ويعدّ د يف األثناء‬
‫األكالت التي جتيدها منج ّية‪ ،‬مثل الكسكس واملط ّبقة القرصين ّية‪،‬‬
‫«وخاصة‬
‫ّ‬ ‫ثم يضيف‪:‬‬ ‫يقول سعد‪ ،‬وال يرشح يل ما معنى املط ّبقة‪ّ ،‬‬
‫عندما تُؤكل ساخنة من يد منج ّية»‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬أحسست بحرج‪،‬‬
‫بسبب هذا اإلحلاح عىل األكل‪ ،‬طب ًعا‪ ،‬عادة األكل عندنا ترتبط‬
‫عيل أن أرشح‬‫والضغوط غالبا ما تفسد املزاج‪ ،‬لذلك كان ّ‬ ‫بالسعادة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫مسألة عاداتنا يف األكل‪..‬‬
‫قلت للخالة منج ّية‪ ،‬وهي ال تتو ّقف عن متابعة ّ‬
‫كل حركايت‪:‬‬
‫‪ -‬نحن يف العادة يا خالتي ال نبالغ يف األكل أثناء ال ّليل‪ ،‬وإن‬

‫‪186‬‬
‫أكلنا فإنّنا نأكل ببطء كأنّنا يف حالة خشوع‪.‬‬
‫تناولت جرع ًة من كأس النّبيذ وتابعت‪:‬‬
‫ُ‬
‫السبت عندنا‪ ،‬وهي ال ّليلة الفاصلة بني اجلمعة‬ ‫‪ -‬أ ّما عشاء أمسية ّ‬
‫الصالة يف‬‫والسبت فهي استثنائ ّية‪ .‬أذكر أنّه بعد عودة أيب من ّ‬ ‫ّ‬
‫الكنيس‪ ،‬كنّا نجتمع معه‪ ،‬أنا وأ ّمي‪ ،‬عىل وجبة احتفال ّية احتفا ًء‬
‫الراحة املقدّ س‪ ..‬تبدأ وجبتنا يا خالتي بتقديس اخلمر‬ ‫بيوم ّ‬
‫مرورا بطلب الربكة عىل اخلبز‪ .‬واخلبز عندنا يرمز إىل العمل‬ ‫ً‬
‫نستمر يف تناول أطعمتنا الشه ّية‬
‫ّ‬ ‫ثم‬
‫الشاق طيلة أسبوع كامل‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫بطمأنينة وراحة بال‪.‬‬
‫تابعتني اخلالة منج ّية وهي تتململ وكنت أعرف أنهّ ا لن تفهم‬
‫يئست منّي اهنمكت يف األكل وبني حلظة‬‫ْ‬ ‫شي ًئا من كالمي‪ .‬وعندما‬
‫الروز‪« ،‬إبراهيم كان ال يرتك‬‫تلح عىل سعد أن ينهي صحن ّ‬ ‫وأخرى ّ‬
‫الصحن يا سعد»‪ ،‬تقول متحسرّ ة‪.‬‬
‫ح ّبة واحدة يف قاع ّ‬
‫األمر الذي أدهش خالتي منج ّية أكثر‪ ،‬وجعلها وامجة‪ ،‬هو أنّني‬
‫الصحون واألطباق واملالعق‬ ‫بعد انتهائنا من األكل رشعت يف محل ّ‬
‫والسكاكني إىل املطبخ وأنا أهتف‪:‬‬
‫مهمتي‪ ..‬من فضلك يا خالتي‪ ،‬أعدّ ي‬
‫‪ -‬أ ّما غسل املواعني فهي ّ‬
‫لنا كأس شاي أخرض منعنع‪.‬‬
‫أيضا أن تساعدين نور‪ .‬سعد أرخى رأسه إىل الوراء وهو‬
‫رفضت ً‬
‫ُ‬
‫ومررها يل‪ .‬أنا ال أبالغ يف‬
‫يتابعني‪ ،‬أشعل سيجارة‪ ،‬وأشعل أخرى ّ‬
‫ترض‪ ،‬لتعديل‬
‫التّدخني‪ ،‬ال بأس‪ ،‬سيجارة واحدة بعد وجبة العشاء ال ّ‬

‫‪187‬‬
‫أحب غسل املواعني‪ ،‬ومع شريا أفعل الشيّ ء‬‫املزاج ليس أكثر‪ .‬فعلاً ‪ّ ،‬‬
‫نفسه‪ ،‬أمنعها من دخول املطبخ بعد االنتهاء من وجبتنا‪ .‬املاء جيعلني‬
‫منرشحة‪ ،‬أشعر وأنا أغسل املواعني ببهجة مثرية‪ ،‬وأعود بعد ذلك‬
‫ٍ‬
‫وراحة نفس ّية عميقة‪.‬‬ ‫مزاج ٍ‬
‫رائق‬ ‫إىل ٍ‬
‫باحلي اخللفي ليل ًة عجيبة‪ ،‬ر ّبام‬
‫ّ‬ ‫يف غرفة نور كانت ليلتي األوىل‬
‫مل تصادفني يف األفالم وال يف احلكايات‪ .‬ليلتها مل أستطع النّوم‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬استمعنا ّأولاً إىل رصاخ امرأة‪،‬‬ ‫وال استطاعت نور أن تغفو ً‬
‫ثم تناهت إلينا جلبة بسبب شجار بني جمموعتني‪ ،‬عال رصاخ املرأة‬ ‫ّ‬
‫وهي تتل ّقى صفعات‪ ،‬وم ّيزت يف األثناء أصوات هراوات وسكاكني‬
‫وشتائم ورصاخ وهتديد ووعيد وهلاث ومههامت وقهقهات وشخري‬
‫وحجر يتساقط عىل النوافذ واألبواب‪ .‬انكمشت نور بجواري‪،‬‬
‫ثم قالت‬ ‫وأحسست بأنفاسها احلارقة‪ ،‬وهي ترتعش من اخلوف‪ّ .‬‬
‫وهي تشدّ ال ّلحاف إىل أعىل صدرها‪:‬‬
‫‪ -‬احلياة يف ح ّينا جحيم ال ُيطاق‪ ،‬بل هي كابوس‪ ،‬أنا ال أعرف‬
‫أيب ّ‬
‫بالشكل الكايف‪ ،‬مات وأنا طفلة أحبو‪ ،‬وأ ّمي حدّ ثتني عنه‪.‬‬
‫يتجرأ عىل االقرتاب منّا عندما كان أيب يف املنزل‪،‬‬
‫ال أحد كان ّ‬
‫اجلميع هيابونه هنا‪ ،‬وبعد موته وسفر سعد إىل العاصمة أصبح‬
‫كبريا‪ .‬منج ّية سليطة ال ّلسان‪ ،‬وهذا ال يكفي‬
‫إحساسنا باخلوف ً‬
‫احلي‪ ،‬البدّ من وجود رجل هيابونه وخيافون منه‪.‬‬‫يف هذا ّ‬
‫ ال يمكن أن تصدّ قي ما حيصل هنا يا هيلني‪- ،‬كانت نربهتا‬
‫شجعة وأنا‬ ‫ٍ‬
‫حزينة‪ ،‬لذلك مسكتها يف األثناء من كتفها يف ملسة ُم ّ‬
‫كل يشء هنا قاد ٌم من رحم اليأس‬ ‫أخت ّيل عينيها الدامعتني‪ّ -‬‬

‫‪188‬‬
‫احلي‪ .‬املخدّ رات‪،‬‬ ‫وكل ما ينتجه اليأس موجود هنا‪ ،‬يف هذا ّ‬ ‫ّ‬
‫بيع اخلمر خلسة‪ ،‬السطو‪ ،‬واملتاجرة بالبرش وغريها وغريها‬
‫تعود الناس‬ ‫من األصوات التي تستمعني إليها اآلن‪ .‬وقد ّ‬
‫كل ذلك حتّى أدمنوه‪ .‬وأنا أريد أن أنجح يف امتحان‬ ‫هنا عىل ّ‬
‫الباكالوريا حتّى أخت ّلص من هذا الكابوس‪ .‬يف السنة املاضية‬
‫نسيت‬ ‫يب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫لكاتب عر ّ‬ ‫رواية‬ ‫رشح لنا أستاذ العرب ّية مقط ًعا من‬
‫التعود وقد حفظته عن ظهر ٍ‬
‫قلب ألنّه يعبرّ‬ ‫اسمه يتحدّ ث عن ّ‬
‫بد ّقة عن حالنا‪ ،‬يف هذا املقطع خياطب االبن أباه ويفسرّ له‬
‫نشم رائح ًة‬ ‫التعود‪« :‬هل تعرف ماذا تع ّلمنا يا أيب؟ حني ّ‬ ‫معنى ّ‬
‫فإن مجلتنا العصب ّية ك ّلها تتن ّبه وتعبرّ عن ضيقها‪ .‬وبعد‬ ‫تُضايقنا ّ‬
‫خيف الضيق‪ .‬أتعرف معنى ذلك؟‬ ‫حني من البقاء مع الرائحة ّ‬
‫الشم قد ماتت فلم‬ ‫ّ‬ ‫حساسة يف جمرى‬ ‫أن هناك شعريات ّ‬ ‫معناه ّ‬
‫تتحسس‪ .‬وبذلك مل تعد تن ّبه اجلملة العصب ّية‪ .‬واألمر‬ ‫ّ‬ ‫تعد‬
‫الضجة‬ ‫ّ‬ ‫النحاسني ّ‬
‫فإن‬ ‫متر يف سوق ّ‬ ‫ذاته يف السمع‪ .‬حني ّ‬
‫يتعود املقيمون‬ ‫دت مثلام ّ‬ ‫لتعو َ‬
‫أقمت هناك ّ‬ ‫َ‬ ‫تُثري أعصابك‪ .‬لو‬
‫أن الشعريات‬ ‫والسبب نفسه وهو ّ‬ ‫ُ‬ ‫والنحاسون أنفسهم‪،‬‬‫ّ‬
‫احلساسة يف األذن قد ماتت‪ .‬نحن ال‬ ‫احلساسة واألعصاب ّ‬ ‫ّ‬
‫تصور حجم ما مات فينا‬ ‫نتعود يا أيب إالّ إذا مات يشء فينا‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫تتصوري‬ ‫ّ‬ ‫كل ما جيري حولنا‪ ».‬ولك أن‬ ‫تعودنا عىل ّ‬ ‫حتّى ّ‬
‫عزيزيت هيلني حجم ما مات يف قلوب أغلب الناس هنا‪،‬‬
‫كل‬ ‫عندما هيجم الفقر واليأس عىل قلب إنسان فإنّه يكنس منه ّ‬
‫إحساس بالرمحة‪ .‬يف الكثري من البيوت هنا يكتبون بالفحم‬

‫‪189‬‬
‫كلامت هي يف احلقيقة إشارات ملا حيدث‬ ‫ٍ‬ ‫عىل اجلدران املش ّققة‬
‫يف الدّ اخل‪ .‬فكلمة للكراء تعني بيع اخلمرة خلسة وكلمة‬
‫والرجل يف هذه احلالة‪،‬‬ ‫للبيع تعني بيع اخلمرة والنّساء م ًعا‪ّ ،‬‬
‫يمكن أن يتاجر بزوجته وابنته أمام عينيه املل ّفعتني بالعار‪..‬‬
‫‪-‬أشهق يف تلك ال ّلحظة وأحضن نور بذراعني مفزوعتني‪-‬‬
‫يتجرأ الغرباء عىل التو ّغل يف األز ّقة اخللف ّية‪ ،‬وإن فعلوا‬
‫هنا ال ّ‬
‫يتعرضون إىل «براكاجات»‬ ‫ٍ‬
‫ذلك يف غفلة أو يف حالة سهو ّ‬
‫ُمهينة‪ .‬س ّيارات «احلاكم» ال تغامر بالدّ خول إىل تلك األز ّقة‬
‫فكثريا ما سمعنا بحرق تلك الس ّيارات‪« ،‬احلاكم» هو‬ ‫ً‬ ‫ليلاً ‪،‬‬
‫كل يوم ثم يقول لنا‪« :‬موتوا‬ ‫السم ّ‬
‫سبب فقرنا وعارنا‪ ،‬يسقينا ّ‬
‫بغيظكم‪ ،‬أنتم لستم سوى حيوانات»‪ ..‬هذا هو حاكمنا يا‬
‫هيلني‪.‬‬
‫ست قارورة املاء بجانبي‬ ‫حتس ُ‬‫سعلت نور وهي ترتعش‪ّ ،‬‬
‫ثم تابعت‪:‬‬‫فتجرعت من القارورة الهث ًة ّ‬
‫ووضعتها يف يدها‪ّ ،‬‬
‫‪-‬ال أدري ما أقول لك يا هيلني‪ ،‬لكن عديني ألاّ ختربي سعد‬
‫بيشء‪ .‬يكفي ما يعانيه هناك‪ ،‬يف تونس‪.‬‬
‫‪-‬حتدّ ثي يا عزيزيت‪ ،‬فال أحد غريي سيعلم بذلك‪ ،‬وال حتّى‬
‫سعد‪.‬‬
‫أن نور قد خت ّلصت من حالة االنقباض التي‬
‫عندها أحسست ّ‬
‫كانت طاغية عليها‪ ،‬مسكت يدي بتو ّد ٍد واسرتسلت تقول‪:‬‬
‫الساعة املسائ ّية األخرية‪ ،‬مثل فتيات‬
‫‪-‬أنا يف الغالب‪ ،‬ال أدرس ّ‬
‫كثريات‪ ،‬نحن نخاف من ال ّظالم هنا‪ .‬وذات مساء اضطررت‬

‫‪190‬‬
‫الشتاء‪ ،‬اضطررت إىل ذلك‬ ‫الساعة املخيفة يف ّ‬
‫إىل دراسة تلك ّ‬
‫بسبب االمتحان‪ ..‬يف ال ّلحظة التي جتاوزت فيها سكّة احلديد‬
‫أحس هبام مثل‬
‫أثناء عوديت‪ ،‬انتبهت إىل رجلني يتبعانني‪ ،‬كنت ّ‬
‫غرابينْ ‪ ،‬وكنت أسمع نعيقهام ورائي و ُأرسع‪ .‬ومن سوء ح ّظي‬
‫أن الطريق كانت مقفرة يف ذلك الوقت بسبب األمطار‪ .‬وما‬ ‫ّ‬
‫عيل الغرابان بمنتهى‬
‫انقض ّ‬
‫إن وصلت إىل املستوصف حتى ّ‬
‫قبيحا تعلوه ندبة‬
‫كمم أحدُ مها فمي‪ ،‬وجهه كان ً‬ ‫الوحش ّية‪ّ ،‬‬
‫بارزة‪ ،‬اآلخر كان عصب ًّيا وهو حيرشين يف شاحنة التحقت هبام‪.‬‬
‫ثم‬‫قادين النّذالن إىل منزل مهجور مزدحم باألبقار واملوايش‪ّ ،‬‬
‫والسلع‪ .‬يف تلك‬
‫أيضا بالكراتني ّ‬‫سارا يب نحو غرفة مزدمحة هي ً‬
‫بالتقزز‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اآلونة جتاوزت شعوري باخلوف‪ ،‬وكذلك شعوري‬
‫بأي طريقة‪،‬‬‫وعرفت أنيّ سأموت‪ ،‬إن حاوال مليس سأموت ّ‬
‫هكذا فكّرت‪ ،‬وذاك كان قراري منذ حلظة اختطايف‪ .‬سمعت‬
‫ثم‬
‫املرة‪ ،‬متتّع يا الربين ّ‬
‫«الصيد ثمني هذه ّ‬
‫صوت امرأة باخلارج‪ّ :‬‬
‫س ّلمها يل»‪ .‬دخل الوحش بعد ذلك اله ًثا‪ ،‬اخرتقتني نظراته‬
‫وأنفاسه‪ .‬ال أدري كيف حصل ما حصل‪ ،‬ر ّبام هي القدرة‬
‫عيني إىل السامء سمعت صوت رجل‬ ‫ّ‬ ‫اإلهل ّية‪ ،‬حينام رفعت‬
‫يف اخلارج‪« :‬اتركها يا حيوان‪ ،‬اتركها وإلاّ رشقت املوسى يف‬
‫بطنك‪ ،‬تلك ابنة إبراهيم‪ ،‬أنسيتم إبراهيم؟»‪ ..‬مل أصدّ ق ليلتها‬
‫أنيّ عدت إىل منزلنا‪ ،‬مل أصدّ ق بالفعل‪ ،‬وعندما سألتني أ ّمي عن‬
‫املمزقة‪ ،‬قلت هلا وأنا أحاول ما أمكن إخفاء فزعي‪:‬‬ ‫ميدعتي ّ‬
‫«لقد دامهني أحد الكالب قري ًبا من املستوصف‪ ،‬واحلمد هلل يا‬

‫‪191‬‬
‫يعضني الكلب»‪ ..‬ومنذ ذلك اليوم أصبحت منج ّية‬
‫أ ّمي‪ ،‬مل ّ‬
‫كل مساء‪.‬‬‫ترص عىل انتظاري قرب سكّة احلديد ّ‬
‫ّ‬
‫صمتت نور وحاولت استعادة هدوئها وتوازهنا‪ ،‬تو ّقفت عن‬
‫أيضا‪ ،‬دموعها كانت ساخنة وهي تسقط عىل كتفي‪ ،‬رفعت‬ ‫النّشيج ً‬
‫رأسها قليلاً وتابعت‪:‬‬
‫كل‬‫‪ -‬ما أحلم به ح ًّقا يا هيلني‪ ،‬هو بطبيعة احلال حلم‪ ،‬ولكنّه ّ‬
‫احلي‪،‬‬
‫ما أملك‪ ،‬ما أحلم به هو أن أهني دراستي وأغادر هذا ّ‬
‫أيضا ال‬‫أجل‪ ،‬ال بدّ أن أرحل عن خندق الفقر والعار‪ .‬منج ّية ً‬
‫كل هذا؟‬ ‫بدّ أن ترحل‪ ،‬ال أدري‪ ،‬ال أدري ملاذا حدّ ثتك عن ّ‬
‫حررين حديثي معك من‬ ‫أي يشء‪ ،‬وقد ّ‬ ‫لست خجولة من ّ‬
‫اخلوف‪ّ .‬ملا دخلت إىل منزلنا رأيت يف عينيك وميض امراة‬
‫خمتلفة‪ ،‬وفعلاً كان إحسايس غري ًبا وأنا أعانقك بحرارة‪ ،‬أنا مل‬
‫أعانق سعد مثلام عانقتك يا هيلني‪.‬‬
‫احلب‪:‬‬
‫أضمها بمنتهى ّ‬
‫قلت لنور وأنا ّ‬
‫‪ -‬عديني ّأولاً يا نور أنّك ستنجحني ّ‬
‫بتفوق يف الباكالوريا‪،‬‬
‫وبعد ذلك سيكون لنا حديث آخر‪ ،‬وسأرتّب مع سعد مسألة‬
‫دراستك يف مارسيليا‪.‬‬
‫وتزوجت‬‫ّ‬ ‫[لألسف‪ ،‬بعد ذلك انقطعت نور عن الدّ راسة‬
‫تاجرا من مدينة صفاقس‪ ،‬هكذا حدّ ثني سعد وأنا أسأله عن نور‪..‬‬ ‫ً‬
‫مل تستطع أن حت ّقق حلمها بأن تكون طبيبة يف يوم من األ ّيام‪ ،‬لكنّها‬
‫الزواج‪،‬‬ ‫الزهور‪ ،‬وكان سعد سع ًيدا هبذا ّ‬ ‫حي ّ‬
‫استطاعت أن تغادر ّ‬
‫وفهمت بطبيعة احلال سبب سعادته]‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫يف الفجر‪ ،‬مخدت تلك األصوات متا ًما وهنضت أصوات أخرى‪،‬‬
‫أصوات النّساء العامالت يف معمل عجني احللفاء والورق ‪-‬أخربتني‬
‫نور بذلك متثائبة‪ -‬وتناهي إ ّيل صدى وقع أقدامه ّن احلزينة وهي‬
‫تركض يف اإلسفلت املهرتئ‪.‬‬
‫الزهور دعتني اخلالة منج ّية‬ ‫حي ّ‬ ‫يف صباح يومي ال ّثاين يف ّ‬
‫إىل غرفتها املع ّطرة برائحة البخور‪ ،‬قالت يل وهي جتلسني أمامها‪:‬‬
‫«ستعرفني ضيافة منج ّية عىل قاعدة يا هيالنة»‪ .‬وراحت اخلالة منج ّية‬
‫ثم كامل جسدي بام ّدة لزجة‬ ‫الشعر من وجهي ّ‬ ‫بحركات رشيقة تزيل ّ‬
‫عرفت منها أنهّ ا خليط من السكّر وال ّليمون‪ .‬ظ ّلت حركات اخلالة‬
‫ترتشف من‬ ‫حلظة وأخرى ّ‬ ‫ٍ‬ ‫متتابعة‪ ،‬تالحق كامل بقع ّ‬
‫الشعر‪ ،‬وبني‬
‫فنجان قهوهتا و ُأ ُذهنا عىل النّافذة‪ ،‬تع ّلق عىل صيحات جارهتا التي‬
‫احلي وال‬
‫تأتيها من اخلارج‪« ،‬اسمها سعد ّية» قالت‪« ،‬ال يسلم منها ّ‬
‫امل ّيت»‪« .‬املتعوس متعوس حتّى لو ع ّلقولو يف رقبتو فانوس»‪ ،‬قالت‬
‫السيف‬ ‫باتاه النّافذة‪ ،‬وسمعت سعد ّية تر ّد‪« :‬بعد ّ‬‫ذلك رافعة صوهتا جّ‬
‫ع ّلق منجل»‪ ،‬يف تلك ال ّلحظة هتمس اخلالة يف أذين‪« :‬املتعوسة‬
‫انتشلها زوجها بلقاسم من القاممة‪ ،‬هي ال تتوب‪ ،‬لفعة‪ ،‬تفتح ساقيها‬
‫أيضا‬‫ودب»‪ .‬أضحكتني كلامت اخلالة وطب ًعا فهمت ً‬ ‫هب ّ‬ ‫لكل من ّ‬‫ّ‬
‫أن سعد ّية كانت تعنيني أنا بكلمة منجل‪ .‬ظ ّلت تبحلق يف وجهي‬ ‫ّ‬
‫ووجه سعد ونحن ننزل من س ّيارة التّاكيس ونسري أمام باب بيتها‪،‬‬
‫وقفت مرتاخية بفستاهنا القصري‪ ،‬رأسها ملفوف بمنديل أمحر‪ ،‬لبثت‬
‫يمر‬
‫متص إصبعها وهتمهم بكلامت مل أفهمها‪ ،‬وسعد ّ‬ ‫بنظراهتا ّ‬
‫الشبقة ّ‬
‫من أمامها غري مكرتث‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫الرشيقة يف جسمي‪:‬‬
‫قالت اخلالة منج ّية وهي تُنهي حركاهتا ّ‬
‫الرأس‪ .‬إزالة ّ‬
‫الشعر‬ ‫‪ -‬دعينا من املتعوسة‪ ،‬ال يأتيني منها إلاّ وجع ّ‬
‫ليست عمل ّية سهلة يا هيالنة ‪-‬اخلالة منج ّية ظ ّلت تناديني‬
‫كثريا وال أحد يتقن التّنقية‬
‫الزيارة‪ -‬أنا أشقى ً‬ ‫هيالنة طيلة أ ّيام ّ‬
‫كل ذلك عن‬ ‫غريي‪ ،‬كذلك رسم احلنّاء واحلرقوس‪ ،‬وورثت ّ‬
‫فضة‪ ،‬كنت أرافقها إىل األعراس وجلسات النّساء يف‬ ‫أ ّمي ّ‬
‫الصنعة‪ .‬وبعد موت إبراهيم‬ ‫الراقية إىل أن تع ّلمت ّ‬ ‫األحياء ّ‬
‫عدت إىل صنعة أ ّمي ألربيّ سعد ونور حتّى كبرُ ا‪« ،‬وإلليّ ما‬ ‫ُ‬
‫تتهرى جلودو»‪ ،‬وكنت يا ابنتي أحصل عىل‬ ‫خلاّ ولو جدودو ّ‬
‫لقمة العيش بفضل السكّر وال ّليمون واحلنّة واحلرقوس‪.‬‬
‫محام الدّ والب‪ ،‬رائحة البخور كانت تعبق يف‬‫يف املساء ذهبنا إىل ّ‬
‫البهو والقاعة الكبرية التي ُفرشت باحلصائر والوسائد‪ .‬أوصت اخلالة‬
‫ثم‬
‫حارزة احلماّ م‪ ،‬واسمها نجمة‪ ،‬بأن تعتني يب‪ .‬غمزهتا بطرف عينها ّ‬
‫الساخن الذي ال‬ ‫استمتعت فعلاً بالبخار ّ‬
‫ُ‬ ‫عادت إىل القاعة الكبرية‪.‬‬
‫محامكم مثل ريش النّعام»‪ ،‬قال سعد‬ ‫محام احلريم‪« ،‬بخار ّ‬
‫يشبه بخار ّ‬
‫محام صديقتنا املغرب ّية‪ .‬بعد ذلك اسرتخيت عىل‬ ‫وأنا ّ‬
‫أحك ظهره يف ّ‬
‫الدكّة وظ ّلت نجمة تفرك حلمي وتدلكه بكامل جهدها‪ .‬عشت ذلك‬
‫محام النّاعورة بتونس‪ ،‬ومع نجمة كانت متعتي‬ ‫اإلحساس فعلاً يف ّ‬
‫والتاخي‪ ،‬ال ترسع مثل‬‫أكرب‪ ،‬حركاهتا عىل جسدي يف غاية الر ّقة رّ‬
‫محام النّاعورة‪ ،‬وال ترتك يل بق ًعا محراء‪ .‬حركات يدها مثل‬‫حارزة ّ‬
‫املناجاة متا ًما‪ ،‬نزعت عنّي االنقباض الذي شملني يف ال ّليل ومنع‬
‫عنّي النّوم‪ .‬ويف األثناء كنت مذهولة بثرثرة النّساء وسط البخار‪ ،‬ال‬

‫‪194‬‬
‫أيضا‪ ،‬فقط‪،‬‬‫أرى مالحمه ّن وه ّن يتحدّ ثن ويقهقهن‪ ،‬وال يرينني ه ّن ً‬
‫ترتاءى يل النّهود املتململة‪ ،‬أغلبها مرتاخية مثل ارختاء البطون‪ .‬مل َأر‬
‫الصغرية والبارزة التي تعلق بالبخار‪ ،‬يف ذلك الوقت‪ .‬أعتقد‬ ‫النّهود ّ‬
‫متزوجات‪ .‬وصلتني مهسات منتشية ومهتاجة‪:‬‬ ‫أن أغلب من باحلماّ م ّ‬ ‫ّ‬
‫«املاء حرقني يف األسفل‪ ،‬ص ّبي يل قليلاً من مائك البارد‪ ..‬أنا مشتعلة‬
‫منذ البارحة‪ ،‬املجنون‪ ،‬لن يرتكني ال ّليلة»‪ ..‬أضحكتني تلك اهلمسات‬
‫وأثارتني‪ .‬نجمة كانت تضحك مع ضحكي وتغمزين‪ .‬أعتقد ّ‬
‫أن‬
‫أرسار النّساء ك َّلها عند نجمة‪ ،‬تغلق عليها باملفتاح‪ ،‬وال تفتح مغارة‬
‫األرسار ألحد‪ .‬ما أثار انتباهي ح ًّقا هو ولعه ّن برتديد كلامت ذات‬
‫إحياءات جنس ّية‪ ،‬وحيلو هل ّن أن يتنافسن يف االستمتاع بذلك‪ ،‬يتحدّ ثن‬
‫الرجل‪ ،‬وعن اجلنس‪ ،‬وعن مغامراهت ّن‪ ،‬وبني‬ ‫بكل محيم ّية عن عضو ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫قبقاب‬ ‫سطل ٍ‬
‫ماء أو حول‬ ‫ِ‬ ‫حني وآخر حيدث تالسن بني امرأتني حول‬
‫ويتطور األمر إىل شجار‪ ،‬لكنّه شجار خفيف رسعان‬ ‫ّ‬ ‫اختفى فجأةً‪.‬‬
‫مرة‬ ‫ما يذوب وسط البخار‪ .‬كنت مستمتعة فعلاً ومذهولة‪ّ ،‬‬
‫ألول ّ‬
‫أعرف تلك العوامل‪ ،‬عوامل متعة النّساء‪.‬‬
‫وبعد عودتنا من احلماّ م مل ترتكني اخلالة منج ّية‪ ،‬استأنفت شغلها‬
‫وقدمي ونقشت أشكالاً رائعة يف ك َّف ّي‬
‫ّ‬ ‫يدي‬
‫معي‪ ،‬رسمت احلنّاء يف ّ‬
‫امحرارا بعد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل الفت بعد احلماّ م‪ ،‬وازداد‬ ‫امحر‬
‫ً‬ ‫ورقبتي‪ .‬وجهي ّ‬
‫ملسات اخلالة‪ .‬حتّى نور لبثت حتدّ ق يف وجهي كأنهّ ا ال تعرفني‪ .‬بقيت‬
‫ذلك املساء يف غرفة اخلالة خمدّ رة بروائح احلنّاء واحلرقوس والكحل‪،‬‬
‫وحينام عاد سعد من جولته املسائ ّية يف وادي الدّ رب رصخ مذهوالً‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أعرف ّ‬
‫أن منج ّية ستفعلها معك‪ ،‬إنّك غجر ّية رائعة‪،‬‬

‫‪195‬‬
‫رائعة جدًّ ا يا هيلني‪.‬‬
‫صاحت منج ّية‪:‬‬
‫‪ -‬وهل ّ‬
‫تشك يف قدرات أ ّمك يا فرخ احلرام؟‬
‫جمرد عبارة‬ ‫عرفت وأنا أضحك ّ‬
‫أن فرخ احلرام ليست شتيمة‪ ،‬بل ّ‬
‫تقوهلا منج ّية ّ‬
‫بكل عفو ّية‪ .‬وقد كان سعد يشاكسها باستمرار ويدفعها‬
‫إىل النّطق هبا‪ ،‬وحني يسمع ذلك التّوصيف ّ‬
‫يظل يقهقة إىل أن ترتقرق‬
‫عيناه بالدّ موع‪.‬‬
‫مضت األ ّيام رسيعة يف ضيافة اخلالة منج ّية‪ .‬يف أغلب األوقات‬
‫أنشغل بالقراءة أو الدّ خول إىل املطبخ‪ .‬اخلالة تستقبل النّساء يف‬
‫الضحكات‪ ،‬وأنا أجلس‬ ‫غرفتها وتنهمك يف شغلها‪ .‬أسمع صدى ّ‬
‫أيضا عندما تنتبه إىل كلامت تفوح منها‬
‫يف الصالون‪ .‬تضحك نور هي ً‬
‫رائحة اجلنس‪ .‬وأغلب كلامت اخلالة من ذاك النّوع‪ ،‬تنتقيها بد ّقة‪،‬‬
‫لتمرر إسطوانتها إىل نور وإ ّيل‬
‫مفتوحا ّ‬
‫ً‬ ‫تتعمد ترك باب الغرفة‬
‫وهي ّ‬
‫الزواج يضحكن ويستسلمن‬ ‫بطبيعة احلال‪ .‬الفتيات املقبالت عىل ّ‬
‫للمسات منج ّية‪ ،‬وال تنسى بطبيعة احلال أن ترسد عليه ّن حكايات‬
‫ليلة الدّ خلة‪ ،‬وتصلني نصائحها الغريبة‪« :‬ال تدعيه يفتح ساقيك‬
‫بأي يشء واجعليه يلهث كالكلب‪ .‬إذا نزع‬ ‫من ّأول حلظة‪ ،‬انشغيل ّ‬
‫كلسونك من ّأول ملسة فيا خيبة املسعى‪ ،‬سيظ ّن بك ال ّظنون‪ ،‬سيشتغل‬
‫متعودة عىل نزعه‪ .‬دعيه يعرق ويمطرك بالكالم‬ ‫دماغه ويقول إنّك ّ‬
‫املعسول‪ .‬بعد أن ترختي عيناك اتركيه يخُ رج دمك األمحر القاين‪،‬‬
‫الزغاريد يف البيت‬ ‫هيمهم إلاّ ذلك الد ّم‪ .‬وبعد أن تلعلع ّ‬
‫الرجال ال ّ‬
‫ّ‬
‫جوع كلبك‬ ‫مرة ثانية‪ ،‬اجعليه يشتاق وجيوع‪ّ ،‬‬ ‫ال تدعيه يقرتب منك ّ‬

‫‪196‬‬
‫تتعجيل عىل‬
‫املهم‪ ،‬ال تنيس‪ ،‬وال ّ‬
‫يتبعك يا كبدي‪ ،‬هكذا تسري األمور‪ّ .‬‬
‫الرقبة» شادية بنت الكنزاري‪ ،‬عادت إىل بيتهم ليلة‬
‫يشء‪« ،‬مقصوفة ّ‬
‫وهربتها‬
‫الدّ خلة بعد أن اكتشف املغبون عيبها‪ ،‬كاد يذبحها ليلتها ّ‬
‫جتر فضيحتها معها»‪.‬‬
‫أ ّمها وهي ّ‬
‫الضحكات يف الغرفة القريبة‬ ‫وحني يعود سعد إىل البيت ّ‬
‫تتبخر ّ‬
‫«الرجل ال‬ ‫الصالون ويتو ّقف الكالم املخدّ ر‪ّ ،‬‬
‫ثم تستأنف اخلالة‪ّ :‬‬ ‫من ّ‬
‫يعيبه يشء يا بنتي‪ ،‬اسمعي منّي وتع ّلمي‪ ،‬خالتك منج ّية مل تُغضب‬
‫يقوي سعدك بجاه سيدي صالح‬ ‫عمك إبراهيم يو ًما‪ ..‬يا بنتي ّ‬ ‫ّ‬
‫يغرها ال‬
‫الرجال ما ّ‬ ‫الغضباين فتّاح األبواب‪ ،‬وإلليّ تر ّبات عىل يد ّ‬
‫زين ال مال»‪.‬‬
‫وكان سعد يغادرنا بعد أن يتناول الغداء‪ ،‬يرشب كأس ّ‬
‫الشاي‬
‫يلوح يل بيده ويغلق الباب‪ .‬كنت أعرف أنّه يميض كامل‬ ‫ثم ّ‬
‫األخرض ّ‬
‫الوقت يف وادي الدّ رب‪ ،‬هذا الوادي العجيب الذي حدّ ثني عنه‬
‫أشتم رائحة‬
‫ّ‬ ‫طويال‪« .‬وادي الدّ رب قطع ٌة من حيايت يا هيلني‪ ،‬وفيه‬
‫جترأت؟ تت ّبعت‬
‫أيب»‪ ،‬يقول يل بحامس‪ .‬ذات مساء‪ ،‬وال أدري كيف ّ‬
‫خطوات سعد‪ ،‬مل تكن املسافة قصرية بطبيعة احلال وكنت أميش‬
‫خلفه عىل مسافة ال تسمح له برؤيتي‪ .‬عندما وصل إىل الوادي‪،‬‬
‫الصخور‬‫تس ّلل داخل كهف وغاب هناك‪ ،‬اختبأت خلف إحدى ّ‬
‫وحبست أنفايس وأنا أتط ّلع إىل ما سيفعله‪.‬‬
‫خري‪ ،‬مع وجود إشارات‬
‫الص ّ‬‫كانت احلفر كثرية يف اجلدار ّ‬
‫ورموز‪ ،‬مل أستطع التّدقيق فيها‪ ،‬فقط ظهرت يل خطوط بال ّطول‬
‫ثم يتناول ملعقة صغرية ويزيح‬
‫ظل سعد ينبش بيده ّ‬ ‫والعرض‪ّ .‬‬

‫‪197‬‬
‫الصخري‪ .‬إثر ذلك جتاوز القرشة‬ ‫األتربة من احلفرة داخل اجلدار ّ‬
‫فأسا‬
‫الرخو‪ .‬وبني فينة وأخرى يتناول ً‬‫التاب ّ‬ ‫الصخر ّية ووصل إىل رّ‬
‫ّ‬
‫الضوئي‬
‫الكشاف ّ‬‫ّ‬ ‫ثم يمدّ عنقه ويشعل‬ ‫ويوسع احلفرة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫صغرية‬
‫ويوجهه نحو اجلوف الذي بدأ يتّسع‪ .‬سال العرق عىل جبينه وكامل‬ ‫ّ‬
‫وجهه وهو ينبش بال تو ّقف‪ .‬وبعد دقائق ّ‬
‫مرر يديه إىل داخل احلفرة‬
‫وسحب إبري ًقا زجاج ًّيا‪ ،‬يف تلك ال ّلحظة جلس عىل حجر بجانبه‬
‫وأشعل سيجارة‪ .‬حدست أنّه سيغادر الكهف بعد أن يرمي بعقب‬
‫فحثثت اخلطى واختبأت خلف إحدى األشجار‪ .‬وبعد‬ ‫ُ‬ ‫السيجارة‬‫ّ‬
‫كيسا أسود وسار‬ ‫الزمن خرج سعد من الكهف وهو حيمل ً‬ ‫فرتة من ّ‬
‫باتاه شجرة التّوت‪ ،‬توتة إبراهيم التي حدّ ثني عنها‪ .‬رشع حيفر يف‬ ‫جّ‬
‫ثم أخفى الكيس هناك‪ ،‬بعد ذلك متدّ د عىل‬
‫بقعة قريبة من التّوتة ّ‬
‫ثم وضع رجلاً عىل رجل ّ‬
‫وظل يتأ ّمل‬ ‫ظهره وشبك يديه خلف رأسه ّ‬
‫أغصان توتة إبراهيم‪.‬‬
‫كل هذه التّفاصيل لتعرف حجم ح ّبي لك‪،‬‬ ‫أكتب لك يا سعد ّ‬
‫لتعرف حجم اجلنون الذي شملني وأنا أعشقك‪ .‬قد أكون خمطئة‪،‬‬
‫أن زياريت‬‫مترسعة كام قالت يل شريا‪ ،‬لكن ما أؤكّده لك ّ‬ ‫وقد أكون ّ‬
‫الزهور كانت حاسمة‪ ،‬عشت حاالت من اخلوف‬ ‫حي ّ‬
‫تلك إىل ّ‬
‫والقلق‪ ،‬ويف مقابل ذلك عرفت طمأنينة مل أعرفها من قبل‪ ،‬أحسست‬
‫تتكور عىل‬
‫وجهي منج ّية ونور‪ ،‬ويف وجه املرأة املسنّة التي كانت ّ‬
‫هبا يف َ‬
‫األرض لتبيع اخلرض‪ ،‬ويف وجوه العراة واحلفاة ّ‬
‫وكل الفقراء‪ .‬أجل‪،‬‬
‫لت مشاهد عديدة يف مفكّريت‪ .‬يف بعض‬ ‫وسج ُ‬
‫ّ‬ ‫كنت حزين ًة من أجلهم‬
‫ُ‬
‫ال ّليايل‪ ،‬تسألني نور‪« :‬ملاذا أنت سامهة يا هيلني؟ من أغضبك؟ منج ّية‬

‫‪198‬‬
‫أم سعد؟» وهي ال تعرف أنيّ كنت أستعيد تلك الوجوه املقهورة‬
‫املتغضنة حجم اجلرائم‬
‫ّ‬ ‫تلمست يف تلك التّقاسيم‬
‫التي اعرتضتني‪ّ .‬‬
‫حق شعبه‪ .‬ال ختجل ممّا رأيتُه وسمعته يا سعد‪،‬‬
‫التي ارتكبها النّظام يف ّ‬
‫أهلك هم أهيل‪ ،‬النّاس هناك ط ّيبون‪ ،‬لكنّهم ملدوغون وجائعون‪،‬‬
‫واجلوع وحش لو تدري‪ ،‬اجلوع كافر يا سعد‪.‬‬
‫أنا مل أفعل بطبيعة احلال ما فعلته اجلازية‪ ،‬فاجلازية اهلالل ّية تركت‬
‫زوجها من أجل قبيلتها وأنا تركت قبيلتي من أجلك أيهّ ا املجنون‪.‬‬
‫أي حلظة‪ ،‬أنّنا يمكن أن نفرتق‪ .‬أجل‪ ،‬ما بيننا‬ ‫ّ‬
‫الشك‪ ،‬يف ّ‬ ‫ومل يساورين‬
‫ّ‬
‫سأظل‬ ‫الصخر بأظفارنا‪ ،‬لذلك‬
‫ليس لعبة قدر فقط‪ ،‬ما بيننا نبشناه يف ّ‬
‫أكتب إليك يا فرخ احلرام حتّى نلتقي وتظ ّللنا توتة إبراهيم‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫(‪)9‬‬
‫ص ّباط ّ‬
‫الدزيري‬
‫‪ 4‬ديسمرب ‪2010‬‬

‫عت‬ ‫عيني وتط ّل ُ‬ ‫استفقت عىل صدى ٍ‬


‫فتحت ّ‬‫ُ‬ ‫جلبة يف ّأول النّهج‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫عربة‬ ‫ِ‬
‫عجالت‬ ‫رصير‬ ‫صباحا‪ .‬اقرتب‬ ‫السادسة‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫الساعة احلائط ّية‪ّ ،‬‬
‫إىل ّ‬
‫أتلصص من‬ ‫ورحت ّ‬
‫ُ‬ ‫لت متثاقلاً من السرّ ير‬‫وتضخم‪ ،‬تس ّل ُ‬
‫ّ‬ ‫جمرورة‬
‫ثقوب النّافذة‪ .‬طالعتني صلعة صالح وهو يقود عربته بيده اليرسى يف‬
‫زهو ويف يده اليمنى سيجارة الكريستال غري مكرتث بام أثارته عربته‬
‫سوى خالفه مع نعيمة‬ ‫أخريا‪ ،‬قلت يف نفيس‪ ،‬لقد ّ‬ ‫من ضجيج‪ .‬عاد ً‬
‫شك‪ .‬كنت أعرف‪ ،‬لن هينأ هلا بال إلاّ بعودة صالح‪ ،‬وستكون‬ ‫دون ّ‬
‫ّهائي‬
‫الكف الن ّ‬‫ّ‬ ‫والرعاية مقابل‬
‫بطبيعة احلال عود ًة مرشوطة‪ ،‬احلنان ّ‬
‫الشغب مع نساء الوكالة‪ ،‬ومن يدري‪ ،‬مع الوقت‪ ،‬وبالتّدريج‬ ‫عن ّ‬
‫بالزواج‪ ،‬احلالل بعد احلرام‪ .‬األمر سيكون رضبة‬ ‫سيقتنع صالح ّ‬
‫حظ لنعيمة‪ ،‬بل هي معجزة تغادر عىل إثرها العنوسة وترتك تلك‬ ‫ّ‬
‫ثم ماذا يطلب صالح أكثر‬ ‫السنوات العجاف التي أكلت أنوثتها‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫من زوجة صاحلة وش ّقة مرحية؟ ونعيمة ستكون صاحلة بعد احلرام‪،‬‬
‫وش ّقتها ستكون ش ّقة صالح‪ ،‬ستُغيض جاراهتا‪ ،‬بال ريب‪ ،‬وستتاميل‬
‫فوق كعبها العايل وتُولول َفر ًحا بالغنيمة‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫تأوهاهتا‪ ،‬سرتشق‬ ‫سمعت ّ‬
‫ُ‬ ‫انتبهت إىل ّ‬
‫أن نسيمة فتحت نافذهتا‪،‬‬
‫أيضا يف صلعة صالح‪ .‬مل تكن غاضبة‪ ،‬عىل ما أعتقد‪،‬‬ ‫نظراهتا هي ً‬
‫فلو كانت كذلك لرصخت يف وجهه وأمطرته بكلامهتا الدّ اعرة‬
‫ّ‬
‫وتظل تكرب وتكرب إىل أن تبتلع‬ ‫النار ّية التي تنقذف ككرة من فمها‬
‫كل النّوافذ‪ .‬نسيمة مثل منج ّية‪ ،‬ال تعرف إالّ القصف املبتذل‪« ،‬أرض‬
‫ّ‬
‫أرض» كام يقول صالح‪.‬‬
‫حل ركب نعيمة‪ ،‬سارت جّ‬
‫باتاه صالح يف فستاهنا‬ ‫بعد دقائق ّ‬
‫األخرض ذي اخلطوط احلمراء وحذائها األبيض‪..‬‬
‫‪ -‬صباح اخلري يا وجه اخلري‪.‬‬
‫السعد‪.‬‬
‫‪ -‬صباحك دقلة وحليب يا نعيمة‪ ،‬يا وجه ّ‬
‫‪ -‬كنت أنتظرك منذ أذان الفجر‪ ،‬ملاذا ّ‬
‫تأخرت؟‬
‫‪ -‬العربة يا نعيمة‪ ،‬العربة يلزمها مال إلصالحها‪.‬‬
‫‪ -‬سنصلحها يا صالح‪ ،‬وسنصلح معها ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬
‫إثر ذلك ذاب صالح مع نعيمة داخل الوكالة‪ ،‬واستمعت إىل‬
‫مههامت نسيمة يف األثناء‪ ،‬صالح سيقفز إىل ش ّقة نعيمة ليتناول‬
‫املالوي من يدها اللاّ هبة وستغطس عيناه يف صحن العسل وزيت‬
‫الصدر‬
‫املرة يف فتحة فستاهنا عند ّ‬
‫الزيتون‪ .‬نعيمة ستضع صالح هذه ّ‬
‫ّ‬
‫ولن تسمح لنسيمة بركوب ظهرها وال ظهر صالح بطبيعة احلال‪.‬‬
‫ونزلت من الس ّلم اعرتضني صالح وهو‬ ‫ُ‬ ‫غادرت الش ّقة‬
‫ُ‬ ‫عندما‬
‫منهمك يف ترصيف األكياس البالسيك ّية املتع ّفنة عىل العربة‪ ،‬وبني‬

‫‪202‬‬
‫ٍ‬
‫فينة وأخرى ينفض معطفه بعصب ّية‪ ،‬وما إن ملحني حتّى استدار‬
‫نحوي‪:‬‬
‫تتحمل هذه األكوام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬واهلل عيب يا خويا سعد‪ ،‬العربة لن‬
‫ستتغي األمور‪.‬‬
‫رّ‬ ‫ الصرب ط ّيب يا صالح‪ ،‬ومع الوقت‬
‫‪ّ -‬‬
‫تتحمل‬
‫ّ‬ ‫حتملت العربة اليوم فإنهّ ا لن‬
‫‪ -‬صرب ماذا يا ط ّيب؟ إن ّ‬
‫غدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬فع ً‬
‫ال يا صالح‪ ،‬ال بدّ أن يساهم اجلميع يف إصالح العربة‪ ،‬وقد‬
‫نشرتي لك عربة أخرى ‪.‬‬
‫‪ -‬هكذا قالت نعيمة‪ ،‬وأنت تعرف يا ط ّيب‪ ..‬اليد وحدها ال‬
‫الزرزور‪.‬‬
‫تصطاد ّ‬
‫هت بعد ذلك إىل مقهى الشرّ ق‪ ،‬يف العادة أرشب قهويت‬ ‫توج ُ‬
‫ّ‬
‫الصباح ّية هناك‪ .‬يضع عم مخ ّيس قهوة الفيلرت أمامي ويناولني‬ ‫ّ‬
‫سيجارة الكريستال وهو يصيح كعادته‪« :‬حتّى الكريستال باش يوليّ‬
‫مرة‬‫أيضا يف موعد نادية‪ ،‬مل هتاتفني ّ‬
‫ّرت ً‬
‫فال يف هالبالد الكلبة»‪ .‬فك ُ‬
‫يتغي‪ .‬قلت يف نفيس‪ :‬األفضل‬ ‫أخرى‪ ،‬وفهمت ّ‬
‫أن موعد احلفر مل رّ‬
‫أن أرشع يف احلفر حني ترتفع أصوات األغاين الركيكة يف الوكالة‪،‬‬
‫أيضا‪.‬‬‫فردارات تلك الوكالة ال ترى فحسب‪ ،‬بل تسمع دبيب النّمل ً‬
‫يف هذا املقهى عرفت عم مخ ّيس‪ ،‬نادل املقهى‪ ،‬ال يتو ّقف صياحه‬
‫حيتج‪،‬‬
‫الزبائن‪ ،‬وهو خياصم‪ ،‬وهو ّ‬ ‫طوال اليوم‪ ،‬وهو يل ّبي طلبات ّ‬
‫وهو يقود احتجاجات يف دماغه‪ .‬ومع ذلك هو رجل ط ّيب وبشوش‪،‬‬
‫ويتلوى‬
‫ّ‬ ‫يكفي أن حتكي له «نكتة خرضاء» حتّى يسقط عىل األرض ّية‬

‫‪203‬‬
‫يمر من‬
‫ثم يغمزين و ّ‬
‫أحب األخرض‪ ،‬يقول يل ّ‬
‫ّ‬ ‫بقهقهات ال تتو ّقف‪.‬‬
‫أمامي‪.‬‬
‫يف هذا املقهى عرفت هاجر‪ ،‬ور ّبام تكون حكايتي معها مثل‬
‫جوهري بالتّأكيد‪ ،‬وهو أنيّ مل‬ ‫ٍ‬
‫اختالف‬ ‫حكاية صالح مع نعيمة‪ ،‬مع‬
‫ّ‬
‫ألي امرأة بأن تطرق‬ ‫عيني يف عيون نساء الوكالة‪ ،‬ومل أسمح ّ‬
‫أرفع ّ‬
‫باب ش ّقتي‪ .‬هاجر وحدها تفعل ذلك‪ ،‬عندما أكون داخل الش ّقة‬
‫أن هاجر هي من تقف‬ ‫وأستمع إىل ثالث نقرات خفيفة أعرف ّ‬
‫خلف الباب‪ ،‬كنت صامدً ا بالفعل أمام الس ّيل اجلارف ومل أسقط ومل‬
‫أخرس هاجر‪ .‬يف تلك األ ّيام‪ ،‬خرجت من سجن ‪ 9‬أفريل يف ظروف‬
‫أقل ما يمكن أن أقول عنها إنهّ ا شبيهة بظروف خروج كلب ملدوغ‬ ‫ّ‬
‫ومرتوك من جوف كهف‪ ،‬كلب مرتوك للجوع والعطش والعراء‪.‬‬
‫ّ‬
‫لعل قدري هو الذي قادين إىل مقهى الشرّ ق‪ ،‬كان يف ن ّيتي أن أسري من‬
‫ثم أعرف طريقي إىل باب عليوة‪ ،‬ما كان‬ ‫باب اخلرضاء نحو هنج روما ّ‬
‫دينارا‪ .‬أيقنت ساعتها أنيّ ال بدّ أن أعود إىل‬
‫بجيبي ال يتجاوز عرشين ً‬
‫ٍ‬
‫راحة‪ ،‬وهي‬ ‫مصدر‬ ‫القرصين‪ .‬فكّرت‪ ،‬بل تأكّدت ّ‬
‫أن العاصمة مل تعد‬
‫َ‬
‫ال تصلح لكلب مثيل‪.‬‬
‫أمضيت مخس سنوات يف سجن «‪ 9‬أفريل» بسبب محاقتي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أيضا‬
‫يدب عىل وجه األرض‪ .‬كنت غب ًّيا ً‬ ‫وحيب أن ّ‬
‫ّ‬ ‫محاقة من حيلم‬
‫هتور أن أعثر عىل كنز عيل بابا الذي حتلم‬ ‫ومكشو ًفا‪ ،‬خ ّط ُ‬
‫طت يف حلظة ّ‬
‫التاب‪ ،‬كنز ال بداية له وال آخر‪،‬‬
‫الزمن الكلب يف رّ‬‫أمرغ به ّ‬
‫به أ ّمي‪ ،‬كنز ّ‬
‫يتبول‬
‫كنت ك ََم ْن ّ‬
‫ينتشلني من بؤيس ومن فشيل يف الدّ راسة‪ .‬يف منّوبة ُ‬
‫الصحراء الغرب ّية‪ ،‬الفشل والفشل وال يشء غري الفشل‪ .‬وطب ًعا‪،‬‬ ‫يف ّ‬

‫‪204‬‬
‫الزائد عن اخليال س ّلمني إىل زنازين «‪ 9‬أفريل»‪ .‬كم سحقني‬ ‫جشعي ّ‬
‫غيين! وعىل أ ّية حال مل ُيفقدين مالحمي‪ .‬انقطعت‬ ‫السجن وكم رّ‬ ‫ّ‬
‫صلتي بالعامل طيلة تلك السنوات‪ ،‬وباخلصوص صلتي هبيلني‪.‬‬
‫دقيقة عرفنا فيها حالوة أن نكون م ًعا‪ ،‬أن‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مرحلة‬ ‫انقطعت عنها يف‬
‫ُ‬
‫أدركت وأنا أغوص يف الوحل‬ ‫ُ‬ ‫احلب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نتاموج جسدً ا واحدً ا يف رسير‬
‫السنوات منج ّية‬
‫أنيّ خرست هيلني‪ ،‬ببالهة ومحق‪ .‬زارتني يف تلك ّ‬
‫مرة تشنّع‬ ‫السنة‪ ،‬وكانت يف ّ‬
‫كل ّ‬ ‫مرة يف ّ‬
‫مرات‪ ،‬بمعدّ ل ّ‬ ‫رفقة نور مخس ّ‬
‫يب وهي تس ّلمني ق ّفة األكل‪ .‬كانت ال ضاحكة وال وامجة‪ ،‬تعانقني‬
‫ثم ترحل من أمامي باكية‪ ،‬متا ًما كام تبكي نور‪ .‬مل أحظ بالعفو‪ .‬متتّع‬ ‫ّ‬
‫أن من يتمتّع بالعفو ال‬‫به غريي ووضعوين أنا يف درج‪ ،‬وكنّا نعرف ّ‬
‫السنوات املظلمة‬‫بدّ أن ينحني أو يدفع‪ .‬وما خ ّفف عنّي عبء تلك ّ‬
‫ليل هنار‬‫السجن‪ .‬كان ال يتو ّقف َ‬ ‫هي ضحكات صديقي مروان يف ّ‬
‫يغتم إطال ًقا‪ ،‬ال‬
‫عن رسد نكته اخلرضاء التي ال تنتهي‪ .‬مروان ال ّ‬
‫الشيكات‪ ،‬مل أصدّ ق وهو‬ ‫يكرتث باحلكم الذي صدر ضدّ ه بسبب ّ‬
‫ثم يلتفت‬ ‫خيربين‪ ،‬حكم عليه بـ‪ 130‬سنة سجنًا‪ .‬يقهقه وال يكرتث ّ‬
‫الرقعة‪ ،‬وأنا‪ ،‬بنت‬‫الزق يف ّ‬ ‫إ ّيل ولعابه سائل‪« :‬العرس ما خيليّ كان ّ‬
‫الكلب خلاّ تني يف احلفرة»‪ .‬ويف بعض ال ّليايل كان يقطع الصمت يف‬
‫كل‬‫عال حتّى يسمعه اجلميع‪« :‬أيهّ ا األوباش‪ّ ،‬‬ ‫مقهقها بصوت ٍ‬ ‫ً‬ ‫العنرب‬
‫أحكامكم ال تصل إىل املدّ ة التي سأقضيها هنا‪ ،‬أيهّ ا املالعني ارقصوا‬
‫وغنّوا‪ ،‬واحلموا‪ ..‬أيهّ ا األوباش‪ ،‬عليكم ال ّلعنة مجيعا»‪.‬‬
‫املحملة‬
‫ّ‬ ‫ما حدث بعد ذلك أنيّ رأيت هاجر وراء عربتها‬
‫قضيتهام يف دكّان الفحم املالصق للمقهى‪.‬‬
‫بالغالل‪ ،‬رأيتها بعد ليلتني ّ‬

‫‪205‬‬
‫عم مخ ّيس مل يشأ أن أنام مع القطط‪ ،‬أعطاين مفتاح الدكّان‪ ،‬وقال‬
‫يل‪« :‬تد ّبر أمرك قبل أن يسمع املع ّلم»‪ .‬وقبل أن يسمع املع ّلم علمت‬
‫هاجر بوضع ّيتي التي تصعب عىل الكافر‪ .‬وأنا‪ ،‬املحروم من ّ‬
‫كل‬
‫عيني يف عينيها وهي جتلس وراء عربتها‪ .‬وأعتقد ّ‬
‫أن‬ ‫رت ّ‬ ‫سم ُ‬
‫يشء‪ّ ،‬‬
‫عم مخ ّيس حدّ ثها عنّي‪ ،‬أنا ال ّ‬
‫أشك يف ذلك‪ ،‬كانت متدّ ساقيها أمامها‬ ‫ّ‬
‫لت شعري‬ ‫ٍ‬
‫كجرو ووقفت قبالتها‪ .‬تأ ّم ْ‬ ‫قفزت نحوها‬
‫ُ‬ ‫عندما نادتني‪،‬‬
‫ثم قالت‪« :‬انتظرين يف املقهى‪ ،‬سأعطيك‬
‫رب ّ‬
‫األشعث ووجهي املغ ّ‬
‫مفتاح ش ّقة املرحوم»‪ .‬قالت ذلك ّ‬
‫ثم أمهلتني وانشغلت بامرأة تسأل‬
‫حتجر‬ ‫عن سعر الت ّفاح‪ ،‬ورسعان ما رّ‬
‫غيت املرأة رأهيا واقتنت املوز‪ّ .‬‬
‫أجترأ من جديد عىل التط ّلع إىل‬
‫لساين يف فمي وعدت إىل جلستي‪ ،‬مل ّ‬
‫صدر هاجر املنتصب وال إىل خرصها‪ .‬عيب‪ ،‬قلت لدماغي‪ .‬اكتفيت‬
‫الشجار الذي نشب بني بائعني يف‬ ‫ٍ‬
‫خاطف نحو ّ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫هبز رأيس‬
‫ّ‬
‫يسمون ذاك النّهج «ص ّباط‬ ‫رأس النّهج‪ ،‬وعرفت يف ما بعد ّ‬
‫أن النّاس ّ‬
‫الدّ زيري»‪.‬‬
‫أحب هاجر بعد ّ‬
‫كل الذي فعلته معي؟ اكرتت يل‬ ‫ّ‬ ‫كيف ال‬
‫رمزي ش ّق َة زوجها‪ ،‬كان يسكن هناك قبل أن ّ‬
‫يتزوج هاجر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بمعلوم‬
‫ومل تشأ هي أن تس ّلمها ألحد‪ .‬حتّى بعد موت زوجها ظ ّلت تلك‬
‫الش ّقة مغلقة‪ ،‬كأنهّ ا كانت قدري‪ .‬قالت هاجر وهي تفتح باب الش ّقة‬
‫عيني من فوق ّ‬
‫مؤخرهتا الضخمة‪:‬‬ ‫أمامي‪ ،‬وأنا أجاهد لكي أستعيد ّ‬
‫عم مخيس أعلمني باسمك‪.‬‬
‫‪ -‬ادفع متى تريد يا سعيد‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬سعد‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫هتفت وراءها وكدت أسقط عندما تع ّثرت قدمي اليمنى يف‬ ‫ُ‬
‫فتح ْت‬
‫الصالون‪ .‬قادتني هاجر بعد ذلك إىل غرفة النّوم‪َ ،‬‬ ‫زرب ّية ّ‬
‫الصغري و أشارت‬
‫ثم سارت نحو املطبخ ّ‬‫نافذهتا املط ّلة عىل النّهج‪ّ ،‬‬
‫بيدها إىل بيت االستحامم‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّما الدّ وش فسأصلحه خالل يومني‪.‬‬
‫ال يمكن أن أنسى تلك األ ّيام التي كنت فيها طريح الفراش‪،‬‬
‫أوشكت عىل املوت فعلاً ‪ ،‬وأنقذتني هاجر‪ُ .‬أصبت بنزلة برد حا ّدة‪،‬‬
‫للشفاء‪ .‬ازدادت‬ ‫واعتقدت أنهّ ا عابرة مثل العادة‪ ،‬قارورة نبيذ تكفي ّ‬
‫حالتي تعك ًّرا أ ّيامها‪ ،‬كنت أسعل بشكل خميف‪ ،‬وطب ًعا هنش القلق‬
‫ثم استقدمت‬ ‫دستني يف حضنها ّ‬ ‫الشاحب‪ّ ،‬‬ ‫هاجر وهي تعاين وجهي ّ‬
‫طبي ًبا يقطن قري ًبا من «ص ّباط الدّ زيري»‪ ،‬واشرتت يل الدّ واء ورعتني‬
‫متا ًما كام ترعى بلقيس‪ .‬وعندما ُشفيت‪ ،‬يف ذلك اليوم الذي ال يطمر يف‬
‫رأيس‪ ،‬زاغت عينا هاجر قبالتي‪ ،‬ور ّبام حاولت ساعتها أن هترب‪ ،‬أن‬
‫ارتبكت أنا بالفعل‪ ،‬انكمشت أجفاين وأحسست‬ ‫ُ‬ ‫تذوب من أمامي‪.‬‬
‫تعرقت وأنا أداعب بنظرايت‬ ‫بذاك اخلدر الذي صاغني كتلة سابحة‪ّ .‬‬
‫املكحلتني‪ ،‬وأضع يدي عىل خرصها‪ .‬خفقت بعنف وأنا أد ّقق‬ ‫ّ‬ ‫عينيها‬
‫يف شفتيها احلمراوين‪ .‬شفتاها مستسلمتان‪ ،‬يستح ّثانني عىل العناق‪،‬‬
‫مدوية يف رأس‬‫أيضا كانت ّ‬ ‫الصمود أمام الت ّيار‪ .‬العاصفة ً‬
‫وأنا أحاول ّ‬
‫الراية البيضاء‪ .‬أحسست هبا‬ ‫هاجر‪ ،‬أغمضت عينيها متا ًما ورفعت ّ‬
‫تذوب أمام أنفايس احلارقة‪ ،‬أنفاس اجلوع واحلرمان‪ .‬فأغمضت‬
‫الرغبة إىل شظايا تتخاتل أمام عيوننا املخدّ رة‪ .‬كنّا‬ ‫عيني وانفجرت ّ‬‫ّ‬
‫ثم نرتاخى‪ ،‬ويف حلظة جمنونة‪،‬‬ ‫نتجمد ّ‬
‫ّ‬ ‫ثم نقتحم‪،‬‬ ‫ننتفض‪ ،‬نحذر ّ‬

‫‪207‬‬
‫وقفنا يف عناق مكبوت‪ .‬وأعتقد أنّنا بكينا يف ذلك العناق وتب ّللنا‪.‬‬
‫ثمة أشياء ال يمكن أن تصفها ال ّلغة وال أن تفسرّ ها أقوى النّظر ّيات‪،‬‬
‫ّ‬
‫احلب بسبب ذلك مسألة غامضة‪ ،‬ور ّبام حيتاج العامل إىل‬ ‫ّ‬ ‫وسيبقى‬
‫السنوات لفهم تلك املسألة‪.‬‬‫ماليني ّ‬
‫اجلوال‪ ،‬إنهّ ا نادية‪:‬‬ ‫ّ‬
‫رن هاتفي ّ‬
‫‪ -‬نحن بانتظارك عزيزي‪.‬‬
‫وجدت اجلامعة عىل اهليئة التي تركتهم عليها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف الش ّقة ّ‬
‫السفىل‬
‫يطوفون حول احلفرة‪ .‬نادية شبه عارية بطبيعة احلال‪ ،‬تطوف برافعة‬
‫صدرها البيضاء وكلسوهنا األمحر‪ .‬العرق يتص ّبب عىل جبينها‪،‬‬
‫الشيخ‬ ‫تطوف بال وعي وسط عاصفة التّعاويذ‪ .‬بعد ذلك انحنى ّ‬
‫بسطها‬ ‫مرزوق واهنمك يف متابعة اخلطوط املتشابكة عىل اخلريطة‪َ ،‬‬
‫عىل األرض ّية وغمس فيها عينيه‪ ،‬ن ّطت نظراته يف خطوط ال ّطول‬
‫ثم وضع إهبام يده اليمني عىل نقطة سوداء وقال ملتفتًا إ ّيل‪:‬‬‫والعرض ّ‬
‫تقل عن‬ ‫ٍ‬
‫مسافة لن ّ‬ ‫‪ -‬سيكون من الضرّ وري يا أخانا أن حتفر عىل‬
‫ثالثة أمتار‪ ،‬وبعد ذلك سنتابع ما سيستجدّ ‪.‬‬
‫أضافت نادية‪:‬‬
‫قوة عضالت وإالّ‬
‫حل ْفر ليس ّ‬ ‫‪ -‬طب ًعا أنت تعرف يا سعد ّ‬
‫أن ا َ‬
‫كنت استعنت برجل من أتباعنا‪ ..‬أنت تعرف بالتّأكيد كيف‬‫ُ‬
‫تخُ رج ّ‬
‫الشعرة من العجينة‪.‬‬
‫جاء ّ‬
‫الشيخ مرزوق بأدوات احلفر ووضعها بالقرب من احلفرة‪،‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫تفحص وجهي ّ‬
‫ّ‬

‫‪208‬‬
‫‪ -‬ناولوين احلروز يا أهل اخلري‪.‬‬
‫حبست أنفايس‪:‬‬
‫‪ -‬لألسف يا شيخ‪ ،‬ماذا أقول؟ احلرز ضاع منّي يف حلظة سهو‪.‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫رازين بعينني خاملتني ّ‬
‫‪ -‬ال بأس‪ ،‬سنكتفي بثالثة‪.‬‬
‫بالرماد‬
‫ثم رمى ّ‬
‫مجع احلروز الثالثة وأحرقها يف إناء من النّحاس ّ‬
‫وسط احلفرة وهتف بنا‪:‬‬
‫‪ -‬بإمكاننا اآلن أن نرشع يف عمل ّية احلفر‪.‬‬
‫َت َع ْن‬‫‪« ‬ولمََّا َسك َ‬ ‫ثم قرأ‪َ :‬‬ ‫الشيخ إسامعيل آيات إحراق اجل ّن ّ‬ ‫تال ّ‬
‫اح َوفيِ ن ُْس َختِ َها ُهدً ى َو َرحمْ َ ٌة لِ َّل ِذي َن ُه ْم‬
‫ب َأ َخ َذ الأْ َ ْل َو َ‬‫وسى ا ْل َغ َض ُ‬ ‫ُم َ‬
‫ثم أخرج موسى من ط ّيات ثيابه ووقف أمام‬ ‫ون »‪ّ .‬‬
‫َ (((‬
‫لِ َربهِّ ِ ْم َي ْر َه ُب‬
‫ثم بنرص يدها اليرسى‪ ،‬وجعل‬ ‫نادية‪ ،‬جرح خنرص يدها اليمنى‪ّ ،‬‬
‫جتمعت بقعة محراء ص ّبها يف كأس‬ ‫الدم يتقاطر عىل إناء النّحاس حتّى ّ‬
‫السوداء يف اخلريطة‪.‬‬ ‫صغري وأبقى ذلك الكأس فوق النّقطة ّ‬
‫عت من قارورة ماء جلبتها معي‪،‬‬ ‫وجتر ُ‬
‫نزعت معطفي يف األثناء ّ‬ ‫ُ‬
‫الرائحة العفنة التي عكّرت مزاجي‬ ‫رسي ألنّه أزال ّ‬
‫شكرت صالح يف ّ‬
‫أيضا برائحة البخور‪ ،‬نادية ال تتو ّقف عن‬
‫انتعشت ً‬
‫ُ‬ ‫السابقة‪.‬‬
‫املرة ّ‬
‫يف ّ‬
‫اقتلعت ّأولاً قطع اجلليز عىل مسافة‬
‫ُ‬ ‫ال ّطواف باملبخرة النحاس ّية‪.‬‬
‫كل قطعة إىل ّ‬
‫الشيخ مرزوق لرتصيفها‪ ،‬أ ّما‬ ‫مرت مر ّبع‪ ،‬وكنت أس ّلم ّ‬

‫((( اآلية ‪ 154‬من سورة األعراف‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫ً‬
‫ومرتعشا كدرويش‬ ‫ظل يتمتم مغمض العينني‬ ‫الشيخ إسامعيل فقد ّ‬‫ّ‬
‫مقرور‪ .‬محدت اهلل ّ‬
‫أن القرشة اإلسمنت ّية حتت اجلليز مل تكن سميكة‪،‬‬
‫الشيخ مرزوق سطل ماء فأمكن يل ّ‬
‫بكل يرس أن أزحيها من‬ ‫رش عليها ّ‬ ‫ّ‬
‫رخوا‪ ،‬بال أحجار‪ ،‬ومل تكن يب حاجة‬ ‫نت كان ً‬ ‫مخ ُ‬
‫التاب‪ ،‬كام ّ‬ ‫أمامي‪ .‬رّ‬
‫متأكّدة إىل املعول‪ ،‬ويف هذه احلالة لن يكون األمر ُم َط ْم ِئنًا‪ّ ،‬‬
‫أفضل‬
‫التبة ما أمكن‪.‬‬ ‫التاب واحلجر‪ ،‬لتجنّب انزالق رّ‬ ‫أن أجد خلي ًطا من رّ‬
‫السطل‬
‫التاب وأضعه يف ّ‬ ‫طفقت أغرف رّ‬ ‫ُ‬ ‫ومهام يكن من أمر‪ ،‬فقد‬
‫الشيخ مرزوق من يدي وهو يتمتم يف شبه غيبوبة‪ .‬وبعد‬ ‫ثم يتناوله ّ‬ ‫ّ‬
‫رتين‪ ،‬ال أخفي أنيّ خفت يف تلك‬ ‫ِ‬
‫وصلت إىل عمق م َ‬‫ُ‬ ‫ساعة تقري ًبا‬
‫التبة من األجناب‪،‬‬ ‫ال ّلحظات ‪-‬وأنا خبري باألمور‪ -‬من انزالق رّ‬
‫فإن األمر سيكون‬ ‫وقلت يف نفيس‪« :‬إن جتاوز العمق ثالثة أمتار ّ‬
‫التاب»‪ ..‬طلبت من نادية أن تبحث يل‬ ‫خطريا ح ًّقا وسأردم حتت رّ‬‫ً‬
‫عن حبل‪ ،‬أشعلت سيجارة داخل احلفرة‪ ،‬كنت متوت ًّرا ح ًّقا‪ ،‬سمعت‬
‫الشيخ إسامعيل برأسه‬ ‫يرن فازدادت أنفايس تعك ًّرا‪ّ .‬‬
‫أطل ّ‬ ‫هاتفي ّ‬
‫ورش قطرات الد ّم داخل احلفرة‪ ،‬فعل ذلك مغمض العينني‪ .‬رأيت‬ ‫ّ‬
‫يف خيايل منج ّية تنتصب فوق احلفرة مق ّطبة وهي تصيح‪« :‬ستموت‬
‫التاب‪،‬‬ ‫شددت احلبل عىل حزامي واستأنفت رفع رّ‬
‫ُ‬ ‫يا فرخ احلرام»‪.‬‬
‫حتسست قدمي اليرسى شي ًئا صل ًبا‪.‬‬‫إضايف ّ‬
‫ّ‬ ‫بعد عمق نصف مرت‬
‫التاب من جهة قدمي اليرسى‪ ،‬أنزلت نادية املبخرة يف جوف‬ ‫غرفت رّ‬
‫السطل‬ ‫الشيخ مرزوق عىل رفع ّ‬‫احلفرة‪ .‬ويف حلظة خاطفة وأنا أساعد ّ‬
‫رأيت عينيها وهندهيا‪ .‬املشهد اجلهنّمي كان يف األعىل‪ ،‬وكنت أنتظر‬
‫بني حلظة وأخرى أن تسقط جهنّم عىل رأيس‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫ما ال أنساه يف ذلك اليوم أنيّ نجوت بأعجوبة‪ ،‬كنت سأردم‬
‫قادرا عىل انتشايل‪ ،‬وكنت سأموت‬ ‫التاب وال أحد كان ً‬ ‫بالفعل حتت رّ‬
‫يتجرؤوا عىل إخبار أحد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هناك ككلب‪ .‬طب ًعا‪ ،‬هؤالء األوغاد لن‬
‫حتولت يف‬ ‫سأنتن هناك ويعيدون املحاولة مع غريي‪ .‬ونادية‪ ،‬التي ّ‬
‫دماغي إىل آلة جهنّم‪ ،‬ستبصق عىل خلقتي وتقول‪« :‬هذا البائس ال‬
‫يصلح ليشء»‪ .‬يف حلظات ذلك الكابوس الذي لن يفارق ذاكريت‪،‬‬
‫ثم أخرج‬ ‫الصدئ ّ‬ ‫الصندوق ّ‬ ‫حتولت إىل نملة وأنا أربط ّ‬
‫أحسست أنيّ ّ‬
‫الصندوق‬‫من احلفرة مصعو ًقا‪ .‬يف تلك ال ّلحظات ونحن نرفع ّ‬
‫ثم اتّسعت احلفرة‬ ‫الصالة ّ‬‫التبة يف األسفل وار ّجتت أرض ّية ّ‬
‫انزلقت رّ‬
‫وهتاوت قطع اجلليز داخلها‪ .‬ارتعبنا ونحن نرتاجع إىل اخللف‪،‬‬
‫التاب يف‬ ‫الصندوق كان بحوزيت‪ ،‬يف قبضتي‪ ،‬وحني تو ّقف هيجان رّ‬ ‫ّ‬
‫األسفل انفرجت أساريرنا‪ ،‬كنّا ح ًّقا نخشى أن حيدث األسوأ‪.‬‬
‫تشوشت نظراهتا وهي تفتحه‬ ‫الصندوق‪ّ ،‬‬ ‫نادية هي من فتحت ّ‬
‫أخرج ْت‬
‫َ‬ ‫أن أصابعها طويلة‪.‬‬‫أمامنا‪ ،‬اكتشفت يف تلك اآلونة املجنونة ّ‬
‫ثم ثالثة‪ ،‬بعد ذلك‬ ‫الصندوق سبيكة ذهب‪ ،‬ثم سبيكة ثانية‪ّ ،‬‬ ‫من ّ‬
‫أخرجت املجوهرات‪ ،‬قالئد وخواتم وأقراط وأساور‪ ،‬طقم كامل‪،‬‬
‫نت أنّه ال يمكن إلاّ أن يكون طقم أمرية أو زوجة تاجر ّ‬
‫ثري‪ .‬يف‬ ‫مخ ُ‬
‫ّ‬
‫احلقيقة‪ ،‬مل يسبق يل أن رأيت مثل تلك املجوهرات‪ .‬وحدست‪ ،‬وأنا‬
‫سموا تونس‬ ‫الرومان ّية‪ .‬عندما ّ‬
‫اخلبري بالكنوز‪ ،‬أنهّ ا تعود إىل الفرتة ّ‬
‫مطمورة روما مل خيطئوا‪ ،‬ويف هذه املطمورة دفنوا كنوزهم‪ ،‬كأنهّ م‪،‬‬
‫هكذا اعتقدوا‪ ،‬سيمتلكوهنا إىل األبد‪ ،‬والقاعدة تقول‪« :‬من ينهب‬
‫أيضا‪.‬‬
‫الشهيدة هنبتُهم ً‬ ‫ُينهب وإن طالت األ ّيام»‪ ،‬وأنا‪ ،‬ابن املطمورة ّ‬

‫‪211‬‬
‫ثم أمسكت باملجوهرات وق ّلبت سبائك‬ ‫ب ّللت ريقي بجرعات ماء ّ‬
‫رسي‪ .‬ومثلام‬‫الذهب‪ ،‬األبالسة‪ ،‬كيف كانوا يعجنوهنا؟‪ ،‬سألت يف ّ‬ ‫ّ‬
‫كان االتّفاق مع نادية‪ ،‬تس ّلمت ثلث الكنز‪ ،‬يا أوالد الكلب‪ ،‬كادت‬
‫احلفرة تبتلعني ولن أتنازل عن ح ّقي‪ ،‬هلجت يف داخيل وأنا ّ‬
‫أفتك‬
‫الشيخ مرزوق ابتزازي‪ ،‬كان يرمق قالدة صغرية يف‬ ‫رزقي‪ .‬حاول ّ‬
‫ثم وضعت كنزي يف كيس‬ ‫يدي كثعلب‪ ،‬ق ّطبت جبيني وأنا أصدّ ه ّ‬
‫أسود وصعدت إىل ش ّقتي‪ .‬كنت أصعد درجات الس ّلم اله ًثا وأمسح‬
‫الس ّلم يف تلك اآلونة كان‬ ‫قطرات العرق من جبيني‪ ،‬ومن الغرابة ّ‬
‫أن ّ‬
‫الرادارات ك ّلها كانت غارقة يف النوم‪.‬‬
‫أن ّ‬‫خال ًيا‪ .‬يبدو ّ‬
‫خرجت من بيت االستحامم انتبهت إىل رنني اهلاتف‪ ،‬كانت‬ ‫ُ‬ ‫حني‬
‫ووضعت‬
‫ُ‬ ‫وتلح يف ال ّطلب‪ .‬مل أضغط عىل ّ‬
‫الزر األخرض‪،‬‬ ‫هاجر تطلبني ّ‬
‫ثم حرشت فيها اجلرائد التي‬ ‫جل يف حمفظتي اجللد ّية ّ‬ ‫كنزي عىل َع ٍ‬
‫كانت مبعثرة أمامي‪ ،‬ارتديت مالبيس بعد ذلك وخرجت‪ .‬انتصبت‬
‫كل يشء يف‬‫تفحصتني بارتياب‪ ،‬آملتني نظراهتا‪ ،‬وتكدّ ر ّ‬
‫أمامي هاجر‪ّ ،‬‬
‫باطني‪ ،‬سألتني دون أن تنظر إىل وجهي‪:‬‬
‫الشقراء يف الش ّقة‬
‫‪ -‬ما األمر يا سعد؟ وما حكايتك مع املرأة ّ‬
‫السفىل؟‬
‫ّ‬
‫ألربح الوقت‪ ،‬قلت بنربة صارمة‪:‬‬
‫‪ -‬ليس اآلن يا هاجر‪ ،‬سنتحدّ ث ليالً‪.‬‬
‫ومتنمرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أدارت يل ظهرها وأغلقت باب ش ّقتها‪ ،‬كانت غاضبة‬
‫ْ‬
‫نت‬
‫مخ ُ‬
‫املرأة حينام تأكلها الغرية تصبح أغبى الكائنات عىل األرض‪ّ .‬‬

‫‪212‬‬
‫للسقوط‪ ،‬تنتظر‬ ‫أنهّ ا ر ّبام كانت تراقبني‪ ،‬وهي اآلن مثل حائط آيل ّ‬
‫بصقت عىل خلقة نادية ورست‬ ‫ُ‬ ‫الشقراء‪.‬‬‫منّي تفاصيل حكايتي مع ّ‬
‫نحو ساحة برشلونة‪ ،‬ال بدّ أن أعثر عىل صديقي اإليطا ّيل سيلفانو‪،‬‬
‫قلت يف نفيس‪ ،‬ال يمكن إطال ًقا أن يبيت معي الكنز يف الوكالة‪ .‬يف‬
‫مثل هذه احلاالت ال أكون ُمطمئنًّا‪ ،‬هيامجني النّمل ويلدغني‪ .‬عندما‬
‫فتحت املحفظة أمام سيلفانو وعرضت عليه كنزي اندهش وهو‬
‫الذهب‪:‬‬‫يمسك بسبيكة ّ‬
‫‪c’est magnifiqua(1) -‬‬

‫ثم راح يق ّلب األساور واخلواتم والقالدة‬ ‫قاهلا بفرنس ّية ّ‬


‫مهشمة‪ّ ،‬‬
‫الصغرية أسالت لعابه وأثارته‪ .‬حسب‬ ‫الصغرية قطع ًة قطع ًة‪ ،‬القالدة ّ‬
‫ّ‬
‫خربيت يف مثل هذه الوضع ّيات كنت أعرف تقري ًبا ثمن البضاعة‪،‬‬
‫وسيلفانو يعرف طب ًعا مصدر البضاعة وحياول ما أمكن استغاليل‪ .‬يف‬
‫وأدس األموال يف جيبي‪ ،‬وهذه‬
‫ّ‬ ‫كنت ُأخفض رأيس‬ ‫السابقة ُ‬‫املرات ّ‬‫ّ‬
‫املرة عرفت كيف أسيطر عىل املوقف وأحسم األمر‪:‬‬ ‫ّ‬
‫وثمة تاجر هيودي‬
‫‪ -‬طب ًعا‪ ،‬أنا لست عىل عجلة من أمري‪ّ ..‬‬
‫طلب منّي بضاعة‪ ..‬ط ّيب‪ ،‬سأرى األمر معه‪.‬‬
‫مل يخُ ِل سيلفانو سبييل وناولني ما طلبت‪ ،‬ال بأس‪ ،‬قال وهو‬
‫أوزع حزم الدّ والرات يف‬
‫بعيني وأنا ّ‬
‫ّ‬ ‫ينحني‪ .‬هكذا نتّفق‪ ،‬قلت له‬
‫معطفي‪ .‬جّات ُ‬
‫هت بعد ذلك إىل البار‪ ،‬واستقبلني صالح بحرارة‪:‬‬

‫‪ -‬أين كنت يا ق ّطوس ّ‬


‫الرماد؟‬

‫((( املقصود‪ c’est magnifique :‬واملعنى‪ :‬هذا مذهل‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫أيضا قارورة معتّقة‪.‬‬
‫أحب ً‬
‫‪ -‬أنا جائع يا صالح‪ّ ،‬‬
‫وثمة من يسأل‬ ‫‪ -‬أنت تعرف ّ‬
‫أن هذه الفرتة هي فرتة امتحانات‪ّ ..‬‬
‫عنك‪.‬‬
‫‪ -‬ليس اآلن يا صالح‪ ،‬أنا منشغل ح ًّقا‪ ،‬ور ّبام أعود إىل الدّ روس‬
‫اخلصوص ّية يف جانفي‪ ..‬أنت س ّيد العارفني بأزمة جانفي‬
‫و«ميزيريا» جانفي‪.‬‬
‫باكرا إىل ش ّقتي‪ ،‬أدركت آخر‬ ‫كان من الضرّ وري أن أعود ً‬
‫بحثت‬
‫ُ‬ ‫قميصا نسائ ًّيا عىل مقاس هاجر‪.‬‬
‫ً‬ ‫املحلاّ ت املفتوحة واقتنيت‬
‫ألح‬
‫تغي هاجر عطرها‪ّ ،‬‬ ‫أيضا عن قارورة عطر باريس ّية‪ ،‬ال بدّ أن رّ‬ ‫ً‬
‫عيل رأيس‪ .‬عطر نساء الوكالة‪ ،‬وهذا غريب‪ ،‬كالعطر الذي ُي َر ُّش عىل‬ ‫ّ‬
‫املوتى‪.‬‬
‫أجهدت نفيس وأنا أروي هلاجر حكاية املرأة ّ‬
‫الشقراء والقاعة‬
‫اشتمت‬
‫ّ‬ ‫السفىل‪ ،‬مل ترتكني إلاّ بعد أن جرجرتني إىل ّ‬
‫كل التّفاصيل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫وتفحصت عنقي وصدري وراقبت مالبيس ّ‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‬
‫رائحتي ً‬
‫‪ -‬ال أصدّ ق أنّك مل تلمس تلك األفعى‪.‬‬
‫قلت هلا وأنا ُأهني وضع حزم الدّ والرات يف كيس أسود‪:‬‬
‫‪ -‬احتفظي هبذا الكيس‪ ،‬تعرفني أنيّ ال يمكن أن أحتفظ به‪.‬‬
‫ثم‬
‫ّقربت هاجر الكيس إىل صدرها وانطلقت منها تنهيدة ّ‬
‫راحت تتأ ّمل القميص وقارورة العطر‪:‬‬
‫أن تلك الش ّقة «برديل» جديد يف‬
‫أهتور‪ ،‬اعتقدت ّ‬
‫‪ -‬كدت ّ‬

‫‪214‬‬
‫الوكالة‪ .‬ويف آخر حلظة تراجعت عن إعالم الشرّ طة‪ ،‬ال‬
‫أدري‪ ،‬خفت يا سعد أن جترجرك تلك األفعى معها و‪...‬‬
‫البارييس يف ُعنقها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫أتشمم رائحة العطر‬
‫قاطعتُها وأنا ّ‬
‫‪ -‬كنت أعرف أنّك جمنونة‪.‬‬
‫رضوسا عىل‬
‫ً‬ ‫مل ترتكني هاجر إلاّ بعد أن خاضت معي حر ًبا‬
‫السرّ ير‪ .‬كانت مهتاج ًة ومغتلمة‪ ،‬تغرف زفراهتا من قاع بئر‪ ،‬وأنا كنت‬
‫أن هاجر يف منتهى االشتعال بالفعل‪ .‬نادية مل تتلف عقلها‬ ‫أعرف ّ‬
‫رشت عىل رأسها البنزين وأشعلته‪ .‬كانت معي هنمة‬ ‫فحسب‪ ،‬بل ّ‬
‫متوحشة وسط صحراء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ورشسة‪ ،‬إنّه اجلوع الكافر‪ ،‬اجلوع يف رحلة‬
‫الرمل‬
‫الصحراء غريي وغريها‪ .‬ظللنا نصخب عىل ّ‬ ‫وال أحد يف ّ‬
‫ونتلوى ونتكسرّ وننسى ونصعد ونطوف العامل‪ ،‬ويف تلك ال ّلحظات‬ ‫ّ‬
‫تعرى العامل واغتسل معنا‪ ،‬مثلام اغتسلنا‪ ،‬عىل مهل وبمنتهى اجلنون‪.‬‬‫ّ‬
‫هتم بمغادرة الش ّقة‪:‬‬
‫هتفت هاجر وهي ّ‬
‫سيتزوج‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أنت مل تسمع باجلديد يف الوكالة يا سعد‪ ..‬صالح‬
‫واحلق أنيّ من أنصار‬
‫ّ‬ ‫نعيمة‪ ،‬واحلرب ستبدأ بني نعيمة ونسيمة‪.‬‬
‫أيضا مفتاح املخزن واشرتت له‬ ‫نعيمة يا سعد‪ ،‬نعيمة أعطته ً‬
‫بذلة جديدة‪ .‬وأنت؟ من أنصار من يا سعد؟‬
‫الريح برائحة القرصين‪،‬‬
‫حني استلقيت عىل السرّ ير جاءت ّ‬
‫كانت تنفخ يف النّافذة‪ ،‬رمتني ّأولاً يف وادي الدّ رب‪ ،‬حتت توتة‬
‫إبراهيم‪ ،‬استلقيت هناك وحضنت أيب‪ .‬حضنته ّ‬
‫بكل هلفتي وجوعي‬
‫وتشممت رائحة‬
‫ّ‬ ‫بت أنفي إىل فمه‬
‫ثم ّقر ُ‬
‫ست جبينه ّ‬ ‫حتس ُ‬‫وعطيش‪ّ ،‬‬

‫‪215‬‬
‫يكف عن‬
‫ّ‬ ‫الدّ خان‪ ،‬انتفضت بني أحضانه وتب ّللت بالعرق الذي ال‬
‫ثم جريت نحو سكّة احلديد‪.‬‬‫التص ّبب من جبينه ّ‬
‫منذ أن تع ّطبت عربات القطار القديم صارت مال ًذا ّ‬
‫لكل محاقاتنا‬
‫احلر‬
‫ليل هنار‪ ،‬نختفي هناك من ّ‬ ‫نعشش فيها َ‬ ‫الصغرية‪ّ ،‬‬ ‫وجرائمنا ّ‬
‫كل يشء صدئ ومتع ّفن‪،‬‬ ‫والقر ونخ ّطط ملغامراتنا‪ .‬يف تلك العربات ّ‬
‫ّ‬
‫علب برية ورسدينة وهريسة‪ ،‬قوارير‪ ،‬أعقاب سجائر‪ ،‬أعقاب‬
‫متجمدة ومنقلبة عىل ظهرها‪ ،‬خنافس‬ ‫ّ‬ ‫لفائف حشيش‪ ،‬خنافس‬
‫ثم تقفز‬
‫تتحرك بني أرجلنا يف حالة سكر‪ ،‬هتمد القطط أمامنا ّ‬ ‫أخرى ّ‬
‫لتلتقط البقايا وتقتنص الفئران‪ ،‬هلاث يف الدّ اخل‪ ،‬وحرشجات حتت‬
‫العربات‪ .‬املرأة ال ّثانية التي عرفتها بعد سعد ّية قابلتها يف إحدى‬
‫عراها أمامي‬ ‫العربات‪ ،‬جاء هبا بلقاسم احلنش من ماخور املدينة‪ّ ،‬‬
‫قادرا عىل فتح فمه‬‫«جرب ح ّظك»‪ .‬طب ًعا ال أحد منّا كان ً‬ ‫وصاح يب‪ّ :‬‬
‫حيرك جيشه بإشارات‬ ‫كل عصابات املدينة‪ّ ،‬‬ ‫أمام احلنش‪ ،‬كان يقود ّ‬
‫الصفعات النّار ّية والضرّ بات‬ ‫الرجل الشرّ س صاحب ّ‬ ‫صارمة‪ّ ،‬‬
‫كل العصابات لكي ال حتدث‬ ‫ينسق بني ّ‬ ‫ال ّلولب ّية‪ ،‬ذاك هو احلنش‪ .‬هو ّ‬
‫حي له مجاعته يا أوباش»‪،‬‬ ‫«كل ّ‬‫فوىض يف عمل ّيات اخللع والسرّ قة‪ّ .‬‬
‫أجرب السرّ قة‪ ،‬فقط‬ ‫يصيح يف الوجوه النّاعسة ويو ّبخها‪ .‬طب ًعا أنا مل ّ‬
‫واملتهور‪ .‬هو‬
‫ّ‬ ‫أحب املكوث بالقرب من بلقاسم‪ ،‬الكائن ّ‬
‫الفظ‬ ‫ّ‬ ‫كنت‬
‫ال يعنّفني مثلام يعنّف اآلخرين‪ ،‬وحني جتحظ عيناه أفهم أنيّ ال بدّ أن‬
‫أجرب ح ّظي‪،‬‬ ‫أطيعه‪ .‬تن ّطعت نظراته يف خلقتي وهو حي ّثني عىل أن ّ‬
‫املرأة كانت ترتعش حتتي‪ ،‬وكنت مثلها أرتعش‪ ،‬ومل يرتكني بلقاسم‬
‫إلاّ بعد أن هلثت وتص ّبب جبيني عر ًقا‪ ،‬وكذلك فعل اآلخرون‪ .‬ما‬

‫‪216‬‬
‫أذكره أنيّ بعد ذلك نزلت من العربة وطفقت أجري‪ ،‬خنقتني دموع‬
‫تتعرى‪ ،‬وهي تنحني‪ ،‬وهي تفتح ساقيها يف وضع ّية ّ‬
‫ذل‪،‬‬ ‫املرأة وهي ّ‬
‫وهي تشبك يدهيا عىل صدرها وتئ ّن‪ .‬كنت أركض يف ال ّطريق ألنسى‬
‫دموع املرأة‪ ،‬أركض وتتبعني الكالب وتطاردين‪ ،‬أركض اله ًثا ّ‬
‫ثم‬
‫أقف وألتقط احلجر وأرشق الكالب‪.‬‬
‫وصلت إىل بوزقام‪ ،‬ثالثة كيلومرتات وأنا أجرى بال وعي‪،‬‬
‫جلست بالقرب من حديقة‪ ،‬أعتقد أنهّ ا حديثة العهد‪ ،‬النّظام أحيانًا‬ ‫ُ‬
‫أشعلت سيجارة‬‫ُ‬ ‫ال يعرف ماذا يفعل فينشئ حديقة يف اخلالء‪.‬‬
‫ثم رأيتها تقرتب‬ ‫واستلقيت‪ .‬كانت النّجوم فوق رأيس بعيدة‪ ،‬مل َأرها‪ّ ،‬‬
‫أشعلت‬
‫ُ‬ ‫الصداع إىل رأيس‪،‬‬ ‫وتقرتب وتكاد هتجم عىل رأيس‪ .‬عاد ّ‬
‫بصقت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سيجار ًة ثانية من العقب فانبعثت رائحة كرهية يف فمي‪،‬‬
‫أحسست بالعطش‪ ،‬ال يشء غري ال ّظالم‪ .‬بعد دقائق‪ ،‬تو ّقفت س ّيارة‬
‫املحرك وانطفأت األضواء‪ ،‬ملحت رجلاً‬ ‫ّ‬ ‫يف اجلهة املقابلة‪ ،‬تو ّقف‬
‫وامرأة بالدّ اخل‪ ،‬جاءت ّسيارة ثانية وركنت بجانبها‪ ،‬وجاءت ثالثة‬
‫الصمت‪ ،‬مجع أحدهم‬ ‫ثم رابعة‪ .‬نزل اجلميع من س ّياراهتم والتزموا ّ‬ ‫ّ‬
‫ثم ألقاها عىل األرض‪ .‬أرسعت‬ ‫حركها بني ك ّفيه ّ‬
‫حزم املفاتيح‪ّ ،‬‬
‫ثم امتطت س ّيارة‬ ‫كل واحدة حزمة مفاتيح ّ‬ ‫النّساء‪ ،‬انحنني والتقطت ّ‬
‫املحركات تشخر‪ ،‬اشتعلت‬ ‫ّ‬ ‫احلظ‪ .‬حبست أنفايس وأنا أستمع إىل‬ ‫ّ‬
‫األضواء ورسعان ما ذابت الس ّيارات من أمامي‪ .‬بعد ثالث ساعات‬
‫السيارات‪ ،‬وتبادلت النّساء مواقعه ّن‪ ،‬فهمت‬
‫أو ر ّبام أكثر عادت ّ‬
‫أنهّ ّن ُعدن إىل أزواجه ّن‪ .‬أذهلني ما رأيت‪ ،‬وبصقت خلف الس ّيارت‬
‫التي غادرت عىل عجل‪ .‬هذه دعارة األغنياء‪ ،‬قلت يف نفيس‪ .‬يف‬

‫‪217‬‬
‫الواجهة األمام ّية هم رشفاء املدينة‪ ،‬ويف القفا هم أقذر خلق اهلل‪.‬‬
‫شك‪ ،‬هي عىل‬‫وتلك املرأة التي مل أعرف اسمها أرشف منهم دون ّ‬
‫األقل واضحة‪ ،‬ال تراوغ‪ ،‬وليست هلا حزمة مفاتيح‪ ،‬هلا أكوام حلم‬ ‫ّ‬
‫جائعة‪ ،‬اجلوع كافر‪ .‬وهؤالء‪ ،‬أثرياء املدينة ولصوصها هم أسباب‬
‫خراب ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬

‫يف ذلك اليوم نفسه‪ ،‬يوم اخلميس ليلاً ‪ ،‬وبعد أسبوع ّ‬


‫تكرر‬
‫املشهد نفسه‪ ،‬الس ّيارات نفسها واألبطال أنفسهم مع لعبة مفاتيح‬
‫أيضا‬
‫جديدة‪ .‬وملدّ ة شهر حدث الشيّ ء نفسه‪ّ .‬قررت أن أكون أنا ً‬
‫سجلت أرقام ال ّلوحات املنجم ّية ّ‬
‫ثم مضيت‪ .‬مل تعد‬ ‫ووقحا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ُمنح ًّطا‬
‫تستهويني ال ّلعبة‪ ،‬لعبة اخلنازير‪ ،‬وبعد أ ّيام كشفت هو ّيات أصحاب‬
‫الس ّيارات وبدأت رحلتي يف ابتزازهم‪.‬‬
‫وقفوا أمامي مثل خرق‪ ،‬مصعوقني‪ ،‬ومالحمي كانت جامدة‬
‫الرابع أرسل زوجته‪،‬‬ ‫وهي تقابلهم واحدً ا واحدً ا‪ ،‬ثالثة رجال‪ّ ،‬‬
‫حساسة‪ ،‬أرجوك خذ ما تريد وال‬ ‫بكت أمامي وقالت‪« :‬وظيفته ّ‬
‫تفضحني وال تفضح زوجي»‪ .‬انحنت أمامي وهي تبكي‪ ،‬وأنا‬
‫كل ما طلبت وبصقت عىل‬ ‫كنت رحيماً هبا وباجلميع‪ ،‬أخذت منهم ّ‬
‫طبيعي؟ أم إنسان جمنون؟ ذهبت‬ ‫ّ‬ ‫وجوههم‪ .‬ال أدري‪ ،‬هل أنا كائن‬
‫جترأت عىل الدّ خول‪ ،‬نحن أبناء املدينة ال ندخل‬ ‫إىل ماخور املدينة‪ّ ،‬‬
‫إليه يف العادة‪ ،‬يكتسحه الغرباء فقط‪ .‬يف الدّ اخل اعرتضتني وجوه‬
‫تفحصتني‪ ،‬رازتني من األعىل إىل األسفل‪ ،‬ويف األخري‬ ‫الهثة‪ّ ،‬‬
‫عثرت عىل غرفة تلك املرأة‪ ،‬امرأة العربة‪ .‬كانت هي‪ ،‬بال ريب‪ ،‬مل‬ ‫ُ‬
‫دخلت غرفتها ومل يكن يف ن ّيتي أن أفعل معها‬
‫ُ‬ ‫أنس عينيها الدّ امعتني‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫كل ما حدث‪.‬‬‫شي ًئا‪ ،‬وال يمكن بالفعل أن أفكّر يف اجلنس معها بعد ّ‬
‫ثم مضيت‪ ،‬هكذا‪ ،‬دون تفسري‬ ‫اسمها ربيعة‪ ،‬س ّلمتها مبل ًغا من املال ّ‬
‫كذبت‪ ،‬ويف آخر األمر صدّ قت‪.‬‬ ‫ثم ّ‬
‫أو تربير‪ .‬اندهشت هي‪ ،‬صدّ قت ّ‬
‫وظللت أرشب حتّى غبت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السالم‪،‬‬
‫بعد ذلك ذهبت إىل بار ّ‬
‫يف تلك األ ّيام‪ ،‬كنت أستعدّ إلجراءات امتحان الباكالوريا‪،‬‬
‫وطب ًعا مل يكن يل مزاج ألراجع الدّ روس‪ .‬يف أوقات متباعدة أحرض‬
‫أسجل‬‫ّ‬ ‫يف قاعات املعهد الفنّي‪ ،‬مثلام حيرض أغلبنا‪ ،‬تالميذ الباك‪،‬‬
‫ثم أركلها عندما أخرج‪ .‬فكّرت يف أن أراجع برتكيز‪،‬‬ ‫بعض الدّ روس ّ‬
‫قلت يف نفيس‪« :‬يا سعد‪ ،‬ال بدّ من التّعب لكي تنجح ومن يدري؟»‪.‬‬
‫وقررت أن أنجح كام ينجح أبناء األغنياء‪.‬‬ ‫ويف األثناء وجدت ّ‬
‫احلل‪ّ ،‬‬
‫كنّا نعلم كيف حتصل األمور‪ ،‬وأنا كنت أعرف ّ‬
‫كل التّفاصيل‪ .‬يف أ ّيام‬
‫تتوزع تلك‬ ‫الرس ّية‪ ،‬يف حميط املعهد ّ‬
‫االمتحان تنشط مقاوالت الباك ّ‬
‫كل املوا ّد‪ ،‬وأنا تلميذ اآلداب اخرتت موا ّدي التي‬ ‫املقاوالت‪ ،‬ويف ّ‬
‫السوداء‪ .‬عقدت صفقة مثلام يعقدها أبناء األغنياء‪،‬‬ ‫أعتربها دوابيّ ّ‬
‫الصفقة‪ ،‬بأموال األغنياء فعلت ما يفعله‬ ‫بعت واشرتيت وأبرمت ّ‬
‫األغنياء‪ .‬األمر مل يكن عىل غاية من التّعقيد‪ ،‬كان يكفي أن أكون‬
‫هادئًا وجامدً ا‪ .‬حني أتس ّلم ورقة االمتحان‪ ،‬أمسك بطني وأتظاهر‬
‫بحالة تق ّيؤ‪ ،‬يرسع يب اجلميع إىل «التّواليت»‪ ،‬و«التّواليت» ال يقرهبا‬
‫والرعاع‪ .‬كانت عفنة وقذرة مثل قذارة أ ّيامنا‪.‬‬ ‫غرينا‪ ،‬نحن الفقراء ّ‬
‫كنت أضع ورقة االمتحان حتت احلوض املتّفق عليه وأعود إىل‬
‫الذهن ألتظاهر بالتّفكري والتّحرير‪ .‬ويف تلك الدّ قائق‬ ‫القاعة خايل ّ‬
‫متر بتباطؤ غريب أفرك جبيني وال أنشغل إلاّ بكهوف وادي‬ ‫التي ّ‬

‫‪219‬‬
‫الصور وتسحبني من القاعة متا ًما‪.‬‬ ‫عيل ّ‬
‫الدّ رب وتوتة إبراهيم‪ ،‬تنثال ّ‬
‫وقبل ساعة من انتهاء االمتحان‪ ،‬أعيد املرسح ّية نفسها وأعود إىل‬
‫ذلك اجلحر حتت احلوض‪ ،‬أفتح أزرار قمييص األسود وأضع ورقة‬
‫التكيز‪،‬‬ ‫التّحرير اجلاهزة وأميض‪ .‬األمر ال حيتاج إلاّ إىل كثري من رّ‬
‫ال ترتعش أصابعي بالتّأكيد‪ ،‬أحبس أنفايس‪ ،‬هبدوء وبأعصاب من‬
‫حديد أسحب ورقة االمتحان وأضعها عىل ال ّطاولة‪ ،‬وهكذا متّت‬
‫األمور طيلة أ ّيام االمتحان‪ .‬يوم اإلعالن عن النّتائج كان من الغريب‬
‫هيم كيف نجحت‪ ،‬رأيت دهشة اجلميع وهم‬ ‫أن يصادفوا اسمي‪ ،‬ال ّ‬
‫يمرون باسمي ضمن النّاجحني‪ .‬منج ّية ز ّمت شفتيها وصاحت يف‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫اكتظ منزلنا باملهنّئني‬ ‫وجهي‪« :‬ال أصدّ قك يا فرخ احلرام»‪ ،‬وحينام‬
‫احلي‪.‬‬
‫صدّ قت منج ّية وولولت زغاريدها يف ّ‬
‫هل أنا رجل خطر؟ هل أنا عىل درجة كبرية من الغموض؟‬
‫خزان مغامرايت‪ ،‬مل أشأ أن‬
‫ذلك ما قالته يل هيلني وأنا أفرغ أمامها ّ‬
‫مرش ًفا‪ ،‬ومع ذلك‬
‫أخفي عنها شي ًئا‪ .‬مل يكن تارخيي بطبيعة احلال ّ‬
‫كنت تلقائ ًّيا مع هيلني‪ .‬هتاوت عىل املقعد بعد أن استمعت إىل بعض‬
‫كل ذلك‪ ،‬كيف؟ األمر‬ ‫محاقايت‪« .‬أنا ال أصدّ ق‪ ،‬كيف يمكن أن حيدث ّ‬
‫شبيه بخيال غريب‪ ،‬بل هو كابوس»‪ ،‬قالت هيلني باندهاش‪ .‬مل أفرغ‬
‫اخلزان‪ ،‬خشيت أن ينتاهبا الغثيان فتهرب منّي‪ .‬أجل‪،‬‬ ‫أمامها كامل ّ‬
‫فعلت‪ ،‬لكنّي‬
‫ُ‬ ‫أحس بفداحة ما‬ ‫متمرد‪ّ ،‬‬
‫بكل جرأة أنيّ رجل ّ‬ ‫أعرتف ّ‬
‫لست جمر ًما عىل أ ّية حال‪ ،‬ولست س ّي ًئا‪ ،‬ذاك تارخيي‪ ،‬وتلك ذاكريت‪.‬‬
‫وتطهرت فعلاً أمامها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التطهر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حينام اعرتفت هليلني كنت أراهن عىل‬
‫الراحة التي كنت أفتقدها‪.‬‬
‫وأحسست بتلك ّ‬

‫‪220‬‬
‫عيل أن أنام‪ ،‬وقبل ذلك فتحت‬ ‫ّ‬
‫ومكتظ كان ّ‬ ‫بعد يوم عاصف‬
‫احلاسوب‪ ،‬هو حاسوب هيلني يف األصل‪ ،‬قالت يل‪« :‬أعرف أنّك‬
‫كسول‪ ،‬لن تفكّر يف اشرتاء يشء‪ ،‬وهذا احلاسوب سيذكّرك يب‪»..‬‬
‫واألهم أنهّ ا‬
‫ّ‬ ‫أن هيلني ال تتك ّلم ً‬
‫كثريا لكنّها تفكّر بعمق‪،‬‬ ‫أعرتف ّ‬
‫تقتنص ال ّلحظة‪ ،‬متسكها من رأسها وتأكلها بأسناهنا‪..‬‬
‫تغيت‬
‫وجدت ثالث رسائل من هيلني‪ .‬يف األ ّيام األخرية‪ ،‬رّ‬
‫كثريا‪ ،‬تكتب يل باستمرار وتُطلعني عىل يوم ّياهتا‪« .‬ال بدّ أن تكون‬
‫ً‬
‫كل التّفاصيل»‪ ،‬هكذا‬‫أجرك من أنفك إىل ّ‬ ‫معي يا سعد‪ ،‬ال بدّ أن ّ‬
‫الرسالة األخرية وقرأت‪:‬‬
‫تقول‪ ..‬فتحت ّ‬
‫«حبيبي‪،‬‬
‫سنلتقي قري ًبا يا سعد‪ ،‬وستكون سفرتنا‪ ،‬أنا والرا عىل ال ّطائرة‪،‬‬
‫أنت تعرف أنيّ ال أرتاح للباخرة يف ّ‬
‫الشتاء‪ ..‬انتظرنا يا سعد يف املطار‪،‬‬
‫حجزنا ليوم ‪ 10‬ديسمرب‪ .‬وال أعتقد حبيبي أنّك ستنسى عيد ميالد‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬ال أظنّك ستنسى تاريخ مولد‬ ‫الرا يوم ‪ 15‬ديسمرب‪ّ ،‬‬
‫عزيزتنا‪».‬‬
‫الرسالة ال ّثانية أرسلتها‬
‫ماذا حدث يل وأنا أقرأ رسالة هيلني؟ ّ‬
‫موجهة إ ّيل يف األصل‪ ،‬هي‬‫الرسالة األخرية نفسه‪ ،‬مل تكن ّ‬
‫يف توقيت ّ‬
‫رسالة إىل الرا‪ ،‬كيف أخطأت هيلني؟ هل أضحت حياتنا الغريبة‬
‫الرسالة ويف رأيس صخب العامل‪:‬‬‫حمكومة باألزرار؟ قرأت ّ‬
‫«عزيزيت الرا‪،‬‬
‫ّ‬
‫سيتهشم‬ ‫كيف يمكن أن أكتب لك وأرتّب كلاميت؟ يف احلقيقة‪،‬‬

‫‪221‬‬
‫كل ما يف باطني إن مل أتك ّلم وأعرتف‪ .‬قلبي‪ ،‬قلبي يا حبيبتي وأنا‬
‫ّ‬
‫هائجا‪ .‬سألت نفيس بحرية‪« :‬إىل متى سأخفي عنك‬ ‫ً‬ ‫أكتب يقفز‬
‫احلقيقة؟ إىل متى؟‪»..‬‬
‫عذبني‪« :‬من‬ ‫السؤال نفسه الذي ّ‬‫منذ كنت طفلة وأنت تسألينني ّ‬
‫هو أيب؟ أين أيب يا أ ّمي؟» تسألينني وتنشجني يف حضني‪ ..‬ويف ّ‬
‫كل‬
‫مرة كنت أهرب‪ ،‬وكنت أكذب‪ ،‬هل تذكرين؟ كنت أمسك ذقنك‬ ‫ّ‬
‫كنت أعلم‪ ،‬كنت يف داخلك‬ ‫ثم أهديك لعب ًة لتنيس األمر‪ُ .‬‬ ‫وأبتسم ّ‬
‫تتألمّني‪ ،‬تضحكني يا عزيزيت وأنت تتألمّني‪ .‬هل أنا مذنبة‪ ،‬هل أنا قاسية‬
‫عيني يف عينيك‬
‫ّ‬ ‫إىل هذا احلدّ ؟ ال أعرف‪ ،‬ال أعرف‪ ..‬اآلن سأرفع‬
‫تعودت وأحضنك وأبكي ونبكي م ًعا وأنا‬ ‫وأمسح عىل شعرك كام ّ‬
‫أخربك‪ .‬أجل‪ ،‬إحساسك مل يكن كاذ ًبا يا حبيبتي‪ ،‬سعد هو بالفعل‬
‫والدك‪».‬‬

‫‪222‬‬
‫(‪)10‬‬
‫الرا‬

‫ورغبات شتّى‪ ،‬وأحالم ليس‬


‫ٌ‬ ‫خماوف كثرية‬
‫ُ‬ ‫يف طفولتي كانت يل‬
‫هلا ساحل‪ ،‬تفكريي ال هيدأ البتّة‪ ،‬وال يتو ّقف عن إثارة األسئلة‪ .‬كنت‬
‫يمرون برفقة آبائهم‪ ،‬أتط ّلع إليهم‬
‫أفتح الشرّ فة ألرى األطفال الذين ّ‬
‫ٍ‬
‫بذراعي وأسأل ماما شريا‪« :‬أين أيب؟»‪ ،‬وعندما‬
‫ّ‬ ‫ثم ُأخفي ّ‬
‫عيني‬ ‫بحزن ّ‬
‫عيني يف عيني هيلني وأسأهلا‪« :‬أين أيب يا أ ّمي؟» فال‬
‫ال جتيبني‪ ،‬أضع ّ‬
‫ثم هترب منّي‪ ،‬ال تفعل شي ًئا غري ترتيب‬‫أيضا‪ ،‬تصمت ّ‬‫جتيبني هي ً‬
‫ال ُّلعب يف غرفتي‪ .‬وكنت أنا مثل ق ّطتنا‪ ،‬أكتفي باألكل والنّوم‪ ،‬بل‬
‫كنت أغبط ق ّطتنا‪ ،‬فهي عىل ّ‬
‫األقل ال تفكّر وال تسأل‪ .‬أ ّما أنا فأقضم‬ ‫ُ‬
‫أحس أنهّ ا غريبة عنّي فأرميها من‬
‫أظفاري وأفكّر وال تثريين لعب أ ّمي‪ّ ،‬‬
‫أحب تلك ال ّلعب ّ‬
‫الصامتة والباردة‪ ،‬لست بلهاء ألكتفي‬ ‫الشرّ فة‪ .‬ال ّ‬
‫مرة‬
‫مر ًة واحدة‪ّ ،‬‬
‫أحب أن أرى أيب‪ ،‬أراه ّ‬
‫ّ‬ ‫بال ُّلعب واملالبس اجلديدة‪،‬‬
‫وجنتي‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫ثم تنساب دموعي عىل‬ ‫واحدة تكفي‪ .‬كنت أرصخ ّ‬
‫تستطيع هيلني يف تلك احلالة أن ختفي نوبات غضبها‪ ،‬هي تغضب‬
‫أيضا‪ ،‬ولكنّها ال تغضب منّي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بسبب ودون سبب‪ ،‬تغضب من شريا ً‬
‫أحس بحرارهتا ورعشاهتا‪ .‬أ ّمي‬
‫كانت تعانقني بلهفة‪ ،‬ويف حضنها ّ‬
‫مثيل متا ًما‪ّ ،‬‬
‫هشة وحائرة‪ ،‬تعانقني وختفي دموعها عنّي‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫كثريا بحضن أيب‪ ،‬أحيانًا أصل إىل حالة جنون وصخب‬ ‫حلمت ً‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أحب‪ ،‬بشعر أسود وأنف نحيف وفم‬ ‫وهتور‪ ،‬أرسم مالمح أيب كام‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ثم أرشع يف وضع األلوان‪ .‬يف‬ ‫ٍ‬
‫رصاص ّ‬ ‫واسع‪ ..‬أرسم وجه أيب بقل ٍم‬
‫التكيز والعناية بالوجه الذي ابتكرته‪ ،‬ورسعان‬ ‫البداية أكون شديدة رّ‬
‫أمزق الورقة وأبعثر‬
‫ثم ّ‬ ‫ما يدامهني إحساس باحلزن فأفسد وجه أيب‪ّ ،‬‬
‫األلوان يف أرض ّية غرفتي‪ .‬الغريب ّ‬
‫أن أ ّمي ال تو ّبخني‪ ،‬وكذا األ ّم‬
‫رسامة بارعة يا الرا»‪ ،‬تقول شريا وهي تن ّظف‬ ‫شريا‪« ،‬ستكونني ّ‬
‫أرض ّية غرفتي من فوىض األلوان‪.‬‬
‫كثريا‪ ،‬ر ّبام ُأصبت بحالة يأس‪ ،‬ومع‬‫كربت مل أعد أسأل ً‬‫ُ‬ ‫عندما‬
‫الصمت‪ ،‬أن أرافقه‪ ،‬وأصغي‬ ‫أحب ّ‬ ‫ّ‬ ‫أرجوحة املراهقة تع ّل ُ‬
‫مت أن‬
‫إليه‪ .‬كانت يب حاجة إىل أجنحة ختفي اجلرح العميق يف باطني‪ ،‬لذلك‬
‫خاص بباريس‪ .‬كنت‬ ‫اخرتت‪ ،‬بغرابة ر ّبام‪ ،‬أن أدرس ال ّلغات يف معهد ّ‬
‫أبحث عن إطار آخر وعن حميط آخر‪ ،‬مع غرباء‪ ،‬أعيد معهم ترتيب‬
‫الصفاء الذي ُحرمت منه‪،‬‬ ‫كل يشء‪ .‬العامل اخلارجي يمكن أن هيبني ّ‬‫ّ‬
‫التنوع واالختالف منحاين زوايا‬ ‫وعشت فعلاً ذلك اإلحساس‪ّ ،‬‬
‫متعدّ دة للتّفكري‪ ،‬ورصت أعرف ما أريد وأحدّ د أهدايف بد ّقة‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬كيف يمكن أن أنظر يف عينَي سعد نظر ًة أخرى؟ مل يعد‬
‫سعد صديقي فحسب‪ ،‬إنّه أيب‪ ،‬يا إهلي‪ ،‬كيف أستوعب وأصدّ ق؟‬
‫شك‪ ،‬ليست نظرة صديق أثق فيه‬ ‫نظريت ستكون نظرة مغايرة بال ّ‬
‫الرجل الذي‬‫كنت أفسرّ اطمئناين هلذا ّ‬ ‫وأطمئ ّن إليه‪ ،‬ال أدري كيف ُ‬
‫الزواج‬
‫حيب أ ّمي وممنوع من ّ‬ ‫كل ما كنت أعرفه‪ّ ،‬‬ ‫حيب أ ّمي؟ هذا ّ‬
‫ّ‬
‫السبب‪ ،‬بل كان األمر غري ًبا‪ ،‬أن حت ّبه أ ّمي كذلك‬
‫هبا‪ .‬مل أكن أعرف ّ‬

‫‪224‬‬
‫تتحمس أمامي‬
‫ّ‬ ‫أي خطوة‪ .‬هيلني‬‫باتاهه ّ‬‫وبجنون‪ ،‬وهي ال ختطو جّ‬
‫وهي تتحدّ ث عن سعد‪ ،‬أ ّما عندما يتع ّلق األمر ّ‬
‫بالزواج فإنهّ ا تنكمش‬
‫وتتحنّط‪ ،‬وكنت أعرف أنهّ ا تبكي يف ال ّظالم باستمرار‪ ،‬وختفي عنّي‬
‫كل أرسارها‪ .‬أ ّما شريا فكانت‪ ،‬كام الحظت‪ ،‬حاسم ًة يف قرارها‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬
‫الزواج‪ ،‬تكتفي بتكرار رشيطها‪:‬‬ ‫تسمح هليلني بأن تفتح موضوع ّ‬
‫ثم ما الذي‬ ‫ينضم إىل شعبنا‪ّ ..‬‬
‫ّ‬ ‫«إن كان حي ّبك كام تقولني فعليه أن‬
‫أن األمر ّ‬
‫شاق عىل‬ ‫يمنعه من اعتناق ديانتنا؟ ما الذي يمنعه؟ صحيح ّ‬
‫سعد‪ ،‬ولكن عليه أن يكافح ويتج ّلد‪ ،‬فاعتناق اليهود ّية حيتاج إىل‬
‫الصادق والقبول التّام بجميع الفرائض باإلضافة إىل اجتياز‬ ‫اإليامن ّ‬
‫ُقرر املرجع ّيات الدّ ين ّية قبوله‬
‫كل ذلك ت ّ‬‫مراحل تع ّلم رضور ّية‪ ،‬وبعد ّ‬
‫تتزوجي مسلام فهذا ما أرفضه‪ ،‬وبشكل‬ ‫يف الدّ يانة اليهود ّية‪ .‬أ ّما أن ّ‬
‫هتز رأسها إشار ًة‬ ‫خط أمحر يف تقاليد عائلتنا»‪ .‬وبعد ذلك ّ‬ ‫قاطع‪ ،‬ذاك ّ‬
‫فتظل هيلني تبكي عىل كتفي باستسالم وأكتفي‬ ‫منها إلهناء احلوار‪ّ ،‬‬
‫أنا بوضع ك ّفي عىل فمي يف حالة ضيق‪.‬‬
‫لت تلك الدّ موع التي‬ ‫ٍ‬
‫بكثري من األمل رسالة أيب‪ ،‬خت ّي ُ‬ ‫قرأت‬
‫شك‪ ،‬وهو يعرف‬ ‫ترقرقت يف عينيه‪ .‬فاألمر مل يكن ه ّينًا عليه بال ّ‬
‫احلقيقة كام عرفتها أنا‪:‬‬
‫«الرا‪،‬‬
‫ابنتي الرا‪،‬‬
‫ال أدري‪ ،‬كيف أكتب لك‪ ،‬ال أدري ح ًّقا‪ .‬يف ّ‬
‫كل األحوال‪ ،‬ال بدّ‬
‫الرمل حتّى‬‫أن أقول شيئا ما‪ .‬قد تقولني إنيّ أبالغ‪ ،‬أو أضع رأيس يف ّ‬

‫‪225‬‬
‫متر العاصفة‪ ،‬قد تقولني ذلك وأكثر‪ .‬فعلاً كان إحسايس غري ًبا منذ‬ ‫ّ‬
‫أع َلمتْني هيلني بأنهّ ا أنجبت بنتًا‪ ،‬أدهشني ما قالته وال أدري ملاذا مل‬
‫تزوجت يف حلظة اهنيار وخيبة‪ ،‬هي خيبة هرويب‬ ‫أصدّ قها‪ .‬قالت إنهّ ا ّ‬
‫أيضا أن تُعطيني‬‫رفض ْت ً‬ ‫السجن‪َ .‬‬ ‫منها‪ ،‬هكذا اعتقدت وأنا يف ّ‬
‫ثمة يشء ما‬ ‫التّفاصيل‪ ،‬واكتفت ٍ‬
‫بخرب موجز‪ .‬مل أكن مطمئنًّا ملا قالته‪ّ ،‬‬
‫بأن احلقيقة خمتلفة‪ ،‬وكنت أنتظر‬ ‫يف عينيها‪ ،‬يشء ال يراه غريي أخربين ّ‬
‫مرارا يا‬
‫أيضا سألتني ً‬ ‫اعرتافها‪ ،‬ولألسف طالت مدّ ة االنتظار‪ .‬أنت ً‬
‫الرا‪ ،‬وكنت تكتبني يل باستمرار‪ ،‬وأجيبك بتلك الكلامت املوجزة‬
‫تصحح شي ًئا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التي ال‬
‫حيق يل اآلن أن أناديك ابنتي‪ ،‬ابنتي الرا‪ ،‬بعد‬‫وال أدري‪ ،‬هل ّ‬
‫أيضا مذنب‪ ،‬مذنب‬ ‫حيق يل ذلك؟ أعرتف‪ ،‬أنا ً‬ ‫كل الذي حصل‪ ،‬هل ّ‬ ‫ّ‬
‫الساذجة‪ ،‬ور ّبام بسبب إحسايس باملهانة‪،‬‬ ‫ح ًّقا‪ ،‬ر ّبام بسبب غرييت ّ‬
‫أنت ال تعرفني إحساس رجل ترتكه حبيبته بسبب رجل آخر‪ .‬ور ّبام‬
‫كانت هيلني‪ ،‬يف مقابل ذلك‪ ،‬ختتربين‪ .‬ال أنفي هذا‪ .‬وأنا‪ ،‬يف احلقيقة‪،‬‬
‫استسلمت أو ر ّبام هربت‪ ..‬وما حدث بعد ذلك هو أنّنا قد نكون‬
‫هيم‪،‬‬
‫استفقنا‪ ،‬أنا وهيلني‪ ،‬يف الوقت املناسب‪ ،‬أو يف الوقت املمدّ د‪ ،‬ال ّ‬
‫استفقنا من محاقات اهلو ّية واملوروث‪ ،‬وأنت تدركني خفايا ذلك‪.‬‬
‫وبكل يشء‪.‬‬‫واآلن علينا أن نلتقي عىل طاولة واحدة لنعرتف بأخطائنا ّ‬
‫وما أجزم به‪ ،‬بال مبالغة‪ ،‬أنّنا‪ ،‬أنا وهيلني‪ ،‬نمتلك قناعات خمتلفة عن‬
‫أن زواجنا يمكن أن يكون حقيقة‪.‬‬ ‫أخريا ّ‬
‫متمردة‪ ،‬فهمت ً‬ ‫اجلميع‪ ،‬بل ّ‬
‫حتول موقف شريا يف الواقع يعود إىل الكثري من قصص‬ ‫والفضل يف ّ‬
‫مؤخرا من هيلني‪ .‬ومن تلك القصص‬ ‫والزواج التي علمت هبا ّ‬
‫احلب ّ‬‫ّ‬

‫‪226‬‬
‫حكاية الفنّان اهلادي اجلويني وزوجته اليهود ّية «وداد»‪ ،‬واسمها يف‬
‫األصل «نينات»‪ .‬وهكذا جتاوزت شريا هاجس اخلوف واإلرصار‬
‫فاحلب‪ ،‬هذا اإلحساس العظيم هو الذي جعل اهلادي‬ ‫ّ‬ ‫الرفض‪.‬‬ ‫عىل ّ‬
‫اجلويني ُيل ّقب بـ«فرانك سناترا تونس»‪ .‬مع قباليت»‪.‬‬
‫قرأت فيه رسالة أ ّمي‬
‫ُ‬ ‫قرأت رسالة أيب يف التّوقيت نفسه الذي‬
‫ُ‬
‫غادرت باريس عىل عجل‪ .‬ينبغي أن ألتقي هبيلني‬ ‫ُ‬ ‫تقري ًبا‪ ،‬ويف الغد‬
‫ثم أنتظر ما بوسعها أن تقوله لتربير موقفها‪.‬‬ ‫وأنظر يف عينيها بعمق ّ‬
‫جدارا‬
‫ً‬ ‫سورا بيني وبينها وال‬
‫كنت أعرف أنيّ سأغفر هلا‪ ،‬لن أرفع ً‬
‫أفرط يف صداقتنا‪ ،‬سيكون‬ ‫بيني وبني سعد‪ .‬وبالنّسبة إىل سعد‪ ،‬لن ّ‬
‫أيضا أن أبقى معه طويلاً ‪ .‬أحتاج إىل قبالته‪ ،‬إىل حرارة‬ ‫من اللاّ زم ً‬
‫وأحب فعلاً أن تتشابك يف آخر األمر أصابعنا‪ ،‬أنا وهيلني‬
‫ّ‬ ‫أصابعه‪،‬‬
‫وسعد‪ ،‬حتّى ال نفرتق جمدّ ًدا‪ .‬ال أنسى ما كانت هيلني تقوله ّ‬
‫بكل أمل‪:‬‬
‫ّ‬
‫نضمحل من العامل لو تدرين»‪.‬‬ ‫«كدنا‬
‫الصمت لبعض الوقت‪ .‬كان املوقف‬ ‫عند لقائنا‪ ،‬أنا وأ ّمي‪ ،‬لزمنا ّ‬
‫أحب يف تلك‬‫ّ‬ ‫حمرجا لكلينا‪ ،‬أ ّمي أغمضت عينيها وهي تبكي‪ ،‬ومل‬ ‫ً‬
‫وبذلت جهدً ا‬
‫ُ‬ ‫حتسست ذقنها ال ّطافح بالدّ موع‪،‬‬
‫الدّ قائق انكسارها‪ّ .‬‬
‫كي أعيد إليها توازهنا وكان ال بدّ أن نغادر الش ّقة لنتحدّ ث‪ .‬مشينا يف‬
‫وترسح نظرها‬ ‫ّ‬ ‫أي جّاتاه‪ .‬كانت هيلني متسك بيدي‬ ‫الشوارع ومل نخرت ّ‬ ‫ّ‬
‫بعيدً ا‪ .‬ال أعرف ملاذ اختارت أن نسري جّ‬
‫باتاه امليناء‪ ،‬ال أعرف ملاذا‬
‫كابوسا يف حياتنا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وي؟ ميناء فيوكس ّ‬
‫ظل‬ ‫املأس ّ‬
‫اختارت ذلك املكان َ‬
‫ويف حياة األ ّم شريا عىل وجه التّحديد‪ .‬اقرتبت من أحد األرصفة‪،‬‬
‫ثم سارت نحو نقطة بعينها ووقفت‪.‬‬ ‫كانت حتدّ ق فيه من بعيد ّ‬

‫‪227‬‬
‫بعد ذلك فتحت حقيبتها اليدو ّية وأخرجت وردتني‪ ،‬انحنت أ ّمي‬
‫استو ْت إثر ذلك واقف ًة وص ّل ْت‬
‫ووضعت الوردتني بكامل هدوئها‪َ ،‬‬
‫لروحي جدّ ها دانيال شاتبون وجدّ هتا إيالنيت‪َ ،‬لطاملا بكت ُْهام كام‬
‫ففهمت أنهّ ا كانت‬
‫ُ‬ ‫ثم شبكت يدهيا عىل صدرها‬ ‫بكتهام األ ّم شريا‪ّ ،‬‬
‫تعانق أ ّمها يف تلك ال ّلحظات‪ .‬جلسنا يف ما بعد‪ ،‬اخرتنا اجلهة التي‬
‫الراسية يف رصيف اإلخاء (‪Quai de‬‬ ‫والزوارق ّ‬
‫تُرشف عىل البواخر ّ‬
‫‪ ،)la Fraternité‬قالت هيلني وهي متسك بيدي‪:‬‬
‫قصة هذا امليناء‪ ،‬بل ّ‬
‫إن بداية مارسيليا‬ ‫‪ -‬أنت ال تعرفني يا الرا ّ‬
‫حب بني ابنة زعيم‬
‫قصة ّ‬‫كانت مع هذا امليناء‪ ،‬تعود احلكاية إىل ّ‬
‫الروماين بروتس‪ ..‬بروتس‬ ‫إحدى القبائل املح ّل ّية والقائد ّ‬
‫العاشق مل جيد ما يعبرّ به عن ح ّبه سوى أن يمنح حبيبته هذه‬
‫القطعة من األرض‪.‬‬
‫ثم تابعت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ترشفت من فنجان القهوة ّ‬
‫‪ -‬ر ّبام تندهشني يا الرا‪ ،‬ر ّبام تندهشني ألنّنا هنا‪ .‬يف احلقيقة‪،‬‬
‫فإن املواجهة حتم ّية‪ .‬احلق‬ ‫مهام هربنا‪ ،‬ومهام أخفينا آالمنا ّ‬
‫أن وجودنا هنا ليس صدفة‪ّ ،‬ملا رسنا يف ال ّطريق كنت أعرف‬ ‫ّ‬
‫االتاه‪ ،‬كانت نظرايت غائمة‪ ،‬لكنّها تتط ّلع إىل امليناء‪ .‬ال بدّ أن‬ ‫جّ‬
‫كابوسا لسنوات طويلة‪ ،‬قلت‬ ‫ً‬ ‫أواجه املكان الذي م ّثل لعائلتنا‬
‫هنائي ومريح‪ ،‬ينبغي‬‫أحترر بشكل ّ‬ ‫يف نفيس‪ .‬فعلاً ‪ ،‬كان جيب أن ّ‬
‫ألاّ نصدع بنصف احلقيقة‪ .‬احلقيقة يا الرا ال يمكن أن نختار‬
‫ثم نرميه بالمباالة‪ .‬وها‬
‫ونتعمد إمهال الباقي ّ‬
‫ّ‬ ‫نحب‬
‫ّ‬ ‫منها ما‬
‫الزمن يتعاقب برسعة‪ ،‬فامذا ربحت من اهلروب والكتامن‬ ‫ّ‬
‫إن ّ‬

‫‪228‬‬
‫وتعذبت‪ ،‬وأعتقد ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫واخلوف والكذب؟ أجل أنا كذبت‬
‫اخلوف كان بسبب تارخينا‪ .‬وهذا امليناء‪ ،‬وأنت تعرفني‪ ،‬شاهد‬
‫عىل بعض تارخينا‪ .‬من إحدى البواخر هنا‪ ،‬تس ّللت عائلتي‬
‫قصتنا يف‬
‫الرصيف‪ ،‬ومن هنا بدأت ّ‬ ‫وعائلة إليف جّ‬
‫باتاه هذا ّ‬
‫مارسيليا‪.‬‬
‫ثم تابعت‪:‬‬
‫أمي‪ ،‬رفعت برصها بعيدً ا ّ‬
‫صمتت ّ‬
‫‪ -‬بعد شهر من ليلتنا املجنونة‪ ،‬أنا وسعد‪ ،‬يوم ال ّثالث عرش من‬
‫مارس سنة ‪ ،1992‬اكتشفت أنيّ حامل‪ ،‬ال يمكن أن أنسى‬
‫كل يشء‬ ‫أي امرأة وهبت ّ‬ ‫تلك ال ّليلة‪ ،‬ال يمكن أن تنساها ّ‬
‫الصباح بتفاصيله‪ ،‬مل أكن عىل ما يرام‪ ،‬درجة‬
‫حلبيبها‪ .‬أذكر ذاك ّ‬
‫احلرارة يف جسمي كانت مرتفعة‪ .‬بشكل مفاجئ وغريب‬
‫لت وجهي يف املرآة‬ ‫أحسست بالغثيان‪ ،‬وكنت متعبة‪ .‬تأ ّم ُ‬
‫وأفزعني االصفرار الذي شمله‪ ،‬كنت يف غرفة االغتسال‬
‫أتلوى وأتق ّيأ‪ ،‬ويف ذلك اليوم قال ال ّطبيب لشريا‪« :‬ال تقلقي‬
‫ّ‬
‫الس ّيدة شريا‪ ،‬هيلني حامل»‪.‬‬
‫اصفر وجهها يف ال ّلحظة التي‬
‫ّ‬ ‫مل تسألني شريا عن احلمل‪،‬‬
‫ثم أخفت دموعها عنّي‪.‬‬ ‫علمت فيها باخلرب‪ ،‬انكرست عيناها ّ‬
‫ورجتني يف باطني‪ ،‬أحببت أن تسألني‪ ،‬أن‬‫عذبتني دموعها ّ‬ ‫ّ‬
‫أي يشء عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫تو ّبخني‪ ،‬أن ترصخ يف وجهي‪ ،‬مل تفعل ّ‬
‫ثم غاب سعد‪ ،‬ذاب بشكل‬ ‫احلمى أل ّيام‪ّ ،‬‬
‫بعد ذلك دامهتني ّ‬
‫وعششت يف رأيس ال ّظنون‪ .‬كنت كأنيّ يف‬ ‫مباغت وخميف‪ّ ،‬‬
‫وتشوه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل يشء يف رأيس تل ّطخ‬ ‫صحراء‪ ،‬معزولة وخمتنقة‪ّ ،‬‬

‫‪229‬‬
‫ّ‬
‫كل يشء يا الرا‪.‬‬
‫صوت سعد يف تلك ال ّلحظة‪:‬‬
‫َ‬ ‫كنت‬
‫هتفت بال تفكري‪ ،‬ور ّبام ُ‬
‫ُ‬
‫السجن‪ ،‬وكان يمكن أن تسأيل‬
‫‪ -‬سعد يف تلك األ ّيام كان يف ّ‬
‫عائلته يف القرصين‪ ،‬ما الذي منعك من ذلك؟‬
‫أمسكت هيلني يدي واستأنفت‪:‬‬
‫مشو ًشا ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وكل يشء كان‬‫ كل ال ّظروف كانت ضدّ نا‪ّ ،‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫أعرتف ّ‬
‫أن جرح األنثى أجلمني‪ ،‬وحدود التّفكري كانت ض ّيقة‪،‬‬
‫رت شريا أن ختفيك عن سعد‪ .‬ال أدري ملاذا‬
‫وبعد والدتك‪ّ ،‬قر ْ‬
‫كانت مذعورة وهي حتضنك بحرقة‪ ،‬كانت خائفة من أن‬
‫أيضا ألنهّ ا تعلم‬
‫للزواج‪ ،‬وكانت خائفة ً‬
‫يظهر سعد ويطلبني ّ‬
‫ّ‬
‫أن تبع ّية ديانة األبناء يف اإلسالم تعود إىل األب‪ .‬فعالً‪ ،‬لقد‬
‫سقطت شريا يف أسوإ االحتامالت وال أدري من كان حيرش يف‬
‫ٍ‬
‫صوف خم ّبلة‪ .‬وعندما ظهر سعد كنت سجينة شريا‪،‬‬ ‫رأسها ُك ّبة‬
‫مق ّيدة بالفعل وحزينة‪ ،‬لذلك كذبت عليه‪ .‬وكانت فكرة شريا‬
‫أن أ ّدعي أمامه أنيّ خضت جتربة زواج فاشلة‪ .‬وماذا فعل هو‬
‫بالصمت‪ ،‬وانتهينا إىل طريق مسدودة‪.‬‬
‫بعد ذلك؟ اكتفى ّ‬
‫باغتنا املطر ونحن يف امليناء‪ ،‬كنّا نغتسل بح ّباته ونعرتف‪ ،‬ومل نشأ‬
‫أن هيلني استطاعت أن‬ ‫أن نغادر جلستنا احلميمة‪ .‬الشيّ ء املذهل ّ‬
‫ذوبته باعرتافاهتا‪ ،‬ومل ختجل أمامي‬
‫كل اجلليد الذي كان بيننا‪ّ ،‬‬‫تُذيب ّ‬
‫وهي ترسد يل وقائع تلك ال ّليلة التي أخرجتني هلذا الوجود‪« ،‬مل تكن‬
‫تطهر وسالم‪ ،‬عاشها كالنا‪ ،‬أنا وسعد»‪ ،‬قالت‬
‫محاقة‪ ،‬كانت حلظات ّ‬

‫‪230‬‬
‫أيضا إىل أوىل كلامت‬ ‫هيلني وهي تضع رأسها عىل كتفي‪ .‬استمعت ً‬
‫مررت يل هيلني اهلاتف‪ ،‬تل ّقيته بأصابع مرتعشة جائعة وعطشى‪.‬‬ ‫أيب‪ّ ،‬‬
‫تعودنا أن‬
‫املرة األوىل التي أسمع فيها صوت أيب يف اهلاتف‪ّ ،‬‬ ‫ليست ّ‬
‫املرة مل حيدث يشء‬ ‫نتك ّلم‪ ،‬أن نثرثر‪ ،‬أن نضحك‪ ،‬أن نقهقه‪ .‬يف هذه ّ‬
‫الشكل؟ وكيف وصلني‬ ‫جتمدنا بذلك ّ‬‫من هذا‪ ،‬أمل نعد أصدقاء؟ ملاذا ّ‬
‫صوتُه بشكل خمتلف؟ كان من الضرّ وري أن يعيش كالنا الصرّ خة‪،‬‬
‫ور ّبام هي رصخة الوالدة‪ ،‬أعتقد أنهّ ا كانت شبيهة هبا‪ .‬وصلتني رنّاته‬
‫ثم رست يف باطني بشكل ساحر وغمرتني ببهجة حقيق ّية‪.‬‬ ‫العذبة ّ‬
‫ماذا قلت أليب وأنا أشهق باكية‪ ،‬وماذا قال أيب بالتّحديد وهو يبكي؟‬
‫أيضا‪ .‬تلك‬ ‫ً‬ ‫ثمة أشياء ال توصف وال تقال‪ ،‬وال يمكن أن تُفسرّ‬ ‫ّ‬
‫مرة حيتضنني أيب ّ‬
‫بكل‬ ‫ألول ّ‬
‫مرة‪ّ .‬‬ ‫ألول ّ‬
‫األحاسيس العجيبة غمرتني ّ‬
‫طاقته‪ ،‬احتضنني بصوته ودموعه‪ ،‬أجل إنّه يعود إ ّيل من بعيد‪.‬‬
‫كل يشء‬ ‫بعد عودتنا من امليناء أغلقت باب غرفتي وفكّرت يف ّ‬
‫أمر عىل‬ ‫حدث معي‪ ،‬استعدت الكثري من التّفاصيل‪ ،‬كيف كنت ّ‬
‫ترصفايت دون حتليل؟ كيف كنت أقفز عىل املسائل بال‬ ‫الكثري من ّ‬
‫أنجليزي‬
‫ّ‬ ‫اجتهاد لتفسريها؟ قرأت يف أحد الكتب دراسة لكاتب‬
‫«إن قدر األبناء هو يف الكثري من األحيان‬‫عىل ما أتذكّر‪ ،‬يقول فيها‪ّ :‬‬
‫تتغي التّفاصيل لك ّن التّشابه‬
‫قدر اآلباء‪ ،‬قد ختتلف نسبة التّشابه‪ ،‬وقد رّ‬
‫موجود»‪ .‬قدّ م الكاتب أمثلة عديدة ودرسها من زوايا خمتلفة‪ ،‬عقائد ًّيا‬
‫مهم‪« :‬األبناء يف‬‫وتربو ًّيا واجتامع ًّيا واقتصاد ًّيا‪ .‬وانتهى إىل استنتاج ّ‬
‫الكثري من احلاالت وهم حيرصون عىل االختالف عن آبائهم يلتقون‬
‫يف آخر املطاف يف املجرى نفسه‪ ،‬أو يف االختيارات نفسها بمعنى آخر»‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫بدأت احلكاية معي يف القسم الدّ اخيل بمعهد ال ّلغات‪ ،‬شاء‬
‫يب‪.‬‬
‫احلظ أن أتقاسم غرفتي مع برشى‪ ،‬وهي مسلمة من أصل مغر ّ‬ ‫ّ‬
‫مل أعرتض عىل قرار اإلدارة وكذلك فع َل ْت هي‪ ،‬كانت تعلم أنيّ‬
‫ثم أغلقنا‬ ‫وجهها وهي تق ّبلني ّ‬
‫ُ‬ ‫هيود ّية ومل ترفض االقرتاح‪ ،‬أرشق‬
‫باب غرفتنا‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬ما دفعني أكثر إىل املوافقة عىل السكن مع‬
‫للزواج‬ ‫الرافض ّ‬‫برشى هو موقف هيلني الغريب من سعد‪ ،‬املوقف ّ‬
‫التعرف‬ ‫ّرت يف رضورة ّ‬ ‫من مسلم‪ .‬طافت برأيس أسئلة غامضة‪ ،‬وفك ُ‬
‫إىل هذا الدّ ين‪.‬‬
‫حني تكون املسألة مرتبطة باملعرفة أو بالعلوم بإمكاننا أن‬
‫يني‪ ،‬وذاك ما حدث بيني‬ ‫القومي أو الدّ ّ‬
‫ّ‬ ‫التعصب‬
‫ّ‬ ‫نتجاوز نعرات‬
‫عادي‪ ،‬بال تعقيد‬
‫ّ‬ ‫أن بإمكاننا التحدّ ث بشكل‬ ‫وبني برشى‪ .‬تأكّد يل ّ‬
‫أن ما جيمعنا جدير باالهتامم‪ ،‬الوالدة‪،‬‬ ‫أو أفكار مسبقة‪ .‬كنّا عىل يقني ّ‬
‫احلب واملوت‪ ،‬أليست هذه الكلامت عناوين لقواسم‬ ‫العلم‪ ،‬العمل‪ّ ،‬‬
‫مشرتكة؟ أ ّما بق ّية التّفاصيل فبوسعنا أن نرتكها لذواتنا‪ ،‬دون حماولة‬
‫تضخيمها أو التّباهي هبا‪ ،‬بمعنى أن نرتك قناعاتنا وأفكارنا تسري‬
‫شخصا آخر عىل تبنّى‬
‫ً‬ ‫طبيعي وال يشء جييز لشخص أن ُيرغم‬ ‫ّ‬ ‫بشكل‬
‫أفكاره‪ ،‬هكذا كنّا نفكّر‪ ،‬أنا وبرشى‪ .‬وال أدري ملاذا كنّا عىل درجة‬
‫أفكارا خمتلفة‪ ،‬أفكار‬
‫ً‬ ‫كبرية من االنسجام والتّناسق؟ ر ّبام ألنّنا نحمل‬
‫املتحررة من اإلرث املوبوء‪ .‬بالفعل‪ ،‬هكذا كنّا نتعايش بال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشباب‬
‫ُعقد‪ ،‬نحن عقل ّية أخرى‪.‬‬
‫أح ّبت برشى أن أساعدها عىل تع ّلم العرب ّية‪ ،‬اعرتفت يل يف‬
‫البداية بأنهّ ا كانت تعتقد ّ‬
‫أن العرب ّية هي لغة الصهيون ّية احلاقدة عىل‬

‫‪232‬‬
‫غزة‪.‬‬‫صورا بشعة ملا حيصل يف ّ‬ ‫ً‬ ‫املسلمني‪ .‬ويف تلك األ ّيام شاهدنا‬
‫احلق أنيّ مل أحرص عىل الدّ فاع عن العرب ّية‪ ،‬باعتبارها لغة سام ّية‪،‬‬
‫ّ‬
‫اكتفيت بأن قلت لبرشى‪« :‬ابحثي يا صديقتي وبعد ذلك حدّ دي‬
‫مواقفك‪ ..‬عندما نقرأ بإمكاننا أن نتقارب»‪.‬‬
‫أن سبب رهبتنا‬ ‫وبعد أن قرأت برشى قالت بنربة واثقة‪« :‬أعتقد ّ‬
‫املشوشة والتّاريخ املس ّيس‪ .‬لقد فرضوا علينا تارخيًا‬ ‫ّ‬ ‫هو ّ‬
‫الذاكرة‬
‫كل‬‫ونتحرر من ّ‬
‫ّ‬ ‫مل نشارك يف صنعه‪ ،‬وعلينا نحن أن نصنع واقعنا‬
‫إنساين خلاّ ق‬
‫ّ‬ ‫التحرر بشكل‬
‫ّ‬ ‫التّأويالت‪ .‬أجل‪ ،‬ما الذي يمنعنا من‬
‫دون أن نيسء بطبيعة احلال إىل هو ّياتنا وأدياننا؟»‬
‫اندهشت برشى وهي تكتشف التّشابه ال ّلغوي بني ال ّلغة العرب ّية‬
‫كل يوم عىل تع ّلم كلامت جديدة‪ .‬وكانت‬ ‫وأرصت ّ‬
‫ّ‬ ‫وال ّلغة العرب ّية‬
‫سعيدة بأن تر ّدد عىل مسمعي كلامت بالعرب ّية ومرادفاهتا بالعرب ّية‬
‫حتمست‬ ‫من قبيل‪ :‬األ ّم (إما) واألب (أبا)‪ .‬ومل تكتف بذلك‪ ،‬فقد ّ‬
‫لقراءة تراث التّوحيد‪ ،‬وا ّطلعت عىل كتب التّوراة اخلمسة‪ ،‬و ُأعجبت‬
‫بكتاب التّكوين ملا يشتمل عليه باخلصوص من مالحم وأساطري‪ .‬أ ّما‬
‫أنا فلم يكن اإلسالم جديدً ا عىل ثقافتي‪ ،‬األ ّم شريا حتتفظ يف ش ّقتنا‬
‫أيضا‬‫بنسخة قديمة من القرآن جن ًبا إىل جنب مع كتب التّوراة‪ .‬هيلني ً‬
‫كثريا ما حتدّ ثني عن تاريخ املسلمني‬ ‫بحكم عالقتها بسعد كانت ً‬
‫وعاداهتم‪ ،‬ومل أكن أرى اختالفات كربى بيننا وبينهم وكان ذلك مثار‬
‫احلي‪ ،‬من‬ ‫دهشتي‪ .‬ما كنت أحتاج إليه هو أن أعيش مع اإلسالم ّ‬
‫حيث ال ّطبائع والعادات وال ّلباس واألكل‪ ،‬ال يكفي أن نقرأ الكتب‪،‬‬
‫تتغي مواقفها‪ .‬برشى‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬مل تدّ خر‬ ‫كثريا ومل رّ‬
‫هيلني قرأت ً‬

‫‪233‬‬
‫جهدً ا يف مساعديت عىل تع ّلم العرب ّية‪ ،‬ال س ّيام يف فهم مصطلحات‬
‫وجدت صعوبة يف‬‫ُ‬ ‫كثرية أراها غريبة ومستعصية‪ .‬يف األ ّيام األوىل‬
‫التّواصل معها‪ ،‬كنت أتك ّلم بال ّلهجة الدّ ارجة التّونس ّية بحكم أنهّ ا‬
‫ثم جرت‬ ‫هلجة تواصلنا داخل العائلة‪ ،‬وأحيانًا أستعني بالفرنس ّية‪ّ ،‬‬
‫عادي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األمور بعد ذلك بشكل‬
‫سميناها أنا وبرشى «سالم شالوم» عشنا‬ ‫يف غرفتنا التي ّ‬
‫تتمردان عىل احلدود وتُعيدان اكتشاف‬ ‫انسجا ًما رائ ًعا بني شا ّبتني ّ‬
‫العامل‪ .‬يف شهر رمضان كنت ُأجاري برشى يف صومها‪ ،‬نحرض األكل‬
‫إىل غرفتنا بعيدً ا عن ضجيج املطعم‪ .‬برشى ال تصليّ إلاّ يف شهر‬
‫ثم تقول‪« :‬إنّه الكسل‬ ‫رمضان‪ ،‬تضحك عندما أستفرسها عن األمر ّ‬
‫أيضا مل أنشأ يف‬
‫يا الرا‪ ،‬وبعد إهناء الدّ راسة سيكون األمر خمتلفا»‪ .‬أنا ً‬
‫عائلة حمافظة‪ ،‬نكتفي ببعض ال ّطقوس التي نراها رضور ّية‪ .‬صديقتي‬
‫نحب أن تكون مائدتنا عامرة عىل‬ ‫ّ‬ ‫السبت‪ ،‬وكنّا‬
‫تشاركني عشاء ليلة ّ‬
‫ثم نأكل بمنتهى احلميم ّية‪.‬‬ ‫خالف بق ّية األ ّيام‪ ،‬نشعل ّ‬
‫الشموع م ًعا ّ‬
‫وبطبيعة احلال أمتنع عن رشب النّبيذ يف حرضة برشى‪ ،‬أمتنع عن‬
‫املهم‪ ،‬نحن ال‬
‫ذلك رغم أنهّ ا سمحت يل برشب الكأس املقدّ سة‪ّ ،‬‬
‫أن غرفتنا حم ّطة استثنائ ّية‪ ،‬هي‬
‫نع ّقد األمور وال نختلف‪ .‬كنّا نعرف ّ‬
‫احلب‪ ،‬وازداد إيامننا‬
‫ّ‬ ‫حم ّطة للتع ّلم والنّجاح باألساس‪ ،‬لذلك غمرنا‬
‫السعادة‪ ،‬وكثريا ما تقول‬ ‫احلب وحده هو اجلرس الذي يفيض إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بأن‬
‫«السالم عليكم»‪.‬‬‫يل برشى‪« :‬شلوم عليخم»‪ ،‬وأر ّد أنا‪ّ :‬‬
‫أحس بالغربة بالفعل مع صديقتي املسلمة‪ ،‬وعندما أختيل‬
‫ّ‬ ‫مل‬
‫أيضا وال أقدر‪ .‬يف‬
‫بنفيس أستعرض بعض املواقف‪ ،‬أحاول فهمها ً‬

‫‪234‬‬
‫أ ّيام دراستي كنت مثل هيلني‪ ،‬ال أكتفي بإجابات سطح ّية‪ .‬يل فضول‬
‫عنيد‪ ،‬أعني فضوالً معرف ًّيا‪ ،‬أوغل يف البحث حتّى أطمئ ّن لإلجابة‬
‫التي أريد‪ ،‬وذلك ما حصل يل يو ًما مع إهياب‪ ،‬أستاذ األنجليز ّية‪.‬‬
‫بكل هدوء‬ ‫طرحت عليه ّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ناقشته يومها يف مسألة النّاز ّية اجلديدة‪ّ ،‬‬
‫حييين وقتها‪« :‬ملاذا تعود‬ ‫الس َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ؤال الذي كان رّ‬ ‫وبلغة أنجليز ّية طليقة ّ‬
‫بعض األحزاب واملجموعات اليمين ّية إىل النّاز ّية اليوم؟»‪ ،‬ولكنّه‬
‫اكتفى بالقول‪« :‬هذه األسئلة ليست من اهتاممات درسنا»‪ .‬هكذا‪،‬‬
‫غرابة أمهل سؤايل‪ ،‬فشعرت باالستياء‪ ،‬مل يكن سؤايل سخي ًفا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫وبكل‬
‫كان يمكن أن يكون األمر تلقائ ًّيا‪ ،‬لك ّن األستاذ وضع سؤايل يف خانة‬
‫أن األستاذ يقدّ م لنا الدّ روس بشكل مرح‪ ،‬غري‬ ‫املمنوعات‪ .‬صحيح ّ‬
‫أنّه ال يقتحم الكثري من املواضيع التي بإمكاهنا أن تثري ثقافاتنا‪ .‬هو‬
‫يعرف أنّنا نختلف‪ ،‬نجلس أمامه هبو ّيات متغايرة‪ ،‬مسلمة وهيود ّية‬
‫حيررنا من كوابيسنا‪ .‬وبشكل من أشكال‬ ‫أن ّ‬ ‫ومسيح ّية‪ ،‬وكان ينبغي ّ‬
‫التحدّ ي‪ ،‬قلت لألستاذ‪« :‬ببساطة‪ ،‬الناز ّيون اجلدد ُيعدّ ون حمرقة‬
‫املرة سيحرقون العامل»‪.‬‬
‫أخرى‪ ،‬وهذه ّ‬
‫تغي نظرة األستاذ إ ّيل‪ ،‬ال أدري‪،‬‬‫ر ّبام كانت تلك الكلامت سب ًبا يف رّ‬
‫وهتتم‬
‫ّ‬ ‫انوي تكتفي بالدّ رس‬ ‫أحسست أنّه مل يعد ينظر إ ّيل كطالبة يف ال ّث ّ‬
‫األهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل يوم‪ .‬اكتشف أنيّ جمادلة رشسة وهذا هو‬ ‫بتغيري تنّورهتا ّ‬
‫أن تلك الكلامت البسيطة والعفو ّية حفرت‬ ‫وباإلضافة إىل ذلك أظ ّن ّ‬
‫يتأهب‬
‫الحظت‪ ،‬وهكذا كان إحسايس‪ ،‬أنّه ّ‬ ‫ُ‬ ‫أسى عمي ًقا بداخله‪.‬‬ ‫ً‬
‫احلصة املوالية‬
‫ّ‬ ‫للترصيح بيشء‪ ،‬يشء ما جيعل صوته خمتن ًقا‪ .‬ويف‬
‫موس ًعا عن مسألة النّاز ّية اجلديدة‪ ،‬قدّ مته‬ ‫قدّ مت لألستاذ بح ًثا ّ‬

‫‪235‬‬
‫بمنتهى ال ّثقة يف النفس‪ ،‬اندهش ألنيّ مل أجتاوز األمر‪ ،‬ور ّبام مل خيطر‬
‫احلصة اقرتب منّي إهياب ومهس‪:‬‬ ‫بباله أن أفعل ذلك‪ ،‬ويف آخر تلك ّ‬
‫«أنت ال تعرفني ّ‬
‫أن أ ّمي هيود ّية»‪.‬‬
‫الرس الذي شدّ نا‬
‫رس مقدّ س‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ما مهس به إهياب كان بمثابة ّ‬
‫كميثاق‪ .‬وسيكون من اللاّ زم أن أعرتف أنّنا التقينا يف نقطة مدهشة مل‬
‫هوة‬
‫هوة‪ّ ،‬‬
‫فك شفرهتا‪ .‬ومل خيذلني حديس‪ ،‬كان إهياب سجني ّ‬ ‫نقدر عىل ّ‬
‫احلرية حول تارخيه‪ ،‬أو تاريخ أ ّمه عىل ّ‬
‫األقل‪ .‬ور ّبام التقينا هناك ونحن‬
‫نتحدّ ث أو نبحث أو نضحك‪ .‬بالفعل‪ ،‬جرت األحداث برسعة ومل‬
‫نعد نفرتق‪ ،‬يف الدّ رس أو يف أروقة املعهد أو يف رسائلنا اإللكرتون ّية‪.‬‬
‫مرة‪،‬‬
‫ألول ّ‬
‫اكتشفت هذا اإلحساس ّ‬
‫ُ‬ ‫الزلزال‪،‬‬
‫حدث بيننا ما يشبه ّ‬
‫احلب‪ ،‬لك ّن حواراتنا‬
‫ّ‬ ‫إحساسا مذهلاً ‪ ،‬مل نتحدّ ث َق ُّط عن‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫كانت طافحة بتلك الكلمة السحر ّية‪ .‬كتب يل يف إحدى رسائله‪:‬‬
‫الصغرية غريبة بشكل‬ ‫كنت أدرك ّ‬
‫أن أرستنا ّ‬ ‫«طوال طفولتي ُ‬
‫الفت ألنّنا نعيش داخل أرسة ميزهتا االختالف‪ .‬أيب مسلم‪ ،‬من أصل‬
‫حب يف باريس‪ ،‬وانغمسا يف‬
‫قصة ّ‬ ‫تونيس‪ ،‬وأ ّمي هيود ّية أرمن ّية‪ ،‬عاشا ّ‬
‫ّ‬
‫تزوجا‪ ..‬عندما كربت أختي دالل‪ ،‬خت ّييل‬
‫ثم ّ‬ ‫كل تناقضات باريس ّ‬ ‫ّ‬
‫ذلك‪ ،‬اعتنقت املسيح ّية‪ ،‬أنا اخرتت اإلسالم‪ ،‬وعن قناعة اخرتت‬
‫الصغري سارة فاختارت اليهود ّية‪ .‬مل تكن اختالفاتنا‬
‫ذلك‪ ،‬أ ّما أختي ّ‬
‫لتم ّثل مشكلاً ‪ ،‬كنّا يف منتهى االنسجام دو ًما‪ ،‬لسنا حمافظني‪ ،‬باملعنى‬
‫نحب احلياة‪ .‬ال أذكر أنّه حدث يف بيتنا ما س ّبب‬
‫ّ‬ ‫التّقليدي ولكنّنا‬
‫صدا ًما أو رصا ًعا‪ ،‬كنّا نتحاور ونتكامل‪ ،‬ويف األخري نلتقي يف نقطة‬

‫‪236‬‬
‫معامري وأ ّمي فنّانة‬
‫ّ‬ ‫واحلب‪ .‬أيب مهندس‬
‫ّ‬ ‫مشرتكة قائمة عىل اجلامل‬
‫تشكيل ّية‪ ،‬ور ّبام كان ذلك سب ًبا يف انصهارنا وتكتّلنا‪ ،‬بل كانت لقاءاتنا‬
‫فرصا متجدّ دة ليقرتب بعضنا من بعض أكثر‪.‬‬ ‫يف املناسبات الدين ّية ً‬
‫الرائعة‬
‫السعادة‪ ،‬واستطاعت أ ّمي‪ ،‬يف هذه األجواء ّ‬ ‫قمة ّ‬
‫نحن نحيا يف ّ‬
‫السعادة كنّا قادرين عىل إذابة الفزع‬ ‫بحق‪ .‬وبتلك ّ‬ ‫أن تكون سعيدة ّ‬
‫كل ذلك مل تستطع نسيان حمرقة اهلولوكوست‬ ‫خضم ّ‬
‫ّ‬ ‫من قلبها‪ ،‬ويف‬
‫البشعة عىل األرمن‪ ،‬ومل تتجاوز حقدَ ها عىل النّاز ّية‪ ،‬وأعتقد ّ‬
‫أن هلا‬
‫كل ما تشعر به»‪.‬‬ ‫احلق يف ّ‬
‫ّ‬
‫سألت نفيس‪ ،‬ماذا سيحدث يل إن اختفى‬ ‫ُ‬ ‫ثم ماذا بعد ذلك؟‬ ‫ّ‬
‫إهياب من حيايت؟ ر ّبام‪ ،‬وبصورة قاطعة‪ ،‬سأصاب بخيبة كربى‪ .‬أنا‬
‫احلب‪ ،‬هذا العامل ال أعرفه ومل يسبق أن خفق قلبي‬
‫يف مرحلة اكتشاف ّ‬
‫خف األمر عن‬‫الشكل املدوي والساحر يف الوقت نفسه‪ .‬مل ُأ ِ‬ ‫هبذا ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ُبرشى‪ ،‬كان من الضرّ وري أن أفعل ذلك‪ ،‬فقد الح َظت انزوائي‬
‫املتعمد‪ ،‬وكان فكري هو الذي يرشد‪ ،‬ال نظرايت‪ .‬وإحساسها كان‬ ‫ّ‬
‫االتاه نفسه‪ ،‬قالت وهي متسح عىل شعري‪ ،‬متا ًما كام تفعل هيلني‪:‬‬ ‫يف جّ‬
‫السنة األوىل التي نعرف فيها األستاذ إهياب‪ ،‬وال أعتقد عىل‬‫«ليست ّ‬
‫العاطفي املقرف»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلطالق أنّه هيوى مثل اآلخرين ذاك االبتزاز‬
‫مل خيطر ببايل ذلك اليوم أن يطلب منّي إهياب أن نخرج م ًعا‬
‫لرشب قهوة‪ ،‬خفضت رأيس وأنا أسمع طلبه‪ ،‬ارتبكت بالفعل‬
‫ّبت أنفايس ورافقته إىل املقهى‪،‬‬
‫ودامهني إعصار‪ .‬ال أعرف كيف رت ُ‬
‫متشوقة إىل تفاصيله‪ .‬ويف مقابل ذلك‬ ‫ّ‬ ‫منتظرا‪ ،‬وكنت‬
‫ً‬ ‫ر ّبام كان لقا ًء‬
‫أن ال ّلقاء ال يزال بعيدً ا‪ ،‬لكنّنا التقينا‪ .‬مل نتحدّ ث عن‬
‫كنت أعتقد ّ‬

‫‪237‬‬
‫احلب‪ ،‬اكتفى بإخراج صورة من‬
‫ّ‬ ‫ال ّثقافات وال عن األديان وال عن‬
‫اندهشت وأنا أرى وجهي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أحد جيوب سرتته ووضعها أمامي‪،‬‬
‫ثم رصخت‪:‬‬ ‫الصورة من ال ّطاولة ّ‬
‫وقربتها منّي ّ‬ ‫التقطت ّ‬
‫‪ -‬مذهلة‪.‬‬
‫قال إهياب‪:‬‬
‫الرسم‪ ،‬لقد‬
‫‪ -‬رسمتها البارحة‪ .‬أنت ال تعرفني طب ًعا موهبتي يف ّ‬
‫ورثت ذلك عن أ ّمي‪.‬‬
‫قلت مستأذنة‪:‬‬
‫‪ -‬هل تسمح يل باالحتفاظ هبا؟ ستكون ذكرى مجيلة‪.‬‬
‫قال ونحن نغادر املقهى جّ‬
‫باتاه املعهد‪:‬‬
‫أحب أن تكون‬
‫ّ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ الذكرى تعني أنّنا نجلس جلسة وداع‪ ..‬وأنا‬
‫الصورة بدايتنا‪.‬‬
‫تلك ّ‬
‫ثم دخلت وهي حتمل طب ًقا فيه فطائر‬ ‫طرقت هيلني باب غرفتي ّ‬
‫يصا‬
‫خص ً‬‫البطاطس وكأسا نبيذ‪ .‬فطائر البطاطس تُعدّ ها يل أ ّمي ّ‬
‫عندما تكون عىل مزاج رائق‪ ،‬طب ًعا هي أصبحت ماهرة بشكل ما‬
‫يف ال ّطبخ‪ ،‬تقف بجانب شريا يف املطبخ وختتزن يف رأسها الوصفات‬
‫بحق يف إعداد أشهى املأكوالت واحللو ّيات‪،‬‬ ‫السحر ّية‪ ،‬شريا ماهرة ّ‬‫ّ‬
‫حتب أن تفتح كتب ال ّطبخ‪« ،‬ال‬ ‫وهيلني حتاول أن تقتفي أثرها‪ ،‬ال ّ‬
‫إن ال ّطبخ حيتاج إىل تدقيق»‪،‬‬ ‫ثم ّ‬
‫تُضيف الكثري إىل وصفات شريا‪ّ ،‬‬
‫ثم أغلقت النّافذة‬ ‫هكذا تعتقد‪ .‬وض َعت ال ّطبق بجانبي عىل السرّ ير ّ‬
‫وجلست بجواري‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫يتغضن وجهها‪ ،‬وعيناها‬ ‫هيلني حتافظ عىل أناقتها ورشاقتها‪ ،‬مل ّ‬
‫مت‪ ،‬وهي تقابلني‪،‬‬ ‫تشم ُ‬‫تأويان العمق نفسه‪ ،‬عمق األنثى أعني‪ّ .‬‬
‫عطرها الدّ اخيل‪ .‬وأعرتف أنيّ ك ّلام ابتعدت عنها ختلخل اليقني يف‬ ‫َ‬
‫ماسة إىل رعايتها‪ .‬يكفي أن تنظر إ ّيل ليخفق‬‫داخيل وشعرت بحاجة ّ‬
‫قلبي‪ ،‬عيناها تقودانني إىل أعامقي‪ ،‬إىل حالة سكينة ملهمة‪ .‬نظراهتا‬
‫املرة كانت أكثر عم ًقا‪ ،‬خفق قلبي بشدّ ة وأنا أد ّقق يف مالحمها‪،‬‬
‫هذه ّ‬
‫املشاعر التي اجتاحتني كانت متق ّلبة‪ ،‬ال أعرف السبب‪ ،‬ال أعرف‬
‫بالتّدقيق‪ ،‬ر ّبام حدث يل ذلك وأنا أفكّر يف إهياب‪« ،‬كيف سأحدّ ث‬
‫تساءلت يف داخيل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هيلني عن إهياب؟»‪،‬‬
‫بت‬
‫قرعت هيلني كأسها بكأيس‪ ،‬وراحت تتأ ّملني بدورها‪ّ .‬قر ُ‬
‫كف يدها‬‫وفتحت ّ‬
‫ُ‬ ‫اقرتبت منها‬
‫ُ‬ ‫شفتي ورشبت‪ ،‬بعد ذلك‬
‫ّ‬ ‫كأيس من‬
‫اليمنى‪ ،‬تأ ّملت خطوطها وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬خطوطنا متشاهبة يا هيلني‪ ،‬وأعتقد ّ‬
‫أن قدري وقدرك متشاهبان‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم قالت ضاحكة‪:‬‬
‫شدّ ت عىل يدي ّ‬
‫‪ -‬كنت أعرف يا ق ّطتي أنّك ختفني شي ًئا‪ ،‬وأنا عىل يقني ّ‬
‫أن قلبك‬
‫احلب‪.‬‬
‫عرف طريق ّ‬
‫كانت حلظة مرتبكة حني ّقربت شاشة احلاسوب من هيلني‬
‫وفتحت أمامها صفحة إهياب عىل الفايس بوك‪ .‬مت ّعنت يف صور‬
‫إهياب‪ ،‬مع أفراد العائلة‪ ،‬يف متحف ال ّلوفر‪ ،‬يف ساحة الباستيل‪ ،‬يف‬
‫الزيتونة‪.‬‬
‫املعهد‪ ،‬يف شاطئ حلق الوادي وأمام جامع ّ‬

‫‪239‬‬
‫هتفت وهي تتو ّقف عند صورة إهياب يف مدخل جامع ّ‬
‫الزيتونة‪:‬‬
‫أيضا يف حم ّله‪.‬‬
‫‪ -‬وختميني ً‬
‫مهست‪:‬‬
‫وأخريا يا هيلني‬
‫ً‬ ‫تونيس ومسلم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬إنّه أستاذ األنجليز ّية‪ ،‬فعلاً هو‬
‫احلب‪ ،‬عرفته مع إهياب‪ ،‬أعرف أنيّ أفتقد التّجربة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عرفت‬
‫مترسع‪ .‬لست منبهرة بصورته كأستاذ‪،‬‬‫ومع هذا إحسايس غري ّ‬
‫أعلم انفالتات املراهقة‪ ،‬وقد مررت من شلاّ الهتا بسالم‪ .‬ال‬
‫أن ما نعيشه ح ًّقا هو ّ‬
‫احلب بال ريب‪.‬‬ ‫أخفي عنك ّ‬
‫ماذا أقول عن تلك ال ّلحظة بالتّحديد؟ ّ‬
‫جتمدت وأنا أنتظر ر ّدة‬
‫فعل هيلني‪ .‬ر ّدة فعلها األوىل كانت تعني يل الكثري‪ ،‬ر ّبام خشيت من‬
‫أتلق من تقاسيم‬ ‫الصدمة‪ ،‬ومن انفجارها يف وجهي‪ .‬مل ّ‬‫الرفض‪ ،‬من ّ‬ ‫ّ‬
‫بقوة‪ ،‬وظ ّلت‬
‫وجهها ما كنت أخاف منه‪ ،‬دمعت عيناها وهي حتضنني ّ‬
‫ثم قالت‪:‬‬ ‫تنشج‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬تأكّدي يا الرا‪ ،‬يا ق ّطتي‪ ،‬لن أسمح ألحد‪ ،‬حتّى أنا‪ ،‬لن أسمح‬
‫بأن تعييش جتربتي القاسية نفسها‪ .‬امتلئي بإحساسك وكوين‬
‫تفرطي فيه‪ ..‬أمامك‬ ‫احلب إحساس عظيم ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫متأكّدة ّأولاً ‪،‬‬
‫ثم من قلب‬ ‫كل يشء‪ ،‬من قلبك ّأولاً ّ‬ ‫الوقت لتتأكّدي من ّ‬
‫إهياب‪ .‬والح ًقا‪ ،‬إن ّقررمتا ّ‬
‫الزواج‪ ،‬طب ًعا‪ ،‬فإنيّ سأبارك قراركام‬
‫السعادة‪.‬‬ ‫بمنتهى ّ‬
‫َت ك ّفي وغمرتني بوميض عينيها ّ‬
‫ثم أضافت‪:‬‬ ‫فرك ْ‬
‫‪ -‬كنت بالفعل أنتظر هذه املفاجأة‪ ،‬أمل تقويل يل ولسعد إنّك‬

‫‪240‬‬
‫أيضا انشغل بمفاجأتك‪ ،‬وأعتقد أنّه‬ ‫ختفني مفاجأة؟ سعد ً‬
‫سيكون سعيدً ا هبذا اخلرب‪ .‬نحن عشنا يف زمن آخر‪ ،‬يف زمن‬
‫كل يشء‪ ،‬وال أخفي عنك‪ ،‬نحن‬ ‫خم ّلفات األحقاد وتشويه ّ‬
‫أيضا اعرتفت بأنهّ ا‬
‫خرسنا الكثري‪ ،‬بل كنّا ضحايا‪ .‬شريا ً‬
‫أخطأت يف ح ّقك أكثر‪ ،‬أنا ال ألومها‪ ،‬كانت تنزف وهي‬
‫تغي‪.‬‬ ‫تصغي إىل أصوات تلك الفرتة املعتمة ومل تدرك ّ‬
‫أن العامل رّ‬
‫«من يؤمن بنفسه ال ينهزم»‪ ،‬هكذا قال جربان خليل جربان‪،‬‬
‫أنت ال تعرفينه بالتأكيد‪ ،‬هذا من زمننا اجلميل‪ ،‬وأنا أقول لك‪:‬‬
‫السعادة‪ ،‬ألسنا نحلم‬‫«من يتع ّلم من أخطائه قادر عىل إدراك ّ‬
‫يومي يا ق ّطتي؟»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالسعادة‪ ،‬وبشكل‬
‫ّ‬
‫مهست وأنا أنتفض يف حضن أ ّمي‪:‬‬
‫ُ‬
‫أيضا لعبة األقدار‪ ،‬تارخينا مل‬
‫‪ -‬ال ريب ماما‪ ،‬ال ريب‪ ،‬وتلك ً‬
‫نصنعه نحن‪ ،‬تارخينا صنعته الكراه ّية واألحقاد‪ .‬أ ّما نحن‬
‫فجيل آخر‪ ،‬لسنا جيل األزرار الباردة‪ ،‬نحن جيل األزرار‬
‫واحلب واحلر ّية‪ .‬لن ننغمس‬
‫ّ‬ ‫التي تفتح أمامنا دروب اجلامل‬
‫يف خساراتنا القديمة‪ ،‬سنخرس الكثري إن فكّرنا بأنان ّية‪ ،‬نحن‬
‫قادرون بالفعل عىل كرس العتمة‪ .‬هل تذكرين؟ هل تذكرين‬
‫قصة كنيس الغريبة يف جربة؟ ‪-‬أطلقت هيلني‬ ‫ما رويته يل عن ّ‬
‫هيودي‬
‫ّ‬ ‫زفرات حارقة‪ ..-‬تلك الفتاة الغامضة وهي ابنة كاهن‬
‫وصلت إىل شواطئ جزيرة جربة يف ظروف قاسية وعاشت‬
‫يف مبنى عىل وشك االهنيار‪ ..‬ويف يوم ما احرتق البيت ولك ّن‬
‫جسد الفتاة مل حيرتق‪ ،‬ماتت دون أن حترقها ألسنة النّار وظ ّلت‬

‫‪241‬‬
‫تبتسم وهي م ّيتة‪ ..‬هي أسطورة‪ ،‬تع ّلمنا بالفعل كيف نكافح‬
‫ونحيا بسعادة رغم األمل‪.‬‬
‫الضوء‪:‬‬
‫مهست هيلني ضاحكة وهي تطفئ ّ‬
‫‪ -‬بعد أ ّيام ستبدأ رحلتنا إىل تونس‪ ،‬ال بدّ أن نستعدّ كام ينبغي‬
‫أ ّيتها الق ّطة‪ ،‬وطب ًعا لن يشغلك إهياب عن سعد‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫(‪)11‬‬
‫هيلني‬

‫الرابعة مساء من يوم ‪ 10‬ديسمرب ح ّطت بنا‬ ‫الساعة ّ‬ ‫يف حدود ّ‬


‫ال ّطائرة يف مطار قرطاج‪ ،‬بتأخري ساعة‪ ،‬هذا التأخري الذي أصبح‬
‫تفضل الباخرة‪ « ،‬تثريين أمواج‬ ‫كل سفرة‪ ،‬الرا كانت ّ‬ ‫يزعجني يف ّ‬
‫ديسمرب يا ماما»‪ ،‬قالت وهي تُراقبني بطرف عينها‪ ،‬وأنا سبقتها‬
‫وحجزت تذكرتني عرب اخلطوط التونس ّية‪ .‬سعد‪ ،‬كعادته ال ينسى‬
‫كثريا‪.‬‬
‫تغي ً‬‫الحظت وهو يرسع الستقبالنا أنّه رّ‬‫ُ‬ ‫املرة‬
‫التّفاصيل‪ ،‬وهذه ّ‬
‫كان أني ًقا بالفعل‪ ،‬ارتدى بذل ًة جديدة وربطة عنق‪ ،‬وليس من عادته‬
‫أن يرتدي ربطة عنق‪ ،‬يف العادة ال يعتني بمظهره و ُيبقي حليته مهملة‬
‫أيضا باقتَي‬
‫وعندما أسأله يقول يل‪« :‬تلك موضة العرص»‪ .‬أحرض ً‬
‫الزهور يل‪ .‬ال أستطيع أن أصف عاصفة‬ ‫زهور‪ ،‬وهو يعرف ما تعنيه ّ‬
‫ال ّلقاء‪ ،‬لقاء الرا وسعد ّأولاً ‪ ،‬لدقائق وأنا أتابع بكثري من الفرح‬
‫عناقهام‪ ،‬عناق الهب‪ ،‬امتزجت فيه اآلهات بالدّ موع‪ .‬الرا كانت‬
‫مثل ق ّطة مب ّللة ومنكمشة‪ ،‬ال ترتوي من حضن والدها‪ ،‬وأنا كنت‬
‫أنشج باستسالم وأرتعش مثلام يرتعش سعد والرا‪ .‬حاولت أن‬
‫أصمد أمام ذلك اإلحساس‪ ،‬يف تلك الدّ قائق ال بدّ أن يبقى أحد منّا‬
‫ثابتًا وممسكًا بإدارة ال ّلقاء العاصف‪ .‬وبعد ذلك انتشيت بعناق سعد‪،‬‬

‫‪243‬‬
‫كان حار ًقا‪ ،‬تنغل فيه بقايا احلرمان‪ ،‬آخر بقايا اجلوع والعطش‪ .‬ق ّبلني‬
‫سعد بجنون‪ ،‬تالمس جسدي بجسده والتقى وميضه بومييض‪.‬‬
‫السامء‪ ،‬وكنت أطري‬ ‫وتعريني وتطري يب يف ّ‬
‫أحسست بأنفاسه ختدّ رين ّ‬
‫وأطري مثلام يطري سعد‪ .‬مل أستطع أن أنتزع صدري من صدره‪ ،‬كنت‬
‫عيني كأنيّ أعود إليه‬
‫ظل حيدّ ق يف ّ‬ ‫مبتهجة ومنتشية وعطشى‪ .‬سعد ّ‬
‫من إحدى األساطري‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬كان علينا أن نصدّ ق أنّنا التقينا‪ .‬ويف‬
‫الرائع من‬‫أحب أن أختزن هذا الفيض ّ‬ ‫عيني‪ ،‬كنت ّ‬‫حلظة ما أغمضت ّ‬
‫السعادة‪ ،‬ور ّبام سألت نفيس‪ :‬كيف ّفرطنا يف هذا اإلحساس؟ وكيف‬ ‫ّ‬
‫ألغينا سنوات من عمرنا؟‬
‫أن سعد سائق ماهر‪ ،‬كان يشاغبني بيديه وهو‬ ‫مرة أكتشف ّ‬ ‫ألول ّ‬
‫ّ‬
‫عيني من‬‫يقود الس ّيارة نحو شارع مارسيليا‪ ،‬وأنا يف األثناء ال ُأسقط ّ‬
‫اخللفي‬
‫ّ‬ ‫كنت هنمة يف التقاط مالحمه وحركاته‪ .‬الرا يف املقعد‬‫وجهه‪ُ ،‬‬
‫تنزه نظراهتا يف ال ّطريق وبني حلظة وأخرى متسح عىل شعر‬ ‫ظ ّلت ّ‬
‫وتتعمد ألاّ جتعلني أسمع‬ ‫ّ‬ ‫مترر كلامت مهموسة يف أذنه‬‫ثم ّ‬‫سعد‪ّ ،‬‬
‫يتلوى بجانبي ويتحينّ الفرصة‬ ‫مهسها‪ .‬يضحك سعد يف األثناء‪ّ ،‬‬
‫حيركان‬ ‫ليالمسني‪ .‬كنت بحرضة جمنونني داخل الس ّيارة‪ ،‬واملجنونان ّ‬
‫وكنت أجهل ح ًّقا ما جيول‬ ‫ُ‬ ‫حب ويقوداهنا بتنسيق حمكم‪.‬‬
‫انتفاضة ّ‬
‫رسي من تدبري سعد‪ ،‬وبمساعدة الرا‪ .‬ومن‬ ‫يف رأسيهام من ختطيط ّ‬
‫جهتي كنت ُأعدّ خم ّططي يف منتهى الد ّقة‪ .‬فكّرت أنّني‪ ،‬بعد إنجاز‬
‫عيني‬
‫ّ‬ ‫ذلك املخ ّطط الذي حلمت به لسنوات‪ ،‬يمكن أن أغمض‬
‫أخريا‪،‬‬
‫ً‬ ‫املهمة يا إليف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بكامل ال ّطمأنينة وأرصخ‪« :‬لقد أنجزت‬
‫حت ّققت وص ّيتك‪ ،‬وبإمكانك أن ترقد بسالم»‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫كثريا‪ ،‬كان مهتماّ بالتّفاصيل ك ّلها‪ ،‬وانشغل‬ ‫تغي سعد ً‬‫فعالً‪ ،‬لقد رّ‬
‫الصيانة اللاّ زمة‬
‫طيلة يومني برتتيب الش ّقة وتنظيفها‪ ،‬كام قام بأعامل ّ‬
‫غي الفوانيس‪ ،‬استبدل مزالج الباب‬ ‫يف املطبخ وغرفة االستحامم‪ .‬رّ‬
‫الرئييس الذي يس ّبب يل قر ًفا‪ ،‬أ ّما الثالجة فقد وجدتهُ ا عامرة باخلرض‬ ‫ّ‬
‫كل ما فعله‬ ‫أيضا؟ مل أستطع أن أحيص ّ‬ ‫والغالل واملرشوبات‪ .‬وماذا ً‬
‫أن ظروفه قاسية‪ ،‬فهو ال يعمل‬ ‫سعد من أجل إسعادنا‪ .‬كنت أعرف ّ‬
‫كل ذلك‪ ،‬مل أطلب منه أن يفعل شي ًئا‪ ،‬إنّه‬ ‫بانتظام‪ ،‬ومع هذا فعل ّ‬
‫األول من‬ ‫كل يشء بحامس‪ .‬تقع ش ّقتنا يف ال ّطابق ّ‬ ‫جمنون‪ ،‬و ُينجز ّ‬
‫عامرة مرشفة عىل شارع مارسيليا‪ .‬مارسيليا هنا وهناك! ال تربحنا‬
‫مت مفتاحها لسعد وطلبت منه‬ ‫أبدً ا‪ .‬ظ ّلت الش ّقة مغلقة لسنتني‪ ،‬س ّل ُ‬
‫ملحا‪ ،‬لكنّه رفض‪ ،‬أقسم ألاّ تطأ قدماه‬ ‫أن يسكن فيها‪ ،‬كان طلبي ًّ‬
‫ثم إنّه ال يستطيع أن يرتك ش ّقته يف ص ّباط الدّ زيري‪،‬‬ ‫الش ّقة إلاّ معي‪ّ ،‬‬
‫خيصصها أحيانًا لتدريس األطفال‪ .‬أحرض سعد عشا ًء ً‬
‫باذخا‬ ‫وهو ّ‬
‫من أحد املطاعم القريبة‪ ،‬مل يشأ أن نذهب يف ليلتنا األوىل إىل مطعم‪،‬‬
‫األول‪ ،‬ال ّبد أن يكون مقدّ ًسا»‪ ،‬قال سعد‬ ‫أراد عشاء محيماً ‪« ،‬العشاء ّ‬
‫مرة‬‫وألول ّ‬ ‫وهو جيلس بجواري عىل ال ّطاولة ويضع يده عىل يدي‪ّ .‬‬
‫بكل تفاصيلها‪،‬‬ ‫أكتشف أنّه يثرثر‪ ،‬حتدّ ث طويلاً مع الرا‪ ،‬كان شغو ًفا ّ‬
‫يف الدّ راسة ويف حياهتا اليوم ّية‪ .‬وكانت الرا جتاريه بحامس‪ ،‬مل‬
‫قصتها مع إهياب‪ ،‬عاينت ذلك االمحرار‬ ‫أيضا يف حمادثته عن ّ‬‫ترت ّدد ً‬
‫كل يشء‪ ،‬الرا حتافظ عىل خجلها‪ ،‬كانت عىل‬ ‫يف وجنتيها‪ .‬رغم ّ‬
‫جمرد‬ ‫وعي بأنهّ ا تصارح أباها ال صديقها‪ ،‬وسعد ُيدرك أنّه مل يعد ّ‬
‫الشعور باخلجل‪ ،‬اخلجل األنثوي‬ ‫صديق هلا‪ .‬يف باطنها ينهض ذلك ّ‬

‫‪245‬‬
‫العفوي‪ ،‬غري أنهّ ا تتحدّ ث بال ارتباك‪ ،‬مثلام حدّ ثتني عن حبيبها متا ًما‪.‬‬
‫ّ‬
‫يقرب منّي رشائح ال ّلحم‬ ‫سعد كان يتابعها باهتامم‪ ،‬وال ينسى أن ّ‬
‫بقصة الرا‪ ،‬يضحك كطفل‪ ،‬وبني‬ ‫مبتهجا ّ‬
‫ً‬ ‫ويوصيني باألكل‪ .‬كان‬
‫حلظة وأخرى يغمزها بطرف عينه‪ ،‬فتضحك الرا ويضحك سعد‪،‬‬
‫السفر كنت منتبهة ومنتعشة‪.‬‬ ‫ويثريين ضحكهام ال ّطفويل‪ ،‬ورغم تعب ّ‬
‫أن جسدي انفتح يف تلك اآلونة عىل شهويت‪ ،‬شهوة األنثى‬ ‫وال أخفي ّ‬
‫التي كانت خامدة لسنوات‪ ،‬ر ّبام ه ّيجتها أصابع سعد عىل شعري‪،‬‬
‫عيني‪ .‬أصابعه كانت شاردة‪،‬‬ ‫يمررها هبدوء ور ّقة وال ينظر يف ّ‬ ‫كان ّ‬
‫والصاخب‪ .‬ويكرب صخبي وتنساب‬ ‫ّ‬ ‫تبتكر خياهلا ال ّلذيذ املتد ّفق‬
‫هندي‪ .‬كنت حمتجزة عىل ما أعتقد‪ ،‬داخل إطار‬ ‫ّ‬ ‫قطرات العرق من‬
‫جامد‪ ،‬أو باألحرى كنت أحتجز أنوثتي‪ ،‬و ُأحكم عليها اخلناق‪.‬‬
‫منذ تلك ال ّليلة املجنونة‪ ،‬منذ أكثر من سبع عرشة سنة مل يلمس‬
‫السنوات ثقيلة ورتيبة‪ ،‬وكنت‬ ‫جسدي جسد رجل‪ ،‬مضت تلك ّ‬
‫أسأل نفيس باندهاش‪« :‬هل أنا امرأة طبيع ّية؟ ملاذا مل أفكّر يف اجلنس‬
‫أن املغامرات كانت متاحة يل‪ ،‬ال أعني إيزاك‬ ‫كأي امرأة؟» وأعرتف ّ‬ ‫ّ‬
‫بطبيعة احلال‪ ،‬ال يمكن أن حيدث يشء من هذا القرف‪ّ .‬ملحت يل‬
‫ماريا يف مناسبات كثرية‪« ،‬ملاذا ال يكون لك صديق يا هيلني؟ األمر‬
‫جريب بحذر وال تنغلقي هكذا»‪ ،‬كانت حتارصين‬ ‫وطبيعي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عادي‬
‫بكلامهتا‪ .‬وأنا كنت جامدة وخرساء‪ ،‬سأكون وضيعة لو فكّرت يف‬
‫عالقة عابرة‪ ،‬عالقة رسير بارد‪ ،‬تنتهي بانتهاء حلظات ال ّلهاث‪ ،‬وبعد‬
‫أحس بحالة غثيان وأحقد عىل جسدي‪ .‬كنت أعرف أنيّ غريبة‬ ‫ذلك ّ‬
‫ٍ‬
‫امرأة حائرة وال يمكن‬ ‫اهتزازات‬
‫ُ‬ ‫ال ّطباع‪ ،‬صلبة مثل شريا‪ ،‬تغمرين‬

‫‪246‬‬
‫أن أعرف احلضيض‪ .‬مل تنجح ماريا بالفعل يف إغوائي‪ .‬ويف ذروة‬
‫ثم أغطس يف عوامله‪ .‬يف بعض ال ّليايل‬‫الكربياء أفتح كتا ًبا بجوارها ّ‬
‫أحب أن‬‫ُأحكم إغالق باب غرفتي وأرشب بجنون حتّى أسكر‪ ،‬ال ّ‬
‫السكر يف العادة‪ ،‬ولكن حينام تنتابني حاالت اشتهاء‬ ‫أصل إىل حالة ُّ‬
‫أتعرى متا ًما وأرقص‪ ،‬أرقص عىل نغامت خمتلفة‪،‬‬‫أسكر بال حدود‪ّ .‬‬
‫رشق ّية وغرب ّية‪ ،‬نغامت صاخبة يف الغالب‪ ،‬وبعد ذلك أرمتي عىل‬
‫هندي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثم أداعب‬
‫السرّ ير بكامل االهتياج‪ .‬أالمس وجهي وعنقي ّ‬
‫ينز عرقي يف األثناء‪ ،‬تنفرج شفتاي ويسيح شعري بكامل فوضاه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ذراعي ويأتيني وجه سعد‪ ،‬يقتحم عزلتي بر ّقة ويلصق نفسه‬ ‫ّ‬ ‫أحضن‬
‫بنفيس‪ ،‬وينتظم شعري يف ك ّفيه‪ .‬أحضن سعد وأنشج وأمتلمل حتّى‬
‫أحس بتلك‬ ‫ترختي عضاليت‪ .‬وأنا أحضن سعد مستلقية عىل ظهري ّ‬
‫االرتعاشة اخلفيفة والغامرة‪ ،‬وللحظات أجد ارتوا ًء يف داخيل‪ ،‬خيفت‬
‫أيضا وال أكون يف حاجة إىل حبوب مهدّ ئة‪ .‬ويف بعض‬ ‫صداع رأيس ً‬
‫املرات‪ ،‬أستيقظ من نومي وأنا أشعر باملتعة‪ ،‬وبعد ذلك أكتشف أنيّ‬ ‫ّ‬
‫مب ّللة‪ ،‬مل أخجل عندما حدّ ثت ماريا عن مغامريت يف احللم‪ ،‬مثلام ال‬
‫ختجل هي حني حتدّ ثني عن مغامراهتا‪ ،‬ذاك االنفالت كان يسعدين‪،‬‬
‫يمنحني انتعاشة وقت ّية‪ .‬كنت أعرف عىل ّ‬
‫األقل انتعاشة ما‪ ،‬وماريا‪،‬‬
‫ثم تسألني‪« :‬إىل متى ستصمدين؟»‬ ‫عيني ّ‬
‫تظل تبحلق يف ّ‬ ‫ببالهة ّ‬
‫شفتي وطبع‬
‫ّ‬ ‫ارتفع كأس سعد أمامي ومل أنتبه‪ّ ،‬قرب شفتيه من‬
‫ساحرا‪ ،‬ثارت شهويت‬
‫ً‬ ‫قبل ًة خفيفة‪ ،‬أيقظتني من غفويت‪ ،‬طعمها كان‬
‫وأحسست باحلرارة تكتسحني‪ .‬ارتفعت‬
‫ُ‬ ‫عىل إثرها مثل بركان‬
‫كؤوسنا ال ّثالثة والتمعت أمامنا‪ ،‬عينا سعد مرختيتان هو ً‬
‫أيضا‪،‬‬

‫‪247‬‬
‫اشتهيت أن يق ّبلني‬
‫ُ‬ ‫الزجاج من أمامي‬ ‫وشفتاه حاميتان‪ .‬عندما انزاح ّ‬
‫القوة‬
‫أتلذذ بريقه‪ ،‬وال أعرف كيف امتلك تلك ّ‬ ‫سعد‪ ،‬أحببت أن ّ‬
‫ثم‬
‫انسل من جلستنا برسعة‪ ،‬ق ّبل الرا وحضنها ّ‬ ‫الصمود‪ّ .‬‬
‫وذاك ّ‬
‫خدي ومىض إىل ش ّقته يف ص ّباط الدّ زيري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ق ّبلني عىل‬
‫ً‬
‫منقوشا يف ذاكريت‪ ،‬وكذا ذاكرة‬ ‫‪ 12‬ديسمرب ‪ 2010‬يوم سيبقى‬
‫سعد والرا‪ ،‬ال يمكن أن أنسى روعة ذلك اليوم وال جنونه‪ .‬كنت‬
‫نائم ًة عندما اقتحم سعد غرفتي‪ ،‬متدّ د بجواري عىل السرّ ير وطبع‬
‫أشتم رائحته‪ ،‬باغتني حضوره‬ ‫ّ‬ ‫عيني وأنا‬
‫ّ‬ ‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫قبلة عىل خدّ ي‪.‬‬
‫صباحا‪ .‬مل خيطر ببايل أن حيرض يف ذلك املظهر‪،‬‬
‫ً‬ ‫املبكّر‪ ،‬يف العارشة‬
‫كان أني ًقا بشكل رائع‪ ،‬عطره أسكرين‪ ،‬حدّ قت يف وجهه باندهاش‪،‬‬
‫بقوة‪ ،‬مل أتك ّلم‪ ،‬ومل يتك ّلم هو‪ ،‬ضغط عىل‬
‫ثم احتضنته ّ‬
‫عيني ّ‬
‫فركت ّ‬
‫ُ‬
‫الصالون‪ .‬فوجئت‬ ‫باتاه ّ‬‫ثم أخذين من ذراعي ورسنا جّ‬ ‫يدي بحنان ّ‬
‫وحتب أن تتناول‬
‫ّ‬ ‫باكرا‪ ،‬تتكاسل‬
‫أيضا‪ ،‬يف العادة ال تنهض ً‬ ‫بالرا ً‬
‫الصباح يف الفراش وهي منشغلة بحاسوهبا‪.‬‬ ‫فطور ّ‬
‫سألت وأنا أخرج من بيت االستحامم‪:‬‬
‫‪ -‬ما احلكاية؟‬
‫ضحكت الرا وضحك سعد‪ ،‬ضحكا م ًعا وتغامزا ومل يرفعا‬
‫برصمها نحوي‪ .‬أمر غريب ما كان حيدث‪ ،‬مل أكن يف حلم عىل أ ّية‬
‫أن الرا‬ ‫حال‪ .‬هامت نظرايت بعيدً ا وأنا أرشب قهويت‪ ،‬انتبهت إىل ّ‬
‫الضحك‪:‬‬ ‫كانت متأنّقة ومستعدّ ة للخروج‪ ،‬قالت وهي ال تتو ّقف عن ّ‬
‫‪ -‬أمامك دقائق ماما لكي تتأنّقي مثلنا‪ ،‬ال ّ‬
‫تتأخري‪ ،‬نحن‬

‫‪248‬‬
‫بانتظارك‪.‬‬
‫دت ألاّ أسأل سعد وال الرا عن‬ ‫تعم ُ‬
‫بعد دقائق كنّا يف الس ّيارة‪ّ ،‬‬
‫شك مفاجأة من‬ ‫الوجهة‪ ،‬حامت يف رأيس أفكار كثرية‪ .‬ستكون بال ّ‬
‫أن وجهتنا ستكون القرصين‪.‬‬ ‫مخنت ّ‬ ‫مفاجآت سعد‪ ،‬أعرف جنونه‪ ،‬و ّ‬
‫انزعجت يف تلك ال ّلحظات ألنيّ مل أفكّر يف اقتناء هد ّية للخالة منج ّية‪،‬‬
‫وفكّرت يف أنّني سأفعل ذلك يف ال ّطريق‪ ،‬لن أقابل منج ّية بيد فارغة‪،‬‬
‫ماذا ستقول عنّي؟ كنت أعرف جّاتاه القرصين‪ ،‬مل يتّجه سعد نحو‬
‫السيارة‬‫ثم القصبة‪ ،‬وقفت ّ‬ ‫ال ّطريق الس ّيارة‪ ،‬جّاته نحو باب اجلديد ّ‬
‫احلديدي الكبري لبلد ّية تونس‪ ،‬واستأذن سعد العون يف‬ ‫ّ‬ ‫أمام الباب‬
‫جاهزا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الدّ خول‪ .‬بعد ذلك كنّا داخل قاعة فسيحة‪ ،‬وكان ّ‬
‫كل يشء‬
‫كل‬‫أن سعد والرا خ ّططا ج ّيدً ا‪ ،‬وفكّرا يف ّ‬ ‫قلت يف نفيس من الواضح ّ‬
‫كل ما كان حيصل يف اخلفاء؟ حرضت‬ ‫التّفاصيل‪ .‬كيف مل أنتبه إىل ّ‬
‫خالتي منج ّية ونور‪ ،‬ارتديتا ز ًّيا تقليد ًّيا وكانتا يف منتهى الفرح‪.‬‬
‫خت ّيلت يف تلك اآلونة واخلالة هتمس يف أذن سعد ضاحكة أنهّ ا قالت‬
‫تزوجت هيود ّية يا فرخ احلرام؟»‪ .‬حرض جوهر ورجل‬ ‫له‪« :‬يف األخري ّ‬
‫أن اسمه صالح‪ ،‬صديق سعد‪ ،‬وباإلضافة إىل‬ ‫آخر‪ ،‬عرفت بعد ذلك ّ‬
‫كل وثائقي لدى ضابط احلالة املدن ّية‪ ،‬وكان متأ ّن ًقا هو‬ ‫ذلك رأيت ّ‬
‫أيضا ببذلة سوداء وقميص أبيض‪ ،‬راقني وشاحه املحمول عىل كتفه‬ ‫ً‬
‫األيمن بلونيه األمحر واألبيض وصفيحة الربونز التي تو ّثق طرف ْيه‬
‫ال هذا الوشاح ملا حيمله من‬ ‫يف مستوى اخلرص األيرس‪ .‬مدهش فع ً‬
‫هيبة ومن معان سامية‪ ،‬وال ينسى ضابط احلالة املدن ّية املتأنّق أن ينرش‬
‫أن سعد قد أيقظه قبلنا مبك ًّرا‬ ‫ابتسامة رصحية جّ‬
‫باتاه اجلميع‪ .‬خ ّيل إ ّيل ّ‬

‫‪249‬‬
‫خصيصا لتلك اللحظة الفارقة من‬ ‫يف الصباح وأوصاه بأن يتأنّق ّ‬
‫ثم أكّد عىل غياب‬ ‫الزواج ّ‬
‫خاصا بإبرام عقود ّ‬
‫نصا قانون ًّيا ًّ‬
‫حياتنا‪ .‬تال ًّ‬
‫دمت أمتلك جنس ّية تونس ّية‪.‬‬
‫املوانع‪ ،‬املوانع الصح ّية والقانون ّية ما ُ‬
‫تو ّقف عند تلك املوانع ألنّه كان عىل عل ٍم بديانتي‪ ،‬وكان عليه أن‬
‫يد ّقق املسألة ويفسرّ ها عىل مسمع من اجلميع‪ّ ،‬‬
‫ثم التفت إ ّيل وسألني‪:‬‬
‫‪ -‬السيدة هيلني ساسون‪ ،‬هل توافقني عىل االقرتان بالس ّيد سعد‬
‫اخللفاوي؟‬
‫ثم قلت‪:‬‬
‫أومأت برأيس موافقة ّ‬
‫ُ‬
‫‪ -‬موافقة‪ ،‬أجل‪ ،‬موافقة‪.‬‬
‫السؤال نفسه عىل سعد‪:‬‬
‫ثم طرح ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وبكل سعادة‪.‬‬ ‫‪ -‬طب ًعا‪ ،‬طب ًعا‪ ،‬أوافق‬
‫دعي جوهر وصالح بعد ذلك ليكونا شاهدين عىل عقد القران‪،‬‬
‫رسي وشكرت‬ ‫ثم رشع اجلميع يف تالوة الفاحتة‪ .‬أ ّما أنا فص ّليت يف ّ‬
‫ّ‬
‫كثريا‪ .‬جوهر اكتفى‬‫تأخرت ً‬ ‫الرائعة التي ّ‬‫الرب عىل هذه ال ّلحظات ّ‬
‫ّ‬
‫بقوة‪ ،‬دمعت عيناها وهي تلتصق‬ ‫باملتابعة‪ ،‬أ ّما الرا فكانت متسك يدي ّ‬
‫بحق وهي‬
‫مدوية‪ ،‬كانت منرشحة ّ‬ ‫يب‪ .‬اخلالة منج ّية أطلقت زغرودة ّ‬
‫ثم حتضن سعد والرا‪ ،‬وبعد ذلك انفردت يب ومهست يف‬ ‫حتضنني ّ‬
‫«دوري احلزام يا هيالنة‪ ،‬راين باش نستنّى إبراهيم و ّيل العهد»‪.‬‬‫أذين‪ّ :‬‬
‫مل يتو ّقف جنون سعد عند هذا احلدّ ‪ ،‬السيناريو كان حمكماً بعناية‪،‬‬
‫بعد ساعتني تقري ًبا وصلنا أنا وسعد إىل نزل فاخر يف جربة‪ ،‬كانت‬
‫الرحلة كان سعد‬ ‫رحلتنا قصرية وممتعة عىل متن ال ّطائرة‪ ،‬وطوال ّ‬

‫‪250‬‬
‫كثريا‪ ،‬إحساسنا بالبهجة كان أكرب من أن‬‫يمسك بيدي‪ .‬مل نتك ّلم ً‬
‫يتحول احللم إىل حقيقة تعجز‬
‫طبيعي‪ .‬عندما ّ‬
‫ّ‬ ‫أمر‬
‫نتحدّ ث عنه‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫نتحرق شو ًقا إىل الوقوف ً‬
‫وجها لوجه‪،‬‬ ‫الكلامت عن اإلحاطة به‪ .‬كنّا ّ‬
‫ظل يكافح لسنوات‪.‬‬ ‫نتشمم عمي ًقا عطرنا الدّ اخيل الذي ّ‬
‫إىل أن ّ‬
‫كل يشء؟‬ ‫ماذا أقول عن ليلتنا يف جربة‪ ،‬هل أنا قادرة عىل وصف ّ‬
‫السهل أن أصدّ قه‪ ،‬عندما يطرق أبوابنا‬ ‫ّ‬
‫كل ما حدث معنا مل يكن من ّ‬
‫نحب احلياة برغبة أكرب‬
‫احللم بعد طول غياب‪ ،‬ويعانقنا بحرارة‪ ،‬فإنّنا ّ‬
‫ومحاس أكرب ورشاسة أكرب‪ .‬أيقنت يف تلك ال ّليلة أنيّ أولد من جديد‪،‬‬
‫أحترر وأركض بعيدً ا‬
‫عىل صدى رصخة خف ّية بني يدي سعد‪ ،‬كنت ّ‬
‫بعيدً ا‪ .‬ويف مقابل ذلك‪ ،‬ال أدري ملاذا دامهني ذلك اإلحساس املباغت‬
‫تتحرك حتتي وأنا أرقص‬‫أن األرض ّ‬ ‫واملخيف؟ أحسست يف حلظة ما ّ‬
‫كثريا مثلام رشب‪ ،‬كنت أرقص وأسأل نفيس‪:‬‬ ‫مع سعد‪ ،‬مل أرشب ً‬
‫«حركة األرض حتتي‪ ،‬هل هي حقيقة أم خيال؟ ال أدري‪ ،‬ال أدري»‪.‬‬
‫وضاجة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الذاهلة كان مساحة عارية‪ ،‬متأللئة‬ ‫الفراش يف غرفتنا ّ‬
‫بكل طمأنينة وراحة بال‪،‬‬ ‫بكل جوعنا وعطشنا‪ّ ،‬‬ ‫الشغف ّ‬ ‫انغمسنا يف ّ‬
‫بكل أشواق الدّ نيا كان عناقنا‪ ،‬وكانت قبالتنا‪ ،‬وكان‬ ‫بكل مجوح‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫السامء‪،‬‬
‫الزمن‪ ،‬خارج املعقول‪ ،‬نالمس ّ‬ ‫اشتعالنا‪ ،‬كأنّنا نركض خارج ّ‬
‫قوة إىل‬ ‫وأقدامنا من اخللف تسحق تلك ال ّليايل الباردة‪ ،‬وتركلها ّ‬
‫بكل ّ‬
‫ويوسع زفراته‪ ،‬ويف قاطرته‬ ‫ّ‬ ‫س ّلة املهمالت‪ .‬كان زمننا جيري ويركض‬
‫حتررنا‪ .‬يف تلك ال ّليلة‪ ،‬ابتكرنا أصابع خف ّي ًة ناعمة‪ ،‬وح ّلقنا‬
‫الواسعة ّ‬
‫يف األساطري واخلرافات‪ ،‬ح ّلقنا بعيدً ا عن هذا العامل البارد‪ ،‬وأضأنا‬
‫بحرا ونتاموج ونحن‬ ‫بتوهج أرواحنا‪ .‬حني نرى البحر‪ ،‬نصري ً‬ ‫طريقنا ّ‬

‫‪251‬‬
‫نلتحم‪ ،‬وحني تُالمسنا النسمة‪ ،‬تزهر فينا حدائق من الشوق ونتالقح‬
‫الساموات واألرض‪ ،‬إنّه الوله‬ ‫الرب‪ ،‬يا خالق ّ‬ ‫ّ‬ ‫مثل األزهار‪ .‬أيهّ ا‬
‫الذي جيعل العبد َم ِلكًا واخلاد َم سلطانًا‪ ،‬إنّه الغرام يا واهب األنوار‬
‫واألرسار‪.‬‬
‫«حجة الغريبة»‪ ،‬كنت مذهولة‬
‫زرت جربة أ ّيام ّ‬‫كنت طفلة ُ‬ ‫عندما ُ‬
‫ثم أسمع جرس الكنيسة‪،‬‬ ‫وأنا أميش بجوار أ ّمي‪ ،‬أسمع األذان‪ّ ،‬‬
‫وتتناهى إ ّيل د ّقات جرس املعبد‪ ،‬أسأل أ ّمي يف استغراب فتقول يل‪:‬‬
‫«اجلميع هنا يص ّلون هلل الواحد»‪.‬‬
‫املمر الض ّيق الذي يؤ ّدي إىل ساحة االحتفال كنت أت ّل ّذذ‬
‫يف ّ‬
‫الروائح‪ ،‬أرى باعة‬ ‫بروائح املأكوالت‪ ،‬وكنت أعرف بعض تلك ّ‬
‫جيا خمتل ًفا من األغاين‪،‬‬
‫الزيتون‪ ،‬وأسمع مز ً‬ ‫احليل واألقمشة وزيت ّ‬‫ّ‬
‫والشيخ العفريت‬ ‫تُعدّ دها شريا بجانبي‪« :‬صليحة وحبيبة مسيكة ّ‬
‫واهلادي اجلويني وعبد احلليم حافظ وأ ّم كلثوم»‪ .‬قبل دخولنا إىل‬
‫املعبد‪ ،‬أكّدت أ ّمي عىل واجب االحتشام وخلع احلذاء‪ ،‬وض َع ْت‬
‫قطعة قامش عىل رأسها وغ َّط ْت به جز ًءا منه‪ ،‬أ ّما أنا فبقي شعري‬
‫ضاجة وسعيدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجوها كثرية‪ ،‬كانت‬
‫ً‬ ‫مكشو ًفا‪ .‬وبالدّ اخل رأيت‬
‫أيضا‬‫الفتيات يرتدين تنانري وفساتني ويتز ّي ّن باملساحيق‪ .‬والرجال ً‬
‫قلنسوة سوداء أو بيضاء ومنهم من‬ ‫ّ‬ ‫خمتلفون‪ ،‬منهم من يرتدي‬
‫يرتدي الشاش ّية‪ .‬أشعلت شريا شمعتني‪ ،‬س ّلمتني واحدة واحتفظت‬
‫باألخرى‪« ،‬تلك هي شمعة األماين»‪ ،‬مهست شريا‪ .‬بعد ذلك‬
‫كتبت أمنيتي عىل بيضتي‪ ،‬كنت بطيئة وأنا أكتب ما أحسست به‬
‫كنت واعي ًة‬
‫كتبت‪ ،‬هل ُ‬‫ُ‬ ‫والسالم»‪ ..‬أذكر فع ً‬
‫ال ما‬ ‫«احلب ّ‬
‫ّ‬ ‫حلظتها‪:‬‬

‫‪252‬‬
‫وأنا أكتب ذلك؟ سرِ ْ نا بعدها إىل اجلانب األيمن للمعبد وتناولنا‬
‫مرة نبيذ البوخا‪ .‬كنت أقفز‬‫وألول ّ‬
‫أيضا ّ‬‫بعض األكالت‪ ،‬احتسيت ً‬
‫بكل محاس كام جيري‬ ‫السعادة‪ ،‬أجري ّ‬ ‫من مكان إىل آخر‪ ،‬بمنتهى ّ‬
‫األطفال وكانت شريا جتري معي بنظراهتا وتتبعني بعينيها‪.‬‬
‫والروائح واأللوان وأنا مشتعلة يف‬‫كل تلك األصوات ّ‬ ‫عادت إ ّيل ّ‬
‫يدي يف يديه وألصق صدري بصدره‪ .‬وكان حيلو‬ ‫حضن سعد‪ ،‬أضع ّ‬
‫أمرر أصابعي عىل شعره وهو نائم بجواري‪ ،‬يغمرين بأنفاسه‪،‬‬ ‫يل أن ّ‬
‫عيل بغري انتظام‪ ،‬يف الكل ّية‪ ،‬يف ش ّقة سعد‪ ،‬يف‬
‫الصور تتوافد ّ‬ ‫وكانت ّ‬
‫محام احلريم‪ ،‬يف‬ ‫مقهى التياترو‪ ،‬يف مقهى باريس‪ ،‬يف مارسيليا‪ ،‬يف ّ‬
‫كل األمكنة كانت أمكنتنا‪ ،‬كانت ملكًا لنا‪ .‬و ّملا‬ ‫الشواشني‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫مقهى‬
‫استفاق سعد‪ ،‬مهست له‪:‬‬
‫نحج‬
‫احلج يا سعد‪ ،‬أمنيتي أن ّ‬
‫‪ -‬ال بدّ أن نعود إىل جربة وقت ّ‬
‫م ًعا إىل الغريبة‪.‬‬
‫ثم ذبنا من جديد يف‬ ‫مسك سعد ك ّفي وراح يفركه بأصابعه ّ‬
‫جيرين إىل ّ‬
‫كل التّخوم‪ ،‬وأنا‬ ‫املساحة العارية‪ ،‬سعد ال يشبع من عناقي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫وأظل غارقة يف عطره‪.‬‬ ‫أيضا‬
‫ال أشبع ً‬
‫عدنا يف الغد إىل ش ّقتنا‪ ،‬األمر مل يكن متع ّل ًقا بالرا‪ ،‬كان ال بدّ‬
‫أن أفكّر يف التزامايت األخرى‪ .‬أراد سعد أن نبقى ليلة أخرى‪ ،‬أو‬
‫ليلتني‪ ،‬كان مغتب ًطا ومنتش ًيا‪ ،‬ويف األخري عدنا‪ .‬طب ًعا‪ ،‬يف زواجنا مل‬
‫إن اخلالة منج ّية غضبت ألنّنا مل نُقم حفلاً يف‬ ‫بأي تقاليد‪ ،‬حتّى ّ‬‫نتق ّيد ّ‬
‫حتتج عىل سعد‪ ،‬المتني نظراهتا ور ّبام قالت‬ ‫بيتها‪ ،‬ق ّطبت جبينها وهي ّ‬

‫‪253‬‬
‫رسها‪« :‬فردة ولقات أختها‪ ..‬فرخ احلرام ولقا فرخة احلرام»‪ .‬ويف‬ ‫يف ّ‬
‫األثناء مل أنس أن أخرب شريا‪ ،‬صمتت أ ّمي وهي تسمعني‪« ،‬مل نفكّر‬
‫أرصت عىل ذلك‪..‬‬ ‫يف األمر يا شريا‪ ،‬كان ُمفاج ًئا‪ ،‬والرا هي التي ّ‬
‫أحب صمتك يا شريا‪ ،‬إنّه ّ‬
‫يعذبني»‪ ،‬قلت هلا بمنتهى الدّ الل‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫واستطعت يف آخر األمر أن أنتزع منها ضحكة‪ ،‬كانت ضحكة خفيفة‬ ‫ُ‬
‫لكنّها أراحتني‪ .‬كم أحببت أن حترض شريا‪ ،‬وكم ّ‬
‫عذبني غياهبا‪ ،‬ماذا‬
‫أي جمال للتّفكري‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬تساءلت‪:‬‬‫أفعل للمجنو َنينْ ؟ مل يرتكا يل ّ‬
‫تم زواجنا بتلك السرّ عة؟»‪.‬‬ ‫«ملاذا ّ‬
‫مفاجآت سعد مل تتو ّقف‪ ،‬وهذه ّ‬
‫املرة أعدّ مفاجأة لالرا‪ ،‬كانت يف‬
‫الواقع فكرة جوهر‪ .‬العزيز جوهر زارنا رفقة خافا‪ ،‬كان سعيدا ح ًّقا‬
‫بزواجنا‪ ،‬مدّ ذراعيه نحوي وهو هينّئني‪ ،‬ومل يكن بوسعي ألاّ أتأ ّثر‬
‫أيضا كانت مبتهجة وهي تقدّ م‬ ‫بدموعه التي ترقرقت يف عينيه‪ .‬خافا ً‬
‫يل باقة زهور‪ ،‬ومن الواضح أنهّ ا انتقتها بعناية‪ .‬اندهشت ّملا ر َأ ْت‬
‫الرائع‪ ،‬ال أصدّ ق أنّك أنت‬‫الرجل ّ‬ ‫سعد‪ ،‬هنّأته وعانقته بزهو‪« ،‬أيهّ ا ّ‬
‫من اختطف قلب أمريتنا»‪ ،‬قالت ضاحكة‪.‬‬
‫يف احلقيقة‪ ،‬ال أعرف حلق الوادي بشكل ج ّيد‪ ،‬كنت أسمع عن‬
‫أن أغلبها هاجر يف الستّينيات‬ ‫وجود عائالت هيود ّية قليلة‪ ،‬صحيح ّ‬
‫والسبعينيات‪ ،‬لك ّن آثارهم باقية‪ .‬وهذا ما اكتشفناه عندما دخلنا إىل‬ ‫ّ‬
‫املخصصة لليهود التّونس ّيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كازينو هادئ‪ ،‬قريب من دار املسنّني‬
‫والزهور‪ ،‬عىل غاية من الد ّقة واألناقة‪،‬‬ ‫املدخل مزدان باألشجار ّ‬
‫ويف قاعة املطعم ُع ّلقت ال ّلوحات ّ‬
‫الزيت ّية بإتقان‪ .‬قرأنا الفتة ترحاب‬
‫ثمة جناح‬ ‫بال ّلغات األربع‪ ،‬العرب ّية والعرب ّية والفرنس ّية واألنجليز ّية‪ّ .‬‬

‫‪254‬‬
‫الزهور‪.‬‬ ‫مرصفة بعناية وحتيط هبا ّ‬
‫صغري فيه كُتب بأكثر من لغة‪ّ ،‬‬
‫املطعم مل يكن كام انتظرت‪ ،‬له هندسة بسيطة‪ ،‬وقاعة املطعم منفتحة‬
‫ثقايف حيمل ملسات فن ّية‬
‫أن الكازينو هو مرشوع ّ‬ ‫عىل املطبخ‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫مبهرة‪ .‬صوت حبيبة مسيكة كان رائ ًعا وأنا يف حرضة سعد والرا‪،‬‬
‫أحب صوهتا املقتحم واجلريء‪ ،‬جيعلني ال أغادر احللم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املجنونة!‬
‫بكل حفاوة ومحاس‪ ،‬ومن الواضح‬ ‫استقبلنا جاكوب‪ ،‬صديق جوهر ّ‬
‫أنّه كان ينتظرنا بنا ًء عىل توصيات صديقه‪ .‬جاكوب ُولد يف حلق‬
‫الوادي‪ ،‬سافر إىل باريس مثل الكثريين وعاد بعد سنوات لين ّفذ‬
‫متخصص يف كاشري أو ال ّطعام احلالل‪ ،‬مل‬ ‫ّ‬ ‫حلمه وهو إنشاء مطعم‬
‫يشأ أن يكون املطعم عرص ًّيا وجتار ًّيا‪ ،‬أراد أن يكون تصميمه مم ّي ًزا‪،‬‬
‫الثقايف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يغلب عليه ال ّطابع‬
‫ثم يضع صين ّية الغالل واالبتسامة‬
‫قال جاكوب وهو ُيعدّ طاولتنا ّ‬
‫ال تغيب عن وجهه‪:‬‬
‫‪ -‬أشكر جوهر ألنّه منحني ّ‬
‫كل هذه ال ّثقة‪ ،‬يف الواقع أنا واأل ّم‬
‫لييل نحرص عىل جودة األكل‪ ،‬طب ًعا نحن نعرف بال ّطعام‬
‫كل‬ ‫احلالل‪ ،‬ونتم ّيز ُبأك َلت َْي الكسكس والعقد‪ ..‬ستجدون ّ‬
‫ستتذوقون ما‬
‫ّ‬ ‫احلضارات هنا‪ ،‬ومن ح ّظكم هذه ال ّليلة أنّكم‬
‫تشتهون‪ ،‬جوهر‪ ،‬بالتّأكيد‪ ،‬ال ير ّد له طلب‪.‬‬
‫مهست يف أذن سعد‪« :‬العقد أكلة إسبان ّية‪ ،‬كانوا‬
‫ُ‬ ‫يف تلك اآلونة‬
‫يقدّ موهنا ملصارعي ال ّثريان‪ ،‬وهي ً‬
‫أيضا مثرية ّ‬
‫للشهوة اجلنس ّية»‪.‬‬
‫هامسا‪« :‬إذن سيكون تركيزي بالكامل عىل العقد»‪.‬‬
‫ً‬ ‫ر ّد‬

‫‪255‬‬
‫متر بطاولتنا‪:‬‬
‫قالت لييل والدة جاكوب وهي ّ‬
‫‪ -‬كانت قاعة سينام راكس يف الستّينيات تفتح أبواهبا خالل أعياد‬
‫األديان السامو ّية الثالثة‪ ،‬وتعرض األفالم لألطفال جمّانًا‪..‬‬
‫األطفال من مجيع األديان هنا كانوا يرت ّددون عىل راكس‬
‫ملشاهدة األفالم‪ ..‬يرت ّددون عليها يف أعياد الفطر واألضحى‬
‫الزمن اجلميل؟‬
‫ونوال وبوريم‪ ،‬أين نحن من ذاك ّ‬
‫كانت ليلتنا استثنائ ّية ح ًّقا‪ ،‬املسألة ال تتع ّلق ّ‬
‫بلذة املأكوالت التي‬
‫الروح ّية املنعشة يف الكازينو‪.‬‬
‫قدّ مها لنا جاكوب وإنّام بتلك األجواء ّ‬
‫مل َأر الرا منذ سنوات بتلك الغبطة‪ ،‬كانت منتعشة ّ‬
‫بكل يشء‪ ،‬باهلواء‪،‬‬
‫ترسب الدّ فء إىل أوصايل أنا‬‫باملوسيقى‪ ،‬باأللوان‪ ،‬وبحضن سعد‪ّ .‬‬
‫أيضا وأنا أمسك بيد سعد بصورة الشعور ّية‪ ،‬وسعد كان يأكل‬ ‫ً‬
‫أحسست وأنا‬
‫ُ‬ ‫كثريا مثلام عرفته يف البدايات‪.‬‬‫بنهم‪ ،‬يأكل وال يرشب ً‬
‫ثمة يدً ا خف ّية كانت تشدّ نا إىل بعض‪ ،‬كنت ُأمعن‬ ‫ّ‬
‫أتأمل جلستنا ّ‬
‫أن ّ‬
‫التّحديق يف وجه سعد‪ ،‬وهو يأكل‪ ،‬وهو يرشب‪ ،‬وهو يستمتع بأغاين‬
‫حبيبة مسيكة‪ ،‬وأهذي وأنا أمتلئ به‪ .‬هو ال ينسى بني فينة وأخرى‬
‫مشاكسا‪ ،‬سعد طفل ال يكرب‪ّ ،‬‬
‫يظل‬ ‫ً‬ ‫أن يق ّبلني أو يشدّ عىل فخذي‬
‫مر‬
‫أيضا‪ ،‬فام ّ‬
‫كنت سعيد ًة لسعادة الرا ً‬ ‫عفوي‪ .‬و َلك َْم ُ‬
‫ّ‬ ‫مشاغ ًبا‪ ،‬بشكل‬
‫هوة اليأس‪ ،‬بل نسقط‬ ‫أمرا ه ّينًا‪ ،‬كان يمكن أن تسقط يف ّ‬ ‫هبا مل يكن ً‬
‫أخريا كيف نقتحم‪ .‬االقتحام‪ ،‬بال‬ ‫اهلوة‪ .‬هكذا عرفنا ً‬
‫مجي ًعا يف تلك ّ‬
‫يسوي األمور اجلامدة والعالقة‪ .‬أ ّما الرت ّدد‪ ،‬ذاك املاء اآلسن‬
‫شك ّ‬ ‫ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬بل هو خانق وقاتل‪ .‬أمل أكن م ّيتة؟ بالفعل‪ ،‬سقط‬ ‫فيعكّر ّ‬
‫القناع اآلن‪ ،‬سقط بال عودة‪ .‬وسنعرف‪ ،‬أنا عىل يقني‪ ،‬سنعرف‬

‫‪256‬‬
‫الشغف هو ما جيعلنا نحيا‪ .‬وال أنكر أنيّ حينام كنت‬‫الشغف أكثر‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫غارقة يف وجه سعد دامهتني رغبة يف اإلنجاب‪ ،‬سيكون ذلك هد ّية‬
‫له‪ ،‬لسعد املجنون‪ ،‬أنا مدينة له ّ‬
‫بكل يشء‪.‬‬
‫السعادة برسعة الفتة‪ ،‬عىل خالف زمن احلزن الذي‬ ‫مىض زمن ّ‬
‫رت فعلاً ‪ ،‬وهنضت هبجتي العميقة من‬ ‫كان ينعق ويتم ّطط‪ .‬لقد ّ‬
‫تطه ُ‬
‫الروح تقود إىل هبجة اجلسد‪ ،‬وجسدي تع ّطر‬ ‫رساديب الغياب‪ ،‬هبجة ّ‬
‫أنس التزامايت‪،‬‬
‫بأنفاس سعد وبجنون سعد‪ .‬ويف هذا الوقت الض ّيق مل َ‬
‫السفارة الفرنس ّية لتسوية وضع ّية سعد‪،‬‬‫عيل ّأوالً أن أذهب إىل ّ‬
‫كان ّ‬
‫أخريا عىل االستقرار يف مارسيليا‪ .‬وكان منطق ًّيا أن أفكّر يف‬
‫ً‬ ‫اتّفقنا‬
‫تتنهد تكون‬
‫أن شريا حني ّ‬ ‫شريا‪ .‬حني أعلمتها باخلرب ابتهجت‪ ،‬أعرف ّ‬
‫تتنهد بارتياح وتعلن أنهّ ا يف غاية االطمئنان‪.‬‬
‫يف أحسن حاالهتا‪ّ ،‬‬
‫السفارة ّ‬
‫بكل يرس‪ ،‬استظهرت ببطاقتي املهن ّية‬ ‫أمكن يل أن أدخل ّ‬
‫هت إىل مكتبي‪ .‬وجدتُه كام تركتُه قبل سنوات‪ ،‬ما‬ ‫وتوج ُ‬
‫ّ‬ ‫القديمة‬
‫أن الفتاة‬ ‫تغي فقط هو غياب املزهر ّية‪ .‬قلت يف نفيس‪ :‬من الواضح ّ‬
‫رّ‬
‫الزهور‪ ،‬كانت منهمكة يف حاسوهبا‪،‬‬ ‫حتب ّ‬
‫رحبت يب ال ّ‬ ‫الشقراء التي ّ‬‫ّ‬
‫أسناهنا األمام ّية بارزة بشكل غري مريح‪ ،‬ولكن عندما تغلق فمها‬
‫ساحرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يكون وجهها‬
‫قلت وأنا أتط ّلع إىل ال ّلوحة اجلدار ّية‪:‬‬
‫‪ -‬عىل ما أذكر‪ ،‬كانت هناك لوحة أخرى‪ ،‬وأظنّها أكثر واقع ّية‬
‫الساحر لشارع احلبيب بورقيبة ليلاً كان ال‬
‫ومجال ّية‪ ..‬املشهد ّ‬
‫رومنيس‪ ،‬هذا‬
‫ّ‬ ‫تقليدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يفارقني‪ ..‬أ ّما مشهد الغروب فهو‬

‫‪257‬‬
‫صحيح‪ ،‬لكنّه غري آرس‪.‬‬
‫ضحكت ّ‬
‫الشقراء وهي تتأ ّمل مالحمي‪ ،‬سحبت سيجارة من‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫علبتها ّ‬
‫‪ -‬مرحبا‪ ،‬أنا مل أفهم شي ًئا‪ ،‬هل أنت مو ّظفة يف ّ‬
‫السفارة؟‬
‫اقتحمت املكتب دون تقديم نفيس‪ ،‬بالفعل كنت‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬أنا آسفة‪،‬‬
‫السفارة بشكل‬ ‫يف هذا املكان الذي جتلسني فيه‪ ،‬اشتغلت يف ّ‬
‫بالتمجة ومتابعة ما ُيكتب يف‬‫مهتمة رّ‬
‫ّ‬ ‫وقتي لسنوات‪ ،‬كنت‬‫ّ‬
‫اجلرائد واملجلاّ ت عن فرنسا‪ .‬وأعتقد ّ‬
‫أن ذكريايت ط ّيبة يف هذا‬
‫املكتب‪.‬‬
‫‪ -‬أووه‪ ...‬مها ّمي اآلن أصبحت كثرية ومع ّقدة‪ ،‬أنت تعرفني ّ‬
‫أن‬
‫اليومي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشباب عىل اهلجرة إىل باريس أصبح شغلنا‬ ‫إقبال ّ‬
‫حيا‪ .‬هل أنت عىل‬
‫النّظام هنا مل يستطع أن يقدّ م هلم شي ًئا مر ً‬
‫علم؟ الوضع هذه األ ّيام يف غاية اإلحراج‪.‬‬
‫وتوجهت إىل مكتب الس ّيد أندريه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫غادرت مكتبي القديم‬
‫ُ‬
‫الرائع‪ .‬مل‬
‫الرجل ّ‬ ‫صديق إليف‪ ،‬كنت يف حاجة إىل مشاكساته‪ ،‬ذلك ّ‬
‫أجد الس ّيد أندريه‪« ،‬أحيل عىل رشف املهنة وعاد إىل باريس»‪ ،‬قال يل‬
‫تقريرا عن الوضع‬‫ً‬ ‫اب‪ .‬ما أذكره أنيّ قدّ مت له ذات يوم‬
‫الش ّ‬‫املو ّظف ّ‬
‫مفصلاً بالفعل‪ ،‬قلت للس ّيد أندريه‬‫تقريرا ّ‬
‫ً‬ ‫الزهور‪ ،‬كان‬‫حي ّ‬
‫القاتم يف ّ‬
‫عىل ما أذكر‪« :‬ال أدري‪ ،‬كيف يكون األمر‪ ،‬لكن جيب أن تلفت‬
‫السفارة انتباه النّظام هنا‪ ،‬كيف يتجاهلون ذلك الوضع اخلانق يف‬ ‫ّ‬
‫القرصين؟ يا إهلي‪ ،‬إنّه وضع بائس جدًّ ا»‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫السفارة وأمكن يل‪ ،‬بفضل خربيت‪ ،‬أن‬ ‫يت وقتًا ممت ًعا يف ّ‬‫قض ُ‬ ‫ّ‬
‫أسوي وضع ّية سعد‪ ،‬طب ًعا هم حيتاجون إىل سعد لإلمضاء عىل بعض‬ ‫ّ‬
‫الوثائق‪ .‬ما اسرتعى انتباهي هو تلك ال ّطوابري ال ّطويلة التي تقف يف‬
‫السفارة‬
‫اخلارج‪ ،‬نظرات اجلميع كانت قلقة ومنكرسة‪ .‬أمام باب ّ‬
‫متسولة وفكّرت يف أن أمنحها‬‫ّ‬ ‫اعرتضتني امرأة عجوز‪ ،‬اعتقدت أنهّ ا‬
‫ثم قالت بنربة مرهقة‪:‬‬ ‫وتفحصتني ّ‬ ‫ّ‬ ‫شي ًئا من املال‪ ،‬وق َف ْت قبالتي‬
‫بالسفر؟ هل سيسمحون له يا ابنتي؟‬
‫‪ -‬هل سيسمحون البني ّ‬
‫السجن‪.‬‬
‫إنهّ م يطاردونه‪ ،‬وقد يقتلونه يف ّ‬
‫شدّ ت عىل يدي وهي تسألني بإحلاح‪ ،‬كانت كلامهتا ُمربِكة‪.‬‬
‫اكتفيت بتهدئتها ومل أقدّ م هلا إجابة واضحة‪ ،‬أحسست باخلواء وأنا‬ ‫ُ‬
‫ترجني بشكل خانق‪ ،‬ال أدري ملاذا‬ ‫أرى دموعها‪ ،‬الدّ موع تنهشني‪ّ ،‬‬
‫رأيت يف تلك اآلونة عين َْي أ ّمي يف عينيها‪ ،‬إنهّ ا جتعلني عرجاء وعاجزة‪.‬‬
‫يظل ح ًّيا بأقواله‪،‬‬‫رست بعد ذلك نحو شارع مارسيليا‪ ،‬ابن خلدون ّ‬ ‫ُ‬
‫السنوات‪ ،‬كان يدرك ّ‬
‫أن‬ ‫كان يعرف ما سيجري مع النّاس بعد مئات ّ‬
‫احلكّام سيظ ّلون أغبياء‪ ،‬يشغلهم حارضهم عن املستقبل‪ ،‬ويتجاهلون‬
‫الصور القو ّية يف شارع احلبيب‬ ‫بطبيعة احلال دروس املايض‪ .‬باغتتني ّ‬
‫ثم مقهى باريس‪،‬‬ ‫التفت يمينًا وتط ّلعت إىل مقهى التياترو‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫بورقيبة‪،‬‬
‫وقفت ُبره ًة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الصور القديمة ترافقني دو ًما‪ ،‬ومتنح طعماً حليايت‪.‬‬
‫تلك ّ‬
‫متشو ًقا إىل‬
‫ّ‬ ‫الصور اجلديدة‪ ،‬سعد هذه األ ّيام مل يعد‬‫اختزنت بعض ّ‬
‫يفضل أن يبقى معنا‪ ،‬أنا والرا‪ ،‬مل أق ّيده‬ ‫مقهى باريس وال إىل البار‪ّ ،‬‬
‫أن جوهر‬ ‫نت إىل ّ‬
‫بيشء‪ ،‬هو يعرف أنيّ ال أضع حبلاً يف العنق‪ .‬تف ّط ُ‬
‫أمهلت مكاملته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يتّصل يب يف اهلاتف ومل أر ّد عليه‪ .‬يف زمحة انشغايل‬

‫‪259‬‬
‫كنت أنتظر بالفعل أن خيربين عن اجلديد‪ .‬وأعتقد ّ‬
‫أن الوقت قد حان‬
‫لنبدأ تنفيذ خم ّططنا الذي فكّرنا فيه طويلاً ‪ .‬واآلن‪ ،‬ال أرى ّ‬
‫أي سبب‬
‫السنوات‪.‬‬
‫حيول دون حتقيق حلم مئات ّ‬
‫اتصلت بجوهر وأنا ال أتو ّقف عن ّ‬
‫السري‪ ،‬قلت له مؤكّدة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫وسنمر إىل املرحلة احلاسمة يا جوهر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬نلتقي مسا ًء يف ش ّقتك‪،‬‬
‫ر ّد جوهر‪:‬‬
‫الصفر حانت يا هيلني‪.‬‬ ‫‪ -‬أعتقد ّ‬
‫أن الساعة ّ‬

‫‪260‬‬
‫(‪)12‬‬
‫سعد‬

‫فوهة التّاريخ‬
‫زمن أخرس خيرج من ّ‬ ‫زمن طويل‪ٍ ،‬‬ ‫أحتاج اآلن إىل ٍ‬
‫ُ‬
‫الضجيج‪ .‬أحتاج إىل أن أبقى‬ ‫أو من فم األساطري‪ ،‬زمن ال يعرف ّ‬
‫أي يشء‪ ،‬ال أفكّر يف يشء‪ ،‬وال‬ ‫مسجى وخمدّ را باألدوية‪ ،‬ال أتذكّر ّ‬
‫ًّ‬
‫كل األحوال ال بدّ أن أكتب‪ ،‬ولو‬ ‫أرتّب صور ًة واحد ًة يف رأيس‪ ،‬ويف ّ‬
‫بتأخري خارج عن إراديت‪ ،‬ال بدّ أن أكتب شي ًئا‪.‬‬
‫أنا اآلن داخل الشرّ نقة‪ ،‬عار ًيا متا ًما‪ ،‬أو بلباس أبيض‪ ،‬لست‬
‫الضباب و ُيمعن يف امتصاص دمي‪ .‬ال أنكمش‪ ،‬وأهبه‬ ‫أدري‪ ،‬يل ّفني ّ‬
‫الضباب‪ ،‬أشري إليه بأصابعي‪ ،‬أيهّ ا‬
‫كل الشرّ ايني عن طيب خاطر‪ ،‬أيهّ ا ّ‬ ‫ّ‬
‫كل دمي‪ ،‬ارشبه يف رشفة واحدة‪ ،‬ال ترت ّدد‪ ،‬اطمئ ّن‬ ‫الضباب ارشب ّ‬ ‫ّ‬
‫الضباب‪ ،‬لن أحقد عليك يف حلظة املوت‪ .‬ال فائدة يف ما تفعله‬ ‫أيهّ ا ّ‬
‫املشجعة‬
‫ّ‬ ‫املمرضة معي‪ ،‬ال فائدة‪ ،‬وال أمل أيهّ ا ال ّطبيب‪ ،‬ابتسامتك‬
‫ّ‬
‫حيمر خدّ ي ويشمله األزرق‬ ‫مدوية عىل خدّ ي‪ّ ،‬‬ ‫تصلني مثل صفعة ّ‬
‫الرجل الط ّيب؟ أنا مستسلم‬ ‫الغامق‪ ،‬ملاذا تُرسع بحقنة أخرى أيهّ ا ّ‬
‫لكل تشنّجايت‪ ،‬أريدها أن تتفاقم‪ ،‬أريدها أن تهُ ّيج نزيف القلب ما‬ ‫ّ‬
‫أحب أن أنعس حتّى ال أسمع قدري وهو ينعق بنرباته اهلازئة‪:‬‬‫أمكن‪ّ .‬‬
‫السعادة؟ من‬ ‫تستحق ّ‬
‫ّ‬ ‫«ها إنّك تدفع ال ّثمن يا سعد‪ ،‬من قال لك إنّك‬

‫‪261‬‬
‫وشفتي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وأذين وأنفي‬
‫ّ‬ ‫كذب عليك؟» يقهقه قدري‪ ،‬ويقتلع شعري‬
‫ثم خيتفي كاملارد اجل ّبار‪.‬‬
‫ّ‬
‫تقف الرا أمام غرفتي يف مستشفى شارل نيكول‪ ،‬مرتعشة ومب ّللة‬
‫هوة‪ .‬أرى أحيانًا عيني الرا‬ ‫بدموعها‪ ،‬غارقة مثيل‪ ،‬مسجونة داخل ّ‬
‫املمرضة‪« :‬إنيّ آسفة‪ ،‬والدك حيتاج إىل‬ ‫بمنتهى الوضوح‪ ،‬تقول هلا ّ‬
‫املمرضة‪ ،‬فقط‬ ‫ساعات أخرى ليستفيق من غيبوبته»‪ .‬ال أسمع تنبيه ّ‬
‫أتابع شفتيها‪ .‬حني تقتحم الرا غرفتي يف غفلة من الشرّ ط ّيني أراها‪،‬‬
‫أرى دموعها وال أسمع نشيجها وال كلامهتا‪ .‬أعود يف تلك ال ّلحظات‬
‫عيل الكهف يف وادي الدّ رب‪ ،‬العنكبوت ال ترتك‬ ‫إىل كوابييس‪ ،‬ينغلق ّ‬
‫أي جمال ألهرب‪ُ ،‬أنشب أظافري يف حباهلا وأحاول متزيقها‪ ،‬أسقط‬ ‫يل ّ‬
‫وتتهشم أسناين‪ .‬أرى يف العتمة هيكلاً عظم ًّيا‪ ،‬أراه جامدً ا‪ ،‬فجأ ًة‬
‫ّ‬
‫يتحرك وينهض واق ًفا‪ ،‬ال أصدّ ق أنّه هيكل أيب‪ ،‬صوت أيب ال رّ‬
‫يتغي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ثم يفتح يل ذراعيه‪ .‬أسري‬ ‫ِ‬
‫وال يرتبك‪« :‬ال تبك يا سعد»‪ ،‬يقول أيب ّ‬
‫تتلوى‬ ‫باتاهه فتخرج األفاعي والثعابني من تلك احلفر وال ّثقوب‪ّ ،‬‬ ‫جّ‬
‫أمامي وتخُ رج من أفواهها ما يشبه النّمل األمحر‪ ،‬هييج النّمل عىل‬
‫عيل وحني أحدّ ق يف العتمة من جديد ال أرى أيب‪.‬‬
‫ثم هيجم ّ‬
‫التاب ّ‬
‫رّ‬
‫بكل طاقتي وأمتكّن من‬ ‫أحاول أن أخرج من العتمة‪ ،‬أقفز ّ‬
‫ثم رجالي‪ .‬أركض نحو توتة‬ ‫ثم جذعي ّ‬‫اخلروج‪ ،‬خيرج رأيس ّأوالً ّ‬
‫التاب باح ًثا عن كنزي‪ ،‬أنبش مثل كلب‪ّ ،‬‬
‫ينز الدم‬ ‫إبراهيم‪ ،‬أنبش رّ‬
‫من أظافري وال أشعر بأمل‪ .‬يسيل الدم داخل احلفرة وهيامجني بغتة‬
‫ذاك النّمل األمحر نفسه‪ ،‬نمل ضخم وبال مالمح‪ ،‬ينفث ُ‬
‫جيشه ما‬
‫ثم حياول اإلمساك يب‪.‬‬
‫يشبه الدم من العيون الواسعة ّ‬

‫‪262‬‬
‫أيضا أنيّ كنت يف جحيم‬ ‫أحس ً‬‫عندما أستفيق ال أرصخ‪ ،‬وال ّ‬
‫رسي‪« :‬هل أنا رجل خطِر؟» يدامهني هذا‬ ‫كابوس‪ ،‬فقط أر ّدد يف ّ‬
‫اإلحساس منذ كنت طفلاً ‪ ،‬منذ ذلك الوقت وأنا ّ‬
‫أحس بفداحة ما‪،‬‬
‫بخوف ما‪ ،‬بخطر ما‪ ،‬لذلك كنت أخاف اهلل‪ .‬ويف ليال كثرية كنت ال‬
‫السامء‪ ،‬يف وقت‬
‫فز ًعا يف انتظار أن يأتيني اهلل‪ ،‬يأتيني من ّ‬‫أنام‪ ،‬أبقى ِ‬
‫ما‪ ،‬يف وقت مباغت‪ .‬ويف ال ّليايل التي أنام فيها يأتيني اهلل يف ذلك‬
‫مذعورا‪ ،‬أحاول أن أختبئ‬
‫ً‬ ‫فز ًعا‪ ،‬أهنض‬ ‫البياض العظيم فأهنض ِ‬
‫حتت السرّ ير‪ ،‬وراء الباب‪ ،‬يف غرفة نوم أيب‪ ،‬وكان ذلك‪ ،‬يف اعتقادي‬
‫يرحيني قليلاً ‪.‬‬
‫السامء وال يف‬
‫أي مكان‪ ،‬مل أجده ال يف ّ‬
‫كربت ومل أجد اهلل يف ّ‬
‫البحر وال يف وادي الدّ رب وال يف ال ّطرقات‪ .‬وكان ذلك يشقيني‪،‬‬
‫كنت كمن يتخ ّبط يف الوحل‪ ،‬أضحك وأبكي‪ ،‬أقف وأميش‪ .‬وفجأة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ف منه ومل أهنض من نومي مصعو ًقا‪.‬‬ ‫أخريا ومل َ‬
‫أخ ْ‬ ‫عرفت اهلل‪ ،‬عرفته ً‬
‫عرفت اهلل يف داخيل حني عرفت نفيس‪ ،‬وعرفت نفيس حني‬
‫أي مكان‪ ،‬وجدته جيتاحني ويسكنني‬ ‫أحببت هيلني‪ .‬مل أجد اهلل يف ّ‬
‫وأحس بذلك‬
‫ّ‬ ‫احلب جعلني أرى اهلل‬
‫يف رأيس ويف قلبي ويف صدري‪ّ .‬‬
‫اإلحساس العظيم‪ ،‬إحساس أن يكون اهلل يف باطني‪ ،‬بذاك النّور‪،‬‬
‫وبذاك االمتالء‪.‬‬
‫فت عن الكتابة‪،‬‬ ‫منذ أ ّيام مل أكتب شي ًئا‪ ،‬وال أدري ملاذا تو ّق ُ‬
‫السعادة ال تُكتب وال تُو ّثق‪ .‬هكذا أنا‪ ،‬ال تنفتح‬ ‫ر ّبام ظننت ّ‬
‫أن أ ّيام ّ‬
‫شه ّيتي للكتابة إلاّ يف وضع ّيات احلزن‪ ،‬وأنا اآلن يف متام املحرقة‪.‬‬
‫تشوهت‪ .‬يف‬‫تشوه مثلام ّ‬‫جربه مثيل‪ ،‬وال أحد ّ‬ ‫احلزن العاوي ال أحد ّ‬

‫‪263‬‬
‫لت فيها يوم ّيايت كنت أعود إىل ّ‬
‫الذات‪ ،‬أعود إليها‬ ‫ال ّليايل التي ّ‬
‫سج ُ‬
‫كل ما‬‫لرتميمها‪ ،‬أحببت أن تكون تلك التّسجيالت شاهدة عىل ّ‬
‫جرى‪ ،‬بال تضخيم أو مبالغة أو خجل كنت أكتب ّ‬
‫كل يشء‪ .‬واآلن‪،‬‬
‫بعد أن دامهتني النّريان وأحرقتني تعود إ ّيل الرغبة يف الكتابة‪ .‬وما‬
‫سأسجل اعرتافايت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بكل شجاعة‬ ‫سأكتبه‪ ،‬ال ريب‪ ،‬سأكتبه بدمي‪ّ ،‬‬
‫كل ما حصل ولو بشكل‬ ‫أكره اجلبن‪ ،‬وال أحتمله بالفعل‪ .‬سأكتب ّ‬
‫أن األمر ّ‬
‫شاق‪ ،‬ال‬ ‫متأخر‪ ،‬سأحاول ما أمكن ألاّ أنسى شي ًئا‪ ،‬أعرف ّ‬ ‫ّ‬
‫سأحتمل‪ ،‬ال أدري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أدري‪ ،‬كيف‬
‫الصدق أن يواجهني النّاس‬ ‫أحب وبمنتهى ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل األحوال‪،‬‬ ‫ويف ّ‬
‫أحب لعناهتم إن شاؤوا‪ ،‬أو‬
‫بعد أن يقرؤوا ما جرى يوم ‪ 15‬ديسمرب‪ّ ،‬‬
‫سباهبم أو صفعاهتم‪ .‬لن أكون متضاي ًقا من يشء‪ ،‬فأنا مل أعد أحتفظ‬
‫التخشب‪ ،‬جامد‪ ،‬بال وجه‪ ،‬وبال عينني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بإحسايس القديم‪ ،‬أنا يف متام‬
‫أحب نظرات ّ‬
‫الشفقة‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ويف مقابل ذلك‪ ،‬إن صدّ قني البعض ال‬
‫أحب ذلك اإلحساس املهني‪ .‬سأكتب من أجل هيلني ومن أجل‬ ‫ّ‬
‫حمضا‪ ،‬ال أكثر‪ ،‬ولكنّي‬
‫ً‬ ‫الرا‪ ،‬وقد يرى البعض يف ما سأكتبه خيالاً‬
‫لن أكذب ولن أقدّ م شهادة زور‪ .‬ما سأكتبه‪ ،‬هكذا أعتقد‪ ،‬سيجعل‬
‫إحسايس أعمق باهلل‪ ،‬وسأطمئ ّن دو ًما ّ‬
‫ألن اهلل يسكنني‪ .‬ور ّبام‪ ،‬لست‬
‫وعيني وصويت‪ ،‬وأجنحتي؟ هل أنا قادر‬ ‫ّ‬ ‫أدري‪ ،‬سأستعيد وجهي‬
‫عىل استعادة أجنحتي؟ أجنحتي بالفعل تطايرت مع الغبار والغربان‬
‫يف ذلك اليوم املشؤوم‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫(‪)13‬‬
‫محام ّ‬
‫الذهب‬ ‫ّ‬
‫‪ 15‬ديسمرب ‪2010‬‬

‫الساعة‬‫الذهب» بشكل مبكّر‪ ،‬يف ّ‬ ‫محام ّ‬ ‫عدنا‪ ،‬أنا وهيلني إىل « ّ‬


‫صباحا‪ ،‬يف ما أعتقد‪ ،‬مل أد ّقق يف التّوقيت حني غادرنا الش ّقة‪.‬‬
‫ً‬ ‫اخلامسة‬
‫نرتجل من شارع مارسيليا نحو هنج روما‪ ،‬انعطفنا بعد ذلك‬ ‫خينا أن ّ‬‫رّ‬
‫إىل «ص ّباط الدّ زيري» حتّى أدركنا باب سويقة‪ .‬يف مدخل «ص ّباط‬
‫املرة‬
‫ملحت صالح‪ ،‬كان كعادته يقود عربته‪ ،‬ولكنّها هذه ّ‬ ‫ُ‬ ‫الدّ زيري»‬
‫انقضت‬‫عربة أخرى وخمتلفة‪ .‬نعيمة ال متزح‪ ،‬ومن الواضح أنهّ ا ّ‬
‫حتث اخلطى بجانبي‪ ،‬ترفع رأسها‬ ‫عليه كنرس جائع‪ .‬كانت هيلني ّ‬
‫«حي احلارة»‪ ،‬حارة‬‫ومتيش بثبات‪ ،‬تعرف ال ّطريق مثلام أعرفه‪ ،‬إنهّ ا يف ّ‬
‫الصمت وأنا أحلظ استغراقها‬ ‫لزمت ّ‬‫ُ‬ ‫األجداد كام تقول عنها دو ًما‪.‬‬
‫وكل األهل‪.‬‬ ‫رأسها‪ ،‬يوم إليف ّ‬ ‫يف التّفكري‪ ،‬هذا يومي احلاسم‪ ،‬يقول ُ‬
‫أن جوهر‬‫عندما وصلنا إىل احلماّ م وجدنا الباب موار ًبا وعرفنا ّ‬
‫ثم رسنا نحو قاعة االستقبال‪ .‬وجدنا‬ ‫استفاق‪ ،‬أغلقنا الباب بإحكا ٍم ّ‬
‫جوهر ينتظرنا يف الدّ اخل‪ ،‬مثلام اتّفقنا‪ ،‬أمىض ليلته يف احلماّ م‪ ،‬ويف‬
‫احلقيقة مل ينم طويلاً ‪ ،‬فآثار اإلرهاق كانت بادية عىل وجهه‪ .‬نحن‬
‫األول باحلماّ م اضطررنا إىل العودة‬
‫أيضا مل ننم بشكل ج ّيد‪ ،‬يف يومنا ّ‬ ‫ً‬

‫‪265‬‬
‫متأخرة‪ ،‬وكانت هيلني يف منتهى اإلجهاد‪ ،‬استحممنا عىل‬ ‫يف ساعة ّ‬
‫عجل ومل تكن لنا شه ّية لألكل‪ .‬رتّبت الرا طاولة العشاء لنا‪ ،‬ولكنّنا‬
‫الصالون‪ ،‬نامت دون‬ ‫مل نستطع أن نقاوم النّعاس‪ ،‬ملحناها نائمة يف ّ‬
‫تغيري مالبسها‪ .‬أظ ّن أنهّ ا انتظرتنا طويلاً إىل أن دامهها النّعاس عىل‬
‫الكنبة‪ ،‬مل أنس أن أق ّبلها‪ ،‬قبلتي األوىل يف يوم عيد ميالدها كانت‬
‫قبلة خفيفة‪ ،‬جتنّبت بطبيعة احلال أن تستفيق مالكي‪ ،‬لن تغفو من‬
‫توصلتم إىل يشء‪،‬‬ ‫جديد بعد ذلك‪ ،‬وأعرف أنهّ ا لن ترتكني‪« ..‬هل ّ‬
‫الذهب»؟ املغامرة مثرية‬ ‫ترص هيلني عىل ألاّ أذهب إىل « ّ‬
‫محام ّ‬ ‫وملاذا ّ‬
‫وأحب أن أكون معكام‪ ،‬كم أنتام قاسيان‪ ،‬أنا مستاءة‪ ،‬مستاءة منكام‬ ‫ّ‬
‫كل التّفاصيل‪،‬‬ ‫ثم جترجرين إىل ّ‬‫كثريا يا سعد»‪ ..‬ستقول يل ذلك وأكثر ّ‬‫ً‬
‫ستشعل يل سيجارة وترمتي يف حضني وتستعدّ لسامعي‪ .‬مل يكن من‬
‫التكيز يا‬
‫حلت عىل ذلك‪« ،‬إنيّ أحتاج إىل رّ‬ ‫املفيد أن ترافقنا‪ ،‬هيلني أ ّ‬
‫إن الرا ال بدّ أن تستعدّ لالحتفال‬ ‫ثم ّ‬
‫الرا»‪ ،‬هكذا حسمت األمر‪ّ .‬‬
‫بعيد ميالدها‪ ،‬اتّفقنا أن يكون احتفالنا هبذه املناسبة خمتل ًفا هذه‬
‫كل يشء‪ ،‬يف األكل وال ّلباس واهلدايا‪ ،‬وفكّرنا‪ ،‬أنا‬ ‫السنة‪ .‬فكّرنا يف ّ‬
‫ّ‬
‫مهمتنا يف احلماّ م‪ ،‬ال ّبد أن تسعد‬
‫نتفرغ لالرا بعد إهناء ّ‬
‫وهيلني‪ ،‬أن ّ‬
‫الصغرية كأحىل ما يكون‪ ،‬تلك كانت خ ّططنا‪.‬‬ ‫ق ّطتنا ّ‬
‫اكتشفت جوهر يف هذه الفرتة‪ ،‬مل أكن أعرفه بالشكل الكايف‪،‬‬‫ُ‬
‫بالذنب ألنيّ كنت متص ّل ًبا معه‪ ،‬وكنت أعامله بكثري‬
‫أحسست ّ‬
‫ُ‬ ‫ور ّبام‬
‫من القسوة‪ .‬استق َبلنا يف ش ّقته َيومني كاملني‪ ،‬وكان خدو ًما ويف‬
‫أن ش ّقة جوهر‬‫أن هيلني فكّرت يف ّ‬ ‫منتهى الكرم‪ .‬طب ًعا‪ ،‬ال أنسى ّ‬
‫هي األنسب لوضع ال ّلمسات األخرية ملخ ّططها الذي أعدّ ت‬

‫‪266‬‬
‫مكونات‬‫لكل ّ‬ ‫صورا دقيقة ّ‬
‫ً‬ ‫تفاصيله منذ أشهر‪ .‬استعرضت أمامنا‬
‫فصلة تس ّلمتها من إليف قبل‬ ‫الذهب»‪ ،‬وأحرضت خريطة ُم ّ‬ ‫محام ّ‬‫« ّ‬
‫كل ركن يف احلماّ م وبد ّقة‬‫أن يرحل‪ .‬من الغريب أنهّ ا كانت تعرف ّ‬
‫السخون‪ ،‬ذلك املكان كان‬ ‫الفتة‪ ،‬كان تفكريها منشغلاً أكثر ببيت ّ‬
‫جمال اهتاممنا‪ ،‬كيف يمكن أن نصل إىل الدّ فينة يف عمق أربعة أمتار؟‬
‫الوضع ّية كانت دقيقة جدًّ ا‪.‬‬
‫أن‬‫املسألة األخرى التي أثارث دهشتي‪ ،‬بل أذهلتني بالفعل ّ‬
‫اهتامم هيلني مل يكن مرتب ًطا باملجوهرات‪ ،‬مل يكن ذلك باألمر اهلا ّم‬
‫أهم‪ ،‬وستكشف‬ ‫عندها‪ .‬ويف احلقيقة‪ ،‬املجوهرات ستقود إىل ما هو ّ‬
‫احلقيقي الذي تبحث عنه‪ .‬مل تفصح عن ذلك إلاّ يف ش ّقة‬
‫ّ‬ ‫عن الكنز‬
‫جوهر‪ ،‬أي يف حلظات التّخطيط األخرية‪ .‬ال أخفي أنّنا‪ ،‬أنا وجوهر‪،‬‬
‫اندهشنا ومل نصدّ ق بالفعل‪« .‬وماذا نفعل ّ‬
‫بالذهب إن عثرنا عليه؟»‪،‬‬
‫سأل جوهر‪.‬‬
‫تط ّلعت إليه هيلني ّ‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّما املجوهرات إن صدقت اخلريطة طب ًعا فستكون من نصيبك‬
‫يا «جوهر»‪ ،‬ولك احلر ّية يف أن تقتسمها مع خافا‪ ،‬أليست خافا‬
‫حبيبتك يا أوري؟‬
‫ّ‬
‫املحل ملدّ ة ثالثة‬ ‫استطاع جوهر أن ُيقنع صاحب احلماّ م بكراء‬
‫ينس‬‫عرضا مغر ًيا‪ ،‬ومل َ‬
‫أ ّيام‪ ،‬مع إخالئه بالكامل‪ ،‬قدّ َم ْت له هيلني ً‬
‫جوهر أن ُيس ّلم رشاد أجرة ثالثة أ ّيام‪ ،‬هكذا متّت األمور‪ .‬واحلماّ م‬
‫يف هناية األمر سيكون عىل ذ ّمة عائلة وال جيوز أن يوجد الغرباء طيلة‬
‫مخنت‪ .‬يف العادة ال تتجاوز مدّ ة‬‫تلك املدّ ة‪ .‬املسألة مل تكن مستعصية كام ّ‬

‫‪267‬‬
‫كراء احلماّ م اليوم الواحد‪ ،‬مع وجود أعوانه‪ ،‬ولكن أمام املال ال يشء‬
‫كل املفاهيم والعادات‪ .‬ثالثة أ ّيام كانت كافية‬ ‫يبقى مستحيلاً ‪ ،‬تسقط ّ‬
‫املهمة عىل أحسن ما ُيرام‪ ،‬كافية إليقاف تد ّفق املياه يف أنظمة‬‫إلنجاز ّ‬
‫ثم احلفر بد ّقة وحرف ّية‪ .‬العنرص الذي م ّثل‬ ‫األنابيب وإزالة احلوض ّ‬
‫هاجسا هو حكاية الس ّباك‪ ،‬فكّرنا يف األمر طويلاً ‪ ،‬ال بدّ من العثور عىل‬
‫ً‬
‫أيضا‪ .‬شغلني‬ ‫واألهم أن يكون رجلاً نثق فيه‪ ،‬وال ّ‬
‫يبتزنا ً‬ ‫ّ‬ ‫س ّباك ماهر‪،‬‬
‫احلل عند صالح‪ ،‬أكّد‬ ‫هذا املوضوع بالفعل‪ ،‬وبعد تفكري وجدت ّ‬
‫باملهمة عىل أحسن وجه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن أنور رفيق طفولته ويستطيع أن يقوم‬ ‫يل ّ‬
‫احلظ أنّه عاد هذه األيام من إيطاليا‪« ،‬يعمل يف رشكة‬ ‫ّ‬ ‫ومن حسن‬
‫كربى وهو كتوم‪ ،‬اطمئ ّن يا سعد»‪ ،‬قال صالح وهو ُينهي صداعي‪.‬‬
‫عيل أن أعود إىل ش ّقتي يف «ص ّباط الدّ زيري»‪،‬‬
‫يف هذه األ ّيام كان ّ‬
‫اخلاصة وبعض الكتب‬ ‫ّ‬ ‫عوديت كانت رضور ّية من أجل وثائقي‬
‫لدي‪ ،‬ومن أجل توديع هاجر‪ .‬من غري املناسب ألاّ أعلمها‬ ‫األثرية ّ‬
‫باملستجدّ ات األخرية‪ ،‬كنت أعرف أنهّ ا ستتل ّقى اخلرب بشكل صادم‪،‬‬
‫ولن تصدّ ق أنيّ أغادرها هنائ ًّيا‪ .‬بالفعل‪ ،‬مل أكن مرتاح البال‪ ،‬لن‬
‫قصتي مع‬ ‫يكون من اللاّ ئق أن أخفي عنها زواجي‪ ،‬هي تعرف ّ‬
‫فإن موقفها سيصبح خمتل ًفا‬‫مؤخ ًرا‪ّ ،‬‬‫هيلني‪ ،‬وعندما تعلم بزوجنا ّ‬
‫شك‪ .‬يوم عرفت احلقيقة التي أخفتها عنّي هيلني بكت طويلاً‬ ‫دون ّ‬
‫عىل صدري مثلام بكيت أنا‪ ،‬وال أدري ما إذا كانت سعيدة باخلرب أم‬
‫أرصت عىل أن تعيد إ ّيل األموال التي أودعتُها عندها‪« ،‬أنت‬ ‫حزينة‪ّ .‬‬
‫حتتاج إىل مصاريف‪ ،‬وال تنس‪ ،‬أنت أب اآلن يا سعد وال بدّ أن تُسعد‬
‫ابنتك»‪ ،‬قالت هاجر ودموعها ال تتو ّقف‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫طيلة أ ّيام اختفائي عن «ص ّباط الدّ زيري» ظ ّلت تتّصل يب عىل‬
‫مضطرا إىل عدم الر ّد عىل مكاملاهتا‪ ،‬بل إنيّ كنت‬
‫ًّ‬ ‫اهلاتف‪ ،‬وكنت‬
‫أتعمد إغالق هاتفي وكان ذلك يؤملني‪ .‬أخت ّيل ر ّدة فعل هاجر وهي‬ ‫ّ‬
‫وتتلوى عىل الفراش‪ .‬ال بدّ من‬
‫ّ‬ ‫غاضبة‪ ،‬وهي تشتمني‪ ،‬وهي تبكي‬
‫مصارحتها‪ ،‬وأنا ح ًّقا ال ّ‬
‫أحب املامطلة‪.‬‬
‫حركت لساهنا وقالت‪:‬‬
‫ثم ّ‬
‫التقيت بنسيمة يف الدّ رج‪ ،‬ابتسمت يل ّ‬
‫‪ -‬كنّا نعرف ّ‬
‫أن املستودع خيفي مصيبة‪ ،‬الشرّ طة جاءت تبحث‬
‫عن ج ّثة‪ ،‬وفوجئنا نحن بالبضائع داخله‪ ..‬بضائع ثمينة‬
‫احتجزها «احلاكم»‪ ..‬نعيمة داهية تشتغل مع عصابة ونحن‬
‫ال نعلم‪.‬‬
‫للمرة األخرية‪ ،‬ومل أخطئ الظ ّن‪ ،‬كان‬ ‫قابلت هاجر يف الش ّقة ّ‬
‫وجهها شاح ًبا‪ ،‬مل تبتسم يف وجهي مثل عادهتا‪ ،‬وبعد أن علمت‬ ‫ُ‬
‫تتجمد أمامي‪،‬‬‫ّ‬ ‫أحسست هبا‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫بقراري مل تقدر عىل تصديقي‪ّ ،‬‬
‫خفضت عينيها واسو ّد وجهها‪ .‬هل كنت عىل درجة كبرية من‬
‫أحببت يف تلك الدّ قائق املؤملة أن أقنع هاجر‬
‫ُ‬ ‫كنت ف ًّظا؟‬
‫القسوة؟ هل ُ‬
‫بأنهّ ا ال بدّ أن خترج من الوهم‪ .‬الوهم عندما يطول يصبح قاتلاً ‪،‬‬
‫ونحن ال يمكن إلاّ أن نعيش يف الوهم‪ ،‬يف أورامه الواهنة‪ ،‬ال أفق‬
‫حقيقي يف حياهتا ال إىل ذكر‬‫ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬ال أفق‪ .‬هي حتتاج إىل رجل‬ ‫لنا ً‬
‫ذكرا فحسب‪ ،‬وذلك ال‬ ‫ينام معها يف السرّ ير‪ ،‬أعرف أنيّ مل أكن معها ً‬
‫يكفي‪ ،‬ال بدّ من ارتباط يعلم به اجلميع‪ ،‬ارتباط ال يهُ ينها‪ ،‬بالفعل‪ ،‬ال‬
‫رخيصا‪ .‬ال أنسى‪ ،‬هي أنقذتني يف أ ّيامي‬ ‫ً‬ ‫أحب أن تكون هاجر حلماً‬
‫ّ‬
‫أيضا بدأت تكرب‬ ‫احلالكة‪ ،‬أ ّيام التّيه‪ ،‬ومل ينتشلني غريها‪ .‬بلقيس ً‬

‫‪269‬‬
‫مروعة‪ ،‬سري ّددون يو ًما عىل‬
‫أحب أن تكرب عىل حقيقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتفهم‪ ،‬وال‬
‫أن أ ّمها عشيق ٌة لرجل غريب‪ ،‬أنا متأكّد من ذلك‪.‬‬
‫مسمعها يف الوكالة ّ‬
‫ثم قالت بارتعاش‪:‬‬ ‫الصمت طوي ً‬
‫ال ّ‬ ‫لزمت هاجر ّ‬
‫‪ -‬ال أحتمل يا سعد‪ ،‬ال أحتمل أن تغادر الش ّقة هنائ ًّيا‪َ ،‬أ ْب ِق املفتاح‬
‫متوجسة‪ ،‬بل كنت أنتظر‬ ‫ّ‬ ‫عندك و ُعد متى تشاء‪ .‬ال أنكر أنيّ‬
‫هذا اليوم‪ ،‬كنت خائفة يا سعد‪ .‬واآلن‪ ،‬كيف أصدّ ق أنّك‬
‫سرتحل عنّي؟ أنت ال تعلم كيف تع ّلقت بك بلقيس‪ ،‬سألتني‬
‫طيلة األ ّيام التي غبت فيها‪ ،‬سألتني عنك يا سعد‪ ،‬قالت يل‬
‫بانفعال‪« :‬أين بابا سعد يا ماما؟ ملاذا مل يعد يسكن بجوارنا؟»‬
‫أغمضت هاجر عينيها للحظات‪ ،‬ر ّبام كانت تتذكّر‪ ،‬ور ّبام كانت‬
‫تتألمّ ‪ ،‬تلك اآلونة كانت شا ّقة وعصيبة‪ .‬أحسست بنفيس أتدحرج‬
‫عيل أن أستبدل قلبي الذي عشق هاجر بقلب آخر‪،‬‬ ‫وأذوي‪ ،‬وكان ّ‬
‫قلب جامد‪ ،‬من حديد صدئ‪ .‬تركت حضن هاجر بكثري من‬
‫الرعونة‪ ،‬وتركت دموع بلقيس بكثري من احلزن‪ .‬وحني غادرت‬ ‫ّ‬
‫كل النّوافذ واألبواب‪ .‬الوجوه‬ ‫شبحا خم ّيماً عىل ّ‬
‫الصمت ً‬ ‫الوكالة كان ّ‬
‫تتط ّلع إ ّيل باندهاش وأنا أبكي‪ ،‬ور ّبام اعرتضتني نعيمة‪ ،‬ور ّبام صالح‪،‬‬
‫مل أنظر إىل أحد‪ ،‬ومل أك ّلم أحدً ا مثل رجل عىل أهبة أن يفقد عقله‪.‬‬
‫أفرط بالفعل يف‬ ‫كنت مدركًا متام اإلدراك‪ ،‬وأنا أميش بتثاقل‪ ،‬أنيّ ّ‬
‫وعيل أن أتعايش مع إعاقتي تلك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قطعة منّي‪،‬‬
‫ّ‬
‫غينا مالبسنا‪ ،‬ارتدت هيلني‬ ‫السخون بعد أن رّ‬ ‫باتاه بيت ّ‬ ‫رسنا جّ‬
‫قميصا صوف ًّيا ورسوال جينز وحذا ًء رياض ًّيا‪ ،‬أح ّبت أن تكون عىل‬
‫ً‬

‫‪270‬‬
‫االعتيادي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫زي احلفر‬
‫فحافظت عىل ّ‬
‫ُ‬ ‫أتم االستعداد للمساعدة‪ .‬أ ّما أنا‬
‫ّ‬
‫أرصت هيلني عىل رضورة اقتنائي‬
‫سرتة بالستيك ّية مع اخلوذة‪ .‬فقد ّ‬
‫احتياطي من اهنيارات اجلوانب أو هتاوي بعض‬
‫ّ‬ ‫للخوذة كشكل‬
‫الصلبة‪ .‬ويف احلقيقة‪ ،‬كانت هيلني حم ّقة يف‬
‫األحجار أو األجسام ّ‬
‫اكتشفت طبق ًة‬
‫ُ‬ ‫ذلك‪ ،‬وعىل خالف حفرة الش ّقة ّ‬
‫السفىل يف الوكالة‪،‬‬
‫متحجرة عند رشوعي يف احلفر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫رمل ّي ًة‬

‫كل تو ّقعاتنا‪ ،‬األمر تط ّلب ً‬


‫كثريا‬ ‫األول فاق ّ‬
‫ما أنجزناه يف اليوم ّ‬
‫والصرب‪ ،‬وهذا منتظر بحكم تع ّقد الوضع ّية وباخلصوص‬
‫من اجلهد ّ‬
‫البدائي املع ّقد لقنوات ترصيف املياه وأنابيب توصيل‬
‫ّ‬ ‫يف ّ‬
‫الشكل‬
‫أن الشبكة ُأنجزت منذ سنوات‬
‫الساخن والبارد‪ .‬ومن الواضح ّ‬ ‫املاء ّ‬
‫فادح للمياه مل يتف ّطنوا إليه‪.‬‬
‫ترسب ٍ‬
‫طويلة ومل يقع جتديدها‪ ،‬مع وجود ّ‬
‫زوده صالح بالتّفاصيل‪ ،‬جلب معه‬ ‫بكل يشء‪ّ ،‬‬ ‫كان رفيق عار ًفا ّ‬
‫أحسست وأنا أتابع اهنامكه‬
‫ُ‬ ‫الرخام وكامل املعدّ ات اللاّ زمة‪.‬‬
‫لقص ّ‬
‫آلة ّ‬
‫أنّه يتصارع مع ك ّبة صوف خم ّبلة‪ ،‬ال ّأول هلا وال آخر‪ ،‬بحكم أعامل‬
‫الصيانة ُأنجزت‬
‫السنوات‪ ،‬وعمل ّيات ّ‬ ‫الصيانة التي تواترت ملئات ّ‬‫ّ‬
‫كام قال بالمباالة‪ .‬كانت عمل ّية إزالة احلوض أصعب مرحلة‪ ،‬ألنّه‬
‫ُيفرتض أن يبقى سليماً لنتمكّن من إعادته بعد انتهاء العمل ّية‪ ،‬ورفيق‬
‫مهمته‪:‬‬
‫استطاع أن ينتزعه بمهارة‪ ،‬قال وهو ينهي ّ‬
‫احلظ أنهّ م مل يث ّبتوا احلوض باإلسمنت وإلاّ لكانت‬
‫‪ -‬من حسن ّ‬
‫عمل ّية إزاحته مستحيلة‪ .‬وأعتقد أنهّ م فعلوا ذلك عن دراية‪،‬‬
‫كانوا يفكّرون يف ّ‬
‫الشبكة أسفله‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫املرحلة املوالية مل تكن سهلة كام انتظرت‪ ،‬ال س ّيام يف ما يتع ّلق‬
‫ٍ‬
‫وأعصاب‬ ‫بح َرف ّي ٍة‬
‫بإيقاف تد ّفق املياه‪ ،‬فاألمر يتط ّلب قطع األنابيب ِ‬
‫من حديد‪ .‬بعد ذلك كان علينا أن نتجنّب املساس بقنوات ترصيف‬
‫مهمته‬
‫املياه‪ ،‬وفكّرنا أن نتجنّبها ما أمكن عند عمل ّية احلفر‪ .‬أهنى رفيق ّ‬
‫األخرية يف حالة إرهاق خ ّيمت عىل قسامت وجهه‪ ،‬ومع هذا حافظ‬
‫عىل خ ّفة روحه‪ .‬أثناء مغامرته معنا مل يتو ّقف عن رسد ذكرياته مع‬
‫صالح‪ .‬روى لنا كيف أنقذه ذات يوم من الغرق يف البحر‪ ،‬رفيق‬
‫أيضا‪ ،‬رفيق ج ّن جنونه وهو يبحلق‬ ‫السباحة وال صالح ً‬ ‫ال حيسن ّ‬
‫وتلوح له بيدها‪ ،‬مل‬ ‫يف وجه إحدى الفتيات‪ ،‬كانت تبادله النّظرات ّ‬
‫تعمق يف البحر‪ ،‬كان يسبح ببالهة‪ ،‬وبال عقل‪،‬‬ ‫يفطن إىل نفسه وهو ّ‬
‫وبطبيعة احلال بدأ خي ّبط بيديه عىل املاء ويوشك عىل الغرق‪ .‬ويف تلك‬
‫ال ّلحظات وبقدرة خارقة انتشله صالح‪ ،‬وهو ال يصدّ ق أنّه يملك‬
‫موهبة فطر ّية يف السباحة‪ ،‬ور ّبام فعل ذلك بسبب اخلوف من موت‬
‫صديقه املح ّقق‪ .‬تلك املرأة التي كادت تكون سب ًبا يف مويت‪ ،‬يقول‬
‫رفيق‪ ،‬هي اآلن زوجتي‪ ،‬بعد تلك احلادثة أمكن يل أن أواصل املغامرة‬
‫وتزوجنا‪.‬‬
‫ثم حدث ما حدث ّ‬ ‫وأتبعها إىل منزهلم صحبة صالح ّ‬
‫املتحجرة عقب ًة أوىل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أثناء رشوعي يف احلفر َم ّث َلت ال ّطبقة الرمل ّية‬
‫وكنت أنتظر عقبات كثرية‪ .‬املعادلة كانت صعبة‪ ،‬كيف يمكن أن‬
‫مالصق مليضة جامع‬
‫ٌ‬ ‫السخون»‬ ‫ضجيجا و«بيت ّ‬ ‫ً‬ ‫أجتاوزها دون أن أثري‬
‫صباحا‪ .‬حاولت ما أمكن أن‬ ‫ً‬ ‫أن الوقت كان‬ ‫سيدي حمرز؟ ومن ح ّظنا ّ‬
‫أخت ّلص منها عىل مساحة مرت مر ّبع قبل صالة ال ّظهر‪ .‬لو أدركنا أذان‬
‫ال ّظهر‪ ،‬قلت يف نفيس‪ ،‬فإنّنا سنتو ّقف عن احلفر‪ ،‬ففي ذلك الوقت‬

‫‪272‬‬
‫وبعده لن ينقطع النّاس عن الوجود يف امليضة وس ُيفتَضح أمرنا‪.‬‬
‫حرصت‬
‫ُ‬ ‫كابوسا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بجهد كبري أن أجتاوز ال ّطبقة التي بدت يل‬ ‫استطعت‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫بعد ذلك عىل وضع األحجار يف حميط الفتحة حتّى أجتنّب يف مرحلة‬
‫الرمال‪ .‬هيلني كانت تتابعني باندهاش‪ ،‬تشهق أحيانًا‪،‬‬ ‫موالية تساقط ّ‬
‫أو تضحك‪ ،‬تناولني قارورة ماء وال تنسى أن متسح العرق من جبيني‬
‫ثم‬
‫بمنديل أبيض‪ .‬أ ّما جوهر فقد كان يساعدين عىل حتريك األحجار ّ‬
‫يتخل عن معطفه األسود‪ ،‬أنا نفيس ال‬ ‫وجهه ومل ّ‬ ‫تعرق ُ‬ ‫عىل إخراجها‪ّ ،‬‬
‫أتذكّر أنيّ رأيت جوهر دون ذلك املعطف‪ .‬كان بكامل د ّقته وعنايته‬
‫المست بالفعل طيبته ورباطة‬ ‫ُ‬ ‫ويتأهب ملساعديت‪،‬‬‫ّ‬ ‫يتابع حركايت‬
‫املرات أن ين ّبه هيلني إىل جتنّب‬‫جأشه‪ ،‬وهو ال ينسى يف الكثري من ّ‬
‫االقرتاب من الفتحة‪ ،‬كان خيشى سقوط إحدى األحجار يف حلظة‬
‫أتصور ح ًّقا أن حي ّبها بذلك‬
‫ّ‬ ‫سهو‪ .‬وهيلني هي البنت التي مل ينجبها‪ ،‬مل‬
‫شاب‪ .‬مل‬
‫ّ‬ ‫الشكل‪ ،‬فاجأها حينام قدّ م هلا صورة قديمة لوالدها وهو‬ ‫ّ‬
‫تنتظر أن تتس ّلم يو ًما مثل تلك اهلد ّية‪ ،‬كانت شبيهة بمعجزة‪ ،‬معجزة‬
‫الفوتوغرايف‪ ،‬وكان إليف يضحك يف‬
‫ّ‬ ‫الزمن التّصوير‬
‫أن يعرف ذلك ّ‬
‫الصورة وهو مالصق ألحد اجلدران يف سوق القرانة‪.‬‬
‫ّ‬
‫قدمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرخو حتت‬ ‫أصبح احلفر بعد ذلك سهلاً ‪ ،‬ظهر ّ‬
‫الرمل ّ‬
‫ثم‬
‫تغيت ألوانه‪ ،‬أصفر ّ‬ ‫الرمل‪ ،‬كان ناعماً ‪ ،‬وك ّلام حفرت رّ‬
‫حتسست ّ‬‫ّ‬
‫ثم داكن‪ .‬مل أكن يف حاجة بالفعل إىل معول‪ ،‬اعتمدت عىل‬ ‫أمحر ّ‬
‫الرمل وتسوية اجلوانب‪ ،‬ومل تساورين املخاوف‬ ‫املجرفة اليدو ّية لرفع ّ‬
‫نت‪ ،‬أنّه‬ ‫السفىل‪ .‬من ال ّثابت‪ ،‬هكذا ّ‬
‫مخ ُ‬ ‫مثلام حدث معي يف الش ّقة ّ‬
‫متحجرة يف‬
‫ّ‬ ‫وقع حفر هذا املكان ساب ًقا بحكم وجود طبقات رمل ّية‬

‫‪273‬‬
‫تم‬ ‫اجلوانب‪ ،‬وكان اعتقادي جاز ًما ّ‬
‫بأن عمل ّية احلفر قديمة جدًّ ا‪ ،‬ور ّبام ّ‬
‫الذهن وأنا أتابع‬ ‫األهم من هذا أنيّ كنت صايف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذلك قبل بناء احلماّ م‪.‬‬
‫قت كنت أحرص عىل التّخفيف‬ ‫السطل‪ ،‬وك ّلام ّ‬
‫تعم ُ‬ ‫الرمل يف ّ‬
‫وضع ّ‬
‫السطل حتّى يتمكّن جوهر من رفعه‪ ،‬فأنا أعرف ّ‬
‫أن سنّه‬ ‫من محولة ّ‬
‫توجه هيلني هاتفها‬
‫ال تسمح له ببذل جهد كبري‪ .‬وبني فينة وأخرى ّ‬
‫اجلوال نحو الفتحة‪ ،‬ضبطت اجلهاز عىل ما أعتقد وش ّغلت برنامج‬
‫ّ‬
‫البحث عن ّ‬
‫الذهب‪ ،‬كانت تنتظر اإلشارات‪ ،‬تنتظر بعصب ّية أن يعلن‬
‫فضلت أن‬‫اجلهاز عن وجود جسد صلب‪ّ .‬ملا جتاوزت عمق مرتين ّ‬
‫أتو ّقف عن احلفر‪ ،‬مل يكن من املمكن أن أجازف‪ ،‬كنت عىل وشك‬
‫أيضا مل يكن باستطاعته أن يصمد أكثر‪.‬‬
‫االختناق‪ ،‬جوهر ً‬
‫وقبل أن أنزل يف الفتحة الستئناف احلفر بقيت يف «البيت‬
‫الشموع يف ّ‬
‫كل‬ ‫لرتشف القهوة ومتابعة هيلني وهي تشعل ّ‬
‫الباردة» ّ‬
‫مرت إىل املطاهر‬ ‫الزوايا‪ .‬بدأت با َملطاهر ال ّثالث بالقرب منّي‪ّ ،‬‬
‫ثم ّ‬ ‫ّ‬
‫السخون»‪ .‬تناولت بعد‬
‫أيضا إىل «بيت ّ‬
‫مرت ً‬
‫املوجودة يف املدخل‪ّ ،‬‬
‫ذلك املبخرة من يد جوهر وانغمست يف جولتها بكامل رشاقتها‬
‫ٍ‬
‫بلهفة وأنا ّ‬
‫أترشف من فنجان القهوة‪ .‬تبادلنا‬ ‫وخ ّفتها‪ ،‬كنت أتابعها‬
‫النّظرات دون أن نتك ّلم‪ ،‬كانت تطوف باملبخرة كأنهّ ا مستغرقة يف‬
‫روحي مقدّ س‪.‬‬
‫ّ‬ ‫طقس‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫وضعت هيلني املبخرة بجانبي ّ‬
‫التاب‪ ،‬يا سعد‪ ،‬يبدأ عمقه يف الغالب من‬
‫اليهودي يف رّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الدّ فني‬
‫مستوى أربعة أمتار‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫قلت وأنا أستعدّ للوقوف‪:‬‬
‫السارة‪.‬‬ ‫‪ -‬هذا ج ّيد‪ ،‬أمامنا اآلن ّ‬
‫أقل من مرتين لنستقبل األخبار ّ‬
‫حضنتني هيلني مرشقة‪:‬‬
‫اجلوال أن خيرج من صمته‪.‬‬
‫‪ -‬عىل هذا اهلاتف ّ‬
‫ثم تابعت‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ترشفت من الفنجان ّ‬
‫أحب أن أكون قلقة‬‫ّ‬ ‫أحب املجازفة يا سعد‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ومع ذلك ال‬
‫عليك‪ .‬أعرف أنّك تشقى من أجيل ومن أجل حلمي‪ ،‬غري أنيّ‬
‫أخشى عليك من اخلطر يف األسفل‪ .‬عليك أن تكون واث ًقا من‬
‫تتهور من أجيل ومن أجل‬ ‫تتهور يا حبيبي‪ .‬ال ّ‬ ‫ّ‬
‫كل يشء وال ّ‬
‫الرا‪ ،‬ف َب ْعدَ عمق أكثر من مرتين يصبح التن ّفس صع ًبا‪...‬‬
‫قاطعتها ضاحكًا وأنا أربط حزامي باحلبل‪:‬‬
‫‪ -‬ال ختايف عىل ص ّياد الكنوز يا حبيبتي‪.‬‬
‫استأنفت احلفر وكنت بني حلظة وأخرى أتن ّفس بعمق‪ ،‬انقبض‬
‫داخيل ّملا ظهرت حجر ٌة حتت قدمي‪ ،‬خشيت أن تعرتضني طبقة‬
‫صخر ّية‪ ،‬سيكون األمر شا ًّقا يف تلك الوضع ّية‪ .‬تناولت الفأس‪،‬‬
‫فإن األمر‬ ‫حتركت‪ ،‬قلت يف نفيس‪ّ ،‬‬ ‫وحاولت حتريك احلجرة‪ .‬لو ّ‬
‫أحرك احلجرة‬ ‫الرمل‪ .‬استطعت أن ّ‬ ‫مندسة يف ّ‬
‫ّ‬ ‫يتع ّلق بوجود حجرة‬
‫أيضا‪ .‬وأنا أفعل ذلك تو ّقفت‬ ‫أهشمها ً‬ ‫أخريا‪ ،‬كان بوسعي أن ّ‬‫بيدي ً‬
‫ّ‬
‫عند نقيشة يف سطحها‪ ،‬تأ ّملت النّقيشة فرأيت ما يشبه محام ًة فاحت ًة‬
‫الصندوق‬ ‫جناحيها‪ .‬تأكّد يل يف تلك ال ّلحظات أنيّ بدأت أقرتب من ّ‬

‫‪275‬‬
‫احلديدي الذي أشارت إليه هيلني‪ .‬بعد ذلك اشتممت رائحة يشء‬ ‫ّ‬
‫جترعت‬ ‫الرائحة تثخن‪ ،‬وأحسست بتن ّفيس يثقل‪ّ ،‬‬ ‫ثم بدأت ّ‬ ‫حمروق‪ّ ،‬‬
‫أحتمل تلك‬‫من قارورة املاء وواصلت‪ ،‬وكان من الضرّ وري أن ّ‬
‫مرة نزلت فيها إىل بئر‪ ،‬كانت‬ ‫الرائحة التي اقتحمتني‪ .‬أذكر ّأول ّ‬ ‫ّ‬
‫ذكرى مؤملة‪ ،‬لكنّها مثرية‪ ،‬مل أكن أعرف اآلبار‪ ،‬أيب يومها كان يشكو‬
‫واضطر إىل االستعانة يب‪ .‬عثر بالقرب من البئر عىل‬ ‫ّ‬ ‫من زكام حا ٍّد‪،‬‬
‫كنزا‪ .‬كان البئر‬
‫أن بالبئر ً‬ ‫صخرة نُقشت فيها آثار قدم أسد‪ ،‬وعرف ّ‬
‫ثم أنزلني‪ ،‬دامهني‬ ‫تقري ًبا عىل عمق ستّة أمتار‪ ،‬ربط حزامي باحلبل ّ‬
‫بيدي‪ ،‬كنت أخشى أن‬ ‫ّ‬ ‫التاب‬ ‫إحساس باخلوف يومها وأنا أنبش رّ‬
‫التاب واحلجر‬ ‫طت يدايا يف رّ‬ ‫ّرت وخت ّب ْ‬ ‫تدامهني إحدى األفاعي‪ .‬توت ُ‬
‫جرة مملوءة بمعادن ذهب ّية صغرية‬ ‫واستطعت يف األخري أن أعثر عىل ّ‬
‫باجلرة وأنا أهلث‪ ،‬مل أصدّ ق أنيّ عثرت عىل كنز‪،‬‬ ‫ومستديرة‪ .‬أمسكت ّ‬
‫الشظايا وأصابت رأيس يف‬ ‫اجلرة هتاوت إحدى ّ‬ ‫وعندما رفع أيب ّ‬
‫مستوى اجلبني‪ .‬يف ال ّلحظة التي رفعت فيها رأيس دامهتني الشظ ّية‪،‬‬
‫وأحسست بصاعقة تنزل عىل جبيني‪ّ ،‬نز دمي من اجلرح وسال عىل‬
‫فقدت برصي‪ ،‬مل أعد‬ ‫ُ‬ ‫وجهي وعنقي‪ .‬خ ّيل إ ّيل يف تلك الدّ قائق أنيّ‬
‫كل يشء‪ .‬كنت‬ ‫أرى شي ًئا‪ ،‬لكنّي أمسكت باحلبل واختفى أمامي ّ‬
‫أحس بنفيس أطري نحو األعىل‪ ،‬أطري بال جناح‪ ،‬انتشلني أيب بمش ّقة‬ ‫ّ‬
‫مكسوا بدمي‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫واحتضنني‪ .‬استطعت بعد ذلك أن أرى وجه أيب‬
‫مت‪ ،‬ومل‬‫ارتعشت يف حضنه وفقدت الوعي‪ ،‬ور ّبام اعتقد أيب أنيّ ّ‬
‫اليوغساليف يومها ‪« :‬لقد نجوت بمعجزة‪ ،‬لو مل‬ ‫ّ‬ ‫أمت‪ .‬قال يل ال ّطبيب‬
‫الشقي»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ملت أيهّ ا‬‫ترفع رأسك يف حلظة خاطفة ّ‬

‫‪276‬‬
‫الرمل واستخرجت‬ ‫أزلت عنه ّ‬ ‫ُ‬ ‫حتسست بقدمي شي ًئا صل ًبا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫استمعت إىل إشارات يف‬ ‫ُ‬ ‫شكل سمكة من زجاج‪ ،‬ويف تلك اآلونة‬
‫أعىل الفتحة‪ ،‬تعالت اإلشارات أكثر فأكثر وصاحت هيلني‪« :‬رائع‪،‬‬
‫لقد نجحنا»‪ .‬تطاير شعرها داخل الفتحة‪ ،‬أنعشتني عيناها‪ ،‬نفخ ذاك‬
‫الساحر يف صوريت وأعاد إ ّيل أنفايس‪ .‬وجه هيلني كان يظهر‬ ‫الربيق ّ‬
‫احلب!‬‫ّ‬ ‫وخيتفي‪ ،‬تالشى االنقباض يف داخيل‪ ،‬كم هو عجيب هذا‬
‫أيضا‪ ،‬ور ّبام‬
‫منحني طمأنينة غريبة داخل متاهة‪ ،‬مل يعد عنقي يؤملني ً‬
‫ست قدماي‬ ‫وحتس ْ‬
‫ّ‬ ‫الرمل بعد ذلك‬ ‫رت يف األثناء‪ .‬تواصل رفع ّ‬ ‫ختدّ ُ‬
‫بيدي‪ ،‬هاج العرق يف كامل‬ ‫جت وأنا أنبش ّ‬ ‫من جديد جسدً ا صل ًبا‪ ،‬هت ّي ُ‬
‫الرمل بأصابع مرتعشة‪،‬‬ ‫أزلت عنها ّ‬ ‫ُ‬ ‫جر ًة صغرية‪،‬‬ ‫سحبت ّ‬
‫ُ‬ ‫جسدي‪،‬‬
‫الذهب يف ك ّفي‪،‬‬ ‫الذهب‪ ،‬ملع ّ‬ ‫اجلرة قط ًعا صغرية من ّ‬ ‫واستخرجت من ّ‬
‫ُ‬
‫واستخرجت قط ًعا أخرى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ترسبت أصابعي إىل اجلوف من جديد‬ ‫ّ‬
‫حديدي‪ ،‬شكله شبيه بام وصفته‬ ‫ّ‬ ‫اجلرة يل رؤية سطح صندوق‬ ‫أتاحت ّ‬
‫الصندوق‪ ،‬وكان ال بدّ‬ ‫حترك ّ‬ ‫هيلني‪ .‬احتجت إىل الفأس لتحريكه‪ّ ،‬‬
‫الصندوق بأكمله‪ ،‬مل يكن‬ ‫الرمل‪ ،‬بعد ذلك ظهر ّ‬ ‫أن أرفع مزيدً ا من ّ‬
‫الصندوق فاق‬ ‫به قفل‪ ،‬تن ّفست بعمق وأنا أفتحه‪ .‬ما طالعني داخل ّ‬
‫عت إىل ال ُعلب ال ّلوح ّية املزركشة‪ ،‬ثالث‬ ‫السحر‪ .‬تط ّل ُ‬ ‫اخليال‪ ،‬بل فاق ّ‬
‫ٍ‬ ‫ُع ٍ‬
‫الصدئ‪ .‬تناولت علبة‬ ‫الصندوق ّ‬ ‫مرصف ًة بعناية داخل ّ‬ ‫لب كانت ّ‬
‫تضمنت خمطوطا‬ ‫ّ‬ ‫وأمكن يل فتحها بيرس‪ ،‬استخرجت ورقة برد ّية‬
‫وبخط اليد‪ .‬قالت هيلني يف األعىل‪« :‬رائع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أثر ّيا كُتب بال ّلغة العرب ّية‬
‫كل علبة هبا خمطوط‬ ‫رائع يا حبيبي‪ .‬هل وجدت ثالث علب لوح ّية؟ ّ‬
‫بكل كنوز الدّ نيا»‬ ‫كنز ال ُيقدّ ر ّ‬ ‫أثري لكتاب التّوراة‪ .‬إنّه كنزنا يا سعد‪ٌ ،‬‬ ‫ّ‬

‫‪277‬‬
‫كل العامل يرقص‬‫لت العامل‪ّ ،‬‬
‫باتاه هيلني‪ ،‬فتخ ّي ُ‬‫عيني جّ‬
‫ّ‬ ‫رفعت‬
‫يف عينيها‪ ،‬أرس َل ْت يل قبلة يف اهلواء وتاب َعت‪« :‬اآلن أدركنا احلجرة‬
‫تتحسسها بيديك يا سعد‪ ،‬حسب اخلريطة هي‬ ‫ّ‬ ‫املباركة‪ ،‬حاول أن‬
‫الصندوق»‪.‬‬‫بجانب ّ‬
‫نت إىل احلجرة التي أشارت إليها‬ ‫وبالفعل‪ ،‬رسعان ما تف ّط ُ‬
‫الرطوبة‬ ‫هيلني‪ ،‬حجرة ضخمة ومنقوشة‪ ،‬ظهرت عليها آثار ّ‬
‫التاب ّية‬
‫الرخامي‪ ،‬بعض البقع رّ‬ ‫التاب عن سطحها ّ‬ ‫والسنني‪ .‬أزحت رّ‬
‫ّ‬
‫متك ّلسة‪ ،‬تناولت قارورة املاء بجانبي وسكبت قطرات عىل تلك‬
‫السطح األملس‪ ،‬ظهرت يل احلروف‬ ‫مررت ك ّفي عىل كامل ّ‬ ‫ثم ّ‬
‫البقع ّ‬
‫أخريا ‪ ،‬احلروف بال ّلغة العرب ّية ترسم ما يشبه‬
‫ً‬ ‫واألشكال املنقوشة‬
‫الشجرة بجذعها وأغصاهنا‪.‬‬‫ّ‬
‫يف تلك ال ّلحظة صاحت هيلني من جديد‪ ،‬وصلتني صيحتُها‬
‫مدوية‪« :‬أرجوك‪ ،‬أرجوك يا سعد‪ ،‬أال تسمعني؟‪ ..‬دعني أملس‬ ‫ّ‬
‫الرائحة يف األسفل‪ ..‬طب ًعا أنت‬ ‫أشتم تلك ّ‬
‫أحب أن ّ‬
‫حجرتنا املباركة‪ّ ،‬‬
‫لن تقدر عىل إخراج احلجرة وال زحزحتها حتّى‪ ،‬سأكتفي بلمسها‬
‫صورا هلا‪ ..‬تلك‬
‫ً‬ ‫وتقبيلها‪ ..‬أجل‪ ،‬أجل يا حبيبي والبدّ من أن ألتقط‬
‫احلروف واألشكال هي شجرة العائلة‪ ،‬تارخينا يا سعد»‪.‬‬
‫وتلح يف ال ّطلب‪ ،‬شعرها يتاموج‬
‫ّ‬ ‫طفقت تشري بيدهيا وتبتسم يل‬
‫يتلهف هو اآلخر عىل اكتشاف القاع‪ .‬رفضت بال ّطبع‬ ‫ويتطاير كأنّه ّ‬
‫أن تنزل إىل احلفرة‪ ،‬هيلني جمنونة‪ ،‬مل يكن من املعقول أن أوافقها‬
‫معرتضا عىل فكرهتا املباغتة‪« ،‬هذا‬
‫ً‬ ‫أيضا كان‬
‫عىل هذا اخلبل‪ ،‬جوهر ً‬

‫‪278‬‬
‫هتور»‪ ،‬قال هلا‪ .‬وصلني نشيجها‪« :‬ملاذا متنعني من ملس حجرتنا‬‫ّ‬
‫املباركة وتقبيلها؟ وأنت يا جوهر‪ ،‬ملاذا تصدّ ين عن حلمي وحلم‬
‫إليف؟ ملاذا؟ ملاذا؟»‪.‬‬
‫وافقت‬
‫ُ‬ ‫اآلن‪ ،‬البدّ أن أسأل نفيس بكامل احلدّ ة واإلدانة‪ :‬كيف‬
‫انحنيت جلنوهنا يف حلظة مزدمحة؟‬
‫ُ‬ ‫عىل طلب هيلني‪ ،‬وكيف‬
‫كانت تلك احلامق ُة محاق َة العمر التي ذبحتني‪.‬‬
‫صعدت إىل أعىل الفتحة ومعي العلب ال ّلوح ّية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف حلظة جمهولة‪،‬‬
‫رقة كأنهّ ا تُق ّبل والدها إليف‪،‬‬‫تس ّلمتها منّى هيلني‪ ،‬حضنَتْها بح ٍ‬
‫ُ‬
‫سمحت‬ ‫ثم س ّلمتها إىل جوهر‪ .‬بعد ذلك‬ ‫ٍ‬ ‫تشم َم ْت ّ‬
‫ُ‬ ‫كل علبة عىل حدة ّ‬ ‫ّ‬
‫هليلني بالنّزول‪ ،‬وقد كان جوهر متوت ًّرا مثيل وأنا أربط حزامها باحلبل‪،‬‬
‫تركت شعرها خارج اخلوذة‪ ،‬ومل يكن من‬ ‫ُ‬ ‫ألبستُها اخلوذة بمش ّقة‪،‬‬
‫املمكن أن أحرشه بالدّ اخل‪ ،‬كان ذلك مستحيالً‪ .‬عانقتني هيلني‬
‫ومتحمسة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثم أسلمت جسدها للفتحة‪ ،‬نز َل ْت ضاحك ًة‬ ‫وق ّبلتني ّ‬
‫الشغف‪ ،‬وبمنتهى البهجة‪ .‬ويف غفلة‬ ‫عيني بمنتهى ّ‬ ‫ّ‬ ‫كانت حتدّ ق يف‬
‫حبست‬
‫ُ‬ ‫منها‪ ،‬يف غفلة مريعة ارتطمت رجلها اليمنى بأحد األنابيب‪،‬‬
‫أنفايس إثر ذلك االرتطام‪ ،‬مل حيدث يشء‪ ،‬لكنّني تعكّرت‪ .‬وما إن‬
‫نزلت هيلني والمست احلجرة حتّى انفجر األنبوب وكانت ال ّلحظة‬
‫كل جانب وار ّجتت‬ ‫الرمال من ّ‬ ‫املزلزلة‪ .‬يف ثوان مرعبة انزلقت ّ‬
‫األرض‪ .‬فزعت أيدينا‪ ،‬أنا وجوهر إلخراج هيلني‪ ،‬كان البدّ من‬
‫رصخت‪ ،‬سال‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫حتجر ُت ّ‬
‫ّ‬ ‫إنقاذها‪ ،‬البدّ ‪ ،‬وكان هناك بصيص أمل‪.‬‬
‫كامل ُعنقي‪ .‬أمكن‬ ‫ومددت َ‬
‫ُ‬ ‫انحيت‬
‫ُ‬ ‫متزق احلبل‪،‬‬ ‫ثم ّ‬‫الدّ م من ك ّف ّي ّ‬

‫‪279‬‬
‫مرة يا إهلي‪ ،‬عيناها مذعورتان‪،‬‬ ‫مرة‪ ،‬آلخر ّ‬ ‫يل أن أرى هيلني آلخر ّ‬
‫تنز من وجهها‪ ،‬من ذراعيها‪ ،‬ومن رصخاهتا‪،‬‬ ‫مشوشتان‪ ،‬الدماء ّ‬
‫ّ‬
‫رصخت‬
‫ْ‬ ‫فأحسست به ينكرس‪.‬‬
‫ُ‬ ‫خنقتني ولوت عنقي مثل جان أمحر‬
‫لت رصخاهتا األخرية‪:‬‬ ‫حتم ُ‬ ‫مرة يا إهلي‪ ،‬كيف ّ‬ ‫مرة‪ ،‬آلخر ّ‬
‫هيلني آلخر ّ‬
‫«سعد‪ ..‬الرا‪ ...‬شريا‪....‬الرا يا سعد»‪ .‬وتالشت مثلام تالشيت‪،‬‬
‫ـي د ّقات جرس الكنيس‬ ‫ثم تناهت إِ َل َّ‬
‫ور ّبام استمعت إىل صوت أذان ّ‬
‫دوامة وأنا أرى اهنيار الفتحة‬ ‫قوي‪ .‬كنت يف ّ‬ ‫سمعت صدى ارتطام ّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫ثم صارت بركانًا‪،‬‬
‫ضاجة‪ّ ،‬‬‫بالكامل‪ ،‬الفتحة صارت ضخمة‪ ،‬صارت ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬تعاىل الغبار‪ ،‬وتطاير‬ ‫ثم انتهى ّ‬‫الرمال واألحجار ّ‬‫هتاوت ّ‬
‫مثل غربان خترج دفع ًة واحد ًة من كهف‪.‬‬

‫‪280‬‬

You might also like