You are on page 1of 196

‫أورنيال‬

‫اسم املؤلف‪ :‬سعاد مصطفى‬


‫اسم الكتاب‪ :‬أورنيال‬
‫تدقيق لغوي‪ :‬سارة صالح‬
‫طبعة ديري األوىل‪ :‬يناير ‪2020‬‬
‫رقم االيداع‪2020/2786 :‬‬
‫الرتقيم الدوىل‪978-977-6709-33-1 :‬‬
‫‪--------------------------------------------‬‬
‫للنشر والتوزيع©‬
‫‪ 2‬عامرات الو ادي املنطقة ‪ 11‬الحي الثامن مدينة نرص القاهرة‬
‫تليفون‪002024725789 :‬‬
‫‪E-mail:deer.publishing@gmail.com‬‬
‫‪Facebook @ deer.publishing‬‬
‫‪Instagram @ deer_for_publishing‬‬
‫‪Twitter @ deerpublishing‬‬
‫‪WhatsApp : 00201010106268‬‬
‫‪#‬يف_القراءة_حياة‬
‫‪#‬القراءة_حب‬
‫‪--------------------------------------------‬‬
‫عضو اتحاد النارشين املرصين‪.‬‬
‫القاهرة– جمهو رية مرصالعربية‬
‫‪--------------------------------------------‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة لديري للنرش والتوزيع©‪ ،‬وال يجوز‪،‬‬
‫ألي مام ورد‬
‫بأي صورة من الصور‪ ،‬التوصيل‪ ،‬املبارش أو غري مبارش‪ ،‬الكيل أو الجزيئ‪ٍّ ،‬‬
‫يف هذا املصنف أو نسخه‪ ،‬أو تصويره‪ ،‬أو ترجمته‪ ،‬أو تخزين أي جز ٍء من هذا الكتاب‬
‫بأية وسيلة إلكرتونية أو ميكانيكية‪ ،‬أو االقتباس منه‪ ،‬أو تحويله رقميًّا‪ ،‬أو اسرتجاعة‪،‬‬
‫إو إتاحته عرب شبكة اإلنرتنت‪ ،‬إال بإذنٍ كتايب مسبق رصيح من النارش‪.‬‬
‫سعاد مصطفى‬

‫أورنيال‬
‫رواية‬
‫إهداء‬

‫إىل الذئب الذي منح الغجرية خلخاالً ورقص معها تحت القمر‪،‬‬
‫ثم جمع شعرها بجديلة وجلس يحرسها لتنام ‪..‬‬
‫إىل كل الذئاب الذين مل تنصفهم الحكايات ‪..‬‬
‫إليك‪.‬‬

‫سعاد مصطفى‬
‫كهف احلكمة‬

‫كانت جتلس بنهاية الكهف مديرة وجهها للحائط‪ ،‬مربعة‬


‫الساقني‪ ،‬تضم يدها باألخرى واضعة إيامها بحجرها‪ ،‬حُت ِّرك‬
‫ظهرها لألمام واخللف بشكل مستمر وتر ِّدد شي ًئا ما‪ ،‬مع كل مرة‬
‫تردده يظهر ضوء خافت بمنتصف احلائط أمامها‪ ،‬انشق احلائط‬
‫وكأن الضوء قد طعنها باملنتصف ونفذ خالهلا دون أن ي ِ‬
‫سقط‬ ‫ُ‬
‫حجرا واحدً ا‪.‬‬
‫ً‬
‫اتسع شق الضوء وخرجت منه يدٌ بيضاء‪ ،‬مهس صاحبها‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قادك كهف احلكمة لطريق النور‪ ،‬فاهنيض واعربي‬
‫للجانب اآلخر‪.‬‬
‫هنضت ميلينا‪ ،‬أمسكت باليد املمدودة هلا وعربت للجانب اآلخر‬
‫ثم التفتت جلايوس مبتسمة وراقبته وهو حياول أن يتبعها فاصطدم‬
‫باحلائط ورصخ متأ ًملا وهنا انفصل حلمهام فاستيقظ هو بينام أكملت‬
‫هي تأ ُّملها وقد انتبهت للشبه بني جايوس ومرشدها سبيد‪.‬‬
‫االنتقال للجانب اآلخر مل يكن كام تتخيل‪ ،‬فقد وجدَ ْت‬
‫نفسها تقف وسط أشخاص ال تعرفهم وتشاهد أحدا ًثا ال يمكنها‬
‫التحكم هبا أو تغيريها‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫أدركت أن رحلتها تعتمد عىل مشاهدة وفهم ما حدث قديماً ‪،‬‬
‫تذكرت قول مرشدها‪:‬‬
‫كل ٍ‬
‫يشء عن نفسك‪”.‬‬ ‫“هنا ستتعلمني َّ‬
‫سألت مرشدها‪:‬‬
‫‪ -‬كيف أتعلم كل يشء عن نفيس بمشاهدة أشخاص ال‬
‫أعرفهم؟‬
‫‪ -‬راقبي‪ ..‬ال حتكمي‪..‬‬

‫‪8‬‬
‫يوجني‬

‫ظهرت قريتنا بعد بركان أورنيال‪ ،‬بدأ ينتقل إليها الناس وهم‬
‫يمنون أنفسهم بأرض خصبة غنية باملعادن والصخور‪ ،‬بالبداية‬
‫كانت البيوت تتناثر هنا وهناك عىل مرمى البرص ثم عندما زاد عدد‬
‫الناس بدأت تلتصق ببعضها التصا ًقا شديدً ا‪ ،‬عجزت األرض‬
‫عن سد أفواه اجلميع املفتوحة‪ ،‬كانوا كاجلراد يأتون عىل األخرض‬
‫واليابس‪ ،‬بدأ اجلوع ينترش‪ ،‬قتل البعض غريهم للسطو عىل غالهلم‬
‫املخبئة‪ ،‬افرتش الفقراء‪ ،‬املرىض واملتسولون الطرقات‪ ،‬كنا نسري‬
‫موت أحدهم جو ًعا يو ًما بعدَ يو ٍم‪ ،‬تعالت رصخات‬ ‫َ‬ ‫لنكتشف‬
‫الصغار اجلائعني وبكاء ذوهيم العاجزين عن سد جوعهم‪ ،‬كثرت‬
‫أرضا للجنون‪ .‬حتى‬ ‫الرسقات والشغب‪ ،‬أصبحت القرية اهلادئة ً‬
‫تدخل “مارك” كان كاسمه بالضبط؛ حُ ِم ًّبا للحرب‪ ،‬مجع كبار‬ ‫َّ‬
‫رجال القرية ونساءها من ذوي الثروات واملناصب وأخربهم‬
‫عن خطته إلنقاذ القرية التي تتضمن التخلص من كل املرىض‪،‬‬
‫املعاقني ومعدومي الثروات‪ ،‬واإلبقاء عىل طبقة الفقراء العاملني‬
‫وطبقة العبيد األشداء لضامن راحة األثرياء‪.‬‬
‫صغريا من العبيد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جيشا‬ ‫منحه األثرياء مباركتهم فشكَّل‬

‫‪9‬‬
‫لين ّفذوا خطته‪ .‬الحظنا بعد بضعة أيام أن الشوارع عادت نظيفة‪،‬‬
‫الرسقات قلت‪ ،‬وصمت رصاخ األطفال‪ .‬قل عد ُد سكان القرية‬
‫للثلث‪ .‬أصبح مارك بن النجار “املبجل مارك” منحوه لقب راعي‬
‫الفضيلة األول وأغدقوا عليه الثروات فأصبح عىل رأس أثرياء‬
‫القرية‪.‬‬
‫عندما سألوه ِمن أين أيت بذلك احلل‪ ،‬أخربهم أن الرب جتىل‬
‫له وأخربه أن يقطع خلوته وينهض لينقذ رعيته فبجلوا مبعوث‬
‫الرب األول فيهم‪.‬‬
‫بيت لذا اختار‬ ‫ٍ‬
‫مبعوث إله فال ُبدَّ أن يكون لإلله ٌ‬ ‫وألن لكل‬
‫وأمر عبيده بإنشاء معبد الرب‬
‫املبجل مارك أعىل ربوة بالقرية َ‬
‫واختذه بيتًا ثم أطلق عىل القرية “مدينة” ألهنا مدينة له بمعروف‬
‫طهرها بدينه اجلديد فأصبحنا نحيا بـ “مدينة‬ ‫إنقاذها وألنه َّ‬
‫أورنيال” وبعهد راعي الفضيلة األول “مارك”‪.‬‬
‫***‬
‫اعتدت احلياة وسط مج ٍع من الناس يعتقدون أن املرض واألمل‬
‫ستحق عىل خطيئة ارتكبت يف حق الرب‪ ،‬إما أن ختفي‬ ‫عقاب ُم َ‬
‫أملك أو حيارصوك بطلبات التوبة‪ .‬أنا متعب‪ ،‬متعب للحد الذي‬
‫قدرا ضئي ً‬
‫ال من الطاقة ألثبت‬ ‫ال يسمح يل بإخفاء أملي‪ ،‬أو يمنحني ً‬
‫براءيت من ارتكاب ذنب‪ ،‬حقيقة مل أعد أكرتث لغضب الرب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫متعب ويمنح مباركته ملن أثار‬ ‫فلم يغضب الرب عىل ٍ‬
‫عبد‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫بداخله إحساس األمل؟!‬

‫‪10‬‬
‫لمِ َ متيل كفة العدالة للمبجلني ُخدَّ ام الرب‪ ،‬وترتفع بوجه من‬
‫يعبدونه بصدق‪ ،‬ويطيعونه بحب؟!‬
‫أنا غاضب‪ ،‬غاضب حتى حدود السامء‪ ،‬إن تركت لغضبي‬
‫العنان سأنفث النار من أنفي وفمي كتنني فقد السيطرة‪ .‬تشتعل‬
‫قادر عىل حتريك سفينة حتى ترسو‪.‬‬
‫املراجل بصدري‪ ،‬بخارها ٌ‬
‫تصفعني ظنوين‪ ،‬تلهب وجهي‪ ،‬ت ِ‬
‫ُفقدين سيطريت عىل عقيل‪،‬‬
‫يرضبني اجلنون فأترنح‪ ،‬تدفعني احلرية فأسقط ويلوث الشك‬
‫ثيايب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ضوء‪ ،‬ترافقه كالعادة رائحة‬ ‫شعاع‬ ‫أقبع بظالم نقي ال يشوبه‬
‫ُ‬
‫عطنة‪ .‬سألت نفيس لمِ َ ال تأيت الرشور فرادى؟!‬
‫ألصل إلجابتي اخلاصة بأن الرشور نفسها ختاف الوحدة‪.‬‬
‫أنا ال أخاف الوحدة‪..‬‬
‫لمِ َ ال أخاف الوحدة؟!‬
‫هل ألنني اعتدت أن يتخىل عني اجلميع؟!‬
‫لو كان هناك خيار لروحي لفار َق ْت جسدي‪ ،‬وختىل عني قلبي‪،‬‬
‫هربت أورديت ورشاييني وقفزت أصابعي مهللة للحرية‪.‬‬
‫وتركني جلدي عار ًيا إال من نفيس‪ ،‬ستظل نفيس برفقة َمن‬
‫تب َّقى منِّي بل من عجز عن اهلرب‪ ،‬فهي الذعة ساخرة لن جتد من‬
‫يصرب عىل قسوهتا غريي‪.‬‬
‫وحيدٌ ببئر ظنوين‪ ،‬تقتات ديدان احلزن عىل أشالئي‪ ،‬تغرس‬
‫أفواهها اجلائعة بجسدي وتنهش قط ًعا من روحي‪ ،‬يزيد هنمها‬

‫‪11‬‬
‫كلام تلويت عذا ًبا بينام تزداد إحجامها بجنون‪ ،‬أصبح األمل فوق‬
‫سحبت مد ّيتي التي كنت أحرز هبا النرص فيام مىض‬ ‫ُ‬ ‫طاقتي‪،‬‬
‫ومررهتا عىل رسغي املقيد بصعوبة ألعلن هزيمتي وأدع احلزن‬
‫يكمل وجبته دون أن تزعجه رصخايت‪.‬‬
‫قفزت ثالث قطرات محراوات ليدقوا ناقوس احلرية‪ ،‬وينبهوا‬
‫أعضائي بأن وقت الرحيل قد حان‬
‫فودا ًعا يا رفاق‪ ،‬ودا ًعا أورنيال‪ ،‬لك َّن املوت خانني‪ ،‬حتى‬
‫عيل بالراحة‪.‬‬
‫املوت ض َّن َّ‬
‫ٍ‬
‫بحياة ال متنحني شي ًئا‪ ..‬ال كرامة‪ ،‬ال‬ ‫ما الذي جيعلني أمتسك‬
‫حب‪ ،‬ال مال‪.‬‬
‫من بني كل الفتيات املتاحات يل‪ ،‬رفع قلبي هامته واختار‬
‫فتاة من الصفوة؛ أورنيال‪ ،‬التي سميت تيمنا بالربكان الذي منح‬
‫اخلري ملدينتنا‪ ،‬أورنيال ذات الشعر الذهبي املحمر التي قبس اإلله‬
‫نارا ووضعها بشعرها‪ ،‬ال فتاة يف املدينة كلها ُو ِهبت‬
‫من الشمس ً‬
‫ال وال برشة صافية كبرشهتا‪ ،‬حتى املبجل نفسه وقف‬ ‫شعرا مماث ً‬
‫ً‬
‫مأخو ًذا أمام مجاهلا ورقتها وهي طفلة هتدل‪ ،‬مل يرتدد لثانية وهو‬
‫يمنحها االسم املبارك‪ ،‬بل تنبأ بأن الناس سيسجدون حتت قدميها‬
‫وأهنا ستشارك اإلله جمده يو ًما‪ .‬حينام متر يتوقف اهلمس‪ ،‬يصمت‬
‫اجلميع‪ ،‬فقط خيتلسون النظرات هلا‪ ،‬يستنشقون عبري جسدها‬
‫عطرا بدي ً‬
‫ال للعرق‪.‬‬ ‫املميز‪ ،‬مل َأر امرأة من قبل ينضح جسدها ً‬
‫كنت موك ً‬
‫ال بحراسة الشاطئ ومنع أي أحد من االقرتاب‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫أمرين بذلك املبجل فيكتور ابن املبجل مارك‪ ،‬ذلك الشاب املقيت‬
‫ورث خدمة الرب عن أبيه‪.‬‬ ‫الذي َ‬
‫عيل أن أنفذ دون أن أسأل‪.‬‬
‫كان َّ‬
‫اجتهت للشاطئ أمسكت رحمي أدرت ظهري وراقبت‬
‫الطريق‪ ،‬كنت أسمع أصوات فتيات تلهو‪ ،‬يبدو أن مريال ابنة‬
‫أحد‪ .‬كنت‬‫املبجل أندروس أرادت أن مترح باملاء دون مراقبة من ٍ‬
‫قد حرست الشاطئ هلا مرة من قبل بأوامر من املبجل أندروس‬
‫شقيق املبجل مارك‪.‬‬
‫السلطة باملدينة ألنه يد الرب‬
‫حينام أمسك املبجل مارك مقاليد ُّ‬
‫باألرض ‪-‬كام ادعى‪ -‬نصب شقيقيه‬
‫أندروس وإبرام خدا ًما للرب ومساعدين له‪ ،‬أنجب أندروس‬
‫اجلميلة مريال من امرأة ثرية تدعي فريا ‪-‬أي املخلصة‪ -‬تلك التي‬
‫شاركت جسدها مع أخيه إبرام ‪-‬أي األب املكرم‪ -‬الذي مل ينجب‬
‫أبدً ا رغم اقرتانه بثرية تدعى كلوديا ‪ -‬أي العرجاء الكسيحة‪ -‬التي‬
‫كان يتهمها بأهنا أرض جدباء‪ ،‬رغم أنه واثق أن ماءه هو الذي ال‬
‫خملصا هلا بالطبع؛ فقد عارش العديد من النساء‬‫يروي ألنه مل يكن ً‬
‫واجلواري‪ .‬كنت متع ًبا فقد محلت عىل كتفي الغالل لوضعها بمخزن‬
‫بأمر من الرب‪،‬‬‫الرب‪ ،‬لقد وضع املبجل مارك يدَ ه عىل كل األرايض ٍ‬
‫حتى ال يتكرر ما حدث قديماً ‪ ،‬فهو أكثر حكمة بإدارة أمور املدينة‬
‫واقف‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬هذا ما يدعيه ويصدقه اآلخرون دوين‪ -‬كدت أغفو وأنا‬
‫واه‪ -‬قد كان‬ ‫لكن صوت الواها ‪-‬صوت التعجب من طيب يشء ٍ‬

‫‪13‬‬
‫خمتلسا للنظر‪ ،‬كنت‬
‫ً‬ ‫عيل أن أستدير‬
‫مغر ًيا جلعيل ألتفت مل يكن َّ‬
‫أعلم أن رقبتي قد تطري عقا ًبا لفعلتي هذه لكنني مل أستطع منع‬
‫نفيس‪ ،‬فام رأيته كان مكافأة يل عىل كل سنوات العمل‪.‬‬
‫هتادت أورنيال عارية عىل ماء البحر‪ ،‬ثم رسعان ما امتزجت‬
‫املياه ل ُتكَون خيو ًطا زرقاء تسلقت قدماها بطريقها للصعود ملتفة‬
‫حول جسدها‪ ،‬فعانقت صدرها ناسجة هلا فستانًا‪ ،‬جاذبة إياه‬
‫حتى ركبتيها‪ ،‬وتكاتفت األمواج ليمتد ذيل فستاهنا ليغطي سائر‬
‫ٍ‬
‫بغضب ما زال‬ ‫ببطء‪ ،‬وكأن البحر الذي لفظها‬‫ٍ‬ ‫جسدها ويتبعها‬
‫حيتفظ بعاطفته جتاهها فأبى أن يرى الناس عرهيا‪ .‬ثم مرت أمواج‬
‫عاتية من حوهلا دون أن تلمسها فدفعت الوصيفات بغضب‬
‫وتعاملت مع اخلصيان بخشونة رافعة لواء العنف فابتعدوا‪،‬‬
‫ملست قدميها الرمال ثم أدارت جسدها للبحر ونظرت إليه‬
‫ويبدو أهنا ابتسمت‪ ،‬فهدأت األمواج الثائرة وأصبحت لطيفة‪،‬‬
‫تبتعد تارة غاضبة ثم يدفعها احلنني للعودة فت َق ِّبل قدميها ساعية‬
‫لعقد الصلح بعد ثورة أشعلتها الغرية‪ .‬التفت حوهلا الوصيفات‬
‫جتففن جسدها وتعرصن شعرها بيام حاربت ألبعد نظري قبل أن‬
‫يكتشف أمري أحد‪.‬‬
‫أصبح هذا املشهد سلواي الوحيدة‪ ،‬رفيق ليا ّيل الباردة‪ ،‬أتذكره‬
‫فأشعر أنني احتضنت الشمس‪ ،‬يرجتف قلبي‪ ،‬يتلوي جسدي‬
‫وتتسارع أنفايس ثم أسكن منتش ًيا‪ ،‬حتى ذكرها اآلن بدَّ د ُظلمة‬
‫سجني‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ٍ‬
‫حرشة هي‪،‬‬ ‫مرت عىل كتفي‪ ،‬ال أعلم ألي‬ ‫أهداب سميكة َّ‬
‫ٌ‬
‫لكني واثق أن هلا عد َة سيقان هبا شعريات قصرية كتلك التي‬
‫تنبت بالذقن بعد حلقها‪ .‬رست القشعريرة من أسفل رأيس حتى‬
‫أصابع قدمي ووق َف ْت كل شعرة بجسدي‪ ،‬ياللقرف‪ .‬أنا عاجز‬
‫عن دفعها بعيدً ا عن جسدي بيدي املقيدتني الداميتني‪.‬‬
‫لقد وضعني هنا فيكتور ابن ال‪ ...‬مبجل بتلك احلجرة املقرفة‬
‫وحدي ألتوب عن ذنبي وربط يدي ألخوض حمنة الرب‪ .‬ال‬
‫أعلم لمِ َ خيلقنا الرب ليضعنا بمحنة تلو األخرى؟‬
‫إن من يغرز بذرة باألرض يعلم جيدً ا ماذا ستنبت‪ ،‬لمِ َ جيعل‬
‫اهلواء حيارهبا‪ ،‬ديدان األرض هتددها والطيور اجلائعة تطري حوهلا؟‬
‫هل كل هذا العرض لتسليته؟!‬
‫كلام أسمح لعقيل أن يفكر‪ ،‬يلقي أسئلته بوجهي‪ ،‬إجاباهتا‬
‫جتعل املبجلني ُخدَّ ام الرب حفنة من اللصوص الفاسدين‪.‬‬
‫يبدو أنني بحاجة للتوقف عن التفكري؛ فبالنهاية هو سبب‬
‫وجودي هنا بدالً من فرايش الدافئ‪.‬‬
‫بعنف ألسقط هذا اليشء عنه‪ ،‬ثم تزحزحت‬‫ٍ‬ ‫حركت جسدي‬
‫ببطء بح ًثا عن يشء أسند عليه ظهري‪ ،‬فقد اهنار جسدي بعد يو ٍم‬
‫ٍ‬
‫طويل من العمل الشاق‪.‬‬
‫جالسا بحجريت ألتقط بعض قطع اخلبز مع حساء‬ ‫ً‬ ‫كنت‬
‫دافئ‪ ،‬مل أكد أبتلع اللقمة حتى اقتحم فيكتور وبرفقته رجال‬
‫الباب‪ ،‬سحبوين خارجه وألقوا يب هنا‬
‫َ‬ ‫املعبد موشومي األكتاف‬

‫‪15‬‬
‫ِ‬
‫“اختل بنفسك مع الرب‬ ‫بعدها قال يل ذلك الفاسد حليق الرأس‬
‫واطرح عليه أسئلتك لعله جييبك‪ ،‬ألنك إن خرجت من هنا‬
‫قطعة واحدة ورددت عىل مسامع الناس خرافاتك تلك فسأقطع‬
‫لسانك وأقدمه قربانًا للرب‪”.‬‬
‫حدث كل هذا ألنني قاطعت عظة والده املبجل مارك سائالً‪:‬‬
‫“ماحكمة الرب يف تصنيفنا لطبقات؟ وعىل أي أساس يتم هذا‬
‫التصنيف؟”‬
‫أشار يل املبجل ألجلس وأصمت مبد ًيا انزعاجه من َقطعي‬
‫لتعاليم السامء مدع ًيا أن الرب كاد يتجىل له لكنني منعت هذه‬
‫النعمة عن الناس بطرحي أسئلة أزعجته فقطع االتصال‪ .‬مما‬
‫جعل كل املوجودين يرشقونني بنظرات غاضبة لسلبهم تلك‬
‫اللحظة النادرة‪.‬‬
‫أنا اآلن وحدي هبذه اخللوة ال أحد غريي هنا ألزعجه‪ ،‬أرصخ‬
‫وأطالبك باإلجابة عن أسئلتي‪.‬‬
‫إن كنت موجو ًدا تراقبنا وترى بنفسك ما يفعله فينا مبجلوك‬
‫ِ‬
‫فل َم مل تتدخل وترفع عنا ظلمهم؟‬
‫ملاذا ختتصهم باحلديث وتلقي عليهم تعاليمك وال حتدثنا‬
‫نحن؟‬
‫كيف يصبح فيكتور خاد ًما لك وهو حيمل بجوفه كل هذا‬
‫القدر من الرش؟‬
‫أنا أتقى منه‪ ،‬أكثر نف ًعا‪ ،‬أعمل‪ ،‬أعرق‪ ،‬ال أستلقي عىل ظهري‬

‫‪16‬‬
‫طوال اليوم ألتقط حبات العنب التي تضعها اجلواري بفمي كام‬
‫يفعل هو‪.‬‬
‫أخربين لمِ َ حيتاج خادم الرب جارية متسد له رأسه وتدلك‬
‫ساقيه وكتفيه؟‬
‫هل تل ّقي تعاليمك أمر مرهق هلذه الدرجة؟!‬
‫أجبني‪!..‬‬
‫أخربين بيشء خيرس عقيل‪ ،‬يشبع جوعه وجيعلني أتقبل‬
‫مصريي هبدوء وراحة‪.‬‬
‫ه ًّيا‪..‬‬
‫أرأيت؟!‬
‫أيضا أنك ال حتدث خدامك‪ ،‬كل تلك‬ ‫أنت ال حتدثني‪ ..‬واثق ً‬
‫التعاليم هراء‪ ،‬يبدو يل أن مبجليك اجتمعوا ذات ليلة وتبادلوا‬
‫الكؤوس قائلني‪:‬‬
‫“لمِ َ ال نضع دينًا جديدً ا ونكون رسله‪ ،‬لمِ َ ال نسيطر عىل حفنة‬
‫من اجلائعني ونحشو عقوهلم بكالمنا مدعني أنه كالم مقدس‬
‫ألقاه الرب بقلوبنا‪”.‬‬
‫إليك آخر قويل‪ ،‬طاملا ستصمت فلتصمت لألبد‪ ،‬أنت اآلن ال‬
‫يشء بالنسبة يل‪ ،‬أنا رب نفيس‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫أورنيال‬

‫أسمر‪ ،‬تسري شعريات ذقنه وشاربه بعشوائية تامة ودون‬


‫خطة حمددة‪ ،‬ينحرس شعر رأسه للخلف متجن ًبا أي اشتباك معها‬
‫لك َّن سالفيه حيافظان عىل خيوط الود متصلة فيصافحاهنا معلنني‬
‫رغبتهام بالتعايش والسالم‪ .‬حاجباه يضامن عينيه ضمة عاشق‪ ،‬ال‬
‫أعلم لمِ َ يعتقدان أهنام حيتاجان حلامية فلم َأر أوقح منهام يو ًما‪ ،‬كنت‬
‫أعتقد أن الرايات احلمراء وحدها تثري جنون رائيها حتى نظرة‬
‫عيناه البنيتني‪ ،‬طمعت كل منهام باملتناقضات فامتلكتاها‪ ،‬كيف‬
‫تكونان قاسيتني حانيتني‪ ،‬ماكرتني بريئتني‪ ،‬كيف تعلنان التحدي‬
‫ويغلفهام اخلجل؟!‬
‫وأنف رغم حماوالت كرسه إال أنه ما زال شاخمًا‪ ،‬يلقي بظله‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫عىل شفتني قليلتي احلركة‪ ،‬تفرتقان بسخرية من وقت آلخر ثم‬
‫بجسد‬
‫تعودان لتضم كل منهام األخرى ملتزمتني بالصمت‪ .‬رجل ِّ‬
‫بصمت لكني كرهت‬ ‫ٍ‬ ‫شيطان وعقل ذئب‪ ،‬يراقبني بحذر وأراقبه‬
‫حذره وصمتي‪ .‬رأيته خيتلس النظر إ َّيل أثناء خروجي من املاء‪،‬‬
‫سألت عن اسمه برسية فيام بعد وعلمت أنه “يوجني” من طبقة‬
‫منزوعي السلطة‪ ،‬هؤالء الذين ال يملكون ُسلطة أو ثروة لكنهم‬

‫‪18‬‬
‫أحرار ليسوا عبيدً ا‪ ،‬يعملون لدينا بمقابل مادي‪ ،‬طبقتهم تيل‬
‫طبقتنا برتتيب اهلرم االجتامعي الذي وضعه املبجل مارك‪ .‬ففي‬
‫قاعدة اهلرم يستقر العبيد واخلصيان اململوكني للمدينة والذين ال‬
‫لك لسادهتم واملدينة‬ ‫حقوق؛ أجسادهم‪ ،‬أرواحهم ِم ٌ‬
‫ٍ‬ ‫أي‬
‫يملكون َّ‬
‫ثم يعلوهم طبقة منزوعي السلطة وهم العامل واملزارعون‬
‫والوصيفات هؤالء يمتلكون حريتهم والقدر اليسري من املال‬
‫وهم بحاجة دائمة للعمل من أجل االستمرار باحلياة‪ ،‬ثم تعلوهم‬
‫طبقتنا؛ طبقة السادة واألثرياء حيث كنا وما زلنا دائماً ا ُملالَك‬
‫األصليني للمدينة وبقمة اهلرم يتفرد املبجلون الثالثة وذووهم‪.‬‬
‫أيضا‬
‫وكام وضع املبجل مارك اهلرم االجتامعي فقد حدَّ د ً‬
‫قوانني العالقات بني الطبقات فحرم العبيد من الزواج هنائ ًّيا لكنه‬
‫سمح هلم بالعالقات اجلنسية املقننة داخل طبقتهم‪.‬‬
‫وبنهاية كل عام كان خيتار من بينهم عد ًدا من الذكور‬
‫األشداء واإلناث األصحاء للتكاثر حتى ال يتوقف نسل العبيد‬
‫لضامن راحة السادة واستمرار العمل‪ .‬أما طبقة منزوعي السلطة‬
‫فيخضعون لنفس القانون‪.‬‬
‫يسمح لطبقة املبجلني بالزواج داخل نطاق طبقة السادة أو‬
‫السلطة‪ .‬كام أنني سمعت‬
‫املعارشة دون زواج من طبقة منزوعي ُّ‬
‫مهسا بني اجلواري منذ عدة ٍ‬
‫ليال أن املبجل إبرام قد عارش عبدة‬ ‫ً‬
‫رسا لكن جدران املعبد ال حتفظ األرسار‪.‬‬‫ًّ‬
‫وألنني من طبقة السادة فال جيوز ليوجني أن يلمسني وإال‬

‫‪19‬‬
‫ستُقطع رقبته‪ ،‬إناث السادة يعارشون رجال السادة أو تعجب‬
‫إحداهن أحد رجال املبجلني إن كانت حمظوظة فيتزوجها‪.‬‬
‫نخضع لنفس قوانني الزواج واإلنجاب‪ .‬املبجلون خيتارون‬
‫بأوامر الرب من يتزوج ومن ينجب للحافظ عىل الساللة والعرق‪.‬‬
‫كل النساء الاليت فقدن عذريتهن جيربن عىل تناول “عشبة العفة”‬
‫تلك العشبة متنع حدوث احلمل‪َ ،‬من ختالف تعاليم الرب وحتمل‬
‫دون مباركته تعزل ببيت اخللوة حتى تضع طفلها الذي يتخلص‬
‫منه “جامع اخلطايا” ثم تظل باخللوة لثالثة أشهر قبل أن تمُ نح‬
‫العفو جمد ًدا‪ ،‬إن تكرر هذا األمر تُقطع رقبتها‪.‬‬
‫أنا ما زلت عذراء نقية‪ ،‬اجلميع يعلم ذلك‪ ،‬سمعت أن املبجل‬
‫فيكتور قد َّ‬
‫حذر رجال السادة من االقرتاب مني أو التفكري يف‪،‬‬
‫أمتنى أال أكون قد أعجبته فأنا ال أحبه‪ ،‬حينام تتقاطع طرقنا وأراه‬
‫أشعر بالرش جيري بدمائه‪.‬‬
‫يبدو أنه قد الحظ نظرات يوجني يل وهذا ما دفعه للتعامل‬
‫بعنف بعد عظة والده املبجل مارك‪ .‬أخربين عبدي أنه سجنه‬ ‫ٍ‬ ‫معه‬
‫بحجرة الرهبة باملعبد تلك احلجرة الفظيعة التي يرمون هبا العبيد‬
‫املتمردين حتى خيضعوا أو يقتلوا‪ ،‬لكن ما جعلني هادئة ومنعني‬
‫من التدخل أنني سمعت املبجل مارك يقول إن ذلك لن يستمر‬
‫إال ليومني لكي خيترب حمنة الرب ويكف عقله عن الكفر بتعاليمه‪.‬‬
‫رغم أنني مؤمنة تقية‪ ،‬ورغم ثقتي باملبجل مارك إال أن بعض‬

‫‪20‬‬
‫أيضا‪ .‬أشعر بنوع من الظلم واملحاباة‬
‫هذه األسئلة قد وردت بعقيل ً‬
‫منذ اهتز فؤادي لرؤية يوجني‪.‬‬
‫يوجني رسي الذي لن أخربه ألحد أبدً ا لست مستعدة لكرس‬
‫القوانني معه فأنا ما زلت غري واثقة من إحسايس‪ ،‬هل ما أشعر به‬
‫جتاهه هو حب؟ كيف أعرف فأنا مل أحب من قبل! لكنه يعجبني‪،‬‬
‫وسامته‪ ،‬جرأته وذكاؤه‪ ،‬إنه خيتلف عن باقي طبقته وكأنه مل يخُ َلق‬
‫فيها‪.‬‬
‫أنا مميزة؛ هكذا أخربوين‪ ،‬اجلميع حويل يشعرون بذلك‪ ،‬حتى‬
‫املبجل مارك ينحني يل احرتا ًما وهذا ما مل يفعله لبرش قط‪ ،‬ذكرت‬
‫له منذ بضعة أيام حلماً رأيته‪ ،‬كنت قد رأيت طي ًفا يسكب ً‬
‫مخرا‬
‫بكأيس حتى فاض فوضعت كفي عىل حافته ألمنعه من التدفق‪،‬‬
‫كان جيلس باسرتخاء يرتشف ما بكأسه لكن يده القابضة عىل‬
‫الكأس قد اهتزت ومهس‪:‬‬
‫“هذا ليس حلماً بل رؤية‪ ،‬أنت مباركة من الرب‪”.‬‬
‫وضع ما بيده عىل الطاولة وخرج لبضع دقائق رصخ ببعض‬
‫عبيده و عاد يل‪ ،‬مهس جمد ًدا‪:‬‬
‫“تدبرت األمر‪”.‬‬
‫سورا عىل طول‬
‫ً‬ ‫بصباح اليوم التايل رأيت العبيد يبنون‬
‫الشاطئ‪ ،‬كان العمل جيري رسي ًعا ألنني حينام مررت باملساء‬
‫جمد ًدا كان السور بطول رجلني يقف أحدمها عىل كتف اآلخر‪.‬‬
‫ليال ثالث سمعنا صوت البحر الغاضب يصفع صخور سور‬ ‫بعد ٍ‬

‫‪21‬‬
‫الشاطئ‪ .‬كانت ليلة مرعبة‪ ،‬وحينام أتى الصباح خرجنا لنتفقد أثر‬
‫صخورا من السور وفتت غريها‬ ‫ً‬ ‫ثورة البحر فوجدناه قد اقتلع‬
‫لكن السور احتوى غضبه وطرحه بعيدً ا عنَّا‪.‬‬
‫قال املبجل مارك للناس‪:‬‬
‫“اشكروا الرب الذي جتىل ألورنيال فحذرها ثم اشكروها‬
‫ألهنا سمعت حتذير الرب‪ ،‬لوال عذراؤنا املباركة البتلعنا البحر‬
‫اجلائع بجوفه ليلة أمس‪”.‬‬
‫ركع يل العبيد‪ ،‬اخلصيان‪ ،‬الوصيفات‪ ،‬انحنى يل السادة وق َّبل‬
‫بسلطة مماثلة‬‫املبجل مارك يدي‪ .‬منذ ذلك الوقت وأنا أحظى ُ‬
‫لراعي الفضيلة األول‪.‬‬
‫السلطة ستكرب يو ًما بعد يوم‪ ،‬وجودي‬ ‫كنت أعلم أن هذه ُّ‬
‫بالقرص منذ والديت كان عالمة عىل ذلك‪ ،‬البعض اعتقد أن املبجل‬
‫يعطف عىل الفتاة التي مات والداها لكنه كان يعلم أنني مميزة‪،‬‬
‫يبدو أن الرب أخربه بذلك عندما جتىل له‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫فيكتور‬

‫أقرهبا من شفاهي‪ ،‬أمنحها ال ُقبلة األوىل فتشتعل‪،‬‬‫أملسها ببطء‪ِّ ،‬‬


‫كنت قد هجرهتا العنًا إياها منذ شهر مىض‪ ،‬لكنني عدت إليها‬
‫واث ًقا أهنا الوحيدة التي تستطيع ختفيف أملي وهتدئة صخب‬
‫أفكاري‪ ،‬أتذكر يومي بكل أحداثه السيئة‪ ،‬أنظر إليها تبدو يل‬
‫رشيقة بردائها الشفاف‪ ،‬أسحبها جمد ًدا وأراقب دخاهنا الذي‬
‫حلقات بتوتر‪ ،‬أمرر يدي عىل رقبتي التي تيبست من‬ ‫ٍ‬ ‫يتشكل‬
‫طول تركيزي‪ ،‬أعانقها هذه املرة بشغف فتمنحني نفسها دون‬
‫اعرتاض‪ ،‬تسعدين فأسلب أنفاسها األخرية منتش ًيا وأضغط ما‬
‫بيد مرتعشة‪ ،‬كنت قد اكتشفت هذه العشبة أثناء جتوايل‬ ‫تبقى منها ٍ‬
‫بح ًثا عن مكان مناسب ملعبدي؛ رسي األكرب‪ .‬علمت أن القليل‬
‫ذهبه‪ ،‬مفعوهلا كاخلمر‪ ،‬كنت أمضغها‬ ‫منها يبهج العقل والكثري ي ِ‬
‫ُ‬
‫بالبداية حتى اكتشفت طريقة أخرى أفضل؛ فجعلت خادمي‬
‫ٍ‬
‫ببطء عندما أشعله‪.‬‬ ‫يلفها بورق خفيف ويبلله باملاء حتى حيرتق‬
‫قل طموحه وشقيقاه‬ ‫ساعدتني عىل التفكري اجليد فوالدي قد َّ‬
‫ال يفكران إال بالتقام أثداء النساء والنوم عىل أفخاذهن بينام‬
‫أخطط أنا المتالك كل يشء‪ .‬سأسحب البساط من حتت قدمي‬

‫‪23‬‬
‫أيب وسأختلص من وجود أشقائه املزعج فأصبح راعي الفضيلة‬
‫األول حاكم أورنيال ومالكها‪.‬‬
‫أورنيال‪..‬‬
‫غزايل املدلل‪ ،‬حتفة الرب‪ ،‬كل يشء هبا رقيق وصغري‪ ،‬راقبتها‬
‫ٍ‬
‫ببطء كثمرة فريدة‪ ،‬منعت عنها اجلميع ألحتفظ هبا لنفيس‬ ‫تنضج‬
‫لكنها متباعدة‪ ،‬كلام أقرتب منها ترتاجع‪ ،‬لست واث ًقا أهو دالل‬
‫نفور َمن ال حيب‪.‬‬
‫العذارى أم ُ‬
‫عن أي ٍ‬
‫نفور تتحدث يا فيكتور؟!‬
‫ٍ‬
‫وقاس‬ ‫أنت كاسمك دائماً منترص‪ ،‬قوي البنيان‪ ،‬صلب‬
‫ووسيم‪ ،‬كل النساء تنحني حتت قدميك‪ ،‬أنت متتلك اجلميع لكن‬
‫أورنيال رسقت قل َبك ألهنا فريدة‪ ،‬ال تشبه كل النساء‪.‬‬
‫بل هي سيدة النساء‪ ،‬وستصبح زوجة لك قري ًبا‪ .‬هذا سريفع‬
‫مكانتك أمام شعب أورنيال‪ ،‬أن ترتبط بالسيدة املباركة تلك التي‬
‫جتىل هلا الرب‪.‬‬
‫الرب‪..‬‬
‫مزحة والده وعميه‪ ..‬إن كان للرب وجو ٌد حقيقي فلقد ض َّن‬
‫به عليهم ومنحه بسخاء ألورنيال‪.‬‬
‫أورنيال هي املبجلة احلقيقية هنا‪ ،‬لقد أدرك فساد والده‬
‫ٍ‬
‫طويل مىض‪..‬‬ ‫وشقيقيه منذ ٍ‬
‫وقت‬
‫حمظوظ ألنه ُولِدَ ابنا للمبجل حتى وإن كان مبجلاً مزي ًفا‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫هو‬
‫وعليه أن يستفيد قدر إمكانه من ذلك الوضع ويغري موازين‬
‫القوى‪ ،‬جيعلها لصاحله‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫أورنيال‬

‫مدَّ يده بإناء الود املبجل املوضوع باحلجرة املقدسة حتت‬


‫قدمي متثال اإلله‪ ،‬نقل برصه بني االثنني يف حرية وأمل اجلوع ينهش‬
‫أحشاءه‪ ،‬أخذ قراره ورشع يغمس قطعة خبز باإلناء هنره صوت‬
‫فيكتور‪.‬‬
‫“أترسق من طعام الرب؟”‬
‫دفعه جوعه والظلم الواقع عليه للرد عىل افرتائه‪.‬‬
‫“ أليس طعام الرب من حق عباده؟‬
‫ملن اليد العليا؟‬
‫من يعطي من!‬
‫أنا جائع‪ ،‬والرب زاهد بطعامه يرتكه حتى يتعفن أو تلتقطه‬
‫أيادي خدامه ليستقر بمعدهتم‪ ،‬أنا عبد هلذا الرب‪ ،‬أعبده فيمنحني‪،‬‬
‫هذه هي العبادة الكاملة‪ ،‬أي رب هذا الذي يأخذ وال يمنح؟!”‬
‫اتسعت عينه وهدر بصوت كفحيح األفعى‪:‬‬
‫أيضا‪ ،‬ستلوث دماؤك سيف‬ ‫“لست سار ًقا فقط بل ً‬
‫كافرا ً‬
‫الفضيلة اليوم‪”.‬‬

‫‪25‬‬
‫رصخ يأمر احلراس بالقدوم فأمسكه اثنان منهم ورفعاه فنظر‬
‫له ثم إلناء الطعام وبصق فيه‬
‫تقي؛ فليبارك الرب وجبتك”‬ ‫ٍ‬
‫“هذه بصقة مباركة من عبد ٍّ‬
‫ثم وضع قطعة اخلبز بفمه‪..‬‬
‫امحر وجه فيكتور غض ًبا ورضب آنية الطعام بقدمه وهو‬
‫يرصخ ويزبد‪:‬‬
‫“افصلوا رأسه عن جسده واتركوه يصفي دمه باملذبح ليكون‬
‫قربانًا لإلله‪”.‬‬
‫أخرجه احلراس فجلس فيكتور ومأل كأسه ورشبه وهو يبتسم‪..‬‬
‫لقد استطاع باأليام القليلة املاضية أن يفقد يوجني أعصابه‪ ،‬العمل‬
‫حتول‬
‫الشاق واحلرمان من الطعام باإلضافة لإلهانة املستمرة قد َّ‬
‫القديس لشيطان‪ ،‬اآلن سيتخلص منه‪ ،‬ال أحد ينظر ألورنيال‬
‫فقري يشارك حرشات‬
‫رجل ٌ‬ ‫نظرة شهوة‪ ،‬أورنيال ِملكُه‪ ،‬كيف جيرؤ ٌ‬
‫األرض طعامها أن ينظر لسيدته؟‬
‫أن يتطلع لوجهها‪ ،‬أن يسمح لعقله أن يفكر هبا‪..‬‬
‫كيف يلمسها؟‬
‫التفكري خطيئة‪ ،‬فام بال اللمس؟!‬
‫سيقتله‪..‬‬
‫يف طريقهم للمقصلة‪ ،‬أوقفهم املبجل مارك‪ ،‬أمر احلراس‬
‫بوضعه بحجرة اخللوة تلك احلجرة التي دخلها من قبل ليخوض‬

‫‪26‬‬
‫حمنة الرب‪ ،‬كل فكرة يفكر هبا‪ ،‬كل حرف ينطقه وكل خطوة‬
‫خيطوها تقوده هلذه الغرفة وكأهنا قدره‪.‬‬
‫لكن يبدو هذه املرة أهنا هنايته‪ ،‬ففيكتور يضمر له الرش منذ رآه‬
‫يتحدث مع أورنيال‪.‬‬
‫يتشدق املبجلون بأقوال فارغة مثل الفضيلة والعفة‪ ،‬أقوال ال‬
‫يعلمون عنها شي ًئا غري طريقة نطقها‪.‬‬
‫لو كان هناك فضيلة ملا عامله فيكتور ابن النجار هبذه الطريقة‪،‬‬
‫لو كان هناك عفة ملا اشتهى فيكتور عذراءه املبجلة التي حتبه هو‪.‬‬
‫تذكر جيدً ا ذلك اللقاء الذي أثار غضب فيكتور عليه وجعله‬
‫يرتصده وحياول إيقاعه‪.‬‬
‫كان ألول مرة يقف أمامها هبذا القرب‪ ،‬رائحتها كانت‬
‫تشبه خلي ًطا من الفواكه مل يشم يو ًما رائحة أطيب منها‪ ،‬برشهتا‬
‫كادت تيضء من فرط الصفاء وشعرها كل َمن ينظر إليه يفكر‬
‫أنه سيحرتق إن تثنى له يو ًما أن يمد يده ويلمسه‪ ،‬كان مطأطأ‬
‫الرأس كالعادة فال يصح أن يرفع رأسه بحرضة السادة خاصة‬
‫إناث السادة‪ ،‬أما السيدة أورنيال فهي حالة خاصة‪ ،‬إن كان عليه‬
‫أن يطأطأ رأسه للجميع فاألجدر أن يركع هلا‪ ،‬إهنا بمثابة ٍ‬
‫إله يسري‬
‫مؤخرا بمكانة تفوق كل املبجلني بسبب‬‫ً‬ ‫عىل قدمني‪ ،‬وقد حظيت‬
‫حكمتها ومباركة الرب هلا‪.‬‬
‫سمع صوهتا الدافئ اهلادل يأمره أن يرفع رأسه‪ ،‬تردد قلي ً‬
‫ال‬
‫قبل أن يسمعها تكرر األمر فرفع رأسه‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫النظرة يف عينيها كرضبة الصاعقة‪ ،‬هزت فؤاده‪ ،‬ركع عىل‬
‫ركبته ومهس‪:‬‬
‫“سيديت”‬
‫هامسا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ابتسمت فتأوه‬
‫“ الرمحة”‬
‫“يوجني”‬
‫مل يكن مهسها السمه سؤاالً بل تكريم‪ ..‬حتية‪ ..‬ربتة مباركة من‬
‫الرب عىل قلبه‪.‬‬
‫“اهنض”‬
‫ملست كتفيه هبدوء فارتعش ومهس متوسالً‪:‬‬
‫“سيديت”‬
‫هنض ونظر هلا نظرة مألت عينيه وقلبه حتى فاضوا‪ ،‬اختار‬
‫فيكتور اللعني تلك اللحظة‪ ،‬مل يشعر بوجوده إال عندما وجد‬
‫نفسه مكو ًما عىل األرض حتت قدميه‪ ،‬دفعه الوغد ورصخ بوجهه‬
‫غاض ًبا‪:‬‬
‫“ كيف جترؤ عىل رفع وجهك بسيدتك؟! ابق حتت األقدام‬
‫فهذا مكانك؟!”‬
‫تدخلت السيدة‪:‬‬
‫“أنا أمرته”‬
‫ً‬
‫مندهشا‪:‬‬ ‫نظر هلا‬

‫‪28‬‬
‫“ملاذا؟”‬
‫“أمرته أن يكون حاريس‪ ،‬كيف حيرسني إذا مل يعرفني؟”‬
‫“أنا أحرض لك أقوى الرجال وأشجعهم‪”.‬‬
‫“لكني أريده هو‪”.‬‬
‫“سيديت‪ ..‬أورنيال‪ ..‬أنا‪”...‬‬
‫قاط َعتْه‪:‬‬
‫“أهيا املبجل فيكتور‪ ،‬إرصارك يدهشني! ملاذا هتتم؟”‬
‫“أنا أهتم بكل ما يتعلق بك‪ ..‬هذا اخلادم غري مأمون‪ ،‬لديه‬
‫أفكار متطرفة وقد وضعته باخللوة مرة‪ ،‬سأحرض لك غريه‪”.‬‬
‫“ال أريد أحدً ا آخر‪ ،‬هل أنا جمربة عىل تنفيذ أمرك واالنحاء‬
‫لك كالعبيد؟”‬
‫“سيديت‪ ..‬أخشى أن تتم أذيتك عىل يده‪”.‬‬
‫“ سأكون بخري‪”.‬‬
‫أدارت وجهها عنه ومهست‪:‬‬
‫“ يوجني‪ ..‬اهنض‪”.‬‬
‫أدرك فيكتور أن عليه التخلص منه وأنه قد يمثل هتديد‬
‫ملخططاته‪.‬‬
‫رأيت كل ما حدث قبل مقابلتي ليوجني وطلبي املفاجئ منه‬
‫أن يكون حاريس الشخيص‪ ،‬رأيت كل هذا كحلم‪ ،‬بل كرؤية‪،‬‬

‫‪29‬‬
‫رؤية دامهتني وأنا مستيقظة وبعينني مفتوحتني‪ ،‬لكن ما رأيته مل‬
‫جيعلني ُأبعد يوجني عني‪ ،‬بل قربته مني أكثر‪ ،‬كان يرافقني أثناء‬
‫جلويس باحلديقة للتأمل مل يكن ينظر حوله كأي حارس شخيص‬
‫بل كان ينظر يل‪ ،‬يتأملني‪ ،‬كنت أرى احلب بعينيه‪ ،‬كلام نظرت‬
‫داخلهام يسدهلام وكأنه خيشى أن أعرف‪.‬‬
‫ارتعش وكأنه غري ٍ‬
‫قادر عىل املقاومة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كنت كلام ملست يده‬
‫ُ‬
‫بإحدى املرات ق َّبلته عىل وجنته يومها كاد يموت خجالً‪ ،‬وفاضت‬
‫عيناه دمو ًعا ومهس‪:‬‬
‫ِ‬
‫حققت يل اآلن أكثر أحالمي جنونًا”‬ ‫“لقد‬
‫متاح‪ ،‬إن أخربتك عن‬
‫أمر ٌ‬ ‫“يبدو أن أكثر أحالمك جنونًا ٌ‬
‫أبسط أحالمي بشأنك فسيتوقف قلبك”‬
‫“سيديت‪ ..‬أرجوك‪ ،‬إين أقاوم شياطيني بصعوبة‪”.‬‬
‫“سيدتك أعلنت احلرب عىل إرادتك‪ ،‬وشياطينك‪”.‬‬
‫“أووه”‬
‫إليك جائع ٌة‪ ،‬وما‬
‫َ‬ ‫“قررت أن أحار َبك بقباليت‪ ،‬فشفاهي‬
‫ٍ‬
‫متواضعة؟!‬ ‫ٍ‬
‫بوجبة‬ ‫تقتات الضواري‬
‫ْ‬ ‫شحيح‪ ،‬فهل‬ ‫تقدِّ مه يل‬
‫ٌ‬
‫ملاذا تعاملني كام يعامل جامع الت ِ‬
‫ُّحف َكن َْزه!‬ ‫ُ‬
‫يربت األسدُ عىل فريستِه؟!‬
‫هل ُ‬
‫ويضمها إليه لتنا َم بني ساقيه دافئ ًة؟‬
‫ُّ‬ ‫‏هل يق ِّب ُلها ِ‬
‫برفق‬
‫ملاذا تعتقدُ أنني رسيع ُة ال َع َطب؟!‬
‫‪30‬‬
‫خرجت منها‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫معركة‬ ‫الكدمات التي تغ ِّطي جسدي ٌ‬
‫دليل‬ ‫ُ‬
‫أراقب‬ ‫نتعارك جمد ًدا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫هزيمة‪ ،‬اهلزيم ُة أال‬ ‫ٍ‬ ‫دليل‬‫ليست َ‬ ‫ْ‬ ‫منترصةً‪،‬‬
‫ُ‬
‫فتحرق‬‫َ‬ ‫ٍ‬
‫الشهوة‬ ‫َ‬
‫نريان‬ ‫الرغبة ك َّلام أغويت َُك ت ُْش ِع ُل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رشارات‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تضع هلا‬ ‫أحشا َء َك‪ ،‬لكن ََّك حُ َت ِّج ُمها‪ ،‬تبني حوهلا َلبِنَات من َخوف‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بصرب‪.‬‬ ‫سق ًفا ثم تطهو وجبت ََك‬
‫تعاقب‬ ‫فل َم‬‫نار هادئة‪ِ ،‬‬ ‫احلب ال تُطهى عىل ٍ‬ ‫ِ‬
‫وجبات‬ ‫بعض‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫منحك عق ُل َك الوصف َة اخلاطئة؟!‬ ‫َ‬ ‫جسدي باجلو ِع إن‬
‫ختاف يا أسدي؟!‬ ‫ِم َم ُ‬
‫مسار النهر‪ .‬غيرَّ َت‬ ‫لت‬
‫حو َ‬ ‫ِ‬ ‫ثت ميا َه ِ‬
‫َ‬ ‫النهر بالرغبات‪ ،‬بل َّ‬ ‫لقد َّلو َ‬
‫صنعت شلاَّلاً من َس ْه ٍل!‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الطرقات‪،‬‬ ‫خارط َة‬
‫هنر؟!‬ ‫وحشا من ٍ‬ ‫صنع ً‬ ‫تسأل من َ‬ ‫وجلست عىل ِّضفتِه ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫بدموعك؟!‬ ‫باحت يو ًما‬
‫ْ‬ ‫عجزت ساقي عن حمَ ْ ِل َك! هل‬ ‫ْ‬ ‫هل‬
‫لغري َك؟ هل أ ْغ َل َق صدري أبوا َبه‬ ‫سال شهدُ شفاهي ِ‬ ‫هل َ‬
‫يستقبل رأسك؟‬ ‫َ‬ ‫ورفض أن‬
‫رس خوفِ َك يا قنفذ؟!‬ ‫ما ُّ‬
‫هل فقد أسدي أسنانَه؟!”‬
‫“سيديت أورنيال‪ ..‬أنا أخشى أن أملسك فترتك أصابعي‬
‫عالمات عىل برشتك الصافية‪ ..‬أنا أخشى أن أملسك فأدنسك‪،‬‬
‫ِ‬
‫أنت العذراء املبجلة التي منحها الرب ما مل يمنحه لغريها‪..‬‬
‫أنت امرأة حتمل اسم املدينة لكنني أوقن أن املدينة هي التي‬

‫‪31‬‬
‫ِ‬
‫غضبت بإحدى املرات فنشأ‬ ‫حتمل اسمك‪ِ ،‬‬
‫أنت خلقت أوالً‪ ،‬ثم‬
‫الربكان من غضبك ثم ثرت فثار ثم رضيت فأصبحت أرض‬
‫لشخص منزوع السلطة ٍ‬
‫فان مثيل‬ ‫ٍ‬ ‫املدينة خرضاء خصبة‪ ..‬هل‬
‫ُّ‬
‫احلق كي يلمسك؟‬
‫يلثم شفاهك‪ ،‬يشم رائحتك ويدفن رأسه بني هنديك!‬
‫الرغبة تقتلني‪ ،‬لكن عقيل ال يصدق أن يل احلق فال يسمح‬
‫ليدي بلمسك ويغلق شفاهي كي ال تلتقم شفاهك‪ ،‬قبل رؤيتك‬
‫كنت قد تشاجرت مع الرب حتى إنني أنكرت وجوده لكني‬
‫اعتذرت له عندما أبرصتك‪ ،‬فال ُبدَّ أن يكون لذلك اجلامل سيدٌ ‪،‬‬
‫هل أملس حتفة سيدي؟‬
‫هل سريىض عني الرب إن ملست عذراءه؟”‬
‫“الرب سيغضب إن مل تقبل هديته‪ ،‬أنا أعلم أنك كنت تريد‬
‫امرأة طيبة لطيفة لتضمك‪ ،‬تربت عىل ظهرك‪ ،‬تعبث بشعرك‬
‫وتعوضك عن كل حروبك مع احلياة لكنك رأيتني فأحببتني‪.‬‬
‫فكنت كمن طلب قطة رقيقة بقفص من اخلريزان فوضعوا‬
‫عىل عتبته نمرة رضبت القفص بمخالبها ووقفت أمامه متحدية‪.‬‬
‫لقد حصلت عىل الطرد اخلطأ بعد أن وقعت وثيقة تلزمك‬
‫بعدم رد البضاعة فأصبحت عال ًقا معي لألبد‪.‬‬
‫تعيس أنت لتحب امرأة بعيون وقحة تلمع كلام سمعت كلمة‬
‫نابية‪ ،‬تقذف رشارات بلحظات احلب‪ ،‬تشعل الوسط بنظراهتا‬
‫النارية‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫وشفاه مكتنزنة مغرية تدفع القديس الرتكاب اخلطيئة دون أن‬
‫يشعر بعدها برغبة حارقة لالعرتاف‪ ،‬شفاه اقضمها كلام توترت‪،‬‬
‫حائرا ال تعلم ماذا‬
‫كلام فكرت‪ .‬وبلحظات الغنج‪ ،‬فتقف أمامي ً‬
‫أريد منك وكيف ترضيني‪.‬‬
‫اقرتاحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫عالق مع امرأة لن هتز رأسها موافقة كلام أبديت‬
‫أنت ٌ‬
‫لن تدور حولك طوال الوقت فتكافئها بلمسة خاطفة‪.‬‬
‫امرأة سترتك أظافرها عىل جلدك بليايل احلب عالمات لن‬
‫تلتئم حتى ختمشها جمد ًدا بالليلة التالية‪.‬‬
‫امرأة تؤمن بتبا ُدل األدوار فتطمح بإمساك اللجام وتوجيه‬
‫الدفة‪.‬‬
‫امرأة ال حيلو هلا اإلبحار إال بالعواصف وال تنتيش إال‬
‫بااللتفاف حول الدوامات‪ ،‬امرأة تثريها حلظات اخلطر‪ .‬امرأة‬
‫كهذه سيقتلها تر ُّددك أو ستقتلك هي إن مل تقبل حبها‪.‬‬
‫أخربنى جمد ًدا أي شيطان غرز بعقلك أن بإمكانك اهلروب‬
‫من بني خمالب نمرة!‬
‫كيف ستصمد أمام غرائزها الربية؟‬
‫ال تدعي أنك تريد فتاة مدجنة‪ ،‬تدلك قدميك وهتز خرصها‬
‫لتثريك‪ .‬أنت حتب اختالس النظرات رغم أنك تعرف أن عقوبتها‬
‫املوت‪ ،‬تعجبك احلروب وتنتيش من املطاردات وسيقتلك اليأس‬

‫‪33‬‬
‫ٌ‬
‫احرتاق‬ ‫إن توقفت عن حبك وزهدت ملستك‪ .‬االقرتاب مني‬
‫تفضل أن تشتعل؟”‬ ‫واالبتعاد عني احرتاق فبأي ٍ‬
‫نار ّ‬
‫ملعت عيناه بالرغبة ومهس‪:‬‬
‫“أورنيال”‬
‫ثم قبض عىل كتلة من شعري بني يديه ودفع شفتي لتلتقم‬
‫شفتيه‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫إبرام‬

‫يقولون إن املتعة تكمن يف امتالك املال‪ ،‬النساء واألطفال‪،‬‬


‫كنت أطمح بمتعة كاملة كتلك التي يملكها أخي املبجل مارك‬
‫وشقيقي الصغري أندروس‪ .‬لكني ُح ِر ُ‬
‫مت من أن يكون يل امتداد‬
‫هبذه احلياة‪.‬‬
‫أب دون‬
‫أنا املبجل إبرام‪ ،‬اسمي يعني “األب املكرم” لكني ٌ‬
‫واثق أن املشكلة‬
‫رسا أن مائي متأسن لكنني ٌ‬ ‫ٍ‬
‫أطفال‪ .‬يتهامسون ًّ‬
‫تكمن بكل األرايض التي سقيتها‪ ..‬من جيرؤ عىل خمالفة قول‬
‫املبجل؟!‬
‫وحتملت مها َم ُه‪ ،‬احتجت‬
‫حينام منحني أخي لقب خادم الرب َّ‬
‫للرتويح عن نفيس بعد كل تلك األعامل التي كلفني هبا حلفظ‬
‫النظام الذي وضعه‪ ،‬لكن طرقي للرتويح عن النفس أزعجته‬
‫رسا عن‬
‫ألنني مل ألتزم بالرسية التامة‪ ،‬وبدأ رعايا الرب بالتحدث ًّ‬
‫أفعال أحد خدامه مما أثار غضبه فأجربين عىل الزواج لقطع ألسنة‬
‫اجلميع‪ ،‬فاخرتت أكثر امرأة مجاالً وإثارة وثرا ًء؛ تزوجت كلوديا‬
‫األفعى الطيبة‪ ..‬من ٍ‬
‫وقت آلخر تنفث سماًّ لكنه ال يميت‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫أرضا‬ ‫عيل أن أجرب ً‬ ‫ٍ‬
‫طفل كان َّ‬ ‫حينام مل نوفق باحلصول عىل‬
‫أخرى‪ ..‬اخرتت إحدى الفتيات ومنعتها عن تناول عشبة العفة‬
‫أيضا‪ ..‬بعد عدة حماوالت أخرى بدأ‬ ‫لكنني مل أحصل عىل طفيل ً‬
‫عاجز عن اإلنجاب إال أن أخي املبجل مارك قد‬ ‫ٌ‬ ‫اهلمس بأنني‬
‫أخرس اجلميع حينام قال إن الرب اختارين ملهمة أكرب بأن أكون أ ًبا‬
‫للشعب كله ومنحني مهمة تنظيم احلياة اجلنسية لشعب أورنيال‪،‬‬
‫فأصبحت أحدد من يرتبط بمن‪ ،‬من ينجب ومن لن حيمل بني‬
‫يديه قطعة منه أبدا‪ ..‬أصبحت يد الرب باألرض‪ ..‬سأظل مدينًا‬
‫ألخي هبذه احلظوة التي ر َّد ْت يل كرامتي‪ .‬وسأخدمه بحيايت وأن ِّفذ‬
‫ما يريده‪ ،‬أنا ال أتفق مع الكثري من قراراته لكنني سأطيعه ألجل‬
‫ذلك املعروف وتلك احلظوة فقط‪.‬‬
‫كنت أعلم أن كلوديا تعبث من خلف ظهري كام تعتقد هي‪،‬‬
‫لكنها ال تعلم أنني أختار من يمكنها العبث معه‪ .‬ال يشء يدور‬
‫هبذه املدينة دون علمي‪.‬‬
‫حتى إنني أعلم تلك الكارثة التي ستحل بأخي أندروس‬
‫احلبيب قري ًبا والتي ستجلبها له ابنته اجلميلة مريال‪.‬‬
‫شقيقي أندروس رغم كل ما يملكه إال أنه غاضب من السطوة‬
‫التي منحني إياها املبجل مارك‪.‬‬
‫لذا بدأ يضع خط ًطا بنفسه لتخدم مصاحله‪ ،‬هذه األيام خيطط‬
‫لتزويج مريال لفيكتور ابن املبجل ووريثه الوحيد‪.‬‬
‫فيكتور ليس غب ًّيا ليسمح بتمرير ذلك حتت ذقنه لكنه ينظر‬

‫‪36‬‬
‫للعبة باستمتاع‪ ،‬بينام مريال التي يرميها أندروس بوجه فيكتور‬
‫لشخص آخر‪ .‬شخص‬ ‫ٍ‬ ‫بكل مناسبة‪ ،‬تفسد خطة أبيها بحبها‬
‫وحمر ٌم عليه ملسها‪ .‬لكن من حُي ِّرم‬
‫دون املستوى‪ ،‬ال ينتمي لطبقتها َّ‬
‫وي ِّلل غريي هنا‪..‬‬
‫حُ‬
‫أرشفت بنفيس دون علمها عىل تأمني لقاءاهتا بكاسرب‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫حتت أنوف اجلميع‪ .‬واجلميلة العذراء مل تعد عذراء‪ ،‬احلب‬
‫رسق عفتها‪ ..‬فخادمتها ووصيفتها اخلاصة تابعة يل‪ ،‬وقد كلفتها‬ ‫َ‬
‫تناوهلا عشبة العفة برسية تامة فأنا‬
‫بنقل أخبارها واإلرشاف عىل ُ‬
‫تسجل بالدفاتر ملراقبة نساء املدينة‬
‫أمر ُرها هلا خلسة ألهنا َّ‬
‫بنفيس ِّ‬
‫والتحكم باإلنجاب‪.‬‬
‫حينام يكتشف أخي أندروس ذلك سيغيل كبده غي ًظا‪ ،‬سيكتفي‬
‫ري وسيكرس قلبها‪ ،‬قد يقتل حبيبها وقد‬ ‫بتزويج ابنته من ٍ‬
‫شاب َث ٍّ‬
‫خيشى أن يتسبب التخلص منه بفضيحة فيرتكه ح ًّيا لكن يكلفه‬
‫بعمل ٍ‬
‫شاق‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫سيفقد أخي اليشء الوحيد الذي كان سيضمن حكم املدينة‬
‫ويعود ليامرس حياته هبدوء‪ ،‬يأكل ويتجرع اخلمر ويطأ كل النساء‬
‫إال زوجته فريا‪.‬‬
‫فريا‪..‬‬
‫ُروى‬
‫اجلميلة فريا‪ ..‬هذه قصة أخرى حتتاج ألن ت َ‬

‫‪37‬‬
‫فريا‬

‫يقولون إن احلظ قد يرافق البعض لفرتة ما ثم يتخىل عنهم‬


‫ويرتكهم دون رجعة‪ ،‬يبدو أنني من هذه الفئة‪.‬‬
‫دت يف أرسة ثرية‪ ،‬سمراء مجيلة متتلك‬ ‫فولِ ُ‬
‫فقد رافقني احلظ ُ‬
‫املال واجلامل والذكاء وبإمكاهنا أن تدير العامل بإشارة من إصبعها‪.‬‬
‫حتى تزوجت املبجل أندروس بأمر مبارش من أخيه املبجل مارك‪.‬‬
‫اعتقد اجلميع أن احلظ قد وقف بجانبي لتوه ألنني سأتزوج‬
‫من فرد من الصفوة احلاكمة‪ ،‬لكنني أدركت بعدها أن هذا آخر‬
‫عهدي برؤية احلظ اجليد‪.‬‬
‫املبجل أندروس هو وغد حمظوظ؛ ألنه يشارك أخاه املبجل‬
‫بائسا يطأ الغواين قبل أن ينتشله‬
‫فقريا ً‬
‫مارك نفس الدم‪ ..‬فلقد كان ً‬
‫أخوه من بِركة القذارة التي كان يسبح فيها‪.‬‬
‫لكن من اعتاد القذارة ستزعجه النظافة‪ ..‬لذا مل يلمسني إال‬
‫مرة واحدة أنجبت عىل إثرها ابنتي مريال‪.‬‬
‫كنت كلام اقرتبت منه ابتعد وكأنني املوت عىل قدمني‪ ،‬رغم أنه‬
‫مل يبذل جمهو ًدا إلخفاء عالقته مع اإلماء عني‪..‬‬

‫‪38‬‬
‫كان إحسايس بالنبذ واهلجر يطعن كرامتي‪ ..‬حتى أتاين املبجل‬
‫إبرام أدفأ فرايش البارد ومنحني ما حرمني منه أخوه سنوات‬
‫طوال‪.‬‬
‫ال عطو ًفا‪ ،‬رغم هيبته املزعومة إال أنه كان رقي ًقا‪ ،‬طفل‬
‫كان رج ً‬
‫حيتاج للحنان والعطف ويمنحهام بسخاء‪.‬‬
‫وحول ارتعادات الربد‬
‫َّ‬ ‫بدَّ د ظلمة الليايل وآنس وحديت‬
‫للمتعة‪..‬‬
‫سأدين إلبرام دائماً بتفتح زهرة أنوثتي‪ ،‬بمنحي احلياة‪ ..‬ولوال‬
‫خويف عىل عالقتي به ألخربت أندروس بنفيس فتلك النظرة التي‬
‫سرتتسم عىل وجهه وقتها تستحق املغامرة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫أورنيال‬

‫كل حماواليت للسيطرة عىل نفيس قد فشلت‪ ،‬أشعر بأن الوحش‬


‫داخيل يوشك عىل اهلرب‪ ،‬ال جمال لكبح مجاحه جمد ًدا‪ ،‬كل تلك‬
‫السنوات التي سجنته هبا خلف أبواب حديدية صلبة من اإلرادة‬
‫تقف اآلن أمامي‪ ،‬خترج يل لساهنا‪ ،‬ختربين أن األوان قد آن‪ ،‬ال‬
‫يشء سأفعله سيغري املحتوم‪.‬‬
‫الليلة قمرية‪ ،‬كل احلوادث‪ ،‬الكوارث واملعجزات حتدث هبذه‬
‫الليايل‪ .‬كل ليلة قمرية ماضية مرت كنت أشعر باخلطر هبا‪ ،‬وكأن‬
‫ٍ‬
‫بخجل كي خيرج‪،‬‬ ‫شي ًئا ما داخيل ينقر عىل جدار روحي يستأذن‬
‫أما اآلن مل تعد هناك نقرات خجولة‪ ،‬صوت حتطيم أبواب روحي‬
‫يزلزل كياين‪ ،‬هذه ليلتي‪ ،‬ال جمال للمقاومة‪.‬‬
‫صوت داخيل هيتف بإحلاح أن “استسلمي” يكررها‬ ‫ٌ‬ ‫هناك‬
‫دون ٍ‬
‫ملل‪ ،‬يكررها بشغف‪ ،‬بثقة‪ ،‬بيقني منترص‪ .‬أركع عىل ركبتي‪،‬‬
‫أستند بيدي عىل األرض‪..‬‬
‫أشعر بخاليا جسدي هتدأ‪ ،‬تستقر‪ ،‬تسكن وتغمرين رغبة‬
‫باالستسالم‪ ،‬أخضع هلا‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫أسمع صوت حت ُّطم عظامي‪ ،‬إعادة ترتيبها‪ ،‬بشكل جديد‪..‬‬
‫أرى من خالل عينني ُخلقتا للتو لكنهام بنظر ثاقب‪ ،‬أكثر حدة‪،‬‬
‫ال يعوقه الظالم‪ ،‬يلتقط أنفي زخم الروائح حويل‪.‬‬
‫أنظر ليدي وساقي‪ ،‬مل تعد أعضاء برشية كام كانت دائماً ‪،‬‬
‫حتولت ملخالب‪ ..‬خمالب ذئبة‪ ..‬أخرج من خلويت أقف حتت ضوء‬
‫القمر وأعوي‪ ..‬أعوي بقوة ثم أهرب من املدينة صوب الغابة‪..‬‬
‫الغابة قوانينها أكثر رمحة‪ ،‬تلمسني أوراق األشجار وكأهنا تر َّبت‬
‫عىل كتفي لتهنئني‪ ،‬أصل للقمة أرفع وجهي للقمر وأعوي‪.‬‬
‫آثارا عىل طول ذراعي‬
‫أستيقظ والعرق يغمرين‪ ،‬أجد ً‬
‫وجسدي‪ ،‬هل ملستني أوراق الشجر فعالً؟‬
‫أمل يكن حلماً ؟‬
‫هل هلذا احللم معنى سأدركه مع األيام؟ هل هو عالمة؟‬
‫كان سؤاالً يقض مضجعي لكن إجابته مل تتأخر ً‬
‫كثريا فاأليام‬
‫إشعارا بقرب اكتشاف قدرايت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫القليلة التالية أثبتت يل أنه كان‬
‫تلك القدرات التي منحها الرب يل دون أن أطلب‪ .‬لقد اكتشفت‬
‫بعضها حينام دامهتني رؤية أوضحت يل ما حدث بني فيكتور‬
‫ويوجني‪ ،‬وأنني سبب نزاعهام واضطهاد فيكتور له‪.‬‬
‫حتى إنه قد جن جنونه بعد تلك األفكار التي عرفت فيام بعد‬
‫أن املبجل مارك يزرعها بعقله جتاهي أنا ويوجني‪.‬‬
‫ففي إحدى عظات املبجل مارك األسبوعية‪ ،‬وبعد أن انتهى‬

‫‪41‬‬
‫من حديثه‪ ،‬صعد فيكتور مكانه‪ ،‬كان يبدو وكأنه قد جترع عدة‬
‫كؤوس‪ .‬نظر للعامة وقال بصوت سمعه اجلميع‪:‬‬
‫“ كلنا نعلم أن الرب جتىل للسيدة أورنيال “العذراء املبجلة”‬
‫الرب اختارها من بني كل بنات السادة‪ ،‬اختار أنثى ألول مرة‪،‬‬
‫ذكورا‪”.‬‬
‫ً‬ ‫كنا قد اعتدنا منذ سنوات عىل أن يكون املبجلون‬
‫رفعت رأيس وحتركت من مقعدي ورست ألقف بالقرب منه‬
‫وسألته‪:‬‬
‫“هل حلديثك هذا هدف؟”‬
‫مأل عينه مني حتى فاضت‪:‬‬
‫“لقد أنقذتنا من الفيضان‪ ،‬حكمت بني املتنازعني وأرشدت‬
‫رسا ألمور ال يمكن اإلفصاح عنها بني العامة‪ ،‬وهذا‬ ‫املبجلني ًّ‬
‫يعني كم ِ‬
‫أنت قيمة جدًّ ا للمدينة‪ ،‬أنت ثروهتا‪ ،‬وعلينا أن نحافظ‬
‫عىل هذه الثروة‪ ،‬علينا أن نضمن استمرار جتيل الرب لك‪”.‬‬
‫سألته بحذر‪:‬‬
‫“وكيف ستضمن ذلك؟”‬
‫“علينا أن نضمن عفتك‪”.‬‬
‫مههم الناس وعلت االعرتاضات‪ ،‬تدخل املبجل مارك‪:‬‬
‫“فيكتور!”‬
‫“علينا أن نضمن أال تدنس أورنيال عفتها حتى يستمر جتيل‬

‫‪42‬‬
‫الرب هلا‪ ،‬لنضع خلخاالً بقدمها نطمئن إن هدأ وإن أصابه‬
‫اجلنون تأكدنا أهنا ختدعنا‪”.‬‬
‫مل أستطع أن أكتم ضحكايت؛ فضحك العامة بعدي وعندما‬
‫هدأت أصوات اجلميع سألته‪:‬‬
‫“إن كانت العالقة بني الرجل واملرأة دنس ِ‬
‫فل َم ينام املبجلون‬
‫عىل أفخاذ النساء؟ أال يؤثر ذلك عىل جتيل الرب هلم واستقبال‬
‫تعاليمه؟”‬
‫عجز عن الرد وشعر املبجل مارك باحلرج بينام ضحك كل من‬
‫املبجل إبرام وأندروس تبعتهم أصوات ضحكات العامة‪.‬‬
‫عندما هدأ اجلميع نظرت له‪:‬‬
‫“الرب هيمه نقاء القلب فال تدع رفيض لك يفسد عليك‬
‫حجتك أهيا املبجل‪ ،‬ولنفرتض أنني وضعت اخللخال ومألت‬
‫ضجيجا لتأيت أنت وتكتشف أنني ال أضاجع رج ً‬
‫ال لكني‬ ‫ً‬ ‫خلويت‬
‫أيضا خطيئة أم أن صوت اخلطايا يتشابه مع‬
‫أرقص‪ ،‬هل الرقص ً‬
‫صوت احلياة؟!‬
‫أنا عذراء الروح‪ ..‬عذراء الضمري‪ ..‬لكني لست عذراء القلب‬
‫ألنني أحببت‪ ..‬أما بالنسبة لعذرية اجلسد فسأمنحها ملن أحب‬
‫حينام يأذن الرب ويبارك حبنا بالزواج‪”.‬‬
‫رصخ أحد العامة‪:‬‬
‫“حتيا أمريتنا العذراء املبجلة‪”.‬‬
‫فر َّدد خلفه اجلميع‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ابتسمت لفيكتور ومهست بجملة مل يسمعها غريه هو ووالده‪:‬‬
‫“التبجيل بالوراثة ليس كالتبجيل باهلبة يا ابن املبجل‪”.‬‬
‫أحنى يل املبجل مارك رأسه بعد محاقة ابنه‪ ،‬حتى إنني سمعته‬
‫هيمس له وهو يغادر‪:‬‬
‫“لقد عرف الشعب َمن السيد هنا بعد ترصفك الغبي‪”.‬‬

‫‪44‬‬
‫مريال‬

‫احلياة لعبة بيد الرب‪ ،‬كلنا بيادق باللعبة‪ ،‬مل َأر الرب لكن أيب‬
‫خادمه‪ ،‬وأيب أخربين أنه أعد يل خطة‪ ..‬ال أعرف أهيام يقصد؛ هو‬
‫أم الرب‪ ..‬لكن باحلالتني دوري هو الطاعة‪.‬‬
‫أنا ال أحب هذه اخلطة‪ ،‬وإن كان رفضها يعني غض ًبا مضاع ًفا‬
‫ٍ‬
‫بصمت لو مل‬ ‫من الرب وأيب فأنا مستعدة له‪ ..‬كنت سأقبلها‬
‫أحب‪ ..‬لكن احلب منحني رغبة باحلياة‪ ..‬ليست احلياة اململة التي‬
‫رسمها يل أيب‪ ،‬بل حياة مليئة بالشغف‪..‬‬
‫سمعت أن أيب نفسه حيب‪ ..‬فجدران املعبد ال حتفظ األرسار‬
‫كام يقولون‪..‬‬
‫حياة األثرياء ليست مثرية كام يعتقد اجلميع‪ ..‬فحينام يمتلك‬
‫اإلنسان كل يشء خيشى دائماً من كل يشء‪.‬‬
‫مترد عبيده‪ ،‬املرض وتق ُّلب السلطة‪ .‬حينام‬
‫خياف فقدان ثروته‪ُّ ،‬‬
‫ال متلك فليس هناك خماطرة أن تفقد‪.‬‬
‫ال هيمني ما نملكه أو كيف سعى أيب ليملكه كل ما هيمني هو‬
‫كيف أجعل لقائي بكاسبري رشع ًّيا؟‬

‫‪45‬‬
‫لست عىل دين املبجل مارك‪ ..‬أنا ال أؤمن أن هناك إهلا واحدً ا‬
‫حيكم مدينتنا‪ ..‬ال ُبدَّ أن هناك آهلة عدة دائمو الشجار وهذا ما‬
‫جعل وضعنا سي ًئا‪ ،‬لو أن هناك إهلًا واحدً ا لكانت كفة العدالة قد‬
‫تنازع اآلهلة عىل احلكم هو السبب‪..‬‬
‫رجحت‪ ،‬لكن ُ‬
‫ال أنكر فضل اآلهلة فلقد منحوين الكثري‪ ،‬أعتقد أن آهلة العيون‬
‫قد انتقت يل عني وقحة جريئة تعجبني وآهلة الشفاه قد وهبتني‬
‫أفضل ما لدهيا فشفاهي ممتلئة نارضة‪ ..‬أنا أصيل هلام وأشكر‬
‫عطيتهام طوال الوقت‪..‬‬
‫أيضا بطويل آلهلة السيقان‪ ..‬لكني ال أدين بيشء آلهلة‬
‫أدين ً‬
‫عيل بخري ما عندها‪.‬‬
‫النهود البخيلة اجلاحدة‪ ..‬فقد ضنت َّ‬
‫كل هذه اآلهلة املسئولة والتي تفتقر كل ًّيا حلس املسئولية‬
‫وتدخل برصاعات بني بعضها البعض قد نسيت مهمتها األساسية‬
‫وانشغلت بعيدً ا عن درب العدالة‪.‬‬
‫بمجلسهم األسبوعي الدائم حتدت آهلة اجلامل‪ ،‬آهلة العقل‬
‫تقاتلتا فتفيش التشوه والغباء‪.‬‬
‫السلطة‪ ،‬وأصيبت آهلة احلكمة باملرض‪،‬‬
‫التهت آهلة العدل بآهلة ُّ‬
‫بينام ختلفت آهلة الضمري عن حضور املجلس‪.‬‬
‫لو سمحت ألفكاري هذه أن تنفلت من عقيل للساين لقطعه‬
‫والدي يل‪ ،‬فلطاملا أخربين أن لدي عق ً‬
‫ال بحجم حبة لوز‪ ،‬لكنني‬
‫أشعر أنني ممتلئة بالعاطفة‪ ،‬يبدو أن آهلة املشاعر كانت بمزاج رائق‬
‫بذلك اليوم فمنحتني بسخاء‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫فيكتور‬

‫يف عينيها يسكن شيطان‪ ،‬عرافة‪ ،‬بل قبيلة سحرة‪ .‬كلام نظرت‬
‫إكراها‪ ،‬فقد‬
‫ً‬ ‫هبام تتسلل نظراهتام ِبر ّقة فتسحبانني نحومها‪ ،‬ليس‬
‫سلمت إراديت حتت قدميهام طواعية‪ .‬لعينيها إرادة حرة‪ ،‬روح‬
‫ثائرة وكيان‪ ،‬حيتل جسدها يشاطر روحها املسكن فيتشاجران‪،‬‬
‫حياول كل منهام فرض نفوذه لكن الغلبة دائماً لعينيها‪ ،‬نظراهتا‬
‫تزلزل كياين‪ ،‬تثري يب كل غرائزي الربية‪ ،‬حترك يب رغبة التملك‬
‫فأفكر جد ًّيا بأن أغرقها برائحتي وألطخ خدهيا بريقي وأعلنها‬
‫منطقة خاضعة لنفوذي‪ ،‬بل منطقة نفوذي الوحيدة‪ ،‬بيتي‪ ،‬قبيلتي‪،‬‬
‫ووطني‪.‬‬
‫ضار فأمارس حوهلا‬‫يف حضورها أشعر أنني بربري‪ ،‬حيوان ٍ‬
‫الطقوس التي متارسها احليوانات بموسم التزاوج‪.‬‬
‫فرحا بامتالكي هلا‪،‬‬
‫عارضا قويت وأرقص‪ ،‬أرقص ً‬ ‫ً‬ ‫أدور حوهلا‬
‫وغرورا أمام كل الذكور األخرى الطامعة‪ ،‬فيطل املكر من عينيها‪،‬‬
‫ً‬
‫ترافقه الوقاحة وتتكئ اجلرأة عىل أهداهبا تراقب املشهد بسخرية‪.‬‬
‫وهتتز شفتيها بشبه ابتسامة‪ ،‬وكأهنا تستعد لرتقص رقصتها‬
‫اخلاصة باإلغراء‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫شفتاها عامل آخر‪ ،‬جنة مل َي ِعد هبا اإلله أحد‪ ،‬فطمع اجلميع هبا‪،‬‬
‫وتساءل الكل كيف يناهلا؟!‬
‫واجتهد البعض يف الوصول هلا‪ ..‬ويف حني أن لكل جنة ثعبان‬
‫حارس حيميها فلقد قفز حراس عينيها وأبعدوا كل من اقرتب‪،‬‬
‫مهددين بلدغ كل من تظاهر بالشجاعة وحاول أن يقطف ثمرة‬
‫اخللود‪.‬‬
‫وأنا طامع‪ ،‬طامع يف أن أسكن عينيها‪ ،‬أمألمها فال ترى غريي‪،‬‬
‫طامع أن أسكن جنتها فأمتلك كل هذه اهلبات‪.‬‬
‫لكنها تراوغني‪ ،‬هترب من بني أصابعي كقطرات املطر‪،‬‬
‫تصفعني برفضها املستمر‪ ،‬وتدفعني للجنون بترصحياهتا التي‬
‫أمور قد‬‫هتور داخل ٍ‬‫تعبث بأفكاري‪ ،‬جتعلني أرمي بنفيس بكل ُّ‬
‫ال أنجو منها بسهولة‪ ،‬سأدعها تستمر بلعبتها هذه لوقت أطول‬
‫ألنني منشغل بأمر آخر‪.‬‬
‫سرِ‬
‫قد كشف جواسييس َّ عالقة مريال بكاسرب‪ ،‬ذلك السرِّ‬
‫الذي سأستخدمه إلقصائها عن طريقي وإفشال أطامع عمي‬
‫بالسيطرة عىل مقاليد احلكم‪.‬‬
‫الثرية املدللة ابنة املبجل حتب جر ًذا من عامة الشعب منزوعي‬
‫السلطة‪ ،‬هؤالء الذين يلتقطون فتات الطاولة ليسدوا جوعهم أو‬
‫ُّ‬
‫صوت بطوهنم‪ .‬ما الذي تفكر به تلك البلهاء؟‬
‫َ‬ ‫يناموا ليخرسوا‬
‫كيف ختاطر بمكانتها ورفاهيتها من أجل خاد ٍم؟‬

‫‪48‬‬
‫لن يكذب عىل نفسه‪ ،‬إهنا فتاة مجيلة‪ ،‬طيبة القلب‪ ،‬لوال أن قلبه‬
‫اختار أورنيال لكان‪ ...‬ال‪ ..‬ليس هناك احتامل لذلك‪ ،‬لن يقبلها‬
‫بأي طريقة‪ ..‬إهنا ابنة أندروس‪ .‬ال جمال للرمحة هنا‪.‬‬
‫سينفذ انتقامه للنهاية ليتفرغ لعذرائه املبجلة التي تتجاهله‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫يوجني‬

‫كنت أدخل حجرهتا كل ليلة عندما أسمع صوت رصاخها‪،‬‬


‫أخربتني من قبل أن الرؤى تدامهها لكنها مل تكن تنزعج وترصخ‬
‫إال منذ دامهتها الرؤية األخرية‪ ،‬بإحدى املرات فتحت باب الغرفة‪،‬‬
‫أغلقتها خلفي ثم اجتهت لفراشها‪ ،‬أفسحت يل فاستلقيت بجوارها‪،‬‬
‫وضعت رأسها عىل صدري‪ ،‬جففت دموعها بإهبامي ومهست‪:‬‬
‫“احكي يل رؤياك تلك”‬
‫اعرتضت‬
‫“ليست رؤيا بل كابوس”‬
‫“احكيه”‬
‫ترددت‪:‬‬
‫“إنه ال يشء”‬
‫“هل خيصني؟”‬
‫“كيف عرفت؟”‬
‫“ألنك ال تضعني عينك بعيني منذ دامهك‪ ،‬هل أتعرض‬
‫لألذى به؟”‬

‫‪50‬‬
‫هزت رأسها‪:‬‬
‫“نعم”‬
‫“هل أعيش بعدها؟”‬
‫ارجتفت شفاهها ثم قالت بأسى‪:‬‬
‫“ال”‬
‫سأقتل‪ ،‬سيشنقني أحدُ‬ ‫“أتعلمني‪ ،‬لطاملا كنت واث ًقا أنني ُ‬
‫املبجلني أو يأمر برميي يف البحر أو ُأ َ‬
‫حرق ح ًّيا‪”.‬‬
‫نظرت هلا وسألتها‪:‬‬
‫“كيف أموت يف رؤياك؟”‬
‫“تُط َعن”‬
‫“أووه‪ ،‬مل أفكر هبذا‪ ،‬من يطعنني؟”‬
‫“فيكتور‪”.‬‬
‫“كنت واث ًقا‪ ،‬أنا ال أحب هذا الرجل‪ ،‬لطاملا شعرت أنه‬
‫رسق حقي‪ ،‬أخبرِ يني أنني طعنته عىل األقل”‬
‫“الرؤيا تنتهى هنا‪ ،‬أراه يطعنك بمكان التقائنا‪”.‬‬
‫“لن أسمح هلذا اخلوف أن يمنعني من االلتقاء بك بعيدً ا عن‬
‫أعني املبجلني واجلواسيس والعامة”‬
‫كثريا يف نفيك خارج‬
‫“ لكن علينا أن نحذر‪ ،‬أتعلم؟ فكرت ً‬
‫املدينة‪ ،‬سأجد سب ًبا هلذا‪ ،‬بعدها أحلق بك‪ ،‬نعيش وحدنا دون‬
‫قوانني أو قواعد‪”.‬‬

‫‪51‬‬
‫“ إىل أين سنذهب؟”‬
‫صغريا‪ ،‬تعمل‬
‫ً‬ ‫“ إىل سيندوزا‪ ،‬تبدو يل مكانًا ممت ًعا‪ ،‬نبني بيتًا‬
‫أنت بالسوق بينام أطهو لك طعامك‪ ،‬وننجب طفلني”‬
‫“ هل ستتخلني عن كل ثروتك هنا من أجل بيت صغري؟”‬
‫“ ألن تفعل نفس اليشء يل إن تبادلت األدوار؟”‬
‫“ عزيزيت أورنيال‪ ،‬الثروة يشء هام‪ ،‬كنت سأفكر قليالً”‬
‫لكمتني عىل صدري بقبضتها الصغرية‪:‬‬
‫“ أنت تكذب”‬
‫“هذا صحيح‪ ،‬من يعرفك سيفعل أي يشء ليبقى بجوارك‪”.‬‬
‫“ هل تبقى بجواري؟”‬
‫“حتى آخر حلظة من حيايت‪”.‬‬
‫مررت يدي عىل شعرها فبدأت هتدأ وتعود للنوم جمد ًدا لكني‬
‫مهست هلا‪:‬‬
‫“أورنيال‪ ،‬إن حتققت رؤياك هذه فدعيني أموت عىل صدرك‪”.‬‬
‫مهست وهي تنام‪:‬‬
‫كابوسا‪”.‬‬
‫ً‬ ‫“ليست رؤيا بل‬
‫ضممتها بني ذراعي وظللت أتأملها حتى أوشكت الشمس‬
‫عىل الرشوق‪ ،‬فأرحت رأسها عىل الوسادة فانترش شعرها الناري‬
‫حول رأسها فبدت أمجل من قرص الشمس‪.‬‬
‫لو أنني مل أعش طوال حيايت غري هذه الليلة الكتفيت هبا‪،‬‬

‫‪52‬‬
‫أورنيال هي أفضل ما باملدينة‪ ،‬اليشء الوحيد اجليد هبا‪ ،‬احللم‬
‫الوحيد الذي حتقق‪ ،‬مل يتحقق كله‪ ،‬وما زالت غري واثق مما‬
‫سيحدث بيننا باأليام القادمة لكن من كان يظن أنني أنام بفراش‬
‫عذراء املدينة املبجلة وأضمها لذراعي؟!‬
‫لو أخربين أحدهم قبل بضعة أيام أن املرأة التي كنت أختلس‬
‫النظر هلا وأخشى أن تقطع رقبتي عقا ًبا عىل فعلتي هذه ستشعر‬
‫ساخرا عىل‬
‫ً‬ ‫جتاهي بنصف ما أشعر به جتاهها لكنت ضحكت‬
‫سذاجته‪ ،‬بدأ األمل يغزو صدري‪ ،‬األمل بالثورة‪ ،‬باحلب‪ ،‬باحلياة‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫أورنيال‬

‫يسمح لألطفال أن يمرحوا بروضة القرص تعتني هبم‬


‫وصيفات صغريات من طبقة منزوعي السلطة‪ ،‬كانت أصوات‬
‫ضحكاهتم املبتهجة تشتت انتباهي عن الكتاب الذي أتصفحه‬
‫ال قبل أن أعود ألكمل‪ ،‬كان هناك يشء‬ ‫فأرفع رأيس ألراقبهم قلي ً‬
‫ما داخيل يدفعني دف ًعا لالضطالع عىل علوم الطب‪ ،‬قد يكون‬
‫هناك سبب أناين خلف رغبتي بمساعدة اآلخرين وهو تلك‬
‫النظرة املمتنة بعيوهنم بعد الشفاء‪ ،‬نظرة اإلخالص هذه دفعتني‬
‫لغرس وجهي بني صفحات الكتب لساعات‪ ،‬تلك الساعات‬
‫جعلتني أقرب من شعب أورنيال كام مل أكن يو ًما‪ ،‬حرصت أماندا‬
‫وصيفتي عىل رعايتي منذ سنوات مضت‪ ،‬أخربوين أن روح أمي‬
‫صعدت للسامء بعد والديت بأيا ٍم ثالث‪ ،‬فقام املبجل مارك باختيار‬
‫أماندا التي كانت فتاة شابة بذلك الوقت كي تقوم عىل خدمتي‪.‬‬
‫أغدقت عليا حناهنا منذ كنت باملهد وحتى اآلن‪ ،‬أسمح هلا‬
‫بادارة حيايت وتذكريي بمهامي‪.‬‬
‫أشعر باحلرارة بأطراف أصابعي‪ ،‬يبدو أنني قد أطلت القراءة‬
‫حتى أبدت أصابعي انزعاجها‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ٍ‬
‫ببطء عىل ظهر الكتاب كي تعود إليها احلياة‪ ،‬لكن‬ ‫حركتها‬
‫حولت أنظاري من الكتاب إليها‪ ،‬كانت‬ ‫رصخة أماندا املندهشة َّ‬
‫تراقب أصابعي نظرت إليها بدوري ألكتشف هل ًبا أزرق خيرج من‬
‫أرضا فالتقطته أماندا رسي ًعا ومهست‪:‬‬
‫أطرافهم‪ ،‬أسقطت الكتاب ً‬
‫“دعينا نعود لغرفتك قبل أن ينتبه الصغار أو يصبح األمر‬
‫أسوأ ويرانا أحد جواسيس املبجلني”‬
‫فردت أصابعي أكثر فزاد اللهب فقبضتهم رسي ًعا فانطفأ‪.‬‬
‫ُ‬
‫توسلت يل أماندا‪:‬‬
‫“سيديت‪ ،‬ألجل الرب‪”.‬‬
‫رست أمامها حتى غرفتي التى أخ َلتْها بإشارة من يدها كي‬
‫نكون وحدنا‪.‬‬
‫“ال أعلم ماذا حيدث لك لكنني رأيت هذا من قبل‪ ،‬قبل‬
‫والدتك بعامني أحرض املبجل إبرام سيدة مجيلة غريبة‪ ،‬كان‬
‫مول ًعا هبا‪ ،‬رأيتها بإحدى املرات تخُ رج هل ًبا أزرق من أصابعها‬
‫رح بيده‪ ،‬مل يدرك أحدمها أن هناك عيونًا أخرى‬‫ومتسح عىل ُج ٍ‬
‫قد رأت ذلك‪ ،‬لكني أدركت أنني لست الوحيدة التي علمت أن‬
‫السيدة مباركة من الرب وأن لذلك اللهب القدرة عىل الشفاء‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا كان اسمها؟‬
‫‪“ -‬كايال”‬
‫‪ -‬هل أنت واثقة أن ذلك اللهب له قدرة عىل الشفاء؟‬
‫‪ -‬سأثبت لك يا سيديت‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫صغريا ختفيه بردائها وشقت يدها رسي ًعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أخرجت سكينًا‬
‫كدت أرصخ غض ًبا لكنني وجدت أصابعي تشتعل فأمسكت‬
‫يدها ومررت ذلك اللهب عىل جرحها فالتأم‪.‬‬
‫ركعت عىل ركبتها ومهست‪:‬‬
‫“سيديت‪”..‬‬
‫وضعت يدي عىل كتفيها وساعدهتا عىل النهوض ثم ضممتها يل‪:‬‬
‫“إن فعلت هذا جمد ًدا أقتلك‪ ،‬ماذا لو مل يعمل هذا اليشء؟!‬
‫ماذا لو آذيت نفسك بال فائدة؟”‬
‫‪ -‬حيايت لك‪ ،‬أثق بك‪ ،‬أخشى عليك‪ ..‬السيدة كايال كانت‬
‫كثريا‬
‫تشبهك لكن شعرها كان أمحر كالنريان‪ ،‬أح َّبها املبجل إبرام ً‬
‫مل يكن يفارقها‪ ،‬كان خيطط لزفاف كبري عندما اختفت‪ ،‬بحث عنها‬
‫بكل املدينة ثم سافر ملدينتها األوىل “سيندوزا” بلد التجارة مل جيد‬
‫أثرا وعندما عاد جمد ًدا هنا كان خائب األمل‪ ،‬فاقدً ا للرغبة‬ ‫هلا ً‬
‫باحلياة‪ ،‬رمى املبجل مارك عىل عاتقه الكثري من املهام ليشغله هبا‬
‫وجيعله ينساها ثم أجربه عىل الزواج‪.‬‬
‫لسبب ما أنت متلكني صفاهتا وقدراهتا‪ ،‬أمتنى أال متلكني‬ ‫ٍ‬
‫حظها‪.‬‬
‫‪ -‬أرغب أن أعلم عنها أكثر‪.‬‬
‫‪ -‬ال أحد يمكنه احلديث عنها‪ ،‬املبجل مارك هدَّ د بقطع لسان‬
‫كل من َيذكُر اسمها‪ .‬لقد قطع لسان أحدهم بالفعل‪ ،‬أذكر أن‬
‫ذلك الرجل كان يرصخ طال ًبا مقابلة املبجل إبرام‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ -‬ذلك الرجل هل ال زال موجو ًدا؟‬
‫‪ -‬إنه يعيش عىل الربوة عىل أطراف املدينة‪.‬‬
‫‪ -‬أريد مقابلته‪.‬‬
‫‪ -‬سيديت‪ ..‬الرجل ال يستطيع احلديث‪ ،‬وال يمكنه الكتابة‬
‫فالسادة واملبجلني فقط يستطيعون القراءة والكتابة‪.‬‬
‫‪ -‬وأنت يا أماندا‪ ..‬لقد علمتك‪ ..‬هذا رسنا‪ ..‬بإمكاين تعليمه‬
‫أيضا‪ ..‬ال ُبدَّ أن أفهم أين ذهبت كايال‪ ..‬وملاذا أمحل صفاهتا؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬سيديت‪ ..‬ال يمكنني السامح لك بفعل ذلك‪ ،‬ال أعلم متى‬
‫ستكتشفني باقي قدراتك‪ ،‬لكني ال أريد أن حيدث ذلك أمام‬
‫العامة‪ ،‬أو لنفرتض األسوأ‪ ..‬أن حيدث أمام أحد املبجلني‪..‬‬
‫دعيني أكون يدك وعينك ولسانك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لعدد من الرجال‬ ‫‪ -‬ال يمكنني االستغناء عنك‪ ..‬نحن بحاجة‬
‫والنساء يكون والؤهم التام يل‪ ..‬ال أعلم ح ًّقا كيف يمكنني حتقيق‬
‫ذلك لكنني واثقة أنني سأفعل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ببطء‬ ‫أعدت فتح أصابعي ونظرت للهب الذي خيرج منهم‬
‫وأنا أفكر‪.‬‬
‫استيقظت من نومي أرصخ مل تكن املرة األوىل التي أرى هبا‬
‫ذلك الكابوس‪.‬‬
‫حلظات ووجدت أماندا تقف بجوار فرايش‪ ،‬منحتني كأس‬
‫املاء وسألتني‪:‬‬
‫“هل راودتك هذه الرؤية جمد ًدا؟”‬

‫‪57‬‬
‫“ال تقويل رؤية‪ ...‬إهنا كابوس‪ ،‬الرؤى تتحقق‪”.‬‬
‫رشبت بضع رشفات من كأس املاء ثم سألتها‪:‬‬
‫“هل هو باخلارج؟”‬
‫“نعم‪ ..‬ما زال يقف أمام بابك منذ تلك احلادثة‪”.‬‬
‫قبل بضعة أيام كنت أسري عىل الشاطئ برفقة أماندا وحاريس‬
‫يوجني وبعض وصيفات القرص عندما خرج علينا رجل ملثم‬
‫خنجرا يود طعني يف قلبي‪ ،‬كان مويت حمتو ًما لوال يدُ‬
‫ً‬ ‫يمسك‬
‫يوجني التي تلقت نصل اخلنجر بدالً من صدري ثم طعنه‬
‫أمرت الوصيفات بالعودة للقرص وكتم اخلرب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫باليد األخرى‪..‬‬
‫ثم أمسكت يد يوجني وداويت جروحها بلهبي األزرق‪ ،‬حينام‬
‫بخري ملست اخلنجر الذي كان سيخطف روحي‬ ‫ٍ‬ ‫تأكدت أنه‬
‫فرأيت من أعطاه لذلك امللثم‪ ..‬اكتشفت أنني أستطيع رؤية‬
‫تاريخ األشياء واألشخاص بمجرد ملسهم‪.‬‬
‫مؤخرا قد أخافه لدرجة أن يفكر بقتيل‪.‬‬
‫ً‬ ‫مل أعتقد أن ما حدث‬
‫أصبحت يل حظوة لدى العامة بسبب براعتي بالطب‪ ،‬لكن‬
‫السبب احلقيقي هو أهنم تأكدوا أنني مباركة من الرب أكثر من‬
‫املبجلني‪.‬‬
‫مرض نيلوفر املحبوب ابن أحد السادة األثرياء‪ ،‬العامة حيبون‬
‫والده ألنه ال يشبه مجيع السادة فهو رجل متواضع عطوف لذا‬
‫أحزهنم مرضه وتسابقوا لرتشيح األطباء البارعني له لكنهم‬
‫أمجعوا عىل أن هناية الطفل قد اقرتبت وأنه ال شفاء مما أصابه‪ .‬حينام‬

‫‪58‬‬
‫غاب الولد عن اللعب بروضة القرص سألت عنه فأخربتني أماندا‬
‫عام أصابه فذهبت لرؤيته‪ ،‬كانت ُزرقة املوت قد ارتسمت عىل‬
‫شفتيه‪ ،‬حتى والده أيقن أنه مل يعد باإلمكان فعل يشء‪ ،‬سمحوا يل‬
‫برؤيته‪ ،‬فحصته فعلمت ما أصابه‪ ،‬يبدو أن الولد قد دخل احلديقة‬
‫اخلاصة تلك التي أقمت هبا مستنبتًا لألعشاب والنباتات‪ ،‬وأنه‬
‫ملس إحدى النباتات السامة‪ ،‬صنعت له تركيبة كي أجعل جسده‬
‫يلفظ املرض‬
‫‏أمرت بوضعها بامء دافئ ثم محمته بذلك املاء حينام رفعت‬
‫جسده وجففته أمرت أال يرتدي مالبسه جمد ًدا بل يلف جسده‬
‫بقامش أبيض‪..‬‬
‫‏راقبت حرارة الولد ترتفع فينضح جسده عر ًقا‪ ،‬لكنه عرق‬
‫مسموم‪..‬‬
‫‏بدأ القامش األبيض يتلطخ برواسب سوداء لفظها جسد‬
‫الولد‪..‬‬
‫تورد شفتيه‪ ،‬فأمرت أن حيمم مرة‬
‫‏تغيرَّ لون جسده وعاد ُّ‬
‫حامضا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أخرى بامء دافئ ثم يعدوا له ليمونًا‬
‫‏رشف الولد منه رشفة ثم أعطيته إناء فار ًغا فتقيأ به ما‬
‫بمعدته‪ ..‬فتأكدت أنه قد ختلص هنائ ًّيا من مرضه‪.‬‬
‫‏حينام تركت غرفته‪ ،‬كان والداه ينتظراين أمام الباب‪ ،‬حتركت‬
‫بضع خطوات ليظهر الصبي خلفي واق ًفا عىل قدميه ثم حتدث‪:‬‬
‫‏”أمي‪ ،‬أنا جائع‪”.‬‬

‫‪59‬‬
‫‏بكت السيدة وهي حتتضنه بينام ركع والده عىل ركبته‪.‬‬
‫رددت روحي جلسدي جمد ًدا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‏”سيديت‪ُ ...‬م ِريني أنفذ‪ ،‬لقد‬
‫أنت هدية الرب ملدينتنا‪”.‬‬
‫‏وضعت يدي عىل كتفيه وساعدته عىل النهوض‪:‬‬
‫‏”أطعم ابنك‪ ،‬ثم ِ‬
‫أطعم فقراء املدينة يرىض الرب عنك‪”.‬‬ ‫ِ‬

‫انترش خرب شفاء نيلوفر بني العامة وانترش معه أنني أملك‬
‫قدرات أكثر من املبجلني‪ ،‬حتى إنني كنت عندما أسري بالطرقات‬
‫أجد البعض يركع يل عىل ركبهم بينام يضع السادة قبضتهم عىل‬
‫قلوهبم وينحنون يل احرتا ًما‪.‬‬
‫‏تلك املكانة اليل اكتسبتها رسي ًعا قضت مضجع املبجل مارك‬
‫فخاف أن أسحب بساط ُسلطته من حتت قدميه فرتب لقتيل‪.‬‬
‫‏اخلرب الذي طلبت من الوصيفات كتمه قد انترش فتجمع‬
‫عيل‪.‬‬
‫العامة يف ساحة القرص لالطمئنان َّ‬
‫‏خرجت هلم بفستاين الذي قد خضبت دما ُء يوجني صدره‪.‬‬
‫‏فاعتقدها البعض دمائي‪ ،‬وكأنني عدت من املوت ألن الرب‬
‫أراد أن تستمر حيايت‪.‬‬
‫ٍ‬
‫هبمس كام اعتدت دائماً‬ ‫حتدثت‬
‫ُ‬ ‫‏حينام وقفت عىل قمة السلم‪،‬‬
‫وكنت أعلم أن كل من يقف يسمعني‪.‬‬
‫حيرم النظر‬
‫‏”ارفعوا رءوسكم املحنية وانظروا يل‪ ،‬الرب مل ِّ‬
‫لدرة صنعه‪”.‬‬
‫َّ‬

‫‪60‬‬
‫‏استجابوا ألمري ونظروا إ َّيل‪.‬‬
‫ال بري ًئا ليتخلص مني شعر باخلوف‪ ،‬اخلوف‬ ‫‏”الذي أرسل رج ً‬
‫منحه يل الرب‪ ،‬اخلوف من أن أسود‪ ،‬من أن أحكم‪ ،‬لكني أقف‬ ‫مما َ‬
‫اليوم بينكم رغم إرادته ألن إرادة الرب نافذة‪ ،‬الرب أراد يل احلياة‬
‫ألنه اختار يل در ًبا ألسلكه‪ ،‬ألنه كلفني بمها ٍم كي أنفذها‪ ،‬وأنا‬
‫أمر منه‪ ،‬إنه‬ ‫أخربكم اآلن أنني سأنفذ إرادة الرب‪ ،‬كل ٍ‬
‫أمر مني هو ٌ‬
‫يستخدمني كي يصل إليكم‪ ،‬هو ال يريد واسطة كي يصل إليكم‬
‫فهو بقلوبكم‪ ،‬لكنه خيتار أحدً ا من عباده ليصطفيه وينفذ حكمته‬
‫والرب قد اختارين‪.‬‬
‫‏لذا أقف اآلن وأخربكم أنني ساحمت َمن أوشك عىل طعني‪،‬‬
‫و َمن أمره‪ ،‬لكن للرب إرادة أخرى‪ ،‬فهو لن يسامح من اعرتض‬
‫إرادته‪.‬‬
‫‏نظرت إىل يوجني وتابعت‪:‬‬
‫حارسا‪ ،‬واليوم‬ ‫“‏قبل عدة ٍ‬
‫ليال أمرين الرب أن أختذ يوجني‬
‫ً‬
‫وضع الرجل يده وتلقى طعن ًة كانت تتجه لقلبي‪”.‬‬
‫أمسكت يده ومهست‪:‬‬
‫“فليبارك الرب اليد التي تعمل‪”.‬‬
‫رددها خلفي العامة‪..‬‬
‫فوضعت يدي عىل قلبي حيث دماؤه ثم انحنيت للعامة‬
‫واجتهت لغرفتي‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫وظللت أفكر كيف سأنتقم من الرجل الذي خ َّطط لقتيل‪،‬‬
‫كيف سأحرق قلب مارك؟‬
‫لكن ابنه هو الذي أحرق قلبي وحقق كابويس الذي يتكرر‬
‫منذ بضع ٍ‬
‫ليال‪.‬‬
‫يوجني مسجى عىل األرض بوضع غريب‪ ،‬تسيل الدماء من‬
‫الطعنات التي تلقاها ببطنه‪ ،‬يقف فيكتور بجواره والدماء تقطر‬
‫من اخلنجر بيده‪ ،‬ويف عينيه ترتاقص نظرة االنتصار‪ ،‬ركضت‬
‫مرارا بأحالمي‪.‬‬ ‫َ‬
‫حدث‪ ،‬رأيت ذلك ً‬ ‫أتعثر بثويب‪ ،‬أنا أعلم ما‬
‫أرسل فيكتور ليوجني بعد انتهاء مناوبته‪ ،‬أخربه الرسول أنني‬
‫أنا من أريد مقابلته‪ ،‬استدرجه لذلك املكان عند الشاطئ حيث‬
‫وجه الطعنات‬
‫ق َّبلني ألول مرة‪ ،‬طعنه بظهره كاجلبناء فسقط ثم َّ‬
‫ٍ‬
‫بشكل حممو ٍم وكأنه ال يستطيع السيطرة عىل يده وهو يرصخ‪:‬‬ ‫لبطنه‬
‫“إهنا يل‪ ،‬يل‪ ،‬يل‪ ،‬يل‪ ،‬يل”‬
‫مخس طعنات متتالية بالقرب من بعضهام البعض حولوا‬
‫معدته لنافورة من الدماء‪.‬‬
‫حتى إنني استيقظت عىل رصخايت‪ ،‬وضعت يدي عىل معديت‬
‫ِ‬
‫وكأنني ُطعن ُْت لتوي‪ ،‬لقد رأيت هذا الكابوس ً‬
‫مرارا لكن األمل‬
‫مبرشا‪ ،‬أنا خائفة‪ ،‬حتركت برداء نومي‬
‫الذي رافقه هذه املرة ليس ً‬
‫خارج جناحي‪ ،‬اصطدمت باحلارس الذي استلم املناوبة من‬
‫يوجني‪ ،‬ركضت للشاطئ‪ ،‬تبعني حاريس‪ ،‬وتوقفت حيث رأيت‬
‫كابويس قد حتقق‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ٍ‬
‫غريب‪ ،‬تسيل الدماء من‬ ‫يوجني مسجى عىل األرض بوض ٍع‬
‫الطعنات التي تلقاها ببطنه‪ ،‬يقف فيكتور بجواره والدماء تقطر‬
‫من اخلنجر بيده‪ ،‬ويف عينيه ترتاقص نظرة االنتصار‪ ،‬ركضت‬
‫أتعثر بثويب‪ ،‬ركعت عىل ركبتي‪ ،‬حركته كي أرى وجهه‪ ،‬كان‬
‫يعجز عن التقاط نفسه ألن املحاولة مؤملة‪ ،‬كان ينازع فوضعت‬
‫يدي عىل الفجوة ببطنه كي أوقف تد ُّفق الدم وأسمح للهب أن‬
‫كثريا عىل فعل ذلك‪ .‬كنت‬
‫جيمع أنسجته املمزقة‪ ،‬لكنني تأخرت ً‬
‫أعلم أنني ال أستطيع أن أنقذه‪ ،‬لقد صفى دماءه بربكة خضبت‬
‫األرض حتته‪ ،‬ويبدو أن الدماء قد جتمدت‪ ،‬لقد طعنه الوغد منذ‬
‫وقت طويل مىض‪.‬‬
‫قبض يوجني عىل يدي وحتدث‬
‫“أنا أرى املوت‪ ،‬ال مفر‪ ،‬لقد حتققت رؤياك‪”.‬‬
‫مررت يدي عىل وجهه‪:‬‬
‫“يوجني”‬
‫“أورنيال”‬
‫كانت هذه كلمة الوداع‪ ،‬جلست عىل األرض وأنا أمهس‪:‬‬
‫“ملاذا؟”‬
‫نظر يل فيكتور الوغد‪:‬‬
‫“ألنه جترأ عىل ملسك‪ ،‬لقد رأيته يق ِّبلك‪ ،‬هنا هبذا املكان متا ًما‬
‫وأقسمت أنني سآخذ روحه بنفس املكان الذي أخذ به ما هو‬
‫ملكي‪ِ ،‬‬
‫أنت يل‪ ،‬ملكي‪”.‬‬

‫‪63‬‬
‫وضعت يدي عىل األرض أحاول النهوض‪ ،‬فلمست دماء‬
‫يوجني املتجمدة فرصخت‪ ،‬اقرتب مني ورفعني عن األرض‪،‬‬
‫لقد محل حبيبة الرجل الذي قتله وفستاهنا الذي رشب دمه قد‬
‫خضب قميصه وما زالت لديه رغبة باحلديث وكأننا نتسامر حتت‬
‫ضوء القمر‪ ،‬مل أستطع أن أرصخ أو أن أرضبه‪ ،‬كانت هناك فجوة‬
‫صغرية بقلبي تتسع‪ ،‬تقضم قلبي بوحشية‪ ،‬تلتهمني من الداخل‪.‬‬
‫ِ‬
‫عرفت؟ ما الذي أتى بك إىل هنا ليالً”‬ ‫“كيف‬
‫“لقد رأيت رؤيا‪”.‬‬
‫لقد دمر فيكتور خطتي التي أعددهتا‪ ،‬كنت سأنفي يوجني‬
‫للمدينة اجلنائزية لسبب ما سألفقه‪ ،‬سأنفي له رجاالً آخرين‬
‫ليؤسس مدينته اخلاصة‪ ،‬ليكون حاكماً عادالً‪ ،‬كنت سأجد سب ًبا‬
‫ألخرج خارج أورنيال لألبد‪ ،‬ألذهب إليه‪ ،‬حيث لن متنعنا قوانني‬
‫وال حتكمنا طبقات‪ ،‬كنا سنعيش كرجل وامرأته‪ ،‬لكن الوغد قتله‬
‫بارد‪ ،‬والده حاول قتيل خو ًفا من ُسلطتي وهو قتل حبيبي‬ ‫بد ٍم ٍ‬
‫خو ًفا من أن يفقدين‪ ،‬سأنتقم منهام‪ ،‬ستتحقق العدالة قري ًبا‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫مريال‬

‫رسا بمعرفة وصيفتي‬ ‫كنت قد اعتدت أنا وكاسرب عىل االلتقاء ًّ‬
‫بمكان بالقرب من الشاطئ منذ بضعة شهور‪ ،‬ما زلت أشعر‬
‫باخلوف بكل مرة وكأهنا املرة األوىل‪ ،‬رغم اهلدوء السائد بأورنيال‬
‫إال أهنا مدينة املكائد‪ ،‬ال أحد من السادة حيب أن يرى غريه سعيدً ا‪،‬‬
‫السلطة‬ ‫ِ‬
‫الكل يطمع بام يف يد الكل‪ ،‬العبيد حيقدون عىل منزوعي ُّ‬
‫الذين يتمنون بدورهم فناء السادة‪ ،‬السادة يندمون ألهنم سمحوا‬
‫للسلطة‬ ‫ألشخاص أقل منهم ثروة لكنهم أكثر ذكا ًء‪ ،‬بالصعود ُّ‬ ‫ٍ‬
‫والوصول للحكم‪.‬‬
‫صامت‪ ،‬املبجل‬ ‫ٌ‬ ‫رصاع سرِ ٌّي‬
‫ٌ‬ ‫واملبجلون أنفسهم يدور بينهم‬
‫مارك خياف عىل ُسلطته من رعونة ابنه وطمع أيب‪ ،‬لكنه يثق يف‬
‫عمي إبرام‪ ،‬وأيب يكره عمي إبرام ألنه املفضل لدى شقيقه‪،‬‬
‫السلطة بيديه‪ ،‬حتى‬ ‫أمورا من خلف االثنني ليقبض عىل ُّ‬ ‫وحييك ً‬
‫أقربه من‬ ‫إنه قرر أن يرميني بني يدي فيكتور املجنون عىل أمل أن ِّ‬
‫السلطة‪ ،‬رغم أنه يعلم جيدً ا أنه ال يمكن السيطرة عىل فيكتور‬ ‫ُّ‬
‫عاجز عن فرض األمور عليه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأن أباه نفسه‬

‫‪65‬‬
‫رجل يمأله الطموح‪ ،‬يطمح باالنفراد باحلكم وعزل‬ ‫فيكتور ٌ‬
‫أبيه وإعامئه‪ ،‬كام يطمح بامتالك أورنيال‪ ،‬أورنيال املدينة وأورنيال‬
‫الفاتنة “العذراء املبجلة”‪.‬‬
‫كثريا‪ ..‬منذ بضعة أيام قطع طريقي إىل غرفتي‬‫أنا أخافه ً‬
‫وتوقف أمامي نظر يل نظرة كشفت عني ثيايب‪ ،‬اقرتب مني‬
‫فابتعدت وصيفتي وتركتني وحيدة‪ ،‬وضع راحتيه الباردتني عىل‬
‫وجهي ومهس بأذين‪:‬‬
‫ِ‬
‫“أنت فتاة جيدة يامريال لكنك ستعاقبني بسبب خطايا والدك”‬
‫ثم ق َّبلني وغادر مبتعدً ا‪ ..‬ظللت أرجتف وأفكر ما الذي يعنيه‬
‫هبذا التهديد الرصيح؟ وملاذا سأعاقب عىل خطايا والدي؟ لمِ َ ال‬
‫يعاقبه هو؟!‬
‫والدي يعيش ليخطئ‪ ،‬إن عوقبت عىل خطاياه فهذا يعني أنني‬
‫سأنتهي‪.‬‬
‫اقرتب كاسرب مني‪،‬كان كل منَّا يشتاق اآلخر فالرهبة التي‬
‫نشعر هبا كلام التقينا تأكل شوقنا ثم تلفظه بوجهنا فينظر كالنا‬
‫ٍ‬
‫بخري‪ ،‬وأن بإمكاننا‬ ‫منتظرا إشارة منه تفيد أن األمور‬
‫ً‬ ‫لآلخر‬
‫االستمرار من حيث بدأنا‪.‬‬
‫تلك احلالة جتعلني أشك بحبي له وأطعن بحبه يل‪.‬‬
‫نظرات الشك بعينيه وكأنني أتسىل به ثم ألفظه عندما ّ‬
‫أمل‬
‫تشعل مراجل الغضب بصدري فأنظر بعينيه وأرغب أن أرمي‬
‫كلاميت بوجهه وأطعنه بإصبعي يف صدره وأنا أرصخ‪:‬‬

‫‪66‬‬
‫“حبك يل يشبه حب وطن جاحد ارتوت أرضه بدماء أبنائه‬
‫ثم أنكر عليهم أن حيملهم بجوفه فلفظهم لتتصارع عىل أجسادهم‬
‫الضواري‪.‬‬
‫تعال وانظر بعيني ألخترب كم من الوقت ستصمد بإلقاء كذبك‬
‫وتدعي أنك حتبني أكثر من نفسك‪ ،‬هل ُيمنَح احلب دون ثقة؟!!‬
‫انظر بعني املرأة التى عريت جسدك أمامها لكنك سرتت‬
‫روحك‪ ،‬وأخربين هل عري اجلسد أخف وق ًعا لديك من عري‬
‫الروح؟‬
‫لقد سمحت يل أن أداوي جروح جسدك‪ ،‬ضمدهتا‪ ،‬راقبناها‬
‫م ًعا وهي تتحول لندوب‪ ،‬كنت واث ًقا أنني لن أسبب لك مزيدً ا‬
‫عيل مداواة روحك‪ ،‬لمِ َ ال تدعني أحفر عمي ًقا‬ ‫ِ‬
‫من األمل‪ ،‬فل َم تنكر َّ‬
‫داخلك‪ ،‬أستأصل احلزن اخلبيث من قلبك‪ ،‬أنزع تلك االبتسامة‬
‫الساخرة عن فمك‪ ،‬أحضنك حتى أعيد إليك ثقتك بنفسك‪ ،‬بى‬
‫والعامل‪”.‬‬
‫لكني أصمت‪ ..‬أ ُمدُّ له يدي ال ألطعنه بإصبعي يف صدره‬
‫بل ألنني أشتاق ملسه‪ ،‬فيستقبلها ٍ‬
‫بيد ترتعش ويضعها عىل قلبه‬
‫ثم هيمس اسمي وكأنه ينتظر أن أتالشى من أمامه ككل خياالته‬
‫السابقة التي حكى يل عنها‪.‬‬
‫أقرتب منه أضع يدي األخرى عىل رقبته فأحنيها ثم ألتقم‬
‫لعل شغف روحي به يلمس روحه فيذيب ثلج اخليبة التي‬‫شفتيه َّ‬
‫تطل من عينيه‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫أشعر برصخات قلبه املعذب حتت يدي‪ ،‬أبتسم‪ ،‬ما زال قلبه‬
‫ح ًّيا‪ ..‬ما زال يصارع الشك‪ ،‬مل خيرس املعركة حتى اآلن‪ ،‬هنا يأيت‬
‫دوري‪ ،‬سأبدِّ د شكوكه مع كل ملسة‪ ،‬سأزرع الثقة بمسامه حتى‬
‫حتمي نبتة احلب بقلبه‪.‬‬
‫لكن عاصفة اخليانة اقتلعتنا م ًعا حينام داهم فيكتور‪ ،‬املبجل‬
‫مارك؛ أيب‪ ،‬وبعض احلراس مكاننا اخلاص‪ ،‬اآلن أدركت ذلك‬
‫الفخ الذي كان ينصبه يل‪ ،‬وأصبح لتهديده مغزى‪.‬‬
‫سحب أيب خنجره فتحركت ألقف أمام كاسرب الذي أجلمته‬
‫الصدمة‪:‬‬
‫“إن كنت ستقتله فعليك أخذ روحي أوالً‪”.‬‬
‫صفعني فأدمى شفتي لكنني مل أحترك فأعاد صفعي فسقطت‬
‫عىل األرض أشار للحرس فأمسكني رجالن منهم بشدة وقاداين‬
‫جلناحي عنوة‪ ،‬كتام فمي كي خيرسا رصاخي باسم حبيبي كاسرب‪.‬‬
‫ظللت أدور بالغرفة كأسد جريح‪ ،‬ال علم يل بام َّ‬
‫حل بحبيبي‬
‫ووصيفتي‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫املبجل مارك‬

‫يبدو أن األحداث تأزمت بالفرتة األخرية فقد انشغلت‬


‫بأموري اخلاصة ومل أنتبه لتلك املؤامرات التي حتاك حويل‪ ،‬مل أفكر‬
‫أن إرصار فيكتور الصطحابنا كي نرى ما الذي سنفعله بحطام‬
‫السور الذي بنيناه عىل الشط قبل أيام من الفيضان املايض ‪-‬‬
‫بفضل رؤية أورنيال‪ -‬كان ألنه يعلم بام تفعله مريال من خلف‬
‫ظهر أندروس‪ ،‬وأنه أراد أن نداهم خلوهتام كي يتخلص من تلك‬
‫الزجية التي كان يسعى هلا شقيقي‪.‬‬
‫كنت أعلم أن فيكتور يفكر بطريقة ما لتحجيم دور عمه‬
‫أندروس لكن ما فعله هو أنه كرس أنفه وأحنى رأسه أمامنا ووضع‬
‫مريال الربيئة يف مواجهة أبيها الوحش‪.‬‬
‫أعلم جيدً ا جشع أخي ورغبته يف التقرب من كريس احلكم‬
‫حتى إنه مل يتوقف عن دس ابنته املسكينة حتت أنف ابني‪ ،‬كان‬
‫عليه أن يعلم أن فيكتور أشد قسوة منه وأكثر ذكا ًء وأن اليشء‬
‫وضع حتت أنفه اليوم سيسحق حتت قدميه غدً ا‪.‬‬
‫الذي ُي َ‬
‫راقبت بنفيس عالمات االندهاش‪ ،‬اخلذالن والغضب التي‬
‫ارتسمت عىل وجه أخي ثم ابتسامة النرص التي تراقصت عىل‬

‫‪69‬‬
‫رب عىل تسوية هذا األمر قبل أن ُي َذاع عىل‬
‫شفاه فيكتور واآلن أنا جم ٌ‬
‫مسامع العامة‪ ،‬سأبدأ بشد أذن ذلك الشيطان الذي أنجبته أوالً ثم‬
‫أتفرغ ملا جيب أن أفعله بمريال ووصيفتها وذلك اخلادم الذي جترأ‬
‫عىل تدنيس عفة ابنة املبجل‪.‬‬
‫فيكتور يعتقد أن ال أحد يعلم تلك األفكار التي تدور بعقله‬
‫الصغري لكنني عىل دراية هبا‪ ،‬أعلم أن سعيه خلف أورنيال‬
‫سيفقده صوابه‪ ،‬أورنيال‪ -‬تلك املالك ‪ -‬طري ُح ّر متا ًما كأمها‪ ،‬ال‬
‫أحد يستطيع إجبارها عىل ما ال تريده‪ ،‬وهي ال تريد فيكتور‪ ،‬يبدو‬
‫أهنا ورثت النفور من نسيل عن أمها‪..‬‬
‫أمها‪ ..‬تلك املرأة التي ارتكبت الفظائع من أجلها‪ ،‬لقد‬
‫وض َع ْت مايل‪ُ ،‬سلطتي‪ ،‬قلبي وكرامتي حتت قدميها لكنها ركلتهم‬
‫مجي ًعا بوجهي‪ ،‬ال ترغب يب مهام فعلت‪ ،‬ال تستسلم لإلغراء‪،‬‬
‫وجها غري وجهي‪ ،‬مل تسمع‬‫ً‬ ‫طوال تلك السنوات الطويلة مل َتر‬
‫غري كلاميت وتوساليت هلا أن تقبل حبي ومل يرق قلبها يل مرة‬
‫واحدة‪ ،‬حتى تلك املرة التي أخذهتا عنوة رأيت كرهها اخلالص‬
‫بعينيها بعد أن تالشت غاممة النشوى أمام عيني‪ ،‬ما زالت ذكرى‬
‫متعة ملسها تدغدغ حوايس كلام استدعيتها‪ ،‬وما زال ضوء املرمر‬
‫املنعكس عن جسدها يبهر عيني‪ ،‬دفء صدرها الذي غرزت‬
‫وجهي به وحرارة مكمنها عندما وجلته وكأنني أضاجع الشمس‪.‬‬
‫أفهم ما الذي يشعر به ابني فلقد شعرت به من قبل‪ ،‬رغم مترده‬
‫لكني ال أريده أن حيرتق كام احرتقت‪ ،‬تلك النساء الاليت يرميهن‬
‫الرب بوجوهنا كاجلمر أينام لمََ ْس َن أحرق َن‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫أورنيال‬

‫كنت أجلس بخلويت‪ ،‬تلك اخللوة التي طلبتها من املبجل‬


‫مارك ووافق عليها رسي ًعا وكأن إبعادي عن الساحة هو غايته‪،‬‬
‫لكن غايته هذه املرة تتوافق مع غايتي‪ ،‬فلقد كنت بحاجة ألهدأ‪،‬‬
‫أحزن بصمت عىل احلبيب الذي فقدته قبل أن أحظى به وألفهم‬
‫ما الذي حيدث يل‪.‬‬
‫أدرك حدود قدرايت‪ ،‬اآلن وبعد تدريب طويل استطعت أن‬
‫أسيطر عليها‪ .‬أتت أماندا وتوقفت أمامي وهي ال ختفي دهشتها‬
‫ثم مهست‪:‬‬
‫“سيديت‪ ،‬السيدة فريا ترغب برؤيتك بشكل عاجل‪ ،‬هل‬
‫أسمح هلا بالدخول ؟”‬
‫ربا‪.‬‬
‫أومأت هلا فخرجت وعادت بصحبتها وكأهنا مل تطق ص ً‬
‫فريا كغريها من نساء السادة مل تكن جتمعنا أي عالقة ودية‪ ،‬اجلميع‬
‫رسا خيتفي ورائي‪ ،‬البعض خيشاين‪ ،‬يفسحون يل‬ ‫يعتقد أن هناك ًّ‬
‫الطريق عندما أسري ليس احرتا ًما بل خو ًفا‪ ،‬اآلن هناك يشء ما‬
‫دفع فريا للتعامل معي وال ُبدَّ أنه يفوق قدرهتا‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫انحنت يل‪ ،‬شعرت بحرجها فأرشت ألماندا كي خترج ثم‬
‫هنضت وحتركت كي أقف أمامها‪.‬‬
‫بكت‪ ،‬ثم ركعت عىل ركبتيها‪.‬‬
‫“أتوسل ِ‬
‫إليك‪ ،‬سأفعل أي يشء تأمرينني به لكني أريدك أن‬
‫تنقذي ابنتي‪”.‬‬
‫وضعت يدي عىل كتفيها ساعدهتا عىل النهوض ثم قدهتا إىل‬
‫فجلس ْت‪.‬‬
‫َ‬ ‫األريكة‬
‫ٍ‬
‫هبدوء كل ما حدث‪”.‬‬ ‫“أخربيني‬
‫اآلن أدركت سبب خوفها وقدومها إ َّيل كي تطلب مساعديت‪،‬‬
‫هي واثقة أنني الوحيدة التي تستطيع أن تقف بوجه اجلميع خاصة‬
‫فيكتور‪.‬‬
‫“أحتاج للحديث مع مريال وحدنا”‬
‫حراسا غال ًظا عىل‬
‫ً‬ ‫“لقد سجنوها بحجرهتا ووضع أندروس‬
‫باهبا‪”.‬‬
‫“لن يمنعني أحدٌ ”‬
‫سارت معي حتى وصلنا للجناح فأومأت هلا فتابعت سريها‬
‫ٍ‬
‫لثوان توقف‬ ‫لغرفتها بينام وقفت أنا أمام الباب‪ ،‬نظر يل احلرس‬
‫أمامي قائدهم متحد ًثا بصوت أجش‪:‬‬
‫“لدي أوامر بمنع أي حد من الدخول‪”.‬‬
‫مهست له باسمه‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫“انظر يل يا أرسانيوس‪”.‬‬
‫ً‬
‫مندهشا‪.‬‬ ‫رفع رأسه ونظر يل‬
‫“أنا أعرف من أنت‪ ،‬وأعرف معنى اسمك الذي تساءلت‬
‫كثريا عن معناه وأريدك أن تعرف من أنا‪”.‬‬
‫ً‬
‫مهس‪:‬‬
‫“سيديت أورنيال‪ ..‬العذراء املبجلة‪ ..‬اجلميع سمع عنك لكن‬
‫ال أحد جترأ ونظر‪”..‬‬
‫“لكنك نظرت‪ ..‬رأيت وعرفت‪ .‬واآلن كيف ستترصف؟”‬
‫انحنى يل وأشار كي يفسحوا يل فأحنيت رأيس له داللة عن‬
‫احرتام‪،‬ي تلك احلركة التي أفعلها فقط للمبجلني فرأيت مالمح‬
‫الدهشة عادت لتلتصق عىل وجهه جمد ًدا‪.‬‬
‫دخلت احلجرة فركضت مريال جتاهي بعينني محراوين‪:‬‬
‫“هل قتلوه؟”‬
‫“الزال مسجونًا بغرفة اخللوة‪ ،‬أمك أخربتني ما حدث‬
‫فأردت أن أستمع لروايتك أنت‪”.‬‬
‫“هل ستصدقينني؟”‬
‫“سأفعل‪”.‬‬
‫“ملاذا أثق بك؟”‬
‫“عليك أن تفعيل‪ ،‬ال أحد سيستطيع إنقاذكام غريي‪”.‬‬
‫نظرت يل قلي ً‬
‫ال بشك وكأهنا تفكر‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫“فيكتور أوقع بنا‪”.‬‬
‫“توقعت ذلك‪ ،‬أراد اهلروب من ضغط والدك فوشى بك‪”.‬‬
‫“والدي سيقتل كاسرب‪ ،‬لن يرىض بغري ذلك‪”.‬‬
‫“أحتبينه؟”‬
‫“أعشقه‪”.‬‬
‫“إىل أي مدى قد تضحني من أجله؟”‬
‫“بحيايت‪”.‬‬
‫“ماذا عن حياة وصيفتك؟”‬
‫ارجتفت شفتاها ثم بكت وهزت رأسها موافقة‪.‬‬
‫“أريد والءك كامالً‪ ،‬لن أضع نفيس بخطر من أجل شخص‬
‫قد يطعنني بظهري بعد أن ينتهي مأربه”‬
‫“كيف أثبت لك والئي؟”‬
‫رفعت ردائي أعىل ساقي ثم أخرجت خنجري من جرابه‬
‫حيث ث َّبته ووضعته بيدها‪:‬‬
‫“أمسكي اخلنجر ومرريه عىل معصمك “‬
‫نظرت يل غري مصدقة‪ ،‬ارتعشت يدها املمسكة به نظرت‬
‫ملعصمها ثم نظرت يل لكنها بدت وكأهنا ال تراين‪ ،‬مرت عدة ٍ‬
‫ثوان‬
‫وأنا أنتظر ثم أصبحت نظراهتا حادة وجرحت يدها فسحبت منها‬
‫اخلنجر قبل أن تكمل‪ ،‬ثم استدعيت اللهب األزرق ومررته عىل‬
‫جرحها فالتأم‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫اتسعت حدقتها دهشة وأجلمت الصدمة لساهنا‪.‬‬
‫“أنا أثق بك اآلن‪ ،‬ستقفني باملحاكمة غدً ا صامتة‪ ،‬لن تنطقي‬
‫حر ًفا واحدً ا حتى وإن مل يرق لك ما ستسمعينه‪ ،‬كل ما عليك‬
‫فعله هو أن تثقي يب وتلتزمي الصمت‪”.‬‬
‫تركتها وخرجت من احلجرة هبدوء‪ ،‬أعاد احلراس غلق الباب‪.‬‬
‫اقرتبت من رئيسهم فرتاجع‪.‬‬
‫اقرتبت مرة أخرى ومهست بأذنه‪:‬‬
‫“أرسانيوس‪ ..‬اسم مجيل معناه مكتمل الرجولة‪ ،‬عليك أن‬
‫ترفع رأسك ألنك حظيت باسم جيد كهذا‪”.‬‬
‫ابتسمت له فالنت مالحمه ثم ابتسم وانحنى يل‪ ،‬لقد ضممت‬
‫هذا الرجل لصفي بعد هذه االبتسامة‪.‬‬
‫***‬
‫حينام عدت خللويت وجدت املبجل إبرام يعبث بآنية العشب‬
‫التي تركتها عىل طاولة معميل‪ ،‬كان رج ً‬
‫ال طويالً‪ ،‬أصلع‪ ،‬ممتلئ‬
‫اجلسد لكن مالحمه طيبة وديعة‪.‬‬
‫اقرتبت منه‪:‬‬
‫“هذه نبتة األفاعي”‬
‫أعاد وضع اآلنية بحذر عىل الطاولة وسألني‪:‬‬
‫“هل هي سامة؟”‬
‫ابتسمت‪..‬‬

‫‪75‬‬
‫“ليست سامة عندما تلمسها‪ ،‬لكنها تصبح سامة عندما ترتفع‬
‫درجة حرارهتا‪ ،‬جرب أن حترقها وتستنشق دخاهنا وستسقط قبل‬
‫أن يصل لصدرك‪ ،‬جرب أن تغليها يف املاء وستمزق أمعاءك‪”.‬‬
‫رفع حاجبه‪:‬‬
‫“عزيزيت أورنيال‪ ...‬دعيني ال أجرب ذلك من فضلك‪”.‬‬
‫ابتسمت‪ ،‬رغم أنني ال أثق باملبجلني إال أن املبجل إبرام رجل‬
‫ال يقاوم‪ ،‬ال يمكنك أن تشعر بالغضب منه حتى وإن كان يوبخك‬
‫أو يشد أذنك‪.‬‬
‫كثريا فلمن أدين بالفضل؟”‬
‫“أنت ال تزورين ً‬
‫التفت إ َّيل هبدوء‪ ،‬تأمل وجهي وتوقفت أنظاره عىل شعري‬
‫ثم تنهد‪.‬‬
‫ثائرا‬
‫شعرا ً‬
‫“كنت أعرف امرأة شجاعة مثلك فيام مىض‪ ،‬متلك ً‬
‫كشعرك وطبعها ناري كطبعك وألجل تلك الذكرى أتيت‪”.‬‬
‫ضاقت حدقتاي‪ ،‬كنت أعلم أنه يتحدث عن “كايال” السيدة‬
‫املختفية‪.‬‬
‫“أتيت لتحذرين ممن؟”‬
‫“من رمي نفسك وسط رصاع دامي‪ ،‬ال أحد سيتأذى غريك‪،‬‬
‫أنت أنقى من أن يتم تدنيسك بحقد املؤامرات وعفن املصالح‪،‬‬
‫تعلمي الطب‪ ،‬ادريس الفلك‪ ،‬حافظي عىل خلوتك وابتعدي‬
‫عن املبجلني‪ ..‬مجيعهم‪”.‬‬
‫أيضا‬
‫مؤخرا‪ ،‬كنت ً‬
‫ً‬ ‫“أنت كنت تعرف كل يشء حدث يل‬

‫‪76‬‬
‫عىل دراية بتلك العالقة بني مريال وكاسرب‪ ،‬لقد تم األمر حتت‬
‫نظرك وبمباركتك لكنك رغم ذلك تركتهام فريسة لفيكتور‪.‬‬
‫ٍ‬
‫برجل ال يمتلك شعرة واحدة برأسه ‪ -‬كناية عن‬ ‫أنا ال أثق‬
‫املبجلني ‪ -‬ملاذا أثق بك؟”‬
‫ابتسم‪.‬‬
‫“أنا ال أطلب ثقتك‪ ..‬أنا أطلب فرصة ألناهلا”‬
‫“ملاذا؟ ألنني أشبه كايال؟”‬
‫مهيس السمها قد أ َّثر به وزلزل كيانه‪ ،‬تالشت ابتسامته‪ ،‬ثم‬
‫كتفي وضغط عليهام بقوة دون أن يدري‪:‬‬ ‫اقرتب مني أمسك َّ‬
‫“ َمن أخربك عنها؟ ما الذي تعلمينه؟”‬
‫سألته هبدوء‪:‬‬
‫“ما الذي يدفعني إلخبارك؟”‬
‫أمر باختبار الثقة كي أثبت والئي؟”‬
‫“أترغبني بأن ّ‬
‫اندهشت ألنه يعلم عنه ويبدو أن السؤال قد الح بعيني ألنه‬
‫أجاب‪:‬‬
‫“لست أعمى كي ال أالحظ أثر اجلرح بيد مربيتك‪ ،‬وبام أنك‬
‫مررت عىل مريال قبل العودة إىل هنا فأنا واثق أنه لدهيا اآلن‬
‫عالمة مماثلة‪ ،‬كتلك يا صغرييت‪”.‬‬
‫مد يده يل فتح كفه فمررت أصابعي عىل أثر اجلرح‪ ،‬وتذكرت‬
‫تلك احلادثة التي رأهتا أماندا وحكتها يل‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫“أنا أراقبك وأرعاك منذ رأيتك‪ ،‬ال أعلم هل أفعل ذلك كي‬
‫أكفر عن ذنبي ألنني كنت أنان ًّيا وأحرضت كايال كي تظل معي‬
‫هنا وعرضتها للخطر فأردت أن أصنع معرو ًفا بامرأة تشبهها ومل‬
‫أجد من تشبهها أكثر منك‪ ،‬أم ألنني أشعر جتاهك بعاطفة ما وهذا‬
‫ذنب أكرب”‬
‫مررت يدي عىل كتفي حيث كانت قبضته‪.‬‬
‫“هل آملتك؟ دعيني أرى‪”.‬‬
‫كانت أصابعه قد تركت عالمات محراء متالصقة عىل كتفي‬
‫لكن يبدو أن تلك العالمات مل تكن هي السبب بالدهشة التي‬
‫ارتسمت عىل وجهه‪.‬‬
‫“الشامة عىل كتفك‪ ،‬تلك التي تشبه َم ْش َع ُل ميضء أنت‬
‫و ِ‬
‫لدت هبا؟”‬ ‫ُ‬
‫“هذا صحيح‪”.‬‬
‫“لقد كانت كايال متلك واحدة كهذه متا ًما عىل كتفها األيرس‪،‬‬
‫حينام سألتها عنها أخربتني أن كل نساء ورجال بلدها يولدون‬
‫هبا وأهنا ترمز للحكمة‪ ،‬لكنك ُولِدت هنا فكيف استقرت تلك‬
‫العالمة عىل كتفك؟!”‬
‫أمسك ذراعي مرة أخرى َّ‬
‫وظل ينقل نظره بني شامتي وعيني‬
‫ثم سألني غاض ًبا‪:‬‬
‫“من ِ‬
‫أنت؟”‬

‫‪78‬‬
‫سؤاله قد أصابني باحلرية ويبدو أنه الحظ ذلك‪.‬‬
‫“هل بعثت روح كايال بجسدك جمد ًدا؟ هل تذكرين كيف‬
‫التقينا؟”‬
‫يبدو أن أفكاره دفعته أنني كايال وكأن روحها بعثت جمد ًدا‬
‫بجسد جديد‪ ،‬لكن اعتقاده هذا يعني أنه واثق من موهتا‪.‬‬
‫“أنا ما زلت أجهل ملاذا أشبهها وأمحل عالمة بلدها‪”.‬‬
‫ثم صمت لفرتة وقررت أن أبوح أكثر‪:‬‬
‫“وقدراهتا‪ ..‬لكني‪”...‬‬
‫“لكنك؟”‬
‫“أعلم بعض األشياء‪ ،‬ما زلت ال أعرف متى يمكنني أن‬
‫أخربك هبا‪ ،‬لكني واثقة أنني قري ًبا سأعرف كل احلقيقة‪”.‬‬
‫“كايال‪”..‬‬
‫ضغط عىل أسنانه ونظر لألعىل ثم استجمع صربه وأكمل‪:‬‬
‫عاجزا عن اإلنجاب الفرتضت أنك‬
‫ً‬ ‫“أورنيال‪ ..‬لو مل أكن‬
‫ابنتنا”‬
‫نظرت إليه قلي ً‬
‫ال وكأنني أعيد التفكري بام قاله‪:‬‬
‫“ابنتكام! أنت وكايال؟ تلك التي اختفت فجأة قبل الزفاف؟”‬
‫“لو كنت أنجب‪ ..‬فقط لو كنت أنجب كنت سأصدق هذا‬
‫األمر‪ ،‬لكن التجارب مجيعها أثبتت أنني عاجز”‬
‫“أمي ماتت بعد والديت بثالث ليال‪ ،‬هكذا أخربوين‪ ،‬كانت‬

‫‪79‬‬
‫عيل أن أشك بنسبي هلام‬
‫امرأة من السادة وأيب ابتلعه البحر‪ ،‬هل َّ‬
‫اآلن؟‪ ..‬ال ُبدَّ أن أقابل ذلك الرجل‪”.‬‬
‫“أي رجل؟”‬
‫نظرت إليه وأنا حائرة‪ ،‬هل أخربه بذلك األمر أم ال‪ ..‬بعد تفكري‬
‫قررت أال أخربه‪ ،‬سأدع الوقت يثبت يل تلك الظنون فلقد عبث‬
‫إبرام بأفكاري املرتبة فأثار الفوىض بعقيل‪ ،‬أنا أحتاج ألفكر هبدوء‪..‬‬
‫ال كي أفهم ما الذي حدث‬ ‫“سيدي‪ ..‬علينا الصرب قلي ً‬
‫وأختلص من تلك الفوىض برأيس‪ ،‬أنا أشكر لك اهتاممك يب‬
‫وممتنة لتحذيرك‪ ،‬لكنني أعدك أنني لن أدخل حر ًبا ليس لدي‬
‫ثقة أنني سأنترص هبا‪ ،‬كن بجانبي فقط وادعمني إن كان األمر‬
‫بيدك‪”.‬‬
‫مرر يده ببطء عىل وعاء نبتة األفاعي‪.‬‬
‫“ملاذا سميت هذه النبتة هبذا االسم؟”‬
‫“ألهنا تنمو بالقرب من جحور األفاعي‪ ،‬تزحف األفاعي مع‬
‫بداية الربد كام تعلم نحو ثقب أو جحر داخل األرض لتقيض‬
‫فيه فصل الشتاء يف سبات عميق‪ ،‬وقد تتجمع مئات األفاعي يف‬
‫بعض األحيان بنفس اجلحر فيسمى مكان جتمعهم مشتى‪ ،‬تنمو‬
‫تلك النبتة حول حافة اجلحور شتا ًء‪ ،‬وعندما ترتفع احلرارة خترج‬
‫األفاعى بح ًثا عن الطعام بينام تلفظ النبتة سمها فيصبح املكان‬
‫خطريا‪”.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فخا‬
‫ٍ‬
‫ببطء‪.‬‬ ‫يبدو أنه أعجب بام سمعه‪ ،‬تأملني‬

‫‪80‬‬
‫“لقد أحببتها‪ ،‬كوين مثلها‪ ،‬كوين سماًّ ألعدائك ً‬
‫وفخا هلم‪”.‬‬
‫أحنيت رأيس له احرتا ًما فوضع إصبعه عىل شامتي ومسحها‬
‫وكأهنا ستيضء إن فعل ذلك ثم هز رأسه وكأنه ال يستطيع أن‬
‫مر به منذ قليل ثم غادر‪ ..‬غادر وتركني أحاول أن‬ ‫يستوعب ما َّ‬
‫أربط خيوط التواصل بيني وبني املرأة التي أشبهها‪.‬‬
‫لقد حدث ذلك بالصدفة باملرة السابقة‪ ،‬كنت أجلس هبدوء‬
‫بحديقة خلويت حينام دامهتني الرؤية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لسبب ما كنت أعرف أهنا هي دون أن أراها من‬ ‫رأيت كايال‪،‬‬
‫قبل‪ ،‬كانت تسري بمكان ما خيتلف كل ًّيا عن مدينتا‪ ،‬يبدو أهنا البلد‬
‫التي يقصدها املبجل إبرام‪ ،‬مملكة هلا أسوار عالية حتجب البحر‬
‫برش هلم مالمح مميزة فهي ال تشبه مالمح البرش‬ ‫عنها‪ ،‬يسكنها ٌ‬
‫بأورنيال‪ ،‬مالبسهم بيضاء وكأهنم ال يعرفون ألوانًا أخرى‪ ،‬حتى‬
‫بيوهتم كانت باللون األبيض لك َّن أبواهبا بلون البحر‪ ،‬أي أهنم‬
‫يدركون وجود ألوان لكنهم ال يرغبون باستخدامها وكأهنم‬
‫زاهدون فيها‪ .‬هناك مبنى كبري يضم أماكن للسكن وأخرى‬
‫للدراسة يبدو أن اسمه “دار احلكمة” تلك الدار يسكنها الشباب‬
‫أمورا‬
‫والبنات الذين أمتوا السابعة عرش ملدة عام يتعلمون خالهلا ً‬
‫فرضا‪.‬‬
‫فرض عليه ً‬ ‫عن العمل واحلياة ثم خيتار كل منهم طريقه أو ُي َ‬
‫يبدو أن هناك طري ًقا مرسو ًما لكايال‪ ،‬فهي حبيبة امللك‬
‫صاحب اململكة وحاكمها “أسبيدوس” هذا اسمه‪ ،‬يكربها‬
‫بضعف عمرها‪ ،‬وحيبها أكثر مما حيتمل قلبه‪ .‬كانت عالمات‬

‫‪81‬‬
‫التمرد مرسومة عىل وجهها‪ .‬مل تكن سعيدة بالطريق الذي‬
‫ُر ِس َم هلا‪ ،‬وال بتلك الطريقة التي يرتبى عليها النشأ بمملكتهم‪،‬‬
‫وكأهنا تريد أن تكرس كل قوانني املدينة‪ ،‬ويبدو أن حاكمها كان‬
‫متردها بحبه لكنها مل تكن تريد‬ ‫ٍ‬
‫بصرب‪ ،‬وحياول أن خيمد ُّ‬ ‫يعاملها‬
‫ذلك احلب‪ ،‬رأيت مناقشة حامية بني الطرفني‪ ،‬كايال ذات الشعر‬
‫الناري والطبع الذي يامثل شعرها ترصخ بوجهه وهو يتحدث‬
‫ببطء وكأنه هيمس‪ ،‬اآلن أدركت أهنا خمتلفة عن كل بنات تلك‬
‫ٍ‬
‫هبدوء ويتحدثون‬ ‫روح‪ ،‬يتحركون‬ ‫ٍ‬ ‫اململكة‪ ،‬فهم يبدون دون‬
‫هبمس وين ِّفذون األوامر بطاعة عىل عكسها؛ فهي إن سارت‪،‬‬
‫ِ‬
‫صوت‬ ‫تنهب األرض هن ًبا وإن حتدثت أصبح صوهتا أعىل من‬
‫العصافري التي تزقزق بنظام رتيب‪ ،‬حتى عصافري تلك اململكة ال‬
‫أيضا مل أحبها وأدرك جيدً ا ما الذي دفع تلك األنثى‬
‫روح فيها‪ ،‬أنا ً‬
‫َ‬
‫التي ُخ ِل َقت بجسد غزال وروح لبؤة أن هترب من هذه اململكة‬
‫ومن حب حاكمها‪.‬‬
‫سأحاول بكل الطرق أن أكرر هذه التجربة لعليِّ أكتشف‬
‫املزيد من احلقائق لكن عيل تأجيل هذا األمر ِ‬
‫املرهق حتى أنتهي‬ ‫َّ‬
‫من حماكمة الغد‪.‬‬
‫عيل أن أوصل له رسالة كي يتم األمر متا ًما كام أريده‪.‬‬
‫كاسرب‪َّ ..‬‬

‫‪82‬‬
‫أندروس‬

‫أجلس اآلن بخزي بمحاكمة ابنتي بدالً من اجللوس بفخر يف‬


‫زفافها‪ ،‬كنت أعلم أن عقلها الصغري ليس بموضعه لكنني كنت‬
‫أيضا أن خوفها مني سيدفعها لتنفيذ أوامري‪ ،‬لقد كشف‬ ‫واث ًقا ً‬
‫يل هذا الوغد أنني ال أستطيع إخافة ابنتي فكيف سأسيطر عىل‬
‫شعب أورنيال‪ ،‬رسالته املبطنة داخل هذا الفخ الذي نصبه قفزت‬
‫رب عىل‬
‫بوجهي‪ ،‬اآلن وقد وضعت ابنتي رأيس عىل املقصلة أنا جم ٌ‬
‫تق ُّبل قرارهم واالمتنان هلم‪.‬‬
‫باألمس أرسل يل شقيقي مارك حارسه الشخيص كي خيربين‬
‫أهنم سيعقدون جلسة ملحاكمة ابنتي بغرفة العبادة‪ ،‬تلك الغرفة‬
‫الكبرية التي حتتل زاوية منها طاولة ومقاعد خشبية وبالزاوية‬
‫األخرى أرائك وثرية‪ ،‬حينام أتيت قبل قليل وجدت اللعني‬
‫فيكتور جيلس براحة يتجرع اخلمر وقد حول الغرفة الطاهرة‬
‫لغرفة للهو حينام أخربته بذلك بوجهه قال يل‪:‬‬
‫“ال يشء يتعلق بنا طاهر‪ ،‬هل صدقت كذبة أخيك؟ مجيعنا نعلم‬
‫أننا نجتمع هبذه الغرفة لنحتيس اخلمر ونفكر بام سنفعله بالشعب ثم‬
‫نخرج من هنا وهنلل بأن الرب جتىل لنا وأهلمنا الصواب‪”.‬‬

‫‪83‬‬
‫“هل هذا ما أتيت اليوم لتفعله بشأن ابنتي؟”‬
‫اسرتخى أكثر عىل مقعده‪:‬‬
‫“ابنتك‪ ..‬اجلميلة مريال‪ ..‬دعنا نتفق أهنا مجيلة لكنها ليست‬
‫مجيلة بالقدر الكايف الذي جيعلني أجتاوز عن أطامعك بالسلطة‪”.‬‬
‫اقرتبت منه أمسكته من ثيابه‪:‬‬
‫“أهيا الـ‪”...‬‬
‫أغلقت صفعته فمي‪.‬‬
‫“اسمع أهيا اجلرذ‪ ،‬هذه املرة أغلقت فمك بيدي لكن املرة‬
‫املقبلة سأغلق عينيك لألبد بخنجري واعلم أنه مل تعد لديك‬
‫شكرا‪”.‬‬
‫سلطة منذ اآلن‪ ،‬عليك أن تتقبل العطف وحتني الرأس ً‬
‫أرضا واخلزي حيرق جلدي‪ ،‬هنضت ببطء‪،‬‬ ‫دفعني فسقطت ً‬
‫هندمت ثيايب‪ ،‬مسحت شفتي الدامية بيدي قبل أن يدخل إبرام‬
‫برفقة املبجل مارك وخلفهم ابنتي واخلادم اللعني يقودمها حراس‬
‫شداد‪.‬‬
‫الصفع‬
‫َ‬ ‫لقد حطت تلك الفاسقة من شأين وجعلتني أتلقى‬
‫والتهديد من ٍ‬
‫طفل ختىل عن صدر مربيته باألمس‪.‬‬
‫أحنيت رأيس حتية لشقيقي واجتهت ملقعدي قبل أن يوقفني‬
‫صوت الوغد ابن مارك‪:‬‬
‫“ال أعتقد أن جلوس املبجل أندروس عىل مقعد احلكم‬
‫أمر ٌ‬
‫عادل‪”.‬‬ ‫بقضية ابنته متهمة هبا ٌ‬

‫‪84‬‬
‫نظرت لشقيقي فوجدت إبرام يبدي انزعاجه من حديث ابن‬
‫أخيه بينام أومأ املبجل مارك مواف ًقا‪.‬‬
‫تدخل إبرام‪:‬‬
‫“املتهمة التي تتحدث عنها يا فكتور اسمها “السيدة مريال”‬
‫ابنة املبجل أندروس عمك شقيق أبيك‪ ،‬هال توقفت عىل بث‬
‫الكره كي نعالج األمور بحكمة؟!”‬
‫ساخرا‬
‫ً‬ ‫“عن أي حكمة تتحدث يا عمي ‪ -‬تشدق هبا‬
‫وكأهنا إهانة‪ -‬ابنة السادة مارست احلب مع جرذ قذر وكرست‬
‫قانون املدينة‪ ،‬هتاون معها اليوم وانظر غدً ا لتجد فتيات السادة‬
‫األرشاف بأحضان العبيد يدنسون النسل الطاهر‪ ،‬ال ُبدَّ أن نقطع‬
‫رقبة ابنة املبجل وجرذها حتى تكون عربة وعظة‪”.‬‬
‫“أنا أوافقه‪”.‬‬
‫التفتت الرءوس مجيعها حيث الصوت الذي قاطع اجللسة‪،‬‬
‫دفعت أورنيال الباب وخطت داخل احلجرة بوقاحة‪ ،‬فرصخت‬
‫بشقيقي‪:‬‬
‫“ملاذا أتت هذه الفتاة؟ َمن دعاها؟”‬
‫سارت بثقة داخل املجلس وكأهنا ال تكرتث العرتايض‪.‬‬
‫“لقد تلقيت دعوة من الرب‪”.‬‬
‫ابتسم الوغد فيكتور بينام رفع إبرام وجهه للسامء بنفاد ٍ‬
‫صرب ثم‬
‫ٍ‬
‫هبدوء‪:‬‬ ‫سأهلا مارك‬
‫“ارشحي لنا سيديت‪ ،‬كيف دعاك الرب جللستنا الرسية؟”‬

‫‪85‬‬
‫حتركت الفتاة ووقفت بجواري بكل وقاحة ثم حتدثت بصوهتا‬
‫الذي ال يعلو عن اهلمس‪:‬‬
‫“لقد دامهتني رؤية باألمس‪ ،‬رأيت هبا كل ما حدث‪”.‬‬
‫قالت ذلك وهي تسلط أنظارها عىل فيكتور‪ ،‬هل تقصد أهنا‬
‫علمت بمكيدته؟‬
‫هل أتت لتساعدين أنا وابنتي أم أتت لتتأكد أن كلينا سيتعفن‬
‫باجلحيم؟!‬
‫أنا ال أثق هبذه الفتاة لكني سأستمع برتكيز ملا تنطقه‪.‬‬
‫سأهلا فيكتور‪:‬‬
‫“هل أخربك الرب عندما جتىل لك أن علينا أن نقطع رقاهبام؟”‬
‫ابتسمت‪:‬‬
‫“يشء كهذا‪”.‬‬
‫أدارت وجهها للمبجل مارك وحتدثت‪:‬‬
‫“كام تعلم يا سيدي الرب ال يرىض أن تنتهك قوانينه‪”.‬‬
‫ابتسم فيكتور بينام تابعت هي‪:‬‬
‫أيضا رحيم‪ ،‬وقد دفعني كي أظهر لكم جان ًبا‬
‫“لكن الرب ً‬
‫من هذه الرمحة‪”.‬‬
‫عقد فيكتور حاجبيه بينام انتقل ببرصه من ابنتي الباكية الصامتة‬
‫ألورنيال ثم سأهلا‪:‬‬
‫“اآلن زادت حريتنا‪ ،‬ما رأيك أن ختربينا بام أخربك به الرب‬

‫‪86‬‬
‫بشكل مبارش‪ ،‬ألنه يبدو يل أن الرب قد خاصم أيب وشقيقيه‬
‫لكنه أتى لك بالنهاية كي ترشدهيام‪”.‬‬
‫ابتسمت الفتاة متقبلة سخريته ثم أكملت‪:‬‬
‫راض عام فعله كاسرب ولذلك‬‫ٍ‬ ‫ربين الرب أنه غري‬ ‫“أخ َ‬
‫مر هبا نجا وإن مل يمر فقد تلقى العقاب‬
‫سيخوض حمنته إن َّ‬
‫الذي سيستحقه‪”.‬‬
‫هز مارك رأسه‪.‬‬
‫“هل أوضح لك الرب كيف ستكون هذه املحنة؟”‬
‫أمر الرب أن ُيص َلب ليلة كاملة ثم تُط َلق عليه الكالب‬
‫“لقد َ‬
‫اجلائعة بالصباح إن أكلته فهذا عقابه وإن زهدته فعليه الرحيل‬
‫خارج أورنيال‪”.‬‬
‫ضحك فيكتور‪:‬‬
‫أحببت عدالة الرب”‬
‫ُ‬ ‫“لقد‬
‫يبدو أن ما قالته قد القى استحسان اجلميع‪ ،‬التفت ونظرت‬
‫للخادم اجلرذ ثم سألته بصوهتا اهلامس حتى إنني شككت أنه مل‬
‫يسمع جيدً ا‪:‬‬
‫“هل تقبل عدالة الرب يا كاسرب؟”‬
‫نظر اجلرذ هلا قلي ً‬
‫ال ثم أحنى رأسه ومهس‪:‬‬
‫“أقبلها سيديت‪”.‬‬
‫اعتلت وجوه اجلميع الدهشة لكن مارك تدارك األمر وسأهلا‪:‬‬

‫‪87‬‬
‫أيضا؟”‬
‫“ماذا علينا أن نفعل بمريال ووصيفتها ً‬
‫الفتاة نظرت ملريال الصامتة ثم تابعت حديثها‪:‬‬
‫“الوصيفة عقاهبا القتل‪ ..‬أما مريال فلقد نظر الرب لقلبها‬
‫طاهرا‪ ،‬لقد ارتكبت خطيئة لكن خطيئتها كانت أوىل‬ ‫ً‬ ‫فوجده‬
‫خطواهتا يف درب النور‪”.‬‬
‫قاطعها فيكتور وقد بدا عىل وجهه أن القادم لن يعجبه‪:‬‬
‫“ال داعي لكالم مبهم لن يفهمه املبجلون‪ ،‬ال تدعي مزحة‬
‫اتصاهلم بالرب ختدعك‪ ،‬افصحي‪”.‬‬
‫مل يخُ ِفها حديثه ومل هيتز صوهتا لكنها وجهت نظرها للمبجل‬
‫إبرام ثم استقرت عيناها عىل عيني املبجل مارك وتابعت‪:‬‬
‫“لقد أذاق الرب مريال رشف ًة من كأس العشق البرشي كي‬
‫حيرمها منه لألبد ألنه حيمل هلا هدية أفضل‪ ،‬ألنه يريدها أن‬
‫تتفرغ للعشق اإلهلي‪”.‬‬
‫أشارت بكفها بوجه فيكتور كي ال يقاطعها وتابعت‪:‬‬
‫“الرب اختار مريال لتكون خادمته‪ ،‬عليها أن تنسى الزواج‬
‫وكل تلك الشئون البرشية‪ ،‬وتتعلم الطب وهتب نفسها‬
‫هنارا والعبادة ليالً‪ ،‬أمرين الرب أن أعد هلا‬
‫لتخفيف آالم البرش ً‬
‫خلوة وأرشف عىل تعليمها بنفيس ألتأكد أهنا تسري عىل الدرب‬
‫الذي أراده‪ ،‬هذه رسالته لكم‪ ..‬هذه حكمته‪ ..‬وعىل من يرفضها‬
‫اخلروج من أرضه‪”.‬‬
‫قالت مجلتها األخرية وهي تنظر لفيكتور‪ ،‬اآلن تأكدت أن هذه‬

‫‪88‬‬
‫الفتاة هي هدية الرب ح ًّقا‪ ،‬لقد قامت بإنقاذ ابنتي احلمقاء من‬
‫املصري األسود الذي كان بانتظارها‪ ،‬ووضعت ذلك اجلرذ أمام‬
‫هنايته‪ ،‬أمتنى أال ترتك الكالب من جسده عظمة واحدة‪ ،‬وأجلمت‬
‫لسان فيكتور الذي عجز اجلميع عن إجلامه‪ ،‬قد أركع عىل ركبتي‬
‫اآلن ممتنًا هلا‪ .‬سأهلا فيكتور‪:‬‬
‫“ماذا إن رفضت مريال الزهد بالبرش؟ عزيزيت أورنيال ِ‬
‫أنت‬
‫ما زلت بريئة ومل يذق لسانك شهد املتعة بعد‪”.‬‬
‫“انظر للفتاة أهيا املبجل فيكتور لقد سمعتني منذ دقائق‬
‫أحتدث عن املصري الذي اختاره الرب حلبيبها فهل أبدت‬
‫اعرتاضها بكلمة واحدة؟”‬
‫“حقيقة لقد اندهشت من هذا األمر فمريال الثرثارة قد‬
‫أكلت القطة لساهنا لكن عينيها مل تتوقفا عن الدموع‪”.‬‬
‫“الدموع تطهر الروح‪ ،‬الرب يغسل ذنوهبا‪ ،‬ولقد نذرت‬
‫الفتاة صو ًما عن الكالم‪ ،‬هذه عالمة القبول التي أخربين هبا‬
‫الرب‪ ،‬اسأهلا إن أردت التأكد‪”.‬‬
‫نظر الوغد البنتي‪:‬‬
‫“مريال‪ ،‬هل ستتخلني عن املتعة التي كنت هتربني خلسة من‬
‫تذوقها؟”‬
‫أجل ُّ‬
‫نظرت أورنيال للمبجل مارك وقالت له‪:‬‬
‫“سيدي‪ ،‬هل بامكانك سؤال مريال بطريقة مقبولة عن‬

‫‪89‬‬
‫رأهيا بحكمة الرب؟ فيبدو أن املبجل فيكتور فقدَ مهارة صياغة‬
‫األسئلة‪”.‬‬
‫ارتعشت شفتا إبرام بابتسامة بينام خضع مارك إلرادهتا وسأل‪:‬‬
‫“مريال‪ ..‬هل تقبلني عدالة الرب؟”‬
‫أخريا أن ألتقط أنفايس‪ .‬قال‬
‫أومأت مريال موافقة فاستطعت ً‬
‫مارك‪:‬‬
‫“اآلن وقد متت إرادة الرب بإمكاننا رصف اجلميع‪”.‬‬
‫هنض فيكتور قائالً‪:‬‬
‫صغريا‪”.‬‬
‫ً‬ ‫أجرب شي ًئا‬
‫“ليس قبل أن ِّ‬
‫اجته نحو كاسرب أخرج خنجره ثم طعنه به يف كتفه العاري‬
‫وهو ينظر ملريال‪ ،‬الوغد حياول دفعها للحديث‪.‬‬
‫ضغطت مريال بأسناهنا عىل شفتيها حتى سال الدم منها‬
‫ونظرت ألورنيال متوسلة‪ ،‬اجتهت الفتاة حيث وقف فيكتور‬
‫سحبت اخلنجر الذي غرسه بكتف كاسبري فتدفق الدم من‬
‫اجلرح‪ ،‬التقت عيناها بعيني أخي إبرام الذي هز رأسه ينهاها عن‬
‫فعل يشء ال أستطيع أن أعلمه ويبدو أهنا خضعت إلرادته فقد‬
‫أغمضت عينيها وقالت هبمس‪:‬‬
‫“املبجل فيكتور يتحدى الرب‪”.‬‬
‫سمعت شهيق كاسرب املتأمل وقالت‪:‬‬
‫“ويبدو أن الرب قد قبل التحدي‪”.‬‬

‫‪90‬‬
‫فتحت عيناها ومررت إصبعها رسي ًعا عىل كتف كاسرب‬
‫وقالت‪:‬‬
‫“سأحرض لسجنك ملداواتك‪ ،‬إن أراد الرب حسم املوقف مل‬
‫يكن سيخلق االحتامالت‪”.‬‬
‫جذهبا فيكتور بعيدً ا عن اخلادم وهو يرصخ‪:‬‬
‫“ال تلميس هذا اجلرذ‪”.‬‬
‫نظرت داخل عينه ومهست‪:‬‬
‫“أنت تدفعني للمسه دف ًعا‪ ،‬كل من تلمسه لتجرحه يتحتم‬
‫عيل أن أملسه ألشفيه‪ ،‬توقف عن ‘يذاء الناس وسأسحب يدي‪”.‬‬
‫َّ‬
‫الحظ إبرام ما حيدث فأرسع جتاه الفتاة ومهس‪:‬‬
‫“سيديت‪ ..‬يريد املبجل مارك أن حيدثك حدي ًثا ً‬
‫خاصا دعيني‬
‫أقودك ملقعدك قبل أن أخيل الغرفة‪”.‬‬
‫نظرت الفتاة ملريال وقالت هلا‪:‬‬
‫“وصيفتي تنتظرك باخلارج سرتافقك لغرفتك اجلديدة‪”.‬‬
‫هزت مريال رأسها‪ ،‬نظرت للجرذ للمرة األخرية قبل أن‬
‫تنحني ألورنيال وخترج بكتفني متهدلني‪.‬‬
‫أيضا‪،‬‬
‫راقبت خروج اجلميع وعلمت أنني جيب أن أغادر ً‬
‫لكنني سأكون بحاجة حلديث خاص مع هذه الفتاة‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫املبجل مارك‬

‫راقبت أورنيال وهي تدير اجللسة‪ ،‬ترد عىل أسئلة ابني‬


‫الساخرة املستفزة كام مل يستطع أحدٌ من قبل‪ ،‬ختضع املتهمني‬
‫إلرادهتا فيقبلون حكمها هبدوء وقنوط‪ .‬هذه الفتاة أصبحت‬
‫ختيفني‪ ،‬مجاهلا‪ ،‬ذكاؤها وقدراهتا التي تظهر يو ًما بعد يوم‪ ،‬رغم‬
‫رسها‪ ،‬كان من املمكن أن‬ ‫أهنا تعمدت إخفاء نفسها إال أنني أعلم َّ‬
‫عيل خدعتها لو مل أكن أعرف أمها جيدً ا‪ .‬جاءت أمها إلينا‬ ‫تنطيل َّ‬
‫بجامل خالب‪ ،‬وعقل يفوق سكان املدينة ذكا ًء‪ ،‬أرستني‪ ،‬رسقت‬
‫قلبي لكنها منحت قلبها وجسدها ألخي إبرام‪ ،‬مل يكن جيدر هبا‬
‫أحق منه‪ ،‬أنا املبجل مارك حاكم مدينة أورنيال‬
‫أن تفعل ذلك‪ ،‬أنا ُّ‬
‫السلطة بيدي عندما الحت أمامي فرصة صغرية فحينام‬ ‫أمسكت ُّ‬
‫تأيت إليك فرصة لتقبض عىل العامل بيدك‪ ،‬عليك أن تستغلها وإال‬
‫ستقيض ما تبقى من حياتك البائسة تندم عىل إضاعتها‪ ،‬هذا ما‬
‫فعلته‪ ،‬مل أضيع فرصتي‪ ،‬كانت القرية تتجه إىل املوت بعينني‬
‫مفتوحتني أنا أنقذهتا لكني مل أفعل ذلك دون مقابل‪ ،‬فعلت ذلك‬
‫كي أحكم‪ ،‬كي أسود‪.‬‬
‫فخورا هبا بأطراف‬
‫ً‬ ‫كان إبرام يمسك يدها الرقيقة ويدور‬

‫‪92‬‬
‫املدينة‪ ،‬يرهيا مجال اهلضاب‪ ،‬روعة السهول وأرضنا اخلرضاء‬
‫الربكان علينا‪ ،‬كانت تدور كزهرة عباد‬‫ُ‬ ‫اخلضبة التي َم َّن هبا‬
‫الشمس‪ ،‬ختطف األنظار مثلها‪ ،‬لكنها مل تكن تراين‪ ،‬كل نساء‬
‫املدينة خيطبن ودي لكنها ال تراين‪ ،‬ملاذا مل تكن تراين؟!‬
‫أنا أكثر وسام ًة من إبرام املكتنز أنا أكثر رجولة منه‪ ،‬ال أنكر‬
‫أنه وجدَ ها أوالً وأحرضها للمدينة لكن كان عليها أن تريدين‪،‬‬
‫حتبني‪ ،‬متنحني نفسها‪ ،‬رفضت كل حماواليت للتقرب منها ومل ختربه‬
‫رشف‪ ،‬كانت أفضل مما يستحق‪ ،‬أفضل مما يستحق‬ ‫ٌ‬ ‫هبا‪ ،‬كان لدهيا‬
‫كالنا‪ ،‬تعلمت أن أنتزع حقي؛ لذا أخذهتا‪ ،‬باتت ليلتها بغرفتها‬
‫لكنها استيقظت بغرفتي بالصباح‪ ،‬أسفل حجريت لكن يمكننا أن‬
‫رسا ال يعلمه أحدٌ ‪،‬‬
‫اصطالحا غرفتي‪ ،‬أصبح اختفاؤها ًّ‬ ‫ً‬ ‫نسميها‬
‫حتى ذلك املخبول الذي أراد أن ييش يب ألخي قطعت لسانه‬
‫روجها التابعون يل وهددته أين‬ ‫وأطلقت إشاعة بأنه فقدَ عقله‪َّ ،‬‬
‫خيتف عن األنظار‪ ،‬مل يكن فعل ذلك‬ ‫ِ‬ ‫سأقتله باملرة القادمة إن مل‬
‫ال لكنني سأفعل أي يشء إلخفاء رسي‪.‬‬ ‫أمرا سه ً‬
‫ً‬
‫واآلن ابنة املرأة التي رسقت قلبي ترسق ُسلطتي‪ ،‬قد ينفخ‬
‫بعض أعدائي بأذهنا كي حتكم أورنيال‪ ،‬حقيقة هي جديرة باحلكم‪،‬‬
‫الرب م َّيزها‪ ،‬ال ُبدَّ أن أضع عيني عليها أكثر باأليام القادمة‪ ،‬أن‬
‫أقرهبا مني يبدو أن قدري هو احتضان الفتاة وأمها‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫أورنيال‬

‫كنت أتوقع حديث املبجل مارك‪ ،‬أعلم أن ما فعلته سيثري قلقه‬


‫بل خوفه‪ ،‬رأيت احلذر بعينيه وهو يباركني ويثني عىل حكمتي‬
‫عيل أن‬
‫ونقائي‪ .‬حذر سيدفعه لعد أنفايس بالفرتة القادمة؛ لذا كان َّ‬
‫أترصف رسي ًعا‪ ،‬أعطيت أوامري ألماندا التي مررت أمري خلاد ٍم‬
‫آخر اختربت ثقته من قبل كخطوة صغرية لتكوين أتباع خملصني‪،‬‬
‫ال يمكنني التفريط بحياة كاسبري‪ ،‬لقد خاطرت بنفيس من أجل‬
‫إنقاذمها‪ ،‬حديثي مع مريال جعلني أدرك أهنا ال تريد رج ً‬
‫ال آخر لذا‬
‫خدمة الرب قد ناسبتها‪ ،‬شعرت برضاها عندما سمعت احلكم‪،‬‬
‫مل أخاطر بإخبارها كي ال تبدو مطمئنة فتثري الشكوك‪ ،‬كان القلق‬
‫يأكل كبدها‪ ،‬قلقها من أن أخذهلا‪ ،‬قلقها من أن يفشل األمر كله‬
‫أو أن أضحي بكاسرب‪ ،‬رأيت نظرة عدم التصديق بعينيها عندما‬
‫سمعت ما حكمت به عليه‪ ،‬يبدو أهنا شعرت بأنني قد بعتهام‬
‫لكنها رغم ذلك حافظت عىل الصمت كام اتفقنا‪.‬‬
‫تذكرت طلبي الذي قدَّ مته بلطف للمبجل مارك‪ ،‬ذلك الطلب‬
‫الذي جعله يطمئن جتاه نواياي‪ ،‬فقد انحنيت له ومهست‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫“أشكرك ألنك منحتني فرصة لتنفيذ عدالة الرب‪ ،‬بغري‬
‫تفهمك كانت األمور ستسوء‪ ،‬لكنني أخشى أنه بقي لدي طلب‬
‫ُّ‬
‫صغري‪”.‬‬
‫نظر يل هبدوء زائف‪ ،‬كنت أسمع دقات قلبه من حيث جلست‪،‬‬
‫هز رأسه كي أحتدث‪:‬‬
‫رسا‪ ،‬حتى‬‫“أرغب أن يصبح ما حدث هنا هبذه القاعة ًّ‬
‫حماكمة الغد أمتنى أال يسمع هبا العامة‪ ،‬أنت تعلم أن رد فعل‬
‫ٍ‬
‫مضمون وسيكون بنا ًء عن سوء َفه ٍم وقلة تقدير‬ ‫غري‬
‫العامة ُ‬
‫لعدالة الرب‪ ،‬قد يثور بعض اخلدم من أجل صديقهم‪ ،‬وقد تتجرأ‬
‫الفتيات ويقلدن مريال؛ لذا أفضل حل من أجل سالمة أورنيال‬
‫هو إخفاء هذا األمر عن أهلها‪.‬‬
‫املعرفة كاجلمر ونحن ال نريد أن حيرتق العامة بمعرفة تفوق‬
‫قدرة استيعاهبم‪”.‬‬
‫تقديرا‪ ،‬كنت أعلم أن طلبي هذا سيثبت له‬
‫ً‬ ‫ابتسم وهز رأسه‬
‫أنني ال أريد رسقة األضواء منه ألن الرب جتىل يل وحدي ومنحني‬
‫كثريا‪.‬‬
‫احلكمة‪ .‬وأن التكتم سيفيده ً‬
‫أنت أكثر حكمة مما كنت أعتقد‪ ،‬لكن‬ ‫“عزيزيت أورنيال‪ِ ،‬‬
‫كيف سنخرب العامة عن زهد مريال خاصة أن اجلميع كان ينتظر‬
‫زفا ًفا وشيكًا‪”.‬‬
‫“سيدي املبجل‪ ،‬امجع شعب أورنيال وأخربهم أثناء عظة‬
‫مصريا أفضل ملريال‪ ،‬وأن‬
‫ً‬ ‫األسبوع أن الرب جتىل لك واختار‬

‫‪95‬‬
‫املبجل فيكتور سيكون سعيدً ا بالتضحية بعروسه من أجل حتقيق‬
‫إرادة الرب‪”.‬‬
‫أمسك بيدي وربت عليها‪:‬‬
‫“عزيزيت‪ ..‬أنا أقدر ذكاءك وخوفك عىل املدينة‪ ،‬لكن كل‬
‫تلك األحداث قد أربكت تفكريي وما زلت أشعر باحلرية‪،‬‬
‫كيف سنخرب الشعب عن ذلك اخلادم وما فعله؟ قد يعقد هذا‬
‫الوسط‪”.‬‬
‫“إن أكلته الكالب غدا فسنخرب الشعب أنه خرج برحلة‬
‫للبحر وأن البحر ابتلعه‪ ،‬وإن زهدته فسنجعل الناس تراه أثناء‬
‫خروجه من املدينة ليس كشخص مطرود‪ ،‬بل كرجل أراد أن‬
‫يتع َّلم أرسار البحر ليأيت ويدرسها لشعب أورنيال بدوره وقد‬
‫سمح له املبجلون بذلك هبدف نرش العلم‪ ،‬وسنرتك أمر عدم‬
‫عودته لظنون العامة فيعتقد البعض أنه مات بينام يشك البعض‬
‫هرب‪”.‬‬
‫أنه قد خان و َ‬
‫ٍ‬
‫ببطء‪.‬‬ ‫مال عىل يدي قبلها‬
‫“أووه سيديت‪ ،‬كل يوم أعتز بقراري منحك اسم مدينتنا‪،‬‬
‫أنت جتسيد حقيقي حلب الوطن‪”.‬‬
‫ٍ‬
‫ببطء‪:‬‬ ‫وضعت يدي عىل يده وحركتها‬
‫“سيدي‪ ..‬أنا ممتنة لك لكل يشء فعلته من أجيل‪ ،‬لسامحك‬
‫أن أكون بالقرب منك كي أالحظ وأتعلم‪ ،‬أنت هبة من الرب‬
‫ألورنيال‪”.‬‬

‫‪96‬‬
‫راقبت مالمح وجهه تتغري من احلذر إىل اللني‪ ،‬يبدو أنني‬
‫تأثريا ما عليه‪ ،‬فلقد هدأ وسكن من ملستي‪ ،‬أنا واثقة أنه‬
‫أملك ً‬
‫يتساءل حتى اآلن هل قصدت نفيس أم أورنيال املدينة‪”.‬‬
‫ولقد نفذ ما اتفقنا عليه متا ًما؛ ففي صباح اليوم التايل وبعد‬
‫أن قىض كاسرب ليلته مصلو ًبا بغرفة املحنة املظلمة وقفنا مجي ًعا‬
‫أنا واملبجلون الثالث وفيكتور نشاهد أحد اخلدم يسحب ثالثة‬
‫كالب أشداء ويدخلهم احلجرة وخيرج ويغلق الباب خلفه‪.‬‬
‫انتظرنا وقتًا طوي ً‬
‫ال حتى مللنا فقال فيكتور‪:‬‬
‫صوت رصخاته؟ ألنني مل أسمعها‪ ،‬يبدو‬
‫َ‬ ‫“هل سمع أحدكم‬
‫أن اجلرذ قد مات رع ًبا‪”.‬‬
‫أشار املبجل مارك للخادم ففتح الباب ٍ‬
‫ببطء لنرى أن الكالب‬
‫الثالث ينامون براحة حتت قدمي كاسرب املبتسم‪.‬‬
‫رصخ فيكتور‪:‬‬
‫“ال يمكن أن حيدث هذا‪ ،‬جيب أن أقتل هذا الوغد‪”.‬‬
‫أشار له املبجل مارك الذي حاول أن حيافظ عىل اتزانه بعد هذه‬
‫الصدمة‪:‬‬
‫“ال أحد سيلمسه‪ ،‬إذا كان الرب تركه فهذا يعني أن علينا‬
‫أيضا أن نرتكه‪”.‬‬
‫ً‬
‫أومأ للحارس الذي أخذ الكالب للخارج ثم دخل لكاسرب‬
‫وقال له‪:‬‬

‫‪97‬‬
‫“الرب قد منحك فرصة جديدة‪ ،‬س ُيحضرِ أحد احلرس‬
‫لك مالبس‪ ،‬ن ِّظف نفسك واستعد ألنك ستغادر أورنيال عىل‬
‫ظهر السفينة املغادرة لسيندوزا‪ ،‬إن رأينا وجهك جمد ًدا فستكون‬
‫رس وإال ستضطر أن تقيض باقي‬‫هنايتك‪ ،‬واعلم كل ما حدث هنا ٌّ‬
‫ٍ‬
‫لسان‪”.‬‬ ‫عمرك دون‬
‫أبقى املبجل مارك حارسني أمام الباب خو ًفا من أن يرتكب‬
‫ال قبل أن يرتكني ويغادر‪ ،‬كنت‬ ‫فيكتور محاقة‪ ،‬نظر يل فيكتور قلي ً‬
‫أعلم أنه غاضب‪ ،‬وأنه يكون عني ًفا جدًّ ا أثناء غضبه فقررت أنني‬
‫سأزوره ألهدأ الوضع بيننا الذي تعقد‪.‬‬
‫نظر يل املبجل إبرام ومهس بعد أن غادر اجلميع‪:‬‬
‫“دعيني أرافقك يا سيديت‪”.‬‬
‫أومأت له مبتسمة‪ ،‬كنت أعلم أن الفضول يكاد يقتله مال‬
‫ومهس بأذين أثناء سرينا‪.‬‬
‫“هل حدثت معجزة فع ً‬
‫ال أم أن لديك يدً ا باألمر؟”‬
‫“ماذا تعتقد؟”‬
‫“أنا ال أصدق املعجزات‪”.‬‬
‫ضحكت‪..‬‬
‫“ياجلامل ضحكتك‪ ،‬أخربيني كيف فعلتِها‪”.‬‬
‫“أرسلت خادمي الذي أثق به لي ً‬
‫ال كي يطعم الكالب حلماً‬
‫حتى تزهد وألن اجلميع كان يتوقع هنايته فقد شتتهم الصدمة‬
‫فلم يالحظوا غري ثالثة كالب خاضعة ترقد بسالم‪”.‬‬

‫‪98‬‬
‫“يا إهلي الرحيم‪ ،‬لكني أخشى عليك غضب اجلميع إن‬
‫انكشف األمر”‬
‫“لن ينكشف األمر إال إذا وشيت يب‪ ،‬ال أحد يعرف غريك‪”.‬‬
‫“هل هذا اختبار ثقة؟”‬
‫“بإمكانك اعتباره كذلك يا سيدي‪”.‬‬

‫‪99‬‬
‫كلوديا‬
‫رسا إال أن مجيعها‬‫رغم أهنم حاولوا إبقاء األحداث األخرية ًّ‬
‫لقي هبا حتت قدمي‪ ،‬لقد وقفت عىل الشاطئ أراقب بنفيس ذلك‬ ‫ُأ َ‬
‫اخلادم وهو يغادر املدينة بغري رجعة يف احتفال ظنه العامة نو ًعا‬
‫من التكريم لفرد منهم بال سلطة أو نفوذ‪ .‬ما أسهل خداع العامة!‬
‫لكن الوسط قد تبعثر‪ ،‬فريا‪ ..‬العزيزة فريا‪ ،‬عزيزة إبرام مل تعد‬
‫عزيزته ألنه مل حيرك ساكنًا من أجل ابنتها الفاسقة‪ ،‬أنا ال ألوم‬
‫مريال لكن اللقب يبدو مالئماً عليها‪ ،‬كل نساء السادة فاسقات‬
‫كلهن يفعلن مثل مريال لكن باخلفاء‪ ،‬غلطة مريال الوحيدة أهنا‬
‫أرادت شي ًئا أبد ًّيا‪ ،‬احلمقاء مل تدرك أنه ال يشء أبدي‪ ،‬عليها فقط‬
‫أن تتمتع حلظة بلحظة‪ ،‬تعرف هذا اليوم وترتكه غدً ا‪ ،‬إهنا رغبات‪،‬‬
‫بأمان إذا حافظت عىل كوهنا جمرد رغبات‪ ،‬لكنها غلفت‬ ‫ٍ‬ ‫ستظل‬
‫ساذج نصبه شاب غري ناضج‬ ‫ٍ‬ ‫رغباهتا باملشاعر فسقطت يف ٍّ‬
‫فخ‬
‫بإصبعه الصغري‪ ،‬الشاب مل يتعب نفسه بالتفكري بخطة أكثر ذكا ًء‬
‫ألنه يعرف جيدً ا أن احلب يطمس العقل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصمت لدرجة أنه مل يعد ينتبه إ َّيل‬ ‫ٍ‬
‫بصمت كعاديت‪،‬‬ ‫أنا أراقب‬
‫أحدٌ ‪ ،‬أحلل املواقف وأشمت باجلميع‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫لكن بعد حادثة مريال انحرفت كل تقديرايت‪ ،‬اختلف والء‬
‫الكل وأصبح األمر مسل ًيا أكثر‪.‬‬
‫سأستمر بمراقبة ما حيدث‪ ،‬خاصة إبرام‪ ،‬إبرام الذي ال يعرف‬
‫كيف حيب‪ ،‬سمعت عن املرأة التى استنزفت خمزونه من احلب‬
‫قديماً ‪.‬‬
‫حتى إنني توسلته‪ ..‬كنت أحبه‪ ،‬إنه ٌ‬
‫رجل جيدٌ ‪ ،‬رجل جيد مل‬
‫أستطع أن أنفذ لقلبه ألنه ممتلئ هبا‪.‬‬
‫أتأهب أللقي نفيس بني ذراعيه اشتيا ًقا فتصدين برودة‬
‫ابتسامته املتكلفة‪ ،‬ألف ذراعي حويل ألذوب ثلج اخليبة‪ ،‬يسألني‬
‫عن رس ارجتايف فأكذب متعللة بربودة اجلو‪ ،‬رغم أنني أهتز بكا ًء‬
‫دون دموع فأشواقي تأكل قلبي وحاجتي إليه تتوغل يف خاليا‬
‫جسدي‪ ،‬حنيني يتدفق بأورديت‪.‬‬
‫حبه مرض خبيث‪ ،‬رضب بجذوره داخيل ومنح لفروعه حري َة‬
‫التنقل فأصبحت قتيلته ال حمالة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كسريات غريي‪ ،‬فكم واحد ًة قتلت يا إبرام؟!‬ ‫أنظر لعينيه‪ ،‬أرى‬
‫إن مل أكن املنشودة فمتى ستأيت األخرية التي توصد منافذ حبك‬
‫وحتتكر توزيعه لنفسها‪ .‬يطرح عقيل املشتت عرشات األسئلة التي‬
‫أوجهها له فرتتد إجاباهتا طعنات بصدري‪.‬‬
‫أخشى أن ِّ‬
‫متى سيحرر جواريه‪ ،‬ويزيل قيد احلب عن أعناقهن؟‬
‫كيف أوقع الكثريات بحبه ومل توقعه إحداهن بعد فتاته‬
‫املختفية؟!‬

‫‪101‬‬
‫إن كان ال يؤمن باحلب فلامذا يزعزع إيامهنن به!‬
‫‏ملاذا تركني عىل ذمة قلبه دون أن يدخلني إليه؟!‬
‫‏لو كان حيبني ملنحني نفسه كاملة‪ ،‬ظنونه‪ ،‬هواجسه وشياطينه‪،‬‬
‫كنت سأتقبل اجلميع‪.‬‬
‫‏وإن مل أكن ذات قيمة فعليه أن يدعني أبكي ح ًّبا كان بخيايل‪،‬‬
‫أداوي قل ًبا لن يسكنه غريه وأحتفظ بام تبقى من كرامتي‪.‬‬
‫‏أراه يقرأ كل تلك األفكار بعيني‪ ،‬يقطب حاجبيه كام يفعل‬
‫دائماً عندما يتوصل لنتيجة‪ ،‬ثم جيذبني لصدره ويلف ذراعيه‬
‫حويل بيقني َمن أدرك نية اهلرب‪.‬‬
‫حب‪ ،‬يشد ذراعيه‬
‫أشعر بخوفه أن أبتعد‪ ،‬خوف ال يرافقه ٌّ‬
‫حويل لكن ‏احلضن الذي يشبع الشهية ال يعول عليه‪ ،‬أشعر‬
‫بجوعي إليه كام أشعر بزهده يف‪ ،‬لقد حان أوان البرت‪.‬‬
‫‏سأبرت نفيس منه‪ ،‬سيعيش كام حيلو له وأتالشى داخل صمتي‪،‬‬
‫يبدو التاليش راحة يل‪.‬‬
‫كان هذا هو ما دفعني ألبقى يف الظل‪.‬‬
‫للحب‬ ‫ٌ‬ ‫أكتم حبي له الذي حتول ٍ‬
‫مكان ُ‬ ‫حلقد عليه‪ ،‬مل يعد هناك‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫بتجاهله يل‪ ،‬ألنه مل يكن ملكي يو ًما بل كان‬ ‫داخيل‪ ،‬لقد نز َعه إبرام‬
‫ُ‬
‫متاحا لك ُِّل النساء‪ ،‬يستطعن ملسه‪ ،‬حبه‪ ،‬لك َّن هناك امرأة واحدة‬‫ً‬
‫امتلكته ومل تفرط به رغم اختفائها‪ ،‬ومل يسمح لغريها أن تدخل‬
‫قلبه‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫أورنيال‬

‫حاولت أن أستدعي احلالة التي كنت عليها حينام دامهتني‬


‫الرؤية‪ ،‬لكني وقتها مل أكن أخترب شيئا مميزا‪ ،‬كنت أجلس باحلديقة‬
‫أفكر حتى فقدت خيط األفكار ويبدو أنني غفوت وأنا جالسة‪.‬‬
‫أنا اآلن أجلس وحدي باحلديقة وقد ارهقني التفكري‪ ،‬حتى‬
‫حماواليت كي أحجم عقيل عن التفكري فيام بعد قد أتعبتني أكثر‪،‬‬
‫مل أصل ليشء‪ ..‬شعرت باألمل بكتفي ورقبتي فحركتها لليمني‬
‫ببطء ثم دلكت كتفي بيدي ملست يدي شامتي كان‬ ‫ٍ‬ ‫واليسار‬
‫ملمسها يبدو يل وكأهنا قد أصبحت بارزة أكثر‪ ..‬أدرت وجهي‬
‫جتاهها ومررت إصبعي حوهلا‪ ،‬كنت أشعر باحلكة‪ ،‬الحظت أن‬
‫قمة املشعل تيضء‪ ،‬ملستها جمد ًدا فلسعت إصبعي وكأنني ملست‬
‫نارا ثم رأيت ما أذهلني‪.‬‬
‫ً‬
‫رأيت كايال جتلس عىل األرض حتتضن نفسها وتبكي وترصخ‪:‬‬
‫“ألن ينتهي ذلك العذاب أبدً ا!‪ ..‬ألن ينتهي عقايب؟!”‬
‫هل ال زالت عىل قيد احلياة؟‬
‫تبدو يل كذلك‪ ،‬أم أن هذه رؤيا عام حدث هلا باملايض؟‬

‫‪103‬‬
‫كانت مترر يدها عىل كتفيها وهي ترصخ وكأهنا تشعر بالرب‪،‬‬
‫ملست أصابعها تلك الشامة عىل كتفها بغري ٍ‬
‫وعي لكن ملستها تلك‬
‫أيضا‪ ،‬نظرت‬‫كان هلا أثر خييف ألنني شعرت أهنا أصبحت تراين ً‬
‫بعيني قلي ً‬
‫ال وكأهنا ختترب صدق عينيها سألتني‪:‬‬
‫أنت؟ هل فقدت عقيل!”‬ ‫“من ِ‬

‫رس التواصل؟‬
‫هل الشامة التي نمتلكها هي ُّ‬
‫عيل أن أملس شامتي وأفكر هبا كي أستطيع رؤيتها‪...‬‬ ‫يبدو أنه َّ‬
‫السيدة تنظر يل وتسألني! هذا يعني أهنا ليست ذكريات‪ ..‬كايال‬
‫حية عينها يف عيني تنتظر إجابتي لتتأكد من أهنا مل تفقد عقلها بعد‪.‬‬
‫أيضا مل أفقد عقيل‪.‬‬
‫حدثتُها‪ ،‬أردت أن أطمئنها وأن أتأكد أنني ً‬
‫“كايال‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫رأيت جز ًءا‬
‫أنا أورنيال‪ ،‬لقد رأيتك من قبل بإحدى رؤياي‪ُ ..‬‬
‫أمر اختفائك‬
‫من ماضيك‪ ..‬أعرف عن هروبك من مملكتك لكن َ‬
‫لغزا بالنسبة يل‪”.‬‬
‫ما زال ً‬
‫برش؟‬
‫“أنت ٌ‬
‫أورنيال ؟ أورنيال تلك التي كان يتحدث عنها؟‬
‫اسمك كاسم هذه املدينة اللعينة التي سجنت هبا كل هذه‬
‫السنوات‪”.‬‬
‫“هل ال زلت هنا؟ إن املبجل إبرام قد رفع الصخور بح ًثا‬
‫عنك”‬

‫‪104‬‬
‫بكت وهي هتمس باسمه‪:‬‬
‫“إبرام‪ ..‬عزيزي إبرام‪ ..‬كان عليه أن يفتش غرفة أخيه‪”.‬‬
‫يا إهلي! هل أخفاها أخوه؟‬
‫“أهيام؟”‬
‫كانت عىل وشك أن جتيب عندما سمعنا صوت كتلة خشبية‬
‫تتحرك‪.‬‬
‫مهست يل‪:‬‬
‫“إنه قادم‪”.‬‬
‫رفعت إصبعها عن شامتها فاختفى الصوت لكني حافظت‬
‫مستمرا‪ ،‬يبدو أن خوفها قد جعلها ختشى‬
‫ًّ‬ ‫عىل إبقاء هذا االتصال‬
‫ٍ‬
‫بحذر‬ ‫أن يكتشف شي ًئا‪ ،‬رأيت ضو ًءا ثم ساقني ممتلئتني تنزالن‬
‫درجات السلم‪..‬‬
‫أنا أعرف هذا اجلسد جيدً ا‪ ،‬إنه املبجل مارك!‬
‫عروس أخيه‬
‫َ‬ ‫هذا الرجل اللعني الذي يدعي القداسة خطف‬
‫وسجنها أسفل غرفته طوال هذه السنوات وراقب قلب أخيه‬
‫حيرتق شو ًقا إليها!‬
‫ما الذي يدفع رج ً‬
‫ال أن يفعل هذا بشقيقه!‬
‫هل يكرهه!‬
‫حيقد عليه؟!‬
‫ٍ‬
‫برشه‪ ،‬بشهوة‪ ،‬هذا هو السبب هو‬ ‫راقبت عينيه تنظران هلا‬
‫يريدها‪ ،‬حيبها!‬

‫‪105‬‬
‫هل يسجن الرجل امرأ ًة حيبها أسفل غرفته؟‬
‫هل حيرمها ضوء الشمس لسنوات طوال!‬
‫هل حيرق قلبها وروحها ويرتكها تبكي حرسة!‬
‫فلتحل لعنة اإلله عىل هذا احلب وصاحبه‪.‬‬
‫راقبته يتودد إليها فتدفعه‪ ،‬يضمها فترضبه بيدهيا وقدميها‪ ،‬جيذهبا‬
‫من شعرها ويرضهبا فترصخ ثم يرتكها وجيلس بجوارها يبكي‪.‬‬
‫أووه‪ ،‬يا إهلي الرحيم!‬
‫كثريا بعد هذا االتصال مع كايال‪ ،‬السيدة تبدو كام‬ ‫فكرت ً‬
‫كانت قديماً بنفس اجلامل‪ ،‬مل أختيل أنني أشبهها هلذه الدرجة وكأننا‬
‫شقيقتان‪ ،‬عندما يعرف إبرام أهنا ما زالت حية ومل خترج من املدينة‬
‫أبدً ا قد تقتله الصدمة‪ ،‬لكن هل من احلكمة إخباره اآلن؟‬
‫هل سيصدقني وينقلب عىل أخيه؟‬
‫دقت أماندا باب حجريت ودخلت معتذرةً‪.‬‬
‫لدي خرب ال‬
‫“سيديت‪ ..‬آسفة ألنني قطعت خلوتك لكن َّ‬
‫يمكنه االنتظار‪”.‬‬
‫أرشت هلا لتقرتب‪..‬‬
‫“لقد أتقن رجلنا الكتابة‪ ،‬كان لديه شغف كبري للتعلم وهو‬
‫اآلن يرغب بمقابلتك‪ ،‬طلبت منه أن يكتب ما يريده لك لكنه‬
‫رفض‪ ،‬من الصعب خروجك دون لفت األنظار ويستحيل علينا‬
‫إدخاله للقرص دون أن يراه أحد جواسيس املبجلني‪”.‬‬

‫‪106‬‬
‫رفعت يدي ودسستها بشعري املتوهج كي أرفعه عن رقبتي‬
‫ثم ابتسمت‪.‬‬
‫“من الصعب إدخاله دون أن يراه جواسيس املبجلني لكن‬
‫سيكون من السهل هتريبه لو أن أحد املبجلني ساعدنا‪”.‬‬
‫“سيديت‪ ..‬هل تضمنني والء املبجل إبرام؟! ألن خيوننا؟”‬
‫“عزيزيت‪َ ..‬من حتدث عن املبجل إبرام؟ أنني كنت أقصد‬
‫املبجل أندروس”‬
‫“أووه‪ ...‬يا إهلي!‪ ...‬أنت تودين أن تُع َّلق رقابنا عىل بوابة‬
‫القرص‪ ..‬إنه لن يؤمتن مهام أظهر من الود”‬
‫“دعينا نخترب ذلك‪”.‬‬
‫فعلت مربيتي كام أمرهتا؛ أبلغت الرجل أننا سنرتب دخوله‬
‫للقرص‪ ،‬كان هذا الرجل أميل الوحيد قبل أن تدامهني الرؤية‪،‬‬
‫لكن بعد معرفتي ما الذي حدث أصبح هذا الرجل دلي ً‬
‫ال يدعم‬
‫قويل دون أن أضطر أن أفيش عن رسي وقدريت عىل التواصل‪.‬‬
‫تلك القدرة التي أتعبتني بالبداية‪ ،‬فموجات الصداع استمرت‬
‫برضب رأيس حتى كادت عيناي أن تقفزا من حمجرهيام هر ًبا من‬
‫األمل‪ ،‬لكن بعد تدريب طويل بدأت موجات األمل يف االنحسار‪.‬‬
‫كانت زيارة املبجل أندروس يل متوقعة لكني مل أعتقد أهنا‬
‫ستكون رسيعة هكذا‪ ،‬الرجل ختنقه التساؤالت كام أنه يشعر أنه‬
‫مدين يل‪.‬‬
‫دخل حجريت‪ ،‬أحنى رأسه‪:‬‬

‫‪107‬‬
‫“سيديت”‬
‫بادلته التحية ثم مهست‪:‬‬
‫“سيدي املبجل”‬
‫“لقد أتيت كي أشكرك عىل مساعدتك لنا‪ ،‬بالبداية كنت‬
‫أشك بك‪ ،‬بأنك اتفقت مع فيكتور كي تتخلصا منا‪ ،‬لكنك‬
‫فعلت ما مل يفعله أخي من أجيل‪”.‬‬
‫تورم شفاه‪.‬‬
‫اقرتبت منه‪ ،‬الحظت ُّ‬
‫“أتسمح يل؟”‬
‫مددت يدي لوجهه‪ ،‬ملست شفاه بإهبامي فرأيت ما حدث‪.‬‬
‫“صفعك؟”‬
‫كرها يل بل لفيكتور‪.‬‬
‫نظر يل والكره يكاد يقفز من عينيه‪ ،‬مل يكن ً‬
‫“لقد آذيت نفيس بكأس الرشاب”‬
‫يقولون إن عليك أن خترب عدوك احلقيقة وتلفق الكذبات‬
‫لصديقك لذا قررت إخباره‪:‬‬
‫“لقد رأيت ما حدث‪”.‬‬
‫“مل يكن هناك غرينا بالغرفة‪”.‬‬
‫“أنا ال أحتاج أن أكون يف مكان احلدث حتى أراه‪”.‬‬
‫كانت عيناه تكذبان حديثي لكن لسانه مل ينطق ليؤكد؛ لذا‬
‫قررت أن أريه الدليل‪.‬‬
‫“سأثبت لك‪”.‬‬

‫‪108‬‬
‫مددت يدي جتاه يده‪.‬‬
‫“هل تسمح يل؟”‬
‫وضع كفيه بني كفي‪:‬‬
‫“قبل أن حترض يل كنت متسك آلة حادة بيدك‪ ..‬خنجرك‪..‬‬
‫تشحذه‪ ،‬لقد غمست نصله ومسحت حده بالسم‪ ،‬كان بعقلك‬
‫فكرة واحدة وأنت تفعل ذلك‪ ،‬كنت تردد داخله‪ ..‬سأقتل‬
‫فيكتور‪ ..‬سأقتل فيكتور‪”.‬‬
‫مذعورا ونظر يل وهو عاجز عن‬
‫ً‬ ‫سحب الرجل يديه من يدي‬
‫صياغة مجلة كي ينطق هبا ليكذبني‪.‬‬
‫“كيف تعلمني هذا؟”‬
‫بعض علمه‪”.‬‬
‫“أنا خادمة حقيقية للرب‪ ،‬لقد منحني َ‬
‫“أنا‪“ ...‬‬
‫تأت فقط لتشكرين‪ ،‬لكنك أتيت ألن الرب قد وضع‬ ‫“أنت مل ِ‬
‫دورا هبذه اللعبة‪ ،‬الرب أرسلك يل ألنه يبارك انتقامك من‬
‫لك ً‬
‫أخيك وابنه‪”.‬‬
‫“ماذا عن إبرام؟”‬
‫“إبرام ضحية أخيك‪ ،‬إن وافقت عىل تأدية الدور الذي‬
‫رسمه لك الرب سأريك ما الذي فعله شقيقك بإبرام‪ ،‬وعندها‬
‫لن حتقد عليه‪ ،‬بل ستشكر الرب أنه منحك ح ًظا أفضل من‬
‫حظه‪”.‬‬

‫‪109‬‬
‫“أنا أوافق عىل أي يشء حيقق يل انتقامي‪”.‬‬
‫اختبارا للثقة‪ ،‬فأنت اآلن أصبحت‬
‫ً‬ ‫“وأنا لن أطلب منك‬
‫تعلم أنني أستطيع معرفة كل يشء‪”.‬‬
‫ركع عىل ركبته‪..‬‬
‫“أنا أندروس ابن النجار أعلن والئي لك‪ ،‬وسأخدمك بكل‬
‫رشف‪”.‬‬
‫وضعت يدي عىل كتفيه وساعدته عىل النهوض‪:‬‬
‫“رشف يل سيدي‪ ،‬ستظل سيدً ا وسيظل احرتامك واج ًبا‪ ،‬إن‬
‫سلطتي قائمة عىل احلب‪ ،‬احلب أقوى ُسلطة‪”.‬‬
‫هنض ورأيت الدموع التي تأبى أن هتينه وتقفز من حافة أهدابه‪.‬‬
‫“سأطلب منك طل ًبا كي نزيل الغشاوة من عىل عني أخيك‬
‫املحب إبرام‪ ،‬أنت تعلم أنه يد مارك وعينه‪ ،‬ونحن نريد أن‬
‫نحرمه منهام‪”.‬‬
‫هز رأسه يل فعلمت أن كل ما سأطلبه منه سينفذ‪.‬‬
‫أنا أجيد استخدام ذكائي أكثر مما أجيد التعامل مع القدرات‬
‫التي ُمنحت يل‪ ،‬التفكري هو أقوى سالح لدي‪.‬‬
‫أووه‪ ،‬لدي سالح آخر أكثر فتكًا؛ الدالل‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫كايال‬

‫ما حدث اآلن كان معجزة‪ ،‬مل أستطع أن أعرف أكثر عن تلك‬
‫الفتاة‪ ،‬التساؤالت ختنقني‪ ،‬حتمل نفس شامتي أي أهنا من مملكة‬
‫الضارما‪ ،‬لكنها حتمل اسم هذه املدينة اللعينة‪ ،‬ملاذا سيمنحوهنا‬
‫اسمها إن مل تكن منهم؟!‬
‫األسامء هنا مم َّيزة‪ ،‬يمنحها مارك ألبناء السادة واملبجلني‪ ،‬كام‬
‫أنه حيذر عىل العامة تسمية أبنائهم بأبناء السادة‪ ،‬اإلنجاب هنا‬
‫أيضا برشوط‪ ،‬لقد هربت من الضارما ومن حب أسبيدوس ألن‬ ‫ً‬
‫احلياة لدهيم حتكمها قوانني سخيفة‪ ،‬جيمعون األطفال بمكان‬
‫واحد ليتلقوا العلم‪ ،‬ال وجود لنظام األُسرَ ‪ ،‬أردت أن أضم طفيل‬
‫لصدري أسمح له بالنوم بجواري أليس هذا حق كل أم؟‬
‫لكن حقوقي ُس ِل َبت مني‪ ،‬يف أي مكان أذهب إليه تسلب‬
‫أيضا أتيت سع ًيا خلف حبي فسجنني احلب هبذه‬ ‫حقوقي‪ ،‬هنا ً‬
‫احلجرة القذرة‪.‬‬
‫كنت أعلم منذ أتى يب إبرام أن شقيقه خيفي إعجابه يب‪ ،‬خيفيه‬
‫عىل اجلميع لكنه يظهره يل بكل فرصة‪ ،‬مل يكن لدي النية بإخبار‬
‫إبرام كي ال أفسد عالقة األخوة بينهام‪ ،‬لكن ما فعله مارك باملرة‬

‫‪111‬‬
‫األخرية دفعني للتفكري بإخباره‪ ،‬إذا كان شقيقه ال يستطيع ضبط‬
‫نفسه فلنرحل من هنا‪ ،‬يكفي أن أكون أنا وإبرام برفقة بعضنا كي‬
‫نشعر باالكتفاء‪ ،‬سنحول أي مكان نعيش فيه م ًعا للجنة‪ ،‬إبرام‬
‫طفل صغري بقلب خلق للتو‪ ،‬ال حيمل ضغائن وال يعرف الكره‬
‫حتى إنه مل ينتبه ملحاوالت مارك املستمرة للتقليل من شأنه أمامي‬
‫كي يثبت أن له اليد العليا‪.‬‬
‫كانت الوصيفات الاليت اختارهن إبرام يل قد أحرضن عدة‬
‫فساتني زاهية‪ ،‬راقبتهن يضعوهنن عىل الفراش وينتظرن مساعديت‬
‫يف قياسهم‪ ،‬لكنني أرشت هلن باخلروج‪ ،‬لن أتعرى أمامهن‪ ،‬فقد‬
‫تالحظ إحداهن االنتفاخ الصغري ببطني وأنا أردت أن أفاجئ‬
‫إبرام باخلرب اجلميل‪ ،‬حينام أخربه أنني أمحل طفله سيحقق يل‬
‫كل ما أمتنى وأنا ال أمتنى غري الرحيل عن مدينته اخلرضاء وأخيه‬
‫البشع‪ ،‬لو مل يكن هناك وجود ألخيه لكنت أحببت هذه املدينة‪،‬‬
‫لكنها ارتبطت به فهو حاكمها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ببطء ألرى كيف أبدو بذلك الفستان‪ ،‬كان ضي ًقا؛‬ ‫حتركت‬
‫فشعرت أنني مسجونة داخله‪ ،‬رأيت عيني مارك حتدقان يب داخل‬
‫التفت‬
‫ّ‬ ‫املرآة‪ ،‬يبدو أن التفكري به قد أتلف عقيل‪ ،‬ورغم ذلك‬
‫ألتأكد‪.‬‬
‫“كيف جترؤ عىل الدخول حلجريت دون ٍ‬
‫إذن؟”‬
‫تأملني بعينيه القذرتني ثم استقر برصه عىل بطني‪.‬‬
‫“أنا ال أحتاج إذنًا‪ ،‬كل األبواب تفتح ل “‬

‫‪112‬‬
‫“إال بايب‪ ،‬ماذا تريد مني؟ ماذا تريد من عروس أخيك؟”‬
‫اقرتب أكثر أمسك كتفي‪:‬‬
‫“أريدُ ِك‪ ،‬لن تصبحي عروس أخي أبدً ا‪ ،‬أنت يل‪”.‬‬
‫أبعدت يديه عني وشعور بالقرف ينتابني وكأنني المست‬
‫حرشة لزجة‪.‬‬
‫عيل جمدد ًا سأخرب إبرام”‬
‫“إن فكرت بوضع يدك َّ‬
‫“عزيزيت كايال‪ ،‬أنا أفكر كل ليلة كيف سأضع يدي وساقي‪،‬‬
‫إبرام لن خييفني‪ ،‬ولن يستطيع محايتك مني‪ ،‬أنا آخذ ما هو يل‪،‬‬
‫ِ‬
‫وأنت يل‪”.‬‬
‫صمت قلي ً‬
‫ال ثم مهس بجوار أذين‪:‬‬
‫“أنت وما حتملينه داخلك‪”.‬‬
‫حينام غادر‪ ،‬نزعت ذلك الفستان ومزقته‪ ،‬الليلة سأخرب إبرام‪،‬‬
‫لن أخفي عنه ما حيدث لوقت أطول”‬
‫لكن إبرام مل يعد هذه الليلة حلجريت‪ ،‬سمعت أن اللعني مارك‬
‫كلفه بعمل عىل أطراف املدينة وأنه سيعود صبيحة يوم عرسنا‪.‬‬
‫هذه الليلة ظللت أنتظره حتى ضقت‪ ،‬أحرضت إحدى‬
‫لبن فرشبته واسرتخيت‪ ،‬كنت أقاوم إسدال‬ ‫كأس ٍ‬‫وصيفايت يل َ‬
‫عيني لكن شي ًئا ما كان يدفعني للنوم دف ًعا‪ ،‬حينام استيقظت‬
‫وجدت نفيس مسرتخية عىل فراش ليس فرايش بغرفة غري غرفتي‪،‬‬
‫كانت غرفة كبرية لك َّن ضوءها ضئيل وجدراهنا كأهنا نحتت من‬

‫‪113‬‬
‫الصخر‪ ،‬علمت فيام بعد من مارك اللعني أهنا ُغ َرف ُأ ِعدت للهرب‬
‫يف حالة اهلجوم عىل القرص لكنه قام بإجراء تعديالت عليها‪.‬‬
‫أخربين أنه إن أراد اهلرب فسيهرب لذراعي مها فقط قادرتني‬
‫عىل محايته‪ ،‬أدركت من حديثه فيام بعد أن الوصيفات الاليت كن‬
‫خيدمنني مل خيترَ ْ هن إبرام بل كن تابعني له‪ ،‬ينقلن له كل أخباري‬
‫وينفذن كل أوامره‪.‬‬

‫عكفت يف األيام التالية عىل التواصل مع أورنيال‪ ،‬إهنا فتاة‬


‫مرحة تؤنس وحديت‪ ،‬أطلعتني عىل أحوال القرص‪ ،‬أصبحت‬
‫األوقات التي أقضيها وحدي أكثر إثارة‪ ،‬لو عاش ابني لكان‬
‫بمثل عمرها حينام أخربهتا ذلك بإحدى املرات طلبت مني أن‬
‫أحكي عنه‪ ،‬علمت فيام بعد أننا نتشارك الذكريات أي أهنا ترى ما‬
‫أستدعيه لعقيل من ذكريات رؤيا العني ألهنا سألتني‪:‬‬
‫“كل أطفال مملكة الضارما حيملون هذه العالمة عند‬
‫والدهتم؟”‬
‫“كل ذكر أو أنثى يولدون لفرد من أبناء الضارما داخل‬
‫اململكة أو خارجها حيمل هذه العالمة‪”.‬‬
‫“لكن الولد الذي أعطاه لك مارك مل يكن حيملها‪”.‬‬
‫استدعيت هذه الذكرى لعقيل جمد ًدا‪ ،‬وكأنني عدت بالزمن‬
‫للوراء‪ ،‬حزين وقتها عىل طفيل الذي فقدته مل يسمح يل أن أالحظ‬
‫الشامة لكنني اآلن أرى‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫“هذا الطفل ليس ابني‪ ،‬لقد خدعني اللعني‪ ،‬لكنك حتملينها‪..‬‬
‫ِ‬
‫أنت؟”‬
‫هزت رأسها والدموع تتسابق للقفز من عينيها‪:‬‬
‫“أنا ابنتك‪ ..‬أنا ابنة كايال وإبرام‪”.‬‬
‫وضعت قبضتي عىل قلبي ولكمته عدة مرات‪ ،‬كنت أعتقد أنه‬
‫سيرتكني ويقفز‪.‬‬
‫ابنتي عىل قيد احلياة‪ ،‬ابنتي فتاة شابة مجيلة ذكية ورثت قدرات‬
‫تفوق قدرايت‪ ،‬أسعدتني تلك املفاجأة كام مل أفرح يو ًما‪ ،‬كام أهنا‬
‫زادت كرهي ملارك الذي خان شقيقه وحرمني من رؤية ابنتي‬
‫تكرب أمام عيني‪ .‬‬

‫‪115‬‬
‫فيكتور‬

‫كنت أجلس بغرفتي وقد اقرتبت من إهناء زجاجة اخلمر‬


‫الثانية‪ ،‬أفكر فيام فعلته أورنيال باملحاكمة‪ ،‬كانت هادئة من بعد‬
‫ما فعلته بذلك اخلادم يوجني وكأنه مل يكن هلا سوى خادم فعالً‪،‬‬
‫وكأنني كان يخُ يل يل أهنا حتبه‪ ،‬كان الوغد حيبها‪ ،‬فمن ال حيب‬
‫أورنيال؟‬
‫لكنها مل حتزن ذلك احلزن الذي حتزنه املرأة عىل حبيبها‪ ،‬لقد‬
‫روحا‪ ،‬كام فعلت من قبل حينام‬
‫غضبت وبكت فقط ألنني أزهقت ً‬
‫غرست سهمي بغزال يمرح بحديقتها‪ ،‬لقد أبدت حينها نفس رد‬
‫الفعل‪.‬‬
‫هذه املرأة حتريين‪ ،‬ال أستطيع فهمها‪ ،‬ال أستطيع توقع‬
‫ترصفاهتا‪ ،‬ال تشبه باقي النساء بيشء‪ ،‬رفعت رأيس عن الكأس‬
‫الذي مألته للتو ألراها أمامي‪ ،‬أورنيال البهية ذاهتا بردائها‬
‫األبيض‪ ،‬ليس ذلك الرداء املحتشم املعتاد الذي ترتديه بحجرة‬
‫صاف أكثر فتنة‪ ،‬يكشف‬‫ٍ‬ ‫العبادة أو بجولتها باملدينة بل رداء نقي‬
‫ذهبي‬
‫ٌّ‬ ‫عن كتفيها وحيدد استدارة صدرها‪ ،‬يطوق خرصها حزام‬
‫يشبه ورق األشجار ثم ينسدل حتى أسفل قدميها لكنه مشقوق‬

‫‪116‬‬
‫بطريقة ما جتعل ساقها املرمرية تظهر أثناء السري‪ ،‬حتى إنه كشف‬
‫عن اخللخال الذي ترتديه وكأهنا متازحني باهلراء الذي تفوهت به‬
‫من قبل بسبب غضبي‪.‬‬
‫بدت يل مالك يرتدي رداء اخلطيئة‪ ،‬راقبتها تقرتب وأنا أعلم‬
‫أهنا من صنع خيايل‪ ،‬يبدو أن اخلمر قد فعل أفاعيله بعقيل‪.‬‬
‫فليفعل كام يشاء‪ ،‬ما أمجل طلتها!‬
‫وما أعذب رائحتها!‬
‫هنضت وأنا أهتز‪ ،‬ال مل أكن أنا الذي هيتز بل هي وجدران‬
‫الغرفة‪..‬‬
‫أمسكت كأيس من يدي‪ ،‬أدارت ما به مرتني ثم رشبته‪..‬‬
‫وحتدثت ممتعضة‪:‬‬
‫“ما أقبح ذوقك!‪ ،‬ما هذا الذي ترشبه؟”‬
‫مزعجا لكن‬
‫ً‬ ‫‏رمت الكأس املعدين عىل األرض فأصدر صوتًا‬
‫الصوت نبهني أهنا مل تكن من صنع عقيل بل تقف أمامي حلماً‬
‫ود ًما‪ ،‬حلام أبيض ناعم يكاد ُي ِ‬
‫ظهر أعضاءها من فرط نقائه‪.‬‬
‫‏”أورنيال‪”.‬‬
‫‏مهست ترد حتيتي‪:‬‬
‫‏”فيكتور‪”.‬‬
‫‏”لو كنت أعلم أنك سترشفينني بزيارتك الليلة لكنت بدوت‬
‫بأفضل هيئة‪”.‬‬

‫‪117‬‬
‫‏نظرت لقمييص املفتوح وشعري الذي حترك كيفام اتفق بعد‬
‫أن قررت أن أكرس قوانني املبجلني وأسمح له أن يطول وقالت‪:‬‬
‫‏”تبدو هيئتك جيدة‪ ،‬متا ًما كام عهدتك‪”.‬‬
‫‏”لنجلس ثم ختربيني كيف أستطيع أن أهبجك‪”.‬‬
‫‏اقرتبت مني‪ ،‬قبضت عىل حافتي قمييص املفتوح بيدها‬
‫وجذبتني منه ثم وضعت يدها خلف رقبتي‬
‫‏كانت هذه هي املرة األوىل التي أكون هبا هبذا القرب معها‪،‬‬
‫املرة األوىل التي تلمسني هبا بإرادهتا‪.‬‬
‫لنر ذلك”‬
‫‏”أتعتقد أنك تستطيع إهباجي؟ َ‬
‫‏رفعت شفتيها الورديتني والتقمت شفتي‪ ،‬شعرت وكأن‬
‫هناك آالف الدبابيس التي توخز شفتي‪ ،‬لكنه أمل حمبب‪ ،‬أمل أرغب‬
‫قدرا أكرب‪.‬‬
‫يف أن أتلقى منه ً‬
‫غرست يدي بشعرها و‏وضعت األخرى عىل ظهرها ألقرهبا‬
‫مني أكثر لعل الوخز الذي رسى بكل خاليا جسدي هيدأ‪ ،‬لكني‬
‫كنت كمن يطفئ النار بنار أكثر‪.‬‬
‫ابتعدت عني بنفس الرسعة التي اقرتبت هبا وذهبت جتاه‬
‫الباب لتخرج فركضت خلفها وأمسكت بيدها‪.‬‬
‫‏”ملاذا؟”‬
‫نظرت ليدي املمسكة هبا‪:‬‬

‫‪118‬‬
‫‏”لقد قتلت يوجني ألنه أحبني‪ ،‬ثم أخربتني أنك تك ّن ح ًّبا يل‬
‫ال يتسع له صدرك فأتيت كي أراه‪”..‬‬
‫الطريق لنهايته‬
‫َ‬ ‫“أك َْر ُه ما تفعلينه يب يا أورنيال‪ ،‬إما أن تقطعي‬
‫فتلوثيها ٍ‬
‫بغبار دون سري‪.‬‬ ‫ِ‬
‫األرض ِّ‬ ‫أو ال تضعي قد َمك عىل‬
‫اخلمر يف ُعرفك‬‫ٍ‬ ‫وأنت تعلمني َّ‬
‫أن شرُ ْ َب‬ ‫ِ‬ ‫ترشفني رشف َة ٍ‬
‫مخر‬
‫ت بدروب ُسك ِْره‪ ،‬وال‬ ‫بمذاقه وتهُ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استمتعت‬ ‫أنت التي‬‫خطيئ ٌة‪ ،‬ال ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫أنت التي تركتيه ُز ْهدً ا وإيامنًا‪.‬‬
‫ب ثم تبتعدين‬ ‫ُت َق ِّبلني شفاهي‪ ،‬متألين أعضائي بوقود احلُ ِّ‬
‫أعددت هلا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الرحلة التي‬ ‫رافض ًة بدء ِّ‬
‫تعشقني اآلثام‪ ،‬ترتكبني الذنوب وال تنهينها خو ًفا من‬
‫استمتعت باخلطيئة قبل النَّدم‪ ،‬وال تع َّف ِ‬
‫فت‬ ‫ِ‬ ‫العقاب‪ ،‬ال ِ‬
‫أنت التي‬
‫عنها طم ًعا بالرمحة‪ ،‬تقفني باملنتصف بني أبواب اجلنَّة والنَّار‪ ،‬ال‬
‫تعلمني ألهيام تنتمني‪.‬‬
‫ما تفعلينه يب ٌ‬
‫قاتل‪ ،‬يدفعني للجنون‪ ،‬يفقدين عقيل‪.‬‏”‬
‫قالت وهي تسحب يدهامن يدي وتغادر‬
‫“ال تدعي فقدان يشء ال متلكه يا فيكتور‪”.‬‬
‫كأسا آخر كي أمأله‪ ،‬كنت ال أزال‬
‫جلست جمد ًدا‪ ،‬سحبت ً‬
‫أشعر بدفء شفاهها عىل شفاهي‪ ،‬رميت الكأس وأمسكت‬
‫الزجاجة وجترعت فأسقطت قطرات عىل جانبي فمي وصدري‪..‬‬
‫آآه يا أورنيال‪..‬‬

‫‪119‬‬
‫قبلتِني وأنا أهتاوي بني الوعي والال وعي فثملت‪..‬‬
‫سكرا بك‪..‬‬
‫سكرا بخمر وإنام ً‬
‫ليس ً‬
‫أيتها الفاتنة‪..‬‬
‫ملموس فلطاملا‬
‫ٌ‬ ‫واقع‬
‫ٌ‬ ‫أصبحت أحالم املنامات اآلن وكأهنا‬
‫كنت أحلم بأنني أحتسس شعرك الناري‪..‬‬
‫وكأن أصابعي تداعب مقامات آلة موسيقية رقيقة‪ ،‬وكأنك‬
‫قيثارة‪..‬‬
‫أعزف عىل أوتارك حلنًا يثري غرائزي‪..‬‬
‫أتشبث بعزيمتي جماهدً ا السقوط يف سبايت العميق‪..‬‬
‫أقاوم‪..‬‬
‫أذوب وال أسقط‪..‬‬
‫أذوب اآلن يف خيااليت التي حركتها قبلتك‪..‬‬
‫أتوه يف صفحات وجهك األبيض‪ ،‬أحتسس شفتيك بأطراف‬
‫أناميل‪..‬‬
‫أذوق العسل من عىل أطرافهام املمتلئة‪..‬‬
‫أهلث كذئب جائع ركض أمياالً‪ ،‬مل يبلل اللحم لسانه منذ‬
‫أيا ٍم‪ ..‬بل شهور‪ ..‬بل سنوات‪ ..‬حلمك نادر وأنا ال أشتهي غريه‪.‬‬
‫ياحلظك أهيا الذئب!‬
‫هني ًئا لك حلمها الشهي‪ ،‬ويح أنيابك التي تغرزها يف عنفوان‬
‫وكأنك ترغب أن ترتك وسمك عىل كل خلية منها‬

‫‪120‬‬
‫تذيبها من اخلد إىل اخلد‪..‬‬
‫ومن الكتف إىل الكتف‪..‬‬
‫ومن الفخذ إىل الفخذ‪..‬‬
‫تطلق أنيابك املشتاقة لتنهش حلم صيدك‪ ،‬ال وقت كي متهد‬
‫الطريق فاجلوع يقتلك وغزالك صاخب‪ ،‬حاد الطباع‬
‫ال حيب اللطفاء‪ ،‬يشتهي من يغتصب كربياءه يف عنف وغلظة‪..‬‬
‫إهنا من ذلك النوع الذي يصعب إظهار ضعفه‪ ،‬إهنا فرستك‬
‫الشاردة التي أمسكت بلجامها وتستعد كي متتطيها‬
‫إهنا لبؤتك‪ ،‬شيطانتك التي متتص روحك‪ ،‬وطاقتك‪..‬‬
‫اصمد‪..‬‬
‫ال ينهكك نزاهلا‪ ،‬أنت الفارس وهي املهرة اجلاحمة‪ ،‬عليك أن‬
‫حتكم زمامها‪ ،‬اجعلها تئن‪ ،‬تزأر وتصهل أسفل منك كي توقن‬
‫من هو السيد‪ ،‬ال ترحم انوثتها‪ ،‬فأنوثتها طاغية‪..‬‬
‫أورنيال‪..‬‬
‫أيتها النارية‪..‬‬
‫يا مصيبة قاسية عىل النفوس‪..‬‬
‫أرهقني رصا ُع ِك‪..‬‬
‫سأستخدم معك أضعف أسلحتي‪..‬‬
‫لساين‪..‬‬
‫فتارة أمهس يف أذنيك بكلامت احلب الفاحشة‪..‬‬

‫‪121‬‬
‫وتارة ألعق ُسمك فأزداد قوة وتزدادين ضع ًفا‪..‬‬
‫أسلبك سمك املميت الذي تطلقينه عىل الكالب الالهثة‬
‫خلف مفاتنك املثرية‪ ،‬فأسمم به العامل كله ونبقى وحدنا‬
‫أنت اآلن ملكي‪ ،‬أنا سيدك‪.‬‬
‫اخضعي‪..‬‬
‫اخضعي يا أورنيال‪..‬‬
‫وحكم الذئب القبيلة‪.‬‬
‫َ‬ ‫فقد مىض عهد الكالب‪،‬‬

‫‪122‬‬
‫إبرام‬

‫بالفرتة املاضية تعقدت أحوال القرص‪ ،‬بالبداية حاول شقيقي‬


‫الذي كنت أتوسم به الذكاء حاول قتل أورنيال خو ًفا من زيادة‬
‫نفوذها ثم قتل ابنه املجنون فيكتور حارسها الشخيص ألنه يشعر‬
‫بالغرية منه‪ ،‬مل يعد بإمكاين مراقبة ما حيدث بصمت كام اعتدت‪،‬‬
‫فهناك مشاعر غامضة تربطني بتلك البنت وكأهنا جز ٌء مني‪ .‬دق‬
‫باب جناحي‪ ،‬ظهر حاريس ومن خلفه ظهرت أورنيال وكأهنا‬
‫خرجت من أفكاري‪ ،‬تال دخوهلا دخول أخي أندروس ثم رجل‬
‫مل َأره من قبل حيمل لفة أوراق‪ ،‬هذه الزيارة غري املتوقعة بنصف‬
‫الليل قد أخافتني‪ ،‬رفعت حاجبي لعل أحدهم يتحدث‪ ،‬كانت‬
‫أورنيال شجاعة كام عهدهتا وبدأت يف التفسري يل‪:‬‬
‫“سيدي‪ ،‬أنت بالطبع تتساءل ملاذا حرضنا م ًعا هبذا الوقت‪،‬‬
‫لذا سأحتدث رسي ًعا قبل أن ينتبه أحد لوجودنا‪”.‬‬
‫هز شقيقي رأسه وكأنه يوافقها‪:‬‬
‫“لقد أتينا لنجيب عن أسئلة أنكهت عقلك لسنوات‪ ..‬أين‬
‫ذهبت كايال؟ ماهو رس اختفائها؟”‬

‫‪123‬‬
‫اقرتبت منها‪..‬‬
‫“حتدثي”‬
‫“إن أتيت وأخربتك أنني رأيتها وحتدثت معها مل تكن‬
‫ستصدقني لذا أتيت لك بالدليل‪”.‬‬
‫أشارت للرجل فسحب مقعدً ا ووضع أوراقه عىل الطاولة ثم‬
‫استخدم حربي‪:‬‬
‫“لقد قطع شقيقك لسانه‪”.‬‬
‫نظرت ألندروس فقاطعتني‪:‬‬
‫“كنت أقصد املبجل مارك‪ ،‬لكن املبجل أندروس هو من‬
‫ساعدين عىل إدخاله القرص خلسة دون أن ترصده أعني مارك‬
‫وابنه‪ ،‬واآلن وجه أسئلتك له وهو سيجيب كتابة‪”.‬‬
‫ذهبت للرجل ونظرت بعينه وسألته‪:‬‬
‫“أين السيدة كايال؟”‬
‫كتب الرجل بخط يسء‪:‬‬
‫“لقد اختطفها املبجل مارك‪”.‬‬
‫“كيف تعرف‪ ،‬أثبِت يل‪”.‬‬
‫“استأجرنا املبجل مارك أنا وثالثة رجال آخرين كي نجري‬
‫تعديالت عىل أنفاق اهلروب أسفل القرص‪ ،‬أراد أن نبني غرفة‬
‫كبرية أسفل جناحه‪ ،‬يكون مدخلها بجناحه وال خمرج هلا‪ ،‬أكد‬
‫عىل أن نسد كل املخارج‪ ،‬أخربنا أهنا خلوة سيلجأ إليها كي‬

‫‪124‬‬
‫يتجىل له الرب‪ ،‬أرشفنا عىل تأثيثها‪ ،‬أصابني املرض باليوم األخري‬
‫فتخلفت عن احلضور‪ ،‬كنت حمظو ًظا؛ ألن املبجل أمر حارسه‬
‫بقتل عامل البناء‪ ،‬حينام طال غياب زمالئي أتتني زوجاهتم‪،‬‬
‫رسا ألنني شعرت باخلوف‪ ،‬كان ما زال بإمكاين‬ ‫بدأت أتابع األمر ًّ‬
‫دخول القرص كعامل‪ ،‬نزلت للممرات من حجرة أخرى بعيدة‬
‫عن حجرة املبجل وصلت للغرفة السفلية التي أعددهتا أنا‬
‫وزمالئي كانت هناك فجوة صغرية يمكنني النظر هبا كنت قد‬
‫أجلت إغالقها لليوم التايل‪ ،‬حينام وضعت عيني عىل تلك الفجوة‬
‫وجدت السيدة كايال تبكي عىل الفراش وترصخ باسمك‪ ،‬كنت‬
‫قد سمعت عن خرب اختفائها بالليلة السابقة‪ ،‬صعدت جمد ًدا‬
‫وبحثت عنك‪ ،‬رآين أحد حرس املبجل ذلك الذي كان يتناوب‬
‫مع زميله وحيرضان لنا املواد الالزمة والطعام عرفت عندها أنني‬
‫سأقتل؛ لذا رصخت طال ًبا رؤيتك‪ ،‬شهد عىل رصاخي العديد من‬
‫الناس‪ ،‬هلذا السبب مل يستطع املبجل قتيل كام قتل زمالئي لكنه أمر‬
‫بقطع لساين كي ال أستطيع إخبار أحد وأمرين أال أظهر باملدينة‬
‫جمد ًدا إذا أردت أن أعيش‪”.‬‬
‫ما أخربين به كان صدمة كبرية يل‪ ،‬جلست عىل املقعد املجاور‬
‫أرضا كان جسدي يرتعد‪ ،‬كايال هنا‪ ،‬هنا بالقرب‬
‫له قبل أن أسقط ً‬
‫مني‪ ،‬مل هترب كام أخربين‪ ،‬مل تغادر بل خطفها شقيقي‪ ،‬كم مرة‬
‫وقفت بحجرته‪ ،‬هل سمعت صويت؟‬
‫هل شعرت بوجودي؟‬
‫“كيف نستطيع إنقاذها؟‪ ،‬لن نرتكها هناك ليوم آخر‪”.‬‬
‫‪125‬‬
‫“هلذا السبب أتيت‪ ،‬سننقذها قري ًبا‪ ،‬لن نفعل ذلك اليوم‪،‬‬
‫لكنني سأضمن لك رؤيتها‪ ،‬لقد سألته هل ما زال يتذكر هذه‬
‫املمرات وأخربين أنه حيفظها كخطوط كف يده؛ لذا سأجعله ينزل‬
‫هذه املمرات جمد ًدا ويرى هل ما زالت تلك الفجوة موجودة كي‬
‫تتحدث معها‪”.‬‬
‫“ال صرب لدي لكل هذا‪ ،‬لمِ َ ال نقتحم غرفته ونخرجها؟”‬
‫حتدث شقيقي للمرة األوىل منذ حضوره‪..‬‬
‫“إن فعلنا ذلك قد ينقلب علينا ويلفق كذبة ويرمينا بالسجن‬
‫أو يقطع رقابنا‪ ،‬فكر قلي ً‬
‫ال فيمن سيصدقه العامة أنت أم املبجل‬
‫الذي يتجىل له الرب؟”‬
‫“لقد قال املبجل أندروس الصواب‪ ،‬كام أنه هناك أمر آخر‬
‫أرغب بإخبارك به‪”.‬‬
‫نظرت هلا غري واثق هل ال زال لدي طاقة لتحمل املزيد من‬
‫األخبار الصادمة‬
‫“لقد أومهك املبجل مارك أنك عاجز عن اإلنجاب‪ ،‬لكي‬
‫يضمن والءك له‪ ،‬لكنك تنجب‪”.‬‬
‫“أنا أنجب؟ ماذا عن كل النساء اللوايت‪”...‬‬
‫“لقد أجرب كل امرأة عرفتها عىل تناول عشبة العفة‪ ،‬بإمكانك‬
‫التأكد منهن بنفسك إن أردت‪ ،‬لكن أنا لدي دليل أقوى‪”.‬‬
‫“ما هو؟”‬

‫‪126‬‬
‫“لقد كانت السيدة كايال حتمل طفلك بالفعل عندما تم‬
‫اختطافها‪”.‬‬
‫“طفيل؟”‬
‫رأيت نظرات الشفقة بعينني شقيقي الذي ربت عىل كتفي ‪.‬‬
‫“لقد أحرض هلا امرأة من نساء السادة‪ ،‬كانت عشيقته‪ ،‬حتمل‬
‫طفله كي ترعاها أثناء محلها‪ ،‬لكنهام أتتهام آالم املخاض معا‪،‬‬
‫مات الولد الذي أنجبته املرأة بينام ولدت طفلة كايال بصحة‬
‫جيدة‪ ،‬لكنه أرادها لنفسه فقط؛ لذا أعطاها الولد امليت لتحمله‬
‫ال ثم أخربها أنه سيدفن ابنها بطريقة الئقة‪ ،‬بينام دفع الطفلة‬‫قلي ً‬
‫حلضن املرأة األخرى لتعتني هبا عىل أهنا طفلتها‪ ،‬لكنه غدر هبا‬
‫خو ًفا من أن تفضحه فقتلها‪ ،‬عاشت كايال وهي تظن أن طفلها قد‬
‫مات حتى دامهتني رؤى بشأهنا واستطعنا التواصل‪ ،‬حينام كانت‬
‫تتذكر ما حدث كنت أرى املشاهد بعقلها أمامي وكأين أعيشها‬
‫لذا مل أفوت مالحظة أن الطفل ُولِدَ بدون شامة بينام حتمل الطفلة‬
‫واحدة مماثلة‪”.‬‬
‫أمسكت كتفيها ونظرت للشامة‪:‬‬
‫ِ‬
‫“أنت ابنة كايال‪ ..‬ابنتي”‬
‫ضممتها لصدري وأنا أسأهلا كي تؤكد يل‪.‬‬
‫“أنا ابنتها‪ ..‬ابنتك‪”.‬‬
‫“أمك تعرف؟‪ ..‬أنت أخربهتا؟”‬
‫“نبهتها فاستنتجت وحدها الرابط‪ ،‬أمي تنتظرنا وهي واثقة‬

‫‪127‬‬
‫أن ابنتها وحبيبها لن يرتكاها تتعفن بسجن مارك وأننا سنحقق‬
‫انتقامها‪ ،‬ولكي نفعل ذلك علينا أن نخطط بصرب‪ ،‬هل فهمت‬
‫خطورة أخذ خطوة خاطئة يا أيب؟”‬
‫دمعت عيني‪ ..‬هززت رأيس ونظرت لشقيقي ثم مددت له‬
‫يدي‪:‬‬
‫“أشكرك‪”.‬‬
‫قبض عىل يدي بقوة‪:‬‬
‫“أنا أرد ديني‪ ،‬وأحقق انتقامي‪”.‬‬
‫ابتعدت أورنيال عن ذراعي‪ ،‬نظرت لعيني‪.‬‬
‫“سأقوم غدً ا بإبعاد املبجل عن حجرته طوال اليوم حتى‬
‫يتثنى لك رؤية أمي واحلديث معها‪”.‬‬
‫أشارت للرجل الذي هز رأسه‪.‬‬
‫صباحا‬
‫ً‬ ‫“سيسبقك كي يتأكد من املمرات‪ ،‬وسينتظرك غدً ا‬
‫بالغرفة الرشقية‪ ،‬يوجد هبذه الغرفة املدخل الذي نريده‪ ،‬سيؤمن‬
‫حرايس دخولك وخروجك فأنا ال أثق برجالك‪ ،‬ما زلنا غري‬
‫واثقني من والئهم‪”.‬‬
‫هززت رأيس وتابعت‪:‬‬
‫“ستكون هذه هي زيارتك الوحيدة هلا‪ ،‬لن نعرض أنفسنا‬
‫أيضا تدرك ذلك‪”.‬‬
‫خلطر أن يرانا أحد‪ ،‬أمي ً‬
‫“ه َّيا بنا يا عمي‪”.‬‬

‫‪128‬‬
‫ارتعدت شفاه أندروس وكأنه مل يتخيل أن تناديه هبذا اللقب‬
‫فأحنى رأسه هلا وغادر أوالً ليتأكد من خلو الطريق‪ ،‬هزت رأسها‬
‫يل‪:‬‬
‫“أيب‪”.‬‬
‫هززت رأيس غري مصدق‪.‬‬
‫خرجت وهي حتني رأسها وتنظر للرجل الذي وضع الورقة‬
‫التي كتب عليها بطبق‪ ،‬أشعلها‪ ،‬راقبها حترتق هبدوء ثم غادر‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫املبجل مارك‬

‫فور استيقاظي تلقيت دعوة من أورنيال لقضاء اليوم برفقتها‪،‬‬


‫رغم أهنا أرسلت يل وصيفتها اخلاصة إال أنني ما زلت مرتا ًبا‪،‬‬
‫طلبت من احلرس مرافقتي‪ ،‬استقبلتني أمام باب خلوهتا‪ ،‬أحنت‬
‫يل رأسها ومهست‪:‬‬
‫“سيدي املبجل‪ ،‬ممتنة لك لقبولك دعويت خللويت املتواضعة‪”.‬‬
‫دخلت قبيل ثم تبعتها وبعد نظرة رسيعة أرشت للحرس كي‬
‫ينتظروين‪ ،‬مررت داخل حجرهتا واجتهنا للحديقة حيث وجدت‬
‫طاولة جمهزة بإفطار شهي‪ ،‬أشارت يل كي أجلس عىل املقعد‬
‫وحينام فعلت جلست بجواري ثم مهست بصوهتا اجلميل‪:‬‬
‫“خالل األيام املاضية حدثت الكثري من األحداث املؤملة لنا‬
‫كثريا لوال دعمك املستمر يل؛ لذا‬
‫مجي ًعا‪ ،‬لكني كنت سأعاين ً‬
‫إفطارا بنفيس‪،‬‬
‫ً‬ ‫أردت أن أشكرك بطريقتي اخلاصة‪ ،‬أعددت لك‬
‫كل يشء عىل الطاولة مجعته من حديقتي‪”.‬‬
‫نظرت للطعام الشهي وابتسمت‪:‬‬
‫“أووه‪ ،‬عزيزيت أورنيال‪ ،‬كم ِ‬
‫أنت حلوة ولطيفة!”‬

‫‪130‬‬
‫وضعت يدها عىل يدي ونظرت يل بتلكام العينني‪:‬‬
‫“ال تعلم كم يعني يل ذلك‪ ،‬أنا حمظوظة ألنك أحتت يل‬
‫الفرصة كي أكون بالقرب منك‪”.‬‬
‫سألتها وكانت اإلجابة حقا هتمني‪.‬‬
‫“هل القرب مني هبذه األمهية بالنسبة لك؟”‬
‫سحبت يدي ووضعتها بني كفيها الدافئني‪.‬‬
‫“سيدي‪ ..‬أنت الرجل الوحيد الذي أثق به‪ ،‬أتعلم أنا أشعر‬
‫باخلوف منذ حاول أحدهم قتيل‪ ،‬ال أستطيع التحكم بدقات‬
‫قلبي التي تدق بجنون حينام أكون وحيدة‪ ،‬لكنني وأنا اآلن‬
‫بجوارك أشعر باألمان‪”.‬‬
‫َج َذ َبت يدي برقة ووضعتها عىل صدرها حيث قلبها ومهست‬
‫“أترى؟ دقات ثابتة‪ ،‬قلبي مطمئن‪”.‬‬
‫الفتاة تنظر يل برباءة محل وكأهنا ال تُدرك تأثري ملستها عىل رجل‪،‬‬
‫سحبت يدي ووضعتها عىل وجهها فأمالته جتاه كفي وأغمضت‬
‫ال ال تُدرك تأثري ملستها‪ ،‬أنا اآلن بورطة‪ ،‬تلك‬ ‫عينيها‪ ،‬هي فع ً‬
‫اللمسات أيقظت رجولتي والعذراء ما زالت مغمضة العينني‪.‬‬
‫“أورنيال‪ ،‬أنت هبة من الرب‪ ،‬أنت هديته يل‪”.‬‬
‫ٍ‬
‫ببطء ملست شفاهها كفي بقبلة رسيعة مهست‬ ‫حركت وجهها‬
‫عىل إثرها‪:‬‬
‫“أشكرك سيدي‪”.‬‬

‫‪131‬‬
‫أووه‪ ،‬عزيزيت أورنيال إن أدركت األفكار التي خطرت لسيدك‬
‫بشأنك ستهربني من جواره‪.‬‬
‫“دعينا ال نضيع املجهود الذي بذلته من أجل إعداد هذه‬
‫الطاولة‪”.‬‬
‫وضعت الطعام بفمي وأنا أفكر‪ ،‬هل متيل إ َّيل؟‬
‫لقد كانت دائماً تترصف بود فهي فتاة لطيفة‪ ،‬لكن الود زائد‬
‫مؤخرا‪ ،‬بالطبع فلقد مرت الفتاة بالعديد من الكوارث املتتالية‬
‫ً‬
‫ورغم أنك أنت وابنك كنتام وراء كل ما حدث هلا لكنها تراك‬
‫كبطلها‪ ،‬بالطبع سرتاين كبطلها ألنني بعد كل حادثة كنت أذهب‬
‫إليها ألقدم الدعم‪.‬‬
‫بعد أن فشل احلارس الغبي بقتلها بسبب ذلك املتمرد يوجني‬
‫أوعزت لفيكتور أن ذلك احلارس حيبها‪ ،‬كان من السهل استفزازه‬
‫أيضا‬
‫وزرع الشكوك برأسه فأنا من ربيته وأعلم جيدً ا هتوره‪ ،‬هو ً‬
‫كان مستعدً ا لقتله ألنه ال يريد أي رجل بالقرب منها حتى وإن‬
‫كان جمرد حارس‪ ،‬كنت أخطط للتخلص منها بعد موت حارسها‬
‫لكن الفتاة بنفسها نفت يل شكوكي بوالئها وأدركت أهنا ال تسعى‬
‫للسلطة وأن الفكرة نفسها ختيفها‪ ،‬فهي ختتبئ هنا بخلوهتا أغلب‬ ‫ُّ‬
‫الوقت بعيدً ا عن العيون؛ لذا قررت اإلبقاء عىل حياهتا واالستفادة‬
‫منها أقىص استفادة‪ ،‬حقيقة كانت فكرة قتلها حتزنني‪ ،‬كيف يلمس‬
‫الرتاب جسدها‪ ،‬كيف جيرؤ الدوود أن ينهش حلمها‪ ،‬إهنا مجيلة‬

‫‪132‬‬
‫جدًّ ا‪ ،‬أمجل من أمها‪ ،‬نسخة جيدة منها‪ ،‬مطيعة أكثر‪ ،‬الطاعة هي‬
‫نقطة ضعفي‪ ،‬حينام هتمس بصوهتا املثري (سيدي) تستيقظ كل‬
‫حوايس‪.‬‬
‫“أنت مل تذق العسل يا سيدي‪”.‬‬
‫انتبهت ألهنا حتدثني‪ ،‬أدرت وجهي هلا فوجدهتا متسك بني‬
‫أصابعها الرقيقة قطعة خبز قد غمستها بالعسل وتقرهبا من فمي‬
‫ففرقت بني شفتي‪:‬‬
‫“أنت مل تذق العسل‪ ،‬إنه نوع جيد أرشفت عىل صنعه‬
‫بيدي‪”.‬‬
‫وضعتها بفمي فأطبقت شفتاي عىل أصابعها فابتسمت‪:‬‬
‫“إنه جيد‪ ،‬جيد جدًّ ا‪”.‬‬
‫“كنت واثقة أنك ستحبه‪”.‬‬
‫“إنه مثايل‪ ،‬مثايل جدًّ ا‪ ،‬مثلك‪”.‬‬
‫ال أم أنه ُخيل يل؟‬
‫هل ختضب لوهنا خج ً‬
‫“عزيزيت أورنيال ‪...‬أنت حتمرين خجالً‪”.‬‬
‫صمتت الفتاة يبدو أهنا ال جتد ما تقوله‪ ،‬فأردت أن أحدثها‬
‫وجها لوجه ألرى رد فعلها‪:‬‬
‫ً‬
‫“أورنيال‪”..‬‬
‫“سيدي‪”..‬‬
‫“ما رأيك بفيكتور؟‪ ،‬حتدثي دون خوف‪”.‬‬

‫‪133‬‬
‫“سيدي املبجل‪ ،‬أعلم أن األمر يبدو غري ًبا أن أحتدث عن‬
‫ابنك معك لكنني سأحتدث رغم ذلك‪”.‬‬
‫“حتدثي ياعزيزيت‪ ،‬هذا ما أريده‪”.‬‬
‫“إنه متهور‪ ،‬ليس لديه حكمتك‪ ،‬أنا أشعر باخلوف بجانبه‬
‫ألنني ال آمن رد فعله‪ ،‬أنت مل َتره وهو يطعن حاريس‪ ،‬كان‬
‫صمت وأخفيت األمر كرامة لك‪ ،‬وادعيت‬ ‫ُّ‬ ‫وحشا‪ ،‬خمي ًفا‪ ،‬ولقد‬
‫ً‬
‫أن من حاول قتيل قد قتله‪ ،‬لكني ح ًّقا أخشاه ً‬
‫كثريا‪”.‬‬
‫ارتعدت الفتاة للذكرى‪ ،‬فطوقت كتفها بذراعي وضممتها‬
‫لصدري فوضعت كفها عىل صدري ويدها عىل كتفي‬
‫“أعلم أنه خييفك‪ ،‬حقيقة إنه خييفني ببعض األوقات وكأن‬
‫الشيطان يسكنه‪ ،‬كالنا نعلم أنه يريدك‪ ،‬لكني سأتدخل باألمر‪،‬‬
‫كوين مطمئنة لن يصيبك أذى وأنت بجواري‪”.‬‬
‫“أووه‪ ،‬سيدي‪ ،‬ال أعرف ح ًّقا ماذا أقول لك‪”.‬‬
‫“ال داعي للحديث‪ ،‬أنا سأتوىل كل أمورك منذ هذه اللحظة‪”.‬‬
‫رفعت وجهها لتعرتض فلمست شفاهها ذقني‪:‬‬
‫“ولكن‪..‬؟”‬
‫“ششش‪”...‬‬
‫مررت يدي بشعرها فاتسعت عيناها وكأهنا تفاجأت مما فعلته‬
‫فهمست بصوت أجش حممل بالعاطفة‪:‬‬
‫قبضت عىل اجلمر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫“أشعر حينام أقبض عىل شعرك وكأنني‬

‫‪134‬‬
‫أنت تشبهني بركان أورنيال‪ ،‬نارية‪ ،‬كل من يقرتب منك حيرتق‪”.‬‬
‫تنهدت‪:‬‬
‫“لكنك ال ختشى االحرتاق‪”.‬‬
‫“عزيزيت أنا مستعد لكي أحرتق من أجلك‪”.‬‬
‫مررت إهبامي ببطء عىل شفاها الوردية‪ ،‬أفكر بإحلاح أن‬
‫ألتقطها بشفاهي‪ ،‬كنت أوشك عىل فقدان سيطريت كل ًّيا وتنفيذ‬
‫فكريت عندما سمعت باب اجلناح يفتح ثم صوت وصيفتها يأيت‬
‫من بعيد‪:‬‬
‫“سيديت‪”..‬‬
‫ابتعدت عنها والتقطت أنفايس بينام أتى صوت اخلادمة‪:‬‬
‫“هل أرفع األطباق وأحرض الرشاب؟”‬
‫نظرت يل وكأهنا تطلب إذين فأومأت مواف ًقا‪ ،‬كم هي حلوة‪.‬‬
‫“أحتب أن نسري قلي ً‬
‫ال يا سيدي‪ ،‬هواء الصباح بكر ينعش‬
‫الصدر‪”.‬‬
‫نظرت لصدرها قلي ً‬
‫ال قبل أن أردد‪:‬‬
‫“لمِ َ ال‪”..‬‬

‫‪135‬‬
‫أورنيال‬

‫خوف املبجل فور‬


‫ُ‬ ‫لقد حدث كل ما أردته بشكل مثايل‪ ،‬تبدَّ د‬
‫دخوله حجريت‪ ،‬أدرته كخاتم بإصبعي‪ ،‬لكن األمر الذي أسعدين‬
‫حدث‪ ،‬رأيت ظِل فيكتور الذي دخل‬ ‫َ‬ ‫جدًّ ا هو أن ما رتبت له قد‬
‫هبدوء عندما رأى حرس أبيه أمام الباب‪ ،‬وصل يف تلك‬ ‫ٍ‬ ‫جناحي‬
‫اللحظة التي ضمني فيها املبجل لصدره‪ ،‬كانت عالمات الدهشة‬
‫مرسومة عىل وجهي تلك التي مل َيرها إال فيكتور وكأنني تفاجأت‬
‫مما فعله املبجل‪.‬‬
‫حتى اعرتايض الصغري الضعيف الذي فرسه املبجل عىل أنه‬
‫شكر‪ ،‬فرسه فيكتور عىل أنه رفض ملا يفعله والده معي أتى بثامره؛‬
‫ٌ‬
‫ألنه زارين بعد مغادرة والده‪ ،‬لقد حرصت عىل إبقائه حتى أتتني‬
‫اإلشارة التي كنت أنتظرها‪ ،‬كنت قد اتفقت مع أماندا أن تأيت‬
‫حينام ينهي املبجل إبرام عمله ويعود لغرفته‪ ،‬وقد أتت متحججة‬
‫برفع األطباق بالوقت املناسب متا ًما‪ ،‬مل أكن أختيل إن تأخرت‬
‫ال ماذا سيحدث يل‪ ،‬كنت سأضطر إىل تقبيله‪ ،‬وكنت سأفرغ‬ ‫قلي ً‬
‫ما بمعديت أسفل قدميه فيكشف كرهي له كل خطتي‪.‬‬
‫مل تكن زياريت لفيكتور دون سبب‪ ،‬لقد أردت أن أخربه أنني‬

‫‪136‬‬
‫بدأت أميل إليه‪ ،‬أزرع أم ً‬
‫ال داخله أنني أريده‪ ،‬مل يكن بإمكاين فعل‬
‫ذلك وهو بكامل وعيه ألنه سيفكر‪ ،‬حيلل‪ ،‬ويشك‪ ،‬لكنني فعلت‬
‫ذلك حينام أخربتني إحدى وصيفايت الاليت استطعت وضعهن‬
‫بخدمته لينقلن يل أدق ترصفاته أنه أصبح ثمالً‪ ،‬وحينام يثمل‬
‫فيكتور تتداخل اخلياالت مع الواقع بعقله‪ ،‬خاصة أنه يرشب‬
‫اخلمر مع تلك األعشاب التي يدخنها فيصبح التأثري مضاع ًفا‪ ،‬لقد‬
‫أحرضت يل وصيفتي عينة صغرية من هذه األعشاب‪ ،‬عكفت عىل‬
‫دراستها واكتشفت أهنا تسبب هالوس إن تم تدخينها بكمية كبرية‪.‬‬
‫أمرت وصيفتي بأن متزج كمية منه مع كمية أخرى من البخور‬
‫وتضعهم عىل النار لتعطر الغرفة‪ ،‬وقد استنشقها حتى آخر نفس‬
‫ٍ‬
‫صغري مني سيجعله‬ ‫ٍ‬
‫ضغط‬ ‫أي‬
‫فأصبح عجينة لينة سهلة التشكيل‪ُّ ،‬‬
‫يستسل؛ لذا غازلته‪ ،‬ق َّبلته ثم غادرت وأنا مدرك ٌة أن عقله قد‬
‫خدعه وهيأ له أنه قد قىض ليلته معي‪.‬‬
‫كان عليه أن يتأكد من هالوسه‪ ،‬أن خيمد تساؤالته؛ لذا كانت‬
‫زيارته يل متوقعة صبيحة اليوم التايل عندما يستيقظ ويذهب أثر‬
‫اخلمر‪ ،‬وهذا ما دفعني الغتنام هذه الفرصة بدعوة والده‪ ،‬اآلن‬
‫فيكتور يعتقد أن والده قد طمع يب‪ ،‬وعليه أن يترصف كي يمنعه‬
‫من التفكري بذلك‪.‬‬
‫جلست أحتفل بغرس بذرة اخلالف األوىل بني املبجل وابنه‪،‬‬
‫كنت قد مللت من التجول والدردشة معه عن النباتات‪ ،‬احلديقة‬
‫أمورا حتتاج تدخله‪،‬‬
‫ً‬ ‫واملنحل حتى أتاه حارسه خيربه أن هناك‬
‫أمسك يدي‪ ،‬قبلها ثم مهس‪:‬‬
‫‪137‬‬
‫“عزيزيت‪ ،‬ال يمكنني اهلروب من العمل لوقت أطول‪ ،‬لكنني‬
‫سأكرر الزيارة‪”.‬‬
‫أحنيت له رأيس وابتسمت‪:‬‬
‫“سأنتظر بشغف‪”.‬‬
‫مل أكد أستنشق هوا ًء خال ًيا من أنفاسه حتى أتى فيكتور وقاطع‬
‫جلستي وكأنه كان ينتظره باخلارج‪ ،‬ابتسمت له وأرشت إىل املقعد‬
‫املقابل فنظر له بسخرية وجلس بجواري‪ ،‬سألته برباءة زائفة‪:‬‬
‫“هل التقيت باملبجل مارك باخلارج؟”‬
‫نظر يل قلي ً‬
‫ال وبدا أنه يفكر بإجابته ثم سألني‪:‬‬
‫“هل زارك اليوم؟”‬
‫ابتسمت‪ ،‬يبدو أنه يتعمد إخفاء أنه رآنا‪ ،‬هل خيتربين؟‪ ..‬لنرى‪..‬‬
‫“لقد غادره لتوه‪ ،‬وبام أنك أتيت بعده مبارشة فتوقعت أنك‬
‫ربام تكون صادفته بالرواق‪”.‬‬
‫تنهد وكأنه حائر‪:‬‬
‫“مل أره اليوم‪”.‬‬
‫رفعت وجهي للسامء وقلت‪:‬‬
‫“أنت حمظوظ‪ ،‬كان يبدو يل غري ًبا اليوم‪”.‬‬
‫ضاقت عيناه وسألني‪:‬‬
‫“ح ًّقا؟‪ ..‬فسرِّ ي يل‪ ،‬لقد استيقظت لتوي ويبدو أن عقيل‬
‫مشتت‪”.‬‬

‫‪138‬‬
‫دفع اهلواء شعري فغطى وجهي‪ ،‬سبقت أصابعه أصابعي‬
‫وأبعدت اخلصالت النارية عن عيني‪:‬‬
‫“كان يبدو يل مرتبكًا‪ ،‬كثري التعرق وكأنه مريض‪ ،‬كام أنه‪”...‬‬
‫توقفت عن احلديث وضغطت بأسناين عىل شفاهي فسألني‪:‬‬
‫“كام أنه؟؟”‬
‫“انيس ذلك‪ ،‬لست معتادة عىل رشب اخلمر لكنه أرص‬
‫فرشبت معه‪ ،‬يبدو أهنا أدارت رأيس فدامهتني أفكار خاطئة‪”.‬‬
‫وضع يده عى يدي املمسكة بالكأس ورفعها لفمه فارتشف‬
‫ما به مرة واحدة وتابع‪:‬‬
‫“أفكار خاطئة مثل ماذا؟”‬
‫وضعت الكأس عىل الطاولة ومهست‪:‬‬
‫“أنت تعلم أنني نشأت وحدي‪ ،‬أخربوين كام ما يعلم اجلميع‬
‫بموت أيب وأمي‪ ،‬كنت أتعامل مع املبجل دائماً وكأنه أيب‪ ،‬سلطته‬
‫عىل أبويه قبل أن يكون املبجل حاكم املدينة؛ لذا كنت أركض‬
‫إليه كلام شعرت بالضيق‪ ،‬اعتدت دعمه ومساعدته‪ ،‬لكنني أشعر‬
‫هذه املرة وكأن هناك شي ًئا قد اختلف‪ ،‬ال أعتقد أنه يمكنني أن‬
‫أرشح لك‪ ،‬ال هتتم‪”..‬‬
‫َ‬
‫عروق يده البارزة فعلمت أنني قد‬ ‫أغلق قبضته بقوة فرأيت‬
‫قلت اليشء الصحيح فهمست‪:‬‬
‫“هل أغضبتك؟”‬

‫‪139‬‬
‫ابتسم‪:‬‬
‫“صدقي أو ال تصدقي‪ ،‬أنا أغضب من كل يشء يقرتب‬
‫منك حتى نسمة اهلواء التي دفعت شعرك منذ قليل‪ ،‬لكنني ال‬
‫أستطيع الغضب منك أنت مهام فعلت‪”.‬‬
‫ابتسمت ووضعت يدي عىل قبضته ففتحتها ثم مررت يدي‬
‫عىل كفه هبدوء وسألته‪:‬‬
‫“ملن أدين هبذه الزيارة؟”‬
‫نظر بعينيه احلادتني داخل عيني وكأنه يريد أن يقتحمهام وقال‬
‫بصوت أجش‪:‬‬
‫“ ُقبلة األمس‪”.‬‬
‫رددت‪:‬‬
‫“ ُقبلة األمس‪ ..‬أمل تعجبك؟”‬
‫أمسك كفي الذي وضعته عىل قبضته ثم قلب يدينا م ًعا‬
‫ووضعها عىل ساقه وشبك أصابعه بأصابعي‪:‬‬
‫كثريا‪ ،‬أعجبتني لدرجة أنني مل أعتقد أهنا حقيقية‪”.‬‬
‫“أعجبتني ً‬
‫حرك يدينا املتشابكتني عىل ساقه‪ ،‬نظرت هلام ومهست‪:‬‬
‫“هذا يعني أنه ال توجد شكوى لدى املبجل‪”.‬‬
‫سحب يدينا ورفعهام لوجهه فلمس كفي خده‪:‬‬
‫“لدى املبجل شكوى صغرية‪”.‬‬
‫حركت كفي عىل خده وسمحت إلهبامي بلمس شفته‬

‫‪140‬‬
‫وسألته‪:‬‬
‫“هل بإمكان املبجل إخباري بشكوته؟”‬
‫“سيخربك هبا بكل رسور‪ ،‬أمريته التي اعتادت مشاكسته‬
‫بكل فرصة متاحة‪ ،‬توقفت فجأة عن حماربته وأتت لغرفته‬
‫باألمس وق َّبلته قبل ًة مل يذق مثلها أبدً ا‪”.‬‬
‫سحبت كفي لرقبته وراقبت العرق الذي ينبض بجنون‪:‬‬
‫“تبدو يل أمرية لطيفة‪”.‬‬
‫ابتسم‪:‬‬
‫“إهنا لطيفة جدًّ ا‪ ،‬لكنني حائر‪ ،‬هل تعتقدين أن ما فعلته هذا‬
‫هو استسالم ألهنا أدركت حبي هلا؟”‬
‫حركت يدي ألسفل قلي ً‬
‫ال فاستقرت عىل صدره حيث قلبه‬
‫ثم مهست‪:‬‬
‫“ال أظن أن ما فعلته هو استسالم‪ ،‬أعتقد أهنا قامت فقط‬
‫بتبديل سالحها‪”.‬‬
‫كثريا ألنه ضحك‬
‫يبدو أن ما قلته كان غري متوقع‪ ،‬وقد أعجبه ً‬
‫حتى دمعت عيناه‪:‬‬
‫أيضا أظن ذلك‪ ،‬فأمريته ذكية‪ ،‬أذكى مما يظن اجلميع‪”.‬‬
‫“أنا ً‬
‫“هل ستخضع هلا؟”‬
‫“هل تريد هي أن أخضع هلا؟”‬
‫“أووه‪ ،‬إهنا تريد حياة هادئة مع زوج حمب‪ ،‬إهنا أمرية تقليدية‪”.‬‬

‫‪141‬‬
‫“يبدو أن ما تريده هي هو نفس ما أريده أنا‪”.‬‬
‫“هذا يعني أن تنفيذه سيكون سه ً‬
‫ال عليك‪”.‬‬
‫“بنفس السهولة التي أتنفس هبا‪”.‬‬
‫سحبت يدي ومهست‪:‬‬
‫“األمرية تنتظر‪”.‬‬
‫“أورنيال‪ ..‬ال تسحبي يدك بعيدً ا‪ ،‬فهذا عقاب‪”.‬‬
‫“عقاب مستحق‪ ،‬ستنفذه األمرية بشكل مستمر حتى يتحقق‬
‫ما تريده‪”.‬‬

‫‪142‬‬
‫فيكتور‬

‫كنت مصدو ًما منذ األمس فام حدث أربك تفكريي‪ ،‬املرأة التي‬
‫طاردهتا طوال السنوات املاضية أتت لغرفتي باألمس وحدها‪،‬‬
‫ملستني‪ ،‬ق َّبلتني وعبثت بأفكاري‪ ،‬حقيقة مل أستطع التمييز بني‬
‫الواقع واخليال‪ ،‬لقد عكفت طوال ليايل السنوات املاضية عىل‬
‫خت ُّي ِلها‪ ،‬كم مرة لمُت هبا نفيس عىل حبها والتمسك هبا دون غريها؟‬
‫كم مرة دفنت وجهي بني ذراعي نساء غريها لعلهن ينسينني‬
‫الشوق الذي يأكل قلبي؟‬
‫كم مرة فكرت بقتل من يقرتب منها‪ ،‬لقد قتلت اجلرذ الذي‬
‫جترأ وملسها‪ ،‬قتلته حيث ارتكب إثمه‪ ،‬كيف جيرؤ عىل لثم شفاها‪،‬‬
‫كيف يذق ما مل أذقه؟‬
‫كل ذلك تبدَّ د عندما ملست شفاها شفاهي‪ ،‬ذلك اإلحساس‬
‫الفريد يستحق كل يشء فعلته من أجلها‪ ،‬وسأفعل أي يشء‬
‫للحصول عىل املزيد منها‪ ،‬شعرت أين نسيت كل ما عشته قبل‬
‫أن أقبلها وأنني ال أهتم بام سيحدث بعد ذلك وكأن قبلتها‬
‫مرحلة انتقائية بني ما كنت عليه وما سأكونه‪ ،‬وكأهنا طريقة الرب‬

‫‪143‬‬
‫لتطهريي‪ ،‬قد أختىل عن السلطة واملدينة والقتال رشيطة أن تبقى‬
‫معي‪ ،‬أن هنرم م ًعا‪ ،‬ال‪ ..‬بل نعيش حياة أبدية كاآلهلة‪.‬‬
‫حينام استعدت عقيل بالصباح‪ ،‬اختلطت أفكاري مع ًا‪ ،‬هل‬
‫عيل؟‬
‫أتت إىل فعالً؟ هل كانت أحد تلك اخلياالت التي تسيطر َّ‬
‫هل قبلتني؟‬
‫هل نامت بني ذراعي للصباح؟‬
‫عجزي عن اإلجابة دفعني للذهاب إليها بخلوهتا‪ ،‬ذلك‬
‫املكان اخلاص بأطراف القرص الذي يطل عىل احلدائق‪ ،‬لكنني‬
‫رأيت حرس والدي أمام حجرهتا‪ ،‬مل يستطع أحدهم منعي‪،‬‬
‫بحذر‪ ،‬كنت أسمع صوت‬ ‫ٍ‬ ‫هزوا رؤوسهم بخنوع بينام دخلت‬
‫والدي املميز يقابله مههمة غري مسموعة‪ ،‬دفعني يشء ما بأن‬
‫أختبئ وأسرتق السمع‪ ،‬رأيت يد والدي الرشهة تلتف حول‬
‫كتفها وأصابعه ختتلس اللمسات‪ ،‬مل تكن ملسات مبجل لفتاة‬
‫أرشف عىل تربيتها‪ ،‬كانت ملسات رجل المرأة يشتهيها‪ ،‬ظننت‬
‫للحظات أهنا توافقه‪ ،‬اآلن تأكدت أنه شتت انتباهي باحلارس‬
‫الذي حيبها ليدفع عن نفسه شبهة حبه هلا‪ ،‬لكن نظراهتا املتفاجئة‬
‫عندما شدد قبضته عليها قد أوضحت يل أهنا تستنكر ما يفعله‬
‫وكأهنا تشك بنواياه‪ ،‬حتى إن اللعني قد حتدَّ ث عني وأخربها أنه‬
‫سيتولىّ أمورها وتعمد ملسها بشكل دائم‪ ،‬كنت أود لو أقتحم‬
‫جملسهام اخلاص وأمرر خنجري عىل رقبته لكني حتكمت بغضبي‬
‫وخرجت هبدوء‪ ،‬وتدبرت عدة أمور تقع مسئوليتها عليه ألجربه‬

‫‪144‬‬
‫عىل اخلروج من خلوهتا‪ ،‬راقبته يسري خمتاالً بعينني المعتني وحينام‬
‫إذن‪ ،‬كانت جتلس هبدوء عىل‬ ‫تأكدت من مغادرته دخلت دون ٍ‬
‫املقعد بنفس مكاهنا حيث رأيتها أول مرة‪ ،‬ما زالت ترتدي فستان‬
‫األمس وكأن والدي اللعني داهم حجرهتا بالصباح وأيقظها من‬
‫النوم فلم يتث َّن هلا الوقت لتبدله‪ ،‬ابتسمت فور رؤيتي وأشارت‬
‫ساخرا وسألت نفيس هل أشارت عىل‬ ‫ً‬ ‫للمقعد املقابل فنظرت له‬
‫أيضا؟‬
‫نفس املقعد أليب لكنه جتاهله مثلام جتاهلته اآلن ً‬
‫حينام سألتني هل التقيت بوالدي يف اخلارج نظرت هلا‬
‫قليالً‪ ،‬سؤاهلا يعني أهنا ال ختفي األمر لكنني أرغب من التأكد‬
‫هل ستخربين كل ما حدث؟ لذا قررت إخفاء األمر وحماولة‬
‫استدراجها باحلديث‪ ،‬ال أحد يستطيع أن يستدرج أورنيال‪ ،‬هي‬
‫أيضا بريئة وصادقة طوال الوقت‬
‫ذكية‪ ،‬أذكى امرأة قابلتها‪ ،‬لكنها ً‬
‫وهذا ما أعتمد عليه‪ ،‬مل خيب ظني هبا‪ ،‬فلقد رشحت يل بكلامت‬
‫قليلة ظنوهنا وهي مرتبكة ثم أبدلت املوضوع ألنه والدي رغم‬
‫كل يشء لكنني فهمت‪.‬‬
‫وألنني أتيت إليها ألتأكد مما حدث باألمس لكن حضور‬
‫عيل أن أطرح سؤايل‬ ‫والدي املزعج قد أثار اهتاممي‪ ،‬كان َّ‬
‫بخصوص ال ُقبلة‪ ،‬لكن سؤايل قادين ألسئلة أخرى‪ ،‬جماراة ذكائها‬
‫أمر مرهق لكنه ممتع‪ ،‬الفتاة كاملة كإهلة‪ ،‬وتلك الفتاة الكاملة‬
‫أصبحت لينة سهلة‪ ،‬أصبحت تريدين‪ ،‬د َّلتني عىل الطريق الوحيد‬
‫الذي يوصل إليها‪ ،‬الزواج‪ ،‬قري ًبا سأعلن عن موعد حفل زفافنا‪،‬‬

‫‪145‬‬
‫عيل أوالً حل األمور العالقة مع والدي‪ ،‬أحتاج حلديث‬
‫لكن َّ‬
‫مطول معه‪.‬‬
‫سأزوره الليلة بجناحه‪ ،‬إما أن أقنعه أو أقتله ال حل آخر‪ ،‬لكن‬
‫ألضعه أمام األمر الواقع أوالً كي ال يستطيع املراوغة‪.‬‬
‫ناديت عىل إحدى الوصيفات الثرثارات التي أعرف أن فمها‬
‫رسا لدقيقة‪ ،‬حرضت الفتاة وانحنت يل‬
‫ال يسع ًّ‬
‫“أنتظر أوامرك سيدي املبجل‪”.‬‬
‫“أريدك أن تذهبي ألفضل خ َّياطة‪ ،‬تأمرينها باسمي أن تعد‬
‫جاهزا خالل يومني‪ ،‬أريده‬
‫ً‬ ‫فستانًا للسيدة أورنيال‪ ،‬أرغب به‬
‫فستانًا فاتنًا يليق بجامل خطيبتي‪”.‬‬
‫اتسعت عني الفتاة‪ ،‬ارتبكت من الصدمة‪ ،‬حتى إهنا توقفت‬
‫أمامي عاجزة عن احلركة ثم مهست‪:‬‬
‫“هتنئتي يا سيدي‪”.‬‬
‫رسا بني األلسنة‬
‫ركضا‪ ،‬اآلن اخلرب سينتقل ًّ‬
‫غادرت الفتاة ً‬
‫بالقرص‪ ،‬ويف الصباح سيصل لكل سكان أورنيال وسيعرف‬
‫اجلميع أهنا أصبحت له‪.‬‬
‫لريى كيف سيعرتض والده أمام كل الناس‪ ،‬كيف سيربر‬
‫رفضه؟‬

‫‪146‬‬
‫فريا‬

‫وصلتني أخبار عن خطبة فيكتور بأورنيال‪ ،‬شعرت باخلوف‪،‬‬


‫ال ُبدَّ أن يكون هناك خدعة باألمر‪ ،‬فهي تعلم جيدً ا أن فيكتور‬
‫شيطان ال أمان له‪ ،‬لقد رتب للتخلص من ابنتي بدم بارد ولوال‬
‫تدخلها لكنت أرثيها اآلن‪ ،‬لقد ساعدتني عندما طلبت وأوفت‬ ‫ُّ‬
‫بوعدها يل‪ ،‬مل تذلني كام توقعت‪ ،‬كنت أتوقع أنني عندما أجثو‬
‫أمامها عىل ركبتي سأملح نظرات االنتصار بعينيها أو سأرى‬
‫احتقارها يل‪ ،‬لكنها رفعتني عن األرض‪ ،‬أجلستني بجوارها‬
‫وسمعتني جيدً ا ثم طمأنتني‪ ،‬أخربتني أهنا ستحل قضية ابنتي‬
‫وحلتها هبدوء‪ ،‬كل ما أرادته مني هو ثقتي وقد منحتها هلا‪ ،‬أنا‬
‫مدينة هلا‪ ،‬هذا ما دفعني للذهاب لرؤيتها والتأكد من اخلرب‪،‬‬
‫قابلتني بابتسامة ومهست كعادهتا‪:‬‬
‫“األخيار يظهرون فور التحدث عنهم‪”.‬‬
‫التفتت البنتي التى جتلس بأحد الزوايا وتابعت‪:‬‬
‫“كنت أحتدث للتو عنك مع مريال‪ ،‬كانت حتاول أن تصنع‬
‫عطرا وأخربتني أنك ستحبينه‪”.‬‬
‫ً‬

‫‪147‬‬
‫نظرت البنتي‪ ،‬كانت جتلس براحة وأمامها العديد من‬
‫الزهور واألدوات التي أجهل كيفية استخدامها‪ ،‬حتركت وأتت‬
‫إ َّيل لتحيني‪ ،‬الحظت أن وزهنا قد زاد وكأن احلياة اجلديدة التي‬
‫اختارهتا تعجبها‪ ،‬تعانقنا هبدوء ثم عادت لتكمل اليشء الذي‬
‫كانت تفعله‪ ،‬نظرت هلا مندهشة فربرت يل السيدة أورنيال‪:‬‬
‫“إهنا طالبة ماهرة‪ ،‬تعلمت رسي ًعا كل يشء ووجدَ ْت شغفها‬
‫بصنع العطور‪”.‬‬
‫ابتسمت هلا ثم صارحتها‪:‬‬
‫“لقد أتيت عندما سمعت اإلشاعة التي تتناقل بني اجلميع‪،‬‬
‫هل هذا حقيقي؟”‬
‫رسا ثم منحتني كامل‬
‫نظرت ملريال التي ابتسمت وكأن بينهام ًّ‬
‫انتباهها‪.‬‬
‫“لقد رتبت لكي يعرف اجلميع ذلك‪ ،‬لكنني أريد أن أطلب‬
‫صغريا‪ ،‬هل يمكنني؟”‬
‫ً‬ ‫منك طل ًبا‬
‫قلت بكل صدق‪:‬‬
‫“عزيزيت‪ ،‬حيايت لك إن أردتهِ ا‪”.‬‬
‫ابتسم ْت‪.‬‬
‫َ‬
‫“أرغب أن تنرش وصيفاتك إشاعة أخرى صغرية‪ ،‬لكن‬
‫هناك شي ًئا أريد أن ُأفهمك إياه أوالً‪”.‬‬
‫جلست حيث أشارت يل‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫“كلام قل ما تعرفينه عن األمر كلام أصبحت بأمان أكثر؛ لذا‬
‫نريدك أن تنفذي طلبنا الصغري دون أسئلة‪ ،‬فإذا حتقق مرادنا‬
‫ونجونا سيكون هذا جيدً ا للجميع وإذا مل نوفق فسيحميك‬
‫جهلك من العقاب‪”.‬‬
‫“أخربيني ما تودين نرشه‪”.‬‬
‫استمعت لكل ما قالته‪ ،‬حتى إنني شعرت باخلوف‪ ،‬خوف‬
‫يرافقه محاس‪ ،‬سأنفذ ما طلبته مني وسأنتظر بشغف النتيجة‪،‬‬
‫وأمتنى أن يبارك الرب انتقامهم‪.‬‬
‫حينام هنضت ألغادر أعطتني ابنتي زجاجة صغرية من العطر‬
‫ومهست‪:‬‬
‫“صنعته من أجلك‪”.‬‬
‫نظرت البنتي التي بدأت متيل للهدوء وهتمس كأورنيال‬
‫ثم شكرهتا وودعتهام‪ ،‬وعندما عدت جلناحي مجعت وصيفايت‬
‫ومهست هلن بام سمعته‪ ،‬لتحتل النميمة أروقة القرص ثم تفيض‬
‫خارجه‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫إبرام‬

‫“عزيزيت مريال‪ ،‬آن أوان االنتقام‪ ،‬هل صنعت يل ما طلبته‬


‫منك؟”‬
‫أومأت الفتاة وأعطتني اللفافة‪.‬‬
‫“صنعت اثنني كام أمرت‪”.‬‬
‫“ال تقلقي‪ ،‬الذي سيضعهام له‪ ،‬سيجمعهام جمد ًدا‪ ،‬لن نرتك‬
‫رسا كام اتفقنا‪ ،‬إن عرفت أورنيال‬
‫أثرا‪ ،‬لكني أريد إبقاء األمر ًّ‬
‫ً‬
‫ستمنعنا‪”.‬‬
‫“لوال أنني واثقة أن ما ستفعله صحيح لرتاجعت عن األمر‬
‫ألنني أشعر كام لو أنني أخوهنا‪ ،‬لكني سأفعل كل يشء أستطيع‬
‫فعله كي أمحيها حتى من نفسها‪”.‬‬
‫“أعدك‪ ،‬ال أحد آخر سيرض‪ ،‬متني يل احلظ‪”.‬‬
‫رفعت الفتاة عينها وقالت‪:‬‬
‫“ليكن الرب رحيماً بنا‪ ،‬وليبارك انتقامنا “‬
‫بحذر ألخرج قبل أن ترانا أورنيال‪ ،‬ألنني أثق أهنا‬ ‫ٍ‬ ‫حتركت‬
‫ستشعر بام أدبره فور أن تنظر بعيني‪ ،‬إن كنت واث ًقا أهنا ستوافق‬

‫‪150‬‬
‫عىل طريقتي ما كنت أخفيت عنها‪ ،‬لكنها سرتيد أن تسري األمور‬
‫عىل طريقتها‪ ،‬لقد استسلمت إلرادهتا عندما أخربتني أنه علينا‬
‫التفكري جيدً ا قبل إخراج أمها‪ ،‬حتى إنني ضغطت عىل نفيس‬
‫وحتكمت بقلبي وأشواقي ومل أكرر زياريت لكايال بناء عىل أمرها‬
‫كي ال أعرض كل خطتها للخطر‪.‬‬
‫كان قلبي يرجتف بصدري شو ًقا عندما تبعت ذلك الرجل‬
‫األخرس بتلك املمرات‪ ،‬حتى وصلنا للفجوة الصغرية التي‬
‫ال بأمر من أورنيال‪،‬‬‫تركها منذ سنوات‪ ،‬وأعاد توسيعها قلي ً‬
‫قربت وجهي منها ونظرت من خالهلا ثم رأيتها‪ ،‬وكأهنا شعرت‬
‫بوجودي فاقرتبت مني‪ ،‬رأيت الوجه الذي حرمني أخي منه‬
‫طوال هذه السنوات‪ ،‬كانت رؤيتها دواء لقلبي املعتل‪.‬‬
‫“أووه كايال‪ ،‬يا سيدة القلب‪ ،‬مل أفرط بك لكن القدر طعنني‬
‫بظهري”‬
‫حتدثت مجيلتي‪:‬‬
‫“أخوك طعنك ال القدر‪ ،‬كم اشتقت صوتك‪ ،‬حتى إنني‬
‫كنت أختيل أين أسمعه هيمس باسمي‪ ،‬ييضء يل ظلمة الليايل‬
‫املوحشة‪ ،‬يؤنس وحديت‪”.‬‬
‫كثريا منذ أخربتني أورنيال احلقيقة‪ ،‬هل‬
‫“كايال‪ ،‬سألت نفيس ً‬
‫من العدل أن يعيش ك ٌُّل منا وحيدً ا جيهل وجود اآلخر؟ هل من‬
‫العدل أن تفرتقي عن ابنتك وأن أجهل وجودها؟‬

‫‪151‬‬
‫ب‬
‫حل ِّ‬
‫هل من العدل أن أترك من شتتنا وحرمنا من دفء ا ُ‬
‫وإحساس األرسة؟‬
‫رغم قساوة اإلجابة إال أهنا صحيحة‪ ،‬العدل الذي يعرفه‬
‫أن علينا االنتقام مم َّ ْن َ‬
‫فعل بنا هذا‪ ،‬ممكن رسقك من بني‬ ‫كالنا هو َّ‬
‫ذراعي‪ ،‬رسق عرويس‪ ،‬فرحتي‪ ،‬فخري‪”.‬‬
‫قالت بصوت مرجتف‪:‬‬
‫“رسق ودنس”‬
‫بكيت‪..‬‬
‫“أووه‪ ،‬سأحرق قلبه كام حرقت ملساته جسدك‪”.‬‬
‫لقد وعدهتا‪ ..‬وعدت حبيبتي‪ ،‬عرويس وأم ابنتي أن أنتقم‬
‫وسأنفذ انتقامي‪.‬‬
‫هلذا السبب ضغطت عىل مريال‪ ،‬فأسلوب أورنيال اهلادئ‬
‫وخططها النظيفة لن تشبع هنمي‪ ،‬لن تطفئ النار التي أشعلها‬
‫أخي بصدري‪..‬‬

‫‪152‬‬
‫أورنيال‬

‫سمعت أصواتًا متداخلة يغلب عليها النواح‪ ،‬خرجت أحاول‬


‫ٍ‬
‫هبدوء‬ ‫فتح عيني بعد ذلك النوم الثقيل الذي دامهني‪ ،‬حتركت‬
‫وبني أنظار اجلميع التي ختتلط هبا الشفقة بالراحة‪ ،‬كانت هناك‬
‫جلبة أمام غرفة فيكتور‪.‬‬
‫أفسح يل اجلميع فدخلت احلجرة ألجد املبجل مارك راك ًعا‬
‫عىل ركبتيه حيمل رأس فيكتور بني بيديه ويرصخ‪ ،‬حينام رآين‬
‫رصخ‪:‬‬
‫“أورنيال‪ ..‬عزيريت‪ ..‬افعيل شي ًئا‪ ..‬اشفيه‪ ..‬ردي إليه روحه‪،‬‬
‫الرب حيبك‪ ،‬سينفذ ما تطلبينه‪”.‬‬
‫رأس فيكتور بني يدي‬‫ركعت عىل ركبتي بجواره محلت َ‬
‫لتسرتخي عليهام‪ ،‬نظرت لعينيه اجلاحظتني‪ ،‬وشفتيه الزرقاوين‪،‬‬
‫والدم الذي نزفه من أنفه وأذنيه‪ ،‬مررت يدي عىل رقبته حيث‬
‫عروقه النافرة‪ ،‬كان جثة بال حياة‪ ،‬أنا أعرف هذه األعراض‬
‫جيدً ا‪ ..‬قلبت كف يده ونظرت ألصابعه الزرقاء وحتت أظافره‬
‫فتأكدت مما أشك به‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫‏”لقد سمموه!”‬
‫‏سمع مهيس اجلميع فتناقل عىل األلسن نظرت لقائد احلرس‪:‬‬
‫‏”أخبرِ ين ماذا حدث‪َ ،‬من زاره؟”‬
‫‏”سيديت مل يزره غري املبجل مارك‪”.‬‬
‫‏رصخت بحرس غرفته‪:‬‬
‫“أنتام ال تتحركان من أمام الباب‪ ..‬حتدثا أخرباين من الذي‬
‫فعل به هذا؟”‬
‫‏قال أحدمها وهو خائف‪:‬‬
‫“دخل املبجل مارك حجرته قبل ساعتني‪ ،‬يبدو وكأهنام كانا‬
‫عىل خالف ألن صوهتام كان عال ًيا‪ ،‬كانا يتشاجران‪”.‬‬
‫‏”يتشاجران؟”‬
‫“نعم‪ ،‬ألننا سمعنا صوتًا فاضطررنا القتحام الغرفة‪ ،‬كان‬
‫املبجل مارك قد رفع خنجره ووضعه عىل رقبة املبجل فيكتور‬
‫الذي رصخ بنا لنخرج فخرجنا‪ ،‬وعندما خرج املبجل مارك كان‬
‫حيمل خنجره امللطخ بالدم وهو غاضب‪ ،‬دخلنا الغرفة جمد ًدا كان‬
‫ٍ‬
‫جرح بيده‪،‬‬ ‫املبجل فيكتور يمسك قطعة قامش بيضاء ليكتم دماء‬
‫أمرنا أال نسمح له بالدخول إن عاد جمد ًدا‪”.‬‬
‫‏نظرت لرقبته حيث ترك حد اخلنجر عالمة‪ ،‬ولكف يده‬
‫فوجدت اجلرح‪ ،‬تابع اجلميع ما أفعله ثم اجتهت أنظارنا للمبجل‬
‫مارك الذي كان يراقبنا فأدرك أنه موضع شك رصخ بوجوهنا‪:‬‬

‫‪154‬‬
‫‏”هل جننتم؟‪ ،‬أنا املبجل مارك حاكم أورنيال كيف أقتل‬
‫ابني؟ ابني الوحيد‪ ..‬ثمرة عمري‪”.‬‬
‫‏تداخلت األصوات كنت أسمع كالما مثل‪:‬‬
‫‏”ال ُبدَّ أنه هو من قتله‪ ،‬قتله ألنه طمع بخطيبته‪ ،‬عار عليه‪،‬‬
‫سمم الوغد ابنه‪”.‬‬
‫‏دخل كل من املبجل إبرام وأندروس‪ ،‬تعلقت أنظارمها‬
‫باجلميع ثم أعاد أحد احلراس ما حدث عليهام‬
‫‏فقال املبجل إبرام‪:‬‬
‫‏”ليأخذ أحدكم املبجل مارك جلناحه‪ ،‬وليقف مخسة حراس‬
‫أمام الباب حتى نرى ماذا سنفعل‪”.‬‬
‫‏رصخ مارك‪:‬‬
‫‏"لقد ُقتِ َل ابني‪ ،‬ويبدو أن أحدهم حياول توريطي باألمر وأنت‬
‫تأمر بسجني بجناحي؟!”‬
‫‏ربت املبجل إبرام عىل كتفه‪:‬‬
‫‏”أنت حتتاج للراحة ونحن نحتاج أن نعرف من فعل هذا‬
‫باملبجل فيكتور‪ ،‬ليس لدينا حل آخر‪ ،‬أخشى أن يثور العامة إن‬
‫ترصفنا خال ًفا لذلك‪”.‬‬
‫‏مهس املبجل أندروس بأذن أحد احلرس‪ ،‬فرفع فيكتور عن‬
‫األرض ووضعه عىل الفراش ثم غطاه‪ ،‬بينام أخرج اآلخر اجلميع‬
‫من الغرفة فوقف املبجل إبرام وحتدث‪:‬‬
‫‏”احلزن واجب عىل الصغري الشاب‪ ،‬وسيبذل ك ٌُّل منا ‪ -‬ونظر‬

‫‪155‬‬
‫ألخيه أندروس ‪ -‬جهده كي تنكشف احلقيقة ونعلم من السبب‬
‫وراء موته‪”.‬‬
‫‏مد يده يل‪:‬‬
‫‏”عزيزيت أورنيال‪ ،‬الرب لن يرىض بحزنك‪ ،‬سنأخذ روح من‬
‫قتل خطيبك‪”.‬‬
‫‏أومأت بضعف بينام قادتني إحدى وصيفايت خللويت‪ ،‬وعندما‬
‫جلست بفرايش مهست‪:‬‬
‫‏”يالقلة صربك يا أيب!”‬
‫‏ثم ناديت مريال‪.‬‬
‫‏فور أن حرضت ونظرت بعينها فهربت من مبادلتي النظر‬
‫مهست‪:‬‬
‫“أووه مريال‪ ،‬إن كانت قابلة أيب قد أسقطته عىل رأسه فامل‬
‫خطب عقلك أنت؟!”‬
‫‏ارجتفت شفتها فهمست‪:‬‬
‫ٌ‬
‫طويل‪”.‬‬ ‫‏“انيس األمر‪ ،‬عودي لفراشك فغدً ا يو ٌم‬
‫‏هزت رأسها وغادرت‪.‬‬
‫‏لن أنكر أن رؤيتي لفيكتور هبذه احلالة قد أثلجت قلبي‪ ،‬حينام‬
‫وضعت رأسه عىل ساقي تذكرت ما حل بيوجني‪ ،‬رأيت وجهه‬
‫وكأنه يبتسم ألن العدالة قد حتققت‪.‬‬
‫‏لقد مات فيكتور بشكل بشع‪ ،‬حينام أمسكت كفه رأيت‪..‬‬
‫رأيت كل ما حدث‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫‏‬

‫فيكتور‬

‫راقبت خرب زواجي القريب من أورنيال ينترش بالوسط‪ ،‬حتى‬


‫أن هديتي هلا‪ ،‬ذلك الفستان الذي طلبت أن يصنع خصيصا من‬
‫أجلها وأرسلته لغرفتها قد دعم القصة‪ ،‬لكن أكثر ما أسعدين هو‬
‫أهنا ارتدته‪.‬‬
‫ارتدائها الفستان كان دليل عىل قبوهلا يل‪ ،‬وقد أثبت للجميع‬
‫أن تلك االشاعة التي تدور بالوسط صحيحة‪ .‬مل أختيل أن يزيدها‬
‫الفستان مجاال‪ ،‬لكن ذلك ما حدث‪ ،‬فلقد سارت وسط الرواق‬
‫كفراشة‪ ،‬حينام توقفت أمامي كنت أمتنى أن تلمس شفاها خدي‬
‫لكنها جتاوزت احالمي حينام وضعت يدهيا حول رقبتي وضمتني‬
‫ثم مهست بأذين‪:‬‬
‫“أشكرك‪ ..‬هديتك رائعة كام ترى‪”.‬‬
‫ثم ابتعدت عني ودارت حول نفسها فانحرس الفستان وكشف‬
‫مجال ساقيها‪.‬‬
‫“أرأيت؟”‬
‫قلت بشوق‪:‬‬
‫“رأيت‪ ،‬رؤيتك تُرس كل حمظوظ قابلك‪ ،‬إىل أين كنت ذاهبة؟”‬

‫‪157‬‬
‫“كنت ذاهبة إليك ألشكرك لكن بام أنني قابلتك بالرواق‬
‫وفعلت ذلك فسأعود لغرفتي‪”.‬‬
‫اقرتحت عليها‪:‬‬
‫“لمِ َ ال نعود م ًعا لغرفتي‪ ،‬لنتحدث قليالً؟”‬
‫نظرت يل بمكر ثم مهست‪:‬‬
‫“لنؤجل حديثنا حتى حيني وقته‪”.‬‬
‫ابتسمت‪ ،‬لطاملا أحببت احلديث معها‪ ،‬فهو حديث ذكي مرح‬
‫ثم وافقتها‪.‬‬
‫“أعدك أننا سنتحدث قري ًبا جدًّ ا‪”.‬‬
‫رفعت حاجبها ثم ابتسمت‪:‬‬
‫“سنفعل‪ ..‬ليلة سعيدة‪”.‬‬
‫ثم حتركت بخفة كي تعود خللوهتا بينام رست أنا سعيدٌ حلجريت‪،‬‬
‫مل تدم سعاديت ألن والدي داهم احلجرة دون استئذان‪ ،‬فعلمت أنه‬
‫أيضا‪.‬‬
‫سمع اإلشاعات ً‬
‫“كيف جترؤ عىل خمالفة أمري؟”‬
‫نظرت للحراس كي يرتاجعوا ثم سألته‪:‬‬
‫“عن أي أمر تتحدث؟‪ ،‬أتذكر أنني دائماً ما خالفت أوامرك‪،‬‬
‫ملاذا تشعر بالغضب هذه املرة بشكل خاص؟”‬
‫“أحتدث عن أورنيال‪”.‬‬
‫“أورنيال؟ تلك التي قتلت من أجلها؟ أم أورنيال املدينة؟”‬
‫“توقف عن املراوغة يافيكتور‪”.‬‬

‫‪158‬‬
‫“بل توقف أنت عن الطمع‪ ،‬لقد رأيتك‪ ،‬رأيتك تلمسها‬
‫بشهوة‪ ،‬رأيت نظرات االرتباك بعينها والسؤال الذي قفز هبام‪،‬‬
‫هل املبجل مارك يشتهيني أم ُخيل يل بسبب اخلمر؟‪ ،‬ما الذي‬
‫جعلك تفقد هيبتك وتنظر للفتاة التي حيبها ابنك؟”‬
‫سحب خنجره ووضعه عىل رقبتي‪ ،‬اصطدمت قدمي باخلوان‬
‫ضجيجا‪ ،‬أمسكت حد اخلنجر بيدي وأبعدته‬ ‫ً‬ ‫فانقلب وأصدر‬
‫عندما شعرت بنصله جيرح رقبتي بالفعل‪ ،‬بينام اقتحم حريس الغرفة‬
‫وأشهروا أسلحتهم لكني طردهتم للخارج‪ ،‬ثم أحرضت قطعة‬
‫قامش بيضاء وجدهتا أمامي ومسحت هبا جرح يدي وأنا أضحك‪:‬‬
‫“هل تشتهيها لدرجة أن تقطع رقبة ابنك؟‪ ،‬ال أستطيع لومك‪،‬‬
‫ففي عينيها سحر غامض جيذب احلمقى‪ ،‬األوغاد و ُقطاع الطرق‬
‫واملبجلني‪ ،‬لكنك والدي‪ ..‬ها‪ ..‬والدي ال تستطيع النظر لعروس‬
‫ابنك بشهوة‪ ،‬ما بالك دائماً تطمع بعرائس غريك!‪ ،‬فام تفعله اآلن‬
‫قد فتح األفواه املغلقة وحتدث اجلميع عن عروس أخيك التي‬
‫أيضا‪ ،‬ومن عجزوا عن اهتامك قديماً أشاروا لك بالبنان‬‫اشتهيتها ً‬
‫اليوم‪”.‬‬
‫عاجزا عن‬
‫ً‬ ‫نظر للخنجر الذي خضبه دمي بيده‪ ،‬ثم نظر يل‪ ،‬كان‬
‫النطق لكنه مهس رغم ذلك‪:‬‬
‫“إهنن لعنة‪ ،‬جيرين جمرى الدم بالعروق‪”.‬‬
‫غادر الغرفة‪ ،‬نظر يل حرايس ٍّ‬
‫بشك بعد رحيله وكأهنم يتأكدون‬
‫أنني ما زلت عىل قيد احلياة‪ ،‬رصفتهم بعد أن أمرهتم أال يسمحوا‬
‫لوالدي بالدخول إن عاد جمد ًدا‪ ،‬ورفعت القامش الذي رشب دمي‬

‫‪159‬‬
‫عن جرح يدي ورميته عىل األرض ثم تأملت اجلرح‪ ،‬الوغد وضع‬
‫اخلنجر عىل رقبتي وكاد ينحرها بالفعل! ما الذي كان يفكر به؟‬
‫هل دفعه طمعه هبا للتفكري بقتيل؟‬
‫سأنتقم منه بالصباح‪ ،‬قد أقتله إن متسك بموقفه‪ ،‬لكنني اليوم‬
‫فسد نشويت‪ ،‬اجتهت‬ ‫سعيد‪ ،‬سعيد للغاية ولن أسمح ملا حدث أن ي ِ‬
‫ُ‬
‫للمكان حيث أضع أعشايب فوجدت اخلادم قد أعد يل لفافتني‪،‬‬
‫سحبت واحدة أشعلتها واسرتخيت‪ ،‬أورنيال ستشاركني هذا‬
‫الفراش بعد عدة ٍ‬
‫ليال‪ .‬هذه الفكرة أوصلتني للنشوة‪.‬‬
‫أشعر وكأن رأيس بثقل حجر‪ ،‬عيناي تؤملانني وكأهنام سيقفزان‬
‫من حمجرهيام‪ ،‬مل أعد أشعر بساقي‪ ،‬ملاذا فقدت القدرة عىل الشعور‬
‫بقدمي؟‬
‫سائل ساخن يتدفق من أنفي‪ ،‬ملسته بيدي‪ ،‬دماء‪ ..‬إنني أنزف‬
‫دمي‪ ،‬أذين تنبضان كقلبي‪ ،‬تؤملانني‪ ،‬األصوات تغيب وكأنني‬
‫أيضا‪ ،‬ال أستطيع أن أتنفس بسهولة‪،‬‬‫فقدت قدريت عىل السمع ً‬
‫وكأن أحدهم قد وضع خرقة سد هبا حلقي‪ ،‬أمسك ردائي أكاد‬
‫أمزقه َّ‬
‫لعل بتمزيقه يترسب اهلواء حللقي‪ ،‬أود لو أرصخ باحلرس‬
‫كي ينقذين أحدهم‪ ..‬أمهس بصوت خمنوق‪:‬‬
‫“أورنيال‪”.‬‬
‫تنزف أذين وجتف شفاهي‪ ،‬حلقي كأرض هجرهتا املياه‪ ،‬كل ما‬
‫أستطيع حتريكه بجسدي هو عيني‪ ،‬أنا أموت‪ ..‬أموت دون أن آخذ‬
‫ما هو يل‪.‬‬
‫أورنيال‪..‬‬

‫‪160‬‬
‫مارك‬

‫دخلت حجريت‪ ،‬رميت خنجري عىل األرض‪ ،‬نظرت ليدي‬


‫غري قادر عىل تصديق ما كدت أفعله‪ ،‬أنا أوشكت عىل قتل ابني‬
‫من أجل رسقة عروسه!‬
‫فعلتها من قبل بأخي ورسقت حبيبته منه واآلن أطمع بابنتها؟‬
‫ماذا حدث يل؟‬
‫كيف سمحت لنفيس أن أصل ملا وصلت إليه؟‬
‫لقد سحرتني الفتاة‪ ،‬أرستني كام فعلت أمها من قبل‪ ،‬إهنام لعنة‬
‫ُلعنت هبام‪ ،‬إهنام اختبار الرب‪ ،‬اختبار فشلت به بكال املرتني‪ ،‬لكن‬
‫أورنيال اختبار صعب‪ ،‬أنا أحببتها فعلاً ‪ ،‬أحببت روحها‪ ،‬جسدها‪،‬‬
‫براءهتا لكن حبي هلا يدفعني للقضاء عىل ابني‪.‬‬
‫سأصلح ما أفسدته‪ ،‬لن أخرسه من أجل أورنيال‪ ،‬اجتهت‬
‫حلجرته لكن حراسه منعوين‪ ،‬رصخت هبم ودفعت أحدهم بعيدً ا‬
‫ثم فتحت الباب‪ ،‬سأعتذر له وسيقبل اعتذاري‪.‬‬
‫اجتهت إليه كان يرقد كيفام اتفق‪ ،‬هل جترع اخلمر بعدما‬
‫غادرته‪ ،‬ركعت عىل ركبتي‪.‬‬
‫“فيكتور‪ ،‬جئت أعتذر‪”.‬‬

‫‪161‬‬
‫نظرت لوجهه ثم رصخت‪ ،‬اقرتب احلرس رأوا ما رأيته‪،‬‬
‫اصطدم أحدهم بالطاولة فأسقطها‪ ،‬اجتمعت الوصيفات‬
‫ورصخت إحداهن فاستدعى صوهتا من بالقرص‪.‬‬
‫“فليحرض أحدكم الطبيب‪ ،‬أووه بني‪ ،‬فيكتور‪ ،‬اهنض لقد‬
‫أتيت إليك ألعتذر‪”.‬‬
‫دخلت أورنيال احلجرة بعينني أثقلهام النوم وهي حتاول‬
‫استيعاب ما حدث‪ ،‬استجديتها‪.‬‬
‫“أورنيال‪ ..‬عزيريت‪ ..‬افعيل شي ًئا‪ ..‬اشفيه‪ ..‬ردي إليه روحه‪،‬‬
‫الرب حيبك‪ ،‬سينفذ ما تطلبينه‪”.‬‬
‫ركعت الفتاة عىل ركبتيها‪ ،‬محلت رأسه ووضعتها عىل ساقها‬
‫بيد ترجتف‪ ،‬راقبتها تنظر لعينيه‪ ،‬شفتيه‪ ،‬أنفه النازف ثم قلبت كفه‬
‫ورأت أظافره ومهست مندهشة‪:‬‬
‫“لقد سمموه!”‬
‫عاجزا‬
‫ً‬ ‫خرج الوضع عن السيطرة‪ ،‬فقدت ابني‪ ،‬توقف عقيل‬
‫عن استيعاب هذه احلقيقة راقبت اهلمس الذي يتهمني بقتله‪،‬‬
‫راقبت استجواب أورنيال للحرس ورئيسهم‪ ،‬حضور شقيقي‬
‫أمر بسجني بجناحي‪ ،‬قادين رئيس احلرس‬ ‫ُّ‬
‫وتدخل إبرام الذي َ‬
‫حتى جناحي‪ ،‬ووقف أمامه مخسة حراس‪ ،‬وجدت نفيس وحدي‬
‫وقد خرست ابني‪ ،‬سجني متهم بقتله‪ ،‬كدت أجن‪ ،‬أرغب بأن‬
‫أرصخ‪ ،‬بأن أبكي‪ ،‬حركت الفراش‪ ،‬رفعت السجادة فكشفت‬
‫عن املدخل اخلشبي‪ ،‬فتحته ونزلت أسفل الدرج لكايال‪..‬‬
‫رصخت‪..‬‬

‫‪162‬‬
‫“لقد سمموا ابني‪ ،‬قتلوا فيكتور‪”.‬‬
‫كانت نائمة عىل الفراش‪ ،‬أفزعها صويت‪ ،‬هنضت وجدت‬
‫نفيس أحتضنها وأبكي‪ ،‬مل تدفعني عنها ككل مرة‪ ،‬مل تقاوم‪ ،‬ظلت‬
‫صامتة وتركتني أرصخ وأبكي‪..‬‬
‫“قتلوا فيكتور‪ ،‬سمموه‪”..‬‬
‫“قتلوا ابني‪”..‬‬
‫استقبلت اخلرب كام كانت تستقبل كل األخبار التي أحكيها هلا‪،‬‬
‫بصمت‪ ،‬دون تعاطف‪.‬‬‫ٍ‬
‫راقبتني أحرتق بربودها املعتاد‪ ،‬لكن برودها هذه املرة طعنني‪،‬‬
‫لقد ُقتل ابني!‬
‫دفعتها‪..‬‬
‫لقد ُقتل ابني!‬
‫نطقت وقالت‪:‬‬
‫فقدت ابني‪”.‬‬
‫ُ‬ ‫أيضا‬
‫“أنا ً‬
‫رصخت هبا‪:‬‬
‫“لكن ابنتك مازالت حية‪ ،‬ابني ُقتل‪ ،‬فقدت فيكتور‪”.‬‬
‫قالت هبدوء مل أستطع أن أستوعبه‪:‬‬
‫“ابنتي ما زالت حية‪”.‬‬
‫“أورنيال‪ ..‬ابنتك أورنيال‪ ..‬ما زالت حية لكن فيكتور ُقتل‪”.‬‬
‫“أنت قتلته‪”.‬‬
‫رصخت‪:‬‬

‫‪163‬‬
‫“ال‪ ،‬إنه ابني‪ ،‬كيف أقتله؟‪ ،‬كنت سأقتله لكنني مل أفعل‪”.‬‬
‫“لك َّن دماءه بيدك!”‬
‫نظرت ليدي غري مصدق ثم هززت رأيس‪:‬‬
‫نحرا أو طعنًا‪ ،‬لقد سمموه‪”.‬‬
‫“لكنه مل يمت ً‬
‫“أ ًّيا كانت ميتته‪ ،‬أنت قتلته‪ ،‬قتله طمعك‪ ،‬قتله ظلمك‪ ،‬يدك‬
‫ملوثة بدمائه‪”.‬‬
‫مسحت يدي بمالبيس فضحكت ساخرة‪:‬‬
‫“دماء الظلم ال تزول‪ ،‬تلطخ الروح‪”.‬‬
‫“اصمتي”‪ ..‬وضعت يدي عىل أذين‪:‬‬
‫“إن هربت من صويت فلن تستطيع اهلرب من صوت‬
‫ضمريك‪”.‬‬
‫‏“اخريس‪”..‬‬
‫‏قاطعنا صوت يقول‪:‬‬
‫“إنه هنا‪”.‬‬
‫‏ثم أطل رأس أحد احلرس‪ ،‬لقد دفعتني الصدمة للتسلل إىل‬
‫هنا دون أن آخذ حذري‪.‬‬
‫‏لقد كُشف الرس الذي أخفيته لسنوات‪ ،‬أخرجني احلارس من‬
‫الغرفة الرسية ثم صعدت خلفي كايال التي حتركت بصعوبة وهي‬
‫ترجتف لرتمتى بني ذراعي إبرام املندهش الذي مهس بصوت‬
‫أجش‪:‬‬
‫‏“كايال؟!”‬

‫‪164‬‬
‫أندروس‬

‫حينام دخلنا لنفتش جناح مارك‪ ،‬مل نجده بالغرفة لكننا وجدنا‬
‫الفراش قد أزيح للجانب والسجادة قد رفعت لتكشف حتتها‬
‫مدخل احلجرة الرسية‪ ،‬أرشت ألحد احلراس الذي َّ‬
‫أطل برأسه‬
‫ٍ‬
‫بصوت جهوري‬ ‫فرأى مارك وقال‬
‫“إنه هنا‪”..‬‬
‫كان عد ٌد من سكان القرص قد اجتمعوا أمام الباب يراقبون‬
‫املوقف‪ ،‬أرشت حلارسني كي ينزال وحيرضانه‪ ،‬لكن صعود كايال‬
‫سحب شهقات اجلميع‪ ،‬نظرت املرأة لوجوهنا حتى‬ ‫َ‬ ‫خلفه قد‬
‫استقرت عىل وجه إبرام فاجتهت إليه وارمتت بني ذراعيه‪ ،‬مهس‬
‫أخي باسمها فر َّدت عليه‪:‬‬
‫“أورنيال‪ ..‬ابنتنا أين هي؟”‬
‫مهس الوصيفات واحلرس‪ ،‬لقد فهم‬ ‫أخرس َ‬ ‫ذلك السؤال َ‬
‫اجلميع ما الذي د َّب َره مارك طوال هذه السنوات املاضية‪ ،‬لقد‬
‫عروس أخيه احلامل‪ ،‬ثم اختطف منها ابنتها‬‫َ‬ ‫خطف الرجل‬
‫وأخفى حقيقتها عن اجلميع‪ ،‬وعاد بعدما نضجت وطمع هبا‬
‫لدرجة أنه ختلص من ابنه كي يفوز هبا!‬

‫‪165‬‬
‫إن كان الشيطان نفسه بينهم خلجل من ترصفاته وأنكر أن يأيت‬
‫بنصفها‪.‬‬
‫دخلت أورنيال وكأن أحدهم استدعاها فضمتها أمها لصدرها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫سنوات طوال‪.‬‬ ‫ياحلظ هذه العائلة املكلومة التياإجتمعت بعد‬
‫أمرت رئيس احلرس أن يضع مارك بالسجن حتى يأيت ميعاد‬
‫حماكمته‪.‬‬
‫دت جلناحي وأنا‬
‫وتركت العائلة املجتمعة تفرح باللقاء‪ ،‬و ُع ُ‬
‫أفكر ما الذي سيحدث فيام بعد‪..‬‬
‫مات فيكتور‪ ،‬والتقى شقيقي بعروسه وابنته بينام سجن‬
‫اآلخر‪ ،‬كيف ستسري هذه املدينة؟‬
‫هل بإمكاين إعادة ابنتي لذراعي كام كانت؟‬
‫كيف سيستقبل العامة كل تلك األخبار؟‬
‫هل سيثورون عىل القرص؟‬
‫َمن سيحكم أورنيال؟‬
‫مقرب ومفضل‬ ‫كنت أشعر بالغرية من شقيقي إبرام ألنه َّ‬
‫للمبجل مارك لكنني مل أكن أعلم السبب الذي جعله يضع به كل‬
‫يبق له ما حيارب‬
‫ثقته‪ ،‬اآلن عرفت‪ ،‬لقد سلب منه كل يشء فلم َ‬
‫من أجله‪ ،‬هلذا السبب ضمن والءه‪ ،‬هل ستدور املعركة اآلن بيني‬
‫وبني إبرام بعد أن أزحنا مارك وابنه؟‬
‫هل سيدبر لقتيل كام دبر لقتل فيكتور؟‬

‫‪166‬‬
‫أنا أعلم أنه هو من قتله‪ ،‬ال أحدَ غريه جيرؤ‪ ،‬أورنيال أذهلتها‬
‫الصدمة‪ ،‬الفتاة جتهل ما فعله والدها فعالً‪ ،‬لكن ما حدث أثلج‬
‫قلبي‪ ،‬لقد فعل أخي ما أردت فعله منذ وقت طويل‪.‬‬
‫األيام القادمة ستظهر كل يشء‪ ،‬لكن ال ُبدَّ من احلذر‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫أورنيال‬

‫كنت أعلم أن والدي املبجل خلف مقتل فيكتور‪ ،‬فهذه‬


‫األعراض التي ظهرت عىل جثته هي أعراض عشبة األفاعي‬
‫ِ‬
‫مكان‬ ‫السامة‪ ،‬لقد حدثت والدي عنها يف زيارته يل‪ ،‬أخربته عن‬
‫نموها‪ ،‬كيف تصبح قاتلة‪ ،‬ويبدو أنه جلأ ملريال ألهنا هي الوحيدة‬
‫غريي التي تستطيع التعامل معها دون أن تتعرض للخطر‪ ،‬لقد‬
‫علمتها بنفيس كل يشء‪ ،‬علم والدي أهنا تصبح خطرة عندما‬
‫علم باألعشاب‬‫ترتفع درجة حرارهتا‪ ،‬وألنه يراقب فيكتور فقد َ‬
‫أيضا كنت أعلم نوعها‪ ،‬لكنه أمر مريال أن متزج‬ ‫التي ِّ‬
‫يدخنها‪ ،‬أنا ً‬
‫أعشابه مع عشبة األفاعي وتلفها باللفافة كام اعتاد أن يدخنها‪،‬‬
‫كان يعلم أن لفافة واحدة قادرة عىل قتله دون رمحة‪ ،‬وكام منحهام‬
‫للخادم الذي وضعهام بمكان فيكتور املعتاد‪ ،‬أعاد له اخلادم اللفافة‬
‫األخرى غري امللموسة وأخفى آثار تلك التي دخنها وحينام انترش‬
‫اخلرب ازدمحت احلجرة وكان بإمكانه وقتها أن يترصف دون أن‬
‫يالحظه أحدٌ ‪ ،‬فادتنا زيارة املبجل البنه وشجاره معه بعد انتشار‬
‫ترصف‬
‫شك‪ ،‬كام أن ُّ‬ ‫ور َطه أكثر وجعله موضع ٍّ‬ ‫اإلشاعات‪ ،‬هذا َّ‬
‫سهل علينا إخراج والديت فألغينا خطتنا ومتسكنا‬ ‫املبجل غري احلذر َّ‬

‫‪168‬‬
‫لف مارك احلبل بنفسه حول‬
‫بمنحة الرب التي منحها لنا‪ ،‬فلقد َّ‬
‫رقبته‪ ،‬وسنجذبه م ًعا كي نتخلص منه‪.‬‬
‫َمن كان يتخيل أننا سنجلس م ًعا أنا وأيب وأمي وعمي‬
‫بمحاكمة املبجل مارك العلنية أمام شعب أورنيال‪.‬‬
‫تلك املحاكمة التي انتهت قبل أن تبدأ؛ فاستسالم املبجل غري‬
‫املتوقع قد فاجأنا‪.‬‬
‫حتدث املبجل أندروس كام اتفقنا‪ ،‬طلبنا منه أن يدير املحاكمة‬
‫ألنني أنا ووالدي املبجل إبرام وأمي السيدة كايال أطراف يف تلك‬
‫القضية‪.‬‬
‫يبدو أن طلبنا قد طمأنه‪ ،‬ألن نظرة احلذر التي ظهرت بعينه‬
‫بعد أن أوقعنا باملبجل مارك كانت تقلقني‪ ،‬حتدثت مع أيب عنها‬
‫ودفعته ألن يذهب حلجرة عمي ويتحدث معه حدي ًثا ود ًّيا يرشح‬
‫له تقسيم السلطة بعد غياب املبجل مارك‪ ،‬مالحظتي قد أسعدت‬
‫أيب وحديث أيب مع عمي قد أسعده وأزال بذرة اخلالف قبل أن‬
‫ترضب بجذورها بني اجلميع فأصبح والء عمي لنا لألبد‪.‬‬
‫“لقد صدمنا مجي ًعا من فكرة قتلك البنك طم ًعا بعروسه‪،‬‬
‫حتى إننا كنت سنؤجل املحاكمة لنبحث عن أدلة تنفي تلك‬
‫التهمة عنك‪ ،‬ألنك املبجل مارك‪ ،‬الذي حكم املدينة لسنوات‪،‬‬
‫الذي جتىل له الرب لكن حينام ذهبنا جلناحك كي نأخذ اعرتافك‬
‫عروس أخيك من‬‫َ‬ ‫دليل اهتامك باجلريمتني‪ ،‬لقد خطفت‬ ‫رأينا َ‬
‫قبل‪ ،‬أخفيتها عنه‪ ،‬أخفيت ابنتهام عنهام‪ ،‬احتفظت بالسيدة كايال‬
‫سجينة لديك طوال هذه السنوات‪ ،‬ومل ترحم ابنتها فطمعت هبا‬

‫‪169‬‬
‫وأنت تعلم أهنا ابنة أخيك‪ ،‬وحبيبة ابنك‪ .‬هذه اجلريمة وحدها‬
‫عقوبتها قطع رقبتك‪ ،‬ألنك خنت‪ ،‬خنت أخاك وخدعت شعبك‬
‫الذي يثق بك‪ ،‬اآلن هل ستعرتف بذنبك؟”‬
‫رصخ املبجل مارك‪:‬‬
‫“لقد أحببت‪ ،‬أحببت عروس أخي‪ ،‬هل احلب جريمة؟‬
‫إن كان ِ‬
‫فل َم غرزه الرب بقلبي كخنجر‪ ،‬هل أعاقب عىل فعل‬
‫فعله الرب؟‬
‫أنا أخذت ما هو يل‪ ،‬أخذت كايال‪ ،‬قاومتني‪ ،‬عاندتني‪ ،‬حتى‬
‫أنسها‪ ،‬مرة‬
‫إهنا رضبتني لكنني ذقت شهدها مرة واحدة‪ ،‬مرة مل َ‬
‫كانت تستحق كل ما فعلته كي أناهلا‪”.‬‬
‫علقت شهقات اجلميع‪ ،‬بينام سالت دمعة عىل وجه أمي‬
‫فمسحها أيب وشدد قبضته عىل يدها سأله املبجل أندروس‪:‬‬
‫“إن كنت حتب كايال ِ‬
‫فل َم طمعت بأورنيال‪ ،‬ابنتها؟”‬
‫“ألهنا تشبهها‪ ،‬لكنها نسخة ألطف‪ ،‬أرق‪ ،‬أكثر براءة‪ ،‬أكثر‬
‫فتنة‪ ،‬نساء الضارما؛ تلك اململكة التي أتت منها كايال يبدو أهنن‬
‫ساحرات‪ ،‬ما هو احتامل أن يقع رجل بحب امرأة وابنتها بنفس‬
‫الوقت؟ رجل يملك كل يشء‪ ،‬رجل له ذوق خاص ال يعجبه إال‬
‫كل نادر ونفيس‪”.‬‬
‫أشار يل ورصخ‪:‬‬
‫“انظروا إليها‪ ،‬من يرى تلكام العينني وال يرجتف قلبه؟!‪،‬‬
‫من يلمس تلك الشفاه ويظل حمتف ًظا بعقله؟‪ ،‬إهنا فتنة‪ ،‬لعنة‪،‬‬
‫فخ‪ ،‬فخ وقعت به وسأقع به جمد ًدا إن عاد يب الزمن‪ ،‬لقد وقعت‬

‫‪170‬‬
‫باخلطيئة لكن الرب هو الذي دفعني‪ ،‬حاكموا الرب الذي خلقها‪،‬‬
‫حاكموا الرب الذي دفعها أمام عيني وبني ذراعي‪”.‬‬
‫تعالت أصوات العامة‪..‬‬
‫هل أصابه اجلنون‪ ،‬إنه بحالة يرثى له‪ ،‬إنه جمنون هبا‪ ،‬جمنون‬
‫أورنيال‪..‬‬
‫انتظر املبجل أندروس حتى هدأ اجلميع ثم قال بصوت‬
‫واضح‪:‬‬
‫“ستتم قطع رقبة املبجل مارك بالساحة صباح الغد‪”.‬‬
‫تعالت أصوات اجلميع‪ ،‬البعض يوافق‪ ،‬البعض يرفض لكنني‬
‫شعرت بالرضا‪ ،‬وتساءلت هل يكفي العذاب الذي سيشعر به‬
‫وهو يعلم أهنا ليلته األخرية‪ ،‬هل سيدد ديونه؟‬
‫هل سيربد قلبي‪ ،‬قلب أمي التى حرمني منها‪ ،‬قلب أيب‪،‬‬
‫شقيقه؟‬
‫صباحا لنفاجأ بأن الرب لديه خطة أخرى‪ ،‬لقد‬
‫ً‬ ‫لكننا استيقظنا‬
‫هرب املبجل مارك‪ .‬يبدو أنه تلقى مساعدة من الداخل‪ ،‬سأعرف‬
‫قري ًبا َمن فعل هذا وسينال عقابه‪.‬‬
‫كيف حيدث يشء هبذه البشاعة؟ من جيرؤ عىل خمالفة قرار‬
‫املحكمة؟‬
‫مل يطل أمر تفكريي يف الفاعل ألنني عرفته رسي ًعا‪ ،‬فلقد‬
‫عكفت عىل ملس اجلميع بكل مناسبة حتى رأيت اخليانة‪.‬‬
‫أثناء العظة األسبوعية التي بدأ املبجل أندروس هبا بدالً من‬
‫اهلارب مارك‪ ،‬قمت بتحية كلوديا‪ ،‬رأيت نظرات التباهي بعينها‬

‫‪171‬‬
‫فجلست بجوارها عىل غري العادة وتعمدت ملسها‪ ،‬حينام انتهى‬
‫عمي‪ ،‬طلبت من اجلميع البقاء بأماكنهم ألنني سأعلن عن‬
‫اخلائن‪ ،‬حينها حتركت بقلق فأوقفتها‪.‬‬
‫“كلوديا‪ ،‬خطوة أخرى وستطري رقبتك دون حماكمة‪”.‬‬
‫نظرت يل بخوف ثم رصخت‪:‬‬
‫“كيف تتهميني دون دليل؟”‬
‫“عزيزيت كلوديا‪ ،‬لقد رأيت كل يشء عندما ملستك‪ ،‬هذه‬
‫هبة أخرى منحها يل الرب‪ ،‬حتى إنني ال أحتاج لسامع اعرتافك‬
‫ولن أطلب منك أسامء من ساعدوك ومن قمت برشوهتم ألنني‬
‫أيضا‪ ،‬سؤايل لك فقط هو ملاذا ورطت نفسك‬ ‫رأيت وجوههم ً‬
‫بحرب ِ‬
‫لست طر ًفا فيها؟”‬
‫بكت‬
‫“ألن اجلميع ال يراين طر ًفا بأي يشء‪ ،‬أنا غري مرئية‪ ،‬الكل‬
‫يتجاهلني‪ ،‬حتى املبجل إبرام‪ ،‬مل حيبني يو ًما رغم أن قلبه‬
‫حيمل ح ًّبا للجميع‪ ،‬لكنه أتى عندي واكتفى‪ ،‬لقد عادت إليه‬
‫عروسه‪ ،‬واكتشف أن لديه بنتًا‪ ،‬أما أنا فلم يعد لدي قيمة لدى‬
‫أحد‪ ،‬الوصيفات يتجاهلنني ألنني لست ممن هلن سلطة وسطوة‪،‬‬
‫ورجال السادة يتجاهلوين ألنني كنت زوجة للمبجل‪ ،‬ملاذا‬
‫تكتمل سعادة اجلميع بينام أظل أنا تعيسة؟”‬
‫علت اهلمهامت فأشار املبجل أندروس للحرس كي يأخذوها‬
‫للسجن‪ ،‬ثم أمر بعض احلرس بمرافقتي كي أقودهم لباقي اخلائنني‪.‬‬
‫***‬

‫‪172‬‬
‫بعد القبض عليهم‪ ،‬هدأت األمور باملدينة‪ ،‬فوالدي قد أخرب‬
‫املبجل أندروس أنه ال يرغب باحلكم‪ ،‬وأنه سيقدم له املساعدة‬
‫فقط إن أراد‪ ،‬كل ما يريده هو أن يستمتع بحياته معنا‪ ،‬فريا انتقلت‬
‫للخلوة وشاركت مريال صنع العطور ورعاية األطفال‪ ،‬وأنا أردت‬
‫الرحيل‪ ،‬اعرتض والداي بالبداية لكنني أقنعتهام أين أرى حيايت‬
‫أرص‬
‫بمكان آخر‪ ،‬بسيندوزا‪ ،‬رافقتني أماندا وبعض احلرس الذين َّ‬
‫والدي عىل سفرهم معنا فلم أخالفه‪ ،‬حينام وصلنا ملدينة التجارة‬
‫اشرتينا بيتًا وأقمنا به‪ ،‬وبدأت أجتول بالسوق وأراقب الناس حتى‬
‫التقيت بكرستيان‪ ،‬كان التقاؤنا عاص ًفا كالتقاء اهلواء باملاء‪ ،‬مل‬
‫وقت للتفكري كنت أعلم أنه قدري‪ ،‬وكأن الرب قد‬ ‫يكن لدى ٌ‬
‫أدار األرض لنلتقي ثم أمسك برؤوسنا وصدمهام ببعض ففقدنا‬
‫القدرة عىل التحدث‪ .‬نظر ٌّ‬
‫كل منَّا بعني اآلخر ثم مهس يل‪:‬‬
‫“لقد وجدتك‪”.‬‬
‫“هل كنت تبحث عني؟”‬
‫“بحثت ألسابيع‪ ،‬لكنني كنت أعلم أنني سأجدك اليوم‪”.‬‬
‫“كيف تعرفني؟”‬
‫“لقد رأيتك‪”.‬‬
‫أملت رأيس وكأنني أفكر ثم كشفت كتفه فوجدت الشامة ‪-‬‬
‫املشعل امليضء الذي يميز أهل الضارما ‪ -‬فضحكت حتى دمعت‬
‫عيني‪ ،‬هو قدري‪ ،‬لقد تأكدت أن للرب رأ ًيا آخر‪ ،‬فلقد جعلني‬
‫أمر بكل من يوجني‪ ،‬فيكتور ومارك وأجتاوزهم ألن قدري هنا‬
‫بسيندوزا مع غريب من الضارما‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫“ما اسمك؟”‬
‫“كرستيان”‬
‫“كرستيان ابن؟”‬
‫“كرستيان أبن اسبيدوس حاكم الضارما‪”.‬‬
‫حينام عدت للضحك جمد ًدا مل يفهم ملاذا أضحك‪ ،‬لكنه انتظر‬
‫بصرب حتى توقفت عن الضحك ثم هز يل رأسه ينتظر تربيري‪.‬‬
‫“والدك أحب أمي‪ ،‬لكنها هربت منه والتقت بأيب هنا بنفس‬
‫املكان‪ ،‬وأنا هربت من مدينتنا أللتقي بابن الرجل الذي أحب‬
‫أمي‪ ،‬ويبدو أنني وقعت بحبه‪”.‬‬
‫بدا املرح عىل وجهه وسألني‪:‬‬
‫ب أمك والعيش‬
‫أح َّ‬
‫“هل ترغبني بالزواج بابن الرجل الذي َ‬
‫معه هنا بعيدً ا عن مملكة أبيه؟”‬
‫“يبدو أنني سأفعل ذلك‪”.‬‬
‫“أووه‪ ،‬لنفعل ذلك‪”.‬‬
‫***‬
‫عشنا كأرسة سعيدة‪ ،‬خاصة حينام أتت ابنتنا لتكتمل سعادتنا‬
‫هبا‪ ،‬حينام محلها كرستيان بني يديه مهس بصوت أجش‪:‬‬
‫“يا هلا من فاتنة!‪ ،‬ماذا سنسميها؟”‬
‫مهست‪:‬‬
‫“ضارما”‬
‫رددها ضاحكًا‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫كثريا‪ ،‬يبدو أنه قد رأى وصول ابنة ابنه‬
‫“ضارما‪ ،‬سيحبها أيب ً‬
‫الصغري بإحدى رؤاه اآلن‪”.‬‬
‫كانت سعادتنا ستستمر لوال تلك الرسالة التي أرسلها له‬
‫والده‪ ،‬فلقد استيقظ من نومه ومهس‪:‬‬
‫“والدي يريدين‪ ،‬لقد استدعاين‪”.‬‬
‫بعدها جهز نفسه وقبلنا أنا وابنته قبل أن يغادر‪ ،‬ووعدنا‬
‫بالعودة رسي ًعا‪ ،‬لكنني كنت أعلم ما سيحدث‪ ،‬فقد رأيت‪.‬‬
‫لثالث ليال متتالية كانت تدامهني نفس الرؤيا‪ ،‬دفعني خويف‬
‫للتواصل مع أمي كام اعتدنا‪ ،‬ملست شامتي وأخربهتا باملهمة التي‬
‫كلفتها هبا‪.‬‬
‫ستقابل أماندا التي حتمل طفلتي الصغرية‪ ،‬وحيرسها رجال أيب‬
‫وستعيد الطفلة ململكة الضارما حيث أبوها وجدها‪.‬‬
‫ناقشتني أمي بقراري لكني مل أقبل التفاوض‪ ،‬لقد اختذت‬
‫قراري‪ ،‬أرغب أن ترتبى طفلتي وسط أهلها بالضارما‪ ،‬تعود‬
‫ملوطنها األصيل‪ ،‬أرض أبيها وجدهتا وأمها‪.‬‬
‫كم مرة عىل الشخص أن يرى طريقة موته؟‬
‫األشخاص الطبيعيون بالطبع يدامههم املوت دون إنذار‬
‫لكنني رأيت التحذير‪ ،‬ليس بيدي فعل أي يشء ليمنع ذلك‪ ،‬كل‬
‫الرؤى التي أراها إما حدثت أو ستحدث‪ ،‬ال جمال للتدخل‪.‬‬
‫لذا عندما أتى وقتي‪ ،‬استعددت‪ ،‬ارتديت الفستان الذي‬
‫أهداين إياه فيكتور‪ ،‬وتركت شعري عىل سجيته كام كنت أتركه‬
‫بمدينتي وجلست أنتظره‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫دخل مارك بيتي‪ ،‬ابتسمت عندما اقرتب ومهست‪:‬‬
‫“كنت أنتظرك‪”.‬‬
‫مأل عينيه مني حتى فاضتا ثم سألني‪:‬‬
‫“أتتك رؤية؟”‬
‫“نعم‪ ،‬أتتني رؤية‪ ،‬اجلس ألض ّيفك”‬
‫“أنت تعلمني ملاذا أتيت إليك‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫“أعلم أنك أتيت لتقتلني‪ ،‬لكن هذا لن يمنعني من أن أقدِّ م‬
‫كأسا”‬
‫لك ً‬
‫جلس بجواري وأنا أمأل الكأسني‪.‬‬
‫زلت فاتنة كام ِ‬
‫أنت‪”.‬‬ ‫“ما ِ‬
‫أبعد شعري عن وجهي فنظرت له وأنا أعطيه كأسه‪ ،‬كان‬
‫احلزن كنت رسم عالمات عىل وجهه فبدا كمن طعن بالسن‪.‬‬
‫عيل غري اآلن‪ ،‬أليست‬
‫“كنا بنفس املدينة‪ ،‬لكنك مل تعثر َّ‬
‫حكمة الرب مدهشة؟!”‬
‫“أووه أورنيال‪ ،‬دعينا من الرب اآلن‪ ،‬لنستمتع بحديث‬
‫قصري قبل أن أقتلك‪”.‬‬
‫ارتشفت من كأيس وابتسمت‪:‬‬
‫صغريا”‬
‫ً‬ ‫“لمِ َ ال‪ ،‬لكن دعني أوضح لك شي ًئا‬
‫رشب كأسه وقال‪:‬‬
‫“وضحي يا صغرييت‪”.‬‬
‫“سنموت م ًعا يا عمي‪”.‬‬

‫‪176‬‬
‫قلت لقبه بسخرية وكأنه إهانة فاتسعت عيناه دهشة لكنني‬
‫تابعت‪:‬‬
‫“لقد رأيت ما سيحدث لعرشات املرات‪ ،‬مل يزعجني مويت‪،‬‬
‫لكن ما أزعجني أنني مل َأر هنايتك واضحة‪ ،‬ألنني ُمت بالرؤية‬
‫فانتهت؛ لذا حرصت عىل التأكد أنني سأراها بالواقع‪”.‬‬
‫وضع كأسه‪:‬‬
‫“فرسي‪”.‬‬
‫“لقد أغلق حاريس باب البيت‪ ،‬تأكد أن النوافذ كلها مغلقة‪،‬‬
‫ال جمال للهرب‪ ،‬سنموت م ًعا‪”.‬‬
‫ذهب للباب وحاول فتحه فعجز‪ ،‬ثم جرب فتح النافذة‪،‬‬
‫وحينام تأكد أهنا موصدة سألني‪:‬‬
‫“ألست خائفة؟”‬
‫“املوت وحيدً ا خييف‪ ،‬أن تلفظ أنفاسك دون أن يمسك أحدٌ‬
‫بيدك‪ ،‬دون أن ترى حلظات احتضارك بعني من حيبك عذا ًبا‪،‬‬
‫رجل حيبني‬‫ٍ‬ ‫موت مضا َعف‪ ،‬لكنني سأموت برفقة عمي‪ ،‬برفقة‬ ‫ٌ‬
‫أكثر من نفسه‪ ،‬رجل دفعه حبه يل ملحاولة قتل ابنه‪ ،‬أتعلم ما املثري‬
‫باألمر؟”‬
‫“أخربيني”‬
‫“املثري أن موتنا سيتم بثه أثناء حدوثه‪ ،‬سرتاك والديت وأنت‬
‫حترتق معي‪ ،‬لعل رؤيتها ملوتك خيفف حزهنا ملويت”‬
‫“لكنني سأطعنك باخلنجر الذي كدت أنحر به ابني‪،‬‬
‫ساحميني‪ ،‬لن أقتلك بسبب ضغينة أكنها لك ألنك كنت سب ًبا يف‬

‫‪177‬‬
‫ِ‬
‫هربت‬ ‫قتل ابني‪ ،‬زوال ملكي‪ ،‬وسهري طوال الليايل املاضية منذ‬
‫من املدينة‪ ،‬لكني سأقتلك ألنني أحبك‪ ،‬حبي لك كان ينهش‬
‫قلبي‪ ،‬لدرجة أين احتقرت نفيس ألن حبي لك فاق حزين عىل‬
‫رجل‬‫أفضل قتلك عىل أال يلمسك ٌ‬ ‫ابني‪ ،‬أنا أحبك لدرجة أنني ّ‬
‫غريي‪ ،‬أال هتنأ بك ابنتك‪ِ ،‬‬
‫أنت ملكي‪ ،‬يل‪”.‬‬
‫دمعت عيني ومهست له‪:‬‬
‫“سيدي املبجل‪ ،‬ستنال رشف املوت معي‪ ،‬هل لديك طلب‬
‫أخري؟”‬
‫نظر يل بعينني معذبتني ومهس‪:‬‬
‫“عانقيني‪”.‬‬
‫رضبت مشعل الضوء بقدمي فسقط‪ ،‬أمسكت النار يف قامش‬
‫النافذة وبدأت تلتهم كل ما تقابله‪ ،‬مددت له يدي فأمسكها‬
‫واحتضنته‪ ،‬رأيت كل ما عاناه منذ هروبه‪ ،‬حزنه‪ ،‬شوقه‪ ،‬جنونه‪،‬‬
‫كثريا مهست بأذنه‪:‬‬
‫ابتسمت ألنه تأمل ً‬
‫“أووه كم أنت تعيس لتحرتق مرتني‪ ،‬مرة بحبي ومرة بنار‬
‫مشعيل‪ ،‬لنحرتق م ًعا يا عمي‪”.‬‬

‫‪178‬‬
‫ميلينا‬

‫“أووه‪ ،‬ياهلذه القسوة‪ ،‬أشعر وكأنني أنا التي احرتقت‪”.‬‬


‫نظر يل مرشدي‪ ،‬الذي كان يقف بجواري طوال هذه الرحلة‬
‫لدروب املايض وكأنه حيرسني‪.‬‬
‫“لقد انتهت رحلتك يا ميلينا‪ ،‬رأيت ماضيك‪ ،‬بإمكانك اآلن‬
‫اختيار مستقبلك‪”.‬‬
‫ملست تلك الشامة بكتفي التي كنت أجتاهلها وكأهنا يشء‬
‫عادي وأنا أفكر‪ ،‬لقد اكتشفت خالل هذه الرحلة أنني من نسل‬
‫ٍ‬
‫بشغف‪.‬‬ ‫نساء قويات حاربن‪ ،‬وكسبن معاركهن‬
‫أنا ميلينا ابنة ضليل ابن ضارما ابنة أورنيال ابنة كايال حاكمة‬
‫الكام‪ ،‬قال يل وكأنه سمع حديثي مع نفيس‪ ،‬قوليها بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬
‫فقلت‪:‬‬
‫“أنا ميلينا ابنة ضليل ابن ضارما ابنة أورنيال ابنة كايال‬
‫حاكمة الكام‪”.‬‬
‫سألني‪:‬‬
‫“هل تذكرين حينام سألتني ملاذا أنا دائماً عىل صواب؟”‬

‫‪179‬‬
‫ال بدالً‬
‫“لقد أخربتني وقتها السبب قلت يل ألنك حتملني عق ً‬
‫من القلب‪ ،‬فسألتك َمن حيمل عقلني بجسده؟”‬
‫“أجبتك بأن نسل الضارما يفعلون فسألتِني هل أنا من نسل‬
‫الضارما؟”‬
‫ٌ‬
‫خمتلط فسألتك خطيئة أخرى كنارديث؟”‬ ‫“قلت يل إنني نسل‬
‫“أجبتك‪ ،‬بل أول صواب بعد احلروب العظيمة”‬
‫رددت‪:‬‬
‫“أول صواب بعد احلروب العظيمة‪”.‬‬
‫فرشح‪:‬‬
‫“لقد تزوجت جدتك أورنيال من جدي كرستيان فوصلت‬
‫اخليط الذي انقطع هبرب جدتك كايال من جدي الكبري‬
‫أسبيدوس كانت هذه أول خطوة بطريق الصلح؛ لذا قبل جدي‬
‫قدرها‪ ،‬مل حيزن‬‫الكبري حفيدته ضارما ورعاها حتى هربت لتحقق َ‬
‫قدر ال ُبدَّ أن‬
‫قدر حزنه عىل هروب حبيبته ألنه علم أنه ٌ‬
‫هذه املرة َ‬
‫ُين َّفذ‪ ،‬جدي ينظر إلينا اآلن يرتقب اختيارك الذي سيتحتم عليك‬
‫أن تقومي به بعد تأسيس مملكتك‪”.‬‬
‫“عن أي اختيار تتحدث؟”‬
‫“ستعلمني عندما حيني الوقت‪ ،‬إىل اللقاء‪”.‬‬
‫“هل سترتكني؟”‬
‫“لقد أهنيت رحلتك‪ ،‬لقد تعلمت ما عليك تعلمه‪ ،‬مل تعودي‬
‫بحاجة ملرشد‪”.‬‬

‫‪180‬‬
‫“هل سأراك جمد ًدا؟”‬
‫“ذلك سيتوقف عليك أنت‪”.‬‬
‫تبدد من أمامي كدخان‪ ،‬لقد رأيت الكثري من القدرات‪ ،‬حتى‬
‫إنني تعلمت عن طريق جديت أورنيال كيف أستخدم قدرايت‬
‫لكنني ما زلت أجهل الكثري‪ ،‬أريد أن أصل ملا وصل إليه سبيد‪،‬‬
‫أريد املزيد‪.‬‬
‫نظرت حويل فوجدتني ما زلت أجلس بذلك الكهف‪ ،‬ينام‬
‫ولعق يدي‪،‬‬
‫ريكو بجوار قدمي‪ ،‬مررت يدي عىل ظهره فاستيقظ َ‬
‫مر وأنا أجلس هنا هبذا الشكل؟‬
‫تساءلت كم من الوقت َّ‬
‫يبدو أنني مل أنتقل جسد ًّيا ألنني ما زلت هبذا الكهف لكني‬
‫انتقلت عقل ًّيا وكأنني كنت أرى رؤية مطولة عام حدث قديماً ‪.‬‬
‫أنا بحاجة للمغادرة‪ ،‬سأعود لذلك الكوخ حيث تركت‬
‫أشيائي‪ ،‬أسرتيح قلي ً‬
‫ال ثم أعود للكام ألعلم ماذا حدث وألواجه‬
‫أفعايل‪ ،‬لن أستمر باهلرب لوقت أطول‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫جايوس‬

‫ٍ‬
‫رجل‬ ‫بعد أن رأيت ذلك احللم الذي ختتفي فيه ميلينا خلف‬
‫يشبهني ظللت أبحث عنها‪ ،‬مل أيأس‪ ،‬كنت أنتظرها لي ً‬
‫ال بالكوخ‬
‫وأبحث بالنهار لعليِّ أجد ذلك الكهف الذي رأيته‪.‬‬
‫مل أكن أختيل أنني سأفتح عيني بالصباح فأجدها تنظر يل‪..‬‬
‫“ميلينا”‬
‫“جايوس “‬
‫“أين كنت ؟”‬
‫نظرت يل قليال‪ ،‬أمالت رأسها وكأهنا حتاول أن جتد ردا‬
‫“هذه قصة طويلة”‬
‫“لكنك تبدين‪”...‬‬
‫“كيف أبدو؟”‬
‫“تبدين خمتلفة‪ ،‬وكأنك أصبحت امرأة أخرى‪ ،‬نظرة عينك‪،‬‬
‫حركاتك”‬
‫“أووه‪ ،‬ال أعلم كيف أرشح لك‪ ،‬لكني أصبحت ما جيب‬
‫عيل أن أكونه‪”.‬‬
‫َّ‬
‫‪182‬‬
‫“هل يبدو لذلك معني؟”‬
‫“أنا أفهمه‪ ،‬هذا يكفي”‬
‫ثم ضحكت فضحكت‪.‬‬
‫“أرغب بالعودة للكام”‬
‫“سنعود”‬
‫“الليلة”‬
‫نظرت هلا وأنا ال أعرف ح ًّقا ماذا حدث هلا خالل تلك األيام‬
‫املاضية وجعلها امرأة أخرى‪ ،‬امرأة أقوى‪ ،‬أكثر استقالالً وأكثر‬
‫َ‬
‫حدث‬ ‫فتنة‪ ،‬وأكثر جنونًا ألهنا ترغب بالعودة وهي جتهل كل ما‬
‫بعد هروهبا‪.‬‬
‫نظرت يل ومهست‪:‬‬
‫“أنا جائعة”‬
‫سألتها‪:‬‬
‫“متى آخر مرة تناولت طعامك؟”‬
‫ال وحاولت أن تتذكر ثم هزت رأسها مل ً‬
‫ال‬ ‫نظرت يل قلي ً‬
‫وقالت‪:‬‬
‫عدت اآلن مل تعد احلكمة‬
‫ُ‬ ‫“كنت أتناول احلكمة‪ ،‬لكنني وقد‬
‫خترس رصيخ معديت‪”.‬‬
‫ويسارا وكأنني‬
‫ً‬ ‫هنضت ووقفت أمامها‪ ،‬حركت شعرها يمينًا‬
‫أبحث داخله عن ٍ‬
‫يشء‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫فسألتني ساخرة‪:‬‬
‫“هل أوقعت شي ًئا بشعري؟”‬
‫“أريد أن أتأكد أين تلقيت الرضبة؟‪ ،‬تبدين كمن صدم رأسه‬
‫بقوة‪”.‬‬
‫ابتسمت ساخرة‪:‬‬
‫“صدقني‪ ،‬ال تريد اختبار صربي‪ ،‬لقد أتيت من مدينة‪ُ ،‬‬
‫القتل‬
‫هبا عادة يومية‪”.‬‬
‫أخربهتا عام حدث بمملكتي الكام واألرثا أثناء تناولنا الطعام‪،‬‬
‫كانت عيناها تتسعان دهشة من وقت آلخر وهتمس‪“ :‬أووه‪ ،‬هل‬
‫حدث ذلك بالفعل؟” ثم تعود لتدس الطعام بفمها وهي تصغي‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫ميلينا‬

‫حينام عدت للكام مل أجدها كام عهدهتا‪ ،‬لقد اختفت كل‬


‫تلك البيوت واألكواخ‪ ،‬أصبحت الكام مساحة كبرية فارغة من‬
‫األرض اخلرضاء‪ ،‬لقد أزال الفيضان كل يشء‪ ،‬غسل األرض‬
‫وطهرها‪ ،‬منحنا فرصة للبداية من جديد‪ ،‬فرصة ذهبية ال يمكن أن‬
‫يتجاهلها أحد‪ ،‬أرسلت جلديت وباقي سكان الكام الذين خرجوا‬
‫قبل بداية ليايل البالء اخلمس كي يعودوا جمد ًدا‪ ،‬كنت أنتظرهم‬
‫بشغف‪ ،‬حينام رأيت جديت ركضت وارمتيت بني ذراعيها‪ ،‬شمت‬
‫رائحتي ومهست بشوق‪:‬‬
‫“ميلينا‪ ،‬عزيزيت ميلينا‪ ،‬كم اشتقت لك “‬
‫ضممتها بشدة فهي كل ما تبقى يل من عائلتي‪ ،‬هي وجايوس‬
‫لكنها بالنسبة يل متثل عائلتي الوحيدة خاصة بعد كل الذي رأيته‪.‬‬
‫مهست بأذهنا وكأنني ورثت اهلمس كام ورثت القدرات‪:‬‬
‫“أعرف تاريخ عائلتنا‪ ،‬لقد رأيت والدتك‪ ،‬أورنيال‪”.‬‬
‫شددت جديت قبضتها عىل ذراعي‪:‬‬

‫‪185‬‬
‫“احكي يل كل يشء‪ ،‬لقد أخربين جدي أنني سأعرف عنها‬
‫عندما حيني الوقت‪ ،‬كنت أعتقد أن ذلك الوقت لن يأيت أبدً ا‪”.‬‬
‫قصصت هلا كل يشء وراقبت حزهنا عىل أمها‪.‬‬
‫“أخربين جدي أن أش ّقاء أيب قد تآمروا عليه وقتلوه بعد أن‬
‫استدعاه لكي يمنحه حكم الضارما ويوقف احلرب الدائرة‬
‫بينهام‪ ،‬لقد ترك والدي الضارما ألنه مل يرد أن خيوض حر ًبا ضد‬
‫السلطة‪ ،‬سافر لسيندوزا‪ ،‬وهناك قابل أمي كام‬ ‫شقيقيه من أجل ُّ‬
‫قصصت يل ومل تكن لديه نية بالعودة حتى استدعاه جدي‪ ،‬مل يكن‬ ‫ِ‬
‫يعلم أنه يستدعيه ليقيض نحبه لكنها إرادة السامء‪ ،‬حينام عادت‬
‫جديت كايال ووقفت عىل أبواب الضارما شعر هبا قلب جدي‬
‫عيل وأخربته أهنا إرادة‬‫فدفعه ليرسع ملالقاهتا‪ ،‬منحتني له وأوصته َّ‬
‫أمي بعد أن دامهتها رؤيا عن موهتا ثم غادرت‪ ،‬وكأن رؤيتها‬
‫قدر ُه‪ ،‬اآلن فهمت لمِ َ مل يقبلني جدي جمد ًدا حينام أعادين إليه‬
‫تغادر َ‬
‫بوراك‪ ،‬كان يعلم أنني سأحقق قدري هنا بالكام‪”.‬‬
‫ضممت جديت يل‪ ،‬مل أكن أراها كجدة عجوز واهنة‪ ،‬لكني‬
‫رأيتها كطفلة عهدت هبا أمها جلدها كي يربيها يف كنفه‪ ،‬كفتاة‬
‫صغرية حرمت من والدهيا ثم هربت خارج وطنها لتنقذ‬
‫سكان مملكة أخرى جتهلهم‪ ،‬لتصبح زوجة ملكهم‪ ،‬ليطاردها‬
‫العدو الذي قتل زوجها‪ ،‬وابنها واغتصب ابنتها وأراد أن يظفر‬
‫بحفيدهتا‪ ،‬وكأن نساء عائلتنا ملعونات بالفعل كام رصح مارك‪،‬‬
‫وكأننا فخ ولعنة‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫األمر الذي أثلج قلبي أنني عرفت أن أوالد ذلك الوغد‬
‫قد تركوه ليتعفن بالسجن حتى هناية حياته التي مل تكن طويلة‬
‫لألسف‪ ،‬فلقد مات كمدً ا عىل زوال ُملكه وخيانة أبنائه له‪،‬‬
‫أخربتني جديت أن احلارس املوكل بإدخال الطعام إليه قد اكتشف‬
‫موته باألسبوع املايض‪.‬‬
‫مات الوغد ميتة الكالب‪ ،‬ما أتعسه!‬
‫***‬
‫رسمت بيدي خريطة للملكة كام أردهتا‪ ،‬قسمتها‪ ،‬فحددت‬
‫كبريا للزراعة‪،‬‬
‫مكان البيوت والسوق واملقابر‪ ،‬وخصصت جز ًءا ً‬
‫سأعيد اململكة ملجدها كام كانت أيام جدي بوراك ‪.‬‬
‫ساعدين شباب الكام ورجاهلا وأطفاهلا بتنفيذ ما أردته‪ ،‬حتى‬
‫إن ليميتانوس شقيق جايوس وحاكم األرثا بعد أبيه امللعون‬
‫خامييل قد أرسل يل جنو ًدا ليقدموا املساعدة‪ ،‬وضخ خلزينة الكام‬
‫أمواالً من خزينة مملكته ر ًّدا للدين القديم‪ ،‬بديلاً عن كل تلك‬
‫األموال واخلريات التي رسقها أبوه وجاريته زينوبيا من قبل‪.‬‬
‫مل يمنحها لنا دينًا بل ح ًّقا‪.‬‬
‫شعرت بالفخر وأنا أجلس عىل كريس احلكم بعد أن شيدت‬
‫مملكتي‪.‬‬
‫تذكرت وأنا أبني اململكة من جديد أن اململكة التي يكون‬
‫أساسها العدل ستصمد أمام العواصف‪ ،‬الفيضانات والرباكني‪،‬‬
‫لقد رأيت بنفيس ما حدث بأورنيال من قبل وكيف أعمى الطمع‬
‫عيون احلاكم‪ ،‬فاختذته عربة وعظة‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫مل أصدق أن تلك املدينة التي كان ينام أبناؤها جوعا قد‬
‫أصبحت هبذا اجلامل والبهاء‪ ،‬عاد سكاهنا إليها‪ ،‬وفتحت أسوارها‬
‫للناس‪ ،‬ازدهرت الزراعة والتجارة‪ ،‬ومل ُي ِعن أحد من الفقر أو‬
‫يشكو من رضيبة فرضت ظلماً ‪.‬‬
‫حتى إن حضور نورشا يل قد أذهلني‪ ،‬أتت وهي حماطة بحرس‬
‫أخيها غري الشقيق ليميتانوس‪ ،‬مل أكن واثقة هل خيشى عليها أم‬
‫خيشى منها‪ ،‬لكنني احرتمت حذره بكلتا احلالتني‪.‬‬
‫نظرت يل وسألتني‪:‬‬
‫ِ‬
‫“أنت ميلينا؟”‬
‫كنت أعلم أننا مل نتقابل من قبل إال بحلمي‪ ،‬لكنني لست‬
‫واثقة هل رأتني هي بقدراهتا السحرية التي سمعت عنها أم أهنا‬
‫بالفعل جتهل شكيل‪ ،‬لكنني أجبت هبدوء‪:‬‬
‫“أنا هي‪”.‬‬
‫ِ‬
‫“أنت مجيلة‪”.‬‬
‫قالتها وكأهنا تعرتف رغماً عنها فشاكستها‪:‬‬
‫“إهنا صفة متوارثة لدى نساء العائلة‪”.‬‬
‫رمت بوجهي اعرتاف آخر‪:‬‬
‫“جايوس حيبك‪”.‬‬
‫نظرت هلا أحاول أن أفهم ماذا تريد مني‪.‬‬
‫“هل يضايقك هذا؟”‬

‫‪188‬‬
‫“أنا أحبه‪”.‬‬
‫رفعت وجهي للسامء وأنا أمهس بضيق‪:‬‬
‫“إنه أخوك غري الشقيق‪ ،‬يا لكم من عائلة منحرفة‪”.‬‬
‫ابتسمت فابتسمت‪ ،‬ضحكت فشاركتها الضحك‪ ،‬مهست‪:‬‬
‫“لقد رأيت ما فعلته أنت‪ ،‬وما زلت قادرة عىل فعله‪”.‬‬
‫أملت رأيس وأنا أفكر قليالً‪:‬‬
‫“قواك السحرية ساعدتك؟”‬
‫مهست‪:‬‬
‫“مل تفارقني رغم ما فعله يب ذلك املعتوه‪”.‬‬
‫تذكرت ما قاله يل جايوس بالكهف‪“ :‬نورشا قتلت جاتا لكنه‬
‫عاد من املوت رغم أهنا نحرت رقبته‪ ،‬مل يمت اللعني إال عندما‬
‫صلبوه عىل وتد وأحرقوه‪”.‬‬
‫مل أستطع أن أمنع نفيس من أن أمد هلا يدي فأمسكت هبا‪ ،‬وهنا‬
‫أيضا عن جديت‬‫رأيت ما قد حدث معها‪ ،‬لقد ورثت هذه اهلبة ً‬
‫أورنيال‪ ،‬مل أدرك هذا إال عندما أردت أن أشعر بام شعرت به نورشا‪.‬‬
‫لقد رأيتها تنحر رقبته‪ ،‬تساقطت الدماء عىل وجهها فرصخت‪،‬‬
‫رصخت حتى بح صوهتا‪ ،‬رصخت وكأن األمل يقتلع حلقها‪،‬‬
‫داهم احلراس غرفتها وعىل رأسهم شقيقيها ورأوا ما حدث‪،‬‬
‫دفع أحدهم الكلب من فوقها فسقط عىل األرض‪ ،‬كانت الدماء‬
‫تتدفق من رقبته لكنه ما زال ح ًّيا‪ ،‬قيده احلراس املندهشون‪ ،‬بينام‬
‫رصخ هبم ليميتانوس‪:‬‬

‫‪189‬‬
‫ِ‬
‫وأشعلوا النار بجسده‪”.‬‬ ‫“اصلبوه عىل ٍ‬
‫وتد خشبي‬
‫أخرجوه من الغرفة لينفذوا أوامره بينام اقرتب هو منها‪ ،‬مسح‬
‫الدماء عن وجهها وسأهلا‪:‬‬
‫“هل ِ‬
‫أنت بخري؟”‬
‫ظلت ترتعش فضمها إليه حتى سكنت‪.‬‬
‫نظرت بعينيها‪ ،‬فرأيت جاتا املقيد عىل وتد خشبي يشتعل‪،‬‬
‫رصاخه كاد جيرح آذان من سمعه‪ ،‬بينام تراقصت الظالل حوله‬
‫قبل أن ختتفي‪.‬‬
‫لقد رأيت كل يشء‪.‬‬
‫علمت ملاذا تشعر نورشا باحلب جتاه جايوس‪.‬‬
‫مهست هلا‪:‬‬
‫“أنا أعرف ملاذا تشعرين باحلب جتاه جايوس‪”.‬‬
‫سألتني‪:‬‬
‫“ملاذا؟”‬
‫“حينام أمسك جايوس القارورة الصغرية التي حتمل روحك‪،‬‬
‫والتي أحرضها جاتا من أرض الدوم كانت يده ترتعش‪ ،‬فلمس‬
‫العصبة اخلاصة يب املربوطة عىل يده‪ ،‬كان يفكر يب وقتها فشعر‬
‫بالدفء‪ ،‬أنت تعلمني عن لعنته أليس كذلك؟‪ ،‬إنه يشعر بالربد‬
‫بشكل دائم لكننا اكتشفنا م ًعا أن وجودي بجانبه يمنحه الدفء‪،‬‬
‫حينام ملس عصبتي شعر بالدفء وسالت قطرة عرقه واختلطت‬
‫بروحك التي أرسع وردها إليك حينام كان خيلصك من قوى‬

‫‪190‬‬
‫السحر كام اعتقد‪ ،‬هلذا السبب تشعرين باحلب جتاهه وبالرغبة‬
‫بالبقاء بجواره‪ ،‬ومل تتذكري أحدً ا غريه بالبداية‪”.‬‬
‫هزت رأسها ويبدو أهنا اقتنعت بام قلته‪ ،‬سحبت يدها من يدي‬
‫ووضعتها عىل بطنها‪ ،‬بدت عىل وجهها عالمات األمل‪ ،‬أزحت‬
‫مهست بدهشة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫يدها عن بطنها ووضعت يدي ثم‬
‫“أنت حامل‪”.‬‬
‫أيضا‪ ،‬دهشة‬
‫نظرت يل غري مصدقة‪ ،‬كادت الدهشة تطيح يب ً‬
‫ألنني عرفت ودهشة ألن التقاء ساحرة بساحر أمر ال خري فيه‪.‬‬
‫“ال يمكن أن حيدث هذا‪ ،‬ال يمكنني اإلبقاء عىل املسخ‬
‫داخيل‪ ،‬هذا ليس طفالً‪ ،‬إنه روح رشيرة‪”.‬‬
‫“كيف تعلمني؟”‬
‫“أنا‪ ..‬ال أعرف‪ ..‬أنا أشعر‪”.‬‬
‫“فيام تفكرين اآلن؟”‬
‫“أنا ال أريد العودة لألرثا‪ ،‬ال مكان يل هناك‪ ،‬أرغب بالبقاء‬
‫هنا‪”.‬‬
‫هززت رأيس أوافقها وأمرت أحد احلرس أن يعدوا هلا غرفة‬
‫ببيتي‪ ،‬حتى أفكر جيدً ا ما الذي سأفعله بشأهنا‪.‬‬
‫راقبتها تبتعد وهي حتاول أن تتقبل أن ما أخربهتا به حقيقة‬
‫بالفعل‪ ،‬بينام جلست أنا عىل مقعدي‪ ،‬أحاول أن أجد حالً‪،‬‬
‫استأذن جايوس بالدخول‪ ،‬كان يبدو أنه غري مرسور عندما علم‬
‫خرب بقاء نورشا‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫“أنا ال أثق هبا‪”.‬‬
‫أيضا‪ ،‬لكن ال يمكنني أن أرفض مدَّ يد‬
‫“وأنا تعلمت احلذر ً‬
‫العون ملحتاج وهي جلأت يل‪”.‬‬
‫رفضا‪:‬‬
‫هز رأسه ً‬
‫“رغم أنني أعرتض عىل ما تفعلينه لكن ال يمكنني منعك‪،‬‬
‫لقد أتيت ألطلب منك شي ًئا لكن حضور نورشا قد أفسد‬
‫مزاجي‪”.‬‬
‫كنت أعتقد أنني لن أرى سبيد جمد ًدا‪ ،‬لكنه ظهر فقط عندما‬
‫نظر يل جايوس وطلب أن يتزوجني‪.‬‬
‫مهست‪:‬‬
‫“مرشدي‪”.‬‬
‫نظر جايوس بدهشة للرجل الذي بدأ يظهر أمامنا‪ ،‬كان كل‬
‫منهام يشبه اآلخر بشكل ما‪.‬‬
‫“مل أعد مرشدك‪”.‬‬
‫حينام مهس هبذه اجلملة دامهتني رؤيا‪ ،‬كانت املرة األوىل يل‬
‫التي أرى رؤية أثناء استيقاظي‪ ،‬وكأن قدرات جديت أورنيال‬
‫تترسب يل واحدة تلو األخرى‪.‬‬
‫رأيت نورشا تعاين آالم املخاض‪ ،‬ثم تلفظ من داخلها كائنًا‬
‫ال يشبه البرش بيشء‪ ،‬وكأنه الشيطان الذي حذرتنا منه اآلهلة عىل‬
‫خنجرا وغرزته‬
‫ً‬ ‫اختالفها منذ قديم األزل‪ ،‬هنضت عنه ثم سحبت‬
‫بصدره وهي ترصخ‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫انتهت الرؤية وأنا أمهس‪:‬‬
‫“ال ُبدَّ أن نتخلص من هذا اليشء قبل خروجه‪”.‬‬
‫سأل جايوس‪:‬‬
‫“عن أي يشء تتحدثني‪”.‬‬
‫أجابه سبيد بصوته املميز الذي اعتادته أذنا جايوس‪.‬‬
‫“لقد دامهتها رؤيا‪”.‬‬
‫نظرت هلام ثم سألت سبيد‪:‬‬
‫“هل حان أوان االختيار؟”‬
‫ابتسم‪..‬‬
‫“دائماً تسألني األسئلة الصحيحة‪”.‬‬
‫مهست بلؤم‪:‬‬
‫“لكنك مل تسألني حتى اآلن‪”.‬‬
‫قال يل بصوت هادئ‪:‬‬
‫“عىل من يقع اختيارك؟”‬
‫نظرت لالثنني ومهست‪:‬‬
‫“أختار احلكمة‪”.‬‬
‫أقسم إنني رأيت وجه جدي أسبيدوس يبتسم يل وكأنه يبارك‬
‫اختياري‪.‬‬
‫متت بحمداهلل‬
‫‪25/11/2019‬‬

‫‪193‬‬
‫ربام تكون أورنيال امرأة قادرة عىل إغواء الرجال بعض‬
‫اليشء‪ ،‬لكن سعاد مصطفى كاتبة قادرة عىل إغواء القلم لتخط‬
‫به رواية متتاز بحبكة حُمكمة ولغة قوية‪.‬‬
‫رواية ممُ تعة لكاتبة أكثر من رائعة‪.‬‬

‫حممد عصمت‬
‫***‬

‫عندما تقرأ للكاتبة الواعدة سعاد مصطفى‪ ،‬عليك أن تتأكد أنك‬


‫ستحصل عىل جرعة عالية من املتعة العقلية والشعورية‪ ..‬أورنيال‬
‫ستدخلك يف عامل جديد‪ ،‬خمتلف ومثري‪ ..‬فهي مدينة خارج العامل‬
‫املألوف ستقيض فيها عدة ساعات بني املؤامرات‪ ،‬املغامرات‪،‬‬
‫األحداث اخلارقة‪ ،‬مشاعر احلب‪ ،‬الرومانسية والتضحية‪ ..‬مزيج‬
‫يدير الرؤوس وجيعلك تفتقد الكتاب واألبطال بعد االنتهاء منه‪.‬‬

‫عمرو املنويف‬

You might also like