Professional Documents
Culture Documents
é3VJJP
الكاتب :مح ّمد عيىس املؤدّب
حمم الذهب عنوان الكتاب :اّ
ر.د.م.ك978-9938-24-081-8 :
الطبعة األوىل2019 :
ّجها كالعادة
ورست يف هنج روما مت ً ُ غادرت ص ّباط الدّ زيري
ُ
أدركت نصب ابن خلدون وقف أمامي ُ إىل مقهى باريس ،وعندما
حيين وقوفه املباغت ،وال أعتقد ّ
أن األمر جوهر ،ماسح األحذية .رّ
متعرق وأنفاسه خم ّبلة .حصل يل هذا االنطباع جمرد صدفة ،وجهه ّ كان ّ
التكيز متا ًما .حدّ ق
حينام اقتحمني ،وأنا أكره االقتحام ألنّه يفقدين رّ
ثم مهس وهو يس ّلمني مغ ّل ًفا: عيني عمي ًقا ّ
يف ّ
مهمة يا سعد ..وهيلني ستتّصل
الرسالة ّ
-هذه رسالة من هيلنيّ ،
بك ال ّليلة ..ال َ
تنس يا سعد ،أرجوك ،كن يف انتظارها.
الرجل ال أحد يثري دهشتي غري جوهر ماسح األحذية ،جوهر ّ
اليهودي يف شارع احلر ّية ،يف
ّ صباحا أمام الكنيس
ً ال ّلغز ،يصادفني
املكان نفسه تقري ًبا يعرتضني منذ سبع سنوات بابتسامته التي ال
تتغي ،مشحونة بالغرابة والثقة يف النفس.
تفارقه ،ابتسامته تلك ال رّ
اسرتجعت يف ذهني مالحمه وحركاته ،سبع سنوات وأنا أرى ماسح
ُ
األحذية ،ذاك ،بنفس النّظرات املنص ّبة عىل األحذية وبنفس ذلك
كنت أخت ّيل
االبتهاج باألحذية عىل خمتلف أنواعها وأصنافها ،هكذا ُ
7
رأسه وهو يشتغل ويتحينّ الفرص .جوهر اقتنصني اليوم يف شارع
احلبيب بورقيبة وال أدري ملاذا أحسست أنّه كان يتع ّقب خطوايت يف
الزحام .مل يسبق أن حتادثنا ،ولك ّن هيلني تعرفه معرفة ج ّيدة .مل
غمرة ّ
أستطع تدقيق حقيقة هذه املعرفة ،وعجزت عن الفهم ،قد ال يتجاوز
يب رأسه .اسمه جوهر، جمرد العطف عىل رجل غزا ّ
الش ُ األمر ّ
الشائع عند النّاس« ،هو رجل ط ّيب وخدوم»، وجوهر هو االسم ّ
الزرقاوين إىل الفراغ .يف احلقيقة ،مل
توجه عينيها ّثم ّتقول يل هيلني ّ
يتو ّقف دماغي عن التّفكري ،طرحت أسئلة كثرية يف شأنه ،أسئلة
الرجل الذي خيتفي وراء مالمح مهمة .ما حقيقة هذا ّ
تافهة وأخرى ّ
ماسح أحذية؟ هل هو من رجال البوليس الرس ّيني؟ كنت أطرح
رسي ،فال أحد ّ ثم أمهلها .أغلب الظ ّن أنّه كذلك ،بوليس األسئلة ّ
يومي.
ّ صباحا وبشكل
ً اليهودي
ّ يعرتض عىل وجوده أمام الكنيس
اليهودي ،حاولت هيلني ذلك
ّ مل يسبق يل أن دخلت الكنيس
مرارا وكنت أعتذر دو ًما بابتسامة لطيفة رسعان ما يلتقطها جوهر. ً
تتفرس وجهي بصفاقة ،كنت أمهله وأشعل تزعجني نظراته التي ّ
وأتعمد الدّ خول يف غيبوبة حتّى تنهي هيلني صالهتا ّ
وكل ّ سيجارة
رس عطفها عىل جوهر بشكل طقوس تع ّبدها .مل أسأل هيلني يو ًما عن ّ
خرجية اجلامعة
يثري االنتباه ،ما الذي يمكن أن جيمع شا ّبة هيود ّية ّ
السبعني سنة ،كام قدّ رت ،صاحب املعطف األسود برجل قارب ّ
رسي .ال يمكن أن يكون صي ًفا وشتا ًء ،ابن الكلب؟ كنت أسأل يف ّ
ماسح أحذية يف مكان يفرتض ألاّ يسمح فيه بالوقوف أو االنتصاب
اليهودي مكان يف غاية احلساس ّية ،حيرسه البوليس
ّ اخلاص .الكنيسّ
8
وال يسمح ألحد بالتو ّقف أمامه ،وإن حدث ذلك سيكون األمر ّ
حمل
شبهة .منذ حادثة الغريبة أصبح كابوس االنفجارات منت َظ ًرا يف ّ
أي
واملارة عىل حدّ سواء.
ّ كل يشء ،البوليس وقت ،واجلميع يف ريبة من ّ
ٍ
إمهال أو سهو، ِ
حلظة ٍ
بشكل ُمباغت ،يف اإلرهاب ّيون قد يظهرون
ويفجرون أحزمتهم
ّ بلحى أو حليقي الوجوه ،دقائق فقط يظهرون ً
اخللفي للكنيس.
ّ النّاسفة أو يطعنون رجلاً هيود ًّيا ً
عابرا إىل الباب
أن األقدام تسري عىل عجلال أحد يتلكّأ ،ما حيدث فحسب هو ّ
يف جّ
االتاهني ،عىل عجل متيض يف حال سبيلها ،قد تتو ّقف لبعض
ثم
الدّ قائق القتناء حاجيات بسيطة من الكشك املقابل للكنيس ّ
الزحام.
رسعان ما تذوب يف ّ
السنوات األخرية ،عندما تزورين هيلني ،ال تنقطع عن زيارة
يف ّ
السبت« ،هو املعبد الذي بقي لنا من رائحة املايض»،
الكنيس صباح ّ
صممه
ثم تضيف« :الكنيس ّ
تر ّدد عىل مسمعي بكثري من االفتخار ّ
تعويضا عن البيعة القديمة بحارة
ً املعامري فيكتور فالنري،
ّ املهندس
كنت عىل علم بذلك ،يف
احلفص ّية ،حارتنا يا سعد .ال أدري ما إذا َ
بداية حرب الستّة أ ّيام أرضم فيه املتظاهرون النّار ومل يفقد معامله.
إنّه ،كام ترى ،آخر معقل لنا يف مدينة تونس ،وهو شبيه بقطعة من
الفردوس».
منذ رحيل هيلني إىل مارسيليا مل أعد أرى جوهر بانتظام ،يف
السري يف شارع احلر ّية حتّى ال أصادف ابن
أحيان كثرية كنت أجتنّب ّ
الرجل الغامض ذاك .سبب جتنّبي له هو تزايد شكوكي
الكلبّ ،
9
يشك يف ذلك،يف كونه خيدع اجلميع .ماسح أحذية بارع ،ال أحد ّ
ويلمعها .يف
ّ ال يرفع رأسه عندما يشتغل ،بعناية ين ّظف األحذية
احلقيقة ،حاولت أن أتناسى كابوس جوهر حلساس ّية املوقف ،فلم
يكن من املفيد أن أطرح أسئلة إضاف ّية حول شخص ّية غامضة من
تتعمد هيلني عدم احلديث معارف هيلني ،ويف الوقت نفسه ساءين أن ّ
هيمني ما إذا كان
عنه أمامي .كان من املفيد أن تبوح يل بأرساره ،ال ّ
أيضا بحراسة الكنيس ،وما إذا كانت هلني بوليسا رس ًّيا مك ّل ًفا هو ً
مهمته يف هناية
تعرفه من خالل هذا الواجب الذي يقوم به .هي ّ
األمر ،وقد يكون مك ّل ًفا ً
أيضا بحامية اجلالية اليهود ّية بعد تزايد
التّهديدات ضدّ ها ،وهيلني واحدة من تلك اجلالية.
ما حدث اليوم هو أنيّ مل أجتنّب رؤية جوهر ،رؤيته التي تصيبني
عيل وس ّلمني املغ ّلف ،ال أدري انقض ّكنت يف حلظة سهوّ ،بالقرفُ .
قفزت من أمامه وهربت من رائحته الشبيهة برائحة خنزير. ُ كيف
انكمشت يف داخيل وأرسعت اخلطى كأنيّ تس ّلمت مناشري رس ّية.
الزحام ،وقد كان الوقت يف صاحلي إذ ال أحد سينتبه إ ّيل وسط ّ
تزامن وجودي بشارع احلبيب بورقيبة مع خروج املو ّظفني ،إضافة
الشارع .مل أكن ُمته ِّي ًئا ّ
بالشكل الكايف ملثل إىل فوىض الس ّيارات يف ّ
الصفوف، وأشق ّ
ّ تلك الوضع ّيات ،مثل دودة صغرية كنت أنكمش
ظل يقتنص بعض اإلشارات أو ال أنظر إىل الوجوه .ذهني وحده ّ
متسول يف األثناء ،انتصب أمامي كعمود ّ الكلامت الدّ اعرة .دامهني
كهرباء ،مل أتو ّقف ،سمعت لعنة يف قفاي ومل أكرتث .عندما تس ّل ُ
مت
الضيق املغ ّلف مل خيطر ببايل أن أسأل جوهر عن هيلني ،فقد كان ّ
10
وكنت أعرف أنهّ ا غاضبة منّي .ر ّبام
ُ حيارصين بسبب سفرها املفاجئ،
ٍ
بجهد حاولت
ُ تفاج َأ ْت برصاخي يف وجهها يوم احتدّ النّقاش بيننا.
َ
بشكل باهت، ٍ ٍ
كبري يف تلك ال ّلحظات أن أكون هادئًا ،أن أبتسم ،ولو
كنت غاض ًبا لألسف ،غاض ًبا بشدّ ة.
ولكنّني ُ
وواصلت َس رْيي
ُ قبضت عىل املغ ّلف وأنا ّ
أمتص السيجارة بتوتّر ُ
ن َْح َو مقهى باريس .الربد ينقر وجهي كرؤوس اإلبر ،والبدّ أن أرسع
مثل أغلب اخللق .املرأة التي كانت تسري أمامي أشاعت ابتسامتها
وهي تلتفت إ ّيل ب َغنَج ،كانت نحيفة وطويلة ،تتباطأ يف مشيتها ،وكأنهّ ا
واكتفيت
ُ أتورط يف مبادلتها االبتسامة نفسها،
تتعمد إثاريت .مل أشأ أن ّ ّ
ابتسمت هلا
ُ ومستفز .لو
ّ حتركها بشكل مثري
مؤخرهتا ،كانت ّ بمتابعة ّ
سأتورط يف دعوهتا إىل رشب قهوة .أعرف بطبيعة احلال أنهّ ا ّ فإنيّ
الذهاب إىل ٍ
بار الئق ،بعينيها عيل ّ ستنشب أ ْظ َ
فارها يف حلمي وتقرتح ّ
الزوايا وترشب عىل نخب بالهتي، ستجرين إىل إحدى ّّ اللاّ هبتني
مؤخرهتا.ثم يلتقط ّ ترشب إىل حني يأيت عشيقها ليبصق عىل وجهي ّ
ال يروق يل يف العادة رشب البرية يف مقهى باريس ،أكتفي برشب
ثم أميض .املقهى كام خربته منذ سنوات عامل خم ّبل قهوة عىل عجل ّ
الصفقات والعمل ّيات السرّ يعة ،أستثني طب ًعا املتعبني،
ومعتوه ،عامل ّ
مرت الرجل الذي ّ يرتادون املقهى لرشب البرية وجتديد األنفاس .أنا ّ
كل مساء يف هذا املقهى الذي حيايت يف الوحل ُأدرك ج ّيدً ا ما يقع ّ
تعرضت بالفعل إىل عمل ّيات وفجّ ، صوب ّ ٍ جيمع خلق اهلل من ّ
كل
حت ّيل ولك ّن خسائري مل تكن فادحة .شعوري بالغباء جيعلني ًّ
هشا
الشيطان يف دماغي ،ال بدّ أن يستفيق. فأمتلمل ويف األخري يستفيق ّ
11
أن الوجوه كانت يف ِ
حالة وجو ٍم وبؤسّ .
الشفاه ما لفت انتباهي هو ّ
الضجيجثم ترشب البرية ،ترشب يف ّ
تنفث الدّ خان بال اكرتاث ّ
اهليستريي وال تكرتث بيشء.
ّ
عثرت عىل طاولة شاغرة ،التقط ٌ
رجل ُ غادرت النضدَ عندما
ُ
ثم سوى ن ّظارته ّ
السوداء ّ الكريس املقابل يل وجلسّ ،
َّ قصري القامة
ُ
رشع يمسح لفافة بلسانه ،أشعلها بعد ذلك وأخذ يرشقني بنظرة
ثم هتف: ماكرة ّ
بالرفيق املث ّقف .أراهن أنّك مث ّقف ال ّ
يشق له غبار.. ال ّ -أه ً
قبضت عليه بحركةُ انتبهت إىل أنيّ أمهلت املغ ّلف عىل ال ّطاولة،
ُ
منفعلة خمافة أن ينتشله منّي صاحب الوجه املستدير الذي يواجهني
برشايش ن ّظارته .يف الواقع ،مل أفكّر يف ما يمكن أن حيتويه املغ ّلف،ّ
أحتمس لفتحه داخل املقهى ،فال يشء يوحي بأنّه ثمني وعىل ومل ّ
درجة كبرية من األمه ّية ،ماذا يمكن أن ترسل يل هيلني بعد سنتني
من غياهبا؟ يوم ّياهتا يف مارسيليا؟ أم ذكرياتنا احلميمة وهي تُصارع
النسيان؟ رحلت يف ظروف غامضة ورفضت أن تتواصل معي عرب
وجهتُها إليها وهو ما أثار
اإليميل ،مل تر ّد عىل رسائيل الكثرية التي ّ
َحنَقي .اإلمهال يقابله اإلمهال ،وأنا سأمهل هذا املغ ّلف ألنّه يف
اعتقادي ال خيتلف عن ابتسامة تلك املرأة التي كانت تسري أمامي.
لو أفتحه ،قلت يف نفيس ،سينهمر عىل رأيس احلنني املوجع وسيفسد
أحب أن أتعكّر أكثر بعد أن شنّجني ابن الكلب ذاك. مزاجي وأنا ال ّ
كل يشء .لن األهم ،سرتسل يل هيلني رسالة وأفهم ّ ّ ثم ،وهذا هوّ
ثم أجيبها .ال بدّأجيبها طب ًعا بشكل رسيع ،سأمهلها يو ًما أو يومني ّ
12
للحب ،أنا لن أمهلها
ّ عدو
أن اإلمهال هو أكرب ّمرة أخرى ّ
أن تدرك ّ
ثم
كام فعلت هي ،سأجتاهلها بعض الوقت ،كام فعلت هي ،سأتثاقلّ ،
أكتب هلا ،أكتب بملء شوقي إليها ،تلك املجنونة.
الرجل القصري جّ
باتاهي: هتف ّ
-مث ّقف آخر زمان..
ثم مسكته من كتفه ورصخت:
أشعلت سيجار ًة ّ
ُ
أوالً أنت لست رفيقي ،ثان ًيا احرتم آداب اجللوس من فضلك.
ّ -
الغم..
-اهدأ يا رفيقي ،ظننت أنّك حتتاج إىل لفافة تزيح عنك ّ
ونحن شعب مغموم كام ترى.
الرجال منهم كثريوأخطر خملوقات اهلل هم قصار القامةّ ،
والرغبة يف اجلنس ،ال يشبعن
املكائد ،أ ّما النّساء فه ّن كثريات الغنج ّ
دائري
ّ وال يتعبن .وهذا القصري قد يقودين إىل كرس عظامه ،وجهه
موزعي
شك من ّ ومتنمرتان ،هو بال ّ
ّ ولباسه أنيق ،عيناه ض ّيقتان
لفافات احلشيش يف مقهى باريس ،خربت طويلاً مثل هذه األشكال،
ال ّلفافة بعرشة دنانري أو بعرشين حسب اجلودة .مل ييأس القصري منّي،
متوسلاً ،جرجرين البائس نحو نقطة ضعفي، ّ يتفرس وجهي ظل ّ ّ
طيبتي هي سبب املصائب ك ّلها ،انفلتت منّي ضحكة فاستجبت
دينارا.
وناولته ورقة نقد ّية بعرشين ً
كنت
يف بار «إيطاليا اجلميلة» مل أقاوم رغبتي يف رشب النّبيذُ ،
التكيز .حرب التّخمينات كانت ضارية يف دماغي ،ما أحتاج إىل رّ
الذي يمكن أن حيتويه هذا املغ ّلف؟ ما ا ّلذي حدث هليلني؟ وماذا
13
استجدّ معها؟ األسئلة ال تغادرين .وصالح نادل البار احتار يف أمري،
ثم يفتح أمامي قارور ًة «هل لبسك عفريت؟» ،كان يسألني ضاحكًا ّ
ثانية .رشبت بنهم واستبدّ ت يب عيناها ،عيناها كانتا تتّقدان أمامي
بشهوة أكرب ،تلهب اجلمرة التي كانت خامدة .وجه هيلني ينهشني ٍ
كل األمكنة ،حاولت أن أنساها .هكذا هي احلياة، بنهم دو ًما ويف ّ
بقصة أخرى ،حتّى لو حب ال بدّ أن ننشغل عنها ّ قصة ّ عندما تنتهي ّ
حب .كان يكفي أن ترافقني امرأة يف ليايل ديسمرب قصة بال ّ كانت ّ
قرأت يف أحد الكتب: ُ احلب.
ّ ثم يأيت ّ
األقل ّ الباردة ،بجسدها عىل
حب عظيمة» ،ولكن ،لألسف تلك «اجلنس يمكن أن ينجب حكاية ّ
الصغر بال ُع َقد، الشعوب األخرى التي تر ّبت منذ ّ هتم ّاحلكايات ّ
عنف وال كوابيس .نحن تر ّبينا عىل حكايات الغول و«ال ُع ّبيثة» بال ٍ
والركل وال ّلطم واحلدود الفاصلة بني احلالل واحلرام .وأنا والصفع ّ ّ
احلب الغامض كام كانت ّ رب
باإلضافة إىل ذلك مل أعد إيروسّ ،
بشكل الفت ٍ انكمشت
ُ تسميني .مخدت أشياء كثرية يف باطني، هيلني ّ
متحم ًسا ملغامرة جديدة مع امرأة ،مغامرة تكون عاصفة ّ ومل أعد
ثم تُشعل يف باطني النّار من حيث ال وحارقة ،تذيبني مثل ال ّثلج ّ
أدري .طب ًعا أستثني هاجر ،فعالقتي هبا حكاي ٌة أخرى .ينبغي أن
احلب من جديد .ال يمكنني ّ بكل هذا حتّى ال أصاب بلوثة أعرتف ّ
بحر ٍ
هائج أن أنسى هيلني ،إنهّ ا الوجع الذي ال يرحم ،يغمرين مثل ٍ
احلب معها مسألة خمتلفة، ثم يلعقني بشفتيه .هي أصل احلكايةّ ، متا ًما ّ
طاحونة خراف ّية ال تتع ّطب أو تتو ّقف ،حكاية ال تُقرأ يف الكتب وال
حررين من ّ
كل ال ُع َقد. احلب مع هيلني ُّدرس يف اجلامعاتّ ، ت ّ
14
مخنت
أيضا أو جتاهلتني ،ال أدريّ ،
الرا ،ابنة هيلني نسيتني هي ً
تتحمل
ّ أنهّ ا متضايقة بسبب خصامنا األخري ،أنا وهيلني .هي ال
أن نتخاصم أو نفرتق ،يف الغالب كانت تنترص ملواقفي وتقف
يف ص ّفي« .أنا أشاطر آراء سعد ،إنّه ال خيطئ يا ماما ،أجل ،أجل
يا هيلني مواقفك يف غاية التّعقيد» ،كانت تقول وهي متسك يدي
أيضا أو تشتاق بشدّ ة وتُرسل زفر ًة طويلة .الرا مل تعد تزورين هي ً
عش َش ْتوعمق حالة الفراغ التي ّ
كثريا ّ
إىل حكايايت ،أزعجني ذلك ً
للتجول بلهفة يف أز ّقة
ّ أيضا
متحمسة ً
ّ يف دماغي .مل تعد عىل ما يبدو
املدينة العتيقة.
الصغري الدّ افِئ
وأحسست برأس هيلني ّ
ُ ذت برشب النّبيذ ّ
تلذ ُ
عىل كتفي يهُ دّ ئ من روعي وينتشلني من سفالة هذا العامل .رقصت
الصدر،
هيلني أمامي بفستاهنا األسود القصري املثري املفتوح عند ّ
واندست بقريب يف السرّ ير.
ّ شفتي بنهم
ّ التهم ْت
َ ثم
رقص ْت ّ
َ
تتوزع عىل طاولتنيانتبهت إىل الوجوه القليلة التي كانت ّ ُ
الصغرية املوجودة يف األعىل ال ينعم هبدوئهابجواري ،هذه القاعة ّ
إلاّ الق ّلة ،إ ّما أن يكونوا من ّ
الصحف ّيني أو النقاب ّيني املعروفني ،وأنا
بالصعود .وصلتني
لست صحف ًّيا وال نقاب ًّيا ،صالح هو من يسمح يل ّ
أيضا بعض احلوارات واقتحمت عزلتي ،كانت يف السياسة كام يقول ً
صالح ،يلتقطها من يكتبون التّقارير ،ك ّلهم يكتبون ،هكذا يوشوش
صالح يف أذين.
-ارشب عىل نخب ماركس يا جبان.
15
-دعك من ماركس أيهّ ا احليوان ،النّظام هو اجلبان.
السعال ،مالحمه
يكف عن ّ
ّ الرجل النّحيف الذي الانزعج ّ
ثم رصخ يفحرك كأسه ّ
لتوه من أقبية التّحقيقّ ،
تكشف أنّه خرج ّ
اجلميع:
-حيوانات ،ك ّلكم حيوانات ..وال يمكن أن حتلموا باحلر ّية.
ماذا كان العامل سيفعل لو مل يكتشف النّبيذ؟ الفلاّ حون الفرس
مخروا عصري العنب .قادهم امللل إىل التّجربة فنجحوا هم ّأول من ّ
الشعوب العظيمة احلبّ .ّ واكتشفوا هبج ًة أخرى تضاف إىل هبجة
السعادة واجلنون .أ ّما نحن فشعوب النّكد. هي التي تكتشف أسباب ّ
الشعوب دراستي للتاريخ يف كل ّية اآلداب بمنّوبة دفعتني إىل احتقار ّ
إنساين ،وكانت فاشلة
ّ حضاري أو
ّ أي مرشوعالعرب ّية ،مل تنجح يف ّ
السنة األوىل .كنت عيل ومل ّ
أختط ّ كل يشء.تارخيهم قىض ّ بامتياز يف ّ
أتبول يف البحر امل ّيت ،ال أستوعب شي ًئا حتّى استنفدتالسنة ّ
طوال ّ
كامل خراطييش .دراسة التّاريخ يف اجلامعة أشبه بعمل ّية انتحار شنيع
السوس ،وكدت أنتحر فعلاً لو مل تصادفني هيلني، عىل عمود أكله ّ
حي
فاشل مثيل ّفر من ّ ٍ ُونيس ٍ
لرجل ت ٍّ وهي أمجل ما يمكن أن ُيمنح
ليستقر يف وكالة شعب ّية وسط العاصمة.ّ الزهور بالقرصين ّ
-انتبه يا سعد ،لقد بالغت يف الشرّ ب ،وترغب يف ال ّثالثة؟
ثم جاءين برشحية حلم ساخنة وقطع جبنة وح ّبات هتف صالحّ ،
حي
كهل مثيل من ّ زيتون .صالح هو من هيبني رائحة القرصينٌ ،
يستقر هبا،
ّ النّور حرقته األ ّيام يف العاصمة واستطاع يف األخري أن
وتزوج امرأ ًة صاحلة كام قال يل .يف احلقيقة ،هو
اكرتى بيتًا يف املنيهلة ّ
16
من يساعدين عىل جتميع تالميذ االبتدائي إلعطائهم دروس تدارك
السكارى و ُيبالغ يف متجيدي كرجل يف منازهلم ،يتّكئ عىل آبائهم ّ
تربية ال يناقش أحد يف قيمته وأمانته .صالح يقسم بأغلظ اإليامن
أن فرص ألاّ يتس ّلم منّي ولو م ّليام واحدً ا نظري خدماته ،كان يدرك ّ
كل أبواب جهنّم .ولألمانة، العمل نادرة وهو ما يفتح أمام خلقتي ّ
عندما تصادفني فرص عمل أحرص عىل تسديد مبالغ إضاف ّية،
أضعها عىل ال ّطاولة يف غفلة من صالح ،وضع ّيته هو ً
أيضا بائسة وال
تقوس ظهره .مسألة الدّ روس باملرة أن أثقل كاهله بمصاريف ّ
أحب ّ ّ
أعول عليها .يف فرتة االمتحانات مل تكن منتظمة ،وكان من احلمق أن ّ
ُأصبح املع ّلم املنقذ لعرشات التالميذ املستهرتين .كنت أعرف كيف
أوجههم إىل امتحانات بعينها وحديس كان يصدق يف حاالت كثرية. ّ
أ ّما مغامرات احلفر عن الكنوز فلم تكن ُمتاح ًة دو ًما ،وباإلضافة إىل
دورا
الصدف ً ذلك هي ليست مضمونة ،ال ختضع ملنطق ،وتلعب ّ
كبريا يف العثور عىل كنز يشفي الغليل.
ً
عيل أناحلديدي الض ّيق بصعوبة ،كان ّ
ّ تدحرجت من الدّ رج
ُ
كدت أسقط فعلاً لوُ باتاه ش ّقتي يف ص ّباط الدّ زيري، أغادر البار جّ
أحسست ّ
بأن شي ًئا ما ُ مقبضا حديد ًّيا كان يف متناول يدي. مل أمسك ً
أحتمس للبحث عنه .صالح كان يتابعني من اخللف سقط منّي ومل ّ
وخيشى أن أسقط بسبب مبالغتي يف الشرّ ب ،يف أقىص احلاالت كنت
أرشب قارورة ونص ًفا ،ويف هذه ال ّليلة ابتلع جويف ثالث قوارير.
الشارع فاجأين وجه تلكعندما تس ّللت من باب البار نحو ّ
دوختني يف ّأول املساء .لفحات الربد ّ
املؤخرة التي ّ املرأة ،صاحبة
17
صفعت وجهي وأحسست هبا تنغل يف مسام جسدي ،مل ينجح النّبيذ
تعمدت أن حيصل ذلك، األمحر يف إشعايل .المس شعرها وجهيّ ،
تطاير شعرها األسود أمامي وخدّ رين العطر .أرشق وجهها ،مل تفرط
يف وضع املكياج كنساء ال ّليل ،الحت يل فاتنة ومشتعلة ،عرفتها
تسمرت برسوال اجلينز ون ّظارهتا ،مل يتس ّن يل أن أتط ّلع إىل قفاهاّ .
السوداء وقالت:
ثم نزعت نظارهتا ّ كنزا ّ
أمامي كأنهّ ا اكتشفت ً
مرة أخرى؟..
-مستحيل! ..أنت ّ
مرة ثانية .التمعت الكارثة ،مل تنس مالحمي ،والقدر قادها إ ّيل ّ
فرحا وأنا أسحبها من يدها .يدها ساخنة يف الربد ،أثارتني عيناها ً
أهم بؤر الفتنة عند املرأة .عيناها
تلك النّعومة ،واليد النّاعمة هي من ّ
أن النّبيذ هو الذي ساهم يف أيضا كانتا تومضان بشبق وال أعتقد ّ ً
لوثة انبهاري وسقوطي .املسألة مسألة توقيتّ ،أول املساء خيتلف
الشك حتتاج يف هذا الوقت ّ عن آخر ال ّليل املشحون العاصف .هي
الضائع إىل رجل ،وأنا تناسبني امرأة مثلها بعد أن صدّ عني ذاك ّ
البائس جوهر .يف العادة أخشى نساء آخر ال ّليل ،لكن ،ال بأس ،مل
مخنت ،هي حتتاج إىل مأوى مثل عرشات تكن يف إبطها رائحة قذرةّ ،
احلاالت التي صادفتني من قبل.
-اسمع يا..
-سعد.
-أنا لست مومسا كام تظ ّن.
-عندما أكون يف حرضة ابن خلدون ال ترافقني إلاّ املالئكة.
18
السارح» ،هكذا كانت أ ّمي تقول، «ما يفهم ترهدين النّعجة كان ّ
تقريرا
ً ثم يكتب رأسها تتفرس يف مشيته ّن ّفهي خبرية بالنّساءّ ،
مفصلاً .يف الغالب ال حتتاج إىل ثرثرهت ّن لتم ّيز الواحدة من األخرى،
ّ
الرس ،تؤكّد أ ّمي ،أ ّما إذا طأطأت رأسها وهي متيشمشية املرأة هي ّ
فهي امرأة فاسدة ولعوب .وأنا عرفت هذه املرأة من مشيتها أمامي،
عيل أن أكون َلبِ ًقا ،هذه مقتضيات
عيني .كان ّومؤخرهتا كادت تبتلع ّ ّ
املراودة الليل ّية« ،ضع شيئا يف رسوال املرأة التي تراودها حتّى تسمح
الشيطان يف رأيس .وأنا وضعت كال ًما معسولاً لك بنزعه» ،يلهث ّ
وتوسع خطواهتا مثلام أفعل.
ّ هتتز بجانبي
وساحرا جعلها ّ ً
ٍ
وكالة ُأنشئت ش ّقتي يف ص ّباط الدّ زيري ،تقع يف ال ّطابق ّ
األول من
منذ عهد االستعامر ،منذ سنة نجت من اهلدم ووقع ترميمها بمجهود
بالقوة العا ّمة .معلوم
خاص من العائالت التي كانت ختشى اإلجالء ّ ّ
رمزي ،وهو يناسبني كام يناسب العائالت ّ ظل كام هو ،معلوم الكراء ّ
تعمدت االتّكاء السكن يف هذه الوكالة .املرأة ّالفقرية التي تشاركني ّ
قدمي بمش ّقة .كانت ختشى ،كام ّ أجر
عيل بكامل ثقلها ،لذلك كنت ّ ّ
تنط بني األكياس املرتاكمة يف زقاقنا الذي القطط التي ّ
َ مهست يل،
الشقق كانت مغلقة كل هذه األكوام العفنة .نوافذ ّ مل يعد حيتمل ّ
ومطفأة ،هذا أحسن ،قلت يف نفيس ،لو تتف ّطن هاجر حلامقتي ف َل ْن
بكل انفعاهلا:تغفر يل ،ستبحلق يف وجهي ثم تقول ّ
-اهلل اهلل ..أنت كلب ،إىل هذا احلدّ ال تشبع؟
هاجر ذات صوت رخيم يصبح يف هذه الوضع ّية مثل صافرة
محام األنف» ،تقابلني مق ّطبة اجلبني وختاصمني .وبعد ذلك ال
قطار « ّ
19
يمكن أن تقاطعني أكثر من ثالثة أ ّيام ،ال يمكن طب ًعا أن تغامر هاجر
بفعل ذلك« ،شاهيتّك يا سعد يا بليد يا ركيك» ،هتمس يف أذين بعد
تندس معي يف السرّ ير .الوحيدة التي ال
ّ ثم
الرغبةّ ،
أن تعصف هبا ّ
قصتناتناقش أمرها هي هيلني ،ال تفتح هذا الدّ رج أبدً ا ،هي تعرف ّ
أن وجود هيلني يف الش ّقة
لذلك تتفادي اخلوض فيها .كنت أعرف ّ
تنقض عليها األوجاع وال ترمحها .ذات يصيبها ُبرعب ّ
«الشقيقة»ّ ،
ليلة طرقت باب ش ّقتي وهي تبكي ،وهيلني هي التي خ ّففت آالمها
لصداع ّ
«الشقيقة». بح ّبات صفراء صغرية ،قالت إنّه دواء ناجع ُ
النّوافذ يف النّهار ّ
تظل مفتوحة كامل اليوم ،تزدحم باملفروشات
ويدب يف الوكالة.
ّ هيب
كل من ّ املتلصصة عىل ّ
ّ والرؤوس والغسيل ّ
األغاين يف العادة تصدر عن أرشطة بذيئة ،رصاخ وهتييج ،هذا ما
وكثريا ما يتّضح يل ّ
أن بعض شقق الوكالة ً حيصل يف أغلب األوقات.
الرسي ،كلمة السرّ فيه تلك
كانت معدّ ة للمتعة ،مثل سوق املتعة ّ
أهتم ،وال أسمح هلاجر بأن ترسد يل
األغاين اهلابطة .الغريب أنيّ ال ّ
التّفاصيل .ال داعي لثرثرتك ،أقول هلا حاسماً وأنا أفرك هندهيا.
تتحسس معي
ّ خوف املرأة ،كام أحسست ،مل يتالش وهي
ندمت
ْ مدخل الوكالة ثم ترتقي برفقتي الدّ رج نحو ال ّطابق ّ
األول،
بال ريب عىل محاقتها التي ارتكبتها يف آخر ال ّليل ،كان يمكن أن تنام
عش الدّ بابري« .من نفقتو باين عشاه»، الشارع وال ترافقني إىل ّ
يف ّ
ستو ّبخ نفسها ،لكنّها ال تستطيع أن تفكّر يف اهلروب.
مررت داخل الش ّقة رّ
تغي الوضع متا ًما ،تالشى خوف رفيقتيّ ،
20
لساهنا عىل شفتيها وهي تسألني عن غرفة االستحامم .بحركة رسيعة
ثم أدارت يل ظهرها وتناولت سيجارة من نزعت مالبسها أمامي ّ
الصغرية .أدارت يل ظهرها عمدً ا كام قدّ رت ،انحنت حقيبتها اليدو ّية ّ
مؤخرهتاحركت يف األثناء ّ أيضا بذاك البطء املزلزل لتلتقط حقيبتهاّ ، ً
ّ
الكشاف أصوب ضوئي اشتعلت وأنا ّ
ُ بشكل لدغني يف األعامق.
الرغبة أحيانًا مثل ال ّظواهر اخلارقة التي الردفني املمتلئنيّ . نحو ّ
تسحب منّا انتامءنا إىل اإلنسان ّية وترمينا إىل عامل احليوان ّية املجهول،
متحركة ،تبتلعنا من األعىل إىل األسفل ،واألسفل ّ عامل شبيه برمال
هو الذي يشقى أكثر يف تلك ال ّلحظات التي تسبق إلقاء احلمم
ال عجينة اجل ّن هذه التي الربكان ّية .الغواية أنثى ،وقد أغوتني فع ً
خرجت يل يف آخر ال ّليل .املدهش أنيّ مل أفكّر طويلاً يف حكايتها،
هكذا تكون املغامرات ،جمنونة وحماطة بالكثري من الغموض أو ال
مؤخرهتا واختزلت العامل أماميّ ،
كل العامل. تكون .ومع ذلك شغلتني ّ
ما استغربته ح ًّقا هو أنيّ مل أملس إلاّ يدها اليرسى ،مل تكن يل رغبة
أيضا يف احتضاهنا بحركة للمس شعرها أو خدّ هيا أو شفتيها ،مل أفكّر ً
رسيعة تعبرّ عن حالة إعجاب .كان يكفي أن أحضنها بشكل رسيع،
كأسا من نبيذ
وأترك مسألة هندهيا إىل مرحلة أخرى .بعد أن أحتيس ً
اجل ّن سألتقطهام كام أفعل مع هاجر ،تلك النّار التي ال ختمد ،تولول
يدي لرتقص مثل الغجر ّيات، ثم تقفز من بني ّ عندما ألتقط هندهيا ّ
ّ
لتدك أوصايل .املرأة تريد أن وترتك ذاك الوشاح األمحر يف خرصها
ثم تأيت التّفاصيلالرجل الذي يرافقها ملدوغ هباّ ، تتأكّد ّأولاً من ّ
أن ّ
ترصح بذلك ،وإن الح ًقا .وأظ ّن أنهّ ا الحظت هذا الربود ومل تشأ أن ّ
21
بقي األمر عىل ما هو عليه بعد خروجها من غرفة االستحامم فإنهّ ا
ستصفعني ،هذا أكيد.
رس
تتحرج عندما تسألني عن ّ منج ّية ،أ ّمي القرصين ّية ّ
الشاخمة ال ّ
تلمح إىل هذا األمر الذي يزعجها ،وعندما أتظاهر برودي مع النّساءّ ،
بالغباء تسقط عنّي ورقة التّوت .هي مل تُسقطني من جوفها ألنكمش
السيناريو سيقع معي يو ًما لأَ َ ْم َسكتني
أن هذا ّ كدودة ،لو خت ّيلت ّ
لتعوضني بأنثى ،األنثى أمرها
من رأيس وحرشتني يف جوفها ثانية ّ
كل احلاالت لن تصاب بخيبة أمل« .ال بدّ أن تبحلقواضح ،ويف ّ
يف وجوهه ّن يا فرخ احلرام حتّى ختتار واحدة ،أسمعت؟ ال تنظر إ ّيل
هكذا كاألبله» ،تقول مق ّطبة جبينها .ويف أحيان كثرية كانت ّ
تتعمد
يتحمس لقبلة أو
ّ تركي منفر ًدا يف غرفتي مع إحدى الفتيات« ،قد
يرسع قرار زواجه من واحدة» ،يشتغل
الطري وهو ما ّ
ّ ملسة من النّهد
رأس أ ّمي .وما إن خترج إحدى الفتيات من غرفتي حتّى تقتحمها
ومتحمسة إىل شتمي وأكيل بأسناهنا .عيون الفتيات ّ وهي غاضبة
املنكرسة كانت تقول أل ّمي :فرخك هو ال ّثلج شخص ًّيا يا خالة منج ّية.
-اسمي نادية.
تستحم ،بحثت عن ال ّلفافة
ّ هتفت املرأة من خلف الباب وهي
التي اقتنيتها من مقهى باريس وفكّرت يف تدخينها مع نادية .ال بدّ
أن تسكر معي باحلشيش حتّى ال حتدّ ق يف خلقتي بفضول ومتطرين
مرة ،ملاذا بأسئلتها التّافهة .أمقت األسئلة فعلاً مع امرأة ألتقيها ّ
ألول ّ
الروتني إطال ًقا،
أحب هذا ّ
ّ قصتها ،ال
وكيف ومتى؟ لن أسأهلا عن ّ
22
السببوتوسع مراوغاهتا ،وهلذا ّ ّ كل األحوال ستكذبوهي يف ّ
الرائق .املغامرة يف
أيضا ،فكّر رأيس ،سأكتفي بحميم ّيتها ومزاجها ّ
ثم نتخدّ ر ّ
بلذة املالمسة نظري هي أن نرمتي يف املجهول بال اكرتاث ّ
شجعتني عىل هذه املغامرة أهم األسباب التي ّ واالكتشاف .ومن ّ
الربقي الذي كانت نادية تتك ّلم به ،ال تثرثر ،توجز وتسدّ د
ّ األسلوب
يف املرمى مبارشة .هي بال ريب ،كام فكّرت ،ستُميض معي ليلة
الصباح ستنهض تعودت مع رجال آخر ال ّليل ،ويف ّ ساخنة مثلام ّ
ثم تفتح ك ّفها وهتتف يب:
باكرا وتنتصب أمامي مثل قابض املال ّية ّ
ً
« -ب ّيض ك ّفي يا ّ
عمي يا باهي»..
أرس َل ْت ُه
ّرت مسألة املغ ّلف الذي َ
أشعلت ال ّلفافة تذك ُ
ُ عندما
انتبهت إىل أنيّ مل أضعه يف أحد
ُ ثمّشت يف جيوب املعطف ّ هيلني ،فت ُ
اجليوب ألنّه كبري احلجم .إنّه ألمر غريب أن يضيع منّي ،حدست أنّه
السري ،مل يسقط يف البار أثناء نزويل من الدّ رج ،صالح كان سقط أثناء ّ
ثم يلتقط املغ ّلف ويس ّلمني إ ّياه .ضاع سين ّبهني إىل األمر ّ
بكل تأكيد ّ
شك يف املسافة الفاصلة بني البار والش ّقة .يف تلك اآلونة املغ ّلف ال ّ
انزعجت ح ًّقا ألنيّ أضعت املغ ّلف وما أزعجني أكثر هو أن يتعكّر
أمتص ال ّلفافة.
مزاجي وأنا ّ
23
()2
هيلني
الرياح ،لك ّن ّ
الذكريات يف ذهني مرت األ ّيام برسعة كمرور ّ
ّ
ِ
عيل ،خ ْل ُت ّ
أن النّسيان ل ّفها ورحلت، متعن يف التد ّفق ،وتتناوب ّ
ُلح يف العودة .أحيانًا أحاول اهلروب فأغلق غرفتي وأش ّغل غري أنهّ ا ت ّ
ثم أمتدّ د عىل السرّ ير عاري ًة متا ًما. جهاز التّدفئة وأخت ّلص من ّ
كل ثيايبّ ،
الصمت.
ومتزق ّ
متمردة من احلاسوب ّ
تنبعث املوسيقى مثل شحنة ّ
ّ
كل يشء متو ّفر يف غرفتي ،النّبيذ والفواكه والكتب ،أعشق كتب
التّاريخ منذ صغري ،اقتنيتها من مارسيليا وباريس ،وأكثرها جلبته
من تونس ،من هنج الد ّباغني.
يف العادة ،شريا ال تقلق من اعتكايف يف غرفتي ،تعرف أنيّ عندما
مزاج س ِّي ٍئ فتتجنّبني .هكذا هي أ ّمي ،عىل غاية
أغلق باهبا أكون يف ٍ
حرة ،مستق ّلة
والذكاء .ع ّلمتني منذ صغري أن أكون ّ احلس ّ
من رهافة ّ
يف قرارايت ،وهي تعرف أنيّ جمنونة ،مثلها متا ًما عندما كانت صغرية.
احلب
ّ إليف كذلك كان أ ًبا عطو ًفا ،شجر ًة وارف َة ال ّظالل ،مل أكتشف
يف الكتب وال يف األفالم ،واكتشفته يف عيني أيب اهلادئتني ،أمجل القبل
كانت من إليف وأغىل قبلة كانت قبلته وهو يموت بني يدي أ ّمي.
25
يروق يل أن أرشب النّبيذ يف غرفتي ،أشعل شمعتني وأعتكف
خاص عندما أستلقي عىل السرّ ير، ّ يف رسيري .كأس النّبيذ له طعم
متأهبة .يلوح يل
يفتح شه ّيتي للقراءة والبحث ،وجيعل مشاعري ّ
ٍ
ثم حيضنني بلهفة وجنون. وجه سعد ،وحيدجني بنظراته املتسائلة ّ
الكأس املقدّ سة رشبتها مع سعد يف لقاءاتنا احلميمة األوىل .كان ذلك
يوم مجعة ،سهرنا حينها يف فندق «رويال فيكتوريا» بـ«باب بحر»،
وأقمنا مائدتنا امللك ّية عىل ضوء شمعتني .مل يصدّ ق سعد أن تكون
سهرتنا األوىل بال موسيقى وال ضجيج .التحامنا كان هو املوسيقى
املذهلة التي ال تتالشى ،ومع مرور األ ّيام ازدادت تعتّقا مثل النّبيذ.
يف غرفتي أحتفظ بالنّبيذ اجل ّيد ،بعض القوارير جلبتها من تونس،
الساحر كام يقول ،ومع يرص عىل أن أرشب النّبيذ التونيس ّ كان سعد ّ
منعشا ح ًّقا .أرشب عندما أح ّن إىل سعد، ً األكل والغالل يكون
ثم يقف جامدً ا يف قلبي ،ويصغي إىل رصخاته يركض يف داخيلّ ،
املكتومة.
يف زياريت األخرية إىل تونس مل أكن غاضبة من سعد مثلام
مرت سنتان عىل كنت منكرس ًة ويائسة ومرهقة جدًّ اّ .
فهم ،وإنّام ُ
الزيارة ،وسعد طفيل املجنون ،ال يصدّ ق أنيّ مل أكن مستاءة ممّا
تلك ّ
جرنا النّقاش
عرصا عندما ختاصمنا ،مل يسبق أن ّ جرى .كان الوقت ً
إىل مثل ذلك االنفعال ،ومل يكن بوسعي آنذاك أن أبقى وسط ذلك
الصمت القاتل .ال أدري ملاذا كنت خائفة من فقدان سعد إىل األبد، ّ
أن غيابه يعني مويت ح ًّقا .أحسست ّ
بالضياع وأنا أغادر كان يدرك ّ
الش ّقة وأهرب منه ،ويف تلك ال ّلحظات مل أسمع إلاّ نعيق الغربان.
26
انزلقت دموعي ساخنة وحارقة ،خشيت أن أضعف أمامه وأرتكب
الزواج ،أدركنا احلامقة الكربى ،فأوافق عىل زواجنا .كنّا ممنوعني من ّ
الرباط املقدّ س حرمنا منه ،مع ّ
كل ذلك منذ اعرتافاتنا األوىل ،ذلك ّ
حب وقبلة ،وبعد ليلتنا الكربى كنت أخشى أن يطلبني ملسة وكلمة ّ
الزواج ،فهي تبدو مرعب ًة ،قاتلة
زوجة .كنت أخاف من هذه الكلمةّ ،
يف وضع ّيتنا .وعندما نطق هبا سعد ،ضاقت يب الدنيا فهربت منه،
تالشيت من أمامه ألنجو من العذاب.
غادرت الش ّقة وأنا أبكي وأرتعش ،كان ذلك يوم أربعاءُ ،
كنت
فحاولت أن أطارد اهلواء .فكّرت يف أن ألوذ بزاويةُ خمتنق ًة جدًّ ا،
سيدي حمرز ،شريا كانت توصيني هبا« :إذا انسدّ ت أمامك األبواب
يا هيلني اذهبي إىل زاوية سيدي حمرز ،سيدي حمرز يا ابنتي منع عنّا
ال ّظلم والقهر ،وكنّا يف محاه حتّى رحلنا إىل مارسيليا».
وتوجهت إىل مقهى ّ ملت ّأوالً إىل شارع احلبيب بورقيبة ُ
أن سعد ال حي ّبذ اجللوس هناك ،فمقهى باريس التياترو ،كنت أعرف ّ
هو معبوده ،وقد ينساين أحيانًا وهو منشغل بقهوته .يف احلقيقة ،كنت
كثرية الرت ّدد عىل هذا املقهى منذ دراستي اجلامع ّية ،شاء ح ّظي أن
بالسفارة كانالسفارة الفرنس ّية ،أحد املو ّظفني ّ أشتغل مرتمجة يف ّ
صديق أيب وهو من مكّنني من تلك الوظيفة املؤ ّقتة .يف تلك الفرتة مل
أكن أحتاج إىل املال بقدر حاجتي إىل عالقات وخربة يف احلياة ،كنت
أرصت أتقن ال ّلغتني ،العرب ّية والفرنس ّية ،مثل شريا متا ًما .هي التي ّ
عىل ذلك منذ صغري« ،تع ّلمي ال ّلغة العرب ّية يا صغرييت مثلام تع ّلمتها
أيضا كانوا يتك ّلمون هبا» ،كانت تقول يل وهي أنا يف تونس ،أجدادك ً
27
أيضا ّ
أن حيازيت جلنس ّيتني ،تونس ّية وفرنس ّية، ّ
متشط شعري .وال أنسى ً
بالسفارة.
ساعدتني عىل االستمرار لسنوات يف تلك الوظيفة ّ
الركن الذي يمكّنني من مراقبة مقهى باريس ،كنت جلست يف ّ
متش ّوقة إىل رؤية سعد من بعيد ،حمتاجة أكثر إىل وجهه األسمر ّ
طلبت قهوة وقارورة ماء صغرية، ُ الرماد ّيتني الصغريتني.
وعينيه ّ
املجهز
ّ وأول يشء فعلته هو غلق اهلاتف .فتحت بعد ذلك حاسويب ّ
ثم أرسلت رسالة قصرية إىل اإللكرتوين ّ
ّ باألنرتنيت ،تف ّقدت بريدي
أ ّمي ،اكتفيت بطمأنتها عىل حالتي ،هي طب ًعا ال تشبع من رسائيل.
الرا مل تكتب يل كعادهتا ،شغلتها الدّ راسة عىل ما أظ ّن ،أعرف أنهّ ا
كل تفاصيل دراستها ،وشريا تقرأ ّ
كل كلامهتا، تكتب لشريا باستمرار ّ
بل إنهّ ا ال تنام إالّ بعد أن تقرأ رسائل الرا.
الضحك ورائي ،حانت منّي التفاتة خاطفة، سمعت موجة من ّ
السعادة وحبيبها يضع راحة التقت عيناي بعينَي فتاة ،كانت يف غاية ّ
أيضا ومها يف بداية احللم، يده عىل خدّ ها األيمن .وصلتني كلامتهُ ام ً
احلب له بدايات رهيبة ،عذبة ،نوران ّية ،األكيد
ّ هكذا كان إحسايس،
بدرا .عاينت يف أن اهلالل الوليد حيتاج إىل وقت ليتشكّل ويصري ً ّ
العشاق ،ذلك الساحر الذي يومض عادة من عيني ّ ٍ
حلظة ذلك الربيق ّ
جربت ّ
لذ َة عيني وأنا أغرم بسعد .مل أكن قد ّ شع من ّ الوميض نفسه ّ
ملس اليد من قبل ،ويف ّأول أ ّيامنا عندما ملس سعد يدي شعرت بدوار
خفيف يف رأيس ،وتشكّل بدرنا برسعة جنون ّية رغم أنيّ مل أكن أنتظر
احلب هذه .سعد كان جي ّن عندما أغنّي له إحدى أغاين حبيبة ّ حكاية
أحب جنونه ،ينتيش بصويت وهو يضع رأسه عىل صدري: مسيكة ،وأنا ّ
28
نقطـع التّنهيـدَ ه من وسط قلبـي آه يـا داي
نقطع التّنهيدَ ه داري جذا دارو قلت بعيدَ ه
من وسط قلبي آه يا داي
***
ع ّلتي و هبايل سبب دايا مريض وعلتي وهبايل
سبب داي آه يا داي
ع ّلـتـي و هبـايل من شبح عيـني قد مـا جيرايل
(((
سبب دايا مريض آه آه يا داي
((( مقطع من أغنية «نقطع التنهيده» للفنانة حبيبة مسيكة وهي فنّانة هيود ّية األصل.
29
فيضمني إىل صدره
ّ عيني
يف األثناء يالحظ سعد حالة الوجوم يف ّ
ويسألني:
-عزيزيت ،هل ح ًّقا حرقها عشيقها؟
-حبيبة مسيكة حرقها عشيقها إلياهو ميموين ،عشقها ِع ْش َق
جمنون وحرقها النّذل .الغرية أعمته بعد إفالسه ،جاء منٍ
يصا لكي يحُ رق املسكينة« ،حبيبة ماتت ،ليه قتلها
خص ً
تستور ّ
ميموين حرام عليه» ،هذا ما كان ير ّدده أحد الفنّانني من
أصدقائها وهو يبكي يوم قتلها ميموين.
خي البار ،قلت يفأطفأت سيجاريت ال ّثالثة ومل يظهر سعد ،ر ّبام رّ
نفيس ،كنت أخشى أن يذهب إىل بار «إيطاليا اجلميلة» وهو يف حالة
كثريا عندما يتوتّر وهيتاج .بحثت يفغضب ،أوصيه دو ًما بألاّ يرشب ً
ثم أغلقت عينينْ
لقت بيأس ّ العابرين عن قامته ووجهه األسمرَ ،ب ْح ُ
ّ
بالذكريات. ُمثقلتينْ
عرفت سعد يف شهر فيفري من سنة 1990يف كل ّية اآلداب ُ
بمنّوبة .ال أصدّ ق ما حدث معي يف ذلك اليوم ،شتمتني إحدى
ال ّطالبات وهامجتني بأبشع النّعوت ،كانت ترتدي حجا ًبا عىل ما
رس احلملة التي
رشرا ،أعامها احلقد ومل أفهم ّ
أذكر ،عيناها تتطايران ً
عيل إلاّ بعد أن رصخت يف وجهي:
كانت تشنّها ّ
-أنت جاسوسة إرسائيل ّية.
أن تلك ال ّطالبة ،وهي زميلتي بقسم
متأخر إىل ّ
تف ّطنت بشكل ّ
التّاريخ ،كانت تقوم ضدّ ي بحملة شعواء ،إحساس قاتل أن
30
وعدوة .كنت أستغرب ّ أعيش يف وطني وأنعت بكوين جاسوسة
جيا مننظرات الطلبة املرتابة واحلاقدة أحيانًا ،نظرات ختتزن مز ً
التخرج ومل أسئ
ّ الرابعة ،عىل أهبة
احلقد والكراه ّية .كنت يف سنتي ّ
إىل أحد طيلة أربع سنوات .أكتفي ،يف العادة ،بحضور الدّ روس
املهمة ،أفعل ذلك
وزيارة املكتبة الستعارة بعض املصادر واملراجع ّ
باملرة،
السفارة .املرشب مل يستهوين ّ عىل عجل وأغادر الكل ّية نحو ّ
كل الدعوات لرشب قهوة .أخرسني املوقف وكان وكنت أتفادى ّ
من الغريب أن حيدث معي ذلك ،هل أنا خائنة وعميلة؟ كنت أطرح
السؤال عىل نفيس وأخت ّيل صفعات ال ّطلبة عىل وجهي .ما ذنبي إن ّ
متسكت بوطني وديانتي؟ أجل أنا تونس ّية وهيود ّية ،كنت كنت قد ّ
بكل طاقتي إىل أن سقطت. أرصخ يف وجه تلك ال ّطالبة ،ويف اجلميع ّ
عندما استفقت داخل غرفة التّمريض رأيت شا ًّبا بمالمح
ثم أشحت عنه سمراء وابتسامة هادئة .تط ّل ُ
عت إليه يف شبه رشود ّ
وظل هو يتأ ّملني وال يتك ّلم ،يكتفي بابتسامة خفيفة، ّ بوجهي.
ابتسامة تعاطف كام أحسست .فكّرت يف تلك ال ّلحظات أن أرحل
هنائ ًّيا عن تونس وأعود إىل أهيل يف مارسيليا .وسأنظر يف مسألة إهناء
السهل أن أشفى، الصدمة .ومل يكن من ّدراستي عندما أشفى من ّ
فقد كانت ال ّطعنة موجعة من زميلتي .كان من املفرتض أن تعرفني،
كام أنا ،عىل حقيقتي ،وأن حترتم ديانتي ،كام أحرتمها وأحرتم اجلميع.
غزة
عىل ما أعتقد ،وهذه قض ّية أخرى ،كانت حزينة عىل أطفال ّ
اإلرسائييل .أنا عىل وعي بذلك وأدينه بشدّ ة،
ّ بالرصاص الذين قتلوا ّ
ربر اتهّ امها يل ،ومن الغريب أن تنعتني بـ«اجلاسوسة لك ّن هذا ال ي ّ
31
اإلرسائيل ّية» .بذلت جهدً ا ج ّب ًارا ألفهم املوقف وأستوعبه ،ويف تلك
الربهة العاصفة حدّ ثتني نفيس أنيّ مستهدفة وال بدّ من مغادرة الكل ّية.
اقرتب منّي الشاب األسمر وقال:
مستقر كام أعلمني
ّ الصحي
ّ -اطمئنّي يا زميلة ،وضعك
ال ّطبيب ،ومل يكن من الضرّ وري أن حتملك س ّيارة اإلسعاف
إىل املستشفى.
ثم قال بأسف: تراجع قلي ً
ال ّ
وجهته إليك
ربأ من االتهّ ام الذي ّ
-نحن طلبة قسم التّاريخ نت ّ
نحب هذه السخافة وهذا االفرتاء .وليس ّ منرية الز ّياين ،ال
هذا فحسب ،لقد و ّبخها اجلميع عىل محاقتها.
لدي انطباع أنّه
ال أخفي أنيّ أحسست بارتياح لكالمه ،وحصل ّ
صادق يف ّ
كل ما قال ،فال يشء يدفعه إىل الكذب أو املغالطة.
-اسمي سعد ،سعد اخللفاوي ،زميلك يف قسم التّاريخ.
تأسفت
قال سعد وهو يغادر غرفة التّمريض .ال أدري ملاذا ّ
ثمة رشود
خلروجه ،أحببت أن يبقى بجانبي ،يف عينية الرماد ّيتني كان ّ
مرة أنّني يمكن
ألول ّ
معذب ،وأحسست ّ غريب ،مثل رشود طفل ّ
أن أثق يف أحد ال ّطلبة.
يف الغد ،اعرتضني سعد يف باب الكل ّية ،ال أخفي ما شعرت به
يف تلك اللحظة ،ابتهج قلبي عندما رأيته ،أحسست أنّه خمتلف وكان
إحسايس غري ًبا .عيناه كانتا ممتلئتني ورصحيتني ،عىل األقل ،وأنا أفهم
32
ذلك ،ليس فيهام ذاك الفراغ الذي ييش بال ّلؤم .ابتسم وهو يصافحني
ثم دعاين إىل رشب قهوة .من الواضح أنّه خت ّلص من خجله الذي ّ
سيطر عليه عندما التقينا يف غرفة التّمريض .اآلن ،قلت يف نفيس،
اجلامعي
ّ اكتشفت املرشب
ُ امتلك هذا الشاب جرأة مثرية .وهكذا
خي يومها وترشفت ّأول «كابوسان» يف الكل ّية ،أ ّما سعد فقد رّ ّ
التاجع عن قرار أن لقائي به دفعني إىل رّ «اإلكسرباس» .ال أنكر ح ًّقا ّ
الرضوري
ّ مترسع .وكان من الرحيل .كنت أعرف بالفعل أنّه قرار ّ ّ
أن أثبت براءيت بشكل حاسم ،أنا ال أهتاون يف الدّ فاع عن كرامتي،
أن هرويب سيثبت أصبح مقاتلة رشسة .ويف مقابل ذلك من املؤكّد ّ
لتلك احلاقدة أنيّ جاسوسة فعلاً ،ستولول يف ساحات الكل ّية :أمل أقل
لكم؟ إنهّ ا جاسوسة فعلاً يا زمالء ..إنهّ ا خائنة.
قال سعد بكثري من املرح:
-ما رأيك أن ترافقيني ال ّليلة إىل سهرة مجيلة يف جهة املنزه؟
الفلسطيني ،طالب األنجليز ّية ،وال أعتقد
ّ لقد دعاين سميح
أيضا ،وقال إنهّ ا ستكون
أنّك تعرفينه .دعا جمموعة من الطلبة ً
سهرة رائعة.
أجبته بابتهاج:
-طب ًعا سأرافقك يا سعد ،ويسعدين ذلك.
متحمسة
ّ يف احلقيقة مل أتر ّدد يف االستجابة لطلب سعد ،كنت
أيضا عىل أن أثبت لسعد وجلميع ال ّطلبة أنيّ لست ومرصة ً
ّ ملعرفته
جاسوسة وال خائنة .أنا هيود ّية ،ولدت هيود ّية وسأبقى هيود ّية ما
33
السهر ،وال أجد فيه فائدةُ ،أ رّ
خي غال ًبا حييت .مل يكن يعنيني أمر ّ
تعودت عليه منذ جئت القراءة يف ش ّقتي بشارع مارسيليا ،فذلك ما ّ
إىل تونس لدراسة التّاريخ.
الفلسطيني البائس ،كان حزين
ّ مل أستسغ ليلتها ذلك ال ّطالب
عمي ًقا وأنا أض ّيع وقتًا ثمينا مع كائن مستهرت ،معتوه ،ال ّ
يترشف به
فلسطيني .ففي الوقت الذي كان األطفال الفلسطين ّيون يموتون
ّ أي
ّ
الصاخبة
السهرات ّ
الصعلوك ُيقيم ّ
فيه من أجل قض ّيتهم ،كان هذا ّ
واملاجنة .مل أسمع له حديثا عن فلسطني وال عن أ ّية قض ّية ،أعتقد
أن السلطة الفلسطين ّيةجيرب اجلوع وال التّعذيب .أعتقد ّأنّه مل ّ
متّعته بمنحة استثنائ ّية ليدرس يف تونس ،وها هو يبدّ دها يف رشب
ورصخت،
ُ أحسست بالغثيان
ُ الويسكي والقامر ومعاكسة ال ّطالبات.
دون وعي ،يف وجه ذلك احلقري:
استهتارا.
ً -ما هذا؟ كفى
ملوثة بالرباز تتقاذفها ِ
صورها أحد الفنّانني خرقة ّ
الوقاحة كام ّ
الرياح ،وقد الح يل وجه سميح مثل تلك اخلرقة .بقيت طوال ّ
أعض عىل أسناين وأتفادى التط ّلع إىل مالحمه وحركاته،
الوقت ّ
السهرة من أجل سعدّ .
كل العيون وبالفعل بذلت طاق ًة ألواصل ّ
أيضا ،كان مصعو ًقا للشفقة .سعد ًكانت شهوان ّية والهثة ومثرية ّ
ممّا حصل أمامه .مل أخت ّيل أن أصادف رجلاً فلسطين ًّيا يفكّر مثلام كان
سميح يفكّر .وأعتقد ،وفق سلوكه وكالمه أنّه متواطئ مع االحتالل
اإلرسائييل ،بل أنا متأكّدة من ذلك .قال البائس ّ
إن حترير األرايض ّ
34
أي
الشعب الفقري ،ولن تستطيع ّ الفلسطين ّية سيكون عب ًئا عىل ّ
سلطة فلسطين ّية أن تو ّفر اجلرايات وال املنح ملئات ال ّطلبة يف املرشق
السهرة حركة مساندة أن ّواملغرب ،إنّه مقرف وجبان .كنت أعتقد ّ
فلسطيني مغرتب عن أهله ووطنه بسبب االحتالل .سعد ّ لطالب
بحق ،وال ختتلف يف يشء أيضا كان يعتقد ذلك .كانت سهرة مؤسفة ّ ً
عن سهرات الدّ عارة.
منذ تلك ال ّليلة مل نفرتق أنا وسعد ،كام تو ّقعت .كان صاد ًقا
وواضحا ،ورسعان ما اكتشفنا -وهذا مثري -أنّنا ننظر م ًعا إىل جّ
االتاه
نفسه ،وكان ذلك صع ًبا يف احلقيقة بني ديانتني خمتلفتني .مل ينظر
جمرد جسد .ومعه استنشقت هوا ًء نظي ًفا إ ّيل سعد ُمط َل ًقا بوصفي ّ
وخمتل ًفا .كان يشاكسني باستمرار ويوشوش يف أذين :لقد فزت ً
أخريا
ثم أخت ّبط عىلبقلب أحىل جاسوسة إرسائيل ّية ،وكنت أقرصه من أذنه ّ
صدره ونحن نضحك بشكل جمنون.
السعيدة تبا ًعا ،بعد اليأس فاجأتنيإثر ذلك تواردت األحداث ّ
بوادر االنفراج .فقد اعرتضتني تلك ال ّطالبة التي هامجتني وشنّت
الصفح، ضدّ ي محلة شعواء ذات صباح يف قسم التّاريخ وطلبت منّي ّ
اعتذرت منّي بشدّ ة وهي تر ّبت عىل كتفي .مل أشأ أن أكون ف ّظة معها،
ملحا أمام ال ّطلبة:
ًّ وهذا ح ّقي طب ًعا ،فاكفيت بأن طرحت عليها سؤالاً
-ملاذا اتهّ متني باجلوسسة؟ أرجو أن جتيبي بشكل رصيح
وتلقائي أمام اجلميع.
ارشأ ّبت األعناق يومها نحو منرية الز ّياين ،وما لبثت أن قالت
بصوت متق ّطع ومبحوح:
35
-احلكاية يا زميلتي ،وأرجو ألاّ تغضبي منّي ،مرتبطة بديانتك
اليهود ّية .اجلميع كانوا يشريون إليك باألصابع ،ويتّهمونك
خفية بأنّك جاسوسة إرسائيل ّية .أعرتف ّ
أن األحداث األخرية
سود
أيضا ّ
يف فلسطني سامهت يف هذا االحتقان ،البوليس ً
السامة .نحن كام ترين يف حالة منأ ّيامنا باملاتراك وبغازاته ّ
االختناق واهلشاشة.
صاح أحد ال ّطلبة من اخللف:
-ليس بالضرّ ورة أن يكون اليهود جواسيس وقتلة ،البدّ من
التمييز بني اليهود ّية وهي ديانة وبني الصهيونية وهي كيان
ثمة
غاصب ...ويف املقابل ،أال تتابعون ما جيري يف فلسطني؟ ّ
كثري من اجلواسيس واخلونة من العرب ،ومن الفلسطين ّيني
أنفسهم.
استأنفت منرية الز ّياين:
مترسع .فعلاً ،ال بدّ من أن
ّ جمرد اتهّ ام
-كان األمر بالتّأكيد ّ
نراجع الكثري من القناعات اجلاهزة واخلاطئة ،ال س ّيام يف
مسألة نظرتنا إىل األديان .أعرتف أنيّ أخطأت ،وخطئي كان
حق زميلتي ال ّطالبة بقسم التاريخ هيلني ساسون. فادحا يف ّ
ً
مل يطل يب املكوث يف مقهى التياترو ،أغلقت احلاسوب وناديت
السعيدة يف الوقت نفسه ،وأنا
أومأت إ ّيل الفتاة ّ
ْ النّادل بإشارة من يدي،
من جهتي رسمت هلا ابتسامة مو ّدة .ما أمجل ما تعيشه من إحساس
بدرا ،أرسرت يف داخيل ،وال أظ ّن
شك ،قري ًبا سيصري ً رائع! بال ّ
36
بدرمها باحلجر ،مثلام حدث معنا ،أنا وسعد.أن هناك من سيقذف َ ّ
ملحت
ُ بالسفارة الفرنس ّية ،وتط ّلعت عيناي نحو األعىل،
مررت ّ
واستعدت لربهة مرحي يف ذلك املكان،
ُ ابتسمت له
ُ مكتبي القديم،
الصور العظيمة ال تتحنّط ،إنهّ ا
السريّ ،
حت بيدي وأنا أستأنف ّ فلو ُّ
تلهب اخليال باستمرار .انتبه البوليس الواقف إىل إشاريت ،متلمل وهو
يتفحص وجهي ،ح ّييته بلباقة ثم أرسعت اخلطى نحو «باب بحر». ّ
أهتم ّ
بكل ما ّ الزيتونة ،ال
مرة ،وأنا أعرب هنج جامع ّ ألول ّ
ّ
يعرتضني ،مل َأر الدكاكني وال األشكال واأللوان ومل أسمع أصوات
املارة .كنت أخت ّطى احلشود
النحاسني وال أصوات الباعة وضجيج ّ ّ
يشتم أ ّية رائحةّ .ملا وصلت
أمامي بقلب حزين ال يرى وال يسمع وال ّ
ثم ِملت إىل هنج سيدي إىل ساحة رمضان باي تس ّللت إىل هنج الباشا ّ
حيب
ثم هنج القرمطو إىل أن أدركت سوق القرانة كام ّ الرياحي ّ
إبراهيم ّ
تعودت ،اخرتت األهنج يسموه .مل جّأته إىل باب سويقة مثلام ّ
أهيل أن ّ
فضلت تش ّعباتمهشمة من الدّ اخلّ ، امللتوية كأفعى ،ر ّبام ألنيّ كنت ّ
األز ّقة والتواءاهتا ،كنت أميش هائم ًة ،شاحبة الوجه ومتعكّرة.
ّملا دخلت إىل مقام سيدي حمرز أحسست بارتياح ،مل تعد تصلني
محى األصوات املبحوحة التي كانت تالحقني .مل أنس بطبيعة احلال ّ
مطولاً عن آداب
أن أقتني شالاً أبيض أغ ّطي به رأيس .شريا حدّ ثتني ّ
زيارة مقام سيدي حمرز .غمرتني رائحة البخور العجيبة وأنا أسري
الصحن ألدرك املقام .وقفت أمام ثم تقدّ مت جّ
باتاه ّ السقيفةّ ،
باتاه ّجّ
اخلشبي األخرض واألصفر ،التّابوت مز ّين بمختلف األلوان
ّ احلاجز
أحتسس احلاجز
السناجق .كنت يف حالة خشوع تا ّم وأنا ّ وحتيط به ّ
37
ثم أرمي شمعتني وقرطاس بخور عىل الزرب ّية .مل أستنشق املزركش ّ
رائحة عجيبة من قبل مثلام استنشقتها وأنا يف حرضة مقام سيدي
ساحرا من البخور واملسك والعنرب ،تفوح يف كا ّفة
ً جيا
حمرز ،كانت مز ً
أيضا من اجلهة اليمنى حيث يوجد رضيح للاّ األرجاء ،وتنبعث ً
خدجية بنت سيدي حمرز.
تراجعت قلي ً
ال قابلتني امرأة مرشقة الوجه ،ناولتني رشبة ُ عندما
الزير وهي تقول« :ارشيب يا بنتي ماء سلطان املدينة ،ارشيب
ماء من ّ
حممد
النبي ّ
يا بنتي املاء املبارك ،ماء يشفي املريض وهينّي الواليا بجاه ّ
موالنا».
بقيت ثالثة أ ّيام بلياليها يف زاوية سيدي حمرز ،سلطان املدينة،
ومتشوقة
ّ الرجلوالرمحة .كنت حمتاجة إىل كرامات ذلك ّ رمز العطف ّ
احلاجة لطيفة
ّ كل حلظة إىل رشبة ماء باردة متد ّفقة من العني .كانت يف ّ
الزاوية ملدّ ة أطول من زيارة عابرة ،ال مرصة عىل أن أبقى ضيفة ّ ّ
تشممت عطري وعرفت أنيّ خمتلفة عن بق ّية النّساء .طب ًعا أدري ،ر ّبام ّ
السوق باإلضافة إىل علبة شمع .يف أهديتها زرب ّية صغرية اقتنيتها من ّ
احلقيقة ،كنت حمتاجة إىل البقاء أطول وقت ممكن يف هذا املقام الذي
حي احلارة حيث سكن أهيل .كانت أ ّمي حتدّ ثني منذ كنت حياذي ّ
طفلة عن ح ّينا القديم ،حتدّ ثني وهي تبكي.
تقول أ ّمي« :أجدادنا طردوا من إسبانيا ،لقد عانوا من القهر
والتّصفية اجلسد ّية يف أ ّيامهم .هاجروا ّأولاً إىل مدينة قرنة ليفورنو
يف إيطاليا وكان الدّ وق الكبري فرديناند ال ّثاين رحيماً معهم ،إذ أتاح
بمجرد
ّ الذهب .ولكن هلم فرص األعامل التجار ّية ومنها جتارة ّ
38
ّ
وكأن ذلك بالضيق واملهانة،
وفاة الدوق سنة 1637عاد إحساسهم ّ
بحي احلارة. واستقروا ّّ فاضطروا إىل اهلجرة نحو تونس
ّ قدرهم.
أجدادنا مل يكونوا عالة عىل أحد ،صحيح أنهّ م مل يكونوا أثرياء لك ّن
الكثريين استطاعوا بعد ُمدّ ٍة رشاء البيوت والدّ كاكني .مل تكن تلك
املحلاّ ت عىل وضع ج ّيد غري أنهّ م أصبحوا ملاّ كة ،مثل بق ّية األجوار،
الذهب واألقمشة وبرع فيها .أدريان والد ومنهم من تناقل جتارة ّ
إليف كان تاجر ذهب ،ودكّانه يف وسط سوق القرانة حماذ ًيا ملقام
سيدي حمرز .وإليف كان طفلاً وسيماً ،هادئ ال ّطباع .كنت أملحه يف
يمر من أمام بيتنااحلي ،وهو ّ
الصباح الباكر ،مثلام تلمحه بق ّية فتيات ّ ّ
صفريا خافتًا ،لكنّه ال
ً رفقة والده .أشاغبه خلسة ،أبتسم له ،أرسل
بأي يشء .كنت حزينة ّ
ألن بق ّية الفتيات يفعلن ما أفعل، ينتبه وال يأبه ّ
حيمر،
جهرا بكلامت عشق ،وكان وجه املسكني ّ بل إنهّ ّن يشاكسنه ً
الزقاق.فيضطرب يف مشيته إىل أن يغيب يف منعرجات ّ
السنة .اشتهر مر ّ
مركزا جتار ًّيا ح ًّيا عىل ّ
ً سوق القرانة كان
الذهب. والشاش ّية وجتارة ّ
ّ الصوف ّية
بحرك ّيته يف صناعة األغطية ّ
ح ّينا كان مالص ًقا له ،تصلنا جلبة فتح الدكاكني وعرض البضائع
السوق،تتأخر وهم يعربون ّ املارة أيضا ال ّ بعد أذان الفجر .جلبة ّ
األطفال يسريون متثائبني نحو الكتاتيب القريبة ويميض الكبار إىل
الزيتونة واملدرسة الصادق ّية ومدرسة اليهود ولييس كارنو. جامع ّ
يدرسون أبناءهم يف لييس كارنو ويف مدرسة اليهود أغلب أهل ح ّينا ّ
أن بعض ُسمى بـ«املدرسة اإلرسائيل ّية» ،واملدهش ح ًّقا ّ
التي كانت ت ّ
األ ّمهات من ح ّينا ك ّن يرسلن أبناءه ّن إىل الكتاتيب حلفظ القرآن
39
وترتيله .كنّا نرى أمره ّن غري ًبا يف بادئ األمر ،لكنّنا فهمنا بعد ذلك
أنهّ ّن ك ّن حريصات عىل متتني العالقات بعائالت املسلمني».
يذكر إليف ،هكذا تقول أ ّميّ ،
أن سنة 1942شهدت حمرقة
كربى ألهلنا اليهود من قبل األملان والفرنس ّيني عىل حدّ سواء .تدمع
عينا إليف وهو يروي احلكاية« :كنت يف دكّان والدي عندما اقتحم
احتج
ّ كل الذهب الذي فيه ،وحني جند ّيان أملان ّيان دكّان أيب وهنبا ّ
رضبه أحدُ اجلند ّيني عىل رأسه بقطعة حديد ّية فسقط أمامي بال حراك،
صغريا ،أبكي وأرتعش ومل أصدّ ق
ً تكسوه الدّ ماء .كنت آنذاك طفلاً
وتشممت رائحته .منذ
ّ ّ
أن أيب مات .اقرتبت منه ،انحنيت عىل وجهه
املرضجة بالدم ،كانت يده
ّ ثم يده
برهة كان حيتضنني ،ق ّبلت رأسه ّ
السوق وأنا أرصخ وأبكي
باردة .ال أدري بعد ذلك كيف جريت يف ّ
انتفضت بني يدهيا
ُ مرا إىل أن أدركت بيتنا .وحاملا قابلت أ ّمي
بكا ًء ًّ
كعصفور مب ّلل ورصخت« :قتلوا أيب يا أ ّمي ،لقد قتلوا أدريان».
عاش إليف يتيماً وحزينًا ،مل يستطع أن ينسى َق ُّط مشهد قتل أبيه
أرص عىل إحياء جتارة ّ
الذهب يف الدّ كان نفسه الذي أمامه ،وعندما كرب ّ
شهد مقتل والده أدريان .كان يشتغل َ
ليل هنار بقلب من حديد .ويف
الكثري من الليايل ،حسب رواية أهل ح ّينا ،كان إليف ينام يف دكّانه
الذي عرف فيه صدمة موت والده.
إنّه تارخينا املؤمل واحلزين الذي ال أنساه ،ومل ينته بنا األمر إىل
حممرتان من فرط
ذلك احلدّ ،تسرتسل أ ّمي يف رسد احلكاية وعيناها ّ
البكاء:
40
«تعرض ح ّينا إىل شتّى أشكال االحتقار والكراه ّية ،مل تكن لنا ّ
قط مشاحنات أو عداوات مع جرياننا من املسلمني ،مل حتصل بيننا ُّ
أن إليفالزيارات يف املآتم واألفراح .أذكر ّ خصومات ،وكنّا نتبادل ّ
خيصص مبالغ مال ّية لبعض العائالت الفقرية التي تسكن بجوار كان ّ
ح ّينا .وكان يش ّغل شا َّبينْ معه يف الدكّان خالل الفرتة املسائ ّية من ّ
كل
الزيتونة ثم يغادرانه إىل الصباح يرت ّدد الشا ّبان عىل جامع ّ يوم .يف ّ
الذهب .ما حصل يف الكثري من ال ّليايل كان رع ًبا حقيق ًّيا .كانوا دكّان ّ
غرباء ومل ّثمني ،هيجمون عىل بيوتنا ويرسقون أموالنا وذهبنا .دكّان
أيضا مل يسلم من النّهب وحماولة احلرق ،مل يكونوا من جرياننا، إليف ً
ّ
بكل تأكيد ،كانوا غرباء ومل ّثمني.
بالرعب ،وال أدري ملاذا كان لن أنسى تلك الليلة املثقلة ّ
إحسايس حينها مثخنًا باخلوف ،اهلواجس كانت حتبس أنفايس
متكومة يف رسيري ،والشمعة املشتعلة بجواري تضطرب ّ وجتعلني
وكأنهّ ا تصارع وحيد ًة يف الظالم .وفجأةً ،ال أدري كيف حصل
ذلك؟! دامهني رجل طويل القامة عريض املنكبني ،قفز كشبح،
عاينت وجهه املل ّثم ،فأطلقت رصخة مدو ّية فزع هلا ّ
كل سكّان ح ّينا.
الرجل:
رصخ ّ
-اخريس يا كافرة ،لعنك اهلل.
ثم رشع ّ
يفك أزرار وكمم فمي بيده الغليظة ّ
عيل البائس ّ
انقض ّ
ّ
قوة وتصدّ يت ليده التي اهنالت رسواله .قاومته ّ
بكل ما أوتيت من ّ
ثم أسفل بطني .كان يشخر مثل حيوان ،وعندما يئس عىل صدري ّ
41
منّي أحاطت يداه بعنقي وحاول خنقي .كنت عىل وشك املوت وال
أدري كيف أنقذين اجلريان من براثنه ،جروا وكان إليف يتقدّ مهم،
اهنالوا عليه رض ًبا ولطماً إىل أن تس ّلل ذليال .أنا وإليف كنّا طفلني،
لكنّنا بدأنا نكرب ونفهم الدّ نيا وتلك احلادثة عىل قساوهتا م ّثلت
لقصة ح ّبنا العظيمة.
نؤرخ هبا ّ
منعرجا يف حياتنا ،وكنّا ّ
ً
ما حدث يف جوان من سنة ،1967عىل ما أذكر ،أفاض
حي احلارة .هزيمة العرب
ثمة جمال للبقاء يف ّ
الكأس متا ًما ،ومل يعد ّ
هي الشرّ ارة التي أوشكت عىل إحراقنا بالكامل ،ولوال جرياننا من
ّ
املسلمني هللكت عائالت ح ّينا .كانوا حيموننا من هجامت املل ّثمني
َ
ليل هنار .بعد ذلك ،تسارعت األحداث وكثر العنف والتش ّفي ،ومل
يعد أحد يقوى عىل التصدّ ي للمل ّثمني والغاضبني ،ويئس اجلميع
من محايتنا .كن ّا نتابع األحداث بكثري من اخلوف ونسمع األصوات
احلا ّدة من خلف نوافذنا املغلقة :اليهود عىل ّبره ،الك ّفار عىل ّبره.
يف تلك األ ّيام هاجرت الكثري من عائالت ح ّينا إىل فرنسا،
واضطررنا إىل بيع أغلب ما نملك بأبخس األثامن ،كنّا نبيع جلرياننا
من املسلمني الط ّيبني ،بعنا بيوتنا ودكاكيننا ومالبسنا وأغطيتنا .كنّا
كل ممتلكاتنا ونرسع إلمتام إجراءات نفرط يف ّ الزمنّ ، يف سباق مع ّ
احلظ ّ
أن عائلتي رافقت عائلة إليف إىل مارسيليا، السفر .ومن حسن ّ
ّ
تزوجنا ،أنا وإليف».
وبعد ثالث سنوات من سفرنا ّ
تصمت أ ّمي يف تلك ال ّلحظات ،أغلب حكاياهتا تنتهي بحدث
رس تكرار روايتها هلذا احلدث ،وبعد ذلك،
الزواج .يف البداية مل أفهم ّ
ّ
42
تتزوج هيود ًّيا ،وشريا ال متزح فهمت منها ّ
أن الفتاة اليهود ّية عليها أن ّ ُ
هيودي ّ
فإن ذلك نذير ّ تزوجت الفتاة بغرييف هذا األمر .قالت إن ّ
شؤم عىل العائلة ،هكذا هي أحكام أهلها منذ كانت صغرية ،وكانت
الضوء األمحر الذي يدعوين إىل التو ّقف بشكل تلك اإلشارات مثل ّ
كل حكاية ويتم ّلكني وجوم أخرس. قرسي .فأومئ برأيس موافِق ًة مع ّ
ّ
ال أفهم سبب إرصار الناس عىل وضع احلدود فيام بينهم وقد
رس تباغضهم وتناحرهم باسم الدّ ين، خلقهم اهلل ليتحا ّبوا ،وال ّ
واألديان ك ّلها تقود إىل طريق واحدة ،ملاذا نتقاتل عىل الطريق
مازلت أذكر إىل اليوم
ُ وننسى املآل ا ّلذي تقود إليه تلك الطريق؟
در ْسنا تاريخ
بالتعرف إىل شيخ املسلمني األكرب عندما َ
ّ مدى فرحتي
التصوف اإلسالمي يف اجلامعة ،وما تزال أبياته تتناهى إىل ذاكريت
ّ
ك ّلام ضاق يب احلال:
كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا مل يكن ديــني إىل ديـنه داين لقد ُ
ِ
هبـان وديـر ُلر ٍ
لغزالن فمرعى ال ك َُّل ص ٍ
ورة لقد صار قلـبي قابـ ً
ٌ ً ُ
ومصحف قـرآن ُ ٍ
توراة وألواح ٍ
طـائــف ٍ
ألوثــان وكعب ُة ِوبيت
ٌ
ُ
فاحلب ديـني وإيـماَ ين
ُّ هت ركـائب ُه ، توج ْ
ـب أنّى ّ ِ
بديـن احلُ ِّ أديـ ُن
لو كان ابن عريب ح ًّيا اليوم فامذا سيقول وهو يرى مسلماً مل ّثماً يريد
هش ًة ،ال ليشء إالّ ألنهّ ا ال تشاركه الدين نفسه؟أن يغتصب امرأ ًة ّ
وماذا سيقول شقيقه يف املح ّبة والطريق سلطان املدينة س ّيدي حمرز
بن خلف وهو يرى أحفاد اليهود ا ّلذين آواهم وسمح هلم بالسكن
داخل سور املدينة ،أحفادهم ا ّلذين مل يتو ّقفوا يو ًما عن زيارة مقامه
43
أسو ًة بجرياهنم املسلمني ..ماذا سيقول إذا استيقظ من سباته بغت ًة
متطرف ًة من بني م ّلتهم ترتكب
ّ ألن ث ّلة
ورآهم ُيقتلون و ُيغتصبون ّ
ترضج بالدماءاملجازر نفسها يف مكان آخر باسم اإلله نفسه ا ّلذي ّ
ٍ
جانب حتّى اختفى؟ من ّ
كل
يف ليلتي األوىل داخل القاعة الفسيحة يف مقام سيدي حمرز مل
أستطع النّوم ،مطل ًقا ،مل أكن مرهقة أو قلقة ،كنت يف غاية االمتالء
الروحي ،ويف حالة خشوع ،جتاوزت مرحلة التوتّر التي حصلت يل ّ
ارتياحا .يف تلك اآلونة
ً الروائح املدهشة
مع سعد ،وزادتني تلك ّ
أن سيدي السامهة وأنا سابحة يف امللكوت ُخ ّيل إ ّيل ،بني نوم وصحوّ ،
ّ
حمرز يقف أمامي بج ّبته ال ّطويلة املخ ّططة باألسود واألمحر .صوت يف
أن من يم ُثل أمامي بعاممته البيضاء وجبهته العريضة داخيل هتف يل ّ
هو سيدي حمرز .أضاءت ابتسامته القاعة الفسيحة وطالعني بكامل
باتاهه« :يا سيدي وموالي، سحره ووقاره .شبكت يدي وهتفت جّ
باحلب،
ّ أنقذين من العذاب ،بركاتك يا سيدي ،قلبي مسكون
حب حيايت ،لكنّني هتت يا سيدي وغامت أمام الرب ّ ّ لقد وهبني
أقدامي الطريق .لو أنسى أ ُم ْت ولو أتقدّ م يبتلعني العذاب .أنت سيد
العارفني ،زواجي بمسلم مرفوض من أهيل وديني ،زواجي خطيئة
كبرية يا سيدي ،أنقذين ،إنيّ أستغيث بك ،لقد هدّ ين التّفكري»..
ثم أحسست ّ
أن بالصمت حلظاتّ ،
الشبح املاثل أمامي ّ الذ ّ
الزمن استمعت إىل
نظراته جتول يف كامل وجهي ،وبعد فرتة من ّ
هتافه« :لو كنّا يف زمان غري هذا الزمان لقلت لك ال تستمعي إالّ
لد ّقات قلبك ،ولك ّن الطريق ،يا ابنتيّ ،
خمضبة بالدماء».
44
الرجفة،
أهتز من ّ
قفزت من فرايش ألحتمي بسيدي حمرز ،كنت ّ
املعذبة ،هل يالطفني سيدي حمرز مثل للاّ خدجية ّ أسأل نفيس
عيل مثلام يعطف عىل الفتيات املسلامت الزاحفات إىل ويعطف ّ
الشبح الذي كان يرتاءىمقامه؟ كنت أمدّ يدي نحوه ،وفجأ ًة اختفى ّ
أمامي وذاب يف أضواء خافتة ومتكسرّ ة تتس ّلل من النّافذة.
الرب
شبيها بمعجزة .قذف ّما حدث يف تلك األ ّيام الثالثة كان ً
حتررت ،مل يعد باطنيأحسست بالفعل أنيّ ّ
ُ إحساسا آخر،
ً يف داخيل
أن سيدي حمرز استجاب حيرتق وجتاوزت كابوس العذاب .أيقنت ّ
السوق ،أتابع حركة
فحررين .كنت أستفيق مبكّرة وأميض إىل ّ يل ّ
ومتحمسة ،أقتني حلوى
ّ الباعة وأتس ّلل بني صفوف ّ
املارة متّقدة
ثم أجري كام جيري األطفال. د ّبوس الغول ّ
وحتسست جدران دكاكينه ومنازله. ّ حي احلارة
مضيت إىل ّ
بالزخارف والنّقوش ،تدفن تارخيًا ملي ًئا باألحداث
اجلدران مزدانة ّ
واألرسار ،األبواب شاهقة ومنقوشة بعناية ،احلفر والنّدوب كثرية
تغي
احلي رّ
ّ والتش ّققات متّسعة يف أعىل اجلدران .كنت أعرف ّ
أن
الذهب،كثريا ،واملباين احلديثة هتامجه وتكاد تبتلعه .تس ّللت إىل هنج ّ
ً
دفعت با ًبا أمامي ،وصلني أنني مفاصله .ال أحد انتبه إ ّيل ،كانوا
املشوشة واملتعبة متيش ومتيش وال تكرتث
يعربون عىل عجل ،العيون ّ
ثم رصخت« :هذا يب .رسم خيايل بيت أ ّمي ،رست ثالث خطوات ّ
عيني يف ثقببيت شريا القديم» .تقدّ مت خطوات أخرى ،وضعت ّ
تضوع عطره ،أجل، ثم تراجعت ،تناهت إ ّيل رائحة إليفّ ، الباب ّ
السوق ،د ّققت النّظر يف الدكاكني، أجل إنهّ ا رائحة أيب .رست جّ
باتاه ّ
45
كل حمتوياهتا ،مالبس وأقمشة وأغطية ومفروشات وبخور ق ّلبت ّ
مخنت أنّه دكّان أيضا عىل دكّان ّ
الذهبّ ، عثرت ًُ وعطور وهدايا.
إليف القديم ،دخلت وتن ّفست بعمق ،انفرجت شفتا ال ّطفل عن
ابتسامة عريضة وأنا أعاين األساور واخلواتم املعروضة ،ال بأس،
قلت يف داخيل ،سأصليّ ألدريان .إثر ذلك غادرت الدكان وتبعتني
نظرات ال ّطفل بكثري من التحسرّ ،فرح بدخويل الدكّان وانتظر أن
أقتني شيئا من بضاعته ،لكنّي خذلته عىل ما أعتقدّ .لوحت له بيدي
وظل الطفل يرمقني مبتسماً إىل أن وفهم من إشاريت أنيّ سأعودّ ،
املمر
غادرت .هلثت قدماي بعد ذلك وأنا أصعد الدّ رجات وأعرب ّ
حي احلارة كان شاس ًعاثم جّأته إىل احلفص ّيةّ . نحو باب سويقة ّ
ورح ًبا .مشيت وسمعت أصوات املايض ،أنفايس كانت منبهرة،
لكل املباين التي اعرتضتني ،المستها وداعبتها، تفجر رشيان عشق ّ ّ
تناهت إىل مسمعي موسيقى أندلس ّية وأناشيد وتراتيل قرآن .تبعني
متسول ،وقفت ووضعت يف ّ مقوس ال ّظهر ،انتبهت إىل أنّه رجل ّ
ك ّفه ورقة نقد ّية .تابعتني امرأة عجوز ،كانت شاحبة الوجهّ ،لوحت
هلا بيدي ،ابتسمت يل وهي تعرب ال ّطريق .عاكسني أحد الش ّبان ،مل
حب..تعمدت قراءة الشعارات أمامي :هيثم +نجالء= ّ أكرتثّ ،
مخاجججج ..يا عسل .ومل أنتبه إىل آثار كتابات أخرى أرجع غدوةّ ..
عىل اجلدار أزحيت بالدّ هن األمحر.
حينام ك ّلت قدماي عدت إىل مقام سيدي حمرز ،التصقت
السقيفة ،األجساد ساخنة والوجوه
بصفوف النّساء املزدمحات يف ّ
تتص ّبب عرقا .تأ ّملتني إحدى الفتيات ،عانس عىل ما أعتقد ،نحن
46
كل يشء.ونعري ّ
ّ املتزوجة ،نبحلق طويلاً
ّ النّساء نم ّيز العانس من
ابتسمت هلا وناولتها ما تب ّقى يف يدي من حلوى د ّبوس الغول ،ز ّمت
شفتيها ومتنّعت بحركة من رأسها ،عيناها مزدمحتان بحزن ثقيل
ويداها متشنّجتان.
قالت بعد أنت أجرت بح ًثا يف وجهي:
جليب».
هجالة ،عريس قريب ومكتويب يف ا ّ
« -نا الين بايرة الين ّ
أجبتها وأنا أحاول العبور:
« -وأنا ل ّ
ال زيتي يف الكوز وخبزي خمبوز».
تورطني ،أدارت يل الفتاة ظهرها، ندّ ت منّي ضحكة كادت ّ
شملني ارتياح وتع ّلق برصي باجلهة املقابلة .أومأت يل امرأة برأسها،
الصحن ،ك ّن يرقصن منتفشات الراقصات يف ّ انضممت إىل النساء ّ
الشعر ويلهجن بأدعية وكلامت مبهمة .رقصت مثله ّن منتفشة ّ
أمتص حلوى د ّبوس الغول وأتابع ّ الشعر وبني فينة وأخرى كنت ّ
الشموع وقراطيس البخور وتضع احلاجة لطيفة وهي تتس ّلم ّ
ّ حركة
الصدر.
األوراق النقد ّية يف فتحة فستاهنا عند ّ
الرابع غادرت مقام سيدي حمرز جّ
واتهت إىل املطار. يف فجر اليوم ّ
يد حديد ّية كانت تقبض عىل قلبي وتدعوه إىل البقاء يف تونس ،يف تلك
ال ّلحظات رسى يف أوصايل احلنني إىل سعد ،باغتتني ضحكته ّأولاً ّ
ثم
عصف يب حضنه .ويف حلظة قاسية ،ارتعشت فيها يداي اتخّ ذت ً
قرارا
بالسفر ،أجل ،أمكن يل يف األخري أن أحسم قراري وأهرب. حاسام ّ
47
()3
ص ّباط ّ
الدزيري
2ديسمرب 2010
49
واملرأة نائمة ،ماذا ستقول عنّي؟ «كنت أمامه ،عارية ،يف متناوله ومل
ِ
يتحرك ،واآلن ،ال شأن يل بِدُ و َدته التي ّ
تتحرك يف غري وقتها» .بال ّطبع، ّ
خ ّيبت أملها ،ستتأ ّملني بريبة وتقهقه بصوهتا الدّ اعر .الغريب أنيّ مل
يوجههاأرصخ يف احللم وسلسلة احلديد تنهال عىل يدي ،أيب كان ّ
نحو رأيس لكنّها تنهال عىل يدي ،وصوت أ ّمي ال ينقطع يف أذين:
تلمست يدي اليمنى التي تل ّقت رضبات
«فرخ احلرام ،وجه الفقر»ّ .
أيب وفركت أصابعي ،يدي ال تؤملني ،ولك ّن األمل كان حا ًّدا يف رأيس،
أن أيب مل يرصخ يف وجهي يو ًما ومل يعنّفني ،وحضوره أيضا ّ
والغريب ً
الشكل أرعبني ح ًّقا.
يف احللم بذاك ّ
مومسا بالفعل ،املرأة مل تكذب .البارحة ،بعد أن
ً نادية مل تكن
خرج ْت من غرفة االستحامم ارتدت ت ّباهنا األسود أمامي بحركات
َ
الصالون .لعليّ كنت يف رأسها
مرتاخية كأنيّ لست موجو ًدا معها يف ّ
حجرة أو خرقة ،كانت ترتدي مالبسها بحركات بطيئة وتستثريين
رسي« :هذه املرأة ال يمكن أن تكون عاد ّية، ّ
بمؤخرهتا ،فقلت يف ّ
ميزة عدم االكرتاث ال تتّصف هبا إلاّ امرأة تنتمي إىل عصابة ،عصابة
حرج أو قلق
خطرية بالتّأكيد» .كانت ترمقني بنظرة واثقة ،ال يعرتهيا ٌ
ثم
جلس ْت بجواري عىل الكنبة ورفعت ساقيها عال ًيا ّ
أي يشءَ ،
من ّ
تتلوى كأفعى ،استوت واقف ًة إثر ذلك
ارتدت رسوال اجلينز وهي ّ
نظرت إىل حركاهتا بصمت،ُ الرقبة.
قميصا صوف ًّيا واسع ّ
ً ولبست
ثم تناو َل ْت سيجار ًة من حمفظتها وقالت:
أيضا ظ ّلت صامتةّ ،
وهي ً
-أريد قهو ًة اآلن قبل أن نبدأ ّ
الشغل يا.....
50
-سعد.
عدت .أ ّما هي،
ُ ثم
وأعددت فنجانيَ قهوةّ ،
ُ لت إىل املطبخ تس ّل ُ
جلس ْت قبالتي وظ ّلت تتأ ّمل
ثم َهنض ْت من مكاهنا بال اكرتاثّ ، فقد َ
مالحمي يف صمت .عيناها زرقاوان ،ض ّيقتان ،أنفها صغري وشفتاها
ممتلئتان ،بيضاء البرشة وشعرها فاحم ،واملثري يف وجهها هو ذقنها،
الصمت .ويف الواقع ،أحببت أن بدا ملتم ًعا وناعماً .مل تطل بنا حالة ّ
تطول ألمتكّن من فهم هذه املرأة الغريبة األطوار ،ال هي من اإلنس
ثم أمسكتني من كتفي وال هي من اجلان .ندّ ت عنها ضحكة ماكرة ّ
ومهست:
-نحتاج إليك يف شغل يا سعد.
فوضعت فنجان القهوة جان ًبا وأشعلت ُ دوت كلامهتا يف أذين،
ّ
تفحصتالسكرّ . سيجارة ،حاولت أن أحافظ عىل متاسكي رغم حالة ّ
مالمح وجهها بد ّقة أكرب ،قلت يف نفيس« :مستحيل! هذه املرأة كانت
ثم بقيت تنتظرين أمام البار إىل أن خرجت وس ّلمتُها نفيس، تتع ّقبني ّ
أن األمر صدف ٌة محَ ْ ٌض ،فإذا به مالحقة الغباء هو الغباء ،كنت أظ ّن ّ
ومراقبة وشغل عصابات .وعىل هذا النّحو ّ
فإن هذه املرأة ال يمكن
أن تكون بمفردها ومن املحتمل أن يكون أفراد العصابة أمام باب
الش ّقة ينتظرون فقط إشارة منها ملدامهتي».
تابعت نادية:
يب، -األمر بمنتهى البساطة متع ّلق بكنز ،أرشدنا إليك شيخ مغر ّ
األمر
ُ قال لنا« :عليكم بسعد ،إنّه ص ّياد الكنوز» .وكم كان
51
احلق ،مل ً
مدهشا حني اكتشفنا أنّك جارنا ،هنا ،يف هذه الوكالةّ .
دت مالحقتك وال ّظهور أمامك تعم ُ
نكن نعرفك ..ولعلمك ّ
يف مالمح مومس ..كنت أستدرجك ،لقد أرهقتني يا رجل.
فكّرنا طويلاً يف ذلك ،هكذا هو شغلنا ،حيتاج منّا إىل مغامرات
حق ،لكن وتنازالت ..طب ًعا ،أعرف أنّك اشتهيتني ،ومعك ّ
لألسف ،أنا ال أصلح لالشتهاء .ومل يكن من املمكن أن أطرق
ساذجا
ً باب ش ّقتك وأعلمك بحكاية الكنز ،األمر سيكون
وسخي ًفا ،وقد تطردين.
-ط ّيب ،فهمت ،لكن من أنتم؟ .أنت ..ومن معك؟.
الشيخ مرزوق ّ
والشيخ إسامعيل. -فقط معي شيخان مغرب ّيانّ ،
أحتمل هؤالء ّ
الشيوخ ،وال أصدّ ق أنّك تؤمنني ّ -أنا ال
بشعوذهتم.
-يف احلقيقة ،مها صاحبا اخلريطة التي سرتشدنا إىل الكنز ..هذا
ربا عىل التّعامل معهام. ّ
كل يشء ،ولن تكون جم ً
-وأين يوجد الكنز؟
-هنا.
-هنا أين؟ هل أنت بلهاء؟
-أنا ال أمزح ،هنا فعلاً ،يف الوكالة.
-لكن ،كيف؟ األمر غريب.
الشيخ مرزوق غدً ا عىل ّ
كل التّفاصيل. -إن وافقت سيطلعك ّ
52
تذكّرت يف تلك ال ّلحظات ما كانت هاجر ترويه يل ،كانت
السفىل مصيبة ،هبا شيخان مغرب ّيان ،وترت ّدد عليهام تقول« :الش ّقة ّ
الصباح الباكر عادةً ،عيناها زرقاوان وأنفها صغري» ،هكذا امرأة يف ّ
أيضا كانت تصفها يل ،وهي بطبيعة احلال مالمح نادية .من يطاردين ً
يف هذه البالد ،جوهر ونادية والبق ّية ،من؟ من؟ وما أثار دهشتي أنيّ
الشيوخ املغاربة ،هؤالء األبالسة الذين يأكلون األخرض معروف عند ّ
مرة اتّصلت بالشيخ احلسني يف نزل قريب واليابس بأكاذيبهم .ذات ّ
من باب بحر ،كان أيب عىل معرفة قديمة به .اقرتحت عليه أن يساعدنا
فك طالسم إحدى الدّ فائن يف سبيطلة .فاجأين برشوط جمحفة، يف ّ
عيل رشوطه وهي أن أجلب له حفنة ثم أمىل ّ الزمن ّ ّ
ظل يفكّر وقتًا من ّ
من تراب األرض املعن ّية ،وال بدّ أن تكون تلك احلفنة من أقرب
ثم طلب منّي إحضار فتاة ال يتجاوز عمرها مخس مكان من الدّ فينةّ ،
سنوات ،تكون عيناها زرقاوين ،باإلضافة إىل مخسة عرش ألف دينار
يتكون من لوبان ذكر وفيجل وفاسوخ ثمن البخور الذي ينبغي أن ّ
أسود وجاوي وغريها من املواد التي ال أستحرضها .طب ًعا ،رصفت
درسا مهماّ حتّى ال أكون
الشيخ احلسني وكان ذلك ً النّظر عن هذيان ّ
الصفراء.
السحر واحلروز ّ أبله لشيوخ ّ
ازداد هيجاين يف تلك ال ّلحظة وأنا أطرح األسئلة ،ص ّياد الكنوز؟
هذه الكنية التصقت يب يف القرصين ،يف وادي الدّ رب حتديدً ا ،كيف؟
كيف عرفوا هذه الكنية هنا ،يف تونس العاصمة؟ طرحت أكثر األسئلة
حول هذه اجلن ّية التي ال تكرتث بيشء ،كيف يكون شعورها وهي
بالتعري أمامي بال اكرتاث؟
ّ الشقة؟ وكيف تسمح لنفسها معي يف ّ
53
فاضحا ،ولو حدث األمر مع رجل ً حتر ًشا
سمى يف القانون ّفهذا ُي ّ
أيضا مل أكرتث ،لست حيوانًا ألضاجع امرأة بال غريي الغتصبها .أنا ً
كنت
إحساس ،صحيح أنّني دعوهتا إىل بيتي بمحض إراديت ،لكنّني ُ
ٍ
تتم العمل ّية بإحساس وتناغم
ثم ّ أحتاج إىل اشتعال حيدث بيننا بغت ًة ّ
ألي
أحب« .ال أصلح لالشتهاء» ،قالتّ ، ّ وتبادل للخربات ،هكذا
يشء تصلح هذه املصيبة إذن؟
أمسكتني من يدي وسألتني:
-إيه ،أنت ،يا سعد ،هل فكّرت يف األمر؟ هل أنت موافق؟
ليقيني أنّه ينبغي أن أحسم األمر سألتها:
-هل أنتم عىل يقني من وجود الكنز؟
جتاهلت سؤايل ّ
كأن األمر ال يعنيها.
-أوافق ،برشط أن أحصل عىل ربع الدّ فينة.
الشيخ إسامعيل ،ال أكثر وال ّ
أقل. -ألف دينار ،ذاك ما اقرتحه ّ
الربع.
ّ -
-ثالثة آالف دينار.
الربع.
ّ -
-أربعة آالف دينار تونيس.
-قويل لشيخيك ال ّثلث ،وهذا آخر كالمي .غدً ا أعاين الش ّقة
ونرتّب العمل ّية.
54
أن نادية هي فرد من رشكة ومه ّية ،أفرا ُدها -أغلب ما فهمته ّ
غامرة ،وشيخ روحاين ،ومراقب ِ
ملتقط لألخبار الظن -فتا ٌة مجيل ٌة م ِ
ٌ ّ ُ ّ
تم عىل أساس معلومات السفىل ّ أن كراءهم ّ
للشقة ّ عن بعد .واألكيد ّ
موجهة إىلباملرة يف امتالكهم خريط ًة ّ
أشك ّدقيقة بوجود كنز ،وال ّ
مكانه بكامل الد ّقة .مل أشأ أن أسأهلا بطبيعة احلال ،أعرف أنهّ ا لن
الصفر ،ساعة احلفر رسا إىل أن حتني الساعة ّ جتيبني ،األمر يبقى ًّ
أعني ،وأعتقد أنهّ ا كانت جمربة عىل املوافقة عندما حسمت األمر.
ثلث الكنز ليس باألمر اهلينّ ،مل يكن أمامها خيار آخر ،فقد خرج
أن نادية هيالسرّ اآلن ،وملن؟ لص ّياد الكنوز .األمر اآلخر ،هو ّ
مهمتهام.
الشيخان فأعرف ّ صاحبة القرار ،أنا متأكّد ،أ ّما ّ
ألتلصص عىل نادية وهي نائمة ،مهس ّ توجهت نحو غرفة النّوم
ّ
مؤخرهتا فأبحلق فيها من جديد»، رأيس« :قد يسقط الغطاء عن ّ
السبب يف
السكر ليست هي ّ أن حالة ّ وكان ال بدّ أن أكون عىل يقني ّ
ما أصابني من لوثة االفتتان بتلك ّ
املؤخرة .لو تشاهد أ ّمي ما حيصل
احلي« :هالفرخ احلرام كرب ولاّ يل نمس يف ش ّقتي ستولول يف كامل ّ
وعليه الكالم» .فتحت الباب برفق خمافة أن تنهض نادية فترصخ يف
وجهي« :يا حيوان» .تف ّطنت إىل ّ
أن السرّ ير شاغر ومرتّب بعناية،
شك أنهّ ا التحقت ّ
بالشيخني لتعلمهام غادرت غريبة ال ّطباع إذن .ال ّ
بموافقتي .اقرتبت من السرّ ير فعثرت عىل ورقة صغرية بحجم علبة
دخان ،مل تكن مطو ّية ،التقطتها وقرأت :نحن يف انتظارك يا سعد
السفىلُ ،يمكنك أن تأيت ُظ ْه ًرا.
بالش ّقة ّ
ست عمي ًقا
الشقة ،تن ّف ُ
استمعت إىل نقرات خفيفة عىل باب ّ
ُ
55
وجريت نحو الباب ،قلت يف نفيس« :لقد عادت ،وهذا مدهش ،ولن
أحب املباغتة» ..خشيتاملرة ..باغتتني وأنا ّ تضيع منّي ّ
مؤخرهتا هذه ّ
السطل يفيف تلك ال ّلحظة أن تتف ّطن هاجر فينقطع احلبل ويسقط ّ
البئر .بحركة رسيعة ومهتاجة فتحت الباب ،انتصب أمامي جوهر
بمعطفه األسود ،ارجتفت ركبتاي وخفق قلبيّ .أول يشء خطر ببايل
باملرة ،إ ّما أنيّ فقدت عقيل
كابوسا يطاردين ،األمر ليس طبيع ّيا ّ
ً ّ
أن
رسبوا يف النّبيذ الذي رشبته ما ّد ًة متلفة لألعصاب .رمقني
أو أنهّ م ّ
الصالون ،مل يتك ّلم ومل يسترشين يفجوهر بطرف عينه وعرب إىل ّ
قط أن دخل ش ّقتي أو حتدّ ثنا عىل ّ
األقل ،وأنا ال الدّ خول ،مل يسبق له ُّ
أكاد أعرف صوته.
أخرج جوهر من ثنايا معطفه مغ ّل ًفا ،هو املغ ّلف نفسه الذي ضاع
وسع عينيه وقال: منّي البارحة ،ث ّبت س ّبابة يده اليمني عىل املغ ّلف ّ
ثم ّ
-أظ ّن أنّك بالغت يف الشرّ ب البارحة إىل حدٍّ ج َعلك تُضيع
مغ ّل ًفا مهماًّ ..املسألة متع ّلقة هبيلني ،أال تدرك ذلك؟
قلت حماوالً استيعاب ما حيدث:
ُ
كنت تتع ّقب خطوايت إذن ،من سمح لك بذلك؟
َ -
يف تلك ال ّلحظة كان جوهر يتأ ّمل لوحة تشكيل ّية مقابلة له متا ًما
يف أعىل اجلدار ،مشهد خيول يف حالة اندفاع وغضب ،كان يتأ ّمل
متعمدا إمهال أسئلتي .مت ّلكتني حرية حيال ما يقع يل منذ ّ باطمئنان
رسي. أغي نربة صويت ،قلت يف ّ عيل أن رّالبارحة بشكل ال ينبئ بخريّ .
حاولت قدر اإلمكان أن أكون هادئًا ،هكذا أستطيع أن أفهم هذا
الرجل ال ّلغز ،قلت وأنا أنفث الدّ خان بعيدً ا عن وجهه:
ّ
56
-يف احلقيقة أنا يف غاية األسف ..ال أدري كيف سقط منّي
املغ ّلف..
مقهقها:
ً قاطعني
التكيز ،بال ّ
شك. الزرقاوين أفقدتك رّ
-املرأة ذات العينني ّ
ثم تابع:
نحنح ّ
-اطمئ ّن ،مل أخرب هيلني بأمر هذه املرأة ،فأنا أعرف أنهّ ا ستغضب
جدًّ ا لو سم َع ْت هبا.
ّلوحت بيدي يف جّاتاهه:
-أمر املرأة ال يعنيك ..قل يل ،اآلن ،أين عثرت عىل املغ ّلف؟
-الواقع ،كنت أراقبك منذ س ّلمتك املغ ّلف ،كنت أعرف أنّك
ستسكر لذلك تع ّقبت خطواتك .عندما سقط منك بالقرب
من نصب ابن خلدون انتظرت حتّى ختتفي أنت واملرأة
وسارعت بالتقاطه .ساعتها هاتفت هيلني ،طب ًعا ،مل أخربها
كل يشء ..آهبكل هذه التّفاصيل ،سألتها عن عنوانك ،هذا ّ
ّ
أيضا ال تفتح
نسيت ،ملاذا أغلقت هاتفك منذ يومني؟ ..أنت ً
كثريا .أرسلت
اإللكرتوين ،وهيلني منزعجة من ذلك ً
ّ بريدك
إليك رسالة البارحة ،طب ًعا ،أفهم يا سعد ،أنت مل جتد الوقت
إلجابتها ،وعليك أن تفعل ذلك اليوم.
كل التّفاصيل ويعرف رقم ابن الكلب ،قلت يف نفيس ،يعرف ّ
أيضا .هيلني حدّ ثتني عن أهلها وأصدقائها ،حدّ ثتني هاتف هيلني ً
مراتعنهم بإطناب ومل حتدّ ثني َق ُّط عن جوهر .بل أذكر أنيّ سألتها ّ
57
مرة هتمل أسئلتي ،تتجاهل ذلك عمدً ا، كل ّعديدة وكانت يف ّ
مهم
أن جوهر هو شخص ّ للشك يف ّ
ّ كنت أعرف ،واآلن ال جمال
يف حياة هيلني ،وال أستطيع أن أقدّ ر هذه األمه ّية .مل يعد يشغلني
ضج دماغي ،وصارت تشغلني هذه قلقي بسبب سفر هيلني .اآلنّ ،
العالقة املسرتابة بينها وبني ابن الكلب هذا .لن أسأله بفضول ،أكيد
بالشكل الذي يرحيني .د ّققت يفويتهرب من إجابتي ّ ّ أنّه سيكذب
الشيب يغزو كامل شعره ،عيناه سوداوان ووجهه نحيف ،له مالحمهّ ،
متفحصة وعميقةّ ندبة صغرية يف أسفل ذقنه ،نظراته ،كام أحسست
بمعنى أنهّ ا ُمو َلعة بالتّفاصيل ،وعمو ًما ،وجهه ال ييش ّ
بالريبة.
ال أدري ملاذا ث ّبت جوهر عينيه يف ال ّلوحة املقابلة له .أعتقد
الزنازينأنّه كان نصف نائم وهو جيول ببرصه بني اخليول التي هتدّ ّ
باتاه البحر .يداه ترتعشان ،ودموعه تسيح عىل خدّ يه وهو وتركض جّ
بكل تأكيد ،وهذا ما أفهمه ،رأسه ينوء بوجع ينشج بشكل صامتّ .
أو هي ذكرى مؤملة .فباإلضافة إىل مجال ّية األلوان كانت ال ّلوحة ،يف
الواقع ،حافلة بأبعاد إنسان ّية مؤ ّثرة ،تلك املشاعر اجل ّياشة التي يمكن
ويتلهف إىل احلر ّية.
ّ أن يمتلكها اإلنسان وهو يتخ ّلص من ّ
الزنازين
إنهّ ا حلظة دقيقة وفارقة ،حلظة مربكة قد تعيد اإلنسان جمدّ ًدا إىل سجنه
حترره هنائ ًّيا من القبو املظلم إذا اقتنص
بسبب هتاونه أو تراخيه وقد ّ
عمق ال ّلحظة ،ووحدها تلك ال ّلحظة العجيبة جتعله يدرك احلر ّية.
عيناه غاصتا متا ًما يف ال ّلوحة ،مت ّلكتني حرية أخرى وأنا أتأ ّمله ،هذا
الرجل لغز ،لغز غريب وغامض .ال يمكن إطال ًقا أن يكون جوهر ّ
اليهودي .فرض ّية كل صباح أمام الكنيس ٍ
ماسح أحذية كام يصادفني ّ
ّ َ
58
أيضا بعد أن تأ ّملت وجهه .األرجح بوليسا رس ًّيا استبعدهتا ً
ً أن يكون
واملهمة
ّ خاصة وهي محاية اجلالية اليهود ّية،بمهمة ّ ّ أن يكون مك ّل ًفا
الرهبان
أمني ،يكفي أن حيظى بثقة أحد ّ اخلاصة ال يشغلها بالرضورة ّ ّ
مهمة دقيقة كان عليه أن يتنكّر يف هيئة اليهود ليضطلع هبا .وألنهّ ا ّ
سيشك يف أمره .ويف مقابل ذلك ،اختار ّ ماسح أحذية ،وال أحد
الزاوية املناسبة التي متكّنه من مراقبة مجيع زوايا الكنيس باإلضافة إىل ّ
أي حدث .ومن املتفحصة ال يمكن أن هتمل ّ ّ كل العابرين ،نظراته ّ
اخلشبي
ّ الصندوق املؤكّد أنّه كان خيفي مسدّ ًسا يف متناول يده ،داخل ّ
الصغري ،عىل سبيل االحتياط. ّ
ثم هنض بحيو ّية وهو يمسح عينيه متلمل جوهر بجانبيّ ،
قوة بمنديل أبيض ،وعندما اقرتب من الباب التحقت به ،دفعتني ّ
ّ
أستغل غامضة الستبقائه لبعض الوقت ،قلت يف نفيس :ال بدّ أن
كل هشاشته وأعرف جان ًبا من أرسارهُ .أدرك أنيّ لن أميط ال ّلثام عن ّ
هيم هيلني أكثر يشء ،ما يعنيني هو هيلني ،وأمر الكنيس شأن آخر ّ
منّي .استجاب لدعويت ،وأحدث ذلك هدو ًءا يف باطني ،فقد كان
مهماًّ أن أكسب ثقته .أرسعت إىل املطبخ وأعددت قهوتني .جوهر ال
يدخن ،حاولت قدر اإلمكان أن أنفث الدّ خان بعيدً ا عنه ،وصلتني ّ
يف األثناء أصوات األغاين الصباح ّية املزعجة ،تتصاعد من النّوافذ
يف التّوقيت نفسه ،بشكل مقرف تتعايل وتعلن بداية صيد ال ّلذة يف
أيضا صوت هاجر ،كانت تتحدّ ث عن صالح وعن الوكالة .وصلني ً
الصباحي مبحوح ،يف املساء
ّ الروائح التي تفوح يف املكان .صوهتا
أمر ّ
يستعيد طراوته ور ّقته كام تستعيد هي بالكامل فوراهنا وارجتافها.
59
بعد صمت وتفكري سألت جوهر:
لغز،
-قل يل بر ّبك من أنت؟ ال أخفي عنك ،أنت يف نظري ٌ
لغز كبري يا سيد جوهر .وأنا ال أحتمل أن أتعامل مع رجل
ٌ
غريب..
صدرت عن جوهر تنهيدة متق ّطعة ،خرجت متعبة من جسده
سمر عينيه يف ال ّلوحة من جديد ،انشغلت
امحر وجهه وهو ُي ّ
النّحيلّ ،
أنا ّ
بالذبابة التي وقعت يف فنجان القهوة ونكّلت برتكيزي ،يف ما
ّ
وأترشف القهوة.. مىض كنت أزحيها
هتف جوهر بإجهاد:
-يف عظامي هلع ال خيمد يا سعد ،وال ّلوحة ،كام ترى أهاجت
الرب ..لكن، ذكريات قديمة ،حزينة ومؤملة ،ال يعلم هبا إلاّ ّ
ثق يا سعد ،ثق متا ًما أنيّ أسعى من أجل اخلري واملح ّبة ،وال
أحرص إلاّ عىل ذلك .مسألة أخرى ،ال بدّ أن تعرفها ،مسألة
متع ّلقة هبيلني ،هل تثق يب يا سعد؟ هيلني هي النّور ،لو تفهم
أي
ذلك ..وذاك النّور أبرص به ،هيلني هي املالك الذي حيلم ّ
رجل أن يمتلكه.
ثم جرى متدافع األنفاس
قال جوهر تلك الكلامت بنربة حزينة ّ
وغادر الش ّقة.
60
مرةيسمونه ،مل حيدث أن فتح ولو ّمستودع الوكالة املجهول ،هكذا ّ
واحدة ،ملاذا هو مغلق دو ًما؟ هل هو خمزن عيل بابا؟ يسأل صالح
عشيقته نعيمة وهي تغريه بكراء املستودع ليكون بجانبها وتطمئ ّن.
اليومي
ّ حتب أن يرتاح باهلا ،ويرتاح عشيقها بذلك من التن ّقل
نعيمة ّ
بني امللاّ سني وص ّباط الدّ زيري .صالح يف العادة يرفع األوساخ
السفىل ،وأعتقد أنّه اختفى منذاملمر املوصل إىل الش ّقة ّ
املرتاكمة يف ّ
خصامه ال ّلعني مع عشيقته .نعيمة امرأة رصحية وسليطة ال ّلسان،
حتب صالح وال ترىض أن جيري املاء حتت قدميها ،تريده هلا دون ّ
سواها ،أ ّما أن تزوغ عيناه نحو جاراهتا فهذا ما تكفر به« ،األعمى
مشاتو» ،رصخت نعيمة يف وجه يلوح العصا إليّ ّ
كي يرجع يشوفّ ،
صالح وهي تطرده من الوكالة بعد أن ضبطته خيوهنا يف إحدى
ّ
الشقق.
خنقتني الروائح العطنة وأنا أخت ّطى أكياس القاممة ِ
ألصل إىل
باب الش ّقة .كنت كأنيّ أنزل إىل رسداب ،تفاديت القطط املتن ّطعة،
الرطوبة الصمتّ . وخشيت أن أدوس عىل رأس واحدة فيتعكّر ّ
أن هاجر احلظ ّ
الروائح .ومن حسن ّ كل ّمتوهج ،يلتقط ّ
خانقة وأنفي ّ
املمر ،أنا من حيمل أكياس قاممتها ،تق ّبلني بشكل
ال تصل إىل هذا ّ
مرح وتس ّلمني أكياسها مثلام تس ّلمني صدرها متا ًما .لعنت نادية
ورطتني البائسة ،كان يمكن أن يأيت وبصقت عىل وجهها يف خيايلّ ،
وجدت باب ُ الشيخان إىل ش ّقتي ،كنّا سنتحدّ ث ونتفاوض ونتّفق.
ّ
تعمدوا ذلك حتى ال أطرق الباب أشك يف كوهنم ّ الشقة موار ًبا ،مل ّ
ّ
الشديد،بشكل مثري لالنتباه ،مع جرابيع هذه الوكالة ال بدّ من احلذر ّ
61
كل النّوافذ وكاالت أنباء واستخبارات .دفعت الباب قليلاً ومددت ّ
رأيس مستطل ًعا ،وصلتني جلبة منبعثة من الدّ اخل ،دفعت الباب
حتسست خدّ ي األيمن وقد دامهته احلرشات ومتكّنت من رؤيتهمّ .
رفعت رأيس ،كانت نادية ّأو َل من رأيت ،مل أصدّ ق ما شاهدَ ْت ُه
ُ ثم ّ
عيناي ،غمرين عرق بارد ،كانت شبه عارية ،بت ّباهنا األسود نفسه
الشمع املشتعل، محالة هندهيا احلمراء ،ترقص بجنون وسط دائرة من ّ و ّ
غيت تصفيفة شعرها أيضا حول حفرة صغرية وسط الدّ ائرة .رّتطوف ً
ال ّطويل الفاحم ،البارحة عقصته وهي خترج من غرفة االستحامم يف
متناثرا عىل كتفيها وكامل ظهرها، ً شكل كعكة .وهي ترقص جعلته
ظ ّللت عينيها بلون أزرق ،ووضعت عىل شفتيها مسحة بارزة من
بريق
الشفاه .كانت ترقص مثل غجر ّية ،ويف عينيها يلمع ٌ أمحر ّ
أيضا ،تو ّقفت عند ال ّلحمتني الطر ّيتني.شهواين حا ّد .رأيت إبطيها ً
ٌّ
إبطان بيضاوان بال شعر .وبعد تشنّج ،انتهى جسدُ ها إىل حالة من
ثم سكن َْت قليالً ،لكنّها مل تتو ّقف عن الرعدة ّ
االسرتخاء ،أخذهتا ّ
الرقص .رئتاي حترتقان وأنا أمدّ عنقي وأتابع هيسترييا العميان ،ال ّ
أحد منهم يرى ويسمع يف تلك احلالة من اخلدر .ث ّب ُّت برصي عىل
الشيخ النّحيف ،وجهه مر ّبع وأنفه خشن .يطوف خلف نادية مثل ّ
درويش ،يضع يديه عىل رأسه ويطوف ،يبكي ويضحك وينحني
ويقرفص ويزفر ويشهق ويقهقه ويقف ويرفع برصه إىل األعىل.
ال تزال رائحة النّبيذ عالقة بأنفايس ،اختلطت يف تلك ال ّلحظات
والرطوبة املنبعثة من الدّ اخل ،رائحة ثخينة بروائح العرق والبخور ّ
ومقرفة ،هم ال يفتحون نافذتيَ الش ّقة مطل ًقا ،إنهّ م يف حالة عداء مع
62
الشيخ ال ّثاين ،طويل القامة ووجهه نحيفّ ،
يشع الشمس واهلواءّ . ّ
خشبي كبري .بني ٌّ مفتاح
ٌ محاسا ،حليته منساب ٌة ،وعىل صدره يتدلىّ ً
فينة وأخرى يرفع حاجبيه ويص ّفر بأسنانه .تناول رشيط كاسيت
ودسه يف آلة تسجيل فانبعثت عاصفة من التّعاويذ .خنقتني ّ
أشعلت
ُ ثم
بصقت ّ ُ الروائح وأحسست بحرشة تتس ّلل إىل جويف، ّ
وتابعت باندهاش ،كنت مكشو ًفا أمامهم ،تركت الباب ُ سيجار ًة
موار ًبا خلفي وتقدّ مت نحوهم ،ال أحد انتبه إ ّيل ،كأنهّ م يف حالة
الشيخ ال ّطويل نحوها غيبوبة .عندما هتاوت نادية عىل احلفرة جرى ّ
الصالة ّ وأدخل مقدّ مة املفتاح يف قبضة يدها اليمنى وطفق يصليّ
تتكرر يف مغامرات ّ اإلبراهيم ّية .أعرف ذلك ،التعاويذ نفسها
حممد ،كام ص ّليت حممد وعىل آل ّ صل عىل ّهم ّ احلفر والنّبش« :ال ّل ّ
هم بارك عىل عىل إبراهيم وعىل آل إبراهيم ،إنّك محيد جميد ،ال ّل ّ
حممد ،كام باركت عىل إبراهيم وعىل آل إبراهيم حممد وعىل آل ّ ّ
الكريس .مل ّ ثم تال آيةمرات ّ كرر ذلك سبع ّ إنّك محيد جميد»ّ ،
كيز اللاّ زم ،شملني اخلدَ ر مثلهم ،كأنيّ الت َ
أمتلك يف ذلك الوقت رّ
أتم الشيخ تعويذته حتّى هنضت نادية أمحل غابة يف رأيس .وما إن ّ
ومرره بخ ّفة عىل هندهيا وأسفل بطنها فسارع اآلخر بمنديل أبيض ّ
رش قارورة ماء يف احلفرة وأخذ حفنة صغرية من ثم ّ
وفخذهيا ّ
التاب وهتف« :بأمر من اهلل ّأولاً ومن شيخكم إن كانت يف هذا رّ
القدم أقلب ك ّفي ناحية اليمني وأفرغ ما فيها». املوقع دفينة من آثار ِ
63
تابع ال ّثاين :بقيت أ ّيا ٌم حتّى يرحل اجل ّن ..مل َ
يبق الكثري
السميع العليم.
وسنستخرج الكنز بإذن ّ
ثم نحنح، يف تلك ال ّلحظات انتبه إ ّيل اجلميع ،مههم النّحيف ّ
مؤخرهتا تلمع وترتاقص .يف احلقيقة ،مل نادية بقيت غري مباليةّ ،
السحر الدّ اعر الذي خ ّبلالشيخني وأنا أتأ ّمل ذاك ّ أخجل من ّ
الصالة اإلبراهيم ّية حتّى أنال
ّ رسي« :سأصليّ أنفايس ،وقلت يف ّ
الشهد ،وبعدها فليكن ما يكون» .أحسست بالغبن ،ألنيّ من ذاك ّ
ّفرطت يف فرصتي ،رفعت رأيس بعد ذلك إىل اجلدار الذي يقابلني.
اندهشت وأنا أتأ ّمل ريش الطيور ومجاجم اخلفافيش مع ّلقة بفوىض
قط أسود وهياكل سمك وإمهال .التقطت عيناي يف األعىل هيكل ّ
كل لوازم أن اجلامعة ال يمزحون يف شغلهمّ ، بأشكال خمتلفة .أدركت ّ
األهم الذي لفت انتباهي وأنا أد ّقق يف
ّ التعاويذ موجودة .الشيّ ء
عيني نادية وجود نقطة سوداء يف بياض عينها اليرسى ،والشيوخ
السوداء يعولون عىل أصحاب تلك النّقطة ّ الروحان ّيون ،يف الغالب ّّ
يتم التخ ّلص من ألنهّ ا بمثابة خريطة استكشاف للكنوز .وعادة ما ّ
هؤالء بعد استخراج الكنوز ،تقع تصفيتهم بسيناريوهات خمتلفة،
ثم
إ ّما برميهم يف بئر مهجورة ،أو خنقهم بقطعة قامش أو ختديرهم ّ
التاب أحياء. ردمهم حتت رّ
يف هناية األمر ،قلت يف نفيس ،سأميض يف هذه املغامرة ،أعرف ّ
أن
والرعب ،خربت هذه العوامل وعرفت
بالريبة ّطريقي آهل يف الغالب ّ
طينة هؤالء الشيوخ .هم يف الغالب جبناء وخمادعون ،واألفضل
ثم إنيّ سألغي مسألة ّ
مؤخرة نادية من ألاّ أكشف هلم وجهي متا ًماّ ،
64
الشهوان ّية يف ّ
الشغل. أحب الشطحات ّ
حسابايت ،أنا ال ّ
قال ّ
الشيخ إسامعيل« :كام عرفت اسمه من نادية».
-لقد مضت ثالثة أسابيع يا أخانا سعد ،نحن ال نقصرّ يف
تعاويذنا لنعثر عىل الكنز ..ووجود الكنز ثابت يا أخانا
استداللاً هبذه اخلريطة.
الزمن،
اقرتب منّي وفتح خريطة كربى ،اهرتأت وتآكلت بمرور ّ
ثم تابع: ٍ ِ
أشار بيده إىل نقطة ُرسم فيها وجه حصان ّ
-يف احلقيقة ،ك ّلفتني هذه اخلريطة مبل ًغا ً
كبريا ،اقتنيتها من تاجر
هيودي يف أغادير ،ونحن كام ترى نامرس تعاويذنا بعناية
ّ بذه ٍ
َ
حتّى حيني األجل .وبعد أ ّيام قليلة ،سيخيل اجل ّن سبيل الكنز.
قالت نادية:
-طب ًعا ،ال نذكّرك يا سعد بقوانني شغلك .الوضع ،كام ترى ،يف
غاية التّعقيد هنا يف الوكالة ..وال بدّ من احليطة واحلذر.
الطري؟
ّ رسهتا ،كيف مل أنتبه إىل ذاك اخلبل
تسمرت عيناي يف ّّ
جمرد ملسها واستثارهتا هو رسهتا ناعسة وناعمة مثل فم ٍ
حبيشّ ،
ّ قنفذ ّ
وزع علينا ثالثة حروزثم ّ الشيخ مرزوق ّ احلقيقي .مححم ّ
ّ العذاب
الرابع داخل عباءته وهو يتمتم ببعض الكلامت املبهمة .هنض ودس ّّ
رن هاتفالشيخ إسامعيلّ . واته نحو إحدى الغرف وتبعه ّإثر ذلك جّ
الزر« :آلو ،آلو ،نعم
نادية ،التقطته بحركة رسيعة وضغطت عىل ّ
الزمن وأكون يف املكتب ..حارض سيدي ،نعم سيدي ..ساعة من ّ
سيدي».
65
خرجت من الش ّقة حتّى وصلتني اجللبة املسائ ّية يف الوكالة، ُ ما إن
ّأول يشء فعلته هو أنيّ رميت احلرز وسط األكياس املرتاكمة ،قلت
يف قرارة نفيس« :هذا احلرز سيكدّ رين وأنا بطبعي أكره احلروز منذ
ثم أجري صارخا كنت صغريا» .أذكر أنيّ كنت أهنض فز ًعا يف ال ّليل ّ
يف حوش دارنا« :ربيّ جاين ،ربيّ جاين» ..كنت أخاف اهلل فعلاً ،أ ّمي
السامء يف ثوب أبيض« ،سيع ّلق ٍ
تصوره يل مثل يشء عظي ٍم ينزل من ّ ّ
السامء ،سيشنقك من هناك إن مل تسمع كالمي»، الصغرية يف ّ دودتك ّ
وأحس باخلوف ّ السامء،
أن اهلل يف ّ هتدّ دين أ ّمي ،وكنت أعتقد فعلاً ّ
الشمس السامء عن اهلل ،أفتّش عنه يف ّ الشديد بعد كلامهتا ،أفتّش يف ّ
والسحب ،وعندما أنام ،ال أدري ماذا حيدث يل ،أرى ما والقمر ّ
يشبه الشيّ ء العظيم ،يدامهني بلباسه األبيض ،يفتح ذراعني كبريين
بيدي
ّ الصغريةويقرتب منّي ،أنكمش أنا يف األثناء وأمسك دوديت ّ
استمر
ّ ثم أرصخ وأبكي فيختفي ذاك الشيّ ء العظيم. املرتعشتني ّ
حرزا حتت املخدّ ة، األمر أ ّيا ًما وتعكّرت حالتي ،فوضعت يل أ ّمي ً ُ
احلي .احلقيقة ،بعد جلب احلرز مل عزام ّ الشيخ املربوكي ّ جلبته من ّ
تبولتومذعورا ولكنّي عندما اكتشفته حتت املخدّ ة ّ ً أعد أهنض فز ًعا
عليه وقذفته من ش ّباك الغرفة.
يف العادة أجتنّب ال ّظهور بالوكالة يف هذا التّوقيت ّ
ألن أغلب
الشقق ،باإلضافة إىل ذلك حتدث حالة فوىض النّساء ينترشن خارج ّ
ٍ
أغان ركيكة، وشغب كأنّنا يف سوق شعبي ،رصاخ ،ثرثرة ،ذباب،
ورا ،ضحكات ،غمزات ،شتائم حتت هتشم ب ّل ً
رصاخ أطفال ،كرة ّ
احلزام ،صفري ،رنني هواتف ،هلاث خلف األبواب ،زفرات ،حبال
66
نرش الغسيل ،أكياس سوداء مهملة ،دخان يتعايل ،ثرثرة ال تنتهي.
صاحت نعيمة وهي تلمحني أصعد الدّ رج:
-ال بدّ من ّ
حل هلذه املزابل ،وصالح التّعيس هرب ومل يعد.
ضحكت هاجر ووضعت يدها عىل فمها .هتفت نسيمة وهي
تنفث الدّ خان يف وجه نعيمة:
-أنت طردته يا مهبولة ،ال فرحت أنت وال تركتنا نفرح.
جراء تلك العطانة تس ّللت بني أفخاذه ّن ،رأيس كان يرتنّح من ّ
يتحملون ذاك اجلحيم؟ تساءلت مندهشا ،ونادية، ّ يف األسفل ،كيف
كيف تقدر عىل ذلك؟ انتبهت إىل هاجر وهي تغمزين بعينها اليرسى،
الرس ّية التي ختربين بأنهّ ا ستأتيني ال ّليلة بكامل زينتها
تلك إشارهتا ّ
ثم تتس ّلل إىل ش ّقتي .ش ّقتها تقابل ش ّقتي
باكرا ّ
وشبقها ،ستنيم ابنتها ً
متا ًما .يف احلقيقة هاجر كنز ،ال يمكن أن أنكر هذا ،مات زوجها منذ
سنتني يف حادث س ّيارة بنهج روما .ترك هلا بلقيس ،عمرها ثالث
وخدُ و ٌم ،أعترب وجودها رضور ًّيا يف حيايت،سنوات ،هي امرأ ٌة متّقد ٌة َ
ليس كأنثى فحسب وإنّام كامرأة ترعى شؤوين .وأنا ،طب ًعا ال أبخل
شك أنثى مذهلة يف الفراش ،مشكلتها أنهّ ا عليها بيشء .هي بال أدين ّ
ثرثارة بشكل مزعج ،ك َْم قلت هلا يا عزيزيت ،ال ّثرثرة تق ّلل من ّ
رس
احلق أنهّ ا تقلع عن ال ّثرثرة يو ًما أو
و«كموهنا» وجتعلها تافهةّ . ّ املرأة
حتب هيلني ،وهي عىل ثم تعود إىل ال ّطبع نفسه .هاجر ً
أيضا ّ يومني ّ
الزواج ،أنت عيل مسألة ّ احلب بيني وبينها ،لذلك مل تطرح ّ بقصة ّ علم ّ
هليلني ،تقول يل وهي حتضنني يف الفراش برشاسة.
67
ما إن دخلت إىل الش ّقة حتّى رحت أبحث كاملجنون عن قارورة
نبيذ أمحر .فتحتها ووضعت أمامي قطع جبن وهريسة وح ّبات
«بصحتك
ّ زيتون .نظرت إىل املغ ّلف بجانبي ،رفعت الكأس وقلت:
ثم فتحت احلاسوب ،فكّرت يف رضورة متابعة بريدي يا هيلني»ّ .
ست رسائلاإللكرتوين ،وبعد ذلك سيأيت دور املغ ّلف .عثرت عىل ّ
ّ
جديدة ،رسالتني من هيلني ،رسالة من الرا وثالث رسائل إعالنات،
ويف العادة ال أفتحها.
فتحت ّأوالً رسالة الرا وقرأت:
«مساء اخلري أو صباح اخلري يا سعد العزيز ،يف احلقيقة أنا أفتقدك
كثريا ،كأنيّ مل أرك منذ ولدت .أتصدّ ق؟ ال هذه األ ّيام ،أفتقدك ً
تضحك منّي أرجوك ،وال تقل إنيّ طفلة مشاغبة ..أنت تعرف أنيّ
السنة سأحتفل بعد ّ
أقل من أسبوعني تقري ًبا بعيد ميالدي ،وأريد هذه ّ
أحب هد ّيةّ أن أراك ،مل أطلب ذلك من قبل ،طيلة سبع عرشة سنة.
رس هذا الربود أيضا .بامذا ستفاجئني؟ ..قل يل قبل ذلك ،ما ّ منك ً
بينكام ،أنت وهيلني؟ منذ سنتني وأنا أحلظ هذا الشرّ خ ..اكتب يل يا
حتب أن تصارحني بيشء ،وهترب عزيزي ،أريد أن أفهم ،هيلني ال ّ
ثمة خرب آخر من اإلجابة ،فعلاً أنا يف غاية القلق ..قبل أن أنسى ّ
سأخربك به ،ليس اآلن طب ًعا ،بعد أن تس ّلمني اهلد ّية سأخربك.
قباليت».
الرسالة بكثري من االهتامم ،واالنفعال أيضا ،الرا ليست قرأت ّ
جمرد ابنة هليلني ،هي مثل ابنة يل ،وفعلاً أحتاج إليها دو ًما لتشاغبني،
ّ
كثريا ما تقول يل« :فم الرا مثل فمك أحب شغبها .هيلني ً ّ وأنا
68
متا ًما» .وحني تتو ّقف الرا عن الكتابة ّ
أحس بحالة اختناق وأعود
إىل رسائلها القديمة.
دون تفكري كتبت لالرا:
«عزيزيت اجلميلة ،أنا أفتقدك أ ّيتها الق ّطة ،ملاذا انقطعت
الرجل البائس
رسائلك؟ ..هل انشغلت بالدّ راسة وأمهلت هذا ّ
الذي حي ّبك؟..
مرة
أنا يف احلقيقة متعكّر بسبب تدهور عالقتنا ،أنا وهيلني .آخر ّ
السبب ،هل أنا خمطئ؟ أنت تعرفني كام ختاصمنا ،ولع ّلك تعرفني ّ
أتزوج مطل ًقا إلاّ هبيلني.
تعرف هيلني وشريا أنيّ ،وهذا قدري ،لن ّ
أحب بؤس اخلذالن .األمر حمسوم عندي ،لك ّن هيلني ترفض، أنا ال ّ
زوجا ..أرشفت اآلن
مهام تكن األسباب ،ال يمكنها أن ترفضني ً
هيم ،هنا يف تونس أو هناك
عىل األربعني وأحتاج إىل هيلني معي .ال ّ
يف مارسيليا ..وليس هذا فحسب ،هيلني قاطعتني بعد خصامنا،
وأعتقد أنهّ ا أغلقت األبواب ،ح ًّقا أنا يف وض ٍع َس ِّي ٍئ.
رسك
رسا مثل ّ
طب ًعا لن أحدّ ثك عن هد ّيتي لك ،سيكون األمر ًّ
أنت ،أنتظر لقاءك ّ
بكل هلفة .قبلتي حلبيبتي ولأل ّم شريا».
فتحت بعد ذلك رسالة هيلني وقرأت:
تتعمد إغالق
ّ «أين أنت يا سعد؟ أمرك غريب واهلل ،ملاذا
تتعود عىل ذلك .أنتظرك».
هاتفك؟ أجبني ،ما األمر؟ أنت مل ّ
الرسالة يف حالة غضب بسبب عدم ر ّدي عىل
فهمت أنهّ ا كتبت ّ
69
رسالتها األوىل ،أرسعت بفتحها وقرأت:
«حبيبي ،ال تعتقد أنّك هناك وحدك يف تونس ،ال تعتقد ذلك
مطل ًقا يا عزيزي ،أنت يف قلبي ،تسكنني بشكل مذهل ،كأنيّ أكتشف
اهلر؟ ..من أنت؟ ح ًّقا أجبني ،أنت احلب من جديد ،من أنت أيهّ ا ّّ
بالذنب ،ذقت فعلاً ذاك العذاب أحس ّ تتجدّ د يف أوصايل .أعرتف ،أنا ّ
السليط .ولع ّلنا سنتجاوز هذا األمر قري ًبا ،قري ًبا جدًّ ا ياعزيزي.
ّ
ثمة أمر ها ّم ومستعجل ،حتدّ ثنا فيه
لنرتك هذا األمر اآلنّ ،
باقتضاب ساب ًقا ،ولع ّلك نسيت .جوهر سيمدّ ك بمغ ّلف ّ
مهم،
اقرأ ما حيتويه ،وعىل وجه السرّ عة افعل ذلك ..وبالتّأكيد يا عزيزي
سنحتاج إىل مزيد البحث يف األمر .قباليت».
انقضضت عىل املغ ّلف بجانبي ،فضضته بحركة مستعجلة،
وخشيت يف تلك ال ّلحظات أن تتس ّلل هاجر من الباب املوارب وأنا
مل أفرغ من قراءة ما بداخل املغ ّلف من أوراق ،رشبت ً
كأسا أخرى،
الصفراء.
ثم رشعت يف قراءة األوراق ّ أشعلت سيجارة ّ
70
()4
الذهب ..اّبلع ّ
الصبايا. محام ّ
ّ
ذات صباح ،غادرت حبيبة البيت قبل انرصاف أ ّمها إىل احلماّ م،
أحست قادت عربتها املألى بقوارير العطور بإعياء وتثاقل .وبغت ًةّ ،
بخطوات تتبعها ،وقفت وأسندَ ْت ظهرها إىل أحد اجلدران ،عرفت
صاحب اخلطوات الذي يتبعها ،مل يكن غري ًبا عنها .تظاهر هو بمعاينة
األقمشة يف أحد الدكاكني ،ارتعشت يداه وهو يق ّلب األقمشة من
شتّى األلوان ،وعيناه زائغتان بال تركيز .خفق قلبها خفقانًا قو ًّيا
كل صباح؟» الشاب ّ حواسها سؤال« :ملاذا يتبعني هذا ّ ّ واستنفر
والغريب أنّه مل يبادر يو ًما بمخاطبتها ،يكتفي بمتابعتها يف الطريق
الزيتونة ،يفرك يديه خجلاً وال ينطق بكلمة .أح ّبت بني بيتها وجامع ّ
هزهتا من الدّ اخل ومل جتد هلا أن يتك ّلم ،يف عينيه ابتسامة أسرَ َ هتاّ ،
رسها وهي تستأنف سريها نحو تفسريا ،ماذا حيدث يل؟ سألت يف ّ ً
الزيتونة .عيناه ض ّيقتان وغامضتان ،وجهه ذو البرشة البيضاء جامع ّ
ال يتخلىّ عن ابتسامته العريضة ،تلك االبتسامة التي كانت جتنّح هبا
وتظل كامل اليوم تسرتجعها يف شبه َخدَ ٍر ٍ
لذيذ. ّ يف األحالم،
وحدث ذات يوم ما انتظرته طويلاً ،كانت أمام جامع ّ
الزيتونة،
ّ
وهشم كعادهتا ،جالسة وراء عربتها ،عندما هامجها أحد الباعة
71
الرجل قوارير العطور ،صاحت بفزع ومل تصدّ ق ما حصل .طفق ّ
هيشم عربتها وهي حتاول عب ًثا أن تتصدّ ى له .باغتتها صفع ٌة قو ّية،ّ
وحتسست أصاب ُعها أن َفها النّازف .كانت تعرف فرتاجعت إىل اخللف ّ
أن الباعة يف سوق الع ّطارين حيقدون عليها ،ومل تنتظر البتّة أن هيامجها
ّ
أحدُ هم هبذا ّ
الشكل الوحيش.
الشاب بقامته الطويلة وبساعديه يف تلك اآلونة ،قفز ذاك ّ
وانقض عىل البائع صف ًعا ولكماً وركلاً ،والنّاس يصيحون:
ّ املفتولني،
الرجل سيموت.
إن ّ -اتركه ..اتركه ّ
فرحا
حدث يومها ما أبكاها حزنًا عىل بضاعتها ،لك ّن ما أبكاها ً
الشاب وهو حيميها ويقاتل كان أقوى .أذهلها ما رأت من أمر ذاك ّ
ٍ
بمنديل من أجلها .زفرت وهي تتأ ّمل مالحمه ،اقرتب منها ومسح
ّازف من أنفها خمتل ًطا بالفزع والدموعّ ،
ثم قال هلا: أبيض الد َم الن َ
يعوضك عن ّ
كل يشء ،ال ختايف ،وأرجو -سأجعل هذا احلاقد ّ
أن تسمحي يل اآلن بمرافقك إىل بيتك.
يف ال ّطريق مل ينبس أحدٌ منهام ببنت شفة .قاد الفتى العربة
ينز من جبينه ،أ ّما حبيبة فكانت تتبعه وهي تتأ ّمل مالحمه
والعرق ّ
متكورة يف
ّ بإعجاب واندهاش .وحني دخلت إىل غرفتها ظ ّلت
الشاب ،وتستعيد وقائع احلادثة .مل فراشها تستحرض مالمح ذلك ّ
رجتْها ،فحسب، تتذكّر مالمح بائع العطور البائس وال صفعتَه التي َّ
بل ظ ّلت تتذكّر تلك األصابع املرتعشة وهي تزيل الدم من أنفها
اب حارق ًة وهو أمامها ،ال يرفع بمنديل أبيض .كانت أنفاس ّ
الش ّ
72
عينيه يف وجهها ،وكأنّه يراها بقلبه فحسب .ويف تلك الدّ قائق التي
حب غريبة.. أحست ّ ٍ
بأن يف قلبه مجرة ّ مرت برسعة جمنونةّ ، ّ
يف املساء عقدت العزم عىل االلتحاق بأ ّمها يف احلماّ م ،فمنذ مدّ ة
طويلة مل تطأ قدماها احلماّ م بسبب انشغاهلا بعربتها ،ويف ذلك اليوم ٍ
تستحم وتتخ ّلص من حالة اإلرهاق التي ّ كانت رغبتها شديدة يف أن
يعج بالنّساء والفتيات، هدّ ت أوصاهلا .كان ذلك يوم مخيس ،احلماّ م ّ
نزعت ثياهبا عن جسدها الفارع وتركت شعرها األسود ال ّطويل
ثم التحفت بلحاف ودلفت إىل الدّ اخل. متناثرا عىل كتفيها وظهرهاّ ،
ً
تابعت حركة أ ّمها وهي تن ّظف زوايا حجرة االستقبال وتساعد للاّ
ثم دلفت إىل ب ّية حارزة احلماّ م عىل تلبية طلبات النّساء التي ال تتو ّقف ّ
السخون» دون أن تثري انتباهها. «بيت ّ
السخون» كان البخار يتاموج ويلهب وجنتيها بحرارة يف «بيت ّ
الساخن ورشدت بذهنها. املائي ّ
ّ منعشة ،جلست بجوار احلوض
ٍ
حلظة خاطفة ،ال تدري أكان ذلك واق ًعا أم خيالاً تراءت هلا عينا ويف
السقف .شهقت وتوتّرت الشاب تراقباهنا من فتحة صغرية يف ّ ذاك ّ
تلف جسدها بال ّلحاف ورسعان ما اختفت تانك العينان يداها وهي ّ
الض ّيقتان.
***
بالرهبة واخلوف عندما التقت نظراته بنظرات حبيبة أحس أتون ّ
ّ
امحر وجهه خجلاً ،ماذا ستقول عنّي الصغرية ،بل ّ يف تلك الفتحة ّ
ّ
وتتهشم حبيبة؟ رصخ يف داخله ومتنّى أن يسقط من سطح احلماّ م
عظامه .لقد ارتكب محاق ًة ال تُغتفر ،وحبيبة لن تغفر له هذه الز ّلة ،ماذا
73
ستقول عنه؟ طب ًعا ،هو اآلن يف نظرها ليس إلاّ شا ّبا ّ
متهو ًرا وعديم
ّ
ويتلذذ بتأ ّمل أجساده ّن. يتلصص عىل النّساء من الفتحة
األخالقّ ،
السوق ليس إالّتلك وقاحة ما بعدها وقاحة ،وما فعله مع حبيبة يف ّ
شكلاً من أشكال استعراض العضالت يف انتظار االنقضاض عىل
إن حبيبة كشفت أالعيبه.الفريسة ،لكن هيهات ،ها ّ
خت ّطى درجات الس ّلم برسعة جنون ّية وهو ينزل من ّ
السطح،
عاد إىل الفرن ومدّ رأسه يف الرسداب الذي تتعاىل فيه ألسنة ال ّلهب.
لفحت النّار وجهه فرتاجع قليلاً وزفر يف قلق ،ال حاجة إىل وضع
مزيد من احلطب ،ال ّلهيب يتعايل يف السرّ داب ويف قلبه .مل يصدّ ق
باملرة أن رآها هناك،
أن حبيبة يمكن أن تذهب إىل احلماّ م ،مل يسبق ّّ
بل استبعد أن تذهب يف ذلك اليوم إىل احلماّ م وتصفعه بنظرات
أحس ّ
كأن ساخطة .يا للقدر! كيف التقت نظراهتام يف حلظة مدو ّية؟ ّ
نصل سكّني خيرتق قلبه ويش ّقه نصفني .يف ال ّلحظة التي أبعدت فيها
فتجمد
ّ خصالت شعرها عن عينيها بحركة من يدها التقت العيون،
يف مكانه وكاد يفقد عقله .هو ال يستحرض شي ًئا من جسدها ،ال يشء
عىل اإلطالق غري عينيها املندهشتني واملصعوقتني.
أسند ظهره إىل اجلدار وجلس ،رشب جرعات نبيذ من قنّينة
السوداوان والواسعتان ،آه من عينيها! بجانبه وزفر بعمق .عيناها ّ
صباحا وهو يمسح الدم من أنفها ،مل
ً السحرسحرا مثل ذاك ّ
ً مل ير
يصدّ ق ما حدث ،مل يصدّ ق أنّه حرض يف ال ّلحظات املناسبة وأنقذها
مرر ك ّفه عىل جبينه ومسح العرق املتص ّبب،
من قبضة البائع األرعنّ .
اسو ّدت ك ّفه بذاك الفحم الذي يغ ّطي كامل وجهه وعنقه .بقع
74
أيضا عىل سرتته وبنطلونه ،ارختت عيناه وهو يرشب
السواد تنترش ً
ّ
الصور يف خم ّيلته.
ويرشب وتداخلت ّ
الشتاء .كانت مل يستطع البتّة أن ينسى تلك ال ّليلة املمطرة من ليايل ّ
الرياح كامل حي احلارة ،فقد فقدت ّ ليلة عاصفة مل يسبق أن عرفها ّ
وهشمت األشجار واقتلعت النّوافذ واألبواب .مل متض عىل ُرشدهاّ ،
الرحلة البحر ّية ال ّطويلة وجود عائلته باحلارة إلاّ أ ّيام قليلة ،قادهتم ّ
ثم مشى خلف أبويه كام مشى العرشات نحو إىل ميناء حلق الواديّ ،
حي احلارة وسكنوا منازل قديمة ومهجورة .كان ال يفهم اجلوع ّ
ٍ
والفقر ،وال يرى دموع أ ّمه وهي تشقى من أجل رغيف يسدّ رمق
استقرت ّ
مؤخ ًرا يف ّ األفواه اجلائعة ،كذلك كان حال العائالت التي
حي احلارة .وجوه منكرسة ،متيش يف بالط األهنج الض ّيقة وتبحث ّ
الشغل أ ّيامها التاب لتحيا ،ومل يكن ّ الشغل ،تنغل بأ ْظفارها يف رّ
عن ّ
متاحا لألغراب ،وال أمل غري بعض املهن الشا ّقة كالبناء ونقل ً
كل ذلك من أجل أرغفة خبز .ليلتها ،كان طفلاً ، البضائع وترصيفهاّ ،
الصباح استفاق عىل الصغرية ،ومل يفطن بيشء ،ويف ّ ينام يف حجرته ّ
الركاموأحس بأيد غليظة تسحبه من حتت ّ ّ صدى رصاخٍ وضجيج،
أن أ ّمه وأباه فوهة املوت .يومها ،عرف ّ ٍ ٍ
برفق وعناية وخترجه من ّ
ماتا حتت األنقاض ،هتاوى بيتهم كام هتاوت العرشات من البيوت.
بأن أ ّمه وأباه ماتا ،ومل يكن يعرف حينها ما معنى أن اكتفوا بإعالمه ّ
يموت أبوه وأ ّمه ،ولكنّه حدس أنّه لن يرامها بعد ذلك اليوم.
أن أحد الشيوخ مسكه من يدهكل ما َظ ّل يذكره بعدها ،هو ّ
ّ
وسار به إىل ٍ
بيت يف أحد األهنج القريبة من مقام سيدي حمرز ،ورأى
75
بقي صامتًا ألشهر طويلة ،مثل قطعة
وجوها غريبة تبتسم له وترعاهَ .
ً
ّ
ويظل خشب صغرية منس ّية داخل غابة ،يستحرض وجهي أ ّمه وأبيه
ينشج طوال ال ّليل.
الشيخ عبد القادر بني تع ّلم حرفة أو االشتغال خيه ّ عندما كرب ،رّ
ـم ّ ِ ّ
حل املحل ا ُملقابل ل َ الشغل يف ذاكفخي ّ معه يف دكّان القامش ،رّ
السهولة. بيع املفروشات .مل يكن ينتظر مطل ًقا أن يعرف إيزا بتلك ّ
تلك الفتاة املالط ّية أغرمت منذ نظراهتا األوىل بأتون وظ ّلت تتحينّ
أحس بعاصفة يف قلبه ّ أيضا
الفرص لرؤيته ومشاغبته .أتون ً
تدفعه إىل إيزا ،شعرها األصفر ينسدل عىل كتفيها كأمرية وعيناها
اخلرضاوان مل يسبق أن رأى بري ًقا مثل بريقهام .وظ ّلت تلك ّ
القصة
اب
الش ّ الصامتة تكرب بني أتون وإيزا إىل أن حدث ما عصف بقلب ّ ّ
الطري .ذات صباح وهو يفتح الدكّان حانت منه التفاتة إىل ّ اليهودي
ّ
دكّان املفروشات فصعق لذاك املشهد الذي كاد يسقطه مغش ّيا عليه.
وسع عينيه وهو يتابع تلك هيوديّ ،
ّ شاب
كانت حبيبته إيزا يف حضن ٍّ
ثم جرى تسمر طويلاً أمام ذلك املشهد ّ القبالت املحمومة بينهامّ .
اليهودي وصفعها بعنف ،وبعد ّ الشابنحو إيزا وجذهبا من حضن ّ
دس عنقه بني كتفيه وهو ذلك جرى واختفى يف األهنج الض ّيقةّ ،
ويوسع اخلطى.
ّ هيرب وهيرب
احلظ وك ّلفه صاحب احلماّ م املحاذي لسيدي
بعد أ ّيام ،ابتسم له ّ
أن من يضطلع بمهمة «الفرانقي» ،عرف منذ أ ّيامه األوىل ّ ّ حمرز
بمهمة «الفرانقي» رسعان ما هيرب ويرتك البالء يف البالء وهو ما ّ
أن يس خلدون صاحب تس ّبب يف إغالق احلماّ م أل ّيام كثرية .واحلقيقة ّ
76
احل م وسع العطاء ألتون ومكنّه من ُغ ٍ
رفة ُيقيم فيها بجانب الفرن ّ ماّ
ٍ
حفنة من الدّ راهم مل يكن أتون ليحلم هبا. باإلضافة إىل
أصوات النساء من بعيد،
ُ منذ أ ّيامه األوىل يف الفرن كانت تصله
بالصدمة التي تل ّقاها
ّ مل ُيعر ذلك اهتام ًما يف بادىء األمر ،كان منشغلاً
من حبيبته اخلائنة ،فمنذ رأى تلك القبالت املحمومة مل ُيغمض له
كل النّساء .النّساء يف ذاكرته تخُ تزلن مجي ًعا يف أ ّمه ال غري،
جفن وكره ّ
أ ّمه التي ماتت حتت األنقاض ،أ ّما البقية فلسن سوى عاهرات .كان
ستضمه إىل صدرها كام كانت أ ّمه تفعل ،لكنّها غدرت
ّ يعتقد ّ
أن إيزا
به« .أح ّبك» ،كانت اخلائنة هتمس له يف أذنه ومتسح عىل شعره
الرطب ثم ينزلق ك ّفها عىل خدّ ه ،وهو كان يصدّ قها ،وهيفو إىل عينيها
ّ
مثل شمعة مرتاقصة ال تنطفئ.
قاده الفضول ذات مساء وهو يف حالة ُس ٍ
كر إىل اكتشاف تلك
اجللبة املنبعثة من داخل احلماّ م ،و ّملا صعد إىل ّ
السطح اكتشف فتح ًة
السخون» ،فرك عين ْيه َّ
وظل يسرتق النّظر صغرية ت ّ
ُطل عىل «بيت ّ
الصدور العارية.
ثم إىل تلك ّ كل األلوان ّالشعر من ّ
إىل خصالت ّ
الصغرية واملرتاخية.
لبث يلهث وهو يبحلق حممو ًما يف تلك النّهود ّ
متسم ًرا طوال الفرتات املسائ ّية ،ويف الكثري من
ّ وهكذا ّ
يظل برصه
املرات كان يرى األجساد عاري ًة متا ًما ،فيح ّلق عال ًيا من ُّ
السكر .حيدث ّ
طقوسا تُبهج
ً ذلك عندما تأيت عروس مع صوحيباهتا إىل احلماّ م و ُيقمن
حيس بذاك اخلدر الذي يرسي يف باطنهّ ،
فيظل يحُ دّ ق أتون ،وجتعله ّ
بنه ٍم وجنون وهو يرشب من تلك القنّينة التي ال تفارقه.
77
بقي أتون أل ّيام طويلة يف رحلة خم ّبلة بني إيقاد الفرن باحلطب
اليابس وإيقاد شهواته باألجساد النّاعمة التي ترت ّدد عىل «بيت
السخون» .النّار يف الفرن ال تنطفئ والنّار يف أوصاله تزداد هلي ًبا.
ّ
كان مثل املجنون يفتتن بمشهد النّار ويلتهب خياله بام يراه .ورسعان
ما جتاوز عقدة إيزا ،كانت النّار ترقص أمامه وتنسيه حبيبته السابقة
مثلام ترقص أمامه األجساد العارية وتسكره بتلك النّشوة العارمة
تدب يف رشايينه وتدغدغه.
التي ّ
وحدث ذات صباح أن رأى حبيبة ،ومن الغريب أن حيدث
ذلك ،فتح عينيه يف دهشة وهو يراها ،أرسلته للاّ ب ّية الستدعاء أ ّمها
السحر الذي جعله أن هلا بنتًا بذاك ّ شلب ّية ٍ
ألمر عاجل ،ومل يكن يعرف ّ
احلب سكن قلبه من جديد ،فقد
أن ّ يشهق .ويف تلك ال ّلحظات أيقن ّ
دامهه ذاك اإلحساس الغريب واملفاجئ الذي يداهم املرء من ّأول
ٍ
نظرة ويسجنه يف جدرانه العالية فال يستطيع اهلروب.
***
خرجت حبيبة من احلماّ م متثاقلة اخلطى ومل تسمع أ ّمها وهي
تنادهيا ،فك َّر ْت طوال ال ّطريق نحو البيت يف ما وقع والدّ موع تنهمر
من عينيها .مل تستطع أن تنسى تلك ال ّلحظة اخلاطفة التي رأت فيها
اب .حلظة ُمزلزلة جعلتْها تشعر بالدوار فنهضت مذعور ًة عيني ّ
الش ّ
وحتس باختناق ّ
كأن يدً ا تُطبق عىل ّ ومل تكمل استحاممها .كانت متيش
مر هبا األطفال يف مساء ذاك اليوم القائض حفا ًة ومهلهيل
أنفاسهاّ .
الث ّياب ،وجوههم شاحبة بسبب اجلوع الذي نخر عظامهم ،وتشتّتوا
78
بني الباعة طامعني يف من يمكّنهم من فرص نقل البضائع وترصيفها
يف املخازن والدّ كاكني حتّى يعودوا إىل بيوهتم بأرغفة خبز .تابعت
الرحيمة وتذكّرت أباها حني انكسارهم وهم ينتظرون العيون ّ
وغص حلقها .متنّت ساعتَها أن
ّ أدركت جامع سيدي حمرز ،شهقت
تشم رائحته ومتأل رئتيها
حتضنه وتريح رأسها عىل كتفيه ،متنّت أن ّ
تشممتاملتضوعة من مالبسه .التفتت إىل اليسارّ ،
ّ برائحة املسك
رائحة البخور ،استسلمت لتلك الرائحة ودلفت إىل زاوية سيدي
حمرز .فعلت ذلك دون تفكري ،سيدي حمرز ،عىل بركة عظيمة ،قالت
رسها .أسدلت شالاً أخرض عىل رأسها ووقفت أمام الضرّ يح يف ّ
لقراءة الفاحتة .مل تستفق من سهوها وهي واقفة أمام الضرّ يح بخشوع
إلاّ بعد أن ر ّبتت يدٌ عىل كتفها ّ
ثم جاءها صوت امرأة:
« -سيدي حمرز عىل بركة عظيمة يا بنتي».
ثم أضافت:
ّ
النبي
ّ « -يا سيدي حمرز يا موالنا ّ ،فرج كرب ّ
كل ول ّية بجاه
موالنا».
الزاوية وضعت قرطاس بخور قرب قبل أن خترج حبيبة من ّ
ثم
قرطاسا آخر للمرأة التي وقفت بجوارهاّ ، ً الضرّ يح وس ّلمت
تابعت سريها نحو البيت وهي تلحظ حركة غري عاد ّية يف الدكاكني،
التجار أن يعودوا إىل بيوهتم
أغلبها أغلق مبك ًّرا ،وليس من عادة ّ
وق حال ُة كساد مل يسبق هلا مثيل ،واألخطرالس َ
مبكّرين .لقد سادت ّ
تتكرر
أن حوادث السرّ قة وخلع الدّ كاكني واملخازن صارت ّ من ذلك ّ
الساعات األوىل من ّ
كل ليلة .ومل يعد من الغريب أن يعثر النّاس يف ّ
79
مكممي األفواه ومرم ّيني يف
السوق ّالفجر عىل «الصباحي ّية» وعسس ّ
األصوات غاضب ًةّ ،
حتتج ُ زوايا مهجورة .سم َع ْت لغ ًطا ً
كبريا ،كانت
رسا وعلنًا ،ومل يعد النّاس خيشون «صباحي ّية» رمضان باي املنترشين
ًّ
السوق.يف ّ
مقوس ال ّظهر:
هتف شيخ ّ
-رمضان باي هدّ نا باملكوس ومل نعد نحتمل ..ارتفعت األسعار
واجلوع كافر يا ناس.
قال رجل قريب منه:
-رحم اهلل حممد باي املرادي.
صاح رجل آخر وهو يقود عربته:
-هم يتناحرون عىل احلكم ونحن نموت.
عندما دل َف ْت إىل غرفتها ،مل تُشعل القنديل كعادهتاّ ،
تكورت يف
واضحا
ً تفسريا
ً اخلشبي والدّ موع تسيح عىل وجنتيها .مل جتد
ّ رسيرها
أيضا ،أيكون الفتي الذي أنقذها عىلملا حدث يف احلماّ م ،ومل تصدّ ق ً
الرجال
السفالة والنّذالة؟ هو ال خيتلف عن بق ّية ّ
تلك الدّ رجة من ّ
هتمه إلاّ املتعة يف سوق النّساء .من أكون يف اعتقاده؟ جارية
إذن ،وال ّ
رسها وهي تتململ عىل أو امرأة ساقطة؟ من أكون؟ سألت يف ّ
السرّ ير.
أن ابنتهاتس ّللت أ ّمها إىل غرفتها ،عرفت بإحساسها املتي ّقظ ّ
صفوها .كم أح ّبت أن تصارحها يف احلماّ م، َ ب عكّر تشكو من َخ ْط ٍ
أن ش ّبان السوق شك ّ أن حتكي هلا .حبيبة بلغت َس ْب َع عَشرْ َ ة سنة وال ّ
80
ضايقوها ،أكيد ،لن يهُ ملوا مجال حبيبة ،هي تعرف ابنتها ،ال تسمح
ومتنمرة منذ
ّ يمس شعر ًة من رأسها .حبيبة صعبة املراسألحد بأن ّ
رسها وهي صغرهاَ ،م ْن ضايقها وأفسد مزاجها؟ تساءلت شلب ّية يف ّ
الشاحبتُشعل القنديل وتقرتب من حبيبة ،تط ّلعت إىل وجه ابنتها ّ
ثم سألت:ّ
متفحم ،ماذا حدث؟
ّ -مابك اليوم يا حبيبة ،وجهك
دست حبيبة رأسها يف حضن أ ّمها وقالت:
ّ
ّ
وهشموا قوارير العطر.. السوق
-رضبوين يا أ ّمي اليوم يف ّ
السوق يا شلب ّية وكرهت ّ
كل النّاس. كرهت ّ
ثم تابعت: ٍ
أرسلت آهات ّ
-لوال ذاك ّ
الشاب الذي أنقذين منهم لقتلني ذاك احلقري ،إنّه
وحش.
تتعرض له حبيبة
ُصعقت األ ّم ملا حدث البنتها ،كانت تعرف ما ّ
وحترش ،لكن ،أن يصل األمر إىل الضرّ ب فهذا ما لن ٍ
من مضايقات ّ
تسمح به.
قالت شلب ّية حاسمة:
السوق ،ابقي يف -اسمعي يا حبيبة ،لن خترجي بعد اليوم إىل ّ
البيت ،وسأقرتح عىل للاّ ب ّية أن تساعديني يف احلماّ م ،هذا
أفضل من مضايقات أوالد احلرام.
جترعت رشبة ماء من «رشب ّية» أمامها واستأنفت:
ّ
81
-قويل يل يا حبيبة ،من هو ذلك ّ
الشاب الذي أنقذك من أيدهيم؟
ثم قالت: ٍ
مههمت حبيبة يف ارتباك ّ
-مل يتس ّن يل أن أعرف اسمه يا شلب ّيةّ ،
كل ما تب ّينته ّ
أن مالحمه
السوق ،شعره أسود ورطب وبرشته بيضاء. خمتلفة عن ش ّبان ّ
هو أيضا مفتول العضالت ،عندما صفع ذلك البائع طرحه
أرضا أمام دهشة النّاس .آه ..نسيت يا أ ّمي ،اآلن تذكّرت، ً
ذات يوم طرق بابنا وسأل عنك .ال أدري كيف نسيت أن
أخربك هبذا!
صاحت األ ّم:
-إنّه أتون يا حبيبة ،أتون «فرانقي» احلماّ م.
متلهفة:
سألت حبيبة يف نربة ّ
-أتعرفينه يا شلب ّية ،قويل يل ،من يكون ذلك ّ
الشاب؟
ضحكت األ ّم وهي حتدّ ق يف عيني ابنتها:
شاب هيودي يتيم يا حبيبة ،مسكني ،ال أحد عاش حمنته، -أتون ّ
عرف ال ُيتم منذ صغره ،وقد نجا بأعجوبة عندما هتاوى منزهلم
أن يس خلدون رأف حي احلارة ومات والداه ..احلمد هلل ّ يف ّ
بحاله وش ّغله يف احلماّ م ..هو ّ
شاب ط ّيب وهادئ يا حبيبة ومل
نحب.
ّ يسبق أن سمعنا عنه إلاّ ما
ّ
ظل أتون يف تلك األ ّيام ُمطر ًقا ،يفكّر يف تلك احلامقة التي ارتكبها
غم شديد .مل يعد
السهاد وانتابه ٌّ
حق حبيبة ،أضناه ّ حق نفسه ويف ّ يف ّ
82
ّ
ويتلذذ بتلك الفوهة املظلمة ظل يرمي احلطب يف ّ يبارح الفرن َق ُّطّ ،
يتلذذ بذلك كأنّه ينتقم من نفسه بعدالنّار احلامية التي تتعايل ألسنتهاّ ،
أن أدرك أنّه خرس ثقة حبيبة إىل األبد ولن حي َظى أبدً ا بابتسامتها .كره
أيضا أن يتمدّ د يف سطح احلماّ م ويتط ّلع من تلك الفتحة إىل أجساد ً
أحس باجلبن والنّذالة وهو يتذكّر ما كان يفعله. النّساءّ ،
للذهاب إىل األسواق مرت أ ّيام أتون حزينة ،وفقد محاسه ّّ
ٍ
أحس بخوف شديد من النّظرة األوىل التي
وحتينّ فرص رؤية حبيبةّ ،
شك ،ستنظر إليهستقابله هبا ،ستكون نظرة استهزاء وسخرية ،دون ّ
ِ ٍ
ومتر ،وذاك مصريثم تهُ مله كخرقة وقد تبصق عىل خ ْلقته ّ
باحتقار ّ
كل خائن ،أليس هو خائنًا؟ّ
ذات صباح استجمع شجاعته ومشى يف سوق القرانة ،وجهه
أحس وهو
شاحب وخطواته منكرسة ،هي مشية رجل ذليل ،هكذا ّ ٌ
الزيتونة ،يف األثناء تناهت إىل مسمعه أصداء اجلريمة
يتّجه نحو جامع ّ
التي وقعت يف إحدى البيوت القريبة من سوق القامش ،جريمة بشعة
مل يسمع هبا النّاس من قبل.
الشيوخ العابرين عماّ حدث ،فرضب ك ًّفا ّ
بكف سأل أتون أحد ّ
وقال:
اللهم اهدنا واغفر لنا ..أستغفر اهلل يا ُبنَي ،وتلك عاقبة احلرام..
ّ -
تعمد ابن ّ
الشيخ التّهامي النّيفر ما حدث ال يصدّ قه عقل ،لقد ّ
أن يحُ رق شا ّب ًة مالط ّية ،اسمها إيزا عىل ما أظ ّن ..قيل واهلل أعلم
اللهم اغفر له
ّ شاب هيودي فأحرقها.. إنّه علم بخيانتها له مع ٍّ
83
رش املارقني يا أرحم
وكف عنّا ّ
ّ واح ِم نساءنا وبناتنا وأبناءنا
الرامحني.
ّ
السامء وهو يزفر ،دامهته
صعق أتون بام سمع ،طافت عيناه يف ّ
غص ٌة يف حلقه ووجه إيزا يمتثل يف خم ّيلته ويصله صدى ضحكتها.
ّ
وحث اخلطى محُ اوالً أن ينسى وجه إيزا ما استطاع.
ّ تعرق جبينه ّ
ظل ينتظر طوال ذلك اليوم أن يلتقي بحبيبة ،مشى يف تلك األهنج ّ
الزيتونة ،مل
متر هبا ،يف املسافة بني بيتها وجامع ّ
الضيقة التي كانت ّ
ّ
الركن الذي كانت جتلس به ،رأى عربة أخرى أيضا يف ذاك ّ
يصادفها ً
ٍ
بخيبة وتط ّلع إىل مالمح الفتى األسود الذي يقف وراءهاّ .
أحس
مخن أنّه لن يصادف حبيبة مستقبلاً .
ويأس و ّ
أ ّما حبيبة فقد نسيت أمر عربتها و أصبحت ترافق أ ّمها إىل احلماّ م،
وفرحت هبا للاّ ب ّية أ ّيام فرح َلمِا تتم ّيز به من خ ّفة ونشاط وحرص
عىل النّظافة ،باإلضافة إىل لباقتها ووجهها اجلميل املرشق .وأصبح
حضورها يف احلماّ م مصدر راحة للاّ ب ّية ،فقد تضاعف عدد النّساء
وكل من تطأ قدماها احلماّ م ،تسأل ّأولاً عن حبيبة ،فإن املستحماّ تّ ،
السخون» ثم تتس ّلل إىل «بيت ّ كانت موجودة ترسع بنزع مالبسها ّ
وإن كانت غائبة تعود عىل أعقاهبا مق ّطبة.
وال تدري حبيبة كيف فكّرت ذات مساء يف أن تتس ّلل إىل الفرن
تفسريا
ً أحست يومها برغبة حممومة يف رؤيته ،ومل جتد
لرتى أتونّ ،
كل ٍ
بحذر وتفادت ّ حواسها .مشت
ّ لتلك ال ّلهفة التي سيطرت عىل
العيون إىل أن أدركت الفرن واختبأت خلف شجرة التّني الكبرية.
مر كزمن طويل خرج أتون من غرفته وسار جّ
باتاه الفرن، ٍ
وبعد وقت ّ
84
وبدأ يقذف بجذوع احلطب اليابس يف الفوهة املظلمة ،وبني ٍ
فينة ّ
يتجرع من قنّينة وضعها بجانب كوم اخلشب ،كان يرشب
وأخرى ّ
الهث األنفاس ويقذف احلطب .وحبيبة من خلف شجرة التّني
واملسود بالفحم .هاهلا ّ
الشحوب الذي ّ املتعرق
ّ تتأ ّمل ذاك الوجه
سكن وجه أتون ،مل يكن الوجه شاح ًبا هبذا ّ
الشكل املخيف عندما
الزيتونة .ظ ّلت مكتومة األنفاس،
الصباح قرب جامع ّالتقته يف ذاك ّ
رسها ،ويميض
تتابع ما سيفعله ،هل سيعتيل سطح احلماّ م؟ سألت يف ّ
ليتلصص عىل النّساء ،ماذا سيكون من أمرها يف تلك
ّ إىل تلك الفتحة
األثناء ،هل ستظهر من خلف شجرة التّني مق ّطبة اجلبني وغاضبة
كف عن محاقاتك ،لقدثم ترصخ يف وجهه« :إيه ،أنت أيهّ ا احلقريّ ،
ّ
كف عماّ تفعل ،فلست إلاّ حيوانًا
كفّ ، كشفتك أيهّ ا الوضيعّ ..
ثم تبصق عىل وجهه ومتيض وتنسى إىل األبد حكاية ّ
الشاب أجرب»ّ .
ّ
الشهم الذي أنقذها ذات يوم من براثن املوت.
كيف حدث ذلك؟ ال تدري حبيبة متى شملتها تلك الغفوة،
تطوقاهنا ،مل تصدّ ق ما حدث ،كان
أحس ْت فجأ ًة بذراعي أتون ومها ّ
ّ
أتون يلهث ويبكي وهو حيضنها ،مل ترصخ ومل حتاول االنفالت من
وأحست بسكينة غريبة مل تعرفها
ّ حضنه .وضعت رأسها عىل كتفه
من قبل.
منذ ذلك اليوم ،أرشقت أسارير حبيبة وعرفت طعم اإلحساس
باحلب ،ذلك اإلحساس النّاعم الذي خيدّ رها ويصعد هبا نحو
ّ
النّجوم.
85
***
متناثرا عىل
ً استقرت حبيبة يف فراشها وتركت شعرها ال ّطويل ّ
الشمعة التي تصاعد لسانهُ ا ،تلك كتفيها ،وركّزت نظراهتا عىل ّ
الشمعة أصبحت رفيقتها يف ال ّليل قبل أن تنام ،وهي رفيقة أتون ّ
«الشموع يا حبيبة هي أزهارنا التي ال تذبل ،وهي أيضا يف غرفتهّ ، ً
توحد نظرتنا إىل املستقبل» ،كذلك كان هيمس هلا أتون ويستبقي التي ّ
جراء التّعب،
يدها يف يده .يف العادة كانت ختلد إىل النّوم رسي ًعا من ّ
الساحرتنام يف ال ّظالم بال شموع وبال مهسات ،ومنذ ذلك العناق ّ
كل يشء .اعرتف هلا يومها بح ّبه وصار قلبها يصخب، تغي ّمع أتون رّ
وحتس بذاك الدّ بيب الذي ينعش رشايينها .ملّ تتعاىل أمواجه العاتية
فرحها عار ًما.
يعد قلبها مثل فطرية يابسة ،أصبح ُ
تتوجس خيفة من األ ّيام القادمة،
ّ وال تدري حبيبة ملاذا كانت
حالة ُسهاد وهي تفكّر وتفرك ذقنها والدّ ماء تتصاعد إىل ِ ّ
تظل يف
وجهها .ويف إحدى ال ّليايل دامهها كابوس مزعج ضاعف من قلقها،
كانت جتري حافي ًة يف األز ّقة الض ّيقة وامللتوية ،وحينام التفتت إىل
اخللف رأت املشاعل تطاردها وتقرتب منها .الوجوه مل ّثم ٌة غائمة،
يتحرك .تفادت ّ واملشاعل نرياهنا حامية ،والبالط من حتت ساقيها
السقوط يف احلفر املرتاقصة أمامها ،جرت وهي تتل ّقى لسعات بخار ّ
ساخن كان خيرج من شقوق األبواب والنوافذ وهيامجها كخاليا
نحل .وفجأةً ،انفتحت األرض حتتها وابتلعتها ،رصخت وهي
تتهاوى واألرض تنغلق عليها ،ومل تبق عىل البالط إلاّ خصالت
قليلة من شعرها ،رسعان ما طفقت تنمو وتتشكّل يف هيئة أغصان.
86
أن عينيها نبتتا يف شعرها ،رصخت واملشاعل حتتدم أمامها هت ّيأ هلا ّ
وتتلوى وهي تتس ّلق
ّ وخصالت شعرها ال حترتق ،بل كانت تتعاىل
اجلدران وتتس ّلل عرب النّوافذ واألبواب.
انتبهت إىل دخول أ ّمها ،فشلب ّية ال تنام يف العادة إلاّ بعد أن تتف ّقد
ويف
الص ّكوب ماء وتنحني لتلتقط الغطاء ّ َ حبيبة ،تضع بجوارها
ثم تغلق الغرفة. تلف به كامل جسد حبيبة بعناية ّ الذي سقط عنهاّ ،
الشموع، ويف الليايل األخرية اكتشفت شلب ّية عادة جديدة ،عادة إيقاد ّ
أخريا،
احلب ً ّ أن ابنتها عرفت مخنت ّ كانت تضحك يف قرارة نفسهاّ ،
أن لدهياوهي تنتظر أن تكشف هلا عن فارس أحالمها ،صحيح ّ
حتب أن تتأكّد منها. شكوكًا ،غري أنهّ ا ّ
-ال تطفئي ّ
الشمعة يا شلب ّية.
ثم تابعت: ٍ
قالت حبيبة بنربة متناعسة ّ
-اجليس يا أ ّمي ،اجليس بجانبي ،نحن مل نتحدّ ث منذ أ ّيام يا
عزيزيت.
مسكت يد أ ّمها وأضافت:
-أتون يا شلب ّية ،أتون.
مل تندهش شلب ّية ملا قالته ابنتها وانتظرت املزيد.
احلب يا أ ّمي ،لكنّي خائفة،
ّ -ما حيدث مع أتون ال يصدّ ق ،إنّه
خائفة جدًّ ا ..ليس بسبب أتون ،أنا متأكّدة ،قلبه نبيل،
وإحسايس ال يكذب ..األمر متع ّلق بديانته ،ماذا سيقول
النّاس؟ ..ابنة النّوري أح ّبت شا ًّبا هيود ًّيا؟
87
قالت شلب ّية وهي تفرك شعر ابنتها بأصابعها:
-اسمعي يا حبيبة ،اسمعيني ج ّيدً اّ ،أولاً مسألة الدّ يانة ليست
تزوجت الكثريات للزواج ..ويف حومتنا ّ للحب وال ّ
ّ عائ ًقا
ٍ
من رجال هيود ،األمر أصبح مألو ًفا يف كامل أرجاء ّ
احلي..
النّوري ،رمحه اهلل مل يكن ليامنع هذه العالقة .فقط يا حبيبة،
والسرت.
أنت تعرفني ،ال يشء أحسن من احلالل ّ
-تأكّدي يا شلب ّية ّ
أن ابنتك هلا عقل بميزان ذهب الدّ نيا .وأتون،
أرس يل يريدين يف احلالل .احلقيقة يا أ ّمي حدّ ثني يف أمركام ّ
الزواج ،وكنت مرت ّددة يف مفاحتتك بشأن هذا املوضوع. ّ
فرحا وهي ترى ابنتها تكرب أمامها
دمعت عينا شلب ّية ،بكت ً
عروسا ،بل هي أمجل عروس يف احلومة ،لك ّن العني بصرية ً وتصبح
جتهزها وتسعدها مثل بنات احلومة؟واليد قصرية ..من أين هلا أن ّ
لو كان النّوري ح ًّيا خل ّفف عنها هذا احلمل .مل تشأ يف تلك اآلونة
رسمت ابتسامة مرحة
ْ أن تن ّغص فرحة ابنتها ،فر ّبت َْت عىل ظهرها ّ
ثم
وقالت:
-إن شاء اهلل خري يا حبيبة ،ستفرحني أنت وأتون وسيعرف
ليلة عرس ..فقط نامي اآلن ،وال تنيس ما «الرب ْط» أحىل ِ
َّ
صباحا ،غدً ا زواج بنت للاّ رشيدة وينبغي أن
ً ينتظرنا يف الغد
الضخم.
باكرا ،سنعدّ احلماّ م هلذا العرس ّ
ننهض ً
شدّ ت حبيبة عىل يد أ ّمها بحرارة وق ّبلتها ،كان قلبها يف تلك
ال ّلحظات ّ
يدق د ًّقا عني ًفا وهي تتخ ّيل ليلة زواجها ،وصبيحة «يوم
88
احلي .ستزغرد
الدخلة» وهي ترقص يف احلماّ م وسط حلقة فتيات ّ
أ ّمها بكامل هبجتها عال ًيا ُمفتخر ًة بابنتها وسط النّساء ،ستذرف
دمو ًعا ساخنة وتتذكّر النّوري ،ستضحك وتنتيش وحتلم .مل هيدأ
تفكري حبيبة تلك ال ّليلة ،وأضاءت ّ
الشمع ُة قل َبها كام أضاءت الغرفة،
يكحل النّوم جفنيها.
ومل ّ
الصباح الباكر ،وكان ذلك يوم مخيس ،تناهى إىل مسمع حبيبة
يف ّ
«الر َب ْط» ،يا أهل ّ
السعد صوت املنادي وهو ينقر عىل طبلته :يا أهل ّ
واخلري ..اليوم زواج الفايزة بنت للاّ رشيدة ،احلارض يعلم الغايب،
السعد واخلري.
زورونا للربكة يا أهل ّ
ثم ما فتئ يعلو منبع ًثا من أرجاء سوق بدا صوت املنادي خافتًا ّ
القرانة .قفزت حبيبة من فراشها وهي تفرك عينيها ،ارتدت مالء ًة
ثم وضعت شالاً عىل رأسها وح ّثت خطاها لتلتحق بأ ّمها خرضاء ّ
ضاجا ،ال ّ
ككل األ ّيام .للاّ ًّ سيمر
ّ أن يومها يف احلماّ م .كانت تعرف ّ
خاصة رمضان بايَ .لشدَّ ما رشيدة كام حدّ ثتها أ ّمها من األعيان ومن ّ
وخاصة حلقة رقص الفتيات ّ أهبجتها مراسم احتفال النّساء يف احلماّ م،
والدف ،واحلماّ م يف األثناء يعبق بروائح البخور ّ عىل إيقاع الدّ ربوكة
تظل العروس يف حالة خشوع وهي ملفوفة يف ق ّفاز احلنّاء والعطورّ .
شك والفتيات يشاغبنها ويضاحكنها .والوضع سيكون خمتل ًفا بال ّ
مع ابنة للاّ رشيدة ،سيزدحم احلماّ م بالنّساء والفتيات وستنتصب
ال ّطاوالت بشتّى أنواع املأكوالت واملرشوبات.
مل تقابل حبيبة كعادهتا للاّ ب ّية وهي تعتيل كُرس ًّيا خشب ًّيا عتي ًقا عىل
يسار باب الدّ خول ،أكيد أنهّ ا التحقت بمنزل للاّ رشيدة ،سترشف
89
مرتاص من ٍ
حشد طب ًعا عىل موكب العروس وهو يتهادى وسط
ّ
القصبة إىل احلماّ م .تط ّلعت إىل أ ّمها ،كانت تفرش ّ
الزرايب يف قاعة
االستقبال ،عقدت فوطة عىل خرصها وجرت ملساعدهتا .إثر ذلك
وضعت البخور واجلاوي يف املبخرة النحاس ّية وطفقت تطوف هبا يف
السخون» ثم «بيت ّ
أرجاء احلماّ م ،يف البهو املؤ ّدي إىل «البيت الباردة» ّ
ثم «املطاهر». ّ
وصلها صوت أ ّمها من بعيد:
«سمي باسم اهلل يا حبيبة ،وأوقدي ّ
الشموع ..النّهار راح يا ّ -
بنتي.»..
الضوء خافتًا ،ينبعث من فتحات صغرية يف يف احلماّ م ،كان ّ
الصباح. الضوء هبرة ،ومع ذلك ّ
يظل ضعي ًفا يف ّ السقف ،الب ّلور يزيد ّ
ّ
بالشموع ،تفادت أن تضع شمعة أو شمعتني مألت حبيبة زوايا احلماّ م ّ
السخون» ،تعرف ّ
أن البخار سيطفئ ألسنة النّار .يف العادة، يف «بيت ّ
جان وعفاريت ٍ الرشيرة من تقول أ ّمهاّ :
«الشموع تطرد األرواح ّ
كل من له مرض أو حسد يف قلبه» .ويف احلماّ م يكثر باإلضافة إىل ّ
احلسد والقيل والقال ومل يكن خيفى عىل أحد ما تفعله بعض النّسوة
الرجال إىل ٍ
من سحر وشعوذة من أجل إفساد زجيات وحتويل وجهة ّ
صبايا طالت عنوسته ّن ،مل يعد ّ
كل ذلك خاف ًيا عىل شلب ّية وال عىل
حبيبة التي تتجنّب االقرتاب من بعض وجوه النّحس كام تقول أ ّمها.
يف اخلارج ،تصاعدت ألسنة ال ّلهب يف الفرن ،استفاق أتون
تأججت النّار ،كان
أيضا وأوقد الفرن وقذف فيه احلطب حتّى ّ
باكرا ً
ً
90
يظل يتالعب بالنّار يفعل ذلك بخ ّفة ونشاط وقنّينة النّبيذ ال تفارقهّ .
الساحر بح ّي ٍة رقطاءُ ،يثريها بحركاته البهلوان ّية فتقفز
مثلام يتالعب ّ
ثم تتكسرّ بخ ّفة لتندلع من جديد حمتدم ًة وحامية. تتلوى ّ
إىل األعىلّ ،
تظل حركاته هادئة وجه أتون متح ّفز ومرشق وهو يقذف باحلطبّ ،
مسه ج ّن ،يرقص كام ترقص النّار كمن ّ وعاشقة ،وفجأ ًة يرقص َ
ويمدّ ذراعيه يف خياله إىل حبيبة فريقصان ويرقصان.
كانت حبيبة يف ما يشبه الغفوة عندما وصلتها صيحات أ ّمها من
السخون»:«بيت ّ
« -حبيبة ،يا حبيبة ،اجري يا بنتي اجري».
شهقت حبيبة وتصدّ عت أنفاسها ،سارت بقبقاهبا الهث ًة وهي
السقوط ،وصيحات أ ّمها ال تتو ّقف« :اجري يا بنتي اجري».
تتفادى ّ
مل تصدّ ق شلب ّية ما رأته ،حدّ قت مندهش ًة يف الفتحة األرض ّية
داخل احلوض ،أخذت الفتحة تتّسع وتتّسع وانكشفت هلا يف اجلوف
الذهب وهي تلمع ،اتّسعت هبر ُة ال ّلمعان وأيقنت شلب ّية ّ
أن سبائك ّ
وأن اهلل استجاب لدعائها فوهبها من ما تراه ليس أضغاث أحالم ّ
نعيمه وخرياته.
« -انزعي القبقاب يا حبيبة وانزيل ..انزيل يا بنتي وما ختافيش».
اندهشت حبيبة ملا رأته ،أط ّلت عىل الفتحة وأذهلتها هبرة
الذهب ،نزعت القبقاب بخ ّفةالضوء ،شهقت وهي تتأ ّمل سبائك ّ ّ
السبائك وتس ّلمها
ونزلت وسط تلك البهرة اللاّ معة ورشعت تلتقط ّ
مرت ال ّلحظات حممومة ،حبيبة تلتقط ّ
السبائك املستطيلة إىل أ ّمهاّ .
91
اللاّ معة وشعرها متناثر عىل وجهها وكتفيها وأ ّمها حت ّثها عىل مزيد
أحست حبيبة بارختاء يف
االنحناء والتقاط سبائك أخرى .وفجأ ًة ّ
ذراعيها ،مسكتها يدان غليظتان من شعرها ،وقبضتا عليها بعنف،
فأطلقت رصخات فزع وهي حتاول أن خت ّلص شعرها من يدي اجلان.
كان جسده طويلاً وأسود .وجهه خشن وفكّه مد ّبب ،يف رأسه ريش
السواد.
أمحر يشبه التّاج ،عيناه واسعتان ومظلمتان ،كأنهّ ام تنفثان ّ
مرت ال ّلحظات قاسية وهي خت ّلص شعرها من اجلان األمحر وحتاول ّ
الصعود واخلروج من الفتحة .وظ ّلت أ ّمها ترصخ من األعىل:
ّ
ّ -
«الذهب يا حبيبة ،مازال اخلري الكثري يا كبدي ،هات يا بنتي
هات»..
أحست حبيبة ّ
أن قواها خارت ،وأنهّ ا تتهاوى ،لقد أطبقت اليد ّ
أحست كأنهّ ا تغرق وتغرق وتغرق فرصخت
الغليظة عىل أنفاسهاّ .
بإجهاد:
« -يا ّمي ط ّلعني ،ط ّلعني يا ّمي راين تعبت ..راين تعبت يا ّمي».
«الذهب يا حبيبةّ ..
الذهب». ّ -
« -اجل ّن األمحر باش هيرب ب ّيا يا ّمي ..ط ّلعني يا ّمي»..
«الذهب يا بنيتيّ ..
الذهب». ّ -
« -ياّ ..مي...را.....تع».............
الصغرية
تسمرت عينا حبيبة داخل الفتحة ّ
يف تلك اآلونة املرعبة ّ
السقف ،متنّت ساعتها أن ترى عيني أتون ،متنّت أن يصغي إىل
يف ّ
92
جتمدت متا ًما ومل ٍ
تلف عينيهاّ ،بغشاوة ّ أحست
رصخاهتا املكتومةّ .
بالرهبة
تعد قادرة عىل املقاومة والصرّ اخ .ويف حلظات مسكونة ّ
الشموع يف زوايا احلماّ م ،وظ ّلت شلب ّية يف تلك اآلونة
كل ّانطفأت ّ
مشلولة احلركة وال ّلسان ،أ ّما الفتحة فقد طفقت تضيق وتضيق
وتظلم وتظلم حتّى انغلقت متا ًما ،ومل تبق غري خصالت من شعر
حبيبة عالق ًة يف ُقطر تلك الفتحة عىل أديم احلوض.
***
السنة التي شهدت وفاة الباي
حدث ذلك سنة 1696وهي ّ
حممد باي املرادي وتوليّ أخيه رمضان باي احلكم ،هكذا حدّ ثني ّ
الزيتونة ،رسد يل احلكاية
الشيخ عبد القادر النّفزي ،وهو من شيوخ ّ ّ
يف حم ّله لبيع العطور بسوق الع ّطارين.
الشيخ :وماذا كان من أمر أتون يا س ّيدنا ّ
الشيخ؟ سألت ّ
نفسا عمي ًقا: الشيخ وهو يضع الن ّفة يف منخريه ّ
ثم يسحب ً قال ّ
الروايات يف شأنه ،وأغلب الظ ّن أنّه وجد م ّيتًا احلقيقة ،اختلفت ّ
يف غرفته املقابلة للفرن بعد ثالثة أ ّيام من وقوع احلادثة ،قالوا إنّه مات
كل يوم مخيس ظل ينبت ّأن شعر حبيبة ّ كمدً ا عىل حبيبته ..والغريب ّ
ثم هييج عىل زوايا الشعر من عيون صغرية ّ يف ُقطر تلك الفتحة ،يظهر ّ
قص تلك اخلصالت احلوض .وكان أصحاب احلماّ م يرسعون إىل ّ
أيضا ّ
أن احلماّ م السوداء خو ًفا من أن ينفر النّاس من احلماّ م ..وال ّثابت ً
ّ
الذهب ..بلاّ ع الصبايا .ومنذ يوم قد ُس ّمي منذ تلك احلادثة بحماّ م ّ
الذهاب إىل ذلك احلماّ م.اختفاء حبيبة امتنعت أغلب النّساء عن ّ
93
()5
هيلني
95
القرس ّية من تونس إىل مارسيليا .كان إليف ينزف وهو حيدّ ثني
والضياع منذ صافرة الباخرة التي أعلنت وصول ّ عن أ ّيام اجلوع
كل الوجوه العائالت اليهود ّية إىل ميناء فيوكس .يومها ،كانت ّ
ضاجة وغريبة.
ّ حزين ًة خاوية ونحن نلملم حقائبنا ونسري يف شوارع
يف األثناء كان إليف يمسك بيد شريا ،كأنّه خياف أن يفرتقا .ابتسامة
شريا ،يقول إليف ،هي التي جعلتني أشفى من حادثة قتل أدريان يف
الذهب.دكّان ّ
وجها لوجه مع سيمون ،عىل وقد شاءت األقدار أن تضع إليف ً
يتنزه
الربيعي كان سيمون ّ ٍ
رصيف قريب من امليناء .يف ذلك املساء
ّ
مع ملينا عندما وقعت نظراته عىل الوجوه املتعبة أمامه ،وكان يعلم
ترشدت يف األحياء الفقرية ،ف َع َرف
حكاية العائالت اليهود ّية التي ّ
أن تلك األكوام من ال ّلحم حتتاج إىل مساعدة .وكان ذلك بحدسه ّ
بحي لو بانري القريب من احلظ ،سب ًبا يف استقرارنا ّّ ال ّلقاء ،حلسن
ومتزقتامليناء .سكنت عائلتا إليف وشريا يف ش ّقتني متجاورتنيّ ،
العتمة فعلاً يف تلك األ ّيام .وما ال ينساه إليف ،الكلامت األوىل التي
قاهلا سيمون:
-أ ّما أنت يا إليف فستساعدين يف متجري ،إالّ إذا كان لك رأي
آخر.
استطاعت عائلتا إليف وشريا االنسجام مع أجواء العيش يف
حي لو بانري ،ومل تكن احلياة مع ّقدة هناك ،بل هي شبيه ٌة إىل حدٍّ كبري
ّ
بأجواء احلياة يف املدينة العتيقة بتونس ،كام تقول شريا ،فقد كانت
واستقرت
ّ هناك عائالت هيود ّية كثرية هاجرت من شامل إفريقيا
96
واملمرات الض ّيقة وامللتوية وتكاثر
ّ احلي ،باإلضافة إىل األهنج
يف ّ
املباين الباستيل الغريبة واملنازل القديمة .إنهّ ا فسيفساء من األلوان
والروائح ،تشبه قطع ًة أثر ّية إىل حدٍّ كبري .وحي لو بانري هو ّ
حي ّ
الصباح الباكر ينهض ال ّطبقة العاملة ،هتدأ احلركة يف ال ّليل ويف ّ
الصباحي،
الصخب ّ تأهب واستنفار .يروق يل ذلك ّ اجلميع يف حالة ّ
ويضجون ويغنّون يف ال ّطرقات الض ّيقة والواسعة.
ّ هيمهمون
حي لو بانري ،تلك ال ّ
متل شريا من حمادثتي عن أ ّيامها األوىل يف ّ
األ ّيام كانت الفتة بالفعل وال متحى من ذاكرهتا ،فلم يكن من اليسري
ٍ
جديد وجمهول .ويف احلقيقة، حي
أن تتأقلم العائلتان الغريبتان مع ّ
الرب كان رؤو ًفا بالعائلتني ،صحيح ّ
أن العامرة التي توجد ّ
فإن ّ
داخلها الشقتان مل تكن حديثة ،لكنّها يف املقابل ليست متداعية مثل
واألهم أنهّ ا ختلو من ضجيج األطفال .ش ّقة
ّ احلي،
الكثري من عامرات ّ
إليف ال ختتلف يف تصميمها عن ش ّقتهم ،االختالف األبرز كان يف
الصالون.
منفتحا عىل ّ
ً أرصت أ ّمها عىل أن يكون املطبخ فقد ّ
ٍ
بسعادة جمرد التّشابه بني الش ّقتني ُيشعرين
تقول شريا« :كان ّ
غامرة ،فأنا أخت ّيل إليف وهو جالس عىل األريكة يف الصالون ،أخت ّيله
وهو جيالس األ ّم أمايا يف الشرّ فة ،أو حني خيتيل بنفسه يف غرفة النّوم.
حيسعيل األسئلة« :هل يراين إليف بقلبه كام أراه ،هل ّ تلح ّ وكثريا ما ّ
ً
مشوشة أحس به من رغبة حممومة يف احتضانه؟» .كانت نظرايت ّ بام ّ
السقف واجلدران ،بل تكاد خترتق اجلدران لتالمس يدي بني ّ
كل يوم عىل االستيقاظ مبكّرة ألتابع خروجه من إليف .أحرص ّ
ثم ينزل أدراج الس ّلمالشقة برفق ّالشغفُ ،يطبق باب ّ الش ّقة بكامل ّ
97
ويتّجه إىل متجر سيمون .يف تلك األثناء يقودين قلبي إىل األ ّم أمايا،
أسميها األ ّم أمايا ألنهّ ا
إىل حضنها ،إىل حضن إليف يف الواقع .وأنا ّ
كل يشء ،يف ابتسامتها ،يف قبالهتا ،يف حرارهتا. كانت تشبه أ ّمي يف ّ
ما إن تفتح الباب حتّى تأخذين بني ذراعيها ثم جتلسني بجوارها
لنحتيس قهوتنا الصباح ّية .األ ّم أمايا ورثت عن أ ّمها ،هكذا حدّ ثتني،
حي
راسخا بذاكرهتا يف ّ ً الرصاص ما بقيالرسم ،ترسم بقلم ّ موهبة ّ
احلارة ،وترسم مدينة تونس العتيقة كام عرفتها وكام أح ّبتها .وأكثر
الصالون وغرفتي النّوم واملطبخ ختص هبا زوجها أدريان ،يف ّصورها ّ
تطالعني صورة أدريان وهو يبتسم ،وهو يتط ّلع إىل األعىل أو ر ّبام إىل
املجهول .كانت حتدّ ثني عن إليف ووجهها املستدير منرشح دو ًما،
يتذكر أ ّيامحتدّ ثني عن طباعه ،عن مزاجه ،عن إطراقه أحيانًا وهو ّ
مترر يل وصاياها املرات كنت أحدس أنهّ ا ّحي احلارة .ويف كثري من ّّ
حب مل تعد قصة ّ كي أسعد إليف بعد زواجنا ،هي تعرف أنّنا نعيش ّ
«احلب هو طريقنا األرسع ّ احلب،
ّ خافي ًة عىل أحد ،وهي تبارك هذا
الرب» ،تقول يل ،ثم تستأنف ضاحكة« :ال تنيس يا شريا ّ لطاعة
حيب تلك املالعق يا شق ّية». املالعق الفض ّية يف جهازك ،إليف ّ
كنت أكتفي بمرافقة األ ّم أمايا يف الفرتة الصباح ّية ،أعرف ّ
أن
أحب طب ًعا أن يصادفني هناك،
ّ إليف سيعود مسا ًء إىل الش ّقة ،وال
نلتقي عمدً ا يف الس ّلم لتالمس يدي يده أو نلتقي يف عشاء ليلة
املرات
السبت ،كنّا نحرص عىل تنظيم عشاء مجاعي ويف الكثري من ّ ّ
يشاركنا العزيز سيمون عشاءنا البهيج .وأثناء العشاء كانت عيوننا،
احلب العظيم».
الرب حتتفل بعرس ّ أنا وإليف ،وبمباركة ّ
98
ثم ّ
تطل شريا أستمع إىل نقرات خفيفة عىل باب غرفتيّ ،
الصباحية:
بابتسامتها ّ
-صباح اخلري يا ق ّطتي.
ثم تُرسع إىل فتح النّافذة ،تصادف حترض شريا فنجان قهوة ّ
سيمون وهو جيلس عىل كرس ّيه متأ ّملاً اجللبة يف ّ
احلي.
-كيف احلال سيمون؟ أراك اليوم أفضل.
تصلني ضحكة سيمون:
-كام ترين يا شريا ،تشاغبني رجيينا من أجل أن نخرج يف جولتنا
الصباح ّية .
الصغرية ،تعيد الكتب إىل
تغادر شريا النّافذة وتلتفت إىل مكتبتي ّ
ثم متيض .شريا حتافظ
أماكنها وتلتقط الكؤوس والفناجني املبعثرة ّ
واحلق أنهّ ا ال هتمل مظهرها ،ينبغي أن يكون
ّ عىل رشاقتها وأناقتها،
املظهر الئ ًقا دو ًما ،تنصحني باستمرار ،لذلك فهي ال تتو ّقف عن
ّ
وككل صباح تصليّ أمام االعتناء ببرشهتا البيضاء وشعرها األسود.
ثم ترسم اإلطار الكبري الذي ع ّلقت فيه صورة إليف ،تدمع عيناهاّ ،
ابتسامة مرشقة حلبيبها الذي رحل ،لكنّه ال يرحل من قلبها أبدً ا.
بحي لو بانري كان مؤس ًفا ،بل
ما حدث مع شريا يف سنتها الثانية ّ
كارثة ،فقد مات أبوها وأ ّمها م ًعا وهي مل تبلغ بعد س ّن ال ّثامنة عرشة
مروع قرب امليناء ،بعد أن صدمهام ٍ ِ
بعد ،ماتا نتيجة حادث س ّيارة ّ
صيفي حزين .نشجت شريا يومها وأحنت ّ شاب خممور يف مساء
ّ
99
السهل أن تفقد أباها وأ ّمها يف رمشة عني.
رأسها كمدً ا ،فلم يكن من ّ
ٍ
بحرقة ويف ذلك اليوم احلزين ،ل ّفها إليف بذراعيه وهو يبكي معها
وشملتهام م ًعا مالمح اجلحيم .ال أحد يف تلك ال ّظروف كان واث ًقا
أن شريا ستنهض من حالة الغيبوبة .مضت ثالثة أ ّيام عىل ذلك من ّ
ليل هنار .ويف صبيحة اليوم الوضع يف املستشفى ،وإليف بجوارها َ
الرب أعاد إليه قلبه ،وعندما
أن ّ الرابع استفاقت شريا وعرف إليف ّ ّ
أرصت شريا عىل أن تكون املراسم تزوجا بعد أشهر من تلك احلادثة ّ ّ
الشموع ،وقد عاد ّية .اكتفت العائلة بعشاء مساء اجلمعة عىل ضوء ّ
أهداها سيمون حينها قالد ًة ذهب ّية نُقش عليها اسمها .يف احلقيقة،
ٍ
رجل قلب
بأن لسيمون َتلك اهلد ّية فاجأت اجلميع ،وأعطت انطبا ًعا ّ
شك ،رمز التّضامن بني اليهود، استثنائي ،فهو منقذ العائلة وهو ،بال ّ
ّ
والترشد .تارخينا
ّ هذا التّضامن الذي أنقذ آالف العائالت من اجلوع
كان حزينًا ومؤ ًملا ،لكنّه ،كام قال إليف ،ع ّلمنا كيف نصرب ونتضامن
فاحلب هو الكلمة السحر ّية التي رست يف عروقنا ،بل هو ّ ونحب.
ّ
نتحمل أوجاعنا ونقاوم.
ّ الرس العظيم الذي جعلنا ّ
متعرق، ال تذهبي إىل ميناء فيوكس ،تقول يل شريا ووجهها ّ
كربت
ُ الرصيف .وعندماإن دمنا ال يزال عىل ّ ال تذهبي إىل هناكّ ،
بالتنزه
ّ رصت بالفعل أتفادى ّ
الذهاب إىل امليناء .كان إيزاك يغريني ُ
ّ
ويظل الساحرة وتناول حساء غالل البحر، يف تلك الواجهة البحر ّية ّ
يطاردين وحيارصين بنظراته ،وكنت أهرب من قبضته .طباعه غريبة
أحتمله إالّ من أجل العزيز سيمون .ويف أعامقي كنت وحا ّدة ومل أكن ّ
راهق مرتبك. وهتوره وهو حياول تقبييل مثل ُم ٍ أضحك من غبائه ّ
100
كل إحساس، ومقززة خالية من ّ
ّ كان يكتب يل رسائل بلهاء مقرفة
واألدهى من ذلك أنّه كان يرفقها بصور خليعة وفاضحةُ ،معتقدً ا
الصور .البائس! بمجرد أن أتط ّلع إىل تلك ّ
ّ أنيّ سأسقط يف حضنه
عيل .ويف الواقع، كان كذئب ينتظر ال ّلحظة احلاسمة لالنقضاض ّ
خممورا يف أهنج
ً كنت أعيش حلظات رعب حقيق ّية وهو يعرتضني ُ
مر ٍة أنجو من جحيمه ،أركض وأحتمي بمنازل احلي الض ّيقة ويف ّ
كل ّ ّ
الغرباء ،ومل أكن أشكو أمره ألحد ،كنت أنزف يف صمت حتّى ال
تتعكّر عالقة إليف بسيمون.
أصبحت مدمن ًة عىل تناول حبوب النّوم ،ال
ُ يف أ ّيامي األخرية
عيل أن أخلد إىل نوم طبيعي مثل البرش، أنام إلاّ خمدّ رة ،يستعيص ّ
الذكريات إىل أ ّيامي البعيدة ،إىل طفولتي ،إىل حضن أيب، تسحبني ّ
للمرة
إىل ضحكته ،إىل ارتعاشة يديه قبل أن تسقطا أمامي وتنطفآ ّ
األخرية .مل أكن أعرف املوت ،كنت أجهل ذلك املارد ،و ّملا مات
جرحا
ً تغيت نظريت إىل العامل ،مل يعد العامل زهر ًة مجيلة ،أصبحإليف رّ
مرو ًعا مثل تارخينا املرعب. ناز ًفاً ،
جرحا ّ
املروعة التي مات فيها إليف .كان يف تلك السنة ّأذكر تلك ّ
حيس به من نحس بام كان ّ الفرتة يشكو من أوجاع يف القلب ،ومل نكن ّ
كثريا موت األ ّم أمايا .كنت أسمع رصخاته يف بعض أمل ،وقد أرهقه ً
املر ،كان يبكي عىل صدر شريا ويرتعش: ال ّليايل وحيزنني نشيجه ّ
ثم يشهق باك ًيا .كان أيب مقاتلاً «أدريان ..أمايا ..أدريان» ،يتمتمّ ،
صغريا لبيع
ً خي أن يفتح حملاًّ
بحق .بعد أن اشتغل يف متجر سيمون رّ ّ
أن سيمون ساعده لكي حي ّقق حلمه ،وهو يعرف ّ
أن واحلق ّ
ّ الذهب، ّ
101
املسألة عىل غاية من األمه ّية عند إليف .وكان إليف يرغب يف إحياء
فالزمن
الذهب يف سوق القرانةّ ، ذكرى مجيلة ،ذكرى أدريان ،تاجر ّ
مل ينسه تلك األ ّيام ،وال غابت صورة أبيه عن ذاكرته يو ًما .ويف فرتة
وجيزة متكّن من حتقيق أرباح ج ّيدة وأصبحت مصاغته مشهورة يف
كثريا ما ير ّدد
شارع سانت فرييول« .املصاغة هي هد ّيتي لشريا»ً ،
كل عثرايت ومل إليف« ،وهي عربون وفاء للمرأة التي ساندتني يف ّ
تيأس» .واملصاغة مل تنجح كذلك إلاّ بجهود شريا ،فقد امتلكت
مهارة التّجارة بالفطرة ،وكانت حتمل معها نامذج ممّا يبدعه إليف من
خواتم وأساور وقالئد وتبيعها يف األحياء القريبة ،تنتقي زبائنها بد ّقة
أن إليف كان واحلق ّ
ّ وتنجح يف إقناع النّساء بجودة ما يصنعه حبيبها.
بار ًعا كام تقول شريا .مل تكن له موهبة فحسب ،بل كانت له إرادة
الذهب. ٍ
أشكال مبهرة من ّ خارقة يف صنع
كنت أميض وقتًا طويلاً مع إليف عندما تنشغل شريا باملصاغة، ُ
بأن جرحه ال يتو ّقف
الشديد ،ولطاملا انتابني اإلحساس ّ أحلظ إرهاقه ّ
حيك ذقنه بأطراف أصابعه ،أعرف يف تلك عن النّزيف .وعندما ّ
وكثريا ما كان يأخذ ك ّفي بني يديه
ً ال ّلحظات ّ
أن أيب يفكّر ويتذكّر.
وتشع عيناه بفرح غامر وهو يتالعب بأصابعي .يحُ دّ ثني طوي ً
ال عن ّ
ذكرياته يف سوق القرانة وعماّ عاشه اليهود من أ ّيام بائسة .فيوقظ يف
داخيل أسئل ًة مربكة :ملاذا كان األمر كذلك مع اليهود؟ وملاذا عرفوا
تلك املحارق؟ هل كانوا حيملون ذلك اإلثم الذي يستح ّقون بسببه
والعقاب؟ مل يكن األمر متع ّل ًقا بمحرقة اهلولوكوست
َ الت َ
ّنكيل
الشنيعة فحسب ،بل بمجزرة أوديسا وجمزرة بايب يار ،وغريها ّ
102
وغريها من املجازر ،إنهّ ا العتمة التي تالحقنا يا ابنتي وحتارصنا يف
ّ
كل مكان.
ذات يوم ،وال أنسى ما قاله إليف ،كان ُيثري شعري وهو حيدّ ثني:
-ال أعتقد ّ
أن أجدادنا كانوا خمطئني ،قد يخُ طئ واحد أو اثنان،
السنوات التي
لكن ،أن خيطئوا مجي ًعا فهذا مستحيل .يف تلك ّ
هاجروا فيها من مدينة قرنة ليفورنو نحو تونس كانوا يعيشون
أحلك أ ّيامهم ،أ ّيام اخلوف واملهانة والفقر .ويؤكّد األجداد
الذهب يف األرض التيأن بعض العائالت دفنت الكثري من ّ ّ
الذهب ،فعلوا ذلك نتيجة تلك ال ّظروف تعرف اليوم بحماّ م ّ
القاسية .أرض احلماّ م كانت بستانًا مهملاً ،تُلقى فيه الفضالت
واألشياء القديمة ،وكانوا يتس ّللون ليلاً إىل ذلك البستان
خاصة ٍ
ويخُ فون جموهراهتم يف شكل مدافن ويضعون إشارات ّ
هبا .والغالب عىل الظ ّن أنهّ م كانوا يفعلون ذلك يف ال ّليايل
العاصفة واملمطرة ،كام حدّ ثني أدريان.
كثريا ما حتدّ ثني عن أمر تلك
أيضا كانت ً
أن شريا ً ما لفت انتباهي ّ
الدّ فائن .النّساء اليهود ّيات ك ّن خيفني جموهراهت ّن ّ
وكل ما يملكن من
محام ّ
الذهب ،ك ّن خيشني عىل ذهبه ّن ذهب يف األرض التي بني عليها ّ
من رسقة األوغاد وال ّلصوص ويرسمن يف زوايا تلك املدافن شكل
سمكة من ب ّلور ،أعتقد ذلك .وعندما أمر الباي ّ
حممد باي املرادي
محام يف تلك األرض مل تقدر النّساء عىل سحب ذهبه ّن وبقي ببناء ّ
عال ًقا هناك .وبالفعل ،مل يكن اليهود الذين ح ّلوا بتونس يف القرن
103
السابع عرش ك ّلهم فقراء ،تؤكّد شريا وتثري انتباهي .لذلك عرفت ّ
أن احلكاية التي تقول ّ
إن فتاة أنزلتها أ ّمها يف فتحة باحلماّ م إلخراج ّ
ثم انغلقت عليها تلك الفتحة األرض ّية وابتلعتها حكاي ٌة الذهب ّ ّ
صحيحة ،وال أعتقد ُمطل ًقا أنهّ ا أسطورة أو خرافة كام يعتقد النّاس
يف تونس.
الذهب ،وألجل تلك احلكايات جعلتني ح ًّقا منشغلة بحماّ م ّ
ووسعت عدت إىل كُتب التّاريخ للبحث عن تارخينا يف تونسّ ، ُ ذلك
البحث مع بعض معارفنا من أصدقاء إليف .يف احلقيقة مل أصل إىل
عيل أن أحسم قراري وأسافر إىل تونس نتيجة حاسمة ومرحية ،وكان ّ
هاجسا
ً الذهب الذي ّ
ظل محام ّ لدراسة التّاريخ وتوسيع أبحاثي حول ّ
املنيس.
ّ يوم ًّيا ،واألمر ال يتع ّلق بالكنوز فحسب ،وإنّام يتع ّلق بتارخينا
بعد ثالثة أ ّيام من رحيل إليف عاد إيزاك إىل مطارديت برضاوة
أشدّ وعنف أكرب ،كنت فريسة صاغرة يف نظره ،ولن أقوى عىل
يرتصدين
املقاومة بعد أن رحل أيب .هكذا كان يعتقد البائس .فكان ّ
يف تلك ال ّظروف املشحونة بالفراغ واحلزن ،نظراته خترتقني ّ
وتعريني،
وكنت أعرف ما يريد .اخلسيس ،يشتهي أن يسحقني بوجهه القبيح
وبرائحته النّتنة .لن أنسى ذلك اليوم الذي صادفني فيه عند الدّ رج،
رمقني بعينني ثاقبيتني ،نار ّيتني ،مل َأر من قبل مثل ذاك احلقد الذي
وطوقني باليد األخرى ّ عشش فيهام ،وضع يده عىل فمي ّأوالً ّ
ثم حت ّينت الفرصة
متاوت أمامه ّ
ُّ بشدّ ة .وعندما عجزت عن مقاومته،
وحتررت منه ونزلت األدراج برسعة .ويف تلك ال ّلحظات القاسية ّ
ارتعشت وبكيت يف حضنها مصعوقة .مل أكن واثقة ُ أنقذتني شريا،
104
مررت أمامه
ُ أ ّيامها أنيّ سأنجو ،كان متع ّفنًا إىل درجة ال تطاق ،وك ّلام
أطلق ضحكة داعرة وهتف:
اهلرة ،أعرف أنّك لن تقاومي طويلاً .
-ستسقطني قري ًبا أ ّيتها ّ
تعرضت إىل مضايقات الشقراء اجلميلة ّ صديقتي ماريا ،تلك ّ
إيزاك ،وهي تعيش ما أعيش من توتّر حتّى إنهّ ا ال تستطيع النوم
إلاّ بعد تناول احلبوب املهدّ ئة .إنّه حيوان ،تقول يل ماريا بكثري من
احلنق واالنزعاج .والغريب أنّه ال يملك إحساس برشُ ،يميض كامل
اليوم نائماً ويستفيق يف املساء ليشنّع يب وبامريا ،حتّى شريا انتبهت إىل
ٍ
للحظة يف أن ذلك املعتوه والذت بالصمت ،بل ال أدري ملاذا فك َّر ْت
الزواج منه؟ «سيمون ّملح يل» ،كانت تقول يل ضاحك ًة ّ
ثم أوافق عىل ّ
تضيف:
يشك يف هذا ..ويف مقابل ذلك متهور ،ال أحد ّشاب ّ
ّ -إيزاك
ثم نحن ال ننسى ما فعله معنا ،إنّه رجل كريم
سيمون ط ّيبّ ،
أيضا مل يكن ليامنع هذهواستثنائي ..إليف ،العزيز إليف ً
ّ
الرجل بشكل الفت. يغي سلوك ّوالزواج يا هيلني رّ
الزجيةّ ..ّ
ثم تستأنف مازحة:
عيل بصدرها ّ
متيل ّ
-يا ق ّطتي اجلميلة ،أنت ستعيدين تربية إيزاك عىل النّحو
األمثل ..فامذا نفعل هلذا ّ
الشباب املندفع؟
ال أدري ملاذا كنت أربط بني صورة إيزاك وتارخينا ّ
املعذب؟
الراقية
هيودي ،لكنّه مل حيمل من اليهود ّية تلك القيم ّ
ّ صحيح أنّه
ّ
العاق ،امللدوغ باحلمق ،كانت ّ
األقل .االبن التي مت ّيز سيمون عىل
105
هي صورة إيزاك من وجهة نظر سيمون .وأنا كنت أعرف ّ
أن إيزاك
مل يكن قدَ ري ،ال أدري ملاذا كان يف باطني إحساس جمنون يقودين
إىل بلد األجداد ،ومل أكن أنتظر البتّة أن أصادف سعدً ا يف يوم حزين
مثقل باخليبة.
أنتبه إىل رنني اهلاتف ،أقفز جّ
باتاهه وهو بني كتابني ،أقرأ عىل
ثم أفتح ّ
اخلط: الشاشة اسم الرا ّّ
كثريا ..كيف حالك يا ق ّطتنا اجلميلة؟
-ماما ،اشتقت إليك ً
-بخري حبيبتي ،فقط بعض اإلرهاق ،وأنت تعرفني...
-األمر متع ّلق بسعد؟
-ال أدري ماذا حيصل معه هذه األيام ،هاتفه مغلق ،وهو ال ير ّد
أيضا.
عىل رسائيل ً
أيضا؟
-وماذا ً
-أنت تعرفني يا الرا ،تعرفني ّ
كل يشء.
-ط ّيب ،يف هناية األسبوع سأزورك يا ق ّطتي وانتظري مفاجأة
منّي .ال تسأليني اآلن أرجوك وال تفكّري يف األمر طويلاً .
األهم من ذلك فكّري يف العزيز سعد ،إنّه حيتاج اآلن إىل ّ
الكثري من االهتامم ..إنّك تنشغلني طويلاً بالتّاريخ وباملصاغة
وهتملني قلبكِ ..عديني ماماِ ،عديني أن تفكّري أكثر يف
سعد ..باي ماما ..قباليت..
ثم هترب،
تغلق الرا اهلاتف ضاحكة ،كدأهبا دو ًما ،تشاغبني ّ
أجلت فتحه لسنوات وسنوات ،ما بل هي تنفض الغبار عن مغ ّلف ّ
106
الذي كان خييفني؟ كنت أسأل نفيس ،ما الذي كان يربكني؟ وهل
الشكل؟ ال أعتقد أنيّ عىل عيل أن أنقاد إىل توصيات شريا بذلك ّ
كان ّ
درجة كبرية من اجلبن ،دموع شريا سحقتني متا ًما ،وكنت أنقاد إليها
كهرة صغرية.
ّ
منعرجا يف حيايت ،وهو
ً يوم 13مارس من سنة 1992م ّثل
اليوم الذي يوافق عيد ميالدي .بعد سنتني تقري ًبا من ارتباطي بسعد،
كل التفاصيل ،إىلمل أكن أخفي شي ًئا عن شريا ،بل كنت أمكّنها من ّ
الرجل الذي انتشلني من هشاشتي وقادين حدّ ال ّثرثرة .أحكي هلا عن ّ
حب يف هذا
إىل تلك األحاسيس املبهرة التي تقول يل :أجل ،يوجد ّ
رس ّية ،ال نراها بعيوننا ،فقط
ثمة سنابل ّالعامل .بجانب طاحونة املوت ّ
ّ
وتظل تقاوم يف نبرصها بقلوبنا ،سنابل سامقة ،ال تذبل وال تنحني،
ٍ
مواجهة ضارية مع طاحونة املوت تلك.
مرة يف ش ّقتنا ،بعد ثالث سنوات ألول ّ
يف ذلك اليوم زارنا سعد ّ
الزيارة وحتدّ ثت طويلاً مع دت لتلك ّ مه ُمن موت إليف .يف احلقيقةّ ،
السوداو ّية املحبطة وتدرس شريا ،وكان عليها أن تتخلىّ عن أفكارها ّ
اختياري بحكمة .كنت أعرف انطباعاهتا عن سعد ،األمر يتع ّلق
احلب؟ تق ّطب
بكونه مسلماً ،وهو ما يثري انزعاجها وخماوفها .ماذا بعد ّ
الزواج فكان مستحيلاً وال يقبل النّقاش. جبينها وتسألني ،أ ّما أمر ّ
مسجل إيزاك ،حتاول ّ
بكل ّ ويف األثناء كانت شريا تعيد عىل مسمعي
الزجية .وسيمون مل يبق صامتًا ،فاتح شريا يف احلجج أن تقنعني هبذه ّ
أيضا بتغيري
املوضوع ،قال إنّه يطلب ذلك وفا ًء لروح إليف ،ووعد ً
طباع ابنه املزعجة« ،إيزاك ال بدّ أن يزور طبي ًبا نفس ًّيا» ،يؤكّد سيمون.
107
كانت شريا حتدّ ثني وعيناي مغمضتان .كنت أركض مندفعة نحو
الريح التي كانت تدفعني إليه مل تكن مسمومة.
أن ّسعد ،وأعتقد ّ
احلق ّ
أن شريا استقبلت َسعدً ا بابتسامة مرشقة ال تتخلىّ عنها يف ّ
السوق
العادة مساء اجلمعة .وقبل ذلك كانت مبتهجة وهي تعود من ّ
حمملة بام يلزم إلعداد عشاء الئق بضيفنا .وقد جلب سعد من جهته
ّ
وأكياسا صغرية من التّوابل والبهارت
ً كرتونة من النّبيذ األمحر
واهلريسة التونس ّية التي حت ّبها شريا .أوصيت سعد بأن جيلب ّ
كل ذلك
معه ،وأعرتف أنيّ كنت أعدّ خم ّط ًطا يف رأيس لتكون انطباعات شريا
مشجعة .بدا سعد عىل غري عادته خجولاً ومقلاًّ يف الكالمّ األوىل
املرة األوىل التي أالحظ فيها ذلك ،وبني فينة وأخرى
معي ،وهي ّ
ثم ينشغل بتأ ّمل صورة إليف يف أعىل اجلدار
يغمزين بعينه اليرسى ّ
املواجه له.
أعدّ ت شريا مائدة تفوح منها رائحة تونس كام هتف سعد،
كسكس باللحم واخلضار ورشائح من ال ّلحم املطبوخ وتشكيلة
الصالون من السلطات والفواكه .أ ّما أنا فأشعلت ّ
الشموع يف زوايا ّ
وأحرضت قارور ًة من النّبيذ األمحر .شموع شباط تيضء قلبي
السكينة التي أحتاج إليها يف هناية األسبوع .يف
وتسكرين بتلك ّ
ثم ابتسم يل وهو يرفع كأسه .ويف صحتك ،هتف سعد جّ
باتاه شرياّ ، ّ
األثناء استغرقت شريا لبعض ال ّلحظات يف الدّ عاء وترديد صالهتا يف
ثم قالت:
صمت ّ
-رائع هذا النّبيذ يا سعد ،وأظ ّن أنّنا سندمن عليه.
108
يف الواقع ،ال ّطبخ هو جمال شريا ،تعتربه من مها ّمها النّبيلة داخل
البيت .منذ العارشة من عمرها وهي مغرمة بال ّطبخ الذي تراه فنًّا من
الفنون العظيمة ،وهو عندها مزيج من الثقافات ،إسبان ّية وإيطال ّية
تلف رأسها وفرنس ّية وتونس ّية باخلصوص .عندما تدخل املطبخ ّ
حي احلارةبمنديل وتغيب ،كأنهّ ا تقوم بواجب مقدّ س .تر َّب ْت شريا يف ّ
بت تدر ْ
حيث تتعاىل صيحات ّجتار التّوابل واخلرضاوات ،وهناك ّ
عىل روائح املأكوالت .ال أحد ينافس شريا يف األطباق ال ّلذيذة ،أ ّما
الس َلطات ،ويف أحسن أنا الكسولة فأكتفي بتقشري البطاطا وإعداد ّ
حار ًة كام حي ّبها سعد بطبيعة احلال.
العجة ،وال أجعلها ّ ّ احلاالت أعدّ
ظل احلديث يق ًظا طوال الوجبة التي انبهر هبا سعد ،الحظت ّ
األقل من اهنامكه يف األكل برشاهة .يف العادة ،سعد يرشب ذلك عىل ّ
أيضا
بالصحة يف ما أعتقد ،هو ً ّ مرض
ّ النّبيذ أكثر ممّا يأكل ،وهذا
يعتربها عادة س ّيئة كربت معه« .الفقر الكافر يا هيلني ،جيعلنا ال نأكل
كثريا لنوهم املعدة بأنّنا أكلنا
كام جيب ،ونحن الفقراء نأكل اخلبز ً
بالشكل اللاّ زم» ،هكذا كان يقول ك ّلام و ّبختُه.
ّ
مهست يف أذن سعد:
-من الواضح أنّك ستدمن عىل أكالت شريا.
قال ضاحكًا:
ٍ
ملسات سحر ّي ًة. احلق ّ
أن للس ّيدة شريا ّ -
كانت شريا تدرس بطرف عينها نظرات سعد وحركاته وطريقته
وتسجل مالحظاهتا يف رأسها« ..سعد منسجم
ّ يف األكل ،تتابعه بد ّقة
109
أي يشء،
متام االنسجام مع مائدتنا امللك ّية ،وهو ال يندهش من ّ
وبطبيعة احلال هيلني هي من ع ّلمته عاداتنا يف شباط ،وال ينقصه إالّ
حيب هيلني ويرغب
أن يعلن هيود ّيته ،وهو أمر غري مستبعد إذا كان ّ
املهم ّ
أن شريا كانت عىل غاية رسهاّ .
يف االقرتان هبا» ،تقول شريا يف ّ
مرة ،وذاك ما أعطاين انطبا ًعا
ألول ّ
من االرتياح وهي جتالس سعدً ا ّ
بأن شريا لن تصفني باحلمقاء ألنيّ عشقت صاحب الوجه ّأول ّ
األسمر املستدير.
فاجأتني شريا وهي تسأل سعد:
-ملاذا ال تلتزم بتعاليم اإلسالم يا سعد؟ أنت ترشب اخلمرة
ثم إنّك ال تصليّ ..أرجوك ،ال
حمرمة يف رشيعتكمّ ،
وهي ّ
تغضب منّي ،فقط أريد أن أفهم.
110
بالفعل ،ظ ّلت عالقتنا بديننا عالقة سطح ّية وبراغمت ّية ،طب ًعا
الصالةأنت تفهمني ما أعني بالرباغمت ّية ،أحتدّ ث هنا عن ّ
كل ذلك بحكم والصوم وعن مناسباتنا الدين ّية .أغلبنا يفعل ّ
ّ
كثريا منّا يف تونس يص ّلون إن ً أقل ،بل ّ العادة ،ال أكثر وال ّ
ويرشبون اخلمرة ويصومون ويرتكبون الفاحشة وخيرجون
الزكاة ويقهرون املساكني ويعطفون عىل الفقري يف تناسق ّ
غريب ،إنهّ ا الفوىض ،الفوىض اخللاّ قة يا س ّيدة شريا .وعندما
كل هذا التناقض ال يستطيع بالفعل أن تسألني أحدهم ملاذا ّ
ثم يؤكّد لك أنّه مسلم، جييبك .يبحلق يف وجهك ويضحك ّ
ثم
وهو غري مستعدّ ألن يرتك دينه إىل اليهود ّية أو املسيح ّيةّ ،
يسألك وهو منفعل :هل تريدين أن أكون ملحدً ا؟
تشهق شريا وتقول:
-ليس إىل هذا احلدّ يا سعد ..أنت تبالغ وتتحدّ ث عن رشحية
ض ّيقة من املسلمني.
-بل أؤكّد لك أنهّ ا الشرّ حية الواسعة ،أعني بذلك عا ّمة النّاس.
كل املنابر ،ويفالنّظام ض ّيق اخلناق عىل العباد يف املساجد ويف ّ
والتطرف.
ّ هذه احلالة لن ننتظر غري اليأس والالمباالة
يرشب سعد كأس النّبيذ ويسرتسل:
111
االنتخابات التّرشيع ّية منذ ثالث سنوات ..نحن نعرف ّ
كل
يشء ،والقفز إىل األمام دون معاجلة اخللل ينتج العنف ،ويف
األخري املواطنون األبرياء فقط يدفعون ال ّثمن.
كل احلاالت ال بدّ من عالقة -أجل ،أوافقك يا سعد ،ويف ّ
واضحة بالدّ ين ،ليس بحكم العادة وإنّام نتيجة اإليامن.
-املسألة ال تتع ّلق باإلسالم فحسب ،وإنّام تتع ّلق بالدّ يانة
أيضا .أنت تعرفني أكثر منّي الصرّ اع بني املتد ّينني
اليهود ّية ً
وغري املتد ّينني ..باإلضافة إىل املامرسات العنرص ّية بني اليهود
السفارديم). الغرب ّيني ّ
الشقر (األشكيناز) واليهود الشرّ قيني ( ّ
حمق يف هذا ،ونحن اخرتنا املنطقة -أجل ،أجل يا سعد ،أنت ّ
الوسطى ،احلقيقة نحن ال نط ّبق التوراة بشكل كامل مثل
مجاعة احلريديم الذين ُيغالون يف التد ّين ..وأنت عىل ا ّطالع،
مرت بنا ،وكان علينا أن نتأقلم ّ
الشك ،باأل ّيام العاصفة التي ّ
مع األوضاع مع عدم التّنازل عن اليهود ّية ّ
بكل تأكيد.
-كذلك نحن ،بالدنا معجونة بتاريخ غريب ،تاريخ الغزوات
واخليانات ،االنتصارات واالنكسارات ،لك ّن اهلزائم هي
أيضا عىل
تعرضنا له نحن ً تعرضتم له من مذابح ّ السائدة ،ما ّّ
مر التّاريخ ،وال أدري من يقود هذا العامل البائس؟ّ
لعل ما فاجأين أكثر ،بل أذهلني ،هو ما طلبته شريا من سعد. ّ
بالضبط؟ هل أرادت اختبار سعد ّ
بالشكل الكايف؟ ماذا أرادت شريا ّ
أم أرادت أن يكون لنا رجل نثق به يف حياتنا؟ ونحن بالفعل نحتاج
إىل رجل حقيقي يبدّ د خماوفنا ممّا سيأيت.
112
قالت شريا وهي تنظر عمي ًقا يف عيني سعد:
-ماذا لو طلبت منك يا سعد أن تدير مصاغتنا يف شارع سانت
فرييول؟ سنكون ،أنا وهيلني ،سعداء ّ
بكل تأكيد.
ما قالته شريا شكّل مفاجأ ًة لسعد ،العرض كان عىل غاية
من األمه ّية ،سعد ،يف املقابل ال يزال يتابع دراسته يف كل ّية اآلداب
مهم عند شريا،
بمنّوبة ،كيف سيكون املوقف؟ واألمر كام الحظتّ ،
مخنت ،سرتتبط به ّ
كل القرارات التي سرتد الح ًقا. وكام ّ
ّ
ظل سعد ُمطر ًقا للحظات ّ
ثم قال:
-يف احلقيقة ،أنا سعيد بثقتك س ّيديت شريا ،أنت تعرفني مسألة
أيضا يف تونس والقرصين ..ومع ذلك، الدّ راسة وانشغااليت ً
أيضا مع هيلني،
سنعود إىل هذا املوضوع ..سأناقش االقرتاح ً
ال يمكن طب ًعا ألاّ أسعد قلبها اجلميل.
ماذا حدث بيني وبني سعد يف تلك ال ّليلة ،ماذا حدث يف
ٍ
درجة جعلتنا نذوب متا ًما كام ذابت غرفتي؟ هل أرسفنا يف الشرّ ب إىل
الضيوف الشموع؟ ال أدري كيف حدث ذلك .أعدّ ت شريا غرفة ّ ّ
لينام فيها سعد ،وأنا مسكته من يده وأغلقت باب غرفتي .يف تلك
أي يشء ،غمرين بسمرته ورائحة ال ّلحظات ،مل نفكّر أنا وسعد يف ّ
عطره ،اخرتقتني ت ّيارات مثرية وعنيفة ال فكاك منها .كنّا عىل عتبة
يمر ،اشتدّ وغمر أعامقي. الرغبة ويف جوفها ،واإلعصار مل يشأ أن ّ ّ
عيني كأنيّ يف
ّ تضوع عطره أكثر وأغمضت مت رائحة سعدّ ، تشم ُ
ّ
تتحسس وجهه وشعره. ّ أن أصابعي راحت ّ
بكل هنم حلم .ما أذكره ّ
113
ٍ
ظلمة مقيتة كانت خرايف من طهرين سعد وهو يق ّبلني بجو ٍع
ٍّ وقد ّ
ترتديني ،ظلمة ثخينة يف أعامقي رحلت دفع ًة واحدة .كنت يف تلك
مرة ،وعرفنا ال ّلحظات امللتبسة أكتشف ملمس جسد رجل ّ
ألول ّ
الصخب واهلدير صعدنا إىل السعادة ممكنة ،ويف صميم ّ أن ّليلتها ّ
السامء ومل نعرف االكتفاء.
ّ
بعد تلك الل ّيلة غاب سعد ملدّ ة مخس سنوات ،غاب بشكل
أخافني وأرعبني .هل ح ّقق الغرض الذي عرفني من أجله؟ كنت
كل حلظة أن يظهر ،أن خيرج بحثت عنه وانتظرت يف ّ
ُ أسأل وأهذي.
من املتاهة ويقول يل« :كيف تعتقدين أنيّ أهرب من حضنك الذي
احلب؟ كيف؟ كيف؟» ال أثر له يف الكل ّية
ّ غسلني وجعلني أعرف
وال يف شوارع تونس ،وال أحد كان يعرف مكان سعد ،أصدقاؤه
السنوات أيضا كانوا يف غاية القلق بسبب غيابه املفاجئ .مضت تلك ّ
ً
السفارة
حزينة ،خاوية ،وكنت وحيدة ،أدرس يف الكل ّية وأشتغل يف ّ
ثم أميض: الفرنس ّية وأنتظر أن يظهر سعد ،كنت فقط أنتظره ألسأله ّ
ملاذا هربت منّي؟
عسريا الرتباطنا ،أنا
ً السنوات اخلمس امتحانًا
وكانت تلك ّ
وسعد .كانت سنوات ثقيلة ،وأعتقد أنّنا نجحنا يف ذلك االمتحان
املضني واخلانق .ففي سنوات اجلمر تلك عادت شريا لتقنعني
امللف الذي ال يرحل« .حاول ّ بإيزاك ،بل ختاصمنا من أجل هذا
اغتصايب يا شريا ،أتفهمني ما معنى ذلك؟» كنت أمتلمل يف حضنها
السجن ،وال أحد علم بمسألة وأنشج بارتياع .خرج سعد من ّ
أحب
ّ تعذب سعد يف سجن 9أفريل. تعذبت ّالسجن غريي ،مثلام ّ
ّ
114
أن يتل ّقى الدّ رس القايس لوحده بعد تلك احلامقة التي ارتكبها يف
ال عن إخبارك باماحلكاية«:امتنعت فع ً
ُ حق نفسه .قال يل وهو يرسد ّ
شبيها بكابوس .أجل كنت أتاجر باآلثار، ً حصل ،وما حصل كان
مل أكتف بوادي الدّ رب مثلام كان يفعل أيب ،فقد دفعني البحث
عن اخلالص هنائ ًّيا من األوضاع البائسة إىل اقتحام عامل التّنقيب
عن اآلثار يف سبيطلة وحاجب العيون ،ويف كهف قريب من مدينة
عثرت عىل رؤوس متاثيل وقناديل ولوحات وقطع ُ حاجب العيون
وهربته إىل تونس العاصمة .طب ًعا ،أنت
عثرت عىل كنز ّ ُ نقد ّية ثمينة،
ُسمى مسكيلياينال تعرفني حاجب العيون ،هذه املدينة التي كانت ت ّ
السنني.الروماين ،وهي مدينة عائمة عىل حضارات آالف ّ يف العرص ّ
عيل وحدث أعوان الشرّ طة خطوايت وقبضوا ُّ ال أدري كيف تع ّقب
السافلة؟سأجترأ عىل إخبارك يف ظرويف ّ
ّ كنت
ما حدث معي .كيف ُ
جمرد علم الس ّيدة شريا باحلادثة سيعصف بح ّبناأن ّ حدست ّ
ُ كيف؟
السجن ،فال يشء أقسى عىل أيضا أن تريني يف ّ ّبت ًإىل األبد .جتن ُ
عيني حبيبته».
املحب من تاليش صورته املرشقة يف ْ ّ
أنتبه إىل رنني اهلاتف ،بحركة ساهية ينسكب رشيش القهوة عىل
ملحمد بن
كتاب بجانبي ،تاريخ معامل التّوحيد يف القديم ويف اجلديد ّ
الرائعة تذكّرين بموعد احلماّ م يوم اجلمعة .طب ًعا أنا ال
اخلوجة .ماريا ّ
كل أسبوع برفقة ماريا التي ال تفارقني ،لقد محام احلريم ّ
أنقطع عن ّ
الصاخب .املرأة الرب يل لتكون صديقتي ورفيقتي يف ح ّينا ّ أرسلها ّ
هيودي ،تسعد حلضورناّ املغرب ّية ساندرين مالكة احلماّ م ،وهي من أصل
وتشاركنا االستحامم .وبالفعل ،نعيش أوقاتًا منعشة يف غرفة البخار،
115
ونتطهر .وبعد االستحامم نخرج إىل
ّ نشتهي هناك أن نضحك ونثرثر
غرفة االسرتخاء املز ّينة بلوحات موزاييك ونتناول فطائر ساخنة،
تلح دو ًما عىل حضورنا
تلك عادتنا اجلميلة أنا وماريا .وساندرين ّ
األسبوعي لتخ ّفف هي ً
أيضا من وطأة غربتها. ّ
اإللكرتوين ،وأعثر عىل رسالة جديدة من سعد،
ّ أفتح بريدي
هذا املذهل بمفاجآته .كام تو ّقعت ،مل ّ
يتأخر يف الكتابة رغم أنيّ كنت
عيل أن أرتّب قرارايت بشكل
قاسية معه ،ومل أر ّد عىل رسائله .كان ّ
يرحيني ،لذلك ،ومنذ سنتني كنت عىل مسافة من اجلميع ،من شريا
ومن سعد .أ ّما الرا فاألمر معها خمتلف ،كنت أحرص عىل االقرتاب
منها ،أفعل ذلك حتّى أذيب اجلليد بيننا .هي تعارضني يف مسألة
الزواج بسعد ،بل أحسست بغضبها بسبب موقفي الغريب،
رفيض ّ
وهو موقف شريا يف هناية األمر .وما عكّر الوضع هو تلك الفرتة
السجن ،كادت جت ّن بسبب ذاك اهلروب،
قضاها سعد يف ّ ال ّلعينة التي ّ
واعتقدت جازمة أنّه داسني بقدميه وهرب« .إهيه قويل يل ،ما هو
الشكل؟ وإيزاك هو األجدرالشيّ ء الذي جيعلك تتش ّبثني بسعد ،هبذا ّ
باهتاممك» ،كانت ترصخ يف وجهي.
أفتح رسالة سعد وأقرأ:
«حبيبتي،
ذبت فيه كشمعة
مضت سنتان خاويتان ومضجرتان إىل حدٍّ ُ
الضوء ،يف ّ
كل يوم كان وجع الغياب حزينة مل تعد قادرة عىل توفري ّ
أخريا حالة اخلراب
يعوي يف داخيل ويقهرين .ال أخفي عنك ،جتاوزت ً
116
السجن بأنّك عشت التي دامهتني وأنت تُعلمينني بعد خروجي من ّ
إحساسا مري ًعا صاع ًقا ،ومل
ً عشت
ُ جتربة زواج فاشلة انتهت بجنني.
السابقة ،أجل ،مل أستطع أن أصدّ ق ما رويته أحدّ ثك عنه يف لقاءاتنا ّ
الرجل الذي عشت معه أل ّيام، يل ،والغريب أنّك مل حتدّ ثيني عن ذاك ّ
ثم تغرق أيضا هترب من إجابتي ّكام قلت يل .الرا ،عزيزيت الرا ،هي ً
يف صمتها وأعرف أنهّ ا تبكي وختفي عنّي دموعها .أدركت يف األخري
تزوجت وحدث ما حدث ..أعرتف ،غيايب حق عندما ّأنّك كنت عىل ّ
كان مري ًبا وكان ال بدّ أن تتواصل حياتك بشكل مريح ،ال بأس ،أنت
السجن ،ومن األفضل ألاّ نعود اآلن إىل تزوجت عندما كنت أنا يف ّ ّ
املايض ،علينا أن نر ّمم معنو ّياتنا ونستعيد أحاسيسنا اجلميلة ،وأعتقد
أن تلك األحاسيس لن متوت .يف األ ّيام األخرية فهمت يا هيلني ّ
حقيقة معنى االخرتاق ،اخرتقتني يا هيلني وامتألت بك إىل حدّ
املرض واإلهناك .أدركت أن ال أحد يغسلني غريك ،بنظرة منك،
وكنت ممدّ ًدا يف ك ّفك،
ُ بلمسة ،بقبلة خاطفة ،وبحضنك العاصف.
ومتجمدً ا أنتظر كلامتك .وها إنّك ،اآلن ،تسمحني للمطر بأن
ّ هاج ًعا
هيطل بعد طول انحباس .أجل ،اآلن بإمكاننا أن ننظر إىل األمام يف
جّاتاه واحد.
حبيبتي،
الذهب ،وأذكر أنّك حدّ ثتني عنه ،أذكرأدرك اهتاممك بحماّ م ّ
املنيس واملجهول.
ّ منتبها إىل ذاك االهتامم بتارخيك
ً بالفعل ،كنت
التكيز.
لذلك قرأت تلك األوراق التي أرسلتها مع جوهر بكثري من رّ
الرجل الغريب ،فسنعود إليها الح ًقاّ .
قصة أ ّما مسألة جوهر ،هذا ّ
117
صحة تلك الوقائع ،ال احلماّ م مؤ ّثرة ح ًّقا يا هيلني ،وال أعلم مدى ّ
وخاص ًة ما يتع ّلق
ّ أيضا وأتأكّد من حقيقة ما جرى،
بدّ أن أبحث أنا ً
أن تلك الفتحة ختفي بتلك الفتحة يف احلماّ م .أعتقد ،حسب جتربتيّ ،
كنزا ثمينًا ،األمر مثري لالنتباه ح ًّقا .ويف ظنّي ّ
أن أرسار احلماّ م كثرية ً
ّ
األقل اآلن أقول ذلك ،وبعد البحث سنناقش وال مفاتيح هلا ،عىل
املوضوع.
قبل أن أنسى يا هيلني ،الرا كتبت يل رسالة رائعة .وأخربتني أنهّ ا
تعدّ يل مفاجأة ،وال أدري ما إذا كنت عىل علم بذلك.
قباليت».
الصاخب وأنا ُأغلق احلاسوب وأفتح النّافذةُ ،أ ّ
طل عىل العامل ّ
أيضا عن مفاجأة الرا .يف األسفل
أفكّر يف كلامت سعد وأتساءل أنا ً
احلي ،أرفع
شجار بني رجلني ،أحدمها جارنا واآلخر غريب عن ّ
رأيس قليلاً وأد ّقق يف مالمح جارنا ،كان غاض ًبا ،يداه تنتفضان
وحتكامن مسك حقيبة يدو ّية صغرية.
صاح جارنا:
-ال داعي للنّقاش أكثر ،لن أس ّلمك احلقيبة قبل تسليمي
األموال كاملة.
ع ّقب الثانيّ :
السابقة
تعودنا يف معامالتنا ّ
-وملاذا هذه الشرّ وط املجحفة؟ّ ..
عىل أن تتس ّلم نصف املبلغ الباقي بعد بيع البضاعة.
118
تلح.
-إنهّ ا أوامر يا جورنو ،أوامر ..وأرجوك ،ال ّ
كنت أعرف ما حتتويه تلك احلقيبة اليدو ّية .لقد أصبح ح ّينا
السنوات األخرية مرت ًعا لعصابات املخدّ رات .وها إنيّ أتفاجأيف ّ
بجارنا ،مل أكن عىل علم بكونه فر ًدا من تلك العصابات ،أصبح ح ّينا
عيني نحو آخر الشارع،
ّ خمي ًفا بسبب هذا االختالط املريب .أرفع
أد ّقق يف الوجوه ،أتفاجأ بمالمح إيزاك وهو يميش مرتن ًّحا بوجهه
النّحيف واملستطيل صوب عامرتنا .توق ّعت أن يعكّر حضوره يوم
أيضا ال
سيمون ،وجيعل ضحكته الصباح ّية تنقلب إىل قرف .أنا ً
املقززة ،أحبس أنفايس وأسارع بغلق
أحتمل أن أرى تلك املالمح ّ
النّافذة.
119
()6
جوهر
يف ديسمرب أبدأ العمل عند العارشة أو بعد ذلك بقليل ،ال
الصباح وجود ألمزجة رائقة تقدّ م أحذيتها للمسح والتّلميع يف ّ
الباكر ،الوجوه ال تبتسم يف ذلك الوقت .هكذا خربت الناس ،تكون
تعودت هلم أمزجة س ّيئة ،عىل نحو غريب يكثر الصرّ اخ واالنفعالّ ،
متر يف
عىل هذا النّسق منذ سنوات وأنا أرى الوجوه الصباح ّية التي ّ
شارع احلر ّية .وبطبيعة احلال عندما تغيب االبتسامة تنعدم فرص
ومتر األحذية أمامي مثقلة بأتربتها وغبارها .أجلس عىل الشغل ّ ّ
اخلشبي وأمامي طاولتي ،أحرص دو ًما عىل حسن تنظيفها ّ الكريس
ّ
خشبي صغري ،علب ال ّلصاق ّ وتنظيمها ،علب التّلميع يف صندوق
الصغري
الراديو ّوخيوط األحذية وقطع القامش يف صندوق آخر .أ ّما ّ
أعرضه للغبار أوأحب أن ّ فخصصت له صندو ًقا يناسب حجمه ،ال ّ ّ
ويزودين بأخبار العامل ،ليس بإمكاين
الراديو ،يالزمني دو ًما ّ للمطرّ .
طب ًعا أن أقرأ اجلرائد ،ذاك عبث وسوء تقدير ،وضع ّيتي تفرتض
متواترا
ً كل حلظة لتل ّقي حذاء ،أعرف ّ
أن األمر ال يكون االستعداد يف ّ
أتم االستعداد يف ّ
كل عيل أن أكون عىل ّ
كل األحوالّ ، ومنتظماً ،ويف ّ
وتنشط يفّ أيضا ،تدغدغني رائحتها حلظة .قهوة الفيلرت تنعشني ً
121
كل اخلاليا ،ماذا أفعل هلذه العادة التي مل أنقطع عنها منذ فرتةداخيل ّ
كل يوم ،حي ّييني رجالالشباب؟ رحل الشباب ومل ترحل عاداتهّ . ّ
أيضا بحركة ممتنّة من يدياألمن املرابطان أمام الكنيس ،فأح ّييهام أنا ً
ثم أحدّ ق عال ًيا يف مبنى الكنيس وأصليّ يف خشوع .مهنتي ال حترجني ّ
يتحرج ماسحو األحذية يف شارع باريس أو شارع احلبيب ثامر، كام ّ
هم أصدقائي ،أعيب عليهم امتعاضهم من مهنتهم ،وأحيانًا أو ّبخهم
بحب وإ ّما أن ترتكوا كراسيكم ملن ّ وأقول هلم« :إ ّما أن تشتغلوا
ينتظرها» .وبمرور األ ّيام استطعت أن أكسب صداقات ثمينة مع
السهل عىل شيخ مثيل أن العابرين يوم ًّيا يف شارع احلر ّية ،وليس من ّ
حيظى بثقة النّاس.
األول ،أذكر ذلك ج ّيدً ا ،منذ عرش سنوات ،أو ّ
أقل ،ال يف يومي ّ
مبتهجا
ً أدري ،جئت إىل هذا املكان مع طاولتي وأدوات العمل ،كنت
عيل أعوان
الصباح بعميل اجلديد ،ويف رسعة الربق هجم ّ يف ذاك ّ
األمن ،وال أدري من أين خرجوا .مل يك ّلفوا أنفسهم استفساري أو
ثم اقتادوين إىل
هشموا طاولتي وبعثروا علب التّلميع ّ طلب وثائقيّ ،
قبو مظلم يف وزارة الدّ اخل ّية.
خاطبني املح ّقق بعصب ّية:
-اعرتف أيهّ ا احلقري ،من جنّدك للجلوس أمام الكنيس؟ نحن
ال يمكن أن نصدّ ق أنّك ماسح أحذية ..وأنت تعرف أنّه يمنع
االنتصاب يف ذلك املكان.
هل كانت مالحمي قميئة إىل درجة معاملتي باحتقار وقسوة؟
122
ألول
غصة عميقةّ . وجهت إ ّيل وابتلعت ّ دهشت لسيل التّهم التي ّ
أحس بالعجز ومت ّلكني شعور باملهانة .مل أنتظر َق ُّط أن أوصفمرة ّ ّ
يب .حاولت يف تلك ال ّلحظات أن باملشبوه ا ّلذي خي ّطط لعمل إرها ّ
مت هلم بطاقة التّعريف ،وكان من الغريب أحافظ عىل هدوئي وقدّ ُ
ألاّ يطلبوها منّي.
قرأ املح ّقق:
-االسم :أوري.
ال ّلقب :ساسون
اجلنس ّية :تونس ّية
اسم األ ّم :إليورا
املهنة :عامل يومي.
العنوان 29 :هنج ّ
الذهب تونس.
أيضا وثيقة تكليف من اجلالية اليهود ّية بتونس حلراسةقدّ مت ً
الكنيس يف الفرتة الصباح ّية من ّ
كل يوم.
صاح املح ّقق بعد أن قرأ التّكليف:
حق ،فأنت ال يمكن أن تكون بطبيعة احلال ماسح -لقد كنّا عىل ّ
أحذية ،هكذا لوجه اهلل ..األمن ال يمزح يف هذه األمور يا
س ّيد أوري.
ّ
ترشف من فنجان القهوة وتابع:
أيضا خمطئ ،كان عليك أن تتّصل بنا وتكشف لنا هو ّيتك.
-أنت ً
123
عمو ًما نحن نأسف ألنّنا تعاملنا معك بمنتهى القسوة ..وأنت
تفهم طب ًعا ظروف عملنا.
اسمي أوري ،وأ ّمي إليورا هي آخر من نطق هبذا االسم .كانت
تحُ رشج به وهي تتل ّقى آخر الركالت من ثالثة جنود أملان .يف ذاك
الصباح احلاقد ،بعد أن ّ
هشموا باب بيتنا أطلقوا النّار عىل أيب ،أطلقوا ّ
َ
رصخ ْت أ ّمي عليه رصاصتني يف مستوى القلب ،فتهاوى مثل جبل.
يف وجوههم مفزوعة وقذفتهم بفرديت حذائها وهي تزجمر غاضبة،
ٍ
برود نحو غرفة النّوم ،وعنّفها بشدّ ة سح َلها ّ
بكل ولك ّن أحد اجلنود َ
ثم اغتصبها .العامل يف تلك ال ّلحظات كان رصاخ أ ّمي واستغاثة أ ّمي،
ّ
اغتصبها ال ّثاين ّ
ثم سدّ د هلا رضبات عىل رأسها ببندق ّيته ،رأيت أ ّمي
تفر من رعب غرفة النّوم ،ومل أعرف ساعتها ماذا
بعد ذلك وهي ّ
فعلوا هبا ،كانت تزحف غارق ًة يف دمها وتحُ رشج:
-أوري ..أوري.
كنت هشيام وأنا أرمقها تنزف من
وماذا سيفعل أوري؟ لقد ُ
قادرا عىل
فمها وأنفها ،وأشالؤها متناثرة أمامي .ال أحد منّا كان ً
ثم اغتصبوا أ ّمي وهنشوا حلمها بأرجلهم احلراك ،قتلوا أيب أمامي ّ
وبنادقهم ،وظ ّلوا يرمقونني بحقد .لع ّلهم فكّروا يف قتيل ،أنا ّ
الشاهد
ولعل رصاخ جرياننا هو ما دفعهم ّ الوحيد عىل جريمتهم البشعة،
إىل االنسحاب .ال أدري ،كيف يمكن أن أنسى؟ يف تلك ال ّلحظات
كنت غري قادر عىل احتضان أ ّمي وتقبيلها من جبينها وخدّ هيا ،كنت
سقطت كام سق َط ْت.
ُ مها ،مصعو ًقا ،إىل أن
سا ً
124
عندما استفقت جالت عيناي يف غرفة غريبة عنّي ،كانت أكثر
اتّسا ًعا من غرفتي ،وسمعت لغ ًطا يف اخلارج .األصوات متداخلة،
تأتيني من قريب ومن بعيد ،قراءة قرآن ،أصوات أطفال ونساء،
أن هناك أطفالاً يلعبون ونساء يتحدّ ثن
مخنت ّ
ضحكات ونداءاتّ ،
السمع ألم ّيز األصوات بعضها من بعض ،مل
ويقهقهن .أصخت ّ
أسمع صوت أ ّمي ،وال صوت أيب ..كنت كأنيّ يف حلم ،بل كنت
عيني
أيضا أن أرى بشكل واضح ،فركت ّ سجني كابوس ،مل أستطع ً
وأنا أتط ّلع يف وجه طفلة صغرية تتس ّلل إىل الغرفة ،شهقت ال ّطفلة ّ
ثم
جرت وهي ترصخ:
أخريا.
-لقد استفاق ،لقد استفاق ً
فزعت وجوه كثرية إىل الغرفة ،وجوه نساء وأطفال ،مل يسبق يل أن
مطولاً
وجها منها ،الت ّفوا حويل بكثري من اإلشفاق ،نظروا إ ّيل ّ
رأيت ً
وباندهاش .كنت يف تلك الوضع ّية صامتًا ،ويف حالة توتّر ،وال ّطفلة
تقف قبالتي دامع ًة ،صامت ًة ،وزائغة
زينب -عرفت اسمها فيام بعدُ -
العينني مثيل متا ًما .كانت تقاربني يف الس ّن ،عمرها سبع سنوات أو
ّ
أقل بسنة .أ ّما الوجوه األخرى فلم أستطع أن أم ّيز مالحمها ،كانت
تعودت.
عيني من اإلبصار مثلام ّ
نظرايت غائمة ،وقد منعتني غشاوة يف ّ
الصويف ومل أرصخ،
كدت أرصخ ،ضغطت بيدي عىل الغطاء ّ
رقيق جبيني،
كف ٌ
وحتول صمتي إىل نشيج .ملس ٌّمتلملت يف فرايشّ ،
بكف أ ّمي ،لكنّه ليس ك ّفها ،ورسعان ما صاحت املرأة:
ّ كف شبيه
ّ
-حرارته مرتفعة جدًّ ا.
125
قالت امرأة أخرى:
-احلمد هلل أنّه استفاق بعد ثالثة أ ّيام من تلك النّكبة.
ع ّقبت أخرى بصوت منخفض ،ر ّبام اعتقدت أنيّ لن أسمعها:
ثم شنّعوا بأ ّمه ..إنهّ م وحوش.
-املسكني ،قتلوا أباه أمامهّ ..
قالت املرأة التي وضعت ك ّفها عىل جبيني:
-املالعني ،أحرقوا املنازل واملحلاّ ت واغتصبوا النّساء .ماذا
يريد األملان من جرياننا اليهود ،يا ربيّ ،إنهّ م ط ّيبون ،ملاذا ّ
كل
هذه العجرفة احلاقدة؟
دخل رجالن إىل الغرفة وظلاّ يتط ّلعان إ ّيل ،انسحبت النّساء
تفحصنيبرسعة الربق ،زينب ظ ّلت ثابتة أمامي ،ال تكرتث ألحدّ .
ثم كشف عن صدري ،بعد حتسس جبيني وعنقي ّ الرجلنيّ ،
أحد ّ
مر .طلب الصغرية وناولني جرعة من مرشوب ّ ذلك فتح حقيبته ّ
منّي أن أفتح فمي وأخرج لساين ،حدّ ق يف فمي بانتباه وطلب أن
عيل مبتسماً لكي أتن ّفس بعمق.
ألح ّ أتن ّفسّ ،
ثم ّ
موج ًها الكالم إىل
الرجل الذي فحصنيّ ،قبل أن خيرج قال ّ
الشيخ بلحسن ،وهو حياول قدر اإلمكان أن خيفض الرجل ال ّثاينّ ، ّ
صوته لِ َك ْي َ
ال أسمعه ،لكنّي سمعت ما قاله:
الصدمة عنيفة ..وجيب ّأولاً -أعتقد ّ
أن فرتة عالجه ستطولّ ،
أن يعود إىل رشده .ع ّظم اهلل أجرك يا يس بلحسن ،هذا ال ّطفل
حيتاج إىل عناية كبرية لكي يشفى.
126
ر ّبام اعتقدوا يف تلك األ ّيام أنيّ فقدت عقيل ،وأنا كنت أعتقد
ذلك فعلاً ،تشعرين اهلمسات التي ترسي يف الغرفة بالكثري من
بكل ما متلك من إحساس .مل املرارة ،ولك ّن زينب كانت تواسيني ّ
تكن نظراهتا مشفقة ،بل نظرات أخرى ،مل أستطع تفسريها .كنت
أحب أن تبقى بجواري ،ومل أعد أرى غريها ،كأنّنا وحيدان يف البيت.ّ
حايف القدمني، َ هيشموا باب بيتنا كنت يف حضن أ ّمي قبل أن ّ
وكانت تبكي ،ال أدري ملاذا؟ وبني الفينة واألخرى متسح دموعها
أيضا ،ال يضحك وحتاول أن تضحك يف وجهي .وكان أيب قل ًقا هو ً
ظل جييس يتف ّقد الباب بعد أن أحكم إغالقه مثل عادته الصباح ّيةّ .
مرة.
كل ما سمعته من أيب ،آخر ّ ويسأل أ ّمي هل أغلقت النّوافذ ،هذا ّ
صباحا ،لكنّه يف ذلك اليوم مل خيرج،
ً جييس يف العادة ،خيرج للعمل
ظل ّ
يدخن بقلق ونظراته ال تراين .مل أفهم يف ذاك ومل جيلس معنا ،بل ّ
وكل ما أتذكّره أنيّ مل أسمع أصوات الصباح ما كان جيري يف اخلارجّ ،
ّ
السوق ،ومل تسمح يل أ ّمي الباعة وال صوت املنادي وهو يتعاىل يف ّ
تضمني مرتعشة« :ستخرج ،ستخرج غدا باخلروج ،قالت يل وهي ّ
يا أوري وستلعب مع إليف وشريا» .ومل أكن أفهم شي ًئا ،فاقتنعت
ثمة
أن شيئا ما سيحدثّ . بحركة من رأيس ،وأحسست بالفعل ّ
ضجيجا حا ًّدا يف
ً طبيعي يف ح ّينا ،وبعد دقائق سمعتّ صمت غري
ٌ
الصخب يكرب ويكرب ويتناهى إ ّيل صدى احلي ،وكان ّ كامل أرجاء ّ
رصخات واستغاثات.
كل ما جرى يف ذلك اليوم احلزين ،بعد أن كربت عرفت ّ ُ عندما
قتلوا أيب وأ ّمي أشعلوا النّار يف بيتنا ،وأنقذين اجلريان من ألسنة ال ّلهب
127
بمعجزة ،أخرجوين بمش ّقة ،لع ّلهم يئسوا من نجايت ،واعتقدوا أنيّ
بلحاف أبيض وتركوين حتت أحد اجلدران وانشغلوا ٍ مت .غ ّطوين
ّ
احلي .وعندما استفقت -وكم بإطفاء احلرائق يف بيتنا ويف بيوت ّ
الشيخ بلحسن إىل منزله يف هنج هربني ّ أحببت أن أموت يومهاّ -
حي احلارة خمافة أن يعود األملان لقتيل ،إذ
الباشا ،مل يشأ أن يرتكني يف ّ
مت ،وشاء قدري أن أنجو من املحرقة. اعتقدوا أنيّ ُّ
حي احلارة أ ّيا ًما عصيبة ملدّ ة ستّة أشهر ،كانت احلرب عاش ّ
دمو ّية بني احللفاء واألملان ،بل كانت حرب شوارع يوم ّية .املؤمل ّ
أن
األملان كانوا ينكّلون باليهود ،مل يأتوا إىل تونس لقتال قوات التّحالف
حي احلارة ،ويف كامل هيودي يف ّّ كلفحسب ،بل جاؤوا الضطهاد ّ
جهات البالد كام سمعنا .الشرّ طة الرس ّية األملان ّية عاثت فسا ًدا يف
احلي ،مطاردات وقتل واغتصاب واختطاف رهائن ومصادرات ّ
خاصا
معسكرا ًّ
ً وتعذيب وترحيل نحو املعسكرات .أنشؤوا عرشين
بالشباب اليهود .كان األملان قلقني من احلرب ويائسني ،فلم جيدوا ّ
ثم يقتلوهنم وقد حيرقوهنم يروعوهنم ّ متع ًة غري االنتقام من اليهودّ ،
أحياء .ولو مل هيزم احللفاء األملان يف شهر ماي سنة 1943ألمكن
كل اليهود بال استثناء. كل هيود تونسّ ،للجنود األملان تصفية ّ
الرجل الكريم عشت مخس سنوات يف منزل يس بلحسنّ ،
منكمشا ،خائ ًفا من
ً عيل .يف أ ّيامي األوىل كنت
الذي آواين وعطف ّ
أفضل البقاء وحيدً ا يف
الصغرية وكنت ّ كل يشء .ال أغادر غرفتي ّ ّ
أن يس بلحسن دخل إىل الشفاءّ ،
ال ّظالم .أذكر ،وقد قاربت عىل ّ
ثم قال يل:
كيسا من احللوى ّ
غرفتي مبتسماً ،وضع بجانبي ً
128
-منذ اليوم سيكون اسمك جوهر ،هذا أحسن يا ابني.
احلقيقي يف منزل يس بلحسن ،وأوري ّ ال أحد عرف اسمي
أصبح من ذكريايت القديمة .زينب هي ّأول من نطقت باسمي
اجلديد ،جوهر .كانت تدعوين إىل اخلروج إىل صحن الدار ،ويف
عيل كي أرافقها القتناء بعض احلاجيات .كنت تلح ّمرات كثرية ّ ّ
أحب أ ّيامها أن ٍ
أخفض رأيس وأمتنع يف حالة من االرتباك ،مل
ّ
أحب اخلروج من املنزل، كنت ح ًّقا يف حالة ذعر وال ّأغضبها ،لكنّي ُ
الشيخ بلحسن عيل ابن ّ كنت خائ ًفا بالفعل ّ
كأن األملان يرت ّبصون يبّ .
كان أصغر من زينب ،الحظت منذ األ ّيام األوىل أنّه ال يستسيغ
وجودي يف منزهلم ،بل هو ال حيتمل النّظر يف وجهي .للاّ منرية
زوجة يس بلحسن يداها رقيقتان مثل يدي أ ّمي ،مل أشعر يو ًما أنهّ ا
متضايقة من وجودي ،جتتهد ما أمكن لتسعدين ،متا ًما كام تُسعد ابنها.
عيل -وقد أحسست بذلك -يف غاية الغضب واالنفعال ،بل وكان ّ
كان يرصخ يف وجه للاّ منرية عندما تقتني يل ثيا ًبا جديدة من سوق
الزيتونة حلفظ كل ذلك مل يمنع مرافقتي له إىل « ُكتّاب» جامع ّ القرانةّ .
حريصا عىل أن ً الشيخ بلحسن كان القرآن وتع ّلم القراءة والكتابةّ .
ثم نسري كل صباح يشرتي لنا فطريتينْ ساخنتني ّ نتع ّلم هناك ،ففي ّ
الزيتونة .انتبه املؤ ّدب أ ّيامها إىل أنيّ رسيع احلفظ
باتاه جامع ّ خلفه جّ
أيضا ما ُيلقى أمامنا من دروس، ملا يتلوه علينا من آيات ،كنت أفهم ً
مرة
يتعجب منها شيخنا ،أذكر أنيّ سألته ذات ّ بل كنت أطرح أسئلة ّ
الشيخ؟» ،فكشرّ يف وجهي ورصخ: عن اهلل« :أين يوجد اهلل ،سيدنا ّ
«ال تسأل مثل هذه األسئلة ،هل أنت جمنون؟» وقد يكون نقل ذلك
129
إىل يس بلحسن ،ويس بلحسن مل ُي ِعر تلك ّ
الشكوى اهتام ًما ،أمهلها
هيودي فإنّه سيطردين
ّ لعلمه بحقيقتي .حدست ّ
أن املؤ ّدب لو علم أنيّ
رش طردة من «ال ُكتّاب».
ّ
الشيخ وال حيفظ ما عيل كان خمتل ًفا متا ًما عنّي ،ال ينتبه إىل ّ
ّ
يسمعه ،وكثريا ما يغضب منه مؤ ّدبنا فريفع ساقيه عال ًيا ويرضهبام
بعصا غليظة .فزاد «ال ُكتّاب» يف سوء معاملة ّ
عيل يل ،كان حيتقرين ً
ويتحينّ فرص الوشايات الكاذبة .وذات مساء ،أذكر ذلك ج ّيدً ا،
كنّا نلعب بالكرة يف الن ّْهج ،وكم كنّا نراه ملع ًبا واس ًعا رغم ضيقه
متر امرأة نوقف ال ّلعب ،كنّا نعرف ّ
أن النّساء اللاّ يت اليوم .وعندما ّ
السفساري يسك ّن هنج الباشا أو األهنج القريبة ،أ ّما النّساءيرتدين ّ
لباسا أروب ّيا -هكذا تقول للاّ منريةُ -
فه ّن أو الفتيات اللاّ يت يرتدين ً
من األغراب .كنّا نبحلق يف وجوهه ّن طويلاً باندهاش وبمالمح
عيل
أي سبب ودون أن أيسء معاملته ،رصخ ّ
طفول ّية .وفجأةً ،ودون ّ
يف وجهي:
-يا هيودي.
باتاهي :يا هيودي ..يا هيودي. وظل األطفال إثر ذاك هيتفون جّ
ّ
ّ
متخش ًبا والدّ موع ترتقرق يف أحسست باختناق وكدت أهنار ،وقفت
ّرت أ ّمي يف تلك ال ّلحظات العاصفة .كانت أمجل نساء عيني .تذك ُ
ّ
حي احلارة ،وكانت امرأ ًة صلبة ،شاخمة كام يقول أيب .ال أدري كيف
ّ
اتخّ ذت ذلك القرار املجنون ،جريت يف النّهج ّ
بكل طاقتي ،كنت
أركض وال أرى أحدً ا .التح َق ْت يب زينب يف رأس هنج الباشا ،كانت
130
متوسلة أن أعود ،مل تتك ّلم ،مل
مثيل الهثة ودامعة ،تط ّلعت إىل وجهي ّ
أيضا ،عيناها قالتا يل ّ
كل يشء .أبقيت يدي يف يدها طويلاً أتك ّلم أنا ً
ٍ
ساحر يف ك ّفي. ٍ
بخدر حتّى رصنا وحيدين يف هذا العامل ،وأحسست
هربت من زينب ومن هنج
ُ فعلت ذلك،
ُ ويف األخري ،ال أدري كيف
األول.
احلب ّ
محى ّ
وعرفت يومها ّ
ُ الباشا
إثر هرويب من هنج الباشا يف أ ّيام النّار تلك مل أعرف إىل أين جّأته،
عمي أدريان .شعرتمنهارا ،وفكّرت يف أن أبحث عن بيت ّ ً كنت
الصور ُموحش ًة بانقباض وأنا أتذكّر بيتنا وأتذكّر ّ
كل يشء ،الحقتني ّ
وبت ليلتها جائ ًعا ومرتعشا يف إحدى زوايا سوق القرانة.
وممزقةّ ،
ّ
وكنت
ُ صو َب وعاء القاممة، ثم ّ
تنط ْ كانت القطط تقفز بجواري ّ
الصباح.
أهذي وأنتظر جميء ّ
عمي أدريان
اكتشفت أنهّ م قتلوا ّ
ُ بعد عثوري عىل ح ّينا القديم،
بد ٍم بارد كام قتلوا الكثري من جرياننا ،ولكنّهم مل يحُ رقوا بيت ّ
عمي
أيضا إىل ّ
أن بيتنا الذي احرتق اختفى متا ًما ،وبني وانتبهت ً
ُ مثل بيتنا،
عىل أنقاضه مستودع وضعت فيه األقمشة .أحد التّجار يف سوق
القرانة استوىل عىل بيتنا مثلام استوىل ّجتار آخرون عىل بيوت من قتلوا
عمي.
أو من رحلوا ،هكذا قال يل إليف ابن ّ
واحلق
ّ حي احلارة،
كنت يف س ّن الثالثة عرشة عندما عدت إىل ّ
حيا يف غرفة وخصصت يل ً
فراشا مر ً ّ ّ
أن األ ّم أمايا استقبلتني ببهجة
احليُ ،ير ّبت عىل كتفي
أيضا كان سعيدً ا بعوديت إىل ّ
منفردة .إليف ً
غبت عنّا طويلاً ،
السؤال نفسه« :أين كنت يا أوري؟ لقد َ
ويعيد ّ
131
تتفرسني بدهشة وهي أيضا راحت ّ ويئسنا من العثور عليك» .شريا ً
تراين ،ر ّبام كنت يف عداد األموات ،وكان من الغريب بالنّسبة إليها
أن أعود بعد مخس سنوات .بعد ثالثة أ ّيام من عوديت -أذكر ذلك
صغريا .كانت
ً ج ّيدً ا -دخلت األ ّم أمايا إىل غرفتي وس ّلمتني صندو ًقا
شممت فيه
ُ الصندوق الذي حتاول إخفاء دموعها وهي تس ّلمني ّ
وأول ما وجدت صورة أ ّمي ،ق ّبلتها وأنا رائحة أ ّمي ،فتحتُه بلهفة ّ
أبكي بحرقة ،أبكي وأنتفض .مل أعثر عىل صورة أيب ،عثرت عىل
الصغري هو كنزي الصندوق ّ أن ّ ختصني ،وعرفت يف ذاك اليوم ّ وثائق ّ
الذي سينري أ ّيامي القادمة.
كانت تلك الفرتة حاسم ًة يف حيايت ،كنت يف حالة قلق وحرية،
كل يوم أطالب نفيس بأن أحسم أمر هو ّيتي ،مل يكن بإمكاين أن ويف ّ
ثم لييس كارنو كام هو ّ
الشأن بالنّسبة أدرس يف املدرسة اإلرسائل ّية ّ
حب التع ّلم.
أعول عىل إراديت يف ّعيل أن ّ
إىل إليف وشريا .بل كان ّ
مفتوحا أمامي غري جامع الزيتونة ،فكنت أتر ّدد عليه ً ومل أجد با ًبا
حلفظ املتون وتع ّلم قواعد اللغة .وعندما اشتدّ عودي وزاد هنمي
لإلحاطة هبا ،حرصت عىل قراءة القرآن واألحاديث النبو ّية مثل
ّ
وكأن والتعمق يف أسفار موسى اخلمسة
ّ حريص عىل قراءة التّوراة
مزدوجا .ال
ً قدري أن أعيش هو ّية مزدوجة وذاكرة مزدوجة واسماً
وجلت فيه الكنيس ،كنيس أور تورا باحلفص ّية ،رفقة ُ أنسى ّأول يوم
الزيتونة ،بالفعل، أحس به وأنا أدخل جامع ّ ّ إليف .أحسست بام
والراحة ،وبعد ذلك عرفت الكنيس إحساسا مفعماً بال ّطمأنينة ّ
ً كان
اليهودي بشارع احلر ّية .يف تلك الفرتة خامرتني أسئلة كثرية متع ّلقةّ
132
باالختالف بني اإلسالم واليهود ّية .كنت هنام يف القراءة والبحث
واقتنعت ّ
بأن النّقاط التي جتمع اليهود باملسلمني أكثر من النّقاط التي
تفرقهم.
تفرقهم ،أو يمكن أن ّ
ّ
أن هو ّيتي تونس ّية،الرحلة احلائرة ّ
ما ثبت عندي يف تلك ّ
واستطعت أن أحسم األمر وأحافظ عىل ديانتي اليهود ّية التي ولدت
عليها ،وهي ديانة أ ّمي وأيب وال يمكن أن أعتنق غريها .ما وجدته
الصحيحة ،الوجهة التي حتافظ عىل وجهني الوجهة ّ الصندوق ّ يف ّ
واحلق أنيّ مل أشأ أن أجاهر بذلك ،مل أكن خائ ًفا وال
ّ وفائي أليب وأ ّمي.
مرت ّد ًدا مطل ًقا ،كنت أفعل ذلك ألحرتم جرياننا املسلمني.
زينب مل تنسني ،ومل تيأس من عوديت ،ويبدو أنهّ ا أرسلت
خادمتهم املالط ّية أغاثا للبحث عنّي ،فليس من الصدفة أن تقف
أغاثا أمامي ذات صباح وتس ّلمني رسالة قصرية من زينب .رأيت
مرة واحدة يف منزل يس بلحسن ،ومل أنس مالحمها ،مل تنظر يف أغاثا ّ
السوق.
ثم أدارت يل ظهرها وغابت يف ّ الرسالة ّ وجهي ،س ّلمتني ّ
ركضت يف تلك األثناء وتس ّللت إىل غرفتي ألقرأ كلامت زينب األوىل:
«ر ّبام تقول إنيّ جريئة ،أو ر ّبام تندهش من رسالتي يا جوهر،
لكن ،قل يل ،ملاذا ال تفكّر يف العودة إىل منزلنا؟ إنّه منزلك وأنت
عيل ،وقد عوقب كأشدّ ما يكون تعرف .ما حدث كان محاقة من ّ
أيضا حزينة ..حزينة ألنّك لست العقاب من قبل والدي ،أ ّمي ً
أيضا لتفهم؟.»...
معنا ..وماذا أقول لك ً
تعر َق ْت يدي وأنا أمسك هبا،
رجتنيّ ،
الرسالة ّ أعرتف ّ
بأن تلك ّ
كان هناك صوت يف باطني يدفعني إىل العودة ،لكنّه صوت خاضع
133
ومرت ّدد ،صندوق أ ّمي كان يمنعني ،وال أعرف بالتّحديد كيف كان
كلثم ّكل شهر ّ يمنعني وملاذا؟ وظ ّلت أغاثا تأتيني برسائل زينبّ ،
ثم تو ّقفت رسائل زينب .كانت تكتب يل بأمل وحرية ثالثة أشهرّ ،
األول،
احلب ّ
ّ أيضا .وكان قلبها مثل قلبي ،يتق ّلب يف عاصفة
وغربة ً
عاصفة ال هتدأ وال ّ
تكل ،كنّا ننبض عش ًقا ،لكن ،يف هناية املطاف كنّا
احلب سأكون حب ممنوع .فكّرت يف األمر ،أيقنت أنيّ هبذا ّ
نعرف أنّه ّ
باحلب،
ّ سب ًبا يف دموع إضاف ّية لزينب ،وال أحد سيسمح لنا الح ًقا
أن األمر محاقة كربى ،لذلك بقيت صامتًا، بالزواج .أدركت ّ وال ّ
مهزو ًما ،وبسبب ذلك ك ّله خذلت زينب .وعندما تو ّقفت رسائلها
إحساسا مؤملا.
ً تزوجت ،هكذا كان إحسايس ،وكان أيقنت أنهّ ا ّ
تواردت األ ّيام حتّى ح ّلت سنة ،1967ويف تلك السنة السوداء
مروعة ،فاقتحم ذاكريت جمدّ ًدا مشهدُ قتل أيب عاش ح ّينا أحدا ًثا ّ
سيحل بنا .يف ما مىض، ّ عيني ،وانتظرت رع ًبا جمهولاً
ّ وأ ّمي أمام
كرهت النّاز ّية ،ليس ألنهّ ا قتلت أ ّمي وأيب وأحرقت بيتنا فحسب،
سممت العامل .غزت أملانيا ّأوالً ّ
ثم بل ألنهّ ا -وهذا جرمها األكربّ -
العنرصي
ّ مدّ ت أيادهيا القذرة إىل العامل .وبعد ذلك كرهت احلقد
وتلك الدّ سائس التي كانت حتاك ضدّ نا لطردنا من ح ّينا .األمر ال
يتع ّلق باإلسالم واملسلمني ،فقد كان جرياننا ط ّيبني معنا ،بل يتع ّلق
كل ٍ
مرة هيامجنا مل ّثمون جمهولون ّ
ويروعوننا بعصابات من ّظمة ،ففي ّ ّ
ويدفعون أغلبنا للهروب .ال أنسى ما حدث لشريا يف ليلتها القاسية،
الرجل املل ّثم الذي حاول فقد نجت بأعجوبة من قبضة ذاك ّ
دوت رصخة شريا ،مل اغتصاهبا .كنّا يف البيت ،أنا وإليف ،عندما ّ
134
نفهم ما حدث ،حبسنا أنفاسنا وجرينا إىل غرفتها كام جرى آخرون
الرجل الذي كان حيمل ندب ًة يف أعىل وجهه،وأنقذناها من قبضة ذاك ّ
كانت مالحمه ف ّظة وخميفة ،ويف األخري هرب كفأر ملدوغ .وظ ّلت
بقلب واجف ،ليلتها عرفنا ّ
أن حياتنا -هكذا ٍ شريا طوال ال ّليل تبكي
كُتب لنا -أصبحت جحيماً ال ُيطاق.
ال يمكن أن أنسى صور ذاك اليوم احلزين ،يوم رحلت الكثري
من عائالت ح ّينا إىل مارسيليا وباريس ،ال أحد منهم كان يعرف
السفر معهم الرحيل .األ ّم أمايا طلبت منّي ّ خيوا ّ الوجهة لكنّهم رّ
غري أنيّ امتنعت ،دمعت عيناي وقلت هلا« :آسف يا أمايا ،آسف ح ًّقا،
أحب االبتعاد عن رائحة أ ّمي وأيب ،ال أستطيع فعل ذلك ،أنا ال ّ ال
مرة وق ّبلتها من ألول ّ
عيني يف وجهها ّ
أحتمل يا أمايا» .يومها ،رفعت ّ
بالسفر معهام، أيضا يئسا من إقناعي ّ جبينها وأنا أنشج .إليف وشريا ً
متوج ًسا ممّا هو
ّ وال أدري ملاذا كنت متش ّبثا بالبقاء ،كنت ،يف احلقيقة،
عمي أدريان. أسوأ يف أ ّيامي القادمة ،ولكنّي بقيت وحيدً ا يف بيت ّ
وككل يوم أقود عربتي نحو اجلهة اخللف ّية للكنيس ّ يف ال ّظهر
ٍ
ثم أميض إىل باب سويقة ،وقبل و ُأودعها يف حجرة صغرية ّ
بالسقيفةّ .
الذهب ،ال بدّ أن أطرق باب جاريت خافا أن أصل إىل ش ّقتي يف هنج ّ
يسموهنا
احلقيقي غريي ،اجلريان ّ ّ ألسأل عنها ،ال أحد يعرف اسمها
دليلة ،وأحيانا ال تنتبه حينام ينادوهنا هبذا االسم .خافا هربت من
حي احلارة .عائلة
واستقروا يف ّ
ّ القريوان سنة 1967رفقة عائلتها،
ثم طردوهم كام فعلواتاهريت ،املشهورة بالتّجارة ،صادروا أمواهلم ّ
تتزوج مثيل ،وتلك ِ
مع املئات من العائالت .خافا وحيد ُة عائلتها ومل ّ
135
قصة أخرى .تفتح خافا باب ش ّقتها مبتسمة ،ما تزال هذه املرأة مجيل ًةّ
السنوات .تطلب حمافظ ًة عىل نعومة برشهتا البيضاء رغم حمنها وثقل ّ
هيمني هو أن منّي أن أشاركها الغداء ويف العادة أعتذر ،فام كان ّ
ثم أغلق باب ش ّقتي ألتناول غدائي الذي أقتنيه صحتها ّ
أطمئ ّن عىل ّ
أحب بعد ال ّظهر ،أن أنفرد
من باب سويقة وأمتدّ د عىل رسيري .هكذا ّ
تتجمد
ّ الروئح ال ترحل أبدً ا ،وال
ألشتم روائح املايض ،تلك ّ
ّ بنفيس
يف ذاكريت ،تشحنني بانفعاالت متداخلة ،إنّه احلزن واحلنني ،ح ًّقا لقد
احلب ولن يعود.
مىض زمن ّ
يف املساء ال أغادر ش ّقتي إلاّ عندما خياطبني صديقي إيف ألداة
الصالة يف الكنيس ،ما عدا ذلك ،أفتح الشرّ فة وأجلس ساع ًة أو أكثر ّ
لتأ ّمل املباين املمتدّ ة ،املباين العتيقة املتصدّ عة ،حتارصها أخرى حديثة
الصوامع وقباب سيدي بال ذوق يف الغالب ،ويف اجلهة األخرى تعلو ّ
احلي تكون عىل أشدّ ها ،تُفتح النّوافذ والشرّ فات، حمرز .احلركة يف ّ
الضجيج ،رصخات أطفال يلعبون الكرة ،صيحات الباعة، يتفاقم ّ
دراجات نار ّية ،حلقات نسائ ّية ال تتو ّقف عن ال ّثرثرة ،جارتنا ضجيج ّ
تظل ترصخ ،بسبب أو دون سبب .شجارها مع اجلارات الداود ّية ّ
عادهتا اليوم ّية ،ال تفتح رشفتها إال لتشتم ،وشتائمها مضحكة يف
الغالب ،لذلك متعن جاراهتا يف إثارهتا واستفزازها .والدّ اود ّية ال
الصاع صاعني وتفضح الكثري من أرساره ّن، تصمت ،تكيل هل ّن ّ
كثريا
برتهل أجساده ّن وارختاء هنوده ّنً . وعاد ًة ما يتع ّلق ذلك ّ
يتجمع األطفال يف األسفل ،ويظ ّلون فاغري األفواه ،يتابعون ّ ما
ال غري ًبا وجري ًئا ال تتو ّقف حلقاته.
مسلس ً
136
يمتدّ برصي إىل هنج الباشا ،أتذكّر أروقته وأقواسه وأبوابه
أن زينب جتلس اآلن عىل شك يف ّ
الشاهقة وجدرانه املزخرفة .ال ّ ّ
ترتشف قهوهتا «العريب» التي كل مساءّ ، ٍ
كنبة يف سقيفة بيتهم ،كدأهبا ّ
يمر ِم َن النّهج .بعد أن ُتوفيّ
حتب ،وأحيانًا ترفع رأسها لرتى َم ْن ّ ّ
زوجها اهلادي ،تاجر القامش وسافر ابنها سعيد إىل باريس بقيت
ركن ٍ
بعيد عنها ،زينب ال متكوم ًة يف ٍ وحيدة .خادمتها عائشة ّ
تظل
ّ
ترتشف قهوهتا عىل مهل ويف صمت. حتب ال ّثرثرة ،إنّام ّ
حتب فقط أن ّ ّ
ذت قراري الذي انتظرته طويلاً ورست بعد سنوات طويلة ،اتخّ ُ
متسارع اخلطى متّجها إىل منزل يس بلحسن .رحل يس بلحسن بعد
عيل فقد هاجر إىل إيطاليا وانقطعت أخباره. سنوات من هرويب ،أ ّما ّ
ماطرا ،لكنّه
ً السقيفة ،يومها كان الطقس جلست بجوار زينب يف ّ
دافئ .عندما تالقت عيوننا ،ال أدري كيف أفسرّ ذلك ،أحسسنا
والسعادة يف عينيها، التقطت وميض الدّ هشة ّ ُ م ًعا بكثري من الدّ فء.
السعادة التي ُحرمنا منها .بدت يل زينب شاحب ًة وحزينة ،و ّملا تلك ّ
انتصبت أمامها شه َق ْت بكثري من االندهاش ،ور ّبام بكينا م ًعا ،ور ّبام ُ
ضحكنا ،ور ّبام ارتبكنا ،كنت أمحل رائحتها يف باطني ،وكنت واث ًقا
فعلاً من أنّنا سنلتقي ذات يوم .يف تلك ال ّلحظات ،متنّينا م ًعا أن
ٍ
تتعرج وتتداخل ونركض نُفرغ ذاكرتينا ونقفز بخ ّفة بني األز ّقة التي ّ
بني األعمدة مثلام فعلنا يف ذلك اليوم البعيد املع ّلق يف سامء الهبة.
متعرقني ،تتعاقب علينا األلوان واألضواء. نركض ،ك ّفي يف ك ّفهاّ ،
ْك أكثر ممّا ينبغي». ْك يا جوهر ،انت َظ َرت َ
قالت يل عيناها« :زينب انت َظ َرت َ
بقيت زينب يف نظري كام هي ،بشعرها ال ّطويل وعينيها اخلرضاوين،
137
يتغي يشء فيها سوى تلك التّجاعيد التي تفاديت أن أراها .هل ومل رّ
احلب املحموم الذي عشناه أ ّيام شبابنا؟
ّ استعدنا يومها أحاسيس
بالضبط ،ماذا حدث ونحن نعرتف ،ونحن ننتفض، ماذا حدث لنا ّ
خت نفيس وزينب تبكي عىل كتفي ،وارتعشت ونحن نبكي؟ و ّب ُ
انتظر ْت طويلاً
َ يدي وهي تالمس يدها ،تالمسها بلهفة وشوق.
تساءلت أمام
ُ ذلك اليوم لتُشفى منّى ،ور ّبام ُشفيت ،ومل أشف أنا.
أت عىل فعل ذلك؟ ملاذا ..ملاذا جتر ُ
هربت؟ وكيف ّ ُ دموعها« :ملاذا
طاهرا ونبيلاً أح ّبني؟»
ً كرست قل ًبا
ُ
صغريا يف مكتبي و ُأخرج رسائل زينب ،يتو ّقف يف ً درجا
أفتح ً
ٍ
خمتلف قراءة ٍ
بشكل أذين ضجيج اخلارج ،أجلس عىل الكنبة وأعيد
الكلامت التي غزاها األمل .دموع زينب -هكذا أحسست -ال تزال
الصفراء ،ال تزال تنوء بعاطفة ج ّياشة ،بل هي ساخنة يف األوراق ّ
حب فحسب ،كانت رسائل كل يشء ،مل تكن رسائل ّ متمردة عىل ّ
ّ
انكسار وخيبة وخوف لكلينا .فك َّر ْت زينب يف مجيع االحتامالت
ٍ
بشجاعة وجنون ،إ ّما أن أعتنق أنا اإلسالم ،وإ ّما أن نسافر وإ ّما أن
نكافح من أجل أن نقنع عائلتها بزواجنا .يس بلحسن ،كان يف األخري
ألي احتامل وخذلت زينب، الرعب الباردة ّأحتمس يف أ ّيام ّ
سيقتنع .مل ّ
خذلتها وما أشقى إحسايس بذاك اخلذالن!
138
وأحول الكذبة إىل
ّ احلب ،ال أستطيع فعلاً أن أكذب
ّ من زنزانة
حقيقة .وبقينا ،أنا وخافا مغمومني ومنكرسين ،وال أحد منّا استطاع
أن ُينقذ اآلخر.
ذات مساء ،منذ سنتني تقري ًبا ،كنت يف ش ّقتي ،يف حرضة رسائل
زينب ،عندما استمعت إىل َطر ٍ
قات عىل الباب ،ظننتُها خافا ،ففي ْ
العادة ال أحد يزورين أو يسأل عنّي غريها .قد تحُ رض يل صحن
فتحت
ُ كسكس ساخنًا ،أو تدعوين ملشاركتها كأس نبيذ .وعندما
الباب فاجأتني مالمح امرأة ثالثين ّية ،زرقاء العينني ومرشقة الوجه،
ثم
تلك هي املالمح األوىل التي انتبهت إليها .ألقت املرأة التح ّية ّ
قالت:
-أعتذر س ّيد جوهر عن إزعاجك ..أنا هيلني ابنة إليف وشريا.
س ّلمتني هد ّية ّ
ثم تابعت ضاحكة:
واحلق ،اهتديت إىل ش ّقتك بكثري من
ّ -ال أحد هنا يعرف أوري،
ّ
احلظ.
كثري من مالمح شريا ،يف شعرها األسود ال ّطويل وأنفها هليلني ٌ
أيضا ذكّرتنيالنّحيف .ورثت عن إليف عينيه الزرقاوين ،ضحكتها ً
بضحكة شريا ال ّطفول ّية .بحضورها املباغت فتحت يل هيلني بابا
أحب أن ُيفتح منذ سنوات .حزنت ملوت العزيز إليف، مضي ًئا ،كنت ّ
عمي فقط ،بل كان صديقي الذي وص ّليت لروحه ،فهو مل يكن ابن ّ
خ ّفف عنّي حزن تلك األ ّيام .كان يشاركني ّ
كل أشيائه ال ّثمينة« ،ال
كل ما يف غرفتي متاح لك» ،هكذا الشكلّ ، تنكمش يا أوري هبذا ّ
كان يقول يل ضاحكًا.
139
هتفت نحو هيلني وأنا أشاركها رشب كأس نبيذ أمحر:
ُ
صحتك أ ّيتها العزيزة.
-عىل ّ
ثم قالت:
رشبت هيلني كأسها ّ
أن هذه الش ّقة هي بيت العائلة القديم.
-ال أعتقد ّ
ندّ ت منّي زفرات طويلة:
-بالفعل يا هيلني ،بعد سفر عائالتنا إىل فرنسا صادروا الكثري
بالقوة منازل أخرى ومنها
أيضا افتكّوا ّ
من املنازل ،األغراب ً
منزل العائلة .وبعد سنوات استطعت أن أقتني هذه الش ّقة
بمساعدة رجل ط ّيب مل يشأ أن أغادر هذا النّهج املمتدّ الذي
الذهب.ُس ّمي بنهج ّ
نظرت إ ّيل بانتباه وقالت:
أيضا بحماّ م ّ
الذهب يف رأس مررت ً
ُ -أجل ،أجل هنج ّ
الذهب،
أسميك
أحب يا أوري ،أو يا جوهر ،ال أدري ماذا ّ
النّهج .وكم ّ
يا عزيزي.
-أوري.
متحم ًسا.
ّ قلت هلا
ُ
الذهب وأريد احلكايةمحام ّ أحب يا أوري أن أعرف حقيقة ّ ّ -
احلقيق ّية هلذا احلماّ م .إنّه حيمل تارخينا يا أوري ،تارخينا الذي
حيق لنا أن هنمله .الكتب التي ا ّطلعت عليها مل أعثر فيها ال ّ
مهمة ،وال أدري ملاذا كتبوا التّاريخ بتلك السطح ّية
عىل أشياء ّ
140
والترسع؟ واألصدقاء مل يضيفوا شي ًئا إىل ما قرأت .أنا ،إن
ّ
سمحت ،يا عزيزي أرغب يف أن أشقيك معي يف هذا البحث،
وسيكون األمر ُمهماًّ لنا مجي ًعا.
مل تنقطع عالقتي هبيلني منذ ذلك ال ّلقاء ،وتأك ُ
ّدت أنهّ ا كانت محُ ّق ًة
الذهب ،فهو يقرتن ،بالنّسبة إلينا عىل محام ّيف رحلة بحثها عن حقيقة ّ
ظل جمهولاً ،وال أحد ّ
جترأ عىل النّبش األقل ،بتارخينا العاصف الذي ّ
ّ
مهمة ألجتاوز غربتي القاتلة ،زيارهتا ٍ
يف أغواره .هيلني قامت بخطوة ّ
كثريا من معنو ّيايت وهذا أسعدين جدًّ ا .ما أحىل أن ترشق
رفعت ً
الشمس ألغت الشمس يف سامء مل ّبدة بغيوم سوداء وغري ماطرةّ ، ّ
بكل صوره السواد ،وما أحىل أن يستفيق عبق املايض ّ
كل ذلك ّ ح ًّقا ّ
ذراعي وأنا أو ّدعها ،وق ّبلتني هي من
ّ وروائحه وألوانه! ضممتها بني
جبيني ،كانت قبلتها ساخنة ،أتاحت يل أن أتذكّر للحظات قبالت
أ ّمي ورائحتها .ومنذ ذلك اليومّ ،قررت أن أجنّد نفيس للبحث عن
رس ٍّي ،أفعل ٍ
بشكل ّ خيت أن أبحث الذهب .وللد ّقة أقول ،رّ
محام ّ
ّ
ذلك حتّى ال يكون األمر مثار شبهة.
سألت خافا ّأولاً ،ور ّبام مل تنتظر سؤايل ،أو هي مل تته ّيأ بالشكل
الكايف لإلجابة ،فقالت يل بيشء من الرت ّدد:
محام ّ
الذهب ،وأكثر -أووه يا أوري ،احلكايات كثرية حول ّ
أن احلماّ م ُس ّمي ببلاّ ع ّ
الصبايا ألنّه شهد اختفاء الشائعات تر ّدد ّ
ّ
فتاة شا ّبة مجيلة يف ظروف غامضة وغريبة ..ويقال ّ
إن األمر
متع ّلق ٍ
بكنز وبجان ..هذا ّ
كل ما أعرفه يا عزيزي.
141
أمرا سهلاً ،
أن البحث عن احلقيقة لن يكون ً أدركت ساعتها ّ
ُ
وليس من اليسري ح ًّقا أن تتو ّفر تفاصيل ّ
مهمة ،باإلضافة إىل ذلك،
الذهب يل ّفه الكثري من التّعقيد.
محام ّ بدا يل ّ
أن ّ
الذهب بعد ذلك عىل زينب .احلقيقة أنهّ ا محام ّ طرحت حكاية ّ
ُ
ِ
بنصف نظرة لتتأكّد بام ال يدع جمالاً أيضا ور ّبام تأ ّملتني
اندهشت هي ً
الذهب ،و ّملا تأكّدت أنيّ جا ّد يف سؤايل
محام ّ ّ
للشك أنيّ سألتها عن ّ
املثري ضحكت وهي تقول:
الذهب ،هي محام ّ كل نساء هنج الباشا يعرفن حكايات ّ ّ -
الصبايا حتّى حيافظن عىل حكايات كثرية ير ّددهنا عىل مسامع ّ
أيضا
حمرمة ..وحتّى ال يفكّرن ً أي عالقة ّ
رشفه ّن وال ينزلقن يف ّ
الذهب أو حتّى يف املرور أمامه .وال ّثابت يا
محام ّ
الذهاب إىل ّيف ّ
قصة احلماّ م ُمزجت بالكثري من اخلرافات ،وسأروي جوهر ّ
أن ّ
لك إحدى القصص ّ
الشائعة عند نساء هنج الباشا.
ثم تابعت: ّ
ترشفت من فنجان القهوة ّ
زمن بعيد ،ال أحد يعرف بالتّحديد متى «القصة تعود إىل ٍ
ّ -
عمه ا ّلتي كانت فائقة حدث ذلك .فقد ُأغرم ّ
شاب وسيم بابنة ّ
اب نظرياّ .
الش ّ درة مكنونة مل تعرف املدينة هلا ًاجلامل ،بل هي ّ
الوسيم ،هادئ ال ّطباع ،مل ينشغل عنها يو ًما وال غفل عن ّ
أدق
ليل هنار .وقد كانت ابنة تفاصيل حياهتا ،كانت تشغل تفكريه َ
حب وهيام مل يعرفه عمه تبادله األحاسيس نفسها ،فنشأ بينهام ّ
ّ
ثم بيد عائلة النّاس يف زماهنام .وأصبحت حياة ّ
الشاب بيد اهلل ّ
الزوج واحلبيب زوجوه من ابنتهم كان هلا نعم ّ الفتاة ،فإن ّ
142
الشاب،وإن رفضوا ذلك كان مستعدًّ ا للموت .وقد عرف ّ
أيضا فارسواحلمد هلل بدماثة أخالقه ونبله وشهامته وكان ً
العم حظي
أحالم فتيات املدينة .فلماّ تقدّ مت عائلته خلطبة ابنة ّ
ثمة عداوة بني العائلتني. طلبه بالقبول ،وحلسن ّ
احلظ مل تكن ّ
الرجال ّ
وحمط أنظار ّ وعائلة الفتاة كانت تعرف ّ
أن ابنتهم مجيلة
عمها
الصالح ،وابن ّ الزواج ّوال يشء يصون البنت الفاتنة غري ّ
رجل صالح.
تم االتّفاق بني العائلتني عىل يوم العرس ،فدُ عي وبعد أ ّيام ّ
األهل واألحباب و ُقرعت ال ّطبول وحرض الفرسان وركب
استعراضا
ً العريس صهوة جواده مرتد ًيا أفخر املالبس وقدّ م
ثم قدّ م لعائلة العروس هدايا كثرية كل احلارضين ّ سحر ّ
الذهب اخلالص باإلضافة وحيل من ّ
ّ تتم ّثل يف أغطية وألبسة
إىل ناقتني وكيسيَ حبوب .وأقيمت يف األثناء حفالت رقص
وغناء يف منزليَ العريس والعروس .ويف العادة ،حيتفل ّ
الرجال
يف احلوش أ ّما النّساء ف ُيقمن احتفاالهت ّن يف صحن الدّ ار أو
الزمان. داخل الغرف ،فالع ّفة كانت ً
رمزا أساس ًّيا يف ذلك ّ
عمها مثل
ومل خيطر ببال العروس أن يطلب منها حبي ُبها واب ُن ّ
ذلك ال ّطلب الغريب ،فقد دعاها إىل أن ترتدي بذلته يف طريق
ترتصدها
ّ الرجال وال يتحرش هبا ّ
ّ ذهاهبا إىل احلماّ م حتّى ال
ثم أدركتالسوء .اندهشت ّأول األمر لطلب حبيبها ّ أعني ّ
أن ح ّبه اجلارف هلا هو ما يدفعه إىل صيانتها من ّ
كل بعد تفكري ّ
سوء وحسد.
143
عمها وأحرضت عُدّ ة وبالفعل ارتدت الفتا ُة مالبس ابن ّ
احلماّ م من طاس وصابون ومناشف استحامم ومالبس داخل ّية
وتوجهت صوب احلماّ م متنكّرة بح ّلة صبيان ّية .وبعد دخوهلا ّ
صحبة جمموعة من الفتيات جّاتهت صوب املطهرة واختلت
ترسح شعرها األسود الفاتن ال ّطويل الذي كان بنفسها وهي ّ
تعجبت الفتيات الزمنّ ، مثار حسد الفتيات .وبعد فرتة من ّ
من طول اختالء العروس بنفسها داخل املطهرة ،فطرقن
الباب ومل يسمعن جوا ًبا .ويا للمفاجأة التي أجلمت األفواه!
لقد اختفت العروس من املطهرة ،بحثت الفتيات عنها يف
كل من كان يف احلماّ م وال حياة مجيع احلجرات وبحث عنها ّ
أي أثر.
تبخرت ومل يبق منها ُّملن تنادي ،كأنهّ ا ّ
جو من الصرّ اخ والعويل وال ّثرثرة والقيل والقال فزع
يف ّ
العريس إىل احلماّ م ومل يصدّ ق ما حدث ،أخليت املطهرة ّ
وكل
ومشوش
ّ احلجرات من الفتيات ومل يبق غري العريس مصعو ًقا
األنفاس .رشع يرصخ وينادي حبيبته بأعىل صوته ،واألمر
أن حبيبته أجابته يف تلك ال ّلحظات دون أن يتمكّن
الغريب هو ّ
من رؤيتها ،قالت بصوت مبحوح إنهّ ا مسجونة داخل اجلدار
واجل ّن حيكم قبضته عىل شعرها .كانت تستغيث وتبكي وتئ ّن
واجلدار يطبق عليها ويبتلعها .جرى حبيبها كاملجنون وراح
ظل حيفر وحيفر ّ
بكل ما السميكّ ،يرضب بالفأس عىل احلائط ّ
قوة لكن دون جدوى ،فحيطان احلماّ م كانت أقوى من أويت من ّ
رضبات الفأس ،وك ّلام حفر كان صوت حبيبته يبتعد ويبتعد
144
املروعة أيقن العريس أنّه
إىل أن اختفى متا ًما .ويف تلك اآلونة ّ
الصور أمامه وسط البخار فقد حبيبته إىل األبد ،واختلطت ّ
الشعر وال ّثياب، ٍ
لوقت طويل مصعو ًقا ،مب ّلل ّ املتصاعد .لبث
يمسك باجلدار وهيذي بكلامت مبهمة إىل أن سقط .وبعد
أ ّيام حتدّ ث النّاس يف املدينة عن ذلك العريس الذي فقد عقله
بسبب محاقته وغريته الكبرية ،تلك الغرية التي تس ّببت يف
(((
ابتالع احلماّ م حلبيبته».
القصة وأنا مندهش ممّا جرى من أحداث ،غري
أهنت زينب رسد ّ
عيني
ّ حركت زينب يدها أماممصدّ ق ملا آل إليه مصري العروسّ .
أيضا
السامهة ،ضحكت أنا ً
ضاحكة ومازحة لتخرجني من حالتي ّ
ثم سألتها:ّ
-لكن ،يا زينب ،كيف فسرّ النّاس ما وقع؟ وماذا حدث بعد
ذلك؟
-ما سمعته من أ ّمي ،وقد سمعته بطبيعة احلال من اجلدّ ات،
هو ّ
أن اجل ّن الذي كان يسكن احلماّ م خطف الفتاة لسببني ال
ثالث هلام ،فإ ّما أن يكون ذلك بسبب شدّ ة مجاهلا وشعرها
ال ّطويل وإ ّما لتنكّرها بمالبس رجل .والغريب ّ
أن اجلدار
الذي ابتلع الفتاة خرج منه شعر أسود بعد أ ّيام من احلادثة،
خرج بشكل كثيف ورسيع ،وكان ذلك مثار رعب لصاحب
الشعر املتد ّفق بغزارة ويوقد به
يقص ّ احلماّ م .ويف ّ
كل ليلة كان ّ
145
الزمن حتّى
استمر بذلك اجلهد لفرتة من ّ ّ النّار يف فرن احلماّ م.
اختفت تلك ال ّظاهرة الغريبة ،ور ّبام تو ّقف تد ّفق ّ
الشعر ،كام
السميك.روت احلكايات ،بعد موت الفتاة داخل ذاك اجلدار ّ
أن النّساء امتنع َن منذ تلك احلادثة عن واألهم من ذلك ّ ّ
الذهاب إىل احلماّ م بسبب خوفه ّن من اجل ّن. ّ
قلت لزينب حماولاً تفسري احلكاية:
ثمة احتامالت صحيحا فعلاً ،لكنّ ،
ً -يمكن أن يكون ما وقع
تظل مطروحة .اختفاء الفتاة ،هذا أمر حمسوم فيه، أخرى ّ
تعرضت للخطف أو القتل بسبب مجاهلا وفتنتها، وقد تكون ّ
الساحر ،كام سمعت يفوعىل األرجح بسبب شعرها األسود ّ
القصة ..ولع ّلها ً
أيضا هربت بإرادهتا .من يدري! ّ
الذهب بعد ذلك ،ومل أكن محام ّ
مل تتو ّقف رحلة البحث عن ّ
كنت سأصل إىل نتائج يمكن أن تسعد هيلني .وبعدأعرف ما إذا ُ
مهمة يمكن أن تفيدين ،هلذا فكّرت
حكاية زينب مل أعثر عىل حكاية ّ
يف تغيري مسار البحث نحو كتب التّاريخ.
تر ّددت أ ّيا ًما كثرية عىل سوق الد ّباغني وق ّلبت الكتب القديمة
محامالذهب أو ّمحام ّ
باح ًثا عن عنوان يمكن أن يفيدين ،ويتحدّ ث عن ّ
محامات مدينة تونس ،تص ّفحته الرميمي .عثرت عىل خمطوط بعنوانّ : ّ
ومل أعثر فيه عىل ما يمكن أن يفيدين ،اقترص البحث عىل التّخطيط
املكونات املعامر ّية
ّ مؤسسة احلماّ م ودراسة
البنائي للحماّ م ووظائف ّ
ّ
محامات مدينة تونس وغريها من األبواب الفرع ّية .اقتنيت يف لبعض ّ
146
األثناء كتاب تاريخ معامل التّوحيد يف القديم ويف اجلديد ،قالت هيلني
إنهّ ا حتتاج إليه لال ّطالع عىل تاريخ جامع ّ
حممد باي املرادي ،أو جامع
يسمى اآلن. سيدي حمرز كام ّ
كبريا يف تقليب الكتب وتص ّفحها ،ويف تط ّلب األمر جهدً ا ً
املرات وأنا مستغرق يف البحث بني أكداس الكتب ،انتبه إ ّيل
إحدى ّ
الصغري املزدحم ّ
الشيخ الذي كان يعرض كتبه القديمة أمام دكّانه ّ
تفحصني من وراء نظارته بالكتب واملجلاّ ت واألوراق ّ
الصفراءّ ،
مستفرسا:
ً ثم خاطبني
الطب ّية ّ
ٍ
كتاب معينّ ،يمكن طب ًعا أن أساعدك. -أظ ّن أنّك تبحث عن
قلت له دون أن أنظر إليه:
الذهب ،أنت تعرف ٍ
كتاب يتع ّلق بحماّ م ّ -أجل ،أنا أبحث عن
ذلك احلماّ م بال ّ
شك.
ثم قال: صمت ّ
الشيخ برهة وهو يفرك ذقنه ويفكّر ّ
الذهب محام ّ
-كأنيّ مررت ذات يوم بأوراق تتحدّ ث عن احلماّ مّ ،
أعني .وإن شئت عد إ ّيل بعد ثالثة أ ّيام ،أظ ّن ّ
أن هذه املدّ ة
مناسبة ألجد تلك األوراق.
الضيق واملزدحم يف سوق عدت بعد ثالثة أ ّيام إىل ذاك الدّ كان ّ
الشيخ بابتسامة عرفت من خالهلا أنّه مل ينسني، الد ّباغني ،وطالعني ّ
وبطبيعة احلال مل ينس تلك األوراق التي أشار إليها.
147
-لقد عثرت عىل هذه األوراق مطو ّية يف أحد الكتب القديمة،
وأمحد اهلل أنيّ مل أرمها يف حاوية القاممة .وأعتقد ّ
أن صاحبها مل
يتف ّطن إليها وهو يبيع كتبه القديمة.
أمسكت باألوراق كأنيّ أمسك بكنز ،وطب ًعا كان ال بدّ أن أدفع
ثمنها الذي ُقدّ ر بثالثة دنانري .وقبل أن أسري حتت شمس حارقة
الصفراء وقرأت الذهب د ّق ُ
قت النّظر يف األوراق ّ جّ
باتاه ش ّقتي يف هنج ّ
الصبايا .»..بحثت يفالذهب ..بلاّ ع ّ
محام ّالصفحة األوىلّ « :
يف أعىل ّ
الصفحات ،ومل كل ّ الصفحة األخرية عن اسم الكاتب ،بحثت يف ّ ّ
أي اسم أو إشارة يمكن أن تساعدين عىل معرفة صاحب أعثر عىل ّ
القصة لكاتب جمهول
ستظل هذه ّّ رسي:
فقلت يف ّ
ُ الصفراء.
األوراق ّ
حقيقي أضاعه يف حلظة سهو.
ٌّ كنز
ّفرط يف كنز .وهو بالتّأكيد ٌ
148
()7
محام ّ
الذهب ّ
3ديسمرب 2010
149
الصحبي».البارزة يف األعىل« :بيع احلرقوس واحلنّة العال العال عند ّ
الصحبيطلبت منه علبة شامبو وقطعة صابون من النّوع اجل ّيد ،تابع ّ
أيضا من بضائعه ،وأغلبها النّظر إ ّيل يف وضع ّية تر ّقب ملا سأختاره ً
فابتسمت وقلت له ٍ
بنربة ال ختلو من مزاح: ُ بضائع نسائ ّية،
محام -بضائعك نسائ ّية مع أنّك تعرف ّ
أن النساء ال يدخلن ّ
ّ
الذهب.
عال وقال: ٍ
بصوت ٍ الصحبيضحك ّ
محام
نسميه ّ
-أووه من حكايات هذا احلماّ م التي ال تنتهي ..نحن ّ
محام ّ
الذهب .النّاس كذبوا الرميمي ،والتّسمية الغالبة هي ّّ
وكل احلكايات شائعات يا ابني وال أحد ثم صدّ قوها ّ
كذبة ّ
يصدّ قها اليوم.
محام ّ
الذهب. أي حال ،النّساء خيفن من ّ
-عىل ّ
صحيحا ما تقول يا ابني ،صاحب احلماّ م اختار أن يكون
ً -ليس
الرجال ..وتلك عادة بقيت سارية منذ سنوات. زبائنه من ّ
ٍ
بامرأة كانت تسأله والصابون وانشغل الصحبي ّ
الشامبو ّ ناولني ّ
تلح عليه لكي يعطيها حنّة قابس ّية ممتازة ،وتوصيه
عن أنواع احلنّةّ ،
الصحبي راين بنتك» ،تقول عم ّيغشها بحنّة تُتلف شعرها« ،يا ّ بأالّ ّ
ملحت جوهر وهو يسري بتثاقل .يف احلقيقة، ُ له .ويف تلك ال ّلحظة
اندهشت عندما رأيته ،مل يتف ّطن إىل وجودي وإلاّ لكان ّ
تسمر أمامي ُ
مخنت أنّه مثيل يبحث عن حكاية من حكايات بوجهه اجلامدّ .
ٍ
ببحث الذهب .إنهّ ا هيلني ،ال ريب ،أعرف جنوهنا ،ال تقتنع محام ّّ
150
واحد ،املسألة ليست مسألة ثقة بطبيعة احلال« ،ال بدّ أن أنظر إىل
كل احلقيقة» ،تقول هيلني وهي تنجز الزوايا األربع ألعرف احلقيقةّ ،
ّ
ثم تخُ رج يل لساهنا بحركة مشاكسة ،ولطاملا كانت تشاكسني بحوثها ّ
لتح ّثني عىل القراءة والبحث .هي ال ترى التّاريخ ،يف أغلب ما كتب،
تستغل ّ
كل ّ أمينًا وال حمايدً ا ،بل كان خيضع لالبتزاز واألجندات التي
الذكر ،مل ُيكتب بشكل دقيق ،وسكت يشء .تاريخ تونس ،عىل سبيل ّ
الصادمة« ،املحرقة النّاز ّية ضدّ اليهود مثلاً »،
عن الكثري من الوقائع ّ
تقول هيلني ،غري أنهّ ا تستحرضها دو ًما بكآبة وحقد ،ويف مقابل ذلك
ضخموا وقائع تافهة ،نفخوا فيها واحتفلوا بأبطال املؤرخني ّ
أن ّتؤكّد ّ
ومه ّيني.
استغربت من جتاوز جوهر للحماّ م وسريه يف هنج ّ
الذهب
فرست وراءه بكثري
ُ دون التفات ،وساورتني رغبة يف اقتفاء أثره.
تعمقت يف النّهج املس ّقف .دخل جوهر من من الفضول حتّى ّ
سمعت وقع أقدامه عىل الدّ رج ،وبعد ذلكُ باب «وكالة» قديمة،
استمعت إىل َط ْرقات عىل أحد األبواب ،سمعت جوهر يتحدّ ث مع
منخفضا ،مل يطل احلديث ورسعان ما
ً نسائي ،كان حوارمها
ّ صوت
الصمت.ثم ُفتح باب آخر وران ّ ُأغلق الباب ّ
تأكّد يل ّ
أن جوهر يقيم يف «الوكالة» .مشيتُه املتثاقلة واهلادئة
رجحت يل هذا االحتامل ،إضافة إىل ذلك ،مل أحلظ يف مالمح الوجوه ّ
يدل عىل كونه غري ًبا عن النّهج ،وعىل العكس ،ظ ّلت
مرت به ما ّ
التي ّ
امرأة مهتاجة النّظرات تبحلق يف وجهي وكأنيّ قاد ٌم من «الوقواق».
بدت يل «الوكالة» خمتلفة عن وكالتنا يف ص ّباط الدّ زيري ،ال حتفل
151
الشقق يف الواجهة األمام ّية حمافظة عىل الصخب املزعجّ . بذاك ّ
جدراهنا املتينة ،أغلب نوافذها مغلقة ،وحتّى املفتوحة منها فإنهّ ا غري
حس وال احرتام ّ
للذوق مزدمحة بالغسيل واألغطية املتكدّ سة بال ّ
العا ّم .يف نوافذ شققنا يمكن أن تعرض مالبس داخل ّية نسائ ّية
بحالة خجل أو ُيوقظ ِ يمر بمنتهى الوقاحة ،وهو ما ُيشعر ّ
كل من ّ
مشاكسا .هاجر ً صفريا
ً ُدودته النائمة بني فخذيه ،فيشتم أو يرسل
ال تتوب عن ثرثرهتا وهي حتدّ ثني عن صدر ّيات نساء «الوكالة»،
كل لون وحجم.. «الصدر ّيات هنا عىل ّ
ّ الشبقة:تقول يل بنربهتا ّ
محالة النّهدين بعناية وراحة بال من سوق احلفص ّيةّ .ٍ ونحن ننتقيها
هي مكمن الدّ اء ،هي الفتنة واملتعة يا سعد ،واملرأة يف ذروة االهتياج
حتب ذلك القرص املثري .لذلك ،وأنت ال تفهم النّساء يا سعد ،حني ّ
محالة هندهيا يف النّافذة تعلن بمنتهى اجلرأة أنهّ ا حتتاج إىل
تضع املرأة ّ
من يقرصها».
وق َف ْت أمامي امرأة ُمسنّة ،بدت يل مرهقة وهي حتمل ق ّفة ممتلئة
ثم تط ّلعت السفساري الذي سقط عن كتفها ّ باخلرض ،أعادت ترتيب ّ
إىل وجهي:
-هل تنتظر أحدً ا هنا؟
قلت كاذ ًبا وقد أحسست بكثري من احلرج:
-أبحث عن ش ّقة للكراء يف هذه الوكالة.
ر ّدت املرأة دون تفكري:
كل ّ
الشقق عىل ملك -ال أظ ّن يا ابني أنّك ستجد ضا ّلتك هناّ ،
152
يفرطون يف شققهم اليهود ،اليهود القدامى أقصد ،وهم ال ّ
ألحد ..يمكن أن تسأل عن ش ّق ٍة يف النّهج املقابل ..هناك،
أعتقد ،ستجد من يساعدك عىل كراء ش ّقة مناسبة ..أسمعت
يا ابني؟ ،ال فائدة من وقوفك هنا.
لت من باب الوكالة امرأ ٌة ذات برشة بيضاء ،خت ّطتني تس ّل ْ
البارييس ،فقد ذكّرين
ّ أشتم عطرها
ّ دون أن تنظر إ ّيل ،أمكن يل أن
الرائحة متشاهبة فعلاً ،سارت املرأة عىل عجلبعطر الس ّيدة شرياّ ،
السوق. الصغرية تتدلىّ من كتفها حتّى اختفت يف زمحة ّ وحقيبتها ّ
رسي ،لكن ،ملاذا أخ َف ْت
جوهر من اليهود القدامى إ َذن؟ تساءلت يف ّ
عنّي هيلني هذه احلقيقة؟
عم رزوقة -هكذا سمعتهم عندما دخلت إىل املحرس استقبلني ّ
ينادونه -بابتسامة خفيفة ،تأ ّمل مالحمي من خلف ن ّظارته الطب ّية،
يتفحصني من األعىل إىل األسفل أنيّ أكتشف احلماّ م ّ وعرف وهو
مرة .كنت مأخو ًذا بال ُق ّبة ،زخارفها عىل غاية من التّناسق، ألول ّ
ّ
ترسو عىل حنايا قوامها عقود نصف دائر ّية وأربعة أقواس حممولة
أيضا عىل أربعة أعمدة تز ّينها تيجان ذات ألوان فاحتة .وحوت هي ً
الشكل ،وهي تيضء القاعة بشكل طبيعي. مقوسة ّرقبة الق ّبة نوافذ ّ
رخامي،
ّ الرخام األبيض ،حييط هبا حوض
ويف أسفل الق ّبة نافورة من ّ
أن النّافورة مع ّطبة منذ سنوات طويلة ،متا ًما مثل اجلدران حدست ّ
عم روزقة ووضع أمامي العالية التي تقشرّ طالؤها .اقرتب منّي ّ
ظل ينظر إ ّيل وينتظر أن أطلب منه شي ًئا آخر ،ابتسمت محامّ ،ملحفتي ّ
الركن الذي ُص ِّف َف ْت فيه
شاكرا وأشار هو بحركة من يده إىل ّ
ً يف وجهه
153
أي
القباقيب وعاد إىل مكانه .وعندما طلبت منه قارورة ماء مل ُيعرين ّ
الرجل الذي كان يروزين بعينيه ومدّ ين بواحدة:
انتباه ،فجرى ّ
-رزوقة سقيفته طويلة ،ونحن هنا نتخاطب معه باإلشارات
الصياح.
حتّى نتجنّب ّ
يتفرس يف الوجوه
اخلمسيني ،ط ّياب احلماّ م ،يظل ّ
ّ الرجل رشادّ ،
نارشا ابتسام َة مو ّد ٍة ال تزول من وجهه ،وبني فينة وأخرى
الوافدةً ،
يتف ّقد ال ّلحاف املشدود إىل حزامه ،كأنّه خيشى أن يسقط يف غفلة منه.
ومتحمستان للدّ لك ،األجساد العارية
ّ جسمه ممتلئ وك ّفاه كبريتان
هي ثروته ،يد ّقق يف تفاصيلها ،وهو يفصل بني من يستنجد بخدماته
الصالة يف جامع سيدي
تعود عىل االستحامم برسعة إلدراك ّ
ومن ّ
حمرز .ومن املفرتض أنّه عرف طويل ووزين« ،هذا رجل غريب عن
الر َب ْط ،أوساخه تغ ّطي برشته ّ
السمراء ،لكن ،ال بأس ،أعرف كيف ّ
رسه .شخص ّية رشاد مثريةأجعله يدفع أكثر ممّا سأطلبه» ،يقول يف ّ
لالنتباه ،كنت أنزع مالبيس وأص ّففها يف اخلزانة اخلشب ّية ّ
الصغرية
وأتابع حركاته التي ال هتدأ.
عم رزوقة -يراقبني وأنا جّأته
عم رزوقة -اجلميع ،ينادونه ّ ظل ّ ّ
الركن الذي ُص ّففت فيه القباقيب ،القوالب اخلشب ّية التي اصط ّفت
إىل ّ
أمامي كانت عىل مقاسات خمتلفة ،وهي مزدانة بقطع جلد ّية سوداء
أي القباقيب لبسته حبيبة؟..
رسيّ :
مشدودة بمسامري .تساءلت يف ّ
القباقيب قديمة جدًّ ا ،وطب ًعا ال يمكن أن يعود قدمها إىل قرابة أربع
مائة سنة .خيايل جنّح بعيدً ا وختي ّل ُت حبيبة وهي ترتدي أحد القباقيب
154
ثم متيش وهي تشدّ ال ّلحاف عىل خرصها وتتاميل عىل صدى د ّقات ّ
الشموع.املمر متّجهة إىل كامل أرجاء احلماّ م لتشعل ّ
ثم تعرب ّ
القبقاب ّ
وال أدري كيف وصلني صدى د ّقات حممومة وأنا أخت ّيل حبيبة متيش
السخون» بعد أن وصلتها صيحات أ ّمها. الهث ًة جّ
باتاه «بيت ّ
السخون» ،يف الواقع ،ال خيتلف بشكل كبري عن الوصف «بيت ّ
قصته ،يقع يف ّ
مؤخرة احلماّ م وحجمه الذي قدّ مه الكاتب املجهول يف ّ
الساخنصغري بام يسمح باملحافظة عىل احلرارة املرتفعة .حوض املاء ّ
يوجد عىل اليمني وهو مزدان بقطع رخام ّية ذات ألوان فاحتة .اجلديد
اإلسمنتي املس ّطح الذي أضيف حتت القبو الدّ ائري
ّ فعلاً هو القبو
الصغرية بفتحة مستطيلة عىل مسافة مرتين ،وطب ًعا ألغيت الفتحات ّ
أن هذه القاعة وطبيعي ّ
ّ كبرية توجد يف أعىل املدخل املنخفض.
الصغرية مالصقة للحوض األعىل أو ما يعرف بالنّحاسة التي تفيض ّ
أيضا فقد استبدل التّسخنيفرن أتون مل يعد موجو ًدا هو ًإىل الفرنُ .
بيعي ،وبال ّطبع مل يبق من أثر
التّقليدي يف احلماّ م بأنابيب الغاز ال ّط ّ
لغرفة أتون وال لشجرة التّني الكبرية ،فقد بنيت يف تلك اجلهة ميضة
جامع سيدي حمرز.
الرجل امللتحي الذي جلس أمامي وغ ّطس رجليه إىل مستوى ّ
سمر نظراته يف خلقتي ومل يتو ّقف عن متابعتي الركبة يف احلوض ّ ّ
عت إليه بارتياب ومل أسمح له وأنا أد ّقق يف تفاصيل القاعة .تط ّل ُ
التكيز وختزين املشاهدات يف بمشاركتي احلديث .كنت أحتاج إىل رّ
صارخا عىل ّ
أن احلديث ً إن نظراته املسامر ّية كانت دليلاً
ثم ّ
دماغيّ ،
مزعجا .لذلك مل أفكّر بتاتًا يف استفساره ً معه غري مريح ،بل سيكون
155
أي يشء حول احلماّ م ،ماذا سيضيف يل هذا املقرف الذي ال ُينزل عن ّ
محا ،وحسب عينيه من وجهي؟ يف ذلك الوقت مل يكن احلماّ م مزد ً
الصباح الباكر أو يففإن احلماّ م ال يشهد ازدحا ًما إالّ يف ّ
كالم رشادّ ،
املساء ،أ ّما يف ال ّظهر ،فال يدخله عاد ًة إلاّ كبار الس ّن ،وأنا طب ًعا كنت
الرجل القابع
رسي :من املفروض أن يغادر ّ حالة استثنائ ّية .قلت يف ّ
تعرقت حليته املرختية وطفقت أمامي نحو «البيت الباردة» ،فقد ّ
ح ّبات العرق تسيل من صلعته نحو جمريني يف خدّ يه ،وبعد ذلك
تتجمع يف ال ّلحية املرختية لتتقاطر مثلام تتقاطر ح ّبات املاء ّ
الصفراء ّ
من جوف حنف ّية مع ّطبة.
أخريا وقد يئس من وجود ُمرافق ثرثار ،ويف تلك الرجل ً غادر ّ
األثناء ارتفعت درجة احلرارة وتصاعد البخار عال ًيا حتّى أصبحت
وكتفي
ّ الرؤية أمامي غائمة .غ ّطى العرق كامل جسديّ ،نز من جبيني ّ
ثم انزلق عىل رقبتي وظهري وصدري .أحسست أنيّ أذوب وأتالشى ّ
بكل من حويل وران صمت فقدت اإلحساس ّ ُ وأطفو كال ُبخار متا ًما،
مطبق .مل أعد أسمع األصوات يف القاعة املحاذية وال خرير املياه التي
قفزت إىل خم ّيلتي ْ ٍ
للحظات بخرير املياه يف وادي الدّ رب، ذكّرتني
والذوبانبحالة من االسرتخاء ّ ٍ أحسست ثم تالشت.
ُ الصورة ّتلك ّ
وكنت أطري وأطري كام يطري البخار حتّى اختفت جدران احلماّ م متا ًما.
الرخام ّية،
السوداء التي كانت تتناثر عىل القطع ّ
نظرت إىل البقع ّ
أن َش ْع ًرا أسود كثي ًفا
تأ ّملتها وسط ذاك البخار الكثيف وتراءى يل ّ
طوقتني الشعر يتد ّفق ويطفو حتّى ّ السوداءّ ،
وظل ّ ينز من تلك البقع ّ
ّ
تله َف ْت أصابعي السوداء وتعالت نحو القبو جّ
وباتاه الفتحةّ . خصالته ّ
156
رت قبضتي ألُحكم كو ُ ٍ
للمس خصلة كانت متناثرة عىل كتفيّ ،
برعشة ناعمة تُدغدغ ٍ أحسست
ُ اإلمساك هبا فلم ُأمسك بيشء.
كل مسام جسدي ،وتراءت يل فتحة كبرية داخل احلوض ،تالشى ّ
املاء متا ًما من احلوض وقفزت امرأة وهي تلتقط خصالت شعرها
املتاموجة يف أرجاء القاعة .استطعت أن أرى عينيها السوداوين
الواسعتني ،كانت تنشج ودموعها تسيل عىل وجنتيها مثل شلاّ لني.
َت عىل مدّ رقبتها خارج الفتحة تراجعت بشكل رسيع وعندما أوشك ْ
أحس باخلوف وحاولت أن أمسك قوة ما جتذهبا نحو القاع .مل ّ ّ
كأن ّ
يدي بإرصار وعناد ومل أمسك بيشء، مددت ّ ُ ثم بعنقها، برأس املرأة ّ
الصغري ،كامل رأسها يف متناول يدي ،ومل أملس شي ًئا .مل كان رأسها ّ
أيضا ومل تالمس وجهي ،وإنّام كانت تتعاىل وتتاموج تصلني دموعها ً
ثم رصاخها« :يا ّمي مثل البخار متا ًما .بعد ذلك سمعت أنّات املرأة ّ
ط ّلعني ،ط ّلعني يا ّمي راين تعبت ..راين تعبت يا ّمي» ..متاوجت من
الذهب ،ختاتلت أمامي بمختلف ألواهنا ،بيضاء الفتحة سبائك من ّ
وورد ّية وصفراء ،حاولت أن أمسك بسبيكة بيضاء المعة ،وبغتة،
ٍ
وبحركة رسيعة ٍ
بحرارة ال تحُ تمل أحسست
ُ غابت تلك الفتحة،
ووقفت
ُ حبست أنفايس
ُ الساخن.
سحبت يدي من حوض املاء ّ ُ
ذراعي وأنا أعيد التأ ّمل من بعيد يف تلك ّ شبكت
ُ بجانب الباب،
الرخام ،ظ ّلت جامدة أمامي ،ال حركة السوداء املتناثرة عىل ّ البقع ّ
باملرة ،وال
فيها وال رصاخ وال ملعان خيلب األبصار .مل أكن مرتبكًا ّ
عيل ،وإن مرتع ًبا من اجلان ،فحكاية اجلان هذه ال يمكن أن تنطيل ّ
عيل وخيطفني كام يعتقد النّاس. كانت صحيحة َف ْليواجهنيَ ،و ْليقبض ّ
157
عيني نحو الفتحة التي تيضء القاعة ،وال أدري كيف ّ رفعت
عيل اخلياالت ،لبثت العينان مصعوقتينْ ُ ،تطلاّ ن ّ
عيل يف تناوبت ّ
مرصتان عىل التّحديق، الذهول ّ حالة من ّ ٍ
والذعر .العينان ض ّيقتانّ ،
الرموش ،كأنهّ ام حمنّطتان.
متسمرتان بمنتهى الوقاحة دون حتريك ّ ّ
وأتفرس ّ
بكل ّ عيني نحو تلك الفتحة
ّ أحسست بنعاس وأنا أرفع
عناد يف َت ْينك العينني الض ّيقتني.
كنت يف س ّن الثالثة عرشة ،أو أكثر من ذلك بقليل ،أصعد
ليلة إىل سطح منزلنا ،ومنه أعرب إىل سطح جارتنا سعد ّية .أ ّمي كل ٍ ّ
الرجال»، تكرهها ،وتشتمها أمامي وأمام أيب« :قهرمانة ،ص ّيادة ّ
وأيب خيفي ضحكته بحركة من يده وال يع ّلق عىل كالمها .وبعد أن
ينتهي من تناول الغداء يميض إىل وادي الدّ رب حتّى ال يسمع شتائم
ثم ينعس حتت شجرة التّوت ،الشجرة الوحيدة أ ّمي ،يرعى أغنامه ّ
أحب
ّ التي سماّ ها النّاس بعد موت أيب بـ«توتة إبراهيم» .أنا كنت
كل ليلة،وأظل أراقبها ّ
سعد ّية آنذاك ،أنكمش قرب نافذة بيت نومها ّ
حذرا خمافة أن تتف ّطن إ ّيل وتشنّع يب أمام أ ّمي .زوجها يعمل
كنت ً
متاحا يل أن أختلس النّظر يف ظروف ُمرحية حارسا ليل ًّيا ،لذلك كان ً
ً
لدي أن أتابع سعد ّية
ومثرية يف الوقت نفسه .كانت أسعد األوقات ّ
ثم قميصها وهي تتخ ّلص من فستاهنا أو تنّورهتا يف غالب األحيان ّ
كل ثم « َك ْل ُسوهنا» ،حتّى إنيّ أصبحت أعرف ّثم صدر ّيتها ّالقصري ّ
َالسينها» ،ويف الغالب ،هي بيضاء أو ورد ّية .كنت أقول ألوان «ك ِ
الصغرية من القامش ختفي شي ًئا عجيبا حتت رسي :تلك القطعة ّ يف ّ
سرُ ّ هتا ،وكان ذلك الشيّ ء غري ًبا عندي ،مل يسبق يل أن رأيته إلاّ يف
158
صور املجلاّ ت التي كنّا نتخاطفها ّ
ثم نخفيها يف وسط ضلف التّني
الشوكي.ّ
كنت أملح يف حلظات خاطفة بالُ ، يف ال ّليايل األوىل ،مل أر شي ًئا ذا ٍ
ذلك الشيّ ء الذي يتلف أعصايب أو أملح ّ
مؤخرهتا املمتلئة الشديدة
البياض وال ّلمعان ،أو هندهيا الصغريين ،رغم أنيّ كنت أرامها كبريين
كل من خلف الفستان .ويف ليلة من ال ّليايل ،خت ّلصت سعد ّية من ّ
مالبسها وطفقت ترقص بجنون عىل أنغام موسيقى صاخبة ،ترقص
ثم تتالعبوتتثنّي وترفع ساقها وتدور وتدور وترفع ساقها األخرى ّ
تظل االتاهاتّ ،كل جّبشعرها يف حركات رشيقة ،وتحُ ّرك خصالهتا يف ّ
ترقص وتلهث وتزفر طويلاً طويلاً إىل أن تسقط عىل رسيرهاُ .
لبثت
كدت أغيب عن وعيي مشدوها ،فاغر الفم يف ذلك الوقت الوجيزُ ، ً
بلذ ٍة خفيفة حتّى تب ّلل رسوايل ،ومل
فأحسست ّ
ُ وانتفضت معي دوديت
أكن أرتدي ت ّبانًا آنذاك .ويف حلظة االنسحاق تلك ،اقتنصتني عينا
فشعرت بارجتاج يف
ُ ٍ
حلظة خاطفة سعد ّية ،التقت عيناي بعينيها يف
عظامي وجريت بني األسطح مصعو ًقا.
الرس ومل تشنّع يب عند أ ّمي،
أن سعد ّية كتمت ّ أغرب ما يف األمر ّ
وذات مساء التقطتني أمام بيتها وأدخلتني إىل غرفة نومها« ،إجيا هلنا يا
الرماد» مهست يل .أرخيت عنقي والتقطت أنفايس بصعوبة ق ّطوس ّ
مترر يدهيا عىل هندهيا ثم ّ
وأنا أرى سعد ّية تنزع مالبسها ببطء أمامي ّ
مرة أرى ضحكة امرأة مهتاجة وهي ترفع ألول ّ
بحركات أثارتنيّ .
هندهيا بيدهيا ،عيناها متو ّقدتان والمتعتان ولعطرها رائحة عجيبة.
السعادة املجهول؟» ،تساءلت وأنا أتابع «من أين تأيت سعد ّية بعطر ّ
159
تدس وجهها قري ًبا من وجهي رقصاهتا وجنوهنا عىل السرّ ير وهي ّ
ثم تسحقني بقبالهتا املحمومة وشهقاهتا وزفراهتا .الشيّ ء األكيد ،يف ّ
الرماد ،عىل قدر كبري من ذلك الوقت ،أنيّ كنت فعلاً مثل ق ّطوس ّ
التاخي ،مل أستطع أن أخت ّلص من شعوري باخلوف ،كان اخلوف رّ
قو ًّيا يف داخيل ،وإضافة إىل ذلك كان إحسايس ُمقر ًفا وأنا أط ّبق أوامر
أحس بتلك ال ّلذة اخلفيفة التي أحسست هبا ّ
الذل حتت الغطاء .مل ّ
حينام تابعت سعد ّية يف رقصتها املجنونة ،من بعيد ،من تلك النّافذة
الصغرية. ّ
التلصص عىل سعد ّية منّ بعد تلك ال ّليلة ،مل تنقطع عاديت يف
أي ر ّد فعل،
عيني ،وال يصدر منها ّ ّ النّافذة ،وكانت هي تقتنص
مرة عوت يف رأيس عاصفة الغضب، بل هي ال تكرتث يب .وذات ّ
السي أمام
وحدث ما جعلني أكره سعد ّية وأحقد عليها وأجتنّب رّ
باب بيتها .كيف أنسى ذلك؟ كانت ر ّدة فعيل غريز ّية عندما كرست
زجاج النّافذة يف ال ّلحظة التي ملحت فيها أيب داخل غرفة نوم سعد ّية.
وبت ليلتيوركضت مكدّ ًرا ومغمو ًما ّ
ُ وال أدري بعدها كيف جريت
ٍ
كهف يف وادي الدّ رب. األوىل وسط
حرك رشاد يديه أمام عيني وهو يسألني:
ّ
تعرق بام يكفي ،ه ّيا اتبعني.
-هل نمت؟ ..جسدك ّ
أجلسني رشاد أمامه عىل الدكّة ورشع يدلك جسدي بيديه ،بدأ
الصدر واجلنبني ّ
والذراعني ،دلك ثم ضغط عىل ّ ثم ال ّظهر ّ
بالعنق ّ
ٍ
وبرتكيز شديد ٍ
بحركات منتظمة ومتتابعة جسدي عضل ًة عضل ًة
حتّى أحسست باالرختاء« .استلق عىل ظهرك ،ناولني ظهرك ،أغلق
160
جامد ،و بعد ذلك ارتدى ٍ فمك ،نم عىل وجهك» ،كان يأمرين بوجه
ٍ
بضغط منتظم ،مرك ًّزا ّأولاً اجللدي يف يده اليمنى ورشع يدلك الق ّفاز
ّ
عىل العمود الفقري.
سألني اله ًثا:
محام؟
-منذ متى مل تذهب إىل ّ
محام احلريم
-منذ سنوات طويلة ،آه ،منذ سنة ،1992حتديدً ا يف ّ
بامرسيليا.
رصخ رشاد وهو يضغط عىل رقبتي:
محام احلريم؟ هل كنت
محام احلريم؟ ..وماذا تفعل أنت يف ّ ّ -
تشتغل ط ّيا ًبا لنساء فرنسا هناك؟ ..هاهاها..
شك ّ
بأن مل تتو ّقف قهقهته ،احلكاية أثارت فضوله ،وأشعرته بال ّ
كثريا من اإلثارة.
محام احلريم ً يف ّ
قلت ضاحكًا وأنا أس ّلمه ذراعي اليمنى:
-ال يا رشاد ،ال جتعل خيالك يذهب بعيدً ا ،ذهبت إىل هناك
يف مناسبة واحدة ،وكنت برفقة هيلني ،حبيبتي هيلني ..تأكّد
الذهب يف يشء ،هو يصلح محام ّ
محام احلريم ال يشبه ّ ّ
أن ّ
لالسرتخاء أكثر من االستحامم .وليطمئ ّن قلبك هاهاها ..ال
محام احلريم.
يوجد ط ّياب يف ّ
مل يع ّقب رشاد عىل ما قلت ،و يف تلك اآلونة سنحت يل الفرصة
محام ّ
الذهب: بأن أسأله عن حكاية ّ
161
محام ّ
الذهب. قصة ّ
-قل يل يا رشاد ،األكيد أنّك تعرف ّ
تن ّفس ٍ
بعمق وقال:
الر َب ْط؟ محام ّ
الذهب يف ّبر ّ -طب ًعا ،ومن ال يعرف قصص ّ
واحلكايات كثرية يا صاحبي.
ِ -
ارو يل واحدة ،إن سمحت طب ًعاّ ،
الشائعات التي سمعتُها
كثرية وأريد أن أعرف احلقيقة منك.
صمت رشاد ،ور ّبام كان يفكّر يف األثناء ،أو ينتقي إحدى
ثم قال:
احلكاياتّ ..
«ه ّيا يا سيدي ،بمخترص الكالم ،احلكاية من احلكايات الشائعة
زوجها وترك هلا ُ أن امرأ ًة بسيط ًة ﻣﺎﺕيف «ﺑﺎﺏ ﺳﻮﻳﻘﺔ» .يروى ّ
الشباب ،فتدهور وضعها بعد وفاته ،ودفعتها حالتها فتا ًة يف رحيان ّ
االجتامع ّية املزرية إىل غزل ﺍﻟﺼﻮﻑ وبيعه ﻲﻓ ﺳﻮﻕ «ﺍﻤﻟﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﻌﺮﻲﺑ»،
التسول .ويفّ لكسب بضع لريات((( تقيها اجلوع وحتميها من
احلقيقة ،مل تكن تلك اللريات تفي باحلاجة .ولك ّن ﺍﻤﻟﺮﺣﻮﻡ زوجها
عندما ﻣﺎﺕ ترك هلا «دارا ﻛﺒﺮﻴﺓ» تأوهيا هي وابنتها .ويف يوم من األ ّيام
زارهتا إحدى اجلارات وقالت هلا « :ﻳﺎ للاّ منرية ،ﺩﺍﺭﻙ ﺗﺒﺎﺭﻙ ﺍﻪﻠﻟ ،ﻓﻴﻬﺎ
وختصصني ّ غرف كثرية وزائدة عن النّصاب ،ملاذا ال تكتفني بغرفتني
البق ّية للكراء؟ وهكذا تضمنني مبالغ مال ّية حمرتمة ،وأنت تعرفني،
الرزق احلالل ال عيب فيه»ُ .أعجبت املرأة باالقرتاح فعالً ،ومل تفكّر ّ
يف أنهّ ا ستُدْ ِخل إىل بيتها أغرا ًبا ،وهذا يتناىف مع ال ُع ْرف والتّقاليد،
((( الريال التونيس :عملة تونسية قديمة ،ع ُّوضت بالفرنك التونيس يف 1جويلية
.1891
162
الربح الوفري الذي
بل فكّرت فقط يف الرياالت التي ستغنمها ويف ّ
س ُينسيها الفقر.
ه ّيا يا سيدي ،بمخترص ﺍﻟﻜﻼﻡ ،ذهبت املرأة إىل املنادي أو الدلاّ ل
الربط وأعلمته برغبتها يف كراء غرفتني من دارها. كام نقول يف ّبر ّ
ار أو عابري السوق بح ًثا عن ّجت ٍﻭﻣﻦ ذلك احلني بدأ املنادي جولته يف ّ
غرف لإلقامة .ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻱ بدأ األغراب يتوافدون، سبيل حيتاجون إىل ٍ
ﺍﻟﺮﺒ ﺍﻟﻔﻼﻲﻧ ،أرغب السقيفة« :ﺃﻧﺎ ﻓﻼﻥ ﺍﻟﻔﻼﻲﻧ ،ﻣﻦ ّ ويطرقون باب ّ
غريب آخر« :ﺃنا
ٌ يف كراء غرفة لليلة واحدة» .ويف الغد يطرق الباب
أحب كراء غرفة أل ّيام» .ﺍﻤﻟﻔﻴﺪ ،يف أحد األ ّيام،
ﻓﻼﻥ ،ﻤﺗّﺎﺭ من اجلريد ّ
رجل عرفت ُطرق ﺍﻟﺒﺎﺏ عند املغرب ،فأرسعت املرأة لفتحه ،قابلها ٌ
من هلجته أنّه مغريب ،قال هلا « :أختي ،أنا أرغب يف كراء غرفة لثالثة
الذهب .ﻓﺮﺣﺖ املرأة هبذا الكنز وجرت ثم أعطاها لريتني ﻣﻦ ّ أ ّيام» ّ
السعد .أ ّما ﺍﻤﻟﻐﺮﻲﺑ فقد ﺩﺧﻞ الغرفة وأحكم نحو ابنتها لتخربها بأ ّيام ّ
إغالق الباب ،وبقي هناك ملدّ ة يومني ،ال صوت يصدر منه وال باب
يفتح .ويف اليوم ال ّثالث ﺧﺮﺝ ُمبك ًّرا ومل يعد إلاّ مع املغرب وبرفقته
رجالن ،أحدمها كان أسود البرشة .ﺩﺧﻠﻮا إىل الغرفة وأغلقوا الباب
دون أن تصدر منهم حركات أو أصوات كأنهّ م أخلدوا للنّوم.
ومع منتصف ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﻋﻰﻠ ﺿﻮﺀ القمر الذي أضاء احلوش ﺧﺮﺝ
الرجالن وساروا نحو نقطة ما يف احلوش .املرأة ،قلبها
ﺍﻤﻟﻐﺮﻲﺑ ومعه ّ
دليلها ،مل تستطع النّوم ،سمعت أصواتًا مكتومة وغريبة فلبثت تتابع
الرجل ﺍﻤﻟﻐﺮﻲﺑ وهو جيرح ما جيري يف احلوش من ش ّباك غرفتها .رأت ّ
وينز وال يتو ّقف .بعد
ينز ّالرجل األسود يف مستوى يده اليمنى ﻭﺍﻟﺪﻡ ّ
ّ
163
ثم أشعلوا شمع ًة أرسلت متوسط احلجم بالدّ مّ ، ّ ذلك ملؤوا صحنًا
الصحن .رشعوا بعد ذلك يف القيام لسانًا من النّار ووضعوها وسط ّ
بتعاويذ وطالسم وحركات غريبة كام صدرت عنهم أصوات غري
مفهومة .وبعد حلظات ،هكذا قدّ رت املرأة ،تش ّققت أرض ّية احلوش
الرجل األسود إىل جوفه ﻭﺑﺪأ ﻲﻓ إخراج سبائك شق كبري .نزل ّ وانفتح ّ
الذهب يف خ ّف ٍة ،أ ّما ﺍﻤﻟﻐﺮﻲﺑ ﻭمرافقه فقد
ﺍﻟﺬﻫﺐ ،اهنمك يف إخراج ّ
الذهب داخل أكياس صغرية .ﻭحينام امتأل استغرقا يف مجع قطع ّ
بالذهب تس ّللوا بكنزهم وهربوا.
كيسان ّ
تأكّدت املرأة من ّ
أن املغريب قد ّفر بالذهب مع مرافقيه ولن
يعود .وعندما تط ّلعت إىل الفتحة وجدهتا ماتزال مفتوحةّ ،
والشمعة
الصحن اململوء بالد ّم ماتزال تيضء اجلوف .تسارعت تتوسط ّ
التي ّ
توجهتا إىل تلك ثم ّأنفاسها وخت ّبلت وهي جتري نحو ابنتها فأيقظتها ّ
الفتحة التي تنبعث منها هبرة ختلب األبصار .اندهشت املرأة أكثر
الذهب يلمع ،فقالت البنتها« :انزيل يا ابنتي برسعة ،انزيل وهي ترى ّ
ﺍﻟﺼﺒﻴﺔ حافي ًة إىل جوف الفتحة وبدأت ّ الذهب» .فنزلت و أخرجي ّ
الذهب ِقط ًعا كل األحجام ،طفقت تخُ رج ّ الذهب من ّ تُس ّلم أ َّمها َ
قطع ّ
الشمعة تنطفئ ثم قطع ًة قطع ًة إىل أن بدأت ّ ِ
ثم قطعتني قطعتني ّقط ًعا ّ
وبدأت الفتحة من حيث ال تدري األ ّم وال ابنتها تنغلق شي ًئا فشي ًئا.
عيل ،هايت يدك، وفجأ ًة أخذت الصب ّية ترصخ «يا ّمي ،الفتحة ستنغلق ّ
عيل ،ﻳﺎ ﻣﻴﻤﺘﻲ يا ّمي أخرجيني ..أنقذيني ﻳﺎ ﻣﻴﻤﺘﻲ ،يد غريبة تقبض ّ
ﺍﻷﻡ فظ ّلت تقول وكأنهّ ا أصيبت ﺍﻟﺸﻤﻌﺔ توشك عىل االنطفاء» ..أ ّما ّ
ﺍﻟﺬﻫﺐ ،اخرجي بلوثة جنون ،وال تسمع وال ترى« :اخرجي ّ
164
ﺍﻟﺬﻫﺐ» ..وعندما انطفأت ّ
الشمعة متا ًما انغلقت الفتحة عىل الصب ّية ّ
وتتلوى« :ﻳﺎ ّمي ،ﻳﻌﻴﺸﻚ ،ابني يلّ ﻭآﺧﺮ ﻣﺎ قالته أل ّمها وهي تنشج
ﻤﺣﺎ ْم ﻫﻨﺎ». ّ
ﺑﺎﻟﺬﻫﺐ َّ
هيا يا سيدي ،بمخترص الكالم الفتحة انغلقت ومل يبق هلا من
األرض الصب ّية ومل يعد ُيسمع هلا نشيج وال رصاخ .أ ّما
ُ أثر ،وابتلعت
الذهب التي قضت أخريا من جنوهنا ومن لوثة ّ املرأة فقد استفاقت ً
ومتزقالر َبط» ورشعت تبكي وتصيح ّ عىل زهرة من زهرات « َب ّر ّ
(((
خصالت من شعرها وتلطم خدّ هيا حزنا عىل هالك ابنتها «
رست يف سوق سيدي حمرز ُ الذهب محام ّ
غادرت ّ
ُ بعد أن
قدر كبري من االنتعاش وزال إحسايس بالربد. اج ،كنت عىل ٍ الض ّ
ّ
الشواشني ،حيث اعتدت أن أجلس مع هيلني، هت إىل مقهى ّ توج ُّ
حبيبتي تضع رأسها عىل كتفي وهتمس« :يف هذا املقهى أجد رائحة
الرائعة ،إنّه احلنني إىل
والزخارف ّ
عائلتي ،أستنشقها يف اجلدران ّ
املايض يا سعد ،احلنني اجلارف الذي يرسي يف عروقي» .يأتيني
بعد ذلك صوت حبيبة من بعيد وأنا أميش ،كأنّه يأتيني من نفق :
خيفت
ُ «يا ّمي ط ّلعني ،ط ّلعني يا ّمي راين تعبت ..راين تعبت يا ّمي»..
صوت حبيبة ألسمع صوت صب ّية أخرى« :ﻳﺎ ّمي ،ﻳﻌﻴﺸﻚ ،ابني
الصوتني ،أحاول أن أم ّيز احلقيقة منﻤﺣﺎ ْم ﻫﻨﺎ» ..ويف ّﺑﺎﻟﺬﻫﺐ َّ يل ّ
الواقعي.
ّ األسطوري من
ّ اخليال،
أن ّ
كل احلكايات أمعنت يف حتليل وقائع احلكايتني ،من املؤكّد ّ
ُ
ٍ
رواية تُضاف إىل احلدث قد انطلقت من حدث اختفاء فتاة ،ومع ّ
كل
الشعب ّية املرتبطة بأسطورة محـّام ّ
الذهب وهي متداولة يف باب سويقة. ((( إحدى احلكايات ّ
165
األصيل هبارات كثرية وخرافات شتّى جعلت منه بعد فرتة من الزمن
ّ
الرواة يف حياكتها ،واألسطورة عندما تتقادم كل ُّأسطور ًة ساهم ّ
تصبح حقيقة ،مثل التّاريخ متا ًما .ما ُيكتب هو ما يعتربه النّاس
يدون فليس سوى تارخيًا ،أ ّما ما وقع بالفعل وجرى بني الناس ومل ّ
متكررة يف
ّ الذهب مسألةاز َم ّيت ،وتلك مهزلة أخرى .مسألة ّ مجَ ٍ
احلكايات تزيد يف روعتها وتشويقها وشهرهتا ،ومن الواضح ،بل
محام ّ
الذهب. أن الكنوز موجودة يف أرض ّ من اليقني ّ
اجلو العابق بروائح
حيا يل دو ًما ،يف ذلك ّ الشواشني مر ً يبقى مقهى ّ
إحساسا
ً والشاي األخرض ،ال ّلوحات الفن ّية متنحني البخور والقهوة ّ
الزمن اجلميل ،هبدوئه وعاداته احلميمة. غري ًبا بأنيّ أحيا يف عمق ذاك ّ
الصوت التي بحثت عن صاحبة ّ ُ مل يكن املقهى مكت ًّظا مثل العادة،
للشيخ العفريت ،كانت عىل مقربة من الوجق((( ، تُر ّدد كلامت أغنية ّ
تغنّي وهي حماطة بمجموعة من أصدقائها:
166
شك املرأة التي خرجتإىل املرأة التي جتلس قبالتي ،هي دون أدنى ّ
كل مالحمها، توضحت أمامي ّمن وكالة جوهر ،هكذا أسميتهاّ ،
الزرقاوين الواسعتني ،وبرشهتا
بشعرها األبيض القصري ،وبعينيها ّ
حدست أنهّ ا جتاوزت الستّني بكثري ولكنّها حتافظ عىل
ُ البيضاء.
أناقتها ،وحسب خربيت يف قراءة الوجوه واحلركات تأكّدت أنهّ ا
الشاي ترتشف من فنجان ّ
هيود ّية ،كانت تقرأ كتا ًبا وبني فينة وأخرى ّ
األخرض أمامها.
انتبهت إ ّيل املرأة ،ابتسمت وح ّيتني بحركة من عينيها ،حي ّيتها أنا
أيضا واستسمحتها يف مشاركتها طاولتها .الشيّ ء الذي لفت انتباهي ً
ُقرب حمفظتها أنهّ ا دعتني إىل طاولتها دون تفكري ،قالت يل وهي ت ّ
الصغرية منها وتفسح يل املجال للجلوس: ّ
-أنا ال ّ
أمل من االستامع إىل أغاين ّ
الشيخ العفريت ،إنّه مذهل.
أحرك فنجان القهوة:
قلت هلا وأنا ّ
القوي واملؤ ّثر،
ّ الصوت -فعال يا س ّيديت ،وقد ُعرف بذلك ّ
إضافة إىل ذلك ،له قدرة عجيبة عىل االرجتال.
-والديت كانت تعرفه بشكل ج ّيد ،كان يسكن بجوار بيتنا
القديم يف حارة الشرّ ف باحلفص ّية.
كبريا يف الشيخ العفريت وحبيبة مسيكة أ ّثرا ً
تأثريا ً أن ّ احلق ّ
ّ -
واألهم أنهّ ام قدّ ما ،بكثري من اجلرأة ،نو ًعا
ّ األغنية التونس ّية،
جديدً ا من األغاين اخلفيفة املرتبطة بحياة التونس ّيني اليوم ّية.
أيضا روول جورنو.
تنس ً
-وال َ
167
أغلقت املرأة صفحات رواية « L’insoutenable légèreté
مررت خي ًطا أبيض
»de l’êtreووضعتها أمامها عىل ال ّطاولة بعد أن ّ
الصفحة التي كانت بصدد قراءهتا:عىل ّ
-اسمي خافا.
-سعد ،طالب قديم وفاشل يف التّاريخ.
أن هيلني كثريا ما قلت مبتسماً وأنا أرمق الكتاب وأنتبه إىل ّ
حدّ ثتني عن ميالن كونديرا« ،هل قرأت روايته غرام ّيات َم ِرحة؟»
كانت تسألني بطرف عينها مازحة.
الصفة التي قدّ مت قالت خافا ضاحكة -ور ّبام أضحكتها غرابة ّ
هبا نفيس :طالب قديم وفاشل يف التّاريخ ..والغريب أنهّ ا مل تستفرسين
عن األمر:-
أيضا بال ّلغة
-أنا ال أقرأ لكونديرا بالفرنس ّية فقط ،أقرأ له ولغريه ً
احلق أنيّ أجد صعوبة يف فهم كلامت كثرية ،ال ّلهجة العرب ّيةّ ،
الدّ ارجة أتك ّلم هبا بطالقة ،وعرب ّيتكم صعبة ومع ّقدة ..أضف
التمجات رديئة وبال روح ،كيف يرتمجون أن أغلب رّ إىل ذلك ّ
تلك األعامل العظيمة بال روح ،وبمنتهى القرف؟
هزت كتفيها وتابعت:
ّ
تعرض له اليهود من اضطهادوخاص ًة ما ّ
ّ أيضا تارخينا،
-أقرأ ً
املؤرخني يف تونس
أن ّ قريب وبعيد ..ما اسرتعى انتباهي ّ ٍ
حي احلارة ..حسب
سكتوا عن املحرقة النّاز ّية ضدّ اليهود يف ّ
عفوا ،يا سعد ،ملاذا سكتوا عن ذلك؟
عفواً ،
اعتقادك يا سعيدً ،
168
-يف رأيي ،املسألة ليست عنرص ّية باألساس ،األمر يعود بشكل
املؤرخني، بارز إىل غياب األمانة التّارخي ّية .وجرت العادةّ ،
أن ّ
أو فلنقل أغلبهم ،ال يكتبون التّاريخ إلاّ حتت ال ّطلب ..بد ّقة
قوات اجليش حررت ّ أكرب أقول لك مثلاً ،يف سنة ّ 1942
األملاين األرايض التّونس ّية مرفوقة بوحدة تابعة لإلس إس،
ّ
السياسة املناهضة أساسا تطبيق ّ
ً مهمتها
هذه الفرقة كانت ّ
تم ترحيلهم إىل لليهود يف تونس ،وقد بلغ عدد اليهود الذين ّ
هيودي .وال
ّ معسكرات االعتقال يف أوروبا نحو 13ألف
املؤرخني حتدّ ث عن ذلك ،فقط هي كتابات جا ّفة أحد من ّ
ومترسعة ،وهذا مؤسف. ّ
-تلك األرقام يا سعد غري دقيقة ،فقط هي أرقام رسم ّية ال تستند
إىل حقيقة ما جرى ..وجرائم القتل واالغتصاب واحلرق ،من
تك ّلم عنها؟ من فضحها بر ّبك ،من؟ أيب أحرقوه ،ق ّيدوه ّ
ثم
أحرقوه أمامي بدم بارد ،كيف يمكن يل أن أنسى ما فعله
النّازيون بنا ،كيف؟
بحثت خافا عن منديل أبيض يف حمفظتها ،مسحت دموعها
ثم تابعت:
وهي ترسل زفرات حارقة ّ
الروماين مل يسلم اليهود من القمع ،حدث ذلك -منذ العهد ّ
يف قرطاج وأوتيكا وهدروناتوم (سوسة) ونيابوليس (نابل)
وكلوبيا (قليبية) .مل يبق شرب يف هذا البلد مل يضطهدونا فيه.
الرومان ،مل يفعلوا مثله رغم
وما فعله النّاز ّيون بنا مل يفعله ّ
التوحش واحليوان ّية املفرتسة ..أسمعت
ّ قمة
جربوهتم ..إنهّ ا ّ
169
باحليوانات اجلائعة واملفرتسة؟ أسمعت يا سعد؟ إنهّ م
النّازيون ،كالب التّاريخ املسعورة ..كنّا يف حارة الشرّ ف ،يف
محاية سيدي حمرز ،حامي محى اليهود ،كانت حياتنا بسيطة مع
الغميضة
كل يوم ،نلعب ّ جرياننا املسلمني ،ألعب مع البنات ّ
احلي ،وتنهرنا األ ّمهات:
ونقفز عىل احلبل ونُحدث جلبة يف ّ
الغميضة وال تقفزن عىل احلبل» .كانت حياتنا بسيطة، ِ
«العبن ّ
نتبادل أكالتنا ومالبسنا ،ونمرض ونشفى م ًعا ،ونميش يف
ونمر
ّ سوق البالط وسوق الع ّطارين بمنتهى االنرشاح،
والصوف ّ ببائعي اخلبز وال ّلبن والتّمور والبخور والعطور
الشواء والتّوابل وروائح الكسكس ونشتم روائح ّ
ّ والقامش
ونحس باجلوع ّ
والشبع م ًعا .وغري بعيد من هنا ،كنّا ّ وامللوخ ّية
والسوق الكبري ،ويتبعنا
الصغري ّ والسوق ّ
احلفيص ّ
ّ بالسوقنمر ّ
ّ
ثم يضحكون لنا فتية ،ال نخاف منهم ،يسرتقون إلينا النّظر ّ
ويمرون .ونعود م ًعا إىل بيوتنا عندما يرتفع صوت األذان، ّ
كنّا نسمعه بقلوبنا ،ال بآذاننا ،يف جامع سيدي حمرز ويف جامع
الزيتونة .القتلة ،غدروا بنا ،بال رمحة وال شفقة ،بدم بارد ّ
ورخيص أحرقوا أيب أمامي.
دموع خافا أحرقت وجهي ،وأغرقتني يف كآبة غريبة ،ال أدري
ما إذا كانت خافا قد انتبهت إىل أصابعي التي ترتعش وأنا أتذكّر أيب.
وسمعت لغط
ُ أيقظوين كام أيقظوا أختي نور وقالوا لنا ّ
إن أيب مات،
ثم سمعت نواح أ ّمي.النّساء يف حوش دارنا ّ
تاريخ أيب هو تاريخ رجل عظيم..
170
مل يصدّ ق أيب ذات مساء وهو يتأ ّمل صندو ًقا غري ًبا يف أحد كهوف
بالصدفة .حينام كان يرعى أغنامه سمع صوتًا وادي الدّ رب ،اكتشفه ّ
غري ًبا داخل كهف قريب منه .اقرتب من الكهف ورفع برصه جّ
باتاه
األتربة ا ّلتي هتاوت واكتشف هيكل صندوق قديم .حبس أنفاسه
الصندوق الغريب .ولكنّه وهو ينبش بيديه حتّى استطاع إخراج ّ
مخن وهو يعاينه أنّه حيتوي عىل أسلحة قديمة، مل يتمكّن من فتحهّ ،
فكّر يف بادئ األمر أن ُيعلم األمن ،وتراجع عن ذلك يف آخر حلظة.
بكل تأكيد ،سيحارصونه باألسئلة ويدرجون اسمه رجال األمنّ ،
الرأس. حيب وجع ّ أن أيب ال ّيف سجلاّ ت املرا َقبني ،أضف إىل ذلك ّ
الصندوق عىل متن عربة جارنا إىل منزلنا ،أحكم إخفاءه محل ذلك ّ
الزهور .أ ّمي كاد يغمى حي ّالقش وقاد احلامر نحو ّ حتت كوم من ّ
الصندوق ،مل ُيصدّ ق أيب بدوره وهو يخُ رج عليها بعد أن فتح أيب ّ
ذهب صغريتني و ُمسدّ ًسا وخرائط من اجللد، ٍ قطعتي
ْ الصندوق
من ّ
نتحول إىلالزهور ،طب ًعا مل ّ
حي ّ
غي جمرى حياتنا يف ّ الصندوق رّ
ذلك ّ
أثرياء ،فال ّثرا ُء كام حصل مع ِق ّل ٍة من املحظوظني حيتاج إىل سبائك
ظل أيب الذهب ،إىل كنز عيل بابا كام تقول أ ّمي .ومنذ ذلك اليوم ّ من ّ
ينبش يف كهوف وادي الدّ رب .وكنت أنا ،مثل ق ّطوس ّ
الرماد ،أنبش
مثلام ينبش أيب ،وأحيانا يلتفت إ ّيل ُمن ّب ًها« :ال تستعمل الفأس إلاّ عند
الضرّ ورة يا سعد ،انتبه وإالّ هلكنا داخل الكهف».
أن تلك الكهوف املحفورة يف وادي كربت عرفت ّ ُ عندما
الدّ رب كانت مساكن قديمة حفرها اللاّ ِجئون اإلسبان الذين ّفروا
من احلرب األهل ّية اإلسبان ّية يف الفرتة املمتدّ ة من 1936إىل ،1939
171
واملتمردين
ّ تلك احلرب التي جرت بني حكومة اجلبهة ّ
الشعب ّية
العسكر ّيني وكان يقودهم اجلنرال فرانكو ..اللاّ جؤون اإلسبان ّفروا
واضطروا
ّ من جحيم فرانكو وقصدوا شامل إفريقيا ومنها القرصين،
الفرنيس
ّ إىل اإلقامة يف تلك الكهوف بناء عىل رغبة من املقيم العام
استعامري
ّ إريك لبون يف استخدامهم ك َع َملة جمنّدين إلنشاء مركز
بجهة القرصين.
حي ّ
املعذبني« ،احلاكم» ربط أقدامنا بكرات حي الفقراءّ ،
ح ّينا هو ّ
الصندوق الغريب ،يف سنوات من الوهم لنموت فقراء ،وذلك ّ
الرماد» ،أسرياجلوع تلك مل يبقنا فقراء .عشت طفولتي كـ«ق ّطوس ّ
خلف أيب ،وأنبش كام ينبش أيب ،ومل أكره أيب عندما رأيته يف غرفة نوم
احلي أنّه يتس ّلل إىل بيوت
جارتنا سعد ّية ومل أكرهه عندما سمعت يف ّ
جاراتنا يف بعض ال ّليايل .كانت ت ّلفني حالة من االمتعاض من تلك
ثم رسي ًعا ما أنسى وأركض األلسن ال ّثرثارة وتشملني حالة غضب ّ
وأحب
ّ أحب ضحكة أيب، ّ نحو وادي الدّ رب وال أبايل بيشء .كنت
أحب استنشاق رائحة الدّ خان التي ينفثها يف ّ األكل معه ،وكنت
وأول كأس دخنتها كانت من علبة سجائر أيبّ ، اهلواءّ .أول سيجارة ّ
كل يشء وال نبيذ رشبته كان من قارورة أيب .وكان أيب يتف ّطن إىل ّ
ويضمني
ّ يق ّطب جبينه وال يرصخ يف وجهي ،إنّام حييطني بذراعيه
أن العامل الذي ال أرى فيه وجهه هو عامل راسخا ّ
ً بقوة .كان اعتقادي
ّ
ثم تنهش حلمي .وعندما كنت خميف ،عامل تعوي فيه ذئاب ،حتارصين ّ
بأن ذلك حيصل لدي إحساس عميق ّ أهرب إىل نزوايت ومحاقايت كان ّ
أيضا أنيّ قلت
برعاية أيب ،ومل أكن أملك اجلرأة الستفساره ،وال أذكر ً
172
له كلمة «أح ّبك» ،كنت أر ّدد الكلمة يف صمتي وال أدري ملاذا مل تكن
شفتي؟
ّ تلك الكلمة تصل إىل
مات أيب حتت شجرته ،توتة إبراهيم ،مات ضاحكًا وعندما محلوه
ظل إىل بيتنا مل أبك مثلام بكت أختي ،ومل أرصخ مثلام رصخت أ ّميّ .
وظل جسمي خمدّ ًراظل ضاحكًا ّأيب طوال تلك ال ّليلة ممدّ ًدا أماميّ ،
توسل لكي يل ّفني بذراعيه
أن أيب مات ،كنت أنظر إليه يف ّ ال يصدّ ق ّ
بقوة ،وهيمس يف أذين« :اتبعني يا سعد»..
يضمني ّ ثم ّ كام كان يفعل ّ
تنس الفأس يا ق ّطوس ّ
الرماد».. ثم يضحك وهو يامزحني« :ال َ ّ
ترص غادرت مقهى ّ
الشواشني كام غادرت خافا ،قالت وهي ّ
عىل دفع ثمن القهوة:
-أنا ُأميض أغلب مساءايت هنا يف القراءة والتمتّع بأجواء املالوف
تنس يا
والسبت ..ال َ وعبق املايض ،باستثناء يو َمي اجلمعة ّ
الشواشني ،ال تنس سعد ،إن فكّرت طب ًعا يف العودة إىل مقهى ّ
أن تأتيني بأحد الكتب التي تتحدّ ث عن املدينة العتيقة ..وإن
عثرت عىل كتاب يرسد وقائع املحرقة النّاز ّية ضدّ اليهود ّ
فإن
تلك املفاجأة ستكون رائعة..
محام
مرارا وأنا يف ّ انتبهت يف أثناء ذلك إىل ّ
أن نادية هاتفتني ً
يئست من خماطبتي كتبت يل رسالة قصرية بال ّلغة
ْ الذهب ،و ّملا
ّ
الفرنس ّية :
Demain, le mort sera enterré, commençons à
(((creuser tôt
((( غدً ا ُيدفن الرجل امل ّيت ..علينا باالنطالق يف احلفر ُمبك ًّرا.
173
غادرت املقهى وصوت تلك الفتاة اجلالسة بجوار الوجق
يتناهى إىل مسمعي ويشحنني بانفعاالت غريبة..
ونروحو للمرسى
يدور الفلك ّ «يا فاطمة بعد النّكد وال ُغ َّص ْه
ونروحو للدّ شـرة
يدور الفلك ّ يا فاطمة بعد النّكد والكرشه
ونقابلو األحبـاب آه يا برشه باليل جرى نكافيك ليس ننسى(((»
174
()8
هيلني
جارا
موت سيمون كان احلدث األبرز يف األ ّيام األخرية ،فقدنا ً
كثريا منذ
تغيت ً عزيزا يف ظروف غامضة وخ ّيم علينا احلزن .شريا رّ ً
الشاحب ،مل الصمت واختفت وراء وجهها ّ حدث املوت ،لزمت ّ
الذهاب إىلهتتم بنباتاهتا اخلرضاء يف الشرّ فة وانقطعت عن ّ تعد ّ
املصاغة .وبطبيعة احلال مل تعد تفتح نافذة غرفتي املط ّلة عىل رشفة
الراحل ،بقيت الشرّ فة حزين ًة ومغرتبة ،ومن املؤسف أن ش ّقة جارنا ّ
كل زهورها .أسمع نشيج شريا يف ال ّليل ،ومل يكن يف وسعي متوت ّ
أن أخ ّفف عنها حالة االكتئاب ،مل تعد تأكل مثل العادة ،تنكمش يف
قوهتا
غرفة النّوم وتكتفي بكأس حليب أو بعض الغالل .شريا ،رغم ّ
هشة ويائسة عند حدث املوت .يوم مات وصالبتها تنقلب إىل امرأة ّ
إليف ظننت أنهّ ا تالشت متا ًما ،كانت تتن ّفس بعرس وتسعل بشكل
أيضا حالة هستري ّية وهي تو ّدع أيب .بقيت طوال الليلخميف ،دامهتها ً
ثم
املسجى يف غرفة النوم ،هتمهم بكلامت مسحوقة ّ ّ تعانق جسده
السقف يف حالة وجوم غريبة .يوم مات أيب ،مل أكن ترشق عينيها يف ّ
أن شريا ستنهض من فراش اليأس .أنا فعلاً أشفق عليها، عىل يقني ّ
بقوة .ذاكرهتا هي ذاكرة املوت،أقرب وجهي من وجهها وأحضنها ّ ّ
175
مشاهد احلرق واالغتصاب والقتل يف طفولتها ،مقتل أبيها وأ ّمها يف
وأخريا موت العزيز سيمون.
ً مروع ،وموت إليف
حادث ّ
كنت يف غرفتي عندما سمعت طرقات عنيفة عىل باب ش ّقتنا،
شريا هي من فتحت الباب وتل ّقت خرب موت سيمون ،إيزاك ّ
ظل
ً
مرتعشا يف حضنها« :مات سيمون ..مات أيب ..وأنا من قتله، يرصخ
أنا قتلت سيمون».
األسبوعي بني سيمون وإيزاكّ ،
الشجار احلا ّد ّ بعد ّ
الشجار
مغمى عليه ،ال ّطبيب ٍ
الذي كنّا نتابعه بحرية يف ش ّقتنا ،سقط سيمون ً
املصحة بحضور شريا وإيزاك قال يائسا« :لقد ّ الذي فحصه يف
أصيب بجلطة دماغ ّية حا ّدة ،ويف سنّه مل يكن من املمكن إنقاذه».
املصحة .قال األط ّباء
ّ بعد ذلك أصيب إيزاك بنوبة عصب ّية ونقلناه إىل
إن املخدّ رات أتلفت أعصابه ،وحدث املوت زاد يف تعقيد املسألة، ّ
فإن إيزاك حيتاج إىل سنوات ليشفى. ولذلك ّ
مل يكن من املفيد أن نحقد عىل إيزاك أو نغضب منه ،ال أدري،
ر ّبام هو ضح ّية املحيط املسعور الذي سقط يف جحيمه وبدّ د فيه ثروة
رصح لنا أنّه يوشك عىل اإلفالس والده .سيمون يف أ ّيامه األخرية ّ
بسبب محاقات ابنه مع مافيا املخدّ رات والقامر .حني زرت إيزاك يف
املصحة رفقة ماريا بدا يل كطفل ،ور ّبام فقد مالمح ذلك الوحش ّ
مها حيدّ ق يف الفراغ ،ومل تتي ّقظ عيناه عندما الذي جعله ف ًّظاّ ،
ظل سا ً
أحسست يف تلك ال ّلحظات القصرية ُ ملحني وملح ماريا بجواري.
أن اإلنسان عندما ينتهي إىل اليأس املطبق يتخ ّلص بإرادته من قناعه ّ
املرعب ويعود إىل مالمح طفولته األوىل ،يستغرق يف اسرتجاع
176
توحشه الذي تس ّبب يف موت
أن إيزاك فقد ّ املايض بحميم ّية .وأعتقد ّ
سيمون ،وهو يعيش حالة حنني تعيده إىل حضن والده وهو طفل
حيبو ويكتشف احلياة .إيزاك ،حيتاج إىل سنوات ليشفى ،وحينام يشفى
كثريا يف ما أظ ّن. ّ
وسيتعذب ً سيبكي أباه
أيضا باخلرب املؤسف وقاطعت دراستها ،الرا ال تنسىعلمت الرا ً
الرقيقة التي كان يدغدغ هبا
عطف سيمون عليها وال تلك الكلامت ّ
ثم أغلقت باب غرفتها يف حالة ٍ
بحرقة وهي تبكي ّ سمعها .عانقتني ُ
حزن .بعد ذلك انشغلت باملطبخ ّملا الحظت انكسارنا ،أنا وشريا.
أن الرا ترغب يف احلديث أحس بشكل طا ٍغ ّ وال أعرف ملاذا كنت ّ
معي ،تأيت إىل غرفتي ملو ّية العنق ،يف حالة وجوم ،وعندما تكتشف
ثم تعود إىل غرفتها.
حزين العميق تسبل عينيها ّ
يف مثل هذه ال ّظروف بطبيعة احلال مل أذهب مع ماريا إىل ّ
محام
احلريم وال إىل سوق الفاكهة واخلرض .انشغلت بالقراءة والبحث
ومتابعة سري العمل يف املصاغة .يف احلقيقة ،لست متض ّلعة يف معرفة
الذهب الذهب سواء كان مستعملاً أو جديدً ا ،وال أم ّيز أنواع ّ
سعر ّ
بعضها من بعض وال أعرف تفاصيل الغرام والعيار الذي حدّ ثني
تدرب عىل يد أيب .حيدّ ثني أحيانًا بمالمح الصائغي الذي ّ
عنه ماثيوّ ،
جا ّدة فأصغي بغري اكرتاث وبني فرتة وأخرى أستحسن األمر بحركة
من رأيس وأمتنع عن طرح أسئلة تقتضيها تفاصيل حكاياته .أعرف
يف الواقع بعض املعلومات العا ّمة ،مثال ،عندما يرتفع سعر النّفط
الذهب الذهب ويف مقابل ذلك ينخفض سعر ّ يرتفع بالضرّ ورة سعر ّ
هتمني املعادالت واألرقام، ك ّلام ارتفع سعر الدّ والر .بشكل آخر ال ّ
177
هيودي دقيق
ّ مطولاً مع ماثيو« .ماثيو رجل
شريا تفهمها وتتناقش فيها ّ
يف عمله» ،كام تقول شريا ،أتابعه من خلف مكتب أيب يف املصاغة
الصغرية.فأتذكّر تلك األيام التي كنت أرافق فيها إليف إىل مصاغته ّ
الساعات يف العمل وال ينتبه إ ّيل ،وكنت أستغرق يف كان يميض ّ
القراءة إىل أن يغلبني النّعاس .أيب كان يذوب يف عمله مثلام يذوب
أن إرصاره هو ما جعله ينجح .حتّى الذهب متا ًما ،وكنت أعرف ّ ّ
ظل يقاوم مسيحي بجواره ّ
ّ تعرض إىل مضايقات من تاجر عندما ّ
إىل أن حازت املصاغة عىل ثقة اجلميع يف مارسيليا .ال أم ّيز هنا بني
تطرف أو
كل األحوال يعشقه اجلميع ،بال ّ األديان ،العمل املتقن ،يف ّ
عنرص ّية أو حقد.
ظل كام هو ،مل تشأ شريا أن تستبدله مكتب أيب يف املصاغة ّ
أيضا عىل ترتيبه ونظامه ،متا ًما كام تركه إليف،
بمكتب جديد ،أبقت ً
صغريا عىل اجلانب األيمن للمكتب فيه صورة ً إطارا
فقط أضافت ً
تتجمد يف ذاكريت ويصاحبها ّ أيب وهو يضحك ،ضحكته رائعة ال
احلب .كام حافظت شريا عىل عادة إليف ّ لدي ،هو رننيرنني حم ّبب ّ
كل صباح ،يا لروعتها! رفضت أن تستبدل الزهور ّ يف استبدال ّ
مذهبة ،قالت بكثري من احلرسة: املزهر ّية البيضاء املزدانة بأشكال ّ
قضيناها أنا وإليف ،وتلك «لقد اقتنيناها من اهلند ،بعد رحلة ساحرة ّ
املزهر ّية من عطر أ ّيام ح ّبنا» .إضافة إىل ذلك ،وبمنتهى الد ّقة ،تتابع
شريا العائالت التي كان يرعاها إليف يف خمتلف املناسبات ،وهي
هيمه أن ُيسعد من يطرق بابه، عائالت هيود ّية ومسلمة .إليف كان ّ
وتتساوى عنده أعياد «الغفران» و«بوريم» و«الفصح» مع عيدي
178
يوزع األلبسة وكراتني هبا موا ّدالفطر واألضحى .ويف عادته ،كان ّ
رسي، كل ذلك بشكل ّ غذائ ّية باإلضافة إىل مبالغ مال ّية ،يفعل إليف ّ
كل تلك احلقائق عنّا .وبعد وفاته اكتشفنا تلك التّفاصيل يف وخيفي ّ
كنّش صغري بدرج املكتب ،ال أنسى ذلك املساء حني وقفت أمامي
فتاة قمح ّية البرشة وسألت عن أيب ،وحني أعلمتها أنّه توفيّ انخرطت
أحسست بأملها وهي تبكي وترتعش .ليليا ،فتاة جزائر ّية يف ٍ
بكاء ُم ّر،
ُ
خترجت مهندسة ديكور ،قالت مسلمة عادت لتشكر إليف بعد أن ّ
الزهور بالقرب من صورة أيب: وهي تضع باقة ّ
-الس ّيد إليف أنقذين ،كام أنقذ عائلتي ،مل تصدّ ق أ ّمي أن
يصادفها رجل يف مثل شهامة الس ّيد إليف ،لقد أنقذنا بشهامة
وظل يسدّ د معلوم كراء ش ّقتنا يف ّ
حي لو بانري ..كان يتابع ّ
أيضا دراستي ودراسة إخويت ،وعندما التحق أخي بالعمل، ً
حاولت أ ّمي أن تعيد بعض املبالغ .والدك امتنع بشدّ ة ،أجل،
الس ّيد إليف كان رجلاً عظيماً .
حني أفتح درج مكتب إليف تطالعني رائحته ،ك ُّل وثائق أيب
اخلاصة يف هذا الدّ رج ،أتأ ّمل صوريت ّأولاً وأنا طفلةّ ،
الصورة ملتقطة ّ
ٍ
باستمرار. يف قرص لونغشامب ،متحف الفنون اجلميلة الذي أزوره
ألتقط جمموعة صور أخرى ،أتأ ّمل الصور احلميمة ،صور شريا
وإليف يف كاتدرائ ّية نوتردام دي الغارد ،ويف كاالنك اجلميلة التي
الساحل بني مارسيليا وكاسيس ويف أمكنة أخرى ال تقع عىل امتداد ّ
والرحالت.
للراحة ّ خيصص أيب كامل شهر أوت ّ أعرفها .يف العادة ّ
السبت وأوت مقدّ سان ،يقول إليف بكثري من املرح. ّ
179
قبل رحيل إليف بثالثة أ ّيام احتفلنا بشكل محيم بعيد «بوريم»،
شريا أعدّ ت لنا ليلتها مأدبة باذخة وكان إليف -ومل أحلظ ذلك من
ونادرا ما كان يفعل
ً قبل -يأكل ويرشب برشاهة .كان سعيدً ا كطفل،
ذلك يف أعيادنا .حدّ ثنا عن عالقته بوالده أدريان ،تلك العالقة التي
أيضا يف الشرّ ب إىل
حيتفظ هبا يف ذاكرته وال متحوها األ ّيام ،بالغ ً
السكر وبني حلظة وأخرى يرفع كأسه مرشق الوجه ويصيح درجة ّ
صحتك يا أدريان».بحامس طفل« :عىل ّ
قصة االحتفال سألت شريا عن عيد «بوريم» ،وكنت ال أعلم ّ ُ
ثم
َتت لبعض الوقت ،ر ّبام لتتذكّر وترتّب أفكارهاّ ، هبذا العيد ،فسك ْ
قالت« :عيد بوريم يا هيلني خي ّلد ذكرى ها ّمة من تاريخ اليهود ،وهي
ذكرى نجاهتم من قرار هامان بإبادهتم .فقد طلب هامان من امللك
السامح له بقتل هيود مملكته ،وبالفعل سمح له امللك بذلك أسوريوس ّ
السابع من شهر آذار/مارس لقتلهم باعتبار هذا واختار هامان يوم ّ
أيضا .فلماّ علم
اليوم هو يوم وفاة نب ّيهم دون أن يعلم أنّه يوم والدته ً
موردخاي اليهودي باخلرب استنجد بأستري زوجة امللك الذي مل يكن
أن زوجته هيود ّية .وطلبت أستري بعد ذلك أن يصوم اليهود يعلم ّ
ثم فكّرت يف حيلة أطاحت بالوزير هامان إذ أمر امللك ثالثة أ ّيامّ ،
بقتله وهكذا نجا اليهود .ومنذ تلك احلادثة أصبح اليهود حيتفلون
الرابع عرش من شهر آذار ويصومون اليوم ال ّثالث بعيد «بوريم» يوم ّ
عرش منه تعظيماً للملكة أستري».
يف هذه األ ّيام املشحونة باحلزن وصلتني رسالة سعد .مل يساورين
الشك ُمطل ًقا ،يف جد ّية سعد وصدقه .كتب يل عن مغامرته يف ّ
محام ّ
180
كل الذهب وانتبهت إىل تلك التفاصيل املذهلة .قدّ م يل سعد ّ ّ
ّ
للشك املعلومات التي أحتاج إليها ،وتأكّد عندي بام ال يرتك جمالاً
السخون» ،كام كتب سعد، الذهب ،وحتديدً ا «بيت ّمحام ّ
أن أرض ّ ّ
حتتوي عىل كنز ثمني ،وهو يتم ّثل ،بطبيعة احلال ،يف املجوهرات
أيضاالذهب التي خ ّبأها اليهود يف تلك األرض .حدّ ثني ً وسبائك ّ
عن جلسته املثرية مع خافا ،كم هو صغري هذا العامل! قلت يف نفيس
حب
قصة ّ أي قدر قاده إليها! خافا عاشت أغرب ّ وأنا أقرأ كلامتهّ ،
وهيودي يف ظروف ّ
أقل ما يقال عنها إنهّ ا ّ يمكن أن تعاش بني هيود ّية
مؤملة .ال أعلم بالتّحديد ما الذي كان يشغل جوهر عندما صارحته
خافا بح ّبها يف أ ّيام اغرتاهبا وانكسارها .وخافا رغم اإلغراءات
ظ ّلت إىل اليوم حمافظة عىل ح ّبها املجنون جلوهر ،وذلك يعطيني
احلب مسألة مع ّقدة ،ال يمكن حتليلها أو تفسريها
بأن ّانطبا ًعا إضاف ّيا ّ
احلب حيافظ عىل طاقته يف ّ من زوايا علم ّية جا ّفة ،وازددت يقينًا ّ
بأن
أشدّ عواصف اخليبة.
بالرجل
أيضا جمنونة ّ
زرت القرصين مع سعد كنت أنا ً ُ عندما
الذي وهبته قلبي ،وكنت يف أ ّيامي األوىل أحتاج إىل معرفة سعد ،إىل
اإلصغاء بد ّقة أكرب وانتباه أشدّ إىل د ّقات قلبه.
أسميها يف أ ّيام
ّ خالتي منج ّية ،والدة سعد -هكذا كنت
باتاهحركت عينيها جّ
زياريت -استقبلتني باندهاش يف بادئ األمرّ ،
يمهد لتلك وفهمت من تلك اإلشارات ّ
أن سعد مل ّ ُ سعد مستفرسة،
واحلق أنيّ استحسنت األمر ،أحببت أن أعرف عائلته بشكل ّ الزيارة.
ّ
عفوي وبسيط ،وهو ما حدث بالفعل .ق ّبلتني اخلالة منج ّية كأنهّ ا
ّ
181
تق ّبل امرأة غريبة وظ ّلت حتدّ ق يف مالحمي التي أثارت انتباهها .نور،
ثم قمييص األبيض شقيقة سعد أخذت تتأ ّمل ترسحية شعري ال ّطويل ّ
وأخريا حذائي األسود .كانتً الصدر ورسوال اجلينز، املفتوح عند ّ
نور هنمة بالفعل وهي تتابعني وال تسمع كلامت أ ّمها« :أغلقي باب
الدّ ار يا نور» .وكان من ال ّطبيعي يف زياريت األوىل لعائلة سعد أن أقدّ م
هدايا ،جلبت معي قالدة ذهب ّية من تصميم إليف للخالة منج ّية،
وهي من القالئد النّادرة التي نحتفظ هبا يف املصاغة .أ ّما نور وبعد
جلبت
ُ قت يف مسألة مقاساهتا مع سعد قبل زياريت لبيتهم ،فقد أن د ّق ُ
هلا مالبس كثرية.
ما حصل بعد ذلك أنيّ مل أغضب من ر ّدة فعل اخلالة منج ّية حينام
تونيس ومقيمة يف فرنسا .سعد قال ّ أعلمها سعد أنيّ هيود ّية من أصل
أن منج ّية ال تعرف مارسيليا. فرنسا ومل يقل مارسيليا ،وهو يعرف ّ
قالت اخلالة منج ّية منكمشة الوجه:
-هيود ّية؟ ..هيود ّية يا فرخ احلرام؟ ..يعني كافرة؟..
انفجرنا ،أنا وسعد ضاحكني ،كلامت اخلالة مل تلهب وجهي ومل
عفوي .بعد
ّ ٍ
بشكل تزعجني ،ويف الواقع انتظرت أن حيصل ذلك،
حرك سعد أطرافه وسارع إىل التّوضيح:
ذلكّ ،
اليهودي مثلنا يا منج ّية ،واليهود من أهل الكتاب وليسوا
ّ -
ك ّف ًارا ..وهم يص ّلون ويصومون ،وهلم دينهم كام لنا ديننا.
مسح سعد العرق من جبينه وتابع:
والسالم حينام ذهب إىل املدينة ّأول ما
الصالة ّ
الرسول عليه ّ
ّ -
182
فعل هو أنّه عقد اتّفا ًقا مع اليهود ،وأبرم معهم معاهدة تكافل
السلم وتنارص يف احلرب.
وتنارص ،تكافل يف ّ
أن اخلالة فهمت يف تلك اآلونة شي ًئا ممّا قاله سعد،ال أعتقد ّ
استحسنت
ْ وهي ال تفهم أصلاً التّكافل والتّنارص .ويف مقابل ذلك
للرسول ،أراحها قليلاً كام بدا من تقاسيم وجهها .ومع ذكر سعد ّ
متوجسة وحذرة منّي ،متلملت عىل الكنبة مق ّطبة
ّ ذلك ظ ّلت نظراهتا
ثم قالت:
جبينها ّ
الصهاينة ،وأنت تعرف ذلك ،ماذا
-أبوك يا سعد كان يكره ّ
سيقول اجلريان عنّا عندما...؟
قاطعها سعد ضاحكا:
حق ،أفكارنا ك ّلها خاطئة ،هناك فرق بني -يا منج ّية ،معك ّ
الصهيون ّية كد ٍ اليهودية ِ
والصهيون ّيةّ ..
ين ،وهي أقدم الدياناتّ ، ّ
متعصبة هدفها إقامة دولة هيود ّية يف فلسطني..
ّ حركة سياس ّية
وهيلني ليست بطبيعة احلال صهيون ّية ..وعائلتها تر ّبت يف
تونس قبل أن هتاجر إىل فرنسا ،هل فهمت يا منج ّية؟ ..لقد
يفرق بنيجف ريقي ،وإبراهيم ،هل نسيت يا منج ّية؟ كان ّ ّ
والصهاينة.
اليهود ّ
رغم توضيحات سعد ظ ّلت اخلالة مندهشة ،وال أظ ّن أنهّ ا فهمت
شي ًئا ممّا قال ،إضافة إىل ذلك هي مل تنتظر بتاتًا -هكذا اعتقدت -أن
تصادفها امرأة هيود ّية .أ ّما وقد دخلت تلك املرأة مع ابنها الوحيد إىل
بيتها فاألمر ُيصبح مقل ًقا ح ًّقا ،بل هو يف غاية اإلرباك .ويف الواقع،
183
كثريا يف الكل ّية وأثناء رحاليت عىل متن الباخرة.
حصل يل هذا املوقف ً
مرة ،وأنا يف رحلة العودة إىل مارسيليا ،هربت منّي امرأة كانت فذات ّ
حتاورين يف مسألة تربية األبناء .يف ال ّلحظة التي عرفت فيها أنيّ هيود ّية
الذعر وذابت من أمامي .أنا أفهم هذه الكراه ّية أصابتها حالة من ّ
كل األحوال ال يروج بسوء ن ّية ،وهو يف ّ
بسبب الفهم اخلاطئ الذي ّ
ثم أنسى برسعة، يؤ ّثر عىل معنو ّيايت .يف تلك املواقف كنت أبتسم ّ
عرفت وقرأت هو تاريخ ال ّظلم واملفاهيم اخلاطئة ،وكان ُ فتارخينا كام
ونصحح املفاهيم.
ّ علينا أن نصرب ونقاوم
عذبت اخلالة منج ّية يف استوعبت ّ
كل املخاوف واهلواجس التي ّ
تلك املقابلة األوىل« .فرخ احلرام» ،هذا التّوصيف الذي استعملته
أحب هيود ّية
ّ وضح يل يف ذلك الوقت احتجاجها عىل ابنها الذي ّ
وترك بنات اجلريان املسلامت ،اجلميالت ذوات العيون الواسعة
واألرداف الطر ّية .وخالل النّصف الثاين من شهر مارس ،سنة
كل مفاهيم أغي ّ
الصرب أن رّ استطعت بكثري من ّ
ُ 1991بالتّحديد
اخلالة منج ّية.
ماذا اعتقدت اخلالة وماذا دار يف رأسها يف ال ّليلة األوىل؟ مل
وثمة بالفعل غرفة شاغرة ،كذلك مل تسألني عن ختصص يل غرفةّ ، ّ
أي يشء ،ما انتبهت إليه هو أنهّ ا كانت منشغلة برتتيب غرفة سعد، ّ
هكذا قالت نور« ،تلك غرفة سعد» .كنت أتابعها وهي تن ّظف الغرفة
ثم تغلق الباب .بعد ذلك حرصت الستائر ّ
وتغي املالحف وتسدل ّ رّ
عىل مساعدة اخلالة منج ّية يف املطبخ ،هي أعدّ ت طبق روز بال ّلحم،
وأوصاها سعد بألاّ تكثر من وضع الفالفل ،وأعددت أنا طب ًقا فيه
184
عجتي التي أعشقها ،وهي ال تعجب سعد ألنهّ ا أنس ّ س َلطات ومل َ
حارة .أثناء العشاء أحرض سعد قارورة نبيذ ،ووضع عىل ليست ّ
ال ّطاولة كأسني ،فعل ذلك وسط دهشة منج ّية وامحرار وجه نور.
أيضا بشكل سعد يف العادة ال يرشب النّبيذ أثناء األكل ،وال يرشبه ً
علني يف البيت .اخلالة تابعت جنون ابنها بكثري من التج ّلد ّ
والصرب. ّ
السلطة ،يرسل ضحكات نحو أ ّمه كان سعد ،وهو يرشع يف أكل ّ
ويمرر يده عىل شعر نور ليخ ّفف عنها احلرج. ّ
يصب النّبيذ يف الكأسني:
ّ قال بمرح وهو
أحب أن نرشب عىل نخب هيلني.
-أين كأسك يا منج ّية؟ّ ..
« -هذا إليّ ناقصني».
ثم تابعت:
قالت اخلالة والعرق يتص ّبب من جبينها ّ
-اخلمرة حرام.
ثم التفتت إ ّيل سائلة:
ّ
-ط ّيب ،واخلمرة أليست حرا ًما يف دينكم؟
عيني يف عينيها:
قلت بكثري من التّبسيط وأنا ال أرفع ّ
والزيت ،جزء من غذائنا اليومي..
-اخلمرة عندنا ،مثل القمح ّ
ثم هي عنرص هبجة وفرح يف حياتنا ،ونحن نرشهبا باعتدال ّ
أثناء األكل ،وقد نكتفي بكأس أو ثالثة عىل األكثر .وبطبيعة
ثم إنّنا ال نرشب
احلال ،ال نسكر يا خالتي عندما نرشبّ ،
النّبيذ أثناء الدّ راسة والعمل.
185
رسها« :من أين األكيد أنهّ ا تساءلت خالل تلك ال ّلحظة يف ّ
طلعت يل هذه اجلن ّية؟» ظ ّلت مق ّطبة أثناء األكل ،وأحيانًا ترسم
الضحك خفية. باتاه نور التي مل تتو ّقف عن ّ ابتسامات خاطفة جّ
أيضا وأنا
ضحكت ً
ُ ضحكت من كالم سعد ومن حركاته اجلديدة.
أرفع كأيس نحو سعد .كانت نظراهتا مندهشة وزاد اندهاشها عندما
ملت إليها ومهست يف أذهنا« :سأشاركك الفراش ملدّ ة نصف شهر،
فأطلقت ضحك ًة مفاجئة
ْ إن مل تطردين اخلالة منج ّية قبل ذلك»،
ثم مالت إ ّيل هامسة« :أ ّمي قلبها أبيض ،وهي
أثارت دهشة اخلالةّ ،
فقط يف حالة صدمة ،وغدً ا ،أؤكّد لك ،ستستفيق وتعانقك بحرارة..
أنا أعرف منج ّية».
تقرب منّي صحن كثرياّ ،
مهتمة يب ًأن اخلالة منج ّية كانت ّاحلق ّ
ّ
ثم تغمز الساخن ،وعندما تالحظ أنيّ آكل ببطء ،تز ّم شفتيها ّ الروز ّ ّ
خاصة من صحن روز ّ ابنها .فيح ّثني سعد بحركة آل ّية عىل األكل
منج ّية الذي ال تنافسها امرأة فرشيش ّية يف طبخه .ويعدّ د يف األثناء
األكالت التي جتيدها منج ّية ،مثل الكسكس واملط ّبقة القرصين ّية،
«وخاصة
ّ ثم يضيف: يقول سعد ،وال يرشح يل ما معنى املط ّبقةّ ،
عندما تُؤكل ساخنة من يد منج ّية» .يف احلقيقة ،أحسست بحرج،
بسبب هذا اإلحلاح عىل األكل ،طب ًعا ،عادة األكل عندنا ترتبط
عيل أن أرشحوالضغوط غالبا ما تفسد املزاج ،لذلك كان ّ بالسعادةّ ، ّ
مسألة عاداتنا يف األكل..
قلت للخالة منج ّية ،وهي ال تتو ّقف عن متابعة ّ
كل حركايت:
-نحن يف العادة يا خالتي ال نبالغ يف األكل أثناء ال ّليل ،وإن
186
أكلنا فإنّنا نأكل ببطء كأنّنا يف حالة خشوع.
تناولت جرع ًة من كأس النّبيذ وتابعت:
ُ
السبت عندنا ،وهي ال ّليلة الفاصلة بني اجلمعة -أ ّما عشاء أمسية ّ
الصالة يفوالسبت فهي استثنائ ّية .أذكر أنّه بعد عودة أيب من ّ ّ
الكنيس ،كنّا نجتمع معه ،أنا وأ ّمي ،عىل وجبة احتفال ّية احتفا ًء
الراحة املقدّ س ..تبدأ وجبتنا يا خالتي بتقديس اخلمر بيوم ّ
مرورا بطلب الربكة عىل اخلبز .واخلبز عندنا يرمز إىل العمل ً
نستمر يف تناول أطعمتنا الشه ّية
ّ ثم
الشاق طيلة أسبوع كاملّ ، ّ
بطمأنينة وراحة بال.
تابعتني اخلالة منج ّية وهي تتململ وكنت أعرف أنهّ ا لن تفهم
يئست منّي اهنمكت يف األكل وبني حلظةْ شي ًئا من كالمي .وعندما
الروز« ،إبراهيم كان ال يرتكتلح عىل سعد أن ينهي صحن ّ وأخرى ّ
الصحن يا سعد» ،تقول متحسرّ ة.
ح ّبة واحدة يف قاع ّ
األمر الذي أدهش خالتي منج ّية أكثر ،وجعلها وامجة ،هو أنّني
الصحون واألطباق واملالعق بعد انتهائنا من األكل رشعت يف محل ّ
والسكاكني إىل املطبخ وأنا أهتف:
مهمتي ..من فضلك يا خالتي ،أعدّ ي
-أ ّما غسل املواعني فهي ّ
لنا كأس شاي أخرض منعنع.
أيضا أن تساعدين نور .سعد أرخى رأسه إىل الوراء وهو
رفضت ً
ُ
ومررها يل .أنا ال أبالغ يف
يتابعني ،أشعل سيجارة ،وأشعل أخرى ّ
ترض ،لتعديل
التّدخني ،ال بأس ،سيجارة واحدة بعد وجبة العشاء ال ّ
187
أحب غسل املواعني ،ومع شريا أفعل الشيّ ءاملزاج ليس أكثر .فعلاً ّ ،
نفسه ،أمنعها من دخول املطبخ بعد االنتهاء من وجبتنا .املاء جيعلني
منرشحة ،أشعر وأنا أغسل املواعني ببهجة مثرية ،وأعود بعد ذلك
ٍ
وراحة نفس ّية عميقة. مزاج ٍ
رائق إىل ٍ
باحلي اخللفي ليل ًة عجيبة ،ر ّبام
ّ يف غرفة نور كانت ليلتي األوىل
مل تصادفني يف األفالم وال يف احلكايات .ليلتها مل أستطع النّوم،
أيضا ،استمعنا ّأولاً إىل رصاخ امرأة، وال استطاعت نور أن تغفو ً
ثم تناهت إلينا جلبة بسبب شجار بني جمموعتني ،عال رصاخ املرأة ّ
وهي تتل ّقى صفعات ،وم ّيزت يف األثناء أصوات هراوات وسكاكني
وشتائم ورصاخ وهتديد ووعيد وهلاث ومههامت وقهقهات وشخري
وحجر يتساقط عىل النوافذ واألبواب .انكمشت نور بجواري،
ثم قالت وأحسست بأنفاسها احلارقة ،وهي ترتعش من اخلوفّ .
وهي تشدّ ال ّلحاف إىل أعىل صدرها:
-احلياة يف ح ّينا جحيم ال ُيطاق ،بل هي كابوس ،أنا ال أعرف
أيب ّ
بالشكل الكايف ،مات وأنا طفلة أحبو ،وأ ّمي حدّ ثتني عنه.
يتجرأ عىل االقرتاب منّا عندما كان أيب يف املنزل،
ال أحد كان ّ
اجلميع هيابونه هنا ،وبعد موته وسفر سعد إىل العاصمة أصبح
كبريا .منج ّية سليطة ال ّلسان ،وهذا ال يكفي
إحساسنا باخلوف ً
احلي ،البدّ من وجود رجل هيابونه وخيافون منه.يف هذا ّ
ال يمكن أن تصدّ قي ما حيصل هنا يا هيلني- ،كانت نربهتا
شجعة وأنا ٍ
حزينة ،لذلك مسكتها يف األثناء من كتفها يف ملسة ُم ّ
كل يشء هنا قاد ٌم من رحم اليأس أخت ّيل عينيها الدامعتنيّ -
188
احلي .املخدّ رات، وكل ما ينتجه اليأس موجود هنا ،يف هذا ّ ّ
بيع اخلمر خلسة ،السطو ،واملتاجرة بالبرش وغريها وغريها
تعود الناس من األصوات التي تستمعني إليها اآلن .وقد ّ
كل ذلك حتّى أدمنوه .وأنا أريد أن أنجح يف امتحان هنا عىل ّ
الباكالوريا حتّى أخت ّلص من هذا الكابوس .يف السنة املاضية
نسيت يب ٍ ٍ
ُ لكاتب عر ّ رواية رشح لنا أستاذ العرب ّية مقط ًعا من
التعود وقد حفظته عن ظهر ٍ
قلب ألنّه يعبرّ اسمه يتحدّ ث عن ّ
بد ّقة عن حالنا ،يف هذا املقطع خياطب االبن أباه ويفسرّ له
نشم رائح ًة التعود« :هل تعرف ماذا تع ّلمنا يا أيب؟ حني ّ معنى ّ
فإن مجلتنا العصب ّية ك ّلها تتن ّبه وتعبرّ عن ضيقها .وبعد تُضايقنا ّ
خيف الضيق .أتعرف معنى ذلك؟ حني من البقاء مع الرائحة ّ
الشم قد ماتت فلم ّ حساسة يف جمرى أن هناك شعريات ّ معناه ّ
تتحسس .وبذلك مل تعد تن ّبه اجلملة العصب ّية .واألمر ّ تعد
الضجة ّ النحاسني ّ
فإن متر يف سوق ّ ذاته يف السمع .حني ّ
يتعود املقيمون دت مثلام ّ لتعو َ
أقمت هناك ّ َ تُثري أعصابك .لو
أن الشعريات والسبب نفسه وهو ّ ُ والنحاسون أنفسهم،ّ
احلساسة يف األذن قد ماتت .نحن ال احلساسة واألعصاب ّ ّ
تصور حجم ما مات فينا نتعود يا أيب إالّ إذا مات يشء فيناّ . ّ
تتصوري ّ كل ما جيري حولنا ».ولك أن تعودنا عىل ّ حتّى ّ
عزيزيت هيلني حجم ما مات يف قلوب أغلب الناس هنا،
كل عندما هيجم الفقر واليأس عىل قلب إنسان فإنّه يكنس منه ّ
إحساس بالرمحة .يف الكثري من البيوت هنا يكتبون بالفحم
189
كلامت هي يف احلقيقة إشارات ملا حيدث ٍ عىل اجلدران املش ّققة
يف الدّ اخل .فكلمة للكراء تعني بيع اخلمرة خلسة وكلمة
والرجل يف هذه احلالة، للبيع تعني بيع اخلمرة والنّساء م ًعاّ ،
يمكن أن يتاجر بزوجته وابنته أمام عينيه املل ّفعتني بالعار..
-أشهق يف تلك ال ّلحظة وأحضن نور بذراعني مفزوعتني-
يتجرأ الغرباء عىل التو ّغل يف األز ّقة اخللف ّية ،وإن فعلوا
هنا ال ّ
يتعرضون إىل «براكاجات» ٍ
ذلك يف غفلة أو يف حالة سهو ّ
ُمهينة .س ّيارات «احلاكم» ال تغامر بالدّ خول إىل تلك األز ّقة
فكثريا ما سمعنا بحرق تلك الس ّيارات« ،احلاكم» هو ً ليلاً ،
كل يوم ثم يقول لنا« :موتوا السم ّ
سبب فقرنا وعارنا ،يسقينا ّ
بغيظكم ،أنتم لستم سوى حيوانات» ..هذا هو حاكمنا يا
هيلني.
ست قارورة املاء بجانبي حتس ُسعلت نور وهي ترتعشّ ،
ثم تابعت:فتجرعت من القارورة الهث ًة ّ
ووضعتها يف يدهاّ ،
-ال أدري ما أقول لك يا هيلني ،لكن عديني ألاّ ختربي سعد
بيشء .يكفي ما يعانيه هناك ،يف تونس.
-حتدّ ثي يا عزيزيت ،فال أحد غريي سيعلم بذلك ،وال حتّى
سعد.
أن نور قد خت ّلصت من حالة االنقباض التي
عندها أحسست ّ
كانت طاغية عليها ،مسكت يدي بتو ّد ٍد واسرتسلت تقول:
الساعة املسائ ّية األخرية ،مثل فتيات
-أنا يف الغالب ،ال أدرس ّ
كثريات ،نحن نخاف من ال ّظالم هنا .وذات مساء اضطررت
190
الشتاء ،اضطررت إىل ذلك الساعة املخيفة يف ّ
إىل دراسة تلك ّ
بسبب االمتحان ..يف ال ّلحظة التي جتاوزت فيها سكّة احلديد
أحس هبام مثل
أثناء عوديت ،انتبهت إىل رجلني يتبعانني ،كنت ّ
غرابينْ ،وكنت أسمع نعيقهام ورائي و ُأرسع .ومن سوء ح ّظي
أن الطريق كانت مقفرة يف ذلك الوقت بسبب األمطار .وما ّ
عيل الغرابان بمنتهى
انقض ّ
إن وصلت إىل املستوصف حتى ّ
قبيحا تعلوه ندبة
كمم أحدُ مها فمي ،وجهه كان ً الوحش ّيةّ ،
بارزة ،اآلخر كان عصب ًّيا وهو حيرشين يف شاحنة التحقت هبام.
ثمقادين النّذالن إىل منزل مهجور مزدحم باألبقار واملوايشّ ،
والسلع .يف تلك
أيضا بالكراتني ّسارا يب نحو غرفة مزدمحة هي ً
بالتقزز،
ّ اآلونة جتاوزت شعوري باخلوف ،وكذلك شعوري
بأي طريقة،وعرفت أنيّ سأموت ،إن حاوال مليس سأموت ّ
هكذا فكّرت ،وذاك كان قراري منذ حلظة اختطايف .سمعت
ثم
املرة ،متتّع يا الربين ّ
«الصيد ثمني هذه ّ
صوت امرأة باخلارجّ :
س ّلمها يل» .دخل الوحش بعد ذلك اله ًثا ،اخرتقتني نظراته
وأنفاسه .ال أدري كيف حصل ما حصل ،ر ّبام هي القدرة
عيني إىل السامء سمعت صوت رجل ّ اإلهل ّية ،حينام رفعت
يف اخلارج« :اتركها يا حيوان ،اتركها وإلاّ رشقت املوسى يف
بطنك ،تلك ابنة إبراهيم ،أنسيتم إبراهيم؟» ..مل أصدّ ق ليلتها
أنيّ عدت إىل منزلنا ،مل أصدّ ق بالفعل ،وعندما سألتني أ ّمي عن
املمزقة ،قلت هلا وأنا أحاول ما أمكن إخفاء فزعي: ميدعتي ّ
«لقد دامهني أحد الكالب قري ًبا من املستوصف ،واحلمد هلل يا
191
يعضني الكلب» ..ومنذ ذلك اليوم أصبحت منج ّية
أ ّمي ،مل ّ
كل مساء.ترص عىل انتظاري قرب سكّة احلديد ّ
ّ
صمتت نور وحاولت استعادة هدوئها وتوازهنا ،تو ّقفت عن
أيضا ،دموعها كانت ساخنة وهي تسقط عىل كتفي ،رفعت النّشيج ً
رأسها قليلاً وتابعت:
كل -ما أحلم به ح ًّقا يا هيلني ،هو بطبيعة احلال حلم ،ولكنّه ّ
احلي،
ما أملك ،ما أحلم به هو أن أهني دراستي وأغادر هذا ّ
أيضا الأجل ،ال بدّ أن أرحل عن خندق الفقر والعار .منج ّية ً
كل هذا؟ بدّ أن ترحل ،ال أدري ،ال أدري ملاذا حدّ ثتك عن ّ
حررين حديثي معك من أي يشء ،وقد ّ لست خجولة من ّ
اخلوفّ .ملا دخلت إىل منزلنا رأيت يف عينيك وميض امراة
خمتلفة ،وفعلاً كان إحسايس غري ًبا وأنا أعانقك بحرارة ،أنا مل
أعانق سعد مثلام عانقتك يا هيلني.
احلب:
أضمها بمنتهى ّ
قلت لنور وأنا ّ
-عديني ّأولاً يا نور أنّك ستنجحني ّ
بتفوق يف الباكالوريا،
وبعد ذلك سيكون لنا حديث آخر ،وسأرتّب مع سعد مسألة
دراستك يف مارسيليا.
وتزوجتّ [لألسف ،بعد ذلك انقطعت نور عن الدّ راسة
تاجرا من مدينة صفاقس ،هكذا حدّ ثني سعد وأنا أسأله عن نور.. ً
مل تستطع أن حت ّقق حلمها بأن تكون طبيبة يف يوم من األ ّيام ،لكنّها
الزواج، الزهور ،وكان سعد سع ًيدا هبذا ّ حي ّ
استطاعت أن تغادر ّ
وفهمت بطبيعة احلال سبب سعادته].
192
يف الفجر ،مخدت تلك األصوات متا ًما وهنضت أصوات أخرى،
أصوات النّساء العامالت يف معمل عجني احللفاء والورق -أخربتني
نور بذلك متثائبة -وتناهي إ ّيل صدى وقع أقدامه ّن احلزينة وهي
تركض يف اإلسفلت املهرتئ.
الزهور دعتني اخلالة منج ّية حي ّ يف صباح يومي ال ّثاين يف ّ
إىل غرفتها املع ّطرة برائحة البخور ،قالت يل وهي جتلسني أمامها:
«ستعرفني ضيافة منج ّية عىل قاعدة يا هيالنة» .وراحت اخلالة منج ّية
ثم كامل جسدي بام ّدة لزجة الشعر من وجهي ّ بحركات رشيقة تزيل ّ
عرفت منها أنهّ ا خليط من السكّر وال ّليمون .ظ ّلت حركات اخلالة
ترتشف من حلظة وأخرى ّ ٍ متتابعة ،تالحق كامل بقع ّ
الشعر ،وبني
فنجان قهوهتا و ُأ ُذهنا عىل النّافذة ،تع ّلق عىل صيحات جارهتا التي
احلي وال
تأتيها من اخلارج« ،اسمها سعد ّية» قالت« ،ال يسلم منها ّ
امل ّيت»« .املتعوس متعوس حتّى لو ع ّلقولو يف رقبتو فانوس» ،قالت
السيف باتاه النّافذة ،وسمعت سعد ّية تر ّد« :بعد ّذلك رافعة صوهتا جّ
ع ّلق منجل» ،يف تلك ال ّلحظة هتمس اخلالة يف أذين« :املتعوسة
انتشلها زوجها بلقاسم من القاممة ،هي ال تتوب ،لفعة ،تفتح ساقيها
أيضاودب» .أضحكتني كلامت اخلالة وطب ًعا فهمت ً هب ّ لكل من ّّ
أن سعد ّية كانت تعنيني أنا بكلمة منجل .ظ ّلت تبحلق يف وجهي ّ
ووجه سعد ونحن ننزل من س ّيارة التّاكيس ونسري أمام باب بيتها،
وقفت مرتاخية بفستاهنا القصري ،رأسها ملفوف بمنديل أمحر ،لبثت
يمر
متص إصبعها وهتمهم بكلامت مل أفهمها ،وسعد ّ بنظراهتا ّ
الشبقة ّ
من أمامها غري مكرتث.
193
الرشيقة يف جسمي:
قالت اخلالة منج ّية وهي تُنهي حركاهتا ّ
الرأس .إزالة ّ
الشعر -دعينا من املتعوسة ،ال يأتيني منها إلاّ وجع ّ
ليست عمل ّية سهلة يا هيالنة -اخلالة منج ّية ظ ّلت تناديني
كثريا وال أحد يتقن التّنقية
الزيارة -أنا أشقى ً هيالنة طيلة أ ّيام ّ
كل ذلك عن غريي ،كذلك رسم احلنّاء واحلرقوس ،وورثت ّ
فضة ،كنت أرافقها إىل األعراس وجلسات النّساء يف أ ّمي ّ
الصنعة .وبعد موت إبراهيم الراقية إىل أن تع ّلمت ّ األحياء ّ
عدت إىل صنعة أ ّمي ألربيّ سعد ونور حتّى كبرُ ا« ،وإلليّ ما ُ
تتهرى جلودو» ،وكنت يا ابنتي أحصل عىل خلاّ ولو جدودو ّ
لقمة العيش بفضل السكّر وال ّليمون واحلنّة واحلرقوس.
محام الدّ والب ،رائحة البخور كانت تعبق يفيف املساء ذهبنا إىل ّ
البهو والقاعة الكبرية التي ُفرشت باحلصائر والوسائد .أوصت اخلالة
ثم
حارزة احلماّ م ،واسمها نجمة ،بأن تعتني يب .غمزهتا بطرف عينها ّ
الساخن الذي ال استمتعت فعلاً بالبخار ّ
ُ عادت إىل القاعة الكبرية.
محامكم مثل ريش النّعام» ،قال سعد محام احلريم« ،بخار ّ
يشبه بخار ّ
محام صديقتنا املغرب ّية .بعد ذلك اسرتخيت عىل وأنا ّ
أحك ظهره يف ّ
الدكّة وظ ّلت نجمة تفرك حلمي وتدلكه بكامل جهدها .عشت ذلك
محام النّاعورة بتونس ،ومع نجمة كانت متعتي اإلحساس فعلاً يف ّ
والتاخي ،ال ترسع مثلأكرب ،حركاهتا عىل جسدي يف غاية الر ّقة رّ
محام النّاعورة ،وال ترتك يل بق ًعا محراء .حركات يدها مثلحارزة ّ
املناجاة متا ًما ،نزعت عنّي االنقباض الذي شملني يف ال ّليل ومنع
عنّي النّوم .ويف األثناء كنت مذهولة بثرثرة النّساء وسط البخار ،ال
194
أيضا ،فقط،أرى مالحمه ّن وه ّن يتحدّ ثن ويقهقهن ،وال يرينني ه ّن ً
ترتاءى يل النّهود املتململة ،أغلبها مرتاخية مثل ارختاء البطون .مل َأر
الصغرية والبارزة التي تعلق بالبخار ،يف ذلك الوقت .أعتقد النّهود ّ
متزوجات .وصلتني مهسات منتشية ومهتاجة: أن أغلب من باحلماّ م ّ ّ
«املاء حرقني يف األسفل ،ص ّبي يل قليلاً من مائك البارد ..أنا مشتعلة
منذ البارحة ،املجنون ،لن يرتكني ال ّليلة» ..أضحكتني تلك اهلمسات
وأثارتني .نجمة كانت تضحك مع ضحكي وتغمزين .أعتقد ّ
أن
أرسار النّساء ك َّلها عند نجمة ،تغلق عليها باملفتاح ،وال تفتح مغارة
األرسار ألحد .ما أثار انتباهي ح ًّقا هو ولعه ّن برتديد كلامت ذات
إحياءات جنس ّية ،وحيلو هل ّن أن يتنافسن يف االستمتاع بذلك ،يتحدّ ثن
الرجل ،وعن اجلنس ،وعن مغامراهت ّن ،وبني بكل محيم ّية عن عضو ّ ّ
ٍ
قبقاب سطل ٍ
ماء أو حول ِ حني وآخر حيدث تالسن بني امرأتني حول
ويتطور األمر إىل شجار ،لكنّه شجار خفيف رسعان ّ اختفى فجأةً.
مرة ما يذوب وسط البخار .كنت مستمتعة فعلاً ومذهولةّ ،
ألول ّ
أعرف تلك العوامل ،عوامل متعة النّساء.
وبعد عودتنا من احلماّ م مل ترتكني اخلالة منج ّية ،استأنفت شغلها
وقدمي ونقشت أشكالاً رائعة يف ك َّف ّي
ّ يدي
معي ،رسمت احلنّاء يف ّ
امحرارا بعد ٍ ٍ
بشكل الفت بعد احلماّ م ،وازداد امحر
ً ورقبتي .وجهي ّ
ملسات اخلالة .حتّى نور لبثت حتدّ ق يف وجهي كأنهّ ا ال تعرفني .بقيت
ذلك املساء يف غرفة اخلالة خمدّ رة بروائح احلنّاء واحلرقوس والكحل،
وحينام عاد سعد من جولته املسائ ّية يف وادي الدّ رب رصخ مذهوالً:
-كنت أعرف ّ
أن منج ّية ستفعلها معك ،إنّك غجر ّية رائعة،
195
رائعة جدًّ ا يا هيلني.
صاحت منج ّية:
-وهل ّ
تشك يف قدرات أ ّمك يا فرخ احلرام؟
جمرد عبارة عرفت وأنا أضحك ّ
أن فرخ احلرام ليست شتيمة ،بل ّ
تقوهلا منج ّية ّ
بكل عفو ّية .وقد كان سعد يشاكسها باستمرار ويدفعها
إىل النّطق هبا ،وحني يسمع ذلك التّوصيف ّ
يظل يقهقة إىل أن ترتقرق
عيناه بالدّ موع.
مضت األ ّيام رسيعة يف ضيافة اخلالة منج ّية .يف أغلب األوقات
أنشغل بالقراءة أو الدّ خول إىل املطبخ .اخلالة تستقبل النّساء يف
الضحكات ،وأنا أجلس غرفتها وتنهمك يف شغلها .أسمع صدى ّ
أيضا عندما تنتبه إىل كلامت تفوح منها
يف الصالون .تضحك نور هي ً
رائحة اجلنس .وأغلب كلامت اخلالة من ذاك النّوع ،تنتقيها بد ّقة،
لتمرر إسطوانتها إىل نور وإ ّيل
مفتوحا ّ
ً تتعمد ترك باب الغرفة
وهي ّ
الزواج يضحكن ويستسلمن بطبيعة احلال .الفتيات املقبالت عىل ّ
للمسات منج ّية ،وال تنسى بطبيعة احلال أن ترسد عليه ّن حكايات
ليلة الدّ خلة ،وتصلني نصائحها الغريبة« :ال تدعيه يفتح ساقيك
بأي يشء واجعليه يلهث كالكلب .إذا نزع من ّأول حلظة ،انشغيل ّ
كلسونك من ّأول ملسة فيا خيبة املسعى ،سيظ ّن بك ال ّظنون ،سيشتغل
متعودة عىل نزعه .دعيه يعرق ويمطرك بالكالم دماغه ويقول إنّك ّ
املعسول .بعد أن ترختي عيناك اتركيه يخُ رج دمك األمحر القاين،
الزغاريد يف البيت هيمهم إلاّ ذلك الد ّم .وبعد أن تلعلع ّ
الرجال ال ّ
ّ
جوع كلبك مرة ثانية ،اجعليه يشتاق وجيوعّ ، ال تدعيه يقرتب منك ّ
196
تتعجيل عىل
املهم ،ال تنيس ،وال ّ
يتبعك يا كبدي ،هكذا تسري األمورّ .
الرقبة» شادية بنت الكنزاري ،عادت إىل بيتهم ليلة
يشء« ،مقصوفة ّ
وهربتها
الدّ خلة بعد أن اكتشف املغبون عيبها ،كاد يذبحها ليلتها ّ
جتر فضيحتها معها».
أ ّمها وهي ّ
الضحكات يف الغرفة القريبة وحني يعود سعد إىل البيت ّ
تتبخر ّ
«الرجل ال الصالون ويتو ّقف الكالم املخدّ رّ ،
ثم تستأنف اخلالةّ : من ّ
يعيبه يشء يا بنتي ،اسمعي منّي وتع ّلمي ،خالتك منج ّية مل تُغضب
يقوي سعدك بجاه سيدي صالح عمك إبراهيم يو ًما ..يا بنتي ّ ّ
يغرها ال
الرجال ما ّ الغضباين فتّاح األبواب ،وإلليّ تر ّبات عىل يد ّ
زين ال مال».
وكان سعد يغادرنا بعد أن يتناول الغداء ،يرشب كأس ّ
الشاي
يلوح يل بيده ويغلق الباب .كنت أعرف أنّه يميض كامل ثم ّ
األخرض ّ
الوقت يف وادي الدّ رب ،هذا الوادي العجيب الذي حدّ ثني عنه
أشتم رائحة
ّ طويال« .وادي الدّ رب قطع ٌة من حيايت يا هيلني ،وفيه
جترأت؟ تت ّبعت
أيب» ،يقول يل بحامس .ذات مساء ،وال أدري كيف ّ
خطوات سعد ،مل تكن املسافة قصرية بطبيعة احلال وكنت أميش
خلفه عىل مسافة ال تسمح له برؤيتي .عندما وصل إىل الوادي،
الصخورتس ّلل داخل كهف وغاب هناك ،اختبأت خلف إحدى ّ
وحبست أنفايس وأنا أتط ّلع إىل ما سيفعله.
خري ،مع وجود إشارات
الص ّكانت احلفر كثرية يف اجلدار ّ
ورموز ،مل أستطع التّدقيق فيها ،فقط ظهرت يل خطوط بال ّطول
ثم يتناول ملعقة صغرية ويزيح
ظل سعد ينبش بيده ّ والعرضّ .
197
الصخري .إثر ذلك جتاوز القرشة األتربة من احلفرة داخل اجلدار ّ
فأسا
الرخو .وبني فينة وأخرى يتناول ًالتاب ّ الصخر ّية ووصل إىل رّ
ّ
الضوئي
الكشاف ّّ ثم يمدّ عنقه ويشعل ويوسع احلفرةّ ،
ّ صغرية
ويوجهه نحو اجلوف الذي بدأ يتّسع .سال العرق عىل جبينه وكامل ّ
وجهه وهو ينبش بال تو ّقف .وبعد دقائق ّ
مرر يديه إىل داخل احلفرة
وسحب إبري ًقا زجاج ًّيا ،يف تلك ال ّلحظة جلس عىل حجر بجانبه
وأشعل سيجارة .حدست أنّه سيغادر الكهف بعد أن يرمي بعقب
فحثثت اخلطى واختبأت خلف إحدى األشجار .وبعد ُ السيجارةّ
كيسا أسود وسار الزمن خرج سعد من الكهف وهو حيمل ً فرتة من ّ
باتاه شجرة التّوت ،توتة إبراهيم التي حدّ ثني عنها .رشع حيفر يف جّ
ثم أخفى الكيس هناك ،بعد ذلك متدّ د عىل
بقعة قريبة من التّوتة ّ
ثم وضع رجلاً عىل رجل ّ
وظل يتأ ّمل ظهره وشبك يديه خلف رأسه ّ
أغصان توتة إبراهيم.
كل هذه التّفاصيل لتعرف حجم ح ّبي لك، أكتب لك يا سعد ّ
لتعرف حجم اجلنون الذي شملني وأنا أعشقك .قد أكون خمطئة،
أن زياريتمترسعة كام قالت يل شريا ،لكن ما أؤكّده لك ّ وقد أكون ّ
الزهور كانت حاسمة ،عشت حاالت من اخلوف حي ّ
تلك إىل ّ
والقلق ،ويف مقابل ذلك عرفت طمأنينة مل أعرفها من قبل ،أحسست
تتكور عىل
وجهي منج ّية ونور ،ويف وجه املرأة املسنّة التي كانت ّ
هبا يف َ
األرض لتبيع اخلرض ،ويف وجوه العراة واحلفاة ّ
وكل الفقراء .أجل،
لت مشاهد عديدة يف مفكّريت .يف بعض وسج ُ
ّ كنت حزين ًة من أجلهم
ُ
ال ّليايل ،تسألني نور« :ملاذا أنت سامهة يا هيلني؟ من أغضبك؟ منج ّية
198
أم سعد؟» وهي ال تعرف أنيّ كنت أستعيد تلك الوجوه املقهورة
املتغضنة حجم اجلرائم
ّ تلمست يف تلك التّقاسيم
التي اعرتضتنيّ .
حق شعبه .ال ختجل ممّا رأيتُه وسمعته يا سعد،
التي ارتكبها النّظام يف ّ
أهلك هم أهيل ،النّاس هناك ط ّيبون ،لكنّهم ملدوغون وجائعون،
واجلوع وحش لو تدري ،اجلوع كافر يا سعد.
أنا مل أفعل بطبيعة احلال ما فعلته اجلازية ،فاجلازية اهلالل ّية تركت
زوجها من أجل قبيلتها وأنا تركت قبيلتي من أجلك أيهّ ا املجنون.
أي حلظة ،أنّنا يمكن أن نفرتق .أجل ،ما بيننا ّ
الشك ،يف ّ ومل يساورين
ّ
سأظل الصخر بأظفارنا ،لذلك
ليس لعبة قدر فقط ،ما بيننا نبشناه يف ّ
أكتب إليك يا فرخ احلرام حتّى نلتقي وتظ ّللنا توتة إبراهيم.
199
()9
ص ّباط ّ
الدزيري
4ديسمرب 2010
201
تأوهاهتا ،سرتشق سمعت ّ
ُ انتبهت إىل ّ
أن نسيمة فتحت نافذهتا،
أيضا يف صلعة صالح .مل تكن غاضبة ،عىل ما أعتقد، نظراهتا هي ً
فلو كانت كذلك لرصخت يف وجهه وأمطرته بكلامهتا الدّ اعرة
ّ
وتظل تكرب وتكرب إىل أن تبتلع النار ّية التي تنقذف ككرة من فمها
كل النّوافذ .نسيمة مثل منج ّية ،ال تعرف إالّ القصف املبتذل« ،أرض
ّ
أرض» كام يقول صالح.
حل ركب نعيمة ،سارت جّ
باتاه صالح يف فستاهنا بعد دقائق ّ
األخرض ذي اخلطوط احلمراء وحذائها األبيض..
-صباح اخلري يا وجه اخلري.
السعد.
-صباحك دقلة وحليب يا نعيمة ،يا وجه ّ
-كنت أنتظرك منذ أذان الفجر ،ملاذا ّ
تأخرت؟
-العربة يا نعيمة ،العربة يلزمها مال إلصالحها.
-سنصلحها يا صالح ،وسنصلح معها ّ
كل يشء.
إثر ذلك ذاب صالح مع نعيمة داخل الوكالة ،واستمعت إىل
مههامت نسيمة يف األثناء ،صالح سيقفز إىل ش ّقة نعيمة ليتناول
املالوي من يدها اللاّ هبة وستغطس عيناه يف صحن العسل وزيت
الصدر
املرة يف فتحة فستاهنا عند ّ
الزيتون .نعيمة ستضع صالح هذه ّ
ّ
ولن تسمح لنسيمة بركوب ظهرها وال ظهر صالح بطبيعة احلال.
ونزلت من الس ّلم اعرتضني صالح وهو ُ غادرت الش ّقة
ُ عندما
منهمك يف ترصيف األكياس البالسيك ّية املتع ّفنة عىل العربة ،وبني
202
ٍ
فينة وأخرى ينفض معطفه بعصب ّية ،وما إن ملحني حتّى استدار
نحوي:
تتحمل هذه األكوام.
ّ -واهلل عيب يا خويا سعد ،العربة لن
ستتغي األمور.
رّ الصرب ط ّيب يا صالح ،ومع الوقت
ّ -
تتحمل
ّ حتملت العربة اليوم فإنهّ ا لن
-صرب ماذا يا ط ّيب؟ إن ّ
غدً ا.
-فع ً
ال يا صالح ،ال بدّ أن يساهم اجلميع يف إصالح العربة ،وقد
نشرتي لك عربة أخرى .
-هكذا قالت نعيمة ،وأنت تعرف يا ط ّيب ..اليد وحدها ال
الزرزور.
تصطاد ّ
هت بعد ذلك إىل مقهى الشرّ ق ،يف العادة أرشب قهويت توج ُ
ّ
الصباح ّية هناك .يضع عم مخ ّيس قهوة الفيلرت أمامي ويناولني ّ
سيجارة الكريستال وهو يصيح كعادته« :حتّى الكريستال باش يوليّ
مرةأيضا يف موعد نادية ،مل هتاتفني ّ
ّرت ً
فال يف هالبالد الكلبة» .فك ُ
يتغي .قلت يف نفيس :األفضل أخرى ،وفهمت ّ
أن موعد احلفر مل رّ
أن أرشع يف احلفر حني ترتفع أصوات األغاين الركيكة يف الوكالة،
أيضا.فردارات تلك الوكالة ال ترى فحسب ،بل تسمع دبيب النّمل ً
يف هذا املقهى عرفت عم مخ ّيس ،نادل املقهى ،ال يتو ّقف صياحه
حيتج،
الزبائن ،وهو خياصم ،وهو ّ طوال اليوم ،وهو يل ّبي طلبات ّ
وهو يقود احتجاجات يف دماغه .ومع ذلك هو رجل ط ّيب وبشوش،
ويتلوى
ّ يكفي أن حتكي له «نكتة خرضاء» حتّى يسقط عىل األرض ّية
203
يمر من
ثم يغمزين و ّ
أحب األخرض ،يقول يل ّ
ّ بقهقهات ال تتو ّقف.
أمامي.
يف هذا املقهى عرفت هاجر ،ور ّبام تكون حكايتي معها مثل
جوهري بالتّأكيد ،وهو أنيّ مل ٍ
اختالف حكاية صالح مع نعيمة ،مع
ّ
ألي امرأة بأن تطرق عيني يف عيون نساء الوكالة ،ومل أسمح ّ
أرفع ّ
باب ش ّقتي .هاجر وحدها تفعل ذلك ،عندما أكون داخل الش ّقة
أن هاجر هي من تقف وأستمع إىل ثالث نقرات خفيفة أعرف ّ
خلف الباب ،كنت صامدً ا بالفعل أمام الس ّيل اجلارف ومل أسقط ومل
أخرس هاجر .يف تلك األ ّيام ،خرجت من سجن 9أفريل يف ظروف
أقل ما يمكن أن أقول عنها إنهّ ا شبيهة بظروف خروج كلب ملدوغ ّ
ومرتوك من جوف كهف ،كلب مرتوك للجوع والعطش والعراء.
ّ
لعل قدري هو الذي قادين إىل مقهى الشرّ ق ،كان يف ن ّيتي أن أسري من
ثم أعرف طريقي إىل باب عليوة ،ما كان باب اخلرضاء نحو هنج روما ّ
دينارا .أيقنت ساعتها أنيّ ال بدّ أن أعود إىل
بجيبي ال يتجاوز عرشين ً
ٍ
راحة ،وهي مصدر القرصين .فكّرت ،بل تأكّدت ّ
أن العاصمة مل تعد
َ
ال تصلح لكلب مثيل.
أمضيت مخس سنوات يف سجن « 9أفريل» بسبب محاقتي، ُ
أيضا
يدب عىل وجه األرض .كنت غب ًّيا ً وحيب أن ّ
ّ محاقة من حيلم
هتور أن أعثر عىل كنز عيل بابا الذي حتلم ومكشو ًفا ،خ ّط ُ
طت يف حلظة ّ
التاب ،كنز ال بداية له وال آخر،
الزمن الكلب يف رّأمرغ به ّ
به أ ّمي ،كنز ّ
يتبول
كنت ك ََم ْن ّ
ينتشلني من بؤيس ومن فشيل يف الدّ راسة .يف منّوبة ُ
الصحراء الغرب ّية ،الفشل والفشل وال يشء غري الفشل .وطب ًعا، يف ّ
204
الزائد عن اخليال س ّلمني إىل زنازين « 9أفريل» .كم سحقني جشعي ّ
غيين! وعىل أ ّية حال مل ُيفقدين مالحمي .انقطعت السجن وكم رّ ّ
صلتي بالعامل طيلة تلك السنوات ،وباخلصوص صلتي هبيلني.
دقيقة عرفنا فيها حالوة أن نكون م ًعا ،أنٍ ٍ
مرحلة انقطعت عنها يف
ُ
أدركت وأنا أغوص يف الوحل ُ احلب.
ّ نتاموج جسدً ا واحدً ا يف رسير
السنوات منج ّية
أنيّ خرست هيلني ،ببالهة ومحق .زارتني يف تلك ّ
مرة تشنّع السنة ،وكانت يف ّ
كل ّ مرة يف ّ
مرات ،بمعدّ ل ّ رفقة نور مخس ّ
يب وهي تس ّلمني ق ّفة األكل .كانت ال ضاحكة وال وامجة ،تعانقني
ثم ترحل من أمامي باكية ،متا ًما كام تبكي نور .مل أحظ بالعفو .متتّع ّ
أن من يتمتّع بالعفو البه غريي ووضعوين أنا يف درج ،وكنّا نعرف ّ
السنوات املظلمةبدّ أن ينحني أو يدفع .وما خ ّفف عنّي عبء تلك ّ
ليل هنارالسجن .كان ال يتو ّقف َ هي ضحكات صديقي مروان يف ّ
يغتم إطال ًقا ،ال
عن رسد نكته اخلرضاء التي ال تنتهي .مروان ال ّ
الشيكات ،مل أصدّ ق وهو يكرتث باحلكم الذي صدر ضدّ ه بسبب ّ
ثم يلتفت خيربين ،حكم عليه بـ 130سنة سجنًا .يقهقه وال يكرتث ّ
الرقعة ،وأنا ،بنتالزق يف ّ إ ّيل ولعابه سائل« :العرس ما خيليّ كان ّ
الكلب خلاّ تني يف احلفرة» .ويف بعض ال ّليايل كان يقطع الصمت يف
كلعال حتّى يسمعه اجلميع« :أيهّ ا األوباشّ ، مقهقها بصوت ٍ ً العنرب
أحكامكم ال تصل إىل املدّ ة التي سأقضيها هنا ،أيهّ ا املالعني ارقصوا
وغنّوا ،واحلموا ..أيهّ ا األوباش ،عليكم ال ّلعنة مجيعا».
املحملة
ّ ما حدث بعد ذلك أنيّ رأيت هاجر وراء عربتها
قضيتهام يف دكّان الفحم املالصق للمقهى.
بالغالل ،رأيتها بعد ليلتني ّ
205
عم مخ ّيس مل يشأ أن أنام مع القطط ،أعطاين مفتاح الدكّان ،وقال
يل« :تد ّبر أمرك قبل أن يسمع املع ّلم» .وقبل أن يسمع املع ّلم علمت
هاجر بوضع ّيتي التي تصعب عىل الكافر .وأنا ،املحروم من ّ
كل
عيني يف عينيها وهي جتلس وراء عربتها .وأعتقد ّ
أن رت ّ سم ُ
يشءّ ،
عم مخ ّيس حدّ ثها عنّي ،أنا ال ّ
أشك يف ذلك ،كانت متدّ ساقيها أمامها ّ
لت شعري ٍ
كجرو ووقفت قبالتها .تأ ّم ْ قفزت نحوها
ُ عندما نادتني،
ثم قالت« :انتظرين يف املقهى ،سأعطيك
رب ّ
األشعث ووجهي املغ ّ
مفتاح ش ّقة املرحوم» .قالت ذلك ّ
ثم أمهلتني وانشغلت بامرأة تسأل
حتجر عن سعر الت ّفاح ،ورسعان ما رّ
غيت املرأة رأهيا واقتنت املوزّ .
أجترأ من جديد عىل التط ّلع إىل
لساين يف فمي وعدت إىل جلستي ،مل ّ
صدر هاجر املنتصب وال إىل خرصها .عيب ،قلت لدماغي .اكتفيت
الشجار الذي نشب بني بائعني يف ٍ
خاطف نحو ّ ٍ
بشكل هبز رأيس
ّ
يسمون ذاك النّهج «ص ّباط رأس النّهج ،وعرفت يف ما بعد ّ
أن النّاس ّ
الدّ زيري».
أحب هاجر بعد ّ
كل الذي فعلته معي؟ اكرتت يل ّ كيف ال
رمزي ش ّق َة زوجها ،كان يسكن هناك قبل أن ّ
يتزوج هاجر، ّ بمعلوم
ومل تشأ هي أن تس ّلمها ألحد .حتّى بعد موت زوجها ظ ّلت تلك
الش ّقة مغلقة ،كأنهّ ا كانت قدري .قالت هاجر وهي تفتح باب الش ّقة
عيني من فوق ّ
مؤخرهتا الضخمة: أمامي ،وأنا أجاهد لكي أستعيد ّ
عم مخيس أعلمني باسمك.
-ادفع متى تريد يا سعيدّ ،
-سعد.
206
هتفت وراءها وكدت أسقط عندما تع ّثرت قدمي اليمنى يف ُ
فتح ْت
الصالون .قادتني هاجر بعد ذلك إىل غرفة النّومَ ، زرب ّية ّ
الصغري و أشارت
ثم سارت نحو املطبخ ّنافذهتا املط ّلة عىل النّهجّ ،
بيدها إىل بيت االستحامم:
-أ ّما الدّ وش فسأصلحه خالل يومني.
ال يمكن أن أنسى تلك األ ّيام التي كنت فيها طريح الفراش،
أوشكت عىل املوت فعلاً ،وأنقذتني هاجرُ .أصبت بنزلة برد حا ّدة،
للشفاء .ازدادت واعتقدت أنهّ ا عابرة مثل العادة ،قارورة نبيذ تكفي ّ
حالتي تعك ًّرا أ ّيامها ،كنت أسعل بشكل خميف ،وطب ًعا هنش القلق
ثم استقدمت دستني يف حضنها ّ الشاحبّ ، هاجر وهي تعاين وجهي ّ
طبي ًبا يقطن قري ًبا من «ص ّباط الدّ زيري» ،واشرتت يل الدّ واء ورعتني
متا ًما كام ترعى بلقيس .وعندما ُشفيت ،يف ذلك اليوم الذي ال يطمر يف
رأيس ،زاغت عينا هاجر قبالتي ،ور ّبام حاولت ساعتها أن هترب ،أن
ارتبكت أنا بالفعل ،انكمشت أجفاين وأحسست ُ تذوب من أمامي.
تعرقت وأنا أداعب بنظرايت بذاك اخلدر الذي صاغني كتلة سابحةّ .
املكحلتني ،وأضع يدي عىل خرصها .خفقت بعنف وأنا أد ّقق ّ عينيها
يف شفتيها احلمراوين .شفتاها مستسلمتان ،يستح ّثانني عىل العناق،
مدوية يف رأسأيضا كانت ّ الصمود أمام الت ّيار .العاصفة ً
وأنا أحاول ّ
الراية البيضاء .أحسست هبا هاجر ،أغمضت عينيها متا ًما ورفعت ّ
تذوب أمام أنفايس احلارقة ،أنفاس اجلوع واحلرمان .فأغمضت
الرغبة إىل شظايا تتخاتل أمام عيوننا املخدّ رة .كنّا عيني وانفجرت ّّ
ثم نرتاخى ،ويف حلظة جمنونة، نتجمد ّ
ّ ثم نقتحم، ننتفض ،نحذر ّ
207
وقفنا يف عناق مكبوت .وأعتقد أنّنا بكينا يف ذلك العناق وتب ّللنا.
ثمة أشياء ال يمكن أن تصفها ال ّلغة وال أن تفسرّ ها أقوى النّظر ّيات،
ّ
احلب بسبب ذلك مسألة غامضة ،ور ّبام حيتاج العامل إىل ّ وسيبقى
السنوات لفهم تلك املسألة.ماليني ّ
اجلوال ،إنهّ ا نادية: ّ
رن هاتفي ّ
-نحن بانتظارك عزيزي.
وجدت اجلامعة عىل اهليئة التي تركتهم عليها، ُ يف الش ّقة ّ
السفىل
يطوفون حول احلفرة .نادية شبه عارية بطبيعة احلال ،تطوف برافعة
صدرها البيضاء وكلسوهنا األمحر .العرق يتص ّبب عىل جبينها،
الشيخ تطوف بال وعي وسط عاصفة التّعاويذ .بعد ذلك انحنى ّ
بسطها مرزوق واهنمك يف متابعة اخلطوط املتشابكة عىل اخلريطةَ ،
عىل األرض ّية وغمس فيها عينيه ،ن ّطت نظراته يف خطوط ال ّطول
ثم وضع إهبام يده اليمني عىل نقطة سوداء وقال ملتفتًا إ ّيل:والعرض ّ
تقل عن ٍ
مسافة لن ّ -سيكون من الضرّ وري يا أخانا أن حتفر عىل
ثالثة أمتار ،وبعد ذلك سنتابع ما سيستجدّ .
أضافت نادية:
قوة عضالت وإالّ
حل ْفر ليس ّ -طب ًعا أنت تعرف يا سعد ّ
أن ا َ
كنت استعنت برجل من أتباعنا ..أنت تعرف بالتّأكيد كيفُ
تخُ رج ّ
الشعرة من العجينة.
جاء ّ
الشيخ مرزوق بأدوات احلفر ووضعها بالقرب من احلفرة،
ثم قال:
تفحص وجهي ّ
ّ
208
-ناولوين احلروز يا أهل اخلري.
حبست أنفايس:
-لألسف يا شيخ ،ماذا أقول؟ احلرز ضاع منّي يف حلظة سهو.
ثم قال:
رازين بعينني خاملتني ّ
-ال بأس ،سنكتفي بثالثة.
بالرماد
ثم رمى ّ
مجع احلروز الثالثة وأحرقها يف إناء من النّحاس ّ
وسط احلفرة وهتف بنا:
-بإمكاننا اآلن أن نرشع يف عمل ّية احلفر.
َت َع ْن« ولمََّا َسك َ ثم قرأَ : الشيخ إسامعيل آيات إحراق اجل ّن ّ تال ّ
اح َوفيِ ن ُْس َختِ َها ُهدً ى َو َرحمْ َ ٌة لِ َّل ِذي َن ُه ْم
ب َأ َخ َذ الأْ َ ْل َو َوسى ا ْل َغ َض ُ ُم َ
ثم أخرج موسى من ط ّيات ثيابه ووقف أمام ون »ّ .
َ (((
لِ َربهِّ ِ ْم َي ْر َه ُب
ثم بنرص يدها اليرسى ،وجعل نادية ،جرح خنرص يدها اليمنىّ ،
جتمعت بقعة محراء ص ّبها يف كأس الدم يتقاطر عىل إناء النّحاس حتّى ّ
السوداء يف اخلريطة. صغري وأبقى ذلك الكأس فوق النّقطة ّ
عت من قارورة ماء جلبتها معي، وجتر ُ
نزعت معطفي يف األثناء ّ ُ
الرائحة العفنة التي عكّرت مزاجي رسي ألنّه أزال ّ
شكرت صالح يف ّ
أيضا برائحة البخور ،نادية ال تتو ّقف عن
انتعشت ً
ُ السابقة.
املرة ّ
يف ّ
اقتلعت ّأولاً قطع اجلليز عىل مسافة
ُ ال ّطواف باملبخرة النحاس ّية.
كل قطعة إىل ّ
الشيخ مرزوق لرتصيفها ،أ ّما مرت مر ّبع ،وكنت أس ّلم ّ
209
ً
ومرتعشا كدرويش ظل يتمتم مغمض العينني الشيخ إسامعيل فقد ّّ
مقرور .محدت اهلل ّ
أن القرشة اإلسمنت ّية حتت اجلليز مل تكن سميكة،
الشيخ مرزوق سطل ماء فأمكن يل ّ
بكل يرس أن أزحيها من رش عليها ّ ّ
رخوا ،بال أحجار ،ومل تكن يب حاجة نت كان ً مخ ُ
التاب ،كام ّ أمامي .رّ
متأكّدة إىل املعول ،ويف هذه احلالة لن يكون األمر ُم َط ْم ِئنًاّ ،
أفضل
التبة ما أمكن. التاب واحلجر ،لتجنّب انزالق رّ أن أجد خلي ًطا من رّ
السطل
التاب وأضعه يف ّ طفقت أغرف رّ ُ ومهام يكن من أمر ،فقد
الشيخ مرزوق من يدي وهو يتمتم يف شبه غيبوبة .وبعد ثم يتناوله ّ ّ
رتين ،ال أخفي أنيّ خفت يف تلك ِ
وصلت إىل عمق م َُ ساعة تقري ًبا
التبة من األجناب، ال ّلحظات -وأنا خبري باألمور -من انزالق رّ
فإن األمر سيكون وقلت يف نفيس« :إن جتاوز العمق ثالثة أمتار ّ
التاب» ..طلبت من نادية أن تبحث يل خطريا ح ًّقا وسأردم حتت رًّ
عن حبل ،أشعلت سيجارة داخل احلفرة ،كنت متوت ًّرا ح ًّقا ،سمعت
الشيخ إسامعيل برأسه يرن فازدادت أنفايس تعك ًّراّ .
أطل ّ هاتفي ّ
ورش قطرات الد ّم داخل احلفرة ،فعل ذلك مغمض العينني .رأيت ّ
يف خيايل منج ّية تنتصب فوق احلفرة مق ّطبة وهي تصيح« :ستموت
التاب، شددت احلبل عىل حزامي واستأنفت رفع رّ
ُ يا فرخ احلرام».
حتسست قدمي اليرسى شي ًئا صل ًبا.إضايف ّ
ّ بعد عمق نصف مرت
التاب من جهة قدمي اليرسى ،أنزلت نادية املبخرة يف جوف غرفت رّ
السطل الشيخ مرزوق عىل رفع ّاحلفرة .ويف حلظة خاطفة وأنا أساعد ّ
رأيت عينيها وهندهيا .املشهد اجلهنّمي كان يف األعىل ،وكنت أنتظر
بني حلظة وأخرى أن تسقط جهنّم عىل رأيس.
210
ما ال أنساه يف ذلك اليوم أنيّ نجوت بأعجوبة ،كنت سأردم
قادرا عىل انتشايل ،وكنت سأموت التاب وال أحد كان ً بالفعل حتت رّ
يتجرؤوا عىل إخبار أحد، ّ هناك ككلب .طب ًعا ،هؤالء األوغاد لن
حتولت يف سأنتن هناك ويعيدون املحاولة مع غريي .ونادية ،التي ّ
دماغي إىل آلة جهنّم ،ستبصق عىل خلقتي وتقول« :هذا البائس ال
يصلح ليشء» .يف حلظات ذلك الكابوس الذي لن يفارق ذاكريت،
ثم أخرج الصدئ ّ الصندوق ّ حتولت إىل نملة وأنا أربط ّ
أحسست أنيّ ّ
الصندوقمن احلفرة مصعو ًقا .يف تلك ال ّلحظات ونحن نرفع ّ
ثم اتّسعت احلفرة الصالة ّالتبة يف األسفل وار ّجتت أرض ّية ّ
انزلقت رّ
وهتاوت قطع اجلليز داخلها .ارتعبنا ونحن نرتاجع إىل اخللف،
التاب يف الصندوق كان بحوزيت ،يف قبضتي ،وحني تو ّقف هيجان رّ ّ
األسفل انفرجت أساريرنا ،كنّا ح ًّقا نخشى أن حيدث األسوأ.
تشوشت نظراهتا وهي تفتحه الصندوقّ ، نادية هي من فتحت ّ
أخرج ْت
َ أن أصابعها طويلة.أمامنا ،اكتشفت يف تلك اآلونة املجنونة ّ
ثم ثالثة ،بعد ذلك الصندوق سبيكة ذهب ،ثم سبيكة ثانيةّ ، من ّ
أخرجت املجوهرات ،قالئد وخواتم وأقراط وأساور ،طقم كامل،
نت أنّه ال يمكن إلاّ أن يكون طقم أمرية أو زوجة تاجر ّ
ثري .يف مخ ُ
ّ
احلقيقة ،مل يسبق يل أن رأيت مثل تلك املجوهرات .وحدست ،وأنا
سموا تونس الرومان ّية .عندما ّ
اخلبري بالكنوز ،أنهّ ا تعود إىل الفرتة ّ
مطمورة روما مل خيطئوا ،ويف هذه املطمورة دفنوا كنوزهم ،كأنهّ م،
هكذا اعتقدوا ،سيمتلكوهنا إىل األبد ،والقاعدة تقول« :من ينهب
أيضا.
الشهيدة هنبتُهم ً ُينهب وإن طالت األ ّيام» ،وأنا ،ابن املطمورة ّ
211
ثم أمسكت باملجوهرات وق ّلبت سبائك ب ّللت ريقي بجرعات ماء ّ
رسي .ومثلامالذهب ،األبالسة ،كيف كانوا يعجنوهنا؟ ،سألت يف ّ ّ
كان االتّفاق مع نادية ،تس ّلمت ثلث الكنز ،يا أوالد الكلب ،كادت
احلفرة تبتلعني ولن أتنازل عن ح ّقي ،هلجت يف داخيل وأنا ّ
أفتك
الشيخ مرزوق ابتزازي ،كان يرمق قالدة صغرية يف رزقي .حاول ّ
ثم وضعت كنزي يف كيس يدي كثعلب ،ق ّطبت جبيني وأنا أصدّ ه ّ
أسود وصعدت إىل ش ّقتي .كنت أصعد درجات الس ّلم اله ًثا وأمسح
الس ّلم يف تلك اآلونة كان قطرات العرق من جبيني ،ومن الغرابة ّ
أن ّ
الرادارات ك ّلها كانت غارقة يف النوم.
أن ّخال ًيا .يبدو ّ
خرجت من بيت االستحامم انتبهت إىل رنني اهلاتف ،كانت ُ حني
ووضعت
ُ وتلح يف ال ّطلب .مل أضغط عىل ّ
الزر األخرض، هاجر تطلبني ّ
ثم حرشت فيها اجلرائد التي جل يف حمفظتي اجللد ّية ّ كنزي عىل َع ٍ
كانت مبعثرة أمامي ،ارتديت مالبيس بعد ذلك وخرجت .انتصبت
كل يشء يفتفحصتني بارتياب ،آملتني نظراهتا ،وتكدّ ر ّ
أمامي هاجرّ ،
باطني ،سألتني دون أن تنظر إىل وجهي:
الشقراء يف الش ّقة
-ما األمر يا سعد؟ وما حكايتك مع املرأة ّ
السفىل؟
ّ
ألربح الوقت ،قلت بنربة صارمة:
-ليس اآلن يا هاجر ،سنتحدّ ث ليالً.
ومتنمرة.
ّ أدارت يل ظهرها وأغلقت باب ش ّقتها ،كانت غاضبة
ْ
نت
مخ ُ
املرأة حينام تأكلها الغرية تصبح أغبى الكائنات عىل األرضّ .
212
للسقوط ،تنتظر أنهّ ا ر ّبام كانت تراقبني ،وهي اآلن مثل حائط آيل ّ
بصقت عىل خلقة نادية ورست ُ الشقراء.منّي تفاصيل حكايتي مع ّ
نحو ساحة برشلونة ،ال بدّ أن أعثر عىل صديقي اإليطا ّيل سيلفانو،
قلت يف نفيس ،ال يمكن إطال ًقا أن يبيت معي الكنز يف الوكالة .يف
مثل هذه احلاالت ال أكون ُمطمئنًّا ،هيامجني النّمل ويلدغني .عندما
فتحت املحفظة أمام سيلفانو وعرضت عليه كنزي اندهش وهو
الذهب:يمسك بسبيكة ّ
c’est magnifiqua(1) -
213
أيضا قارورة معتّقة.
أحب ً
-أنا جائع يا صالحّ ،
وثمة من يسأل -أنت تعرف ّ
أن هذه الفرتة هي فرتة امتحاناتّ ..
عنك.
-ليس اآلن يا صالح ،أنا منشغل ح ًّقا ،ور ّبام أعود إىل الدّ روس
اخلصوص ّية يف جانفي ..أنت س ّيد العارفني بأزمة جانفي
و«ميزيريا» جانفي.
باكرا إىل ش ّقتي ،أدركت آخر كان من الضرّ وري أن أعود ً
بحثت
ُ قميصا نسائ ًّيا عىل مقاس هاجر.
ً املحلاّ ت املفتوحة واقتنيت
ألح
تغي هاجر عطرهاّ ، أيضا عن قارورة عطر باريس ّية ،ال بدّ أن رّ ً
عيل رأيس .عطر نساء الوكالة ،وهذا غريب ،كالعطر الذي ُي َر ُّش عىل ّ
املوتى.
أجهدت نفيس وأنا أروي هلاجر حكاية املرأة ّ
الشقراء والقاعة
اشتمت
ّ السفىل ،مل ترتكني إلاّ بعد أن جرجرتني إىل ّ
كل التّفاصيل، ّ
ثم قالت:
وتفحصت عنقي وصدري وراقبت مالبيس ّ ّ أيضا
رائحتي ً
-ال أصدّ ق أنّك مل تلمس تلك األفعى.
قلت هلا وأنا ُأهني وضع حزم الدّ والرات يف كيس أسود:
-احتفظي هبذا الكيس ،تعرفني أنيّ ال يمكن أن أحتفظ به.
ثم
ّقربت هاجر الكيس إىل صدرها وانطلقت منها تنهيدة ّ
راحت تتأ ّمل القميص وقارورة العطر:
أن تلك الش ّقة «برديل» جديد يف
أهتور ،اعتقدت ّ
-كدت ّ
214
الوكالة .ويف آخر حلظة تراجعت عن إعالم الشرّ طة ،ال
أدري ،خفت يا سعد أن جترجرك تلك األفعى معها و...
البارييس يف ُعنقها:
ّ أتشمم رائحة العطر
قاطعتُها وأنا ّ
-كنت أعرف أنّك جمنونة.
رضوسا عىل
ً مل ترتكني هاجر إلاّ بعد أن خاضت معي حر ًبا
السرّ ير .كانت مهتاج ًة ومغتلمة ،تغرف زفراهتا من قاع بئر ،وأنا كنت
أن هاجر يف منتهى االشتعال بالفعل .نادية مل تتلف عقلها أعرف ّ
رشت عىل رأسها البنزين وأشعلته .كانت معي هنمة فحسب ،بل ّ
متوحشة وسط صحراء، ّ ورشسة ،إنّه اجلوع الكافر ،اجلوع يف رحلة
الرمل
الصحراء غريي وغريها .ظللنا نصخب عىل ّ وال أحد يف ّ
ونتلوى ونتكسرّ وننسى ونصعد ونطوف العامل ،ويف تلك ال ّلحظات ّ
تعرى العامل واغتسل معنا ،مثلام اغتسلنا ،عىل مهل وبمنتهى اجلنون.ّ
هتم بمغادرة الش ّقة:
هتفت هاجر وهي ّ
سيتزوج
ّ -أنت مل تسمع باجلديد يف الوكالة يا سعد ..صالح
واحلق أنيّ من أنصار
ّ نعيمة ،واحلرب ستبدأ بني نعيمة ونسيمة.
أيضا مفتاح املخزن واشرتت له نعيمة يا سعد ،نعيمة أعطته ً
بذلة جديدة .وأنت؟ من أنصار من يا سعد؟
الريح برائحة القرصين،
حني استلقيت عىل السرّ ير جاءت ّ
كانت تنفخ يف النّافذة ،رمتني ّأولاً يف وادي الدّ رب ،حتت توتة
إبراهيم ،استلقيت هناك وحضنت أيب .حضنته ّ
بكل هلفتي وجوعي
وتشممت رائحة
ّ بت أنفي إىل فمه
ثم ّقر ُ
ست جبينه ّ حتس ُوعطيشّ ،
215
يكف عن
ّ الدّ خان ،انتفضت بني أحضانه وتب ّللت بالعرق الذي ال
ثم جريت نحو سكّة احلديد.التص ّبب من جبينه ّ
منذ أن تع ّطبت عربات القطار القديم صارت مال ًذا ّ
لكل محاقاتنا
احلر
ليل هنار ،نختفي هناك من ّ نعشش فيها َ الصغريةّ ، وجرائمنا ّ
كل يشء صدئ ومتع ّفن، والقر ونخ ّطط ملغامراتنا .يف تلك العربات ّ
ّ
علب برية ورسدينة وهريسة ،قوارير ،أعقاب سجائر ،أعقاب
متجمدة ومنقلبة عىل ظهرها ،خنافس ّ لفائف حشيش ،خنافس
ثم تقفز
تتحرك بني أرجلنا يف حالة سكر ،هتمد القطط أمامنا ّ أخرى ّ
لتلتقط البقايا وتقتنص الفئران ،هلاث يف الدّ اخل ،وحرشجات حتت
العربات .املرأة ال ّثانية التي عرفتها بعد سعد ّية قابلتها يف إحدى
عراها أمامي العربات ،جاء هبا بلقاسم احلنش من ماخور املدينةّ ،
قادرا عىل فتح فمه«جرب ح ّظك» .طب ًعا ال أحد منّا كان ً وصاح يبّ :
حيرك جيشه بإشارات كل عصابات املدينةّ ، أمام احلنش ،كان يقود ّ
الصفعات النّار ّية والضرّ بات الرجل الشرّ س صاحب ّ صارمةّ ،
كل العصابات لكي ال حتدث ينسق بني ّ ال ّلولب ّية ،ذاك هو احلنش .هو ّ
حي له مجاعته يا أوباش»، «كل ّفوىض يف عمل ّيات اخللع والسرّ قةّ .
أجرب السرّ قة ،فقط يصيح يف الوجوه النّاعسة ويو ّبخها .طب ًعا أنا مل ّ
واملتهور .هو
ّ أحب املكوث بالقرب من بلقاسم ،الكائن ّ
الفظ ّ كنت
ال يعنّفني مثلام يعنّف اآلخرين ،وحني جتحظ عيناه أفهم أنيّ ال بدّ أن
أجرب ح ّظي، أطيعه .تن ّطعت نظراته يف خلقتي وهو حي ّثني عىل أن ّ
املرأة كانت ترتعش حتتي ،وكنت مثلها أرتعش ،ومل يرتكني بلقاسم
إلاّ بعد أن هلثت وتص ّبب جبيني عر ًقا ،وكذلك فعل اآلخرون .ما
216
أذكره أنيّ بعد ذلك نزلت من العربة وطفقت أجري ،خنقتني دموع
تتعرى ،وهي تنحني ،وهي تفتح ساقيها يف وضع ّية ّ
ذل، املرأة وهي ّ
وهي تشبك يدهيا عىل صدرها وتئ ّن .كنت أركض يف ال ّطريق ألنسى
دموع املرأة ،أركض وتتبعني الكالب وتطاردين ،أركض اله ًثا ّ
ثم
أقف وألتقط احلجر وأرشق الكالب.
وصلت إىل بوزقام ،ثالثة كيلومرتات وأنا أجرى بال وعي،
جلست بالقرب من حديقة ،أعتقد أنهّ ا حديثة العهد ،النّظام أحيانًا ُ
أشعلت سيجارةُ ال يعرف ماذا يفعل فينشئ حديقة يف اخلالء.
ثم رأيتها تقرتب واستلقيت .كانت النّجوم فوق رأيس بعيدة ،مل َأرهاّ ،
أشعلت
ُ الصداع إىل رأيس، وتقرتب وتكاد هتجم عىل رأيس .عاد ّ
بصقت، ُ سيجار ًة ثانية من العقب فانبعثت رائحة كرهية يف فمي،
أحسست بالعطش ،ال يشء غري ال ّظالم .بعد دقائق ،تو ّقفت س ّيارة
املحرك وانطفأت األضواء ،ملحت رجلاً ّ يف اجلهة املقابلة ،تو ّقف
وامرأة بالدّ اخل ،جاءت ّسيارة ثانية وركنت بجانبها ،وجاءت ثالثة
الصمت ،مجع أحدهم ثم رابعة .نزل اجلميع من س ّياراهتم والتزموا ّ ّ
ثم ألقاها عىل األرض .أرسعت حركها بني ك ّفيه ّ
حزم املفاتيحّ ،
ثم امتطت س ّيارة كل واحدة حزمة مفاتيح ّ النّساء ،انحنني والتقطت ّ
املحركات تشخر ،اشتعلت ّ احلظ .حبست أنفايس وأنا أستمع إىل ّ
األضواء ورسعان ما ذابت الس ّيارات من أمامي .بعد ثالث ساعات
السيارات ،وتبادلت النّساء مواقعه ّن ،فهمت
أو ر ّبام أكثر عادت ّ
أنهّ ّن ُعدن إىل أزواجه ّن .أذهلني ما رأيت ،وبصقت خلف الس ّيارت
التي غادرت عىل عجل .هذه دعارة األغنياء ،قلت يف نفيس .يف
217
الواجهة األمام ّية هم رشفاء املدينة ،ويف القفا هم أقذر خلق اهلل.
شك ،هي عىلوتلك املرأة التي مل أعرف اسمها أرشف منهم دون ّ
األقل واضحة ،ال تراوغ ،وليست هلا حزمة مفاتيح ،هلا أكوام حلم ّ
جائعة ،اجلوع كافر .وهؤالء ،أثرياء املدينة ولصوصها هم أسباب
خراب ّ
كل يشء.
218
كل ما حدث.شي ًئا ،وال يمكن بالفعل أن أفكّر يف اجلنس معها بعد ّ
ثم مضيت ،هكذا ،دون تفسري اسمها ربيعة ،س ّلمتها مبل ًغا من املال ّ
كذبت ،ويف آخر األمر صدّ قت. ثم ّ
أو تربير .اندهشت هي ،صدّ قت ّ
وظللت أرشب حتّى غبت.
ُ السالم،
بعد ذلك ذهبت إىل بار ّ
يف تلك األ ّيام ،كنت أستعدّ إلجراءات امتحان الباكالوريا،
وطب ًعا مل يكن يل مزاج ألراجع الدّ روس .يف أوقات متباعدة أحرض
أسجلّ يف قاعات املعهد الفنّي ،مثلام حيرض أغلبنا ،تالميذ الباك،
ثم أركلها عندما أخرج .فكّرت يف أن أراجع برتكيز، بعض الدّ روس ّ
قلت يف نفيس« :يا سعد ،ال بدّ من التّعب لكي تنجح ومن يدري؟».
وقررت أن أنجح كام ينجح أبناء األغنياء. ويف األثناء وجدت ّ
احللّ ،
كنّا نعلم كيف حتصل األمور ،وأنا كنت أعرف ّ
كل التّفاصيل .يف أ ّيام
تتوزع تلك الرس ّية ،يف حميط املعهد ّ
االمتحان تنشط مقاوالت الباك ّ
كل املوا ّد ،وأنا تلميذ اآلداب اخرتت موا ّدي التي املقاوالت ،ويف ّ
السوداء .عقدت صفقة مثلام يعقدها أبناء األغنياء، أعتربها دوابيّ ّ
الصفقة ،بأموال األغنياء فعلت ما يفعله بعت واشرتيت وأبرمت ّ
األغنياء .األمر مل يكن عىل غاية من التّعقيد ،كان يكفي أن أكون
هادئًا وجامدً ا .حني أتس ّلم ورقة االمتحان ،أمسك بطني وأتظاهر
بحالة تق ّيؤ ،يرسع يب اجلميع إىل «التّواليت» ،و«التّواليت» ال يقرهبا
والرعاع .كانت عفنة وقذرة مثل قذارة أ ّيامنا. غرينا ،نحن الفقراء ّ
كنت أضع ورقة االمتحان حتت احلوض املتّفق عليه وأعود إىل
الذهن ألتظاهر بالتّفكري والتّحرير .ويف تلك الدّ قائق القاعة خايل ّ
متر بتباطؤ غريب أفرك جبيني وال أنشغل إلاّ بكهوف وادي التي ّ
219
الصور وتسحبني من القاعة متا ًما. عيل ّ
الدّ رب وتوتة إبراهيم ،تنثال ّ
وقبل ساعة من انتهاء االمتحان ،أعيد املرسح ّية نفسها وأعود إىل
ذلك اجلحر حتت احلوض ،أفتح أزرار قمييص األسود وأضع ورقة
التكيز، التّحرير اجلاهزة وأميض .األمر ال حيتاج إلاّ إىل كثري من رّ
ال ترتعش أصابعي بالتّأكيد ،أحبس أنفايس ،هبدوء وبأعصاب من
حديد أسحب ورقة االمتحان وأضعها عىل ال ّطاولة ،وهكذا متّت
األمور طيلة أ ّيام االمتحان .يوم اإلعالن عن النّتائج كان من الغريب
هيم كيف نجحت ،رأيت دهشة اجلميع وهم أن يصادفوا اسمي ،ال ّ
يمرون باسمي ضمن النّاجحني .منج ّية ز ّمت شفتيها وصاحت يف ّ
ّ
اكتظ منزلنا باملهنّئني وجهي« :ال أصدّ قك يا فرخ احلرام» ،وحينام
احلي.
صدّ قت منج ّية وولولت زغاريدها يف ّ
هل أنا رجل خطر؟ هل أنا عىل درجة كبرية من الغموض؟
خزان مغامرايت ،مل أشأ أن
ذلك ما قالته يل هيلني وأنا أفرغ أمامها ّ
مرش ًفا ،ومع ذلك
أخفي عنها شي ًئا .مل يكن تارخيي بطبيعة احلال ّ
كنت تلقائ ًّيا مع هيلني .هتاوت عىل املقعد بعد أن استمعت إىل بعض
كل ذلك ،كيف؟ األمر محاقايت« .أنا ال أصدّ ق ،كيف يمكن أن حيدث ّ
شبيه بخيال غريب ،بل هو كابوس» ،قالت هيلني باندهاش .مل أفرغ
اخلزان ،خشيت أن ينتاهبا الغثيان فتهرب منّي .أجل، أمامها كامل ّ
فعلت ،لكنّي
ُ أحس بفداحة ما متمردّ ،
بكل جرأة أنيّ رجل ّ أعرتف ّ
لست جمر ًما عىل أ ّية حال ،ولست س ّي ًئا ،ذاك تارخيي ،وتلك ذاكريت.
وتطهرت فعلاً أمامها،
ّ التطهر،
ّ حينام اعرتفت هليلني كنت أراهن عىل
الراحة التي كنت أفتقدها.
وأحسست بتلك ّ
220
عيل أن أنام ،وقبل ذلك فتحت ّ
ومكتظ كان ّ بعد يوم عاصف
احلاسوب ،هو حاسوب هيلني يف األصل ،قالت يل« :أعرف أنّك
كسول ،لن تفكّر يف اشرتاء يشء ،وهذا احلاسوب سيذكّرك يب»..
واألهم أنهّ ا
ّ أن هيلني ال تتك ّلم ً
كثريا لكنّها تفكّر بعمق، أعرتف ّ
تقتنص ال ّلحظة ،متسكها من رأسها وتأكلها بأسناهنا..
تغيت
وجدت ثالث رسائل من هيلني .يف األ ّيام األخرية ،رّ
كثريا ،تكتب يل باستمرار وتُطلعني عىل يوم ّياهتا« .ال بدّ أن تكون
ً
كل التّفاصيل» ،هكذاأجرك من أنفك إىل ّ معي يا سعد ،ال بدّ أن ّ
الرسالة األخرية وقرأت:
تقول ..فتحت ّ
«حبيبي،
سنلتقي قري ًبا يا سعد ،وستكون سفرتنا ،أنا والرا عىل ال ّطائرة،
أنت تعرف أنيّ ال أرتاح للباخرة يف ّ
الشتاء ..انتظرنا يا سعد يف املطار،
حجزنا ليوم 10ديسمرب .وال أعتقد حبيبي أنّك ستنسى عيد ميالد
بكل تأكيد ،ال أظنّك ستنسى تاريخ مولد الرا يوم 15ديسمربّ ،
عزيزتنا».
الرسالة ال ّثانية أرسلتها
ماذا حدث يل وأنا أقرأ رسالة هيلني؟ ّ
موجهة إ ّيل يف األصل ،هيالرسالة األخرية نفسه ،مل تكن ّ
يف توقيت ّ
رسالة إىل الرا ،كيف أخطأت هيلني؟ هل أضحت حياتنا الغريبة
الرسالة ويف رأيس صخب العامل:حمكومة باألزرار؟ قرأت ّ
«عزيزيت الرا،
ّ
سيتهشم كيف يمكن أن أكتب لك وأرتّب كلاميت؟ يف احلقيقة،
221
كل ما يف باطني إن مل أتك ّلم وأعرتف .قلبي ،قلبي يا حبيبتي وأنا
ّ
هائجا .سألت نفيس بحرية« :إىل متى سأخفي عنك ً أكتب يقفز
احلقيقة؟ إىل متى؟»..
عذبني« :من السؤال نفسه الذي ّمنذ كنت طفلة وأنت تسألينني ّ
هو أيب؟ أين أيب يا أ ّمي؟» تسألينني وتنشجني يف حضني ..ويف ّ
كل
مرة كنت أهرب ،وكنت أكذب ،هل تذكرين؟ كنت أمسك ذقنك ّ
كنت أعلم ،كنت يف داخلك ثم أهديك لعب ًة لتنيس األمرُ . وأبتسم ّ
تتألمّني ،تضحكني يا عزيزيت وأنت تتألمّني .هل أنا مذنبة ،هل أنا قاسية
عيني يف عينيك
ّ إىل هذا احلدّ ؟ ال أعرف ،ال أعرف ..اآلن سأرفع
تعودت وأحضنك وأبكي ونبكي م ًعا وأنا وأمسح عىل شعرك كام ّ
أخربك .أجل ،إحساسك مل يكن كاذ ًبا يا حبيبتي ،سعد هو بالفعل
والدك».
222
()10
الرا
223
كثريا بحضن أيب ،أحيانًا أصل إىل حالة جنون وصخب حلمت ً
ُ
ٍ
أحب ،بشعر أسود وأنف نحيف وفم وهتور ،أرسم مالمح أيب كام
ّ ّ
ثم أرشع يف وضع األلوان .يف ٍ
رصاص ّ واسع ..أرسم وجه أيب بقل ٍم
التكيز والعناية بالوجه الذي ابتكرته ،ورسعان البداية أكون شديدة رّ
أمزق الورقة وأبعثر
ثم ّ ما يدامهني إحساس باحلزن فأفسد وجه أيبّ ،
األلوان يف أرض ّية غرفتي .الغريب ّ
أن أ ّمي ال تو ّبخني ،وكذا األ ّم
رسامة بارعة يا الرا» ،تقول شريا وهي تن ّظف شريا« ،ستكونني ّ
أرض ّية غرفتي من فوىض األلوان.
كثريا ،ر ّبام ُأصبت بحالة يأس ،ومعكربت مل أعد أسأل ًُ عندما
الصمت ،أن أرافقه ،وأصغي أحب ّ ّ أرجوحة املراهقة تع ّل ُ
مت أن
إليه .كانت يب حاجة إىل أجنحة ختفي اجلرح العميق يف باطني ،لذلك
خاص بباريس .كنت اخرتت ،بغرابة ر ّبام ،أن أدرس ال ّلغات يف معهد ّ
أبحث عن إطار آخر وعن حميط آخر ،مع غرباء ،أعيد معهم ترتيب
الصفاء الذي ُحرمت منه، كل يشء .العامل اخلارجي يمكن أن هيبني ّّ
التنوع واالختالف منحاين زوايا وعشت فعلاً ذلك اإلحساسّ ،
متعدّ دة للتّفكري ،ورصت أعرف ما أريد وأحدّ د أهدايف بد ّقة.
واآلن ،كيف يمكن أن أنظر يف عينَي سعد نظر ًة أخرى؟ مل يعد
سعد صديقي فحسب ،إنّه أيب ،يا إهلي ،كيف أستوعب وأصدّ ق؟
شك ،ليست نظرة صديق أثق فيه نظريت ستكون نظرة مغايرة بال ّ
الرجل الذيكنت أفسرّ اطمئناين هلذا ّ وأطمئ ّن إليه ،ال أدري كيف ُ
الزواج
حيب أ ّمي وممنوع من ّ كل ما كنت أعرفهّ ، حيب أ ّمي؟ هذا ّ
ّ
السبب ،بل كان األمر غري ًبا ،أن حت ّبه أ ّمي كذلك
هبا .مل أكن أعرف ّ
224
تتحمس أمامي
ّ أي خطوة .هيلنيباتاهه ّوبجنون ،وهي ال ختطو جّ
وهي تتحدّ ث عن سعد ،أ ّما عندما يتع ّلق األمر ّ
بالزواج فإنهّ ا تنكمش
وتتحنّط ،وكنت أعرف أنهّ ا تبكي يف ال ّظالم باستمرار ،وختفي عنّي
كل أرسارها .أ ّما شريا فكانت ،كام الحظت ،حاسم ًة يف قرارها ،وال ّ
الزواج ،تكتفي بتكرار رشيطها: تسمح هليلني بأن تفتح موضوع ّ
ثم ما الذي ينضم إىل شعبناّ ..
ّ «إن كان حي ّبك كام تقولني فعليه أن
أن األمر ّ
شاق عىل يمنعه من اعتناق ديانتنا؟ ما الذي يمنعه؟ صحيح ّ
سعد ،ولكن عليه أن يكافح ويتج ّلد ،فاعتناق اليهود ّية حيتاج إىل
الصادق والقبول التّام بجميع الفرائض باإلضافة إىل اجتياز اإليامن ّ
ُقرر املرجع ّيات الدّ ين ّية قبوله
كل ذلك ت ّمراحل تع ّلم رضور ّية ،وبعد ّ
تتزوجي مسلام فهذا ما أرفضه ،وبشكل يف الدّ يانة اليهود ّية .أ ّما أن ّ
هتز رأسها إشار ًة خط أمحر يف تقاليد عائلتنا» .وبعد ذلك ّ قاطع ،ذاك ّ
فتظل هيلني تبكي عىل كتفي باستسالم وأكتفي منها إلهناء احلوارّ ،
أنا بوضع ك ّفي عىل فمي يف حالة ضيق.
لت تلك الدّ موع التي ٍ
بكثري من األمل رسالة أيب ،خت ّي ُ قرأت
شك ،وهو يعرف ترقرقت يف عينيه .فاألمر مل يكن ه ّينًا عليه بال ّ
احلقيقة كام عرفتها أنا:
«الرا،
ابنتي الرا،
ال أدري ،كيف أكتب لك ،ال أدري ح ًّقا .يف ّ
كل األحوال ،ال بدّ
الرمل حتّىأن أقول شيئا ما .قد تقولني إنيّ أبالغ ،أو أضع رأيس يف ّ
225
متر العاصفة ،قد تقولني ذلك وأكثر .فعلاً كان إحسايس غري ًبا منذ ّ
أع َلمتْني هيلني بأنهّ ا أنجبت بنتًا ،أدهشني ما قالته وال أدري ملاذا مل
تزوجت يف حلظة اهنيار وخيبة ،هي خيبة هرويب أصدّ قها .قالت إنهّ ا ّ
أيضا أن تُعطينيرفض ْت ً السجنَ . منها ،هكذا اعتقدت وأنا يف ّ
ثمة يشء ما التّفاصيل ،واكتفت ٍ
بخرب موجز .مل أكن مطمئنًّا ملا قالتهّ ،
بأن احلقيقة خمتلفة ،وكنت أنتظر يف عينيها ،يشء ال يراه غريي أخربين ّ
مرارا يا
أيضا سألتني ً اعرتافها ،ولألسف طالت مدّ ة االنتظار .أنت ً
الرا ،وكنت تكتبني يل باستمرار ،وأجيبك بتلك الكلامت املوجزة
تصحح شي ًئا.
ّ التي ال
حيق يل اآلن أن أناديك ابنتي ،ابنتي الرا ،بعدوال أدري ،هل ّ
أيضا مذنب ،مذنب حيق يل ذلك؟ أعرتف ،أنا ً كل الذي حصل ،هل ّ ّ
الساذجة ،ور ّبام بسبب إحسايس باملهانة، ح ًّقا ،ر ّبام بسبب غرييت ّ
أنت ال تعرفني إحساس رجل ترتكه حبيبته بسبب رجل آخر .ور ّبام
كانت هيلني ،يف مقابل ذلك ،ختتربين .ال أنفي هذا .وأنا ،يف احلقيقة،
استسلمت أو ر ّبام هربت ..وما حدث بعد ذلك هو أنّنا قد نكون
هيم،
استفقنا ،أنا وهيلني ،يف الوقت املناسب ،أو يف الوقت املمدّ د ،ال ّ
استفقنا من محاقات اهلو ّية واملوروث ،وأنت تدركني خفايا ذلك.
وبكل يشء.واآلن علينا أن نلتقي عىل طاولة واحدة لنعرتف بأخطائنا ّ
وما أجزم به ،بال مبالغة ،أنّنا ،أنا وهيلني ،نمتلك قناعات خمتلفة عن
أن زواجنا يمكن أن يكون حقيقة. أخريا ّ
متمردة ،فهمت ً اجلميع ،بل ّ
حتول موقف شريا يف الواقع يعود إىل الكثري من قصص والفضل يف ّ
مؤخرا من هيلني .ومن تلك القصص والزواج التي علمت هبا ّ
احلب ّّ
226
حكاية الفنّان اهلادي اجلويني وزوجته اليهود ّية «وداد» ،واسمها يف
األصل «نينات» .وهكذا جتاوزت شريا هاجس اخلوف واإلرصار
فاحلب ،هذا اإلحساس العظيم هو الذي جعل اهلادي ّ الرفض. عىل ّ
اجلويني ُيل ّقب بـ«فرانك سناترا تونس» .مع قباليت».
قرأت فيه رسالة أ ّمي
ُ قرأت رسالة أيب يف التّوقيت نفسه الذي
ُ
غادرت باريس عىل عجل .ينبغي أن ألتقي هبيلني ُ تقري ًبا ،ويف الغد
ثم أنتظر ما بوسعها أن تقوله لتربير موقفها. وأنظر يف عينيها بعمق ّ
جدارا
ً سورا بيني وبينها وال
كنت أعرف أنيّ سأغفر هلا ،لن أرفع ً
أفرط يف صداقتنا ،سيكون بيني وبني سعد .وبالنّسبة إىل سعد ،لن ّ
أيضا أن أبقى معه طويلاً .أحتاج إىل قبالته ،إىل حرارة من اللاّ زم ً
وأحب فعلاً أن تتشابك يف آخر األمر أصابعنا ،أنا وهيلني
ّ أصابعه،
وسعد ،حتّى ال نفرتق جمدّ ًدا .ال أنسى ما كانت هيلني تقوله ّ
بكل أمل:
ّ
نضمحل من العامل لو تدرين». «كدنا
الصمت لبعض الوقت .كان املوقف عند لقائنا ،أنا وأ ّمي ،لزمنا ّ
أحب يف تلكّ حمرجا لكلينا ،أ ّمي أغمضت عينيها وهي تبكي ،ومل ً
وبذلت جهدً ا
ُ حتسست ذقنها ال ّطافح بالدّ موع،
الدّ قائق انكسارهاّ .
كي أعيد إليها توازهنا وكان ال بدّ أن نغادر الش ّقة لنتحدّ ث .مشينا يف
وترسح نظرها ّ أي جّاتاه .كانت هيلني متسك بيدي الشوارع ومل نخرت ّ ّ
بعيدً ا .ال أعرف ملاذ اختارت أن نسري جّ
باتاه امليناء ،ال أعرف ملاذا
كابوسا يف حياتنا،
ً وي؟ ميناء فيوكس ّ
ظل املأس ّ
اختارت ذلك املكان َ
ويف حياة األ ّم شريا عىل وجه التّحديد .اقرتبت من أحد األرصفة،
ثم سارت نحو نقطة بعينها ووقفت. كانت حتدّ ق فيه من بعيد ّ
227
بعد ذلك فتحت حقيبتها اليدو ّية وأخرجت وردتني ،انحنت أ ّمي
استو ْت إثر ذلك واقف ًة وص ّل ْت
ووضعت الوردتني بكامل هدوئهاَ ،
لروحي جدّ ها دانيال شاتبون وجدّ هتا إيالنيتَ ،لطاملا بكت ُْهام كام
ففهمت أنهّ ا كانت
ُ ثم شبكت يدهيا عىل صدرها بكتهام األ ّم شرياّ ،
تعانق أ ّمها يف تلك ال ّلحظات .جلسنا يف ما بعد ،اخرتنا اجلهة التي
الراسية يف رصيف اإلخاء (Quai de والزوارق ّ
تُرشف عىل البواخر ّ
،)la Fraternitéقالت هيلني وهي متسك بيدي:
قصة هذا امليناء ،بل ّ
إن بداية مارسيليا -أنت ال تعرفني يا الرا ّ
حب بني ابنة زعيم
قصة ّكانت مع هذا امليناء ،تعود احلكاية إىل ّ
الروماين بروتس ..بروتس إحدى القبائل املح ّل ّية والقائد ّ
العاشق مل جيد ما يعبرّ به عن ح ّبه سوى أن يمنح حبيبته هذه
القطعة من األرض.
ثم تابعت: ّ
ترشفت من فنجان القهوة ّ
-ر ّبام تندهشني يا الرا ،ر ّبام تندهشني ألنّنا هنا .يف احلقيقة،
فإن املواجهة حتم ّية .احلق مهام هربنا ،ومهام أخفينا آالمنا ّ
أن وجودنا هنا ليس صدفةّ ،ملا رسنا يف ال ّطريق كنت أعرف ّ
االتاه ،كانت نظرايت غائمة ،لكنّها تتط ّلع إىل امليناء .ال بدّ أن جّ
كابوسا لسنوات طويلة ،قلت ً أواجه املكان الذي م ّثل لعائلتنا
هنائي ومريح ،ينبغيأحترر بشكل ّ يف نفيس .فعلاً ،كان جيب أن ّ
ألاّ نصدع بنصف احلقيقة .احلقيقة يا الرا ال يمكن أن نختار
ثم نرميه بالمباالة .وها
ونتعمد إمهال الباقي ّ
ّ نحب
ّ منها ما
الزمن يتعاقب برسعة ،فامذا ربحت من اهلروب والكتامن ّ
إن ّ
228
وتعذبت ،وأعتقد ّ
أن ّ واخلوف والكذب؟ أجل أنا كذبت
اخلوف كان بسبب تارخينا .وهذا امليناء ،وأنت تعرفني ،شاهد
عىل بعض تارخينا .من إحدى البواخر هنا ،تس ّللت عائلتي
قصتنا يف
الرصيف ،ومن هنا بدأت ّ وعائلة إليف جّ
باتاه هذا ّ
مارسيليا.
ثم تابعت:
أمي ،رفعت برصها بعيدً ا ّ
صمتت ّ
-بعد شهر من ليلتنا املجنونة ،أنا وسعد ،يوم ال ّثالث عرش من
مارس سنة ،1992اكتشفت أنيّ حامل ،ال يمكن أن أنسى
كل يشء أي امرأة وهبت ّ تلك ال ّليلة ،ال يمكن أن تنساها ّ
الصباح بتفاصيله ،مل أكن عىل ما يرام ،درجة
حلبيبها .أذكر ذاك ّ
احلرارة يف جسمي كانت مرتفعة .بشكل مفاجئ وغريب
لت وجهي يف املرآة أحسست بالغثيان ،وكنت متعبة .تأ ّم ُ
وأفزعني االصفرار الذي شمله ،كنت يف غرفة االغتسال
أتلوى وأتق ّيأ ،ويف ذلك اليوم قال ال ّطبيب لشريا« :ال تقلقي
ّ
الس ّيدة شريا ،هيلني حامل».
اصفر وجهها يف ال ّلحظة التي
ّ مل تسألني شريا عن احلمل،
ثم أخفت دموعها عنّي. علمت فيها باخلرب ،انكرست عيناها ّ
ورجتني يف باطني ،أحببت أن تسألني ،أنعذبتني دموعها ّ ّ
أي يشء عىل اإلطالق. تو ّبخني ،أن ترصخ يف وجهي ،مل تفعل ّ
ثم غاب سعد ،ذاب بشكل احلمى أل ّيامّ ،
بعد ذلك دامهتني ّ
وعششت يف رأيس ال ّظنون .كنت كأنيّ يف مباغت وخميفّ ،
وتشوه،
ّ كل يشء يف رأيس تل ّطخ صحراء ،معزولة وخمتنقةّ ،
229
ّ
كل يشء يا الرا.
صوت سعد يف تلك ال ّلحظة:
َ كنت
هتفت بال تفكري ،ور ّبام ُ
ُ
السجن ،وكان يمكن أن تسأيل
-سعد يف تلك األ ّيام كان يف ّ
عائلته يف القرصين ،ما الذي منعك من ذلك؟
أمسكت هيلني يدي واستأنفت:
مشو ًشا ً
أيضا. ّ وكل يشء كان كل ال ّظروف كانت ضدّ ناّ ،
ّ -
أعرتف ّ
أن جرح األنثى أجلمني ،وحدود التّفكري كانت ض ّيقة،
رت شريا أن ختفيك عن سعد .ال أدري ملاذا
وبعد والدتكّ ،قر ْ
كانت مذعورة وهي حتضنك بحرقة ،كانت خائفة من أن
أيضا ألنهّ ا تعلم
للزواج ،وكانت خائفة ً
يظهر سعد ويطلبني ّ
ّ
أن تبع ّية ديانة األبناء يف اإلسالم تعود إىل األب .فعالً ،لقد
سقطت شريا يف أسوإ االحتامالت وال أدري من كان حيرش يف
ٍ
صوف خم ّبلة .وعندما ظهر سعد كنت سجينة شريا، رأسها ُك ّبة
مق ّيدة بالفعل وحزينة ،لذلك كذبت عليه .وكانت فكرة شريا
أن أ ّدعي أمامه أنيّ خضت جتربة زواج فاشلة .وماذا فعل هو
بالصمت ،وانتهينا إىل طريق مسدودة.
بعد ذلك؟ اكتفى ّ
باغتنا املطر ونحن يف امليناء ،كنّا نغتسل بح ّباته ونعرتف ،ومل نشأ
أن هيلني استطاعت أن أن نغادر جلستنا احلميمة .الشيّ ء املذهل ّ
ذوبته باعرتافاهتا ،ومل ختجل أمامي
كل اجلليد الذي كان بينناّ ،تُذيب ّ
وهي ترسد يل وقائع تلك ال ّليلة التي أخرجتني هلذا الوجود« ،مل تكن
تطهر وسالم ،عاشها كالنا ،أنا وسعد» ،قالت
محاقة ،كانت حلظات ّ
230
أيضا إىل أوىل كلامت هيلني وهي تضع رأسها عىل كتفي .استمعت ً
مررت يل هيلني اهلاتف ،تل ّقيته بأصابع مرتعشة جائعة وعطشى. أيبّ ،
تعودنا أن
املرة األوىل التي أسمع فيها صوت أيب يف اهلاتفّ ، ليست ّ
املرة مل حيدث يشء نتك ّلم ،أن نثرثر ،أن نضحك ،أن نقهقه .يف هذه ّ
الشكل؟ وكيف وصلني جتمدنا بذلك ّمن هذا ،أمل نعد أصدقاء؟ ملاذا ّ
صوتُه بشكل خمتلف؟ كان من الضرّ وري أن يعيش كالنا الصرّ خة،
ور ّبام هي رصخة الوالدة ،أعتقد أنهّ ا كانت شبيهة هبا .وصلتني رنّاته
ثم رست يف باطني بشكل ساحر وغمرتني ببهجة حقيق ّية. العذبة ّ
ماذا قلت أليب وأنا أشهق باكية ،وماذا قال أيب بالتّحديد وهو يبكي؟
أيضا .تلك ً ثمة أشياء ال توصف وال تقال ،وال يمكن أن تُفسرّ ّ
مرة حيتضنني أيب ّ
بكل ألول ّ
مرةّ . ألول ّ
األحاسيس العجيبة غمرتني ّ
طاقته ،احتضنني بصوته ودموعه ،أجل إنّه يعود إ ّيل من بعيد.
كل يشء بعد عودتنا من امليناء أغلقت باب غرفتي وفكّرت يف ّ
أمر عىل حدث معي ،استعدت الكثري من التّفاصيل ،كيف كنت ّ
ترصفايت دون حتليل؟ كيف كنت أقفز عىل املسائل بال الكثري من ّ
أنجليزي
ّ اجتهاد لتفسريها؟ قرأت يف أحد الكتب دراسة لكاتب
«إن قدر األبناء هو يف الكثري من األحيانعىل ما أتذكّر ،يقول فيهاّ :
تتغي التّفاصيل لك ّن التّشابه
قدر اآلباء ،قد ختتلف نسبة التّشابه ،وقد رّ
موجود» .قدّ م الكاتب أمثلة عديدة ودرسها من زوايا خمتلفة ،عقائد ًّيا
مهم« :األبناء يفوتربو ًّيا واجتامع ًّيا واقتصاد ًّيا .وانتهى إىل استنتاج ّ
الكثري من احلاالت وهم حيرصون عىل االختالف عن آبائهم يلتقون
يف آخر املطاف يف املجرى نفسه ،أو يف االختيارات نفسها بمعنى آخر».
231
بدأت احلكاية معي يف القسم الدّ اخيل بمعهد ال ّلغات ،شاء
يب.
احلظ أن أتقاسم غرفتي مع برشى ،وهي مسلمة من أصل مغر ّ ّ
مل أعرتض عىل قرار اإلدارة وكذلك فع َل ْت هي ،كانت تعلم أنيّ
ثم أغلقنا وجهها وهي تق ّبلني ّ
ُ هيود ّية ومل ترفض االقرتاح ،أرشق
باب غرفتنا .يف احلقيقة ،ما دفعني أكثر إىل املوافقة عىل السكن مع
للزواج الرافض ّبرشى هو موقف هيلني الغريب من سعد ،املوقف ّ
التعرف ّرت يف رضورة ّ من مسلم .طافت برأيس أسئلة غامضة ،وفك ُ
إىل هذا الدّ ين.
حني تكون املسألة مرتبطة باملعرفة أو بالعلوم بإمكاننا أن
يني ،وذاك ما حدث بيني القومي أو الدّ ّ
ّ التعصب
ّ نتجاوز نعرات
عادي ،بال تعقيد
ّ أن بإمكاننا التحدّ ث بشكل وبني برشى .تأكّد يل ّ
أن ما جيمعنا جدير باالهتامم ،الوالدة، أو أفكار مسبقة .كنّا عىل يقني ّ
احلب واملوت ،أليست هذه الكلامت عناوين لقواسم العلم ،العملّ ،
مشرتكة؟ أ ّما بق ّية التّفاصيل فبوسعنا أن نرتكها لذواتنا ،دون حماولة
تضخيمها أو التّباهي هبا ،بمعنى أن نرتك قناعاتنا وأفكارنا تسري
شخصا آخر عىل تبنّى
ً طبيعي وال يشء جييز لشخص أن ُيرغم ّ بشكل
أفكاره ،هكذا كنّا نفكّر ،أنا وبرشى .وال أدري ملاذا كنّا عىل درجة
أفكارا خمتلفة ،أفكار
ً كبرية من االنسجام والتّناسق؟ ر ّبام ألنّنا نحمل
املتحررة من اإلرث املوبوء .بالفعل ،هكذا كنّا نتعايش بال ّ ّ
الشباب
ُعقد ،نحن عقل ّية أخرى.
أح ّبت برشى أن أساعدها عىل تع ّلم العرب ّية ،اعرتفت يل يف
البداية بأنهّ ا كانت تعتقد ّ
أن العرب ّية هي لغة الصهيون ّية احلاقدة عىل
232
غزة.صورا بشعة ملا حيصل يف ّ ً املسلمني .ويف تلك األ ّيام شاهدنا
احلق أنيّ مل أحرص عىل الدّ فاع عن العرب ّية ،باعتبارها لغة سام ّية،
ّ
اكتفيت بأن قلت لبرشى« :ابحثي يا صديقتي وبعد ذلك حدّ دي
مواقفك ..عندما نقرأ بإمكاننا أن نتقارب».
أن سبب رهبتنا وبعد أن قرأت برشى قالت بنربة واثقة« :أعتقد ّ
املشوشة والتّاريخ املس ّيس .لقد فرضوا علينا تارخيًا ّ هو ّ
الذاكرة
كلونتحرر من ّ
ّ مل نشارك يف صنعه ،وعلينا نحن أن نصنع واقعنا
إنساين خلاّ ق
ّ التحرر بشكل
ّ التّأويالت .أجل ،ما الذي يمنعنا من
دون أن نيسء بطبيعة احلال إىل هو ّياتنا وأدياننا؟»
اندهشت برشى وهي تكتشف التّشابه ال ّلغوي بني ال ّلغة العرب ّية
كل يوم عىل تع ّلم كلامت جديدة .وكانت وأرصت ّ
ّ وال ّلغة العرب ّية
سعيدة بأن تر ّدد عىل مسمعي كلامت بالعرب ّية ومرادفاهتا بالعرب ّية
حتمست من قبيل :األ ّم (إما) واألب (أبا) .ومل تكتف بذلك ،فقد ّ
لقراءة تراث التّوحيد ،وا ّطلعت عىل كتب التّوراة اخلمسة ،و ُأعجبت
بكتاب التّكوين ملا يشتمل عليه باخلصوص من مالحم وأساطري .أ ّما
أنا فلم يكن اإلسالم جديدً ا عىل ثقافتي ،األ ّم شريا حتتفظ يف ش ّقتنا
أيضابنسخة قديمة من القرآن جن ًبا إىل جنب مع كتب التّوراة .هيلني ً
كثريا ما حتدّ ثني عن تاريخ املسلمني بحكم عالقتها بسعد كانت ً
وعاداهتم ،ومل أكن أرى اختالفات كربى بيننا وبينهم وكان ذلك مثار
احلي ،من دهشتي .ما كنت أحتاج إليه هو أن أعيش مع اإلسالم ّ
حيث ال ّطبائع والعادات وال ّلباس واألكل ،ال يكفي أن نقرأ الكتب،
تتغي مواقفها .برشى ،يف احلقيقة ،مل تدّ خر كثريا ومل رّ
هيلني قرأت ً
233
جهدً ا يف مساعديت عىل تع ّلم العرب ّية ،ال س ّيام يف فهم مصطلحات
وجدت صعوبة يفُ كثرية أراها غريبة ومستعصية .يف األ ّيام األوىل
التّواصل معها ،كنت أتك ّلم بال ّلهجة الدّ ارجة التّونس ّية بحكم أنهّ ا
ثم جرت هلجة تواصلنا داخل العائلة ،وأحيانًا أستعني بالفرنس ّيةّ ،
عادي.
ّ األمور بعد ذلك بشكل
سميناها أنا وبرشى «سالم شالوم» عشنا يف غرفتنا التي ّ
تتمردان عىل احلدود وتُعيدان اكتشاف انسجا ًما رائ ًعا بني شا ّبتني ّ
العامل .يف شهر رمضان كنت ُأجاري برشى يف صومها ،نحرض األكل
إىل غرفتنا بعيدً ا عن ضجيج املطعم .برشى ال تصليّ إلاّ يف شهر
ثم تقول« :إنّه الكسل رمضان ،تضحك عندما أستفرسها عن األمر ّ
أيضا مل أنشأ يف
يا الرا ،وبعد إهناء الدّ راسة سيكون األمر خمتلفا» .أنا ً
عائلة حمافظة ،نكتفي ببعض ال ّطقوس التي نراها رضور ّية .صديقتي
نحب أن تكون مائدتنا عامرة عىل ّ السبت ،وكنّا
تشاركني عشاء ليلة ّ
ثم نأكل بمنتهى احلميم ّية. خالف بق ّية األ ّيام ،نشعل ّ
الشموع م ًعا ّ
وبطبيعة احلال أمتنع عن رشب النّبيذ يف حرضة برشى ،أمتنع عن
املهم ،نحن ال
ذلك رغم أنهّ ا سمحت يل برشب الكأس املقدّ سةّ ،
أن غرفتنا حم ّطة استثنائ ّية ،هي
نع ّقد األمور وال نختلف .كنّا نعرف ّ
احلب ،وازداد إيامننا
ّ حم ّطة للتع ّلم والنّجاح باألساس ،لذلك غمرنا
السعادة ،وكثريا ما تقول احلب وحده هو اجلرس الذي يفيض إىل ّ ّ ّ
بأن
«السالم عليكم».يل برشى« :شلوم عليخم» ،وأر ّد أناّ :
أحس بالغربة بالفعل مع صديقتي املسلمة ،وعندما أختيل
ّ مل
أيضا وال أقدر .يف
بنفيس أستعرض بعض املواقف ،أحاول فهمها ً
234
أ ّيام دراستي كنت مثل هيلني ،ال أكتفي بإجابات سطح ّية .يل فضول
عنيد ،أعني فضوالً معرف ًّيا ،أوغل يف البحث حتّى أطمئ ّن لإلجابة
التي أريد ،وذلك ما حصل يل يو ًما مع إهياب ،أستاذ األنجليز ّية.
بكل هدوء طرحت عليه ّ
ُ ثم
ناقشته يومها يف مسألة النّاز ّية اجلديدةّ ،
حييين وقتها« :ملاذا تعود الس َ ٍ ٍ
ؤال الذي كان رّ وبلغة أنجليز ّية طليقة ّ
بعض األحزاب واملجموعات اليمين ّية إىل النّاز ّية اليوم؟» ،ولكنّه
اكتفى بالقول« :هذه األسئلة ليست من اهتاممات درسنا» .هكذا،
غرابة أمهل سؤايل ،فشعرت باالستياء ،مل يكن سؤايل سخي ًفا، ٍ ّ
وبكل
كان يمكن أن يكون األمر تلقائ ًّيا ،لك ّن األستاذ وضع سؤايل يف خانة
أن األستاذ يقدّ م لنا الدّ روس بشكل مرح ،غري املمنوعات .صحيح ّ
أنّه ال يقتحم الكثري من املواضيع التي بإمكاهنا أن تثري ثقافاتنا .هو
يعرف أنّنا نختلف ،نجلس أمامه هبو ّيات متغايرة ،مسلمة وهيود ّية
حيررنا من كوابيسنا .وبشكل من أشكال أن ّ ومسيح ّية ،وكان ينبغي ّ
التحدّ ي ،قلت لألستاذ« :ببساطة ،الناز ّيون اجلدد ُيعدّ ون حمرقة
املرة سيحرقون العامل».
أخرى ،وهذه ّ
تغي نظرة األستاذ إ ّيل ،ال أدري،ر ّبام كانت تلك الكلامت سب ًبا يف رّ
وهتتم
ّ انوي تكتفي بالدّ رس أحسست أنّه مل يعد ينظر إ ّيل كطالبة يف ال ّث ّ
األهم.
ّ كل يوم .اكتشف أنيّ جمادلة رشسة وهذا هو بتغيري تنّورهتا ّ
أن تلك الكلامت البسيطة والعفو ّية حفرت وباإلضافة إىل ذلك أظ ّن ّ
يتأهب
الحظت ،وهكذا كان إحسايس ،أنّه ّ ُ أسى عمي ًقا بداخله. ً
احلصة املوالية
ّ للترصيح بيشء ،يشء ما جيعل صوته خمتن ًقا .ويف
موس ًعا عن مسألة النّاز ّية اجلديدة ،قدّ مته قدّ مت لألستاذ بح ًثا ّ
235
بمنتهى ال ّثقة يف النفس ،اندهش ألنيّ مل أجتاوز األمر ،ور ّبام مل خيطر
احلصة اقرتب منّي إهياب ومهس: بباله أن أفعل ذلك ،ويف آخر تلك ّ
«أنت ال تعرفني ّ
أن أ ّمي هيود ّية».
الرس الذي شدّ نا
رس مقدّ س ،ذلك ّ ما مهس به إهياب كان بمثابة ّ
كميثاق .وسيكون من اللاّ زم أن أعرتف أنّنا التقينا يف نقطة مدهشة مل
هوة
هوةّ ،
فك شفرهتا .ومل خيذلني حديس ،كان إهياب سجني ّ نقدر عىل ّ
احلرية حول تارخيه ،أو تاريخ أ ّمه عىل ّ
األقل .ور ّبام التقينا هناك ونحن
نتحدّ ث أو نبحث أو نضحك .بالفعل ،جرت األحداث برسعة ومل
نعد نفرتق ،يف الدّ رس أو يف أروقة املعهد أو يف رسائلنا اإللكرتون ّية.
مرة،
ألول ّ
اكتشفت هذا اإلحساس ّ
ُ الزلزال،
حدث بيننا ما يشبه ّ
احلب ،لك ّن حواراتنا
ّ إحساسا مذهلاً ،مل نتحدّ ث َق ُّط عن
ً كان
كانت طافحة بتلك الكلمة السحر ّية .كتب يل يف إحدى رسائله:
الصغرية غريبة بشكل كنت أدرك ّ
أن أرستنا ّ «طوال طفولتي ُ
الفت ألنّنا نعيش داخل أرسة ميزهتا االختالف .أيب مسلم ،من أصل
حب يف باريس ،وانغمسا يف
قصة ّ تونيس ،وأ ّمي هيود ّية أرمن ّية ،عاشا ّ
ّ
تزوجا ..عندما كربت أختي دالل ،خت ّييل
ثم ّ كل تناقضات باريس ّ ّ
ذلك ،اعتنقت املسيح ّية ،أنا اخرتت اإلسالم ،وعن قناعة اخرتت
الصغري سارة فاختارت اليهود ّية .مل تكن اختالفاتنا
ذلك ،أ ّما أختي ّ
لتم ّثل مشكلاً ،كنّا يف منتهى االنسجام دو ًما ،لسنا حمافظني ،باملعنى
نحب احلياة .ال أذكر أنّه حدث يف بيتنا ما س ّبب
ّ التّقليدي ولكنّنا
صدا ًما أو رصا ًعا ،كنّا نتحاور ونتكامل ،ويف األخري نلتقي يف نقطة
236
معامري وأ ّمي فنّانة
ّ واحلب .أيب مهندس
ّ مشرتكة قائمة عىل اجلامل
تشكيل ّية ،ور ّبام كان ذلك سب ًبا يف انصهارنا وتكتّلنا ،بل كانت لقاءاتنا
فرصا متجدّ دة ليقرتب بعضنا من بعض أكثر. يف املناسبات الدين ّية ً
الرائعة
السعادة ،واستطاعت أ ّمي ،يف هذه األجواء ّ قمة ّ
نحن نحيا يف ّ
السعادة كنّا قادرين عىل إذابة الفزع بحق .وبتلك ّ أن تكون سعيدة ّ
كل ذلك مل تستطع نسيان حمرقة اهلولوكوست خضم ّ
ّ من قلبها ،ويف
البشعة عىل األرمن ،ومل تتجاوز حقدَ ها عىل النّاز ّية ،وأعتقد ّ
أن هلا
كل ما تشعر به». احلق يف ّ
ّ
سألت نفيس ،ماذا سيحدث يل إن اختفى ُ ثم ماذا بعد ذلك؟ ّ
إهياب من حيايت؟ ر ّبام ،وبصورة قاطعة ،سأصاب بخيبة كربى .أنا
احلب ،هذا العامل ال أعرفه ومل يسبق أن خفق قلبي
يف مرحلة اكتشاف ّ
خف األمر عنالشكل املدوي والساحر يف الوقت نفسه .مل ُأ ِ هبذا ّ
ّ ّ
ُبرشى ،كان من الضرّ وري أن أفعل ذلك ،فقد الح َظت انزوائي
املتعمد ،وكان فكري هو الذي يرشد ،ال نظرايت .وإحساسها كان ّ
االتاه نفسه ،قالت وهي متسح عىل شعري ،متا ًما كام تفعل هيلني: يف جّ
السنة األوىل التي نعرف فيها األستاذ إهياب ،وال أعتقد عىل«ليست ّ
العاطفي املقرف».
ّ اإلطالق أنّه هيوى مثل اآلخرين ذاك االبتزاز
مل خيطر ببايل ذلك اليوم أن يطلب منّي إهياب أن نخرج م ًعا
لرشب قهوة ،خفضت رأيس وأنا أسمع طلبه ،ارتبكت بالفعل
ّبت أنفايس ورافقته إىل املقهى،
ودامهني إعصار .ال أعرف كيف رت ُ
متشوقة إىل تفاصيله .ويف مقابل ذلك ّ منتظرا ،وكنت
ً ر ّبام كان لقا ًء
أن ال ّلقاء ال يزال بعيدً ا ،لكنّنا التقينا .مل نتحدّ ث عن
كنت أعتقد ّ
237
احلب ،اكتفى بإخراج صورة من
ّ ال ّثقافات وال عن األديان وال عن
اندهشت وأنا أرى وجهي،
ُ أحد جيوب سرتته ووضعها أمامي،
ثم رصخت: الصورة من ال ّطاولة ّ
وقربتها منّي ّ التقطت ّ
-مذهلة.
قال إهياب:
الرسم ،لقد
-رسمتها البارحة .أنت ال تعرفني طب ًعا موهبتي يف ّ
ورثت ذلك عن أ ّمي.
قلت مستأذنة:
-هل تسمح يل باالحتفاظ هبا؟ ستكون ذكرى مجيلة.
قال ونحن نغادر املقهى جّ
باتاه املعهد:
أحب أن تكون
ّ ّ -
الذكرى تعني أنّنا نجلس جلسة وداع ..وأنا
الصورة بدايتنا.
تلك ّ
ثم دخلت وهي حتمل طب ًقا فيه فطائر طرقت هيلني باب غرفتي ّ
يصا
خص ًالبطاطس وكأسا نبيذ .فطائر البطاطس تُعدّ ها يل أ ّمي ّ
عندما تكون عىل مزاج رائق ،طب ًعا هي أصبحت ماهرة بشكل ما
يف ال ّطبخ ،تقف بجانب شريا يف املطبخ وختتزن يف رأسها الوصفات
بحق يف إعداد أشهى املأكوالت واحللو ّيات، السحر ّية ،شريا ماهرة ّّ
حتب أن تفتح كتب ال ّطبخ« ،ال وهيلني حتاول أن تقتفي أثرها ،ال ّ
إن ال ّطبخ حيتاج إىل تدقيق»، ثم ّ
تُضيف الكثري إىل وصفات شرياّ ،
ثم أغلقت النّافذة هكذا تعتقد .وض َعت ال ّطبق بجانبي عىل السرّ ير ّ
وجلست بجواري.
238
يتغضن وجهها ،وعيناها هيلني حتافظ عىل أناقتها ورشاقتها ،مل ّ
مت ،وهي تقابلني، تشم ُتأويان العمق نفسه ،عمق األنثى أعنيّ .
عطرها الدّ اخيل .وأعرتف أنيّ ك ّلام ابتعدت عنها ختلخل اليقني يف َ
ماسة إىل رعايتها .يكفي أن تنظر إ ّيل ليخفقداخيل وشعرت بحاجة ّ
قلبي ،عيناها تقودانني إىل أعامقي ،إىل حالة سكينة ملهمة .نظراهتا
املرة كانت أكثر عم ًقا ،خفق قلبي بشدّ ة وأنا أد ّقق يف مالحمها،
هذه ّ
املشاعر التي اجتاحتني كانت متق ّلبة ،ال أعرف السبب ،ال أعرف
بالتّدقيق ،ر ّبام حدث يل ذلك وأنا أفكّر يف إهياب« ،كيف سأحدّ ث
تساءلت يف داخيل.
ُ هيلني عن إهياب؟»،
بت
قرعت هيلني كأسها بكأيس ،وراحت تتأ ّملني بدورهاّ .قر ُ
كف يدهاوفتحت ّ
ُ اقرتبت منها
ُ شفتي ورشبت ،بعد ذلك
ّ كأيس من
اليمنى ،تأ ّملت خطوطها وقلت:
-خطوطنا متشاهبة يا هيلني ،وأعتقد ّ
أن قدري وقدرك متشاهبان
أيضا.
ً
ثم قالت ضاحكة:
شدّ ت عىل يدي ّ
-كنت أعرف يا ق ّطتي أنّك ختفني شي ًئا ،وأنا عىل يقني ّ
أن قلبك
احلب.
عرف طريق ّ
كانت حلظة مرتبكة حني ّقربت شاشة احلاسوب من هيلني
وفتحت أمامها صفحة إهياب عىل الفايس بوك .مت ّعنت يف صور
إهياب ،مع أفراد العائلة ،يف متحف ال ّلوفر ،يف ساحة الباستيل ،يف
الزيتونة.
املعهد ،يف شاطئ حلق الوادي وأمام جامع ّ
239
هتفت وهي تتو ّقف عند صورة إهياب يف مدخل جامع ّ
الزيتونة:
أيضا يف حم ّله.
-وختميني ً
مهست:
وأخريا يا هيلني
ً تونيس ومسلم.
ّ -إنّه أستاذ األنجليز ّية ،فعلاً هو
احلب ،عرفته مع إهياب ،أعرف أنيّ أفتقد التّجربة، ّ عرفت
مترسع .لست منبهرة بصورته كأستاذ،ومع هذا إحسايس غري ّ
أعلم انفالتات املراهقة ،وقد مررت من شلاّ الهتا بسالم .ال
أن ما نعيشه ح ًّقا هو ّ
احلب بال ريب. أخفي عنك ّ
ماذا أقول عن تلك ال ّلحظة بالتّحديد؟ ّ
جتمدت وأنا أنتظر ر ّدة
فعل هيلني .ر ّدة فعلها األوىل كانت تعني يل الكثري ،ر ّبام خشيت من
أتلق من تقاسيم الصدمة ،ومن انفجارها يف وجهي .مل ّالرفض ،من ّ ّ
بقوة ،وظ ّلت
وجهها ما كنت أخاف منه ،دمعت عيناها وهي حتضنني ّ
ثم قالت: تنشجّ ،
-تأكّدي يا الرا ،يا ق ّطتي ،لن أسمح ألحد ،حتّى أنا ،لن أسمح
بأن تعييش جتربتي القاسية نفسها .امتلئي بإحساسك وكوين
تفرطي فيه ..أمامك احلب إحساس عظيم ال ّ ّ متأكّدة ّأولاً ،
ثم من قلب كل يشء ،من قلبك ّأولاً ّ الوقت لتتأكّدي من ّ
إهياب .والح ًقا ،إن ّقررمتا ّ
الزواج ،طب ًعا ،فإنيّ سأبارك قراركام
السعادة. بمنتهى ّ
َت ك ّفي وغمرتني بوميض عينيها ّ
ثم أضافت: فرك ْ
-كنت بالفعل أنتظر هذه املفاجأة ،أمل تقويل يل ولسعد إنّك
240
أيضا انشغل بمفاجأتك ،وأعتقد أنّه ختفني مفاجأة؟ سعد ً
سيكون سعيدً ا هبذا اخلرب .نحن عشنا يف زمن آخر ،يف زمن
كل يشء ،وال أخفي عنك ،نحن خم ّلفات األحقاد وتشويه ّ
أيضا اعرتفت بأنهّ ا
خرسنا الكثري ،بل كنّا ضحايا .شريا ً
أخطأت يف ح ّقك أكثر ،أنا ال ألومها ،كانت تنزف وهي
تغي. تصغي إىل أصوات تلك الفرتة املعتمة ومل تدرك ّ
أن العامل رّ
«من يؤمن بنفسه ال ينهزم» ،هكذا قال جربان خليل جربان،
أنت ال تعرفينه بالتأكيد ،هذا من زمننا اجلميل ،وأنا أقول لك:
السعادة ،ألسنا نحلم«من يتع ّلم من أخطائه قادر عىل إدراك ّ
يومي يا ق ّطتي؟».
ّ بالسعادة ،وبشكل
ّ
مهست وأنا أنتفض يف حضن أ ّمي:
ُ
أيضا لعبة األقدار ،تارخينا مل
-ال ريب ماما ،ال ريب ،وتلك ً
نصنعه نحن ،تارخينا صنعته الكراه ّية واألحقاد .أ ّما نحن
فجيل آخر ،لسنا جيل األزرار الباردة ،نحن جيل األزرار
واحلب واحلر ّية .لن ننغمس
ّ التي تفتح أمامنا دروب اجلامل
يف خساراتنا القديمة ،سنخرس الكثري إن فكّرنا بأنان ّية ،نحن
قادرون بالفعل عىل كرس العتمة .هل تذكرين؟ هل تذكرين
قصة كنيس الغريبة يف جربة؟ -أطلقت هيلني ما رويته يل عن ّ
هيودي
ّ زفرات حارقة ..-تلك الفتاة الغامضة وهي ابنة كاهن
وصلت إىل شواطئ جزيرة جربة يف ظروف قاسية وعاشت
يف مبنى عىل وشك االهنيار ..ويف يوم ما احرتق البيت ولك ّن
جسد الفتاة مل حيرتق ،ماتت دون أن حترقها ألسنة النّار وظ ّلت
241
تبتسم وهي م ّيتة ..هي أسطورة ،تع ّلمنا بالفعل كيف نكافح
ونحيا بسعادة رغم األمل.
الضوء:
مهست هيلني ضاحكة وهي تطفئ ّ
-بعد أ ّيام ستبدأ رحلتنا إىل تونس ،ال بدّ أن نستعدّ كام ينبغي
أ ّيتها الق ّطة ،وطب ًعا لن يشغلك إهياب عن سعد.
242
()11
هيلني
243
كان حار ًقا ،تنغل فيه بقايا احلرمان ،آخر بقايا اجلوع والعطش .ق ّبلني
سعد بجنون ،تالمس جسدي بجسده والتقى وميضه بومييض.
السامء ،وكنت أطري وتعريني وتطري يب يف ّ
أحسست بأنفاسه ختدّ رين ّ
وأطري مثلام يطري سعد .مل أستطع أن أنتزع صدري من صدره ،كنت
عيني كأنيّ أعود إليه
ظل حيدّ ق يف ّ مبتهجة ومنتشية وعطشى .سعد ّ
من إحدى األساطري ،وبالفعل ،كان علينا أن نصدّ ق أنّنا التقينا .ويف
الرائع منأحب أن أختزن هذا الفيض ّ عيني ،كنت ّحلظة ما أغمضت ّ
السعادة ،ور ّبام سألت نفيس :كيف ّفرطنا يف هذا اإلحساس؟ وكيف ّ
ألغينا سنوات من عمرنا؟
أن سعد سائق ماهر ،كان يشاغبني بيديه وهو مرة أكتشف ّ ألول ّ
ّ
عيني منيقود الس ّيارة نحو شارع مارسيليا ،وأنا يف األثناء ال ُأسقط ّ
اخللفي
ّ كنت هنمة يف التقاط مالحمه وحركاته .الرا يف املقعدوجههُ ،
تنزه نظراهتا يف ال ّطريق وبني حلظة وأخرى متسح عىل شعر ظ ّلت ّ
وتتعمد ألاّ جتعلني أسمع ّ مترر كلامت مهموسة يف أذنهثم ّسعدّ ،
يتلوى بجانبي ويتحينّ الفرصة مهسها .يضحك سعد يف األثناءّ ،
حيركان ليالمسني .كنت بحرضة جمنونني داخل الس ّيارة ،واملجنونان ّ
وكنت أجهل ح ًّقا ما جيول ُ حب ويقوداهنا بتنسيق حمكم.
انتفاضة ّ
رسي من تدبري سعد ،وبمساعدة الرا .ومن يف رأسيهام من ختطيط ّ
جهتي كنت ُأعدّ خم ّططي يف منتهى الد ّقة .فكّرت أنّني ،بعد إنجاز
عيني
ّ ذلك املخ ّطط الذي حلمت به لسنوات ،يمكن أن أغمض
أخريا،
ً املهمة يا إليف.
ّ بكامل ال ّطمأنينة وأرصخ« :لقد أنجزت
حت ّققت وص ّيتك ،وبإمكانك أن ترقد بسالم».
244
كثريا ،كان مهتماّ بالتّفاصيل ك ّلها ،وانشغل تغي سعد ًفعالً ،لقد رّ
الصيانة اللاّ زمة
طيلة يومني برتتيب الش ّقة وتنظيفها ،كام قام بأعامل ّ
غي الفوانيس ،استبدل مزالج الباب يف املطبخ وغرفة االستحامم .رّ
الرئييس الذي يس ّبب يل قر ًفا ،أ ّما الثالجة فقد وجدتهُ ا عامرة باخلرض ّ
كل ما فعله أيضا؟ مل أستطع أن أحيص ّ والغالل واملرشوبات .وماذا ً
أن ظروفه قاسية ،فهو ال يعمل سعد من أجل إسعادنا .كنت أعرف ّ
كل ذلك ،مل أطلب منه أن يفعل شي ًئا ،إنّه بانتظام ،ومع هذا فعل ّ
األول من كل يشء بحامس .تقع ش ّقتنا يف ال ّطابق ّ جمنون ،و ُينجز ّ
عامرة مرشفة عىل شارع مارسيليا .مارسيليا هنا وهناك! ال تربحنا
مت مفتاحها لسعد وطلبت منه أبدً ا .ظ ّلت الش ّقة مغلقة لسنتني ،س ّل ُ
ملحا ،لكنّه رفض ،أقسم ألاّ تطأ قدماه أن يسكن فيها ،كان طلبي ًّ
ثم إنّه ال يستطيع أن يرتك ش ّقته يف ص ّباط الدّ زيري، الش ّقة إلاّ معيّ ،
خيصصها أحيانًا لتدريس األطفال .أحرض سعد عشا ًء ً
باذخا وهو ّ
من أحد املطاعم القريبة ،مل يشأ أن نذهب يف ليلتنا األوىل إىل مطعم،
األول ،ال ّبد أن يكون مقدّ ًسا» ،قال سعد أراد عشاء محيماً « ،العشاء ّ
مرةوألول ّ وهو جيلس بجواري عىل ال ّطاولة ويضع يده عىل يديّ .
بكل تفاصيلها، أكتشف أنّه يثرثر ،حتدّ ث طويلاً مع الرا ،كان شغو ًفا ّ
يف الدّ راسة ويف حياهتا اليوم ّية .وكانت الرا جتاريه بحامس ،مل
قصتها مع إهياب ،عاينت ذلك االمحرار أيضا يف حمادثته عن ّترت ّدد ً
كل يشء ،الرا حتافظ عىل خجلها ،كانت عىل يف وجنتيها .رغم ّ
جمرد وعي بأنهّ ا تصارح أباها ال صديقها ،وسعد ُيدرك أنّه مل يعد ّ
الشعور باخلجل ،اخلجل األنثوي صديق هلا .يف باطنها ينهض ذلك ّ
245
العفوي ،غري أنهّ ا تتحدّ ث بال ارتباك ،مثلام حدّ ثتني عن حبيبها متا ًما.
ّ
يقرب منّي رشائح ال ّلحم سعد كان يتابعها باهتامم ،وال ينسى أن ّ
بقصة الرا ،يضحك كطفل ،وبني مبتهجا ّ
ً ويوصيني باألكل .كان
حلظة وأخرى يغمزها بطرف عينه ،فتضحك الرا ويضحك سعد،
السفر كنت منتبهة ومنتعشة. ويثريين ضحكهام ال ّطفويل ،ورغم تعب ّ
أن جسدي انفتح يف تلك اآلونة عىل شهويت ،شهوة األنثى وال أخفي ّ
التي كانت خامدة لسنوات ،ر ّبام ه ّيجتها أصابع سعد عىل شعري،
عيني .أصابعه كانت شاردة، يمررها هبدوء ور ّقة وال ينظر يف ّ كان ّ
والصاخب .ويكرب صخبي وتنساب ّ تبتكر خياهلا ال ّلذيذ املتد ّفق
هندي .كنت حمتجزة عىل ما أعتقد ،داخل إطار ّ قطرات العرق من
جامد ،أو باألحرى كنت أحتجز أنوثتي ،و ُأحكم عليها اخلناق.
منذ تلك ال ّليلة املجنونة ،منذ أكثر من سبع عرشة سنة مل يلمس
السنوات ثقيلة ورتيبة ،وكنت جسدي جسد رجل ،مضت تلك ّ
أسأل نفيس باندهاش« :هل أنا امرأة طبيع ّية؟ ملاذا مل أفكّر يف اجلنس
أن املغامرات كانت متاحة يل ،ال أعني إيزاك كأي امرأة؟» وأعرتف ّ ّ
بطبيعة احلال ،ال يمكن أن حيدث يشء من هذا القرفّ .ملحت يل
ماريا يف مناسبات كثرية« ،ملاذا ال يكون لك صديق يا هيلني؟ األمر
جريب بحذر وال تنغلقي هكذا» ،كانت حتارصين وطبيعيّ ،
ّ عادي
بكلامهتا .وأنا كنت جامدة وخرساء ،سأكون وضيعة لو فكّرت يف
عالقة عابرة ،عالقة رسير بارد ،تنتهي بانتهاء حلظات ال ّلهاث ،وبعد
أحس بحالة غثيان وأحقد عىل جسدي .كنت أعرف أنيّ غريبة ذلك ّ
ٍ
امرأة حائرة وال يمكن اهتزازات
ُ ال ّطباع ،صلبة مثل شريا ،تغمرين
246
أن أعرف احلضيض .مل تنجح ماريا بالفعل يف إغوائي .ويف ذروة
ثم أغطس يف عوامله .يف بعض ال ّليايلالكربياء أفتح كتا ًبا بجوارها ّ
أحب أنُأحكم إغالق باب غرفتي وأرشب بجنون حتّى أسكر ،ال ّ
السكر يف العادة ،ولكن حينام تنتابني حاالت اشتهاء أصل إىل حالة ُّ
أتعرى متا ًما وأرقص ،أرقص عىل نغامت خمتلفة،أسكر بال حدودّ .
رشق ّية وغرب ّية ،نغامت صاخبة يف الغالب ،وبعد ذلك أرمتي عىل
هندي،
ّ ثم أداعب
السرّ ير بكامل االهتياج .أالمس وجهي وعنقي ّ
ينز عرقي يف األثناء ،تنفرج شفتاي ويسيح شعري بكامل فوضاه. ّ
ذراعي ويأتيني وجه سعد ،يقتحم عزلتي بر ّقة ويلصق نفسه ّ أحضن
بنفيس ،وينتظم شعري يف ك ّفيه .أحضن سعد وأنشج وأمتلمل حتّى
أحس بتلك ترختي عضاليت .وأنا أحضن سعد مستلقية عىل ظهري ّ
االرتعاشة اخلفيفة والغامرة ،وللحظات أجد ارتوا ًء يف داخيل ،خيفت
أيضا وال أكون يف حاجة إىل حبوب مهدّ ئة .ويف بعض صداع رأيس ً
املرات ،أستيقظ من نومي وأنا أشعر باملتعة ،وبعد ذلك أكتشف أنيّ ّ
مب ّللة ،مل أخجل عندما حدّ ثت ماريا عن مغامريت يف احللم ،مثلام ال
ختجل هي حني حتدّ ثني عن مغامراهتا ،ذاك االنفالت كان يسعدين،
يمنحني انتعاشة وقت ّية .كنت أعرف عىل ّ
األقل انتعاشة ما ،وماريا،
ثم تسألني« :إىل متى ستصمدين؟» عيني ّ
تظل تبحلق يف ّ ببالهة ّ
شفتي وطبع
ّ ارتفع كأس سعد أمامي ومل أنتبهّ ،قرب شفتيه من
ساحرا ،ثارت شهويت
ً قبل ًة خفيفة ،أيقظتني من غفويت ،طعمها كان
وأحسست باحلرارة تكتسحني .ارتفعت
ُ عىل إثرها مثل بركان
كؤوسنا ال ّثالثة والتمعت أمامنا ،عينا سعد مرختيتان هو ً
أيضا،
247
اشتهيت أن يق ّبلني
ُ الزجاج من أمامي وشفتاه حاميتان .عندما انزاح ّ
القوة
أتلذذ بريقه ،وال أعرف كيف امتلك تلك ّ سعد ،أحببت أن ّ
ثم
انسل من جلستنا برسعة ،ق ّبل الرا وحضنها ّ الصمودّ .
وذاك ّ
خدي ومىض إىل ش ّقته يف ص ّباط الدّ زيري.
ّ ق ّبلني عىل
ً
منقوشا يف ذاكريت ،وكذا ذاكرة 12ديسمرب 2010يوم سيبقى
سعد والرا ،ال يمكن أن أنسى روعة ذلك اليوم وال جنونه .كنت
نائم ًة عندما اقتحم سعد غرفتي ،متدّ د بجواري عىل السرّ ير وطبع
أشتم رائحته ،باغتني حضوره ّ عيني وأنا
ّ فتحت
ُ قبلة عىل خدّ ي.
صباحا .مل خيطر ببايل أن حيرض يف ذلك املظهر،
ً املبكّر ،يف العارشة
كان أني ًقا بشكل رائع ،عطره أسكرين ،حدّ قت يف وجهه باندهاش،
بقوة ،مل أتك ّلم ،ومل يتك ّلم هو ،ضغط عىل
ثم احتضنته ّ
عيني ّ
فركت ّ
ُ
الصالون .فوجئت باتاه ّثم أخذين من ذراعي ورسنا جّ يدي بحنان ّ
وحتب أن تتناول
ّ باكرا ،تتكاسل
أيضا ،يف العادة ال تنهض ً بالرا ً
الصباح يف الفراش وهي منشغلة بحاسوهبا. فطور ّ
سألت وأنا أخرج من بيت االستحامم:
-ما احلكاية؟
ضحكت الرا وضحك سعد ،ضحكا م ًعا وتغامزا ومل يرفعا
برصمها نحوي .أمر غريب ما كان حيدث ،مل أكن يف حلم عىل أ ّية
أن الرا حال .هامت نظرايت بعيدً ا وأنا أرشب قهويت ،انتبهت إىل ّ
الضحك: كانت متأنّقة ومستعدّ ة للخروج ،قالت وهي ال تتو ّقف عن ّ
-أمامك دقائق ماما لكي تتأنّقي مثلنا ،ال ّ
تتأخري ،نحن
248
بانتظارك.
دت ألاّ أسأل سعد وال الرا عن تعم ُ
بعد دقائق كنّا يف الس ّيارةّ ،
شك مفاجأة من الوجهة ،حامت يف رأيس أفكار كثرية .ستكون بال ّ
أن وجهتنا ستكون القرصين. مخنت ّ مفاجآت سعد ،أعرف جنونه ،و ّ
انزعجت يف تلك ال ّلحظات ألنيّ مل أفكّر يف اقتناء هد ّية للخالة منج ّية،
وفكّرت يف أنّني سأفعل ذلك يف ال ّطريق ،لن أقابل منج ّية بيد فارغة،
ماذا ستقول عنّي؟ كنت أعرف جّاتاه القرصين ،مل يتّجه سعد نحو
السيارةثم القصبة ،وقفت ّ ال ّطريق الس ّيارة ،جّاته نحو باب اجلديد ّ
احلديدي الكبري لبلد ّية تونس ،واستأذن سعد العون يف ّ أمام الباب
جاهزا.
ً الدّ خول .بعد ذلك كنّا داخل قاعة فسيحة ،وكان ّ
كل يشء
كلأن سعد والرا خ ّططا ج ّيدً ا ،وفكّرا يف ّ قلت يف نفيس من الواضح ّ
كل ما كان حيصل يف اخلفاء؟ حرضت التّفاصيل .كيف مل أنتبه إىل ّ
خالتي منج ّية ونور ،ارتديتا ز ًّيا تقليد ًّيا وكانتا يف منتهى الفرح.
خت ّيلت يف تلك اآلونة واخلالة هتمس يف أذن سعد ضاحكة أنهّ ا قالت
تزوجت هيود ّية يا فرخ احلرام؟» .حرض جوهر ورجل له« :يف األخري ّ
أن اسمه صالح ،صديق سعد ،وباإلضافة إىل آخر ،عرفت بعد ذلك ّ
كل وثائقي لدى ضابط احلالة املدن ّية ،وكان متأ ّن ًقا هو ذلك رأيت ّ
أيضا ببذلة سوداء وقميص أبيض ،راقني وشاحه املحمول عىل كتفه ً
األيمن بلونيه األمحر واألبيض وصفيحة الربونز التي تو ّثق طرف ْيه
ال هذا الوشاح ملا حيمله من يف مستوى اخلرص األيرس .مدهش فع ً
هيبة ومن معان سامية ،وال ينسى ضابط احلالة املدن ّية املتأنّق أن ينرش
أن سعد قد أيقظه قبلنا مبك ًّرا ابتسامة رصحية جّ
باتاه اجلميع .خ ّيل إ ّيل ّ
249
خصيصا لتلك اللحظة الفارقة من يف الصباح وأوصاه بأن يتأنّق ّ
ثم أكّد عىل غياب الزواج ّ
خاصا بإبرام عقود ّ
نصا قانون ًّيا ًّ
حياتنا .تال ًّ
دمت أمتلك جنس ّية تونس ّية.
املوانع ،املوانع الصح ّية والقانون ّية ما ُ
تو ّقف عند تلك املوانع ألنّه كان عىل عل ٍم بديانتي ،وكان عليه أن
يد ّقق املسألة ويفسرّ ها عىل مسمع من اجلميعّ ،
ثم التفت إ ّيل وسألني:
-السيدة هيلني ساسون ،هل توافقني عىل االقرتان بالس ّيد سعد
اخللفاوي؟
ثم قلت:
أومأت برأيس موافقة ّ
ُ
-موافقة ،أجل ،موافقة.
السؤال نفسه عىل سعد:
ثم طرح ّ
ّ
ّ
وبكل سعادة. -طب ًعا ،طب ًعا ،أوافق
دعي جوهر وصالح بعد ذلك ليكونا شاهدين عىل عقد القران،
رسي وشكرت ثم رشع اجلميع يف تالوة الفاحتة .أ ّما أنا فص ّليت يف ّ
ّ
كثريا .جوهر اكتفىتأخرت ً الرائعة التي ّالرب عىل هذه ال ّلحظات ّ
ّ
بقوة ،دمعت عيناها وهي تلتصق باملتابعة ،أ ّما الرا فكانت متسك يدي ّ
بحق وهي
مدوية ،كانت منرشحة ّ يب .اخلالة منج ّية أطلقت زغرودة ّ
ثم حتضن سعد والرا ،وبعد ذلك انفردت يب ومهست يف حتضنني ّ
«دوري احلزام يا هيالنة ،راين باش نستنّى إبراهيم و ّيل العهد».أذينّ :
مل يتو ّقف جنون سعد عند هذا احلدّ ،السيناريو كان حمكماً بعناية،
بعد ساعتني تقري ًبا وصلنا أنا وسعد إىل نزل فاخر يف جربة ،كانت
الرحلة كان سعد رحلتنا قصرية وممتعة عىل متن ال ّطائرة ،وطوال ّ
250
كثريا ،إحساسنا بالبهجة كان أكرب من أنيمسك بيدي .مل نتك ّلم ً
يتحول احللم إىل حقيقة تعجز
طبيعي .عندما ّ
ّ أمر
نتحدّ ث عنه ،وهذا ٌ
نتحرق شو ًقا إىل الوقوف ً
وجها لوجه، الكلامت عن اإلحاطة به .كنّا ّ
ظل يكافح لسنوات. نتشمم عمي ًقا عطرنا الدّ اخيل الذي ّ
إىل أن ّ
كل يشء؟ ماذا أقول عن ليلتنا يف جربة ،هل أنا قادرة عىل وصف ّ
السهل أن أصدّ قه ،عندما يطرق أبوابنا ّ
كل ما حدث معنا مل يكن من ّ
نحب احلياة برغبة أكرب
احللم بعد طول غياب ،ويعانقنا بحرارة ،فإنّنا ّ
ومحاس أكرب ورشاسة أكرب .أيقنت يف تلك ال ّليلة أنيّ أولد من جديد،
أحترر وأركض بعيدً ا
عىل صدى رصخة خف ّية بني يدي سعد ،كنت ّ
بعيدً ا .ويف مقابل ذلك ،ال أدري ملاذا دامهني ذلك اإلحساس املباغت
تتحرك حتتي وأنا أرقصأن األرض ّ واملخيف؟ أحسست يف حلظة ما ّ
كثريا مثلام رشب ،كنت أرقص وأسأل نفيس: مع سعد ،مل أرشب ً
«حركة األرض حتتي ،هل هي حقيقة أم خيال؟ ال أدري ،ال أدري».
وضاجة،
ّ الذاهلة كان مساحة عارية ،متأللئة الفراش يف غرفتنا ّ
بكل طمأنينة وراحة بال، بكل جوعنا وعطشناّ ، الشغف ّ انغمسنا يف ّ
بكل أشواق الدّ نيا كان عناقنا ،وكانت قبالتنا ،وكان بكل مجوحّ ،ّ
السامء،
الزمن ،خارج املعقول ،نالمس ّ اشتعالنا ،كأنّنا نركض خارج ّ
قوة إىل وأقدامنا من اخللف تسحق تلك ال ّليايل الباردة ،وتركلها ّ
بكل ّ
ويوسع زفراته ،ويف قاطرته ّ س ّلة املهمالت .كان زمننا جيري ويركض
حتررنا .يف تلك ال ّليلة ،ابتكرنا أصابع خف ّي ًة ناعمة ،وح ّلقنا
الواسعة ّ
يف األساطري واخلرافات ،ح ّلقنا بعيدً ا عن هذا العامل البارد ،وأضأنا
بحرا ونتاموج ونحن بتوهج أرواحنا .حني نرى البحر ،نصري ً طريقنا ّ
251
نلتحم ،وحني تُالمسنا النسمة ،تزهر فينا حدائق من الشوق ونتالقح
الساموات واألرض ،إنّه الوله الرب ،يا خالق ّ ّ مثل األزهار .أيهّ ا
الذي جيعل العبد َم ِلكًا واخلاد َم سلطانًا ،إنّه الغرام يا واهب األنوار
واألرسار.
«حجة الغريبة» ،كنت مذهولة
زرت جربة أ ّيام ّكنت طفلة ُ عندما ُ
ثم أسمع جرس الكنيسة، وأنا أميش بجوار أ ّمي ،أسمع األذانّ ،
وتتناهى إ ّيل د ّقات جرس املعبد ،أسأل أ ّمي يف استغراب فتقول يل:
«اجلميع هنا يص ّلون هلل الواحد».
املمر الض ّيق الذي يؤ ّدي إىل ساحة االحتفال كنت أت ّل ّذذ
يف ّ
الروائح ،أرى باعة بروائح املأكوالت ،وكنت أعرف بعض تلك ّ
جيا خمتل ًفا من األغاين،
الزيتون ،وأسمع مز ً احليل واألقمشة وزيت ّّ
والشيخ العفريت تُعدّ دها شريا بجانبي« :صليحة وحبيبة مسيكة ّ
واهلادي اجلويني وعبد احلليم حافظ وأ ّم كلثوم» .قبل دخولنا إىل
املعبد ،أكّدت أ ّمي عىل واجب االحتشام وخلع احلذاء ،وض َع ْت
قطعة قامش عىل رأسها وغ َّط ْت به جز ًءا منه ،أ ّما أنا فبقي شعري
ضاجة وسعيدة، ّ وجوها كثرية ،كانت
ً مكشو ًفا .وبالدّ اخل رأيت
أيضاالفتيات يرتدين تنانري وفساتني ويتز ّي ّن باملساحيق .والرجال ً
قلنسوة سوداء أو بيضاء ومنهم من ّ خمتلفون ،منهم من يرتدي
يرتدي الشاش ّية .أشعلت شريا شمعتني ،س ّلمتني واحدة واحتفظت
باألخرى« ،تلك هي شمعة األماين» ،مهست شريا .بعد ذلك
كتبت أمنيتي عىل بيضتي ،كنت بطيئة وأنا أكتب ما أحسست به
كنت واعي ًة
كتبت ،هل ُُ والسالم» ..أذكر فع ً
ال ما «احلب ّ
ّ حلظتها:
252
وأنا أكتب ذلك؟ سرِ ْ نا بعدها إىل اجلانب األيمن للمعبد وتناولنا
مرة نبيذ البوخا .كنت أقفزوألول ّ
أيضا ّبعض األكالت ،احتسيت ً
بكل محاس كام جيري السعادة ،أجري ّ من مكان إىل آخر ،بمنتهى ّ
األطفال وكانت شريا جتري معي بنظراهتا وتتبعني بعينيها.
والروائح واأللوان وأنا مشتعلة يفكل تلك األصوات ّ عادت إ ّيل ّ
يدي يف يديه وألصق صدري بصدره .وكان حيلو حضن سعد ،أضع ّ
أمرر أصابعي عىل شعره وهو نائم بجواري ،يغمرين بأنفاسه، يل أن ّ
عيل بغري انتظام ،يف الكل ّية ،يف ش ّقة سعد ،يف
الصور تتوافد ّ وكانت ّ
محام احلريم ،يف مقهى التياترو ،يف مقهى باريس ،يف مارسيليا ،يف ّ
كل األمكنة كانت أمكنتنا ،كانت ملكًا لنا .و ّملا الشواشنيّ ،ّ مقهى
استفاق سعد ،مهست له:
نحج
احلج يا سعد ،أمنيتي أن ّ
-ال بدّ أن نعود إىل جربة وقت ّ
م ًعا إىل الغريبة.
ثم ذبنا من جديد يف مسك سعد ك ّفي وراح يفركه بأصابعه ّ
جيرين إىل ّ
كل التّخوم ،وأنا املساحة العارية ،سعد ال يشبع من عناقيّ ،
ّ
وأظل غارقة يف عطره. أيضا
ال أشبع ً
عدنا يف الغد إىل ش ّقتنا ،األمر مل يكن متع ّل ًقا بالرا ،كان ال بدّ
أن أفكّر يف التزامايت األخرى .أراد سعد أن نبقى ليلة أخرى ،أو
ليلتني ،كان مغتب ًطا ومنتش ًيا ،ويف األخري عدنا .طب ًعا ،يف زواجنا مل
إن اخلالة منج ّية غضبت ألنّنا مل نُقم حفلاً يف بأي تقاليد ،حتّى ّنتق ّيد ّ
حتتج عىل سعد ،المتني نظراهتا ور ّبام قالت بيتها ،ق ّطبت جبينها وهي ّ
253
رسها« :فردة ولقات أختها ..فرخ احلرام ولقا فرخة احلرام» .ويف يف ّ
األثناء مل أنس أن أخرب شريا ،صمتت أ ّمي وهي تسمعني« ،مل نفكّر
أرصت عىل ذلك.. يف األمر يا شريا ،كان ُمفاج ًئا ،والرا هي التي ّ
أحب صمتك يا شريا ،إنّه ّ
يعذبني» ،قلت هلا بمنتهى الدّ الل.. ّ ال
واستطعت يف آخر األمر أن أنتزع منها ضحكة ،كانت ضحكة خفيفة ُ
لكنّها أراحتني .كم أحببت أن حترض شريا ،وكم ّ
عذبني غياهبا ،ماذا
أي جمال للتّفكري ،وبالفعل ،تساءلت:أفعل للمجنو َنينْ ؟ مل يرتكا يل ّ
تم زواجنا بتلك السرّ عة؟». «ملاذا ّ
مفاجآت سعد مل تتو ّقف ،وهذه ّ
املرة أعدّ مفاجأة لالرا ،كانت يف
الواقع فكرة جوهر .العزيز جوهر زارنا رفقة خافا ،كان سعيدا ح ًّقا
بزواجنا ،مدّ ذراعيه نحوي وهو هينّئني ،ومل يكن بوسعي ألاّ أتأ ّثر
أيضا كانت مبتهجة وهي تقدّ م بدموعه التي ترقرقت يف عينيه .خافا ً
يل باقة زهور ،ومن الواضح أنهّ ا انتقتها بعناية .اندهشت ّملا ر َأ ْت
الرائع ،ال أصدّ ق أنّك أنتالرجل ّ سعد ،هنّأته وعانقته بزهو« ،أيهّ ا ّ
من اختطف قلب أمريتنا» ،قالت ضاحكة.
يف احلقيقة ،ال أعرف حلق الوادي بشكل ج ّيد ،كنت أسمع عن
أن أغلبها هاجر يف الستّينيات وجود عائالت هيود ّية قليلة ،صحيح ّ
والسبعينيات ،لك ّن آثارهم باقية .وهذا ما اكتشفناه عندما دخلنا إىل ّ
املخصصة لليهود التّونس ّيني.
ّ كازينو هادئ ،قريب من دار املسنّني
والزهور ،عىل غاية من الد ّقة واألناقة، املدخل مزدان باألشجار ّ
ويف قاعة املطعم ُع ّلقت ال ّلوحات ّ
الزيت ّية بإتقان .قرأنا الفتة ترحاب
ثمة جناح بال ّلغات األربع ،العرب ّية والعرب ّية والفرنس ّية واألنجليز ّيةّ .
254
الزهور. مرصفة بعناية وحتيط هبا ّ
صغري فيه كُتب بأكثر من لغةّ ،
املطعم مل يكن كام انتظرت ،له هندسة بسيطة ،وقاعة املطعم منفتحة
ثقايف حيمل ملسات فن ّية
أن الكازينو هو مرشوع ّ عىل املطبخ ،بمعنى ّ
مبهرة .صوت حبيبة مسيكة كان رائ ًعا وأنا يف حرضة سعد والرا،
أحب صوهتا املقتحم واجلريء ،جيعلني ال أغادر احللم. ّ املجنونة!
بكل حفاوة ومحاس ،ومن الواضح استقبلنا جاكوب ،صديق جوهر ّ
أنّه كان ينتظرنا بنا ًء عىل توصيات صديقه .جاكوب ُولد يف حلق
الوادي ،سافر إىل باريس مثل الكثريين وعاد بعد سنوات لين ّفذ
متخصص يف كاشري أو ال ّطعام احلالل ،مل ّ حلمه وهو إنشاء مطعم
يشأ أن يكون املطعم عرص ًّيا وجتار ًّيا ،أراد أن يكون تصميمه مم ّي ًزا،
الثقايف.
ّ يغلب عليه ال ّطابع
ثم يضع صين ّية الغالل واالبتسامة
قال جاكوب وهو ُيعدّ طاولتنا ّ
ال تغيب عن وجهه:
-أشكر جوهر ألنّه منحني ّ
كل هذه ال ّثقة ،يف الواقع أنا واأل ّم
لييل نحرص عىل جودة األكل ،طب ًعا نحن نعرف بال ّطعام
كل احلالل ،ونتم ّيز ُبأك َلت َْي الكسكس والعقد ..ستجدون ّ
ستتذوقون ما
ّ احلضارات هنا ،ومن ح ّظكم هذه ال ّليلة أنّكم
تشتهون ،جوهر ،بالتّأكيد ،ال ير ّد له طلب.
مهست يف أذن سعد« :العقد أكلة إسبان ّية ،كانوا
ُ يف تلك اآلونة
يقدّ موهنا ملصارعي ال ّثريان ،وهي ً
أيضا مثرية ّ
للشهوة اجلنس ّية».
هامسا« :إذن سيكون تركيزي بالكامل عىل العقد».
ً ر ّد
255
متر بطاولتنا:
قالت لييل والدة جاكوب وهي ّ
-كانت قاعة سينام راكس يف الستّينيات تفتح أبواهبا خالل أعياد
األديان السامو ّية الثالثة ،وتعرض األفالم لألطفال جمّانًا..
األطفال من مجيع األديان هنا كانوا يرت ّددون عىل راكس
ملشاهدة األفالم ..يرت ّددون عليها يف أعياد الفطر واألضحى
الزمن اجلميل؟
ونوال وبوريم ،أين نحن من ذاك ّ
كانت ليلتنا استثنائ ّية ح ًّقا ،املسألة ال تتع ّلق ّ
بلذة املأكوالت التي
الروح ّية املنعشة يف الكازينو.
قدّ مها لنا جاكوب وإنّام بتلك األجواء ّ
مل َأر الرا منذ سنوات بتلك الغبطة ،كانت منتعشة ّ
بكل يشء ،باهلواء،
ترسب الدّ فء إىل أوصايل أناباملوسيقى ،باأللوان ،وبحضن سعدّ .
أيضا وأنا أمسك بيد سعد بصورة الشعور ّية ،وسعد كان يأكل ً
أحسست وأنا
ُ كثريا مثلام عرفته يف البدايات.بنهم ،يأكل وال يرشب ً
ثمة يدً ا خف ّية كانت تشدّ نا إىل بعض ،كنت ُأمعن ّ
أتأمل جلستنا ّ
أن ّ
التّحديق يف وجه سعد ،وهو يأكل ،وهو يرشب ،وهو يستمتع بأغاين
حبيبة مسيكة ،وأهذي وأنا أمتلئ به .هو ال ينسى بني فينة وأخرى
مشاكسا ،سعد طفل ال يكربّ ،
يظل ً أن يق ّبلني أو يشدّ عىل فخذي
مر
أيضا ،فام ّ
كنت سعيد ًة لسعادة الرا ً عفوي .و َلك َْم ُ
ّ مشاغ ًبا ،بشكل
هوة اليأس ،بل نسقط أمرا ه ّينًا ،كان يمكن أن تسقط يف ّ هبا مل يكن ً
أخريا كيف نقتحم .االقتحام ،بال اهلوة .هكذا عرفنا ً
مجي ًعا يف تلك ّ
يسوي األمور اجلامدة والعالقة .أ ّما الرت ّدد ،ذاك املاء اآلسن
شك ّ ّ
كل يشء ،بل هو خانق وقاتل .أمل أكن م ّيتة؟ بالفعل ،سقط فيعكّر ّ
القناع اآلن ،سقط بال عودة .وسنعرف ،أنا عىل يقني ،سنعرف
256
الشغف هو ما جيعلنا نحيا .وال أنكر أنيّ حينام كنتالشغف أكثرّ ،ّ
غارقة يف وجه سعد دامهتني رغبة يف اإلنجاب ،سيكون ذلك هد ّية
له ،لسعد املجنون ،أنا مدينة له ّ
بكل يشء.
السعادة برسعة الفتة ،عىل خالف زمن احلزن الذي مىض زمن ّ
رت فعلاً ،وهنضت هبجتي العميقة من كان ينعق ويتم ّطط .لقد ّ
تطه ُ
الروح تقود إىل هبجة اجلسد ،وجسدي تع ّطر رساديب الغياب ،هبجة ّ
أنس التزامايت،
بأنفاس سعد وبجنون سعد .ويف هذا الوقت الض ّيق مل َ
السفارة الفرنس ّية لتسوية وضع ّية سعد،عيل ّأوالً أن أذهب إىل ّ
كان ّ
أخريا عىل االستقرار يف مارسيليا .وكان منطق ًّيا أن أفكّر يف
ً اتّفقنا
تتنهد تكون
أن شريا حني ّ شريا .حني أعلمتها باخلرب ابتهجت ،أعرف ّ
تتنهد بارتياح وتعلن أنهّ ا يف غاية االطمئنان.
يف أحسن حاالهتاّ ،
السفارة ّ
بكل يرس ،استظهرت ببطاقتي املهن ّية أمكن يل أن أدخل ّ
هت إىل مكتبي .وجدتُه كام تركتُه قبل سنوات ،ما وتوج ُ
ّ القديمة
أن الفتاة تغي فقط هو غياب املزهر ّية .قلت يف نفيس :من الواضح ّ
رّ
الزهور ،كانت منهمكة يف حاسوهبا، حتب ّ
رحبت يب ال ّ الشقراء التي ّّ
أسناهنا األمام ّية بارزة بشكل غري مريح ،ولكن عندما تغلق فمها
ساحرا.
ً يكون وجهها
قلت وأنا أتط ّلع إىل ال ّلوحة اجلدار ّية:
-عىل ما أذكر ،كانت هناك لوحة أخرى ،وأظنّها أكثر واقع ّية
الساحر لشارع احلبيب بورقيبة ليلاً كان ال
ومجال ّية ..املشهد ّ
رومنيس ،هذا
ّ تقليدي،
ّ يفارقني ..أ ّما مشهد الغروب فهو
257
صحيح ،لكنّه غري آرس.
ضحكت ّ
الشقراء وهي تتأ ّمل مالحمي ،سحبت سيجارة من
ثم قالت:
علبتها ّ
-مرحبا ،أنا مل أفهم شي ًئا ،هل أنت مو ّظفة يف ّ
السفارة؟
اقتحمت املكتب دون تقديم نفيس ،بالفعل كنت ُ -أنا آسفة،
السفارة بشكل يف هذا املكان الذي جتلسني فيه ،اشتغلت يف ّ
بالتمجة ومتابعة ما ُيكتب يفمهتمة رّ
ّ وقتي لسنوات ،كنتّ
اجلرائد واملجلاّ ت عن فرنسا .وأعتقد ّ
أن ذكريايت ط ّيبة يف هذا
املكتب.
-أووه ...مها ّمي اآلن أصبحت كثرية ومع ّقدة ،أنت تعرفني ّ
أن
اليومي.
ّ الشباب عىل اهلجرة إىل باريس أصبح شغلنا إقبال ّ
حيا .هل أنت عىل
النّظام هنا مل يستطع أن يقدّ م هلم شي ًئا مر ً
علم؟ الوضع هذه األ ّيام يف غاية اإلحراج.
وتوجهت إىل مكتب الس ّيد أندريه، ّ غادرت مكتبي القديم
ُ
الرائع .مل
الرجل ّ صديق إليف ،كنت يف حاجة إىل مشاكساته ،ذلك ّ
أجد الس ّيد أندريه« ،أحيل عىل رشف املهنة وعاد إىل باريس» ،قال يل
تقريرا عن الوضعً اب .ما أذكره أنيّ قدّ مت له ذات يوم
الش ّاملو ّظف ّ
مفصلاً بالفعل ،قلت للس ّيد أندريهتقريرا ّ
ً الزهور ،كانحي ّ
القاتم يف ّ
عىل ما أذكر« :ال أدري ،كيف يكون األمر ،لكن جيب أن تلفت
السفارة انتباه النّظام هنا ،كيف يتجاهلون ذلك الوضع اخلانق يف ّ
القرصين؟ يا إهلي ،إنّه وضع بائس جدًّ ا».
258
السفارة وأمكن يل ،بفضل خربيت ،أن يت وقتًا ممت ًعا يف ّقض ُ ّ
أسوي وضع ّية سعد ،طب ًعا هم حيتاجون إىل سعد لإلمضاء عىل بعض ّ
الوثائق .ما اسرتعى انتباهي هو تلك ال ّطوابري ال ّطويلة التي تقف يف
السفارة
اخلارج ،نظرات اجلميع كانت قلقة ومنكرسة .أمام باب ّ
متسولة وفكّرت يف أن أمنحهاّ اعرتضتني امرأة عجوز ،اعتقدت أنهّ ا
ثم قالت بنربة مرهقة: وتفحصتني ّ ّ شي ًئا من املال ،وق َف ْت قبالتي
بالسفر؟ هل سيسمحون له يا ابنتي؟
-هل سيسمحون البني ّ
السجن.
إنهّ م يطاردونه ،وقد يقتلونه يف ّ
شدّ ت عىل يدي وهي تسألني بإحلاح ،كانت كلامهتا ُمربِكة.
اكتفيت بتهدئتها ومل أقدّ م هلا إجابة واضحة ،أحسست باخلواء وأنا ُ
ترجني بشكل خانق ،ال أدري ملاذا أرى دموعها ،الدّ موع تنهشنيّ ،
رأيت يف تلك اآلونة عين َْي أ ّمي يف عينيها ،إنهّ ا جتعلني عرجاء وعاجزة.
يظل ح ًّيا بأقواله،رست بعد ذلك نحو شارع مارسيليا ،ابن خلدون ّ ُ
السنوات ،كان يدرك ّ
أن كان يعرف ما سيجري مع النّاس بعد مئات ّ
احلكّام سيظ ّلون أغبياء ،يشغلهم حارضهم عن املستقبل ،ويتجاهلون
الصور القو ّية يف شارع احلبيب بطبيعة احلال دروس املايض .باغتتني ّ
ثم مقهى باريس، التفت يمينًا وتط ّلعت إىل مقهى التياتروّ ،
ُّ بورقيبة،
وقفت ُبره ًة،
ُ الصور القديمة ترافقني دو ًما ،ومتنح طعماً حليايت.
تلك ّ
متشو ًقا إىل
ّ الصور اجلديدة ،سعد هذه األ ّيام مل يعداختزنت بعض ّ
يفضل أن يبقى معنا ،أنا والرا ،مل أق ّيده مقهى باريس وال إىل البارّ ،
أن جوهر نت إىل ّ
بيشء ،هو يعرف أنيّ ال أضع حبلاً يف العنق .تف ّط ُ
أمهلت مكاملته، ُ يتّصل يب يف اهلاتف ومل أر ّد عليه .يف زمحة انشغايل
259
كنت أنتظر بالفعل أن خيربين عن اجلديد .وأعتقد ّ
أن الوقت قد حان
لنبدأ تنفيذ خم ّططنا الذي فكّرنا فيه طويلاً .واآلن ،ال أرى ّ
أي سبب
السنوات.
حيول دون حتقيق حلم مئات ّ
اتصلت بجوهر وأنا ال أتو ّقف عن ّ
السري ،قلت له مؤكّدة: ُ
وسنمر إىل املرحلة احلاسمة يا جوهر.
ّ -نلتقي مسا ًء يف ش ّقتك،
ر ّد جوهر:
الصفر حانت يا هيلني. -أعتقد ّ
أن الساعة ّ
260
()12
سعد
فوهة التّاريخ
زمن أخرس خيرج من ّ زمن طويلٍ ، أحتاج اآلن إىل ٍ
ُ
الضجيج .أحتاج إىل أن أبقى أو من فم األساطري ،زمن ال يعرف ّ
أي يشء ،ال أفكّر يف يشء ،وال مسجى وخمدّ را باألدوية ،ال أتذكّر ّ
ًّ
كل األحوال ال بدّ أن أكتب ،ولو أرتّب صور ًة واحد ًة يف رأيس ،ويف ّ
بتأخري خارج عن إراديت ،ال بدّ أن أكتب شي ًئا.
أنا اآلن داخل الشرّ نقة ،عار ًيا متا ًما ،أو بلباس أبيض ،لست
الضباب و ُيمعن يف امتصاص دمي .ال أنكمش ،وأهبه أدري ،يل ّفني ّ
الضباب ،أشري إليه بأصابعي ،أيهّ ا
كل الشرّ ايني عن طيب خاطر ،أيهّ ا ّ ّ
كل دمي ،ارشبه يف رشفة واحدة ،ال ترت ّدد ،اطمئ ّن الضباب ارشب ّ ّ
الضباب ،لن أحقد عليك يف حلظة املوت .ال فائدة يف ما تفعله أيهّ ا ّ
املشجعة
ّ املمرضة معي ،ال فائدة ،وال أمل أيهّ ا ال ّطبيب ،ابتسامتك
ّ
حيمر خدّ ي ويشمله األزرق مدوية عىل خدّ يّ ، تصلني مثل صفعة ّ
الرجل الط ّيب؟ أنا مستسلم الغامق ،ملاذا تُرسع بحقنة أخرى أيهّ ا ّ
لكل تشنّجايت ،أريدها أن تتفاقم ،أريدها أن تهُ ّيج نزيف القلب ما ّ
أحب أن أنعس حتّى ال أسمع قدري وهو ينعق بنرباته اهلازئة:أمكنّ .
السعادة؟ من تستحق ّ
ّ «ها إنّك تدفع ال ّثمن يا سعد ،من قال لك إنّك
261
وشفتي،
ّ وأذين وأنفي
ّ كذب عليك؟» يقهقه قدري ،ويقتلع شعري
ثم خيتفي كاملارد اجل ّبار.
ّ
تقف الرا أمام غرفتي يف مستشفى شارل نيكول ،مرتعشة ومب ّللة
هوة .أرى أحيانًا عيني الرا بدموعها ،غارقة مثيل ،مسجونة داخل ّ
املمرضة« :إنيّ آسفة ،والدك حيتاج إىل بمنتهى الوضوح ،تقول هلا ّ
املمرضة ،فقط ساعات أخرى ليستفيق من غيبوبته» .ال أسمع تنبيه ّ
أتابع شفتيها .حني تقتحم الرا غرفتي يف غفلة من الشرّ ط ّيني أراها،
أرى دموعها وال أسمع نشيجها وال كلامهتا .أعود يف تلك ال ّلحظات
عيل الكهف يف وادي الدّ رب ،العنكبوت ال ترتك إىل كوابييس ،ينغلق ّ
أي جمال ألهربُ ،أنشب أظافري يف حباهلا وأحاول متزيقها ،أسقط يل ّ
وتتهشم أسناين .أرى يف العتمة هيكلاً عظم ًّيا ،أراه جامدً ا ،فجأ ًة
ّ
يتحرك وينهض واق ًفا ،ال أصدّ ق أنّه هيكل أيب ،صوت أيب ال رّ
يتغي، ّ
ثم يفتح يل ذراعيه .أسري ِ
وال يرتبك« :ال تبك يا سعد» ،يقول أيب ّ
تتلوى باتاهه فتخرج األفاعي والثعابني من تلك احلفر وال ّثقوبّ ، جّ
أمامي وتخُ رج من أفواهها ما يشبه النّمل األمحر ،هييج النّمل عىل
عيل وحني أحدّ ق يف العتمة من جديد ال أرى أيب.
ثم هيجم ّ
التاب ّ
رّ
بكل طاقتي وأمتكّن من أحاول أن أخرج من العتمة ،أقفز ّ
ثم رجالي .أركض نحو توتة ثم جذعي ّاخلروج ،خيرج رأيس ّأوالً ّ
التاب باح ًثا عن كنزي ،أنبش مثل كلبّ ،
ينز الدم إبراهيم ،أنبش رّ
من أظافري وال أشعر بأمل .يسيل الدم داخل احلفرة وهيامجني بغتة
ذاك النّمل األمحر نفسه ،نمل ضخم وبال مالمح ،ينفث ُ
جيشه ما
ثم حياول اإلمساك يب.
يشبه الدم من العيون الواسعة ّ
262
أيضا أنيّ كنت يف جحيم أحس ًعندما أستفيق ال أرصخ ،وال ّ
رسي« :هل أنا رجل خطِر؟» يدامهني هذا كابوس ،فقط أر ّدد يف ّ
اإلحساس منذ كنت طفلاً ،منذ ذلك الوقت وأنا ّ
أحس بفداحة ما،
بخوف ما ،بخطر ما ،لذلك كنت أخاف اهلل .ويف ليال كثرية كنت ال
السامء ،يف وقت
فز ًعا يف انتظار أن يأتيني اهلل ،يأتيني من ّأنام ،أبقى ِ
ما ،يف وقت مباغت .ويف ال ّليايل التي أنام فيها يأتيني اهلل يف ذلك
مذعورا ،أحاول أن أختبئ
ً فز ًعا ،أهنض البياض العظيم فأهنض ِ
حتت السرّ ير ،وراء الباب ،يف غرفة نوم أيب ،وكان ذلك ،يف اعتقادي
يرحيني قليلاً .
السامء وال يف
أي مكان ،مل أجده ال يف ّ
كربت ومل أجد اهلل يف ّ
البحر وال يف وادي الدّ رب وال يف ال ّطرقات .وكان ذلك يشقيني،
كنت كمن يتخ ّبط يف الوحل ،أضحك وأبكي ،أقف وأميش .وفجأة، ُ
ف منه ومل أهنض من نومي مصعو ًقا. أخريا ومل َ
أخ ْ عرفت اهلل ،عرفته ً
عرفت اهلل يف داخيل حني عرفت نفيس ،وعرفت نفيس حني
أي مكان ،وجدته جيتاحني ويسكنني أحببت هيلني .مل أجد اهلل يف ّ
وأحس بذلك
ّ احلب جعلني أرى اهلل
يف رأيس ويف قلبي ويف صدريّ .
اإلحساس العظيم ،إحساس أن يكون اهلل يف باطني ،بذاك النّور،
وبذاك االمتالء.
فت عن الكتابة، منذ أ ّيام مل أكتب شي ًئا ،وال أدري ملاذا تو ّق ُ
السعادة ال تُكتب وال تُو ّثق .هكذا أنا ،ال تنفتح ر ّبام ظننت ّ
أن أ ّيام ّ
شه ّيتي للكتابة إلاّ يف وضع ّيات احلزن ،وأنا اآلن يف متام املحرقة.
تشوهت .يفتشوه مثلام ّجربه مثيل ،وال أحد ّ احلزن العاوي ال أحد ّ
263
لت فيها يوم ّيايت كنت أعود إىل ّ
الذات ،أعود إليها ال ّليايل التي ّ
سج ُ
كل مالرتميمها ،أحببت أن تكون تلك التّسجيالت شاهدة عىل ّ
جرى ،بال تضخيم أو مبالغة أو خجل كنت أكتب ّ
كل يشء .واآلن،
بعد أن دامهتني النّريان وأحرقتني تعود إ ّيل الرغبة يف الكتابة .وما
سأسجل اعرتافايت،
ّ بكل شجاعة سأكتبه ،ال ريب ،سأكتبه بدميّ ،
كل ما حصل ولو بشكل أكره اجلبن ،وال أحتمله بالفعل .سأكتب ّ
أن األمر ّ
شاق ،ال متأخر ،سأحاول ما أمكن ألاّ أنسى شي ًئا ،أعرف ّ ّ
سأحتمل ،ال أدري.
ّ أدري ،كيف
الصدق أن يواجهني النّاس أحب وبمنتهى ّ ّ كل األحوال، ويف ّ
أحب لعناهتم إن شاؤوا ،أو
بعد أن يقرؤوا ما جرى يوم 15ديسمربّ ،
سباهبم أو صفعاهتم .لن أكون متضاي ًقا من يشء ،فأنا مل أعد أحتفظ
التخشب ،جامد ،بال وجه ،وبال عينني. ّ بإحسايس القديم ،أنا يف متام
أحب نظرات ّ
الشفقة ،ال ّ ويف مقابل ذلك ،إن صدّ قني البعض ال
أحب ذلك اإلحساس املهني .سأكتب من أجل هيلني ومن أجل ّ
حمضا ،ال أكثر ،ولكنّي
ً الرا ،وقد يرى البعض يف ما سأكتبه خيالاً
لن أكذب ولن أقدّ م شهادة زور .ما سأكتبه ،هكذا أعتقد ،سيجعل
إحسايس أعمق باهلل ،وسأطمئ ّن دو ًما ّ
ألن اهلل يسكنني .ور ّبام ،لست
وعيني وصويت ،وأجنحتي؟ هل أنا قادر ّ أدري ،سأستعيد وجهي
عىل استعادة أجنحتي؟ أجنحتي بالفعل تطايرت مع الغبار والغربان
يف ذلك اليوم املشؤوم.
264
()13
محام ّ
الذهب ّ
15ديسمرب 2010
265
متأخرة ،وكانت هيلني يف منتهى اإلجهاد ،استحممنا عىل يف ساعة ّ
عجل ومل تكن لنا شه ّية لألكل .رتّبت الرا طاولة العشاء لنا ،ولكنّنا
الصالون ،نامت دون مل نستطع أن نقاوم النّعاس ،ملحناها نائمة يف ّ
تغيري مالبسها .أظ ّن أنهّ ا انتظرتنا طويلاً إىل أن دامهها النّعاس عىل
الكنبة ،مل أنس أن أق ّبلها ،قبلتي األوىل يف يوم عيد ميالدها كانت
قبلة خفيفة ،جتنّبت بطبيعة احلال أن تستفيق مالكي ،لن تغفو من
توصلتم إىل يشء، جديد بعد ذلك ،وأعرف أنهّ ا لن ترتكني« ..هل ّ
الذهب»؟ املغامرة مثرية ترص هيلني عىل ألاّ أذهب إىل « ّ
محام ّ وملاذا ّ
وأحب أن أكون معكام ،كم أنتام قاسيان ،أنا مستاءة ،مستاءة منكام ّ
كل التّفاصيل، ثم جترجرين إىل ّكثريا يا سعد» ..ستقول يل ذلك وأكثر ًّ
ستشعل يل سيجارة وترمتي يف حضني وتستعدّ لسامعي .مل يكن من
التكيز يا
حلت عىل ذلك« ،إنيّ أحتاج إىل رّ املفيد أن ترافقنا ،هيلني أ ّ
إن الرا ال بدّ أن تستعدّ لالحتفال ثم ّ
الرا» ،هكذا حسمت األمرّ .
بعيد ميالدها ،اتّفقنا أن يكون احتفالنا هبذه املناسبة خمتل ًفا هذه
كل يشء ،يف األكل وال ّلباس واهلدايا ،وفكّرنا ،أنا السنة .فكّرنا يف ّ
ّ
مهمتنا يف احلماّ م ،ال ّبد أن تسعد
نتفرغ لالرا بعد إهناء ّ
وهيلني ،أن ّ
الصغرية كأحىل ما يكون ،تلك كانت خ ّططنا. ق ّطتنا ّ
اكتشفت جوهر يف هذه الفرتة ،مل أكن أعرفه بالشكل الكايف،ُ
بالذنب ألنيّ كنت متص ّل ًبا معه ،وكنت أعامله بكثري
أحسست ّ
ُ ور ّبام
من القسوة .استق َبلنا يف ش ّقته َيومني كاملني ،وكان خدو ًما ويف
أن ش ّقة جوهرأن هيلني فكّرت يف ّ منتهى الكرم .طب ًعا ،ال أنسى ّ
هي األنسب لوضع ال ّلمسات األخرية ملخ ّططها الذي أعدّ ت
266
مكوناتلكل ّ صورا دقيقة ّ
ً تفاصيله منذ أشهر .استعرضت أمامنا
فصلة تس ّلمتها من إليف قبل الذهب» ،وأحرضت خريطة ُم ّ محام ّ« ّ
كل ركن يف احلماّ م وبد ّقةأن يرحل .من الغريب أنهّ ا كانت تعرف ّ
السخون ،ذلك املكان كان الفتة ،كان تفكريها منشغلاً أكثر ببيت ّ
جمال اهتاممنا ،كيف يمكن أن نصل إىل الدّ فينة يف عمق أربعة أمتار؟
الوضع ّية كانت دقيقة جدًّ ا.
أناملسألة األخرى التي أثارث دهشتي ،بل أذهلتني بالفعل ّ
اهتامم هيلني مل يكن مرتب ًطا باملجوهرات ،مل يكن ذلك باألمر اهلا ّم
أهم ،وستكشف عندها .ويف احلقيقة ،املجوهرات ستقود إىل ما هو ّ
احلقيقي الذي تبحث عنه .مل تفصح عن ذلك إلاّ يف ش ّقة
ّ عن الكنز
جوهر ،أي يف حلظات التّخطيط األخرية .ال أخفي أنّنا ،أنا وجوهر،
اندهشنا ومل نصدّ ق بالفعل« .وماذا نفعل ّ
بالذهب إن عثرنا عليه؟»،
سأل جوهر.
تط ّلعت إليه هيلني ّ
ثم قالت:
-أ ّما املجوهرات إن صدقت اخلريطة طب ًعا فستكون من نصيبك
يا «جوهر» ،ولك احلر ّية يف أن تقتسمها مع خافا ،أليست خافا
حبيبتك يا أوري؟
ّ
املحل ملدّ ة ثالثة استطاع جوهر أن ُيقنع صاحب احلماّ م بكراء
ينسعرضا مغر ًيا ،ومل َ
أ ّيام ،مع إخالئه بالكامل ،قدّ َم ْت له هيلني ً
جوهر أن ُيس ّلم رشاد أجرة ثالثة أ ّيام ،هكذا متّت األمور .واحلماّ م
يف هناية األمر سيكون عىل ذ ّمة عائلة وال جيوز أن يوجد الغرباء طيلة
مخنت .يف العادة ال تتجاوز مدّ ةتلك املدّ ة .املسألة مل تكن مستعصية كام ّ
267
كراء احلماّ م اليوم الواحد ،مع وجود أعوانه ،ولكن أمام املال ال يشء
كل املفاهيم والعادات .ثالثة أ ّيام كانت كافية يبقى مستحيلاً ،تسقط ّ
املهمة عىل أحسن ما ُيرام ،كافية إليقاف تد ّفق املياه يف أنظمةإلنجاز ّ
ثم احلفر بد ّقة وحرف ّية .العنرص الذي م ّثل األنابيب وإزالة احلوض ّ
هاجسا هو حكاية الس ّباك ،فكّرنا يف األمر طويلاً ،ال بدّ من العثور عىل
ً
أيضا .شغلني واألهم أن يكون رجلاً نثق فيه ،وال ّ
يبتزنا ً ّ س ّباك ماهر،
احلل عند صالح ،أكّد هذا املوضوع بالفعل ،وبعد تفكري وجدت ّ
باملهمة عىل أحسن وجه. ّ أن أنور رفيق طفولته ويستطيع أن يقوم يل ّ
احلظ أنّه عاد هذه األيام من إيطاليا« ،يعمل يف رشكة ّ ومن حسن
كربى وهو كتوم ،اطمئ ّن يا سعد» ،قال صالح وهو ُينهي صداعي.
عيل أن أعود إىل ش ّقتي يف «ص ّباط الدّ زيري»،
يف هذه األ ّيام كان ّ
اخلاصة وبعض الكتب ّ عوديت كانت رضور ّية من أجل وثائقي
لدي ،ومن أجل توديع هاجر .من غري املناسب ألاّ أعلمها األثرية ّ
باملستجدّ ات األخرية ،كنت أعرف أنهّ ا ستتل ّقى اخلرب بشكل صادم،
ولن تصدّ ق أنيّ أغادرها هنائ ًّيا .بالفعل ،مل أكن مرتاح البال ،لن
قصتي مع يكون من اللاّ ئق أن أخفي عنها زواجي ،هي تعرف ّ
فإن موقفها سيصبح خمتل ًفامؤخ ًراّ ،هيلني ،وعندما تعلم بزوجنا ّ
شك .يوم عرفت احلقيقة التي أخفتها عنّي هيلني بكت طويلاً دون ّ
عىل صدري مثلام بكيت أنا ،وال أدري ما إذا كانت سعيدة باخلرب أم
أرصت عىل أن تعيد إ ّيل األموال التي أودعتُها عندها« ،أنت حزينةّ .
حتتاج إىل مصاريف ،وال تنس ،أنت أب اآلن يا سعد وال بدّ أن تُسعد
ابنتك» ،قالت هاجر ودموعها ال تتو ّقف.
268
طيلة أ ّيام اختفائي عن «ص ّباط الدّ زيري» ظ ّلت تتّصل يب عىل
مضطرا إىل عدم الر ّد عىل مكاملاهتا ،بل إنيّ كنت
ًّ اهلاتف ،وكنت
أتعمد إغالق هاتفي وكان ذلك يؤملني .أخت ّيل ر ّدة فعل هاجر وهي ّ
وتتلوى عىل الفراش .ال بدّ من
ّ غاضبة ،وهي تشتمني ،وهي تبكي
مصارحتها ،وأنا ح ًّقا ال ّ
أحب املامطلة.
حركت لساهنا وقالت:
ثم ّ
التقيت بنسيمة يف الدّ رج ،ابتسمت يل ّ
-كنّا نعرف ّ
أن املستودع خيفي مصيبة ،الشرّ طة جاءت تبحث
عن ج ّثة ،وفوجئنا نحن بالبضائع داخله ..بضائع ثمينة
احتجزها «احلاكم» ..نعيمة داهية تشتغل مع عصابة ونحن
ال نعلم.
للمرة األخرية ،ومل أخطئ الظ ّن ،كان قابلت هاجر يف الش ّقة ّ
وجهها شاح ًبا ،مل تبتسم يف وجهي مثل عادهتا ،وبعد أن علمت ُ
تتجمد أمامي،ّ أحسست هبا
ُ ثم
بقراري مل تقدر عىل تصديقيّ ،
خفضت عينيها واسو ّد وجهها .هل كنت عىل درجة كبرية من
أحببت يف تلك الدّ قائق املؤملة أن أقنع هاجر
ُ كنت ف ًّظا؟
القسوة؟ هل ُ
بأنهّ ا ال بدّ أن خترج من الوهم .الوهم عندما يطول يصبح قاتلاً ،
ونحن ال يمكن إلاّ أن نعيش يف الوهم ،يف أورامه الواهنة ،ال أفق
حقيقي يف حياهتا ال إىل ذكرّ أيضا ،ال أفق .هي حتتاج إىل رجل لنا ً
ذكرا فحسب ،وذلك ال ينام معها يف السرّ ير ،أعرف أنيّ مل أكن معها ً
يكفي ،ال بدّ من ارتباط يعلم به اجلميع ،ارتباط ال يهُ ينها ،بالفعل ،ال
رخيصا .ال أنسى ،هي أنقذتني يف أ ّيامي ً أحب أن تكون هاجر حلماً
ّ
أيضا بدأت تكرب احلالكة ،أ ّيام التّيه ،ومل ينتشلني غريها .بلقيس ً
269
مروعة ،سري ّددون يو ًما عىل
أحب أن تكرب عىل حقيقة ّ ّ وتفهم ،وال
أن أ ّمها عشيق ٌة لرجل غريب ،أنا متأكّد من ذلك.
مسمعها يف الوكالة ّ
ثم قالت بارتعاش: الصمت طوي ً
ال ّ لزمت هاجر ّ
-ال أحتمل يا سعد ،ال أحتمل أن تغادر الش ّقة هنائ ًّياَ ،أ ْب ِق املفتاح
متوجسة ،بل كنت أنتظر ّ عندك و ُعد متى تشاء .ال أنكر أنيّ
هذا اليوم ،كنت خائفة يا سعد .واآلن ،كيف أصدّ ق أنّك
سرتحل عنّي؟ أنت ال تعلم كيف تع ّلقت بك بلقيس ،سألتني
طيلة األ ّيام التي غبت فيها ،سألتني عنك يا سعد ،قالت يل
بانفعال« :أين بابا سعد يا ماما؟ ملاذا مل يعد يسكن بجوارنا؟»
أغمضت هاجر عينيها للحظات ،ر ّبام كانت تتذكّر ،ور ّبام كانت
تتألمّ ،تلك اآلونة كانت شا ّقة وعصيبة .أحسست بنفيس أتدحرج
عيل أن أستبدل قلبي الذي عشق هاجر بقلب آخر، وأذوي ،وكان ّ
قلب جامد ،من حديد صدئ .تركت حضن هاجر بكثري من
الرعونة ،وتركت دموع بلقيس بكثري من احلزن .وحني غادرت ّ
كل النّوافذ واألبواب .الوجوه شبحا خم ّيماً عىل ّ
الصمت ً الوكالة كان ّ
تتط ّلع إ ّيل باندهاش وأنا أبكي ،ور ّبام اعرتضتني نعيمة ،ور ّبام صالح،
مل أنظر إىل أحد ،ومل أك ّلم أحدً ا مثل رجل عىل أهبة أن يفقد عقله.
أفرط بالفعل يف كنت مدركًا متام اإلدراك ،وأنا أميش بتثاقل ،أنيّ ّ
وعيل أن أتعايش مع إعاقتي تلك. ٍ
قطعة منّي،
ّ
غينا مالبسنا ،ارتدت هيلني السخون بعد أن رّ باتاه بيت ّ رسنا جّ
قميصا صوف ًّيا ورسوال جينز وحذا ًء رياض ًّيا ،أح ّبت أن تكون عىل
ً
270
االعتيادي،
ّ زي احلفر
فحافظت عىل ّ
ُ أتم االستعداد للمساعدة .أ ّما أنا
ّ
أرصت هيلني عىل رضورة اقتنائي
سرتة بالستيك ّية مع اخلوذة .فقد ّ
احتياطي من اهنيارات اجلوانب أو هتاوي بعض
ّ للخوذة كشكل
الصلبة .ويف احلقيقة ،كانت هيلني حم ّقة يف
األحجار أو األجسام ّ
اكتشفت طبق ًة
ُ ذلك ،وعىل خالف حفرة الش ّقة ّ
السفىل يف الوكالة،
متحجرة عند رشوعي يف احلفر.
ّ رمل ّي ًة
271
املرحلة املوالية مل تكن سهلة كام انتظرت ،ال س ّيام يف ما يتع ّلق
ٍ
وأعصاب بح َرف ّي ٍة
بإيقاف تد ّفق املياه ،فاألمر يتط ّلب قطع األنابيب ِ
من حديد .بعد ذلك كان علينا أن نتجنّب املساس بقنوات ترصيف
مهمته
املياه ،وفكّرنا أن نتجنّبها ما أمكن عند عمل ّية احلفر .أهنى رفيق ّ
األخرية يف حالة إرهاق خ ّيمت عىل قسامت وجهه ،ومع هذا حافظ
عىل خ ّفة روحه .أثناء مغامرته معنا مل يتو ّقف عن رسد ذكرياته مع
صالح .روى لنا كيف أنقذه ذات يوم من الغرق يف البحر ،رفيق
أيضا ،رفيق ج ّن جنونه وهو يبحلق السباحة وال صالح ً ال حيسن ّ
وتلوح له بيدها ،مل يف وجه إحدى الفتيات ،كانت تبادله النّظرات ّ
تعمق يف البحر ،كان يسبح ببالهة ،وبال عقل، يفطن إىل نفسه وهو ّ
وبطبيعة احلال بدأ خي ّبط بيديه عىل املاء ويوشك عىل الغرق .ويف تلك
ال ّلحظات وبقدرة خارقة انتشله صالح ،وهو ال يصدّ ق أنّه يملك
موهبة فطر ّية يف السباحة ،ور ّبام فعل ذلك بسبب اخلوف من موت
صديقه املح ّقق .تلك املرأة التي كادت تكون سب ًبا يف مويت ،يقول
رفيق ،هي اآلن زوجتي ،بعد تلك احلادثة أمكن يل أن أواصل املغامرة
وتزوجنا.
ثم حدث ما حدث ّ وأتبعها إىل منزهلم صحبة صالح ّ
املتحجرة عقب ًة أوىل،
ّ أثناء رشوعي يف احلفر َم ّث َلت ال ّطبقة الرمل ّية
وكنت أنتظر عقبات كثرية .املعادلة كانت صعبة ،كيف يمكن أن
مالصق مليضة جامع
ٌ السخون» ضجيجا و«بيت ّ ً أجتاوزها دون أن أثري
صباحا .حاولت ما أمكن أن ً أن الوقت كان سيدي حمرز؟ ومن ح ّظنا ّ
أخت ّلص منها عىل مساحة مرت مر ّبع قبل صالة ال ّظهر .لو أدركنا أذان
ال ّظهر ،قلت يف نفيس ،فإنّنا سنتو ّقف عن احلفر ،ففي ذلك الوقت
272
وبعده لن ينقطع النّاس عن الوجود يف امليضة وس ُيفتَضح أمرنا.
حرصت
ُ كابوسا، ٍ
بجهد كبري أن أجتاوز ال ّطبقة التي بدت يل استطعت
ُ
ً
بعد ذلك عىل وضع األحجار يف حميط الفتحة حتّى أجتنّب يف مرحلة
الرمال .هيلني كانت تتابعني باندهاش ،تشهق أحيانًا، موالية تساقط ّ
أو تضحك ،تناولني قارورة ماء وال تنسى أن متسح العرق من جبيني
ثم
بمنديل أبيض .أ ّما جوهر فقد كان يساعدين عىل حتريك األحجار ّ
يتخل عن معطفه األسود ،أنا نفيس ال وجهه ومل ّ تعرق ُ عىل إخراجهاّ ،
أتذكّر أنيّ رأيت جوهر دون ذلك املعطف .كان بكامل د ّقته وعنايته
المست بالفعل طيبته ورباطة ُ ويتأهب ملساعديت،ّ يتابع حركايت
املرات أن ين ّبه هيلني إىل جتنّبجأشه ،وهو ال ينسى يف الكثري من ّ
االقرتاب من الفتحة ،كان خيشى سقوط إحدى األحجار يف حلظة
أتصور ح ًّقا أن حي ّبها بذلك
ّ سهو .وهيلني هي البنت التي مل ينجبها ،مل
شاب .مل
ّ الشكل ،فاجأها حينام قدّ م هلا صورة قديمة لوالدها وهو ّ
تنتظر أن تتس ّلم يو ًما مثل تلك اهلد ّية ،كانت شبيهة بمعجزة ،معجزة
الفوتوغرايف ،وكان إليف يضحك يف
ّ الزمن التّصوير
أن يعرف ذلك ّ
الصورة وهو مالصق ألحد اجلدران يف سوق القرانة.
ّ
قدمي،
ّ الرخو حتت أصبح احلفر بعد ذلك سهلاً ،ظهر ّ
الرمل ّ
ثم
تغيت ألوانه ،أصفر ّ الرمل ،كان ناعماً ،وك ّلام حفرت رّ
حتسست ّّ
ثم داكن .مل أكن يف حاجة بالفعل إىل معول ،اعتمدت عىل أمحر ّ
الرمل وتسوية اجلوانب ،ومل تساورين املخاوف املجرفة اليدو ّية لرفع ّ
نت ،أنّه السفىل .من ال ّثابت ،هكذا ّ
مخ ُ مثلام حدث معي يف الش ّقة ّ
متحجرة يف
ّ وقع حفر هذا املكان ساب ًقا بحكم وجود طبقات رمل ّية
273
تم اجلوانب ،وكان اعتقادي جاز ًما ّ
بأن عمل ّية احلفر قديمة جدًّ ا ،ور ّبام ّ
الذهن وأنا أتابع األهم من هذا أنيّ كنت صايف ّ ّ ذلك قبل بناء احلماّ م.
قت كنت أحرص عىل التّخفيف السطل ،وك ّلام ّ
تعم ُ الرمل يف ّ
وضع ّ
السطل حتّى يتمكّن جوهر من رفعه ،فأنا أعرف ّ
أن سنّه من محولة ّ
توجه هيلني هاتفها
ال تسمح له ببذل جهد كبري .وبني فينة وأخرى ّ
اجلوال نحو الفتحة ،ضبطت اجلهاز عىل ما أعتقد وش ّغلت برنامج
ّ
البحث عن ّ
الذهب ،كانت تنتظر اإلشارات ،تنتظر بعصب ّية أن يعلن
فضلت أناجلهاز عن وجود جسد صلبّ .ملا جتاوزت عمق مرتين ّ
أتو ّقف عن احلفر ،مل يكن من املمكن أن أجازف ،كنت عىل وشك
أيضا مل يكن باستطاعته أن يصمد أكثر.
االختناق ،جوهر ً
وقبل أن أنزل يف الفتحة الستئناف احلفر بقيت يف «البيت
الشموع يف ّ
كل لرتشف القهوة ومتابعة هيلني وهي تشعل ّ
الباردة» ّ
مرت إىل املطاهر الزوايا .بدأت با َملطاهر ال ّثالث بالقرب منّيّ ،
ثم ّ ّ
السخون» .تناولت بعد
أيضا إىل «بيت ّ
مرت ً
املوجودة يف املدخلّ ،
ذلك املبخرة من يد جوهر وانغمست يف جولتها بكامل رشاقتها
ٍ
بلهفة وأنا ّ
أترشف من فنجان القهوة .تبادلنا وخ ّفتها ،كنت أتابعها
النّظرات دون أن نتك ّلم ،كانت تطوف باملبخرة كأنهّ ا مستغرقة يف
روحي مقدّ س.
ّ طقس
ثم قالت:
وضعت هيلني املبخرة بجانبي ّ
التاب ،يا سعد ،يبدأ عمقه يف الغالب من
اليهودي يف رّ
ّ -الدّ فني
مستوى أربعة أمتار.
274
قلت وأنا أستعدّ للوقوف:
السارة. -هذا ج ّيد ،أمامنا اآلن ّ
أقل من مرتين لنستقبل األخبار ّ
حضنتني هيلني مرشقة:
اجلوال أن خيرج من صمته.
-عىل هذا اهلاتف ّ
ثم تابعت: ّ
ترشفت من الفنجان ّ
أحب أن أكون قلقةّ أحب املجازفة يا سعد ،ال
ّ -ومع ذلك ال
عليك .أعرف أنّك تشقى من أجيل ومن أجل حلمي ،غري أنيّ
أخشى عليك من اخلطر يف األسفل .عليك أن تكون واث ًقا من
تتهور من أجيل ومن أجل تتهور يا حبيبي .ال ّ ّ
كل يشء وال ّ
الرا ،ف َب ْعدَ عمق أكثر من مرتين يصبح التن ّفس صع ًبا...
قاطعتها ضاحكًا وأنا أربط حزامي باحلبل:
-ال ختايف عىل ص ّياد الكنوز يا حبيبتي.
استأنفت احلفر وكنت بني حلظة وأخرى أتن ّفس بعمق ،انقبض
داخيل ّملا ظهرت حجر ٌة حتت قدمي ،خشيت أن تعرتضني طبقة
صخر ّية ،سيكون األمر شا ًّقا يف تلك الوضع ّية .تناولت الفأس،
فإن األمر حتركت ،قلت يف نفيسّ ، وحاولت حتريك احلجرة .لو ّ
أحرك احلجرة الرمل .استطعت أن ّ مندسة يف ّ
ّ يتع ّلق بوجود حجرة
أيضا .وأنا أفعل ذلك تو ّقفت أهشمها ً أخريا ،كان بوسعي أن ّبيدي ً
ّ
عند نقيشة يف سطحها ،تأ ّملت النّقيشة فرأيت ما يشبه محام ًة فاحت ًة
الصندوق جناحيها .تأكّد يل يف تلك ال ّلحظات أنيّ بدأت أقرتب من ّ
275
احلديدي الذي أشارت إليه هيلني .بعد ذلك اشتممت رائحة يشء ّ
جترعت الرائحة تثخن ،وأحسست بتن ّفيس يثقلّ ، ثم بدأت ّ حمروقّ ،
أحتمل تلكمن قارورة املاء وواصلت ،وكان من الضرّ وري أن ّ
مرة نزلت فيها إىل بئر ،كانت الرائحة التي اقتحمتني .أذكر ّأول ّ ّ
ذكرى مؤملة ،لكنّها مثرية ،مل أكن أعرف اآلبار ،أيب يومها كان يشكو
واضطر إىل االستعانة يب .عثر بالقرب من البئر عىل ّ من زكام حا ٍّد،
كنزا .كان البئر
أن بالبئر ً صخرة نُقشت فيها آثار قدم أسد ،وعرف ّ
ثم أنزلني ،دامهني تقري ًبا عىل عمق ستّة أمتار ،ربط حزامي باحلبل ّ
بيدي ،كنت أخشى أن ّ التاب إحساس باخلوف يومها وأنا أنبش رّ
التاب واحلجر طت يدايا يف رّ ّرت وخت ّب ْ تدامهني إحدى األفاعي .توت ُ
جرة مملوءة بمعادن ذهب ّية صغرية واستطعت يف األخري أن أعثر عىل ّ
باجلرة وأنا أهلث ،مل أصدّ ق أنيّ عثرت عىل كنز، ومستديرة .أمسكت ّ
الشظايا وأصابت رأيس يف اجلرة هتاوت إحدى ّ وعندما رفع أيب ّ
مستوى اجلبني .يف ال ّلحظة التي رفعت فيها رأيس دامهتني الشظ ّية،
وأحسست بصاعقة تنزل عىل جبينيّ ،نز دمي من اجلرح وسال عىل
فقدت برصي ،مل أعد ُ وجهي وعنقي .خ ّيل إ ّيل يف تلك الدّ قائق أنيّ
كل يشء .كنت أرى شي ًئا ،لكنّي أمسكت باحلبل واختفى أمامي ّ
أحس بنفيس أطري نحو األعىل ،أطري بال جناح ،انتشلني أيب بمش ّقة ّ
مكسوا بدمي،
ًّ واحتضنني .استطعت بعد ذلك أن أرى وجه أيب
مت ،وملارتعشت يف حضنه وفقدت الوعي ،ور ّبام اعتقد أيب أنيّ ّ
اليوغساليف يومها « :لقد نجوت بمعجزة ،لو مل ّ أمت .قال يل ال ّطبيب
الشقي».
ّ ملت أيهّ اترفع رأسك يف حلظة خاطفة ّ
276
الرمل واستخرجت أزلت عنه ّ ُ حتسست بقدمي شي ًئا صل ًبا، ّ
استمعت إىل إشارات يف ُ شكل سمكة من زجاج ،ويف تلك اآلونة
أعىل الفتحة ،تعالت اإلشارات أكثر فأكثر وصاحت هيلني« :رائع،
لقد نجحنا» .تطاير شعرها داخل الفتحة ،أنعشتني عيناها ،نفخ ذاك
الساحر يف صوريت وأعاد إ ّيل أنفايس .وجه هيلني كان يظهر الربيق ّ
احلب!ّ وخيتفي ،تالشى االنقباض يف داخيل ،كم هو عجيب هذا
أيضا ،ور ّبام
منحني طمأنينة غريبة داخل متاهة ،مل يعد عنقي يؤملني ً
ست قدماي وحتس ْ
ّ الرمل بعد ذلك رت يف األثناء .تواصل رفع ّ ختدّ ُ
بيدي ،هاج العرق يف كامل جت وأنا أنبش ّ من جديد جسدً ا صل ًبا ،هت ّي ُ
الرمل بأصابع مرتعشة، أزلت عنها ّ ُ جر ًة صغرية، سحبت ّ
ُ جسدي،
الذهب يف ك ّفي، الذهب ،ملع ّ اجلرة قط ًعا صغرية من ّ واستخرجت من ّ
ُ
واستخرجت قط ًعا أخرى. ُ ترسبت أصابعي إىل اجلوف من جديد ّ
حديدي ،شكله شبيه بام وصفته ّ اجلرة يل رؤية سطح صندوق أتاحت ّ
الصندوق ،وكان ال بدّ حترك ّ هيلني .احتجت إىل الفأس لتحريكهّ ،
الصندوق بأكمله ،مل يكن الرمل ،بعد ذلك ظهر ّ أن أرفع مزيدً ا من ّ
الصندوق فاق به قفل ،تن ّفست بعمق وأنا أفتحه .ما طالعني داخل ّ
عت إىل ال ُعلب ال ّلوح ّية املزركشة ،ثالث السحر .تط ّل ُ اخليال ،بل فاق ّ
ٍ ُع ٍ
الصدئ .تناولت علبة الصندوق ّ مرصف ًة بعناية داخل ّ لب كانت ّ
تضمنت خمطوطا ّ وأمكن يل فتحها بيرس ،استخرجت ورقة برد ّية
وبخط اليد .قالت هيلني يف األعىل« :رائع، ّ أثر ّيا كُتب بال ّلغة العرب ّية
كل علبة هبا خمطوط رائع يا حبيبي .هل وجدت ثالث علب لوح ّية؟ ّ
بكل كنوز الدّ نيا» كنز ال ُيقدّ ر ّ أثري لكتاب التّوراة .إنّه كنزنا يا سعدٌ ، ّ
277
كل العامل يرقصلت العاملّ ،
باتاه هيلني ،فتخ ّي ُعيني جّ
ّ رفعت
يف عينيها ،أرس َل ْت يل قبلة يف اهلواء وتاب َعت« :اآلن أدركنا احلجرة
تتحسسها بيديك يا سعد ،حسب اخلريطة هي ّ املباركة ،حاول أن
الصندوق».بجانب ّ
نت إىل احلجرة التي أشارت إليها وبالفعل ،رسعان ما تف ّط ُ
الرطوبة هيلني ،حجرة ضخمة ومنقوشة ،ظهرت عليها آثار ّ
التاب ّية
الرخامي ،بعض البقع رّ التاب عن سطحها ّ والسنني .أزحت رّ
ّ
متك ّلسة ،تناولت قارورة املاء بجانبي وسكبت قطرات عىل تلك
السطح األملس ،ظهرت يل احلروف مررت ك ّفي عىل كامل ّ ثم ّ
البقع ّ
أخريا ،احلروف بال ّلغة العرب ّية ترسم ما يشبه
ً واألشكال املنقوشة
الشجرة بجذعها وأغصاهنا.ّ
يف تلك ال ّلحظة صاحت هيلني من جديد ،وصلتني صيحتُها
مدوية« :أرجوك ،أرجوك يا سعد ،أال تسمعني؟ ..دعني أملس ّ
الرائحة يف األسفل ..طب ًعا أنت أشتم تلك ّ
أحب أن ّ
حجرتنا املباركةّ ،
لن تقدر عىل إخراج احلجرة وال زحزحتها حتّى ،سأكتفي بلمسها
صورا هلا ..تلك
ً وتقبيلها ..أجل ،أجل يا حبيبي والبدّ من أن ألتقط
احلروف واألشكال هي شجرة العائلة ،تارخينا يا سعد».
وتلح يف ال ّطلب ،شعرها يتاموج
ّ طفقت تشري بيدهيا وتبتسم يل
يتلهف هو اآلخر عىل اكتشاف القاع .رفضت بال ّطبع ويتطاير كأنّه ّ
أن تنزل إىل احلفرة ،هيلني جمنونة ،مل يكن من املعقول أن أوافقها
معرتضا عىل فكرهتا املباغتة« ،هذا
ً أيضا كان
عىل هذا اخلبل ،جوهر ً
278
هتور» ،قال هلا .وصلني نشيجها« :ملاذا متنعني من ملس حجرتناّ
املباركة وتقبيلها؟ وأنت يا جوهر ،ملاذا تصدّ ين عن حلمي وحلم
إليف؟ ملاذا؟ ملاذا؟».
وافقت
ُ اآلن ،البدّ أن أسأل نفيس بكامل احلدّ ة واإلدانة :كيف
انحنيت جلنوهنا يف حلظة مزدمحة؟
ُ عىل طلب هيلني ،وكيف
كانت تلك احلامق ُة محاق َة العمر التي ذبحتني.
صعدت إىل أعىل الفتحة ومعي العلب ال ّلوح ّية، ُ يف حلظة جمهولة،
رقة كأنهّ ا تُق ّبل والدها إليف،تس ّلمتها منّى هيلني ،حضنَتْها بح ٍ
ُ
سمحت ثم س ّلمتها إىل جوهر .بعد ذلك ٍ تشم َم ْت ّ
ُ كل علبة عىل حدة ّ ّ
هليلني بالنّزول ،وقد كان جوهر متوت ًّرا مثيل وأنا أربط حزامها باحلبل،
تركت شعرها خارج اخلوذة ،ومل يكن من ُ ألبستُها اخلوذة بمش ّقة،
املمكن أن أحرشه بالدّ اخل ،كان ذلك مستحيالً .عانقتني هيلني
ومتحمسة،
ّ ثم أسلمت جسدها للفتحة ،نز َل ْت ضاحك ًة وق ّبلتني ّ
الشغف ،وبمنتهى البهجة .ويف غفلة عيني بمنتهى ّ ّ كانت حتدّ ق يف
حبست
ُ منها ،يف غفلة مريعة ارتطمت رجلها اليمنى بأحد األنابيب،
أنفايس إثر ذلك االرتطام ،مل حيدث يشء ،لكنّني تعكّرت .وما إن
نزلت هيلني والمست احلجرة حتّى انفجر األنبوب وكانت ال ّلحظة
كل جانب وار ّجتت الرمال من ّ املزلزلة .يف ثوان مرعبة انزلقت ّ
األرض .فزعت أيدينا ،أنا وجوهر إلخراج هيلني ،كان البدّ من
رصخت ،سال ُ ثم
حتجر ُت ّ
ّ إنقاذها ،البدّ ،وكان هناك بصيص أمل.
كامل ُعنقي .أمكن ومددت َ
ُ انحيت
ُ متزق احلبل، ثم ّالدّ م من ك ّف ّي ّ
279
مرة يا إهلي ،عيناها مذعورتان، مرة ،آلخر ّ يل أن أرى هيلني آلخر ّ
تنز من وجهها ،من ذراعيها ،ومن رصخاهتا، مشوشتان ،الدماء ّ
ّ
رصخت
ْ فأحسست به ينكرس.
ُ خنقتني ولوت عنقي مثل جان أمحر
لت رصخاهتا األخرية: حتم ُ مرة يا إهلي ،كيف ّ مرة ،آلخر ّ
هيلني آلخر ّ
«سعد ..الرا ...شريا....الرا يا سعد» .وتالشت مثلام تالشيت،
ـي د ّقات جرس الكنيس ثم تناهت إِ َل َّ
ور ّبام استمعت إىل صوت أذان ّ
دوامة وأنا أرى اهنيار الفتحة قوي .كنت يف ّ سمعت صدى ارتطام ّ
ُ ثم
ّ
ثم صارت بركانًا،
ضاجةّ ،بالكامل ،الفتحة صارت ضخمة ،صارت ّ
كل يشء ،تعاىل الغبار ،وتطاير ثم انتهى ّالرمال واألحجار ّهتاوت ّ
مثل غربان خترج دفع ًة واحد ًة من كهف.
280