Professional Documents
Culture Documents
أورنيال
رواية
إهداء
إىل الذئب الذي منح الغجرية خلخاالً ورقص معها تحت القمر،
ثم جمع شعرها بجديلة وجلس يحرسها لتنام ..
إىل كل الذئاب الذين مل تنصفهم الحكايات ..
إليك.
سعاد مصطفى
كهف احلكمة
7
أدركت أن رحلتها تعتمد عىل مشاهدة وفهم ما حدث قديماً ،
تذكرت قول مرشدها:
كل ٍ
يشء عن نفسك”. “هنا ستتعلمني َّ
سألت مرشدها:
-كيف أتعلم كل يشء عن نفيس بمشاهدة أشخاص ال
أعرفهم؟
-راقبي ..ال حتكمي..
8
يوجني
ظهرت قريتنا بعد بركان أورنيال ،بدأ ينتقل إليها الناس وهم
يمنون أنفسهم بأرض خصبة غنية باملعادن والصخور ،بالبداية
كانت البيوت تتناثر هنا وهناك عىل مرمى البرص ثم عندما زاد عدد
الناس بدأت تلتصق ببعضها التصا ًقا شديدً ا ،عجزت األرض
عن سد أفواه اجلميع املفتوحة ،كانوا كاجلراد يأتون عىل األخرض
واليابس ،بدأ اجلوع ينترش ،قتل البعض غريهم للسطو عىل غالهلم
املخبئة ،افرتش الفقراء ،املرىض واملتسولون الطرقات ،كنا نسري
موت أحدهم جو ًعا يو ًما بعدَ يو ٍم ،تعالت رصخات َ لنكتشف
الصغار اجلائعني وبكاء ذوهيم العاجزين عن سد جوعهم ،كثرت
أرضا للجنون .حتى الرسقات والشغب ،أصبحت القرية اهلادئة ً
تدخل “مارك” كان كاسمه بالضبط؛ حُ ِم ًّبا للحرب ،مجع كبار َّ
رجال القرية ونساءها من ذوي الثروات واملناصب وأخربهم
عن خطته إلنقاذ القرية التي تتضمن التخلص من كل املرىض،
املعاقني ومعدومي الثروات ،واإلبقاء عىل طبقة الفقراء العاملني
وطبقة العبيد األشداء لضامن راحة األثرياء.
صغريا من العبيد
ً ً
جيشا منحه األثرياء مباركتهم فشكَّل
9
لين ّفذوا خطته .الحظنا بعد بضعة أيام أن الشوارع عادت نظيفة،
الرسقات قلت ،وصمت رصاخ األطفال .قل عد ُد سكان القرية
للثلث .أصبح مارك بن النجار “املبجل مارك” منحوه لقب راعي
الفضيلة األول وأغدقوا عليه الثروات فأصبح عىل رأس أثرياء
القرية.
عندما سألوه ِمن أين أيت بذلك احلل ،أخربهم أن الرب جتىل
له وأخربه أن يقطع خلوته وينهض لينقذ رعيته فبجلوا مبعوث
الرب األول فيهم.
بيت لذا اختار ٍ
مبعوث إله فال ُبدَّ أن يكون لإلله ٌ وألن لكل
وأمر عبيده بإنشاء معبد الرب
املبجل مارك أعىل ربوة بالقرية َ
واختذه بيتًا ثم أطلق عىل القرية “مدينة” ألهنا مدينة له بمعروف
طهرها بدينه اجلديد فأصبحنا نحيا بـ “مدينة إنقاذها وألنه َّ
أورنيال” وبعهد راعي الفضيلة األول “مارك”.
***
اعتدت احلياة وسط مج ٍع من الناس يعتقدون أن املرض واألمل
ستحق عىل خطيئة ارتكبت يف حق الرب ،إما أن ختفي عقاب ُم َ
أملك أو حيارصوك بطلبات التوبة .أنا متعب ،متعب للحد الذي
قدرا ضئي ً
ال من الطاقة ألثبت ال يسمح يل بإخفاء أملي ،أو يمنحني ً
براءيت من ارتكاب ذنب ،حقيقة مل أعد أكرتث لغضب الرب.
ٍ
متعب ويمنح مباركته ملن أثار فلم يغضب الرب عىل ٍ
عبد ِ
َ
بداخله إحساس األمل؟!
10
لمِ َ متيل كفة العدالة للمبجلني ُخدَّ ام الرب ،وترتفع بوجه من
يعبدونه بصدق ،ويطيعونه بحب؟!
أنا غاضب ،غاضب حتى حدود السامء ،إن تركت لغضبي
العنان سأنفث النار من أنفي وفمي كتنني فقد السيطرة .تشتعل
قادر عىل حتريك سفينة حتى ترسو.
املراجل بصدري ،بخارها ٌ
تصفعني ظنوين ،تلهب وجهي ،ت ِ
ُفقدين سيطريت عىل عقيل،
يرضبني اجلنون فأترنح ،تدفعني احلرية فأسقط ويلوث الشك
ثيايب.
ٍ
ضوء ،ترافقه كالعادة رائحة شعاع أقبع بظالم نقي ال يشوبه
ُ
عطنة .سألت نفيس لمِ َ ال تأيت الرشور فرادى؟!
ألصل إلجابتي اخلاصة بأن الرشور نفسها ختاف الوحدة.
أنا ال أخاف الوحدة..
لمِ َ ال أخاف الوحدة؟!
هل ألنني اعتدت أن يتخىل عني اجلميع؟!
لو كان هناك خيار لروحي لفار َق ْت جسدي ،وختىل عني قلبي،
هربت أورديت ورشاييني وقفزت أصابعي مهللة للحرية.
وتركني جلدي عار ًيا إال من نفيس ،ستظل نفيس برفقة َمن
تب َّقى منِّي بل من عجز عن اهلرب ،فهي الذعة ساخرة لن جتد من
يصرب عىل قسوهتا غريي.
وحيدٌ ببئر ظنوين ،تقتات ديدان احلزن عىل أشالئي ،تغرس
أفواهها اجلائعة بجسدي وتنهش قط ًعا من روحي ،يزيد هنمها
11
كلام تلويت عذا ًبا بينام تزداد إحجامها بجنون ،أصبح األمل فوق
سحبت مد ّيتي التي كنت أحرز هبا النرص فيام مىض ُ طاقتي،
ومررهتا عىل رسغي املقيد بصعوبة ألعلن هزيمتي وأدع احلزن
يكمل وجبته دون أن تزعجه رصخايت.
قفزت ثالث قطرات محراوات ليدقوا ناقوس احلرية ،وينبهوا
أعضائي بأن وقت الرحيل قد حان
فودا ًعا يا رفاق ،ودا ًعا أورنيال ،لك َّن املوت خانني ،حتى
عيل بالراحة.
املوت ض َّن َّ
ٍ
بحياة ال متنحني شي ًئا ..ال كرامة ،ال ما الذي جيعلني أمتسك
حب ،ال مال.
من بني كل الفتيات املتاحات يل ،رفع قلبي هامته واختار
فتاة من الصفوة؛ أورنيال ،التي سميت تيمنا بالربكان الذي منح
اخلري ملدينتنا ،أورنيال ذات الشعر الذهبي املحمر التي قبس اإلله
نارا ووضعها بشعرها ،ال فتاة يف املدينة كلها ُو ِهبت
من الشمس ً
ال وال برشة صافية كبرشهتا ،حتى املبجل نفسه وقف شعرا مماث ً
ً
مأخو ًذا أمام مجاهلا ورقتها وهي طفلة هتدل ،مل يرتدد لثانية وهو
يمنحها االسم املبارك ،بل تنبأ بأن الناس سيسجدون حتت قدميها
وأهنا ستشارك اإلله جمده يو ًما .حينام متر يتوقف اهلمس ،يصمت
اجلميع ،فقط خيتلسون النظرات هلا ،يستنشقون عبري جسدها
عطرا بدي ً
ال للعرق. املميز ،مل َأر امرأة من قبل ينضح جسدها ً
كنت موك ً
ال بحراسة الشاطئ ومنع أي أحد من االقرتاب،
12
أمرين بذلك املبجل فيكتور ابن املبجل مارك ،ذلك الشاب املقيت
ورث خدمة الرب عن أبيه. الذي َ
عيل أن أنفذ دون أن أسأل.
كان َّ
اجتهت للشاطئ أمسكت رحمي أدرت ظهري وراقبت
الطريق ،كنت أسمع أصوات فتيات تلهو ،يبدو أن مريال ابنة
أحد .كنتاملبجل أندروس أرادت أن مترح باملاء دون مراقبة من ٍ
قد حرست الشاطئ هلا مرة من قبل بأوامر من املبجل أندروس
شقيق املبجل مارك.
السلطة باملدينة ألنه يد الرب
حينام أمسك املبجل مارك مقاليد ُّ
باألرض -كام ادعى -نصب شقيقيه
أندروس وإبرام خدا ًما للرب ومساعدين له ،أنجب أندروس
اجلميلة مريال من امرأة ثرية تدعي فريا -أي املخلصة -تلك التي
شاركت جسدها مع أخيه إبرام -أي األب املكرم -الذي مل ينجب
أبدً ا رغم اقرتانه بثرية تدعى كلوديا -أي العرجاء الكسيحة -التي
كان يتهمها بأهنا أرض جدباء ،رغم أنه واثق أن ماءه هو الذي ال
خملصا هلا بالطبع؛ فقد عارش العديد من النساءيروي ألنه مل يكن ً
واجلواري .كنت متع ًبا فقد محلت عىل كتفي الغالل لوضعها بمخزن
بأمر من الرب،الرب ،لقد وضع املبجل مارك يدَ ه عىل كل األرايض ٍ
حتى ال يتكرر ما حدث قديماً ،فهو أكثر حكمة بإدارة أمور املدينة
واقف
ٌ -هذا ما يدعيه ويصدقه اآلخرون دوين -كدت أغفو وأنا
واه -قد كان لكن صوت الواها -صوت التعجب من طيب يشء ٍ
13
خمتلسا للنظر ،كنت
ً عيل أن أستدير
مغر ًيا جلعيل ألتفت مل يكن َّ
أعلم أن رقبتي قد تطري عقا ًبا لفعلتي هذه لكنني مل أستطع منع
نفيس ،فام رأيته كان مكافأة يل عىل كل سنوات العمل.
هتادت أورنيال عارية عىل ماء البحر ،ثم رسعان ما امتزجت
املياه ل ُتكَون خيو ًطا زرقاء تسلقت قدماها بطريقها للصعود ملتفة
حول جسدها ،فعانقت صدرها ناسجة هلا فستانًا ،جاذبة إياه
حتى ركبتيها ،وتكاتفت األمواج ليمتد ذيل فستاهنا ليغطي سائر
ٍ
بغضب ما زال ببطء ،وكأن البحر الذي لفظهاٍ جسدها ويتبعها
حيتفظ بعاطفته جتاهها فأبى أن يرى الناس عرهيا .ثم مرت أمواج
عاتية من حوهلا دون أن تلمسها فدفعت الوصيفات بغضب
وتعاملت مع اخلصيان بخشونة رافعة لواء العنف فابتعدوا،
ملست قدميها الرمال ثم أدارت جسدها للبحر ونظرت إليه
ويبدو أهنا ابتسمت ،فهدأت األمواج الثائرة وأصبحت لطيفة،
تبتعد تارة غاضبة ثم يدفعها احلنني للعودة فت َق ِّبل قدميها ساعية
لعقد الصلح بعد ثورة أشعلتها الغرية .التفت حوهلا الوصيفات
جتففن جسدها وتعرصن شعرها بيام حاربت ألبعد نظري قبل أن
يكتشف أمري أحد.
أصبح هذا املشهد سلواي الوحيدة ،رفيق ليا ّيل الباردة ،أتذكره
فأشعر أنني احتضنت الشمس ،يرجتف قلبي ،يتلوي جسدي
وتتسارع أنفايس ثم أسكن منتش ًيا ،حتى ذكرها اآلن بدَّ د ُظلمة
سجني.
14
ٍ
حرشة هي، مرت عىل كتفي ،ال أعلم ألي أهداب سميكة َّ
ٌ
لكني واثق أن هلا عد َة سيقان هبا شعريات قصرية كتلك التي
تنبت بالذقن بعد حلقها .رست القشعريرة من أسفل رأيس حتى
أصابع قدمي ووق َف ْت كل شعرة بجسدي ،ياللقرف .أنا عاجز
عن دفعها بعيدً ا عن جسدي بيدي املقيدتني الداميتني.
لقد وضعني هنا فيكتور ابن ال ...مبجل بتلك احلجرة املقرفة
وحدي ألتوب عن ذنبي وربط يدي ألخوض حمنة الرب .ال
أعلم لمِ َ خيلقنا الرب ليضعنا بمحنة تلو األخرى؟
إن من يغرز بذرة باألرض يعلم جيدً ا ماذا ستنبت ،لمِ َ جيعل
اهلواء حيارهبا ،ديدان األرض هتددها والطيور اجلائعة تطري حوهلا؟
هل كل هذا العرض لتسليته؟!
كلام أسمح لعقيل أن يفكر ،يلقي أسئلته بوجهي ،إجاباهتا
جتعل املبجلني ُخدَّ ام الرب حفنة من اللصوص الفاسدين.
يبدو أنني بحاجة للتوقف عن التفكري؛ فبالنهاية هو سبب
وجودي هنا بدالً من فرايش الدافئ.
بعنف ألسقط هذا اليشء عنه ،ثم تزحزحتٍ حركت جسدي
ببطء بح ًثا عن يشء أسند عليه ظهري ،فقد اهنار جسدي بعد يو ٍم
ٍ
طويل من العمل الشاق.
جالسا بحجريت ألتقط بعض قطع اخلبز مع حساء ً كنت
دافئ ،مل أكد أبتلع اللقمة حتى اقتحم فيكتور وبرفقته رجال
الباب ،سحبوين خارجه وألقوا يب هنا
َ املعبد موشومي األكتاف
15
ِ
“اختل بنفسك مع الرب بعدها قال يل ذلك الفاسد حليق الرأس
واطرح عليه أسئلتك لعله جييبك ،ألنك إن خرجت من هنا
قطعة واحدة ورددت عىل مسامع الناس خرافاتك تلك فسأقطع
لسانك وأقدمه قربانًا للرب”.
حدث كل هذا ألنني قاطعت عظة والده املبجل مارك سائالً:
“ماحكمة الرب يف تصنيفنا لطبقات؟ وعىل أي أساس يتم هذا
التصنيف؟”
أشار يل املبجل ألجلس وأصمت مبد ًيا انزعاجه من َقطعي
لتعاليم السامء مدع ًيا أن الرب كاد يتجىل له لكنني منعت هذه
النعمة عن الناس بطرحي أسئلة أزعجته فقطع االتصال .مما
جعل كل املوجودين يرشقونني بنظرات غاضبة لسلبهم تلك
اللحظة النادرة.
أنا اآلن وحدي هبذه اخللوة ال أحد غريي هنا ألزعجه ،أرصخ
وأطالبك باإلجابة عن أسئلتي.
إن كنت موجو ًدا تراقبنا وترى بنفسك ما يفعله فينا مبجلوك
ِ
فل َم مل تتدخل وترفع عنا ظلمهم؟
ملاذا ختتصهم باحلديث وتلقي عليهم تعاليمك وال حتدثنا
نحن؟
كيف يصبح فيكتور خاد ًما لك وهو حيمل بجوفه كل هذا
القدر من الرش؟
أنا أتقى منه ،أكثر نف ًعا ،أعمل ،أعرق ،ال أستلقي عىل ظهري
16
طوال اليوم ألتقط حبات العنب التي تضعها اجلواري بفمي كام
يفعل هو.
أخربين لمِ َ حيتاج خادم الرب جارية متسد له رأسه وتدلك
ساقيه وكتفيه؟
هل تل ّقي تعاليمك أمر مرهق هلذه الدرجة؟!
أجبني!..
أخربين بيشء خيرس عقيل ،يشبع جوعه وجيعلني أتقبل
مصريي هبدوء وراحة.
ه ًّيا..
أرأيت؟!
أيضا أنك ال حتدث خدامك ،كل تلك أنت ال حتدثني ..واثق ً
التعاليم هراء ،يبدو يل أن مبجليك اجتمعوا ذات ليلة وتبادلوا
الكؤوس قائلني:
“لمِ َ ال نضع دينًا جديدً ا ونكون رسله ،لمِ َ ال نسيطر عىل حفنة
من اجلائعني ونحشو عقوهلم بكالمنا مدعني أنه كالم مقدس
ألقاه الرب بقلوبنا”.
إليك آخر قويل ،طاملا ستصمت فلتصمت لألبد ،أنت اآلن ال
يشء بالنسبة يل ،أنا رب نفيس.
17
أورنيال
18
أحرار ليسوا عبيدً ا ،يعملون لدينا بمقابل مادي ،طبقتهم تيل
طبقتنا برتتيب اهلرم االجتامعي الذي وضعه املبجل مارك .ففي
قاعدة اهلرم يستقر العبيد واخلصيان اململوكني للمدينة والذين ال
لك لسادهتم واملدينة حقوق؛ أجسادهم ،أرواحهم ِم ٌ
ٍ أي
يملكون َّ
ثم يعلوهم طبقة منزوعي السلطة وهم العامل واملزارعون
والوصيفات هؤالء يمتلكون حريتهم والقدر اليسري من املال
وهم بحاجة دائمة للعمل من أجل االستمرار باحلياة ،ثم تعلوهم
طبقتنا؛ طبقة السادة واألثرياء حيث كنا وما زلنا دائماً ا ُملالَك
األصليني للمدينة وبقمة اهلرم يتفرد املبجلون الثالثة وذووهم.
أيضا
وكام وضع املبجل مارك اهلرم االجتامعي فقد حدَّ د ً
قوانني العالقات بني الطبقات فحرم العبيد من الزواج هنائ ًّيا لكنه
سمح هلم بالعالقات اجلنسية املقننة داخل طبقتهم.
وبنهاية كل عام كان خيتار من بينهم عد ًدا من الذكور
األشداء واإلناث األصحاء للتكاثر حتى ال يتوقف نسل العبيد
لضامن راحة السادة واستمرار العمل .أما طبقة منزوعي السلطة
فيخضعون لنفس القانون.
يسمح لطبقة املبجلني بالزواج داخل نطاق طبقة السادة أو
السلطة .كام أنني سمعت
املعارشة دون زواج من طبقة منزوعي ُّ
مهسا بني اجلواري منذ عدة ٍ
ليال أن املبجل إبرام قد عارش عبدة ً
رسا لكن جدران املعبد ال حتفظ األرسار.ًّ
وألنني من طبقة السادة فال جيوز ليوجني أن يلمسني وإال
19
ستُقطع رقبته ،إناث السادة يعارشون رجال السادة أو تعجب
إحداهن أحد رجال املبجلني إن كانت حمظوظة فيتزوجها.
نخضع لنفس قوانني الزواج واإلنجاب .املبجلون خيتارون
بأوامر الرب من يتزوج ومن ينجب للحافظ عىل الساللة والعرق.
كل النساء الاليت فقدن عذريتهن جيربن عىل تناول “عشبة العفة”
تلك العشبة متنع حدوث احلملَ ،من ختالف تعاليم الرب وحتمل
دون مباركته تعزل ببيت اخللوة حتى تضع طفلها الذي يتخلص
منه “جامع اخلطايا” ثم تظل باخللوة لثالثة أشهر قبل أن تمُ نح
العفو جمد ًدا ،إن تكرر هذا األمر تُقطع رقبتها.
أنا ما زلت عذراء نقية ،اجلميع يعلم ذلك ،سمعت أن املبجل
فيكتور قد َّ
حذر رجال السادة من االقرتاب مني أو التفكري يف،
أمتنى أال أكون قد أعجبته فأنا ال أحبه ،حينام تتقاطع طرقنا وأراه
أشعر بالرش جيري بدمائه.
يبدو أنه قد الحظ نظرات يوجني يل وهذا ما دفعه للتعامل
بعنف بعد عظة والده املبجل مارك .أخربين عبدي أنه سجنه ٍ معه
بحجرة الرهبة باملعبد تلك احلجرة الفظيعة التي يرمون هبا العبيد
املتمردين حتى خيضعوا أو يقتلوا ،لكن ما جعلني هادئة ومنعني
من التدخل أنني سمعت املبجل مارك يقول إن ذلك لن يستمر
إال ليومني لكي خيترب حمنة الرب ويكف عقله عن الكفر بتعاليمه.
رغم أنني مؤمنة تقية ،ورغم ثقتي باملبجل مارك إال أن بعض
20
أيضا .أشعر بنوع من الظلم واملحاباة
هذه األسئلة قد وردت بعقيل ً
منذ اهتز فؤادي لرؤية يوجني.
يوجني رسي الذي لن أخربه ألحد أبدً ا لست مستعدة لكرس
القوانني معه فأنا ما زلت غري واثقة من إحسايس ،هل ما أشعر به
جتاهه هو حب؟ كيف أعرف فأنا مل أحب من قبل! لكنه يعجبني،
وسامته ،جرأته وذكاؤه ،إنه خيتلف عن باقي طبقته وكأنه مل يخُ َلق
فيها.
أنا مميزة؛ هكذا أخربوين ،اجلميع حويل يشعرون بذلك ،حتى
املبجل مارك ينحني يل احرتا ًما وهذا ما مل يفعله لبرش قط ،ذكرت
له منذ بضعة أيام حلماً رأيته ،كنت قد رأيت طي ًفا يسكب ً
مخرا
بكأيس حتى فاض فوضعت كفي عىل حافته ألمنعه من التدفق،
كان جيلس باسرتخاء يرتشف ما بكأسه لكن يده القابضة عىل
الكأس قد اهتزت ومهس:
“هذا ليس حلماً بل رؤية ،أنت مباركة من الرب”.
وضع ما بيده عىل الطاولة وخرج لبضع دقائق رصخ ببعض
عبيده و عاد يل ،مهس جمد ًدا:
“تدبرت األمر”.
سورا عىل طول
ً بصباح اليوم التايل رأيت العبيد يبنون
الشاطئ ،كان العمل جيري رسي ًعا ألنني حينام مررت باملساء
جمد ًدا كان السور بطول رجلني يقف أحدمها عىل كتف اآلخر.
ليال ثالث سمعنا صوت البحر الغاضب يصفع صخور سور بعد ٍ
21
الشاطئ .كانت ليلة مرعبة ،وحينام أتى الصباح خرجنا لنتفقد أثر
صخورا من السور وفتت غريها ً ثورة البحر فوجدناه قد اقتلع
لكن السور احتوى غضبه وطرحه بعيدً ا عنَّا.
قال املبجل مارك للناس:
“اشكروا الرب الذي جتىل ألورنيال فحذرها ثم اشكروها
ألهنا سمعت حتذير الرب ،لوال عذراؤنا املباركة البتلعنا البحر
اجلائع بجوفه ليلة أمس”.
ركع يل العبيد ،اخلصيان ،الوصيفات ،انحنى يل السادة وق َّبل
بسلطة مماثلةاملبجل مارك يدي .منذ ذلك الوقت وأنا أحظى ُ
لراعي الفضيلة األول.
السلطة ستكرب يو ًما بعد يوم ،وجودي كنت أعلم أن هذه ُّ
بالقرص منذ والديت كان عالمة عىل ذلك ،البعض اعتقد أن املبجل
يعطف عىل الفتاة التي مات والداها لكنه كان يعلم أنني مميزة،
يبدو أن الرب أخربه بذلك عندما جتىل له.
22
فيكتور
23
أيب وسأختلص من وجود أشقائه املزعج فأصبح راعي الفضيلة
األول حاكم أورنيال ومالكها.
أورنيال..
غزايل املدلل ،حتفة الرب ،كل يشء هبا رقيق وصغري ،راقبتها
ٍ
ببطء كثمرة فريدة ،منعت عنها اجلميع ألحتفظ هبا لنفيس تنضج
لكنها متباعدة ،كلام أقرتب منها ترتاجع ،لست واث ًقا أهو دالل
نفور َمن ال حيب.
العذارى أم ُ
عن أي ٍ
نفور تتحدث يا فيكتور؟!
ٍ
وقاس أنت كاسمك دائماً منترص ،قوي البنيان ،صلب
ووسيم ،كل النساء تنحني حتت قدميك ،أنت متتلك اجلميع لكن
أورنيال رسقت قل َبك ألهنا فريدة ،ال تشبه كل النساء.
بل هي سيدة النساء ،وستصبح زوجة لك قري ًبا .هذا سريفع
مكانتك أمام شعب أورنيال ،أن ترتبط بالسيدة املباركة تلك التي
جتىل هلا الرب.
الرب..
مزحة والده وعميه ..إن كان للرب وجو ٌد حقيقي فلقد ض َّن
به عليهم ومنحه بسخاء ألورنيال.
أورنيال هي املبجلة احلقيقية هنا ،لقد أدرك فساد والده
ٍ
طويل مىض.. وشقيقيه منذ ٍ
وقت
حمظوظ ألنه ُولِدَ ابنا للمبجل حتى وإن كان مبجلاً مزي ًفا..
ٌ هو
وعليه أن يستفيد قدر إمكانه من ذلك الوضع ويغري موازين
القوى ،جيعلها لصاحله.
24
أورنيال
25
رصخ يأمر احلراس بالقدوم فأمسكه اثنان منهم ورفعاه فنظر
له ثم إلناء الطعام وبصق فيه
تقي؛ فليبارك الرب وجبتك” ٍ
“هذه بصقة مباركة من عبد ٍّ
ثم وضع قطعة اخلبز بفمه..
امحر وجه فيكتور غض ًبا ورضب آنية الطعام بقدمه وهو
يرصخ ويزبد:
“افصلوا رأسه عن جسده واتركوه يصفي دمه باملذبح ليكون
قربانًا لإلله”.
أخرجه احلراس فجلس فيكتور ومأل كأسه ورشبه وهو يبتسم..
لقد استطاع باأليام القليلة املاضية أن يفقد يوجني أعصابه ،العمل
حتول
الشاق واحلرمان من الطعام باإلضافة لإلهانة املستمرة قد َّ
القديس لشيطان ،اآلن سيتخلص منه ،ال أحد ينظر ألورنيال
فقري يشارك حرشات
رجل ٌ نظرة شهوة ،أورنيال ِملكُه ،كيف جيرؤ ٌ
األرض طعامها أن ينظر لسيدته؟
أن يتطلع لوجهها ،أن يسمح لعقله أن يفكر هبا..
كيف يلمسها؟
التفكري خطيئة ،فام بال اللمس؟!
سيقتله..
يف طريقهم للمقصلة ،أوقفهم املبجل مارك ،أمر احلراس
بوضعه بحجرة اخللوة تلك احلجرة التي دخلها من قبل ليخوض
26
حمنة الرب ،كل فكرة يفكر هبا ،كل حرف ينطقه وكل خطوة
خيطوها تقوده هلذه الغرفة وكأهنا قدره.
لكن يبدو هذه املرة أهنا هنايته ،ففيكتور يضمر له الرش منذ رآه
يتحدث مع أورنيال.
يتشدق املبجلون بأقوال فارغة مثل الفضيلة والعفة ،أقوال ال
يعلمون عنها شي ًئا غري طريقة نطقها.
لو كان هناك فضيلة ملا عامله فيكتور ابن النجار هبذه الطريقة،
لو كان هناك عفة ملا اشتهى فيكتور عذراءه املبجلة التي حتبه هو.
تذكر جيدً ا ذلك اللقاء الذي أثار غضب فيكتور عليه وجعله
يرتصده وحياول إيقاعه.
كان ألول مرة يقف أمامها هبذا القرب ،رائحتها كانت
تشبه خلي ًطا من الفواكه مل يشم يو ًما رائحة أطيب منها ،برشهتا
كادت تيضء من فرط الصفاء وشعرها كل َمن ينظر إليه يفكر
أنه سيحرتق إن تثنى له يو ًما أن يمد يده ويلمسه ،كان مطأطأ
الرأس كالعادة فال يصح أن يرفع رأسه بحرضة السادة خاصة
إناث السادة ،أما السيدة أورنيال فهي حالة خاصة ،إن كان عليه
أن يطأطأ رأسه للجميع فاألجدر أن يركع هلا ،إهنا بمثابة ٍ
إله يسري
مؤخرا بمكانة تفوق كل املبجلني بسببً عىل قدمني ،وقد حظيت
حكمتها ومباركة الرب هلا.
سمع صوهتا الدافئ اهلادل يأمره أن يرفع رأسه ،تردد قلي ً
ال
قبل أن يسمعها تكرر األمر فرفع رأسه.
27
النظرة يف عينيها كرضبة الصاعقة ،هزت فؤاده ،ركع عىل
ركبته ومهس:
“سيديت”
هامسا:
ً ابتسمت فتأوه
“ الرمحة”
“يوجني”
مل يكن مهسها السمه سؤاالً بل تكريم ..حتية ..ربتة مباركة من
الرب عىل قلبه.
“اهنض”
ملست كتفيه هبدوء فارتعش ومهس متوسالً:
“سيديت”
هنض ونظر هلا نظرة مألت عينيه وقلبه حتى فاضوا ،اختار
فيكتور اللعني تلك اللحظة ،مل يشعر بوجوده إال عندما وجد
نفسه مكو ًما عىل األرض حتت قدميه ،دفعه الوغد ورصخ بوجهه
غاض ًبا:
“ كيف جترؤ عىل رفع وجهك بسيدتك؟! ابق حتت األقدام
فهذا مكانك؟!”
تدخلت السيدة:
“أنا أمرته”
ً
مندهشا: نظر هلا
28
“ملاذا؟”
“أمرته أن يكون حاريس ،كيف حيرسني إذا مل يعرفني؟”
“أنا أحرض لك أقوى الرجال وأشجعهم”.
“لكني أريده هو”.
“سيديت ..أورنيال ..أنا”...
قاط َعتْه:
“أهيا املبجل فيكتور ،إرصارك يدهشني! ملاذا هتتم؟”
“أنا أهتم بكل ما يتعلق بك ..هذا اخلادم غري مأمون ،لديه
أفكار متطرفة وقد وضعته باخللوة مرة ،سأحرض لك غريه”.
“ال أريد أحدً ا آخر ،هل أنا جمربة عىل تنفيذ أمرك واالنحاء
لك كالعبيد؟”
“سيديت ..أخشى أن تتم أذيتك عىل يده”.
“ سأكون بخري”.
أدارت وجهها عنه ومهست:
“ يوجني ..اهنض”.
أدرك فيكتور أن عليه التخلص منه وأنه قد يمثل هتديد
ملخططاته.
رأيت كل ما حدث قبل مقابلتي ليوجني وطلبي املفاجئ منه
أن يكون حاريس الشخيص ،رأيت كل هذا كحلم ،بل كرؤية،
29
رؤية دامهتني وأنا مستيقظة وبعينني مفتوحتني ،لكن ما رأيته مل
جيعلني ُأبعد يوجني عني ،بل قربته مني أكثر ،كان يرافقني أثناء
جلويس باحلديقة للتأمل مل يكن ينظر حوله كأي حارس شخيص
بل كان ينظر يل ،يتأملني ،كنت أرى احلب بعينيه ،كلام نظرت
داخلهام يسدهلام وكأنه خيشى أن أعرف.
ارتعش وكأنه غري ٍ
قادر عىل املقاومة، َ كنت كلام ملست يده
ُ
بإحدى املرات ق َّبلته عىل وجنته يومها كاد يموت خجالً ،وفاضت
عيناه دمو ًعا ومهس:
ِ
حققت يل اآلن أكثر أحالمي جنونًا” “لقد
متاح ،إن أخربتك عن
أمر ٌ “يبدو أن أكثر أحالمك جنونًا ٌ
أبسط أحالمي بشأنك فسيتوقف قلبك”
“سيديت ..أرجوك ،إين أقاوم شياطيني بصعوبة”.
“سيدتك أعلنت احلرب عىل إرادتك ،وشياطينك”.
“أووه”
إليك جائع ٌة ،وما
َ “قررت أن أحار َبك بقباليت ،فشفاهي
ٍ
متواضعة؟! ٍ
بوجبة تقتات الضواري
ْ شحيح ،فهل تقدِّ مه يل
ٌ
ملاذا تعاملني كام يعامل جامع الت ِ
ُّحف َكن َْزه! ُ
يربت األسدُ عىل فريستِه؟!
هل ُ
ويضمها إليه لتنا َم بني ساقيه دافئ ًة؟
ُّ هل يق ِّب ُلها ِ
برفق
ملاذا تعتقدُ أنني رسيع ُة ال َع َطب؟!
30
خرجت منها ُ ٍ
معركة الكدمات التي تغ ِّطي جسدي ٌ
دليل ُ
أراقب نتعارك جمد ًدا. َ هزيمة ،اهلزيم ُة أال ٍ دليلليست َ ْ منترصةً،
ُ
فتحرقَ ٍ
الشهوة َ
نريان الرغبة ك َّلام أغويت َُك ت ُْش ِع ُل ِ ِ
رشارات
ٍ ٍ
تضع هلا أحشا َء َك ،لكن ََّك حُ َت ِّج ُمها ،تبني حوهلا َلبِنَات من َخوفُ ،
ٍ
بصرب. سق ًفا ثم تطهو وجبت ََك
تعاقب فل َمنار هادئةِ ، احلب ال تُطهى عىل ٍ ِ
وجبات بعض ُ
ُ ِّ
منحك عق ُل َك الوصف َة اخلاطئة؟! َ جسدي باجلو ِع إن
ختاف يا أسدي؟! ِم َم ُ
مسار النهر .غيرَّ َت لت
حو َ ِ ثت ميا َه ِ
َ النهر بالرغبات ،بل َّ لقد َّلو َ
صنعت شلاَّلاً من َس ْه ٍل! َ ِ
الطرقات، خارط َة
هنر؟! وحشا من ٍ صنع ً تسأل من َ وجلست عىل ِّضفتِه ُ َ
ِ
بدموعك؟! باحت يو ًما
ْ عجزت ساقي عن حمَ ْ ِل َك! هل ْ هل
لغري َك؟ هل أ ْغ َل َق صدري أبوا َبه سال شهدُ شفاهي ِ هل َ
يستقبل رأسك؟ َ ورفض أن
رس خوفِ َك يا قنفذ؟! ما ُّ
هل فقد أسدي أسنانَه؟!”
“سيديت أورنيال ..أنا أخشى أن أملسك فترتك أصابعي
عالمات عىل برشتك الصافية ..أنا أخشى أن أملسك فأدنسك،
ِ
أنت العذراء املبجلة التي منحها الرب ما مل يمنحه لغريها..
أنت امرأة حتمل اسم املدينة لكنني أوقن أن املدينة هي التي
31
ِ
غضبت بإحدى املرات فنشأ حتمل اسمكِ ،
أنت خلقت أوالً ،ثم
الربكان من غضبك ثم ثرت فثار ثم رضيت فأصبحت أرض
لشخص منزوع السلطة ٍ
فان مثيل ٍ املدينة خرضاء خصبة ..هل
ُّ
احلق كي يلمسك؟
يلثم شفاهك ،يشم رائحتك ويدفن رأسه بني هنديك!
الرغبة تقتلني ،لكن عقيل ال يصدق أن يل احلق فال يسمح
ليدي بلمسك ويغلق شفاهي كي ال تلتقم شفاهك ،قبل رؤيتك
كنت قد تشاجرت مع الرب حتى إنني أنكرت وجوده لكني
اعتذرت له عندما أبرصتك ،فال ُبدَّ أن يكون لذلك اجلامل سيدٌ ،
هل أملس حتفة سيدي؟
هل سريىض عني الرب إن ملست عذراءه؟”
“الرب سيغضب إن مل تقبل هديته ،أنا أعلم أنك كنت تريد
امرأة طيبة لطيفة لتضمك ،تربت عىل ظهرك ،تعبث بشعرك
وتعوضك عن كل حروبك مع احلياة لكنك رأيتني فأحببتني.
فكنت كمن طلب قطة رقيقة بقفص من اخلريزان فوضعوا
عىل عتبته نمرة رضبت القفص بمخالبها ووقفت أمامه متحدية.
لقد حصلت عىل الطرد اخلطأ بعد أن وقعت وثيقة تلزمك
بعدم رد البضاعة فأصبحت عال ًقا معي لألبد.
تعيس أنت لتحب امرأة بعيون وقحة تلمع كلام سمعت كلمة
نابية ،تقذف رشارات بلحظات احلب ،تشعل الوسط بنظراهتا
النارية.
32
وشفاه مكتنزنة مغرية تدفع القديس الرتكاب اخلطيئة دون أن
يشعر بعدها برغبة حارقة لالعرتاف ،شفاه اقضمها كلام توترت،
حائرا ال تعلم ماذا
كلام فكرت .وبلحظات الغنج ،فتقف أمامي ً
أريد منك وكيف ترضيني.
اقرتاحا،
ً عالق مع امرأة لن هتز رأسها موافقة كلام أبديت
أنت ٌ
لن تدور حولك طوال الوقت فتكافئها بلمسة خاطفة.
امرأة سترتك أظافرها عىل جلدك بليايل احلب عالمات لن
تلتئم حتى ختمشها جمد ًدا بالليلة التالية.
امرأة تؤمن بتبا ُدل األدوار فتطمح بإمساك اللجام وتوجيه
الدفة.
امرأة ال حيلو هلا اإلبحار إال بالعواصف وال تنتيش إال
بااللتفاف حول الدوامات ،امرأة تثريها حلظات اخلطر .امرأة
كهذه سيقتلها تر ُّددك أو ستقتلك هي إن مل تقبل حبها.
أخربنى جمد ًدا أي شيطان غرز بعقلك أن بإمكانك اهلروب
من بني خمالب نمرة!
كيف ستصمد أمام غرائزها الربية؟
ال تدعي أنك تريد فتاة مدجنة ،تدلك قدميك وهتز خرصها
لتثريك .أنت حتب اختالس النظرات رغم أنك تعرف أن عقوبتها
املوت ،تعجبك احلروب وتنتيش من املطاردات وسيقتلك اليأس
33
ٌ
احرتاق إن توقفت عن حبك وزهدت ملستك .االقرتاب مني
تفضل أن تشتعل؟” واالبتعاد عني احرتاق فبأي ٍ
نار ّ
ملعت عيناه بالرغبة ومهس:
“أورنيال”
ثم قبض عىل كتلة من شعري بني يديه ودفع شفتي لتلتقم
شفتيه.
34
إبرام
35
أرضا عيل أن أجرب ً ٍ
طفل كان َّ حينام مل نوفق باحلصول عىل
أخرى ..اخرتت إحدى الفتيات ومنعتها عن تناول عشبة العفة
أيضا ..بعد عدة حماوالت أخرى بدأ لكنني مل أحصل عىل طفيل ً
عاجز عن اإلنجاب إال أن أخي املبجل مارك قد ٌ اهلمس بأنني
أخرس اجلميع حينام قال إن الرب اختارين ملهمة أكرب بأن أكون أ ًبا
للشعب كله ومنحني مهمة تنظيم احلياة اجلنسية لشعب أورنيال،
فأصبحت أحدد من يرتبط بمن ،من ينجب ومن لن حيمل بني
يديه قطعة منه أبدا ..أصبحت يد الرب باألرض ..سأظل مدينًا
ألخي هبذه احلظوة التي ر َّد ْت يل كرامتي .وسأخدمه بحيايت وأن ِّفذ
ما يريده ،أنا ال أتفق مع الكثري من قراراته لكنني سأطيعه ألجل
ذلك املعروف وتلك احلظوة فقط.
كنت أعلم أن كلوديا تعبث من خلف ظهري كام تعتقد هي،
لكنها ال تعلم أنني أختار من يمكنها العبث معه .ال يشء يدور
هبذه املدينة دون علمي.
حتى إنني أعلم تلك الكارثة التي ستحل بأخي أندروس
احلبيب قري ًبا والتي ستجلبها له ابنته اجلميلة مريال.
شقيقي أندروس رغم كل ما يملكه إال أنه غاضب من السطوة
التي منحني إياها املبجل مارك.
لذا بدأ يضع خط ًطا بنفسه لتخدم مصاحله ،هذه األيام خيطط
لتزويج مريال لفيكتور ابن املبجل ووريثه الوحيد.
فيكتور ليس غب ًّيا ليسمح بتمرير ذلك حتت ذقنه لكنه ينظر
36
للعبة باستمتاع ،بينام مريال التي يرميها أندروس بوجه فيكتور
لشخص آخر .شخص ٍ بكل مناسبة ،تفسد خطة أبيها بحبها
وحمر ٌم عليه ملسها .لكن من حُي ِّرم
دون املستوى ،ال ينتمي لطبقتها َّ
وي ِّلل غريي هنا..
حُ
أرشفت بنفيس دون علمها عىل تأمني لقاءاهتا بكاسرب ُ لقد
حتت أنوف اجلميع .واجلميلة العذراء مل تعد عذراء ،احلب
رسق عفتها ..فخادمتها ووصيفتها اخلاصة تابعة يل ،وقد كلفتها َ
تناوهلا عشبة العفة برسية تامة فأنا
بنقل أخبارها واإلرشاف عىل ُ
تسجل بالدفاتر ملراقبة نساء املدينة
أمر ُرها هلا خلسة ألهنا َّ
بنفيس ِّ
والتحكم باإلنجاب.
حينام يكتشف أخي أندروس ذلك سيغيل كبده غي ًظا ،سيكتفي
ري وسيكرس قلبها ،قد يقتل حبيبها وقد بتزويج ابنته من ٍ
شاب َث ٍّ
خيشى أن يتسبب التخلص منه بفضيحة فيرتكه ح ًّيا لكن يكلفه
بعمل ٍ
شاق. ٍ
سيفقد أخي اليشء الوحيد الذي كان سيضمن حكم املدينة
ويعود ليامرس حياته هبدوء ،يأكل ويتجرع اخلمر ويطأ كل النساء
إال زوجته فريا.
فريا..
ُروى
اجلميلة فريا ..هذه قصة أخرى حتتاج ألن ت َ
37
فريا
38
كان إحسايس بالنبذ واهلجر يطعن كرامتي ..حتى أتاين املبجل
إبرام أدفأ فرايش البارد ومنحني ما حرمني منه أخوه سنوات
طوال.
ال عطو ًفا ،رغم هيبته املزعومة إال أنه كان رقي ًقا ،طفل
كان رج ً
حيتاج للحنان والعطف ويمنحهام بسخاء.
وحول ارتعادات الربد
َّ بدَّ د ظلمة الليايل وآنس وحديت
للمتعة..
سأدين إلبرام دائماً بتفتح زهرة أنوثتي ،بمنحي احلياة ..ولوال
خويف عىل عالقتي به ألخربت أندروس بنفيس فتلك النظرة التي
سرتتسم عىل وجهه وقتها تستحق املغامرة.
39
أورنيال
40
أسمع صوت حت ُّطم عظامي ،إعادة ترتيبها ،بشكل جديد..
أرى من خالل عينني ُخلقتا للتو لكنهام بنظر ثاقب ،أكثر حدة،
ال يعوقه الظالم ،يلتقط أنفي زخم الروائح حويل.
أنظر ليدي وساقي ،مل تعد أعضاء برشية كام كانت دائماً ،
حتولت ملخالب ..خمالب ذئبة ..أخرج من خلويت أقف حتت ضوء
القمر وأعوي ..أعوي بقوة ثم أهرب من املدينة صوب الغابة..
الغابة قوانينها أكثر رمحة ،تلمسني أوراق األشجار وكأهنا تر َّبت
عىل كتفي لتهنئني ،أصل للقمة أرفع وجهي للقمر وأعوي.
آثارا عىل طول ذراعي
أستيقظ والعرق يغمرين ،أجد ً
وجسدي ،هل ملستني أوراق الشجر فعالً؟
أمل يكن حلماً ؟
هل هلذا احللم معنى سأدركه مع األيام؟ هل هو عالمة؟
كان سؤاالً يقض مضجعي لكن إجابته مل تتأخر ً
كثريا فاأليام
إشعارا بقرب اكتشاف قدرايت، ً القليلة التالية أثبتت يل أنه كان
تلك القدرات التي منحها الرب يل دون أن أطلب .لقد اكتشفت
بعضها حينام دامهتني رؤية أوضحت يل ما حدث بني فيكتور
ويوجني ،وأنني سبب نزاعهام واضطهاد فيكتور له.
حتى إنه قد جن جنونه بعد تلك األفكار التي عرفت فيام بعد
أن املبجل مارك يزرعها بعقله جتاهي أنا ويوجني.
ففي إحدى عظات املبجل مارك األسبوعية ،وبعد أن انتهى
41
من حديثه ،صعد فيكتور مكانه ،كان يبدو وكأنه قد جترع عدة
كؤوس .نظر للعامة وقال بصوت سمعه اجلميع:
“ كلنا نعلم أن الرب جتىل للسيدة أورنيال “العذراء املبجلة”
الرب اختارها من بني كل بنات السادة ،اختار أنثى ألول مرة،
ذكورا”.
ً كنا قد اعتدنا منذ سنوات عىل أن يكون املبجلون
رفعت رأيس وحتركت من مقعدي ورست ألقف بالقرب منه
وسألته:
“هل حلديثك هذا هدف؟”
مأل عينه مني حتى فاضت:
“لقد أنقذتنا من الفيضان ،حكمت بني املتنازعني وأرشدت
رسا ألمور ال يمكن اإلفصاح عنها بني العامة ،وهذا املبجلني ًّ
يعني كم ِ
أنت قيمة جدًّ ا للمدينة ،أنت ثروهتا ،وعلينا أن نحافظ
عىل هذه الثروة ،علينا أن نضمن استمرار جتيل الرب لك”.
سألته بحذر:
“وكيف ستضمن ذلك؟”
“علينا أن نضمن عفتك”.
مههم الناس وعلت االعرتاضات ،تدخل املبجل مارك:
“فيكتور!”
“علينا أن نضمن أال تدنس أورنيال عفتها حتى يستمر جتيل
42
الرب هلا ،لنضع خلخاالً بقدمها نطمئن إن هدأ وإن أصابه
اجلنون تأكدنا أهنا ختدعنا”.
مل أستطع أن أكتم ضحكايت؛ فضحك العامة بعدي وعندما
هدأت أصوات اجلميع سألته:
“إن كانت العالقة بني الرجل واملرأة دنس ِ
فل َم ينام املبجلون
عىل أفخاذ النساء؟ أال يؤثر ذلك عىل جتيل الرب هلم واستقبال
تعاليمه؟”
عجز عن الرد وشعر املبجل مارك باحلرج بينام ضحك كل من
املبجل إبرام وأندروس تبعتهم أصوات ضحكات العامة.
عندما هدأ اجلميع نظرت له:
“الرب هيمه نقاء القلب فال تدع رفيض لك يفسد عليك
حجتك أهيا املبجل ،ولنفرتض أنني وضعت اخللخال ومألت
ضجيجا لتأيت أنت وتكتشف أنني ال أضاجع رج ً
ال لكني ً خلويت
أيضا خطيئة أم أن صوت اخلطايا يتشابه مع
أرقص ،هل الرقص ً
صوت احلياة؟!
أنا عذراء الروح ..عذراء الضمري ..لكني لست عذراء القلب
ألنني أحببت ..أما بالنسبة لعذرية اجلسد فسأمنحها ملن أحب
حينام يأذن الرب ويبارك حبنا بالزواج”.
رصخ أحد العامة:
“حتيا أمريتنا العذراء املبجلة”.
فر َّدد خلفه اجلميع.
43
ابتسمت لفيكتور ومهست بجملة مل يسمعها غريه هو ووالده:
“التبجيل بالوراثة ليس كالتبجيل باهلبة يا ابن املبجل”.
أحنى يل املبجل مارك رأسه بعد محاقة ابنه ،حتى إنني سمعته
هيمس له وهو يغادر:
“لقد عرف الشعب َمن السيد هنا بعد ترصفك الغبي”.
44
مريال
احلياة لعبة بيد الرب ،كلنا بيادق باللعبة ،مل َأر الرب لكن أيب
خادمه ،وأيب أخربين أنه أعد يل خطة ..ال أعرف أهيام يقصد؛ هو
أم الرب ..لكن باحلالتني دوري هو الطاعة.
أنا ال أحب هذه اخلطة ،وإن كان رفضها يعني غض ًبا مضاع ًفا
ٍ
بصمت لو مل من الرب وأيب فأنا مستعدة له ..كنت سأقبلها
أحب ..لكن احلب منحني رغبة باحلياة ..ليست احلياة اململة التي
رسمها يل أيب ،بل حياة مليئة بالشغف..
سمعت أن أيب نفسه حيب ..فجدران املعبد ال حتفظ األرسار
كام يقولون..
حياة األثرياء ليست مثرية كام يعتقد اجلميع ..فحينام يمتلك
اإلنسان كل يشء خيشى دائماً من كل يشء.
مترد عبيده ،املرض وتق ُّلب السلطة .حينام
خياف فقدان ثروتهُّ ،
ال متلك فليس هناك خماطرة أن تفقد.
ال هيمني ما نملكه أو كيف سعى أيب ليملكه كل ما هيمني هو
كيف أجعل لقائي بكاسبري رشع ًّيا؟
45
لست عىل دين املبجل مارك ..أنا ال أؤمن أن هناك إهلا واحدً ا
حيكم مدينتنا ..ال ُبدَّ أن هناك آهلة عدة دائمو الشجار وهذا ما
جعل وضعنا سي ًئا ،لو أن هناك إهلًا واحدً ا لكانت كفة العدالة قد
تنازع اآلهلة عىل احلكم هو السبب..
رجحت ،لكن ُ
ال أنكر فضل اآلهلة فلقد منحوين الكثري ،أعتقد أن آهلة العيون
قد انتقت يل عني وقحة جريئة تعجبني وآهلة الشفاه قد وهبتني
أفضل ما لدهيا فشفاهي ممتلئة نارضة ..أنا أصيل هلام وأشكر
عطيتهام طوال الوقت..
أيضا بطويل آلهلة السيقان ..لكني ال أدين بيشء آلهلة
أدين ً
عيل بخري ما عندها.
النهود البخيلة اجلاحدة ..فقد ضنت َّ
كل هذه اآلهلة املسئولة والتي تفتقر كل ًّيا حلس املسئولية
وتدخل برصاعات بني بعضها البعض قد نسيت مهمتها األساسية
وانشغلت بعيدً ا عن درب العدالة.
بمجلسهم األسبوعي الدائم حتدت آهلة اجلامل ،آهلة العقل
تقاتلتا فتفيش التشوه والغباء.
السلطة ،وأصيبت آهلة احلكمة باملرض،
التهت آهلة العدل بآهلة ُّ
بينام ختلفت آهلة الضمري عن حضور املجلس.
لو سمحت ألفكاري هذه أن تنفلت من عقيل للساين لقطعه
والدي يل ،فلطاملا أخربين أن لدي عق ً
ال بحجم حبة لوز ،لكنني
أشعر أنني ممتلئة بالعاطفة ،يبدو أن آهلة املشاعر كانت بمزاج رائق
بذلك اليوم فمنحتني بسخاء.
46
فيكتور
يف عينيها يسكن شيطان ،عرافة ،بل قبيلة سحرة .كلام نظرت
إكراها ،فقد
ً هبام تتسلل نظراهتام ِبر ّقة فتسحبانني نحومها ،ليس
سلمت إراديت حتت قدميهام طواعية .لعينيها إرادة حرة ،روح
ثائرة وكيان ،حيتل جسدها يشاطر روحها املسكن فيتشاجران،
حياول كل منهام فرض نفوذه لكن الغلبة دائماً لعينيها ،نظراهتا
تزلزل كياين ،تثري يب كل غرائزي الربية ،حترك يب رغبة التملك
فأفكر جد ًّيا بأن أغرقها برائحتي وألطخ خدهيا بريقي وأعلنها
منطقة خاضعة لنفوذي ،بل منطقة نفوذي الوحيدة ،بيتي ،قبيلتي،
ووطني.
ضار فأمارس حوهلايف حضورها أشعر أنني بربري ،حيوان ٍ
الطقوس التي متارسها احليوانات بموسم التزاوج.
فرحا بامتالكي هلا،
عارضا قويت وأرقص ،أرقص ً ً أدور حوهلا
وغرورا أمام كل الذكور األخرى الطامعة ،فيطل املكر من عينيها،
ً
ترافقه الوقاحة وتتكئ اجلرأة عىل أهداهبا تراقب املشهد بسخرية.
وهتتز شفتيها بشبه ابتسامة ،وكأهنا تستعد لرتقص رقصتها
اخلاصة باإلغراء.
47
شفتاها عامل آخر ،جنة مل َي ِعد هبا اإلله أحد ،فطمع اجلميع هبا،
وتساءل الكل كيف يناهلا؟!
واجتهد البعض يف الوصول هلا ..ويف حني أن لكل جنة ثعبان
حارس حيميها فلقد قفز حراس عينيها وأبعدوا كل من اقرتب،
مهددين بلدغ كل من تظاهر بالشجاعة وحاول أن يقطف ثمرة
اخللود.
وأنا طامع ،طامع يف أن أسكن عينيها ،أمألمها فال ترى غريي،
طامع أن أسكن جنتها فأمتلك كل هذه اهلبات.
لكنها تراوغني ،هترب من بني أصابعي كقطرات املطر،
تصفعني برفضها املستمر ،وتدفعني للجنون بترصحياهتا التي
أمور قدهتور داخل ٍتعبث بأفكاري ،جتعلني أرمي بنفيس بكل ُّ
ال أنجو منها بسهولة ،سأدعها تستمر بلعبتها هذه لوقت أطول
ألنني منشغل بأمر آخر.
سرِ
قد كشف جواسييس َّ عالقة مريال بكاسرب ،ذلك السرِّ
الذي سأستخدمه إلقصائها عن طريقي وإفشال أطامع عمي
بالسيطرة عىل مقاليد احلكم.
الثرية املدللة ابنة املبجل حتب جر ًذا من عامة الشعب منزوعي
السلطة ،هؤالء الذين يلتقطون فتات الطاولة ليسدوا جوعهم أو
ُّ
صوت بطوهنم .ما الذي تفكر به تلك البلهاء؟
َ يناموا ليخرسوا
كيف ختاطر بمكانتها ورفاهيتها من أجل خاد ٍم؟
48
لن يكذب عىل نفسه ،إهنا فتاة مجيلة ،طيبة القلب ،لوال أن قلبه
اختار أورنيال لكان ...ال ..ليس هناك احتامل لذلك ،لن يقبلها
بأي طريقة ..إهنا ابنة أندروس .ال جمال للرمحة هنا.
سينفذ انتقامه للنهاية ليتفرغ لعذرائه املبجلة التي تتجاهله.
49
يوجني
50
هزت رأسها:
“نعم”
“هل أعيش بعدها؟”
ارجتفت شفاهها ثم قالت بأسى:
“ال”
سأقتل ،سيشنقني أحدُ “أتعلمني ،لطاملا كنت واث ًقا أنني ُ
املبجلني أو يأمر برميي يف البحر أو ُأ َ
حرق ح ًّيا”.
نظرت هلا وسألتها:
“كيف أموت يف رؤياك؟”
“تُط َعن”
“أووه ،مل أفكر هبذا ،من يطعنني؟”
“فيكتور”.
“كنت واث ًقا ،أنا ال أحب هذا الرجل ،لطاملا شعرت أنه
رسق حقي ،أخبرِ يني أنني طعنته عىل األقل”
“الرؤيا تنتهى هنا ،أراه يطعنك بمكان التقائنا”.
“لن أسمح هلذا اخلوف أن يمنعني من االلتقاء بك بعيدً ا عن
أعني املبجلني واجلواسيس والعامة”
كثريا يف نفيك خارج
“ لكن علينا أن نحذر ،أتعلم؟ فكرت ً
املدينة ،سأجد سب ًبا هلذا ،بعدها أحلق بك ،نعيش وحدنا دون
قوانني أو قواعد”.
51
“ إىل أين سنذهب؟”
صغريا ،تعمل
ً “ إىل سيندوزا ،تبدو يل مكانًا ممت ًعا ،نبني بيتًا
أنت بالسوق بينام أطهو لك طعامك ،وننجب طفلني”
“ هل ستتخلني عن كل ثروتك هنا من أجل بيت صغري؟”
“ ألن تفعل نفس اليشء يل إن تبادلت األدوار؟”
“ عزيزيت أورنيال ،الثروة يشء هام ،كنت سأفكر قليالً”
لكمتني عىل صدري بقبضتها الصغرية:
“ أنت تكذب”
“هذا صحيح ،من يعرفك سيفعل أي يشء ليبقى بجوارك”.
“ هل تبقى بجواري؟”
“حتى آخر حلظة من حيايت”.
مررت يدي عىل شعرها فبدأت هتدأ وتعود للنوم جمد ًدا لكني
مهست هلا:
“أورنيال ،إن حتققت رؤياك هذه فدعيني أموت عىل صدرك”.
مهست وهي تنام:
كابوسا”.
ً “ليست رؤيا بل
ضممتها بني ذراعي وظللت أتأملها حتى أوشكت الشمس
عىل الرشوق ،فأرحت رأسها عىل الوسادة فانترش شعرها الناري
حول رأسها فبدت أمجل من قرص الشمس.
لو أنني مل أعش طوال حيايت غري هذه الليلة الكتفيت هبا،
52
أورنيال هي أفضل ما باملدينة ،اليشء الوحيد اجليد هبا ،احللم
الوحيد الذي حتقق ،مل يتحقق كله ،وما زالت غري واثق مما
سيحدث بيننا باأليام القادمة لكن من كان يظن أنني أنام بفراش
عذراء املدينة املبجلة وأضمها لذراعي؟!
لو أخربين أحدهم قبل بضعة أيام أن املرأة التي كنت أختلس
النظر هلا وأخشى أن تقطع رقبتي عقا ًبا عىل فعلتي هذه ستشعر
ساخرا عىل
ً جتاهي بنصف ما أشعر به جتاهها لكنت ضحكت
سذاجته ،بدأ األمل يغزو صدري ،األمل بالثورة ،باحلب ،باحلياة.
53
أورنيال
54
ٍ
ببطء عىل ظهر الكتاب كي تعود إليها احلياة ،لكن حركتها
حولت أنظاري من الكتاب إليها ،كانت رصخة أماندا املندهشة َّ
تراقب أصابعي نظرت إليها بدوري ألكتشف هل ًبا أزرق خيرج من
أرضا فالتقطته أماندا رسي ًعا ومهست:
أطرافهم ،أسقطت الكتاب ً
“دعينا نعود لغرفتك قبل أن ينتبه الصغار أو يصبح األمر
أسوأ ويرانا أحد جواسيس املبجلني”
فردت أصابعي أكثر فزاد اللهب فقبضتهم رسي ًعا فانطفأ.
ُ
توسلت يل أماندا:
“سيديت ،ألجل الرب”.
رست أمامها حتى غرفتي التى أخ َلتْها بإشارة من يدها كي
نكون وحدنا.
“ال أعلم ماذا حيدث لك لكنني رأيت هذا من قبل ،قبل
والدتك بعامني أحرض املبجل إبرام سيدة مجيلة غريبة ،كان
مول ًعا هبا ،رأيتها بإحدى املرات تخُ رج هل ًبا أزرق من أصابعها
رح بيده ،مل يدرك أحدمها أن هناك عيونًا أخرىومتسح عىل ُج ٍ
قد رأت ذلك ،لكني أدركت أنني لست الوحيدة التي علمت أن
السيدة مباركة من الرب وأن لذلك اللهب القدرة عىل الشفاء.
-ماذا كان اسمها؟
“ -كايال”
-هل أنت واثقة أن ذلك اللهب له قدرة عىل الشفاء؟
-سأثبت لك يا سيديت.
55
صغريا ختفيه بردائها وشقت يدها رسي ًعا،
ً أخرجت سكينًا
كدت أرصخ غض ًبا لكنني وجدت أصابعي تشتعل فأمسكت
يدها ومررت ذلك اللهب عىل جرحها فالتأم.
ركعت عىل ركبتها ومهست:
“سيديت”..
وضعت يدي عىل كتفيها وساعدهتا عىل النهوض ثم ضممتها يل:
“إن فعلت هذا جمد ًدا أقتلك ،ماذا لو مل يعمل هذا اليشء؟!
ماذا لو آذيت نفسك بال فائدة؟”
-حيايت لك ،أثق بك ،أخشى عليك ..السيدة كايال كانت
كثريا
تشبهك لكن شعرها كان أمحر كالنريان ،أح َّبها املبجل إبرام ً
مل يكن يفارقها ،كان خيطط لزفاف كبري عندما اختفت ،بحث عنها
بكل املدينة ثم سافر ملدينتها األوىل “سيندوزا” بلد التجارة مل جيد
أثرا وعندما عاد جمد ًدا هنا كان خائب األمل ،فاقدً ا للرغبة هلا ً
باحلياة ،رمى املبجل مارك عىل عاتقه الكثري من املهام ليشغله هبا
وجيعله ينساها ثم أجربه عىل الزواج.
لسبب ما أنت متلكني صفاهتا وقدراهتا ،أمتنى أال متلكني ٍ
حظها.
-أرغب أن أعلم عنها أكثر.
-ال أحد يمكنه احلديث عنها ،املبجل مارك هدَّ د بقطع لسان
كل من َيذكُر اسمها .لقد قطع لسان أحدهم بالفعل ،أذكر أن
ذلك الرجل كان يرصخ طال ًبا مقابلة املبجل إبرام.
56
-ذلك الرجل هل ال زال موجو ًدا؟
-إنه يعيش عىل الربوة عىل أطراف املدينة.
-أريد مقابلته.
-سيديت ..الرجل ال يستطيع احلديث ،وال يمكنه الكتابة
فالسادة واملبجلني فقط يستطيعون القراءة والكتابة.
-وأنت يا أماندا ..لقد علمتك ..هذا رسنا ..بإمكاين تعليمه
أيضا ..ال ُبدَّ أن أفهم أين ذهبت كايال ..وملاذا أمحل صفاهتا؟
ً
-سيديت ..ال يمكنني السامح لك بفعل ذلك ،ال أعلم متى
ستكتشفني باقي قدراتك ،لكني ال أريد أن حيدث ذلك أمام
العامة ،أو لنفرتض األسوأ ..أن حيدث أمام أحد املبجلني..
دعيني أكون يدك وعينك ولسانك.
ٍ
لعدد من الرجال -ال يمكنني االستغناء عنك ..نحن بحاجة
والنساء يكون والؤهم التام يل ..ال أعلم ح ًّقا كيف يمكنني حتقيق
ذلك لكنني واثقة أنني سأفعل.
ٍ
ببطء أعدت فتح أصابعي ونظرت للهب الذي خيرج منهم
وأنا أفكر.
استيقظت من نومي أرصخ مل تكن املرة األوىل التي أرى هبا
ذلك الكابوس.
حلظات ووجدت أماندا تقف بجوار فرايش ،منحتني كأس
املاء وسألتني:
“هل راودتك هذه الرؤية جمد ًدا؟”
57
“ال تقويل رؤية ...إهنا كابوس ،الرؤى تتحقق”.
رشبت بضع رشفات من كأس املاء ثم سألتها:
“هل هو باخلارج؟”
“نعم ..ما زال يقف أمام بابك منذ تلك احلادثة”.
قبل بضعة أيام كنت أسري عىل الشاطئ برفقة أماندا وحاريس
يوجني وبعض وصيفات القرص عندما خرج علينا رجل ملثم
خنجرا يود طعني يف قلبي ،كان مويت حمتو ًما لوال يدُ
ً يمسك
يوجني التي تلقت نصل اخلنجر بدالً من صدري ثم طعنه
أمرت الوصيفات بالعودة للقرص وكتم اخلرب، ُ باليد األخرى..
ثم أمسكت يد يوجني وداويت جروحها بلهبي األزرق ،حينام
بخري ملست اخلنجر الذي كان سيخطف روحي ٍ تأكدت أنه
فرأيت من أعطاه لذلك امللثم ..اكتشفت أنني أستطيع رؤية
تاريخ األشياء واألشخاص بمجرد ملسهم.
مؤخرا قد أخافه لدرجة أن يفكر بقتيل.
ً مل أعتقد أن ما حدث
أصبحت يل حظوة لدى العامة بسبب براعتي بالطب ،لكن
السبب احلقيقي هو أهنم تأكدوا أنني مباركة من الرب أكثر من
املبجلني.
مرض نيلوفر املحبوب ابن أحد السادة األثرياء ،العامة حيبون
والده ألنه ال يشبه مجيع السادة فهو رجل متواضع عطوف لذا
أحزهنم مرضه وتسابقوا لرتشيح األطباء البارعني له لكنهم
أمجعوا عىل أن هناية الطفل قد اقرتبت وأنه ال شفاء مما أصابه .حينام
58
غاب الولد عن اللعب بروضة القرص سألت عنه فأخربتني أماندا
عام أصابه فذهبت لرؤيته ،كانت ُزرقة املوت قد ارتسمت عىل
شفتيه ،حتى والده أيقن أنه مل يعد باإلمكان فعل يشء ،سمحوا يل
برؤيته ،فحصته فعلمت ما أصابه ،يبدو أن الولد قد دخل احلديقة
اخلاصة تلك التي أقمت هبا مستنبتًا لألعشاب والنباتات ،وأنه
ملس إحدى النباتات السامة ،صنعت له تركيبة كي أجعل جسده
يلفظ املرض
أمرت بوضعها بامء دافئ ثم محمته بذلك املاء حينام رفعت
جسده وجففته أمرت أال يرتدي مالبسه جمد ًدا بل يلف جسده
بقامش أبيض..
راقبت حرارة الولد ترتفع فينضح جسده عر ًقا ،لكنه عرق
مسموم..
بدأ القامش األبيض يتلطخ برواسب سوداء لفظها جسد
الولد..
تورد شفتيه ،فأمرت أن حيمم مرة
تغيرَّ لون جسده وعاد ُّ
حامضا.
ً أخرى بامء دافئ ثم يعدوا له ليمونًا
رشف الولد منه رشفة ثم أعطيته إناء فار ًغا فتقيأ به ما
بمعدته ..فتأكدت أنه قد ختلص هنائ ًّيا من مرضه.
حينام تركت غرفته ،كان والداه ينتظراين أمام الباب ،حتركت
بضع خطوات ليظهر الصبي خلفي واق ًفا عىل قدميه ثم حتدث:
”أمي ،أنا جائع”.
59
بكت السيدة وهي حتتضنه بينام ركع والده عىل ركبته.
رددت روحي جلسدي جمد ًدا، ِ ”سيديتُ ...م ِريني أنفذ ،لقد
أنت هدية الرب ملدينتنا”.
وضعت يدي عىل كتفيه وساعدته عىل النهوض:
”أطعم ابنك ،ثم ِ
أطعم فقراء املدينة يرىض الرب عنك”. ِ
انترش خرب شفاء نيلوفر بني العامة وانترش معه أنني أملك
قدرات أكثر من املبجلني ،حتى إنني كنت عندما أسري بالطرقات
أجد البعض يركع يل عىل ركبهم بينام يضع السادة قبضتهم عىل
قلوهبم وينحنون يل احرتا ًما.
تلك املكانة اليل اكتسبتها رسي ًعا قضت مضجع املبجل مارك
فخاف أن أسحب بساط ُسلطته من حتت قدميه فرتب لقتيل.
اخلرب الذي طلبت من الوصيفات كتمه قد انترش فتجمع
عيل.
العامة يف ساحة القرص لالطمئنان َّ
خرجت هلم بفستاين الذي قد خضبت دما ُء يوجني صدره.
فاعتقدها البعض دمائي ،وكأنني عدت من املوت ألن الرب
أراد أن تستمر حيايت.
ٍ
هبمس كام اعتدت دائماً حتدثت
ُ حينام وقفت عىل قمة السلم،
وكنت أعلم أن كل من يقف يسمعني.
حيرم النظر
”ارفعوا رءوسكم املحنية وانظروا يل ،الرب مل ِّ
لدرة صنعه”.
َّ
60
استجابوا ألمري ونظروا إ َّيل.
ال بري ًئا ليتخلص مني شعر باخلوف ،اخلوف ”الذي أرسل رج ً
منحه يل الرب ،اخلوف من أن أسود ،من أن أحكم ،لكني أقف مما َ
اليوم بينكم رغم إرادته ألن إرادة الرب نافذة ،الرب أراد يل احلياة
ألنه اختار يل در ًبا ألسلكه ،ألنه كلفني بمها ٍم كي أنفذها ،وأنا
أمر منه ،إنه أخربكم اآلن أنني سأنفذ إرادة الرب ،كل ٍ
أمر مني هو ٌ
يستخدمني كي يصل إليكم ،هو ال يريد واسطة كي يصل إليكم
فهو بقلوبكم ،لكنه خيتار أحدً ا من عباده ليصطفيه وينفذ حكمته
والرب قد اختارين.
لذا أقف اآلن وأخربكم أنني ساحمت َمن أوشك عىل طعني،
و َمن أمره ،لكن للرب إرادة أخرى ،فهو لن يسامح من اعرتض
إرادته.
نظرت إىل يوجني وتابعت:
حارسا ،واليوم “قبل عدة ٍ
ليال أمرين الرب أن أختذ يوجني
ً
وضع الرجل يده وتلقى طعن ًة كانت تتجه لقلبي”.
أمسكت يده ومهست:
“فليبارك الرب اليد التي تعمل”.
رددها خلفي العامة..
فوضعت يدي عىل قلبي حيث دماؤه ثم انحنيت للعامة
واجتهت لغرفتي.
61
وظللت أفكر كيف سأنتقم من الرجل الذي خ َّطط لقتيل،
كيف سأحرق قلب مارك؟
لكن ابنه هو الذي أحرق قلبي وحقق كابويس الذي يتكرر
منذ بضع ٍ
ليال.
يوجني مسجى عىل األرض بوضع غريب ،تسيل الدماء من
الطعنات التي تلقاها ببطنه ،يقف فيكتور بجواره والدماء تقطر
من اخلنجر بيده ،ويف عينيه ترتاقص نظرة االنتصار ،ركضت
مرارا بأحالمي. َ
حدث ،رأيت ذلك ً أتعثر بثويب ،أنا أعلم ما
أرسل فيكتور ليوجني بعد انتهاء مناوبته ،أخربه الرسول أنني
أنا من أريد مقابلته ،استدرجه لذلك املكان عند الشاطئ حيث
وجه الطعنات
ق َّبلني ألول مرة ،طعنه بظهره كاجلبناء فسقط ثم َّ
ٍ
بشكل حممو ٍم وكأنه ال يستطيع السيطرة عىل يده وهو يرصخ: لبطنه
“إهنا يل ،يل ،يل ،يل ،يل”
مخس طعنات متتالية بالقرب من بعضهام البعض حولوا
معدته لنافورة من الدماء.
حتى إنني استيقظت عىل رصخايت ،وضعت يدي عىل معديت
ِ
وكأنني ُطعن ُْت لتوي ،لقد رأيت هذا الكابوس ً
مرارا لكن األمل
مبرشا ،أنا خائفة ،حتركت برداء نومي
الذي رافقه هذه املرة ليس ً
خارج جناحي ،اصطدمت باحلارس الذي استلم املناوبة من
يوجني ،ركضت للشاطئ ،تبعني حاريس ،وتوقفت حيث رأيت
كابويس قد حتقق.
62
ٍ
غريب ،تسيل الدماء من يوجني مسجى عىل األرض بوض ٍع
الطعنات التي تلقاها ببطنه ،يقف فيكتور بجواره والدماء تقطر
من اخلنجر بيده ،ويف عينيه ترتاقص نظرة االنتصار ،ركضت
أتعثر بثويب ،ركعت عىل ركبتي ،حركته كي أرى وجهه ،كان
يعجز عن التقاط نفسه ألن املحاولة مؤملة ،كان ينازع فوضعت
يدي عىل الفجوة ببطنه كي أوقف تد ُّفق الدم وأسمح للهب أن
كثريا عىل فعل ذلك .كنت
جيمع أنسجته املمزقة ،لكنني تأخرت ً
أعلم أنني ال أستطيع أن أنقذه ،لقد صفى دماءه بربكة خضبت
األرض حتته ،ويبدو أن الدماء قد جتمدت ،لقد طعنه الوغد منذ
وقت طويل مىض.
قبض يوجني عىل يدي وحتدث
“أنا أرى املوت ،ال مفر ،لقد حتققت رؤياك”.
مررت يدي عىل وجهه:
“يوجني”
“أورنيال”
كانت هذه كلمة الوداع ،جلست عىل األرض وأنا أمهس:
“ملاذا؟”
نظر يل فيكتور الوغد:
“ألنه جترأ عىل ملسك ،لقد رأيته يق ِّبلك ،هنا هبذا املكان متا ًما
وأقسمت أنني سآخذ روحه بنفس املكان الذي أخذ به ما هو
ملكيِ ،
أنت يل ،ملكي”.
63
وضعت يدي عىل األرض أحاول النهوض ،فلمست دماء
يوجني املتجمدة فرصخت ،اقرتب مني ورفعني عن األرض،
لقد محل حبيبة الرجل الذي قتله وفستاهنا الذي رشب دمه قد
خضب قميصه وما زالت لديه رغبة باحلديث وكأننا نتسامر حتت
ضوء القمر ،مل أستطع أن أرصخ أو أن أرضبه ،كانت هناك فجوة
صغرية بقلبي تتسع ،تقضم قلبي بوحشية ،تلتهمني من الداخل.
ِ
عرفت؟ ما الذي أتى بك إىل هنا ليالً” “كيف
“لقد رأيت رؤيا”.
لقد دمر فيكتور خطتي التي أعددهتا ،كنت سأنفي يوجني
للمدينة اجلنائزية لسبب ما سألفقه ،سأنفي له رجاالً آخرين
ليؤسس مدينته اخلاصة ،ليكون حاكماً عادالً ،كنت سأجد سب ًبا
ألخرج خارج أورنيال لألبد ،ألذهب إليه ،حيث لن متنعنا قوانني
وال حتكمنا طبقات ،كنا سنعيش كرجل وامرأته ،لكن الوغد قتله
بارد ،والده حاول قتيل خو ًفا من ُسلطتي وهو قتل حبيبي بد ٍم ٍ
خو ًفا من أن يفقدين ،سأنتقم منهام ،ستتحقق العدالة قري ًبا.
64
مريال
رسا بمعرفة وصيفتي كنت قد اعتدت أنا وكاسرب عىل االلتقاء ًّ
بمكان بالقرب من الشاطئ منذ بضعة شهور ،ما زلت أشعر
باخلوف بكل مرة وكأهنا املرة األوىل ،رغم اهلدوء السائد بأورنيال
إال أهنا مدينة املكائد ،ال أحد من السادة حيب أن يرى غريه سعيدً ا،
السلطة ِ
الكل يطمع بام يف يد الكل ،العبيد حيقدون عىل منزوعي ُّ
الذين يتمنون بدورهم فناء السادة ،السادة يندمون ألهنم سمحوا
للسلطة ألشخاص أقل منهم ثروة لكنهم أكثر ذكا ًء ،بالصعود ُّ ٍ
والوصول للحكم.
صامت ،املبجل ٌ رصاع سرِ ٌّي
ٌ واملبجلون أنفسهم يدور بينهم
مارك خياف عىل ُسلطته من رعونة ابنه وطمع أيب ،لكنه يثق يف
عمي إبرام ،وأيب يكره عمي إبرام ألنه املفضل لدى شقيقه،
السلطة بيديه ،حتى أمورا من خلف االثنني ليقبض عىل ُّ وحييك ً
أقربه من إنه قرر أن يرميني بني يدي فيكتور املجنون عىل أمل أن ِّ
السلطة ،رغم أنه يعلم جيدً ا أنه ال يمكن السيطرة عىل فيكتور ُّ
عاجز عن فرض األمور عليه. ٌ وأن أباه نفسه
65
رجل يمأله الطموح ،يطمح باالنفراد باحلكم وعزل فيكتور ٌ
أبيه وإعامئه ،كام يطمح بامتالك أورنيال ،أورنيال املدينة وأورنيال
الفاتنة “العذراء املبجلة”.
كثريا ..منذ بضعة أيام قطع طريقي إىل غرفتيأنا أخافه ً
وتوقف أمامي نظر يل نظرة كشفت عني ثيايب ،اقرتب مني
فابتعدت وصيفتي وتركتني وحيدة ،وضع راحتيه الباردتني عىل
وجهي ومهس بأذين:
ِ
“أنت فتاة جيدة يامريال لكنك ستعاقبني بسبب خطايا والدك”
ثم ق َّبلني وغادر مبتعدً ا ..ظللت أرجتف وأفكر ما الذي يعنيه
هبذا التهديد الرصيح؟ وملاذا سأعاقب عىل خطايا والدي؟ لمِ َ ال
يعاقبه هو؟!
والدي يعيش ليخطئ ،إن عوقبت عىل خطاياه فهذا يعني أنني
سأنتهي.
اقرتب كاسرب مني،كان كل منَّا يشتاق اآلخر فالرهبة التي
نشعر هبا كلام التقينا تأكل شوقنا ثم تلفظه بوجهنا فينظر كالنا
ٍ
بخري ،وأن بإمكاننا منتظرا إشارة منه تفيد أن األمور
ً لآلخر
االستمرار من حيث بدأنا.
تلك احلالة جتعلني أشك بحبي له وأطعن بحبه يل.
نظرات الشك بعينيه وكأنني أتسىل به ثم ألفظه عندما ّ
أمل
تشعل مراجل الغضب بصدري فأنظر بعينيه وأرغب أن أرمي
كلاميت بوجهه وأطعنه بإصبعي يف صدره وأنا أرصخ:
66
“حبك يل يشبه حب وطن جاحد ارتوت أرضه بدماء أبنائه
ثم أنكر عليهم أن حيملهم بجوفه فلفظهم لتتصارع عىل أجسادهم
الضواري.
تعال وانظر بعيني ألخترب كم من الوقت ستصمد بإلقاء كذبك
وتدعي أنك حتبني أكثر من نفسك ،هل ُيمنَح احلب دون ثقة؟!!
انظر بعني املرأة التى عريت جسدك أمامها لكنك سرتت
روحك ،وأخربين هل عري اجلسد أخف وق ًعا لديك من عري
الروح؟
لقد سمحت يل أن أداوي جروح جسدك ،ضمدهتا ،راقبناها
م ًعا وهي تتحول لندوب ،كنت واث ًقا أنني لن أسبب لك مزيدً ا
عيل مداواة روحك ،لمِ َ ال تدعني أحفر عمي ًقا ِ
من األمل ،فل َم تنكر َّ
داخلك ،أستأصل احلزن اخلبيث من قلبك ،أنزع تلك االبتسامة
الساخرة عن فمك ،أحضنك حتى أعيد إليك ثقتك بنفسك ،بى
والعامل”.
لكني أصمت ..أ ُمدُّ له يدي ال ألطعنه بإصبعي يف صدره
بل ألنني أشتاق ملسه ،فيستقبلها ٍ
بيد ترتعش ويضعها عىل قلبه
ثم هيمس اسمي وكأنه ينتظر أن أتالشى من أمامه ككل خياالته
السابقة التي حكى يل عنها.
أقرتب منه أضع يدي األخرى عىل رقبته فأحنيها ثم ألتقم
لعل شغف روحي به يلمس روحه فيذيب ثلج اخليبة التيشفتيه َّ
تطل من عينيه.
67
أشعر برصخات قلبه املعذب حتت يدي ،أبتسم ،ما زال قلبه
ح ًّيا ..ما زال يصارع الشك ،مل خيرس املعركة حتى اآلن ،هنا يأيت
دوري ،سأبدِّ د شكوكه مع كل ملسة ،سأزرع الثقة بمسامه حتى
حتمي نبتة احلب بقلبه.
لكن عاصفة اخليانة اقتلعتنا م ًعا حينام داهم فيكتور ،املبجل
مارك؛ أيب ،وبعض احلراس مكاننا اخلاص ،اآلن أدركت ذلك
الفخ الذي كان ينصبه يل ،وأصبح لتهديده مغزى.
سحب أيب خنجره فتحركت ألقف أمام كاسرب الذي أجلمته
الصدمة:
“إن كنت ستقتله فعليك أخذ روحي أوالً”.
صفعني فأدمى شفتي لكنني مل أحترك فأعاد صفعي فسقطت
عىل األرض أشار للحرس فأمسكني رجالن منهم بشدة وقاداين
جلناحي عنوة ،كتام فمي كي خيرسا رصاخي باسم حبيبي كاسرب.
ظللت أدور بالغرفة كأسد جريح ،ال علم يل بام َّ
حل بحبيبي
ووصيفتي.
68
املبجل مارك
69
رب عىل تسوية هذا األمر قبل أن ُي َذاع عىل
شفاه فيكتور واآلن أنا جم ٌ
مسامع العامة ،سأبدأ بشد أذن ذلك الشيطان الذي أنجبته أوالً ثم
أتفرغ ملا جيب أن أفعله بمريال ووصيفتها وذلك اخلادم الذي جترأ
عىل تدنيس عفة ابنة املبجل.
فيكتور يعتقد أن ال أحد يعلم تلك األفكار التي تدور بعقله
الصغري لكنني عىل دراية هبا ،أعلم أن سعيه خلف أورنيال
سيفقده صوابه ،أورنيال -تلك املالك -طري ُح ّر متا ًما كأمها ،ال
أحد يستطيع إجبارها عىل ما ال تريده ،وهي ال تريد فيكتور ،يبدو
أهنا ورثت النفور من نسيل عن أمها..
أمها ..تلك املرأة التي ارتكبت الفظائع من أجلها ،لقد
وض َع ْت مايلُ ،سلطتي ،قلبي وكرامتي حتت قدميها لكنها ركلتهم
مجي ًعا بوجهي ،ال ترغب يب مهام فعلت ،ال تستسلم لإلغراء،
وجها غري وجهي ،مل تسمعً طوال تلك السنوات الطويلة مل َتر
غري كلاميت وتوساليت هلا أن تقبل حبي ومل يرق قلبها يل مرة
واحدة ،حتى تلك املرة التي أخذهتا عنوة رأيت كرهها اخلالص
بعينيها بعد أن تالشت غاممة النشوى أمام عيني ،ما زالت ذكرى
متعة ملسها تدغدغ حوايس كلام استدعيتها ،وما زال ضوء املرمر
املنعكس عن جسدها يبهر عيني ،دفء صدرها الذي غرزت
وجهي به وحرارة مكمنها عندما وجلته وكأنني أضاجع الشمس.
أفهم ما الذي يشعر به ابني فلقد شعرت به من قبل ،رغم مترده
لكني ال أريده أن حيرتق كام احرتقت ،تلك النساء الاليت يرميهن
الرب بوجوهنا كاجلمر أينام لمََ ْس َن أحرق َن.
70
أورنيال
71
انحنت يل ،شعرت بحرجها فأرشت ألماندا كي خترج ثم
هنضت وحتركت كي أقف أمامها.
بكت ،ثم ركعت عىل ركبتيها.
“أتوسل ِ
إليك ،سأفعل أي يشء تأمرينني به لكني أريدك أن
تنقذي ابنتي”.
وضعت يدي عىل كتفيها ساعدهتا عىل النهوض ثم قدهتا إىل
فجلس ْت.
َ األريكة
ٍ
هبدوء كل ما حدث”. “أخربيني
اآلن أدركت سبب خوفها وقدومها إ َّيل كي تطلب مساعديت،
هي واثقة أنني الوحيدة التي تستطيع أن تقف بوجه اجلميع خاصة
فيكتور.
“أحتاج للحديث مع مريال وحدنا”
حراسا غال ًظا عىل
ً “لقد سجنوها بحجرهتا ووضع أندروس
باهبا”.
“لن يمنعني أحدٌ ”
سارت معي حتى وصلنا للجناح فأومأت هلا فتابعت سريها
ٍ
لثوان توقف لغرفتها بينام وقفت أنا أمام الباب ،نظر يل احلرس
أمامي قائدهم متحد ًثا بصوت أجش:
“لدي أوامر بمنع أي حد من الدخول”.
مهست له باسمه:
72
“انظر يل يا أرسانيوس”.
ً
مندهشا. رفع رأسه ونظر يل
“أنا أعرف من أنت ،وأعرف معنى اسمك الذي تساءلت
كثريا عن معناه وأريدك أن تعرف من أنا”.
ً
مهس:
“سيديت أورنيال ..العذراء املبجلة ..اجلميع سمع عنك لكن
ال أحد جترأ ونظر”..
“لكنك نظرت ..رأيت وعرفت .واآلن كيف ستترصف؟”
انحنى يل وأشار كي يفسحوا يل فأحنيت رأيس له داللة عن
احرتام،ي تلك احلركة التي أفعلها فقط للمبجلني فرأيت مالمح
الدهشة عادت لتلتصق عىل وجهه جمد ًدا.
دخلت احلجرة فركضت مريال جتاهي بعينني محراوين:
“هل قتلوه؟”
“الزال مسجونًا بغرفة اخللوة ،أمك أخربتني ما حدث
فأردت أن أستمع لروايتك أنت”.
“هل ستصدقينني؟”
“سأفعل”.
“ملاذا أثق بك؟”
“عليك أن تفعيل ،ال أحد سيستطيع إنقاذكام غريي”.
نظرت يل قلي ً
ال بشك وكأهنا تفكر.
73
“فيكتور أوقع بنا”.
“توقعت ذلك ،أراد اهلروب من ضغط والدك فوشى بك”.
“والدي سيقتل كاسرب ،لن يرىض بغري ذلك”.
“أحتبينه؟”
“أعشقه”.
“إىل أي مدى قد تضحني من أجله؟”
“بحيايت”.
“ماذا عن حياة وصيفتك؟”
ارجتفت شفتاها ثم بكت وهزت رأسها موافقة.
“أريد والءك كامالً ،لن أضع نفيس بخطر من أجل شخص
قد يطعنني بظهري بعد أن ينتهي مأربه”
“كيف أثبت لك والئي؟”
رفعت ردائي أعىل ساقي ثم أخرجت خنجري من جرابه
حيث ث َّبته ووضعته بيدها:
“أمسكي اخلنجر ومرريه عىل معصمك “
نظرت يل غري مصدقة ،ارتعشت يدها املمسكة به نظرت
ملعصمها ثم نظرت يل لكنها بدت وكأهنا ال تراين ،مرت عدة ٍ
ثوان
وأنا أنتظر ثم أصبحت نظراهتا حادة وجرحت يدها فسحبت منها
اخلنجر قبل أن تكمل ،ثم استدعيت اللهب األزرق ومررته عىل
جرحها فالتأم.
74
اتسعت حدقتها دهشة وأجلمت الصدمة لساهنا.
“أنا أثق بك اآلن ،ستقفني باملحاكمة غدً ا صامتة ،لن تنطقي
حر ًفا واحدً ا حتى وإن مل يرق لك ما ستسمعينه ،كل ما عليك
فعله هو أن تثقي يب وتلتزمي الصمت”.
تركتها وخرجت من احلجرة هبدوء ،أعاد احلراس غلق الباب.
اقرتبت من رئيسهم فرتاجع.
اقرتبت مرة أخرى ومهست بأذنه:
“أرسانيوس ..اسم مجيل معناه مكتمل الرجولة ،عليك أن
ترفع رأسك ألنك حظيت باسم جيد كهذا”.
ابتسمت له فالنت مالحمه ثم ابتسم وانحنى يل ،لقد ضممت
هذا الرجل لصفي بعد هذه االبتسامة.
***
حينام عدت خللويت وجدت املبجل إبرام يعبث بآنية العشب
التي تركتها عىل طاولة معميل ،كان رج ً
ال طويالً ،أصلع ،ممتلئ
اجلسد لكن مالحمه طيبة وديعة.
اقرتبت منه:
“هذه نبتة األفاعي”
أعاد وضع اآلنية بحذر عىل الطاولة وسألني:
“هل هي سامة؟”
ابتسمت..
75
“ليست سامة عندما تلمسها ،لكنها تصبح سامة عندما ترتفع
درجة حرارهتا ،جرب أن حترقها وتستنشق دخاهنا وستسقط قبل
أن يصل لصدرك ،جرب أن تغليها يف املاء وستمزق أمعاءك”.
رفع حاجبه:
“عزيزيت أورنيال ...دعيني ال أجرب ذلك من فضلك”.
ابتسمت ،رغم أنني ال أثق باملبجلني إال أن املبجل إبرام رجل
ال يقاوم ،ال يمكنك أن تشعر بالغضب منه حتى وإن كان يوبخك
أو يشد أذنك.
كثريا فلمن أدين بالفضل؟”
“أنت ال تزورين ً
التفت إ َّيل هبدوء ،تأمل وجهي وتوقفت أنظاره عىل شعري
ثم تنهد.
ثائرا
شعرا ً
“كنت أعرف امرأة شجاعة مثلك فيام مىض ،متلك ً
كشعرك وطبعها ناري كطبعك وألجل تلك الذكرى أتيت”.
ضاقت حدقتاي ،كنت أعلم أنه يتحدث عن “كايال” السيدة
املختفية.
“أتيت لتحذرين ممن؟”
“من رمي نفسك وسط رصاع دامي ،ال أحد سيتأذى غريك،
أنت أنقى من أن يتم تدنيسك بحقد املؤامرات وعفن املصالح،
تعلمي الطب ،ادريس الفلك ،حافظي عىل خلوتك وابتعدي
عن املبجلني ..مجيعهم”.
أيضا
مؤخرا ،كنت ً
ً “أنت كنت تعرف كل يشء حدث يل
76
عىل دراية بتلك العالقة بني مريال وكاسرب ،لقد تم األمر حتت
نظرك وبمباركتك لكنك رغم ذلك تركتهام فريسة لفيكتور.
ٍ
برجل ال يمتلك شعرة واحدة برأسه -كناية عن أنا ال أثق
املبجلني -ملاذا أثق بك؟”
ابتسم.
“أنا ال أطلب ثقتك ..أنا أطلب فرصة ألناهلا”
“ملاذا؟ ألنني أشبه كايال؟”
مهيس السمها قد أ َّثر به وزلزل كيانه ،تالشت ابتسامته ،ثم
كتفي وضغط عليهام بقوة دون أن يدري: اقرتب مني أمسك َّ
“ َمن أخربك عنها؟ ما الذي تعلمينه؟”
سألته هبدوء:
“ما الذي يدفعني إلخبارك؟”
أمر باختبار الثقة كي أثبت والئي؟”
“أترغبني بأن ّ
اندهشت ألنه يعلم عنه ويبدو أن السؤال قد الح بعيني ألنه
أجاب:
“لست أعمى كي ال أالحظ أثر اجلرح بيد مربيتك ،وبام أنك
مررت عىل مريال قبل العودة إىل هنا فأنا واثق أنه لدهيا اآلن
عالمة مماثلة ،كتلك يا صغرييت”.
مد يده يل فتح كفه فمررت أصابعي عىل أثر اجلرح ،وتذكرت
تلك احلادثة التي رأهتا أماندا وحكتها يل.
77
“أنا أراقبك وأرعاك منذ رأيتك ،ال أعلم هل أفعل ذلك كي
أكفر عن ذنبي ألنني كنت أنان ًّيا وأحرضت كايال كي تظل معي
هنا وعرضتها للخطر فأردت أن أصنع معرو ًفا بامرأة تشبهها ومل
أجد من تشبهها أكثر منك ،أم ألنني أشعر جتاهك بعاطفة ما وهذا
ذنب أكرب”
مررت يدي عىل كتفي حيث كانت قبضته.
“هل آملتك؟ دعيني أرى”.
كانت أصابعه قد تركت عالمات محراء متالصقة عىل كتفي
لكن يبدو أن تلك العالمات مل تكن هي السبب بالدهشة التي
ارتسمت عىل وجهه.
“الشامة عىل كتفك ،تلك التي تشبه َم ْش َع ُل ميضء أنت
و ِ
لدت هبا؟” ُ
“هذا صحيح”.
“لقد كانت كايال متلك واحدة كهذه متا ًما عىل كتفها األيرس،
حينام سألتها عنها أخربتني أن كل نساء ورجال بلدها يولدون
هبا وأهنا ترمز للحكمة ،لكنك ُولِدت هنا فكيف استقرت تلك
العالمة عىل كتفك؟!”
أمسك ذراعي مرة أخرى َّ
وظل ينقل نظره بني شامتي وعيني
ثم سألني غاض ًبا:
“من ِ
أنت؟”
78
سؤاله قد أصابني باحلرية ويبدو أنه الحظ ذلك.
“هل بعثت روح كايال بجسدك جمد ًدا؟ هل تذكرين كيف
التقينا؟”
يبدو أن أفكاره دفعته أنني كايال وكأن روحها بعثت جمد ًدا
بجسد جديد ،لكن اعتقاده هذا يعني أنه واثق من موهتا.
“أنا ما زلت أجهل ملاذا أشبهها وأمحل عالمة بلدها”.
ثم صمت لفرتة وقررت أن أبوح أكثر:
“وقدراهتا ..لكني”...
“لكنك؟”
“أعلم بعض األشياء ،ما زلت ال أعرف متى يمكنني أن
أخربك هبا ،لكني واثقة أنني قري ًبا سأعرف كل احلقيقة”.
“كايال”..
ضغط عىل أسنانه ونظر لألعىل ثم استجمع صربه وأكمل:
عاجزا عن اإلنجاب الفرتضت أنك
ً “أورنيال ..لو مل أكن
ابنتنا”
نظرت إليه قلي ً
ال وكأنني أعيد التفكري بام قاله:
“ابنتكام! أنت وكايال؟ تلك التي اختفت فجأة قبل الزفاف؟”
“لو كنت أنجب ..فقط لو كنت أنجب كنت سأصدق هذا
األمر ،لكن التجارب مجيعها أثبتت أنني عاجز”
“أمي ماتت بعد والديت بثالث ليال ،هكذا أخربوين ،كانت
79
عيل أن أشك بنسبي هلام
امرأة من السادة وأيب ابتلعه البحر ،هل َّ
اآلن؟ ..ال ُبدَّ أن أقابل ذلك الرجل”.
“أي رجل؟”
نظرت إليه وأنا حائرة ،هل أخربه بذلك األمر أم ال ..بعد تفكري
قررت أال أخربه ،سأدع الوقت يثبت يل تلك الظنون فلقد عبث
إبرام بأفكاري املرتبة فأثار الفوىض بعقيل ،أنا أحتاج ألفكر هبدوء..
ال كي أفهم ما الذي حدث “سيدي ..علينا الصرب قلي ً
وأختلص من تلك الفوىض برأيس ،أنا أشكر لك اهتاممك يب
وممتنة لتحذيرك ،لكنني أعدك أنني لن أدخل حر ًبا ليس لدي
ثقة أنني سأنترص هبا ،كن بجانبي فقط وادعمني إن كان األمر
بيدك”.
مرر يده ببطء عىل وعاء نبتة األفاعي.
“ملاذا سميت هذه النبتة هبذا االسم؟”
“ألهنا تنمو بالقرب من جحور األفاعي ،تزحف األفاعي مع
بداية الربد كام تعلم نحو ثقب أو جحر داخل األرض لتقيض
فيه فصل الشتاء يف سبات عميق ،وقد تتجمع مئات األفاعي يف
بعض األحيان بنفس اجلحر فيسمى مكان جتمعهم مشتى ،تنمو
تلك النبتة حول حافة اجلحور شتا ًء ،وعندما ترتفع احلرارة خترج
األفاعى بح ًثا عن الطعام بينام تلفظ النبتة سمها فيصبح املكان
خطريا”.
ً ً
فخا
ٍ
ببطء. يبدو أنه أعجب بام سمعه ،تأملني
80
“لقد أحببتها ،كوين مثلها ،كوين سماًّ ألعدائك ً
وفخا هلم”.
أحنيت رأيس له احرتا ًما فوضع إصبعه عىل شامتي ومسحها
وكأهنا ستيضء إن فعل ذلك ثم هز رأسه وكأنه ال يستطيع أن
مر به منذ قليل ثم غادر ..غادر وتركني أحاول أن يستوعب ما َّ
أربط خيوط التواصل بيني وبني املرأة التي أشبهها.
لقد حدث ذلك بالصدفة باملرة السابقة ،كنت أجلس هبدوء
بحديقة خلويت حينام دامهتني الرؤية.
ٍ
لسبب ما كنت أعرف أهنا هي دون أن أراها من رأيت كايال،
قبل ،كانت تسري بمكان ما خيتلف كل ًّيا عن مدينتا ،يبدو أهنا البلد
التي يقصدها املبجل إبرام ،مملكة هلا أسوار عالية حتجب البحر
برش هلم مالمح مميزة فهي ال تشبه مالمح البرش عنها ،يسكنها ٌ
بأورنيال ،مالبسهم بيضاء وكأهنم ال يعرفون ألوانًا أخرى ،حتى
بيوهتم كانت باللون األبيض لك َّن أبواهبا بلون البحر ،أي أهنم
يدركون وجود ألوان لكنهم ال يرغبون باستخدامها وكأهنم
زاهدون فيها .هناك مبنى كبري يضم أماكن للسكن وأخرى
للدراسة يبدو أن اسمه “دار احلكمة” تلك الدار يسكنها الشباب
أمورا
والبنات الذين أمتوا السابعة عرش ملدة عام يتعلمون خالهلا ً
فرضا.
فرض عليه ً عن العمل واحلياة ثم خيتار كل منهم طريقه أو ُي َ
يبدو أن هناك طري ًقا مرسو ًما لكايال ،فهي حبيبة امللك
صاحب اململكة وحاكمها “أسبيدوس” هذا اسمه ،يكربها
بضعف عمرها ،وحيبها أكثر مما حيتمل قلبه .كانت عالمات
81
التمرد مرسومة عىل وجهها .مل تكن سعيدة بالطريق الذي
ُر ِس َم هلا ،وال بتلك الطريقة التي يرتبى عليها النشأ بمملكتهم،
وكأهنا تريد أن تكرس كل قوانني املدينة ،ويبدو أن حاكمها كان
متردها بحبه لكنها مل تكن تريد ٍ
بصرب ،وحياول أن خيمد ُّ يعاملها
ذلك احلب ،رأيت مناقشة حامية بني الطرفني ،كايال ذات الشعر
الناري والطبع الذي يامثل شعرها ترصخ بوجهه وهو يتحدث
ببطء وكأنه هيمس ،اآلن أدركت أهنا خمتلفة عن كل بنات تلك
ٍ
هبدوء ويتحدثون روح ،يتحركون ٍ اململكة ،فهم يبدون دون
هبمس وين ِّفذون األوامر بطاعة عىل عكسها؛ فهي إن سارت،
ِ
صوت تنهب األرض هن ًبا وإن حتدثت أصبح صوهتا أعىل من
العصافري التي تزقزق بنظام رتيب ،حتى عصافري تلك اململكة ال
أيضا مل أحبها وأدرك جيدً ا ما الذي دفع تلك األنثى
روح فيها ،أنا ً
َ
التي ُخ ِل َقت بجسد غزال وروح لبؤة أن هترب من هذه اململكة
ومن حب حاكمها.
سأحاول بكل الطرق أن أكرر هذه التجربة لعليِّ أكتشف
املزيد من احلقائق لكن عيل تأجيل هذا األمر ِ
املرهق حتى أنتهي َّ
من حماكمة الغد.
عيل أن أوصل له رسالة كي يتم األمر متا ًما كام أريده.
كاسربَّ ..
82
أندروس
83
“هل هذا ما أتيت اليوم لتفعله بشأن ابنتي؟”
اسرتخى أكثر عىل مقعده:
“ابنتك ..اجلميلة مريال ..دعنا نتفق أهنا مجيلة لكنها ليست
مجيلة بالقدر الكايف الذي جيعلني أجتاوز عن أطامعك بالسلطة”.
اقرتبت منه أمسكته من ثيابه:
“أهيا الـ”...
أغلقت صفعته فمي.
“اسمع أهيا اجلرذ ،هذه املرة أغلقت فمك بيدي لكن املرة
املقبلة سأغلق عينيك لألبد بخنجري واعلم أنه مل تعد لديك
شكرا”.
سلطة منذ اآلن ،عليك أن تتقبل العطف وحتني الرأس ً
أرضا واخلزي حيرق جلدي ،هنضت ببطء، دفعني فسقطت ً
هندمت ثيايب ،مسحت شفتي الدامية بيدي قبل أن يدخل إبرام
برفقة املبجل مارك وخلفهم ابنتي واخلادم اللعني يقودمها حراس
شداد.
الصفع
َ لقد حطت تلك الفاسقة من شأين وجعلتني أتلقى
والتهديد من ٍ
طفل ختىل عن صدر مربيته باألمس.
أحنيت رأيس حتية لشقيقي واجتهت ملقعدي قبل أن يوقفني
صوت الوغد ابن مارك:
“ال أعتقد أن جلوس املبجل أندروس عىل مقعد احلكم
أمر ٌ
عادل”. بقضية ابنته متهمة هبا ٌ
84
نظرت لشقيقي فوجدت إبرام يبدي انزعاجه من حديث ابن
أخيه بينام أومأ املبجل مارك مواف ًقا.
تدخل إبرام:
“املتهمة التي تتحدث عنها يا فكتور اسمها “السيدة مريال”
ابنة املبجل أندروس عمك شقيق أبيك ،هال توقفت عىل بث
الكره كي نعالج األمور بحكمة؟!”
ساخرا
ً “عن أي حكمة تتحدث يا عمي -تشدق هبا
وكأهنا إهانة -ابنة السادة مارست احلب مع جرذ قذر وكرست
قانون املدينة ،هتاون معها اليوم وانظر غدً ا لتجد فتيات السادة
األرشاف بأحضان العبيد يدنسون النسل الطاهر ،ال ُبدَّ أن نقطع
رقبة ابنة املبجل وجرذها حتى تكون عربة وعظة”.
“أنا أوافقه”.
التفتت الرءوس مجيعها حيث الصوت الذي قاطع اجللسة،
دفعت أورنيال الباب وخطت داخل احلجرة بوقاحة ،فرصخت
بشقيقي:
“ملاذا أتت هذه الفتاة؟ َمن دعاها؟”
سارت بثقة داخل املجلس وكأهنا ال تكرتث العرتايض.
“لقد تلقيت دعوة من الرب”.
ابتسم الوغد فيكتور بينام رفع إبرام وجهه للسامء بنفاد ٍ
صرب ثم
ٍ
هبدوء: سأهلا مارك
“ارشحي لنا سيديت ،كيف دعاك الرب جللستنا الرسية؟”
85
حتركت الفتاة ووقفت بجواري بكل وقاحة ثم حتدثت بصوهتا
الذي ال يعلو عن اهلمس:
“لقد دامهتني رؤية باألمس ،رأيت هبا كل ما حدث”.
قالت ذلك وهي تسلط أنظارها عىل فيكتور ،هل تقصد أهنا
علمت بمكيدته؟
هل أتت لتساعدين أنا وابنتي أم أتت لتتأكد أن كلينا سيتعفن
باجلحيم؟!
أنا ال أثق هبذه الفتاة لكني سأستمع برتكيز ملا تنطقه.
سأهلا فيكتور:
“هل أخربك الرب عندما جتىل لك أن علينا أن نقطع رقاهبام؟”
ابتسمت:
“يشء كهذا”.
أدارت وجهها للمبجل مارك وحتدثت:
“كام تعلم يا سيدي الرب ال يرىض أن تنتهك قوانينه”.
ابتسم فيكتور بينام تابعت هي:
أيضا رحيم ،وقد دفعني كي أظهر لكم جان ًبا
“لكن الرب ً
من هذه الرمحة”.
عقد فيكتور حاجبيه بينام انتقل ببرصه من ابنتي الباكية الصامتة
ألورنيال ثم سأهلا:
“اآلن زادت حريتنا ،ما رأيك أن ختربينا بام أخربك به الرب
86
بشكل مبارش ،ألنه يبدو يل أن الرب قد خاصم أيب وشقيقيه
لكنه أتى لك بالنهاية كي ترشدهيام”.
ابتسمت الفتاة متقبلة سخريته ثم أكملت:
راض عام فعله كاسرب ولذلكٍ ربين الرب أنه غري “أخ َ
مر هبا نجا وإن مل يمر فقد تلقى العقاب
سيخوض حمنته إن َّ
الذي سيستحقه”.
هز مارك رأسه.
“هل أوضح لك الرب كيف ستكون هذه املحنة؟”
أمر الرب أن ُيص َلب ليلة كاملة ثم تُط َلق عليه الكالب
“لقد َ
اجلائعة بالصباح إن أكلته فهذا عقابه وإن زهدته فعليه الرحيل
خارج أورنيال”.
ضحك فيكتور:
أحببت عدالة الرب”
ُ “لقد
يبدو أن ما قالته قد القى استحسان اجلميع ،التفت ونظرت
للخادم اجلرذ ثم سألته بصوهتا اهلامس حتى إنني شككت أنه مل
يسمع جيدً ا:
“هل تقبل عدالة الرب يا كاسرب؟”
نظر اجلرذ هلا قلي ً
ال ثم أحنى رأسه ومهس:
“أقبلها سيديت”.
اعتلت وجوه اجلميع الدهشة لكن مارك تدارك األمر وسأهلا:
87
أيضا؟”
“ماذا علينا أن نفعل بمريال ووصيفتها ً
الفتاة نظرت ملريال الصامتة ثم تابعت حديثها:
“الوصيفة عقاهبا القتل ..أما مريال فلقد نظر الرب لقلبها
طاهرا ،لقد ارتكبت خطيئة لكن خطيئتها كانت أوىل ً فوجده
خطواهتا يف درب النور”.
قاطعها فيكتور وقد بدا عىل وجهه أن القادم لن يعجبه:
“ال داعي لكالم مبهم لن يفهمه املبجلون ،ال تدعي مزحة
اتصاهلم بالرب ختدعك ،افصحي”.
مل يخُ ِفها حديثه ومل هيتز صوهتا لكنها وجهت نظرها للمبجل
إبرام ثم استقرت عيناها عىل عيني املبجل مارك وتابعت:
“لقد أذاق الرب مريال رشف ًة من كأس العشق البرشي كي
حيرمها منه لألبد ألنه حيمل هلا هدية أفضل ،ألنه يريدها أن
تتفرغ للعشق اإلهلي”.
أشارت بكفها بوجه فيكتور كي ال يقاطعها وتابعت:
“الرب اختار مريال لتكون خادمته ،عليها أن تنسى الزواج
وكل تلك الشئون البرشية ،وتتعلم الطب وهتب نفسها
هنارا والعبادة ليالً ،أمرين الرب أن أعد هلا
لتخفيف آالم البرش ً
خلوة وأرشف عىل تعليمها بنفيس ألتأكد أهنا تسري عىل الدرب
الذي أراده ،هذه رسالته لكم ..هذه حكمته ..وعىل من يرفضها
اخلروج من أرضه”.
قالت مجلتها األخرية وهي تنظر لفيكتور ،اآلن تأكدت أن هذه
88
الفتاة هي هدية الرب ح ًّقا ،لقد قامت بإنقاذ ابنتي احلمقاء من
املصري األسود الذي كان بانتظارها ،ووضعت ذلك اجلرذ أمام
هنايته ،أمتنى أال ترتك الكالب من جسده عظمة واحدة ،وأجلمت
لسان فيكتور الذي عجز اجلميع عن إجلامه ،قد أركع عىل ركبتي
اآلن ممتنًا هلا .سأهلا فيكتور:
“ماذا إن رفضت مريال الزهد بالبرش؟ عزيزيت أورنيال ِ
أنت
ما زلت بريئة ومل يذق لسانك شهد املتعة بعد”.
“انظر للفتاة أهيا املبجل فيكتور لقد سمعتني منذ دقائق
أحتدث عن املصري الذي اختاره الرب حلبيبها فهل أبدت
اعرتاضها بكلمة واحدة؟”
“حقيقة لقد اندهشت من هذا األمر فمريال الثرثارة قد
أكلت القطة لساهنا لكن عينيها مل تتوقفا عن الدموع”.
“الدموع تطهر الروح ،الرب يغسل ذنوهبا ،ولقد نذرت
الفتاة صو ًما عن الكالم ،هذه عالمة القبول التي أخربين هبا
الرب ،اسأهلا إن أردت التأكد”.
نظر الوغد البنتي:
“مريال ،هل ستتخلني عن املتعة التي كنت هتربني خلسة من
تذوقها؟”
أجل ُّ
نظرت أورنيال للمبجل مارك وقالت له:
“سيدي ،هل بامكانك سؤال مريال بطريقة مقبولة عن
89
رأهيا بحكمة الرب؟ فيبدو أن املبجل فيكتور فقدَ مهارة صياغة
األسئلة”.
ارتعشت شفتا إبرام بابتسامة بينام خضع مارك إلرادهتا وسأل:
“مريال ..هل تقبلني عدالة الرب؟”
أخريا أن ألتقط أنفايس .قال
أومأت مريال موافقة فاستطعت ً
مارك:
“اآلن وقد متت إرادة الرب بإمكاننا رصف اجلميع”.
هنض فيكتور قائالً:
صغريا”.
ً أجرب شي ًئا
“ليس قبل أن ِّ
اجته نحو كاسرب أخرج خنجره ثم طعنه به يف كتفه العاري
وهو ينظر ملريال ،الوغد حياول دفعها للحديث.
ضغطت مريال بأسناهنا عىل شفتيها حتى سال الدم منها
ونظرت ألورنيال متوسلة ،اجتهت الفتاة حيث وقف فيكتور
سحبت اخلنجر الذي غرسه بكتف كاسبري فتدفق الدم من
اجلرح ،التقت عيناها بعيني أخي إبرام الذي هز رأسه ينهاها عن
فعل يشء ال أستطيع أن أعلمه ويبدو أهنا خضعت إلرادته فقد
أغمضت عينيها وقالت هبمس:
“املبجل فيكتور يتحدى الرب”.
سمعت شهيق كاسرب املتأمل وقالت:
“ويبدو أن الرب قد قبل التحدي”.
90
فتحت عيناها ومررت إصبعها رسي ًعا عىل كتف كاسرب
وقالت:
“سأحرض لسجنك ملداواتك ،إن أراد الرب حسم املوقف مل
يكن سيخلق االحتامالت”.
جذهبا فيكتور بعيدً ا عن اخلادم وهو يرصخ:
“ال تلميس هذا اجلرذ”.
نظرت داخل عينه ومهست:
“أنت تدفعني للمسه دف ًعا ،كل من تلمسه لتجرحه يتحتم
عيل أن أملسه ألشفيه ،توقف عن ‘يذاء الناس وسأسحب يدي”.
َّ
الحظ إبرام ما حيدث فأرسع جتاه الفتاة ومهس:
“سيديت ..يريد املبجل مارك أن حيدثك حدي ًثا ً
خاصا دعيني
أقودك ملقعدك قبل أن أخيل الغرفة”.
نظرت الفتاة ملريال وقالت هلا:
“وصيفتي تنتظرك باخلارج سرتافقك لغرفتك اجلديدة”.
هزت مريال رأسها ،نظرت للجرذ للمرة األخرية قبل أن
تنحني ألورنيال وخترج بكتفني متهدلني.
أيضا،
راقبت خروج اجلميع وعلمت أنني جيب أن أغادر ً
لكنني سأكون بحاجة حلديث خاص مع هذه الفتاة.
91
املبجل مارك
92
املدينة ،يرهيا مجال اهلضاب ،روعة السهول وأرضنا اخلرضاء
الربكان علينا ،كانت تدور كزهرة عبادُ اخلضبة التي َم َّن هبا
الشمس ،ختطف األنظار مثلها ،لكنها مل تكن تراين ،كل نساء
املدينة خيطبن ودي لكنها ال تراين ،ملاذا مل تكن تراين؟!
أنا أكثر وسام ًة من إبرام املكتنز أنا أكثر رجولة منه ،ال أنكر
أنه وجدَ ها أوالً وأحرضها للمدينة لكن كان عليها أن تريدين،
حتبني ،متنحني نفسها ،رفضت كل حماواليت للتقرب منها ومل ختربه
رشف ،كانت أفضل مما يستحق ،أفضل مما يستحق ٌ هبا ،كان لدهيا
كالنا ،تعلمت أن أنتزع حقي؛ لذا أخذهتا ،باتت ليلتها بغرفتها
لكنها استيقظت بغرفتي بالصباح ،أسفل حجريت لكن يمكننا أن
رسا ال يعلمه أحدٌ ،
اصطالحا غرفتي ،أصبح اختفاؤها ًّ ً نسميها
حتى ذلك املخبول الذي أراد أن ييش يب ألخي قطعت لسانه
روجها التابعون يل وهددته أين وأطلقت إشاعة بأنه فقدَ عقلهَّ ،
خيتف عن األنظار ،مل يكن فعل ذلك ِ سأقتله باملرة القادمة إن مل
ال لكنني سأفعل أي يشء إلخفاء رسي. أمرا سه ً
ً
واآلن ابنة املرأة التي رسقت قلبي ترسق ُسلطتي ،قد ينفخ
بعض أعدائي بأذهنا كي حتكم أورنيال ،حقيقة هي جديرة باحلكم،
الرب م َّيزها ،ال ُبدَّ أن أضع عيني عليها أكثر باأليام القادمة ،أن
أقرهبا مني يبدو أن قدري هو احتضان الفتاة وأمها.
93
أورنيال
94
“أشكرك ألنك منحتني فرصة لتنفيذ عدالة الرب ،بغري
تفهمك كانت األمور ستسوء ،لكنني أخشى أنه بقي لدي طلب
ُّ
صغري”.
نظر يل هبدوء زائف ،كنت أسمع دقات قلبه من حيث جلست،
هز رأسه كي أحتدث:
رسا ،حتى“أرغب أن يصبح ما حدث هنا هبذه القاعة ًّ
حماكمة الغد أمتنى أال يسمع هبا العامة ،أنت تعلم أن رد فعل
ٍ
مضمون وسيكون بنا ًء عن سوء َفه ٍم وقلة تقدير غري
العامة ُ
لعدالة الرب ،قد يثور بعض اخلدم من أجل صديقهم ،وقد تتجرأ
الفتيات ويقلدن مريال؛ لذا أفضل حل من أجل سالمة أورنيال
هو إخفاء هذا األمر عن أهلها.
املعرفة كاجلمر ونحن ال نريد أن حيرتق العامة بمعرفة تفوق
قدرة استيعاهبم”.
تقديرا ،كنت أعلم أن طلبي هذا سيثبت له
ً ابتسم وهز رأسه
أنني ال أريد رسقة األضواء منه ألن الرب جتىل يل وحدي ومنحني
كثريا.
احلكمة .وأن التكتم سيفيده ً
أنت أكثر حكمة مما كنت أعتقد ،لكن “عزيزيت أورنيالِ ،
كيف سنخرب العامة عن زهد مريال خاصة أن اجلميع كان ينتظر
زفا ًفا وشيكًا”.
“سيدي املبجل ،امجع شعب أورنيال وأخربهم أثناء عظة
مصريا أفضل ملريال ،وأن
ً األسبوع أن الرب جتىل لك واختار
95
املبجل فيكتور سيكون سعيدً ا بالتضحية بعروسه من أجل حتقيق
إرادة الرب”.
أمسك بيدي وربت عليها:
“عزيزيت ..أنا أقدر ذكاءك وخوفك عىل املدينة ،لكن كل
تلك األحداث قد أربكت تفكريي وما زلت أشعر باحلرية،
كيف سنخرب الشعب عن ذلك اخلادم وما فعله؟ قد يعقد هذا
الوسط”.
“إن أكلته الكالب غدا فسنخرب الشعب أنه خرج برحلة
للبحر وأن البحر ابتلعه ،وإن زهدته فسنجعل الناس تراه أثناء
خروجه من املدينة ليس كشخص مطرود ،بل كرجل أراد أن
يتع َّلم أرسار البحر ليأيت ويدرسها لشعب أورنيال بدوره وقد
سمح له املبجلون بذلك هبدف نرش العلم ،وسنرتك أمر عدم
عودته لظنون العامة فيعتقد البعض أنه مات بينام يشك البعض
هرب”.
أنه قد خان و َ
ٍ
ببطء. مال عىل يدي قبلها
“أووه سيديت ،كل يوم أعتز بقراري منحك اسم مدينتنا،
أنت جتسيد حقيقي حلب الوطن”.
ٍ
ببطء: وضعت يدي عىل يده وحركتها
“سيدي ..أنا ممتنة لك لكل يشء فعلته من أجيل ،لسامحك
أن أكون بالقرب منك كي أالحظ وأتعلم ،أنت هبة من الرب
ألورنيال”.
96
راقبت مالمح وجهه تتغري من احلذر إىل اللني ،يبدو أنني
تأثريا ما عليه ،فلقد هدأ وسكن من ملستي ،أنا واثقة أنه
أملك ً
يتساءل حتى اآلن هل قصدت نفيس أم أورنيال املدينة”.
ولقد نفذ ما اتفقنا عليه متا ًما؛ ففي صباح اليوم التايل وبعد
أن قىض كاسرب ليلته مصلو ًبا بغرفة املحنة املظلمة وقفنا مجي ًعا
أنا واملبجلون الثالث وفيكتور نشاهد أحد اخلدم يسحب ثالثة
كالب أشداء ويدخلهم احلجرة وخيرج ويغلق الباب خلفه.
انتظرنا وقتًا طوي ً
ال حتى مللنا فقال فيكتور:
صوت رصخاته؟ ألنني مل أسمعها ،يبدو
َ “هل سمع أحدكم
أن اجلرذ قد مات رع ًبا”.
أشار املبجل مارك للخادم ففتح الباب ٍ
ببطء لنرى أن الكالب
الثالث ينامون براحة حتت قدمي كاسرب املبتسم.
رصخ فيكتور:
“ال يمكن أن حيدث هذا ،جيب أن أقتل هذا الوغد”.
أشار له املبجل مارك الذي حاول أن حيافظ عىل اتزانه بعد هذه
الصدمة:
“ال أحد سيلمسه ،إذا كان الرب تركه فهذا يعني أن علينا
أيضا أن نرتكه”.
ً
أومأ للحارس الذي أخذ الكالب للخارج ثم دخل لكاسرب
وقال له:
97
“الرب قد منحك فرصة جديدة ،س ُيحضرِ أحد احلرس
لك مالبس ،ن ِّظف نفسك واستعد ألنك ستغادر أورنيال عىل
ظهر السفينة املغادرة لسيندوزا ،إن رأينا وجهك جمد ًدا فستكون
رس وإال ستضطر أن تقيض باقيهنايتك ،واعلم كل ما حدث هنا ٌّ
ٍ
لسان”. عمرك دون
أبقى املبجل مارك حارسني أمام الباب خو ًفا من أن يرتكب
ال قبل أن يرتكني ويغادر ،كنت فيكتور محاقة ،نظر يل فيكتور قلي ً
أعلم أنه غاضب ،وأنه يكون عني ًفا جدًّ ا أثناء غضبه فقررت أنني
سأزوره ألهدأ الوضع بيننا الذي تعقد.
نظر يل املبجل إبرام ومهس بعد أن غادر اجلميع:
“دعيني أرافقك يا سيديت”.
أومأت له مبتسمة ،كنت أعلم أن الفضول يكاد يقتله مال
ومهس بأذين أثناء سرينا.
“هل حدثت معجزة فع ً
ال أم أن لديك يدً ا باألمر؟”
“ماذا تعتقد؟”
“أنا ال أصدق املعجزات”.
ضحكت..
“ياجلامل ضحكتك ،أخربيني كيف فعلتِها”.
“أرسلت خادمي الذي أثق به لي ً
ال كي يطعم الكالب حلماً
حتى تزهد وألن اجلميع كان يتوقع هنايته فقد شتتهم الصدمة
فلم يالحظوا غري ثالثة كالب خاضعة ترقد بسالم”.
98
“يا إهلي الرحيم ،لكني أخشى عليك غضب اجلميع إن
انكشف األمر”
“لن ينكشف األمر إال إذا وشيت يب ،ال أحد يعرف غريك”.
“هل هذا اختبار ثقة؟”
“بإمكانك اعتباره كذلك يا سيدي”.
99
كلوديا
رسا إال أن مجيعهارغم أهنم حاولوا إبقاء األحداث األخرية ًّ
لقي هبا حتت قدمي ،لقد وقفت عىل الشاطئ أراقب بنفيس ذلك ُأ َ
اخلادم وهو يغادر املدينة بغري رجعة يف احتفال ظنه العامة نو ًعا
من التكريم لفرد منهم بال سلطة أو نفوذ .ما أسهل خداع العامة!
لكن الوسط قد تبعثر ،فريا ..العزيزة فريا ،عزيزة إبرام مل تعد
عزيزته ألنه مل حيرك ساكنًا من أجل ابنتها الفاسقة ،أنا ال ألوم
مريال لكن اللقب يبدو مالئماً عليها ،كل نساء السادة فاسقات
كلهن يفعلن مثل مريال لكن باخلفاء ،غلطة مريال الوحيدة أهنا
أرادت شي ًئا أبد ًّيا ،احلمقاء مل تدرك أنه ال يشء أبدي ،عليها فقط
أن تتمتع حلظة بلحظة ،تعرف هذا اليوم وترتكه غدً ا ،إهنا رغبات،
بأمان إذا حافظت عىل كوهنا جمرد رغبات ،لكنها غلفت ٍ ستظل
ساذج نصبه شاب غري ناضج ٍ رغباهتا باملشاعر فسقطت يف ٍّ
فخ
بإصبعه الصغري ،الشاب مل يتعب نفسه بالتفكري بخطة أكثر ذكا ًء
ألنه يعرف جيدً ا أن احلب يطمس العقل.
ٍ
بصمت لدرجة أنه مل يعد ينتبه إ َّيل ٍ
بصمت كعاديت، أنا أراقب
أحدٌ ،أحلل املواقف وأشمت باجلميع.
100
لكن بعد حادثة مريال انحرفت كل تقديرايت ،اختلف والء
الكل وأصبح األمر مسل ًيا أكثر.
سأستمر بمراقبة ما حيدث ،خاصة إبرام ،إبرام الذي ال يعرف
كيف حيب ،سمعت عن املرأة التى استنزفت خمزونه من احلب
قديماً .
حتى إنني توسلته ..كنت أحبه ،إنه ٌ
رجل جيدٌ ،رجل جيد مل
أستطع أن أنفذ لقلبه ألنه ممتلئ هبا.
أتأهب أللقي نفيس بني ذراعيه اشتيا ًقا فتصدين برودة
ابتسامته املتكلفة ،ألف ذراعي حويل ألذوب ثلج اخليبة ،يسألني
عن رس ارجتايف فأكذب متعللة بربودة اجلو ،رغم أنني أهتز بكا ًء
دون دموع فأشواقي تأكل قلبي وحاجتي إليه تتوغل يف خاليا
جسدي ،حنيني يتدفق بأورديت.
حبه مرض خبيث ،رضب بجذوره داخيل ومنح لفروعه حري َة
التنقل فأصبحت قتيلته ال حمالة.
ٍ
كسريات غريي ،فكم واحد ًة قتلت يا إبرام؟! أنظر لعينيه ،أرى
إن مل أكن املنشودة فمتى ستأيت األخرية التي توصد منافذ حبك
وحتتكر توزيعه لنفسها .يطرح عقيل املشتت عرشات األسئلة التي
أوجهها له فرتتد إجاباهتا طعنات بصدري.
أخشى أن ِّ
متى سيحرر جواريه ،ويزيل قيد احلب عن أعناقهن؟
كيف أوقع الكثريات بحبه ومل توقعه إحداهن بعد فتاته
املختفية؟!
101
إن كان ال يؤمن باحلب فلامذا يزعزع إيامهنن به!
ملاذا تركني عىل ذمة قلبه دون أن يدخلني إليه؟!
لو كان حيبني ملنحني نفسه كاملة ،ظنونه ،هواجسه وشياطينه،
كنت سأتقبل اجلميع.
وإن مل أكن ذات قيمة فعليه أن يدعني أبكي ح ًّبا كان بخيايل،
أداوي قل ًبا لن يسكنه غريه وأحتفظ بام تبقى من كرامتي.
أراه يقرأ كل تلك األفكار بعيني ،يقطب حاجبيه كام يفعل
دائماً عندما يتوصل لنتيجة ،ثم جيذبني لصدره ويلف ذراعيه
حويل بيقني َمن أدرك نية اهلرب.
حب ،يشد ذراعيه
أشعر بخوفه أن أبتعد ،خوف ال يرافقه ٌّ
حويل لكن احلضن الذي يشبع الشهية ال يعول عليه ،أشعر
بجوعي إليه كام أشعر بزهده يف ،لقد حان أوان البرت.
سأبرت نفيس منه ،سيعيش كام حيلو له وأتالشى داخل صمتي،
يبدو التاليش راحة يل.
كان هذا هو ما دفعني ألبقى يف الظل.
للحب ٌ أكتم حبي له الذي حتول ٍ
مكان ُ حلقد عليه ،مل يعد هناك َّ
ِ
بتجاهله يل ،ألنه مل يكن ملكي يو ًما بل كان داخيل ،لقد نز َعه إبرام
ُ
متاحا لك ُِّل النساء ،يستطعن ملسه ،حبه ،لك َّن هناك امرأة واحدةً
امتلكته ومل تفرط به رغم اختفائها ،ومل يسمح لغريها أن تدخل
قلبه.
102
أورنيال
103
كانت مترر يدها عىل كتفيها وهي ترصخ وكأهنا تشعر بالرب،
ملست أصابعها تلك الشامة عىل كتفها بغري ٍ
وعي لكن ملستها تلك
أيضا ،نظرتكان هلا أثر خييف ألنني شعرت أهنا أصبحت تراين ً
بعيني قلي ً
ال وكأهنا ختترب صدق عينيها سألتني:
أنت؟ هل فقدت عقيل!” “من ِ
رس التواصل؟
هل الشامة التي نمتلكها هي ُّ
عيل أن أملس شامتي وأفكر هبا كي أستطيع رؤيتها... يبدو أنه َّ
السيدة تنظر يل وتسألني! هذا يعني أهنا ليست ذكريات ..كايال
حية عينها يف عيني تنتظر إجابتي لتتأكد من أهنا مل تفقد عقلها بعد.
أيضا مل أفقد عقيل.
حدثتُها ،أردت أن أطمئنها وأن أتأكد أنني ً
“كايال ..أليس كذلك؟
رأيت جز ًءا
أنا أورنيال ،لقد رأيتك من قبل بإحدى رؤيايُ ..
أمر اختفائك
من ماضيك ..أعرف عن هروبك من مملكتك لكن َ
لغزا بالنسبة يل”.
ما زال ً
برش؟
“أنت ٌ
أورنيال ؟ أورنيال تلك التي كان يتحدث عنها؟
اسمك كاسم هذه املدينة اللعينة التي سجنت هبا كل هذه
السنوات”.
“هل ال زلت هنا؟ إن املبجل إبرام قد رفع الصخور بح ًثا
عنك”
104
بكت وهي هتمس باسمه:
“إبرام ..عزيزي إبرام ..كان عليه أن يفتش غرفة أخيه”.
يا إهلي! هل أخفاها أخوه؟
“أهيام؟”
كانت عىل وشك أن جتيب عندما سمعنا صوت كتلة خشبية
تتحرك.
مهست يل:
“إنه قادم”.
رفعت إصبعها عن شامتها فاختفى الصوت لكني حافظت
مستمرا ،يبدو أن خوفها قد جعلها ختشى
ًّ عىل إبقاء هذا االتصال
ٍ
بحذر أن يكتشف شي ًئا ،رأيت ضو ًءا ثم ساقني ممتلئتني تنزالن
درجات السلم..
أنا أعرف هذا اجلسد جيدً ا ،إنه املبجل مارك!
عروس أخيه
َ هذا الرجل اللعني الذي يدعي القداسة خطف
وسجنها أسفل غرفته طوال هذه السنوات وراقب قلب أخيه
حيرتق شو ًقا إليها!
ما الذي يدفع رج ً
ال أن يفعل هذا بشقيقه!
هل يكرهه!
حيقد عليه؟!
ٍ
برشه ،بشهوة ،هذا هو السبب هو راقبت عينيه تنظران هلا
يريدها ،حيبها!
105
هل يسجن الرجل امرأ ًة حيبها أسفل غرفته؟
هل حيرمها ضوء الشمس لسنوات طوال!
هل حيرق قلبها وروحها ويرتكها تبكي حرسة!
فلتحل لعنة اإلله عىل هذا احلب وصاحبه.
راقبته يتودد إليها فتدفعه ،يضمها فترضبه بيدهيا وقدميها ،جيذهبا
من شعرها ويرضهبا فترصخ ثم يرتكها وجيلس بجوارها يبكي.
أووه ،يا إهلي الرحيم!
كثريا بعد هذا االتصال مع كايال ،السيدة تبدو كام فكرت ً
كانت قديماً بنفس اجلامل ،مل أختيل أنني أشبهها هلذه الدرجة وكأننا
شقيقتان ،عندما يعرف إبرام أهنا ما زالت حية ومل خترج من املدينة
أبدً ا قد تقتله الصدمة ،لكن هل من احلكمة إخباره اآلن؟
هل سيصدقني وينقلب عىل أخيه؟
دقت أماندا باب حجريت ودخلت معتذرةً.
لدي خرب ال
“سيديت ..آسفة ألنني قطعت خلوتك لكن َّ
يمكنه االنتظار”.
أرشت هلا لتقرتب..
“لقد أتقن رجلنا الكتابة ،كان لديه شغف كبري للتعلم وهو
اآلن يرغب بمقابلتك ،طلبت منه أن يكتب ما يريده لك لكنه
رفض ،من الصعب خروجك دون لفت األنظار ويستحيل علينا
إدخاله للقرص دون أن يراه أحد جواسيس املبجلني”.
106
رفعت يدي ودسستها بشعري املتوهج كي أرفعه عن رقبتي
ثم ابتسمت.
“من الصعب إدخاله دون أن يراه جواسيس املبجلني لكن
سيكون من السهل هتريبه لو أن أحد املبجلني ساعدنا”.
“سيديت ..هل تضمنني والء املبجل إبرام؟! ألن خيوننا؟”
“عزيزيتَ ..من حتدث عن املبجل إبرام؟ أنني كنت أقصد
املبجل أندروس”
“أووه ...يا إهلي! ...أنت تودين أن تُع َّلق رقابنا عىل بوابة
القرص ..إنه لن يؤمتن مهام أظهر من الود”
“دعينا نخترب ذلك”.
فعلت مربيتي كام أمرهتا؛ أبلغت الرجل أننا سنرتب دخوله
للقرص ،كان هذا الرجل أميل الوحيد قبل أن تدامهني الرؤية،
لكن بعد معرفتي ما الذي حدث أصبح هذا الرجل دلي ً
ال يدعم
قويل دون أن أضطر أن أفيش عن رسي وقدريت عىل التواصل.
تلك القدرة التي أتعبتني بالبداية ،فموجات الصداع استمرت
برضب رأيس حتى كادت عيناي أن تقفزا من حمجرهيام هر ًبا من
األمل ،لكن بعد تدريب طويل بدأت موجات األمل يف االنحسار.
كانت زيارة املبجل أندروس يل متوقعة لكني مل أعتقد أهنا
ستكون رسيعة هكذا ،الرجل ختنقه التساؤالت كام أنه يشعر أنه
مدين يل.
دخل حجريت ،أحنى رأسه:
107
“سيديت”
بادلته التحية ثم مهست:
“سيدي املبجل”
“لقد أتيت كي أشكرك عىل مساعدتك لنا ،بالبداية كنت
أشك بك ،بأنك اتفقت مع فيكتور كي تتخلصا منا ،لكنك
فعلت ما مل يفعله أخي من أجيل”.
تورم شفاه.
اقرتبت منه ،الحظت ُّ
“أتسمح يل؟”
مددت يدي لوجهه ،ملست شفاه بإهبامي فرأيت ما حدث.
“صفعك؟”
كرها يل بل لفيكتور.
نظر يل والكره يكاد يقفز من عينيه ،مل يكن ً
“لقد آذيت نفيس بكأس الرشاب”
يقولون إن عليك أن خترب عدوك احلقيقة وتلفق الكذبات
لصديقك لذا قررت إخباره:
“لقد رأيت ما حدث”.
“مل يكن هناك غرينا بالغرفة”.
“أنا ال أحتاج أن أكون يف مكان احلدث حتى أراه”.
كانت عيناه تكذبان حديثي لكن لسانه مل ينطق ليؤكد؛ لذا
قررت أن أريه الدليل.
“سأثبت لك”.
108
مددت يدي جتاه يده.
“هل تسمح يل؟”
وضع كفيه بني كفي:
“قبل أن حترض يل كنت متسك آلة حادة بيدك ..خنجرك..
تشحذه ،لقد غمست نصله ومسحت حده بالسم ،كان بعقلك
فكرة واحدة وأنت تفعل ذلك ،كنت تردد داخله ..سأقتل
فيكتور ..سأقتل فيكتور”.
مذعورا ونظر يل وهو عاجز عن
ً سحب الرجل يديه من يدي
صياغة مجلة كي ينطق هبا ليكذبني.
“كيف تعلمني هذا؟”
بعض علمه”.
“أنا خادمة حقيقية للرب ،لقد منحني َ
“أنا“ ...
تأت فقط لتشكرين ،لكنك أتيت ألن الرب قد وضع “أنت مل ِ
دورا هبذه اللعبة ،الرب أرسلك يل ألنه يبارك انتقامك من
لك ً
أخيك وابنه”.
“ماذا عن إبرام؟”
“إبرام ضحية أخيك ،إن وافقت عىل تأدية الدور الذي
رسمه لك الرب سأريك ما الذي فعله شقيقك بإبرام ،وعندها
لن حتقد عليه ،بل ستشكر الرب أنه منحك ح ًظا أفضل من
حظه”.
109
“أنا أوافق عىل أي يشء حيقق يل انتقامي”.
اختبارا للثقة ،فأنت اآلن أصبحت
ً “وأنا لن أطلب منك
تعلم أنني أستطيع معرفة كل يشء”.
ركع عىل ركبته..
“أنا أندروس ابن النجار أعلن والئي لك ،وسأخدمك بكل
رشف”.
وضعت يدي عىل كتفيه وساعدته عىل النهوض:
“رشف يل سيدي ،ستظل سيدً ا وسيظل احرتامك واج ًبا ،إن
سلطتي قائمة عىل احلب ،احلب أقوى ُسلطة”.
هنض ورأيت الدموع التي تأبى أن هتينه وتقفز من حافة أهدابه.
“سأطلب منك طل ًبا كي نزيل الغشاوة من عىل عني أخيك
املحب إبرام ،أنت تعلم أنه يد مارك وعينه ،ونحن نريد أن
نحرمه منهام”.
هز رأسه يل فعلمت أن كل ما سأطلبه منه سينفذ.
أنا أجيد استخدام ذكائي أكثر مما أجيد التعامل مع القدرات
التي ُمنحت يل ،التفكري هو أقوى سالح لدي.
أووه ،لدي سالح آخر أكثر فتكًا؛ الدالل.
110
كايال
ما حدث اآلن كان معجزة ،مل أستطع أن أعرف أكثر عن تلك
الفتاة ،التساؤالت ختنقني ،حتمل نفس شامتي أي أهنا من مملكة
الضارما ،لكنها حتمل اسم هذه املدينة اللعينة ،ملاذا سيمنحوهنا
اسمها إن مل تكن منهم؟!
األسامء هنا مم َّيزة ،يمنحها مارك ألبناء السادة واملبجلني ،كام
أنه حيذر عىل العامة تسمية أبنائهم بأبناء السادة ،اإلنجاب هنا
أيضا برشوط ،لقد هربت من الضارما ومن حب أسبيدوس ألن ً
احلياة لدهيم حتكمها قوانني سخيفة ،جيمعون األطفال بمكان
واحد ليتلقوا العلم ،ال وجود لنظام األُسرَ ،أردت أن أضم طفيل
لصدري أسمح له بالنوم بجواري أليس هذا حق كل أم؟
لكن حقوقي ُس ِل َبت مني ،يف أي مكان أذهب إليه تسلب
أيضا أتيت سع ًيا خلف حبي فسجنني احلب هبذه حقوقي ،هنا ً
احلجرة القذرة.
كنت أعلم منذ أتى يب إبرام أن شقيقه خيفي إعجابه يب ،خيفيه
عىل اجلميع لكنه يظهره يل بكل فرصة ،مل يكن لدي النية بإخبار
إبرام كي ال أفسد عالقة األخوة بينهام ،لكن ما فعله مارك باملرة
111
األخرية دفعني للتفكري بإخباره ،إذا كان شقيقه ال يستطيع ضبط
نفسه فلنرحل من هنا ،يكفي أن أكون أنا وإبرام برفقة بعضنا كي
نشعر باالكتفاء ،سنحول أي مكان نعيش فيه م ًعا للجنة ،إبرام
طفل صغري بقلب خلق للتو ،ال حيمل ضغائن وال يعرف الكره
حتى إنه مل ينتبه ملحاوالت مارك املستمرة للتقليل من شأنه أمامي
كي يثبت أن له اليد العليا.
كانت الوصيفات الاليت اختارهن إبرام يل قد أحرضن عدة
فساتني زاهية ،راقبتهن يضعوهنن عىل الفراش وينتظرن مساعديت
يف قياسهم ،لكنني أرشت هلن باخلروج ،لن أتعرى أمامهن ،فقد
تالحظ إحداهن االنتفاخ الصغري ببطني وأنا أردت أن أفاجئ
إبرام باخلرب اجلميل ،حينام أخربه أنني أمحل طفله سيحقق يل
كل ما أمتنى وأنا ال أمتنى غري الرحيل عن مدينته اخلرضاء وأخيه
البشع ،لو مل يكن هناك وجود ألخيه لكنت أحببت هذه املدينة،
لكنها ارتبطت به فهو حاكمها.
ٍ
ببطء ألرى كيف أبدو بذلك الفستان ،كان ضي ًقا؛ حتركت
فشعرت أنني مسجونة داخله ،رأيت عيني مارك حتدقان يب داخل
التفت
ّ املرآة ،يبدو أن التفكري به قد أتلف عقيل ،ورغم ذلك
ألتأكد.
“كيف جترؤ عىل الدخول حلجريت دون ٍ
إذن؟”
تأملني بعينيه القذرتني ثم استقر برصه عىل بطني.
“أنا ال أحتاج إذنًا ،كل األبواب تفتح ل “
112
“إال بايب ،ماذا تريد مني؟ ماذا تريد من عروس أخيك؟”
اقرتب أكثر أمسك كتفي:
“أريدُ ِك ،لن تصبحي عروس أخي أبدً ا ،أنت يل”.
أبعدت يديه عني وشعور بالقرف ينتابني وكأنني المست
حرشة لزجة.
عيل جمدد ًا سأخرب إبرام”
“إن فكرت بوضع يدك َّ
“عزيزيت كايال ،أنا أفكر كل ليلة كيف سأضع يدي وساقي،
إبرام لن خييفني ،ولن يستطيع محايتك مني ،أنا آخذ ما هو يل،
ِ
وأنت يل”.
صمت قلي ً
ال ثم مهس بجوار أذين:
“أنت وما حتملينه داخلك”.
حينام غادر ،نزعت ذلك الفستان ومزقته ،الليلة سأخرب إبرام،
لن أخفي عنه ما حيدث لوقت أطول”
لكن إبرام مل يعد هذه الليلة حلجريت ،سمعت أن اللعني مارك
كلفه بعمل عىل أطراف املدينة وأنه سيعود صبيحة يوم عرسنا.
هذه الليلة ظللت أنتظره حتى ضقت ،أحرضت إحدى
لبن فرشبته واسرتخيت ،كنت أقاوم إسدال كأس ٍوصيفايت يل َ
عيني لكن شي ًئا ما كان يدفعني للنوم دف ًعا ،حينام استيقظت
وجدت نفيس مسرتخية عىل فراش ليس فرايش بغرفة غري غرفتي،
كانت غرفة كبرية لك َّن ضوءها ضئيل وجدراهنا كأهنا نحتت من
113
الصخر ،علمت فيام بعد من مارك اللعني أهنا ُغ َرف ُأ ِعدت للهرب
يف حالة اهلجوم عىل القرص لكنه قام بإجراء تعديالت عليها.
أخربين أنه إن أراد اهلرب فسيهرب لذراعي مها فقط قادرتني
عىل محايته ،أدركت من حديثه فيام بعد أن الوصيفات الاليت كن
خيدمنني مل خيترَ ْ هن إبرام بل كن تابعني له ،ينقلن له كل أخباري
وينفذن كل أوامره.
114
“هذا الطفل ليس ابني ،لقد خدعني اللعني ،لكنك حتملينها..
ِ
أنت؟”
هزت رأسها والدموع تتسابق للقفز من عينيها:
“أنا ابنتك ..أنا ابنة كايال وإبرام”.
وضعت قبضتي عىل قلبي ولكمته عدة مرات ،كنت أعتقد أنه
سيرتكني ويقفز.
ابنتي عىل قيد احلياة ،ابنتي فتاة شابة مجيلة ذكية ورثت قدرات
تفوق قدرايت ،أسعدتني تلك املفاجأة كام مل أفرح يو ًما ،كام أهنا
زادت كرهي ملارك الذي خان شقيقه وحرمني من رؤية ابنتي
تكرب أمام عيني .
115
فيكتور
116
بطريقة ما جتعل ساقها املرمرية تظهر أثناء السري ،حتى إنه كشف
عن اخللخال الذي ترتديه وكأهنا متازحني باهلراء الذي تفوهت به
من قبل بسبب غضبي.
بدت يل مالك يرتدي رداء اخلطيئة ،راقبتها تقرتب وأنا أعلم
أهنا من صنع خيايل ،يبدو أن اخلمر قد فعل أفاعيله بعقيل.
فليفعل كام يشاء ،ما أمجل طلتها!
وما أعذب رائحتها!
هنضت وأنا أهتز ،ال مل أكن أنا الذي هيتز بل هي وجدران
الغرفة..
أمسكت كأيس من يدي ،أدارت ما به مرتني ثم رشبته..
وحتدثت ممتعضة:
“ما أقبح ذوقك! ،ما هذا الذي ترشبه؟”
مزعجا لكن
ً رمت الكأس املعدين عىل األرض فأصدر صوتًا
الصوت نبهني أهنا مل تكن من صنع عقيل بل تقف أمامي حلماً
ود ًما ،حلام أبيض ناعم يكاد ُي ِ
ظهر أعضاءها من فرط نقائه.
”أورنيال”.
مهست ترد حتيتي:
”فيكتور”.
”لو كنت أعلم أنك سترشفينني بزيارتك الليلة لكنت بدوت
بأفضل هيئة”.
117
نظرت لقمييص املفتوح وشعري الذي حترك كيفام اتفق بعد
أن قررت أن أكرس قوانني املبجلني وأسمح له أن يطول وقالت:
”تبدو هيئتك جيدة ،متا ًما كام عهدتك”.
”لنجلس ثم ختربيني كيف أستطيع أن أهبجك”.
اقرتبت مني ،قبضت عىل حافتي قمييص املفتوح بيدها
وجذبتني منه ثم وضعت يدها خلف رقبتي
كانت هذه هي املرة األوىل التي أكون هبا هبذا القرب معها،
املرة األوىل التي تلمسني هبا بإرادهتا.
لنر ذلك”
”أتعتقد أنك تستطيع إهباجي؟ َ
رفعت شفتيها الورديتني والتقمت شفتي ،شعرت وكأن
هناك آالف الدبابيس التي توخز شفتي ،لكنه أمل حمبب ،أمل أرغب
قدرا أكرب.
يف أن أتلقى منه ً
غرست يدي بشعرها ووضعت األخرى عىل ظهرها ألقرهبا
مني أكثر لعل الوخز الذي رسى بكل خاليا جسدي هيدأ ،لكني
كنت كمن يطفئ النار بنار أكثر.
ابتعدت عني بنفس الرسعة التي اقرتبت هبا وذهبت جتاه
الباب لتخرج فركضت خلفها وأمسكت بيدها.
”ملاذا؟”
نظرت ليدي املمسكة هبا:
118
”لقد قتلت يوجني ألنه أحبني ،ثم أخربتني أنك تك ّن ح ًّبا يل
ال يتسع له صدرك فأتيت كي أراه”..
الطريق لنهايته
َ “أك َْر ُه ما تفعلينه يب يا أورنيال ،إما أن تقطعي
فتلوثيها ٍ
بغبار دون سري. ِ
األرض ِّ أو ال تضعي قد َمك عىل
اخلمر يف ُعرفكٍ وأنت تعلمني َّ
أن شرُ ْ َب ِ ترشفني رشف َة ٍ
مخر
ت بدروب ُسك ِْره ،وال بمذاقه وتهُ ِ
ِ ِ
استمتعت أنت التيخطيئ ٌة ،ال ِ
ْ
ِ
أنت التي تركتيه ُز ْهدً ا وإيامنًا.
ب ثم تبتعدين ُت َق ِّبلني شفاهي ،متألين أعضائي بوقود احلُ ِّ
أعددت هلا.
ُ الرحلة التي رافض ًة بدء ِّ
تعشقني اآلثام ،ترتكبني الذنوب وال تنهينها خو ًفا من
استمتعت باخلطيئة قبل النَّدم ،وال تع َّف ِ
فت ِ العقاب ،ال ِ
أنت التي
عنها طم ًعا بالرمحة ،تقفني باملنتصف بني أبواب اجلنَّة والنَّار ،ال
تعلمني ألهيام تنتمني.
ما تفعلينه يب ٌ
قاتل ،يدفعني للجنون ،يفقدين عقيل.”
قالت وهي تسحب يدهامن يدي وتغادر
“ال تدعي فقدان يشء ال متلكه يا فيكتور”.
كأسا آخر كي أمأله ،كنت ال أزال
جلست جمد ًدا ،سحبت ً
أشعر بدفء شفاهها عىل شفاهي ،رميت الكأس وأمسكت
الزجاجة وجترعت فأسقطت قطرات عىل جانبي فمي وصدري..
آآه يا أورنيال..
119
قبلتِني وأنا أهتاوي بني الوعي والال وعي فثملت..
سكرا بك..
سكرا بخمر وإنام ً
ليس ً
أيتها الفاتنة..
ملموس فلطاملا
ٌ واقع
ٌ أصبحت أحالم املنامات اآلن وكأهنا
كنت أحلم بأنني أحتسس شعرك الناري..
وكأن أصابعي تداعب مقامات آلة موسيقية رقيقة ،وكأنك
قيثارة..
أعزف عىل أوتارك حلنًا يثري غرائزي..
أتشبث بعزيمتي جماهدً ا السقوط يف سبايت العميق..
أقاوم..
أذوب وال أسقط..
أذوب اآلن يف خيااليت التي حركتها قبلتك..
أتوه يف صفحات وجهك األبيض ،أحتسس شفتيك بأطراف
أناميل..
أذوق العسل من عىل أطرافهام املمتلئة..
أهلث كذئب جائع ركض أمياالً ،مل يبلل اللحم لسانه منذ
أيا ٍم ..بل شهور ..بل سنوات ..حلمك نادر وأنا ال أشتهي غريه.
ياحلظك أهيا الذئب!
هني ًئا لك حلمها الشهي ،ويح أنيابك التي تغرزها يف عنفوان
وكأنك ترغب أن ترتك وسمك عىل كل خلية منها
120
تذيبها من اخلد إىل اخلد..
ومن الكتف إىل الكتف..
ومن الفخذ إىل الفخذ..
تطلق أنيابك املشتاقة لتنهش حلم صيدك ،ال وقت كي متهد
الطريق فاجلوع يقتلك وغزالك صاخب ،حاد الطباع
ال حيب اللطفاء ،يشتهي من يغتصب كربياءه يف عنف وغلظة..
إهنا من ذلك النوع الذي يصعب إظهار ضعفه ،إهنا فرستك
الشاردة التي أمسكت بلجامها وتستعد كي متتطيها
إهنا لبؤتك ،شيطانتك التي متتص روحك ،وطاقتك..
اصمد..
ال ينهكك نزاهلا ،أنت الفارس وهي املهرة اجلاحمة ،عليك أن
حتكم زمامها ،اجعلها تئن ،تزأر وتصهل أسفل منك كي توقن
من هو السيد ،ال ترحم انوثتها ،فأنوثتها طاغية..
أورنيال..
أيتها النارية..
يا مصيبة قاسية عىل النفوس..
أرهقني رصا ُع ِك..
سأستخدم معك أضعف أسلحتي..
لساين..
فتارة أمهس يف أذنيك بكلامت احلب الفاحشة..
121
وتارة ألعق ُسمك فأزداد قوة وتزدادين ضع ًفا..
أسلبك سمك املميت الذي تطلقينه عىل الكالب الالهثة
خلف مفاتنك املثرية ،فأسمم به العامل كله ونبقى وحدنا
أنت اآلن ملكي ،أنا سيدك.
اخضعي..
اخضعي يا أورنيال..
وحكم الذئب القبيلة.
َ فقد مىض عهد الكالب،
122
إبرام
123
اقرتبت منها..
“حتدثي”
“إن أتيت وأخربتك أنني رأيتها وحتدثت معها مل تكن
ستصدقني لذا أتيت لك بالدليل”.
أشارت للرجل فسحب مقعدً ا ووضع أوراقه عىل الطاولة ثم
استخدم حربي:
“لقد قطع شقيقك لسانه”.
نظرت ألندروس فقاطعتني:
“كنت أقصد املبجل مارك ،لكن املبجل أندروس هو من
ساعدين عىل إدخاله القرص خلسة دون أن ترصده أعني مارك
وابنه ،واآلن وجه أسئلتك له وهو سيجيب كتابة”.
ذهبت للرجل ونظرت بعينه وسألته:
“أين السيدة كايال؟”
كتب الرجل بخط يسء:
“لقد اختطفها املبجل مارك”.
“كيف تعرف ،أثبِت يل”.
“استأجرنا املبجل مارك أنا وثالثة رجال آخرين كي نجري
تعديالت عىل أنفاق اهلروب أسفل القرص ،أراد أن نبني غرفة
كبرية أسفل جناحه ،يكون مدخلها بجناحه وال خمرج هلا ،أكد
عىل أن نسد كل املخارج ،أخربنا أهنا خلوة سيلجأ إليها كي
124
يتجىل له الرب ،أرشفنا عىل تأثيثها ،أصابني املرض باليوم األخري
فتخلفت عن احلضور ،كنت حمظو ًظا؛ ألن املبجل أمر حارسه
بقتل عامل البناء ،حينام طال غياب زمالئي أتتني زوجاهتم،
رسا ألنني شعرت باخلوف ،كان ما زال بإمكاين بدأت أتابع األمر ًّ
دخول القرص كعامل ،نزلت للممرات من حجرة أخرى بعيدة
عن حجرة املبجل وصلت للغرفة السفلية التي أعددهتا أنا
وزمالئي كانت هناك فجوة صغرية يمكنني النظر هبا كنت قد
أجلت إغالقها لليوم التايل ،حينام وضعت عيني عىل تلك الفجوة
وجدت السيدة كايال تبكي عىل الفراش وترصخ باسمك ،كنت
قد سمعت عن خرب اختفائها بالليلة السابقة ،صعدت جمد ًدا
وبحثت عنك ،رآين أحد حرس املبجل ذلك الذي كان يتناوب
مع زميله وحيرضان لنا املواد الالزمة والطعام عرفت عندها أنني
سأقتل؛ لذا رصخت طال ًبا رؤيتك ،شهد عىل رصاخي العديد من
الناس ،هلذا السبب مل يستطع املبجل قتيل كام قتل زمالئي لكنه أمر
بقطع لساين كي ال أستطيع إخبار أحد وأمرين أال أظهر باملدينة
جمد ًدا إذا أردت أن أعيش”.
ما أخربين به كان صدمة كبرية يل ،جلست عىل املقعد املجاور
أرضا كان جسدي يرتعد ،كايال هنا ،هنا بالقرب
له قبل أن أسقط ً
مني ،مل هترب كام أخربين ،مل تغادر بل خطفها شقيقي ،كم مرة
وقفت بحجرته ،هل سمعت صويت؟
هل شعرت بوجودي؟
“كيف نستطيع إنقاذها؟ ،لن نرتكها هناك ليوم آخر”.
125
“هلذا السبب أتيت ،سننقذها قري ًبا ،لن نفعل ذلك اليوم،
لكنني سأضمن لك رؤيتها ،لقد سألته هل ما زال يتذكر هذه
املمرات وأخربين أنه حيفظها كخطوط كف يده؛ لذا سأجعله ينزل
هذه املمرات جمد ًدا ويرى هل ما زالت تلك الفجوة موجودة كي
تتحدث معها”.
“ال صرب لدي لكل هذا ،لمِ َ ال نقتحم غرفته ونخرجها؟”
حتدث شقيقي للمرة األوىل منذ حضوره..
“إن فعلنا ذلك قد ينقلب علينا ويلفق كذبة ويرمينا بالسجن
أو يقطع رقابنا ،فكر قلي ً
ال فيمن سيصدقه العامة أنت أم املبجل
الذي يتجىل له الرب؟”
“لقد قال املبجل أندروس الصواب ،كام أنه هناك أمر آخر
أرغب بإخبارك به”.
نظرت هلا غري واثق هل ال زال لدي طاقة لتحمل املزيد من
األخبار الصادمة
“لقد أومهك املبجل مارك أنك عاجز عن اإلنجاب ،لكي
يضمن والءك له ،لكنك تنجب”.
“أنا أنجب؟ ماذا عن كل النساء اللوايت”...
“لقد أجرب كل امرأة عرفتها عىل تناول عشبة العفة ،بإمكانك
التأكد منهن بنفسك إن أردت ،لكن أنا لدي دليل أقوى”.
“ما هو؟”
126
“لقد كانت السيدة كايال حتمل طفلك بالفعل عندما تم
اختطافها”.
“طفيل؟”
رأيت نظرات الشفقة بعينني شقيقي الذي ربت عىل كتفي .
“لقد أحرض هلا امرأة من نساء السادة ،كانت عشيقته ،حتمل
طفله كي ترعاها أثناء محلها ،لكنهام أتتهام آالم املخاض معا،
مات الولد الذي أنجبته املرأة بينام ولدت طفلة كايال بصحة
جيدة ،لكنه أرادها لنفسه فقط؛ لذا أعطاها الولد امليت لتحمله
ال ثم أخربها أنه سيدفن ابنها بطريقة الئقة ،بينام دفع الطفلةقلي ً
حلضن املرأة األخرى لتعتني هبا عىل أهنا طفلتها ،لكنه غدر هبا
خو ًفا من أن تفضحه فقتلها ،عاشت كايال وهي تظن أن طفلها قد
مات حتى دامهتني رؤى بشأهنا واستطعنا التواصل ،حينام كانت
تتذكر ما حدث كنت أرى املشاهد بعقلها أمامي وكأين أعيشها
لذا مل أفوت مالحظة أن الطفل ُولِدَ بدون شامة بينام حتمل الطفلة
واحدة مماثلة”.
أمسكت كتفيها ونظرت للشامة:
ِ
“أنت ابنة كايال ..ابنتي”
ضممتها لصدري وأنا أسأهلا كي تؤكد يل.
“أنا ابنتها ..ابنتك”.
“أمك تعرف؟ ..أنت أخربهتا؟”
“نبهتها فاستنتجت وحدها الرابط ،أمي تنتظرنا وهي واثقة
127
أن ابنتها وحبيبها لن يرتكاها تتعفن بسجن مارك وأننا سنحقق
انتقامها ،ولكي نفعل ذلك علينا أن نخطط بصرب ،هل فهمت
خطورة أخذ خطوة خاطئة يا أيب؟”
دمعت عيني ..هززت رأيس ونظرت لشقيقي ثم مددت له
يدي:
“أشكرك”.
قبض عىل يدي بقوة:
“أنا أرد ديني ،وأحقق انتقامي”.
ابتعدت أورنيال عن ذراعي ،نظرت لعيني.
“سأقوم غدً ا بإبعاد املبجل عن حجرته طوال اليوم حتى
يتثنى لك رؤية أمي واحلديث معها”.
أشارت للرجل الذي هز رأسه.
صباحا
ً “سيسبقك كي يتأكد من املمرات ،وسينتظرك غدً ا
بالغرفة الرشقية ،يوجد هبذه الغرفة املدخل الذي نريده ،سيؤمن
حرايس دخولك وخروجك فأنا ال أثق برجالك ،ما زلنا غري
واثقني من والئهم”.
هززت رأيس وتابعت:
“ستكون هذه هي زيارتك الوحيدة هلا ،لن نعرض أنفسنا
أيضا تدرك ذلك”.
خلطر أن يرانا أحد ،أمي ً
“ه َّيا بنا يا عمي”.
128
ارتعدت شفاه أندروس وكأنه مل يتخيل أن تناديه هبذا اللقب
فأحنى رأسه هلا وغادر أوالً ليتأكد من خلو الطريق ،هزت رأسها
يل:
“أيب”.
هززت رأيس غري مصدق.
خرجت وهي حتني رأسها وتنظر للرجل الذي وضع الورقة
التي كتب عليها بطبق ،أشعلها ،راقبها حترتق هبدوء ثم غادر.
129
املبجل مارك
130
وضعت يدها عىل يدي ونظرت يل بتلكام العينني:
“ال تعلم كم يعني يل ذلك ،أنا حمظوظة ألنك أحتت يل
الفرصة كي أكون بالقرب منك”.
سألتها وكانت اإلجابة حقا هتمني.
“هل القرب مني هبذه األمهية بالنسبة لك؟”
سحبت يدي ووضعتها بني كفيها الدافئني.
“سيدي ..أنت الرجل الوحيد الذي أثق به ،أتعلم أنا أشعر
باخلوف منذ حاول أحدهم قتيل ،ال أستطيع التحكم بدقات
قلبي التي تدق بجنون حينام أكون وحيدة ،لكنني وأنا اآلن
بجوارك أشعر باألمان”.
َج َذ َبت يدي برقة ووضعتها عىل صدرها حيث قلبها ومهست
“أترى؟ دقات ثابتة ،قلبي مطمئن”.
الفتاة تنظر يل برباءة محل وكأهنا ال تُدرك تأثري ملستها عىل رجل،
سحبت يدي ووضعتها عىل وجهها فأمالته جتاه كفي وأغمضت
ال ال تُدرك تأثري ملستها ،أنا اآلن بورطة ،تلك عينيها ،هي فع ً
اللمسات أيقظت رجولتي والعذراء ما زالت مغمضة العينني.
“أورنيال ،أنت هبة من الرب ،أنت هديته يل”.
ٍ
ببطء ملست شفاهها كفي بقبلة رسيعة مهست حركت وجهها
عىل إثرها:
“أشكرك سيدي”.
131
أووه ،عزيزيت أورنيال إن أدركت األفكار التي خطرت لسيدك
بشأنك ستهربني من جواره.
“دعينا ال نضيع املجهود الذي بذلته من أجل إعداد هذه
الطاولة”.
وضعت الطعام بفمي وأنا أفكر ،هل متيل إ َّيل؟
لقد كانت دائماً تترصف بود فهي فتاة لطيفة ،لكن الود زائد
مؤخرا ،بالطبع فلقد مرت الفتاة بالعديد من الكوارث املتتالية
ً
ورغم أنك أنت وابنك كنتام وراء كل ما حدث هلا لكنها تراك
كبطلها ،بالطبع سرتاين كبطلها ألنني بعد كل حادثة كنت أذهب
إليها ألقدم الدعم.
بعد أن فشل احلارس الغبي بقتلها بسبب ذلك املتمرد يوجني
أوعزت لفيكتور أن ذلك احلارس حيبها ،كان من السهل استفزازه
أيضا
وزرع الشكوك برأسه فأنا من ربيته وأعلم جيدً ا هتوره ،هو ً
كان مستعدً ا لقتله ألنه ال يريد أي رجل بالقرب منها حتى وإن
كان جمرد حارس ،كنت أخطط للتخلص منها بعد موت حارسها
لكن الفتاة بنفسها نفت يل شكوكي بوالئها وأدركت أهنا ال تسعى
للسلطة وأن الفكرة نفسها ختيفها ،فهي ختتبئ هنا بخلوهتا أغلب ُّ
الوقت بعيدً ا عن العيون؛ لذا قررت اإلبقاء عىل حياهتا واالستفادة
منها أقىص استفادة ،حقيقة كانت فكرة قتلها حتزنني ،كيف يلمس
الرتاب جسدها ،كيف جيرؤ الدوود أن ينهش حلمها ،إهنا مجيلة
132
جدًّ ا ،أمجل من أمها ،نسخة جيدة منها ،مطيعة أكثر ،الطاعة هي
نقطة ضعفي ،حينام هتمس بصوهتا املثري (سيدي) تستيقظ كل
حوايس.
“أنت مل تذق العسل يا سيدي”.
انتبهت ألهنا حتدثني ،أدرت وجهي هلا فوجدهتا متسك بني
أصابعها الرقيقة قطعة خبز قد غمستها بالعسل وتقرهبا من فمي
ففرقت بني شفتي:
“أنت مل تذق العسل ،إنه نوع جيد أرشفت عىل صنعه
بيدي”.
وضعتها بفمي فأطبقت شفتاي عىل أصابعها فابتسمت:
“إنه جيد ،جيد جدًّ ا”.
“كنت واثقة أنك ستحبه”.
“إنه مثايل ،مثايل جدًّ ا ،مثلك”.
ال أم أنه ُخيل يل؟
هل ختضب لوهنا خج ً
“عزيزيت أورنيال ...أنت حتمرين خجالً”.
صمتت الفتاة يبدو أهنا ال جتد ما تقوله ،فأردت أن أحدثها
وجها لوجه ألرى رد فعلها:
ً
“أورنيال”..
“سيدي”..
“ما رأيك بفيكتور؟ ،حتدثي دون خوف”.
133
“سيدي املبجل ،أعلم أن األمر يبدو غري ًبا أن أحتدث عن
ابنك معك لكنني سأحتدث رغم ذلك”.
“حتدثي ياعزيزيت ،هذا ما أريده”.
“إنه متهور ،ليس لديه حكمتك ،أنا أشعر باخلوف بجانبه
ألنني ال آمن رد فعله ،أنت مل َتره وهو يطعن حاريس ،كان
صمت وأخفيت األمر كرامة لك ،وادعيت ُّ وحشا ،خمي ًفا ،ولقد
ً
أن من حاول قتيل قد قتله ،لكني ح ًّقا أخشاه ً
كثريا”.
ارتعدت الفتاة للذكرى ،فطوقت كتفها بذراعي وضممتها
لصدري فوضعت كفها عىل صدري ويدها عىل كتفي
“أعلم أنه خييفك ،حقيقة إنه خييفني ببعض األوقات وكأن
الشيطان يسكنه ،كالنا نعلم أنه يريدك ،لكني سأتدخل باألمر،
كوين مطمئنة لن يصيبك أذى وأنت بجواري”.
“أووه ،سيدي ،ال أعرف ح ًّقا ماذا أقول لك”.
“ال داعي للحديث ،أنا سأتوىل كل أمورك منذ هذه اللحظة”.
رفعت وجهها لتعرتض فلمست شفاهها ذقني:
“ولكن..؟”
“ششش”...
مررت يدي بشعرها فاتسعت عيناها وكأهنا تفاجأت مما فعلته
فهمست بصوت أجش حممل بالعاطفة:
قبضت عىل اجلمر،
ُ “أشعر حينام أقبض عىل شعرك وكأنني
134
أنت تشبهني بركان أورنيال ،نارية ،كل من يقرتب منك حيرتق”.
تنهدت:
“لكنك ال ختشى االحرتاق”.
“عزيزيت أنا مستعد لكي أحرتق من أجلك”.
مررت إهبامي ببطء عىل شفاها الوردية ،أفكر بإحلاح أن
ألتقطها بشفاهي ،كنت أوشك عىل فقدان سيطريت كل ًّيا وتنفيذ
فكريت عندما سمعت باب اجلناح يفتح ثم صوت وصيفتها يأيت
من بعيد:
“سيديت”..
ابتعدت عنها والتقطت أنفايس بينام أتى صوت اخلادمة:
“هل أرفع األطباق وأحرض الرشاب؟”
نظرت يل وكأهنا تطلب إذين فأومأت مواف ًقا ،كم هي حلوة.
“أحتب أن نسري قلي ً
ال يا سيدي ،هواء الصباح بكر ينعش
الصدر”.
نظرت لصدرها قلي ً
ال قبل أن أردد:
“لمِ َ ال”..
135
أورنيال
136
بدأت أميل إليه ،أزرع أم ً
ال داخله أنني أريده ،مل يكن بإمكاين فعل
ذلك وهو بكامل وعيه ألنه سيفكر ،حيلل ،ويشك ،لكنني فعلت
ذلك حينام أخربتني إحدى وصيفايت الاليت استطعت وضعهن
بخدمته لينقلن يل أدق ترصفاته أنه أصبح ثمالً ،وحينام يثمل
فيكتور تتداخل اخلياالت مع الواقع بعقله ،خاصة أنه يرشب
اخلمر مع تلك األعشاب التي يدخنها فيصبح التأثري مضاع ًفا ،لقد
أحرضت يل وصيفتي عينة صغرية من هذه األعشاب ،عكفت عىل
دراستها واكتشفت أهنا تسبب هالوس إن تم تدخينها بكمية كبرية.
أمرت وصيفتي بأن متزج كمية منه مع كمية أخرى من البخور
وتضعهم عىل النار لتعطر الغرفة ،وقد استنشقها حتى آخر نفس
ٍ
صغري مني سيجعله ٍ
ضغط أي
فأصبح عجينة لينة سهلة التشكيلُّ ،
يستسل؛ لذا غازلته ،ق َّبلته ثم غادرت وأنا مدرك ٌة أن عقله قد
خدعه وهيأ له أنه قد قىض ليلته معي.
كان عليه أن يتأكد من هالوسه ،أن خيمد تساؤالته؛ لذا كانت
زيارته يل متوقعة صبيحة اليوم التايل عندما يستيقظ ويذهب أثر
اخلمر ،وهذا ما دفعني الغتنام هذه الفرصة بدعوة والده ،اآلن
فيكتور يعتقد أن والده قد طمع يب ،وعليه أن يترصف كي يمنعه
من التفكري بذلك.
جلست أحتفل بغرس بذرة اخلالف األوىل بني املبجل وابنه،
كنت قد مللت من التجول والدردشة معه عن النباتات ،احلديقة
أمورا حتتاج تدخله،
ً واملنحل حتى أتاه حارسه خيربه أن هناك
أمسك يدي ،قبلها ثم مهس:
137
“عزيزيت ،ال يمكنني اهلروب من العمل لوقت أطول ،لكنني
سأكرر الزيارة”.
أحنيت له رأيس وابتسمت:
“سأنتظر بشغف”.
مل أكد أستنشق هوا ًء خال ًيا من أنفاسه حتى أتى فيكتور وقاطع
جلستي وكأنه كان ينتظره باخلارج ،ابتسمت له وأرشت إىل املقعد
املقابل فنظر له بسخرية وجلس بجواري ،سألته برباءة زائفة:
“هل التقيت باملبجل مارك باخلارج؟”
نظر يل قلي ً
ال وبدا أنه يفكر بإجابته ثم سألني:
“هل زارك اليوم؟”
ابتسمت ،يبدو أنه يتعمد إخفاء أنه رآنا ،هل خيتربين؟ ..لنرى..
“لقد غادره لتوه ،وبام أنك أتيت بعده مبارشة فتوقعت أنك
ربام تكون صادفته بالرواق”.
تنهد وكأنه حائر:
“مل أره اليوم”.
رفعت وجهي للسامء وقلت:
“أنت حمظوظ ،كان يبدو يل غري ًبا اليوم”.
ضاقت عيناه وسألني:
“ح ًّقا؟ ..فسرِّ ي يل ،لقد استيقظت لتوي ويبدو أن عقيل
مشتت”.
138
دفع اهلواء شعري فغطى وجهي ،سبقت أصابعه أصابعي
وأبعدت اخلصالت النارية عن عيني:
“كان يبدو يل مرتبكًا ،كثري التعرق وكأنه مريض ،كام أنه”...
توقفت عن احلديث وضغطت بأسناين عىل شفاهي فسألني:
“كام أنه؟؟”
“انيس ذلك ،لست معتادة عىل رشب اخلمر لكنه أرص
فرشبت معه ،يبدو أهنا أدارت رأيس فدامهتني أفكار خاطئة”.
وضع يده عى يدي املمسكة بالكأس ورفعها لفمه فارتشف
ما به مرة واحدة وتابع:
“أفكار خاطئة مثل ماذا؟”
وضعت الكأس عىل الطاولة ومهست:
“أنت تعلم أنني نشأت وحدي ،أخربوين كام ما يعلم اجلميع
بموت أيب وأمي ،كنت أتعامل مع املبجل دائماً وكأنه أيب ،سلطته
عىل أبويه قبل أن يكون املبجل حاكم املدينة؛ لذا كنت أركض
إليه كلام شعرت بالضيق ،اعتدت دعمه ومساعدته ،لكنني أشعر
هذه املرة وكأن هناك شي ًئا قد اختلف ،ال أعتقد أنه يمكنني أن
أرشح لك ،ال هتتم”..
َ
عروق يده البارزة فعلمت أنني قد أغلق قبضته بقوة فرأيت
قلت اليشء الصحيح فهمست:
“هل أغضبتك؟”
139
ابتسم:
“صدقي أو ال تصدقي ،أنا أغضب من كل يشء يقرتب
منك حتى نسمة اهلواء التي دفعت شعرك منذ قليل ،لكنني ال
أستطيع الغضب منك أنت مهام فعلت”.
ابتسمت ووضعت يدي عىل قبضته ففتحتها ثم مررت يدي
عىل كفه هبدوء وسألته:
“ملن أدين هبذه الزيارة؟”
نظر بعينيه احلادتني داخل عيني وكأنه يريد أن يقتحمهام وقال
بصوت أجش:
“ ُقبلة األمس”.
رددت:
“ ُقبلة األمس ..أمل تعجبك؟”
أمسك كفي الذي وضعته عىل قبضته ثم قلب يدينا م ًعا
ووضعها عىل ساقه وشبك أصابعه بأصابعي:
كثريا ،أعجبتني لدرجة أنني مل أعتقد أهنا حقيقية”.
“أعجبتني ً
حرك يدينا املتشابكتني عىل ساقه ،نظرت هلام ومهست:
“هذا يعني أنه ال توجد شكوى لدى املبجل”.
سحب يدينا ورفعهام لوجهه فلمس كفي خده:
“لدى املبجل شكوى صغرية”.
حركت كفي عىل خده وسمحت إلهبامي بلمس شفته
140
وسألته:
“هل بإمكان املبجل إخباري بشكوته؟”
“سيخربك هبا بكل رسور ،أمريته التي اعتادت مشاكسته
بكل فرصة متاحة ،توقفت فجأة عن حماربته وأتت لغرفته
باألمس وق َّبلته قبل ًة مل يذق مثلها أبدً ا”.
سحبت كفي لرقبته وراقبت العرق الذي ينبض بجنون:
“تبدو يل أمرية لطيفة”.
ابتسم:
“إهنا لطيفة جدًّ ا ،لكنني حائر ،هل تعتقدين أن ما فعلته هذا
هو استسالم ألهنا أدركت حبي هلا؟”
حركت يدي ألسفل قلي ً
ال فاستقرت عىل صدره حيث قلبه
ثم مهست:
“ال أظن أن ما فعلته هو استسالم ،أعتقد أهنا قامت فقط
بتبديل سالحها”.
كثريا ألنه ضحك
يبدو أن ما قلته كان غري متوقع ،وقد أعجبه ً
حتى دمعت عيناه:
أيضا أظن ذلك ،فأمريته ذكية ،أذكى مما يظن اجلميع”.
“أنا ً
“هل ستخضع هلا؟”
“هل تريد هي أن أخضع هلا؟”
“أووه ،إهنا تريد حياة هادئة مع زوج حمب ،إهنا أمرية تقليدية”.
141
“يبدو أن ما تريده هي هو نفس ما أريده أنا”.
“هذا يعني أن تنفيذه سيكون سه ً
ال عليك”.
“بنفس السهولة التي أتنفس هبا”.
سحبت يدي ومهست:
“األمرية تنتظر”.
“أورنيال ..ال تسحبي يدك بعيدً ا ،فهذا عقاب”.
“عقاب مستحق ،ستنفذه األمرية بشكل مستمر حتى يتحقق
ما تريده”.
142
فيكتور
كنت مصدو ًما منذ األمس فام حدث أربك تفكريي ،املرأة التي
طاردهتا طوال السنوات املاضية أتت لغرفتي باألمس وحدها،
ملستني ،ق َّبلتني وعبثت بأفكاري ،حقيقة مل أستطع التمييز بني
الواقع واخليال ،لقد عكفت طوال ليايل السنوات املاضية عىل
خت ُّي ِلها ،كم مرة لمُت هبا نفيس عىل حبها والتمسك هبا دون غريها؟
كم مرة دفنت وجهي بني ذراعي نساء غريها لعلهن ينسينني
الشوق الذي يأكل قلبي؟
كم مرة فكرت بقتل من يقرتب منها ،لقد قتلت اجلرذ الذي
جترأ وملسها ،قتلته حيث ارتكب إثمه ،كيف جيرؤ عىل لثم شفاها،
كيف يذق ما مل أذقه؟
كل ذلك تبدَّ د عندما ملست شفاها شفاهي ،ذلك اإلحساس
الفريد يستحق كل يشء فعلته من أجلها ،وسأفعل أي يشء
للحصول عىل املزيد منها ،شعرت أين نسيت كل ما عشته قبل
أن أقبلها وأنني ال أهتم بام سيحدث بعد ذلك وكأن قبلتها
مرحلة انتقائية بني ما كنت عليه وما سأكونه ،وكأهنا طريقة الرب
143
لتطهريي ،قد أختىل عن السلطة واملدينة والقتال رشيطة أن تبقى
معي ،أن هنرم م ًعا ،ال ..بل نعيش حياة أبدية كاآلهلة.
حينام استعدت عقيل بالصباح ،اختلطت أفكاري مع ًا ،هل
عيل؟
أتت إىل فعالً؟ هل كانت أحد تلك اخلياالت التي تسيطر َّ
هل قبلتني؟
هل نامت بني ذراعي للصباح؟
عجزي عن اإلجابة دفعني للذهاب إليها بخلوهتا ،ذلك
املكان اخلاص بأطراف القرص الذي يطل عىل احلدائق ،لكنني
رأيت حرس والدي أمام حجرهتا ،مل يستطع أحدهم منعي،
بحذر ،كنت أسمع صوت ٍ هزوا رؤوسهم بخنوع بينام دخلت
والدي املميز يقابله مههمة غري مسموعة ،دفعني يشء ما بأن
أختبئ وأسرتق السمع ،رأيت يد والدي الرشهة تلتف حول
كتفها وأصابعه ختتلس اللمسات ،مل تكن ملسات مبجل لفتاة
أرشف عىل تربيتها ،كانت ملسات رجل المرأة يشتهيها ،ظننت
للحظات أهنا توافقه ،اآلن تأكدت أنه شتت انتباهي باحلارس
الذي حيبها ليدفع عن نفسه شبهة حبه هلا ،لكن نظراهتا املتفاجئة
عندما شدد قبضته عليها قد أوضحت يل أهنا تستنكر ما يفعله
وكأهنا تشك بنواياه ،حتى إن اللعني قد حتدَّ ث عني وأخربها أنه
سيتولىّ أمورها وتعمد ملسها بشكل دائم ،كنت أود لو أقتحم
جملسهام اخلاص وأمرر خنجري عىل رقبته لكني حتكمت بغضبي
وخرجت هبدوء ،وتدبرت عدة أمور تقع مسئوليتها عليه ألجربه
144
عىل اخلروج من خلوهتا ،راقبته يسري خمتاالً بعينني المعتني وحينام
إذن ،كانت جتلس هبدوء عىل تأكدت من مغادرته دخلت دون ٍ
املقعد بنفس مكاهنا حيث رأيتها أول مرة ،ما زالت ترتدي فستان
األمس وكأن والدي اللعني داهم حجرهتا بالصباح وأيقظها من
النوم فلم يتث َّن هلا الوقت لتبدله ،ابتسمت فور رؤيتي وأشارت
ساخرا وسألت نفيس هل أشارت عىل ً للمقعد املقابل فنظرت له
أيضا؟
نفس املقعد أليب لكنه جتاهله مثلام جتاهلته اآلن ً
حينام سألتني هل التقيت بوالدي يف اخلارج نظرت هلا
قليالً ،سؤاهلا يعني أهنا ال ختفي األمر لكنني أرغب من التأكد
هل ستخربين كل ما حدث؟ لذا قررت إخفاء األمر وحماولة
استدراجها باحلديث ،ال أحد يستطيع أن يستدرج أورنيال ،هي
أيضا بريئة وصادقة طوال الوقت
ذكية ،أذكى امرأة قابلتها ،لكنها ً
وهذا ما أعتمد عليه ،مل خيب ظني هبا ،فلقد رشحت يل بكلامت
قليلة ظنوهنا وهي مرتبكة ثم أبدلت املوضوع ألنه والدي رغم
كل يشء لكنني فهمت.
وألنني أتيت إليها ألتأكد مما حدث باألمس لكن حضور
عيل أن أطرح سؤايل والدي املزعج قد أثار اهتاممي ،كان َّ
بخصوص ال ُقبلة ،لكن سؤايل قادين ألسئلة أخرى ،جماراة ذكائها
أمر مرهق لكنه ممتع ،الفتاة كاملة كإهلة ،وتلك الفتاة الكاملة
أصبحت لينة سهلة ،أصبحت تريدين ،د َّلتني عىل الطريق الوحيد
الذي يوصل إليها ،الزواج ،قري ًبا سأعلن عن موعد حفل زفافنا،
145
عيل أوالً حل األمور العالقة مع والدي ،أحتاج حلديث
لكن َّ
مطول معه.
سأزوره الليلة بجناحه ،إما أن أقنعه أو أقتله ال حل آخر ،لكن
ألضعه أمام األمر الواقع أوالً كي ال يستطيع املراوغة.
ناديت عىل إحدى الوصيفات الثرثارات التي أعرف أن فمها
رسا لدقيقة ،حرضت الفتاة وانحنت يل
ال يسع ًّ
“أنتظر أوامرك سيدي املبجل”.
“أريدك أن تذهبي ألفضل خ َّياطة ،تأمرينها باسمي أن تعد
جاهزا خالل يومني ،أريده
ً فستانًا للسيدة أورنيال ،أرغب به
فستانًا فاتنًا يليق بجامل خطيبتي”.
اتسعت عني الفتاة ،ارتبكت من الصدمة ،حتى إهنا توقفت
أمامي عاجزة عن احلركة ثم مهست:
“هتنئتي يا سيدي”.
رسا بني األلسنة
ركضا ،اآلن اخلرب سينتقل ًّ
غادرت الفتاة ً
بالقرص ،ويف الصباح سيصل لكل سكان أورنيال وسيعرف
اجلميع أهنا أصبحت له.
لريى كيف سيعرتض والده أمام كل الناس ،كيف سيربر
رفضه؟
146
فريا
147
نظرت البنتي ،كانت جتلس براحة وأمامها العديد من
الزهور واألدوات التي أجهل كيفية استخدامها ،حتركت وأتت
إ َّيل لتحيني ،الحظت أن وزهنا قد زاد وكأن احلياة اجلديدة التي
اختارهتا تعجبها ،تعانقنا هبدوء ثم عادت لتكمل اليشء الذي
كانت تفعله ،نظرت هلا مندهشة فربرت يل السيدة أورنيال:
“إهنا طالبة ماهرة ،تعلمت رسي ًعا كل يشء ووجدَ ْت شغفها
بصنع العطور”.
ابتسمت هلا ثم صارحتها:
“لقد أتيت عندما سمعت اإلشاعة التي تتناقل بني اجلميع،
هل هذا حقيقي؟”
رسا ثم منحتني كامل
نظرت ملريال التي ابتسمت وكأن بينهام ًّ
انتباهها.
“لقد رتبت لكي يعرف اجلميع ذلك ،لكنني أريد أن أطلب
صغريا ،هل يمكنني؟”
ً منك طل ًبا
قلت بكل صدق:
“عزيزيت ،حيايت لك إن أردتهِ ا”.
ابتسم ْت.
َ
“أرغب أن تنرش وصيفاتك إشاعة أخرى صغرية ،لكن
هناك شي ًئا أريد أن ُأفهمك إياه أوالً”.
جلست حيث أشارت يل.
148
“كلام قل ما تعرفينه عن األمر كلام أصبحت بأمان أكثر؛ لذا
نريدك أن تنفذي طلبنا الصغري دون أسئلة ،فإذا حتقق مرادنا
ونجونا سيكون هذا جيدً ا للجميع وإذا مل نوفق فسيحميك
جهلك من العقاب”.
“أخربيني ما تودين نرشه”.
استمعت لكل ما قالته ،حتى إنني شعرت باخلوف ،خوف
يرافقه محاس ،سأنفذ ما طلبته مني وسأنتظر بشغف النتيجة،
وأمتنى أن يبارك الرب انتقامهم.
حينام هنضت ألغادر أعطتني ابنتي زجاجة صغرية من العطر
ومهست:
“صنعته من أجلك”.
نظرت البنتي التي بدأت متيل للهدوء وهتمس كأورنيال
ثم شكرهتا وودعتهام ،وعندما عدت جلناحي مجعت وصيفايت
ومهست هلن بام سمعته ،لتحتل النميمة أروقة القرص ثم تفيض
خارجه.
149
إبرام
150
عىل طريقتي ما كنت أخفيت عنها ،لكنها سرتيد أن تسري األمور
عىل طريقتها ،لقد استسلمت إلرادهتا عندما أخربتني أنه علينا
التفكري جيدً ا قبل إخراج أمها ،حتى إنني ضغطت عىل نفيس
وحتكمت بقلبي وأشواقي ومل أكرر زياريت لكايال بناء عىل أمرها
كي ال أعرض كل خطتها للخطر.
كان قلبي يرجتف بصدري شو ًقا عندما تبعت ذلك الرجل
األخرس بتلك املمرات ،حتى وصلنا للفجوة الصغرية التي
ال بأمر من أورنيال،تركها منذ سنوات ،وأعاد توسيعها قلي ً
قربت وجهي منها ونظرت من خالهلا ثم رأيتها ،وكأهنا شعرت
بوجودي فاقرتبت مني ،رأيت الوجه الذي حرمني أخي منه
طوال هذه السنوات ،كانت رؤيتها دواء لقلبي املعتل.
“أووه كايال ،يا سيدة القلب ،مل أفرط بك لكن القدر طعنني
بظهري”
حتدثت مجيلتي:
“أخوك طعنك ال القدر ،كم اشتقت صوتك ،حتى إنني
كنت أختيل أين أسمعه هيمس باسمي ،ييضء يل ظلمة الليايل
املوحشة ،يؤنس وحديت”.
كثريا منذ أخربتني أورنيال احلقيقة ،هل
“كايال ،سألت نفيس ً
من العدل أن يعيش ك ٌُّل منا وحيدً ا جيهل وجود اآلخر؟ هل من
العدل أن تفرتقي عن ابنتك وأن أجهل وجودها؟
151
ب
حل ِّ
هل من العدل أن أترك من شتتنا وحرمنا من دفء ا ُ
وإحساس األرسة؟
رغم قساوة اإلجابة إال أهنا صحيحة ،العدل الذي يعرفه
أن علينا االنتقام مم َّ ْن َ
فعل بنا هذا ،ممكن رسقك من بني كالنا هو َّ
ذراعي ،رسق عرويس ،فرحتي ،فخري”.
قالت بصوت مرجتف:
“رسق ودنس”
بكيت..
“أووه ،سأحرق قلبه كام حرقت ملساته جسدك”.
لقد وعدهتا ..وعدت حبيبتي ،عرويس وأم ابنتي أن أنتقم
وسأنفذ انتقامي.
هلذا السبب ضغطت عىل مريال ،فأسلوب أورنيال اهلادئ
وخططها النظيفة لن تشبع هنمي ،لن تطفئ النار التي أشعلها
أخي بصدري..
152
أورنيال
153
”لقد سمموه!”
سمع مهيس اجلميع فتناقل عىل األلسن نظرت لقائد احلرس:
”أخبرِ ين ماذا حدثَ ،من زاره؟”
”سيديت مل يزره غري املبجل مارك”.
رصخت بحرس غرفته:
“أنتام ال تتحركان من أمام الباب ..حتدثا أخرباين من الذي
فعل به هذا؟”
قال أحدمها وهو خائف:
“دخل املبجل مارك حجرته قبل ساعتني ،يبدو وكأهنام كانا
عىل خالف ألن صوهتام كان عال ًيا ،كانا يتشاجران”.
”يتشاجران؟”
“نعم ،ألننا سمعنا صوتًا فاضطررنا القتحام الغرفة ،كان
املبجل مارك قد رفع خنجره ووضعه عىل رقبة املبجل فيكتور
الذي رصخ بنا لنخرج فخرجنا ،وعندما خرج املبجل مارك كان
حيمل خنجره امللطخ بالدم وهو غاضب ،دخلنا الغرفة جمد ًدا كان
ٍ
جرح بيده، املبجل فيكتور يمسك قطعة قامش بيضاء ليكتم دماء
أمرنا أال نسمح له بالدخول إن عاد جمد ًدا”.
نظرت لرقبته حيث ترك حد اخلنجر عالمة ،ولكف يده
فوجدت اجلرح ،تابع اجلميع ما أفعله ثم اجتهت أنظارنا للمبجل
مارك الذي كان يراقبنا فأدرك أنه موضع شك رصخ بوجوهنا:
154
”هل جننتم؟ ،أنا املبجل مارك حاكم أورنيال كيف أقتل
ابني؟ ابني الوحيد ..ثمرة عمري”.
تداخلت األصوات كنت أسمع كالما مثل:
”ال ُبدَّ أنه هو من قتله ،قتله ألنه طمع بخطيبته ،عار عليه،
سمم الوغد ابنه”.
دخل كل من املبجل إبرام وأندروس ،تعلقت أنظارمها
باجلميع ثم أعاد أحد احلراس ما حدث عليهام
فقال املبجل إبرام:
”ليأخذ أحدكم املبجل مارك جلناحه ،وليقف مخسة حراس
أمام الباب حتى نرى ماذا سنفعل”.
رصخ مارك:
"لقد ُقتِ َل ابني ،ويبدو أن أحدهم حياول توريطي باألمر وأنت
تأمر بسجني بجناحي؟!”
ربت املبجل إبرام عىل كتفه:
”أنت حتتاج للراحة ونحن نحتاج أن نعرف من فعل هذا
باملبجل فيكتور ،ليس لدينا حل آخر ،أخشى أن يثور العامة إن
ترصفنا خال ًفا لذلك”.
مهس املبجل أندروس بأذن أحد احلرس ،فرفع فيكتور عن
األرض ووضعه عىل الفراش ثم غطاه ،بينام أخرج اآلخر اجلميع
من الغرفة فوقف املبجل إبرام وحتدث:
”احلزن واجب عىل الصغري الشاب ،وسيبذل ك ٌُّل منا -ونظر
155
ألخيه أندروس -جهده كي تنكشف احلقيقة ونعلم من السبب
وراء موته”.
مد يده يل:
”عزيزيت أورنيال ،الرب لن يرىض بحزنك ،سنأخذ روح من
قتل خطيبك”.
أومأت بضعف بينام قادتني إحدى وصيفايت خللويت ،وعندما
جلست بفرايش مهست:
”يالقلة صربك يا أيب!”
ثم ناديت مريال.
فور أن حرضت ونظرت بعينها فهربت من مبادلتي النظر
مهست:
“أووه مريال ،إن كانت قابلة أيب قد أسقطته عىل رأسه فامل
خطب عقلك أنت؟!”
ارجتفت شفتها فهمست:
ٌ
طويل”. “انيس األمر ،عودي لفراشك فغدً ا يو ٌم
هزت رأسها وغادرت.
لن أنكر أن رؤيتي لفيكتور هبذه احلالة قد أثلجت قلبي ،حينام
وضعت رأسه عىل ساقي تذكرت ما حل بيوجني ،رأيت وجهه
وكأنه يبتسم ألن العدالة قد حتققت.
لقد مات فيكتور بشكل بشع ،حينام أمسكت كفه رأيت..
رأيت كل ما حدث.
156
فيكتور
157
“كنت ذاهبة إليك ألشكرك لكن بام أنني قابلتك بالرواق
وفعلت ذلك فسأعود لغرفتي”.
اقرتحت عليها:
“لمِ َ ال نعود م ًعا لغرفتي ،لنتحدث قليالً؟”
نظرت يل بمكر ثم مهست:
“لنؤجل حديثنا حتى حيني وقته”.
ابتسمت ،لطاملا أحببت احلديث معها ،فهو حديث ذكي مرح
ثم وافقتها.
“أعدك أننا سنتحدث قري ًبا جدًّ ا”.
رفعت حاجبها ثم ابتسمت:
“سنفعل ..ليلة سعيدة”.
ثم حتركت بخفة كي تعود خللوهتا بينام رست أنا سعيدٌ حلجريت،
مل تدم سعاديت ألن والدي داهم احلجرة دون استئذان ،فعلمت أنه
أيضا.
سمع اإلشاعات ً
“كيف جترؤ عىل خمالفة أمري؟”
نظرت للحراس كي يرتاجعوا ثم سألته:
“عن أي أمر تتحدث؟ ،أتذكر أنني دائماً ما خالفت أوامرك،
ملاذا تشعر بالغضب هذه املرة بشكل خاص؟”
“أحتدث عن أورنيال”.
“أورنيال؟ تلك التي قتلت من أجلها؟ أم أورنيال املدينة؟”
“توقف عن املراوغة يافيكتور”.
158
“بل توقف أنت عن الطمع ،لقد رأيتك ،رأيتك تلمسها
بشهوة ،رأيت نظرات االرتباك بعينها والسؤال الذي قفز هبام،
هل املبجل مارك يشتهيني أم ُخيل يل بسبب اخلمر؟ ،ما الذي
جعلك تفقد هيبتك وتنظر للفتاة التي حيبها ابنك؟”
سحب خنجره ووضعه عىل رقبتي ،اصطدمت قدمي باخلوان
ضجيجا ،أمسكت حد اخلنجر بيدي وأبعدته ً فانقلب وأصدر
عندما شعرت بنصله جيرح رقبتي بالفعل ،بينام اقتحم حريس الغرفة
وأشهروا أسلحتهم لكني طردهتم للخارج ،ثم أحرضت قطعة
قامش بيضاء وجدهتا أمامي ومسحت هبا جرح يدي وأنا أضحك:
“هل تشتهيها لدرجة أن تقطع رقبة ابنك؟ ،ال أستطيع لومك،
ففي عينيها سحر غامض جيذب احلمقى ،األوغاد و ُقطاع الطرق
واملبجلني ،لكنك والدي ..ها ..والدي ال تستطيع النظر لعروس
ابنك بشهوة ،ما بالك دائماً تطمع بعرائس غريك! ،فام تفعله اآلن
قد فتح األفواه املغلقة وحتدث اجلميع عن عروس أخيك التي
أيضا ،ومن عجزوا عن اهتامك قديماً أشاروا لك بالبناناشتهيتها ً
اليوم”.
عاجزا عن
ً نظر للخنجر الذي خضبه دمي بيده ،ثم نظر يل ،كان
النطق لكنه مهس رغم ذلك:
“إهنن لعنة ،جيرين جمرى الدم بالعروق”.
غادر الغرفة ،نظر يل حرايس ٍّ
بشك بعد رحيله وكأهنم يتأكدون
أنني ما زلت عىل قيد احلياة ،رصفتهم بعد أن أمرهتم أال يسمحوا
لوالدي بالدخول إن عاد جمد ًدا ،ورفعت القامش الذي رشب دمي
159
عن جرح يدي ورميته عىل األرض ثم تأملت اجلرح ،الوغد وضع
اخلنجر عىل رقبتي وكاد ينحرها بالفعل! ما الذي كان يفكر به؟
هل دفعه طمعه هبا للتفكري بقتيل؟
سأنتقم منه بالصباح ،قد أقتله إن متسك بموقفه ،لكنني اليوم
فسد نشويت ،اجتهت سعيد ،سعيد للغاية ولن أسمح ملا حدث أن ي ِ
ُ
للمكان حيث أضع أعشايب فوجدت اخلادم قد أعد يل لفافتني،
سحبت واحدة أشعلتها واسرتخيت ،أورنيال ستشاركني هذا
الفراش بعد عدة ٍ
ليال .هذه الفكرة أوصلتني للنشوة.
أشعر وكأن رأيس بثقل حجر ،عيناي تؤملانني وكأهنام سيقفزان
من حمجرهيام ،مل أعد أشعر بساقي ،ملاذا فقدت القدرة عىل الشعور
بقدمي؟
سائل ساخن يتدفق من أنفي ،ملسته بيدي ،دماء ..إنني أنزف
دمي ،أذين تنبضان كقلبي ،تؤملانني ،األصوات تغيب وكأنني
أيضا ،ال أستطيع أن أتنفس بسهولة،فقدت قدريت عىل السمع ً
وكأن أحدهم قد وضع خرقة سد هبا حلقي ،أمسك ردائي أكاد
أمزقه َّ
لعل بتمزيقه يترسب اهلواء حللقي ،أود لو أرصخ باحلرس
كي ينقذين أحدهم ..أمهس بصوت خمنوق:
“أورنيال”.
تنزف أذين وجتف شفاهي ،حلقي كأرض هجرهتا املياه ،كل ما
أستطيع حتريكه بجسدي هو عيني ،أنا أموت ..أموت دون أن آخذ
ما هو يل.
أورنيال..
160
مارك
161
نظرت لوجهه ثم رصخت ،اقرتب احلرس رأوا ما رأيته،
اصطدم أحدهم بالطاولة فأسقطها ،اجتمعت الوصيفات
ورصخت إحداهن فاستدعى صوهتا من بالقرص.
“فليحرض أحدكم الطبيب ،أووه بني ،فيكتور ،اهنض لقد
أتيت إليك ألعتذر”.
دخلت أورنيال احلجرة بعينني أثقلهام النوم وهي حتاول
استيعاب ما حدث ،استجديتها.
“أورنيال ..عزيريت ..افعيل شي ًئا ..اشفيه ..ردي إليه روحه،
الرب حيبك ،سينفذ ما تطلبينه”.
ركعت الفتاة عىل ركبتيها ،محلت رأسه ووضعتها عىل ساقها
بيد ترجتف ،راقبتها تنظر لعينيه ،شفتيه ،أنفه النازف ثم قلبت كفه
ورأت أظافره ومهست مندهشة:
“لقد سمموه!”
عاجزا
ً خرج الوضع عن السيطرة ،فقدت ابني ،توقف عقيل
عن استيعاب هذه احلقيقة راقبت اهلمس الذي يتهمني بقتله،
راقبت استجواب أورنيال للحرس ورئيسهم ،حضور شقيقي
أمر بسجني بجناحي ،قادين رئيس احلرس ُّ
وتدخل إبرام الذي َ
حتى جناحي ،ووقف أمامه مخسة حراس ،وجدت نفيس وحدي
وقد خرست ابني ،سجني متهم بقتله ،كدت أجن ،أرغب بأن
أرصخ ،بأن أبكي ،حركت الفراش ،رفعت السجادة فكشفت
عن املدخل اخلشبي ،فتحته ونزلت أسفل الدرج لكايال..
رصخت..
162
“لقد سمموا ابني ،قتلوا فيكتور”.
كانت نائمة عىل الفراش ،أفزعها صويت ،هنضت وجدت
نفيس أحتضنها وأبكي ،مل تدفعني عنها ككل مرة ،مل تقاوم ،ظلت
صامتة وتركتني أرصخ وأبكي..
“قتلوا فيكتور ،سمموه”..
“قتلوا ابني”..
استقبلت اخلرب كام كانت تستقبل كل األخبار التي أحكيها هلا،
بصمت ،دون تعاطف.ٍ
راقبتني أحرتق بربودها املعتاد ،لكن برودها هذه املرة طعنني،
لقد ُقتل ابني!
دفعتها..
لقد ُقتل ابني!
نطقت وقالت:
فقدت ابني”.
ُ أيضا
“أنا ً
رصخت هبا:
“لكن ابنتك مازالت حية ،ابني ُقتل ،فقدت فيكتور”.
قالت هبدوء مل أستطع أن أستوعبه:
“ابنتي ما زالت حية”.
“أورنيال ..ابنتك أورنيال ..ما زالت حية لكن فيكتور ُقتل”.
“أنت قتلته”.
رصخت:
163
“ال ،إنه ابني ،كيف أقتله؟ ،كنت سأقتله لكنني مل أفعل”.
“لك َّن دماءه بيدك!”
نظرت ليدي غري مصدق ثم هززت رأيس:
نحرا أو طعنًا ،لقد سمموه”.
“لكنه مل يمت ً
“أ ًّيا كانت ميتته ،أنت قتلته ،قتله طمعك ،قتله ظلمك ،يدك
ملوثة بدمائه”.
مسحت يدي بمالبيس فضحكت ساخرة:
“دماء الظلم ال تزول ،تلطخ الروح”.
“اصمتي” ..وضعت يدي عىل أذين:
“إن هربت من صويت فلن تستطيع اهلرب من صوت
ضمريك”.
“اخريس”..
قاطعنا صوت يقول:
“إنه هنا”.
ثم أطل رأس أحد احلرس ،لقد دفعتني الصدمة للتسلل إىل
هنا دون أن آخذ حذري.
لقد كُشف الرس الذي أخفيته لسنوات ،أخرجني احلارس من
الغرفة الرسية ثم صعدت خلفي كايال التي حتركت بصعوبة وهي
ترجتف لرتمتى بني ذراعي إبرام املندهش الذي مهس بصوت
أجش:
“كايال؟!”
164
أندروس
حينام دخلنا لنفتش جناح مارك ،مل نجده بالغرفة لكننا وجدنا
الفراش قد أزيح للجانب والسجادة قد رفعت لتكشف حتتها
مدخل احلجرة الرسية ،أرشت ألحد احلراس الذي َّ
أطل برأسه
ٍ
بصوت جهوري فرأى مارك وقال
“إنه هنا”..
كان عد ٌد من سكان القرص قد اجتمعوا أمام الباب يراقبون
املوقف ،أرشت حلارسني كي ينزال وحيرضانه ،لكن صعود كايال
سحب شهقات اجلميع ،نظرت املرأة لوجوهنا حتى َ خلفه قد
استقرت عىل وجه إبرام فاجتهت إليه وارمتت بني ذراعيه ،مهس
أخي باسمها فر َّدت عليه:
“أورنيال ..ابنتنا أين هي؟”
مهس الوصيفات واحلرس ،لقد فهم أخرس َ ذلك السؤال َ
اجلميع ما الذي د َّب َره مارك طوال هذه السنوات املاضية ،لقد
عروس أخيه احلامل ،ثم اختطف منها ابنتهاَ خطف الرجل
وأخفى حقيقتها عن اجلميع ،وعاد بعدما نضجت وطمع هبا
لدرجة أنه ختلص من ابنه كي يفوز هبا!
165
إن كان الشيطان نفسه بينهم خلجل من ترصفاته وأنكر أن يأيت
بنصفها.
دخلت أورنيال وكأن أحدهم استدعاها فضمتها أمها لصدرها،
ٍ
سنوات طوال. ياحلظ هذه العائلة املكلومة التياإجتمعت بعد
أمرت رئيس احلرس أن يضع مارك بالسجن حتى يأيت ميعاد
حماكمته.
دت جلناحي وأنا
وتركت العائلة املجتمعة تفرح باللقاء ،و ُع ُ
أفكر ما الذي سيحدث فيام بعد..
مات فيكتور ،والتقى شقيقي بعروسه وابنته بينام سجن
اآلخر ،كيف ستسري هذه املدينة؟
هل بإمكاين إعادة ابنتي لذراعي كام كانت؟
كيف سيستقبل العامة كل تلك األخبار؟
هل سيثورون عىل القرص؟
َمن سيحكم أورنيال؟
مقرب ومفضل كنت أشعر بالغرية من شقيقي إبرام ألنه َّ
للمبجل مارك لكنني مل أكن أعلم السبب الذي جعله يضع به كل
يبق له ما حيارب
ثقته ،اآلن عرفت ،لقد سلب منه كل يشء فلم َ
من أجله ،هلذا السبب ضمن والءه ،هل ستدور املعركة اآلن بيني
وبني إبرام بعد أن أزحنا مارك وابنه؟
هل سيدبر لقتيل كام دبر لقتل فيكتور؟
166
أنا أعلم أنه هو من قتله ،ال أحدَ غريه جيرؤ ،أورنيال أذهلتها
الصدمة ،الفتاة جتهل ما فعله والدها فعالً ،لكن ما حدث أثلج
قلبي ،لقد فعل أخي ما أردت فعله منذ وقت طويل.
األيام القادمة ستظهر كل يشء ،لكن ال ُبدَّ من احلذر.
167
أورنيال
168
لف مارك احلبل بنفسه حول
بمنحة الرب التي منحها لنا ،فلقد َّ
رقبته ،وسنجذبه م ًعا كي نتخلص منه.
َمن كان يتخيل أننا سنجلس م ًعا أنا وأيب وأمي وعمي
بمحاكمة املبجل مارك العلنية أمام شعب أورنيال.
تلك املحاكمة التي انتهت قبل أن تبدأ؛ فاستسالم املبجل غري
املتوقع قد فاجأنا.
حتدث املبجل أندروس كام اتفقنا ،طلبنا منه أن يدير املحاكمة
ألنني أنا ووالدي املبجل إبرام وأمي السيدة كايال أطراف يف تلك
القضية.
يبدو أن طلبنا قد طمأنه ،ألن نظرة احلذر التي ظهرت بعينه
بعد أن أوقعنا باملبجل مارك كانت تقلقني ،حتدثت مع أيب عنها
ودفعته ألن يذهب حلجرة عمي ويتحدث معه حدي ًثا ود ًّيا يرشح
له تقسيم السلطة بعد غياب املبجل مارك ،مالحظتي قد أسعدت
أيب وحديث أيب مع عمي قد أسعده وأزال بذرة اخلالف قبل أن
ترضب بجذورها بني اجلميع فأصبح والء عمي لنا لألبد.
“لقد صدمنا مجي ًعا من فكرة قتلك البنك طم ًعا بعروسه،
حتى إننا كنت سنؤجل املحاكمة لنبحث عن أدلة تنفي تلك
التهمة عنك ،ألنك املبجل مارك ،الذي حكم املدينة لسنوات،
الذي جتىل له الرب لكن حينام ذهبنا جلناحك كي نأخذ اعرتافك
عروس أخيك منَ دليل اهتامك باجلريمتني ،لقد خطفت رأينا َ
قبل ،أخفيتها عنه ،أخفيت ابنتهام عنهام ،احتفظت بالسيدة كايال
سجينة لديك طوال هذه السنوات ،ومل ترحم ابنتها فطمعت هبا
169
وأنت تعلم أهنا ابنة أخيك ،وحبيبة ابنك .هذه اجلريمة وحدها
عقوبتها قطع رقبتك ،ألنك خنت ،خنت أخاك وخدعت شعبك
الذي يثق بك ،اآلن هل ستعرتف بذنبك؟”
رصخ املبجل مارك:
“لقد أحببت ،أحببت عروس أخي ،هل احلب جريمة؟
إن كان ِ
فل َم غرزه الرب بقلبي كخنجر ،هل أعاقب عىل فعل
فعله الرب؟
أنا أخذت ما هو يل ،أخذت كايال ،قاومتني ،عاندتني ،حتى
أنسها ،مرة
إهنا رضبتني لكنني ذقت شهدها مرة واحدة ،مرة مل َ
كانت تستحق كل ما فعلته كي أناهلا”.
علقت شهقات اجلميع ،بينام سالت دمعة عىل وجه أمي
فمسحها أيب وشدد قبضته عىل يدها سأله املبجل أندروس:
“إن كنت حتب كايال ِ
فل َم طمعت بأورنيال ،ابنتها؟”
“ألهنا تشبهها ،لكنها نسخة ألطف ،أرق ،أكثر براءة ،أكثر
فتنة ،نساء الضارما؛ تلك اململكة التي أتت منها كايال يبدو أهنن
ساحرات ،ما هو احتامل أن يقع رجل بحب امرأة وابنتها بنفس
الوقت؟ رجل يملك كل يشء ،رجل له ذوق خاص ال يعجبه إال
كل نادر ونفيس”.
أشار يل ورصخ:
“انظروا إليها ،من يرى تلكام العينني وال يرجتف قلبه؟!،
من يلمس تلك الشفاه ويظل حمتف ًظا بعقله؟ ،إهنا فتنة ،لعنة،
فخ ،فخ وقعت به وسأقع به جمد ًدا إن عاد يب الزمن ،لقد وقعت
170
باخلطيئة لكن الرب هو الذي دفعني ،حاكموا الرب الذي خلقها،
حاكموا الرب الذي دفعها أمام عيني وبني ذراعي”.
تعالت أصوات العامة..
هل أصابه اجلنون ،إنه بحالة يرثى له ،إنه جمنون هبا ،جمنون
أورنيال..
انتظر املبجل أندروس حتى هدأ اجلميع ثم قال بصوت
واضح:
“ستتم قطع رقبة املبجل مارك بالساحة صباح الغد”.
تعالت أصوات اجلميع ،البعض يوافق ،البعض يرفض لكنني
شعرت بالرضا ،وتساءلت هل يكفي العذاب الذي سيشعر به
وهو يعلم أهنا ليلته األخرية ،هل سيدد ديونه؟
هل سيربد قلبي ،قلب أمي التى حرمني منها ،قلب أيب،
شقيقه؟
صباحا لنفاجأ بأن الرب لديه خطة أخرى ،لقد
ً لكننا استيقظنا
هرب املبجل مارك .يبدو أنه تلقى مساعدة من الداخل ،سأعرف
قري ًبا َمن فعل هذا وسينال عقابه.
كيف حيدث يشء هبذه البشاعة؟ من جيرؤ عىل خمالفة قرار
املحكمة؟
مل يطل أمر تفكريي يف الفاعل ألنني عرفته رسي ًعا ،فلقد
عكفت عىل ملس اجلميع بكل مناسبة حتى رأيت اخليانة.
أثناء العظة األسبوعية التي بدأ املبجل أندروس هبا بدالً من
اهلارب مارك ،قمت بتحية كلوديا ،رأيت نظرات التباهي بعينها
171
فجلست بجوارها عىل غري العادة وتعمدت ملسها ،حينام انتهى
عمي ،طلبت من اجلميع البقاء بأماكنهم ألنني سأعلن عن
اخلائن ،حينها حتركت بقلق فأوقفتها.
“كلوديا ،خطوة أخرى وستطري رقبتك دون حماكمة”.
نظرت يل بخوف ثم رصخت:
“كيف تتهميني دون دليل؟”
“عزيزيت كلوديا ،لقد رأيت كل يشء عندما ملستك ،هذه
هبة أخرى منحها يل الرب ،حتى إنني ال أحتاج لسامع اعرتافك
ولن أطلب منك أسامء من ساعدوك ومن قمت برشوهتم ألنني
أيضا ،سؤايل لك فقط هو ملاذا ورطت نفسك رأيت وجوههم ً
بحرب ِ
لست طر ًفا فيها؟”
بكت
“ألن اجلميع ال يراين طر ًفا بأي يشء ،أنا غري مرئية ،الكل
يتجاهلني ،حتى املبجل إبرام ،مل حيبني يو ًما رغم أن قلبه
حيمل ح ًّبا للجميع ،لكنه أتى عندي واكتفى ،لقد عادت إليه
عروسه ،واكتشف أن لديه بنتًا ،أما أنا فلم يعد لدي قيمة لدى
أحد ،الوصيفات يتجاهلنني ألنني لست ممن هلن سلطة وسطوة،
ورجال السادة يتجاهلوين ألنني كنت زوجة للمبجل ،ملاذا
تكتمل سعادة اجلميع بينام أظل أنا تعيسة؟”
علت اهلمهامت فأشار املبجل أندروس للحرس كي يأخذوها
للسجن ،ثم أمر بعض احلرس بمرافقتي كي أقودهم لباقي اخلائنني.
***
172
بعد القبض عليهم ،هدأت األمور باملدينة ،فوالدي قد أخرب
املبجل أندروس أنه ال يرغب باحلكم ،وأنه سيقدم له املساعدة
فقط إن أراد ،كل ما يريده هو أن يستمتع بحياته معنا ،فريا انتقلت
للخلوة وشاركت مريال صنع العطور ورعاية األطفال ،وأنا أردت
الرحيل ،اعرتض والداي بالبداية لكنني أقنعتهام أين أرى حيايت
أرص
بمكان آخر ،بسيندوزا ،رافقتني أماندا وبعض احلرس الذين َّ
والدي عىل سفرهم معنا فلم أخالفه ،حينام وصلنا ملدينة التجارة
اشرتينا بيتًا وأقمنا به ،وبدأت أجتول بالسوق وأراقب الناس حتى
التقيت بكرستيان ،كان التقاؤنا عاص ًفا كالتقاء اهلواء باملاء ،مل
وقت للتفكري كنت أعلم أنه قدري ،وكأن الرب قد يكن لدى ٌ
أدار األرض لنلتقي ثم أمسك برؤوسنا وصدمهام ببعض ففقدنا
القدرة عىل التحدث .نظر ٌّ
كل منَّا بعني اآلخر ثم مهس يل:
“لقد وجدتك”.
“هل كنت تبحث عني؟”
“بحثت ألسابيع ،لكنني كنت أعلم أنني سأجدك اليوم”.
“كيف تعرفني؟”
“لقد رأيتك”.
أملت رأيس وكأنني أفكر ثم كشفت كتفه فوجدت الشامة -
املشعل امليضء الذي يميز أهل الضارما -فضحكت حتى دمعت
عيني ،هو قدري ،لقد تأكدت أن للرب رأ ًيا آخر ،فلقد جعلني
أمر بكل من يوجني ،فيكتور ومارك وأجتاوزهم ألن قدري هنا
بسيندوزا مع غريب من الضارما.
173
“ما اسمك؟”
“كرستيان”
“كرستيان ابن؟”
“كرستيان أبن اسبيدوس حاكم الضارما”.
حينام عدت للضحك جمد ًدا مل يفهم ملاذا أضحك ،لكنه انتظر
بصرب حتى توقفت عن الضحك ثم هز يل رأسه ينتظر تربيري.
“والدك أحب أمي ،لكنها هربت منه والتقت بأيب هنا بنفس
املكان ،وأنا هربت من مدينتنا أللتقي بابن الرجل الذي أحب
أمي ،ويبدو أنني وقعت بحبه”.
بدا املرح عىل وجهه وسألني:
ب أمك والعيش
أح َّ
“هل ترغبني بالزواج بابن الرجل الذي َ
معه هنا بعيدً ا عن مملكة أبيه؟”
“يبدو أنني سأفعل ذلك”.
“أووه ،لنفعل ذلك”.
***
عشنا كأرسة سعيدة ،خاصة حينام أتت ابنتنا لتكتمل سعادتنا
هبا ،حينام محلها كرستيان بني يديه مهس بصوت أجش:
“يا هلا من فاتنة! ،ماذا سنسميها؟”
مهست:
“ضارما”
رددها ضاحكًا:
174
كثريا ،يبدو أنه قد رأى وصول ابنة ابنه
“ضارما ،سيحبها أيب ً
الصغري بإحدى رؤاه اآلن”.
كانت سعادتنا ستستمر لوال تلك الرسالة التي أرسلها له
والده ،فلقد استيقظ من نومه ومهس:
“والدي يريدين ،لقد استدعاين”.
بعدها جهز نفسه وقبلنا أنا وابنته قبل أن يغادر ،ووعدنا
بالعودة رسي ًعا ،لكنني كنت أعلم ما سيحدث ،فقد رأيت.
لثالث ليال متتالية كانت تدامهني نفس الرؤيا ،دفعني خويف
للتواصل مع أمي كام اعتدنا ،ملست شامتي وأخربهتا باملهمة التي
كلفتها هبا.
ستقابل أماندا التي حتمل طفلتي الصغرية ،وحيرسها رجال أيب
وستعيد الطفلة ململكة الضارما حيث أبوها وجدها.
ناقشتني أمي بقراري لكني مل أقبل التفاوض ،لقد اختذت
قراري ،أرغب أن ترتبى طفلتي وسط أهلها بالضارما ،تعود
ملوطنها األصيل ،أرض أبيها وجدهتا وأمها.
كم مرة عىل الشخص أن يرى طريقة موته؟
األشخاص الطبيعيون بالطبع يدامههم املوت دون إنذار
لكنني رأيت التحذير ،ليس بيدي فعل أي يشء ليمنع ذلك ،كل
الرؤى التي أراها إما حدثت أو ستحدث ،ال جمال للتدخل.
لذا عندما أتى وقتي ،استعددت ،ارتديت الفستان الذي
أهداين إياه فيكتور ،وتركت شعري عىل سجيته كام كنت أتركه
بمدينتي وجلست أنتظره.
175
دخل مارك بيتي ،ابتسمت عندما اقرتب ومهست:
“كنت أنتظرك”.
مأل عينيه مني حتى فاضتا ثم سألني:
“أتتك رؤية؟”
“نعم ،أتتني رؤية ،اجلس ألض ّيفك”
“أنت تعلمني ملاذا أتيت إليك ،أليس كذلك؟
“أعلم أنك أتيت لتقتلني ،لكن هذا لن يمنعني من أن أقدِّ م
كأسا”
لك ً
جلس بجواري وأنا أمأل الكأسني.
زلت فاتنة كام ِ
أنت”. “ما ِ
أبعد شعري عن وجهي فنظرت له وأنا أعطيه كأسه ،كان
احلزن كنت رسم عالمات عىل وجهه فبدا كمن طعن بالسن.
عيل غري اآلن ،أليست
“كنا بنفس املدينة ،لكنك مل تعثر َّ
حكمة الرب مدهشة؟!”
“أووه أورنيال ،دعينا من الرب اآلن ،لنستمتع بحديث
قصري قبل أن أقتلك”.
ارتشفت من كأيس وابتسمت:
صغريا”
ً “لمِ َ ال ،لكن دعني أوضح لك شي ًئا
رشب كأسه وقال:
“وضحي يا صغرييت”.
“سنموت م ًعا يا عمي”.
176
قلت لقبه بسخرية وكأنه إهانة فاتسعت عيناه دهشة لكنني
تابعت:
“لقد رأيت ما سيحدث لعرشات املرات ،مل يزعجني مويت،
لكن ما أزعجني أنني مل َأر هنايتك واضحة ،ألنني ُمت بالرؤية
فانتهت؛ لذا حرصت عىل التأكد أنني سأراها بالواقع”.
وضع كأسه:
“فرسي”.
“لقد أغلق حاريس باب البيت ،تأكد أن النوافذ كلها مغلقة،
ال جمال للهرب ،سنموت م ًعا”.
ذهب للباب وحاول فتحه فعجز ،ثم جرب فتح النافذة،
وحينام تأكد أهنا موصدة سألني:
“ألست خائفة؟”
“املوت وحيدً ا خييف ،أن تلفظ أنفاسك دون أن يمسك أحدٌ
بيدك ،دون أن ترى حلظات احتضارك بعني من حيبك عذا ًبا،
رجل حيبنيٍ موت مضا َعف ،لكنني سأموت برفقة عمي ،برفقة ٌ
أكثر من نفسه ،رجل دفعه حبه يل ملحاولة قتل ابنه ،أتعلم ما املثري
باألمر؟”
“أخربيني”
“املثري أن موتنا سيتم بثه أثناء حدوثه ،سرتاك والديت وأنت
حترتق معي ،لعل رؤيتها ملوتك خيفف حزهنا ملويت”
“لكنني سأطعنك باخلنجر الذي كدت أنحر به ابني،
ساحميني ،لن أقتلك بسبب ضغينة أكنها لك ألنك كنت سب ًبا يف
177
ِ
هربت قتل ابني ،زوال ملكي ،وسهري طوال الليايل املاضية منذ
من املدينة ،لكني سأقتلك ألنني أحبك ،حبي لك كان ينهش
قلبي ،لدرجة أين احتقرت نفيس ألن حبي لك فاق حزين عىل
رجلأفضل قتلك عىل أال يلمسك ٌ ابني ،أنا أحبك لدرجة أنني ّ
غريي ،أال هتنأ بك ابنتكِ ،
أنت ملكي ،يل”.
دمعت عيني ومهست له:
“سيدي املبجل ،ستنال رشف املوت معي ،هل لديك طلب
أخري؟”
نظر يل بعينني معذبتني ومهس:
“عانقيني”.
رضبت مشعل الضوء بقدمي فسقط ،أمسكت النار يف قامش
النافذة وبدأت تلتهم كل ما تقابله ،مددت له يدي فأمسكها
واحتضنته ،رأيت كل ما عاناه منذ هروبه ،حزنه ،شوقه ،جنونه،
كثريا مهست بأذنه:
ابتسمت ألنه تأمل ً
“أووه كم أنت تعيس لتحرتق مرتني ،مرة بحبي ومرة بنار
مشعيل ،لنحرتق م ًعا يا عمي”.
178
ميلينا
179
ال بدالً
“لقد أخربتني وقتها السبب قلت يل ألنك حتملني عق ً
من القلب ،فسألتك َمن حيمل عقلني بجسده؟”
“أجبتك بأن نسل الضارما يفعلون فسألتِني هل أنا من نسل
الضارما؟”
ٌ
خمتلط فسألتك خطيئة أخرى كنارديث؟” “قلت يل إنني نسل
“أجبتك ،بل أول صواب بعد احلروب العظيمة”
رددت:
“أول صواب بعد احلروب العظيمة”.
فرشح:
“لقد تزوجت جدتك أورنيال من جدي كرستيان فوصلت
اخليط الذي انقطع هبرب جدتك كايال من جدي الكبري
أسبيدوس كانت هذه أول خطوة بطريق الصلح؛ لذا قبل جدي
قدرها ،مل حيزنالكبري حفيدته ضارما ورعاها حتى هربت لتحقق َ
قدر ال ُبدَّ أن
قدر حزنه عىل هروب حبيبته ألنه علم أنه ٌ
هذه املرة َ
ُين َّفذ ،جدي ينظر إلينا اآلن يرتقب اختيارك الذي سيتحتم عليك
أن تقومي به بعد تأسيس مملكتك”.
“عن أي اختيار تتحدث؟”
“ستعلمني عندما حيني الوقت ،إىل اللقاء”.
“هل سترتكني؟”
“لقد أهنيت رحلتك ،لقد تعلمت ما عليك تعلمه ،مل تعودي
بحاجة ملرشد”.
180
“هل سأراك جمد ًدا؟”
“ذلك سيتوقف عليك أنت”.
تبدد من أمامي كدخان ،لقد رأيت الكثري من القدرات ،حتى
إنني تعلمت عن طريق جديت أورنيال كيف أستخدم قدرايت
لكنني ما زلت أجهل الكثري ،أريد أن أصل ملا وصل إليه سبيد،
أريد املزيد.
نظرت حويل فوجدتني ما زلت أجلس بذلك الكهف ،ينام
ولعق يدي،
ريكو بجوار قدمي ،مررت يدي عىل ظهره فاستيقظ َ
مر وأنا أجلس هنا هبذا الشكل؟
تساءلت كم من الوقت َّ
يبدو أنني مل أنتقل جسد ًّيا ألنني ما زلت هبذا الكهف لكني
انتقلت عقل ًّيا وكأنني كنت أرى رؤية مطولة عام حدث قديماً .
أنا بحاجة للمغادرة ،سأعود لذلك الكوخ حيث تركت
أشيائي ،أسرتيح قلي ً
ال ثم أعود للكام ألعلم ماذا حدث وألواجه
أفعايل ،لن أستمر باهلرب لوقت أطول.
181
جايوس
ٍ
رجل بعد أن رأيت ذلك احللم الذي ختتفي فيه ميلينا خلف
يشبهني ظللت أبحث عنها ،مل أيأس ،كنت أنتظرها لي ً
ال بالكوخ
وأبحث بالنهار لعليِّ أجد ذلك الكهف الذي رأيته.
مل أكن أختيل أنني سأفتح عيني بالصباح فأجدها تنظر يل..
“ميلينا”
“جايوس “
“أين كنت ؟”
نظرت يل قليال ،أمالت رأسها وكأهنا حتاول أن جتد ردا
“هذه قصة طويلة”
“لكنك تبدين”...
“كيف أبدو؟”
“تبدين خمتلفة ،وكأنك أصبحت امرأة أخرى ،نظرة عينك،
حركاتك”
“أووه ،ال أعلم كيف أرشح لك ،لكني أصبحت ما جيب
عيل أن أكونه”.
َّ
182
“هل يبدو لذلك معني؟”
“أنا أفهمه ،هذا يكفي”
ثم ضحكت فضحكت.
“أرغب بالعودة للكام”
“سنعود”
“الليلة”
نظرت هلا وأنا ال أعرف ح ًّقا ماذا حدث هلا خالل تلك األيام
املاضية وجعلها امرأة أخرى ،امرأة أقوى ،أكثر استقالالً وأكثر
َ
حدث فتنة ،وأكثر جنونًا ألهنا ترغب بالعودة وهي جتهل كل ما
بعد هروهبا.
نظرت يل ومهست:
“أنا جائعة”
سألتها:
“متى آخر مرة تناولت طعامك؟”
ال وحاولت أن تتذكر ثم هزت رأسها مل ً
ال نظرت يل قلي ً
وقالت:
عدت اآلن مل تعد احلكمة
ُ “كنت أتناول احلكمة ،لكنني وقد
خترس رصيخ معديت”.
ويسارا وكأنني
ً هنضت ووقفت أمامها ،حركت شعرها يمينًا
أبحث داخله عن ٍ
يشء.
183
فسألتني ساخرة:
“هل أوقعت شي ًئا بشعري؟”
“أريد أن أتأكد أين تلقيت الرضبة؟ ،تبدين كمن صدم رأسه
بقوة”.
ابتسمت ساخرة:
“صدقني ،ال تريد اختبار صربي ،لقد أتيت من مدينةُ ،
القتل
هبا عادة يومية”.
أخربهتا عام حدث بمملكتي الكام واألرثا أثناء تناولنا الطعام،
كانت عيناها تتسعان دهشة من وقت آلخر وهتمس“ :أووه ،هل
حدث ذلك بالفعل؟” ثم تعود لتدس الطعام بفمها وهي تصغي.
184
ميلينا
185
“احكي يل كل يشء ،لقد أخربين جدي أنني سأعرف عنها
عندما حيني الوقت ،كنت أعتقد أن ذلك الوقت لن يأيت أبدً ا”.
قصصت هلا كل يشء وراقبت حزهنا عىل أمها.
“أخربين جدي أن أش ّقاء أيب قد تآمروا عليه وقتلوه بعد أن
استدعاه لكي يمنحه حكم الضارما ويوقف احلرب الدائرة
بينهام ،لقد ترك والدي الضارما ألنه مل يرد أن خيوض حر ًبا ضد
السلطة ،سافر لسيندوزا ،وهناك قابل أمي كام شقيقيه من أجل ُّ
قصصت يل ومل تكن لديه نية بالعودة حتى استدعاه جدي ،مل يكن ِ
يعلم أنه يستدعيه ليقيض نحبه لكنها إرادة السامء ،حينام عادت
جديت كايال ووقفت عىل أبواب الضارما شعر هبا قلب جدي
عيل وأخربته أهنا إرادةفدفعه ليرسع ملالقاهتا ،منحتني له وأوصته َّ
أمي بعد أن دامهتها رؤيا عن موهتا ثم غادرت ،وكأن رؤيتها
قدر ُه ،اآلن فهمت لمِ َ مل يقبلني جدي جمد ًدا حينام أعادين إليه
تغادر َ
بوراك ،كان يعلم أنني سأحقق قدري هنا بالكام”.
ضممت جديت يل ،مل أكن أراها كجدة عجوز واهنة ،لكني
رأيتها كطفلة عهدت هبا أمها جلدها كي يربيها يف كنفه ،كفتاة
صغرية حرمت من والدهيا ثم هربت خارج وطنها لتنقذ
سكان مملكة أخرى جتهلهم ،لتصبح زوجة ملكهم ،ليطاردها
العدو الذي قتل زوجها ،وابنها واغتصب ابنتها وأراد أن يظفر
بحفيدهتا ،وكأن نساء عائلتنا ملعونات بالفعل كام رصح مارك،
وكأننا فخ ولعنة.
186
األمر الذي أثلج قلبي أنني عرفت أن أوالد ذلك الوغد
قد تركوه ليتعفن بالسجن حتى هناية حياته التي مل تكن طويلة
لألسف ،فلقد مات كمدً ا عىل زوال ُملكه وخيانة أبنائه له،
أخربتني جديت أن احلارس املوكل بإدخال الطعام إليه قد اكتشف
موته باألسبوع املايض.
مات الوغد ميتة الكالب ،ما أتعسه!
***
رسمت بيدي خريطة للملكة كام أردهتا ،قسمتها ،فحددت
كبريا للزراعة،
مكان البيوت والسوق واملقابر ،وخصصت جز ًءا ً
سأعيد اململكة ملجدها كام كانت أيام جدي بوراك .
ساعدين شباب الكام ورجاهلا وأطفاهلا بتنفيذ ما أردته ،حتى
إن ليميتانوس شقيق جايوس وحاكم األرثا بعد أبيه امللعون
خامييل قد أرسل يل جنو ًدا ليقدموا املساعدة ،وضخ خلزينة الكام
أمواالً من خزينة مملكته ر ًّدا للدين القديم ،بديلاً عن كل تلك
األموال واخلريات التي رسقها أبوه وجاريته زينوبيا من قبل.
مل يمنحها لنا دينًا بل ح ًّقا.
شعرت بالفخر وأنا أجلس عىل كريس احلكم بعد أن شيدت
مملكتي.
تذكرت وأنا أبني اململكة من جديد أن اململكة التي يكون
أساسها العدل ستصمد أمام العواصف ،الفيضانات والرباكني،
لقد رأيت بنفيس ما حدث بأورنيال من قبل وكيف أعمى الطمع
عيون احلاكم ،فاختذته عربة وعظة.
187
مل أصدق أن تلك املدينة التي كان ينام أبناؤها جوعا قد
أصبحت هبذا اجلامل والبهاء ،عاد سكاهنا إليها ،وفتحت أسوارها
للناس ،ازدهرت الزراعة والتجارة ،ومل ُي ِعن أحد من الفقر أو
يشكو من رضيبة فرضت ظلماً .
حتى إن حضور نورشا يل قد أذهلني ،أتت وهي حماطة بحرس
أخيها غري الشقيق ليميتانوس ،مل أكن واثقة هل خيشى عليها أم
خيشى منها ،لكنني احرتمت حذره بكلتا احلالتني.
نظرت يل وسألتني:
ِ
“أنت ميلينا؟”
كنت أعلم أننا مل نتقابل من قبل إال بحلمي ،لكنني لست
واثقة هل رأتني هي بقدراهتا السحرية التي سمعت عنها أم أهنا
بالفعل جتهل شكيل ،لكنني أجبت هبدوء:
“أنا هي”.
ِ
“أنت مجيلة”.
قالتها وكأهنا تعرتف رغماً عنها فشاكستها:
“إهنا صفة متوارثة لدى نساء العائلة”.
رمت بوجهي اعرتاف آخر:
“جايوس حيبك”.
نظرت هلا أحاول أن أفهم ماذا تريد مني.
“هل يضايقك هذا؟”
188
“أنا أحبه”.
رفعت وجهي للسامء وأنا أمهس بضيق:
“إنه أخوك غري الشقيق ،يا لكم من عائلة منحرفة”.
ابتسمت فابتسمت ،ضحكت فشاركتها الضحك ،مهست:
“لقد رأيت ما فعلته أنت ،وما زلت قادرة عىل فعله”.
أملت رأيس وأنا أفكر قليالً:
“قواك السحرية ساعدتك؟”
مهست:
“مل تفارقني رغم ما فعله يب ذلك املعتوه”.
تذكرت ما قاله يل جايوس بالكهف“ :نورشا قتلت جاتا لكنه
عاد من املوت رغم أهنا نحرت رقبته ،مل يمت اللعني إال عندما
صلبوه عىل وتد وأحرقوه”.
مل أستطع أن أمنع نفيس من أن أمد هلا يدي فأمسكت هبا ،وهنا
أيضا عن جديترأيت ما قد حدث معها ،لقد ورثت هذه اهلبة ً
أورنيال ،مل أدرك هذا إال عندما أردت أن أشعر بام شعرت به نورشا.
لقد رأيتها تنحر رقبته ،تساقطت الدماء عىل وجهها فرصخت،
رصخت حتى بح صوهتا ،رصخت وكأن األمل يقتلع حلقها،
داهم احلراس غرفتها وعىل رأسهم شقيقيها ورأوا ما حدث،
دفع أحدهم الكلب من فوقها فسقط عىل األرض ،كانت الدماء
تتدفق من رقبته لكنه ما زال ح ًّيا ،قيده احلراس املندهشون ،بينام
رصخ هبم ليميتانوس:
189
ِ
وأشعلوا النار بجسده”. “اصلبوه عىل ٍ
وتد خشبي
أخرجوه من الغرفة لينفذوا أوامره بينام اقرتب هو منها ،مسح
الدماء عن وجهها وسأهلا:
“هل ِ
أنت بخري؟”
ظلت ترتعش فضمها إليه حتى سكنت.
نظرت بعينيها ،فرأيت جاتا املقيد عىل وتد خشبي يشتعل،
رصاخه كاد جيرح آذان من سمعه ،بينام تراقصت الظالل حوله
قبل أن ختتفي.
لقد رأيت كل يشء.
علمت ملاذا تشعر نورشا باحلب جتاه جايوس.
مهست هلا:
“أنا أعرف ملاذا تشعرين باحلب جتاه جايوس”.
سألتني:
“ملاذا؟”
“حينام أمسك جايوس القارورة الصغرية التي حتمل روحك،
والتي أحرضها جاتا من أرض الدوم كانت يده ترتعش ،فلمس
العصبة اخلاصة يب املربوطة عىل يده ،كان يفكر يب وقتها فشعر
بالدفء ،أنت تعلمني عن لعنته أليس كذلك؟ ،إنه يشعر بالربد
بشكل دائم لكننا اكتشفنا م ًعا أن وجودي بجانبه يمنحه الدفء،
حينام ملس عصبتي شعر بالدفء وسالت قطرة عرقه واختلطت
بروحك التي أرسع وردها إليك حينام كان خيلصك من قوى
190
السحر كام اعتقد ،هلذا السبب تشعرين باحلب جتاهه وبالرغبة
بالبقاء بجواره ،ومل تتذكري أحدً ا غريه بالبداية”.
هزت رأسها ويبدو أهنا اقتنعت بام قلته ،سحبت يدها من يدي
ووضعتها عىل بطنها ،بدت عىل وجهها عالمات األمل ،أزحت
مهست بدهشة:
ُ يدها عن بطنها ووضعت يدي ثم
“أنت حامل”.
أيضا ،دهشة
نظرت يل غري مصدقة ،كادت الدهشة تطيح يب ً
ألنني عرفت ودهشة ألن التقاء ساحرة بساحر أمر ال خري فيه.
“ال يمكن أن حيدث هذا ،ال يمكنني اإلبقاء عىل املسخ
داخيل ،هذا ليس طفالً ،إنه روح رشيرة”.
“كيف تعلمني؟”
“أنا ..ال أعرف ..أنا أشعر”.
“فيام تفكرين اآلن؟”
“أنا ال أريد العودة لألرثا ،ال مكان يل هناك ،أرغب بالبقاء
هنا”.
هززت رأيس أوافقها وأمرت أحد احلرس أن يعدوا هلا غرفة
ببيتي ،حتى أفكر جيدً ا ما الذي سأفعله بشأهنا.
راقبتها تبتعد وهي حتاول أن تتقبل أن ما أخربهتا به حقيقة
بالفعل ،بينام جلست أنا عىل مقعدي ،أحاول أن أجد حالً،
استأذن جايوس بالدخول ،كان يبدو أنه غري مرسور عندما علم
خرب بقاء نورشا.
191
“أنا ال أثق هبا”.
أيضا ،لكن ال يمكنني أن أرفض مدَّ يد
“وأنا تعلمت احلذر ً
العون ملحتاج وهي جلأت يل”.
رفضا:
هز رأسه ً
“رغم أنني أعرتض عىل ما تفعلينه لكن ال يمكنني منعك،
لقد أتيت ألطلب منك شي ًئا لكن حضور نورشا قد أفسد
مزاجي”.
كنت أعتقد أنني لن أرى سبيد جمد ًدا ،لكنه ظهر فقط عندما
نظر يل جايوس وطلب أن يتزوجني.
مهست:
“مرشدي”.
نظر جايوس بدهشة للرجل الذي بدأ يظهر أمامنا ،كان كل
منهام يشبه اآلخر بشكل ما.
“مل أعد مرشدك”.
حينام مهس هبذه اجلملة دامهتني رؤيا ،كانت املرة األوىل يل
التي أرى رؤية أثناء استيقاظي ،وكأن قدرات جديت أورنيال
تترسب يل واحدة تلو األخرى.
رأيت نورشا تعاين آالم املخاض ،ثم تلفظ من داخلها كائنًا
ال يشبه البرش بيشء ،وكأنه الشيطان الذي حذرتنا منه اآلهلة عىل
خنجرا وغرزته
ً اختالفها منذ قديم األزل ،هنضت عنه ثم سحبت
بصدره وهي ترصخ.
192
انتهت الرؤية وأنا أمهس:
“ال ُبدَّ أن نتخلص من هذا اليشء قبل خروجه”.
سأل جايوس:
“عن أي يشء تتحدثني”.
أجابه سبيد بصوته املميز الذي اعتادته أذنا جايوس.
“لقد دامهتها رؤيا”.
نظرت هلام ثم سألت سبيد:
“هل حان أوان االختيار؟”
ابتسم..
“دائماً تسألني األسئلة الصحيحة”.
مهست بلؤم:
“لكنك مل تسألني حتى اآلن”.
قال يل بصوت هادئ:
“عىل من يقع اختيارك؟”
نظرت لالثنني ومهست:
“أختار احلكمة”.
أقسم إنني رأيت وجه جدي أسبيدوس يبتسم يل وكأنه يبارك
اختياري.
متت بحمداهلل
25/11/2019
193
ربام تكون أورنيال امرأة قادرة عىل إغواء الرجال بعض
اليشء ،لكن سعاد مصطفى كاتبة قادرة عىل إغواء القلم لتخط
به رواية متتاز بحبكة حُمكمة ولغة قوية.
رواية ممُ تعة لكاتبة أكثر من رائعة.
حممد عصمت
***
عمرو املنويف